قراءات نقدية
سعاد الراعي: بين خيوط العزلة وسيف المصير

ثيمة العنكبوت في الرواية الرمزية الواقعية السحرية للروائي قصي الشيخ عسكر
منذ اللحظة الأولى، حين يباغتنا نص الرواية بصورة عابرة في صحيفة أجنبية عن عنكبوت يبني بيته في أذن إنسان، نكتشف أننا أمام نص لا يقنع بالحكاية الظاهرية ولا يركن إلى السرد الخطّي، بل يجترح أسطورته الخاصة من تفاصيل الحياة اليومية، ليبني عظْمة الدلالة على هشاشة المصادفة. يصبح "العنكبوت" هنا أكثر من كائن طارئ، أقرب إلى علامة عميقة تُشرع أبواب التأويل، وتفتق جراح الذات في سياق جماعي ملتهب بالحروب والهجرة والذكريات المشروخة.
العنكبوت: المقيم غير المرغوب فيه، والمُنجَدِل في صميم الذات
العنكبوت – بوصفه رمزًا – لا يظهر في النص كمجرد حشرة ضالة عرجت مصادفة إلى صيوان الأذن، بل يغدو استعارة كبرى تحبك الصراع بين الخارج والداخل، بين الحرب كواقع مُدَوٍّ، والعزلة كقدر داخلي لا ينفك يداهم النفس البشرية. فهو في آنٍ رمز للطفيلية، مثلما هو ظلّ الحماية، لعنة متجددة ورفيق حياة قسري.
يبني بيتًا في أكثر الحواس التصاقًا بالوعي: الأذن. أليست الأذن بوابة الوحي ومفتاح السمع والأنس؟ حين تقتحمها شبكة عنكبوت تكتشف الذات أن ضجيج الحرب يستطيع أن يتغلغل في الجسد، وأن الخراب الخارجي يملك القدرة على إعادة تشكيل الإنسان من أعماقه.
إن وجود العنكبوت في الأذن يتماهى مع صورة الوطن العربي المبتلى بالحروب: تلك الأصوات التي لا تنقطع في وسائل الإعلام تتحول مع الزمن إلى صمت داخلي خانق، إلى شبكة تنتزع الطمأنينة وتحيل الحياة إلى لعبة مراقبة قاسية، يصبح فيها الفرد منفاه الأصغر ودماره الداخلي.
بين الحرب والعزلة والطفولة والفصام الوجودي
ـ العنكبوت والحرب:
نسج شبكة العنكبوت في الأذن ليس حدثًا عبثيًا، بل يواكب جحيم الغارات على غزة، فيتجلى أن الحرب ليست مجرد ركام يثقل المدينة، بل هي قوة قادرة على احتلال الحواس، على تحويل السمع إلى فضاء واسع، والأذن إلى بيت للغربة والصدى.
ـ العنكبوت والاغتراب:
تلك القناة الجليلة التي تستقبل العالم تحولت في النص إلى مكبٍ لنفايات الحشرات، فالأذن - بوصفها رمز الإنصات والحوار - تغدو حفرة عزلة، تتكدس فيها فتات الذاكرة وهموم الراهن، فترمز لانقطاع الحوار مع الذات ومع الآخر معًا.
ـ العنكبوت والطفولة:
يعود النص ليطرق باب الطفولة المهجورة، حيث اللعب مع العناكب كان فضاءً للبراءة والمشاكسة، ثم تتحول تلك "اللعبة" إلى لعنة في الكبر، إذ يجد نفسه محشورًا في قفص الماضي، طفلًا معاقًا في جسد رجل.
هنا يغدو العنكبوت ذاكرة مجسدة للجرح الأولي، وكأن كل عبث الطفولة لم يكن سوى نبوءة حالكة لمحنة الذات في المستقبل.
ـ العنكبوت والفصام الوجودي:
بين رغبته في طرد العنكبوت وبين خوفه من فقده "كجزءٍ منه"، يعكس النص مأزق الإنسان أمام قدر لا يستطيع تجاوزه، مفارقة مؤلمة بين الرفض والاستسلام، بين الحاجة إلى الحماية من العنكبوت وخوف الارتحال معه، وكأن العربي محكوم بعلاقة مأزومة مع العنف والقدر والانتظار الدائم على أعتاب التغيير.
ليست الرواية نوعًا من الترف السردي أو التطريز التخيلي؛ إنها إنشاء استعارة كبرى عن الإنسان العربي المعاصر، المحاصر بزحام الحروب والتهجير والقلق الدائم، مسلوب الاختيار أمام "حرب" تتسلل إليه حتى تصبح جزءًا من تكوينه الجسدي والنفسي.
تحتشد بين شيفرة السرد رسائل حادة الدلالة:
1. الحرب ليست حدثًا يرى أو يُذكر، بل استعمار للحواس، تآكل للذّات، اجتراح حقيقي للوجود الفردي.
2. الطبيعة تنتفض وتقهر الإنسان في النهاية، فلا يعود قادرًا على الاحتماء منها ولا الإفلات من شراكها، يتحول العنكبوت من طفيلي إلى حامل رسالة الطبيعة حين يشهر ثأره ضد الإنسان الذي ظن أنه السيد والمالك.
3. الهوية واللغة تتضعضعان: حتى في المهجر وأمام الآخر، يصبح الفهم مقطوع الجذور، والتواصل مرهونًا بشبكة رقيقة بين الذات والعالم.
4. لا خلاص فردي حقيقي: يجرّب الراوي الحب، والسفر، والمنتجع، لكن العنكبوت يبقى رهين أذنه، والحرب ترزح على صدره، أي أن وهم النجاة الجسدية لا يكفي لمسح آثار الحرب عن الروح.
البنية الأسلوبية وتأثيراتها الأدبية
تسلك الرواية درب الواقعية السحرية، فلا تفتعل العجائبي بل تزرعه في اليومي دونما ارتباك أو استفسار. "العنكبوت في الأذن" حقيقة يتقبلها البطل ولا يحتاج لمن يصدقها أو يكذبها.
تنهض اللغة على حافة الشعرية المكثفة، تتداخل فيها الصور المتكررة لدهشة، صدمة، تأمل، ليحضر السرد في صورة مونولوج طويل مطرز بأنين الذات وارتقائها.
تتوالد المرايا في بنية النص: مرآة كبيرة، يدوية، زجاج الشرفة... إلخ، لتمنح الشخصية رؤية أخرى لنفسها، وتكرّس عجزها عن التقاط حقيقتها إلا عبر وسيط معكوس أو وقائع مؤجلة.
يباشر الواقع أمام شاشات يوتيوب أو في قاعة الطبيب أو بين أروقة غربته، فيبقى أسيرًا لصورته المشوّهة داخليًا وخارجيًا.
ـ تقنيات التأثر والانتساب الأدبي:
يتبدّى تأثر الكاتب جليًا بكافكا في رمزه اللاذع وتشظي الهوية عبر حدث بسيط يعصف بالوجود كله، كما يستمد من ماركيز ولويناس وجيلبرت شسترتون تقنيات الواقعية السحرية ومساءلة البديهي تحت قشرة اليومي المتآكلة.
النص معجون بروح عربية مشبعة بانكسارات السياسة، كما تسكنه عوالم الفلسفة الوجودية التي تتساءل عن ماهية الحواس والغاية والذّاكرة الإنسانية في مواجهة الطارئ والمعضلات الكبرى.
ـ بين العجائبي والمجازي في عالمين
الرواية تقع ضمن النمط الرمزي الفلسفي ذي المسرب الواقعي السحري. فهي لا تكتفي بجمع عالمين، عالم الشخص/الرّاوي ومحيطه المنكوب، بل تجعل العجائبي والمجازي حاكمين على مصير الأشياء، لتنتج نصًا يقاوم التصنيف النهائي ويتمدّد بين
1ـ سيرة ذاتية مختلقة تتماهى مع المأساة الجمعية.
2 ـ تأمل فلسفي في الرسم التشكيلي للذاكرة والجسد.
3 ـ تعليق سياسي وانفعالي على تاريخ الامّة العربية وجراحها الكامنة.
4 ـ حكاية عجائبية تهيم بين الشهقة والذهول، لا تطلب تصديقًا بقدر ما تدعو إلى الإنصات لما سيحدث في الداخل.
أهم ما في هذا الانتماء أنّه يُرجع "التجربة العربية مع الحرب" من مساحة الحدث العام إلى جسد الشخصية، ويجعل الجسد ذاته مستودعًا تتكدس فيه مخاوف السياسة والحب والموت، ليستقر الخراب في داخل الإنسان لا في شوارع المدن فقط.
تمنح الرواية القارئ تجربة أدبية تمزج الفزع بالشعر، تزرع الخرافة في النثر، وتذكّره أن الحرب ليست صورًا على الشاشات بل أصداءً تطرق صيوان الأذن حتى تتملك الفرد.
العنكبوت هنا هاجس، تحذير من الداخل، علامة على اغتراب لا ينتهي إلا بذوبان الذات في لعنة السؤال:
من سيرحل أولًا... الحرب أم العنكبوت؟ أم يبقى الاثنان معًا حتى يلتحم الفرد بحزنه ولا يعود قابلاً للإنقاذ؟
في النهاية، تصوغ الرواية بالرمز والخبرة والجمال الفاتن مأساة إنسان عربي بات سجنه ذاته، ووطنه خرابه الداخلي، وملجأه العنكبوت.
إنها لحظة تجلي للغربة وللخوف وللحب المؤجل، حين تتحوّل الأذن من معبر للحنان الإنساني إلى شبكة مصائد للخراب. هكذا يرسخ النص وجوده رواية رمزية واقعية سحرية بامتياز، تعهد للقارئ بسفر عجيب في متاهات الذات والجسد والتاريخ، لا يخرج منه إلا أكثر يقينًا بضعف الإنسان أمام مصيره... وأمام عنكبوت يقيم أبديته في أعماق الروح.
عبر اختتام الرواية بهذه المشهدية "مشهديه التحجر"، تبرز الدلالة الأعظم للرواية كلها: الإنسان العربي المعاصر يعيش غربته القصوى، لا الموت يأتيه دفعة واحدة، ولا الحياة تمنحه يقين النجاة من الخراب. الحرب - كالعنكبوت - تسيطر وتفتك وتتركه متحجرًا، معزولًا حتى عن ذاته، في انتظار رسالة لا تصل، أو لا معنى لها إن وصلت.
إنها نهاية فاجعة ترتقي إلى مصاف الأسطورة الفلسفية: يتحول الفرد إلى تمثال صامت، يذبل فيه الصوت والحركة، حتى تغدو أضعف الخيوط - خيط تواصل إلكتروني أو خيط بيت العنكبوت - أعظم ما تبقى من رماد الإنسانية
النهاية بهذا التكوين، تلخص رسالة العمل:
مهما بلغ حضور الآخرين أو كثرت رسائل التواصل، حين تستبد الوحشة والجمود بالداخل، لا خلاص للفرد إلا بانتظار اللاشيء.
***
سعاد الراعي
2025.09.05