دراسات وبحوث

أحمد بلحاج: تفاعلُ التصوف مع الوجدان العامِّ

إن التصوف المغربي قطعة حية من التصوف الإسلامي العربي، وقَسمةٌ بارزة من قَسماته، خاصة إذا علمنا أن نظريات الصوفية المغاربة قد أَثرت تأثيراً عميقا في الفكرة الصوفية الشرقية.

مقدمة

إن أعمق صورة للقلق والتمزق بالنسبة للوجود في العالم هو أن يَعْتَبر الإنسانُ هذا الوجود عبثيا، وأن يتصرف فيه برعونة وعبثية وكأَنه لا معنى له ولا هوية، وإنما هو مجرد وجودٍ غير مَليءٍ، فاغرٍ فاه لابتلاع الكائن، إنه وجود من أجل الموت لا غير.ولا شك أن الإنسان الذي هذه هي حالته، وهذه هي جَوّانْيّتُهُ ليس له إلا الضياع اللاواعي في سَدِيمِ الهَمِّ الدائم.

ألم تعد هناك لهذا الإنسان المتمزق اليقين سبيلٌ لِلَأمِ جراحاته، ورأبِ صدوعاته؟ أليس ثمة بعدٌ آخر يحميه من الفلسفة والعلم والفقه والتقانة التي جرَّبها بغير حِكمة ففجَّرته وأَزَّمتْه؟ ومِنْ نفسِه التي اتَّبَع هواها فأَشْقتْه وأَفقرتْه؟ لا مِرْيَةَ في أن بُعْدَ التصوف هو البلسَم الوحيد لشقاء الإنسان على الأرض، فهو بحِكمتِه وجمالياته ونورِه الرباني القادرُ على إقامةِ التوازن بين الأبعادِ السابقة، وعلى مد جسرِ التواصل بينها وبين السماء، وعلى انتشال الإنسان المُنشغلِ بها من أوهام تُريه ظاهراً من الحياة الدنيا وهو عن الحياة الأخرى غافلٌ. إن بُعْد التصوف هو بعدُ فقهِ المعرفة بشموليتها، يَلِجُ بالإنسان عوالمَ البهاء وهي في منتهى كمالها، ويَمُدُّ جذورَه في أرضِ المحبة والسعادة والسخاء، ويصعد به إلى حياة لا أسنى منها ولا أمتعَ ولا أصفى.

ومن أجل هذا كله، وكثيرٍ غيره، كانت الحاجة إلى التصوف أشد وأَدْعَى، وبخاصة في هذه الفترة التي نهتمُّ فيها أقوى ما يكون الاهتمام بالحضور القوي في الألفية الثالثة تقنيا ومعلوماتيا بأقل الخسارات وأخف العواقب التي ينذر بها هذا الحضور، ولا نهتم بالإنسان، ولا بالكيفية التي ستكون عليها حاله أثناء الحضور وبعده.

1 ــ التصوف المغربي قطعةٌ من التصوف الإسلامي

إن التصوف المغربي قطعة حية من التصوف الإسلامي العربي، وقَسمةٌ بارزة من قَسماته، خاصة إذا علمنا أن نظريات الصوفية المغاربة قد أَثرت تأثيراً عميقا في الفكرة الصوفية الشرقية. ومع ذلك لا يغيب عن بالنا أن اتحاد الشعوب في الاتجاه الصوفي لا يُعَد دليلا على أي اقتباس، لأن وقوع الحافر على الحافر شديدُ الاحتمال، لاسيما إذا اعتبرنا وحدةَ الوجدان البشري الذي هو في الحقيقة ينبوعُ الذوق الصوفي، ولهذا أَجمع الصوفيةُ العارفون على أن التصوف ليس عِلماً يُكتسب، وإنما هو نورٌ يَنقدِحُ في سريرة المؤمن.(1)

2 ـ سماته

فمنذ عرفت أرضُ المغرب التصوفَ صارت تُربتُها تنبت الأولياءَ والعارفين الجامعين بين الشريعة والحقيقة، والقائمين على أقوم طريقة، في الثغور والحواضر، في مداشر البوادي وقراها، في الصحاري والجبال، حتى ليَخَال الباحِثَ أن البقعة التي لا توجد فيها هذه الروح الصوفية هي بقعة شاذة في جغرافية المغرب الصوفية، وفي جسد هويته الإسلامية.

هكذا كان التصوف في المغرب، وهكذا ظل خلال العصور. فهو قد ابتعد عن الطوائف الضَّالة، وعن النظريات الموغلة في الشذوذ؛ والتي كانت تعصف بالمشرق حينذاك. وقد شهد أبو بكر الطرطوشي؛ الذي صنف كتابا في المحْدَثات والبدع؛ في رسالة وجهها من الإسكندرية إلى سلطان المغرب بأن أهل هذا البلد هم المشار إليهم في الحديث الشريف "لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق (..) لما هم عليه من التمسك بالسنة والجماعة وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين". وفعلاً فإننا لا نكاد نجد في جميع ربوع المغرب إثارةَ بدعة جافية قبل القرن السادس الهجري، كما أننا لا يُمكن أن نعثر في المؤلفات المصنفة خلال القرون الأولى كالتشوف على إشارة إلى شذوذٍ عند الصوفية أو صدورِ دعاوى نابية عنهم، لأن التصوف كان إذْ ذَاك مطبوعا بالبساطة، ولم يكن الصوفية يختلفون عن بقية الناس إلا بكثرة العبادة، وتلاوة القرآن، وسردِ المأثورِ من الأدعية، فكانت الأذكار نفسها مقتبسة من الآثار الواردة أو من القرآن، من ذلك بعض الأحزاب، لاسيما أحزاب الشاذلي المكونة مطالعها من سلسلة آيات.

وعادةُ لبس الخرقة والمرقَّعةِ المنتشرة عند متصوفة المشرق لم تكن صفةً لازمة للصوفي المغربي، ولا بنداً من بنود السلوك الذي لابد من البدء به. فالصوفيون المغاربة كان فيهم الشخصُ الحسن البزّة كما كان فيهم الشخصُ الزَّرِيُّ البَزَّة، وكل منهما له رؤيتُه ومُنطلَقُه، وله قدمه الراسخةُ في الكشف و المعرفة اللدُنِّيةِ، ولا مجال لتفضيل أحدهما على الآخر انطلاقا من هيئته، فالسر في القلب وليس في الشكل. وإلى جانب هذه السمات في التصوف المغربي هناك سمة أخرى تتجلى في اتخاذ الرباطات للجهاد والتعبُّد والإقراء وتلاوةِ القرآن و تعليمِه، ويُخبِرنا ابن الزيات في تشوفه أن كثيرا من الصوفيين المغاربة كانوا إما أصحابَ حرفةٍ، و إما مُدَرِّرِينَ يُعلِّمون القرآن للصبيان. (2)

3 - تأثيره في العمق الاجتماعي

لقد أثبت التصوف في المغرب أنه أقدرُ تيارات الفعل الحضاري الإسلامي على التأثير والتأثر بالبيئة التي يَحُطُّ فيها رَحْلَه، وعلى امتصاص أكبر قدرٍ من سماتها وتوجهاتها.فهو عرفان بَاثٌّ للمعرفة، وسلوكٌ متجذِّرٌ في الوجدان، يُفَعِّلُ حركيةَ المجتمع، ويَشحَنُها بطاقاتٍ دافعةٍ إلى الأفُق الأسني.. أُفقِ التناسق والتناغم بين الشريعة والطريقة الذي لا جسرَ إلى الحقيقة سواه.

فمن أي نقطةٍ في الفضاء يُمكِنُنَا أن نرسم دائرة، وأن نَمُد عددا غيرَ محدودٍ من الأشعة تَصِلُ كل نقطةٍ على مُحيطِها بمَرْكَزِها. فالمحيط هو الشريعة التي تشمَل بمجموعها الأمة الإسلامية كلها، وبقبولِ المسلم للشريعة يُصبِحُ كالنقطة على محيط الدائرة، أما الأشعة فهي الطرُقُ من المحيط إلى المركز، ومن ثمة فهناك إلى الله طرُقٌ كثيرة بعدد أنفاس بني آدم، وفي المركز عندما ينتهي مَسَار الشعَاع نجد الحقيقةَ. وقد يَقنعُ بعضٌ بالوقوف على المُحيط، ويَسعَى بعضٌ آخرُ للوصول إلى المركز، وقد يُفَرِّطُ بعضٌ في جانبٍ أو يُغالي فيه. ولكن الأمرَ في النهاية آلَ إلى تَجَمُّع مجموعاتٍ من الأشعة - لضُعفِ الشعاع الواحد، وتَعرُّضِه للهجوم بتَأْثِيرٍ من تياراتٍ ظلامية – معًا، فظَهرتِ الطُّرُقٌ الصوفية.(3)

هكذا فَهِمَ التصوف المغربي الشريعةَ والطريقةَ والحقيقةَ، وعمل على رأْبِ صدوع الهُوية الإسلامية، دون الانحياز إلى مذهبٍ ضدًّا على مذهبٍ آخرَ من مذاهب الإسلام. فالعارف الصوفي لا يميل إلى مذهبٍ بعينه من مذاهب الظاهر، بل يُوَّفِق بينها جميعا، ويَرَى فيها طرُقا مُختلفة في المَسْلَك، مُتَّحِدَةً في الجوهر، مؤديةً إلى التَّيْسِيرِ على العِباد؛ الذي هو مُراد شرع الله تعالى.

4 - تَغَلُغُلُه في مرافق الحياة

بهذا النهج وعلى سَمْتِه سار التصوف في المغرب، فأَثر كبير تأْثيرٍ في بنية المجتمع العميقة، ووجَّه مرافقَ الحياة ولوَّنها بأَلْوَانه.بحيث انتشرت مياهه متغلغلة في طوايا التاريخ العام وطبقاته ومساربه، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية، اجتماعية أم ثقافية، جهادية أم روحيةً، وكيَّفَتْه بصفائها في الجبال والسهول، والحواضر و السواحل. ولكن هذا المَسار الذي عُرف به التصوف المغربي عبْر الحِقب والقرون الأولى بدأَ يتدهور منذ أصبح في متناول العوام الذين لاحظ لهم من علوم الشريعة، ولا فهمَ أَسَدَّ لمقاصدها، ولذاك صارت أَلْسِنتهم تَلُوك التصوفَ، وكلامَ كِبار عارفيه في غير هدًى ولا اتزانٍ، حتى أمسى هذا الحقلُ الربانيُّ مَرتعاً لسوائم الخُرافة، وموئلاً لعُميانِ البصيرةِ المتاجرين ببضائعِ الأوهام وأَكَاسِير الشعوذَة... وحاشا أن يكون التصوف وأهلُه من هذه الطينة الشيطانية المندسَّة في أرضِ الروح المَفْلُوحَة بالأنوار القدسية .(4)

5 - استهواءُ مَعانيه مُعْظَمَ المثقفين

فالمعاني الرقيقة التي أنبتتها هذه الأرض الروحية قد قُدِّر لها أن تستهويَ كثيرا من أصناف المثقفين في مختلف العصور...ولكن كل طائفة نظرت إلى أسرار التصوف من خلال مزاجها، واللون الخاص الذي تكَيفت به روحُها في الحياة، وقد لاحظ ذلك الشيخ أحمد زروق (28 محرم 846 ه /07 يونيه 1442 م بفاس-18 صفر 899 ه /28 نونبر 1493 م بمصراته) الملقبُ بمحتسب الصوفية والعلماء في قواعده، خاصة القاعدة رقم 50 التي يقول فيها: (لكل فريق طريقٌ، فللعاميِّ تصوفٌ حَوتْهُ كتب أبي المحاسن الفاسي ومن نَحَا نَحْوَه، وللفقيه تصوفٌ رامَه ابن الحاج في مَدْخَلِهِ، وللمُحَدِّثِ تصوفٌ حامَ حوله ابن العربي المَعافري في سِرَاجِه، وللعابد تصوفٌ دار عليه الغزالي في مناهجه، وللمُتَرَيِّضِ تصوفٌ نبه عليه القشيري في رسالته، وللناسك تصوفٌ حَوَاهُ القوتُ والإحياء، وللحكيم تصوفٌ أَدخله الحاتمي في كُتبه، وللمنطقي تصوفٌ نحا إليه ابن سبعين في تآليفه، وللطبائعي تصوفٌ جاء به البُونِي في أسراره، وللأصولي تصوفٌ قام الشاذلي بتحقيقه.)(5) ولكن الشيخ زروقا أغفل تصوفَ الأديب الذي يريد أن ينظر الكون بقلبه ليستجليَ منه مظاهر الفنون والجمال، ولعل أبرز شخصية مغربية تحتكر هذا الجانب هو ابن الخطيب الذي يقول في كتابه" روضة التعريف بالحب الشريف": ( الفَطِنُ يشعر بالشيء وإِن جَهِلَ أسبابه، والصوفي يَسمَعُ من الكون جوابه)."(6)

6 ـ أُمِّيُون مثَقَّفون

في هذا الحقل الصوفي الذي أخذت معانِيه بلُبِّ معظم شرائح المجتمع المغربي نبغت طائفة غير قليلة ممن لنا أن نُطلق عليهم اليوم اسم (الأميين المثقفين)، فمن حلقات الصوفية – التي كانت تنبثق منها العلوم للناس – تخَرَّجَ عدد كبير من الأميين المثقفين أمثال: عبد السلام التواتي الذي كان يتَفجَّر عِلماَ رغم اُمِّيته ؛وهو تلميذ مولاي التهامي الوزاني؛، وسيدي عبد العزيز الدباغ الذي تَلمَذ له عالمٌ جليل هو ابن المبارك، ومحمد بن مبارك الزعري الذي كان أُعجوبةَ في دقائق التصوف ورقائقه، ومولاي المهدي بن السعيد العلوي الذي أَلَّفَ رغم أُميته كتابا سماه "نزهة الأرواح النورانية في الصلاة على الذات المحمدية "، وكانت له جولات في التوحيد الخاص وقد توفي على رأس القرن 14.(7)

خاتمة

سيظل الوعي بالتصوف، وبالحاجة إليه، هاجس الإنسان أينما كان وفي أي زمان . فهو فِقْهُ المعرفة الشاملة، والسبيلُ السالكة إلى المكان البشري، والموقفُ الديني والوجودي الذي يتخذه الإنسان من الحياة والكون والمطلق، والفاعليةُ التي تقوم بدور هام في تماسك الوجدان وعافية الهوية .

وقد أثبت التصوف المغربي أنه أقدرُ تيارات الفعل الحضاري الإسلامي على التأثير في البيئة التي يَحط فيها رَحله والتأثرِ بها، وعلى امتصاص أكبر قدر من سماتها وتوجهاتها، بوصفه عرفانا باثا للمعرفة اللدُنية، وسلوكا متجذرا في الوجدان، يُفَعِّلُ حركية المجتمع ويفْعَل فيها ويشحنها بطاقات دافعة إلى الأفق الأسنى.. أفق التناسق والتناغم بين الشريعة والطريقة الذي لا جسر إلى الحقيقة سواه .

ولذلك استهوت معاني التصوف معظَمَ شرائح المجتمع المغربي، وصارت مختلف تضاريس الأرض المغربية تنبت الأولياء العارفين بالله، الجامعين بين الشريعة والحقيقة، والقائمين على أقوم طريقة حتى ليخال الباحث أن البقعةَ التي لا توجد فيها هذه الروح الصوفية هي بقعة نشاز في جغرافية المغرب الروحية، وفي جسد هُويته الإسلامية . فعبْر الحقب والعصور ظهر صوفيةُ مغاربةٌ تميزوا بأحوالهم السَّنِية التي تكُون الخواطرُ فيها عبارةً عن خطاب قهري يرِد على ضمائرهم وقلوبهم، فيستوعبون أسراره، ويحاولون تصريفَها تنفيذا لأوامر الخطاب.

***

د. أحمد بلحاج آية وارهام

.......................

الهوامش

(1) عبد العزيز بن عبد الله: معطيات الحضارة المغربية، ط 1، دار الكتب العربية، الرباط 1963 م، 1/126، 128.

(2)عبد العزيز بن عبد الله: الفكر الصوفي والانتحالية بالمغرب، مجلة"البنية "، السنة الأولى، العدد6، جمادى الأولى 1382 ه /أكتوبر 1962 م، الرباط، ص ص: 63، 64.

(3) د.إبراهيم الدسوقي شتا: التصوف عند الفرس، سلسلة (كتابك 62)، دار المعارف، القاهرة 1978م، ص ص: 20، 21.

(4) معطيات الحضارة المغربية، مذكور، 1/131، 149.

(5) الشيخ أحمد زروق: قواعد التصوف، دار الجيل، بيروت1992 م، ص: 48.

(6) معطيات الحضارة المغربية، مشار إليه 1/156.

(7)م.س، 1/157.

المصادر والمراجع

1. عبد العزيز بن عبد الله: معطيات الحضارة المغربية، ط 1، دار الكتب العربية، الرباط 1963م.

2. عبد العزيز بن عبد الله: الفكر الصوفي والانتحالية بالمغرب، مجلة"البنية "، السنة الأولى، العدد6، جمادى الأولى 1382 ه /أكتوبر 1962 م، الرباط.

3. د.إبراهيم الدسوقي شتا: التصوف عند الفرس، سلسلة (كتابك 62)، دار المعارف، القاهرة 1978م.

4. الشيخ أحمد زروق: قواعد التصوف، دار الجيل، بيروت1992 م.

 

في المثقف اليوم