أقلام حرة
علاء اللامي: الجواهري في رسائل وشهادات.. ملحق (2)

كيف ولدت المواطنة في عراق ما بعد العثمانيين، وما العلاقة بين التبعية العثمانية والأخرى الإيرانية وبين التبعية وحيازة الجنسية؟
استدراك من الجصاني: أبدأ هذا الجزء باستدراك مهم ورد في الرسالة الرابعة التي وردتني من الصديق العزيز رواء الجصاني عملا بحق الرد والتعقيب والاستدراك وكان قد نشرها كتعقيب أيضاً على الجزء السابق من هذا الملحق وليس لدي تعقيب عليه: "جاء في إحدى خلاصاتي وملاحظاتي التي نقلها الصديق اللامي بنصها وهي "ان الجواهري كان يترفع عن الاشارة الى "أصله" العربي، باعتبار ذلك تحصيل حاصل، كما احسب". وقد استدركت لاحقا بإضافة جملة "جهد ما استطاع". وأضيف هنا ولكن يبدو أن الامر احتاج الى استدراك أو اضافة أخرى أكثر وسعا، وخلاصتها أهمية ما جاء في "ذكرياتي" للجواهري / الجزء الاول / دمشق 1988 الذي يحرص الاستاذ اللامي، كما احرص، على التوثيق له، والاستنتاج بشأنه للحقيقة والتاريخ..".
التبعية والمواطنة والجنسية: أهدف من خلال هذا المداخلة التخليلية التاريخية إلى محاولة توضيح وإثبات أن التبعية العثمانية أو الإيرانية في عراق العشرينات لا تعني دائما وبالضرورة أي تبعية قومية أو مواطنة لحائزها في دولة أجنبية أخرى نظرا لغياب الكيانية الجغراسياسية العراقية باسم العراق، هذا أولا. وثانيا، فأن التبعية الإيرانية شيء قد يكون رمزيا وغير مسجل إداريا أحيانا أما حمل الجنسية الإيرانية فشيء آخر ويعني المواطنة لدولة أخرى بغض النظر عن الأصل القومي لحاملها. وإذا كانت هناك أسر وقبائل عربية شيعية كثيرة في العراق ذات تابعية للدولة الإيرانية القاجارية فهذا لا يعني أنها إيرانية أو فارسية بل هي تتمتع ببعض الحماية ومعفاة من الخدمة العسكرية في الجيش العثماني. وإذا كانت قبائل عربية سنية أخرى ذات تابعية عثمانية فهذا لا يعني بالضرورة إنها تركية قوميا بل عثمانية انتقلت إلى المواطنة والجنسية العراقية بزوال السلطنة العثمانية وقيام الدولة العراقية تلقائيا لكونها لم تكن لها تبعية لدولة أخرى.
كان العراق في العهد العثماني مقسماً إداريا إلى ثلاث ولايات هي الموصل وبغداد والبصرة. وكانت بغداد بمثابة العاصمة لإقليم العراق القديم وغير المتشكل في وحدة إدارية موحدة كإقليم واحد ضمن الدولة العثمانية اللامركزية واقعاً كسائر البلدان العربية!
وقد بدلت بغداد التي لم تكن في الأوان العثماني أكثر من ثكنة "قشلة" لقواتهم العسكرية الجاهزة دائما للقيام بغزوات وحملات موسمية أو مفاجئة ضد القبائل العربية العراقية في الوسط والجنوب شبه المستقلَين عمليا، أقول لقد بدلت بغداد محتليها عدة مرات فتارة يسيطر عليها الصفويون القادمون من بلاد فارس وأخرى يغزوها العثمانيون الترك القادمون من هضبة الأناضول لتعود المدينة إلى السلطنة العثمانية. وبعد سقوط هذه السلطنة وقع العراق تحت الاحتلال البريطاني. ثم جاءت الثورة العراقية الكبرى سنة 1920 التي أطلقت شرارتها وقادتها قيادات دينية وقبائلية عربية شيعية ومعها بعض الزعامات السنية ممثلة بالشيخ ضاري المحمود الزوبعي فاضطرت بريطانيا إلى إيجاد شكل من أشكال الاحتلال غير المباشر وأقامت دولة ملكية في العراق سنة 1921 واستجلبت لها الملك الهارب من مملكته قصيرة العمر في سوريا فيصل بن الشريف حسين.
وحين قامت الدولة العراقية، كانت المهمة الأولى للقائمين عليها حل مشكلة المواطنية في الدولة الجديدة ومنحهم جنسيتها التي تسمى في القانون العام "الجنسية الأساس" في دولة جديدة: ومن الطبيعي أن تكون المواطنة في آخر كيان سياسي في العراق أي الدولة العثمانية هي الأساس. وعلى هذا "نصت المادة (3) من قانون الجنسية العراقي رقم 42 لسنة 1924 الملغي على انه " كل من كان في اليوم السادس من اب 1924 من الجنسية العثمانية وساكنا عادة في العراق تزول عنه الجنسية العثمانية و يعد حائزا على الجنسية العراقية ابتداءً من التاريخ المذكور " ولذلك تعد هذه المادة الاساس القانوني لأحكام الجنسية العراقية، وأكد هذا المبدأَ قانونُ الجنسية رقم 43 لسنة 1963 الملغي في المادة الثانية منه، و اشار لذلك و فق المادة الثانية قانون الجنسية العراقي النافذ رقم 26 لسنة 2006، و عليه من خلال الاحكام أعلاه فأن جنسية التأسيس تفرض على أساس توافر الشرطين التاليين : أولا، ان يكون الشخص عثماني الجنسية في 6 / اب / 1924و هو تاريخ بدء سريان معاهدة لوزان على العراق التي خولت الدولة وفقا للمادة 30 منها بتحديد "مواطنيها" ضمن حدودها الإقليمية.
والشرط الثاني، أن يكون الشخص العثماني ساكنا في العراق عادة، حيث اشارت المادة ( 2/ 5 ) من قانون الجنسية العراقية رقم 42 لسنة 1924 على "كل من كان محل اقامته في العراق منذ يوم 23 / اب / 1921 و لغاية 6 / اب / 1924 و العثماني الذي غادر العراق قبل هذه المدة لا يستفيد من هذه المادة ".
ابتكار شهادة الجنسية: هنا بالضبط، برزت مشكلة العراقيين العرب وغير العرب الذين كانوا يحسبون أنفسهم على التبعية الإيرانية، مع إنهم ليسوا إيرانيين ولا جذور لهم فيها غالباً. علماً، أن بعض هؤلاء وخصوصا من الميسورين وذوي الأصل الإيراني فعلا كانوا يحملون الجنسية الإيرانية وبعضهم الآخر لا يحملونها، وكان بعضهم فرساً ولم يكن البعض الآخر كذلك، وإلى هذا النوع من حملة الجنسية الإيرانية رجحنا انتماء الشاعر الجواهري وأسرته.
ولحل هذا الإشكال وإشكالات أخرى مرادفة لتطبيقات قانون الجنسية للدولة الفتية رقم 42 لسنة 1924، ابتكرت الإدارة العراقية الملكية وثيقة تسمى "شهادة الجنسية"، التي تؤكد عراقية المواطن. ولم تكن هذه الوثيقة تُمنح بسهولة لجميع الناس. ولكني ومن خلال تجربتي الشخصية والعائلية لاحظت أن العرب من قبائل الجنوب والفرات الأوسط كانوا يحصلون عليها بسهولة نسبية أسوة بمواطنيهم من عرب المنطقة الغربية والشمال. وربما يكون ثمة تمييز طائفي في هذا الصدد ولكنه يرتبط على الأغلب بحالات فردية ولم يكن ممنهجاً ومدفوعاً بالخوف من مزاحمة العرب الشيعة للعرب السنة على حكم العراق أو على الوظائف والمناصب كما يقول البعض. إذْ أن خوفاً من هذا القبيل لا أساس له فالعرب الشيعة كانوا يقاطعون الدولة العراقية الجديدة أصلا على اعتبار أنها غير مستقلة وتابعة لبريطانيا ما يعني أن تضحياتهم في ثورة العشرين ذهبت سدى، وهو اعتبار صحيح تماماً من ناحية جيوسياسية وتاريخية.
وإذا أردنا أن نضع هذه المخاوف والهواجس في سياقها التأريخي الصحيح، لكي نفهمها فهماً يقربنا من حقيقة ما حدث فعلينا التذكر بأن استقلال الدولة العراقية كان هشا ومهددا في السنوات والعقود الأولى. وكانت إيران وتركيا الجمهورية قد وقفتا ضد استقلال العراق عن بريطانيا. وادعت كلتاهما الحق في إلحاقه بهما. وماتزال للدولتين أطماع معلنة في أراضي ومياه العراق حتى الآن. وكمثال على هذه العنعنات في تلك السنوات نذكر أن رجل دين من حملة الجنسية الإيرانية كان يعيش في العراق يدعى الشيخ حسين يزدي وقف صراحةً ضد استقلال العراق ودعا علنا في بيان نشر في الصحف العراقية سنة 1925، وقال فيه إنَّ العراق "يجب أن ترعاه مربيته القديمة تركيا وأمه فارس إلى أن تظفر باستقلالها. ص186 من كتاب "شيعة العراق - إسحق نقاش". في حين وقف رجال دين إيرانيون آخرون مقيمون في إيران ذاتها موقفاً مؤيداً لاستقلال العراق ومنهم آيات الله محمد حسين النائيني أحد قادة الثورة الدستورية "الحركة المشروطة" سنة 1905، والأصفهاني والخُراساني.
ومثلما لا يمكن تفسير تاريخ العراق الحديث بالتمييز الطائفي الذي كان هامشياً "وشبه فولكلوري" آنذاك، فلا يمكن تفسير عدم وجود تمثيل شيعي عراقي مناسب لحجمهم السكاني في الدولة العراقية الملكية الجديدة بالتمييز الطائفي السني ضدهم، بل لأن هناك عدة عوامل لعل أبرزها وأقواها مقاطعة القيادات المجتمعية القبائلية والدينية الشيعية للدولة العراقية التي اختلقها البريطانيون للالتفاف على ثورة العشرين الاستقلالية. ومع ذلك فقد خُرقت هذه المقاطعة جزئيا وعدم وجود كوادر من العرب الشيعة في الدولة العثمانية ينتقلون تلقائيا منها الى الدولة الجديدة كما حدث من أقرانهم العرب والكرد السُّنة. ومع ذلك فقد سارع بعض السياسيين من الشيعة إلى خدمة الكيان الوليد الذي قرر قادة ثورة العشرين مقاطعته. وكان الوجيه والتاجر الشيعي عبد الحسين الجلبي أول من خرق المقاطعة، وأصبح وزيراً فيه، وقد هجاه الشاعر الشعبي الساخر مُلا عبود الكرخي بقصيدته الشهيرة "وعدتنا من الوزارة تستقيل.. وعدلت عنها لماذا يا محيل؟ ".
الوزير المذكور، سليل عائلة الجلبي المغرقة في الولاء والتبعية للبريطانيين " وكانت هذه العائلة تمثل حالة نموذجية أخرى، إذْ كانت واحدة من العائلات الشيعية القليلة التي حافظت على علاقات ممتازة مع الحكومة العثمانية. وكان سلفهم علي الجلبي جابياً لضرائب الكاظمية وكان غاية في القسوة، وعنده حرس شخصيون من العبيد المسلحين وسجن خاص بتصرفه. وعندما مات تنفس أهل الكاظمية- وهم من الشيعة- الصعداء. أما ابنه عبد الحسين، الذي أصبح رئيساً لمجلس إدارة شركة ترام الكاظمية / بغداد، فقد كانت له، منذ العشرينيات، حقيبة في كل وزارة تقريباً لأنه كان (قابلاً للاعتماد عليه ولين العريكة..) كما جاء على لسان السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني " جيرترود بيل" والمعروفة اختصارا لدى العراقيين بـ " مس بيل / أم سبيل ". وأما حفيده عبد الهادي فقد حظي في العام 1938 بعطف عبد الإله الذي سيصبح وصياً على العرش لأنه ساعده بالقروض"، كما كتب حنا بطاطو، العراق- الكتاب الأول، ص352. وهذا نموذج على الصعيد الأسري مع وجود استثناءات لشخصيات وطنية حتى ضمن هذه الأسرة تجعل التعميم غير وارد. ولكن هل فعلا يقسم هذا القانون العراقيين إلى درجة أولى وثانية على أساس طائفي؟ فهذا ما سنتوقف عنده وعند شهادات أخرى ترفض اتهام الحصري بالطائفية وتقدم دليلا قويا على نفيها، وأخرى تبرئ الرصافي مما نسب إليه من أقوال ومواقف ضد الجواهري وقصيدته "بريد الغربة" في الجزء القادم من هذا الملحق.
***
علاء اللامي