أقلام حرة

صادق السامرائي: إبداعنا البديع!!

دخلت ذات يوم في مكتبة عريقة للتراث (في جامع الملك عبد الله في عمان)، ورحت أتصفح ما تحتويه من أمهات الكتب والمجلدات، وأمضيت أسابيعَ متواصلة أغوص في كتبها، حتى وجدتني في حيرة ودهشة أمام العطاء المتنوع والشامل على مدى قرون من الحضارة، والتعمق الفكري والفلسفي والمعرفي الكوني الأبعاد والتطلعات.

وكنت قبلها أحسبني قد عرفت وأستطيع أن أقول وأبدي رأيا وأناقش حالة أو موقفا، كأي عربي يتكلم اللغة وينسب إلى نفسه فهم الدين ووعي مفرداته، لكنني وأنا في المكتبة أدركت ضآلة القدرات الفردية وعجزها مهما حاولت أن ترتقي إلى إستيعاب هذه الغزارة الإبداعية الفياضة، المتناوِلة لكل ما يخطر على بال من مفردات الحياة والموت والكون.

وأدركت بأن العطاء الإبداعي للأمة لا يستطيع أن يحيط به عقل فرد واحد بكفاءة وتمكّن مهما حاول، ولو أفنى عمره في الدراسة والبحث والفهم.

فهذا التراث المنير الخلاق بحاجة إلى جمهرة عقول ذكية، يدرس كل منها شأنا وعليها أن تتفاعل بروح علمية وإنسانية راقية، لكي تقرر أمورا معينة في زمن الثورة المعلوماتية الهائلة.

إن العلوم المعرفية الفكرية والإنسانية والدينية من الغزارة والعمق والدقة والشمول ما لم يحصل في تأريخ البشرية من قبل.

هذا الفيض المعلوماتي النابع من الثقافة القرآنية والأحاديث النبوية ومسيرة الصحابة والأولياء والصالحين وإجتهادات مفكري أبناء الأمة على مر القرون، يطرح سؤالا على أبناء الجيل الحاضر والأجيال القادمة عنوانه: كيف يتم الإلمام العلمي والواقعي الصحيح بهذا الجهد الفكري الفياض؟

وكيف يتم التعبير عنه في أزمنة متجددة وتطورات بشرية حاصلة؟

إن النظرة الفردية للموضوع لا أظنها ستكون عادلة وموفية بالأغراض العلمية والشرعية والفقهية، بل أنها ستحقق أضرارا وإنحرافات، لأن الفرد عليه أن يستوعب العلوم الإلهية وجوهر مكنونات العلوم الكونية ويكتسب درجة معرفية عالية، ويحيط بالعلوم المعاصرة المتجددة، وهذا لا يتحقق بسهولة في أيامنا المتدفقة بثوراتها العلمية والمعرفية.

 إن أبواب الإجتهاد والإبداع الفكري مفتوحة ومطلقة، على أن تكون ذات إسنادات فكرية ومعرفية واضحة شأنها شأن أي بحث علمي.

والذي ننساه هو أن المفكرين في مسيرة الأمة، وعبر مراحلها  ومنذ بداية تدوينهم لأفكارهم، قد إنتهجوا نهجا بحثيا وعلميا لا يختلف كثيرا عن مناهج البحث العلمي التي نتبعها اليوم.

فيكون الإجتهاد عبارة عن إستنتاج بحثي رصين يمتلك الأهلية للحياة في مكانه وزمانه.

وعليه فالأمة بحاجة لجمهرة عقول عاملة تتفاعل فيما بينها، ومن خلال وعيها ومعرفتها في حقل إختصاصها وتفكيرها تستطيع أن تعطي ما ينفعها .

فالعقل الفردي لا يمكنه ومهما إدّعى درجة العلمية والدراية أن يكون صحيحا ومنصفا، إن لم يتفاعل مع عقول مماثلة له، لكي يتحقق الوصول إلى إستنتاج معقول، وفيه درجة متوازنة من الصحة والصواب.

لأن الفرد لو أمضى عمره كله في التبحر بالعلوم المتراكمة لا يمكنه أن يلم بها، لأنها نتاج أجيال متعاقبة من العلماء والمفكرين، فالفرد دون ذلك الوعي والإدراك بكثير، لأنه لا يمكنه أن يرى إلا جزءا صغيرا ووفقا لما إستوعبه وتمثله في عقله ورؤاه وإستحضرته له زاوية نظره.

ولهذا يكون من المفيد أن يبحث فريق عمل من جيل متعلم ومتفقه في جوانب الدين المختلفة للإحاطة المعقولة والوعي المنصف.

إن الحياة المعاصرة تتطلب من أبناء الأمة برؤاهم وتصوراتهم أن يجلسوا مع بعضهم في مجلس شورى، لكي يكونوا بمستوى رسالة الدين وعظيم شأنه وعمق إدراكه ورؤيته للحياة والوجود البشري.

إن مشكلة الأمة في هذه الغزارة الإبداعية والعطاء الكثير، الذي يجعل أبناءها يتحولون إلى فرق وجماعات كل حسب ما أدرك ووعى، وما وعى إلا القليل القليل، وبقي الكثير الكثير، الذي هو بحاجة إلى وعي وإدراك حكيم وعاقل.

والمصيبة الكبرى في غزارة الجهل والأمية، أمام هذه الغزارة المعرفية الواسعة.

وكأنها تعيد للأذهان صرخة جبريل عليه السلام بمحمد (ص) "إقرأ..إقرأ" فهل نحن نقرأ أو نتوهم القراءة والمعرفة ونتصورها؟!!

كما أن إبداع الأمة يتناول كل كبيرة وصغيرة، ويمضي إلى أعماق المجهول، ويستند على حقائق وإفتراضات حكيمة، لكن التمسك بالفروع والإبتعاد عن الأصول يحوّل البحار إلى أنهار،  والأنهار إلى سواقي، والسواقي إلى ترع يتنازع عليها من يدّعي أنها ذات شأن يعنيه.

وهكذا فإن الفرد لا يمكنه بسهولة الإحاطة بفضاءات المعرفة الشاملة.

وفي الزمن الذي نعيشه تفرض عليه الحياة ما تفرض من متطلبات وقيود وحدود، وهذا قد يدفعه إلى القول بما لا يعرف ظنا منه أنه يعرف.

كما أن من الضروري الإطلاع على الديانات البشرية الأخرى، لكي يدرك المسلم قيمة دينه ودوره السامي في الحياة، بدلا من الإنخراط في رؤى وتوجهات سلبية لا تنفعه وتضر بدينه.

أدعو الله أن يفقه المسلمين في دينهم، ويلهمهم سواء السبيل، ويوحد كلمتهم ويرفع راياتهم، ويعلي كلمة أمتهم، بكل مدارسها ومذاهبها، ويسعى الجميع للحفاظ على هذه الخيمة الإلهية المباركة التي تستظل بها الأجيال.

فالإسلام خيمة كبيرة أعمدتها وأوتادها المدارس والمذاهب والفرق، التي تولدت بسبب غزارة العطاء الفكري، وتعاظم البحث والإجتهاد على مر العصور،  وهي مصادر قوة وإثراء للدين، وليست ضعفا كما يتوهم البعض، بل أنها من ضرورات التفاعل الصحيح ما بين الدين والحياة.

والحقيقة الجوهرية أن الكتاب واحد، والتأويل والتفسير يتنوع، وهو من باب الإجتهاد والرأي المطلوب للتواصل مع الزمان والتفاعل مع المكان، فلنختلف فيما نرى ونجتهد ونؤول ونفسر، وعلينا أن لا ننسى أن ربنا واحد وكتابنا واحد ونبينا واحد.

"إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون"

"وقل ربي زدني علما"

"وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"

***

د. صادق السامرائي

في المثقف اليوم