شهادات ومذكرات
أ. ي. هوتشنر: غرفة في مستشفى القديسة ماري

بقلم: أ. ي. هوتشنر
ترجمة: صالح الرزوق
***
في بدايات حزيران عام 1961، وفي طريق عودتي من هوليوود إلى نيويورك، استقليت طائرة توقفت في مينابوليس. ومن هناك استأجرت سيارة وقدتها مسافة تسعين ميلا إلى مستشفى القديسة ماري في روشيستر. كان صديقي المقرب أرنست همنغواي، للمرة الثانية، مريضا في قسم الصحة النفسية، وبرعاية دكاترة من مصحة مايو المجاورة. وكنت قد زرته في السابق خلال أول احتجاز له، وأنا في طريقي إلى هوليوود، قبل عدة أسابيع. كان غير مسموح لأرنست في الأسابيع الست الماضية إجراء أو استلام مخابرات هاتفية، أو الاجتماع بالزوار، ولا حتى ماري زوجته، لأنه كان عرضة للعلاج بسلسلة الصدمات الكهربائية ECT. والآن هو في وقت الاستراحة قبل مواصلة سلسلة أخرى منها. ولذلك سمح له أطباء مصحة مايو بإجراء المكالمات وأتاحوا له وقتا للزيارة. لم يكن في مصحة مايو تجهيزات لنقول إنها مستشفى. ولكن هناك جناح في مستشفى القديسة ماري الكائن في روشيستر، وتديره راهبات قديرات، تسمحن لأطباء المصحة بمعالجة المرضى الذين تستقبلهن للعلاج. حينها كانت الصدمة الكهربائية تستعمل دون رادع، ويتم إسقاط التيار الكهربائي على دماغ المريض بدون الاستفادة من أي مخدر، باستثناء قطعة من الخشب توضع بين أسنانه حينما يصارع الألم الفظيع. حدد أطباء مايو أن أرنست يعاني منالسأم، ووصفوا له ECT في محاولة لتصحيح وضعه.
توجد عدة تفسيرات غير موثوقة لتدهور حالته في تلك الأوقات: أنه مصاب بسرطان حاد أو مشاكل مالية. وأنه تشاحن مع ماري. وكلها ليست صحيحة. وكما يعلم أصدقاؤه المقربون كان يعاني من الكآبة والبارانويا لعدة سنوات مضت من حياته. ولكن لم يتم التعرف على جذور هذه المعاناة، لو أنه بالإمكان التعرف عليها. وبمحاولة لإعادته إلى توازنه عمدت إلى مساعدته في التغلب على أشكال الرهاب التي تخنقه، ولكن كلما تقدمنا قليلا يتبين أنه خداع مؤقت. وكذلك بذلت جهدي لأنقذه من البيئة الهدامة ورتبت رحلة سياحية طويلة لكل أماكن صيد السمك في أرجاء العالم والتي كان يهواها، ولكنه تراجع في ليلة المغادرة. وحينما ألحت عليه ماري لزيارة طبيب نفسي قال: يا للجحيم. كلا. فقد كان لديه طبيبه النفسي، وهو طابعة كورونا.
كنت أقابل أرنست مرارا وتكرارا لمدة ثلاثين عاما هي عمر صداقتنا. وقمت بتحويل العديد من قصصه ورواياته إلى تمثيليات تلفزيونية خاصة، وللمسرح والسينما. وقمنا بمغامرات مشتركة في فرنسا وإيطاليا وكوبا والمكسيك وإسبانيا. وفي الصيف الذي سبق بداية هلوساته استمتعنا معا بسياحة شملت ساحات مصارعة الثيران المشهورة في عدة مدن إسبانية. وهناك انعقدت منافسات ثنائية بين أهم مصارعي الثيران في إسبانيا ومنهم أسماء عظماء- منهم الأقارب أنتونيو أوردينيز ولويس ميغيل دومينيغان - (كانت المصارعة المميتة بين متنافسين وليس كالمعتاد ثلاثة)، وكان أرنست هو المدير. في واحدة من تلك المدن، وهي كويداد ريل، ألبسني أنتونيو أحد ثيابه الخاصة بالمصارعة، وأعطاني اسم إلبيكاس (ذو النمش). وحضني أرنست للدخول إلى حلقة الثيران كمرجح (الماتادور الثالث الذي يقاتل الثور فقط إذا تعرض المصارعان المشاركان لجرح وعجز)، ولأشارك مع المصارعين العظيمين. وبما أنه كان مديري توجب علي، كبانديريرو، تقديم عرض إجباري أمام الجمهور، ولكن أخبرني أرنست أن لا أبتعد عن أنتونيو، والذي ساعدني سرا في جر الثور للهجوم عليه.
كانت حماسة أرنست للحياة معدية. في تموز عام 1959 احتفلنا في شوريانا، قرية في التلال فوق مالقة، بعيد ميلاد أرنست الستين، وأقمنا حفلة رائعة، استمرت ليومين. بذلت ماري جهدها في الحفلة. فقد شعرت أن أعياد ميلاد أرنست السابقة، وبسبب عدم تعاونه، كانت تبدو مثل استراحة وليس احتفالا، وقررت أن تعوض بهذه الحفلة كل ما سبقها. ونجحت بذلك.
أحضرت الشامبانيا من باريس، والطعام الصيني من لندن، والبكالو أ لا فيسكانيا (حساء سمك القد بطريقة الباسك) من مدريد، والألعاب النارية من كرنفال متجول، وخبير الألعاب النارية من فلنسيا (قلعة الألعاب النارية)، وراقصي فلامنغو من مالقة، وموسيقيين من تورمولينوس. جاء المحتفلون من كل مكان، ومن بينهم مهراجا جينبور ومعه قرينته وأبناؤه، ومهراجا كوش بيهار وزوجته، والجنرال سي بي “بيوك” لانهام من واشنطن العاصة (كان يقود الجيش في معركة هورتيغين فوريست، وقد انضم إليهم أرنست بأعمال مكتبية في الحرب العالمية الثانية)، السفير والسيدة دافيد بروس، القادم بالطائرة من بون، وعدد من نبلاء مدريد، وعدد من رفاق أرنست الذين كانوا برفقته قديما في باريس. أبهج أرنست نفسه كثيرا. وفي كوخ إطلاق النار، استعمل بارودة قديمة بالية ليطلق على أعقاب سجائر من فم مهراجا كوش بيهار وأنتونيو أوردونيز، ماتادور إسبانيا الأول. عبر من فوق خط متعرج وأسعده فتح كومة من الهدايا وهو يرفعها عاليا ليراها الجميع.
وظهرت أخبار الحفلة حينما أطلق المشرف على الألعاب النارية، القادم من فلنسيا، تيارا من المقذوفات العملاقة، التي سقطت على قمة شجرة نخيل ملكية قرب البيت، فأشعلت النار بالشجرة. استنفر قسم الإطفاء في مالقة. وكانت سيارة الإطفاء تشبه فقرة من كوميديا لاك سينيت، ومثلها رجال الإطفاء الذين أحاطوا بالشجرة، وأطفأوا النار، وعلى الفور ضمهم أرنست إلى الحفلة. وطيلة بقية الليلة، ارتدى أرنست خوذة قائد فرقة الإطفاء المعدنية، وشغل أنتونيو محرك سيارة الإطفاء وقادها حول المكان، وكان أرنست بجانبه بينما البوق يصفر.
تصادفت نهاية ذلك الصيف مع آخر الأوقات الطيبة.
في السنة التالية لاحظت تبدلات حادة ومبهمة في هيئة أرنست. نها عجزه المهين في كتابة “الصيف الخطير” لمجلة لايف، ولأول مرة بعد وجوده هناك، لم يشارك بصيد الحبارى السنوي قرب بيته في كيتشوم، أيداهو. وإ صراره المفاجئ أن تلك الحقول التي يصطاد فيها دائما أصبحت مغلقة. وبتطور هذه البارانويا أصبح مقتنعا أن سيارته وبيته تحت رقابة الإف بي آي وأن عملاء آي آر إس <خدمة الاستثمارات الدولية> يراقبون حسابه المصرفي.
وفي آخر زيارة لي إلى كيشتوم، وقبل أن أغادر، رافقت ماري وأرنست ليلا إلى العشاء. وكان يبدو أنه يستمتع بوقته، وفجأة توتر وأملى علينا همسا بضرورة مغادرة المطعم فورا. سألته ماري عن الدواعي.
قال: عميلان من الإف بي آي في البار، هذه هي الدواعي.
استوقفتني ماري لاحقا في تلك الليلة. كانت مشتتة كثيرا. كان أرنست ينفق يوميا ساعات طويلة مع مخطوطة في محاولة لإعادة كتابة نتاجه الباريسي، ولكنه كان عاجزا. يقلب الصفحات فقط. وأشار عدة مرات أنه ينوي إلحاق الضرر بنفسه وأحيانا كان يقف قرب خزانة البواريد وبيده إحدى بنادقه وهو يحدق من النافذة. وبعد عدة فحوص نصحه طبيبه في كيتشوم بالدخول في قسم الصحة النفسية لمصحة القديسة ماري، باسم مستعار، وهناك أجرى عليه أطباء مايو سلسلة فحوصات ECT. ثم خابرني من صالة الهاتف وكانت أمام غرفته. كان يبدو متحكما بنفسه، ولكن فهمت من صوته أنه لا ينتمي لذلك لمكان وإن لم يعبر عن رأيه. لكن لم تتغير أوهامه ولم تخف: برأيه أن غرفته مراقبة، وهاتفه عرضة للتجسس ويشك أن أحد الموجودين عميل فدرالي. وأملت أن علاجه سيقلل من إحساسه بالظلم، ولكن لسوء الحظ، أكدت المكالمة، إن أكدت أي شيء، أن حالته تتفاقم. وبعد عدة فحوصات ECT، وعدة مقابلات مع الأطباء النفسيين، قمت بزيارته لأول مرة، وأنا في طريقي إلى هوليوود، آملا ثانية أنه أقل تأثرا بأوهامه، ولكن، كلا، كانت نفس الهلاوس تتقمصه.
ولم أستوعب كيف قرر أطباء مايو إطلاق أرنست سريعا بعد زيارتي. فقد كالمني وأنا في هوليوود قائلا إنه مسرور بعودته إلى كيشتوم وإلى عمله. وقال إنه خرج للصيد في اليوم التالي لعودته، والآن يوجد ثماني بطات برية، وبطتا صليب، معلقات فوق كومة الحطب، أمام نافذته في كيتشوم. لكن حياته المنزلية كانت قصيرة. في الواقع سرعان ما عاودته مخاوفه وبدرجة أسوأ. وحاول الانتحار مرتين ببارودة من خزانة بواريده، ولم يتوقف إلا بعد استعمال القوة معه. وخلال رحلة العودة بالطائرة إلى مصحة القديسة ماري، ومع أنه كان تحت التخدير، حاول القفز من الطائرة. وحينما توقفوا في كاسبر، في وايومنغ، للصيانة، حاول أن يقترب من مروحة دافعة وهي تدور.
**
حين وصلت إلى مشارف روشيستر بسيارة الشيفي المستأجرة في ذلك اليوم من حزيران عام 1961، كان القلق قد بلغ ذروته على حالة أرنست. وأملت أن يكون الرهاب قد تلاشى، أو على الأقل خفت قبضته، بعد آخر جولة علاج بالصدمة ECT بالإضافة للجلسات المتسارعة مع طاقم مايو للصحة النفسية. حجزت غرفة في فندقي، وتوجهت مباشرة إلى المستشفى. فتحت رئيسة الممرضات باب غرفة أرنست بمفتاحها، شيء مروع. كانت الغرفة صغيرة، ولكن مزودة بنافذة كبيرة سمحت بدخول شلال غزير من الضوء. لا توجد زهور والجدران عارية. وعلى طاولة بجانب السرير ثلاث كتب مكومة. وبعد الطاولة كرسي معدني بمسند ظهر مستقيم. وعلى النافذة قضبان معدنية أفقية. كان أرنست يواجه النافذة، ظهره للباب، ويقف أمام طاولة المستشفى المرفوعة لتحل محل منضدة الكتابة. وكان يرتدي ثوب حمامه الأحمر الصوفي (عمدته ماري باسم “ثوب الإمبراطور”). وكان مثبتا بحزام جلدي متهالك، وله قفل كبير حمل عبارة بالألمانية تقول “الله معنا”، وهو حزام انتشله من جندي ألماني ميت أثناء معركة دارت داخل غابة هورتغن في الحرب العالمية الثانية. وكان يرتدي نعلا هنديا مفضلا لديه، ويضع على عينيه عصابة تنس بيضاء مغبرة. وكانت لحيته مشعثة وفقد قدرا مهما من وزنه.
قالت الممرضة: سيد همنغواي. وصل ضيفك.
التفت أرنست. استمرت النظرة المصدومة على وجهه لدقيقة ثم تلاشت بابتسامة عريضة تدل على تواصله معي. وجاء ليحييني. تخلص من كمامته. وتشابكت أذرعنا بتحية إسبانية. ووضع كل منا إبهامه على ظهر الآخر. كان سعيدا تماما بمجيئي. وبدا أنه منسجم، كما لو أن الرجل الذي اختفى والرجل الواقف أمامي هو مجرد علامة تشير لما كان عليه من قبل.
قال: حسنا. هوتش. أهلا بك إلى الأرض المجهولة. حيث يسجنونك ويغلقون الباب عليك ولا يملكون مثقال ذرة من الثقة بك.
كانت الممرضة واقفة في مدخل الباب.
قدمني أرنست بقوله: يا ممرضة سوزان. هذا هو ألبيكاس. مصارع الثيران المشهور. ويا بيكاس. هذه سوزان التي تمسك بيدها مفتاح قلبي.
ضحك كلانا.
قدمت لها علبة كافيار أتيت بها من أجل أرنست، لتضعها في الثلاجة. جلست أنا وأرنست لبعض الوقت، هو على السرير، وأنا على الكرسي، وفي البداية توقعت أنه يقف على أرض صلبة، ولكن روعني بعودته لتكرار بؤسه السابق متوهما أن الغرفة مراقبة. والهاتف وراء الباب. وأضاف شكاوى الجوع. واتهم مصرفه، ومحاميه، وطبيبه في كيشتوم، وكل الولكلاء الذين مروا عليه في حياته. ثم انتقل إلى الشكوى من سوء الثياب المقدمة له، والتطرف بضرائب يتخيلها. وكان هناك الكثير من التكرار.
نهضت. وفي ذهني تخليصه من هذه الفجائع التي عاودته منذ زرته في عزلته السابقة. من الواضح أن العلاج بالصدمات ECT لم يؤثر به. ذهبت إلى المنضدة وسألته ماذا كان يكتب.
قال: “باريس”.
وكان يشير إلى انطباعاته عن باريس، وبعض الأشخاص، الذين التقى بهم، حينما كان يعيش هناك برفقة هادلي أولى زوجاته. وذلك في بواكير العشرينات.
سألته: “وكيف ترى ما تكتب؟”.
“هذا أسوأ ما لدي. لا يمكنني الانتهاء من الكتاب. لا أستطيع. كنت وراء هذه الطاولة اللعينة يوما بعد يوم بإثر يوم. وكل ما أحتاج له.... ربما جملة. ربما أكثر. لا أعلم. ولكن لا يمكنني إنجازه. ولا أي جزء منه. هل تفهمني؟. كاتبت سكريبنر من أجل الكتاب. وهو في برنامج الخريف. ولكن لا يمكنني خربشة المزيد”.
سألته إن كانت هذه مخطوطات دونها في ريتز، الفقرات التي سبق لي وأن قرأتها. قال هي بعينها. بالإضافة لمقطوعة جديدة وهي تعنيه أكثر من سواها. قلت له: ولكن تلك المخطوطات عن باريس رائعة ويأمل كل كاتب بتدوين مثلها.
في إحدى رحلاتنا إلى باريس، حينما كنا نقيم في ريتز (حينما فازت نقابتنا هيمهوتش في سباق قفز على الحواجز في أتويل والذي بلغت جوائزه 27 - 1). وفي أحد الأيام تناولنا الغداء مع شارلز ريتز، الذي حل محل والده سيزار. شارلز أخبر أرنست أنه في أثناء ترميم المستودع، اكتشفوا خزانة من طراز لويس فيتون. وكان أرنست قد أودعها هناك منذ الثلاثينات. وهي خزانة صنعها فيتون نفسه لأجل أرنست، وسره أن تعود إليه. فتحناها في مكتب شارلز، وبين عدة أشياء مدفونة فيها، وجدنا عددا من دفاتر مدرسية كتب فيها أرنست عن باريس في العشرينات وعن أشخاص تعرف عليهم في سنوات مبكرة له هناك. وقد أعطاني أرنست بعض المقطوعات للقراءة: وكانت رائعة، وشاعرية، ومؤثرة، وجريئة، وخالدة ولم يكتب أحد مثلها عن باريس، ولا عن مجتمع فترة الثلاثينات البديعة الذين عاصروا أرنست.
بعد نقرات على الباب دخلت الممرضة سوزان، وأخبرت أرنست أن الأطباء يطلبونه لإجرء فحوصات لن تستغرق طويلا. حمل أرنست طرحية من الورق من بين الأوراق التي ارتجلها على المنضدة، وقدمها لي لأقرأها ريثما يعود. وقال لي إنني لم أطلع على هذا الفصل، وهو آخر فصل في الكتاب. الفصل المعول عليه.
**
سحبت الكرسي نحو النافذة لقراءة المخطوطة المدونة بخط اليد والتي تركها أرنست معي. العنوان “لا نهاية لباريس على الإطلاق”. وكانت مختلفة عن بقية التدوينات التي قرأتها في ريتز، والتي ركزت على أحياء باريسية وعن الأشخاص الذين تعرف عليهم أرنست في حينه: ومن بينهم غيرترود شتاين، سيلفيا بيش (بائعة كتب وناشرة أمريكية)، فورد مادوكس فورد، عزرا باوند، سكوت فيتزجرالد.
هذه الفقرة التي كنت اقرأها كانت هي الخاتمة المأمولة: وما جعلها مختلفة أنها مكتوبة كتذكير بأيام كفاحه المبكر ولكن الرائعة في باريس ومرثية للطريقة التي انتهت بها، وأسبابها. وإجمالا كانت إعلانا حماسيا عن حبه لزوجته الأولى، هاردلي، وذكرياته عنها حينما كانا في الطابق الرابع في منطقة رو كاردينال ليمون، ثم ذكرياتها في المكان الذي أقاما فيه مع ابنهما الرضيع، بومبي، في 113 رو نوتردام دي شامب، في الطابق الثاني، فوق منشرة الباحة، وكيف كانت هاردلي د تعزف بالبيانو القديم، الذي استأجره أرنست لأجلها، وهي ملفوفة بالبلوزة، وذلك في قبو خانق من متجر حلويات محلي.
في التدوينة كشف أرنست أيضا عن مغامرات التزلج مع هاردلي: في سكورن التابعة لفورالبيرغ النمساوية. وهناك تعلم كلاهما التزلج. حيث كان لغرف فندق توبي نوافذ كبيرة، وأسرة كبيرة، مع أغطية جيدة، وملاءات من الريش. هذا غير الفطور الرائع الذي يشمل أكواب قهوة كبيرة، وخبزا طازجا، وفواكه محفوظة، وبيضا، وشرائح خنزير ممتازة. ثم انتقل إلى فندق مادلين إيرهوس، الفندق القديم الجميل حيث كانا ينامان متجاورين معا في سرير عريض تحت لحاف من الريش، والنافذة مفتوحة، والنجوم قريبة.
وفي منتصف التدوينة، توقف أرنست عند السنوات الرومنسية المبكرة برفقة هاردلي، حين كانا فقيرين جدا، ولكن بمنتهى السعادة. ووصف ما يحدث لحياتهما المثالية كلما يظهر الأغنياء بالصورة، فيطاردون سمك الغزالة. ولكنه لم يسهب بتعريف لا الأغنياء ولا السمكة. وكتب أرنست يقول: حينما يوجد اثنان عاشقان ينجذب الناس لهم، ولكنه هو وهاردلي كانا ساذجين ولا يعرفان كيف يحميان نفسيهما. اعترف أرنست المفتون بهؤلاء الأغنياء، أنه كان غبيا مثل كلب الصيد الذي يرافق أي شخص لديه بارودة.
والأهم كان هناك امرأة عازبة غنية، وقد أعجبت بأرنست، وصاحبت هاردلي، وتغلغلت في حياتهما حتى حصل الطلاق. واعترف أرنست أنه وقع تحت تأثير إغراء هاتين المرأتين بنفس الوقت، وأنه حالفه الحظ السيء لأنه وقع بحب الاثنتين.
وقبل أن ينهي حياته، كان يهمه أن تفسر كلماته الأخيرة الألم الذي تسبب به لنفسه لأنه سمح للحب الوحيد الحقيقي في حياته أن يضيع من يده. و قد شيطنه طيلة حياته، تراجيديا حب اثنتين في وقت واحد. وبعد أن اقترب من موته في حادث سقوط طائرة قرر أن يعيش مجددا فترة العشرينات الضارة التي استهلكته وأفنت قواه. فسافر أولا إلى باريس، وخفف من متعة نشر أولى رواياته “الشمس تشرق أيضا”. وعاش أرنست تلك السنوات كلما وصفها لي، وأخبرني عنها، وهكذا وجد شيئا للخاتمة. ولكن هناك سنوات من حياته، لا يمكن أن تعكس فيها التراجيديا،د، وكأنها تراجيديا لا يسعنا تجاوزها، ليس بالشهرة ولا بالتكرار ولا بمكاسب العبقرية.
قرأت الفصل مرتين، وتركته كي يستقر في ذهني، بينما أرنست مشغول بمقابلة الطبيب. لتلخيص سنواته في باريس - الناس والأماكن والخسارات والانتصارات والانجازات وخيبات الأمل - وذكرياته المتبادلة مع هادلي - أدهشني أنه حذف الكثير من الحكايات الضرورية، مثل تعليق زواجه لمائة يوم، والذي أخبرني عنه في إحدى المناسبات. ربما كان هذا من فعل ذهنه الشكاك وكفاحه المستميت لكتابة تفاصيل كاملة وقسرية، أو ربما كان ينوي أن أكون الشاهد على تفاصيل حبه التراجيدي لامرأتين بوقت واحد، وهي مشكلة لم يتمكن من تخليص نفسه منها.
***
.........................
أرون إدوارد هوشنر A E Hotchner كاتب ومحرر وناشر ومسرحي أمريكي. له عدة مؤلفات عن صديقه أرنست همنغواي. منها: بابا همنغواي 1966، بابا همنغواي: البهجة والأحزان 1983، همنغواي وعالمه 1989، همنغواي عاشقا 2015.....