شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

في العهد الاسلامي هناك الكثير من العبيد أصبحوا ملوكاً وسلاطين وقادة جيوش وأمراء، والذين كانوا يُباعون ويًشترون في اسواق النخاسة ومن هؤلاء العبيد:

1) كافور الاخشيدي: (أبو المسك)، كان من رقيق أدغال افريقيا، وكان عبدًا، خصيًا مسلوب الرجولة، أسود اللون، قبيح الشكل ثقيل الوزن تداوله النخاس في الاسواق من الحبشة الى السودان حتى جُلب لمصر وهو في سن 14 عاما، وقد اشتراه تاجر زيت وكان يسيء معاملته، ثم اشتراه منه الإخشيدي "محمد بن طغج" مؤسس الدولة الاخشيدية(1) عندما منحه الخليفة العباسي "الراضي بالله" ولاية مصر ومنحه لقب "أخشيد" أي "ملك" بلغة منطقة فرغانة التي تقع وراء النهر متاخمة لبلاد تركستان، والتي نشأ منها ملوك هذه السلالة سنة 925م فنسب إليها، وأعتقه فترقى عنده، فعلمه وقربه وعهد له خدمة ولده. استطاع أن يدير دفة الدولة الاخشيدية بعد موت سيده الملك الاخشيدي الذي كان ابنه "أبو القاسم أنوجور" لا يزال طفلا صغير، فأصبح كافور وصياً عليه حسب وصية ابيه، فآلت الأمور لكافور الذي ملك السلطة والمال والجيش في يده، حكم مصر ثم توسع إلى بلاد الشام، دام حكمه لمدة 23 عاماً حمى فيها مصر من الفاطميين، وهو صاحب الفضل في بقاء الدولة الإخشيدية التي انهارت بعد موته .

 2) سبكتكين: هو سبكتكِين بن جوقي بن قرا، مؤسس الدولة الغزنوية(2) نسبة الى مدينة "غزنة" التي تقع على الحد الفاصل بين خراسان والهند، والتي اتخذها سلاطين هذه الدولة قاعدة لحكمهم، وقع في الاسر وحمل إلى بخارى فبيع إلى ألب تكين الذي كان مملوكاً تركياً، وتدرّج في المراتب حتى صار حاجب الحجاب وواحداً من الطبقة العسكرية النافذة، فجعله أحد قواد جيشه، وبعد وفاته سنة 963م تولى سبكتكين الامارة بعده، عندما اختاره القادة الأتراك لكونه سياسياً بارعاً، وقائداً محنكاً. أسس الدولة الغزنوية الإسلامية سنة 976م، وبدأ يغزو قلاع الهند الواحدة تلو الأخر، وكان يسعى الى الاستقلال عن السامانيين(3)، ومن بعدها بدأ احفاده الملوك الغزنويين بالتوغل ونشر الإسلام داخل الهند.

3) سيف الدين قطز: الملك المظفر، بطل معركة عين جالوت(4) وقاهر التتار المغول، ومُحرر القدس منهم، كما يعد أحد أبرز ملوك مصر. ولد قطز من أسرة ملكية بمملكة خوارزم شاه(5) بفارس، أسرَهُ التتار عقب انهيار الدولة الخوارزمية على يدهم، كان اسمه محمود لكن التتار سموه قطز، وهذه الكلمة بالتترية تعني الكلب الشرس، وحُمل هو وغيره من الأطفال وبيع عبدًا في الشام، ثم بيع إلى السلطان الأيوبي الملك الصالح نجم الدين أيوب(6) بالقاهرة، ليندرج تحت سلك جيش المماليك بمصر، ترقى في صفوف المماليك البحرية. تصدى لكل المحاولات الخارجية لغزو مصر وأهمها الحملة الصليبية السابعة التي قادها الملك لويس التاسع (لويس القديس)‏ تاسع ملوك فرنسا. وصل الى حكم مصر بعد الاضطرابات التي اتت بعد سقوط الدولة الايوبية(7)، على الرغم من أن فترة حكمه لم تدم سوى أقل من عام واحد، الا انه نجح في إعادة تعبئة وتجميع الجيش الإسلامي بعد سقوط بغداد على يد المغول، واستطاع إيقاف زحف التتار الذي كاد أن يقضي على الأمة الإسلامية، فهزمهم قُطُز بجيشه هزيمة كبيرة في عين جالوت، ولاحق فلولهم حتى طهر الشام بأكملها منهم .

4) الظاهر بيبرس: البندقدارِي أبو الفتوح، هو من الشركس(8) من مناطق القوقاز،  واسمه بيبرس يعني الفهد، كان بيبرس ضخماً طويلاً ذا شخصية قوية، وصوته جهوري أشقر وعيناه زرقاوان، ويوجد بإحدى عينيه نقطة بيضاء، (مياه بيضاء)، أسرهُ التتار عندما كان طفلا و بيع كعبد في اسواق بغداد ثم  الشام، فاشتراه الأمير علاء الدين البندقداري الذي كان من مماليك السلطان الصالح نجم الدين أيوب على حماة، ثم انتقل بعد مصادرة ممتلكات سيده الى خدمة السلطان الأيوبي الملك الصالح نجم الدين أيوب بالقاهرة، ليندرج تحت سلك جيش المماليك بمصر، قاد جيشَ المماليك في معركة المنصورة ضد الصليبيين والتي أسفرت عن هزيمة الصليبيين هزيمة كبرى منعتهم من إرسال حملة صليبية جديدة إلى مصر ووقوع الملك لويس التاسع أسيراً في قبضتهم سنة 1250م. وكان الظاهر بيبرس أحد  قادة معركة عين جالوت. ثم أصبح سلطان مصر والشام ورابع سلاطين دولة المماليك في مصر ومؤسسها الحقيقي بعد مقتل قطز، حقق خلال حكمه العديد من الانتصارات ضد الصليبيين وخانات المغول وقد قضى على الحشاشين(9) واستولى أيضا على إمارة أنطاكية الصليبية، التي تأسست سنة 1098م بعد استيلاء الصليبيين على مدينة أنطاكية في حملتهم الاولى. أنشأ نظُماً إداريةً جديدة في الدولة. اشتهر بيبرس بذكائه العسكري والدبلوماسي، وكان له دور كبير في تغيير الخريطة السياسية والعسكرية في العالم.

***

صباح شاكر العكام

...................

الهوامش:

(1) الدولة الاخشيدية: دولة قامت في مصر من سنة 935م الى سنة969م. اسسها محمد بن طغج الاخشيد (935-961م)، وقد سميت بالدولة الاخشيدية نسبة اليه، وكان أشهر ملوكها ابو المسك كافور (966-968م) وآخرهم ابو الفوارس احمد (968-969م). (سمير فراج، الدولة الاخشيدية ص81).

 (2) الدولة الغزنوية : هي دولة إسلامية حكمت بلاد ما وراء النهر، وشمال الهند وخراسان، في الفترة ما بين سنتي 961م و1187م. وهي دولة تركية. وقد قام الغزنويون بتسمية عاصمتهم باسمهم، وهي مدينة غزنة التي تقع الآن داخل حدود دولة أفغانستان.  (علي محمد فريد، الدولة الغزنوبية ص47).

 (3) السامانيون : سلالة إيرانية حكمت في بلاد ما وراء النهر وأجزاء من فارس وأفغانستان ما بين (874-999م)، اسسها سامان من أسر البراهمة (الرهبان في الديانة الفارسية القديمة). أصبح أحفاده الأربعة نوح واحمد ويحيى والياس، الذين دخلوا في خدمة الخليفة العباسي المأمون، ولاة على كل من سمرقند، فرغانة، شاش وهراة. (المصدر نفسه صص53 - 55).

 (4) معركة عين جالوت : هي إحدى أبرز المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي، سنة1260م، إذ استطاع جيش المماليك بقيادة سيف الدين قطز إلحاق أول هزيمة قاسية بجيش المغول، وقعت المعركة بعد انتكاسات مريرة لدول ومدن العالم الإسلامي. (الموسوعة العربية الميسرة مج4 ص2315).

 (5) الدولة الخوارزمية: دولة إسلامية تأسست في شرق الدولة الإسلامية على يد أنوشتكين وابنه قطب الدين محمد خوارزم سنة (490هـ/ 1097م) حتى سقوطها على يد مغول في عهد جنكيز خان سنة (628هـ/ 1231م). (. حسن كريم الجاف، موسوعة تاريخ إيران السياسي صص198-212).

 (6) الملك نجم الدين أيوب : نجم الدين أَبو الفتوح أيوب بن السلطان محمد (الملك الكامل ) بن أبو بكر(العادل) بن ايوب، سابع سلاطين الدولة الايوبية ولد بالقاهرة (603 هـ / 1205م) وتوفى بـالمنصورة (647 هـ /1249م)، حكم من 1240م إلى 1249م. أنشأ المماليك البحرية بمصر، ودخل في صراعات مع الملوك الأيوبيين في الشام، وفي آخر سنة من حكمه تعرضت مصر لحملة صليبية ضخمة عرفت بـالحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا. الاعلام للزركلي ج8 ص38).

 (7) الدولة الايوبية : هي دولة إسلامية نشأت في مصر، وامتدت لتشمل الشام والحجاز واليمن والنوبة وبعض أجزاء بلاد المغرب. يعد يوسف بن أيوب الملقب (صلاح الدين الايوبي) مؤسس الدولة الأيوبية، كان ذلك بعد أن أصبح وزيرًا للخليفة الفاطمي العاضد لدين الله ونائبًا عن السلطان نور الدين محمود في مصر، فعمل على أن تكون كل السلطات تحت يده، وأصبح هو المتصرف في الأمور، وأعاد مصر إلى تبعية الدولة العباسية، فمنع الدعاء للخليفة الفاطمي ودعا للخليفة العباسي، وأغلق مراكز الشيعة الفاطمية، ونشر المذهب السني. (الموسوعة العربية الميسرة، مج1 صص570-571).

 (8) الشركس: شعوب مسلمة تسكن شمال القوقاز، وبسبب تعرضهم للإبادة الجماعية على يد الإمبراطورية الروسية اضطُرَّ الكثير منهم إلى الهجرة إلى الأراضي العثمانية أو إعادة التوطين داخل الأراضي الروسية بعد حروبٍ وقلاقلَ استمرَّت أكثر من مئة عام. (الموسوعة العربية الميسرة، مج4 ص2017)

 (9) الحشاشون: طائفة إسماعيلية نزارية باطنية، انفصلت عن العبيديين الفاطميين في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، كانت تدعو إلى إمامة نزار المصطفى لدين الله ومن جاء مِن نسله، وكانت معاقلهم الأساسية في بلاد فارس وفي الشام بعد أن هاجر إليها بعضهم من إيران، أسس الطائفة الحسن بن الصباح الذي اتخذ من قلعة آلموت في فارس مركزاً لنشر دعوته وترسيخ أركان دولته. (سورديل، معجم الإسلام السياسي ص359)

المصادر:

1-  امين معلوف – الحروب الصليبية كما رآها العرب – دار الفارابي /بيروت 1998م.

2-  الذهبي – سير اعلام النبلاء – مؤسسة الرسالة، ط3،1985م .

3-  . حسن كريم الجاف - موسوعة تاريخ إيران السياسي - الدار العربية للموسوعات/ بيروت، لبنان، 2008م. 

4-  الزركلي – الاعلام – دار العلم للملايين / بيروت 2002م.

5-  سمير فراج – الدولة الاخشيدية – مركز الراية / القاهرة، 2006م.

6-  سورديل – معجم الإسلام السياسي – الدار العربية للنشر / بيروت

7-  علي محمد فريد – الدولة الغزنوبية – دار الوفاق الحديثة / القاهرة، 2021م.

8-  مجموعة من العلماء – الموسوعة العربية الميسرة – المكتبة العصرية /صيدا، 2010م

9-  وليم سوير- تاريخ دولة المماليك في مصر- مكتبة مدبولي / القاهرة 1995م.

 

قدّم بحياته، مواقفه وكتاباته، صورةً لإنسانٍ فلسطيني مُثقّف، لا يريد أن يُغرّد داخل السرب، رغم أنه كان من قياديه، ولا يعبأ بما يراه الآخرون مِن رأي مُخالف لرأيه، كان مستقلًا برأيه، وأعرب عنه بجُرأة وشجاعة نادرين، مُقدّمًا بذلك صورة لمثقف جسور، صاحب صورة مستقلة، علمًا أنه كان يعي تمام الوعي أنه قد يدفع ثمنًا غاليا جرّاء شجاعته تلك، وبغض النظر عمّا إذا كان مُخطئًا كما رأى رفاقُه، أو مُصيبًا كما رأت قطاعات واسعة من شعبه آنذاك، فقد كان مُستعدًا لدفع الثمن، ممثّلًا بالإبعاد والإقصاء عمّا هو جديرٌ به من مواقع قيادية، أثبت أنه قدّها وقدود، وسبق له في مجالها أكثر من تجربة ناجحة. وهكذا كان.

الدكتور إميل توما( 1919- 27-8-1985)، لم يعش كما يلاحظ الأخ القارئ أكثر من 64 عامًا، حياة قصيرة، لكن عميقة، وقد عاش أحداثًا جسامًا، على المستويين العام والخاص، فعلى المستوى العام، شهد الكثير مِنَ الاحداث بلغت ذروتها سقوط بلاده بأيدي محتليها، وعلى المستوى الخاص لم يقف مكتوف اليدين، وبإمكان مّن يطّلع على تفاصيل حياته ونضالاته من اجل التنظُّم، لتحصيل الحقوق، يلاحظ دون كبير عناء، أنه أدى دورًا لا يُستهان به، سواء في مشاركته بإقامة هذا التنظيم النقابي، أو تلك العُصبة التحررية، بل إنه كان مِن أبرز المبادرين للنضال بالكلمة والقلم، ويُحسبُ له في هذا أنه كان المُحرّر المسؤول للصحيفة الوطنية الرائدة "الاتحاد"، منذ تأسيسها الأول غي حيقا عام 1944.

تعرّفت إليه عن قرب خلال زياراتي لمكاتب مجلة الجديد في حيفا، وما زلت أذكر، وهل أنسى، تلك الجلسات التي كانت تعقد تلقائيًا ويشارك فيها الاخوة المرحومون حاليًا، من العاملين في المجلة، واذكر منهم الكاتب الصديق سلمان ناطور والشاعر الصديق أيضا سميح صباغ، كان ذلك في أواسط السبعينيات، وكانت القضايا حارقة ومتوترة لا سيما قضايا الأرض التي تتوّجت عام 1976 بمواجهات ضارية بين الأهالي في مثلث يوم الأرض سخنين، عرابة ودير حنا، وبين القوات الإسرائيلية الرسمية، وذهب ضحية لها ستة من المواطنين هناك، قضوا شهداء، وفي هذا السياق أذكر أن إميل توما، طابت ذكراه، كان إلى جانب رفاقه في مقدمتهم الكاتب الصحفي المثقف صليبا خميس، شُعلة متّقدة مِنّ الحماس من أجل تكريس يوم الأرض يومًا نضاليًا جماهيريًا، ما زالت الاحتفالات بإحيائه متواصلة بهمة لجنة الدفاع عن الأراضي.

كتب إميل توما المقالة التاريخية، الاجتماعية، السياسية والأدبية، وأصدر أو أُصدر له في حياته وبعد رحيله، أربعة عشر كتابًا، توزّعت على المواضيع المذكورة، وقد صدرت فيما بعد بين عامي 1995- 1997، عن المعهد الذي أقيم على اسم إميل توما في حيفا، وذلك في خمسة مجلدات، لقد تركت كتابات إميل توما المنشور بعضها مُنجّمة في صحافة الحزب الشيوعي ، والصادرة فيما بعد في أربعة عشر مؤلفًا، اثرًا كبيرًا على القراء المعنيين والمُهتمين، وأدت رسالتها الثقافية الوطنية، وما زالت وسوف تؤدي هذه الرسالة، إلى آماد بعيدة. بما أن فترة مديدة انقضت على رحيل هذه القامة الثقافية الوطنية السامقة، وأن أجيالًا تعاقبت منذ رحيله، أعتقد أنه مِن المطلوب والضروري، أن نُعيد ذكراه كاتبًا، مثقفًا سياسيًا، تاريخيا وأدبيًا نقديًا تحديدًا. فيما يلي نتحدّث باختصار نرجو ألا يكون مُخلًّا عن إميل توما في جوانبه المُضيئة التي أدت دورها في إنارة زوايا معتمة ماضيًا، حاضرًا و.. مستقيلا.

المؤرخ: بإمكان مَن يطّلع على كتابات طيب الذكر إميل توما، مُلاحظة أنه كرّس نسبة كبيرة من كتاباته للتعريف بالقضية الفلسطينية، جذورها العميقة وآفاقها..، بالإضافة إلى توسيع دائرة دراسته هذه بالبحث في التطور التاريخي في الشرق الاوسط، وها هو يقدّم دراسة جدية عن السياسة الامريكية في الشرق الأوسط، وقد اثارت القضايا التاريخية القريبة والبعيدة اهتمامه فكتب عن ثورة 23 يوليو/ تموز العربية المصرية. وقد قام بهذا كلّه مِن مُنطلق المسؤولية نحو أبناء شعبه، من الأجيال الصاعدة والآتية مُستقبلًا، فقد كان يعرف ما للتاريخ مِن أهمية في المحافظة على الذاكرة الجمعية يانعة خضراء، ولما لها من دور في إبقاء الوعي العامّ لأبناء الشعب صاحيا، يقظًا ومُتنبّهًا. هكذا نلاحظ أنه أبدع في فهمه للكتابة التاريخية، كونه رأى فيه قوة محفزة على مواصلة النضال مِن أجل العيش الحر والكرامة الوطنية والإنسانية لأبناء شعبه.

الكاتب المجتمعي: يبرز كتاب طيّب الذكر إميل توما عن الحركات الاجتماعية في الإسلام، إضافة إلى كتب أخرى منها كتاب عن العملية الثورية في الاسلام، وآخر عن طريق الجماهير العربية الكفاحي في إسرائيل، وغيرها من المؤلفات المماثلة في مواضيعها وتوجّهاتها، تبرز هذه الكتب علامات مميزة في مسيرة هذا المؤرخ المفكر المسؤول الذي عرف ما هو مطلوب منه للمشاركة في معارك أبناء شعبه ومواجهاتها من اجل الفهم المتعمّق للماضي والحاضر أيضًا، ولنشر الوعي بالتالي، تعميقُا للرأي والرؤية، بهدف المحافظة على شُعلة النضال متّقدة حتى التحرّر واستعادة الكرامة المهدورة. هنا أيضًا نلاحظ أن اميل توما كتب، مُتعمّقًا ورائيًا في الحركات التقدمية والثورية في التاريخ العربي، نقطة محفزة على مواصلة النضال، فما نقوم به، ليس وليد الفترات الراهنة وحسب، وانما هو مُدعّم بتاريخ غني، كان له عُمقه وكانت له تضحياته التي أنارت الطريق.

السياسي: أعتقد أن هذا الجانب في شخصية كاتبنا المُتذكّر، هو الجانب المركزي، فهو في كلّ ما كتبه، هدف إلى المحافظة على الذاكرة، وبعث الوعي عبر العودة إلى الماضي وتسجيل ما هو مُشرق فيه، بل إنه، كما سنلاحظ فيما يلي، أراد عندما كتب النقد الادبي إلى المحافظة على الهوية، والالتصاق بالواقع النضالي للناس المظلومين والمخذولين من أبناء شعبه، من هذا المنطلق بإمكاننا العودة إلى ما افتتحنا به مقالتنا هذه، فقد تصدّى أميل توما، لإقامة دولة إسرائيل، ورأى فيها وليدا إمبرياليًا، في المنطقة، غير آخذ براي زملائه الشيوعيين في البلاد، والقيادات السوفيتية وغيرها من القوى العالمية التي اعتقدت ورأت أن إسرائيل إنما تُريد إقامة الدولة الاشتراكية في منطقة الشرق الاوسط. لقد أعقب اميل توما رايه هذا براي آخر هو رفضه لقرار التقسيم، وهو ما دفّعه الثمن غاليًا بإقصائه عن الكثير من المواقع القيادية التي لاقت به ولاقى بها.

الناقد الادبي: كتب إميل توما عددًا ليس كبيرًا من المقالات النقدية الأدبية، ونشرها في صحافة حزبه الشيوعي، وقد قامت إدارة معهد اميل توما، برئاسة الكاتب المرحوم أحمد سعد في حينها، أواسط التسعينيات الأولى( 1993 بالتحديد)، بجمع هذه المقالات وأصدرتها في كتاب وضعت له عنوانًا دالًّا هو مقالات في النقد الادبي، وقد تابع كاتب هذه السطور كتابات إميل توما النقدية حين نشرها في الصحف والمجلات أولًا بأول، وكان أكثر ما لفت نظره واهتمامه فيها أنها انطلقت مِن رؤية واضحة، تحرص على أهمية بُروز الهُوية الإنسانية والوطنية في الكتابات الأدبية المنقودة، وأذكر منها كتابات للكاتب الراحل مصطفى مرار ابن قرية قلنسوة القائمة في المثلث الجنوبي، ولعلّ أبرز ما دعا إليه كاتبُها فيها هو الصدق، ولم يكن ضد الغموض الشفّاف الذي يتطلّبه كلّ ابداع أدبي مُتعمّق وأصيل. ومما يُذكر عن إميل توما أنه كان مُهتمًا شديد الاهتمام بالشأن الادبي، على اعتبار أنه أداة نضالية لا يُستهان بها. وكان دائم المُتابعة لكلّ ما يُكتب ويُنشر في مجال النقد الادبي، ومما أذكره في هذا المجال أنه قال لي في أحد لقاءاتنا في مكتبه، إنه يقرأ ما أكتبه، وما يكتبه آخرون، في مجال النقد الادبي وأنه يروق له، مُضيفًا أن الفترة التي نعيشها، في حينه طبعًا، فترة مناسبة للكتابة والنقد الادبي الهادف والمُتعمق، وهو ما يُرضيه ويجعله ينظر إلى المستقبل بعين الرضا.

مُجمل القول إن أميل توما كان شخصية ريادية في العديد من المجالات الثقافية، التاريخية، الاجتماعية، السياسية والنقدية الأدبية، وانه كان صاحب رسالة، وينطلق في كلّ ما يتخذه من مواقف ومن كتابات وتآليف في التاريخ، والمجتمع، السياسة والنقد الادبي، من رسالته الوطنية هذه، فلتتخلد ذكراه.

* مؤلفات اميل توما:

* العرب والتطور التاريخي في الشرق الأوسط، دار «الاتحاد»، حيفا، 1960

* ثورة 23 تموز في عقدها الأول، دار "الاتحاد"، حيفا، 1962.

* جذور القضية الفلسطينية، حيفا، 1968.

* السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، مطبعة «الاتحاد»، حيفا، 1973.

 * يوميات شعب، (30 عاما على «الاتحاد»)، عربسك، حيفا، 1973.

* ستون عاما على الحركة القومية العربية الفلسطينية، البيادر، القدس، 1978.

* الحركات الاجتماعية في الإسلام، منشورات صلاح الدين، القدس، 1979.

* العملية الثورية في الإسلام، دار الفارابي، بيروت، 1981.

* طريق الجماهير العربية الكفاحي في إسرائيل، أبو سلمى، 1982.

* فلسطين في العهد العثماني، الفجر، القدس، 1983.

* الحركة القومية العربية والقضية الفلسطينية، الأسوار، عكا، 1984.

* تاريخ مسيرة الشعوب العربية الحديث، الأسوار، عكا، 1985.

* الصهيونية المعاصرة، الأسوار، عكا، 1985.

* منظمة التحرير الفلسطينية، دار «الاتحاد»، حيفا، 1986.

* مقالات أو/ مختارات في النقد الأدبي، دار «الاتحاد»، حيفا، 1993.

* * *

ناجي ظاهر

.................

* من كتاب شخصيات في الذاكرة الماثل للطباعة.

 

في الثالث والعشرين من شهر آب 2025 الجاري مرت الذكرى الأليمة السابعة عشر  لاستشهاد المثقف والمناضل كامل شياع (1954- 2008) الذي تم اغتياله في الثالث والعشرين من آب 2008 على طريق محمد القاسم وسط بغداد في وضح النهار برصاص مسلحين خارجين عن القانون من مسدسات كاتمة للصوت وسجل الحادث الاجرامي كالعادة ضد مجهول، ولحد اليوم لم يتم الكشف عن القتلة المجرمين من قبل الحكومات المتعاقبة وهي كالعادة عندما يقتل مثقفا او ناشطا مدنيا او مناضلا من اجل حرية الكلمة يبقى القتلة طلقاء بل ويتمادون في تنفيذ المزيد من الجرائم.

لم يكن اغتيال المثقف كامل شياع اغتيالا عشوائيا كما تجري العادة في شوارع العراق يوميا والتي تحصل لكل مواطن قد يخرج صباحا للحصول على لقمة عيشه ولم يعود حيا إلى أسرته بل هو اغتيال ممنهج لرموز ثقافة البديل التنويري التي تحمل مشروع الخلاص من أرث ثقافة القطيع الدكتاتورية والطائفية السياسية والأثنية البغيظة، وكان لموقعه مستشارا لوزير الثقافة دلالة واضحة في مغزى اغتياله.

المناضل كامل شياع من بين الألوف الذين فقدهم الوطن خلال أكثر من عقدين من تجربة عراق ما بعد الدكتاتورية، ولم يعرف إلى اليوم، مَن هذا الذي يوجه بقتل مثقف حالم، له مشروعه الذي لا يملك غيره. نتذكر هنا المصير المشابه للناقد قاسم عبد الأمير عجام الذي اغتيل في أيار (مايو) 2004، وأسماء أخرى من المثقفين والأعلامين والصحفيين كثيرة نجهل من الذي قتلها، ومن هو التنظيم أو الكيان أو المليشيات التي خططت لمثل هذه الجرائم البشعة، ولكن نقيض مشروع كامل شياع من قوى الظلام والتخلف والأنحطاط هي التي تعرف قتلته أسوة بمعرفتها من قتل المحتجبن في انتفاضة تشرين للعام 2019.

كان مشروع الشهيد كامل شياع يستهدف في ملامحه الكبرى تفكيك بنية العقل القطيعي الذي انساق وراء قيم الدكتاتورية وما بعدها من قوى الظلام والرثاثة والأنحطاط وأعادة بناء الثقافة العراقية الوطنية على أسس احترام تفرد العقل العراقي وعدم وقوعه تحت تأثير الخرافة والشعبوية والطائفية السياسية التي تجرد العقل من قدراته النقدية والأبداعية وتحوله إلى كائن همجي يرتكب الفضائع والجرائم ويضفي عليها قدسية مزيفة ويفرح لأعمال الأبادة والقتل والخراب.

شكل اغتيال كامل شياع ضربة لنظام العدالة في العراق، وكانت سياسة الإفلات من العقاب بعد مقتله علامة على انطلاق سلسلة من جرائم الاغتيالات والتغييب شملت العديد من الناشطين والمثقفين والمدافعين عن حقوق الإنسان وحرية التعبير. إن السياسة الممنهجة في اغتيال وتغييب رموز الاحتجاج المدني، والقتل العشوائي والطائش لقمع محتجي المدن العراقية في انتفاضة تشرين في العام 2019، وعجز السلطات عن معرفة الجناة أو تجنبها ملاحقتهم أو رمي الجرائم برقبة ما يسمى " الطرف الثالث " أو " قاتل مجهول " جميعها تجد جذورها في تلك اللحظات المأساوية التي اخترقت فيها العيارات النارية جسد الراحل. إن العيارات التي اغتالت حلماً عراقياً تجسد في الأنسان النموذج، حطمت ايماننا بنظام العدالة الذي نفتقده في هذه السنوات العسيرة التي يمر بها العراق من اللاأستقرار والفوضى والفساد.

لقد استشهد كامل شياع في حقبة ما يسمى"الحرب الطائفية " والتي راح ضحيتها آلاف العراقيين الأبرياء قتلوا لأتفه الأسباب بما فيها القتل على الأسم بل والمهنة والعائلة وعلى شبهات مفتعلة وهو صراع في جوهره على السلطة والمال وفرض خطاب بلون قسري واحد والأنتقام من تنوع الأنتماءات المغايرة وكان بأمكان هذا الصراع ان يدار بوسائل اكثر انسانية تسمو فوق الغرائز البدائية ولكن قوى التوحش والسلاح المنفلت والهمجية المفرطة لن تسمح بذلك، وقد قتل كامل شياع ليست لدينه او مذهبه او أثنيته فالجميع وكل من عرفه لا يعرف تلك الأنتماءات في سلوكه اليومي بل حتى قتلته لا يعرفون ذلك عنه ولكنهم قتلوه لمشروعه العابر لتلك الأنتماءات الضيقه انه مشروع الثقافة الوطنية العراقية.

لقد وجد كل من عرف الشهيد شياع وتألم لفقده انه شخصية ملؤها الطيبة والحب للناس وعقل انساني مفكر مبدع وملتصق بوطنه رغم المخاطر التي شعر وتنبأ بموته مبكرا وكان مفعما بالأمل في زمن الفوضى والهمجية وكان أنيسا بكلامه الهادئ و ودودا بطيبة نادرة. لقد قتل صناع الموت كامل شياع لا لكونه مثقفا عقلانيا فحسب بل مدافعا عن حقوق البسطاء والمحرومين ونصيرالمبدعين والفنانين ومدافعا عن الفكر الجاد وقد اختار الهمج قتله لكونه نقيا فهو نموذج معاكسا للفساد والظلامية والأمل بعراق آدمي متصالح مع ذاته.

أرفق هنا للقارئ الكريم رابطين للفقيد كامل شياع، الأول رسالة كانت مرسلة للراحل الباحث الدكتور كاظم حبيب وهي بعنوان" عودة إلى الديمقراطية والمجتمع المدني "، والرابط الثاني بعنوان" عودة من المنفى " والتي يوضح فيها بعض من تطلعاته الفكرية والثقافية ويتنبأ فيها بأغتياله:

https://m.ahewar.org/s.asp?aid=569703&r=0&cid=0&u=&i=2264&q=

https://m.ahewar.org/s.asp?aid=145727&r=0

أما سيىرته الذاتية فأنشرها ادناه نقلا عن موقع المعرفة:

درس وتعلم في مدينته، وتخرج من كلية الآداب جامعة بغداد وتعين كمدرس لمادة اللغة الإنگليزية، لكنه ترك العراق لمعارضته حزب البعث العراقي وسياسة تبعيث النظام التعليمي.

غادر العراق عام 1979 واستقر في مدينة لوڤان البلجيكية عام 1983، بعد إقامة قصيرة في الجزائر حيث عمل مدرساً للغة الإنجليزية، وإيطاليا التي نشر فيها قاموساً، إنگليزي-إيطالي-عربي، للمسافرين ورجال الأعمال.

حصل على شهادة الماجستير في الفلسفة من جامعة لوڤان الكاثوليكية عن أطروحته “اليوتوبيا معياراً نقديّاً” والتي حازت على درجة الامتياز، والتي صدرت عام 2012 عن دار المدى.

خلال سنوات المنفى، وسّع الراحل اهتماماته بالثقافة والفلسفة الأوروبيّة لتشمل الرسم، السينما، المسرح، وفنّ الفوتوگراف.

كتب وحاضر في طيف واسع من المواضيع، ما أكسبه مكانة مرموقة بين أبناء الجاليات العراقية في المنفى، وأقام علاقات صداقة واسعة مع مواطنين من جنسيات وخلفيات مختلفة.

عمل في الصحافة خلال إقامته في مدينة لوفان، وكتب في مواضيع شتّى لصحيفة “الحياة” اللندنية، ومجلة “الوسط” اللندنية، ومجلة “مواقف” الفصلية، ومجلة “الثقافة الجديدة” الشهرية الصادرة عن الحزب الشيوعي العراقي، وراديو “في. آر. تي” الدولي – القسم العربي- بروكسل، وقسم التلفزيون الدولي لوكالة اسوشيتد برس (أي. بي. تي. إن) – بروكسل.

عاد إلى بغداد بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 وعيّن مستشاراً لوزارة الثقافة، نشط حينها بمحاولة استعادة الثقافة العراقيّة لدورها الريادي والايجابي في المجتمع، ونظّم مؤتمر المثقفين العراقيين عام 2005 .

مؤلفاته

بعد سنوات من وفاته بدأت مؤلفاته تصدر حيث اصدرت دار المدى ثلاثة كتب ضمن سلسلة إصدارات للفقيد ستنشر كلّها تباعاً.

الكتاب الأول: "تأملات في الشأن العراقي" الذي يبحث فيه مآلات البلد وتحولاته في ظلّ "العنف الذي اجتاحنا بقوّته الكاسحة دفعة واحدة"، إذ ترد على ظهر الغلاف الأخير هذه الجملة العميقة: "نحتاج إلى يقظة أخلاقية مسؤولة وإلى أجيال وأجيال تمتلك ناصية التفكير النقدي، ذلك أن (أعداء المجتمع) هؤلاء هم بناة مستقبله".

الكتاب الثاني: "قراءات في الفكر العربي والإسلامي" مناقشاً فيه "التحديد المتبادل في الخطاب القرآني بين العقلاني، واللاعقلاني... وكيف يبدو التاريخ في ضوء هذا الصراع وكأنّه تعاقب متواتر من الهداية والضلال".

الكتاب الثالث فجاء بعنوان "الفلسفة ومفترق ما بعد الحداثة" إذ بحث مضمونه في الأفكار الفلسفية التي شغلت أوروبا ودور مدرسة فرانكفورت وتأثيرها ومن ثمّ اشتباك التاريخ مع أسئلة الحاضر، وعلاقة أفكار ما بعد الحداثة بالأيديولوجيات الكبرى.

كتاب "كتابات في الرواية والشعر والفنّ"

كتاب "رسائل وأمكنة".

عندما استهدفوا المناضل كامل شياع فقد استهدفوا كل ضمير حي يمتلك القدرة على تغير العراق نحو الأفضل. المجد والخلود للشهيد المثقف والمناضل شياع والخزي والعار يلاحق قتلته والصبر دوما لأسرته في الغربة.

***

د. عامر صالح 

‏‏قبل الف عام قرر رجل بلغ الخمسين عاما، وأصدر ما يقارب 200 كتاب تنوعت موضوعاتها من الطب الى الفلسفة، ومن الموسيقى الى علم النفس، ومن علوم الطبيعيات الى اللغة الدين والفلك، ان يدون سيرة حياته، التي أنتهت بأن اصيب بمرض الصرع، وكان قبل مرضة باشهر كتب رسالة عن اعراض هذا المرض، وحين وصف له بعض الأصدقاء ادوية للشفاء قال لهم ": المدبر الذي في بدني قد عجز عن التدبير، فلا تنفعني المعالجة " .

‏يصفه لنا المؤرخون بانه طويل القامة قوي البنية، محبا للطعام والشراب ومعاشرة النساء، سريع القراءة، سريع الكتابة، واذا حصل على كتاب جديد، بحث عن الموضوعات الصعبة فيه . ما ان بلغ الخامسة عشر من عمره، حتى كان قد استوعب علوم الطب والمنطق والألهيات، وعندما تمكن من علاج سلطان بخارى "نوح بن منصور "سمح له بدخول مكتبة السلطان، ولأنه كان يتمتع بقوة ذاكرة استطاع ان يحفظ المئات من الكتب: " دخلت داراً ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق كتب منضدة بعضها على بعض، في بيت منها كتب العربية والشعر، وفي آخر الفقه، وكذلك في كل بيت علم مفرد فطالعت فهرست كتب الأولين، وطلبت ما أحتجت اليه منها، ورأيت من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط، وما كنت رأيته من قبل ولا رأيته ايضا من بعد " .

‏ولد ابو علي الحسين بن عبد الله بن سينا في الثاني والعشرين من آب عام 980 ميلادية قرب مدينة بخارى، والاسم " سينا " يعني بلغة اهل بخارى بـ" المقاتل الشجاع "، كان ابوه من اهل بلخ، اعجب بالأسماعيليين فصار واحدا منهم: " وكان والدي ممن اجاب داعي الأسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل، على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم به، وكذلك اخي، وكانوا يتذاكرون فيما بينهم، وانا اسمعهم، وادرك ما يقولونه، ولا تقبله نفسي " .

‏عندما بلغ العاشرة قال له ابوه: " سارسلك الى من يعلمك الحساب والمنطق "، كان المعلم رجلاً يبيع البصل في النهار، ويلقي محاضرات عن النفس والعقل والحساب في الليل، ثم جاء إلى بخارى ابو عبد الله الناتلي الذي كان يسمى انذاك بـ " المتفلسف " فاصر الأب ان يُضيفه في داره من اجل ان يعلم ابنه اصول التفلسف، إلا أن الفتى كان قد مر بتجربة اخرى، فقد استهواه الفقه فقرر دراسته: " ترددت على اسماعيل الزاهد، لاشتغله بالفقه، وكنت أجود السالكين، وقد ألفت طرق المطالبة، ووجوه الاعتراض على المجيب، على الوجه الذي جرت فيه عادة القوم به " .1857 cina

‏أخذ التلميذ الصغير يقرأ على استاذه " الناتلي " كتاب " إيساغوجي " في المنطق الذي وضعه " فرفوريوس الصوري " ليكون مدخلاً للمنطق. وكلمة إيساغوجي لفظة يونانية بمعني المقدمة، وكتاب " الاصول " في الهندسة لـ " اقليدس، وكتاب " المجسطي " في علم الهيئة، واكتشف الاستاذ ان التلميذ بذكائه الحاد يتفوق عليه في هذه العلوم، ثم ما لبث الوضع ان انقلب، فاصبح التلميذ معلما، والمعلم تلميذا، حيث اخذ التلميذ الصغير يوضح لمعلمه ما غمض من هذه العلوم، ويضع لها تفاسير وتأويلات لم يكن الاستاذ يعرفها من قبل، وفي ذلك يقول ابن سينا: " ثم ابتدأت بكتاب (ايساغوجي) على الناتلي . وكانت أي مسالة قالها لي أتصورها خيراً منه، حتى قرأت مقدمات المنطق عليه، واما دقائقه، فلم يكن عنده منها خبرة . ثم اخذت اقرأ الكتب على نفسي، واطالع الشروح، حتى أحكمت علم المنطق، وكذلك كتاب أقليدس الذي توليت بنفسي حل مشكلاته، ثم أنتقلت الى المجسطي، ولما فرغت من مقدماته، وانتهيت الى الاشكال الهندسية، قال لي الناتلي: (تول قراءتها، وحلها بنفسك، ثم اعرضها عليَ، لأبينَ لك صوابها من خطئها)، وأخذت أحل ذلك الكتاب .فكم من مشكلة ما عرفها الى وقت ما عرضتها عليه، وفهمتها اياه " .

‏في السادسة عشر من عمره يعثر وبالصدفة على مخطوط يحل له لغز كتاب ما بعد الطبيعة لارسطو، كان ابن سينا قد قرا كتاب ارسطو اربعين مرة حتى حفظه عن ظهر قلب، ولكنه لم يفهم منه شيئا، وفي يوم من الايام ذهب الى سوق الوراقين، فعرض عليه احد نساخ الكتب، دفترا صغيرا بعنوان شرح ما بعد الطبيعة لارسطو، فرده الى البائع قائلاً: لافائدة من هذا العلم .فقال له الوراق اشتره بثلاثة دراهم لأنني محتاج إلى ثمنه، فاشتراه منه، وما ان فتح الصفحة الاولى حتى اثار اهتمامه العنوان " شروح على كتاب ارسطو ما بعد الطبيعة " المؤلف ابو نصر الفارابي، وكان الفارابي قد مات قبل 46 عاما . يسحره الكتاب، ويصف لنا شعوره وهو يقرا شروح الفارابي بقوله: " أسرعت الى البيت، ولم اخلع ملابسي حتى انتهيت من الكتاب، فانفتح علي ما استغلق في امر كتاب ارسطو ما بعد الطبيعة " . في السابعة عشر من عمره أهتم بدراسة الطب وقرأ كل ما يتعلق بهذا العلم: ": " رغبت في علم الطب وصرت اقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم اني برزت فيه في اقل مدة، وتعهدت المرضى فانفتح علي من ابواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لايوصف " .ويستدعيه سلطان بخارى نوح بن منصور لمعالجتة من مرض الم به عجز الاطباء عن معالجته، وكان شفاء السلطان موضع دهشة واعجاب من الجميع، فتقلد ابن سينا منذ ذلك التاريخ مناصب رفيعة في الدولة .

‏بعد وفاة والده تحولت حياته الى سلسلة من المغامرات الغريبة، تنوعت ما بين التشرد والترحل من بلد الى بلد، ولما كان طوال حياته، قلقا، لا يرضى عن شيء، متمرداً، فانه كان يتلقى المنح والمراتب العالية حيناً، واحيان اخرى يعيش عيشة بائسة، مطاردا او حبيسا في احد سجون الامراء، يكتب ول ديورانت ان: " ابن سينا لم يعتد الحياة الهادئة المطمئنة، وهو الدائم التطلع الى العوالم المجهولة، والى الاجواء والاعمال التي تتجدد باستمرار " .

‏في كتابه تاريخ الفلسفة يكتب المستشرق الروسي ستكوفسكي: " حين كانت تسود اوربا بالقرون الوسطى نظرية واحدة، هي نظرية خلق العالم من العدم، كان الفلاسفة العرب يعالجون كل القضايا وكل شؤون الطبيعة . ولم يبدأ الكلام في اوربا على قضايا الطبيعة، ألا بعد ان تعرفوا على مؤلفات ابن سينا . فمنذ ذلك التاريخ اخذوا يطرحون الاسئلة عن الحي والجامد " .

‏أدرك ابن سينا منذ بداياته ان الأحتياج الحقيقي للفلسفة هو في صياغة منهج دقيق لدراسة الاشياء المحيطة بنا، ولم يكن ابن سينا مقلد للفلسفة اليونانية على رغم شغفه بها، ولا شارح لكتب ارسطو، وانما أنفرد من بين فلاسفة الاسلام بانه اول من جرؤ على نقد فلسفة ارسطو وافلاطون، وحاول ان يضع مذهبا فلسفيا مستقلاً .

‏الفلسفة عند ابن سينا هي العلم بالوجود بما هو موجود، بمعنى العلم بالوجود المطلق دون النظر الى نوع هذا الوجود، والغاية من الفلسفة هو تهذيب النفس واستكمالها لتحصيل السعادة . فالفلسفة: " صناعة نظرية يستفيد منها الأنسان، تحصيل ما عليه من الوجود كله في نفسه، وما عليه الواجب بما ينبغي ان يكسبه فعله، لتشرف بذلك نفسه وتستكمل وتصير عالما معقولا، مضاهيا للعالم الموجود، وتستعد للسعادة القصوى " وفلسفة ابن سينا فلسفة عقلية في اصولها ومبادئها، فهو يؤمن بالعقل الفعال مصدرا للعلم والمعرفة، والانسان من حيث هو كائن مفكر عند ابن سينا تنقل في اطوار ثلاثة .كان في اولها ساذجا يتصور الاشياء، ويعتقد انها في حقيقتها وواقع امرها، كما تبدو له، وكما يتصورها . وكان في ثانيها شاكا، او شبه شاك، في ان تكون لديه القدرة الكافية لادراك حقائق الاشياء والاطلاع على مكنوناتها .وكان في ثالثها قانعا بما تبلغه طاقته المحدودة راضيا بها .

‏ويشتق ابن سينا وصف للانسان حسب الطور الحياتي الذي يمر به، فهو في الطور الاول حكيم، وفي الثاني محب للحكمة، وفي الثالث باذل كل ما في وسعة من اجل الحصول على الحقيقة .

‏استطاع ابن سينا ان يحدد تعريف للفلسفة بالغ الوضوح والدقة يقول فيه: " الحكمة استكمال النفس الأنسانية بتصور الامور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الانسانية، فالحكمة المتعلقة بالامور التي نعلمها وليس لنا ان نعمل بها تسمى حكمة نظرية وهي التي تتعلق بما في الحركة والتغيير، ويسميها ابن سينا بالحكمة الطبيعية، والحكمة المتعلقة بالامور العملية التي لنا ان نعلمها ونعمل بها، تسمى حكمة عملية والتي تبحث في في شؤون الانسان والمجتمع والاخلاق " .

‏ذكر فلاسفة عديدون ان مؤلفات ابن سينا فيها إشارات واضحة إلى مشاكل فلسفية حديثة لا بل وجد البعض ان فلاسفة عصر النهضة الاوربية تاثروا كثيرا بكتب الفارابي وابن سينا وابن رشد .وقد ربط العديد من الباحثين في تاريخ الفلسفة بين مفهوم العقل في الفلسفة الحديثة ووصف العقل الذي وضعه ابن سينا في كتبه، ففي عام 1927 حاول الباحث الايطالي فورلاني ان يربط بين نص لابن سينا عُرف باسم الرجل الطائر والذي ورد في كتاب الشفاء، وبين مقولة ديكارت الشهيرة " انا افكر اذن انا موجود " التي وردت في كتابه " التاملات " .

‏يكتب ابن سينا في الشفاء: " يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خلق دفعة وخلق كاملاً لكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات وخلق يهوي في هواء أو خلاء هويا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدماً ما يحوج إلى أن يحس، وفرق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته، ولا يشك في إثبات لذاته موجوداً ولا يثبت مع ذلك طرفاً من أعضائه ولا باطناً من أحشائه ولا قلباً ولا دفاعاً ولا شيئاً من الأشياء من خارج بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولاً ولا عرضاً ولا عمقاً، ولو أنه أمكنه في تلك الحالة أن يتخيَّل يداً أو عضواً آخر لم يتخيله جزءاً من ذاته ولا شرطاً في ذاته. وأنت تعلم أن المثبت غير الذي لم يثبت والمقرب غير الذي لم يقرب. فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصية لها على أنها هي بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم تثبت. فإذن المثبت له سبيل إلى أن يثبته على وجود النفس شيئاً غير الجسم بل غير جسم، وأنه عارف به مستشعر له وإن كان ذاهلاً عنه يحتاج إلى أن يقرع عصاه " .

‏ويؤكد فورلاني ان: " هذا هو قول ديكارت المشهور، أنا أفكر فأنا موجود لان الصورة التي يقدمها ابن سينا تبرهن على أن نفس إنسان كاملة ولكن محجوبة هي التي تظهر له دون وساطة الجسد إنه موجود وإنه يفكر" .

‏وهناك محاولة ثانية لربط فلسفة ابن سينا بتيارات فلسفة عصر النهضة، فقد جعل ارنست بلوخ، الفيلسوف العربي من انصار ما دعاه " الارسطو طالية اليسارية "، فابن سينا على حد قول بلوخ يشكل حلقة في التطور التاريخي الذي وصل بالفلسفة الارسطية الى فلاسفة العصر الوسيط من امثال جوردانو برونو وتوما الاكويني، فابن سينا عند هذا القول هو حجر زاوية هنا لانه "ينطلق بهذا الاتجاه من مفهوم المادة والصورة الارسطي معرضا عن القدرة الالهية ذاتها لصالح المقدرة الفعالة لتي للمادة، وهذا هو طريق اليسار الارسطي الذي يشكل ابن سينا قطبا فيه ونقطة التحول في حقبة ما بعد الفلسفة اليونانية " وتكمن يسارية ابن سينا حسب قول بلوخ في انه جعل القوة الفاعلة الجامعة ما بين المادة والصورة، اي القوة واهبة الصور لا تتجه باتجاة الالوهية، بل باتجاه الطبيعة والانسان، فكل ما كان ينسب في الفهم الميتافيزيقي للفلسفة لله حول هذه القدرة، اصبح لدى ابن سينا للمادة .ذاك ان العقل واهب الصور، العقل الفعال هو خصوصيات الانسانية وليس روحا يرفرف فوقها .

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

بقلم: جوادالوبي نيتيل

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

وُلدتُ ببُقعة بيضاء، أو ما يُسميه البعض "شامة خِلقية"، تغطي قرنية عيني اليمنى. لم تكن تلك البُقعة لتمثل شيئًا لو لم تمتد عبر القزحية وصولًا إلى البؤبؤ، الذي يجب أن يمر الضوء عبره ليصل إلى مؤخرة الدماغ. في تلك الأيام، لم يكن يُجرى زرع القرنية للمواليد الجدد؛ فقد قُدّر لتلك البُقعة أن تبقى لسنوات عديدة. وكما يمتلئ نفق غير مُهوَّى بالعفن ببطء، أدى انسداد البؤبؤ إلى إعتام عدسة العين. لم يكن بوسع الأطباء سوى نصح والديَّ بالانتظار: فعندما تكبر ابنتهما، سيكون الطب قد تقدم بما يكفي ليقدم الحل الذي لم يكن متاحًا حينها.

في غضون ذلك، أوصوا بإخضاعي لسلسلة من التمارين المزعجة لتنمية العين المعيبة قدر الإمكان. كان ذلك يتم عبر حركات العين... ولكن أيضًا - وهذا ما أتذكره جيدًا - عبر رقعة تُغطي عيني اليسرى لنصف اليوم. كانت قطعة قماش بلون البشرة... تُغطي جفني العلوي وصولًا إلى عظم وجنتي... كان ارتداء الرقعة يبدو لي ظالمًا وقاسيًا. كان صعبًا عليّ تقبُّل أن يُلزِموني بها كل صباح، وأن أي مكان للاختباء أو أي قدر من البكاء لن ينقذني من ذلك العذاب... مع الرقعة، كان عليّ الذهاب إلى المدرسة، والتعرف على معلمتي وأشكال أدواتي المدرسية، والعودة إلى المنزل، وتناول الطعام، واللعب لجزء من الظهيرة.

في حوالي الخامسة مساءً، كان أحدهم يأتي ليخبرني أن الوقت قد حان لخلعها، وعند سماع هذه الكلمات، كنت أعود إلى عالم الوضوح والأشكال الدقيقة. فجأة، كان كل شيء حولي يتغير. كنت أستطيع الرؤية بعيدًا، وأصبحت مفتونة بقمم الأشجار والأوراق التي لا تُعد التي تتكون منها، وبتفاصيل السحب في السماء، ولون الزهور، والتعرُّجات المعقدة في أطراف أصابعي. كانت حياتي منقسمة بين عالمين: عالم الصباح، المبني في الغالب على الأصوات والروائح، ولكن أيضًا على ألوان ضبابية؛ وعالم المساء، دائمًا ما كان مُحررًا، لكنه في الوقت نفسه، دقيقًا للغاية.

هذه هي البداية من كتاب "الجسد الذي وُلدت فيه"، الرواية   التي تحكي عن طفولتي، طفولة حددتها أحداث عميقة: على المستوى الشخصي، كفاحي من أجل الرؤية بعينيّ، وعلى المستوى السياسي، نفي العديد من شعوب أمريكا اللاتينية هربًا من ديكتاتوريات السبعينيات.

إن التنقل بين هذين العالمين، عالم النور وعالم الظلال، علمني أن أندهش - كما أسرد في الكتاب - بأبسط الأشياء والأحداث اليومية، وأن أبحث عن زوايا مختلفة وغير متوقعة لها، وأن أعرف أن الظلال والأشكال لا تقل أهمية عن التفاصيل، وأن لا أثق أبدًا بالانطباعات الأولى، أو أعتبر أي شيء مُسلمًا به. لكل كاتب طريقته الخاصة في رؤية العالم، وفي طريقي، تلعب هذه التضادات بين النور والظل دورًا مهمًا للغاية. نظرًا لأنني لم أستطع أبدًا أن أرى بوضوح كبير، كان عليّ أن أكون حذرة للغاية في اختيار ما أريد تركيز نظري عليه.

وضع رقعة على عيني اليسرى والعَمى شبه الكامل في اليمنى جعلني - نفسيًا على الأقل - طفلة إن لم تكن منبوذة بشكل صريح، فهي على الأقل مختلفة. موقف زملائي في المدرسة، وكذلك معركة والديَّ المستمرة لمحاولة "إصلاحي"، جعلاني أشعر منذ سن مبكرة أنني وُلدت بشيء مكسور، بشيء معيب، بشيء يجب إصلاحه بأي ثمن. تتحدث رواية  "الجسد الذي وُلدت فيه" عن الجهد الخارق الذي بذله والداي لدمجي فيما اعتبراه مجموعة "الأشخاص الطبيعيين". في الواقع، من روايتي الأولى (الضيف) وصولًا إلى أحدث أعمالي "ولادة ميتة"، حاولت أن أتساءل عن الأفكار التي يتبناها الناس حول ما هو "طبيعي" وما هو "غير طبيعي" - مفاهيم لا أؤمن بها أساساً - وأن أدعو قرائي إلى فعل الشيء نفسه.

لا أحد طبيعي عن قُرب"، كما يقول المثل البرازيلي، ولهذا السبب حاولت في جميع كتبي تقريبًا، من ناحية، أن أقدِّم صورةً مقرَّبةً لتلك "االشذوذات" المزعومة، التي تبدو لي جميلة، ومن ناحية أخرى، أن أسلط الضوء على الموضوعات التي يُفضِّل الناس إبقاءها في الظل، إن لم يكن في ظلام دامس - تلك الموضوعات غير المريحة، التي يعتقد الكثيرون أنه من الأفضل ألا ينظروا إليها أصلًا.

على سبيل المثال، عندما بدأت مسيرتي الأدبية في مطلع هذا القرن، كانت فكرة الجمال السائدة أكثر تجانسًا وتقليديةً مما هي عليه اليوم. الأجساد التي نسميها الآن "غير مطابقة للمعايير" كانت تُعتبر فاحشة، ومفهوم "تقبل الذات" لم يكن موجودًا بعد. في ذلك الوقت، كان الحديث عن هذا نادرًا، والأندر منه كان الاحتفاء بالجمال غير التقليدي، كما فعلت في روايتي "الضيف" ومجموعتي القصصية "بيزوار"، حيث شخصياتهما أفرادٌ يتمتعون بخصائص غريبة - جسدية أو نفسية - تجعلهم أحيانًا منبوذين. بالنسبة لي، لم تكن هذه الشخصيات مثيرة للاهتمام فحسب، بل كانت جميلة بتميُّزها. روايتي الأخيرة "ولادةميتة " تستكشف أيضًا موضوع الأجساد المتباينة، خاصة جسد إينيس، المصاب بإعاقة عصبية شديدة، ورغبة والديها في اكتشاف حقيقة ابنتهما، بعيدًا عن أي تشخيص طبي أو أحكام الآخرين. كما تتناول تجربة النساء اللواتي اخترن ألا يكنَّ أمهات - فئة ما زالت، في رأيي، ممثَّلة تمثيلًا ناقصًا في الأدب – والانتقادات الاجتماعية التي تلاحقهن أوتثقل كاهلهن.

في رواية "الضيف"، التي لم تُترجم بعد إلى الإنجليزية، يُفتتح النص باقتباس من جان بولان يمكن أن يصف أيًّا من كتبي:

"اعلم أن الأمر يتعلَّق بإنقاذ الذات بكاملها، بعيوبها، بتقرُّحاتها، بكل التناقضات واللامعقوليات التي قد يحملها الإنسان. كل هذا هو ما يجب أن نخرجه إلى النور: ذلك المجنون الذي بداخلنا."

في هذه الرواية الأولى، يُعد العمى أحد الموضوعات المركزية. آنا، البطلة الشابة، تعرف منذ طفولتها أنها ستفقد بصرها عندما تكبر. تدور القصة في مدينة مكسيكو، وهي بمثابة قصيدة غنائية للمدينة وسكانها، خاصة الفقراء الذين يعيشون بجوار ماكينات الصراف الآلي، أو في محطات المترو، أو تحت الجسور، أولئك الذين يلاحظوننا دائمًا دون أن نتوقف للحديث معهم، هؤلاء "الخفيون" الذين نلقي عليهم بظل آخر: اللامبالاة والازدراء. "الضيف"، و"بيزوار"، "وبعد الشتاء"، و"ولادة ميتة"، كلها نتاج محاولتي للتحديق فيما يؤلمنا، وفيما يجعلنا غير مرتاحين.

لنعد إلى طفولتي. العقد الذي وُلدت فيه، السبعينيات، كان مثيرًا للاهتمام أيضًا من الناحية التاريخية. كانت أمريكا اللاتينية تعاني تحت وطأة الديكتاتوريات العسكرية، مثل حكم أوجستو بينوشيه في تشيلي، وخورخي فيديلا في الأرجنتين، وخوان ماريا بوردابيري في الأوروجواي، أنظمة فاشستية قمعت المعارضين بالتعذيب والاغتيالات السرية.  لقد عارض معظم الفنانين والمثقفين هذه الحكومات، ونفي الكثيرون منهم لإنقاذ حياتهم. فتحت المكسيك أبوابها لهؤلاء اللاجئين، وكنتُ محظوظة لأنني وُلدت وترعرعت في الحي الذي استقروا فيه. نشأت وأنا أسمع لهجات إسبانية مختلفة، واكتشفت أن الكوسا يمكن أن تُسمى "كالاباسيتاس" أو "زاباليتوس" أو "كالاباسينيس"، وتعلمت عادات ليست من ثقافتي، مثل شرب الماتيه أو كوب حليب في الرابعة عصرًا. إن العيش بين المهاجرين غرس فيَّ فضولًا تجاه الثقافات المختلفة، كما زرع فيَّ احترامًا عميقًا لأولئك الذين يُجبَرون على مغادرة أوطانهم والبدء من الصفر.

والبشر، كحال العديد من الكائنات الحية الأخرى، كائنات مهاجرة بطبيعتها. ووفقًا للمؤرخين، فقد قضى الإنسان العاقل وقتًا أطول في الترحال منه في الاستقرار. إن الحركة والقدرة على التكيف مع مجموعة متنوعة من البيئات مزروعتان في جيناتنا. إلا أنه في السنوات الأخيرة، لم تعد الهجرة سوى مشكلة يجب معالجتها. لقد نسينا تمامًا تعقيدها، وغضضنا الطرف عن الآثار الإيجابية التي يمكن أن تترتب عليها أيضًا. في مجموعتي القصصية الأخيرة: "المصادفات"  استخدمت طائر النورس، هذا الطائر الجميل القادم من الجنوب، لتمثيل المنفيين من أمريكا الجنوبية الذين اضطروا لعبور مسافات شاسعة من أجل البقاء، ولكن أيضًا لتمثيل أولئك الذين، على الرغم من أنهم ليسوا مهاجرين، قد جرفتهم التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم من مسارهم المعتاد - مثل الأزمة الصحية العالمية التي مررنا بها في عام 2020 (والتي لا نزال نعاني من آثارها النفسية حتى اليوم)، وكل ما رافقها من أحداث سياسية دوّارة، إلى جانب مشاعر القلق وعدم اليقين التي تثيرها فينا أزمة المناخ.أعتقد أننا نتفق جميعًا على أننا نعيش لحظةً عصيبة في تاريخ البشرية. ففي السنوات الأخيرة، بدا وكأن العالم ينجرف نحو الظلامية، والسياسات السلطوية، والتحيزات القومية، والعنصرية، وغيرها من المواقف التي سبق وأن أدت، في الماضي، إلى كوارث كبرى مثل الحرب العالمية الثانية.

على الرغم من أنني كنت دائمًا أرى أن الفن والأدب غير ملزمين بخدمة أية قضية سياسية، مهما بلغت أهميتها أو إلحاحها - أي أن غايتهما الحقيقية الوحيدة هي أن يكونا فنًا وأدبًا - فإنني أؤمن أيضًا بأن لهما فاعلية خاصة في تصوير الأوضاع الاستثنائية، مثل الاضطهاد، والترحيل القسري، والجوع، والمنفى، والهجرة، و جعلنا - نحن الذين لم نعش هذه التجارب مباشرة - في مكان أولئك الذين عاشوها فعلاً. فالأدب، أكثر من الغالبية العظمى من النصوص الصحفية، وسيلة قوية لإثارة التعاطف.  أفكر هنا في كتب مثل أهذا هو الإنسان؟ لبريمو ليفي، و"حقيبة من الجواهر الزجاجية" لجوزيف جوفو، و"المكالمة الهاتفية" لليلى جيريرو؛ و"موسم الأعاصير" لفرناندا ميلكور؛ و"بلد صغير" لجيل فاي، حيث يتم تناول تجربة الاقتلاع، ولا سيما عذاب الاضطهاد، بأسلوب بالغ الروعة والعمق.

على الرغم من أنني لا أعتقد أن الأدب ينبغي أن يكون له هدف سياسي، إلا أنني أؤمن بقدرته على أن يُمكننا من التخيل ورؤية جيراننا. إن القدرة على تخيّل الآخر، على وضع أنفسنا في مكانه، تُعد تعويذة قوية بشكل لا يُصدّق ضد التعصب. فالأدب يمتلك القدرة على أن يربطنا ببعضنا البعض، أن يجعلنا نرى أنفسنا خارج الأيديولوجيات والأحكام المسبقة، وأن يدخل بنا إلى منطقة من الألفة، إلى الحياة اليومية لأناس آخرين، من شعوب أخرى، لنشاركهم قصصهم، ومخاوفهم، وآمالهم، وتجاربهم الحياتية - أي أن نلقي الضوء على الآخر، بما يُتيح لنا أن نراه حقًا.

وعلى الرغم من أنني لا أعتقد أن للأدب غاية سياسية، فإنني أؤمن بقدرته على أن يجعلنا نتخيل الآخر ونراه عن قرب.

الاختلاف والهجرة، وتقبُّل البشر لبعضهم البعض، هي باختصار الموضوعات التي سعيتُ إلى معالجتها في أعمالي الروائية. لكن هناك جانبًا آخر من عملي أود مشاركته معكم. ولأجل ذلك، دعونا نعود للمرة الأخيرة إلى طفولتي. عندما كنتُ في المدرسة الابتدائية، تلك المدرسة المونتيسوري التي وصفتها في كتابي "الجسد الذي وُلدت فيه"، قمنا أنا وبعض الأصدقاء بإعداد نشرة إخبارية أسبوعية اسمها "النملة" كنا نعلقها على لوح حائط، ثم أصدرنا لاحقًا مجلة مصورة اسمها "الصوت". ومنذ ذلك الحين، أصبحت متابعة شغوف للمجلات الأدبية والثقافية. وبعد سنوات، عندما كنت طالبة في الجامعة، شاركتُ مع مجموعة مختلفة من الأصدقاء في تحرير مجلة للأدب الشبابي اللاتيني اسمها "سميسترال"، ثم مجلة أخرى اسمها "رقم صفر". في ذلك الوقت، ورغم أنه قد يبدو أمرًا لا يُصدق الآن، لم يكن هناك إنترنت بعد، وكانت المجلات تمثل منصةً عامة أساسية للشباب كي يقرأوا عن بعضهم البعض ويواكبوا ما يفعله أقرانهم في بلدان أخرى حول العالم. ففي صفحات هذه المجلات، تلتقي جهود أناس بقصص مختلفة وجهات نظر متنوعة. إنها تشكل فضاءً استثنائيًا للحوار من الضروري الدفاع عنه. بينما حصل بعضها لاحقًا على دعم مؤسسي، فإن هذه المجلات كانت تُنشر في البداية بأموالنا الشخصية وأموال أصدقائنا.

وبين عامي 2017 و2024، حالفني الحظ لتحرير "مجلة جامعة المكسيك"، التي تصدرها الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك (UNAM). كان مشروعًا مثيرًا لأن الأمر تضمن أخذ منشور تاريخي وتحويله بطريقة تجذب الشباب مع الحفاظ على تقاليده. نُشرت المجلة إلكترونيًا ومطبوعًا، ووصل عدد قرائها حول العالم إلى 300 ألف قارئ. أصدرنا حوالي ثمانين عددًا خاصًا متعدد التخصصات، اجتمعت فيها العلوم والآداب والعلوم الإنسانية، وتناولت موضوعات مهمة مثل الهوية، والتغيرات المناخية، والعنصرية، والماء، والأسر، والانقراض، واجتثاث الاستعمار، والنسوية، والعنف، والمدرسة.

أعتقد أن كل كاتب يجب أن يجرب التحرير في مرحلة ما من مسيرته الأدبية. بالنسبة لشخص اعتاد الصمت والسكينة في مكتبه، وإيقاعات عمله الخاصة (التي غالباً ما تكون مرجعيته ذاتية)، يمثل التحرير تحدياً حقيقياً، وفرصة للخروج من الانعزالية والاهتمام بأعمال الآخرين، ليس بشكل أناني كما يحدث عندما نقرأ لتعزيز إبداعاتنا الخاصة، ولكن بروحٍ بهيجةٍ وكريمةٍ كتلك التي يتحلى بها من ينظم حفلةً. أثناء عملي في التحرير، أدركت أن المهمتين تشتركان في نقاط أكثر مما كنت أعتقد في البداية. فلتجميع كل عدد من المجلة، كان من الضروري أيضاً العثور على نغمةٍ وإيقاعٍ وترتيبٍ وتركيز. تماماً كما في الكتابة، يجبرنا التحرير على المرور بلحظات من النشوة واليأس.

أتاح لي إدارة مجلة ثقافية القيام بتغطية مواضيع سياسية لم أكن لأتمكن من مناقشتها بمفردي؛ باختصار، أتاح لي تسليط الضوء بقوة على أولئك الذين، بسبب أصولهم أو طبقتهم الاجتماعية، أو ببساطة لافتقارهم إلى اللغة اللازمة، لا يجدون دائمًا مساحة يُصغى إليهم فيها كما يستحقون - للمساهمة في عكس نورهم على صفحاتها.

لدينا في المكسيك حكمة تقول: "الحب يبدأ من العينين"  أي أن "الحب يولد من النظرة". وهذا يعني أنه لكي نحب شيئاً أو شخصاً، يجب أن نراه أولاً. ينطبق هذا على الطعام وعلى الانجذاب بين الأشخاص، ولكن أيضاً على نوع آخر من الحب، هو التعاطف بمعناه اللغوي الأصلي، أي "الشعور مع الآخر"، وهو بالضبط ما تحتاج إليه مجتمعنا وكوكبنا أكثر من أي شيء آخر هذه الأيام.

وفي الختام، أود أن أقول إنني لا أعتقد أن في وسعنا، كأفراد، أن نُغيّر الكثير من المسار المعتم الذي سلكه العالم في السنوات الأخيرة، ذلك المسار الذي يعرّض هذا العدد الكبير من الأرواح البشرية للخطر. ما يمكننا فعله - وما أود أن أحثكم عليه - هو أن نعتني بنورنا الداخلي، تمامًا كما يعتني المرء بلهب شمعة، وأن نحافظ عليه متقدًا ومضيئًا، كي نتمكن، عندما تحين الفرصة، من تقديمه لمن حولنا ممن قد يكونون في حاجة إليه، ولكي نتمكن أيضًا، حين يحين الوقت، من أن نضيفه إلى أنوار الآخرين: أنوار الجماعات والمجتمعات التي لا تزال تؤمن بإمكانية قيام عالم أفضل، وتستعد لبنائه.

***

....................

* ألقت نيتل المحاضرة الرئيسية التالية بعنوان "Escribir con luz" (الكتابة بالنور) بالإسبانية، بالتناوب مع القراءة الإنجليزية التي قدمتها مترجمتها روزاليند هارفي.

الكاتبة: جوادالوبي نيتيل / Guadalupe Nettel تُعد جوادالوبي نيّتيل (مواليد 1973)، التي وُصفت بأنها "واحدة من أكثر الأصوات أصالة في الأدب اللاتيني المعاصر"، من أبرز كاتبات الرواية والقصة القصيرة في أمريكا اللاتينية.  وهي مؤلفة روايات ومجموعات قصصية حائزة على جوائز تُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة؛ وقد حُوِّل العديد من أعمالها إلى مسرحيات وأفلام. شغلت نيتيل منصب محررة في مجلات ثقافية وأدبية مثل "الرقم صفر" و"مجلة جامعة المكسيك". وصلت روايتها "ولادة ميتة" إلى القائمة النهائية لجائزة بوكر الدولية. في أبريل ٢٠٢٥، نشرت دار بلومزبري مجموعة "المصادفات"، وهي مجموعة قصصية جديدة من تأليفها ترجمتها روزاليند هارفي. تعيش نيتيل في باريس ككاتبة مقيمة في مركز الأفكار والخيال بجامعة كولومبيا.

روزاليند هارفي/ Rosalind Harvey مترجمة أدبية وكاتبة، تُدرّس في جامعة وارويك. ترجمت أعمالًا للعديد من الكُتّاب البارزين باللغة الإسبانية، منهم خوان بابلو فيلالوبوس، وإلفيرا نافارو، وإنريكي فيلا-ماتاس، وجوادالوبي نيتيل. هارفي زميلة في الجمعية الملكية للأدب، وزميلة في مؤسسة الفنون، وعضو مؤسس في شبكة المترجمين الناشئين.

(نقلا عن جريدة اخبار الادب – الأحد 27 يوليو 2025)

https://worldliteraturetoday.org/2025/july/writing-light-2025-puterbaugh-lecture-guadalupe-nettel

 

صباح الأربعاء الماضي، رحل عن عالمنا أحد عمالقة الأدب العربي الحديث، الكاتب والروائي المصري صنع الله إبراهيم، عن عمر ناهز 88 عامًا بعد صراع طويل مع المرض. رحيله خسارة فادحة لكاتب مبدع وضمير أدبي ظل على مدى أكثر من ستة عقود صوتًا صادحًا بالحق، وقلمًا لا ينحني إلا للحقيقة.

في هذا المقال، سنحاول قراءة مشروع صنع الله إبراهيم الأدبي الذي حول السجن إلى "جامعة" كما قال ذات مرة، وجعل من الأدب سلاحًا للمقاومة ووسيلة لكشف القبح الاجتماعي والسياسي.

"تلك الرائحة" التي غيرت مسار الرواية العربية

"السجن هو جامعتي، ففيه عايشت القهر والموت، ورأيت بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوعة". بهذه الكلمات لخص صنع الله إبراهيم تجربة الاعتقال التي شكلت منعطفًا حاسمًا في حياته الأدبية والفكرية. في عام 1959، اعتقل الشاب الشيوعي ضمن حملة ضد المنظمة الشيوعية المصرية "حدتو"، ليقضي خمس سنوات في السجن (1959-1964). لكن هذه السنوات لم تكن عقيمة، بل تحولت إلى بوتقة صهرت فيه روح المبدع الملتزم.

في المعتقل، وجد صنع الله نفسه بين مجموعة من المثقفين الذين سيصبحون لاحقًا أعلام الفكر والأدب في مصر: فؤاد حداد، محمد خليل قاسم، محمود أمين العالم، عبد العظيم أنيس، وآخرون. في هذه "الجامعة المغلقة"، مارس السجناء حياة ثقافية موازية، من زراعة حديقة صغيرة إلى قراءة "ثلاثية نجيب محفوظ" التي وصلتهم خلسة، وكتابة اليوميات على ورق لف السجائر. هنا بالضبط، في هذا التناقض الصارخ بين القمع والإبداع، بين القهر والخلق، ولدت بذرة روايته الشهيرة "تلك الرائحة" (1966).

"تلك الرائحة" لم تكن مجرد رواية، بل كانت زلزالًا هزّ عرش الرواية التقليدية. كتبها صنع الله بعد خروجه من السجن، وعرضها على يوسف إدريس الذي تنبأ بأنها ستكون علامة في الأدب المصري. الرواية التي كان عنوانها الأول "تلك الرائحة النتنة"، قدمت لغة جارحة، واقعية قاسية، وكشفت عن "روائح" المجتمع الفاسدة بعيني بطل خرج لتوه من المعتقل. لقد هاجمت الرواية تابوهات الجنس والسلطة والدين، مما أثار حفيظة الناقد الكبير يحيى حقي الذي هاجمها بعنف. لكن التاريخ الأدبي أعطى الحق ليوسف إدريس، فأصبحت "تلك الرائحة" مع الوقت نموذجًا للرواية الجديدة التي كسرت القوالب البلزاكية، متأثرة بأفكار همنغواي حول الكتابة عما تعرفه واللغة المباشرة والجمل القصيرة.

المثقف بين الأدب والسياسة

لم يكن صنع الله إبراهيم كاتبًا منعزلًا في برجه العاجي، بل كان نموذجًا للمثقف العضوي الذي ارتبط "كتابة وفعلاً" بالنشاط السياسي، كما وصفه الناقد محمد بدوي. لقد ظلّ طوال حياته حارسًا للضمير الوطني، يقف بشدة في مواجهة السلطة، باستثناء فترة قصيرة دعم فيها الدولة ضد حكم الإخوان المسلمين.

في أعماله اللاحقة مثل "اللجنة" (1981) و"ذات" (1992)، واصل صنع الله ابراهيم مشروعه النقدي الجذري للمجتمع والسلطة. لقد جسّد بحق مقولة أن "الأدب هو الآخر الذي لا يهادن" كما قال أدونيس. كان أدبه مرآة عاكسة للقهر والاستبداد، لكنه لم يكن أبدًا أدبًا تبشيريًا أو دعائيًا، بل ظل محافظًا على استقلاليته الفنية ونزاهته الإبداعية.

فلسفة صنع الله إبراهيم

"رفض الصوت الواحد والقمع الجسدي والرمزي والمادي"، هذه العبارة تختزل فلسفة صنع الله إبراهيم الوجودية والأدبية. لقد كان الرفض عنده ليس موقفًا سياسيًا فحسب، بل رؤية للعالم وأسلوبًا في الحياة. في "يوميات الواحات" الذي وثق فيه تجربة السجن، يروي صنع الله لحظة مفصلية حين طُلب منه وشريكه أن يشهدا زورًا في قضية استشهاد شهدي عطية. يقول: "لا أذكر أني مررت في حياتي كلها بلحظة شعرت فيها بالوحدة التامة كما كان شأني آنذاك. وشل الرعب تفكيري وإرادتي وصرت مثل الروبوت المستعد لتنفيذ كل ما يطلب منه". هذه التجربة التي وصفها بـ"بشاعة القهر" علمته أن ينظر إلى الإنسان ككل متكامل من نقاط قوة وضعف.

هذا الدرس الوجودي العميق سيطبع كل أعماله اللاحقة، حيث لم يقدّم صنع الله أبطالًا خارقين، بل بشرًا عاديين يواجهون القهر بأنواعه، تارة بالمقاومة وتارة أخرى بالانهيار. لقد فهم أن الأدب الحقيقي ليس ذلك الذي يقدم أجوبة جاهزة، بل الذي يطرح أسئلة مزعجة تبقى معلقة في ذهن القارئ.

الرحيل والخلود

رحل صنع الله إبراهيم تاركًا إرثًا أدبيًا وإنسانيًا خالدًا، كما وصفه وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو. لقد كان بحق "أحد أعمدة السرد العربي المعاصر" الذي جمع بين "الحس الإبداعي والوعي النقدي". كما عبر الكاتب إبراهيم عبد المجيد بمرارة: "كل كلام الدنيا لا يكفي تعبيرًا عن حزني يا معلمنا وصديق العمر الجميل".

لكن صنع الله إبراهيم لم يمت، لأنه -كما علمنا- الأدب الحقيقي لا يموت. سيظل حاضرًا في "تلك الرائحة" التي لا تزال تفوح من صفحات الرواية بعد ستين عامًا على نشرها، وفي "اللجنة" التي تبقى مرجعًا لفهم آليات السلطة، وفي "يوميات الواحات" التي تروي كيف يمكن للإنسان أن ينتصر على القهر بالإبداع.

في النهاية، ربما يكون أفضل ما نقدمه لروح صنع الله إبراهيم هو أن نستمر في قراءة أعماله بوعي نقدي، وأن نحذو حذوه في عدم قبول المسكوت عنه، وفي تحويل القهر إلى إبداع، والسجن إلى جامعة، والألم إلى كلمات تخلد في ذاكرة الأمة. رحم الله صنع الله إبراهيم، الذي علمنا أن الكاتب الحقيقي هو من "يعيش على حافة الهاوية، ويكتب على حافة الهاوية" كما قال ذات مرة.

***

د. عبد السلام فاروق

نعود في هذه الأيام العَصيبة لنُرافقه ونسمعه عندما أعلن بألم: وداعا أيتها الحرب وداعا أيها السلام

لا أعتقد أنّه وجد أو يمكن أن يوجد، عبر التاريخ الطويل، الماضي والحاضر والآتي، مثل هذا التوحّد الكامل الذي يجمع الوطن الفلسطيني بالقضيّة الفلسطينيّة بالإنسان الفلسطيني.

  شعوب كثيرة ضحّت في سبيل حريتها واستقلالها ومستقبلها، ورجال ماتوا في سبيل تحرير وطنهم وكرامته، وأنّ قضايا شعوب استحوذت على اهتمام العالم، ولكن مثل هذا التوحّد الفلسطيني لم يوجد ولن يوجد.

فمثل هذه الخصوصيّة للوطن الفلسطيني وللقضيّة الفلسطينيّة وللإنسان الفلسطيني لا مثيل لها. فاذا سلب الوطن انتفض الانسان وتوهجت القضية، وإذا تعثّرت القضيّة تحرّك الوطن وزمجر الانسان، وإذا مات الانسان سرعان ما يستعيد الوطن صورته في زنبقة فوق ربوة وأنشودة تُردّدها البلابل.

هذه الخصوصيّة الفلسطينية التي لا مثيل لها يرسمها محمود درويش في كتابه الرائع (وداعا أيّتها الحرب وداعا أيّها السّلام).

محمود درويش في نثره كما هو في شعره فنان مُبدع يعرف كيف ينتقي اللفظة والحركة وكيف يسحبنا معه في رحلة طويلة قصيرة يعيشنا في نشوة اللاوعي، يشدّنا إليه بعنف رقيق ننقادُ إليه في طواعية لا إراديّة، نرحل ونرحل، ثم يعود بنا، ورغم الجهد والمشقّة والخوف إلا أنّنا نتمنى لو نبدأ الرحلة معه من جديد.

محمود في رائعته هذه لا يكتب نثراً ولا ينسج شعراً وإنما هو يروي ملحمة يلتقي فيها الشعر مع النثر، ملحمة تؤكّد الخصوصيّة الفلسطينيّة، ملحمة كتب أجزاءها كما قال في مراحل «الانتظار والانفجار والانتظار العائد».

يبدأ محمود درويش ملحمته بالفصل الأوّل، وهو عبارة عن قصيدة رثاء أو صرخة ألم مُتحدٍّ أو مراجعة حساب. سمّها كما شئت، يُخصصها لأبطال فلسطين الذين سقطوا شهداء.

يأخذنا محمود في هذا الفصل في رحلة عذاب ويقظة ووعيّ يُجسّد لنا خلالها رحلة المُعذّب الفلسطيني منذ اليوم الأوّل الذي لوحت فيه رياح الضياع والغربة والتشريد، ويصوّر لنا كيف أنّ الاقتلاع الشرس من الأرض والبيت، والتوزيع الهمجي للشعب الفلسطيني في كلّ جهات الأرض، والخيمة الحزينة التي نصبوها له لتكون بيته، كل هذه لم تستطع أن تنسي الفلسطيني وطنه وتنزع منه انتماءه وتُبعده عن جذوره. هذا الانسان الفلسطيني الذي لا ينسى ولا يغفر تحوّل الوطن عنده إلى خارطة حبيبة يرسمها ويُعيد تشكيلها، وإذا ما تكاملت تشكلت صخورا قويّة تؤكّد الانتماء والتجذير، وإذا ما نسفوا الصخرة تحوّلت إلى فكرة يستحيل على كلّ الجرافات والبلدوزرات والمتفجرات أن تؤثر فيها، فالوطن لم يعد ذلك البيت البعيد الذي يحتفظ بمفتاح بابه أو الذكريات البعيدة المتقطعة أو الحلم الذي قد يتحقّق، وإنما تحوّل الوطن إلى حقيقة واقعة يحملها كل فلسطيني ولا يمكن الفصل بينهما إلا بفصل البحر عن الدم.

وإذا كانت الرصاصة قد أزاحت الستار الذي فصل بين الفلسطيني والوطن وحوّلت هذا الوطن الماديّ البعيد إلى فكرة محسوسة تسكن كلّ فلسطيني وتتوحَّد به، فانّ غسّان كنفاني في حياته وموته كان الدافع نحو تجسّد هذه الفكرة - الوطن إلى واقع ماديّ ملموس يفرض على الفلسطيني حتى يحقّقه أن يُعانق الوطن ويتوحّد معه ويدرك أنّ موته لن يكون طبيعيًا كما يموت كل الناس.

الفلسطيني لا يكون فلسطينيًا إلّا في حضرة الموت.. وفي حضرة الموت يتحقّق التّطابق النهائي بينه وبين الوطن، وعندها فقط، حين تزول الفوارق بين الأجساد وبين الأوطان ويصير الكل في كيس واحد تنزل العودة من الأناشيد الرديئة إلى البندقيّة الجيّدة.. عندها تتجسد الفكرة في واقع ماديّ حقيقيّ يسعى نحوه الانسان الفلسطيني بكل ثقة وإصرار.

موت غسان كنفاني أكد لنا أنّ الذاكرة والخارطة والأغاني لا تحوّل المنفى إلى وطن، وإنّما تدفعنا لنُخرج الثورة من رحم الفكرة والأحلام والأناشيد لدخول مرحلة التحوّل، وهذا الخروج بالثورة من رحم الفكرة إلى مرحلة التحوّل جعل كل فلسطيني يحسّ بأنّه حامل بالموت.

لقد كان كمال ناصر يُصرّ دائما أنّه حامل بالموت ويُعلن بحزن أنّه ضيَّع زمان الشعر وأنّه لم يُنجز شيئا حتى الآن.. لكن مسحة الحزن هذه هي سِمات حلّ تائر يتلاقى عنده الواقع والحلم.

كان كمال ناصر يرى أنّ فلسطين على أهبّة الرحيل من القضيّة إلى الوصول، ومن البندقيّة إلى المحراث. كان يسكن تفاصيل الواقع وجوهر الحلم، لهذا كان دائم الاحساس بالخسارة والاحباط ودائم القناعة بالوصول والتجلّي.

وكما كانت الرصاصة موقظة للإنسان الفلسطيني وموحدة له مع الوطن الضائع على شكل فكرة لا يمكن الفصل بينهما، وحياة وموت غسان كنفاني دافعا لإخراج الثورة والوطن من رحم الفكرة إلى مرحلة التحوّل ومعانقة الموت، فان موت كمال ناصر ورفاقه محمد يوسف النجار وكمال عدوان يُعلن بداية السير في الطريق نحو تحقيق الهدف، ونحو الشهادة.

بهذه الروعة استطاع محمود درويش أن يصوّر لنا هذا التوحّد بين الوطن والانسان ويرسم مراحل اليقظة والوعي والتحرّك التي عبَرتها الثورة الفلسطينية متمثلة في شهدائها غسان كنفاني وكمال ناصر وغيرهما.

حرب عام ١٩٧٣ وماذا تعني للعرب واليهود

يخصص محمود درويش الفصل الثاني من كتابه لحرب عام ١٩٧٣ وماذا كانت هذه الحرب تعني لكل من العرب والفلسطينيين واليهود سكان إسرائيل، والعالم أجمع.

قد يفاجأ القارئ هنا وهو يشهد حماس محمود الشديد لهذه الحرب وفعاليتها وماذا تعنيه، ولكننا حتى ننصف محمودا ونقف على الدافع لهذه اللهفة والدهشة علينا أن نعود إلى كتاباته في (يوميات الحزن العادي) حيث يرسم لنا حزن الانسان العربي وتمزّقه وشعوره بالخذلان والانكسار بُعَيد حزيران عام ١٩٦٧، وعندها فقط ندرك لماذا كانت هذه اللهفة وهذه الفرحة بهذه الحرب.

يبدأ الشاعر كلامه بتصوير فرحة الانسان العربي بانفجار هذه الحرب ومن ثمّ مفاجأة العالم بما يعمله العرب، فقد اعتاد العالم على صمت العرب وانكسارهم واهمالهم، وها هم الآن يعلنون حضورهم وهذا ما يفاجئ العالم.

بعد ذلك يأخذ محمود بلغة نثرية شاعرية بتصوير وقع هذه الحرب على كل من العرب واليهود. وتكون المقارنة الرائعة التي يُحاول بها تكسير مفاهيم سادت وتجذير أخرى لم تكن.

فبالنسبة للعربي كانت هذه الحرب إعلان حضور على خريطة العالم، واشعال ثورة وطرد الغريب هو طرد الاغتراب عن الوطن، فالحرب قد لا تُحقّق الحلم بالسعادة والعدل والمساواة، ولكنّها حققت الكثير، فقد حقّقنا بالحرب انتصارنا على ذاتنا وأفكارنا..

فالحرب حرّرت ذواتنا من الاحتلال المعنوي ومن التسكع على أرصفة الحياة، والنصر الأكبر الذي حقّقناه بهذه الحرب هو تحرير الذات والارادة، وهذا التحرير هو الأساس لتحرير الأرض والقرار ببدء الحرب، وإطلاق النار هو الذي أدى إلى استرجاعنا لشرفنا الانساني من مَهانة ربع القرن.

الحرب التي خاضها العربي كانت تجربة ضرورية لاختبار معدن هذا الانسان العربي الذي لم يُمارس اختباره منذ مدة طويلة فكان يتوحد في الشك.. وإطالة الحرب لا يخيف العربي، بل على العكس.. فان تطول الحرب معناه أن تكتمل عملية التحقّق من أصالة هذا المعدن، وأن تنضج عمليّة صهر الانسان العربي في قيم مختلفة وقناعات جديدة.

بعد هذا الحشد الزخم لأثر الحرب على العرب يروح محمود درويش في تفصيل معنى الحرب نفسها بالنسبة لليهودي.. هذا الذي عاش طوال حياته الماضية مُستَعبَدا للوهم والأسطورة وللرعب من المستقبل الآتي إنْ لم يُحافظ على قوته أمام عدوّه.

أوّل ما فعلت هذه الحرب أنْ حطّمت الخرافة التي عاش في ظلّها.. فقد حكمت الصهيونية بمفاهيمها العنصرية على اليهودي أن يعيش في ظلّ الخرافة وأن يربط مستقبله بالخرافة ويُقلّد الخرافة وينتمي للخرافة ويُراهن بالخرافة ويُعيد التاريخ إلى الوراء ليكرّر نفسه.. وجاءت هذه الحرب لتحطم له هذا التواصل بين الحاضر والماضي البعيد.. ولتؤكّد له وَهْم الماضي الذي بنى عليه وجوده ليكتشف وَهمَ حاضره ومستقبله.

لقد عيّشت الصهيونية كل يهودي في ظلّ الوهم بالقوّة.. فأحيت في شرايين كل فرد «مَتسادة".. وجعلته يعيش في كابوس الرعب والقلق الذي تُذكّره به أسطورة (متسادة) وأن يعمل حتى يمنع سقوط «متسادة" ثانية ولا يتم له ذلك إلّا بالقوّة،

(فمتسادة لن تسقط مرّة أخرى.. متسادة لن تسقط) هكذا راح كل يهودي يهتف، وهكذا آمن وعمل لتحقيق ذلك فخلقت الصهيونية من الدولة الجديدة متسادة ثانية ومن الشعب اليهودي شعبا اسبارطيا مُحاربا يعيش في وهْم القوة والقهر وإذلال الآخرين ويؤمن أن وجوده آمن طالما هو يطمس وجود الغير، ولن يتحقق ذلك إلّا بالقوة.. وهذه المفاهيم جعلتهم يفتقدون للمشاعر الانسانية.

كما أسقطت هذه الحرب الحليف الدائم للإسرائيلي وهو الزمن.. فقد اعتمد الإسرائيليون في حروبهم السابقة على الضربة الخاطفة والحرب القصيرة وكسب الانتصار الساحق بسرعة، لكن هذه الحرب طالت وأظهرت عجز الإسرائيلي على الصمود لمدة طويلة، وأثبتت للعرب مدى أهميّة إطالة مدى الحرب واكتساب الزمن لصالحهم.

لقد أعادت هذه الحرب الإسرائيليين إلى واقعهم وحجمهم بعد ذلك العَمى الذي سيطر عليهم وجعلهم يُؤمنون بأنّ القدر يُدلّلهم حتى باتوا يؤمنون بالخرافات والسحر.. فمثلا طائرة الفانتوم حين تحمل نجمة داود تشكل ضمانا أبديّا لأمنهم. واحتلالهم لحائط المبكى مثل لهم حيويّة الأسطورة القديمة.. وهكذا عاشوا بالخرافة وآمنوا بالسحر ونسوا ما كانوا يطمحون لتحقيقه بمجيئهم إلى هذا الشرق، حيث طمحوا إلى تشكيل قومية جديدة ذات تقاليد ثقافية مختلفة تُشكّل تفرّدا في هذا الشرق المتخلّف، لكنهم استبدلوا هذا المطمح باتخاذ العنف والارهاب طريقا لهم وراحوا يثبتون بطلان مفعول التاريخ وزاد الغرور عند الفرد الإسرائيلي حتى آمنوا بأنّ مجرّد وجود «موشي ديّان" كفيل بتحقيق النصر.

ورغم التحذيرات التي أطلقها الكثيرون من مفكري الإسرائيليين فان صوت القوّة والتعالي والغرور ظلّ هو الأقوى حتى كانت هذه الحرب وقضت على الغرور وشكّكت بالقناعة وعيّشت الخوف المُصطنَع الذي عيْشت فيه الصهيونية الإسرائيليين بقصد التوحّد والتكتّل ضدّ العدو الواحد الذي هو العرب.. هذا الخوف الذي جعل الإسرائيلي يؤمن بالقوة فقط.

حرب ١٩٧٣ ودور الفلسطيني فيها

كثيرا ما تساءل الذين يسميهم محمود درويش " أصحاب الأناقة الوطنيّة» عن دور الفلسطيني في هذه الحرب؟ وأصحاب الأناقة هؤلاء هم الذين يُكرّرون دائما أنّ حروب العرب ودمار بلاد العرب وانكسار جيوش العرب وضياع بترول العرب وحاضر ومستقبل العرب.. كل هذا بسبب الفلسطينيين.. فتتكالب الأنظمة الرجعيّة لتحل مشاكلها وعقدها على حساب هدر الدماء الفلسطينية وتوجيه النقمة الجماهيرية ضدّ الفلسطيني أينما كان.

هذا كان ولا يزال موقف «أصحاب الأناقة الوطنية» من الفلسطيني وقضيته. ويجد شاعرنا محمود درويش نفسه أمام هذا الاتّهام من أصحاب الأناقة الوطنية أنفسهم وتشكيكهم بدور الفلسطيني في الحرب.. فيروح ليُخرس السنتهم بتأكيد الحقيقة الساطعة وهي أنّ المقاوم الفلسطيني لم يتوقف يوما عن القتال ليُعلن الحرب الآن، فهو في حالة حرب دائمة. ينفجّر ويُفجّر ويستأنف الثورة التي لم تتوقف يوما. المقاوم الفلسطيني والمعركة الدائمة أمس واليوم وغداً، فهو حاضر في كل ومضة نار.. وهو لم يكفّ عن مُناشدة الآخرين لخوض المعركة، ولم يكن خلافه مع أحد من العرب إلا بسبب اندفاعه ومحاولة رفعه الآخرين إلى فتح المعركة المنشودة، فبهذه الحرب يُحقّق الفلسطيني ذاته المُتجددة.. ينمي حياته التي تعرّضت للاغتيال وفي أيام الهدوء النسبي كان الفلسطيني وحده الذي يُشكّل خللاً في معادلة الأمن الإسرائيلي. كان المحرّض والقلق والنموذج الذي حوّل الهزيمة عام ١٩٦٧ إلى حافز للرفض والتصدّي والتحدّي من أن تصير حالة.. كان رمزا يحمي روح الأمة من الخمول وكان واقعا يجعلها تضغط وتعد بالتضحية من أجل المعركة.. وضياع الفلسطيني المقاوم في الصورة الآن تعبير عن تعريب فلسطين وفَلَسطنة العروبة.. فهو يسكن قبضة النار.. وهو مُنطلق كالريح الخصبة في كل بقعة من الأرض.. إنّه الشرارة التي لم تنطفئ أبداً.

ويبقى بعد كل ذلك مَن يسأل: أين المقاوم الفلسطيني من هذه الحرب؟؟

خيبة الأمل ممّا انتهت إليه حرب ١٩٧٣ ولكن..

يصل بنا محمود درويش بعد تلك الدهشة واللهفة التي صوّرها في الفصل الثاني بانفجار حرب ١٩٧٣ إلى الفصل الثالث من كتابه ليُطلعنا على ما أصابه من خيبة أمل بسبب توقف هذه الحرب كما توقفت، وبما آلت إليه من (نصف معركة ونصف هزيمة ونصف انتصار) ولأنّها لم تحقّق للعربي ما أمل من سلام حقيقي وحريّة وتحرير.

وقف محمود عاجزا عن تفسير ما حدث.. فلكل شيء سبب إلّا هزيمة العرب. فالحرب التي ظنّها العربي توصله إلى الدرب توقفت.. لماذا؟ لا يعرف.. الذي يعرفه أنّ الحرب هاجرت.. أو وُضِعت في زنزانة يحرسها الخصمان.. وأنّه أضاع السلام.. والسلام لا يولد إلّا من نهاية الحرب. وهكذا يفقد العربي أمله، ويهرب وطن الفلسطيني من ثقب الباب إلى مستقبل مجهول يلفّه الظلام.

ويعود الانسان العربي من جديد ليعاني عسف السلطان.. وحرب العدو النفسية، فيصرخ محمود بلسان كل عربي:

- لا يحرسون لساني ولكنّهم يستسيغون حراسة قلبي .. والحرب تدور في شوارع قلبي وأوردتي وسوف تنفجر.

ويتعذّب انساننا العربي أكثر وهو يرى حلمه يذوب ويبتعد ويتساءل بألم:

- أما آن للفكرة أن تسكن صخرة ؟ وللدم أنْ يتحوّل إلى سنبلة !

وللوطن أن يترجّل عن صليبه وعن تجريدي! وأن يصير وطنا عاديًا وبسيطا ومُملا ككل البلدان.. وأن يكون تقليدا يوميا، لا إبداعيا شعريا وشيئا قابلا للمُلامسة..

وبعذاب أشدّ يعترف محمود درويش بواقع الفلسطيني وسط هذا العالم العربي قائلا:

- من أجل هذا تكون الحرب .. ومن أجل هذا يكون الموت. ونحن لا ننفق العمر كله ونهدر الحلم والرؤيا إلا من أجل خيبة أمل واقعيّة واحدة.. ومن أجل صدمة على حجر ومن أجل أن نعرف كل العذاب إلّا عذاب النَّدم.

ورغم مشاعر اليأس والحزن وخيبة الأمل وهروب الوطن من ثقب الباب وعودة الحاكم إلى كمّ الأفواه ووأد الحريّات وسجن الأحرار وموافقة العدو على محاصرة الحرب ومنع تكرارها لتكون هذه الحرب آخر الحروب.. رغم كل ذلك.. فان محمود درويش يروح يسخر من الحكام وأعمالهم وبطولاتهم الزائفة وفلسفاتهم وتهريجاتهم.. فهو يسخر من الحكام الذين يحاولون إقناع شعوبهم بأنّ عدم امتداد يد العدو إلى عواصمهم يعني أنّ العدو هُزِم وقلّمت أظافره.. ومن الحكام الذين جعلوا كلّ شيء في الوطن قطاعا خاصا لهم.. ومن تعلّقهم بالوهم الأمريكي الذي يحلّ كلّ المشاكل.. ومن فلسفاتهم حول بطلان أهميّة استراتيجية البُعد الجغرافي.. ومن روح تشرين التي يتغنون بها دون أن يعملوا شيئا.

لكن محمود درويش ورغم نبرة اليأس يُعلنها: أنّ الحرب التي وقعت، وإن تلاعَب الحكام المهزومون بنتائجها، لكنها أثبتت انتصار إرادة الانسان العربي.. وأنّ أشياء كثيرة تغيّرت.. والأهم هو أنّنا تغيّرنا وتحرّرنا من الأسر الذي اخترناه فاستعبدنا..

تغيّرنا، عرفنا أنفسنا اكتشفنا ذواتنا وصار لنا رأي.. وعرفنا طريق الولادة.

ويؤكد أثر الحرب على الإسرائيلي وكيف زعزعت هذه الحرب إيمانه بكل ما آمن به في الماضي.. وجسّدت له الكابوس وأدرك أنّ الوهم الذي اعتقده بقضائه على الفلسطيني قد تبخّر.. وأنّ مجرّد ظهور الانسان الفلسطيني أمامه أعاده للواقع.. وعيّشه الحاضر والمستقبل وجرّده من كلّ الماضي.. وهكذا تحوّل البحر الذي كان محمود العربي يذهب إليه في الصباح الباكر بُعيد هزيمة حزيران ليطفئ النار في الماء الأزرق وينسى حزنه وهمومه.. أصبح هذا البحر بعد حرب ١٩٧٣ البوابة التي ينظر إليها الإسرائيلي ويتأمل ويأمل ويتساءل.. أصبح البحر هو الحل بالنسبة للإسرائيلي.. فيعلن أنّه ذاهب للبحر ليتأمل البحر.. وليصرخ بفزع ورغبة في الحياة وبنقمة على كل الذين خدعوه في الماضي:

أنا ذاهب لأتأمّل البحر ولست بحاجة إلى ما ليس بحراً.. أنا حيّ..

لكن الذي مات فيّ لن تُعيدوه إليّ أبداً.. أنا حيّ وميّت في آن.

بعد هذه الرحلة القصيرة الطويلة مع مذكرات محمود درويش (وداعا أيّتها الحرب وداعا أيّها السلام) أجدني أسأل نفسي:

- هل من مزيد لأقوله ؟

هل لي أن أُناقش محمود في موقف اتخذه.. أو رأي طرحه.. أو كلمة نطقها؟

هل لي أن أُبدي رأيي في كلّ الذي جرى ويجري؟؟ أتراني أكتب رسالة كرسالة محمود التي كتبها للوطن؟

ترى أليس من الأفضل أن أصمت وأترك كل قارئ يقرأ كلمات محمود ويتخذ الرأي الذي يريد؟

أليس هذا هو الأفضل؟!

***

ا. د. نبيه القاسم

يعترف أن كل رواياته فيها جزء من سيرته الذاتية. السجين السياسي الذي خرج من معتقل الواحات عام 1964 وجد نفسه بلا مأوى يتنقل بين بيوت الاصدقاء، يزوره فيها رجال الشرطة كل يوم بعد غروب الشمس للتأكد من عدم حنينه الى الفكر الشيوعي، لكنه حاول الاحتفاظ في قلبه بقطعة الحنين التي رآها ضرورية لمواصلة العيش الملتزم.

(قال الضابط: ما هو عنوانك؟ قلت: ليس لي عنوان. تطلّع إليَّ في دهشة: إلى أين إذن ستذهب أو أين تقيم؟ قلت: لا أعرف، ليس لي أحد. قال لي الضابط: لا أستطيع أن أترككَ تذهب هكذا. قلتُ: لقد كنتُ أعيش بمفردي. قال: لا بد أن نعرف مكانكَ لنذهب إليكَ كل ليلة، ليذهَب معك عسكري. وهكذا خرجنا إلى الشارع أنا والعسكري، وتلفتُّ حولي في فضول، هذه هي اللحظة التي كنتُ أحلم بها دائماً طوال السنوات الماضية، وفتشتُ في داخلي عن شعورٍ غير عادي، فرحٍ أو بهجة أو انفعالٍ ما، فلم أجد، الناس تسير وتتكلَّم وتتحرَّك بشكلٍ طبيعي كأنني كنتُ معهم دائماً ولم يحدُث شيء) – صنع الله ابراهين تلك الرائحة -

كان في السادسة والعشرين من عمره، بلا عمل، خجولاً وحساساً، يتقن الانكليزية التي ساعدته على ان يعثر على عمل في مكتبة الكتب الأجنبية التي كانت تملكها أرملة شهدي عطية - احد رموز الحركة الشيوعية المصرية والذي مات تحت التعذيب -، مقابل عشرة جنيهات في الشهر، لكنه بعد اشهر يترك العمل ليذهب مع رفاق له إلى السد العالي . هناك يقرر ان يصبح كاتباً، يجرب كتابة قصص قصيرة طغى عليها الشكل والتجريب، وبدأ العمل في رواية سرعان ما هجرها عندما اكتشف ان تاثيرات فرجينيا وولف واضحة بين سطورها. بعدها وجد في ثلاثية نجيب محفوظ حافزاً لكتابة رواية واقعية، سرعان ما سيتخلى عنها ايضا.

يتذكر في السجن الذي دخله عام 1959 بعد الحملة ضد الشيوعيين انه عثر على مكتبة ضخمة كان السجناء يجمعونها فيما بينهم، هناك تفرغ لقراءة اعمال ارنست همنغواي، وسيعثر في كتاب الناقد الامريكي كارلوس بيكر الذي كتبه عن همنغواي اجابات على الاسئلة التي كانت تدور في رأسه، ومنها ان لا يكتب إلا ما عما يعرفه جيداً، أن تكون الجمل واضحة بعيدة عن التزويق، وأن يحذف كل ما هو زائد.

في العشرينيات من عمره انتمى لصفوف الحركة الشيوعية، فقد قال لشقيقه:" قررتُ أن أصبح ثائراً على مدار الساعة "، في معتقل الواحات انتابه شعور بالعجز في مواجهة ما يجري حوله، اكتشف أن الكتابة هي سبيليه الوحيد، لأنها تمنحنه حريةً كبيرة. يجرب كتابة يومياته فيكتبها على أوراق السجائر، لتصدر بعد اربعين عاما بعنوان " يوميات الواحات " سيرة ذاتية تروي كيف انتهى المطاف في السجن، يسجل ما يحدث له كل يوم يوميات حقيقية تتناول فيها قضايا تتعلق بالكتابة، والموقف وفكرة الالتزام.

نشر أول كتبه مجموعة قصصية " تلك الرائحة " في شباط عام 1964 وقد صدرها بجملة لجيميس جويس على لسان بطل (صورة الفنان في شبابه) يقول فيها:" أنا نتاج لهذا الجنس وهذه البلاد وهذه الحياة.. ولسوف أعبر عن نفسي كما أنا ". لم يكن يتوقع ان كتابه الذي قدم له يوسف ادريس سيكون اول كتاب يمنع بعد الغاء الاحكام العرفية، لم تكن طباعة " تلك الرائحة " تنتهي حتى صدر قرار بمصادرة الكتاب، ليجد نفسه من جديد في مواجهة السلطة، اما القراء الذين تسربت اليهم نسخ من الكتاب ، فقد صدموا من صراحته القاسية التي مست الابنية الغقائدية والاجتماعية لديهم يكتب يوسف ادريس ان تلك الرائحة:" ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة، وأولها ثورةُ فنان على نفسه، وهي ليست نهاية، ولكنها بدايةٌ أصيلة لموهبةٍ أصيلة "، كانت تلك الرائحة أقرب إلى مونولوج يرويه رجل أُطلق سراحه لتوه من السجن. يقول ابراهيم اصلان أنه لكي يلتقط ذهول العودة إلى المجتمع العادي، كان بحاجة إلى أسلوب جديد، وصفه لاحقًا بأنه "تلغرافي"، متأثرًا بالكتابة الصحفية الجمل قصيرة. تجارب تُترك دون تعليق. ذكريات الحياة قبل السجن تُقطع فجأةً بتفاصيل عادية: نوم، ذهاب أو عودة صديق أو قريب. كل مساء، يلتقي شرطيا ليختم كتابا يُثبت وجوده في المنزل.

ولد صنع الله إبراهيم في الرابع والعشرين من شباط عتم 1937، لعائلة من الطبقة المتوسطة، الاب يعمل موظفا، والام ممرضة في مستشفى حكومي، وجد نفسه منذ الصغر مهوس بملاحقة باعة الصحف، كان يطمح ان يصبح صحفياً، نشأ صنع في حقبة كانت فيها مصر تمر بتحولات سياسية جذرية، من الاحتلال البريطاني إلى ثورة تموز 1952، وما تبعها من تغيّرات اجتماعية واقتصادية. هذا السياق التاريخي لم يكن مجرد خلفية لحياته، بل شكّل المادة الخام لمعظم كتاباته.

يقول صنع الله في إحدى المقابلات إن الاتجاه اليساري الذي اعتنقه بوقت مبكر بدأ من البيت: "كان والدي من عائلة بورجوازية، وبعد وفاة زوجته الأولى بسبب مرضها، تزوّج من الممرضة (والدة صنع الله) التي رفضتها العائلة لأسباب طبقية".

تلقى تعليمه في المدارس الحكومية، ثم التحق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، لكنه لم يكمل دراسته الأكاديمية بالشكل التقليدي، فقد جذبته السياسة بوقت مبكر.

في بداية السبعينيات سافر إلى ألمانيا الشرقية للعمل في وكالة أنباء، ثم إلى موسكو لدراسة السينما بمنحة دراسية. هناك، تعاون مع المخرج السوري محمد ملص في فيلم عن السجناء السياسيين المصريين، لكنه سرعان ما أدرك أن الأدب هو شغفه الحقيقي. عاد إلى مصر عام ١٩٧٤، وواصل مسيرته في ريادة أسلوب أدبي مميز، غالبا ما استقى من الواقع وثائق - صحف، ونصوص برامج إذاعية وتلفزيونية، وغيرها من المواد الارشيفية والحياتية. كانت اهتماماته متنوعة، لكنها كانت تكاد تصب في النهاية على حياة الناس العاديين الذين يعيشون تحت رحمة الأقوياء.

يينتمي ادب صنع الله إبراهيم الى "الواقعية النقدية" التي تدمج بين التوثيق الفني والتحليل الاجتماعي والسياسي. في روايته نجمة أغسطس التي صدرت عام 1974، تناول فيها بناء السد العالي، وقد اعن من خلالها أنه لا يكتب الرواية بوصفها حكاية شخصية فقط، بل كعمل يرصد حركة المجتمع في سياقها التاريخي.

في أعمال مثل اللجنة الصادرة عام 1981، وظّف صنع الله ابراهيم بنية روائية أقرب إلى الوثيقة والحدث اليومي، لكنه ظل وفياً لروح النقد المباشر السلطة وفروعها. أما في رواية ذات التي صدرت عام 1992، فقد ابتكر صنع الله أسلوبا غير مألوف، حيث تتداخل سيرة شخصية امرأة مصرية عادية مع مقتطفات من الأخبار والوثائق الرسمية، ليقدم بانوراما للحياة المصرية خلال السبعينيات والثمانينيات. وفي وردة، اتجه إلى فضاء اوسع واعني به الرواية التاريخية السياسية، مسلطا الضوء على تجربة ثورية في ظفار بسلطنة عُمان. وهذا الامر حدث ايضا في روية بيروت.. بيروت التي صور فيها الحرب الاهلية اللبنانية، وبين أعماله الأخرى نجد روايات "أمريكانلي"، و"شرف"، و"برلين 69"، و"التلصص"، و"نجمة أغسطس"، ويعود الى الرواية التاريخية في "عمائم وقبعات" الصادرة عام 2008، وفيها يروي ما حدث لمصر اثناء غزو نابليون بونابرت.

يقوم أسلوب صنع الله إبراهيم الروائي على إدماج نصوص واقعية (إحصاءات، أخبار، تقارير —)، داخل الحبكة الروائية، مما يمنح القارئ إحساسا بأنه يقرأ نصا مزدوج الطبيعة: روائي ووقائعي في آن واحد. هذه التقنية تعبر عن إيمانه بأن الأدب لا يجب أن ينفصل عن الحقائق الملموسة التي تصوغ حياة الناس.

في آخر اعماله الروائية " 1970 " التي صدرت عام 2020 يقول انه انتظر 45 عاما لكي يكتب عن عبد الناصر ن فقد اراد ان يكتب رواية عن الرجل الذي سجنه، غير ان الرواية ليست ادانة لزمن جمال عبد الناصر، فالروائي يعترف ان عهد عبد الناصر رغم اخطائه، كان فترة مضيئة في تاريخ مصر. لكنه لا ينسى ان يُحدد المأزق الذي وصلت إليه الناصرية: "انتهت رومانسية النضال. ما تبقى هو الحقائق المجردة تماماً. عبادة الشخصية وانهيارها. إعادة التفكير في كل شيء".

عام 2003، رفض صنع الله إبراهيم تسلُّم جائزة الرواية العربية، معلناً أن السبب هو أنها "صادرة عن حكومة تقمع شعبنا وتحمي الفساد". وفي الكلمة التي ألقاها خلال حفل تسليم الجائزة، انتقد صنع الله أيضاً سياسة بلاده والتطبيع مع إسرائيل التي اعتبرها تهدد استقرار مصر.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

في تشرين الثاني من عام 1797 حمل كاهن يعيش في قرية ريفية تقع جنوب بريطانيا، اوراق كتبتها ابنته قالت له انها رواية وضعت لها عنوان " انطباعات اولى "، ولم يكن يتوقع ان يّسخر منه صاحب المطبعة قائلاً له: هل من المعقول ان رجلا يخدم الكنيسة يدور على المطابع لنشر هذه " الترهات " ؟، كان الاب واثق جدا من موهبة ابنته، فقد كانت مشغولة بالكتب منذ صغرها، بدات تكتب في سن الثانية عشر، وحين بلغت الخامسة عشر من عمرها انتهت من كتابة اولى رواياتها التي خبأتها في زاوية من زوايا المطبخ، كانت تكتب في الطابق العلوي من بيتهم الصغير، ولم تكن لديها غرفة خاصة بها، فكانت تجلس في الممر تعمل على صفحات صغيرة ملونة كانت تخفيها عندما تسمع خطوات شخص قادم، وصفت جين اوستن كتاباتها بأنها تمت بفرشاة ناعمة على جزء صغير من العاج، ويقال ان المنضدة التي كانت تكتب عليها بعد ان نشرت بعض رواياتها واصبحت مشهورة كانت صغيرة جدا مصنوعة من شجر الجوز، ولعلها اصغر منضدة استخدمها كاتب على الإطلاق وعليها رسخت نفسها كاشهر كاتبة في بريطانيا، منحت مدينة ونتشستر، التي عاشت فيها وكتبت رواياتها الكبرى صفة القداسة عند البريطانيين، مثلها مثل ستراتفورد، مسقط رأس شكسبير.، قال عنها الروائي هنري جيمس أنها كتبت لمتعة الكتابة ووصفها ب " عزيزتنا وعزيزة الجميع "، فيما اكد الشاعر أودن انها تمكنت بالكشف عن الأساس الاقتصادي للمجتمع قبل ان ينتبه ماركس لهذه المسألة .

قبل روايتها " انطباعات اولى " كانت قد كتبت رواية اسمتها " العقل والعاطفة "، كان الأب يقرأها في الليل وهو يهز بيده مستغربا من قدرة ابنته على نسج الاحداث، ويعز يده وهو يتابع ما يدور بين الشقيقتين " إلينور "، و" ماريان "، الاولى اتسمت بالحكمة والنظر الى الامور من زاوية عقلية، فيما الشقيقة الاخرى " ماريان " كانت عاطفية وتنظر الى الحياة نظرة مثالية .

جين اوستن المولودة في في السادس عشر من كانون الاول عام ١٧٧٥،، لا يعرف الكثير عن حياتها سوى انها ابنة لقسيس، وام من عائلة ارستقراطية تنظم القصائد في اوقات فراغها، العائلة المكونة من ثمانية ابناء، كانت هي تحمل الرقم سبعة، احرقت شقيقتها " كاسندرا " اوراق جين الخاصة بعد وفاتها، ولم تترك لها سوى صورة رسمت بقلم اسود ..قال عنها اصدقاء واقارب العائلة بانها:" أجمل واحمق واكثر الفراشات الباحثات عن الازواج تصنعاً " .

كانت تريد من خلال روايتها " العقل والعاطفة " ان تبين لقراء الروايات الرومانسية التي كانت مشهورها في عصرها بأن من الخطأ السير وراء العاطفة لوحدها دون العقل، ولهذا نجد ان " ماريان " التي احبت بكل عواطفها، ستتعرض للخيانة من الرجل الذي احبته " ويلي "، حيث يهجرها ليتزوج امرأة غنية، بينما كانت حياة شقيقتها " إلينور " سعيدة بعد ان ارتبطت بالشاب " ادورد " حيث استطاعا الاثنان التحكم بعواطفهما وتحكيم العقل في علاقتهما .. قالت فيما بعد ان الهدف من كتابتها رواية " العقل والعاطفة " هو تهذيب العواطف، لكنها رفضت الاساليب الروائية المطروحة التي تقدم شخصيات نموذجية، فقد رأت ان البطلات المثاليات يثرن استجابات عكسية، ويثرن استفزاز القارئ عندما يكتشف انفصالهن عن الواقع، كما ان هذه الشخصيات النموذجية لاتهذب الاخلاق حسب رأيها، بل تشبع الرغبات وتفسدها لمجرد اكتساب عطف القارئ .. ولهذا حاولت جين اوستن ان تقدم في رواياتها الحكمة المقرونة باللا أنانية، وليس بالعاطفة المفرطة .

بعد 16 عاما على سخرية الناشر من رواية جين اوستن " انطباعات اولى " سيتم نشر الرواية في الثامن والعشرين من كانون الثاني عام 1813 وهذه المرة بعنوان " كبرياء وهوى " من دون ان تضع عليها اسمها الحقيقي، وقد جازف الناشر ودفع لها 250 جنيهاً، ولم يكن يدرك ان هذا المبلغ سيتحول الى الآف من الجنيهات، حيث باعت الرواية في عامها الاول اكثر من خمسين الف نسخة، وقد باعت حتى الآن اكثر من عشرين مليون نسخة، واختيرت في السنوات الاخيرة باعتبارها الرواية المفضلة عند البريطانيين، ولا تزال تُطبع حتى اليوم. حُولت أفلاماً ومسلسلات، واحتفلت بريطانيا عام 2013 بمناسبة 200 عام صدورها بمهرجانات ومؤتمرات ومحاضرات وطوابع تذكارية وعدد كبير من الكتب النقدية التي تتناول سيرة مؤلفة " كبرياء وهوى "، قال عنها الروائي الشهير ولتر سكوت وهو يقرأها للمرة الثالثة انها اشبة بلمسة رقيقة ..ومثل روايتها الاولى " العقل والعاطفة "، تبدو جين أوستن حريصة على التحذير من خطر الانقياد وراء الانطباعات الاولى، ونجدها تردد على لسان الشخصيات كلمة " تعقل "، وهي ترفض ان تقدم شخصيات مثالية، فهي من خلال محاولتها تسعى الى ان تتعرف شخصياتها على بواعث افعالهن مما يجعلهن قادرات على اصدار الاحكام ونجد الشخصيات في " كبرياء وهوى " وبالأخص " اليزابيث " يتمتعن بالذكاء الذي يوصلهن الى التعقل الحقيقي، وهو تعقل يختلف عن الالتزام الاعمى بالتقاليد والاعراف الاجتماعية، فنحن وسط عائلة تتكون من اب منغلق، لايحترم زوجته التي همها الوحيد العثور على ازواج لبناتها، ونتابع في الرواية كيف ان " اليزابيث " تحاول ان تغير وجهة نظر حبيبها " دارسي " في الحياة، ونرى التباين في وجهات النظر، حيث كل منهما يستنتج استنتاجات خاطئة عن الآخر، لكنهم في النهاية تتكشف لهم الحقائق دون مغالطات تنجم عن الكبرياء او الهوى، بل ان العاطفة الحقيقية التي يتبادلونها تقدم لهم مفهوما جديدا للحياة، التي لايمكن ان تعاش بالتقليد الاعمى لما حولنا .يكتب هارولد بلوم ان بطلات اوستن الرائعات، يقتربن من تألق بطلات شكسبير، فهن يدمجن الذكاء والارادة معا وينجحن في هذا الاندماج .

في معظم رواياتها تحاول جين اوستن الابتعاد عن الأحداث السياسية أو التطرق الى الامور الدينية، بل انها سخرت من الكتاب الذي يحاولون ان يقحموا الفلسفة في روايتهم، فهي تركز على العلاقات الاجتماعية في الطبقة الوسطى حيث يلعب المال والحب دورا رئيسيا .انهت جين اوستن كتابة " كبرياء وهوى " في تسعة اشهر، ويقال انها خلال هذه الفترة ارتبطت بعلاقة حب مع شاب كان في مثل سنها، يدرس المحاماة، تكتب اوستن في احدى رسائلها انها تحاول ان ترقص وتغازل وتحلم وانها مصرة على ان تعيش لحظات الاثارة والمغامرة، لكن الشاب سرعان ما يتركها لانه لايريد الارتباط بابنة رجل دين . تحاول ان تجعل من بطلة " كبرياء وهوى " النموذج التي تنال ما عصى على الفتاة أوستن في الواقع، خافت ان يلصق بها لقب عانس، لكنها في لحظة تمرد رفضت طلب الزواج من احد اقاربها لانه زواج من دون حب ويخضع لاغراءات مادية وجنسية كما وصفته، ولهذا قررت ان تبقى عازبة موهوبة ومستقلة ترتاب بالعواطف الزوجية .

كانت جين أوستن تحتفظ بأكثر من طبعة من كل كتاب وتقول لمن يسألها: إن الكتب اشبه بالورود في الحقل، لاتوجد وردتين متشابهتين . في روايتها كبرياء وهوى تُظهِر أوستن شغفها بالكتب، مؤكدة على أهمية المكتبة في حياة الإنسان، ونقرأ على لسان السيد بنغيلي:" برغم إنني لا أملك الكثير من الكتب، إلى انني أملك منها أكثر بكثير مما قرأت في حياتي " .

أدب أوستن يتجدد دوما عبر الأجيال. بجملة لأوستن من روايتها إيما تقول فيها “نادرا ونادرا جدا ما تنكشف الحقيقة بأكملها عبر الأشخاص؛ ونادرا ما لا تبقى أمور خفية نتيجة التورية أو الخطأ

قضت السنوات الثمانية الاخيرة في منزل مع امها بعد ان توفى والدها – توفي عام 1804 - حيث نشرت ست روايات تتناول حياة الطبقة المتوسطة في الريف الإنكليزي،لكنها اعتبرت " كبرياء وهوى " كأعز طفل لديها "، فيما حققت روايتها " أيما " نجاحا باهرا، وفيها تقدم لنا جين اوستن بطلة تنتمي الى طبقة اجتماعية متعلمة، تتمتع بثقة عالية في النفس، وذكاء تستطيع من خلاله ان توجه حياة اللآخرين ..بطلة تتمتع بحرية الاختيار، فإيما لا تبحث عن زوج، فهي تدرك ان المراة قادرة من دون زواج على اكتساب احترام الاخرين، وعندما تقرر الزواج من " نايتلي "، فانها تسعى الى أن تقدم معه صورة لمفهوم الاتزان والتعقل، ومفهوم للحب يسمو فوق الرغبات الشخصية من اجل مصلحة المجتمع .

يلاحظ جورج لوكاش في كتابه " دراسات في الواقعية الاوربية " ان نبض الواقعية الذي يستغرق رواياتها هو امتداد لنبض الفضول المضبوط والموضوعي الذي كان نتاج للثورة البورجوازية وكميزة بارزة لرواية القرن الثامن، وصفها بعض اصدقائها بانها " اجمل واحمق واكثر الفراشات الباحثات عن الازواج تصنعا "، ركزت على الشخصية والحوار العفوي، وشرّحت النفسية النسائية، واستبدلت كليشيهات الحب الرومانسي بواقعية لا تزال تخاطب المجتمعين الغربي والشرقي.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

قراءة إنسانية لسيرة بطل

الفصل الثالث: الكونفرنس الثاني للحزب 1956: انبثاق التحوّل العظيم

في قلب العاصفة السياسية التي عصفت بالعراق خلال خمسينيات القرن العشرين، لم يلمع اسم سلام عادل بوصفه رتبة حزبية أو مقامًا تنظيميًا فحسب، بل تجلّى كحضور استثنائي، حمل يقظة الضمير الوطني في طياته، ومضى لا كمجرّد حامل لشعار، بل كجسر حيّ بين الفكرة والإنسان، بين الحلم والفعل، بين الأرض والسماء.

لم يكن شيوعيًا بالمعنى النمطي الذي يُكرّر خطابًا محفوظًا، بل كان إنسانًا صقلته التجربة، وعلّمه الصمت ما لم تقله المنابر، حتى غدا سكوته، في لحظات، أبلغ من هتافات الجموع.

ويبدأ هذا الفصل من سيرته، حيث كانت ملامح التحوّل تُولد لا كقرارات تتلى على الورق، بل كحياةٍ تنبثق من تحت ركام القهر، كنبتةٍ خضراء تشقّ صدر الصخر اليابس، ترفض أن تموت.

لم يكن سلام عادل قائدًا حزبيًا وحسب، بل كان روحًا تقاتل في معركتين: معركة ضد قسوة الواقع السياسي، ومعركة أعمق ضد ضمور الضمير في أزمنة الخوف والانكسار. كان ساهرًا على نقاء الغاية، كما يسهر المقاتل على خندق رفاقه في الليل الطويل.

"في ظل اعتقالات واعدامات لقيادات في الحزب" إضافة الى التعقيد الدولي. وفي ذلك المنعطف، تسلّم سلام عادل القيادة، مدركًا أن المطلوب لم يكن مجرّد إعادة ترتيب الصفوف، بل استعادة المعنى، وترميم الثقة المفقودة بين الحزب وجماهيره، بين العقيدة النضالية وهموم الإنسان اليومية، بين الثورة كفكرة، والحياة كنبض. انعقد الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي أيلول عام 1956، في لحظة بدت وكأنها على حافة التاريخ، لحظة مشحونة بالتوتّر المحلي في ذلك المؤتمر، نهض سلام عادل لا كمجرد إداري يرسم السياسات، بل كمُهندسٍ روحي يُعيد بثّ الحياة في العروق اليابسة. لم يكن يكتب البرامج فحسب، بل كان يبعث فيها حرارة الدم، ويغرس فيها وهج الإيمان، حتى تشرق من جديد.

كان يرى في رفاقه لا أرقامًا ولا أدوات، بل أرواحًا نابضة تحمل على أكتافها تعب الفلاحين، وفي جباهها عرق العمّال، وفي عيونها حلم الفقراء بالعدل. ولهذا، كان يرفض أن يتحوّل الحزب إلى نادٍ نخبوي، مغلق، يتنصّل من جذوره، وينفصل عن الأرض التي أنجبته والناس الذين وهبوه معناه.1820 salam adil

ـ نحو حزب يسكن الناس، لا يعبر فوق رؤوسهم

في هذا الكونفرنس، تبلورت رؤية: أن الحزب ليس طليعة منعزلة في برج أيديولوجي، بل جزء لا يتجزأ من نبض الشارع، من لغة الخبز والماء، من وجع السكن وصرخة الحرية. لم تعد الشعارات الثورية وحدها كافية، بل بات المطلوب لغة جديدة، حقيقية، تعكس قلق الناس وتطلعاتهم. وسار سلام عادل بهذا التحوّل بعين بصيرة وضمير يقظ، مؤمنًا أن شيوعية بلا روح اجتماعية ليست إلا طقسًا أجوف، بلا حياة.

دعا إلى تجديد القواعد، لا بهوس الإزاحة، بل بروح البعث، وإلى تفعيل المنظمات الديمقراطية، وفتح النوافذ للتيارات الوطنية الأخرى، لا من باب المجاملة، بل من إيمان راسخ بأن التنوع إثراء لا تهديد. وفي كل ذلك، كان سلوكه هو الدليل، إذ تجلّى فيه ما نادى به، فصار قدوة حيّة لا خطيبًا يُصفّق له.

لقد أصرّ على أن تكون وثيقة المؤتمر مرآة للوحدة لا للفرقة، وللأمل لا للمرارة، وثيقة تعترف بالقصور لا لتبرير الخنوع، بل لتشعل جذوة الإصلاح. لقد بدا، في كل خطوة من خطوات هذا التحوّل، لا كزعيم سياسي فحسب، بل كضمير جماعي يتجسد في إنسان، يرى في كل رفيق ليس مجرد ركن من التنظيم، بل حاملًا لجمرة الحلم وماء المستقبل.

سلام عادل في تشرين 1956: حين صار العراق قلبًا عربيًا نابضًا

لم يكن العدوان الثلاثي على مصر في أواخر أكتوبر 1956 مجرد صدمة سياسية في المنطقة، بل كان جرحًا في القلب العربي لكل حرّ، ونداءً أخلاقيًا لمسؤولية تتجاوز الجغرافيا. وقد كان سلام عادل أول من لبى هذا النداء لا بمنشور فقط، بل بوجدانٍ مشتبكٍ مع آلام الأمة.

في تلك الأيام، لم يكن الرفيق سلام يتعامل مع مصر بوصفها "دولة شقيقة"، بل كأنها أمّ مجروحة، كأن الكرامة العراقية قد دُهست على تراب السويس، وكأنّ نَفَسه الثوري لا يكتمل إلا إذا امتزج بأنين الشعوب المقهورة.

فهو لم يدعُ إلى الانتفاضة بدافع المكاسب الحزبية أو السبق الثوري، بل فعل ذلك بدافع الضمير الأخلاقي العميق الذي لا يعرف الحياد في وجه الظلم. لقد شعر، كابن صادق للعراق، أن ما يحدث في مصر يحدث في النجف، في الموصل، في البصرة وفي أحياء بغداد الفقيرة.

أصدر الحزب بقيادته بيانًا يدعو إلى إضراب عام تضامنًا مع مصر، لكن خلف البيان، كان هناك إنسانٌ يتوجع، يبكي في صمت، ويشعر أن كل طلقة تُطلق على بورسعيد تصيبه هو في صدره.

ـــ قائد يسير مع الجماهير لا أمامها

في كل مدينة عراقية خرجت مظاهرة أو إضراب تضامني، كانت روح سلام عادل ترفرف معها. لم يكن يُمسك بزمام القرار من مكتب حزبي بارد، بل كان يزرع ثقته في رفاقه، يترك لهم حرية الخلق، يؤمن بقدرتهم على تحويل الألم إلى فعل، والغضب إلى وعي.

لم يتردد في بناء قيادة ميدانية موحدة تضم ممثلي مختلف الأحزاب الوطنية، مما يظهر أنه كان يرى في الوحدة الوطنية إنسانية أسمى من الانتصار الفئوي.

سلام عادل لم يكن يخوض معركة كارهًا لأعدائه فقط، بل محبًا لأشقائه. لقد جسّد جوهر التضامن الإنساني حين لا يعود الظلم محليًا، بل حين يُصبح الشعور بالعدالة موقفًا كونيًا يتجاوز الحدود.

وهنا تتجلى إنسانيته في أوضح صورها: ثائرًا لا يكره لأن في قلبه مكانًا للحب، ولكنه لا يسكت لأن قلبه لا يحتمل الجُرح.

- الإضرابات لم تكن أوامر حزبية... بل صرخة من قاع الوجدان

حين عمّت الإضرابات أحياء العراق، من كليات الطلبة إلى سوق القصابين في الموصل، لم تكن بفعل آلة حزبية عمياء، بل بفعل كرامة شعب استنهضها رجل مؤمن بأن الشرف لا يقبل القسمة، وبأن الحريّة لا تخص شعبًا دون آخر.

وسلام عادل، في هذه اللحظة، لم يبعث الحياة في جسد الانتفاضة فقط، بل نفخ الروح في مفهوم "الإنسان العربي الحر"، وكتب بدمه أن التضامن ليس ترفًا نضاليًا، بل واجبًا أخلاقيًا.

ـــ الرفيق الذي أحبّ أمّته كأمّه

سلام عادل لم يطلق الشعارات كمنظر، بل عاشها. لم يقل "نحن مع مصر" بل شعر أن ما يُدافع عنه عبد الناصر، هو ذاته ما حلم به سلام حين كان يعلّم أبناء الديوانية الرسم والمسرح: أن يكون الإنسان حرًّا، كريمًا، قادرًا على قول (لا).

ولهذا لم يُضبط يومًا في ارتباكٍ وطني أو عاطفي، لأنه لم يكن يلعب دور القائد، بل كان يعيش دور الإنسان.

ـــ سلام عادل في انتفاضة 1956: حين يصبح القائد ضمير أمة

في انتفاضة تشرين عام 1956، لم يكن سلام عادل مجرد قائد شيوعي يمسك بزمام التنظيم، بل كان تجلّيًا نادرًا لضميرٍ إنساني يتغلغل في نبض الشارع، ويتنفس الألم الجمعي كما لو كان دمه يسيل من جراح الآخرين. لم يكن يوجّه الجماهير من علٍ، بل يسير معهم في الدرب ذاته، يحمل الحلم لا الهتاف، ويقود بالحبّ لا بالزجر، بالصدق لا بالزهو. لم يكن يتطلع إلى المجد لنفسه، بل إلى كرامةٍ تعمّ شعبه، حرية تُنقذ الإنسان من الذلّ، لا تُقدَّم قرابين لمجدٍ أجوف.

في تلك اللحظة المفصلية من التاريخ، حين كان الوطن يئنُّ تحت قبضة الطغيان، تجلّى سلام عادل لا كخطيبٍ يملأ الميادين بشعاراتٍ جاهزة، بل كإنسانٍ يضيء الدرب بنضاله، ويمنح المعنى العميق للثورة: أن تُعيد للإنسان قيمته، أن توقظه من قهره، ليقف، رافع الرأس، نقيّ القلب، شريف السلوك، متقدًا بمحبةٍ لا تنطفئ، حاضرًا في معركة كل مظلوم، مهما كان اسمه أو لونه أو انتماؤه.

لقد آمن أن جوهر الثورة ليس في هدم عروش المستبدين فحسب، بل في بناء إنسانٍ لا يركع، لا يستسلم، ولا ينسى أن الحرية تبدأ من الداخل. وبهذا الإيمان، رسم سلام عادل صورة الثائر الحقيقي: لا ذاك الذي تغريه السلطة، ولا الذي يُسلم روحه للعنف الأعمى، بل من تسوقه أخلاقه لا أهواؤه، ويقوده حلم يتجاوز ذاته إلى مصير شعبٍ بأكمله.

سلام عادل لم يكن صدى لعقيدة، بل نبوءة لإنسان جديد. كان ضميرًا حيًّا ينبض باسم الجماعة، يسير مع الناس لا أمامهم ولا فوقهم، وكان كل ما فيه يقول: الثورة الحقة، هي تلك التي تنبع من محبة الإنسان، وتثمر كرامةً للناس جميعًا.

تتتبع هذه الصفحات وقائع انتفاضة تشرين المجيدة، وما أعقبها من عصيانٍ مسلح في قضاء الحيّ، وتكشف النقاب عن الدروس العميقة التي أفرزتها تلك الانتفاضة، والتي شكّلت منعطفًا سياسيًا وفكريًا حاسمًا في مسيرة الحزب الشيوعي العراقي. وقد توّج سلام عادل هذه المرحلة برسالة داخلية، نقض فيها النزعات الفوضوية الداعية لعمليات الاغتيال، وبيّن فيها أن الثورة، إن هي انزلقت في مستنقع العنف الأعمى، فقدت روحها ومعناها.. لتنتهي هذه المرحلة بتأسيس جبهة الاتحاد الوطني عام 1957، كمشروع وطني وحدوي يفتح الباب أمام آفاق جديدة للنضال المشترك.

لا يظهر سلام عادل في هذه الصفحات كمنظّر سياسي عابر، أو سكرتير حزب يخطط للمرحلة القادمة، بل يتجلّى كضمير حيّ، وقلبٍ نابض بالمسؤولية الأخلاقية. نراه يواجه تيارات العنف داخل حزبه بحزم نادر، ويكتب بصدق لا يخلو من الألم: إن الثورات لا تُبنى على الدماء العبثية، بل على وعيٍ حي، وتنظيم صلب، وموقف أخلاقي لا يهادن. هنا، نراه وقد بلغ ذروة إنسانيته، يذود عن نقاء الثورة كما يُذاد عن شرفٍ عريق، مؤمنًا بأن الكرامة لا تُستردُّ بالثأر، بل بالعدل.

في رواية انتفاضة الحيّ، لا يطلّ سلام عادل علينا كبطل عسكري يفرض هيبته على الناس، بل كإنسانٍ نذر قلبه لهمس الجماهير. يتفقد الفلاحين، يُصغي للنساء المهمشات، يُصوغ من آلامهم برنامجًا للنضال، ويغرس أقدامه في تراب الأحياء الشعبية لا كغريب، بل كواحد من أبنائها. لم يكن طاغية متنكرًا في زي ثائر، بل كان المثقف العضوي الذي بشّر به غرامشي*، لكنه كان أكثر إنسانية، وأقل نرجسية، وأشد تواضعًا من كلّ وصف نظري.

أما درسه الأعظم، فكان ذاك الذي كتبه بصلابته لا بقلمه: أن لا مكان للانتقام في ثورةٍ تؤمن بالعدالة. وحين وقف ليواجه تيار الاغتيالات داخل حزبه، لم يتردد في أن يصدح بالحقيقة، قائلاً: "إن الانتصار على العدو لا يتحقق بتقليد سلوكه الوحشي". كانت كلماته هذه أكثر من مجرّد توجيه حزبي، بل كانت صرخة ضمير، وخارطة طريق لما ينبغي أن تكون عليه ثورات المستضعفين: ثورات نقيّة، تشتق مشروعيتها من عدالتها، لا من حجم جراحها.

ـــ تأسيس جبهة الاتحاد الوطني: الحلم بوطن لا تقطعه الحراب

وفي ختام هذه المرحلة، تطل علينا صورة القائد الذي لا يكلّ من الحلم. ففي العام 1957، كان سلام عادل من أبرز مهندسي جبهة الاتحاد الوطني، واضعًا نصب عينيه وحدة القوى الوطنية في مواجهة الاستعمار والتبعية. لقد فهم أن معركة التغيير لا تُخاض بالانعزال أو بالوصاية، بل بالائتلاف والإيمان بالآخر. إنه القائد الذي لم يكن يؤمن فقط بحزبه، بل بقدرة الوطن على أن يتسع للجميع

ـــ جبهة الاتحاد الوطني: حين نضج الحلم على جمر التجربة

لم يكن تأسيس جبهة الاتحاد الوطني فعلًا سياسياً عابرًا، ولا تحالفًا بين قوى متنافرة تُجمعها الضرورة وتُفرّقها الطموحات، بل كان تتويجًا مؤلمًا لتجارب متراكمة من الانكسارات والانتصارات، من خيبات أمل تشظّت في الميادين، ومن إيمان عنيد ظلّ يشتعل تحت رماد القمع والصمت. في قلب هذه اللحظة، كان صوت سلام عادل حاضرًا، لا كزعيم يلوّح بالتعليمات، بل كإنسان جمعته التجربة الطويلة بجراح الجماهير وأحلامها.

لقد كان يؤمن أن الحزب الحقيقي لا يحيا في الأبراج النظرية ولا في مكاتب النخبة، بل في عَرق العامل القَلِق، وفي أسئلة الفلاح البسيط، وفي وجع الشاب الذي يتمرد على هامش الوطن. حين طُرحت الأهداف الكبرى للجبهة: من حلّ المجلس النيابي، إلى الانسحاب من حلف بغداد، إلى إطلاق الحريات وإلغاء الإدارة العرفية، لم تكن تلك طروحات نخبويّة صمّاء، بل كلمات مُستلّة من قلب الشارع، كأنها أخيرًا منحت اللغة لآهات الصامتين.

ورغم الحماسة، لم يُخدع سلام عادل ببريق اللحظة. كان يرى أن الجبهة، بكل ما فيها من رمزية عظيمة، لم تكن كافية لتلبية أشواق الكادحين والمهمّشين، لكنها مع ذلك شكّلت أول معبر يُطل منه العراق على احتمالات إنسانية جديدة، على أفق يكون فيه للكرامة موطئ قدم، وللعدالة معنى غير مستعار.

ـــ التحضير لثورة 14 تموز: القصيدة التي كُتبت بالصمت

لم يكن سلام عادل كاتبَ بيانات فحسب، بل شاعر السرّية ومهندس اللحظات التي تسبق الانفجار. كان يعي أن الثورة لا تُولد من نوبة غضب، بل تنمو مثل حبة قمح صامتة في أرض الامل، وتُروى بتضحيات الذين لا تُكتب أسماؤهم. كان يعلم أن الانتفاضة لا تصنعها الكلمات، بل تُولد من الصبر، ومن البناء الصامت، ومن الإيمان بأن الإنسان هو قلب الفكرة، لا أداتها فقط.

في ليلة الرابع عشر من تموز، لم يكن يهتف في الميادين، بل جلس في غرفة بسيطة مع رفيقه جمال الحيدري، يراجع تفاصيل البيان الأول للثورة. لم تكن الورقة مجرد حبر، بل وعدٌ مكتوب بدمٍ وتاريخ، يُمهّد عبور شعب من ظلمات الاستعباد إلى فجر جمهوريتهم.

ثم، مع بزوغ الصباح، رآه رفاقه في الشارع، بوجهه المكشوف، بسترةٍ عادية وبنطالٍ لا يُخفي هوية ولا يتنكّر، متحديًا رعب السرّية التي علّمته طقوسها القاسية. قالت نزيهة الدليمي إنه خاطبها بثقةٍ وهدوء قائلا:

"أرسلتُ برقية باسم اللجنة المركزية مهنئة بانتصار الثورة."

ثم أضاف، بصوت لا يخلو من الحكمة المتوجّسة:

"لا تكونوا سلبيين، لا ترفعوا شعاراتنا بعد، فالمعركة لم تنتهِ، وهناك قوى أخرى في الشارع..."

في تلك اللحظة، لم يكن سلام عادل يركب موجة النصر، بل كان يقيس الحلم بمسطرة الواقع، ويزن الكلمات بميزان المرحلة، فالقائد الذي يرى أبعد من عينيه، يعرف أن الفرح الذي لا تُمسكه الحكمة سرعان ما يتحوّل إلى كارثة.

ـــ من الجبهة إلى الثورة: الإنسان بوصلته الأسمى

إذا كانت جبهة الاتحاد قد جمعت الأطراف المختلفة على أرضية التحرر، فإن سلام عادل أراد للثورة أن تكون أكثر من حدث، أرادها أن تكون ولادة جديدة للكرامة العراقية، لا مجرد سقوط عرش. لم يسعَ إلى تصفية الحسابات ولا إلى جرّ البلاد إلى مستنقع الصراعات الأيديولوجية. كان ينظر إلى الثورة كفرصة أخيرة للارتقاء بالوطن من فوضى الشعارات إلى نظام يحفظ للإنسان جوهره.

وبين سطور أفعاله، نقرأ لغة لا تخلو من حزن، ذلك الحزن النبيل الذي يسكن قلوب الحكماء، حين يدركون أن الثورة إن لم تُحمَ بالتنظيم، وبالإدراك الأخلاقي العميق، ستضيع بين أيدي الحاقدين.

سلام عادل، في كل ما فعله، لم يكن رجل حزب فحسب، بل تجسيدًا نادرًا لإنسان يربط الفكرة بالحياة، ويجعل من السياسة امتدادًا للعدالة، لا بديلاً عنها.

لم يكن يعدّ للوصول إلى كرسي، بل كان ينسج طريقًا للجماهير كي تجلس أخيرًا على عرش الوطن.

لقد آمن أن "الثورة لا تكون في البيانات، بل في النوايا، وفي القدرة على كظم الغضب لحظة النصر، كما يُكظم الحزن في لحظة الهزيمة."

ـــ تحليل للجوانب الإنسانية والاجتماعية في قيادته:

1. الضمير الأخلاقي: يتجلى في رفضه للعنف غير المنضبط، وفي حرصه على ألا يتحول الحزب إلى أداة انتقام.

2. الإنصات للناس: سلام عادل كان صوتًا لأولئك الذين لا صوت لهم، يترجم معاناتهم إلى برامج نضال، ويؤمن بقدرتهم على التغيير.

3. القيادة بالتواضع: لم يسعَ إلى مجد شخصي، بل إلى عدالة جماعية. كان يرى في الثورة مسؤولية، لا سلطة.

4. الرؤية العميقة: لم تكن مواقفه ردود فعل وقتية، بل تعبيرًا عن رؤية استراتيجية تحترم الواقع وتطمح لتغييره برؤية أخلاقية.

5. تواضعه الجمّ: لم يكن ليعزو لنفسه فضلَ انتصار، بل كان يقول إن الإنجاز من صنع "الحزب"، من صنع "الرفاق"، حتى لو كان هو من صاغ الخطة ووجّه التنفيذ.

6. حنوّه على الشباب: اهتمامه بالكادر الجديد، تعليمه المبادئ التنظيمية، تكريس ثقافة المحضر والانضباط، كلّها إشارات إلى قائد يرى في كل رفيق مشروع زعيم، وفي كل شاب بذرة ثورة.

7. حسّه الإنساني العميق: تظهر في التفاصيل الصغيرة: في رعايته لعائلته، في استذكاره للمناضلين البسطاء، في انحيازه لعمال الريف والجنود البسطاء، بل حتى في لغة رسائله، التي لم تخنها العاطفة رغم قسوة المرحلة.

ـــ بين السياسة والتاريخ: النهر الذي لا يجف حين تتجلى بصيرة سلام عادل الإستراتيجية في:

1. وقف شامخاً في وجه محاولات اختراق الحزب بالتفرد، وأصرّ على الإبقاء على الروح الجماعية في القيادة.

2.  ساهم في ترسيخ حضور الحزب في صفوف الجيش، مؤسساً لتنظيم عسكري داخله، إيماناً منه بأن الطريق إلى التغيير لا يُعبد بالكلام بل بالفعل، لا بالانتظار بل بالاقتحام.

 ـــ شخصية تتجاوز الحياة: بين الجرح والكبرياء

المحور الأهم في هذه الصفحات يتعلّق بثورة تموز 1958 ودور الحزب فيها، وما تلاها من مؤامرات ومحاولات شق الصف الوطني. إلا أن ما يبقى طاغياً على هذه التفاصيل، هو سلام عادل الإنسان:

1.  صبره في المحنة، حكمته في اللحظة العاصفة.

2.  إصراره على وحدة الحزب، ورفضه الانزلاق إلى الصراعات الشخصية، حتى وهو يرى حوله من يتكالبون على المواقع والمغانم.

3.  وقوفه ضد الفساد الفكري والانحراف التنظيمي، حتى وهو يعلم أن ذلك سيكلفه حياته، كما حدث لاحقاً في مجزرة قصر النهاية.

في هذه الصفحات، نرى سلام عادل لا كزعيم سياسي فقط، بل كأسطورة إنسانية تُشع من بين السطور. هو القائد الذي سار في دروب النار، لا ليحترق، بل ليضيء الطريق لغيره. هو الذي واجه الاغتيال والتعذيب والنفي، دون أن يتنازل عن مبدئه، أو يشهر سيفًا على خصم أعزل.

**

يتبع... الفصل الرابع والخامس من الجزء الأول لكتاب " سيرة مناضل"

***

سعاد الراعي

.......................

* أنطونيو غرامشي فيلسوف ومناضل ماركسي إيطالي، ولد في بلدة آليس بجزيرة ساردينيا الإيطالية عام 1891، وأصبح عضوا في أمانة الفرع الإيطالي من الأممية الاشتراكية.

في نسيج القرن السادس عشر الإسلامي الزاخر بالتصوف، يبرز إبراهيم الكَلشني (940هـ/ 1534م) كشخصيةٍ لامعةٍ، شاعر وعالم ومؤسس لفرع الكَلشني من الطريقة الخلوتية الصوفية. امتدت حياته عبر إمبراطوريات الأق قويونلو والمماليك والعثمانيين، حيث كانت رحلة من الصحوة الروحانية والسعي الفكري والإبداع الثقافي. من مسقط رأسه في ديار بكر إلى مثواه الأخير في مجمع الكَلشني بالقاهرة، شكّل الكَلشني المشهد الديني والأدبي والفني للعالم العثماني. أعمالُه الشعرية باللغات التركية والفارسية والعربية، ومجمع الكَلشني الرائد في القاهرة، عززت إرثه كشخصية روحانيةٍ. وتستعرض هذه المقالة حياة الكَلشني وإسهاماته الروحية والأدبية، وأهمية مجمعه بالقاهرة، والقصائد التي تجسد رؤيته الصوفية.

البداية من ديار بكر

وُلد إبراهيم الكَلشني في ديار بكر (آمد) حوالي عام 1423-1433م في أسرة علمية متميزة. كان والده محمد آمدي فقيهًا بارعًا في الفقه والكلام والمنطق، بينما تنحدر والدته هدية الله من عائلة علمية في عنتاب. على عكس العديد من القادة الصوفيين الذين ربطوا نسبهم بالنبي محمد، ربط الكَلشني نفسه بتراث أتراك الأوغوز القبلي، مدعيًا نسبًا من أوغوز أتا، مما يعكس المشاعر القومية في عصر الأق قويونلو. تيتم في سن الثانية، فتولى عمه السيد علي تربيته وتعليمه المبكر، وهو صوفي له أكثر من 200 مريد.

أظهر الكَلشني تفوقًا روحيًا وفكريًا في سن مبكرة. فكما ذٌكر في كتاب مناقب إبراهيم الكَلشني الذي كتبه محيي الكَلشني ، تلميذ ابنه، أكمل حفظ القرآن في الرابعة من عمره، ودرس النصوص الدينية باللغة التركية، ومضى الليالي المقدسة في الصلاة بحلول العاشرة. في الخامسة عشرة، دفعته رغبته في العلم إلى السفر نحو ما وراء النهر، لكنه أُقنع بالبقاء في تبريز بواسطة القاضي ملا حسن في عهد حاكم الأق قويونلو أوزون حسن. هناك، تابع تعليمًا دقيقًا في المدرسة، وحقق شهرة بسبب علمه الواسع، ممهدًا الطريق لمسلكه الروحي.

الصحوة الروحية ونشأة الكَلشنية

تحولت حياة الكَلشني بشكل حاسم في تبريز عندما التقى بدده عمر روشيني، تلميذ السيد يحيى الشيرواني الخلوتي. أرسله أوزون حسن لدعوة روشيني إلى البلاط، فتأثر الكَلشني بشدة بحضوره، وانضم إلى حلقته، متبعًا ممارسات زهدية صارمة. أدرك روشيني موهبته، فسماه خليفته، ومنحه اسم " الكَلشني" (بمعنى "حديقة الورد" بالفارسية) بعد أن قدم له وردة رمزية. كانت هذه بداية الطريقة الكَلشنية، الفرع الحيوي للطريقة الخلوتية الذي ازدهر في العالم العثماني.

وفي عهد أوزون حسن (1453-1478م)، ارتفع شأن الكَلشني، حيث حصل على لقب "تارخان"، مما سمح له بالوصول المباشر إلى البلاط. تضمنت مهامه الدبلوماسية التفاوض على السلام مع حسين بايقرا في هرات، حيث التقى بالشاعر الصوفي عبد الرحمن جامي، ومعالجة الظلم الذي ارتكبه ابن أوزون حسن، السلطان خليل، في شيراز. استمر نفوذه في عهد السلطان يعقوب (1478-1490م)، الذي قدر إرشاده الروحي وأخذه في حملاته العسكرية. ومع ذلك، أجبرته الاضطرابات السياسية بعد وفاة يعقوب عام 1490م، مع صعود الصفويين بقيادة الشاه إسماعيل، على مغادرة تبريز إلى ديار بكر عام 1502م، حيث بدأ تأليف عمله الشعري الضخم معنوي، مستوحى من مثنوي جلال الدين الرومي.

القاهرة: قلب الكَلشنية

أدت الاضطرابات السياسية في ديار بكر وضغوط الصفويين إلى انتقال الكَلشني إلى مرعش، ثم القدس، وأخيرًا القاهرة حوالي عام 1517م. رحب به السلطان المملوكي قانصوه الغوري، واستقر في زاوية قبة المصطفى بالقرب من القاهرة، ثم في جامع المؤيد، حيث أجرى خلوات روحية وجذب أتباعًا متنوعين. بعد الفتح العثماني لمصر عام 1517م، زاره السلطان سليم الأول، ومنحه أرضًا بجوار جامع المؤيد، حيث بُني مجمع الكَلشني بين عامي 1519 و1524م في حي باب الزويلة.

كان المجمع أول منشأة دينية كبرى بناها العثمانيون في مصر، مزجًا بين العناصر المعمارية المملوكية والابتكار العثماني. يضم مسجدًا، وضريح الكَلشني، وغرفًا للدراويش، وحديقة بها محراب للعبادة، وكان بمثابة الآستانة (المركز الرئيسي) للطريقة الكَلشنية. الضريح، وهو بناء حجري مكعب بقبة مدببة مزينة ببلاط إزنيق من القرن التاسع عشر، هو العنصر الأفضل حفظًا. تميّز تصميمه الفريد بوضع الضريح في وسط فناء بدلاً من إطلالته على الشارع، ووجود أماكن إقامة فوق المسجد، مما ميّزه عن التصاميم المملوكية التقليدية. يقال إن الكَلشني موّل بناءه بعناية إلهية، رافضًا المساعدات الخارجية، وأصبح المجمع مركزًا ثقافيًا يعج بالشعراء والخطاطين والموسيقيين.

زيارة المجمع والتعاون الثقافي

وقد كان لي شرف زيارة التكية في القاهرة القديمة مؤخرًا، لكن لم أتمكن من دخول ضريح الشيخ إبراهيم الكَلشني بسبب أعمال الترميم الجارية. وإنني أعبر عن تقديري العميق للسلطات المصرية والتمويل الأمريكي لإتمام عملية الترميم المهمة. وأود أن أعرب عن اهتمام الحكومة التركية بهذا التراث الثقافي المشترك ورغبتنا في المساهمة بأي شكل ممكن في ترميم وإحياء هذا النصب التذكاري. قد يشمل ذلك في المستقبل تقديم نسخ من أعمال الكَلشني ومخطوطاته وبعض الكتب عن حياته وإرثه المكتوبة بالتركية.1809 torkish

التحديات والانتصارات

جذب نفوذ الكَلشني المتزايد في القاهرة انتباه العثمانيين. في عام 1525م، بعد تمرد الوالي أحمد باشا، استشعر الوزير الأعظم إبراهيم باشا خطراً في الكَلشني، قلقًا من عدد أتباعه وزواج ابنه أحمد خيالي من أميرة مملوكية. استُدعي إلى إسطنبول حوالي عام 1529م، وواجه اتهامات بالخيانة، جزئيًا بسبب تمسكه بفلسفة وحدة الوجود لابن عربي. فازت بلاغته ونزاهته بقلوب علماء مثل شيخ الإسلام كمال باشازاده، وأعجب به السلطان سليمان، الذي أمر بعلاج عينيه واستضاف مأدبة وداع تكريمًا له. رفض كَلشني البقاء في إسطنبول بسبب تقدُم عمره، تاركًا تلميذه حسن ظريفي لمواصلة رسالته، وعاد إلى القاهرة، حيث توفي في 23 أبريل 1534م خلال وباء الطاعون، حيث يقال إنه ضّحى بنفسه من أجل خلاص المدينة.

الإرث الأدبي والشعري

بلغ إنتاج الكَلشني الأدبي أكثر من 75,000 بيت شعري باللغات التركية والفارسية والعربية، يعكس إتقانه للفكر الصوفي والتعبير الشعري. تأثر بالرومي ويونس إمره ونسيمي وابن الفارض، ومزج أعماله بين فكره وفكر التصوف الخلوتي. تشمل أعماله الرئيسية:

- معنوي: مثنوي فارسي يتألف من 40,000 بيت، كتب في ديار بكر، تكريمًا لمثنوي الرومي، أشاد به كمال باشازاده لأسراره الإلهية.

-  ديوان شعر باللغة التركية: يحتوي على 1287 قصيدة، يعكس تأثير يونس إمره، محفوظ في مخطوطات بأنقرة وإسطنبول.

- ديوان شعر باللغة الفارسية: يضم 17,000 بيت، يعكس تأثير الرومي، له مخطوطة هامة منذ عام 1525م.

- ديوان باللغة العربية: يحتوي على 5000 بيت باسم القلم خليلي، مستوحى من التائية الكبرى لابن الفارض.

- كنز الجواهر: مجموعة رباعيات فارسية بـ7500 بيت، مرتبة أبجديًا.

- أعمال أخرى: تشمل بندنامة، قدمنامة، سيمورنامة، وچوبان ‌نامه.1810 torkish

غالبًا ما نُظمت أشعاره في تكايا الكَلشني، وقد تعززت بالتقليد الغنيً للموسيقى الدينية مع الطقوس المولوية. وفيما يلي ثلاث قصائد مع ترجماتها العربية:

أولاً: غزل (باللغة التركية)

النص الأصلي:

Bî-vücûdam aşk odı bilsem benüm nem yandurur

Yanuben küllî kül oldum bes dahı nem yandurur

Yandurur gerçi cihânda aşk odı âşıkları

Lik ben âciz kulunı katı muhkem yandurur

Âh idersem bir nefes dünyâyı oda yahuben

Yedi çarhı anun odı cümle derhem yandurur

Nice döysün aşk odınun sûzişine dil revân

Kim anun germiyyeti nâr-ı cehennem yandurur

Şem‘e bir pervâne yansa sûziş-i âvâz ider

Ma‘şûkun sözi meni gör nice ebsem yandurur

Ey ciger derdine dermân isteyen aklun kanı

Onılur mı şol yara kim anı merhem yandurur

Çünki derd imiş devâsı bu yürek yarasınun

Müşfik emsem isteme kim anı emsem yandurur

Rûşenî aşkına yanmışdur ciger dir Gülşenî

Aşk odı pervâne kimi anı her dem yandurur

الترجمة العربية:

لو علمتُ النارَ ما هذا الذي في القلبِ فاضطرمَتْ

قد صرت رمادًا تاماً، فبأيّ شيء بعدُ قد حرقتْ؟

*

لا شك أن نارَ العشقِ في الدنيا تُحرقُ العاشق

لكنها أحرقت هذا العبدُ الضعيفُ بقسوةٍ شدّتْ

*

لو تنفّستُ آهةً، لأضرمتْ نارًا تُفجّرُها

تحرقُ سبعَ السماواتِ، كلُّ ذَرّاتِها اشتعلتْ

*

كيف يصبرُ قلبُ عاشقٍ من نارِ العشق ولهَبِه

وحرارتُها قد فاقتْ نارَ الجحيمِ إذا اشتدتْ؟

*

إنْ احترقَ الفَرَاشُ شوقًا عندَ الشمعةِ كان بأنين الطربْ

وانظرْ إليّ، بكلمةٍ منْ المحبوب صمتا كيف احترقتْ

*

يا منْ يفتّشُ للعليلِ عنِ الدواءِ، فأينَ عقلُكَ؟

أيُداوى الجرحُ ذاكَ إذا كانَ بلسمُهُ احترقْ؟

*

إذْ دواؤُهُ هو داؤُهُ، يا قلبُ لا ترجُ الشفاءْ

فلو لامستُهُ برفقِ شوقٍ فبلطفه احترق

*

يقول الكَلشني إن قلبُ "روشنِي" قد ذابَ في نارِ العشقِ

فالعشق كفراشة في اللهيبِ كلَّ لحظةٍ فيها احترقتْ

ثانياً: غزل (باللغة التركية).

النص الأصلي:

Bana aşkun tarîkını nedür diyüp soran gelsün

Ayah koyanda ol yola başı terkin uran gelsün

Diriyle ölmeyen bilmez nedür aşkun tarîkını

Ölüp aşkıla dirinün düşin görüp yoran gelsün

Bu cân kuşı kanat açar muhabbet mülkine uçar

İkiden birlige kaçar o tayrâna giren gelsün

Şerî‘atla ayah basan tarîkat yolına cândan

Hakîkat yolını sorup yol eriyle varan gelsün

Yedi denizle altı sed geçenler irdi menzile

Geçüben bahr ile berden o menzile iren gelsün

Tarîkat mülkine şer‘ün elifden toğrıdur yolı

Hakîkat iklîmi içre üçini bir gören gelsün

İşidüp Gülşenî sözin muhabbet sırrıdur anlan

Diyende bir kılı yüz kez bu ma‘nîden yaran gelsün

الترجمة العربية:

من سألَ: ما دربُ العشقِ؟ فليأتِني يسعى

وليضعْ رأسَهُ أرضًا إذا خطا المسعى

*

من لم يمتْ بالعشقِ حيًّا، ما درى نهجَه

فليأت بعد أن يمتْ، ثم يحيى، ويدرك

*

إن طائرَ الروحِ إنْ حرّره الهوى طارَ إلى ديارِ المحبة،

فليأت من طار وتلاقى بروح العشق، وكان له هذا اللقاء وصار

*

فليأت منْ مشى بالشريعةِ قدمًا، وسلكَ الطريقَ

ثمَّ سارَ بالحقيقةِ ومع سالكيها ارتقَى وعلا

*

فليأت من خاضَ سبعَ بحارٍ، والجبالَ الست

واجتازَ برًّا وبحرًا، فالمقصدَ بلغَا

*

إن الطريقُ يبدأ بألف خطوة شريعة مستقيمة

فليأت من رأى الحقائق الثلاثة سويا

*

فليصغِ من فهِمَ الأسرارَ في نطق الكَلشني

فليأت من أذاق فهم هذا المانع مئة مرة

ثالثاً: رباعية (باللغة التركية)

النص الأصلي:

Yine ol Yûsuf-ı sâni

Gelür dirler gelür dirler

Güzeller Mısrı sultânı

Gelür dirler gelür dirler

*

Gözüm segrür kulah çınlar

İşidüben gönül inler

Ki cândan sevgülü dilber

Gelür dirler gelür dirler

*

Beni benden alan meyli

Gözümden ahıdan seyli

Gönül Mecnûnına Leylî

Gelür dirler gelür dirler

*

Eger bir dem kalam ansuz

Oluram gûyiyâ cânsuz

O derdi bana dermânsuz

Gelür dirler gelür dirler

*

Niçe bir intizârından

Soraram reh-güzârından

İşidürem çü erenden

Gelür dirler gelür dirler

*

Düşeli araya firkat

Bişürdi bağrumı hasret

Kime sorsam o bî-mürvet

Gelür dirler gelür dirler

*

İşidüp Rûşenî-perver

Gönüller mülkine server

Yetene Gülşenî sorar

Gelür dirler gelür dirler

الترجمة العربية:

يتسألون أعادَ يوسفُ الثاني،

قالوا سيعود حتماً سيعود

سُلطانُ مِصرَ،

جميلُ الحُسنِ، حتماً سيعود

*

إذا نادوا بقدومِه،

رعشتْ أذني ودمعتْ

وأنين روحي من حنينٍ في فؤادي

قالو سيعود حتماً سيعود

*

هو مَن سلبَ الفؤادَ

بنظرةٍ فيها السحرْ

من في شوقِه عيني كفيضِ الدمعِ غَرْ

قالوا سيعود حتماً سيعود

*

قلبي لِعشقِه ليلى، وهو مجنونُ القَدَرْ

يقولونَ سيعود حتماً

إنْ غابَ عني لحظةً

كأني لستُ حياً

*

فهو دواء فيَّ داءٌ

لا دواءَ لهُ،

ولا شِفَاءْ

قالو سيعود حتماً سيعود

*

طيفُهُ مرَّ،

سألتُ الناسَ

عن دربِ اللقاءْ

قالوا سيعود، حتماً سيعود

*

من يومِ الفراق،

نارُ الشوقِ أحرقَتِ الضلوعْ

سألتُ عن قاسي الجَنانِ،

قالوا سيعودُ حتماً سيعود

*

يا عاشقَ النورِ اسمع،

يا مُحبَّ أبصر، "روشنِي" يُنادي،

يسألُ "گُلشني" البصيرْ

عن محبوبِ القلوبِ،

هل أتى؟ قالوا سيعود حتماً سيعود1811 torkish

مجمع الكَلشنية: منارة ثقافية

لم يكن مجمع الكَلشني في القاهرة مجرد مركز ديني، بل مركزًا ثقافيًا نابضًا بالحياة للشعراء والخطاطين والموسيقيين. جذب شخصيات مثل ينيجلي أصولي وحسن سزايي، ورعى أكثر من ثلاثين شاعرًا وخمسة عشر موسيقيًا، كما أشار أولياء جلبي، الذي أشاد بدوره في الحفاظ على الشعر الموسيقي التركي. وتضمنت مراسم الذكر في التكية استخدام الناي والدف والقدوم، مما يعكس الممارسات المولوية، مع نظم أشعار الكَلشني للموسيقى. عكست العمارة المستوحاة من المماليك، ببلاطها المتضافر وتصميم الضريح الفريد في الفناء، مزجًا بين التقاليد العثمانية والمصرية، مدعومًا بأوقاف من المتاجر المحلية.

أثر دائم

يستمر إرث الكَلشني من خلال الطريقة الكَلشنية، التي انتشرت من القاهرة إلى تبريز وإسطنبول والبلقان، فجمعت بين الحياة الروحية والفنية. دمجت عناصر كلٍّ من الخلوتية والمولوية والحروفية لتشكل نهجا تقليديًا صوفيًا فريدًا. أيضاً فإن أشعاره قد أثرت الأدب التركي. يبقى المجمع الكَلشني شاهداً تاريخياً على ذلك الإرث، حيث تلاقى الإيمان والفن والمجتمع. كما يروي مُحبي، حتى بعد وفاته، اعتقد تلاميذه أنه بقي في خلوة روحية، مما يعكس تأثيره العميق. من خلال حياته وأعماله ومجمع الكَلشني، أنار إبراهيم الكَلشني طريق العشق الإلهي والوحدة، تاركًا بصمة لا تُمحى في العالم الإسلامي.

***

صالح موطلو شن

سفير جمهورية تركيا بالقاهرة

كان جياني فاتيمو فيلسوفًا ومعلقًا ثقافيًا إيطاليًا. درس في تورينو بإيطاليا على يد لويجي باريسيون، وفي هايدلبرغ على يد هانز جورج غادا مير. تتمحور فلسفة فاتيمو حول تأثيرات الوجودية وما بعد الحداثة المبكرة لكل من نيتشه وهايدغر وغادا مير وكون. كما برز خارج الأوساط الفلسفية من خلال نشاطه السياسي في دعم حقوق المثليين، ومن خلال عضويته في البرلمان الأوروبي. كان لأفكاره تأثير واسع النطاق في مجالات مثل النسوية، واللاهوت، ودراسات الجنسانية، والعولمة.

في فلسفته، يستكشف فاتيمو العلاقة بين ما بعد الحداثة والعدمية، متعاملاً مع العدمية بإيجابية لا كأمرٍ ينبغي تجاوزه. يستند فاتيمو إلى الإنجاز النظري لكل من نيتشه وهايدغر، و"علامات العصر". يشير فاتيمو بهذه الأخيرة إلى التعددية الاجتماعية والسياسية وغياب الأسس الميتافيزيقية التي يعتقد أنها تُميّز الحداثة المتأخرة، وهو مصطلح يستخدمه فاتيمو للإشارة إلى المجتمعات المتقدمة في حالتها الراهنة لإظهار ارتباطها بالحداثة؛ ويوحي مصطلح "ما بعد الحداثة" بانقطاعٍ أكبر مما يود فاتيمو. يعتقد فاتيمو أن المجتمعات المتقدمة تشهد "تعددًا في التفسيرات"، إذ لم يعد من الممكن، بسبب وسائل الإعلام وحركة الشعوب المتزايدة، الاعتقاد برؤية واحدة سائدة للعالم. يرى فاتيمو أن تحرير هذه التفسيرات ممكن، لأنه لم يعد بالإمكان تصور الوجود كأساس، أي الكون كنظام عقلاني ميتافيزيقي منظم بالأسباب والنتائج. بدوره، يُعزى انعدام المعقولية في التأسيسية إلى "حدث" موت الله (سيتم شرح كل من فكرة الوجود كأساس وحدث موت الله لاحقًا). يُكرّس فاتيمو جزءًا كبيرًا من عمله لشرح كيف أن النظرة الفلسفية الغربية الحديثة المتأخرة الوحيدة المعقولة هي "العدمية التأويلية". وبصورة عامة، هذه هي النظرة القائلة بأنه "لا توجد حقائق، بل تفسيرات فقط"، على حد تعبير دفاتر نيتشه غير المنشورة (كولي ومونتيناري، 1967، VIII.1، 323، 7 [60]). ويقوم فاتيمو أيضًا بالتحقيق في آثار هذا الموقف على الدين والسياسة والأخلاق والفن والتكنولوجيا ووسائل الإعلام.

اشتهر فاتيمو بأسلوبه الفلسفي القائم على "الفكر الخفيف او الضعيف" (pensiero debole). "الفكر الضعيف" هو محاولة لفهم وإعادة صياغة آثار تاريخ الفكر بما يتوافق مع ظروف ما بعد الحداثة. ويهدف هذا "الفكر الضعيف" إلى إرساء أخلاقيات "الضعف". وترتبط جهود فاتيمو في إرساء أخلاقيات ما بعد الحداثة ارتباطًا وثيقًا بعودته إلى الدين منذ أواخر الثمانينيات، وهي نقطة مهمة في تطوره الفكري. كما شكّل اهتمامه المتجدد بالدين نموذجًا للعودة إلى الانخراط الفلسفي في الشيوعية والالتزام بها.

١. حياته

وُلد جياني فاتيمو في الرابع من يناير عام ١٩٣٦ في تورينو، إيطاليا. التحق بمدرسة دينية في طفولته. وقد دفعته هذه البيئة الكاثوليكية المتشددة إلى الانخراط في جماعات الشباب الكاثوليكية مثل "أزيون كاتوليكا". بعد إتمام دراسته، درس فاتيمو في جامعة تورينو على يد لويجي باريسون. وتخرج عام ١٩٥٩ بأطروحة عن أرسطو نُشرت عام ١٩٦١. ولتمويل دراسته، عمل فاتيمو كمقدم برامج تلفزيونية وفي مدرسة ثانوية محلية. وفي الوقت نفسه، كان فاتيمو يتعاون بشكل وثيق مع باريسون. وخلال هذه الفترة، شارك فاتيمو أيضًا في أنشطة احتجاجية، بما في ذلك الاحتجاجات ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

صرح فاتيمو أنه توقف عن كونه كاثوليكيًا عندما "توقف عن قراءة الصحف الإيطالية" بعد ذهابه للدراسة في ألمانيا (فاتيمو وباترليني، 2009: 27). سعى من خلال هذه الملاحظة إلى الإشارة إلى أن الكاثوليكية والثقافة الإيطالية كانتا مرتبطتين ارتباطًا وثيقًا في ذلك الوقت. في عام 1963، حصل فاتيمو على زمالة هومبولت لمدة عامين وكان يعيش في هايدلبرغ بألمانيا، حيث درس على يد كارل لويث وهانز جورج جادا مير. عاد فاتيمو إلى تورينو بعد انتهاء زمالته، وتولى منصب أستاذ مساعد في الجامعة في عام 1964 لتدريس علم الجمال، وخاصةً نظريات هايدغر. في عام 1968 أصبح فاتيمو أستاذًا متفرغًا لعلم الجمال في جامعة تورينو. في عام 1969، أنهى فاتيمو ترجمته لكتاب "الحقيقة والمنهج" لغا دامير إلى الإيطالية (نُشر عام 1970). خلال سبعينيات القرن العشرين، نشر فاتيمو العديد من الكتب، بما في ذلك كتابه المفضل شخصيًا، وهو العمل الذي نشره عام 1974 تحت عنوان Il soggetto e la maschera ("الموضوع والقناع").

لخيبة أمل باريسون، أصبح فاتيمو ماويًا بعد قراءة أعمال ماو أثناء وجوده في المستشفى عام 1968. ومع ذلك، لم يُنظر إلى فاتيمو على أنه ثوري بما فيه الكفاية من قبل بعض الجماعات. في عام 1978، هددت الألوية الحمراء فاتيمو، ونشرت معلومات في وسائل الإعلام حول مثليته الجنسية. علاوة على ذلك، كان بعض طلاب فاتيمو متورطين في الإرهاب في ذلك الوقت. عندما تلقى فاتيمو رسائل من بعض طلابه المسجونين، أدرك أنهم كانوا يحاولون تبرير أفعالهم على أسس ميتافيزيقية. ساهمت هذه الأحداث في إعادة فاتيمو النظر في موقفه النظري. كانت ثمرة هذا التأمل مفهوم فاتيمو عن "الفكر الضعيف": أن تاريخ الميتافيزيقيا الغربية هو تاريخ إضعاف البنى القوية (البنى المعرفية التي تدعي تزويد التفكير بمبادئ ومعايير ثابتة للحكم)، وأن الفلسفة يجب أن تكون "مغامرة اختلاف". من خلال هذه الادعاءات، يحاول فاتيمو التعبير عن وجهة نظر مفادها أنه لا ينبغي السعي إلى حلول فلسفية ثابتة أو إلى يقين في المعرفة، بل ينبغي تبني التأويلات اللامتناهية التي تُشكل الحداثة المتأخرة. خلال هذه الفترة، كتب فاتيمو بعضًا من أشهر كتبه، مثل "نهاية الحداثة" و"المجتمع الشفاف".

هناك مواضيع ومعتقدات متكررة في حياة فاتيمو، وخاصة فلسفات نيتشه وهايدغر، والشيوعية، والدين. وقد عاد الدين إلى حياة فاتيمو بشكل كبير منذ أواخر الثمانينيات والتسعينيات. يصعب تصنيف إيمانه، كونه شكلاً غير عقائدي وفريدًا للغاية من الكاثوليكية التي نشأ عليها. فاتيمو "يحمد الله" على أنه ملحد، ويقول إنه "يؤمن بأنه يؤمن"، وقد ربط إيمانه ارتباطًا وثيقًا بفلسفته في الفكر الضعيف. كما عاد إلى الشيوعية التي اعتنقها في سنوات شبابه، وإن كان بطريقة "ضعيفة" مماثلة. وبصرف النظر عن إنتاجه النظري، كان فاتيمو نشطًا سياسيًا وانتُخب عضوًا في البرلمان الأوروبي عام 1999. ومنذ تقاعده من منصبه الجامعي في تورينو عام 2008، استمر في النشر بغزارة. توفي في تورينو سنة 2023.

٢. نهاية التاريخ

يُجادل فاتيمو بأن التجربة الغربية لما بعد الحداثة هي تجربة نهاية التاريخ. ويعني بذلك أن نظرتنا للماضي لم تعد أحادية الخط. ويقصد فاتيمو بـ"أحادية الخط" طريقةً كتابة التاريخ ورؤيته، حيث تنظر الى التاريخ كسلسلة أحداث واحدة، غالبًا ما تسعى لتحقيق هدف معين، وتُعطي الأولوية لتفسير واحد للماضي. ويجادل فاتيمو بأنه لم يعد هناك سرد متماسك مقبول في الغرب. فالسردية الحديثة النموذجية كانت سردية التقدم، سواءً تعلقت بالابتكار العلمي والتكنولوجي، أو بزيادة الحرية، أو حتى بتفسير ماركسي للتاريخ. ولكي تكون هذه السردية متماسكة، يجب أن تنظر إلى الماضي من منظور السبب والنتيجة. يجب أن ترى ما حدث سابقًا مُحددًا للحاضر، وبالتالي للمستقبل. ووفقًا لفاتيمو، يفقد التاريخ طابعه الأحادي الخطي بثلاث طرق رئيسية: نظريًا، وديموغرافيًا، ومن خلال صعود مجتمع التواصل العام. بالنسبة للطريقة الأولى، يلجأ فاتيمو إلى مقال والتر بنيامين "أطروحات حول فلسفة التاريخ" (1938)، حيث يجادل بنيامين بأن التاريخ أحادي الخط هو نتاج صراع طبقي. فالأقوياء - الملوك والأباطرة والنبلاء - يصنعون التاريخ بطريقة محروم منها الفقراء. ويقر فاتيمو بأن بنيامين كان يتحدث من تقليد ناشئ، بدأه بالفعل ماركس ونيتشه، وهي رؤية التاريخ على أنه مبني على أساس غير محايد. ونظرًا للطبيعة الانتقائية والمثقلة بالسلطة للتاريخ أحادي الخط، يستنتج فاتيمو أنه من الخطأ الاعتقاد بوجود تاريخ حقيقي واحد فقط. فهذا الإدراك له عواقب وخيمة على فكرة التقدم. فإذا لم يكن هناك تاريخ واحد فريد بل تواريخ متعددة، فلن يكون هناك هدف واضح واحد طوال التطور التاريخي. وينطبق هذا ضمنيا على علم الآخرة المقدس كما ينطبق على الآمال الماركسية العلمانية في الثورة العالمية وتحقيق مجتمع بلا طبقات. في أوروبا الحديثة، حيث ازدهر مفهوم التاريخ الأحادي الخطي، ساهمت التأثيرات الديموغرافية في تقويض هذا المفهوم. وعلى وجه الخصوص، أدت الهجرة الجماعية إلى بروزٍ أكبر للتاريخ البديل.

علاوة على ذلك، يُعدّ تمرد الشعوب المحكومة سابقًا موضوعًا شائعًا في التاريخ. ومع ذلك، يُصبح هذا التمرد ما بعد حداثي في سياق عصر الاتصالات الجماهيرية وتداعيات الحربين العالميتين. وبالطبع، كانت أهمية الكلمة المطبوعة من السمات المميزة للإصلاح الديني. ومع ذلك، لم يُسهّل هذا الإصلاح التعبير الجماعي عن وجهات نظر بديلة والحفاظ عليها كما يفعل الراديو والتلفزيون، والأهم من ذلك، الإنترنت. لذا، يرى فاتيمو أن ظهور مجتمع الاتصالات الجماهيرية هو العنصر الرئيسي الثالث في "نهاية التاريخ" وبداية ما بعد الحداثة. يقترح فاتيمو:

(أ‌) أن وسائل الإعلام تلعب دوراً حاسماً في ولادة مجتمع ما بعد الحداثة؛ (ب) أنها لا تجعل هذا المجتمع ما بعد الحداثي أكثر "شفافية"، بل أكثر تعقيداً، وحتى فوضوية؛ وأخيراً (ج) أن آمالنا في التحرر تكمن في هذه "الفوضى" النسبية على وجه التحديد (فاتيمو، 1992: 4).

كُتب كتاب "المجتمع الشفاف"، الذي بيّن فيه فاتيمو بوضوح أفكاره حول نهاية التاريخ، قبيل الانتشار الواسع للإنترنت بين المستهلكين الغربيين. ومع ذلك، فإن تحليل فاتيمو للاتصال الجماهيري ينطبق بقوة أكبر في ضوء آثار استخدام الإنترنت على نطاق واسع. فبينما أتاحت محطات التلفزيون والإذاعة البديلة المجال لمجموعات أكثر، فإن تويتر وفيسبوك والمدونات ومنتديات الإنترنت تذهب إلى أبعد من ذلك، إذ تتيح لأي شخص ذي وصول محدود إلى التكنولوجيا التعبير عن رؤيته للعالم. يُقر فاتيمو بأن هذه النظرة لتأثير ثقافة الاتصال الجماهيري تتناقض مع مواقف أدو رنو وهوركهايمر وأور ويل، الذين توقعوا أن تجانس المجتمع سيكون نتيجةً لتكنولوجيا الاتصالات هذه. إضافةً إلى ذلك، وبناءً على قراءته لنيتشه، لا يؤمن فاتيمو إلا بإمكانية التفسيرات، لا بالحقائق. ومع ذلك، يبذل جهدًا كبيرًا لإثبات أن تشخيصه لوضع الحداثة المتأخرة هو تفسير مُقنع. ويزعم تحديدًا أنه يُعطي أفضل فهم ممكن للتعددية التفسيرية التي يراها من حوله.

يرى فاتيمو أن حرية المعلومات وتعدد وسائل الإعلام تُلغيان إمكانية تصور واقع واحد. ولهذا عواقب معرفية، إذ أن تعدد التواريخ والأصوات في عصر الاتصالات الجماهيرية يُبرز العقلانيات والأنثروبولوجيات المتعددة. وهذا يُقوّض إمكانية بناء المعرفة على أسس مُحددة. وهكذا، يضعف الميل إلى تعميم وفرض رؤية واحدة لكيفية تنظيم العالم على الآخرين. ونتيجةً لذلك، يرى فاتيمو في أواخر الحداثة تحقق نبوءة نيتشه عن تحول العالم إلى أسطورة. أي أن فاتيمو يرى استحالة إيجاد حقيقة موضوعية بين الصور المُستقاة من وسائل الإعلام: فلا سبيل للخروج منها، أو أن يكون مُشاهدًا محايدًا لها. إن تفكك المفهوم الأحادي للتاريخ، وتداعياته على الرؤى الحديثة حول المعرفة والواقع، يُحرر الاختلافات من خلال السماح للعقلانيات المحلية بالظهور.

***

علي حمدان

 

في أواخر القرن الرابع عشر انطلق شاب من منحدرات ألانيا المُشمسة - وهي مدينة ساحلية في جنوب تركيا- في رحلة تردد صداها عبر العصور. كان اسمهُ علاء الدين غيبي، لكن التاريخَ سيخلده لاحقًا باسم " قايغوسوز أبدال".. الشاعر الصوفي، والدرويش؛ والولي الصالح الذي نسجت حياته بين مرتفعات الأناضول الوعرة وشوارع القاهرة القديمة. فقصته هي قصة تمردٍ روحي، وتألقٍ شعري، وإرثٍ نسج طريقة البكتاشية في النسيج الثقافي للبلدين؛ فمن تكايا تركيا إلى تلال المقطم في مصر، يظل تأثير قايغوسوز أبدال مستمرًا. ليس فقط في الأبيات التي تركها وراءه، بل في قلوب من لا يزالون يرددون اسمه بإخلاص.

ابن نبيل في ألانيا

وُلد قايغوسوز أبدال في النصف الأخير من القرن الرابع عشر في مدينة ألانيا - التي كانت تُعرف آنذاك باسم علائية، ونشأ في وسط مميز. فعلى الأرجح كان ابن بِك المدينة - بِك ألانيا (أميرها)، وكان والده ذي صلةٍ بسلالة قرمان أوغلو أو الأتراك السلاجقة في الأناضول، وتوحي ظروفُ نشأته المبكرة باتجاهه نحو السلطة - ربما كحاكمٍ أو جندي. ومع ذلك فإنّ تفاصيل نسبه تظل غامضة، مثل ضباب البحر الأبيض المتوسط الذي يُظلل سواحل ألانيا. كانت ألانيا ميناءً يختلط فيه التجار والعلماء والصوفية، وعلى الأرجح شكلت هذه التقاطعات الثقافية النابضة بالحياة فكر الشاب علاء الدين، معرضةً إياه للتيارات الروحية التي امتدت من خُراسان إلى الأناضول، من خواجه أحمد اليسوي حتى أبدال موسى وصاري صالتوك. إلّا أنَّ لقاءً واحدًا سيضعه على أعتاب مسارٍ بعيد عن الطموحات الدنيوية.

الغزال والدرويش

تمتزج قصة تحول قايغوسوز أبدال الروحي بالأسطورة. فقد كان علاء الدين - كأي شاب نبيل - يصطاد بالقرب من ناحية " إلمالي" عندما أطلق سهمه على غزال؛ فرّ منه الحيوان الجريح إلى تكية أبدال موسى- وهو شيخ بكتاشي مرمُوق، فتعقب الصيادُ الشاب طريدته حتى التكية؛ ولدهشته وجد علاء الدين أمامه الشيخَ أبدال موسى والسهم قد انغرس في جنبه - بشكلٍ مُعجزٍ، كان هذا تنبيهًا إلهيًا هز كبرياء الشاب وزهوه؛ ومفتونًا بجلال هذا المشهد تخلى علاء الدين عن طموحاته الدنيوية مقررًا الالتزام بالسير في الطريق الصوفي. وطوال أربعين عامًا، أقام علاء الدين في تكية أبدال موسى، منغمسًا في تعاليم الطريق البكتاشي عن الحب الإلهي والتوحيد. ومن هنا حصل على اسمه الجديد " قايغوسوز"، أي "الخالي من الهم"، إشارةً إلى تحرره من الهموم الدنيوية. كانت التكيّةُ ملاذًا متواضعًا من الحجر والروح، بوتقة تَشارَك فيها قايغوسوز مع الدراويش الطعام والصلوات والسعي نحو السمُو الروحي، فتحول قايغوسوز إلى شاعر وصوفي يتردد صوتهُ عبر القارات.

الرحلة الصوفية إلى مصر

بعد سنوات من الخدمة المخلصة، قام أبدال موسى باستدعاء قايغوسوز قائلاً له: "لا يمكن لأسدين أنْ يتشاركا عرشًا واحدًا، لذا فبإرادة الله انطلق إلى مصر وكنْ حارسها". وهكذا استعد قايغوسوز للرحلة بناءً على أمر أستاذه مُكلفًا بمهمة "حارس مصر". في ذلك الوقت، كانت تكية أبدال موسى في بيسيديا تضم أربعين درويشًا وكل منهم يرشد أربعين آخرين. وفي صباح يوم رحيل قايغوسوز، تجمع ألف وستمائة وأربعون دراويشًا أمام التكية، في دلالة على الأهمية الروحية لهذه اللحظة. واختار أبدال موسى منهم أربعين لمرافقة قايغوسوز، بينما ودّعه الباقون وصلواتهم تتبعه كنسيم رقيق.

من ميناء " فينيكه" في أنطاليا، أبحرَ قايغوسوز ورفاقه الأربعون إلى مصر، وقطعت سفينتهم عرض البحر الأبيض المتوسط الفيروزي. لم تكن الرحلة مجرد انتقال مكاني، بل كانت أوديسة صوفية مشبعة ببركة الأمر الإلهي. وفقًا للعالم فؤاد كوبرولو، نقلاً عن مخطوطة نادرة من "مناقب قايغوسوز أبدال"، كتب أبدال موسى رسالة إذن وتفويض لقايغوسوز. ولعدم وجود مكان مناسب لحفظ الرسالة؛ فقد فتت قايغوسز الرسالة وشربها مع اللبن الرائب (العيران)، مخلدًا ذلك الإذن في قلبه. ومن تلك اللحظة تدفقت ينابيع الحكمة من قلبه، ومع أربعين درويشًا انطلق قايغوسز في مهمته المقدسة فوصل إلى القاهرة في أوائل القرن الخامس عشر، وعند وصوله أسس " تكية قصر العيني" بين عامي 1403 و1404، بالقرب من تلال المقطم. وقد عُرف قايغوسز في القاهرة باسم عبدالله المغاروي، أو "عبد الله الساكن في الغار"، وعاش حياة زاهدةً، مملوءة بالتأمل والشعر. وقد صارت هذه التكية - إلى جانب التكايا الثلاثة في حاجي بكتاش والنجف وكربلاء، واحدة من الأربع تكايا المباركة في طريقة البكتاشية، مما يمثل دليلاً على مكانة قايغوسوز الرفيعة في أعين البكتاشية، التي تجاوزت حتى مكانة أستاذه الموقر أبدال موسى.1797 sami

ويُقال إنَّ قايغوسوز كانَ أول من ارتدى التاج الأبيض (القبعة البيضاء) المميز بأربعة أركان ترمز إلى البوابات الروحية الأربعة (الشريعة، والطريقة، والمعرفة، والحقيقة). ويوجد بهذا التاج اثنتى عشرة طيّة ترمز إلى الأئمة الاثني عشر. ويُعرف بالتاج الحيدري أو الحسيني أو القلندري، ويُنسب اختراعه إلى إبداع قايغوسوز. وفي تكايا البكتاشية يخصص أحد المقاعد الاثنى عشر في مجلس الذكر للنقيب ممثلاً قايغوسوز نفسه، في إشارةٍ إلى حضوره الدائم؛ كما يردد بيت شعر تقليدي بمثابة "دعاء عند ارتداء هذا التاج” احتفاءً بهذا الزي الأيقوني تبركًا بقايغوسوز، لتأكيد إرثه في التقاليد الروحية والدينية في الطريقة؛ ورغم أن قايغوسوز لم يعُد إلى الأناضول أبدًا، إلاّ أن قبره في المقطم يظل ضريحًا مباركًا بما يمثله من شهادة باقية على حضوره الدائم.

صوت الشاعر: نسيج إلهي

شعر قايغوسوز أبدال هو قلب إرثه بنسيجه النابض بالفكاهة والسخرية والروحانية العميقة، وقد كتب قايغوسز الشعر بنوعيه: الوزن الهجائي (المقطعي)، والوزن العروضي (الإيقاعي)، وأنتج أعمالًا مثل "بودال نامه"، والديوان (الذي يضم أكثر من ١٣٠قصيدة)، و"مغلاطه"، و“وجودنامه”، و“دلگوشا”، و“صارينامه”، و”جولستان” الضخم غير المكتمل (٣٧٠٠ بيت)؛ أبيات شعره غالبًا ما تكون ساخرة وجريئة، كأنَّها ترقص بين الأرضي والإلهي، تدعو القُراء للضحك بينما يتأملون الأبدية. وبذلك كان قايغوسوز أولَّ من تبع أسلوب ومنهج يونس إمره، الشاعر التركي الأناضولي العظيم، وبذلك عزز قايغوسوز مكانته في التقليد الأدبي العلوي-البكتاشي. وفي شعره المسلي والغامض، يمزج قايغوسوز الصور الحية بالرؤى الصوفية، كما يظهر في أعماله مثل " كوجا تانري" و"درويشليك".

الطقوس والتلاوات وأنشطة البر الاجتماعي

كانت طريقة البكتاشية، التي شكلها قايغوسوز، أسلوبَ حياةٍ منسوجًا بالطقوس، تمتزجُ فيه التلاوات، وأعمال الخير؛ وكانت تكاياه في مصر وتركيا مراكز للعبادة الجماعية، تُقام فيها مراسم "الجم" التي تجمع الدراويش للموسيقى، وقراءة الشعر والذكر. كانت قصائد قايغوسوز النفسية، غالبًا ما تُرافق بالساز (آلة موسيقية تركية ذات أوتار)، فتوجه المشاركين في سماعها إلى النشوة الروحية. وقد جسدت هذه التجمعات قيم البكتاشية - المساواة، الحب، والوحدة – وكانت تتضمن جلوس الرجال والنساء معًا، يتقاسمون وجبات: "اللقمة" في انعطاف ثوري عن الممارسات التقليدية. وكانت الصدقات أمرًا أساسيًا؛ وزعت التكايا الطعام على الفقراء، معبرةً عن تأكيد قايغوسوز على العدالة الاجتماعية؛ بينما مثلت تقوّاه الممزوجة بالزهد دعوةً للجميع إلى المأدبة الإلهية، حيث خاطب الدراويش بعضهم بـ"جان" (الروح)، مما عزّزَ فضاءات الحوار والضحك.

التأثير في تركيا ومصر

كان قايغوسوز فعالاً في نشر طريق حاجي بكتاش ولي، مؤسس طريقة البكتاشية، قبل تنظيمها الرسمي؛ وشكل شعرهُ الهوية الروحية والثقافية للأناضول، بمثابة جسر بين الصوفية الباطنية وحياة الناس اليومية؛ وفي مصر، أرسى تأسيس " تكية قصر العيني" عام ١٤٠٣م في عصر المماليك تقاليد البكتاشية ضمن المشهد الديني للقاهرة. وقد وصف الرحالة العثماني أوليا جلبي، الذي زار القاهرة عام ١٦٧٢م، التكية بأنَّها الأكبر بين ثلاث تكايا بكتاشية في القاهرة، حيث يتسع فناؤها لما يصل إلى ١٠٠٠ شخص؛ وأثنى أوليا جلبي على الأخلاق العالية للدراويش وأهمية مراسم الذكر الروحية، التي تضمنت شعر أبدال موسى وقايغوسوز. كانت التكية تتيح أيضًا تعليمًا قرآنيًا مجانيًا وتوزع الخبز الأبيض مجانًا كما أشار جلبي؛ وأكد ذلك الشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته عام ١٦٩٣م.

وذكر اوليا جلبي وجود تكية أصغر بالقرب من قلعة صلاح الدين، سُميت باسم قايغوسوز، وذكر انها كانت تضم ٢٠ درويشًا وأنها خدمت جنود الإنكشارية غير المتزوجين، مما يبرز صلات الطريقة بالنخبة العسكرية العثمانية. وظلت تكية قصر العيني مركزًا حيويًا تحت قيادة الشيوخ المتعاقبين، حتى الشيخ أحمد سري دده بابا، الذي يعد آخر قادتها البارزين عام 1934، الذي سعى لإظهار حفاظه على إرثه الصوفي سواء بارتداء تاج قايغوسوز أوكيجة البيضاء المزينة بنقوش رمزية.

طريقة البكتاشية وأسرة محمد علي

وجدت طريقة البكتاشية رعاية كبيرةً تحت سلالة محمد علي (1805-1953). كان طوسون باشا، ابن محمد علي باشا، وهو شخصية شعبية مشهورة حتى في تركيا الحديثة، بكتاشيًا مخلصًا، كما ظهر هذا الانتماء عند شخصيات تالية له مثل: زوجة أخيه إبراهيم باشا "ألفت قادن"، التي ضمنت نقوش الذكر البكتاشي في ترميمها مسجد فاضل عام ١٨٦١م. بينما أعاد الخديوي إسماعيل تكية المقطم إلى سيطرة البكتاشية عام ١٨٦٨م، مع تجديدات إضافية عام ١٨٧٣م، خلدت بشعر منقوش في مدخلها؛ كذلك كان من الداعمين للطريقة ابنته الأميرة نعمة الله إسماعيل، وحفيده الأمير كمال الدين حسين، وشقيقته الأميرة كاظمة (ابنة السلطان حسين كامل ومالكة الأصلية لمقر السفارة التركية في الجيزة). وإضافةً لأسرة محمد علي، كانت أُسر أخرى من النخبة التركية والمصرية مثل أسرة شيرين من الذين استمروا في دعم الطريقة ورعايتها، مما يؤكد مكانة الطريقة في الأوساط السياسية والثقافية المصرية.

الإسهامات الثقافية والانحسار

يُوّثق كتاب "الرسالة الأحمدية" لأحمد سري دده بابا (١٩٣٤، ١٩٣٩) ممارسات التكية وتاريخها ويُشير إلى شخصيات مثل الشاعر أحمد رامي، الذي زينت أبياته المستوحاة من البكتاشية مدخل التكية؛ وتضمنت ترجماته لرباعيات عمر الخيام لمحات بكتاشية. كما عززت أعمال الخطّاط الشيخ عبد العزيز الرفاعي الإرث الثقافي للتكية. ومع ذلك، تراجعت رؤية طريقة البكتاشية في مصر خلال القرن العشرين؛ ولا يزال شعر قايغوسوز يتردد في مراسم "الجم" العلوية-البكتاشية في تركيا وبين مجتمعات بكتاشية صغيرة في مصر.1798 sami

إرث محفور بالشعر والحجر

يمتد إرث قايغوسوز أبدال عبر الأدب والروحانية في تراث البكتاشية، يُوقّر فوق إرث أستاذه أبدال موسى، وصورته— مزينة بالتنورة، والتاج الحيدري، التسليم، والكمر— تزين التكايا. وتوجد منمنمة مصغرة بريشة لفني في متحف قصر طوبقابي توثق صورة قايغوسوز أبدال، فيما يمثل شهادة بصرية نادرة؛ في تركيا، تتردد أبياته في طقوس العلوية-البكتاشية؛ وفي مصر، يُعرف قبره في المقطم باسم مقام عبدالله مغاروي. حياته— متجذرة في ألانيا، متصلبة في إلمالي، ومتحققة في القاهرة— تجسد المثل الصوفي للتجوال نحو القرب الإلهي. كما كتب في "درويشليك": "يقول قايغوسوز، أيها الروح، انظر الله بقلبك، / إن لم تمتلئ بالحب، لن تجد الأسرار." بالنسبة لقايغوسوز أبدال، كانت الرحلة دعوةً، نداءً لرفع الستار والتجوال معًا نحو الأبدية.

قصيدتان مختارتان

أولاً: " نفس"

** Beğlerimiz, elvan gülün üstine Ağlar gelür şahum Abdal Musa’ya Urum abdalları postun eğnine Bağlar gelür şahum Abdal Musa’ya Urum abdalları gelir dost deyü Eğnimüzde aba, hırka, post deyü Hastaları gelür, derman isteyü Sağlar gelür şahum Abdal Musa’ya Meydanında dara durmuş gerçekler Çalınur koç kurbanlara bıçaklar Döğülür kudümler altun sancaklar Tuğlar gelür şahum Abdal Musa’ya Benim bir isteğüm vardır Kerim’den Münkir bilmez, evliyanın sırrından Kaygusuz’um ayru düşdüm pirimden Ağlar gelür şahum Abdal Musa’ya.

"الترجمة"

سادتنا، فوق الوردة الملونة، يبكون يأتون إلى شاهي أبدال موسى؛ أبدال الأناضول، على أكتافهم الجلد، يرتبطون، يأتون إلى شاهي أبدال موسى. أبدال الأناضول يأتون قائلين: "يا صديق" على أكتافنا عباءة ورداء جلد؛ مرددين: المرضى يأتون طالبين العلاج، الأصحاء يأتون إلى شاهي أبدال موسى. في ميدانه وقف الصادقون عند المشنقة، تُضرب السكاكين لقرابين الكباش، تُدق الطبول، ترف الأعلام الذهبية، معايير تأتي إلى شاهي أبدال موسى. لدي أمنية واحدة من الكريم، الجاحدُ من لا يعرف سر الأولياء، أنا قايغوسوز، انفصلت سقطت من سيدي، أبكي آتي إلى شاهي أبدال موسى.

"التفسير السياقي"

نبلاؤنا، مزينون بالفضائل النابضة، يأتون باكين إلى ملكي، أبدال موسى. دراويش الأناضول، على أكتافهم الجلود، يأتون مخلصين لملكي، أبدال موسى. دراويش الأناضول يصلون، معلنين الصداقة، يلبسون عباءات أردية، وجلود؛ يعلنون: المرضى يطلبون الشفاء، الأصحاء يطلبون الهداية، الجميع يسافر إلى ملكي، أبدال موسى. في محكمته المقدسة، يقف الأتقياء مستسلمين، السكاكين تقدم الكباش قرابين، الطبول تقرع، والأعلام الذهبية ترتفع، معايير مقدسة تجتمع لملكي، أبدال موسى. أطلب هبة من الإله، الجاهلون لا يدركون أسرار الأولياء، أنا، قايغوسوز، بعيدٌ عن سيدي، أبكي آتي إلى ملكي، أبدال موسى.

ثانياً: هذا الإنسان الذي يتحدثون عنه

**Bu Adem Dedikleri El ayakla baş değil Adem manaya derler Surat ile kaş değil Gerçü et ü deridir Cümlenin serveridür Hakkın kudret sırrıdır Gayre bakmak hoş değil Adem manay-ı mutlak Ademdedir nutk-ı hak Ademden gafil olma Nefsi de serkeş değil Ademdedir külli hal İlm ü hikmet güft ü kal Adem katından alem Dane-i haşhaş değil Adem odur ey hoca Gıdası mana ola Maksud ile düş değil Hayal ile düş değil Kendi özünü bilen Maksudun bulan kişi Hakk’ı bilen doğrudur Yalancı kallaş değil Bu Kaygusuz Abdal’a Aşık demen dünyada Nakş ü süret gezedir Maksudu nakkas değil

" التفسير السياقي"

ما يسمُونه "الإنسان" ليس يدين، أو قدمين، أو رأساً، إنه جوهر المعنى، ليس وجهاً أو حاجبًا. على الرغم من كونه لحمًا وجلدًا، فإنه يقود كل الخلق، سر الله المقدس— لا تنظر في مكان آخر. الإنسان هو المعنى المطلق، في داخله يتحدث الحق الإلهي، لا تكن غافلاً عن قيمة الإنسان، ولا تدع الأنا تتفلت. كلُّ حالةٍ تسكن في الإنسان، المعرفة، الحكمة، كلمات إلهية، من الإنسان ينبثق الكون، ليس بحبة خشخاش تافهة. أيها المعلم، الإنسان الحقيقي يعيش على الروح، لا يتأثر بالأحلام أو الخيالات، هدفه الغرض الإلهي، ليس الوهم، رؤيته الحقيقة، ليس الخيال. من يعرفون جوهرهم الخاص، من يجدون الغرض الإلهي، من يعرفون الله هم الصادقون، ليسوا خداعين كاذبين. أنا، قايغوسوز أبدال، أُدعى عاشقًا في هذا العالم، أتجول عبر الأشكال والصور، هدفي ليس صانع المظاهر، بل الجوهر الإلهي وراء الحجاب.

***

بقلم: صالح موطلو شن

سفير جمهورية تركيا بالقاهرة

 

قراءة إنسانية في ملامح البطولة

في خضم العاصفة السياسية التي اجتاحت العراق والمنطقة في خمسينيات القرن العشرين، يسطع اسم سلام عادل لا بوصفه رقماً في معادلة حزبية، بل باعتباره ضميرًا حيًّا ورمزًا استثنائيًا، اجترح من القيم والمبادئ جسورًا بين الشعب والحزب، ومن الحكمة صراطًا يهتدي به سالكو دروب الثورة. لم يكن قائدًا سياسيًا فحسب، بل إنسانًا يفيض وعيًا، ويمتاز برقّة الشعور، وشجاعة في الموقف، ونُبل في الفعل، لا تزعزعه عواصف الأنانية الحزبية، ولا تستهويه غوايات السلطة؛ بل مضى في طريقه متسلّحًا بالبوصلة الأخلاقية التي كانت تنبض في أعماقه.

سلام عادل في تلك المرحلة لم يكن صوتًا مرفوعًا في وجه الخصوم فحسب، بل ضميرًا وطنيًا يختزن بلاغة الفداء، ويجيد صمت الحكماء في زمنٍ غصّت به الشعارات وضجّت به السيوف ويتجللا ذلك في.

أولًا: مواجهة التفرد وإصراره على القيادة الجماعية (حميد عثمان نموذجًا)

حين تسلّم قيادة لجنة بغداد عام 1954، كانت المدينة ترزح تحت وطأة القمع الأمني، لكنه لم يكن من أولئك الذين يضطربون في الظلال، بل بدا كما لو كان عازفًا ماهرًا يُنَظّم إيقاع المقاومة وسط الضجيج. لم يكن قائدًا يوجّه من برج عاجي، بل من قلب الشارع، بين العمّال والطلبة والنساء الكادحات، حيث تُصاغ السياسات بلغة الحياة اليومية لا ببلاغة المكاتب.

من بين المبادرات التي قادها بروح إنسانية فريدة، كانت حركة أنصار السلام عام 1954، لم يطرحها كشعار أجوف، بل كمشروعٍ أخلاقي، رؤيويّ، يُجسّد السلام لا بوصفه نقيضًا للنضال، بل شريكًا فيه. السلام في عينه كان وليد الرماد لا الاستسلام، وسليل كدّ البسطاء لا رغد المنتفعين، وكان جزءًا لا يتجزأ من المشروع الوطني المقاوم.

ورغم حزم سلام عادل التنظيمي، فإن صفحاته تكشف عن روحٍ شفيفة: كان يُتابع الرفاق لا بعين الرقابة، بل برعاية من يعرف أن الحزب لا يُبنى بالأوامر، بل بالأفكار. كان يُعلّم، ويُشجّع، ويُصغي، ويصوغ حزبًا من العقول لا من التابعين. حتى في التفاصيل الصغيرة" كالنشرات ولغتها „لم يكن يفرض، بل ينصت لنبض الناس.

بلاغة الصمت ومهارة الحضور

في مواجهة العواصف الكبرى، اختار سلام عادل أن يكون جذرًا لا غصنًا، صمتُه لم يكن تراجعًا، بل موقفًا أبلغ من الخطب. حين كان بعض الرفاق يلوّحون بالمبادئ كما السيوف، كان هو يُذيب تلك الحِدّة في كأس الحكمة، صونًا للوحدة الحزبية، ودرءًا للتمزق الوطني.

وفي خضم التوترات الحادة: من مشروع الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، إلى العلاقة الشائكة مع عبد الكريم قاسم، مرورًا بأحداث كركوك واستقلال الكويت" لم يكن سلام عادل خطيب انفعال، بل صوت العقل والاتزان، لا يُساوم على الجوهر، ولا يُجرّ خلف ردود الفعل. وحين وقعت مجزرة 8 شباط 1963، لم يُطلِق خطاب وداع، بل غادر الدنيا بصمت المنتصر أخلاقيًا، تاركًا خلفه أثرًا لا يمّحي في ضمير البلاد.

ومن اللحظات الكاشفة عن معدن الرجال، كانت مواجهة سلام عادل لتفرّد حميد عثمان بالقيادة. لم تكن معارضته مدفوعة بطموح شخصي أو سعيًا للظهور، بل كانت تعبيرًا حيًّا عن التزامه العميق بمبدأ القيادة الجماعية، ذلك المبدأ الذي رآه تجسيدًا للديمقراطية الداخلية، واحترامًا لعقل الجماعة.

حين حاول عثمان أن ينسج خيوط الإقصاء عبر تكليفه بمهمّة شكلية لتفتيش منظمة "نوبية"، متوقعًا أن يصطدم بها تمهيدًا لعزله، كان رد سلام عادل نزيهًا ونافذًا. قبل المهمة، لكنه تساءل عن شرعية صفة "المفتش" التي لا أساس لها في النظام الداخلي للحزب. لم يكن سؤاله شكليًا، بل كان رسالة مبطّنة، فضحًا لانحراف المنهج، ودعوة للعودة إلى جذر المؤسسات، لا فروع الأهواء.

وعندما جاءه تكليف آخر بقيادة فرات الاوسط، أجاب بجملة تُدرّس في أخلاقيات العمل السياسي:

"موافق، وسأذهب، ولكن أرجو بحث ما بيننا في أول اجتماع قادم للجنة المركزية."

بهذا الرد، وضع القانون فوق الأهواء، والمبدأ فوق الأشخاص، وأثبت أن الأخلاق في السياسة ليست ترفًا بل ضرورة.

هكذا كان سلام عادل: رجلًا من لحم الفكرة ودم المبادئ، مضى في دربه غير هيّاب، كأنما ولد ليكون صوت الضمير حين تصمت الأصوات، ولغة العقل حين تغمر الدنيا بالعواصف.

ثانيًا: العمل في الفرات الأوسط – معركة الإنسان والكرامة

لم يكن انتقال سلام عادل إلى قيادة الفرات الأوسط مجرّد حركة تنظيمية عابرة، بل كان تحوّلًا وجوديًا في مسيرة رجل أدرك أن السياسة، إن لم تكن تجسيدًا للعدالة ومرآة للكرامة، فهي وهمٌ أجوف. لم ينظر إلى الفلاحين ككتلٍ بشرية أو أرقام في تقرير حزبي، بل رأى فيهم أرواحًا مثقلة بالجوع والخذلان، متعطّشة للإنصاف، تنشد الكرامة قبل الخبز.

خطته كانت جليّة: أن يُبنى التنظيم من الأرض، لا من المكاتب؛ من الريف، لا من العاصمة؛ من المعاناة، لا من التنظير. وهكذا اندمج في صميم حياة الفلاحين، من الرميثة إلى الشويجة، ومن البو حسان إلى أعماق القرى المتوارية عن خرائط السلطة، حيث اندلعت شرارات الانتفاضات بفضل تعاطفه الحيّ مع نضال الناس ضد الإقطاع والحرمان.

كان ينام متأخرًا، بين دفتي كتاب أو فكرة، وبين يديه ورقة وأمل. وكان يسهر لا مدفوعًا بالقلق الشخصي، بل بهواجس البسطاء وآلامهم. يروى أحد رفاقه قائلًا: "حسبت أنه قد نام، وإذا به بعد ساعة يقول: يبدو أن لدي فكرة لعمل فلاحي جديد."

تلك ليست شهادة على فِعلٍ سياسيٍّ فقط، بل على ضمير لا ينام، وروحٍ لا تستريح ما دامت الأرض تنزف جوعًا.

في تنقّله بين مدن الفرات الأوسط، لم يكن سلام عادل قائدًا يُنقل بقرار حزبي فحسب، بل حاملًا لرسالةٍ إنسانية أينما حلّ. لم يَسْعَ خلف اللافتات أو الهتافات، بل أنصت للناس، لأحزانهم قبل طموحاتهم، لنبضهم العميق الذي لا تسمعه الميكروفونات.

كما وصفته رفيقة دربه، ثمينة ناجي، كان رجلًا يُصغي، يتفاعل، ويتحدّر قراره من وجدان الناس، لا من تنظيرات الكتب. كان يُعلّم الأطفال الرسم، لا بوصفه هواية، بل كتمرين على الحلم. وكان يُخرج المسرحيات كأنها بيانات ثورية على خشبة الخيال، حيث يُستنهَض الوعي لا بالغضب وحده، بل بالأمل والحب والانتماء.

لم يكن يُربّي الرفاق بالأوامر، بل بألفة الحضور؛ لم يفرض احترامه، بل احتواهم بمحبة العقل وعدالة القلب. أحبه الطلبة والأساتذة والعسكريون، لأنه لم يكن غريبًا عنهم، بل واحدًا منهم.

في الديوانية، جلس بين الطلبة، ورافق قلقهم، وشاركهم نضالهم في معركة الانتخابات عام 1954، لا طلبًا للسلطة، بل تأكيدًا أن الشعب يجب أن يكون جزءًا حيًّا من القرار السياسي.

ورغم أن الخطر كان يُحدّق به كل لحظة، ظلّت إنسانيته متوهّجة: يبتسم للأطفال، يكتب، يقرأ، ويخطط، كما لو أن الحلم ممكن رغم كل الجدران.

كان رجلًا لم تبتلعه الخشية، ولم تسكن قلبه سموم السلطة. وفي كل مدينة مرّ بها، ترك أثرًا لا يُمحى: وعيًا متوهّجًا، علاقة صادقة، أو حكاية تروى وتُلهم.

ثالثًا: انتخابه سكرتيرًا للحزب – من الأخلاق إلى الفعل

في حزيران عام 1955، انتُخب سلام عادل سكرتيرًا للحزب بعد تجميد عضوية حميد عثمان. لكن المفارقة أن لحظة صعوده لم تكن مشهد احتفال، بل ومضة صامتة من التواضع والمسؤولية. لم يُبدِ فرحًا، ولم يتباهَ، بل قال بهدوء:

"لقد جُمدت عضوية حميد عثمان... وانتخبوني بدلاً عنه. خطتي: توحيد الحزب، والقضاء على الانشقاقات، وإقامة الجبهة الوطنية."

لم تكن في عبارته نبرة انتصار، بل إحساس ثقيل بثقل المرحلة، وإدراك عميق أن المنصب ليس تشريفًا، بل تجسيد لواجبٍ أخلاقي جسيم.

كانت تلك اللحظة بمثابة تحوّل من الإنسان الحالم إلى الإنسان الفاعل، من الأخلاق المجردة إلى الفعل السياسي المسؤول. كان سلام عادل ضميرًا حيًا في جسدٍ منهك، يقاوم لا فقط من أجل حزب، بل من أجل إنسانية مهدّدة بالوأد.

مكانه كان دائمًا على التخوم: بين الصمت والكلمة، بين الطاعة والنقد، بين الحنان والانضباط، بين الفكرة والرحمة.

فيما بين السطور من حياته، لا نقرأ مجرد سيرة مناضل، بل نلتمس صراعًا داخليًا عميقًا بين المثال والممكن، بين الوفاء للمبادئ والوفاء للناس. وما ينتصر فيه دائمًا ليس الفكرة المجردة، بل الإنسان حين يُنقذ الفكرة من التحجر.

لهذا، لم يكن سلام عادل رجل حزبٍ فقط، بل رجل قضية، رجل وفاء لا يتزعزع، رجل أحلام الفقراء، وبوصلة الأمل في زمن الخيبات.

لقد كان من طينة الأبطال الذين لا يُصاغون بالبيانات، بل يُنحتون بالصبر، وبجراح الكرامة، وبشرف التضحية الطويلة.

رابعًا: قرارات تموز 1955 – السياسة كأخلاق

قرارات اللجنة المركزية التي قادها سلام عادل لم تكن جملًا سياسية باردة، بل تجسيدًا لرؤية اجتماعية وإنسانية عميقة. نادت بالحرية والديمقراطية والدستور، ورفضت الخضوع للإملاءات الاستعمارية. ودعت إلى تعبئة الجماهير للنضال في سبيل الحريات.

لقد واجهت هذه القرارات لاحقًا سخرية الكتلة المتزمتة، لكنها كانت تنضح بوعي إنساني عالٍ: الكفاح لا يُخاض بالشعارات، بل بربط القضايا السياسية بآلام الناس، وبصناعة الأمل الممكن. وكانت هذه هي سياسة سلام الحقيقية: جعل السياسة فعل حب، وفعل خلاص جماعي.

حين تقود المبادئ، جبهة الكفاح الوطني

لم يكن دخول الحزب الشيوعي العراقي في جبهة الكفاح الوطني وليد مصلحة عابرة، بل كان ثمرة قراءة ثاقبة للواقع، وإيمان حقيقي بأن وحدة الصف هي الخطوة الأولى لتحرير البلاد من الاستعمار.

لقد قدّم الحزب، بإرادة صلبة وتنازلات نبيلة، نموذجاً في تقديم الوطن على الحزب، وكان سلام عادل مهندس هذا التوازن الدقيق. برز حضوره الأخلاقي والسياسي في المواقف المصيرية: مناهضة حلف بغداد، التضامن مع مصر إبان العدوان الثلاثي، دعم انتفاضة تشرين 1956، الدفاع عن حقوق الأكراد، وتأسيس جبهة الاتحاد الوطني التي مهدت فيما بعد لثورة 14 تموز 1958.

كل تلك المبادرات لم تكن مجرد صفقات سياسية، بل فعلًا صادقًا في إعادة اللحمة الوطنية ودعوة للمصالحة بين الوطن وذاته. كان سلام عادل يؤمن أن السياسي لا يُقاس بعدد شعاراته، بل بقدرته على الإصغاء، على التراجع متى اقتضت مصلحة الجماهير، والتقدم حين تستدعيه اللحظة.

المثقف الثوري: من التنظير إلى الفعل

ما يميز سلام عادل في تلك الفترة أنه لم يكن مفكرًا يكتفي بالتنظير، بل بإنسانية القائد نزل إلى الشارع، ناقش البسطاء، كتب الميثاق الوطني بلغة الناس، لا بلغة النخبة. رأى أن الثورة تبدأ من تصحيح العلاقة مع الجماهير، وأن أولى معارك التحرير هي محاربة الاستبداد الداخلي داخل الحزب والسلطة وفي بنية المجتمع.

رفض التحالفات الفوقية، وهنا تظهر عبقريته السياسية الأخلاقية: لا يرضى بالنصر السريع إن كان ذلك سيكلف الناس وحدتهم، ولا يقبل بالتحالف ما لم يخدم الهدف الأسمى. وأصرّ على أن يكون كل اتفاق ثمرة نضج شعبي. كانت نظرته للثورة جذرية، لكنها إنسانية: الثورة ليست فعل قطيعة، بل فعل وصل، وليست شهوة سلطة، بل مشروع تحرير أخلاقي. سلام عادل في هذه الصفحات ليس رجلًا يصنع الأحداث فقط، بل رجلٌ يُهذّبها. ليس قائدًا يُصدر الأوامر، بل إنسانٌ يُصغي أولًا لصوت الوطن، ولآهات الناس، ولخطى التاريخ القادمة من الأفق.

ثورة داخل الحزب بثوب إنساني

ما فعله سلام عادل لم يكن إعادة ترتيب تنظيمي، بل ثورة هادئة داخل الحزب. حوّله من هيكل بيروقراطي إلى كيان حي ينبض بالحب والمسؤولية. فتح أبواب المشاركة، شجع على النقد، ورفض تقديس القادة.

عاد الرفاق إلى الحزب، لأنهم رأوا فيه ضميرًا لا سلطة، ورأوا في قيادته نموذجًا يُحب، يُصلح، ويُعلّم.

حين تتولى القيادة أرواح مثل سلام عادل، تتحوّل السياسة إلى فعل وفاء. لم يسعَ إلى المجد، بل إلى بناء أمل. لم يطلب الهتاف، بل رغب في الوعي. ومضى في طريقه، محاطًا بالحب، مُسلحًا بالإيمان، ثابتًا في المبدأ، نقيًا كالحلم، حيًّا في الذاكرة.

سلام عادل، هو القائد الذي لم يتسلّق على ظهر الجماهير، بل سار معها، وتقدّمها حين احتاجته، ووقف خلفها حين حان أوان الحصاد. هو الإنسان الذي ارتقى فوق اللحظة، ليكون سيرة تتعلّم منها الأجيال، وضميرًا باقٍ رغم الغياب.

***

سعاد الراعي

 

مدهش حقاً ردود الفعل في لبنان، بعد إعلان موت الفنان الكبير زياد الرحباني، ومدهش أكثر ردود أفعال المجتمع العربي برمته، وبضمنه النخب العربية. مدهش لبنانياً، لإن زياد، على عظمة إنجازاته، لم يتمكن من تغيير أيّاً من المعادلات في لبنان لا على الصعيد السياسي، ولا الاجتماعي ولا حتى الفني. فعلى المستوى السياسي والاجتماعي، ذكر زياد، فيما ذكر، أنه لا يريد تغيير المجتمع أو البلد، لكنه بالمقابل، لا يريد البلد أن يغيّره. هذا التعبير الاخير هو أساس ما سأبحث به.

كيف أستطاع هذا الرجل النزول بفيروز، الاميرة الحالمة ذات الرداء الأبيض الناصع والنائمة بين السحاب، الى الشارع البيروتي بإكتضاضاته، وبلغته، وشتائمه؟  ربما لأن زياد لم ينتمي الى ذلك العالم الحالم، فهو المتمرد والثائر والواعي المنغمس بمشاكل مجتمعه ومشاكل بلده. لكنه لم يتمكن من ان يحوّل تمرده الى ثورة إجتماعية تجعل من التغيير المنشود ممكناً، إنما جعل مشروع حياته ان يعمق ويطور من وعي المجتمع بهدف تثويره عن طريق فنه، في الموسيقى، في الاغنية، في المسرح حيث الكلمة والحدث والنكتة تزيد من إرتباط الجمهور حزناً تارة ومرح تارة أخرى.

زياد، العازف والملحن والمؤلف الموسيقي والكاتب المسرحي، والصحفي المشاكس، هو أحد أبرز الأسماء في مجالي الثقافة والفن في العالم العربي، ولأنه حالة فكرية وفنية متفردة لتحفيز الوعي، فقد كان رمزًا للإبداع الحرّ والفكر النقدي في سياق المجتمعات العربية.

تاريخيًا، وظّف زياد الرحباني الموسيقى والفن كأدوات فعالة لمواجهة التحديات، خاصة في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي واجهت لبنان. فقد عمل في فترة غياب الدولة على طرح أسئلة عميقة حول الهوية والحقوق والحرية. كانت أعماله تمثل صرخات في ظل الصمت السائد، حيث سعى إلى إبراز صوت المهمشين والمستضعفين. فمن خلال مسرحياته وأغانيه، كلاماً ولحناً، أعطى صوتًا لمن لا صوت لهم، مما ساهم في تعزيز الوعي الاجتماعي والتنبه للخلل الحاصل في العدالة الإجتماعية.

استطاع زياد أن يخلق عالمًا فنيًا يعبّر عن واقع الحياة في لبنان، محولًا الألم إلى فن. هذا التحويل يأتي من فهمه العميق للبيئة الاجتماعية والسياسية التي تعيشها البلاد. فالفنان لا يكون مجرد مبدع، بل يتجاوز ذلك إلى كونه مؤرخًا وشاهدًا منغمساً في الأحداث، ما يعكس أهمية وجوده في زمن غياب الدولة. ففي ظل الفوضى السياسية والحروب والغموض، كانت أعمال زياد توفر ملاذًا للتفكير والإلهام، وتفتح الحوار حول القضايا الحساسة، مما يجعل منها وسيلة لتعزيز الوعي العام.

إن غياب زياد يكشف تساؤلاً جوهرياً، هل من الممكن ان ينبثق نموذج آخر لزياد في المجتمعات العربية؟ والواقع يفضح تمترس هذه المجتمعات خلف سياقات سياسية وإجتماعية مختلفة تجعل الفكر والفن فيها محاصراً أو مقيداً. فغياب المساحة الحرة للتعبير، والهواجس اليومية من الرقابة، قد يعيق الفنان الموهوب عن تقديم إنجازات مشابهة، ولو بقدر ما، لتلك التي قدمها زياد. بينما عُرف لبنان بنوع من الحرية الثقافية والفنية التي تتيح للفنانين الاندماج في نقاشات مجتمعية بشكل أكثر انفتاحًا.

لهذا، فإن زياد الرحباني يمثل حالة نادرة من الإبداع والتحفيز للوعي في ظل ظروف تاريخية معينة. إذ يعكس نجاحه أهمية الحرية الثقافية، ويؤكد كيف يمكن للفن أن يكون نقطة انطلاق للتغيير الاجتماعي والوعي السياسي. ولكن الأهم هو أن يتردد صدى تجربته وبصمته في المجتمعات العربية الأخرى من خلال تعزيز حرية التعبير وتقبل الاختلاف، حتى يتحقق التحفيز المنشود. وفي الأخير، يظل زياد رحلة إستثنائية ملهمة للفنانين والمثقفين، ليس فقط بموهبته، ولكن أيضًا بفلسفته القوية التي تجعل من الفن وسيلة للتمرد على الحاضر وأداة فعّالة للتغيير.

***

علي ماجد شبو

 

عندما بلغة قرار الامبراطور نيرون بأن عليه أن يقتل نفسه، تلقى الأمر بهدوء، تحدث إلى بعض اصدقائه قائلاً:" دعونا نهيء عقولنا لنهاية حياتنا. دعونا لا نؤجل أي شيء. إن من يضع اللمسات الأخيرة على حياته كل يوم، سيكفيه الوقت ويزيد".

في ذلك الوقت، كان سينيكا في منتصف الستينيات من عمره، بدأ يشعر بآلام الشيخوخة، كتب في واحدة من رسائله إن:" الشيخوخة المفرطة أشبه بمرض مزمن لا يتعافى منه احد أبداً، وعندما يتدهور الجسم بشدة، يصبح الأمر أشبه بسفينة يتسرب منها الماء يوما بعد ىخر".

عرف عن سينيكا مواهبه المتعددة، كان سياسيا وكاتبا مسرحيا ورجل اعمال ناجح وفيلسوف، محباً للحياة، يرى ان مشكلة الإنسان لا تكمن في قصر حياته، بل في استعماله السيئ للوقت. يجب أن لا نغضب لأن الحياة قصيرة:" الحياة طويلة بما يكفي، وقد مُنحنا حصة الأسد منها لتحقيق اسمى النجاحات لو قمنا باستثمارها بشكل جيد " – سينيكا هل الحياة قصيرة حقاً ترجمة غدير فياض - إذن الحياة طويلة بالقدر الكافي لنحقق الكثير من الأعمال إذا قمنا بالاختيارات المناسبة، إذا لم تضيعها في الأمور التافهة.. أن تكون فاقدا للسيطرة و منجرفا مع الأحداث دون أن يكون لك الوقت لتعيش تجارب ذات قيمة و دلالة هو امر مختلف تماماً عن العيش الحقيقي، إن الحلم بعيش حقيقي في العالم، ليس في استبداله بعالم خيالي تماماً، إنما السكن فيه كبشر، وسواء لبى العالم رغبتنا ام لم يلبيها، فاننا سنكتشف الواقع المستقل بقوانينه الخاصة والغريبة.

عاش سينيكا حياة مليئة بالمغامرات من جهة والتأمل من جهة أخرى، في الاربعين من عمره اتهم بإقامة علاقة بأخت الإمبراطور غايوس، فتم ارساله إلى المنفى في كورسيكا لثماني سنوات هناك تفرغ لكتابة بعض رسائله عن الحياة والموت والخوف ومتعة الفلسفة وصراع الفضيلة والمتعة، بعد ثماني سنوات يتم استدعاؤه لروما كمعلم لنيرون الذي كان عمره أنداك 12 سنة، بعد ذلك يصبح سيينكا المستشار السياسي للإمبراطور" نيرون، وبسبب مزاج نيرون كان سينيكا يعرف ان ايامه في القصر معدودة، حاول ان يتقاعد متذرعاً بسوء حالته الصحية وشيخوخته، وفي النهاية وافق نيرون على اعفاءه من منصبه، غير ان فترة الراحة كانت قصيرة، حيث اقنع بعض الحاشية الامبراطور بأن سينيكا ضالع في مؤامرة ضده. وفي العام 65 م ارسل نيرون عددا من ضباطه ليبلغوا سينيكا ان عليه الموت، لم ينزعج من القرار قال لاصدقائه:" أترك لكم الشيء الوحيد الذي بقي لي، وهو أفضل ممتلكاتي: طريقة حياتي. إذ تذكرتموها، فإن صداقتكم المخلصة ستكون من الانجازات الفضيلة "، بعدها عانق زوجته وطلب منها بأن تُقصر فترة حدادها، وان تتعزي بمصابها، بالحياة التي قضياها معاً، لكنها اصرت أن تموت معه، لم يعارض سينيكا قرارها، كان يخاف ان تعامل بعده بطريقة سيئة خاطبها قائلاً:" ما أردته لك كان العزاء في الحياة، ولكنك تفضلين الموت والمجد. لن امنعك من ضرب مثال عظيم كهذا. لنا أن نموت بعزيمة متساوية، ولكن هدفك هو الأنبل " – رسائل من المنفى ترجمة الطيب الحصني -.

يكتب سايمون كريتشلي ان:" وفاة سينيكا اختلط فيها الضحك بالتراجيدي اكثر من كونها مينة بطولية " – كتاب الفلاسفة الموتى ترجمة ابراهيم الكلثم –، فقد شق سينيكا ذراعيه بخنجر لتبدأ عملية الموت الشاقة والغريبة، ويذكر المؤرخ الروماني ناسيتوس ان سينيكا لم يمت من النزيف بسبب " جسده الضعيف الذي لم يلفظ سوى القليل من الدم "، فقطع شرايين رجليه، وبعد ان ارهقه الألم، طلب السم، نفس السم الذي قدم الى سقراط فشربه، لكن الموت رفض بعناد ان ينهي حياته، وفي النهاية وضع في حوض ساخن ليختنق بالبخار.

كتب سينيكا ذات يوم ان المرء يعيش عيشة رديئة إذا لم يعرف حقيقة الموت، أن اهم الامور هو التحضر للموت، أن تكون شجاعاً، كانت وصية ابيقور لتلامذته:" "تدربوا على الموت"، وهي ممارسة شجعها سينيكا نفسه. بالنسبة لسينيكا كان الموت "الخوف الأكبر"، لكن بمجرد أن يتعلم المرء كيفية التغلب عليه، يتلاشى الخوف من أي شيء آخر:" إذا لم تتذكر أن وقتك محدود ومنتهي، فمن المرجح أن تأخذ الأمور على محمل الجد" – رسائل سينيكا الرواقية ترجمة اميل المعلوف -

أن الشعور بان الموت قد يأتي فجأةً وفي أي لحظة، يمنح الإنسان شعورٌ كبير بالإمتنان للوقت الذي تقضيه مع من تحبهم. وكما أوصى سينيكا:" فلنستمتع بشغفٍ بأصدقائنا وأحبائنا الآن، ما داموا معنا ".

يرى سينيكا ان الحياة الكريمة، والعيش الكريم يعني الموت الكريم أيضاً. أن الموت الكريم يتميز بالسلام النفسي، وقلة الشكوى، والامتنان للحياة التي عشناها. بمعنى آخر، الموت الكريم، باعتباره الفعل الأخير في الحياة، يتميز بالقبول والامتنان، كما أن امتلاك فلسفة حقيقية للحياة، والعمل على بناء شخصية سليمة، يسمح للإنسان بالموت دون أي شعور بالندم:" هل تعرف يا لوتشليوس، أنه جميل أن ننتصر على قرطاجة، ولكن أجمل أن ننتصر على الموت. صدقني ان الموت ليس مخيفاً لكي يجعلنا نخاف منه " – رسائل الى لوتشليوس ترجمة اميل معلوف -.

 ولد سينيكا عام " 4 " قبل الميلاد في قرطبة جنوب إسبانيا، كان الابن الثاني لعائلة ثرية. والده، (سينيكا الأكبر) عمل معلماً للبلاغة، كانت والدته، ذات شخصية قوية اثرت كثيرا على ابنها، في العاشرة من عمره سافر مع احدى عماته إلى روما، وهناك تدرب كخطيب وتلقى تعليمه الفلسفي، كان سينيكا ضعيف البنية يعاني من الامراض مما اضطره الى طلب العلاج في مصر التي قضى فيها اكثر من عامين، تعرف خلالها على الفلسفات الشرقية، ليعود الى روما عام " 31 م "، حيث تبدأ مسيرته في السياسة والقانون، وليصبح واحداً من ابرز المحاميين، لكن سرعان ما وقع في خلاف مع الإمبراطور كاليغولا، الذي كان ينوي اصدار امر بقتله لولا تدخل احدى النساء التي توسلت للعفو عنه بشرط أن يترك مهنة المحامات، فعاد لدرسة الفلسفة وكان آنذاك متحمساً لتعاليم الفلاسفة الكلبيين، بعدها كرس نفسه لدراسة الفلسفة الرواقية والكتابة فيها. يعتبر سينيكا من اشهر الكتاب والمفكرين الرومان الذين شرحوا في مؤلفاتهم المذهب الرواقي الذي كان سائداً في عصره وتضم اعماله ثلاث مجموعات: المجموعة الاولى تتكون من اثني عشر كتابا تحت عنوان المحاورات. ومنها " عن الغضب " و " عن وقت الفراغ " و " عن الحياة السعيدة ". والمجموعة الثانية تضم اربعة اعمال نثرية. والمجموعة الثالثة تضم رسائله. وفي مجال المسرح لديه عشرة اعمال مسرحية ترجمت العديد منها الى العربية.. يصف سينيكا الرواقيين بانهم " اهلنا "، وقد ركز في تطبيق المبادئ الاخلاقية الرواقية على حياته وحياة الآخرين، والتساؤل الذي هيمن على كتاباته هو: كيف يعيش المرء حياة خيرة وسعيدة ؟ حيث كان يرى ان السعي للفضيلة والسعادة مسعى بطولي يقوم به الإنسان.

شهد سينيكا في حياته كوارث عديدة ومآسيَ شخصية، كان يهيئ نفسه كي يعمل في السياسة، لكنه في اوائل حياته اصيب بالسل، حيث بقى طريح الفراش، ما أدى الى تفرغه للقراءة واطلاعه على كتب ارسطو، فنراه يكتب "ادين بحياتي للفلسفة"، وكان الفيلسوف الروماني يرى ان المشكلة ليست في قصر الحياة، بل في الاستعمال السيئ للوقت الذي نتوفر عليه، يكتب دو بوتون: " يجب أن لا نغضب لأن الحياة قصيرة و لكن يجب عوضا عن ذلك أن نستفيد من كل الوقت المتوفر، أشار إلى انه يمكن لبعض الناس هدر آلاف السنين بنفس السهولة التي يضيعون بها سنوات حياتهم، وحتى لحظتها سيشتكون بأن الحياة هي قصيرة جدا. في الواقع الحياة طويلة بالقدر الكافي لنحقق الكثير من الأعمال إذا قمنا بالاختيارات المناسبة، إذا لم نضيعها في الأمور التافهة " –عزاءات الفلسفة ترجمة يزن الحاج -.

كان سينيكا قد كتب أننا يجب أن نبدأ كل يوم من خلال التفكير بعمق في كل عذاب يمكن أن تلحقه الحياة بنا، وهو يطالنا بأن نفكر في كل شيء، ونتوقع كل شيء، وكان الهدف الأسمى للفيلسوف الشهير، هو العيش في ظل الفلسفة التي وجد فيها عزاءً في مواجهة المحن التي مر بها والتي انتهت باصدار الامبراطور نيرون امرا بان يموت الفيلسوف المشاغب. يخبرنا هيغل وهو يكتب مقالاً يبدي فيه إعجابه بالفيلسوف الروماني، ان سينيكا لم يرضخ للحظات الضعف المعتادة، اذ واجه الواقع عبر موته حيث اسهم في خلق ربط دائم بين جوهر كلمة "فلسفة" ومقاربة هادئة للواقع الكارثي الذي يحيط به..هكذا تتحول الفلسفة الى عزاء في اصعب المحن.

رفع سينيكا لواء العقل، فنراه يكتب لأحد أصدقائه طلباً منه نصيحة لمواجهة مشكلة كبيرة: حالما نتعامل بعقلانية مع ما سيحدث، حتى لو لم تتحقق رغباتنا، سندرك على نحو كبير إن المشكلات الضمنية أصغر من حالات القلق التي تولدها". ويرى سينيكا أن الوصول الى الحكمة‏، ‏ هو ألا نحاول أن نصعب الأوضاع السلبية عن طريق ردود فعل من الغضب والاشفاق على الذات والمرارة والقلق‏، ‏ وأن نحاول تنمية قدرة العقل في كشف الواقع، أن في استطاعة الإنسان أن يشعر بالسعادة حين يتمكن من استخدام عقله في الوقت المناسب، ومن خلال العقل يستطيع الإنسان أن"يُحلق فيه بين النجوم".

عام 58 كتب سينيكا مقالته " عن الحياة السعيدة"، وكانت موجهة لشقيقه الأكبر" غاليون"، حيث يبدأ المقالة بمخاطبة شقيقه قائلاً: اخي غاليو، الجميع يرغب في أن يعيش سعيداً، ولكن حينما يقبل ما يجعل الحياة كذلك، فانهم يعمهون، ويصعب ان يبلغها المتعجل وهو يهرول نحوها، ويتخلى عنها الىخر إذا فقد الطريق، حيث يقوده في الاتجاه المعاكس، وتُبيقه ثمرة عجله في فُرقة أعظم. وعلينا أن نخطط لمعالجة ما نسعى اليه اولاً، ومن ثم علينا أن نلتفت للطريق لنصيبه حثيثاً، ويمكننا التعلم عليه، طالما أنه الطريق الحق، فكم من الخطى مشيناها كل يوم، وكم تقاربنا نحو الشيء الذي تدفهنا إليه الرغبة الطبيعية " - محاورات السعادة والشقاء ترجمة حمادة احمد علي -

كان سينيكا قد كتب أننا يجب أن نبدأ كل يوم من خلال التفكير بعمق في كل عذاب يمكن أن تلحقه الحياة بنا، وهو يطالنا بأن نفكر في كل شيء، ونتوقع كل شيء. كان الهدف الأسمى للفيلسوف الشهير، هو العيش في ظل الفلسفة التي وجد فيها عزاءً في مواجهة المحن التي مر بها والتي انتهت باصدار الامبراطور نيرون امراً بان يقتل الفيلسوف المشاغب " سينيكا " نفسه على الفور. يخبرنا الفيلسوف الالماني هيغل وهو يكتب مقالاً يبدي فيه إعجابه بالفيلسوف الروماني، ان سينيكا لم يرضخ للحظات الضعف المعتادة، اذ واجه الواقع عبر موته.

لماذا لا نقول أن الحياة السعيدة تتكون من عقل حر، مستقيم، شجاع، ثابت، خارج تأثير الخوف أو الرغبة، عقل يعتقد أنه لا يوجد شيء جيد سوى الفضيلة، ولا يوجد شيء سيئ سوى الفساد، ويعتبر كل شيء آخر كتلة من الضوضاء في الخلفية التي لا يمكنها أن تضيف أو تأخذ أي شيء من سعادة حياتنا، ولكنها تأتي وتذهب دون أن تزيد أو تقلل من أعظم الخير؟

أنت تكرس نفسك للملذات، وأنا أتحقق منها؛ أنت تنغمس في المتعة، وأنا أستخدمها؛ أنت تعتقد أنها الخير الأعظم، وأنا لا أعتقد حتى أنها جيدة: من أجل المتعة أنا لا أفعل شيئًا، وأنت تفعل كل شيء.

إن الحياة السعيدة هي تلك التي تتوافق مع طبيعتنا، ولا يمكن أن تتحقق إلا إذا كان العقل سليماً وجريئاً وقوياً، ويتحمل كل شيء بشجاعة. فالإنسان السعيد إذن هو من يمتلك الحكم الصائب في كل شيء: إنه سعيد من يكون في أحواله الحالية، مهما كانت، راضيًا ومتقبلاً لظروف حياته. إنه سعيد من يرشده عقله إلى تدبير شؤونه.

في هذه المناقشة مع اخيه غاليون، يُرسي سينيكا أساسيات السعادة، وما هو طريق السعادة، وكيفية التعامل مع اللذة، وكيفية ممارسة الفضيلة، وكيفية الاستمتاع بالمال الذي قد يأتي إليك، والأهم من ذلك كله، كيفية تفهم نفسك، واخص لنا سينيكا أساسيات السعادة بالنقاط التالية:

1- ليس عليك أن تذهب بعيدًا للعثور على السعادة، السعادة قريبةٌ منا. عندما تتوقف عن القلق والانفعال بالأمور التافهة، ستنعم بالحرية والهدوء باستمرار. لا تنجرف وراء الملذات العابرة. تصرف بما يتوافق مع طبيعتك البشرية. هذا يعني ثلاثة أمور:

2- حافظ على عقلك جريئًا وقويًا، تحمل الأمور بشجاعة عندما تكون هناك حاجة لذلك، اعتني بجسمك ومظهرك، ولكن لا تهتم به بشكل مفرط.

3- ما هو جيد يأتي من عقلك وليس من الخارج. حافظ على عقلك حرًا، هادئًا، وثابتًا. لا تنجرف وراء الألم أو المتعة.

4- تعامل مع ما هو واضح أمامك، ولا تدع الخوف أو الأمل أو الرغبات تسيطر عليك. كن راضيًا بالحاضر.

5- كن مخلصًا في السعي وراء الفضيلة. اعتنِ بجسدك وبممتلكاتك "الجميلة". لكن لا تدعها تتحكم بك. تذكر أن اللذة تنبع من الفضيلة، وليس العكس.

6- لا يأتي البهجة من اللذة المفرطة، بل من الاستمتاع المعتدل بها. لا يمكنك مواجهة تحديات الحياة بالانغماس في اللذة المفرطة. تجنب الملذات الفاسدة كالتكبر والتباهي والإهانة والكسل. عندما تكون أسيرًا للمتعة، تؤجل أمورًا أخرى وتستبدل الحرية بالمتعة. عندما تتخذ المعرفة (الفضيلة) دليلًا لك بدلًا من المتعة، لن تحتاج إلى شيء، وستكون حرًا ولن تواجه أي مصيبة.

7- أدخل المال إلى منزلك، وليس إلى قلبك. ليس عليك أن تتوقف عن الاستمتاع بالأشياء المادية ما دمت لا تتعلق بها. لستَ محكومًا عليك بالفقر. لكن اكسب بشرف وتشارك مع الآخرين. يمكن استخدام الثروة لأغراض نافعة، ولذلك لها قيمة. لكن تأكد من أنك تملك ثروتك، ولن تملكك. المال مرغوب فيه، لكنه ليس "سلعة".

8- المال لا يجعلك مهمًا، والفقر لا يقلل من شأنك. لا تُهمّك تقلبات الحياة. اعتدل في رغباتك، لا تكبت أحزانك. في فقرك، كافح. في غنىً، كن لطيفًا. لا تتعلق بالثروة. لا تُبالِ بإهانات الآخرين.

9- لا تنتقد الآخرين، بل افهم نفسك.بدلاً من انتقاد الآخرين، حاول أن تفهم كيف يدور عقلك ويدور حول بعض الأعاصير وكيف تتناوب بين الأمل واليأس.

10- جهز نفسك للمصائب. قد يصيبك سوء الحظ في أي لحظة. كن مستعدًا.

إذن السعادة الحقيقية من وجهة نظر سينيكا هي الشعور بالرفاهية والرضا بعد فعل الصواب، وهو ما تقتضيه الفضيلة. مواجهة الشدائد والالتزام بالمبادئ مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالسعادة:"إن المتعة ليست مكافأة أو سبباً للفضيلة، بل تأتي بالإضافة إليها؛ ولا نختار الفضيلة لأنها تمنحنا المتعة، لكنها تمنحنا المتعة أيضًا إذا اخترناها" – محاورات السعادة والشقاء ترجمة حمادة احمد علي –

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

الكتابة عن الزعيم المصري جمال عبد الناصر صعبة رغم توفر المصادر، وتكمن صعوبتها في النزاع حوله، فأي محاولة لرسم صورة له لن تَمر دون نزاع وجدال، فالمهمة عسيرة جداً لمن يريد أن يلتزم درباً وسطاً بين من يُبجّل عبد الناصر، وبين من يبحث عن مثالبه وعيوبه (1)، فعبد الناصر كما وصفه الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري "عظيم المجد والأخطاء" (2). سنحاول تقديم صورة موضوعية عنه ما استطعنا، وسنركز على الجانب السياسي بصورة مكثفة. ستكون خطتنا وفق ما يلي:

1ـ نشأة عبد الناصر وقيام الثورة.

2ـ ترتيب الجبهة الداخلية.

3ـ الجبهة الخارجية.

النشأة وقيام الثورة:

وُلِدَ جمال في قرية بني مُر قرب أسيوط في 15 يناير 1918 من أب ينحدر من أسرة فلاحية وأم كانت ابنة لأحد تجار الفحم المنحدرين أيضاً من أسرة فلاحية (3)، وقد جاء ميلاده في ظل مرحلة اتسمت بنهوض البورجوازية المصرية الحديثة التي نشأت على انقاض البورجوازية القديمة المؤلفة من كبار التجار ومشايخ الأزهر والسادة والأشراف (4).

نُقل والده الذي كان موظفاً في البريد الى أسيوط عام 1921، ثم الى عدة مدن صغيرة، وقد سَلّمَ ابنه الطفل جمال الى عمه خليل حسين في القاهرة، فبدأ جمال يتبادل مع والدته مراسلة طويلة مليئة بمشاعر الحب، ولكنها فارقت الحياة عام 1926، فعرف جمال لأول مرة معنى الصدمة (5)، وكانت ضربة قاصمة تركت عليه بصماتها التي لا تُمحى (6)، وقبل أن ينقضي عام على وفاة أمه، كان أبوه قد تزوج، ولا يشك فاتيكيوتس بأن علاقة جمال بأبيه وإخوته كانت واهية الأواصر، وأن زوجة الأب كانت سبباً للخلافات المتكررة التي نشبت بين جمال وأبيه (7).

كان جمال الشاب كالكثير من الطلبة المصريين آنذاك، فقد اعتبر ان معاهدة 1936 مع البريطانيين خيانة للقومية المصرية، وكان قد اشترك في العام السابق للمعاهدة في مظاهرات طافت الشوارع تطالب بجلاء القوات البريطانية، وقد أطلقت الأخيرة النار على مجموعة من المتظاهرين فقتلت أحدهم، فما كان من جمال بحكم أنه رئيساً لرابطة الثانوي، إلا أن نظّم مظاهرة احتجاج في الميدان الممتد على طول ثكنات الجيش البريطاني، وقد قُتل طالبان آخران وأُصيب جمال نفسه برصاصة في جبهته (8).

يقول أنتوني ناتنك بأن جمال قد أصبح وطنياً متحمساً ولم يناهز العشرين من عمره، وتسنى له أن يبلغ مرحلة التعبير الناضج بفضل قراءاته المستفيضة لفلاسفة أمثال فولتير وروسو وديكنز، وسِيَر الاسكندر الأكبر ويوليوس قيصر ونابليون وغاندي (9). وقد أثرت كتابات عباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم به، لدرجة أن أهدى كتابه "فلسفة الثورة" لهما فيما بعد (10). وترى الدكتورة مارلين نصر بأن جمال قد كوّن لنفسه من خلال قراءاته ركيزة ثقافية وعلمية متينة في الفترة الممتدة بين 1936 و1946، وقد أحصت 75 كتاباً ذي قيمة علمية قد اطلع عليها (11).

تخرج جمال من الثانوية بعد ان اعتُقل عدة أشهر عام 1936، واختار طريق حياته، فقد كان يحلم بأن يكون ضابطاً، وعندما مثُل أمام لجنة القبول في المدرسة الحربية سألوه: اسمه وعمل أبيه؟ ماذا يملكون؟ هل اشترك في المظاهرات؟ فلم يُقبًل (12).

دخل بعدها لكلية الحقوق، وأمضى نصف عام دراسي فيها، لكن الحلم العسكري لم يفارقه، وفي مارس 1937 تناهى الى سمعه بأن وزير الحربية ينوي امتحان دفعة جديدة من المرشحين للأكاديمية العسكرية، فقام بزيارة اللواء إبراهيم خيري وكيل وزارة الحربية بمنزله في مغامرة خطيرة كما ذكر ناتنك، اذ كان من الممكن أن يُطرد فوراً، بيد ان هذه المغامرة قد تكللت بالنجاح، ووافق خيري على تأييد ترشيحه (13).

يرى عزيز السيد جاسم بأن قبول جمال لا يمكن أن يُعزى الى الوساطة فقط، وذلك لأن حزب الوفد كان قد هيأ المناسبة الإيجابية لقبول أبناء الفلاحين والطبقات الوسطى في الكلية الحربية، وأن وزير الحربية كان وفدياً (14).

كان جمال عسكرياً مثقفاً خلافاً لنماذج العسكريين التقليديين والعاملين في البطانات الملكية، فأمضى معظم وقته يلتهم محتويات المكتبة العسكرية، اذ لم يواصل قراءة المؤلفات العسكرية وكتب التاريخ السياسي فقط، بل أظهر اهتماماً بالغاً بمشكلات العالم العربي ودرس اللغة الإنكليزية (15).

لم تحدث ثورة يوليو 1952 في الفراغ، بل كانت حصيلة ظروف موضوعية نضجت في مصر، وقد وصل النظام الملكي لدرجة كبيرة من الهشاشة والضعف (16). فبعد أن تولى فاروق سلطاته الدستورية في يوليو 1937، بدأت مرحلة التوهج بالنسبة اليه، اذ نجح خلالها في دعم مكانته مما اسفر عن نتائج إيجابية سُجلت لصالحه. ولكنه تحوّل ابتداء من أكتوبر 1944 وهو تاريخ الإقالة الملكية الثانية للوزارة الوفدية، الى مرحلة الآخر التي جرت في روافدها مياه كثيرة غير صالحة، فاختلفت صورة فاروق ووصل الى الهاوية في 1952 (17).

أُسّست اللجنة التأسيسية لحركة الضباط الأحرار في عام 1949 ـ وهو العام الذي رجع فيه الجيش المصري جريحاً ومطعوناً بسبب الهزيمة في فلسطين (18) ـ من خمسة أفراد: جمال عبد الناصر ـ خالد محيي الدين ـ كمال الدين حسين ـ عبد المنعم رؤوف، وقد أظهر عبد الناصر حنكته السياسية في المحافظة على وشائج الصلة مع مختلف الجماعات والأطراف (19). وتوالى صدور منشورات الضباط الأحرار، وكانت معظم هذه المنشورات بقلم الضباط اليساريين كخالد محيي الدين، ومنذ أن صدرت هذه المنشورات توقفت القوى السياسية عن اصدار منشورات خاصة بها في اعلان عن نوع من الوحدة التنظيمية (20).

كانت انتخابات نادي الضباط بداية المواجهة العلنية والصريحة بين الملك والضباط الأحرار، فقد أراد الملك أن يفرض حسين سري عامر على مجلس إدارة النادي، فاجتمع الضباط وقرروا أن تُجرى الانتخابات في 3 يناير 1952، وتمت الانتخابات فعلاً وحصل محمد نجيب مُرشح الضباط الأحرار على أغلبية ساحقة من الأصوات (21). يقول نجيب:

كانت انتخابات نادي الضباط المظهر العلني لحركتنا السرية، والاختبار الديمقراطي لإرادة ضباط الجيش (22).

قام الجيش بحركته في 23 يوليو 1952، وكانت العجلة والسرعة هما الطابع السائد للحركة، وتوقعوا النجاح بنسبة 10% (23)، وقد اتفقت الروايات على أن الضابط اليساري يوسف صديق كان بطل ليلة الثورة بلا منازع (24)، ليسقط النظام الملكي كما تتساقط أوراق الخريف، وكانت ظاهرة عدم المقاومة تعني أن الحكم كان غريباً في الوطن لا أمل له ولا أصدقاء (25)، وهذه الظاهرة هي الجواب الأمثل على اندهاش فاتيكيوتس من سرعة استيلاء الضباط الأحرار على الحكم بعد ثلاث سنوات فقط من تشكيل تنظيمهم (26).

أثارت سرعة سقوط نظام فاروق التساؤل عند الكثيرين، فلم تتدخل القوات البريطانية لأن الولايات المتحدة كانت ضد هذا التدخل، وهذا ما اعطى الانطباع بأن حركة الضباط كانت قريبة من الأمريكان (27). يقول الدكتور كمال خلف الطويل:

سال حبر كثير حول صلة ثورة يوليو بالولايات المتحدة، سواء عشية الانقلاب أم غداته أم بعده بسنين، وكذا لجهة وجود هذه العلاقة قبله ثم طبيعتها خلاله وماهيتها بعده، ليغدو استجلاء وقائع ما دار في تلك الفترة ضرورةً فهمِ لحقبة مؤسّسة من تاريخ العرب الحديث رفعت عنها غشاوة اللبس وبرقع النور (28).

يرجع هذا الى كتاب مايلز كوبلاند "لعبة الأمم"، وهو ـ برأي محمد حسنين هيكل ـ حاول أن يبيع نفسه لثورة يوليو فرفضت الثورة، فأصدر كتابه وهدفه التشكيك بها (29). ونحن بدورنا لا نجد أن علاقة الضباط الأحرار بالولايات المتحدة تُعد "كشفاً جديداً"! فقد أفصح الضباط عن ذلك في كتاباتهم، يقول أنور السادات بأن اسم الولايات المتحدة آنذاك، كان يختلف بعض الشيء عن بريطانيا، وقد انعقدت صداقة حقيقية بين ضباط الثورة والسفير الأمريكي، والذي كان مخلصاً حقاً (30). ويقول أحمد حمروش بأن كوبلاند يحاول الإيحاء بأن عبد الناصر كان على اتصال بكيرميت روزفلت، لكنه لا يوجد دليل واحد على أنه قد اتصل به شخصياً قبل الحركة، ويقطع بأن الأمريكيين قد وجدوا في نشاط الضباط السري بعض ما يحقق أهدافهم في المنطقة، ولكنهم لم يستطيعوا أبداً أن يسيطروا عليه، ليخلص حمروش الى أن الضباط الأحرار لم يرتبطوا عضوياً بالأمريكان، بدليل أنهم لم تكن لديهم خطة عمل ولم يُحددوا تصوراً لحركتهم (31). ويشير الطويل الى نقطة مهمة جداً، فالإرشيف الأمريكي خالٍ من أي إشارة عن لقاء روزفلت بعبد الناصر كما زعم كوبلاند (32).

وبرأينا أن تعامل الضباط الأحرار مع الولايات المتحدة آنذاك كان "براغماتياً"، فقد اكتسبوا حياديتها تجاه خططهم للاستيلاء على السلطة (33). وها هو الصحفي السوفيتي أجاريشيف يرى بأن ضباط الثورة قد قاموا بأداء اللعبة الخطرة مع السفارة الأمريكية بمهارة لدرجة أن فشل السفير كافري في أول مرة من تأريخه، مع ان سجله حافل بالإنقلابات في أمريكا اللاتينية (34).

ترتيب الجبهة الداخلية:

هل كان اللواء محمد نجيب قائداً فعلياً للثورة؟ سؤال لا بُدّ منه قبل الخوض في النزاع بينه وبين عبد الناصر، والذي أدى الى انتصار الأخير، يقول هيكل:

لم يكن نجيب أبداً قائداً فعلياً للثورة، ومنذ 23 يوليو 1952 الى حين استقالته لم يشترك نجيب في أكثر من اجتماع أو اثنين لمجلس قيادة الثورة (35).

وقد عارض السادات تعيين قائد مُسنٍ للثورة وأبدى تخوفه الشديد من تسلّم رجل غريب لقيادتها (36). ويرى السيد جاسم بأن نجيب هو قناع الثورة الذي اختاره عبد الناصر (37). وينقل أجاريشيف نصاً في غاية الأهمية عن عبد الناصر:

أمرت أن لا يُذاع اسم أي شخص ما عدا نجيب، أردتُ أن يكون الضوء كله مسلطاً عليه، والسبب الرئيسي لإصداري هذا الأمر انني لم أكن أريد انشقاقاً في صفوف الضباط الأحرار، كنا جميعاً في الثانية والثلاثين أو الثالثة والثلاثين، وكنا كلنا متساوين في الرتب تقريباً، وكنت أعلم ان البريطانيين وأعداءنا في الداخل سيحاولون استعداء كل واحد منا على الآخر، هذا اذا ما اتحنا لهم الفرصة، ولكن اذا حكّمنا عقلنا وجعلنا رجلاً أكبر منا مثل نجيب الرئيس الأسمى فإننا سنحافظ على وحدتنا (38).

ويقول نجيب: ورغم أني كنت محسوباً من ناحية السن والرتبة على كبار الضباط، إلا أني كنت منجذباً دائماً الى صغار الضباط، أجد فيهم التوهج الذي كان يخبو في صدور أبناء جيلنا (39). ونتيجة لذلك فقد أصبح نجيب قائداً للثورة في نظر القوى الغربية وزعماء السياسة وأبناء الطبقة الاقطاعية (40).

كان لا بُدّ من الصِدَام عاجلاً أم آجلاً، فهذا هو منطق التاريخ، ويرى عودة بطرس عودة بأن نجيب لم يكن شخصاً ثورياً ولم تكن لديه أفكاراً تقدمية، بل ان الثورة كانت مفاجأة له! (41). ويذكر الدكتور عبد العظيم رمضان بأنه قد أظهر كراهية لكلمة الثورة وفضّل عليها كلمة "النهضة"، بل وأعلن محاربة كل شيء يرمي الى أي تغيير فجائي قدر المستطاع، ليقوم طه حسين بالرد عليه (42). وقد عارض نجيب "الإصلاح الزراعي"، إذ لم يُرد الطفرة، وكان في رأيه ان يتم إعادة توزيع الأرض تدريجياً بفرض ضرائب تصاعدية، ولم يُرد اثارة العداوة بين أصحاب الأرض القدامى والفلاحين المالكين الجدد للأرض (43).

تمتع نجيب بشعبية كبيرة، فقد كان رئيساً صورياً، أما الزعيم الحقيقي أي عبد الناصر فلم يتمتع بذلك بعد مرور عام على الثورة، وقد تصوّر نجيب نفسه حاكماً دستورياً لمصر، وكان يرغب بإعادة الحياة البرلمانية في أقرب فرصة ممكنة، وكان يعتقد بأن عبد الناصر ورفاقه الشُبان على درجة كبيرة من التهور وصلابة الرأي، لكنه وافق على بعض سياساتهم كالإصلاح الزراعي (44).

ظهر نجيب مُدافعاً عن الديموقراطية، في حين ظهر عبد الناصر معادياً لها، والحال أن عبد الناصر كان الوحيد في مجلس قيادة الثورة رافضاً للدكتاتورية ومتشبثاً بالديموقراطية الى الحد الذي اعلن فيه استقالته بسبب وقوف الأكثرية الى جانب الدكتاتورية السياسية (45).

السؤال الآن: هل كان نجيب يملك الحنكة اللازمة للانتصار في هذا الصراع؟ أثبت الواقع شيئاً آخر، فنجيب كان طيّباً سمِحاً، ولكنه كان ساذجاً جداً! فقد ذكر بأنه قد ارتكب خطأً جسيماً، فعندما بلغه بأن خالد محيي الدين وثروت عكاشة غير راضيين عن تصرفات عبد الناصر الذي بدأ ينفرد بنفوذه ويُشكّل قوة خاصة داخل المجلس، أحس نجيب بأن فخّاً يُنصَب له، ففجر الموقف وروى القصة كاملة في أحد اجتماعات المجلس! يقول:

وكانت صدمتي شديدة عندما تبيّنت ان ذلك لم يكن اتفاقاً مُدبراً بينهم، وأن صراحتي قد وضعت خالد وثروت في موقف حرج (46).

ولا يمكن اعفاء نجيب من بعض الأحداث التي شارك فيها، فعندما قامت حادثة كفر الدوار بعد مظاهرة احتجاج قام بها عمال شركة مصر للغزل والنسيج والبالغ عددهم عشرة آلاف عامل، والتي تصدّى لها الجيش برعونة شديدة، كانت المحاكمة سافرة في عدوانها على حقوق المتهمين، وقد صدر حكم الإعدام بحق مصطفى خميس ومحمد البقري (47). فما الذي يرويه نجيب هنا؟

يقول بأن حادث كفر الدوار قد هزّه من الأعماق، ويروي قصة حضور خميس الى مكتبه:

دخل ثابتاً وعندما رجوته أن يذكر لي عما اذا كان أحد قد حرضه لأجد مبرراً لتخفيف الحكم عليه، أجاب في شجاعة بأنه لا هيئة ولا انساناً من ورائه وأنه لم يرتكب ما يبرر الإعدام، وامتد الحوار بيننا نصف ساعة طلبت له فنجاناً من الشاي، وكنت ألح عليه كما لو كان قريباً أو أخاً عزيزاً، ولكن دون فائدة فقد كان صاحب مبدأ لم يخنه حتى في الفرصة الأخيرة لنجاته، وخرج خميس من مكتبي وقد أثقل الحزن قلبي بعد أن صدّقت على الحكم (48).

وما يستدعي الدهشة هنا، أن نجيب "الديموقراطي" قد صدّقَ على حكم الإعدام، أما عبد الناصر "الدكتاتور" فقد كان معارضاً لإعدام خميس والبقري ومعه خالد محيي الدين ويوسف صديق (49).

وقام نجيب بتوقيع قرار باعتقال 64 سياسياً دون الرجوع الى علي ماهر رئيس الوزراء (50)، ولكن الأمر الكبير والخطير هو ترقية عبد الحكيم عامر من صاغ الى لواء، فقد ثار نجيب ثورة عنيفة معارضاً هذا الاجراء، ولكنه وقّعه أخيراً، فتمت ترقية عامر الى لواء وتعيينه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ويعترف نجيب بأن هذا كان خطأه الكبير (51).

كان نجيب من وجهة نظرنا بين خيارين، إما أن يستمر في المواجهة مع ما تتطلبه من حنكة وتأييد عسكري قوي، أو الاستقالة، ولكن أن يبقى متأرجحاً بينهما ومعتمداً على التأييد الشعبي الساحق له، والذي لن يُغني شيئاً في حسم السباق الى السلطة (52)، فهذا ما عجّل بنهايته. ولا نريد أن نقسو عليه كما قسى رمضان عندما قال بأن ايمان نجيب بالديموقراطية قد ارتد اليه شيئاً فشيئاً بعد ان تبخرت أحلامه في الزعامة (53)، أو كما ذكر كمال رفعت بأن نجيب قد حاول باستمرار تفجير الأزمات وإيصالها الى الشارع موهماً الجماهير أنه نصير للديموقراطية (54).

ولكن الحقيقة أن هذه الأزمة هي التي حددت مصير ثورة يوليو بعد ان كانت تتأرجح بين الفناء والبقاء، وقد كانت عودة الديموقراطية البورجوازية تسمح بعودة القديم (55)، فالحديث عن الدستور والانتخابات كان يعني إعادة حزب الوفد الى السلطة (56). ولم تكن أزمة مارس 1954 صراعاً بين نجيب وعبد الناصر، بل كانت صراعاً بين القديم والجديد وبين الثورة والثورة المضادة (57). ولقد جاءت محاولة الاخوان المسلمين لاغتيال عبد الناصر كنهاية لهذا الصراع الذي انتهى بعزل نجيب، وتمكن عبد الناصر من قمع اعتى خصومه، أي الاخوان المسلمين (58).

الجبهة الخارجية:

حدّدت الثورة هدفها من اليوم الأول بضرورة انسحاب القوات البريطانية من مصر انسحاباً كاملاً ليتحقق للبلاد استقلالها، وكان عبد الناصر يؤمن ايماناً كاملاً بأنه لا قِبَل لمصر على مواجهة الجيوش البريطانية في حرب نظامية، ولكن بمقدورها ان تجعل اقامتهم على فوهة بركان، وقد اتبع عدة طرق في هذه المواجهة وكانت أكثرها فاعلية واقتصاداً هي اللعب على نفسية الخصم في منطقة القناة (59). وكان الفدائيون المصريون يقومون بعملياتهم الجريئة ضد المعسكرات البريطانية، ووصلت الحالة بالقيادة البريطانية عقب اختفاء جندي بريطاني الى ان قدمت انذاراً للحكومة المصرية، وقد رفضته الأخيرة، مما دفع بريطانيا الى استئناف المفاوضات (60).

وفي 19 أكتوبر 1954 عُقد الاتفاق النهائي التفصيلي المتضمن تنظيم عملية جلاء القوات البريطانية، ويتم الجلاء في 13 يونيو 1956، ويشير عبد الرحمن الرافعي: لم يكن الجلاء متفقاً عليه في معاهدة 1936 كما زعم الواهمون (61).

يتعرض أمين هويدي لمسألة مهمة:

هذه أولى الحروب التي خاضها شعب مصر تحت قيادة عبد الناصر، والتي لا يتحدث عنها أحد على الاطلاق وتكاد ان تحجبها ستائر كثيفة من النسيان رغماً عن أهميتها وخطورتها، حرب كان هدفها تحقيق استقلال مصر الذي كان الشغل الشاغل للحركات الوطنية لمدة قرن (62).

عندما قامت الثورة كان من اهم أهدافها تقوية الجيش وتزويده بالسلاح، فاستنجدت بالغرب للحصول على الأسلحة الثقيلة، فكانت تلقى مراوغة وصدوداً وشروطاً ثقيلة لا تتفق مع كرامة البلد واستقلاله، وقد أعلنت الخارجية الأمريكية انها توزع صادراتها من السلاح بين الدول العربية وإسرائيل بالتساوي! مع انها كانت تُغدق السلاح على الأخيرة وتمنحها المعونات المالية وتمنع السلاح عن الدول العربية (63). فلم ترَ الثورة بُدّاً من التزود بالأسلحة الثقيلة من المعسكر الشرقي، فوقعت مصر في سبتمبر 1955 اتفاقاً تجارياً مع تشيكوسلوفاكيا على توريد ما طلبته مصر من السلاح بدون قيد أو شرط، فكان عقد هذه الصفقة ـ برأي الرافعي ـ دليلاً على شجاعة منقطة النظير، فقد تم عقدها والجيش البريطاني موجود على أرض مصر (64). فأصبح عبد الناصر بعد هذه الصفقة معبود الجماهير العربية كما ذكر جاك دومال، وهي بنظره صفقة تجارية هائلة (65).

ونتيجة للتقرب من المعسكر الاشتراكي، قامت الولايات المتحدة لاحقاً مُمثّلَةً بوزير خارجيتها جون فوستر دالاس بسحب عرضها بتمويل السد العالي وبوحشية (66)، فما كان من عبد الناصر الاّ الرد على إهانة دالاس بقراره التاريخي بتأميم قناة السويس(67)، والذي أعلنه في خطابه بالإسكندرية يوم 26 يوليو 1956، وجاء الدعم السوفيتي بأن القناة ملك لمصر وإن تأميمها اجراء قانوني عادي لصالح اقتصادها (68). وأدى هذا القرار الى أن قامت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بعدوان ثلاثي على مصر، مع ان هويدي يرى بأن التأميم لم يكن داعياً للحرب، ويرى أن الدول الثلاثة قد اتفقت على العدوان للقضاء على عبد الناصر، ولكن دوافعها متعددة ومختلفة (69). فبريطانيا وفرنسا كانتا تملكان معظم اسهم الشركة وامتياز ينتهي في 1968، وأوضح موشي ديان بأن من مصلحة إسرائيل المشاركة في الحرب (70).

قرر عبد الناصر مواجهة العدوان، ولكن صلاح سالم أصابه الانهيار واقترح على عبد الناصر تسليم نفسه الى السفارة البريطانية لكي يُجنّب مصر دماراً هائلاً، فأجابه عبد الناصر بأنه لا يعتقد بأن البريطانيين يريدونه شخصياً وعليه فلن يستسلم ويُفضل التضحية بنفسه (71).

قام المصريون بالدفاع عن بلدهم، ويتطرّق حمروش لمسألة مهمة جداً، فقد كان الشيوعيون المصريون من أوائل الذين بادروا للدفاع عن بور سعيد والاشتراك في المقاومة الشعبية، ولم يفرضوا سيطرتهم كما ادعى هيكل (72).

هدّد الاتحاد السوفيتي بضرب لندن وباريس بالصواريخ وبتدمير إسرائيل ان لم يتوقف العدوان، فما كان من الولايات المتحدة إلا أن تضغط على حلفائها لإيقاف الحرب (73).

آمن عبد الناصر بالقومية العربية، ويرى فاتيكيوتس بأن هذا الأمر طريق كل قائد لمصر وليس عبد الناصر وحده (74). وعندما نتطرّق الى الوحدة المصرية السورية، نجد ان عبد الناصر قد كان متحفظاً عليها كما ذكر صلاح البيطار (75)، فالجيش السوري هو الذي لعب دوراً قيادياً في الوحدة مع مصر خوفاً من تفاقم الصراعات داخل الجيش والأحزاب (76)، فقد قررت مجموعة من الضباط السوريين مستهل 1958 العمل على فرض الوحدة وطلبوا من عبد الناصر الموافقة الفورية، وكانت هذه المجموعة تضم عشرين ضابطاً من بينهم عفيف البزري وعبد الحميد السراج، فذهب الأخير مع زملائه الى القاهرة وأصروا على الوحدة حتى لو سُجنوا (77)، وقد تأسّف عبد الناصر للوفد السوري لأنه لا يقبل التعامل الا مع حكومة شرعية، وقد فوجئ الرئيس شكري القوتلي عندما علم بسفر الضباط الى القاهرة، وأدرك ان الموقف سيفلت من يده ان وقف معارضاً للوحدة، فوافق على سفر وزير الخارجية صلاح البيطار الى القاهرة. وقد وضع عبد الناصر شروطاً لإقامة الوحدة:

أن يجري اسفتاء شعبي عليها في مصر وسوريا، ويتوقف النشاط الحزبي السوري وتقوم كل الأحزاب بحل نفسها، ويتوقف تدخل الجيش في السياسة تماماً (78). تمت الموافقة وأعلن عبد الناصر والقوتلي عن الوحدة في الأول من شباط 1958 في القاهرة (79).

حصلت الوحدة مع سوريا بسبب الشعبية الهائلة لعبد الناصر، وقد قال عبد الناصر للصحفي الفرنسي بنوا ميشان عندما سأله عن الوحدة: أنا لستُ فاتحاً، أنا كما تقولون بالفرنسية "مغناطيس" (80).

رفضت القوى الغربية بطبيعة الحال الوحدة، وقد أفصحت وثيقة بريطانية على القبول بها ثم العمل على تخريبها، ورأى دالاس بأن الوحدة خطر على مصالح الولايات المتحدة وأنها ستُدعم أي مبادرة عربية ضدها (81). أما الحزب الشيوعي السوري فقد أيّد الوحدة مع مصر، بل ان خالد بكداش قد صَرّحَ بأن: تحليل الوضع في العالم العربي على أساس الماركسية اللينينية يؤدي حتماً الى اعتناق الوحدة العربية (82)، ولكنه رفض حَلّ الحزب أثناء الوحدة (83)، وهذا ما أدى الى مشاكل تعرّضَ فيها الشيوعيون لضربات كبيرة أبرزها مقتل المناضل فرج الله الحلو، ويصفه بكداش بالرفيق الممتاز جداً، الهادىء الدؤوب الشجاع، والذي اعتُقل وعُذّب، ثم ذُوّبَ جسده بالأسيد (84). ويرى حمروش بأن مقتل الحلو من أشد جرائم رجال السراج وزير داخلية الإقليم السوري (85)، وقد أدلى السراج برأيه فقال:

كان الحلو معروفاً بإصابته القلبية ولم نقصد قتله، ما حدث ان الخشونة البدنية التي واجهها كانت كافية لوفاته، وعندما علمت بتذويب جسده قدّمت استقالتي فوراً لعبد الناصر (86). وقد أدلى معاون السراج عبد الوهاب الخطيب بشهادته فقال: لا علم لعبد الناصر بما جرى للحلو، ولا علم للسرّاج أيضاً (87).

ولكن رغم كل هذا نجد بكداش يقول:

على الرغم من الذي عاناه حزبنا أيام الوحدة فإننا نعطي عبد الناصر حقه، فعندما علمت بموته عام 1970 قلت: لَه يا أبا خالد، ليس وقت موتك الآن (88).

انتهت تجربة الوحدة في سبتمبر 1961، فكانت أول هزيمة سياسية لعبد الناصر بعد سنوات صعود خارقة (89)، وقد اعترف عبد الناصر بعدها بأن حَلّ الأحزاب السورية على اختلاف مشاربها كان قراراً خاطئاً (90).

عندما قامت ثورة 14 تموز 1958 في العراق، كان عبد الناصر داعماً لها وبشدة، فعندما سمع بها كان في زيارة ليوغوسلافيا، فقطع زيارته وتوجه سراً الى موسكو للتعرف على موقفها، ورفض النزول في بغداد لأنه يوم للعراقيين وحدهم، وفي دمشق أعلن بأن أي عدوان على العراق يُعتبر عدواناً على الجمهورية العربية المتحدة (91). ولكن الموقف تغيّر بعد الخلاف بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، ليلتزم عبد الناصر جانب عارف والقوميين، مع انه قد نصح العراقيين بعدم التسرع بالوحدة (92)، ولكن القوميين والبعثيين في العراق أثبتوا أنهم ملكيين أكثر من الملك، وهذا ما قاد الى الانقلاب الدموي في 1963، وهو موقف لا نغفره لعبد الناصر. وكان قرار نفض اليد من الزعيم قاسم بعد 1960 غير حكيم كما أشار الطويل (93).

وعندما قامت الثورة في اليمن عام 1962 ضد حكم الامامة الرجعي، وقفت السعودية موقفاً عدائياً منها، وأمدت النظام المهزوم بالمال والسلاح لمقاومة الثورة الوليدة، فما كان من النظام الثوري الا أن يطلب مساعدة مصر، فوافقت القاهرة على مساعدة محدودة بما ينسجم مع فكرة القومية العربية، ولكن عندما تزايد التدخل الأجنبي من السعودية والولايات المتحدة وبريطانيا، قامت مصر بمضاعفة قواتها (94)، وهذا ما أدى الى استنزاف قوتها في المستنقع اليمني. ولكن حمروش يرى بأن رفض مصر معاونة ثورة اليمن أمراً غير مقبول ولا وارد سياسياً، فقد فزعت الامبريالية من ظهور عبد الناصر في الجزيرة العربية ليُطوق النظام السعودي، وأن القول بأن ثورة اليمن قد كبّدت مصر خسائر اقتصادية كبيرة هو قول فيه مبالغة كبيرة، وأن ملحمة القوات المصرية في اليمن من اعظم امجاد ثورة يوليو (95). وفي إشارة دقيقة لهويدي، أن البعض يتحدث عن تدخل مصر في اليمن ولا يتحدث اطلاقاً عن التدخل السعودي! مع الفارق الكبير بينهما (96).

تلقّى عبد الناصر ضربة هائلة في 5 حزيران 1967 عندما قامت القوات الإسرائيلية بقيادة موردخاي هود بهجوم على القوة الجوية المصرية نتج عنه تدمير 309 طائرة من أصل 340 (97)، وقد أدى موشي ديان وزير الدفاع دوراً كبيراً في هذا الانتصار (98). وقد كانت لعبد الناصر الشجاعة على تحمّل المسؤولية أمام الناس (99)، فأعلن مساء 9 يوليو تخليه عن الرئاسة لزكريا محيي الدين، ولكن خرجت المظاهرات رافضة لهذا الاجراء ومطالبة ببقائه في السلطة (100)، وعليه فلم تستطع الهزيمة رغم فداحتها من ان تقتلع عبد الناصر من مكانه أو تهدم نظامه (101). وقد أثار هذا الانتصار الإسرائيلي الساحق استفهاماً في محله:

هل من الممكن أن تنجح إسرائيل بعيداً عن الدعم الأمريكي؟ إذ يورد هيكل بأن طائرات أمريكية تحلّق في الأجواء المصرية أثناء معارك سيناء (102)، بينما يرى وليم كوانت بأنه لا وجود لتواطؤ أمريكي إسرائيلي في هذه المعركة (103).

أطلق عبد الناصر بعد هذه الهزيمة الكبيرة حرب الاستنزاف ضد إسرائيل بمساعدة سوفيتية عظيمة (104)، وقد استمرت الى عام 1970 بقبوله مبادرة روجرز والتي كانت دفناً لجزء كبير من تاريخه بحسب السيد جاسم (105)، مع اننا نرى ضرورة أخذ الظروف المحيطة به قبل أن نحكم على خطوته، إذ يرى أجاريشيف بأن قبول المشروع كان ضرورة حتمية لالتقاط الأنفاس (106). ليرحل عبد الناصر في خريف العمر 52 عام كمقاتل في اشد اللحظات التاريخية توتراً ومأساوية (107)، رحل ولم يترك شيئاً من الممتلكات والأموال، فقد كان عازفاً عن حياة الترف والبذخ، بل ويزدري هذا النمط من العيش (108).

حقّق عبد الناصر إنجازات كبيرة في الزراعة والصناعة والتعليم (109)، ولكنه لم يحقق أي تقدم في المجال السياسي (110)، وهناك من يرى انتماء عبد الناصر الى الخط الذي يعطي الأولوية لمشكلة التحرر قبل مشكلة الديموقراطية (111). واللافت للنظر هنا أن الشيوعيين المصريين قد تمسكوا بالناصرية ودافعوا عنها بعد رحيل قائدها (112) رغم الضربات العنيفة التي تلقوها منه، ورغم أنه قد اعلن عن السير في الطريق الاشتراكي ولكن بغياب الاشتراكيين الحقيقيين في عملية مستحيلة (113). وهذا يعني بأن الشيوعيين يُقدّمون العامل الموضوعي على العامل الذاتي في سلوك نادر.

النتيجة التي ننتهي اليها بعد هذه الجولة البحثية:

كان عبد الناصر علامة عربية فارقة في القرن العشرين، إذ كان بطلاً قومياً فجّر ثورة عظيمة في المنطقة، وحارب الامبريالية وكيانها الذي زرعته في قلب الأمة العربية بعزم لا يلين، ولكنه ارتكب أخطاء كثيرة، وهو أمر وارد بمقياس البشر، نقول بهذا بعيداً عن التبرير، فهو عظيم المجد والأخطاء كما ذكر الجواهري الكبير.

***

معاذ محمد رمضان "باحث تأريخي"

......................

الهوامش:

1ـ فاتيكيوتس: جمال عبد الناصر وجيله، ترجمة: أحمد نبيل اللهيب، ط1 مصر مدارات للأبحاث والنشر 2025 ص21

2ـ لويس عوض: أقنعة الناصرية السبعة، ط1 مصر مركز المحروسة 2014 ص8

3ـ أجاريشيف: جمال عبد الناصر، ترجمة: سامي عمارة، موسكو دار التقدم 1983 ص4 و5

4ـ عزيز السيد جاسم: مقتل جمال عبد الناصر، ط1 بغداد دار آفاق عربية 1985 ص10

5ـ جاك دومال وماري لوروا: جمال عبد الناصر، ترجمة: ريمون نشاطي، تقديم: كمال جنبلاط، ط5 بيروت دار الآداب 1979 ص46 و47

6ـ أجاريشيف ص9

7ـ فاتيكيوتس ص30

8ـ انتوني ناتنك: ناصر، ترجمة: شاكر إبراهيم سعيد، ط1 بيروت القاهرة، مكتبة الهلال ومكتبة مدبولي 1958 ص37

9ـ ناتنك ص30

10ـ فاتيكيوتس ص36 و37

11ـ مارلين نصر: التصور القومي العربي في فكر جمال عبد الناصر 1952 ـ 1970 دراسة في علم المفردات والدلالة، ط2 القاهرة دار المستقبل العربي 1983 ص96

12ـ اجاريشيف ص16 و17

13ـ ناتنك ص39

14ـ جاسم ص24

15ـ جاسم ص25، ناتنك ص39

16ـ محمد حسنين هيكل: سقوط نظام! ط3 مصر دار الشروق 2008

17ـ لطفية محمد سالم: فاروق الأول وعرش مصر 1920 ـ 1965، ط2 مصر دار الشروق 2007 ص43 و133

18ـ أحمد حمروش: مصر والعسكريون ج1، بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1974 ص145

19ـ فاتيكيوتس ص140 و141

20ـ حمروش ج1 ص147 و148

21ـ حمروش ص165

22ـ محمد نجيب: كلمتي للتاريخ، ط3 مصر المكتب المصري الحديث 2011 ص25

23ـ حمروش ج1 ص197

24ـ محمد توفيق الأزهري: البكباشي يوسف صديق منقذ ثورة يوليو، تحقيق وتقديم: محمود توفيق ط1 القاهرة مكتبة مدبولي 2000 ص48

25ـ ثورة 23 يوليو 1952 القصة الكاملة بأقلام الضباط الأحرار، اعداد: ناصر جرجيس ط1 بغداد المكتبة العالمية 1985 ص47

26ـ فاتيكيوتس ص146

27ـ فؤاد مطر: بصراحة عن عبد الناصر، ط4 دار القضايا ص52

28ـ كمال خلف الطويل: عبد الناصر كما حكم ج1، ط1 بيروت مركز دراسات الوحدة العربية 2024 ص49

29ـ مطر ص53

30ـ أنور السادات: ياولدي هذا عمك جمال، مكتبة العرفان ص67 و69

31ـ حمروش ج1 ص187 و188

32ـ الطويل ج1 ص50

33ـ فاتيكيوتس ص145

34ـ اجاريشيف ص78 و79

35ـ مطر ص41

36ـ السادات ص50

37ـ جاسم ص117

38ـ اجاريشيف ص73

39ـ نجيب ص20

40ـ عودة بطرس عودة: عبد الناصر والاستعمار العالمي ط1 بيروت مطابع الكفاح 1975 ص43

41ـ عودة ص44

42ـ عبد العظيم رمضان: عبد الناصر وأزمة مارس، مكتبة روز اليوسف ص13

43ـ نجيب ص128

44ـ ناتنك ص85 و86

45ـ جاسم ص117

46ـ نجيب ص73 و74

47ـ حمروش ج1 ص286 و287

48ـ نجيب ص52 و53

49ـ حمروش ج1 ص288، رمضان ص81

50ـ نجيب ص56

51ـ نجيب ص76 و77 و78

52ـ فاتيكيوتس ص185

53ـ رمضان ص164

54ـ أحمد حمروش: شهود ثورة يوليو ج4، ط1 بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1977 ص323

55ـ رمضان ص5 و99

56ـ أنور عبد الملك: المجتمع المصري والجيش 1952 ـ 1967، ط1 مصر مركز المحروسة 1998 ص145

57ـ حمروش ج4 ص321

58ـ فاتيكيوتس ص190

59ـ أمين هويدي: حروب عبد الناصر، ط2 بيروت دار الطليعة 1979 ص18 و32

60ـ هويدي ص37

61ـ عبد الرحمن الرافعي: ثورة 23 يوليو 1952 / تاريخنا القومي في سبع سنوات 1952 ـ 1959، القاهرة مكتبة الأسرة 2017 ص219 و224 و228

62ـ هويدي ص42 و43

63ـ الرافعي ص197

64ـ الرافعي ص198 و202

65ـ دومال ص98

66ـ دومال ص99، محمد حسنين هيكل: ملفات السويس، ط1 القاهرة مركز الأهرام 1986 ص450، محمد حسنين هيكل: عبد الناصر والعالم، بيروت دار النهار 1972 ص103

67ـ هيكل: عبد الناصر والعالم ص104

68ـ هيكل: ملفات السويس ص464 و468

69ـ هويدي ص52 و53 و54

70ـ آيات ربيع جابر اللامي: موشي ديان ودوره العسكري والسياسي في إسرائيل 1959 ـ 1980، رسالة ماجستير غير منشورة كلية التربية جامعة كربلاء 2022 ص39

71ـ هيكل: عبد الناصر والعالم ص163 و164 أما ناتنك فيضع عبد الحكيم عامر معه في هذا الاقتراح ص203 وقد أدرك صلاح سالم خطأه بعدها وحارب، والمثير أن عبد الناصر لم يعاقبه، بخلاف صدام حسين الذي قام بإعدام وزير الصحة الدكتور رياض إبراهيم لأنه اقترح ان يتنازل صدام عن الرئاسة لأحمد حسن البكر في عام 1982، يُنظر:

ماريون فاروق سلوغلت وبيتر سلوغلت: من الثورة الى الدكتاتورية ـ العراق منذ 1958، ترجمة: مالك النبراسي، العراق منشورات الجمل 2003 ص345

72ـ أحمد حمروش: مجتمع جمال عبد الناصر ج2، بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1975 ص116

73ـ ناصر زيدان: دور روسيا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ط2 بيروت الدار العربية للعلوم ناشرون 2013 ص116

74ـ فاتيكيوتس ص331

75ـ أحمد حمروش: عبد الناصر والعرب ج3 القاهرة مكتبة مدبولي ص47

76ـ الوحدة المصرية السورية 1958 في الوثائق السرية البريطانية، تحقيق واعداد وترجمة: وليد محمد الأعظمي، بغداد المكتبة العالمية 1990 ص6

77ـ ناتنك ص252 و255

78ـ محمد حسنين هيكل: سنوات الغليان، ط1 القاهرة دار الشروق 2004 ص316 و319

79ـ الوحدة ص7

80ـ حمروش ج3 ص50

81ـ الوحدة ص26 و27

82ـ الوحدة ص16، حمروش ج3 ص53

83ـ خالد بكداش يتحدث، اعداد وحوار: عماد ندّاف، دمشق 1993 ص37

84ـ بكداش ص38

85ـ حمروش ج3 ص73

86ـ الطويل ج2 ص752

87ـ الطويل ص754

88ـ بكداش ص38

89ـ أحمد حمروش: خريف عبد الناصر ج5، ط1 بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1978 ص56

90ـ حمروش ج3 ص122

91ـ ليث الزبيدي: ثورة 14 تموز في العراق، ط2 بغداد اليقظة العربية 1981 ص207 و208

92ـ هيكل: سنوات الغليان ص393

93ـ الطويل ج1 ص46

94ـ هويدي ص123 الى 130

95ـ حمروش ج3 ص266 الى 269

96ـ هويدي ص127

97ـ حاييم هرزوج: الحرب العربية الإسرائيلية 1948 ـ 1982، ترجمة: بدر الرفاعي، ط1 القاهرة سينا للنشر 1993 ص178

98ـ اللامي ص101

99ـ محمد حسنين هيكل: الانفجار 1967، ط2 القاهرة دار الشروق 2010 ص10

100ـ ناتنك ص477 و479

101ـ حمروش ج5 ص176

102ـ هيكل: الانفجار ص810

103ـ وليم كوانت: عملية السلام ـ الدبلوماسية الأمريكية والنزاع العربي الإسرائيلي منذ 1967، ط1 القاهرة مركز الأهرام 1994 ص63

104ـ يوسف صايغ وآخرون: حرب الاستنزاف، دراسات 5، بيروت دار القدس

105ـ جاسم ص246

106ـ اجاريشيف ص174

107ـ حمروش ج5 ص7

108ـ فاتيكيوتس ص424

109ـ حمروش ج5 ص384

110ـ ناتنك ص530

111ـ عصمت سيف الدولة: هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً؟ ط1 بيروت دار المسيرة 1977 ص73

112ـ جاسم ص186

113ـ عبد الملك ص38

من الصدف النادرة التي أضفت رمزية على تموز بأن تكون ولادة ووفاة الشاعر محمد مهدي الجواهري في هذا الشهر، وُلد في مدينة النجف الأشرف في السادس والعشرين من تموز عام 1899، وتوفي في دمشق في السابع والعشرين من تموز عام 1997، ليغلق حياته بعد نحو قرن من الإبداع والنضال الشعري.

يُعد الجواهري من أبرز رموز الشعر العربي المعاصر، وأحد أعمدة الأدب في العراق والعالم العربي، لُقب بـ "شاعر العرب الأكبر"، وهي مكانة كبيرة جاءت نتيجة تراكم إبداعي هائل، وموهبة فذة، ورؤية فكرية وإنسانية متقدمة. امتلك ناصية اللغة العربية وتمكن من أدوات الشعر الكلاسيكي حتى صار شعره امتداداً طبيعياً لتراث كبار الشعراء من أمثال المتنبي والمعري وأبي تمام وغيرهم من فحول الشعراء، لكنه امتاز عنهم بأنه طبع هذا التراث بطابع العصر، وجعله منبراً لقضايا الإنسان والوطن.

يرى الأديب حسين مروة، أن الجواهري ينتزع مكانه انتزاعاً خارج سربه في تلك السلسلة المخضرمة، لنراه في مكان الطليعة بين كبار أدبائنا المعاصرين ويرتفع شعره من حيث القيمة الفنية الجمالية إلى مستوى الوعي الناضج الذي يدرك هدفه بدقة.

اتخذ الجواهري مواقف وطنية جريئة ومعارضة للحكم الملكي في العراق، كان صريحاً في نقده اللاذع للفساد السياسي والاجتماعي والاستبداد الذي شاع في عهد النظام الملكي. هاجم الطبقة الحاكمة التي كانت تنهب خيرات العراق بينما يعاني الشعب من الفقر والظلم، وقد عبّر عن تلك المواقف الجريئة بوضوح في شعره، عكس مشاعر الحزن والأسى لدى الناس لما آل إليه حال العراق في ظل الحكم الملكي قائلاً:

يا دجلة الخير! يا أم البساتينِ      ما لي أراكِ كأنكِ لا تسرّينِ

رغم المكانة الرفيعة التي حظي بها الجواهري خلال حقبة العهد الملكي لكنه انحاز إلى صفوف العمال والفلاحين والكادحين، منتقداً هيمنة الاقطاع وأصحاب النفوذ على مقدّرات البلاد، رافضاً التبعية للاستعمار البريطاني. له مواقف مشرفة من قضايا الشعب الوطنية، على سبيل المثال وثبة كانون 1948، التي سقط خلالها شهداء، منهم شقيقه جعفر، الذي رثاه بقصيدته الشهيرة التي أصبحت رمزاً للمقاومة الشعبية:

أتعلمُ أم أنتَ لا تعلمُ       بأنّ جراحَ الضحايا فمُ

وبسبب مواقفه المتشنجة تعرض للمضايقات، وأُجبر على ترك العراق مرات عديدة، لا سيما في عهد نوري السعيد، بعد أن خضع شعره للرقابة، لكنه لم يتراجع عن التعبير عن قناعاته، واستمر في مساعيه الوطنية في بث وتشكيل الوعي السياسي والثقافي لدى الجماهير في مواجهة الاستبداد الملكي بحيث أصبحت قصائده تُلقى في المظاهرات والمناسبات الوطنية.1709 jawahry

وفي الخمسينات من القرن الماضي مرَّ العراق بظروف صعبة وخطرة على سياسة البلد ومستقبله، فقد أسكت نوري السعيد السياسيين والكُتاب والمواطنين بإجراءات تعسفية لم يسبق لها مثيل، وتحول العراق إلى‏ سجن كبير، واشتد الظلم، وانتشر الفقر، فركز الجواهري على أحوال العراق الاقتصادية، والحالة المزرية التي يعيشها الفقراء، داعياً باسلوبه الساخر الجموع الجائعة والمضطهدة الإقلاع عن حالة الاسترخاء التي تغريهم بها الفئات الحاكمة:

نـامي  جـيــاعَ الـشَّــعـبِ  نـامي     حـرسَـــتْـكِ  آلـِـهــــةُ الـطَّـعـامِ

نـامي  فــانْ  لـــم  تـشـبَــعـي      مِـن  يَـقْـظَــةٍ   فــمِـنَ  الـمـنـام

نـامي  عـلى  زُبـــــد الوعـود     يُــدافُ  في  عَســــلِ  الـكـلام

كانت قصائده منصة للنضال السياسي والاجتماعي، واجه بها الاستعمار، وندد بالظلم، ودافع عن الحرية والعدالة. عاش معظم حياته في خضم تحولات العراق الكبرى، في العهدين الملكي والجمهوري، فكان شاهداً وفاعلاً في أحداثها، من خلال قوة وتأثير الكلمة الشعرية التي زلزلت المنابر وحركت مشاعر الناس في ميادين النضال.

وبعد ثورة 14 تموز 1958، شهد العراق حراكاً فكرياً وسياسياً واسعاً، وكانت النخبة المثقفة، لا سيما الأدباء، تطمح لتأسيس كيان يمثل صوتهم ويدافع عن حقوقهم المهنية والثقافية. فبرزت الحاجة لتأسيس كيان أدبي يمثل تطلعات الأدباء، ويعيد الاعتبار لدور المثقف في بناء الدولة الجديدة، هنا برز دور الجواهري، أحد أبرز الوجوه الثقافية والشعرية التي امتلكت ليس فقط الحضور الأدبي، بل أيضاً النفوذ الرمزي والشخصية القيادية القادرة على توحيد الصف، فبادر إلى الدعوة لعقد مؤتمر موسع للأدباء في بغداد ليكون أداة للنضال الثقافي المساهم في تنوير المجتمع.

ترأس الجواهري المؤتمر التأسيسي الأول لاتحاد الأدباء العراقيين، الذي ضم أدباء من مختلف التوجهات الفكرية والسياسية، وتمخض عنه تأسيس الاتحاد عام 1959، كأول منظمة ثقافية أدبية عراقية تجمع الشعراء والروائيين والنقاد تحت مظلة واحدة. أصبح الجواهري أول رئيس لاتحاد الأدباء العراقيين، هذه المكانة شغلها بكفاءة وشجاعة، مستنداً إلى رمزيته وشعبيته، ووقوفه إلى جانب قضايا الأدباء في الحقوق وحرية التعبير ضد القمع السياسي والدفاع عن الكلمة الحرة وتفعيل النشاطات الأدبية والثقافية وتمثيل العراق في المحافل الأدبية العربية والدولية.

كان الجواهري من أبرز المؤيدين للثورة، وقد رحّب بها بحرارة، لأنها مثّلت، من وجهة نظره، خلاصاً من الاستبداد الملكي والطبقي، وفتحت آفاقاً جديدة لحكم وطني يتطلع إلى العدالة الاجتماعية. وكان موقفه من الزعيم عبد الكريم قاسم يتراوح بين التأييد الحذر في البداية، ثم التوتر والاختلاف لاحقاً. كتب في تلك الفترة قصائد تمجّد الثورة، وألقى في مناسباتها قصائد ملحمية أمام الجماهير المحتشدة، وكان يُنظر إليه حينها كأحد أبرز الأصوات التي أعطت للثورة شرعية أدبية وشعبية.

كانت علاقته مع الزعيم عبد الكريم ودية ومحترمة، وقد كرّمه بمنصب رسمي بتولي رئاسة اتحاد الأدباء العراقيين، وأسّس جريدة "الرأي العام"، التي كانت تعبّر عن أفكاره الحرة. ورغم هذا التقارب، بدأ الجواهري يعبّر عن تحفّظه وانتقاداته للسياسة العامة في العراق، لا سيما بما يتعلق بالتضييق على الحريات، وتراجع بعض مكتسبات الثورة، وازدياد النزعة الفردية في الحكم.

ونتيجة لتصاعدة نبرة انتقاداته، وتوتر علاقته مع السلطة، غادر العراق عام 1961 إلى براغ، حيث عاش سنوات طويلة في المنفى. لم يكن الجواهري من خصوم عبد الكريم قاسم الأيديولوجيين، لكنه عبّر عن خيبة أمل كبيرة من الصراعات السياسية، وتراجع الحريات، ما جعله يعارض السلطة من موقع المثقف الوطني، لا من موقع الخصومة السياسية.

هناك تساؤل مشروع يدور في أذهان الكثير من الناس، هل الجواهري شاعر مناسبات؟ تطالعنا الحقائق التاريخية بأن أكثر الوقائع تشير بأنه كان يبحث عن المناسبة ليقول ما في مخيلته، ولذلك كان شعره يأتي متفجراً، وكأنه قد تهيأ لها منذ زمن طويل، فالمناسبة منطلق ليس أكثر، وقد ينسى المرثي أو الممدوح أو المكرم، وقد يقول فيهم ما لا يرغبون فيه، وقد يصل الأمر إلى حدّ التعارض، وفي كل الحالات يبقى الامر واحداً لدى الشاعر، لقد قال ما يريد، وليأت بعد ذلك الطوفان.

يرى الأديب زهير الجزائري بأن هناك سؤالاً يفرض نفسه، مَنْ هو الجواهري في مواجهة السلطة؟ أهو الذي كتب أكثر من (48) قصيدة في مديح الحكام، تسع منها في مدح الملك فيصل الأول، أم هو الذي وقف وسط جمهور الوثبة ليحرضهم على تقحم رصاص الحاكمين لـ (يغري الوليد بشتمهم والحاجبا)، وهو الذي عاش أكثر من نصف عمره الإبداعي في المنفى بسبب موقفه من الحكام ملكياً كان أم جمهورياً ؟ إن الأمر أكثر تعقيداً من وضع الجواهري في واحدة من الخانتين: مداح الحاكمين أم محرض عليهم؟.

تفرد وتميز الجواهري عن غيره من الشعراء بعدة خصائص جعلته علماً بارزاً، حافظ على البنية العمودية التقليدية للشعر العربي، لكنه ضخ فيها دماء جديدة من حيث الموسيقى والإيقاع، امتاز شعره بقوة الاسلوب وجزالة الألفاظ، وُصف بأنه "آخر فرسان القافية العربية".

امتاز شعره بصدق التجربة، كانت قصائده انعكاساً مباشراً لما يعيشه ويشعر به من الغربة والمنفى إلى الحنين للأرض. كتب أكثر من سبعين عاماً، ونُشر له عدداً من الدواوين والمقالات، حتى جمع شعره في ديوان ضخم من عدة مجلدات، وكان حتى سنواته الأخيرة قادراً على نظم الشعر بقوة وبلاغة لافتة.

يبقى الجواهري شاهداً حياً على قدرة الشعر العربي على التعبير عن أشد اللحظات تعقيداً في التاريخ، وعلى تماهي الكلمة مع الموقف، وقد أطلقت مؤسسات ثقافية عراقية وعربية اسمه على مراكز أدبية وجوائز شعرية، تخليداً لإرثه الكبير. وفي كل تموز تمرّ ذكراه حاملةً عبق الكلمات التي صاغها، والقصائد التي أنشدها في المحافل الكبرى، ليبقى صوته خالداً في ذاكرة الثقافية العراقية والعربية، وشخصية تفخر بها الأجيال.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

ثمة منعطفات ومحطات مهمة في حياة رشدي العامل لم تعد خفية أو مجهولة لدى الناقد الأدبي والمتابع لآثاره الإبداعية، أو سيرته الشخصية. إلا انها جميعا تستحق التوقف والدراسة، منها اختياره الواعي للعمل في الصحافة، بناءً على انخراطه في العمل السياسي منذ سنوات شبابه الأولى، وجد في الصحافة الفضاء الأوسع للكشف عن موهبته المبكرة في الكتابة السياسية والتعبير عن أفكاره التي تبناها بدراية العارف، فتوثقت صلته بقرائه ومتابعيه على صفحات الجرائد الوطنية (الأهالي، الراي العام) ومن ثم مجلة 14 تموز، والأديب العراقي، وصحف اليسار في مراحل لاحقة.

اكتست تجربة رشدي الصحفية بوضوح الرؤية وصدق المضمون وصلابة الموقف في خضم المعترك السياسي والثقافي، فأضحى علامة مميزة في حركة الشعر العراقي الحديث، ورائداً مبدعاً في كتابة القصيدة الغنائية الجديدة، ومناضلاً باسلاً في مواجهة التسلط والقمع وممارسات الديكتاتورية بأساليبها كافة.

ذاك هو عالم رشدي العامل الفسيح الذي أطل من خلاله كشاعر وكاتب سياسي لامع، يكتب العمود اليومي محللاً للأحداث السياسية اليومية، ومتابعاً ومراقباً حاذقاً لها، بنظره الثاقب الممتلئ بحس إنساني، تعززه لغة أدبية رشيقة في التعبير الصادق عن الموضوع، والقدرة على الكشف والادهاش.

العامل يكتب بلغة العارف بسر الكلمات، المحترف، المرتكز على أرضية فكرية راسخة، منحته القدرة على فهم حركة التاريخ بنظرة جدلية كانت تستوعب معطيات العصر ولغته آنذاك، كانت تلك عدّته وأدواته التي مكّنته من الوقوف في المقدّمة دائماً.

عرفت رشدي العامل* شاعراً منذ عام 1959، بعد أن قرأت له بعض القصائد التي ينشرها في الصحافة العراقية حينذاك، عام 1970 كان نقطة التحول في العلاقة مع رشدي، إذ جمعنا مبنى جريدة (الفكر الجديد) الأسبوعية، ومن ثم جريدة (طريق الشعب) اليومية. كان وجود (أبو علي) في مبنى الجريدة بيننا عاملاً في إشاعة أجواء المحبّة بين العاملين فيها، لحيوية وحماس يتميز بهما، وأريحية لا يجيدها غيره، ومشاكسة يواجه بها خصومه عند الحاجة، لا ينافسه في الموهبة سوى الكاتب "شمران الياسري"، حين يتباريان في تخطي المحذور والخطوط الحمر التي يفرضها "الحزب الحليف"!

كان من الطبيعي أن يخوض رشدي غمار هذه التجاذبات السياسية والفكرية، غالباً ما يعبّر عنها في الحوار والنقاش والجدل خارج صفحات الجريدة، مؤمناً وملتزماً بنهجه الفكري، ومتبنياته السياسة وقناعاته الخاصة التي عبّر في أوراقه الخاصة بالقول:

"أستطيع أن أسجل بكل ثقة ان اختياراتي ظلت دائماً تتميز بنوع من الوضوح والقناعة والوعي، إن النار البطيئة، النار الهادئة تنضج الطعام بشكل أفضل.

لقد حرصت فيما بعد، وأنا أقوم بدوري داعية من دواعي الفكر التقدمي، على مساعدة الناس الذين ألتقيهم، بحكم عملي السياسي، أو المهني."

شغل رشدي مسؤولية الشؤون العربية والدولية في "طريق الشعب"، هذا الرجل الطافح بالشعر، على الرغم من انصرافه لعمله المهني، يظل يراقب عن قرب، بعينين لامعتين ما يفعله زملاؤه في صفحة "ثقافة" الحافلة بما هو جديد في الأدب والمعرفة.

العمود الأول من الصفحة الثانية يذيل بتوقيع (أبو علي)، هو ميدانه الحقيقي وفارسه الأول، كان محاطاً بجيل من الصحفيين : إبراهيم الحريري، فالح عبد الجبار، منعم الأعسم، يحيى علوان، صادق البلادي، مصطفى عبود، عدنان حسين، هؤلاء وغيرهم نهلوا من خبرته وتجربته الإبداعية، البعض دخل الجريدة من باب (الأدب) ثم انصرفوا للشأن السياسي.

خاض رشدي العامل تحدياً مهنياً صعباً، إذ كان يراهن بذكائه الصحفي، وموهبته المتفردة، أن يوظف خبرات هذه الجمهرة من الأدباء لصالح الكتابة السياسية، وتحليل الحدث، بلغة جميلة ورشيقة، وعبارة رصينة، ورؤية واضحة، نجحت التجربة بولادة جيل آخر من كتّاب السياسة، نضجت بمرور الأيام والسنين، وتمكنت تلك الأسماء أن تجد موقعها الفكري والمهني بجدارة، يشار للبعض ككتاب من الطراز المتقدم.

كان لدى العامل شعور بالغبطة والانتشاء وهو يوزع محبته على زملاء المهنة، كان أقرب إلى صحبة الشباب منهم، على الدوام يجد نفسه بينهم، لأنه يمتلك عنفوانهم وتمردهم، وتطلعهم للحداثة والتجديد، ورشدي يمتلك المهارة أن يحتوي هذه المجاميع من دون استثناء. في صبواته وخلجاته يجد ندمائه في هؤلاء، يعيش فرحاً غامراً بوجوده معهم.

تجتمع فيه نقائض متعددة: الضحك والبكاء، القوة والضعف، الصمت والإشهار، الحزن والفرح، الغضب والحلم، حتى غضبه كان ليناً ولذيذاً، لا يترك مجالاً للغصّة أو الجفاء، كل شيء لديه هيّن وسهل، ينتهي بضحكة مجلجلة يتفرد بها، تكشف عن أسنان نخرها النيكوتين بوقت مبكر أو تهدّم بعضها وهو في عمر الشباب.

تابع رشدي العامل أحداثاً ساخنة وقعت في سبعينات القرن الماضي، كتب عنها بعناية واهتمام لا مثيل لهما، أثبت من خلالها مهاراته العالية في رصدها، واستشراف نتائجها، أخص بالذكر: الانقلاب العسكري في تشيلي، الانقلاب الدموي في السودان، الصراع السياسي في البرتغال، عمليات تصفية المقاومة الفلسطينية في لبنان والدور التأمري للنظام السوري فيها، التحولات الفكرية في الأحزاب الشيوعية الأوربية، الانتخابات الرئاسية في فرنسا، تداعيات إلغاء اتفاقية الجزائر عام 1975.

من أين لرشدي كل هذه المواهب؟ وهو الذي يقول: ليس هناك أي بديل عن الشعر. انه النافذة الوحيدة، وهو طريق النجاة الممكن من الجنون.

عن هذا التساؤل يجيب رشدي: ستظل مهمتي الأولى هي الكتابة، والكتابة نوع من الثرثرة الثمينة التي لا يجيدها كل الناس، هل يجيدها الشعراء إذن؟

كنا نتطلع إليه، ننتظره بلهفة في مطبعة الرواد، نحن العاملين في القسم الفني للجريدة، حيث المراحل الأخيرة في صدور الجريدة لليوم التالي. يبدأ رشدي شوطاً جديداً من العمل حتى ساعات متأخرة من الليل.

يتحول الليل إلى عمل ومن ثم غناء، ننصرف بعد كل ساعات السهر والعناء، نجوب شوارع بغداد، نلقي متاعبنا في جمعية التشكيليين، أو نادي التعارف، نستريح عند (أبو يونان)، او عند توفيق الخياط (ابو ندى)،وعلى بعد خطوات منه نروي عطشنا بـ (الدرافت) الجديد.

وبغداد لا تنام، إنها كائن له ما للكائن الحي من عروق وعيون ووجه وجدائل، له أيضاً ما للكائن الحي من ميلاد وطفولة وشباب وكهولة، غير انها تختلف عن الكائنات الحيّة أنها لا تموت.

في الهزيع الأخير من الليل ينحدر رشدي هادئاً وواثقاً إلى بوابة (حديقة أبو علي) من دون أن يخفي مخاوفاً وقلقاً كنا نرقبه في عينيه اللتين بدأتا بالذبول، لم يعبر رشدي عن هذه المخاوف بالكلام، لكن ثمة شيء من الحزن والألم ومشاعر بالترقب لما تخفيه الأيام، كان يصمت، ويصحو ثم ينحب:

آه يا غابة النخيل القديمة

يا حقول الصمت والوداعة والانتصار والأحلام

لقد ترقبنا أن تتحول أرضك وجزرك وبساتينك

إلى مرابع للانتجاع والاصطياف،

وها هم يحولونك إلى منفى.

***

د. جمال العتابي

..............................

* هو رشدي بن أحمد جواد العامل، ولد في بلدة "عانة" غرب الأنبار.، أكمل دراسته الثانوية في مدينة الرمادي وتخرج في كلية الآداب ـ جامعة بغداد عام 1962.

* مُرسل البورتريه للصديق الفنان فيصل لعيبي

المقدمة: حين خطّ قلمي صفحات من ذكرياتٍ وشهادات تناقلها والديَّ عن ابن عمتهما، البطل الأسطورة سلام عادل* لم أكن أدرك أنني أفتح بابًا يُفضي إلى عالم منسي من الضوء والوجدان، عالمٍ خفيٍّ تجسّدت فيه البطولة في هيئة إنسان، لا شعار. كانت تلك الشهادات التي شربتْها ذاكرتنا العائلية عبر الحكايات، كنوزًا من المعاني والملامح الإنسانية التي قلّما تناولها التأريخ في سيرته، والتي حين نُشرت، وجدت في القلوب صدى طيبًا، أشعل في نفسي شوقًا لا ينطفئ للغوص أعمق في هذا الجانب المنسي من حياة رجل لم يكن بطلاً في ساحة النضال فحسب، بل كان كذلك إنسانًا استثنائيًا في نقائه، في خلقه، وفي حضوره النبيل. أتذكّر كيف كان والديَّ، وهم يسردون لنا ذكرياتهم عنه، يعتصرهم الحنين ويتوهّج في صوتهم الفخر والاعتزاز.

من تلك اللحظة، بدأ في داخلي شعور لم يخفت، أن هذه القامة لم تكن مجرد مناضل صلب، بل روحًا مجبولة على التضحية والسمو، أن النضال في حياته لم يكن قناعًا، بل امتدادًا لطينته الأولى. فدفعني ذلك، بعد أن لاقت كتاباتي السابقة عنه استحسانًا، إلى التوغل في مسارات سيرته، لا من بوابة السياسة كما وثقها الاخرون، بل من باب القلب، حيث تتجلّى الإنسانية، انسانيته في أسمى صورها.

اعتمدتُ في هذه الرحلة على أهم المصادر، وهو ما وثقته زوجته ورفيقة دربه، ثمينة ناجي يوسف، ذلك المرجع الموثوق والدقيق والمستند الى مراجع وشهادات ووثائق تأريخية لا لبس فيها، أغنت الرؤية وساعدتني في إعادة تشكيل الصورة، لا كسيرة لبطل سياسي كما كتب عنه الكثير فحسب، بل كإنسان عاشق للحق، نقيّ اليد، طيّب السريرَة.

ما أرجوه من هذا العمل ليس توثيقًا جامدًا، بل فعل وفاء، وفاء لروح سلام عادل الانسان الذي ظلّ، حتى لحظاته الأخيرة، حاملًا راية الكرامة، شامخًا في وجه الظلم. ووفاء لروح والديَّ، اللذين حملا إلينا حكايته، لا كحدثٍ عابر، بل كإرثٍ من المجد، نسجاه بخيوط البساطة والمحبة، فصار جزءًا من كياننا، من ذاكرتنا، ومن الحلم الذي لم يبهت رغم تقادم السنين.

هذه محاولة متواضعة، صادرة من قلبٍ ممتن، ومن ضميرٍ لا يزال مؤمنًا بأن أعظم النضالات تبدأ من أن يكون الإنسان إنسانًا.

(1): سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة

ليس ما بين دفّتي كتاب "سلام عادل: سيرة مناضل"** سيرة لرجلٍ عاديٍّ مرّ في تاريخ العراق، ولا هو تسلسل لأحداث حياة قائد سياسيّ فحسب، بل هو سفرٌ حيٌّ لأسطورة من لحم ودم، كُتبت تفاصيلها بمداد الألم، وشُكّلت ملامحها بنحت التجربة القاسية، وارتوت من معين الفكرة المتقدة بالإيمان، وانصهرت في أتون معاناة لا يخففها إلا الحلم بغدٍ حرّ.

حين يبدأ القارئ رحلته بين دفتي الكتاب، كما فعلتُ، يكتشف كم هو ضئيل ما يعرفه عن سلام عادل، ذاك الاسم الذي ارتبط في ذاكرة العراق بدم الشهداء وصلابة الموقف. لا يُعرف عنه سوى ما تسرب من وجع: سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي منذ حزيران 1955، وواحد من شهداء الانقلاب الأسود في 8 شباط 1963، حيث اعتُقل في 19 شباط، واستُشهد في السادس من آذار في دهاليز "قصر النهاية"، بعد تعذيب وحشي يفوق التصور، ارتكبته أيادٍ غارقة في فاشيتها.

الكتاب لا يسرد فصول حياة سلام عادل فقط، بل يؤرّخ لمرحلة كاملة من تاريخ الحركة الوطنية العراقية، من خلال تتبع خطى هذا الرجل الذي لم يكن مجرد قائد، بل كان روح حزبٍ، وقلب وطنٍ نابض بالمقاومة.

سلام عادل – أو حسين أحمد الرضي كما وُلد في النجف عام 1922 – لم يكن مجرّد رجل حزبيّ شغل منصب سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. بل هو روح ملتصقة بجذور الأرض، وجسد وُلد من رحم الفقر، من بيتٍ ضيّق يضجّ بالأطفال، لكنه متّسع بالكرامة، ومن دكانٍ متهالك ومطحنةٍ يملؤها غبار الطحين، حيث خُبزت الطفولة بالتعب، وعُجنت القيم بعرق الشقاء.

يبدأ الكتاب كلوحة حية تنبض بالتفاصيل: هنا لا نقرأ، بل نرى ونلمس ونشمُّ زمنًا كان سلام عادل أحد صانعيه. نغوص في ملامح الإنسان، قبل أن نشهد انبثاق القائد، نكتشف منذ الصفحات الأولى كيف كان الصمت رفيق طفولته، لا صمتَ البلادة، بل صمتَ التحديق العميق في أحوال الناس، في وجوههم المُغبرة، وأكفّهم المشققة.

من بين إخوةٍ لم يتسنَّ لهم جميعاً متابعة الدراسة، كان هو الوحيد الذي أكمل تعليمه المتوسط، والتحق بدار المعلمين في بغداد، وتخرّج عام 1943، حاملاً شهادة وأفقًا واسعًا فتح له بوّابة الوعي، هناك حيث التقى بشعلة الحزب الشيوعي لأوّل مرّة.

في عام 1944، عُيّن معلّمًا في مدينة الديوانية، وهناك بدأت رحلته الفعلية. لم يكن المعلّم الشاب مجرّد موظف يتلو دروسه، بل كان بوصلةً فكرية وروحية، يجمع بين الخط الجميل والريشة الحساسة، بين المسرح والكلمة، وبين الجَمال كقيمة نضالية والفنّ كأداة وعي.

كان يؤمن أن التعليم ليس مهنة، بل رسالة تحررية. وحين طلب من تلميذاته رسم مشهد "العيد"، انقسمت الرسومات بين أطفال الفقراء اللواتي رسمْنَ ملابس بسيطة وألعابًا من ورق، وبين بنات الأغنياء برسومات تفيض بالحلويات وبالدمى والملابس المزركشة. لم يعلّق بكلمة، بل اكتفى بعرض اللوحات جميعًا في معرض المدرسة، مُطلقًا أولى صرخاته الطبقية من دون صوت.

في ركن آخر من حياته، برز المسرح كأداة مقاومة؛ كان يُخرج العروض المدرسية، يُعدّ النصوص، ويضع الماكياج، ويوزّع الأدوار كمن يُخرّج أمّة بأكملها من الظلمة. لم يكن المسرح عنده زينةً مدرسية، بل أداة لبناء وعي جماهيري، وكان لا يتردّد في إشراك الفتيات والبنين على حدّ سواء، متحديًا أعرافًا اجتماعية متزمتة، لكنه كان يربّي من خلال الفعل لا الخطاب.

وهذا ما تحكيه رفيقته وزوجته "ثمينة ناجي يوسف"، حين تصف دخوله لأول مرة إلى صف البنات لتعليم مادة الرسم: لم يكن بحاجة إلى كلمات ليترك أثرًا، فكان حضوره وحده كافيًا لبثّ الاحترام، بحزمه العطوف، ووقاره المتواضع.

وعبر حادثة طريفة من طفولته – حين شُجَّ رأسه في إحدى اللعب – نكتشف نواة أخلاقية متجذّرة: فقد أبى أن يُفشي اسم الطفل المعتدي، رغم الضغوط، مبرهنًا على شخصية لا تُفرّط بالوعد، ولا تخون سرًا، وهو ما سيبقى طابعًا له حتى في أسوأ لحظات تعذيبه لاحقًا.

لم يكن النضال حلماً مؤجلاً لديه، بل حياة عاشها بكل انسانيتها وجوارحها. في عام 1946، فصل من وظيفته على يد مدير الأمن العام بهجت العطية، بعد أن كشفت السلطات عن نشاطه السياسي. لم ينكسر، بل واجه الحياة بشموخ: قال ببساطة متحدية: "لن أموت من الجوع... سأبيع لبنًا على الجسر". وفتح كشكًا لبيع الكبدة، ثم الكبة، ثم عمل مفتشًا على باصات النقل، ففُصل ثانية لنشاطه النقابي، ثم عاد إلى التعليم في مدرسة خاصة، ومنها إلى مدرسة التطبيقات.

كان كل باب يُغلق أمامه، يفتح بابًا آخر بإرادته التي لا تكلّ، فكان يُجسّد فعلاً فكرة: أن المناضل لا يُهزم مهما تغيرت الظروف.

في عام 1949، وبعد إحدى المظاهرات، حكم عليه بثلاث سنوات في "نقرة السلمان"، تبعتها سنتان من الإقامة الجبرية. وبعد خروجه عام 1953، لم ينتظر انتهاء محكوميته، بل فرّ من الرقابة، والتحق بالحزب في البصرة، مسؤولاً عن المنطقة الجنوبية، وهناك اقتضت ظروفه أن يتزوج ليستأجر بيتاً، فاقترن بالرفيقة ثمينة، المرأة التي رافقته حتى النهاية، والتي دونت سيرته بقلب عاشق وعين المؤرخ.

حين تقدم لخطبتها، لم يتحدث عن نضاله ولا عن تضحياته، بل قال بثقة فطرية: "أنا من بيت محترم، من عائلة أعتز بسمعتها". كان يدرك أن النَسَب الحقيقي ليس في الدم، بل في السلوك، وأن الشرف لا يُطلب بالتاريخ ولا يرى في النضال، بل امتدادًا طبيعيًا لشرف البيت.

عام 1955، اختير سكرتيرًا للحزب، في لحظة انتقالٍ ليست تنظيمية فقط، بل روحيّة أيضًا: من صفوف المعلمين إلى صدارة التنظيم، من تدريس الخط والرسم إلى وضع الخطط ورسم التوجهات لبناء الفكر الثوري. غير أن الجمال لم يغادر روحه قط، بل رافقه حتى في عتمات السجون، وحتى وهو يُعلَّق من ساقيه وتُقتلع عيناه في دهاليز قصر النهاية.

لقد كان إنسانًا في أقصى درجات النبل، يحب عائلته كما يحب الوطن، ويتحدث إلى أطفاله بنفس الحنان الذي يخاطب به الجماهير. في روايات زوجته، نلمح كم كان حريصًا على عائلته واطفاله، رغم انشغاله المطلق بالنضال والعمل السري.

كان يرى في الجماهير ليست جمهورًا مؤقتًا، بل الحاضنة الأصلية للتغيير، ورفض النظرة الفوقية أو البطولية الفردية. كان يؤمن بالقيادة الجماعية، ودفع ثمن مواقفه عندما نُقل إلى الفرات الأوسط "قبل انتخابه سكرتيرًا للحزب"، لكنه لم يتوقف، بل اندمج مع الفلاحين والمنظمات المدنية، في تجربة نضالية أعادت الحزب إلى خطّه الجماهيري.

إن وعيه السياسي لم يكن مستوردًا، بل نابعًا من صميم التجربة الشعبية. لم يُغره المنصب، ولم يُضلله المجد، بل ظل ذلك الإنسان الذي يكتب لافتة بخطّه ليزيّن بها محل بائع كبدة، ويعلّم تلميذةً كيف تُمزج في رسمة واحدة بين حزن العيد وفرحة الأمل.

سلام عادل لم يكن صوتًا للطبقة العاملة فحسب، بل ضميرها الحي، وظلّ حاضرًا في وجدان العراقيين، لا كشهيد فقط، بل كرمزٍ عاش ومات للناس.

لقد أحبّ الحياة، ولذلك قاوم الموت. أحبّ الجمال، فكان جماله فعلًا سياسيًا. أحبّ الوطن، فكان وجه الوطن آخر ما رآه حين اقتلع الجلادون عينيه.

وها هو، بعد كل هذه السنوات، لا يزال حيًا في دفاتر التلاميذ، وفي ذكريات الرفاق، وفي ضمير وطنٍ لا يزال يبحث عن حريته.

هذه الصفحات ليست تأريخًا فقط، بل بيانٌ إنسانيٌّ يُعلّمنا أن البطولة الحقة لا تصنعها الهتافات، بل يُصنعها رجالٌ يعبرون الحياة كشموع، تذوب لتنير، وتموت لتُحيا في وجدان الناس.

يتبع...

***

سعاد الراعي

..........................

*عنوان المقال الذي نشر في بعض الصحف الالكترونية "ابن العمة سلام عادل.. الأسطورة المتخفية التي مشت على حافة المستحيل"

https://www.almothaqaf.com/memoir02/981915

- الشهيد سلام عادل كان سكرتيراً للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي منذ حزيران 1955، وأنه أعتقل في 19 شباط 1963 بعد انقلاب 8 شباط 1963 الأسود الذي قام به حزب البعث والقوميون وأنه أستشهد في 6 آذار 1963 في قصر النهاية ببغداد وأنه تعرض لتعذيب شديد تقشعر له الأبدان على يد المجرمين الفاشست من الحرس القومي حيث شوّه جسده ولم يعد من السهل التعرف عليه، فقد فقئت عيناه وكانت الدماء تنزف منهما ومن أذنيه ويتدلى اللحم من يديه المقطوعتين وكُسرت عظامه وقطعت بآلة جارحة عضلات ساقيه وأصابع يديه وقُتل معه بعد الانقلاب آلاف الرفاق الشيوعيين والديمقراطيين والعديد من قادة الحزب منهم الرفاق محمد حسين أبو العيس وحسن عوينة وجمال الحيدري وجورج تللو .

ـ اسم سلام عادل الرسمي هو "حسين احمد الموسوي".. عرف باسم شائع هو حسين الرضي: ونقلا عن والديَّ، ان الرضي كنية أطلقها المرحوم والده عليه منذ صباه، تيمنًا بأخلاقه الحميدة. ويقال أيضًا انه كان لقبًا أطلقه هو على نفسه تيمنًا بالشريف الرضي حفيد الامام موسى الكاظم والذي كان يحفظ اشعاره ويرددها منذ صباه، وقد أصبح هذا اللقب عزيزًا على قلبه فرافقة طيلة حياته.. وحمله أبنائه الثلاثة من بعده.

** "كتاب سلام عادل سيرة مناضل تأليف ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد" من جزئين، الطبعة الأولى 2001 دار المدى للثقافة والنشر

 

في الثانية والنصف من بعد ظهر يوم الثاني عشر من تشرين الثاني عام 1961، قرّر عدد من الجنود نقل جثمان رجل توفّي قبل ستة أيام بمرض سرطان الدم عبر الحدود الجزائرية التونسية، كانت تحرسهم مجموعة من قوات (جبهة التحرير الجزائرية)، حيث تم دفنه بهدوء.

كان فرانز فانون المولود في العشرين من تموز عام 1925 في إحدى جزر المارتينيك التابعة لفرنسا قد توفي في إحدى مستشفيات واشنطن، فتقرر نقله إلى تونس، ومن بعدها إلى الجزائر التي حارب من أجل استقلالها.

فرانز فانون، هو الابن الخامس لأسرة كاريبية أفريقية من ثمانية أشخاص، مات اثنان منهم في الصغر، بما في ذلك أخته غابرييل التي كان فرانز قريباً جداً منها، والده فيليكس كازيمير فانون، من أصل أفريقي، والأمّ من أصول فرنسية، كان الأب موظفاً في الجمارك، بينما افتتحت الأمّ متجراً صغيراً للبضائع، وقد تمكنت العائلة من أن تُدخل أبناءها في المدرسة الفرنسية الخاصة، هناك سيعجب الطالب فرانز بالمعلم الشاعر (إيميه سيزير) الذي كان واحداً من أهمّ الاصوات الشعرية التي ندّدت بالعنصرية ضد السود.

في تلك السنوات يتفرغ فرانز فانون للقراءة، منتقلاً من أعمال لامارتين، إلى أعمال جان جوك روسو، تسحره رواية البؤساء لفكتور هيجو، فيكتب عنها دراسة قصيرة ينشرها في مجلة (المدرسة)، عندما بلغ الثامنة عشرة من عمره يغادر جزر المارتينيك لينضم إلى القوات الفرنسية الحرة. في عام 1944 أصيب بجروح طفيفة، فتمّ نقله إلى نورماندي، عام 1945 يعود إلى جزر المارتينيك، بناء على طلب معلمه إيميه سيزير الذي قرر أن يخوض الانتخابات ضمن صفوف الحزب الشيوعي، يكمل فانون دراسته، بعدها يسافر إلى فرنسا لدراسة الطبّ النفسي، وفي نفس الوقت كان منشغلاً بدراسة الفلسفة، حيث قرأ كيركغارد وهيغل ولينين وهايدغر وسارتر، واهتم بشكل خاص بماركس الذي وجد في كتاباته إصراراً على أن الثورة ليس في وسعها أن تستمد أشعارها من الماضي، وإنما من المستقبل وحده. وسيعلق فانون على عبارة ماركس فيكتب مقالاً يقول فيه: «أن أولئك الرجال وحدهم من الزنوج والبيض الذين يرفضون أن يسمحوا لأنفسهم بالتقوقع داخل برج الماضي المتجسد، هم الذين لا يستعبدون»، وأيضاً كان يتابع حركات التحرر في العالم وهي تخوض معركتها من أجل الاستقلال، وأثارت اهتمامه قضية المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، وكيف أن الاستعمار يخوض حرباً لا إنسانية غايتها طمس الهوية الحقيقية لهذه الشعوب، وكانت حصيلة كل هذه المواقف والقراءة والانتماء إلى اليسار الفرنسي هي كتابه الأول، (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء)، الذي لم يجد له في البداية ناشراً، فأكثر دور النشر اعتبرت مقالاته مجرد مقالات منفعلة، لكنّ الحظ يسعفه أخيراً بالعثور على ناشرٍ معادٍ للاستعمار الفرنسي، ليصدر الكتاب عام 1952.قبل هذا التاريخ كان فرانز فانون يكرس نشاطه لمبدأ الاتحاد بين الرجل الابيض والرجل الأسود، لكنه سيتخلى عن أحلامه في الاتحاد عندما يدرك أن الرجل الأبيض يعني بالاتحاد «أن تصبح مثلي»، وفي المقابل فأن الرجل الأبيض مقتنع بأن الرجل الأسود يستحيل أن يصبح مثله، كما يستحيل أن يصبح على قدر مماثل في المستوى، وبعد ما يقارب العشرين عاماً سيكتب الروائي جيمس بالدوين: «أنّه ليس ثمة سبب يدعوك إلى أن تحاول أن تصبح كالرجل الأبيض، كما أنّه ليس ثمة أساس لافتراضهم الوقح بأن عليهم أوّلاً أن يقبلوك» . كان كتاب (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء)، في الأصل أطروحة دكتوراه قدّمها فانون إلى جامعة ليون في فرنسا بعنوان (مقال عن فكّ ارتباط السود)، وفيها يرد فانون على العنصرية التي عانى منها أثناء دراسته للطب النفسي والطب في جامعة ليون، لكن الاطروحة ستُرفض من قبل الجامعة، فيقرر أن يطبعها في كتاب، رفضت معظم دور النشر طباعته إلى أن تبناه «فرانسيس جانسون» والذي كان يعمل آنذاك مديراً لتحرير مجلة الأزمنة الحديثة التي يصدرها جان بول سارتر، وفي الوقت نفسه رئيساً لجمعية تدعم استقلال الجزائر، وقد اختار جانسون عنوان (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء) لكتاب فانون، وكتب المقدمة له. والكتاب يسلط الضوء على حيرة فرانز فانون، فقد كان أمامه ثمة طريق، فإما أن يعمل بكل الوسائل على أن يصبح رجلاً أبيضَ ينتمي إلى المجتمع الفرنسي، أو التأكيد على تفوق القيم الزنجية والرفض المطلق للقيم البيضاء. وصف فانون في الكتاب المعاملة غير العادلة للسود في فرنسا وكيفية رفضهم البيض. كان لدى السود أيضاً شعور بالدونية عند مواجهة البيض. اعتقد فانون أنّه على الرغم من أنّهم يستطيعون التحدث بالفرنسية، إلّا أنّهم لا يستطيعون الاندماج الكامل في بيئتهم البيضاء.

بعد اندلاع الثورة الجزائرية في نوفمبر عام 1954، التحق فانون بجبهة التحرير الوطنية، وقام برحلات مكثفة عبر الجزائر، خاصة في منطقة القبائل، لدراسة الحياة الثقافية والنفسية للجزائريين، وبسبب نشاطاته المؤيّدة لاستقلال الجزائر، قررت السلطات الفرنسية طرده من الجزائر ليستقر في تونس حيث ساهم بالكتابة بانتظام خلال سنوات 1957-1960 في جريدة (المجاهد)، الناطقة آنذاك باسم جبهة التحرير الوطني الجزائرية. في الرسالة التي وجهها فانون إلى السلطات الفرنسية بعد رحيله عن الجزائر يكتب عن الأوضاع في هذه البلاد: «لما يقرب من ثلاث سنوات وضعتُ نفسي وبشكل كامل في خدمة هذا البلد وسكانه. لم أوفر جهداً ولا اهتماماً. ولكن ما جدوى الحماس والتفاني إن كان الواقع اليومي مجرّد نسيج من الأكاذيب والخسة وازدراء الإنسان؟ وإن كان الطبّ النفسي هو الأداة الطبية التي تهدف إلى تمكين الإنسان من تجاوز غربته في البيئة المحيطة به، فعليّ أن أوكد أن العربي غريب بشكل دائم في بلاده، يعيش في حالة من الاغتراب المطلق. لشهور عدة كان ضميري موقعاً لسجال لا يغتفر، انتهى بالعزم على ألّا أيأس من الإنسان، أي ألّا أفقد الأمل في نفسي"

كتب فرانز فانون عدداً من الكتب أشهرها (بشرة سوداء أقنعة بيضاء)، و (العام الخامس للثورة الجزائرية) و (معذبو الأرض)، كان آخرها كتاب (لأجل الثورة الأفريقية) الذي نُشر بعد وفاته.

كان فرانز فانون بعد أن علم بإصابته بمرض سرطان الدم قد طلب من صديقه فرانسيس جانسون أن يقنع جان بول سارتر في أن يكتب مقدمة لكتابه (معذّبو الأرض)، وقد تم عقد لقاء بين سارتر وفانون في روما بعيداً عن أعين المخابرات الفرنسية. ويذكر فانون في ما بعد أن سارتر لم يتوقف عن قراءة الكتاب: «كان سارتر في تلك اللحظات عبارة عن طائرة انطلقت في الأجواء العالية. انشغل بكتابة المقدمة طوال الليل فيما كانت سيمون دي بوفوار تطبع ما يكتبه سارتر، واستمرت على هذه الحال إلى أن طلع الفجر». كتب سارتر 120 صفحة بأكملها دفعة واحدة. وتذكر سيمون دي بوفوار أن سارتر انجذب إلى فرانز فانون وأحب شخصيته، حتى أن جانسون يعلق أنّه لم ير سارتر مفتوناً بأحد مثلما فتن بفانون.

يكتب سارتر في تقديمه لكتاب فرانز فانون (معذبو الأرض)- نرجمة سامي الدروبي وجمال الاتاسي - : " افتحوا أيها الأوربيون هذا الكتاب وادخلوا فيه، فبعد بضع خطى تخطونها في الظلام، سترون أجانب مجتمعين حول نار، فاقتربوا منهم واصغوا: إنّهم يناقشون المصير الذي يرصدونه لمواقعكم التجارية وللمرتزقة الذين يدافعون عنها، وقد يرونكم، ولكنهم سيستمرون في التحدث في ما بينهم، سوف تشعرون وأنتم على مسافة محترمة، لأنكم متخفّون في الظلام، ترتعدون. وفي هذه الظلمات التي سينبثق منها فجر جديد ستكونون أنتم الأشباح" .

تبنّى سارتر حجج فانون عن النضال، ومنها أن الثورة ضدّ المستعمر يجب أن تكون عنيفة، لا لأن العنف يجب أن يكون هدفاً، بل لأنه يساعد الشعوب المستعمرة على التخلص من الاضطهاد وصياغة هوية جديدة، كان فانون يرى في العنف عاملاً أساسياً في التغيير دون أن يمجده. وكان سارتر يرى في العنف فعلاً نيتشوياً من أفعال إعادة صياغة الذات، وقد قارنه بوحشية المستعمر.

مارس سارتر تأثيراً كبيراً على فرانز فانون منذ أن قرأ مقالته (أورفيوس الأسود) التي كتبها سارتر كمقدمة لكتاب الشاعر السنغالي الشهير (ليوبولد سنغور)، وفيها يؤكد أن الكاتب الاوربي لم يعد بقادر على تقييم العالم والسيطرة عليه: " ينظر هؤلاء الرجال السود إلينا، وترتد نظرتنا إلى أعيننا، فتضيء المشاعل السوداء بدورها العالم، وليست رؤوسنا البيضاء أكثر من فوانيس صينية تتأرجح في مهب الريح" . . اكتشف فرانز فانون الوجوديّة أثناء دراسته الجامعية، وبتأثير من الكاتب الروائي الأمريكي (ريتشارد رايت) الذي كان يسلط الضوء في رواياته على المآسي التي يعاني منها السود بسبب التفرقة العنصرية، وكان فانون قد قرأ رواية رايت (ابن البلد) المنشورة عام 1940 التي يجسد فيها حياة صبي أسود يشعر في كل لحظة أن المجتمع يتأمر ضده بهدف القضاء عليه نهائياً، وليس هناك من دافع للسلوك العدائي ضد الصبي سوى لونه الأسود.

كان فرانز فانون يحاول أن يقتفي أثر سارتر، لكنه بالمقابل أراد أن يتعالى على فكرته عن الروح الزنجية، وكان يرى أنّه يواجه عالماً عبثياً لا يقيم وزناً لشهادته العلمية وأفكاره، بقدر ما يقيم وزناً للون بشرته، تأثر فانون بفكرة الحرية عند سارتر، ونجده في كتابه (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء)، وجوديّاً خالصاً يستكشف: «التجربة الحية لشعب أسود تَلبّس بدور الآخر في عالم يهيمن عليه البيض»( ).

تكمن أهمية تعاون سارتر وفانون في إدراكهما للعنف الهائل والألم الذي يلحقه الأقوياء اقتصادياً وسياسياً بالأقل منهم حظاً، وعلى وجه الخصوص، المستعمَرين. جادل سارتر والبير كامو وسيمون دي بوفوار في كتاباتهم أن المواطنين الفرنسيين الذين اختاروا الاختباء في منازلهم وحماية عائلاتهم بدلاً من الانخراط في أعمال مقاومة عنيفة تجاه النازيين، لم يكونوا في الواقع أكثر من النازيين أنفسهم.

إن مقدمة سارتر لكتاب (معذبو الأرض)، لا يزال لها صدى قوي في عصر العولمة، وينبغي أن تدفع أصحاب الامتيازات في أمريكا وأوروبا إلى إجراء جرد دقيق لإنسانيتهم وأخلاقهم تجاه المستضعفين.

يكتب إيميه سيزير في رثاء تلميذه فرانز فانون: «إن كتابه (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء) هو الكتاب الحاسم بشأن العواقب الإنسانية للاستعمار والعنصرية، في حين أن كتابه (معذبو الارض) يعتبر مفتاح إزالة الاستعمار" .

انطلق فانون في تصوره ككاتب للثورة من الإيمان بأن الثورة تحمل إلى النفوس الحرية، ويستطيع المجتمع من خلالها التحرر من الجمود والتخلف، وفي كتابه (معذبو الارض) يحلل سيرورة العنف في النظام الاستعماري، فيعتبر أن العنف يتطور بالأصل من عنف يضرب فيه الاستعمار جماعة أساسية، وهو نفس المعنى الذي كتبه سارتر في مقدمة كتاب البير ميمي (صورة المستعمر): «لقد كان الغزو بالعنف والاستغلال والضغط، من خلال الحضور الوحشي للجيش، لقد رفض المستعمر حقوق الإنسان من خلال التعذيب، الفقر، الحرمان، والأمية. إنّها حالة ما دون إنسانية " .

ستثير سيرة فانون ومواقفه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي يكتب: «إن جميع كتابات فرانز فانون حول الاستعمار تظهر درجة ما من التأثر بأفكار ماركس وسارتر" .

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

ترجع معرفتي بالدكتورة أميرة حلمى مطر أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة المصرية (1930 – 2025) منذ عام 1989 حين كانت تدرس لي مقرر مصادر الفلسفة اليونانية، وخلال تدريسها لنا أمام أستاذة متميزة لأستاذة أكاديمية، تختلف عن أساتذة كثيرين غيرها من الأساتذة، أستاذة تتوفر فيها سمات ومقومات وأبعاد، تنتزع بذاتها الاحترام وتفرضه، وتستأهل التقدير وتثير الإعجاب، وتغرس في النفوس حبا تخامره رهبة، وأملا يواكبه شعور بالتفائل، وانتماءً بصاحبه شعور بالزهو بالتدريس علي يديها .

وقد كثرت لقاءاتي بها خلال المحاضرات، وهنا اكتشفت بعدا آخر في شخصية الدكتورة أميرة مطر، حيث كنت أشعر في حضرتها دون ثالث لنا بالأم الحانية والأستاذة القديرة، لم تفرض علينا في تدريسها توجها معينا، ولم تستبد برأي، ولم تلزمنا بوجهة نظر خاصة، وإنما تحاور وتناقش وتوجه بجدية وصدق، وتفتح أمامنا أفاقاً جديدة، وتعرض آراءها وأفكارها ورؤاها، ثم تترك لنا حرية الاختيار .

لقد كانت له فوق ذلك ومعه، تواضع وحنو يذهبان عني كل رهبة دون افتقاد الاحترام والهيبة ويشجعاني علي طرح المزيد من الاستفسارات والتساؤلات، مما يطيل الحوار معها، ولم ألحظ منها قط ضيقاً أو امتعاضا أو مللا، ولا استعلاء وتكبرا، ولا أسمع منها إلا كلمات التشجيع بما يعزز الأمل عندي ويبعثني علي مضاعفة الجهد وبذل أقصي ما في الوسع عن رضي واقتنع .

وفي الأسبوع الماضي وافتها المنية وذلك عن عمر ناهز 95 عاما، وذلك حسب ما نشره الكاتب والناقد الأدبي شعبان يوسف والذي قال في منشور له عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي: الدكتورة أميرة حلمي مطر، أستاذة الفلسفة وداعًا، هكذا فقد بيت الفلسفة المصري والعربي ركنًا متينًا وعظيما، كان وسيظل مشتعلًا دائمًا".

رحلت عن عالمنا أميرة الفلسفة تاركة وراءها إرثًا فكريًا خالدًا ومسيرة علمية حافلة بالعطاء والتنوير. لم تكن الدكتورة أميرة مجرد أكاديمية بارزة، بل كانت منارة للعلم، وفيلسوفة عميقة الفكر، ومربية أجيال، ونموذجًا للمرأة المصرية والعربية التى جمعت بين رصانة البحث العلمى وعمق التأمل الفلسفى ورهافة الحس الإنسانى.

قدّمت أميرة الفلسفة معظم مؤلفاتها في سياق أكاديمي موجه للطلبة والمتخصصين في حقول الفلسفة والعلوم الاجتماعية والآداب، ومنها "الفلسفة اليونانية: تاريخها ومشكلاتها" (مكتبة بستان المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، 1988)، و"عن القيم والعقل في الفلسفة والحضارة" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010). بالإضافة إلى ترجماتها المتعددة التي صدرت منذ الستينيات، ومن بينها: "الفكر الإسلامي وتراث اليونان"، و"جمهورية أفلاطون، مكتبة الأسرة"، و"محاورتا ثياتيتوس وفايدروس أو عن العلم والجمال".

كانت الدكتورة أميرة حلمي مطر والتي ولدت في عام 1930 أستاذة جامعية في الفلسفة مصرية، وقد حصلت على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة القاهرة، ولها عدة دراسات وأبحاث وترجمات في الفلسفة، كما حازت على جوائز عديدة منها جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافية في عام 1985.

وتنتمي الدكتورة أميرة حلمي مطر، لأسرة عريقة في العلم، كان والدها من أوائل المهندسين في مجال الهندسة الكيميائيّة حاصلاً على شهادة الدكتوراه من جامعة مانشستر بإنجلترا، التحقتْ بآداب القاهرة عام 1948 وتخرّجت الأولى على دفعتها بحصولها على الليسانس الممتازة من قسم الفلسفة عام 1952، عيّنت مُعيدة بنفس القسم عام 1955، ثم حصلت على دبلوم الماجستير في العلوم السياسيّة، وبعد حصولها على شهادة الدكتوراه واصلت عطاءها العلمي بقسم الفلسفة في جامعة القاهرة وحصلت على الأستاذيّة في السبعينات.

تولّت الدكتورة أميرة رئاسة قسم الفلسفة لفترات متعدّدة وأشرفت على العديد من الرسائل الجامعيّة وحصلتْ على جوائز الدولة التشجيعيّة والتفوّق وعلى وسام الامتياز من الدرجة الأولى لمجموع أعمالها العلميّة، تتقنُ اللغة اليونانيّة القديمة واليونانيّة والفرنسيّة والانجليزيّة، تعتني بقراءة الشعر وسماع الموسيقى الكلاسيكيّة وتتذوق الفنون التشكيليّة ويشكّل الفنّ عندها وبجميع أشكاله جانبا هامّاً وأساسيّا من هواياتها، درّستْ في كثير من الجامعات العربيّة كجامعة قطر، السعوديّة، الإمارات العربيّة المتّحدة وجامعة بغداد، وهي على صلة وثيقة بالجمعياّت الفلسفية في العالم وعضوة في بعض المؤسّسات الفكريّة في اليونان وفي جَمْعيتها الفلسفيّة.

تخصصت الدكتورة أميرة فى الفلسفة اليونانية والفلسفة الجمالية، وهما مجالان يتطلبان فهمًا عميقًا للتاريخ الفكرى الغربى، وقدرة على الربط بين النصوص الفلسفية الكلاسيكية والتحديات المعاصرة. فى الفلسفة اليونانية كانت مرجعًا لا يضاهى، فقد كرست جزءًا كبيرًا من حياتها لدراسة أعمال الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون وأرسطو، وقدمت تحليلات جديدة ومبتكرة لنظرياتهما ما أسهم فى إثراء فهمنا لهذه الحقبة الذهبية من الفكر البشرى. كانت قادرة على إحياء النصوص القديمة وجعلها ذات صلة بالنقاشات الفلسفية الحديثة، ما يعكس سعة اطلاعها وعمق بصيرتها.

أما فى مجال الفلسفة الجمالية فقد كانت الدكتورة أميرة رائدة بمعنى الكلمة، إذ فتحت آفاقًا جديدة للدراسة والبحث فى العالم العربى، وقدمت مقاربات فريدة لتحليل الفن والجمال من منظور فلسفى عميق. كتاباتها فى هذا المجال لم تكن مجرد شروحات نظرية، بل كانت دعوة للتأمل فى جوهر التجربة الجمالية وأثرها على الوعى الإنسانى، ما جعلها مرجعًا أساسيًا لكل مهتم بالفن والفلسفة. لقد أسست لمدرسة فكرية خاصة بها فى هذا المجال، وألهمت أجيالًا من الباحثين للسير على خطاها.

وتنتمي الأميرة إلى رعيل المفكّرات المصريات اللواتي يُشهد لهنّ بالموهبة والكتابات النوعيّة في مجال الفلسفة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، لقد قدّمت إنتاجاً قيّما متفرّداً في الفكر بشكل عام وفي الفلسفة اليونانيّة والجماليّة والسياسيّة بشكل خاصّ.

كانت تؤمن بأن الفلسفة ليست مجرد معلومات تحفظ، بل هى منهج حياة وطريقة للتفكير، ما انعكس على تأثيرها العميق فى طلابها الذين حملوا على عاتقهم مسئولية مواصلة مسيرتها الفكرية.

وكانت الدكتورة أميرة شخصية عامة مؤثرة، شاركت بفاعلية فى الحياة الثقافية والفكرية المصرية والعربية. كانت آراؤها وأفكارها تُحترم وتُقدر، وكانت تُدعى للمشاركة فى المؤتمرات والندوات الفكرية، حيث كانت تثرى النقاشات بعمق رؤيتها ورصانة طرحها. وكانت تتميز بشجاعة فكرية نادرة، وقدرة على التعبير عن آرائها بوضوح وصراحة، حتى لو كانت هذه الآراء تخالف السائد، إيمانًا منها بأن الفكر لا يزدهر إلا فى بيئة من حرية التعبير والتفكير النقدى. لقد كانت مثالًا يحتذى به فى الالتزام بقضايا الفكر والمجتمع، وتكريس حياتها للارتقاء بالوعى الفلسفى والثقافى.

رحيلها يمثل خسارة كبيرة ليس فقط لأقسام الفلسفة فى جامعات مصر، ولكن للثقافة العربية بأكملها. ستبقى أعمالها وكتاباتها مرجعًا أساسيًا للباحثين والطلاب، وستظل ذكراها العطرة مصدر إلهام لكل من يسعى إلى العلم والتنوير. نعزى أنفسنا وجميع محبيها وطلابها وأسرتها فى هذا المصاب الجلل، ونسأل الله أن يتغمدها بواسع رحمته ويسكنها فسيح جناته، وأن يلهم أهلها وذويها الصبر والسلوان.

رحم الله الدكتورة أميرة الفلسفة، الذي صدق فيها قول الشاعر: وليس موت امرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه إذا يعزوه فقدان في كل يوم ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

***

دكتور محمود محمد علي - مفكر مصري

صحيحٌ لكلّ فصل من فصول السنة طقوسٌ مميّزة في الاستجمام، ولكنّ فصل الصيف له نواميس خاصة في القراءة والسفر والدّعة، فهو الفصل الذي يجعلني في حِلّ من التزامات الشغل وضوابطه. ولهذا أرى الصيف إغواء بالرحيل في الكتب، والرحيل في الجغرافيا أيضا، وكلاهما عندي انعتاق. وقد يقول قائل لكلّ فصل قراءاته ولكلّ موسم آدابه، ولكن في عرفي لا ارتباط للفصول والمواسم بنوعية القراءة. ولذلك أتحيّرُ من مكتبات إيطاليا، حين توزع أشهر السنة وفصولها على نوعيات مخصّصة من الكتب والمؤلفات، تُعرض دوريا على القراء. فهناك موسم لكتب الفاشية، وآخر لكتب الشواه (المحرقة)، وثالث لشواغل السياسة الداخلية واستتباعاتها الدولية، وغيرها من تدفقات النشر المرتبطة بالأحداث والوقائع التي تشغل الرأي العام؛ وضمن سياق دورة الماركتينغ تلك، هناك كتب الكلاسيكيات التي تعود دوريا تبعًا للفصول والمواسم، وكأنّ أصحابها يبعثون من مراقدهم من جديد. في حين ثمة كتّاب أحياء يُدفعون قسرًا إلى الواجهة وبإلحاح لغرض تكريسهم. أُدرك جيدا اشتغال ماكينة النشر في الخلف التي تُظهر من تريد وتحجب من تريد، ولكن ذلك حديث آخر عن صناعة النجوم في الفكر الآداب.

أعود إلى عُرف القراءة لديّ، غالبا على مدار السنة ما أنتهز فرصة المطالعة كلّما وجدت متّسعا من الوقت خارج ضوابط التدريس، وإن كان الشغل لديّ بدوره على صلة وثيقة بالقراءة ومتابعة الجديد، ولكن في هذا الجانب القراءة هي نوع من الفعل الإلزامي. وعلى العموم في تقليد القراءة معي ثمة ضربان من القراءة: إحداهما إلزامية على صلة بالدرس والبحث والترجمة والكتابة، والأخرى اختيارية للمتعة والانعتاق، أي لأدنوَ من فهم العالم والترويح عن النفس. فلست من صنف جمّاعي الكتب وتكديس الوثائق، للفرجة أو للتخزين أو للاستعراض، بل أحاول أن أَلْتهم في التوّ ما تقع عليه يديّ ولا أعرف للادّخار في ذلك سبيلا.

وكما هو الصيف إغواء بالرحيل في الكتب والقراءة الماتعة، هو أيضا إغواء بالرحيل في الجغرافيا لدى شقّ آخر من السائحين والحالمين، وكأنّ في الرحيل شفاء للروح من فَقْد دفين في الذات، يلازمها منذ مراحل الطفولة الأولى. ولعلّ الرحيل فيما دأبتُ عليه، فرصة للانبعاث والتعمّد ثانية، وذلك منذ أن هجرت مرابع الطفولة واخترت روما مقاما. ولا أسمّي مقامي الروماني دار الهجرة، أو مقام الاغتراب، أو بلد المنفى، كما يقول البعض، لأنني حين أخلو بنفسي لا أجد شيئا من ذلك الإحساس، ربما لأني في علاقتي بالمقام والرحيل على مذهب ذلك الرجل الذي يرى "أنّ من يجد وطنه حلوًا ليس إلا عاطفيا مبتدئا، وأما من يجد في كل أرض أرضه فهو إنسان صلب، ووحده الذي بلغ الكمال هو الذي يكون العالم كلّه، بالنسبة إليه، كالبلد الغريب".

فما من شك أنّ الترحال يؤجّج شهيّةَ الكتابة لدى العديد من المبدعين، بما يخلّفه الاشتباك بأحوال وأوضاع جديدة، من تزاحم للأفكار وتدفق للمشاعر في ذهن المبدع وعواطفه الجياشة. ولذلك صاغ كثير من الكتّاب والشعراء والفنانين أعمالا في منتهى الروعة، في السابق والحاضر، ضمن ما يعرف بأدب الرحلة أو الأعمال الاستكشافية. حالة الفوران تلك أَلمّت بي في المراحل الأولى من حلولي بإيطاليا. أتيتُ من أوساط قروية في تونس ومن جامعة تاريخية، "الزيتونة"، قضيت فيها زهاء العقد دراسة وبحثا. فكانت المقارنات والموازنات تكتظّ في ذهني جراء التحول الجديد التي بتّ أعيشه والنموذج المتجذّر الماثل في اللاوعي في شخصي. لتغدو النظرة إلى إيطاليا لاحقا، وإلى الغرب عموما، أكثر تريّثا، وأقلّ انفعالا، وأدنى توهّجا بعد أن صرت جزءا من الغرب، وقد مرّ على مقامي فيه ما يناهز الثلاثة عقود. لكن في أجواء الترحال والتحول والدراسة والتدريس في إيطاليا، تنبّهتُ إلى أنّ ثمة إدراكا آخر ووعيا آخر ما كنت أتنبّه إليهما حين كنت أعيش داخل ثقافتي العربية وفي أوضاع سوسيولوجية بسيطة، ألا وهي القدرات الهائلة التي بحوزة الغرب للتحكم بالعالم، ليس فقط في مساراته السياسية وأحواله الاقتصادية، بل في أنماط تفكيره وصناعة أذواقه، ولعلّه الدرس الأعمق الذي وعيته بالتدرّج. أعود إلى الورى ثانية لأعي مزية الترحال والأسفار والهجرة.

تُحدّثنا الروايات الأولى للتطورات العلمية في الغرب أنّ الأُسر النبيلة، منذ بدايات القرن السابع عشر،كانت غالبا ما تحرص على حثّ أبنائها على خوض غمار الرحلة والشغف بالأسفار كتدريب على الاندفاع والإقدام والقيادة، بالاطّلاع على تجارب الأغيار وأشكال عيشهم. ولذلك كان جلّ الرحالة الغربيين الأوائل نحو البلاد العربية، سواء من النساء أو الرجال، من أُسر من علية القوم. القائمة طويلة في هذا، المؤرخة جيرترود بيل التي أسهمت في تأسيس متحف بغداد سنة 1923 وقد تم تدشينه خلال العام 1927، والمستشرق الأمير ليونه كايتاني (1869-1935) مؤلف الأعمال الموسوعية "دراسات التاريخ الشرقي" و"حوليات الإسلام" وغيرهما كثير. كانت الأسر الأرستقراطية في الغرب تحرص على تقليد الرحلة في أوساطها، وترى في السفر تدريبا مفيدا على مجابهة الصعاب وتعزيز مكتسبات الوجاهة المعنوية والرمزية لديها، وبالتالي تسعى جاهدة إلى غرس تقليد التشوف بعيدا في نفوس أبنائها.

 فكانت قوافل الشبان والشابات ممن يتحدّرون من البرجوازية الصاعدة، يخوضون جولات كبرى بين آثار روما وصقلية واليونان، ويبلغ نفرٌ منهم الحواضر العربية القديمة: قرطاجة، ولبدة، وشحّات (قورينة)، وأهرامات مصر، والقدس، وتدمر، وبابل، ومنهم من تستهويهم الصحراء الكبرى في شمال إفريقيا أو صحراء الجزيرة العربية وأهوالهما الغرائبية في المخيال الغربي.

في مؤلّف بعنوان "الرحالة العرب في القرون الوسطى" صدر في ميلانو (2021) للإيطالية آنّا ماريا مارتيللي، تُبيّن الباحثة أنّ تطوّرَ فنّ الرحلة لدى العرب ترافقَ مع تمدّد الإسلام، وكان لعامل أداء فريضة الحجّ دورٌ بارز في تحفيز المسلمين على التنقل والسفر. ولكن الرحلة في التقليد العربي ما كانت محصورة بالحجّ، بل جاءت العديد من الرحلات مرتبطة باستكشاف الآفاق البعيدة وبغرض البحث العلمي، ولا سيّما الرحلات المتّصلة بجمْع الحديث النبوي. لكن الرحلة إلى أطراف العالم الإسلامي، جاءت أيضا بدافع نشر المذهب وترويج الرأي المغاير، فقد تخلّل تاريخ الإسلام المبكر رحيل عائلات سياسية وتلاميذ مدارس فقهية وكلامية، بغرض نشر آرائها في الأقاليم النائية، وهو حال المذاهب الفقهية والكلامية والطرق الصوفية التي تمدّدت وانتشرت في نواح نائية مشرقا ومغربا.

وجرّاء هذا الولع المتأصّل لدى العرب بفنّ الرحلة، تشكّلت تقاليد وعوائد في شتى الأصقاع. إذ تخضع العملية إلى نظام داخلي مراعى، يتغيّر بحسب المسار والمناخ، فضلا عن المحطّات التي يحطّ بها الرحالة والتي عادة ما تكون خانات أو تكايا وزوايا أو أماكن وفادة داخل الرباطات الحدودية. هذا وقد تكون الرحلة برّية في مجملها، وقد تكون بحرية في جزء منها كما كان يخوضها أهالي بلاد المغرب والأندلس، حين ينزلون بالإسكندرية ثم يُكملون طريقهم برًّا نحو البقاع المقدّسة.

وعلى المستوى الغربي كانت فورة العقلنة والشغف بالبحث العلمي دافعين لخوض العديد من المغامرات مع كثير من الرحالة والباحثين. فقد كان السعي لاكتشاف العالم، ومن ثَمّ ضبط القواعد في شتى المعارف والعلوم الناشئة حافزا للرحلة وارتياد الآفاق البعيدة ورصد الشعوب ومعاينة الآثار. عبّر عن هذا التحفز والنفور من الانطواء جيمس كليفورد بقوله "إذا كنّا نريد صياغة حقائق على هوانا فالأحرى أن نمكث في البيت".

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما- إيطاليا

 

الواقعيّة السحريّة: أن تحلم ليلاً أنّك تتجوّل فى حديقة وفى الصّباح تجد فى يدك وردة!

"الواقعيّة السحريّة أن تحلم ليلاً أنّك تتجوّل فى حديقة وفى الصّباح تجد فى يدك وردة"! هذه العبارة السحرية التي عرّف بها ذات يومٍ خورخي لويس بورخيس ظاهرة الواقعية السحرية فى أدب أمريكا اللاتينية عندما سُئل عن معناها وفحواها ..! صادف يوم 14 من شهر يونيو الفارط 2025 الذّكرى 39 لرحيل هذا الكاتب الأرجنتيني الذائع الصّيت الذي يُعتبر أحد أقطاب الأدب الأمريكي الكبار فى أمريكا اللاّتينية الذي وُلد في 24 أغسطس 1899 ، والمتوفّى عن سنٍ تناهز 87 عاماً فى 14 يونيو 1986.

أرمة بورخيس تتحدّث عن زوجها

أكبر احتفاء كان قد نُظّم في إسبانيا لهذا الكاتب الفذّ أقيم ضمن فعاليات ندوة دولية انعقدت في العاصمة الإسبانية مدريد في ذكرى رحيله تحت عنوان «الكتاب مثل الكون»، كانت أرملة الكاتب الرّاحل ماريا كوداما من ( 10 مارس 1933- 26 مارس2023) قد شاركت فيها بعرضٍ ضافٍ قامت خلاله بتحليل دقيق لعلاقة بورخيس الحميمة بعالم الكتب والمكتبات، نظراً لمزاولته مهنة مدير للمكتبة الوطنية فيعاصمة بلاده الأرجنتين بوينس أيريس في مقتبل عمره، كما سلّطت الأضواءَ على المعايشات التي تسنّى لزوجها من جرّائها خلق "عوالم مكتبيّة فسيحة "خاصة به في العديد من أعماله حتى أصبح هذا الهاجس عنده رمزاً كلاسيكيّاً للثقافة المعاصرة، وتعرّضت كوداما - التي كانت ترأس «المؤسّسة الدولية خورخي لويس بورخيس» - فى هذه الندوة إلى مذكّراتها التي تفصح فيها عن حياتها الخاصّة وسفرياتها مع بورخيس ، كما تتضمّن مذكّراتها العديد من الأخبار، والأسرار،والطرائف التي لم يسبق نشرها حول بورخيس من قبل.

و كانت كوداما تعتب في كل مناسبة على النقّاد الذين تطاولوا أو تهجّموا عليها أو على زوجها بعد رحيله، وقالت إنّ مذكّراتها تسلّط الأضواء الكاشفة على كل ما كان مُبهماً ومجهولاً في حياة بورخيس، ذلك أنّ العديد من الناس والكتّاب والنقاد قد نشروا غيرَ قليل من الأكاذيب والإفتراءات والمبالغات حوله.

كما أكّدت ماريا كوداما في هذا القبيل كذلك: «إنّ نشر هذه المذكّرات جاء نتيجة المعاناة التي كانت تشعر بها حيث سبّب لها كلّ ما نُشر حول بورخيس حزناً عميقاً، وقلقاً مفرطاً وصل بها حدّ الاكتئاب، بل أنّ كلّ تلك الأكاذيب الملفّقة أصابتها بالدهشة، من طرف هؤلاء الذين يطلقون الكلام على عواهنه، حتى لو لم يتعرّفوا قطّ على بورخيس، على الرّغم من أنّ زوجها لم ينظر قطّ بعين الازدراء أو الاحتقار أو الاستصغار نحو أيّ كاتب أو أيّ عمل أدبي، بل إنّه كان يكنّ الاحترام للجميع، حتى إن لم يتعاطف مع بعض هؤلاء الكتّاب الذين كان لا يتورّع من انتقاد بعضهم، ذلك أنّ النقد عنده كان يعني ضرباً من «المرح» نظراً لطبعه الذي يميل إلى السّخرية ، حيث كان يطبّق ذلك حتى على نفسه وعلى أعماله.!.

الضّرير الذي أضاء العالم

تعرّضت ماريا كوداما على وجه الخصوص إلى المرحلة التي كان فيها بورخيس مديراً للمكتبة الوطنية في العاصمة الأرجنتينيّة، بوينس أيريس، وعلاقته الحميمة مع مكتبته الخاصّة، ومع الكتب بشكل عام ، فضلاً عن صلاته وآرائه حول العديد من المؤلفين والكتّاب أمثال كيبلينغ، وايلد، سيرفانتيس، كيبيدو، شكسبير، شوبنهاور، وسواهم من الكتّاب والمُبدعين الآخرين الذين كان بورخيس يبدي نوعاً من التعاطف معهم، والاعجاب بهم. وأكّدت أرملة بورخيس أنّ زوجها ظلّ يقتني الكتب بنوعٍ من الهوس، حتى بعد مرحلة إصابته بالعَمى، بل إنّه خلّد اسمَ المكتبة في إحدى أشهر قصصه القصيرة وهي بعنوان «مكتبة بابل»، ولقد كتب العديد من النصوص عن الكتب والكتّاب والمكتبات طول حياته، وقد أشاد غيرُ قليل من النقّاد من مختلف بلدان العالم بإبداع هذا الكاتب الرّائع الذي بدأ حياته «كُتْبيّاً» بسيطاً ،وعلى الرّغم من عاهة العَمى التي أصابته في شرخ عمره أمكنه أن ينير عوالمَ المُبصرين، وأن يستضيئ القومُ به، وبأدبه وإبداعاته الوضّاءة .

تقول ماريا كوداما: «إنّ بورخيس أشاد في كتابه «المتآمرون» بطيبة الناس، وسجاياهم الفطرية، خاصّة بعد الفترة التي عاش فيها في جنيف التي أقام فيها عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وكان بورخيس يؤكّد أنّ هذا البلد كان مثالاً فريداً التعايش والتسامح لتعدّد اللغات التي يتحدّثها الناس به، وكثرة دياناته، ففي هذا البلد تُحترم الفوارق من دون مَحْوها أو العمل على إذابتها، لقد لمس بورخيس بنفسه في هذا البلد كيف يحترم الناس اللاّجئين، والمُغتربين حيث ترك ذلك فيه أثراً بليغاً.

وكانت أرملة بورخيس كوداما قد صرّحت في السياق نفسه: "بأنّ بورخيس لو كان على قيد الحياة اليوم لحظي بالتقدير نفسه الذي أولاه إيّاه قرّاؤه، والمعجبون به وبأدبه في حياته، فبالإضافة إلى عبقريته الإبداعية كان رجلًا وفيّاً لمبادئه، مخلصاً لأفكاره". وتضيف: " إنّ هذا ناتج عن كون الناس يعترفون بجانب الصّدق في إبداعاته الأدبية أو بالنسبة لمسيرة حياته". فبورخيس تعرّض لهجوم عنيف لمناهضته للبيرونية، وقد حرموه من عمله الوظيفي خلال العهد البيروني، أي خلال حكم خوان دومينغو بيرون (1945-1955)، كما أنّ آراءه في بينوشيه جعلت الأكاديمية السويدية تحرمه كذلك من جائزة نوبل في الآداب، وهو الأديب العالمي الذي يحظى باحترام مختلف الأوساط الأدبية في مختلف أنحاء المعمور. وتضيف كوداما: «هذه الصّراحة التي تميّز بها بورخيس حرمته من العديد من الفرص المماثلة".

وكانت ماريا كوداما قد تعرّفت على بورخيس في سنّ المراهقة، إذ لم يكن عمرها يتجاوز الثالثة عشرة، ذلك أنّ أباها وهو كيماوي ياباني كان صديقاً للكاتب، وعندما ماتت والدة بورخيس حلّت كوداما محلّها، حيث تفرّغت إلى نسخ، وكتابة ما يمليه عليها بورخيس من أعمال أدبية حيث كان قد أصيب بالعمى منذ 1950 وصارت ترافقه في رحلاته وسفرياته وتجواله .

وفى شهر ابريل 1985 تمّ زواج بورخيس بماريا كوداما حيث كان عمره 85 سنة، في حين لم يكن عمرها يتجاوز الواحدة والأربعين، وفارق السنّ بينهما أفسح المجال للعديد من التعليقات من كلّ نوع، ليس فقط من طرف الناس، أو الكتّاب أو النقّاد، بل حتى من طرف وسائل الإعلام ، إلاّ أنّ بورخيس وكوداما كانا يستقبلان هذه التهجّمات بنوع من الهدوء واللاّمبالاة، وقد وقفا بالمرصاد لألسنة السّوء التي تحوّلت عند موت الكاتب إلى «كتب ملتهبة» حول العلاقة التي تجمع بينهما، كما كانت هناك خلافات، ونزاعات بشأن إرث بورخيس، حيث ما فتئت الانتقادات اللاّذعة والتهجّمات الشديدة توجّه إلى ماريا كوداما إلى اليوم، من مختلف الجهات داخل بلدها الأرجنتين وخارجها.

متاهات بورخيّة

تتميّز هذه المرأة التي لم تكن تستقرّ بمكان، والتي لم تفتأ - قيد حياتها- تسافر من بلد إلى آخر بحماس متوقّد ونشاط متواصل وهي تلقي المحاضرات بدون انقطاع حول أعمال زوجها الواسعة والغزيرة، بسحر خاص، وجاذبية لا تقاوم، فبالإضافة إلى نشاطها ككاتبة قامت بالإشراف التام على بناء حديقة في بوينس أيريس أطلق عليها «متاهات بورخية»، حيث كانت قد تلقت «مؤسّسة بورخيس» في شكل هدية تصميما لهذا المشروع المستوحى من أعمال بورخيس، وهو من وضع راندال كواطي، الذي كان يعمل دبلوماسياً لبريطانيا في بوينس أيريس، كما قامت ماريا كوداما بدون كلل بإجراء اتصالات مع بلدية العاصمة الأرجنتينية في هذا الشان، وعملت بنشاط منقطع النظير على غرس الأشجار التي أحيطت «بمنتزه بورخيس» كما عملت أيضاً على إعداد وتنظيم، ندوات كبيرة متعدّدة لعلماء اللغة الإسبانية سلطت فيها الأضواء على أعمال بورخيس الإبداعية، التي تمّ تنظيمها في الأرجنتين وفي بعض بلدان أمريكا اللاتينية، وأوروبّا، كما عملت على إصدار الأعمال الكاملة لبورخيس بعد أن أضيفت إليها جميع التعديلات والتنقيحات التي قام بها الكاتب نفسه قبيل رحيله. كما قامت مع العديد من الجهات التي تُعنى ببورخيس وبأعماله على إعداد مشاريع وأنشطة أدبية أخرى موازية، كوضع باقات من الورود، والقصائد على واجهات السيارات في مناسبات عيد ميلاد بورخيس الذي يصادف 24 أغسطس من كلّ عام. وتنظيم ندوات دراسية في تواريخ متفاوتة، وأماكن مختلفة حول بورخيس وأدبه، بمشاركة العديد من الأساتذة الجامعيين والباحثين والمهتمّين والمتتبّعين لأعمال هذا الكاتب الكبير.

وتشير أرملة صاحب «الألف»: «لقد صنّفوا بورخيس كسّيد فيكتوري، يتحدّث عن متاهات ونُمر ومرايا، إلاّ أنه كان شخصاً لطيفاً خفيفَ الرّوح ومغامراً. «وتضيف»: كانت أمنيته وحلمه أن يعيش في زورق في مجرى غياب نهر التامسيس، إلاّ أنه عندما تزوّجها جعلته يتخلّى عن هذه الفكرة بعد أن حدّثته عن المخاطر التي قد تعتريها، كما أنه كان يستقبل العديدَ من الكتّاب والنقاد والطلبة والمعجبين به.

وتشير الناقدة فيكتوريا أسوردوي إلى أنّ غاية كوداما من نشاطها المتواصل على رأس مؤسّسة بورخيس كانت هي الاستمرار في إعلاء الشّعار الذي سبق أن رفعته وتبنّته منذ رحيل زوجها، وهو إخلاصها الدائم لهذا الرّجل الذي لا تفتأ تصفه في كل مناسبة بأنه كان ذا حساسية مفرطة، حيث عانى بسبب ذلك الكثير، إلاّ أنه أمكنه دائماً إنقاذ أعماله من المشاكل اليومية ومن صروف الدهر ونوائبه » . لم يفتأ العالمُ حتى اليوم يعمل على اكتشاف وتقييم أعمال ذلك المبدع الأرجنتيني الذي حُرم نعمة البصر، ولكنّه وُهب بالمقابل بصيرة نافذة ثاقبة، والذي يذكّرنا عندما نقرأ له ببشّار والمعرّي وأبي عليّ البصير، وطه حسين، ويوسف الدجوى، وإبراهيم الإيباري، ومحمد المعداوي، ومحمد حسنين البولاقي (والد أحمد حسنين باشا) وسواهم.

تقول كوداما: إنّ عفّة بورخيس واحترامه للآخرين جعل أدبه يتّسم بالعمق والشفافية والصدق، حيث جعل من هذه الأعمال بحثاً دائماً عن كنه الإنسان وماهيته، وقد أدخلت هذه الاعمال السّرور والفضول والمتعة والتطلّع في قلوب وعقول القرّاء في مختلف أنحاء العالم على تفاوت أعمارهم ، وما يزال تأثيرها يتعاظم على مرّ السنين، ليس فقط في اللغة الإسبانية التي كتب بها هذه الأعمال، بل في مختلف اللغات التي نقل إليها هذا الأدب وفي مقدّمتها اللغة العربية.

آخر كلمات بورخيس

ما هي آخر الكلمات التي أملاها الكاتب خورخي لويس بورخيس قبيل وفاته في جنيف على زوجته كوداما؟ لقد كان الجواب عن هذا السؤال حتى الآن سرّاً محفوظاً من طرف هذه المرأة التي وهبت حياتها لبورخيس، إلاّ أنّ مطبوعاً تحت عنوان «آخر تقديم لبورخيس» كان قد صدر في بوينس أيريس بعد وفاته أثار جدالاً حادّاً بين قرّاء بورخيس ونقاده والمعجبين به.

بادرت ماريا كوداما على إثر ذلك إلى توجيه مجموعة من الرّسائل إلى مختلف الجرائد والمجلات الارجنتينية توضّح فيها ما يلي: «أريد ان أنبّه القرّاء إلى مدى الزّيف الذي ينطوي عليه هذا العنوان: «آخر تقديم لبورخيس» إذ حسب أرملة الكاتب فإنّ آخر تمهيد أو تقديم كان قد كتبه الكاتب هو المتعلق بالطبعة الفرنسية لأعماله الكاملة ضمن السلسلة «بليار» عن دار النشر الفرنسية المعروفة «غاليمار».

وتؤكّد كوداما أنّ بورخيس كان قد أملى عليها هذا التقديم، إلا أنه لم يتمكّن من إنهائه وإتمامه، وتضيف كوداما: «إن ناشر هذه الأعمال الكاملة وهو الفرنسي "جان بيير بيرنيس" شرح كيف أنّ هذا هو بالفعل آخر تقديم كتبه بورخيس في حياته، والذي ظهر أو أدرج فيما بعد ضمن الأعمال الكاملة إياها. لماذا إذن وكيف ظهر النصّ الأرجنتيني الذي سبّب في إثارة هذا النقاش بين النقاد والمثقفين والمعجبين والمتخصصين في بورخيس؟ الواقع أنّ هذا الكتاب يضمّ 11 قصة لبورخيس. وفي التقديم المختصر الذي وضعه لهذا الكتاب يشير إلى أنّ 9 من الأعمال المُدرجة في هذا الكتاب هي من أجمل منتقيات إنتاجه الأدبي، ومن ثمّ تشكّ ماريا كوداما بالتالي في صحّة ومصداقية هذا التقديم الذي يشير بورخيس فيه: «لقد خامرني الشكّ ذات يوم بكون الأعمال الكاملة إنمّا هي خطأ ذو أصل تجاري أو احترافي، فأيّ رجل له الحقّ في أن يستمع إلى حكم النقاد حول أنصع صفحاته، وليس فقط حول تسليات وشطحات قلمه أو رسائله العرضية، إنّني أريد أن أتصوّر أحكام النقاد حول النصوص التسعة بالذات الموالية وليس حول صدى تلك القصص في الذاكرة".

كلمات بورخيس المنسيّة

قال بورخيس:

ليس من حقّ أحدٍ

أن ينتقصَ بالدّموع أو العتاب

من شأن هذا الاعتراف البارع

بالتفوّق والمهارة

حيث منحني الله

بسخريةٍ رائعة

وفي الوقت ذاته

الكتبَ والليلَ..!

***

د. السّفير محمّد محمّد الخطّابي

كاتب وباحث ومترجم من المغرب

 

يُعدّ فن الزخرفة محاكاةً للصور الفكرية ذات الطابع المثالي، المنتمية إلى مستويات الرمز في أعمال الفنان والباحث محمد لقمان الخواجة، الذي عرفته من خلال زياراته المتواصلة لربوع مدينة الحلة العريقة، ومكتبته العامرة التي تقع قرب مكتبة الدكتور عبد الرضا عوض، والتي تنبعث منها نفحات التاريخ والفن والأدب.

وُلد لقمان عام 1957، وحصل على شهادة الدبلوم في الفنون الجميلة، والبكالوريوس في اللغة العربية، والماجستير في النقد. وقد اهتم بكتابة الشعر والزخرفة الإسلامية، وأبدع في هذا الفن حتى أُطلق عليه لقب "الزخرفة اللقمانية". صدر له أكثر من (17) مؤلفًا في مجالات الفن والأدب والرواية، من بينها: روايتان: الكاهنة، وأطروحة معلم ، الحنين إلى الواقعية... تشكيلي، لغة النقد وقراءة الصورة (كتابان في النقد ونقد النقد) كوين كولاج، وهو عمل تشكيلي يُعنى بصناعة اللوحة من النفايات، ديوان شعر بعنوان وشل الذكريات

أسهم لقمان في إنتاج تركيبات ووحدات زخرفية تزيّن اللوحات وتغلفها بأشكال مجردة متنوعة في الأسلوب والأداء، تمنح نتاجات الفن الإسلامي، ومنها فن الزخرفة، دلالات رمزية وطابعًا روحانيًا يحتفي بمجموعة من المفاهيم القرآنية واللغوية والفلسفية. هذه التكوينات تركّز على جماليات الترميز والتركيب والتزويق، وهي منفّذة على صفحات مؤلفاته بحرفية عالية.

وقد أشاد الدكتور أسعد يحيى مسلم بأعمال لقمان التجريبية الإبداعية، وبالرؤية النقدية التي يحملها، قائلاً:" هو فنان تشكيلي وناقد بصري معروف برؤيته الجمالية الخاصة، التي تستند إلى فهم معمّق للتراث الفني، وتوظيفه في سياقات حداثوية تتقاطع فيها الثقافة والتاريخ والهوية. حيث يرتكز مفهوم التوليدية في الزخرفة عند الخواجة على مبدأ شبيه بما طرحه نعوم تشومسكي في التوليدية اللغوية."

أما الدكتور محمد علي علوان فقد اعتبر أن جهد لقمان الفني في مجال الزخرفة:" يحقق نوعًا من المواءمة الجمالية بين ابتكار الوحدة الزخرفية وتضمينها صورًا بصرية تتنافذ مع فن الرسم، في إطار تشييد شكل ومبنى جديدين لتلك الوحدة. وقد أخذ منها الخواجة ربع مساحتها كباعث لتغيير نمطية الصورة الزخرفية، وكشف صلاتها الحميمية مع الأثر التعبيري الذي تحمله... لذلك فإن التكوينات الزخرفية المتولدة هي ملامسة فعلية لإعادة صياغة الشكل الأصلي للوحدة الزخرفية في قوالب زخرفية جديدة، لا تخلو من أنظمة اشتغال معاصر، خصوصًا مع تكثيف البعد البصري للمنجز الزخرفي الجديد."

في كتابه الجديد (السياقات التوليدية في الزخرفة)، الصادر عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل بالاشتراك مع دار سما للطباعة والنشر والتوزيع، في (284) صفحة من القطع الوزيري، والمزين بعشرات اللوحات الزخرفية، يأخذنا محمد لقمان الخواجة في رحلة بصرية بحثية ثاقبة داخل عوالم الزخرفة، مستندًا إلى بنية معرفية تعبر عن أشكال ثقافية رمزية. حيث يرتكز على مبدأ التوليدية اللغوية كوحدة بنائية، من خلال سلسلة من التدوير والتركيب الزخرفي التي ينتج عنها عمل بصري زخرفي خاص يحمل بصمته.

توشحت العديد من أعمال الأستاذ لقمان بعناصر زخرفية هندسية متنوعة. وتأتي أهمية تصاميمه من جماليات المفتتحات البصرية الأولية لأي مخطوط إسلامي، الذي يهتم بالجانب التقني والأدائي والفني، فضلاً عن أهمية بعض أنظمة التكوين الزخرفي، وما تحويه من أسس تصميمية تهدف إلى تكوين وحدات زخرفية مفاهيمية بأشكال مجردة، تعتمد على قواعد وصيغ رياضية مستوحاة من البيئة الطبيعية، وجماليات التناظر، والتشابك، والتجانس، والتزويق، بطابع رمزي عميق.

تُعد أعمال لقمان الزخرفية وسيلة تجميلية تعكس رغبة داخلية في الحياة المفعمة بالجمال والزينة، تمظهرت عبر أشكال هندسية كالدوائر والمثلثات والمربعات، أو من خلال الخط العربي المشبع بالمعاني الأدبية والدينية، باستخدام الحروف والكلمات والآيات القرآنية. كل هذه العناصر المختلفة يوظفها الفنان القدير لقمان الخواجة في تصاميمه الزخرفية وفق نظام خاص، قائم على التداخل والتكرار والتناظر، بصورة منتظمة ومتناسبة من حيث الوضعية، والحجم، والكثافة، والتوزيع، وملء الفراغ، حتى تتحول كل المساحات إلى إطارٍ بصريّ زاخر بالمتعة التصويرية، يشع جمالًا وجاذبية، ويبعث في المتأمل لذة روحية وبصرية معًا.

لجأ لقمان بحسّه الفني الرفيع إلى توظيف الأشكال الرمزية المرئية وتطويعها في خدمة نشاطه الإبداعي الزخرفي، على نحو يجعل العمل الفني مجالًا لا متناهيًا للرؤية والتأمل. وتتميّز الزخرفة "اللقمانية" بقدرتها على نقل قدر كبير من الدلالات والمعاني الوجدانية التي تنبض بها الصورة، بهدف الاقتراب أكثر من الجمال في شكله ومستواه الروحي. ولهذا، يبقى عمل الفنان لقمان الزخرفي، في المنظور الإسلامي، كغيره من الفنون، قائمًا على المعرفة الحسية أكثر من كونه معرفة حدسية أو روحية خالصة.

يعود تاريخ نشأة فن الزخرفة إلى بدايات الإنسان في الكهوف، حين نقشها على أوانيه بأشكال هندسية بسيطة. ثم انتقل هذا الفن إلى الحضارات المختلفة، وكانت بداية الزخرفة الإسلامية مع الخليفة عبد الملك بن مروان، أحد أوائل الحكّام الذين اهتموا بتطوير هذا الفن، حيث قام بإضفاء الزخارف الإسلامية على قبة الصخرة في القدس الشريف، فجعلها نموذجًا معماريًا فريدًا يعكس فلسفة الفن الإسلامي في تلك الحقبة. وفي العصر العباسي بلغ العمل الزخرفي ذروته، وتواصل تطوره في العصرين المملوكي والعثماني، حيث امتزجت الزخرفة مع عناصر معمارية وفنية أخرى، فصارت علامة مميزة من علامات حضارة الإسلام وفنونه البصرية.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

بقلم: ديبا بهاشتي

ترجمة: د. محمد غنيم

***

تقديم: المجموعة القصصية الفائزة الفائزة بجائزة البوكر للسرد المترجم الى الانجليزية لعام 2025 مصباح القلب للكاتبة الهندية المسلمة: بانو مشتاق هى أول مجموعة قصصية تفوز بهذه الجائزة، ومن ثم تعد سابقة فى تاريخ الجائزة حيث تمنح للسرد الروائي لا للقصص القصير، ولعل هذا يشي بالقيمة الفنية لهذه المجموعة من القصص . تعكس القصص في هذه المجموعة حياة مشتاق كصحفية ومحامية، مع تركيز واضح على حقوق النساء ومقاومة الظلم الطبقي والديني في إقليمها.وقد صرّح ماكس بورتر رئيس لجنة تحكيم البوكر الدولية بأن القصص، على الرغم من كونها نسوية وتتضمن "سردًا مذهلًا عن أنظمة أبوية ومقاومة لها"، إلا أنها بالدرجة الأولى "حكايات جميلة عن الحياة اليومية، لا سيما حياة النساء".أما صحيفة الغارديان فقد علّقت بأن "النبرة تتفاوت بين الهادئة والهزلية، لكن الرؤية متسقة"، ووصفت المجموعة بأنها "رائعة". أما المترجمة الهندية أيضا وصديقة الكاتبة التى قامت بنقل القصص الى اللغة الانجليزية فكتبت عن بانو مشتاق الابداعية وعن تجربتها فى الترجمة من لغة محلية لها سماتها المميزة إلى لغة أخرى عالمية – الانجليزية .

***

د. محمد غنيم

........................

بانو مشتاق كاتبة متمردة

بقلم: ديبا بهاشتي

ترجمة: د. محمد غنيم

***

يمكن اختصار مسيرة بانو مشتاق بأكملها، سواء ككاتبة أو كصحفية ومحامية وناشطة، في كلمة كانادية واحدة: "باندايا"."باندايا" تعني المُعارضة، التمرد، الاحتجاج، مقاومة السلطة، الثورة وما يتصل بها من أفكار. اجمعها مع كلمة "ساهيتيا" التي تعني الأدب، لتحصل على اسم حركة أدبية قصيرة العمر لكنها شديدة التأثير في اللغة الكانادية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.بدأ أدب الباندايا كفعل احتجاجي ضد هيمنة كتابات الطبقات العليا التي كان يقودها الذكور في الغالب، والتي كانت تُنشر وتُحتفى بها آنذاك. حثت الحركة النساء، والداليت (المنبوذون)، والأقليات الاجتماعية والدينية الأخرى على رواية القصص من داخل تجاربهم الحياتية وبالكانادية التي يتحدثونها. من بين اللهجات الكانادية العديدة الموجودة، كانت لغتهم تُرفض وتُعدّ "عامية" أو "فلكلورية"، على النقيض من "لهجة النخبة" القادمة من منطقة ميسورو، والتي لا تزال تُستخدم على نطاق واسع في الثقافة الشعبية.

نشأت بانو في أسرة تقدمية، وتلقّت تعليمها بلغة الكانادا، وليس بالأوردو كما كان شائعًا لدى المسلمين آنذاك. وقد تفتّحت وعيها خلال عقود أصبحت فيها فكرة "الخاص هو السياسي" موضوعًا محوريًا في الفكر النقدي. كتبت أثناء وبعد حركة باندايا، واتجهت أعمالها بوعي بعيدًا عن ما تسميه كليشيهات "فتى يلتقي فتاة" في الأدب الرومانسي، وبدلًا من ذلك، سعت إلى خلق سرديات تنتقد النظام الأبوي وتقاليده وممارساته المنافقة. وبينما ظهرت العديد من الكاتبات المتأثرات بالمشهد الأدبي والسياسي في الثمانينيات، تبقى بانو واحدة من القليلات اللواتي واصلن الكتابة بانتظام على مدار العقود التالية.

مدينة حسن، الواقعة في السهول جنوب غرب ولاية كارناتاكا، حيث قضت بانو معظم حياتها، ومدينة ماديكيري، الواقعة في سلسلة جبال الغات الغربية، حيث وُلدتُ وأقيم اليوم مجددًا، لا تبعد إحداهما عن الأخرى سوى مئة كيلومتر تقريبًا. كلتاهما مدينتان صغيرتان، مليئتان بسمات لغوية واجتماعية مميزة، وبميلٍ سياسي محافظ، وهي سمات شائعة في المدن الهندية الصغيرة.

في منزلها، تتحدث بانو بلغة دَكني، التي تُعدّ أحيانًا — خطأً — لهجة من الأوردو، لكنها في الحقيقة مزيج من الفارسية والدلهوية والماراثية والكانادا والتيلوغو. أما لغة الكانادا فهي أداة بانو في العمل، وهي اللغة التي تصادفها في الشارع. مع ذلك، فإن الكانادا التي تتحدث بها بانو، وتلك التي نشأتُ عليها أنا — المتأثرة إلى حد كبير بلكنات المناطق الساحلية ولهجة هافياكا الخاصة بالطبقة الاجتماعية التي أنتمي إليها — تختلفان كثيرًا. وبيننا، نتحدث أيضًا أكثر من نصف دزينة من اللغات الأخرى، كثيرٌ منها يتسلّل إلى أحاديثنا وكتاباتنا بشكل طبيعي. في قصص بانو، هذا التبديل اللغوي بين ثلاث أو أربع لغات نتعامل معها يوميًا ينتج مزيجًا ساحرًا من: الكانادية، والأردية، والعربية، والداخني، بالإضافة إلى كانادية كما تتحدثها مجتمعات معينة في مناطق محددة من منطقة حسن.

هذا التعدد اللغوي ليس أمرًا نادرًا أو استثنائيًا لكثير من الهنود، كما أنه لا يرتبط بالضرورة بالطائفة أو الطبقة أو التعليم أو الجماعة، وهي الهويات التي تحدد، في المقابل، كل جانب من جوانب الامتيازات الخاصة والحياة العامة في البلاد. حين بدأت العمل على ترجمة قصص بانو، وجدت نفسي أواجه سؤالًا جوهريًا: ما الذي سيكون عليه هذا المشروع؟ هندوسية سابقة ومن الطبقة العليا تترجم صوتًا ينتمي إلى أقلية دينية، إلى لغة مشتركة غريبة عن كلينا. سيكون من المجحف اختزال أعمال بانو في هويتها الدينية، إذ إن قصصها تتجاوز حدود الإيمان وتقاليده الثقافية. ومع ذلك، في الهند اليوم — حيث انزلقت السياسة اليمينية المتطرفة خلال العقد الماضي بشكل خطير إلى أيديولوجية الأغلبية بقيادة الهندوتفا، وإلى الكراهية والاضطهاد الشديد للأقليات (وهي أشكال من العنف تتكرّر في بلدان كثيرة حول العالم، وإن كنا نميل إلى نسيان ذلك) — من الضروري الإشارة إلى السياق الذي تعيش وتكتب فيه بانو. وبالطبع، لا يُشترط أن يكون المترجم من الخلفية نفسها التي ينتمي إليها الكاتب، لكنني شعرت أن من المهم الاعتراف باختلافاتنا، وبمواقعنا وامتيازاتنا المختلفة، واستخدام هذا الوعي كأساسٍ لأكون أكثر مسؤولية وحساسية في الترجمة.

ومع ذلك، أختار أن أعزو جرأتي - أو قل تهوري - في ترجمة أعمال بانو إلى شيء قالته لي ذات مرة: إنها لا ترى نفسها كاتبة تُختزل في تصوير نمط واحد من النساء ينتمين إلى مجتمع بعينه، فالقهر الذي تواجهه النساء – وإن اختلفت تفاصيله – هو جوهر ما تكتب عنه. هذه الأُخوّة التي تجمع كل من عرفن أنفسنا كنساء، هي الوسادة التي أستند إليها في ترجمة نصوصها. آليات التكيف التي نبتكرها، والحلول التي نجدها، والتعديلات التي نجريها حول الرجال – كلها استراتيجيات بقاء تُغذّى عبر الأجيال. قد تختلف التفاصيل، لكن الجوهر يظل واحدًا: مقاومة السيطرة، "التدجين"، أو منعنا من استكشاف طاقاتنا الكاملة. نحن نؤمن – أنا وبانو – أن هذه التجارب يعاد إنتاجها في كل مكان بالعالم. بعضنا يخطو على كرات الفحم المتّقدة ليشقّ لنفسه طريقًا. بعضنا يتعلّم كيف يعيش قريبا من النار. لكن لا أحد منّا يخرج من هذه التجربة بلا ندوب.

لغة الكانادا، شأنها شأن العديد من اللغات التي ظلت مستخدمة لأكثر من ألف عام، تحمل في طياتها تقليدًا ثريًا وحيويًا من السرد الشفهي. ويمكن رؤية هذا الإرث بوضوح في قصص بانو، حيث تمزج الأزمنة الزمنية باستمرار، وتتوقف فجأة، وتُقحم ملاحظة أو مونولوجًا وسط حوار، وكأنها تجلس أمامك مباشرة.والكانادا، مثل العديد من اللغات الهندية الأخرى، لغة غنية بالتعابير والأمثال والعبارات التي لا تبدو فقط شاعريّة في نغمتها، بل تضفي أيضًا طابعًا مسرحيًا محببًا على الكلام اليومي. هنا، يُعدّ الكلام أداءً جسديًا تقريبًا، بل موسيقيًا في بعض الأحيان، حيث يعتمد معنى الكلمة بقدر ما يعتمد على المعلومات التي تنقلها، على هافا-بهافا — أي الإيماءات والتعابير — وعلى النبرة وطريقة الإلقاء. لقد حاولت قدر الإمكان الحفاظ على هذا الإحساس في الترجمة، بحيث لا أجعل الجمل وتوقفاتها المفاجئة أو تعرجاتها تبدو نافرة بصريًا على الصفحة. على سبيل المثال، فإن المبالغة (كأن يُقال: "دعه يتزوج ألف مرة") وتكرار الكلمات ("متألّق متألّق" أو "ينقط ينقط") أمرٌ شائع في الكلام اليومي. وأنا أؤمن بأنها تضيف قدرًا لذيذًا من الدراما إلى المحادثة، ولهذا اخترت أن أحتفظ بهذه السمات الغريبة الجميلة في النسخة الإنجليزية أيضًا.

من الجدير بالذكر أن الترجمة ليست مجرد استبدال كلمات بلغة ما بما يقابلها في لغة أخرى؛ فكل لغة، بما تحمله من تعابير اصطلاحية وأعراف في الكلام، تنقل معها قدرًا كبيرًا من المعرفة الثقافية التي كثيرًا ما تحتاج بدورها إلى "ترجمة".على سبيل المثال، في قصة "ألواح حجرية لقصر شيستا"، تتحدث شيستا إلى صديقتها الجديدة زينات عن زوجها افتخار. لكنها لا تستخدم عبارة "زوجي" أو تناديه باسمه، بل تشير إليه بقولها: "أخوكي البهاي صاحب" [أي: "أخوكِ الكبير"]. زينات ليست قريبة لافتخار من الناحية البيولوجية — بل إنهما التقيا لتوهما — لكن هذه الإشارة ترحّب بزينات فورًا كفرد من العائلة، وبالفعل تُستقبل بحفاوة. هذه العبارة تحمل دلالات ثقافية كثيرة: إذ في البيوت المحافظة، لا تنادي النساء أزواجهن عادةً بأسمائهم، بل يشِرن إليهم عبر علاقتهم بالمُخاطَب (كما في "أخوك")، أو يستخدمن كلمات معينة مثل "ري" عند الحديث المباشر إليهم. كذلك، لا يُنادى الكبار عادةً بأسمائهم دون أن تُضاف لاحقة تدل على علاقة قرابة محترمة مثل: عم، خال، أخ أكبر، أخت كبرى، إلى آخره (وفي هذا المثال: "صاحب"). تُظهر هذه الأعراف قدرًا من الاحترام، نعم، لكنها أيضًا تؤدي وظيفة ثقافية: إذ تخلق مساحة لشخص جديد ضمن العائلة، وتضمه إلى دائرة الألفة من خلال نسج هذه العلاقات اللغوية. فهي تُشير إلى أن القرابة لا تُبنى فقط على رابطة الدم أو الزواج، وتُعزّز الفكرة السائدة في المجتمعات الأسرية مثل الهند بأن كل شخص ينتمي إلى جماعة، وهو ما يخفّف من حدّة مفاهيم "الفردانية" و"الهوية الشخصية" الوافدة. لقد جعل مراعاة هذه التقاليد الاجتماعية والثقافية من ترجمة القصص — التي تمتلئ بطبقات متعددة من العلاقات — تحديًا حقيقيًا، لكنه أيضًا فرصة جميلة للتأمل في ممارسات نعيشها ونتعامل معها وكأنها بديهيات. ومن أجل الحفاظ على نكهة كل علاقة كما وردت في الأصل، سواء استخدمت بانو المقابل الكانادي أو الأردي، فقد اخترتُ أن أحتفظ بكل مصطلح على حاله، بدلًا من تسويته في الترجمة بعبارة عامة مثل "عمة" أو "عم".

على الرغم من أن اللغة الكانادية لغة رئيسية يتحدث بها نحو 65 مليون نسمة، إلا أن وجودها في العالم الرقمي يشبه أرضاً بكراً مقارنةً بالأردية والعربية. فالكلمات التي يمكن البحث عنها عبر "جوجل" في صيغة نقل الحروف قليلة جداً. لذا، عند كتابتها بالإنجليزية، اخترت أحياناً ما يقترب من نطقها الأصلي، وأحيانًا أختار الشكل الأرجح بناءً على الموارد القليلة المتاحة على الإنترنت. على سبيل المثال، نقلت كلمة "خبز مسطح" كـ"روتّيس" وليس "روتيس" الأكثر شيوعاً، لأن الأخيرة تعكس لهجة شمال الهند. وينطبق الأمر ذاته على "لونغي" و"بانشي" بدلاً من "دوتي". إذ إن التسمية الأولى أكثر محلية ودقة.

أما عند نقل الكلمات من الأردية أو العربية، فقد واجهت خيارات عديدة، واتبعت المنطق نفسه. فكلمات مثل "قرآن" و"جماعة" حافظت على ألف المد (’) احتراماً للوقفة الصوتية المميزة في نطق الناطقين الأصليين. بينما ينقل متحدثو الداخني، بمن فيهم بانو، حرف "القاف" كـ"خ" بسبب اختلاف بسيط في النطق. وهكذا، نُقلت كلمة "مقبرة المسلمين" كـ"خاباريستان" وليس "قاباريستان" كما هو شائع.

بعيدًا عن الجدل العقيم حول ما يُفقد ويُكتسب في الترجمة، يسعدني أن أقول إن لغة الكانادا قد وجدت، من خلال هذه المجموعة، قرّاءً جدداً . لقد اتخذت قرارًا واعيًا بعدم استخدام الخط المائل للكلمات الكانادية والأردية والعربية التي حافظت على شكلها الأصلي في النص الإنجليزي. فالخط المائل لا يشوش على القارئ بصريًا فحسب، بل ويعلن عن الكلمات وكأنها غريبة مستوردة من لغة أخرى، يجعلها تبدو دخيلة وغير مألوفة للإنجليزية. من خلال الامتناع عن استخدام الخط المائل، آمل أن يتمكّن القارئ من استقبال هذه الكلمات بلا عوائق، وربما، أثناء انسيابه مع النص، يتعلم كلمة أو اثنتين بلغة أخرى. الأمر نفسه ينطبق على الهوامش التفسيرية – فهي غير موجودة هنا.

(انتهى)

***

......................

الكاتبة: ديبا بهاشتي / Deepa Bhasthi (مواليد ١٩٨٣) كاتبة ومترجمة وصحفية هندية من ولاية كارناتاكا الجنوبية. نالت شهرة عالمية لترجمتها مجموعة القصص القصيرة "مصباح القلب" للكاتبة بانو مشتاق، والتي أصبحت بفضلها، في عام ٢٠٢٥، أول مترجمة هندية تفوز بجائزة بوكر الدولية.

وُلدت ديبا بهاشتي في ماديكيري، كارناتاكا عام 1983. وتنسب حبها للأدب إلى جدها لأبيها الذي توفي قبل ستة أشهر من ولادها وترك لها مجموعة واسعة من الكتب، بما في ذلك أعمال مهمة من الكلاسيكيات الروسية.

تخصصت بهاشتي خلال مسيرتها الصحفية في الصحافة الفنية، وأصبحت في النهاية كاتبة عمود والمحررة المؤسسة لمجلة "ذا فوراجر" التي تستكشف الأهمية السياسية للطعام. في عام 2016، تعاونت مع ثلاثة مبدعين آخرين لتأسيس "فوراجر كولكتيف"، الذي يدرس قضايا اجتماعية مثل الاقتصاد والسياسة والثقافة من خلال عدسة الطعام. بعد بضع سنوات، عادت إلى مسقط رأسها في ماديكيري مع زوجها الفنان والمزارع تشيتيرا سوجان نانايا، حيث يعيشان حياة هادئة في مزرعة مع خمسة كلاب.

اكتسبت ديبا بهاشتي اعترافًا دوليًا لعملها في الترجمة الأدبية. فترجمتها الإنجليزية لمجموعة القصص القصيرة "مصباح القلب" لبانو مشتاق، التي أنجزتها خلال أربعة أشهر من العمل المكثف، أكسبتها والمؤلفة جائزة البوكر الدولية عام 2025 أشادت لجنة التحكيم بالترجمة ووصفتها بأنها "شيء جديد بحق"، وترجمة راديكالية "تتحدى وتوسع فهمنا للترجمة". في ترجماتها، تتبع بهاستي منهجًا تصفه بأنه "الترجمة بلهجة"، حيث تحتفظ نصوصها عمدًا بالخصائص الثقافية والتاريخية للغة الأصلية لضمان الأصالة بالإضافة إلى أعمال مشتاق، ترجمت أيضًا كتابات مؤلفين بارزين مثل كوداجينا جورامّا، الرائدة النسوية في الأدب الكنادي، وكوتا شيفاراما كارانث. إلى جانب عملها كمترجمة، تُعد بهاستي أيضًا مؤلفة كتب أطفال. فقد نُشر كتابها "تشامبي وشجرة التين" عام 2025 .

(نقلا عن أخبار الأدب المصرية – النسخة الورقية 13يوليو 2025)

 

يُعْتَبَر الشاعرُ العِراقيُّ بَدْر شَاكِر السَّيَّاب (1926 - 1964)، مِنْ أبرزِ الشُّعَراءِ العَرَبِ في القَرْنِ العِشرين، وأحَدَ مُؤسِّسي الشِّعْر الحُر في الأدب العربيِّ. وُلِدَ في قَريةِ جيكور بالبَصْرَة. فَقَدَ وَالِدَتَه في سِنِّ السادسة، وَتَرَكَ ذلك أثرًا عميقًا في حياته، فذاقَ مَرارةَ اليُتْمِ طِيلة حَياته، وفي مَرحلةِ طُفولته عانى مِنْ عُقدةِ المَرَضِ وضَعْفِ الجِسْمِ.

كانَ السَّيَّابُ ضئيلًا، نَاحِلَ الجِسْم، قَصِيرَ القَامَةِ، ذا مَلابس فَضْفاضة. وَصَفَه الدُّكتور إحسان عَبَّاس بِقَوْلِه: (غُلام ضَاوٍ نَحِيل كأنَّه قَصَبَة، رُكِّبَ رَأسُه المُستدير كَحَبَّةِ الحَنْظَل، عَلى عُنُقٍ دقيقة تَمِيل إلى الطُّول، وعلى جَانِبَي الرَّأس أُذُنَان كبيرتان، وتحت الجبهة المُستعرضة التي تَنْزِل في تَحَدُّبٍ مُتَدَرِّج أَنْفٌ كبير يَصْرِفُكَ عَنْ تأمُّلِه أوْ تأمُّلِ العَيْنَيْنِ الصَّغِيرَتَيْن العَادِيَّتَيْن عَلى جَانِبَيْه فَمٌ وَاسِع، تَبْرُز الضَّبَّةُ العُلْيا مِنْه وَمِنْ فَوْقِهَا الشَّفَة بُرُوزًا يَجْعَل انطباقَ الشَّفَتَيْن فَوْقَ صَفَّي الأسنان كَأنَّه عَمَلٌ اقتساري، وَتَنْظُر مَرَّةً أُخْرَى إلى هذا الوجه الحِنْطِيِّ، فَتُدْرِك أنَّ هُناك اضطرابًا في التَّنَاسُبِ بَيْنَ الفَكِّ السُّفْلِيِّ الذي يَقِفُ عِند الذَّقْنِ كأنَّه بَقِيَّة عَلامَة استفهام مَبْتُورة، وَبَيْنَ الوَجْنَتَيْن الناتئتَيْن، وكأنَّهما بِدايتان لِعَلامَتَي استفهام أُخْرَيَيْن قَد انْزَلَقَتَا مِنْ مَوْضِعَيْهِمَا الطَّبِيعِيَّيْن) [بدر شاكر السياب، دراسة في حياته وشِعْرِه، 1969، ص 25 ].

نَتيجة الفَقْرِ المُدْقِعِ الذي عَاشَه السيابُ في صِغَرِه، عانى مِنْ فَقْر دَم ناشئ عَنْ سُوءِ التَّغذية، كما ساهمَ مَرَضُ السُّلِّ الذي أُصِيبَ بِهِ في شَبَابِه في نُحُولِ جَسَدِه.

في عام 1961، بدأتْ صِحَّةُ السياب بالتَّدهور، حَيْثُ بدأ يَشعُر بِثِقَلٍ في الحَرَكَةِ ـ وأخذَ الألمُ يَزداد في أسفلِ ظَهْرِه، ثُمَّ ظَهَرَتْ بعد ذلك حالةُ الضُّمور في جَسَدِه وقَدَمَيْه، وَتَمَّ تَشْخِيصُهُ بمرضِ التَّصَلُّبِ الجانبيِّ الضُّموري، وظَلَّ يَنْتَقِل بَين بغداد وبيروت وباريس ولندن للعِلاج بِلا فائدة.

فَقَدَ السيابُ قُدْرَتَه على الحَرَكَةِ والتَّنَقُّلِ، وعَانى مِنَ الشَّلَلِ، مِمَّا جَعَلَه يَشْعُر بالكآبةِ والحُزْنِ العَمِيقِ، وَسَيْطَرَ عَلَيْهِ هَاجِسُ المَوْتِ، وَظَهَرَتْ آثارُ مُعَاناته مِنَ المَرَضِ في شِعْرِه.

يَقُول السياب: (آهِ لَعَلَّ رُوحًا في الرِّياح / هَامَتْ تَمُرُّ على المَرَافِئِ أوْ مَحَطَّاتِ القِطَار / لِتُسَائِلَ الغُرباءَ عَنِّي / عَنْ غَريبٍ أمْسِ راح / يَمْشِي على قَدَمَيْن / وَهُوَ اليَوْمَ يَزْحَفُ في انكسار / هِيَ رُوحُ أُمِّي هَزَّهَا الحُبُّ العَمِيق/ حُبُّ الأُمُومَةِ فَهِيَ تَبْكي / آهِ يا وَلَدِي البعيدَ عَن الدِّيار / وَيْلاه! كَيْفَ تَعُودُ وَحْدَكَ لا دَلِيلَ ولا رفيق) [قصيدة/ الباب تَقْرَعُهُ الرِّياح، لندن، 13/3/1963].

انتقلَ السيابُ إلى المُستشفى الأميريِّ في دَولةِ الكويت لِتَلَقِّي العِلاج، حَيْثُ قامتْ برعايته، وأنفقتْ عَلَيْه خِلال مُدَّة عِلاجه، إلا أنَّ المَرَضَ لَمْ يُمْهِلْه، فَتُوُفِّيَ عام 1964، عَنْ عُمر يُناهز الثامنة والثلاثين. وَنُقِلَ إلى قَريته جيكور، وَشَيَّعَه عدد قليل مِنْ أهْلِهِ وأبناءِ قَريته، وَدُفِنَ في مَقبرةِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ بالزُّبَيْر في البَصْرَةِ جَنُوب العِراق.

وَيُعَدُّ الشاعرُ الإنجليزيُّ ألكسندر بوب (1688 - 1744) أحدَ أبرز شُعراء القرن الثامن عَشَر في إنجلترا، وَهُوَ مَعروفٌ بمهاراته في كِتابةِ القصائدِ الساخرة والأعمالِ الفلسفية، واشْتُهِرَ بأبياته الشِّعْرية البُطولية، وتَرجمته لأعمال الشاعر الإغريقي هوميروس. وَهُوَ ثالث كاتب يَتِمُّ الاقتباس مِنْهُ في قاموس أكسفورد للاقتباسات، بَعْد شكسبير وألفريد تنيسون.

عانى بوب مِنَ التَّمييز الدِّينيِّ بسبب انتمائه إلى الكاثوليك، في وقت كان الكاثوليك لا يَزَالون مُضْطَهَدِين في إنجلترا. وَقَدْ تأثَّرَ بقانون العقوبات المعمول به في ذلك الوقت، والمأخوذ مِنْ كَنيسةِ إنجلترا، التي حَظَرَتْ على الكاثوليك التدريسَ ودُخولَ الجامعاتِ والوظائفَ العَامَّة.

وأيضًا، عانى بوب مِنْ مُشكلات صِحية عديدة في سِنِّ الثانية عَشْرَة، مِثْل مَرَض " بوت "، وَهُوَ نَوع مِنَ السُّلِّ يُصيبُ العِظَامَ، والذي شَوَّهَ بُنيته الجِسمية، وَجَعَلَه يَتوقَّف عَن النُّمُوِّ، وتَرَكَه أحْدَب. وَتَسَبَّبَ مَرَضُ السُّلِّ بِمُشكلات صِحية أُخْرَى، بما في ذلك صُعوبات في التَّنَفُّسِ، والحُمَّى الشديدة، والتهاب العُيون، وآلام البَطن.وَلَمْ يَتجاوز طُولُه 1.37 مِتْرًا. وَقَدْ عَرَّضَه مَظْهَرُه الجَسَدِيُّ لِسُخريةِ أعدائه. وكانَ مَعزولًا عَن المُجتمع، لأنَّه كاثوليكي، وزادتْ صِحته السَّيئة مِنْ عُزلته أكثر، فَلَمْ يَتَزَوَّجْ، ولكنْ كانَ لَدَيْهِ الكثير مِنَ الصَّديقات، وكانَ يَكتب لَهُنَّ رسائل ظريفة.

أُصِيبَ بوب بإعاقة جسدية دائمة، وكانَ أحْدَبَ الظَّهْر، ويَحْتاج إلى رِعاية صِحية يَومية. وغالبًا مَا تُعْزَى طبيعته سريعة الغضب وعدم شَعْبيته في الصِّحَافة إلى ثلاثة عوامل: انتماؤه إلى أقلية دِينية، وَضَعْف جِسْمِه، واستبعاده مِنَ التعليم الرَّسمي.

ساهمَ مَرَضُ بوب في تشاؤمِه، وسَوْداويةِ مِزَاجِه، وَوُجودِ النَّغْمَةِ الحَزينة في بعضِ أشعاره، وقَدْ ثَقَّفَ نَفْسَه إلى حَد كبير، وظَهَرَتْ بَراعته في النَّظْمِ في وَقْت مُبكِّر في قَصائده الرَّعَوِيَّة، وَتَعْكِسُ كِتاباتُه رُوحَ عَصْرِهِ الواثقِ بِنَفْسِه وحَضارته وتَمَدُّنه. ويُمكِن مُلاحظة الفرق الكبير بَين أشعاره الأُولَى المُتفائلة، وأشعارِه الأخيرة المُتشائمة. وكانَ شديدَ الاهتمامِ بِجَمَالِ الألفاظِ، ويَنظُر إلى لُغةِ الشِّعْرِ على أنَّها مُتَفَوِّقَة تَسْمُو على لُغةِ العَامَّة، وَلَوْ أدَّى ذلك إلى جَعْلِها لُغَةً مُتكلِّفة مَليئة بالمُبَالَغَات. وكانَ المُتَحَدِّثَ بلسانِ عَصْرِه، والناقدَ القاسي لَه، في آنٍ مَعًا.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

ماذا يبقى من الفيلسوف حين يرحل؟ أتبقى كتبه حروفًا جامدة على ورق أصفر، أم تتحول أفكاره إلى كائنات حية تسكن عقول تلاميذه؟ وهل الموت نهاية للمفكر حقًا، أم أنه تحول من الوجود المادي إلى الوجود الفكري الخالص؟ هذه الأسئلة الوجودية تفرض نفسها بقوة مع رحيل الأستاذ الدكتور حسن عبد الحميد، ذلك العقل المصري الذي جسد بمسيرته معنى "الفيلسوف المعلم" الذي لم يكتف ببناء نظريات مجردة، بل أسس مدرسة فكرية حية تنبض في تلاميذه من أمثال الدكتور أحمد فاروق. يشكل رحيله تغيبًا لرؤية فريدة في فهم العلاقة بين المنطق والواقع، بين التراث الفلسفي العربي والحداثة الأوروبية.

من الصعيد إلى السوربون

ولد الدكتور حسن عبد الحميد عام 1940 في قرية الحريزات بمحافظة سوهاج، في بيئة زراعية بسيطة لم تكن تبدو مهيأة لاستقبال فيلسوف مستقبلي. لكن القدر كان يخبئ له مسارًا مختلفًا. بعد حصوله على درجة الليسانس من جامعة عين شمس، سافر في بعثة إلى فرنسا لدراسة المنطق وفلسفة العلوم في جامعة السوربون العريقة، حيث قضى هناك أكثر من عقد كامل (1964-1975)،

في فرنسا، عمل حسن عبد الحميد باحثًا في المركز القومي الفرنسي للبحث العلمي (CNRS) من 1968 إلى 1973، وهي فترة غنية شكلت وعيه الفلسفي. هناك تعرف على تيارات الفكر الفرنسي الحديث، وتأثر بشكل خاص بفلاسفة مثل جاستون باشلار وجان بياجيه وروبير بلانشيه، الذين قدموا رؤية نقدية للأبستمولوجيا تختلف عن المدرسة الوضعية المنطقية السائدة آنذاك، هذه التجربة العميقة مع الفلسفة الغربية لم تقطع صلته بجذوره العربية، بل على العكس، زودته بأدوات جديدة لإعادة قراءة التراث الفلسفي الإسلامي.

العودة والبناء

عندما عاد الدكتور حسن عبد الحميد إلى مصر، حمل معه رؤية جديدة للمنطق وفلسفة العلوم. رسالته الدكتوراه التي حملت عنوان "منطق الاستدلالات القانونية" كانت إشارة مبكرة إلى اهتمامه بالجوانب التطبيقية للمنطق، بعيدًا عن التجريد النظري المحض،

في جامعة عين شمس، بدأ عبد الحميد مسيرته الأكاديمية التي استمرت عقودًا، تدرج خلالها من مدرس إلى أستاذ مساعد ثم أستاذ كرسي. لكن دوره لم يقتصر على التدريس الرسمي، فقد كان -كما يصفه تلميذه الدكتور محمود محمد علي- يتمتع بـ"أسلوب مفيد وشيق، يتعامل مع تلاميذه كأنداد له، وليسوا مجرد طلبة يتلقون العلم على يديه". هذا التواضع الفكري المصحوب بعمق معرفي جعل منه معلمًا استثنائيًا، ترك تأثيرًا كبيرًا على أجيال من دارسي الفلسفة في مصر والعالم العربي.

بين التراث والحداثة

مسيرة الدكتور حسن عبد الحميد لم تكن سهلة أو خالية من التحديات. واجه كغيره من المفكرين العرب إشكالية العلاقة بين التراث الفلسفي الإسلامي والمنطق الحديث. في وقت كان فيه الكثيرون إما منغلقين على التراث رافضين كل جديد، أو منبهرين بالغرب رافضين كل قديم، حاول عبد الحميد تأسيس رؤية نقدية توافقية.

من أهم معاركه الفكرية دفاعه عن "المنطق الإشراقي" للسهروردي المقتول، حيث رأى أن هناك تقاطعات بين هذا المنطق وبين بعض تيارات المنطق الحديث، كما خاض معركة أخرى في الدفاع عن دور المنطق في الفقه الإسلامي، خاصة عند الأشاعرة، معتبرًا أن هناك علاقة عضوية بين المنهجين لم تُدرس بشكل كافٍ في التراث العربي الإسلامي،

بين التأليف والترجمة

ترك الدكتور حسن عبد الحميد إرثًا فكريًا غنيًا، وإن كان -للأسف- غير معروف بالقدر الكافي خارج الأوساط الأكاديمية المتخصصة. من بين أعماله البارزة:

1. دراسات في المنطق متعدد القيم: حيث حاول فيها الربط بين المنطق الحديث والتراث المنطقي العربي،

2. المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصرة: دراسة نقدية للمنطق الأرسطي في ضوء التطورات الحديثة،

3. العلاقة بين المنطق والتصوف: حيث تناول فيها تجربة السهروردي المقتول كنموذج للتفاعل الخلاق بين المنطق والتصوف،

كما ترجم كتاب "البصيرة والفهم: دراسة في أهداف العلم" لستيفن تولمن، مقدمًا للقارئ العربي أحد أهم أعمال فلسفة العلوم المعاصرة،

الأسلوب والرؤية

تميز أسلوب الدكتور حسن عبد الحميد -كما يصفه تلاميذه- بـ"الهيبة والوقار التي كانت تكسو ملامحه الشخصية الظاهرة، وتكشف عن باطن ثري، يعمر بإيمان قوي، وثقة بالنفس، وعاطفة جياشة، وسريرة نقية، وقلب صاف عن الأحقاد "، هذه الصفات انعكست على منهجه الفلسفي الذي جمع بين الدقة المنطقية والعمق الإنساني.

في محاضراته، كان عبد الحميد يرفض التلقين، ويشجع تلاميذه على إبداء آرائهم بحرية، حتى لو اختلفت مع آرائه. يقول الدكتور أحمد فاروق  في وصفه: "من فرط أدبه العظيم أنه كان يدلي برأيه من غير ما إصرار على صحته، وكنت أراه يفصح عن وجهة نظره السديدة في الوقت الذي يطالبك فيه إبداء وجهة نظرك بكل صراحة ووضوح"،

التأثير والتلاميذ

ربما يكون أعظم إنجازات الفيلسوف الحقيقي هو تلاميذه الذين يحملون فكره ويطورونه. في حالة الدكتور حسن عبد الحميد، كان من بين تلاميذه البارزين الدكتور أحمد فاروق، والدكتور عصام بيومي  والدكتور هاني مبارز،

هؤلاء التلاميذ لم يكونوا مجرد ناقلين لأفكار أستاذهم، بل طوروا رؤى جديدة مستلهمة من الأساس الذي وضعه. ففي الوقت الذي ركز فيه عبد الحميد على المنطق وفلسفة العلوم، توسع تلاميذه في مجالات أخرى مثل فلسفة السياسة وحروب الجيل الرابع والخامس، لكنهم حافظوا على الروح النقدية والمنهجية الدقيقة التي غرسها فيهم،

الرحيل والبقاء

اليوم، وقد رحل الجسد، تبقى الأسئلة التي أثارها الدكتور حسن عبد الحميد حية في كتبه ومحاضراته وتلاميذه. رحيله يذكرنا بأن الفيلسوف الحقيقي لا يموت تمامًا، لأن أفكاره تظل تحاور الأجيال اللاحقة. لقد كان عبد الحميد نموذجًا نادرًا للفيلسوف المعلم الذي لم يكتف بالتنظير، بل ساهم في بناء عقول قادرة على التفكير النقدي الخلاق.

في زمن تطغو فيه الصورة على الجوهر، والسرعة على العمق، يصبح فقدان مثل هذه العقول خسارة مضاعفة. لكنّ التعويض الوحيد عن هذه الخسارة هو مواصلة القراءة لأعماله، وإعادة اكتشافها، ونقلها إلى أجيال جديدة ربما تكون أكثر حاجة إليها اليوم مما كانت عليه الأجيال السابقة.

رحل الفيلسوف، لكن فلسفته باقية. غاب الرجل، لكن أسئلته مازالت حاضرة. وهذا ربما هو أصدق تعريف للخلود.

***

د. عبد السلام فاروق

 

دهشة التعلم الأولى، دهشة اكتشاف عالم جديد من أنقى اللحظات الإنسانية، شعور بالخوف والفرح البريء مع إحساس خفي بأن الحياة ستبدأ من هنا، من لحظة تصفح الكتاب، حيث تبدأ الأسئلة عن الحروف والصور ورائحة الورق في صفحات كراسات الصفوف الأولى للدراسة الابتدائية،  من بينها مطبوع لا يشبه سواه: (الأطلس العراقي) بألوانه الزاهية وطباعته المحكمة الأنيقة، وإن أسعفتني الذاكرة، أنه مطبوع في أرقى المطابع الهولندية، عنوان الغلاف بخط الرقعة الجميل على شكل قوس، أشرف على إعداده  أساتذة متخصصون في الجغرافية، نجم الاطرقچي وأحمد المهنا. كان الأطلس بوابة إلى عوالم بعيدة.. إلى أسماء تشبه الطلاسم، أرددها كتعاويذ مقدّسة، كلما أتصفح أوراقه يخيل إليّ أني أطوف العالم وحدي، صرت أرى في الخرائط أرواحاً لا خطوطاً صماء، كل خريطة كانت تحمل وجهاً مستتراً، استدرجها إلى خيالي، كلغزٍ مرسوم على الورق. كانت نافذتي الاولى نحو المجهول، لا أعرف (كراچي) وعواصم الدنيا، لكنني أحدّق فيها كلما تصفحت الأطلس، لا أعرف ماذا وراء جبال زاگروس، فألمسها بطرف أصبعي، فأشعر أنها تعرفني. كبرتُ وكبرت معي دهشتي بالألوان، لازمني الشغف بالأمكنة، وتأمل الخرائط وأشكال التقسيمات الحدودية، فتحول، كلما تقدمت السنين إلى منهج وتوجّه ودراسة لعلم الجغرافية في المراحل الجامعية الأولى، كانت محصّلتها، كتابان عن الأمكنة: (داخل المكان.. المكان روح ومعنى) و(ضفاف المدن). يومها لم أقرأ قصة الحكّاء الأرجنتيني لويس بورخيس "امبراطورية الخرائط" بوصفها مفارقة ساخرة، وحكاية فلسفية تشير إلى عبثية المبالغة في التفاصيل.

أدركت لاحقاً أن خرائط الدول نتاج تاريخي وجغرافي وسياسي، تمنح الدول - أية دولة - حدودها وشكلها المختلف مع البلدان الأخرى، هذا الشكل يثير أسئلة عديدة، من بينها: هل توجد خرائط بلدان جميلة وأخرى مشوّهة؟ هل لها امتدادات غريبة أو نتوءات؟ بعض الأشكال تبدو أنيقة، متوازنة، متناغمة، في حين أن خرائط دول أخرى توصف بأنها مشوشة، غير متناسقة، أو مجزأة.

الحقيقة المؤكدة هي أن كل الحدود، لم ترسمها أيادي الشعوب، بل صنعتها إرادات استعمارية على وفق ما تشاء، على وفق مصالحها وقوة نفوذها، هي لا تعبّر على الأغلب عن الواقع الإثني أو الثقافي والاجتماعيّ بشكل دقيق، بل كانت سبباً وراء العديد من الصراعات والحروب الطويلة بين البلدان.  في ظل ظروف معقدة واتفاقات ومؤامرات دولية لم تأخذ بنظر الاعتبار مصالح الشعوب. بينما تحمل الخريطة أبعادًا جمالية وثقافية ومعرفية بعيداً عن وظيفتها السياسية، يجعلها أكثر من مجرد أداة ترسيم، أو وسيلة لتحديد الأماكن وتراتبيتها، بل هي طريقة لرؤية العالم، العلاقات بين الأشياء، المساحات، فضلاً عن جمالياتها الخطية والهندسية وإشاراتها الرمزية.

هذه العناصر مجتمعة تجعل منها عملاً بصرياً، هناك من ينظر إليها كوسيلة لتأمل فكرة المكان والانتماء، وتصبح رمزاً للوحدة، تعلّق في الساحات والمكاتب وجدران المدارس، ويلجأ المصممون بإفراط إلى توظيفها كعنصر أساس في تصميم (لوغوات)، الدوائر الرسمية والمنظمات والمؤسسات، ما يفقد قيمتها الجمالية والرمزية.

ثمة حوار نفسي وثقافي تخلقه الخريطة، وندوب تاريخية تعبّر عن تمزقات داخلية: إثنية، اجتماعية، ثقافية، سياسيّة، الخرائط ليست صامتة، كل خريطة تقول شيئاً: تلمّح، تهمس، تصرخ أحياناً، تبدو على الورق أكثر من خطوط مرسومة، هي أبعد من ذلك : مخلوقات، أجساد، هياكل، نرى وجوهاً من دون ملامح، وملامح بلا هوية. هذه التأويلات الرمزية لشكل الخرائط هي في جوهرها قراءة مجازية أكثر من ملاحظة جغرافية موضوعية. بعض الخرائط تشبه الطير، خريطة الصين تبدو كامرأة حبلى، وثالثة مثل سيف مكسور، أو دودة شريطية، أو كف ترتجف، خريطة العراق تثير شعوراً بالاتزان، جسد متناسق يخترقه نهران يتحدثان عن تاريخ وحضارات ودماء سالت على ضفافهما، وممالك انطوت.

ايران في خريطتها تذكرك ب ( سنام) جمل تضخم  خارج حدود المألوف، برأس قط يراقب بعيون نصف مغمضة، مستعد للوثوب، تركيا بخريطتها المستطيلة وامتدادها العرضي يوحي باسترخاء المحتل المتغطرس ، داخلها يخفي أشياءً متعرجة، خريطة سوريا جميلة متوازنة،لا نتوء نشاز فيها، سوى إبهام ممتد نحو الشمال، لكن الجمال فيها مهدد، خرائط دول عربية ( مصر، ليبيا، الجزائر) تبدو كأشكال هندسية وخطوط مستقيمة، مرسومة بمسطرة على عَجٓل، لبنان صغيرة نحيلة، تشبه سبابة تشير إلى البحر، ليس بمقدورها صد العواصف والأمواج، بالكاد تُرى وسط العالم بنظر الجغرافيا، وفي عيون التاريخ لبنان أكبر من حجمها ألف مرة، لكنه لا يستطيع ان يوسع رقعته، بل مزّقه الغزاة وعبثوا في أمنه. خريطة فلسطين أكثر الخرائط تمثيلاً في الرسم، وظفها الفنانون كعنصر بصري مشحون بالعاطفة والاحتجاج، الشكل: إمرأة مقطوعة الرأس، تدير ظهرها إلى العرب والجسد متكىء على خط وهمي مستقيم، وجهته نحو الساحل، يقول عن نفسه: لست مثالياً لكنني حقيقة مجروحة في مواجهة التقسيم والتسويات المرحلية. الخرائط لغة صامتة لكنها تبوح بالكثير، وللبلدان لغة حوار مع خرائطها. قدر بعضها أن تكون أشبه بشريط ممدود على الأرض (تشيلي في امريكا اللاتينية، ارتيريا في أفريقيا)، وأخرى تزحف بدل أن تمشي، إيطاليا تشبه حذاءً بكعب عال يخوض مياه البحر المتوسط، الصومال ذراع تمتد، أو منقار نسر، الأردن تبدو كقبضة سلاح موجه نحو الشرق، وخارطة الهند كضرع بقرة حلوب يتدلّى نحو المحيط.

هنا في هذا التشبيه تتداخل المعاني بين الشكل الجغرافي. والواقع الإجتماعي والاقتصادي. لا يمكن لهذا التشبيهات بالطبع ان تستثمر كصور بلاغية تعكس توتراً أو موقفاً معيناً. وفي جغرافيا الأقدار لا تتساوى البلدان، ثمة من تشهق بالماء، تهبط على شواطئها السفن بلا استئذان، وأخرى محاصرة تسعى للنجاة من اليابسة، لا باب ولا كوّة صغيرة نحو الفضاء وأفق البحار. قدر البلدان أن تتناثر جزراً في المحيطات كالأحلام، منها ما يكتفي بعزلته أو ينام. ومنها ما يعاد رسمه كلّما شاء الأقوياء.

***

د. جمال العتابي

 

مرت امس - السادس من تموز - ذكرى رحيل الكاتب الفرنسي كلود سيمون والذى يعتبر من أشهر الكتاب الفرنسيين لكونه حصل على جائزة نوبل للاداب عام 1985 وقد أنتج عددا من أبرز نماذج الرواية الفرنسية الجديدة تمثلت في رواياته التي ظهرت في خمسينيات القرن العشرين. يعترف بان رواياته تدور حول حياته التي يعيشها، فهو عندما يريد الكتابة يكتب عن حياته ذاتها دون تركيز على تقديم درس معين للقارئ،

ولد كلود سيمون في عام 1913 في مدغشقر. قتل والده في الحرب، بعد اقل من سنة على ميلاده ، وماتت أمه عندما كان في الحادية عشرة من عمره، تم ارساله الى مدرسة دينية ذات نظام صارم، يعترف ان اليتم في سن مبكرة لم يؤثر عليه كثيرا، فقد عاش طفولة سعيدة في ظل رعاية عمه وعمته، حاول ان يدرس الرسم، لكنه قطع دراسته للاشتراك في الحرب الأهلية الاسبانية الى جانب الجمهوريين، وسيسخر من موقفه هذا فيما بعد ليكتب:" لم أقاتل وصلت إلى برشلونة في ايلول عام 1936 حاولت أن أكون متفرجا أكثر من كوني ممثلا في الكوميديا التي تلعب في العالم". قال إنه اتجه إلى الكتابة لأنه رأى أنها ستكون أسهل من الرسم ومن الثورة ضد الاوضاع البائسة التي تعيشها البشرية،هرب من معسكر الاسر الالماني حيث كان جنديا في فصيل سلاح الفرسان الفرنسي:" تمكنت من الركوب في قطار للسجناء كان الألمان ينقلونهم الاسرى في الشتاء. كان المعسكر سيئ الحراسة. فهربت في وضح النهار، بأن انسللت من بين جنديين ألمانيين داخل إلى الغابة. ومن هناك، ظللت متخفيا طول الطريق إلى أن وصلت إلى خط الحدود "، يكتب اولى روايته اثناء الحرب وكانت حسب رأيه رواية تقليدية: " كنت اقول مع نفسي بان هناك قصة ما علي سردها "،يكتشف فيما بعد ان الكتابة ليست مجرد وسيلة للتعبير، وانما وسيلة للبحث:" اصبحت فيما بعد اكتب كي اكتشف كل ما يمكن ان يقال "

روايته الاولى " المخادع " كتبها عام 1941 لكنها نشرت بعد الحرب، قال النقاد عنها بان تاثير رواية " الغريب " لالبير كامو كان واضحا عليها، لكنه ينفي اي علاقة له بادب كامو، فقد أعتبر كتابات كامو وسارتر تافهة:" أهم ما تتصف به كتابات سارتر أنها كاذبة وحاقدة. ولو أن لي أن أعترف بأي تأثيرات فهي تأثيرات دوستويفسكي، وتشيخوف، وجويس، وبروست، وفوكنر"، يكتب ببطأ بالغ:" قبل الكتابة أدوّن القليل جدا من الملاحظات"، اهتم بالكتابة عن الجنس، لكنه يسخر من الجنس الذي يكتب عنه العديد من الروائيين:" نقطة الضعف الكبرى في أغلب الروايات أنها تصوّر شخصيات عادية، دمى بلا أعمدة فقرية وبلا أعماق، وتكون الأفعال الجنسية بالنسبة لهم مجرد أشياء تقع، فتبدو لهذه السبب مفككة، ما يهمني أنا هو أن يأتي وصف المشاهد الجنسية في سياق مشاهد أخرى، مشاهد غير جنسية مثلما يحدث في الحياة "،،يعترف كلود سيمون بان كتابة الروايات ليست حرفة: الفن لا قواعد فيه. بل هو على العكس من ذلك، مسألة كسر للقواعد في أغلب الحالات "،

يصف النقد روايات كلود سيمون بانها صعبة على القارئ العادي يقول:" اني لا اؤمن بالقول ان رواياتي صعبة، واعتقد بان هذا القول غير واقعي ومجحف بحق الرواية الحديثة، ان اي نص يشكل قضية ما يختلف فهمها من قارئ لآخر، فهناك عدة معاني للكلمة الواحدة، لذا فان كل قارئ سيعطي معنى خاصا لكل كلمة توجد في الرواية "،

تؤكد سيرة حياة كلود سيمون انه لم يهمل المشاكل الكبرى التي مر بها العالم، فقد شارك في الحرب وسجن واسر وعانى من الجوع والعمل الشاق وطالب باستقلال الجزائر وشجب بشدة الحرب الفيتنامية:" رواياتي تعكس هذه التجربة بشكل واضح، فقد صورت العالم الحالي والمجتمع الحالي في رواياتي، واني اعتقد بان الطريقة الوحيدة لمساهمة الكاتب في هذه الحركة المستمرة في العالم الذي نعيش فيه تكمن في مساهمته اولا في الثورة داخل الميدان الذي يهمه، اي داخل الادب " – من حوار نشرته مجلة اسفار –

نشر كلود سيمون ما يقارب الـ " 25 " رواية،، يخبرنا انه يمارس الرسم من خلال الرواية وقد وصفته لجنة جائزة نوبل وهي تمنحه الجائزة بانه:" يصف في رواياته الوضع البشري باسلوب الرسام الملهم الذي يمتلك احساسا عميقا بالزمن، ويسخر فنه لوصف شيء يعيش في خلجت انفسنا شئنا ام ابينا، سواء فهمناه ام لم نفهمه، سواء امنا بذلك ام لم نؤمن "،

عاش كلود سيمون " 91" عاما - توفي في السادس من تموز عام 2005 -.لكنه ظل يصر على ان العمر خدعة، وان الموت يتربص بالانسان في كل لحظة،

يتكون عالم كلود سيمون من الشخوص التي لا تشكل فردانية في ذاته، ومن الموضوعات التي تبدو غير مهمة عقيمة، بل من خلال تلك العناصر التي تشرّح تاريخ البشر العام، وفوضاه العارمة وسوداويته، وضغائنه التي تنتهي غالبا بالحروب العبثية، إن الحرب هي التي جعلت كلود سيمون يتوغل في تشريح النفس البشرية، ويؤكد النقاد ان الحرب هي شخصيته الروائية الوحيدة في اعمالها، بعنادها وجنونها.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

بقلم: ليندا جوردان تاكر وبيوتي براج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

نجوجي واثيونجو

يُعد نجوجي واثيونجو كاتبًا كينيًا بارزًا، وناشطًا ثقافيًا، وأكاديميًا، عُرف بإسهاماته المؤثرة في الأدب والخطاب السياسي. وُلِد في 5 يناير 1938 في قرية كاميرييثو في كينيا، ونشأ في سياق يتسم بالقمع الاستعماري والمحن الشخصية، بما في ذلك آثار انتفاضة الماو ماو. بدأت مسيرته الأدبية في ستينيات القرن العشرين، وسرعان ما نال التقدير على رواياته ومسرحياته التي تتناول تعقيدات الهوية، والاستعمار، والنضال من أجل الحرية الثقافية.

على مدار مسيرته الأدبية، شدد نجوجي على أهمية الكتابة باللغات الأم، ودافع بقوة عن لغة الجيكويو بوصفها وسيلة لاستعادة التراث الثقافي. وتعكس أعماله، مثل لا تبكِ يا طفل، والنهر بيننا، وساحر الغراب، موضوعات عميقة من قبيل الصراع بين الأجيال، وتأثير الاستعمار، والسعي إلى العدالة الاجتماعية في كينيا. وقد أدى نشاطه السياسي إلى سجنه عام 1977 لأسباب سياسية، وبعدها دخل في فترة من المنفى استمر خلالها في الكتابة وإلقاء المحاضرات على المستوى العالمي.

حظيت إنجازاته الأدبية بالعديد من الجوائز والتكريمات، مما يبرز دوره كشخصية محورية في الأدب الأفريقي وصوتًا للمجتمعات المهمشة. يظل استكشافه للتقاطع بين اللغة والسياسة والهوية أمرًا بالغ الأهمية لفهم ماضي كينيا وحاضرها. واليوم، لا يزال نجوجي يواصل الكتابة والتواصل مع الجماهير العالمية، داعيًا إلى أهمية اللغات والثقافات الأفريقية في السرديات المعاصرة.

تاريخ الميلاد: 5 يناير 1938

مكان الميلاد: قرية كاميريثو، قرب ليمورو، كينيا

السيرة الذاتية

نجوجي واثيونجو عضو في قبيلة الجيكويو الكينية. وُلد باسم جيمس ثيونجو نجوجي في قرية كاميريثو، بالقرب من ليمورو في كينيا، في 5 يناير 1938، لوالديه ثيونجو وا ندوتشو ووانجيكا وا نجوجي، حيث كان الطفل الخامس للزوجة الثالثة من بين أربع زوجات لأبيه. عاش لفترة في منزل يضم ما يقارب ثلاثين طفلاً. كان والده مزارعًا مستأجرًا، وعانت العائلة من الفقر. انفصل والداه عندما كان في الثامنة من عمره تقريبًا، فعاش بعدها مع والدته وإخوته الستة. لم تتحول عائلته إلى المسيحية، ولم تمارس الطقوس الدينية التقليدية لقبيلة الجيكويو بسبب تشكك والده الديني. في صغره، اعتنق نجوجي المسيحية لفترة، لكنه تخلّى عنها لاحقًا.

فى الفترة من 1952 إلى 1956، دعا "جيش الأرض والحرية" (الذي أطلق عليه المستوطنون الاستعماريون اسم "الماو ماو") إلى المقاومة المسلحة ضد الهيمنة البريطانية، مما دفع حكومة كينيا البريطانية إلى إعلان حالة الطوارئ. تأثرت عائلة نجوجي بهذه الأحداث التاريخية، حيث كان أحد إخوته مقاتلاً في صفوف المقاومة، مما أدى إلى سجن والدته وتعذيبها لثلاثة أشهر. عند عودته من فصله الدراسي الأول في المدرسة الثانوية، وجد نجوجي منزله وقريته وقد دُمرا بالكامل على يد قوات مكافحة التمرد التابعة للحكومة الاستعمارية. ومع ذلك، تمكّن من مواصلة تعليمه رغم حالة الطوارئ التي كانت تعيشها البلاد.

تلقى نجوجي تعليمه الأولي في مدرسة ابتدائية إرسالية، حيث تعلّم اللغة الإنجليزية، ثم انتقل إلى مدرسة يديرها قوميون من قبيلة الجيكويو، والتي كانت تُدرّس للطلاب الأغاني والأدب والرقصات الكينية كجزء من مقاومة الثقافة والدين الاستعماريين. وعندما أُغلقت تلك المدرسة، حصل على مقعد في مدرسة أليانس الثانوية المرموقة في كيكويو، والتي قال عنها لاحقًا إنها كانت تُدرّب الطلاب الأفارقة المتفوقين لخدمة الإمبراطورية البريطانية دون مساءلة. في ذلك الوقت، حذره مسؤولو المدرسة من صراحته في مناقشة القضايا السياسية. إلا أن فترة دراسته في أليانس هي التي عمّقت اهتمامه المبكر بالأدب والكتابة.

بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، التحق نجوجي بجامعة ماكيريري في كامبالا، أوغندا، حيث تخرج عام ١٩٦٤ بمرتبة الشرف في اللغة الإنجليزية. وخلال دراسته الجامعية، بدأ نجوجي مسيرته الأدبية في فترة إنتاجية مبهرة. كتب روايتين، وثلاث مسرحيات من فصل واحد، ومسرحية كاملة، وعدة قصص قصيرة. نُشرت هذه القصص لاحقًا، على التوالي، تحت عناوين: "لا تبك يا طفل" (١٩٦٤)، و"النهر بيننا" (١٩٦٥)، و"غدًا في هذا الوقت: ثلاث مسرحيات" (طبعة ١٩٧٠)، و"الناسك الأسود" (طبعة ١٩٦٢، وطبعة ١٩٦٨)، و"حيوات سرية وقصص أخرى" (١٩٧٥). وفي عام ١٩٦٥، فازت روايته "لا تبك يا طفل" بجوائز من مهرجان داكار للفنون الزنجية في السنغال، ومن مكتب أدب شرق أفريقيا.

بعد إتمامه دراسته الجامعية وقبل بدء دراساته العليا في إنجلترا، عمل نجوجي مراسلًا وكاتب عمود في صحيفة "ديلي نيشن" في نيروبي. وفي جامعة ليدز في يوركشاير، إنجلترا، أثناء دراسته لنيل درجة الماجستير في الأدب الكاريبي، كتب نجوجي رواية "حبة قمح" (1967)، وانهمك في قراءة النظريات السياسية والاقتصادية. عاد نجوجي إلى أفريقيا عام 1967 دون أن يحصل على درجة الماجستير، فقبل منصب محاضر في اللغة الإنجليزية في كلية نيروبي الجامعية. وهناك، لعب دورًا محوريًا في استبدال قسم اللغة الإنجليزية بقسمي الأدب الأفريقي واللغات الأفريقية. في عام 1969، عندما أضرب الطلاب احتجاجًا على السياسات القمعية في الجامعة، استقال نجوجي دعمًا لهم، وقبِل زمالة دراسية في جامعة ماكيريري. في ذلك الوقت، قرر التوقف عن استخدام اسمه المسيحي، جيمس نجوجي، لأنه لم يعد يعتبر نفسه مسيحيًا. بعد أن أكمل زمالته في جامعة ماكيريري، تولى نجوجي منصب أستاذ زائر في الأدب الأفريقي بجامعة نورث وسترن في إيفانستون، إلينوي. وخلال دراسته في نورث وسترن، بدأ نجوجي كتابة رواية "بتلات الدم" (1977). وعندما عاد نجوجي إلى كينيا عام 1971، أصبح محاضرًا أول، ثم رئيسًا لقسم الأدب في كلية جامعة نيروبي. كتب مع ميسيري جيثاي-موجو مسرحية "محاكمة ديدان كيماثي" (عُرضت 1974، نُشرت 1976).

في عام 1976، وفي محاولة لمشاركة ما تعلمه مع السكان المحليين، أصبح نجوجي رئيسًا للجنة الثقافية لمركز التعليم المجتمعي لقرية كاميريثو، بالقرب من مسقط رأسه. وهناك تم إنتاج مسرحيته التالية، وهناك، كتب نجوجي بالتعاون مع نجوجي وا ميريي مسرحيته التالية التي قُدمت في مسرح يتسع لألفي متفرج، وقد بناه القرويون المحليون بأنفسهم. حملت المسرحية عنوان Ngaahika Ndeenda (عُرضت عام 1977، نُشرت عام 1980؛ سأتزوج عندما أريد، 1982)، وكانت نقدًا سياسيًا لاذعًا للمجتمع الكيني في مرحلة ما بعد الاستعمار، كما هاجمت آثار المسيحية في البلاد. وقد اعتبرت السلطات المسرحية تهديدًا سياسيًا، لذا تم اعتقال نجوجي في ديسمبر 1977 وزُج به في سجن كاميتي شديد الحراسة بالقرب من نيروبي، حيث أمضى عامًا كاملًا كسجين سياسي، دون أن يُعرض على المحاكمة أو تُقدّم له أي تهمة رسمية أو تفسير لاعتقاله.

أثناء سجنه، كتب نجوجي كتب نجوجي كتاب "معتقل: مذكرات كاتب في السجن"   ورواية   "الشيطان على الصليب"  حيث كتب هذين العملين على ورق المرحاض قبلد أن تصادرهما السلطات ثم تعيدهما إليه لاحقًا. وعندما أُطلق سراحه عام 1978 في عفو عام عقب وفاة الرئيس جومو كينياتا، كان قد فقد وظيفته في الجامعة، وبدا فعليًا أنه أصبح لايصلح للوظيفة. قضى نجوجي العامين التاليين في تأليف كتابه:  "العودة إلى الوطن: مقالات عن الأدب والثقافة والسياسة في أفريقيا والكاريبي" (1978) وترجمة الشيطان على الصليب من لغة الكيكويو إلى الإنجليزية، وكتابة مجموعة مقالات أخرى بعنوان الكتّاب في السياسة (1981)، والتي وسّع فيها أفكاره السياسية والأدبية والاجتماعية. كما واصل مشاركته في مركز كاميريثو التعليمي المجتمعي، حيث كتب مسرحية جديدة. وعلى الرغم من أن البروفات كانت علنية وشهدها عدد كبير من الناس، قامت الحكومة في عام 1982 بمنع عرض المسرحية، وحظرت فرقة المسرح، ودمّرت المسرح القروي.

في عام 1982، وبينما كان نجوجي في لندن لأسباب مهنية، وقع انقلاب فاشل في كينيا. وقد أدت القيود الحكومية اللاحقة إلى زيادة مخاوف نجوجي من التعرض لمزيد من الانتقام، ومن ثم منعته من العودة إلى وطنه. وقد أدى هذا إلى فصله عن زوجته الأولى وأطفاله، الذين تعرضوا لسوء المعاملة من قبل السلطات في غيابه. في عام 1986، نشر كتاب: " تفكيك الاستعمار الذهني: سياسة اللغة في الأدب الإفريقي"، وهو مجموعة من محاضراته التي ألقاها في جامعة أوكلاند بنيوزيلندا.وصرّح حينها بأن هذا سيكون آخر كتاب إبداعي له يُكتب بالإنجليزية؛ ومنذ ذلك الحين قرر أن يكتب فقط بلغته الأم، الكيكويو. وفي العام نفسه، نشر روايته الثانية المكتوبة بالكيكويو، ماتيغاري ما نْجيروينغي (ماتيغاري، 1989)، والتي تمت مصادرتها وحظرها في كينيا. كما صدرت له في العام نفسه أيضًا كتابا "أمي، غنِّ لي" و"الكتابة ضد الاستعمار الجديد". في عام 1989، بدأ المؤلف الكيني المنفي العمل كمدرس لمدة ثلاث سنوات في جامعة ييل، وفي عام 1993 قبل وظيفة في جامعة نيويورك.

في تلك الفترة، نشر نجوجي أيضًا سلسلة من كتب الأطفال تتناول شخصية نجامبا نيني: "نجامبا نيني والحافلة الطائرة" (1986)، و"نجامبا نيني والزعيم القاسي" (1988)، و"مسدس نجامبا نيني" (1990).

في التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين، واصل نجوجي إنتاج الروايات ونشر أفكاره حول دور الكاتب. في عام 1993، نشر كتاب "تحريك المركز: النضال من أجل الحريات الثقافية". تبع ذلك نشر كتاب "نقاط القلم، ونقاط البندقية، والأحلام: نحو نظرية نقدية للفنون والدولة في أفريقيا" عام 1998، استنادًا إلى سلسلة محاضرات ألقاها في جامعة أكسفورد عام 1996. وفي عام 2004، نُشرت رواية أخرى بعنوان "موروجي وا كاغوغو"، وظهرت ترجمتها الإنجليزية بعد عامين بعنوان "ساحر الغراب"

أثناء عمله كأستاذ للأدب المقارن ودراسات الأداء في جامعة نيويورك، أسس نجوجي مجلة "موتيري" الناطقة بلغة الجيكويو. ثم واصل سعيه لتعزيز الحوار بين اللغات ومجتمعاتها، من خلال عمله أستاذًا للأدب الإنجليزي والأدب المقارن، ومديرًا مؤسسًا للمركز الدولي للكتابة والترجمة في جامعة كاليفورنيا، إرفاين.

نال نجوجي، بفضل جهوده ككاتب وناشط اجتماعي، العديد من الأوسمة والجوائز، منها جائزة زورا نيل هيرستون-بول روبسون من مجلس الدراسات السوداء (1993)، وجائزة فونلون-نيكولز للتميز الفني وحقوق الإنسان (1996)، وجائزة نونينو الدولية للأدب (2001)، وجائزة إريك ماريا ريمارك للسلام (2019)، وجائزة كاتالونيا الدولية (2020). كما حصل على دكتوراه فخرية من أكثر من اثنتي عشرة كلية وجامعة، وانضم إلى الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم.

في عام 2004، وبعد اثنين وعشرين عامًا من المنفى، مكّنته الظروف السياسية المتغيرة في كينيا من العودة إلى موطنه الأصلي في زيارة استمرت شهرًا. ورغم الترحيب الحار الذي لاقاه، تعرض نغوجي لهجوم من لصوص، واغتُصبت زوجته الثانية، وهي حادثة اختارا لاحقًا الكشف عنها علنًا. عاد لزيارة أخرى في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

كانت فترة أوائل القرن العشرين فترةً مثمرةً لنجوجي، الذي نشر كتابًا تقريبًا كل عام بدءًا من عام 2009. في كتابه شيء ممزق وجديد: النهضة الأفريقية (2009)، يستكشف تاريخ الاستعمار الأوروبي لأفريقيا وتأثيراته الاقتصادية واللغوية والثقافية. يحتوي كتابه باسم الأم: تأملات حول الكتاب والإمبراطورية (2013) على مقالاته حول الإمبريالية والاستقلال والنيوليبرالية وأعمال الكتاب الأفارقة والكاريبيين. في العولمة النقدية: النظرية وسياسة المعرفة (2014)، يناقش نجوجي موضوعات مثل اللغة والسياسة، والتقاليد الشفوية، والهيمنة الثقافية في التعليم. أما المجموعة الاستعادية تأمين القاعدة، وإظهار أفريقيا للعالم التي نُشرت عام 2016، فهي تضم ثلاثة عقود من مقالات نجوجي.

كتب نجوجي أيضًا العديد من المذكرات بدءًا من طفولته خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها في كتاب "أحلام في زمن الحرب" (2011). يروي كتاب "في بيت المترجم" (2015) قصة شبابه في ظل حركة الأرض والحرية، بينما يستذكر كتاب "ميلاد ناسج الأحلام: صحوة كاتب" (2016) سنوات دراسته الجامعية، وحالة الطوارئ التي سبقت ذلك، وانفصال والديه. في عام 2018، نُشرت نسخة محدثة ومختصرة من مذكراته في السجن بعنوان "محتجز" بعنوان "مصارعة الشيطان" وظهرت لأول مرة في الولايات المتحدة.

واصل نجوجي الكتابة وإلقاء القراءات والظهور المتكرر في مهرجانات الكتب حول العالم حتى عشرينيات القرن الحادي والعشرين. شهد عام 2020 نشر ترجمته الإنجليزية لرواية "التسعة المثاليون: ملحمة جيكويو ومومبي"، وهي روايته الملحمية بلغة جيكويو المستوحاة من الأساطير. حقق الكتاب إنجازًا تاريخيًا بإدراجه ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر الدولية المرموقة، مسجلًا بذلك أول ترشيح لعمل مكتوب بلغة أفريقية.

ظل نجوجي لفترة طويلة من حياته مناصرًا لفكرة كتابة الأفارقة بلغاتهم الأفريقية الأصلية بدلًا من الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها من اللغات الأوروبية. ومنذ عام 1977، تناول هذا الموضوع في مناسبات عديدة خلال محاضراته وندواته. وفي عام 2023، أصدر كتابًا بعنوان "لغة اللغات" يضم مجموعة من محاضراته حول هذا الموضوع في الفترة ما بين عامي 2000 و2019.

التحليل

الصراع الحتمي بين شعوب كينيا وطرقهم القبلية من جهة، والثقافة والدين والسياسة المستوردة من المستعمرين من جهة أخرى، هو موضوع معظم أعمال نغوغي وا ثيونغو. تُعد أهمية استعادة الأرض، التي لا تحمل فقط قيمة اقتصادية بل وروحية أيضًا للشعب الأصلي، واحدة من المواضيع المتكررة في كتاباته. يصور نغوغي العواقب المدمرة للإمبريالية على المستويات الوطنية والمحلية والشخصية. تظهر بعض أشد تأثيرات تغلغل الثقافة البيضاء في تفكك العلاقات الأسرية والصداقات. غالبًا ما تدور رواياته في قرى صغيرة ترمز بشكل مجازي إلى قارة أفريقيا بأسرها في نضالها من أجل الاستقلال والهوية. وبالمثل، تمثل الأسر المفككة والصداقات المقطوعة في أعماله تفكك مجتمع الغيكويو. رؤية نغوغي سياسية إلى حد بعيد؛ فقد كانت أعماله الروائية المبكرة محافظة، ثم أصبحت أكثر ليبرالية وتطرفًا، لكنه في مراحل لاحقة من مسيرته أعرب عن آراء أكثر اعتدالًا.

تُعدّ قدسية التراب جوهر الوعي الكيني، وبالتالي جوهر أدب نجوجي. فقد وهب الخالق، مورونجو، الأرض لأول رجل وامرأة، جيكويو ومومبي، وأمرهما بحكمها وزراعتها. وتظل هذه الأسطورة، التي تُصوّر الأرض رمزًا للثقة المقدسة، دائمًا في خلفية أدب نغوجي، بل وفي طليعته في كثير من الأحيان. فعندما يستولي الأجانب على الأرض، لا يُشرّد الكينيون ويُدمّرون ماليًا فحسب، بل يُعزلون أيضًا عن إلههم وميراثهم الروحي.

معظم شخصيات نجوجي تشعر بضرورة استعادة الأرض، لكنها غير متفقة على كيفية تحقيق ذلك. الجيل الأكبر يستند إلى النبوءة التي تقول إن قائدًا سينبعث من التلال ليحرر الناس من العبودية، لذا هم مستعدون للانتظار حتى يأتي ذلك المخلص. أما الجيل الأصغر فهو أقل صبرًا وأكثر تشددًا في الموقف. يصوّر نجوجي صراعات الأجيال والتأثير المدمر لهذا الانقسام على مقاومتهم للمستعمرين. هذا الانقسام يثقل أيضًا كاهل العلاقات الأسرية والصداقة. في رواية لا تبكِ يا طفل، يظهر الصراع بين الأجيال في العلاقات المأساوية المحطمة بين نغوثو وبورو، الأب وابنه. مصدر آخر للصراع يأتي من أولئك السكان الأصليين، مثل جوشوا في رواية النهر بيننا، الذين يعتنقون الدين والعادات الغربية، فينبذون قومهم ويدينون أساليبهم .

يُعدّ تأثير الاستعمار على أساليب الحياة التقليدية موضوعًا رئيسيًا آخر في روايات نغوجي. ويدور الصراع بين السكان الأصليين الملتزمين بعادة قبلية مهمة والمبشرين المسيحيين المعارضين لهذه الممارسة في جوهر رواية "النهر الفاصل". لا يفهم المبشرون أهمية طقوس الختان كوسيلةٍ يُمكّن الشباب والشابات من تحقيق مكانةٍ كاملةٍ في القبيلة وتلقّي معارف قبلية سرية. يعارض نغوجي هذه الطقوس، ولكنه يعارض أيضًا إدانة المسيحيين لها، ويجعلها رمزًا آسرًا لصراع الثقافات. يصوّر نغوجي الطرق التي يعاقب بها المستعمرون الكينيين عند تعارض الأيديولوجيات الأصلية والغربية؛ على سبيل المثال، يرفض المبشرون في الرواية توفير التعليم للشباب المختونين. في روايات نغوجي المبكرة يُعد التعليم مفتاحًا لحل مشاكل كينيا، لذا فإن حرمان الأطفال من التعليم يمثل ضربة شديدة، رغم أن التعليم الذي يقدمه المبشرون يحمل جانبًا دينيًا مكثفًا. لذلك، يحذر والد واياكي في النهر بيننا ابنه باستمرار من ضرورة تلقي تعليم الرجل الأبيض، لكنه ينصحه أيضًا بالابتعاد عن طرقه ودينه.

يُجسّد مشهد المدرسة التبشيرية موضوعًا آخر من مواضيع نجوجي، وهو الدور الاستغلالي للمسيحية في كينيا. يعتقد نجوجي أن المسيحية قد خدمت غرض التوسع الاستعماري ومحو الثقافات الأصلية، وغالبًا ما تُصوَّر شخصياته المسيحية على أنها جامدة وغير كريمة، إن لم تكن عديمة الضمير تمامًا. في مسرحية "سأتزوج متى شئت"، يصور نجوجي رجل أعمال مسيحيًا ثريًا يستغل الدين والكنيسة لخداع مزارع وسرقة أرضه. على الرغم من معارضته للدين، غالبًا ما يستخدم نجوجي الرمزية المسيحية في رواياته لأنها مرجع معروف ومفيد للقراء. لا يعارض نجوجي المسيحية فحسب، بل يعارض أيضًا جميع الديانات غير الأفريقية في كينيا، بما في ذلك الإسلام.

تتسم رؤية نجوجي بالتوازن والواقعية في تعامله مع مشكلات كينيا. فبالإضافة إلى تصويره لقمع المستوطنين البريطانيين، يتناول بجرأة ونزاهة نقاط الضعف لدى السكان الأصليين التي تعيق قدرتهم على تحرير أنفسهم من سيطرة البيض المغتصبين. يصور نجوجي القبلية، والمسيحية المخلصية، والشك الذاتي، والسذاجة كأبرز المشكلات التي تواجه الشعب.  تقف القبلية في طريق وحدة أكبر وأكثر فعالية سياسياً. إن الشك الذاتي يشل أولئك الذين يمكن أن يكونوا قادة؛ ومن ناحية أخرى، هناك أولئك الذين لديهم رؤى لأنفسهم على أنهم مسيح. إن السذاجة قاتلة لقيادة أولئك الذين يستقرون على قضية واحدة، مثل التعليم، كنقطة تجمع للحرية. في خيال نغوجي، لا يكون التعليم فعالاً إلا عندما يقترن بالعمل السياسي. حتى أولئك الذين يتخذون إجراءً قد يخلقون عواقب غير متوقعة؛ على سبيل المثال، يصوّر نجوجي جماعة الماو-ماو على أنها ذات تأثير مدمر على تماسك الأسرة. كما يُقلق نجوجي اضطهاد المرأة في مجتمع الجيكويو، ويعالج هذا الموضوع بشكل متكرر في كتاباته.

في الواقع، بدءًا من رواية الشيطان على الصليب (Devil on the Cross)، تظهر تغيّرات دقيقة لكنها مهمة في معالجة شخصية المرأة، وكذلك في التمثيلات الرمزية للجسد، ووجهات النظر حول مصادر القمع، وأساليب السرد في روايات نجوجي. إذ لم تعد المرأة مجرد شخصية ثانوية أو ضحية فقط، بل أصبحت بطلة في نصوصه. فبالإضافة إلى إبراز بطلات، تولي كلٌّ من روايتي "الشيطان على الصليب" و"ساحر الغراب" اهتمامًا متواصلًا بالمشاكل الاجتماعية، كالضرب والاستغلال الجنسي، التي تُبتلى بها النساء. مع ذلك، لا تُصوَّر النساء كضحايا فحسب. ففي "الشيطان على الصليب"، تتمكن وارينجا من الدفاع عن نفسها وعن الآخرين. وبالمثل، في "ساحر الغراب"، تُنشئ نياويرا محكمة نسائية للنظر في قضايا ضرب الزوجات.

على الرغم من أن رؤية نجوجي الفنية كانت دائمًا تدعو إلى الوحدة، إلا أن أعماله اللاحقة تقدم هذا التوجه الجماعي باعتباره ترياقًا لثقافة الخوف. إن تحدي هذه الثقافة أمر بالغ الأهمية، لأنها -جزئيًا- ما يكبح احتجاج الشعوب. وينعكس هذا التحول في التركيز على القيادة الفاسدة التي تغذي ثقافة الخوف من خلال التركيز على الأجساد المشوهة والمُعدّلة للنخب الأفريقية. فبينما كانت بطون المستوطنين المتدلية في أعماله المبكرة ترمز إلى فسادهم، أصبحت البطون الضخمة في روايتي "الشيطان على الصليب" و"ساحر الغراب" مرتبطة بالنخبة الأفريقية كعلامة على فسادهم ايضا .وفي "ساحر الغراب"، يتم استغلال فكرة التعديل الجسدي الذاتي التي ظهرت في "الشيطان على الصليب" لكشف التواطؤ المتعمد الذي يعزوه نجوجي إلى هذه الطبقة من الكينيين. فمن خلال تشويه أجسادهم طواعيةً، يصبح النخبويون تجسيدًا مرئيًا لانحطاطهم الأخلاقي واستعدادهم لتشويه هويتهم ووطنهم في سعيهم وراء السلطة والثروة. وهكذا، لا ينتقد نجوجي الفساد السياسي فحسب، بل يكشف أيضًا كيف يصبح القمع داخليًا، حيث يتبنى المضطهدون نفس الأدوات الاستعمارية التي استُخدِمت ضدهم ذات يوم.

بالإضافة إلى ذلك، في رواية "ساحر الغراب"، يتمركز دور الراوي كشخصية محورية في السرد. فجزء كبير من الرواية يُعرض من خلال منظور شخصية أريجايجاي جاثيري، المعروف اختصارًا بـ "أ. ج." في بداية الرواية، كان أ. ج. شرطيًا، لكنه مع تطور الأحداث يصبح راوي قصص متجول يعتمد على سرد حكاياته لكسب رزقه. هذا التحول من ممثل للدولة إلى راوي يحتفي بانتصار ساحر الغرب على الدولة يوضح رؤية نجوجي لدور الفنان في المجتمع. لا يحتفي أ. ج. بانتصار الساحر على الدولة فحسب، بل يُذكّر القارئ طوال الرواية بقيمة تعدد وجهات النظر حول الأحداث نفسها. تُشير كل هذه التغييرات مجتمعةً إلى التزام نجوجي المستمر بالفن كأداة لشرح التجارب الاجتماعية للمهمّشين وتنشيطها واستكشافها، وبالتالي إثراء الوعي الإنساني.

لا تبكِ يا طفل (رواية )

تاريخ النشر الأول: 1964

تدور أحداث الرواية حول عائلة تنغمس في دوامة الاضطرابات خلال حالة الطوارئ التي شهدتها كينيا في خمسينيات القرن العشرين.

تُعد "لا تبكِ يا طفل" ثاني رواية يكتبها نجوجي، لكنها أول رواية تنشر له. تدور أحداث الرواية في كينيا خلال الخمسينيات المضطربة، وتحكي قصة عائلة وكيف تأثرت هذه العائلة بالصراع العلني بين السكان الأصليين والمستعمرين. في بداية الرواية، تبدو العائلة فقيرة لكنها سعيدة ومتماسكة، لكن الأحداث تتتبع تفككها تدريجياً. البطل، نجوروجي، طفل صغير يحلم بالتعليم ويشعر بفرح غامر عندما يُقبل في المدرسة التبشيرية. أما والده، نجوثو، فهو مزارع يعمل في أرض يملكها جاكوبو، مزارع أفريقي ثري. يعمل نجوثو لدى البريطاني السيد هاولاندز في مزرعة شاي تقع على أرض أجداده، منتظراً بصبر تحقيق النبوءة التي ستخلص شعبه من الظلم. بينما يعود ابنه الأكبر، بورو، من خدمته العسكرية في الحرب العالمية الثانية وهو ممتلئ بالمرارة وخيبة الأمل، بعد أن رأى بوحشية الرجل الأبيض عن كثب.

يكره بورو سلبية والده، ولإرضائه، ينخرط نجوثو في إضراب ويقود هجوماً على جاكوبو الذي يحاول قمع المضربين. ونتيجةً لذلك، يفقد نجوثو عمله. يصبح بورو قائداً للمقاومة المسلحة وناشطاً سياسياً ينتهي به المطاف بقتل هاولاندز وجاكوبو. ورغم إلقاء القبض على بورو والحكم عليه بالإعدام، يعترف نجوثو بقتل جاكوبو، فيُعذَب حتى الموت. أما نجوروجي، الذي أصبح في التاسعة عشرة من عمره، فيُعتقل ظلماً بتهمة التواطؤ مع والده، ويُعذَب هو الآخر، كما يُحرم من أحلامه بالتعليم. تنتهي الرواية بمحاولة نجوروجي الانتحار شنقاً، لكن بينما يقف تحت الشجرة حاملاً الحبل، تصل أمه بحثاً عنه وتعيده إلى البيت.

تعكس هذه الرواية آثار انتفاضة "ماو ماو" على القرويين العاديين. تمثل الشخصيات الرئيسية القوى الاجتماعية المتصارعة خلال حالة الطوارئ في كينيا: السيد هاولاندز، المزارع البريطاني الذي يعمل ضابطاً في المنطقة، ويقمع الانتفاضة بوحشية. وجاكوبو، المتعاون القاسي مع الحكومة الاستعمارية. أما بورو فيمثل جيل الشباب الكيني الذي لا يشارك صبر الأجيال الأكبر (ممثلةً بوالده)، بل يسعى للإطاحة بالحكومة الاستعمارية بأي وسيلة، حتى ولو  العنف. بينما يجسد نجوثو معاناة الفلاحين الجيكويو المعدمين والمحرومين من حقوقهم. ويمثل نجوروجي القرويين الأبرياء الذين تدمر حياتهم أحداث خارجة عن إرادتهم. فهو يحلم بدور البطل المنقذ، متأملاً قصة داوود وجوليات، لكنه يكتشف قسوة الواقع.

تظهر الرواية كيف أن الحكومة الاستعمارية وحشية بلا رحمة، وهي المسؤولة عن تفكك عائلة نجوثو والمجتمع الأكبر الذي تمثله. لكن انتفاضة "ماو ماو" أيضاً، بتمسكها بالعنف المحض، تساهم في معاناة الجيكويو، مما يجعل الصراع أكثر تعقيداً من مجرد صراع بين الخير والشر.

النهر بيننا (رواية)

تاريخ النشر الأول: 1965

يفشل زعيم شاب من الجيكويو في توحيد شعبه المنقسم بسبب الصراعات القبلية.

كُتبت رواية "النهر بيننا" للمشاركة في مسابقة أدبية شارك فيها نجوجي أثناء دراسته الجامعية، حيث فازت بالجائزة الأولى. تدور أحداث الرواية قبل حوالي خمسة وعشرين عاماً من أحداث رواية "لا تبكِ يا طفل". وتصور الرواية، التي تقع أحداثها في أراضي الجيكويو، الصراع بين أبناء السكان الأصليين في مناطق كامينو وماكيو، الذين تختلف آراؤهم حول وجود الرجل الأبيض. يتجسد هذا الصراع بين التقليديين بقيادة كابونيي، والمعتنقين للمسيحية والتفكير الغربي بقيادة جوشوا.

بينما يرى البطل واياكي بعض الإيجابيات في كل من التقاليد القبلية والتفكير الغربي، إلا أنه لا يتبنى أي منهما بالكامل، مما يجعله عرضةً لسحب الحبل من كلا الطرفين بينما يحاول تعليم شعبه. والده، تشيجي، الذي يعتقد أن ابنه هو المسيح المنتظر وفقاً للنبوءة، يرسل واياكي إلى المدرسة التبشيرية ليتعلم كل ما يمكنه من حكمة الرجل الأبيض، لكنه يحذره من أن يبقى وفياً لشعبه وتقاليدهم.

يأخذ واياكي مكانه كعضو بالغ في القبيلة عندما يشارك في طقوس الختان. تعارض المدرسة التبشيرية هذه الطقوس بشدة، وعندما تموت صديقته موثوني بسبب عدوى بعد ختانها، ترفض المدرسة السماح للطلاب المختونين بحضور المزيد من الدروس. يعود واياكي إلى التلال ويؤسس مدارسه الخاصة. حماسه الكبير للتعليم يكسبه احترام ومحبة شعبه، الذين يرون فيه منقذهم من سيطرة وهيمنة الاستعمار.

يقع واياكي في حب نيامبورا، ابنة جوشوا، الذي اعتنق المسيحية وتخلى عن عادات قبيلته، وخاصةً طقوس ختان النساء.الفتاة المتوفاة، موثوني، كانت أخت نيامبورا، التي عانت من صراع داخلي بين رغبتها في أن تكون مسيحية و الانتماء إلى جيكويو في آن واحد. كان جوشوا قد منعها من المشاركة في الطقوس، لكنها عصت أوامره لكي تظل جزءاً من القبيلة. جوشوا أبٌ وقائدٌ متعصبٌ لا يلين ولا يتراجع.

القوة السياسية الأخرى التي يجب أخذها في الاعتبار هي "كياما"، المنظمة المتشددة المكرسة لحماية التقاليد القبلية. تطلب "كياما" قسم ولاء للحفاظ على نقاء القبيلة. ويصبح واياكي عرضة لانتقاد "كياما" بسبب سذاجته السياسية؛ فهو يفكر فقط في التعليم كمفتاح لمساعدة شعب الجيكويو، وليس في العمل السياسي. ونقطة ضعفه الأخرى هي حبه لنيامبورا. يُشاهد معها ويصر على عدم إنكار مشاعره تجاهها، مما يؤدي إلى تقديمهما معاً إلى "كياما" للمحاكمة. خصم واياكي وزعيم "كياما" هو كابونيي، الذي استغل نفوذه لتوجيه المنظمة ضد واياكي. ومن المتوقع أن يُحكم على واياكي ونيامبورا بالإعدام.

الفكرة الأساسية في رواية "النهر بيننا" هي دور التعليم والنشاط السياسي في حركة المقاومة. إن استجابة واياكي المثالية لاحتياجات الشعب تمنحهم فقط جزءاً مما يحتاجون إليه منه. فهم بحاجة إلى التعليم الذي يقدمه لأطفالهم، لكنهم يحتاجون أيضاً إلى عمل سياسي حاسم، وهو ما يبدو أن واياكي -المشغول بمدارسه وبحب نيامبورا- غير مدرك أنه بهذا يفشل في النهاية في خدمة شعبه ويضع نفسه في موضع الخطر. ومثل نجوروجي في رواية "لا تبك يا طفل"، لديه رؤية مسيحية لنفسه، لكنه لا يستطيع تحقيقها.

ساحر الغراب (رواية)

تاريخ النشر الأول: (باللغة الجيكوية  2004) / (الترجمة الإنجليزية: 2006)

رجل عادي يصبح بالصدفة "ساحر الغراب"، ويتحول دون قصد إلى رمز لمقاومة الشعب ضد حاكم مستبد.

تعكس رواية "ساحر الغراب" التحولات السياسية العالمية منذ أن بدأ نجوجي الكتابة. ولأنها تحاول تقديم سرد تاريخي، تضم الرواية شخصيات عديدة. ومع ذلك، فإن جميع الأحداث التي تدور في جمهورية أبوريريا الحرة (دولة خيالية) ترتبط بطريقة ما بأربع شخصيات رئيسية: كاميتي وا كاريميري (الرجل الذي سيعرف لاحقاً باسم ساحر الغراب)، وجراس نياويرا (رئيسة حركة صوت الشعب)، والحاكم المستبد للبلاد (المعروف ببساطة باسم "الحاكم")، وتايتس تاجاريكا (رجل أعمال ثم وزير، وأخيراً خليفة الحاكم).

يتحالف كاميتي ونيويرا في معارضة سعي الحاكم المتعطش للتمجيد الشخصي على حساب رفاهية المواطنين. يتجسد هذا السعي في محاولة الحاكم الحصول على قرض من البنك العالمي لبناء أطول ناطحة سحاب في العالم كـ"نصب تذكاري" له تحت اسم "مسيرة إلى الجنة"، في وقت يعاني فيه الشعب من بطالة جماعية. ورغم أن كاميتي ونيويرا ينتصران بمعنى أنهما يتفاديان الاعتقال وينجوان من محاولات الاغتيال، ويوسعان نطاق حركة صوت الشعب، فإن الرواية تنتهي بنجاحهما كتناقض صارخ مع بدء دورة جديدة من الاستغلال. فالحاكم يُخلَف بواسطة تاجاريكا (الذي أصبح يعرف الآن باسم الإمبراطور تيتوس فلافيوس فيسباسيانوس وايت هيد)، ويتم الحصول على القروض من البنك العالمي، وتتحول خطط "مسيرة إلى الجنة" إلى بناء مدرج روماني حديث تكريماً للإمبراطور الجديد.

في هذه الرواية، تتراجع الموضوعات المركزية لأعمال نجوجي المبكرة (مثل الصراع بين الأجيال، والتعليم كوسيلة للتقدم الاجتماعي، وأنماط الحياة التقليدية)، وبدلاً من ذلك، يُركّز على وصف مركزية الرأسمالية في الحياة المعاصرة. إضافةً إلى ذلك، ينتقل الكاتب من كينيا كمكان رئيسي إلى مكان خيالي يُراد منه تمثيل الدول الأفريقية في فترة ما بعد الاستعمار بشكل عام. فجمهورية أبوريريا الحرة تُستخدم لتوضيح الآليات التي تنخرط بها العديد من الدول ما بعد الاستعمار في الاقتصاد العالمي، وهي الفكرة التي تطلق عليها الرواية اسم ""الشراكة" (مزيج من الشركة والمستعمرة).

ورغم أن نجوجي يرى أن تعاون النخبة مع هذه الآليات يقوض رفاهية الأمة والجماهير، إلا أنه يقدم هذا النقد بسخرية لاذعة. فجشع الحاكم، مثلاً، يُرمز إليه بالمرض الذي يعاني منه خلال معظم أحداث الرواية – تورم جسدي غامض ومتناسب يُطلق عليه الأطباء اسم "التضخم الذاتي" (SIE)، بل ويقومون حتى بتسجيله كعلامة تجارية! هذه الاستعارة الساخرة تكشف كيف تحوّلت الأمراض الاجتماعية إلى سلع قابلة للتسويق في ظل النظام الرأسمالي العالمي. يُظهر هذا التحول الجذري في أعمال نجوجي انتقاله من الاهتمام بالقضايا المحلية إلى تحليل الأنظمة العالمية، مع الحفاظ على رؤيته النقدية الثاقبة. فـ"الكوربروني" ليست مجرد مفهوم خيالي، بل هي تشخيص دقيق للعلاقة غير المتكافئة بين الدول الأفريقية والمراكز الرأسمالية العالمية، حيث تُستبدل الهيمنة الاستعمارية المباشرة بهيمنة اقتصادية أكثر خبثاً.

يستكشف نجوجي في رواية "ساحر الغراب"، مجموعة جديدة من الموضوعات. فيتحول التركيز من الهوية المحلية إلى ديناميكيات التبادل العالمي (الإيجابية والسلبية). وتكشف الرواية كيف يشكل التوسع الرأسمالي والحكومات الفاسدة عوائق أمام العدالة الاجتماعية في العديد من دول ما بعد الاستعمار، وتُبرز أهمية تحدي الحكم الاستبدادي، حتى وإن كان النجاح محدودًا أو مشوبًا بالتحفظات.

محاكمة ديدان كيماثي (مسرحية)

تاريخ العرض الأول: 1974 (تاريخ النشر الأول: 1976)

تُقدِّم المسرحية إعادة تخيل مبتكرة لمحاكمة زعيم حركة "ماو ماو"، مدمجةً مع مشاهد من مسيرته ومن تاريخ كينيا.

كُتِبَت "محاكمة ديدان كيماثي" بالتعاون مع ميسيري جيثاي-موغو، كردّ من نجوجي على الكتابات الاستعمارية عن حركة "ماو ماو"، التي صورت الحركة وقائدها ديدان كيماثي تقليديًا على أنهم مضطربون عقليًا ووحشيون. اختار نجوجي وزميله مواجهة هذه الصورة من خلال تقديم صورة لكيماثي كرجل شجاع ملتزم، كما رآه فلاحو كينيا وعمالها.

أُلقي القبض على كيماثي وحُوكم عام ١٩٥٦. لم يحاول الكاتبان إعادة إنشاء المحاكمة بطريقة واقعية. فبدلاً من سرد درامي محكم، تتكون الحبكة من حلقات منفصلة لكنها مرتبطة موضوعياً. تتخلل مشاهد المحكمة مشاهد أخرى تصوّر فصولاً من تاريخ كينيا خلال المئتي عام السابقة، ومشاهد لكينويين يحاولون مساعدة كيماثي على الهروب، ومشاهد لتفاعلات كيماثي مع المقاتلين، ومشاهد له في السجن، ومشاهد لتعذيبه. تتضمن المسرحية أغاني ورقصات من قبيلة جيكويو، وحتى التمثيل الصامت (الميم).

من خلال هذه المسرحية، يعيد نجوجي قراءة التاريخ لتصحيحه ومحو الأكاذيب التي روّجها الاستعمار عمدًا، ساعيًا بذلك إلى مساعدة بلاده في التحرر من إرث القمع. وبهذا تعد المسرحية جزءًا من مشروعه الأكبر لاستعادة السرد التاريخي الأفريقي من قبضة الرواية الاستعمارية، حيث يتحول كيماثي من "مجرم" في السجلات البريطانية إلى بطل شعبي يقاوم الظلم.

ملخص موجز:

تُصوّر أعمال نجوجي وا ثيونجو كينيا في حقبة ما قبل الاستعمار، وفي حقبة الاستعمار، وبعد الاستقلال. كما يُصوّر وا ثيونجو ببراعة الآثار المدمرة للإمبريالية على السكان الأصليين،، سواء في الصراعات بين الثقافات أو الصراع الذي تنشئه الإمبريالية داخل الثقافة الأصلية نفسها. في أعمال نجوجي الروائية، بمجرد أن يتحرر الكينيون من هيمنة المستعمرين البيض ويستعيدوا عهدهم المقدس — الأرض — يجب عليهم بعد ذلك مواجهة المشاكل التي تصاحب الاستقلال. هناك صراع ومعاناة كبيرة في أعمال نجوجي، ولا يكون الأمل دائماً متوازناً معها بشكل واضح.

***

...................

قائمة المراجع

1.  بيسشوف، جاكي. " الكاتب الكيني نجوجي واثيونجو يُكرَّم لكتابته المتحمسة بلغته الأم." كواترز (Quartz)، 30 آذار/مارس 2021،

qz.com/africa/1990528/international-booker-prize-longlists-ngugi-wa-thiongo-and-david-diop. تم الدخول في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2024.

2.  كانتالوبو، تشارلز، محرر. نجوجي واثيونجو: نصوص وسياقات. منشورات جامعة إدنبرة، 1997.

3.  كوك، ديفيد، ومايكل أوكينيمكيبي. نجوجي واثيونجو: استكشاف لأعماله. هاينمان، 1997.

4.  جيكاندي، سايمون. نجوجي واثيونجو. منشورات جامعة كامبريدج، 2001.

5.  كيلاَم، ج. د. مقدمة إلى كتابات نجوجي. هاينمان، 1980.

6.  كيلاَم، ج. د. نجوجي واثيونجو." في أدب شرق ووسط أفريقيا. هاينمان، 1984.

7.  لوفزي، أوليفر. نجوجي واثيونجو. توين، 2000.

8.  مور، جيرالد. نجوجي واثيونجو: نحو أوهورو." في اثنا عشر كاتبًا أفريقيًا. منشورات جامعة إنديانا، 1980.

9.  نازاريث، بيتر، محرر. مقالات نقدية عن نجوجي واثيونجو. توين، 2000.

10.     ندغيريغي، غيسينغيري. مسرح نجوجي واثيونجو وتجربة مسرح كامييريثو الشعبي. منشورات إفريقيا العالمية، 2000.

11.     نجوجي واثيونجو. "'لقد كان تحدياً': مقابلة مع نغوجي واثيونغو." مقابلة أجراها نيل مونشي. فايننشال تايمز، 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2016،

www.ft.com/content/5305acae-aa82-11e6-9cb3-bb8207902122?mhq5j=e6. تم الدخول في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2024.

12.     باركر، مايكل، وروجر ستاركي، محرران. آداب ما بعد الاستعمار: أتشيبي، نغوجي، ديزاي، والكوت. مطبعة سانت مارتين، 1995.

13.     "ملف عن ناشط أدبي واجتماعي." Ngũgĩ wa Thiong’o، 2018،

ngugiwathiongo.com/about. تم الدخول في 2 أيلول/سبتمبر 2021.

14.     عدد خاص من مجلة الأبحاث في الأدب الإفريقي، المجلد 16، العدد 2، 1985.

15.     شارما، جوفيند نارين. "الاشتراكية والحضارة: التقليدية الثورية لدى نجوجي واثيونجو." أرييل، العدد 19، نيسان/أبريل 1988، الصفحات 21–30.

16.     سيشيرمان، كارول. نجوجي واثيونجو: ببليوغرافيا للمصادر الأولية والثانوية، 1957-1987. هانز زيل، 1989.

17.     ويليامز، باتريك. نجوجي واثيونجو. منشورات جامعة مانشستر، 2000.

رابط المقال:

https://www.ebsco.com/research-starters/literature-and-writing/ngugi-wa-thiongo

هل يعقل أن تصدق الحقيقة فجأة، فتبثها امرأة إنجليزية تحتضر في صحراء الصعيد؟ هل يعقل أن تكون شهادة غريبة عجوز مريضة أصدق من زعيق مؤرخي القصور وتهليل مثقفي الاستنارة المزعومة؟

هذه "رسائل من مصر" لليدي دوف جوردون - التي وثقت سبعَ سنوات (١٨٦٢–١٨٦٩) بين أحضان الفلاحين والعبيد - ليست أدب رحلات فحسب، بل هي قنبلة أخلاقية تفجر كل الأوهام التي نسجها الخديوي إسماعيل وأعوانه عن "عصر الذهب". إنها سِفر مر يكشف كيف تتحول الحضارة إلى آلة سحق للبشر تحت شعارات التحديث!

سمعنا كثيرًا عن "مصر الحديثة" التي بناها الخديوي: قناة السويس، والأوبرا، وشوارع القاهرة الفارهة. لكن جوردون، من كوخها المتواضع في الأقصر، ترى ما لم تره عيون المؤرخين: ترى جثث الفلاحين تلقى في ترع السخرة، وأطفال الصعيد يُباعون في أسواق النخاسة بعد ثورة دموية، وحميرَ الفقراء تجبى ضريبة لتمويل حفلات الأوبرا!

أليس من العار أن نكتشف اليوم، بعد قرن ونصف، أن كاتبتنا الإنجليزية رأت في المصريين إخوة يستحقون العدل، بينما رآهم حكامُهم أرقامًا في سجلات الجباية؟ أليس من المأساة أن تكشف لنا رسائلُها أن التسامحَ الديني الذي ننشده اليوم كأنه طوبى، كان واقعًا حيًا في قرى الصعيد قبل أن تفسده سياسات "المستنيرين"؟

إنني أقولها صريحة:

هذا الكتاب يحاكمنا قبل أن يحاكم التاريخ! يحاكم صمتَنا عن جرائم الماضي التي تكرر نفسها اليوم بثياب جديدة. يحاكِم انبهارَنا بأوهام التقدم المبني على عظام المقهورين. يحاكم جهلنا بقيم شعبنا التي احتضنت غريبةً تحتضر، فصارت "نورًا على نور" في قلوب البسطاء.

فلنقرأ هذه الرسائل إذن، لا كوثائق تاريخية فحسب، بل كمرآة تكشف عوراتِ الحاضر، وكصرخة توقظ ضمائرَنا النائمةَ على تراث من الظلم نرفض الاعترافَ به!

كيف لنا أن نصلح حاضرًا، إذا كنا نخجل من حقيقة ماضينا؟ وكيف نسترد إنسانيتَنا، إذا ظللنا نقدس سيفَ المستبد لمجرد أنه صقل حكمَه بشعارات براقة؟

ما أكثر ما كتب الغرب عن الشرق، وما أندر أن ينصف كاتب غربي الشرق! فإذا صادفت عملًا يخرجك من سجن الاستشراق وقيود التمركز الحضاري، فاعلم أنك أمام ظاهرة تستحق التأمل. "رسائل من مصر" لليدي دوف جوردون (١٨٦٢–١٨٦٩) - التي نقلها إلى العربية الروائي إبراهيم عبد المجيد - هي شهادة إنسانيةٌ نادرة تكشف ما أخفاه المؤرخون الرسميون عن معاناة الشعب المصري تحت حكم الخديوي إسماعيل، "المستنير" في عيون أوروبا، "المستبد" في عيون المصريين.

جاءت هذه الأديبة الإنجليزية، صاحبة الصالون الأدبي في لندن، إلى مصر منهكة بمرض السل، تبحث عن شفاء الجسد، فوجدت شفاء الروح في كرم المصريين وبساطتهم. لم تكن كسائر المستشرقين تبحث عن الغرائب لتبهر قراءها، بل أقامت في "بيت فرنسا" بالأقصر، وتعلمت العربية، واختلطت بالفلاحين والخدم والعبيد، فصارت جزءًا من نسيجهم الاجتماعي. لقد دفن جسدها في تراب مصر عام ١٨٦٩، لكنها دفنت قلبَها في رسائل كتبتها بحب قبل الرحيل.

صوت البسطاء

هذه الرسائل - التي بلغت ١٣١ رسالة - تنتزع التاريخ من بروج المؤرخين الرسميين لتسلمه للشعب: الفلاح المقهور: تصف كيف جرد الفلاح من قوت أطفاله لدفع ضرائب باهظة فرضها الخديوي لتمويل مشاريعه الفارهة. حتى الحمير لم تسلم من الضرائب!

- السخرة في قناة السويس: بينما تزين الكتب الأوروبية "بطولات" ديليسبس، تكشف جوردون أن آلاف المصريين مسخوا عبيدًا في حفر القناة، يسقطون موتى كالذباب.

- ثورة أحمد الطيب: تروي كيف قمعت ثورة الصعيد بوحشية: بُقِرَت بطون الحوامل، وبيعت الفتيات في أسواق النخاسة، ونفي الرجال إلى "فازوغلي" بالسودان. كل هذا تحت عين الخديوي "المتحضر"!

"إن المصريين طلبوا مني أن أكون صوتهم في أوروبا.. لقد صرخوا: ليحكمنا الإنجليز ويخلصونا من ظلم الأتراك!"

أبكاني- كما أبكى المترجم إبراهيم عبد المجيد- وصفها للعلاقة بين الأقباط والمسلمين في الصعيد: الأعياد المشتركة حيث كان المسلمون يشاركون إخوانهم الأقباط أعيادهم، والعكس صحيح، في مشهد يذكرنا بـ"ألفة" الجبرتي. والموالد التي كانت ملتقى الجميع ففي مولد "سيدي أبو الحجاج" بالأقصر و"سيدي عبد الرحيم القنائي" بقنا، كانت الأرواح تتصافح فوق الفوارق. النقد الجريء: ترفض جوردون مقولةَ "المسلمون لا يحبون الأقباط" وتقول: "هذا لم أشهده في حياتي بينهم".

حكيمة الصعيد وأم المهمشين

لقد تجاوزت دور الرحالة إلى دور المنقذ: طبيبة بلا شهادة: كانت تعالج الفقراء بالأعشاب من أمراض الدوسنتاريا والربو، بعد أن فقدوا الثقة في "أطباء الحكومة".

- ملاذ العبيد: اشترت عبيدًا يتوسلونها للخلاص من ظلم أسيادهم، فأعتقتهم وعلمتهم، وأحبوها حتى دعوا لها في الصلوات.

- هدايا الفلاحين: لم يأتها الفلاحون فارغي الأيدي، بل قدموا لها زبدَهم وخضارَهم وفطيرَهم، كرمز للتبادل الإنساني لا للاستعلاء الاستعماري.

المستشرقة التي فضحت الاستشراق!

ناقشت جوردون بعمق التناقض بين حقيقة مصر وصورتها في أدب الرحالة: هجوم على المستشرقين فهي ترى أنهم سطحوا الشرق وتعصبوا ضد المصريين، وتستثني فقط إدوارد وليم لين (صاحب "عادات المصريين المحدثين"). كما قاموا بالسرقة باسم علم الآثار إذ تكشف كيف نهب الأثريون الأوروبيون آثار مصر، مثل بيلزوني ومارييت باشا، تحت سمع الحكومة وبصرها. كما أنها ترفض الصورة الاستشراقية عن المرأة المصرية "الحريم"، وتصف حضورها القوي في الأفراح ورقصها كتعبير عن حريتها الدفينة.

الرسائل المحذوفة!

يكشف المترجم الروائي إبراهيم عبد المجيد أن ابنتها جانيت روس (مراسلة التايمز) حذفت في الطبعة الأولى كل ما يشي بـ"خصوصية أسرية" أو انتقاد لاذع للخديوي. لكن الحفيد نشرها بعد ٦٠ عامًا، فظهرت: أن الخديوي ليس "مستنيرًا": تصف سياساته بأنها "أقرب إلى الجنون"، وتتنبأ بسقوطه بسبب الديون والفساد. نداء للضمير الأوروبي: "لو رأى الإنجليز كيف يجلد الفلاحون لدفع الضرائب، لامتلأت قلوبهم غضبًا!". إدانة للعنف الرسمي تسجل أسماء القرى التي دُمِّرت وأعداد الضحايا الذين صاروا "أرقامًا منسية".

لماذا نقرأ "رسائل من مصر" اليوم؟

لأنها تذكرنا بأن "المستنيرين" قد يكونون قتلة شعوب، وأن البسطاء هم حماة الإنسانية. ولأنها توقظ فينا سؤالًا مريرًا: لماذا صار التسامح الديني الذي وصفته جوردون في القرن التاسع عشر أحاديث تراث في القرن الحادي والعشرين؟

***

د. عبد السلام فاروق

في مهرجان الجواهري الأول الذي احتضنته جبال السليمانية وسهول أربيل، حيث كان الشعر لغة مشتركة بين العرب والأكراد، التقيت فوزي كريم لأول مرة. كان المهرجان، الذي أشرف عليه المثقف العراقي البارز فخري كريم، بمثابة واحة ثقافية في زمن كان العراق يئن تحت وطأة الحروب والعقوبات. لم تكن معرفتنا بحاجة إلى مقدمات طويلة، فكأن الروح كانت تعرف بعضها قبل أن تلتقي الأجساد. صرت أنا وهو والشاعر المغربي ياسين عدنان، ثلاثية لا تفترق، نتنقل بين جلسات المهرجان وندواته، نتبادل الأحلام والأسئلة، وكأن الزمن قد توقف ليسمح لنا بأن نعيش في فقاعة من الجمال والفكر. 

كان فوزي كريم مختلفا عن كل من قابلت من الشعراء والنقاد. لم يكن يرفع صوته، ولا يتكئ على شعارات جوفاء، بل كان حديثه يشبه نهرا هادئا يحمل في أعماقه كنوز المعرفة والصدق. أهداني نسخة من كتابه النقدي "ثياب الإمبراطور"، وكتب عليها إهداء رقيقا بخطه المنمق: "إلى أخي المثقف والصحفي المصري والعربي... فلان". ذلك الإهداء البسيط كان بمثابة عقد صداقة روحية استمرت لسنوات، حتى بعد انتهاء المهرجان، حين كنا نتبادل الرسائل والمقالات قبل أن يغزو الإنترنت عالمنا. 

 "ثياب الإمبراطور" 

لم يكن كتاب "ثياب الإمبراطور" مجرد كتاب نقدي، بل كان زلزالا هز أركان المشهد الأدبي العربي. في هذا الكتاب، الذي صدر عام 2000 عن دار المدى، حمل فوزي كريم مطرقة الناقد الصادق ليكسر بها أصنام الحداثة الزائفة، ويكشف عن عري الشعر العربي الحديث. 

قسم فوزي كريم الشعر العربي إلى صنفين: 

- شعر الراية: وهو الشعر الذي يلهث وراء اللغة الباذخة والصور المتكلفة، لكنه فارغ من التجربة الإنسانية الحقيقية. شعر يقلد نفسه، ويكرر الماضي دون روح، كأنه راية ترفع لأجل الراية نفسها. 

- شعر المتاهة: وهو الشعر الذي ينبع من وجع الإنسان، من أسئلته الوجودية، من بحثه عن معنى في عالم يزداد عبثية. هنا يتحول الشاعر إلى مستكشف يجوب متاهة الذات والكون، لا إلى خطيب يرفع شعارات. 

بهذا التقسيم، ضرب فوزي كريم على وتر حساس في الثقافة العربية: وتر "المقدس الأدبي". فكثير من النصوص التي يجلها النقاد ليست سوى أقنعة فارغة، وكثير من الشعراء الذين يتبوؤون مناصب عالية ليسوا سوى "عرابين" لخطابات مكررة. 

 الحداثة الخادعة 

انتقد فوزي كريم ما سماه "مرايا الحداثة الخادعة"، وهي تلك الأساليب التي يتخذها بعض الشعراء والنقاد لتبرير خواء نصوصهم. هؤلاء يهربون من الوضوح إلى الغموض المفتعل، ومن المعنى إلى اللغو، وكأنهم يخشون أن يكشف القارئ عن عري أفكارهم. 

لقد كان فوزي كريم صريحا إلى حد القسوة حين وصف بعض رواد الحداثة، مثل أدونيس، بأنهم يمارسون "التدليس" على القارئ باسم التجديد. وكان يعتبر أن كثيرا من الشعر الطليعي لم يكن سوى "خطى بائسة تخوض في وحل إيهامها". 

 لماذا أغضب الكتاب النخبة الثقافية؟ 

لأنه كان صادقا. والصدق في عالمنا العربي جريمة لا تغتفر. لقد كشف زيف العديد من "الأصنام" الأدبية، وفضح الحشو اللغوي الذي يقدم على أنه إبداع. كان يقول ما يعتقده دون مجاملة، وهذا ما جعل الكثيرين يحاربونه، ليس بالحجج، بل بالتجاهل والتهميش.  

في تلك الأيام الخمسة عشر التي قضيتها معه في كردستان، لم أر فيه ذلك الناقد المتشدد الذي يظهر في كتاباته، بل رأيت إنسانا بسيطا، عميقا، يمتلك روحا شفافة كالنسيم. كان يحب الموسيقى الكلاسيكية، ويسمعها كأنها صلاة، وكان يكتب الشعر كأنه يترنم بصوت خافت لا يسمعه إلا من كان له قلب واع أو أذن مصغية. 

كان فوزي كريم يؤمن بأن الشعر الحقيقي هو ذلك الذي ينبع من معاناة الإنسان، لا من صراع الأفكار. وكان يرفض أن يتحول الأدب إلى ساحة للصراعات الأيديولوجية، كما كان حال الكثير من الأدباء في ستينيات القرن الماضي، الذين حولوا قصيدتهم إلى "بالونات للتجريب اللفظي والذهني". 

 العزلة والرحيل

في سنواته الأخيرة، اختار فوزي كريم العزلة عن صخب المشهد الثقافي، لأنه أدرك أن الزمن لم يعد زمنه. لقد رحل عن عالم يمجد "المثقف المهرج"، ويكافئ السطحيين، ويهمش العقول النقدية الحقيقية. 

لكنه رحل وهو يعرف أن شراعه لم يضع. فالكلمات الحقيقية لا تموت، والأفكار الجريئة لا تدفن. لقد ترك لنا إرثا يشبه المنارة في عتمة الثقافة العربية: نور لمن يريد أن يبصر، وصوت لمن يريد أن يسمع، وصرخة لمن يريد أن يستيقظ. 

وداعا أيها الشاعر الذي لم يخن كلمته.  وداعا أيها الناقد الذي لم يخش سطوة الأصنام. 

وداعا أيها الإنسان. 

فإنك لم ترحل، بل صرت شراعا أبديا في بحر الثقافة، يرشد الضالين إلى شاطئ الحقيقة.

***

د. عبد السلام فاروق

 

عندما عزمت " شذى فرج عبو آل نعمان" على توثيق سيرة أبيها الفنان عادت إلى ما ورثت عنه من أعمال فنية، وملفات ووثائق، فضلاً عن مئات الصور والذكريات، والمعلومات والدراسات المتوفرة في المكتبات والمراجع العراقية والعربية. وهي بذلك قدمت جهداً رائعاً ونبيلاً يحمل قدراً كبيراً من الوفاء النادر لأبيها الفنان والإنسان، ولمنجزه الفني الثّر عبر كتابها " فرج عبو.. الملفات المنسية من السيرة الذاتية" الصادر عن دار نشر " سطور" البغدادية عام 2024

ولد  عبّو في الموصل عام 1921، كان والده صياداً ماهراً للنسور، ومقاتلاً في الحرب العالمية الأولى، كان خلال سنين طفولته ملتزماً بالذهاب إلى الكنيسة أيام الآحاد في ناحية "القوش"، يحضر الدروس الدينية، والفعاليات الثقافية ودروس اللغة السريانية التي لم يتمكن منها في طفولته، على الرغم من إجادته لأربع لغات عالمية لاحقاً.

تابع باهتمام الأعمال الفنية والرسوم والمنحوتات ذات الموضوعات الدينية على جدران الكنائس والأديرة، كانت البداية الأولى للدهشة والتعرف على الفن العالمي ومبدعيه، فتعرف على الفنان الأسباني الشهير" موريللو 1618 ـ 1682" فنضجت ذائقته الفنية وزاد من شغفه ورغبته في استطلاع هذا العالم الفسيح. تخرج  من ابتدائية الطاهرة في الموصل، ثم التحق بمتوسطة الموصل، ثم ثانوية أربيل، شارك في أول معرض مع فنانين محترفين أمثال الفنان عاصم حافظ، الذي أصبح قدوة ومعلماً في حياة الطالب فرج الذي فاز بالمركز الأول.

انتقل عبّو إلى الإعدادية المركزية في بغداد وتخرج منها عام 1939، حينها تعرف على رواد الفن العراقي الأوائل ومنهم: فائق حسن، جواد سليم بعد عودتهما من الدراسة في أوربا، استضافه فائق في منزله وتعرف عليه واطلعه على أعماله، ونشأت بينهما صداقة متينة ومميزة امتدت لأواخر أيامه.

من المفارقات الجميلة أن أول تعيين له بعد تخرجه من الثانوية كان في دائرة الأنواء الجوية في الديوانية، بيد أنه ترك العمل ليلتحق بالكادر التدريسي في ثانوية الحلة عام 1947 لتدريس مادة "الرسم"، قبل ذلك كان إلى جانب الفنانين: أكرم شكري وعيسى حنا تقدموا لتشكيل تجمع تحت مسمى" جمعية الفنانين التشكيلية ومحبي الفن" وتمت الموافقة على ذلك عام 1941. فضلاً عن ذلك أحب التمثيل وأخرج عدداً من المسرحيات لشكسبير وموليير، كما مثّل فيهما، كما انه جرّب كتابة القصة القصيرة. وكانت الموسيقى من أولى هواياته، مستمعاً للأسطوانات والأشرطة كطقس يومي يمارسه أثناء ممارسته الرسم.1621 abbo

درس الفن في جامعة حلوان المصرية 1947 ثم رجع إلى بغداد للتدريس في ثانوية الأعظمية لبضع سنوات، عاد بعدها لإكمال دراسته العليا في معاهد إيطاليا الفنية عام 1954. التحق بمعهد الفنون الجميلة مدرساً، وتوطدت علاقته بالفنان جواد سليم فانتمى إلى جماعة بغداد للفن الحديث.

يُعد فرج عبو واحدًا من أبرز رواد الفن التشكيلي العراقي في القرن العشرين، ومن الشخصيات المحورية في تكوين ملامح الحداثة البصرية العراقية. جمع في أعماله بين التأصيل للهوية الحضارية العراقية والانفتاح على أساليب الفن الحديث الغربي، مما جعله رمزًا للتجريب والانتماء في آن واحد.

امتاز بأسلوب تعبيري حداثي، لكنه ارتكز على مرجعيات تراثية واضحة، لاسيما في استلهامه للعناصر البصرية المستمدة من الفنون الإسلامية والرافدينية، مثل الزخارف الهندسية، والألوان المستوحاة من بيئة العراق، وخصوصًا من الحياة الشعبية والأسواق المحلية.

لم يكن التراث لديه مجرد حنين إلى الماضي، بل كان وسيلة لإنتاج خطاب بصري معاصر ذي جذور محلية. كان دائم البحث عن صيغة فنية قادرة على تمثيل روح العراق من خلال تكوينات تشكيلية حديثة. فهو من أوائل الفنانين الذين تبنوا ضرورة المزج بين الأصالة والحداثة، بين المحلي والعالمي.

أثبت عبّو دوره كفنان أكاديمي إلى جانب ممارسته الرسم كإبداع ولغة فنية جمالية من خلال دوره كمؤسس لهذا الفن، ومشاركته الحيوية في تعميمه وتثبيته في الحياة الاجتماعية اليومية لبلده العراق، لما يحمله هذا اللون الفني من قيمة حضارية ومشاعر إنسانية عالية. بوصفه أستاذًا أكاديميًا، ترك أثرًا بالغًا على الحركة التشكيلية العراقية من خلال تدريسه وتأليفه، حيث ألّف كتبًا ومقالات حول اللون، والهوية، وتحليل العمل الفني، وكتابه المهم "اللون في الفن"

يُحسب له جرأته في خوض التجارب الفنية يجمع بين التقنيات الغربية والروح الشرقية، لكنه أحيانًا وقع في إشكالية التوفيق الصعب بين الشكل والمضمون. ففي بعض أعماله، تطغى الزخرفة على البُعد التعبيري، ما يجعل العمل قريبًا من الزينة أكثر من كونه خطابًا بصريًا نقديًا، لجأ إلى البساطة والبدائية في اللون، يرسم أحياناً بعفوية الطفل، وبعقلية ناضجة مدركة لما يفعله.

ومع ذلك، فإن الفنان يُعد من أوائل من اشتغلوا على مفهوم “الهوية البصرية” في الفن التشكيلي العراقي، وهو بذلك أسهم في تأسيس خطاب ثقافي بصري ظل حاضرًا في أعمال الأجيال اللاحقة، خاصة أولئك الذين سعوا إلى محاكاة البيئة العراقية لا كرمز، بل كمصدر بصري عضوي. يقول عنه الناقد جبرا إبراهيم جبرا: استمر فرج عبو في اتجاه كان محتوماً أن ينتهي بشكل ما بنوع من أنواع التجريد، لكن اقتحامه للون والشكل النقي منح عمله الطاقة والقوة، كل لوحة هي محاولة متجددة للتأقلم مع مزلج الضوء لجو معين. غير انه يفترض في التجريد سمة إنسانية خاصة، يمتلك فيه الفكرة الأساسية في أن للفن تمجيداً حسياً للحياة كما يقول الناقد عادل كامل.

يشكل فرج علامة فارقة في مسار الفن التشكيلي العراقي الحديث. لقد أسهم بعمق في خلق توازن بين البحث الجمالي والانتماء الثقافي. وإلى اليوم، ما تزال أعماله تثير تساؤلات حول معنى الأصالة والحداثة، وحول الدور الذي يلعبه الفنان في إعادة تشكيل الوعي الجمعي من خلال اللون، الشكل، والموروث

اعتمد في تجربته الفنية على رؤية تقوم على تحليل اللون والفراغ والرمز كعناصر أساسية في العمل الفني، فكان يؤمن أن اللوحة ليست محاكاة للواقع بقدر ما هي بناء تشكيلي ذي هوية وخصوصية. مزج بين خبرته الأكاديمية في إيطاليا وفهمه العميق للفن العربي والإسلامي والرافديني، استخدام اللون بوصفه كيانًا تعبيريًا مستقلًا، وليس مجرّد أداة تلوين.

ترك الفنان عبّو بصمة واضحة في تكوين ذائقة جديدة داخل الفن العراقي وتأسيس جيل من الفنانين التقدميين الذين تعاملوا مع التراث كأداة تفكيك لا تقديس،

دمج النظرية بالممارسة، واستطاع أن يؤثر بعمق في جيل من الفنانين الذين أصبحوا لاحقًا أسماء بارزة في الفن العراقي. حملوا روح التوازن بين الحداثة والهوية المحلية في تجاربهم.

لقد أغنى  من خلال بحثه الشاق المدرسة البغدادية المعاصرة، وجماعة بغداد للفن الحديث بمعطياته الفنية، وكان مثالاً رائعاً لها في استلهام الموروث طيلة سنوات حياته التي انتهت في 5 آذار 1984.

***

د. جمال العتابي

 

لم تكن قصص الحب غريبة عن عباس محمود العقاد، فقد وقع في شباك الحب اكثر من مرة، كانت أولى تجاربه العاطفية مع الاديبة مي زيادة التي رمز لها العقاد في قصته الوحيدة " سارة " وفي شعره بـ " هند " التقى بها المرّة الاولى في صالونها الأدبي الذي كان يعقد كل يوم ثلاثاء، كان حينها أصغر الزوار سنا لم يتجاوز السابعة والعشرين وكانت مي في الحادية والعشرين، وهناك العديد من الرسائل المتبادلة ما بين العقاد وميّ والتي تؤكد حبه لهذه الأديبة المتميزة .‏ويخبرنا العقاد في روايته سارة انه أحب هند قبل سارة وكان حبه لها كما جاء في احدى مقالاته خالصا للروح والوجدان وكان حبه لسارة مستغرقا شاملا للروح والجسد، كان المرأتان على طرفي نقيض، ويصفهما بقوله :" اذا كانت سارة قد خلقت ونبتت في ساحة الطبيعة، فهند قد خلقت راهبة في دير، الاولى مشغولة بتنظيم القيود، وهذه مشغولة بأن تصوغ حولها أكثر مما استطاعت من قيود ثم توشيها بطلاء الذهب وترصعها بفرائد الجواهر "، لم يرتبط مع هند – مي زيادة – بعهد، وانما كان يطوف حولها، المرّة الوحيدة التي اقترب منها كانت قبل أن تسافر، إلى إيطاليا حيث استطاع ان يلمس يدها ويقبلها . وكان يبث من خلال رسائل لها سطور الشوق والوجد والأمل، ويلتقي بها فتزداد حيرته وتساوره الشكوك شأن كل محب عاشق. بعد أن انتهت قصة سارة وفي عام 1940 تعرف العقاد على فتاة سمراء جميلة تدعى "هنومة خليل"، فوقع في حبها، وكان هو في الخمسين من عمره وهي في العشرين، وقد أدرك العقاد من البداية أن هذا الفارق الكبير في العمر لا يتيح لهذا الحب أن يستمر أو يستقر، ومع ذلك فقد عاش في ظل هذا الحب سنوات عديدة ذاق فيها السعادة. لكن ما كان يخشاه العقاد فقد حدث، حين تعرفت هذه الحبيبة إلى النجم السينمائي أحمد سالم، فاختطفها فورا للعمل في السينما وتزوجها بعد ذلك، وسرعان ما أصبحت نجمة مشهورة هي الفنانة مديحة يسري.

كان يخرج كل يوم من بيته وقد أحكم طربوشه فوق رأسه يرتدي (جاكتة) غريبة وطويلة جدا، لم تعرف المكواة، يمشي محنيا الى الأمام وكان بعض الناس يعرفون فيشيرون إليه ويقولون: العقاد، لكنه لايأبه للإشارات ولا لكلمات التحية، ويرى ان المجاملات تأخذ من وقته الكثير، فهو رجل فكر، صحيح إنه لم يتخصص في أي شيء، لكنه يقرأ أي شيء، لأنه يكتب في كل شيء ومن بين الموضوعات التي أثارت اهتمامه موضوعة المرأة، جرب العقاد في حياته التي ناهزت 75عاماً – ولد في الثامن والعشرين من حزيران عام 1889 وتوفي في الثالث عشر من عام 1964 – اكثر من مرة وعبر عن أحاسيسه في تلك التجارب فاصبحت أحاديثه عنها اشبه بنظرية فلسفية متكاملة الأبعاد، فهو يؤمن بان الحب بالنسبة للرجل رياضة لسد الفراغ وسكن من جهاد " والذي يتأمل ماكتبه العقاد في شعره ومقالاته وكتبه  يستطيع أن يحدد تجربتين عاطفيتين ذات ملامح واضحة، والى جوارهما عدة تجارب تختلف قوة وضعفا .

احتلت المرأة عناوين الكثير من كتب ومقالات العقاد، وقد وضّح العقاد رأيه في عمل المرأة معتبراً أن عملها الأساس هو حفاظها على بيتها وأولادها وتربية النشء، فقال ضمن سؤال وجّه إليه - ماذا يحسن أن تستبقي المرأة الشرقية من أخلاقها التقليدية: " يجب أن تظل المرأة الشرقية كما كانت في كل عصر ملكة البيت الحاكمة المحكومة يسكن إليها الرجل من متاعب الحياة ولا يزال عندها - صغيراً كان أو كبيراً- طفلا لاعبا يأوي منها إلى صدر الأمومة الرفيق وأحضانها الناعمة رضيعا ويافعا وفتى وكهلا إلى أن يشيخ ويفنى، ويستدعي ذلك أن تعيش هي في ظله وتعتمد في شؤون العالم الخارجية عليه".

عام 1910 قرأ العقاد كتابات الفيلسوف الالماني شوبنهور، وقد وجدت اراء فيلسوف التشاؤم عن المرأة والزواج صدى في نفس العقاد الشاب، فهو يشعر انه مثل شوبنهور ما من امرأة اهتمت به، واذا كان الزواج كما يقول شوبنهور هو " دَّين في الشباب نسدده في سن الكهولة "، فإن العقاد كان حذراً من أن يقع فريسة ذلك الدَّين، وحسب ما هو معروف عن سيرة حياة شوبنهور، إن علاقته مع النساء اقتصرت على حكايتين، ففي العام 1821 يقع في غرام كارولين ميدون وكانت مطربة في التاسعة عشرة من عمرها، استمرت العلاقة بينهما عشر سنوات متقطعة، رفض أن يتوج هذه العلاقة بالزواج :"ان تتزوج يعني فعل كل ما يمكن ليصبح كل طرف موضع اشمئزاز الآخر"، الحكاية الغرامية الثانية كانت مع خادمة تعمل عنده، لكنه يتركها ذات يوم ويهرب ...ولأنه لم يكن يهتم بما يجري حوله نجده لا يولي اهتماماً للجنس او الرغبة بالنساء، الجنس "لاتدفعني للضحك" . يقول لأحد مقربيه :" الجنس أعظم بلاء، فمع ظهور الغريزة الجنسية، ظهر القلق والسوداوية في الوعي أيضا، ونبتت في الحياة الهموم والمصاعب، ذلك لأن أصل الحياة الجديدة يرتبط باشباع أشد ميولنا سطوة وأكثر رغباتنا عنفا، بتعبير أوضح ان الحياة بكل ما فيها من احتياجات وأعباء وآلام ستبدأ من جديد وستعاش مرة اخرى بسبب هذا الذي يسمى الجنس".

يرى العقاد أن التناقض صفة أصيلة في أي امرأة، فاللذة والألم نقيضان في الكائن الحي عامة، لكن المرأة تجمع بينهما اضطرارًا، فأسعد لحظاتها هي الساعة التي تحقق أنوثتها الخالدة وأمومتها المشتهاة، وهي ساعة الولادة، فهي تفرح لأنها أنجبت ولكنها تكون أشد ساعات الألم والوجع في جسد الأم، الطريح بين الموت والحياة.

قال العقاد الذي وضع نحو 102 كتاب في روايته سارة : " كانت شكوكا مريرة لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض وكل حلاوات الحياة، كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدا رويدا وما يزال ينطبق وينطبق حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار، وكثيرا ما ينتزع ذلك السجن المظلم طبيعة الهرة اللئيمة في مداعبة الفريسة قبل التهامها فينفرج وينفرج حتى يتسع اتساع الفضاء بين الأرض والسماء ثم ينطبق دفعة واحدة حتى لا يمتد فيه طول ولا عرض ولا مكان للتحول والانحراف" .

 ويستمر العقاد في وصف حال الشك التي اعترته خلال حبه لسارة فيبلغ الشأن في رسم الصورة وتصوير ذلك الإحساس حيث قال: " ألم لا نظير له في آلام النفوس والعقول، وحيرة لا تضارعها حيرة في الإحساس والتخمين، وأقرب ما كان يشبه به هذه الحيرة حال الأب المستريب الذي يشك في وليد منسوب إليه هل هو ابنه أم هو ابن غيره، هل هو رمز الحب والعطف والصدق والوفاء، أم هو رمز الخداع والخيانة والاستغفال والاحتقار، هل هو مخدوع في عطفه عليه أم هو مخدوع في نفوره منه؟ وكيف يفصل في هذين الخداعين؟ وكيف يطيق الصبر على واحد منها وكلاهما لا يطاق؟ "

ويمكن القول إن المرأة التي دخلت قلب العقاد في بداية حياته امرأة مجهولة أو أكثر من امرأة مجهولة رآها في أسوان حيث ولد أو في الزقازيق، حيث تنقل فيهما للعمل وبدأ رحلته في عالم الوظيفة شابا يافعا لم يتجاوز العشرين من عمره. ولهذا نجد لديه  فلسفة خاصة في الحب . فالحب عنده فيه " الاعتياد" وفيه شيء من الأنانية حتى لو أقدم صاحبه على التضحية من أجل من يحب، فالأنانية تبدو واضحة لأن المحب لا يتنازل عن محبوبه ولا يقبل أن يكون لشخص آخر. وفي الحب أيضا شيء من الغرور لاعتقاد المحبوب بأن إنسانا آخر يفضله على غيره من الناس واختاره هو فقط ورضى بألا يرتبط بأحد غيره. وبسبب تعمق العقاد في دراسات علم النفس فإنه يشير إلى أن الحب فيه ما يطلق عليه علماء النفس " التناقض الوجداني" أي الحب والشغف والوجه الآخر هو درجة من درجات الضيق "لأن المحب يعاني من الشعور بأنه أسير ومقيد بقيوده وعاجز عن الإفلات من قيوده وقد تعمى الأبصار في الحب كما تعمى في القضاء والقدر وقد يحاول المرء أن يهرب من هذا الحب فيجد نفسه يقترب بدلاً من أن يبتعد، ومن حالات المحبين الإنكار فينكر الإنسان أنه وقع في الحب كما ينكر السكران أنه سكران والأمر يتلخص عند العقاد في أن الحب يملك الإنسان ولا يملكه الإنسان. وفي تحليل العقاد لعاطفة الحب يرى إن فيه عواطف كثيرة وليس عاطفة واحدة، ففيه من حنان الأبوة ومن مودة الصديق ومن خيال الحالم وفيه من الصدق والوهم ومن الأثرة والإيثار ومن حرية الإرادة والاضطرار ومن الغرور والهوان وفيه كل ما يطرأ على النفوس في مختلف الأوقات والأحوال".

وحين سئل العقاد عن تعريف للحب أجاب بأنه من الصعوبة تعريفه تعريفا جامعا مانعا، ولكن يمكن تعريفه عن طريق النفي فالحب ليس هو الغريزة لأن الغريزة لا تعرف الاختيار والحب ليس الشهوة لأن الإنسان قد يشتهي دون أن يحب وقد يحب وتنتهي الشهوة بالقضاء على الحب.

والحب ليس الصداقة لأن الصداقة تكون أقوى ما تكون بين اثنين من جنس واحد، والحب لا يأتي بالاختيار لأن الإنسان قد يحب قبل أن يشعر بأنه يحب ودون أن يفكر في الاختيار والانتقاء.والحب ليس الرحمة لأن المحب قد يكون قاسيا مع حبيبه عامدا أو غير عامد، وقد يقبل منه العذاب مع الاقتراب ولا يقبل الرحمة مع الفراق.

ويتساءل العقاد كيف يجمع الحب أحيانا بين اثنين لا يخطر على البال أنهما يجتمعان والجواب عنده لأن القلوب أقرب إلى التناسب والتجاوب فإذا تجاوبت القلوب نجد اثنين ينظران إلى الدنيا وإلى الحياة بعين واحدة.

وقد يحدث اختلاف السن لكن ذلك لا يمثل مانعا لحاجة نفس منهما إلى عطف الأبوة وطمأنينة التجربة ويقابلها حاجة النفس الأخرى إلى دفء العاطفة وإلى الرعاية فيقع التبادل في احتياجات اثنين مختلفين ويحد بينهما.

وأخيرا يلخص العقاد فلسفته حين سئل: هل الحب أمنية تشتهيها أم هو حالة تتقيها فأجاب إنه مصيدة فإذا أحببت من لا يحبك فهو أمنية تشتهيها وإذا أحببت من يحبك فهذه هبة سماوية فالحب هبة من الله.

قاصدا بذلك أن القلب الذي لا ينبض بالحب يشبه الصخر الذي لا حياة فيه ولا روح، والقلب الذي لا تحرقه لوعة الحب هو مجرد حجر أملس لا يعرف لغة المشاعر، والتاريخ يؤكد دائما ويؤيد أن الحب لم يفرق يوما بين شاب لاه وشيخ معمم، أو بين قائد عسكري يقود الجيوش وآخر يعيش في أبراج من الخيال والوهم.

ويكتب العقاد " الحب مزرعة ينبت فيها الوهم ومدينة تستوطنها الشكوك " ويؤمن العقاد بان الغيرة وليدة الحب، وان المرأة اكثر شقاء في غيرتها من الرجل لانها أحوج الى الحب، واخوف عليه من الفقد والهجران، ولأنها اميل الى الاستسلام وأسرع الى الادبار، ولان طبيعة احاسيسها تؤكد فاعلية الغيرة في نفسها، ويذهب العقاد الى القول بأن المرأة أقل هياما في الحب من الرجل مستنداً في ذلك الى اراء شوبنهور التي كان يعشقه، والعقاد شديد الحرص على التمييز بين الحب والجنس، فالحب عنده عالم من المعاني التي تطلق من أسر المادة والحب كل ما يملي للنفس في الشعور بالحرية الموزونة وكل ما يجنبها الشعور بالامتناع والتقييد، أما الجنس فانه شديد الالتصاق بالجسد والمادة ومن ثمة لايمكن أن تكون الغريزة الجنسية نفسها تستعين بالحب لتفضيل انثى على انثى، ولايمكن كذلك ان تكون الغريزة الجنسية هي الحب لأن الغريزة واحدة والحب أشكال وألوان ويُعرف الحب بانه اندفاع روح الى روح وخلاصة فلسفته عنه انه قضاء وقدر فهو يرى اننا لانحب حين نختار، ولانختار حين نحب .

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

..............................

* الصورة للعقاد مع الممثلة الشهيرة هند رستم التي اجرت معه حوار صحفي

 

ما يسجله تاريخ المدنية في العراق، والثقافة والفن والعمارة على وجه الخصوص من مآثر انها كانت تتلمس الطريق نحو الحداثة والتجديد، وتبحث في مطلع الخمسينات عن آفاق جديدة للحياة، على يد نخبة من المثقفين والفنانين والمعماريين، ثمة نبرة مضيئة بدأت تنمو وتنتشر، كانت المقدمات لتيار او حركة تأصل في قادم الأيام، نشير بهذا الصدد إلى خالد القصاب وقتيبة الشيخ نوري، ومهدي مرتضى ومصطفى نصرت. سانحة أمين زكي، كمال السامرائي، ثم علاء بشير.

في متدارك هذا الإيقاع، ثمة أطباء آخرون من جيل آخر، لكنه امتداد للأول يشيدون نماذجهم بقدر كبير من الموهبة وأنساق جديدة. ومع أن النظرة العابرة لا يمكن أن تستقصي كل أبعاد تجاربهم، ولا تستطيع أن تقع على حرارة الإخلاص التي تشعّ منها، إلا أنها تستطيع أن تؤكد حقيقة هي أن هؤلاء لا يبتعدوا عن نوازعهم الإنسانية والجمالية. حيدر علي استشاري أمراض عصبية عراقي، أحد رموز الجيل الجديد، ناجح في مهنته واختصاصه، هناك أكثر من دليل: دوره الأكاديمي والعلمي المتميز، تمكنه من كسب ثقة مرضاه، موثوق في تشخيصاته وأحكامه، عيادته لا تفرغ من المراجعين، لا لأنهم كثر وحسب، بل لأنهم يعرفون أنهم يقصدون طبيباً من كينونة خاصة. في حوار ممتع وجميل، أبدأ معه بالسؤال:

لماذا لم تكن رياضياً يا صديقي؟

ـ ولماذا هذا السؤال من جنابك؟ يجيبني على الفور.

ـ لأنك تمتلك طولاً فارعاً، وجسداً رشيقاً ومرناً، هذه المواصفات كانت تؤهلك أن تكون لاعب سلة أو طائرة من الطراز الأول، أو أحد أبطال ألعاب القوى. وما دمت تمتلك العديد من المواهب، فما المانع أن تكون نجماً رياضياً؟ يضحك حيدر بابتسامة عريضة، ثم يعقب بالقول:

ـ نعم كان ممكناً أن يحصل ذلك لو كان معلم الرياضة في مدرستنا ذكياً يبحث بعناية عن مواهب طلابه. لا تنس يا صديقي ان عمر البطولات في هذا الميدان قصير، والنجومية تبدأ بالخفوت بعد الأربعين. الشيء الذي أتأسف عليه انني لم أتعلم العزف على آلة موسيقية، حاولت، ولم أستمر. وجدت بديلاً افضل في متابعتي للموسيقى العالمية واستمتاعي بسمفونيات عباقرة الموسيقى الكلاسيكية

ـ لك كل الحق، أتفهم تبريراتك!

ما أن تخطو عتبة منزله العامر حتى تدرك أنك لا تزور طبيب أعصاب، بل تدخل عالماً من الدهشة والجمال، كنا نتحاور، نضع الخطوط العريضة لمحاضرة يقدمها عبر منصة "حوار التنوير" عن علاقة الابداع بوظائف الدماغ. كنت قد شاركته إدارة المحاضرة. تساءلت وأنا أراقب انعكاس الضوء على زجاج واجهة المنزل:

ـ من صمم هذا البيت؟

أجابني بابتسامة هادئة، وعينين تتفحصان ملامح وجهي تقرأ ما فيه من أسئلة قبل أن أنطقها.

ـ أنا كنت أرسم مخططه في ليال طويلة، انظر لهذا الدرج من مكتبتي، انه يضم عشرات الكتب في الهندسة المعمارية، راجعت أغلبها، وكانت هذه النتيجة كما ترى. ثم يتابع الحديث: لا شيء يداوي الإرهاق مثل خطوط هندسية متوازية. هذا التدخل من (جنابي) في التصميم كان يزعج المهندسة المشرفة  انعام البزاز بالطبع، وكثيراً ما تعلن عن رغبتها في ترك العمل، حين تجد من يقف إلى جانبها في البيت ويؤيدها، وهي زوجتي "رشا" الطبيبة في اختصاص آخر، حين تختصر الحوارات بعبارة واحدة مكثفة لتخاطبني: (أنت هوايه تتفلسف)! السيدة البزاز استاذة متخصصة في الهندسة المعمارية في جامعة  بغداد، اتصلت بها  فعلاً وحكت لي اشياء كثيرة عن التصميم، وعن إعجابها بالأفق الواسع لعقل حيدر.

تساءلت مع نفسي، هذا الطبيب، أيعقل أن يكون ذاته من يعالج الدماغ، ويبحث في اضطراباته؟ ولديه مشاركات واسعة في المؤتمرات العلمية، وبحوث ودراسات علمية في اختصاصه منشورة في المجلات العالمية، فضلاً عن دوره الأكاديمي، واشرافه على طلبة الدراسات العليا في المجال ذاته. قبل لحظات أدرك حيرتي وهو يراقب حركة رأسي وعيوني التي كانت تبحث عن سر، عاجلني بالقول: كل شيء موزون في الطب، أما في الفن فهناك فسحة للدهشة والخيال، أنا أحتاج كليهما.

كنت أنصت إليه بانشداد حين كان يتحدث عن وجهه الآخر الذي يحمل ملامح ذلك الزمن الذي كان فيه الطبيب فيلسوفاً، والمفكر مهندساً، والمثقف قارئاً للتراث. جلس يحدثني عن الجاحظ وكأنه التقاه بالأمس، وعن أبي حيان، وعن المتنبي كما لو كانا يتبادلان الشعر في مقهى عباسي. يتحدث بلغة سليمة، لا يخطأ في قواعدها، كان للأب مدرس اللغة في ثانويات العراق، دور في تمكن ولده من اللغة. وحين يسافر حيدر، تسافر معه الروايات، لا تفارقه الكتب حتى في المطارات والمقاهي، يتخذ من المطولات السردية زاداً لمسافات السفر الطويلة، لا يقرأ الأدب العالمي كهاوٍ، بل كمن يبحث عن إشارات الحياة لدى الشعوب الأخرى، في روايات الكتّاب الروس، وكتاب أمريكا اللاتينية، تلك الإشارات التي لا تقاس بالنبض، بل بالدهشة التي تشبه لمسة طبيب على عصب متهيج. قرأ الأدب العراقي والرواية فيه، قراءة رصينة ومتأنية، يتابع آخر ما يصدر من روايات لكتاب عراقيين، يفكك شفراتها ويحل رموزها بأدوات الناقد المتمرس. أذكر أني وجهت له دعوة لحضور جلسة احتفاء بروايتي (منازل العطراني) في قاعة اتحاد الادباء، حضوره كان مفاجأة لي حقاً، لم اتوقعها في زحمة التزاماته. في نهاية الجلسة، شكرته بالطبع، ثم قال: كنت قرأت نصف الرواية، وعزمت على الحضور، فقررت إكمال قراءتها منذ الساعة السادسة صباحاً هذا اليوم، انا لست مع حضور لا يحمل معنى. كان حيدر يحدثني عن دافنشي وكأنه زميل له في الكلية، وعن رسامين عالميين من عصر النهضة، يتحدث عن أعمالهم بلغة العارف المتخصص، وعن مدارس الفن وأساليب الفنانين في الرسم. أبو زيد عاشق للجمال، زائر محترف لمتاحف العالم، يقضي معظم ساعات زياراته فيها، أولاده يصيحون (الداد) من تبديد الوقت والمبالغة في التجوال في أروقة المتاحف، فيتركهم لحالهم! لا يفلت من ذاكرته اسم فنان، ولا تسقط من دفتره سيرة لوحة، يعرف تاريخ حركة الفن التشكيلي العالمي كما يعرف مسارات عروق الجهاز العصبي، وتلافيف الدماغ، له عين قنّاص تلتقط الجمال في أدق التفاصيل: في اللون، والحركة، والفضاء. وتناغم الظل والضوء، يقتني الاعمال الفنية، لا كوسيلة لتزيين الجدران، بل ليقيم حواراً معها، عشرات من اللوحات لرسامين عراقيين ينتمون لمدراس فنية مختلفة، يتحدث عنها كناقد تشكيلي من الطراز الأول. جدران المنزل ميدان فسيح للإبداع والجمال، فيها ما يثير دهشة العارف ويطيل وقفة المتأمل أمام التكوينات المدهشة. فلكل واحدة منها قصة وتروي حكاية. كان يمكن أن يكتفي حيدر علي بمهنته واختصاصه المعقّد محاطاً بأدعية مرضاه وابتهالاتهم، لكنه اختار أن يكون ثرياً بمعرفته على خطى الأطباء: تشيخوف، ميخائيل نعيمة، أن يقيم علاقة مع ابن رشد وسيجموند فرويد، والحلّاج، يتبادل الحوار مع ماتيس وهنري مور، ويضع لمسة في كل ما يصنع. الطريف في حياة الطبيب حيدر انه يمارس اختصاصه محاطاً يومياُ بعشرات المرضى المتوترين، الذين يعانون من انهيارات عصبية، يستقبل قلق ومخاوف وتوترات المدينة كلها، كأنه راهب في معبد بوذي في أقصى حالات الهدوء.

ـ كيف تفعل ذلك يا أبا زيد؟ سألته مرة، لم يغير نبرة صوته، وقال وهو يشير إلى رأسه: عندما ترى القلق كل يوم تحت المجهر، يصبح صغيراً جداً.

تلك الحكمة تعلمتها منه، انه يتعامل مع العصب، أصل الانفعال، ويخرج منه غير منفعل، هادئاً، مطمئناً، كمن يأكل الفلفل الحار من دون أن تسيل دموعه. قد يشعر مريضه أن رأسه على وشك الانفجار، بينما هو يتناول رشفة قهوة بهدوء، ويقول:

التوتر طبيعي...فقط لا تدعه يقود السيارة!

حيدر علي، تجسيد لشخصية نادرة، اختار أن يكون حارساً للدماغ والخلايا العصبية في جسم الإنسان. يمارس اختصاصه بيد خبيرة، يعالج مرضاه بروحه المفعمة بالجمال، هو أحد أولئك القلّة الذين لا يغويهم المال والشهرة، يمضي نحو النواميس الأزلية في الحياة كي يستمر دفق الزمن نحو المستقبل، انه كمن يكشف العلّة، ويصف الدواء، ويطمئن المريض بأنه سيحيا حياة رغيدة، لتلوح على شفتيه ابتسامة الرضا. هو تجربة تشعّ فضيلة وأملاً ليس بوسع المرء ان يتجاهل دورها الإنساني والجمالي، حياته حافلة بمعاني السخاء، خصبة، غنية، صدق في العواطف، فضاء مفتوح الى النور والقيم النبيلة

***

د. جمال العتابي

 

‏ ‏حين أصدر كولن ولسون كتابة الأول والأشهر" اللامنتمي" عام 1956 كان في الرابعة والعشرين – ولد في السادس والعشرين من حزيران عام 1931 - وهو الكتاب الذي جلب له المال والشهرة العريضة و تُرجم إلى مختلف لغات العالم. في ذلك الوقت أبدى عدد من النقاد الإنكليز ازدراءهم واستخفافهم بـ (الجهد) الذي بذله المؤلف واعتبروا جهده مجرد سياحة في سير ونتاجات قادة الفكر الأوروبي ودراسته مصادر وينابيع الفلسفات. ومحاولته إيجاد روابط بين سير هؤلاء المفكرين وما قدموه من نتاج، لكن القراء ضربوا بالحائط بكل صرخات النقاد ليضعوا الكتاب لسنوات على عرش الكتب الأكثر شهرة ومبيعا وليتحول صاحبه إلى واحد من أبرز نجوم المجتمع البريطاني.

‏كان الكتاب قد كتب في إحدى قاعات المطالعة بالمتحف البريطاني، عندما كان ينام على فراش متنقل في شارع هامبستيد هيث. كان ابناً لعامل في أحد مصانع الاحذية الصغيرة، تمنى الاب ان يصبح ملاكما، وهي نفس الامنية التي راودت الابن فيما بعد لينتقم من العالم بـ " اللكمات ". عاش في بيئة فقيرة، وكانت والدته تحدثهم عن الفقر الذي عاشت فيه عندما كانت طفلة:" كانت روايات والدتي عن اوضاع عائلتها الفقيرة تيدو لي رومانتيكية للغاية وجعلتنا انا واخي نتذوق طعم الرضا والقناعة لكوننا ولدنا في كنف اب يعمل بثلاث جنيهات اسبوعيا " – حلم غابة ما ترجمة لطفية الدليمي -.

‏ولد كولن هنري ويلسون في السادس والعشرين من حزيران عام 1931 في مدينة ليستر، تعلق بوالدته التي كانت تقرا الكتب " بنهم "، وتلخص الكتب لابنائها، مولعة بقراءة روايات " د.ج.لورنس " والاخوات برونتي. يتذكر ان علاقته بالكتب نشأت عندما سمع من والدته ذات يوم تلخيصا مثيرا لرواية اميل برونتي " مرتفعات وذرينغ "، في العاشرة من عمره يعثر على كتاب في الفلك يجعله يقرر ان يُصبح عالما، مما دفع والدته ان تهديه عدة كيمائية رخيصة الثمن لتنمية مواهبه:" حصل انني عندما اكتشفت العلم وانا في الحادية عشرة بالضبط شعرت بفجوة نفسية متعاظمة بيني وبين الناس حولي؟، واندفعت في الحلم بيوم يرتقي فيه الانسان ليكون كالالهة كما حلم ويلز في بعض كتاباته " – حلم غاية ما ترجمة لطفية الدليمي -

‏عثر على كتب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه وهو في الثالثة عشرة من عمره، عندما رأى ذات يوم كتاب في المكتبة بعنوان " إرادة القوة "، ايقن انه وجد من يأخذ بيده الى عالم " العدمية ". في ذلك الوقت كان الشاب المراهق يؤمن أن الوصول الى الحقيقة يمر عبر الاكتئاب والشقاء، وكان نيتشه دليله: " اكتشفت أن الذي ساق الناس في الحقيقة كان إرادة القوة " – الكتب في حياتي ترجمة حسين شوفي – يسحره كلام نيتشه عن قوة الإرادة التي هي الدافع الانساني الاساسي.

‏في تلك السنوات لاحظت امه ان ابنها المراهق يغلق عليه غرفته كل مساء ليغرق في قراءة الكتب التي كان يستعيرها من المكتبة.. كان قد تملكه احساس بعبثية الحياة التي يعيشها الانسان دون ان يدرك حقيقية الهوة التي تحت اقدامه " يكتب في سيرته الفكرية ان شعورا بكره الجنس البشري قد تملكه، وراودته افكار نيتشه حول الناس الضعفاء والمرضى وضرورة أن يحل محلهم أناس يتمتعون بالعقل السليم وقوة الجسد:" شعرت ان القديس الحقيقي جدير بان لا يكون محبا للبشرية، وإنما هذا الرجل الذي يريد ان يرى انقضاء عصر البشر وان يحل محلهم نوع من المخلوقات اقل عقما وغباء "

‏في مقدمة كتابه سقوط الحضارة يكتب كولن ويلسون:" لقد كان في كتاب اللامنتمي شيء من الاعترافات الخاصة بتأريخي الشخصي، وذلك واضح لأنني انفقت معظم صفحات الكتاب محاولا ان اعثر في الاشخاص الآخرين على ما يبرهن على معتقداتي، وكان ولسون يؤمن ان كتابه اللامنتمي سيكون " هو الارض الخراب للخمسينات، وينبغي ان يكون اهم الكتب التي تصدر في جيله "، ويصر على ان اللامنتمي يريد ان يكون وجوديا حرا ومتفائلا، ولهذا يجد ويلسون ان جميع الناس يجب ان يكونوا لامنتمين ويؤكد انه لا يهدف الى:" ايجاد حل صحيح كامل لمشاكل اللامنتمي، وانما اهدف الى بيان ان مثل هذه الحلول، والمحاولات التي بذلت في سبيلها موجودة فعلا ".

‏تكتب ساره بكول ان كولن ويلسون:" بجرأته الوقحة وسماجته الكيركغاردية وفرديته المتقدة، يجسد روح التمرد الوجودي في اواخر خمسينيات القرن العشرين اكثر من اي شخص آخر – على مقهى الوجودية ترجمة حسام نايل –

‏في الخامس من كانون الاول عام 2013 تنشر صحيفة الغارديان خبر رحيل صاحب كتاب " اللامنتمي "، واصفة كولن ولسون بانه "العبقرية الأدبية الرئيسة في قرننا.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

عندما يذكر اسم رؤوف عباس حامد، لا يسع المرء إلا أن يقف إجلالًا أمام سيرة علمية حافلة بالعطاء، وأمام منهج تاريخي حول الوثيقة إلى حكاية إنسانية، والماضي إلى درس حي يُقرأ بوعي الحاضر. كان رجلًا يعرف أن التاريخ ليس مجرد أحداث مضت، بل هو وعي مستمر، وسؤال لا ينتهي عن الإنسان ومصيره.

ولعلني هنا، كقارئ لأعماله، لا أملك إلا أن أعترف بدين شخصي لهذا الرجل؛ فلقد كانت كتاباته - بصرامتها العلمية وجرأتها النقدية - بمثابة الباب الذي ولجت منه إلى عالم التاريخ، لا كسرد جامد، بل كحوار دائم بين الماضي والحاضر. علمني أن المؤرخ الحق ليس من يحفظ التواريخ، بل من يقرأها بقلب المفكر وعين الناقد.

اليوم، ونحن نستذكر ذكرى رحيله، لا نكتب عن مجرد ذكرى، بل عن إرث لا يموت، وعن بصمة ظلت محفورة في جدار الوعي المصري والعربي. فلتكن هذه الكلمات وفاء لرجل لم يبخل بعلمه، ولم يخش الحقيقة، وظل حتى آخر أيامه شاهدًا على أن التاريخ - حين يكتب بضمير - يصبح ضمير الأمة.

في السادس والعشرين من يونيو عام 2008، غربت شمس من ألمع شموس الفكر التاريخي في مصر والعالم العربي، الدكتور رءوف عباس حامد، تاركًا وراءه إرثًا علميًا يضاهي أعظم ما أنتجته العقول الباحثة في صرح المعرفة الإنسانية. لقد كان رحيله خسارة فادحة للحقل الأكاديمي المصري والعربي، إذ لم يكن مجرد أستاذ جامعي، بل كان مدرسة كاملة في التاريخ الاجتماعي، تخرج على يديه جيل من المؤرخين الذين حملوا مشعل منهجه العلمي الدقيق ورؤيته التحليلية الثاقبة.

 من كتاب القرية إلى قمة الأكاديمية

وُلد رءوف عباس حامد عام 1939 في محافظة بورسعيد، تلك المدينة التي شهدت بطولات شعبنا في مواجهة العدوان الثلاثي. لكن القدر قاده إلى القاهرة عام 1943 ليعيش مع جدته، وهناك تلقى تعليمه الأولي في أحد الكتاتيب، حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب، وهي اللبنات الأولى التي شكّلت وعيه المنهجي الدقيق. ثم انتقل إلى مدارس حي شبرا، ذلك الحي الشعبي الذي كان -ولا يزال- يختزل روح القاهرة وتنوعها الاجتماعي والثقافي.

التحق بكلية الآداب بجامعة عين شمس، وتخصص في دراسة التاريخ، حيث حصل على الليسانس عام 1961، ثم الماجستير عام 1966، وصولاً إلى الدكتوراه عام 1971. هذه المسيرة الأكاديمية المتأنية تكشف عن مثابرة علمية نادرة، وعن رغبة حقيقية في التأسيس المعرفي الرصين، لا في مجرد الحصول على الشهادات.

 بين الجامعة المصرية والعالمية

تدرج الدكتور رءوف عباس في السلك الأكاديمي بجامعة القاهرة حتى وصل إلى قمة الهرم الأكاديمي كأستاذ للتاريخ الحديث، ثم رئيسًا لقسم التاريخ. لكن تأثيره لم يقتصر على جدران جامعة القاهرة، بل امتد إلى أرقى الجامعات العالمية، حيث عمل أستاذًا زائرًا في جامعات طوكيو بالسوربون بباريس، وكييل وإسن وهامبورج وفرايبورج بألمانيا، وكاليفورنيا وستانفورد وجورجيا بالولايات المتحدة، بالإضافة إلى الجامعة الأمريكية بالقاهرة وجامعات قطر والإمارات.

هذه التجربة الدولية الواسعة جعلت منه مؤرخًا عالميًا بامتياز، قادرًا على رؤية التاريخ المصري في سياقه العالمي، وعلى تقديم التاريخ العالمي للقارئ العربي بأسلوب علمي رصين. لقد كان جسرًا حقيقيًا بين المدرسة التاريخية المصرية والمدارس التاريخية العالمية، خاصة اليابانية منها التي أولى لها اهتمامًا خاصًا، فترجم بعض أعمالها إلى العربية وكتب عن التاريخ الياباني بمنهجية عميقة.

التاريخ الاجتماعي كرؤية للعالم

كان الدكتور رءوف عباس حامد صاحب مدرسة متميزة في التاريخ الاجتماعي، مدرسة لم تكن مجرد تخصص أكاديمي، بل كانت رؤيةً للعالم وللفعل الإنساني في سياقه المجتمعي. لقد آمن بأن التاريخ ليس سردًا للأحداث السياسية والعسكرية فحسب، بل هو بالأساس دراسةٌ للبنى الاجتماعية والاقتصادية التي تشكّل وعي الأفراد والجماعات وتحدد خياراتهم.

في أبحاثه مثل "حزب الفلاح الاشتراكي 1938-1952" و"استقرار الملكية الفردية للأرض الزراعية" و"التطور الاقتصادي الاجتماعي في مصر وتفاقم المسألة الاجتماعية (1919-1952)"، كشف الدكتور رءوف عن الجذور الاجتماعية العميقة للتحولات السياسية في مصر الحديثة. لقد كان يرى أن التاريخ الحقيقي ليس تاريخ الملوك والرؤساء، بل تاريخ الشعب في نضاله اليومي من أجل الخبز والكرامة.

موسوعية نادرة

ترك الدكتور رءوف عباس حامد إنتاجًا علميًا غزيرًا باللغتين العربية والإنجليزية، يشمل التأليف والتحرير والترجمة. من بين مؤلفاته "جماعة النهضة القومية" و"جامعة القاهرة.. ماضيها وحاضرها" و"شخصيات مصرية في عيون أمريكية". أما في مجال الترجمة، فقد نقل إلى العربية أعمالًا مهمة مثل "يوميات هيروشيما" و"اللورد كرومر" و"دراسات في تطور الرأسمالية" و"توجهات بريطانية-شرقية".

هذه الموسوعية في الإنتاج العلمي تعكس تنوعًا ثقافيًا نادرًا، وقدرةً فائقةً على الجمع بين التخصص الدقيق والرؤية الشمولية. لقد كان الدكتور رءوف يرفض أن يحبس نفسه في زنزانة التخصص الضيق، فتاريخ الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة كان كلًّا متكاملاً في رؤيته.

بصمات خالدة

لا يمكن اختزال إنجازات الدكتور رءوف عباس حامد في مؤلفاته وأبحاثه فقط، بل تكمن أهميته الحقيقية في الجيل الذي ربّاه من الباحثين والمؤرخين الذين حملوا منهجه ونشروه في مصر والعالم العربي وحتى في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة. لقد كان مؤمنًا بأن رسالة المؤرخ لا تكتمل إلا بنقل المعرفة إلى الأجيال التالية، فلم يبخل بعلمه على أحد، وكان دائم التشجيع للباحثين الشباب.

على المستوى الشخصي، كان لكتابات الدكتور رءوف عباس تأثير بالغ في تكويني الفكري. أذكر حين قرأت لأول مرة بحثه "ملاحظات منهجية حول كتابة تاريخ مصر" المنشور في مجلة فكر عام 1985، كيف فتح عيني على ضرورة القراءة النقدية للتاريخ، وعلى أهمية التشكيك في الروايات الجاهزة والمكرسة. لقد علمني أن المؤرخ الحقيقي ليس مجرد ناقل للأحداث، بل هو باحثٌ عن الحقيقة بشجاعة ونزاهة.

تقدير مستحق

حصل الدكتور رءوف عباس على العديد من الجوائز والتكريم، منها وسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام 1983، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 2000. لكن أعظم تكريم له يظل ذلك الذي يحمله تلاميذه ومحبوه في قلوبهم وعقولهم، التكريم الذي لا يزول بزوال الجوائز والميداليات.

 الرحيل والخلود

في 26 يونيو 2008، رحل الدكتور رءوف عباس جسديًا، لكنه بقي حيًا في مؤلفاته، وفي تلاميذه، وفي مدرسته التاريخية التي ما زالت تثري الحياة الفكرية في مصر والعالم العربي. لقد كان بحق أحد عمالقة الفكر التاريخي في القرن العشرين، الذي جمع بين عمق البحث الأكاديمي ورسالة المثقف المنخرط في هموم أمته.

اليوم، ونحن نستذكر ذكرى رحيله، نؤكد أن أفضل تكريم له هو مواصلة مسيرته العلمية، والحفاظ على منهجه النقدي في قراءة التاريخ، والسير على دربه في البحث عن الحقيقة بشجاعة ونزاهة. رحم الله الدكتور رءوف عباس حامد، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه خيرًا عن العلم والعلماء.

***

د. عبد السلام فاروق

تحيل كلمتي اليوم، في هذه اللحظة التي تجسد قيمة سلوكية واعتبارية خاصة، والتي أسجلها دون الوقوف على معيارية أو أي مقياس تقييمي خارج المألوف، إلى ما يشبه حالة انضباط أو مصدر إلهام يتمثل صفات القدوة والإسوة التي يتسنن بها، في عالم يتعرى من كل شيء، ويلفظ كل شيء ويسترخص كل شيء.

فالحديث عن سيدة من طينة الدكتورة فاطمة حسيني، لا يمكن تنظيره من زاوية التحديد أو الارتهان على الاستعارة الكلامية وتوتير العبارات والانفعال معها وبها، بل يقتضي من ضمن ما تقتضيه الأدبيات العامة من الإخلاص للمنجز العلمي والثقافي والإنساني، وتحويط كل ذلك بما يرى من مسائل السلوك، وقيمتها الأخلاقية، وتعدد تصريفها في المجتمع المعرفي، وفهمها ورؤيتها للعالم.

وأعتقد جازما أن قلمي لن يسعفني أبدا، في تعميق هذه التنويعات البرهانية، والمؤسسات الواجبية، بسبب ضيق الوقت، ومفاجأتي بتحديد موعد لقاء التكريم هذا، في ظروف تستهلك الطاقة وروح قتالية الطقس، وأشياء أخرى، لن تمنعني على الأقل، في:

أولا: تثمين هذه المبادرة النبيلة، التي جعلت من لحظة الاحتفاء بشخصية عظيمة، تكرس لدى المنظمين، العقل الأخلاقي العالم المقتدر، بقوتها المنطقية الهادئة، وروحها المنظورة التي تعتمد على الحس السليم، والرغبة الصادقة في بلوغ الصنعة القولية والبحثية من دون تعقيد أو ادعاء، وحضور نسقها مؤثرًا، ومحط اهتمام أهل التخصص في التربية والبيداغوجيا وعلوم اللغة ومتجاوراتها في الفكر والثقافة.

ثانيا: تتسق مبادرة الاحتفاء بتجربة الدكتورة فاطمة حسيني الرائدة، مع منهجيتها في توظيف دراسة علوم اللغة من منظور مساهماتها في القضايا التربوية وعلاقتها باللغة والتحيزات الثقافية، والتي تتطلب التفكير في الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها للتعليم نفسه والعمل في هذا المجال أن "يستحضر" اللغة، وهي قدرة بشرية بامتياز، وتحقيقها في لغة الضاد إحدى أهم مقوماتها. كما هو الحال بالنسبة للتمييز بين المعرفة التي أنتجتها علوم اللغة والتي تسمح لإلقاء الضوء على الظواهر والعمليات التعليمية، والتطورات النظرية التي يمكن أن تكون بمثابة مؤطرات مرجعية للبحوث التربوية أو للتجديدات المنهجية والتعليمية داخل برامج التدريس؛ وهو ما دأبت الدكتورة حسيني على مطارحته واستئثار أسئلته، موطنة لقولها الصريح، أنه لا يزال من الضروري التمييز بين الأشياء التي تم بناؤها والعمل عليها من خلال علوم اللغة مثل اكتساب اللغات الأجنبية والقراءة والتهجئة.

ثالثا: تنبثق فكرة العطاء لدى الدكتورة حسيني، من كونها تعبر جسر كونية اللغة، عبر فعل يسمو إلى قيمة "المنح الظاهرة"، تماما كما أوردها ابن عربي في "فصوص الحكم"، أنها تأتي " على أيدي العباد وعلى غير أيديهم على قسمين: منها ما يكون عطايا ذاتية وعطايا أسمائية وتتميز عند أهل الأذواق، كما أن منها ما يكون عن سؤال في مُعين وعن سؤال غير مُعين. ومنها ما لا يكون عن سؤال. سواء كانت الأعطية ذاتية أو أسمائية". وحري بنا هنا، أن نغرف من معرفة هذه المنح الظاهرة، الذاتي والأسمائية، كليهما ينفذان في جوهر ما تسعى إليه مكرمتنا، في استنهاض الهمم وحشدها واستنفارها، من أجل التعبئة لنصرة اللغة العربية، بتعليمها ونشرها خارج أوطانها، وبذل الوكد وغاية الجهد من أجل تمكينها على الخارطة اللغوية الوطنية الدولية، واستعمالها على أوسع نطاق، واستشراف مستقبلها في هذا العالم المتحول الذي نعيشه.

وهذا لعمري من أبلغ وأجود العلوم وأرقاها، وأنجعها في بناء الحضارة والعمران، وتكريم وتقدير الإنسان.

رابعا: يجود الزمان بمثل درر هذا الجيل الذهبي، من علماء اللغة العربية ومباهج تعليمها ومناهجها المعاصرة ومساراتها المعرفية المتعددة، وانبثاقها عن وعي راهني يستقصي أسئلتها ويفكك تجاويفها وامتداداتها، ويستحضر مثلها وأثرها في الذائقة والوجدان، ويقاوم أخابيل وأحابيل تشكيمها وإذلالها وتطويعها فيما لا أصل ولا فصل.

والباحثة المقتدرة فاطمة حسيني، تحارب على أكثر من واجهة، في هذا المرصد الاستراتيجي تحديدا، واجهة البحث العلمي والأكاديمي، وقد حققت فيه نبوغا لافتا وامتدادا تنويريا رائدا وتوسعا فكريا متواصلا. وواجهة العمل الجمعوي التطوعي، الذي تستنصر فيه الدكتورة حسيني، قوامة النحث على الصخر، والمواكبة الصيرورية لقضايا اللغة العربية وأسئلتها الحرجة، والجرأة في مطارحة البدائل والتأسيسات الميدانية لحلول النص والعقل ومنطق العمل.

وقد خبرت معدنها عن قرب وبصيرة، حيث عملنا ولا زلنا نعمل معا، داخل مؤسستين استراتيجيتين هامتين: الأولى وطنية وهي الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية، التي تعد مرجعا ثقافيا وسوسيولوجيا مهما داخل مشهدنا الثقافي واللغوي الوطني بتقاطعاته المؤسساتية واستتتباعاته الفلسفية والسياسية والاجتماعية.

والمؤسسة الثانية، هو المجلس الأعلى للغة العربية بأفريقيا، الذي نفتخر بالانتماء إلى هيئته الإدارية العامة والذي يوجد مقره بأنجامينا بدولة تشاد، والذي يعد إطارا قاريا مهما للتعريف باللغة العربية ونشرها وتعليمها وتطوير أدوات الاشتغال بمنظوماتها ومناهجها المتحولة.

لا أريد أن ازيد على كل ما ذكرت، سوى أن مناسبة الاحتفاء بالدكتور فاطمة حسيني، كإحدى أهم عالمات الحقل التربوي واللغوي ببلادنا، هي مناسبة لاستعادة زخم ثقافة المحبة والاحترام الذي ما اانفكت عراه المقطوعة تنزف في مجتمع شارد منحول، ولعل الذي يفعله رواد الناقد في هذه الكوة النورانية الضيقة، لمثال يحتذى به في تصحيح التاريخ وتأسيس الموقف وتبليغه لمن في قلبه شيء من حتى .

***

د مصطفى غَلــــمان

..................

* نص الكلمة التي ألقيت في حفل تكريم الدكتورة فاطمة حسيني، خلال الندوة العلمية الوطنية التي نظمها مركز الناقد بكلية اللغة العربية في موضوع "تعليم اللغة العربية وتعلمها لغة ثانية في ضوء المستجدات الحديثة" يوم السبت 21 يونيو 2025.

أحتفظ في ذاكرتي، كما لو كانت صندوقًا سريًّا قديمًا، بمجموعة من الحكايات التي تسكنها القداسة. كانت تُروى لي ولإخوتي بصوتٍ مشحونٍ بالفخر، يتردد على لسان والديّ، عن ابن عمّتيهما حسين، الرجل الذي لم يكن شخصًا عابرًا في الحياة، بل ملحمة نضال تمشي على قدمين… حسين أحمد الموسوي، المعروف بين رفاقه باسمٍ خلّده التاريخ: سلام عادل*.

لم يكن سلام عادل بطلاً بمقاييس العاديين، بل تجسيدًا لحكمة الشجاعة ومكر الذكاء في آن. رجل يتقن فنّ التخفي كما يتقنه الضباب حين يلامس عيون الناظرين، ثم يتوارى كأن لم يكن. كان سيد الأقنعة، يُبدّل ملامحه ببراعة ساحرٍ من وقت لآخر، فلا تعرفه عين، ولا تلتقطه ذاكرة. هو الشخص الذي يظهر في كل مرة بهيئة جديدة: راعٍ بسيط، بدويّ حافٍ، شيخ أحدب، متسول أبكم، أو حتى أعرج مبتلى… وكان لكل هيئةٍ اسمٌ سريٌّ تتداوله الأسرة خفية، وكان "المعيدي" أكثر الأسماء شيوعًا حين يُبشّرون والدته بقدومه وخاصة حين لا تكون في البيت او عند الجيران.

أتذكر كيف كانت والدتي وهي تسرد لنا ذكرياتها، باعتزاز يعتصره الحنين، أن حسين طرق بابهم ذات مساء، في، هيئة متسوّل أنهكه الجوع وأذلّه العطش، بثياب بالية ونظرات تائهة لا يكاد يُعرف لها ملامح. رقّ له قلبهم، فأطعموه ما تيسّر من زاد، وسقوه من ماء الكرامة ما يُذهب الظمأ ويُنعش القلب، دون أن يدروا أنهم أمام فلذة كبدهم. وحين امتلأ جوفه وشكرهم بصوت خفيض، بدأ ينزع أردية التخفي، قطعةً تلو الأخرى، وإذا بالدهشة تنفجر في المكان كبرقٍ مباغت... لقد كان هو، حسينهم.

تواصل والدتي ذكرياتها عن ابن العمة، وهي التي كانت ابنة العاشرة آنذاك، كيف كانت بتكليفٍ وارشاد منه تمرّ بين حشود رجال الأمن، تخفي الرسائل في أرغفة الخبز، أو تخبئ المناشير تحت عباءتها السوداء ماضية بخطى الطفولة الجريئة وبراءتها حاجبة عن أعين الرقباء مهمتها لتنفيذ وإيصال ما كلفت به، ولتعود بعدها باسمة العينين.. وهي ترى ابتسامة ابن عمتها الرضية والمشجعة، وهي لم تكن تدري يومها أن خطواتها الصغيرة تلك، كانت تسهم في بناء حلمٍ كبير.

أما والدي، فكان يستعيد، بابتسامةٍ ممزوجة بالحنين، كيف كلّفه حسين بمهامٍ بسيطة لا تثير الشبهات. كان يروي لنا، بفخر، حادثة وقعت في أحد أيام الصيف الملتهبة في سوق السراي بالنجف الأشرف. لم يكن عليه سوى أن يصرخ بجملة واحدة: "يسقط الاستعمار"، ثم يدخل محل عمله بهدوء. لم تكن الجملة عادية، بل كانت شيفرة الانفجار. وما إن نطق بها، حتى امتلأ السوق والطرقات من حوله بأكبر تظاهرة شهدتها المدينة.

ان أكثر ما خلّده ابن عمتهما حسين/ سلام عادل في ذاكرتهما، تلك الحادثة التي لا تنسى والتي حُفرت في ذاكرتي إلى الأبد.. تلك الحادثة في زقاق ضيّق لا منفذ له، حين اجتمع سلام عادل برفاقه لأمر حزبيّ عاجل، فحاصرهم رجال الأمن بعد وشاية مؤكدة بمكانهم. لم يكن ثمّة مخرج، لكن عبقريّ التخفي لم يَخذله حدسه. خلع ملابسه، عفرها بتراب البيت وأوساخه، ثم ارتداها مجددًا كمن خرج من قاع البؤس، يترنح كمتسول اخرق. تقدّم نحو رجال الأمن، يمدّ يده المرتجفة طلبًا للصدقة، لينهره أحدهم قائلاً: "ابتعد من هنا أيها المجنون!"… دون ان يعلموا أنهم قد طردوا للتوّ ذات الرجل الذي جاؤوا لاعتقاله.

وفي مرةٍ أخرى، سمعت والدي يروي كيف تنكّر في زيّ عجوز ضرير، وجلس عند مدخل الجامع الكبير، يمسك مسبحة ويهز رأسه كأنه غارق في الذكر. لم يكن هناك ليتعبد، بل ليراقب مداخل الحي ويوصل رسائل خفية تحت عتبات الأبواب. أتى رجال الأمن مرارًا يفتّشون الأزقة، ووقف أحدهم فوق رأسه يحدّق فيه طويلاً، قبل أن يهزّ كتفيه ويمضي. بعد أيام، وصلت الأخبار: لقد نجا خمسة من رفاقه من كمين محكم، فقط لأن حسين كان عينهم المبصرة، وهم لا يعلمون.

وذات مساء، انتشر خبر عن "أحد أخطر الشيوعيين" المتخفّين في كربلاء، وكانت الحملة الأمنية على أشدّها للإيقاع به بأي ثمن. خرج حسين من أحد البيوت، مرتديًا زيّ "مُلّه" معمّم، وقد شدّ على خصره حزامًا عريضا من القماش يخبّئ بين طياته المنشورات وآخر التوجيهات للرفاق. دخل وسط حشدٍ من المعزين في مجلس عزاء، وجلس بقرب رجل دين معروف، وأخذ يردّد الأدعية كأنه وُلد في هذا الثوب. في اليوم التالي، انتشرت المنشورات في كربلاء كما لو أن الهواء نفسه كان يوزّعها، وانسحب حسين كما جاء، دون أثر.

ومن ملامح أسطورته أيضًا، أنه حضر باسمه وهويته، بلا قناع ولا تمويه، إحدى المؤتمرات الشيوعية الدولية في موسكو. لاحظ أن أحد المصوّرين يُصرّ على تركيز عدسته عليه دون سواه، فاقترب منه بهدوء وقال له: "أنا أيضًا أريد أن أجرّب التصوير، دعني أراك من عدستك." أخذ الكاميرا، فتحها أمام الجميع، أخرج الفيلم، ثم أعادها إليه قائلاً: "أعرف جيدًا ما غرضك… والآن، عد إلى أسيادك.

 كان حسين يعرف متى يصبح ظلًّا، ومتى يتحوّل إلى ضوء. لم يكن يهرب، بل يختفي ليعود أقوى، أنشط وأذكى. في كل مرة يتوارى، كان يخلق فرصةً جديدة للنضال، وكل مراوغة كانت فخًا يُنصب للعدو، لا خلاصًا فرديًّا.

هكذا كان سلام عادل، رجلًا يتنقّل بين الظلّ والضوء، يبني مجدًا في صمت، ويحترف المراوغة بعبقرية لا تمنحها إلا التجربة والولاء. في نظر والديَّ، لم يكن مجرد اخ او ابن عمة، بل كان الوعد المتحقق، والقصيدة التي كُتبت بالدم لا بالحبر، والأسطورة التي لم تنتهِ بانتهاء فصولها، بل بقيت متقدة في الذاكرة، حيّة في الوجدان، تتردّد كلما ذُكر الوطن أو النضال أو المعنى الحقيقي للبطولة.

في زمنٍ تُختزل فيه البطولات في الكلمات، يبقى سلام عادل شاهدًا على بطولةٍ لا تتطلّب منبرًا، بل تتجلّى في فعلٍ حقيقيّ، في ذكاءٍ نادر، في شجاعةٍ لا تعرف الانكسار، وفي حكاياتٍ رواها والدان بسيطان، لكنهما حملا إرثًا من المجد لا يبهت. وكأن البطولة لا تعرف الموت ما دام هنالك من يرويها.

سلام عادل… لم يكن مجرّد رجل. بل كان سؤالًا كبيرًا عن الحرية، عن الشجاعة، عن معنى أن تحيا مقاتلًا، وتموت واقفًا حتى الرمق الأخير.

في زمنٍ تهاوت فيه المعاني، سيبقى هو… المعنى.

***

سعاد الراعي

............................

* عمة والديَّ "مكية"/ ام سلام عادل

* اسم سلام عادل الرسمي هو "حسين احمد الموسوي".. عرف باسم شائع هو حسين الرضي: ونقلا عن والديَّ، ان الرضي كنية أطلقها المرحوم والده عليه منذ صباه، تيمنًا بأخلاقه الحميدة. ويقال أيضًا انه كان لقبًا أطلقه هو على نفسه تيمنًا بالشريف الرضي حفيد الامام موسى الكاظم، وقد أصبح هذا اللقب عزيزًا على قلبه فرافقة طيلة حياته.. وحمله أبنائه الثلاثة من بعده 

الصفحة 1 من 3

في المثقف اليوم