نصوص أدبية

نصوص أدبية

الغيوم تتساقط

من عيون المارة المنكسرين

(الدموع من عنق الحصان)

الأجنحة في سلال السهو

الجسر مليء بالنجوم

وخيول اللامبالاة

سيعبرون وتبقى زهرة الأقحوان

السماء قنبلة زرقاء

تضحك بندقية الغول في الهاوية

تنضج لكمات الحضور الذهني

في حلبة الرماد

تينع الحواس في الحرب

أشكر جدا صفاء الينابيع

في مخيال المقاتل

أشكر عباد الشمس على فصاحته

النوافذ على سرقة دموع الأسرى

لم يعد ثمة متسع من الضوء

مضطر لأعقد صفقة تبادل

لكن أوقفوا الحرب حالا

لأجمع أشلاء كلماتي المقطعة

صلواتي العذبة التي مزقها القناصة

داخل صدري

لأنبش كما هائلا من الأنقاض

هناك أطفالوا سقطوا من شجرة قلبي

بوابل من الرصاص الحي

الملاك الأحمر الصغير

بفمه الأقحواني العذب

وضحكته المليئة بالذهب

لنعقد صفقة أبدية لا رجعة فيها

أحرر شياطينكم من الأسر

مفاهيمكم الهشة عن الضوء

والمحبة والحقيقة والجمال

الغربان التي تسكن خرائب أرواحكم

شرط أن توقفوا الحرب

تطردوا طائرة الأباتشي

من حديقة رأسي

تطلقوا جميع الأسرى

من معتقلات العدمية واللامعنى

لي جثث متفحمة تحت الأنقاض

عائلة من الفرح اليومي

ملطخة بالدم

أصدقاء كثر من الفراشات الملونة

مضطر لأعقد صفقة مع الفراغ القاتل

شرط أن يهشم كلارنيته

ويكف عن مناداتي

بإيقاع سريالي

يفرد جناحيه العملاقين

يؤم الأقاليم النائية

مضطر لأعقد صفقة

مع وحوش متناقضاتي

مع المرآة التي تمضغ وجهي في العتمة

مع حيوانات غريزتي المتوحشة

مع الندم الأشقر

الذي يقفز مثل لاعب الجمباز

على حافة رأسي

مضطر لحرق مراكب الصمت

والصراخ بحنجرة طائر حزين

أمام كنيسة النهار

مضطر لإفراغ العالم

من طحالب المسكوت عنه

ما تبطنه المياه من كلمات متجمدة

بتخفيف الوطء على أديم الأرض

بالتحديق في حركات الأشياء

بمساءلة عيون الغرقى

مضطر لإسعاد النملة

بوجبة صغيرة  من الذرة

مضطر لأحرر الوردة من ثعالب الشر المحض

قوس قزح من عويل المقاتلات

شجر الفستق من تأويل العدو

ما تبقى من الضوء

من جنازير القتلة

لأحرر الشرفة والبستان

إبتسامات النساء الحلوة

الغد من كثافة الأقنعة

مضطر لأعقد صفقة مع المستقبل

أزجر الغيوم بعصا الساحر

أمدح حقول الأرز

تحت تصفيق أجنحة الكراكي

وأقول للحرية : أنت أصل الأشياء.

***

فتحي مهذب - تونس

 

أرسل أبي الشاب الختيار المُسنّ نظرة ملأى بالحزن الممزوج بالأمل. شدّ على يدي الفتية القوية وهو يقول لي: لقد دنت لحظة الرحيل. حاولت أن اقاطعه معترضًا فتابع يقول: لا تقاطعني يا ولدي. الموت حق وأنا لست استثناء فيه. آبائي ماتوا وآباؤهم ماتوا. أجيال وأجيال مضت في طريق اللا رجعة.. طريق السفر الابدي والموت. هَمت دمعة من عين أبي وتابع بعد توقف وجيز: هذا ليس المهم. المهم الآن هو أن أنقل إليك ما تناقله أبناء عائلتنا التفاحية، أبًا عن جد وجدًا عن أب. ربّما تعرف يا ولدي أننا سُمينا باسمنا هذا لأننا نُحب التفاح ونميل إلى خدوده الورديّة.. نتناوله بشهوة ونكتفي بروائعه. وأنا أريد أن أوصيك بما أوصاني به أبي وبما أوصى به جدي أبوه. عليك أن تبحث عن تفاحتك الخاصة. حتى تجدها.. لا تستعجل الامور. فالتفاح كثير ومُعظمه مُغرّر. أما أقلّه فإنه يمتلك الحقيقة. ابحث عن تفاحتك يا ولدي.. لا تتسرّع في العثور عليها، حتى لا تضيف نفسك بإرادتك إلى قائمة مَصروعي التفّاح مِن أبناء سلالتنا المتتابعة..

ما إن نطق أبي كلماته الاخيرة هذه حتى مال برأسه وأسلم روحه إلى باريها. لم يدع لي أن اسأله عن تفاصيل أكثر حتى لا أكون واحدًا من مصروعي التفّاح من أبناء سلالتنا وأفارق. مددت يدي إلى عيني أبي المفتوحتين. أغمضتهما. هَمت دمعة مِن عيني وانصرفت تاركًا الدموع لأمي وإخوتي ومَن دخل الغرفة من أبناء عائلتي الكبيرة. خرجت إلى الشرفة وأنا أفكّر في أبي وفيما قاله لي انا ابنه البكر. لقد عاش أبي أكثر من مئة عام، وكان واحدًا من مُعمّري عائلتنا التفاحيين المحبوبين وأكاد أقول المخلّدين. هل أرادني أبي أن اعيش عمرًا مديدًا وعيشًا رغيدًا كما عاش هو؟ هل أرادني أن اتابع منطلقًا على آثاره الرائعة المشهود لها؟ ثم هل أراد أن يكشف لي عن سرّ حياته وروعته؟ ربّما عليّ ألا أنفي جانبًا من هذه الاحتمالات. ففيما يتعلّق بطول العُمر والوراثة بإمكاني أن أجيب بالإيجاب، فكلّ أب يُريد لابنه، خاصة بكره أن يعيش طويلًا وأن يكون صورةً منه، مِن انجازاته وسعاداته. هنا استوقفني احتمال أن يكون أبي أراد أن يكشف عن سر عيشه الهنئ المريء.. فما هو هذا السر؟ أما كان عليك أن تعيش يا أبي لحظة أخرى كي تخبرني بذلك السرّ، فتوفّر عليّ مُعاناة الاكتشاف المُضني والبحث المُعني؟ يا الله كم هي هذه الحياة قاسية.. تعطينا كلّ شيء وتحرمنا من شيء واحد أو أكثر فنقضي أعمارنا نبحث عنه، لنجده فيعيد إلينا توازننا المُفتقد.. او نفتقده طول العمر فنعيش في أم المتاهات.

تحرّكت في الشرفة رائحًا غاديًا. أرسلت نظراتي المُتمعّنة في كروم التفاح الممتدّة قُبالة بيتنا. كان الليل قد شرع في الهبوط. رويدًا رويدًا، حتى ناست عيون الغابات أو كادت أن تنام. الحّ عليّ سر تفاحة أبي، فخرجت مِن بيتنا الفاره الكبير، فيما جاء الرجال.. دخلوا بيتنا. أرسلت نظراتي إليهم يدخلون واحدًا مقتفيًا اثر سابقه.. ومضيت طائرًا باتجاه كروم التفاح الممتدة أمامي، الغناء في روحي وقلبي.

مشيت ومشيت ومشيت.. حتى تعبت كنت حينها قد توقّفت قُبالة شجرة تفاح صبيّة غضّة الاهاب، كانت الشجرة منخفضة تكاد تلامس ثمارُها التراب ولما ترتفع بعد فروعها في السماء عاليًا. درت حولها دورة وأخرى ثانية.. في الدورة الثالثة مالت علي غصونها مادّة إليّ حبّاتها هدية إلهية.. هبة من الله.. فما كان منّي إلا تناولت إحدى الحبّات بيدي وأنا أتساءل.. ترى هل سيمنحني التفاح سرّه.. مثلما حدث مع آبائي الميامين وأجدادي.. خاصة المحظوظين؟ وبما أنه لم يكن أمامي مِن مفرّ غير أن أخوض التجربة كما خاضها الاجداد والآباء، كلّ منهم في أعقاب الآخر، فقد قرّرت أن اتلهّى بقضم تلك التفاحة الموهوبة لي.. فمن يعلم ربّما وفقت من أولى محاولاتي.. أما.. واذا لم أوفق.. فإنني سأنفّذ التجربة وفق طريقة العبقري الايطالي الفخم ليوناردو دي فنشي.. سأشرع في العمل أولًا بعده سيكون حظّي واحدًا من اثنين. إما. التوفيق وإما الفشل؟ وإذا متّ؟ سألت نفسي وتابعت مجيبًا إياها: إن يقين التفاح أفضل من الشكوك القاتلة. هكذا تجرأت وتابعت قضم تفاحتي الاولى.. في عالم التجربة. لا أنكر أن طعمها كان حامضًا قليلًا.. بل إنه مال إلى نوع من المزاز. ومع هذا قلت لنفسي أنا الآن في امتحان العمر، فإما القين البديع وإما الشكّ المُريع. هكذا وجدت نفسي أخرج عن طوري لينتابني شعور أنني أعيش على حافة عالم، فإما أغادر إليه وإما أعود إلى عالم الآباء والاجداد.. لمواصلة ما عاشه أبطال عائلتنا.. ناسين مصروعيهم التفاحيين مِن الآباء والاحفاد. لا أدري كم تناولت من التفاح، وكم مضى عليّ من الوقت. وغبت عن الوجود. عندما عدت وفتحت عينيّ كأنما أنا اكتشف الحياة مجددًا، رأيت وجه أمي الحبيب يُطلّ عليّ من قريب. ما إن رأتني أمي افتح عينيّ حتى سرت ابتسامة غامضة في محياها: ما كان عليك أن تأكل كلّ هذا الكمّ الهائل من التفاح الفجّ يا ولدي.. أردت أن اهتف بها بما لديّ من رغبة في اكتشاف ذلك السرّ التفاحيّ الذي أعجز والدي الموت عن الافضاء إلي به، إلا أنها وضعت يدها على فمي مانعة إياي من الكلام وهي تهتف بي: المهم أنك نجوت وعدت إلى الحياة.. انتبه يا بُنيّ.. أرجوك أن تنتبه لنوع التفّاح الذي تتناوله.. وألا تبالغ في عشوائيتك في تناوله.. حبّة واحدة تُغني عن شجرة مثقلة الاغصان تغني عن العشرات والمئات من الثمرات..

اراحتني كلمات أمي قليلًا.. بالضبط مثلما أراحتها عودتي إلى الحياة، وعدنا إلى بيتنا الكبير.. في الايام التالية حاولت أن أنسى كلمات أبي في لحظاته الاخيرة، خاصة تلك التي تتعلّق بعشاق التفاح من عائلتنا التفاحية، ومصروعيهم، غير أنها ما لبثت أن الحت عليّ، فهل أبقى خارج التجربة فأسلّم تسليمًا أشبه بالموت؟ أم أقتحمها فافوز بتلك اللذات التي فاز بها شعراؤنا وحكماؤنا المقدامون الجسورون؟.. استفزني هذا التفكير، فاندفعت خارجًا من بيتنا الفاره الكبير "، ما قيمة الحياة وأنا لا أعرف أسرار تفاحها وعيشها؟"، سألت نفسي وأنا اندفع أكثر بعيدًا عن بيتنا وقريبًا من تذكّر والدي بإطلالته الشبابية الابدية.. مشيت في كروم التفاح. اتنقّل مِن كرم إلى كرم، مثلما يتنقل غزال نافر من شجرة إلى شجرة، وبقيت ماشيًا إلى أن أخذ منّي التعب مأخذه، فنمتُ تحت شجرة تفّاح عالية مُرتفعة.. جذورها قريبة منّي في الارض.. وثمارها تتألق مثل الكواكب الدرّية في السموات العليين.. تُرى هل أحببتني أيتها الشجرة الحنون الغالية؟ أشعر بهذا.. الشجرة تمدّ لي إحدى ثمارها، تضعها في فمي وما إن يبتلع فمي نصف تلك الثمرة حتى تجود علي بنصفها التالي الآخر.. فأتناوله كأنما أنا أول مَن تناول التفّاح في كوننا الفسيح.. مترامي الاطراف هذا.. شعور بالرضا ينتابني.. هل أحتاج إلى تفاحة أخرى؟ وقبل أن تجود عليّ تلك الشجرة السخيّة المعطاء بحبّة أخرى.. أشعر بالشبع.. فازورُّ بوجهي هاربًا من حلمي إلى يقظتي.. شاعرًا أنني عثرت أخيرًا على تفاحة مشابهة لتفاحة آبائي وأجدادي.. لكن هل عثرت عليها حقًا؟..

الآن وقد تردّدت العشرات والمئات والالاف من المرات على تلك الشجرة.. نمت في حضنها وحلمت بكواكبها الدُرّية المتألقة في السماوات العليين.. وقارب عمري المائة.. أشعر أنني عرفتُ سرَّ تفاحة أبي.. آه.. ما أحلى هذا الشعور.. أن نعرف السرّ ولا نعرفه في الآن ذاته..

***

قصة: ناجي ظاهر

لون ذهبيّ

أوراق الأشجار الصفراء تناثرت في الهواء

كان سرب السمك الذهبي يتراقص في البحيرة

**

غزّة هيروشيما

نطقت عن غزّة هيروشيما

ناكازاكي

كانت شاهدة العصر

**

الموت

أين سيمضي الموت

ولا عنوان له في أيّ مكان.

بندقية أبي القديمة لصقت  على الحائط جنب قرون غزال

بينهما نسجت عنكبوت عشا

**

الطالع

استفاق من غيبوبته ليجد أنّه فقد يديه

كانت قارئة الكف  تقرأ يده كلما جاء إلى الحارة مجازا من الحرب

***

قصي الشيخ عسكر

وَقَدْ  يَسْطُو عَلَى الأَشْعارِ لِصُّ

إِذا أَغْـــواهُ بِــالإِعْجابِ نَــصٌ

*

فَــيَــنْــحَلُهُ وَيَــنْــسُبُهُ سَــرِيــعاً

كَــأَنَّ الــشِّعْرَ مَــغْنَمَةٌ وَقَــنْصُ

*

وَيَــفْعَلُ ذاكَ مُــخْتَتِلٌ مَرِيضٌ

تَــهيجُ  بــنَفْسِهِ عُــقَدٌ وَ نَــقْصُ

*

فــلَمْ يُــتْقِنْ مِنَ الأَشْعارِ بَحْرًا

وَكُــلُّ كَــلامِهِ خَــرْطٌ وخَبْصُ

*

فَـــإِنَّ الــشِّــعْرَ مَــوْهِبَةٌ وَفَــنٌّ

كَــلَامٌ  قَــيِّمٌ مَــا فِــيهِ رُخْــصٌ

*

وَبَــحْرُ الــشِّعْرِ لُــجِّيٌّ عَــميق

وَإِنَّ الــشِّعْرَ إِبْــحارٌ وَغَــوْصٌ

*

وَباتَ  اللِّصُّ أَهْلَ الدَّارِ يَشْكُو

وَيَــبْدُرُ مِــنْهُ إِصْرارٌ وَحِرْصُ

*

فَــكَمْ قَدَحَ الْعَواهِرُ فِي عَفِيفٍ

وَعابَ على بَهِيِّ الوَجْهِ بُرْصُ

*

لِــنَلْفِظْ، كُــلَّ مُــخْتَلِسٍ دَعِــيٍّ

يُــخالِجُ فِــكْرَهُ هَوَسٌ وَرَعْصُ

*

إِذا عَــصَفَتْ رِياحُ الْحَقِّ يَوْماً

فَلَنْ يقوى على الأَرْياحِ دِعْصُ

*

رِداءُ  الــشِّعْرِ لَــنْ يَــبْقى نَقِيًّا

إِذا  مـــا مَــسَّهُ دَرَنٌ وَعَــفْصُ

***

عـبد الناصر عليوي الــعــبيدي

لو ينحني شجر الحلم قليلا

كما الظل على الجدار

كما حبات الهواء

في صمتك الرهيب

لأختبيء من عيون السؤال

من النفس المتقطع على أبواب الشفاه

لأحملك لغزا مفتوحا على آخره

يكشف مدى فشلي

في استيعاب ما يقذفه الغموض

من شظايا نار متقدة

في جب أمس غاب

في تنهدات الشراشف البيضاء

في أرق الليالي ....وظلام الغمام

وما تبقى من الرؤى على قارعة الشحوب

أنا الآن.. وأنقاض الانتظارالمهزوم

بصمة.. على شاطيء مهجور

عيناي محطة لعودة

قد تكون.. وقد لا تكون

وحده السراب هنا

دليل العتمات المفتوحة على مصراعيها

لريح الهواجس المسترسلة

مازالت دمعاتي

تمشط جدائل الذكريات القادمة

تنسجها شموسا بحجم العيون

تعويذة لفرحة مؤجلة

غرست منذ الولادة في مهد الأمنيات

هكذا أمشي كما لو أني

أرتدي جبال الذهول

موثوقة بخيوط حلم

إلى جدع تمن لا يهتز ....

أجمع أخبار الصمت

في شوارع عمر بلا سنوات

أستشرف غدالا يأتي

حلق تنهيدة لم تعد تجدي

أمشي دون عناء تحت السهر

تقودني عيون الأرق المتآمر مع الوقت

فكيف أدخل مغارة اللامبالاة

واللاجدوى تفرض الحصار ؟

*

لم تحدثني أمي يوما عن وباء النسيان

حين ينتهز القلب كومضة برق

تخترق الذكرى دون استئذان

على الطرف الآخر.. الآن..

دمعات تحصي الأنفاس

ودقات الفرح الغائب

فتنزف العيون احمرارا

كشفق ذبيح ينسج المساءات أشواقا

غارقة في أدغال الحزن

كل شيء انتهى على عجل

رهافة الإحساس

مضاجعة وهم  يطرب للصدى

عيون ماء  غنت الشعر

على مسرح الفوضى

حتى غدوت زهرة برية

ذابت في هجير العشق

أنا اليوم انحني على ضعفي

التهم سلاميات مواجعي

أصوب فيالقي نحو صوت غائم

لم يتمكن من قصم ظهر المسافات

في دخان احتراقي....أسبح

حتى آخر معنى للصبر؟

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

حين يركض العمر

ويتغاضى

عن جزع الطريق

الذي يدرك

آخر المطاف

وعن بكاء

ذراع الخنجر

التي حولت

شقوق الأرض

إلى مقابر

تخاطب النسيان

بالذكرى

فيمشي مذعوراً

شارد الفكر

يقلب النظر

بين

الأسماء والتواريخ

يحسب الفارق

الذي تعرفه كل

الروزنامات

بين

معضلةالميلاد

و

حتمية الموت

وكم تحفظه

طازجاً كالفكرة في

رأس خاوية إلا من برد

يا إنسان في زمن الحرب

تدور العجلة

عكس حروف البدء

فتصبح كل الطرق

رهائن منسية

خلف البوابات

تلد الأشجار

النايات

تتمايل من وجعٍ

الريحُ تمر

و

اللحن حزين جارح

يا إنسان في زمن الحرب

ينسى الوقت

تفاصيل الأحياء

يصلبنا أرقاماً

في لائحة المذعورين

المزروعين كأشجار الشوك

هنا وهناك

وعلى خاصرة الهامش

نتحول تعباً يكتب

على جوع نصبر

على قهر نصبر

على مرض

لا يتركنا

ولا يأخذنا نصبر

على حلم مبتور

بأيدِ القتلة

نغفو

وعلى جرحٍ يركضُ

باقي العمر

ونحن نكابر ...!

***

أريج محمد

13/8/2024

 

عندما يستيقظ قوس قزح

ويفرك عينيه البنفسجيتين

وتسقط الوانه الزاهية

يتسرب المطر الى مخادع الغمام

2

قصيدة كأنها وتر مشدود

لم يعد يتحمله العود

نبراته مرتبكة

تلفظ انفاسها كأنها سيمفونية لم تتم

او قصيدة لم تكتب بعد

عن شتات الاغتراب

تنام في ظل اعشاش العناكب

3

في زمان التفاهة والعبثية

ثمة شعراء يتسكعون

في مراعي لاغنام جاهزة للذبح

كانهم تماسيح تسخر من ابتسامة الموناليزا

4

في جيبي جواز سفر غير مختوم

وتحت ابطي خريطة عربية مبتورة الاطراف

وهويتي صورة متلاشية لمجهول تاءه

4

لقد وضعوا على شاهدة قبري

كفنا مستعملا

وحفنة من ديدان الارض

وبرادات موتى

وملكان

5

لشعراء الحانات

انجاز عظيم

ابتكرته الثمالة

اسمه القيء النتن

***

بن يونس ماجن

 

بلى، بلى

فالطائر الأزرق،

هذا الشعب المُجنّح،

ليس مستعدًّا للنسيان

يهرب من الحشود

يتحاشى الاحتفالات

ها هو يطير

ويبتعد في تحليقه

دائماً

بعيدًا بعيدًا

بينما تُوَجَّه له اتهامات

الارتفاع !

*

إنّه خروج حملة

ضدّ أحقادٍ تلوح في أفق

أدغالِ المتوحشين

*

فوق

الطيارين والأسلحة

فوق

الدخان والدموع

فوق

الخُطب والأبواق

فوق

الصخب الأولمبي

*

إنّه بعثةُ استكشاف

في رؤوس أطفال

مفصولةٍ عن الأجساد

*

بعثةٌ تقتفي آثار قلوبهم

النُّسْغُ فيها وطلقاتٌ

من أجنحةٍ وآفاقِ المستقبل

*

مهلًا، مهلًا

فالطائر الأزرق

كما هو نداء الأرض

ترجع أصداؤه

في جذور الحياة

ضدّ أنغام الموت الخادعة

واغراءات الرقص

في الخُطب السامّة

*

الطائر الأزرق

لا تعوّلوا على إغرائه

فهو غير مستعِدّ لاستعطاف

غمْز النظر المثقوب

في القمح المفتول

ولا خشونة أصوات موسيقى

تقذفها بعض الحبّات المسمومة

*

فقد راوده استماعُه النافذ

لِقهقهات النار ودماء الذكرى

بهواجس الزمن

نحّاتِ العقاب

سيفٍ مسلول يتوعّد المستوطنين

وسُرّاق المعبد

*

فهاهي الشعلةُ

شراراتٍ وارتعاشات

وها هي ذاكرتها

تنكسر

وها هو إرثها

يحترق

*

لكنّ الشعلة تقاوم

فواجبها النجاة

من أجل غزة

هذه الإنسانية الممزَّقة

غزة غزة غزة

مخنوقة تبكي

آمالُها

الخيانات

*

تسعى الشعلة

جاهدة

للتذكير بجذورها السماوية

فتوقِظ ذكرى غزة

علّةَ وجودها

بينما هم

يرغمونها على أن تكون قناعًا

لِما تعجز الكلمات عن تسميته

*

اُصمُتوا! اُترُكوهم يَقتلون! اُصمُتوا

مرحى مرحى بالابادة! النصر لِلسُّقوط!

لم تشبع الهمجية بعدُ من وحشيتها …

*

وترفع الشعلة،

جمرةً مخنوقة،

صوتَها الحزين بنشيد

يردّد صداه نحيبُ الكون

*

اِستمعوا، اِستمعوا

إلى هذا البكاء،

من ينوح؟

أليست أرواحنا

ممزقة بصمت

الأنظمة المجرمة؟

*

أنظروا، أنظروا هناك

هل ترونه؟

إنه الطائر الأزرق

دائما في السماء

يترقب الأعماق البعيدة

حيث مرقد الشهداء

بحثًا عن غد

تطوّر منذ زمان سحيق

واعدٍ بفلسطين

قَدَر شعلة

لن ترتعد أبدًا

أمام ثقب الغرب السوداء

المتعطّش لدماء الأطفال والنساء

***

حمّودان عبد الواحد

 

انتظر الفجر يأتي

وأترقب خيط النور

على رأس السروة الباسقة..

جاء الفجر

وترقب قدوم الظهيرة الساخنة

انتظر قدوم الغداء

وجاء الغداء يسد الرمق

ثم انتظر العصر

وراح يزحف مع هبوط ضوء الشمس

وانتظر ما وراء العشاء

بعدها ، انتظر قدوم الليل

ونام تعباً من الانتظار

وقبل أن ينام

أنتظر الفجر يأتي

وجاء الفجر

وظل ينتظر وينتظر وينتظر

حلقة مفرغة

هي حلزون الإنتظار

وبين إنتظار وإنتظار

أدرك أن كل الانتظارات

قد تبخرن

وتطايرن كالغبار

وأصبحن غباراً في الماضي

لا أحد يحسه أو يتلمسه أو يراه

إنه مجرد غبار في الذاكرة

ليس له وجود

كل ما كان في الأمس تحول إلى ماض

والماضي لا أحد يمسك خيوطه

إنه مجرد خيالات تعلقن في الذاكرة

تبهت صورهن وتتلاشى تدريجياً

ثم تتراكم عليها صور أخرى وأخرى

تبهت وتتهرأ وتتلاشى

على خطى حلزون الحلقة المفرغة

في دورة الغبار

التي يأكلها الزمن القادم

زمن مضى، فأمسى غباراً

وزمن حاضر يبهت، ليمسي غباراً

وزمن لم يولد بعد،

في الإنتظار..!!

***

د. جودت صالح

14/8/2024

..............................

(*) في ضوء فلسفة الوجود والعدم للفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر

مرآةٌ في غُرْفَةِ فُنْدُقْ

تُبْصِرُ أشخاصاً تَجْهلُهُمْ

لا تدري مِنْ أينَ أَتَوها

أو  مِنْ أينَ يجيئونْ

لا تعرفُ مَقْصَدَهُمْ

أو  كَمْ سيُقِيمُونْ

**

مُنْذُ سِنِينٍ

كانَتْ عاملَةٌ في الفُنْدُقِ

تأتي عِنْدَ الظُّهْرِ

و لا تَدْرِي

مَنْ سَكَنَ الغُرْفَةَ، أو يَسْكُنُها

لكِنَّ المِرآةْ

تبقى صامتةً تُبْصِرُ  ما يجري

عاملَةُ الفُنْدُقِ تَرْقَبُها

تمضي الأيّامُ فتَعْشَقُها

تَتَمَرّى فيها،تَسْأَلُها

عمّا رَصَدَتْ في ماضِيها،

أو  حاضِرِها

و المرآةْ

تبقى صامتةً

صَمْتَ الأمواتْ

**

يَئِسَتْ عاملَةُ الفُنْدُقِ، قالتْ

إنّ المرآةْ

لا  تُسْمِعُنِي

ما يُفْرِحُنِي

فلماذا لا أتخيّلُ وحدي

أشياءً ممّا شَهِدَتْ

بَدَأَتْ تَتَوَهّمُ أحْلاماً

و تُطَرِّزُ  أوْهاماً

تتخيّلُ شيئاً ممّا عَرَفَتْ

لكِنْ فَشَلَتْ

والمرآةْ

ضَحِكَتْ، ضَحِكَتْ، ضَحِكَتْ ...

صَرَخَتْ، ثُمَّ بَكَتْ

***

شعر: خالد الحلّي

قصص قصيرة جداً

مَكبوس

لا أكادُ أجزمُ بأنَّ الرؤيا في المنام تتغيَّر مجرياتها وتفاسيرها حسب المكان، ففي  بيتٍ قديمٍ البناء، صغيرِ المساحة، لا يكفي عائلتنا بتاتاً، كانت أحلامي ورديَّة، عجبي أن يتكرّرَ فيها أنَّنا نسكن  بيتاً جديداً كبيراً، فبالإضافة إلى غرفة النوم، لديَّ غرفةُ مكتب، سأصبح بتواجدي المُنتظم فيها مؤدّياً لطقوس الكاتب المحترف .

تحقَّق الحلم، وانتقلنا إلى بيتٍ جديد. كان أول ما تبادرَ في ذهني حين أغفو غفوتي الأولى في هذا البيت، أن أحلامي الملوَّنة، هنا، ستحلِّقُ بي إلى روضةٍ خضراء، روضةِ مزهرةٍ بأجمل أنواع الورود، ومثمرة بأطيب أنواع الفواكه والخضراوات. وفيها بيتٌ ذو تصميمٍ معماريٍ باذخ، تتوّفر داخلهُ كلُّ وسائل الراحة.

ما حدثَ أنَّني كلَّما غفوتُ في مقامي الجديد، يزورني كابوسٌ لعين، فأفزّ من نومي مذعوراً، غرفة نومي الواسعةُ بدأت تتصاغرُ ... تتصاغر، حتى اصبح حجمها بحجم جسدي، وفراشي الوثير تحوَّلَ إلى ............

لا أستطيع نطقها لأنَّ الكابوسَ هجمَّ عليَّ من جديد، فأصبحتُ فاقدَ القدرةِ على كلِّ شيء. ثمّةَ صوتٌ يجاورني: لا تحلم باتّساع، لا تطمعْ كثيراً، الطيُّبون واقعهم مزرٍ، هو خيّاطُ أحلامهم وكوابيسهم .

**

عينُ الموت

لا أحدَ يعرفُ ماذا كانِ في خلدِ ممثّلنا الراحل، وهو يؤدّي دورهُ أمام الكاميرا، كان يتحدَّثُ عن الموت مع ممثلٍ آخر، كان يسألهُ، عينٌ عليه، وعينٌ على الكاميرا، (ماذا رأيت في الموت؟)، إذ ذاك ما الذي أوحى له بأن عينَ الكاميرا هي عينُ الموت، وكأنها تتحدّى كلماته، وبأنها ستنقضُّ عليه، فسقطَ على الأرضِ جثةً هامدة !

**

تشييع نهر

كان شديدَ الرغبةِ في تعلّم السّباحة، ودَّ لو تعلَّمها منذ الصِّغر، والآن، وقد مضى به قطارُ العمر إلى مشارفَ الكهولة، أدركَ أنَّ فرصةَ عبوره نهرَ الفرات في مدينتهِ عوماً، قد غادرتهُ إلى غير رجعة، مردِّداً  مقولة.. إنَّ التعلمَ في الصغر كالنقشِ في الحَجر.

هواهُ كبيرٌ  في ممارسةِ السباحة، رغبةً في فكِّ أسارِ يومياته من روتينها القاتل، فالعومُ في نهرٍ جارٍ يمنحهُ الطاقةُ على التجدُّد، فكلُّ دقيقةِ عومٍ هي غسيلُ مللهِ وكآبتهِ في مياهٍ جديدة، غير مياهِ الدقيقة السابقة، فقد قالَ الفيلسوف أوغستين؛ إنّك لا تنزلُ النّهرَ مرَّتين.

في يومٍ غارب، مشى في شوارعَ خاوية، إلى النهر، الذي طالما حلمَ في السباحة به، صاحَ ضاحكاً: تحقَّق حُلمي في عبور النهر بعد عشرات السنين.

لكنَّها ضحكةٌ دامعة، فقد عبرَ النهرَ مشياً، كما السائرُ في جنازةِ نهرٍ كبير، تحملُها ما لا يُعَدُّ من أذرعِ الحالمينَ بسباحتهِ يوماً !!

**

بابٌ ونافذة

كانَ يحلمُ بها دائماً، تزورُه في بيتها القديم، وليس بيتاً آخر، كانت لا تعاتبهُ على عدم زيارتهِ لها في مكانها الجديد، بل تتواشجُ تفاصيل الزيارة مع أمورٍ حياتيَّةٍ شتّى، كأنَّ وحشةَ هذا المكان لا تُشغلُها كثيراً.. ويخجلُ من تلقاءِ ذاتهِ إزاءَ عدم زيارتها هناك. فقط مرَّةً واحدة.. لم تتكرَّرْ..عتبٌ دفينٌ في داخله يتولّد، عندما يستيقظُ متذّكراً تفاصيلَ ضبابيَّةً عن تلك الأحلام.

لكنَّهُ في أعماق ذاته يتمنّى ألاّ يحلمَ أنَّهُ زائرُها المتوَّحدُ في ذلك المكانِ الموحشِ المعتم، ففي حالتها زائرةً لبيتها القديم، تتحرَّكُ بحيويَّة، رغمَ كبرِ سنِّها وجلالةِ قدرِها لدى الجميع. واعتادَ رؤيتها تمارس ما ألفَ منها من أعمالِ البيت، من دون تحسّبٍ أنَّها سترحلُ إلى ذلك المكان الضيق.

لكنّهُ يخشى ألاّ يستطيعَ ممارسةَ أيِّ شيءٍ في مكانٍ تزدادُ توصيفاتهُ قتامةً وهموداً. قد يستطيعُ في الليلةِ الأولى أن يرسمَ باباً ونافذة.. ولكن في الثانية.. يشيّعهُ القلمُ والورقةُ من مدادِ وحشتهِ الهشَّةِ إلى العناوين الشاحبةِ لصحف الغد!! !

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

لقد أقبل الشتاء إلينا باكرًا، وكان الجو باردًا، حتى إن النَفَسَ التي خرجت من أفواهنا، كانت مجرد مليمترات قبل أن تتجمد. مشينا في مساحة بيضاء ناصعة، وغطى الثلج أجسادنا، حتى لم يعد من الممكن تمييزنا، بَدَونا كأشباح تتحرك في وحشة الأرض وصمتها. قوة مسلحة تخترق طرقًا صخرية، لا حياة فيها، عالَمًا ساكنًا كأنه أفق مجهول الأبعاد.

ساد الصمت في كل مكان، ولم نفتح فمنا بكلمة واحدة، لئلا تتجمد أنفاسنا، وتفسد جهودنا، وتقودنا إلى الهلاك، والضلال. في هذه اللحظة تذكرت نكتة عبد الله آغا، عندما كان يتحدث عن رحلته مع بعض مقاتليهم، في أجواء باردة تحت الصفر. قال: إنه نادى على مقاتليهم من بيشمرگة حزبهم:

ـ حمه، نوري، صادق… ولكن لم يرد أحد منهم.

وأضاف بتواضع:

ـ وحالما وصلنا الى أحد الكهوف، وأشرقت الشمس، وإذا بصوت يصدح في الهواء؛ يردد الأسماء: حمه، نوري، صادق…

عندما سئل عن مصدر الصوت، أجاب بثقة كبيرة:

ـ عندما ناديتهم في المرة الاولى، بدا صوتي متجمدًا من قسوة البرد، وما إن بزغت الشمس، حتى ذاب حرارتها كلماتي وأصبحت مسموعة.

لم يكن في حساباتنا أي شعور بالتسلية أو قضاء وقت ممتع، فهطول الثلج بهذه الغزارة يعد عائقًا حقيقيًا في مسيرتنا الطويلة، ثم إن الرياح السامة في هذا البرد القارس كانت تصفع وجوهنا، وتمر عبر مسامات قُفازاتنا الرقيقة، كأنها سكاكين قاصِلة تترك شروخًا خلفها.

وفي المنحدرات الحادة تنفث الريح الثلوج؛ فتتطاير باتجاه الطريق الضيق الواقع بين السفوح العالية، والهاوية السحيقة؛ فتخفي الأرض الصلبة عن الأنظار. كان هذا المقدار المتراكم على الأرض كافيًا لمواصلة المشي، وتحريك القدمين بخطوات متقنة لتتناغم مع استقبال الأرض لها. كلما استمر تساقط الثلوج، ونفخ الريح لها من المنحدرات المطلة على الطريق، وتجمعها أكوامًا؛ أثقلت حركة القدمين من التقدم بسهولة؛ لأنهما تغوصان فيها.

لو كانت البغال معنا في رحلتنا؛ ليسرت علينا مشقة البحث، واتخاذ الحذر؛ لأنها متمرسة في تناغمها مع الأرض فضلًا على ذلك، فهي تمشي على أربع، وقادرة على فتح الطريق، مما تفسح لنا الفرصة في تتبع آثار حوافرها؛ والأنكى من ذلك، هو ما نحمله من حقائب على ظهورنا، وعلى أكتافنا أسلحتنا الشخصية، وحول بطوننا مخازن الرصاص، وهذا ما يزيد الطين بلة.

تلك الإرادة الفذة كانت في العمق، صفة الأنصار، لا تستسلم للموت ببساطة، تجده على الرغْم من هيجان العواصف، وضراوة الأعاصير في كنف الثلوج، والصقيع منتصبًا بقامته العمودية متحديًا الأهوال الشاقة.

***

كفاح الزهاوي

مقطع من روايتي القادمة

أرغفةٌ حائِرةٌ أضاعَت النَّار

كلماتٌ تغرقُ في حِبرِها

هرمَّت  الشوارع

تاهَ الوَردُ...عن نــــــــداه

في خُطوطِ الذَّاكرة

أميالٌ حلم

تنبت على ضفتيك

وبيني وبينَك

قوس قُزَح

وصفصافة حنين

*

شفتاي نايات ايلول

تغفو في عيني عصفور

تنتظر المطـر

ورَوحِي تَجثو

على أنفاسِكَ المُتعَبة

تُبَلِل رِيقَك

تُراقِبُك

كيفَ تلمِسُ طرفَ المَوت

وتُحيكُهُ  يَاسَمينَاً أبَدِيا

*

اختبئُ بينَ

آهاتِ الرَّحيل

وغَفوَةِ الريـح

غداً يزهِرُ اللَّيلُ

وقـد  يأتي بِعاصِفَة

بعدَ السَّيل

تُرى...... ما لونُ عَينَيك !.

***

سلوى فرح - كندا

 

الحب

لا يحتمل الصراخ

هو طفل

لا يكبر إلا

في شفاه الهدوء

قبلة حينا

وحينا همسَة

*

الحب

مهنة ليل

وعادات حزن

جميل تهوي

بالنفس إلى نفسها

لتغدو للروح روحا

تمضي بها أُنْسَا

*

الحب

أغنية

تنأى وتدنو

بالساهرين

وتلقي العشاق

رعشة لينتشي

الحضن بعد لمسَة

*

الحب

حين تملأ صورتَها

عليك المساء

وتنصرف منك

إليها غائبا

لِتُشفي نظرة

وتُبعث حِسَا

*

الحب

كل ما لم تقله

لها بعد

وما لن تقل

وكيف القول

والنطق عند

الجمال ينسَى

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: كي أستريح من أي عطب رومانسي

 

بي مِنَ القولِ ما بي

وَما لا يُقالُ

وَمِنَ الحُزنِ ما لا يُطيقُ رِجالُ

*

بي مِنَ الصّمتِ ما لو أُبيحَ بِهِ

لاستوتْ كُلُّ أرضٍ بِها

وَجِبالُ

بي من الوَجَعِ اللانهائيِّ

ما قدْ

تَخِرُّ له نائباتٌ ثِقالُ

*

بي من الحبِّ شِعرًا شُعورًا

بل شاعِرًا

جُدْ بِالوصفِ جُدْ

يا خيالُ

بي جرحٌ

تجاذَبَهُ قومٌ تُبّعٌ

ثُمّ مالَ بهم حيثُ مالوا

بي من كلِّ ثاكلةٍ

آهَةٌ حرّى صَرْخَةٌ

ليسَ منها احتمالُ

طفلةٌ بي

وبي لوعةٌ كسرتْ لحنَ أغنيتي

بي دَمْعي الْمُسالُ

نجدةٌ بي

أبي يا أخي

يا أمي احْتَوي خافِقي

فاحْتَوَتها رِمالُ

بي من الحَبَقِ امرأةٌ

كلما عبقَتْ هَمَستْ:

أنتَ عِشقي الحلالُ

كُلّما سرّحَتْ خيلَ فكرَتِها

صفعَتْ قلبَها:

إنّ هذا مُحالُ

رجلٌ بي

تَصَبّرَ حينًا وَحينًا تراءى له ما تراءى

ضَلالُ

بي من التّيه ما بي

وأزمنةٌ بل وأمكنةٌ

ما شُدّت رِحالُ

بي من غُربةِ الرّوحِ في وَطَني

صُوَرٌ

أرقامٌ بِها وَزَوالُ

بي

شِعري وذاكرتي جُرحي

بي

خناجرُ مشبوبةٌ وقتالُ

بي جنونُ الحربِ

بشاعتُها

موتٌ ذاهِبٌ آيِبٌ

ما يزالُ

***

سماح خليفة - فلسطين

 

ألا من عودة؟

علامة استفهام تبحث عن إجابة

في زحمة متناقضات

لزمن أسير

*

تحاصرني

فتارة ترمقني بنظرة

ترتعد لها أوصالي

وأخرى تحنو وكأني بها

تهدهد أحلامي الفزعات

فألوذ

مستغيثة بدمعة

تنهي سجال النظرات

*

لكن أنّى ذلك؟!

وحروف أنفاسي تشهق

وتشهق

وتشهق

وحينما تزفر

تلتهم النيران

علامة استفهام بلهاء

تبحث عن إجابة

***

ابتسام الحاج زكي/العراق

 

(كن عاقلاً يا ألمي)

شارل بودلير

***

أحملُ الفنجان إلى الفجر بأناملي

كأنّني أمسكُ بحياة الأسرار

ينتشرُ في قلبي صباحاً يهوى القهوةَ

وسماءً من الرائحة.

عبيرٌ، يتحلّق حولي، وأطوف حوله، كأنّنا في قلبٍ واحدٍ

تسافرُ بي

أحنين أنتَ أيّها القلب، أم رائحةٌ تهبُّ على كلّ مكان؟

أيها الألم: كن عاقلاً

أيتها الذكريات لتكوني عادِلةً ، واعتمدي عليّ.

تحملُ طيّةً في تضاريسك الشاسعة، كأنها طيّات أرجاء

فنجان قهوتي، ذو أفكارٍ متضاربةٍ

وذو قلبٍ منذ ولادته يهفو إلى قلبٍ.

وهذا الذي يتقدّم وأولئك الذين يزحفون، كلهم إلى مرفأ عواصفي

فنجان أسرار يحمل حكايات شهرزاد، رشفةً أثر أخرى

من ذا الذي يجمعنا، ويلّمنا أسراراً لا تُنسى؟

صافياً أهديتك الجبلَ

تاهت مشاعري…

***

نوال الوزاني

سطوة الريح

وجنون العاصفة

جعلت العصافير

العنادل

القبرات

واليمام

تحسب حساباتها

وتجعلها ترسم على

مرايا قلوبها نسرا

وحدوة حصان

ميممة صوب

مروج وحقول

احلامها امنياتها

ورؤاها وقرص

الشمس وعذوبة

النسيم جعلت

من بنات اوى والثعالب

تندب حظها في

جحورها العفنة والمهترئة

وصبيان وصبايا الحي

اراها حزينة حزينة في

تخوم حقول ومروج

رغباتها المحترقة

فيما انا قرب

دالية عمري الحزين

احتضن الغيوم

النجوم والشموس

مغنيا للخصب

للامل الاخضر

وللشجر .

***

سالم الياس مدالو

أخلياءَ نحنُ  ذائبين في التفرجِ

ضفادعُ تنطُ تارةً لحتفها

طوراً لمجهولِ القيعانِ

يوهمنا خيطُ العنكبوتِ بوهنهِ

انما نحنُ اوهنُ منهُ في أباحةِ

لسعاتِ الجمرِ فوقَ اجسادنا

متى نمسكُ العصا من اطرافها

لنفلقَ بحارَ الظلماتِ

قبلَ  انْ يفلقنا تداعي برودةِ عقلنا

لقد رمينا شباكنا بماضٍ

غريبٍ كدخانِ ارضٍ غزواتُ فشلنا

وأهتزازُ اجسادِ الخيولِ

المأخوذةِ عنوةً بلا حوارٍ للموتٍ

انَّا نساقُ  كرهاً تحتَ عناوين البلاهةِ

تحتَ سقفِ بلادتنا

انَّا عشاقُ القبورِ وتكريمِ الدفانِ

لانهُ يرفسُ أجسادنا تحتَ الاتربةِ

لنفيها دونَ هوادةِ

أباطرةِ الكلمةِ والموروثِ

نمني الارواحَ انتظاراتٍ في واحاتٍ

نأتي بالتيجانِ وريشِ الطواويسِ

لملوكِ قتلنا

ونقلدُ صدورنا اوسمةَ المحارِ

مخاريقنا  تتناسلُ

بلاطَ الشهداءِ غفلةً تطاردنا

الغافقيُ وزيدٌ أساطيرنا المنمقةُ

انها انتكاساتُ فشلٍ

وثورةٌ من بني قينقاع تعيدُ سحرَ

تعاويذهم وتبطلُ وصاينا

التي انتحرتْ بسيفٍ وحشي

مَن يأتي بكذبةِ قميصِ يوسف

او سجاح بنت الحارث ومسيلمة الحنفي

او اباطيلِ الرسائلِ البدويةِ

معجونةً بالاشهارِ الذي مسخنا

حتى نادتنا الفتوحاتُ ففتحنا لها الصدورَ

ودفنا ارضنا وجنتنا الموعودةَ بالحواري

انزلنا المعلقاتِ السبعةَ

اكتشفنا عنصريتنا التي لا تطهرها

مجموعاتنا  المطرزةُ باناشيدِ الحريةِ

بمباركةِ جوازاتنا المحجوزةِ بكلِّ المطاراتِ

التهافتُ على البحارِ الثلجيةِ

هو التهافتُ الذي رسمَ انتحارنا

أجلسنا على ارضِ الفخارِ

لتحترقَ اماسينا الحالمةُ بالعتقِ

من شباكِ صيدها الازليِّ

كوني يا اوتارَ قيثارةِ العمرِ

الفٓ وترٍ يقطعُ اصابعي

لأغردَ في الليلِ الحالكِ

احاكي

أنا القديسُ الذي سقاني الغمامُ

بياضاً

وأنا المليكُ لحاراتِ بؤسِ تطفلي

وأنا بينَ كرتي ثلجٍ جمرةٌ لا تطفئها

بحورُ الكونِ

لقد انزلَ اللهُ فيّ التمردِ حين عشقتهُ

وأنا لغةُ الحريةِ دونَ مبعثٍ

أنا الانسانُ طليقُ الجناحينِ

ومخالبي غرزةُ ثأرٍ

بليتُ ببشرٍ وحلاجِ التصوفِ

خذني بددْ شموعَ ضوئي في الظلامِ

اعطِ لمتنِ بدايتي عاصفةً هوجاءَ

انا القادمُ بحصانِ الرفضِ

شاهراً  دمي  وغطاءِ رأسي شمساً وأنبعاثاً

أنا الذي اوهمَ اباهُ أنَّ غاغرين زارَ القمرَ

وأنَّ امرأةً طافتْ على جدرانه تعبداً

وعلْمُ (الزنادقة) ما زالَ على سطحهِ

ينتظرُ نفخَ الروحِ في جسدهِ

كلا لنمكثَ كلَّ القرونِ نبشرَ الدنيا

نصفُ الانسانِ عورةٌ ونصفهُ الاخر

يضيعُ في متاهاتِ القذارةِ

نحنُ تائهون نعدُ القرونَ متى

يزورنا العتقُ لنصليَ صلاةَ الحريةِ

نطوفُ لبغدادَ علها تبعثُ النصرَ

نرمي من اعالي جبالنا المستباحةِ

الفَ حجرٍ نرجمُ شياطينَ وسحرةَ الشرقِ نعلقُ اكاذيبهم فوقَ المدى ونكتبُ عندَ مداخل ِالمدنِ

(عراق ليس سوى عراق)؛

***

عبدالامير العبادي

لطالما شعرت أنها طفلة مختلفة عن غيرها، من ثبات خطواتها تبدو واثقة أكثرمن باقي أترابها، كبرت عزيزة الروح لا تحب التخلف أو الغياب عن المواقف الجادة، غدها ليس ضبابا ولا صورة من هباء  هي الأيام فقط التي قد تعاندها حينا وتقسو عليها كثيرا أحيانا أخرى، لكن يوقظها الظل أن ضلت الطريق إلى أحلامها الطفولية البريئة، ويرسم لها الليل الطويل صورا تداعبها على عتبات ذلك المجهول القادم إليها تراه سيحط رحاله على قدرها وهي الأنثى المفعمة بالنشاط والأمل الممزوج بكثير من الألم، لكن ذلك الحلم بعد الرحيل الطويل أكيد سيستقر لتفتح له الأبواب لبداية الانطلاق إلى عالم لا يزال تراه حلما بين تلافيف الذاكرة  أحلام محلقة بعيون الصباح في المدى المزين بأكاليل الورود التي يذوب في كف مساءاتها التي تعدها بغد جميل تعانق فيه وجه القمر وسط المزارع النائية فتمتلآ من ضيائه وتبتسم وهي تغني لطيور الفجر . تفكير إيمان الطفولي يحمل الكثير من الأسئلة التي غالبا تعجز عن إيجاد بداية للإجابة عليها، فتطفئ حيرتها بدمع لامع، تثري بصمتها كلام يتكسر بين مرايا وقع الفقر والحاجة . لا تزال ترقب ذلك القادم المجهول لربما يمسح عنها غبار الشقاء، إنها مثل عصفورة حائرة،حاملة قلقها في برد المساءات التي تمضي ولا تأتي بجديد. يمتد السكون كأن غيمة حطت على حبل الوريد، ترسم حكايتها بالكلمات لهيبا في المدار، وصمت هذه البيوت التي تقمع حلم كل أنثى تطمح للعلا، ولكن كلما ارتقى حلمها وارتفع فوق واقعها يسحبها إلى رصيف مرصع بالأمنيات المجمدة، لكن هي تراه ومؤمنة أنه سيأتي في الربيع ويذيب ما علا حلمها من ثلوج عنيدة لتنطلق من نقطة البداية نحو حلمها الأبدي.

كانت عائلتها كبيرة، ولم يقدر والدها على إعالتهم لصعوبة الحياة الريفية وانعدام الأمل، شحذت همتها وهي الابنة الكبرى لتساعد والدها،فأخذت تنتقي المواد البلاستيكية من القمامات لإعادة تدويرها، ومرة تبيع خبز الدار على قارعة الطريق الرئيسي للسيارات، لم تكشف مسيرة حياتها التفاصيل مثل بائعة الخبز للكاتب الفرنسي كزافيه دومونتبان، ولا بائعة الكبريت للأديب الدانماركي هانس كرستيان أندرسن، هي طفلة مثابرة، تفرح بفستان جميل يحضره والدها لأيام العيد بألوانه الزاهية، هي لا تبحث عن الموضة ولا تتابع أحدث بيوت الأزياء، المهم فستان تعكس ألوانه أحلامها الوردية . اعتادت إيمان كل صباح الذهاب إلى مدرستها البعيدة عن منزلها سيرا في الطرق الطينية التي تثقل حذاءها البالي بالوحل والأمطار تبلل قدميها الصغيرتين والصقيع يجرح وجهها حتى تكاد لا تقوى على مسك قلمها دون أن تنفخ فيهما كي تتدفأ بحرارة زفيرها، عاشت تعاند قسوة برد الشتاء ولهيب الصيف  الذي أحرق وجهها، لكن لم يكن يهمها الأمر غير أن تساعد والديها في حمل مسؤولية البيت وتخفيف المعاناة ولو بقدر قليل، الفقر والحاجة جعلت منها أنثى صلبة، قوية قوة الرجال وقوة الطبيعة وقسوتها، فكم حاولت كسر رتابة الأشياء المحيطة بها ومحو غصة تستوطن أحلامها، ولما كبرت صار أكثر ضيقا وأفظع مما كان متوقعا،هي تعلم أنه من الصعب أن يجد الإنسان الاختيار الذي يبحث عنه وإن اجتهد من أجله وكثير وهو يركض ليصل يجد الخيبة تركض قبله وتحاصره كي لا يصل إلى غده المنتظر، يهرب لكن الحصار يعود ويضيق عليه فتعود إليه مجبرة وقلبها، يتراجع من الظلام إلى الظلام، وقلبها لم يعد يقبل الحطام كبقية البنات في سنها فقد أصبحت ترى درب الدراسة ما زال طويلا ولا يحل مشكلتها ولا مشاكل عائلتها أو يوفر لهم الحياة الكريمة ولن تقدرأن تحقق ما تحلم به، فهي تدور في حلقة مفرغة، تتبعت نداء قلبها وعقلها معا وهي مقتنعة بهذا الاختيار الذي وجدته حلا مناسبا في غياب كل الحلول الأخرى الممكنة وهو ما يعني خلاصها من رمادية الحياة التي عاشتها والتي كانت ستقضي على ما في دنياها من ألوان جميلة  لو فقدت أملها الذي هو سر من أسرار صمودها، فبعض الأمور تتطلب التضحية والاجتهاد والصبر حتى يظهر بصيص الأمل .

تحب إيمان الرياضة وكانت تمارسها  خلال دراستها بالمدرسة الإعدادية وكانت تنال العلامة الكاملة، أثار انتباه استاذ التربية الرياضية نشاطها وخفتها وسرعة حركاتها، كانت حديث القاعات الرياضية في تلك المدينة التي تبعد كثيرا عن قريتها، ويوما نقل إليها أحد زملائها في الدراسة عرضا من أحد مدربي الملاكمة للانضمام إلى فريق الملاكمة بالقاعة وستنال مقابل مالي كل حصة تدريبية، كان العرض مغري حتى أخبرت به والدها فضحك اشفاقا عليها من أن يتكسر أنفها ! لم يمانع الأب، وفي الغد ذهبت والتقت بالمدرب صاحب العرض فسلمها مبلغا من المال لتحضر نفسها وتقدم ملفا كاملا لإدارة القاعة، فرحت إيمان بالمبلغ ورأته على قلته كبيرا يكفي لشراء مقلمة لأدواتها المدرسية التي كانت تضيعها في كل مرة، كانت إيمان تريد أن تظهر وسط زميلاتها بشكل محترم ومشرف ولو بأبسط الأشياء دون أن تكلف والدها أعباء إضافية، وكان والدها يشجعهاعلى مواصلة الدراسة والنجاح ونيل شهادة البكالوريا، أما والدتها فكانت تريدها ناجحة في أي مجال دراسي أو رياضي المهم عندها أن ابنتها إيمان تكون ناجحة في حياتها ولكن والدها بقي ممتعضا من غيابها بالمدينة للتدريب ومن عودتها متأخرة إلى المنزل ليلا، فأهل القرية محافظين جدا والألسنة الطويلة لا ترحم . بعد أن كانت قد تسلمت النقود من مدربها تغيبت مرة أخرى وأمام إصرار مدربها على عودتها التقاها وأعطاها بدلة رياضية وأصر أن تبدأ التدريب معه وتنبأ لها أن تكون يوما بطلة أوليمبية، لم تفهم إيمان ما المقصود من بطلة أوليمبية، ولما كان من الصعب أن تستمر إيمان في التدريب بالقاعة البعيدة التي تنتقل إليها سيراعادت إلى بيع خبز الدار على الطريق لتوفر المال اللازم لتذكرة الحافلة والتكفل بمصاريفها، والدها لا يعمل عملا منتظما ودخله غير ثابت، وكانت تعاني الحرمان الكبير، يعلم أهل قريتها أنها تمارس أعمالا ليست مناسبة لعمرها، كانت محاربة قوية يثني عليها الجميع إذ ما تحملته يفوق بكثير ما يتحمله الرجال، كانت الأنثى التي يضرب بها المثل في التحدي والإصرار. تركت إيمان مقاعد الدراسة مضطرة لإعالة أسرتها ووجدت فرصة لتتفرغ للرياضة وقتا أطول، وبعد مرور بضعة أشهر من التدريب خاضت أول تجربة وكانت متأكدة من نجاحها، كانت ابتسامتها تجعل من الخريف ربيعا، ومن الليل المظلم صباحا فهي تعلم أنها ليست الوحيدة التي لسعتها الأيام وعسى أن تكون ابتسامتها دواء لكل داء، فهي تحيا دون أن تلحق الضرر بأي إنسان أوتتسبب يوما في أذى أو ألم لأي كائن بأي كلمة أو فعل أو بسوء الظن، تدري جيدا قيمة أن تخدم من هم بحاجة لها، ملتزمة بالهدوء والتعقل الذي لا يعكر سكينتها ، كما تجيد احتواء مشاعرها التعيسة وابتلاع أحزانها واستبدالها بالمشاعر السعيدة .

في غمار تدريباتها أخبرها المدرب أنها تم ترشيحها لخوض منافسات البطولة الوطنية للملاكمة صنف أواسط  ستنظم في مدينة أخرى، كانت أول مرة تسافر إلى خارج مدينتها بدون أسرتها، كان ذلك لقاؤها الأول مع إحدى المشاركات خاضت من قبل بطولة العالم، الجميع كانوا يشكون في أنها يمكن أن تربح المنازلة، وكانت المفاجأة عندما تغلبت إيمان على منافستها بفارق في النقاط كبير، ومن حينها أدركت إيمان أنها على أبواب الطريق لتصنع مجدا لنفسها بعدما أصبحت بطلة وطنية بجدارة، ولكن الظروف تعاندها مرة أخرى فنجاحها العفوي الذي تم بفضل موهبتها الشخصية لم يشفع لها كي تتجنب ظروفا ترتبت منذ ولادتها في عائلة فقيرة ونشأت في محيط مغلق على نفسه، لم تستسلم لمصيرها ولم تخضع للألم والفشل، كما لم تضيع الكثير من الوقت الثمين ولم تفقد ثقتها بنفسها لأنها بدأت تعي أن بضع سنوات قليلة من العمل الدؤوب والسعي المستمر كفيل بتغيير كلمة الحظوظ، إنها تؤمن كل الإيمان بأن كل من يعمل بجد وثبات ولا يجعل للتشاؤم سبيلا إلى نفسه سينجح، إرادتها تولد في نفسها مزيدا من دفق الثقة التي لا تعني بالضرورة عندها الاعتقاد بامتلاك الموهبة غير الموجودة أصلا، بل تؤمن بأن يتقبل المرء حالته الحاضرة كما هي ويحاول تحسينها ورفع مستواها، وما من شك إنه سينجح إذا وضع هدف تحقيق النجاح نصب عينيه وعلى ذلك كان نجاحها الأول كبطلة وطنية صغيرة رغم جهلها لأمور كثيرة في الحياة . أخيرا بدا لها طيف النجاح الذي حفزها على الاستمرار فضاعفت التدريبات خلال ساعات الليل، ورحبت بها عمتها ببيتها القريب من قاعة الملاكمة وصار زوج عمتها سندها في المدينة البعيدة عن قريتها النائية، قررت إيمان الاستقرار عندها ومواصلة دراستها بالثانوية، عاشت مكتفية بالمبلغ الذي تتقاضاه بما جنته بعد فوزها بالبطولة الوطنية وقسمته بين لوازم دراستها وتدريبها الرياضي، كانت هذه الظروف مرحلة انتقالية بعدما صار لها راتب شهري إذ تمكنت من تقليص فارق المستوى الاجتماعي بينها وبين زميلاتها، ثم انطلقت بكل جد واجتهاد في رحلة حياتها تستمد لحظات الفرح الجميلة لتدفعها إلى الأمام مودعة واقع ماضيها المرير وذكرياتها الحزينة التي ظلت هاجسا يؤرقها بالليل ويزعجها بالنهار، تلك الذكريات المتقلبة كانت تشعرها دوما بعدم الاطمئنان عاشت الأجواء التعيسة والأنواء والشقاء، فتعلمت منذ صغر سنها ومن تجاربها في الحياة أن لا الفرح يبقى ولا الحزن يدوم وما عليها إلاّ اتخاذ قراراتها بنفسها دون أن يؤدي بها إلى الندم، تستمد حكمتها في التصرف من ذكرياتها الحزينة حتى وإن لم ترجح كفة الذكريات السعيدة موقنة أن الجمال والأمل والغنى والصحة كلها مسائل نسبية تتفاوت فيها الأحكام من حال إلى حال، وقد يبلغ بها الحال إلى الضحك حد البكاء أو البكاء حد الضحك.

توالت بطولات إيمان بأدائها المميز والقوي داخل الوطن، تسع بطولات متتالية جعلتها تنتقل إلى التحضير للبطولة الإفريقية، تمكنت من نيل الميدالية الذهبية، ظلت في تطور مستمر معتمدة على نفسها حتى نظمت لها الدولة الدورات التدريبية خارج الوطن التي مثلت لها قفزة عملاقة نقلتها من قريتها الصغيرة إلى أسفار عبر دول العالم الذي بدا لها أوسع مما كانت تتخيله. كانت أحلامها من قبل مرهونة بعدد الخبز الذي تبيعه، والآن تشعر أن الحياة تبتسم لها بكل الألوان التي تمنتها واشتهتها لتلوين قلبها الحزين، فالبقاء على ساحة الحلم روعة وجمال، وحسها النقي و إصرارها على النجاح هو حلاوة الروح وبراءة البياض عندما تسافر بحلمها إلى أقاصي النجوم المتوهجة بالحنين والشوق في كل مرة إلى ارتفاع راية وطنها خفاقة في الأعالي مكتملة بكل عناصر الحب والوفاء للأرض التي ولدت بها إنه وطنها الجزائر، لونها ومزاجها وطقوسها على أرضه هو الشعور الدافئ الذي يراودها وهي تتأمل الوان الراية التي تعلو بالشعور المتجدد كالمطر والضوء والعطر، إنه يحفزها ويذلل أمامها الصعاب، ويخفف المواجع ويلوّن مساحات الهيام ومعه تنتشي الخلايا، إنه وطنها الجزائر الذي هو الشيء الوحيد الثابت فيها فهو حاجتها وجنونها،تحتضنه بوجهها المطل كنهار رائع فتشتعل عندها لحظة الحماس المنسجمة التي تعبر بها بكل التعابير وهي فوق حلبة الملاكمة فهناك تبرز فصول ونقاط الحصاد .

بعد سلسلة انجازاتها المبهرة والمتواصلة  تأهلت إيمان إلى الألعاب الأوليمبية بطوكيو، كان حلما لم تتصور يوما أنها ستبلغه، لكن إيمانها بقدرتها الفنية وثقتها الكبيرة في امكانياتها البدنية جعلها تحققه، لكن المفارقة أن الحلم تحقق في فترة عانى فيها العالم كله من وباء كوفيد 19 الذي فرض قيودا على التحضيرات وحصرها في أماكن معينة، وكان السفر خارج الوطن مقننا وهذا ما جعلها تحتل الرتبة الخامسة في البطولة لم يفشلها هذا الظرف الطارئ والحساس بل زادها خبرة ورفع معنوياتها أكثر حيث ازدادت الرغبة فيها للتأهل ثانية والمشاركة في الألعاب الأوليمبية بعدما لمست الحماسة واروح التنافسية  عند كل رياضي ورياضية، قررت أن تعمل أكثر لضمان  التأهل للألعاب الأوليمبية بباريس 2024 ممثلة للجزائر في رياضة الملاكمة،. ويحل اليوم الموعود وتلتقي فوق الحلبة بمنافسة الأولى أنجيلا كريني الإيطالية التي انسحبت باكية بعد 46 ثانية إثر تلقيها لكمة قوية، حسمت إيمان النزال ولكنها لم تحسم الجدل المثار حولها أخذت ترقب منافستها وهي تبكي مرددة ما سمعته من إشاعات مغرضة فقط لتبرر هزيمتها وما زاد الأمر سوءا دخول رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني على الخط في حملة التشكيك في الملاكمة إيمان. كان حدثا غير مألوف في الدورات للرياضية العالمية، ادعاءات سخيفة وأكاذيب غير مؤسسة جاءت في إطار حملة تنمر شعواء انضم إليها المرشح للرئاسة الأمريكية دونالد ترامب خلال كلمته في تجمع شعبي لحملته الانتخابية، وكاتبة سلسلة هاري بوتر جوان كاثلين روينج لتحطيم الملاكمة إيمان، ولكن كانت وقفة الشعب الجزائري والعربي خير سند لها وقد اتضح أن ما تعرضت له يدخل في خانة الحسابات السياسية أرادت بعض الأطراف الدولية إدماجها بالرياضة لإفراغ شحنة حقدهم بعد إخفاقاتهم السابقة في العديد من القضايا الدولية، عرفت إيمان أنها الحرب عليها وأنها حرب شرسة فزادها ذلك قوة وإيمانا لأن الحرب الإعلامية كانت أيضا ضد بلدها وما منحتها الشجاعة هي تلك الوقفة التضامنية من أهلها وشعبها وهبة وطنها على كل المستويات إلى جانبها في كل المحافل العالمية، أيقنت يومها أنها ليست وحدها وأن القضية أكبر من ذاتها، شاهدت دفاع والدها بالأوراق الثبوتية عارضا شهادة ميلادها مولودته الأنثى، وفرحة أمها بها هدية الله تعالى لها غفت في أحضانها كعصفورة آمنة، كالورد والريحان يعبق منها رحيق الأنوثة في عينيها تزهر كل الألوان، تسطع عيناها كقنديل على أبواب الشقاء لتخفف تعبها، لقد أسعدت أيامها، كان يوم ميلادها سراجا أضاء فوانيس العمر المظلمة، ابتهجت إيمان بسماع كلمات والدها،وانتشت روحها بتشجيع رئيس دولتها عبد المجيد تبون، وبكل من أحبها داخل الوطن، كفكفت دموعها وألقت أحزانها وراء ظهرها غير مبالية، إنها تمثل اليوم الوطن والعلم هي مثل الصبر الجميل في الاحتواء الهادئ والاستيعاب الواعي للأحداث من خلال ما سجلته الصورة وعكسته المواقف . واصلت تحديها في مقابلتها الثانية أمام الملاكمة المجرية لوكاهاموري  بكل عزم وإيمان بالفوز، تغاضت عن إساءتها لها عندما صورتها كالوحش على صفحتها الرسمية فكانت النهاية هزيمة مذلة على الحلبة وليس في مواقع التواصل الاجتماعي، كانت إيمان ترد بالفعل على كل من حاول أن يحتقرها ويتنمر عليها وليس بالبذاءات والكلام المسيء، لقد بالغت مختلف وسائل الإعلام الغربية والصحافة العالمية والأوساط الحقوقية والدبلوماسية الغربية في الإساءة إليها والنيل المشين السافر من كرامتها، لامست المواقف حدود العنصرية القميئة، وتداولت أروقة منظمة الأمم المتحدة طبيعة الاتهامات المتبادلة بعد أن اتهم نائب مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة بوليانسكي الجزائر بإشراك رجل بمنافسة الملاكمة في أوليمبياد باريس 2024مع النساء !! كان الرد الجزائري على لسان الدبلوماسي توفيق كودري الذي عبر بشدة عن رفضه لهذه التصريحات مشددا على أن الملاكمة إيمان خليف ولدت وعاشت أنثى، إنها رياضية وبطلة مارست الرياضة بكل المقاييس وأنه لا يوجد أدني شك من ذلك، إلا من له أجندة سياسية مجهولة المقاصد، وعليه تم إحالة الأمر إلى اللجنة الأوليمبية الدولية التي أعلنت بكل وضوح شهادتها التي اسكتت كل مشكك، نظرت إيمان بكل شجاعة إلى كل من حولها متسائلة في عجب  إن كانت هي الآتية من قرية صغيرة نائية   من قلبت العالم كله رأسا على عقب، هل هي بائعة الخبز على الطريق من تقف أمريكا وروسيا وأوروبا في وجهها.

جلست خلال لحظات الراحة منزوية في مكان بعيد عن أعين الصحفيين والرياضيين تتفحص متعجبة عبر هاتفها أخبارها التي ملأت العالم وكأن كل أخبار العالم توقفت وكل القضايا الدولية انتهت والحروب هدأت ولم يبق فوق الكرة الأرضية إلا قضيتها، أغلقت هاتفها وأخدت ترقب من حولها وتتبع خلسة حركاتهم وسكناتهم وتعابيرهم المريبة، صادفها مدربها المخلص وبادرها ناصحا أن لا تبحث في السلبيات حولها،   الناس تبحث في اللاشئ، إن بحثهم مرضي، عنصري، تشكيكي، تراهم يتحدثون عن النجاح والإبداع  والمناخ الرائع الذي يعيشونه، وبعد ذلك تنبري أقلامهم السوداء على بياض الأوراق الجميلة تنثر السموم لتلطخ جمال البياض، علينا أن نجدد بكل إيجابية الأمل وأن نتحكم بكل هدوء في الانفعالات، استجمعت إيمان إرادة التحدي في نفسها واستعادت العزم لتملك السيطرة على مجرى حياتها، في كل مقابلة على حلبة الملاكمة يتلاقى الخصمان وكل منهما يبلغ الآخر بالضربات واللكمات ما أراد قوله، ماضيه وحاضره وربما مستقبله دون تردد أو التفت لتفاهاتهم، لديها نهجها كعربية ومسلمة ولها واقع تعيشه، فقط عندما تنظر لكل من أحبها من كل أنحاء العالم وإلى من ألّف الأشعار من أجلها وأطرب بالأغاني مسامعها، وإلى كل من تتبعها مهتما بأخبارها، عليها أن تتهيأ جيدا فلاتزال هناك منازلات أخري تنتظرها على الحلبة، وهناك يكون الانتقام. أجرت إيمان مقابلتها الثالثة مع الملاكمة التايلاندية وفازت فوزا عظيما، ومنها تأهلت للمباراة النهائية. كان كلما اقترب موعد المنازلة زادت حدة حملة التنمر ضدها، فما زادها ذلك إلا عزيمة وإصرارا أكبر، لقد أصبحت على بعد خطوة واحدة من تحقيق هدفها،وتعلم أنهم يحاولون النيل من معنوياتها بتشويه صورتها والحقائق بكل الطرق المشبوهة حتى تلك التي تنال من شرفها وتسيء إلى كرامتها بغرض تحطيمها، أدركت وفهمت أنها لعبة سياسيين بدول توصف بالعظمى يتلونون ويغيرون جلدهم كالثعابين وقتما شاؤوا وكيفما أرادوا، قوة خفية تحرك الحماسة في نفسها وتجدد إرادة التحدي في قلبها، ودمائها الحارة المتدفقة تأبى عليها أن تكون فريسة، لن ينفعهم ما خططوا له، لن يمنعوها من الوصول إلى هدفها، إنها من أمة راضية بما قسمه الله تعالى لها، تؤمن بأن أخلاقها تسطر درب حياتها حتى لو مشته حافية فوق الأشواك، أمة لا تفرط في مبادئها، عزمت أن يكون ردها الوحيد فوق الحلبة، وكان لها ما أرادت، انتصار مشرف على منافستها الصينية، حققت حلمها بالفوز بسموها على الصغائر وترفعها عن البذاءات، وبوعيها وحبها وولائها لوطنها الجزائر الحبيبة، إن ما قدته كان ردا لجميل بلدها الذي ألبسها ثوب العز وكساها بالكرامة وحباها بالعافية والخير والأمان، لقد صوبت بوصلة العطاء نحو الوطن والهوية والعرق الإنساني، أنشدت النشيد الوطني " قسما "وعيناها لا تفارقان علم بلادها يرتفع أمامها، لقد ردت الاعتبار لنفسها ولبلدها بالعمل، وبالإيمان والإرادة ..

***

قصة قصيرة

بقلم: صبحة بغورة

شعر وترجمة

 د. بهجت عباس

***

يا مَن قضيتَ العمر رهـنَ الخيالْ

أفــقْ! فـمــا دنــيــاكَ إلا ضــلالْ

وحَــرِّر العـقــل مِــن الاعـتـقـالْ

ولا تقــلْ للشيء هــــذا مُحـــالْ

*

فالنبع يجري صافياً في الجبالْ

ولــمْ تــزلْ تزحـف بين التـلالْ

فالروحُ إنْ لمْ تكُ ذاتَ اشتعالْ

أولى بـها أنْ تطلبَ الارتحـــالْ

*

وبعد أنْ سلكْتُ دربَ المـعــال

وصارت الأحـلامُ قـيـدَ المنــالْ

حمّلـتُ ما لـم يـكُ قطُّ فــي البالْ

عِـبْـئــاً ثقيـلاً فــي ليـالٍ طِــوالْ

***

English

Bahjat Abbas

O you, who spent your life a hostage to illusion.

Awake! Your world is nothing but deception.

Free the mind from the apprehension,

And don’t say for any thing: it is impossible.

*

The spring runs clear in the mountains

And you still crawl between the hills

If the soul is not vibrant,

It’s better for it to ask for departure.

*

After I took the path of prestige

And dreams became within reach.

I was loaded with what was never in mind.

Heavy burden during long nights.

***

Deutsch

Bahjat Abbas

O du, der dein Leben als Geisel der Illusion verbracht hast.

Wach! Deine Welt ist nichts als Täuschung

Befreie den Geist von der Besorgnis,

Und sage nicht für Etwas es ist unmöglich.

*

Die Quelle fließt klar in die Bergen

Und du kriechst immer noch zwischen den Hügeln.

Falls die Seele nicht lebhaft sein sollte,

ist es besser für sie, um die Abreise zu bitten.

*

Nachdem ich den Weg des Prestiges eingeschlagen habe,

Und Träume zum Greifen nah wurden,

War ich voll von Dingen, die nie in den Sinn waren.

Schwere Belastung in langen Nächten.

***

د. بهجت عباس

 

 

 

لــــم  تــكــوني  نـــزوةً عــابــرةً

تُــنعِشُ  الــرُّوحَ وتَــنْفُضُّ سَرِيعا

*

إنَّــمــا الــحُــبُّ الَّــذي يَــجْتاحُني

يَــأْسِرُ الــقَلْبَ ويَــحْتَلُّ الــضُّلُوعا

*

ثـــارَ كــالْــبُرْكانِ فــي أَوْرِدَتــي

فَــغَدَتْ  نــارًا وقــدْ كانَتْ صَقِيعا

*

أَنْــتِ  كــالْغَيْثِ على شَوْقي هَمى

حَــوَّلَ  الْــيابِسَ فــي حَقْلي رَبِيعا

*

شَــهْــرَزادي كــانَ لَــيْلي مُــظْلِمًا

فَــغَــدا لَــيْلي شُــمُوسًا وشُــمُوعا

*

أَيْــقَــظَ  الْــفَجْرُ شُــجُوني خِــلْسَةً

بَعْدَ داجِي اللَّيْلِ فَازْدادَتْ سُطُوعا

*

حــاذِري أَنْ تَجْهِلي شَوْقي وحُبِّي

كَــيْ تَــزِيدِيني الْــتِياعًا وَولُــوعا

*

إنَّــنــي  الْــمَــارِدُ  فـــي قُــمْــقُمِه

وإِذا ثـــارَ فَــلَــنْ يَــبْــقى قَــنُوعا

*

لا  تَــلُــومِيني إذا شَــوْقــي طَــغا

لَــسْتُ قِــدِّيسًا ولا كُــنْتُ يَــسُوعا

*

أو كَــمــا الــطُّوفانُ فــي ثَــوْرَتِه

يَــغْمُرُ الأَرْضَ ويَجْتاحُ الزُّرُوعا

*

إنَّـــكِ  الْــحُــبُّ  الَّـــذي أَنْــشُــدُه

وأَنا  في الْحُبِّ لا أَرْضَى رُجُوعا

*

لَــحْــظُكِ الْــفَــتَّانُ أَفْــنى قُــدْرَتي

سَــدَّدَ الــسَّهْمَ فَــأَرْداني صَــرِيعا

*

كُــنْتُ  كــالْفِرْعَوْنِ فــي عِصْيانِه

مِنْ هَوَى عَيْنَيْكِ قَدْ صِرْتُ مُطِيعا

*

فَــأَحِــبِّــيــني  كَــثِــيــرًا إنَّــــنــي

في  غِيابِ الْحُبِّ قَدْ عانَيْتُ جُوعا

*

رَغْــمَ  أَنَّ الــشَّيْبَ يَــغْزُو مَفْرِقي

إنَّــني في الْعِشْقِ ما زِلْتُ رَضِيعا

* *

عــبــد الــناصر عليوي الــعــبيدي

شاعِرٌ حاولَ يوماً أنْ يَعُومْ

في بِحارٍ مِنْ غُيُومْ

قالَ لا أحتاجُ أنْ آخذَ مِصْباحاً معي

أو بوصَلَةْ

لَمْ يُكُنْ يعرفُ أنّ القافِلَةْ

غادَرَتْهُ

قبلَ أنْ يَبْلُغَ غَيْمَةْ

لَمْ يُكُنْ يعرفُ أهواءَ الغيومْ

عندما تَحْجُبُ عَنْ عينيهِ

إشعاعَ النُّجُومْ

لَمْ يَكُنْ يغويهُ يوماً

غير أنْ يُبْحرَ دوماً

يَتَمَنّى

أنْ يدومْ

حُلْمُهُ

بدّدتْ ريحُ الهُمُومْ

غيمهُ

فمتى سوفَ يعومْ؟

-2-

ذاتَ صُبحٍ

وَهْوَ يَصْحُو بعيونٍ مُقْفَلَةْ

أشْرَقَتْ في مُقْلَتَيْهِ القافِلةْ

لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ أنْ يَتكَهّنْ

ما الذي سوفَ يراهْ

راحَ يمشي مثلَ أعمى

في دُرُوبٍ قاحلةْ

غمرتْهُ الأسئلةْ

وهَوَتْ فوقَ خطاهْ

أَنْجُمٌ مُشْتَعِلَةْ

***

شعر: خالد الحلّي

عارياً يركضُ

تحتَ شمسِ اللهِ

واللهبِ العظيمْ

هارباً يلهثُ

من شرارِ الصيفِ

ومن حرِّ الجحيمْ

لا شيءَ يحميهِ

لا ظلَّ يأويهِ

ولا هواءَ يمسُّهُ

ولا كهرباءَ ترحمُهُ

فمضى يركضُ

مقهوراً ومجنوناً

في عراءِ الأرضِ

والكونِ الحريقِ

علَّهُ يلقى خلاصاً

في الفراغِ

في السماءِ

في فراديسِ النعيمْ

**

هكذا حالُ العراقيِّ الفقيرْ

يعيشُ بالنيّاتِ والبركاتِ

و" كما خلَقْتَني ربي "

وعلى الرزقِ الصغيرْ

راضٍ بلقمتِهِ

حتى وإنْ كانت حصىً

شروى ترابٍ

أَو نَقيرٍ أَو شَعيرْ

ياآآآهْ يازمنَ النذالةِ

والسفالةِ والتفاهةِ

والقرودِ والحميرْ

**

هكذا صارَالعراقيُّ الكريمْ

من بعدِ (عاراتِ الرئيسِ)

والخسيسِ والزنيمْ

إِذْ كانَ يوصِمُ

كلَّ عراقيٍّ طيِّبٍ

وعارفٍ وعظيمْ

بأَنَّهُ " كانَ حافياً

ونحنُ أعطيناهُ

النعالَ والكساءَ

و نحنُ أَهديناهُ

إلى الصراطِ المستقيمْ "

**

وهكذااااا أَصبحَ

ابنُ الرافدينْ

في زمانِ القادمينْ

على دبابةٍ أمريكيةْ

وفي شاحنةٍ  إيرانيةْ

وعلى متونِ طائراتٍ

صهيو- أَطلسية " "

مُكتظةٍ بالسمِّ والعفنْ

وهكذا أُستبيحتِ البلادْ

وهكذا قَدْ خَرَّبوا الوطنْ

**

يا لهذا العراقيِّ الـحزينْ

كمْ هوَ مظلومٌ

وكمْ هوَ منهوبٌ

وكمْ هوَ عارٍ

وكمْ هوَ فقيرٌ

الى أَبدِ الآبدينْ

***

سعد جاسم

2024 -8 -3

 

لا يهمني ان اتجهت شرقا أو غربا

مع امرأة لعوب تطارد شغفها

بمشاعر مسروقة ومستباحة

ليس لدي شكوى ضد قافية

تهمس بها ما تشاء من تبريرات

ومن رسائل غبية

تتوسل الأغصان ان تشفع لك

عند سيقان سنابلها

مثل بائع أحلام

خسر للتو في آخر معاركه

يتوسل أرقه والنجوم التي ترافقه

يتوسل آهاته والوسادة المبتلة بدموعه

يبكي ايام شقائه

وتعوده الضائع لامرأة

كان يمنيها ... ان غدا يوم آخر

لن أسميها حبيبته فهو لا يعرف

معنى الحب ولا الحب يعرفه

لكنها تعرف لعبة أكاذيبه

ولعبة  رذاذات خيانته

وجروح قلبها تنزف بآهاته

ما بيننا غدت مسافات بعيدة

لم تعد أنت أنت

عافك حنين الناي يا شاعري

فمواسم السحب لا تحمل

حتى قطرات الندى

لا تخبئ راسك خلف شكوى ضالة

وكيف يختبئ جسد نعامة

الآن أيقنت ان الحب كذبة

ابتدعها الشعراء

لتزويق قصائدهم

***

سنية عبد عون رشو

وكآخر الموجات

التي تحرك البحر

في ذاكرة العشاق

تطل على رمال العمر

على الظمأ المكتنز بالأشواق

وكآخر المحطات

التي استغرقت عمراً

في مراعاة فروق الحضور

وهي تشرب عرق الطريق

ومن قلبي ذي الأبواب السبعة

من ضحكة الروح

المتكئة على الجسر

تناجي سمرة المساء

تخرج عليّ

بكلك يا شغف الماضي

حين ينازع ليكون اليوم

يا تفاصيلي الهاربة

من دفتر مذكرات

مراهقة بضفائر من ليل

يا شجن الطين

حين ذبول الزهرات

وبلوغ الرعشة

حين تحط

فراشة على خد النور

يا أسمر

مازلت أنا

مازلت هنا

تأسرني الألوان

وتخاطبني العتمة

بحروف مسحورة

مازلت أنمنم وجهك

أرسمه على أجنحة النحلات

وأغني

فيرقص حقل النرجس

مازلت أبادر

بمصافحة الواقع

بخيال باهر

مازالت أجاهر بالحب ...

***

أريج محمد

6/8/2024

 

رواية جيب

كانت أمنيتي الوحيدة هي أن ألتقي السيد محمود المنقذ..

هكذا يسمّونه

أو

ربما هو الذي سمّى نفسه

لا فرق عندي

لكني

رسمت ملامحه في ذهني قبل أن ألتقيه، وأراه بعينيّ، وتيقنت من أنه ليس وهما. ليس أسطورة.. يمكنه أن ينقذني كما أنقذ الكثيرين قبلي، تخيلته رجلا في الثلاثين من عمره ذا شنب غليظ يبدو أكبر من عمره بعشر سنوات، هل يسبق الزمن ياترى على وفق رؤيتي أم أنه يرضخ للسنين؟

كلّ مامر قد يكون صفات عرضية لشخص واقعي، والأهم مما قيل أن السيد المنقذ لا يخفق أبدا في أيّة عمليّة يتبناها.

هذا رأي غالبية الناس فيه..

أيضاً

وضعت في بالي أنه يستلم أجورا على مايقدمه من خدمة لطالبي الخلاص والهاربين من عذاب يطاردهم. أحياناً

بغض النظر عن مبلغ يقدم إليه ناقصا، وفي بعض الحالات يتساهل مع المعوز فيطلب منه أن يرد إليه بقية النقص حين تتحسن الحال، وتبلغ به الطيبة إلى الحدّ الذي يغض النظر عن بعض النقص فلا يسأل عنه، والرابط الوحيد بينه وبيننا نحن طالبي النجاة هو كلمة شرف!

لايهمّه إن كنت مذنبا أم بريئا..

بل الذي يعنيه أن يساعدك على الهرب.

من حقّك الهرب والعيش في أيّ مكان تراه يحفظ حياتك!

يتهامس ذوو الحاجة إلى الخلاص باسمه

وإن شكّ بعضهم أن السلطة نفسها تعرفه وتغضّ النظر!

بخصوصصيّة أدق تجد فيه يخلّصها من أعدائها..

أمّا أنا فلم يكن المال ليعوزني.. كنت على استعداد لأن أدفع له أي مبلغ يحدده مقابل أن ينقذ حياتي.

كنت أشك في وجوده حقا غير أني آمنت به بعد الأحداث الأخيرة التي هزت البلد كلّه..

وفي أسوأ الحالات:

قد يكون وهماً لكن عليّ أن أختلقه لعلّه يجعلني أهرب إلى البعيد حيث لا عين تلاحقني ولا سيف يَسلّط على رقبتي.

ولم يكن أمامي مجال آخر..

هكذا تصوّرت:

ربّما الأوهام تنقذنا

أو تدمّرنا

مثل الوهم الجديد الذي تخيّله غيري وراح يلاحقني ولا حيلة لي فيه.

كم حاولت قدر الإمكان أن أبتعد عن المشاكل ولا أنحاز لطرف ما ولا أنفعل بما يدور حولي فلعلّ انفعالي يُرضي طرفا ويسخط آخرين مع ذلك التقطتني الأحداث المتضاربة مع من القطتْ ممن انساقوا بإرادتهم..

لا أبرؤ أحداً غير نفسي

لأنني متأكد من أني لم أقترف إثماً

قد يجد أيّ منّا نفسه في دوّامة.. ظننت أني حالة تختلف عن الآخرين سوى أن الوضع الجديد الذي فاجأني لم يجعل لي حرّيّة الاختيار.. هناك حلّ واحد أمامي فقط هو الهرب..

الهرب وحده

 وقتها -قبل أيّ موقف سلبيّ يتّخذه عنّي-ضمَّتني جلسة مع أبي وأمي وأخويّ:أختي وأخي.. رحنا نتابع ننصت إلى المذياع.. نتابع بشغف أغنية شائعة لمطربة محبوبة تتأوه من الغدر والهجر.. الأغنية توقفت عند المنتصف أعقبها تلاحق مارشات عسكرية..

نشيد وطني شائع الصيت

قال أبي: هل هناك انقلاب

وانبرت أختي تقول:

ربما يكون يوم غد عطلة !

 وإذا بالخبر يهطل فجأة فوق رأسي بصيغة لم تخطر على بال.

آخر شئ أتوقعه:

مذيع الأخبار يعلن عن حركة مشبوهة جديدة:

إحباط محاولة

تحدٍّ جديد للسلطة..

زمرة حاقدة..

خفافيش تتحرّك في الظلام..

مصطلحات قديمة ظنّها الناس انتهتْ.. ماتت وَقُبِرَتْ فظهرتْ من جديد، مثل بروز أيّ فطرٍ سامٍ لاتتوقعه..

راح المذيع يعلن عن أسماء المشبوهين..

إستغراب، وأذناي تنتصبان لتبتلعا الصوت الحماسيّ ذا النبرة العالية الحادّة.

جوارحي..

عيناي..

إحساسي

أعرف بعض الأسماء التي وردت في قائمة الإدانة.. عشرة ومازال المذيع يقرأ.. لا أنكر أن صداقة حميمية ربطتني ببضعة منهم، أما الآخرون فبيني وبينهم سلام طريق أو لم يخطروا ببالي.. لا أعرفهم.. ولم أسمع بهم.. لا أنكر أننا جلسنا وناقشنا مواضيع متشعّبة.. تحدثنا، استحسنا واستهجنا. أسفت لأصدقائي الذين استبعدت الشكّ فيهم.. غير خافٍ عن حدسي أنّ هناك فترة هدوء خانق خيمت خلال الأيام الماضية أحسست بها وأحسّها غيري الى حد الاختناق إذ يمكن أن نتذكر أيّ حدث سوى اننا ننسى ان الهدوء التام اذا خيم طويلا فإن صخبا ضاريا ينقض فجأة عليه.

كنت أتوجّس من الهدوء القاسي وأنتبه أحيانا إلى حياة الناس العادية، أراهم يأكلون ويلبسون، ينامون، فأردد مع نفسي هل تحتوينا الحياة بوجه واحد.

صبغة واحدة!

ثمّ

أنسى

أتجاهل عمداً ما تأتي به الأيام القادمة بعد الحياة الرتيبة التي نعيشها

وفجأة

كما لو كانت نغمة نشاز تتهادى إلى أذني..

نغمة حاقدة..

نغمة ذات رائحة كريهة مقرفة..

أصبحت من حيث لا أدري أنا الهدف..

بين مصدّق ومكذّب

الخبر يبهرني

كنت في ترتيب متأخر

أخي الأصغر يعد على أصابعه.. يذكر أنّ الرقم 19 سبق اسمي..

أنا العشرون

محمد العابد

لا أظنّ هناك شخصا غيري

لست في ذيل القائمة ولا في أوّلها ولعلّ اسمي أقرب إلى النهاية.

محمد العابد بعض الأحيان يرد خطأ عن غير عمد المذيع يقرأ الياء باء لم لا يكون العايد بدلا من العابد.

هل أخطأت الآنسة الكاتبة وهي تنقر على لوحة البورد أم أخرج إلى الشارع فأنادي أنّ العاصفة التي انبثقت من رحم السكون القاسي الرتيب أخطأت هذفها وإني برئ؟

أعرف نفسي جيدا

أحاول أن أقف في المنتصف لئلا أُحْسَب على أيّ طرف.

بغضّ النظر عن منزلتي..

أيّة وظيفة أشغل

ربّما أكون موظفا عاديّاً

عاملا في معمل

أو أبيع الخبز

في معمل سجائر

تاجر كبير

منظّف.. حمال.. ساعي بريد..

معلّم مدرسة

موظف كبير في دائرة

أشتغلت في عدة مهن.. ومارست حرفا كثيرة ولم أستقرّ على أيّة منها..

لأكن في أيّة منزلة عليا أم سفلى

لعلني كلّ هؤلاء:

أو

أحدهم

ولو خًيّرت لاخترت وظيفة أخرى غير التي أشغلها. كنت أتمنّى أن أصبح غواصا أنفذ في أعماق الماء، أمنية أثارت السخرية بخاصة أفراد عائلتي الأقربين. أين نحن من البحر يامعتوه ونحن بلد قاري ليس لنا إلا منفذ من خليج صغير مخنوق على بحر الله الواسع..

إذن

 سأنسى كلّ ماقلت ، فما حدث غريب عنّي ولا يسوّغ لأحد اتهامي بفعل لم أقترفه.

المفاجأة نفسها جعلتني لا أنتبه إلى أسماء تلت اسمي ولا التفت الى ماقالته وسيلة الإعلام: غراب نوح المذياع..

أهلي أنفسهم تركوا الأسماء الأخرى التي وردت بعد اسمي.

أخي الأصغر ترك العدّ والتفت إليّ:

محمد العابد لكنهم لم يذكروا اسم الأب ولا الجدّ الجد .. لو ذكروا الاسم كاملا..

سألني أبي:

هل أنت متأكد من نفسك؟

وقالت أمّي:هل كنت تخفي عنّا. زهل فكّرت بنا؟

كيف أردّ الشبهة عنّي وخصمي ليس سهلا ولا يحبطني أيّ شئ بقدر اللوم والتقريع ؟ أنا على يقين أني لست معهم ولا أظنّهم انضمّوا إلى تنظيم سرّي لا أخالف أحدا الرأي وأقف محايدا.. ولا أستسيغ العصيان فهل أظنّه التباسا.. شخصا آخر.. شبهة جاءت في غير موضعها.. !أضاف أبي متشبّثا بأمل ضعيف:

مادمت تعرف نفسك وتنزِّهها عن التورّط فيما يشين فلعله شخص آخر غيرك حمل اسمك.

واندفعت أمي:

بلا شكّ شخص غيرك. فأنت طول عمرك تبتعد عن المشاكل.

وأكد أخي الأصغر بحماس:

هناك أكثر من شخص يحمل اسم محمّد العابد.

كيف أثبت أنّه غيري ، والأسماء التي سمعتها أعرفها وفيهم من أصدقائي، ولو ادعيت أنّي لست معهم فمن يسمعني في هذا الصخب والفوضى ؟!

وردت أختي بانكسار:

لا أستبعد أن تخرج غدا مظاهرات عارمة تطالب السلطة بقطف الرؤوس !

أكّدت أمّي :الناس دائما يحرّضون على الشرّ.

البيت في ضجة وقلق.

صدمة

ذهول

مرجل لنار هادئة يمكن أن تستعر في أيّة لحظة..

الوقت يداهمني

ومنذ تلك اللحظة بحثت عن السيد محمود المنقذ

التفت إلى الجميع وفي بالي ألا أرجع في كلامي:

من المحتمل أن يداهموا المنزل سأغادر من الباب الخلفيّ

ازداد قلق أبي فسأل:

وأين تظن نفسك تختفي.

هناك احتمالان منزل صهري الذي لا أرغب فيه وصديقي نجاح الخالص

تهلل وجه أخي المضطرب، ونسي أنّنا في محنة ، فلمزني:

لا تنس أن تسلمني على الآنسة بدرية!

لاح بعض ارتياح على وجه أمّي:

يمكن أن تختفي بضعة أيام عند زوج أختك في المزرعة الكبيرة حتى يبين الصحّ وينكشف المستور لكن بيت صديقك نجاح.

قاطعت بحماس اليائس:

أو أهرب إلى خارج البلد فلن أسلّم نفسي لأحاججهم ببراءتي.

هي الفكرة ذاتها التي راودتني.. الملجأ لبضعة أيّام.. بيت أختي قبل بيت صديقي نجاح إذ لا أريد أن أخطئ بحقّه. لا أقصد السياسة بل أمرا آخر.. أما زوج أختي فلا أخفي أنّي قبلت على مضض مصاهرته.. سمعت عن علاقته بالدولة واللمز حول ممتلكاته والطرق غير المشروعة التي نمت بها ثروته. رجل قانون تحتاجه الحكومة ويحتاجها.. كلاهما يتلاعب بالآخر..

أموال

مزارع..

مشاريع

قال أبي ومن منا سلم من كلام الناس.. وقالت أمي الأنبياء والأولياء أنفسهم لم يسلموا من الألسن، فكيف بنا نحن البشر العاديين.. فهل ينكرني صهري السيد ممدوح الراضي صاحب المنزلة الرفيعة والنفوذ الكبير.. لا أشكّ.. بعض الاحتمالات مثل الكوابيس، ومازلت أتماسك وأنا أترنّح من هول الصدمة.. ما عليّ إلا أن أغامر فأنا في نقطة الصفر الآن:

قال أبي مؤكّدا:

فكرة رائعة في المزرعة أكثر من مخبأ ولزوج أختك نفوذ يبعد الشبهة عنه، القانون بيده، فلا أحد يظنّ به الظنون.

وخرجت من الباب الخلفي لتأتي بعد هربي بساعة ، على وفق ماسمعت فيما بعد، مفرزة من شرطة يصحبهم كلب ففي الوقت الذي اقتحموا البيت وقلبوا مافيه ثم اسستجوبوا أهلي الذين ادّعوا أنهم لم يروني منذ أيام كان الكلب عند خزانتي يشتمّ ملابسي. …

2

هناك في المزرعة كان الوضع مختلفا لم أسكن في بيت أختي الفخم بل في الطرف الجنوبي حيث الغرفة التي يشرف من يسكن فيها على الدواجن. في أوّل لقاء. بدا ممدوح الراضي متجهما ربّما لم يشكّ في أنني آوي إليه منذ اللحظة التي سمع فيها اسمي، وقال بانفعال بارد إنه سيؤويني مراعاة منه لواقع اجتماعي أما ماقمت به فهو عمل دنيء.. كيف تسوّل لي نفسي أن أتفاعل مع تنظيم سِرّيٍّ يسعى إلى أن يقلب الوضع في البلد رأسا على عقب، بعدما شاع الهدوء الذي ننعم به وأحسّ به العدوّ والصديق.. راح يذكِّرني بما سلف ويلومني إذ لم أرغب في العمل معه والحق إنّه عرض علي أن أكون كبير العمال في مزارعه أو أن أدخل شريكا معه في أحد مشاريعه.. لم يحدّد أي مشروع سواء في الداخل أم خارج البلد، وشجعتني أختي ورغّبتني إلى درجة التقريع.. غير إنّي رفضتُ العمل معه لشكّي فيه.. مثلما رفضت زواج أختي منه.. ثمّ لم أكن لأرغب قطّ في أن أتخلى عن وظيفتي أو الوظائف التي أَلِفْتُ نفسي عليها.. استهوتني كل الحقول.. جميع الوظائف.. أثق بنفسي أنّي يمكن أن أفعل أيّ شئ.. أصلح لكلّ مهنة، في الوقت نفسه لا أخالف أحدا رأيه.. أقسمت لصهري أنّي لا أعرف أيّ شيء وقد فاجأني الأمر ليس أمامي سوى هذا الحلّ، فها انا أقف منكسراً أمام رجل عارضت في زواجه من أختي.. لقد توسّلت إليه ألا يتحلّى عنّي، وقلت شبه يائس لن أبقى طويلا بضعة أيام ثم اذهب الى صديق لأجدّ عنده في البحث عن محمود المنقذ..

كان صهري يعقّب بعد أن رقّ لتضرع أختي:

سأتجاهل ضميري وأخالف القانون!

فردّت عليه بابتسامة واسعة:أعرفك معدنك طيب!

قضيت أوّل ليلة لي في غرفة مراقبة الدواجن وكلّف صهري المراقب المناوب بمهمة أخرى. لم أسمع في الليل إلا خوار بقرة وبعض همهمة من الدجاج ثم السكون التام.. الحق راودني قلق وصداع فظيع.. حملت المصباح اليدوي وذهبت الى عنبر االدجاج المحصّنن.. شاهدت عن بعد خيال ثعلب يحوم عند السور وتهادى إلى سمعي صرير جندب بعيد.

وشئ أشبه بالهمهمة

ولعلّه السكون الذي تخيّلته همهمة بعيدة.

لاشئ في الخارج..

رغبة ما راودتني أن أخرج في الظلام

وتقدمت نحو أحد عنابر الدجاج..

ارتقيت الدرجات الثلاث، وفتحت الباب بحذر.. .. لم يكن هناك ظلام فقد فاجأني نور ساطع يتدلّى من حيث صفّ مصابيح ساطعة تنتشرمن اليمين حتى الشمال.. كان الدجاج ينهش الحبوب.. يظن بفضل الضوء النّهار لما يزل ساطعا فياكل وياكل..

ضوء مخادع في غير وقته

ودجاج نهم لا يشبع

ولا يعرف الليل!

نظيف حقا

رشيق

جميل

ولا يتوقف عن الأكل.

الفضول نفسه دفعني إلى أن أحمل المصباح وأخرج في الليلة التالية.. ليس هناك من ثعلب.. هناك تمثال صغير يتحرك قرب الحظيرة فرفعت المصباح إليه فوقع بصري على أرنب بريّ يقضم شيئا ما..

تجاهلته

وتوجهت إلى العنبر فوجدت الدجاج يلتهم الحبوب بنهم غير مألوف، ودفعني الفضول نفسه إلى أن أدخل الحظيرة الأخرى التي رأيت الأرنب عند نهايتها، كانت القاعة مظلمة .. كشفها المصباح. تململت بعض دجاجات تحت الضوء، ونقّت إحداها نقّة مكتومة، وأبصرت على القش عند مجرى على طول الحظيرة أكداس البيض.

دجاج ينام بهدوء

وآخر في مكان ثان صاح تحت الضوء يلتهم الحب!

فعدت وأغلقت الباب ورجعت إلى غرفتي وقد تلفّتّث مرات لعلني أبصر الأرنب البري الذي غاب.

ياترى كم ليلة أقضي هنا؟

في رأسي تجول فكرة ما.. صديقي جمال الصالح لا أظنه يرفضني

لعلني تحاشيته لأمر ما

رحت أقضي النهار بالتطلّع عبر النافذة الى الأفق الطويل العريض الذي يسابق عيني بصفاء وهدوء. مشهد غفلت عنه طويلا.. لم أتواصل معه من قبل إلا في سفرة عابرة أو جولة لا أخطط لها.. لا أنكر أنّ هناك قلقا شفافا يراودني بين حين وآخر:ماذا لو خانني صهري، هل أحلم بخراب بيت أختي تلك الرائعة الرقيقة هل تطلب الطلاق وتثور بوجه زوجها؟ إذن الافق اللامتناهي يأخذني على الرغم من الهاجس المتوحّش إلى نسمةٍ شفّافةٍ تحلّقُ فوق إسطبل البقر وبين قطعة من السحاب انحدرت تهرول مثل حصان رشيق، . قطيع الغنم عن يمين المزرعة، وكنت في الصباح الباكر فتحت النوافذ العليا لحظيرة الدواجن الكبيرة وأطفات نور المصابيح التي رأيتها متوهجة في الليل لتنطلق الدجاجات التي لا تنام داخل باحة ذات سياج.. قضيت الوقت الى منتصف النهار أنثر في الفتحات الحب.. ثم انتقلت الى عنبر الدجاج الاخر. .. كانت هناك كميات هائلة من البيض ولم اع الا على صوت اختي وهي تقول بنغمةٍجافّةٍ حزينة:

ستأتي عاملة تجمع البيض.. لانريد أحدا يصل إلى مكانك.

لقد أطفأت النور

قالت معاتبة:

لو كنت قبلت الشغل بدلا من السياسة الراضي صهرك.. يحبّني ويحترمني.. لم يزعجني أيّ يوم.. هل تظنه يجعلك عاملا.. هل يختار لك وظيفة قليلة الشأن لا تليق بك.. امسح الأفكار السوداء من رأسك يا أخي نحن لانريد لك إلّا الخير.

يشيع في أساريري بعض ارتياح على الرغم من عتاب عذب مغلّف بتأنيب قاسٍ فأقول

 حسنا أنك دافعت عن أخيك أمامه دفاع المستميت

 تكون محطئا إن تتخيلني أتخلى عنك!

لتنسي الماضي.. ومعارضتي لزواجك. نحن أبناء اليوم.. (ضحكت أحاول أن أغير الموضوع) دعيني أسألك هل تخرج الثعالب في الليل؟

 رأيتها ؟ولم خرجتَ في الظلام ؟

على الأقل أنا الحارس البديل هكذا ُيُخَيَلُ إليّ ولا أرغب أن أرى نفسي ضيفا غير مرغوب فيه

مطّت شفتها يائسة ، وواصلتُ:

نعم رأيت احدها قلت استطلع

الثعالب تجذبها رائحة الدجاج لكن الأبواب محكمة الاغلاق.

لا تقلقي لن أنسى الباب مفتوحا.

أكدت

 الثعلب جشع كل الحيوانات تكتفي بفريسة وحين تشبع تترك الأحياء الا الثعلب فإنه لا يكتفي بعد أن يشبع الا يقتل بقية الدجاج، ولو لم نجعل أرض العتابر من الإسمنت لكان يحفر نفقا إليها

قلت ضاحكا:

حقا إنها روح شريرة حين تصل إلى هذه الدرجة لكن اطمئِنّي لن أنسى الباب!

وغادرت العنبر لتتركني أقضي مع الأفق والدجاج يوما آخر.. مجال آخر امتدّ أمام بصري

سعة أخرى

امتداد كأنّه لا متناه

وكان صحوا سكن فيه الهواء وشاع الدفء، أمامي دجاج يخرج في الهواء يلتهم بنهم وخفة مايجده تحت مناقيره من دود الأرض وحبّ متناثر، وقد يتزاحم حول شئ ما يشبعه نقرا فأتبيّن أنّه فأر صغير ميت فازت به دجاجة ضخمة من الدجاح الذي لاينام فهربت به لتنفرد بعيدا عن السرب فتبتلعه كلّه دفعةً واحدة ، أو تطالعني بعض بقرات بأخرجتها عاملة من عنبر البقر إلاى الحقللحقل فتقضم على بطء شديد الحشائش ، وتتطلّع في الأفق البعيد بنظرات بليدة.. حرية ناعمة صامتة يهتك سرّها على فترات صياح ديكة، أو نواح طيور، ولعلني كنت أشعر بالضجر إذا طال اختبائي في هذا المكان.

وفي ضحى اليوم الثالث

جاءتني اختي بمريلتها البيضاء تهادت الي من طرف المزرعة الشمالي وبالطريق عرضا قطفت بعض حبات الباذنجان وبعض الخيار رأيتها على غير عادتها لا قلق مثلما بدا على وجهها ساعة فاجأتهم بحضوري كانت تشيع على وجهها علامات ارتياح:

ألق

خفة

رشاقة

راحت تدندن، وهي تتطلّع إليّ بابتسامة، واسعة

وبادرتني:

صهرك بعثني إليك.. لديه أخبار حسنة عنك هيا معي إلى المنزل..

ماذا أهي البراءة أم الوساطة:قلت بذهول:

آمل أن يكون كذلك

ودفعني فضول لأسألها

ماذا كنت تفعلين لو سلَّمني زوجك.

فردت بحدة ولما يزل الارتياح على وجهها:

أمر محال الراضي لايكسر الأعراف أما إذا فعلها فلن أقبل به0 وصرت على أسنانها) لماذا تقول ذلك؟

وحين وصلت نهض يستقبلني بطريقة مختلفة ، وقد وجدت له عذرا في أنه منع ولديه وبنته من أن يختلطوا بي فترة اختفائي في غرفة المراقبة لئلا يفلت لسان أحدهم، طلب من أختي بلطفٍ أن تخرج ، فانصاعت وغادرت على عجل:

يامحمّد هل تصدّق أنّك برئ!

قلت بثقة مشوبة بفرح خفي:

أعرف نفسي جيدا.. طوال عمري لا أعارض من أختلف معه في الرأي ، فكيف بالدولة ذات السلطة والجبروت، ولا أذكر موقفا ذكرت فيه الدولة بخير أو سوء، ولو لم أعرف نفسي غير ذي ذنب لما لجأت إليك.

فضحك ضحكة غريبة:

لاتستعجل أنت برئ ومتهم في الوقت نفسه

تغيرت ملامحي حدّ البلاهة:

هل هو لغز؟

فوضع رجلا على وقال بثقة عمياء:

فعلا لغز

فسّر لي كلامك أرجوك!

هل تثق بي.

بكلّ تأكيد وإلّا لما لجأت إليك.

كل مافي الأمر أنّ المتهم الأساس في قضيّة التنظيم السري هو السياسي المعروف محمّد العايد!

باستهجان:

وماعلاقتي أنا بموضوع التنظيم وتغيير نظام الحكم؟

خطأ ليس إِلّا ، ياعزيزي، الدولمة تخطئ مثلنا نحن البشر.. وتبقى التأويلات فإمّا أن تكون كاتبة الطابعة أخطأت بالاسم، أو أن الحكومة أخطأت باسمك، أو إِنَّهَاتعمدت الخطأ لأمر ما.. هناك سرّ.. (وكرّر واثقا) سرّ بالتأكيد.

إذن أنا على وفق أسوأ الاحتمالات ضحيّة خطأ طباعي في هذه الحالة على الدولة أن تعتذر لي عن الخطأ!

هل جننت؟(قالها أشبه باللائم)بصفتي صديق الدولة أحذِّرك:الحكومة لا تعترف أبدا بأيّ خطأ ترتكبه.. لأنها لو فعلت ذلك لافسحت المجال للفوضى وكثرة الاعتراضات وَلَنَبَشَ مواطنوها عليها الماضي أووه أيّة حكومة لا تسعى لإسقاط هيبتها.

لذت بالصمت كأنّ الذهول يجرني إلى نوم عميق لكنه راح يهزّ رأسه ويواصل:

أمّا أنا فأظن الحكومة تعمّدت التصحيف لتجعل العايد يظنّ نفسه بعيدا عن الشبهات الآن حتى يحين الوقت المناسب..

كأني لا أريد أن يتوقف عن الثرثرة:

أنا الآن في ورطة لم أتعمّدها الدولة تعرفني برئ ولا تعتذر فما ذا أفعل؟

أنا على استعداد لأعينك على الهرب.. أهرب هو الحلّ الوحيد سأسعى لأجعل المهرِّب المنقذ يلتقيك لكن ليس هنا في بيتي.. إختر أيّاً من أصدقائك الذين تثق بهم!

لامجال أمامي

ولا فرصة

وفي ذهني صديقي الأقرب (نجاح الخالص)

ولم يكن هناك من حلٍّ أمامي سوى أن أقتنع بالهرب فأقصد منزل صديقي (الخالص) فأقابل بدريّة من جديد!

3

لم أعد خائفا.. السلطة تطاردني ولاتطاردني..

ترغب في أن أغادر..

لكنهم لو عثروا بي لن تكون هناك رحمة ولن يعترفوا بحطأ ارتكبوه

ولم تغادر صورة بدرية ذهني طوال الطريق.. تلك هي نقطة الضعف التي جعلتني أبتعد عن صديقي الأكثر قربا لي (نجاح الخالص).

كنا نتزاور، نتحدّث ، نتشاور، طبعه هادئ مثلي، ولا يتدخّل في مواضيع حسّاسة ، في بعض أوقات الفراغ عملت معه في توزيع الصحف، وفي صباغة الجدران، مصروف جيب إضافي، دخلنا النادي الرياضي معا فاحترنا أيّةً نختار:الملاكمة ، المصارعة، رفع الأثقال، ولم يكن في بالنا أيّة رياضة، ثمّ وقع اختيارنا على كرة المنضدة.. بعد أيام مللنا.. كنت خلال زياراتي ألاحظ نظرات أخته الغريبة، صُدمت، وطردتُ من فكري سوء الظنّ، ألحت بنظراتها عليّ، ومنحتني أكثر من فرصة للحديث معها بإشارات لا غموض فيها، وضحكتْ ذات يوم في غياب أخيها وهي تناديني بكلمة :حجر..

ولاعتبارت أخلاقية قطعت زياراتي لبيت نجاح ثمّ سمعت أن أخته ارتبطت بعلاقة حبّ مع شاب في حارتهم.. شاب طائش سرعان ما خطبت له فزادت الشكوك فيها وعلاقتها ثمّ اتسعت الظنون واستعرت وكثر الكلام حين أشيع عن فسخ الخطوبة إلى درجة أنّ أمي نفسها التي تكن احتراما لعائلة صديقي قالت عن بدرية إنها عار وإنّها على الرّغم من جمالها فتاة مسترجلة وإني حسنا فعلت حين قللت من زيارتي لهم!

استقبلني نجاح باهتمام بالغ ، وقال هو يصحيني الى الصالة:

-ياصديقي الآن عرفت سر انقطاعك عن زيارتي لأنك لم ترغب في أن تلحقني شبهة من جراء ترددك على بيتنا !

وقد سكت.. هذا أفضل من ان يعرف أنّي تحاشيته بسبب أخته وقلت بارتياح مع شيء من القلق

-هل يمكن أن أقضي في بيتك يومين او بضعة ايام

- يومين بضعة أيام ممكن ولو كان الأمر بيدي لأبقيتككما تشاء لكنك تعرف ان أخويّ وزوجتيهمابرفق الاولاد يزوروننا على فترات، ولا نقدر أن نخفيك في إحدى الغرف طيلة بقائهم عندنا.

- آمل ألا يستغرق الوضع أكثر من يومين حتى أكون عند محمود المنقذ.

فهز رأسه بتفاؤل:

حسنا تفعل فالمنقذ صاحب عمليات لا تخيب.. يعرف التمويه ويستطيع أن يرسلك إلى الخارج ويبعث من في الخارج إلينا!

وجاءت بدرية تحمل صينية القهوة فانبهرت حين رأتني إذ حسبت أنّ زائرا غيري جاءهم.. نظرة التحدّي والجرأة نفسها.. الرغبة ذاتها.. لا تعرف الانكسار، فنهضت مرحبا بها وسألت نجاح:

- أين الخالة؟

قالت تسبق أخاها:

في بيت أخي الأكبر فزوجته على وشك الولادة

عندئذ تنفست الصعداء لاخوفا من وجود الخالة أمّ صديقي في البيت بل من زيارة الأبناء والأحفاد ، في هذه الأثناء رنّ جرس الهاتف فالتقط(نجاح) السمّاعة فأوحت نبرة صوته ببعض المفاجأة وتغيرت إلى هدوء مطلق، ولاح ارتياح على وجهه، بقي يكرر أهلا أهلا.. أنا سعيد جدا.. تحت أمرك.. هو بمثابة أخي، لا تقلق. اطمئن.. ولم تتوقف بدريّة عن نظراتها الغريبة المشوبة بعتاب وبعض الدلال ثمّ وضع (نجاح)سماعة الهاتف ونفث الهواء طويلا، واسترخى على المقعد قبالتي وهو يقول:

-من تظنّ اتّصل بي؟

-هل هو أحد الأصدقاء؟

-إطمئن ياصديقي إنّه ذو المقام الرفيع صهرك طلب مقابلتي الآن!

-بهذه السرعة شكرا له!

(والتفت إلى بدرية مؤكِّدا)ليكن كلّ شئ بالسر ولا يدخلن أحد البيت من الجيران أو المعارف.

-إنه لأمر محرج

أبدا ليس هناك من إحراج!

لكن ربما لاترتاح بدرية..

فقال بكلّ براءة:

البيت بيتك لاتقلق

وأكدت بدرية تخاطب أخاها : لا تلتفت إلى كلامه أختك بمائة رجل، ومحمّد بطل وخجول!.

كنت أواجه نظراتها كمتهم أمام قاض.. لو وجدت ملجأ آخر بعد بيت أختي غير هذا البيت.. لا أدري لم خانتنتني الجرأة.

حلوة

لطيفة..

طويلة..

ممتلئة..

في الوقت نفسه تفوح أحيانا الوقاحة من نظرتها الخاطفة.. والجرأة.. جرأة أقرب إلى التحدّي.. وبعض الأحيان تصبح نغمتها فظة.. كأنها تسترجل.. لا أدري كيف تجمع بين الخشونة والرقة:

-إذن هكذا انقطعت عن زيارتنا لأنك لاتريد أن يقع بيتنا في شبهة!

رمت أن أغيّر الموضوع:

-الحقيقة آسف لانقطاعي عنكم فجأة..

-طبعا السياسة أبعدتك!

-وآسف لما سمعته عن فسخ الخطبة!

فاقتربت منّي تسبقها نظراتها الغريبة:

طظ فيه.. اسأل نفسك لو تشجعت فطلبت يدي.. لكن آه منك ظننتك تخجل واذا هي السياسة الآن أنا معجبة بك جدا أنت بطل وليذهب كل الماضي الى الجحيم

هي هي.. قد تفاجئ صراحتها أيّ غريب.. صراحة تحدت بها إخوتها الثلاثة، عاندتهم.. صبرت على عنف الأكبر وسخرية الأوسط حتى تزوجا وغادرا البيت، وبسبب جرأتها قطعتُ علاقتي بأخيها أقرب الأصدقاء إليّ. كان من الممكن أن أبادلها النظرات والحب أقبّلها.. أضمّها سوى اني لم أرغب في أن أطعنك يانجاح:

- في مثل هذه الظروف؟ أنا مطارد

فاحتكّ كتفها بكتفي:

-بالعكس أنت لاتثير الشفقة بل في منتهى الروعة لذيذ.

شعرت بخوف وضعف:

مستقبلي مجهول

سأكون معك لاتتردد حتّى لو دخلت السجن.

تظنني بطلا، وقد نزل عليّ بلاء التهمة والتمرد ولا علم لي به، فوجدت نفسي أمام امرأة شرسة قويّة لاتؤمن بضعفي كونها سمعت بي شرسا مثلها ورأت الظروف تعيدني ثانية أمامها.. عدت بشكل آخر غير الصورة التي رسمتها لي في ذاكرتها.. .. وحدنا.. ، ومثلما اختارت خطيبها السابق المغامر العنيف، اختارتني بحسّها الشرس القوي:

-لا تسرحي بعيدا أرجوك.

-أنت لم تكن ضعيفا مثلما توقعتك.. بل تتظاهر لكي لا تكشف سرّ قوتك.. ممثل تجيد دورك..

قلت مستسلما:

كما ترين تقدرين أن تفعلي بي ماتشائين!

فاجأتني ، وكنت أتوقّع:

 أريد أن أكون لك!

ارتبكت، بعض الذهول.. وداريت اعتذاري:

-وماعلي أن أفعل وأنا أنتظر أن أخرج من البلد بوثائق مزوّرة..

فالتقطت يدي وهزت كتفي:

-اطلبني من أخي وسأخرج معك!

-إنك تبحثين عن فضيحة لعائلتك!

-لايهّمني!

تأمّلت قليلا..

في لحظات أيقنت أني لن أنجو منها ما لم أطاوعها ولو كذبا أضطرّ للكذب.. لا يهمّها أن تهدم..

تدمّر..

تنتقم..

فيها التناقض كلّه.. روح طفل.. وقسزة لبوة هائجة، قلت بابتسامة واسعة أستعيد بها توازني:أتصرّف على وفق ماترغب..

- ولم لا أهرب في البدء أرتّب أموري هناك حين أصبح في الخارج ثمّ أطلب يدك ، فتأتين إليّ من غير أيّة تبعات..

فضحكت بدلال وقالت:

إدفع لي مهرا الآن في هذه اللحظة.

-مهر؟أيّ مهر.

-قبلني هذا هو مهري وسأظل أنتظر دعوتك إليّ لآتي عندك في أيّ بلد نكون.

ارتبكت، وقد فهمت سر نظراتها الغريبة الجريئة التي دفعتني إلى أن أقلِّلَ زياراتي فأنقطع عنهم، فخرجت برهة عن ارتباكي وقلت:

متملصا أكبت رغبتي:

لو قبلتك وتجاهلتك بعد نجاتي، ولا تنسي أن الشعور بالأمان يدفعنا للنسيان، ويصرفنا عن أمور نحبّها ونعتزّ بها.

قالت محتدّة:

من مثلك لا يطعن في الظهر أنت لاتخون صديقك نجاح.

فتجرأت كما لو أنّي أعاتبها:

أظنني لست الأوّل إذا فعلتها.

فأطلقت ابتسامة شامتة وقالت:

- لا إلّا إذا كنت تقصد خطيبي السابق فإنّه قبّلني مرتين مع ذلك تبقى أنت السبب لو أنّ السياسة لم تبعدك عنّا لكانت شفتاك أوّل من تقبلان شفتيّ فهل يحقّ لك أن تغار.. قبلني وسأنتظرك!

دقائق حاسمة

خوف أم لامبالاة؟

تأنيب ضمير..

ثمّ تجاهل لأيّ وازع

اقتربت منّي فثارت أحاسيسي.. تلاشى العالم وفقدت الخوف.. التهبت.. اقتربت منها فطوّقت عنقي بيديها :

التصقنا

حرارة جسدها

لهفتي

غبت معها بقبلة طويلة لم نستفق من وقعها الناعم اللذيذ المتلاحق إلّا على صوت الباب فتراجعتْ واستدارت نحو الباب الجانبيّ ويداها تلملمان ثوبها ثمّ خرجت إلى إحدى الغرف وعادت مع دخول أخيها الصالة:

-أبشر ياصديقي.. صهرك اتفق مع المنقذ إنّه بالباب ينتظرك!

تساءلت:بهذه السّرعة وقلت بين الدهشة والشك:

-أشكرك وإن كان الشكر لا يفيك حقك!

واندفعت بدريّة:

محمد سّوف يتصل بك حين يستقرّ في الخارج..

فاجأه قول أخته لعلّه شكّ بشئ ما، وهو أعرف الناس بها ، أو قرأ من عيني ارتباكي ، لا أنكر أنّي طعنته إذ لم يكن أمامي أيّ خيارٍ لكنّي قد أغالي إذا قلت شكّ فيّ سوى أنّه ابتسم بانزعاج وقال:

الأفضل أن تلجأ إلى الهاتف بدلا عن الرسائل.. أنت تفهم قصدي.. المهم أن تعبر الحدود بسلام وأمان عندئذٍ لكلّ حادث حديث.

فعانقته وصافحت بدرية التي قالت بنظرة ذات دلالة

لا تنس أن تطمئننا عليك حين تعبر الحدود ونجاح بانتظار مكالمتك!!

3

إنّها المرّة لأولى التي يقع فيها بصري على السيد محمود المنقذ..

شكل لم أتخيّله من قبل..

 لقد سمعت عنه الكثير من الناس، وعن مغامراته في البلد والخارج.. شخصيّة لها وقعها الخاص، يختلف فيه الناس ويتفقون.. تخيّلته عملاقاً طويلاً أشقرَ البشرة مثل القراصنة البحّارة الذين يغزون البحار ، ويصارعون الأمواج، ذو عضلات مفتولة ، وقبضتان قويتان ثمّ خلال دقائق اختفت الصورة المثالية فأصبحت أقف أمام رجل يقود سيّارة للأجرة في الثلاثين ضئيل الحجم ، قصير ، نحيف البنية مضمر العضلات.

هكذا رأيته في أوّل لقاء.

قدّم لي نظارة قاتمة ، وأمرني أن أضعها على عيني:

أنت أعمى تسمع ولا تبصر، لا تلتفت للإشارة أو تعابير الوجوه فإنّها أسرع مايشي بك، وما عليك لكي تنجوَ إلّا أن تطيع أذنيك فقط!

وقبل أن يقود السيارة، استل عصا من على المقعد المجاور له ، والتفت ثانية نحوي:

اعتمد عليها في مشيك!

ثمّ

انطلق يقود السيّارة

ظلّ يحدّثني طوال الطريق

يوجّه تعليمات..

يطمئنني

حين تفكّر بالنجاة تنجو وحين يركبك هاجس التردّد والخوف تكبو

 (ثمّ يفتخر):كل عملياتي ناجحة والحمد لله، ومسألة تهريبك إلى الخارج في غاية اليسر، لا تعتمد على شئ سوى أذنيك واترك عينيك إلى ساعة وصولك برَّ الأمان!

راحت السيّارة تشقّ طريقها، فتعبر أماكن أعرفها، ومررتُ ببعضها، ومشاهد وطرقا لم أرها من قبل، كلّ مارأيته تجلّى لي بلون قاتمٍ بين الأبيض والأسود..

البريق

والخضرة

والحمرة

وجه المدينة الملوّن..

اختفى..

لم يبق سوى البياض والسواد

كأنّني أطالع شريطا أبيض وأسود من أيّام زمان

، وقبل أن تتوقّف السيّارة عند رصيف المخبأ الآمن ، قال:

- ها نحن نقترب.. حسناً. لا تنس أنّك أعمى.. تجاهل عينيك.. انس الألوان.. لا تدع رأسك يلتف مع حركات الأيدي..

ووقفت السيارة في شارع ضيق مهمل عند بناية قديمة، آجر أصفر بعضه متآكل، ومن الرصيف امتدّ طريق فرعي ضيق يفضي إلى اتجاهين :عن اليمين ممرّ نحو باحةٍ واسعة داكنة المعالم وباب مغلق وممشى على شمال القادم من الرصيف يفضي نحو سلّم ذي درجات من معدن وحافتين علاهما بعض الصدأ، صعد قبلي بتؤدة وحذر كأنّه يقودني، وظلّ يشجعني:

انتبه إنه اثنتا عشرة درجة ثبت عصاك جيدا واستعن بإحدى يديك.. امسك الحاجز بقوّة..

كانت مبالغة منه أو يروم أن يثبت أنّي أعمى، فيزيل الشبهة، ولا أحد في تلك الساعة في المكان. أجبت:

كم بقي من ت الدرجات؟

قلت لك إنها اثنتا عشرة.. على مهلك.. بقي القليل..

مارست العمى خلفه مع أنّ لي عينين.. الآن في هذه اللحظة أشعر أني لست بحاجة لهما، وعندما ارتقيت إلى السطح، قابلتني باحة واسعة في نهايتها باب لغرفة قديمة، دفع الباب بيديه فانفرج الداخل عن سرير وثمّة نافذة مغلقة ، وفي يمين الغرفة ثلاجة ، وباب، وكان هناك أيضا مصباح يتدلى وسط الغرفة من السقف:

-الحمام ودورة المياه والمغسلة.. في الثلاجة عندك أكل أسبوع ستأكل الطعام باردا.. عندك معلبات وفاكهة وخضار، صهرك. وأهلك أعطوني مبلغا يكفيك ويكفي رحلتك إلى الخارج..

-هل يمكنني أن أفتح النافذة :

هذا ممكن.. في الليل أم النهار.. إجلس أمامها والنظارات على عينيك.. من يرك يظنك أنك تملأ رأيتك بالهواء وتتأمل..

-لا أظن أحدا يرفع عينيه إلى هذا العلو ليرى أعمى ذا نظارة سوداء يتأمل من النافذة

فجأةحذّرني، وهو يشير إلى المصباح:

-لا تشعله في الليل فتلفت الأنظار.

أكدت بضحكةٍ مفتعلة :

-حسنا نبهتني فلست بحاجة لأكون الأعمى الوحيد الذي يحتاج إلى النور..

-هل مناك من شئ آخر في بالك؟

-ليت معي مذياعا أتابع من خلاله الأخبار.

-لو كان فيه فائدة لك لوجدته في الغرفة!

بعد صمت قصير:

إذا ضجرت إحمل عصاك واستعن بها ثمّ اهبط إلى الممر الداخلي حيث تجد رفاقك العمي!

-عمي؟!

نعم عمي، تحت غرفتك مقهى للعميان، لا يدخله ذو بصر.. يبدأ كلّ يوم الساعة الخامسة.. غناء.. طرب إنشاد.. وراحة بال..

-أليس هناك من مبصر!

-أبدا حتى العاملون ممن يقدمون الشاي والقهوة عُميّ، تسلّ في هذا المكان إنّه يطرد الشبهات عنك وإذا سألك أحد عن اسمك قل ( ضيف الله سرحان)هو الاسم الذي تحمله في وثيقة سفرك..

اعتراني ذهول حول اسمي الجديد:

-لم اخترت هذا الاسم وليس اسما آخر.

-هذه شغلتي أنت بعماك وعصاك أكثر قربا لهذا الاسم من أي تسمية أخرى..

-نعم مفهوم!

- لا تثق بأيِّ أحد إلا إذا سمعت كلمة السر الجواد يصهل. تذكر الجواد يصهل ولا تخرج إلا إلى المقهى بعصاك.

-متى تأتي؟

-في أيّ وقت.. لست على عجالة من أمري.. توقّع أيّة ساعة.. تدرب على أن تكون أعمى. عندك الحمّام.. أحلق ذقنك فصورتك في وثائقك الجديدة ستكون كما أنت من دون ذقن!

وغادر وقد ردّ الباب خلفه.

كان الوقت أقرب للعصر وسأعيش الليل في الظلام ربما من الأفضل أن أترك النافذة مفتوحة ليتسلل منها ضوء الشارع أو ضوء القمر أيّ ضوء كان.

لكن عليّ أن أنتظر وأنتظر..

لستُ قلقا فثقتي بالمنقذ كبيرة.. أمامي أسبوع أقلّ أو أكثر لأخرج إلى عالمٍ جديدٍ يوفر لي الأمان.. لغة أخرى تحتلف.. وثقافة جديدة..

فكرب مشتت ولست خائفا

سحبت الكرسي القريب من السرير عند قدمي، وواجهت النافذة، فتحت المصراع فانبسط أمامي مشهد آخر مستوحى من النظارة القاتمة ورتابة المكان القديم…

لقد سعى بي الخيال إلى ماقبل ساعات

الشارع الضيق ينبسط أمامي، حوانيت تبيع الحبال والعطارة والألياف، والصابون المحليّ، في هذه اللحظة رأيت امرأة تطلّ على باحة منزلها تطعم دجاجات أخذت تتراجع مع ظهور المرأة إلى القن، وديكا يطلق صيحة ويطارد دجاجة وسط الباحة ثمّ يرتقيها، وكان الخيال القريب يلاحقني، انتبهت الى اليسار فوقع بصري على سطح دار وطفل يترقب السماء بر هة ثمّ يلوّح بيديه، ويطلق حشرجة أشبه بالهديل فهبط بعد دقائق سرب حمام ، فالتقط أحدى الحمامات ودفعها إلى داخل قفص واسع مركون بين الحائط والبلكونة، وهشّ الجميع إلى الداخل ثمّ أغلق باب القفص، ومن حيث لا أدري اخذ بصري يهبط من الفضاء الى السوق المتعب القديم ، كان هناك رغبة تشدني الى الأرض.. النظارات وعيناي مازالوا مشغولتين بأمور متأثرة شتى أما خيالي فقد توهج وسط السهول بصورة ساخنة.. بدرية التي أعجبت بجمالها.. عينيها.. طولها الشارع أحببت كل ما فيها وكرهت طريقتها.. قوتها التي تطغى على انوثتها.. هشونتها.. لم تكن تبالي بأحد ولا تخاف احدا..

لا أغالط نفسي

إنّي كنت على وشكّ أن أحبّها

أو

لغض النظر عن جرأتها المعهودة وامدفاعها

كنت معجبا بالجانب الرّقيق فيها

طولها..

نعومتها

باض بشرتها

مشيتها:راقصة ترقص أو راقصة تمشي

عائلتنا لم تكن ترتاح لها. زمي تقول عنها مسترجلة ، وتأسف كونها البنة ناس محترمين.. وأبي يستعيذ منها.. نصحني ألا أقطع علاقتي بصديقي نجاح.. الصديق في هذا الزمان يعادل الذهب.. يمكن أن نلتقي في أي مكان عدا بيتهم.. أخي الأصغر يلمزني من طرف خفي.. ربما يظننونها سهلة.. فيها بعض الوقاحة.. أنا نفسي لم أرد تشوب علاقتي بصديقي نجاح أيّة شائبة، قد أقع في خطيئة ما.. وعندما قبلتني أو قبّلتها صباح اليوم شعرت بلذة رهيبة. زشفتاي. زأنفاسي. زنعومة عائلة أعقبتها حرارة لفحت شفتيّ.. كنت أحاول أن أمرر يدي على صدرها غير أنّي ، فجأة، هكذا من دون مقدمات خلت فم أفعى يطبق على فمي..

ولولا عودة أخيها لكنت غائبا عن الوعي

ووجدتها تلعقني في مكمني الجديد

هي على بعد خطوات مني

حالما نزل بصري من علوّ ووقع على الشارع رأيتها تعبر السّوق..

طافت فيه

دخلت محلّ الصابون ثم خرجت وبيها لفافة

ثمّ

دخلت محل اليف وخرجت

وقادتها قدماها إلى محل العطور فالمناشف

تقضي في كلّ محلّ دقائق معدودة

وفي آخر المطاف وقفت وسط الشارع الضيق.

أخذت تتعرى من ملابسها قطعة قطعة.. وحالما اكتمل عريها.. تلبدت السماء بغيمة هطت عليها.. راح الناس يمرون غير مبالين بمنظرها الغريب، وهرع أصحاب المحلات إلى بضاعتهم التي عرضوها على الرّصيف يلمّونها إلى داخل دكاكينهم، ولم يبق في وسط الشارع إلا بدرية عارية

قائمة كتمثال من لؤلؤ..

استغرقت تستلهم القطرات ووجهها نحو الغيم، ظلت تدلك شعرها وجسدها ذا البريق بالصابون البلدي فتهبط رغوة كثيفة بيضاء علىالأرض.

تلعب بالماء على جسدها..

تعبث بالمطر

وأصحاب المحلات يلملمون أشياءهم من على الأرصفة غير مبالين

بل أحد يعنى بالمنظر الغريب

إلا أنا

فشككت في نفسي ألا أكون مثلهم

لا أبالي

عندئذٍ

 رفعت النظارة القاتمة من على عينيّ

فلم أر المطر ولا الغيم

ولابدرية

كان الباعة. زيغلقون أبواب محلاتهم فقد آذنت الشمس بالغروب، وثمّة عاملة ترتدي الثياب السوداء تمسك بيدها انبوبا مطاطية اتصل طرفه بالحنفيّة العموميّةفتبدؤ بغسل الشارع والرصيف، في الوقت نفسه تهادت إليّ نغمة قديمة من مقهى العميان.

4

أعدت النظارة إلى عيني

والتقطت عصاي

تراودني رغبة في أن أغمض عيني ولم أفعل.

خانتني الجرأة والخوف من الظلمة.

بدأت أتلمّس حاجز السلّم، طال العزف، وكلّما هبطت خطوة، ازداد لأذنيّ سطوع الموسيقى.. وتبيت صوتا شجيا لنشيد جماعيّ، ثمّ صوتا لمغن لا أعرفه، ليس من مطربي الإذاعة فقد حفظت أصواتهم وأغانيهم..

لم أتبيّن الكلمات لكن جمال الصوت أدركني

مع آخر درجة هبطت وأنا ألوّح بعصاي على الأرض.. قابلني الدرب اليمين حيث الخارج الذي حظر عليّ اجتيازه، فالتفت إلى شمالي نحو المدخل المفضي إلى المقهى

أظنهم استقبلوا خطواتي البطيئة ووقع عصاي بآذانهم المرهفة فرفعوا رؤسهم إلى الباب..

مازلت أخادع عيني

أتلمس الممرّ إلى أيّة منضدة، ويبدو أنّ كلّ اثنين اشتركا بمنضدة، اليست هناك من عتمة تامة فضوء الشاارع يتسلل إلى المكان من خلال النوافذ وفتحات التهوية، فلم يكن المكان بحاجة إلى الإنارة، هناك حاجز في أقصى المكان ، وعامل يحضر الشاي ، ومشروبات أخرى، لا أشكّ أنه أعمى محترف، ولا أشكّ أنّ الجميع عميان، كما لا أشكّ بنفسي، وتبينت دكة المنصة التي تقابل الباب الفرعيّ، كان العازفون ثلاثة، والمنشدون ثلاثة والمغني يجلس وسطهم..

توقفوا لحظات كأنّما لفت نظرهم حضوري المفاجئ ثمّ انطلق المغني :

أخفيت في لجّ السكون خواطري فالصمت أعذبه صدى إطراقي

ووقفت ألتمس الظلام لعلني  آنست نارا عذبة الإحراق

كنت مأخوذا باللحن والمغني فوقفت كالتمثال أتابع بأذني وقد نسيت عينيّ فاستفقت على صوت الشخص الجالس وحده :

يمكن ياسيدي أن تجلس معي!

سبقتني عصاي تنوء ذات اليمين واليسار كأنّي-وأنا أسير بأذنيّ نحو الكرسيّ الذي أفترض أني أراه-أشبه بطفل يتفادى التعثّر، ، فجلست، وبدأت الكلام مستعينا باسمي الجديد:

-اسمي ضيف الله سرحان!

-تستطيع أن تسميني خليل التائه(وصفق بيديه نحو البار)فهرع على عجل أسرع من المبصرين النادل الشابّ:

-أمرك سيد خليل

التفت إليّ وقال شاي أم قهوة أم عصير؟

-ليكن شايا!

فغادر النادل مسرعا ، والتفت إليّ السيد خليل:

- أهو يرافقك منذ الولادة أم بسبب حادث؟

كان عليّ أن اختلف خبرا ما:

-حادث سير منذ الطفولة.

-تعني أنّك رأيت ضوء الشمس ومازال شبحه يرتسم على عينيك!

-هل تقول لي هنيئا لك؟

-ياسيدي هنيئا لك والعبرة في النهاية.

ترك أفراك الجوقة أدولت العزف وهبطوا الدكّة ، يلتمسون طريقهم بعصيهم واحتل كل اثنين كرسيّا في حين جلس الممطرب وحده على كرسيّ أمام طاولة على يمين البار، فملت على صاحبي أسأله:

-هل يغنّي المطرب نفسه مرّة لأخرى؟

فوسعت ابتسامته، وحرّك رأسه نحوي:

-لا تتعجّل ستأتي شفق السماء بعد لحظات.

وقدم النادل، بكأس شاي وضعه أمامي، فدبّت أصابعي ، كدودة قزّ ، وعندما رفعت المأس إلى فمي، توقفت برهة:

-إنّه من دون سكّر!

- هنا نرى الأشياء كلّها حلوة ستتعوّد عليه وتراه في قابل الأيام أفضل فلا تخالطه بشئ آخر قط.

قال عبارته، ونهض يستعين بعصاه، وهو يقول:

- استأذن منك، فأنا من جوقتها!

ثمّ

في الوقت الذي وصل وجلس والتقط الطبل

كأنّ الأمور تجري بمواقيتها

دخلت تتقدّم جوقتها..

طويلة شاهقة الطول

تغطّي عينيها نظّارة، وتلفّ شعرها ليبدو مثل التاج

ملكة بفستان طويل

تتهادى بمشيتها كأنّها مبصرة غير أنّها تتلكّأ قليلا لكي تبقى على مسافة قصيرة بينها وبين تابعتها اللائي يتلمسّن الطريق بالعصيّ.

صعدت المسرح أو الدكة، وجلست في المنصف جنب عازف الطبل. وجلست فتيات الإنشاد الأربع العازفات عن يمينها ، في حين اتخذت ثلاثة من الفتيات مجلسهن على اليسار، عزفن دقائق من دون صوت ، وراحت الجوقة تنشد ألحانا شجيّة ، فتمايل الجالسون طربا، ومع ارتعاش الموسيقى وعلوّ نغمة العزف، وتوقف المنشدات، انطلقت شفق السماء بصوت عذب تذوّقت عذوبته، كأنّي لم أسمع غناء من قبل:

لا تقل لي كان عهدا وانقضى قد يكون الهجر أحيانا لقاء

إنّه الصّمت بعينيك ارتمى وصحا في ذات يوم كبرياء

نحن مذ كنا بدأناه فلم تعرف الأرض سوانا غرباء

تمايلت الرؤوس وبلغ الطرب مداه، ولم يكن الحاضرون مثلنا نحن المبصريين ، يستحسنون بالكلمات، ويصفقون، يسمعون كأنّ على رؤوسهم الطير، ولربّما غفا أحدهم مثل رضيع يغفو على غناء أمّه، راحت شفق القلوب تردد الأبيات، والعازفون، وبين لحظة وأخرى أجرؤ فأرفع رأسي لأبصر صاحبي الطبّال يوقع أنغامه من الطبلة على البطئ من المغنية، ويسرع حين يأتي دور فرقة الإنشاد بشعر أفهمه ولا أتبين كلماته، حتى انتهت الوصلة الموسيقية وران السكون على المقهى، فنزل الطبّال والتمس طريقه بعصاه إلى طاولة أخرى، وهبطت الفرقة النسوية لتجلس كلّ منشدة وعازفة وحدها أو تجالس من تحب من النساء والرجال، وراحت المغنية الفارعة الطول، تمرّ على الكراسي، تحيي وتبتسم، ولم تغفل عن منضدتي:

وقفت أمامي، فلمحتها من طرف خفي.. النظارات القاتمة السّوداء عجزت عن أن تخفي ملامح وجهها الجميلة وهيبة تاجها، راودتني رهبة أكثر مما هو خوف:

- اليوم الأول لك هنا

-نعم سيدتي

-ما اسمك؟

-

-حسنا هنا كل له اسم نحن نطلقه عليه، فاصبر على اسمك الحالي، فلعلّك لاترغب في البقاء معنا، فإذا مارغبت أبدلناه لك باسم آخر.

عرفت من تلميحها أنّ هناك من عانوا من عاهة العمى لم يرغبوا في أن يصبحوا زبائن دائميين، أمّا أنا فقدسُحِرْت بالأضواء من أوّل ليلة، والنور يملأ عيني، فهل أغامر بأذنيّ، في البدء طردني سمعي ويؤويني الآن، وانحنت لتجلس قبالتي ووضعتيديها على المنضدة، وكانت تدندن بنغم لم أتبينه.

-لو سمحت هل تفصحين لي عما تترنمين به؟

-لن تتعلم كل شئ بيوم واحد!

-لا أكذب عليك هناك رغبة عندي.

فتأملت لحظة، وقالت:

فكّر جيدا كل أعضاء النادي إما يعزفون أو يغنون أو ينشدون، هل جربت صوتك؟

أدندن مع نفسي أحيانا.

لاتعرف صوتك؟

شعرت ببعض الخجل، هل أبدو عاجزا أمامها:

تحبين أن أجربه؟

يمكنك أن تجرّبه في الشارع ، تجلس على الرصيف.. ترفع صوتك والمارة تروح وتجئ، يظنون أنك تشحذ، فيلقون إليك النقود، أمّا قصدك فهو أن تثير حسّهم تستفزّ سمعهم، عندئذ يمكنك أن تأتي هنا لتصعد وتؤدي صوتك بإية صيغة كانت..

ونهضت وهي تؤكّد:

فكّر جيدا قبل أي شئ.

وتلاشت بين الجالسين، كان المشهد يتغيّر كلّ ساعة، تنزل جوقة العزف والإنشاد والمغني، يتركون أدواتهم، فيصعد من الجالسين أحدهم يصبح مطربا ، وآخرون، يحتلون الكراسي، يعزون وينشدون.. العدد نفسه ينزل، فيصعد بعده عدد آخر.

يغنون

يعزفون

وينشدون

لكنّي لم أتبيّن أَيَّةً من ترنيماتهم

ولا تستبينها أذناي

ولا أميّز ماذا يقول المغنّي

الأصوات عذبة

والإنشاد عذب جميل

ولم استبن إِلّا أبيات الشعر الثلاثة التي غنّتها قوت القلوب أوّل يوم، لقد جرّيت بنفسي عالم الغناء، دخلت الغرفة، وغتيت أمام المرآة بعيني المجرّدتين، فلم أستسغ صوتي، وجدته عاديا.. أنشدت مديحا، وقرأت قرآنا، ثمّ ارتديت النظّارة وأغمضت عينيّ، ومارست صوتي نفسه في الغناء والترتيل والإنشاء، فرأيته نغمة أخرى. زنغمة جعلتني أتمايل إلى الأمام والخلف، وأشعر بخفة الطير من دون نجاح، وعندما دخلت في اليوم المقهى، وانتظرت على شوق شفق الأصيل ، فهبطت بعد وصلتهاالتي غنّتها ليلة أمس، وجالست من اختارت من زبائن الطاولات، وأعرضت عن آخرين، إلى أم وقفت عند منضدتي، وهي تسألني قبل أن تتلمس كرسيّها:

نعم، هل مارست صوتك.

قضيت النهار كلّه.

حسنا فعلت.

هل اقتنعت به؟

نعم لكني لم أقض إلا يوما وليلة هنا.

فاستنكرت عليّ حُجّتي:

لا تظنه وقتا قصيرا يوم وليلة تعني دهرا.

فسكت، وران سكون على على المقهى قبل أن تستعد فرقة للصعود:

قد تعدينه فضيلا أو جهلا حين أسألك لِمَ أعدت ما غنيته بالأمس؟

أنا مسرورة بالسؤال ولعلك لاتراه يبين على وجهي.

(الحق كنت أنظر إلى المنضدة خجلا من أن أكشف خيانتي)

-لست بليدا يا سيدتي

تجلهلت مجاملتي:

لكلّ قوم ودولة سلام خاص بهم يسبق يومهم، وهذا هو السلام الذي نبدأ به ليلنا فتسمعه ثابتا لايعتريه التغيير!

ربما هو التناقض فهناك مغن سبقها، ولم أصبر:

هناك مطرب سبقك.

كان يتمرّن والدليل أنك لا تتذكّر ماقاله ، وعندما صعدت ابتدا العمل بعد غنائي، ولكي تدرك أكثر يمكن أن أسال:هل هناك غناء تسمعه قبل غناء أمك عقب الولادة؟

شكرا لك (ومع نفسي :أراك آية لا أشكّ فيها)فماترينه في حقّي؟ هل أكون منشدا أم قارئا أم مغنيا!

جرِّب على ماتقدر عليه.

فهززت رأسي وانحينت رافعا نظري نحو السقف:

الصوت أقرب إلي من العود والطبل والمزمار أو أيّة آلة أخرى.

فأطلقت ضحكة رنانة:

ها أنت تكتشف نفسك لو كان العالم كله يغني ويعزف لما حدثت حروب ومشاكل!

ونهضت، وهي تؤكّد:

لا تتعجل

4

زال عني كل قلق وخوف

أيّام مرت جعلتني حقّا أظنها دهرا،

كان عليّ أن أقضي النهار في الغربة، أرقد ساعات، وأدفع الكرسيّ باتجاه النافذة.. لم أشعر أنّ النظارة تضايقني، والمشهد فيه الكثير من المفارقات، رأيت ساحة البيت فارغة والدجاج داخل القن، ولم أر سرب الحمام قادما ولا الصبيّ، أمّا الذي أثار نكراني هو الباعة أنفسهم:كانوا جميعهم عراة.. منظر مقزز. زلا أحد يلقي بفضوله على الآخر، هناك ضجة لا أعرف مصدرها تأتي من بعيد.. ومرت امرأة وسط الطريق الضيق، كانت تتكلل بالسواد وتغطي نفسها من قمة رأسها حتى أخمص عينيها.. لا أدري.. قد تكون بدريّة هذه المرّة. عبرت الطريق ولم تلق بالا للباعة العراة. بل هي بدرية من غير شكّ عرفتها من مشيها وطولها ، الوجه الآخر المهيب لها، زادني يقينا أنها عبرت تدندن بكلماتٍ ما فأدركت أذناي صوتها، وقد راودتني نفسي أن أخلع النظارة عن عيني، فأبصرت السوق في وضعه المعتاد ضجّة باردة كئيبة، أصحاب المحلات منشغلون، والزيائن منهمكون في الشراء وعاملة النظافة تطالع الأرصفة وتلتقط الأرصفة الصناديق الفارغة لترميها في الحاوية الكبيرة.

لاشئ آخر

 أمّا أنا فقد كنت أدندن مع نفسي أيّ كلمة تمرّ بذهني :سوق.. بدريّة.. مذياع.. صورة.. شفق.. طريق..

فجأة

سمعت نقرات على الباب

فتوقفت

واقتربت من الباب.. تساءلت بهمس:

-من؟

-الجواد يصهل!

طالعني وجه آخر غريب فتراجعت مذهولا، شاب في العشرين من عمره أشقر ، مبهم الملامح:

-رائع صوتك ولو كنت مكانك لاحترفت الغناء

من أنت؟

أنا محمود المنقذ؟

الذي جاء بي إلى هنا واتفق معي على كلمة السرّ شخص غيرك هو محمود المنقذ وقد سمعته ورأيته وأخبرني هو نفسه باسمه.

هذه قضايا جزئيّة أنا محمود المنقذ، وأنا من أوصلك إلى هنا كل شئ يتغيّر ماعدا كلمة السرّ.

وخطا نحو المنضدة ، فوضع عليها بعض الطعام، وقال:

استعدّ سآتي اليوم قبل الغروب لأصحبك للخارج!

ليست مفاجأة:

هل يأتيني محمد آخر غيرك

فسخر من كلمتي بابتسامة:

لا عليك من الوجوه كل من هو آت محمود المنقذ والعبرة في كلمة إحفظها كلمة السرّ الجديدة :صهيل السيف!

وخرج

وعلى شفتيّ علامة استغراب!

كان الوقت ضحى، لقد تغيرت الوجوه من حولي، فهل يأتيني محمود المنقذ بوجه آخر غداة الهرب، وفي المساء رحلت إلى المقهى، كانت الفرقة تدندن فاستعنت بعصاي ، ولم أجلس قطّ، اتخذت طريقي وربما تعثرت لأبعد شبهة البصر عنّي، فامزلقت إلى المسرخ بتؤدة وحذر ، وكنت أتلمس الكراسي..

جلست

وتوقفت الفرقة عن الترنم

فانطلفق صوتي بكلمات شتى ورحو يعزفون:

الطريق الغريب

السكون

الشارع

الهرب

اللؤبؤ.. البكاء.. طير السماء.. هناك الحنظل

وفي الوقت المناسب، دخلت الملكة التي تميل إليها القلوب، فسكت وتوقفت الفرقة عن العزف والدندنة ثمّ هبطنا بعضنا يتوكّأ على عصاه مثلي، وآخرون يتلمسون مسيرهم بأيديهم كالسائرين في النوم، فصعدت فرقة النساء، وغنت الملكة نشيدها الثابت، فترنمنا به كأننا نسمعه للمرة الأولى ، وخلال مرورها على الكراسي، وجديثها مع كل زبون، صعد بعضهم فغنى ، وحين وصلت إليّ بادرتني:

صوتك جميل

متى أخرج من الكلمات إلى الجمل

لا تستبق الأحدث

وهل ترينني أصلح لأكون مطربا أم منشدا؟

ذلك قرار يخصك وحدك

هل أفكّر ثانية بالهرب؟

لكن متى يأتي محمود المنقذ؟

ولعلّ تأنيب الضمير يدفعني لأن أعترف للملكة أني مبصر أروم أن أصبح أعمى.. لقد أدركت حقّا قيمة صوتي وأذنيّ، لن ومن حسن حظيّ تفاجأت في اليوم الثالث قبل الغروب بشكل جديد:

طرقات على الباب، فتساءلت:من

-صهيل السيف

فتحت الباب فوقع بصري على شيخ طويل القامة، نحيف في الخمسين من عمره، غزا الشيب سوالفه:

من أنا أنا محمود المنقذ!

وناولني جريدة حكومية، وقال:

إقرأ

هل من أمر

هناك أحد عشر شخصاكل واحد يسمّى محمّد العابد، سلّموا أنفسهم إلى الحكومة، فأثبتوا براءتهم.

أكاد لا أصدق

بل صدق!

كيف اعترفت الدولة بخطأها

لا أدرب فهذلا ليس من شأني

تطلّعت في الصحيفة فوقع بصري على الوجوه، وسألت:

أهذا كلّ ما في الأمر؟

هل أنت مستعد لأن تذهب وتثبت براءتك؟

كانت صورة بدرية تلاحقني في هذه اللحظة، اسيخيب ظنّها بي.. لقد رسمتني بطلا. زيشبهها تماما في التحدي.. تخلّت عن خطيبها وارتمت بأحظاني.. :

لن أفعل ذلك.

عليك إذن أن تأتي معي لأصحبك إلى خارج البلد كما اتفقت مع أهلك!

صمت ، وفجأة..

من دون تردد قلت:

محال لن أرحلّ

فنظر إليّ نظرات غريبة وقال:

إسمع ياهذا أنا أخذت حقّي من أهلك. زالجميع يعرفني لم أخفق في أيّة عملية أتبناها.. الكل يثق بي.. أنت حرّ.. تذهب لتعترف.. تأتي معي.. الزورق حاضر.. ساعات وتكون في الخارج.. القرار لك!

صمت برهة كادت تطول ثم قلت جازما

أقسم لك أن أمنيتي كانت بعد أن سمعت إدانتي كانت أن ألتقيك ، كنت ملاذي الوحيد في أن توصلني إلى ملاذ آمن، لكن إسمح لقد تغيّر الأمر الآن..

مهما يكن فالأمر فالخارج أفضل.

لا أظنّ.

فهزّ رأسه مقتنعا وقال:

حسنا ليست مشكلتي.. عليك أن تغادر الغرفة مادمت لاتحبّ أن ترافقني.. آمل ألّا أجد أي أثر لك يوم غد!

قال عبارته وخرج، وكانت الشمس قد غربت تماما ، فوضعت النظارة على عيني، وفي نيتي ألا أخلعها من على عينيّ أبدا، ثمّ التمست عصاي، ، في تألك اللحظة، غلقت عيني ّتماما، وخرجت ألتمس الطريق بطيئا بطيئا إلى حيث المقهى.

***

د. قصي الشيخ عسكر

..............................

* انتهيت من كتابة هذه الرواية القصيرة في 27|7|2024

 

قريبا جدا

ستخسرين الحرب

سينتحر جنودك المتعبون

الواحد تلو الآخر

سنتهار قلعتك المنيعة

سيفر الشيطان من شقوق أظافرك

سيخطف طائر العقعق

تاجك المرصع بذهب الليبيدو

ستملأ الغيوم عينيك الكاسرتين

وعلى ظهرك المقوس

ستحملين نعشك

دورقا من الدموع السوداء

طيورا نافقة من الوداع

سيعضك الزمن من شفتيك المتهدلتين

تبكين طويلا في الخرائب

تتبعك جوقة مريعة

من البوم والغربان

ماضيك المليء بالوحل والبلهارسيا

صوتك الأشيب القميء

أشباح من درب التبانة

سيكسر الندم جمجمتك

بكعب بندقية من القرون الوسطى

ستبكين تضحكين تصعدين تهبطين

مطوقة بتصفيق حار

من ذئاب متناقضاتك

سيؤبنك موسيقار أعمى

تحت شجرة هرمة

سيهاجمك الرعد

بقداس حزين

ستكون الهوة السوداء

ملاذك الأخير.

***

فتحي مهذب - تونس

 

فلسطين

تعلمك الحب،

والحب

يعلمك الحياة،

فاصعد إليها

تكن من العاشقين

*

وتعلم منها

لغة السماء،

وحوار المقدس

في صدى الكائنات

واصرخ اسمَها

بكل نبضك

لتعلم أنها حية فيك

وأن البقاء للميتين

*

لا موت قبلكِ

لا موت بعدكِ

هل كنا يوما؟

كلا،

وكيف نكون؟

وأنتِ الحرية كلها

ونحن السجن

والسجان والسجين

*

قُتلنا يوم

لَم نعد نحبكِ،

كم مرة قتلنا؟

لا أحد يذكر

ربما موتى

ربما نشيد

من حزنه علينا

الحزن أشد حزنا

من حزين

*

تعبت الحناجر

نغتربُ،

نرحلُ،

ونهاجرُ بعيدا عنا

ولا فرحَ بالعائدين

*

فلسطين

أعتذر

تنقصني المسافاتُ إلي

لأحدد غيابي

من العبور إليك

ويكفيني سفرُ الجهات

بداخلي

كي أعرفَ

ما البحرُ

وما الشرق وما الأرض

وما اليمين

*

وإخوتي يملؤهم الليل

نبيذا ونساء

وها أنا كما أنا

نحيل مني

ومن حلمي

ومن زهر المبعدين

*

يداي صغيرتان

وخطاي سياج

وأمي تحبني،

وتحبني،

ثم تحبني حين أعود

وحينا طفلا

وحينا قتيلْ

وحينا منفى

وحينا أسيرْ

وحينا وحينا وحينا

وحينْ

*

فكم نعشقك

يا نبية الله

يا منتهى القلب

وآخِر الياسمين

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان/ هذا العالم لا يشبه أمي

 

قصة قصيرة جدا

كنت في آخر مقاعد الصف، ترمقني الوجوه شزرا، تتلاطف معي بعض الفتيات في مثل سني ... وعند إستراحة ما بعد الفصل، تنطلق أقدامنا خارج غفة الفصل الدراسي، ننطلق طوابير نحو ساحة المدرسة. كان الكل ينعتني بطفل الأنابيب رغم أني كنت ﻻ أنقص شيئا عنهم، يداي سليمتان و رجلي نشيطتان، بل أطولهم في القامة ... عندما تنتهي كل الفصول الدراسية كنت أحمل حقيبتي المدرسية عنوة عني، ادفع بقدمي دفعا عابثا، اجرجر حقيبتي خلفي، وعندما تلتقي عيون الاولاد في الشارع بموضع وجودي، يهتف بي احدهم دون شك : - هذا ولد الأنابيب ؟ كانوا يضحكون مني تهكما و سخرية ﻻذعة المذاق و المزاج ... اقترب من البيت، ادفع الباب الخشبي منزعجا و أنا اجرجر حقيبتي المدرسية خلفي إلى حين رميها وسط البيت، تلمحني امي من خلف نافذة المطبخ، حيث تتناهى لي رائحة مرق الباميا اللذيذة،و لكني كنت أشعر برغبة حارقة إلى دفن راسي في الوسادة و النوم طويلا دون استيقاظ، شعرت و أنا مطروح الجسد فوق سريري ثمة يدان تعابث بعض من خصلات شعري :- ها ماما منو زعلك حبيبي اليوم ؟ كنت اتظاهر بعدم الاكتراث للوهلة الاولى تحت مؤثر الخدر اللذيذ الذي احدثته أصابع أمي و هي تمسح على جبهتي، كنت أحب أمي لدرجة الجنون، فهي التي أصبحت لي كل شيء بعد ممات والدي في ذلك الحادث المؤسف ... فتحت عيناي في وجه أمي قائلا :- ماما متى أصبح جندياً كبيراً وأذهب للحرب كي اتخلص من نعوت الأولاد لي بالمدرسة بطفل الأنابيب، السنون تمضي مسرعة و الحرب تتضاعف في عجلتها الطاحنة، لم أشعر إلا و أنا لك الجندي الهزيل وسط مجموعة من الجنود ... تنداح الأمر بالهجوم على مواضع العدو خلال هذا اليوم، السحب سوداء مثقلة بالمطر المغموم، فجأة تداهمنا قذائف العدو من كل جانب بعد ساعة من ظهيرة هذا اليوم، لم أكن اهجس بشيء سوى انقذاف جسدي خلف الكواليس ... الكواليس، حيث كنت نطفة لزجة داخل الدوارق الزجاجية، كنت شبه قطرة مائية تندلق عبر فتحات الأنابيب ... كنت طفلا عندما وضعوا جثتي في التابوت الذي يغطيه العلم من كل جانب ... اختفت صرخات الأولاد في المدرسة، غاب الكل جنودا في الحرب، وحتى أمي لم تستقبل جثماني، لكونها ماتت قبلي بعدة أعوام، لذا بقيت وحدي داخل الأنابيب منذ سنوات والآن أنا وحدي داخل التابوت الذي لم يستقبله أحد، لعلهم كانوا يعلمون بي أني طفل الأنابيب، رغم مت شهيدا في الحرب رجلا كاملا، وها أنا الآن وحدي داخل النعش تجرجر كفني تيارات من رياح متسللة من أحدى ثقوب التابوت؟.

***

حيدر عبد الرضا

 

إلى كل متعطش للحرية والكرامة

تريدونني أن أكون أسيرا

فإني أسير لحب بلادي

وشمس بلادي

وعبق النسيم بيافا وحيفا

وعبق النسيم بأوراسنا

وماء الجداول في كل فج

وفي كل نهر

وفي كل واد

**

تريدونني أن أكون طريدا

فلن يطرد حقدكم ما نما يانعا

في فؤادي

فإيمان قلبي يداوي جراحي

ويمسح لون الأسى والحداد

ويزرع في القلب حبّا جديدا

لكلّ الثكالى

لكل الغلابى

وكل العباد

من الطيبين

من الثائرين بأرض الجهاد

من الحالمين بنور الصباح

من الحالمين بقطعة خبز

وحبّة تمر

وجرعة ماء

من الحالمين بضوء القمر

من الناقمين على كل عاد

**

كفاكم ...كفاكم

أيا من تريدون إذلال شعب

فلن تبلغوا طول هذي الجبال

ولن تخرقوا الأرض ضربا ورفسا

بتلك النعال

ولن تنقصوا ساعة من ليالي الخريف

ولن تنقصوا ساعة من ليالي الشتاء

ولن تلبسوا الليل ضوء النهار

فنحن على الدرب سرنا وسرنا

وأنّا سنبلغ رغم المحال

إلى غاية الكادحين

إلى غاية الحالمين

ومن عالم النور نستل نورا

يشق ظلام الدجى في بلادي

ويسفر - يا أمة - صبحنا

وتشرق شمس المنى في بلادي

***

شعر: تواتيت نصرالدين

 

في الميدانِ،  ذئاب الليل تنهش أرضِ القدسِ

وغزة الشهيدة تُحملُ في التابوت،

لكن لا!

الآن نقول لا،

غزّة تقاوم،

تكسر خشب التابوت، كسراّ

ويدٌ تشدُّ ويدٌ تزئرْ

غزّة تقاوم... ويافا تقاوم

والضفة والجليل، ترفع صارية الثأر الثأرِ

وتقول الآن، لا ... وغداً لا

سوف يُمحى من الأرضِ، الغاشمْ

ولن يبقَ في الأرض يوماً، محتلٌّ ظالمْ

يا أرض غزة، نقول لا،

من أجل الشهيد، ودمعة الأمّ الحزينةِ

من أجل روح الطفل القتيل ورغيفه المُدمى

نقول لا...

*

وفي السوح الدامية، تقول غزة لا

تكسر قيد الوهمِ كسراً،

ترفع راية النصرِ

وكُل ترابها يصرخ : اهلا بالموتِ الغاضبْ

وجنود الأعداء الموتى

اهلا بالزمن الضائع...

*

وفي لغة الرفض الساخطْ

حين يقتلُ طفلٌ في البرد القارسْ

وتموت الحبلى،

والرجل الصامد يبكي،

والأم الثكلى بين الموتى تهوي

ينتفض الجبل الراسيْ

والعظمُ الغارقُ في الاعماقْ

حتى يصرخ مغتاظاً: أين الثأرُ

أين الثأرُ يا مد الموت العاتي

أين الموتى الأعداء!

أينَ الوطن الأولّ، وطفلي الغارقُ في الأرجاءْ

أين الثأرُ! يا أجيال النصرِ

***

كمال انمار

 

ماذا لو توقف

هذا المسخ

عن لعبة

الخيوط الواهنة؟!

وأدرك

حتمية اليقين

أجل...

فالسقوط المدوّي

هو مآل

قفزاته البهلوانية

*

بالأمس كان مهادنا

واليوم

صار لاعنا

والخوف كل الخوف

...

نعم

فالغد بات قريبا

*

لكن...

ما ذنبها أنفاسنا

الباحثة عن فسحة

لشهقاتها؟!

***

ابتسام الحاج زكي - العراق

دجالون بِلِحَىً ماكرة

يجمعهم ظلامُ الظُّلَّامِ

في (خفافيشِهِ)

بِخَلْفِيَّتِهِم المُؤَدلَجَةْ!

*

تُحَدِّقُ في عيونِ ضحاياهم

بَسْمَةٌ تَصْطَنِعَهُمْ

لــ(مـــآرِبِهِمْ)

وتَغْسِلُ وجهــهم

لِتُبَاركَ خُبْثهم النًــاعِم

وسُمِّيَّتهم القاتلة !

*

سُوسهم تَنْخِرُ جسد الأمة

بخامسٍ!

وترتديهم حرباويتهم

فيَنْسَلُّونَ بدبيبٍ مُشَفَّر

فَتَجِنُّ المسافة

من بلوغ نَفْعِيتهم

قبل أن يرتد للوقتِ طَرْفَهُ المُبينْ!

*

يموتُ الدولارُ في سبيلهم

والجِنْسُ لديهم

فقيهٌ

يُفتي بضرورتِهِ القهرية

وإشباع شَبَقهُ بأعمار

ثلاثة عشر!

*

تَعْرفهم بِلَكَاعَتِهِمْ

وإرجافِهِمْ

فمِنْ عَتَـــاد الدين وعُدَّتِـهِ

هُمْ يَرْجِعُونَ بِـ(ثُلْثِهِ)

يتغامزون!

فماأدراكَ بما يُضْمِرون

وما يُضْمِرون!؟

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

ترددت كثيراً قبل كتابة هذه السطور .. لم أستطع جر أحرف اللغة من الكساد الكتابي الذي أطاح بي منذ ثلاثة أيام ونبض ....

 كيف أصف ما لا يوصف حين أردت لبلاغتي أن تكون على مقدار حضورك...؟!

إن اثرك على كل ما أكتب تجده متغلغلا' في جذور سطوري بحيث إنني عندما ينتابني الصمت الكتابي يتسلل إلي صوتك ....

إنني عندما أخط بحبري تحت ضوء الورق أشعر بأنني وطأة بخف كلماتي على مقربة من نبضك لا ورقك...

وإنني لا أشك بأنك ترتشف تلك الأحرف مع فنجان قهوتك أو إنك تضعها كقطرات عطرية على يسارك ....

رأيت شخصاً غريباً يجلس على كرسيك الذي كنت تجلس عليه ذات مساء عندما كنا على مائدة الكلمات فما كان مني إلا إنني تخيلتك بظلك الطويل الذي امتد إلى البعيد، وحركة أصابعك عندما كنت تلوح لي مبتعدا...

اليس غريباً أن تكون للأشياء ذاكرة تعيد إلينا ملامح الوجوه وأنغام الموسيقى ووقع  الحديث ....؟!

 حتى تلك الكلمات التي تغيغم بها تجد طريقها إلي من خلال تلك الذاكرة الموصودة بإحكام حرف ...

أغفر لي غزارة حديثي بعد هذا الإحتباس اللغوي لأنني أردت أن أصف لك ما أعجز عن وصفه .

***

مريم الشكيلية - سلطنة عمان......

لا ترحلي عني،

ولا تغربي

أمامك يمٌ عميق المدى..

وتيه من الرمل يملؤه الصدى..

لا تتركي

همس الرياح

وعطر الخزاما

وانشودة في رحاب الندامى

تفرين مني إلام

أهذا هو الوجد

في خواتيم الحيارى

أم الأسر في الحب عندي

كنظم القوافي..

تحت همس الطواحين

أو في شتات المنافي..

**

لا تتركيني

مع الظل أشكو

وحيداً ، في معجم الحب

لا في العراء

فلا تتعبيني

بحب

أراه هياماً في الزوايا

يملأ الرحب

عطرا ووهجاً وخمرا

**

قلت ما عندي ..

اذهبي الان

الى حيث شئت

ايتها اليافعة الحالمة

الى أي ظل تريدينه باذخاً

ان تكوني

فراغك يشغل القلب وهما

وقلبك غائب عندي

وهمسك لم يعد يافعا

ايتها اليافعة الشقية

هل تحبين

سكون الليالي الندية

أم ، تفرين عند مطلع الفجر

حين يرقص السنديان

في نسيمات الهوى

خلف قامتك البهية..

ايتها الماكرة الفتية..

ستنسين هول الليالي السخية

والسنين التي بعدها والخوالي

ستنسينها

والصواري

تئن في زحام الليالي العصية..!!

***

د. جودت صالح

14 / تموز / 2024

....................

(*) من وحي أغنية أجنبية

 

قصتان قصيرتان جداً

شرنقةٌ سوداء

كانت تحلمُ كلَّ ليلة في مأواها البائس، بأنَّ عنكبوتاً هائلَ الحجم، تلتفُّ  خيوطهُ السودُ الضخمة على جسدها الضامر، ولكنَّها في كلِّ مرةٍ تصفعهُ بنعالها المتهرّئ، ومن  ثمَّ تستيقظُ مرتعبةً، والفجر قد بدأ ينسج خيوطه الشمسية.. وفي غمار كدحها في العمل كخادمةٍ في مدرسة متوسطةٍ مازال أحد أبنائها الخمسة يدرسُ فيها، تنسى سؤال المدرساتِ عن تفسير ذلك الكابوس – الحلم .

كانت طالبةً  في الزمنِ الأغبر، وكانَ أبوها البائسُ الحال،  حارسَ تلك المدرسة، فأسكن عائلته في غرفةٍ خلفية، لم تواصلْ دراستها، وإنما أجبرها أبوها للذهابِ  إلى بيتِ زوجها الذي لم يكنْ أفضلَ حالاً من غرفةِ الحراسة. زوجٌ جاهلٌ، كلُّ طموحهِ أن يحصلَ على عملٍ بأجرٍ يومي نهاراً، ويهدرُ ما يحصلُ عليه على الكحولِ والحبوبِ المخدّرة ليلاً، شاءَ حظها العاثرُ أن يعودَ في إحدى الليالي ثملاً جداً، فيطردها وأبناءها لتعودَ إلى شرنقةِ المدرسةِ المتوسطةِ عاملةَ خدمة. مات أبوها قهراً من العوز والأمراض، فأشفقت عليها إدارة المدرسة، بأن  تبقى في تلك الغرفة الخلفية، مادام معها أبناؤها.

وفي أحدِ الصباحاتِ تناهى لـها خبران، خبرُ مقتلِ زوجها إثر معركةِ بالسكاكين مع أصدقاءِ السوءِ فيما بينهم، والثاني، خبرُ تفوُّق ابنها الأكبر “جهاد” في الامتحانات العامة للدراسة الإعدادية، وبمعدّلٍ عالٍ يتيح له الدخول إلى  كليتي الطب أو الهندسة، فقالتْ بصوتٍ جهوريٍّ بعد أن كانت  تكلّم نفسها بصوتٍ واطئ:

- مات العنكبوت الأسود بنعالي البالي، بثاراتي مات.. بأبنائي الملائكة.

كلُّ من يراها يقول إنها جُنّت، إذ خرجتْ راكضةً حافيةَ القدمين، من تلك المدرسةِ –الشرنقة إلى الخارجِ الرحبِ، الذي تراه تمددَّ وتوسَّع بشكل لم تألفْه من قبل، خرجتْ تستقبلُ ابنها الذي ثأر لها من الشرنقة البالية للعنكبوت الأسود.

***

أين بيت الداء؟

كنت أعاني الإفلاس، وأنا جليسٌ بمفردي في مقهى على رصيف شارعٍ ضيق، تمخرهُ المركباتُ ذهاباً وإياباً، مثيرةً الغبار على وجوه جلاّس المقهى. هناك جليسانِ بقربي، فلأستمعْ إلى حديثهما، لعلّي أنشغلُ بفحواه عن صُداعِ الإفلاس.

- عجبي من ثريٍّ يمرض، وهو يملكُ ما يستطيعُ أن يشتري بأمواله  أرقى الوصفات الطبية من مناشئ عالمية، فضلاً عن العلاج في الخارج- قال الأول.

- فردّ الثاني - الأمراضُ مثل الموت، لا تستثني فقيراً أو غنيّاً، جاهلاً أو عالماً - وأضاف- لذلك الأثرياءُ يُمرضُهم النّهمُ في الأكل والإسراف في الشرب، و”بلاوي” كثيرة لا تُحصى.

- اسألوني؛ أين بيت الداء؟ سأجيبكم- فاجأتهم بتدخّلي، وأكملتُ وهم مازالوا ساهمين- الفقر بيت الداء..

نهضت مبتعداً "حديثهما يزيد صداع الإفلاس" متّجهاً نحو كورنيش السماوة. نعاسٌ شديدٌ دهمني حينما اقتربتُ من إحدى المساطب، فلأنمْ هنا... ليس لي سكن..

-ها.. حضرة الدكتور، ماذا وجدتَ عندي من أمراض؟

-قلتُ ذلك- وأنا مستلقٍ في عيادةٍ غريبةِ الشكل، لاتشبهُ جميعَ عياداتِ أطباءِ السماوة المنتشرةِ  في جميعِ أحيائها التجارية. وقد انطبعتْ في بالي صورةٌ معلّقةٌ على أحد جدران صالة الاستقبال في العيادة، صورةُ شابٍ فقيرٍ يكرع الصّفناتِ في أحد المقاهي، لا قنينةَ ماءٍ ولا استكانَ شاي ولا علبةَ سكائر، وتظهر بطاناتِ جيوبِ بنطالهِ المهلهل، وقد برزت خاويةً إلى الخارج.

- لديك كلّ الأمراض-  ردّ الطبيب.

حين نهضتُ  من سرير الفحص، التفتُّ إلى صورةِ شخصٍ آخر، في غرفة الطبيب، تكادُ تتدفقُ من وجهه مياهُ العافية وبجنبه كيسٌ مليءٌ بالنقود.

صورتا فقيرٍ وغنيٍّ أدارتا رأسي، ما هو السّر؟ وكدت أقع، لمّا رأيت الوصفةً عبارةً عن صكٍّ كُتبَ عليهِ مبلغٌ كبير، بالنسبة لي، سينقذني من الإفلاس.

نهضتُ من مصطبةِ الكورنيش، وصرخت:

- هذا الطبيب يوزّع صكوكاً على المرضى، بدلاً عن الوصفات الغالية الثمن، يقول إنّها طريقةٌ أوروبيةٌ اقترحها طبيبٌ كندي، لعلاج مرضى الفقر المزمن.

تجمّع حولي أناسٌ كثيرون، ومن بينهم جليسا المقهى، تناولا الصك، وقال أحدهما: أنظرْ إنّه صكٌّ فعلاً مُجيّرٌ باسمه، ومعنونٌ إلى بنكِ الإعاناتِ الطبيةِ باسم الطبيب الفلاني.

فما كانَ من المتجمهرين إلاّ أن هرعوا راكضينَ إلى عيادةِ الطبيب المذكور. لكنَّ الصكَّ اختفى، ليعودَ صداعي المزمن شامتاَ بي، متسكعاً معي على ضفاف نهر الخيال.

***

باقر صاحب – أديب وناقد عراقي

 

انتظر طويلا أن تبتسم له الحياة لكنها ظلت مُكشِّرة في وجهه بلا سبب وجيه كما تراءى له، كان يفرط في التساؤل عن سر هذا الجفاء وقلبِ ظهرٍ المِجن الذي يلقاه منها، دون أن يفلح في الوصول إلى جواب مقنع يشفي غليل حيرته.

في كل صباح يستيقظ على مناظر مقززة، سقف بتشققات مخيفة، نافذة بمزلاج مكسور ودهان شاحب، صورة كبيرة لشارلي شابلان على الجدار الوسخ، وبلاط بزليج ضارب في القدم.

يتجاوز كل هذا ويزيح الغطاء عن جسده المتعب ثم يقوم مهرولا نحو الحمام المتهالك، يقضي حاجته ثم يغتسل، ويرتدي بدلته الباهتة ويغادر الشقة الوضيعة التي عشش بها منذ عقدين ونصف، في كثير من الأحيان يقصد المقهى الشعبي لصاحبه المعلم عزوز، يتناول طعام الإفطار الذي يتكون غالبا من "السفنج" والشاي الساخن، وقد يتجاذب أطراف الحديث مع بعض معارفه ممن يقصدون المقهى لتناول إفطارهم، يدور الحديث عادة عن غلاء المعيشة، وندرة الأمطار، وقد يَردُّ بعضهم ما يقع إلى شيوع الفاحشة وانحراف سلوك الناس، وابتعادهم عن نهج السلف الصالح، في حين يقول البعض الأخر أن سبب ندرة المطر سببه التلوث البيئي والصناعات الكيميائية والبتروكيماويات والتعدين. اعتاد هو أن يظل محايدا في تدخلاته متجنباً الجدل العقيم لأن له قناعة بأن الحجاج واللجاجة أشبه بصرخة في واد مادام الحل والعقد بيد فئة جُبلَت على صَمِّ الأذان وتجاهل الرأي العام للشعوب.

في المكتب يجلس كعادته صامتا غير مهتم بالحوار الذي يتبادله زملائه الثلاثة، وهم سيدة في منتصف العمر وكهلان يقاربانه في السن، كان حديثهم في مجمله يدور حول مشاكل الأبناء، وارتفاع أسعار المدارس الخصوصية ، وصعوبة الولوج إلى المستشفيات والمصحات بسبب غلاء تسعيراتها وهزالة التعويضات التي تقدمها التعاضديات وصناديق الاحتياط الاجتماعي، وقد ينزلق الحديث فينصب في اتجاه الفساد الذي أصبح مستشريا في الإدارة وسيادة المحسوبية في الترقيات، كان يكتفي بتحريك رأسه متظاهرا بالاهتمام تارة، أو ينشغل بإدخال بعض الملفات إلى الحاسوب والتحقق من صحة معطياتها ثم الموافقة عليها.

في إحدى المرات سألته زميلته: عن السر في عدم زواجه إلى اليوم وقد أصبح على أعتاب الخمسين، ظل صامتا وهو يبحلق فيها، لعنها ألف مرة في سرّه، تبّا لها من حيزبون تتدخل فيما لا يعنيها، حسبها ما فعلت بزوجها وما سببت له من مشاكل جرت بذكرها الركبان، ولولا تدخل ذوي النيات الحسنة لكان فارقها غير آسف على عشرتها، ردَّ على سؤالها مبتسما : " كل شيء نصيب، ونصيبي أن أظل عازبا، وقد أموت وأنا عازب، وربما وقعت المعجزة وتزوجت "

هناك أشياء كثيرة تخلق المفارقة، وتغير مسارات الانسان، وقد تلعب الصدفة دورا مهما في صنع توليفة تربط بين المفارقة والمسار، وينتج عن ذلك سياق قد تكون نتائجه إيجابية وفي أحيان أخرى قد تكون سلبية، وهذا حال صاحبنا الذي خسر الرهان ولازمته كل سلبيات الكون.

بعد انتهاء الدوام في الإدارة يغادر المبنى الضخم من الباب الخلفي القريب من المكتب الذي يقضي به سحابة يومه.

يستهويه أن يجول بأنظاره متأملا ما حوله من عربات من مختلف الأحجام تمرق من الشوارع التي يمر بها، كما أنه لا يتردد من سرقة نظرات خجولة لبعض النساء اللواتي تسرن على الرصيف، كل ذلك يجرى في حضرة عشرات الأفكار التي كانت تشج رأسه، وتسبب له قلقا مضنيا يربك حياته، هناك سؤال أنطولوجي يحاصره دائما ويؤثر عليه، يطرحه ويكرر طرحه :" ما فائدة الحياة إن كنّا نتعذب ونشقى ونحن نستحث الخطى نحو النهاية الحتمية؟".

زمن الوحدة الذي يحاصره لا يسمح له بالسلوان وتَغْييبِ الهواجس التي تتربص به وتفترس كل لحظة طمأنينة تعنُّ له.

مأساته تكمن في  الفراغ المتناسل، في الصمت القاتل والجدران الباردة، وغياب القدرة على الخروج من ترسبات الماضي الشاحب الذي عاش في أحضان إهابه.

هو يدمن على قراءة بعض الكتب الفلسفية ويرى فيها أحيانا وسيلة خلاص من عزلته ووحدته، لأنه يجد فيها تصريفا لمجمل الأفكار التي تهاجمه وهو في خلوته، لهذا فهو لا يتردد في الانسياق خلف فلسفة إميل سيوران التشاؤمية المبنية على الأفكار الانتحارية، ويجد متعة في ترديد قولته التي حفظها عن ظهر قلب:"  لا ينتحر إلا المتفائلون، المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار في التفاؤل. أما الآخرون، فلماذا يكون لهم مبرّر للموت وهم لا يملكون مبرّراً للحياة؟"

عندما يصل إلى شقته، يفتح نافذة الصالون الصغير الذي يحتوي على أريكتين باهتتي اللون، ومائدة من خشب الزان، ثم يدخل غرفة النوم، ينزع عنه البدلة ، ويلبس كندورة مراكشية، يلج إلى المطبخ، يضع حلة الأكل المتبقي من طعام العشاء على فرن الغاز،

عندما يسمع صوت غليانه يفرغ محتوى الحلة في صحن خزفي، يحمل صينية الأكل إلى الصالون، يجلس على إحدى الأريكتين، ويترك لنفسه فرصة لاسترجاع الأنفاس، ثم يبدأ بالأكل، نادرا ما تكون شهيته مفتوحة، فهو يأكل فقط ليعيش والباقي لا يَهمّه.

ينهى تناول وجبة طعامه، يشعل لفافة تبغ ينفت دخانها بانتشاءٍ، عبر موجات الدخان المتصاعدة يرى شذرات من حياته متقطعة يصعب لَمُّها لأنها أشبه بشظايا غير متوازنة.

 هي أحلام توارتْ وآلام تجدَّدت وأنت لا تملك سوى أن تردّد مع نتشه قولته الشهيرة:"  من يملك غاية للعيش، يمكنه تحمّل أيّ شيء يعترضه في الحياة" وغايتك أنت أن تعيش حرا وسيدا لنفسك لا عبدا لوظيفتك ولمسؤولياتك وأفكارك. ولن تغير تكشيرة الحياة وجفاؤها شيئا من حالك ووضعك، لأن ما من متعة ترغب فيها أو تتطلع إليها إلا وتقتضي أن تعيش تجربة المخاطرة ومواجهة الصعب والعسير.

***

محمد محضار

20 يوليوز 2024

أَيْــنَ الَّــذِينَ تَــفَلْسَفُوا وَتَمَنْطَقُوا

وَلَــهُمْ (كَفَرَسَانِ الهَوَا) صَوْلاتُ

*

هُمْ يَلْدَغُونَ مَدَى الزَّمَانِ جُلُودَنَا

لا  يَــــهْــدَأُونَ  كَــأَنَّــهُمْ  حَــيَّــاتُ

*

مَــا بَالُهُمْ صَمَتُوا وَزَالَ فَحِيحُهُمْ

لَــمْ تَــخْتَلِجْ بِــحُلُوقِهِمْ أَصْــوَاتٌ

*

كَالأَرْنَبِ الخَرْسَاءِ تَلْزَمُ جُحْرَهَا

وَبِــهَا تَــمُرُّ الــخَيْلُ وَالــغَارَاتُ

*

أَفَــلا  تَسِيرُ مَعَ الجُمُوعِ خُيُولُهُمْ

آنَ  الآوَانُ وَحَــانَتِ  الــفُرْصَاتُ

*

كَــي تَسْتَعِيدَ سَلِيبَهَا مِنْ خَصْمِهَا

فَــلِــمِثْلِ  هَـــذَا  تُــعْقَدُ الــرَّايَاتُ

*

وعَدَتْ كثيراً سوفَ تُدركُ ثأرَها

الــيوم، تــبدأُ من هنا، الثاراتُ

*

الــصَّمْتُ  لَيْسَ بِطَبْعِهِمْ، فَتَرَاهُمُ

فِــي  كُــلِّ  نَــازِلَةٍ لَــهُمْ  بَصَمَاتُ

*

الْــخَوْفُ أَخْرَسَهُمْ وَقَصَّ لِسَانَهُمْ

وَضَجِيجُهُمْ  شَهِدَتْ لَهُ السَّاحَاتُ

*

فَغَدًا  إِذَا زَالَ السَّحَابُ وَأَشْرَقَتْ

شَــمْسٌ، تَــعُودُ لِعَهْدِهَا الدَّبكَاتُ

*

عَــاشَ  الَّذِينَ لِعُرْيِهِمْ لَمْ يَخْجَلُوا

فَتَفَاخَرُوا، وَمَنِ اسْتَحَوْا قَدْ مَاتُوا

****

عــبد الناصر عــليوي العبيدي

Hallucinations.

مع ترجمة الدكتور  يوسف حنا.. فلسطين.

***

أحيانا أتوقع أشياء مباغتة جدا

- مطر من النعاس يخطف شياه رأسي

يجر مخيلتي مثل جرو..

- كلاب مشوهة تتقاتل داخل قفصي الصدري..

- ناس ملثمون يهطلون من معطفي البني..

- باص مليء بالمجانين

يفرقع عظام فراغنا العائلي..

- جنازة عذبة بطعم الفراولو

تقلم أظافرها في المبغى..

أحيانا أتوقع أشياء غريبة

ظهور الله بعد منتصف الليل.

عودة شقيقي ميخائيل من أقطار اللاشيء..

الشمس ملطخة بالدماء أمام المستشفى

كسورها عميقة ووجهها مكسو بكدمات زرقاء..

السماء تأكل الأشجار بفم من الهلام الخالص..

جاري الذي قتله المعتزلة في الكازينو

براهينه التي خذلته في الحرب

لاعب الجمباز الذي إختفى في الظل..

أحيانا أتوقع نزول المطر من عينيك الغائمتين

وصراخ اللقالق فوق رأسك

ومناداة الأشجار لبعضها

بلكنة باذخة

وإضاءة الخيول في الإسطبل.

***

بقلم فتحي مهذب تونس

......................

Hallucinations

By Fathi Muhadub / Tunisia

Translation from Arabic Dr. Yousef Hanna / Palestine

***

Sometimes I expect very surprising things

- A rain of drowsiness snatches my head sheep

drags my imagination like a puppy...

- Deformed dogs fighting inside my rib cage...

- Masked people are falling from my brown coat.

- A bus full of madmen

cracking the bones of our family void...

- A sweet strawberry flavor funeral

trims its nails in the brothel.

Sometimes I expect strange things

God's appearance after midnight.

The return of my brother Mikhail from the countries of nothingness.

The sun stained with blood in front of the hospital

Her fractures are deep and her face is covered with blue bruises.

The sky eats trees with an empty jelly mouth.

My neighbor who was killed by Al Mu'tazila * in the casino

His evidences failed him in the war

The gymnast who disappeared into the shadows...

Sometimes I expect rain from your cloudy eyes

And the screaming of storks over your head

Trees' calling out each other

With a sumptuous accent

And horses lighting in the stable.

***

………………….

* Al Mu'tazila is an Islamic group that appeared in early Islāmic history in the dispute over Alī's leadership of the Muslim community after the death of the third caliph, Uthman.

 

في نصوص اليوم