نصوص أدبية

نصوص أدبية

ما ان اغلق مزلاج الباب حتى وجد نفسه في الخارج،  والعالم امامه يزدحم بالحركة التي تبدو احياناً تعيش على إيقاع متناغم، واحياناً تسود فيه العشوائية .. كما يزدحم بكتل آدمية تتحرك وحركتها تشكل عوالم بعضها معروف في الشكل ومألوف بكل تفاصيله عدا دواخلها المبهمة، فضلاً عن الرؤوس التي يعتليها شعر كثيف وتتقدمها عيون ترصد الحركات وتكتفي بنظرات لا احد يعرف مغزاها وأفواه تثرثر وتقهقه وبعضها يبدو لا يعرف غير الصمت والشك .. هذه الامرأة ربما تكون مومساً، وربما يكون هذا الرجل مخبولاً وذاك متصابياً أو نزقا، فيما تتوزع العقول في الرؤوس بين صغير العقل وبين لا شأن له بعقله ويستعيض بغرائزه التي تدله على حاجاته ..

هو ذا المشهد الذي توزع امامه في تلك الأمسية وهو يغادر شقته المطلة على نهر الدانوب، ذلك النهر الأزلي الذي يتسلل عبر مرتفعات (كالمبيرغ) وسفوح غاباتها الرائعه.

لم يستطع تحديد وجهته، نحو المدينة الصغيرة المسكونة بالسكارى أم نحو النهر؟ سحبته قدماه صوب النهر لكي يحصل على شيئ من الهدوء .. وحين بلغ حافة الغابة حيث المنحدر، اطل على جرف النهر وكان صيادان يعتمران قبعتين ويلبسان بنطالين اعتاد صيادوا الاسماك ارتدائها .

قرر الجلوس بالقرب من احدهما على صخرة بعد ان أدى لهما التحية .. وبكل احترام حياه الصيادان برفع قبعتيهما .

انتظر، حتى اصطاد احدهما سمكة، وبعد أن انتزع الصنارة من فمها سال الدم قانياً .. عندها اخرج الصياد مقياساً فقاس السمكة ثم أعادها إلى الماء .

قال له بفضول، لماذا اعدتها الى الماء؟

اجابه الصياد بإبتسامة عريضة .. من أي بلاد انت ايها السيد؟

انا من العراق،

نعم، بلاد ما بين النهرين، وحضارات بابل وأكد وأشور وسومر.

أجيبك على سؤالك، لدينا قانون يحذر صيد السمك الصغير إذا كان طوله خمسة عشر سنتمترا ويجب ارجاع السمكة الى الماء .

فرد عليه، ولكن لا احد يراك، وتستطبع ان تأخذها معك الى البيت.!!

ابتسم الصياد وزميله، وقال هكذا نحن نطبق القوانين .. وتسائل، هل في بلادك شيئ من هذا؟

سكت، واخذ يعبث بتراب الأرض .

ولم يكرر الصياد السؤال .!!    

***

قصة قصيرة جداً ....

د. جودت صالح

ضفة نهر الدانوب - فيينا

2/ 7/2014

** قلبي مليء بحمام نافق يا كارا..

منذ هروبك من حديقة رأسي.

متخفية بزي راهب بوذي.

يتبعك جواد أشقر

يحمل تابوت طفولتي المقتولة

بمرض النسيان.

يتبعك خيميائيون بصناديق الفضة.

ذكريات مسنة معلولة بعمى الألوان.

إوزة السنة الأولى من قيامة اللاوعي.

ياكارا

أنا ضرير ومضطهد.

أقذف النار من أصقاع حنجرتي.

يلاحقني فرعون على جواد مقطوع الرأس.

كل جنازة تعبر طريق كتفي المتلعثمتين.

كل ناع يدق نواقيسه في صومعة رأسي.

المعزون يتسلقون قامتي

بشراهة مفرطة.

كارا يا كارا

الجسر مليء بالقتلة واللصوص.

التنين الهائل يترصدني في الباص.

لا بيت لي لا أصدقاء لا سماء.

قتلوا كل ملائكتي في زقاق مظلم.

إعتقلوا سبعين مترا من فرحي اليومي.

إختلسوا إنجيلي في كنيسة النهار.

كارا

يا ذات العينين المشبعتين بالخضرة والسلام.

يا صديقتي الأبدية.

الرسولة وملكة الينابيع العذبة.

إنتشليني من الرماد وصرير عجلات الهواجس.

من غيوم القناصة ودبابير العميان.

***

فتحي مهذب - تونس

 

بحُرقةٍ بكت عَقداً

واختارت أشجارُها العُقمَ

والجبلُ صامتٌ

كأنَّهُ ما كان بالأمسِ

مَرتعاً للمُتعةِ وفُرجةً للنَّاظرين

وللنسائمِ هو الحَاجِبُ والجِفْنُ

شاربُ الغِرِّ

ينمو فوق جِلدٍ مُتَغَضِّنٍ

والأجِنَّةُ تأبى الخروجَ

فما عادت تُغريها المجازِفاتُ

المطرُ ينزفُ دَماً

وسنابلُ الحقلِ صارت غَماماً

مِن جَوى

يبِسَ النَّارنجُ فوق أغصانِ أمِّهِ

والعطرُ غادرَ

زُهورَ الاقحوانِ المُحترقةَ

عَشتار تُغتصبُ والدُّموعُ هُطولٌ

وأهريمان يُعيثُ في الأرضِ فساداً

وهو يَعظُ

صَمتَ تَوَهُّج النَّارِ

وبقيت رائحةُ الشِّواءِ

في فَضاءاتِ البِلادِ تَجولُ

تزدحمُ الدُّروبُ

والعيونُ قَفرٌ

والروضُ ساحات مَقابرٍ

طنينٌ يَسكنُ الرُّوحَ

والدَّمعُ مِلحٌ

ونُسورٌ حولَ الوليمةِ تَحومُ

أوراقٌ تَرقصُ

وصورٌ من عهودٍ تليدةٍ تندثِرُ

أحاديثُ الهَمسِ فَزَعٌ

والذِّكرى أصنامٌ

والبيتُ يفتقدُ المفاتيحَ

والشوارِعُ هَلعٌ

وساهراتُ السَّماءِ مُعتَماتٌ

لا تفتحْ تِلك النَّافذةَ

كي لا يَفِرَّ منها العَصفورُ

فيغدرُ به الصَيَّادُ

أخجلُ أن تَرى يدي مُمتدَّةُ

فَتَظِنُّ أنَّ العالمَ يحتضرُ

أنا بخيرٍ

وما عادَ يختبرُني الألمُ

وما عادَ الجوعُ يفتكُ بعِظامي

ولا الوَسْواسُ بوجداني ينخُرُ

أنا بخيرٍ

لا أشكو سَقماً

ولا يعتريني اِعتلالٌ

ولا تكتمُ أنفاسي رائِحةُ الجِيَفِ

لا بردٌ يَطالُ مفاصِلي

ولا وهجُ تموزَ

يَصلي سِحنةَ وجهي

أنا بِخيرٍ

لا عوزاً أشكو

ولا رغيفاً ساخناً أبتغي

ولا في كُسوةٍ أطمعُ

فالكُتَّانُ يلفُّني بإحكامٍ

ويسترُ عَورةَ هذا العَالَمِ

***

جورج عازار

ستوكهولم ـ السويد

 

عصافير المرج المضيء

امست مهمومة وحزينة

واجنحتها قد كبلتها

مناقير العقبان الشواهين

الحدات والبزاة

وقلوبها ادمتها

العناكب الثعالب

بنات اوى والجراد

لكن فراشات وغزلان

الافق المضيء

رسمت على مرايا قلوبها

بهاء البرق والريح والمطر

وغنت قرب تلال

عمرها الحزين

اغان للبهجة البيضاء

للبنفسج للخصب وللشجر .

***

سالم الياس مدالو

 

نهاية الحرب ما عاد الجنود المكدودون بحاجة لرصف الاطلاقات وتلقيم متاريس المدافع. صمت دوي الرصاص أيضا، واختفى أزيز أسراب الطائرات والتماعها خلف الغمام.

عند شرفة تطل على ساحة الاحتفالات الكبرى، راح القائد يتبختر بغترته البيضاء وعقاله الأسود وعباءته الموشاة بالذهب. يلوك ابتسامته الحيوية لتبدو وكأنها لبطل هوليودي. رفع يديه ولوح بحركة تفخيم يريد بها إمساك الغيم لشعوره الفياض بالنصر. أصابعه الغليظة تطيل متعتها وهي تخرم الفضاء ببطء شديد.

 صورة بإطار منمنم وبحجم كبير تتدلى تحت سقف المنصة، يقبل فيها القائد رؤوس الأطفال مثل قديس، ويبارك لهم مستقبلهم، ويمسح على رؤوس المقعدين، ويمنح جنوده الأوسمة لشجاعتهم في القتل. بات المؤمن الفاضل ترتل له الأناشيد وتصدح له ألحان شعبية. هكذا بدا بعد أن خمد أوار الحرب واستسلم الخصوم.

 لم يكن يعنيه دون ساعة نصره، مشهد رعيتة وهم يتجمهرون تحت قدميه مثل أنعام ملونة تتمايل رقصا. أنشدوا له بعد أن تزاحموا حشودا دون نهايات. طوقت الجموع الحافات السفلى للشرفة. أرتال نساء متلفعات بالسواد ورجال بكامل أناقتهم وشباب ارتدوا تشيرتات رياضية فاقعة الألوان وشابات يزهين بفساتين فضفاضة.

احدهم بدأ قبل الجميع، مارثون السباق، أجتاز الساحة وحيدا، داس بقدميه الحافيتين العشب الندي، وكان بسرعته الفائقة مثل أطلاقة مسدس صهر حديدها  للتو، وصقل بعناية. أراد الوصول حيث يقف القائد، لكن رجال أشداء منعوه. هرولت بعده جموع، أطلقت سيقانها للريح، لتحضر مشهد قيامة نصر القائد، المنتصب مثل تمثال مهيب عند الشرفة المكرسة لوحدانيته.منتصبا كان تحت رايات ترفرف عاليا معلنة له المجد والمسرة وعلى الناس الخضوع.

تسمرت بأعوامها الستين مثل شجرة خاوية، أحست بألم حاد يضغط على رقبتها، وما عادت تستطيع اللحاق بالحشود.ثقل تنفسها وازداد لهاثها وارتخت قدماها،  ترنحت واستدارت نصف دورة ثم هوت. كان العشب نديا لامس خدها الأيسر فاستطابت برودته. ولأنها اعتادت طيلة حياتها معالجة الأمور دون عون الآخرين، ولأن حياتها انفرطت فباتت تخلو من أهمية، لذا لا تود وهي تتوسد العشب، أن يرثى لحالها أحد، فأغلقت فمها تماما.ولكن عينيها بقيتا تطوفان بعيدا حيث يقف المنتصر عند منصة الاحتفال.

ــ ما الذي حدث يا أمي؟

- لا شيء ياولدي فقط أردت الوصول حيث يقف المنتصر ولكني تعثرت.

ــ ولكنك تبدين متعبة.

ــ نعم ولكن علي الوصول إليه.

- انه يقف بعيدا.ولن يشاهدك فهو في ذروة نشوة انتصاره.

ــ أعرف هذا ولكن المهم أن أصل إليه.

ــ  وما نفع وصولك حيث يقف؟

ــ أردت فقط أن يحقق أمنيتي في يوم نصره، أن يعيد لي ولدي الوحيد الذي ذهب للحرب قبل ثلاثة أعوام دون أن أعرف عنه شيئا.

.........................

كان هناك

كان غارقا في تيه وضياع يطبقان على روحه  طيلة يومه، حبيسهما دون فكاك. مازالت تتواتر بذاكرته المعطوبة لحظة من مساء أمس، حين لكزه أحدهم في خاصرته ونبهه عن ورود اسمه الذي تردد على لسان الحارس ذي الشارب الكث والعيون الجرذية الناطة . تسلسله في قائمة الأسرى المفرج عنهم، كان السابع عشر. نهض متباطئا وتلفت يمينا ثم شمالا بربكة وحذر، فربما يكون هناك أسير آخر بين هؤلاء يحمل ذات الاسم، فقد تكرر تعذيبه لمرات عديدة، مذ وطئت قدماه هذه الأرض الغريبة أسيرا. 

تشابه أسماء، هكذا أخبروه ، في كل مرة يستدعونه للتحقيق، وكرروا ذلك بخبث . بعدها وربما قبلها بكثير، ماعاد يملك اليقين بحدوث هذا، ولا الاعتقاد بما حمله من أسم، ربما كان له ذلك، ولكنه كف عن البحث في باقي متعلقات حياته، لذا ما عادت التسميات بذات شأن.

ضربة موجعة خبطت رأسه تقلصت معها عيناه، فهرول بخفة ورأس مطأطئا، ليحشر جسده المتهالك عند أول كرسي جلدي في السيارة الذاهبة خارج المعسكر نحو مطار المدينة.

 تسلق سلم الطائرة بقفزات عجولة وجلس عند أقرب مقعد جوار النافذة. مد بصره وبعيون ذابلة فزعة حاول عبر النافذة لملمة ألوان البنايات المرصوفة عند الطرف البعيد. حملق بشرود وبلادة في الفضاء الواسع المغبر الممتد خلف مجموعة الطائرات الجاثمة عند المدرج القريب، ثم أدار نظره نحو السماء الملبدة بالغيوم.

تابع غيمات نحاسية كانت تلامس جناح الطائرة في تلك الزرقة السماوية الباذخة المساحة، وضوء احمر يومض بذبذبات رتيبة عند الطرف المدبب لجناح الطائرة وهي تحلق عاليا. ود لو استطاع القفز والإمساك بكوة ذلك المصباح ليتدلى جسده ويتهادى سابحا في الفضاء الشاسع، يتقاذفه الهواء بخفة مثل ريشة، يحرر صدره من أزرار القميص ويصرخ بأقصى ما تطلقه حنجرته.

ساعة هبوط الطائرة كانت قدماه عند المغادرة وبخطوات قصيرة ثقيلة، مذعورتان  تتلمسان السلم بتثاقل وحذر. أهمل أصوات كانت تحثه للإسراع بالحركة والانتظام بالسير مع باقي رفاقه في المجموعة.

تأبط منشفة تدلت منها خيوط وكلح لونها بمرور سنوات التنقل بين أقفاص الأسر. سار وئيدا بتثاقل نحو باب سيارة النقل. شعر بشيء من رهبة وخوف، فرغب بالعودة حيث مقعده داخل الطائرة،بل الرجوع إلى هناك، عند الغرف ثقيلة الهواء شحيحة الضوء، يتردد بين جدرانها صراخ وأوجاع الأسرى،ويخيم الخوف في فضائها من المجهول حين إطلالة فجر.

 ستة أعوام من رعب وتعذيب وأمراض، قضاها يتنقل مثل بهيمة بين سجن وأخر، من قفص لأخر.  ما عادت ذاكرته تستحضر ولو نتفًا مما عافه هنا أو هناك، فجميع الأشياء اقتلعت ملامحها من عقله، ولم يعد لها ما ينفع للبقاء، وبات يشعر برعب ثقيل يتلبسه كلما أجبر على الانتقال لمكان جديد.فما كانت تنتظره غير جولات تعذيب وكومة شتائم.

ساروا بهم نحو بناية مرمية بإهمال حيث الطرف القصي للمطار. رصف مع الآخرين أمام ضابط كان يلهج بترحاب مبتسر وابتسامة مغتصبة، تخرج من بين شفاه متيبسة.  سأله عن أسمه، فردد ما قيل له وحفظه  لكثرة ماسمعه في الأسر،رجب مناهي مكَوطر، وتوقف. ثم لفه صمت ثقيل، رغم سماعه إلحاح الضابط وبصوت أجش غاضب، طالبًا منه إكمال باقي المعلومات. الاسم كاملا، التولد، أسم الأم، العشيرة، هل راسلت أهلك أثناء الأسر، كيف كانت أوضاعكم هناك.

ركز نظره بوجه الضابط ببلادة وضحك، لحظة كان رأسه فيها يتسكع في تيهه البعيد، فاستدار وطالع وجوه باقي المجموعة، وكأنه يحثهم للإجابة بدلا عنه. أعاد الضابط بابتسامة شاحبة وبعجالة تكرار أسئلته. هز رأسه بتثاقل وتمتم بصوت خافت مرددا دون يقين، رجب مناهي مكوطر وضحك ولوح بيده في الهواء.

دمدم الضابط بشتائم مكتومة ثم اطرق رأسه نحو الأرض، وراح يلتقط أنفاسه بصعوبة، وصدر عنه لهاث مسموع. سحب الورقة التي أمامه وطالع بعض سطورها، ثم التفت صوب الباقين، وبوجه شاحب صارم طلب منهم،  إن كانوا يعرفون شيئا عن هذا الجندي .

ــ انصتوا جيدا، هل بينكم من لديه معلومة عن صاحبكم هذا، فليس له في هذه الأوراق غير الاسم . 

ــ كان قد جيء به من أقفاص الأسر في الشمال القصي من تلك البلاد، لا نعرف عنه سوى اسمه، عاش بيننا صامتا طيلة الوقت، لا يشاطرنا غير فترات الطعام و أعمال السخرة. هذا كل ما عرفنا عنه.

 ***

فرات المحسن

 

كان (بسّام) يحلمُ كثيراً، ساعةَ ينامُ تفتحُ مملكةُ الحلمٍ أبوابَها لهُ. عالمٌ كاملٌ من حيواتٍ وأمكنةٍ وأحداثٍ، حتى وإن عادَ لعالمهِ الواقعي، لدقائقِ معدوداتٍ أو أكثر، فإنّهُ حينَ يغفو ثانيةً، تتفتحُ تلكَ الأبواب، لكنَّ حجّابَ تلك المملكةِ بأمرٍ من واليهمِ الكبير، يشترطونَ عليهِ، ألاّ يسردَ ما رأى، في اليوم التالي، على خاصّتهِ من أهلٍ وأصدقاء، لأنَّ ذلك يعدّونهُ إفشاءً لأسرارِهم، وهو بمثابةِ خيانة، لأنَّهم منحوهُ امتيازاً في السياحةِ في أرجاءِ المملكةِ، طيلةَ فترةِ منامه. خيانةٌ جزاؤُها طردٌ أبديٌّ من المملكة.

ذاتَ مرةٍ غلبَ الفضولُ والتفاؤلُ (بسّام) في أن يسردَ لعائلته أهمَّ ما رأى في الليلةِ السابقة، رأى شخصيةً مهمةً، وفسّرَ من سَمِع تفاصيلَ الحلمِ على أنَّ ذلك بشرىً لحدوثِ تغييرٍ في حياتهِ نحو الأفضل. كانَ في تصوِّرهِ أنَّ حجّابَ مملكةِ الحلمِ لن يعلموا بهذا الإفشاء، زدْ على ذلك.. إنه لم يُفشِ كلَّ تفاصيلِ سياحاتهِ في المملكة.

ظلَّ (بسّام) ينتظرُ حدوثَ ما هو أفضل، ولم يحدثْ، قفزَ إلى بالهِ بأنَّ ذلك يعدو إلى أنَّهُ أفشى سراً كبيراً، فقد كانَ يعدُّ ذلكَ اللقاءَ بتلك الشخصيةِ المهمةِ تاجَ أحلامهِ.

لم يعدْ يحلمُ، هذا هو الجزاءُ الجحيمي، الذي حُكمَ  بأن يتعفَّن فيهِ، فضلاً  عن تلك العقوبةِ الشيطانيةِ في ألاّ ينامَ أبداً.

وإزاء الإفلاتِ من عقوبةٍ سوداءِ كتلك، جرّبَ كلُّ ما يمكنُ  أن يعيدَهُ إلى النومِ، الذي أصبحَ فردوساً مفقوداً في حالتهِ الصَّحراويةِ تلك .

جرّبَ (بسّام) حبوبَ المنوِّمِ والمسكِّراتِ، ولم ينمْ، جرّبَ أن يُنهكَ جسدهُ في النهارِ، بالمشيِ لمسافاتٍ طويلةٍ، والعملِ المستمرِ منَ الصباحِ إلى غايةِ المساءِ، ولم ينمْ.

غيّرَ  مكانَ نومه، فبدلاً من الفراشِ الوثيرِ افترشَ الأرضِ، ولم ينمْ، سافرَ إلى العاصمةِ بغداد لبضعةِ أيامٍ، كإجراءٍ لتغيير المكانِ والأجواءِ، لعلّهُ يستطيعُ النومَ في الفندقِ الذي اعتاد المبيتَ فيهِ، ولم ينمْ، ومن ثَمَّ أسرعَ إلى تبديلِ الفندقِ بآخر أحدثِ وأفخمِ من سابقهِ، بفندقٍ ذاتَ حمسِ نجوم، من تلك التي أصبحتْ تعجُّ بها بغداد، أيضاً لم ينمْ.

جرّبَ ليلةً أخرى في ذلك الفندقِ، كانَ قد أُعلنَ فيه عن حفلٍ فنيٍّ يحييهِ مطربونُ ومطربات، الدخولُ فيه ببطاقةِ تذاكرٍ غاليةِ الثمن. حفلٌ استمرَّ حتى الصباح، مؤملاً نفسهُ، بأنّهُ سيقضي نهارهُ متمتعاً برقادٍ عميق، بعدَ أن أدخلَ البهجةَ في نفسهِ، ونسيَ مملكةَ الأحلامِ، في تلكَ الليلةِ ثَمِلَ وصفَّقَ وغنّى  ورقصَ، كتحدٍّ داخليٍّ لاستحالةِ النوم، ولكنَّ النومَ لمْ يطرقْ أبوابَ عينيه، كي ينعمَ عليهِ بإغفاءةٍ وردية.  راجعَ أطباءَ نفسيينَ في سفرتهِ، فكانَ كلُّ ما شخَّصوهُ كانَ قد جرَّبهُ  .

حارَ في أمرهِ أهلهُ وزملاؤهُ في العمل. أصبح شاحباً هزيلاً منهوكَ القوى نتيجةَ الأرقِ الذي حَسِبَ بأنَّهُ  سيكونُ أبدياً.

كتبَ (بسّام) رسالةً بخطٍ واضحٍ إلى والي مملكةِ الحلمِ، يطلبُ منهُ إلغاءَ عقوبةِ عدمِ النومِ، لم يردهُ أيُّ جواب. ظلَّ يقرأُ عن الأحلامِ وتفاسيرِها عند محمد ابن سيرين وعبد الغني النابلسي وابن شاهين، لعلَّه يجدُ منفذاً إلى كسرِ طوقِ الأرقِ المضروبِ عليهِ، ذلكَ لم يُجدِ أيضاً.

محتجّاً على حالتهِ البائسةِ تلك، قرَّرَ (بسّام) تعليقَ بقيةِ طقوسهِ اليوميةِ، مبتدئاً بالإضرابِ عن الطعامِ، لكي يصلَ بجسدهِ إلى حالةِ الهلاكِ والقنوطِ الرُّوحي. ذلك الإضراب أتى نفعهُ، حينَ دخلَ غيبوبةً أقلقتْ كلَّ المحيطينَ به، الذين لم يصدّقوا روايتهُ عن طردهِ من مملكةِ الأحلامِ والحكمِ عليهِ بعدمِ النومِ مدى الحياة .

الغيبوبةُ فتحتْ له باباً على تلكَ المملكةِ الغامضةِ، فرأى (بسّام) تلكَ الشخصيةَ المواربةَ، التي سبَّبتْ لهُ كلَّ ذلك، بعدَ الإفشاءِ عن رؤيتِها في تلكَ الليلةِ الحافلةِ بالألغازِ والنذرِ السود، هذهُ المرَّةُ كانتْ تضيءُ ثوانيَ ومن ثَمَّ تَغيبُ أخرى في حُلُمٍ متقطّع. قالتْ له برسالةٍ برقيةٍ” سيتبدلُ ما أنتَ عليه». حين غامتْ، استيقظَ فجراً بعد نومٍ يسيرٍ متقطعٍ، قالتْ له زوجتهُ مستبشرةً:- مبارك، عادَ لك النوم، ماذا رأيتَ-  لم يجبْ خوفاً من عقوبةِ الإفشاء.

ولكنَّهُ قالَ لنفسهِ في عزلته عن الجميع:” أتعرفينَ بأنَّ الشخصيةَ المهمةَ هي نفسها عاهلُ مملكةِ الحلم؟».

في الليلةِ التاليةِ، عادَ له الأرقُ حتى الصّباح، فتعجَّب بألمٍ وانكسارٍ لا يُحدُّ، بعد أن ردّد عبارةً تشبه  قول يوليوس قيصر لصديقه بروتس، الذي اشترك في مؤامرة قتله في مسرحية (يوليوس قيصر) لشكسبير،  فقد لفظ (بسّام) همساً "حتى أنتِ يا نفسي!".

***

قصة قصيرة

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

وَصْلَة الحُمَّى التي

تعاهَدَكُمْ بها

بَعُوض الحكومةِ المُنْفَلِتْ

من مجاريها الخيرية !

الطافحة _حُباً في الناس _

في ممرات الشوارع العامة

والأسواق... !

مازال يتباهى

بنقص الخدمات الصحية

وانعدام التوعية...

وحضور الدواء المُهَرَّب

الباهض المضاعفات

والموت المحقق !

*

صار مفهوم الطب الحديث

أن الطبيب الحاذق

هو الذي

يُفَاقِمْ التِهابات مَرْضَاه

ويُجَرّعهم

مرارة البحث عن العلاج المعدوم

المتوفر _فقط_في :

صيدلية (الذبحِ من القَفَا ) !

جوار متاهة الغريب

بحوالي خمس جولات إلا رُبْع

عند بداية

شـــارع السبع دَوْخَات

أمام مســـلخ أطباء بلاظمير !

*

...وقبل أن تفيض روحه بلحظاتٍ

أوصانا المواطن

المدعو :مغلوب على أَمْرِه

قائلاً :

( جَيْبَك طَبيبَك) !

واغمضَ شفتيهِ

مُبْتَسِماً

بِحِنِيِّةْ !

*

اطمَئِنُّوا

إنهُ بأمانٍ

في حِفظِ المشفى ورعايته !

إنهُ لازال قيد الإنعاش :

(مَيِّتَاً) !

ينعم بصحةٍ جيدةٍ

وحُرية !

*

في عيادة الدكتورة (لَدْغَة)

تم تشخيص حالة (المواطن تعبان) كالتالي :

التهــاب حاااااااااد

في جيوب الكوت الداخلية

يحتاج إلى

تَدَخُّل (الصندوق) سريعاً !

وفي مستوصف (المفترسين) التخصصي

تم تشخيص حالته بــ :

سِمْنَة مُفرِطة لاتحتمل التأخير

تحتاج إلى شفط (جُيُوبِهِ)

قبل التخدير  !

وفي مستشفى (النّْهْشِ) الحديث

تم تشخيصه بــ :

مواطن منتهي الصلاحية !

وفي الخــــــارج

تم تشخيص حالته

باختصار :

سليم ومُعافا

خالٍ من الأمراض تماماً

فقط :

المواطن

طَفْرَاااااااااااااااااانْ  !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي _اليمن

17/7/2024

 (إنني أمضي لكي أبرهن على روحي)

روبرت براوننغ

***

إذا مررتَ بشيءٍ جميل،

تَمهّلْ الخطى ولا تستعجلْ

تأملْ،

فالأشياء الجميلة كالعمرِ تذهبُ، كالليل وكالنهار.

تتأمّل الجمال، وتنشر الروحَ ضياءً.

سافر بعيداً في فضاءات السرور

هكذا،

تسمعُ الفجرَ في لحنِ العصافير

يشدو القلب في الأنفاس والجواهر.

الجمالُ مركباً للصمت مركباً للعشب.

إذا مررت بشيء ، أرفعْه عالياً

تمهّل،

الحصى عالياً

تمهّلْ

الأصدقاء، همُ الأوقات، همُ السيل والأسباب.

الجمال، شجرة النور، ونور الشجرة

المياه أملاً ، سلاماً،

ووجداناً.

تأمّلْ:

في وجدانِك أيهّا السور، وفي الولع أيتها الجدران.

يحملُ السفحُ إلى الجبلِ جناحاً

يحمله مشياً.

الجمال، صمت في حضرةِ السماءِ ووقت للمساء

حيث النجوم، جواهر في أيدينا،

النجوم أعناقنا.

تحتنا، يجري البحرُ، والأمواجُ جيئة وذهاباً.

تأمّلْ

اللحظةُ فكرةٌ، والساعاتُ جيلٌ من الأطفال.

هو،

لحنٌ عذبُ ما نمرُّ به،

جمالٌ هو، ذلك الذي  يستوعبُ البحرَ والقواربَ والمياه

بسمةٌ ترسمُ الدربَ والقنوات.

هي الشروق، يشرقُ في الأنامل

وهو الغروب، لا يودّع النهار.

أخضر هو النهار، خضراء هي النوافذ والنظرات.

الأفق،

هل ترى فيه البهاء ؟ هل ترى التضاريس والخلق؟

نورٌ، يرتحلُ في العِظام، ويجعلها مصباحاً.

إذا مررت بي،

تمهلْ، أيّها الحصى، أيّها الجبل السائر، أيتها المروج

أيتها المراعي

لا يدوم سوى الدائمِ في السؤال، سوى التحيات،

سواك أيّها الجمال ، يا أيّها الشروع في التوازن.

***

نوال الوزاني

وهذا الظلام

يطوقني

يدحرجني

ويخط في ثنايا الروح

ألف سؤال

ويعصف بالنوافذ الممزقة

ريحا من حروب البربر الهمجية

أتنفس أسئلتي دفعة واحدة

تختنق الأجوبة

ويخبو في مقلتي

طيف لطفل يبحث عن أسمه بين السنين

وهذي المرايا كئيبة كهويتي

كلافتة في درب موصود

كصيحة في فراغ بارد

نقطع أوصال الصبر

أنا وحيرتي الأبدية

تحتكرني عناويني الممسوخة عبثا

وترافقني في صمتي

تزف لي بلايا العالم ومصائب الٱخرين

وهذا المسجون القابع في زوايا الروح

يدندن أغنية

تنعى شيئا لا يشبه (الاشياء)...

وتزف كوابيس اليقظة خبرا من الشهر القادم

أن الشهر أسير وأن العمر قصير

تنعانا مبتورين

متراصين

في خندق منتن

نسخر من أمسنا ومن يومنا السكير

من غدنا الذي أعلن أنه عاقر

كقبرة لا تملك ساقين

لا تملك جناحين

ترف بهما طلبا للخلاص

كحكاية جدتي المكرورة أسعى أن أتجدد

تموت جدتي

ثم يموت زماني

وأدحرج من عيني جثة ذئب جائع

كي ألقى زمنا أصفر

زمنا أحمر

زمنا يبحث عن نفسه

فيجدني إلها خشبيا

مفقوع العين ومجدوع الأنف

فيكفر بي

وأكفر بكل الكتب (الأرضية)

***

أيمن الناصح

يصرخ جابر مذعورا خائفا كل ليلة دون ان يعرف الآخرون سببا لذلك حتى أمه التي باتت تواسيه وهي تقرأ أدعيتها واضعة يدها فوق جبينه.. وحين تسأله.. أين حبيبتك الأثيرة وما أخبارها.. ؟؟.. يصاب بصدمة تهز روحه ويبدو كلامه بلا جدوى فيمرر أصابعه فوق رأسها ليمسد شعرها طالبا منها التوقف عن أسألتها.. ليعود لصمته كعادته..

اتفق جابر مع مجموعة من اصدقاءه ممن يبحثون عن مأوى مثله ان يبنوا بيوتا لهم فوق أرض تابعة للدولة.. (تجاوز) كما يسمونها ويقينا ان الدولة ستكون رحيمة بهم مثل الأب الذي يتعرى كي يغطي ابنائه فلا ضير ان ابتنوا بيوتا في غاية البساطة فوق أراضيها وهي الأم الرؤوم.. وليتعاون الشباب فيما بينهم لبنائها..

رغم صعوبة معاناتهم وشظف عيشهم كانوا يبتسمون للحياة راضين بكل تفاصيلها.. وقد نصحهم رجل طاعن بالسن قائلا: أجزم ان البلدية ستقوم بإزالتها في يوم ما لكنهم حافظوا على تفاؤل نفوسهم وسعوا بكل عزيمة وارادة نحو هدفهم.. انها رهان القدر ومعركة الحياة الشرسة برأيهم.. أما جابر فهذا نموذج مختلف من شباب شريحة المتجاوزين كما اتفقنا على تسميتهم.. أو لنسميهم المتعبين..

جابر.. كان من النوع المعتد بنفسه.. شاب أسمر فارع القامة ذو الشعر المجعد حليق اللحية يمتلك قوة وارادة كبيرتين ولم يستسلم لليأس أبدا بل ويزداد مرحه كلما اكتمل بناء احد الدور يرافقه صوت المذياع خلال عملية البناء يمقت نشرات الاخبار بينما يطربه صوت حسين نعمة وأغنيته الشهيرة (يا حريمة).. يعرف كل اصدقاءه قصة حبيبته النازحة.. لكن لا يتجرأ احدهم ان يسأله عنها..

كانت تشغل الجزء الأكبر من حلمه ويشعر بحنين طاغ حين يتذكرها لا تغيب صورتها عن مخيلته.. ويتذكر ضحكتها وتعانق روحيهما عند أول لقاء..

قديما سكن قومها عند مشارف مدينتهم حين حطوا رحالهم وأمتعتهم ودقوا أوتاد خيامهم نازحين من مناطق سكناهم التي اشتعلت فيها نيران حرب لا يعلم عواقبها الا الله سبحانه.. عندها بارك اهل المدينة جيرتهم بل وقاموا بمساعدتهم ومساندتهم وقدموا لهم بعضا مما يحتاجونه..

كان جابر شديد التعلق بهذه الصبية النازحة.. لا يعرف عنها شيئا سوى نظرة عينيها ولهفتها حين تلقاه.. تتباطؤ خطاها عند اللقاء لعلها تفوز بكلمة تنعش قلبها كان جابر مصدر سعادتها فنمت بروحها أحلام كثيرة وغدا لكل شيء معنى حتى لتساقط حبات المطر..

تحاول ان تخبر أهلها.. ولكن كيف تلغي تقاليد صحراء ينوح حاديها في الحل والترحال.. وخوفا من رفضهم

سرح خيالها لذكريات ماضيها.. فمنذ أعوام قرر أهلها وبتعمد قاس.. ان يعلنوا اصرارهم بطرد كل من يتقدم لخطبتها فهي ( راعية دارهم )..

ولكن.. هل يمكنها ان تضع قلبها بكهف وتتركه.. ؟؟

انها لحظات تورق الأسى.. ولكن ربما تفاجئها السعادة ذات يوم..

وكان لا يمر يوم الا ويقصد جابر تلك الربوع التي تقطنها الحبيبة رغم العادات والتقاليد ورغم حر القيظ وسطوة عيون المتطفلين..

عرفه أهل القرية انه مغرم بملاحقة الغيد وكان عظيم الاهتمام برأيهن.. وجمال الحياة بنظره يرتبط ارتباطا وثيقا برضاهن عنه.. لكنها غير النساء الاخريات.. انها حبيبته التي أضرمت نيران قلبه مذ التقيا لأول مرة فكان كطفل يحاول ان يتقن عزف معنى الحياة..

الحياة تطرق أبواب سعادته.. والنوارس ترشقه برذاذ المياه

انتظرها هناك بعيدا عن عيون الآخرين لكنها حاولت ان تهرب منه غنجا.. تجرأ فأزاح نقاب خجله ليمسك بطرف يدها المرتجفة وهو يقول : لن أدعك تهربين مني هذه المرة..

فهل ترضين بي زوجا ان تقدمت لك خاطبا..

الشمس توشك على الغروب وكانت تهم بالعودة باتجاه خيام قومها أجابته والابتسامة الخجلة لا تفارق وجهها..

نعم أرضى بك زوجا ايها المجنون..

أحدثه عنك كلما لاح القمر في عنان السماء ونام الناس وعم الهدوء أحدثه عن أحلامي وعن يوم مولدي هنا في دياركم التي عشقتها وأرى فيها كل شيء جميل..

ولكني أتساءل أصحيح ما تقوله عنك بعض النسوة.. ؟؟

يقلن : انك كنت تطارد الغيد..

وماذا تقولين أنت.. لا يهمني سوى رأيك

اني أرى ما لا يراه الاخرون.. أرى في عينيك الصدق ومستقبلنا القادم..

وأقول : انك ناسك يتعذب بأوجاعه.. !!!

مع بزوغ الفجر تفاجأ حي المتجاوزين كأن الأرض تهتز تحت أقدامهم وسمعوا قرقعة ( التركترات ).. وأصوات غير مفهومة وزمجرة ( الحفارة ) ذات الخرطوم الممتد الذي يستخدمونه لهدم الدور.. بعد عدة أشهر من انتقالهم فيها

خرج جابر مندهشا لا يعرف كيف يتصرف فوجد تجمع سكان الحي يتوسلون بهم لمنحهم مدة كافية.. شاط غضبه فلم يتمالك نفسه الا وهو يرفع صخرة كبيرة مهددا اياهم بتحطيم معداتهم فقلده كل سكان الحي رجالا ونساء.. وبذلك تمكنوا من طردهم..

يتنازع بداخله احساسان أحدهما انه شديد التعلق بهذه المرأة والثاني انه يخاف من أسرتها وعالمهم المجهول بالنسبة له.. لكن عليه مساعدتها على الاقل.. ربما يذوي شبابها ويشيخ كما غيرها من نساء أسرتها.. كما اخبرته..

.. لكن أهلي.. ( تقول فتاته ).. أجابها بثقة عالية..

لن أدخر أي وسيلة لإقناعهم.. ابتسمت بغنج واضح وهي تحدثه عن مشاعرها وأمانيها وعن تلك الايام التي تنتظرهم

قرأ آيات صدقها بنبرات صوتها وارتعاشه..

أخذت النسوة يسألنه عن حبيبته الجديدة

لكنه هذه المرة لن يجيب عن سؤال بشأنها..

فمن أجلها تعلم كيف يخفي أسراره..

فانطلق يجري بين حقول الحشائش ولأول مرة في حياته يشعر بانسجام وثيق بينه وبين النخيل والأشجار.. ولأول مرة يسمع كلاما صادقا من امرأة بشأن مشاعرها تجاهه..

هناك صوت خفي بداخله يقول له.. انها تحبك كان يشعر بضربات قلبه وتعرق جسده.. وشعوره الى كأس من ماء

ينفلت خياله وهو يحلم ببيت صغير يجمعهما..

.. فيهمس مع ذاته.. يا للسعادة التي سننعم بها ونحن نراقب أطفالنا يلعبون.. هكذا.. فأخذ يقفز كأنه يطير في الهواء..

يجلس بين الاشجار بجانب مجرى النهر.. هادئا مفكرا بما سيفعله من اجلها.. يفرك بين راحتيه قطعا من خبز ثم يرمي بفتاتها لسمكات صغيرة كانت تغازله.. وإذ يسمع ضجيجا وصراخا ومجموعة من الرجال يتجهون نحوه.. فصاح أحدهم امسكوه قبل ان ينهزم منكم.. انتصب واقفا دون ان يشعر بلحظة من خوف..

صاح الثاني.. هذا الذي شجعهم وعرقل عمل رجال البلدية بهدم الدور..

ولسوء حظه انه متهم.. متهم بجريرة لا يعرف كيف يعتبرها القانون ذنبا ويحاسب شريحة الفقراء.. وربما تطاول فقابل المسؤولين طالبا ان يمنحونهم قطع أراض بديلة قبل هدم دورهم.. لذا قدموا شكوى ضده

ضاعت حروفه وبحت حنجرته.. وبين كل شهيق وزفير يحس بالاختناق والضجر وهو ينتزع ذراعيه من قبضة احدهم.. لا يدعونه يتكلم.. وبين التحقيق وعدمه ضاع الفتى.. في توقيفهم..

في بناية رطبة كئيبة جلس القرفصاء واضعا رأسه بين يديه تتوالى صرخاته بين الجدران.. دون ان يسمعه احد.. لست مذنبا صدقوني..

نعم نسوه بين تلك الجدران الكئيبة.. ولا يدري كم مضى عليه من الزمن.. شهور كثيرة أو أشهر قليلة وربما عام.. لا يدري.. !!!

وبعد ان تقيأته دهاليز السجن.. وقف مشدوها أمام باب السجن الحديدي ذي المزاليج العديدة.. يبدو سقيما مشوش الافكار.. اما عذابه الادهى هو شعوره.. بعدم عدالة الحياة في هذه البقعة..

لكن تبقى المرأة النازحة هي حقيقته الوحيدة والتي لم تغب عن باله ولن تكتمل فرحته قبل ان يقصد ديارها..

وفي غمرة شوقه كان يسابق الريح ليعيد شرارة حبهما الضائعة.. وكان يتمنى رؤيتها مجددا..

لكنه بقي طريح الفراش وأسير الذكريات.. وكلما ترتفع حرارة جسده تزداد شدة هذيانه.. فيلعن الحرب ويلعن الفقر.. ويلعن الأحجار المتناثرة وبقايا مخلفات قومها الذين رحلوا..

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

 

إلى روح محمود درويش أينما رفرفت

***

تعبت من المشي يا أمي

تعبت من النزوح

تعبت من الصراخ

والجوع والقهر

كرهت أصوات القصف

والدمار والقتل والخراب

وحصار ذوي القربى يا أمي

كحصار التتار للعراق

أشد مضاضة على النفس

وأشد إيلاما من حصار العدو

ما ذنبي أمي

إن ولدت فلسطينيا

عاشقا لحرية وطني

ولتراب قريتي وبلدي؟

فلماذا يقصفون بيوتنا

ويكسرون أغصان أشجارنا

ويحرقون كالتتر أحلامنا؟

ما ذنبي أمي

إن كنت عاشقا لليمام

ولأغصان الزيتون

وللحمام

*

لتشردني القنابل

على حدود الغرباء؟

ما ذنبي أمي

إن حملني اليم خفيفا شفيفا

من النيل للفرات

لكي أكون حجة على قومي؟

دليني أمي على صباي

وأزهاري

وحقلي

وطفولتي

لأسترجع ذاكرتي وأحلامي

وشرفة بيتنا المطلة على البحر

وازرعي في روحي

إن مت تحت القصف

غصن زيتون

وبياض زهر التفاح

لعل الحمام يحط عليه مرة اخرى

لعل الفراش يعود إليه تارة أخرى

واذكريني أمي كلما زرت بلدتنا

وبيتنا وأهلنا وأشجارنا

وبلغي سلامي وحنيني

لأقراني وهم يلعبون تحت القصف

ذكريهم أمي بشغبي

وجنوني بالنوارس

وعشقي للشعر

وشغفي بسماء غزة

وزرقة البحر

***

عبد الرزاق اسطيطو

إهداء: «إلى طيور القلب الْمُعَذَّبَة بإحساسها، لا تَنامي.. وَجُودي..»

***

الشخصيات: شاعران.

الزمن: زمن الإحساس.

المكان: ساحة الرغبة.

***

[على ظهر قارب مهترئ لا يَعمَل.. صوت الأمواج مِن بعيد يَقطع بين الفينة والأخرى عَزفا شَجِيّاً على آلة الكمان.. على مَقْرُبةٍ شعلةُ نارٍ بجانب خيمة متآكِلة.. إضاءة زرقاء بنفسجية مُوحية بآخِر الليل..]

- الشاعر 1: [بنبرة صوت حالمة] الليل.. الليل وما أدراك! ألا تَرى معي أن الليل يَمدّ لنا بساطه لِنَبني جسرَ تَواصُلٍ يَربطنا بمُدُن القلب النائمة؟!

- الشاعر 2: [متحسِّرا] يُشْقِيني هذا الليل الحالِف أنْ يَجلدنا بِذَيْل رغباته المستعصية.. ويُدْمِي عينيَّ وقلبي أنْ أنثرَ حبّاتِ ضَوْءِ روحي في بساتين الرغبة لألتقط الشوك والصبار..

- الشاعر 1: [يدلك قدمَيْه] قدماي الحافيتان ما عادتا تَجِدان شيئا يُشَجِّع عل أن أَقْطَعَ شارعَ الليل هذا..

- الشاعر 2: [بعد شُرود] فلسفةُ الليل تُمْلِي عليكَ أن تُمَجِّدَ الظلامَ إن أنتَ شِئْتَ شيئا مِن الضوء..

- الشاعر 1: شياطين الظلام تَكفر بالحرية..

- الشاعر 2: والحرية عقيدة مَنْ لَفَحَتْهُ قضبان الصمت في جزيرة القلب التي يَسقط فيها رأسُ مَنْ أغراه البَوْحُ..

- الشاعر 1: أَوليسَ البوحُ لغةَ مَنْ خانته اللغات؟!

- الشاعر 2: البوحُ سِرّ، واللغةُ حِجاب..

- الشاعر 1: [بِنَفاد صبر] ما أَطْوَلَ حَبْلَ الليل هذا؟ [تنهيدة] أَيُعَلِّقُنا أَمْ نُعَلِّقُه؟!

- الشاعر 2: قُلْ إنَّنا نَحلبه ويَحلبنا هُوَ..

- الشاعر 1: حليب الحرية أَطْهَرُ مِن حليب الصمت الذي يُسَمِّمُ رَأْسَ ثَوْرِ الزمن..

- الشاعر 2: [يَستمر مطأطئا رأسَه باحثا عن ضالته بين الأوراق] أُوووه!

- الشاعر 1: [مُتَثَائبا] أَينكَ يا أنتَ؟ [مستلقِيا مُغْمَضَ العينين يَتَحَسَّسُه] أَمَازِلْتَ تَنْبُضُ؟!

- الشاعر 2: [يَفرك عينَيْه] أَنْبُض.. نَعَم، أَنْبُض كدلفين حائر يَمخر عباب بحرٍ لم يَكُنْ يَوما جَنَّتَه ألفُضْلَى، وأَتَّخِذُ مِن تَأَوُّهاتِي دِرْعاً يَقِيني غَدْرَ البحر والمحار والفُلك..

- الشاعر 1: [يَثِبُ واقفا، ثم يُمَدِّدُ ذِراعيه] البحر! قلتَ لي..!

- الشاعر 2: البحر سفينة العاشقين، وأنا اتَّخَذْتُ لقلبي صومعةً في البحر..

- الشاعر 1: أَهَذا البحر الذي أَعْرِفُه أم هو البحر الساكن!

- الشاعر 2: إنها هي.. [بنظرات هائمة] وحدها هي حورية البحر تَمدُّني بما يَكفي مِن الهواء لِأُسْمِعَها إيقاعَ لَهْفَتِي وَأَسْمَعَها..

- الشاعر 1: [بنظرة ماكرة] حورية؟! قُلْتَ لي..!

- الشاعر 2: ح ور ي ة..

- الشاعر 1: نَعم، نَعم، قُلْتَ لي حورية!.. فَمِنْ أيّ جَنَّةٍ مفقودة سَقَطَتْ حوريتُكَ هذه؟!

- الشاعر 2: حورية وَحْدها جَنَّة..

- الشاعر 1: [مستنكرا بلؤم] قُلْتَ لي..!

- الشاعر 2: حورية.. [بنبرة رجاء] في حضورها تَنطفئ النجوم، والشمس، لِتُشْرِقَ هِيَ..

- الشاعر 1: اها؟ [مُكَذِّباً عينَيْه] لا تَقُلْ إنك أَحْبَبْتَها؟!

- الشاعر 2: أَحْبَبْتُها؟! [تنهيدة] كَلِمة كهَذِه لَنْ تُنْصِفَ إحساسَ قلبي بها..

- الشاعر 1: [يَلْتَمِس شيئا مِن الماء في قِنِّينَة بلاستيكية قبل أَنْ يُلْقي بها فارغة] أهكذا يُلْقي الرَّجُل بنفسه في بئرٍ ما لها قرار؟! [يَمْسَح على بطنه بشكل دائري] أم تراهُ يُغَنِّي على لَيْلاه [يَنفض يديه ويَبحث في جيبه]، ويَقول [يتناول حَبَّةً يتيمة مِن بُذور عَبّاد الشمس ]: «سَقَطْتُ سَهْواً» [يَلفظ القشور]؟!

- الشاعر 2: شيء [يَرسم بيدَيْه دائرة] شيء أَكْبَر مِن أن تُفْصِحَ عنه الكلمات.. شيء لم نَتَعَلَّمْه في مدارس الحياة تلك التي نَضبَ فيها ماءُ الحياة.. شيء لم نَلْمَسْهُ بين طَيّات الكُتُب إلاَّ حروفا مُبَعْثَرَة تَبحث لرحلة إبحارها عن مَرافِئ لا تَقْوَى الكلمات على الوقوف عندها.. شيء.. [يُحْدِثُ زفيرا بعُمق] أقول لكَ: [يَضع كَفَّه على قلبه ويتحَسَّسُه بحرارة] سَلْ فؤادي يُحدِّثْكَ عنها..

- الشاعر 1: [مَذهولا] واااااااه! وَقَعْتَ في فِخاخ المعنى!

- الشاعر 2: [بنظرة دافئة] المرأةُ أَعْمَقُ معنى نَبحث عنه.. إنها المعنى الخَفِيّ الذي يَزجّ بنا في بحر الكلمات ويَجعل قلوبَنا الطرِية تَتَقَلَّبُ شَيّاً على نار الخَلق والإبداع..

- الشاعر1: الإبداااااااع!

- الشاعر 2: والإبداع أن نُنْصِتَ بِحُبّ إلى جَوْقَة عصافير القَلب.. أَلَمْ أَقُلْ لكَ إنه الإبداع؟!

- الشاعر 1: اللعنة! هل قُلتُ الإبداع؟!

- الشاعر 2: الإبداااااااع! [هائما] دَعْنِي أُحَدِّثك عن روحها الآسرة لتَكتشف أينَ يَكمن الوجه الآخَر للإبداع.. روحها، حيثما تُراوِدْكَ روحها تُعَلِّمْكَ فنونَ الغواية وتَكشفْ لك سطرا آخَر مِن كِتاب المعاني وبيتا آخَر مِن قصيدة طويلة تُبدعها أنتَ على مهل بيتا بيتا كلما لَقَّنَتْكَ هي سِرّاً مِن أسرارها..

- الشاعر 1: لِتكن قصيدتك مُعَلَّقَةً إذَن..

- الشاعر 2: معها هي [مبتسما ببراءة] تُرَوِّضُ خيالَك على الخَلق وأنامِلَك على الإبداع..

- الشاعر 1: الإبداااااااع! [بنظرة شَغَف] أَبْشِرْ أيُّها الشاعر العَتيد، فنَحْنُ في زمن الإبداع بامتياز، وأنا لكَ قَرين..

- الشاعر 2: قَرين [متسائلا]؟! نَعَم، قَرين..

- الشاعر 1: هل تُصَدِّق [مُقْتَرِبا منه باهتمام]؟!

- الشاعر 2: [بنظرات عاشقة حالمة] أُصَدِّق أنَّها مِرْآةٌ لي، وأنا لَها ظِلّ، تَقْرَأُ هي في ألواحي ما أَكْتُبه بِحِبْر المعنى، وأُعَبِّدُ طريقَ نَصٍّ لم تَكُنْه هي إلا هامشاً مُكَرَّراً..

- الشاعر 1: [فاغِرا فاه] قريني يااا أنتَ، أرى أن المرأة القابعة خَلْفَ أسوارِ ماضيك تَدْفَعُكَ إلى الخَلق والإبداع بِحَماس مَن يَحترق تحتَ أقدام لحظةِ إلهامٍ.. بَيْنَما.. [شاردا بِذِهنه]!

- الشاعر 2: بينما [مُحَفِّزاً إياه على أن يُتابِعَ]؟!

- الشاعر 1: بينما يَدفعني أنا إلى ذلك رغيفٌ عَصِيّ.. رغيفٌ أراني أَرْكُض وراءه مِن رصيف إلى رصيف، ومِن محطة إلى أخرى، دون أن أَعْرِفَ لِسَفَري أَوْ لي نهايةً [يَفرك شَعْرَ رأسه بتَثَاقُل]..

- الشاعر 2: صدِّقْ أنَّ فَتاتي تُنْسِيني كُلَّ رغيف..

- الشاعر 1: وصَدِّقْ أنَّ رغيفي يُلْهِيني عن كُلِّ فَتاة..

- الشاعر 2: [مُعْتَرِفاً كَقِدِّيس] في عَيْنَيْها تَنْدَلِع ثورةُ البحار والمحيطات على كوكب الليل..

- الشاعر 1: [يَنزل بركبتَيْه أرضا] في استدارته ما يُعِيدُني إلى وَضْعِ جَنِينٍ لا يَشتهي أكثر مِن أن يَطول امتدادُ حَبْلِه السّرّي بِمَشِيمَة أُمِّه..

- الشاعر 2: تُهَيِّجُني روحُها، فأَسْتَجِيب لرغبتي في إلباسها قميصا آخَر مِن نَسْجِ الحروف والكلمات..

- الشاعر 1: بَيْنَما [شهيق] تُهَيِّجُني رائحةُ كسرةٍ عَصِيّة عن وِصال الكَفّ، فأستجيبُ لرغبتي الشَّقِيّة في لَفِّها بِوَرقٍ تَفرشه لها حروفي التَّوَّاقة إلى عِناق ما يُخْمِدُ الأشواق..

- الشاعر 2: صَيَّرَنِي مُبْدِعاً هذا البحثُ الْمُضْني عن وِصال فَتاتي..

- الشاعر 1: صَيَّرَني مُبْدِعاً هذا البحثُ الْمُضْني عن وِصال رغيفي..

[نهاية].

***

بقلم: د. سعاد درير

أنطفأ ضوء المصباح .. فأشعل عود ثقاب ولكنه سرعان ما أنطفأ عندها حل الظلام الدامس ..  ترك يده تسترخي على مسند الكرسي الهزاز وغير جلسته متكئاً على طرف الكرسي يقراء نصا طويلا، فشعر بنوع من التعب وحين نظر الى يده  تحت خاصرته وجدها أشبه بكائن غريب عنه لا يحس بها، كائن في نهايته أصابع تنتهي بأظافر.. اعتقد بأن هذا الكائن مجرد قطعة  خامدة من اللحم تحسسها، فوجدها باردة وأيقن بأنها لا تمت له بصله وردد مع نفسه: كائن غريب مكسو بالشعر وله اظافر، ربما هي وحش نائم ولا أحد يعرف متى يستيقظ .. شعر بقشعريرة تسري في جسده المتعب حين تخيل ان هذا الوحش إذا ما أسيقظ ماذا سيفعل؟ ، ربما سينقض عليه ويلتهم جسده قطعة قطعة . إلا أنه أستدرك، بأنه سيقاوم ولن يدع هذا الكائن يؤذيه ، وعاد يهمس في ذهنه ماذا لو هاجمه خلسة تحت جنح الظلام عندما يكون نائماً؟ عند ذاك لا يستطيع فعل أي شيء سوى أن يقرر بتر هذا الوحش والتخلص منه .. وعاد يفكر من جديد لماذا لا يعقد معه صفقة صداقة حين يستيقظ ويتركه لحاله مجرد قطعة باردة من اللحم مكسوة بالشعر وفي نهايتها أصابع مملوءة بالأظافر تتحرك كما تشاء، ربما تكون ودودة وقد تتمرد، لا يهم ذلك ما دامت غير مؤذية . ولكنها حين تغضب قد تهاجم فتجرح وتخدش كأنها نمر متوحش .. أعتقد بأن قطعة اللحم هذه قد أصابها شيء من الإغماء ولا تستطيع أن تتحرك وبدت شاحبة لا تقوى على الحركة، لقد تمكن منها الخدر تماماً ولم تعد لديها القدرة على الحركة .. وحين اعتدل في جلسته واستفاق بدأت الحركة تدب في قطعة اللحم ولم تعد باردة وأيقن بأنها باتت جزءاً منه وحين أمرها بأن تمسك القلم أستجابت تخط ما يريده دون أن تعارض أو تتذمر أو تتكاسل إنها باتت مطيعة لا تأخذ أوامرها من أحد غيره.!!

***

قصة قصيرة

د. جودت صالح

6/ 7 / 2924

سيقول هذا الرجل إذا دُعِيَ للشهادة،.. إلا إذا عنّ له أن يتراجع فيها لإقتناعه أنها قضية تافهة، أو لغوران فجئي للمعين الذي تغرف منه شجاعته للشهادة وقول الحق.. أن حصان المولدي، الذي أوقفه صاحبه عند الناصية في الصباح وولج إلى المقهى،  لم يسقط على الأرض من فرط الإنهاك، ولا بفعل سكتة قلبية داهمته على حين غرة.. ولا بفعل أي عارض مرضي أصابه،  فهو حصان نشيط وقوي، وليس في سجله وقائع سقوط مشابه لسقوطه هذا..  كان سقوطا غريبا مدهشا احتار في تعليله كل من مر من هناك وشاهد الحصان ممددا على الأرض والعربة المشدودة إليه متقوضة فوق ظهره، دون أن يفلح المولدي في فكه عنها إلا بعد لأي.

مرت برهة وهو لا يكاد يصدق عينيه.. كان قد أنهى تراتيل التملق الصباحي المعتادة لصديقه وغادر محله عائدا إلى حيث ترك الحصان والعربة عند الناصية.. وصاحبه يلاحقه من مسافة بهز رأسه مؤكدا على كل ما قاله.. هاله أن يرى الحصان على غير الصورة التي اعتادها منه؛ ساكنا مطيعا مطأطأ الرأس منتظرا عودته بذلة.. لا يتحرك إطلاقا ولا يغير وضع وقوف العربة التي شُدَّت إليه.. وذلك ما يطمئن المولدي دائما، الذي لا يخشى أبدا حركة غير محسوبة من حصانه الوديع قد يتسبب بها في اصطدام مع سيارة أو شخص مار لو تحرك وحده عندما ينزل عنه ويتركه.

هذا الصباح بدا الحصان قلقا يحرك ٍرأسه يمينا ويسارا لأن المولدي نسي أن يضع عند طرفي عينيه تلك القطعة من القماش التي ستمنعه من رؤية ما حوله، وتجنبه ذعرا غير مبرر.. المولدي لم يرغير حصانه ساقطا على الأرض.. والعربة باركة فوقه.. أدهشه ذلك فعلا. لكن لم تعتوره الخشية من شيء خطير أصاب الحصان ولا داخله شك في قدرته على الوقوف مجددا أو إجباره على ذلك إذا عاند.. وقدّر أن الأمر كله يعود إلى نزوة غلبت على الحيوان فقرر أن يبرك ويتحكك، رغم غرابة ذلك منه لو حصل وبعده عن طباعه المطيعة وعوائده المستقيمة التي ألفها منه المولدي. يلوّح تلويحا خفيفا بالسوط فينطلق الحصان بالعربة مع الريح. ويشد المولدي اللجام فيفهم الحصان المطلوب منه حسب قوة الشد. إذا جذب المولدي اللجام جذبة خفيفة خفف الحصان من سرعته. وإذا شده بعنف تجمد الحصان في مكانه في الحال، ولازم وضع التحجر كأن ساقاه غاصتا فجأة في الأرض، وغدا لا شيء ينبيء بوجود حياة فيه غير عرفه الذي كانت تحركه الريح ونشات صغيرة من ذيله يذود بها عنه الذباب، حتى لو غاب عنه المولدي دهرا.

لكن لم يمر دهر قبل أن يرى ذلك الرجل، الذي سيكون شاهدا على الحادثة، سيارة "باسات" ضخمة قادمة من الإتجاه المقابل، يقودها مراهق يكاد يكون طفلا، نحيلا فارغ الوجه ممتقع السحنة.. شاهده يتوقف على مقربة منه. يطلق زمارته ويمسك هاتفا فاخرا، يتكلم و ينتظر قليلا.. يخرج صديقه المراهق الآخر من باب منزل قريب.. ممسكا هو الآخر بهاتفه.. يفتح له باب السيارة. فيلجها فخورا مزهوا. ثم يستدير استدارة عنيفة في استعراض لمواهبه في القيادة،.. وفي استدارته تلك يصك الحصان على جبينه تماما. ضرب جانب السيارة وجه الحصان، دمغه دمغة لم يحسب أنها كانت ضربة مميتة.. حتى الحصان لم يصدق للوهلة الأولى ما حصل له، تلقى الضربة في رأسه.. وللحظات تلت ذلك حافظ على ثبات وقفته و استقامة عنقه.. فلم يتمايل ولم يهتز ولم يترنح، بل رفع رأسه أكثر مما اعتاد أن يفعل. وفي عينيه سرى احمرار، ثم مشت رجفة في جسده وسقط على جانبه على الأرض.

لم يحرك رأسه وهو ساقط بعدها أبدا. تجمع حشد من الناس حوله في محاولة منهم لإنهاضه.. بالركل والشد والرفس بالقدمين، لكنه لم يتجاوب مع أحد ولم يأت بأي حركة تدل على أنه مازال حيا.. سقط ميتا في الحال، حتى قبل أن يستوعب ما حدث له أو يدير رأسه متعقبا بعينيه أثر ضاربه. الآن على المولدي أن يتخلى عن لامبالاته ويفهم أي كارثة حلت به وبمورد رزقه.. ماذا حدث للحصان ليسقط هكذا؟ ضربته سيارة باسات عرضيا في رأسه ومضت في طريقها لامبالية.

قال ذلك للمولدي.. عندما كان لا يزال متحمسا للإدلاء بشهادته بإخلاص ودون خوف.. فالتفت نحوه محنقا: وعرفتها باسات تحديدا ؟؟ لم ليست رينو أو كيا أو سيتروين.. فهي تملأ الشوارع. وبصق بصقة طويلة وغليظة على الطريق.

ظل الحصان ممددا في موضعه. والمولدي لا يصدق ما تراه عيناه، أن حصانه الغالي لن ينهض مرة أخرى أبدا. يمدّ يده ويشدّه من رأسه كأنه يحتضنه.. يشد أذنيه محاولا إيلامه ودفعه لرد الفعل، فتغوص أصابعه في الجانب الأيمن من جمجمة الحصان المهشمة. تحسس المولدي الأنسجة الممزقة والعظام المهشمة تحت الجلد الذي ظل متماسكا، ثم صرخ بذعر:

-  الحصان ضُرب في رأسه....

-  هل قلت باسات؟

تذكر أن المرهق الثاني الذي امتطى السيارة جاره. وأنه إذا أصر على شهادته فعليه أن يقول أي باسات يقصد، فيورطه ويتلقى الإتهام بالخيانة والجحود.. وعداوة ذلك الجار.. وخسارة آشياء كثيرة.

لهذا بدا عليه التردد.. ومال للعودة في شهادته. حتى المولدي  المتضرر الرئيسي، لم يبد عليه تشبثا كبير بما قاله..وغلبت على سؤاله السخرية

-  لا أذكر.. ولست متأكدا.

-  ومن سيحاسب سيارة على أنها ضربت حيوانا؟

لقد مات الحصان يا مولدي.. ارتفع صوت من الحشد الذي كلّ من محاولة انهاض الحصان ويأس أخيرا من إعادته للوقوف.. لنحمد الله أن الضربة جاءت في حيوان ولم تحيء في إنسان..

-  إنها حافلة النقل العمومي.. لا شيء غير الحافلة قد يصيب الحصان بضربة مميتة.. فهي تحتاج إلى دورة كبيرة. قال صديق المولدي الذي كان يجالسه قبل قليل في المقهى.

نظر المولدي حوله مفجوعا.. ودارت في رأسه كلمة الباسات مثل اللسعة.. لصديقه الذي اعتاد أن يتملقه كلما جالسه في المقهى سيارة باسات فعلا.. ويعرف أن من يقودها هو ابنه المراهق فارغ الوجه ممتقع السحنة. لكن هل من أجل حصان؟ بهيمة بكماء غبية، يتعين عليه خوض معركة وخسارة صداقة تعني له الكثير.. وقليل من ذلك الكثير هو حلمه أنه قد يكون هو بدوره يوما صاحب باسات. ويلقي بظلال سخيفة من الشك على إخلاصه؟ سيكون مريحا أن نصدق أن الحافلة هي التي صدمت الحصان وهشمت رأسه.. من سيحاسب الحافلة؟

الحافلة لا يمكن محاسبتها... والباسات خارج نطاق السؤال. والمولدي يدور والحقد يفريه والجبن يقعده، بعد أن تأكد ان حصانه مات ولن ينهض ثانية، باحثا عن فاعل يتهمه بقتل حصانه ويفرغ فيه غلّ حقده، دون أن تنكشف عورة جبنه.

ووجد الفاعل سريعا.. بمعية صديقه الذي لا يعسر عليه أبدا معرفة السبب وإيجاد فاعل.. ذلك الرجل القميء الذي يدور النهار بأكمله بشاحنته الشبيهة بحطام صديء " ايسوزو 37 "..  يجمع نشارة الخشب من النجارين ليبيعها لأصحاب المداجن. ولا فرامل لشاحنته، ذلك القميء عندما يقود شاحنته كانت مهمته العسيرة هي الـتأكد أن الطريق أمامه خالي من البشر على الدوام، فذلك كان السبيل الوحيد ليتجنب دهس أحدهم وقتله. صحيح هو لم يسبق له أن صدم إنسانا، رغم أن حالة شاحنته تؤكد أنها تقريبا تسير دوما بلا فرامل.. لكن لن يعسر عليه، ولا كان سيبالي لو ضرب حصانا، أو نطح كلبا أو أردى قطة.

لم يكن أحد من الحشد الذين تجمعوا حول الحصان الميت يعبأ بميتة كلب أو قطة أو حصان. ما جمعهم كان الإثارة وحسب، تكدسوا أمام المقهى أولا، والمقهى يقدم القهوة ولا يسمح بالجلوس. وهم كانو يبحثون عن أي شيء ليملئوا به الوقت، فوفر موت الحصان بتلك الصورة الدراماتيكية ما يريدونه من إثارة. وبما أن الـتأثر بموت أي من هذه الكائنات لا ينبغي أن يعادل أبدا الـتأثر بموت كائن بشري، وهو ما لم يحدث في الواقعة التي أقصها.. كما أن الموضع الذي سقط فيه الحصان لم يكن مكانا يكثر فيه المرور ويعرقل بقاءه فيه حركة السير. شرع الجمع بالإنفضاض تاركين الحصان ملقى حيث هو، وخيط من الدم يسيل من أنفه وعيناه تخضوضران وتصطبغان بلون طحلبي مخيف

توارى الشاهد الجبان الذي أنكر أي دور للباسات في المأساة. وأشبع المولدي صاحب الشاحنة الإيسيزي 37 ضربا وركلا، مؤكدا أن شاحنته " الايسوزو 37" هي التي قتلت حصانه.. لأنها كانت تسير بلا فرامل. ذلك دليل الإدانة البين. وما ينبغي الشاحنة بلا فرامل إلا أن تضرب أحدهم، وصاحب الشاحنة يصرخ وأسنانه مخضبة بالدم، جراء ما تلقاه من المولدي من لكمات:

-  وكيف أوقفتها إذن ؟ إذا كانت بلا فرامل.. عندما رأيت حصانك مرميا على الأرض؟

-  يا للمحتال.. صرخ البورجوازي صاحب الباسات.. تقتل الميت وتبكي عليه، مازال معك حساب.

ولم يحتج أحد لكبير ذكاء ليعرف أن الرجل القميء ليس فقط بلا فرامل.. بل يدور بشاحنة ليس لها شهادة تأمين.

لقد كشفوا ذلك سريعا...

- إنه يدور بشاحنة ليس لها شهادة تأمين.. صرخ الشاهد محرضا عليه..

ماذا سيربح المولدي؟ وهل التأمين من الحوادث يشمل حادثة قتل حصان أيضا؟

-  إذا رفعت به قضية.. قال الرجل لصديقه المولدي، فلن تربح تعويضا.. لكن هو سيسجن ويدفع غرامة.. لقاء امتلاكه شاحنة بلا تأمين...

-  الغرامة لي ؟ لحصان جديد؟

-  لا.. بل عقابا له لعدم امتلاكه تأمينا.. للإدعاء العام. وذلك لا يعنيك في شيء..

-  إذن كل المال سيذهب للحاكم.. صرّ المولدي من تحت أسنانه.

-  لا يعنيني في شيء ؟ والحصان مات.

- كيف سأعمل؟

-  إنها بفرامل.. أقسم لكم أنها بفرامل.. أعول الرجل صاحب شاحنة نشارة الخشب، والشرطي يجره من قميصه..

ولم يبك أحد على ذلك الرجل، غير المولدي الذي سيجبر عنوة على ذلك البكاء، لمعرفته أن سهمه طاش بعيدا، لكن دون أن تطفر من عينيه دموع..

***

الكاتب : عادل الحامدي

القيروان - تونس

أمّي الحبيبة

أكتب لك هذه الرّسالة التي لا أدري إن كنتِ ستقرئينها يومًا ما، ذلك أنّني لستُ متأكّدة أنّني سأعطيكِ إيّاها، فأنا خائفةٌ جدًّا من ردّ فعلك. نعم. أنا خائفة وقلقة جدًّا. لا أدري كيف أقول لك ما في قلبي من مشاعر تُثقل على نفسي، وإن قلتُها لك، فهل ستفهمين؟ وهل أستطيع أن أقولها لك بطريقةٍ تفهمينها وتتفهّمين؟

لا، لا أستطيع أن أقولها لك وجهًا لوجه، لذا، سأحاول أن أكتبها.

ليلة البارحة، عندما ذهبتُ إلى غرفتي للنّوم، في الثامنة مساءً ككلّ يوم، لم أستطِع النّوم. كنتُ حزينة جدًّا، وانسابت الدّموع من عينيّ رغمًا عنّي. فكّرتُ كثيرًا بما حدث، بما قلتِه، وفعلتِه على مرأى من أعزّ صديقاتي. كنتُ قلقة جدًّا وخائفة من الغد.

كما تعلمين، عندما أخرج من بوّابة منزلنا كلّ صباح، تنتظرني صديقتي منال، بضفيرتيها الذّهبيّتين، الطّويلتين، وملابسها المدرسيّة النّظيفة والمرتّبة، لنذهب معًا إلى المدرسة. نسير ونحن نتحدّث عن بعض أحداث البارحة خلال لعبنا في الحارة، حتّى نخرج من أزقّة الحارة نحو ساحة دكّانة سليم، فنجد صديقتنا علياء بانتظارنا، قُرب شجرة الزّيتون العتيقة، بابتسامتها المرحة التي لا تفارق وجهها، فتنضمّ إلينا وفي جعبتها حديثٌ ما يجب أن تخبرنا به سريعًا ومباشرةً بعد تحيّة الصّباح. ثمّ نواصل طريقنا معًا نحو ميدان المجلس المحليّ، لنجد صديقتنا ميسون بصحبة أخيها، تنتظرنا بالقرب من المقعد الخشبيّ الذي على رصيف الشّارع، وهي ممسكةٌ بيد أخيها الصّغير، لا تفلتها أبدًا، فينضمّان إلينا بكلّ هدوء لنكمل معًا طريقنا إلى الشّارع الذي يعلو نحو بوّابة المدرسة الحديديّة الكبيرة، فنجد العمّ عماد، حارس المدرسة، بانتظارنا كما دائمًا، يُلقي علينا تحيّة الصّباح التي يدعونا بها إلى الدّراسة بطريقته المميّزة التي لا تشبه أحدًا غيره، يُضحكنا بدعابته حتّى ترتسم الابتسامة على وجوهنا.

وكما تعلمين أيضا، البارحة، دعوتُ صديقاتي إلى بيتي لنلعب معًا في ساحة الحارة بعد الظّهر. وعندما كنتُ مستغرقةً في اللعب، وعلى حين غرّة، رأيتكِ تقتربين منّي وعلى وجهك سحابةٌ من الغضب. اقتربتِ منّي وفركتِ أذني اليمنى وأنت تقولين لي ساخطة: «لماذا لا تردّين عندما أناديك؟»

جمدتُ في مكاني، ومعي صديقاتي. كلّ ذلك أنتِ تعلمين. لكن، ما لا تعلمينه ولم أقُل لك، هو أنّني، حقيقةً، لم أسمع نداءك لي، ورغم ذلك، أحسستُ أنّه كان عليّ أن أسمع، ولم أسمع.

وضعتِ في يدي قطعة من النقود وقلتِ لي أن أذهب إلى دكّانة سليم لشراء الحليب. فذهبتُ فورًا وأنا أجرّ قدميّ بأسرع ما يمكن وأحضرتُ لك الحليب. ثمّ عدتُ إلى السّاحة، حيث جلست صديقاتي على الحجارة القريبة، ولم تنبس واحدة منهن ببنت شفة. جلستُ مثلهن، على الحجارة، على مسافة منهن، وبقينا كذلك، يسودنا الصّمت.

اقترب منّا ثلاثة من صبيان الحارة وطلبوا منّا الطّابة التي كنّا نلعب بها، فوافقت منال على إعطائهم إيّاها، وسرعان ما انطلقت صيحاتهم وهم يلعبون بها، يركضون ويمرحون في نفس السّاحة التي كنّا نلعب فيها قبل ذلك بدقائق. أمّا نحن، فقد بقينا نجلس على الحجارة دقائق طويلة، ثقيلة، حتى قالت علياء: «ربما الأفضل أن نذهب الآن، فقد اقترب المغرب.»

أخذت منال طابتها من الصّبيان الثلاثة وذهبت كلّ واحدة منهن إلى بيتها. وأنا عدتُ إلى بيتنا، تناولتُ وجبة العشاء التي حضّرتِها لي، كأنّ شيئًا لم يحدث، وذهبتُ إلى غرفتي للنّوم في الثّامنة تمامًا، كما تعلمين، وكما تطلبين منّي دائمًا. لكنّني لم أستطِع النّوم. بقيتُ في فراشي طوال الليل، دون نوم... أنتظر الفجر. وعندما تسلّل أوّل خيطٍ من خيوط الشّمس، قمتُ من فراشي وأخذتُ أكتب رسالتي.

ليتني لا أذهب اليوم إلى المدرسة وأبقى في غرفتي طوال الوقت، وحيدةً وصامتة. لكنّني أعلم أنّك لن توافقي. كيف ستستقبلني الآن منال عندما أخرج من البوّابة هائمةً على وجهي؟ وماذا ستقول علياء عندما نصل السّاحة؟ وكيف ستنظر إليّ ميسون عندما نصل الميدان؟ وماذا سيقول العمّ عماد حين يراني دون ابتسامتي المعهودة؟

منال أكبر منّي بسنتين وتفهم أكثر منّي، وهي فتاة عاقلة وواعية، وقد زُرتها في بيتها مرّاتٍ كثيرة، وزارتني في بيتي، رأيتُ عندها الكثير من الأمور التي لا يفرح لها القلب، وهي كذلك. أعرف أنّها ستقول شيئًا ما للتّخفيف عنّي. لا أعرف من أين تأتي بمثل تلك الكلمات التي تدلّ على فهمها لما في قلبي. علياء في مثل سنّي، وتجلس بجانبي في الصّف، ورغم أنّها كثيرة الكلام وتقول، في العادة، الكثير من التّفاهات، إلّا أنّها تحبّني وتحسّ بي، لا بدّ أنّها ستسكت. لن يكون الأمر سهلا. ميسون هي أكثرهن صمتًا وغموضًا. لن تقول شيئًا، لكنّني سألمح على وجهها نظرة عينيها حين تلتقيان بعينيّ، نظرة التّعاطف، ستواسيني بها وسأشعر بالحرج. وماذا عن العمّ عماد؟ لا بدّ أنّه سيسأل ماذا حدث، فماذا أقول له؟ كم سيكون ذلك مُحرجًا!

لا أحبّ أن يشفق عليّ أحد، ولا أحبّ أن يراني أحد في مثل هذا الموقف. سأشعر بغصّة في حلقي، ولن أستطيع التّفوّه بكلمة، ولا رفع نظري إلى أحد، ورغم أنّني متأكّدة تمامًا أنّ صديقاتي لن يخبرْن أحدًا بما رأيْن وسمعْن، ولكنّني أشعر بالضّيق في صدري، لستُ أدري لماذا، ولستُ أدري إن كنتُ سأعود وأدعوهنّ لنلعب معًا في الحارة مرةً أخرى.

لستُ أدري.

***

كفر كما/ الجليل الأسفل

دَمٌ على الطَّفِّ أمْ نبضٌ منَ الألَقِ

فكلُّ  ذرّةِ  رَمْلٍ .. فيهِ   مُحْتَرَقي

*

وكلُّ    قَطْرةِ    ماءٍ   في   مَسَارِبِهَا

دَمْعٌ جَرَىْ غُصَّةً مِنْ عَيْنِها الْوَدِقِ

*

فكَمْ  إمامٍ هَوَىْ  ما  بَيْنَ  مِرْجَلِها

مُقَدَّسٍ  مِنْ سَلِيْلِ  طاهرٍ  وتَقي

*

الطَّفُّ مُستبِقٌ ، والطَّفُّ  مُؤتلِقً

وكلُّ مَنْ يهتدي قد كانَ في السَّبَقِ

*

والطَّفُّ  مِنْ ثورةِ الأحرارِ  رايتُهِ

مَنْ سارَ مُلتحِقاً في خَيْرِ مُلتَحَقِ

*

الطَّفُّ مَكرَمَةٌ ، والخيلُ مَفرَزةٌ

مِنَ البدورِ الَّتي غطّتْ سنا الأفُقِ

*

هبَّتْ على رئتي ريحٌ ، وعاصفةٌ

أمسيْتُ في هَبِّها طيفاً مِنَ القلقِ

*

لكنَّها أسفرَتْ.. عنْ جَمْعِ  كوكبةٍ

مِنَ النُّجومِ سرَتْ مِنْ سابعِ الطَّبَقِ

*

لقيتُها  بارقاً   ألقى   الإلهُ  بهِ

وهادياً سارياً في خافقي الطَّلِقِ

*

هذا الحسينُ سليلُ الحقِّ قائدُهُمْ

فافتَحْ كتابَكَ وانشُرْ صفحةَ الفَلَقِ

*

حبُّ الحسينِ جرى في مهجتي ودمي

فصارَ مِنْ سَـنَدٍ  عُودي  ،  ومُرتَفَقي

*

يا مُلهِمي  في  هواهُ ، شُـدَّ  ناصيتي

بالوَصْلِ مِنْ حبِّهِ والنًّزفِ مِنْ عَرَقي

*

أنا الَّذي ثاقباتُ النَّجمِ أرديتي

ألبسْتُها لغتي والَّلهْفَ في نُطُقي

*

وقفْتُ أسألُ أرضَ الطَّفِّ فانْتَفَضَتْ:

دمُ الْغَوالي ، علَى وَجْهِي ، وَفي رَمَقي

*

مرَّتْ على ساحتي خيلٌ وساريةٌ

ومرَّ  كلُّ بَغِيٍّ  ، فاسِقٍ  ، خَرِقِ

*

تَشَابَكَ الْقَومُ فاشْتدّتْ ملاحِمُهُمْ

نَواصِيُ الْخَيرِ   في  صنّاجةِ النَّزَقِ

*

وقَفْتُ أنظرُ في الْآفاقِ مُقتفياً

ريحَ الحسينِ بإشْراقٍ وبالمَلَقِ*

*

ناديْـتُـهُ ،  وعروقُ القلبِ في لَهَـبٍ

والنَّارُ في أضلعي والجَمْرُ في حَدَقي

*

يا سيّدَ الطَّفِّ، يا مَنْ في مقاتلِكمْ

قد زُلزلَ الكونُ زلزالاً ، ولم يُفِقِ

*

نهرَ الشَّهادةِ، إنّي صوبَ مَنهلِكُمْ

شددْتُ  أوردتي  خيلاً  لمُنطلَقي

*

حتّى أتاني بشيرُ النَّهْلِ مُصطحِباً

بدراً تماماً سقاني عَذْبَ مُندَفِقِ

*

وشـعَّ  مِـنْ وجهِـهِ نـورٌ  لِـيغـمـرَني

فكنْتَ أنتَ سراجي غامراً غَسَقي

*

يا سيدي، يا إمامَ الثَّائرينَ هُدىً

كي يقتفوا أثراً  مِنْ دربِكَ الغَدِقِ

*

ملأتَهُ بندىً  مِنْ  طِيْبِ  منبتِكُمْ

لا خاشياً سيفَهمْ أو حومةَ الفِرَقِ

*

بئسَ الذينَ تبارَوا في مذابحِكُمْ

فأصـبحُوا لعنةً ، في شَـرِّ مُنزلَقِ

*

يا قِبلةَ الحقِّ والأفلاكُ في رَهَبٍ

ملائكٌ حولَكُمْ  بالنَّجمِ  والشَرَقِ

*

الطُّهرُ  في بيتِكمْ  آياتُ سيرتِكُمْ

فعمَّ  عِشقاً بأعماقِ القلوبِ بقي

*

يا ابنَ الذينَ أشـاعُوا مِنْ منـاقبِهِمْ

الزُّهدَ في سيرةٍ والجُودَ في الخُلُقِ

*

وابنَ النَّبيِّ  الذي تسمو كواكبُهُ

وحيدرٍ ومِنَ (الدُّريِّ في الغَسَقِ)*

*

أنا ابنُ  بيتِ وليٍّ ... كلُّهُ غَضَبٌ

مِنْ أولِ الشَّبِّ حتى آخِرِ الرَّمَقِ

*

لِما لقِيْتَ، وما لاقَتْ  مَحارِمُكمْ

منْ غلَّةِ الحقدِ والنَّكباءِ والحُرَقِ

*

أنا ابنُ مَنْ شرّعوا جَمْعاً، ومِنْ وَلَهٍ

بأهلِ مَنْ طُهِّروا، عَهْداً وفي العُنُقِ

*

قد أسلمُوا لطريقِ الحقِّ رايتَهُمْ

فكانَ سِفْرُ هُداكمْ خيرَ  مُعتَنَقِ

*

ساروا على هَديِكمْ ، والطَّفُّ سائقُهُمْ

فاستنشقوا ريحةَ الفردوسِ في الطُّرُقِ

****

عبد الستار نورعلي

الخميس الحاديَ عشرَ منْ محرم 1446 هـ

18 تموز 2024

....................

* كتبتُ القصيدةَ في العام الماضي بـ(24) بيتاً، وحين نويْتُ هذه الأيام نشرها ثانيةً بمناسبة ذكرى عاشوراء واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام، مررْتُ عليها، فإذا بي أجدُني زِدْتُ عليها عشرةَ أبياتِ  جديدة.

* الدُريّ في الغَسَقِ: أي الكوكب الدُريّ المُشِعّ في الظلام. وهنا كناية عن فاطمة الزهراء عليها السلام.

* المَلَق: التضرُّع والدعاء

وغزال

رحت أرمقها

حتى توارت

حجبها

تراقص الشَّجر.

غزال

كأحبِّ ما يكونُ

إليَّ

بين البشر.

لبوحها القليل

طعمُ تأوّهات الوتر.

لسهام لحظها

نغمة الحبور

يبديها الثرى الظمآن

غداة الارتواء

بزخات المطر.

لوصلها

معسول دوالي العشق

تدلت

عناقيدها

ساعة السحر.

مذ عرفتها

وهي كأثمن الماسات

بين الدرر.

لبينها

برود الوصل

لما قد تكابد الروح

من هجير

متطاير الشرر.

عرفتها

كراهب

شيد صومعة للعشق

فأقسم أن يختزل نسوة الدنيا

فيها

كخليلة

مثلى

تغار من حسنها الشمس

ويخجل القمر.

***

أحمد الشيخاوي

شاعر وناقد من المغرب

 

ساعبر منحدرات

الامل والتامل

غير مبال بالعناكب

بالثعالب وبالحدات

وهكذا ساغني على

ضفة نهر الذاكرة

اغنيات الشفق الازرق والقمر

اغنيات البرق الريح والمطر

وهكذا  سابذر

في حقول المحنة

السوداء والنسيان

بذور النرجس

البنفسج والشفق الازرق

وهكذا سارتدي قبعتي

المصنوعة من حرير

الحكمة الخضراء

والامل الاخضر

معانقا احصنة الشمس

والنجم الازرق

مغنيين معا

اغنيات البرق والريح

واغنيات المطر .

***

سالم الياس مدالو

قصيدة عن قصة حدثت

مع الشيخ مزهر العاصي العبيدي

***

وأَطْـعَـمْنَاهُ فــي يَــوْمٍ عَـسِيرِ

فَـهَــذَا طَـبْـعُـنَا وَبِــلا غُــرُورِ

*

لـقَـدْ دَارَتْ بِـهِ الأَيَّــامُ حَـتَّـى

غَـــدَا كَـلْـبًـا قَـرِيـبًـا لِـلأَمِـيـرِ

*

فَــرَاحَ يَـذْمُّـنَـا غَـمْـزًا وَلَـمْـزًا

كـما الـمَعْهُودُ مٍـنْ كَـلْبٍ عَقُورِ

*

يَـقُـولُ طَـعَـامُنَا دِبْــسٌ وَدِهْـنٌ

لَـعَـمْرِي لَـيْسَ بِـالأَمْـرِ الـنَّكِيرِ

*

فَـلَـمْ نَـعْـلَمْ بِـأنَّ الـضَّيْفَ بَـغْلٌ

يَـتُـوقُ إِلَـى الـنِّخَالَةِ وَالـشَّعِيرِ

*

فـعُـذْرًا يـارقـيعُ عـلـى قـصورٍ

وَسَـامِحْنَا عَـلَى الـخَطَأِ الكَبِيرِ

*

فَمِثْلُكَ في الحَظَائِرِ كَانَ يُرْمَى

وَيُـرْبَـطُ بِـالـعِقَالِ مَعَ الـحَـمِيرِ

*

ظَـنَـنَّـا أَنَّــكُـمْ شَـخْـصٌ نَـبِـيـلٌ

فَـأَجْـلَـسْنَاكُمُ بَـيْـنَ الـحُـضُورِ

*

قِرَى الأضيافِ عُرْفٌ في حِمَانا

فـأشْـبَعَ زادُنا غَـرْثى الـطيورِ

*

ولــمْ يَـجْـحَدْ بـنا شَـهمٌ كـريمٌ

جُـحُودُ الحَقِّ مِنْ شِيَمِ الحَقِيرِ

***

عــبد الناصر عــليوي العبيدي

مودعة أنفسنا في رباك،

ايتها الأرض التي تيمم

أهلنا واجدادنا بترابك

وتوضأوا بمطر سمائك

وادوا صلاة العهد

فوق كل معراج

من تلالك وسهولك…

يستظلون شمسك

بجباههم المصبوغة بلون العزة

وهم يؤذنون للفجر

حي على خير العمل

يسابقون الشروق

كل صباح

ليقطفوا حبات الندى

عن سنابل القمح

وخيوط الشمس..

ويجمعون غمار حصادهم

للقادم من الأيام

فتستكين الروح

ويطيب السهر…

بحضرة القمر الحارس لياليك…

***

عباس علي مراد

فَرَ العصفورُ

وغاب الناطور..

في حقل الألغامْ..

والطفلُ بينَ ركام المبنى يحبو..

والغيمُ الأسود يرنو..

يتعجلُ بؤس الأيامْ ..

طفلٌ يركضُ بين ركام الشارع

يغطي سحنته الرعبُ

وعليه ترابٌ ودماءٌ وسخامْ ..

خلف الطفل ركامْ..

وأعمدةٌ تجثو..

* *

يتربصُ أحدٌ خلفَ السورْ..

يداعب لحيته الشعثى

يتمتم

لا أحدَ يفهمُ ما قالَ وما سيقولْ..

لغةُ الموت تقول وتجولْ..

من خلف السور يفرُ العصفورْ..

أنينٌ تحتَ ركام الشارعِ

وأشباحُ الموتى تهرعُ صوبَ النورْ..

تصرخُ في رعبٍ، أين الناطورْ ..؟

فيفزعُ بينَ شجيراتِ التينِ الشحرورْ ..

لم تبقَ في الحاراتِ سوى الصرخاتْ..

وأزيز الطلقات ..

يزيدُ ركام الشهقاتْ ..

وحينَ يجن الليل

يموتُ المعنى وتموتُ العبراتْ..!

* * *

د. جودت العاني

14 / تموز/ 2025

(من وحي غزة الصامدة)

اول مرة تعرفت فيها على يانيس كان في أحد أندية الجامباز الرياضية، كنا نلتقي ثلاث مرات في الأسبوع ..

كان يانيس ينتمي لإحدى مدارس البعثة الفرنسية، سكناه قريبة من النادي، وكنت من مدرسة حكومية وسكناي بعيدة تفرض علي ركوب الحافلة ..

كنا أترابا نتجاوز العاشرة من عمرنا بقليل، ألبسته الرياضية

وأناقته كانت لدي مثار إعجاب، ناهيك عن بسمات مهذبة تقطر ودا ولطفا في صدري، تنفث اطمئنانا وراحة، ثقة به، عكس ما كان يصدر عن غيره من مشاكسات وانانية، حبا في الظهور، أو تباهيا بنسب وانتماء طبقي أمام الغير خصوصا اذا كان هذا الغير إناثا.

أوامر أسرية غيبتني عن النادي وأبعدتني عن إيناس فجرتها دعوات تسعى لعودة الناس الى شرنقة الماضي بعقلياته وعاداته وطقوسه، بدأت تكبر كدوائر على صفحة الماء بتحجيب البنات وتحريم اختلاطهن بالذكور ولو كن صغيرات لم يبلغن الحلم،، دعوات شرعت تجلجل برعد وترهيب، وقد رضخ أبي لدعوات ممن تصدروا الحديث عن السماء بلا إذن من سماء، وبها قد اغتر كما اغتر غيره من طلبة وموظفين ممن أهملوا شواهد عليا حازوها حسب عناكب عقولهم عن علوم الكفار، ووظائف ذات دخل بدعوى أن دخلها حرام، فالجهاد في سبيل الله والدعوة اليه في اعتقادات هؤلاء أكبر من كل عمل، والحقيقة ان ما استهواهم هو ميلهم للكسل وحب الانزواء والاتكال على الغير، وكان أولهم اخي تنازل عن شهادة مهندس دولة وفضل العيش عالة على والدي .. حركة دينية سموها يقظة تفجرت بين رجعيين قذفت بهم البداوة الى سطح الحياة بلا زاد معرفي، سيسوا الدين وفيه قد شقوا وهم لا يملكون من علومه وفلسفته الا القشور، حرموا كل ما هو فن وجمال وتزعموا خلق الله عسرا بدل يسر، طمعا في مصالح او حبا في تقليعة حققوا بها "كم حاجة قضيناها بتركها" ..

المرة الثانية التي صادفت فيها يانيس كانت في باحة كلية الطب، كان المترشحون لهفة ترقب للوائح المقبولين، في وقتها لم تكن النتائج تصل عبر النت ..

فاجأني بتحية وقد باغتتني طلعته:

ـ حتى لو بلغ عمرك المائة وعني قد غبت مائة عام، سأعرفك..

كانت ترافقه فتاة شهلاء في طوله تكاد تكون به شبيهة، من نظرتها الأولى أحسست عيونها تتفرسني أو تفترسني، لا ادري، قدمها إلي وشعلة فرح تتفجر من عينيه، وكانه بادر بتقديمها خوفا من سوء ظن ينتابني أو هذا ما توهمته كأنثى معجبة برجل وعليه قد استحوذت أخرى:

ـ أختي التوأم كاميليا

ثم التفت الى أخته وقال:

ـ أنت مع صديقة عرفتها في طفولتي، ثم بلا إذن عني قد غابت، لم يتغير فيها الكثير سوى أنها أستطالت واكتملت أنوثة وصارت فتنة رغم حجاب أرادت أن تخفي به رقتها فحولها الى آلهة اغريقية ..

بسرعة نطقت أخته وبسمات الاندهاش لم تستطع اقتلاع عينيها الناعستين عن وجهي وقامتي كأنها تفصلني تفصيلا، أثارتني بحيرة في وقت طواني الخجل بحياء وقد اتقد خداي بحرارة:

ـ نجوى !! .. أليس كذلك؟ هي حقا فتنة، الآن أدركت سبب آلامك وانت تحكي غيابها عن النادي..

مسكت بيدي في ألفة كأنها تعرفني من زمان وقالت:

ـ صديقك هذا يا مولاتي قد ابتأس لغيابك وأنا الآن أشهد له بالذوق، معذور، فجمالك يفتت الصخر، وأخي أمسى ولفترة طويلة لا يثق بأحد بل صار يكشف عن خوفه منا جميعا أن نتركه ذات يوم كما تركت نجوى النادي بلا إذن ولا إشعار .

وميض من أسف لمع في عينيها لدرجة أن بوادر دمعة قد رقرقت فيهما ..

ارتبطت مع كاميليا بعناق وكأن كلا منا قد وجدت راحتها بين أحضان الأخرى، أليف قد علق بأليفه !! ..

تم اعلان النتائج، كانت غمرات غبطة بالنسبة لي وليانيس، كلانا قد تم قبوله بميزة أمام المعدلات التي شاركنا بها وقد كانت متقاربة الا من جزء بالمائة ..

اصر يانيس على أن أتناول معه وأخته الغذاء في أحد المطاعم القريبة من الكلية، احتفاء بلقائنا ونجاحنا ورغم اعتراضي الا أن كاميليا حسمت الامر بالقول:

أنا من أدعوك فلا تحرميني من رفقتك رغم أني ادرك أن خوفك آت من اسرتك لا من قناعتك ..

قالت العبارة الأخيرة بأنفة وثقة نفس كأنها بظروفي عليمة .. ذكاء وفطنة تعريان الظاهر بحدس !! ..

ـ هو كذلك فكل تأخر مني هو قيامة تقوم في البيت خصوصا من قبل أخي الذي صار حاكما بقانون فاق سيطرة أبي .. التزام ديني كما يدعي و"الشريعة لا تخجل من أحد "..

كنت بحق أحب مرافقتهما، والجلوس مع يانيس وقد تملكتني رغبة للحديث مع شاب اكتمل قدا وحسن صورة، لكن ما قد يعتمل في البيت من غليان وكثرة أسئلة جعلني أتابع بحزن وقلق يلاعبان صدري:

ـ ما رايك نؤخرها الى بداية السنة الدراسية؟

كان يانيس يتابع كلامنا وعيونه اقل التهاما من عيون أخته، نظرات مزيج من شوق و إعجاب لا تخلو من أسف وحسرة أو

محاولة لاسقاط كل الحواجز، لا أدري .. كنت مطوية لفيف في عينيه، فاسبح مسترجعة ذكريات الصبا القديم وهي تداعب هزات صدري ..

جميعا لم ننتبه الى ابن عمي الذي باغتنا بوجود، كان أشبه بشاب أفغاني يرتدي قميصا قصيرا وبلحية طالت بلا تشذيب، هب مندفعا وكأنه قد انبعث من شق، يوجه الي حديثه آمرا عنيفا:

ـ عرفت النتيجة، أليس كذلك؟.. بسرعة الى البيت !! ..

تطلعت اليه كاميليا في نوع من التحدي لا يخلو من قلق المباغثة:

ـ وأنت ماذا يهمك؟ وكيف تتدخل بلا اذن و تباغتنا بقلة احترام؟

ردة فعل منها تؤكد ثقتها بنفسها كانعكاس لتدخل تحكم سلطوي فجر ما تتمتع به كاميليا من حرية واستقلالية قرار..

شرع يانيس يتطلع اليَّ مترقبا ردة فعل مني وقد ظن ان المتدخل أخي ..

تراجعت قليلا الى الخلف و بحدة خاطبت ابن عمي بغصة في صدري بعد أن حسسني كلامه بالدونية والتحقيرأمام الغير، تحكم ذكوري هو أقوى مما يمارسه أخي في البيت، فمن سمح له بالتدخل في أمر لايهمه؟.. هامشي لايميز بين ما يريده لنفسه وما يقتنع به غيره، شمولي يريد الكل على شاكلته ..

ـ انت فعلا قليل الادب، بلا سلام تتدخل فيما لا يعنيك .. يلزم أن تدرك أن الوصي الوحيد عليَّ هو والدي ..

شددت على ذراع كاميليا في تحد للمتطفل ابن عمي:

ـ أعتذرعزيزتي الشخص ذا ابن عمي .. هيا بنا، فقد جعت ..

ظل يانيس مشدوها لما حدث وللفعل الانعكاسي الذي صدر مني، كان يترقب ردة فعل ابن عمي الذي رأى في طول يانيس وبنيته الرياضية ما ردع هجومية شرسة وشت بها عيونه فتراجع وهو يزأر همهمات تتفجر من صدره في غضب كان يتبدى تلوينات على وجهه بين الصفرة والزرقة ..

ـ سأعرف كيف اترك عمي يحسن تربيتك ..

ضحكة سخرية أتت من يانيس وهو يضع يدا على كتفي وأخرى على كاميليا في اتجاه سيارة مكشوفة ..

كانت كاميليا تتابع دراستها في المعهد العالي للاعلام، أنثى مغرمة بالسياحة والفندقة مستغلة ملكية أبيها لوكالة أسفار في المدينة ..

رغم تعلقي بها فقد كان تقربها مني يثير في نفسي قلقا بين إبهام وضيق يتفاقمان مع الأيام ..

كلما عانقتني بادرت الى شفاهي تحاول مصها او الضغط عليها بمقدم أسنانها، وما جمعتنا غرفة لوحدنا الا وأسقطت حجابي، فكت ظفائر شعري الطويل ولفتها حول جيدينا ثم مسحت وجهها بذراعي..

ـ انت رائعة نجوى وتقاطيع ذاتك فتنة، ولا استطيع التحكم في رغبتي اليك ..

بلا حرج كانت تعلن رغبتها فارد عليها بين بسمة وقلق:

ـ ماذا تقصدين، أوضحي ماذا تريدين مني؟ احتار في سلوكك معي !! ..

ـ متى تفهمين؟ الا تهتز نفسك برغبة، أحبك وأشتهيك نجوى ..

كنت لا اغيب عنها يوما او يومين الا ويانيس يذكرني برغبتها في رؤيتي ..

كنت أخشى أن أخبر يانيس بسلوكاتها، فقد افقدها ومعها أفقده، كان حريصا على ألا أغيب عنه حتى أن الكثير من الطلبة توهمونا مخطوبين ..

أخبرتني أمي يوما أن ابن عمي يريد أن يصالحني وقد ندم على سوء تصرف قد صدر منه بلا وعي ..

ـ عمك سياتي مع زوجته وابنه للعشاء عندنا والاعتذار لك مرة أخرى ..

أدركت السبب فالزيارة لا تتعلق باعتذار وانما في خطبة وهيهات أن تكتمل ..

ركبني حنق وفي صدري تفجر حقد وغضب وعلى وجهي أمي ومن غير عادتي رميت كلمات في حدة:

ـ لن يجدني هنا وأكره أن أرى وجها حقرني امام غيري، الليلة سأبيت عند كاميليا، أمها تقيم حفلة صغيرة بمناسبة خطبة أخيها على طالبة معها في المعهد وسأضطر للمبيت عندها ..

لا أدري كيف خرجت مني كذبة كهذه؟ فلم تكن غايتي غير ابعاد تفكير أمي عن أخ كاميليا وما يمكن ان يخامرها من شك ..

لا أنكر اني بدأت مع الأيام أفرض استقلاليتي وأقوم بما يحقق رغباتي ويشبع ميولي، استطعت أن ابعد يد أخي وتحكمه في أموري بعد أن حدثت الكثير من التغيرات النفسية والاجتماعية التي اكتسبتها من الكلية ومن قراءات واعية للدين وسماحته ومن علاقتي بأسرة يانيس التي شكلت اطارا مرجعيا لسلوكي مع غيري..

لأول مرة تعترف لي كاميليا أنها تعشقني وعني ماعادت تطيق صبرا ..

بدأت أدرك ما تريد، فهي لم تستطع اثارتي فقط وانما جعلتني استرجع ذكريات من طفولة قد خمدت في بؤر الذاكرة مذ كنت طفلة بالروض حيث كانت احدى المربيات تدربنا على تمثيل عروس وعروسة وتعلم الأطفال كيف ينام الأزواج مع زوجاتهم، كانت تجلس قبالتنا تتلذذ بما يقوم به الأطفال ..

لا أدري ما ذا وقع بالضبط؟لكن الروض قد اقفل ابوابه وأكملت السنة في البيت قبل أن أدخل المدرسة الابتدائية ..

أكذب لو قلت أن كاميليا لم تحرك في نفسي ذكريات أخرجتها من رماد النسيان عشتها في طفولتي كم ارقتني كلما كانت خالتي في ضيافتنا حيث كثيرا ما وجدت زوجها يستغل ظلمات الليل فيتسلل الى غرفتي و يتحسس أعضائي، وكنت أخشى ان أخبر أمي او ابي بل كثيرا ماغاب عني النوم وانا اترقب دخوله وكأني صرت استلذ بما يفعل..

وقد رقدت تلك الذكريات في مسرح دواخلي مع رقدة زوج خالتي الأبدية..

وحققت لكاميليا ماتريد بل حققت رغبة هفت لصدري و استلذت بها جوارحي و قد أيقظت كل كامن في ذاتي قد غفا .. ربما مع كاميليا قد وجدت حقيقتي ..

كنت أسألها:

ألا يعرف يانيس ما بيننا؟

كانت تبتسم، تلعق خدي ثم تقول:

هبه قد عرف ما دخله في حريتينا الشخصية ورغباتنا الخاصة؟..

ورغم ذلك اطمئني، ادرك حبك له ولا يمكن أن أفسد علاقة الود بينكما..

كانت تردد العبارة الأخيرة بنوع من البرود لا أثر فيه لغيرة أو خوف من ان يستحوذ علي أخوها فأبتعد عنها، وكأنها تتوخى أن تنفخ في نفسي نوعا من السكينة للاطمئنان والتسليم بما تقول ..

من صدري تتفجر تنهيدة قلق، فيانيس ماعاد الرجل الذي أعرف يموت حنينا كلما غبت عنه شوقا الى رؤيتي، حتى قبلاته النادرة ازدادت برودة عما ألفته معه، بل تلاشت كما تلاشى أكثر من إحساس قد جمع بيننا ..

شي ء ما في دواخله يصرخ لكن لايريد أن يطلعني عليه، حتى في الكلية صرنا كصديقي دراسة أو كأخ يرافق أخته حتى يحميها من تحرشات الطلبة .. هل يكون هواه غير ما يظهر لي؟..

ألا تكون علاقتي بكاميليا وعشقها لي هو ما دفعه للابتعاد عني؟

ربما أخرى غيري قد اثارته بالتفات؟ .. كاميليا قد دحضت اعتقادي.. بأن يكون يانيس قد تعرف على فتاة غيري، فلا أنثى كانت تثيره بانجذاب على الأقل في حضوري وحديثي معه ..

ما أثارني هو برودة جنسية تهيمن على يانيس، جبل ثلجي يقد عاطفته، كلمات الغزل لديه لا تتعدى شفاهه أما دواخله فصقيع هو ما يشككني أصلا في ميولاته، وما زاد في شكي أنه يتعمد ألا يختلي بي واذا حللت بالبيت أطلب كاميليا تعمد الغياب ..

كنت مع كامليا في أحد المنتزهات وفجرت ما في صدري عن أخيها ..

ترددت في البداية قبل أن تقول:

نجوى، حبي لك يفوق كل حد ولولاي ما متن بك يانيس علاقة .. أنت أكثر من نفسي بل أنت توأم روحي ولا أظنك الا واعية بهذا وما سأبوح لك به يلزم ان يظل بيننا بحق ما يجمعنا من حب ومودة.. هل تعدينني؟

ماذا في جعبة كاميليا وما هذا السر الذي تريد أن يدخل صدري بلا خروج؟

لا حظت سلوكات كثيرة على يانيس وأخته كما على أمه وأبيه، فكنت أظن ان الامر يتعلق بوسط مجتمعي خاص والانسان حر في اعتناق الناموس الذي يعيش به ..

كانت كاميليا تحدق في وجهي بتمعن، لا ريب أنها تدرك أني في مستوى ما ستخبرني به؟

ـ اسمعيني نجوى: قد يكون يانيس متيما بك الى درجة العبادة لكن ما جدوى ذلك، ويانيس لا يملك ما يسعدك به أو يسعد غيرك، إنسانيته تمنعه ان يجعل منك ضحية وهو من عانى في طفولته من غيابك عن النادي .. يانيس ـيا نجوى ـ لا يمتلك عضوا للذكورة ومن طفولته تم تركيب جهاز يسمح له بالتبول، وقد خضع لعدة عمليات لتحويله الى أنثى لكن جهازه التناسلي غير مكتمل التكوين لهذا فهو يتعايش مع واقعه الخلقي الذي ولد به، لذلك يكره ان يعرف سره أحد حتى افراد العائلة لايعرفون شيئا عن هذا، وحيث اننا من اسرة لا اثر للدين في حياتنا لهذا لانؤمن بالمعجزات، نؤمن بالعلم وقدرته التي قد تباغتنا بحل لمشكلة يانيس وغيره وهم كثر ذكورا وإناثا .. أنا نفسي عانيت مما يعاني أخي لكن بدرجة اقل تمكنت الجراحة أن ترتق الكثير فقد كنا معا توأمين يتشاركان جهازا تناسليا واحدا ..

ـ نجوى عزيزتي !! .. أنت أمام حقيقة ربما تكون مذهلة بالنسبة لك كمسلمة، العاطفة لديها أقوى من العقل والتسليم بالواقع لكن شخصيا وأسرتي كذلك لا نؤمن بأي دين فانسانيتنا هي مرجعيتنا التقييمية لما نستبطنه من قيم وأخلاق، ألم تلاحظي يانيس كيف انه لم يتدخل يوم تطفل ابن عمك على خصوصيتك، يانيس يحترم الانسان لما يحمله من أفكار بلاتصنيف ديني أو عرقي .. أقسم لك أنك لدى يانيس أكثر لحمة مني وهو يتعمد الابتعاد عنك حتى لا يقيدك بمصيره وعجزه ..

ابهتتني كاميليا بما قالت وما على لسانها قد تفجر بلارحمة لصدري كيف وقعت من طولي وبكل ثقافتي؟هل هو الغباء أم الثقة الزائدة؟

خوف شرع يركبني، طواني بغياب عن كل ما حولي، ثم ما لبثت أن أخذتني قشعريرة هي مزيج من حب ليانيس وتعلق بكاميليا، صراع يفترسني بين القوة والانهزام .هل أكمل الطريق معهما أم اتراجع وأمامي مسار يلزمني النجاح فيه؟ مسار دراستي ..

بعد التخرج تم تعييني في مستشفى عمومي في إحدى مدن الجنوب في حين فتح أبو يانيس عيادة فاخرة لابنه، كانت سببا في ابتعادنا أكثر عن بعض..

كنت ويانيس نكتفي بالتواصل عبر الهاتف وعلى مسافة من الزمن في حين كانت كاميليا لا تتوقف عن زيارتي أسبوعيا فلا هي استطاعت عني بعادا ولا انا تحملت غيابها .. كانت كل مرة تقنعني بالاستقالة من العمل الحكومي والعمل مع يانيس توأمها، كنت أرفض بشدة فكيف أعمل جنبا الى جنب مع رجل استحوذ علي من طفولتي وفي حبه قد انغمست وانا لا املك منه الا حرقة النظر؟ وكيف أحافظ على السر الذي حملتني إياه والذي قد ينبعث من قمقم صدري فأصير كمن" خرج من الحبس وجلس ببابه "

شرعت زيارات كاميليا تقل وتتباعد عما كانت الى أن انقطعت نهائيا، حتى الهاتف صار شحيحا بيننا.. دوحة حبنا ذوت في عز شبابها وكنت الخاسرة .. عند أول عودة الى مدينتي صممت على زيارتها.. بصراحة كنت اشتاق ليانيس وأحب أن اراه كيف يسير عيادته وهل استطاع النجاح بنفس إحساس التفوق الذي كان عليه وهو طالب قليلون من استطاعوا مجاراة ذكائه وتفكيره ..

وتزلزلت الأرض من حولي فما فاجأني اقوى من احتمالي،

لقد وجدتني لا ازور حبيبا وحبيبة، وانما ازور مريضين يحتضران كلاهما قد اصيبا معا بسرطان في جهازهما التناسلي كان يسري داخلهما سريان النار في الهشيم، وقد فاجأتني أم ايناس وكاميليا بخبر انهما مذ خلقا والخطر يهددهما معا فكلاهما كان متشوه الخلقة على مستوى جهازهما التناسلي المشترك والسبب "ريبيول" أصابها وهي بهما حامل دون أن تنتبه لذلك ..

ووجدتني أنهار من طولي، أصيح باكية و كأني في حياتي لم ابك من قبل، شاب بطول وعرض وجسم رياضي منحوت يذبل كما تذبل تينة قد لامسها قبل ان تثمرقحط، وانثى كانت تشتعل نار رواء ورغبة تلتوي ولها تجدب نفس ويحتبس خصب فتذوي بعد أن احلوَّت وكانت لذة نظر وحضور ..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

أخفضي مسدسك الأشيب.

ودعي ذكرياتنا تحلق بأمان.

تهبطين من الباص

مثل شجرة ضريرة.

قطع أغصانها حطابون كثر.

صوتك مليء بالأسرى.

بكمشة فراشات نافقة.

وخطواتك أمطار متقطعة.

أنا تنينك الأبله.

الذي يتبعك برؤوس سبعة.

وعشرين مترا من الحريق الهائل.

في انتظارنا وردة السيمياء

وأصيص صغير من جبس المخيلة.

لنقاتل ثيران الأسبوع الهرمة.

ونقيم دويلات من الفرح الخالص.

***

فتحي مهذب - تونس

حامي الإسلام بإجرامِ

يتزيٌا التقوى

كي يَقـْوَى

على حَمْلِ الأمر بِإقدَامِ!

*

أَنْعِمْ بروائعِ تَيَّاهٍ

يَتقربُ زُلفى لـ(إِلَهٍ)

بِليالٍ حُمْرٍ

ومَـــــــلَاَهٍ...

والفتح بِضَمٍّ إلزامي!

والزَّجّ بـ(أُمِّ) قضايانا

نِسْياناً

أَبَدِياً

عَمْداً

في قَعْرِ ظَلَام الإعلامِ!

*

ماخَيَّبَ ظنّ أبيهِ ولَمْ

يُبْدِ مِنْ صُنْعِهِ أي نَدَمْ

ومضى بعِقَالٍ... لا عَقْلاً

يَتخَبَّطُ من غير لِجَامِ!

يَجْمَعُ في ليلِ عَبَاءَتِهِ

مايُبقي عَرْش ولايَتِهِ

ويُدِيمُ حُكْمَ جلالتِهِ :

(أَدْمِغَة الإسلامِ الدامي)!

*

كم جَرَحَ الأُمَّةَ صَهْيَنَةً...

واجْتَرَحَ السوءَ علانيةً...

ويداوي الجُرْحَ بِآلامِ!

*

حامي الإسلامِ متى تَعْقَلْ

وتُعِيدُ حساباتِكَ...أفضلْ

أتُوالي أقزام عُلُوجٍ

وتدينُ بِدِينِ الأصنامِ؟!

وتقيسُ الدِّينَ

بأَحْـــزِمَةٍ!

وعمائمِ (دار الإفْنَاءِ)؟!

ولِحَىً

_لاتَعْرفُ وُجْهَتها_

ناسِفَةٍ

كل الأحياءِ!

فلْتَحْمِل حِمْلَك مُبْتَعِدَاً...

قبل الإجهاضِ

بـِ(تُوسْنــــامي)!

حامي الإسلامِ

بلا

حامي!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

13/7/2024

 

بُرعُمٌ في غاباتِ عَتمتي

يتراقَصُ

وفَراشةٌ فوق وريقاتي الصَّفراء

تداعبُ تاريخَ النِّهايات

وتعاينُ لونَ اليَباسِ

حِيرَتي وجَعٌ

ونفحةُ الطِّيبِ من خَديها تنسكِبُ

كالبَدرِ في صَحنِ السَّماءِ

وأنا ما تَبقَّى من الهِلالِ

خريفٌ يُعرِّشُ فوقَ أيامي

والربيعُ صَوتُ ذِكرى

فأين المَفرُّ

من صاعِقةِ البَرقِ

وهَديرِ الرَّعدِ

ليتَ من رَتَّبَ الفُصُولَ

كان قد صَاغَ

من ربيعِكِ تؤامين

وبَدَّدَ خريفاً

بِكُلِّ مَكرٍ في سَالفي

قد تَبَدَّى

جراحُ الحَسَراتِ تَستفحِلُ

فلا آسٍ يُداوي

ولا أعشابُ العَطَّارِ باتت تَنفعُ

هل أبطأتِ في القُدومِ

أم أنني قد حَضَرتُ قبل الآوانِ

ليتَكِ كُنتِ قد أبكرتِ

وليتَ قِطارَ عُمري

من أجلِكِ

كان قد تأخَّرَ

تلتهمُ مني السُنونُ ما تَبقَّى

والتَّوقُ يَفضحُ حُرقةً

بين الأضلاعِ تَشتعِلُ

هادرَةٌ أمواجُكِ

وزورقي عَتيقٌ

ومن غيرِ مَجاديفٍ

فكيف إلى موانئِك الوصولُ

وأنا أخشى الإبحارَ

في لُججِ الإِعصَارِ

وكُلُّ المنارات مُطفأةٌ

والدربُ عسيرٌ

فكيف من تُوهِ عينيكِ تكونُ النَّجاةُ

أنا صمتُ الخريفِ

وأنتِ ضَحكةُ الرَّبيعِ

في فضاءاتِ الياسمينِ

تُغرِّدُ

صار البِشْرُ جَوَىً

وأضحى الفِرارُ هو الظَّفَرُ

عجبا كيف تُبدِّلُ الأزمانُ

كُلَّ المُعادلاتِ

فيصيرُ الانهزامُ

انتصاراتٍ

والنأيُ بالنَّفس ِ

هو المطلبُ وهو المُرادُ

***

بقلمي: جورج عازار

ستوكهولم السوي

 

نَــعِيشُ فــي عَــالَمٍ خــالٍ مِنَ القِيَمِ

يَــحْمِي الــعَمَلَّسَ لا يَــهْتَمُّ بِــالغَنَمِ

*

يَــقُولُ لا تَــقْلَقُوا ما عَادَ مِنْ خَطَرٍ

خَفَّتْ لَدَى السِّيدِ طَوْعًا شَهْوَةُ النَّهَمِ

*

أَلا تَـــرَوْنَ بِـــأنَّ الــذِّئْبَ مُــبْتَسِمٌ

وَيَــنْشُرُ الــسِلْمَ فــي الآفَاقِ والأَكَمِ

*

أَعْــطَى وُعُــودًا بِــألَّا يَــعْتَدِي أَبَدًا

وَهْــوَ الَّــذِي بَرَّ في مَاضِيهِ بِالقَسَمِ

*

إِلّا إِذَا غَــبَّــرَ الــخِرْفَانُ مَــخْدَعَهُ

وَلَــمْ يَــعُدْ قَــادِرًا يقوى على الأَلَمِ

*

وَكَيْفَ يُؤْمَنُ مَنْ سَاءَتْ مَرَاضِعُهُ

وَالــغَدْرُ يَكْمُنُ في الأَطْبَاعِ والشِّيَمِ

*

كُــلُّ الــثَعَالِبِ لِــلسِّرْحَانِ مُــهْطِعَةٌ

تُــبْدِي الــنَّدَامَةَ عَــمَّا قِيلَ مِنْ تُهَمِ

*

وَهْوَ الضَّعِيفُ الَّذِي تَحْمِيهِ كَوْكَبَةٌ

أَرَاذِلُ الخَلْقِ في الأَمْصَارِ والأُمَمِ

*

كَــأَنَّــهُ الــبَدْرُ وَالأَجْــوَاءُ حَــالِكَةٌ

وَمَا سِوَاهُ سَيَهْدِي النَاسَ في الظُّلَمِ

*

مَا لِلْخِرَافِ سِوَى الرَّحْمَنِ مِنْ سَنَدٍ

فَــلْيَسْتَعِينُوا بِــرَبِّ الــبَيْتِ وَالحَرَمِ

*

مَــنْ يَردُفِ القولَ بالأفعالِ مُلتزماً

لاَ بُــدَّ مُــنتصراً. يَــرْقى إِلَى القِمَمِ

***

عــبد الناصرعليوي الــعبيدي

يسقط وجهي

مخلفا غيمة كثيفة من الغبار

يسقط جيراني صرعى

تلاحقهم جنازير من القلق اليومي

عذابات مليئة بقذائف الهاون

يسقط الراعي وراء قطيع الهواجس

يطارده حبل طويل من السحرة

تسقط النجمة العذراء

يسقط الضوء من قبعة الخوري

ذئاب الندم الليلي

يسقط كل شيء

وجه النهار في مصيدة اللامعنى

الجسر الذي ترتاح على كتفيه

صلوات الرهبان

الشاعر بثقوب مروعة في حواسه الخمس

يسقط وجه سائق الباص من النافذة

يسقط وجه الشمس

على سرير الماء

يسقط صاحب الحصان الأحمر

بطلقة طائشة

يسقط  العميان تحت أنقاض الكلمات

مخلوقات عذبة

تسقط في النسيان

كلمات عميقة تسقط في شرك التأويل

وجه العذوبة يسقط في البئر

تسقط التوابيت على رؤوس الحكام

الحمام العائلي يسقط

الضحكات الحزينة تسقط في الوحل

يسقط لاعب الجمباز

مروض الساعات الحرجة بسكتة دماغية

يسقط العجوز مدججا بأمطار غزيرة من التجاعيد

يسقط القطار المحمل بالمنتحرين

تسقط السماء فوق الأرض

تسقط الأرض في مأزق أبدي

يسقط كل شيء

تسقط الأقنعة الكثيفة

مدبرو المكائد في الإسطبل

متعهدو حفلات الشواء العربي

القتلة وقاطعو رؤوس الكلمات المضيئة

الراقصون على رصيف المؤامرة

سائقو عربات الأموات

المهجوسون بإيقاع اللامبالاة

ستسقطون

ستسقطون

ستسقطون.

***

فتحي مهذب - تونس

 

نعيش قليلاً

ونموت كثيراً

كفّة الموت تغوص عميقاً

في أرضِنا الموحلةِ بتناسلِ الجراح

فيما الحياة تتأرجحُ وطيئةً

(بخفةٍ لا تحتمل).

*

كوني مجنونةً يا حياتي

كي تقطعي علانيةً

سلاسلَ الآلام

وأنتِ تقهقهينَ منفوشةَ الشعر

في شوارعنا الكئيبة.

*

كنْ سافلاً يا شعري

كي نصفعَ بقوة

جهامةَ الحياة حيناً

ومزاحِها الثقيلِ أحياناً .

كنْ قوياً يا شعري

كي تزرقَ

بإبرِ كلماتٍ سمينةٍ

المؤخرةَ الهزيلةَ للحياة.

*

مُتْ يا ألمي هذه الليلة

لأنّني سأنعشُك

غداً صباحاً

بمقوياتِ كآبتي الطاعنة

في عمري الذليل.

*

ليس لدي سوى كلماتي

ولذلك سأعيش

غنياً بصورةٍ كوميدية

صافعةٍ يومياً

لتراجيديا الحياة .

*

كوني فقيرةً يا أيامي

كي أتمرنَ على ملاعبةِ وحشتي الضخمة

في قبري المفتوح

في أيّةِ لحظة .

*

لا أكنُّ للحياة سوى البغضاء

لأنها لم تعترفْ بواحدٍ مثلي

يزنُها شعراً كل يوم

وهي غير آبهةٍ أبداً .

*

لا أفيقُ صباحاً

طوالَ عمري

من لكماتِ الحياة الليلية

أنا بانتظارِ

الضربةِ القاضية.

*

الحياة

امرأة جميلة

كسَّرت أسنان أيامي

باغيةً

خلعَ وجهِ أملي البائس

لماذا

الموتُ حنون

والحياةُ  بترٌ دائمٌ

لأذرعِ الحبِّ

منذ بدءِ الخليقة؟!.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

الظل يتشكل في لمحة عين

لا يبقى في وهج الضوء طويلا

والشمس ترياق العمر

لا شيء جميل من غير الضوء

هي تعطي للاشياء معانيها

وترسم للاكوان مراميها

ومن غير الضوء ، تمسي الاشياء بلا معنى

والعالم يغرق في الظلمة

في بحر اللامعنى؟

**

"ديوجينيس" يحمل مصباحاً

يتأرجح فيه الضوء

بين الناس

وعند النصب

يقولون ، لماذا يحمل ديوجينيس المصباح

والصبح مضيئ؟

فتجيب ألهة الحكمة:

إني أبحث عن إنسان..!!

والجمع همو الناس،

يبحث "ديوجينيس"(*)

عن انسان بين الجمع..!!

**

التزم البعض الصمت

وانتاب البعض الأخر نوبات الضحك

وانشطر الجمع شعابا

وامتزجت ألوان الطيف

وسادت موجاتٌ

وأناه ظلت في العلياء

تفتش عن معنى الجمع الخاوي من المعنى

غير الأكل والشرب الجنس

ثم النوم

ليصحوا تكرارا

يعبث في دائرة اللآمعنى..

ويظل الفانوس يضيئ

يبحث عن إنسان في ضوء الشمس..!!

***

د. جودت صالح

06/07/2024

................

(*) ديوجينيس فيلسوف إغريقي .

لا بد لي من

حراسة  بيدر عينيك

ولا بد لي من

زرع في حدائق

عينيك ازاهير

البنفسج

والاقحوان

واشجارا مثمرة

تستظل بظلالها

الفراشات

العصافير

واليمام

ولا بد لي من

عكس عبر مرايا

شغافك البنفسجية

قباب من ماس

وحرير تاوي

اليها  حين الحزن

حين الهم

العصافير  الكراكي

واطيار اليمام

ولابد لي

لابد لي من

اتخاذ من شرفة عينيك

ملاذا لي لاعزف

على ناي قلبي

الحزين

لحن  البرق

لحن  الخصب

ولحن المطر .

***

سالم الياس مدالو

 

إلى روح غسان كنفاني

أنا هنا يا أمي

تحت جدارن شرفة بيتنا

مابين أشجار الزيتون وأشجار اللوز

لست نائما كما في غرفة نومي

ولا حالما كالنوارس العائمة على الموج

أنا هنا يا أمي  تحت الركام

روح ما بين الحياة والموت

وجراح  تنزف حنينا

لشغب الطفولة

وللنوارس ولزرقة البحر

أنا هنا يا أمي أسمع صوتك

وأخشى عليه من القصف

أخشى أن أفتح عيني

فلا أجد غير ذكراه

وذكراك

وأطلال البيت

أخشى أن أنهض فتخونني

أطرافي وروحي وأحلامي

بعد كل هذا القصف

***

عبد الرزاق اسطيطو

 

وما الحياة إلا

محاولة للنسيان

مسافة حلم بينك

وبين قلبك، جلوس

على حافة حزن

في انتظار الموت

ومنفى يسكنك

وبعض مهاجرْ

*

وما الحياة إلا

مقامر

يبحث بين الأوراق

عن حظه الأخير

هذا العائد من الهزيمة

لا يتعب

يمارس خساراته ،

ويكابرْ

*

وما الحياة إلا

غيمة

تردد الهواجس

على إيقاع خيبتي

ربما تلقي بي هناك

وقد زارني الحب و مضى

إلى ذكرى تأبى الرحيل

وليل حائرْ

*

وما الحياة إلا

عاشقة بالأمس

جدار للغد بين جسدين

كتب عليه بحرف بارد

من أنا ؟ بعد عينيها

ومن هي ؟ بعد طفل فقد ما يحب

لم أكن قتيلا بما يكفي

كي أحمل قلبي إلى المقابرْ

*

للغياب لكنة تملأ

لغتي، ولأني كنت

وحيدا ساعة الحب

صرخت النسيان كي

لا يجتر القلب ما بقي

في الذاكرة من أثار

الناي حول حلمي،

وكي لا يرتد إلي

: ما يقول المساء

كن ابن يومك، لا تحن

إلى أمس، ولا تترك

الآتي يغتال حاضرك

ودرِّب ظلك على الرحيل

فما الحياة إلا حب عابرْ

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: هذا العالم لا يشبه أمي

 

أول يوم بدء تصوير الفيلم كان في شارع من شوارع العاصمة التي شهدت الكثير من المواجهات الدامية في سنوات مضت، أتذكرها الآن جيدًا، بتفاصيل غابت عني في زحام الأحداث المتوالية، وأنا أشاهد الموقع المعَد بعناية فائقة لتصوير عملية الإنقاذ إثر تفجير تعالت أدخنة نيرانه هنا وهناك كي تلتقطها أكثر من عدسة يشرف عليها المخرج من خلال شاشة كمبيوتر موضوعة أمامه عند مدخل مقهى عتيق، لعله يدخل في صلب الأحداث أيضًا ليضفي مصداقية أكبر على أجواء الفيلم، أما الانفجار ذاته فقد تم تصويره في مكان خلاء خارج المدينة، فلم يُسمح بتنفيذه في ذات الشارع كي لا يثير المزيد من الذعر والبلبلة، ومن ثم قد يتم استغلال ذلك إعلاميًا من أجل المضاربة السياسية بين الأحزاب المتنافسة في الانتخابات البرلمانية القادمة.

سبع سنوات قبل الاحتلال…

أجبتُها لمّا سألتْني عن عمري، سخرية أردتُ أن تثير انتباهها نحوي أكثر، وجدتْ فيها فطنة ضحكنا لها معًا، مع ذلك لم تعرف كم أبلغ بالتحديد، لأنها لم تعد تذكر سنة احتلال جحافل جيشهم العملاق لبلادي، رغم أنها تبدو أكبر مني بأكثر من عشرة سنوات، ما أن تخفف من المكياج الثقيل والمناسب للدور الذي تجسِده في فيلم تظهر ضمن أغلب مشاهده بثياب شديدة الإغراء في مرمى عيون المتجمهرين لمتابعة التصوير، على مسافة تتكفل فرضها قوات مكافحة الشغب الخبيرة بالتعامل مع شعب أنهكته المطالبة بأبسط الحقوق دون جدوى.

كنت أقلِب القنوات والمواقع الإخبارية سريعًا كلما انتهت مظاهرة تلقيتُ خلالها ضربات مختلفة اعتدت كتم آلامها داخلي، أو بعد اعتصام انتهى مثلما ابتدأ، كما لو كنا في رحلة لم تخَلِف سوى الذكريات الجميلة، تقتنص بعضها كاميرات الهواتف، كأننا نلتمس منها حفظ تلك اللقطات من النسيان.

ومن المواقع أيضًا جمعتُ بعض المعلومات عنها، بدافع الفضول بداية الأمر، فعرفتُ ما أن كتبتُ اسمها في محرك البحث أنها ممثلة أفلام إباحية، مثلتْ في العديد الأعمال منذ أن كانت في السابعة عشرة من عمرها، ارتبطتْ بنجم سينمائي ذي شهرة عالمية لعدة سنوات، كما تزوجت من مخرج مغمور، ومن ثم تطلقا بعد أقل من عام…

اختارتني مترجمًا لها بناءً على توصية من أحد المشرفين على الديكور، يحب أن يقول ذلك عن نفسه، مع أنه من ضمن النجارين الذين يصنعون مجسمات خشبية، تبدو في شاشة العرض كما لو أنها أماكن حقيقية بالكامل، وكم نالت دهشتي مثل تلك (الفبركة) السينمائية الممتعة وحادة الذكاء، ذكاء لا ينجم عنه موت وفقر ودمار جيلًا إثر جيل.

لم أكِلمها عن شيء من هذا، فلن تفهم بالتأكيد، فقط كنت أخبرها عما يفيدها في تجسيد دور من تعيش قصة حب شَبِقة مع أحد أبناء البلد الغريب عنها ولم تتعرف عليه سوى من القنوات الإخبارية المعتادة على نقل كوارث الحروب وأهوال شعوب بعيدة كل البعد عن دائرة اهتمامها.

ربما ما كان يخطر لها على بال أنها ستضطر إلى المجيء لتصوير مشاهد إغراء بين خرائب حرب لا تُرفع أنقاضها مع تشييد أبنية جديدة ورصف الشوارع واختفاء بقع الدم وبقايا أشلاءٍ كنا نبحث عنها تحت الركام.

بطل الفيلم يجَسِد شخصية شاب شهد الكثير من الويلات داخل بلاده المنكوبة حتى التقى بحبيبته الأجنبية، فيقرر الهروب معها من المتطرفين المتعقبين آثارهما، والاختباء في أحضانها داخل بيتٍ يرفرف  بعبير عشقهما خارج حدود المكان...

يقوم بالدور ممثل من أبناء البلاد، لكنه أجنبى الجنسية، نشأ في إحدى بلاد اللجوء، بالكاد يتقن لغته الأم، أما لهجته فتبدو لي مضحكة جدًا، كما لو أنه يمثل دور المغترب داخل الفيلم، وبطريقة كوميدية بعض الشيء، من حسن حظه أن الحوار أغلبه باللغة الإنجليزية، إلا أنه رغم ذلك يفرض وجوده أمام وخلف الكاميرا بشيء من الغطرسة المستفِزة، رغم أن مشاركاته السابقة اقتصرت على الادوار الثانوية في عدة أفلام أجنبية.

لعل ملامح وجهه الشرقية وسمرته، وأيضًا عضلات جسده المفتولة، ما أهله للحصول على مثل هذا الدور أكثر من أي شيء آخر، فقد كانت أمام عدسة الكاميرا تبدو شديدة التناغم مع طول قوامها الرشيق، قسمات وجهها المضيئة في أكثر المشاهد المحاكية لأسى مدينة تصليها رشقات الموت كل حين، والنهدين المتدليين من تحت ثوبها الشفيف كعنقوديّ عنب، أكثر ما يغريني للتقرب منها، ويخيفني في آنٍ واحد، خاصة ونحن نمضي وقتًا طويلًا في (الكرفان) الخاص بها، على أطراف بناء تم هدمه من قبل ولادتي ولم يشَيِده أيٌ من مالكيه المتعاقبين.

لا أدري إن كانت تتعمد إغوائي بجلساتها شبه المستلقية، دون أن ترتدي غير ثوب شفيف فوق ملابسها الداخلية، متذمرةً من لفحات حر الخارج الذي لا يمكن أن يطيقه بشر، رغم وجود تكييف يجعل من (الكرفان) جنة نتلهف أنا وأهلي إلى نفحة منها على مدى ساعات من لوبة الاختناق.

رغمًا عني صار شيء من النشوة يداخلني بمجرد جلوسي على مقربةٍ من فتنتها الأخاذة، وكأنها ما طلبت توظيف مترجم خاص بها إلا لكي تتأمل غريزة الحياة في أرض الموت، كما تصف بلادي باستمرار دون أدنى اهتمام بما يعتلي قسمات وجهي من ضيق، فما أنا لديها أكثر من قاموس يترجم بضع كلمات هنا وأخرى هناك، ولمّا يدركها الضجر تحدثني وتسألني عما تشاء.

توالت طرقات اللوم والتأنيب على مسامعي، إلى درجة الوعيد بنار جهنم من بعض أصدقائي شديدي الالتزام الديني، حد التطرف أحيانًا، كوني ضمن العاملين مع عاهرة جاءت لتقديم عروضها العارية في فيلم من الأفلام الهابطة التي تُظهِرنا مثل وحوش لا يسعون إلا وراء الشهوة، بينما أدركني الخوف أن أغدو مثل عشّاق النجمات ممن يصابون في نهاية المطاف بلوثة تفقدهم آخر جذوات العقل، وفي بلادنا الجميع معرض للجنون، جنون يلج الأدمغة مع كل أزمة جديدة، كل تصريح صاخب، ومزايدة سياسية تستثمر ما بقي لدينا من أحلام في وطنٍ منهار.

خشيتُ أن أنهار فعلًا، خاصة بعد تصوير أول المشاهد الحميمة بينها وبين بطل الفيلم في البيت الذي قررته لهما أحداث السيناريو، كان ضيق المساحة، يقع في منطقة سكنية خاصة بعوائل مليشيا أحد الأحزاب المتعاقبة على استلام السلطة، تم تأمينه جيدًا، قبل بدء انسياب شلالات عشق الحبيبين/ البطلين، لكن أيًا من النساء المتلفعات بعباءاتهن والرجال الملتحين، يمسك أغلبهم المسابح ويعتمر بعضهم الكوفيات والعمائم، لم يكن على علم بما يجري تصويره خلف جدران إحدى دورهم المباركة بالتأكيد، خاصة وأن الإجراءات الأمنية استدعت أن ترتدي عباءة لدى دخولها وخروجها، وكم كانت فرحة بذلك التنكر الغريب حتى اقترحت أن تلف جسدها ضمن مشاهد الفيلم، ولو لم ترتدِ شيئًا تحتها لكان ذلك أكثر جاذبية وإثارة.

كم احترقتُ تحت وطأة مثل تلك الكلمات، وإن لم يتم تصوير لقطة واحدة، أكاد لا أصدق أنها تمثيل يمكن له التوقف لحظة نطق المخرج كلمة (Stop)، بينما سريان مخيلتي لا يمكن له التوقف لحظة واحدة، حتى أكاد أنسى سبب وجودي وسط أجواء غريبة عني كل الغرابة، وإن رحت أشعر في بعض الأحيان أني جزء من ذلك العالم وأعرف كل تفاصيله، وفي ذات الوقت تمنيتُ أن أحل مكان البطل، أكون حبيبها، لكن في الحقيقة، لا ضمن أحداث العمل فحسب، ودون أن أضطر إلى تركها في نهاية اليوم لأعود إلى بيتي، متخوفًا من الاتيان بأي صوت يفضح احتدام فحولتي لدى أخوتي الذين يشاركوني النوم في ذات الغرفة الخانقة، وكأن الجدران المشَبَعة برطوبة الفقر والعازة تشارك بدورها في اختطاف أنفاس ثوراتي الجامحة حتى يحين وقت هروعي لرؤياها ضمن جولة حرمان جديدة، وكاميرا الإغواء لا تتوقف عن بث أنوثتها المستعرة في رأسي لحظة واحدة، فيما تتوجه وباقي فريق العمل إلى منطقة القصور الرئاسية التي لا يمكن اختراقها ولا زعزعة أَمنها وإن أحيلت المدينة بأسرها إلى حطام.

إلى هناك تلحقها مخيلتي، تصوِر لي كل قادتنا السياسيين وهم يتنافسون على ولوج جناحها، ذات تنافسهم قبل بدء كل دورة برلمانية، أو تشكيل حكومة جديدة، ومن ثم تسابقهم على المناصب الأكثر أهمية ونفوذًا، ولعلهم يتفقون على إجراء مزاد كل ليلة من أجل ساعة واحدة يقضيها الفائز ببذخ أموالنا المسلوبة فوق جسدها العاري، لكن ليس على الأرض المهيأة أمام عدسة الكاميرا، لتتدحرج وعشيقها كما يشاء لهما المخرج بين ترابها، المعَد هو الآخر بعناية لا نفطن إليها لدى المشاهدة، خاصة عندما نكون محتقنين بغرائز تترجى بعض الانفراج من خلال مشهد هنا ولقطة هناك، بل ربما تكون عطاياها للسيد ذي السطوة الكبرى في إحدى القاعات الفخمة التي كانت تُعقد فيها الاجتماعات القيادية والمناسبات الوطنية في عهدٍ مضى، صار محط أحاديث تحولت بمرور السنوات إلى ثرثرة لا جدوى منها.

ثملتُ بظنوني وتوجس أخيلتي وحماقات الكلام المتناثر بين جنبات الصمت على مدى عهود، مثلما أثملتني أنوثتها المتمردة، إيماءات سكونها، كركرة ضحكاتها، وحدة غضبها سريعة الانفعال، والعصية على محاولات التخفيف من عصبية تهديدها بترك موقع التصوير والخروج غير عابئة لشيء، ودون أن تهتم لِما يستر عريّ جسدها، ولِيركض وراءها أحد المصورين بكاميرته وسط العيون المحدِقة كي يكون الفيلم أكثر واقعية من أي سيناريو يتم تعديله لدى كل مقطع من مقاطع الحوار، وكذلك يدر في غمضة عين أرباحًا تستحقها مخاطرة المجيء إلى هذا البلد المدمَر والمسكون بهذر الكثير من الحكايات والخرافات…

صرتٌ أقنع نفسي بتفهم تذمرها من كل شيء من حولها، بلا مراعاة لوجودي وكل من يعرف اللغة التي تتكلم بها بصوتٍ جسور، مثل الصواريخ التي اقتلعت كل شيء في بلادي كي تغرس شتلات عهدها الجديد.

في إحدى تلك المرات كانت الأكثر عدوانية، والأكثر إغواءً، دخلتْ إلى غرفة أعِدَت من أجلها وصفقت الباب وراءها، كانت تلتف بروبٍ تمنيت لو أستطيع الاحتفاظ به كلما خلعته ورمته على الأرض، كأنها لن تلبسه مرة أخرى، دخلتُ وراءها، دون طرق الباب من شدة لهفتي وقلقي عليها، فقد أخذت الدموع تترقرق في عينيها الزرقاوين لفرط نفورها من شفتيّ الممثل الشاب فوق رقبتها تارة ونهديها تارة أخرى، وإن تحججتْ بسطوع الإضاءة كومضٍ شديد الوهج طيلة فترة التصوير التي تستمر لأكثر من عشرة ساعات أحيانًا، دون أخذ يوم استراحة، كي يتم إنجاز الفيلم حسب الخطة الزمنية التي اعتمدتها جهة الإنتاج.

لا شك أنها أبصرتْ في عينيّ رغبة جامحة أوغلت في صدرها الخوف، حد الذعر ربما، رغم كل ما حدث بيننا من تقارب، ورغبتها في التكلم معي طويلًا عن حياة تبدو لها متكتمة على أسرارها، وإن تجلتْ أغلب خصوصياتها عبر الفضائيات، كما لو أن تلك النظرات التي لم أستطع حجب وحشيتها عنها أكثر كانت من ضمن مشهد الاختطاف الذي ضاقت من تنفيذه منذ أول يوم تصوير.

غادرتْ الغرفة على عجل كي تنهي مشهد العناق المحتدِم، وقد صار يثير فيها التقزز على ما يبدو، لا النشوة المغامرة، كما يجب أن تُظهِر على الشاشة، بكل التأوهات المطالِبة بالمزيد من سحر الشبق، في التياعٍ يظل يتردد مثل موسيقى تصويرية تتخطف الأسماع حتى انطفاء شاشة العرض.

خشيتُ أن تكون وقع أنفاسي بين شفتيها مثل تلك الشفاه الغليظة للخاطفين، بعد أن يمزقوا كل ثيابها ومن ثم يتناوبون اغتصابها، لأنها في عرفهم تُعَد من غنائم حرب مفتوحة، يُباح فيها استخدام كل الأسلحة المتاحة حتى رفع رايات النصر… أن تصرخ بعلو صوتها، وكفاها الرشيقان يلطمان وجهي بقوة خبرت شراستها من سوح الأفرشة التي جابتها في حياتها، وهي تصوِب نيران شتائمها نحوي وأهل بلدي، لدى محاولتها إبعادي عنها، وفي عينيها نظرات تقزز من نهم فحولة البهائم العابثة فينا رغم كل ما يسحق انسانيتنا على الدوام.

قررتُ ألا أذهب مرةً أخرى إلى موقع التصوير، مهما كانت حاجتي لأجر الترجمة، والمحادثة حسب ما يتوافق مع مزاجها، حتى لو اتصلتْ وطلبت مني العودة، ربما لمجرد الاستمتاع برؤيتي ذليل أسر أنوثتها من جديد، فقد لا أحتمل السيطرة على غرائزي ما أن تهفو نحوي نسمة من فوح جسدها المتطوح بين أحضان البطل المحظوظ بأنه غادر البلاد منذ كان صغيرًا قبل من أي شيء، بينما أضطر أن ألزم مكاني في صمت الموتى خلف كل طاقم التصوير، إلا أن الهاوية التي وددت تجنبها كانت بانتظاري بعد محاولة الاختطاف التي تعرضتْ لها، بعيدًا عن عدسة الكاميرا والحبكة المرسومة للفيلم.

تم مداهمة الدار وأخذي، وسط صراخ والدتي وذعر أخوتي والجيران، اقتادوني معصوب العينين دون أن أدرك ما ينتظرني، ولدى وصولنا إلى دائرة أمنية، داخل منطقة القصور الرئاسية، أنزلوني وآخرين من السيارة الكبيرة التي جمعتنا من أنحاء متفرقة في العاصمة وخارجها، ثم ساقونا ركلًا وضربًا بالعصي الحديدية نحو زنازين فردية تشبه التوابيت حتى بدء التحقيق، مع كل واحد على حدة، من أجل معرفة من المتورط منا في محاولة الاختطاف، أو ساهم بشكل أو بآخر في إحداث ثغرة أمنية تتسللت منها المجموعة المتطرفة المخطِطة للعملية، كنوع من الانتقام من المحتلين وما يرتكبونه من جرائم، ولو من خلال خطف ممثلة أفلام إباحية بدأ نجمها بالأفول، ربما يمكن مبادلتها بعدد من المجاهدين الأسرى في معتقلات أعداء الدين، إن لم يتم قتلها مثل أي عاهرة جاءت إلى بلاد المسلمين لإشاعة الفساد والتحريض على الفسوق... كما جاء في البيان الذي قرأه أحد المحققين على مسمعي، وهو يرمقني بنظراتٍ متوعدة، وكأنني من كتبه ومسؤول عما تضمنت كلماته من تحدٍ ووعيد.

خرجتُ من المعتقل بعد شهور، رغم عدم وجود ما يدل على تورطي في شيء، ولم أعرف عنها أي خبر، سوى أنها تستعد لبدء تصوير فيلم آخر، على ذات الطراز، بعد أن حققت شركة الإنتاج إيرادات أكثر من المتوقع بأضعاف، كما قرأتُ في عدة مواقع ألكترونية.

تم منع الفيلم من العرض داخل البلاد، كما لو أنه لم يتم تصوير لقطة واحدة تُظهِر جانبًا من شوارع وأزقة العاصمة، إلا أني استطعت مشاهدته بعد فترة، وكأني وجدت ما فقدته فجأة وخبا مني كل أمل أن أخظى به مجددًا.

عندها تملكني إحساس يقارب اليقين أني كنت أحد الممثلين، بل أهمهم من بعدها، متتاسيًا كل ما واجهت وعانيت خلف الأسوار المنيعة، الجروح التي لم تكن قد التأمت بعد، الأوجاع الرابضة في أضلعي، والعرج الذي قد يرافق خطوي مدى الحياة.

تابعتُ الأحداث مشهدًا مشهد، لقطة تلو الأخرى، كل حركةٍ وإيماءة، عناقٍ ولمسة... حتى اختفاء وجهها عن الشاشة، كأنها تتعمد أن تخفيه عني في لؤمٍ متجبِر يشاكس عجزي أمام كل ما حدث ويمكن أن يحدث، وبصورة غير متوقعة، ففي النهاية لم أكن، وكل من يمضون أعمارهم في الفرجة مثلي، إلا بعض تفاصيل سلسلة غير منتهية من أفلام رخيصة المضمون، لكنها تبقى عالية الإيرادات.

***

أحمد غانم عبد الجليل

كاتب عراقي

الــشعرُ  رمــزٌ وفــي التبيانِ إفصاحُ

والأمــرُ  صــعبٌ إذا مــا غابَ لمّاحُ

*

نــبكي عــلى القدسِ والآلامُ تعصرُنا

والــهــمُّ يــســكنُنا والــخوفُ يــجتاحُ

*

نــبكي جــراحاً بــلا دمــعٍ ولا وجلٍ

والــجرحُ صــعبٌ وما يحتاجُ جرّاحُ

*

نــشكو  الجراحَ لمن قد كانَ يجرحُها

وهــل يــداوي جــراحَ الــقلبِ سفّاحُ

*

والرّعبُ يكبرُ في الأطفالِ من صغرٍ

فــي الــليلِ يــسكنُهم غــولٌ وأشــباحُ

*

يــأتــيهم الــخوفُ كــالغربانِ داهــمةً

مــن والــجِ الــليلِ لا يــأتيهِ إصْــبَاحُ

*

هــذي  الــعروبةُ مــاتتْ دونــما أملٌ

لـــن  يــضــرمَ الــنارَ نــفاخٌ وقــدّاحُ

*

بــاعوا ضــمائرَهم لــلغدر وانتفضوا

مــثلَ الشياطينِ قد غصّت بها السّاحُ

*

بــاعوا الــعروبَةَ فــي سرٍّ وفي علنٍ

لــكيْ  تــقومَ عــلى الأنــقاضِ أفراحُ

*

أيــن الــعروبةُ بــل أيــن الــحليمُ بهم

قــد حــلَّ فــي الــقومِ أحزانٌ وأتراحُ

*

مــثلَ الــنعامةِ تــخفي الــرأسَ خائفةً

مــاذا  عــن الــرأسِ لو جاءته أرْيَاحُ

*

تــخــبئُ  الــرأسَ والأشــلاءُ بــارزةٌ

وراحَ  يــنهشُ فــي الأشــلاءِ تمساحُ

*

قــالوا  الــتماسيحُ صعبٌ أنْ نحاربَها

هــــيّــا نــصــالحها لــعــلّ نــرتــاحُ

*

شــاهــتْ وجــوهُهمُ مــاعادَ يــنفعُهمْ

إنْ  نـــامَ  شــانــئُهمْ أو قـــامَ مـــدّاحُ

*

هــذي مــراكبُنا فــي الــبحرِ هــائمةً

وخـــانَ فــي الــقومِ ســفّانٌ ومــلّاحُ

*

ونــحن نــغرق فــي صمتٍ ولا أملاً

ولا  يُــشَــكُّ بـــأنَّ الــجــمعَ ســبَّــاحُ

*

ضــاع  الكماةُ إذا الأنذالُ ما ارتفعتْ

والــنــذلُ  يــرفعُه فــي الــقومِ نــباحُ

*

لا تــأملِ الــخير من قيحٍ ومن جربِ

مــا عــاد فــي الــقومِ أفــذاذٌ واقحاحُ

*

إنّ الــنــعالَ إذا طــالَ الــزمانُ بــها

مـــا  عــاد يــنفعها رتــقٌ وإصــلاحُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

آلمني حين علمت بأنك تعرضت لوعكة صحية افقدتك القدرة على الكتابة...

إن السير في شارع الحرف ونحن مثقلون بكل هذه الهموم والإندثارات التي تراكمت علينا تصبح الحياة  أكثر وجعاً وأكثر عمقاً وكذا أشد حيرة....

أكتب كثيراً حتى تتماثل للشفاء وحتسي كأساً من الأحرف الساخنة لتخرجك من مرضك ضع ضمادات المفردات على جبينك حتى تعيد إليك شعور الدهشة ....

سيدي: في الوقت الذي أحاول مواساتك أجدني أواسي نفسي رغم إنني الآن في أحسن حالاتي الكتابية....

ولكن يقلقني أن تعلق في كتاباتك بقع من الألم رغم إنك قلت لي مرة إننا نخرج اللهفة من أقلامنا حين نكون في المرض أو في الضجر....

أكتب لك ونحن في آخر نيسان وعلى أعتاب فصلك المثمر بالأبجدية كما تصفه....

إنني أنتظر على جانبي حرفك بقبعة صيف وقلم حتى أستقل مفرداتك لتقلني إلى الضفة الأخرى.....

لعلك تشبة أبجدية فصلك فالمرض يباغتك في البدايات الدافئة لفصل الحرائق حتى يبقيك متوهجاً الأحرف التي تنبت بستعجال الدهشة....

إنني أتعجب من هذا العالم الذي أبدع في عالم التكنلوجيا العصرية لم يفلح في أن يخترع حرفاً يصف تلك الكتلة من الشعور حين نكون بين شعورين متضادين... أتعجب من عجز اللغة بكل بحورها من أن تبقينا تحت صفيح ساخن  بعد تلبد الشعور الكتابي..

***

مريم الشكيلية - سلطنة عمان....

مع ترجمة، بقلم: د. يوسف حنا فلسطين

I write to lure the great rivers

***

لم يصدقني أحد.

حين قلت: إن الشمس شقيقتي الصغرى.

فرت من معتقل الوشق الأحمر.

والتصقت بالسماء.

*

لم يصدقني أحد .

حين قلت: إني انتحرت منذ عشرين سنة.

لما صعدت بحبل مخيلتي الطويل برج كنيسة مهجورة.

وألقيت نفسي في الهاوية.

كان علي أن أشق جيب معدتي مثل ساموراي شريف.

يومها إختفت أمي في براري ألف ليلة وليلة.

ظلت تفرغ أكياس دموعها في المرتفعات.

ومن شجرة إلى أخرى

كانت ترعى غيومها الكثيفة.

مثل قطيع من الشياه الضريرة.

غير أن المسيح رق لحالها.

جاء بدمه وصلبانه.

بخبزه ونبيذه.

طويلا مثل زرافة .

يجر عربة يد مكتظة بالنجوم.

وبنبرة قائد أوركسترا

بعثني من مرقدي .

ثم وهبنى صلبانه لأواصل الطريق إلى كنعان.

بعد قيامتي تحولت أمي إلى سنديانة.

يباركها حتحور في الأوقات الحرجة.

ومع ذلك لم يصدق أحد قيامتي التي خذلتني مرارا.

*

لم يصدقني أحد

لما وهبت خاتمي لفهد مكسور الخاطر.

وآويت أقزاما جائعين في نص مليء بالفواكه.

وهبت عكازا من الخشب الأحمر.

لظل عضه كلب سلوقي

في البلكونة.

غيرت مجرى النهر من عمودي الفقري إلى حجرة النوم.

*

لم يصدقني أحد

لما أحدثت ثقوبا فظيعة في عجلة عربة الله.

لئلا ينقل الأبدية من حديقة رأسي

إلى مكان غير معلوم.

ورميت سناجب الغفران بالحجارة.

لأني نصف إله.

ومصارع فذ لوحوش العدم.

*

لم يصدقني أحد لما قلت:

إن الفراشة زوجتي السابقة.

إختلست نصوصي وفرت صوب الحقول.

يومها لعقت حليب التنين

كسرت دمعتي بفأس.

تقمصت أرواح أزاهير العالم.

أوف, إفترستها الأماكن المعتمة.

لذلك كلما تئز فراشة في الهواء

أقول: زوجتي تعتذر.

*

لم يصدقني أحد.

لما حررت الكلمات الرهائن من الأسر.

طاردت بومة البدهي.

وخلقت العبارة القلقة لإسعاد الغرقى والعميان.

***

فتحي مهذب – تونس

..........................

I write to lure the great riversيوسف حنا

Fathi Muhadub / Tunisia

From Arabic Dr. Yousef Hanna / Palestine

***

No one believed me

When I said: The sun is my younger sister

That escaped from the Red Lynx jail

And stuck to the sky.

*

No one believed me.

When I said: I committed suicide twenty years ago

When I climbed up an abandoned church tower

With a long rope of my imagination

And I threw myself into the abyss.

I had to slit my stomach fold like a noble samurai.

That day my mother disappeared into the wilds of the Thousand and One Nights

She kept emptying bags of her tears in the heights

And from tree to tree

She was herding her dense clouds

Like a flock of blind sheep.

However, Christ pitied her.

He came with his blood and his crosses,

With his bread and wine

Long like a giraffe

Pulling a handcar packed with stars,

and with a tone of orchestra maestro

He raised me from my shrine

Then he granted me his crosses to continue the way to Canaan.

After my resurrection, my mother turned into an oak.

Hathor (*) blesses her at critical times.

Nevertheless, no one believed my resurrection, which repeatedly let me down.

*

No one believed me

When I endowed my ring to a broken-hearted cheetah

And sheltered hungry dwarfs in a text full of fruits

I endowed a cane of red wood

To a shade bitten by a greyhound

On the balcony.

I changed riverbed from my spine to my bedroom.

*

No one believed me

When I terribly clipped the wheel of God's chariot,

Lest he transfer eternity from the garden of my head

To an unknown location.

And when I threw stones on the squirrels of forgiveness,

Because I am half a god

And a peerless gladiator fighting the monsters of nothingness.

*

No one believed me when I said:

The butterfly is my ex-wife,

Diverted my texts and fled towards the fields.

That day I licked the dragon's milk.

I broke my tear with an ax.

I reincarnated in the souls of all flowers in the world

Was preyed by dark places.

So, whenever a butterfly is wheezing in the air

I say: my wife apologizes.

*

No one believed me.

When I released the hostage words from captivity,

Chased the owl of Axiom,

And created the anxious phrase to please the drowned and blind.

***

....................................

 (*)Hathor: is an ancient Egyptian goddess associated, later, with Isis and, earlier, with Sekhmet but eventually was considered the primeval goddess from whom all others were derived. She is usually depicted as a woman with the head of a cow, ears of a cow, or simply in cow form.

 

شاهَتْ وجُوهكُمُ التي

تبَّتْ وَجَـــاهَتهـَـا...

بِجَاهٍ حـَالِكَةْ!

*

تَبَّتْ شُؤونكم التي

لم تنقضِ أبداً

وتـقضي -دونما أَسَفٍ - على

هذي الشعوب المُنْهَكَةْ!

*

تَبَّتْ مَجَالِسكمْ

وما تَدْعو إليهِ- تَصَنُّعَاً -

ومُبَارَكَةْ!

وفي خِتامِها عادةً

تتلو وَعِيـــــدِ المعركة:

( الويل للرِّجْسِ المُصَنَّفِ غاصِبَاً

من هجمةٍ

مُرتــــــدَّةٍ

في قِمَّـــةٍ

قـــــادِمـةٍ

مُشْـــــتَرَكَـــةْ )!

*

تَبَّتْ سِياسَتِكُمْ

وماباعَتْهُ من شَرَفٍ...

وما ابْتَاعَتْهُ من تَرَفٍ...

وماكَسَبَتْهُ- خُسراناً -

تَمَخَّـــضَ عنها أوطـــاناً

ذَوَتْ مُنْتَهَكَةْ!

وعلى رصيفِ هَوَانكمْ هَانَتْ

وباتتْ

تحت أيدٍ هاتِكَةْ!

*

أنتمْ بتطبيعٍ تَطَبَّعْتُمْ على

حُب انبطاحٍ

بارتياحٍ

لدواعي ( أُبْنَةٍ* )

تَضْطَرّكمْ للحَكْحَكَةْ!

حَمْقَى كـ( دَغَّةِ* )

للتَّنَدُّر ِ  مَضْحكَةْ!

أَمُخَنَّثُونَ -عُرُوبةً -

أم أنها مِثْلِيَّةٌ -حقاً -

وليست فَبْرَكَةْ

طَمَعَاً بِوَشْمِ الأمركةْ ؟!

*

تباً لكم

طولاً وعرضاً شَائِكََـاْ

يَشُكُّ في أجسادِكُمْ

لعنات ماضينا

وحاضرنا

وآتينـــا الذي...

وأُولئِكَـاْ!

وكل شاردةٍ

وواردةٍ...

إلى قِيامةٍ...وملائكةْ!

*

نَدْري الذي تَدْرونَ:

أنَّ الجوع يَنهشُنَا

ويَعْصِرُنَا

ويَحْصُرُنا...

ولكِنَّا بِصَبْرٍ نَعْلِكهْ!

*

تباً لكم

آنَ الأوان لِمَحْوِكُمْ

إن الذي

نَــدْري ولاتَدْرُونَـهُ:

الجـــــــوعُ يُسْقِطُ

مَـمْـلَـــكَةْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

4/7/2024

 

زبدٌ  يطفو

وتحتَ وسادتهِ، يرتعدُ الموجُ

حتى يصير الكلام

نوارساً في سطورِ القصيدة ..

تهبُ كريحِ الشمالِ العنيدة ..

وتمضي بعيداً كأن النفوس

في غياهبِ أوجاعها

تحتسي كل تلك الكؤوس..

من الحزن

وتطلق ثورتها في الرؤوس..

**

هو البحر

كمملكة الحالمين بموج سوي

تهب عليه رياح المساء

محملة بالندى

يحط رذاذه ماء

يزيل عطش التراب

وظلي أراه يغوص

بين شقوق الارض

كالمحراب في ظل العذاب..

تلك راحلتي

تجوس الأرض في غنج

لها عند الغروب

خيالها في الصمت غاب..!!

وعندها شدت خطاي سرابها

مذ حل في ساحاتها ذاك المغيب

ولونه صبغت معالمه الدماء..

حتى تهدج عند ناصية التعبد والدعاء..

**

فاشرب رحيق صمتك وارحل

تنفس بعيداً

لعل الهموم تثير جرحك..

وان الهواجس قد تنير صبحك..

وعند مساؤك الدامي تراود قدحك..!!

عويلا وصخبا ودمعاً

ترقب صباحك، بعضه

قد تشرق الشمس عليك..

لتبصر تلك الوريقات

معطرة بالخزامى

تساقطت تحت هدهدات الرياح

تدور بها عند تلك النهايات

افرغت ظلها فوق عشب السنين الخوالي..

وذاك الحنين

وتلك الدوالي

تحن إليك ..

حنينُ  أنين الصواري

وشهقة انفاسها تهيم بها نسمة باردة..

هي اليقظة الشاردة..

تصب لنا زيتها

فتلهب النار في جليد الشرايين

وتبعثها  ثورة  ماردة ..

***

د. جودت صالح - أنتاكيا

26- 2 - 2024

قَال الشّيخُ الْمُدثَّرُ في بُرْدةٍ سوداءَ، بعدَ أن رمَى في فنْجانِ بُنِّهِ قطعةَ سكّرٍ واحدَة:

كُلُّ الْمَسَاكِينِ فِي هَذا الْبَلَدِ الْمُبَارَكِ يُعَشِّشُ فِي عُيُونِهمْ طَائِرٌ، تَشْتَهِيهِ الْكَمَائِنُ والْمَدَافِنُ، ولَا تَشِتَهِيهِ تَقَاسِيمُ الْحَلْوَى الشَّقْرَاء .

قَال أيضاً بعْدَ أنِ ارْتشَفَ مرارَةَ الوصْفِ الأوّل:

فِي عَيْنِ بَدَوِيّةِ الْجَبَلِ يَسْكُنُ طِفْلانِ، وَاحِدٌ تَعْجِنُهُ تُراباً ، يَثْقُبُ الْأَرْضَ الْبِدَائِيّةَ فِي عُنْفُوَانِ الشَّبَق. وثَانٍ تَبْرِيهِ قَلَماً يَحْفَظُ فِي صَدْرِهِ الْعَارِي مَا نَسِيَهُ التُّرَاب. وفِي الْمَسَاءِ، يُنْجِبُ الْاِبْنُ أَبَاهُ فِي فَرْحَةِ كَاْسِ شَايٍ وكِسْرَةِ خُبْزٍ دَهَنَتْهَا الْبَدَوِيّةُ بِسَمْنِ كَفَّيْنِ قُدَّتا مِنْ جَلَدٍ وحَنِين .

قالَ ثمّ سكَت:

الْعَرَقُ فِي الْأَيَادِي الْمَشْقُوقَةِ أَشْجَارٌ يَابِسَةٌ، كَانَتْ تُغَنِّي فِي أَرْدِيّةِ اللَّيْلِ ثِمَارَهَا الْمَسْرُوقَة، وفِي النَّهَارِ صَلَبُوا قَامَاتِهَا الْفَارِهَةِ عَلى مَقَاصِلِ الْوَجَع الصَّامِت فِي طَلَاءِ الْجِدَارَاتِ الْمَنْسِيّة... الْأَسْمَاءُ عَلى الْمَحَجَّاتِ والزُّقَاقَاتِ عَلَامَاتُ ذَاكِرَةٍ اقْتَلَعُوهَا مِنْ مُتُونِ الْعَرَقِ .

سادَ الْمكانَ صمْتٌ مَهِيبٌ ألْجَم المُتحلّقِين حولَ مِقصلةِ الحسْوِ الأسود المعترفِ بعضُه بثقافة السكَّر والرافضِ بعضُه لها . خرجَ عنْ سُكوتِهِ ليسْتدرِك:

آهْ... كدْتُ أنْسى: عَينُ الْفَلّاحِ شُعاعٌ ومَطَر، قَامَتُهُ قَوْسٌ مَشْدُودٌ إِلَى حَجَر. اِمْرَأَتُهُ أنهارٌ مُفْعَمةٌ بِالنَّشِيد. نَسْلُهُ  مَنَاقِيرُ، مَنَعُوهَا أَنْ تَبْلُغَ سِنَّ الْقَضِمِ، أَفْتَوا فِي رَوْعِهَا أنْ حَرَامٌ هِيَ فَرْحَةُ الْعِيد ...

قالَ مُحدّثُهُ وهو في الآنِ ذاتِهِ مُرِيدُه، متكوِّماً في بذلةِ عصرِيةٍ زرقاءَ أفصَحتْ شديداً عن كتلتهِ اللحمِية الموغِلَة في السّمنة، بعدَ أنْ طوَى جرِيدة اليومِ الثّامِنِ بيْن يديْه:

كم يكفِينِي من الوقْتِ لأصعدَ قمّة الكلامِ فيكم؟ وأنا أرغَبُ في القولِ فتحاصِرُني حِكْمَةُ المساكِين. أَراضِينَا لَا تُنْجِبُ سِوى نَبْتاتِ الْمَوت، وسوى صَهِيلٍ، لا يَنْمُو فِيهِ إِلَّا جُمُوحُ الْحُفَر. كذا صاغَتْ حِكْمَةُ السّنابِل رأيَها في المشْكِلَة وهِيَ تُعَرِّجُ فِي أَشْواقِ جَلالِ الْغَيْمِ ... كُلّما دَاخَتْ عَنِ التُّرْبِ شَقائِقُ النُّعْمانِ، وأوْراقُ النّعْناع، كُلَّما رَكَضَتِ الْمَنازِلُ ضِدّ رَغْبَةِ الرّيح فِي حَصائِدِ الْأشْلاء ... وَحْدَهُ  وَشْمُ الْماءِ يُدْرِكُ مَوْتَها بِغَيْرِ بَراهِين، وبِغَيْرِ فَضِيحَةٍ  لِأَناشِيدِ الرَّحِمِ الْمَوْجُوعِ فِي مَديحِ السَّراب.

قالَ عاشِقٌ يلمّهُ الجمعُ معهُما وعيْنُهُ على اليومِ الثّامِن، تسكُنُه رغْبَةٌ قدِيمةٌ في مداعَبَةِ جناحِ الكلماتِ المُتقاطِعة:

هَذِهِ الرِّيحُ الْغَرِيبَةُ، تَنْجُرُ رِيشَ الْحَمامَة، كَيْ لَا تُحَلِّقَ فِي انْتِشَاءِ الْغَيْمِ،  يَراعاً يَلْبَسُ الضَّوْءَ، ويَمْشِي عَلى صَفِيحِ النَّهْر... وَلَمّا خَطَفَتِ الْحَمامَةُ رَبِيعَها السّادِسَ بَعْدَ الْعَقْدِ الْعَاشِرِ مِنْ أَزْمِنَةِ الْخَوْفِ، دَثَّرُوها بِوَرَقٍ ذَابِلٍ ثُمَّ فَتَحُوا أَمامَها بابَ التَّكاثُر.  

أمّا أنا، ولمْ أكنْ بعيداً عن أصداءِ الحلقَة، فقد صدّعَني هؤلاء المُنْتشُونَ في أرائِكِ الوصفِ، يشخّصُونَ ويصِفون. ويكادُ الْكلامُ منهمُ أنْ يسخطَ على الْكلام. كانتْ عقِيراتُهم مُرْتفِعة، وكأنّني بهم يَرومُونَ تسْمِيع الحُضورِ شجْبَهمُ الحرِيريّ... أصخْتُ السّمع تأهّباً لمغادَرةِ الْمقْهى إذا ما شطّ هؤلاءِ في مسلْسَل رسْم لوحاتِ الكآبَة بمجازاتٍ باذِخَةٍ في التّجرِيد.

سمع الشيخُ عبارَتِي الأخيرَة، مع العلْمِ أنني همستُ بها لنفْسِي، ولولا أنّني على يقينٍ شديد بأنني الوحيد الذي سمع مقالتي لقلتُ إن في الأمرِ سِرّاً . وقد قلتُ إنّ في الأمر سرّا... فها شكّي يتبخّرُ عندما ابتسم لي هذا الشيخ في مكرٍ مُعلِّم. وأدركتُ بعد حين قصيرة أنّهُ  لم يسْتسِغْ رفْضِي الواصِف لحضُورِهم. باغَتَنِي وأنا اللّامُنتمي لجلْستِهِم بدعوتِهِ الهادِئة كيْ ألْتحقَ بمائِدتهِم الدّسِمة بالمعْرِفَة والكلام.

استَجبْتُ خشيَةَ أن يشْمَلَنِي الشّيخُ بلمزِه وغمْزه. وأصبحتُ في لمحِ البصرِ رابعَهُم. وقد رحّبُوا بي بابتِساماتٍ اختَزَنتْ أكثرَ من مَكْر.

كانَ المكانُ عبارَة عنْ فضاءٍ واسِعٍ في حيٍّ شعبِيّ، يتّسعُ لكلّ الراغِبينَ في الفتْكِ بجسَدِ الْوقتِ حينَ الوقْتُ يُصبحُ أرْخص مادّة وأوفَرَها وأوجَدها في سوقِ المُمتلَكات. وقد وسمَ صاحِبُ الْمقْهى مقْهاهُ باسمٍ عجَمِيّ لا يتناغَمُ والمحِيطَ الاجتماعيّ الذي يحيطُ بها la tulipe noire. ولعلّ صاحِبَها عاشَ مُغْترِباً بعضَ أزْمِنَتِه بالْبِلاد المنْخفِضة، أو لعلّه حظيَ ببعضِ النّصيبِ من ثقافةِ الرّوايةِ الغربية، أو لعلّ الأمر لا يعْدو أن يكونَ محضَ صُدفَة. فما أكثرَ الصّدف الّتي تحوّل المجْرى عن طريقِه الطّبيعي، إلى مجارٍ أخرى، وما أكثَرَها وهيَ تصنعُ تمثّلاتِنا المغْلوطة خارجَ نيّاتِ الماء في قراره الأول بالانسياب...

قالَ الشّيخُ مُرطِّباً أجواءَ المجلِس بعدما اكتشفَ توتّرِي الزائِد عن المظنون: مرحباً بكَ في هذيانِنا الّذي نرجوه يكتملُ بحضورِك المُضِيف والمُثْرِي.

ركّز الحاضرون نظراتِهم على شخصِي المُقحَم في تناغُمهم. وكأنّني بابٌ يُخلِّصُهُم من التّشابُهِ والشّبَه الّذي طال محاوراتهم. قالوا جميعاً وبصوتٍ واحدٍ وبنبرَة هيَ أقْربُ إلى العتابِ منها إلى السّؤال والمساءلة: لقدْ سمعْنا وصفكَ إيّانا بالتّجِرِيد، فهل توضّحُ لنا أينَ ومتى  وكيف جرّدْنا ولمْ نُشَيّئْ؟ وكيفَ شطَحْنا في سماء الْخيال ولم نُنِخْ أرضاً وأديما؟

هنا وبالذّاتِ سُقِط في يدي، وارتفَع منسوبُ عجبِي واستغْرابِي من حالِهم. فكيف أستسيغُ سماعَهم مقالتِي وأنا الّذي حدّتْثُني سرّاً دون أن أحرك شفتيّ. كيفَ أفهمُ توغّلهم في خاصّتِي؟ كيف أستوعِبُ علمَهُم بنِيّتي؟ لم أشأ أن يُدْرِكوا حيرتِي، فقلتُ مرْتبِكاً أشدّ الارتباك:

الأمر في حقيقَتِهِ... قاطَعَني الشّيخُ ذكاءً منهُ وتقديراً لحال التوتّر الذي أنا فيه... قال: أطلُبْ مشروبكَ أولاً من النّادل قبل الحديث والمحاورة. قلتُ: قدْ استهْلكتُ قهوَتي توّاً وأشكركم. قال: قهوةٌ عنْ قهوةٍ تختلِف، والمرءُ لا يعومُ في البنّ مرّتين. لاحظتُ إصرارَ نظرتِه الحادّة، فطلبتُ أخرى، ثمّ كانتْ بين يديّ... قال ثالثُهمْ: هاتِ ما عِندك. وقد كانتْ هذه الـ(هات) أشدّ مضاءً من خنجر، إذ تستبطِنُ تحدّياً ملحوظاً لِذي لمحٍ ورؤيا. استجمعتُ قوايَ الوجدانية وقلتُ:

وصفتُم العالمَ القرويّ، سواءٌ ما تعلّق بنسائه أو رجالهِ أو أبنائهِ أو بناتهِ في تلويحاتٍ مأساويةٍ موغِلة في الوصفِ المُنزاحِ والتشخيصِ البلاغِي والشّاعِرِية البعيدة والدلالة الغامِضة... ونحنُ لسنا في حاجةٍ لهذا التحْلِيقِ النّاعِمِ والْحرِيريّ بالقضايا الشائكة والّتي تمسّ المجتمع في صميمِ وجوده ومستقْبَلِه، بقدرِ ما نحنُ في حاجةٍ إلى البدائل الْمُمكِنة والْقرِيبة من تخومِ الأجرأة والتّفعيل. همُّنا تجاوزَ البكاءَ إلى التّغيير، وقد حانَ وقتُ استبدالِ لغةَ الهروبِ والنكوصية بِلغةِ الانخِراط والمواجَهَة...

سادَ صمتٌ غريبٌ خيّمَ على (الزنبقة السوداءla tulipe noire) فيما تحَوّلت كل الوجوهِ إلى مجلِسِنا ترشُقُه بوابِلٍ من النظرِ والانتظار، وتترقّبُ ردّاتِ فعل الشيخِ ومُرِيديهِ، وتنتظِرُ بشغفٍ عارِمٍ تفضَحُهُ نظراتُهُم العاشقة لمعرِفةِ النّهاية، وكأنّهمُ أعضاءُ فرِيقٍ لِكرة القدمِ يستعْجلونَ ضرْبَةَ جزاءٍ حاسمَة تفصل فريقَهم عن الفوزِ بالكأس أو إهدارِهِ قابَ قوسيْنِ أو أدنى... وحتّى النادل تجمّدَ في موْقِفِه حبّاً في اجتِناءِ عسلِ هذه اللحظة. ثمّ تحوّل الفضاءُ في سمتْهِ وصمتِه وخشوعِهِ إلى أجواءِ مناظرةٍ يقْتلِعُها الوصفُ من أزْمِنَةٍ غابِرةٍ في تراثٍ عريق.

لم يحتكرِ الشيخُ شرفَ الردّ بقدر ما تركَ الحبْلَ على غاربِ مريديه، فانبرى العاشق لهما إلى القول: هذا حديثُ السيّاسيّ الحالِم. وقال المريدُ السّمين: هذا حديث الثورِي المكتئِب في لبوسِ الحركيّ. قال الشيخُ: هذا حديثُ من لا حَديثَ له...

أدركتُ حجمَ الورْطةِ الّتي وضعتُ ذاتِي في شباكِها، خاصّةً وأنّ الحاضرين ارْتطَم توقّعُهم بجدارٍ أصمّ وقد كانوا ينتظرونَ منّي الغلبَةَ بحكمِ تجانسِ طرْحِي مع انتِظاراتهم، وبحكمِ بساطَةِ عرْضِي الذي لم يشطّ في التحليق والتجْنيح البلاغييْن. كنتُ قرِيباً من وجدانِهم وربّما كنتُ الشّارحَ الأفضلَ لانتظاراتهم. فيما الشيخُ ومرِيدوه سكنوا في قلعةٍ عاجيةٍ بعيدة... قرّرتُ بعد ذلك مضاعفَة الهجوم، فليس لديّ ما أخسره مقارَنةً بهيبةِ الشيخِ الّذي ورّط ذاتَه في جدل المقارنَة والمُفاضلَة مع كائنٍ مغمورٍ وعابرٍ ونكرة مثلِي أنا. قلتُ في يقينِ المحاورِ المالِكِ لشرْطِ اليقِين:

لستُ سياسياً كما وصفتم، ولستُ ثورياً كما شخّصتم، ولست سديماً أحفرُ في ضبابِ الكلامِ. أنا مجرّدُ مُكْتوٍ بشررِ التهميشِ الذي يطالُ الباديةَ والْحاضِرةَ معاً. واكْتِوائِي لم يُلْقِ بي في أتونِ المسافة العاجية، ولم يحوّلْنِي إلى يائسٍ يطرقُ أبوابَ الأحلام في سذاجةِ الراغِبِ في التغيير وهو مستلْقٍ على أريكةٍ مخملية. أنا وبكلّ بساطةٍ مواطِنٌ لا أعيشُ خارِج المشهد.

أحسستُ أن فضاءَ المقهى صفّقَ كاملاً بأكفّ صامتة لعرضِي الثّاقِب وهشّ لهجومي الموزون والعابِرِ لوجدانِ الحضور بلا استثْناء. فيما النّادلُ يبينُ عنْ فمٍ افترّ مسروراً حتّى بدتْ نواجده... استوى الشيخُ في جلستِه وكأنّه يُزيحُ عن جسدِهِ ثقْلاً زائداً لا مسوِّغَ لترْكِهِ يقضّ راحته. قال في حكمةٍ وسمتٍ مشهُوديْنِ لمثلِه في مقامٍ عالٍ ووقور: أنت يا ولدي تذكّرُني بشَبابِي حيثُ كان شِبابِي أشدّ اشْتِعالاً وأُوارا. ولستُ ألومُك على هذا أو أعاتِب، بقدرِ ما أريدُ أن أوجّهكَ إلى بابٍ لا تلتفِتونَ إليه أنتم معشرَ المثقّفين، ألا وهو بابُ الرّضا بالقدر. فدعِ المقادير تجرِي بما شاءَتْ ونمْ على جنبِ الرّاحةِ.  فالّذي خلق القريةَ لا ينسَى القرية وأهلَها. رُفِعتِ الجلسَةُ يا ولدي بعدما طوِيتِ الصّحفُ وجفّتِ الْأقْلام.

كانَ الشيخُ يتكلّمُ من زاويةِ اليقينِ. فيما مريدوه فضّلوا الصمتَ الملغومَ بألف رغبةٍ في الهجوم. وربّما كانتِ الإشارةُ من شيخهِم أن ينْهُوا المحفلَ قبلَ أن يستفْحِل. وقد كانَ هذا السياقُ السّانِحُ فرصةً لي كيْ أكمِلَ أطروحَتي وأنا أعلمُ أن أحدهم لن يجرؤَ على مقاطعَتي حفاظاً على سمتِهم ووقارِهم. قلت في تعقّل واضح: سيدي وأسيادي، وأنتم العارِفون والعارف لا يُعرّف... إن المسألة لا تعدو أن تكون تارِيخاً يتكرّر، سواءٌ في مسارِ حضارتنا العربية والإسلامية، أو في مسارِ حضارة الآخر. الأمر موكولٌ لفكرةِ التّدافُعِ لا لفكرةِ التسْلِيم. والتّدافعُ هنا فرضُ عين لا فرض كفاية. والكلّ، وأقصدُ أطياف المجتمع الفاعلة وغير الفاعلة مطالَبَةٌ بالفعل والانخراط والتأثير. وأداء الواجب هنا واجبٌ، سواءٌ تعلّق الأمر بالفرد أم بالجماعة، وسواءٌ ارتبط البديل بالأحزاب أم بالجمعيات والهيئات المدنية أم بالمؤسسات المالكة للقدرة على صناعة القرار...

قامَ الشيخُ في هدوءِ الريحِ الهادئة والحاملة لمشروع العصف الشّديد، ثم قام معه مرِيدوهُ في انسجام كاملٍ يشي بالسّمتِ المضغوطِ عليه. استأذنوا ثمّ غادروا المقهى  تتقدّمهم بردةٌ سوداءُ سقطتْ منْها قبل الدلَفِ إلى الخارِج زنبَقَةٌ أشدّ سوادا. سارعتُ إلى التِقاطها، ثمّ دسستُها في ذاكرتي.

التَفتُّ إلى الحاضِرِين فإذا أعينُهم التي كانت تخترِقُني لم تعد تفعل. كل ما أذكرهُ من هذا الحادِث أن كلّ مجلسٍ في فضاء المقهى عاد إلى شأنِهِ الخاص وبدا كأن شيئاً لم يحدث. وعوضَ البخورِ المعبوقِ الّذي كان يخيّمُ على المكانِ، خيّمَ دخانٌ آخرُ تنفثه سجائرُ المدخّنين في خليطٍ غريبٍ من أنفاسٍ غريبة.

***

قصّة قصيرة

نورالدين حنيف أبوشامة - المغرب

 

لم أجد غيرها في الصيدلية، أنثى في العقد الرابع من عمرها، براءة طلعة وفتنة عينين تلمع منهما طيبة لا تخفى،أناقة ملبس،جلباب مغربي يغرف من أصالة عريقة.. كانت وحيدة تمضغ العلك وهي تكتب في دفتر بلغة فرنسية، غمرتني بابتسامة دافئة بعد ان تركت ما في يدها..

ـ مرحبا بي عندكم، ساكن جديد في العمارة المقابلة..

قلتها وانا بجلبابها الأبيض المنقط معجب وكأنه مافصل الا ليثير سحر صاحبته قبل سترها..

ـ مرحبا نورت الحي، ستجدنا دوما في خدمتك، "شنو حب الخاطر "

قدمت لها الوصفة الطبية..

شابة قمحية اللون ترتدي جلبابا أزرق داكنا تنزل من دور ثان في الصيدلية، حاملة بعض علب الأدوية ؛ نظرة خاطفة الي لكنها حذرة، مزيج مشاعر ما تخفيه من قلق واحتراس،لاأدري أيهما صاحبة العيادة وايهما المساعدة؟

اعتذرت السيدة مني والتفتت لتوقيع لائحة أقبل بها عامل توزيع بعدما تسلمت منه حزمة أدوية...

ادركت ان السيدة هي صاحبة الصيدلية..

ـ "إني جارتك " قالتها وبسمة تشرق على محياها كانها تعتذر

ابتسمت قبل أن أرد عليها فمثلي بطلعته وجرس كلامه لا يخفى له انتماء..

ـ أين ؟ في العمارة..

ـ لا في الانتماء..

ـ جرس اللسان يقول: من تازة..

ـ بسمة عريضة تتربع وجهها وتضيف لعينيها الجميلتين لمعانا مثيرا:

ـ نعم الذوق "برافو"

قالتها وابتسامة صدق جعلتني أنشد لعينيها، إثارة سحر وجاذبية مرح..

مسحت الوصفة التي تسلمت مني بقراءة متأنية:

ـ بعض الأدوية تحتاج لانتظار، عد مساء وستجد كل شيء جاهزا حتى ملف التعاضدية سأتكلف بتنسيقه..

عند انسحابي كانت المساعدة تجلس على كرسي تتابع المارة، يداها على خديها، ونظرات عينيها مزيج من ترقب وعدم الثقة، كأنها تقرا أمورا عن ظهر غيب لايراها غيرها..

بعد يومين كانت ابتسام صاحبة الصيدلية داخل سيارتها على وشك الانطلاق من نفس المرأب الذي توجد به سيارتي، رفعت يدي بالتحية، كنت اهم بالركوب حين قالت:

ـ مارأيك لو يشاركني الأستاذ فطوري ؟..

استغربت للدعوة،أن تستدعي أنثى زبونا للفطور معها بعد لقاء واحد بينهما تحد ومجازفة، يخفي بالنسبة لي غرابة خصوصا ودعوتها أتت صريحة وكأنها على علاقة وطيدة بي.

لم تمهلني لارد بل فتحت باب سيارتها من الداخل وقالت:

ـ تفضل بلا اعتراض، "لاتردهاشي في وجهي، دعنا نتعارف "

هل إصرارها تحكم أم أسلوب مرح وخفة دم ؟ ربما لا هذا ولاذاك،ثقة ورغبة في التعارف من أنثى وجدت رجلا يقرب لها بانتماء

ـ المعروضة كتربح..

ضحكنا، وهي تنطلق الى مقهى قريب من مقاهي الحي الراقية..

ـ مدة طويلة لم أحادث أحدا من منطقتي، هل انت جديد بأغادير؟

ـ لا،من عشرين عاما وأنا أسكنها،فقط انتقلت الى هنا لان الموقع احسن، المنطقة سياحية تغري بطبيعتها وجمال هيكلتها والاهتمام الزائد بها والذي غاب عن غيرها من احياء سيطرعليها الحراس هيمنة وابتزازا ولا نظافة، الكل صار سمسارا بلا قانون..هكذا تلوثت الأحياء وماعدنا نعرف مقيما من عابر متعة..

ـ صحيح، يوم فتحت صيدليتي أحسست بغربة قاتلة هنا، حتى أني كثيرا ما فكرت في تغيير المكان،كل ما كان حولي قطع أرضية تعج بأشغال البناء،كنت اظل اليوم كاملا ولا يشرفني زائربإطلالة، اليوم وبعد خمس سنوات كم من حديقة تلفت بنظر، وكم من مطعم ومقهى بمرجعيات عالمية ومتاجر تنوعت معروضاتها،إدارات ومساجد على وشك فتح الأبواب..

وقف النادل، وقد حياها باسمها، معناه وجه معروف لديه..

حين اكتفيت بطلب قهوة قالت:

ـ ألا تريد أن نشترك الطعام؟

ـ أبدا، أنا فطرت، ساتناول قهوة واشاركك قليلا مما تطلبين..

ـ طيب، كل شيء الا الخليع الفاسي، اللذة والبنة والفتاوة..

كانت تأكل بمهل وبين حين وآخر تتطلع الي، تبتسم وكأنها تريد أن تنتزع من وجهي صوراعتمالات ما في دواخلها..

كنت أتابعها بانجذاب فملامحها تحدثني كأنها من ماض عني قد غاب، أو ربما هي من الوجوه التي تفرض عليك ألفتها من نظرة فتحاصرك بانتباه..

كانت تتصرف بعفوية محاولة ان تظهرإحدى مميزات شخصيتها، وقد استطاعت بحق أن تمنحني مشاعر الثقة بها والاطمئنان اليها أن رغبتها في مشاركتها فطورها ماهي الا محاولة بناء تعارف واكتساب صديق قد يهدم وحدة لا تخفى تستعيد به سعادة عنها قد غابت وتلاشت..

رنة من هاتفها لم تفاجئها كأنها متعودة على ذلك أو من الرنة تعرف المتصل، تمسح يدها وتقرأ رسالة على الواتساب، ركبت رقما وقالت:

ـزهوة !.. تسلمي منه الصندوقة وقبل أن توقعي له على الوصل، تأكدي من التواريخ وطابع الشركة المرسلة ومن عدد مافي الصندوقة..

تتابع فطورها ثم تقول:

ـ زهوة مساعدتي، هي ربيبتي، من زوجي المتوفى،خرساء بعد صدمة نفسية تعرضت لها..لكنها تسمع،تقرأ وتكتب، ذكاء بليغ لكن بلا لسان والمذنب من أوجدها، تنازل عنها بلا رحمة قبل ان يغيبه قبرفترتاح منه دنيا..

سألتها بعد أن أنهت فطورها:

ـ هل زوجك مات في حادثة؟

تنهدت وبسمتها لم تغادر عينيها:

ـ لا انتحر أو تم قتله، لا ادري..

ـ أعوذ بالله !!..

ـ الموت والحياة كانا لديه سيان لايخاف ولا يخشى، أناني،عشقه أن يلغي كل ما حوله، لايفكر الا في نفسه ومتعه الجسدية، تمركزه حول ذاته طغيان كان يستحوذ عليه بسلبية لاتزين له الا نفسه وافعاله مهما كانت ضد الدين والعادات والتقاليد، بصراحة كان لا يؤمن الا بنفسه وهو ما ولد لدي كراهيته بعد حب متسرع مني هروبا من زواج الأقارب خصوصا اذا كانت الغاية استغلالا وانتهازية..

صمت وأنا أتذكر أحدى كلمات دوستويفسكي:

"ما هو الجحيم؟ أنا أصرّ على أنّه المعاناة من عدم القدرة على الحبّ!"

تنهيدة حارة منها واستغراق في تفكير مني:

"كيف تسقط أنثى بجمالها في رجل على شاكلة ما وصفت ؟"

ـ بدأ حياته مع أبيه كتاجر في السينغال،تزوج من أخت زوجة ابيه طفلة في الخامسة عشرة من عمرها،وجدها حاملا يوم دخل بها، فرض عليه ابوه أن يتكتم ويستر عليها الى أن تلد ثم يطلقها اذا شاء لتعترف له وهي في شهرها التاسع ليلة وضعها ان الحمل كان من أبيه..

تركها كزوجة المنحوس وعاد الى المغرب فتزوجني بعد زوجتين قبلي، ما أن حملت الأولى حتى تركها ثم تزوج الثانية بعد سنتين فطلقها..

حين خطبني لم أكن أعرف سوابقه استغل يتمي وقدرته على توليف الحكايا، إلا على ماضيه فهو عنه كتوم، براعته طلاقة في تزييف الحقائق..

غاب عني أن كثرة كلام الرجل من سقوط لسانه وثرثرته وسيلة لتحقيق رغبة خفية يعوضها بالكلام، وبصراحة فقد تأخرت في فهمه بعد أن أغواني بمظهره الانيق وذوقه المزيف وبهما كان يغطي على أنانيته وقليل من شح؛ انتمائي لاسرة ميسورة ومهنتي ماتركتا لي حاجة لأطمع في ما كان يدعي ملكيته ؛ حاول أن يغريني بشراكة معه غير أني كنت حذرة، إثر ما بدا يشيع عنه ولم ابلغه الا بعد أحداث تواترت..

بعد خمس سنوات من زواجنا أتاني ابوه ليكلمني عن زهوة ابنة زوجي:

"عليه أن يقبل بها عنده بعد أن ماتت خالتها في حادثة سير،ولم يعد لي كجد من يسهر عليها"..

زوجي كان مسافرا ما أن عاد ووجد زهوة بالبيت حتى ارعد وأزبد:

ـ أليست بنته ومن صلبه وهو من تسبب في حمل أمها، كان عليه ان يتحمل مسؤوليتها، ألم أترك له الجمل بما حمل ؟..

تفاجأت بما أسمع وعلي نزل ما تعرى كصاعقة هدت كياني فأبو زوجي قد استطاع أن يتلاعب بمشاعري مستغلا عدم خلفتي،فقبلت السهر على البنت، زوجي وأبوه كلاهما من طينة واحدة: نذالة وخسة وأنانية..

زهوة وجدت خالتها في سرير جدها،ارعبها الجد حين هددها بالقتل وقد اوشك على ذبحها إن تكلمت فانخرست لما رأت السكين في يده، لهذا بادر بها الى المغرب لابعادها خوفا من فضيحة هناك..

بعد سنتين وجد زوجي منتحرا في شقة كان يملكها بعيدا عن علمي،هذا ما توصل اليه رجال المباحث وان كان أحد الجيران قد قدم شهادة أخرى ربما قد تكون من قتلته أنثى محجبة لم يتم اكتشاف من هي ؟..

كنت أتابعها بأمعان وانتباه وهي تحكي، تجاهد النفس على أن تعاند دموعها، كل ما فيها لا يعكس غير طيبة وحبا في التعرف على الغير والأنس بصداقة تملأ بها فراغا يأكل من حياتها ، طيبتها هي ما جعلها تثق برجل أعجبت بطلعته وأناقته دون كثير بحث أو تمحيص عن صدقه وكذبه،أو ربما لم تستطع تقييم الدوافع والمشاعر التي حجبت عنها حقيقته الا بعد أن ارتبطت به بدليل انها أهملته والا لاكتشفت بيتا غير بيتها يقيم فيه علاقاته الماجنة والتي هي أصلا موروثة من أب اليه قد سلم انثى بها قد عبث وحمل مسؤوليتها لابنه،اقرب الناس اليه..

أليس من طيبتها حفاظها على زهوة وقبولها العيش معها بعد موت زوجها وكما قالت:

"لم أجد بدا من القبول بها،اين أرميها وما في الشارع غيرذئاب الردى؟..

ردت على رنات أتت من هاتفها، اعتذرت مني ثم انصرفت بعد أن ودعتني بتحية ثقة أحسستها من يدها على كتفي..

ـ قهوتك ستجدها يوميا لدي في الصيدلية، غني لا تغب !!..

لقد فضلتُ البقاء في المقهى ثم العودة راجلا لمزيد من اكتشاف الحي وما يزخر به من مرافق ومتاجروما يشق فيه من حدائق وطرق وأندية رياضية للأطفال..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

 

في نصوص اليوم