نصوص أدبية

نصوص أدبية

تراني المرآة

لا أراني

وجهي

يحول وجهه عني

أين صورتي

عاريا منها

وذاك الجواد القديم

أين من كانوا

بالأمس أمسي؟

لا تكفي المرآة

كي أعبر إلى نفسي

*

تقولين لوركا

بعدما سقطت وردة

بين البنادق

والسقوط بعض العاشق،

تقولين لوركا

والموت

عودة الأرض إلى المنفى

وصوتي الوئيد

*

كم كنت أصرخ

غرناطة، غرناطة

لا تقتليني مرة أخرى

مازالت أمي

تحب رائحة الكلام في ثيابي

وتحفظ دمعي جيدا

من النشيد إلى النشيد

*

بين عريّ الصحراء

و لغة البدو القدامى

لا أذكر أني ...

عدنا

من فوضى الأناشيد

نشيدين أقتل بينهما

قداس

يؤجل زهوري

إلى خريف مضى

وأغنية

تُقبلني جرة نبيذ

*

أيا زفرتي الأخيرة

ألا تتعبين

تركت غدي خلفي

تحت حوافر الحديد

تركت الحمام

يؤنس الماء والمآذن

تركته شهيد

متى نعود إلينا؟

يا حلمي البعيد

*

وهذي لغتنا

تُعيد مفرداتها

لاجئ

أسير

ضحية

و تغلق بعدنا قواميسها

و لا تعود إلى سيرتها الأولى

كيف أقرأ ليلي؟

كيف أصدق البلاغة؟

و ظلك شريد

فاخترْ لقبركَ اسما جديد

*

أتذكرين سيدتي

محاكم التفتيش،

لا تفارق حديقة بيتنا القديم

و تنزع القمر كل ليلة

عن طوق حبيبتي

كي لا يضيء الحلم في دمي

ولا أعود إلى نفسي

من رحلة التعب الطويلة

و شتائي الطريد

أنا الآن ما لا أريد

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: هذا العالم لا يشبه أمي

 

كُلَّما تَتَداخَلُ الفُصولُ

تَنمو الطَّحالِبُ

فوقَ المَرايا

تُدَغدِغُ حَناياها

أخيلَةً مَنسيةً

مازالت هُناكَ في الأعماقِ

تُسامِرُ رَجعُ الصَّدى

ثُلوجٌ تُداعِبُ جَبهةَ حُزيران

وشَّمسٌ تَلفَحُ

حَنايا تِشرين

حٌروفٌ تتلَعثَمُ

فوقَ الكُتبِ المُغبرَّةِ

ينتابني منك الخَجل

مَعذِرَةً

فلا دَمعاً تَبقَّى لأذرِفُهُ

دُموعي الأخيرة

أنفقتُها في رِحلتي الكَئيبة

وحتَّى تِلك الَّتي اِقترَضْتُها

من عُيونِ القَمرِ

نَفدَت منذُ صَارَ

أقربُ خِلَّاني

صَوتُ القَدرِ

رُوحي تَتضوَّرُ شَوقاً

في انتظارِ ذِكرى

جِئتُ أحلُبُ ضِرعَ الشَّمسِ

كي أرتَشِفَ بَعضَ الضَّوءِ

لأضيء به دَهاليزَ الَّلهفةِ

فضَاعت مِنِّي بينَ الزَّبَدِ

حَفنةُ النُّورِ

واستقرَّت في الهاويةِ

تَصرخُ أنفاسي جُوعاً

فتُصيبُ التُّخمةُ أحلامي

وتَغمُرُ فيوضُ الشَّلالِ

وسائِدَ الَّليلِ الهَشَّةِ

تأتَين مع أولِ قَطرةِ نَدى

مِثلَ طَيفٍ تَائهٍ

مِثلَ عُصفورٍ جَريحٍ

يتوكَّأُ على عَصا

تأتَينَ مثلَ حِكايةٍ من سَرابٍ

عُيونُها مَسمولَةٌ

وجَديلتُها مَقصوصَةٌ

تئِنُ عِشقاً

وتَهمِسُ هَلوسَةً

تَشكو لي شَهريار

الَّذي غَالبَه النُّعاسُ

قبل إعلانِ نَواقيسَ النِّهايةِ

***

جورج عازار – السويد

كانت متعبةً للغاية حتى وقعت أسير النوم عميقًا وشاملًا. لم تكن لديها القدرة على الهروب من أسرها حتى الفجر، أُخلي سبيلها في ظل جو صباحي مشرق والموثق بالخضرة، تتألق في السماء أنواع الطيور .

عاشت في زمن انتشرت فيه التقنية الحديثة، ودون شك كان عقلها مبتلًا بماء تطورها، إلا أنها كانت عاكفة على قراءة الأساطير والانغماس في الأوهام والخرافات، لأن الجو العام كان ملبدًا بغيوم اللاوعي.

لم تكن تهتم على الإطلاق بالمستقبل، ولم تدغدغ أحاسيسها آفاق التمدن والتحضر، علما أنها كانت مواظبة على استخدام الإلكترونيات المتقدمة والاعتماد على مصادر تدفقها؛ لأن عقلها لم يكن يستطيع التمييز ورؤية الازدهار بعيون متحررة، بل عقلها عاش في بيئة كانت ولا تزال تتمرغ في وحل الماضي.

كان وباء الفقر، والجهل، وهوان الفكر هو الأكثر شيوعًا في هذا الوَسْط المتدهور. حالما فتحت عينيها، وجدت نفسها أمام رجلِ ملتحٍ يقف منتصبًا كالشبح، يرتدي زيًا يعود إلى زمن ما قبل أكثر من ألف عام.

التقت عيونهما في توجس وغموض؛ وقد اعترتها نوبة استياء مفاجئة، وتَخَضب وجهها بحمرة شديدة. كان ينظر إليها بعين ملؤها الشهوة؛ فهو يرى وجها خارق الجمال، يخطف انتباهه بمزيد من القوة. بدأ الرجل يرخى العِنان لخياله، ابتسم لها واشتهاها على الفور، فهي ليست سوى جاريةً وجسدًا للمتعةِ.

إن ما تشعر به في هذه اللحظات ليست أخيلة سراب أو مصادفة عبثية؛ وإنما واقع محسوس دون أن تفلح في فك طلاسم اللغز المبهم. نشأت تتفرس فيه بازدراء، وطفت على وجهها انطباعة الدهشة والريبة، فلم تملأ منه عينيها، لا سيما عندما شاهدت أشياء غريبة، أثارت في نفسها تساؤلات عدة: رداء الرجل غير مألوف، وطريقة كلامه وتفوهه بلهجة، كما في ـ المسلسلات التاريخية ـ التي تشاهدها على شاشة التلفزيون.

كانت تقدح ذهنها كي تلملم أفكارها في مزيج محبوك بنسيج رهيف يساعد في الحفاظ على الراحة والأمان، ولم يمض على الأمر وقت طويل قبل أن تبدأ الهواجس الخفية المخبأة في مكان ما هناك في الظهور، تلك الهواجس التي بدت وكأنها شعور خفي، إلا انها تكتسي مظهرًا محسوسًا. إنها معركة بين الجديد القديم والقديم الجديد.

"بات من الصعب وصف الأبعاد الفكرية لدن عقول استهجنت وَسْط ـ صراعات الحضارات ـ وهيمنتها على شريحة واسعة من المجتمع، تعيش في غياهب الجهل المسرف".

كل مباهج الحياة التي استمتعت بها لم تكن تعني لها شيئا، في الوقت الذي كانت تعيش في فراش وثير وناعم وبيت فخم وتركب أفخر السيارات، إلا أنها ما زالت مملوءة ذهنيًا برغبات عفا عليها الزمن تسري في أعماقها بيسر، تنظر إلى الأشياء الجديدة بنظارات سوداء؛ بسبب تلك التراكمات الكمية لأفكار جامدة رست على أرصفة الخلايا الصدئة وتوالت عبر الأجيال حتى أدت إلى تلف كامل في أجهزة الدماغ.

مع أن النفس قد تتحرر من بعض حماقاتها، ولكن التصاقها بتلك البيئة لا بد أن يرغمها أن تسقط في وحل القطيع، إن هذا الظلام الذي يحيط بأفق روحها الداخلي يجعلها لا تعي وعيًا سليًما في كل ما يجرى من تناقضات في نفسها؛ وثمة هناك أشياء عدة ساطعة كالشمس؛ ولكن الضباب الكثيف المحيط بصفحة الدماغ، يمنعها من الرؤية الواضحة.

فجأة اختفت الفتاة كالسراب، فيما لبث الرجل واقفًا في مكانه، وعلى وجهه تبرق ابتسامة الفرح وأسارير الاندهاش معًا.

***

كفاح الزهاوي

كانت رحلة العودة من الماضي القريب جد مؤلمة، لم تهملها لحظة سكون أو راحة نفسية. تتهاطل عليها الذكريات بشكل مفزع وتؤذي راحتها النفسية. فكرت طويلا، توقف دماغها عند نقط الصفر. ولم تعد تستحمل. اما الجنون أو الموت. لم تكن تظن يوما أنها ستلج القضاء من أجل الحصول على حريتها من الرجل الذي اختارته من بين الآلاف. وبنت معه بيتا دافئا وجميلا. ولجت مكتب المحامية، وجلست بهدوء ينذر بعاصفة هوجاء. كانت جد متوترة. سألتها المحامية: "لماذا تطلبين الطلاق؟" نظرات مترددة لكنها ثائرة وراغبة في الخلاص. أجابتها بصوت خافت رغم قوته الداخلية:" لم أعد أستطيع التنفس في بيتي." وبدأت الحكاية:

يوم تخرجت صفاء وحصلت على دبلوم الهندسة، كان هناك مع أحد أصدقائه، يرمقها من بعيد ويرميها بنظرات اعجاب. اقترب منها وهنأها على كفاحها الدراسي وقال لها:" مبروك." وابتسم وتوارى للخلف تاركا صوته يدندن حولها. يراقبها ويبتسم. ارتبكت في البداية، وتطورت العلاقة الى لقاءات يومية. حتى أنه كان يكلمها يوميا ويسألها عن يومها وأين توجد ومن يوجد معها. كانت صفاء لا تبالي بهذا الاهتمام الزائد، بل اعتبرته حبا حقيقيا يملأ عليها عالمها. نبهتها احدى صديقاتها الى هذا الامتلاك المغلف بالحب وقالت لها: " ان ملاحقته لك بهذا الشكل، لا يبشر بخير. "

كانت صفاء تعيش في عالم آخر، مملوءا بالهمسات والقبلات والعشق. تركتهم يلاحظون ويحذرون ومشت أميالا معه ولم ترغب في الاستماع إليهم. اعتقدت أنهم فاقدي الإحساس الحقيقي بالحب.

طلبت منها المحامية أن تشرح لها بالتفصيل الممل عن احساسها في تلك اللحظات. كانت ملامح وجهها صامتة، فقدت لمعان بريق عينيها المعهود، تتأمل الفراغ الذي أمامها بدون حياة. قالت:" كنت سعيدة جدا، سعيدة وكأنني طفلة تراقص لعب العيد."

عاشت معه أياما كلها صفاء واهتمام مبالغ فيه لحد الشعور بالاختناق. هاتفها يوما وهي في مكتبها. تركت الهاتف يرن، فرمته داخل حقيبتها وأكملت عملها. هنا، امتلأت مآقيها بالدموع، وانزلقت دمعة مباغتة لم تكن تنتظرها، وتركتها تنام على خدها، سألتها المحامية:" ما بك؟ هل تذكرتي شيئا مؤلما." ابتسمت صفاء ابتسامة استهزاء ومرارة وقالت لها: "من هنا بدأت محنتي التي كنت أرفض أن أراها أو أشعر بها." وتابعت بنفس المرارة:" عدت الى البيت وكلي فرح بلقائه. كان هناك، بعينين يحملان شرارة الموت، صرخ في وجهي وقال لي: "لقد اتصلت بك مرارا. مع من كنت؟ " وتحول الى وحش، لم أفهم ساعتها ما يحدث لي. اعتقدت أنني أعيش كابوسا وسأستيقظ منه. لم أتكلم. تسمرت في مكاني كطفلة خائفة من العقوبة. واستمرت الأسئلة تنهال على كأنني في استنطاق. وما زلت أتذكر كلمته الأخيرة، التي غيرت حياتي وجعلتني أسيرته بإرادتي.

تنفست بعمق شديد وتابعت:" تحرك بخطوات متوترة داخل الغرفة واقترب مني وهمس لي كأنه سيشفي سرا "أسمح لك الآن بالنوم، لكن اياك أن تكرري فعلتك هاته." صمت رهيب بمكتب المحامية. كسره سؤالها: "وماذا بعد؟"

أصبحت صفاء، تعيش على حساب مزاجه، تهاب هيجانه. تجيب عند كل رنة وحتى ولو تكررت آلاف المرات. في يوم، كانت مع صديقة مقربة لها، يتناولان وجبة الغذاء. رن هاتفها، كان يمطرها بالأسئلة، ماذا تفعل ومع من تجلس ومتى ستعود الى البيت. تفاجأت صديقتها من هذا السلوك الغريب ومن ردة فعلها وخصوصا أنها تعرفها جيدا. قالت لها بصوت يحمل انفعالا باطنيا: "لماذا تسمحين له أن يتعامل معك هكذا؟ ماذا حصل لك؟" لم تجب، ابتسمت وتابعت أكلها.

انفعلت ورمت بحقيبتها جانبا، وصرخت بشكل هيستيري وقالت للمحامية: "كنت أريد أن أقولها بأنه عنيف معي، ويمارس علي رقابة شديدة." كنت أريد أن أقول لها: "انه يتدخل في لباسي ومواعيدي. حتى حسابي في البنك يمارس عليه رقابة." لكن كنت مكبلة، لست أدري لماذا؟ وانهارت وبكت كثيرا.

طلبت منها المحامية أن تستريح قليلا، أو تؤجل المقابلة الى الغد. لكن صفاء رفضت وصممت على الاستمرار. كأنها تهاب أن يسيطر عليها صوته من جديد ويعيدها الى سجنه من جديد. وقفت واتجهت صوب النافذة التي تطل على الشارع الرئيسي، ضجيج السيارات يملأ الفضاء ويتجاوز حدود المكان، ليستقر كضيف ثقيل في كل ركن من أركان المكتب. عادت وجلست مع ابتسامة رقيقة رغم حزنها. وقالت: "بعدها نمت باكرا، وحاولت أن أهرب منه حتى لا أتعرض لاستنطاق آخر. " وهنا سألتها المحامية:" هل كان يسألك دون توقف؟" ضحكت بشكل جنوني كأنها تنتقم من صمتها الذي دام لسنوات وقالت: "كانت متعته أن يوقظني من نومي، ويتلذذ في طرح الأسئلة. ويعود في الصباح، كأنه شخص آخر، يطلب الصفح بحجة أنه يحبني."

كان يوما ربيعيا، شمسه هادئة تلامس الأجساد بكل حب وهمسات باردة تائهة تتسابق مع خطوات المارة وتحدث بلبلة جميلة حولهم. خرجت من عملها وهي تريد أن تقوم بشيء مغاير، تريد أن تتحرر من رقابته لكي تشعر بوجودها. منذ زواجها منه، وهي رهينة عالمه العنيف والصغير. كانت تبحث عن فرصة ولو فرصة صغيرة تعيد بها الأمس القريب عندما كانت سيدة نفسها. تريد أن تتنفس بكل حرية. أخذت سيارتها وانطلقت دون هدف. وصلت الى بلدة صغيرة كلها أشجار ووديان، عصافير تغني حولها حتى ظنت أنها فرحة بمجيئها. مشت حتى أخذ منها التعب مبلغه. افترشت الأرض ونظراتها مسافرة عبر الزمن تبحث عن صفاء التائهة، عانقتها هبات ريح مسائية وروت روحها العطشى للحرية والانعتاق ونامت نوما عميقا. استيقظت مفزوعة لا تدري أين توجد. وشك الليل أن يستوطن المكان، تسابقت مع عقارب الساعة لكي تصل الى البيت قبله. هنا، صمتت. كانت نظرات المحامية تحمل انتظارا وفزعا. قالت بصوت واهن:" عشت أسوأ ليلة في حياتي" وانهارت.

ولجت بيتها في هدوء غير معهود، كانت خائفة كطفلة رفضت الانصياع الى الأوامر. فكان هناك واقفا وحوله ظلام كثيف، اخترق صوته جدار الصمت. وامتلكها رعب شديد واستولى عليها كانتشار قطرة مداد في بقعة ماء. وقال لها بصوت حكيم يحمل عنفا: "أين كنت؟" ارتعشت مفاصلها وكادت تسقط أرضا، أخذت نفسا عميقا وقالت:" كنت في المكتب، ثم تمشيت قليلا في الغابة."

ثار كما يثور البركان في غفلة من الجميع وصرخ: ماذا قلت لك، لما أطلبك في الهاتف، أجدك. لكن أنت غير مطيعة." وأضاف وهو يخطو بخطوات بطيئة كأنه يتحين الفرصة للهجوم على ضحيته:" مع من كنت؟"

وامتلكتها حالة من البكاء الهيستيري، حتى أن المحامية طلبت منها انهاء المقابلة من جديد الى يوم آخر. احتضنتها ومسحت على رأسها. تنهدت صفاء ودفعت الكلام من فمها دفعا:" صفعني وشدني من شعري وكاد يخنقني."

قالت لها المحامية بانفعال:" أنت تعرفين سلوكه العدواني اتجاهك، لماذا عدت الى البيت بعدما تأخرت؟ لماذا لم تخبر أهلك؟ أو الشرطة؟" مسحت دموعها وعدلت من لباسها وشعرها، وابتسمت وقالت لها: كان الخوف يكبل كل حركاتي، خجلت من نفسي أن أخبر أهلي. أما بالنسبة للشرطة، قلت لنفسي " سيحكم بكم من سنة؟ أكيد سينتقم مني فيما بعد."

ثم أعادت المحامية السؤال بشكل آخر:" متى قررت رفع دعوة الطلاق والابتعاد عنه؟"

لما استيقظت في اليوم الموالي، كان يغني. مرحا، استغربت من وجود قهوتي على سريري، وطلب مني ان أرتاح وقبلني وقال لي بانه يحبني. وخرج.  نظرت الى المحامية وقالت بصوت عالي: "أليس هذا جنونا.؟"

 اقتربت يومها من المرآة، وجدتني  شبحا يفزع ويحدث الرعب في النفوس. لست أنا، رأيت وجها ميتا لا أثر للحياة فيه. قلت لنفسي" من أنا؟ ماذا أنتظر؟ ". فسمعت صوتا وهاجا كالنور سكن وجداني وأنار لي الطريق، وحرر دماغي من شلل تام وأعاد لي تلك الحرية التي تاهت عني وشعرت ساعتها بانتعاش غريب وبتدفق الدم في كل شراييني وبتسارع نبضات قلبي، كنت مثل الشجرة التي تعاد اليها الحياة بعد جفاف طويل.

قامت صفاء تستعد لمغادرة المكتب، فابتسمت كأنها تنظر الى الحياة لأول مرة، عاد اللمعان الى عينيها، تغيرت ملامحها وودعت الدموع والخوف، وقفت وأخذت حقيبة يدها واتجهت صوب الباب. سألتها المحامية باستغراب كبير: "الى أين يا صفاء؟ يجب ان نتمم إجراءات الطلاق."

قالت لها بقوة أكثرو بصوت واثق وسعيد:" أنا ذاهبة الى بيتي. الآن أستطيع أن أتنفس بكل حرية. " واضافت: "أكملي إجراءات الطلاق كلها."

***

أمينة شرادي

قصة: فرناندا ترياس

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

جاء بالخبر داريو، ابن الخباز.علمنا أن شيئًا ما قد حدث بمجرد أن رأيناه يقف على دواستى دراجته، ويقترب في شمس الظهيرة. فقال أحدهم: من ذاك؟ مهلا، إنه داريو!  كنا نجلس على الشرفة، منهكين من الهواء الساخن الساكن الذي استقر خلال الأسبوع الماضي، وكان صوت المروحة الشبيه بصوت موج البحر هو الشيء الوحيد الذي يمكن سماعه. قبالتي، كانت كلارا تغفو، وفستانها مطوي فوق فخذيها النحيلتين، وكان صدرها، مثل طائر هزيل محنط، يرتفع بما يكفي للسماح بدخول القليل من الهواء. وبجانبها كانت تجلس ماما، مرتدية ملابس سوداء على الرغم من موجة الحر الشديدة. وقد لمت شعرها مرفوعا إلى لخلف باستخدام دبابيس الشعر وبدت كعكتها وكأنها برج سيء البناء. وعلى مسافة بعيدة جلست جوردا تيريزا وزوجها خيسوس. كانا كلاهما يرتدي ملابس جديدة كما يحلو لهما أن يفعلا في الأعياد الوطنية. إنها ترتدي فستان بلون زهور عباد الشمس وهو يرتدي قميصًا خاطته جوردا له ببقايا القماش. هذا ما كنت أفكر فيه قبل أن يكتشف شخص ما، ربما كان جوردا، الدراجة على الطريق. ثم قالت كلارا: "نعم، إنه داريو". جلسنا قليلًا، ولكن لم يكن ذلك كافيًا للنهوض من كراسي الاستلقاء. رسمت ماما علامة الصليب، وكان القلق على وجوهنا بمثابة نذير شؤم لما سيحدث في المستقبل.

قالت أمي وهي تومئ برأسها:

- هيلدا، اذهبي لإصلاح شيء ما لهذا المسكين.

أدخلت قدمي في صندلي ووقفت ببطء. طقطقت عظامي. بدا أن شيئًا بداخلي يقاوم الحركة، ويهدد بالتقطيع مثل غصن جاف. أثناء مروري أمام المروحة، بهوائها الخفيف الدافئ، توقفت لمدة دقيقة حتى أدع النسيم يضرب وجهي ويداعب شعري.

عندما اقترب أكثر، سمعت صوت إطارات دراجته على الحصى. كنت أنتظره عند الباب وفي يدي كوب من عصير الليمون. توقف داريو على بعد أمتار قليلة من المنزل. وضع قدمه على الأرض وقفز عن الدراجة، التي أثارت الغبار أثناء سقوطها جانبًا. "مرحباً سينيورا هيلدا،" قال من بعيد. كان منتفخًا من الحرارة، وكانت عيناه غائرتين في وجهه، مثل فتحتين أحدثتهما ضربة. كان يمسك بحزمة من الورق البني. كانت الشمس تضرب بقوة، وعلى الرغم من أنني لجأت إلى الخط المظلل الذي تشكله الحواف، إلا أنني بدأت أشعر بالشعر المبلل على مؤخرة رقبتي مرة أخرى، والحرارة القاسية تتصاعد من الأرض.

سالته:

- ماذا لديك هناك؟

اتخذ بضع خطوات نحوي، غير حاسمة. لم يكن الطفل المسكين متأكدًا مما إذا كان يجب أن يخبرني بالأخبار أولاً.

- ألم تخبرك والدتك أنه من الممكن أن تمرضى في هذا الوقت من اليوم؟

لم تكن لديه الجرأة للاقتراب، أو ربما لم يكن يعرف ما يقول، لأنه وقف ساكنًا في شعاع الشمس، مستقيمًا ومهيبًا مثل جندي بينما كان العرق يتقطر من وجهه ويبلّل قميصه.

قال:

- إنه خبز عيد الميلاد الحلو. ثم قدم لي اللفة ورفعها بكلتا يديه.

طلبت منه أن يأتي إلى الشرفة.

- خذ، هل تريد بعض عصير الليمون؟

أومأ برأسه واقترب بخطوات خائفة. أعطاني اللفة، وبمجرد أن تحررت يداه، مسح جبهته وعينيه بكفيه الممدودتين، ثم أخذ الكأس. كان الغلاف ساخنًا للغاية، وشعرت بالخبز اللزج المسطح عبر الورق.

قلت له:

- شكراً لأمك .

لكنني لا أعرف إذا كان قد سمعني، لأن الكاس غطى وجهه حتى حاجبيه وهو يبتلع عصير الليمون في جرعة واحدة.

عندما انتهى، نظر إلي وتحدث ببطء، وكان لا يزال يلهث.

- لقد عاد.

نظر إلى الكأس الفارغ كما لو كان ينتظر شيئًا ما. ثم أدار لسانه، الذي تخيلته باردًا ورطبًا، وبدا أنه استجمع شجاعته:

- قال السيد أوغستو لوالدتي ولم تصدقه، لكنه قال إن الجميع رأوه، وأنه هنا، حيًا ويركل. هذا ما قاله لها أوغوستو، وأنه في طريقه إلى هنا، وأنه من الأفضل إخبار السيدة لويزا بذلك حتى لا تصاب بالإغماء.

-    إغماء.

-  نعم، إغماء.

قالها مرة أخرى، وتألق شيء ما في عينيه، إحساس بأن شيئًا فظيعًا قد يحدث.

- حسنًا، سأخبرها. هل تريد كوبًا آخر؟

تردد، ثم رفض برأسه ونظر إلى الدراجة الملقاة على الطريق.

- أشكر والدتك على الخبز. ولا تقلق، سأخبر السيدة لويزا بذلك.

يبدو أن هذا يهدئه. ربما كان قلقًا من أن أسحبه إلى الشرفة وأجبره على تكرار تلك الكلمات نفسها أمام والدتي. ثم الإغماء، ونوبة الإغماء، وصرخة السعادة المطلقة. ربما الدموع. رفعت يداها إلى السماء، وعيناها فارغتان، ولسانها متراجع، مما أدى إلى خنق حلقها الجاف. ولم تعد تؤمن بالمعجزات. وكان هناك داريو، كالملاك بمقوديه المعدنيين الساخنين والصدئين.

ولم أفاجأ بالخبر كما لم أفاجأ بالخبر السابق عن وفاته البعيدة. ربما لأنني منذ صغري اعتدت أن أتخيله ميتا، ملقى داخل التابوت، ليس شاحبا أو باردا، ولكن كما لو كان نائما، ورأسه محاط بالورود. بدأ الأمر في العام الذي أرسلوا فيه والدتي إلى مستشفى ميسيريكورديا للطب النفسي. لقد تُركنا أنا وأختي في رعاية فابيو. كانت كلارا طفلة صغيرة، ولا تتذكر أي شيء. لكني أتذكر البرد، وجسدي يرتجف تحت الملاءة البيضاء الصلبة. كان علي أن أستحم قبل أن أنام، واعتقدت أن فابيو سيسمح لي بغسل نفسي، وكان يبقى دائمًا في الحمام. حتى يومنا هذا، أستحم والراديو مفتوح لتجنب تذكر صمت الماء. بعد ذلك، كان يلفني بمنشفة كبيرة ويجففني. في بعض الأحيان، عندما كنت أحاول النوم، كنت أتخيل فابيو ميتًا، مع تاج من الورود. في بعض الأحيان كان التابوت عبارة عن حوض الاستحمام. في بعض الأحيان كنت الوحيدة التي تسهر على جنازته.

ربما لهذا السبب لم أتفاجأ. لكن كلارا بكت عليه بعنف، وبالغت في كل حشرجة صدر في صدرها الهيكلي. كانت ستخبر من يستمع إليها عن اليوم الذي أنقذها فيه فابيو من الانهيار في الكوخ الخشبي. ومن يدري كم مرة سمعتها تقول: "كان أخي كل شيء بالنسبة لي". ماما، صامتة وفخورة، اقتصرت على ارتداء ملابس الحداد. وحتى يومنا هذا، بعد مرور اثني عشر عامًا على ما يشبه الجنازة من بعيد، لا تزال الملابس السوداء البالية التي فرضتها على نفسها هي طريقتها لتظهر للجميع أنها تعاني من أعمق حزن لا يُنسى. ولكن ليس أنا. لم أنضم إلى جوقة النساء المندبات، بما في ذلك جوردا، وكنت أعتقد في أعماقي دائمًا أن الشيء الوحيد الذي يريده أخي هو الابتعاد عنا، وعن ماما بشكل خاص، وأن البلدة بأكملها اعتقدت أنه كان فائزًا أو بطلًا. لقد أصبح الآن شيئًا أكثر من ذلك: رجل ميت تم إحياؤه وقد عاد مليئًا بالمغامرات العظيمة والحكايات عن كيف أخذه الموت بشكل غير متوقع.

وقفت هناك عند المدخل الرئيسي أشاهد داريو وهو يبتعد. أمسكت الحزمة التي تحتوي على الخبز الناعم والمتكتل بيد واحدة. وفي الآخر كأس الصبي. لقد ذابت مكعبات الثلج واستفدت من الزجاج المبلل لتبريد جبهتي ورقبتي. هذه المرة بدأ بالسير على المنحدر وكان بالكاد مرئيًا، مختبئًا خلف سحابة من الغبار. إذا كنت أفكر في شيء ما، لا أتذكر ما كان عليه. أحيانًا يكون التفكير في أشياء كثيرة في وقت واحد بمثابة عدم التفكير في أي شيء على الإطلاق. كل ما أعرفه هو أنني انتظرت هناك لفترة طويلة. انتظرت، أي حتى بعد أن لم يكن هناك أي أثر للدراجة وبدأت الأرض تستقر مرة أخرى، لم يعد هناك أي أثر.

لم تكن الشمس تصل إلى غرفة الطعام، وأومضت الشموع على المذبح في الظلام البارد والعفن. لقد لطخت النيران الجدار بالسخام، وفي وسط العمودين الأسودين علقت مسابح وصور العذراء وصلبان وقلوب صغيرة نازفة متوجة بالأشواك. في الأسفل، على الخزانة الجانبية، كانت هناك مجموعة من الصور لفابيو في كل الأعمار تقريبًا، محاطًا بالزهور البلاستيكية، والبطاقات المقدسة، والصلوات التي تركها أقاربه وأصدقاؤه: لقد كان وسيمًا ميتًا أكثر منه حيًا. الآن يمكننا أن نحبه أكثر. كيف سيكون حاله الآن؟ عجوز. ربما جريح، بلا أرجل، بلا أصابع، مع رقعة فوق عين واحدة. أو منهكًا منذ السنين، بلا أسنان، دمرته العناصر وكل الأكاذيب مثل علبة بازلاء مهجورة. فكرت في العلبة ورأيت نفسي أطلق النار عليها في صدرها. ثلاثة ثقوب مستديرة تمامًا، هدفي على النقطة كما كان من قبل. تم حفظ البندقية في خزانة الماهوجني أسفل المذبح مباشرة. كان علي فقط أن أدير المفتاح وأنتظره عند مدخل العقار. بعد كل شيء، لم يكن أحد يتوقعه. لن يخرج أحد للبحث عنه. كان بإمكاني رؤيته: علبة صفيح قديمة ومثقوبة، ومن خلال الثقوب، تتلاشى الذكريات مع آخر احتمال لأي عودة.

تركت الكأس في المطبخ، ومررت بجوار المروحة دون توقف، وصعدت الدرج ببطء كما نزلت، وسقطت على الكرسي. خلعت الصندل بقدم واحدة وتركته يسقط على الأرض الصلبة بضربة قوية، ثم بالأخرى. لقد انتظروا جميعًا في صمت أثناء خلعهما.

قلت وقد بدأت في فك الحزمة على حجري:

- لقد أرسلوا لنا هذا الخبز.

قالت أمي:

- هيلدا .

وعلى الرغم من السطوع، حجب الظل وجهها.

الخبز الساخن، المطحون، المتجعد والمتشقق، بدا الآن وكأنه دماغ مكشوف، زهرة فظيعة ومؤلمة.

كررت بحزم:

- إنهم يرسلون لنا هذا الخبز، ويطلبون مني الحضور. انفصلت الابنة الكبرى عن زوجها وأخذ الرجل كل شيء: الأثاث والمال وكل شيء. لقد دُمرت.

- وما دخلك في ذلك؟

هززت كتفي:

- ليس لديهم أي شخص آخر.

أخذت جوردا نفسًا سريعًا كما لو كانت ستقول شيئًا لكن خيسوس أشار إليها بأن تلتزم الصمت. نظرت للأعلى. ومن بعيد، في أقصى الجزء الجنوبي من الطريق، كان هناك شخص أسود، لا يزال غير محسوس بالنسبة للآخرين، يشق طريقه ببطء نحونا.

***

.......................

(تمت)

المؤلفة: فرناندا ترياس / Fernanda Trías كاتبة من الأوروجواي. ولدت في مونتيفيديو عام 1976. وهي مؤلفة ثلاث روايات ومجموعتين قصصيتين. في عام 2004، حصلت على منحة اليونسكو للكتابة في كاماك، وهو مقر إقامة الفنانين في مارناي سور سين. عاشت لمدة خمس سنوات في قرية بروفينس التي تعود للقرون الوسطى وبضعة أشهر في لندن. أمضت سنة واحدة في برلين وسنتين في بوينس آيرس. حصل ترياسي على درجة الماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة نيويورك وكان تلميذا للكاتب الأوروجوياني ماريو ليفريرو. قامت بدمج مختارات من السرد الجديد في كولومبيا والولايات المتحدة وأوروجواي وبيرو وألمانيا (Neues vom Fluss: Junge Literatur aus Argentinien, Uruguay und Paraguay, 2010) وإنجلترا (الكاتبات الأوروجوايانيات، 2012). تم اختيار روايتها "لا أزوتيا" (2001) من بين أفضل الكتب لهذا العام من قبل الملحق الثقافي إلباييس، وفازت بالجائزة الثالثة للسرد المحرر لجائزة الأدب الوطني في أوروغواي (2002). في عام 2006 حصلت على جائزة مؤسسة بنك بوسطن للثقافة الوطنية.

وضع ابهامه على الصفحة، حدق جيدا قبل أن يتنقل بالبصمة على المساحة البيضاء، تنمل الإبهام، بات شبه مخدر، استبدله بالسبابة، تنملت، جرب الأوسط فالخنصر فالبنصر، وقفت يده كلها فوق البياض الممتد كغيمة ملفوفة بسحب من عهن منفوش، امتصته السحب، فانزلق في كومات من ضباب رمادي يتجه نحو التعمق في سواد مكدس، مزدحم، غلفه المجهول بخيوط عنكبوت يفيض سما.

ما الفرق بين الحياة والموت؟ سألته نفس شاردة من غيبوبة مكتظة بالتناقض، ما الفرق بين الثقة المنزوعة من القلب المعذب بالحنين لتجربة الثقة الموطدة في القبور؟ سألت النفس الواهمة بشيء من اليقين المخلوع من نفس تتوق للشيء الخفي، ربما النقاء، وربما الصفاء.

قالت النفس المتوثبة: القبور لا تتحدث، لكن العظام المتحللة المتكلسة، يمكن أن تخبرك بالكثير عمن انسلخ عنها، عن عمره، طوله، جنسه، مرضه، حتى أنها تستطيع الاسترسال بالحديث كمذياع لا يتوقف. بمن أثق إذا؟ بالشمس التي تغيب؟ بالقمر الذي يأفل؟ بالجليد؟ بالصحراء؟ حتى هذه كغيرها، لا تكف عن الصفير والجواح والهسهسة والطقطقة.

هناك شيء فيَ ذاتي، تكويني، يرجني، يخضني، كما يرج الزلزال الأرض من أعماقها، وكما يخض الفيضان ما على سطحها، يحمله من مكان ليضعه في مكان لا يشبه ما كان يألف ويعهد ويعرف، في كائنات تتوغل، تتعمق، تتجذر، تمد جذوعها وسيقانها، فيغزوها فطر يكاد لا يرى، يفتتها، يحللها، وينثرها فوق مكان البصمة تماما، فيختفي النثار، وتتلاشى البصمة، يقتحم المجهول غامض من الغيب المخبأ في الإضمار القصي عن المحسوس، الملموس. تتقاطر العقارب من كل الجهات، لكنها رغم ما تملك من عيون تظل عمياء عن رؤية البؤرة التي تتضفر بأعماقي كضباع لا تكف عن سفك الروح أمام الحياة، فهي هكذا خلقت، كالكلاب التي تستمد حياتها، بقاءها، من الألم المعتصر من الضحية التي تنهش وهي تراقب بلوعة اختفاء روحها المطحونة بين الأنياب والأضراس.

كان عليك منذ أزمان غابرة، منذ عصور تمددت فيك من الخاصرة حتى الخاصرة، أن تدرك مرة واحدة، بأن الأشياء تقرأ من بدايتها حتى نهايتها، كي تدخل الذاكرة كبيضة تتحول يرقة، فشرنقة تفتح عالمها للطيران بأجنحة تتقن الصعود والهبوط والدوران والالتواء، رغم حداثة اللحظة التي فردت الجناحين في أفق مفتوح.

الحياة الآن تم اختبارها، بالجوارح، وبالنفس والروح، لكن الموت شبحا يطاردك منذ اللحظات التي رآك النور ورأتك الظلمة، بينهما حاجز يومي يسحبك نحو الوسن، ورغما عنك، عن أنفك، وكل ما فيك، يقذفك بنوم يغيبك عن الوجود، عن الإحساس، عن اللذة الغامرة، والألم المكتسح، لتكون معزولا عن الدنيا وكل ما فيها، كأنك لم تختبرها ولم تختبرك، لم تشاهدها أو تشاهدك، وحين تصحو، تكون كالمخبوط الخارج من صرع أمسك بنواصيك وأقدامك، لكنك فور فرك العينين، تنسى كل شيء عن الموت الذي كنت تغرق فيه حد العجز عن اليقظة.

الفرق بينك وبين ذاتك عميق، تماما كالفرق بين القدرة على اكتساب التجربة من الصرخة التي مزقت السمع  وأطفأت البصر فيك، لكنك رغم ذلك بقيت كما اللحن تحن للصرخة ذاتها، لتدور في فراغ يقودك نحو فراغ لا يتسع سوى لفراغ، كالحلم الذي جاءك ليجس قدرتك على التعلم من اللحظة، لحظة الفزع من رؤيتك للعالم وهو ينهار ويتمزق، كسراب يكسره ويشظيه الصدى، يومها داهمك الحلم، وربما الرؤيا، رأيتك وأنت ترى الأرض تقضم من تحت قدميك، تتهاوى، وأنت تركض نحو الريح، تركض وتركض، والأرض تتلاشى، تتبخر، ولا يبقى من ورائك سوى موطن كعب القدم، وأنت تعدو بكل ما فيك من قوة، وكأنك مجموعة من خيل جامحة متوترة غاضبة، وخلفك، تحت الكعبين فقط مساحة واحدة للأمام تستعد للتهاوي والتلاشي والذوبان، الخوف يمسك بقبضته الصارمة النائتة خفق القلب المتسارع المشتبك مع اللهاث والعرق والرعب، فقط يمكنك العدو والركض ، وأنت محشو بالجزع والخرع، الحياة كلها، الوجود كله، الكون كله، ليس فيه سوى العدو الموصول بالعدو، فالأرض من ورائك لا مكان فيها لقدم، لصوت، لرؤية، لعين، عليك الإسراع ما استطعت، فإن لم يجد كعب القدم مكانا على الحافة التي يلاحقها الاندثار ستغيب في العدم، التوجس يغذي الجبن فيك وأنت تحاول طي ما تبقى من الأرض، وفجأة، تصل حافة الكون، نهايته، فلا الأمام أمام، ولا الوراء وراء، هوة من فراغ تنتصب أمام عينيك، وهوة من فراغ تبتلع الخلف، تتقلى الروح وتشوى، يختطفك العجز المطلق، فتصحو وأنت تشرق بلعاب أغلق الحنجرة، تتلوى، تقفز وكأنك ممسوس، الموت الذي طاردك في الحلم، هو ذاته الذي يخضخضك ويرجك، وأنت أنت ذاتك، ما زلت لا تعلم يقينا، أخرجت من الحلم، أم ما زلت فيه.

أرأيت كم أنت غافل عن لحظة التجربة؟ حتى الحلم الذي جاء من الموت لينتشلك من الغفلة، لم يتمكن من تلقينك درسا عن الثقة، عن البصمة التي طبعت فوق بياض لم يحمل غير البياض، ما زلت أذكر حديث الأنامل معك، ربما، وربما لوحدها عوالم وأكوان، ربما، لم تسمع أنين الإبهام حين طويته للأسفل، ولم تسمع شهقة السبابة وهي تنادي الإبهام ليقف معها على حدود التوحد، فتنتفض الوسطى لاجئة للخنصر، أما البنصر فيأخذه الشده والدهشة، يعلو صليل الأصابع وهي تبحث عن مكانها، عن تجربتها، عن ثقتها التي تشابهت الآن مع غفلتك وجهلك وهما يصدقان بثقة المؤقت المتغير، فيعلو صرير النفس المفجوعة ليغطي البصمة ويلوث البياض الذي كان قبل طي الإبهام يظن بأنه يملك نقاء أو صفاء.

ماذا تريد من الحلم؟ الهروب من ذاتك التي تصفدك بمعاتبتها وقرعها ولومها لك؟ أم الدخول في حالة اليأس الذي يفجر القنوط؟ أنت لا تعرف، وذاتك ذاتها لا تعرف، لكنك تستطيع تذكر الحلم بكل ما فيه، كتلك الأفعى العملاقة التي كانت تسير نحوك وأنت جامد، مغلول بالحيرة والذهول، لا تملك من إرادتك سوى انتظار وصولها إليك، رغم خروج معدتك في مسار نحو الحلق، وسقوط القلب في هاوية الرعب، قدماك في الأرض كوتدين يغوصان نحو العمق، تماما كما كانا لحظة الهروب من اندثار الأرض، وحين وصلتك والتفت بكل ثقلها وقوتها عليك، ضاقت الروح، لكنها كانت خبيثة إلى حد الخبث الذي لا يحد ولا يوصف، فهي تشد حتى توصلك مرحلة النهاية، ثم ترخي، تراك تنفست نفسا واحدا، فتعود لتضغط بكل قوتها وهي تنتصب برأسها أمام عينيك، هي تراك فريسة بلا حول ولا قوة، وأنت تراها من خلال عيونها التي تغوص فيك، الموت الذي ناداك ذات يوم لتدرك معنى التجربة، لكنك فور نهوضك منه، من الحلم، عدت لطبيعتك، القادر على التعود من خلال إنكار الحلم وما فيه من رسائل، أنا لا أعرف لماذا تركتك الأفعى طريح الأرض؟ ربما لم تجد فيك ما يستحق أن تقتل، وربما شمت فيك رائحة سم سيقتلها، كأنك ضفدع لا يتقن التغذي سوى على ما يحقنه بسم زعاف.

الموت هو اليقين النابت من المطلق الذي لا مطلق غيره، من الخالق، خالق الموت، وخالق الحياة، والناس مثلك تماما، يهبطون بإرادة الغرور المنزوع من الصلف، يؤمنون بالحياة كبداية، اسبقية، فقط لأنهم شاهدوا الأجنة وهي تخرج من الأرحام، ولمسوا العجز المطلق القادم مع البكاء المتوحد مع الألم، ألم المخاض، وطلقات الولادة، ليختلط هذا كله بالزغاريد والأهازيج وتشقق الوجوه من الحبور المتفجر بوصول المولود لعتبة التراب والرمال والسوافي.

فرح متقد، يُذهب العقل، ويُغيب الإدراك، يمحق الفطنة التي لم تتوقف أمام الغيم المرصوف بالمجهول، لتسأل بلوعة تلهف وفجيعة، جوى وشجو: من أين جاء هذا المولود الملطخ بالأشياء؟ بالغرائب والعجائب؟ من معلوم؟ أم من مجهول؟ من جلي بَيِنٍ محدد؟ أم من العدم المحشو بالعدم؟ كل هذا لا يدور بين الحاجبين والمحجرين، حتى أنه لا يقع في مساحة البصر والبصيرة، لعجزنا فقط عن فهم الموت الذي منه انتقلنا للرحم، لنخرج منه ملامسين التراب الذي خلقنا منه، ومنه نأكل، وإليه سنعود ونحن غارقين بالموت الذي ييبس الجسد ويشحنه بالبرودة والتجمد.

الموت أسبق من الحياة، وهو صاحب السطوة التي تغل بكل بساطة مفرطة بالبساطة، كل شيء وجد في الوجود، حتى الشموس والأقمار، الكواكب والنجوم، المجرات والثقوب السوداء، كلها جاءت من الموت، من يقين الموت، وهي مرهونة لوقت ما، لتعود إليه، خاضعة، صاغرة، مقهورة، خانعة، ذليلة، مذعنة، فلا حول لمخلوق سوى الوقوف أمام الوقت بانتظار الموت.

هل ما زلت أنا أحاول رسم بصمتي فوق الصفحة البيضاء؟ ربما، وربما دائما هي أكبر من امتداد الزمن في الزمن، والوقت في الوقت، فهي غامضة، خفية، تحمل التأويلات والتوقعات، الشيء وضده، اللاشيء ونقيضه، لذلك فقط، توطدت علاقتي بها أكثر من علاقتي مع الذي يسكنني، يحتل ذهولي وشغفي، ذلك الشيء الغريب المتحرك، اللزج، الدبق، الذي يخلعني من جذوري، ويغرسني بجذوري، هو يشبهني، في عشقة لمفرد ربما، ويشبهني حين أنتظر الموت، في أحايين كثيرة على بوابة الميلاد.

هذه الحياة، مزقتني، ولصقتني، فتتني، وجمعتني، نثرتني في الهباء، لملمتني، خبأتني في قمع عاصفة لولبية، نحتتني على رمال في صحارى تغزوها الرياح ولا يعرفها الغيم أو المطر، كأنها تشدني من ناصيتي نحو حوارية واحدة ووحيدة، الجفاف، اليبس، النشفان، وكلها صور مبسطة من صورة الموت حين يرفع الغطاء ويتحول البصر من حالة العجز التي رافقت العمر، ليتحول إلى حديد، ليرى ما لا تستطيع المخلوقات كلها رؤيته وهي منغمسة بغرورها الذي تزوده الحياة بها منذ لحظة الميلاد التي أهملت الصلة بين القادم من الرحم والتراب الذي وقع عليه فاختلط به وتسرب تحت الجلد كامنا حتى اللحظة التي تحول البصر بها إلى حديد.

ما الذي تعنيه البصمة التي أرقتني فترة طويلة من عمري؟ وماذا يعني إن كانت على صفحة بيضاء أو سوداء؟ خمرية أم توتية؟ على حجر كريم أو حجر كلسي؟

كل شيء سينتهي، وأول النهايات "ربما" التضاد والتناقض، التباين والتعارض، التضارب والتنازع، "ربما" الثغرات والفجوات، التفارق والتناقص، ومعها ستختفي اللذات، تتلاشى، تندثر وتنقرض، ستذوب زرقة السماء، ويفنى الصبح المتنفس من العتمة، سيندرس الشفق الذي كان يؤجج الجمال والهيبة، ويُمحق الشفق المبلل بدماء الأفق المسفوح، سيغيب الولد والحفيد، وتطوى كل ذكرياتهم مثل غزال استقر في مِعَد أسود غزاها الدود والنسور، سيحل ظلام مكدس في ظلام، حجب ظلمات تتشابه وتختلف مع حجب ظلمات الرحم المستعد للحياة، فقط سيصحو التراب الذي تخفى تحت الجلد يوم وقعت عليه يوم الولادة، سيرافقك نحو اللحد الضيق، شديد الضيق، وسيغطيك التراب بتراكم يعزل حتى رائحتك عن سطح القبر، ومن جوفك، سيخرج الدود، كجيوش لا تحدها العين ولا يدركها البصر، ستهضمك ثم تهضم ذاتها، فقط تراب فوق تراب، هذا كل ما القبر حين يفتح ليوضع مكانك جسد جديد، عاد من الحياة، للأصل الذي نبت منه، الموت، العدم، اليقين.

قالت أناي، وأناي، لذاتي، وذواتي: هل أدركت سر الحياة؟ سر الوجود؟ هل أشبعت الصفحات والكتب ولو نزرا قليلا من شيْ ينأى بك عن ألم كلمة واحدة من قريب أو بعيد؟ هل كان الفرح الذي اجتاحك في لحظة مفعمة بالتدفق والسيلان، غير مخلوط بالحزن الذي يقف على خيط أدق من خيط العنكبوت؟ هل فككت لمرة واحدة لغز الواضح الجلي؟

كل الأشياء تختبرك، توغل في صناعتك بكل زفرة وشهقة، بل بما هو أقل من ذلك بملايين المرات، لكنك كعاجز، مشلول، كسيح، تظن بأنك من يختبر الأشياء، من يرتبها في الأنا والذات، حتى يصل الأمر إلى اعتقاد راسخ، بأنك تمسك التجربة وتفليها كما يفلي القرد ذاته من القمل والصبئان، يصيبك الزهو وتنتفخ الثقة، زهو الجهل، وثقة الخديعة، فيضيع العمر وأنت تجدف بين دوامات وحوامات دون أن تغادر مكانك.

فتأتي اللحظة من ذاكرة النسيان تماما، تهزك، ترجك، تخضك، لكنك الآن بلا حول، بلا قوة، لا تستطيع اللمس أو الهمس، فقط جحوظ ممعن بالجحوظ، كل الكون، كل الوجود، كل القوى العاتية المدمرة، والقوى المتفجرة لتبث الحياة والجمال في صحراء طحنها الجفاف حتى الموت، كل هذا وغيره، من البعوضة وحتى المجران والأفلاك، ترضخ للبرودة التي تتسلل من قدميك، كدبيب نمل دؤوب، لتدخلك عالم لا أحد على الأرض يعلم عنه شيئا، وإن كنا نغذي أنفسنا بما نملك من أخبار، كلها بتفاصيلها شيء يبقى خاضعا للحظة التي يحدث التصادم معها لحظة تسبيل العين التي كانت قبل هنيهة فقط تشد العالم نحوها، فتفشل، لإن التصادم أوقف الزمن، وخيب الذهول، وقمع الذهول.

حتى وأنا أكتب الآن ما أكتب، وأظن بأني أمسك بالحروف لوصف ما أريد، شرح ما أصبو لشرحه، لست سوى أنا تحاول التحايل على أناها، وذات تستمرئ خديعة ذاتها، هذا التداخل، التشابك بين الوعي والغيب، بين الإدراك والمجهول، بين المعرفة والجهل، بين العجز والقدرة، يوزع التثاؤب والوسن على كل شيء، فيتمكن الغبش، الضباب من تحطيم شعاع الشموس وانفجارت الكواكب والنجوم، حين يلفها الدخان.

ماذا تريد؟ قالت الأنا والذات.

لمس الحقيقة بيدي، قلت.

قالت الأنا والذات: ألم تر بأنك ما زلت تبحث عن المحسوس، هل النار تؤذي الميت؟ وهل يؤذي سقوط نيزك رأسا تمدد فوق دكة الغسل؟

قلت للأنا والذات: هل وصلت للحقيقة؟

قالت الأنا والذات: ربما، أليس ربما هي رفيقة أنفاسك منذ الميلاد؟

قلت: ربما، لكني الآن أستطيع فقط القول بكل ثقة، رغم ما يعتريني من نوازع واختلاطات، سألجأ فقط للفطرة، فهي اليقين الذي لم أدرك من قبل، بأنها اليقين الذي يتساوى مع يقين الموت. وحين يأتي الموت، بأي شكل من الأشكال، سأخرج فطرتي من أعماقي وأدمجها بلحظات الرحيل وعيون الغياب، فهي رغم كل شكوكي ووساوسي، تبقى نعمة الله التي زرعها فينا رحمة وإحسان، رأفة ومحبة وحنان، لنمسك بالنقاء المولود من البراءة، البراءة المتفجرة من السكينة. عل هذا اليقين بالفطرة، يرافق خطواتي وميلادي الخالد حين أسجى باللحد لتبدأ مرحلة التواصل مع الله جل في علاه.

***

مأمون أحمد مصطفى زيدان

نقترب كثيرا من سمائك

من نظامك الفلكي الغامض

مجرة أحاسيسك الملغزة

كهوفك البدائية

أنا وظلي المتساقط كالبرج الهرم

ثمة سرد ناعم

يتدفق من عينيك الكستنائيتين

معبأ  بجماليات اللامعنى

أنت شبه ميتة

غير أن وجهك مرصع بالياقوت والنوستالجيا

الكرسي المتحرك يتكلم أيضا

على إيقاع مفاصله

ينقر قلبي تينة علاقتنا الناضجة

أنت تتألمين

كما لو كنت رسولة في قرية مليئة بكفار قريش

كنت أطرد الجواسيس

من شرفة المساء

أهب هذا الزمن التراجيدي

المزيد من حقن المورفين

لئلا تسقطين في شرك المحو

وتمتلىء روحي المسحورة بالضوء

بالعظايا والسحليات

يطلع النهار من قبعتك الكنسية

والليل من أظافر الموتى

أو من برية متناقضاتي

ترشقين عينيك في ساعتي اليدوية

حيث يبدو الزمن مثل أرنب عجوز

مهدد بطلقة طائشة

الفراغ متجمد تحت كتفيك الغائمتين

الهواجس تتحرك مثل كلاب الصيد

قلنا  بعد هذا القصف

سيهبط الملاك

يملأ بيتنا المتداعي

بالأزهار والمعجزات

سنرمي تابوت الحظ السيء لكلاب المجرة

نتحرر من أفاعي السحرة

سأسحب غيمة الوداع من عينيك

العالم جميل خارج البيت

القطارات ملآى بالقمح والنبيذ والسكارى

والنساء يطردن ذئاب الأسئلة الكبرى

بكعوب أحذيتهن

المجانين يقرعون النواقيس

في الحلبة

تحت رعاية الشمس

الصلوات تتطاير في الهواء

وعلى ثوب الراعي رائحة الكنيسة

الغفران بقدمين متوثبتين

القتلة في قاع البئر

إذن

هشمي كرسيك الأشيب

بضحكة مدوية

لنقفز من أكواريوم العذاب

إلى سحر الواقعي

المستقبل في انتظارك

بتاج من الذهب الخالص.

***

فتحي مهذب - تونس

 

من بين ضلوع الألم

من أعماق حزني الدامي المخضّب بالحسرة

المدفون في آهات القلب المكلوم

بالفراق الأمّر

المترع بالحرمان الشقي

من سهاد عيوني التي اتعبها السهر

احلم يبزغ فرحي شمسا

وينبت فجر احلامي الكبيرة

قمرا في سماء روحي الضائعة

ويزهرالربيع خضرة وشجرا وارف الظلال

وتتفتح ازهار النرجس عنفوانا

يعبق برائحة الحياة الزكيّة

اميرتي

قلق دامع يلازمني

وحزن اليم يوجعني

كيف يختار قلبي وفي حبك يشقى

كيف يختار قلبي؟

ويسكنه الصبّ ولهانا بجمالك

وتئن انفاسي شوقا لفراقك

زمن ذقت فيه مرارة عيشي

وأيامي التي ما فارقتها

إغماضة عين اتعبها السهر

اناجيك

فلم يعد بي  للصبر منتظرا

***

علي محمد اليوسف

«شعبي العزيز، غداً إن شاء الله ستخترق الحدود، غداً إن شاء الله ستنطلق المسيرة، غداً إن شاء الله ستطؤون أرضاً من أراضيكم وستلمسون رملاً من رمالكم وستقبلون أرضاً من وطنكم العزيز"

إذا كانت هذه الكلمات هي انطلاق عبقرية، شرارة عزم وتصميم، يوم دعا ملك البلاد عقول المغاربة الواعية لتقتحم أرضا طال عنها غيابهم وهي قطعة منهم، مصير حاضرهم ومستقبلهم، وعليهم أن يصلوا معها الرحم ليسترجعوا خيرهم الذي نهبه مستعمر، وفيه يطمع جار نصاب حقير، لا يوقر حرمة أو يحترم جوارا، فإنها بالنسبة لي كطفلة كنتها لا تعي ما حولها،كانت لي فرحة طاغية هي ما يطول المحيطين بي، حبا في الصدور يجيش،ونشيدا على الأفواه يردده الصغار والكبار ..

هي فرحة وأدها في عيوني، وسفكها في صدري لئيم حقير، ذئب بشري، صورته لازالت تؤرقني بعذاب،تلازمني بذكرى لأخطر جريمة يمكن أن تلحق طفلة بريئة، عند الصدمة وبعد الصدمة،قلق لا يمكن أن يمحوه زمن،بوسواس قهري يلازم نفسها ..

عشرون عاما قد مرت كلكلا طاغيا ثقيلا ثانية بعد أخرى بلا نسيان حتى في أدق اللحظات من حياتي، إذ في كل لحظة لا أزداد إلا وعيا بما وقع، واحتقارا لذئاب بين الناس تحوم بِشَرٍّ ..

كانت الشوارع هتافات ونداءات عارمة من صغير وكبير، غبطة تكتسح الدروب و الطرقات، موظفين وعمالا، مثقفين وغير مثقفين، الدور والأحياء،الدكاكين والمتاجر، المعامل والمصانع، الجميع تغمره السعادة والاستعداد،والتضحية ما يملأ النفوس المؤمنة بقضية وطنية مقدسة قدم المغاربة عن بكرة أبيهم قسما سرمديا خالدا بعدم التنازل عنها، خلفا عن سلف،ومن المهد الى اللحد، ولئن تبدى توجس هيمن على بعض المتشككين فسرعان ما تبدد بحماس منقطع النظير حين طغى الإقبال على التسجيل للمساهمة في ثورة التحرير واستوعب الناس فلسفة المسيرة وأهدافها .

كنت أتمسك بيد أمي وأنا مشدوهة بما أرى من حولي، كانت السويقة القريبة من حينا والتي قلما تكون غاصة يوم الاثنين صباحا تعج بالزوار ولا حديث الا على المسيرة الخضراء التي ستنطلق بعشر سكان الوطن ذكورا وإناثا كما كنت أسمع دون أن أقدر العدد أو أستوعب ضخامته ..

قبل يومي هذا لم أكن أعرف معنى التحرش والاغتصاب،كنا أطفالا نلعب في الحي ذكورا وإناثا، نتجارى، نتسابق، نتعانق وقد نتخاصم لكن لا أحد يفكر في الإساءة لغيره، فبراءتنا تتجلى في كل مانقوم به كأطفال.. كما لا أحد يفكر في الإساءة الينا ..

كانت أمي منشغلة بباب السويقة في الحديث مع نسوة من الحي وأنا مشدوهة بحماس الشباب والأطفال الذين لا يتحدثون الا عن المسيرة،أو يرددون أناشيدها مع التلفزة والمحطات الاذاعية لا انتبه لخطواتي وهي تبتعد قليلا عن أمي ..

يد قوية ترفعني من إبطي الأيمن وتدخل بي تحت سقيفة، ترميني فوق أعمدة متلاشية ثم تشرع تخلع تباني ..

هول المفاجأة والصدمة صار رعبا هو ما أخرسني بصمت، فعل بي الرجل مافعل بعد أن وضع لصاقا على فمي، وأوثق قدمي مع يدي وما لبث أن تركني تحت دثار سميك من قلع ثم انصرف ..

كنت أسمع نداءات أمي ونسوة أُخَر، والكل عني يبحث ولا استطيع الرد،عيوني تدرف ماءها غزيزا، وأنفاسي مخنوقة داخل صدري .

لم يكن عمري يسمح لي بحركة قادرة على فك وثاقي ولا عقلي يستوعب ما يقع،طفلة في سنتها الأولى بالمدرسة، أتنفس فقرا في حي عشوائي، اسكن براكة قصديرية لا يمكن أن نلجها الا بعد القفزعلى قنوات مكسورة لمياه الصرف الصحي .. والدي به كسر في الركبة بعد سقوط من سرير بِناء لا يغادرحصيرة عليها هيدورة خروف هي فراشه بالليل والنهار، تشاركه فيها أمي أذا حان برد، لا يمكن أن أعرف نفسي هل كنت جميلة أم قبيحة فما ينتجه المحيط الذي أسكنه غير البشاعة،الفقر والقبح ..

خمسة أيام و الرجل يأتيني مرتين في اليوم، يقدم لي ماء وقليلا من اكل، يفعل بي ما يريد ثم يتركني لدموعي وغصات صدري ..

كلما بكيت وتوسلت، كان عقابي مزيدا من الاغتصاب، أتألم، وفي مكاني أتبول ..

سلوك متوحش، يضاعف قهري من ابتعادي عن أمي وأبي ..

ذات يوم بليل أتاني شاب غير الذئب الذي اغتصبني، حسسني بقليل من السعادة،بل بقوة السعادة وهو يفك رباطي، فقد توهمت وصول الفرج، تبسمت في وجهه، وضعني في شواري ثم رماني فوق حصان وانطلق ..

طول الطريق، فشلي، وتفتيت قوتي بعذاب الوضع ما جعلني أغفو الى أن سمعت صاحب الحصان يقول لي:

ـ أنت كنت بعيدة كثيرا عن بيتكم لهذا يلزم أن تركبي القطار مع أحد أعواني للعودة الى أمك ..

أستغربت،متى تم ترحيلي عن مكان كان قد رماني فيه الذئب الذي سرقني؟

يوم وليلة والقطار يدك الأرض الى أن وصلنا محطة قطار في قرية

أنزلني مرافقي، لكن ما توجست منه أني لم أكن وحيدة، كنا ست بنات وعشرة ذكور أترابا في نفس العمرنزلوا من عربات متفرقة، تم حشرنا مع دموعنا وغصاتنا في سيارة كبيرة يسوقها جندي صحراوي بلباس عسكري يغطي وجهه بلثام أسود لا تظهرمنه غير عيون تقذف شررا،كان يرافقه في القيادة جندي آخر مسلح ببندقية يرتدي نفس اللباس لا يختلفان الا في لون اللثام بين أسود وأزرق الى أن وجدنا نفوسنا نخترق صحراء شاسعة بعضنا قد غيبته نومة والبعض الآخر قد هده جوع ..

لا أحد منا كان يعرف اللهجة التي كان الرجلان يتكلمان بها غير أن كلمات كانت تتردد بتكرار على ألسنتهم، أم دريكة، بشار، تندوف ..

في هذه أنزلونا في مخيم، نصفنا كان غائبا عن وعيه، سقونا ماء وقدموا لنا حليبا وثمرا ..

غاب عنا الذكور وبقينا نحن الاناث وحدنا، لا نعرف لنا مصيرا بل لا نعرف حتى نفوسنا فنعي ماذا نريد وماذا يحاك ضدنا؟.. لكن التجربة التي لايمكن أن تنمحي من عقلي أننا صرنا بؤرة اغتصاب يومي،هوذا الذي كوَّن إحساسنا بالعار وشعورنا بالذنب والاحتقار، طفلات لاقدرة لنا على المواجهة ..

كنا جميعا والينا قد انضافت أخريات لا نبحث الا عن أمهاتنا ولا نتمنى الا لحظة بين أحضانهن، كنا نساق لمخيمات في الخلاء واحدة بعد آخرى صامتات،ويا ويل من قطرت دمعا أو شكت تعبا فمصيرها الضرب والاغتصاب العنيف لجنديين أو أكثر كل منهم يأتي صبية من جهة ..

ثلاث طفلات صغيرات منا قد فقدن الحياة تحت عنف الاغتصاب،

كل مخيم كنا نتلقى فيه أسئلة من رجال غلاظ شداد، وجوههم متجهمة عبوس، سباب وغضب، ويجب أن تكون الإجابة منا على شكل موحد حسب ما يتم تلقينه إلينا، كان يجب أن نحفظ أسماء قبائل ودواويروشيوخ لندعي أننا منهم خطفنا جنود مغاربة من بين أحضان أمهاتنا ورموننا على الحدود الجزائرية ..

خرجنا صغيرات ونسينا التفاصيل..

في بعض المخيمات كان يفرض علينا نسيان لهجة كلامنا والنطق بلهجة قالوا أنها لغة الصحراء الحرة واسمها الحسانية وعلينا أن ننسى لغة علمتها فرنسا لآبائنا وأجدادنا ..

بين حين وآخر كنا نحشر في سيارات رباعية الدفع ويتم تسفيرنا الى مسافة بعيدة عن تندوف ثم تقلنا في جوف الليل وتحت أجنحة الظلام طائرة عسكرية الى الجزائر العاصمة فيفرض علينا خلع ملابسنا والاستحمام بماء في صهاريج يتم صبه من الطائرة، والدخول عاريات الى أندية خاصة بالرعايا الفرنسيين و الشيوخ الضباط من الجزائريين للرقص والتعري والجنس، كان روادها شيوخا يعشقون النوم مع طفلات صغيرات .. كنا نقضي ليال بنهاراتها الى أن ينهار الشيوخ وينامون على أرائك هزازة، كانت كل من أرادت منا أن تنجو من الاغتصاب الجماعي بعد العودة الى المخيمات عليها أن تجني أكثر الأموال التي لم يكن لنا فيها أي نصيب ..كثيرا ماساءلت نفسي بعد أن كبرت ووعيت أكثر:

أية متعة يجدها الشيوخ في طفلات صغيرات هزيلات يؤرقهن الاغتصاب واليتم القسري ؟..

أكثرالفتيات صرن حاملات بدءا من الحادية عشرة من عمرهن، كان الوليد الذكر يؤخذ بعد الوضع مباشرة أما البنت فالى أن تبلغ الأربعين يوما .. حين يبلغ الأطفال الخامسة يساقون الى دولة اسمها كوبا عبر مطارات الجزائر، أما البنات فتوضع الذميمات مع الذكور للتدريب على الأعمال العسكرية محليا تحت إشراف ضباط من الجزائر وإيران أو البيع للامهات العاقرات أو يدفعن خادمات في البيوت الجزائرية أو يتم تصديرهن الى أوروبا الشرقية كما كان يتناهى الى أسماعنا، في حين فان الجميلات يتم الاحتفاظ بهن في تندوف ولا واحدة منا قد تعرف لها ابنا أوبنتا بل أصلا كنا لا نعرف لهم أبا ..

كانت تجربة قاسية، عنيفة، أزلية لانعرف متى قد تبتدئ ومتى ستنتهي، كانت السيطرة على مشاعرنا تتم بكل الطرق، بلاقيم ولا أخلاق، ولا كرامة إنسانية المهم ان ننضبط لما يريدون، ان نمتثل لكل سيطرة ترضيهم ولها قد خططوا شرعة ومنهاجا .. كوابيس مقيتة ومرعبة قد عشناها ..

ذات ليلة كنا نتهيا للاحتفال بانتصار ادعوا أن الجزائر قد حققته على المغرب في إحدى المؤتمرات وقد صادف زيارة بعض الشباب الذين كانوا أبواقا للدعاية الجزائرية في أمريكا الجنوبية، كان صحفي يتكلم الاسبانية ويعاني بتلعثم مع العربية يرافق أحدهم ما أن أبصرني حتى تسمر في مكانه وأطلق صفيرة إعجاب، يومها أدركت أني جميلة بل تأكدت من ذلك فكثيرات ممن كن معي ومن الجنود والشيوخ الفرنسيين الذين ناموا معي في الجزائر كانوا يتاسفون على جمالي الذي يذوي في الاغتصاب بين الهمج في تندوف..

تقدم الشاب مني، رفع يدي الى شفتيه وقبلها أحتراما ثم قال:

ـ أنت رائعة الجمال مارأيك لو ترافقينني الى وطني ؟

لم أتردد في القبول وكيف لي أن أرفض وأنا سأترك بؤرة نتنة؛

فكم من مرة توسلت شيخا اختلى بي أن يتبناني أو يحررني لأشتغل عنده خادمة حتى أنقد نفسي من وضع صار سياطا بالليل والنهار ..

مرة قال لي شيخ فرنسي:

ـ لوبقيت في إحدى المدن المغربية في الصحراء الغربية لكنت أحسن حالا، هنا الناس كراغلة أجلاف لا ذمة لهم ولا عهد

بكيت وقلت له:

أنا لا أعرف عما تتحدث عنه انا لست صحراوية أنا من مدينة في شمال المغرب

تنبه الشيخ الى عيون تراقبه عبر إحدى النوافذ فانكتم وشرع يقبلني

طلب مني الصحفي اسمي فزودته باسم منح لي بعد وصولي الى تندوف "أريام بنت المداح "

قال وعياناه تكادان تلتهمان وجهي:

ـ أذكريني جيدا سأعود اليك قريبا !! ..

ثم أخذ لي صورأ بآلة فتوغرافية كانت معه ..

بعد شهر كنت لأول مرة أحمل بطاقة وطنية وجواز سفر بولونيين تحت اسم "ماريا فرنانديز ثم أركب طائرة الى الاوركواي ..

وقد علمت من بعد أن عسكر تندوف قد قايضوني بمقالات يكتبها الصحفي ضد المغرب ويتم توزيعها على دول أميركا الجنوبية ..

إن المهم عندهم أن يذكر المغرب بسوء ويعلنون انهزامه ولو كذبا ..

أخيرا وجدت رجلا ينقدني من براثن القهر والفسق، وخيام الذل والعار، يحبني لذاتي كأنثى بجمال موهوب لم يحركه فيَّ ماضٍ مخٍز، تعلق بي وأقسم أن يمحو كل صورة اغتصبت طفولتي وخدشت براءتي، ساعدني على أن أعيش الحياة ..

لأول مرة أحسست أني أمارس دوري كأنثى،وأني حقا بين أحضان رجل يعاملني كامرأة، لاذئب ينهش جسدي ..

قدمني لطبيب نفسي مكنني من أن أستعيد بعضا من توازني وأخوض تجارب حياتي من جديد بعيدا عن الرذائل مستمتعة بوجودي معه دون إحساس بذنب أو عار مما مضى من حياتي ..

ـ عليك ان تحبي نفسك، ربما منك قد سقطت بتلات ورد فعليك أن تجدديها بإقبال على الحياة،أن تقبليها بكل براءة الطفولة التي يجب ان تستعيديها بلا أفكار رجعية.. ثقي أن عودك طري سيبرعم ويورق من جديد ..

تزوجني بعد ستة اشهر من إقامتي معه وكانت هديته مع خاتم زواجي همسة في مسامعي:

استعدي لنسافر الى وطنك بحثا عن والديك..

عانقته، ووجيب صدري يضرب كطبول الليالي في رمضان خلف أبواب المنازل التقليدية ..

هل أرتاح؟ وهل أدفن فترة من صباي بنسيان إذا ما دفنت وجهي في صدر أمي عند اللقاء؟؟ !!..

***

محمد الدرقاوي المغرب

اعيذ الوصفَ ان ينبو

وفي أفواهكم يخبو

*

إذا كانت تراقصه

لعوبٌ للهوى تصبو !

*

تخاصره ، فتلثمه

فمُذ كانت له تحبو

*

تثيرُ الوصفَ ممتطياً

جوادَ الشعر لا يكبو

*

لها ذكرى وإياه

فكاعبةٌ ، وذا قلب ُ

*

تميدُ فترتمي بيديه

سكرى انه نهبُ

*

تثير غرائزاً ثكلى

لأن زمانه صعبُ

*

سيعبقُ بطنُ راحتِه

أريجاً ، انه الحبُّ

*

وفي عربات ليلته

أيائلُ ما لها خبُّ

*

فبين النجم والأقمار

يعدو ذلك الركبُ

*

فيخطفُ صورة سحرية

الالوان لا تنبو

*

لفاتنة سبته هوًى

فجلَّ الخالقُ الربُّ

***

حيدر علي الفتلاوي

 

أنْتَنَ الدِّينُ بِكُرْهٍ

وبإكراهٍ...

وتَدْليسٍ...

وتسيسٍ...

وإرهابٍ مُنَظَّمْ !

لمْ يَعُدْ للدينِ إلا

هيكلٌ اسْمِيُّ...

والروح مُحَطَّمْ !

بين مُنْتَسِبيهِ

مِن _شَتَّى_ لِحَى التفريطِ

حتى

بَلْطَة الموتِ المُعَمَّمْ !

فلقد غَذُّوا_ بِخُبْثٍ دمويٍّ _

قلب (نَبْتٍ) يافِعٍ

بسُمومٍ طائفيةْ

ومُبيداتٍ إبادة عنصرية

بل وأُخرى

هي من صُنْعِ الفتاوى

الــ(حَـــاخَمِيِّةْ) !

لاتُسِيئوا الظن بي

فالكل يَعْلَمْ

أن للدينِ السياسيِّ الــ(مُؤَسْلَمْ)

خَتْم وَشْمٍ حَاخَمِيٍّ

راسِخٍ

في باطِنِ الوَجْهِ المُنَعَّمْ!

*

هُمْ - لاسواهُمْ -

دَفْنهُمْ أحياء أَوْلَى

مِن حياةٍ أَسْعَدوا الشيطان فيها

وأحالوا حياتنا

غِلَّاً.. وغَوْلاْ

وقبوراً أودعوا فيها ذَخائرَ حَيَّةٍ

وحُرُوباً حِينها

تُصْلي وتَصْلى

ودماءً نَهْرها أسرع مِنْ دَمْ

بفصيحٍ تتألَّمْ!

*

أنْتَنَ الدِّينُ... فقُلْ لي:

متى نَشْتَمُّ التسامحَ

والتصالُحَ

والوطنْ؟

ومتى يزهو بنا الدِّينُ

ولايشكو الوَهَنْ؟!

ومتى – أعداؤنا -

يأتونا يوماً خاضِعينا

يطلبونَ الصَّفْح عَنْهُمْ

بانصياعٍ صَاغِرينا؟!

ومتى...تكفي

لتُشْعِلَ مُنْطَفي

وتُضِيءُالدربَ للآتينَ

بالنهجِ القويمْ

*

أنْتَنَ الدِّينُ اختلافاً

وانحرافاً

وصراعاً يَتَأَزَّمْ

فمتى نَصْحوُا...

وصَحْوِنَا صحوةٌ لاغَرْوَ فيها

تَمْلَؤ الدنيا ووئاماً...

وسلامَاً يَتَزَعَّمْ

دِينُنَا...

دِينٌ مُعَظَّمْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

في الهروب إلى القصيدة

كانت تؤوبُ الشّمسُ من غفوتها

تجدُني في انتظارها

تسألني حضنًا في غسقِ الدّجى

فأومضُ شهقةَ عاشقةٍ رأتْ حبيبَها

في المنامِ

ترتدي الأملَ عباءةً محتشمةً

والفكرةُ في المرآة

تتمنّى ريحًا تبرز نهدها

فتدور وتدور وتدور

مثل صوفيّ تباغتهُ امرأةٌ في خلوةٍ

ترشدهُ دربَ الوصولِ

منتشيًا بنظرةٍ لمّا انقضى صحوهُ

يرجو وصلها

يستيقظُ فيه الحنين

والغمام بالنّور مُنقّبٌ

يُخفي حُسْنَ الزّهور

لكنّ الخبزَ مؤرّقٌ والبحر ماكرٌ

والطّغاةَ وراء الباب

فمتى يكون الهروب إليها مواتيًا؟

***

ريما آل كلزلي

 

نسر الوقت المضيء

قد فقد توازنه

واصابه الغثيان

والعناكب

والدود

والجراد

قد كبلت جناحيه

بحبل قصديري مريب

لكن عصافير وعنادل

وقبرات النبع المضيء

ما زالت تغني

للنسيم للبنفسج

للبرق وللمطر

ومرايا قلبي

البنفسجية

ما زالت تعكس على

زجاجاتها احزان والم

الفراشات والعصافير

والقبرات في المرج

الحزين الدامي والمستباح

***

سالم الياس مدالو

 

بِــكَ نَــسْتَعِينُ وَمَــنْ سِوَاكَ يُعِينُ

هــلْ غَــيْرُ بَابِكَ يَطْرُقُ المِسْكِينُ

*

وَلِــمَنْ سَــنَجْأَرُ إِنْ تَــمَادَى ظَالِمٌ

وَلِــمَنْ سَــيَشْكُو بَــثَّهُ الــمَحْزُونُ

*

اِرْحَــمْ  ضَــعِيفًا لَايَــطِيقُ شَدَائِدًا

إِنَّ الــضَّعِيفَ إِذَا رَحِــمْتَ مَكِينُ

*

كُــلُّ الَّــذِي نَــرْجُوهُ عِــنْدَكَ هَيِّنٌ

إِنْ  شِــئْتَ شَــيْئًا قُلْتَ كُنْ فَيَكُونُ

*

يَــامَنْ أَجَــبْتَ دُعَــاءَ نُوحٍ بَعْدَمَا

لَـــمْ  يَــنْــفَعِ  الإِنْـــذَارُ وَالــتَّلْقِينُ

*

نَــجَّيْتَهُ، وَجَــمِيعَ مَــنْ لَــحِقُوا بِهِ

إِذْ سَــارَ فِــيهِمْ فُــلْكُهُ الــمَشْحُونُ

*

أَخْــرَجْتَ يُونُسَ مِنْ مَهَالِكَ جَمَّةٍ

وَعَــهِــدْتَهُ  لَــمَّــا رَمَـــاهُ الــنُّونُ

*

مَنْ قَالَ بَطْنُ الحُوتِ يُصْبِحُ مَلْجَأً

وَبِــغَــيْرِ زَرْعٍ يَــنْــبُتُ الــيَقْطِينُ

*

إِلَّا بِــلُــطْــفِ مُــيَــسِّرٍ وَمُــدَبِّــرٍ

وَالــحُكْمُ عِــنْدَهُ مُــحْكَمٌ وَرَصِينُ

*

مِــنْ صَــخْرَةٍ صَمَّاءَ تُخْرِجُ نَاقَةً

لِــلْــمَاءِ شَــارِبَــةً لَــهَــا عِــثْنُونُ

*

مَــنْ قَــالَ إِبْــرَاهِيمُ يَــنْجُو سَالِمًا

وَالــنَّارُ تَــهْجُرُ طَــبْعَهَا وَتَــخُونُ

*

يَــامَنْ أَجَــبْتَ دُعَــاءَ أَيُّوبَ الَّذِي

قَــدْ مَــسَّهُ الــجَدَرِيُّ وَ الطَّاعُونُ

*

وَلِأَجْــلِ دَاوُودَ الــجِبَالُ تَسَخَّرَتْ

وَجَــعَلْتَ زُبْــرَاتِ الــحَدِيدِ تَــلِينُ

*

أَمَّــا سُــلَيْمَانُ الــنَّبِيُّ خَــصَصْتَهُ

بِــالــجِنِّ  كَــانَ بِــأَمْرِهِ مَــرْهُونُ

*

يَــامَنْ فَــلَقْتَ الــيَمَّ أَصْــبَحَ يَابِسًا

وَكَــأَنَّ لَــمْ تَــسْلُكْ عَــلَيْهِ سَــفِينُ

*

فَــتَحَوَّلَ الــبَحْرُ الــعَظِيمُ لِــمِعْبَرٍ

فَــنَجَا الــطَّرِيدُ وَأُغْرِقَ الفِرْعَوْنُ

*

مَا  كَانَ هَذَا مَحْضَ أَمْرٍ عَارِضٍ

بَــلْ  مُــثْبَتٌ، فِــي عِلْمِهِ، مَكْنُونُ

*

مَــا شَكَّ مُوسَى فِي النَّجَاةِ لِبُرْهَةٍ

أَوْ سَــاوَرَتْهُ عَــنِ الحَفِيظِ ظُنُونُ

*

عِــيسَى ابْــنُ مَــرْيَمَ مِثْلُ آدَمَ آيَةٌ

الــمَاءُ  أَصْــلُ وُجُــودِهِ وَالــطِّينُ

*

اللهُ  يَــخْــلُقُ مَــايَــشَاءُ بِــلَــحْظَةٍ

هَـــذَا  بِــعُرْفِ الــمُؤْمِنِينَ يَــقِينُ

*

أَرْسَــــلْــتَ أُمِّــيًّــا يُــعَــلِّمُ أُمَّـــةً

لِــلْــخَلْقِ يُــظْــهِرُ هَــدْيَهُ وَيُــبِينُ

*

أَنْــتَ  الــمُعِزُّ تُــعِزُّ عَــبْدًا هَــيِّنًا

وَتُـــذِلُّ جَــبَّــارًا طَــغَى وَتُــهِينُ

*

أَذْلَــلْتَ خَــيْبَرَ حِينَ شِئْتَ بِلَحْظَةٍ

سَــقَطَتْ  قِلَاعٌ ضَخْمَةٌ وَحُصُونُ

*

لَــكَ أَشْــتَكِي ضَعْفِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي

يَــامَنْ إِذَا شِــئْتَ الصِّعَابُ تَهُونُ

*

ارْحَــمْ إِلَــهِي كُــلَّ عَــبْدٍ مُــغْرَمٍ

قَــدْ أَثْــقَلَتْهُ مَــدَى الــزَّمَانِ دُيُونُ

*

أَسْــلَمْتُ أَمْرِي لِلَّذِي خَلَقَ الوَرَى

وَبِــدِيــنِهِ الــحَــقِّ الــمُبِينِ أَدِيــنُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

والوقت حالة

على أهبة الأرقام،

من شدة ضحكاتنا

يمارسنا الحزن،

نختبئ خلف أشكال

لا تعكس الحقيقي

وفعل الدهشة منا للصدى،

"نحن" لا تنبغي لنا نحن

ظل للآخر نمشي

قد تسعفنا الأقنعة

لكننا لا نشبهنا فينا

لأن الخصوصية صفة نادرة

وحرية قيدها اكتسابي

*

عاطلون عن الهوية

والمرايا عطب سيكولوجي

بين المؤقت

وما لا نبدو عليه،

نحن ما اقترفت الميديا

كائنات يوم سريع،

يطارده الوقت

أبد ليل،

مخلفات تكنولوجيا رقمية

تبحث عن نجمها

يأتي الرمز الاصطناعي

يصرخ الفراغ ذاك عَرَّابي

*

عاطلون عن الحب

ربما يتسنى لنا

برعشة على عجل،

في غرف فنادق،

سيارات،

مراحيض حانات

شوارع مظلمة،

تحت صخب مراقص،

شقق مأجورة،

سينما،

وخلفيات حدائق،

على حد التعبير الفرنسي

وبين عري وانفصام

نقدم الولاء لبنات الهوى

ثم نحدث عن الله،

"الأرصدة شهواتهن

ومفاتنهن اغترابي"

*

عاطلون عن السماء

ندين بعقيدة المقايضة

والرأسمال نبي عهد جديد

إذ قال الإنسان الأخير

أنا من أنا ؟

أنا الأشياء الغامضة بداخلي

شهوة العبث للمزيد

وجودي ضروري

وضرورتي غيابي

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: بكائية تمثال الحرية

 

بحسبِ السونارِ الذي أظهرَ أنَّ زوجتهُ حاملٌ بولدٍ، يبدو كأنهُ كبيرُ الحجمِ، على خلافِ أوزانِ الأطفالِ حديثي الولادةِ. قرّرَ الأبُ تسميةَ ابنهِ القادم (غالب) وظلَّ ينتظرُ خروجَ (الغالب) ودلّلَ زوجتهُ، لأنها ستنجبُ ابنَهما البكرَ ذكراً .

يومُ الولادةِ في المستشفى تجمَّعَ الأبُ وذووه من والدةٍ، وأخوةٍ وأخواتٍ بانتظارِ خروجِ ابن أخيهم الكبير إلى الدنيا، كان مخاضاً عسيراً على الرغمِ من أنّ الولادةَ طبيعية .

سَمعوا صرخةَ الوليدِ فهلّلوا فرحاً، ولكنّهم وَجِموا قليلاً حين علموا باستمرارِ الطّلقِ عند الأمِّ الفتية، فأعقبَ هذا الطلقَ الغريبَ صراخٌ آخر، إنّهُ الولدُ التوأمُ. على الرغمِ من ذهولِ الأب، فقد أطلقَ سريعاً تسميةَ (مغلوب) على التوأمِ، كنوعٍ من التناغمِ الغريبِ من وجهةِ نظرِ بعضِ أخوته، وامتعضتْ بعضُ الأخوات من التسميةِ (لماذا مغلوب!).

لم يقتنعنَ أن يكونَ أحدُ ولدي أخيهنَّ الكبيرِ مغلوباً، فَهمَ، أب التوأم، ما يدورُ في خُلدهن، قالَ لهن بسرعةٍ حاسماً الأمر:- هي الدنيا كلّها، هكذا، غالبٌ ومغلوبٌ- ومن ثمِّ أضافَ بعد صمتٍ قصير- هي أسماءٌ لا أكثرُ ولا أقل.

ما نطقهُ بعفويةٍ بأنَّها مجرَّدُ أسماء، أخذَ ينجلي مداهُ، بعد أن نما التوأمانِ، وزادَ حراكُهما ولعبهُما.

الأمُّ اللصيقةُ بهما ليلَ نهار، عكسُ الأبِ المنهمكِ في عملهِ صباحاً، ومع أصدقائهِ وسهراتهمْ مساءً، أخذتْ تلحظُ أنًّ (مغلوب) بدأتْ تظهرُ بدانتهُ، على عكسِ أخيه (غالب) الذي أصابهُ هزال، على الرغمِ من أنَّ أمّهما تغذّيهما بالحليبِ من ثدييها، وبكمياتِ الرضاعةِ نفسها، لكنَّ (مغلوب) يزعقُ بالبكاء، إن ألقمتْ أمّهما الصابرة ثديها فمَ (غالب) أولاً، ولا يكفُّ عن الصُّراخِ إلى أن تضعَ (غالب) أرضاً، وتشرعُ برضاعةِ (مغلوب). لكنَّ من غرائبِ (غالب)، إنهُ يسكتُ ولا يبكي، إلاّ حينَ تطولُ فترةُ رضاعةِ (مغلوب)، وعلى وتيرةِ هذه المشاكساتِ الطفوليةِ في بادئِ حياتهما، بانتْ بدانةُ (مغلوب)، الذي بدأ يؤذي أخاهُ (غالب)، في أثناءِ لعبهِما، يخمشُ ألعابهُ، بل يخطفُ حتّى الحلوى، حتى وإن وزّعتِ الأمُّ الألعابَ والحلوى عليهما بالتساوي، ما شكّلَ هاجساً مقلقاً لدى الأم، وقرّرتْ أن تصارحَ به زوجَها، ولكنَّهُ يعودُ منتصف الليل إلى البيت دائخاً من تناولِ (النارجيلة) والمنافسةِ الشديدةِ مع الأصدقاءِ في لعبتي الطاولي والدومينو، فضلاً عن نقاشاتهم في جميعِ الأمور، فلذلك كانت تؤجلُ مفاتحتهُ بحيرتها، التي تكمنُ في أنَّ سلوكيات(مغلوب)، عكسَ اسمه تماماً. وبدأتْ ملامحُ العنفِ تنمو عنده، على عكسِ (غالب) الذي يبدو مسالماً، فحين يستولي (مغلوب) على حاجياته، كلُّ ما يفعلهُ (غالب) البكاء، ومن ثمَّ يصمتُ بعدَ ترضيتهِ بأبسط لعبةٍ، يستولي (مغلوب)عليها أيضاً.

حينَ كبرا، كانتْ ملامحهما متشابهةً: الشعرُ الأسودُ، والبشرةُ الحنطيةُ، الطولُ متساوٍ، ما عدا أنَّ (مغلوب) استمرّ في اكتسابِ ضخامةِ بدنه، بينما (غالب) رشيقُ القوام.

بدأتِ اللعبةُ تكبرُ على أعلى مستوياتِ ثنائيةٍ أزليَّة، بحسبِ المأثورِ الشعبي، الدنيا غالبٌ ومغلوبٌ، مأثورٌ انطبقَ عليهما، مثلما ينطبقُ الحافرُ على الحافر، فالأولُ (غالب) حين شبَّ، سلكَ مسارَ الاستقامةِ، والاجتهادَ في التحصيل العلمي، وعدمَ التعاملِ مع الآخرينَ بالتغالب .

على عكسِ أخيهِ (مغلوب)، يسري في دمائهِ التغالبُ مع أخيه، وأهلهِ والمحيطينَ به، بل كانَ عكسَ سلوكِ أخيهِ في كلِّ شيءٍ، فلم ينلْ تحصيلاً علمياً، وسارَ في طريق الأعمالِ الخاصّةِ، التي يُمارسُ فيها النصبَ والاحتيال، من أجلِ تحصيلِ المالِ وتقويةِ النفوذِ بأيةِ وسيلةٍ كانتْ.

كانَ (غالب) يمتازُ بطيبةٍ عاليةٍ، جعلتِ الآخرينَ يستغلونهُ، مثلاً حينَ بنى داراً، بما ادَّخرَ من نقودٍ، نصبَ عليه المقاولُ، الذي بكلامهِ المعسولِ، بنى له بيتاً من مرمرٍ، ليس بالأفعال، بل بالأقوالِ والوعودِ الكاذبة، فسحبَ مدّخراتهِ، ولم يتمْ إنجازُ أكثرِ من 50 بالمئة من بناء البيت، فما كانَ منهُ، إلاّ أن أقامَ دعوىً عليه، تترنَّحُ بين المحاكمِ مدةً ليستْ بالقصيرة. أمّا في مجالِ عملهِ الوظيفي، حيثُ إخلاصُ (غالب) ليسَ لهُ مثيل، هناكَ من يوقعُ بهِ من قبل الموظّفينَ المشبوهينَ، الذين يريدونَ سحبهِ إلى جادّةِ الانحراف، فهو خرّيجُ كليةِ الإدارةِ والاقتصاد، وعُيِّنَ في قسمِ حسابات إحدى الدوائر .

كان (غالب) مهموماً جداً حتى أنَّ أباهُ سألهُ عما بهِ، فقالَ له: - يا أبي، إنَّ ابنكَ (مغلوب) شوَّه سمعةَ عائلتِنا، بأعمالهِ المنحرفةِ، فتؤذيني بسببِ كوننا توأمين- متفلسفاً- الأمرُ بالمقلوبِ تماماً، كما هو مسارُ الحياة، منذُ قتلَ قابيلُ

أخاه هابيل. وأكمل القول، بصيغة من التأمل الشعري، بحسب ما تيسّر له من قراءاتٍ، تنزع إلى الولع بالشعر والشعراء، وبحسب سلوكيّته المستقيمة التي ترفض ظلم الإنسان لأخيه الإنسان- نحن في حومةٍ، نرفع على صهوات جيادنا رايات التغالب.

توقّف الأب أمام عبارة ابنه الأخيرة، ومن ثمَّ تلهّف إلى سؤاله- وما الحلُّ يا بُني؟

- اقترحَ عليه (غالب)- أنشرْ إعلاناً في صحيفتين محليتين، بتغيير اسمينا، ليصبحَ اسمي (مغلوب) بدلاً من (غالب)، كي يتطابقَ الاسمُ مع إيقاعِ حياتي. وأخي يتبدلُ اسمهُ من (مغلوب) إلى (غالب)، وهو صيّادُ التغالبِ في كلِّ شيء.

ردَّ والدهُ: - فكرةٌ رائعةٌ يا بني ..

تمَّ نشرُ الإعلانُ باسم مديريةِ الجنسية في المدينة، متضمناً فقرةً.. بأنَّهُ على من يعترضُ على هذا التغييرِ في الأسماء التقدمِ إلى هذه المديرية .

في اليوم التالي لنشرِ الإعلانِ، تجمعَ أشخاصٌ عديدونَ، في تلك المديرية، منهم منْ يعترضُ على تغيير اسمِ (مغلوب) إلى (غالب)، وهوياتُ هؤلاء هم ممّن أكلَ (مغلوب) حقوقهمْ، وفي حال تغيير اسمهِ، تصبحُ ملفاتِ

القضايا المُقدمَّة ضدهُ غيرَ ذات جدوى، أو تدخلُ في تعقيدٍ طويل. أمّا من كانَ (غالب) ضحيَّتهم فكانوا فرحينَ، لأنهُ ستُعلَّقُ كلُّ ملفاتِهم .

داخ الأب والضابطُ المختصُّ بهذهِ المشكلةِ العويصةِ، لكنَّ الأخير قرّر تأجيلُ البتِّ بتغييرِ الأسماءِ حتّى يقتصَّ ضحايا (مغلوبُ) منهُ، كما يقتصُّ (غالب) من ضحاياه. لكنَّ الاقتصاصَ طالَ أجلهُ، وسيطول ويطول، بحسب نفوذِ المظنون (مغلوب)، وبحسب علاقات مظنوني (غالب). وبات والدهما يُكنّى (أبو لا غالب ولا مغلوب).

***

قصة قصيرة

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

سـتٌ وسـبعونَ لا هانوا ولا نَكصوا1

ومِنْ لظاها لأجيالٍ مَضتْ قِصصُ

*

سـتٌ وسـبعونَ والباغي بهِ ظَـمَأٌ

الى الـدمـاءِ وفي أقـوالهِ خَـرصُ2

*

سـتٌ وسـبعونَ والباغي يُعددُها

وفي محافلهِ بالفخرِ قـد رقـصوا

*

سـتٌ وسـبعونَ أزرارٌ تُزررُها

وأربعًا بَقـيتْ في حِلمها قَـمَصوا3

*

سـتٌ وسـبعونَ في أجوائها سرحتْ

طـيرُ الـبُغاةِ وفي أفـعالِهِمْ نَـبَـصوا4

*

فـهلّلوا واسـتـبدوا في جـرائمهم

أبناءُ صُهيونَ مُـذْ واتـتْهُمُ الـفُـرَصُ

*

وأنّ شـعبًا بحالِ الضيمِ مُرتهنٌ

ماذا سـيفعلُ هـذا كلُّ ما خَـلصوا

*

وغَـرّهُمْ أنّـهُمْ حَـمّوا بـسطوتِهِمْ

روحَ الجهادِ لشـعبٍ جَـبّهُ القفصُ

*

وإنّ ذِكْـرَ فِلـسطينٍ غـدا خَـبَرًا

فالضَمُ نهجٌ ولا حقٌ ولا حِصصُ

*

وكيف يقـدِرُ مَـغلوبٌ بلا سَـندٍ

من بعدِ ما نَكل الاعوانُ أو كَرِصوا5

*

حتّى أتى القدرُ المقدورُ يحمِلُهُ

طُـوفانُ غـزّةَ في تـيّارهِ قُـفِـصوا6

*

طُوفانُ غـزّةَ قـد أوهى عزيمتهمْ

فـآلَ ما خططوا وهـمًا بـه دَلَـصوا7

*

وجَـزَّ ناصيةِ الـباغيْ ومَـرّغها

عمى البصيرةِ أرداهمْ، به عُـقِصوا8

*

ما كان يخطرُ هذا في خواطرهمْ

مِنْ حيثُ مأمَنهُ القَـنّاصُ يُـقـتـنصُ

*

والمُـستحـيلُ غـدا ويْـلاً يُـكابدُهُ

ابناءُ صُهـيونَ مِنْ وجعائهمْ قُرِصوا

*

لا يوم آخر بعد اليومِ يـعقِـبُهُ

والله يُـحْكِـمُ أمـرًا فيه قـد بَعَصوا9

***

الدنمارك / كوبنهاجن

الثلاثاء في 30/ تموز/ 2024

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

......................

1- نكصوا: تراجعوا   

2- الخَـرصُ: الكذب الشديد  

3- قمصوا: أي تحركوا بنشاط

4- نبصوا: أي تحذلقوا    

5- كرصوا: أي دُقّـوا وجُمِعوا

6 قُـفِصوا: أي صاروا في القفص 

7 دَلَـصوا: زلـقوا 

8عُـقِصوا: أي التوى والتبس 

9 بَعَصوا : اضطربوا.   

سأمنحه بعضًا من الودِ إن أتى

وأمسكُ كفيّهِ وأنسى الذي فعلْ

*

فقد جالَ فينا الدهرُ جولة َعارفٍ

فأخمدَ أحلاما تراءتْ لنا شُعلْ

*

وأيقظَ فينا الحانياتِ التي مضتْ

وأنكرَ  منها ما تسامى إلى أجلْ

*

وكنتُ اذا ما الأمر جاوزَ مسمعي

أقولُ لنفسي ذلكَ الصوتُ مفتعلْ

*

لعلي بهذا الفعلِ أبقىي الذي

أردنا سنينا أن راهُ وقد أطلْ

*

وتُعجبني منهُ التفاتةٌ جؤذرٍ

اطاحت بكلِ المغرياتِ من المقل ْ

*

سأتركُ همي بين َكفيّه ِمرغمًا

وارنو إليهِ بعد ما زانَ واكتملْ

*

وما لي بهذا الفعلِ زهوٌ وغبطةٌ

سوى ما تسامى من يديهِ وقد خجلْ!

***

د. عبد الهادي الشاوي

 

منذ شهور، إنتقل جارنا المزعج الى قير وبئس المصير، وحل بدله رجل أشقر محمرّ، يبني منذ شهور بيته الفخم، متحديا قِدم بيوتنا التي تشبه أحلامنا المتواضعة.

أغدق الجار الجديد على أولاد الحي الحلوى، وعلى كبارها الخراف المذبوحة، أضاء شارعنا المظلم بمصابيح كبيرة، بدل تلك التي كسرها أولادنا وهم يخطئون التهديف على الحمامات، فصار جيبه الدافئ عربون محبة للرائح والغادي.

أما انا، فقد كنت أسترق السمع لدبيب نملهم، أحصيت كل قطعة أثاث دخلت بيتهم، حتى أنني أعرف ستائر غرفة النوم وألوان ثيابهم الشتوية والصيفية، ساعدتني شرفة الدار– برج مراقبتي- في تعزيز معلوماتي المهمة عن الشراشف المنشورة على حبال غسيل كل الجيران، وأعرف محتويات كل كيس خضار لأي رجل عاد في الظهيرة الى بيته،  شاكرة أكياس هذا الزمن النصف شفافة لأنها تعزز شغفي ولا تتعبني في التكهن.

لن أذهب في الشهور الاخيرة الى أبعد من رصد الجار الجديد، فغنيّ الحي ـ لا فقيره ـ يغويني، زوج أشقر وامرأته الحسناء، لا أطفال لهم، وأرجوحة قد يكون القمر نسج فضتها، تلتمع في حديقة غناء، عنادا لحديقة خربة مجدبة يحويها بيتي.

لي أن أراقب الغزالة الجبلية التي حطت على حين غرة قربي، تتبضع من الرجل المخبول ذاته، غير أنها لا تتذمر من دكانه العفن، وتظّل تطلق كلمات كالسكر، كي يملأ صندوق سيارتها بخير ما نزلت به فاكهة الموسم، تاركة خلفها جيوش العطر تمزق أكفان رائحة النساء المزدحمات بتولِّـه، مراقبات بصمت مثلي بين مغتاظة ومندهشة.

لماذا تذكرنا بأن علينا أن نعيد علاقتنا بالمرآة وبالألوان، وبحسن إخراج الكلمات من أفواه ما اعتادت غير الأكل وإطلاق الشتائم؟

أمواج بحري المتطفل لا تكف عن التلاطم عندما ياتي المساء وأصعد سطح داري، لأمد النظر الى باحة منزلهم، يأتي لأذني صوت أنين رجل في الاربعين كان اسمه (رشيد)، علمت انه شقيق الرجل الأشقر، بدين مثل فيل هندي، يبكي عند الغروب أمه، مُلقيا لعناته عليهم لأنهم قتلوها غرقا طمعا في الإرث، كان أولادي يرمونه بالحجارة ويفرون ضاحكين، غير أنه لا يكترث بأي شيء عدا مخاطبة روح ما بحزن يغرس المسامير في قلبي المكلوم كلما سمعته.

كان يأكل بشراهة كل ما تقدمه الحسناء الجبلية، أما علاقته بأخيه، فكانت كصراع ذئبين على أرنب في الغابة.

بعد شهور بنى الأشقر لأخيه المأزوم غرفة في أقصى الحديقة، وأثثها بأشياء وضيعة، كان يرمي له طعام الكلب تاركا إياه يغص بفضلاته، حتى أن اولادي بدؤوا يرمون له من سطح الدار، الخبز وأنصاف الفاكهة، بدل الحجارة!

نسيت غيرتي من حليِّ الجارة ولون شعرها وأسماء عطورها، صار شاغلي الثروة المغموسة بالدم وآلام الرجل البدين، كان عزائي أن الله لعن الأشقر بحرمانه من الذرية!

تركت برج مراقبتي للريح، يلاحقني تأنيب ضميري، فأنا ما رأيت رشيد قرب أفران الصمون دافعا الأرغفة في فمه بشراهة حتى شعرت برغبة لآخذه بين أحضاني، او تخيلت نفسي أحمّمه بالصابون أو غسل ثيابه، واحترت ماذا أعدّ له من طعام فهو لا يجيب على أحد ولا يردد غير:

-" وينك يمه جوعان، راح أموت من الجوع يا يمه تعالي ".

ذات ليلة ماطرة، حلمتُ بامرأة جميلة مبللة تقول لي:

-" أوصيك بولدي رشيد خيرا، فهو يحب البطاطا المقلية.

***

سمرقند الجابري/ العراق

.....................

* من مجموعتي القصصية (علب كبريت)

قيدت أحلامي

وانحدرت بهدوء نحو سروة الأمل

رتبت أوراق اعتمادي

وأعلنت عن ثورة "قرنفل" تخصّني

ثم مددت خيوط تاريخ ميلادي

ونسجت فكرة رئيسية

ورديفة لها فرعية

ثم كتبت على جدران المدينة

رسائل مشفّرة ووصايا لسعاة البريد

والحمام الزاجل والفراش الهائم

ارتديت جبة التُّقاة

وسعيت بين أطلال الذكرى

ومرابع العشيرة

سألت عن صناجة القبيلة

وساداتها

سألت عن العمائر والأفخاذ والبطون

وعن سَرابٍ ناقة البسوس

*

دلّونِي على طريق طويل

بمسالك شائكة ومنعرجات ملتوية

مسّني عبير الدهشة

شهقت مرة بل مرتين

ومشيت واثق الخطى

أعانق شرارة الشوق

مشيت سَادر البال

أداهن مرارة الخوف

أدركت المرج والغذير

سمعت رغاء البعير

وحوافر خيل تصلصل

وأنين الناي يبث ذبذبات الانتشاء في الشرايين

تلوت دعاء السفر

صافحت بنات الدّهر

وسألتهن عن القوم

وعن نوق النعمان بن المنذر

وعن عنترة العبسي

وعن أيام الله كيف تمضي؟

وعن تلاحق التواريخ وتداخل الأحداث

في ذهني

وعن تناسل الشماريخ  وتدافع الأوصاب

في ذاتي

ردّت عليّ الرّيح نافخة في الصّور

وأومض البرق ناثرا فلذات النور

وقال رجل جاء من أقصى المدينة:

" من هنا مرّتَ، قوافل كثيرة تجْتَرُّ أوهام الحقيقة

تركتْ خلفها أثراً وبقايا حياة، وقصائد غزل و حماسة

وحديث مشاعر وعاطفة ومعالم حروب طاحنة وأشلاء قتلى

وركام يأس ودموع ثكلى وحقولا جرداء حزينة."

2

تتعثر خطايَ

ينقلبُ إليّ البصر خاسئا وهو حَسير

أنادي: «إلهي، اكشف عَنِّي غَشاوة التيه"

تُحَرّك ريح الصَّبا في قلبي جدوة الصِّبا

امتطي صهوة غمامة  عذراء

أسترد إحساسي بالعنفوان

تولدُ في كَفِّي أكمام ورد بعبير الربيع

أطلب الصفح من قبرات المساء

وأعلن توبتي في حضرة غجرية سمراء

أغسل ندمي بأمطار آذار

وأفتح صندوق العجائب

تقفز إلى أسماعي أنغام قيثارة حزينة

ينفجر ينبوع الشوق أمواجا ثائرة

أعود أدراجي إلى أحضان الأطلس

باشا يقابلني توبقال

باسمة تعانقني غابات الأرز

وعند أقدام المحيط تُغَنِّي موجة بكر

للحب

للصبايا الحالمات بفارس الأحلام

لأنسام عابرة للقارات

لخُطى نِسوة يطلقن زغاريدَ مصادقا عليها

لابتسامات أطفالٍ يبنون قصورا من الرمل

3

أمتطي صهوة البراق

أعانق الرباب

أطل على حدائق التفاحات الذهبية

عند المتوسط هرقل يبتسم

وقد شق سيفه البوغاز

أنين الاصفرار يلوح في عيني أنتايوس

وهو يحتسي كأسَ الهزيمة

قد مرغ هرقل أنفته بالتراب

وسرق  منه طِنْجة

أتنفس بحرية ، أعب هواء البحرين

هنا يلتقيان بينهما وِدٌّ وعِشَرَهْ

وحديث شجي عن سحر الضفة الأخرى

عن طارق الذي كتب تاريخا ومضى

عن أزمنة تضج بصراخ العبث

عن تجاذب مثير للجدل بين الشمس والقمر

***

محمد محضار

27 يوليوز 2024

 

قصّتان قصيرتان جدا

الخاتم والرماد

في بداية علاقتهما لم يسألها لكي لا تسئ فهمه عن الخاتم الغريب في يدها..كان من الذهب بشذرة ذات سواد، في بعض الأحيان يمسك يدها ويطبع على راحتها قبلة ولا ينسى أن يمرر شفتيه على الخاتم، وفي أحد الأيّام، بعد أن تعلقت به سألها:خاتم جميل يثير استغرابي، لم أر من قبل شذرة تحيط بسواد.

فابتسمت بمرارة، أو بشئ من الأسف:

حين توفيت أمي، ذهب أغلب رمادها إلى المقبرة، وأخذت خالتي بعضا منه لتضعه في شباك غرفتهاوطلبت بعضا يسيرا منه، وذهبت إلى صائغ محترف سألته أن يصوغ لي شذرة على الرماد

كان جوابا أخرسه، فقد عجز عن أن يقول شيئا فقط تحسّس شفتيه!

**

رائحة ما

خلال الحرب العراقية الإيرانية، عملت، شأني شأن أيّ من العمال العرب، في إحدى الشركات الفرنسية في تعبيد أحد الطرق الحيوية، وكان على السيارة التي تقلنا إلى ماكن العمل أن تمرّ بمكز تفوح منه أحيانا رائحة كريهة تشبه رائحة الشواء، عرفت فيما بعد أنّه مركز يجمع فيه الجيش جثث الشهداء قبل أن يرسلها إلى أهاليهم.

ذات يوم ارتفعت فيه الحرارة إلى درجة الخمسين، كنا نعمل على بعد كيلومتر واحد من مقر الجثث، سمعت الفرنسي المراقب يقول بلسان ثقيل:

- جو لا يتحمله إلا الحيوان

حينها

هبت نسمة هواء نثرت معها رائحة الموتى، فمال علي وسألني:

هل هناك كلب ميت قريب منّا

فبعث سؤاله فيّ الخوف والنفور، فهززت رأسي، وقلت مترددا:

لا أدري ربّما

***

د. قصي الشيخ عسكر

Vous êtes riche professeur, vous avez l'enfant et l'homme mûr en vous, les fruits de votre croissance que vous avez su préserver, comme quoi l'homme peut faire des miracles

(Isabelle Bernarf)

***

** تلك الحية

المتمددة على ضفة صدري

في انتظار فرائس

تسقط من أصابعك المرفرفة

ماذا لو تقطعين ذيلها بضحكة مجلجلة؟

*

تلك الفراشة

التي فرت من شقوق مخيلتي

من فرو حواسي..

إلتهمها نهداك الجائعان.

*

من الحكمة

أن أهبط إلى قاع روحك

بمنطاد ..

محملا بفواكه نادرة.

وأوسمة ملاك لطرد الكوابيس..

*

يدك مصيدة

الغياب منحدرات كثيفة..

سأقتني قاربا سريعا من غواص .

*

الليل ذئب

يعوي فوق السطوح الهرمة..

أنا منهمك في جنازة ..

المعزون مسلحون ببنادق صيد

عائدون من غارة

يقودها فراغ ملثم..

نهاري فقير جدا

مات متأثرا برصاصة قناص .

*

غالبا ما أربت على ريش حمامة مطوقة..

جلبتها من مقاطعة النوم الوسيعة..

عادة ما أطلقها في الليل

لتقصي أسرار حبيباتي

في مرتفعات الهواجس .

*

سأتعبك جدا أيها الموت

لأن جذوري ضاربة في الأشياء..

لأن لي سبعين ألف روح

وأجسادا لا تحصى من الكلمات..

وبيتي يحرسه قمران ونيزك .

*

أخفي في رأسي

مراكب وجنودا

لغزوة مرجأة..

لتمجيد قتلى  يناير..

لشن مظاهرة في قلب الكلمات..

أخفي في سفح شراييني مجنونا..

لا أوقظه إلا ليلا..

ليمارس لعبته الأثيرة

بدلا مني .

***

فتحي مهذب - تونس

 

شالٌ من العشقِ يبثُ سلاماً

يَلفُّني إليكَ رُويداً رُويدا

يُجنُّ قلبُ السَّماءِ

ويشتعلُ القمرُ في حضنِ غَيمة

تتراقصُ حباتُ التُّوتِ

على أكتافِ جلناّرِيَ

يَبرِقُ ثَغرُ اللَّيل

في مهبِ الرِّيح تزهرُ الوُرَيقاتُ

ولوالب لا نِهايةَ لها

يا بَقائِي.. يا فَنائِي

مِن ِشَراييني سَأنسجُ لك الحرير

أرويك من قطرِ الماءِ ونسيم الصَّباح

زهرةُ كريستال ممهورةً بِلَمسِ الفَرَاش

أرسُمُها لِشفتيكَ

أُخبِّئُ ضَفيرتِي بينَ جَفنَيك

وأشياءً وهَبْتُها إليك

أهديكَ وطناً يُشبِهُني

وبعضاً من يقيني

لا تُفسِّرْ رَوحِي

فهيَ تُفسِّرُ كلَّ شَيء.. كلَّ شيء

موسومةً بِصَبرٍ لا يَشقُّه حَجرُ المَاس

ثورةُ وردٍ

مملكةٌ محصَّنةٌ بِطوقِ النُّجوم

لا تَمَّلك لا تَزول..

اللَّيلة مَولدُ السَّلوى مِنَ الفَرح

***

سلوى فرح - كندا

 

تَلاحى ما تَوطننا فحِرْنا

بنفسٍ لا توادِعُنا فتُهْنا

*

تَموّجَ طيفُها فسَطتْ وجارتْ

وعِشنا في تقلّبها كإنّا

*

مَساراتٌ إلى العلياءِ رامَتْ

ومنها كلّ سَيئةٍ عَلتْنا

*

كفاجرَةٍ وتَقواها خضيلٌ

إذا رَغِبَتْ أقالتْ ما أرَدْنا

*

مُحَجّبةٌ بأقنعةٍ كِذابٍ

لتوهِمُنا بأنّ الحَقّ فينا

*

تؤمّرنا وتَدفعنا لإثمٍ

وتَنهرُنا إذا شاءَتْ نُهانا

*

وما رَضِيَتْ وإنْ أبْدَتْ رِضاها

فما وُجِدَتْ لدَرْءِ الشرِّ عنّا

*

وما هَبطتْ ولكنْ إحْتوَتْنا

تُخادِعُنا وتُجْبرُنا فنعْنى

*

وما عُرِفَتْ ولا خَلقٌ وَعاها

كوَحشٍ في دياجيرٍ تَدانى

*

تُسوِّغُ جُرمَها حينَ اقترافٍ

وتَدْعونا لإدْمانٍ ضَمانا

*

إذا مَلكتْ سلوكاً إسْتشاطتْ

وأغْرَتْ كلّ مَنْ يأبى اسْتِكانا

*

وما ثبتَتْ على حالٍ خُطاها

تُقلبنا وقد ضاعَتْ مُنانا

*

تُساقِطُ هِمّةً والهمُ يَسري

ويُثقلنا بأوْجاعٍ عَيانا

*

تسطّحَ وعْيُها والغيبُ أدْرى

بأمْواجٍ تُرافدُ مُنْطوانا

*

ألا نَطقتْ بدسْتورِ افْتراسٍ

مِنَ الغابِ الذي منهُ انْطلقنا؟

*

فخالفْ مُشتهى نفسٍ تعدّتْ

وحاذِرْ أنْ تُبادلَها الأمانا

*

فهلْ ظهرت بَواعِثها وفاقتْ

وما رَكنتْ وأبْهجَتِ الكيانا

*

مأيّنةٌ وجَوهرُها ترابٌ

فلا تَعجبْ إذا جاءتْ مُشينا

*

تَسيَّدَ أمْرُها والعقلُ بُهْتٌ

يُبرّرُ فِعْلةً تَرْعى هَوانا

*

سلوكُ الخلقِ مَجبولٌ بنهجٍ

لنفسٍ ما بطيِّبةٍ ترانا

*

بمَنطِقها خرابٌ وانْسجارٌ

سيَحْرقنا ويمْحَقُ مُبْتغانا

*

أ مِنْ طينٍ بأبْدانٍ تَجَلّتْ

لتنشرَ في مَرابعنا أذانا؟

*

أتتْ سَكرى بأوْهامِ امْتلاكٍ

لمَخلوقٍ يُعانِقها زَمانا

*

وأشْرَتْ حينَ صَولتها وجارتْ

وأفنتْ ما بحَوْزتنا امْتهانا

*

تُهاجمُنا بشيْطانٍ رَجيمٍ

يُخادعنا بما ملكتْ يَدانا

*

ومِنْ بَدنٍ على بَدنٍ أغارتْ

وما أبْقتْ لنا فيها مَكانا

*

وحوشُ الغابِ ما بَرِحتْ نفوسا

مُشنّأةٌ تبعثرُ محْتوانا

*

وكمْ عَجزتْ رسالٌ ضَبْطَ نفسٍ

ولا أحدٌ إذا حَقّتْ هَدانا

*

دماءٌ في تَدفقها انْتصارٌ

كما شاءتْ بها نحنُ احْتربنا

*

مُقبّحةٌ مُبهرجةٌ وتَسْعى

كذا النفسُ التي فيها اخْتَبأنا

***

د. صادق السامرائي

19\2\2023

 

لولاها

لأطبقت

ولصرت أبحث

عنها أنفاسي

...

...

...

فمرحى لحروف

كانت نعم المواسي لها

*

حرف يربت على كتفها

وآخر يكفكف دمعها

وحين يشتد حصارها

نراه يحلّق في سماء خيباتها

بساط ريح

تنسجه حروف بيضاء

اتقنت دور المسعف

لحالات

وإن بدت مستعصيه

*

بعيون مغرورقة

وفم مشدوه

وبذهن شارد

تحاول أن تشهق

لكن

أنّى لها

وقد احتبست

فضاءاتها

آه أنفاسي المستباحة

***

ابتسام الحاج زكي/العراق

 

في كلِّ اتجاهٍ ترقُبٌ

في كل التفاتةٍ أُهبةٌ للتجلي

في كل وتر شاعر

القطاراتُ تسري في جسدي

في المحطات ينزلُ ويركبُ الكثيرون

دون أن يصلوا

أين ستبحثُ عن نفسكَ في المسرح؟

الضحيةُ غائبةٌ

الجاني تبخَّرَ..

الشاهدُ الوحيدُ كان نائماً

والسنجابُ في الشجرةِ المقابلةِ، كان نائماً

الأدلةُ في الشرفةِ لا تشي بشيءٍ

والمحققونَ أعلنوا مبكراً براءةَ القمرِ المستديرِ

للخروجِ من هذا الملفِ الشائكِ بموتٍ طفيفٍ

رَدِّد أيَّ أغنيةٍ

ازرع وردة للضحية

لا تصفق للجاني

ولا توقظ الشاهد

الأدلة ستشي بالقمر يوماً

أزرع وردة أخرى للضحية

ولا تنسَ أن تضعَ جوزةً للسنجاب

***

فارس مطر

نيرونُ في أنفِهِ

رائحةُ شِواءٍ

وفي عينَيهِ براكينُ وهاويةٌ

على قبرِهِ سَيفٌ

وعُودُ ثِقابٍ

والذِّئبُ النَّبيلُ

في عَقلِهِ لَوثةٌ

وعلى أكتافِهِ نُسورٌ جُوَّعٌ

وجماجمُ

ونجومٌ عطشى

أرادَ يَومَاً

أنْ يُطوِّعَ دُودَ الأرضِ

فصارَ هو الوليمةَ

عقاربُ في البَسيطةِ

تَسعى وتَلدَغُ

وعَقارِبُ الزَّمنِ

تقفُ لَحظاتِ صَمتٍ

لعلَّها تَنسى

(بول بوت) مَعذِرةً

أتحوَّلَ خَمرُ الخِمِّيرِ

إلى جِعةٍ

أم ما زال مِن الدِّماءِ بقيةٌ؟

بين (تيموجينَ) و(جنكيزَ) قاهرِ الكونِ

بِضعةُ مَلايينَ مِن الرُّؤوسِ

صارتْ إهراماتٍ تصرخُ

(نيسابورُ) خاويةٌ

لا أحدَ يبكي ولا أحدَ ينوحُ

(هولاكو)، أما زِلتَ تَجهلُ العَدَّ؟

كم رأساً صارُوا في بغدادَ؟

ولِمَ في دجلةَ زُرقةُ الحِبرِ

بالدَّمِ تمتزِجُ؟

مِن تحتِ أظافرِهِم

تنبتُ النَّوائِبُ

وفي قاعاتِ استقبالاتِهِم الرَّسميةِ

يضحكُ المَكرُ

وفي عيونِ المَوتى

تنبتُ شَتلاتُ رَيحانٍ

والتَّوابيتُ تُورقُ

أغصاناً وسلالِمَ مِن رياحٍ

ونجوماً لا تعرفُ خُموداً

وناراً مِن غيرِ رَمادٍ

ملكُ المَوتِ: سلاماً

بالأمسِ ماتتْ الشَّمسُ

وعلى النُّورِ قرَأنا الفاتِحةَ

عَفوَكَ، ملكَ المَوتِ

ما استطعْنا الانتظارَ فبادرْنا بالتَّحيةِ

وأنجزْنا على عجَلٍ

كُلَّ ما أُوكِلَ، وما لم يُوكَلْ إلينا

ولَبِسنا منذُ دُهورٍ

أطماعَنا مِن غيرِ خجَلِ

ورسمْنا بأيديْنا

تضاريسَ الفاجعةِ

على مَن نقرأُ سَلامَنا؟

على أصواتٍ بَكماءَ في التَّوابيتِ

أم على آذانٍ بها صَمَمٌ؟

ما عادتْ صُروفُ الدَّهرِ ولا النائباتُ تَعنيْها

مآثرُ في القُبورِ تَغفو

والمثالبُ مَكرُماتٌ

والذِّئابُ تعيثُ في الأغنامِ

والقومُ، يا سيِّدي

"لَهُمْ أَعْيُنٌ وَلاَ يُبْصِرُونَ.

لَهُمْ آذَانٌ وَلاَ يَسْمَعُونَ"

***

جورج عازار - ستوكهولم السويد

 

الدوران في الحلقة

المفرغة

لا يجدي نفعا

ولا يفتح لنا طريقا

سالكا نحو

السعادة

فايامنا تمر تمر

مليئة بالحزن

بالشوك وبالعوسج

بالنار بالرماد

وبالغبار

واحيانا حيرة رمادية

تتلبس قلوبنا

واحينا اخرى

قلق شوكي اسود

فماذا ماذا جنينا

من الدوران

في حلقات العمر

الفارغة

غير الياس الحزن

وفقدان الامل

وغير انزلاقاتنا

صوب هوة

مظلمة سحيقة

اذن فلنتمتع بشموس

ايامنا الغير مستقرة

وبالمساحات

الخضراء

في حدائق ومروج

احزاننا ميممين

صوب حقول ومروج

احلامنا الخضراء

مغنين للشفق ا لازرق

للبرق للريح وللشجر .

***

سالم الياس مدالو

 

يَدوسُنا الخوفُ

ونَنتَظرُ

الوقوفَ على أعتابِ

الشَّهيقِ والزفيرِ

نلفُّ أيدينا

على خصرِ الحياةِ

لنُراقصها

نجلسُ على نافذةِ العمرِ

لتحديدِ مسارِ الطَّريقِ

ننتظرُ طرداً بريديّاً

على هيئةِ قصيدةٍ

قد تصلنا

كوجبةٍ معلَّبةٍ فاسدةٍ

من شاعرةٍ

أغواها الشّعرُ

ولم تغويهِ

أو شاعرٍ

يمسحُ بحروفهِ البلاطَ

لينامَ تحتَ جناحِ النّسرِ

وشاعرٍ

يتسكَّعُ على أرصفةٍ ليليةٍ

من أجلِ قصيدةٍ

من المشاعرِ المتقاطعةِ

وقد يجفُّ الحبرُ بضربةِ شمسٍ

في صحراءِ المعنى

الكلّ يسبحُ ضدَّ التيارِ

ومعهُ

إذا اقتضتِ المصلحةُ

وما زلنا ننتظرُ

حروفاً ناصعةً

على محطّاتِ الشّعرِ والنّثرِ

تشي بشاعرٍ

لا يغرقُ بنقطةِ حبر

***

سلام البهية السماوي

 

Immigration

مع ترجمة الدكتور يوسف حنا - فلسطين.

***

كلما أممنا البحر

هاربين من جحيم البغايا والصيارفة..

من خدع المهرجين ورماد المعنى.

هاجمتنا قافلة الدموع والنوستالجيا.

رفقا يا عمنا إسرافيل

الريح

تضرب قاربنا بعصاها الغليظة

مثل خادمة مقوسة الظهر

تلسع جباهنا بنبرتها الرجيمة

خذها بعيدا في سيارتك الليموزين

لتذرنا نتطوح في عرض البحر

تربكنا نواقيس المياه

رقصة التابوت في الأفق

زعانف السمك مناديل عزاء.

يا عمنا إسرافيل

يا ملك الرياح البراقماتي

فقدنا مصابيحنا في قاع النص

ومن صلصال أيامنا اللزجة

صنعنا جرارا

ثم ملأناها بالعرق والدموع

وكلما مر ملاك من هنا

آملين حملها إلى الله

طاردته كلاب سلوقية.

الخفافيش وبومة الحظ العمياء.

السحرة بأسمال مرقعة

وعيون أفاعي المامبا.

إنتظرناك طويلا يا عمنا إسرافيل

لتحملنا في سيارتك الفاخرة

إلى الفردوس الموعود.

لا استوى المعنى على سوقه

ولا انكشفت مستدقات السجف.

***

بقلم فتحي مهذب تونس

................................

Immigration

By Fathi Muhadub / Tunisia

From Arabic Dr. Yousef Hanna / Palestine

***

Whenever we lead the way to the sea

Escaping from the hell of prostitutes and bankers,

From clowns’ deceptions and ashes of meaning,

The convoy of tears and nostalgia attacked us.

Mercy us, Uncle Israfil (1)

The wind

Hits our boat with her big baton

Like an arched back maid

Who stings our foreheads with her accursed tone

Take it away in your limousine

To carry us away wandering at sea

Water bells confuse us

Coffin dance on the horizon

Fish fins condolence wipes.

Oh, Uncle Israfil

Oh, pragmatic king of winds

We lost our lamps at the bottom of the text

And from the clay of our sticky days

We made jars

Then we filled it with sweat and tears

And whenever an angel passes by,

Hoping to carry it to God,

Greyhounds had just chased him,

Bats and blind luck owl,

Witches in patchwork rags

And the mamba snakes' eyes.

We have been waiting for you for a long time, Uncle Israfil

To carry us in your luxury car

to the promised paradise.

Either the meaning was not straightened up in its context

Nor the mysterious subtleties were not exposed.

***

..............................

1Israfil: is one of the four Islamic archangels, who blows into the horn to signal and to announce the Day of Resurrection (the Day of Judgment).

عَدُوُّ الإنسانية!

تُفٍّ على ذاكَ الأوْرَهْ

الحَدَث العَوْرَةْ

التافِهُ حتى أَبِيهِ

الأَحْنَى جُفْرةْ!

*

تُفٍّ ..على ذاك الوَزَغ ِ

أمير العَضْ !

الضالُّ...

عديمُ الجدوى...

عدو الإنسانيةْ !

اللاهِثُ

خَلْف نِعال (البيت ِالأبغضْ)

باسم ِالوَهْمِ الأعرضْ

والشَّــــــــــرْ..عيةْ!

***

لها..لها!

قَوَّادُ آل الزِّفْتِ

والطاغوتِ

والإجرامْ

ليس لها مقامْ !

*

لَهَا..لها

مطابخٌ

مسالخٌ

مشائخٌ ..حَاخَامْ !

حبائلٌ

معاولٌ

كمائنٌ..أقزامْ!

دوافعٌ

مَدَافعٌ

مخازنٌ..ألغامْ!

*

لها..لها

دراجةٌ ناريةٌ

بوابةٌ خلفيةٌ

علاقةٌ نَفْعِيَّةٌ

تَربِطها

بـــ(الحَزْمِ).. و(الحِزَامْ) !

*

جماعةٌ آسِنَةٌ

قد أَعرَقَتْ مَأْسَنَةً...

صهينةً...

بادية الخفاءِ للعَوَامْ!

هل تَرْعَوي عن غَيِّهِا

وتَنْشد السلامْ؟!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي – اليمن

إِذَا الــنِّيَّاتُ مَــا كَــانَتْ سَلِيمَةْ

بِــعُمْقِ الــنَّفْسِ رَاسِخَةً مُقِيمَةْ

*

وَحَــرَّكَهَا  رَغَــائِبُ عَارِمَاتٌ

بِــنَفْسٍ فِــي طَــبِيعَتِهَا لَــئِيمَةْ

*

فَــتَسْعَى خَــلْفَ حَــاجَتِهَا بِجِدٍّ

وَلَــمْ تَــلْجُمْ مَــطَامِعَهَا شَكِيمَةْ

*

تُــغَيِّرُ لَــوْنَهَا كَــالْغُولِ دَوْمًــا

وَقَدْ تَرْضَى الْمَهَانَةَ وَالشَّتِيمَةْ

*

فَــتُبْدِي  الوِدَّ وَالْأَشْدَاقُ جَذْلَى

وَفِــي  الْأَعْــمَاقِ أَحْقَادٌ قَدِيمَةْ

*

وَرُغْــمَ الــشُّحِّ مَوْرُوثٌ لدَيها

لِــكُلِّ صَــغِيرَةٍ جَــعَلَتْ وَلِيمَةْ

*

لِــتُــوَهِمَ أَنَّــهَا تَــسْعَى لِــخَيْرٍ

وَأَنَّ طِــبَــاعَهَا حَــقًّا كَــرِيمَةْ

*

إِذَا انْــقَطَعَ الــرَّجَاءُ بِنَيْلِ نَفْعٍ

لِــسَابِقِ عَــهْدِهَا عَادَتْ حَلِيمَةْ

*

فَــمَنْ يَــسْلُكْ طَرِيقًا فِيهِ رَيْبٌ

عَــوَاقِبُهُ وَإِنْ سَــلِمَتْ وَخِيمَةْ

*

خِدَاعُ النَّاسِ لَا يَعْنِي انْتِصَارًا

طَــرِيقٌ فِــي بِــدَايَتِهِ الْهَزِيمَةُ

**

عــبد الناصر عــليوي العبيدي

ملاحظة: هذه قصيدةٌ منزوعَةُ الوَزنِ، فَحُكّامٌ مُنقَلِبونَ مُتَقَلِّبونَ لا وَزنَ لَهُم. لا يَستَحقّونَ وَزنًا في القَصيدة.

***

أحذِيَةْ... أحذِيَةْ

أنا الزَّعيمُ العَربيُّ ماسحُ أحذِيَةْ

أنا الزَّعيمُ ماسحُ أحذِيَةْ

أمسَحُ أحذِيَةَ الغَرْبِ بالمجّانْ

بِعِقالي...

بِأطرافِ عَباءَتي البَيضاءْ

أمسَحُ للغَربِ الأحذِيَةْ

أنا المصبوغُ وَجهي بِأقذَرِ الألوانْ

أصبغُ كُلَّ الأحذِيَةْ

بِالكازِ أمسَحُ.. بِالبِنزينْ

بِالدّولارِ

فِئَةِ العشرةِ وَالخَمسينْ

أمسَحُ أحذِيَةْ....

بِثَدْيِ امرأةٍ مُرضِعٍ

بِعُمرِ الصِّغارِ.. أمسَحُ أحذِيَةْ

بِسَجّادَةِ صلاةِ الفَجرِ

بِجُلودِ نِسائِنا السَّمراواتِ

أمسَحُ أحذِيَةْ

بِسَيفِيَ المسلولِ ذُلًّا

بِعَلَمٍ يُرفرِفُ خِزيًا في بُحورِ النَّقصِ

أمسحُ أحذِيَةْ.

يا زُعَماءَ الغَربِ

يا أسيادي!.. يا أسيادي!

هاتوا النَّعلَ أُقَبِّلُهُ!

هاتوا كُلَّ الأحذِيَةْ!

فَلِساني مَشقوقٌ مَمدودْ

يَكفي كُلَّ الأحذِيَةْ.

*

أحذِيَةْ.. أحذِيَةْ...

هُنا في قَصرِي الـمَلَكِيِّ

أمسحُ أحذِيَةْ

ورُموشُ عَيني أغرِزُها عَلى الحدودِ

تَمنَعُ العَرَبيَّ المقهورَ دَوْسِ بلادِي

لكنْ بِلَحيَتي المصبوغَةِ بالحِنَّاءْ

أمسحُ أحذِيَةْ

*

اِصطَفّوا مِثلي يا أولادي

قولوا بَعدي:

"يا أسيادي.. يا أسيادي

يا حُكّامَ الغَربِ

بِماءِ وُضوئي

بِنَخيلٍ أورَثَهُ أجدادي

أمسَحُ أحذِيَةَ القُوّادِ"

*

قد قَرَّرْنا

في مَجلِسِ الشّورى النَّتِنْ

هذي السِّياسَةَ للوَطَنْ

بِالمجّانِ.. بِالمجّانِ...

نَمسَحُ كُلَّ الأحذِيَةْ

نَلعَقُ عَنها أيَّ غُبارٍ..

أيَّ دَمارٍ..

أيَّ سَرابٍ..

أيَّ عَفَنْ..

***

د. نسيم عاطف الأسدي - فلسطين

 

كانت الأزقة الضيقة، والمتعرجة في ضواحي العاصمة الصاخبة، تفتقر إلى مجاري الصرف الصحي، ومنظمة لتصريف المياه. ما إن هطلت الأمطار الغزيرة، والمتواصلة في منطقتنا، حتى أصبحت الشوارع الفرعية المزدحمة مستنقعات موحلة؛ جعلت من السير على الأقدام أمرًا مستحيلًا، وتعذر المرور فيها، ولكن الأمر كان مختلفًا تمامًا مع أستاذ فاضل مدرس الجغرافيا، عندما كنت أدرس في المرحلة الثالثة المتوسطة.

كان أستاذ فاضل رجلًا نحيلًا كعصا الخيزران، يمشي بخطوات ثقيلة. شعره الأسود الكثيف كان دائمًا مصفف بعناية، ويبرق في الضوء. ملامح وجهه القاسية، برز في وسطه أنف طويل، وعينان سوداوان تنظران بحدة إلى ما حوله. كان يتحدث بصوت خافت، وواثق، ولا يحب الجدال، والنقاش مع طلابه.

كان هذا المشهد من أغرب ما رأيت في حياتي، عندما دخل الدرس بأناقة تامة دون أن تتسخ ملابسه، حتى حذاؤه كان نظيفًا للغاية، مع أن شارعهم كان غارقّا بالماء والطين. انتابنا دَهشُ من هول ما رأينا، ورحنا نتساءل: فيمَا لو جاء إلى المدرسة محلقًا. فهو لم يملك أجنحة، ومنزله يقع في نهاية الزقاق.

وبطبيعة الحال، لم تكن هذه العملية سهلة؛ لأن البحيرة كانت ساكنة، واستغرق اختراقها وقتًا طويلاً، وهو لم يكن رياضيًا، بل نحيفًا نوعًا ما، ورقبته بارزة مثل الديك الرومي، ووجهه مملوءًا بالتجاعيد، والأخاديد، حتى بدا للناظر أكبر سنًا بكثير من جيله.

كان أستاذ فاضل في منتصف الثلاثينيات من عمره، عَزبُ. وصفه الطلاب ب«التلميذ المُوَاظِب»؛ لأنه كان يعتمد فقط على ما يجده في الكتاب المدرسي، ويحفظ المادة كاملة، ولا يبتكر، أو يختصر شيئًا؛ فمفرداته كانت محدودة؛ بسبب افتقاره إلى ثقافة عامة، وذوق قراءة الكتب الأدبية. لم يكن بميسور أستاذ فاضل تبسيط المادة بأسلوب جذاب، وعبارات متناغمة تحفز الطلاب، وتدخلهم في أجواء الدرس. كان يغفل عن التطوير الذاتي والإبداع، في جعل درس الجغرافيا درسًا مفيدًا وممتعًا، وليس موضوعًا جافًا، ورتيبًا ينفر الطلاب منه.

ونظرًا لعدم وجود مدارس كافية لاستيعاب تدفق الطلاب، قررت الوزارة تنظيم نظام يساعد في حل الأزمة: تضمن هذا النظام، تقسيم ساعات العمل الدراسي إلى مرحلتين. مرحلة صباحية: تبدأ من الثامنة إلى الثانية عشرة، ومرحلة بعد الظهر: تبدأ من الثانية عشرة إلى السادسة عشرة.

تبادلت المجموعتان الدَّوام الصباحي، وبعد الظهر خلال الأسبوع. كان الدَّوام بعد الظهر مملًا للجميع، بما في ذلك المدرسين، ولا سيما في الساعات المتأخرة.

كان عمار طالبًا مشاكسًا في شعبتنا، ويميل إلى استفزاز الآخرين بطرائق خبيثة. في أحد الأيام، وبالتحديد يوم الخميس بعد الظهر، صادف فصل الجغرافيا أن يكون الدرس الأخير في ذلك اليوم، وبدا على ملامح استاذ فاضل التعب والإرهاق بعد عمل طويل في الصفوف الأخرى.

بعد القيام والقعود، التقط استاذ فاضل التباشير، وكتب بخط عريض على السَّبُّورَة "المناخ وتأثيرات غابات الأمازون". خلال شروعه في تقديم المادة، أخذ عمار يتصرف بطريقة مقرفة، ومثيرة للاشمئزاز عندما بدأ عمار بفتح كتاب الجغرافيا، ويبحث فيه، ويدقق في كل كلمة وحرف، ويقارن كلمات الكتاب بالكلمات التي تخرج من فم الأستاذ فاضل.

بمجرد أن انتهى من شرحه، ضحك عمار، وقال له بكل وقاحة:

ـ أستاذ، لم أجد خطأً واحدًا في درس اليوم، حتى في حروف الجر، قلت علّك تخطأ في كلمة "في" وتقرأها على أنها "على"، لكنك لم تفعل.

فأجاب أستاذ فاضل والغضب على محياه:

ـ كيف تريدني أن أشرح الدرس؟ هل أختلق الكلمات من نفسي مثلًا؟ هل تريد مني أن أغير من جغرافية العالم؟

قال عمار بخبث:

ـ قلت: بدلًا من تحضير المادة في البيت، نستطيع قراءته في الصف من الكتاب.

قال أستاذ فاضل:

ـ دعنا نرى في الدرس التالي، إلى أي مدى يمكنك شرح الموضوع بطريقتك الخاصة يا عبقري؟

بعد أن حصلت على فرصة لتقديم مادة الدرس، وجدت نفسي أمام جميع الطلاب. شرحت المادة بنفس طريقة الأستاذ فاضل؛ لأنني كنت مقتدرًا أن ألقى المحاضرة عن ظهر قلب. أثنى الأستاذ فاضل عليَّ بسخاء أمام الصفّ كلّه، ربما نكاية بعمار.

قال عمار ساخرًا:

ـ خوش استنساخ.

بعد انتهاء الدرس خرج استاذ فاضل، وعلامات التشنج كانت واضحةً على ملامحه، في حين عمار تملكه شعور الزهو، ولم تغادر تلك الابتسامة المتهكمة من على شفتيه العريضتين، وظهور أسنانه الأمامية.

قلت له:

ـ عمار، كيف تتكلم مع مدرسك بهذه الطريقة؟

قال وهو يرفع يده، ويمدها نحوي:

ـ دروح أنت هَمْ دراخ مثله.

وفي الدرس القادم، دخل استاذ فاضل إلى الفصل، وكان مزاجه متعكرًا، ووجهه جامدًا، وخاليًا من أي تعبير لطيف، مع أنّه كان أنيقًا كالعادة ببدلته الرصاصية، وقميصه الأزرق، وحذائه الأسود، وربطة عنقه المخططة بخطوط بيضاء. بعد أن كتب عنوان الدرسِ على السَّبُّورَةِ، طلب استاذ فاضل من عمار أن ينهض من مكانه ويتقدم إلى السبورة، ويشرح درس اليوم، ولكن عمار لم يكن مستعدًا للدرس، أو ربما لم يكن يتوقع ذلك أن يكون فريسةً شهية للأستاذ فاضل.

قال:

ـ أستاذ، أنا لم أستعد لدرس اليوم.

غضب الأستاذ فاضل وقد تغضن وجهه وقال:

ـ هل إمكاناتك الهابطة تقتصر فقط على الاستهانة بمدرسك يا فاشل؟

وبعد ان نطق استاذ فاضل كلمة فاشل بنبرة مملوءة بالحقد، دفع بكلتا اليدين عمار معبرًا عن غضبه، إلى زاوية الغرفة القريبة من الباب الذي كان موصدًا، وصرخ به صرخة طويلة مزلزلة، بثَّ في نفسه الرعب، أخذ يوجه إليه اللكمات، والركلات، والشرر يقدح من عينيه، وشرارة الحَنَق تتطاير كانشطار شظايا الصاروخ، تصب على عمار كصعقات الرعد.

بينما كان عمار يخفي رأسه بين ذراعيه، صرخ بأعلى ما في جوفه من صوت، مخترقًا  حناجر الحاضرين؛ بسبب الألم الذي أحاط بجسده. لم يتوقف أستاذ فاضل عن ضربه؛ فاختل توازن عمار عندما ارتطم رأسه بالحائط، وخرَّ على الأرض. كنت أنظر إلى استاذ فاضل، وكأنه في مبارزة فعلية، ولم يندم على فعلته قيد شعرة، بل قال مؤشرًا بسبابته:

ـ روح وين مَتريد تشتكي، روح اشتكي. هاي گدامك وزارة التربية، انعل ابو اللي يفزعلك.

ثم صرخ به:

ـ روح انجطل في مكانك يا حيوان.

نهض عمار، وقصد مقعده الذي كان خلف مقعدي. ظل صامتًا حتى انتهى الدرس. الغريب في الأمر أن أستاذ فاضل لم يترك على وجه وجسد عمار أي أثر لكدمات أو جروح، على الرغم من كل هذا الضرب المبرح؛ فالشيء الوحيد الذي كان بارزًا هو: إن  وجهه فقط كان شاحبًا ومتوترًا، وهذا  ليس من قوة اللكمات؛ وإنما من الفزع، والذعر.

قلت له بعد انتهاء الدرس ساخرًا:

ـ أعتقد أن أستاذ فاضل كان يتمرن بشكل جيد خلال أيام الأسبوع، في اختيار اللكمات بعبقرية؛ لأنه كان بارعًا جدًا في توجيه الضربات إليك بطريقة محترفة، بحيث لم يترك وراءه أي دليل، لإدانته، لا زرقة، ولا تورم.

إذا قارنا هذا الضرب القاسي، على الرغْم من إفراطه، وهو أمر غير مقبول من مربي فاضل؛ لأنه أسلوب وحشي وغير إنساني، إلا أن درجة عنفه لا تضاهي قساوة الأجهزة الأمنية البعثية، وخاصةً في دهاليز قصر النهاية التي هُدِّمَت بعد قيام الجبهة الوطنية في بدايات السبعينيات، وسُميت البناية باسم قصر النهاية؛ بسبب بشاعة التعذيب الجسدي فيه حتى الموت. كان القصر تحت إشراف مجرم العصر ناظم كزار الذي قتله صدام شخصيًا - يقال - "إن صدام القى به في حوض مملوءًا بالتيزاب، حتى ذاب عن بكرة أبيه، بعد محاولة انقلابية فاشلة قادها ناظم كزار". اقتيد الشيوعيين من قبل أزلام النظام، إلى غياهب هذه الأقبية المظلمة.

انتاب عمار شعور النفور، والاحتقار من الأستاذ فاضل، بعد أن ضربه بطريقة قاسية أمام زملائه، وفي نفس الوقت، كان أستاذ فاضل يتجاهله، ويتجنب النظر إليه، وكأنما لم يحدث شيء.

ساور عمار الشكوك حول سلوك أستاذ فاضل تجاهه الذي اعتقد أنه كمين نصبه له، لذلك احتاط عمار الحذر كي لا يفاجئه في غفلة منه ويسأله عن الدرس. كان عمار في أتمّ الاستعداد ـ اقدر اقول ـ إلى أقصى درجة، بحيث كان يبذل جهدًا إضافيًا في تحضير المادة، ويحفظ كل شيء بالحرف.

***

كفاح الزهاوي

..................

* مقطع من روايتي القادمة منعطف الرحلة في الزمن الصعب

والدي ليسَ كسائرِ البَشر، أوحىٰ إليّ أن أقرأ، كالأنبياء، فابتدأَ كلُّ شيء، بعده.

**

2

عندما كثرَتْ أخطائي، وجدتُني مُضطرّاً أن أُعيدَ الحِساب، ولمَا لم أجدْ ما أقوّمُهُ، ابتدأتُ من جَديد، بالأخطاءِ ذاتها.

**

3

استطاعَ كتمانَ علاقاتِهِ المُنحرِفة، بجدارة، ولما ثقُلَ حِملُها، قرّرَ التوبةَ، فانفضَح.

**

4

كانَ دائما في الأمام، لم يقُلْ ذلك، عرَفتُ هذا، من توالي الطعنِ، في ظهرِه.

**

5

أنا أفكرّ، أنا أكتُب، أنا أُحبّ، أنا ...، إذن أنا موجود، لماذا نحنُ في الوجود؟ أصلاً.

**

6

تابَ، أبدلَ الكأسَ بالعِمامَة، لا أدري، في أي جانبٍ، تكمُنُ الذُنوب.

**

7

رمَتْ ورَقةً بين قدَمَيْ، عُنوانُها، لعلّها مُخطئة، أجهَلُ جُغرافيا النساء.

**

8

انتصَرتُ في الحَرب، على نفسي، بخَسائرَ فادِحة، أدركُ أني سأبحَثُ عن تعويض، لاحقاً.

**

9

لم أدركْ جَدّي، لم أعرفْه، رحَلَ قبلَ أن أفطَن، ورغمَ ذلك، أكيلُ لهُ المديحَ، دائماً.

**

10

تعوّدَتِ الابتسسام، تلكَ ايماءةٌ بلا مشاعِر، كلَ ما تتمّنىٰ، أن تنجَلي المعرَكة، بالكثيرِ من الغَنائم، على جَسدٍ بلا حياة.

**

11

نظَرَ إليّ بغَيْظ، كانَ في عَينَيهِ شيئٌ مُخيف، أردتُ أن أغادر، نظرتُ حولي، لا أحَد.

**

12

قفزتُ على الحَبل، لابدّ أن أصِلَ الى الطرفِ الآخَر، بحَذر، لا يحكمُ خُطواتي قانونُ الجاذبية، بل قانونُ الهِجرة.

**

13

أينَ اختَفَتْ أوراقُ التوت، سُؤالٌ بريء.

**

14

أسمَعَها أجملَ الشِعْر، أعذبَ الكلام، طافَ بها الدُنيا، كانَ فمُها الهدَف، ولم يُفتَحْ.

**

15

السنينُ التي عبَرَتني، كثيرة، كسَرتُها، أعدتُ بناءَها، لأصنعَ منها قَفَصاً، لا يسعُ غيري.

**

عادل الحنظل

هيا انتشِ، فرحاً ولم تكُ جاهما

فلقد رأيتكَ منذ دهرٍ باسما

*

ماذا دهاك وفي فؤادك طفلة

غجريةٌ تلهو وترقص كُلَّما

*

غنى الجمال تألقت حركاتها

أنّى كبرتَ تربّعتك مواسما

*

كم قد عشقت من النساء نواظرا

وكم اكتشفت من العناق عوالما

*

قد كنت في جيد النساء تميمة

حقّاً وكنَّ على شقاك تمائما

*

الآن غرّبك الزمان وسافرت

فيك الدروب تقاسمتكَ تقاسُما

*

يا أيّها المُدمى الغريب أما ترى

موت الخطى والنادبات هَوائِما

*

أين الحبيب وأينَ أينَ أوانه

فقد استبدَّ به البعاد  مُسالِما

***

شعر/ شلال عنوز

بأحضان كفي وليد جروح من صلبِ زمنٍ تعرى عن جذوةِ ترابه مخاضَ عقوق، أنسلَ روح توهج من دمع الشجر بعناء هنيهة لأشلاء العصور، فارتد لقيط ضوء بعتمة النسب كهرمان قلائد؟..، ربما انسلخَ من أحشاء طحلبية الشجن خديج كهرب ؟، فانزلق مواربا لأنين جذوره منذ ألف عام من لوعة تجاهل، وحينما فتَنتّهُ بداهة ريح تناثر فتنة عنبر من وريد صنوبريِّ العروق بجواهر وديعة معتقة براتنج الوجع، يا لسحر لمعانهِ التليد الموشى بتبرٍ روحيِّ المعشر، متسربلا أنفاس مسبحتي حين سدوله الأشقر بين برازخ يدي، خرزة ..خرزة، بتلابيب توق متغرغرة التيمم، حتى تهادى مع نيازك مشاعري ثمالة عاشق أبكمه غزلان تهجد أيكة الحواس، فتوسد راحة بالي بريق صمت ونيف من صدى ندوب الأماكن، تحتضنها توأم لهفتي  مرساة روح بغواية فرائض،فكم من شروخ للطبيعة ترممها أمومة الزمن براءة تعرية، وكم من ركامات زمنٍ يُضمدها نزق الطبيعة بعناق بعض من ذاكرة احجار كريمة .

***

إنعام كمونة

أيتها المضيئةُ

مثلُ سنبلةٍ ناضجةٍ

الغافيةُ

على ذراعِ نهرٍ

لقد حان وقتُ اقتطافِكِ

متى تمدين يدَ الوصلِ

اتشظى حبًّا

للحظةٍ

هاربةٍ من يدِ المستحيلِ

لقد داهمتني الآلامُ

وصفعتني

يدُ الزمنِ

وأنتِ

تُعيدينَ

أسطوانتَكِ

وأنا مجبولٌ على الانتظارِ

هلا فتحتِ لي بابَكِ

المواربَ

فثمةٌ شوقٌ غاضبٌ

يتسللُ من حيثُ

تتهادى الأنهارُ

فارفعي الحُجُبْ

وامسحي بيديكِ

ما يلوحُ على جبهتي من تعبْ

فأنا مازالتُ ذلك الولد الشقي

الذي يموتُ انتظارا

لخطواتِ امرأةٍ

تنير عوالمي

ثمُّ تغيبُ بانتظارِ

عامٍ جديدٍ

ايتها المرأةُ التي

لا تعرفُ سبيلًا إلّا للقلبِ

***

د. جاسم الخالدي

 

إلى منذر عبد الحر وغنائه السري

ميمٌ …

نونٌ …

ذالٌ …

راءْ …

" سِرّياً سيكونُ الغناءْ "

والبوحُ والنزفُ والبكاءْ

وهكذا يا صاحبي

هكذا يا " مُنذر عبد الحُرْ " .

هكذا أَبدأُ النشيدَ

وهذا النشيجَ

الذي كانَ مختزناً

في القلبِ

والنفْسِ والذاكرةْ .

هكذا أَبدأُ …

انشودتي الهادرةْ

يا شاسعَ الرؤيا

وناصعَ الروحِ

وحافظَ الأَسرارْ

والرؤيةِ الآسرةْ

*

ياطاهرَ الرحْمِ

وشاعرَ الحُلْمِ

وفاتحَ الأبواب

ومُشْرِعَ النوافذ

على فضاءِ الأملْ

كنتَ وتبقى ناصعاً

واليماماتُ الأَليفةْ

والفراشاتُ الشفيفةْ

في قلبِكَ الحنونْ

وحضنكَ الدفيء

وفوقَ رأسِكَ الفضّيِ

هيَ تهدلُ …

وهيَ تنزفُ …

وفي المدى نافرةْ .

*

ويا " مُنذرعبد الحُرِّ ".

يا مَنْ جُبِلْتَ

من ماءِ (شطِّ العربْ)

وطينِهِ (الحرّي)

وقلبِهِ النقيِّ

لا يعرفُ الكَذِبْ،

ولا المياهَ الماكرةْ .

*

ويا أَيُّها الطائرُ والشاعر

الذي لا يشبهُ إلا نفسَهُ وشِعرَهُ وحياتَهُ

التي عاشَها وتنفَّسَها ؛

حُرّاً ، أَصيلاً ، صادقاً،

وهوَ لايخلعُ صاحبَهُ ،

مثلما يفعلُ

(صعاليكُ الخارجِ)

المُلوّثو السِيرةِ

والنوايا والنصوصِ

والرؤوسِ الكافرةْ .

*

و"مُنذرُ عبد الُحر".

نهرٌ من الطفولةِ

وعُمْرٌ من الرجولةِ

وسادنُ الصحائفِ

والقصائدِ والأماسي والحكاياتِ والكؤوسِ

والطرائفِ والذكرياتِ

والأَغاني والدموعْ الطاهرةْ .

*

و ابنُ " الحُرِّ "،

طفلُ "البصرةِ "

والقلوبِ النقيَّةِ

وفتى الفكرةِ

والوجوهِ البهيَّةِ

وعاشقُ بساتينِ

" أَبي الخصيبْ "

ونخيلِ " الزبيرِ "

وسمائهِ المُتلألئةِ ؛

بنجومِ الليالي

وتواريخِ الجنوبِ

وأسرارِ الصبايا

و " الغناءِ السرّي "

والزرقةِ الساحرةْ .

*

ويا " مُنذر عبد الحُرِّ " ،

الذي قَدْ أَنجبتْكَ

أُمُّكَ " البَصْرِيَّةُ "

ذاتَ يومٍ صيفيِّ

ليسَ كمثلِ الأَيامْ

فكنتَ الحرَّ والشِعرَ

ونهرَ المحبَّةِ

وضوءَ العشقِ

وموّالَ الحزنِ

ومعزفَ " إسرافيلْ "

ومُنذرَ " كَلكَامشَ "

أَنْ لا يفقدَ عشبتَهُ

أَو إكسيرَ شبابِهِ

في رحلتِهِ الخاسرةْ

وأَنْ يُحاذرَ الوحوشَ

والسُمومَ

والأَفاعي الغادرة

*

فيا "منذر عبد الحُرْ" ،

سلاماً لكَ ،

يومَ ولِدتَ

ويومَ عشْتَ

في البلادِ الجريحةْ

والفنادقِ العجيبةْ

والباصاتِ الليليّة العتيقةْ

والغرفِ التي لا تكتمُ

اوجاعَ البكاءَ المُرْ

ولا الهواجسَ

ولا الوساوسَ

ولا الأَنينَ ولا الحنينَ

ولا أَيَّ مصيرٍ أَو سِرْ

فسلاماً يا " مُنذر عبد الحرْ"

سلاماً عليكَ

وعلى روحِكَ الجنوبيةِ الشاعرةْ

***

سعد جاسم - كندا

2024-5-15

 

طيورٌ قادها طيرٌ أثيمُ

لعاديةٍ فأضْحَتْ لا تريمُ

*

قوادِمَها توارتْ كالخوافي

فدامَتْ في مَذلتها تَهيمُ

*

عَصافيرٌ تعالتْ في فضاءٍ

وفي عَليائها لا تَستقيمُ

*

تَناحَرتِ النفوسُ بمُشتَهاها

فأوْجَعها المُصاحِبُ والغَريمُ

*

بها العلياءُ تقتتلُ الضحايا

لأطماعٍ يؤجّجها الخَصيمُ

*

فما هدأتْ ولا يوماً تآخَتْ

وقائدُها إذا حَقتْ لئيمُ

*

بفردٍ إنْ أرادتْ مُبْتغاها

تولاها وإن رفضتْ ذميمُ

*

نفوسُ الخلقِ مِنْ تُربٍ وماءٍ

وإنّ الطينَ متّهَمٌ سَقيمُ

*

وألبابٌ يُعَطّلها ضَلالٌ

ويَجْعلها بغابرةٍ تقيمُ

*

وكرسيٌّ على الأقوامِ يَطغى

يُبلدها وإنْ شاءَتْ يَضيمُ

*

تواصَتْ مِنْ نواكبها بغدرٍ

وإنّ الشعبَ مِن رُعُبٍ سَجيمُ

*

تشظتْ أمّة التوحيدِ حتى

تنامى في مَواطنها الأليمُ

*

بأفكارٍ من الأغرابِ جاءتْ

يُعضّدها المفكّرُ والعليمُ

*

فهلْ غنِمَتْ أعادينا عُقولا

يطبّعها التخاذلُ والجَحيمُ

*

ألا تبّْت يدا المَرعوب تبا

أرانا في مَواجعنا نقيمُ

*

سِلاحاً ما صنعنا فانتهينا

كأتباعٍ يوجّهنا العقيمُ

*

ألا عِشنا بأندلسٍ كبارا

وشعشعَ فكرنا فنأى الهزيمُ

*

أباة العزّ يا أسسَ المَعالي

تعالوا نحوَ واثبةٍ تُديمُ

*

تراثٌ في خزائنهمْ أسيرٌ

وجَمعٌ في مَحافلنا كظيمُ

*

تداهِمنا الرزايا والمَنايا

نوازلها يرافقها الوخيمُ

*

فما عَرفتْ جموعٌ ما أرامَت

كأنّ وجيعَها منها النعيمُ

*

وأسفرتِ الخطايا عن وحوشٍ

تحاوطنا ومنّا المُستريمُ

*

خياناتٌ بها الآفاقُ ضجّتْ

وأعوانٌ لقاضيةٍ تضيمُ

*

مفاهيمٌ من الخذلانِ تُسقى

تفرّق أمةً فطغى الزعيمُ

*

هي الأوطانُ لا تخضعْ لغزوٍ

إذا رُزقتْ رجالا لا تهيمُ

*

تماسكتِ الشعوبُ بإعْتصامٍ

وما انفردتْ بها قومٌ تسيمُ

*

إلينا آية التوحيدِ جاءت

لترشدنا ويحدونا الحليمُ

*

تحدّى أيّها المَكنونُ فيها

وجاهدْ أنتَ مُنتَصِرٌ عَظيمُ

***

د. صادق السامرائي

24\\2\2024

 

في نصوص اليوم