نصوص أدبية

نصوص أدبية

دعوا المفاخِرَ يا أعرابُ للعَجَمِ

فقد تفشّى بكم شوقٌ الى الصَنَمِ

*

شوقٌ قديمٌ طغى فيكم وأرجعَكم

للجاهليّةِ رغْمَ البونِ والقِدَمِ

*

كأنَّ إيمانَكم رملٌ بقاحلةٍ

والريحُ تذرو رمالَ القَفْرِ للعَدَمِ

*

قُلْ للصديقِ الذي ساءَتْهُ قافِيتي

لو كانَ أنصفَ لَمْ يَعْذلْ وَلَمْ يَلُمِ

*

شاهتْ هُوِيّتُنا ياصاحبي وَبَدا

صوتُ العُروبةِ جُرْحاً غائراً بِدَمي

*

قد أستعيرُ بذيءَ القولِ من لُغتي

لكنّما خَصْلةُ الإنصافِ من شِيَمي

*

لسْتُ الغَشومَ ولكنْ جاشَ بي غضبٌ

خوفاً على أمّتي من لُعْبةِ الأمَمِ

*

حيثُ الركونُ الى سفّاحِ غزّتنا

ياصاحِ منقصةٌ مذمومةُ الذّمَمِ

*

والشامتونَ بِقتْلى أهْلِ قِبْلَتِنا

يُلْقونَ أرواحَهُمْ في حالِكِ الظُلَمِ

*

هَبْ أنّهم أخطأوا يوماً سياسَتَهمْ

فاغفرْ كما غَفَروا بالفِعْلِ والكَلِمِ

*

واشْكُرْ فقد بذلوا أزكى الدماءِ فِدىً

كُرْمى لِغزّةَ والأيتامِ والحَرَمِ

*

قد نامَ قادَتُنا عن شَرِّ مذبَحةٍ

وباتَ مُرشدُهمْ سهرانَ لم يَنَمِ

*

هل ذا جزاءُ الذي يفدي قضيّتَنا

بالنفسِ أُضْحِيةً من دونما نَدَمِ ؟

*

ياناكرينَ جميلَ القومِ ويلكموا

مِمّا تخطُّ يَدُ التاريخِ بالقلمِ

*

فَذَرْ خصومةَ مَنْ هَبّوا لِنَجْدَتِنا

واحْذرْ فجوراً وَحاذرْ زَلّةَ القَدَمِ

*

وادعوا لَهُمْ ربّكَ الأعلى مُؤازَرَةً

وأن يُسدّدَ صاروخاً غداةَ رُمي

*

ياصادقَ الوعدِ شِعري صادقٌ ويَدي

تومي تفسّرُ ما معنى دعاءِ فمي

*

عَظّوا النواجِذَ يا أعرابُ واختبئوا

بينَ الجحورِ بلا توقٍ إلى القِمَمِ

*

عبادةُ البُرْجِ في دُنيا الخليجِ هوىً

وفي الكِنانَةِ يعلو عابِدُ الهَرَمِ

*

لا تزعجوا عربَ الأقطارِ إذ رَقدوا

فالنفطُ ينبعُ من خمّارةِ الرِمَمِ

*

قد صامَ حاضرهم عن كلِّ منقبةٍ

صومَ الصحارى عَنِ الأمطارِ والدِيَمِ

*

داستْ مناقِبَكمْ أقدامُ قاتِلِكُمْ

حتى تَشوّهَ معنى الجودِ والكَرَمِ

*

فالمالُ يُغْدَقُ للخنزيرِ مكرُمةً

والجوعُ يُرْدي صِغاراً من ذوي الرَحِمِ

***

مصطفى علي

 

في محطاتنا الأخيرة

نجلس على ركام كلماتٍ لم تُقتل

نرتّق نسيج الندم بخيوط من دموعٍ جفّت

رسائلُ بلا توقيع

وصمتٌ يشلّ ذاكرتنا

أرجوحة معلّقة بين شبح الشكّ وهم اليقين.

*

كم قصيدة تئنّ

معلقة على حافة سطرٍ غادر

تسكن دفاتر مهترئة

تنتظر قارئاً صار بعيداً كأفقٍ احترق

*

نفتح نوافذ القلب على هزيمة حكاية

نسرق عبيرها من بقايا زمنٍ نسيناه:

زهرة ماتت قبل أن تُقطف

وفنجان يحترق بدفء غياب لم يُودّع

وصوتٌ تألم في دهاليز الغياب

لم يُكتب له الوصول.

*

رهانٌ على حب بلا أفق

عُلق في عنق الزمن كتعويذة باهتة

فانكسر بين أصابعنا

كما تنكسر المرآة على وجه لم يعد لنا.

*

لم نخسرهم

بل خسرنا ذواتنا التي كانت تكتبهم بلهفةٍ لا نعرفها الآن

لم يخدعنا أحد

بل صدقنا وهم الخلود في علاقاتٍ

رُسِمت بحبرٍ سري، ثم محيت بيد القدر العابثة.

*

أنا التي عبرت الأزمنة على أقدام الرسائل

وتسلّقت طرقاً موصدة بأملٍ أبكم .

أعود اليوم

لا لأبكي صفحاتٍ انهارت

بل لأعطيها اسماً أخيراً:

"الحكمة المؤجلة".

*

الخسارة، يا صديقي

لا تُشفى إلا حين نصيرها

حين نتحول إلى مرآتها

ونمضي… لا عودة.

***

بقلم فاطمة عبد الله

ينتظرني كل يوم

يخبئ حبات من ضوء

في جيب المعطف

يبتاع لي وردة

يهمس لبتلاتها

بتميمة الأبد

يقطع المسافة

على عجل المشتاق

فتلبيه كل الطرقات

لا تشغله مدائن أخرى

أو حسناوات

يترفع عن غزل النجمات

هو لا يتأخر

يعرفني

أحن إليه

وأن القلب

محتاج لحفنة ضوء

وأن الروح

عالقة في عطر الوردة

يعرفني حبيبته

يعرفني

كيف أطرز من أشواقي

قصيدة

وأحرر من لفتات حنيني

أسراب فراش

وأعلق شالًا من شغف الخدين

على خصر الوقت

وأنا أحدثه عن فرح آتي

يعرفني

من ليلة ميلادي

وحتى وقت مماتي

حبيبي الليل ...

***

أريج محمد

15/06/2025

ربما كنتَ تظنني نهرًا،

مجرد نهرٍ يجري،

يتبع الشمس بقلبه،

ويغازل القمر عند البلوغ،

ينساب طوعًا،

يسقي الأرض،

ثم يعود كل ليلةٍ

إلى ضفتيه كطفلٍ مطيع.

*

لكني تعبتُ من العطاء بلا وجهة،

من الجريان الأبدي،

من أن أكون مرآةً

تعكس بريق السماء

دون أن تدرك عمق ظلمتها.

*

لن أكون نهرًا،

فالنهر مقيدٌ بمساره،

وأنا أريد أن أختار طريقي،

أن أتحرر،

أن أعيد تشكيل ذاتي،

سأصبح غيمةً

تحلق فوق الجبال،

ترسم ظلها على السهول،

وتهطل حيثما أريد،

لا حيث يُملَى عليّ.

*

سأكون غيمةً

لكن الغيم هشٌّ،

يتلاشى عند أول شعاع،

وأنا أريد أن أبقى،

ثابتةً رغم الرياح.

*

ربما أكون شجرة،

رغم أن جذورها عميقة،

لا تسير نحو أحلامها.

ثابتة تراقب مرور الفصول،

وأنا أريد أن أتغير،

أن أغني للريح،

أن أرقص مع السنابل،

أن أكون حرةً،

كأول قطرةٍ

تحررت من حضن النبع.

*

سأكون شمسًا،

تبعث الدفء في القلوب،

لكنها بعيدة، وحيدة،

تحترق لتضيء.

أريد أن أضيء دون أن أفنى.

لا، لستُ شمسًا،

ولا نجمةً،

تزين الليل وتلهم العشاق،

قد تسقط عندما تُرهقها السماء.

وأنا لا أريد أن أسقط،

بل أريد أن أرتفع كما السماء.

ولا حتى ظلًا،

يتبع النور،

يعيش في حضوره،

ولا يملك ذاته.

أنا أرفض أن أكون تابعًا،

أريد أن أكون النور.

*

لن أكون أرضًا،

تحمل أثقال العالم،

وتنبت الحياة من أحشائها،

لكنها تُداس كل يوم،

دون أن تُسأل عن وجعها.

*

أريد أن أكون سماءً،

عاليةً وحرة،

تُرى ولا تُمس،

تمنح فقط عندما تختار.

*

أريد أن أكون إنسانًا،

يخطئ وينهض،

يحمل روحه بيديه،

يتعلم كيف يكون شمسًا لنفسه،

وظلًا لذاته،

يزرع في قلبه شجرةً،

وينام تحتها عندما يتعب.

*

لن أكون نهرًا،

ولا غيمةً،

ولا شمسًا،

ولا نجمةً،

ولا شجرةً،

ولا ظلًا،

ولا أرضًا.

*

سأكون امرأةً تُعيد صياغة الحكاية،

امرأةً اختارت أن تكون البداية والنهاية.

سأكون الحياة ذاتها،

بدون قيدٍ،

وبدون نهاياتٍ متفق عليها.

***

ريما آل كلزلي

 

في قلب ارض منسية، تمتد بلدة صغيرة، ملتفة حول محطة قطا عظيمة مشيدة من الحجارة وصمت عتيق، منذ أجيال والناس في البلدة ينتظرون القطار، لا احد رآه، ولا احد سمع هديره، ومع ذلك، لم يفقدوا الأيمان بأنه سيأتي ذات صباح، أو ربما ذات مساء، ليأخذهم الى حيث الحياة كما يجب أن تكون، لا كما أجبروا على عيشها،كل شيء في البلدة يدور حول هذه الفكرة:

ألحلاق يسأل زبائنه متى تظنون انَ القطار سيصل؟

المدرسون يعلمون الاطفال كيف يحزمون حقائبهم استعدادا للرحيل،

و الشيوخ يتحدثون عنه كما يتحدث المتدينون عن يوم الخلاص،

و في كل فجر يعلو صوت العم احمد، مدير المحطة، عبر مكبر الصوت المهتريء:

" السادة المسافرين،. القطار القادم الى بلدتنا سيصل في اي لحظة، الرجاء الوقوف خلف الخط الأصفر "

فيبتسم الناس، ويقفون للحظات، ثم يعودون الى حياتهم مثلما ييئس المرء من أمنية لم تتحقق لها،

لكن ذات يوم جاء شاب غريب الى البلدة، كان اسمه رشيد، بعينين مليئتين بالشك وخطى لا تعرف الرهبة، سأل رجلاَ مسناَ عند المحطة:

- " منذ متى تنتظرون القطار؟"

أجابه العجوز، وهوينظر نحو الأفق:

- منذ ولادة الصمت، ومنذ ان وعدونا أن ننقل،

قال رشيد بحدة:

- " وهل جاء؟"

اجابه العجوز بأبتسامة راضية:

- " ليس بعد، لكنه سيأتي، الأمر مسألة وقت،"

لكن الوقت في البلدة لم يكن يقاس بالساعات، بل بالأمل،

لم يكن رشيد مؤمنا بالموضوع، راح ينبش في السجلات القديمة، يتقضى الأحاديث النفسية، يحلل الخرائط والاصوات والأوهام، فلم يجد أثرا لحركة القطار، فصرخ في الساحة الرئيسية:

-" ايها الناس! انتم لا تنتظرون قطارا، بل تهربون من مواجهة وجودكم هنا، بلا جهة، بلا نهاية، بلا بداية، القطار لن يجيء، لكن لم يرد عليه احد. لم يكن في أعينهم غضب، بل شفقة،

في اليوم التالي، وجد نفسه وحيدا في المحطة، لا مارة، لا الاطفال، فحمل حقيبته ومشى، سار على القضبان الصامتة، قضبان لا تفضي الى شيء سوى البعيد، السماء فوقه كانت بلا لون، والريح لا تحمل سوى صدى قديم، لكن ظل يسير، وفي ليلة لا قمر فيها، بينما هو في منتصف صحراء الزمن، سمع شيئا،

صفارة بعيدة وضعيفة، غائمة كالحلم، لكنها كانت هناك،

توقف، هل هذا هو القطار؟! أم انَ قلبه بعد طول انكار، بدأ يشتاق للأيمان بشيء، بأي شيء؟ لم يعرف، لكنه ابتسم، وواصل السير نحو الصوت.

***

قصة قصيرة

د. مامند محمد قادر - شاعر وقاص عراقي كوردي

 

في أحد الأيام، انتشر خبرٌ مفاجئ هزّ أركان القرية: البلدية قررت قطع الشجرة! قالوا إنها شجرة عجوز، متآكلة الجذوع، وخطرها يزداد مع مرور الزمن. نزل القرار كالصاعقة، لم يصدق أحد أن رمز الحب والذكريات سيختفي هكذا فجأة.

في قلب الحديقة العامة لقريتنا الصغيرة، كانت تقف شجرة سنديان عجوز، أنتفخ بطنها وتحول لجذع عريض حمل أسرار كثيرة، بعضها حفرت بأسماء العشاق. احتوت الجميع كانت تحنو عليهم بأغصانها المترامية، التي ظللت المقاعد الخشبية المتناثرة حولها. كانت تقف هناك منذ عشرات السنين، حتى قالوا أنها شهدت الحرب العالمية الأولى، وعاصرت الأجيال المتعاقبة، وشهدت لحظات الفرح والحزن، واللقاءات الأولى والوداعات الأخيرة.

كان العشاق يجلسون تحتها، يتبادلون العهود والرسائل المكتوبة على أوراقها المتساقطة، بينما الأطفال يستلقونها ويسرقون من أغصانها القوية لحظاتٍ من المغامرة. كبار السن كانوا يأتون إليها، يسندون ظهورهم على جذعها، تستل اوجاعهم، وتسترجع ذكريات خطّها الزمن فوق لحائها العتيق.

اجتمع أهل القرية في الساحة، كبارًا وصغارًا، يهمسون بغضب، يتساءلون عن سبب هذا القرار الظالم. وقف شيخ طاعن في السن أمام الحشد، عصاه ترتجف بين يديه، وقال بصوت مبحوح: "هذه الشجرة رأت أكثر مما رأينا، وحفظت أكثر مما نسيتم… كيف يمكن أن تزيلوها. لكن ذلك لم يلغ قرار البلدية من أزالتها، ولا التراجع عنه، حتى جاء عمال البلدية بمناشيرهم، وكأنهم يقطعون رأس أفعى... فجأة حدثت معجزة صغيرة، جعلتهم يتراجعون الى الخلف مندهشين … كما لو أن الشجرة رفضت الرحيل، اهتزت أغصانها، تفتحت لها براعم صغيرة بين أغصانها اليابسة، وأزهرت ورقة خضراء وسط الذكريات المحفورة على جذعها. اندهش الجميع، وكأن الشجرة أرادت أن تقول لهم: "ما زال فيّ حياة!"

تراجعت البلدية عن قرارها، ليس فقط احترامًا لأهل القرية، بل لأن الطبيعة نفسها قالت كلمتها. بدلاً من إزالتها، قرروا أن يحيطوها بسياج خشبي، ووضعوا عند جذعها لوحة كتبوا عليها: هنا تنمو الذكريات، كما تنمو الاشجار، وكما ينمو الحب.. لا يمكن اقتلاعها بأمر من رئيس البلدية.

ومنذ ذلك اليوم، أصبحت الشجرة رمزًا للوفاء، وزارها الناس من كل مكان، يعلقون على أغصانها أمنياتهم، ويروون تحت ظلها قصصهم، ويهمسون لها بأحلامهم، وهي… تهزّ أوراقها كأنها تعدهم بأن تحفظها إلى الأبد.

***

نضال البدري

احتلّيني شبرًا شبرا

واجري فوقَ ضُلوعي مُهرا

مَطَرًا كوني

بردًا كوني

برقًا.. رعدًا

صيفًا.. حَرّا

احتلّيني لا تَتَوانَي

ظلّي فوق بِلادي غيمًا

يحملُ في أحلامِهِ شمسي

يجلدُني لو أكسلُ يومًا

في حبّكِ

يجلدُني قَهرا

يمحو من أحزاني يأسي

يطرحُ بعضي

يجمعُ بعضي

يسألني ألوان الحبِّ

تَحملها سُفُني تتشكّلُ

في أعماقِ هُيامي بَحرا

**

احتلّيني.. يا فاتنتي

احتلّيني لحظةَ عشقٍ

تَطلَعُ من ظُلُماتي زَهرا

احتلّيني بعضَ ربيعٍ

احتلّيني لحظةَ وُدٍّ

ساعةَ وصلٍ..

يومًا... شهرا..

**

احتلّيني دونَ قيودٍ

ظلّي في أحشائي جَمرا

كوني حَرفًا في كرّاسي

يشربُ من أحزاني شِعرا

كوني عُمرًا يَروي شغفي

يُمطرُ في أيّامي عُمرا

كوني قمرًا يسقي شمسي

كوني لَهَـــبًا في أحشائي

يُشعِلُ بردَ فؤادي شوقًا

يَعصرُ لَوْمَ هُيامي خمرا

**

احتلّيني

احتلّيني شبرًا شبرا

احتلّيني دونَ قيودٍ

لا تتواني

لن أقبلَ في ذلك عُذرا

***

د. نسيم عاطف الأسديّ

(بأيِّ ذنبٍ قُتِلتْ)؟

مَثَلٌ في دورةِ ثيرانِ الطاحونِ

يستعصي وُدّا

خَبٌّ في جمرِ حوافيرِ الخيلِ ومَدٌّ إسرافُ

وملاعبُ ضيزى تقسيما

حالتْ كافوراً لونا

وَرَماً في عينِ التالي نَعْشا

رَحَلتْ دارَ الضوءُ سِلاحاً فتّاكا

صاحَ الجنُّ الراكبُ شرّاً إرفعْ فوق اللجّة سقفا

يضربُ في إقلاعِ الفوُضى كفّا

يقدحُ في الظُلمةِ بَرْقاً ذَبْحا

كيفَ الضبعُ أماتَ النجما

أطفأَ في الصورةِ قنديلا

حَزِمتْ حاجاتِ وَداعي آهٍ ما أقسى ما أقسى!

صرخَ الظلُّ الجاثمُ خلفَ المصباحِ وأعلى صوتا

يَئِستْ جَرَحتْ صُلبَ التكوينِ الراسمِ حظّا

قالتْ إمّا هذا أو هذا ...

الدارُ طنينُ فراغِ نعوشِ الموتى

الشاهدُ بصمةُ إبهامٍ مجهولِ

غَرَزتِ كفّاً أسودَ في جلبابِ الصدرِ

قَتَلتْ نَفْسا ..

سَقَطتْ في اللُجةِ أقمارُ

ماتتْ ... غابَ السهمُ الجبّارُ.

***

عدنان الظاهر

13 حزيران 2025

ثلاث قصص قصيرة

 أولا- ظلال الشجرة..

امام داره شجرة وافرة الاوراق وأغصانها تملؤها العصافير صباحا وتكتظ بها مساءاً قبل الغروب بالضجيج في منتصف النهار حيث الشمس عمودية عند الظهيرة هناك ظلال وفيرة يجلس عندها رجل عجوز فقير يستظل ويبعد عنه وهج الشمس المحرقة.. والشجرة في الطريق العام بعيدة تماماً عن باب البيت المقابل لها.

فتح صاحب البيت باب داره ورأى الرجل ممددا تحت الظلال:

وضع كفه على كتفه وحثه على النهض:

إستيقظ ايها الرجل..

فتح عينيه وقال: ماذا تريد؟

لماذا انت نائم امام بيتي؟

أنا نائم ليس في بيتك.. ألا تراني أنام تحت الشجرة في الطريق العام.. والشجرة هي شجرة شارع، فلماذا توقضني بهذه الطريقة السمجة؟

إنها ليست شجرة شارع، الشجرة زرعتها بنفسي وهي ملكي.

أجابه: أنا نائم في ظلال الشجرة،

ولكن الظلال ملكي..

اجابه: الشجرة ملكك ولكن الظلال ليس ملك احد..

كلا، لولا الشجرة التي هي ملكي ما كان هناك ظلال.. انت تجاوزت على حقوقي حين استحوذت على ظلال شجرتي، وما عليك إلا الرحيل..!!

***

ثانياً- القبو والنافذة..

هبط السلم، وكان يعد درجاته عدا حيث بلغت ثلاثة عشر درجة.. وحين وصل بلاط القبو نظر الى السقف وكان عاليا تتوسط جداره الأمامي نافذة من خشب زجاجها متسخ بالغبار، والنور ينبعث منها مغبرا.

سأل نفسه: لماذا أنا هنا في هذا القبو؟

وإجاب همساً: يا لهذا التساؤل السخيف، ثم ضحك في سره على نفسه وأضاف: ولكن لا بأس سأجيب:

وكانت إجابته مشبعة بضحكة مكتومه في صدره.. شعر بالخجل من نفسه ونزل درجات السلم الخشبية ليرى الضوء كيف يكون ويرى السقف ايضا.. وكان صدره يضج بالضحك من هذا السؤال الساذج:

ترى السقف ونور النافذة، وماذا بعد؟

أجاب نفسه: لا أدري وهو يضحك..

إذن، عليك أن تسكت.. لا القبو مريح وهو يبعث على الاختناق ولا الخارج نقي يبعث على الارتياح لكثرة الغبار والصخب والذباب.. ألا ترى كيف يدور ويتحرك المستنقع في الخارج وهو يحمل اطنانا من المخلفات والشوائب، إنه يطفح ولا ملاذ من ذلك سوى القبو، وماعليك إلا أن تتحمل الجو الخانق، فإن بقيت في القبو عليك أن تتأقلم وإن فتحت النافذة تدفقت عليك اسراب الذباب والبعوض واكوام من الغبار.

ابقى على حالك ايها المتصوف.. الخارج لانهائي ليس له من قرار وهو دائما مصدرا للجذب، طالما تتحكم فيه ثلاثة (الثرثرة والفضول والإبتذال) وما وراء هذا الثلاثي هي السقطة المروعة، ألم تدرك أن الخارج هو مستنقع يموج بالهراء.. حافظ على أناك..!!

***

ثالثاً- السقوط في الفوضى:

قرر الخروج، بعد ان تعبت عيناه من عتمة القبو التي عاثت فسادا عشوائيا بعيدا عن الضوء لكنه كان يدرك ان الضوء لا يتركه على حاله إنما يتركه في عتمة قد تطول لساعات وهو يخشى ان تستمر ومع ذلك قرر متحديا الخروج الى الضوء مهما كلف الامر من نتائج.. صعد بضعة درجات سمنتية انتهت بباحة هي بمثابة مكان للجلوس والاسترخاء بالقرب من نافذة زجاجها ملطخ بغبار الخارج واحيانا ضبابه الكثيف عند الفجر.

رن جرس الهاتف وكان الضوء الباهت يتسلل عبر النافذة المتسخة بالضباب الموحل..

هل سمعت الخبر؟

أي خبر ؟

الامطار تغرق الشوارع ودخلت سيولها البيوت ممتزجة بمياه ثقيلة.

فهمت.. تلك الإنسدادات التي تطفح على كل شيء.

أجابه: المياه اراها عبر النافذة سيولا ورائحتها لا تطاق.

لماذا لا تغلق النافذة ؟

لم يرد عليه وظل صامتا.

انقطع الخط..

لا خط حين تعصف الرياح وتتقطع الأسلاك ويبدأ رذاذ المطر ينثر غرينه على كل شيء.

همس في داخله يتسائل:

لماذا ترد على الهاتف أيها الأبله، ألم أقل لك ان الخارج يطفح بالفوضى المشبعة بالغبار.. انظر الى الخارج حتى نافذتك التي ترى من خلالها الاشياء وهي متسخة، فلماذا لا تمسح عنها تلك الاوحال لترى العالم كما هو ؟

أنت تقول هذا ؟

عجيب امرك.. هل الخارج خالٍ من الاوساخ والغبار؟ هل هو شفاف وزجاج نافذتك متسخ هل هذا كل شيء؟ وهل تقصد أن الحاجز الحقيقي هو زجاج النافذة المتسخ بالغبار والضباب وقطرات المطر التي تسيح ؟

حتى لو مسحت الزجاج فإن الخارج يظل موحلا بالفوضى التي لن تنتهي..

وأضاف: سأمسح النافذة ألف مرة وحين اطل منها على الخارج لا ارى غير مستنقع الفوضى العارمة.. هل فهمت ؟

وتسائل مع نفسه: ماذا ستفعل، هل ستغلق النافذة؟

وما الفائدة، ستظل الصورة الكالحة كما هي والحاجز يظل كما هو متسخاً ما دام الخارج يعج بالغبار والفوضى والضباب.

سمع مواء قطة صغيرة تحت النافذة، إنها جميلة ربما تكون جائعة.. سأفتح لها الباب لتدخل واحملها الى اعلى السلم الخشبي.. ولكن هي من مخلفات الخارج.. دعنا من هذا الهراء انها صغيرة وجائعة، هبط السلم فتح الباب دخلت مسرعة تتمسح بذيلها ساقاه النحيلان، حملها وقدم لها قطعة من الخبز مغمسة بالزبدة، اكلتها بشهية بعدها قفزت فوق السرير المجاور للنافذة وسارع باغلاق النافذة خوفا عليها من السقوط في الفوضى ليس ذلك فحسب، الغبار والضجيج والجوع.. كيف يمكن ان يتحمل الصغار ذلك؟ صغار العصافير والطيور وغيرهم.. الخارج شاسع ومغبر ويموج كالمستنقع الموبوء بالطفيليات والجراثيم والفوضى، ألا ترونها أمواج عارمة وصاخبة ولن تنتهي.!!

***

د. جودت صالح

11/ حزيران 2025

 

أو من يهتمّ بالتّاريخ الحقيقيّ للقهوة في اَلْبُنْدُقِيَّةُ

في "فينيسيا"، مطرُ أكتوبر،

يوقظ حنينًا فاتنًا،

كأنّه كُتب خصّيصًا للشّعراء التّائهين،

الذّين لا يسألون عن الطّرق الواضحة،

بل عن أثر شعورٍ أفلت أو سيفلت منهم،

في لحظات عشقٍ هجين،

وُلدت لتُجهض قبل أن تستهلّ.

*

أمام فندق "سانتا كيارا"،

يبدو كلّ شيءٍ مؤقّتًا:

الزّمن، الحقائب، الملامح، الإيماءات،

والقصائد التّي لم و لن تُكتب.

المدينة العائمة تستيقظ ببطء،

كأنّها لا تزال تتردّد: هل كانت حلمًا أم أثرًا؟

*

شعراءٌ مجهولون،

يمرّون بخفّةٍ في الضباب،

أحذيتهم مبتلّة،

ونظراتهم معلّقة في القنوات،

في عينيها الصّقليّتين،

في شعرها الأسود الجنوبيّ

الذّي كانت تداعبه الرّياح الشّماليّة

على أدراج مدخل محطة "سانتا لوتشيا".

*

باعة المظلّات الغرباء

يتسلّلون كعصافير بلّلها اللّيل،

ينادون بلغاتٍ مكسّرة،

ويعرضون مظلاتهم على سياحٍ يائسين،

حرمهم المطر من التقاط مئات " السيلفي "،

كأنّ "فينيسيا"، لم تكن تستحقّ كلّ هذا العناء،

ما لم تُعلّق بابتسامةٍ مصطنعة على حساب "إنستغرام" مزدحم بالتّفاهة و اللّؤم.

*

الجنادل المهجورة،

تئنّ تحت وطأة الماء والزّمن،

وأقواس الجسر قرب “البيازيتا” تلمع بلؤلؤية حزينة،

برج جرس "سان ماركو " يذوب في الضّباب.

لكنّ المطر، كما يفعل دائمًا،

أوقف الزمن،

أمام كوبٍ لم يُطلب بعد .

*

"صباح الخير يا سيدي! Bienvenuto!

هذا أقدم مقهى في العالم!"

يعلنها النّادل المتأنّق بحماسٍ إيطاليّ مثير،

يضع " الكابوتشينو " بجوار مسودّة عن تاريخ القهوة.

لكنّ "الكابوتشينو" لم تكن الغاية،

بل هدنة مع المطر،

ومقعدٌ يطلّ على لحظة لا تصلح للعرض،

بل للهروب نحوما تبقّى في قاع الكوب،

الرَّغْوَةُ أَوَّلًا،ثمْ الحنين المشاكس.

ويبقى الكوب فارغًا إلاّ من رغوةِ الذّكرياتِ،

و هذه الخواطرالمغتربة التّي وُلِدت،

في "كافيه فلوريان" العتيق.

***

نزار فاروق هِرْمَاسْ

شارلتسفيل -جامعة فيرجينيا

البندقيّة،21 أكتوبر،2024

ما أقسى أن يُفرض عليك الانتظار في غرفة الانتظار، وما أمرّه حين يتحول إلى قدرٍ معلّق في عنقك، لا فكاك منه ولا مفرّ. ليس ذلك الانتظار العابر الذي تتجاوزه بهاتفٍ ذكي أو بنظرة إلى الساعة، بل الانتظار الذي يعتقل الزمن ويثقل الأنفاس، فيجعل من كل دقيقة نصلًا ينغرس ببطء في لحم الروح. هو ذاك الانتظار الذي لا يمنحك رفاهية الانهيار، بل يعلّقك على حافة السقوط، فلا تسقط، ولا تُشفى.

لأيامٍ مرّت، كان النوم لا يزورني إلا خلسة، كضيفٍ عابرٍ يستحي الإقامة. ساعات قصيرة واهنة، تتسلل خلالها غفوات مبتورة، تلتقط أنفاسي من حافة التعب، ثم تتركني فريسة لليلٍ بلا ملامح. كنت أتوسل الراحة، أرجو هدنة من هذا الصراع المستمر بين الجسد والعقل، بين الألم والأمل. لكنني، رغم كل شيء، كنت أتهرب من العيادات، كأن الذهاب إليها اعترافٌ بالعجز، أو استسلامٌ لما لا أحب أن أسمّيه مرضًا. كنت أهرب من وجوهٍ جامدة، من أسئلةٍ متكررة، ومن ذلك الصمت البارد الذي يخيم على غرف الانتظار، كأنما هو إعلان مبكر للموت البطيء.

كنت أضحك في داخلي، على سذاجة الأمل، حين ظننت أن مضاعفة جرعة المسكنات قد تُقنع الألم بالتراجع. كنت أرجو، بصمتٍ خافت، أن يُغلق الجسد أبواب الألم ساعة واحدة فقط، ساعة واحدة، لأتنفس، لأنام، لأتذكّر أنني ما زلت حيًّا. لكن، وكأن الأمنيات لا تُمنح إلا للمتعافين، وجدتني في النهاية أُذعن، لا خنوعًا، بل قبولًا بما لا يُطاق. قررت أن أذهب، لا ببشاشة وجه، بل بثقل الخطى وأملٍ مشكوكٍ في استحقاقه.

وصلت إلى العيادة قبل أن تُفتح أبوابها. وقفت صفوف المرضى تمتد كظل طويل لحزنٍ لا يُرى، وجوه شاحبة، أكتاف منحنية، عيون ذابلة تستند إلى أملٍ واهٍ كجدار مائل. وقفتُ بينهم، لا كغريب، بل كواحدٍ من هذا الطابور الإنساني المنهك، كأن الوجع جمعنا تحت سقفٍ واحد دون أن نعرف بعضنا.

وما إن فُتح الباب، حتى انسابت الخطى إلى الداخل، كلٌّ يحمل وجعه في صمته، ويأمل أن يُرى، أن يُسمع، أن يُعامل ككائنٍ بشري لا كرقمٍ في سجلٍّ أو ملف.

تقدمت إلى ممرضة الاستقبال، تلك التي حفظت اسمي من كثرة ترددي، لكنها كانت لا تحفظ شيئًا من أوجاعي. نظرت إليّ كمن يتفحص طردًا وصل عن طريق الخطأ، وسألتني، بصوتٍ رتيب خالٍ من الحياة، مجموعة الأسئلة ذاتها، وكأنها تقرأ من ورقة لا تتغير، لا تنصت لإجابة، ولا تكترث لمعنى. أجبتها، بصوتٍ تكسوه بقايا رجاء، وبعينين أثقلتهما السهرات الموجعة، لكن كل ما لمحتُه في عينيها كان فتورًا باردًا، كأنما تعبت هي الأخرى من الإصغاء، أو لعلها لم تحاول أصلًا.

قلتُ لها، بهدوءٍ يغلّفه الألم:

ــ أحتاج لرؤية الطبيب. لم آتِ لنزهة. الألم ساقني إليكم، وأنا مسجَّلٌ هنا. إنها حالة طارئة... طارئة بما يكفي لأن تُفهَم.

رفعت بصرها عن الشاشة وقالت، دون أن ترمش حتى:

ــ ليس لديك موعد اليوم، والطبيب يريد أن يُنهي دوامه مبكرًا.

ابتلعت كلماتها كما يُبتلع الماء المالح؛ لا يُروي ولا يُنسى. ثم، وبصوتٍ يجلله الهدوء والحزم الصامت، قلت:

ــ له الحق أن يستريح، وله أن يغادر متى شاء، ولكن لي، أنا المريض، حقي في أن أُسمع، أن أُرى. لم أطلب امتيازًا، بل فرصة للنجاة. وسأنتظر هنا، بكل وقتي وصبري وألمي وكرامتي، لأنني لم أعد أملك خيارًا آخر.

جلستُ على أقرب مقعد، لا منكسَرًا، بل مرفوع الرأس، أحمل في داخلي كرامةً جريحة، وأخفي وجعي تحت قشرة من الصبر باتت تتهشم من ثقل ما تحمل. كنتُ أعلم أنني مجرد وجه في زحام، مجرد رقم في نظام لا وقت لديه للإنسان، لكنني كنت أيضًا إنسانًا، له اسم، وله ألم، وله الحق أن يُنصَت إليه.

نظرت إليّ الممرضة، نظرة سريعة، وفي عينيها بريق يشبه التردد، كأنها كانت تقيس حجم إصراري، لتقرر ما إن كانت ستقاومه أو تستسلم له. وبعد لحظة صامتة امتدت بعمر الوجع، قالت:

ــ انتظر... سأُبلِغ الطبيب.

لم أبتسم، لم أفرح، بل شعرت فقط أنني انتصرت، لا عليها، بل على الانكسار. جلست هناك، وسط ضجيج الحركات والأنفاس، أراقب وجوهًا جديدة تدخل وتُستقبل بلا تردد، وكأن ما قيل لي قبل لحظات لم يكن سوى قناع هش لرفضٍ خالٍ من الانسانية، او لربما لأني احمل اسما عربيا!

عندها أدركت يقينًا لا يُناقش: أن من لا يسعى لنيل حقه يُمحى، ويُهمّش، ويُقصى بصمت. وأن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع بشجاعةٍ هادئة وصبرٍ ناطق لا يصمت حين يُطلب منه الصمت.

كنتُ مزيجًا من الألم والرجاء، من الضعف والصلابة، أتنفس بصعوبة، لكنني لم أنهزم. ولم أكن أطلب سوى لحظة إنسانية... لحظة يُقال لي فيها: "أنت لست وحدك."

مضى الوقت بثقلٍ خانق، كأن عقارب الساعة تئنّ. العيادة تضجّ بأصوات ووجوه، لكنها بدت لي فراغًا مكتوم الأنفاس. وحده الألم ظلّ واضحًا، يقرع أضلعي كما لو أنه يُذكّرني بسبب وجودي وانتظاري هنا، في هذا المكان الذي لم يعد يليق بالحياة.

ثم، أخيرًا، فُتح الباب الداخلي، وخرجت الممرضة بإيماءة سريعة:

ــ تفضل، الطبيب سيقابلك الآن.

نهضت، لا بعجلة، بل بخطى رزينة، كأنني أعبر إلى قدرٍ جديد. دخلت الغرفة كمن يدخل ساحة مساءلة، لا عيادة مداواة. رأيت الطبيب خلف مكتبه، يقلب الملفات كمن يبحث عن حجةٍ للتجاهل. رفع بصره، لمحني، ثم أشار إلى الكرسي.

قال، بنبرة خالية من الدفء:

ــ لم يكن لديك موعدًا... هل تشعر أن حالتك طارئة؟

نظرت في عينيه وقلت، بهدوء رجل أنهكه الصمت:

ــ هناك آلام لا تُقاس بحرارة، ولا تُرى في تحليل، ولا تُقرأ في رسم قلب. هناك وجعٌ يسكنك كطيفٍ لا يغادر، ينهشك من الداخل دون أن يترك أثرًا على جلدك. أنا لا أطلب فضلًا، بل أهرب من قاعٍ آخذ في الانهيار.

سكت الطبيب لبرهة، ثم قال للممرضة:

ــ أعدّي له الفحوصات اللازمة، وسأبدأ بالفحص.

لم أشكره. لم أحتج إلى شكر. فقط أومأت برأسي، لأنني كنت أعلم أنني في تلك اللحظة لم أُعامَل كرقم، بل كإنسان له وجع، وله اسم.

خرجت من العيادة لا بشفاء، ولكن بنفسٍ أخف، بشعورٍ أنني لم أُهزم. كان الألم لا يزال في قدمي، لكن روحي كانت واقفة، شامخة. كنت أعرف الآن أن الصمت لا يُجدي، وأن الكرامة تستحق أن يُقاتَل من أجلها، حتى في أبسط تفاصيل الحياة.

ربما لم يتغير شيء في الخارج. لكن شيئًا في داخلي ترسّخ: أن الإنسان لا يُرى إلا إذا أصرّ على أن يكون مرئيًّا، ولا يُسمع إلا إذا تمسّك بحقه في أن يُصغى إليه.

وذلك، في زمن التبلّد، انتصار لا يُستهان به.

**

سعاد الراعي

14.06.2025

 

لماذا عندما الحدباءُ تُذكَرْ

وجوهُ القومِ تُصبحُ لا تُفسَّرْ

*

فهذا بالشرابِ يغُصُّ غصّاً

وذلكَ صدرُهُ يغلي كمِجْمَرْ

*

ألَا موتوا بغيظِكُمُ فإنّا

بذكرِ منارةِ الحدباءِ نسكَرْ

*

وما هُدِمَتْ ولكنْ مثلَ عيسى

قد اشتَبَهتْ عليكم في المُصوَّرْ

*

نراها وردةً مالتْ بريحٍ

وشوكاً سوفَ يُبصرُها المُحقَّرْ

*

وما بُنِيَتْ بأحجارٍ ولكنْ

لقد بُنِيَتْ منَ المجدِ المُعمَّرْ

*

لها درَجٌ كما الحَلَزُونِ إمَّا

صَعِدْتَ عليهِ صارَ الكونُ أصغرْ

*

وأعلى من ذُراها وهْيَ تسمو

نداءٌ صادحٌ (أللهُ أكبرْ)

*

وسائحةٍ تقولُ: أرى مناراً

ولا سفُنٌ ولا بحرٌ فيُمْخَرْ

*

فقلتُ: دماءُ أهليها بحارٌ

ولكنْ ليسَ كلُّ الناسِ تُبصِرْ

*

لقد أكلوا النباتَ لفرطِ جوعٍ

وأنتم تقرعونَ كؤوسَ مَيْسِرْ

*

يُكفِّنُ في الصباحِ أخٌ أخاهُ

وعندَ الليلِ قبرُهما سيُحفَرْ

*

حدادُ الكونِ أجمعِهِ عليهم

وعينُ الشمسِ تُغضي ثُمَّ تُمطِرْ

*

قبورُهُمُ شواهدُها زهورٌ

منَ البَيْبُونِ والآسِ المُعطَّرْ

*

ودُورُهُمُ وإنْ هُدِمَتْ عليهم

جنانٌ كلُّ ما فيهنَّ أخضرْ

*

حكاياتٌ سمِعْناها ستبقى

من الأجدادِ للأحفادِ تُذكَرْ

*

سلامٌ أرضَ مَوْصِلِنا سلامٌ

ولا زالتْ كُرومُ الدمعِ تُعصَرْ

*

فدجلةُ كانَ نهراً ذا أُجاجٍ

إلى أنْ مرَّ فيكِ فصارَ سُكَّرْ

*

وقبلَكِ لم يكنْ أبداً ربيعٌ

إلى أن قلتِ: يا غيمي تكسَّرْ

*

ويا أحلى النساءِ تحلُّ شَعْراً

فأقصى الأرضِ بالنَّفَحَاتِ يُغمَرْ

*

سِوارُكِ ليسَ من ذهبٍ مُصفَّىً

ولكنْ من مدارِ الشمسِ يُضفَرْ

*

وليلُكِ يا ضياعَ العُمرِ إمّا

هدرناهُ بنومٍ ليسَ نسهَرْ

*

كأنّكِ في شَمالِ الأرضِ تاجٌ

تُطاولُهُ الصقورُ وما تبعثَرْ

*

أتاها أمسِ نادِرْشاهُ يغزو

وحاصرَها فخابَ وقد تقهقرْ

*

رأى أهلوكِ عندَ السُّورِ صَدْعاً

فصارُوا هم دروعاً ليسَ تُدْحَرْ

*

سلامُ اللهِ يا أرضاً إذا ما

تشاكى أيمنٌ لبَّاهُ أيسرْ

*

ودجلةُ مثلُ ضيفٍ مرَّ فيها

فأعجبَهُ المُقامُ وقد تحسَّرْ

*

وقالَ لنفسِهِ: لو أنَّ ربّي

براني وردةً فيها فأظفَرْ

*

ولكنْ ظلَّ يجري ثُمَّ يجري

وتتبعُهُ الضفافُ وقد تحدَّرْ

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

أَيَا سَرَاباً

تَجَلَّى لِي كَغَيْمٍ

قُبَيْلَ هَمْسِ السَّدِيمِ

الْغَائِرِ فِي الْعُمْقِ

كُنْتَ رَهِينَ الْوَجَعِ

الْقَاسِي

تُقَبِّضُ بَيْنَ يَدَيْكَ

أَصْدَاءَ الْأَنِينِ

الْمَبْحُوحِ

وَنَرْجِسَةً مِنْ شَظَفِ

السَّحَابِ الْعَقِيمِ

وَلِلسَّمْعِ تَرَامَى أَثِيرُكَ نَادِباً

يَنْقُرُ خَوَافِيَ الرُّوحِ

بِمَرَارَةٍ

فَرَاحَتْ أَوْصَالِيَ

تَسْتَنْشِقُ لُهَاثَكَ الْمُتَوَهِّجَ

تَسْتَشِفُّ فِيهِ

شَفَقَكَ الْبَعِيدَ

لِمَ ارْتَكَبْتَ التَّمَادِيَ

حِينَ اسْتَحْكَمَ

قُرْبِي إِلَيْكَ؟

وَلَمْلَمْتُ مَا بَعْثَرَهُ

عَبَثُكَ الْمَكْلُومُ؟

لِمَ أَحْرَقْتَ

فَيْضَ الْوِجْدَانِ

وَأَلْقَيْتَ بِي فِي مَهَبِّ

الْهَاوِيَةِ الصَّمَّاءِ؟

أَيَا غَائِرَ الْوَعْدِ

هَلْ أَنْتَ سِرٌّ خَانَ كُلَّ مَكْمَنِ؟

وَكَيْفَ أَدْرَكْتَ نَزْفَ الرُّوحِ

فِي صَدْرٍ

أَوْ مَثْوَى لِبَقَايَا مِنْ هَوَاءٍ؟

كَيْفَ هَانَ عَلَيْكَ

وَعْدٌ

كَأَنَّهُ خَيْطُ الضَّوْءِ

فِي عَتمَةِ الْبَاطِنِ؟

لِمَ اسْتَبَحْتَ صَبْرِيَ

وَوَدَعْتَ خُطُوَاتِي

تَهْوِي إِلَى بَرَزَخِ

الشَّوْكِ الْمُمِيتِ؟

لَنْ أَغْفِرَ...

فَلَمْ تَعُدْ جِرَاحُ الْوَجْدِ

تَنْزِفُ غَضّاً

بَلْ جَفَّتْ قُرُوحاً

سَمّاً عَلَى جَسَدِ الرُّوحِ

وَلَنْ أُرْثِيَ

لِعَاشِقٍ تَهَاوَى

خَرِسَتْ حَوَاسُّهُ

عَنْ رُؤْيَةِ خَطَايَاهُ

أَنَا مُتَبَرِّئَةٌ

مِنْ كُلِّ نَبْضٍ لِاسْمِكَ

قَدْ حَرَّرْتُ مَوَاجِعِيَ الْخَفِيَّةَ

مِنْ حِبَالِ رَمَادِكَ

فَلَا عَوْدَةَ

أَيُّهَا الْوَهْمُ الْجَائِرُ

بِيَأْسِ الْعَدَمِ الْمُخِيفِ

قَدْ سَقَطَ سِتَارُ الشَّفَقِ

الْأَخِيرُ

فَلَا وُجُودَ لِي بِكَ

بَعْدَ الْآنَ

وَمَا مِنْ نَزْفٍ سِوَى صَمْتٍ تَبَدَّى!

***

مرشدة جاويش

 

دخل المبنى كما يدخل الناس، عاديا ً، يحمل سيرة ذاتية ومظلة، استقبله موظف صامت اشار بحركة رأسه الى المصعد، وقال: " الطابق الخمسون، المقابلة هناك ". ابتسم، شكر الرجل، دخل المصعد، ضغظ الزر، بدأ الصعود. في الطابق العاشر، دخلت امراة بزي أنيق. نظرت اليه مبتسمة وقالت: " انا في الطريق للطابق العشرين. اجابها بلطف: انا متوجه للطابق الخمسين. لم يتوقف المصعد في الطابق العشرين، ولا في الثلاثين. الأزرار التي ضغطها لم تضيء، والشاشات الرقمية تعثرت وأظهرت أرقاماً غير مفهومة. مرت ساعات، ثم أيام. ولبرهة لاحظ أنَ المصعد قد امتلأ بناس آخرين.

-  عجوز ذات انف معقوف، تنظر اليه بصمت وبنظرة عميقة وكأنها تعرفه من قبل.

-  طفل صغير يحمل طائرة ورقية مصنوعة من ورق خفيف، يحاول اللعب في مساحة ضيقة.

-  شاعر يجلس على الارض، يكتب كلمات غامضة على جدران المصعد بحبر ازرق.

-  رجل يهمس صلوات بلغات لا يفهمها احد.

-  امراة تغني أغانيها بصوت خافت تملؤه الحزن.

مع مرور الوقت تحوَل المصعد الى عالم صغير، حيث ولدت طقوس خاصة، وتشكلت طوائف، ونُظِمت جداول لأوقات الاكل والنوم. الأمل اصبح شيئاً معدوماً، والخوف مخيم على الجميع. محاولات كسر الباب كانت كثيرة، لكن جميعها باءت بالفشل. سأل احدهم الرجل في لحظة يأس: " الى اين انت ذاهب ؟"، اجابه بجدية: " للمقابلة، في الطابق الخمسين." ضحك الآخر طويلاً، ثم اشار الى سقف المصعد وقال: " هذا هو الطابق، كل ما فوقك ظل." مع كل يوم، بدأ الرجل يفقد احساسه بالزمن، نسي اسمه، نسي لماذا صعد في البداية. في يوم ما، استيقظ ليجد في المرآة الصغيرة انَ وجهه اصبح غريباً، مجرد ظل بلا هوية. في لحظة صمت عميق، فهم شيئاً بديهياً: المصعد لم يكن مجرد وسيلة للوصول الى طابق ما، بل كان عالماً بحد ذاته، رحلة لا نهاية لها من الانتظار. ابتسم الرجل، لم يعد يهمه من هو، او الى اين يتجه، لكن الذي تيقن منه هو انه حبيس مصعد لا ينزل ولا يتوقف ابداً.

***

قصة قصيرة: د. مامند محمد قادر

* شاعر وقاص عراقي كوردي

 

كانت تستغرب حالها، وكم الوحشة التي انتابتها من بعد آخر رسالة بينهما. كيف ذلك؟ من أين أتت كل هذه الألفة؟ هل لأنها شعرت أنها تتحدث إلى روح تفهمها؟ تتحدث ذات لغتها تلك المفتوحة على المدى!

مارست مهامها اليومية في ضجر واضح، وبين مهمة وأخرى كانت تسافر عبر خطوات مترددة إلى هاتفها المحمول تتفقد الرسائل. كان سفرًا نحو المجهول. ماذا إن لم تكن هناك واحدة؟ وإن كانت، هل ستترك كل ما يحيط بها وتنغمس راغبة في عذوبة لغته؟ تصل إلى المحطة فتجدها فارغة، تزداد ضجرًا، وتبدأ تحادث نفسها: "ربما انشغل، ربما أخذته الرواية التي يعمل عليها، أو الأكيد إنه ليس مهتمًا. نعم، هو كذلك. أنا مجرد غريبة عنه، لا تفاصيل بيننا."

عادت لمن حولها، تحادث ابنتها قليلًا، تطل من الشرفة للحظات. وكما هي العادة، تلمح ابتسامة بلهاء تطل من وجه ذلك الرجل الذي يمتلك محل الموبيليا أسفل بنايتها، ولكنه يعتمد الجلوس على الجانب الآخر يترقب ظهورها. لكنها اليوم، وعلى غير العادة، قررت أن تكسر تجاهلها له وتنظر في عينيه مباشرة. وفعلت! حتى ارتبك الرجل وسارع بمغادرة مكانه.

فانتقلت الابتسامة البلهاء إلى شفتيها، ثم تبعتها ضحكة على حال الرجل وكيف قام بتفسير نظرتها التي اخترقت ترقبه وجعلته يفر. ربما هو سعيد الآن، ينظر إلى وجهه البائس في واحدة من مرايا المحل ويقول أخيرًا: "حنّ قلب الفرسة وشافتني." استغرق هذا الحدث السخيف دقائق معدودة، اتبعتها بساعة أمضتها أمام شاشة التلفاز في محاولة للهرب. وهي بين شرود وتصنّع للبرود، ولكنه بطريقة ما كان يحدث ضجيجًا هائلًا في عقلها. ذلك الغائب كان لحوحًا في الحضور.

حان وقت القهوة وطقسها أن تبدو في أجمل حالاتها. شرعت في ذلك مباشرة: انتقت بيجامة باللون الأزرق، دلفت إلى الحمام، رفعت شعرها للأعلى. وقفت عارية لثوانٍ أمام المرآة، ولكنها اقتربت منها أكثر حتى كادت تلتصق بها. كانت لا ترى جسدها، بل تنظر داخل عينيها، تحدق في انعكاسهما. لم ترَ شيئًا مختلفًا. ذات البحر الذي يتوارى خلف مرآتها، وهي واقفة إلى جواره تمد قدمها في خفة تلامس موجاته ومن ثم تسحبها.

رأت بوضوح كم كانت وحيدة، وحيدة لدرجة أنها وقعت في غياب رجل خرج في لحظة جموح من متاهات اللغة.

***

أريج محمد

 

في ذلك النهار كان امام البيت الواطئ السطح الذي يرفرف على قمته علم تمزقت أطرافه. طلع عازف البوق من بين الحشائش التي ترتعش عند حدود البستان وجعل هيكله يظهر شيئا فشيئا. ظهر شعره الأشعث أولا ثم الأزرار النحاسية التي تلتمع على كتافيات سترته الخاكي وذراعاه وهما تختلطان بالعشب. بينهما يضئ البوق الذهبي اللون وهالة من انعكاس الشمس تتراقص على الأرض المنحدرة الى الطريق الترابي أمام البيت. التفتَ الى الوراء حيث المروج التي داست مسالكها قدماه وهو يعزف ملقيا ظله من القناطر على صفحات المياه تحت سطوع الشمس. مضى سرب الأطفال الذي تبعه بعيدا بعد انْ توقف عن العزف لدى اقترابه من البيت.

تردد لفترة غير قصيرة في التقدم موجها عينيه صوب مظلة الباب التي تبرز قليلا. عليها غزالة بوضع القعود، حشي جلدها بالقش الذي اندلق من شق في بطنها على حافة المظلة. في موقع العينين فجوتان لوزيتان. يتفرع احد قرنيها الى ثلاثة فروع. لم يفطن الى وقفته الغريبة حيث بدت كتفاه وكأنهما تستديران الى أمر غير مؤكد. ظهرت فتاة سمراء ذات ثوب اسود. اندفعت أول الأمر عبر فتحة الباب. تراجعت خلف الستارة المعلقة على حبل بين جداري المدخل. اتخذت من الستارة عباءة. لم يظهر سوى الوجه

الذي علاه مزيج من الاستفهام والخفر. تراجع حامل البوق في شبه تعثر:

ــ توهمت انه بيت آخر..

ــ جئت تسأل عنه إذنْ؟

ــ هذا هو البوق..

ــ ولكنه مات. جاءوا به من الجبهة..

ــ ماذا تقولين؟ آه.. هكذا فجأة !

ــ انه ليس هنا..

ــ إنّ ما فات قد فات.. معذرة..

كانت عيناها مسبلتين. لعلها لم تكن تصغي اليه. أخيرا ارتعشت شفتاها..

ــ أنا نفسي في قفص. وليس لي ان أصل السوق.. هل تبيع أقمشة؟

ــ كلا..

ــ تعاويذ؟

ــ كلا.. ليس عندي سوى هذا البوق..

ــ من المؤكد انك تستعمله في الأعراس..

ــ أعراس؟ أية أعراس؟ انه يسلي الروح ويسكن الأعصاب..

ــ أتعرف زوجي؟

ــ كان رفيق طفولتي..

ــ لم اركَ في محلتنا..

ــ آه.. ربما. النساء لا يخرجنَ إلا نادرا..

ــ هل أنتَ قارع الطبل في رمضان؟

ــ نادرا ما كنت كذلك..

تراجعت قليلا. الشحوب يعلو وجهها، إمَا لأن الوجه في وضع يسمح بمرور الضوء عبر صفحتي خديها ــ يظهر ذلك من الأخدود الذي يبتدئ من تحت صدغها مارا بوجنتها ــ او لسواد ثوبها اضافة لقتامة مدخل البيت. فكر حامل البوق في وحدته وهو يعزف بدون كلل او التفات لتساؤل العابرين، وكأنه قدم من اللا مكان وقد أخذت أخباره تنتشر في هذه المدينة الصغيرة. الا ان الناس لم يعرفوا الكثير عن هذا المخلوق الذي كان الحنين يقطر من بوقه. قال بعضهم انه شوهد لأول وهلة عندما قدم على فرس بلون الحليب ولم يكن يحمل بوقا او أي شيء من هذا القبيل في حين كذبهم آخرون قائلين ان هذا الأمر مجرد مبالغة فهو ليس أكثر من صعلوك متشرد اعتاد ان يبيع الكتب في عربة بسوق المدينة في حين ذكر غيرهم انه كان يرفض نداء الذين يستوقفونه طالبين ان يعزف لهم لقاء بعض النقود، ورفض أيضا عروضا من عازفي فرقة الأعراس للانضمام اليهم وأجاب في كبرياء: ــ انا لا اعزف غير لغة العشب والأقحوان !

كان حامل البوق يرى في الليل او في النهار وهو يعزف لوحدته مجتازا الطرقات. يلف المدينة الصمت وتستكين الريح وتصغي النساء خلف الشبابيك للنحيب الآتي من الفوهة النحاسية. وهن ينتظرن بدون كلل، متوحدات في ظلام الغرف مع كسرات من الخبز والشاي وقد نسين منذ زمن بعيد وقع قطرات المطر على الوجوه. في الصباح يجده المارة نائما في حديقة مكتب البريد حيث ينام الشحاذون متوسدا الأعشاب محتضنا البوق الذي تجمدت على صفحته قطرات الندى كما لو أنها دموع البارحة.

لم يسبق لي وأنْ حدّثت أحدا عن نفسي. في إمكان أي واحد ان يمسك بوقا ثم يخرج به الى الشوارع منشدا للحزن والبهجة. في البداية لم يكن البوق يعني لديّ اكثر من كونه آلة. توهمت انني لم اكنْ حزينا وما كنت اعبأ بأن أضيف الى السعادة شيئا. كثيرا ما صدمني صوت ارتطام البوق الأجوف بخشب المنضدة وأنا القيه عليها. لقد كنت انفخ في الفراغ. كنت أوغل في الوحشة.. الصحراء.. الصحراء.. انه الزمن الذي يمضي غير آبه لخسائرنا. قررت انْ أجرب يومي. سرت طيلة النهار في الحقول معانقا أصوات تساقط الأوراق على الأرض وأزيز النحل والأحجار التي يكتشف فيما بعد أنها ظلال طيور. هكذا بدأ الأمر. ليس إلا العزف لهذا الربيع وذاك الذبول. عنّ لي يومها ان أستريح قليلا. كان يوما لا ينسى. توقفت عن العزف. ركضت بأقصى ما استطيع في غابة العشب ثم استلقيت على الأرض وأنا الهث. لقد كنت أحمق ويائسا ومبتهجا بدون حدود. قطفت زهرة بيضاء الأوراق ودسستها في فوهة البوق وطفقت انفخ والأوراق تتهافت كالريش على صفحة ماء الجدول فكان يأخذها بعيدا. خلعت ثيابي وانحدرت معانقا مياهه. في الماء اكتشفت ان يومي كاذب ولكنه مليء بالحياة. أجل.. حياة بلا قيود. كنت خائفا من هذا الاندفاع. ما أصعب البدايات ! يجب التطهر جيدا من الآثام.. هل هذا ممكن؟ إنني اعزف حقا.. ولكن هذا لا يكفي. سأتوقف منذ اليوم عن العزف لنفسي وحسب.. العصافير لا تفعل ذلك حينما تسقسق. إنها تدرك بغريزتها ان هناك من يصغي إليها.. الوحشة تسقط أمطارا لا مناص من السير تحت وابلها، تلك الزهور التي تزدهر في القلب وتذوي.. الوحشة في كل مكان. في البساتين المهجورة إلاّ من الملح والعاقول.. في المدينة حيث الأضواء والحلي المتحجرة خلف الزجاج ودويّ الآلات ثم الصمت بغتة في الليل. مَن ْ اذن يغني للمدينة التي توشك روحها على الاندثار؟ المدينة التي أضاعت أعيادها واتشحت بثياب الحداد؟ المدينة التي خرّبت ألف مرة ومرّة؟! من الذي يستخلص الدموع من المحار، من يعزف للجنود في المحطات والعائدين من الجبهة والذين لم يعودوا، للشحاذين وللشهداء والنساء الوحيدات في البيوت؟!

يحلّ الصمت من جديد. يلتمع الضوء في عيني الفتاة. تمرّ عربة يجرها حصان هزيل مثيرة تراب الطريق، يسعل حامل البوق متراجعا:

ــ لم ألاحظ غزالتكم هذه جيدا..

يتراجع القهقرى بنصف خطوة. الفتاة ماضية في رفع رأسها محاولة ان ترى الغزالة ولكنها لا تستطيع اما بسبب المظلة او لانبهار عينيها بضوء الشمس وقد بان حامل البوق أطول منها قامة لأنه كذلك أصلا ولأنه في مكان أعلى، وصارت قمة رأسها أعلى من حافة كتفه. أخفضت رأسها:

ــ حسبتكَ تتحدث عن غزالة حقيقية..

ــ انها غزالة على اية حال..

ــ هل تحزن الغزالة والأسماك والطيور والبيوت؟ كان عندي زوج من البلابل.. حين رحل الذكر ماتت الأنثى كمدا.. اجبني ايها الرجل..

ــ لا تحسبي ان للقلب قدرة على ذلك.. انما البشر مختلفون.. حين يفقد الأنسان عزيزا عليه يستعيده بشكل ذكرى او يحتفظ له في القلب بركن.. ثم يفتح شبّاكا على يوم جديد..

ــ كلا.. هذا لن يكون.. هذا قلب من ورق..

ــ أوراق الأشجار الساقطة لن تعود الى الأغصان.. الماضي عزيز علينا ولكنه لن يعود..

مسحت الفتاة وجهها بكفيها وكأنها تنهض توا من النوم:

ــ ماذا تريد أيها العازف؟ سأحدثك عن أوقاتي اذن.. ربما يمكن للهم ان يزول.. لحظات ثم بعود.. انني اخرج.. ليس أبعد من المخبز.. اليوم ماذا؟ الخميس أم الجمعة؟ البارحة وقفت في غرفتي امام خزانة الثياب.. أخرجت ثيابي كلها وأنا اشدهّا الى صدري وأملأ رثتيّ بروائح تصعد الى رأسي فأتذكر صباحات اتفقنا صدفة على ان نبتهج فيها.. كان ذلك في السابق.. حين كان الخوف يملأ قلبي لتأخره في الجبهة.. كنت اخرج الحلي.. لقد كنت اعرف انها خاصة بالفرح لكنها لا تهبه.. لا ادري ما أصابني في الأيام الأخيرة.. البارحة استيقظت.. عند منتصف الليل ثم اغمضت عيني من جديد.. ليس لكي احلم.. انني افقد التآلف.. رحل وتركني لوحدتي !

ــ ليت البهجة شيء امسكه.. ليتني منحتكِ بوقي..

ــ كيف.. أتمنح ما أنت بحاجة اليه؟

ــ يمكن لاثنين انْ يكونا بحاجة الى شيء واحد..

قالت في صوت خافت: ــ لا أريدك ان تغضب.. انت تعرف قيمة القلب الحقيقي.. انه لا يعشق مرتين !

افلت الرجل البوق من يده. انحنى ليلتقطه وهو يقول في اجلال:

ــ انني افهم ذلك ايها السيدة الوقور.. معذرة.. لابد ان الرجل يختلف عن المرأة.. ولكنني سأمر من هنا كل يوم.. ارجو ان لا يسيئك ذلك..

ــ أنا أعرفك منذ زمن طويل.. لم اشأ انْ اخبرك بذلك.. لتمرّ من هنا كل يوم.. ولتكنْ انتَ امتحانا لقلبي..

همس متسائلا:

ــ ما الذي افعله الليلة او بعد سنين من حياتي..؟

ــ انني لا أسمعك.. بم تغمغم.. أأنت شاعر؟

ــ آن لي ان انصرف.. ولتعلمي يا وفية القلب ان ذكراه محفوظة عندي

ايضا.. وسأعزف لكليكما بنفس الدفق الذي امنحه حين اعزف لوحدتي.. مع السلامة.

استدار حامل البوق مبتعدا. تسلق الربوة التي تمتد عند حافة البستان كحاجز. أغلقتِ الفتاة الباب بهيكلها النحيف وتراجعت الى الداخل ببطء. أدنى هو البوق من فمه. رفع فوهته صوب الفضاء. اتجهت أصابعه الى مفاتيح العزف.. توغل في الأعشاب مالئا الجو بالنغمات.

***

قصة: محمد سهيل احمد

إنْ لم تسُدْها سادها مُتكبرٌ

لا يبتغي خيرًا ولا إحسانا

*

أدبًا وعلْما عزّةً وكرامةً

مالًا وباسًا يردعُ العُدوانا

*

وصِناعةً وزراعةً وتجارةً

وثقافةً تُرْنِي لها الأكوانا

*

يا ناسكًا هجرَ الحياة لجهلِه

الأخْرى وما تحتاجُهُ أثْمانا

*

متناسيًا أنّ الدّنى شرطٌ لآ

ـخرةٍ بها لا تظْلمُ الإنسانا

*

لا تعجبَنَّ غدًا إذا قالتْ لكَ

الأُخرى: لأنتَ أقلُّهم إيْمانا

*

يا نائمًا خصَّ الحياةَ بنومِه

والنّومُ سِلْمٌ يعبرُ الأبْدانا

*

ليُهَدِّمَ الأرواحَ والأذواقَ والـ

أحلامَ والإبداعَ والوِجْدانا

*

من دونِها الأحوالَ والأعمالَ والـ

عُمرانَ والبُنيانَ و البُلدانا

*

حتّى تصيرَ لمن يُقدِّمُها إذا

قامَ النيامُ لخصْمِها قُربانا

*

إذ ذاكَ يُمسي الموتُ أدنى سِلعةٍ

في سوقِ موتٍ ينشُدُ الأكْفانا

*

يا لاهيًا خسِرَ الحياةَ بلهوِه

واللّهوُ داءٌ يُخسِرُ الأوزانا

*

من طالهُ طالَ النُّهى منهُ وما

بينَ الضّلوعِ مُخلِّفًا أعْفانا

*

أرأيتَ ميْتًا سائرًا دونَ الذي

ألهاهُ لنْ تلقىْ لهُ عُنوانا

*

هيهاتَ مهما سِرتَ أنْ تلقاهُ

إلّا في بلادٍ تقْرأُ القُرآنا

*

تغْدو بأمرِ أميرِها سوقًا لها

شدَّ الزّناةُ رحالَهم ألْوانا

*

يا ساذجًا عدِمَ الحياةَ بتركِه

عِلْمَ الدُّنى لخِصامِها كسْلانا

*

مُتَقبّلًا رايَ العبيدِ بأنّهمْ

سبَقوا الشّعوبَ بعقلِهِمْ ما كانا

*

وبأنّ واجِدَها اصْطفاهُم سادةً

وعَلى الورَى أنْ يُبديَ الإذْعانا

*

مُسْتلقيًا فوقَ البحارِ مُسيّرًا

نحو الغروبِ ومُوصِلًا أطْنانا

*

مُسْتعمِلًا أثمانَها ليقرَّ عرْ

شٌ قد أقرَّ بدارِكَ الطُّغيانا

*

ومُثَـــبِّتًا في قلبِك المُنهارِ للـ

أغرابِ من خوفٍ بكَ الأركانا

*

مُسْتَكْفِيا بالنّزرِ مِن أثمانِها

لِتُعدَّ فيمنْ عمَّروا الأوْطانا !

*

واللهِ لوْ أخْليْتَ قلبكَ والنُّهىْ

من كلِّ رايٍ بثَّهُ منْ مانا

*

لأَعَدْتَهُم لزمانِهمْ لجِذورِهِمْ

خَدَمًا لمَن في الأرضِ بلْ عُبْدانا

*

ولَسُدْتَها دونَ الورىْ أرضًا سَما

والعدلُ أزمانًا تليْ أزمانا

*

يا خائنًا خانَ الحياةَ بميلهِ

لمَنَ اصْطفىْ خِصمُها سُلطانا

*

حِرصًا عليهِ لا عليْها ظنُّه

أنّ الحياةَ تكافيءُ الوُغدانا

*

حتّى تُعلِّمَه بأنّ مثالَهُ

في دينِها توصيفُهُ: قدْ خانا

*

بِمَنِ اشْترى صحبًا ستُنزِلُ حكمَها

الدّنيا بِمَن والى العدا خوّانا

*

يلقونَهُ من برجِها وبأمرِها

سقْطًا فيرجعَ للثّرى صغْرانا

***

أسامة محمد صالح زامل

 

هوتْ حدباءُ لكنْ في دماها

حكاياتٌ تُعيدُ لنا مداها

*

ترابُكِ لم يكنْ موتًا عقيمًا

ولكنْ بذرةٌ تحيي سناها

*

على أيدي رجالٍ من حديدٍ

تسامى العزمُ فانتصبتْ رؤاها

*

أعادوا للسماءِ سنامَ نورٍ

وكانَ الليلُ يُحسدُ في علاها

*

كأنَّ الريحَ تبكيها هبوبا

كأنَّ الشمسَ تلبسُها ضياها

*

لقد صارت لنا الحدباء رمزا

لعزمٍ لا يلينُ إذا غشاها

*

إذا مرَّتْ جيوشُ الغدرِ يومًا

تهدُّ الطودَ، زادتْ من ذراها

*

رأيناها كما الأمواجُ تُلقي

على شمِّ الحياةِ بنا شذاها

*

تقولُ: الموصلية حينَ نادتْ

على الأبناء ذودوا عن ثراها

*

دمائي في المآذنِ نبضُ قلبي

وشمسي لا يغيّبها جُناها

*

أنا التاريخُ في عينيكِ حيٌّ

وفي روحِ الكرامةِ لي بقاها

*

سأبقى ما بقيتم في ثباتٍ

لأروي المجدَ إنْ عزَّتْ خطاها.

*

دموع الأمِّ عندَ النحر سالت

تقولُ: إلى السماءِ علا سناها

*

أراها في صغاري حينَ قاموا

وشادوا المجدَ من عزمٍ بناها

*

وفي أيدي الكرامِ رأيتُ ضوءًا

يضيءُ الليلَ إنْ طالتْ خطاها

*

فلا خوفٌ على أرضٍ تنادتْ

جحافلُها لتَبني ما دهاها

*

وإنْ هدمتْ يدُ الطغيانِ طودًا

فهذي الأرضُ تنهضُ من أذاها

*

فيا حدباءُ، يا روحَ البرايا

ستبقينَ السماءَ على عُلاها

*

هنا بغدادُ تنظرُ في ثباتٍ

إلى اختٍ يعانقها لواها

*

وهذي الموصلُ العظمى تنادي

أما آنَ الأوانُ لِمنْ فداها؟"

*

بَنَتْكَ الروحُ من شرفٍ عريقٍ

وصاغَ المجدُ في عزمٍ رُباها

*

لأنكِ في ضميرِ الكونِ صرحٌ

يدوِّي في القلوبِ وفي مداها

*

فكمْ من طامسٍ قدْ رامَ وجهاً

فعادَ النورُ يزهو في ذراها

*

دماءُ الأرضِ نادتْ من قريبٍ

وقالتْ: لن يُكمَّ الظلمُ فاها

*

فهذي الموصلُ العظمى أبتْ أنْ

يُدَنِّسَ تربها طاغٍ أتاها

*

ستبقى شاهداً، عهداً جديداً

لأنَّ العزَّ يأبى من عداها

*

فيا حدباءُ، يا أرضاً تفدّى

ويا رمزَ الحضارةِ في رُباها

*

سيرفعُ شعبُكِ الصرحَ انتصاراً

ويرسمُ في السما عزاً وجاها

*

فلو عادَ الخرابُ هنا لحينٍ

تعودينَ الشموخَ إلى ذُراها

***

د. جاسم الخالدي

حين تحترق البسمة في شَفَتي،

تَـنْـثال مواسم الحصاد في ذاكرتي،

وأطياف الرفاق تُسرع حثيثة صوب مُهجتي..

بين انسلاخ الأوقات المُتْـرعة على الآتــي،

وانسداد الأفـق عند مُنتهى الأمــل..!!

آه .. كم يلزمنا من عُمُـر كي نستسيغ هذا الألــم

الممتد إلى كل النهايات..

وكم نحتاج من قلم كي نرسم

عَـبرات الحب على جبين هذا الوطن..!!

وطن يسكُنُنا ونسكنه رغم المحن،

ورغم ما تفاعـل فينا من وجع،

ومن جشعٍ ومن وَلـع..

رغم الألم الساكن فينا،

ورغم هذا الجرح الغائر فينا.

نرقُبُ انفلات الأوقـات،

وانصراف العيون الجاحظة إلى ملاحقة الأحداث،

وتَهَـدُّمِ ما تبقى من أطلال،

كانت تُشعل الأشواق فينا،

وتُلهب الحنينَ المتجذر فينا عبرالسنين..

بينما الغيمات تمضي حسيرة حثيثة

صوب الحقول البعيدة،

وصوب الأحـلام البعيدة ..

آه.. كم كان الحلم حُـلُمــا،

وكم كانت الأمنيات حَـبلى بألوان الحياة

وأصوات الحنيـن..

حين كان الصّبية يُعيدون ترتيب الحكايـة

قبل صِيــاح الدّيـك،

وقبل سُكوت شهرزاد عن الكلام..

لكن نور الصباح،

سَـجّـر الأمكنـة واستدرج الساعات الهاربة،

وأَنْــذَر بقدوم ربيع من جوف الهجير،

يُنْضِجُ فينا نـزق الرّيـادة،

وعُـنْفُـوان القـيّـادة والسّيـادة..

ويُرتِّـبُ في دَمنا

مَواسـم الحصاد وطقوس الـولادة.

***

محمد المهدي

المغرب ـ تاوريرت - 18 أبريل 2025

 

طاولتُ مرورَ الوقتِ وأنهكتُ الثقلينِ ضياعا

لو مرّتْ مرَّ العلقمُ في دربِ الماشين عرايا

وَلَهٌ يتكرّرُ ماءً في عينِ المرآةِ لِتُطلِقَ آهاتِ سرابِ

لا يُسفرُ صبحٌ إلاّ وغرابُ التفريقِ يمدُّ جناحا

يهوى أنْ يبصُرَ في وادي التسليمِ حَماما

يلعبُ طاساتِ الضربِ على رأسِ الجاهلِ والمجهولِ قياسا

يسألُ هل تندسُّ الرؤيا بأحافير رؤوسِ التنجيمِ

لا يبصرُ أبعدَ من حافرِ ثُقبٍ في عين النجمِ

ليدُقَّ المسمارَ الفضيَّ وينعى أهلا

حاولتُ الصُغرى طاولتُ الأخرى حتّى

جاوزتُ البابَ العالي فَتْحا

لم أعثرْ خطّاً في نجمٍ يهوي أو شمّاً في وشمِ

عانى ما عانى ختمُ الطينِ المشوي

لينيرَ الشمسَ دروباً من نارِ الشمعِ

ما كفَّ الأكمامَ ولا ألغى لُغْماً في صكَّ الشيطانِ

ما قالَ البينُ لتحليقِ وباءِ الغربانِ

لا تحزنْ إنْ مالَ الربّانُ وجفّتْ أحداقُ الرُهبانِ

أنهكني جسُّ البرقِ عواميدَ لُغاتِ الأوتارِ

وحبستُ الأنفاسَ مخافةَ أنْ يطغى مفتاحٌ في قفلِ الخلاّنِ

رُحماكِ أطلّي ....

الفُرقةُ لو مدَّ البومُ لسانَ الغربانِ.

***

د. عدنان الظاهر

10.6.2025

 

قِفَا.. فالجـــوعُ يَدفـــعُ بالأُلوفِ

لهــــــــاوية التدافُــــعِ والهلاكِ

*

قِفَا.. فالجوعُ يأكلُ نِصْفَ شَعْبٍ

ويَفْتِكُ بالبقيــــــةِ في اشْتِباكِ

*

وتَمتدُّ المَهـــــــــــالِك راصِداتٍ

لها وَجْــهٌ مُلَطَّـــــــــخُ بانْسِفَاكِ

*

وتَمتدُّ (الطناجِر) مُنْهَكَــــــــاتٍ

تُصَارِعُ للبقــــــــاءِ..  ولابـواكي

*

ومَنْ يَشْهَدْ نِـــــداءَاتٍ.. ودمعاً

وأبنيـــــةً تموتُ.. بلا حِــــرَاكِ

*

سَتُدْرِكــــــــهُ.. بيومٍ لامَنَــاصَ

لــــهُ مِنْـــهُ بِخِــــزيٍ.. وانْتِهاكِ!

*

ومَنْ لَبَّــــى ولَاقَى الموتَ عِزًّا

لِنُصْـــرَةَ أهْـــلِهِ مِثْلَ المَـــلاكِ

*

تَلَقَّـــاها بحــظٍ وافِـــرٍ.. أَحنَى

رِقابَ الكُفْرِ قســـرًا كي يَراكِ:

*

على قدميكِ تبتسمينَ دَهـــرًا

تَؤُمِّينَ الحيـــــــاةَ على هواكِ

*

ومَنْ خَذَلــــوكِ وابتلعوا لِسانًا

وغَضُّــوا (عَرْشَهُمْ) عما دَهاكِ

*

يَعيشونَ انْبِطَــاحًا في تَبَــــاهٍ

لِيَنْتَعِشَ اقتِصادَ الـ(اِحْتِكاكِ)!

*

فما طــارَتْ شَرَارَةُ دون قَـدْحٍ

ولا قـامتْ قيامـــــةُ بالسِوَاكِ

*

وهل نامتْ بِعَيْنِ العُـرْبِ أُسْدٌ

سوى جُـــبْنٍ مُقِيـــمٍ باحتِبَاكِ!

*

قفــا.. فالجوعُ حَرْبٌ- إن أَرَدّتُمْ -

فخوضوهــا بِشَـجْبٍ واعْتِلاكِ

*

ولا تَقِفُوا حَيــــارى إنْ مَنَعْتُمْ

عن الجــوعى معونات الفِكَاكِ!

*

متى كُنتُمْ لها سَـنَدًا وعَـــوْنًا

لتهنـأ بالحيــــاة بلاعِــــــرَاكِ!

*

قفا..  فالجوعُ يَلْعَنكُمْ ويدعو

عليكمْ بالمجاعَةِ.. و(الشَّاْبَاكِ)!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

 

تقديم: هناك نوع من البكتريا تستطيع أن تنشطر إلى مالا نهاية، وهي بهذا السلوك تضمن الخلود، لقد فكرت كثيرا في رواية تنشطر فوجدت أن قصّة الومضة يمكن أن تلد قصة والقصة تلد قصة طويلة والمجموع بالتالي يؤلّف رواية أو رواية قصيرة ولابدّ في حالة الانشطار هذه أن يحتفظ الحفيد - حفيد الومضة -  ببعض سمات أبيه وجدّته، يتجلّى ذلك في بعض مقاطع من السّرد والحوار.

***

المهرّج

قصّة ومضة

تذكّر، وهو يشعر بقوة خارقة رهيبة، عضة كلب هجين له وهو طفل، فأدرك أنّه الآن، في هذه اللحظة، يمكن أن يحرّك يده اليمنى فيتحوّل المشاهدون إلى كلاب، وعندما فعل، وصاروا كلابا عجز عن أن يعيدهم إلى صورتهم الأولى.

الانشطار الأوّل:

القصة الطويلة

أنا والجار والكلب

ربما هناك خطأ ما..

موضوع غامض يصعب علي إدراكه. تساءلت أكثر من مرة لم حدث ذلك وبأية طريقة أقدر على كسب رضا كلب.. ليس في الموضوع مبالغات لكن الحكاية الغريبة بدأت يوم سكن السيد مارتن البيت 2 المقابل لبيتي، كان منزلي على وفق التصنيف البلدي، يحمل الرقم السابع، بدت علاقتنا طيبة جدا. فالجار الجديد هادئ لا علاقة له بالآخرين شأن معظم الإنكليز.

لا يتطفل

ويقابل الجميع بابتسامة ودودة

مع ذلك يبدو خلوقا ومتسامحا. كل ّيوم الساعة العاشرة صباحا تقريبا يقود كلبه إلى المنتزه القريب. في الشارع لايتركه طليقا. وقد قابلته عرضا ذات يوم فألقى الكلب نظرة خاصة عليّ وزمجر بوجهي.. كاد يداهمني لولا أن شدّه بالحبل إليه. وظلّ يصيح:

That’s shy T

قلت أخفف عنه الإحراج

- لا عليك لم يتعود علي بعد.

رد مذهولا:

-  إنه لم يفعلها من قبل

اقتنعت أن السيد مارتن مايزال جديدا في مسكنه وأن الكلب يحتاج بضعة أيام حتى يعتاد عليّ وينسجم مع رائحة بدني.

لعلني لست محظوظا مع الكلاب، ولدي عقدة منها منذ الطفولة. ثمّ أخذت أتجاهل االموضوع، ويزيدني التباسا أن الكلب حين يكون في الحديقة طليقا، ويحس بي أو يلمحني يظل يبنبح مهتاجابطريقة شرسة، ويوازي خطواتي محاذيا السياج الخشبي حتى أغيب عن عينيه الغاضبتين.

لم أعر الأمر قليلا من الاهتمام في الأيام الأوّل حتّى وجدته لا يفعل الشأن نفسه مع غيري.

بل

لا يعير اهتماما لمن يعبرون على بعد خطوات منه، ويرحّب بمن يمرون بمحاذاة السياج.

من المحتمل أن يكون هناك شئ ما خفي فقد مر عام أو أقل بقليل ومازال الكلب يزمجر بوجهي وهو مربوط في الحبل أو يكاد يقتحم السياج الخشبي حين يكون سائبا في حديقة البيت، زادني يقينا أنّي في عيد الميلاد وضعت من شق الباب السُّفليّ بطاقة المعايدة شأني كل عام فسمعت زمجرة منه ونباحا حتى خلت أنيابه تمتد من الشق الضيق لتنهش أطراف أناملي.

هل في جسدي رائحة غريبة؟

شكلي يثير بعض الحيوانات؟

لا أريد أن أسبق الأحداث فقد جرت الأمور عكس ماكنت أتوقع. المفترض أن يعتاد الكلب علي بعدما طال الوقت، لكنّه بدا بشكل آخر..

ازداد ضراوة وشراسة..

مصادفة ذات يوم ترجّل جارنا من السيارةكان الكلب في المقعد الخلفي، فتح الباب ليشدّ حبله، ويبدو أن مارتن لم يرني أجتازُ من خلف السيارة عبر الممر الضيق باتجاه موقف الحافلة، في هذه اللحظة، تململ الكلب برشاقة مذهلة، فلت من الحبل، ونطّ من الباب الخلفي إلى الأرض.

كـأنّه اغتنم فرصة لا يودّ أن تضيع..

رأيته يزمجر يتحاشى الباحة العريضة ثم يركض نحوي. راح ينبح كما لو أنّه يطارد لصّا محترفا، تراجعت إلى الخلف فطار في الهواء وغرز أنيابه بذراعي.

كان ينظر إلي نظرات غريبة. فيها سخرية وتحدٍّ

اشمئزاز

انتقام

تشفٍّ

يشعرني أني هدفه الوحيد في هذا العالم

لاشئ في باله سواي

كأنّه يطاردني منذ زمن بعيد ولعلّي أقرؤ ذاكرته البعيدة..

يكرهني وحدي في حين أجد الكلاب الأخرى لطيفة معي، بعضها ألتقيه في الشارع مع صاحبه أو صاحبته يتشمم حذائي وسروالي أمسح على رأسه.. هاي.. كلب لطيف سيدتي.. جميل.. سيدي كلبك الأنيق ذو لون رائع.. وربّما يقصدني كلب تركه صاحبه طليقا في المنتزه أتضايق قليلا بدافع من هاجس بعيد لكن الكلاب جميعها الكبيرة والصغيرة تبدي سلوكا لطيفا معي.. وأخرى تتجاهلني.

غير أن سلوك كلب الجار كان مثيرا للقلق..

ومن حسن حظي أن الوقت كان ضحى أحد أيام كانون الثاني القارس البرد، معطف ثخين يستر جسمي كلّه، هناك قرصة خفيفة في ذراعي وقد شعرت أن عضّته لم تتمكن مني بفضل سماكة المعطف. كان بإمكاني أن أمد رجلي فأركله في بطنه أو يأتي حذائي الطويل ذو المقدمة المدببة في منطقة حساسة من جسده.. لقد بدوت هادئا تماما.. لحق السيد مارتن بالكلب سحبه من طرف الحبل وراح يزجره.. التفت إليّ:

Ok? هل من شئ؟

نعم أنا بخير

عاود توبيخه:

T Shamefull bad boy

والتفت إلي ثانية

Sure you are ok?

- لاشئ انظر (كشفت عن ذراعي) خدش بسيط المهم أن يكون قد طُعِّم من الأمراض

- نعم نعم اطمئن

مع ذلك قصدت بعد ساعة قسم الطوارئ ليطمئن قلبي.. أكّد لي الطبيب أن لاشئ يدلّ على خطر أو مرض وماهو إلأ خدش خارجي من أنياب الكلب التي لم تصل إلى ساعدي بفضل المعطف الثخين، و حثّني فيما لو كنت أرغب في شكوى فيزودني بتقرير طبي.. شكرته واكتفيت أن لا شئ أصابني من سعار.

كان في بالي اعتبار آخر يمنعني من أن أثير أيّة قضية رسمية ابتزّ فيها جارا لم يقصد إساءتي بل كان لطيفا معي، تبادلت معه بطاقات الكرسمس، ورقمي هاتفينا.

في عصر اليوم نفسه تلقيت مكالمة هاتفية من السيد مارتن، سألني إن كنت متفرغا لاستقباله فرحّبت به، جاء بعد دقائق يحمل طاقة ورد زاهية الألوان، انحنى وكرر اعتذاره سألته إن كان يرغب في قهوة أم قدح شاي على اسم كلبه.

قال ضاحكا:

Capetal T

- التبس عليّ الأمر.. ظننته الشاي Tea

- لا، مجرد حرف هكذا اسمه في السجلّ الصِّحيّ أما أنا فلا أفضّل الشاي.

- إذن قهوة بالحليب.

- الحليب كلا منذ عشر سنوات انقطعت عن تناوله!

- السكّر أم ماذا؟

- أفضل الطعام النباتي.

ليس مريضا ولم يكن تجاوز الستين. أعرف بعض الإنكليز الذين لا يأكلون اللحوم والأسماك، وكل مايخصّ ذا روح:

- أنا أفضّل القهوة من دون حليب أو سكر.

- بعض الأحيان أضيف إليها حليب اللوز أو حليب جوز الهند(ارتشف من فنجانه وأردف) جرّبه له طعم حليب البقر وفوائده أكثر.

ذهبت الى المطبخ وعدت أحمل طاقة الورد فوضعتها في الوعاء أمامنا على المنضدة وقلت:

- عفوا أكرر شكري على هذا الورد الجميل.

- لا شكر على واجب بالمناسبة أودّ أن اسألك عن علاقتك لو سمحت (بدا مترددا ثمّ استجمع فضوله)

ما يخص الكلاب أو البشر حدث لك في الماضي؟

- لم أفهم ماتعنيه بالضبط سيد مارتن عن علاقتي بالكلاب فهل تعيد لي سؤالك بطريقة أكثر وضوحا. ؟

راح يسهب:

- كلبي الذي داهمك يبدو هادئا مع الجميع أنت تراني أقوده كلّ يوم في رياضتي الصباحية نحن الاثنين نعيش معا منذ سبع سنوات قبل وفاة زوجتي بسنتين.

- أنا استغرب سلوكه معي كأنه يستثنيني من دون الجميع ربّما رائحتي لا تعجبه!.

ارتشف بعض القهوة وقال كأنه يتأمل لحظة ما بنبرة بطيئة أشبه بمن يصف حلما يخشى أن تضيع تفاصيله:

- إنّه ذكي ياصديقي وأظن أن ذاكرة بعض الحيوانات والناس أقول بعضهم وهذا نادر ترجع للماضي.. للحياة التي عاشوها من قبل.

زادني كلامه عن البشر والحيوانات شيئا من الاستغراب.

رجل في الستين من عمره لم يعان بعد من خرف الشيخوخة أم هي بوادرها، وما عليّ إلّا أن أجاريَه وإن لم أكن لأفهم بالضبط ماقال:

- أنا معك.. صحيح.

كأنه يحلم ثانية:

- قلت من أي بلد أنت؟

- من العراق.

كان قد أنهى القهوة، فصببت في كوبه مابقي من الوعاء، ورفعت كوبي أجاريه:

- تذكّر.. هل تشاجرت قبل عشر سنوات مع أحد من البشر ؟هل قتلت أحدا كلبا أو بشرا أو آذيت؟.. تذكّر أن عمر كلبي سبع سنوات ولابدّ أن يكون الفعل قبل مولده.

راودني شئ من غضب كبتّه فقاطعت:

-  حسنا سيد مارتن أنت ضيفي وجاري ولا يحق لك أن تتهمني بهذه الصورة.

فضحك ضحكة بلهاء وعقب بأسف:

- ياسيدي لا تسئ فهمي أنا لا أتهمك لكنّه احتمال دفعني إليه ديني. Iam sorry really sorry

أثارتني كلمته التي توقفت عندها:

-  أظنك مسيحيا وقد تبادلنا بطاقات التهنئة بعيد الميلاد والسنة الجدية.

مطّ شفته السفلى:

- مجاملة.. مجرد تقليد لأصولنا البروتستانتية لا أكثر وفي الحقيقة أنا وزوجتي اعتنقنا البوذية وآمنا بتناسخ الأرواح منذ خمسة عشر عاما ولا علاقة لنا بالكنيسة.

فهززت رأسي متأملا، وقد وجدتها فرصة جديدة. للتسلية بوهم يصبح حقيقة أو حقيقة تنقلب إلى وهم:

- وما المطلوب مني؟

الذي يهمني كلبي، إنّه المخلوق الوحيد الذي أصادقه بعد زوجتي، أرجوك تذكر إذا كنت قد تشاجرت مع أحد أدميته أو جرحته.

- لا أنكر ذلك فكلنا مرّ بأحداث من الطفولة إلى وقت تال بخاصة فترة الشباب!

أنا سعيد جدا بذلك ومسرور لتفهّمك الموضوع من دون أيّة حسّاسيّة

وصافحني وغادر كأنّه ينتظر شيئا ما منيّ وهو يؤكّد: تذكّر حاول أن تتذكّر.. ربّما

2

وجدتها لعبة.

حقا إنها لعبة مثل شريط سينمائي تختلط فيه كلّ مظاهر الطبيعة. هناك في هذا الشريط أشجار بصور دمى آدمية وبنو آدم بشكل قطط ونمور وكلاب.

العالم يتداخل بلوحة واحدة

والناظر للأرض من الفضاء يجدها كتلة مدورة لا خدوش فيها

ولكي أدرك ذلك فعلي أن أعود إلى ذاكرتي القديمة فأعيد ترتيب علاقاتي مع الكائنات الحية من قطط وكلاب وطيور.

لا علاقة لي بالعصافير قط.. ولا الطيور الجارحة والحمام.. اللمحة التي برقت من الذاكرة البعيدة ترى أن الأولاد الأكبر مني سنّا يرون أن العصافير لا تذبح. رأيتهم ينتزعون رؤوسها يشوونها. أكلت منها نعم.

لا أتذكّر طعمها الآن.

أمّا الأولاد المشاكسون فكانوا ينصبون الكمائن للعصافير، يؤذونها بالحجارة والأفخاج. يأكلونها، والبلابل يسجنونها. لم أكن منهم قط.

هذه الهواية الشرسة لاتعجبني.. كنت أرمي الجريّ الذي لانأكله لصديقي الكلب أنمار حارس بستاننا الكبير.. يفرح بالسمكة كثيرا. وأتجاهل عن عمد القطط الكثيرة في البيت الواسع فقد منعتني أمي من أن أطعمها الجري. تقول الكلب معدته تتحمل تهضم حتى الحجر، غير أني كنت أختلس بعض الأحيان غفلة من أهلي فأرمي لقطة تعجبني أكثر من غيرها جريّة.. فلا أرى شيئا يحدث لها، ولم أوذ قطة أو قطا.. بخاصة وقت الغروب.. ولا أظنّ أهلنا يكذبون حين يظنون أن من يؤذي قطّا يواجه عاقبة وخيمة، فللقطط ملائكة تحرسها..

أيّة محكمة وضعني فيها السيد مارتن.. عليّ أن أعيد صياغة العالم والطبيعة من جديد من خلال ذاكرة قديمة لم تهرأ ولم تندثر بعد.. أما الكلاب فما زلت أحتفظ من أحدها بأثر في جسدي.

(ذات يوم أحس أبي بالحاجة إلى كلب في مزرعتنا بنهر جاسم. تلك الأيام كان اللصوص يداهمون البساتين والبيوت، وقد وعيت على آثار خنادق صغيرة تحيط البيت يندس فيها-  حالما يخيم الظلام -  بعض الرجال من أقاربنا ومعهم بنادقهم، لقد مات خلال تلك الأيام كلبنا الطيب الأليف الذي يتبعني مثل ظلي، صديقي (أنمار) أرمي له سمكة اصطادها بالسنارة، فيكاد يطير فرحا، وآخذ من أمي رغيفا - حالما تفرغ من الخبز في التنور-  ألقيه أمامه فيهزّ ذيله ويلتهمه بشغف.

أُحسّ أنه يبتسم لي ويضحك..

منتهى الخيال.. في سن الطفولة قبل الدخول إلى المدرسة تظن الحيوانات تضحك وتتحدث.. تتكلّم مثلنا نحن البشر.. ، وأصبت بخيبة أمل في الثالث الابتدائي حين سمعت المعلم يقول الحيوانات لا تتكلم بل هي تتواصل بالأصوات والإشارات.

كنا على الرغم من الخنادق بحاجة إلى كلب، فذهب أبي ذات يوم مبكرا إلى جهة البرّ وعاد معه كلب ضخم ذو ملامح شرسة ولد من تزاوج كلبة وذئب.

فرخ الذئب، هكذا أطلق البيت الكبير عليه قبل أن يجدوا له اسما.. بقدومه أمن من في الدار من شر اللصوص وناموا مرتاحين، عليّ أن أنسى صديقي القديم وآنس للكلب الجديد. عند الغروب رميت نحوه خبزة من خبز التنور فالتهمها. وفي ضحى اليوم التالي وجدته نائما أمام عتبة الباب. كان صديقي الذي سبقه يرقد وقت الضحى وسط باحة البيت. فأغتنمها فرصة للمزاح واللهو.. أذهب وأجلس فجأة أمام وجهه وأداعب جبينه براحة يدي، فيرفع رأسه إليّ لنبدأ اللعب.

الدور نفسه أديته مع الكلب الجديد.

حرصت على ألا أوقظه

جلست بخفة ثم امتدت يدي إلى جبينه

يرفع أنمار رأسه

يهز ذيله

ربّما كان يتناوم

غير أن المشهد انقلب رأسا على عقب..

كدت أفقد عيني

انتفض الكلب الجديد الذي لم يجد أهلي له اسما بعد وراح ينبح نباحا حادا

قرأت غضبه في وجهه وأنيابه

فصرخت

وفقدت وعيي وفتحت عيني لأجد أهل بيتنا الكبير يحيطونني

أنا في حضن أمي التي أخذت تعول وتصرخ

خالتي تبكي

البيت القلعة كلّه يتحرك

بعض الأمان يخيّم حولي

زوجة خالي تهرع إلى النخلة وتأتي بليف تلفُّ به زندي الممزق وخدي. أثر الناب أسفل العين.. كانت أنياب الكلب الذئب تترك جرحين كبيرين في زندي وخدي.. الندبة التي في خدي الأيسر، لو كانت العضة في رقبتي لمتّ. يحمدون الله على أنّي أستديع الرؤيا.. وأهل البيت يلهجون بأضحيَة مقابل البلاء.. شكرا لله على دفع الشرّ، لم أر الكلب فيما بعد، فقد ألهاني فك الخروف الضحية الذي عملت منه مسدسا أطارد به الأعداء)، لقد أخبرتني أمي أن والدي سلم الكلب إلى أحد الفلاحين وأمره أن يعيده إلى البرية التي جلبه منها ثم سمعت أن الفلاح ربطه إلى نخلة في بستانه بحبل متين حتى حضر والدي فأطلق عليه رصاصة من بندقيته (الشوزن)

لكن ماعساني أن أقول للسيد مارتن.. أبي الذي يحبني لم يرغب أن يترك الكلب الذي آذاني حيا؟

هل حقّا قتله؟

أراد أن يردّ على الكلب الذي آذاني بنفسه، كان أهلي قلقين علي من أن يكون فرخ الذئب مصابا فتشملني عدوى الكَلَب، مأساة مرت بها عائلة جيراننا الذين مات ابنهم من عضة كلب، الهاجس دفع أبي ليأخذني إلى العشار فيعرضني على أشهر أطباء البصرة، وبعد فحوص ودعوات اطمأن أهلي وأعرضوا تماما عن فكرة فرخ الذئب، مع ذلك هل هناك بيت في نهر جاسم لا تسمع فيه نباحا يشتت ظلام اللصوص.. الماشية والذئاب واللصوص، كل هواجس الليالي المخيفة يطردها النباح كما يقول أبي؟ وقد أراحنا يوم جاء بكلبين أليفين أخوين من بيت أخته في (الشلهة) كلبان أبيضان جميلان أليفان أصبحا صديقي، سميت أحدهما (محبوب) و(مزهر) ولا عيب فيهما سوى أنهما ينبحان طول الليل لأقل حركة، تقول أمي لننم رغدا فقد تعودنا على نباحهما في الليل فهما يسمعان دبيب النمل!

لكن

مادمت وعيت الطفولة وماحدث لي يكاد يلقي بظلاله على الحاضر وهناك لعبة جميلة أراها تبادلا في المواقع ويراها جاري مارتن تناسخا فهل اعترف له أني كنت سببا في قتل كلبه قبل خمسين عاما؟

الدليل على ذراعي أما الأثر في خدي فيكاد لايبين الآن. ندبة تشبه حبة بغداد.

هكذا يظنها الرائي.

أدرت رقم الهاتف فجاءني صوته الوقور الودود:

- هل وجدت ضالتك؟

- هناك أمر ما يمكن أن نتحدث فيه إذا كان لديك وقت.

- لا بأس كلي آذان صاغية

رحت أحدثه عن الكلب فرخ الذئب. أسهب في الوصف وأجعله يتداخل بين الطبيعة وأشجار النخيل واللصوص ونباح الكلاب في الليل على الأقل أجعله يتوافق مع عملية التداخل التي لا أؤمن بها في الوقت نفسه أرتاح لمجرياتها التي يؤمن بها الآخرون. أجد أنّ كلّ الأفكار صحيحة، وأنه يمكن لأيّ فرد أن يرسم العالم حسب ريشته الخاصّة.

- ليس هذا هو المشهد الذي أقصده بخصوص الكلب T

قبل أن أعترض واصل:

- أنت نفسك ضحيّة وربما بعد طول عمر تصبح في جسد آخر فتلاحق كلبا آذاك.

أضحك في سري لو كان التحول بيدي لاخترت أن أكون فيلا، لا آكل الجيف والموتى ولا أولغ بالدماء مثل النمور والأسود.. السرّ أنّ الفيل أقوى حيوان.. لا يفترسني أحد.. أفكر بالغزال.. مخلوق رقيق لا يأكل القاذورات العيب فيه ضعفه.. عرضة لأنياب كل قويّ، ولو كوفئت في حياتي هذه لحياة تالية أرقى لكنت أختار جسد ملك. ملك يطيعني الجميع ففي حيواتي السابقة - حسب شهادة علم عاصرني-  مايدفعني لأكون الأرقى في حياة جديدة..

قلت معترضا:

- افرض أن أبي لم يرسل فرخ الذئب الذي تسمونه الألماني إلى البرية بل قتله لأنني فعلا سمعت رأيا آخر يؤكد فعل القتل.

- مادمت لم تمارس فعل القتل فلا يوجه إليك عالم التناسخ أيّ اتهام.

انتقل ذهني إلى حوادث لاحقة:

لا أذكر أن لي صراعا آخر مع أي كلب ماعدا حوادث عابرة زجرة أو رمية حجر وأصعبها يوم رأيت كلبا في الحارة يركض خلف أخي فرميته بحجر ويوما طاردني كلب في الزقاق المجاور لزقاقنا فاندفعت داخل بيت وجدت بابه مفتوحا وكادت سقطتي تكون على صاحبة الدار التي كانت تطبخ في المدخل خلف الباب مباشرة

- كلها حوادث عابرة.

- هذا كل شئ

- ماذا عن البشر. الناس العاديين.

أخذتني دهشة بعيدة فجاءني صوته:

- لم أبادر أحدا بأيّ أذى عن عمد

- ربما تشاجرت مع إنسان.. طعنته.. ضربك بعنف.. سببت له ضررا ما أي ضرر بليغ تذكر.

- سأحاول أن أتذكر

- عندما تتذكر سندخل في تفاصيل أخرى.

- حسنا إلى لقاء.

3

كان علي أن أكمل اللعبة التي بدأتها. أستطيع أن أتوقف في أية لحظة تعجبني لكني أجد لذة في المضي بعيدا معها.

تشاجرت

ضربت أحدا

ضربني

زوايا مخفية مظلمة.. حالكة الظلام في حياتي لا أرغب في أن أكشفها لكي لا أدان.

في الحرب كنت أطلق النار. ربما قتلت. رصاصتي أحدا وربما طاشت، ولا أظنّ أن الجندي أو الضابط الذي قتلته يعرفني حتى يلتقيني في حياة أخرى

أجمل شئ في الحرب أنّ القاتل والمقتول لايعرف أحدهما الآخر

وقد لايفهم أحدهما لغة الآخر فلا انتقام في حياة تالية..

إذن فصل الحرب يُمكِنُ أن يطوى فلا أحد يعرف في أيّ حياة جديدة له من قتله ولا قتل من. وقد جاءت هذه المرّة من رحلتي الطويلة.

هناك شخص أمامي.. شاب مزعج.. وسيم الصورة بذئ اللسان. كنا في الصحراء.. خليط من مصر وتونس والجزائر والمغرب وبعض المشارقة نشتغل في تعدين الحديد

نأكل ونشرب وننام..

نلعب الورق

كلّ منا يحسن ويسئ الظنّ بالآخرين.

أمّا مسؤولنا فكان من أهل البلد، كنت أتودّد إليه، مدفوعا بخوفي من المجهول، وكان معضم الذين معنا في القاووش يظنونني جاسوسا للسيد المدير الذي يؤمن بقائده وفلسفة البلد العنفية..

التعالي.. والغرور

كنت أشعر بالذنب وأحيانا بالضعة، وكان أكثر مما يزعجني أن أرى ذلك الشاب، يحكي حين يتحدث مع الآخرين بالألغاز. يلعن يوما جاء فيه الى بلد ليس من شئ فيه سوى النقود. أناس لايقدّرون إلا من يتمسّح بهم. طيشه الزائد عن الحدّ جعلني أفسّر أقواله لمزا بي.:

تحيّة الصباح التي يلقيها أحدنا على الآخر

 سلام الطريق

أيّة حركة أو إشارة وكلام أجده لمزا مبطنا يشير به إليّ.

لا أنكر أنّه وقح

صريح

ثرثار إلى حدّ الغثيان.

وقد اضطررت في أحد الأيام ونحن نقف في طابور لاستلام وجبة الغداء إلى الشجار معه.

أيّ سبب

كان يقف خلفي في انتظار دوره، فتراجعت إلى الخلف متعمدا فسقطت الصينية من يده وتناثرت الصحون على الأرض. فصاح بي صيحة تردد صداها بين الجدران.

لا أعرف.. واثق من نفسي أنّي لا أقدر على أن أبتكر شيئا خارجا عن موهبتي.

قلت:

- لاتزعق مثل الحمار..

شعر بإهانة ثقيلة، وصاح:

- خسيس

- قذر

- جاسوس

عندئذٍ

والكلمة الأخيرة استفزّتني كثيرا

سقطت في غضبي، نسيت كلّ شئ..

اندفعت نحوه، وهويت بصينيّةٍ أحملها بين يديّ على رأسه، بكلّ قوّة هويت على رأسه، فتمايل ثمّ ترنح، لم يتدخّل العمّال ممن كان حاضرا من أهل البلد أمّا العمّال الأجانب فقد تزاحموا حولنا، سحبوني إلى الواجهة.. وأخذوه إلى زاوية بعيدة..

كان الأجانب الذين أعيش معهم في القاووش، ينفردون بنا.. يلوموننا نحن الإثنين.. يهمسون في حديثهم أنّ البلد لا يتحمّل أيّ شجار سوف تنتشر عدوى التمرّد من الأجانب - وإن كانت تافهة - إلى أهل البلد.

بعد ساعة استدعى المسؤول خصمي ثمّ طلب مقابلتي.. قلت له إنّه يثرثر ويستفزّ، يتهمني بصفات لا تنطبق عليّ يظنّ أنّي أرفع التقارير إليك عن العمال، إنّه استفزّني إلى حدّ بعيد.. ومع الخشونة المعهودة عن المسؤول بحقّ الأجانب فإنّه تعاطف معي، كان شبه مقتنع بأقوالي، فالتفت إليّ وقال ببعض الزهو:

- لا عليك سأنقله إلى العنبر الثاني وسيعمل في صهر المعادن.

بهذه الصيغة انتهى فضّ النزاع

وقد

سمعنا ضجة ذات يوم في عنبر صهر المعادن، فعلمنا أن خصمي تعرض لحادث في رجله وتناثرت أخبار هنا وهناك تروي أنّه فقد ساقه.

إسفت..

أسفت جدا.

ولم ألم نفسي.

كنت فقط أستردّ كرامتي.

4

مرّ على حديثنا في الهاتف بضعة أيام، ثم استقبلني السيد مارتن في بيته، قبل لقائنا أخبرني أنه أرسل T إلى بيت أخته إذ سوف يغادر إلى لندن بضعة أيام. الحق لم أرتح للفوضى التي رأيت عليها الصالون.. بقايا لوز وفستفق على الطاولة المستطيلة وثمة علبة كوكا كولا وقنينة بيرة فارغة.

فوضى

إهمال

عبث

وأجمل مافيه أنه يتجلّى في تمثال لبوذا من الفخار اللماع ينتصب على منضدة صغيرة جنب التلفاز بيديه المتشابكتين وعينيه اللتين تشملان العالم بلمحة وادعة بعيدة.

كأني شممت رائحة الكلب، أو هو إحساسي الخفي، لا أشكّ بأنفي، وعليّ أن أقتنع أن في الببيت رائحة حيوان لا أرتاح لها..

كان يعود من المطبخ بالقهوة وعلبة من حليب اللوز:

شكرا أشربها سادة

قل ماهو الجديد؟

تذكرت حادثة لي مع شخص.. شجار ضربت فيه شابا بقسوة

رائع لعله البداية.

متى حدث ذلك؟

منذ أكثر من عقد في إحدى الدول العربية.

تناولت رشفة من الفنجان على مضض أو مجاملة فقد زكمتني رائحة البيت والكلب:

- هناك حيث جعلتني رمال الصحراء أخرج عن طوري.

بدا مهووسا بالتفصيل:

ماهو سبب الشجار؟

كان ذلك الشاب ينظر إليّ بنظرات الاحتقار يظنني جاسوسا أراقب العمّال وحين نكون في مجموعة نلعب الورق ونتسامر يروح ينظر إليّ نظرات غريبة ويتحدّث بالألغاز حتّى جاء يوم فقدت قدرتي على الصبر فهويت على رأسه بصينية الطعام وبسبب الشّجار نقله المسؤول إلى مكان ذي خطورة، وفقد رجله.. (ومن دون أن ألتقط نفسي) ماذا ترى؟

Fantastic-

استغربت من انسجامه مع القصة:

- حقيقي؟

- طبعا.. لعلنا نعثر في قصتك على السبب

- ولم هذه الحادثة بالذات؟

 - هي الأقرب للواقع، راح يضيّق حدقتي عينية، كما لو كان يستعرض الواقعة:وما الذي عرفت عنه فيما بعد؟

- يقال إنهم رحلوه أو طردوه.

- نسيت أن أسألك عن اسمه هل تتذكره؟

- رشاد أنور

=فتمتم بعدي بلهجته الإنكليزية وهو يفتح شدقيه مع الحروف فيتقلص مع حركة فمه خدّه الأيسر:

Rashad Anwar-

- حسنا ياسيدي سأكتبه لك

- لو سمحت.

كانت هناك احتمالات تجعلني أظنّ اللعبة لا تطول فصاحبي مثل محقق قدير تتبع الحادثة بصيغة تناسب أفكارا تجول برأسه،، وصاغها حسب رغبته، هاهو يتأمل كلامي ويردد بصوت مهموس رشاد أنور:

- هذا كلّ مالدي فهل تجده يستحقّ التأمّل.

- طبعا اسمع ياصديقي أنا يهمني كلبي. إنه بمثابة ابني. قد يرحل أبناؤك إلى بلد بعيد، وربما تنفصل عنك زوجتك. الكلب عندي مثل الابن بل إنّك حين تتركه في مكان بعيد تجده يعود إليك.. وفي مبدأ التناسخ أن الأرواح الشريرة تدخل بعد الموت في مخلوقات أقل منها، عقابا لها، لكي تتطهر وأظن رشاد أنور دخل في جسد T.

قد أسخر من نهاية اللعبة، وربما تعجبني، هناك واقعتان في حياتي واحدة مع كلب كاد يقتلني والأخرى في أوروبا مع كلب يبدو هادئا مع الجميع ويرحب بكل من يلتقيه ويتنرفز حين يراني، والأدهى نظراته ذات المعنى الغامض لي:

- لا أعرف ماذا يجول برأسك فهو مجرد افتراض

- إسمع ياصديقي حين أعود من لندن يرجع إلي T سأخاطبه باسم رشاد أنور وأرى أي انطباع يطرأ عليه؟

- أنت تجعلني أشك في أني أنا أو أنت بمستوى كلب أو

فقاطع بضيق:

- أو حشرة قلها ولا تتردّد لِمَ لا الطبيعة حسب مبدأ التناسخ تعاملنا من دون فوارق قد ننسى جميع حياتنا الماضية ونحن نعيش حياة جديدة هناك بعض الاستثناءات نتذكر فيها بعض الماضي مثل حالة رشاد أنور.

أضحك في سري في الوقت نفسه أعترف الآن أني انفعلت وكان الأجدر بي ألا ألجأ إلى العنف

ضربتُ رشاد انور وبسببي بتروا رجله وطردوه.

أصبح كلبا وبعد سنوات التقاني فعضني

والكلب فرخ الذئب.. أيّه روح هي عادت إلى الحياة من جديد فتذكرت ماضيها؟

وبعد سنوات أموت فتحل روحي في كائن آخر:من سوء حظّي إني أقرف

أقرف الآن على الأقل من أن أصبح قطّا يأكل فأرا

نمرا يفترس خنزيرا

أو أسدا ألتهم فرخ الذئب الذي هاجمني عندما كنت طفلا

حيرة فاقعة باهتة

أصبح الحديث معه مملا.. النهاية بهذا الشكل لم تعد تعجبني فنهضت مستأذنا وبسطت إليه يدي

- الآن علي أن أغادر

- وأنا سأرى إذا ثبت حسب قراءتي أنّه رشاد أنور فسأبعثه إلى منظمة الرفق بالحيوان لأنني لا أرغب أن أعيش مع حيوان يتذكر حياته السابقة !

فتساءلت باستغراب:

- هل تتذكّر المخلوقات حيواتها السّابقة.

- بعض الحالات النادرة نعم وربّما منها حالة رشاد أنور.

شدّ على يدي فغادرت وقد اكتشفت أني كنت على خطأ فاللعبة التي ظننتها جميلة مليئة بالفنطازيا أصبحت مملة في نهاياتها لاطعم لها.

29\5\2023

الإثنين

انتهيت من الكتابة الساعة 11 ليلا

***

الانشطار الثاني

المتحوّلون

مع ذلك فقد اتصلت بالسيد مارتن بعد أسبوع

ربما هناك خطأ ما…

خطأ في أّنّي أخفيت عنه حقيقة خجلت منها، وخفت..

لا أريد أن يكرهني الناس بمختلف أشكالهم وألسنتهم إذ يرونني صاحب موهبة تستطيع أن تتلاعب بهم

موضوع غامض يصعب علي إدراكه. تساءلت أكثر من مرة لم حدث ذلك وبأية طريقة أقدر على كسب رضا كلب. ليس في الموضوع مبالغات لكن الحكاية الغريبة بدأت يوم سكن السيد مارتن البيت ذا لبرقم 2 المقابل لبيتي، كنت أسكن في المنزل السابع على وفق التصنيف البلدي، وبدت علاقتنا طيبة جدا. الجار الجديد هادئ لا علاقة له بالآخرين شأن معظم الإنكليز.

لا ينطفل

مع ذلك يبدو خلوقا ومتسامحا. كل يوم الساعة العاشرة صباحا تقريبا يقود كلبه إلى المنتزه القريب. في الشارع لايتركه طليقا. وقد قابلته عرضا ذات يوم فزمجر الكلب بوجهي وكاد يداهمني لولا أن شدّه بالحبل إليه. كان يصيح:

That’s shy T-

قلت أخفف عنه الإحراج

- لا عليك لم يتعود علي بعد.

رد مذهولا:

-  إنه لم يفعلها مع أيّ أحدٍ من قبل

اقتنعت أن السيد مارتن مايزال جديدا في مسكنه وأن الكلب يحتاج بضعة أيام حتى يعتاد عليّ.

لحدّ الآن تجاهلت الماضي القديم، فأنا بحكم الخبرة أعمل في سرك، شغلي بالضبط الأول مع الكلاب والثانويّ مروض أسود، أجعلها ناعمة أمامي، ذليلة.. حالما أرفع سوطي وأثبت عينيّ بعيونها.

موهبتي التي ضمرت بمرور الأيام.

لا أظنني أختلق أو أدعي زورا هناك أعضاء إذا لم تستخدمها تضمر، إما تتلاشى قوّتها أو تختفي، يداك.. رجلاك.. عيناك يمكن أن تتعطّل حين تهملها، وقد أعرضت عن مهنتي التي كادت تسبب لي المشاكل من جديد حتّى جاء كلب الجيران فأحيا الماضي البعيد جدا..

كأنّه استخلصني منه!

اصطفاني..

أحياه في الوقت الذي أظنني فقدت فيه موهبتي ولست أتذكر منها أيّة لمحة.

لعلني لست محظوظا مع الكلاب، ولدي عقدة منها منذ الطفولة الأمر الذي دفعني إلى أن أجيد فنّ السيرك والتعامل فيما بعد مع الحيوانات غير الأليفة. ثمّ أتجاهل االموضوع، ويزيدني التباسا أن الكلب حين يكون في الحديقة طليقا، ويحس بي أو يلمحني يظل يبنبح بطريقة شرسة، ويتتبع خطواتي محاذيا السياج الخشبي حتى أغيب عن عينيه الغاضبتين.

لم أعرالموضوع في البدء قليلا من الاهتمام حتّى وجدته لا يفعل الشأن نفسه مع غيري.

بل

لا يعير اهتماما لمن يعبرون على بعد خطوات منه، ويرحّب بمن يمرون بمحاذاة السياج.

من المحتمل أن يكون هناك شئ ما خفي فقد مر عام أو أقل بقليل ومازال الكلب يزمجر بوجهي وهو مربوط في الحبل أو يكاد يقتحم السياج الخشبي حين يكون سائبا في حديقة البيت، زادني يقينا أنّي في عيد الميلاد وضعت من شق الباب السُّفليّ بطاقة المعايدة شأني كل عام فسمعت زمجرة منه ونباحا حتى خلت أنيابه تمتد من الشق الضيق لتنهش أطراف أناملي.

هل في جسدي رائحة غريبة ظهرت بعد أن ماتت موهبتي أو هو من سلالة كلب عاش قبل عشرين عاما فزمجر بوجهي لأنّي عجزت أمامه فلم أعده كما كان. ؟

شكلي يثير بعض الحيوانات؟

لا أريد أن أسبق الأحداث فقد جرت الأمور عكس ماكنت أتوقع. المفترض أن يعتاد الكلب علي بعدما طال الوقت، لكنّه بدا بشكل آخر..

ازداد ضراوة وشراسة

مصادفة

ذات يوم ترجّل جارنا من السيارة كان الكلب في المقعد الخلفي، فتح الباب ليشد حبله، ويبدو أن مارتن لم يرني أجتازُ من خلف السيارة عبر الممر الضيق باتجاه موقف الحافلة في هذه اللحظة، نطّ الكلب برشاقة مذهلة، فلت من الحبل، وجرى من الباب الخلفي إلى الأرض. رأيته يزمجر يتحاشى الباحة العريضة ثم يركض نحوي. راح ينبح كما لو أنه يطارد لصّا محترفا، تراجعت إلى الخلف فطار في الهواء وغرز أنيابه بذراعي.

كان ينظر إلي نظرات غريبة. فيها سخرية وتحدّ

اشمئزاز

انتقام

تشفٍّ

يشعرني أني هدفه الوحيد في هذا العالم

لاشئ في باله سواي

كأنّه يطاردني منذ زمن بعيد

يعرفني حقّ المعرفة

نظرته

التفاتته إليّ

هل أقرؤ في وجهه بعض السخرية؟

يكرهني وحدي في حين أجد الكلاب الأخرى لطيفة معي، بعضها ألتقيه في الشارع مع صاحبه أو صاحبته يتشمم حذاني وسروالي أمسح على رأسه.. هاي.. كلب لطيف سيدتي.. جميل.. سيدي كلبك الأنيق ذو لون رائع.. وربّما يقصدني كلب تركه صاحبه طليقا في المنتزه أتضايق قليلا بدافع من هاجس بعيد لكن الكلاب جميعها الكبيرة والصغيرة تبدي سلوكا لطيفا معي.. وأخرى تتجاهلني.

غير أن سلوك كلب الجار كان مثيرا للقلق..

ومن حسن حظي أن الوقت كان ضحى.. أحد أيام كانون الثاني القارس البرد، معطف ثخين يستر جسمي كله، هناك قرصة خفيفة في ذراعي وقد شعرت أن عضّته لم تتمكن مني بفضل سماكة المعطف. كان بإمكاني أن أمدّ رجلي فأركله في بطنه أو يأتي حذائي الطويل ذو المقدمة المدببة في منطقة حساسة من جسده.. لقد بدوت هادئا تماما.. لحق السيد مارتن بالكلب سحبه من طرف الحبل وراح يزجره.. التفت إليّ:

Ok

نعم أنا بخير

عاود توبيخه:

T Shamefull bad boy

والتفت إلي ثانية

Sure you are ok?

لاشئ انظر (كشفت عن ذراعي) خدش بسيط المهم أن يكون قد طُعِّم من الأمراض

نعم نعم اطمئن.

مع ذلك قصدت بعد ساعة قسم الطوارئ ليطمئن قلبي أكّد لي الطبيب أن لاشئ يدلّ على خطر أو مرض وماهو إلأ خدش خارجي من أنياب الكلب التي لم تصل إلى ساعدي بفعل المعطف الثخين، و حثّني فيما كنت أرغب في شكوى فيزودني بتقرير طبي.. شكرته واكتفيت بأن لا شئ أصابني من سعار.

كان في بالي اعتبار آخر يمنعني من أن أثير أيّة قضية رسمية ابتزّ فيها جارا لم يقصد إساءتي بل كان لطيفا معي، تبادلت معه بطاقات الكرسمس، ورقمي هاتفينا.

في عصر اليوم نفسه تلقيت مكالمة هاتفية من السيد مارتن، سالني إن كنت متفرغا لاستقباله فرحّبت به، جاء بعدها بدقائق يحمل طاقة ورد زاهية الألوان، انحنى وكرر اعتذاره سألته إن كان يرغب في قهوة أم قدح شاي على اسم كلبه.

قال ضاحكا:

Capetal T

التبس عليّ الأمر.. ظننته الشاي Tea

لا، مجرد حرف هكذا اسمه في السجلّ الصِّحيّ أما أنا فلا أفضّل الشاي.

إذن قهوة بالحليب.

الحليب كلا منذ عشر سنوات انقطعت عن تناوله!

السكر أم ماذا؟

أفضل الطعام النباتي.

ليس مريضا ولم يكن تجاوز الستين. أعرف بعض الإنكليز الذين لا يأكلون اللحوم والأسماك، وكل مايخصّ ذا روح:

أنا أفضل القهوة من دون حليب أو سكر.

بعض الأحيان أضيف إليها حليب اللوز أو حليب جوز الهند(ارتشف من فنجانه وأردف) جربه له طعم

حليب البقر وفوائده أكثر.

ذهبت الى المطبخ وعدت أحمل طاقة الورد فوضعتها في الوعاء أمامنا على المنضدة وقلت:

عفوا أكرر شكري على هذا الورد الجميل.

لا شكر على واجب بالمناسبة أود أن اسألك عن علاقتك لو سمحت (بدا مترددا ثمّ استجمع فضوله)

ما يخص الكلاب أو البشر حدث لك في الماضي؟

لم أفهم ماتعنيه بالضبط سيد مارتن عن علاقتي بالكلاب فهل تعيد لي سؤالك بطريقة أكثر وضوحا. ؟

راح يسهب:

كلبي الذي داهمك يبدو هادئا مع الجميع أنت تراني أقوده كل يوم في رياضتي الصباحية نحن الاثنين نعيش معا منذ سبع سنوات قبل وفاة زوجتي بسنتين.

أنا استغرب سلوكه معي كأنه يستثنيني من دون الجميع، (وأردفت من دون توقّف)عجيب أمر يثير الدهشة حقّا.. والحق أقول لك إن مهنتي السابقة مروض أسود في السيرك!

ارتشف بعض القهوة وقال كأنه يتأمل لحظة ما بنبرة بطيئة أشبه بمن يصف حلما يخشى أن تضيع تفاصيله:

آه حقّا.. عملتَ في السرك؟

بضع سنوات!

هنا في بريطانيا

- لا في الشرق

لم أدخل في تفاصيل عن هربي من السيرك، كان ينظر إليّ بدهشة:

إنه ذكي ياصديقي وأظن أن ذاكرة بعض الحيوانات والناس أقول بعضها وهذا نادر ترجع للماضي.. للحياة التي عاشوها من قبل.

زادني كلامه عن البشر والحيوانات شيئا من الاستغراب.

رجل في الستين من عمره لم يعان بعد من خرف الشيخوخة أم هي بوادر، وما علي إلا أن أجاريه وإن لم أكن لأفهم بالضبط ماقال:

أنا معك صحيح.

كأنه يحلم ثانية:

قلت من أي بلد أنت؟

من العراق.

كان قد أنهى القهوة، فصببت في كوبه مابقي من الوعاء، ورفعت كوبي أجاريه:

تذكر هل تشاجرت قبل عشر سنوات مع أحد من البشر هل قتلت أحدا ؟ كلبا؟ أو بشرا ؟ أو آذيت تذكر أن عمر كلبي سبع سنوات ولابدّ أن يكون الفعل قبل مولده.

راودني شئ من غضب كبتّه فقاطعت:

يا عزيزي سيد مارتن أنت ضيفي وجاري ولا يحق لك أن تتهمني بهذه الصورة.

فضحك ضحكة بلهاء وعقب بأسف.

ياسيدي لا تسئ فهمي أنا لا أتهمك لكنّه احتمال دفعني إليه ديني. Iam sorry really sorry

أثارتني كلمته التي توقفت عندها:

 أظنك مسيحيا وقد تبادلنا بطاقات التهنئة بعيد الميلاد والسنة الجدية.

مطّ شفته السفلى:

مجاملة مجرد تقليد لأصولنا البروتستانتية لا أكثر وفي الحقيقة أنا وزوجتي اعتنقنا البوذية وآمنا بتناسخ الأرواح منذ خمسة عشر عاما ولا علاقة لنا بالكنيسة.

فهززت رأسي متأملا، وقد وجدتها فرصة جديدة. للتسلية بوهمٍ يصبح حقيقة أو حقيقة تنقلب إلى وهم، ولم أنس قطّ أنني مارست الموهبة الوهم ذات يوم فقلبت المشاهدين إلى صورة أخرى لبشئ الوحيد الذي أخفيته عن نفسي والآخرين ئلا أدين نفسي باعترافي..

وما المطلوب مني؟

الذي يهمني كلبي، إنه المخلوق الوحيد الذي أصادقه بعد زوجتي، أرجوك تذكر إذا كنت قد تشاجرت مع أحد أدميته أو جرحته.

لا أنكر ذلك فكلنا مرّ بأحداث من الطفولة إلى وقت تال بخاصة فترة الشباب!

أنا سعيد جدا بذلك ومسرور لتفهّمك الموضوع من دون أيّة حسّاسيّة

وصافحني وغادر كأنّه ينتظر شيئا ما منيّ وهو يؤكّد: تذكّر حاول أن تتذكّر.. ربّما

2

إنّها لعبة جديدة تفرض نفسها عليّ

 مثل شريط سينمائي تختلط فيه كل مظاهر الطبيعة. هناك في هذا الشريط أشجار بصور دمى آدمية وبنو آدم بشكل قطط ونمور وكلاب.

العالم يتداخل بلوحة واحدة

والناظر للأرض من الفضاء يجدها كتلة مدورة لا خدوش فيها

ولكي أدرك ذلك فعلي أن أعود إلى ذاكرتي القديمة فأعيد ترتيب علاقاتي مع الكائنات الحية من قطط وكلاب وطيور.

لا علاقة لي بالعصافير قط. اللمحة التي برقت من الذاكرة البعيدة ترى أن الأولاد الأكبر مني سنّا يرون أن العصافير لا تذبح. رأيتهم ينتزعون رؤوسها يشوونها. أكلت منها نعم.

لا أتذكّر طعمها الآن.

أمّا الأولاد المشاكسون فكانوا ينصبون الكمائن للعصافير، يؤذونها بالحجارة والأفخاج. يأكلونها والبلابل يسجنونها. لم أكن منهم، وأقرف من سلوكهم.

هذه الهواية الشرسة لاتعجبني.. كنت أرمي الجريّ الذي لانأكله لصديقي أنمار.. يفرح بالسمكة كثيرا. وأتجاهل عن عمد القطط الكثيرة في البيت الكبير فقد منعتني أمي من أن أطعمها الجري. تقول الكلب معدته تتحمل تهضم حتى الحجر، غير أني كنت أختلس بعض الأحيان غفلة من أهلي فأرمي لقطّة جريّة.. فلا أرى شيئا يحدث لها، ولم أوذ قطة أو قطا.. بخاصة وقت الغروب.. ولا أظنّ أهلنا يكذبون حين يظنون أن من يؤذي قطّا يواجه عاقبة وخيمة، فللقطط ملائكة تحرسها..

أقول اعترافي بغض النظر عن تلاعبي بالجينات لا عن بحث علمي ولفائدة ما بل مجرد هواية اكتشفتها وأنا أمارس مهنتي في السيرك. فأيّة محكمة وضعني فيها السيد مارتن. عليّ أن أعيد صياغة العالم والطبيعة من جديد من خلال ذاكرة قديمة لم تهرأ ولم تندثر بعد. أما الكلاب فما زلت أحتفظ من أحدها بأثر في جسدي.

(ذات يوم أحس أبي بالحاجة إلى كلب في مزرعتنا بنهر جاسم. تلك الأيام كان اللصوص يداهمون البساتين والبيوت، وقد وعيت على آثار خنادق صغيرة تحيط البيت يندس فيها- حالما يخيم الظلام-  بعض الرجال ومعهم بنادقهم، لقد مات خلال تلك الأيام كلبنا الطيب الأليف الذي يتبعني مثل ظلي، صديقي (أنمار) أرمي له سمكة اصطادها بالسنارة، فيكاد يطير فرحا، وآخذ من أمي رغيفا حالما تتم الخبز في التنور ألقيه له فيهز ذيله ويلتهمه بشغف.

أحسّ أنه يبتسم لي ويضحك

منتهى الخيال..

في سن الطفولة قبل الدخول إلى المدرسة تظن الحيوانات تضحك وتتحدث، وأصبت بخيبة أمل في الثالث الابتدائي حين سمعت المعلم يقول الحيوانات لا تتكلم بل هي أصوات وإشارات.

كنا على الرغم من الخنادق بحاجة إلى كلب، فذهب أبي ذات يوم مبكرا إلى جهة البر وعاد معه كلب ضخم ولد من تزاوج كلبة وذئب.

فرخ الذئب، هكذا أطلق البيت الكبير عليه قبل أن يجدوا له اسما. أمن من في الدار من شر اللصوص وناموا مرتاحين، عليّ أن أنسى صديقي القديم وآنس للكلب الجديد. عند الغروب رميت نحوه خبزة من خبز التنور فالتهمها. وفي ضحى اليوم التالي وجدته نائما أمام عتبة الباب. كان صديقي الذي سبقه يرقد وقت الضحى وسط باحة البيت. فأغتنمها فرصة أذهب وأجلس فجأة أمام وجهه وأداعب جبينه براحة يدي، فيرفع رأسه إليّ لنبدأ اللعب.

الدور نفسه أديته مع الكلب الجديد.

حرصت على ألا اوقظه

جلست بخفة ثم امتدت يدي إلى جبينه

يرفع أنمار رأسه

يهز ذيله

ربّما كان يتناوم

غير أن المشهد انقلب رأسا على عقب..

كدت أفقد عيني

انتفض وهو ينبح نباحا حادا

قرأت عضبه في وجهه وأنيابه

فصرخت

وفقدت وعيي وفتحت عيني لأجد أهل بيتنا الكبير يجيطونني

أنا في حضن أمي التي راحت تعول وتصرخ

خالتي تبكي

أهل البيت القلعة كلهم يتحركون.

زوجة خالي تهرع إلى النخلة وتأتي بليف تلف به زندي الممزق وخدي. كانت أنياب الكلب الذئب تترك جرحين كبيرين في زندي وخدي.. الندبة التي في خدي الأيسر، لو كانت العضة في رقبتي لمت. ولو كانت في عيني لعميت.. هكذا يقولون.. وما علينا إلا نذبح أضحية شكرا لله على دفع الشرّ، ولم أر الكلب فيما بعد، فقد ألهاني فكّ خروف، نحر فرحا بسلامتي وعملت منه مسدسا أطارد به الأعداء)، لقد أخبرتني أمي أن والدي سلم الكلب إلى أحد الفلاحين وأمره أن يعيده إلى البرية التي جلبه منها ثم سمعت أن الفلاح ربطه إلى نخلة في بستانه بحبل متين حتى حضر والدي فأطلق عليه رصاصة من بندقيته (الشوزن)

لكن ماعساني أن أقول للسيد مارتن.. أبي الذي يحبني لم يرغب أن يترك الكلب الذي آذاني حيا؟

أراد أن يردّ على الكلب الذي آذاني.. يطرد الشرّ، كان أهلي قلقين علي من أن يكون فرخ الذئب مصابا فتشملني عدوى الكلب، مأساة مرت بها عائلة جيراننا الذين مات ابنهم من عضة كلب، الهاجس دفع أبي ليأخذني إلى العشار فيعرضني على أشهر أطباء البصرة، وبعد فحوص ودعوات اطمأن أهلي وأعرضوا تماما عن فكرة فرخ الذئب، مع ذلك لم يخل بيتنا تماما من كلب، هناك الماشية والذئاب واللصوص، كل هواجس الليالي المخيفة يطردها النباح وهل هناك بيت في نهر جاسم يخلو من كلب كما يقول أبي؟وقد أراحنا يوم جاء بكلبين أليفين أخوين من بيت أخته في (الشلهة)كلبان أبيضان جميلان أليفان أصبحا صديقي، سميت أحدهما (محبوب) و(مزهر) ولا عيب فيهما سوى أنهما ينبحان طول الليل لأقل حركة تقول أمي لننم رغدا فقد تعودنا على نباحهما في الليل فهما يسمعان دبيب النمل!

لكن

مادمت وعيت الطفولة وماحدث لي يكاد يلقي بظلاله على الحاضر وهناك لعبة جميلة أراها تبادلا في المواقع ويراها جاري مارتن تناسخا فهل اعترف له أني كنت سببا في قتل كلب قبل خمسين عاما؟

الدليل على ذراعي أما الأثر في خدي فيكاد لايبين الآن. ندبة تشبه حبة بغداد.

هكذا يظنها الرائي.

أدرت رقم الهاتف فجاءني صوته الوقور الودود؟هل وجدت ضالتك؟

هناك أمر ما يمكن أن نتحدث فيه إذا كان لديك وقت.

لا بأس كلي آذان صاغية

رحت أحدثه عن الكلب فرخ الذئب. اسهب في الوصف وأجعله يتداخل بين الطبيعة وأشجار النخيل واللصوص ونباح الكلاب في الليل على الأقل أجعله يتوافق مع عملية التداخل التي لا أؤمن بها لكنني أرتاح لمجرياتها التي يؤمن بها الآخرون. أجد أنّ كلّ الأفكار صحيحة، وأنه يمكن لأيّ فرد أن يرسم العالم حسب ريشته الخاصّة.

Tليس هذا هو المشهد الذي أقصده بخصوص الكلب

قبل أن أعترض واصل:

أنت نفسك ضحيّة وربما بعد طول عمر تصبح في جسد آخر فتلاحق كلبا آنذاك.

أضحك في سري.. لو كان التحول بيدي لاخترت أن أكون فيلا، لا آكل الجيف والموتى ولا أولغ بالدماء مثل النمور والأسود في الوقت نفسه أقوى حيوان.. لا يفترسني أحد.. أفكر بالغزال.. رقيق لا يأكل القاذورات لكنه ضعيف عرضة لأنياب كل قويّ، ولو كوفئت في حياتي هذه لحياة تالية أرقى لرحت أختار جسد ملك.. ملك يطيعني الجميع ففي حيواتي السابقة مايدفعني لأكون الأرقى في حياة جديدة. ربما هذا هو الدافع الذي جعلني أفجّر هوايتي في لحظة ما

أغتنم الضحك

والتصفيق

والاستحسان

فأتلاعب بالآخرين من دون أن يحسّوا..

قلت معترضا:

افرض أن أبي لم يرسل فرخ الذئب الذي تسمونه الألماني إلى البرية بل قتله لأنني فعلا سمعت رأيا آخر يؤكد فعل القتل.

مادمت لم تمارس فعل القتل فلا يوجه إليك عالم التناسخ أي اتهام.

انتقل ذهني إلى حوادث لاحقة:

لا أذكر أن لي صراعا آخر مع أي كلب ماعدا حوادث عابرة زجرة أو رمية حجر وأصعبها يوم رأيت كلبا في الحارة يركض خلف أخي فرميته بحجر ويوما طاردني كلب في الزقاق المجاور لزقاقنا فاندفعت داخل بيت وجدت بابه مفتوحا وكادت سقطتي تكون على صاحبة الدار التي كانت تطبخ في المدخل خلف الباب مباشرة

كلها حوادث عابرة.

هذا كل شئ

ماذا عن البشر. الناس العاديين.

أخذتني دهشة بعيدة فجاءني صوته:

لم أبادر أحدا بأي أذى عن عمد

ربما تشاجرت مع إنسان.. طعنته.. ضربك بعنف.. سببت له ضررا ما أي ضرر بليغ تذكر.

سأحاول أن أتذكر

عندما تتذكر سندخل في تفاصيل أخرى.

حسنا إلى لقاء.

3

حدث ذلك بعد حرب الخليج الثانية

قبل أن تسير بي الأحداث إلى مسائل معقدة ترآى لي ذلك اليوم البعيد بصورة سفر على أمل أن أحيط بالعالم والناس، وفي السفر اكتشفت موهبتي..

لقد جعلتني موهبتي، في حبّ الكلاب والخوف منها، أهاجر

أحبّ السفر

وأتعلم مهنة تجعلني لا أبتعد عن الحيوان.

من حسن حظيّ أني وجدت وظيفة صباغ ومنظف على متن أحد البواخر، المهنة تدعونا لأن نعشقها. حين ترسو الباخرة في ميناء ما، أجلس فوق الماء علىكرسي خشبي معلق أكشط الزنجار عن الحديد الملاصق للماء وأصبغ الخط العائم فوق الماء. وإن فرغت من عملي أغادر الماء إلى الداخل. مهنة سهلة جدا، يقال أنها غير مريحة، فالصباغ على البواخر يقضي عمره مع البحارة لايستقر على بر من البصرة إلى الهند ومن الهند إلى اليابان، لامكان. متى يستقر عامل البحر ويتزوّج؟لا أرغب أن أجعل الأمور أصعب مما هي عليه.

بعد رسونا في اميناء بومبي سمعنا بالحصار. معنى ذلك أننا لا يمكن أن نعود، أو يمكن أن نعودبعد فترة، كل يتصرّف حسب هواه، لم نعرف كيف تسير الأمر فقبطان الباخرة ومساعده غادرا إلى بلد أوروبي يطلبان اللجوؤ،. كان معي نقود تكفيني لأكثر من شهر. عملة صعبة.

ولا أفكر باللجوء

لا أعرف هل سيرسلون أحدا إلينا يعود بنا.

للوهلة الأولى

أصبنا بالصدمة

نزلت إلى الساحل أفكّر في مصيري، هل أقتطع تذكرة وأعود إلى البلد. رحت أتجول في المدينة أغيب مع عالم الحيوانات. زالمطاعم الشعبية، البائعون المتجولون، مرقصو الأفاعي، القرود السائبة، ليست هي المرة الأولى التي أزور فيها الهند، فما بين حربي الخليج الأولى والثانية زرت على نفس الباخرة ميناء بومبي.

وقد شخص أمامي سرك مفتوح/مدخله سهل فيه مروض أفاع يجلس أمام قفص مغلق بداخله أسد ومدربه. وقفت أمام المدرب الذي كان يغازل أفاعيه: سألني:

هل من أمر؟

وأاندفع مدرب الأسود من داخل القفص:

العرض يبدأ في المساء.

فعرفت أنّه هو الذي يملك القرار:

هل يمكنك أن تدربني؟

فقال الآخر الذي سكنت الأفعى في حضنه:

من أي بلد أنت؟

العراق البصرة..

فهتف الاثنان بحماس: أناس طيبون!

أزاح مدرب الأسود الحاجز الحديديّ ثمّ خرج من القفص، وقال بابتسامة واسعة:

كان جدي أب أبي يعمل في البصرة بائع توابل في سوق تسمونه سوق الهنود.

فتجرأت لأقول برجاء:

االبلد أصبح في حصار، ولا أريد أن أعود من دون شئ، هناك رغبة لديّ في أن أعود ومعي حرفة لذيذة تنسي الناس همومها وتدر عليّ بعض المال، سأتكفل بطعامي، وأعطيكم مايفيض عن ثمن التذكرة مقابل تدريبي على بعض مالديكم.

فتأملني صاحب الأفاعي:

الأفاعي موجودة في كل مكان، يمكن أن تتقن التعامل معها.

ورفع مروض الأسود يده فصمت الآخر ثمّ ربت على كتفي: سأعلمك التعامل مع الأسود لكنك لن تستفيد منها. إنّك لن تأخذ إلى بلدك أسدا أو فيلا الحيوانات الأليفة السائبة في كل مكان ولن تكلفك معيشتها شيئا.. مارأيك؟

منذ اليوم الأول بدأت مع الفرقة الطيبة عملي. عرفت أنّهما أخوان ذو الأفاعي (لاهار) وأخوه مروض الأسود ومرقص القرود والكلاب (جامار) أصبحا صديقي، كانا متدينين يذهبان إلى المعبد وقد صحبتهما مراتِ فرأيتهما يسكبان الحليب على تمثال وتماثيل يععبدانها، كنت أتحدث معهما بإنكليزية بائسة، ولا أعرف هل يعبدان بوذا أم إله آخر، ومن حسن حظي أني صاحبت جروا صغيرا لا صاحب وجدته في الطريق ينظر إليّ نظرات بريئة لا تخلو من انكسار.

عشت ثلاثة أشهر في السرك، أكلت طعامهم، ونمت في المكان نفسه تعلمت منهم أشياء كثيرة، مانوا بحدود خمسة. رجل آخر في حدود الستين لا يتكلم كثيرا.. شغلته أن يقف أمام أمام أيٍّ من النظارة فيخرج من جيبه شيئا ما قلم رصاص.. عملة معدنية.. منديلا.. وأكثر المشاهد سخرية ساعة طلب من أحد الواقفين أن يسحب سحاب بنطالة فأخرج منه لباس سبدة.. تعلمت من السيد (ابهير) خفة اليد، مع ذلك كنت بالكاد أتفاهم معهم بلغتي التعبي، وحين مرّت أربعة أشهر على بقائي في السيرك خشيت أن آتي على بقية نقودي، فعزمت على العودة.

قال لي جامار وهو يشد على يدي:

الجرو (زان) تعلق بك، سيفتقدك. زإن الكلاب أكثر تحسسا من البشر.

فضحكت وقد أشرت إلى الجرح تحت حاجبي:

إن لم يكن فرخ ذئب!

في تلك اللحظة راودني خاطر السندباد الذي حالما يستقر في بلد يحنّ إلى بغداد، ليس هو الحنين، ولا الرغبة في العودة، فالهند عالم فسيح، دنيا مبسوطة يمكن أن تلهو بها عن أيِّ مكان كان إلّا أن السندباد كان يسافر ويرجع عبر البحر أما أنا فقد سافرت يسفينة وسوف أعود إلى بلدي بالطائرة.

هذا هو الفرق!

لقد قدمت بمهنة جديدة تجعلني أكسب بعض النقود في بلدٍ يكاد يموت جوعا.

4

هكذا عدت إلى البلد بآية أخرى

لم أتعب نفسي فأبحث في رمال الزبير عن أفاع لجأت إلى السِّحر في خفّة يدي والكلاب. ووجدت ضالتي أيضا في الكلاب السائبة التي تعجّ بها مدينة البصرة. صادقت جروا جميلا بياضه مشوب بحمرة خفيفة. أجعله أمام الناس يمشي على رجليه، أو ينبح نباحا خفيفا.. ولم أنس أن أخيط له بدلة صغيرة ذات هيئة فيل صغير أدفعه يمشي، ويسادير ثمّ أنزع البدلة عنه فيقف على أربع، يستقبل تصفيق الناظرين ويحيهم بوقفة على رجليه من دون يديه وينبح نباحا خفيفا لينتهي عرضه.

يقف في مكانه..

فألف بعدها بين الحشد لأختار متطوعا يقف أمامه فأضع تحت حزامه خيطا رفيعا ثمّ أسحبه فتقع الأبطار على لباس داخلي أنثوي..

تصفيق وضحك

والناس في الختام يلقون في قبعتي النقود.

كان الحصار خانقا

مرعبا

مثل طاعون

مرض خبيث

جرب ينهش جلودنا

مع كلّ تلك البشاعة أرى الناس يعرعون بعد كلّ عرض إلى قبعتي فيلقون فبها نقودا.

لا أدري

هناك من يفضّل أن يستغني عن وجبة الطعام فيلقي بنقوده في قبعة المهرج.

ازدادت شهرتي، وازددت حضوة، دوائر الدولة الحساسة تجاهلتي. لم يطالبني أحد برشوة، الدولة لا تشكّ في ودائرة الأمن تجدني حدثا يشجع الناس على تحدي الجوع والحصار. كنت أقيم عروضي الغريبة في الهواء الطلق افي الساحات وعلى الأرصفة العريضة.. والحدائق.. والأسواق.. انتقلت من بلد إلى ولففت المدن، فأحبني الناس وأحبتني الدولة حتّى جاء يوم شعرت فيه بشئ غريب.

قوة رهيبة.

تجلى ذلك في يدي ونظراتي قسمات وجهي.

الجرو الصغير واقف كالتمثال جنبي.

تذكرت فرخ الذئب وعضاته

القرية

وليف النخلة الذي فركوا به جرحي

ضحكت فغرق الجمهور في التصفيق والصفير

عندئذ

تجلّت قوتي الرهيبة

تجمّد وجهي

 و

حامت

نظراتي بين الجمهور

لفّت

فعرفت أنّ قوتي الغريبة يمكن إن تحوّل الجمهور الواقف ومن ينظر إليّ من العابرين

إلى كلاب

كلاب حقيقية تنفي كلّ ماقيل من علاقة البشر بالقرود

فحركت يدي اليمنى:

واحد

إثنان

ثلاثة

فجأة

تحوّل المشاهدون إلى كلاب:

الرجال

النساء

الأطفال

الكهول..

راحت الكلاب تنبح بشكل عفويّ فوضويّ..

بعضها يزمجر ويتطلع في ّ بلغة التهديد بصوت أميِّزه قريب الشبه من زمجرة فرخ الذئب.

ولكي أتدارك الأمر

فأجعلهم يشعرون بالإهانة سارعت لتدارك الأمر. يمكن أن يحسَّ كلُّ واحد منهم - لو سارعت وأعدتهم إلى طبيعتهم الأولى-  أنّه مرّ بلحظات غاب فيها عن الوعي. ليس هناك أمامي من حلّ آخر..

رفعت يدي اليمنى وطوّحت بها في الهواء.

مرّةً

ثانيةً

أخرى

بقيت الكلاب تنبح جذلة

وبقيت منها مجموعة تزمجر وتعوي عواء مرعبا.

ربما هي يدي اليسرى. قلت مع نفسي، فرفعتها

وطوّحت بها

كما فعلت من قبل باليمنى

لكن

كلّ شئ مضى خارجا عن إرادتي

الجرو الذي تبنيته غادر مكانه واندس بين الكلاب المتحوّلين كَأَنَّه لايعرفني

في هذه اللحظة الحرجة تجلت لي حقيقة حادة كالشفرة:أقدر أن أحوّل الناس إلى كلاب بحركة من يدي لكنّي لا أقدر أن أعيدها إلى صورتها الأولى.

ماذا عليّ أن أفعل سوى أن أداري على جريمتي.. أهرب.

ابعد

أتلاشى

أخشى أن تنتقم منّي بعض الكلاب، فيها من أراه سعيدا يرغب في أن يتمسّح بي، والأخرى تهمّ بمهاجمتي لتنتقم.

الهرب

الهرب

تركت كلّ شئ ورائي.. أطلقت لساقي العنان فكانت الكلاب تركض خلفي، لابدّ من أن أجري، أقفز ساقية، أعبر إلى حقل

أصعد شجرة

فأضلل الكلاب

وأخشى من دوائر الدولة نفسها. المسؤولون الذين استسنوي ووجدوا فيّ صورة تشيع البهجة والفرح في وقت الكآبة واليأس، يرونني الآن بعد العرض الأخير مجرما.

أهنت الجنس البشري كلّه. ز

دنّست العالم كلّه.

لم تبق أمّة من الأمم على الأرض إلا وتدينني.

وجدت نفسي في هذه الدنيا وحدي.

تخفّيت

لبست أكثر من اسم

زوّرت..

ثمّ خرجت إلى بلدان أخرى

أواجه العالم

لأنسى هوايتي الأولى، فخرجت إلى بلد آخر، بصيغة أخرى..

5

ظلّت قضيّة السيرك تطاردني

إذ أنّي بعد الصحراء قدمت إلى بريطانيا، أظهرت جميع أوراقي، وأغلقت ملف السيرك وخفّة اليد، عملت صباغا في البيوت بدلا من الرحيل الدائم، لا أريد أن أتذكّر الكلاب والجرو المحبوب (قوس قزح) الذي عمل معي في البصرة وبقية المدن. فقد أقسمت على تفسي أن أبدو بشخص آخر.

لعلّ الذي دفعني هو عامل الخوف

الخوف من الضمير

من أهل بلدي

من العالم كلّه الذي انتقمت منه بحركة من يدي.

قد يتهمني أخد بأنّي رأيت نفسي أفضل من الجميع فحولتهم مإن لم أتعمّد الإيذاء إلى حيوانات.. لايهمّ نوع الحيوان.. فيل.. أسد.. نمر.. كلب كما حدث فعلا.. المهم حسب رأي الآخرين أنّي لا أقدر أن أحوّل نفسي عنئذٍ يميل ميزان العدل إلى إدانتي.

لذا

عليّ أن أعترف..

أعترف إل من يصغي إليّ ويقرّ بفعلي ولا يراني أهلوس..

أدرت قرص التلفون، وكنت خلال لحظات أتحدّث مع السيد مارتن:

- هل من جديد.

نعم كدت أنسى أو نسيت.. أو خفت أن أقول الحقيقة ولعلك تسمعني.

كان في منزلي بعد دقائق، فرحت أشرح له ما أخفيته عنه وعن العالم وسرّ انتحالي اسما ولقبا آخرين. كان ينصت إليّ باهتمام، والدهشة تعلو قسماته، وفي آخر المطاف، خاطبته برقّة متناهية:

- سيدي الآن ارتحت.. نفثت كلّ ما يجول بنفسي أمامك، فهل تصدّقني؟

فهزّ رأسه جادا، وقال:

- أتدري ماذا فعلت؟

- ألا تظنّها جريمة؟

- أبدا لا.. إنّك اختصرت الزمن من حيث لا تدري، وعكست فلسفة التناسخ؟

- كيف لم أفهم قصدك؟

- حينما تموت تحلّ روحك في وليد جديد.. باختصار الماضي يدخل في الحاضر أمّا أنت فقد جعلت الحاضر يتداخل في الماضي..

- يعني أنا لست شريرا.

- قطّ لا وما عليك إلّا أن تمارس هوايتك عد إليها.. واستجمع قواك الخفيّة.. أنظر.. غدا السبت في مركز المدينة يحقّ لكلّ إنسان أن يستعرض.. إذهب إلى هناك وسأمون مع الحاضرين لأراك تمارس هوايتك ولا يهمّ بعدها أن تعيد الأحياء إلى ماكانوا عليه، ولن أخاف أن أكون مع الناس..

ونهض يستأذن باإنصراف، وشدّ على يدي قائلا:

إلى اللقاء غدا لتكن هناك الساعة العاشرة..

أغلقت الباب خلفه، واسندت ظهري على المصراع ألتقط أنفاسي.. والرغبة تراودني في أن أذهب غدا إلى السّاحة العامة في مركز المدينة لأمارس هوايتي من جديد، فلن أخشى بعدُ من أن يدينني أحد إذا ما انقلبت بفعل تأثيري الأشياء إلى صيغة أخرى!

انتهيت من كتابة الانشطار الثاني صباح الخميس 5 \6\2025

***

مهرج السيرك

قصة ومضة

بقف مهرج السيرك وسط الساحة العامة.. يتجمهر حوله المارة.. يحسّ أنّ موهبته تسطع بقوّة أكبر بعد سبات عميق.. بستطيع أن يحول النظّارة إلى حيوانات وطيور.. يسألهم بلكنته الغريبة إن كانوا يرغبون أن يجرّبوا حياة جديدة فيتفجرون بضحك متواصل. فيروح يحرك يدع وبواصلون الضحك.. . .

***

د. قصي الشيخ عسكر

 تمّت الرواية مساء الأحد

8\6\2025

بـصـوتـك لـــو نـطـقتِ بـهـا أذوب

ويـشـرق مــن حـلاوتـها الـغـروبُ

*

لــثـمـتِ بــهـا وبـالـتـحنان روحـــا

مـعـانـي الــوجـد مـنـها لا تـغـيبُ

*

"حـيـاتـي" قـلـتـها فـانـسـاب نـهـرٌ

بـعـمـق الـقـلـب شـريـاني يـجـوبُ

*

فــقــولـيـهـا وقــولــيــهـا كــثــيــرا

بــفــجــرٍ أو إذا بـــــدأ الــمـغـيـبُ

*

وزيـديـهـا بـحـلـو الــصـوت لـحـنـاً

يــذوب لـحسنه الـصخرُ الـمهيبُ

*

كتبتُ الحرف يتلو الحرفَ شوقي

كـخـطـرِكِ إثـــرُهُ مـسـكٌ وطـيـبُ

***

صلاح بن راشد الغريبي

 

لم تكن صباحات نهر الألب تشبه سواها. هنا، حيث يتعانق الضباب الخفيف مع أشعة الشمس صباحًا، وتتسلل الحياة من بين أهداب الأشجار كشاعر يستفيق على قصيدة لم تُكتَب بعد. كنت أركض كعادتي، لا أطلب من هذا الطقس سوى أن يغسلني من ضجيج العالم، أن يترك على روحي أثر العشب النديّ والصمت الطافح بالهدوء، حيث تهب نسائم الصباح العذبة من بين أغصان الأشجار، فتداعب وجهي برقة الأم الحنون، وتنساب بين أنفاسي كأنها ترتيلة سرّية تبعث في الروح سكينة لا توصف.

الضفة كانت ساكنة، ساكنة كقلبٍ صابر، لا يعكر هدوءها سوى خطوات العدّائين وتحياتهم الخفيفة، تلك التي تشبه تعاويذ صداقة عابرة، لكنها تمنحك دفعة روحية لا يستهان بها. شعرت بنفسي أندمج في هذا الإيقاع، أركض بجسدٍ حاضر وعقلٍ تائه بين فروع الصفصاف وندى الصباح.

لكن شيء ما أوقفني.

كان الصوت أول ما اخترق جدار انسجامي... بكاء. لا، لم يكن مجرد نشيج عابر، بل صوت طفل صغير، هشّ، لا يزال يتعلم كيف يعبر عن ألمه.

تلفّتُّ حولي. لا أحد. الشاطئ خالٍ إلا من بعض المارّين، وكلهم يواصلون خطواتهم وكأن شيئًا لم يكن. لم يلتفت أحد. كأن البكاء لم يلامس آذانهم.

ترددت لحظة، ثم استأنفت الجري، لكن روحي لم تواصل معي. كانت عيني تبحثان، قلبي يصغي، وقدماي تقوداني لا إراديًا نحو الصوت، حتى وصلت إلى شجرة بلوط معمّرة، تقف بجذعها الملتوي كأنها أمّ أنهكتها السنون.

وهناك، خلفها، كانت هي...

طفلة صغيرة، بالكاد تتجاوز الرابعة، ترتجف بصمتٍ مرتبك، تمسح دموعها الصغيرة بكمّ ثوبها، وتنظر حولها بعينين تحملان من الرعب أكثر مما ينبغي لقلبٍ بهذا الصغر أن يحتمل.

اقتربتُ منها ببطء، وركعت أمامها. هامسة

"هالو يا حلوه، ما الامر...أين أمّكِ، صغيرتي؟"

رفعت رأسها نحوي، لم تنطق. فقط نظرت إليّ نظرة من اعتاد أن يختبئ من الصراخ، من الهجر، من الخوف.

حينها، فهمت.

ربما لم تكن هذه أول مرة تختبئ فيها، لكنّها المرة الأولى التي اختبأت فيها واكتشفت أن لا أحد عاد يبحث عنها.

رفعت كتفيها بحركةٍ واهنة، كأنها تقول: لا أعلم. كان في عينيها رجاء خفيّ أن أفهم صمتها. انحنيت قليلاً وسألتها بنبرة هادئة، لا تُخيف ولا تُقلق:

ــ ألم يكن بابا أو ماما معكِ؟

أومأت برأسها إيجابًا، ثم خطت نحوي بخجل وتردّد، وفي عينيها البريئتين سؤال خافت: هل أنتِ سيئة؟

ابتسمتُ. كيف لطفلة بهذا العمر أن تحمل هذا الحذر؟ تذكّرت في تلك اللحظة تحذيرات الكبار لأطفالهم من الغرباء، أولئك الذين يُختصر العالم فيهم بخطرٍ مجهول. فقلتُ لها، بنبرة حنونة كنسمة:

ــ بالطبع لا... أنا هنا فقط لأساعدكِ في العثور على ماما، سويّة.

رفعت يدها الصغيرة ومسحت دموعها بكمّها، ثم حين وقفت قبالتي تمامًا، لمحت في زرقة عينيها الطفولية وهج طمأنينة خجول. أشارت بأصبعها نحو بقعة قريبة، كان العشب فيها لا يزال مثنيًّا تحت أثر أجساد جلست عليه منذ لحظات، وقالت:

ــ كنّا هنا... أنا، وماما، وأخي بَني، نتناول فطورنا.

ــ وأين هم الآن؟ لماذا أنت وحدك؟

أطرقت برأسها، ثم رفعت عينيها نحوي وقالت بصوت خافت ممزوج بشيء من الاعتياد المؤلم:

ــ ماما وبابا يتشاجران دائمًا. وفي البيت، حين أسمع صراخهم، أختبئ في دولاب الملابس... وهنا، عندما بدأ الشجار، لم أجد سوى هذه الشجرة لأختبئ خلفها. ماما طردت بابا، فذهب إلى البيت او، لا أدرى. ولا أعرف إلى أين ذهبت ماما مع بَني...

تجمّدتُ في مكاني. كيف يُثقل هذا الصراع اليومي قلب طفلة؟ كيف اعتادت الاختباء بدل أن تُحضن؟ ومع ذلك، تماسكتُ. وقفت قرب المكان الذي دلّتني عليه، وقلت بلطف:

ـ لا تقلقي، ماما ستعود قريبًا. فلنجلس هنا، حيث كنتِ معها، ومع بَني، ومع بابا.

ابتسمت ببراءة، وسبقتني إلى المكان. كانت قد هدأت قليلًا، وبدت ملامحها أكثر صفاءً. نظرت إليّ وسألت، قبل أن أسألها نفس السؤال:

ــ ما اسمك؟

فكّرتُ في اسم لا يُربكها، اسم فيه أنسٌ وقرب، فتذكّرت النحلة مايا، فقلت:

ــ اسمي مايا. وأنتِ؟

رفعت ذقنها وقالت بثقة طفولية:

ــ اسمي صوفيا.

يا له من اسمٍ جميل... صوفيا!

ــ هل بيتكم قريب من هنا؟

هزّت رأسها موافقة. شعرت براحة تسري في صدري، وربما شعرت هي أيضًا بنوعٍ من الأمان القريب. راودني شعور أن أمها، حين لم تجدها قربها، ربما ظنّت أنها عادت إلى البيت. لكن شيئًا في قلبي ظلّ يتساءل:

كيف لأم أن تترك طفلتها وحيدة في مكان مفتوح، لا تدري ما قد يأتي عليه من خوفٍ أو برودة أو بشر؟

جلستُ قرب صوفيا، والعشب لا يزال يحتفظ بحرارة من جلسوا قبلنا، كأنّه لم ينسَ أجسادهم بعد. كانت السماء تتسلل منها خيوط شمس خافتة، والهواء يحمل رائحة النهر التي امتزجت برائحة كريمة الحليب اليابسة على فم صوفيا.

راحت تعبث بأطراف ثوبها، وكأنها تخيط صمتها بخيوط من الطمأنينة الجديدة. أما أنا، فكنت أغرق في دوامة من التفكير:

ما العمل الآن؟ كيف أساعدها؟ لا أستطيع أن أتركها وحدها، ولا يمكنني أن أسلّمها لمجهول أكثر منها جهلاً به.

لكن الشرطة؟

كان مجرد التفكير في الاتصال بالشرطة كفيلاً بأن يبعث فيّ قلقًا غامضًا... لا أدري لماذا. ربما شيء ما في ملامح صوفيا، في ارتجاف صوتها وهي تتحدث عن "دولاب الملابس"، جعلني أشعر أن تدخل السلطات سيحوّل هذه البراءة إلى ملف، هذا الحدث إلى تقرير، وهذا الخوف إلى تحقيق روتيني، ربما يؤثر على مستقبل الطفلة.

أخرجت هاتفي لأطلب النصيحة من زوجي، ثم ترددت لكيلا أعكر طمأنينتها. نظرت إلىَّ صوفيا وكأنها تحاول قراءة افكاري، كانت قد بدأت ترسم بعصا صغيرة خطوطًا على تراب العشب، رسومات عبثية لبيت وشجرة ووجه يشبه أمها، دون أن تدري أنها تختزل المأساة في تراتيل الطفولة.

سألتها برقة:

ــ هل تتذكرين طريق البيت؟

هزّت رأسها مجددًا. عيناها هذه المرة كانتا أقل خوفًا، كأنها علّقت في وجهي أملًا جديدًا. فكّرتُ:

ربما أرافقها حتى البيت. فقط لأتأكّد أنها بخير. لن أتركها، ولن أُدخلها دهاليز البيروقراطية المقيتة.

مددت يدي إليها، فنهضت وأمسكت بي دون تردّد. كنا على وشك المغادرة، حين سمعت صراخًا خافتًا... صوت امرأة.

توقفنا. التفتُّ، وصوفيا تجمّدت، كأن الصوت اخترقها. كانت الصرخة تنبع من خلف الكثبان الرملية على بعد خطوات، ثم تلتها شهقة، فبكاء مكتوم.

اسرعتُ الخطى، وبقيت صوفيا خلفي، تركض بخطى متعثرة.

وما إن اجتزت الكثيب، حتى رأيت امرأة شاحبة الوجه، مبعثرة الهيئة، تحمل طفلًا رضيعًا بين ذراعيها وهي تجثو على الأرض، تصرخ باسمها

ــ صوفيا!

التفتَت الطفلة فورًا، صرخت من قلبها:

ــ مامااااا!

ركضت نحوها، والمرأة فتحت ذراعيها بلهفة الأم حين تلتقي الحياة بعد موت. ارتمت صوفيا في حضنها، وهما تبكيان دون أن تُقال كلمة.

وقفت متسمّرة، قلبي يئنّ، لا فرحًا فقط، بل بقلق دفين.

اقتربتُ، ببطء، وعيناي تحاولان قراءة ملامح تلك المرأة:

كانت منهكة، لكن عينيها كانتا ممتلئتين بشيء أشبه بالهشاشة الخجولة... أو الندم.

نظرت إليّ بامتنان لا صوت له، ثم همست وهي تضم طفلها الآخر إلى صدرها:

ــ ظننت أنها عادت إلى البيت...

ثم أطرقت، ولم تضف شيئًا.

في تلك اللحظة، لم أشأ أن أعاتبها، ولا أن أطلب تفسيرًا. فهمتُ كل شيء، أو على الأقل، ما يكفي لأصمت.

عدت بخطاي إلى الوراء، دون أن أستدير. كانت صوفيا لا تزال تلوّح لي، بعينين تغمرهما البراءة، وكأنها تقول:

شكرًا لك مايا لأنك لم تكوني سيئة.

وخلف صوفيا وأمها، تركتُ تلك البقعة محاطةً بدمعة صمتٍ ثقيل، يشبه ما بعد العاصفة. في قلبي كان امتنان صغير لأني وصلت في الوقت المناسب، ولأن صوتًا واحدًا ـ بكاءً صغيرًا ـ كان كافيًا ليهزّني من أعماقي.

وأنا أعبر طريق العودة على ضفة النهر، لم تغب عن بالي، بل حاصرتني صورة أولئك الأطفال الذين لا تأتي أمهاتهم، ولا يسمعون أسماءهم تُنادى وسط الخوف... أطفال غزة، الذين اعتادوا الصراخ ثم الصمت، والركض ثم الاختباء، والبكاء دون أن تسبقهم يدٌ حنونة أو تتبعهم نظرة أمٍّ خائفة.

صوفيا وُجدت، واحتضنتها أمها من جديد، أما أولئك الصغار في غزة، فقد انكسر حضن الأم تحت الركام، وغاب صوت الأب في لهب القصف، وأصبحت بقايا الشجرة التي يختبئون خلفها، آخر ما تبقّى لهم من معنى الطفولة.

في غزة، لا يكفي أن تعود الأم... لأنها في الغالب لن تعود.

ولا يكفي أن تصغي للبكاء... لأنّ البكاء هناك بلا انقطاع، بلا صدى، بلا مجيب.

فهل يسمع العالم صوفيا غزة؟؟؟

أم أن الطفولة عندهم مجزأة ولم تكن يومًا كافيةً لتوقظ ضمير أحد؟

**

سعاد الراعي

 

في حَرِّ يومٍ قائِظٍ يَشوي الجَسَدْ.

جَلَسَ حِماريَ العَزيزِ (أبو الحَيرانِ) جَلسَةَ الأسَدْ.

قَالَ لي:-

يا (ابنَ سُنْبَه)، أَيُّها السَيّدَ السَنَدْ.

إِنَّ العِراقَ اليَوْمَ يَعيشُ بضيقٍ ونَكَدْ.

و إِنّي أَرى أعمارَنا تفنى وتَضيعُ بَدَدْ.

فَلا مُستقبَلَ لأَبناءِ العِراقِ ولا رَشَدْ.

أَربابُ السياسَةِ أَضاعوا منّا البلَدْ.

دَبَّ الخَرابُ في بلادِنا وكلُّ شيءٍ فَسَدْ.

فصارَتْ بلادُ الرافدينِ خَيمَةً بلا عَمَدْ.

كَسَفيْنَةٍ بلا رُبَّانٍ ولا شِراعٍ ولا وَتَدْ.

يَا أَهلَ العراقِ يا أَهْلَ النَخْوَةِ والجَلَدْ.

يَا أَهلَ العراقِ يا أَهْلَ العُدَّةِ والعَدَدْ.

فمَا أَنتُمّْ صَانِعونَ بِحَقِّ الفَردِ الصَمَدْ ؟.

قُلْتُ:-

يَا حَبيْبي وقُرَّةَ عَيْني يَا (أَبَا الحَيرانِ) يَا فَهَدْ.

مَا عَسَانا أَنْ نَفْعَلَ غيرَ الصَّبْرِ والجَلَدْ.

قِيَمٌ ضَاعَتْ في بِلادِنَا وكَذَا ثَرواتُ تَلَدْ.  (تَلَدَتْ ماشِيَتُهُ: تَوالَدَتْ).

حَالُ العراقِ صارَ فاشِلاً وخائِبَاً بِلا حَسَدْ.

بَلَدٌ يُهَرَّبُ مِنْهُ النَفْطَ كأَنَّهُ مَاءً مِنْ ثَمَدْ.  (ثمد الماءَ: استنبطهُ من الأرض).

كُنّا في العراقِ نَقُولُ: مَنْ جَدَّ وَجَدْ.

وَ مَنْ رَامَ العُلا كَمَنْ زَرَعَ فَحَصَدْ.

وَ اليَومُ لايَنالُ الدُنْيَا؛ إِلّا مَنْ بالوسَاطَةِ صَعَدْ.

ارتَشى بمالِ السُحْتِ كُلُّ زَنيْمٍ للمَالِ عَبَدْ.

تَسَلَّقَ المناصِبَ وعلى الفُقَراءِ تَنَمْرَدْ.

قُلْتُ:-

يَا (أَبا الحَيْرانِ)، يَا حِمَاريَ الحَبيْبِ إِهْدَأْ وَلا تَتَوَقَّدْ.

إِهْدَأْ قَليْلاً ؛ فَلِكُلِّ حَالٍ وَقْتٌ يَفْنَى ويَنّْفَدْ.

لَعَلَّ بَعّْضَ السياسيينَ يُصلِحوا مَا قَدّْ فَسَدْ.

وَ عَسَى أَنْ يَعودَ العِرَاقُ زاهِراً كَسَالِفِ العَهَدْ.

انْتَفَضَ شَقيْقُ رُوحِي (أَبو الحَيْرانِ) انْتِفاضَةِ الأَسَدْ.

وَ قَالَ:-

مُعَنِّفاً لي بِنَبْرَةٍ كَلِسَانِ نارٍ مُتَّقِدْ.

هَلّْ تَرجُو خَيّْراً مِمَنْ بَاعَ الضميرَ وللمَالِ صَلّى وسَجَدْ ؟.

قُلْتُ:-

فَدَيْتُكَ رُوْحِيْ يَا (أَبَا الحَيْرانِ)؛ هَوِّنْ عَلَيْكَ رُبَمَا... قَدّْ... وقَدْ !!.

فَقَدّْ قَطَّعْتَ نِيَاطَ قَلبي ومَزَّقْتَ الكَبَدْ.

فَمَا العَمَلْ فَقَدّْ أَصْبَحْنَا كَقَطِيْعِ مَاعِزٍ بِلا رَشَدْ ؟؟.

يَسُوسُنَا مَنْ بالعَمَالَةِ والفَسَادِ اشْتَمَلَ والتَحَدْ !.

شَعّبُنَا يَقْتُلُهُ الفَقّْرُ والجَهْلُ والمرَضُ الكَمَدْ. (يَعِيشُ فِي كَمَدٍ وَغَمٍّ: في حُزْنٍ شَدِيدٍ).

مَدَارِسُنَا تَدَاعَتْ وصَارَتْ هَبَاءً وفَنَدْ.

دَمَّروا التَعليْمَ والأَخْلاقَ وضَيَّعُوا ثَرَواتَ الحَفيْدِ والوَلَدْ.

تَاجَروا بالتَعّْلِيْمِ فَضَاعَ حَقُّ مَنْ جَدَّ واجْتَهَدْ.

بَعّْدَ التَّخَرُجِ مِنَ الجَامِعَاتِ صَارَ شَبَابُنَا هَدَدْ.

مُهَنْدِسُونَ وفَنّْيونَ وصُنَاعِ عُدَدْ.

وَ كَفَاءآتٌ سَقَاها الفَقْرُ جُرُعَاتِهِ وعَلَى صُدُرِهِمْ سَجَدْ.

حَمَدْتُ اللهَ سَاجِداً ؛ أَنَّ حَمِيْرَ العِرَاقِ بالحِكمَةِ لها سَدَدْ !!. (لَهُ رَأْيٌ سَدَدٌ: سَديدٌ، صَائِبٌ).

أَنَّ حَمِيْرَ العِرَاقِ بالحِكمَةِ لها سَدَدْ !!.

***

محمد جواد سُنْبَه - كاتب واعلامي عراقي

أيها العارفُ بأسرارِ الورق،

الساكنُ في جُبَّةِ المعاني،

الحافي على سطورِ التنهيدة،

لماذا انحنيتَ فجأةً،

كأنكَ هويتَ مع أولِ رعشةِ خذلان؟

*

أأنتَ الذي كنتَ تتيم يدي؟

أم أنكَ كنتَ غريبًا يلبسُ هيئةَ الألفة؟

ألم نكن نتواطأ معًا على العتمة؟

ألم أرسم بكَ اقواس النسيانِ فوقَ الجراح،

وأعلِّقُ على سنِّك الهزيلِ دُموعَ المدنِ الميتة؟

*

لماذا إذن

حين استوحشتُ الدربَ من صمتِهم،

حين اختنقَ الحرفُ في صدري كصرخةٍ مشنوقة،

تراجعتَ؟

تلعثمتَ؟

بل، ارتعدتَ كطفلٍ رأى أباه يبكي؟

*

حتى أنتَ...؟

يا من كنتَ آخِرَ أعمدةِ المعنى،

خنتَني مثلهم؟

*

أكانوا كثيرينَ إلى هذا الحدّ،

حتى خِفتَ أن يضعوكَ في قفصِ الإتهام ؟

أم أنكَ، مثلهم، لا تحتملُ البوحَ حينَ يسيل دمًا؟

*

لقد كتبتُ بكَ أسماءَ الذين غابوا،

ونزف حبركَ في دفاترِ الذين اشتروا الخلودَ بنصفِ خطوة ،

سقيتُك من دمعِ وطني حين وقف على شرفةِ الانتظار،

ومرَّت القافلةُ دونَ أن تخلّفَ له ابنًا ولا ظِلًّا.

*

كيف تُرعِبُكَ الآنَ الكلمات

كيف تفرُّ من يدي كافعى الندم؟

أكنتَ خائفًا؟

من مَنْ؟

من صدى الحقيقة؟

من أن أكتبَ أن البلادَ لم تعدْ وطنًا،

بل قبرًا فسيحًا يُدعى ، "نحن"؟

*

ألا تدري أني خبّأتُك مرّةً تحتَ وسادتي،

لأنك كنتَ أغلى من ميراث أبي؟

ألا تذكر كيف هربنا معًا من حروفِ الرقابة،

وأدخلنا الحرفَ في سراديبِ المجاز،

وجعلنا الورقَ يشهقُ كالعرّاف،

والجملةَ تنهضُ من بينِ الأنقاضِ كقيامة؟

*

لماذا إذن،

حين أردتُ أن أكتبَ الحقيقةَ عاريةً،

وقفتَ بيني وبينَها،

كأنكَ أغمضتَ عينيَّ قبلَ أن ترى المدينةَ تُذبح؟

*

ليتني لم أؤمن بك،

ليتني ظللتُ أكتبُ بالفحمِ على الجدرانِ

أصرخُ في المدى،

أرسمُ وجهَ الشهيدِ على الندى،

دون أن تَرتعدَ أنتَ في يدي،

مثلَ خائنٍ يمسحُ بصماتِه عن جريمةٍ مخفية .

*

حتى أنتَ؟

حتى أنت، يا قلمي،

خُنتَني مثلهم؟

*

سأكسرُك...

لا، بل سأدفنكَ في دفتري الأخير،

وأكتبُ فوق قبرِك بالحرفِ الدامي ،

"هنا يرقدُ القلمُ الذي خان الحُرقة،

حين أرادت أن تصيرَ قصيدةً لا تموت."

***

مجيدة محمدي – شاعرة تونسية

كأنك وُلدتَ بحكمة الريح وأسرار الماء،

كأنك سراجٌ يضيء ليل الحيرة،

تُسند الغيمَ على كتف السماء، فيهطل معنى.

*

تُعلّم النجومَ أن ترتّل أسماءها،

وتصوغ للعشق وطناً في الأرضِ.

تدندن لحن الرًوح الأول،

وتفتح بابًا آخر للكون،

بابًا تشعّ منه فصوص الحكمة،

وتتدلّى كقلادةٍ من ياقوتٍ أزلي.

*

كيف حال الكلمة في حلق العدم؟

تسألُ سؤالًا يتمخض عن ولادة الكون،

وتزرع في الصمت نبوءةً.

*

تمدّ يديكَ عاليًا،

فتصير السماء هلال عيد

والأرضُ شعائر ذبحٍ عظيم.

*

يا ترجمان أشواقي

من أين أتيتَ بكل هذا العطر؟

كيف جمعتَ بين مسك الشرق

وأريج الغرب،

وحملتَ حضاراتٍ كاملةً في قلبك؟

*

غزيرٌ ضياؤك

كعالمٍ يتَسعُ لأحفاد نوح قبل الطوفان

كصحراء تعرف كيف ترشدُ التائهين،

كخرزٍ أزرق يحمل خزانةَ الأساطير.

*

تكتب وأنت تشدّ الغيب إلى عينيك،

تُطرّز الكلمات على جناح طائر،

ليُحلّق بها إلى أرواحٍ لم تُخلق بعد.

وتغيب، كريحٍ صامتة،

تترك أثرَكَ في الرمل،

وفي قلبي وحدة الوجود.

*

سبحان من علّمك أسرار المعاني

يا من تأتي كالنور

وتذهب كالغيم،

تضيء الليل باليقين،

وتروي العطش بحروفٍ من زمزم.

أنتَ كنزٌ مخبوءٌ في خرائط الروح،

ومئذنةٌ عاليةٌ تهدي كل من ضلّ السبيل.

*

عميقٌ أنت

كصوتِ نايٍ يسحرُ خصر المساء،

رقيقٌ كوشاحٍ من حريرِ الشرق،

أبديّ كوشمٍ سومري على يدِ العشق.

كأنّك جسيم الكمّ ترقب أقدارَ العابرين،

كأنّك خيلٌ مزينةٌ بذهبِ الصحراء،

وجبلٌ يحملُ سرَّ الكلمة،

أوجناحٌ يرفرفُ به عاشق الطيران

بين الأرض والسماء.

*

يا من رأيت الحبَّ سفينةً

تعبرُ من بحر الذات إلى شطآن الوجود،

والقمر قرطاً يتدلى على أذن الليل،

والمطر صوتاً يهمسُ في قلب الأرض.

أنتَ زمردٌ في يدِ الصوفيّ،

ومسكٌ في معابد العشق،

ومئذنةٌ تُنادي كلّ من ضلّ الطريق.

أنت الخريطة،

وأنت الطريق،

وأنت الغريب الذي وجدت جنته في كل شيء.

***

ريما آل كلزلي

 

السُّلَيمانيَّة الأُولى

مَخَافَةُ الرَّحمنِ رَأْسُ المَعْرِفَةْ!

والجَاهِلُوْنَ يَرْتَعُوْنَ حَاسِرِيْ رُؤُوْسِهِمْ،

في بَيْضَةٍ أُدْحِيَّةٍ مِنَ السَّفَهْ!

2

إِذَا تَـمَلَّقَتْكَ مَذْلَةٌ:

«هَلُمَّ، طِفْلَ صَبْوَتِـيْ أَنَا،

نَـكْمُنْ بِجُبِّ يُوْسُفٍ،

نَمْلَأْ كُؤُوْسَنَا أَغَانِيًا،

تَعَالَ، قَلْبَ قَلْبِيْ..

لَا تَـخَفْ ولَا تُـرَعْ...

نَبِـعْ خُيُوْلَـنَا غَدًا لِلطَّاعِنِيْنَ في الحِمَى،

نَبِـعْ عُقُوْلَـنَا بِعَقْلِنَا هُنَا..

مَا هَمَّنَا..

ولَا نَدَعْ!...»

*

إِذَا...

إِذَا...

لَا تَلْتَفِتْ لِوَجْهِهَا،

لَا تَرْتَشِفْ مِنْ صَوْتِهَا!

فَطَالَـمَا، في عَيْنِ كُلِّ ذِيْ جَنَاحٍ،

تُنْصَبُ الشِّرَاكُ،

تُوْقَدُ النُّجُوْمُ لِلشُّعُوْبِ في مَدَاخِلِ البِيَعْ!

3

مِنْ حِكْمَتِـيْ شَوَارِعٌ تَسِيْلُ،

تَسْقِيْ صَوْتَهَا

في كُلِّ سُوْقٍ قَسَّهَا،

أو صَلْتَهَا

مُنَادِيًا:

«إِلَى مَتَى؟!..

إِلَى مَتَى؟!»

*

«مُغَنِّـيًا وأَصْنَجًا بِثَغْرِهِ»(1):

«إِلَى مَتَى؟!..

إِلَى مَتَى؟!»

*

يَظَلُّ فَاغِرًا سُؤَالَـهُ كَالزَّوْبَعَةْ!

كَذلِكُمْ مَنْ يَأْكُلُوْنَ مِنْ ثِـمَارِ قَحْطِهِمْ،

ويَشْبَعُوْنَ مِنْ رَحِيْقِ جُوْعِهِمْ،

ثُـبًى.. ثُـبًى،

مِنْ كُلِّ مُنْحَلِّ الوِكَاءِ إمَّعَةْ!

***

السُّلَيمانيَّة الثَّانية

هُوَ المِجَنُّ،

ظَاهِرًا وبَاطِنًا، لِلسَّالِكِيْنَ بِالكَمَالِ،

جُنَّةٌ مِنَ الغَرِيْبَةِ الَّتي أَنْفَاسُهَا الحَيَّاتُ في النَّايَاتِ،

مَنْ هَفَا،

هَفَا..

لَهُ تَصُبُّ رَأْسَهَا،

وتَسْكُبُ الرَّبِيْعَ في الخَرِيْفِ؛

بَيْتُهَا: يَسُوْخُ في المَوَاتِ،

سُبْلُهَا: مَشَتْ في دَاجِيَاتِ الأَخْيِلَةْ!

فَكُلُّ دَاخِلٍ عَلَيْهَا لَا يَؤُوْبُ،

كُلُّ عَابِرٍ إِلَيْهَا غَيْرُ عَابِرٍ مَدَى الحَيَاةِ لِلْحَيَاةِ،

كَيْفَ؟

وهْوَ عَاشَ عَاشِقًا لِلَبْوَةٍ ضِرْغَامَةٍ،

لِدِفْءِ نَهْدَيْهَا يَشُفُّهُ الوَلَهْ!

***

السُّلَيمانيَّة الثَّالثة

تَقَلَّدِ الجَمَالَ مِنْ جِيْدِ الغَزَالْ

قُمْ، يَا غَزَالُ، واكْتُبِ الحَقَّ الزُّلَالْ

بِلَوْحِ قَلْبِكَ الحَرِيْرِ،

تَمْتَلِئْ خَزَائِنُ السَّحَابِ بِالثِّـمَارِ والغِلَالْ

تَفِضْ مَعَاصِرُ الكُرُوْمِ بِالجَمِيْلَاتِ

اللَّوَاتِـيْ مِنْ عُيُوْنِهِنَّ

لَاحَ مَا اشْتَهَيْنَ مِنْ مَعَادِنِ الرِّجَالْ!

2

طُوْبَى لِـمَنْ تَقَطَّرُ السَّحَابُ مِنْ نَدَى مَحَّبَتِهْ!

لَا تَبْرَحُ النُّجُوْمُ في سَمَاوَاتِ النَّعِيْمِ

تَقْتَفِيْ مَا تَقْتَفِيْ مِنْ وَارِفَاتِ جَنَّتِهْ

إِذَا اضْطَجَعْتَ،

لَا تَخـَافُ طَارِقًا،

ولَا تُرَاعُ مِنْ فَحِيْحِ بَغْتَتِهْ

يَصُوْنُ رِجْلَكَ الأَمَانُ

في حَفِيْفِ مُوْرِقَاتِ دَوْحَتِهْ

مِنْ سَارِقٍ أو مَارِقٍ بَيْنَ الرُّؤَى بِشِكَّتِهْ

إِنَّ الحَكِيْمَ وَارِثٌ مَجْدًا،

ومَوْرُوْثُ السَّفِيْهِ مِنْ رَمَادِ مَا احْتَـبَى مِنْ رِمَّتِهْ!

***

السُّلَيمانيَّة الرَّابعة

الحِكْمَةُ الرَّأْسُ،

الَّذِيْ..

«كَأَنَّهُ رَأْسُ حَضَنْ

في يَوْمِ غَيْمٍ ودَجَنْ»

*

لِأَنَّهُمْ مِنْ خُبْزِ شَرٍّ يَطْعَمُوْنَ،

خَمْرِ ظُلْمٍ يَشْرَبُوْنْ

لِأَنَّهُمْ مِثْلُ الظَّلَامِ لِلظَّلَامِ يُوْفِضُوْنَ،

لَا يَعُوْنَ مَا بِهِ سَيَعْثُرُوْنَ

في طَرِيْقِهِمْ إِلَى سَيْفِ الـمَنُوْنْ

مَهْمَا يَكُوْنُوْا،

أو تَكُنْ،

فَفَوْقَ كُلٍّ احْفَظِ الفُؤَادَ،

وابْعَثْ فِيْهِ كُلَّ سَاعَةٍ

تَارِيْخَهُ مُجَدَّدَا

لِأَنَّ مِنْهُ فِيْكَ تَخْرُجُ الحَيَاةُ لِلْحَيَاةِ،

لَا تَدَعْ سَمَاءَهُ،

بِعَيْنِ أَنْجُمِ الغَرَامِ،

صَخْرَةً،

أو كَالفَضَاءِ فَدْفَدَا!

***

السُّلَيمانيَّة الخامسة

ومَرْأَةٍ،

لَهـَا شِفَاهٌ نَاطِفَاتٌ بِالعَسَلْ

حَدِيْثُـهَا مِنْ عِطْرِهَا،

وعِطْرُهَا أُسْطُوْرَةٌ حَدِيْثَةٌ مُنْذُ الأَزَلْ

لكِنَّهَا كَالسَّيْفِ ذِيْ الحَدَّيْنِ،

يَمْضِيْ بَيْنَ قُبْلَتَيْكُمَا بِلَا خَجَلْ

ورِجْلُهَا تَخُوْضُ في دِمَاءِ قَلْبِكَ الذَّبِيْحِ،

يَا لَرِجْلٍ مِنْ قُبَلْ!

2

اِشْرَبْ عُلَاكَ،

بَيْرَقًا مِنَ الشُّمُوْخِ،

هكَذَا هَامُ الجِبَالِ،

مُذْ أَبـَتْ عَلَى الدُّنَى ولَمْ تَزَلْ!

يَنْبُوْعُكَ السَّمَاءُ

لَا جُبُّ المِيَاهِ/

ظَبْيَةٌ بِزَمْزَمَ ارْتَوَتْ،

وأَرْوَى في شَمَارِيْخِ الزَّمَانِ والقُلَلْ

لَا صَدْرَ تُغْوِيْ حَلْمَتَاهُ

طِفْلَ ثَغْرِكَ العَتِيْقِ في المَسَاءِ،

لَا قَوَامَ نَخْلَةٍ-

تَعَثْكَلَ البَرْحِيُّ مِنْ شُمُوْسِهَا-

تُرْضِيْ هَوَاكَ، يَا فَتَى،

ولَا الكَفَلْ!

***

السُّلَيمانيَّة السَّادسة

اُنْجُ كَظَبْيٍ مِنْ فَمٍ فَرَّاسَةٍ،

أو مِثْلَ عُصْفُوْرٍ نَجَا مِنْ عَصْرِ أَمْعَاءِ القَدَرْ!

اِذْهَبْ إِلَى مَدَارِسِ النَّمْلِ الحَكِيْمِ،

ادْرُسْ بِهَا مَنَاهِجًا في عِلْمِ تَدْبِيْرِ الحَيَاةِ،

عِلْمِ صَبْرٍ صَابِرٍ،

ولَاتَ حِيْنَ مُصْطَبَرْ!

إِلَى مَتَى؟!..

إِلَى مَتَى تَنَامُ، يَا كَسْلَانُ، هكَذَا؟!

وحَوْلَكَ الضَّجِيْجُ،

مِلْءَ مَسْمَعِ الأَصَمَّيْنِ،

الحَدِيْدِ والحَجَرْ؟!

بِمَرْأَةٍ، لَيْسَتْ بِأُنْثَى حُرَّةٍ،

يُسْتَعْبَدُ المَرْءُ الكَرِيْمُ،

يَجْتَدِيْ رَغِيْفَ عِزٍّ يَابِسٍ!

أَ يَحْضُنُ الإِنْسَانُ نَارًا بَيْنَ جَنْبَيْهِ،

فَلَا يَصْلَى بِمَسٍّ مِنْ سَقَرْ؟!

أَمْ هَلْ تُرَاهُ:

إِنْ مَشَى عَلَى الجَحِيْمِ،

فَوْقَ قَرْنِهِ تَـمَشَّى (مَالِكٌ)،

رِجْلَاهُ تَرْجُوْ بَارِدًا،

بِهِ تُسَرُّ،

أو تُغَرْ؟!

***

السُّلَيمانيَّة السَّابعة

حَدَّقْتُ في أَحْدَاقِ لَيْلـِيْ مَرَّةً،

إِذَا غُلَامٌ صَاعِدٌ في شَارِعِ الظَّلَامِ صَوْبَ فَجْرِهِ،

بِلَا حِذَاءٍ أو حَذَرْ

كَالثَّوْرِ يَعْدُوْ نَحْوَ مَنْحَرِ الحَجِيْجِ في (مِنًى)،

حَتَّى إِذَا أَتَاهُ،

خَارَ، لَاعِنًا تَارِيْخَهُ،

وأُمَّةً خَانَتْهُ في (بَحْرِ البَقَرْ)!

أو مِثْلَ طَيْرٍ هَاوِيًا لِفَخِّهِ،

تَتْلُوْهُ في أَهْوَائِهِ طَيْرٌ أُخَرْ

فَقَبَّلَتْهُ غَادَةٌ في آخِرِ الضِّيَاءِ

قُبْلَةَ الوَدَاعِ،

ثُمَّ وَارَتِ السَّمَاءَ مِنْ وَرَائِهَا عَلَيْهِ

في غَيَابَةِ النَّهَرْ

وعَطَّرَتْ سَرِيْرَهَا بِعُوْدِهَا ومُرِّهِ،

بِمَا فُنُوْنُهَا هَمَتْ،

ومَلْثِ مَا رَوَتْ مِنَ الرُّؤَى...

أَغْوَتْهُ،

طَوَّحَتْ بِنَجْمِهِ ضُحًى،

فَهَلْ تُرَى مِنْ نَاهِدَيْهَا لِلْغَزَالِ مِنْ مَفَرْ؟!

ذَبَائِحُ السَّلَامَةِ

ارْتَوَتْ مِنَ النِّصَالِ كُلُّهَا،

حَتَّى ثُـمَالَةِ المِيَاهِ في صَفَا العُمُرْ

وهكَذَا أَدْرَكْتُ، آخِرَ السُّؤَالِ:

أَيْنَ يَذْهَبُ الذَّبِيْحُ مِنْ أَحْفَادِ (قَيْسٍ)،

كُلَّمَا انْبَرَتْ لَهُ سِكِّيْنَةٌ لَيْلِيَّةٌ صَقِيْلَةٌ

مِنَ الحِوَارِ والحَوَرْ؟!

***

السُّلَيمانيَّة الثَّامنة

الحِكْمَةُ الَّتي بَنَتْ قَصْرًا لَنَا،

الحِكْمَةُ الَّتي سَمَتْ مَنْحُوْتَةً

عَلَى شِفَاهِ المُرْسَلَاتِ والرُّسُلْ

الحِكْمَةُ الَّتي أَتَتْ بِعِيْدِنَا،

ورَاحِنَا،

يَفُجُّ فِيْنَا صُبْحُهَا،

شَعْشَاعَةً وصَافِيَةْ

ورَتَّبَتْ مَوَائِدَ الأَعْرَاسِ في أَعْصَابِنَا،

مِنْ كُلِّ بَحْرٍ لِلرُّؤَى،

مِنْ بَرِّ كُلِّ قَافِيَةْ

هَا أَرْسَلَتْ بِهَامِهَا،

أَعْلَى شُمُوْخِ شِعْرِهَا،

أَعْلَى قُصُوْرِهِ الأُوَلْ

نَادَاكَ مِنْ أُمِّ الذُّرَى نَئِيْمُهَا:

* المَوْتُ والحَيَاةُ فِي يَدِ اللِّسَانِ،

أَيُّهَا الإِنْسَانُ،

لَا تَقْطَعْ يَدَكْ!

* وَبِّخْ حَكِيْـمًا؛

كَيْ يُحِبَّ في الرَّبِيْعِ ثَوْرَتَكْ!

* حَارِبْ أَصِيْلًا؛

كَيْ يُخِبَّ في الصَّهِيْلِ مُهْرَتَكْ!

* يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ،

لَا تَحْزَنْ ولَا تُحْرِقْ دَمَكْ!

فَلَوْ نَخَلْتَ جَاهِلًا،

بَيْنَ السَّمِيْدِ والحَسَكْ

لَظَلَّ صَامِدًا عَلَى آبـَائِهِ،

مِنَ النِّفَاقِ والأَفَكْ!

*  خُبْزُ الكَذِبْ

لَذِيْذَةٌ حُرُوْفُهُ،

وبَعْدُ،

يَمْلَأُ الكِتَابَ بِالكُرَبْ!

* كَمُضْجَعٍ في قَلْبِ بَحْرٍ،

أو كَمُضْجَعٍ بِرَأْسِ سَارِيَةْ

يَنْدَاحُ مَضْجَعُ الهَوَى،

في نَبْضِ شِعْرٍ عَاشِقٍ،

بِمُهْجَةٍ مِنَ الضِّيَاءِ عَارِيَةْ!

* تُفَّاحَةٌ مِنَ الذَّهَبْ

في كَوْكَبٍ مِنْ فِضَّةٍ،

لَا آدَمٌ لَهـَا،

ولَا حَوَّاءُ..

مَا لَهـَا نَسَبْ

قَصِيْدَةٌ لِفَيْلَسُوْفٍ مِنْ طَرَبْ!

* إِنْ جَاعَ فَجْرًا مَنْ تَرَاهُ بَاتَ قَاتِلَكْ

أَطْعِمْهُ قُرْصًا مِنْ دِمَائِكَ الَّتي لَيْلًا سَفَكْ

ولْتَسْقِهِ مَاءً،

إِذَا مَا المـَاءُ جَفَّ في العُرُوْقِ،

والبُرُوْقِ،

أو هَلَكْ

تُغْرِيْ بِقَلْبِهِ الجَحِيْمَ،

تَبْتَنِـيْ قَلْبَ النَّعِيْمِ مَهْجَعَكْ!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...............................

(1) من أغاني (اليَمَن)، للشَّاعر (مهدي علي حمدون)، مقطعٌ بليغ: «أَصْنَجْ بِجَنْبِهْ مُغَنِّي».  وأَصْنَج- أو أَسْتْنَج، بلهجات (فَيْفاء)- تعني: أَصَم.  وقد وردت هذه الكلمة- المستعملة في محكيَّات جَنوب الجزيرة العَرَبيَّة- على أنها: «أَصْلَج»، في تراثنا المكتوب.  ومعلوم أنَّ العَرَبيَّة تَرَحَّلت إلينا عبر المشافهة إلى الكتابة، فوقع خلطٌ كبير، وتصحيفٌ واسع، ساعدت عليه إشكالات الخطِّ العَرَبي؛ فرُبَّ مسموعٍ أصحُّ من مكتوب.

كان الليل ساكنًا، لكن عقل أنور لم يعرف السكون. في ركنه المعتاد من المكتب، جلس ببدلته المنزلية الرمادية، وأمامه كومة من الأوراق والصور والمستندات القانونية. كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف، لكنه لم يشعر بالزمن. منذ شهر، لم يعش غير هذه اللحظة: لحظة الحسم، التي ستحدد مصير قضية ظلت تلاحقه ليلاً ونهارًا.

كان أنور محاميًا مخضرمًا، شارف على التقاعد بعد ثلاثين عامًا من المرافعات. هذه القضية لم تكن فقط قضية قانونية؛ كانت قضية كرامة. الفتى الذي مات في حادث سيارة كان ابنًا لجاره القديم، الذي عرفه طفلاً ثم شابًا يحلم بدراسة الطب. اصطدمت أحلامه بسيارة يقودها ابن رجل أعمال شهير، كان في حالة سكر، وقيل إنه كان يسابق رفيقه في شارع ضيق.

مسح أنور جبينه، ثم وقف لينظر من نافذته. الشارع مظلم، ورذاذ خفيف ينقر الزجاج. عاد إلى مكتبه وأخذ يراجع الملف بندًا بندًا، شاهد الصور، قرأ تقارير التشريح، راجع الشهادات. ثم أخرج من درجه مستندًا سريًا، شهادة خادمة كانت تعمل لدى أسرة المتهم، قالت فيها إنها رأت الشاب يتسلل إلى المرآب ليلاً بسيارته الفارهة. كانت هذه الشهادة، رغم خطورتها، غير رسمية، وقد رفضت لاحقًا المثول أمام المحكمة.

دخلت زوجته سعاد تحمل كوبًا من الشاي بالنعناع، اقتربت منه بلطف وقالت:

– أنور، أرجوك، إن لم تنم الليلة، لن تكون قادرًا على المرافعة غدًا.

ابتسم لها، وربّت على يدها بحنان.

– هذه القضية يا سعاد... هي آخر ما سأخوضه في هذا العالم المليء بالخداع. أريد أن أخرج مرفوع الرأس.

صباحًا، بدت قاعة المحكمة أشبه بمسرح متوتر. عيون الصحافيين، كاميراتهم، همسات الحضور... كلها كانت تترقب ما سيقوله المحامي أنور.

وقف شامخًا، بصوته الهادئ، بدأ يلقي مرافعته، معتمدًا على ترتيب منطقي محكم. استعرض مراحل التحقيق، ثغرات رواية الدفاع، تقرير الطب الشرعي، وفجّر المفاجأة: تحليل الدم أثبت وجود نسبة كحول عالية في دم المتهم.

– "أيها القاضي المحترم، لا نبحث عن الانتقام، بل عن الحقيقة... هل يجب أن يموت شاب بريء دون محاسبة؟ هل العدالة تفرّق بين الفقير والغني؟"

كان الجمهور مشدودًا، حتى هيئة المحكمة بدت متأثرة. أنور شعر بالاطمئنان، حين التفت نحو والد الضحية الجالس في الصف الأول، رأى في عينيه بريق أمل.

في نهاية اليوم، أعلن القاضي أن النطق بالحكم سيكون في جلسة الغد. خرج أنور من المحكمة كمن خرج من معركة رابحة.

في المساء، جلس مع سعاد يشربان الشاي. ابتسم وقال:

– أشعر أنني فعلت ما بوسعي. القضية واضحة، وكل شيء في مكانه.

قالت زوجته:

– هذا أكثر ما أحبه فيك... إيمانك بعدالة الكلمة.

قبل جبهتها. ثم صعد إلى مكتبه، تفقد الملف مجددًا، أغلقه بعناية، ووضعه في الدرج السفلي. ترك النافذة مواربة. لم يكن يتوقع أن أحدًا سيتسلل إليه، فالثقة كانت تملأ قلبه.

في صباح اليوم التالي، كانت المحكمة أكثر ازدحامًا. جلس أنور في مكانه بثقة، وعيناه على القاضي الذي بدأ تلاوة الحكم:

– "بناءً على المعطيات المتوفرة، وبعد دراسة الأدلة والشهادات... تقرر المحكمة: تبرئة المتهم لعدم كفاية الأدلة."

كأن شيئًا انكسر في أنور. لم يفهم... ما معنى "عدم كفاية الأدلة"؟ لقد سلّم كل ما في الملف، كل وثيقة، كل صورة...

بجانبه، ابتسم المحامي الخصم وقال بصوت خافت:

– أحيانًا... لا يكفي أن تكون الأدلة موجودة، بل أن تبقى في مكانها.

بدأت الشكوك تنهشه. راجع ذاكرته: هل سلّم المستندات كاملة؟ هل... ترك الملف؟

ركض نحو سيارته، انطلق بسرعة نحو منزله. دخل المكتب، بحث في الأدراج، لم يجد الملف. كل شيء كان كما تركه، ما عدا شيء واحد: النافذة مفتوحة أكثر مما كانت عليه، والملف... مفقود.

في تلك اللحظة، فهم أنور. لم يكن الأمر صدفة، ولم يكن فقط إهمالًا. لقد دُبّر كل شيء. ربما أحدهم دخل ليلًا، سرق الملف، وربما بترتيب من الطرف الآخر.

جلس على كرسيه، وضع يده على جبينه. لم يشعر بالغضب... بل بشيء أعمق: الخيانة. خيانة للنظام الذي آمَن به، للقانون الذي خدمه، للحياة التي عاشها من أجل الدفاع عن المظلومين.

سعاد دخلت ووجدته مطرق الرأس. اقتربت وسألته:

– خسرتم القضية؟

هزّ رأسه ببطء.

– بل خسرنا العدالة.

في الأيام التالية، لم يغادر أنور البيت. كان صامتًا، يقرأ الجرائد، ويراقب التلفاز. صور المتهم الشاب وهو يبتسم أمام الكاميرات، التصريحات التي تمجّد "انتصار البراءة"، كلها كانت خناجر تغوص في صدره.

ذات صباح، قرر أن يكتب مذكراته. جلس إلى المكتب، وبدأ في تدوين عنوان الفصل الأول: "كيف تُسرق العدالة في وضح النهار؟"

***

حسن لمين - كاتب مغربي

في عالـمي اليومَ لا ديـنٌ ولا قِـيَـمُ

والكلُّ مُـجـتـمعٌ والـرأيُ مُـنـقَـسِـمُ

*

وعـالـمي اليومَ أمـريكا تُـسـيّـسهُ

لا شـيءُ يُـلـزمُـها والـكُـلُّ يَـلـتـزمُ

*

بـمَـنطقِ الـعِهـر أمـريكا تَـعامُـلها

فهي الوحيدةُ مَـنْ يـعفـو ويَـنـتَـقِـمُ

*

ترى الحقوقَ بما تـقضي مَصالحُها

وفي تَـقـاطـعـِها لا شـيءَ تـحـتـرمُ

*

ومَـنْ يُـخـالِـفُها يـلـقى عُـقـوبَـتَـهُ

وهي الـضليعةُ بالارهابِ مَـا تَـسِـمُ

*

لها صكوكٌ من الغُـفرانِ تَـمنحها

للـمجرمين اذا في ركـبها انـتـظموا

*

كلُّ الـجـرائمِ والفوضى بـعالـمنا

من ذلكَ الـبـيتِ وكـرِ الـشرِ تُـسـتَـلَمُ

*

في بيـتها الابيض الـشـيطانُ سـاكنُهُ

يـحـكي جـرائـمَها مُـذْ أُسّـسـتْ عَـلمْ

*

وإنْ رَجِـعـنا الى الـتأريخِ نـسـألُهُ

أيـنَ الـهـنودُ رجالُ الارضِ أينَ هُـمُ

*

فـدولة الـعِـهرِ أمـريكا بها شَـبـقٌ

سـاديّـةُ الـطبعِ في شـهواتها عَـرَمُ

*

كم من جـرائمها الـنكراءِ شـاهـدةٌ

ومـجلـسُ الامـنِ إنْ قالتْ فهمْ غَـنَـمُ

*

لا بُـدّ من رادعٍ يـلـوي شَـكيمتها

كفى الـشعوبَ الى الطاغوتِ تـحتكِمُ

*

أرى بهــيـأتها مـن أنّـهـا دولٌ

وهي الـغُــثاءُ وإنْ قـالـتْ تَـقُـلْ نَـعَـمُ

*

واللهُ أقـوى مِن الـباغي ودولـتِهِ

مـنـهُ الـقرارُ إذا مـا جـاءَ تـنـحـسِـمُ

*

كـلُّ الامـورِ اذا دارتْ دوائـرها

في سُــنّـةِ الله أن الظُــلـمَ مُـنـهـزمُ

*

ودولـةُ الـعِـهـرِ أمريكا لها أجلٌ

من قـبـلها أُهْـلِـكَتْ في بـغـيها أُمَـمُ

***

الحاج عطا الحاج يـوسـف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

الجمعة في 6 / 6 / 2025

بين التراقي سنابل عجاف

ورائحة الدم في الخناجر

تفوح كحلم الأيتام في كل مكان

تجثو نظراتي اليائسة نحو بلادٍ هزيلة

سفكت بسيوف الخذلان

اتشرد كشاعرٍ ضائع بين ازقة المجاز

لم تنبأه القصيدة

تاركًا اشيائي المرغوبة

تتكسر كخبز ٍ يابسٍ فوق أصابع الجياع

حبيبتي يغني الكناري على اكتافها الناعمة

اتركها بلا رأفةٍ ورحمة

حبيبتي لا تبكي

سرحي ضفائرك الجميلة

وبرزي زنديك الحريرين

وساقيك العاجيين

امضي الى رجال ذوي شوارب لامعة

يحترفون الغزل كبحارة يجوبون البحار

يتسكعون سكارى بين دهاليز نهديك الدافئة

كأسي امتلأتْ سهواً من جرار السندباد

سكرتي عنوان وعيي وملاذي الجنون

فغرامي متعفن بدخان المدينة

وابجديتي عارية الحياء

مثل بنات الليل

أكثر من الشتائم المجنونة

في الشوارع والحانات

ومستنقع الزنازين

اترك قهر المواعيد

لمن يعزفون الترف

**

لم أنل نصيب اسمي

في هذا الوطن المختنق

بانفاس الخونه

ذبابة على الباء ذبابة على الالفِ

وناموس يمتص ماتبقى من اسمي

وما تبقى من دماء وطني

أين البصيرة يا شعبي

اذرعكم مربوطة بحبالِ العبودية

تتحكم فيكم السلطات المخصية

افيقوا من خطب القساوسة الأفاكين

حطموا قيودكم وامضوا نحو الحرية

يا ثوار شعبي لنتبادل الادوار

لكم دور السجان وللسجان العذاب

يا مساكين شعبي لكم دور الجلاد

اجلدوا مؤخرات القردة بالحذوة

(وبولوا) على وجوهٍ قذرة

اكلوا الحصاد والزرع

والماء وملحه

الاقحوان وعطره

لم يتركوا غير الدم

والعظام وبقايا من الأسنان

***

باقر الموسوي

 

أنا الجميلة كما أنا:

ابنةُ الضوءِ والعاصفة، نقشُهما

وسامُ صبرٍ محفورٌ على ملامحي.

القدرُ كتابٌ يخطّ وجهي،

وفمه من تحوّلاتِ حكايتي.

*

كيف يكونُ الوجعُ في آخر النهار،

وله سيرةٌ وخرائط؟

هل في ارتقائي شقوق؟

في مصابيحي عبث؟

لا.

في وجعي صعود،

وفي محوي نهوض.

*

فالوقتُ ليس عبثًا في الفصول،

ولا صانعَ تجاعيدَ في وجهي:

لا فوز له إلّا ما منحتُه،

ولا مفتاحَ بيده إن لم أمهّد له.

*

هكذا، يقرأون سيرتي:

لا وطنَ في مرايا الزيف،

لا مساحيقَ في أرضي،

ولا حتى غفوةٌ في صمتي.

*

ناطقٌ، ناطقٌ هو،

فصيحٌ، فصيحٌ هو زمني.

أنا كما أنا.

دربي هو الطريق،

والنشيد هو القافلة،

والوشم حقيقةُ ملامحي.

*

العزّ ليس بمنأى،

ولا الضفافُ بأبعدَ من مرامي.

لا يشكّلني سوى النهار

تبنّيت أدواره،

تدرّجتُ في ملامحه:

عينٌ ترقب،

واحتضانٌ للحضن،

وسؤالٌ للتربة والأعالي،

ودعاءٌ للسجود،

وهدايةٌ للطريق.

*

هناك:

أنصاري،

وأرضي،

ومرآتي كدربي: أفتخر بها.

هناك،

كُلّي.

***

نوال الوزاني

احتضنته لسنواتٍ ثمرة زواج فاشل. كان الزوج أقسى من الأب على روح صبية لم تبلغ الخامسة عشرة. شيعوها إلى دار العريس كأنهم سائرون في جنازة. كل من في القرية يعلم أنها صفقة، أو بالأحرى سداد دين.

- عليك بالصبر يا ابنتي! ثم تعالت زغاريد أشبه بالولولة.

شُج رأسه في عراك حول "الكيف"، فاستفاقت مذعورة وهو يركل الباب. أسرعت إلى المطبخ لتحضر شيئا من البن تحبس به النزيف، بينما تمدد على الفراش، يسب خالها والساعة التي جمعتهما في مقهى "بوراس". قبل سنتين لم يكن أحد من المزارعين يعرف نشوة الكيف، أو يتسكع حتى منتصف الليل في الخربة التي يديرها "بوراس". قضت ليلتها تحصي أنينه، وتحترس من ركلة طائشة تهز الجنين.

كانت تعبر زقاقا مظلما حين تعثرت بذيل فستانها الأبيض. أمسكت يد بمعصمها. يد باردة تتعرق، بينما حر الأنفاس يدنو من رقبتها.  تسارعت دقات قلبها وهي تركض في غير اتجاه ثم تدلف إلى مقهى بوراس. تتعالى الزغاريد وإيقاع الدف. يد مخضبة بالحناء تلامس بطنها المنتفخ. مهلا، ليست حناء بل دما.. دم؟ انتفضت من نومها فارتخت يد باردة.

رحل!

على حجرها تهدهد الصبي لينام، وتبحث سبل التخلص من عمه الجلف. طلبها للزواج فرفضت. راودها فتمنعت، وصاحت منذرة بفضح سلالة ابن الحرام الذي يأكل لحم أخيه ميتا.

- الولية مجنونة!

وفي مقهى بوراس أسند ادعاءه بضائقة طوقت عنق والدها بحبال الديون. إنهم مجانين! غير أنها لم تكترث. في حضنها قرة عين سيكون عزاء الحاضر، وثمرة صبرها العلقمي. لن يكون لها شريك فيه. هو ظلها وسندها، وأمنية كل أرملة صغيرة في مهب الريح!

كبر قرة العين واشتد عوده. لا يثير وساوسها إلا حرصه على أن يجالس عمه في مقهى بوراس. في النهاية هو عمه، والظفر لا يطلع من اللحم. أقنعت نفسها بأن الزمن يسدد بصيرة الغافل، ولا يقطع حبل القرابة، ليجد المرء يوما من يهيل عليه التراب، ويغفر له زلاته. بيد أن الزمن كان له رأي آخر!

تمددت على الفراش بصعوبة، بينما أسرعت الجارة لوضع جبيرة على الكاحل ولفه برباط محكم. غشت عينيها سحابة من دمع خفيف لكنها تكابر.

الولد سر أبيه، وطيفه الحاضر كلما استبد بها القلق. نظراته، وشروده المستمر كأنه يلتمس في أحلام اليقظة بابا سحريا. جل تصرفاته تشي بأنه هو! حتى نشوة الكيف سرت إليه كاللعنة. جذبته يومها من ياقة قميصه، وألقت حقيبة الظهر قبل أن تركلها:

- إلى أية هاوية يجرك عمك الجلف هذه المرة؟

-الشمال.

- ولِم؟

- سأهاجر.

- إلى أين؟

- لا يهم، إذا أردت البقاء هنا مغروزة كالوتد فهذا شأنك!

يحلفون برأس وليهم المدفون أعلى التلة، أنهم لم يروا قط أشرس منها لما داهمت المقهى. جحظت أعينهم المحمرة، وطار من الأدمغة خدر الكيف وهم يتحاشون ضربة منجل أفلت منها بأعجوبة. ركضت خلفه فتعثرت بأذيال ثوبها. شدت على الكاحل بمنديل ثم واصلت مشيتها المكابرة.

لم يرها أحد بعد ذلك، لكنهم عاينوا زجاج قلب يتحطم!

***

حميد بن خيبش

يا زهرةً من عطر الكواكب،

يا ميسم الضوء في غيم الوجود،

يا من وُلدتِ من رحم الدعاء،

ومن حليب الكبرياء،

ومن سُهاد العيون المشرعةِ على فردوسٍ ،

بك إكتمل...

*

كوني مختلفة،

كالآية التي تنزلُ في صمتِ الجبل،

كالنهر الذي لا يثني عن مجراه سوى أمرِ السماء.

لا تُشبهيهنَّ، لا تكرري الملامح المستهلكة،

ولا تنقشي وجهكِ بكحلٍ ليس منكِ،

بل اصنعي من روحكِ مرآة،

ومن خطواتكِ قصيدة لا تُقرأ إلا بماء القلب.

*

كوني راقية،

لا كمن يتصنّعن الرقيّ في تفاصيل زائفة،

بل كمن تُنبت سنابلَ المعنى في أرضٍ قاحلة.

ارفعي حاجبَ الكبرياء لا استعلاءً،

بل تذكيراً بأنّكِ سيدةُ الوقت حين يتأخّر الزمن،

وأنّكِ حارسةُ الضوء في المدن المطفأة.

*

انثري الخير،

كأنّكِ النسيمُ العابرُ على جراحِ الغيم،

مرّي ولا تُفسدي،

امسحي على الجبين المكسور ولا تسألي،

فمن عرف العطاء لا ينتظر شكراً،

ومن أعطى النور لا يطلبُ إلا ألّا يُطفأ.

*

كوني الجمال،

لكن لا كما يراه العابرون في واجهات الزجاج،

بل كما تعرفه الأرض حين تُورق،

وكما تهمس به الأشجار للريح.

كوني جمالاً يليق بالصمت،

يليقُ بالمعرفة،

يليقُ بالقلب إذا صدق.

*

لا تكوني متاحة،

فالماء إن انسكب في كل وعاء فقد طعمه،

كوني كالنجم، بعيداً بما يكفي ليشتاق إليه العاشقون،

ومضيئةً بما يكفي ليدلّي بكِ المارقون طريقهم.

ضعي الكرامةَ تاجاً،

ولا تمضي إلا إن استحقّ الطريقُ خطوك.

*

كوني ملكة،

لكن لا تطلبي عرشاً من ذهب،

ابني عرشكِ من حكايا الأمهات،

من دعوات الجدّات،

كوني ملكةً تمشي في السوق بثوب القطن،

وفي قلبها قصورٌ من المعنى،

وعلى كتفها نسرٌ من الحلم.

*

كوني الأخلاق،

ولا تسمحي لظلّكِ أن يخطئ درب الشمس،

إن ناداكِ الليل، فقولي له: "أنا بنت الفجر"،

وإن راودكِ الطين، فاغسلي يديكِ بماء الزهر،

*

ولا تنسي،

أنّكِ أمانةُ الوجع،

ووصيّةُ أمٍّ كانت ترى فيكِ خلاصَ الحلم،

وبابَ النجاة من صخبِ العالم،

فلا تبيعي نقاءكِ بثمنٍ بخس،

ولا تمنحي قلبكِ لمن لا يعرفُ قراءةَ النبض.

*

يا ابنتي،

كوني كما تشائين،

لكن لا تنسي أن تكوني كما أرادكِ الله،

طاهرة، قويّة، سامقة،

جميلةٌ كالصلاة،

وأصيلةٌ كالحقيقة.

***

مجيدة محمدي - تونس

 

كديكِ الفجرِ للحُسنى ينادي

على عَربِ الحَواضِرِ والبَوادي

*

يؤذّنُ في رُبى يَمَنِ النشامى

فتنهدمُ القصورُ على النوادي

*

لِإحدى الحُسْنَييْنِ ألا هَلمّوا

فقد وَجَبَ التيمّمُ في العَتادِ

*

كأنّ بلالَ كَبّرَ مستعيدا

مُعلّقةَ الفوارسِ للجِيادِ

*

أَذانَ الحقِّ في أُذُنِ الصحارى

بِحيَّ على الصلاةِ معَ الجِهادِ

*

لكي يقْتصَّ من شرِّ البرايا

سكارى الوهْمِ في أرضِ المَعادِ

*

صدى صوتِ الشهامة أم صهيلٌ

يشقُّ الصمتَ في دُنيا العِبادِ

*

صَهيلٌ للأصائِلِ أم رُعودٌ

لِصولاتِ الخيولِ كما العَوادي

*

(لِيَحْيى) صوتُ من أحيا مراراً

بصَيصَ النارِ في قلبِ الرَمادِ

*

على جَبَلِ الرُماةِ أراهُ يعدوا

(سريعاً) في مقارعةِ الأعادي

*

أبى إلّا الوقوفَ مع اليتامى

قراراً دونَه خرطُ القَتادِ

*

يخطُّ إمامُهُ عهدَ الغيارى

ويسخرُ من سماسرةِ الحِيادِ

*

فصبراً صادقَ الوعْدِ المفدّى

وطوبى للتوهّجِ والعِنادِ

*

فَيا جَبَلاً تَألَّمَ للعَطاشى

سترويكَ الروائحُ والغَوادي

*

أميرَ البحرِ هل للبحرِ معنى

سوى الطوفانِ أو وَجَعِ النفادِ

*

فدى قَدَميْكَ حكّاماً تماهوا

مع الأعداءِ في أقصى البلادِ

***

د. مصطفى علي

 

في مدينة ألمانية صغيرة، كان أحمد يجلس في صفوف معهد لتعليم اللغة، محاولاً التأقلم مع عالمٍ جديدٍ ومختلف تماماً عن حياته السابقة. أمامه كانت تقف إلسا، معلمة اللغة، امرأة في الأربعينيات من عمرها، ملامحها مفعمةٌ بالرصانة والقوة، إلّا أنّ عينيها تحملان نظرة حذر، خاصةً عندما تتحدّث معه. وجهها الناعم، ذو الحمرة الطبيعية، وشفتاها الصغيرتان، تضفيان لمسةً رقيقةً إلى ملامحها، في حين كانت نظارتها المستديرة تخفي عينين رماديتين، لم تفقدا بريق الجِدّ الذي يظهر في محادثاتها. كان يشعر بأنها، على الرغم من صرامتها الظاهرية، تخفي شجناً عميقاً؛ لمس هذا من كلمات الشكر الرقيقة التي يتلقاها منها، وهو يساعدها، بعد انتهاء الحصص، في جمع أغراضها العديدة وحملها إلى سيارتها.

مع توالي الأسابيع، بدأ أحمد يلتقط إشاراتٍ صغيرة: طريقة تصحيحها لنطقه، إصرارها على نبرة الصوت الصحيحة، وكيف تأخذ ركناً هادئاً، بين الحصص، لتقرأ كتاباً. كان يلاحظها بصمت، بينما كانت تدرك نظراته دون أن تقول شيئاً. عيناها تظهران مزيجاً من الحذر والفضول.؛ شيءٌ ما، في هذا الرجل، يثير فضولها. ربما هي نظرته العميقة، أو ربما شروده الدائم، والطريقة التي يحاول بها إخفاء قصةٍ يبدو أنها أثقل من أن تُحمل. سألته ذات مرة وهما يخرجان من المعهد: "كم مضى على وجودك في ألمانيا؟". "عشرة أشهر"، أجابها وأكمل: "لكنها بطول سنين"

- وهل تعمل هنا؟

- ليس بعد، أحاول أ تقان اللغة أولاً، ثمّ البحث عن عملٍ مناسب. في سوريا كنت صحفياً، لكن هنا...

"لكن هنا أنت مجرّد لاجئ"، أكملت إلسا الجملة، ثم أضافت بسرعة: "آسفة، لم أقصد". ابتسم أحمد ابتسامةً خفيفةً: "لا، أنتِ محقّة. هناك كان لي مهنةٌ، هويةٌ، لغةٌ أتحدّث وأكتب بها. هنا، وبعد عشرة شهور، ما زلت أتعلّم كيف أقول للناس مرحبا". فتحت إلسا صندوق سيارتها، ووضع أحمد الأغراض بداخله. "شكراً لك"، قالت بابتسامةٍ مهذبة، "أراك في الدرس القادم". مضت إلسا بسيارتها، ومشى أحمد باتجاه محطة الترام، يستعيد كلمات إلسا، وأسئلتها، وسرح ذهنه بعيداً، إلى ليلةٍ مظلمةٍ قبل سنة... كان الظلام يخيم على نوافذ المدينة المقفلة، ولا يُسمع في الليل البهيم سوى أصوات القذائف ورشاشات البنادق التي لا تتوقف. وأحمد يراجع ذاكرة هاتفه المحمول، يتأكد أنه لم يبق فيها أي صورة، أو مقطع فيديو يو3ّق جرائم النظام، بعد أن جمع أوراقه وأقراصه المدمجة وأتلف ما يمكن أن يقع بين أيدي أجهزة الأمن؛ يسابق الزمن كي يحمل حقيبته الصغيرة ويتسلل، تحت عباءة الليل، هارباً، قبل أن يقبضوا عليه.

زوجته جيهان تقف عند باب الغرفة، وجهها شاحب كقطعة ورق تجيب عن طلبه الملحّ: "سمر، الأمر جدّي وخطير، مفترق طرق. وأنا أتمنى إن نكون دائماً معاً."

- ابق هنا إذن، أنت صحفيٌّ ناجح، وأنا مدرّسة في الجامعة. ما الذي ينقصنا لنكون في سعادة؟"

- سمر، لن نعيد الجدال، المسألة لم تعد مسألة مبدأ فقط، المسألة الآن مسألة واجب، واجب الأسرة تجاه أحد أفرادها، واجب الزوجة تجاه زوجها."

"لا أستطيع، أحمد. أمي المريضة، وعملي في الجامعة... كيف يمكنني ترك كل شيء؟"، نظرت إليه بعينين دامعتين واحتضنته بقوة: "اذهب أنت، وسألحق بك. لا يمكنني المغادرة الآن"

شعر أحمد، حينها، أن الطرق قد بدأت تفترق بينهما، وأن المسافة التي ستفصلهما قريباً قد تكون أكبر من مجرد حدود جغرافية.

مرّت شهور قاسية على أحمد بعد انتهاء الدروس، الأيام تشبه بعضها، والأمسيات طويلة يقضيها وحيداً، يفكّر في حياته السابقة، وما آلت إليه الأمور، يتحدّث بالساعات مع زوجته، يسألها عن قدومها، ويكون جوابها: "عندما يحين الأوان".

بعد خمسة أشهر، بدأت الحياة تفتح لأحمد طريقاً جديدةً. في أحد الأيام، تلقى اتصالاً غير متوقّع من إلسا، تخبره عن حاجة بلدية قريتها إلى عمّالٍ موسميين، وأنها ترى في هذه الفرصة بوابةً يدخل منها إلى أعماق اللغة ويكتسب مهاراتٍ تساعده على الانسجام في هذا العالم الجديد. اصطحبته بسيارتها، وساعدته في تقديم أوراق العمل، ولكن ما لم يخطر بباله، هي الدعوة التي تلقاها لقضاء مساء السبت في منزلها. في تلك الليلة، تلقّى رسالةً من زوجته، كانت رسالةً اعتيادية، مثل كلّ رسائلها اليومية، تسأله عن أحواله وتخبره عن حياتها، دون أي ذكرٍ للحاق به. قرأ الرسالة بنظرات باردة تشبه كلماتها الباردة، نظر إلى النجوم المنتشرة في السماء... "غداً سيبدأ عملٌ جديد، تجربةٌ جديدة، وفصلٌ جديدٌ من حياتي، وبعدها سأزور معلّمة اللغة في بيتها... أول إنسان يدعوني إلى بيته منذ أن قدمت إلى هنا"

كانت الطاولة الصغيرة معدّةً بعناية في شرفة المنزل المطلّة على حديقةٍ صغيرة، بتنسيقها البديع تعكس روح صاحبتها. لم يكن المشهد مجرّد دعوةٍ للعشاء، بل كان أشبه بمشهدٍ من روايةٍ تُكتب تفاصيلها بعناية. أحمد، الذي لم يتوقع يوماً مثل هذه اللحظة في حياته، وجد نفسه أمام تجربةٍ جديدة تحمل في طياتها مزيجاً من الحميمية والغرابة. إلسا، المرأة التي كانت دائمًا تحفظ مسافة بينها وبين الآخرين، فتحت له باباً إلى عالمها الخاص. أحضر معه باقة زهور وكتاباً عربياً مترجماً، هديّةً صغيرة، قال: "منزلك جميل وأنيق"، ابتسمت إلسا، وهي تضع الزهور في المزهرية: "تنازل عنه زوجي عند الانفصال" توقفت لحظة، ثمً تابعت: "المنزل كبير، لامرأةٍ وحيدة". "معك حق، المساحات الصغيرة تمنحنا شعوراً أكبر بالأمان"، أكّد أحمد كلامها، فنالت كلماته إعجابها، دون أن تظهره.

تناولا العشاء، وتحدّثا عن الطعام، والعادات المختلفة، والأماكن التي زارها، والكتب والموسيقى. قال لها مبتسماً: "في سوريا، الطعام هو إحدى الطرق لإظهار الحبّ والاهتمام"، ضحكت إلسا وقالت: "في ألمانيا أيضاً، في عائلتي على الأقل.  كانت جدتي تقول دائماً إن الطعام الجيد يفتح القلوب المغلقة"

كانت تلك الأمسية لحظةً فارقةً، مشهداً سيتردّد داخل أحمد كنبضٍ لا ينقطع. كانت المرأة التي رآها، بكل هذا الجمال والأناقة، غير إلسا معلمة اللغة. ظلّ يتذكر تفاصيلها الصغيرة؛ كيف تميل رأسها عندما تستمع باهتمام، ضحكتها الخافتة عندما يقول شيئاً مضحكاً، لمعان عينيها في ضوء الشموع. تساؤلات عديدة كانت تعصف برأسه: "ما الذي تسعى إليه؟ ولماذا اختارتني أنا؟".

في أحد الأيام، بينما كان يعمل في حديقةٍ عامة، رنّ هاتفه. كان رقم سمر. "مرحباً،" أجاب، محاولاً إخفاء توتره. "أحمد، كيف حالك؟" جاء صوتها واضحاً رغم المسافة. "بخير، والحمد لله. كيف حالك أنت ووالدتك؟" "نحن بخير. والدتي تتحسن ببطء. أحمد... أردت أن أخبرك أنني حصلت على ترقيةٍ في الجامعة. أصبحت رئيسة القسم في الكلية". "مبارك،" قال أحمد، محاولاً أن يبدو متحمساً. "أنت تستحقّين ذلك." انتهت المكالمة وأغلقت الخط. لم يتسنّ له حتى أن يخبرها عن عمله. تنهّد، وارتعش لفكرةٍ مؤلمةٍ تركتها مكالمة زوجته المقتضبة. في خضمّ هذه المشاعر المتضاربة، وجد نفسه يفكّر في إلسا، في الراحة التي شعر بها في منزلها، في الطريقة التي تفهمه بها، رغم لغته الركيكة. كان يعلم أن هناك فجوةً كبيرةً بينهما: في العمر، في الثقافة، في الخلفية، لكن كان هناك أيضاً شيءٌ يجمعهما، شيءٌ أعمق من العلاقات العادية، وأعلى من الاختلافات الظاهرية. بفضولٍ وشوق، وشيءٍ من الشجاعة، كتب لها رسالةً نصّية: "أدعوك مساء السبت القادم للعشاء في مكان تختارينه. سكني المشترك لا يليق بضيفةٍ مميزةٍ مثلك". ضغط زرَّ الإرسال، ثم انتظر ردّها وكأنّ الزمن قد توقّف عند تلك اللحظة.

مع الوقت، بدأ حذر إلسا يلين؛ زياراته لها في البيت صارت أمراً اعتيادياً، رحلات السبت إلى المناطق القريبة أصبحت عادةً مشتركةً بينهما. كانا يستكشفان الغابات والمتاحف والحقول، يتحدثان عن الأدب والموسيقى، وعن تجارب حياتهما المختلفة. أحمد، الذي كان يشعر دائماً بالغربة، وجد في تلك اللحظات شيئًا يشبه الوطن. إلسا، المطلّقة منذ سنتين بعد زواجٍ دام عشرين عاماً، بدأت ترى فيه إنساناً لا يُمثّل تهديداً، بل إمكانيةً جديدةً للسعادة.

في إحدى رحلاتهما، قرّرا زيارة غابةٍ واسعة، أشجارها معمّرةٌ، تتشابك فروعها في الأعلى لتشكّل سقفاً أخضر كثيفاً. "هذه الغابة تذكّرني بحكايات الأطفال، كنت أتخيّل، دائماً، أنّ الساحرات والأقزام يختبئون بين هذه الأشجار"، قالت إلسا وهي تمشي بجانب أحمد على درب ضيق مغطّىً بأوراق الخريف. ضحك أحمد، وقال: "يبدو أن الخوف من المجهول شعورٌ إنساني مشترك". كانت السماء تتلبّد بالغيوم، وتحوّلت الرياح إلى عاصفة، وبدأ المطر ينهمر بغزارة. التجآ إلى جدارٍ حجريٍّ قديم، استند أحمد على الجدار، محدّقاً بإلسا، كان شعرها الأشقر ملتصقاً بوجهها، وعيناها تلمعان من الإثارة والخوف.  قال أحمد: "هذا يذكّرني بمشهدٍ من رواية فيوض الربيع[1]. كانا، أيضاً، في عمق الغابة حين فاجأتهما العاصفة، فالتجآ إلى الكهف[2]". نظرت إليه إلسا، وكأنها ترى شيئاً جديداً في عينيه: "وماذا حدث بعد ذلك؟" ابتسم أحمد ابتسامةً غامضة: "ستعرفين عندما تقرئين الرواية".

عند العودة، سألت إلسا فجأةً، وهي تتأمّل قوس قزح: "ماذا حدث بعد ذلك؟"، انتبهَ انها ما زالت تفكّر بتلك العاصفة، أجابها بكلمةٍ واحدة: "تبعها". "تبعها؟" همست لنفسها غير متأكّدةٍ من المعنى. استعاد أحمد في خياله تفاصيل الرواية، كأنّه يستعيد شيئاً دفيناً في قلبه. "أحياناً تُظهر الطبيعة ما نحاول أن نخفيه"، قالها بهمس، وابتعد خافضاً عينيه. نظرت إليه بصمت، ثم تابعت طريقها.

تلك اللحظة ظلت ترافق إلسا؛ كان في كلماته، وفي نظراته شيءٌ ما، جعلها تشعر بخفقان قلبها يتسارع، وبينما كانت جالسةً على السرير، فتحت هاتفها تبحث عن رواية تورغنيف وتقرأ ملخّصها. أدركت معنى الكلمة التي قالها أحمد بحذر: "تبعها". شعرت كأنّ الغرفة قد امتلأت بنورٍ خفيٍّ. كتبت له رسالةً على الواتساب: "لقد كان يومًا مميزًا بفضل وجودك... سانين!"، ضغطت زر الإرسال، وشيءٌ ما في داخلها كان ينبض بفرحٍ. بعد دقائق، وصل رد أحمد: "وأنتِ جعلت هذا اليوم لا يُنسى... جيما[3]." ابتسمت إلسا؛ كان هناك شيء حميم في تبادل هذه الأسماء، كأنهما يتشاركان سراً لا يعرفه أحدٌ غيرهما. ذلك المساء كان بدايةً لشيءٍ جديدٍ بينهما، شيءٍ جعل العلاقة تتجاوز حدود الصداقة؛ الكلمات أصبحت أقرب، النظرات أكثر عمقاً، لكن خلف تلك اللحظات الدافئة كانت التحديات تلوح في الأفق. كانا يلتقيان كلّ أسبوعٍ تقريباً، يتشاركان الوجبات والأحاديث والضحكات؛ لكنْ كلاهما كان يحمل أعباء الماضي، وكلاهما كان يخشى المستقبل.

في إحدى أمسيات الشتاء، كانت إلسا تجلس بجانب نافذتها، تتأمّل الحديقة الصغيرة التي بدأ الثلج يتراكم على أطرافها، وأحمد يقف بجانبها ملامساً مسند الكرسي، يحمل كوباً من القهوة بين يديه وكأنه يحاول الاحتماء بحرارته. كان الليل هادئًا، لكنّ داخلهما كان يعجّ بصراعات كثيرة.

"أتعرف، أحمد؟"، أكملت إلسا حديثاً كانت قد بدأته، ونظرتها شاردة عبر زجاج النافذة، "زوجي لم يكن يحتاج إلى سببٍ كبير لينهي كلّ شيءٍ بيننا. ربما كنتُ السبب، ربما كان هو، لا أعرف؛ لكني كنت دائماً أشعر أنّ هناك زاويةً في حياته لا يُسمح لي بالدخول إليها، ثم اكتشفت أنّ تلك الزاوية كانت مكاناً لامرأةٍ أخرى."

- هل تعتقدين أنّ الرجل الذي يترك زوجته لأنه أحبّ امرأةً أخرى، يخونها؟ أم أنه فقط يتبع قلبه؟

- الخيانة ليست في الحب، أحمد. الخيانة في التخلّي. في أن تترك شخصاً كان يثق بك، مهما كانت الأسباب.

- لكن ماذا لو كان الحب الجديد حقيقياً؟ ماذا لو كان أقوى من كلّ شيء؟

- الحب الحقيقي لا يُبنى على أنقاض علاقةٍ أخرى. إنه يحتاج إلى أرضٍ صلبة، وليس إلى قلبٍ ممزّق.

شعر أحمد بأنّ شيئاً ثقيلاً يحاصره من الداخل، يكاد يخنقه. نظر إليها طويلًا. لم يتوقّع أن يكون الحديث بهذه الصراحة. حاول أن يجد كلماتٍ ليقولها؛ لكنه شعر أنها لحظة تتطلب أكثر من المواساة. "إلسا..." قال بتردّد. "أظن أن الأمر صعب جداً عليكِ. لكن هل هذا يجعلكِ تشعرين أن لا مجال للبدء من جديد؟". ابتسمت إلسا ابتسامةً خفيفة. "البدء من جديد؟"، قالت وهي تتأمل بريق الكوب بين يديها. "هل تعرف ما هو الجزء الأصعب يا أحمد؟ أنني لستُ متأكدة ممّا إذا كنت أريد أن أبدأ من جديد. أحيانًا أشعر أنّ الماضي هو جدارٌ لا يمكن تجاوزه، وأحياناً أخرى أعتقد أنه مجرد ظلٍّ يلاحقني".  أحمد كان صامتًا، يشعر بارتباكٍ. حديثها هذا جعل فكرة مصارحتها بمشاعره أكثر تعقيداً. كيف يمكنه أن يعترف بما يشعر به وهي تتحدث عن جرحها القديم، وهو نفسه يعيش مع عقدة زواج لم يكتمل في مداه؟

- زوجتي رفضت أن تلحق بي. هل هذا يجعلني خائناً إذا أحببت امرأةً أخرى؟

- ربما هي لم تلحق بك لأنها تخشى أن تفقد نفسها هنا؛ كما أنني أعرف كيف يشعر الإنسان عندما يُترك. زوجي تركني من أجل امرأةٍ أخرى، ولم يكن الأمر عن الحب فقط، بل عن الأنانية.

- أحيانًا أشعر أنني أعيش بين عالمين، وبنفس الوقت لا أنتمي إلى أيٍّ منهما. هل هذا يجعلني أنانياً؟

- السؤال الحقيقي، أحمد، هو: هل تستطيع أن تختار؟ لأن البقاء في المنتصف هو الخيانة الحقيقية.

"أعتقد أن الماضي لا يتركنا بسهولة؛ لكنني أظن، أيضاً، أنّ لكلّ إنسانٍ الحق في محاولةٍ ثانية"، قالها أحمد بصوتٍ هادئ، محاولًا أن يخفي اضطرابه الداخلي. كانت الكلمات قليلةً، لكنها تحمل ثقلًا عاطفياً كبيراً، كلّ كلمةٍ كانت تحفر في أعماقه. الليل كان شاهداً على صراعٍ بين الحب والالتزام، بين الماضي والمستقبل، وبين ما يمكن أن يكون وما يجب أن يكون. نظرت إليه إلسا، بعينيها اللتين تعكسان سنواتٍ من التجارب: "وأنت؟ هل تستطيع البدء من جديد؟". لم يكن سؤالها مجرّد فضولٍ بسيط، كان مرآةً وضعتها أمامه، تعكس حقيقته المجردة، شعر أنه عارٍ أمام هذا السؤال. أخذ نفساً عميقاً، ثم قال: "لا أعرف. أحيانًا أعتقد أنني أُمسك بحبلين في نفس الوقت، لكنني لا أستطيع التخلي عن أي منهما. وأحيانًا أشعر أنني أضيع بينهما.". ابتسمت إلسا مرةً أخرى؛ لكنها، هذه المرة، كانت ابتسامةً حزينة، ترافقت مع نظرةِ مباشرة في عيني أحمد: "ربما أننا جميعاً نحاول الإمساك بأشياءٍ نعلم أننا قد نخسرها في النهاية. لكن السؤال هو: هل نخسرها لأننا لا نحاول بما يكفي، أم لأننا نحاول أكثر مما ينبغي؟"

في تلك الليلة، ظلت ابتسامة إلسا ونظرتها تتردّدان في خياله، كان يعلم أنها محقّة، وأنه لا يمكنه الاستمرار هكذا. أخرج هاتفه وفتح تطبيق الواتساب؛ كان آخر اتصالٍ مع سمر قبل أسبوعين. كتب لها رسالةً طويلة، يشرح فيها مشاعره، ويخبرها أنه لا يستطيع الاستمرار في هذه العلاقة المعلقة. كتب أنه أحبّها بصدق، ويقدّر السنوات التي قضاها معها، لكنّ طريقيهما تباعدا: "أنتِ بنيتِ مستقبلكِ هناك، وأنا بدأت في بناء حياةٍ هنا. لا أريد أن نستمرّ في خداع أنفسنا. لم يعد هناك مستقبلٌ مشتركٌ بيننا. أتمنى لكِ كلّ الخير والسعادة، وآمل أن تتفهمي قراري."، ضغط زر الإرسال، شعر أنّه ينهي جزءاً عزيزاً من حياته.

مرّت الأيام، إلسا تفعل ما بوسعها لتدمج أحمد في الحياة الجديدة؛ لكن، للحقيقة، ليس بدافع الإيثار فحسب، فقد اعتادت وجوده، وأحاديثه، ونقاشاته، وحتى صمته وشروده. أما أحمد فكان يحاول أن يوازن بين ما يريد وما يفرضه عليه ضميره. تلقّى رسالةً من زوجته، كانت كلماتها تفيض بالاتهامات، ما يشي بكبريائها الجريحة؛ تطلب منه أن يعيد التفكير بقراره "المتسرّع"؛ لكنّ تلك الكلمات، التي كانت تشبه محاولةً مترفّعة لاستعادة شيءٍ ضائع، لم تستطع أن تخفي حقيقة تخلّيها عنه في لحظاته الأصعب. أرسل لها ردّاً سريعاً، يحسم الأمر ويُخبرها بأنه وجد حقيقته مع إلسا، وأنه لن يظلّ عالقاً في علاقةٍ لا تحمل له سوى القيود.

في أوائل الربيع قرّرا، أحمد وألسا، زيارة قصر التنين، أحد المعالم التاريخية الشهيرة في المنطقة. كان القصر، بأبراجه العديدة، يبدو في الأفق مثل أسطورةٍ نُسجت تفاصيلها بين الجبال السبعة المشرفة على نهر الراين. أثناء عبورهم النهر، كانت إلسا تقف بجانبه على سطح العبّارة، شعرها الأصفر يتمايل مع الريح في مشهدٍ مغلّفٍ برومنسيةٍ آسرة، كإحدى أميرات القصر الذي تروي لأحمد أساطيره وحكاياته الساحرة.

صعدا سفح الجبل في دربٍ متعرّجٍ تحفّ به الكروم، توقفا عند مزرعةٍ صغيرةٍ تديرها عائلة محلّيّة، حيث قدّم لهما المزارعون كأسًا من النبيذ الطازج. ارتشف أحمد الكأس ببطءٍ. إلسا، بابتسامةٍ خفيفة، حذرته من تأثير النبيذ، لكنه تجاهل تحذيرها، واستسلم للنشوة الخفيفة التي بدأت تتسرّب إلى روحه.

وصلا متعبين أخيراً، دخلا القصر وتجوّلا في غرفه وقاعاته، مستمعين إلى المعلومات التاريخية التي يرويها المرشد السياحي. "أخبرت زوجتي أنني لا أستطيع الاستمرار في علاقتنا المعلّقة"، قال أحمد فجأة. نظرت إليه إلسا بدهشة: "حقاً؟ وكيف كان ردّها؟". "أعتقد أنها تشعر أيضاً أن علاقتنا بحكم المنتهية".

وقفا في إحدى شرفات القصر، كان وادي الراين يخترق الحقول والغابات مثل شريطٍ فضيٍّ يزيّن ثوباً أخضر، والقرى على جانبيه مثل حبات الياقوت الأحمر، المنظر يثير في النفس إحساساً بالجمال لا يمكن مقاومته، وشعاع الشمس يتسلّل بين الأوراق ليعكس على وجه إلسا ألوانًا ذهبية. تلفّت أحمد نحوها، رأى في عينيها فرحاً هادئاً؛ لكنه عميق، كأنّ الطبيعة نفسها تعكس ما في داخلها، وتدفعه إلى التعبير عن شيءٍ لا يستطيع قوله بالكلمات. اقترب منها قليلاً، مسّ شفتيها القرمزيتين بقبلةٍ شفافة، تكاد لا تُحَسُّ؛ لكنها كانت كافيةً لتترك أثراً عميقاً في نفسها. إلسا، رغم أنها نجحت في إخفاء ردّ فعلها، وتابعت النظر إلى الطبيعة كأنّ شيئاً لم يحدث، لكن داخلها، كان شعورٌ عذبٌ، كأنما نورٌ نقيٌّ يتسلل إلى روحها. لم تغمض عينيها، ولم تهتز شفتاها أو جفناها، وكانت لا تزال تنظر نحوه نظرتها المحدّقة ذاتها، لكنه لاحظ أن صدرها ارتفع أكثر اثناء تنفّسها، قالت بنبرةٍ متماسكة: "ماذا يعني هذا؟". انحنى أحمد برأسه قليلاً، وكأنّ كلماتها أثقل من أن يواجهها مباشرة: "إلسا، أعلم أن ما بيننا ليس بسيطاً. وأعلم أنني لا أملك الحق في أن أطلب منك أي شيء، لكن تلك القبلة، لم تكن مجرّد لحظةٍ عابرة. شعرتُ بشيءٍ حـقيقيٍّ… عميق.". تحرّكت إلسا ببطء، تحاول أن تُخفي أثر كلماته على وجهها: "حقيقي؟ ربما كان كذلك بالنسبة لك، ولكن ماذا عني؟ كيف أسمح لنفسي أن أكون ظلاً يقف في طريقك وأنت لا تزال مرتبطًا؟". رفع نظره نحوها، وكأنّ كلّ كلمةٍ تخرج منه تأتي من أعمق مكانٍ في روحه: "ظلٌّ؟ أنتِ كلّ شيءٍ عدا ذلك، إلسا. وجودكِ أعاد لي شيئاً كنت أظن أنني فقدته إلى الأبد؛ لكنني لا أريد أن أجعلكِ تشعرين أنكِ في موقفٍ مستحيل". تدير وجهها نحو الأفق، تتحدّث وكأنها تخاطب الطبيعة التي أمامها: "الأمر ليس عنك فقط، أحمد. إنه عنّي أيضاً. لا أستطيع أن أخوض هذا الطريق وأنا أعرف نهايته. رأيت ما تفعله مثل هذه العلاقات... إنها لا تمنح سوى الألم". يقترب منها قليلاً، صوته هادئ لكنه مليءٌ بالصدق: "ولكن ماذا لو كنتُ أحاول أن أجد طريقاً جديداً؟ ماذا لو شعرتُ أنّ حياتي تحتاج إلى شيء أعمق؟". تنظر إليه إلسا مرةً أخرى، عيناها تلمعان بالثقة والحزم: "هل تقول لي هذا لأنك تحبني؟ أم لأنك تشعر بالوحدة؟ هناك فرقٌ كبير، أحمد، وأنا لن أكون حلاً لوحدتك". يتنفس ببطء، يدرك وزن كلماتها، لكنه لا يتراجع: "أحبكِ، إلسا. وهذا ليس عن الوحدة أو عن الفراغ. إنه عنكِ. عن كيف تجعلين العالم يبدو مختلفاً، عن كيف أشعر بأنني على قيد الحياة عندما أكون بقربك". كان يتحدّث بسرعة، يؤكد لها، بشغفٍ، حبّه العميق. سألها بكلماتٍ واضحةٍ لا تقبل الرفض: "قلتِ مرةً أن منزلك واسعٌ عليك، ما رأيك أن أستأجر الطابق الثاني؟ أريد أن نعيش معاً". اقتربت إلسا من حافة الشرفة، عيناها تجولان في الأفق، لكنّها لا ترى سوى انعكاسات داخلها..."أحتاج إلى وقت، أحمد. هذا كله جديد وسريع. أحتاج إلى التفكير". "أفهم ذلك،" أومأ أحمد، محاولاً إخفاء خيبة أمله. "سأنتظر"، قال وهو يدرك أن اللحظة تبتعد عنه ببطء، وأنه قد يخسرها دون أن يستطيع إيقاف ذلك.

لم يتواصل إلسا وأحمد كثيراً في الأسبوع الذي تلا زيارة القصر، كان يحترم رغبتها في الحصول على مساحةٍ للتفكير، على الرغم من أن الانتظار كان يمزّقه من الداخل، وكان يتساءل كثيراً إن كان قد تسرّع وأفسد كلّ شيء بتلك القبلة. في هذه الأوقات القاسية تلقّى رسالةً من سمر تقول فيها بلغةٍ تعليمية، أشعرته بالتقزّز: "قدّمتُ إجازةً بدون مرتّب، وسآتي لأنقذك من نزوتك مع تلك العجوز، وربما تغيّر رأيك ونعود معاً". شعر بأن روحه تنسحق تحت وطأة كلماتها؛ ولم يجد رغبةً حتى في الردّ، "المسافة بيننا بعدت كثيراً، كأني لم أعرفها من قبل!"، قال في نفسه بأسىً ومرار. تنهّد بعمق، وضع يديه على ركبتيه كما لو كان يحاول إمساك نفسه من الانهيار، وبدل أن يكتب رداً على رسالة زوجته، اتصل بإلسا: "اسمعيني إلسا، زوجتي اختارت منذ البداية وتخلّت، وليس أنا… هي جزءٌ من معاناتي… أن تقف مع القاتل من أجل منصب، أو منافع أخرى، فهذا تخلٍّ. أن أكون مطلوباً من أجهزة النظام، وأهرب إلى هنا، وترفض هي التنازل عن مركزها الوظيفي، فهذا أقسى من التخلي... إن كنتُ رفضتُ أن أحكي عنها في البداية، فكيلا أستدرّ العطف منك، أو من غيرك، وها أنا أحكي، الآن، كي أبرّر ذاتي، كي لا أخسرك، إلسا...  أن تأتي سمر أو لا تأتي، لم يعد يعنيني، هي ستأتي لأنها تريد أن تكسب كلّ شيء، هي ستأتي كي تظلّ ممعنةً بحصاري، هي ستأتي لكي أظلّ مربوطاً إلى خياراتها، هي ستأتي لتبرّر، بوجودي معها، خيارها الأناني.. أشعر أنها شريكةٌ باضطهادي... تأتي أو لا تأتي، هذا خيارها، أما أنا فقد اخترت وحسمت أمري"

أنهى أحمد حديثه دون أن يمنح إلسا فرصةً للرد، كان مهموماً، يشعر بثقلٍ لا يبرح صدره. رغم إدراكه لصدق المشاعر التي تجمعهما، يعلم أن الظروف التي تفصل بينهما أقوى من أن تُتجاهل. لقد بات واضحاً له أنّ الحبّ، شأنه شأن الحقيقة، يحتاج إلى من يدافع عنه، كي لا يطغى عليه الظلم. وبات يعلم أيضاً أن الحياة لا تنتظر القرارات المؤجّلة، فهي تمضي دون أن تلتفت، تاركةً خلفها قصصاً غير مكتملة وأحلاماً لم تتحقق.

***

قصة قصيرة

الكاتب منذر فالح الغزالي

Wachtberg, 25.05.22025

.........................................

[1] فيوض الربيع، رواية للكاتب الروسي إيفان تورغنيف

[2] مشهد الكهف، مشهد مفصلي في الرواية، حيث ان سانين تخلى بعده عن خطيبته ويتبع ماريا، زوجة صديقه.

[3] ، جيما، هي خطيبة سانين، وحبيبته الإيطالية.

دموع ضوء تعتلى جبين الفنار، تَلمَح صمت موج مهاجر تحت قبعة الليل، تكتحل مشاعر المساء بهمهمات الظلام، تعزف لحن اللقاء على شفا الغربة،، يتسلل الوقت أثير عتمة، يتأرجح الهذيان برهام الشجن، كي لا يتنفس الموج هدير الغرق، تتسلق غيوم اللهفة منسأة برد ناعسة الذكرى، متّشحة ريحا مجونا، ماكرا يتوارى خلف لازورد البحر سطوع ضباب، جريحة أنات لؤلؤة تستيقظ توا عند انسكاب حلم محارات موءودة البرق، تصرخ دلافين الوجد بصمت أقاصي الحزن، ما بين نشوة نجوم الحواس وثمالة الغرام تتراقص نغمات ناي، يكاد يتلألأ الغزل دموعا تعتصر فؤاد حورية البحر في أماسي الرحيل، تنهيدة وداع هذيان الحنين، يتأنى طيف عاشق مسافر، لا يبدو أنّهُ سيفارق ميناء عشقه، ربما دمعة برق تضئ ملامح أشرعة الهجرة، أو رشفة غسق تروي آهات الغياب، علّه يطل ضيفا في مرافئ البقاء يؤنس ساحل الانتظار بهمس ضجيج التلاقي، كلما يختلسنا الزمن من أوهام العمر نضيع بشغف العتاب ونتمتم رب مصير نام قدره، لتستردنا شواطئ الدروب!!.

***

إنعام كمونة

  2/6/2025

قصائر1(10)

قدَماي

لن تعبرا حدودَ الوطن.. معاً

تجنّسَتْ إحداهُما مع الغُرباء

واستأصلوا من الأخرى

كاملَ الجنسية

**

2

ارتَحِلْ، قدرَ ما تشاء

فأنتَ.. لمّا لم تجد في نهايةِ الطَواف

مربَطَ الحَبل

تَمَسّكتَ بالنوايا..

كعابثٍ بالرَمل.

**

3

الصراخُ في داخلي..

بلا صَوت

صَداهُ خلّفَ في جَبهَتي

بضعَةَ خُطوط

يجعَلُها الابتسام..

في غاية ِ الغَباء

**

4

في صراعي معي،

نَزَعتُ أجنحَةَ السِنين

لأخرجَ منتصراَ

بأقلّ النُدوب

راضياَ..

بسُخريةِ الحُفَر

**

5

لا بريقَ في عَينَيها..

لا دموع

كلّ رغبتِها

أن يختَفي الباحثونَ عنها

كسلعةٍ مكسورة

في قمامةِ العُقول

**

6

ناوَلَني كأساً.. كأنّ روحَهُ فيها

يا صاحبي

كفَفتُ عن الثَمالة

لم تعُد أوردَتي تُطيق

لا تصِدّ

هكذا هَمَسَتْ..

جُموعُ الملائكة

**

7

أعودُ مراراً

مراراً..

بلا كلَل

الى نَخلةٍ أرضَعَتني

بلا فِطام

**

8

لم تكفِني الأعوام

لأمخرَ المُحيطَ الذي في داخلي

أخفيتُ أيضا.. جميعَ اكتشافاتي

لأبسطَ الخرائطَ القديمة

في كلّ عيد

**

9

الشمعةُ التي احترَقَتْ لغيري

صنَعتُها..

وحينَ أحترِقْ

سيَرجمونَني..

بما سالَ منّي

**

10

سأعودُ.. حتماً

قلتُها بحُرقَة

بعدَ أن قَضَمتُ آخرَ يومٍ..

في حرّيتي.

**

11

لا تُحدّثيني عن الشَوق

كعشتار..

أخبري قلبَكِ أن يرتدّ.. مثلي

لنحترق

بلا ثعابين.. وتُفّاح

**

12

عندما صارَ الوطنُ سجناً

لم أجدْ سجيناً معي

كان جميعُ الناسِ..

سجّانين

**

13

توقّدتُ كالجَمْر

تحتَ أمطارِ تشرين

حين لامسَ شعرُكِ المُخضَلّ جبهَتي

يدعوني..

الى وليمةِ حُبّ

بلا بلل

**

14

في باب سليمان*

آثارُ أقدامي على ضِفةِ النَهر

الطينُ يحفظُ الذكرى

لكنّهُ ظامئ

رحَلنا عنهُ..

أنا.. والماء

**

15

لستُ جاحداً

ظننتُ أني عرَفتُ ذاتي

بعدَ ارتقاءٍ وهُبوط

ثم اكتشفتُ أخيراً

جَهلي بنفسي

**

د. عادل الحنظل

.......................

1 دأبتُ أن أسمّي نصوصي هذه قصصا قصيرة جداً تماشيا مع ما هو مألوف في هذا النمط من الكتابة الأدبية. لكنني لم أجد في هذا المسمّى ما يعبّر عن أسلوبي الذي أسير عليه، فلا يحوي أي نص على جوهر القصة التي تمتاز بحدث يبدأ وينتهي بصرف النظر عن عديد الكلمات. والنصوص هذه ليست أيضا من الشعر رغم بعض اللمسات هنا وهناك فيما يشبه تركيز الشعر المنثور. لهذا ارتأيت أن أعدل الأسم الى قصائر تعبيرا عن قصر النصوص وتكثيفها بلا إضفاء سمة الشعر أو القصة.

* باب سليمان هي القرية التي ولِدتُ فيها وتقع جنوب مدينة البصرة

بارداً صارَ فِنجانُ قَهوتِها

تَلاشَتْ رَغوتُهُ

غابتْ في تَفاصيلِ العَتمَةِ

لكنَّ الجَوَى طَفقَ

في فضاءاتِ الخَواءِ يَجولُ

وئيداً كانَ الزَّمنُ يَجري

يحملُ على كَاهلِهِ

أثقالَ عمرٍ

وعُهوداً من الخيباتِ

تَسلَّلَ منِّي الشَّجَى

يبحثُ عن بقايا ملامِحِها

قالت من غير أن تَنطَقَ

وحضرتْ من غيرِ أنْ تأتي

فصارَ الغيابُ حُضوراً

وأصبحَ الصَّمتُ

أبلغَ من الكَلامِ

حكايةُ فِنجان قَهوةٍ

من غَيرِ سُكَّرٍ

إن ترتشفْ مِنهُ

فعلى ثناياهُ أنهارٌ من العَسلِ

تَفيضُ

آثارُ شفاهٍ على الحَوَافِ

تَارةً يَرسِمُها شَغفٌ

وتارةً تُبعثرُها الأوهامُ

أيقظني صَقيعُ الفُراقِ ذاتَ صَباحٍ

فأدفأتْني مَلامِحُ ذِكرى

حين جاءَ المساءُ

*

كُلَّما إنطفأ الوَهْجُ

في فِنجانِ قَهوتِها

أشعلَ الوَجدُ في حَناياهُ

جذوةً أبداً لا تَخمَدُ

مرَّاً أتجرعُه حيناً

وحيناً منِّي الآهاتِ يَغترفُ

يُتقنُ كُلَّ الأسرارِ

والبوحُ من غيرِ حروفٍ

على الأطرافِ يَرتَسمُ

فنجانُ قهوةٍ على سَطحهِ

حِكاياتٌ شَتَّى

وصورٌ رتَّبتهَا أقدارُ المَرايا

وفي أعماقِه أمواجٌ ولَظَى

وفي الغورِ بقايا ثُمالَة

مَأتمٌ من أحزانٍ

وتأوهاتٍ وأنينٍ

رفيقُ الدَّربِ في الأفرَاحِ يَغتَبِطُ

وفي الأتراحِ وجومٌ وابتئاسٌ

قالوا تَنسى

إن تعشقْ أخرى

فكيفَ أنسَى وهي

في كُلِّ وجوهِ نِساءِ الدُّنيا؟

ضَوءٌ خافتٌ في الرُّكنِ يَخبو

وشبحُ كَهلٍ يَتراءى

وعلى الطَاولةِ العَتيقةِ

وردةٌ يتيمَةٌ ذابِلةٌ

وفِنجانُ قهوةٍ

فارقَته منذُ دُهورٍ

ارتعاشاتُ الرَّغوةِ

***

بقلمي: جورج عازار

إيه ...

ما الذي خلفّته؟!

سلالة انشطارية

أحفادها

يترصّدون

ليصطادوا  بشراهة

عزّلا

لا حرز لهم

إلّا من تميمة

لقول توارثوه

لعلّه

ينجّهم

من السقوط في قعرها

غواية تزيّن

قباحة الصيادين

**

تعسا

لسلالة

تعلّقت خطاياها

سفها

بذيل

غراب مسكين

**

ولأنهم يتناسلون

ولأنهم

يلوذون بحكمته

أضحى

المسكين

منتوف الريش

**

كان عليه

أن يتغاضى

ويتركه

لحيرته

ولو أنه فعل

ربما

لرُدِمت بئر

لا تزال تفور

غليانا

لتصهر

أحلاما قانية السحنة

**

ليتك لم تهتد

وليته

لم

يمنحك حكمته

أمنية

يطلقها أدراج الريح

حفيد أثقلته آثام

لسلالة

تبتكر عثرات

تبحث

عن حكمة جاد بها غراب

مبتلى

***

إبتسام الحاج زكي

في نصوص اليوم