نصوص أدبية

نصوص أدبية

لا شيءَ يجمعني برؤيا الأَمسِ

فغُرابي ما زالَ ينعِقُ،

وقشَّةُ البعيرِ لمْ تَكسِرْ سيفَ المغُولِ.

*

أَنتَ تَحتَ الرُّكامِ،

والهواءُ بعيد

والصَّمتُ يكتبُ نفسهُ في الماء

*

الزَّائرُ الذي يراكَ

يشربُ من هٰذا السَّرابِ،

يجمعُ مفاتيحَ المدينةِ

ويغرقُ.

*

مَنْ سيلعبْ لعبةَ التِّنِّينِ؟

مَنْ سيسُوقِ النَّارَ على قدمٍ وساقٍ؟

مَنْ سيأكُلِ الأَخضرَ واليابسَ،

في ليالي الحملانِ؟

***

زياد كامل السامرائي

 

أيقَنْتُ أَنَّنِي شَاعِرٌ مَصْلُوبٌ،

وَعَاشِقٌ بَصَرِيٌّ كَأُفُقِ الشُّهُبِ،

فِي زَمَنٍ هَمَجِيٍّ

تَكْثُرُ فِيهِ الْوَيْلَاتُ وَالْعِلَلُ.

*

مَنْ يُغَنِّي لِلنَّوَارِسِ الْبَيْضَاءِ،

تُحَلِّقُ عَلَى شَطْآنِ الْعَرَبِ؟

رُغْمَ أَنَّ الْكَثِيرِينَ لَمْ يَفْهَمُوا

لُغَةَ الرِّيَاحِ، وَصَرَخَاتِ الظِّلَالِ،

وَصَوْتَ الْغَمَامِ عَلَى حَجَارَةِ الزَّمَانِ.

*

أَنَا الْغَرِيدُ بِحُرُوفِ

الْخَوْفِ وَالْحُبِّ،

الْمُتَكَسِّرُ عَلَى يَدِ الْقَدَرِ،

وَالْمُلْتَاعُ فِي صَمْتِ اللَّيَالِي وَالظُّلاَمِ،

أَحْمِلُ رِيحَ الْوَجَعِ فِي نَفَسِي.

*

أُغَنِّي لِوَطَنِي الْغَرِيبِ،

وَلِقَصَصِ الْهَوَى،

وَلِنِسَاءِ بَارِزَاتِ الزُّنُودِ،

يَتَسَكَّعْنَ فِي طُرُقَاتِ الرَّشِيدِ،

وَأُرَدِّدُ خَمْرِيَّاتِ أَبِي نُوَاسٍ

لِصَبِيَّاتٍ كَأَشْكَالِ الْوُرُودِ وَالضَّوْءِ،

وَأَرْسُمُ عَلَى وَرَقِ الْهَوَى طُرُقًا لِلْخَلَاءِ.

*

أَيُّهَا الشَّاعِرُ الَّذِي يَقْطُنُ كِيَانِي،

أَنْشِدْ أَغَانِيكَ الْمُتَنَاثِرَةَ

رَغْمَ الْقَلَقِ وَالْهَوَاجِسِ،

أَنْشِدْهَا مِنْ مَآسِي الْفُقَرَاءِ،

وَاتْرُكْهَا تَنَامُ رَغَدًا

فِي مَآذِنِ النَّاسِ وَظِلَالِ الْمَسَاءِ.

*

فَإِنْ سَأَلُوا: مَا الَّذِي أَبْقَاكَ حَيًّا؟

قُلْتُ: أَنَا الشِّعْرُ... وَفِي الشِّعْرِ نَجَاتِي،

أَنَا الْمَصْلُوبُ عَلَى نَبْرَةِ الْحَقِّ،

وَلَنْ أَنْحَنِي،

وَلَوْ تَفَتَّتَتْ أَحْرُفِي عَلَى صَخْرِ الزَّمَانِ،

وَلَوْ غَطَّتِ الظُّلُمَاتُ أَفُقِي،

سَأَسْطَرُ أَسْمَاءَ الْمَسَاكِينِ وَالْوُرُودِ عَلَى الْحُطَامِ.

*

سَأَغْنِي — مَا دَامَ فِيَّ نَفَسٌ —

لِلْحُبِّ، لِلْفُقَرَاءِ، لِلْقَمَرِ،

وَأَكْتُبُ وَصِيَّتِي عَلَى وَرَقِ الْعُمْرِ:

لَا تَكْتُمُوا صَوْتَ الشُّعَرَاءِ،

فَهُمْ أَخِرُ الشُّهَدَاءِ،

يَنْتَصِرُونَ بِكَلِمَاتٍ،

فِي زَمَنٍ أَعْمَى، وَعَالَمٍ مُتَفَتِّتٍ،

حَتَّى يَعُودَ الضَّوْءُ لِلْوُجُوهِ الْمُضَاءِ.

***

باقر طه الموسوي / العراق

 

مَنْ عَلَّمَنِي

أَنْ أَزْرَعَ أَحْلَامِي بَيْنَ اَلْأَمْوَاجِ،

إِذَا غَابَتْ سُفُنِي

أَنْ أَتْرُكَ دَفْتَرَ أَشْعَارِي يَبْكِي

إِنَّ غِبْتِ، وَصَارَ اَلْبُعْدُ يُؤَرِّقُنِي

منْ عَلَّمَنِي أَنْ أَصْمُتَ

حِينَ يَضِجُّ بِأَعْمَاقِي شَجَنِي

أَنْ أَكْشِفَ أَسْرَارِي لِلرِّيحِ

إِذَا صَارَ ت تَطْرُدُنِي

مَنْ كُلِّ فَضَاءَاتِي

وَ تُبَدِّدُنِي

*

مَنْ عَلَّمَنِي غَيْركِ؟

مَنْ عَلَّمَنِي؟

-2-

مَنْ عَلَّمَهُمْ

أَنْ تَتَوَقَفَ أَرْجُلُهُمْ

فِي مُنْتَصَفِ الدّرْبِ

إذا خَامَرَهُمْ

حُلْمٌ كَانَ يُخَادِعُهُمْ

مُنْذُ سِنِينٍ يُوعِدُهُمْ

لكن يُخْلِفُهُمْ

يَتْرُكُهُمْ

مَهْمُومِينَ حَيَارى

وَ يُخَلّفُ أوهامًا تَغْمُرُهُمْ

ليلاً ونَهَارَا

*

مَنْ عَلَّمَهُمْ غَيْركِ؟

مَنْ عَلَّمَهُمْ؟

***

شعر: خالد الحلّي

فَرَسُ الْقُبورِ تُراجعُ الْمَوتى وَتَزْدَردُ الغُبار

لي في عَيْنِها

وَلَها

في السّواقي

اللّواتي تَجَفَّفْنَ مِنْ صَفْوِهِنّ

اشْتِباهٌ

تُكَثِّفُهُ الْأدْحالُ الّتي لا تفارِقُها أنْباءٌ لِأبْناءِ النّار

*

صِدْقاً

يقولُ عُمَرْ

رَأيْتُ بِعَيْنِنا ما لا يرى

وَلَقَدْ تَرَكْنا مَنْزلي لَيلاً وَكُنْتُ أنا الوحيدُ مِنَ الدّوارْ

داري هناكَ إِلى الجوارْ

قَسَماً رَأيْتُ مَكانَ مَنْبَعِنا

بَعْدَ انْتهاءِ فَقيهِ لَيْلَتِيَ الغريبَةِ

مِنْ جَداوِلِهِ الرّهيبَةِ والْحِوارْ

باباً عظيماً هالَني

وَتَفَتّحَ الْبابُ الْكَبيرُ أَمامَنا فَإذا بِنا وَسْطَ الْمدينَهْ

وَكَأنَّ هَذِهِ فاسُ حَرْفيًّا

بِها الأضواءُ والأَلْوانُ والأوحالُ

في حاراتِها الْجَصّاصُ والرّصّاص والْبَزّازُ والْخَضّارُ والْعَسّاسُ

والْجَزارُ

في بابِ الأخيرِ جَميعُ أنْواعُ الْكَلاليبِ

الّتي

فيها الْكُراعُ وَقُرْبَها نَشِبَتْ رُؤوسٌ في اصْطِفافْ

إِمّا لِتَيْسٍ أَوْ لِبَغْلٍ أوْ لِكَبْشٍ أَوْ حِمارْ

كانوا ثَلاثَةَ زائرينَ مُنَقِّبَيْنِ وَصاحبَ التّقْييدَةِ الْآتي بِإيعازٍ مِنَ الصَّفِّ الْحليفِ

وَكُنْتُ رابِعَهُمْ

ذِبْحاً سَخيفاً بَيْنَهُمْ

وَرَأيْتُنا مُتَخَبِّطينَ كَأيِّ سِرْبٍ مِنْ نِعاجٍ بَيْنَ قَوْمٍ بالظُّلوف وَبِالْخِفافْ

وَقِلالُهُمْ لا يُسْتراحُ لَها

لَكِنَّنا أُبْنا

وَغُلِّقَ ذلكَ البابْ

لا تَنْظروا لِلْخَلْفِ

قال لَنا الْفَقيهُ

لِكيْ تَفوزوا فَالصّناديقُ الّتي حُمِّلْتُمُ ملآى ثمينَهْ

خِفّوا فَلَسْتُمْ لِلسّكينَهْ

لَمّا دَخَلْنا الدّارَ داري مُنْهَكينَ رَمى الْمَفاتيحَ الثّلاثَةَ رِمْيَةَ المُتَأكّدِ الْمُسْتَأْمَنِ الْعاري مِنَ الْحِرْصِ الْمَقيتِ وَقالَ تَبْقى في الْمكانِ حَصينَهْ

حتّى نَعودَ

فَنَحْنُ في الْفَجْرِ الْصّفِيِّ سَنَنْطَلقْ

لَمْ أسْتَفِقْ

إلّا وَرَأْسي يَحْتَرِقْ

لا أَسْتَوي حَتّى يُعاودَني السّقوطُ فَلا أرى

ماذا أرى

لا شَيْءَ غَيْرَ طَلاسِمٍ وَسْطَ الْجِدارْ

وَمَخاوفِ الأهْلِ الّذينَ تَحَلّقوا حَولي بِغُرْفَتِيَ الرّكِينَهْ

يَتَساءَلونَ عَنِ الْمُصيبَةِ أَيِّ خَطْبٍ قَدْ أَلَمّ بِرِجْلِيَ الْيُمْنى فَصارَتْ مِثْلَ دَرْدارٍ ثَخينَهْ

*

دَعْ ذا (وَلا تَسْتَعْمِلِ التّعبيرَ إنْ شِئْتَ الْبِدارْ)

قِفْ وَانْظُرِ الْعَيْنَ الّتي كانتْ هُنا

لا تَبْكِ للذّكرى

لِعَينٍ أَوْ لِبيرٍ مَسْبَحٍ يا ما تَقافَزَ مِنْ جوانِبِهِ وَمِنْ شَلّالِهِ الْأطْفالُ مِثْلَ ضَفادعِ النّهْرِ الْغَزيرِ إلى القرارْ

اُنْظُرْ لِعَيْنِكَ ما لِعَينِكَ لَمْ تَعُدْ ماءً تَسيلُ بِهِ البَساتينُ الْبَهِيَّةُ لَمْ تَعُدْ باباً يُؤدّي بَغْتَةً لِمَدينَةِ الْجِنِّ الّتي تَحْتَ الثّرى

ماذا تَرى

ثُقْباً تَهَدَّمَ وَانْبَرى

وَبِقُرْبهِ فَرَسُ الْقُبور تُراجِعُ الْمَوْتى وتَزْدرٍدُ الْغُبارْ

وَتَحْكي وَما تَدْري جَفافَ بَحائرٍ

وَيُبْسَ الدّوالي في صُدورِ شِعابِيا

*

وَلا غَوْرَ أيّامٍ رَمَتْ بِسِهامِها

جَميعاً وَما شاءتْ لِذاكَ تَتاليا

*

عَنِ الْقَتْلِ غِيلَةً أَتَتْهُ قَرينَةٌ

تَقولُ فَنَفْري في الرّخاءِ تَباريا

*

عَلى الْفَوْرِ تَلْقانا قَبيلَةُ تابِعٍ

فَنَرْضى اقْتِسامَ الْعَظْم مِنهُ تَماديا

*

صَريحاً

أَقولُ لَها

قَدْ كَسَبْتِ الرّهانْ

رَبَتْ في شِعابِ النّواحي الْوَضائمُ إذْ عَمِيَتْ عَيْنُ كُلِّ الْعُيونِ

تَجَيّفَ فيها جَميعُ ذَواتِ الظُّلوفِ ذَواتِ الْخِفافِ ذَواتِ الْجَناحِ وَحَتّى التّوابِعُ وَالْجِنُّ حَتّى الزّوابِعُ

فَلْتَبْلَعي وَحْدَكَ الْيَوْمَ هَذا الْجَميعَ وَكوني لِكُلِّ السُّنينِ الْجَمادِ لِكُلِ طُغاةِ الْبِلادِ امْتِداداً وَسَيْفَ ضَعينَهْ

***

البشير النحلي

{افتتاح}

أَدْعُوكِ...

لِنُقِيمَ التَّوَاطُؤَ مَا بَيْنَ نَفْسِ العُنُقِ وَأُفُقِ الرِّيحِ،

مَا بَيْنَ شَمْسٍ تُوَشْوِشُ جِلْدَ التُّرَابِ،

وَصَوْتٍ يَقُولُ: كُنْتُ فِي بَدْءِ صَدْعِ السَّرَابْ...

2

{صَحراءُ اللُّغَة}

أَيَّتُهَا اللُّغَةُ الَّتِي بَاتَتْ صَحَارَى،

كَيْفَ نَكْتُبُ فِي الرَّمْلِ أَسْمَاءَنَا،

وَنَرْجُو البَقَاءْ؟

كَيْفَ نَمْلِكُ صَوْتًا،

وَهَذَا الهَوَاءُ عَلَى شَفَةِ المَوْتِ

يُجَاهِرُ بِاسْمِ العَدَمْ؟

3

{مَرَايَا الغُمْدَان}

أُشَبِّهُ يَمَنِيَّتِي بِالْمِرْآةِ،

وَأَجْعَلُ فِي شُرْفَةِ الحُلْمِ وَجْهَ بَلْقِيسْ،

وَأَسْكُنُ فِي كُلِّ نَفْسٍ،

كَأَنِّي ظِلَالُ غُمْدَانْ

تُرَاوِدُنِي فِي المَغِيبِ،

وَتَرْسُمُنِي كَخَرِيفٍ يُفَجِّرُ أَجْرَاسَهُ

فِي طُيُورِ السُّفُوحْ

4

{نُقُوشُ الصَّمْت}

كُنْتُ نَقْشًا

يَتَكَرَّرُ فِي جِدَارٍ مَخْذُولٍ،

كُنْتُ صَوْتًا يُمَارِسُ نَفْسَهُ

فِي الحُطَامِ،

وَفِي صَوْتِ عَشْتَرَ

كُنْتُ أَصْعَدُ

مِنْ مِلْحِ طِينِ القَرَارْ

5

{زَمَنُ النُّعَاس}

مَا لِي وَلِهَذَا الزَّمَنِ الَّذِي يَبْلَعُ المَدْنَفِينَ؟

مَا لَكِ وَهَذِهِ العَصْرَنَةِ الَّتِي تَحْتَفِي بِالنُّعَاسِ

فِي عُيُونِ النُّصُوصِ؟

هَلْ نُقِيمُ خَزَائِنَنَا فِي المَوْجِ،

نَجْمَعُ نُعَاسَ البَحَّارِينْ؟

هَلْ نُسْكِنُ رُوحًا مِثْلَ عَدَنٍ

فِي مَسَاحَةِ هَذَا النُّفُوقْ؟

6

{عَلَى شُرْفَةِ السُّبَات}

مِنْ فَوْقِ شُرْفَةِ السُّبَاتِ،

يُطِلُّ رَامْبُو،

عَارِيًا مِثْلَنَا،

مَكْسُوًّا بِمَا نَشْتَهِي

مِنْ لَهِيبِ البِدَايَةِ،

وَصَمْتِ القَصِيدَةِ،

وَرَعْشَةِ لَفْظٍ يَفُورُ مِنَ القَارَّةِ السَّادِسَةْ

7

{مَوْجُ الجُمَل}

فِي كُلِّ عَامِلٍ

يُفْرِغُ المَوْجَ،

ثَمَّةَ أُغْنِيَةٌ

تَنْسَى اسْمَهَا،

وَتَبْكِي عَلَى شَفَةِ العَرَقِ،

فِي كُلِّ صَخْرَةٍ

تَنْبُتُ الجُمَلُ المُسْتَحِيلَةُ،

كَأَنَّهَا عَدَنٌ تُرْوِي مَدِينَتَهَا

بِمَاءِ النِّدَاءِ

8

{الكُودَا – الخُرُوجُ مِنَ النَّصّ}

أَيُّهَا المَدَى،

يَا مِرْآةَ المَمْحُوِّ،

مَتَى نَخْرُجُ مِنْ نُصُوصِنَا

كَقُطْرَةِ حِبْرٍ

تُقَاتِلُ جَسَدَ الزَّمَنِ؟

***

د. سعد محمد مهدي غلام

 

يَموجُ السَّروُ في عينَيكَ

وما زِلتَ تَحْبو بين السَّنابِل

غازَلَتكَ الياسَمِينَةُ

فَتَحوّلت إلى غيمةٍ

لِمَ لَمْ تُحلِّق؟

ما كُنتَ حُبًّا

بَلْ نَوبَة ًكانونِيةً

ما كُنتَ عِشْقاً

بل حُزْناُ أُضيفَ إلى شِتائِي

لا تَنتَحِبْ بِصَمْتٍ

هدأتْ ثَورَةُ العشقِ

في أَورِدَتي

خَذَّلَنِي اللَّيلُ قَبل اكْتمال القَمر

بَقايا اَلرِّيح تَلاشَتْ

مَع أَوَّل ِ نَجْمَةٍ

لا تَبْحَثْ عَن الفَراشاتِ في مُقلَتَيَّ

قَبل الفَجِر هجرتِ السُنونُواتُ عُروقِي

لَسْتُ رَهينَةً لِلغُروبْ

أُريدُ أَنْ أَشرَبَ النَّارَ ثانِيَةً

أريدُ بعضَاً من الشَّمس

وكأسَاً تَجْتاحُكَ

لا تَتَسَكَّعْ في مَسَامَّاتِي حائِراً

اِرْحَلْ بِدَمي

اِجرحْ شَمْسي وهي تَفِكُّ أَزْرَارَها

خُذْ منِّي كُلَّ خَليَّةٍ وعَصَب

غَيْمَةٌ أنا

تَحْتاجُ إلى الرَّحيل ِ أبْعَدَ مِن عَينَيكَ

مَوجَةٌ أنا

تَحتاجُ إلى الإبْحار ِ أَعْمَقَ في شَفَتَيكَ

مَجْنونَةٌ تِلكَ الغُيومِ التي

لا تَمْطرإلا في الشِّتاء

مسْكِينَةٌ تلك الأرواحُ التي

لا تُعانِق الفردوس

***

سلوى فرح - كنــدا

 

تبدو الشوارع بليدة صامتة كأنها لا تعرفني. تزجرني لسبب لا أعرفه. أصبتُ بصعقة داخل رأسي. كل الظروف تسحبني نحو القلق. السيارات المزعجة. أصوات الباعة المتجولين. وشاشة التلفاز المضيئة في وسط الطرقات. وصوت الرافعة تهدم محلات الباعة المتجاوزين.

تكومتُ على نفسي من الإرباك والحيرة مرة أتجه شمالا ومرة أخرى يمينا علني أسمع خبرا يهدأ روعي وخوفي ولكن الأحداث تتشابك ولا أدري أي طريق أسلك..؟؟ كيف أصل الى بر الأمان،

 سمعت ضجيج الطلاب الصغار وهم يقصدون مدارسهم. مصادفة رأيت أحدهم يحاول العبور للجانب الآخر بينما كانت هناك سيارة قادمة بسرعة مجنونة صرخت دون وعيي واتجهت نحوه بطريقة عجيبة ثم سحبته بما امتلك من قوة وسرعة حركة. الا ان ما أدهشني أني فقدت صوتي في لحظة صراخي، كأن صوتي قد اختفى الى الأبد. أحسست وقتها اني أختنق لم تحدث هذه الظاهرة معي فيما مضى.

 كيف يمكنني ان أسير بدون صوتي..؟؟، بل وكيف يتم التعامل مع الآخرين..؟؟. دخلت الى حجرتي وأخذت اتدرب على الكلام كأني طفلة بعمر سنة أوسنتين. ادرب نفسي على نطق الحروف. جمدتُ في مكاني كمن يكتشف انه يسير منذ سنوات بلا حنجرة. تدربتُ صباحا ومساء ولكن. صوتي أبى ان يعود لي.

مضيت ابحث عنه في الازقة المبللة بذكريات الماضي. حيث كنت أخرج بصحبة صوتي والأمل يملأ صدري، وان غدا سيكون أفضل من اليوم. كانت الأماني تتراكض داخل روحي

 والسنوات زاحفة نحو مصيرها المجهول. هل يمكنني ان أمسكها وأعيدها الى الخلف الى أيام طفولتي؟ لم يكن هناك ما يزعجني. ولم أكن أفقه ما يدور.

لكنهم الآن يتحكمون بإرادتي. ويرسمون لي طريقا حسب اهوائهم وما يناسب مصالحهم الخاصة.

رسموا لي دائرة وأجبروني ان أبقى بداخلها أدور بلا هوادة مثل حصان الناعور الذي يخفون عينيه خلف قطعة جلدية. كي لا يرى نور الحياة والأضواء المشعة في هذا الكون الفسيح.

 هناك جلست قرب محل لبيع الشاي على الفحم والذي مازال يبيعه ذلك الكهل في فناجين مفقودة الاطراف. يفترش الأرض المفقودة التبليط. كنت اسمع الناس يتحدثون هامسين فيما بينهم عن الفقر والفقراء لكني لا أستطيع ان أشاركهم عما أفكر فيه. ولا يمكنني ان أبوح لهم بأني فقدت صوتي.

 والأفضل ان أعود من حيث أتيت متأبطة سري الجديد الذي لا يعرفه سواي. والذي اضطرني ان التزم حالة الصمت. لكن عيوني تترصد هفواتهم وتناحرهم فيما بينهم.

في طريق عودتي التقيتُ رجلا بلا صوت ايضا، كان يكتب على دفتر صغير جملة واحدة (خذلتني الحياة وهم خذلوا الجميع).

بالإشارة سألته من هم..؟؟ فلم يجبني!!

ثم رأيت امرأة تحدق في مرآة دائرية ولم يظهر داخل مرآتها أي شيء. قالت بصوت خافت: لم اعد اعرف وجهي، ربما ابتلعه اليأس لعدم صدقهم . وبالإشارة سألتها من هم.؟؟ فلم تجبني ايضا. !!

 وفي اخر الزقاق، كانت هناك طفلة صامتة غادرتها ضحكتها منذ زمن، فبدت كأنها عجوز صغيرة، حين نظرت اليها، شعرت انني انا من فقد ضحكته لا هي.

واصلت السير في قاع الوديان وقمم الجبال وتحت اشعة الشمس الحارقة ومع هيجان العواصف في آذار.

وأخيرا وجدت صوتي.نعم وجدته كان جالسا على مقعد خشبي في ركن المقهى، يحتسي الشاي ببطء. لا شأن له معي متظاهرا انه لا يعرفني. جلست امامه كأني أجلس أمام نفسي الهاربة من عالمها المضطرب.

لم يتكلم بلسان، لكني سمعته في داخلي يقول : تركتك حين هجرتِ نفسكِ. كنت قاسية معها تجاملين الآخرين على حسابها تعيشين غربتك بصمت دون ان تصرخي. مستسلمة لضعفك، أرى الكآبة مرسومة على صفحة وجهك لا يسعدك رفيف الطيور فوق رأسك. ولا زقزقة العنادل في ساعة الفجر ولا حتى المطر الغزير في ليالي الشتاء الباردة.

أحسست بدمعة ثقيلة ترقرقت في مقلتي وقلت له بلا صوت: عد إلي، لا أعرف ان أعيش بلا صوت فابتسم أو هكذا خيل إلي، ثم انسكب على جذع نخلة كأنه ماء الفرات الزلال. حاولت ان أتبعه لكنه قد ارتقى الى لب النخلة العملاقة.

لم أحزن كونها تستحق ان أمنحها كل ثقتي . ولأن صوتي ليس معروضا للبيع.

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

كان في طريقه الى السوق ليشتري بعض الحاجات التي تطلبها زوجته المريضة كلما تطلب الأمر ذلك، ولم يكن الأمر سهلا طالما كان يشعر احيانا بشيء من التعب والإرهاق ومع ذلك فهو مضطر على تلبية ما تريده للطبخ وإلا من الصعب الحصول على صحن غداء ولا حتى حساء.

اغلق باب سيارته القديمة وسار بمحاذات الجدار الذي ينتهي الى إستدارة تظللها شجرة صفصاف عالية يستظل تحتها شاب يافع في الثلاثينيات من العمر ينظر الى السيارات وهي تجوب الشارع الصاخب خاصة عند الظهيرة التي تتقد من وهج أشعة الشمس..

سأله العجوز بفضول: 

 لماذا انت جالس وحدك هنا يابني في هذا الحر (اللاهف).. وهل تنتظر احدا.. التفت الشاب وقبل ان يجيب، سأله ثانية:

هل أكلت شيئا، وهل لديك نقود؟

وفي هذه اللحظة جائتهما رشة من مياه الشارع قذفت بها سيارة مسرعة..

قال الرجل المسن بعصبية يا لهذا الحظ العاثر..

أجابه الشاب:

إنها ليس مسألة حظ يا عم، بل تربية بعض العائلات وكذلك المحيط الاجتماعي، هما اللذان صاغا سلوكه طريقة ما وقذفا به إلى الشارع، هؤلاء من حصة (الخارج) الملغوم بالرؤوس، كما تراها تتحرك وتتقارب وتتباعد وتتنافر وهي تدور في حلقة مفرغة من الوهم الذي يطفح به الخارج، ولا مفر من هذا الطوفان، طالما بات مجالا لجذب الضعفاء والجياع واللصوص، إنها معادلة يسمونها ( انا والحلقة المفرغة ) وليس هنالك مسألة اسمها الحظ..!!

ظل الرجل واجماً امام هذا الفيلسوف الشاب اليافع

وقال له:

وأنت، أين موقعك من هذه الحلقة المفرغة؟

اجابه بسرعة وبدون تلعثم:

" أنا منها وفي خارجها "..

وأنت ياعم ؟

ظل صامتاً يفتش عن اجابة شافيه لهذا السؤال المحرج.. أنا مثلك..

اجابه:

(أنت لست مثلي ولن تكون)..!!

وأشار الى الرؤوس التي تتحرك وتعبر الشارع وتثرثر.. هل ترى هؤلاء، انهم ليسوا متماثلين في تفكيرهم، يتفقون ويختلفون يتجمعون ويفترقون يبنون ويهدمون..

قال له:

انت إذن في خارج الحلقة المفرغة الآن، هل تود الرجوع إليها؟

أجابه: ما دمت قد خرجت منها سالما فمن الصعب التفكير بالعودة إليها.

قاطعه بسرعة:

" انت الان تنظر الى الحلقة المفرغة من الخارج اليس كذلك يابني؟

نعم.. أنا، اطل عليها من نافذتي الخاصة، ( أنا ) و (الخارج) الذي يغص بالفوضى كما ترى وتسمع الضجيج والضوضاء والثرثرة..

قاطعه:

ممن تعلمت هذا الكلام الذي لا يقدر عليه الكبار.. من المدرسة أم من عائلتك أم محيطك؟

كان في إجابة الشاب اليافع شيئاُ من الإمتعاض، لأن السؤال أخذ منحى خاصاُ.. ومع ذلك،

أجابه:

تعلمت من أبي كيف اتكلم وكيف اصغي ومتى أصمت وتعلمت من الذين يكتبون كيف اكتب وكيف اختار ما اريده واتذوقه من ثقافة..

واضاف:

ما ازال اتذكر وأنا في الصف الأول متوسطه كيف اشاد مدرس اللغة العربية بالانشاء الذي كتبته وكيف رفع الأوراق الثلاث فخوراُ امام الطلاب، بعد ان سألني هل أنت كتبت هذا الانشاء ؟

قلت نعم..

وهل ساعدك فيه احد؟

قلت كلا،

وهل أخذت بعض مقاطع او كلمات من احد؟

قلت كلا..

وهل اعجبتك نصوص اردت ان تقلدها؟

قلت:

أنا أقرأ كثيرا، أقرأ اكثر مما اكتب وإذا كتبت شيئا لا يشبه كتابات احد..

أجابه:

نعم، عليك ان تقرأ الكثير الكثير وبعدها تكتب.. لا كتابة يابني بدون قراءة.. الذين سبقونا " همنغواي وتلستوي وهيدجر وبيرغسون وسارتر وسيمون دي بفوا وكولن ويلسون وماركس ولينين وماوتسي تونغ وتروتسكي والكثير من المفكرين والفلاسفة العرب وغيرهم كانوا يلتهمون الكتب التهاما، ومن كل هذا تولد الأفكار والبلاغة والأدب والفلسفة والعلوم والفنون، انها تتوالد عبر العصور، وقد تصاب بعض الثقافات ب(العقم او الخواء نتيجة الازمات).. لأن نمو الثقافات يحتاج الى سلام ومعايير التسامح ولغة للإصغاء ولغة للحديث..

نعم، الجميع يحتاج الى إنموذج للإقتداء ومن ثم الى الإستقلالية في إختيار النهج او الطريق.

وواصل الشاب حديثه.. دخلت مرة احد المقاهي فوجدت تجمعات هنا وهناك في الركن المقابل، والغريب في الأمر ان الجميع كلهم لا يعطون أحدا فرصة لإلتقاط أنفاسه.. الجميع يتحدث ولا أحد يصغي.. كيف يجري التفاهم بدون إصغاء، كيف يتفاهمون ؟

رد عليه، دعك من هذا إنهم يتفاهمون في الفوضى وبدونها من الصعب ان تجد من يصغي..

نعم، يتفاهمون في الفوضى بدون إصغاء..!!

***

د. جودت صالح

27 / اكتوبر 2025

أنا موهوبةٌ جدًا في رسمِ الحدود.. لأنّي أُدرك أنّ الجمالَ لا يُقيمُ إلّا في مساحةِ الاحترام.

أضعُ بيني وبينك وردةً، لا لِتُغريكَ بعبيرها، بل لتقول لك بلُطفٍ خفيّ،

هنا تنتهي خُطاك، وهنا تبدأ نَبضاتي.

وربّما أضعُ كلمةً مهذّبة، دافئةً، أنيقةَ الوقع، تُشبهُ السلام حين يمرُّ على القلب بلا ضجيج.

أو نظرةً جادّةً حانية، تُشبهُ يدًا تُرَبِّت على كتف المسافة، وتهمس،

قف حيث أنت… تلك مساحتي، فامنحها صمتَك الجميل كما أهبُك أنا وُدّي الرصين.

*

أُؤمن أن الاحترام ليس مجرّد سلوكٍ اجتماعي،

بل هو ذروةُ الفهم، أن تتقمّصَ ظروف الآخر، أن ترى العالم من نوافذه،

أن تدرك أنّ للناس أنفاسًا مختلفة، وأوجاعًا لم تُروَ، وأحلامًا هشّةً تخافُ الريح.

*

أنا موهوبةٌ في رسم الحدود،

لكنّني لا أرسمها بسياجٍ من حديد، بل بخيوطٍ من نورٍ،

تتركُ لكَ حريةَ الاقتراب، دون أن تسمحَ بالانتهاك،

تمنحكَ دفءَ الحضور، دون أن تُفقدني اتزاني.

*

فالاحترام، في جوهره، فنّ الموازنة بين القلب والعقل، بين أن تُحبّ وأن لا تُلغِي، أن تُنصتَ دون أن تذوب،

أن تظلَّ قريبًا بما يكفي، وبعيدًا بما يَصونُ النقاء.

*

هكذا أرسمُ حدودي، لا من باب الخوف، بل من باب الاحترام.

لا هروبًا، بل وعيًا بأنّ لكلّ نفسٍ فضاءها، ولكلّ روحٍ حقّها في الهواء.

***

مجيدة محمدي

(حكايةُ جنّتين وجنايةُ

قريتين)

***

وَلَمّا رأى في الجنّتينِ حَرائقا

وَرُؤيا بها النيرانُ شَبّتْ حقائقا

*

مضى في طريقِ العارفينَ مُنوّراً

مصابيحَ مَنْ لا يُبْصِرونَ طرائقا

*

يُريهمْ أساريرَ الكتابِ جواهرا

كما أبصرَ (السَكْرانُ) فيهِ (رقائقا)

*

وَقيلَ قوافي الروحِ وَحْيُ خَسائرٍ

وَتُرسِلُ أطيافَ الفقيدِ فيالِقا

*

كفاكَ لظى الفقدانِ يُلهمُ عازفاً

لِيَشهرَ آناءَ الغيابِ فَوالِقا

*

يُفلّقُ هاماتِ الحُداءِ مع السُرى

وتُنكرُ أحوالُ السُراةِ مُفارقا

*

يَهزُّ عُذوقاً للكلامِ شهيّةً

لِيُطْعِمَ فلّاحاً كذلكَ سارِقا

*

أذوقُ تُموراً كالعُسيْلةِ نشوةً

وأخصفُ خوصاً للنُخيْلَةِ طافِقا

*

يُفتّقُ أكمامَ البلاغةِ عَلّهُ

إذا وَقَبَ الإظلامُ يلعنُ غاسِقا

*

يُفتّحُ أزرارَ الجوى وَيُخيطُها

فَهرطقةُ التبديعِ تُغْويهِ مارِقا

*

فيخْتَلِجُ الوجدانُ لَحْنَ حمائمٍ

وَتسْلو سماواتُ الفُؤادِ عقاعقا

*

تَبُثُّ يَماماتُ الجَنانِ هَديلَها

تَغاريدَ مكلومٍ تَذكّرَ ناعِقا

*

وَرِثْنا رُؤى الضِلّيلِ قَبْلَ غُواتِهِ

معاً شيّدوا في الماوراءِ جَواسِقا

*

وَمِنْ شَجَراتِ النخلِ طَلْعَ سلائقٍ

وكيفَ طُلوعُ النَخلِ تُؤذي السَلائقا

*

سُكارى مِنَ التَهْيامِ خلفَ إمامِنا

نَشعُّ كأنّ الليلَ شعَّ مَشارِقا

*

فَهيْهاتَ بستانُ النخيلِ بجنّتي

يَخونُ حفيدَ الباسقات وعاشقا

*

فَما بَرِحتْ تُزْكي النُفوسَ طُلوعُها

ورغمَ جنوحِ العادياتِ بواسِقا

*

سأهجرُ من غابوا وأرحلُ لاحقاً

حَداثَةَ مفتونٍ يَرومُ لواحقا

*

أنَرْكَبُ أفلاكَ الحداثةِ كلّما

عَدِمْنَ  بحورَ الأوّلينَ زوارقا

*

ونعزفُ لَحْنَ السابقينَ تِلاوَةً

وتأبى القوافي أن تفوقَ سَوابقا

*

سأتلو مراقي السالكينَ سَلالِماً

وأقفو مقاماتِ المنازلِ تائقا

*

وأجلو المرايا في البصيرة جاعلا

مَدى بَصَري بازاً ينادمُ باشِقا

*

بِقلبٍ على جمرِ الحقيقةِ عاكِفٍ

وقدْ فاضَ تنّورُ الخيالِ بَواتِقا

*

بأجنحةِ الشاهين طافَ مَواكِباً

وَبوتقةُ الخيّال فارتْ خَوارِقا

*

خصيبيّةُ الأمدادِ صوفيّةُ الرُؤى

تطيرُ إلى معنى الوجودِ بيارقا

*

فَلسْتُ حكيماً بل أسيرَ نبوءةٍ

ولم أكُ يوماً بالمواعظ حاذقا

*

وَلَسْتُ فقيهاً بالرواية عالماً

ولكنّني أغزو الحقائقَ ذائقا

*

وحَسْبُكَ شطحٌ حازَ طعْمَ تَزنْدُقٍ

وَرُبَّ مُريدٍ قد تزندقَ صادقا

*

وأسطو على سِرِّ البَداهةِ كاشفاً

فُيوضَ حُدوسٍ في اللُبابِ وفاتِقا

*

يَنِثُّ يقينُ العارفينَ نَيازكاً

وألْفَ شِهابٍ للحوالكِ ماحِقا

*

هَوى مَلَكوتُ الوجْدِ قابَ غوايةٍ

نُجيماً على قاعِ البواطِنِ طارقا

*

فَسَحّتْ عُيونُ الخافياتِ مجامراً

تُحرّقُ في بَهْوِ الجِنانِ نَمارِقا

*

وَرَشّتْ قواريرُ الغيوبِ رذاذها

وفاضت خوابي الدالياتِ دَوارقا

*

يَكادُ فؤادُ الصَبِّ يهطلُ كوثراً

لِيُطفي بهِ قيدَ النفوسِ صواعقا

*

لَعَلَّ غواةَ الحَرْفِ طوْعُ مشورتي

غُباقى يعبّونَ الضياءَ غبائقا

*

تسامتْ نُهى العَرّافِ فَرْطَ درايَةٍ

إذا ما تفادى في الضميرِ عوالِقا

*

وزاغت خُطى القيّافِ قُرْبَ يمامةٍ

هُنا الدمعُ حتى الدمعِ أصبحَ ناطقا

*

متى ما تَذُقْ سِرَّ المُدامةِ من فَمٍ

لِهادِلَةٍ أمسى مزاجُكَ رائقا

*

عَتقْتُ هَديلَ الساجِعاتِ بداخلي

ألا ليْتَ ألحاني تُروّضُ عاتِقا

*

أيا جارتا ويْلَ العروبةِ بعدما

مَحا الصنمانِ الأكبران علائقا

*

سألْتُ فُراتَ اللهِ قَبْلَ جفافهِ

لماذا بَكينا يَوْمَ زيفاً تَعانقا

*

أكُنّا كما الغرقى بِوهْمِ عُروبَةٍ

على رُقْعةِ الشِطْرنْجِ نعدو بَيادقا

*

بِخيْلٍ وراء الرُخِّ حينَ تَرادَفتْ

لَها عَمّقَ (الفيلانِ) تلكَ الخنادقا

*

وحولَ الضفافِ الحاضناتِ فُراتِنا

لَمَحْتُ ظلالَ الناطحاتِ عوائقا

*

نَطحْنَ سَماءَ اللهِ حتى تَهدّمتْ

على الجانبينِ الأخصبينِ طوابقا

*

فَيا حَبّذا الأحلامُ تُسْعِفُ واهِماً

وَرُبّتَما الأوهام صارتْ مَشانقا

*

أينسى فُلولُ الجائرينَ صَنيعَهمْ

سَلوا ياسَمينَ الشامِ ثُمَّ الزَنابِقا

*

وَذَكّرْ يَتامى الذابِحينَ نخيلَنا

وَكمْ دفنوا قُرْبَ السَديرِ شَقائقا

*

بأنّي على نارِ الجنائنِ لم أَزَلْ

أزُخُّ القوافي كي تقومَ حدائقا

*

أعوذُ بشعري والمعوذةُ فرقدٌ

يَراهُ فُؤادي في القصيدةِ شاهقا

*

وَيرنو الى كُنْهِ العَدالةِ جوهراً

فَلَمْ يَرَ ما بينَ الأنامِ فَوارِقا

*

ولستُ بِراءٍ للخليقةِ مُنقِذاً

وألعنُ طاغوتاً يُذِلُّ خلائقا

*

وأرشقُ تمثالَ الزعيمِ حجارةً

جُزيتُ عَدوّاً للعُتِلِّ وراشقا

*

وأوما لِأقسى قريتينِ تَراءَتا

ثَعابينَ أرضعْنَ الجِنانَ بَوائقا

*

وَأوصى فراديسَ الهلالِ حصانةً

مَخافةَ عَوْدٍ للضباعِ دَقائقا

*

فَبِسَكَ وزّانا يَكيلُ مُطَفِّفاً

وكائلَ غِشٍّ لا يَهابُ مزالقاً

*

أتيتُ مَكائيلَ المُطفّفِ ناعياً

لِأنصُبَ في ذكرى الضميرِ سُرادِقا

***

د. مصطفى علي

ضجري ما أبقى لي ضجري

ألا أنفاسا في الشرر

*

ما كان العود ليطربنا

لولا أحلام في الصغر

*

نطعم أشلاء محنتا

عزفا والناي بلا وتر

*

سهد والليل يؤرقني

ما فك رقادي من أسر

*

كل الاحوال سأرقبها

سير الأحوال على عمري

*

سير الاحوال لمزدلف

أشتات كان بلا أطر

*

وأديم الارض سأحرثه

زهر ألقاه بلا جذر

*

ضجري ما أبقى لي ضجري

كل الاحلام على خطر

*

أسفا أزجيك سيدتي

ما كنت أرى بالفكر

*

أعطيني الساعة منزلة

أني أهواك ولي عذري

*

أسقوني الآن محبتها

كأسا بالحب بلا خمر

*

ورقصنا اليوم بلا لغة

فوق الاقدار وفي الكدر

*

أني ألقاها معتركا

دمس الايام ولا القدر

*

ما كان القول يؤنسنا

قول معناه على الجفر

*

خطب الايام سيتعبنا

ما جال خطاب في الصدر

*

من كان الماضي سيدها

قد عاد اليوم على خبر

*

أين الاطلال وما بقيت

ما عاث الريح بلا مطر

*

أين الربان سفينته

وثغاء الشاة مع البقر

*

أين الأقوام ومسربها

أين الحكام مع القصر

*

أين المصباح ومسنده

وسناء الليل لمحتكر

*

كيف المصباح سنطفئه

وطريق فيه لم نسر

*

كيف الأدوار ستلعبها

أبلاه غنت من بشر

*

ما هذا الفعل أحسبه

زيف قد عاد على نظر

***

د. علي جبار الاسدي

أَنَا لَا أَرْفَعُ رَأْسِي تَكَبُّرًا،

بَلْ لِأَنَّ فِي دَاخِلِي سَمَاءً

تَأْبَى الاِنْحِنَاءَ.

كِبْرِيَائِي لَيْسَ جِدَارًا،

بَلْ أُفُقٌ أُطِلُّ مِنْهُ عَلَى نَفْسِي،

وَأَرَى فِي الصَّمْتِ أَوْسَعَ مِنْ كُلِّ ضَجِيجٍ.

أَنَا لَسْتُ أَعْلَى مِنْ أَحَدٍ،

لَكِنِّي لَا أَقْبَلُ أَنْ أُخْتَصَرَ فِي ظِلٍّ.

كِبْرِيَائِي…

صَلَاةٌ سِرِّيَّةٌ فِي مِحْرَابِ الْعِزَّةِ،

هَمْسُ رُوحٍ تَعْرِفُ قَدْرَهَا،

وَتَبْكِي حِينَ تُـمَسُّ الْكَرَامَةُ.

لَا أَحْتَاجُ تَصْفِيقَ أَحَدٍ،

وَلَا اعْتِرَافَ السُّطُوحِ.

يَكْفِينِي أَنْ يَظَلَّ وَجْهِي فِي مِرْآةِ نَفْسِي نَقِيًّا كَقَطْرَةِ مَطَرٍ لَمْ تَمَسَّهَا يَدُ الْأَرْضِ.

الْكِبْرِيَاءُ لَيْسَ أَنْ أَقُولَ "أَنَا"،

بَلْ أَنْ أَكُونَهَا كَامِلَةً

حِينَ يَغِيبُ كُلُّ أَحَدٍ.

أَسْمَعُ فِي دَاخِلِي نِدَاءً قَدِيمًا :

«اِنْهَضْ، لَا تُطْفِئِ النُّورَ كَيْ يَرْضَوْا عَنْكَ،

فَمَنْ اِنْحَنَى ضَاعَ ظِلُّهُ.»

أَمْشِي بِخُطَى الصِّدْقِ،

أَتْرُكُ وَرَائِي ضَجِيجَ الزِّحَامِ،

وَأَمْضِي،

وَفِي قَلْبِي نَارٌ تَعْرِفُ مَتَى تَشْتَعِلُ

وَمَتَى تَصْمُتُ كَجَمْرَةٍ نَبِيلَةٍ.

أَنَا لَسْتُ حَجَرًا،

لَكِنِّي لَا أَلِينُ لِمَنْ يُرِيدُ كَسْرِي.

كِبْرِيَائِي سَكِينَةٌ تَتَوَضَّأُ بِالْجُرْحِ،

وَتَكْبُرُ كُلَّمَا صَبَرْتُ.

هُوَ الضَّوْءُ الَّذِي لَا يَرَاهُ الْعَابِرُونَ،

لَكِنَّهُ يَهْدِينِي الطَّرِيقَ

حِينَ أَكُونُ وَحْدِي.

كُلُّ صَمْتِي شُمُوخٌ،

وَكُلُّ نَظْرَتِي وَعْدٌ،

وَكُلُّ كَلِمَةٍ لَا أَقُولُهَا،

سُورٌ يَحْمِي زَهْرَةَ نَفْسِي مِنَ الرِّيحِ.

الْعِزَّةُ لَيْسَتْ صُرَاخًا،

بَلْ أَنْ تَمْضِيَ فِي صَمْتِكَ وَاثِقًا،

وَفِي وَجْهِ الْخُذْلَانِ… مُبْتَسِمًا.

كِبْرِيَائِي :

أَنْ أَرَى نَفْسِي فِي الْعَاصِفَةِ،

وَلَا أَرَى الْعَاصِفَةَ فِي نَفْسِي.

أَنْ أَقِفَ،

حِينَ يَسْقُطُ الْجَمِيعُ.

أَنْ أَظَلَّ نَقِيًّا،

حِينَ تَتَّسِخُ الْوُجُوهُ بِالتَّصَنُّعِ.

أَنَا لَمْ أَتَعَالَ،

لَكِنِّي تَعَلَّمْتُ أَنَّ مَنْ يَهْبِطُ إِلَى الطِّينِ،

يَفْقِدُ وَجْهَ السَّمَاءِ.

كِبْرِيَائِي لَيْسَ عُلُوًّا،

إِنَّهُ جُذُورٌ فِي الْعُمْقِ،

تَسْقِيهَا التَّجَارِبُ،

وَتَحْرُسُهَا الدُّمُوعُ.

مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ،

اِسْتَغْنَى عَنْ كُلِّ مِرْآةٍ.

وَهَا أَنَا…

أَمْشِي بِنُورٍ لَا يُطْفِئُهُ مَدْحٌ،

وَلَا يَزِيدُهُ ذَمٌّ،

نُورٌ خَرَجَ مِنْ جُرْحٍ،

وَصَارَ جَنَاحًا.

أَنَا لَا أُقَايِضُ صَمْتِي بِثَمَنٍ،

وَلَا أَبِيعُ وَجْهِي فِي سُوقِ الْوُجُوهِ.

كِبْرِيَائِي هُوَ هَذَا التَّوَازُنُ الدَّقِيقُ

بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْعَقْلِ،

بَيْنَ الضَّعْفِ النَّبِيلِ،

وَالْقُوَّةِ الرَّحِيمَةِ.

مَنْ يَظُنُّ الْكِبْرِيَاءَ قَسْوَةً،

لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الاِنْكِسَارِ بِكَرَامَةٍ.

أَنَا لَا أَنْحَنِي،

لِأَنَّنِي حِينَ أَنْحَنِي

أَفْقِدُ مَلَامِحَ نَفْسِي.

وَمَا أَجْمَلَ أَنْ تَبْقَى وَاقِفًا،

حَتَّى لَوْ كُنْتَ وَحِيدًا،

فَالْوَحْدَةُ مَعَ الْعِزَّةِ

أَرْحَمُ مِنَ الْجُمُوعِ مَعَ الذُّلِّ.

***

بقلم: سليمان بن تملّيست - تونس

جربة في 2025/10/27

 

تحيّرتُ منْ شوقي إليك ِ ولوعتي

أنارُ جحيم ٍ أنْت ِ امْ أنت ِ جنّتي

*

تلاقينني والقلب ُ يرقصُ نشوة ً

وارجع ُ مهموما ً أنادم ُ حَسْرتي

*

وتبديْين َ لي في ألْف ِ حال ٍ وصورةٍ

فأيّة حال ٍ سوف َ ترسمُ ريشتي

*

أكفكف ُ أحيانا ً دموعي وتار ة ً

أ ُغرّدُ مثْل َ الطيرِ من فرْط ِ فرحتي

*

وأهرب ُ منْ لقياك ِ لكنني أرى

خيالك ِ قُدّامي كأنك ِ كعبتي

*

وأغفل ُ عنْ ذكْر ِ الهوى متناسيا ً

فتلسعُني ذكراك ِ لسْعة َ جمْرةِ

*

فتسخر ُ بالنسيان ِ ذاكرتي وقدْ

صَحتْ خطواتي عنْد َ موطئ عثرتي

*

وأرجع ُ منْ حيث ُ ابتدأت ُ كعادتي

أُفكّر ُ ما بين اشتياقي وخيبتي

*

أحاذر ُ ممّا قدْ يجئ ُ به ِ غد ٌ

فيغرقني التفكير ُفي كلّ خطوةِ

*

أخاف ُ من الأيام، منْ دورانها

يفرّقنا عن بعضنا دون َ رجْعة ِ

*

فقدْ تقتل ُ الحُب َّ الشديد ّ حماقة ٌ

وقدْ يُطفئ ُ الأشواق َ بعضُ تعنّت ِ

*

فتصبح ُ دُنيا العاشقين َ مملّة ً

وباردة ً كالثلْج ِ مِنْ غيرِ جذوةِ

*

أخاف ُ بأن ْ تجري الرياح ُ حبيبتي

بغير ِ الذي قدْ أمّلتْهُ سفينتي

*

ويُلْغي شراع ٌ مُرْغما ً خط ّ سَيْرهِ

وترمي بنا الأمواج ُ في كل ّ وجهة ِ

***

أعيدي إلى نفسي الأمان ّ وحاولي

بأنْ تنقذيها منْ شكوك ٍ وحَيْرةِ

*

أريني الغد َ الآتي حنانا ً وعالما ً

مِنْ العطْف ِ لا مِنْ كبرياء ٍ وقسْوةِ

*

كما أنت ِ كوني فطرة ً وبراءة

فإنّك ِ لَوْ تدرين َ أجمل ُ لوحة ِ

*

بقيّة ُ حُب ّ في فؤادي تشدّني

إليك ِ فصونيها بلمْسة ِ رقّة ِ

*

فإنْ أنت ِ أبديْت ِ التسامح َ مرّة ً

سيكبر ُ في قلبي الهوى ألف َ مرّة ِ

*

أشيح ُ بوجهي عنك ِ وجها ً مقنّعا ً

وأهواك ِ حتّى الموتِ وجه َ حقيقة ِ

*

ولي أمل ٌ أنْ يرجع َ الحبُّ صافيا

ويفتح َ أبواب َ السماء ِ بكلمة ِ

*

فنرقى إلى حيث ُ الأعالي تضمّنا

كنجمين ِ من تلك النجوم ِ البعيدة ِ

*

نسافر ُ في كون ٍ من الضوء ِ ساحر ٍ

فنحن ُ بلا حُب ّ مجرّد ُ طينة ِ

*

هو َ الحب ّ نورُ الله فينا وإنّهُ

عزاء ٌ لنا في عالم ٍ متزمّت ِ

*

وبالحب ّ أغنى الناس ِ نحن ُ وإننا

لأطول ُ عمرا ً منْ حياة ٍ قصيرة2086 alsaedi

لا تشغليني بالحديث لأنني

في الصمتِ يشغلني الهوى الغلابُ

*

وأرى الجمالَ إذا صمتُّ مفكرا

إنَّ الحديث َ عن الجمال ِ حجاب ُ

*

إنَّ التفكّر َ في الجمال ِ عبادة ٌ

تجلو الفؤادَ فتُفتح ُ الأبواب ُ

*

الحسْن ُ معنى ً كالمحبّة ِ ساكن ٌ

أعماقنا لا صورة ٌ وثياب ُ

*

إنّي ليبلغني التفكّر ُ نشوةً

أضعاف َ ما تاتي به ِ الأكواب ُ

*

كُثْر ٌمحاريبُ الجمال ِ وإنّما

الكون ُ كلُّ الكون لي محراب ُ

*

سألوا : أأنت ِ حبيبتي فأجبتُهم ْ

بالصمْت ِ، فالصمْت ُ العميق ُ خطاب ُ

*

إن َّ الإ جابة َ حين َ يفتضح ُ الهوى

عبث ٌ ، ففي بعض ِ السؤال ِ جواب ُ

*

ولكم أثاروا في غيابي شكّهم

لِم َ قدْ عشقتُك ِ؟ ما هي َ الأسباب ُ

*

إنّي أحبّك ِ هكذا بتجرّد ٍ

معنىً ، فما الأسماء ُ والأنسابُ

*

في الحب ِّ تنصهر ُ الفروق ُ ويختفي

نَسَب ُ الحبيب ِ وتسقط ُ الألقاب ُ

*

لا شئ َ غير ُ الحب ِّ يجمعنا معا ً

إنْ لم ْ نعشْه ُ فإنّنا أغراب ُ

***

جميل حسين الساعدي

...........................

* هاتان القصيدتان من مجموعتي الشعرية (طقوس) الصادرة عن دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع القاهرة جمهورية مصر العربية

لستُ في قبريَ وحدي

أنا من نافذة داخلَ صدري أرصدُ العالمَ

في أخطائِهِ يغرقُ للقاع،

ويطفو

وهو في النزْع الأخير

والسكاكينَ التي تُغمدُ في أقمِطة الأطفال

والليلَ الذي يَدفنُ في الأحداق أسمالَ الضحايا

والملايينَ التي خوفاً من النيران

صارتْ – دونَ أن تدري – فراشاتٍ

على النيران تهوي، وتطير

لم يكنْ موتيَ بالأول هذا

فقد اعتدتُ على الميتات من قبلُ

كما اعتدتُ على رجلي إلى الموتِ أسير

غيرَ أني بعد موتي

كنتُ أشتاقُ لبيتي وصِحابي فأعودُ

حامِلاً نعشي على ظهري

وجلدي كَفني

مُودِعاُ للميتة الأخرى جراحي وصليبي في الحَفير

بعدَ كَرّاتِ قُرونٍ بينَ موتٍ وانبعاثٍ

صِرتُ روحاً هَرّأتهُ الطلقاتُ

هائماً، يبحثُ في كون من النيران

عن خِدنٍ،

وبَيتٍ،

وسَرير

***

شعر: ليث الصندوق

 

مثنوياتٌ ورباعياتٌ عربية

مهرجاناتُ للشعرِ قامتْ ولمْ يحضرِ الشعراءْ

لأنَّ قصائدَهمْ نورُ حقٍّ يَشعُّ بِهِ النبلُ والكبرياءْ

**

بالهلاهلِ و الهللويا ودقِّ الدفوفْ

هَلَّلوا للمزيَّفِ حتى يكونَ المزيفُ شاعرْ

كتبٌ ملأتْ في رفوفٍ صفوفْ

هراءٌ!، فمِنْ أينَ جاءَ البيانُ الذي يجعلُ الشعرَ ساحرْ

**

الجوائزُ جاهزةٌ والدروعْ

احتفلْ! ليسَ مِن شأنكَ الآنَ أمٌّ تنوحُ وطفلٌ يجوعْ

**

ببغاءٌ يقدِّمُهُ ببغاءْ

ويرتِّلُ آياتِهِ ويقولُ: عظيمْ

وانْ هوَ الّا الكلامُ السقيمْ

يسوِّقُهُ في احتفالِ الرياءِ رياءٌ يفوقُ رياءْ

**

الوجوهُ الجميلةُ حاضرةٌ، والغواني هنا

والقلوبُ الجميلةُ غائبةٌ في المنافي وما وجدتْ سكنا

**

مهرجانٌ تلا مهرجانْ

والهزيمةُ ماثلةٌ في الزمانِ وعابثةٌ في المكانْ

***

شعر: كريم الأسدي - العراق

ماذا تعني لك الحرب

الحرب تعني أن تقف في نقطة ما

بين النوم والصحو

أن يبقى صوت آلتها يملأ أيامك بالنشاز

الحرب أن تتعلم الفرار

أن تقدس فكرة الموت على الحياة

أن تدرك أنك لست بناج

طالما أن هنالك موت يومي

موت مجاني

وجوع كافر

أسر وحصار وحرائق

أوبئة وظلام

الحرب خوف

خوف من كل التفاصيل

التي يمكنها أن تشرح إنك على قيد الحياة

وسؤال أبله

يقف على قارعة الذعر

هل أنا حي

الحرب جحيم الدنيا

يتمثل في عبرات

ونظرات مذعورة

وجسد منهك

الحرب وثيقة لاجئ

طابور عند مخيم

أسرى في عنق أجندات منسية

وقبور مفتوحة

وجثث جثث يا للهول

ومشاف لا تعمل

ومدارس في ذمة أجراس صدئة

ومدن نسيت كيف يكون هطول الضوء

وجرحى جرحى

ودمامل في القلب

ووجع في الروح

وحكومات لا تتهجى وجع الإنسان

ومشورات وإدانات

سفريات ومطارات

وسجاد أحمر يشبه جدا وجه النيل هناك الآن

الحرب خارطة للعجز

تأخذك وترميك على وقع هواها الأرعن

لا تملك إلا أن تذعن يا مسكين

فمع أول طلقة

صوتك أصبح في عداد المفقودين

وضاع البيت

وكل الرفقة

بصرك شاخ فأين طريق الرجعى

الشارع شائك

المشهد شائه

وزواريب الساسة ضيقة نزقة

إذا ما التفتت نحوك

وواسعة واسعة جدًا

كمضمار لسباق التصريحات

وعقد الصفقات

الحرب إني هنا

أتلفت في حيرة

وأحاول أن أكتب نصًا

نصًا يشبه شرخًا ممتدًا

أو

يشبه أرملة وطفلة يتيمة

لا لا

بل يشبه صرخة إنسان عالق

تعلو تعلو

وما من سامع

الحرب أن تصبح كالأوطان

لا تموت

تبقى واقفة

ولكنها تنزف أولادها

وتتعلم ألا تموت دفعة واحدة

***

أريج محمد احمد

27/10/2025

في الليلْ

وأنا ألتحفُ الحرفَ

تراءى لي خيالٌ..

قالَ:

ما الذي أسهركَ الليلةَ؟

قلتُ:

إنَّهُ الحرفُ،

رفيقي

في طريقي،

منذُ أشرعْتُ

كتابَ العشقِ

في عينيَّ،

ناداني،

فلبَّيْتُ،

تعوَّدتُ الأرقْ،

كلَّما أوغلْتُ فيهِ

ثمَّ أوغلْتُ..

إنفلَقْ!

عن مصابيحَ،

وأنهارٍ،

ووردٍ،

وحكاياتٍ،

قلوبٍ عامراتٍ..

بثمارِ مِنْ ذهَبْ،

دانياتٍ..

طَبَقاً فوق طبقْ؛

إنْ زرعْتَ الحقلَ

في صدركَ

عشقاً،

وألَقْ....

***

عبد الستار نورعلي

تشرين الأول/أكتوبر 2025

تِلاوةُ الصِدقِ، رُوحُ الحُبِ مَـنْهـجُهــا

وفي التصنّع رَمْــشُ العــين يَضْطرِبُ

*

الصمْتُ عن سوء فَهْمٍ، جَفْـنُه خَـجِــلٌ

والصمتُ عــن خِــبْرَةٍ، عيناه تَرتَقـِبُ

*

اذا قـَـصَدتَ وِصالاً، تَــبْغــي عِـفَّــتـَه

يهــابُـك الــشكُ والتزيــيفُ  والرّيـَـبُ

*

مَلامِــحُ العينِ، طِيبُ القلبِ يَرسمُهـا

وللأنـامِــلِ إيــعــازٌ، لـــه سَــــــبَــبُ

*

حُـــسْـنُ الـتــرنّمِ، لاعَــزفٌ يـرافــقُـه

لأنـّــه خَـــيــرُ مــا جادَت بـــه الكــتبُ

*

(يــامن يعُـــزُّ عــلـينا أن نــفارقهـم)

ســـلوا القــوافــي وصالاً، فيه نَقْـترِبُ

*

فـــي جــنّــة الأدبِ الرفـــيع مَـــنازِلٌ

فـــيها الخلــود، فــلا مالٌ ولا ذهــبُ

*

لمّــا الزمـــانُ، بـــه مراحِـلُ عُــتْــمَةٍ

لابد أن يــتــشظى الســأمُ والنَّـصَـبُ

*

غُــصنُ البــديعِ، إذا الوصالُ لــه دعا

يدعـــو البيانَ، لِـرِفْــــقَـةٍ بهــا يُــنْسَبُ

*

فـــواصِل الحُبِ، لا تُـخْـشى بَــوادرُها

إنْ زانــها مِــن رَحــيق العِــفّــةِ الأدبُ

***

من البسيط

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

 

سَأُفَكِّرُ فِي الصَّدَى وَأُمَدُّ نَفْسِي

فَوْقَ لَوْحِ الْحُلْمِ، أُصْغِي لِلسَّمَاءِ

2

سَأُسَافِرُ فِي جَنَاحِ الضَّوْءِ حُرًّا

نَحْوَ لَفْظٍ فِي مَدَارِ الانْتِهَاءِ

3

وَأُمَجِّدُ مِلْحَ نَفْسِي، ثُمَّ أَمْشِي

فِي مَسَارَاتِ الشُّرُودِ إِلَى فَنَاءٍ

4

يَا صَدَايَ الْمُسْتَطِيلُ عَلَى يَدَيَّ

كُنْ لِيَ النَّجْمَ الْخَفِيَّ بِلَا دُعَاءٍ

5

كُنْ دَلِيلِي، إِنْ تَعَثَّرَتْ خُطَانَا

فِي مَنَافِي الْوَهْمِ، أَوْ فِي انْطِفَاءٍ

6

كُنْ نَبِيًّا، كُنْ ظِلَالِي، كُنْ حَنِينِي

فِي كُتُبِ الْغَيْبِ، أَوْ فِي انْطِوَاءٍ

7

كُنْ سَمَاءً، تَرْسُمُ الظِّلَّ الْمُبَاحَا

فِي مَدَادِ اللَّيْلِ، أَوْ فِي جِهَاتٍ

8

كُنْ صِرَاخًا فِي جُنُونِ الصَّمْتِ، إِنِّي

أَخْتَنِقُ فِي الضَّوْءِ، أَوْ فِي خَفْقَتَيْنِ

9

أَتْرُكُ الْأَرْضَ الَّتِي لَا تُجِيبُنِي

وَأُفَكِّرُ فِي السُّؤَالِ وَفِي فَنَاءٍ

10

أَرْسُمُ الْمَعْنَى وَأَحْفُرُ فِي صَبُورِي

ثَغْرَ أَيَّامِي، وَأَكْتُبُ فِي عَنَاءٍ

11

لَسْتُ شَيْئًا، غَيْرُ أَنِّي وَجْهُ صَبْرٍ

يَتَمَشَّى فِي مَدَى نَفْسٍ شَقِيَّةٍ

12

لَسْتُ شَيْئًا، غَيْرُ هَذَا الصَّوْتِ، يَبْكِي

فِي مَدَى الظِّلِّ، وَفِي شَفَةِ نِدَاءٍ

13

قَدْ دَلَوْتُ اللَّيْلَ مِنْ جُرْحِي وَمَشَيْتُ

فِي نُزُوفِ الْمِلْحِ، حَافِيَةُ الْمَدَى

14

وَارْتَقَيْتُ اللَّوْنَ، حَتَّى لَمْ أَرَ غَيْرَ

نَارٍ تَسْتَفِيقُ مِنَ الصَّدَى

15

كُنْتُ فِي خَفْقَاتِهِ صَوْتًا خَفِيًّا

يَنْزِفُ الْمَعْنَى عَلَى وَجْهِ الْبُكَا

16

وَبَكَتْ فِي الْمَاءِ أَحْلَامِي وَمَاتَتْ

كَنُدَافٍ ضَلَّ فِي بُرْجِ الْهَوَى

17

وَأَنَا أَمْشِي، وَرَائِي لَا أَرَانِي

غَيْرَ حَطَّابٍ يُفَكِّكُ مُقَلْتَيْهِ

18

وَبِوَجْهِي كُلُّ وَجْهٍ كُنْتُ أَرْسُمُهُ

قَبْلَ أَنْ يَسْتَنْبِتَ الْأَشْوَاكَ فِيَّ

19

مَنْ يُرَتِّبُ دَمْعَتِي فِي كَفِّ هَذَا

اللَّيْلِ؟ وَمَنْ يَأْوِي إِلَى ظِلِّي وَيَحْتَجُّ عَلَيَّ؟

20

كُلَّمَا اخْتَلَيْتُ بِأَشْلَاءِ الرُّؤَى

قَالَ ظِلِّي: مَا اسْتَقَرَّتْ خُطْوَتَاكَ

21

كُلُّ شَيْءٍ فِي دِمَشْقَ تَنَفَّسَ النَّارَ

وَبَاتَ يُهَجِّسُ الْأَشْبَاحَ فِيكَ

22

كُلُّ نَايٍ قَدْ بَكَى، وَالْغَيْمُ كَانَتْ

دَمْعَةً أُخْتِي الَّتِي مَاتَتْ دُونِي

23

هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي فِي صَوْتِهَا

قُرْبَةُ الْمَاءِ وَنَفَحَاتُ الشُّجُونِ

24

مِثْلُ نَجْمٍ كَانَ يَبْكِي فِي الرُّبَى

كُنْتُ -إِنْ أَدْمَيْتُ- أُغَنِّي لِلظُّلُومِ

25

وَسَأُصْغِي، كُلَّمَا ضَاعَتْ خُطَايَ

إِلَى الصَّدَى، يَشْهَى بِقَافِيَةِ السُّفُونِ

26

وَسَأَبْنِي، فِي الْخَرَائِطِ نَبْتَ نَفْسِي

كَيْ أُرَتِّقَ مِنْ جُرُوحِي مَا أُفُوقُهُ

27

رُبَّ ظِلٍّ كَانَ يَمْشِي فِي دِمَائي

قَالَ لِي: امْضِ، وَدَعْنِي لِلرِّيَاحِ

28

كُلُّ مَا فِي الْكَوْنِ يُصْغِي لِي وَيَبْكِي

وَأَنَا أُصْغِي لِنَفْسِي فِي الْجِنَاحِ

29

يَا أَنَا! كُنْتَ النُّزُوحَ وَكُنْتَ شَوْقِي

كُنْتَ دَمْعِي حِينَ أَضْحَى فِي الزَّمانِ

30

لَسْتُ أَعْلَمُ، كَيْفَ أَخْتِمُ هَذِهِ الرُّؤْيَا؟

وَكَيْفَ الْغَيْبُ يَحْفُرُ فِي جِنَاني

*

الكودا (نشيد الرؤيا)

قُلْتُ: يَا صَوْتِي، أَعِدْنِي لِلْبِدَايَاتِ،

أَعِدْنِي فِي صُدُورِ النَّارِ طِفْلًا

قُلْتُ: يَا نَفْسِي، تَجَلِّي، وَاسْجُدِي لِي،

فِي انْكِسَارِ الرُّوحِ، أَبْنِي لَكِ مَحِلَّا

مِنْ حَرَائِقِنَا نُفَصِّلُ وَجْهَنَا الآتِي،

وَنَكْتُبُ فِي انْشِقَاقِ الضَّوْءِ فُصْلَا

لَسْتُ أَعْلَمُ، أَيْنَ يَأْوِي الْحُلْمُ، لَكِنْ

فِي مَدَى الْمُفْتُونِ، قَدْ يَصْبُو، وَيُصْلَى

فَاصْعَدِي يَا نَفْسُ، إِنِّي قَدْ غَسَلْتُكْ

بِالرُّؤَى، وَالْمِلْحِ، وَالدَّمْعِ المُبَلَّى

وَارْفَعِي نَصِّيَ صَهِيلًا فِي الْمَدَارِي،

وَاجْعَلِي مِنْ شَعْرِيَ الْمَذْبُوحِ هِلَّا!

***

د. سعد محمد مهدي غلام

.....................

* هذه القصيدة ليست نَواحًا تاريخيًّا على مجاز الأندلس أو نحيبًا على ضفاف الفرات، بل هي شرفةٌ مطلَّة على الجرح الوجودي حين يُصغي الإنسانُ لصوته العميق في صمت الخراب. "صَهِيلُ النُّبُوءَةِ" سفرٌ شعريّ ينوس بين نداء الذات ونبوءة المجهول، يَشقّ فيه الشاعر خطاه فوق نار اللغة، ويكتب بدمه طريقه في الرمال، حيث الغياب لغةٌ، والمستقبل عُرْيٌ، والماضي جَمْرٌ تحت الجفن. هو ليس مديحًا ولا هجاءً، بل نجوى لزمن لم يكتمل، وأثرٌ لظلٍّ لا يزول.

كلُّ هذا قد مضى..

ماذا تبقّى لكَ أيُّها الليلُ

إلّا أَن تجُرَّني من أَطرافكَ،

تأُزَّ الَّذي اصطفّتْ مواجعُهُ حجراً في جفون الأيام

ترمي بهذا الصَّلصالِ البريءِ

في فجرٍ وصل متأخرا إليه

*

اُكتُبْ لي عن جُرحكَ

أو كيف يقرأُ المُشرَّدونَ حِكمتهُم

كيلا ينامَ بين سطوري وجهُكَ العابس.

أيها الليلُ الراكد،

افتحْ لي نافذةً... ضوءَ قصيدةٍ

أو من بابكَ العتيقِ درباً

يمرُّ منهُ طيرُ ذكرياتكَ المستحيل

يسرقُ ريشَةَ خيالكَ من نهرٍ يبِسَ قلبُهُ

ومات في يده القمر.

*

يرسمُ نخلةً وحيدةً هدَّها الأَرق

وشمساً لا تمرُّ على السُّكارى

*

سَئِمَ الحُبُّ يقول

كلّما غفا على ظلِّ طفولتهِ

حسبَ ثمة بَهجةً تشعُّ من نجمٍ بعيدٍ

عليه أَنْ يحرّره

يُطلقه في البراري

بين غزلانِ كلماته وفمه المفتوح.

*

لا بأسَ أَنْ جرّني الحلم من ثيابي

لأصعد إلى رحلتي

أَنتَ السّائلُ والمحروم

اذهبْ لثلاثِ قبلاتٍ

وتوكّل على الحبِّ

*

هكذا يلوذُ بنبضهِ الشمعُ

يجرُّ أنفاسه

ويتَعافى قبلَ الموت

رعشةً من ضياء

***

زياد كامل السامرائي

 

لم تكن على ما يرام،

قلبُك يرتجفُ مثلَ عصفورٍ غضّ،

وعلى مقربةٍ منك

حقلٌ كبير،

تحاولُ أنْ

تمدَّ منقارَك،

لكنَّ ما يؤخِّركَ

ذلكَ التردّدُ الذي جُبلتَ عليه

منذ كنتَ صغيراً،

تخافُ الموت.

*

عبرتَ الأولى،

لكنّكَ في الأخرى

رفعتَ الراية،

وركضتَ إلى الموت

كعاشقٍ قبَّلَ جبينَ محبوبتِه،

ثمّ أغمضَ عينيه

على ضوءٍ لا يشبهُ النهار،

ولا الليل،

ضوءٍ خفيفٍ

كأنَّهُ غفران.

*

ثمّ ابتسمَ،

كأنّهُ أدركَ — متأخّرًا —

أنَّ الموتَ ليسَ سوى

ظلٍّ آخرَ للحياة،

وأنَّ الحبَّ، حينَ يكتمل،

يذوبُ في المعنى،

ويتركُ الجسدَ

مثلَ قشرةِ ضوءٍ

على حافّةِ الوجود.

*

ومنذ تلكَ اللحظة،

لم يُعرفْ إنْ كانَ الطائرُ قد مات،

أمْ طارَ أخيرًا

إلى ما وراءِ الحقل.

*

هناك،

لم يعدْ قلبُك يرتجف،

ولا عصفورُك يختبئُ في الظلّ،

بل صارَ الحقلُ بيتَه،

وصارتِ الرايةُ غصنًا أخضرَ

ينامُ عليهِ

سلامُك الأخير.

***

د. جاسم الخالدي

في صباحٍ ممطر، تمامًا عند الساعة السابعة، استيقظ من نومٍ ثقيل كالمجنون، كمن ضاع في متاهة الغربة ونسي جغرافية المكان. كان يعاني ألمًا حادًا، دون أن يجد له تفسيرًا.

بدأ يتفرّس في الساعة المعلقة على الحائط المهترئ. أوهمه البصر أن الزمن تغلغل كدودة الأرضة، ينهش أحشاء الجدار. راقب عقارب الساعة وهي تدور بجنون فوق جدارٍ مأكول، كأن الزمن يفرّ من ذاته في مضمار سباقٍ لا نهاية له، نحو المجهول.

رقمٌ جديد يُضاف إلى سلسلةٍ لا يتذكر بدايتها. فالأيام المتشابهة تحمل ذات المرارة في طعمها، وكل شيء بات مثيرًا للتساؤل وسط ضبابٍ كثيف.

ــ لا يتذكر من هو، ولا ما كان يزاوله في الماضي. هل بات ظهور علامات الهرم وشيكًا؟

ربما بدأت الخلايا الناشطة تذوب في طواحين المياه، وتتبدد بين جزيئات النسيان.

يمضي الوقت بتأنٍ، كسلحفاة لا تعنيها مسافة الطريق. وصخب الماضي العتيق يدوي في تجاويف الرأس، على هيئة إشارات غير مفهومة، بينما يشتد الألم في الخلايا التي تستذكر الأحداث المؤلمة والمفرحة.

ــ هل انبثق من العدم؟

ــ هل عاش حياته كلها في الخفاء؟

ــ ما موقعه في دورة الحياة؟

ــ لماذا هو هنا وحيدًا في هذا العالم الجديد الذي يكتنفه الغموض؟

أسئلة متشابكة وسريعة تفاجئه وسط فوضى فكرية عارمة، تحت وطأة اختناقٍ يلفّ حنجرته ويمنع الهواء من الانزلاق في قنوات التنفس.

إنها معاناة هذا الذي يُدعى إنسانًا. يولد بذاكرةٍ قوية، يحفظ فيها أسرار الكون وعلومه الواسعة ومعارفه الغنية، وينطلق إلى عالم البحث والاستكشاف. وبعد التحولات التي تصيب خطوط الدماغ، يبدأ بالشعور وكأنه عاد إلى الحياة بعد الموت.

إن الاستيقاظ من النوم والشعور بالألم دون سببٍ واضح، يضعه في دائرة من الشك والإحباط، ويحفّز وعيه بالواقع والمعاناة الإنسانية، حين يبدأ بالتفكير في وجوده ومعنى حياته.

إن هذا الصراع يتفاقم تدريجيًا في زحمة الذكريات وينطوي على واقع مملوء بالإحباط، واليأس، والحزن، كصوت تصدع الصقيع تتكسر تحت وطأة الإقدام  على أرصفة الحياة.

وبينما كانت الخلايا الذابلة تهمس بما تبقى من الذاكرة، شعر بشيء يشبه النور يتسلل من شقوق الجدار. لم يكن ضوءًا، بل احتمالًا. اقترب منه، لا ليعرف من هو، بل ليختبر ما تبقى من إحساسه بالزمن.

ربما لا يحتاج أن يتذكر كل شيء، بل أن يبدأ من حيث انتهى الآخرون. في تلك اللحظة، لم يعد الألم سؤالًا، بل صار بداية جديدة، وإن كانت بلا إجابة.

وحين هدأ الصخب في اروقة الدماغ، أدرك أن الحياة ليست ما نتذكره، بل ما ننساه ونظل نبحث عنه. ربما لم يكن الألم سوى نداء أخير من الخلايا الذابلة، تهمس له:

ــ الوعي لا يموت، بل يتأخر فقط.

***

كفاح الزهاوي

أتذكّر تلك المرّة الأخيرة التي حملتني خطواتي إلى بيت استاذتي ماريا بعد رحيل زوجها، وقد ثقلت على صدري مخاوف لم أفلح في تبديدها. كنت كمن يُساق إلى غياب غير مسمّى، يحمل في داخله رجفة لا يفسرها العقل. وحين بلغت الدار التي طالما ارتدتني بظلّها الوارف، فوجئت بالفراغ يفتح ذراعيه لاستقبالي. لم يطلَّ وجهها من نافذة الباب كما اعتادت أن تفعل، ولم يطرق سمعي وقع حذائها في الرواق. صمتٌ كثيف كان يخيّم على المكان، حتى شعرت أن الجدران نفسها تسرد عليّ غيابها بصوت مكتوم.

جلست على الدكّة الحجرية أمام الباب، كأنني أحرس غيابها بقلقٍ يثقل نظراتي، أترقب الطريق بعينين متوجستين، لعلها تعود من جولة قصيرة في الحيّ، أو يسبقها ظلها المتهادي من بعيد. كم من مرّة فتحت لي هذا الباب بعينين غارقتين في دموع الفرح، تحتضنني بحنوّ الأم وتقول بصوتٍ متهدّج:

" أنت وحدك من لم يخذلني ويحرص على زيارتي؛ بوفاءٍ يفوق حتى وفاء أبنائي."

كانت كلماتها تلك ترسم على قلبي ندبة حنان وجرحًا صامتًا في آن؛ فهي تكشف وحشتها الخفيّة، وتعرّي غياب الأبناء عن حضنٍ ما زال ينتظرهم.

ذلك الانتظار عند عتبتها لم يكن انتظارًا عابرًا، بل وقوفًا على تخوم الغربة نفسها؛ حيث الزمن يتباطأ حتى يكاد يتوقف، والدقائق تتمدد كأنها دهور تبتلعني في صمتها الثقيل. كنت أشعر أن المكان يتآمر مع القلق ليطيل غربتي عنها، وأن جدران البيت تتنفس غيابها كأنها فقدت نبضًا كان يمنحها الحياة.

وفجأة، انشقّ الصمت على وقع خطوات تقترب من السلم. انتفضت واقفة، يسبقني قلبي كطائرٍ مذعور، وتهيأت لمدّ يدي إليها، لأحمل عنها بعض عناء الدرج، كعادتي كلما التقيتها. في لحظة خاطفة ارتسمت صورتها في خيالي: ميرا بملامحها التي جمعت بين صرامة السنين ودفء القلب، بضعفها الذي يخفي قوّة نادرة، وبحزنها الذي يفيض حنانًا. لكن القدر أدار وجهه عني، فإذا بي أمام وجه آخر: جارتها.

حييتها بارتباك، وما كدت ألتقط أنفاسي حتى باغتتني بكلمات سقطت عليّ كالصاعقة:

"ماريا لم تعد تسكن هنا… لم يبقَ سوى ابنها، يتردّد بين الحين والآخر."

كان وقع العبارة أشدّ قسوة من الصمت الذي سبقها؛ إذ اختزلت كلّ شيء في جملة قصيرة، جملة حملت في طيّاتها غيابًا كاملًا، واقتلاعًا موجعًا لجذور الألفة التي ربطتني بها. أحسست في تلك اللحظة أن الأرض تميد بي، وأن الأبواب جميعها أوصدت في وجهي دفعة واحدة.

تجمدت ملامحي. سألتها بلهفة يائسة: "وأين هي الآن؟" فأجابت بهزّة رأسٍ ثقيلة، تحمل في طيّاتها أكثر مما تحتمل الكلمات: "لا أعلم. ابنها يأتي ويذهب، ونادرًا ما أراه، ولا أعرف عنه الكثير."

عندها اجتاحني شعور مباغت بالتيه، كأنني فقدت خيطًا نادرًا كان يشدّني إلى المعنى، وبدأت فكرة الفقد تترسخ داخلي رويدًا رويدًا. كيف يُعقل أن تنقطع أخبارها فجأة؟ وكيف يغيب أثرها هكذا، وهي التي شكّلت لي سندًا وصحبة وملاذًا لا يعوَّض؟

كانت زياراتي لماريا طقسًا من طقوس الروح، أكرره مرتين أو أكثر كل شهر منذ تخرّجي. فما بدأ بيننا يومًا بعلاقة أكاديمية متينة، حيث كانت أستاذتي المشرفة ورئيسة قسم الاقتصاد في الأكاديمية، تحوّل مع الأيام إلى صداقة إنسانية عميقة، صداقة تسقيها التجارب، ويظللها الاحترام، وتغذّيها الألفة. كنت أجد في رفقتها صدىً لوجه أمي الغائب، وملامح دفءٍ عائلي افتقدته منذ أن غادرت العراق قبل أكثر من عقد. بيتها كان أشبه ببيتٍ ثانٍ، يردّ لي بعض ما سُلب مني من شعور الانتماء، وحضور زوجها بجانبها كان يضفي على المكان طمأنينة العائلة الحقيقية.

بعد ان عصفت بها رياح السياسة فألقتها في بلغاريا، ماريا إيفانوفج، ابنة يوغسلافيا لم تكن وجهًا عابرًا في سجل الأكاديميا، بل روحًا متوهجة تشع حضورًا إنسانيًا نادرًا. في عقدها السابع، كانت تجلس بيننا بوجه صاغته يد التجارب كما يصوغ النحات تمثالًا من صخرٍ عنيد، عينان غمرهما الحزن، لكن خلف سدولهما كان يطل بريق لا ينطفئ من مودة وحنان. حملت قلبًا أنهكته العلة، غير أنّه، على وهنه، ظل رحبًا كسماءٍ مفتوحة، يفيض بالعطاء لطلابها ولزملائها وكل من طرق بابها. وفي قاعات الأكاديمية، بدت مثال الصرامة والنبوغ، إلا أنّ إنسانيتها الشفيفة كانت تنسج حول تلك الصرامة ثوبًا من رقةٍ ودفء، فتقربها من الأرواح اقتراب الأم من أبنائها.

غادرت الدار مثقلاً بالأسئلة، يرافقني صدى خطواتي كأنه عزاء مبكر يشيعني. كنت أمشي وفي داخلي مقاومة صامتة لهذا الغياب المفاجئ؛ فماريا لم تكن مجرّد أستاذة عابرة في حياتي، بل كانت جسرًا يعيدني في كل مرّة إلى معنى الانتماء، إلى جذور الإنسان في قلب إنسان آخر. وفي الطريق إلى مساكن الطلبة حيث أقيم فيها، كنت أشعر بالقرار ينضج بداخلي دون أن أصرّح به: لن أترك خيطها ينقطع. لا بد أن أجد سبيلًا يقودني إليها.

كان عليّ أن أذهب إلى قسم الاقتصاد، القسم الذي حمل بصماتها حتى آخر لحظة قبل تقاعدها، علّي أعثر هناك على اثرٍ يقودني إليها، أو يفتح أمامي نافذة صغيرة تطلّ على مصيرها. أسير بخطى متسارعة، تتنازعني مشاعر متناقضة؛ قلق ينهش صدري، وحنين يلوّح لي بصورتها وهي تروي ذكرياتها الصارمة، وأمل خفي يهمس بأن اللقاء القادم لم يُغلق بعد. فقد كنت أعلم في قرارة نفسي أن بعض الوجوه لا يطويها الغياب، لأنها تستقر في أعماق الروح، لتظلّ حيّة فينا ما حيينا.

كانت زيارتي الأولى للقسم بعد التخرج تحمل مزيجًا من الحنين والارتباك، كأنني أعبر من بوابة الزمن إلى ماضٍ ما زال ينبض في قلبي. استقبلتني السكرتيرة بابتسامتها المشرقة ودفئها الذي يشبه العناق الخفي، ثم دعتني إلى مشاركتها فنجان قهوتها الصباحية. كان بيننا ألفة قديمة تنسجها خيوط الصداقة التي جمعتنا بماريا، فبادرتها بالسؤال عنها، وقد كان اسمها يراودني كأغنية غامضة لا تفارق الذاكرة.

أخبرتها بما جرى في زيارتي الأخيرة، وكيف طرقت باب ماريا دون أن أجدها، ثم سألتها عما إذا كان لديها خبر عنها، إذ كنت أتشبث بخيط من الأمل في أن أستعيد تلك اللقاءات التي اعتدت أن أستنشق منها شيئًا من المعنى.

لكنها فجأة أطلقت تنهيدة طويلة، كأنها تحمل في طياتها ثِقَل حكاية مؤلمة، ثم نظرت إليّ بعينين غيمهما الشجن وهمست:

ـ ألا تعلمين؟ تُقيم الآن في أحد بيوت العجزة.

ارتجفت الكلمات في أذني كصفعة باردة، فقلت مرتبكة، وكأنني أتشبث بالإنكار:

ـ ماذا تقولين؟ قبل اقل من شهر فقط كنت عندها. صحيح، بدا عليها الإعياء، غير أنها طمأنتني بابتسامة صبورة، وأكدت لي أنها ما تزال تتابع علاجها بانتظام.

أطرقت السكرتيرة بحزن وأضافت:

ـ نعم… لكن سرعان ما انهارت صحتها، واحتاجت إلى رعاية خاصة لم تجدها في بيتها بعد أن انقطع عنها أبناؤها، وتركوها وحيدة في مواجهة جسد يخذلها يوما بعد آخر

تجمّدت الكلمات على شفتي، كأنها حجارة ألقيت في بئرٍ غائر، فيما تسللت مرارة حارقة إلى عروقي. ارتسمت أمام ناظري صورتها كما تركتها آخر مرة: جلستها الوادعة قرب النافذة، أصابعها المرتجفة تعانق فنجانها كمن يستجدي دفئًا ضائعًا، وعيناها تواريان خلف بريقٍ خافت وجعًا أثقل روحها. كيف تُختزل حياة كاملة في غرفة باردة تُسمّى بيتًا للعجزة؟ أيُعقل أن تُطوى صفحات العمر بكل ما حفلت به من تعبٍ وصبرٍ وعطاءٍ جليل، ليكون الختام عزلة وصمتًا وخذلانًا؟ أهذا جزاء السنين التي أنفقتها في البذل والعطاء، أن تُزاح كرامتها جانبًا وتُلقى إلى الهامش، كأنها لم تكن يومًا منارة للعلم ودفء للأمومة؟

قلتُ بصوت مرتجف، أحاول أن أتمالك حرارة قلبي:

ـ وهل تعرفين عنوانها الآن؟

أومأت برأسها وهي تحاول أن ترسم ابتسامة شاحبة وقالت:

ـ نعم… بل أنوي زيارتها في نهاية الأسبوع. وإن رغبتِ، يمكننا أن نذهب معًا.

حينها انبثق من أعماقي لهف يفيض عن القدرة على الإخفاء، وقلت بسرعة امتزجت فيها المرارة بالأمل:

ـ بكل سرور… وبكل شوق.

شعرت في تلك اللحظة أن قرار الزيارة لم يكن مجرد مبادرة إنسانية، بل وعدًا أصدرته لروحي قبل أن يكون لماريا؛ وعدًا أن أمسك بيدها من جديد، أن أقتسم معها صمتها وأوجاعها، وأن أكون شاهدة على نورها الأخير، مهما خفت ضياؤه في بيت لا يليق بامرأة بقامتها حملت في قلبها تاريخًا من العطاء والابداع.

ومنذ تلك اللحظة، أخذتُ أتهيأ للقائها. كان الطريق إلى بيت العجزة في خيالي أشبه برحلة نحو عتمةٍ تتربص بالقلب. تخيلته شارعًا طويلاً تصطف على جانبيه أشجار بلا أوراق، أغصانها ممدودة كالذراعين المتسولين، والريح تعبث بها فتزيدها انكسارًا. كأن كل شيء يتهامس في أذني عن وحشة تنتظرني في نهاية الطريق.

كنت أرى بعين الخيال بابًا ثقيلاً من حديد يفضي إلى فناء صامت، لا تُسمع فيه سوى وقع الخطوات المترددة وزفرات الريح التي تتسلل بين الشقوق. جدران رمادية عارية من أي حياة، نوافذ مغلقة على أسرار ساكنيها، ستائر باهتة تشبه وجوهًا فقدت لونها مع الأيام. المكان كله ينهض كرمز للفقد، لانسحاب الحياة إلى أركان مهملة، حيث الأرواح تنتظر ببطء النهاية.

تخيلتُ الممرات الطويلة الضيقة، تفوح منها رائحة عقاقير ممزوجة بذكريات ذابلة، والأصوات الخافتة لأجساد تتنفس بجهد، وأنين مكتوم يتسلل من غرف متقابلة. لا شيء يُسمع سوى صرير عربات متحركة أو وقع خطوات ممرضة متعجلة. حتى الزمن نفسه هناك بدا لي وكأنه يتثاقل، يجر قدميه ببطء قاتل.

كنت أتصور ماريا جالسة في إحدى تلك الغرف، عيناها شاخصتان نحو فراغ بعيد، كأنها تنتظر زائرًا يوقظ في روحها بقايا حياة. رأيتها تبتسم على استحياء حين يدخل وجه مألوف، ثم تعود فتغيب في صمتها الطويل. شعرت أن كل ثانية من رحلتي إليها ستكون امتحانًا لقلبي: هل أستطيع أن أمد لها يدًا تحمل بعض دفء؟ هل أقدر أن أُعيد إلى روحها شيئًا من نورٍ رفض أن يخبو رغم كل ما أحاط بها من عتمة؟

كان الطريق إذن أكثر من مسافة تقطعها الخطى؛ كان معراجًا في داخلي، مواجهة مريرة مع هشاشة الإنسان حين يُترك عاريًا أمام قسوة الوحدة. وكلما اقترب الموعد، كان قلبي يضج أكثر، بين خوف من أن أراها منطفئة تمامًا، ورغبة جامحة في أن أُثبت لها أن ثمة يدًا ما زالت تمتد نحوها، لم تتخل عنها، ولم تجحدها كما فعل أبناؤها.

وحين همستُ لنفسي في النهاية: "سأقابلها"، شعرت أنني أستعيد بعض المعنى الضائع في داخلي. لم يكن الأمر مجرد زيارة عابرة، بل وعدًا أن أكون معها في وحشتها، أن أشاركها صمتها، وأن أكتب معها آخر سطور كرامتها في عالمٍ لم يعد ينصت إلا للزيف.

عند وصولنا إلى بوابة بيت العجزة، ارتسم في داخلي شعورٌ ثقيل يشبه الغيم الداكن الذي يسبق المطر. المكان بدا صامتًا أكثر مما ينبغي، جدرانه باهتة وأبوابه مصفدة بإحكام، حتى الهواء كان مثقلاً برائحة العقاقير الممزوجة بملح الدموع القديمة. تقدّمت نحونا موظفة الاستقبال بابتسامة متكلّفة، سرعان ما ذابت في رتابة صوتها وهي تطلب منا أن ننتظر قليلًا ريثما تتهيأ ماريا لاستقبالنا.

جلسنا في قاعة الانتظار التي ازدانت بمقاعد خشبية قاسية، تتوزع عليها وجوه متعبة، بعضها غارق في الصمت، وبعضها الآخر شارد في فضاء بعيد لا نراه. عقارب الساعة بدت كأنها تخطو مثقلة بالأغلال، حتى مضت ساعة كاملة ونحن ننتظر على أحرّ من الجمر. وفي النهاية أطلت الموظفة لتعتذر بلطف بارد قائلة: "لقد رغبت أن تبدو أمامكم في أحسن حال، ولهذا تأخرنا." كانت كلماتها كسكين يمرّ على قلبي ببطء، إذ كيف يكون الجمال والتهيؤ غاية من غايات مَن أثقلها المرض؟ لكنني تماسكت، أدرك أن الأمر بالنسبة لماريا ليس ترفًا، بل بقايا كبرياء تحاول أن تحافظ عليه رغم انكسار الجسد وتناقص الذاكرة.

وفي الطريق المؤدي إلى غرفتها، لحقت بنا الموظفة نفسها بخطوات مسرعة، ثم همست: "الأفضل أن تنتظروها في غرفة استقبال الضيوف، سأصحبها إليكم حالًا." شعرتُ لوهلة أن تلك الغرفة ستكون فاصلاً بين عالمين: عالم الذاكرة الذي كنت أتشبث به، وعالم الغربة الذي أُجبرت ماريا على النزول فيه.

وما هي إلا لحظات حتى أقبلت بخطوات مترددة، نظراتها تائهة كأنها تستيقظ من حلم بعيد. بدت مذهولة، تحدق في وجوهنا وكأنها تفتش عن ملامح لم تعد مألوفة لها. هببت نحوها أحتضنها بنظراتي وبكل ما في شوق، ألقيت عليها تحية تتشبث بالدفء، وحاولت أن أستعيد بشاشتها التي كنت أعرفها، لكنها لم تكن هي نفسها. كان بيننا جدار خفي من الغربة، فصلٌ صامت جعلني أشعر أنني أقف أمام ظلّ ماريا لا ماريا نفسها.

ومع ذلك، جمعت بقايا قوتها ورحبت بنا بطريقتها، ابتسامة باهتة تحاول عبثًا أن تستعيد إشراقها القديم. جلسنا متقابلين، وساد لحظةً صمت مربك، قبل أن تبدأ بالكلام بصوتٍ هادئ يكاد لا يُسمع، تحدثت عن أحوالها وكأنها تريد أن تطمئننا، ثم ذكرت، بفرحٍ طفولي، أنها وزوجها كانا بالأمس في حفلة بهيجة حضرها البروفيسور كروكوف والرفيق يوري وآخرون.....

تجمّدت الدماء في عروقي، إذ كنت أعلم يقينًا أن زوجها وجميع من ذكرتهم قد غادروا الحياة منذ زمن بعيد. عندها أدركت الحقيقة التي طالما خشيتها: ذاكرتها لم تعد ملكًا لها، الزمن انسحب من عقلها تاركًا فراغًا مريرًا، والأسماء التي ترددها ليست سوى أطياف تستيقظ من ماضٍ بعيد لتملأ حاضرها الموحش.

أطرقتُ برأسي كي أخفي دمعة باغتتني. كان المشهد قصيدة فاجعة تُتلى بلا كلمات، قصيدة لا يُنشدها سوى صمت ميرا، وعيناها اللتان تبرقان بغربةٍ أليمة، كأنها تسير في متاهة لا أبواب لها ولا مخرج.

كنت اراقبها وأنا أحمل ثِقلاً ينوء به القلب: كيف لإنسانٍ قضى حياته عطاءً أن يُكافأ في شيخوخته بهذا النسيان الفاجع؟ وكيف لروحٍ ملأتها الحياة يومًا أن تُختزل في ظلال متكسرة من ذاكرة ممحوة؟ ومع ذلك، كنت أشعر في أعماقي أن حضوري، ولو للحظات، هو محاولة لإعادة تثبيت خيط رفيع بين عالمها الممزق وبين الحقيقة التي ما زلت أحملها عنها، خيط يربطها بإنسانيتها التي يأبى النسيان أن يمحوها تمامًا.

حين نهضنا لنودّعها، شعرتُ وكأن الهواء أثقل من أن يُستنشَق، كأن كل ذرة فيه تئنّ تحت وطأة الفقد. مددتُ يدي نحوها، ارتجفت أصابعها بين أصابعي كعصفورٍ صغير فقدَ جناحيه، وارتسمت على وجهها ابتسامة غريبة؛ نصفها حيّ، ونصفها الآخر محجوب خلف ستارٍ سميك من الغياب. نظرتُ إليها مطولًا، كانت عيناها تائهتين، كأنهما تسألان: من أنتما؟ ولماذا اتيتما؟ ثم تعودان لتفرّان إلى عالم آخر لا أراه. حاولت أن أخبرها أنني هنا، أنني ما زلت تلك التي عرفتها، أنني لم أتخلّ عنها… غير أن الكلمات كانت عالقة في حنجرتي، تتكسر قبل أن تبلغها.

وفي لحظةٍ خاطفة، أحسستُ أنني أنا نفسي ماريا؛ جسدٌ حاضر، وروحٌ تتسرب من بين أصابعه. رأيتُني أودّع العالم وأنا بعدُ واقفة، أراقب من بعيد حياتي وهي تنسلّ مني ببطء، أصدقاءً، ذكرياتٍ، أماكن، وجوهًا عزيزة. أحسستُ أنني أنا الغريبة عن نفسي، غريبة عن الأسماء التي تتردّد في رأسي كأنها تعود لشخصٍ آخر عاش مكانِي ذات يوم.

حين اقتربنا من الباب، التفتنا نحوها، رفعت يدها المرتجفة كأنها تُلوّح للغائبين، لا للواقفين أمامها. في تلك الإيماءة شعرتُ أن وداعها لم يكن لنا فحسب، بل وداعٌ للحياة برمّتها. دموعي انسكبت في داخلي، ولم أجرؤ أن أدعها تظهر؛ كنت أخشى أن تفضح هشاشتي، أن تزيد من انكسارها وهي التي لم يبقَ لها سوى صبرٍ متهالك.

خرجتُ من المكان مثقلةً، لكن قلبي كان ما يزال عالقًا خلف تلك الجدران الرمادية، عند سريرٍ بارد ونافذة نصف مفتوحة. كنت أشعر أنني تركتُ جزءًا مني هناك، جزءًا صار يتكلم بصوتها، يتنفس أنينها، ويذوي في عزلتها. كنتُ أنا وهي معًا، نتقاسم صمتًا لا يعرفه سوانا: صمت الفقد الذي يذبح بلا دم، ويترك في الروح جرحًا لا يندمل.

وكلما ابتعدت خطواتي، كان داخلي يتمزق أكثر، كأنني أنا مَن أُغلق عليّ الباب في بيت العجزة، أنا من تُركت وحيدة بين جدران عارية، أنا التي تودّع العالم بصوتٍ مبحوح لا يسمعه أحد.

***

سعاد الراعي - المانيا

مِـــنْ كُـوَّتِـيـنِ، لآلِــئٌ عَـسَـلِيَّةْ

تَـسْبِي الـقُلُوبَ بِوَمْضَةٍ سِحْرِيَّةْ

*

لَوْ تَلْقَى (هُولَاكُو) وَكُلَّ جُيُوشِهِ

وَقَـفُـوا جَـمِـيعًا يَـضْـرِبُونَ تَـحِـيَّةْ

*

ذَاكَ الَّـذِي قَـهَرَ الـمُلُوكَ بِـعَصْرِهِ

مَــنْ ظَـنَّ تَـهْزِمُ جَـيْشَهُ حُـورِيَّةْ

*

فَــكَـأَنَّ نَـظْـرَتَـهَا بِـأَلْـفِ قَـذِيـفَةٍ

غَـرَزَتْ بِعُمْقِ القَلْبِ أَلْفَ شَظِيَّةْ

*

مَــا عــادَ يَـنْـفَعُ مَـلْـجَأٌ أَوْ مُـنْقِذٌ

قَـــدَرِي بِـأَنِّـي لِـلْـعُيُونِ ضَـحِـيَّةٌ

*

يَـا فِـتْنَةً صَـبَّتْ جُـفُونُكِ خَـمْرَهَا

فَـسَـكِرْتُ مِـنْـهَا بُـكْرَةً وَعَـشِيَّةْ

*

إِنِّـي رَأَيْـتُ ضِـيَاءَ وَجْـهِكِ كَـوْكَبًا

يَـهْـوِي.. فَـيُـحْدِثُ هَــزَّةً أَرْضِـيَّةْ

*

سَأَظَلُّ أَرْحَلُ فِي هَوَاكِ مُسَافِرًا

رُوحِــي تُـلَاحِـقُ نَـظْـرَةً غَـجَرِيَّةْ

*

وَأَعُـودُ مِـنْ تِـيهِي إِلَـيْكِ كَـأَنَّنِي

قَــدَرٌ يُـلَاحِـقُ خَـطْـوَتِي الأَبَـدِيَّةْ

***

بقلم: عبد الناصر عليوي العبيدي

 

توهّمْ أيّها العربيُّ كيلا

يظنَّ الخلْقُ أنّكَ عُدْتَ ذَرّا

*

وقلْ مرِحًا لمن يبغي جوابًا

بأنّكَ بالمهادِ أحَطْتَ خُبْرا

*

وأنّك قد هجرْتَ الأرضَ إذْ لمْ

تعُدْ تُخفيْ عليكَ الأرضُ سرّا

*

إلى العلْياءِ مُحتلّا لكيلا

تظلَّ على السّماويّين حِكْرا

*

وباهِ بفتحِكَ العلياءَ غرْبًا

تطاولَ ظلُّه أنْ زارَ بدْرا

*

ولا تُخفيْ عليهمْ أنّ طيّ

السّماء وما تلا يحْتاجُ شهْرا

*

وأنّ الغيبَ من بعدِ السماوا

تِ آتٍ دورُه مهما تورّى

*

توهّمْ يَفهَموا لِمَ لمْ يعودوا

يروْنكَ منذُ قرنٍ مرّ دهْرا

*

يروا لِمَ لمْ يعودوا يلتقونَ

السّما في أرضِها سُنَنًا وذِكْرا

*

وما خبِرَتْ عصورٌ من أُمورِ

الدُّنى وطِباعِها شِعرًا ونَثرا

*

وما ألقاهُ ربُّكَ مِنْ أسامٍ

لآدمَ في السّما كتُبًا وحِبْرا

*

توهّمْ يُدركوا لِمَ لمْ يعودوا

يرونَ لمجدِكَ العربيِّ نصْرا

*

لِكيلا يحسبَ الأغرابُ عنهُ

بأنّك بِعتَ أرضَ الحشْرِ قهْرا

*

وأنّكَ بتَّ تسكنُ ما الغروبُ

ابْتنى من جُمْجُمِ الإنسانِ فِكْرا

*

وأنّك بتّ تعبدُ ما اليهودُ

افترتْ في غيْبةِ الإيمانِ كُفْرا

*

توهّمْ، إنّ طولَكَ دونَ وهمٍ

سيبقىْ لو بلَغْتَ الألفَ فِترا

*

لكي تُحْصى إذا أحصَوا وإلّا

فهُمْ مُسْتكثرونَ عليكَ مِترا

*

لكي يُبقوا منَ الماءِ الذي لَمْ

يعُدْ لكَ أيّها المغلوبُ بِئرا

*

وفي الأرضِ المُبارَكةِ التي لَمْ

تعُدْ لكَ أيّها المقلوبُ شِبرا

*

وفي التاريخِ إنسانًا وأرضًا

ودينًا أيّها العربيُّ ذِكرا

*

توهّمْ وابْقَ للأكوانِ سوقًا

تُضِفْ لبقاكَ يومَ الفرزِ عُذرا

*

وإلّا فالذي لا نفعَ منه

عليه اسْتكثرَ الأحلافُ قبرا

*

وما مِنْ واهمٍ إلّا ونقّى

ليكبُرَ وهمُهُ زيفًا وخَمْرا

***

أسامة محمد صالح زامل

ويلي إنْ جرَّبَ قدَّ نشيدِ الموتِ رصيدا

أوقدَ في عُنُقِ المزمارِ الضاري قنديلا

قرّبَني من دربِ الزوبعِ أضناني

صيّرَني مخلوقاً أنفضُ أعضائي رثّا

أتقلّبُ مطعونا

أنتظرُ الآتي والمُهلةُ في جُرفِ النهرِ المُنهارِ

أتحرّقُ كالعِهنِ المنفوشِ ضَراما

لأفكُّ القيدَ الساحبَ من صدري أسراري

لا يُسعفُ لا يستثني

مُستاءٌ منّي حدَّ النزفِ وفقدانِ الوزنِ

أشجاني وأصابَ التاجَ برأسِ السهمِ

وأزالَ الشارة من ضوءِ مفاتيحِ الرؤيا

هل أبقى شيئا ؟

جلببتُ الوهنَ بحافي أقدامِ الأُمِّ

كي لا ترقى عينٌ بَرْقا ..

ألقيتُ عصا إزماعِ الترحالِ

أدفعُ شرّاً جارَ وعدّا

وأَفكُّ مقاماتِ الحُزنِ العالي قيدا

يسّاقطُ بين الخطرةِ والأخرى دمعا

ويُعاودُ عدَّ الضيقِ المُستشري أنفاسا

يتحرّقُ بالذِكرى وبريشِ الأهدابِ سَخاما

ما من أحدٍ مدَّ الجسرَ صِراطاً شَرْطا

مأساةً تتلو مأساتا

وحشٌ يتربصُ أفعى سودَ الأنواءِ

ضَبٌ أحدبُ لا يستوفي شَرْطا

جمرُ سوادٍ في عينِ الكُحلِ.

***

عدنان الظاهر

أُكتوبر 2025

هَذِهِ الأَرْضُ

رَقْعَةٌ لِلْمُقَامَرَةِ،

يَخْسِرُ الأحرار الرِّهَانَ،

فَتُبَاعُ النِّسَاءُ بِأَبْخَسِ الأَثْمَانِ،

وَيَذُوبُ الْعَدْلُ فِي صَمْتٍ طَوِيلٍ،

يَحْيَا فِي هَوَانٍ بَيْنَ صُرَخَاتِ الْجِيَاعِ

وَأَلَمِ الْيَتَامَى،

وَعُيُونِ اللَّيْلِ الَّتِي تُرَاقِبُ الْخَرَابَ

خَلْفَ كُلِّ بَابٍ، وَفِي كُلِّ زَاوِيَةٍ وَجَعٌ يَنْتَظِرُ.

*

إِنَّ شِعْرِي يَشْهَدُ عَلَى الْعَارِ،

عَلَى الْجُوعِ،

عَلَى خُدُودٍ جَفَّ احْمِرَارُهَا مِن كَثْرَةِ الدُّمُوعِ،

كَأَهْوَارِ الْعِرَاقِ،

وَيَسْمَعُ صَرْخَاتِ جَارَتِنَا الَّتِي يَأْكُلُ مَاءُ الشِّتَاءِ بَيْتَهَا،

وَيَسْتَحِي الصِّغَارُ مِن صَرَاخِهِمْ،

وَتَتَوَسَّمُ السِّنُونُ بِالصَّبْرِ وَالْبَلَاءِ.

*

تَلَأْلَأُ عُيُونُهَا بِالذِّكْرَيَاتِ،

وَاللَّيْلُ يَنْسُجُ طُولَهُ عَلَى مَدَاهَا،

يَهْمِسُ لِلرِّيحِ بِمَا تَبَقَّى مِنْ أَمَلٍ ضَائِعٍ، مَضَى وَفَاتَ.

*

تَتَوَقُّ إِلَى رَجُلٍ ذَهَبَ بَعِيدًا عَن مَدَاهَا،

تَشْتَهِي عِناقًا بَعْدَ طُولِ غُرْبَةٍ وَشِقَاقٍ،

وَكُلُّ خُطْوَةٍ مِنْهُ وَعْدٌ أَنَّ الْوَطَنَ لَا يَمُوتُ،

وَأَنَّ الْحُبَّ قَادِرٌ عَلَى الصُّمُودِ رَغْمَ الْخَرَابِ.

*

أَنَا عِرَاقِيٌّ، وَأَصْلِي عَظِيمٌ،

جُذُورِي مُزدهرة كَرِيمَةٌ

تخامر دجلة والفرات

هي جذور تَأْبَى الإنفلات

وَإِنْ أَطَاحَتْ بِهَا صَوَاعِقُ وَرُعُودٌ،،

سَتَظَلُّ شَامِخَةً،

كَالنَّخِيلِ فِي أَقْسَى الصَّحْرَاءِ،

كَالنَّهْرِ الَّذِي يَصِرُّ عَلَى الْجَرْيَانِ،

وَكَالْقَمَرِ الَّذِي لَا يَنْسَى أَنْ يُنِيرَ اللَّيْلَ لِلْحِيرَانِ.

*

هَذَا الْعِرَاقُ الْجَمِيلُ،

وَطَنُ الْعَزِّ وَالْبَهَاءِ،

كَيْفَ يَحْكُمُهُ الْجَهَلَاءُ وَالْمَوْتُ وَالْغَبَاءُ؟

وَكَيْفَ تَبْتَسِمُ الْأَرْضُ،

وَهِيَ تَغْلِي مِنَ الظُّلْمِ،

وَتَبْكِي عَلَى مَا حَلَّ بِهَذَا الْوَطَنِ السَّمَاءَ؟

*

لَنْ أَصْمُتَ، لَنْ أَسْتَكِينَ،

لَنْ أَتخاذَلَ وَلَنْ أَلِينَ،

سَأَصْرُخُ بِاسْمِ كُلِّ وَجَعٍ،

بِاسْمِ كُلِّ قَلْبٍ جَائِعٍ،

بِاسْمِ كُلِّ عَيْنٍ تَبْكِي فِي خَفَاءِ

وَلَا تَعْرِفُ الْأَمَانَ.

*

سَأَحْمِلُ جُذُورِي كَمَا تَحْمِلُ السَّمَاءُ النُّجُومَ،

وَسَأُغَنِّي لِلْغَدِ رَغْمَ الهلاك

سَأَبْنِي عَلَى رَمَادِ الْوَجَعِ أَمَلًا،

وَسَأَشْهَدُ لِكُلِّ شَهِيدٍ،

وَسَأَرْسُمُ الْحُرِّيَّةَ فِي صُورَةِ الْقَلْبِ وَالدَّمِ،

وَسَأَحْلُمُ بِوَطَنٍ يَعُمُّهُ النُّورُ وَالأَمَلُ،

وَتَزْهُو فِي قُلُوبِ أَحِبَّائِهِ وَيُغَنَّى لَهُ فِي كُلِّ دَارٍ وَزَاوِيَةٍ.

*

هَذَا وَطَنِي،

وَهَذِهِ أَرْضِي،

سَيَبْقَى الْعِرَاقُ شَامِخًا فِي صَحْرَائِهِ وَأَهْوَارِهِ،

فِي قُلُوبِنَا، فِي دِمَائِنَا، فِي حُلْمِنَا الْأَبَدِيِّ،

وَنَزْهُو بِاسْمِ كُلِّ الشُّهَدَاءِ،

وَنُمْضِي بِصُمُودٍ لَا يَعْرِفُ الْانْكَسَارَ،

حَتَّى يَزْهُو الْوَطَنُ مِنْ جَدِيدٍ،

وَيَعُمُّهُ ضَوْءُ الْحُبِّ وَالْأَمَلِ.

***

باقر طه الموسوي

 

(نظم قصيدتين غزليتين جميلتين وكتب تحتهما مهداة إلى لا أحد)..!!

***

* الاقنعة ..

سقطت في مصيدة النسيان

أحجية مديدة ..

تصارع الأجيال

تمتطي الأهوال

تشتكي الشوارع

الرعناء

والهوجاء ،

والمدن البعيدة ..

تلك هي القصيدة العنيدة..

**

العقل لا يقاد بالعصا

ولا الأوامر البليدة ..!!

**

تمازجت

تلاقحت نفوسنا

على الهواء

في العراء

عند مدخل الهراء

هاجرت حروفها العنيدة ..

نحو فوهة الجحيم

كلما تحجرت دموعها

وسال فيضها

كأنه الغمام حائرا

يجول في رحاب

غيمة طريدة ..!!

***

الحمام والغمام ..

رأيتها

تراقب الحمام

في المنام ،

وترتوي

من كأسها

المداف في المدام ..

ثم غادرت الى البعيد

غيمة تحوم في سمائها

تخاف من عيونها اللئام ..

أهذه طرائد المنام ..؟

**

تقول لي

متى نعود عند منبع الوئام..

نغرس الوعود

لا الرعود

في مسالك السلام ..؟

من يرتق الخيارم..؟

من يمسح الغمام..؟

من يطفيء السعار

في مضاجع النيام..؟

**

تقول لي

تعال نحتمي من هفوة القدر..

تعال كيفما تريد

أينما تريد

نركب البحار

في قوارب النجاة..

لا نجاة ، لا حياة

في متاهة القدر..

اريد أن أعوم في نهر

اريد ان اجول في العواصف

الهوجاء

في الصحراء والمعابر المثيرة

في الدروب والمسالك المطيرة ..

اريد أن أمازح القدر

احارب الاشباح

في الصحراء

في الانهار

في السعر..

تحت رحمة المطر..

هل يسبح التنين في النهر..؟

**

تقول لي ..

متى نعود

نمخر الرياح في السحر..؟

ونبتني الصروح

في مسالك الجروح

كلما تكاثر النباح

عند مدخل الخيام

حين يبدأ الوطر

يهيم في العراء

كلنجوم

في سمائنا تعوم ..

ألا ترى النجوم ..؟

تموت كل يوم

في الطريق

في المنام

تحت رحمة الخيام..

يمحق القدر..!!

***

د. جودت صالح

19/10/2025

 

خَطَرَتْ ببالي فكرةٌ مجنونة،

تسلّلت من خيوط المصلِ ... المتشابكة

*

لِمَ لا تتخلّى عن هذا الجسدِ المتخشّبِ كجدارِ صمتٍ قديم،

وتنضمّ إلى السّربِ؟

*

سِربُ الفراشاتِ لا يشيخُ،

ولا يُوقِظُهُ وجعُ المفاصلِ،

ولا يسألهُ أحدٌ عن بطاقةِ الصِّحّةِ،

و لا اوراق التأمين ..

*

لِمَ لا تَتَخارج من لحمِكَ المريضِ،

تتسرَّبُ من شقٍّ بين ضلعين،

وتصيرُ شيئًا خفيفًا،

كالنَّسمةِ التي تتطفّل على أحاديثِ البناتِ حين يُخبئنَ أسرارَهُنَّ

في زجاجاتِ العطرِ،

أو حين يكتبنَ على المرايا أسماءً محظورة؟

*

لِمَ لا تُطارِدُ الأطفالَ في لهوِهم،

تُمسكُ بظلٍّ سقطَ منهم،

تضحكُ من سذاجةِ العالم،

وتنحني لتُقبّلَ جبهةَ الضحكةِ قبل أن تشيخ؟

*

أريدُ أن أتنصّلَ من ثقلِ الـ"لا"،

من كلِّ النواهي التي تربطني كحبالٍ إلى شوك الإدراك،

أن أُفرغَ رأسي من معنى العُمر،

وأملأَهُ برفيف الأجنحة.

*

يا جسدي،

كفى نواحًا على ما فَسَد،

سأُهجرُك الليلةَ كما يهجرُ الحلمُ عَينِ النائم،

وأترُكُكَ هنا،

لأتعافى في فضاءِ الفراشات،

حيثُ لا مواعيدَ للألم،

ولا قيدَ لعمر الصباح....

***

مجيدة محمدي

أسكبُ بعضي على بعضي

لأُرمّمَ موضعَ الوجعِ

أتشعّبُ في ذاكرةِ الحزنِ

كشجرةِ لبلابٍ

أُسكتهُ حيناً

ليعودَ متمرداً

كثرثرةِ ماءِ النهرِ

يستفزُّ أمَّ غريقٍ

بُغتة

ليحلَّ أوجاعها نِياحاً

مثل قلقٍ ثقيلٍ

يُثقلُ كاهلَ عاشقٍ

امتدَّ له حَدسُ الشكِّ

أو الغيْرةِ

هكذا هو الوجدُ

يتسللُ لروحي على مهلٍ

مخلفاً ريقاً مرّاً

وجُنونا يُشبهني ...

***

كامل فرحان..

اِنني معها

وهيَ تحملُني في الفؤادْ

وشريانُهُ دافقٌ أبجديُ الودادْ

*

ربَّما مانعتْ

ربَّما صانعتْ

ربّما هربتْ

ربّما كذَّبتْ

ولكنني معها

*

اِنني معها

قالَ لي كوكبٌ غائبُ

وأكدَّها كوكبٌ آيبُ

*

تقولونَ: محضُ جنونْ!

وأنا مؤمنٌ بالكواكبْ

أصدقائي الكواكبُ لا يكذبونْ

***

شعر: كريم الأسدي - العراق

في دُجىً

يتدلّى من غصنٍ كسيرْ،

كنتُ أجني اسميَ المنفيَّ

من شَفَةِ العَسيرْ،

وأُريقُ النورَ

في غَيمٍ صغيرْ

2

جئتُ لا أملكُ وجهًا،

غيرَ ظلٍّ في السُّكونْ،

وجُرُفْ

ينزفُ التاريخَ

في صمتِ السُّجونْ،

كنتُ أمشي،

والخطى تَغفُو على فَوضى الظنونْ

3

لا دليلَ الآنَ إلا

شهقةٌ

من فمِ الغيبِ الغريقْ،

كلُّ شيءٍ كان يمضي

نحو أنفاسي،

ويبكي ثم يضيقْ

4

يا أنا،

أيُّ شتاتٍ يتّسعْ؟

والرؤى

تتكسرُ الأسماءُ فيها كالقِطعْ،

يا أنا،

هل كنتُ حبرًا

يتدلّى من ورقْ؟

أم صدى يمضغُ وجهي

حين أفنى في الشّفقْ؟

5

ها هنا

مدينةٌ

تُقْفِلُ أبوابَ الصباحْ،

واليتامى

يتقاسمْنَ التراتيلَ المُباحْ،

والأناجيلُ التي كانتْ تُضيءْ

غادرتْها النارُ

إلا في الجراحْ

6

كنتُ أكتبْ

كي أُزيحَ الصمتَ عن لوني المُريبْ،

وأُعيدَ الضوءَ للمعنى

إذا ما ذاب في الحُلْمِ الغريبْ،

كنتُ أحبو

بين جمرِ البدءِ،

أستجدي الرّحيقْ

7

كنتُ أُعلي نُطفَةَ الأسماءِ في

مَقلَتي، والرملُ يمحو سِيرتي،

كلّما خفّتْ رؤايَ، اتّسعتْ

8

لمْ أجدْ فيّيَ غيرَ الانشطارْ،

صوتُ منفيٍّ يدوّي في المدى،

وجدارٌ فيه أنفاسي تغارْ

9

ها أنا أسألُ ظِلّي: من دمي؟

هل وُلدنا، أم كُنِنّا فُقدَةً؟

أم نسينا أن نكونَ كما نبتَتْ؟

10

سوف أمضي، والعباراتُ طِلاءْ،

أكتبُ الصمتَ، وأغفو في الظلالْ،

وأُعيدُ البدءَ: حبرًا وارتقاءْ

*

خاتمة (نثرية)

في انتهاءِ الحبرِ يُولدُ ما يُرى،

حين يغفو الضوءُ في جفنِ السؤالْ،

تبتدي الأشياءُ من وهجِ العَمى

كلُّ ما كنّا،

ظلالٌ

في اتّساقِ اللامدى

كلُّ ما نُخفيه

يمضي

نحو ما نُخفيهِ...

مرّتْ أسماؤُنا،

وانْثَنَتْ في الريحِ

أنقاضًا تُرى

***

د. سعد محمد مهدي غلام

حـوريـةُ الـبـحـرِ

بـيـن الـوجـدِ والـخَـفَـرِ

تـحـكي الى الـحـورِ

مـا تـحـكي عـن الـبـشـرِ

عـن حـبِ فـارسِـهـا

عـن طـلـعـةِ الـقَـمـــرِ

عـن لـمـسـةِ الـحـبِّ

إنْ مَـرّتْ عـلى وتــرِ

عـن الـنـجـومِ الـتي

أغـرتْ مـحـاسـنُها

الـراهـبَ الـبـحـرَ

في لـيـلِ الـهـوى الـغـجـري

فـهـلْ تُـرى تـلـتـقي

والـركـبُ في ســفـرِ

**

حـوريـةُ الـبـحـرِ

مـا زالـتْ عـلى أمــلِ

عـلى انـتـظارِ أمـيـرٍ

مَـرَ فـي عـجــلِ

لـلآن تـذكـرهُ

والـطـرفُ في خـجـلِ

فـهـل تُـرى تـلـتـقي

بـالـفـارسِ الـبـطـلِ

يـومًـا بـلا مـوعـدٍ

مـن بـعـد مُـرتـحـلِ

كي تُـطـفـئ الـشـوقَ

في سـيـلٍ مِـن الـقُـبَـلِ

**

حـوريـةُ الـبـحـرِ

هـل تـشـكو مِـن الـسـأمِ

ومِـن تـغـيـرِ حــالٍ

فـاضَ بـالألــمِ

ومِـن حـبـيـبٍ

جـرتْ ذكـراهُ كـالـحُـلـمِ

وهـل سـتـبـقى

لـتـحـيـا مِـحـنـةَ الـزمـنِ

في غُـربـةِ الـروحِ

أو في غُـربـةِ الـوطنِ

نـعـم ســتـحـيـا

عـلى الـبـاقي مِـن الامــلِ

فـالـحـب أقــوى

مِــــــن

الالامِ والـمِــحَـنِ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / فايلا في 22 نيسان 1998

 

في الحَـزْم والعَــزْمِ والإيمانِ والفِطَنِ

وفـي التـآلـف، تـكـبـو شِـدةُ المِـحَـنِ

*

صَـفّـوا النـّوايـا، فللـتـاريــخ قـولـتـُه

في صفحة الدُّرِ، أوفي صفحة الدَّرَنِ

*

لا للتـطـرّفِ والـتهـريـج، في خَـوَرٍ

فـساعــةُ الحسْـم تاريخٌ مِــن الزمن

*

تـأبـى الأصالـة إلا أن يــكــونَ لـهـا

كفٌّ تصولُ بها، في المَرْكب الخَشِنِ

*

(فـرّقْ تـسُـدْ) فعّـلوها في صفوفكم

حتى سَـقَـوْكم بـها كأساً مـن الوَهَـنِ

*

إلامَ يـبـقى الخـلافُ الـمُـرُّ مُـنْـتـجَعا

تـســقيه سِــرّا أفاعي الغرب بالفتن

*

لــو لم يـرَ الطـرفُ الغـازي تـفـرّقـكم

مـا كــان فــكّرَ فــي غـزوٍ، ولـم يَكُنِ

*

تـعـدو الذئـابُ، اذا الأسـوارُ غائـبـةٌ

والعـيـنُ غـافِـلةٌ، مِـنْ شِــدّة الـوَسَنِ

*

إنّ التـخـلـفَ فــي وعـي الأمـور لــه

سَــلْـبٌ يُـؤثّـرُ، فــي سِـرٍّ وفي عَـلَـن

*

والجِـدُ فـي الحَـسْمِ يـبدو مـن بـَوادِره

في هَـيْـأةِ السيف، أو في هَيْأة الرَّسَـن

***

(من بحر البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

عَيْنَاكِ تُزْهِرُ فِي الرُّؤَى أَحْلَاما

وَأَنَا الْغَرِيقُ أُلامسُ الْأَوْهَامَا

*

كَمْ  رَاوَدَتْنِي فِيكِ أَلْفُ حِكَايَةٍ

تَهَبُ الْمَسَاءَ قَصِيدَةً وَهُيَاما

*

يَا مَنْبَعَ الْإِحْسَاسِ كَمْ أَسْقَيْتَنِي

دِفْءَ الْحَنِينِ، فَصُغْتُهُ أَنْغَاما

*

فَتَوَضَّأَ الكَلِفُ الصَّدِيُّ بِمَائِهَا

وَصَلَاتُهُ فِي الْمُقْلَتَيْنِ أَقَامَا

*

قَدْ كُنْتِ فَجْرًا فِي ظَلَامِ تَوَجُّسِي

فَأَضَاءَ وَجْهُكِ لَيْلَهُ إِلْهَاما

*

يَا نَاعِسَ الطَّرْفَيْنِ مَا أَصفاهُمَا

فَجَّرْنَ مَا بَيْنَ الضُّلُوعِ غَرَاما

*

أَهْوَاكِ رَغْمَ الْحُزْنِ رَغْمَ تَوَجُّعِي

وَكْتَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْهَوَى الْآلَامَا

*

تَبْقَيْنَ فِي رُوحِي الشَّغُوفَةِ هَمْسَةً

تُحْيِي وَتُطْفِئُ فِي الْفُؤَادِ ضِرَاما

*

اللَّهُ يَعْلَمُ كَمْ شقيتُ من الْهَوَى

أَتْعَبْتُ بَيْنَ دُرُوبِهِ الْأَقْدَامَا

*

يَا مَنْ تُمِرِّينَ الصَّبَاحَ عَلَى يَدِي

لِيُسِيلَ مِنْ هَمْسِ النَّدَى أَنْسَاما

*

كَمْ غَادَرَتْ عَيْنَايَ شَطَّ سَوَادِهَا

وَرَمَتْ عَلَى نَخْلِ الرُّمُوشِ سَلَاما

*

لَوْ دَامَ قُرْبَكِ لَحْظَةً مَا غَادَرَتْ

رُوحِيَ الحَيَاةَ، وَلَا ارتضيتُ خِتَامَا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

سيقولُ لنا التأريخُ

أنَّ السُّطورَ مشانقُ

وما بَينَهُما

مقصلةُ الكلامِ

وأنَّ النّاطقَ الرسميَّ

بِمَوتنا

هوَ الجوعُ

واللامعقولُ

وفي صناديقِ القلوبِ

رسائلُ سوداء الملامحِ

تشي بالحقدِ المبينِ

والتخلّفُ جاثمٌ

على مفاتيحِ الصّدأ

وخلفَ الأقفالِ

سجونٌ

اختَلَطَ فيها الواقعُ

بالمستحيلِ

والخيرُ بالشّرِّ

والحقُّ بالباطلِ

وها نحنُ

نؤرجحُ زمننا

بينَ هاويَتينِ

وأرواحنا

بينَ مَوتَينِ

ونرصّعُ الحزنَ

بالآهِ المعَتَّقةِ

بالشَّجنِ

حينَ ينمو الهمُّ

على أجنحتنا المكسورةِ

نستمدُّ ضعفنا

من قوَّتهم

ويَستَمدّونَ قوَّتهم

من ضعفنا

هكذا باتَتْ

معادلةُ الحَياة ...

***

سلام البهية السماوي

 

ذهل لقمان لِمَا رأى

و بالصّمت تصلّب وما اشتفى

ألقى على أرصفة الحلم وصاياه

و ما آواه المدى

لا وشم في المدى لأيّ مدن

فيها تقرّى وتدبّر...

*

سقط منّي معطفي - قال -

و أُشْرِبْتُ كؤوس الريح والأسى

مدائني الّتي رتقت ضلعها في مقلة الشمس

بأضلعي

تحتحتت من تحت أظفاري نعناعا

على موائد الضّنى...

في عطفة نائية

قد دعّني إنليل

و التفّ على النّهى

في الشطآن والحدائق، رسا الدّجى

و في النّهور والقرى.

انعقدت أ لسنة الرّمان

في أكفّ وقواق تمكّن...

وغرّدت له الشحارير

أطنبت عطاء وتناوبت...

تجاسر الوقواق،

احتطب في الجسور،

استكفّ ريحها.

و في المدائن

تأذّن بجوع وخراب ومقاصل...

اختلج النهار

انعطف ناحية بئر تتهدّمُ.

لا ماء في البئر ولا قميص أنتظر منها

كي أبصر...

*

أفتقد اليوم حفيف ثوب أيّوب على عصايَ

كي أرى .

منّي تفرّ لغتي

و تتهدّم جسوري والأماكن.

نسيتُ ما رتقتُ من عشب تخمّر

على الطين الْتَكَسَّرَ.

و أَحْصَبَتْ عنّي المرايا، كلّها

و صدَّعَ الحَصَبُ معصمي...

*

يا أيّها النّجم الْغَفَا !

هلاّ رددتَ لغتي وريح إبرتي؟؟؟

و بهما أَرْتُقُ عين عمر الْتَغَطّشَتْ

لَمَّا تَفَحَّمَتْ...

***

بقلمي: هادية السالمي دجبي - تونس

 

منزعجة حيال تصرفه الغير اللائق فهي تشعر بحالة من قرف ومقت حين تتذكره...كان يلاحقها طوال شهور. تراه في الامكنة التي ترتادها على الاكثر.  يبتسم لها ابتسامة تكاد لا تعرف لها معنى....لكن جرأتها ولسانها الحاد يدفعان عنها تطفله.  يسمع ضحكتها الهازئة التي تخلصها منه. الرجل الذي غزا الشيب ذوائبه.  عافه قطار الزمن ولا أحد يعرف سبب عزوفه عن الزواج وقلة اختلاطه مع الاخرين.  منذ صباه يتفاخر بما ورثه.  مزرعة وقصر مشيد تظلله الاشجار على ضفاف نهر الفرات

تبدو حانقة وقد احمرت وجنتاها غضبا. تحاول الصبية ان تجفف دموعها في غرفة الباحثة الاجتماعية المنعزلة عن فضول الطالبات.  تسرد حكايتها مع الرجل الذي أخذ يضايقها...ثم تضع رأسها فوق حافة المنضدة وهي تنشج باكية.  وبالتأكيد كانت بحاجة ماسة لتفريغ شحنة غضبها بهذا الحديث الذي بدا للباحثة كأنه ضرب من خيال مراهقة صغيرة تحاول اختلاق القصص الحزينة.

...كانت لا تقوى على مجابهة نظرات الباحثة لعينيها.  رغم انها تحتمي بستائر الغرفة الداكنة الا ان خيوط الشمس المنعكسة من خلال زجاج النافذة تكاد لا تتيح لها فرصة مناسبة للشعور بالطمأنينة والاستقرار في جلستها.

تقول بصوت تتكسر نبراته. ما حدث لم يكن بالحسبان فقد لمحته يخرج من دارنا ووجدت أهلي يهيمون اعجابا بخصاله وكرمه الباذخ

بخجل تطلب رأي الباحثة.  إزاء الموقف وتطلب مساندتها ووقوفها بجانبها. إذ انها ستغدو كيمامة يخدعها سربها في رسم مساراته. انها تائهة وحيدة في فضاء مخيف. ربما تكسر الريح جناحيها فتقودها لمصير مجهول

أوجست الباحثة خيفة في نفسها تجاه مشاعر الصبية الغضة ان صح ما تدعيه. لكنها فضلت الصمت لحين تفهمها الموضوع بالضبط

تقول الباحثة. ودعتني بقلب منكسر وعيون تحكي قصة أيامها الحائرة. عانقتها وتظاهرت بافتعال ابتسامة ممزوجة بهدوء شددت على يدها. ستكونين بخير. وسيكون غدك هو الاجمل

تنهدت ورمقتني بنظرة حادة كأنها تعاتبني. حملت حقيبتها تتثاقل خطاها لترسم بؤسها ومحنتها شيعتها نظراتي حتى اختفت عند حافة سور المدرسة

كيف أفلح بتلبية نداء استغاثتها وكيف أشرح لها أسبابي التي لا ترقى لمداركها الغضة. أداؤها في الفهم مازال فتيا. فهي قد ولدت قبل حلول الالفية الثالثة بعامين وحسب. بمعنى. انها لم تعبر الخامسة عشرة من عمرها بعد

. وبالرغم من ذلك وربما. لسوء حظها استقبلتها أحضان لا تعبأ بقدوم أنثى...وتتعامل معها تعامل الجاهلية الاولى في وأد بناتها  الفرق هنا. ان الوأد قد يكون رميها في احضان رجل بعمر ابيها

حتما ستنحصر مسؤوليتي كباحثة اجتماعية داخل سور المدرسة وبالتأكيد هناك خطوط ليس بمقدوري تجاوزها. لكن الصبية تمتلك عالمها المرهف بعيدا عن عالم أسرتها وقريتها

أغمضت الباحثة عينيها. وضحكت ضحكة حائرة ماذا بوسعي ان افعل.؟؟ هل احرضها على أهلها وهل من قوة ستحميني؟ وهل دوري ينحصر إلا في السماع؟.

شعرت بموجة من الندم تجتاح نسيج روحها إذ ان الصبية ذكرتها بماضيها. ارتشفت قهوتها دفعة واحدة دون ان تشعر بمذاقها.... وهي تفكر بزمان قد مضى لكن حسرته تكاد تضايق أنفاسها ان عادت بذاكرتها لتلك السنين.  فقد كانت تسمع ضجيج المآتم ونحيب الثكالى يرافقها قرع طبول الحرب!! وليس هناك من طرق بابها للزواج. فكانت تنتظر. وتشاطر مالك الحزين همومه

إذن يتوجب عليها مساندة الصبية. غير انها بذلت جهودا كبيرة في بادئ الامر ولكن دون فائدة أمام اصرارهم.  فحاولت على الاقل اقناعهم بعودة الصبية لمدرستها

التغيير الذي طرأ على احساس الباحثة ذكرها أيضا بلقب الانسة الذي رافقها منذ سنين.  كيف يتسنى لها ان تتخلص منه وقد أنجبت الحرب وريثا قد أزهق الارواح جوعا.  بما يسمى بالحصار. ثم أخذت الحرب تتكاثر على مدى سني عمرها

لتبقى الباحثة تبحث عن أمانيها

بعد حلول المساء عادت الصبية من مدرستها.  تفاجأت بتجمع النسوة في دارها.  من أقاربها وجيرانها وهن بأجمل زينتهن... يؤدين رقصة (الدبكة) بادرت احداهن وسحبت يدها لتشاركهن. لكنها تغنجت بدلالها المعهود. ثم اعتذرت. ان لديها امتحان في الصباح الباكر.  انفجرت النسوة بضحكات متواصلة وكأنها فجرت فيهن طاقة مخزونة للضحك

حملت احداهن إناء كبير تفوح منه رائحة الحناء وأخذت تخضب يديها الصغيرتين. وبادرت أخرى تغني بصوتها الشجي

...ارتجفت الصبية واندهشت حين قالت أمها ان الحفلة مخصصة لعقد قرانك

تأكدت هي. ان لا جدوى من بكائها وصراخها أمام ارادة أسرتها الطاعنة بأميتها. عادت المرأة تخضب يديها (تختار أمها من بين النسوة من هي مشهود لها بكثرة الانجاب لتقوم بهذه المهمة)..

أخذت النسوة تقدم التهنئة للصبية لكنها كانت غارقة بخيالها في مدرستها وتفوقها في درس الرياضيات.  وإعجاب مدرسة اللغة العربية بأسلوبها في درس الانشاء حين طلبت منها ان تقرأ موضوعها في الصفوف الاخرى

لكن الرجل العجوز سبق طموحاتها ودفع مالا كثيرا. لكنه انصاع راضيا لمطلب أسرتها وبما طرحته الباحثة الاجتماعية لإكمال دراستها

مازالت الباحثة تفكر في المفارقة المذهلة. مفارقة ان تزوج الصبية مبكرا وان تترك هي في زوايا النسيان

كانت تفكر في حل لتلميذتها لكنها انشغلت في معضلة الوأد وأدها منسية. ووأد الصبية. هي حفرتان. حفرة التذكر وحفرة النسيان

ان تكوني مطلوبة يا طفلتي من عجوز غني

يعادل نسياني في الزمان وفي المكان. متشابهة هي الفصول. يا طفلتي

عادت الصبية لمدرستها.  تحمل حقيبتها وتحمل معها لقبا جديدا.

(أصغر سيدة). عادت مطرقة الرأس. تنبئ صفرة وجهها. بإحباطها وإذلالها

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

استيقظ “هو” في صباحٍ لا يشبه الصباحات. الضوء الذي انسرب من شقوق النافذة لم يكن ضوءًا، بل رمادًا باهتًا يسقط فوق الأشياء. جلس على طرف السرير، شعر أنّ الأرض تميد تحته ببطء، كما لو أن شيئًا في داخله يتهدم بصمت.

لم يكن يعرف منذ متى بدأ هذا الانهيار. ربما منذ اليوم الذي فقد فيه وجهه في مرآةٍ لم تعد تُعيد ملامحه كما كانت. كان يرى فيها رجلاً شاحبًا بعينين زجاجيتين، تشبهان حفرتين امتلأتا بالخوف.

خرج إلى الشارع.

المدينة كانت هادئة على نحوٍ مفزع، والوجوه تمضي كأنها أطيافٌ بلا ملامح. حاول أن يتذكر أسماء الناس الذين يحبهم، لكنه لم يجد إلا أصواتًا بعيدة تتهشم في ذاكرته. كان يشعر بأنه يسير في حلمٍ ثقيلٍ لا نهاية له، وأن كل خطوة يخطوها تُغرقه أكثر في ضبابٍ داخلي لا ينجلي.

في داخله كانت حربٌ صغيرة، لكنها أشرس من كل الحروب.

لم تكن بينه وبين العالم، بل بينه وبين نفسه. هناك جيوش من الخوف تتحرك في صدره، فرسان من الذكريات القديمة يطعنون قلبه في كل لحظة. كان يسمع صليل أفكاره المتعارضة، يرى الدخان يتصاعد من روحه، يشمّ رائحة احتراقه، ولا يستطيع أن يصرخ.

توقف عند جدارٍ رمادي وراح يحدّق في الشارع. كل المارة يبدون كأنهم يسيرون في اتجاهٍ واحد، أما هو فكان عالقًا في منتصف الطريق، لا يعرف إلى أين يذهب.

فجأة لمح وجهًا في الزحام — وجه امرأة كانت يومًا تشبه الربيع. لم يكن متأكدًا أهي هي حقًا أم أن قلبه اخترعها لينجو من وحدته.

ابتسمت له، أو ظنّ أنها ابتسمت، فتحرك نحوها، لكن كلما اقترب، تراجعت الصورة، تلاشت شيئًا فشيئًا، حتى ذابت في الهواء كالبخار.

توقف، ارتجف، أدرك أن الحب لم يكن سوى وهمٍ آخر… جرحٍ جديد يضاف إلى حربه القديمة. ذلك الوجه الذي ظنّه خلاصه لم يكن إلا مرآةً لحزنه، وهكذا عرف أنه لا يهرب من أحد، بل من نفسه.

عاد إلى بيته بعد أن أُطفئ النهار في عينيه. جلس أمام النافذة، ينظر إلى السماء. كانت رمادية كقلبه، والغيوم تسير ببطء كجنودٍ متعبين. تساءل بصوتٍ خافت: هل انتهت الحرب؟ أم أنني ما زلتُ في أولها؟

لم يأتِه جواب.

غير أن قلبه خفق فجأة كما لو أن شيئًا ما في داخله انهار نهائيًا. ابتسم ابتسامة صغيرة — كانت أشبه باعترافٍ خفيّ بالهزيمة.

في تلك اللحظة، سكن كل شيء. لم يعد يسمع الأصوات في رأسه، ولا وقع الحرب في صدره. شعر أنه يذوب ببطء، كما يذوب الجليد في يدٍ دافئة.

وعندما أطلَّ الصباح من جديد، كان كل شيء كما هو — المدينة، الجدار، السماء الرمادية — إلا هو، فقد صار ظلًّا يمشي في ضوءٍ لا يراه أحد.

***

قصة قصيرة بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

لحظةً بلحظةٍ،

كنتُ أرنو إلى السماء.

ما لفتَ انتباهي

طائرُ النورسِ،

يحلّقُ في أوّلِ الصبح،

وحينَ ينتصفُ النهارُ

يَرجِعُ إلى حيثُ

يستطيعُ الوصول.

*

تتبعتهُ بعينَيَّ،

كأنّي أبحثُ عمّا يهربُ مني،

عن لحظةٍ صافيةٍ

تملأُ قلبي بالهدوء.

في صمتِ الموجِ،

وفي رقّةِ الضوءِ،

كانت الحياةُ تهمسُ لي

أن لكلّ روحٍ مسارًا،

وكلّ سفرٍ نهايةً

إلى حيثُ تستطيعُ العودة.

*

ثمَّ أدركتُ أنّي،

كذلك الطائر،

أسافرُ في فضاءاتٍ لا تُرى،

أبحثُ عن أفقٍ غيرِ معلن،

عن سماءٍ تقبلُ أحلامي.

لكنّ قيودَ الأرض،

تذكّرني بأن العودة ضرورية،

وأنّ لكلّ حريةٍ حدودا،

وان لكلّ ارتفاعٍ سقفا

لا يختلّ إلا بالوعي.

*

حينَ تلتقي الشمسُ بالبحر،

ويختفي طائرُ النورسِ خلف الأفق،

أشعرُ أنّ الوقتَ ليس ملكي،

وأنّي جزءٌ من رحلةٍ أكبر،

رحلةٍ بين الحلم والواقع،

بين التطلّع والحدود،

بين ما نستطيع وما يهربُ منا،

بين لحظةٍ تمرّ

ولحظةٍ تبقى.

*

وفي النهاية، تعلمتُ أنّ السعيَ

ليس للوصول وحده،

بل لأن تكونَ واعياً

بقيودك وأحلامك،

بأن تحلقَ كما يحلق النورس،

حتى وإن اضطررتَ للعودة،

ففي كل رحلةٍ،

حتى القصيرة منها،

تكتشفُ معنى الحرية،

وتلمسُ غموض الحياة،

وترى أنّ السماء،

مهما اتسعت،

تظلُّ مكانًا لاكتشاف الذات.

*

توقّفتُ عن تلك الهواية،

وعاهدتُ نفسي

أن لا أعودَ إلى ذلك الطريق،

حتى أرى طائرَ النورسِ

يطلُّ ثانيةً،

ويخطُّ بجناحِه:

أن لا وقتَ

يستحقُّ أن يُهدَر.

***

د. جاسم الخالدي

 

في نصوص اليوم