نصوص أدبية

نصوص أدبية

ماجدة شاهين، الخريدة التي كان لديها من الجمال ما يكفي لأن تغتر، وتتعالى على نديداتها، شكّل عليها هذا الحسن سلطة ضاغطة، قوضت كل آمالها، بأن تعيش مثل رصيفاتها في الحي، فوالدها الذي استفاض أنينه، في أنحاء البيت عند زواجها، منعها من مواصلة تعليمها، في صباها الباكر، خوفاً عليها، وأرغمها على أن تظل حبيسة منزله المتهالك، هي وشقيقاتها الصغار، خشية أن تحمله عار الانكسار، كانت ماجدة آسرة، مبهرة، تطغى عليها دلائل الفتنة، من مسارب شتى، ونواطير الشباب، الذين كانوا يتهالكون على رؤيتها، لم يشاهدوا إلا تلك التصاوير القاتمة، الباهتة، التي تتراءى لهم من خلف نافذتها، لقد مثل يوم زواجها، نكبة بالغة في أفئدتهم التي أثخنتها الجراح، وتزوجها رجلٌ، كانت ثقافته، أوضح من أن تحتاج مخالفتها إلى دليل، ثقافة ذات نزعة انكفائية، متمحورة حول المادة، والورق المالي الصفيق، فأمست ماجدة، وجمالها، مجرد أداة، تغذي غريزة لا يصح تجاهلها، عند تلك الطبقات المترفة، ظلت ماجدة رهينة عند زوجها الديوث، الذي يعتز بالصلات، والوشائج، مع ذوي المناصب والنفوذ، وظلت خاضعة لخيال، وعواطف الأثرياء والموسرين، حتى انتشر في جسمها البض، وعودها الريان، تلك البقع الحمراء، التي تشير إلى ذلك المرض الخطير، وفي أصيل يوم شاحب، ماتت ماجدة، بعد أن طال انتظارها لقوى خفية، تخلصها مما كانت فيه، وبدأ زوجها إبراهيم عيسى، الذي حقق كل ما كان يرجوه من جمالها، رحلة البحث عن زوجة تشابهه في الخسة، والنذالة، والميول، والأهواء.

صريع الفحش

أمجد طه، الذي كانت حياته حافلة بكل ما يتصوره الذهن، من مظاهر التهتك، والفحش، والانحلال، ظلّ طوال حياته الجامعية، ممعناً في إعطاء معان جديدة، للحمية، والشرف، والنخوة، فهو يرى أن الفضيلة جريمة شنعاء، يجب اخضاعها لنظرة نقدية صارمة، تكفل لها أن تجرجر أذيال الخيبة، والعزلة، من حياة الناس، فالمجون الذي يدعي الناس الفرار منه، في المساجد والكنائس، هو في الحق عاطفة بشرية، تغمزنا بعيونها، وتأسرنا بشفاهها، وتخاطبنا بأفواهها، هو مطية سهلة، نجد فيها ما شئنا من نعيم، وما تقنا إليه من لذة، إذا استرجعنا معالم فردوسنا المفقود، واستقصينا عوالمه، ونزعاته الجامحة، التي تختبئ أطيافها بين اللحم والدم، الفردوس الذي يستحق منا أن نبعث معانيه، وصوره، في قالب جديد، ينأى عن الخرائط العقدية، والقيم الأخلاقية، فحياتنا تحتاج فعلاً، لأن تضطرب بغير نظام، وتسير على غير منهاج،  وهكذا ظلّ أمجد وفياً لأفكاره، رغم ما اتسمت به من التباس، وهزال، حتى وقف على أعتاب الشيخوخة، فطافت بمنطقته ضروب مروعة من القسوة، هيأت المناخ لأن تنقض عليه جماعة، من تلك الجماعات الدينية، التي تزهق أرواح الناس لأقل الريب والذنوب، فقطعت لسانه، ومثلت بجثته.

البريق العلمي

لم يستطيع أنور مالك، تقديم صياغة مقبولة، تقنع مشرفه في مرحلة الماجستير، بمكامن عبقرية أطروحته، التي وقف حيال فلسفتها، موقف الناقد البصير، لقد رفض أستاذه حججها، ومسوغاتها، وطلب منه في وضوح، وجلاء، أن يعيد بناء منظومتها التأويلية، ولكن مالك الطامح أن ينال هذه المرتبة في مدى قصير، عمد إلى ثرثرة فارغة، لا نهاية لها، ولا غاية، لم تفضي إلى محصلة، فاتخذ بعد تعنت أستاذه، في داره الواسعة الرحيبة، محراب، أسماه محراب الاستمالة والترغيب، جلب إليه كل نابغة حصيف، وعبقري متفرد، ألجئته رغبة ملحة، وروحاً هائمة بالغني والثراء، لأن يصوغ أطروحة محكمة، تختلف في تصوراتها، وتراكيبها، ومعانيها، عن تلك الرسالة الواهية، التي نسجتها أحرف مالك، وخطت له بعد الماجستير، أطروحة الدكتوراة، وحملته بعدها على أكتافها، حتى أوصلته إلى كرسي الوزارة، فأمسى مالك وزيراً للتعليم العالي في وطنه، فكان أول قرارا اتخذه، تنحية طائفة من الأساتذة عن وظائفهم، وأول من مرر يده البضة على مرسوم فصله، كان أستاذه الشريف، الذي لم يسقط اعتباره، وتتحاماه المؤسسات العلمية، فقد انهالت عليه العروض من الجامعات الخاصة، التي تعرف تماماً حدة ذهنه، وسعة علمه.

محامية الشيطان

فجر عثمان، تلك الفتاة الألمعية، التي امتلكت من وسائل التأثير والاقناع، أكثر من غيرها، تمكنت هذه المحامية، الوافرة الحسن، البارعة الجمال، الدائمة المرح، أن تسبك مرافعاتها الرنانة، وخطبها المترعة بالأدلة، والشواهد، حتى تبرئ ساحة كل متهم، لاذ بباها، وأن تقصيه بنباهتها، وفطنتها، من تلك المتعرجات، والشعاب المتداخلة، التي غمس فيها نفسه، وانفثل فيها، هي وحدها في ناحيتها، من تستطيع أن تنجي من اشتدت مصيبته، وعظمت بليته، وتدحض التهم عنه، هي صاحبة الحنكة، والقدرة على  تفنيد حجج الخصوم، والطعن عليها، لأن قيثارتها دائما ما كانت تعزف، على أوتار هشاشة القوانين الوضعية، وظنيتها، الأمر الذي جعلها تثير الدهشة، والاعجاب، في كل محكمة، شمخت فيها بقامتها، و فجر التي استفاضت شهرتها، وذاع صيتها، كانت لا تتكلف طريقة الأقدمين في مناقشاتها، ودفوعاتها، لقد أقلتها تلك السجالات، من خشونة العيش إلى لينه، ولكن هامتها، لم تتطاول شرف النزاهة، وهمتها، لم تتسامى إلى فخار الاستقامة، لقد كانت محامية فاسدة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، كانت مستشارة قانونية، صاحبة دخائل خربة،لا تعنيها في شيء استيفاء العدالة الناجزة، بقدر ما تعنيها لذة الانتصار، وأن تأتي إليها أتعابها، صحيحة، سليمة، كاملة، كانت فجر بشاعة مبطنة بالجمال، وظلت على هذا الوضع، تزيح عن طابع وظيفتها القداسة، وتنفث فيها النار، وتنشر الفزع والدمار، بتفانيها في الذود عن الجناة والطغاة، حتى قصم ظهرها، فيديو مخل، مع شاب وسيم ، كان يثابر على اقناعها، ويلح في ذلك الحاح معتوه، اليوم بان لها طموحه الجلي، الذي قضى على أسطورتها المعتمدة على ركائز المكر، والخبث، والشره، والدهاء، لقد تلاشت أسطورة فجر، التي لو بقيت على منعتها، لارتبنا في عدالة لا تحتاح إلى الكتب والأسفار، عدالة باقية، راكزة، تستأصل من أفئدتنا حب الدنيا، وترد عنا عوادي الزمن.

محنة الخياط

 أمينة الخياط، كانت خططها ومشاريعها الاقتصادية، وهي في مقتبل عقدها الثالث، تختلف كثيراً عن تصاميمها وهي في الخمسين، من حيث القوة، والكفاءة، والاتزان، فقد كانت خططها وهي في عنفوان شبابها، عبارة عن دراسات منظمة، تأخذ بعضها برقاب بعض، بحيث لا يسبق شيء منها على موضعه، ولا يتأخر عنه، لكنها الآن جل دراساتها، وخططها، لا تستقبلها جموع الشركات العالمية الرائدة، في رضى وقناعة، كما كانت تفعل من قبل، لقد أزرت بمسيرتها الصهباء، التي جعلت عقليتها الفذة، مشوشة أو غائبة، فالخياط التي أغواها شاب بقسامته، في احدى ضواحي نيويورك، وأغراها، وألصق بين أحشائها بضعة منه، ثم اختفى عن عالمها، كابدت هي الأمرين على تربيته، وزهدت في الاستقرار، الذي حتماً كان سيجني على طفلها الغض، ولكنها تركت باب مخدعها مفتوحاً على مصرعيه، يدخله كل من هب ودب، طالما هو ظاعناً لا يقيم، وابنها الذي ربته على خليط جامع من الأنساق العقائدية، تماهى مع اطار كلي متسق، يؤثر حطام الدنيا، ومتاع الحياة، على القيم والثوابت، لأجل ذلك اضطرب هو في حياته، وطفقت هي، تعدو وراءه، حتى لحقت به بعد عناء شديد، تعيش الآن الخياط حياة قاسية مضنية، تتنافى مع ماضيها كل المنافاة، حياة تقذي فيها عيناها تحت أعباء السهاد الطويل، ولا تنبذ الفصل بين المقدس والمادي، بل تجريها على نواميس وتأثير البيئة والثقافة، تلك المؤثرات التي يستسلم فيها المرء للأهواء المصطخبة، والميول الملتهبة، والعيش النائي عن الاتزان.

***

د. الطيب النقر

الجمعة 12/7/2025

في لحظة ما

لا تحتمل أي تفاصيل

لا تشبه أي فاصل زمني

لحظة تحولي إلى مفردات مفككة

أرجوك

لا تقترب مني في هذا التوقيت

أكون قيد التبعثر

لا تحاول لملمة الشظايا

حادة أجرح

منثورة في كل ركن

على السرير وقميص النوم المهمل

بجانب مرآتي

حول أقلام الحمرة وقوارير العطور

وفوق صندوقي الخشبي

الذي تواصل فيه أجزاء من ذاكرتي النمو

وفي الطريق الذي يقود إلى الشرفة

فتصطدم بالستائر الكسولة

إنه وقت القصيدة

تناول العشاء وحدك

فالمطبخ لا يليق بي

أنا نص متناثر

سأغلق الباب

وأدعو موزارت

لندخن جنون اللحظة

ليملأ كأسي الفارغة

أحتاج أن أدور وأدور

أن أخلق زوبعة من أحرف

وأفرد شالي الأحمر

وسط الغرفة

كي اساقط شعرًا

أتبلور نصًا مسحورًا

ثم

تنام أناي وتصحو على أوراقي قصيدة

***

أريج محمد

13/07/2025

 

أمُدُّ يديْ ولا فراشةٌ تنقُذُني منكِ، حتّى خلعتُ من الصدفةِ قميصَها؛ ومنحتُ الأتاواتِ للفراغِ الذي أرسُمكِ عليهِ، وأنا أحدِقُ بالنرجسِ الذي أظنُكِ فيه؛ مَنْ يدري قد أصحو ذاتَ يوم وأَجدُني أنتِ؛ فأنتِ المتاهةُ التي تقودُني اليكِ، وأنتِ حُفرتي التي سقطتُ فيها، ولا سُلّمٌ يقودنُي لأحضانكِ، ولا إشارةٌ تدُلُّ أسايَّ وتأخُذّ حَيرتي الى مثواها،

كمْ عليَّ أنْ أبتهجَ وكم عليّ أنْ أصرخَ بالفراغِ الذي يحدِثني عنكِ؟

لستِ الأ امرأةً مِن زَبَدٍ يذهبُ جفاءاً وأنظرُ أليهِ، يا شِباك تورتي كُلِّها وبدءَ خاتمتي؛

أشُّم رائحةَ أنوثتكِ في ثيابِ المآرةِ وأحجارِ الطريقِ؛ وأتربصُ بأسمكِ كلمّا أستلُّ من خاطري بقايا انوثتكِ وألصقُها على الزجاجْ ؛ فأنتِ ضياعي الذي قادنَي اليكِ؛ وأنتِ جائزتي التي ذهَبتْ للآخرين؛ كيفَ سقطتُ فيكِ وليْ جناحان من أظافرك المطليّة بالحنّاء ؟

كنتُ أحلّقُ على حقولِ صدركِ كلّما أشتهيكِ؛ وأصرخُ بالمفازاتِ الجبانةِ؛ أرى الفراغ َ يمتشقّ سيوفَه ويقاتلُ صفناتي التي تقودُني اليكِ؛ يا حُفرتي التي سقطتُ فيها؛ يا خواتمي التي بحثتُ عنها في الظلام؛ يا شريطَ سِنّيّ الذي أضعتُه ذاتَ منفى؛ وقادني اليكِ ذاتَ وهمْ؛

لعلّي ابدأ بكِ؟ يا رائحة تورتي التي تركتُها في خاطري ولجأتُ اليكِ، دحْرجتُ خيبتي في البراري وذهبتُ أنثرُ الأقحوانَ حول أسمكِ؛ وأصنعُ من الضباب أساوراً لمعصميك،

أستلقي على حروفِ أسمكِ كلّما شعرتُ بالوحشةِ؛ وكلُّما تأخذني الحيرةُ الى حيرتي بكِ، ها هو مزاجي يرتطمُ بالتفاصيل الصغيرة التي تقودنُي اليكِ، فأراكِ أنثى من عبثْ؛ تجتازُ النقاطَ والفواصلَ وتعبثُ برجولتي التي صنعتُها من طرازٍ أنيقْ، ها هو الفراغُ يتّسّعُ بعينيك وأنا أتحدرجُ بهما، كلّما ذكرتُكِ تحوّلتِ الأشياءُ الى هواجس مصلوبةٍ على الجدارِ الذي يفصلنُي عنكِ، وأنا أرتبُّ الضياعَ الذي يُوصلنُي اليكِ، وألتقطُ الأصدافَ وأرسُمكِ فيها؛

أيُّ عبثٍ قادني اليكِ؟ وساقني الى ممراتكِ الضيّقة، يا حُفرتي التي سقطتُ فيها، وتنوّري الذي أصطلي بجمره ، يا عشقي الذي ألوّح له في الملاءآت، وقمري الذي غلبَه النعاس،

دعيني أعُدّ لك وليمةً دسمةً من العِناق، كلّما أرتقي سلّمَ صدركِ وأملأُ جراري،

 وحيثما تطرقُ الريحُ بابي ألحتفُ بكِ، وأنظرُ للأبديّةِ وأصطلي بجمرتكِ، طالما انشدتُكِ شعراً على مسامعِ الفراشاتِ التي تصفقُ لك بأجنحتها، وراقصتُ طائرَ الكناري الذي يقودنُي صفيرُه الى خريفكِ الموحش، كلُّ ما بقي منكِ، تلك الإبتسامةُ الساخرة، وعودُ ثقابٍ واحد يوقد النارَ في قلبٍ يتقّدُ بحبٍّ أنزلقتْ ساقاه على أعتاب قلبكِ، تركتُه يلتفُّ بأنوثتكِ وصحوتُ من عبثي بكِ، يا آخرَ الأشياءِ التي تركتهُا هناك، قبل أنْ تنطفئَ الأبجورةُ ويبدأُ كلُّ شئ، عينُكِ التي تلتمعُ فيها بركةُ ضوء، وثوبُك الذي يغفو فيه قمرُ ملفّقُ، قمرٌ يخدعُ ذاكرتي التي ألِفتْ خُصلاتِ شعركِ الذي يخبئُّ تحت بُرقعهِ وقاحةً تُسِرُّ إليّ ما يُأنسُ وحشتي ويختصرُالطريقَ، ذاتُها عينُك التي كانت تُطِلُّ عليّ من نافذةٍ كأنّها طيورٌ نافقة، وما زلتُ أبدأُ بكِ كلمّا تنتهي الحكايا، وأنظرُ لعينيكِ اللتين تلتمعُ فيهما بركةُ ضوءٍ، وأُصدّقُ ما ينقلُه إليّ طائرُ الكناري الذي غادرَ نافذتي التي تهشّم زجاجُها من النقر، كان يشي لي عن أُنوثتكِ التي تكسَّرتْ بين أصابعي، وأنا أقيسمُ الفراغَ الذي يفصلُني عنكِ، قمري الذي تهشّمتْ نوافذُه سيحوّلُ ابتساماتكِ زُجاجاً من معدنٍ أنيق، ويعلّقكِ تعويذةً بقلبي، لا تدعي تجاعيدَ وجهكِ تمنَعكِ من الحبْ، من افتراش قلبي، فقط انظري بعينيّ لأغيّر الزمنَ وأكسر المرايا التي خَذلتْ جمالَك وأعيدُكِ إليّ، أُطلي وجهكِ بقصائدي، وأعلّقها تميمةً لحبّكِ، سأكتسحُ العالم بالقبلاتِ كلمّا تبتسمين إليّ، فليس أمامكِ من حلّ سواى، ستجدين جمالكِ عالقاً كتميمةٍ على شفتي، وانتِ تفترشينها كحقولٍ من كرز، وأهيّأ طيوري لأستقبالك، وأطلبُ منها أنْ تلتقط حاشيّة ثوبكِ بمناقيرها خشية الإتساخ، يتطّافر البلّورُ من أردان ثوبكِ وأنتِ تمسكين بي، كأنّكِ مصباحٌ في زجاجة، والزجاجة تكسّرت بنهرٍ ترك مجراه وتقرفصَ أمام بهائكِ، لم يعد يفصِلني عنكِ غيرُ العبث، يا عناقيدي المتدليّة في النهر الذي تقرفصَ أمام بهائكِ، غيرُ أنايَ التي تبعثّرت أمام خطواتكِ، وانتِ تمرّين بإهابٍ بابلٍ مُمرّد، على شُقوق يدي وهي تُلّوح اليكِ،

***

د. رسول عدنان / أمريكا

 

لِمَ التطاوسَ والتباهى؟

أتظل تُبهَرُ بالنجوم النائيات

وبالرحيل من التخوم..

إلى التخوم

وتظل تمشى دون أن تدرى..

إلى أي الجهات

إني إنتظرتك أن تعود

تمسح الغَبَش..

المعشش فى عيونك

وروحك الخضراء تلجمها..

إختناقات الذنونب على الدروب

فكيف تختصر الطريق..

إني سأبقى ها هنا..

وحدي إلملم ما تبقّى..

من هشيم

سبعون من عمرى مضت

ووجهك الطفلى..

يترع من أوانٍ فاِرغات

يامن بنيت بروج حلمك فى الهواءْ

وكان حلمك..

أنْ تظلّ بلا حلمٍ

لتحلم أنّ حلمًا..

قد يكحل العينين

فى يومِ لديك

وحَفَرتَ بِئراً في السماءْ

ورجَوتَ ان يأتي ..

من الصحراءِ ماءْ

وزرعت فى البحر..

الشقائق والزنابق

فى غفوة القمر الحزين

أراكَ تبحث عن شمسِ ..

تهلل للظهيرهْ

أدميت قلبى بالتصابى

وركضت تمسك أجنحة النوارس

وبقيت تسرح فى المدى

تيه المدى الممتد فى كل المدى

وأي منفى ..

لم يكن لك فيه من أثر حنون

وحذاءك المثقوب

يرسم خارطة اليباب

قد يحسدوك على الخواءْ

وانت تُعطى كُلما يُعطى..

ولا تأخد ما يُؤخد من دُنياك..

يا ابن الورد

عروة ليس لديه أوسمة وغار

أتعبتنى ..

جرجرتنى..

وأنا تبعت مُطاوعاً

ماكنت اعرف من قبل الرحيل

كم صرتُ أقرأ سفر الله .. والتكوين

كم أعطيت من عمرى اليك؟

كم أعطيتُ؟ .. كم اعطيت؟

مازلت أنتظر الجواب!!

***

د. هاشم عبود الموسوي

لا السيفُ أصدقُ أنباءً ولا الكتبُ

بلِ الدموعُ التي في الحربِ تنسكبُ

*

هذي فلسطينُ لا تحتاجُ من أحدٍ

مدَّ اليدينِ لها ولْيعجبِ العجبُ

*

لو تقتلونَ جميعَ الحالمينَ بها

لحاربَتْكم بها الأشجارُ والسُّحُبُ

*

إن تقطعوا الماءَ عنها صاحَ ظامئُها:

(إنَّ السماءَ تُرجَّى حينَ تُحتَجَبُ)

*

أو تحجُبوا الشمسَ فيها عن مشارقِها

فشمسُ قُبَّتِها يعمى بها الذهبُ

***

تُناديكَ هذي الأرضُ لبِّ نداءَها

وكن أنتَ منها ماءَها وسماءَها

*

يناديكَ زيتونٌ جريحٌ وتِينةٌ

مُجفَّفةٌ كي تستردَّ دماءَها

*

يناديكَ هذا البحرُ والبحرُ دمعةٌ

وميناؤُهُ عينٌ أماتُوا ضياءَها

*

يناديكَ أطفالٌ ولم يتكلَّمُوا

فبعضُ سكوتِ الناسِ يُمسي نداءَها

*

تناديكَ يافا والجليلُ وغزَّةٌ

فكنْ أنتَ منها ماءَها وسماءَها

***

أيا مَنْ واقفٌ عندَ الحيادِ

تخافُ على الحصادِ من الجرادِ

*

تقولُ الليلُ أبيضُ لو أرادوا

وتَنسِبُ ذا الصباحَ إلى السوادِ

*

ألَا أبشِرْ فإنّ غداً قريبٌ

لناظرِهِ وخيرُكَ للنفادِ

*

فليسَ بآمنٍ من كانَ خِلّاً

لذئبٍ أو حليفاً للفسادِ

*

وهذا الصمتُ عارٌ ثُمَّ عارٌ

غداً تلقى بهِ ربَّ العبادِ

***

ألا هبّي بصحنِكِ (أنجلينا)1

فإنَّ الناسَ قد خذلوا (جِنينا)2

*

وغزّةُ تستغيثُ فهل مجيبٌ

وعمَّ الصمتُ قوماً أرذلينا

*

وغزّةُ ليسَ أرضاً تهدِموها

ولا شعباً يُبادُ فيَستكينا

*

ولكن لوثةٌ في الروحِ دبَّتْ

وكابوسٌ يُطاردُكم سنينا

*

إذا بلغَ الفِطامَ لنا صبيٌّ

زفَفْناهُ شهيدَ الأكرَمِينا

***

نسِينا أيُّ عامٍ نحنُ فيهِ

فمن تِيهٍ سفائنُنا لتِيهِ

*

نفاخرُ أنَّ ماضينا عريقٌ

وحاضرُنا خرابٌ نزدريهِ

*

ونُعلنُ حربَنا ظنَّاً بأنَّا

سنسحَقُ كلَّ جبّارٍ سفيهِ

*

بصاروخٍ منَ الورقِ المُقوَّى

ورشّاشٍ من الماءِ الكريهِ

*

ونخطُبُ بالجموعِ: قد انتصرْنا

وحرَّرْنا الهوا من غاصبيهِ

***

بكى كثيراً إلى أن جفَّ مدمعُهُ

وليسَ من أحدٍ إلّاكَ يسمعُهُ

*

يدعوكُ ربّي دعاءَ العاجزينَ يداً

دعاءَ من طُحِنَتْ بالحزنِ أضلعُهُ

*

دعاءَ مَنْ طفلُهُ في القبرِ مُرتجِفٌ

وأمُّهُ معَهَ في اللحدِ تُرضعُهُ

*

دعاءَ مَنْ كانت الأطيارُ تُوقظُهُ

واليومَ طائرةٌ صارتْ تُروِّعُهُ

*

ألّا تذرْ أحداً منهم بموطنِنا

إلّا وكانَ بإذنِ اللهِ مصرعُهُ

***

عبد الله سرمد الجميل - شاعر وطبيب من العراق

................

1- أنجلينا جولي الممثلة وصاحبة المساعدات الإنسانية

2- جِنين: مدينةٌ فلسطينيةٌ

أنا اليوم

قررتُ أن أخونَ ذاكرتي،

أن أنسلَّ من جلدِ الحنينِ كأفعى عجوز،

تعبت من لسعِ نتوءات الأحراش،

ومن نُدوبِ الوقتِ على جسدِ الغيمة، الهاربة .

*

أنا اليوم،

أودعتُ مفاتيحي القديمة

في صدرِ صندوقٍ خشبيٍّ

تفوحُ منه رائحةُ النسيان المُمَلَّح،

وقلتُ، كفى!

*

ألتحقُ بسِربِ الغزاة،

أولئك المتمترسين على حافّةِ الفعل،

يَسِنّونَ رغبتهم كالسيوف،

يُطلّون من شقوقِ المعنى

ويزرعون في العواصفِ نشيد الماء،

*

لم أعد أرغبُ

أن أُطعمَ ذاكرتي من جسدي،

أن أُرضعها من حليبِ الرؤى اليابسة،

أن أُربّتَ على كتفِ الأمس

كلّما انطفأ الحاضرُ من حولي.

*

أنا اليوم،

كغصنِ زيتونٍ نبتَ في منفى،

لا يحنُّ للجذور،

ولا يطمئنُّ إلى الغصون.

*

تركتُ حكاياتي تمشي حافيةً

فوقَ شوكِ التأويل،

وانحنيتُ للريح،

كي أُخفي ملامحي عن القصائد

التي ما عادت تعرفني.

*

الغزاةُ،

هنا،

عند تخومِ الإرادة،

يرفعونَ الراياتٍ

ينشدونَ صوتا له شفاهُ البرق،

ويرقصونَ فوقَ جثثِ الحلم القديم.

*

وأنا،

بلا ذاكرةٍ،

بلا بكاءٍ،

بلا قصيدةٍ تذكرني،

خنتُ ذاكرتي...

لأبحث عن نافذةٍ

لا تطلُّ على جرحٍ

ولا تُغلقُ على قيد.

***

مجيدة محمدي

يـا لـهفة الـقلبِ هـذا البعدُ أشقاني

مـا عـدتُ أعـرفُ مـا حـالي وعنواني

*

حـتى الـذي في ليالي العمر يؤنسني

حادت به عن طريق النفس أشجاني

*

أظــنّ فــي بــؤرة الـعـينين مـسكنه

وفـي الـفؤاد لـهيب الـشوقِ أوهاني

*

يـا طـيبة الـروح كـيف الـدّرب فرّقنا

حـاشـا مـحـبّي مـعـاذ الله يـنـساني!

*

حــاشـاه لــيـس بـطـبعٍ فـيـه أعـرفـهُ

بـل بـحر عـشقٍ يناغي صدرَ شطآني

*

لا لا تـقـولـوا حــيـاةٌ عــنـكَ تـشـغلُهُ

إنّـــي الـحـيـاة لــهُ إن كــان يـهـواني

*

أرجــوه قـربـي لأُسـقى مـن نـضارتهِ

فـالـبـعدُ أرّقــنـي والـشـوقُ أظـمـاني

*

حُـرِمتُ فـي ضـجّة الأفـكارِ بـوصلتي

لـو عـقل لـقمانَ لـي أعـياهُ حرماني

***

صلاح بن راشد الغريبي

 

حَسناءُ كالبَدرِ

حينَ الاكتمالِ

في دربٍ تسيرُ

حين كانَ الجَنَانُ صَادياً

بها وَلِعاً يَهيمُ

*

من كُلِّ أَلوانِ المَلاحةِ نَالتْ

قَوسُ قزحٍ في الفَضَاءاتِ

اِختيالٌ

*

في هَدأةِ الِّليلِ

تَروي لِلهَوى كُلَّ الأسَاطيرِ

وفَيضُ الوَجدِ مِن صَبِّها

أنهَارٌ تَتَدَفَّقُ

فكيف يكونُ الصَّبْرُ لِظامئٍ

حين يَصيرُ على مَقرُبَةٍ

وذَاكَ اليَنبوعُ

إهراقاً يَسيلُ

*

كُلَّمَا في الحَديثِ تُسرِفُ

نيرَانُ الهَوى

في الصَّدرِ تلتَاعُ

فلا يعرفُ المرءُ

إنْ كانَ للبُركانِ

أنْ سَوفَ يَخمِدُ

أم لحرائقِ الجَّوى

إخباءٌ وإهمادٌ

*

من كُلِّ بَساتينِ الدُّنيا

بأطايبِ الثِمارِ تَظْفَرُ

والوردُ في الثغرِ مبسمٌ

وفي وجنتَيها

كُلُّ ألوانِ الزُّهورِ تَرقصُ

*

من أجلِ مُقلتَيها

شَياطينُ الشِّعْرِ تَسْهَرُ

ومن غيرِ خمرٍ

تُذهِبُ العَقلَ والُلبَّ

والسِّحرَ والوضاءةَ

من مُحياها ينسكبُ

*

عُرْشُ المَفاتنِ مِن غَيرِ تَسَاجُلٍ

لمُقلتَيها اِحتواءٌ

والحَصَافةُ في وجودِها

لفَقْرِ الحَالِ بَيانٌ

*

فكيفَ لِفؤادٍ حين يَهواها

عن الكونِ ألّا يَغيبَ

والرُّشْدُ في عُهودِها

في سَماحٍ

فإنْ حَضرتْ يكنْ

هو الغِيابُ

***

بقلمي: جورج عازار

القصيدة الأولى: "رسالة من الجبهة"

(عن حالة الحبيب وهو بعيد عن حبيبته)

أكتب إليكِ من عراءٍ يعجّ بالصمت، من خيمةٍ بالكاد تحميني من انكسارات الريح، كلّ شيء هنا يشبه الفقد، حتى اسمي الذي تنادينني به… نسيتُ صوته. وجهكِ يزورني خلسة، حين تغفو البنادق، ويصبح الحذر أقلّ ضجيجًا. أحنّ إلى طريقتكِ في ترتيب النهار، إلى فنجانكِ المسكونِ بالعطر، إلى دفءٍ كان يربت على قلبي من طرف أصابعكِ. أنا بخير، كما يقولون حين لا يريدون البكاء. لكنني حين أغفو… أنام في حضنِ صوتكِ.

***

القصيدة الثانية: "على حافة الانتظار"

(عن حالة الحبيبة وهي تنتظر عودة الحبيب)

كلُّ يومٍ أزرع صبرًا عند الباب، وأسقيه بنظراتي نحو المدى، فلا يكبر، ولا يذبل. المطر يسألني عنك، والريح تنقل إليّ أخبارًا مبتورة، أخبارًا ترتجف مثل قلبي. أعدُّ خطواتِ العابرين… علّ مشيتكَ تختبئ بينهم. أفتحُ الرسائل القديمة، فتمطر الدموعُ، ولا تجفّ الذكرى. أعيش على أطراف يقيني، كأنني بيتٌ نسي صاحبه أن يعود، فترك فيه رائحة صوته وارتبك في منتصف الطريق.

**

القصيدة الثالثة: "اللقاء"

(عن لحظة اللقاء بعد طول انتظار)

حين رأيتك، توقّف كلّ شيء. العصافير التي هجرت نافذتي عادت، والساعة التي توقّفت يوم رحيلك دقّت أخيرًا… على نبضك. لم نتكلّم، لكنّ الأيدي وجدت بعضها، كأنها لم تفترق أبدًا. كأنّ الحرب كانت قصة أخرى، ونحن كنا في الهامش ننتظر النهاية. أنا لم أعدّ السنين، لكنّ جسدك حفظني، كأنني سِرٌّ قديمٌ تحت جلدك، وكأنك طينتي التي نُفخت فيها الحياة عند أول نظرة.

**

القصيدة الرابعة: "قبر من الذكرى"

(عن حالة الفقد بعد غياب الحبيب في الحرب)

لم أودّعك، لأنك لم تقل وداعًا. غبتَ كما يغيب الضوء عن وجه البحر، صامتًا، كأنك لم تكن يومًا جزءًا من تنفّسي. كلّ شيءٍ تسرّب منك بقي هنا: الكرسي الخشبي الذي كنتَ تفضّله، قميصك المُعلّق دون رغبةٍ في الانحناء، الكتب التي تركت إشاراتٍ فيها ولم تُكملها. الحياة تواصلت… لكنّها كانت تمشي بعكازٍ مكسور. لم يخبرني أحدٌ كيف أتعامل مع الغياب، فصرت أفتح النوافذ علّك تعود، وأنام على وسادتك كأنّها الأرض التي دُفنت فيها.

**

القصيدة الخامسة: "لن أقول وداعًا"

(عن انتظار الحبيب رغم اليقين بموته)

قالوا: "لقد مات". قلت: "لكنه لم يودّعني بعد". أنا لا أعيش في الجنازات، ولا أحتفظ بالورود اليابسة، أنا امرأة ما زالت تُعدّ فناجين القهوة لاثنين، وتضع منشفةً ثانية في الحمّام. أعرف أنه لن يعود… لكنني أحتفظ بمكانه في الحكاية، تمامًا كما تحتفظ السماء بألوان الشروق حتى بعد غياب الشمس. لن أقول وداعًا، لأن الموت لا يُفصِل بين من تعانقت أرواحهم. سأبقى، وأنت ستبقى ما دامت ذاكرتي ترفض أن تنسى كيف كنتَ تبتسم… قبل أن تخرج من الباب الأخير.

***

بقلم: كريم عبد الله

بغداد – العراق

ستقفين مذهولة بين تلك الأشجار

التي تشبهك تماما

حين اكتسح تشرين كل أوراقها

وتشبهين تلك اليمامة

بشدو الحانها الحزينة

حين سطا أبن آوى على أحد فراخها

وتشبهين جرف الفرات

حين تآكل تباعا

قتله حزنه على موجاته المفقودة

يقولون انك لا تملكين شجرة

في وطن تبكيه قصائدك

لكنهم لا يدرون اني أمتلك

كل أشجار الوطن

في تلك الغيمة

والتي وعدتني صادقة بغيث قريب

وبنظرات تلك الطفلة العليلة

وعتابها الموجع عن دوائها المفقود

تعاتبني لمَ لا تكتبين قصتي

للملأ

ربما ينساها الوطن مثل اليمامة

لكي لا يتبختر أبن أوى جديد

ولكي لا تصبح

شجرة عتيدة وسط صحراء قاحلة

تصفق بها الريح يمينا وشمالا

ولكي لا تنسى في دهاليز معتمة

تتبعثر أمانيها بين تلال مهجورة

***

نص شعر

سنية عبد عون رشو

قصائر (11)

سأبحَثُ عن أرضٍ أخرى

يا بلَدي

لا أسمَعُ فيها صَوتَ نُواحٍ

على الأحياء

2

محكومٌ بالمَوت

أنتَ ..

إن أوقدتَ شمعةً

لتبعثَ الرجاء

في وطَنٍ ..

يُقدّسُ الظَلام

3

كالبَحر

أغضبُ إن تمادتْ فوقيَ الريح

لكنّي لا أنساها

كالبَحر

إنْ ذهَبَتْ

4

كرامِقِ السرابْ

أستعذبُ أحلامَ اليَقَظة

لمْ يعُدْ عندي منَ الأيّام

ما يُغري..

لأَبتَغيها

5

أمقتُ الخريفَ في هذهِ البِلاد

يُرغمُني ..

أمشي على ألوانيَ الأثيرة

وبقايا ..

أرواحِ الشَجَر

6

أجلسُ كثيرا

خلفَ زجاج شُرفتي السَميك

أرمقُ امرأةً.. في شُرفةٍ أخرى

تنظرُ نحوي

لا ترى سوى انعكاسِ صورَتِها

ما أجملَ الوهم!

7

دِلّوني على عينٍ تُصيب

فثمّةَ ماردٌ في داخلي

ليسَ مثلي

يُخيفُهُ الحَسَد

8

كان جَميلاً

قبلَ أن يأكلَ مِلحَهُ النَمل

وطَني

9

يتيمُ هذا الزَمان

حتى الرُفوف

عَجَزتْ عن لمِّ شَملهِ ..

الكتاب

10

ليسَ النِسيانُ عادَتي

أبحَثُ عنهُ يائِساً

لأجعلَ يَومي

لا يُشبِهُ الأمس

11

لا تُظهِرُ الكامرا وجهي

كما أشاء

ظنَنتُ المُصوّرَ فاشلاً

حتى ..

أصدَقَتني المرآة

12

أحِبُّ الليل

يجعَلُ الظلامُ سَمعي..

حَصيناً

بلا خداعِ الضَوء

13

ألجأُ الى المرآة

في وحدتي

ألومُ الغريبَ الشاخصَ فيها

كجِذعٍ أجدَبْ

فيَسكُت

14

لم تُشحْ بصَرَها..

عني

تبحثُ في عينيّ الذاويتين

عن دولاراتٍ..

تائِهة

15

في ذُهول

ينظرونَ نَحوي

تحتَ ضِياءِ الحانةِ الأحمر

أنا الوحيد الذي أتلو على الخَمر

سيرةً بالية

**

عادل الحنظل

يزمجر الزمان الأعور

المأفون في وجهي

لا مكان للمسرحي

الذي يرفض السكون

ستائر المكائد تنزل

والفاتكون

فوق الجفون يرقصون

لا يروون حكاية

الأبطال، ولا كان يا مكان

جاء المعارض

من ذلك المكان

هل تبقى تافهًا

لتغير هذه الأوطان؟

هل تبقى ملعونًا بقصاص

أهل البطون

والذقون؟

قسموا خيرات الوطن

بضمائر الثعابين

لحد الاستجداء

صار المكر نظامًا

كونيًا للبقاء

كيف تحيا وفؤوس

الجزارين الطائشة

تقطع أنفاسك التي

تشهق بشفقة معذبة؟

كيف تحيا

من فوضى

العالم وخرابه؟

كيف تحيا

وأنت في هذا البلد

تطالب بحقك

فيرد الحكام؟

تود حقك؟

إذن مد ذراعك

إلى نجوم السماء

هي أقرب

لك من مناجاتك

((لدبش)

ابحث عن فسحة

النجاة

أنادي بصوت

لم يعد نفسه

تلوك أسناني

السوداء خشونته

لم يعد ناعمًا كما كان

هل هناك منفذ

من القمم التي

يتم فيها بيعّنا؟

هل هناك مكتشف

يجد تلك

العظام الهشة

مثل عظام

أحصنة الحروب الخاوية

ورؤوسها المثقوبة

بالرصاص العنيف؟

من ينفض

حيرتي عن كَتِفَيَّ

ويرمي ضياعي

في سراديب الضياع؟

ويحيطني بإيماءات

فوانيس الغروب

تائهًا في غابة الألم

يأخذني زمن رخيص

خطوة بعد خطوة

إلى أرض سكانها

لا يبحثون عن

مفاتيح لأصابعهم

يمضون باتجاهات

مفقودة

حيث لا سبيل

إلى أبواب الحب

أكتب (بما علّمني الدّم)

عن وطن يئن

تحت وطأة الظلم

عن حلم تلاشى

في رمال الصحراء

عن فطائس الطغاة

لمن

يهتفون بلا خجل

للخراب والدمار

لمن باع نفسه

كالقواد

لمن رمى

وطنه بالرصاص

لمن حفر قبرًا

بيده البغيضة للبلاد

أكتب عن صرخة

في وادٍ سحيق

صرخة لا تسمع

***

باقر طه الموسوي

 

لم يعرف أحد كيف بدأ الموكب. لم تُقرع طبول، ولم تومض في الأفق إشارة، ومع ذلك تحرّك الجميع كما لو أن نداءً صامتًا عبر صدورهم أوحى إليهم بشيء خفيّ، أو أيقظ فيهم حاجة نائمة.

كان الطريق باهتًا، بلا ملامح، كأن الأرض نفسها قد نسيت ملامحها الأولى. لم تكن السماء غائمة فحسب، بل كأنها تنقّب في ذاكرتهم عن ملامح قد طمستها السنوات. وجوههم كأنها ظلال، وخطواتهم متثاقلة، تحمل في أعماقها حكايات لم تجد يومًا من يصغي لها.

قادتهم ريح، كانت كنسمة هادئة، ولكن في رقتها عاصفة نائمة. كانت تمرّ بينهم بخفة، كذكرى قديمة، كخيط ضوء نجا من حلم لم يكتمل. حاملة معها رائحة أحلام انقطعت قبل نضجها، صدى ضحكات خبأها الخوف، أمنيات نائمة في قاع القلب.

كلما عبرت الريح أرضًا، تناثرت خلفها صور: طفلة تلاحق فراشة من نور وتذوب في العتمة، امرأة تحتضن وشاحًا كأن فيه بقايا دفء غائب، ظلّ إنسانٍ ينحني نحو الأرض، كأن نداءَ يتوغل إلى عمقها بلا كلمات.

لم تقل الريح شيئًا، لكنها طرقت أبوابًا نسيها الزمن. كل نسمةٍ منها كانت ككفٍ خفية تمرّ على الذاكرة، تُزيح عنها رماد الصمت، وتبعث فيها نبضًا خافتًا. لم تُرَ، لكنها كانت تزداد وضوحًا كمن يهمس للجميع: أنا هنا.. معكم.. منذ البداية. على طول الطريق، سُمعت ضحكة بعيدة تلامس الأذن، ورُصد صوت ينبُت من التراب كأنه نبتة أمل خجولة. مقعد خشبي صغير اهتز من تلقاء نفسه، كما لو أن أحدًا غادره منذ لحظات وترك دفء غيابه وراءه.

فوقهم، بدأت السماء تتلألأ. لم يكن ضوءًا، بل نبضًا خفيًا، كأن السماء بدأت تتذكّر نفسها.

بدأت العيون تلمع، والملامح تهدأ. بدا عليهم وكأنهم بدأوا يصدّقون بأن التحول ممكن.

ومع كل نسمة، كانت طبقات الغياب تذوب عن وجوههم. الاشتياق خفّ حمله، والحزن تحوّل شيئًا فشيئًا إلى هدوء ناضج، كما لو أن الريح صارت مرآة تعكس أرواحهم، لا أجسادهم.

كان في الهواء عبير المطر قبل أن يهطل، وفي التراب نبضٌ دافئ، وفي الأفق... خيط من نور، لا اسم له. لم يكن شروقًا صريحًا، ولا ذكرى واضحة، بل احتمال لحياة جديدة لم تبدأ بعد.

وعند تخوم الأرض التي لم يطأها النسيان، توقفت الريح كنغمة أخيرة في لحنٍ طال انتظاره. فتوقفوا معها. بعضهم تمدّد على الأرض، كأنما بلغ أخيرًا حضنًا لطالما انتظره، وبعضهم أغمض عينيه كمن يصغي لقلبه للمرة الأولى. وابتسم أحدهم، وقال بصوت يشبه الحنين، كأن شيئًا فيه عاد إلى الحياة:

"لعل الريح لم تكن تقودنا إلى مكان... بل كانت تعيدنا إلى أنفسنا."

ثم عمّ صمت مختلف، ليس خلوًا، بل انكشافًا. كأن الزمن انحنى لحظةً، لا لينظر إليهم كما كانوا، بل ليلمس ما صاروا إليه. وكأن الريح، بعدما سكنت، تركت في كلٍّ منهم ومضةً لا تُطفأ.

لم يبق في الأفق سوى خيط خافت. فانتظروا.. محدقين في درب، حيث تبدأ الألوان..

***

قصة قصيرة

مامند محمد قادر - شاعر وقاص عراقي كوردي

 

قصص قصيرة جداً

الغلول

يرفض قلبها الخلط بين إيمانها  بالمعنى الحقيقي للحب، وبين شغفها، ونزوعها الدائم للسيطرة على عقل زوجها، وتدميركل حادب ومهووس به، لأجل ذلك منحت نمط معاييرها الأخلاقية، التي نغلت بالعداء، وعاشت على الفرقة، سمة القسوة، والغدر، التي تسمعهما لماماً من أفواه الناس، حتى تخضع زوجها لإرادتها، وتكون كل  ثرواته الطائلة، وقصره المنيف، بما فيه من تحف منثورة، وصور منشورة، قاصراً عليها،  ولكن ذلك لم يدم طويلاً، فقد أدمن زوجها عشق سكرتيرته الباسقة الممتدة، التي كانت تهدئ ثائرته عند غضبه من ضعفه، لقد خلعت عليها هذه السكرتيرة التي تنتمي لأسرة خاملة، لقب زوجة ثانية وجردتها من جميع أسلحتها.

البديل

لا سبيل للتعبير عن عاطفتها تلك، ولا تحديد موقع لها، لأنها تعرف جلياً أن الموروث الديني، يرفض بناء أي مضامين معرفية لها، وفي الحق أن هذا الموروث، يرجح كفة رذائل تلك العاطفة، على كفة فضائلها، عليها إذن أن تمضي صامتة ذاهلة، وتدقق في خبايا عاطفتها المتأججة تجاه "بعل" شقيقتها الناضرالوسيم، الذي منحته الرياضة والمسجد، جسماَ متيناً، وعقلاً سليماً، وخلقاً قويما، عليها إذن أن تكبح جماح مشاعرها الفياضة، وتوجهها إزاء شقيقه الأصغر، الذي يماثله في الوضاءة والحسن، والجمال، فبلورت سعيها في أفق "اغراء" في ليلة شاتية، تحملت شقيقتها وزوجها مؤونة دفعه، هي الآن بعيدة نائية عن محيطها، بعد أن طرأ على جسمها التغيير والتبديل، لقد تركها شقيق زوجها، طريدة الخوف والوجل، ولم تجني من "بديلها" الغرامي، غير الفضيحة، والخيبة، والاخفاق.

التراتب الاجتماعي

إن نمط التراتب الاجتماعي الموروث في بيئتها، يمنعها من الزواج، ذلك التراتب الذي تكفل نصوصه المشددة، صون المعايير الأسرية التي تراعي زواج الكبير أولاً، وهي على ضوء هذا التراتب اللعين، عليها أن تنتظر قرابة الربع قرن من الزمان، إذا لم يخذلها الصواب، حتى يحالف الحظ شقيقاتها "السبع" ليكملن نصف دينهن، وبأسلوب سائغ سهل، خال من الاستطراد، نزعم أنها لن تنفتح لها آفاقاً رحبة للتحرر والانعتاق،  إلا إذا بلغت حياض الردى، هي الآن في بواكير عقدها الثالث، ولا يستطيع فكرها، ودائرة وعيها، المتمحور حول نفسها ، هضم هذا التراتب أو استساغته، لأجل ذلك سارت في رحلة العصيان، تبطئ خطاها حيناً، وتسرع أحيانا، حتى دخلت كهفاً، ووجدت في احدى زوايا هذا الكهف، فتاها الممشوق القوام نائما، فاختلفا إلى مأذون قرية نائية فتزوجا، وأقاما في هذه القرية الفقيرة، المجدبة، ولأنها سريعة الألفة لكل جديد، فقد تناست أسرتها،  التي اعتبرتها عائقاَ يحول دون سعادتها، و انخرطت في حياتها الطريفة، بعد أن تنكرت لحقائق دهرها الغابر، حياتها التي خلت من عيشة عذبة، ومسكناً جذاب، أهدت فيها زوجها، صاحب اللون القاتم، والشعر الفاحم، والوجه المستدير، طفلاً اطرد عوده، واستطال، حتى إذا بلغ دائرة التكليف، هرب مع أرملة غنية "متصابية"، وتركهما لموردهم الناضب، وعوزهم الواسع الكبير.

الآثرة

ظل النقاش محتدماً بين الأخ وشقيقه، وأخذ الأخ الأكبر يكيل السباب لشقيقه، ويوبخه على سوء صنيعه، ويصفه بالآثرة والأنانية، وحينما تدخل بن عمهما لطي الخلاف، وفض النزاع، كان الشقيق الأكبر، يستعصم بالرفض، ويرى أن تركيبة المهادنة، والوفاق، لا تتفق مع كرامته، وإباء نفسه، لقد بذل بن عمهما، الذي وجد سفينته تمخر في بحر تلاطمت أمواجه، وزخرت أثباجه، مجهوداً مضنياً، حتى يحيلهما إلى مرحلة التصاف، والانسجام، وبعد أن تداعى التوتر، وشاعت في الحنايا السكينة، سألهما قريبهما عن كنه الخلاف، فأشار الشقيق الأكبر بسبابته تجاه شقيقه قائلاً: هذا الوغد يدرك تماماً شغفي، ببنت جارنا "الفاتنة اللعوب"، وحرصي على التقرب والتزلف إليها، حتى أخضعها لإرادتي، واستدرجها إلى مخدعي، لقد اختلى بها هذا السافل، وبات محرماُ عليّ مواقعتها!! هذا حقاً هو الشقاق الذي يحقق للشيطان رجاؤه.

الغرر

تلك هي الحقيقة التي انتبه إليها بعد فوات الأون، فحياته التي امتزجت بالسياسة في كل ضروبها، اتسمت بالكرب، والذلة، والهوان، لقد أمضى ردحاً طويلا من عمره، في غياهب السجون، يراقب حيطانها العالية الغبراء، ويقول لنفسه:" أن هنا، لأني صدعت بكلمة الحق، في وجه سلطان جائر، هو هنا في هذا المكان، الذي يصادر حريات الناس، لأنه كشف منشأ الأمراض وأسبابها، كشف أوصاب النفس الإنسانية، وعللها، الأسقام التي تعبث بالنفوس الضحلة، الصغيرة، وتجعلها تقدم على الظلم، والاعتساف، تلك الفئات، التي تحصر اجتهادها، في آليات، وامكانات، منظومتها الأمنية، النخب السمجة، التي تقتنع بأن حكمها يمتد، إلى أن ينتهي آخر الأمر، بما يسمى الموت، وبعد أن تفرغ هي من عناء الحياة، يتقلد في سياق الطموح، طاغية مثله أعنة الحكم، فيصاوله هو، ويناصبه العداء، وهكذا يتكرر العداء، ويتواتر العقاب، بيد أن هذا البائس، الذي لم ينبثق لديه "وعي" بتطوير عقيدته السياسية، عقيدته التي تموج بعواصف الافتراء الكاذب، لم يدرك أن نزعته النضالية تلك، كانت توري قدحها زوجته "الحانيه"، حتى تزجه في السجن، وتختلي هي بصديقه، وزميله، في الأهواء والميول، إنها فعلاً ماركسية عجفاء مأفونة.

***

د. الطيب النقر

الخميس 10/7/2025

سعيت أن أخفف من الوحدة التي تحاول أن تشدني إلى مستنقع عميق.. شيئا فشيئا كصرير قلم على شارع ورق متعرج تجرني إليها....

  سعيت أن أفك طلاسم هذا الشعور الموحش الذي يتسلق روحي كجيش مهزوم في ساحة المعركة...

 لا أريد أن أقلقك، ولكنني سألتك يوماً في رسالتي الشتوية عن المعنى الحقيقي للشعور الذي لا يمكن وصفه، أو إيجاد لغة  للتعرف عليه ...

 كيف يبدو هذا الشعور المزدوج كأنك في قارورة صغيرة معزولة تحاول أن تطلق شهيق الأنفس دون أن يشعر بك أحد، أو يلاحظ ارتعاش رمشك، أو جحوظ عينيك؟!

 إنني أتساءل هل هذا فعلاً شعور بالوحدة، أم أن صمتك في حين كنت أنتظر مرورك على رصيف الورق على حافة السطور الخاوية هو ما يجعلني أنزف ضجرا؟!

 من خلال التعمق في هكذا شعور يخلق منك شخصاً مختلفاً حتى عن نفسك يجعلك تطيل التفكير في ما هو حولك، و يجعلك متوحدا بذاتك.

 وأنا أحدثك الآن تنحدر مني تلك الكلمات التي كنت أكتبها سابقآ كأنها فقاعات عبثية تتطاير في الهواء، وما تلبث أن تنفجر وتتلاشى، وأقول ما هذا الذي كنت أكتبه؟ ما هذا الضجيج الذي كنت أحدثه في تمام الساعة السابعة صباحاً؟.

***

مريم الشكيلية / سلطنة عمان....

فناء في الأمام،

نراه زهوا وقبسا..

يقولون عنه:

فناء لنا هو ملكنا

نعيث باحشائه

رعبا وقهرا

ونحيله هباء

ثم نمسيه رمسا..

**

يقولون:

نحرقه ونحيل أشلاءه رمادا

كما لم يعد كائنا في الوجود

نحرق كل ما فيه

نحرق اسواره

نشعل النيران في ساحاته

ونجعل ارضه قاعا تميد

كل هذا،

لكي ننجو

وكن، تنجون من ماذا؟

وهذا هراء..

**

هسيس بلا  ضوء

يراقصه غناء

وشمس، يباغتها رياء

و درب، يحاصره وباء..

**

يقولون: نحرق الأرض

لنمنع عنا النار

ولا تدنو لنا

فليحترق من كان

كي نبقى ،

نحلب حولنا كالأبقار

حتى يجف

الضرع والزرع

نأكل كل ما فيهم

ونجيعهم نشربه نزفاً ..

من شرايين اليتامى

ونزفً فيهم لعنة الحمقى

اذا ما فاه منهم من يقامر..!!

***

د. جودت صالح

6 / 7 / 2025

الطبيعةُ تكتفي بأربعةٍ ،

رعشةُ الندى في ربيعٍ أخضر،

لهيبُ يوليو حين يغضب،

خريفٌ يُسْقِطُ الأملَ عن الأغصان،

وشتاء...

يشحذُ الريحَ كي تنحتَ الوحدة في النوافذ.

*

أما أنا،

فلي فصلٌ خامسٌ

لا يُذاعُ في نشراتِ الطقس،

ولا يراهُ القمرُ حين يُدوّنُ ملاحظاته على صفحةِ البحر.

*

فصلي الخامسُ

هو طابوري السريُّ

في الوطنِ الذي يختبئُ في صدري،

هو الجهةُ الخامسةُ

حين تتصارعُ الجهاتُ الأربعُ على قراري.

*

فيهِ أدفنُ ما تبقّى من أحلامي

التي لم تجدْ مأوى في ربيع،

وأحملُ فيه رمادَ طموحي

الذي أطفأهُ القيظُ قبل أن يصيرَ نارًا.

*

فيهُ...

أشربُ مرارةَ الفشلِ

من كؤوسِ الانتصاراتِ المبتورة،

وأعيدُ رسمَ ماضيّ

بألوانٍ لا تراها العين،

وأكتبُ مستقبلًا

على هامشِ دفترٍ ممزّق.

*

الفصلُ الخامسُ...

هو يومُ عطلةِ الزمان،

حين ينزوي القدرُ في زاويةٍ معتمة

ويتركُ لي القيادة.

*

فيه أنا،

أنا فقط،

بعيدًا عن ترتيبِ الطبيعةِ

وصخبِ البشرية.

أنا بصيغتي المجردة،

خارجَ اللغةِ،

خارجَ المواعيدِ،

خارجَ كل شيء...

إلا داخلي.

***

مجيدة محمدي - تونس

في هذه المدينة المجنونة

حيث الظلام يلد الظلام

لم أعد حافياً على جمر الغباء

وأشواك الطرقات المؤلمة

تدمي وتحفر قدميَّ بجراح لا تندمل

أصنع نعالاً من قصائد حمقاء

واخترت منيلاً من برقيات المخبرين

لأمسح فمي من السيل

قد تقيأت الخجل، لا أكترث

لشيء، فكل الأشياء تدعوك

للثتاؤب والملل

والنوم صار عذاباً

حتى أسواق المدينة

لم تعد مغرية تصفعك

بيد نتنة تضج بالخيس والنفايات

والأطعمة المتعفنة ورائحة

الموت تنبعث من كل البسطيات

والنهار العجوز يسعل

برطوبة وينفخ بحرور دبق

بخار الباعة

المتجولين كأنهم

ينفثون سمومهم في الهواء

قيامة من النار، ضياؤها

انعكاس طفولتهم الضائعة

يلهثون بعويل مثل ضجيج

الثرثرة خلف أبسط الأحلام

تخلط الرياح الساخرة قشور

البصل وريش الدجاج

وترميها بلا خطأ على وجوه المارة

كأنها

ترمي وجوهنا بالحقيقة المرة

تبحث النساء عن الزيت

والحرمل والخروع لتداوي

السعادة المتآكلة من خرافات

الأقدار، ولكن لا شيء يشفي جراحنا

لا شيء... لا شيء يحسن مزاجك

المذبوح بهوامش التافهين

والمراهقون البغاة

يعمون في وطني الخراب، يخلقون

المواعيد الكاذبة باحتراف

ويقتلون ورد البساتين

ببساطيلهم الموحلة

يقتلعون أظافر المعارضين

ويغرسون أصابعهم في أعينهم، كأنهم

يغرسون بذور الكراهية في قلوبنا

ما أجبنكم! ما أحقركم! ما أغباكم !

خسئتم يا أحجار أن اطبق شفتي

ولا أفضحكم

سأكتب على جدران

المدينة، بدموع الغضب

والسخرية واللعنة:

ما أغباكم، يا أوغاد السلطة! ما أحقركم،

يا لصوص الوطن! ما أحمقكم

يا قتلة الأحلام!

أدوس على رماد أحلامكم

وأصلي فوق جثث آمالكم

مسبحًا كلا لكم... كلا لكم... كلا لكم

أيتها الكلاب والخنازير

***

باقر طه الموسوي

 

وصوليــــون دون إثارة النَّقْعِ

جُيوبيـــــون حتى آخر النفعِ

*

طفيليـــون لا يَنْدَى لهم وجهٌ

ولا جاهٌ إذا ما خــابوا بالمَنعِ

*

ظلاميــــون لا يُهْدَى بهم نورٌ

سوى نارٍ تُؤجِّجُ ظلمةَ الوضعِ

*

طِلائيون ظـــاهِرَهُمْ بريق تُقىً

وباطنهمْ سراب المَكرِ والخدعِ

*

تَراهُمْ تَحْسبُ الدنيا بهـــامِشِهِمْ

وهُمْ فيها وحوش النهشِ والبَلْعِ

*

وهُمْ من زُهْــدِهِمْ فيها بلا دنيا

سوى الدولار يحفظهم من(المَرْعِ)*!

*

يُقَلِّبهُمْ إلى ما شــــاء من وضْعٍ

ويَطْبَعهُمْ على التطبيعِ والطَّوْعِ

*

فيعتنقونَهُ حُبًّــــا .. وإذعـــــاناً

وتقديساً على تشريعِهِ الوضعي

*

عُـرَاة الدِّين .. أصفـــــارٌ مُصَفَّرةٌ

سمـــــاسِرةٌ لبيعِ الـــدِّينِ بالطبعِ

*

بِهِمْ عَظُمَتْ مــــــآسينا..ولا زالوا

دُعاة الحربِ بالتحريضِ والدفْعِ  !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

......................

*المرع: إصابة الشيء بالعين

 

الى روح غسان التي لم يستطع فقر الدم ان يهزمها..

الى من أشاح بوجهه عنا ورحل

ادخلُ الغرفة الباردة المعتمة. أنا مخلوق غريب تجرفه الى حتفه قوة مبهمة. يتلمس طريقا في مغارة ذات سقف يهدد بالانهيار. كانت غرفته.. نعم قبيل أيام ليس الا كانت غرفتي قبل السفر. كانت غرفتينا معا لكنه تركها ورحل هو بدوره. ولكن أي سفر؟ الآن سأشعل نور الغرفة وتمتثل

أمام عينيّ أشياؤه، وتخطر في فضاء المكان ظلال قامته الذاوية. يا له من حصار! اللحظة التالية التي سيعريها المصباح ستهوي بقلبي الى أسفل حيث وهاد اللهب المنطفئ ومدافن البهجات. إنني اهرب.. ارتد الى السطح كلما سحبتني اذرع الى عالم العذاب السفلي حيث تمتلئ العينان بدم القلب.

أليست هي الحقيقة المرعبة؟ ذلك ان الحياة موت ابيض.. ما الموت اذن؟ اقترحت هامسا كي افرّ من مناقير الأسئلة: ليت الغرفة يضيئها برق. أرى المشهد أمامي في ثوان وطفولتي في وجهه الشاحب عبر تجويف خيطي يتوسط الضوء والعتمة. انه مشهد غير قابل للامساك بأية قدرة بشرية كالروح حاضر وغائب في نفس الوقت. هاهي الغرفة بدون عينيه الواسعتين وهيكله المغزلي المصفر في عري الضوء: سرير معدني ضيق الاستطالة ؛ مرتفع الى حد ما ــ لتفادي رطوبة الأرض ــ وسادتان، شدقا نمر أرقط طوي بعناية في بطانية عند موقع القدمين، شرشف بشقوق وأطراف متدلية غطت جوانب السرير القريب من وسط الغرفة ، اهبط الى الأسفل يرافقني القلب المرتجف. اسحب صندوقا من الخشب مطليا بدهان قهوائي اللون تجلطت على غطائه كدموع، نتوءات كروية. انه صندوق (النسيان) هذا ما كنت أطلقه عليه. انه الصندوق الذي أنساه طويلا حاله التي كان عليها. العابه مخبوءة هناك كطفولته. كل شيء بدا كعهدي به. ساعة اليد بأرقامها الفوسفورية المتآكلة، كراته الزجاجية وقد التصق ببعضها طين متيبس ما عدا ملك الكرات فقد بقي نقيا بلونه الحليبي وتدويرته المكتملة.. وتلك هي عدة طائرته الورق وأعداد من مجلة مغامرات ــ بأغلفة وبدون أغلفة ــ وها هو عصفوره الدوري المحنط وأحجار الدومينو ومكعبات الخيال الهندسي وآلة الهارمونيكا المحطمة وعلبة أقلامه وصور لبنات ونساء بوجوه مألوفة وغير مألوفة ، ثم عثرت عليه يدي: دفتر ملاحظاته الصغير المقضوم الأطراف المتسخ الغلاف ببقع وكتابات. اعتراني سرور عابر ــ رغم تيار الحزن ــ وارتياح نسبي. قوة خفية شدتني الى الجدران. إنها غاصة بتقشرات وانتفاخات مبعثا الرطوبة ــ لأن هذا البيت مثله مثل بقية بيوت البصرة مقام على عرق مائي قريب الى قشرة الأرض ــ لقد بانت تلك التقشرات بتعرجاتها المنحرفة الى الخارج مثل فكوك تغادرها الصراصير الى كهوف رطبة أخرى والى خزانة الملابس التي فقدتْ واحدا من بابيها. اكتشفت ان التواريخ التي دأب على ان يسجلها هناك ــ بأي قلم كانت تطوله أنامله ــ بقيت كما هي. كنت خائفا من انْ اعود من سفري المستديم لأجد الجدران وقد طليت بدهان مختلف. حدست انهم مثلي لا يجرأون على طمس تلك الإشارات لكونها تمت اليه بالصلة. اقرأ:

السبت 25ــ 5 انا ولدت في هذه الغرفة

غسان

الثلاثاء 28 ـ2 أخذت نصف قنينة دم

الخميس 12ـ 4 لم اذهب الى المدرسة، انا مريض..

وفي مكان آخر على الجدار، تحت السجادة بالضبط (شادي ـ اغنية لفيروز):

" انا وشادي غنينا سوا "

وحين وجدت ان التواريخ الجدارية لا تمنح إجابات شافية، انصرفت الى دفتر يومياته:

الأربعاء 22ـ2 مطر كثير. ذهبت الى المدرسة.

حامد سألني لماذا وجهي اصفر وعيناي متورمتان دائما. جاء ولدان من الصف الخامس (ب) وأخذا يحملقان في وجهي. قال واحد هذا يعطونه زجاجة دم كل شهرين. أما رائد فسمعته يقول للمراقب: هذا الولد لن يعيش.. هكذا سمع المعلم يقول. انا تعبان. عدت الى البيت بعد الدرس الثالث. قالت أمي لماذا لم تأخذ المظلة معك؟ ثم مسحت وجهي المبلل بعباءتها المعطرة وهي تحسبه من ماء المطر. قالت ايضا.. اليوم لم اخرج الى السوق ولا الى أي مكان.. طبخت باميا وانتظرتك. أتى أخي من السفر وأعطاني ساعته القديمة. لأول مرة تكون عندي ساعة حقيقية لها دقّات أحب اللعب في الشارع ، أمي تقول إنني سأذهب فورا إلى المستشفى اذا فعلت ذلك.. اولاد المدرسة راحوا في سفرة الى الاهوار. الجو بارد ورطب. امي في الليل جهزت لي بيضتين وبرتقالا وثلاث صمونات واحدة للمعلم اذا طلبها والثانية والثالثة لي ولـشفيق. روى لي أنهم ذهبوا الى الهور حيث شاهدوا المشاحيف وأعشاب البردي الطويلة واصطادوا طائرا في رجله حلقة معدنية عليها كتابة غير مفهومة. قال انهم سيذهبون بالطائر الى المتحف.

الثلاثاء: حكاية فيلم (الرجل الذي يصغر):

شاهدته مع صاحبي شفيق في سينما (الوطن).. بطل الفيلم انسان عادي، اطول من أستاذ الرياضة بقليل. شعره اسود وناعم مثل شعري ولكن شعري اكثر نعومة وأقرب الى لون التمر. في احد الأيام يتناول طعاما فيه مادة غريبة. يتقلص جسمه يوما بعد يوم مثل صابونة ويصير بحجم علبة الكبريت. تطارده قطة.. يغرق في طست وتنقذه صدفة قطعة من الخشب. تهاجمه طائرة نفاثة يتبين فيما بعد انها فراشة.. الى هذا الحد خرجنا من السينما لأن شفيق خاف. حدثني في الشارع بأنه خاف ان يصير مثل ذلك الرجل لأنه ألف التهام ملح الحائط ولو عرف ابوه لضربه..

الخميس 7ـ5ـ81.. ساعة بعد انتصاف النهار

تقف امرأة قصيرة القامة ذات عينين مرهقتين أمام غرفة الحراسة في مدخل مستشفى المدينة القديم. تخرج زنديها المتهدلين من فتحتي عباءتها الموحلة الحافات بلونها الباهت. خصلات من شعرها الأشيب تبرز من تحت قوس العباءة المنسدل على جانبي الرأس؛ يدها الصغيرة تقبض على محفظة نقود. يتدلى من اليد الأخرى كيس برتقال. انها تحوم حول غرفة الحراس وتطل في حيرة على رجل يرتدي ثيابا غامقة اللون. انه يطوي ثنيات أكمامه الى الأعلى ثم ما يلبث ان ينشرها متأففا:

ــ تصوري يا امرأة.. انهم سيضاعفون عدد ساعات وجودي هنا.. أليس هذا ظلما؟.. كان يجب انْ أكون في البيت الآن!

ترتسم على وجهها ابتسامة مسروقة ثم ما تلبث ان تتلاشى. يفيض محياها بالقلق. تحط على وجهها نظرة جنونية:

ــ منذ ساعة وأنا اتوسل اليك ان تدعني ادخل ايها السيد.. أنت صاحب عائلة.. ولدي هناك.. في الردهة الخمسة. انه ينتهي.. انظر.. إنني لا احمل طعاما قذرا.. نعم.. بعض النساء يفعلن ذلك. انه يحتاج الى زجاجة من الدم فقط وقد فقدت ورقة التحويل.. عندهم زجاجات دم ولكنهم يشترطون بأن يتبرع احد أقاربه. أين أقاربه؟ أكثرهم من ضعاف البنية ووجوههم صفراء. حالته هذه المرة فيها الكثير من الخطورة. يعطونه دما كل شهر او شهرين.. ماذا تقول؟ من يراه يحسبه في العاشرة من عمره او التاسعة.. ولكن عمره بالضبط سيكون أربع عشرة سنة بعد اسبوعين.. حرام يا ناس! إنني أرعاه أكثر مما ارعي نفسي.. وسادته قرب وسادتي.. اسقيه الدواء كل يوم.. البارحة لم يكن يشكو من شيء.. تناول زجاجة (بارد) وحبة التهاب المفاصل. كان يشعر بألم خفيف في عظام ظهره. ولكن النوبة هاجمته منذ الصباح الباكر.. اخذ يتوسل اليّ ان أقوم وأهوي عليه بفأس او اية آلة حادة. الولد كبر وصار يحس!.. سخام على وجهك يا امرأة! الموت لكِ انتِ. هو ذكي في المدرسة. جاءهم معلم جديد.. أعطاهم موضوعا في الانشاء اسمه (الحرب) وفي اليوم التالي أتاني وعلى خده دمعة ذاكرا ان المعلم لايريد ان يصدق ان ولدا صغيرا مثله في المرحلة الابتدائية يؤلف موضوعا في الحرب فأخذته الى المعلم وقلت له يا أستاذ انت جديد وعليك ان تعرف.. ابني تأخر عن المدرسة اكثر من سنتين بسبب علته هذه وكان يجب ان يكون الآن في المرحلة المتوسطة. المرض لم يمنحه راحة ولو ليوم واحد.. عبرته السنوات وهو يذبل.. حبوب.. ابر.. كلْ من هذا الطعام.. امتنع عن ذاك الطعام. مرّت فيه دماء عادل وحسن وسليم وسجناء المحبس المقابل للمستشفى.. يا دكتور.. خبرني بالله عليك أهو فقر الدم المنجلي ام البحري؟ كلاهما واحد.. انا تعذبت بسببه. ماذا فعلت بنفسي يا رب؟!

سطور من كتاب اصدره طبيب: فقر الدم المنجلي هو احد امراض الدم، وهو واحد من الأمراض المنتشرة في جنوب العراق. اما عن الأعراض.. يغلب الاصفرار على وجه المصاب به.. تصاحبه نوبات آلام في المفاصل مع شعور بالوهن ويرافق هذا المريض التهاب الطحال. اطلقتْ عليه هذه التسمية لأن كرية الدم المتكسرة تبدو نصف دائرية بشكل المنجل. أما فقر الدم البحري فهو من الأمراض التي تتشابه أعراضها مع هذا المرض إلا انه ينتشر على سواحل البحر الأبيض المتوسط. ومع ذلك قد يمكن تشخيصه في حالات كثيرة لدى أطفال البلدان المجاورة.

لن أنسى مادمت حيا.. عذاب النوبات التي تداهمه في أي وقت هي تشاء

كأن يكون الوقت قد تعدى منتصف الليل، وما من سيارة اجرة تأخذنا الى المستشفى سوى تلك التي يستقلها السكارى. يجهد بين ذراعي امه في ان ينتزع هيكله الواني.. يفعل ذلك.. يتمرغ في التراب. يتناثر شعره الحريري على جبهته الناضحة بحبيبات من العرق. وفي الأعالي يمضي الى الغرب قمر شاحب عبر غيوم متقطعة.. الجو حار ورطب ايضا.. سكاكين صرخاته تشق صمت الليل. ترتفع توسلاته ملحفا على امه ان تقضي عليه بمطرقة. يشتد امتقاع وجهه الذي يحمل ملامح تذكر الناظر بوجوه اندونيسية. الأنف افطس الى حد ما، الشعر ناعم، العينان، لون البشرة..  لقد وطأ المدينة الف قدم وقدم. عبرها مرّ غزاة وتجار وزنوج وتتار، عثمانيون وفرس. ولقد تبدلت ألوان وجه المدينة.. وأمعنت في التبدلات. ولم تنجُ السلالات من هذه الاختلاطات كأن يسبي غازٍ امرأة أو يعود تاجر من رحلة الى (سرنديب) او مما هو أبعد من ذلك على مركبه برقيق من جواري وخصيان. ومن ينسى ثورة الزنج؟أيكون غسان طفرة وراثية أم تكون هنالك مهيئات في البيئة تتيح لصفة ما متنحية ان تظهر؟!

الآن لا يقدر احد انْ يفعل شيئا. ليس سوى واحدة من طريقتين لإراحته: أن ْ يكون كائنا بلا رغبات ولا نوازع او انْ تحتضنه أبدية حجرية العينين. ما جدوى إعطاءه الدم، مادام يحترق وكأنك تملأ صفيحة مثقوبة بماء؟!

انا ـ أخوه ــ ادفن أحزاني في حانة ولكنها في الليل الموحش الطويل ــ حين أنام ولا انام، في ذلك البيت الوخم الضيق مثل قبو ــ تستيقظ احزاني من قبرها، عارية مسلحة بأظافر وأنياب وتنهش روحي حتى اواخر الليل. اقضم أصابعي وأصرخ في صمت.. كل شيء قابل لأن ينقلب الى سمّ زعاف: الزمن، الصحة، النبيذ.. كل شيء.. نعم.. كل شيء.. هل المّت بالعائلة في يوم ما لعنة مستديمة؟ هل اقتطف احدنا زهرة النحس أم ان واحدا من الأجداد قد اجتث سدرة البيت فحلّ على الحفيد هذا العذاب؟! لطالما تمنت أمه لو انه لم يخلق أو انها في الأقل لم تشأ له ان يغادر رحمها الى أنياب المرض، وإنما ارادته في الرحم مستريحا بدون عذاب ولا هواء ولا رطوبة ولا حقن ولا سوائل مغذية.

هـيهـات!

انها تتوسل وتثرثر دونما الحاف. الحارس يبدو غير مبال فهو قد اعتاد هذه الأمور وأدخلها ربما ضمن وجهات نظره حول صدق او عدم صدق النساء. لا شك في انه قد اكتشف يوما ما إحدى الكاذبات وحاملات الاطعمة التي لاتناسب الراقدين في العنابر وهو لا يعبأ ــ إذا لم يقم مدير او طبيب بتقريعه ــ وما عدا ذلك فهو لا يعبأ كما لو انه يسمع شكلا من أشكال الهراء.. وحتى وإن أخرج رأسه بضع سنتيمات ولاحظ واحدة من اليائسات وهي تحاول التسلل من أعلى سياج المستشفى المجاور للمشرحة ــ برماحه المدببة المشرعة الى اعلى ــ تاركة (السفرطاس) على قاعد السور منحدرة الى الداخل بعباءة ممزقة او ثوب منتور. كان ذلك قبل ان يغلق السور المشبك ويرتفع مكانه حائط صلد أصم، كقلب الحارس وهو يؤدي الواجب، كما يردد هو..!

الساعة 3. 5

الحارس يذرع الطارمة الخارجية جيئة وذهابا أو يدخل الغرفة بدون ان يلتفت الى المرأة الثرثارة. انه يحتفظ بركن من عينه اليمنى في أضيق زاوية مانعا موجات تلهفها من الانسياب الى داخل المستشفى غير ملتفت الى توسلاتها وكأنه يتفرج على مشهد لعاصفة أو خرير مياه في شريط سينمائي. وبسبب ضغط يدها التي غزتها العروق ؛ انفطر الجزء العلوي من كيس البرتقال. لحظتذاك قدمت سيارة (ابراهيم) الصفراء بزجاجها الأمامي المنشرخ من جهة مستشفى الأطفال. واصلت المرأة حديثها دون الانتباه الى السيارة التي كانت تحاول المغادرة بلا ضجيج. كانت متوجهة بجماع حواسها الى الحارس الذي نزع قمصلته بحركة غير متوقعة

وعلقها على مسمار عمود الطارمة. أخرج علكة من غلاف (سيلوفان) فضي وراح يلوكها. أشار الى السيارة التي كانت تهم بالخروج:

ــ خذي.. هاهم اهلكِ..

قامت هي بليّ جيدها على نحو عنيف بحيث انها فقدت توازنها للحظات وعضّت بكعب حذائها ذلاذل عباءتها ثم وجدت نفسها في محاذاة الباب الخلفي للسيارة حيث اضطر ابراهيم لإيقافها لدى سماع شهقة الأم. تشبث بمقبض الباب الخلفي. فتح الباب ليهوي رأس غسان الذي كان مضغوطا على جدار باب السيارة وقت إغلاقه، الى فراغ ما بعد المقعد، باتجاه الخارج ولاعبت الريح خصلات شعره المنكفئة على جبهته البارزة في تقوس لم يستطع الموت إفساد جماله. برزت أسنانه التي لم يدعها المرض تكتمل وقد تجلت عليها صفرة العقاقير. تهاوت امه الى الأرض. تمزق الكيس لتتدحرج البرتقالات الى ارض الرصيف ثم الى شارع المستشفى

اعلن ابراهيم وهو يبرز شهادة الوفاة لحارس المستشفى:

ــ كلا.. من الأفضل ان نمضي به الى مقبرة الأطفال بلا تأخير..

الورقة الأخيرة من دفتر يوميات:

" ضاع شادي والثالث اجه

وراح الثلج

عشرين مرّة

اجه وراح الثلج

وانا صرت اكبر

وشادي بعدو صغير

يلعب على التل "

الجمعة 8ـ5ـ81 توقفت ساعته اليدوية

السبت 16 ـ 5 ـ 81

جلب شفيق مجموعة من رسومات غسان عثر عليها خلف مدرسة (عقبة بن نافع) كانت مرمية قرب بركة ماء. بالقرب من سياج المدرسة فيها رسوم لاطفال ودبابات ومروج وهناك لوحة لبلبله الصدّاح في قفص ملون.

الاثنين 18ـ5

عثر على باب القفص مفتوحا. ذبلت شجيرة الموز التي زرعها..

كتابة كان يمكن ان تكون على شاهدة قبر:

" هنا يرقد طائر الجنوب الصغير. هنا يستريح ربيع لم يكتمل. حين يرحل انسان مهما كان كبيرا في السن او صغيرا ؛ ترحل معه ما تحفظه ذاكرته من اسأمينا.. اذن فقد متنا نحن أيضا لحظة موته.. على نحو ما..

الهي.. علمنا كيف لا نخاف الموت ونعتاده كما نعتاد وجوهنا.. آمين!

***

محمد سهيل احمد

موتٌ على يدِ من هادوْا لنا شرفٌ

وآخرٌ بيننا بالعارِ مُضْطلِعُ

*

وذا لهُ في نفوسِ العُرْبِ منزلةٌ

وجالبُ العارِ بين العُرْبِ مُبتدَعُ

*

وذا يُعدُّ له طلّاب آخرةٍ

وذاك قلبُ الذي بالزّيفِ يقْتَنِعُ

*

وذا لكلّ بناءٍ دامَ قاعدةٌ

ووهمُ ذاكَ بذكرِ الرّيحِ ينخلِعُ

*

وذا على شفرةِ البتّارِ مسكنُهُ

ومسكنُ العارِ في الأطرافِ مُنتجَعُ

*

وأهلُ ذا يرثون الأرضَ أقدسَها

وعارُ ذاكَ غدًا منها سيُقتلعُ

*

وأهلُ ذا أصلاءٌ في غيابِهمُ

يمتّد ذاك قرىً بالبيعِ ترتفِعُ

*

فإن رآه وضيعُ الأصلِ مرتفعًا

فالدّون دوما لدونٍ جدّ مُجتمعُ

*

حتّى يمدّ يدًا ذو سلطةٍ لهما

والعارُ يا صاحبي بالعارِ مُمتنِعُ

*

سلِ القبورَ جواري عن جنايتِها

تُجبْ: جنايتُها قومٌ بها اقتنعوا

*

رأت حماقتُهم في الصّمتِ راحتَها

والعارُ في غيّهِ بالصّمتِ يندفِعُ

*

وليس ينفعُ أهلَ الصمتِ كُثْرُهُمُ

حتّى إذا العارُ لبّى السُّؤلَ واقترعوا

*

فالعارُ والصّمتُ في دارٍ إن اختلفا

فالعارُ مُنتخبٌ والصّمتُ مُجْتَرِعُ

*

حتّى إذا ما أقامَ العارُ دولتَهُ

يُلغي قوانينَ أسلافٍ ويبتدِعُ

*

والصّمتُ ما انفكّ مبلوًّا بجَبْلَتِهِ

يناوشُ العارَ همْسًا ثمّ يرتدِعُ

*

يقلّبُ الحرفَ من قبلِ استعارتِه

يزيدُ حرفًا بسطْرِ ثمّ يقتطِعُ

*

تعجّبَ الصمتُ منهُ من تطاولِه

على دمٍ سالَ نهرًا وهْو ينْتجِعُ

*

فيدركُ العارُ أنّ الصمتَ قابلُهُ

حُكْمًا وعن طقسِه يومينِ يَنْقطِعُ

*

مبيّنًا في بيانٍ أنّها فئةٌ

شذّتْ وأنّ انحرافاتٍ كذا تقَعُ!

*

ويُصدِرُ الأمرَ للأنصارِ في جُمَعٍ

أنْ غالبوهم بحُلْمٍ شيخُه الورعُ

*

ويُصدِرُ الأمرَ للتجّارِ في مدُنٍ

أنْ حاصروهم ببيعٍ صهرُه الجشِعُ

*

ويُصدِرُ الأمرَ للفتيانِ في عُطَلٍ

أنْ ناوشوهم بسبتٍ شبلُه الخرعُ

*

ويطلبُ العارُ منه حين حجّهمُ

أنْ لا كلامَ ونارُ القدس تندلعُ

*

والصّمتُ ممتدِحًا للعار فطنتَهُ

بها على فاجعاتِ الدّهرِ مُطّلعُ

*

ويعلن الصّمتُ أنّ العارَ مُتّبعُ

ويعلنُ العارُ أنّ الصّمتَ مُستَمَعُ

*

فيُصبحان معًا لا فرقَ بينهما

سوى حروفٍ على المفهومِ تجتمِعُ

*

والناسُ أميلُ لاسْمِ العارِ إن وصفَتْ

صمتًا بأوصافِ عارٍ سادَ ينطبِعُ

*

فلا تعُلِّلْ أخي بالجوْرِ صمتَك في

مثوىً بهِ أنت طبّالٌ ومُسْتمِعُ

*

فصمتكَ العارُ مهما سُقتَ من حُجَجٍ

وعادةُ الصّمتِ أن يحتجّ إذ يقَعُ

*

والصمتُ ما دامَ أجرى عارُه غدَهُ

يُنهيه إن لم يعدْ بالصّمت ينتفِعُ

*

كي يستحيل هراءّ جلّ غايتِه

من ارتدى شرفًا باللُّسنِ يُصطَنعُ

*

فهاجسُ العارِ عبرَ الدّهرِ صالحُهُ

حتّى إذا أقسمَ الخُدّامُ والتَّبَعُ

*

فلا اندهاشَ إذا يومًا فُجِئْتَ به

فيما ابتنى مسجدًا لله يَنْقَطِعُ

*

والعارُ يُمسي بأيدي صمتِهِ غدُهُ

لو من جبلِّتِهِ ذا الصّمتُ ينخلعُ

*

هذا وما خاب من للدّهرِ يستمعُ:

قد خاب سعيُ الذي بالصّمتِ يمتنعُ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

في صباح جميل، ينسج الطقس من دفئه موسيقى الحنين. على سور الشرفة، في فناء المنزل، جلست قطة الغاب على حافة الزمن، شامخة كجبلٍ أشمّ، يحيط بها صمتٌ يحوم باحثًا عن صرخة ضائعة.

تحدّق بعينيها بترقّبٍ حادّ، مترصّدة لحظة الانقضاض كما يفعل نسرٌ يحلّق في السماء، تلتقط عيناه الفريسة من علٍ، محددًا مساره بدقة لا تخطئ.

ظلّت ساكنةً، وبصرها مشدود نحو الفراغ، تطلق من عينيها خيوطًا صامتة كسهام خفية، تلاحق ما لا يُرى. جسدها يوحي بانفعالاتها الداخلية: حركات دقيقة، نظرات ثاقبة، وذيل ثابت لا يبوح بفعل. لم تكن مجرد كائن يبحث عن نزهة، بل حضورٌ يفتّت هشاشة الانتظار. وكأن الزمن القديم قد حفر ملامحها على تخوم الصمت.

إن انعكاس هذا المشهد، في جوهره الوجودي، يتحدّى قوانين البقاء. لعلّه يرمز لطموح مؤجّل، أو لقلق مزارع يحدّق بشجرة عقيمة، أو انتظار ثكالى لأملٍ خافتٍ لا يلوح له ضوء في الأفق.

حين اتّخذت القطة قرارها، لم يكن محض صدفة؛ بل رغبة دفينة أيقظت غرائزها لتُثبت وجودها، ممتلئة بإحساس غريزي بأنها تملك الأرض.

كانت فكرة الصيد تغلي في مراجل أفكارها، ذلك الشغف الذي تشرّبته منذ الطفولة، في البراري المتوحشة، باحثة عن فريسة تطفئ جوع الأعماق. رغم ما عاشته في واحة الأمان، ظلّت بذور الافتراس كامنة، تنمو لتصبح شوكة على أهبة الانقضاض.

لكن عندما خاب أملها في الانقضاض، التقطت أنفاسها فجأة. تحرّرت من أغلال السكون التي نسجها الانتظار، ونفضت عن فروها غبار الصمت بهدوء يحفظ كرامة الانكسار. انسلت في صمت مهيب، تاركة اللحظة محفوظة بجلالها.

خلفها، تسلّل الضوء بين الشقوق، يوقظ الظلال القديمة. وكأن الزمن تنفّس للمرة الأولى، وبدأت عقاربه تدور من جديد.

***

كفاح الزهاوي

اقفل الصمت فاهه وارتحل

تحت همس الحيارى

وبرمل الصحارى اكتحل..

وعند متاهاتها الموحشات

تراءت علامات محنته في العراء

ولآحت تحاور تلته العاليه

عند غار الوقار

ووهم الانتظار..

**

لم يزل يعصر الخمر

في إناء المنايا

يحتسي ما تبقى من نبيذ

ويغيب عن الوعي

لم يعد يسمع كلبه يعوي

من الجوع

والنار يذوى وهجها

في الظلام

وبرد الشتاء..

هو القهر والصمت

وجور الشقاء ..

**

تلك اغنية، تراكم صمتها

بين النجوم الساهرات

وحكم الفناء..

***

د. جودت صالح - تركيا - بورصه

3 / تموز 2025

وَفِـي عَـيْنَيْكِ يَـنْطَفِئُ الْغُرُوبُ

وَتُشْرِقُ أَلْفُ شَمْسٍ لَا تَغِيبُ

*

وَتَـرْتَجِفُ الْـكَوَاكِبُ فِي ذُهُولٍ

كَـــأَنَّ أَصَـابَـهَـا أَمْـــرٌ رَهِــيـبُ

*

إِذَا تَرْمِي مِنَ الْأَحْدَاقِ سَهْمًا

مُــحَـالٌ رَمْـيُـهَا يَـوْمًـا يَـخِـيبُ

*

فَـفِـي أَهْـدَابِهَا شُـطْآنُ وَجْـدٍ

إِذَا نَـــادَتْ أَصَــمًّـا يَـسْـتَجِيبُ

*

إِذَا رَمَـشَتْ جُـفُونُكِ لَاحَ فَـجْرٌ

سَـتُزْهِرُ فِـي مَلَامِحِهِ الدُّرُوبُ

*

فَـإِنَّـكِ حِـينَ تَـمْشِينَ اخْـتِيَالًا

بِـجَـوْفِ الْـقَلْبِ يَـزْدَادُ الـلَّهِيبُ

*

وَفِـي أَنْـفَاسِكِ الْـعَذْرَاءِ نُسْكٌ

بِـهَا الْـوِلْدَانُ مِـنْ وَلَـهٍ تَشِيبُ

*

أُطَــرِّزُ جُـرْحَ قَـلْبِي نَـبْضَ بَـوْحٍ

وَفِـي وَجَـعِي جُـرُوحٌ لَا تَطِيبُ

*

فَـفِـيكِ الْـمَـاءُ يَـكْـتُبُنِي أَنِـيـنًا

لِتَسْمَعَ هَمْسَهُ الرِّيحُ اللَّعُوبُ

*

شِـفَـاهٌ مِـثْـلُ أَزْهَــارِ الْـبَرَارِي

مِــنَ الْـبَـتَلَاتِ تَـنْثَالُ الـطُّيُوبُ

*

فَـصَوْتُكِ نَـغْمَةُ الْـوَتَرِ الْـمُعَنَّى

إِذَا يَــشْـدُو يَــغَـارُ الْـعَـنْـدَلِيبُ

*

كَأَنَّ الْخَمْرَ مِنْ عَيْنَيْكِ يُسْقَى

فَـتَسْكَرُ مِـنْ مَـفَاتِنِهَا الْـقُلُوبُ

*

إِذَا أَغْـفُـو عَـلَـى كَـفَّيْكِ أَغْـدُو

كَـطِـفْلٍ هَــدَّهُ نَـعَسٌ عَـجِيبُ

*

فَفِي رَدَهَاتِ صَدْرِكِ مَهْدُ ضَوْءٍ

يُـهَـدْهِـدُهُ  إِذَا بَـــدَأَ الـنَّـحِـيبُ

*

أَنَـا طِـفْلُ الْهَوَى، زَادِي حَنِينٌ

يُـغَـذِّينِي إِذَا انـقـطعَ الْـحَلِيبُ

*

وَفِـي عَـيْنَيْكِ أَسْفَارُ الْمَعَانِي

يُـحَارُ بِـكَشْفِهَا الْفَطِنُ اللَّبِيبُ

*

أُحِـبُّـكِ لَا لِـشَـيْءٍ غَـيْـرَ أَنِّـي

أُحِـبُّ، وَفِـي الْـمَحَبَّةِ لَا أَثُـوبُ

*

كَـأَنَّكِ كُـلُّ مَـا رَجَـفَتْ عُرُوقِي

دَوَاءٌ فِـيـهِ أَوْصَـانِـي الـطَّـبِيبُ

*

تَعَالَيْ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ وَهْمٍ

كَفَى يَجْتَاحُنِي الْوَعْدُ الْكَذُوبُ

*

فَحُبُّكِ مِثْلُ وَشْمٍ فِي عُرُوقِي

سَـيَـبْقَى لَا يُــزَالُ وَلَا يَــذُوبُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

في بلدة يلفُها الضباب، يعيش الناس منذ أمد بعيد في انتظار تحقق عبارة واحدة كُتبت بخط باهت على جدار شامخ عند مدخل البلدة: " عندما يحين الموعد، سأكون بينكم."

لا أحد يعرف من كتب العبارة، ولا متى. لكنها تحولت الى وعد مقدس، يتغنى بها الناس، ويحفظونها عن ظهر قلب، ويُخبئونها في صمتهم.

توقفت الحياة عند عتبة هذا الأنتظار. لم تُهدم الأسوار، لأنهم قيل لهم انه سوف يهدمُها بيده. لم تُفتح صناديق الاقتراع، لأنه دونما شك، سيكون هو القائد المرتقب. وتحولت الأحلام الى مخططات مؤجلة على رفوف الغبار.

نُصب له تمثالاً اِجلالاً. لم تُلق القصائد في المناسبات، بل خُبأت في حناجر الشعراء في أنتظار اللحظة المهيبة. الحلاق رفض قص لحى الرجال، قائلاَ: " حين يجيء، نريد وجوهاً مهيبة في استقباله. " أما الخياط فكان يخيط بدلات لا تُلبس، بل تُعلق في الواجهات، بأنتظار أن يختار هو ما تُليق به.

لم تُقدَم القهوة في المقاهي، بل وُضعت أباريقها على الطاولات كعلامة التهيؤ.

لم تُزرع الحدائق، لأنهم ظنوا أنه حين يجيء، سيزرع بنفسه زهرة البداية.

كل ليلة، وحين يحل الظلام كان الشيوخ يجتمعون عند بئر البلدة، ويضعون فوقها خارطة قديمة، يقولون أن عليها علامات مروره.

وكان الشيخ ذو اللحية البيضاء يقول بصوت متردد كأنما يخشى ان يوقظ الزمن:

" اِنه بيننا، ربما فقط ينتظر لحظة مناسبة."

في مساء بارد دخل رجل غريب البلدة، بلا اعلان، بلا موكب، ولا طبول. كان يمشي على مهل، يتلفت بهدوء، كمن يرى أحلاماَ متجمدة. حدق في آثار أقدام اندثرت على الرصيف، في طيف الضوء المتسلل بين شقوق الجدران، وفي مصباح خافت يئن في زقاق خلفي.

وقف عند التمثال، تمعن فيه اِن كان يشبه أحداً !

اقترب من دكان الخياط، تطلع الى البدلات المعلقة مثل أجساد فارغة تنتظر أرواحها.

رأى الاطفال يخرجون من المدرسة، يحملون كتباَ ثقيلة بكلمات غائبة.

دخل بهدوء الى الساحة، جلس على المقعد الحجري في منتصفها، وكانت عيوناً تراقبه خلف النوافذ، صامتة، متوجسة.

تطلع الى الجدران، الى الساعة المعطلة، الى الأبواب المغلقة والنوافذ المحفورة بالخوف.

نظر الى العبارة القديمة على الجدار، قرأها متأمِلاً معانيها،

أحس بشيء غامض، كما لو أنَ الريح همست له: " انك هو."

لم يتكلم.

و لم يسأله أحد.

و لم يخرج احد للقائه.

و لم تُلق القصائد.

خيَم الصمت على البلدة، وظلت نائمة كما كانت دائماً، تنتظر.

و في الصباح، حين مالت الشمس على الجدار، كان قد اختفى.

لكن على الجدار نفسه، حيث كُتبت العبارة القديمة، ظهرت كتابة جديدة، بخط واضح، وصارخ في سكونه:

" كنتُ بينكم، لكن لم يستقبلني أحد."

***

د. مامند محمد قادر

شاعر وقاص عراقي كوردي

 

كنت أشعر، منذ اللحظة الأولى التي دفعتُ فيها باب القاعة، أن لهذا اليوم نبرة مختلفة، كأن شيئاً غامضاً يتهيأ ليشق صمته في الهواء. لم تكن الريح تهب، ولكن الجو مشحون على نحو غريب، كأن الجدران ذاتها تحبس أنفاسها في انتظار اشتعالٍ وشيك.

لم يكن موضوع محاضرتي اليوم مدرجاً ضمن الخطة الأكاديمية، ولا حتى من صميم تخصصي الدقيق، لكنه ظل يلحّ عليّ، يتردّد في مسامعي كلما عبرتُ ردهات الكلية، أو جلست برهة في ركن الأساتذة أثناء استراحة الصباح. كان سؤالًا يتكاثر همسًا في الممرات، ويُلقى عابرًا كجملة عابثة، لكني كنت أعرف أنه أعمق من أن يُترك بلا مساءلة.

جلستُ كعادتي، لا على منصة عالية، بل أمامها، كما أؤمن دومًا أن المسافة بين العقول لا تُختصر بالارتفاع. صوت حذائي الأسود يلامس الأرض اللامعة بخفة، كأنه ينذر القاعة أن اللحظة بدأت. وضعت دفتر ملاحظاتي أمامي على الطاولة، لا لأملي على أحد ما يُكتب، بل لأقيد على اللوح تلك الشذرات التي تولد من شرارة حوار أو لحظة وعي خاطفة.

هناك، في أقصى الزاوية اليمنى، كان يجلس الطالب سلمان. عيونه لا تتفرّس بل تترصّد. شابٌ في مقتبل العشرين، يقف بين حداثة السنّ وصرامة اليقين. ثوبه الأبيض مرفوع بعناية فوق الكعب، مكويٌ بعناية توحي بأن كل شيء فيه محسوب، حتى نبرة الوقار التي يثبت بها كوفيته فوق رأسه كأنها رايةٌ لا تُنكس، أو خط تماسٍ يحذّر من الاقتراب.

رفعتُ رأسي وقلت:

ــ " نبدأ اليوم بسؤال مفتوح: ما حدود الحلال والحرام في فضاء الفكر؟ وهل يجب أن نخاف من السؤال إذا آمنّا بالإجابة؟"

لم أكمل جملتي، حتى رفع سلمان يده. لم يكن يستأذن بقدر ما كان يشهر سيفاً.

ــ " استاذة… قبل أن نتوه في الفلسفة والمصطلحات، دعيني أسألك" أومأت له بابتسامة، لم أفقد بها هيبة اللحظة، بل وضعتُها في مرآة هادئة.

قال:

ــ " ما رأيك بحديث النبي ﷺ: ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهم؟ أليس في لقاء المرأة بالرجل، كما يجري في صفوفنا المختلطة، مدعاة للفتنة والريبة؟ ألا ترين أنكم، كأساتذة، تساهمون في تطبيع ما نهى عنه الدين؟"

أغلقتُ دفتري ببطء.

أحسست بنظرات الطلاب تنقلب فجأة، كأن الجميع استدار نحو مركز النار.

ساد الصمت. كان وقع كلماته كصفعة مباغتة في حضرة جمهورٍ يعرف أنني لا أتهرب من الأسئلة، خاصة حين ترتدي ثوب "الدين".

ــ نظرت إليه طويلاً، ثم رفعت عيني إلى الطلاب من حوله، وجدتُ في وجوه بعضهم تردداً، وفي آخرين انبهاراً، وثلة تنتظر "المعركة".

قلت بثبات وبنبرة هادئة، ولكنها لا تخلو من نصل الفلسفة

ــ "أولاً، لم يكن بيننا خلوة يا سلمان، نحن في قاعة فيها أربعون عقلًا يشهدون هذا النقاش. لكن دعنا نناقش المقولة… هل تعتقد أن وجود امرأة مع رجل يعني بالضرورة حضور الشيطان؟"

ــ "أنا لا أعتقد، أنا أؤمن بالنص. وإذا قاله الرسول، فالنقاش انتهى."

ابتسمتُ، ولكنها لم تكن ابتسامة لينة. كانت كسكين تلمع في ضوء الحجة.

ــ " وهل هو فعلًا حديث للرسول؟ ولنفترض جدلًا انه كذلك، فهل تعلم متى قاله؟ ولمن؟ وفي أي ظرف؟ النصوص يا سلمان، لا تُؤخذ مقطوعة من سياقها كأنها قطع من جدار. لو فعلنا ذلك، سنحوّل الدين من نور إلى قيد، ومن هداية إلى عصا."

رفع حاجبيه كأنني أجدّف.

ـ "يعني… تنكرين الحديث"؟

ــ " أنا لا أنكر، أنا استفسر وأفسّر. وهل تظن الشيطان مربوطًا بجنس المرأة؟ إن كنتَ تعتقد أن كل امرأة تحمل شيطاناً بين ضلوعها، كما يُلقّن بعضُ الخطباء من على المنابر، فاسمح لي أن أقول: الشيطان الحقيقي هو هذه الفكرة. هذه النظرة التي ترى في المرأة شرًا مؤجلًا، وفي الرجل مخلوقًا بريئًا وعاجزًا لا يصمد أمام أي نسمة أنثوية، تجعل من الرجل قاصراً عن مقاومة أي فتنة، وهذا ظلم له."

ــ " لكن... الفتنة واقعة، وكم من أخطاء بدأت بنظرة!"

ــ "وهل نمنع العيون أن تبصر كي لا تخطئ؟ أم نربي البصيرة على أن تختار؟! منطقك يُشبه من يريد أن يطفئ الشمس لأن بعض الناس يضلّون في وضح النهار."

تقدّم خطوة للأمام، صوته بدأ يرتجف بشيء من الانفعال.

ــ " أنا أتكلم عن دين! عن أوامر ربانية! وليس فلسفة بشر!"

رفعتُ يدي كمن يُهدّئ بحرًا:

ــ " وأنا أتكلم عن جوهر الدين، لا عن قشوره. الدين الذي جاء ليحرّر لا ليقيّد، ليوقظ العقل لا ليُسكته. رسول الرحمة، لم يمنع خولة بنت ثعلبة* من أن تشتكيه في المسجد، من أين جاءتنا هذه الجرأة على تحويل الدين إلى سجن يخاف فيه الرجال من النساء"؟!

يا سلمان، أنا لا أطلب منك أن تتخلى عن دينك، بل أن تُنقّيه من سوء الفهم، القرآن والنبي أوصى بالعلم والتعلم، فهل يخاف من عقل امرأة تحاور وتجادل؟ أليس النبي هو القائل: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة؟ فمن أين جاء هذا الخوف إذن؟"

ساد الصمت... ثم تكسّر في صوت طالبة من الخلف:

ــ " الله! هذا بحق.. كلام يُقال!"

لم أردّ، فقط نظرت إلى سلمان، كان وجهه محتقناً، ولكنه لم يعد ذلك القوي المتماسك. شيء ما تهدّم بداخله، شيءٌ لم يكن كبرياءه، بل يقينه الموروث.

قلت أخيرًا، بصوتٍ خافتٍ كأنني أخاطبه وحده:

ــ " يا سلمان… من يخشى لقاء امرأة في قاعة علم، فليفتّش عن الشيطان في داخله، لا في عيون الآخرين."

ثم دونتُ في مذكرتي:

ــ "سألني: من ثالثنا؟

قلت:

ــ "عندما يكون ثالث اللقاء هو الفكر، لا الشيطان، ينتصر العقل على الوهم … وينقلب الصمت من الخوفٍ الى التأمل"

***

سعاد الراعي

.................

* خولة بنت ثعلبة، المرأة التي جادلت الرسول- ﷺ - وسمعها الله من فوق سبع سماوات، وأجابها في القرآن" سورة المجادلة" .

 

تبسم أيها الزمنُ السعيدُ

فذي بغداد ماضيها يعودُ

*

تنفس، إن ضحكتك انتصارٌ

سيشرب نخبَها جيلٌ جديدُ

*

تلوحُ على المآذن ألفُ شمسٍ

وينثرُ حولها نورٌ فريدُ

*

هنا التاريخُ يُكتبُ في حروفٍ

وفي الأجيالِ أفواهٌ تعيدُ

*

هنا التاريخُ يزهو في رُباها

ويُشرقُ في معالمِها الخلودُ

*

تفيضُ أميرة الأمجادِ عطرًا

وفي أرجائِها الفخرُ المشيدُ

*

فيا بغدادُ، يا حلمًا جميلاً

ويا فجرًا يطوقهُ النشيدُ

*

سيبقى مجدُكِ العالي  ضياءً

وينهضُ منكِ عزٌّ لا يبيدُ

*

على جرفٍ يُغنّي المجدُ لحنًا

ويكتبُ فوقَ صفحتهِ الشهيدُ

*

هنا الأحداثُ تروي سرَّ أرضٍ

تفوحُ عبيرَ أمجادٍ عهودُ

*

وإنْ مالتْ بها الأيامُ يومًا

يظلُّ لواؤها أبداً يميدُ

*

فلا غازٍ يُطفّئُ نارَ عزٍّ

ولا طاغٍ يُدنّسُ ما نُشيد

*

وتنهضُ من رمادِ الحربِ طيرًا

وتعلو الصبح شمس لا تبيدُ

*

فيا بغداد قومي من رمادٍ

إليكِ المجدُ والحلمُ المديدُ

*

وأن النصر آت دون شكٍّ

لمن يسمو ويُحسنُ ما يُريدُ

*

فيا بغدادُ، يا فجرَ الأماني

ويا أمًّا تُعانقُها الجدودُ

*

سيبقى مجدُكِ الباقي شعاعًا

يُضيءُ الدهرَ ما بقي الوجودُ

***

د. جاسم الخالدي

 

لا أُحفِلُ كثيرًا بالمواعيدِ المنقوشةِ على جبينِ الأيام،

ولا بالتقويمِ الذي يُعيدُ نفسه كلّ عامٍ وكأنّهُ لم يتعلّم شيئًا.

لا أُحفِلُ كثيرًا بالبريدِ الإلكترونيّ المُكدَّسِ باعتذاراتٍ ركيكة ،

ولا بالردودِ السريعةِ التي تُرمَّمُ بها العلاقات المهترئة من فرطِ الصمت.

*

لا أُحفِلُ كثيرًا بمن قال إنّ الحبَّ يجبُ أن يُشبهَ الأغاني،

ولا بمن ظنّ أنّ الشعرَ يُكتبُ على ورقٍ أبيض فقط.

أنا أكتبهُ على جدرانِ الليل،

او فوقَ ضوءِ المصابيحِ المنسية،

وعلى جلودِ الدفاترِ القديمةِ التي هجرتها الأحلامُ منذُ الطفولة.

*

لا أُحفِلُ كثيرًا بمن يرصفونَ العالمَ بالحقيقة،

لأنّني أعرفُ أن الواقعَ مجرّدُ كذبةٍ تُجيدُ التنكّر.

ولا أُحفِلُ كثيرًا بالنهاياتِ السعيدةِ التي تُعرضُ في الأفلام،

لأنّني رأيتُ الأبطالَ يبكونَ بعد أن تُطفأَ الكاميرا.

*

لا أُحفِلُ كثيرًا بـ"كيفَ حالُك؟"

حين تُقالُ لأنّ البروتوكولَ يفرضها، لا القلب.

ولا أُحفِلُ كثيرًا بالذينَ يفتحونَ أبوابهم للضيوفِ ويغلقونَ قلوبهم بالمزلاج.

ولا أُحفِلُ كثيرًا بعباراتِ التحفيزِ البلاستيكيّة،

كأنّ الحزنَ يُشفى بملصقٍ ملونٍ يقول، "كُن قويًا".

*

لا أُحفِلُ كثيرًا بالمدنِ التي تشبهُ بعضها،

بالبناياتِ التي تصطفُّ كجنودٍ لا تعرفُ الحرب،

بالمقاهي التي تبيعُ نفسَ القهوةِ بنفسِ الوجوهِ المُتعبة.

أنا أبحثُ عن زقاقٍ يعزفُ النشاز،

عن نافذةٍ تُطلُّ على غيمةٍ تائهة،

عن مقهى يسكبُ الوقتَ بدلَ القهوة.

*

لا أُحفِلُ كثيرًا بأناقةِ اللغة،

إن كانت لا تعرفُ كيفَ تخدشُ.

ولا أُحفِلُ كثيرًا بالبلاغة،

إن كانت لا تُربِكُني.

أنا أريدُ الكلماتِ أن تعرجَ،

أن تتعثّرَ،

أن تنزف،

أن تكونَ بشرًا.

*

لا أُحفِلُ كثيرًا بالتوازن،

لأنني لا أؤمنُ بالعيشِ فوقَ الحبل،

بل بالرقص المجنون على الطرق التي نختارها.

لا أُحفِلُ كثيرًا بالذينَ يشرحونَ الحياةَ كدرسِ فيزياء،

لأنني أراها رقصةً سريالية،

حيثُ يلتقي الضوءُ بالظلّ،

وتمشي الدموعُ على أطرافِ الأصابع.

*

لا أُحفِلُ كثيرًا،

لأنني أشعرُ أكثر من اللازم،

فأُقرّرُ أن أزرعَ اللامبالاة كزهرةٍ تحرسني من ذئابِ الحنين.

***

مجيدة محمدي

لا تَسلْ تلكَ الزَّنبقةْ

لمَ جفَّ حَنينُهَا!

ليسَ لُغزاً

كلُّ الطيورِ سَترحلُ يوماً

ويبقى ريقُ الحُلم

على شَفةِ الصَّباح

كلُّ الأطفالِ

تَخلَعُ ريشَها أمامَ العُمر

وتُخبِّئُ بَراءَتَها

بينَ سِيقانِ السَّنابِل

لا تُفتِّشْ عن

بوصَلةِ الأبديَّةْ

إنَّها لعبةٌ الضَّوءِ

في ظلِّ الرِّياح

أنتَ الفراشةُ

وأنا النَّارْ.....

تَغلغَلْ بين ضُلوعِي

ليَسموَ عِطرُ الاِحتِراق

*

ويُسافرَ معَ وَهْجِي

كلَّما قَطعتَ جُذورَ روحي

أفرَعتُ غُصنَ بقاءٍ

على رَمسِ استشهادِك

لا تحاولْ فهمَ اللُعبَةْ

لَنْ أرفقَ بِكَ

كُلُّنا في النِّهايَةِ

رذاذٌ ضوئيّْ

***

سلوى فرح - كندا

 

في عَيْنَيْكِ

تُشْرِقُ أَلْفُ شَمْسٍ

لا تَأْفُلُ

وَيَغْفُو اللَّيْلُ فِي هُدْبِ النَّهَارْ

وَفِي رَمْشِكِ الْمَائِيِّ

ضَوْءٌ لا يُرَى

لَكِنَّهُ

يَمْسَحُ الْغِيَابَ عَنِ الْمَدَى

وَيَرْسُمُ الْعَالَمْ

إِذَا نَظَرْتِ إِلَيَّ...

انْزَاحَ مِنْ وَجْهِي الزَّمَانْ

وَغَفَا اللُّغْزُ الْقَدِيمُ عَلَى يَدَيَّ

كَأَنَّكِ فِكْرَةٌ

هَبَّتْ مِنَ الْغَيْمِ الْبَعِيدِ

وَلَمْ تَزَلْ...

**

يَدَاكِ؟

تَرْفُرِفَانِ عَلَى جَبِينِي

كَفَرَاشَتَيْنِ خَرَجَتَا مِنَ الطِّينِ

لَكِنَّهُمَا

تَحْمِلانِ نَدَى السَّمَاوَاتِ الْقَدِيمَةْ

وَصَوْتُكِ...

رَعْشَةُ وَتَرٍ عَلَى صَدْرِ الْمَسَاءْ

إِذَا تَحَدَّثْتِ

أَوْقَفْتِ هَذَا الضَّجِيجَ

كَأَنَّ اللُّغَةَ خَجْلَى مِنْكِ

تَرْجُفُ كَيْ تَقُولْ

وَلا تَقُولُ

**

أَنَا لا أَرَاكِ

وَلَكِنِّي أُلْمِسُكِ فِي فَوْضَى الْعِطْرِ

فِي شِرَاعِ دُخَانِ سِيجَارَتِكِ الْمُسَافِرِ

فِي زَوَايَا الْمَكَانِ

وَفِي فِنْجَانِ قَهْوَتِكِ الأَخِيرْ

أَرَاكِ...

حِينَ يَخُونُنِي الْحَنِينُ

وَأَسْرِقُ مِنْ يَدَيَّ رُؤَايْ

تَجِيئِينَ...

كَأَنَّكِ نُبُوءَةُ وَرْدٍ لا تَذْبُلْ

وَلا تُكْتَبْ

**

الْحُبُّ؟

لَيْسَ رِسَالَةً

وَلا وَرْدَةً تُلْقَى

وَلا يَدَيْكِ حِينَ تَمْسَحَانِ اللَّيْلَ عَنْ كَتِفَيَّ

الْحُبُّ نَفَسٌ

يَنَامُ عَلَى جِدَارِ الرُّوحِ

وَيُوقِظُنِي

إِذَا طَافَتْ رُؤَاكِ عَلَى دَمِي

وَذَهَبْتِ...

**

فَعُودِي إِنْ أَرَدْتِ...

أَوْ لا تَعُودِي

يَكْفِينِي

أَنَّكِ كُنْتِ مَرَّةً

سَمَاءً تَهْطُلُ الْكَلِمَاتِ

مِنْ غَيْرِ مَطَرْ

وَأَنَّنِي كُنْتُ

ظِلَّكِ الْحَالِمْ...

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

اللعبةُ

لم تنته بعدُ

ينقضُ علينا

ذكرُ النحلْ

الأكثرُ عناداً

وعداءً

لم تنته اللعبةُ بعد

مذ قال هابيلُ

لأخيه قديماً

قِدَمَ أولُ جريمةٍ:

لن ابسط يديَّ اليك

لتبوءَ انت بجريمتِك

أنا هابيلُ القتيلُ

أبرئُ الكرونا*

من دمي

أتهمكم أنتم

كفى مكراً

**

يومي يبدأ..

أبدأُ يومي

باسمِ اللهِ

وبـ حيَّا على الحبِ

والحياةِ

لم انزعجْ كثيراً

إن كنتُ وحيداً

لأني سأطلقُ

جيادَ خيالي حرةً

جامحةً تعدو

او هادئةً تخُّبُ

ستعودُ إلي

سريعاً

أو بطيئاُ

**

رجاءً

لا تفسدوا يومي

فهو يبدأُ

حينَ تنامُ

نصفُ عصافيرُ

شمالَ الكرةِ الأرضيةِ

أما انا

فأفتحُ نافذةً واحدةً

على امتدادِ البصرِ

وعلى ضخامةِ الركامِ

قد ترونه أنتم

لو أمعنتم النظرَ

أغلقها سريعاً

**

أفتحُ نافذة أخرى

بسعةِ أفقِ البحرِ

قد لا ترونه أيضاً

أُسبحُ باسمِ

من أبلجَ ضوءَهُ

ورسمَ بريشتهِ المباركةَ

فراشاتَ نهارهِ

بيضاءَ..   وملونةً

ثملةً ترفُ أو تطيرُ

نشوى برحيقِ الألوانِ

وبأصابعِ شمسِ

تناغيها فتضحك

تنثرُ بذوراَ ذهبيةً

في حدائقِ الحياةِ

**

شراعي

يندفعُ

والبحرُ رهواَ

يعانقني الموجُ

يغشى عينيَّ

وهجٌ أزرقٌ

**

حين يتوارى العالمُ

أطبقتُ جفوني

لوهلةِ جنونٍ

واسلمتُ النفسَ

لخفقةِ نعاسٍ

وللحظةِ أنسٍ

راحَ العالمُ

يتوارى صغيراً

خجلاً من:

خداعهِ وأكاذيبهِ

ورحتُ أنا

أتلوى

من يأسي

**

الحلمُ أنقلبَ كابوسًا

حربٌ.. حربٌ

قصفٌ.. وخسفُ

جثثٌ.. وركامٌ

أضغاثُ الحلمُ ألأمريكيُ

أنقلبَ كابوساً

أجتمعَ شتاتٌ

والحلمُ   تبددْ

***

صالح البياتي

.........................

* الكرونا: فيروس كوفيد 19 الذي حصد أرواح الملايين في ذروة إنتشاره في العالم.

 

قرارُكَ كان صائباً أنْ تقتلَ شاعراً

فدماءُ الشعراء الزرقاءُ خارجَ قوائم التسعير

إنها مبذولة كالماء والهواء

وكمقامر محترف يُحرّك النرد بنظراته

خوّضتَ في البركة الآسنة

وخرجتَ منها مطهّراً

من دنس البلاغة والعروض

**

لستَ القاتلَ الوحيد

كم من ناقدٍ

ألغى باصطكاك سنّين جيلاً من الشعراء

كم من مسيح سُلخَ حياً

وبيعتْ حكمتُهُ لمدابغ الجلود

ثمّ مرّت العاصفةُ تنقر بكعوب أحذيتها

فوق أشلاء القصائد

**

واصل السخرية من الجدران المعصوبة العيون

ودع الغبار الكئيب

يمسحُ عن يديكَ صُراخ نشرات الأخبار

ليس سواك من حلّ شفرة الخلود

لذلك يحسدكَ القتلة الفاشلون

لقد أنهكهم حفر الظلمة بالأسنان

لكنّ الدم الذي أهرقته

سيُحيي أملَهم بجريمة غنيّةً بالبروتين

**

أنتَ أسعدُ قاتلٍ في التاريخ

مُديتُكَ تُباعُ بالمزادات

ونظراتُكَ الصاخبة

تبصمُ بالدم على قِمصان المعجبين

والآلافُ يمشونَ في ظلالك

لعلهم يعثرون على شاعر غافل

يمنحهم الخلود1620 laith

شعر / ليث الصندوق

 

حِينَ يَتَهَجَّى الجَسَدُ مَجَازَهُ

وَيَغْدُو الصَّمْتُ مِرْآةً لِلاِحْتِرَاقِ

**

أُلامِسُ ما لا يُرى

نُقْطَةَ الضَّوْءِ الَّتي تَخْتَبِئُ

تَحْتَ سَطْرِ الغَوايَةِ

تَنْبِضُ بي كَأَنِّي أَتَهَجَّى

أَلْفَ أُنْثى تَنْبَثِقُ مِن ظِلِّي

أَتَحَسَّسُنِي

نَبْضاً يَنْسَلُّ مِن مَسَامِّ الرَّعْشَةِ

كَأَنَّ الجِلْدَ يُزْهِرُ بِالشَّهْقَةِ

حينَ تَهْبِطُ الحَوَاسُّ بِلا إِذْنٍ

عَلى فُسَيْفِسَاءِ الغِيابِ

يا جُوعَ المَدَى

يا عُرْيَ المَجازِ

يا رَغْبَةً تَتَقَمَّصُ نُبُوءَةَ السُّكُوتِ

أُطِلُّ مِنِّي عَلَيَّ

فَأَصِيرُ مِرْآةً

لِجُرْحِي المُتَوَرِّدِ في نَدَى الذِّكْرَى

عَرَّيْتُ صَبْرِي مِن كِبْرِياءِ الحَذَرِ

أَزَحْتُ سَتَائِرَ الخَفَرِ عَنْ نَفْسِي

وَارْتَجَفْتُ

لا خَوْفاً

بَلْ لِأَنَّنِي أَصْغَيْتُ أَخِيراً

لِجُنُونِي المُبَجَّلِ

تَفُورُ بي نِيرَانٌ لَمْ أُسَمِّهَا

تَضِيقُ اللُّغَةُ

تَتَّسِعُ النُّقْطَةُ

أَسْتَحِيلُ ضَوْءاً يَغْرَقُ في ضَوْءٍ

كَأَنِّي وُلِدْتُ مِنِ احْتِرَاقِ الرَّغْبَةِ

بِوَجْهِهَا الغَامِضِ

هاتِي الغِيَابَ

لِأَكْتُبَهُ عَلى جِلْدِي

هاتِي التَّنْهِيدَةَ

أُعَلِّقُهَا قُرْبَ نُقْطَةِ انْفِجَارِي

سَأَجْمَعُنِي مِنِّي

كَأَنِّي أَخْلُقُنِي مِن جُمْرِ ما لَمْ أُقَلْ

***

مرشدة جاويش

 

بلادي قطار راحل

نحو المجهول

على ظهر نهارات مفلسة

من الاحلام

كل الأغاني فيها مباحة

زغاريد افواه

تشهق بالعذابات

كعروس بدوية

لم تفرح بحليها

تلك اغاني احجار ساقطة

من عيون الجسور الحزينة

ماتم رجل يقطن

بلاد مابين النهرين

شاردا بين المحطات الغريبة

سلام الى امي بغداد الحبيبة

وحبيبتي التي تغازلني بغنج

تلك دجلة حشد من النوارس

على جسورها تتراقص

حبات المطر

سلاما على صعاليك القداسة

من خمرة ابو نؤاس المعتقة

سلاما على النسوة

في ساحة ام البروم الجميلات

مثل نخيل ابي الخصيب

ونهر العشار

والخشابة لاساطير ضاربة

في قصب الهور

في بلادنا

لا زال نزيف الحرب

يلوح بأحزانه

من انياب الضباع

سلاما على رؤوس

المناضلين الاحرار

فالعشق

نجمة فوق عرش السماء

نبصره من بعد الذكريات

***

باقر طه الموسوي

 

كانت الشمس تموت ببطء، متكئة على اطراف البلدة كشيخ أنهكه اليقين. وفي الساحة التي خلف المدرسة المهدمة، كانت بقايا الحرب تنتظر من يوقظها، مدافع صدئة، عجلات مدرعات نصف مدفونة، وخوذات بلا وجوه.

هنا، اجتمع الأطفال كعادتهم، ليؤدوا لعبتهم، لعبة الحرب. قال مالك، الأكبر بينهم، واضعاَ خوذة فيها شق عميق فوق رأسه: " اليوم نعيد معركة التحرير وو وزَع الأطوار كما يفعل الضباط:

 سليم انت القناص، اتخذ السطح العالي فوق العجلة.

خالد، انت الشهيد، تتظاهر بالموت، وتصرخ الأرض لنا.

فراس، انت المسعف، ليكن بيدك شيء بدل النقالة.

رشيد، انت تراقب من بعيد، وتتخذ الأوامر بالهجوم.

أنتم البقية جنود، كل واحد منكم يحمل خشبة بيده، في وضع الأستعداد، اختبأوا خلف المدرعات والدبابات.

بدأ الصراخ، الركض، أطلاق النار بالعصي، وانفجارات من أفواههم.

أحد يزحف فوق التراب يلوح بمنشفة كالراية، أحد يقفز من فوق ساتر ترابي، والقناص سليم يضع منظاراَ من قطعة بلاستيكية على عينيه، ويقول: استهداف العدو، ثلاث، اثنين، واحد... ضحك، ركض، صراخ، والتظاهر بالسقوط.

في لحظة، تسلقَ أربعة منهم الساتر، وركض أحدهم فوق لوح معدني صديء، نصفه مدفون في الأرض، حدث فجأة انفجار، ليس كوميض القنابل، بل كصرخة من جرح قديم لم يغلق. تطاير الغبار، الحديد، والاجساد الصغيرة. سقط فراس، وذراعه تنزف. هرب الأطفال مرعوبين، بعضهم يبكي، وبعضهم يصمت ووجوههم مصفرة . لكن سليم، لم يعد معهم، بحثوا عنه بين الحجارة، ووجدوه ميتاَ، وجهه ملطخ بالدم.

عاد الأطفال الى بيوتهم، خلعوا أحذيتهم بصمت، وتسللوا الى الداخل كأنهم لم يكونوا هناك أصلاَ.

قال الكبار لاحقاَ انَ لوح الحديد أخفى تحته عبوة قديمة.

و منذ ذلك اليوم، ظل بعض الناس يقولون انهم حين يمرون من هناك ليلاَ، يسمعون صوتاَ خافتاَ يخرج من بين الأنقاض، دون أن يعرفوا، أ هو صوت الجنود أم الأطفال ؟: هل يمكن أن نموت... ونحن نعتقد اننا نلعب؟

 ***

د. مامند محمد قادر -  شاعر وقاص عراقي كوردي

 

كان صوته يسبق خطواته، يشق جدار الصمت داخل البيت، يلوث الهواء، كما لو انه إعلان حرب.

(أنتن حطب جهنم، وصوتكن عورة)!! قالها كثيرا حتى صارت جزءا من حديث اليوم، جزءا من خشب الباب، وارتعاشه الملاعق.

هي لم ترد يوما، ولم تتكلم، كانت تصمت، لكنه لم يكن صمت من الخوف، بل صمت يربي أنيابه في الظل، كانت تزداد قوة، في كل ليلة حين تنطفئ الانوار، تغمض عينيها وتستدعيه، هناك في أرض الأحلام، كانت الأدوار تتغير، تراه أمامها واقفا مزهوا بنفسه، بجبروته ، تمتد أذرع الصمت من حوله تحاصره، تسحبه من حنجرته التي طالما مزقت سكونها، تخنق الزئير، تخمد الغضب، وتخرسه، تستفيق في الصباح تتثاءب، تتلوى بغنج، تتأمل أصابعها تقبلها بصمت واحد تلو الآخر ، تلك الانامل التي خنقت الصوت لاتزال تختفظ بدفئها، في اليوم التالي يعاود صوت الزئير.. لكن شيئا ما قد تغير، لم يعد الصوت كما كان، ولم تعد هي كما كانت، الصمت الذي لطالما ظنه ضعفا، صار هو سلاحها، وفي داخلها، كانت الثورة قد بدأت..

***

نضال البدري

 

كانت خطواته ثقيلة، تنطق بالتعب الذي يختبئ في عظامه، وجهه محاط بظلال السهر، وعيناه تعكس حكايات الليل الطويل الذي قضاه يقاتل ضجيج الأفكار، وكل نفس يلتقطه كان كأنه يحمل عبء العالم، لكنه استمر، يمضي بخطى بطيئة، كأنما يحمل ثقلاً لا يُرى، فكل شيء في هذه المدينة يشبهه، الأرصفة المتعبة، أعمدة الكهرباء العرجاء، والحر الذي يُلهب الخيال أكثر من الجسد، يحمل على كتفيه نهاراتٍ من الانتظار، وليالٍ تقضمها المولدات وتخنقها المراوح التي لا تهبّ إلا بالأمل، إنها بغداد التي كانت في يوم ما بلد السلام.. فكان كل شيء من حوله يهمس بما تبقّى من المدن حين تنهكها الذاكرة، المقاهي بنادلين ذاب صوتهم في ضجيج المراوح، الأسواق التي تشبه بيوتا بلا جدران، والنساء اللواتي يحملن الخبز وأوجاع الأمهات في أكياس النايلون، يمشي وهو يعرف أن المدن لا تموت دفعة واحدة، بل تفقد ملامحها شيئا فشيئا، كصورة تُترَك تحت الشمس طويلاً، أطفال يركضون بين الحفر وكأن الألم مجرد لعبة لا نهاية لها، وشباب يجلسون على الأرصفة، ينظرون إلى العابرين كأنهم ينتظرون شيئا لن يأتي..

أصبحت بغداد تنبض في صدره كوجعٍ عتيق لا يبرأ، فكلما اقترب من شارعٍ يعرفه، تاه أكثر داخل أعماقه، بعيدا عن ذاته، فهو من أولئك الذين ينامون بصعوبة ، ليس لأن النوم صار مستحيلاً، بل لأن الحلم نفسه صار عملةً نادرة، فهو يعمل نهارا في مصلحةٍ حكوميةٍ لا يعرف أحدٌ وظيفتها بالضبط، ويقضي ليله في ركن مهجور من هذا الوطن المثقل بالوعود الكاذبة، وهناك، بين صدى الصمت وغمرة الوحدة، يتساءل بصمت: من أين تأتي كل هذه الخيبات المتتالية؟

ولعلّ الإجابة لم تكن في الأسئلة الكبرى، بل في التفاصيل الصغيرة التي تحاصر يومه وتختصر مأساته، فحياة هذا الوطن البائس، لا تعني له أكثر من تفاصيل بسيطة، فهو رجل بسيط لا يملك من الدنيا إلا مروحة تقاعدت قبل أن تُكمل عقدها الأول، وسقفاً من الصفيح يشبه الفرن أكثر مما يشبه البيت، كلّ صيفٍ يفتح أبوابه كأنه يوم القيامة، ويمرّ نهاره كأنه عقوبة مؤبدة بلا محاكمة، ففي تلك الأزقة التي لا تزورها النسمات، لم يكن يبحث عن ظلٍ، بل ليعتاد على الجحيم القادم، يُقنِع نفسه أن العرقَ طهارة، وأن انقطاع الكهرباء امتحان إلهي في الصبر، وأن صوت المولدة القريبة هو النشيد الوطني الحقيقي لهذا البلد، وعند الظهيرة، يبدأ العرض اليومي للمعاناة، تنقطع الكهرباء، فتسكت الأجهزة، وتصحو الحشرات، يُغمس جسده في دلو ماءٍ كأنه يحاول أن يسرق لحظة نجاة من هذا اللهيب، بينما المولدات تتعارك مع الهواء لتبيع الوهم بالكيلوواط، أما الكهرباء الوطنية؟ فتلك حكاية تُروى للأطفال قبل النوم، فالكبار فيدفعون عن كل أمبير، فاتورةَ صبرهم، وفي المساء، حين تتهيأ النجوم لتضيء لغيره من البشر، يجلس على سطح داره، يعدّ أضواء الطائرات ويشتم الحكومة، ثم يعود ليُصلي صلاةً خامسة اسمها "صلاة الكهرباء"، لا توقيت لها، ولا يقين باستجابة، ورغم ذلك فهو لا يثور، ولا يهاجر، ولا يلعن الوطن، فقط يبتسم ابتسامةً فيها من الحكمة ما يكفي لهزيمة اليأس، ويقول: "هذا الصيف سيعلّمني شيئاً جديداً"، ثم ينام، إن استطاع، على أمل نسمةٍ تُولد بالخطأ، أو انقطاع مؤقتٍ في موجة الحرّ، وفي كل مرةٍ يسأله الزائرون: كيف تصبر؟

يردُّ وهو يعبّ من هواءٍ لا يبرد: "الصيف عندنا ليس فصلاً، هو شخصية وطنية مستقلة".

وسط كل ذلك التعب اليومي، وكل تلك التفاصيل الصغيرة التي تتآمر على راحته، كان في قلبه متسع لشيء آخر، شيء نقي، هشّ، لا يشبه صخب المولدات ولا ضيق الأزقة، حيث لم يكن عاشقا تقليديا، بل كان يحب كما يُحبّ الذين يعرفون أن الحياة لا تمنح فرصا ثانية، يكتب رسائل لا يرسلها، ويحتفظ بأغلفة الشوكولاتة كأنها براهين على وجود لحظات دافئة في زمن بارد، أحبّ امرأةً كانت تمرّ كل صباح من ذات الزقاق، شعرها مشدود كسطرٍ مستقيم في دفتر مدرسي، وعطرها يفتح في قلبه فصلاً لم يكتمل، لكنه لم يقل لها شيئا، اكتفى بأن يمنح ابتسامته للهواء كلما مرّت، ويعود إلى داره المستأجرة، حيث السقف أقرب من الحلم، والمروحة تدور كما تدور أيامه: دون جدوى..

كتب لها ذات مرةً على غلاف دفتَرٍ قديم: "لو كنتِ مدينة، لكنتِ بغداد التي في قلبي، مُتعبة، جميلة، لا يفهمها أحد".. ثم مزّق الورقة، ورماها من الشباك، فطارَت بعيدا، ككل شيء أحبّه.. في الليل، يسمع الأغاني التي تُشبِهه، يغني بصوتٍ خافت كي لا يوقظ جاره العجوز، ويرسم على جدران قلبه امرأةً لا تأتي، ولا تنسى، حتى أصبح قلبه يشبه أرصفة بغداد: كثيرا ما مرت عليه الخطوات، وقليلاً ما وقفت.. فمنذ سنوات وهو كلما أحبّ، ضاع أكثر.

ولأن القلب إذا انكسر لا يتوقف عن المحاولة، دخلت امرأة أخرى حياته، لا تشبه الأولى، لكنها حملت الوعود نفسها التي يحب أن يصدقها، فقد كانت تشبه الربيع، ففي أول آذار أقبلت عليه مثل وعدٍ انتخابي، قالت: "سأجعلك رجلاً لا يعرف الحزن".. فصدقها كما صدق يوما نائبا قال إن الكهرباء ستعود كاملة بعد العيد، فانتظر العيد والعام والعقد، ولم يعد إلا الظلام، كان يعطيها قلبه، ووقته، وماله القليل الذي يجنيه من دوامه الطويل في دائرةٍ تشبه المقبرة، وكانت تأخذ كل شيء، ثم تختفي حين يُطالبها بالمقابل، كما تختفي شعارات الأحزاب بعد انتهاء الانتخابات، قال لنفسه: "لن أُلدغ مرتين".. لكن الحقيقة؟ لقد لُدغ عشرا، وفي كل مرة كان ينهض من الخيبة كمن ينهض من تحت أنقاضه، يلملم ما تبقى من قلبه، ويقنع نفسه أن الإنسان لا يُولد قويا، بل يُصبح كذلك من فرط الانكسارات، كان يعرف جيدا أن الحب في بلده ترفٌ، والصدق عملة نادرة، لكن قلبه، رغم كل شيء، ظل ساذجا بما يكفي ليحلم، حتى جاءت المرأة الثالثة كأنها "برنامج حكومي"، بتسريحة شعرٍ أنيقة، وكلماتٍ محفوظة، قالت له: "نستطيع أن نُغيّر الواقع سويا".

أعطاها مفتاح بيته وقلبه، فغيّرت الأقفال، واحتفظت بالمفتاح وحدها، وحين حاول أن يستعيد نفسه، أخبرته أن حبها كان مشروطا: "إن أردت أن أبقى، فعليك أن تتغيّر".

كأنها حكومة تشترط على المواطن أن يكون صالحا ليستحق الخدمات، لا أن تُصلح نفسها.. كان متمردا، لا يحب أن يُطأطئ رأسه، حتى حين يُجبره الحر على الانحناء، أو حين يغرق الشارع بمياه المجاري المختلطة بالحلم، لكنه كل مرة كان يقع، لأنه كان يؤمن أن الحب قد يكون الخلاص، كما كان يصدق أن صناديق الاقتراع قد تُنجب كرامة.

ومع اقتراب كل انتخابات، يتغيّر شكل النساء في حياته، فجأة تظهر امرأة جديدة، تشبه الملاك، تقول له إن زمن الظلم انتهى، وإنها تختلف عن كل ما مضى، تعده ببيتٍ دافئ، وأمانٍ عاطفي، وبأنها "مستقلة"، لا تنتمي لأي فئة أو مصلحة، فقط تبحث عن شريك صادق، كان يضحك من داخله، لكنه يتبعها.. حتى بات يؤمن أن النساء في حياته يشبهن الفصول: الأولى كانت شتاءً، باردة وناعمة وصامتة، والثانية ربيعا يزهر بالكلام ويذبل بالفعل، أما هو فظل عالقا بينهما، كخريف لا ينتهي.. ربما لهذا كان صوته لا يسمعه أحد، ووجوده لا يزعج أحدا، وغيابه لا يُربك جدول يوم أحد، كان قد وصل إلى نقطة لا ينتظر فيها شيئا من أحد، كل شيء فقد بريقه: الحب، الوطن، حتى نفسه، لكن الحياة، بمهارتها في السخرية، لا تتوقف عن اختبار القلب الذي يظنّ أنه لم يعد صالحا للمعارك.

كان كل شيءٍ حوله يعيد نفسه: الخطابات، الشعارات، الملامح، وحتى الخيبات، كأن المدينة تُعيد بثّ نفس الحلقة القديمة من مسلسلٍ لا نهاية له، ومع ذلك، ظل يمشي، لا لأن في الخطى أملاً، بل لأن التوقّف صار أكثر إرهاقا، وكان في داخله شيء يقول: لا جديد سيأتي، فكل الطرق مأهولة بالمألوف، وكل الوجوه مستعارة.. لكن الحياة، كعادتها، كانت تخبئ استثناءً صغيرا، لا يُعلن عن نفسه، ولا يطرق الأبواب بقوة..

في أحد الأيام، عاد إلى بيته بعد يومٍ عملٍ كُتب على وجهه بالبؤس، لم يكن ينتظر شيئا خلف الباب سوى الظلمة والصمت، لكنّه وجد امرأة جديدة في انتظاره، بشعرٍ أسود وملامح ناعمة، وقفت كأنها استثناء، وقالت له بصوتٍ يشبه المطر: "أنا لا أعدك بشيء، فقط أعطني ثقتك، وسأصنع لك وطنا صغيرا".

نظر في عينيها طويلاً، ، وفي داخله صوت قديم يتمنى التصديق، لكنّه لم يكن ذاك الرجل القديم، ثم أطفأ النور، وأدار وجهه نحو الجدار، وقال بصوت خافت يشبه تنهيدة خيباته: "كفاكنَّ كذبا.. لقد امتلأ قلبي بالوعود، حتى لم يعد فيه مكان للنبض".

لم يكن بحاجةٍ لمزيد من الكلمات، فقط فتح الباب، كمن يُخرج نفسه من غرفة ضيقة في ذاكرته، وخرج إلى الشارع، كانت الجدران مملوءة بملصقات المرشحين، كل واحدٍ يعده بما وعدته به امرأة يوماً ثم اختفت

ضحك بسخرية مرّة، كأنما يعبث به الزمن نفسه، وقال: "حتى الوجوه باتت تتكرر كأنها وجوه أشباح تائهة في صحراء الوعود، وحين تفتش عن الحقيقة، تجد صدى كاذباً يتردد بين جدران الوهم، في الحب وفي السياسة، كثيرة هي الوجوه، لكن صمت الخيبات واحد، والألم هو الوعد الوحيد الذي لا يخلف".

لم يستطع أن يترك ذلك الصوت يمرّ مرور الكرام، فتابع خطواته في الشارع، وهو يشعر بثقلٍ داخلي لا تزيله الكلمات، ويردد مع نفسه: "يا لغبائي، حين اعتقدتُ أن الحبّ يُقاسُ بكمية التوسل، وأن الركوع على أعتاب القلب المُغلق قد يُعيد فتحه يوما، كنتُ أظن أني فارسُ الحكاية، لكنها كانت تكتب النهاية".. ثم توقّف للحظة أمام نفسه، سائلاً بمرارة: "هل تستحقُّ كل هذا الانكسار؟ كل هذا الانحدار من كرامتي؟".. ضحكت نفسه، ساخرةً منه، وأجابت بلسانها الذي حفظ مرارة الخذلان: "أما فهمتَها حين لمّحت بأنها أفضل منك؟"

فلمَ يا قلب.. توسّلتَ لمن رأت فيك ظلاً، لا وطنا، وجعلتَ من كيانك مهزلة، من أجل ابتسامةٍ لم تكن لك؟ ونسيتَ أن الكبرياء حين ينكسر، لا يُصلحه حُبٌّ مزيف.. دعها تمضِ، فالنهايات ليست دائما خسارات.

وفجأة، أدرك أن قلبه توسّل لمن لم تراه سوى ظلاً، لا وطناً، وجعل من كيانه مهزلة من أجل ابتسامة لم تكن له، نسي أن الكبرياء حين ينكسر، لا يُصلحه حبٌ مزيف.. فأغمض عينيه، وقال لنفسه بهدوء مُتعب: "دعها تمضِ، فالنهايات ليست دائما خسارات".

لم يجد أمامه سوى المشي، لا لأنه يؤمن بأن الخطى ستقوده إلى خلاص، بل لأن التوقف كان أثقل من أن يحتمله، فمشى متمردا كما هو، حاملاً على كتفيه وطناً يشبهه، وطناً يشبه وعدا لا يُنجز، يسير في طريقه دون أن يلوي على شيء، فكان يمرّ بين الوجوه كمرور الغيم فوق مدينة عطشى: لا يُمطر، ولا يعد بشيء، وفي كل زاوية، كان كل شيءٍ يعيد نفسه: الخطابات، الشعارات، الملامح، وحتى الخيبات، كأن المدينة تُعيد بثّ نفس الحلقة القديمة من مسلسل لا نهاية له.. توقف قليلاً أمام ملصقٍ لشابٍ أنيق يبتسم بثقة ويعد بـ"الكرامة والتنمية"، همس في نفسه: "هذا الوجه يشبهها، حين قالت لي: سأمنحك حياة لا تشبه شيئا قبلك، ثم مضت، وتركتني أعدّ خساراتي كموظفٍ في أرشيف الوطن".

كان وجهه لا يحمل الغضب، بل إرهاقاً عميقاً، تعبَ من عالم لم يعد يفرق بين الحلم والوهم، بين الوطن والعاطفة، وقف عند الرصيف، أخرج سيجارة من جيبه، أشعلها بلا رغبة في التدخين، بل ليشاهد شيئاً يحترق أمامه دون مقاومة، ثم همس بصوت خافت، كأنه يبوح لسكون الليل: "كلهم وعدوني بمستقبل أفضل، هي، والمرشّح، والدولة، وحتى الشعراء، لكن وحده الليل ظلَّ وفيّا، يأتي كلّ مساء، دون أن يعد بشيء".

في الزاوية ذاتها التي اعتاد الوقوف عندها كل مساء، حيث تناثرت ألوان الوعود على جدران الحي الملطخة بملصقات المرشحين، مرَّ طفل صغير يحمل في يده بالوناً أحمر، توقّف أمامه للحظة، عيونه براءة لا تعرف المكر، وسأله ببساطة: "يا عم، ما معنى الوعد؟"

نظر إليه طويلاً، ثم إلى البالون، ثم إلى تلك الجدران التي تكدّست عليها الأكاذيب والوعود الزائفة، وفكّر في عدد المرات التي علّق فيها قلبه على وعودٍ حلّقت في السماء فقط لتختفي في العدم، تنفّس بعمق، وأجابه بصوت هادئ يشبه الحكمة المتعبة: "الوعدُ يا صغيري، هو شيءٌ يُملأ بالهواء، ثم يُطلق في السماء، فنظلّ نُحدّق فيه حتى يغيب".

ابتسم الطفل، وركض مبتعدا ببالونه، أما هو، فجلس على حافة الرصيف، نزع حذاءه، وترك قدميه تلامسان إسفلت المدينة الساخن، كأنّه يريد أن يتأكّد أن الأرض ما تزال هنا، حتى لو غابت كل الأحلام، ثم نظر للسماء، لكنه لم يسألها شيئا، فلم تعد لديه أسئلة، بل أجوبة لا يطلبها أحد، أشعل سيجارةً لم تَعد تسكته كما كانت تفعل، وقال لنفسه بصوتٍ خافتٍ كأنه صدى وطن بأكمله: "أنا آخر مواطن يؤمن أن الشمس قد تخجل من قسوتها يوما، وأن البلاد ستعتذر، ولو مرّة، لرجلٍ أحبّها دون مقابل".

ثم سحب نَفَسا طويلاً، ونهض ببطء، كأنّه ينهض من داخله بعد غياب طويل، عاد يمشي، ليس إلى بيت يأويه، ولا نحو حبيبة تنتظره، بل نحو نفسه، تلك الذات التي نسيها في زحمة الوعود والخيبات، وها هو يحاول أن استعادتها، ولو بعد فوات الأوان.. وفي آخر الليل، حين سكنَ كل شيء من حوله إلا قلبه، صعد إلى السطح، ذلك المكان الوحيد الذي لا يُحاسبه أحد على صدقه، ولا يُطالب فيه بتمثيل دور، وجلس تحت سماءٍ لا تعده بشيء، حدّق طويلاً في العتمة تلتهم الأفق، كأنه يحاول أن يلمح ملامحه القديمة التي غابت عن بصره طويلاً، ثم تنفّس ببطء، كمن يُطفئ شمعةً لا تخصّه، وقال بصوتٍ بالكاد يسمعه الهواء: "لا أريد أكثر من حياة لا تشرح نفسها، لا حبٍّ يُشبه الإعلانات، ولا وطنٍ يتحدّث بلغةٍ ليست لغتي، أريد فقط.. أن لا أنتظر شيئا، وأن لا أخاف من لا شيء".

وابتسم، تلك الابتسامة التي لا تقول: "أنا بخير"، بل تقول: "لقد مررتُ بكل هذا، وما زلتُ هنا".

ثم أغلق عينيه، كأنه يبحث عن وطن مؤقت في عمق النوم، حيث لا تُطلب جوازات سفر ولا يُقطع التيار، مكان لا تحكمه خيبات اليقظة ولا قسوة الواقع.. فنام، ليس لأن التعب قد انتصر، بل لأن الخيبة تراجعت قليلاً، فأصبح بوسع قلبه أن يستريح ولو للحظة، وفي الخارج، كانت المولدات تئن بصمتها المعتاد، وبغداد، كما هي دائماً، تنفض عن كتفيها غبار الحنين، وتواصل طريقها بلا توقف، وكأن شيئاً لم يكن.

***

جليل إبراهيم المندلاوي

قد جرى حبُّكِ مجرى النفَسِ

يا فتاةً من هوى الأندَلُسِ

*

جئتُكِ اليومَ غريباً ضائعاً

وحزيناً مثلَ حزنِ الفَرَسِ

*

نظرةٌ منكِ وعودٌ حُلْوَةٌ

شهقةٌ منكِ ورودُ النَّرْجِسِ

*

فَصِليني جسداً في جسدٍ

لستُ أرضى نظرةَ المُختَلِسِ

*

عجباً للماءِ يَظْمَا بعَدما

لامسَ الثغرَ ونارَ المَلمَسِ

*

إنَّما الشمسُ كعينٍ للسَّما

عَمِيَتْ من نورِكِ المُنبَجِسِ

*

يا فتاةً كلّما قبّلْتُها

نبَتَ الوردُ برغمِ اليَبَسِ

*

يا جَمالاً كلّما عدّدْتُهُ

فاتَني شيءٌ لحدِّ الهَوَسِ

*

أنتِ غيثٌ لا منَ الغيمِ همى

بل من القلبِ ونورِ القبَسِ

*

وعلى الشاطئِ تمشينَ وقد

سكتَ البحرُ سكوتَ الأخرسِ

*

موجةً مدَّ فكانَتْ يدُهُ

ردّها الرملُ ردودَ الحرسِ

*

يا فتاةً يأنَسُ الظلُّ بها

ثُمّ يبكي في حلولِ الغلَسِ

*

عطرُكِ المنسابُ قد ذكّرَني

بالخُزامى عندَ بيتِ المَقْدِسِ

*

حُسنُكِ السجنُ وقلبي طائرٌ

طابَ عيشي عندَ ذاكَ المَحبَسِ

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

لا، لمْ تكنْ عادياً والله بلْ حقّا

وآيةً تُعجِزُ الأوصافَ والنطْقا

*

تنصلتْ زمرٌ عن أهلِها مَلَقاً

وأهملتْهم، فكنتَ الوعدَ والصدْقا

*

لمْ يبقَ في الأرضِ شهمٌ انْ مشى صَلِفُ

يختالُ نصراً على حُرٍ، ولنْ يبقى

*

يا أيُّها الألَقُ العالي بِجوهرهِ

ألقى بهِ الكونُ فوقَ الأرضِ ما ألقى

*

أبا اليتامى، خليلَ البائتينَ على

ظلمٍ وجوعٍ، وطبلُ الجورِ قدْ دقّا

*

واستهزأت اممٌ مِن نفسِها ومضتْ

ترجو السلامةَ حتى لو قضتْ خَنْقا

*

لا بدَّ أنْ يتبقى في الدنى بَطَلٌ

يبطِّلُ السحرَ حتى يَفتحَ الأُفْقا

*

بِهِ العدالةُ الواحٌ مدونةٌ

على النجومِ، وأحرارٌ لها ترقى

***

شعر: كريم الأسدي ..

كم يُفْزِعُ العلمُ أنّ النورَ مُطفِئُهُ

عتمٌ وإنْ بشّرَ المولى برجْعَتِهِ

*

أهمُّ بالسّيرِ غربًا نحو أندلسٍ

شوقًا ليومٍ يُمَنِّيني برُؤْيَتِهِ

*

وحينَ أَذْكرُ كيفَ العتمُ أسْقَطَهُ

أرتدُّ صونًا لهُ من عودِ نكْبَتِهِ

*

أهمُّ بالخوضِ في أحداثِ معرَكةٍ

شوقًا لنصْرٍ يُناديني بفِتْيَتِهِ

*

وفارسُ القومِ يدْعوني لنجْدَتِهِ

فيَتْبَعُ اسْمي اسْمَهُ في متْنِ صفْحَتِهِ

*

أسيّر اسمي على الصّفْحاتِ علّ بها

مُؤَمَّرًا يرْتَجي سيْفي لنُصْرَتِهِ

*

وحين تمتلئُ الصّفْحاتُ بي بدمي

أصحو على ولَدي يلْهو بخِربَتِهِ

*

مُستنصِرًا وُلْدَ من للنّارِ سُقْتُ على

ابنِ من دعانيْ لأمضي تحتَ إمرَتِهِ

*

أرتدُّ خوفًا على دمِ ابْن آمرِنا

خوفًا على ولدِي أهوالَ ردَّتِهِ

*

أهمّ بالسّيرِ نحو مسجدٍ علمَ الـ

علِيُّ شوْقي لدرْسٍ عندَ صخرَتِهِ

*

وحين أذكر أنّ المسجدَ احْتَشدَتْ

به العبيدُ لشُكْرٍ دون رغبتِهِ

*

فما هوى صنمٌ من فوق كعبتِهِ

إلا ليَثْبُتَ "يهوَهْ" فوقَ قُبَّتِهِ

*

ولا صحا وطنٌ من طولِ غفوتِهِ

إلا للاتٍ تلا العُزّى بمكّتِهِ

*

أرتدُّ خوفًا عليهِ كيدَ أُمّتِهِ

لكي أظلَّ أراهُ فوْق رَبْوَتِهِ

*

أهمُّ بالغرْفِ من علمٍ بجامعةٍ

ترعْرعَ العلمُ فيها منذُ نشْأتِهِ

*

على يدِ النُّخبةِ التي اطمأنَّ لها

العقلُ فأوْدعَ فيها ما بجُعْبَتِهِ

*

خوفًا على نفسِهِ تلويثَ سُمعَتِهِ

مِن أنْ ترُدّ خُرافاتٌ لأسْرَتِهِ

*

وحين أذكرُ أنّ الشّرقَ قد رحلتْ

أنوارُهُ وبدتْ في غيرِ عتمتِهِ

*

وأنّ جامِعَتي ليستْ سوى جسَدٍ

مُمدَّدٍ فوقَ تلٍ دونَ مُهجتِهِ

*

أرتدّ صونًا لكبرياءِ جامعةٍ

في موتِها لم يزلْ في أوجِ شدّتِهِ

*

كي لا أرى الشرقَ يبكي هجرَ فلذتِهِ

كي لا أرى غدَهُ شمسًا بغربَتِهِ

*

فالشّرق نورٌ فمن له بمحنتِهِ

من للعزيزِ أيا قومي ودمعتِهِ

*

أهمّ بالشّربِ من عينٍ بباديةٍ

عجلانُ يقصدُها صونًا لفطرَتِهِ

*

وحين أذكرُ أنَّ العينَ قد كَدُرتْ

فلم يعُدْ يهتدِي معنىً للفْظَتِهِ

*

أرتدُّ خوفًا على ضادي تكدُّرَها

على مُقامي حياةً دونَ صفْوَتِهِ

*

أهمّ بالسّير فجرًا نحو مقبرةٍ

مُهنِّئًا ماضيًا جلًّا برَقْدتِهِ

*

وباكيًا هِممًا سَدَّتْ مسالِكَها

فواجعٌ قد تداعَتْ إثرَ غيْبتِهِ

*

إذا مضى أيُّها في دربه قدُمًا

قيلَ لصاحبِها: شهيدُ هِمَّتِهِ

*

وإن تأنّت تلافيًا لفاجعةٍ

قيلَ لصاحِبها: مُودٍ بحسْرَتِهِ

*

يغازلُ اليأسُ همّتي وقد أنفَتْ

منهُ وما استسْلَمتْ يومًا لرغبَتِهِ

*

مرادُها أملٌ يحيا بداخِلِها

ولا ترى نفسَها في غيرِ عصْمَتِهِ

*

تراهُ ندّا لها أهلًا لفِطرتِها

تجنّبُ الفاجعاتُ دربَ خطوَتِهِ

*

وتقتفيْ خطوَه السّرّاءُ غايتُها

قلوبُ من دخلوا في ظلِّ رحمَتِهِ

*

لكنّ يأسًا تعدّى الحدَّ مُغْتنِمًا

غيابَ فارسِها ماضٍ بلُعْبتِهِ

*

بالمالِ والأمنِ يُغويها لتحذوَ حذْ

وَمن غنِمنَ الشّقا في خدمةِ ابنتِهِ

*

وإبنةُ الياس أمّ الفاجعاتِ وأمْــ

مُها اسمُها عودةُ العُزّى لقريتِهِ

***

أسامة محمد صالح زامل

في نصوص اليوم