نصوص أدبية

نصوص أدبية

أحبُّ انتصاري على النفسِ إلّا

إذا كنتِ نفسي أيا خيرَ نفسي

*

وليسَ انتصاري على خيرِ نفسي

سوى ذلّةٍ وانكسارٍ ونكْسِ

*

وإنّ انْكساري على يدِها و هْيَ

أنتِ انتصارٌ على جندِ يأسي

*

ويأسي أنا- شرُّ نفسي- وجُندي

هَواني وشكّي وخوفي وتَعْسي

*

فيا خيرَ نفسي اهْزمينيْ ولا

تترُكيني لأجنادِ يأسي وبأسي

*

فكم من حروبٍ خسرنا وكم من

بلادٍ وفيها جدودي وقدسي

*

وكم من ربوبٍ صنعنا وكم من

رؤوسٍ حملنا تبيعُ ببخسِ

*

و كم من حدودٍ عبرنا وكم من

بلادٍ لأجل رغيفٍ وفلسِ

*

ويا خيرَ نفسي اضربيني بنعليْ

ابتداء وليس انتهاء برأسي

*

ولا ترحميْ فيَّ ضعفًا بُعيْدَ

انكسارٍ ولا رفقَ بي أو بحسِّي

*

فحسّي بليدٌ أراهُ بهذي

البلادة يكفيكِ حتّى لكنْسِي

*

فلو كان يقْظا لما باعني حين

نام ليأسي مقابل كأسِ

*

مُضيفًا بذا النومِ بأسا ليأسي

لذا فهْو مثلي جديرٌ بطمْسِ

*

كأنّي بذا الخيرِ أنساك حتّى

طقوسَ الوغى بين دجْنٍ وشمْسِ

*

فما بعد هزم وكسر وضربٍ

بنعلٍ على أرؤُسٍ غير حبسِ

*

ولا تأبهيْ بقوانينَ جاءتْ

لإعلاءِ طقسٍ وإخضاعِ طقْسِ

*

وإغناءِ جنسٍ وإفقار جنسٍ

وإكرام لبسٍ و توبيخ لبسِ

*

وذاك دمُ الجوعِ يجريْ وقانو

نُهمْ خانسٌ خلفَهم فوقَ كُرسي

*

فإن متُّ قهرًا فقولي لقد ما

تَ من قبلِ هذا على يدِ يأسِ

*

وإذْ ذاكَ لا تدفنيني كما يُد

فَنُ الإنسُ ميتًا على يدِ إنسِ

*

بلِ اسْتَقْبلي وادفنيني بعيدا

عن الإنس دفن الحُبورِ لنحسِ

***

أسامة محمد صالح زامل

منذ أن رحل ساعي البريد، رحلت معه تلك اللمسة الدافئة، التي كانت تُطرّز الورق بالحياة. لم يعد هناك من يطرق الباب بخجلٍ، ولا من يسلّم القلب في مظروفٍ أنيق.

*

الرسائل الآن بلا رائحة، بلا دمعةٍ جافة على زاوية الورق، بلا أثر شفاهٍ قبّلت السطر الأخير. أصبح الحنين مجرّد إشعارٍ إلكتروني، والشوقُ... مجرّد نصٍّ يُقرأ ويُنسى.

*

ذلك الساعي، كان آخر الشعراء الذين يمشون على قدمين، يحمل في حقيبته قلوبنا ويضعها في صناديق باردة، ثم يغادر بلا ضجيج، كما يغادر الضوء آخر الغرف.

*

أين ذهبت تلك الأوراق التي كانت ترتعش بين أيدينا؟ كانت الرسالة تنام في الجيب ككائنٍ حي، تُخفيها تحت الوسادة، تشمّها كما يُشمّ الحنين في معطفٍ قديم، وتبكي، تبكي لأنك تلمس أثر اليد التي كتبتها.

*

الآن... الرسائل تكتبها أصابع باردة على شاشات لا تحفظ الذاكرة، تُرسلها الآلة، وتستقبلها العادة.

*

لقد تغيّر العالم، لم تعد المسافات طويلة بما يكفي لتولد اللهفة، ولا الأيام قاسية بما يكفي لتبرر الانتظار، أصبح اللقاء أسرع من الاشتياق، والكلمات أسرع من النبض.

*

أشتاق لرسالة تصل بعد عشرة أيام ويكون فيها خربشة قلب، وبقايا عطر، وغيمة من حنين.

*

يا ساعي البريد، عد إلينا ولو مرة، أحضر لنا رسالة واحدة فقط، رسالة لم تكتبها آلة، بل قلب.

*

رسالة تخبرني أن الحبيبة لا تزال تتعطّر بالحروف، وأن الانتظار لا يزال حيّاً في ركن من هذا العالم البارد.

*

عد... قبل أن يُصاب الشوق بالخرس، وقبل أن يتحوّل الحب إلى مجرّد تنبيه في شاشة الهاتف.

***

بقلم: كريم عبدالله

بغداد - العراق

عالمي الصوفي لا يعترف إلاّ بالمنطق..

حاولتُ أن أخضع هواك لقوانينٍ واضحةٍ..

أن أثبت وجودك ضمن معادلاتٍ تتقبّل الحلّ..

كان اشتياقي دالةً يمكن قياسها، ونبض قلبي نتيجةً لمسلمةٍ يؤمن بها العاشق. انتهى الأمر ودونتك مبرهنةً على جدارِ قلبي.. لكنّ العشقَ — أيها السّيد العاشق يرفضُ الفرضياتِ المنطقيةَ، لا يُختزلُ في نظريّاتٍ، كلّما شيّدتُ برهاناً، تفلت من بين الرموزِ، وتسيل من بين العوارض، فصِرتَ خارجَ قوانينِ البرهنةِ، وكنتَ الحُكمَ والعلةَ..

قانونَ العشقِ الوحيدَ الذي لا يُفسَّرُ

بل يؤمَنُ به كأجملِ استثناء.

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

مثنويات ورباعيات عربية

ستبتلع الأرض افعى

يقولُ المنجمُ في نوبةٍ للبكاءْ

ويرفعُ عينيهِ نحوَ السماءْ

ويتركُ في الأرضِ افعى المقولةِ بالفعل تسعى

**

على ضفةِ النهر خيالةٌ يهزجونْ

تقابلهمْ ضفةٌ يحرقُ الجندُ فيها رفاتَ أهالي السجونْ

**

لميزانِ هذا الزمانْ

لغتانِ، لأنَّ منازلَهُ كوكبانْ

**

جبالاً أرى، أَمْ ركامُ الحضارات هذا

يقولُ الى المرءِ: ما أخيبَكْ!

تُرَتَبُ، ثم تدمرُ مَنْ رتبَكْ

وتعودُ لتسألَ كيفَ، متى، ولماذا!!!

***

شعر: كريم الأسدي

سَكَـبَتْ حُرُوفي خَمْرَةَ الأقْـلَامِ،

واسْتَمْرَأَتْ فَوْقَ البَيَاضِ مُدَامِي.

**

شَهْدُ المَعَانِي في رَحِيقِ مِدَادِهَا،

وزُلَالُهَا الألفَاظُ نَهْرُ كَلامِي.

**

لُغَتِي عَرُوسٌ لِلبَدِيعِ تَبَرَّجَتْ،

وتَمَنَّعَتْ حِينَ اسْتَبَدَّ غَرَامِي.

**

مِنْ أَيْنَ لِي أَلَّا أَهِيمَ بِعِشْقِهَا،

بِالعَاشِقِينَ لِضَادِهَا وَاللَّامِ؟

**

وَطَّنْتُ نَفْسِي وامْتَطَيْتُ قَصَائِدِي،

جِسْرَ العُبُورِ لِسَالِفِ الأقْوَامِ.

**

فَوَجَدْتُنِي بَيْنَ الأَحِبَّةِ عَاشِقًا،

لِلشِّعْرِ، لِلشُّعَرَاءِ، لِلْخَيَّامِ.

**

وَرَأَيْتُنِي مِثْلَ الخَلِيلِ مُوَلَّهًا،

وَرَأَيْتُهَا خَفَّاقَةً أَعْلَامِي.

**

فَكَتَبْتُنِي، وَالقَلْبُ يَعْلَمُ أَنَّنِي

دُونَ الكِتَابَةِ يَسْتَحِيلُ مَقَامِي.

**

في ظِلِّ أَرْضٍ لا تَرُوقُ لِخَاطِرِي،

أَوْ قَدْ تَضِيقُ بِلَحْظَةِ الإِلْهَامِ.

**

فَاخْتَرْتُ "عَبْقَرَ" مَوْطِنًا لِمَشَاعِرِي،

أَرْضًا لِشِعْرِي، رَوْضَةً لِهُيَامِي.

**

عَلِّي أَرَى العَذْرَاءَ تُـمْطِرُ دَاخِلِي،

وأَرَى القَصِيدَ مُوَلَّهًا بِغَمَامِي.

**

وَسَلَكْتُ ما بَيْنَ الدُّرُوبِ جَمِيعِهَا،

مَا كَانَ مِنْهَا مُذْكِيًا أَحْلَامِي.

**

عَلِّي أُذِيبُ اللَّيْلَ في قَبَسِ الرُّؤَى،

وأُرِيحُ نَفْسِي مِنْ صَدَى آلامِي.

**

فَأَنَا الَّذِي وُلِّهْتُ بِالكَلِمِ الَّذِي

أُرْضِعْتُهُ مِنْ قَبْلُ، قَبْلَ فِطَامِي.

**

فَكَأَنَّهُ مُنْذُ المُخَاضِ تَمِيمَتِي،

وكَأَنَّنِي المِحْرَابُ، وهْوَ إِمَامِي.

**

وأَنَا الَّذِي ما زِلْتُ أُبْحِرُ نَاشِدًا

رَسْمَ الحُرُوفِ بِرِيشَةِ الرَّسَّامِ.

**

وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّتِي سَكَنَتْ دَمِي،

ضَمَّتْ خَيَالِي، وَاصْطَفَتْ أَنْغَامِي.

**

فَتَفَتَّحَتْ فيَّ البَرَاعِمُ، أَوْرَقَتْ،

وارْتَاحَتِ الأَزْهَارُ لِلأَنْسَامِ.

**

فَوَجَدْتُنِي بَيْنَ اخْضِرَارِ فُرُوعِهَا،

كَمْ أَرْتَوِي مِنْ ثَغْرِهَا البَسَّامِ.

**

نُطَفُ الرُّؤَى مِنْ سَلْسَبِيلِ مَجَازِهَا،

خَصَّبْتُهَا في غُصْنِهَا المُتَرَامِي.

**

فَانْسَابَ نَهْرُ الشِّعْرِ لَفَّ جَوَانِحِي،

وبِدَاخِلِي لَفَّ الحَرِيقُ رُخَامِي.

**

إِنْ عِشْتُ دَهْرًا لَنْ أَعِيشَ بِدُونِهَا،

مَا دَامَ نَبْضُ الفِكْرِ رَبْعُ خِيَامِي.

**

فَهْيَ الحَيَاةُ، ومَا احْتَفَيْتُ بِغَيْرِهَا،

وهْيَ انْبِعَاثِي مِنْ رَمِيمِ عِظَامِي.

***

بقلمك سليمان بن تملّيست

جربة الجمهورية التونسية

 

إلهٌ أنتَ يا فراتُ في نظري

وعُرْفي

في قاعِكَ أرى اللؤلؤ والمرجان يتجلّى

سلاماً أبعثُ لأرضِكَ أرضِ المروجِ

فالشوقُ كالموجِ يحتضنُ أضلعي

سلاماً لوردٍ أنيقٍ في الجرفِ

يعطرُ أعناقَ بنات الجنوب

لكَ في صميمِ الفؤادِ قيثارةٌ

تنبثقُ بالحاني وتعزف على أوتار ودادي

يندمُ "ندامة الكسعي" من يهجرُهُ

وينعمُ من يقطن قرب النهر

"الاسمر المعسول" يامن لا

أفارقُهُ طرفةَ عين فهو المعتصم

منذ مبعثي

ولستُ من أهل الرقاد

وأنما الإعجاب بالنهر الاسمر يجذبني لدوام التملّي

كيف غازلتكَ دجلة يافرات

حتى كونتما شطّاً من الذهب؟!

زاد البدرُ وميضاً والنجمُ سطوعاً

من جمال انبساطِ "موجكَ الثوري"

يانهرُ

قد طالت بقربك مناجاتي

وكم أنشدتُ أبياتاً من حزن أشواقي

وكم زار عيني السهرُ والسهادُ

حتى هب النسيم وأوقد صباباتي

كم من جائعٍ أكرمتةُ سمكاً

وكم أحييت من نخيل الفلاحين المتعبين

ولدتُ قربَ ضفتكَ حتى

طهُرت روحي وجسدي بمائك المقدس الكريم

***

باقر طه الموسوي

الشمس تسحب آخر خيط أحمر لها من فوق أسقف الموقف القديم، البحث عن سيارة تحملك الي قلب المدينة البعيدة أصبح الآن هو شاغلك الأهم حتي يمكن اللحاق بآخر ربع من جلسة العزاء المنصوبة علي حدود المدينة.

عرفته منذ سنوات بعيدة، كان يأتيني مع المريدين من رواد الليل، نعتلي سطح البيت القديم المجاور للصهريج ولضريح الشيخ الجليل.. نحتضن الكلمات ونلهث كالفراشات خلف مفردات النوروفي آخر السهرة كان يدندن بأغنيات كارم وفوزى ورشدى حتي يأتينا صوت الشيخ الأتربى من المسجد القريب مناشدا بأن الصلاة خير من النوم.

حين أريد الموت سوف أترك الزحام وآتى اليك لأموت كأوزوريس في أحراش الدلتا.. يضحك.. تنساب كلمات العتاب كنهر من الأحزان أمام الشارع المظلم الذي اختاره علي حدود المدينة منفى الى حين.. لم تكن تؤلمه غير ابتسامة أمانى التي ستفارقه كل صباح قبل أن يأخذ الطريق الى مبناه الحكومى الكئيب

عدد الركاب يكتمل، الرحله طويله والنسمات القليله الآتيه مع سقوط أوراق آخر أيام الخريف تخترق الأنف والصدر المتعب مع طائر الذكريات الأليمة

فى آخر لقاء على باب صيدلية الشفاء والغروب كطائر خرافى يفرد علي المدينة التي سكنتها الوطاويط أجنحته الداميه يسألنى: بتشوف جمال.. لم يعد يأتي الينا

أجيبه: الدنيا مشاغل.. الخط مقفول طول الوقت

تعاودنا الذكريات.. كان ثالثنا حين حاصرتنا الكلاب وأوحال الشتاء وعربة الدورية الزرقاء وأوراق الجريدة المطبوعة فى أيادينا تنتظر الصباح

يهز رأسه في أسى وهو يشاهد عمال الهدم يأتون على الجدران الباقية من المبنى الذى احتضن ثورة المدينة منذ مائة عام بينما كانت اجراس الكنيسة القريبة تدق لتشييع متنيح جديد

الصمت والسكون هو التابوت الذى نسكنه حين تطول بنا المسافات ويمتد بنا الطريق، لاشئ غير صوت العجلات فوق الأسفلت واختفاء النجوم خلف سحابات الأفق

فى أيامه الأخيرة أكدوا لي بأنه رغم ألمه الشديد كان يمسك العود ويغنى.. واستمر يسأل عنى وعن أمانى وجمال ويغنى.. والسيارة على حدود المدينة لاح وجهه من بعيد يعاتبنى.. مع اقترابى كان نفر قليل من ذويه يرفعون ماتبقى من كراسى ويطفؤن الانوار

***

قصة قصيرة

أيمن الخراط

 

ملامح وجه مأساوية.. تعابير جبين مكفهرة.. عينان غائرتان بنظرات غامضة متوقدة.. تجاعيد ناصية بائنة.. لم تفلح حلاقة الوجه للتو.. ولا تصفيف الشعر الأشيب من إخفاء مزاجه المتعب.. فابتسامته الباهتة مصطنعة.. كأنه يتجشأ من خلالها أوجاعا مزمنة.. راكمتها في ذاكرته تراجيديا الزمن.. فتركت ملامحها واضحة على محياه.. ماذا لو كان هذا الوجه المتعب يا ترى شاخصا أمام فكتور هيجو يوم أبدع البؤساء.. أو كان موديلا امام دافنشي للرسم بريشته يوم أبدع الموناليزا.. لكن صورة بعدسة جامدة لا تفرق في لقطتها بين الحس المرهف والبلادة.. أعطت ذلك الوجه الشاحب مع ذلك كله، ملامحه الحقيقية حقاً...

***

قصة قصيرة / نايف عبوش

سُميّة العربية

يا آلَ (ياسِرَ) أفدي البنتَ والوَلَدا

بالشعرِ عَلّي أفي الزيتونَ والبلَدا

*

نِعْمَ الذين بُغاةُ الأرض تحذَرُهمْ

لا سِيّما الوالدُ الأتقى وَمَنْ وَلَدا

*

زيتونةٌ لم تزلْ في الأرضِ ماكثةً

وظلَّ شانِئُها في بحرها زَبَدا

*

تمخّضتْ قابسُ التاريخ عن قَبَسٍ

ومِثْلُهُ (راشداً) هيهاتَ لمْ تَلِدا

*

عاشَ المحابِسَ والمنفى كَراهِيَةً

ورغمَ قسوتها لم يفقدِ الرَشَدا

*

أهدى الرعيّةَ من وجدانه حُلُماً

ساءَ الفلولَ فخاضوا في العماءِ سُدى

*

صالت عليهِ ذئابُ الليلِ عاويةً

فكيفَ في سَنَةٍ يستوفي ما وَعَدا

*

كانوا سُكارى بمالِ السُحْتِ من عَرَبٍ

كادَ الربيعُ هُنا يودي بهم كَمَدا

*

لم تُمهلوا رجلاً قاسى الأذى زمناً

وقد صبرتم على طاغوتكم أمَدا

*

لمّا رأى داءَها في الجذرِ منتشراً

داواهُ لكنّما داواهُ مُتَّئدا

*

فسارعت من رمالِ الشرقِ عاصفةٌ

وَبدّدتْ أمَلاً لمّا يَحِنْ بَدَدا

*

وقيسُ تونسَ منصوبٌ بها صَنَماً

واحسرتاهُ على عَبْدٍ لَهُ سَجَدا

*

بُشراكِ يا خيمةَ الأعرابِ حاملةً

سِكّينَ حارسةِ الأشياخَ والوتدا

*

وَأْدُ الربيعِ جرى قُدّامَ أعينِنا

هل يدري موْؤودها عنوانَ من وَأَدا ؟

*

أجلْ وحقِّكَ يدري كلَّ مَنْ غدروا

عندَ الظلامِ وبثّوا السُمَّ والمَددا

*

جاءوا به من فلولِ الجوْرِ مُسْتَتِراً

يحوكُ من لُؤمِهِا للثائرِ الصَفَدا

*

يرمي (سُميّةَ) بالبهتانِ يَحْسَبُها

تُسلّمُ السيفَ والقرطاسَ والزَرَدا

*

ألقى أباها بقعرِ الجُبِّ مُعتقداً

غيابةَ الجبِّ تطوي عنهما الجَلَدا

*

إذْ روحُ طاغوتها التمثالِ من خَشَبٍ

ما كانَ قيساً ولن يهْوى الديارَ غَدا

*

بلْ طارئاً جاءَ للساحاتِ من عدمٍ

أو مارِداً من حَشا التلمودِ قد مَرَدا

*

طفلُ الإمارَةِ إيّاها وَ دُمْيَتُها

وبا الدراهِمَ والأفيونِ قد صَعَدا

*

(سُميّةَ) القلبِ يا ترياقَ محنتنا

صوتاً يزخُّ رُؤىً للتائهينَ هُدى

***

د. مصطفى علي

1-  التمثال

ماذا افعلُ

لو كان التمثالْ

يتحدث عن سيرة صاحبه

أأقولُ لكم

ماذا قالْ ................؟

**

2- وجع

مازالتْ جيكور

تتذكر صورته الأولى

كان البدرُ .. بدشداشته البيضاء

يمشي

بين (بويب) وبين البيتْ

مثل حكاية حبّ

عن حزنٍ... مسرورْ

يمشي

ويدور... يدورْ

يتعثر في خطوتهِ

فيمدّ يداً

يتحسّس بعض الآلام

ويصيح بأعلى صوتْ

ماما ...ماما

فتهبّ الجّدة مذعورة

ولدي

ولدي

يسمعُ جدّته

يا ولدي: لا تخف الآنْ

أنت صغير ...ولطيفْ

لن تأتي في دربكَ

خضرة (أم الليف)

هي نائمة في البستان

وتخافُ تراتيلي

لا تخف الآن

لا تسقط ْ في النهْر

أنت الأجمل

أنت الكنز الشعرْ

- تأخذه بالرأفة

بين رفيف الأغصانْ

وتعود الى البيتْ

-    نم يا ولدي نمْ

يا بدر هنا. ..نمْ

أحلمْ.

يا ولدي...

لا تحلمْ الا في اجمل عمرْ

أو أسعد وقتْ ....!-

**

3- أحزان باب سليمان

مازال السيابْ

بالضوء الطالع

من باب سليمانْ

يحمل بين يديه سلالاً

من التمر

ورزمة اوراق (شبه كتاب)

منتظراً صاحبه سعدي

سيطلّ عليه

ويقرأ مرثية

لقرى ،

كل حدائقها

ومباهجها

غارقة

في بئر النسيانْ

**

4- هامش ضائع

مازال السيابْ

يمشي في طرقات تنبع ذاكرة

ويغني للفقراء

و وراء الليل النائمِ

كان على هامشهِ

يغلق باباً

يفتح شباكاً في بابْ

– يتذكر ..

ينسى .. يتذكر ثانية

ويغيب

وراء ظلال الماضي الملتفّ

بأزهار ذابلة

وتهاويل اساطير العشق الممنوع

في عبء الدرب الممتدّ وحيداً

– يتلّفتُ –

كم سنة سقطت ..؟

يتماسك ..ينطقُ باللغة العربية

سأطلّ على الزمن القادم

في شكل آخر

لا يدري الشعراءْ-

يستبدل وقفته

بالسير بأمطار .. وغيومْ

يدرك صوتاً عن بُعدٍ..

(تصفعه الريح إلى الريح):

سترى وجهك في قطرة

يدرك صوتاً ثانية

جيكور هي المأوى

بين مرافئ وحدته

يعرف سرّ المشي على القدمين

المشية بصمات العينين

كانت تمريناً

لكتاب لم يفتحْ

ينشر عطراً بخشوع، لقصائد غربته

في كل مكان

**

5 - وفيقة

مازال السيابُ

حزيناً

في جيكورْ

يجلسُ في الدرب

وحيداً ..في وهج الرؤيا

ورذاذ الشعر على الشفتين

يسأل أين ..؟

يتذكرّ وجه وفيقة

ينظر للشباك

- لابد لها ...!-

يتذكر..

يرسم كل ملامحها

يتأوّه

يبكي

ويضلّ طريقه ..!

**

6- اخت السياب

كان اسمها حياة

حديثها جميل

وقلبها

يشعّ بالحبّ النبيل

في زرقة الأفقِ

تصلّي للسماءْ

وتقرأ الفاتحة

لشاعر عبر مسافات الأسى

قد نضجت ثماره

وانتشرتْ زكية

من قلبه الرائحة

*

كان أسمها حياة

لكنها

على مشارف الرحيل ..!

تحلم بانبلاجة الصباح

شوقاً

الى البدر الذي

يلمّ اشتات المنى

في صحفٍ هناك

وقد ترنّ في خلايا

روحه قصيدة

فوق تراب المقبرة

في لغة جديدة ....

.....!

كان اسمها حياة

تمشي بلا ارتباك

لكنها

تبحث عن رماد حلم

قد مضى

وظلّ في الف صدى

يفتح في صمت الحزانى العاشقين

توهّج الضياء

*

حياة .. يا حياة

سيابنا مات

كوني كما شئتِ

وباركي الرحيلْ

مازال في الأصلابْ

سرّ الهوى

يولد ...  لا يموتْ

لا تحزني حياة  ... يا حياة

ها أنت ترحلين

نحو ذرى المجهول

في ليلة

تزحف للسراب

والريح في كل الجهات

تئنّ في أبعادها:

قد ماتتِ الحياة ...!

***

شعر: حامد عبد الصمد البصري

 

شَهقَاتُ الثَّلْجِ تَتَوسَّلُ نَافذَتي

ورُوحُكَ أَمَانَةٌ تَلْتَجِئُ بِخُلُودي

ما زال اللَّيلُ طَوِيلاً

سَأَرْسُمُكَ فَارِسَ حُلمِي

وأَعْزِفُكَ لَحْنِي الأَخير

أُطْرِّزُنِي عَباءةَ حنين

أُدَثِّرْكَ طوال العُمْرِ

لتَكُونَ عمْري وما بعده

عَبَقُ صِباكَ يُثِيرُ جُنُونِي

هَلُمَّ اِكْسِرْ بللَّورِي

اخْتَرِقْ تفَاصِيلِي

سأهربُ منكَ .. إليك

اجْرحْ بَحرِي بالغمام

واشْربْنِي حَسرةً حَسْرهْ

تَدحْرَجْ على نقائي

لا تغفُ حَبيبِي

لأرْتَشِفَ من عَينيْكَ السَّماءْ

وأشْتَمُّ فردَوْسَكْ

يا قِبلَةَ عشقي

دعْنِي أُمَارسْ طُقُوسِي كما أَشَاءْ

شَارِكْنِي عُنقُودَ الخُلُودْ

إنَّهُ يَسْتَعْذِبُ شَفَتَيْكْ

إليك رقَائقُ قَلْبِي

مُغمَّسَةً بِالنَّبِيذْ

إليكَ نَبْضُ اليَاسَمين

أنفَاسِي تَراتِيلُ الصَّدى

شَهَقَاتِي حُبْلَى

سَكْرَى في الدُّجَى

هلْ لذَاكِرتكَ سواحلُ

لأودعَ نوارِسِي علَى رمالها.

***

سلوى فرح - كنـدا

 

- صباح الخير.. كيف الحال عمي العزيز أبا خضير.. أراك مبكرا اليوم؟

قالها الرجل الذي اعتاد أن يبدأ كل صباح بتحية أبي خضير في نفس الوقت تقريبًا. قبل أن يفتح محلاً له لبيع الخضروات على الطرف الآخر من السوق.

- صباح النور، لو تترك عمك وشأنه لكان أفضل

- على رسلك عمي أبا خضير، أراك لا تتحمل مني كلمة؟

وبابتسامة تشي بتقبله للمزاح الثقيل الذي أدمن سماعه من صديقه العجوز

- لو كان أبو فراس هو من ألقى عليك تحية الصباح، هل كنت ستجيبه بهذه الحدة؟؟

- وهل ترى أنك وهو سيان، من مهازل الدهر أن تقارن نفسك به

أجاب "أبو خضير" وهو يخفي إبتسامة رضا خفيفة من ذلك التناغم المعتاد بينه وجاره العتيد..

ككل صباح، وضع علبته الكارتونية التي تحوي قناني صغيرة جدا من العطر على الطاولة، وأخذ يرصها بشكل يتيح للزبائن قراءة الملصقات التي تشير إلى أسماء العلامات الشهيرة في عالم الروائح الطيبة.

أراد جاره أن يشاكسه أكثر استدرارا لردوده اللاذعة

- تمنيت فقط أن أعرف ما الذي يفعله أبو فراس ليحتل كل هذه المكانة في قلبك، هل يحمل حجابا للمحبة مثلا؟؟

- أرأيت.. هل استوعبت الآن لماذا كنت أقول لك أنه من العار أن تقارن نفسك به، انظر يا هذا، أولا.. أبو فراس صديقي.. والأهم أنه عندما يمر علي لا يبدأ كلامه بالترهات التي تتحفني بها كل يوم، فعندما نتبادل الأحاديث، تكون عن أمور جادة، ومهمة، أكثر تعسراً من مستوى تفكيرك، عن أيام وذكريات عشناها وخبرناها وما زالت محفورةً في قلوبنا منذ سنين، أيام جميلة لم يقدر لها أن تستمر.. عدا هذا، يكفي أن عطره تكاد تتنسمه من أول الشارع.. هل تعلم.. وأشك أنك تعلم، كلما شممت العطر الذي يضعه أبو فراس تنتابني كل الذكريات التي تعيدني لتلك الأيام.

- ما هذا الكلام عمي العزيز.. (ضاحكا) كيف اختلقت كل هذا؟؟

- لك كل الحق والله.. أنى لك أن تفهم هذه الأمور، وأنت على ما أنت عليه.. ولكن مع هذا.. اقترب مني قليلا، لا تخف.. (ضاحكا) لن أضربك.

رغم أنه كان يعلم ان أبو خضير قد يفعلها، ولكنه تقدم نحوه معتمدا على ما كان عليه صديقه العجوز من مزاج رائق..

فتح أبو خضير قنينة صغيرة من العطر.. وبمرود زجاجي صغير اخذ بعضا منها وقربها من أنف صاحبه

- ماذا تشم؟

- هذا عطر "الـزيارة"

- الحمد لله هناك شيء ما تعرفه في هذه الحياة.. فعلا.. هذا عطر يدعى بالحضروي.. و الآن، ماذا مر بخاطرك؟؟

- بصراحة

- نعم.. تكلم

- تذكرت أيام كان والدي ووالدتي يصطحبوني معهم لزيارة المراقد المقدسة وأنا صغير.

- الله يرحمهما.. أرايت.. العطر ليس هواماً طافيةً في الهواء، العطر مخزن للذكريات.. وسجل للحياة.. ولكن ليس الكل من يعي هذا، عمك أبو فراس عندما يمر علي، عطره يعيدني إلى وقت كان فيه الكثير من الجمال والقليل من أمثالك

عاد الرجل مبتسماً إلى دكانه، فهو يعرف تماما ما يحمله أبو خضير من مودة له، بل للجميع.. وأن كلامه كله لا يعدو أن يكون مزاحا.. وإن كان من النوع الثقيل الذي تعود سماعه كل يوم.

أعاد أبو خضير رص قنانيه مرة أخرى، وغير في مواقعها عدة مرات، وهو الأمر الذي لم يفعله منذ أن أحتل زاويته المعروفة في مدخل شارع الرشيد قرب جامع الحيدر خانة، في دُكانه الصغير، الذي لا تتجاوز مساحته طاولة خشبية صغيرة، يضع عليها، إلى جانب الكثير من أعواد البخور، العطور التي يصنعها بيديه المعروقتين من خلال تخفيف عطور مركزة مقلدة بدورها من علامات تجارية معروفة.. كان يكدح كل يوم في بيع هذه الأشياء البسيطة، قانعا بالنزر الشحيح الذي يتحصل عليه منها، وما الذي يتوجب عليه أن يفعل غير هذا، فهو قد اعتاد الوقوف كل يوم في نفس المكان، يجتر ما تجود به العطور من ذكريات للكثير من الوجوه التي مرت من خلال أيامه المكرورة التي عاشها، وإن كان معظمها لم تعد تحمل له الكثير من السعادة، إن لم تكن تغرقه بالهموم

وحده من يبهجه بمروره وبعطره الذي يفوح من بعيد كعصافير من ضوء تتراقص حول المكان، أبو فراس.. التاجر الميسور الذي اعتاد المرور كل يوم من أمام طاولة أبي خضير بعد أن يركن سيارته في الكراج الملفق في آخر ساحة الميدان، وأدمن الوقوف قليلاً معه لتبادل الحديث.. أو لشرب الشاي الصباحي في بعض الأحيان، كان يحرص على شراء نفس النوع من العطر تاركا لأبو خضير متعة الشعور بصداقته وامتياز التبجح بأصالة عطوره رغم أنه يعرف بأنفه الحساس الفرق بين عطر أبي فراس الأصلي والغالي الثمين وعطره الباهت خفيف الثبات الذي يبيعه لكل من لا يقوى على ثمن العطر الذي يدوم.

كان الرجلان من عمر متقارب نوعا ما.. ويضعان العطر نفسه، مع اختلاف النسخ طبعاً، ويحتفظان بالنوع نفسه من الذكريات، وعاشا ذات الزمن، وكان أكثر ما يسعد أبا خضير هو عندما يتفوق على أبي فراس في تذكر حادثة ما أو نتيجة مباراة أو كلمات أغنية كانت رائجة في ذلك الزمن، فتلك الانتصارات الصغيرة تجعله ينسى لهنيهات معدودة الفوارق بينه وبين صديقه الذي يحب، والذي يذكره بما كان من الممكن ان يكون عليه لولا جور الزمان ووفاة والده واضطراره لترك الدراسة وخوض كل تلك الحروب التي جرته من تلابيبه نحو الوقوف في الزاوية نفسها طوال هذه السنين..

السوق مزدحمًا كالمعتاد، ولكن هناك شيء ما في الأجواء بدا مختلفًا. كان الناس يمرون مسرعين، وجوههم محملة بالملل، يملؤهم الأرق من رحلة الحياة التي لا تنتهي.. كثير منهم زبائنه الذين كانوا في الأغلب الوجوه نفسها التي يراها كل يوم، ولكن أبا خضير كان يرنو إلى الطريق الذي اعتاد أن يسلكه صاحبه، وأنفه كان يفتقد شيئا ما في الهواء الذي يحيطه.

- كيف الحال أبا خضير؟ أرجو أن يكون يومك طيبا؟

سأل أحد المارة وهو يقترب منه مسرعًا كي لا يتأخر عن عمله. كان وجهه يفيض بالتعب، وعيناه مليئتان، ككل الشغيلة، بالقلق من نهاية يوم قد لا تأتي كما يشتهي.

- الحمد لله ولدي العزير، الأمور طيبة، مثل كل يوم

أجاب "أبو خضير" بصوت هاديء، ولكنه لم يكن مقتنعا تماما بما قاله، فالحياة لم تكن "طيبة" كالمعتاد، هناك شيء ما أوقف روتينها الممل، روائح عديدة تجمعت بالهواء ذكرت أبو خضير بعطر الخشب المحترق في الليالي الباردة في تلك الحدود البعيدة، وروائح الأسفلت المشوي بنار الصيف أعادت إليه ذكريات الحروب التي استهلكت شبابه وقوته ورمته على هذا الرصيف

- ذكريات سيئة اليوم.. أين أنت يا أبا فراس؟

همسها أبا خضير لنفسه، وهو ينظر حوله في السوق، باحثًا عن ذلك الوجه الذي كان يحمل دومًا بعض الكلمات الطيبة.. تطير لسبب ما من قولها بصوت عال، ولسبب اخر لا يعلمه أيضاً تحاشى السؤال عن صاحبه الذي تأخر عن موعد مروره اليومي وهو ما كان يندر حدوثه

كانت الحياة في السوق -شأنها كل يوم- لا جديد فيها، ولكن "أبو خضير" كان مختلفًا. اليوم، فكر أكثر من المعتاد في الماضي الذي مرّ، وفي الوجوه التي مرت في خياله لأناس عبرت السوق بأحلام بسيطة، وبطون خاوية، وقلوب مليئة بالحكايات التي لم يَسمح لهم الزمان بسردها..، فيهم من بقي قابعا في مكان ما، وفيهم من اختفى للأبد..

فالسوق كان دوما محيطاً للأوجاع الصامتة..

- عافاك الله يا أبا خضير، أراك ساهما اليوم.. أين كنت؟؟

قالها أحد الزبائن الذين يترددون على السوق بشكل شبه يومي.

- بل أين كنت أنت؟

أجابه أبو خضير وهو يبتسم في وجهه، ولكن ابتسامته كانت باهتة بلا روح..

كان أبو خضير يراقب الوجوه التي تلمحها عيناه، يذكر بعضهم، ويستعيد معهم بعض الأسماء القديمة التي رحلت، والأحلام التي لم تتحقق.. وفي أغلب الأحيان، في خضم تأمله الطويل، كانت يده تمتد تلقائيًا إلى قناني العطر المرصوصة أمامه وكأنها تضغط على ذكرياته التي يبيعها للآخرين. العطر بالنسبة له أشبه بشذا الذكريات، يعيد رائحة الأوقات الجميلة التي ضاعت، والحكايات التي انتهت.

- الحياة لا تتوقف على أحد

أسرها في نفسه.. الناس مثل العطر، يمرون بسرعة، والريح تمسح آثارهم.

لكن ليس كل الناس تمحي الأيام صدى خطواتهم، وتبدد الريح عطرهم، كان أبو خضير يفتقد صديقه المقرب، الذي اعتاد أن يمر عليه كل يوم، يتحدث معه، ويذكره بالأيام الماضية، حين كان كل شيء أسهل، أو على الأقل، كانت الأمور تبدو كذلك. لكن اليوم، كان "أبو فراس" غائبًا.

***

لم يمر الكثير من الوقت حتى شاع الخبر، وأخذ الناس يتناقلونه بنوع من الأسى

- سبحان الله.. بالأمس كان واقفا هنا يشرب الشاي ويضحك

- يقال إنها جلطة لم تمهله الا ساعات

- لم يكن يبدو عليه المرض، إنا لله وإنا إليه راجعون

***

في الأيام التالية، كان السوق كئيبًا قليلاً أكثر من المعتاد.. ولكن الحياة كانت مستمرة، وحده "أبو خضير" كان يشعر أن السوق فقد شيئًا من روحه.. كانت رائحة العطور التي يبيعها تشبه رائحة الفقد، ممسوحة الذاكرة، مجرد روائح متنافرة تختلط بالذكريات الغائمة التي رحلت.. ولم يعد هناك طعم يميزها عن رائحة عوادم السيارات التي يضج بها المكان.. ولا شيء يمكن أن يعيد الزمان إلى الوراء

***

وكأنه قدر محتم، قرر "أبو خضير" بعد أيام أن يترك المكان الذي كان يراه هو وكل الناس منزلاً صغيرًا له. فالأمر كان بالنسبة له لا يطاق، رائحة السوق قد اختفت عن روحه إلى الأبد، وكان يراها الآن أشبه بمكان فارغ من جميع الألوان..

في صباح اليوم التالي، أخذ آخر قناني العطر التي صنعها، وأغلق زاويته، وسار مبتعدًا. قد يكون قراره مفاجئًا، لكنه كان يعلم أن الذكريات، مهما كانت جميلة، لا تستطيع أن تكون أكثر من عبير زائل.

- أبا خضير، لماذا؟ أين ستحط رحلك؟

سأله أحدهم وهو يراه يسير مبتعدًا.

- حان الوقت يا ولدي.. السوق فقد ذاكرته.. صار بلا روح..

أجاب "أبو خضير" وهو يبتسم بخفوت، وكأن الابتسامة هي آخر ما تبقى له من كل شيء.

قبل أن يترك السوق، كان عليه أن يأخذ معه ما تبقى من ذكرياته، ويترك خلفه قصة قد تروى لبعض الوقت، قصة رجل باع العطر ليشتري لحظات من الزمن الجميل، ولكن الزمن لم يمنحه فرصة لإعادتها.

***

جمال الهنداوي

إهداء

إلى بغداد…

يا سرَّ الحكمة في الجراح،

ويا أثر الغياب في الوجدان،

ويا روحًا تُبعث من الرماد نورًا سرمديًا.

***

في بغداد، يتكلّم القلب وتتوارى المشاعر خلف ارتعاشة النظر. في الفراغ الممتد بين السؤال والجواب، وفي صمت عام 2003، كان الصدق هو اللغة السرية التي تحمل ما تعجز الحروف عن حمله. ومن رحم ذلك الصمت أطلت فاطمة من صالات كلية الآداب. كانت شريكة في الحروف قبل أن تكون شريكة في الحب. نسجنا وعدًا بريئًا على الورق، كأن الكلمات بيت نعلّقه فوق الخراب.

لكن البلاد كانت تمضي عكسنا. الخرائط تمحو نفسها، والخوف يقطن العناوين ويطالب بولاء الأرواح. أحببنا كما يحب من لا يضمن الغد. وربما لهذا كان حبنا أجمل ما عرفته في عنفوان شبابي. لا لأنه اكتمل، بل لأنه ظل حيًا وسط الركام، مثل طريقة المدينة نفسها في البقاء.

كان والدها من أولئك الذين رفضوا أن يعلّقوا على باب بيته الرايات، مكتفيًا بالأسفار التي رآها مرايا للثقافة وذاكرة للروح. في الأعظمية ارتفع سقف بيتهم كدعاء معلّق، وتشبّعت جدرانه بعطر الخشب العباسي. أما فاطمة، فلم تكن تسكن بغداد، بل كانت بغداد تسكنها. تمر في شوارعها كقصيدة في وعي شاعر نائم، غامضة، مألوفة، وأصيلة. وكلما نظرت إليها، تردّد داخلي صوت نزار قباني:

أين وجه في الأعظمية حلو

لو رأته تغار منه السماء؟

لكن المدينة التي أنجبتها بدأت تنكّرها. غياب قريب لها، تهديد صريح لعائلتها، وصار الاسم الذي كان يفتح الأبواب إعلانًا للموت.

في مساء رمادي، جاءت فاطمة إلى عتبة شقتي. لم تحمل حقيبة ولا تفسيرًا.

"فاطمة!" نطقت اسمها كأنني أستعيده بعد دهر.

"أحمد..." همست، وكان صوتها مثقّلًا بصمت بغداد كلّه. "لم يعد في وسعنا البقاء."

"لكن... أين ستذهبين؟" سألت، وكان الارتباك يضيق بكلماتي.

نظرت إليّ بعينيها المرتعشتين وقالت "لم يعد هناك أين يا أحمد."

ثم أضافت بمرارة "اسم عائلتي صار إعلانًا للموت."

لم تنظر إلى عيني، بل إلى ما وراءهما، إلى أرض تكتب فناؤها بيدها. قالت أخيرًا

"يجب أن أذهب... هذه الحياة هنا لم تعد لنا."

وعرفت عندها أن الباب الذي تغلقه سطوة المكان، لا يُفتح بالحب.

منذ رحيلها، غرق كل شيء في سكون مهيب. الضوء خفت حتى صار كنداء بعيد، والهواء ظل محتفظًا بأثرها. لم تكن ذكراها فصولًا تمتد، بل ومضات خاطفة، ظل ورائحة ولمسة. كنت ألملمها كما يلملم المرء شظايا مرآة عساه يرى فيها ملامح نفسه من جديد.

في صباح بارد، جلست في مقهى رضا علوان في الكرادة، ذلك المكان الذي يجمع الكتب بالشناشيل والذاكرة. الزجاج الملوّن يحبس الضوء الشاحب كأنه يخشى أن يتسرّب، والجدران تهمس بظل المثقفين الذين مرّوا هنا. فجأة اهتز هاتفي برقم غريب. أجبت.

«أحمد؟»

لم يكن الصوت صوتًا، بل ندى الصباح ونفَس النهر وكل ما يذكّرني بها.

«فاطمة؟!» همست باسمها كمن يجيب على سؤال قديم.

قالت «لا تُغلق باب قلبك يا أحمد. الأمل باقٍ، حتى لو غابت شمسها. فرحيلي ثمن بسيط مقابل أننا لم نصبح مثلهم. كتبت لك رسالة ستجدها بلا اسم ولا توقيع، في كتاب الأدب الذي كنا نقرؤه معًا في كلية الآداب ونتبادله بين الحين والآخر. افتح صفحة ثلاثمئة وسبع وستين، وستجدها هناك. فالأسماء ثقيلة في زمن كهذا، وما يهم أن يبقى الأثر».

ارتجف صوتي «لكنني لا أرى سوى النهاية... لماذا؟ لماذا اخترتم هذا الطريق؟»

أجابت بصلابة هادئة «لم نختر الطريق يا أحمد... اخترنا فقط ألا نتبعهم.»

ثم صمتت. انقطع الخط. لم تكن مجرد كلمات، بل يد غائبة امتدت لتوقظني من سكوني.

بقي صدى صوتها يتردّد داخلي. مددت يدي إلى ذلك الكتاب الأدبي العتيق الذي يجاور نبضي، كتاب تقاسمناه قراءةً في مقاعد كلية الآداب وأروقتها. فتحته على الصفحة ثلاثمئة وسبع وستين، فإذا بورقة صغيرة تنتظرني. لم تحمل اسمًا ولا توقيعًا، لكنها بخطها:

«يا أحمد، لا تُغلق باب قلبك. الأمل في بغداد، حتى لو غابت شمسها. ستجدني في كل ما نجا من الرماد، في التفاصيل التي تُعيد لبغداد روحها كلما احترقت».

لم تكن مجرد رسالة. كانت يدًا غائبة امتدّت لتوقظني من رمادي. ومنذ ذلك الصباح، صار وجودها القاسم المشترك بيني وبين هذه الأرض. أسمعها في نبرة بائع، أراها في شجرة تعبُرها الريح، ألمحها في صمت عجوز يحدّق في دجلة كما لو ينتظر من لن يعود.

وذات مساء شتوي، مشيت بمحاذاة النهر. كانت قد تحوّلت إلى وشم داخلي يخفق، ثم إلى رؤيا. رفعت بصري، فإذا نجم يتكوّن على مهل، يخط اسمها بخفة الهمس. عندها فقط فهمت أن جرحها يسكنني كما تسكن المدينة جرحها.

فاطمة هناك، لا جسدًا، بل حضور ينثر الندى من كفها، ويضحك كما لو أنه يعيد الحياة لشيء انطفأ في داخلي. غيابها صار طقسًا يحمل وعدًا بأن الحب حين يصفو يُبعث في المعنى والمجاز.

وفي كل لحظة يخفت فيها الضوء، أصغي. وما زالت تُناديني من عمق الروح. وما زلت أجيب بقلب لا يعرف السكون.

***

عبد الله محمد شريف أحمد الزعبي

كاتب وباحث ومترجم من الأردن

مهداة "للذي يشبه الإنسان ولا يشبهني"

كنت احتسي قهوة المساء في شرفة شقتي القابعة في الطابق الرابع من عمارة " نور الهدى"؛ اسم خلد به المنعش العقاري ابنته الصغيرة الغالية عليه حد الهوس. وهو اسم محفظ بموجب القانون، لا يملك أحد نزعه عن هذه العمارة التي بدت عليها بعض الشقوق، لأن العادة جرت على طمس الجودة بمساحين الوجه. أجلس على أريكة هزاز أقرأ رواية "الكلام والصمت" التي لا تناسب عقلي ولا وجداني، لأنها كتخاريف شيوخ عصري، ولا تتماشى مع طموحاتي ولا تستجيب لتأملاتي وطموحاتي، فارغة من كل معنى، أوراقها تتراكم حبات رمل ساعة تروي ما كان وما لم يكن، أو، إن شئت، ما سيكون من علامات استفهام، وملامح حيرة في إمساك المعنى. بينما تغوص مقلتاي في مياه تلك الصفحات الذابلة المتعفنة، راودني غبش سبات، أسكن رموش عيني حيث وجدت نفسي:

أمشي الآن في دهاليز نفسي ومسارب روحي، وأقبية أعماق دواخلي أتعثر بظلي الذي لا يفارقني كاسمي وهويتي، أتهجّى أسماءً رحلت عني ومعجم لساني، وأحاديث لم تكتمل بعد أو لم تبدأ بعد بيني وبين وجودي. كل شيء حولي صارخ بالدلالة وعمق إشاراتها: الحياة لا تحتمل الطيبين والطاهرين والشرفاء، ولا تتسع للمفكرين والنقاد والمبدعين؛ حيث التفاهة والسخافة والسذاجة رائدة زماني. والصمت يبقى الملاذ الأخير لي ولمن رفض أن يتحول، في سياق التخلف والتردي الإنساني، إلى ذئب أو ثعلب أو أسد؛ أي لمن رفض أن يكون رمز الهيمنة والافتراس والتوحش والتغول أو يتحول إلى أكياس رمل في نادي الأسياد.

هل أنا شيخ حقًا؟ أم مجرد بقايا صرخة، أنين، أو احتجاج في زمن بلا آذان، زمن صنعه الجهل والفقر والعته؟ سؤال حارق يلاحقني كظلي، يمشي حيث أمشي، وربما يسبقني، وفي فمي صمت يثقل الكلمات، يحوّل المعاني إلى حروف بلا دلالة أو قوة أو قاموس.

أجلس أمام المرآة التي لم تعد تعكس سوى أشباحي وذكرياتي المحزنة. أبحث في التجاعيد التي حفرها إزميل الحياة على خريطة طريق بلا نهاية، كنفق الفناء، فلا أجد سوى تضاريس الخيبة في أطلس الأحداث، وبقايا خطواتها نحو المجهول، وهمهمات سكون يمسح أفواه المتعبين.

كل صوت في أعماقي يوشوش لي: "اصمت… فالكلام صار لغوًا، وعلامة فارغة، لا قيمة له إلا في سوق الوهم أو في متاجر السفالة والحقارة".

سؤال يلح عليّ حين أبحث عن ذاتيتي في الوجود: من أكون أنا؟ وأما أنتَ، فمن تكون؟ حتمًا لستَ أنا، ولا أنا أنا مهما كنتَ أنا أو أنتَ. نحن أشباهٌ متفرقة، أو نظائر صُنعت من الوجود بلا وجود، نازعة منه المعنى كلما آمنّا باستغراقه لنا، أو اعتقدنا أن الوجود مختزل في وجودنا …

أغمض عينيّ، ثم أهدأ، أتنفس صمتاً أثقل من الرصاص، وصدى كلام لم ينطق بعد، همسات فكر مدفونة في بقايا كتابات هامشية، لم تجمع بعد. ويداي ترتجفان فوق الورقة التي طال انتظارها لكتابة ما، لم تعد لها علامة ولا قيمة ولا تداول. أدير وجهي عن العالم الكئيب، وأغلق الباب خلفي بشدة. آخر ما أسمع منه ليس أصواتاً فحسب، بل رموزاً تحطم كل شيء فيكون خرابا وفناء في العدم: نباح كلاب غاب أو حراسة، يعلن عن افتراس الصغار، ضحكات ثعالب تحكي قصة الخديعة المستترة والمضمرة تحت رصيف اللباقة والمجاملة، وزئير أسود يقود إلى سلطة بلا رقيب ولا حسيب، واستبداد طاغ على الوجود، طاف على سطح العسس والعسكر وعدسات عيون الرقابة … أما أنا، فقد صرت ظلّاً يتجول بين علامات الفراغ والاستفهام، وحطام الكلمات، وبقايا تقارير المخابرات.

هل سأرحل الليلة من كل حرف وكلمة لأستوطن الجنون؟ أم سأبقى هنا صنماً بلا جسد، ولا روح، ولا معنى، حتى يتحول الصمت نصا نهائيا، شهادة على انكسار كل معنى؟ وانشطار الكتابة إلى شظايا وجود؛ لا أحد يعرف الحقيقة … حتى أنا لست كائنًا. أنا سؤال يتيم، يتخبط في متاهة المجهول، معلق بخمائل السقوط.

لكن ما أعلمه الآن أني أجلس في عزلتي ووحدتي ووحشتي، أراقب الليل يزحف على نافذتي، يحارب ظلال أشيائي وموجوداتي، يعيدها إلى الغياب في انتظار الشروق. فأشعر بشيء في أعماقي يرفض الموت والفناء، ويأبى إلا أن يحيا في رواق ذاتي.

كلما حاول الصمت أن يخنقني، أن يقتلني، سمعت في عمق روحي صدى صوت باهت، خافت، لكنه ناطق: "اكتب… لا تصمت. لا تترك بياضًا على صفحات الأيام الباقية. أعد بناء الوجود بالكتابة، مهما استغرق البياض العقول، واستوطن الوجود، وارتقى في الهبوط".

أنا وحدي الذي ينطق الصمت بأسمائي التي ليست أسمائي، لكنها استعارات من أسمائي، ويحكي قصتي ودلالة أوراق دفاتري، مفكرتي التي توقفت عن كتابتها منذ خلوت بنفسي، وانطويت على ذاتي، وهجرت كياني. أبحث عن قلم قديم في درج مكتبي، أفتحه، فيسيل منه حبر لم أعرف أنه مازال حيّاً منعشا، يعيد من جديد قدرة اللغة على مقاومة الوهم والسراب، وصراع الفوضى والعبث، وإحياء الموتى، بل إحياء ما هو أبعد من الموتى. فتخط يدي ما لم يخطر لعقلي، لكنه استقر في خلدي بهدوء: لن أكون ذئبًا ولا ثعلبًا ولا أسدًا ولا وحشًا مثلهم… سأكون أنا كما أنا: شاهدًا يدوّن ما كان وما هو كائن وما سيكون، حتى آخر نفس في جسدي المتعب، المثقل بهموم بلادي".

دلالة حريتي الفردية، واستقلال كياني، وصدق هويتي، تكمن في قدرتي على الاحتفاظ بإنسانيتي وسط غابةٍ من الرموز الكثيفة، المكدسة بالافتراس والتوحش، والمخنوقة بالطغيان وصلب الحرية والصلبان.

فجأةً شعرت أني أتنفس اللغة من جديد. ليست أي لغة، بل لغتي وحدي، عنواني المقيم في ثنايا روحي، وجوهر وجودي. العالم لم يتغير كما توهمت، لكنه انكشف نصًا مفتوحًا أقرأه بعين النقد، وأهدم أصنامه التي ابتلعته. صارت الكلمة سلاحي الوحيد في وجه ما يُملى ويُتلى، بها وحدها أبقى إنسانًا حراً مستقلاً، في زمن فقد الإنسان ذاته ومعناه ودلالاته، وصار شبه إنسان بلا عنوان.

ومع ذلك، يظل السؤال الحارق عالقًا في ذهني، كعلامة استفهام تتأرجح بين كل معنى ضائع وكل فرصة للكتابة، يذكّرني بأن الكلمة وحدها قادرة على إعادة ترتيب العالم والمعنى، وعلى طرح السؤال. سؤال الكينونة والهوية الذي يلازمني كلما فتحت دفتري أو مفكرتي، وينبعث من رماد الإلحاح:

يا ترى؛ من أكون؟ ومن تكون؟

أنا أنا، وأنتَ لستَ أنا. لكن، قد تكون أنا، لأننا أشباه توائم متقاربة، صيغنا وفق هياكل وركائز واحدة، متشابهة في الوجود، مختلفة في السراب، وهم يسري فينا باسم الوجود، محاصرٌ بخطوط حمراء تسلبنا المعنى. كلما أصبحنا جذور كلمات، أو بذور استنبات، أو شتائل مهجنة.

فهل وجودنا حقًا وجود، أم مجرد مجاز؟ أم أننا استعارات من أصل واحد، مصنوعون من طينة واحدة، سقَتها تربة التربية وكتب المدارس ومراجع القراءات؟ كلٌّ منا مصنعٌ حسب الطلب، موضوع في قارورة مختبر، أو قفص منتدى، أو علامة تجارية مسجّلة لدى محاكم الوهم الكبرى. هكذا يكون سؤال الوجود؛ بل، قل: سؤال الفناء.

***

عبد العزيز قريش

فاس في: 05/09/2025

وأطفأ الحب مصباحه

لم يعد هناك صدى في الربى

ولا طيف، ولا قبس

كأنه ظل ليل تلاشى في الدّجى

وما بقي في الصدر سوى ألم متخم

*

أين الوصال؟ وأين البوح الذي كان مزدهرًا؟

صار صمتًا والأنين ينهمر

ما عاد في القلب إلا وجع

والريح تتغنّج فيه

والحنين يختبئ خجلاً

*

يا سائلي عن هوى ضاعت معالمه

مات الغزل

فهل هناك متسع في الموت لهذا الألم؟

قد قيل إن قيسا ذهب للحج معتصمًا

يرجو الشفاء

وفي الكعبة له ولع جديد

*

لكنه عاد والدنيا تكابدُه

تلتهمه نار الوجد

رأى الجموع تفيض

والقلب يسأله

كيف يُمحى الغزل؟

*

قالوا تداوى

فقلت العشق مقتله

ومن يبتغي البعد يلتهمه الحزن

يغربه أو يشرقه

أقسمت

ما رأيت الأركان تحمل جرح فتى

إلا إذا كان فيها ذكر للحب أو مطلبه

*

يا ليت ليلى تعالج جرح عاشقها

فتواسيه القبل

لكنها غابت

والأرواح تغترب

ويا ليتني ألتقي من يقاسمني قربًا

وفي الأحلام نلتحم

***

د. آمال بوحرب

 

إهداء الى رفيقة عمري

منى "أمّ محمد"

***

تعَبُ الحياةِ حبيبتي لو لمْ تكُنْ

عيناكِ مبْلغَ رحلتي قتّالُ

*

لولاهُما ما رمتُ شيئًا من دنىً

عنْها الهَوا لوْلا الهوىْ رحّالُ

*

لولاهُما لم أنجُ من موتٍ لهُ

تعَبُ الخطى فوقَ الثّرى ميّالُ

*

عيناكِ وجهةُ جائلٍ لولاهُما

اسْتَبْقاهُ عُمْرَ الرّحلةِ التّرحالُ

*

كانَ انْطوى عُمرًا بغُربتهِ وما

كانت لِتشْحذَ صبرَها الآمالُ

*

وهيَ التي في صبرِهِ طلعَتْ ومِن

عينيكِ يُسقى عُمرُها الطُّوّالُ

*

كانَ انْقضى حُلُمًا بعُزلتِهِ وما

كانتْ لتُبطلَ حُكمَها الأغلالُ

*

تلكَ التي لما التقَتْ عينيكِ في

حلُمي ارْتأَتْ أن تُكسَرَ الأقفالُ

*

ما يبتغي منْ رحلةٍ لا تبتغي

عينينِ مُهْجَتُهُ هُما الصّلصالُ

*

وهُما الهوى فمُهُ الدّوا لفمٍ بلثـ

مكِ تسْترِدُّ به النُّهَىْ الأقوالُ

*

وهما الرّجا يدُهُ النّجاةُ لمن به

تتزاحمُ الأنفاسُ و الأحمالُ

*

وهما الهُدى يُهدي الطّريقَ لعاثرٍ

شغلَتْ جميعَ دروبهِ الأهوالُ

*

أهٍ لوِ اسْتكشفْتِ قلبيْ كُلّما

قَرُبَ اللّقا وتوازتِ الأميالُ

*

كنت التقيتِ به عيونَكِ حولَها

عِشقُ العيونِ كأنّه طبّالُ

*

كنت التقيتِ بمُهجتي ميّالةً

قد هزّها في وصفكِ الموّالُ

*

كنت التقيتِ بلهفةٍ أمسى بها

الدمُ بي كما لوْ هاجَهُ شلّالُ

*

عيناكِ رجفةُ راجفٍ لولاهُما

ماانفكّ من صِفَةٍ لهُ التمثالُ

*

لقّنتهِ درسَ الهوى فهَوى ومما

اسْتوقفَ المُتَعلّمَ الزّلزالُ

*

زلزالهُ حينَ اللّقا جراءَه

تبْدو الدُّنى وكأنّها أطلالُ

*** 

أسامة محمد صالح زامل

مع فنجان قهوة مقعر

شربت مرارة كهولتي

ومضيت أعدُّ بغضب

سلاسل انكساراتي

وكل ما ترتّب عن ذلك من سوء تقدير

وانفلات لا يقاس إلا بركام حيرتي

للمرة الألف ..

أسقط

أصرخ

بلا صوت

أشرب

من نبع الكآبة

أعلن

موت حلمي السريري

أفترش

الألوان والظلال

أستعير

بدلة  "TERGAL" القديمة

أنزل

لشوارع المدينة

أصافح

المساء المهادن

وأسأل

عن مقالة كتبتها بجريدة " المحرر "

الممنوعة

ودفعت ثمنها نقدا في ميزان الحسنات

2

عندما عدت إلى مسقط رأسي أخر مرة

مستني أوجاع الذكرى

وارتعشت روحي خجلى

تنسمت عبير الشوق الوردي

وأنا أعبر شارع " الأيام الخوالي"

غابة الكاليتوس هادئة

وأشجار العرعر تعانق المغاني

حبيبتي كانت تبزغ في الليالي المقمرة

نتقاسم الخطى ونحتفي برومانسية

الزمن والمكان

نشرب من ماء الحب الكِفاية

ونوزع همساتنا على عصافير المدينة

3

مدينتي تبرأت من خطواتي

أعلنتني متمردا وسلمتني

لمحاكم التفتيش

قيل في محضر التسليم

"مشاغب يقرأ الشعر في وقت السحر

يبحث عن الزمن الضائع تحت سقيفة بني ساعدة

ويسأل عن معطف غوغول  ومسخ كافكا

ويحرض على قراءة الثالوث المحرم

وينصت لكشك في أوقات الفراغ

وأحيانا يقرأ الروض العاطر في نزهة الخاطر

ويعَرّج على صحيح البخاري

ثم يختم برأس مال  ماركس "

4

في كل زقاق جاسوس يترصدني

وفتية يوزعون صُوّري

وشاهد زورٍ يقول:

" إنَّه يُعلّم الصبية لغة العصيان"

ويقرض الناس قرضاً غير حسن

أستطيع أن أقول أنني أمارس لعبة

الظهور والاختفاء

أكلم نفسي

أستعير قناعا

لإخفاء ملامح هزيمتي

وتمويه شخصيتي

أتوارى خلف خيال أحلامي

أرسم زهرة للنسيان

أرسم طريقا للغياب

ثم أختفي بهدوء

***

محمد محضار 1 شتنبر 2025

 

نَـصْـرُ الـعَـدالَةِ لَـمْ يَـكُنْ مَـجَّانَا

قَـطَـرُ الـعُـروبَةِ تَـدْفَـعُ الأَثْـمَـانَا

*

يــا عُــرْبُ هُـبّـوا لِـلـلِّقاءِ كَـأُمَّةٍ

كَـيْ تَـرْدَعُوا الـعُدْوَانَ وَالطُّغْيانَا

*

الـنَّصْرُ فـي ذي قارَ باتَ حَقيقَةً

حِـيـنَ الـقَبائِلُ نـاصَرَتْ شَـيْبَانَا

*

لَـبّـى الـمُثَنّى وَالـقَبائِلُ حَـوْلَهُ

وَسُـيُـوفُ بَـكْـرٍ تَـمْـلَأُ الـمَـيْدانَا

*

فـــازُوا بِـنَـصْـرٍ كــامـلٍ ومُـــؤَزَّرٍ

وَلجَيْشِ كِسْرَى أَطْفَأُوا النِّيرانَا

*

يـا عُـرْبُ عودُوا فَالمَصيرُ مُعَلَّقٌ

كَــيْ نَـصْـنَعَ الـتَّـارِيخَ وَالأَزْمَـانَا

*

يـا أَيُّـهَا الـعَرَبِيُّ قُـمْ نَـحْوَ العُلا

إِنَّ الـــعَــدُوَّ يُــهَــدِّدُ الأَوْطَــانَــا

*

فَانْهَضْ، بِلَادُ العُرْبِ تَنْتَظِرُ الفِدا

وَاصْرَخْ: كَفى ذُلًّا، كَفى خُذْلانَا

*

قَـدْ آنَ وَقْـتُ الـعِزِّ يُكْتَبُ صَادِقًا

وَنَــذُبُّ كُــلَّ مُـنـافِقٍ قَــدْ خَـانَا

*

إِنَّ الـعُروبَةَ لَنْ تَموتَ وَإِنْ غَفَتْ

فَـالْـفَـجْـرُ آتٍ يَــمْــلَأُ الأَكْــوانَــا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

تُطلُّ الكَلِماتْ

مِن نافِذَةِ المَعْنَى...

مَحْفوفَةً بِغُرْبَتِها!!!

في واقِعٍ...

يَحْتَفِي باغْتِيالِها!!!

*

تَتَعثَّرُ في أفواهِنا...

متَوارية في صَدى القَولِ،

مبتلّة بالحِبْرِ،

لكنْ لا تُفَسِّرُها العُيونُ،

وتكتمُ بوحها الجُدْرانْ!!!

*

تَصِيحُ،

ولا صَدى...

تَنزِفُ،

ولا شَفَقٌ يُضَمِّدُ نُطقَها!!!

*

فَمَنْ يُعيدُ لِحُرُوفِها المعنَى؟

ومَنْ يَفُكُّ قُيودَها...

ويُهديها الزَّمانَ... كما تَشاءْ؟!

***

بقلمك سليمان بن تملّيست

جربة - الجمهورية التونسية

 

للغربِ أُعاكسُ مسرى شمس النبراسِ

لأُلاقي حبّاتِ الماسِ بقلبِ عروقِ تضاريسِ القِرطاسِ

في الغربِ الوجدُ المدُّ حنينُ

ونداءُ الضربِ على نقشِ الأوتارِ الخرساءِ

لا أملٌ لا ضوءٌ لا ماءُ

لا رمشةَ لا غمزةَ وصلٍ تُطفئُ وجدَ الخسرانِ

ناديتُ فلا ردَّ الماسُ ولا نبراسُ الردِّ القاسي

سأعودُ بخفقِ خفوفِ الطينةِ أدراجي

لأوالي رسمَ حروفِ الخيبةِ في لوحِ زمانِ النسيانِ

إني لا ذاكَ ولا أسعى فالوعدُ جبالٌ من خرقِ الأوهامِ

واللقيا حبّةُ قمحِ عِجافِ سنيِّ الطوُفانِ

أعرفُ موعودي وزمانَ الدقِّ على ساعاتِ الجُدرانِ

النوءُ الغضبانُ مصابي

لا شرقَ بدينِ الحقِّ الراقي لا غربُ

الخطُّ الواصلُ حدُّ البرزخِ نحو التوكيدِ

الحانةُ أرقى من قلبِ الصبِّ زمانا

لا تغربُ شمسٌ فيها إلاّ والنجمةُ في المشرقِ تجتاحُ البلدانا

صوتٌ أزليٌّ يسعى ليُبشّرَ بالنغمةِ في قانونِ الأوتارِ

ونداءٌ إنْ أنصفنا لا يُخفى

يحدونا أنْ نبلغَ بالشكوى أطرافَ الجدوى

هذي الرُقعةُ عنوانُ رموزِ الإيماءِ

أطبقتُ الأسنانَ على جذرِ الحُمّى

فانطلقَ الكوكبُ في أرجاءِ الكينونةِ مُشتقّاً ضوءا

يحلمُ أنَّ الآتي يأتي ليُغطي باقي الأشواطِ

أين الصرخةُ والنادي والمَندى؟

لا شئَ سوى ما يبقى من توقِ الهاري للعاري

ونِداءِ الصيرورةِ نحوَ قطوفِ الأعناقِ

فهَلُمَّ نُصَعّدُ ما في الخيبةِ من أنداءِ الأصداءِ

حُكمُ النادي قبضةُ ما يندى في سوقِ الأغيارِ

الناجي لا يندى .. يستحلبُ لُبَّ فقاعاتِ الضوضاءِ

غربٌ؟ تغريبٌ أمْ جُهدُ الفاتحِ للفوضى آفاقا

عَبثُ أوقفَ إقلاعا

مُهَجٌ تترصّدُ أخبارَ سخيِّ الأنواءِ

نادتْ فتصدّتْ ...

الصوتُ العالي نِدُّ الودِّ

صنوُ الرِحلةِ صوبَ أمازيغِ طروقِ مضيقِ زيادِ.

***

د. عدنان الظاهر

آب (أغسطس) 2025

لا شيء في العراق

يفرحنا بيوم

حتى الجسور قد غدت

ترعبنا بنوم

الناس في قلق

جسورنا ورق

و الف روحٍ تحتها بلحظة زهق!

لا شيء في العراق

سوى الذي نفاق

تزاحم الجميع للكراسي

و أشعلوا الأماسي

و حشّدوا الأصوات باللسان

لكي يكون واحدٌ

عضواً من البرلمان!!!

***

رعد الدخيلي

روحها في كل ليلة،

كانت تشتعل كشجرة ميلاد تحوَّلت غضاً ..

وأبصركما معا ً...

أنت والطيار الأمريكيّ الذي أحرقها ذات ظلم:

هو مبتهج بألسنة اللهب،

بينما تذبلُ كفاك منكفئةً بإشعال الحريق.

**

أظلّها بغيمةٍ ورديةٍ،

وأدار حولها الأنهارْ

فرشَ لها الأضواء والألوانَ

فضاءَ رقصةٍ مجنونةْ

لكنه هرب قبل اكتشافها أنه بلا ساعدين

**

وعدها بثوبٍ أخضرَ، ونزهةٍ نهرية

لكنه جرّها من يدها

وقذفها بحلة بيضاءَ في رابية.

**

كان منهمكاً بتصفية البلابل في غصون أشجاره،

وكانت الطلقةُ الأخيرةُ من نصيبها ..

كانت وهي تحتضر،

يعذبها حزنٌ غامضٌ في عينيهْ

**

قال لها .. إنهما في هدنة

ابتسمت في داخلها .

فهو لا يعرفُ أنها لم تخضْ حرباً قط

ولذلك تقوّس قلبُها في رحلة الرمان .

**

هو لا يعرفُ أمكنة نشوزها

إنها منهمكةٌ بهديل الينابيعِ

وشجى الرند والميسِ والعرارْ

ومأخوذة ٌبخطوط " ماتيس "

وأحصنة " كندانسكي"

بأجنحتها الهائمة في أروقة السماءْ

مهووسة بتباريح " تشايكوفسكي " وشمسه الهاربة

بغُصةٍ مجهولة

ونازفة في تنقيطات حزن "جورج سيرا"

ومرابع "جواد سليم "

وأجنة براعته التي انتُزعت في ظلِّ شجرٍ عاقر

وهم يشعلون ليلها باشتباك الوجد والوجع والحمى

حيث تدخل الحدائقُ صالة أساها

كي تضمدها بجروح القداحِ، وحنوِّ الملاذات.

ميلودي، ميلودي، ميلودي

في غفوة الرمان بظل نخلةٍ على ساعد شط العرب

هل بقي للعرب من شطٍّ يا سيدتي ...!

في اندغام الفرات بدجلةَ في لحظة كونية

على خاصرة الجرح

لحظةٍ تفتحُ ذراعيها لمطلع خلاصٍ لا يخلّص

ورسلٍ تخونْ

وأروقةٍ معتمةْ

**

دجلة يتطيَّر من غروبٍ يحتويها

يضمُّ شجراً دامياً يلوبُ في ضوء عينيها

يتفقّد عوزَها المسائيَّ لنشوةٍ ترتدي رقصة نجومها

وهي تتساقط عطشى

حول غزلانٍ عارمةٍ بفوضى المتاهاتْ

وأجنحةِ فراشاتٍ تبحث عن جحيم ينتشلُ عريها

من حفرِ الجليدِ ووديانِ المنافي

وأجنحة راقصاتِ " دوجا "

الصاعداتِ للسماء في شهقة باليه

من رحلة السواد في غسق " المعري وتيسان "

المخضبِ بدم "السهرورديِّ" المغدورِ بضربة حبْ

مرٌّ وجعُ الغيوم الهائمةِ في لؤلؤة روحها

دجلة خيمةٌ

دجلة قنديلْ

دجلة جمرةْ

دجلةُ نخيلْ

وتلاوينُ ربيع الموصلْ

دجلة شهقة أبي الخصيبْ

ولواعجُ ابنِ الفارضِ وإشاراتُ التوحيدي

وزنارٌ بغداديْ

**

تتسعُ ثقوبُ الروح أكبرَ فأكبر

تبتعدُ السماءُ، أكثرَ فأكثر

تبتعدُ عن مسلة الجروح نائيةً بأجنحة العطش

ومنتشلة سفن الحلم من أكفِّ الرياح

تمتدُّ الفضاءاتُ أبعدَ فأبعدْ

وتنثالُ التراتيل ..

دجلة مشهدُ حبٍّ خجولْ

دجلة أرجوانْ

دجلة انفتاحُ التفاح على بهاء السماءْ

دجلة حيرة المرايا

ولوعة الصدورِ

لاقتحام المحظورْ

دجلة ينتزعها من شِباك الوحشةِ

ليخبئها في زهرة رمانْ

وزهرةُ الرمان ملاذي

فنائي هي وقبري وحشري

وضالتي،

إن قبلتني فحسبي

مذهولةٌ شجرةُ الرمانِ عن عطرها بوجدها

وعن فتنتها بحزنها

ومنهمكةٌ بتغييباتِ " سيزانْ "

وإشراقاتِ "الجنيد " ولواعج " الحلاج ".

كان يشبك ساعديه فجراً على صدره ليصلي

لكنهم قطعوها.

سألتني أمي وخضرة عينيها مخضبةٌ بالدموعِ.

لماذا ..؟

بكيتُ، ولم أجد من يمسحُ الدموع.

ملتاعةٌ أنا بتأويلية " غني حكمت

ورافع الناصري وراكان دبدوب "

وموجعة بفضاءات " الرحّال "

وهو يختار فردوسَهُ تحت قبعةِ مجهولٍ

يوجعني وجعهُ

لكنه ظلَّ هائماً في أروقة السماءْ

لأن النجومَ طوقتْ قامته بنايات ماسها الأبديةْ

**

متأرجحةً على سلالم الحلم في رحلة سيزيفيةْ

بين " منيف وجبرا ".

ومقتولةً بلواعج "هايدن" وأنين "عمر خيرت"

وهما يحولانِ الحزنَ لسلالمَ .

وأجنحةٍ من عبيرْ

**

دجلة شجرةُ لوز تختبئ في ظلها الشقائقْ

تُسقى بكؤوسٍ مترعةٍ

من أوراد "ابن عربيٍّ وأبي يزيدْ"

لكنها تظلُّ تلوبُ بنايات حزنٍ يغورُ في ليلَك أساها

دجلة هديلُ سنبلةٍ عطشى

ووجعُ الهديلْ

دجلة ليلةُ سفرجلْ

شُرَفٌ وأروقةٌ وشناشيلْ

وإشاراتٌ ترقى،

تطلب الكلّ، وترفض شتات الأجزاء

تطالبُ،

وتأبى الوقوفَ على باب الرجاءْ

دجلة بيتُ الوجود

قال لها. مرفأٌ أنا، ومطلعٌ ومُرادْ

ووقفةٌ إن وقفتِها نجوتِ

سألته، كيف، وسلطةُ " الكاف " طاغوتٌ يجتاح الملكوت

قال .. لأني زيتُ السراجِ

وعسلُ سورةِ المائدةْ.

وغربة التين وجمرُ زيتونة

لم تبخل بنورها

صدقيني

شهامةُ المنفى أنا . قال لها،

ولوعة الأسئلة ولهفة الصيادينْ.

والتهلكة نجاةٌ معي

إن دخلتِها فتَحَتِ الحصونُ أبوابها

واشتعلت الأنهارُ وفار التنور

لكنه كان مذعورا بلبلاب يلفُّ عنقه،

ولذلك لم تصدق.

سألها بأسى الأطفال: لماذا ...؟؟

(في الطفولة يرتدي حلة ياسمينٍ

ويفوح بشذاها

في الطفولة تأخذه لصدرها ويتسعُ الكون

وهو في الطفولة ... تصمت،

كي تظلَّ محفوفةً بملائكة العرشْ)

**

لم تقل له: إنه لم يكن وطنا لأمنه،

ولا صديقا لحلمه،

و لا حميما لأسئلة الصيد والمنافي ...

ولذلك لم تصدق.

وكان السكون للحركةُ بالمرصادْ.

وكان العطبُ حليفَ صحاريه

ولأنه يحبُّ رملاً بلا أثرٍ ولا ذاكرة

ولا خطوطٍ تؤسس رهافة المعنى

رفض أن يشكل مروقَ لحظتها

حيث يشتبك الموتُ بالحبِّ بالميلادِ،

بزهرة رمانْ آبقة

وكانت الزهرة تمتلك قرارها

كانت تدرك أن التهلكة معه هلاكٌ طافحٌ بالهلاك.

رملاً متحركا يأخذها لهاوية غاربةْ

وموتاً بلا موت ...

**

دجلة يأخذها إليه من تهافت الحافاتْ

من صراخ الورد المشتعل في عينيها

من وجع الملائكة التي تشهقُ في بروقِ ماسها

من ذئابٍ تستيقظُ مبكرةً في جذوع شجرها.

من غزلانٍ تعدو في سرابٍ

يفصل بين التفاح والصحارى

في متاهات عبيرها.

من عبوةٍ ناسفة تندسُّ في يواقيت روحها

من سلالم الوجد وأروقة العذابِ التي

تلوب في مياه محنتها

كانت تصرخ وهي على حبال البرزخ

إلهي، من لي بأحذيةٍ لكل هؤلاء الحفاةْ..!!

**

تتساءلُ كيف انهمر الثلجُ من عيون شمس آب

ليستقرَّ زمهريراً في دمها.

مُحرقاً حقولَ القمح

وشجى النرجس وهمس الياسمينْ

باحثة عن جيمات الوجد في:

جور، جود، ووجعٍ وجوى،

وفي موجٍ،

وحتى مواجد الجحيمْ

تصمتْ ...

يقول دجلةُ .. أكملي.

وتقول جاء دورك كي تعتنقَ عقيدة

زهرِ الرمانْ.

خالصة من عناد الدم ومكابرة الوجدْ

وفاتحةً ذراعيها لأفقٍ يصلُ الأرضَ

بسماءٍ عاشرة

كي تُسلم في حومة الشهادة المفاتيحْ

فاليقينُ يَهديكَ إلى الحق،

والحقُّ هو الحب

والحبُّ هو المنتهى ...

فأيَّ قلاع الأرض تتسلقُ بصركَ

وهو في الجب

معلقٌ على حبال المكيدة

تقول له الناياتُ .. حاذرْ.!

لكنه لا يصدقْ.

يصمتُ دجلة الضائعُ بينَ

المنابع الغريبة والخلجان

دجلة موجعٌ بالصمت

مرهَقٌ بوَجَل الكلام

ترعبه البلابلُ المفتونة بالتحليق فيهربْ

دجلة لا يرفع أعلاما زائفةَ الهوية.

دجلة يقول لها .. تعبتُ من الأقنعة

لا تدرسوني في محاضرة النقدِ بها

بل من تلك المنابع القصية المرهونة لدى الطغاة

تتساءل في داخلها.

أليست الهويةُ من الهوى ...أم هي في القصدْ...!

تنصرفُ عن حوار الجذور لتقعَ في المحذور

يهوي رأسها في عصف ريحٍ تبعثرُ أوزارهْ

إقرأي له سورة النخيلِ كي يهدأ. قال لها.

لكنها قرأت سورة الرملْ،

سكتت السورة، ثم قالت: لا مفر

ما تزال العاصفة دائرةً في التيه .

والحقولُ شتاتْ.

ولزهرة الرمان أرقامٌ وآجالْ

الأولى تعبتْ بما عرفتْ

الثانية تهربُ مما تعرفْ

الثالثة ما تزالُ تشتبك في عدْوها خطوطُ السرابِ

بأقواس قزحْ

خذني لتموجاتِ قوسِ قزحٍ بعيدٍ

يلوب بمواجدكْ

قوسٍ ما زال يجمع شتاتَ ما تريد أن تعرفَ

لتتعلمَ من شيخها النفريِّ ..

كيف تحرقُ المعرفةُ المحبةْ،

ومن البسطاميِّ كيف تحييها ..

و" الجنة جنتان:

جنةُ النعيم وجنةُ المعرفةْ،

أما جنةُ النعيم فزائلة،

وخالدةٌ جنانُ المعرفة " يا مُريدْ.

ولذلك ظلت تسكنُ معرفةً لا تعطي الريحَ أعنتها

حين هربت من الساكن وصادقت الرياحْ.

كي يظل " تموزُ " العظيمُ راعيها

**

قالت له ذاتَ عذاب:

سأذهبُ إلى الجنة بدونكْ .

وعادت أصابعُ اللبلاب .

لكن المشهد لن ينتهيَ عند عروجه الكتوم

فألسنةُ اللهب ظلت تراود أصابعَ حزنه النحيلْ

المتخفي في نبيذ محنتها

والعارم بعطر ليلٍ يرتديها

لا وصية تهديها إليه غير الدخول في زهرة رمانْ ..

وأن يتلفتَ دوما

ليوقنَ أنَّ ثمة شيئاً يتوهجُ

ولذلك تعلمتْ ألا تصدقَ من قال لها: غادري

لم يعد في الوردة رحيق.

**

دجلة الهادي إلى صراط الحب

دجلة الزلالُ كحريره الموصلي

دجلة المشتعلةُ أمواجُه بزنابق الرحمة

دجلة يتحولُ على حين غرة لزوبعة من نارْ

تتصاعد أمواجه مراجلَ من لهبْ

تتضورُ أسماكه، وتضيع بالأضدادْ

دجلة شوكُ البراري

صهيلُ الجحيم في ليل اخرس

دجلة بشراسةٍ يبتلع قرصَ الشمس

يكسِّرُ قناديلَ الزوارق المرتمية في أحضانهْ

يغتصب بدر نيسان من جلال بهائهْ

يضحكُ من الكلمات المعجزات

يطلقها ملونةً كعصافير الجنة

ثم يرميها بالحجارة ..

ينتزع النجوم من أفلاكها

يشظيها بأصابع "جاك دريدا"،

حيث تندحر الينابيع

يبحث عن الثغرات ليفجرها،

ساخرا من حوارية "باختين" ونوافذ "جادامير"

ومن عنفوان "هيدجر"

وهو يتوّج الكلمة تاريخاً للوجود

الكلمة: تاريخ كن

الكلمة: شجرةُ الكينونة

بكلمة وكلمة وأخرى

مزخرفة على ورقة... "ابن نوفل"

و"القديس أوغسطين"

ومفتونة بماسة هولدرلين

" مايبقى يؤسسه الشعراء"

لا زمنَ يحتوي عريَ الجوع والعطش

لا زمنَ يحتويني

والجوعُ والعطشُ قدسُ الأقداس

إذ نحتويهما تسقط المحنُ في كفّيْ خلاص.

لا زمنَ يحتوي امرأةً ماردة ً تشتعلُ وتنهضْ

يصطادها دجلةُ ويرميها في القاع وتنهضْ ..

لا زمنَ يحتويني

أنا من يحتوي الزمن وعنجهية جبروته... أنا

أنا من تلفُّهُ بأنامل القلم وسطوة الظلالِ

الظلالُ التي ظل رقصها الليليُّ يغريني وأتبعه

بشهقةِ الروح ولوعة الملاذاتْ

وبجبروت كلمةٍ واحدة هي ... كنْ.

حيث تنهضُ لغتي

باذخةً من جذور الصحارى

ومعرشةً في مشاتل الكلام

باذخة تداري بحنوها ارتباك أصابع اللبلابْ

والكلمةُ وحدها غلالةُ الزمن،

مطرقتهُ التي تلعب به إذ تشاء

الكلمة التي تعرف حدود الفصلِ

بين المغامرة والمقامرةْ

والوصل بين الجرح والسكين

وتأبى الانصياعَ لحوارٍ مقطوع

يُكسّرها "دريدا" بالاختلاف،

يُرديها قتيلة الإرجاء

ورهينة نسيان لا يؤمن برِهانِ المهادنة

بلا أثرٍ هذه المرة ...

كأنها ما كانت أولَ الضياء فوق عتامة الغمر

قبل أن نبتكر حزن الشقائق وجرحَ الشيحِ

وخيانةَ البنفسج،

وقبيلَ حلول يأس الياسمين.

الكلمة التي يشرق بنورها شجرُ الكونِ

ويهفو بها الموج شاهقا من ساحلٍ لآخرْ

تسكرُ بها رقصة الظلالِ وتقفل عليها الروح شغافها

تلوبُ المراكبُ

وترتبك الشاراتْ:

أ،

حاء،

باء،

كِ

حروفٌ لا تأتلفُ.

ليس في شُرفة الاختلاف حسبْ،

بل في صليل التناقض.

تصطرعُ بين فتح الكاف وكسرها،

والكسرُ أقوى فقد كسر الطغاة والجبابرةَ

وأنزلهم عن عروش المنى..!

وجرّ الأملَ والألمَ وما حولهما،

وجرَّنا في الغاوين.

كسَرتنا الكسرةُ في مخاض التشكيل

حيث لا ضمةَ تؤوينا.

وتلك الحروفُ .... قدسُ الأقداس.

صارت كرةً تتدحرج على سُلمٍ

يصلُ عذابنا باردان الحقيقة

وحيث لا حقيقة إلا معكْ.

**

يلوي عنقَ الغزلان، دجلة

يرميها في غياهب جحيمه

يطوي الضفافْ

يجزُّ ضفائرَ الأرض التي أرهقها الطوفان،

يهدم منائرها

يقذفها في مراجلَ زئبقيةْ

يقتلعُ شجرَ الحلم، يُشعلُ حدائقَ الحكمةِ

يسحقُ بالزوبعة براءة الورد الناعم

على الضفتين

**

سورة " القارعة " تلاحقني

لا ضوءَ فوق زندي

لا غلائلَ وردٍ تلفّ نداء روحي

لا نشيدَ في الأعالي

قلائدُ الليل تنفرط ْ

أهي النجومُ قلائد الليلِ أم أقراطه

أم غصونُ الحكمة المصلوبة على الشناشيلْ

لا قمحَ في خوابي الشتاءْ

والبحرُ وحيدٌ في الليل ومنكفئٌ بين الخلجان

لكنَّ الصخرة بجلالٍ تغادرُ مرساها

باذخةً،

وعصيةً على السكوتْ

ولذلك ظلتْ تروي لليالي الشتاءِ

أسرارَ شجر الرمان.

آهِ .... أموتُ، لكن لا غرابَ يواريني.

لا أحدَ، لا أحدْ.

**

وأسألكَ، ما للخيانات مولعةٌ بالهجاء.

ومالي معرضةٌ عن هجائها

مادامت تمنحنا كلَّ هذا الوعيَ الفادح بالخساراتْ.

علليني إذنْ،

أيتها الرؤى الطالعة من صميم الخطيئةِ،

علليني

وكوني رؤوفة بخيباتهم.

ما دام الخلدُ لكِ، وليَ المجدْ

ودعيني أقتسم معك العذابَ وكواهلَ الاصطبارِ

ودقةَ الأسباب.

علليني ...

فمجدُ الميلاد لي ... أنا مريمُ السرِّ

ولهم الخطيئةْ.

لا احتاجُ من يواسيني

مادامت المعجزةُ ملءَ دمي

وبين ذراعيْ.

وفي دمه وعلى شفتيه بلابلُ تحتضر.

قلتُ له:

لم أمتْ لأنه رحلْ،

فرحيلهُ عقوبة شراسة الرمان في ليلةٍ موحشة

بل لأنَّ الألوان والأضواء غابتْ

ومال غيمٌ لعوبٌ وعدَ بعنبٍ وأفلاكٍ جديدة.

وبقمرٍ يلوّح بمناديلَ خضرٍ

في ليلٍ داكنْ ...

**

رحيله كان عقوبة انتظار لوز المنى

في شرفة مساءٍ جامح.

قلتُ له: ابتكرني،

كن غصوناً لمهارة وحشتي

فقال: رتبيني

لكنَّ الرعبَ ابتكره قبل شروق المياه.

ولم أعجبْ لان الغابة كانت تتسعُ للأضداد

فخرج ولم يَعُدْ.

**

ودجلةُ، دجلة ..

**

دجلةُ ليس ساعداً حريرياً يخاصر وجد البساتينْ

دجلة هاويةٌ تعتلي زبَدَ العذاب

وتتفرّجُ على خراب المدن

في الأصيل يعاود الاختناق بأصابع اللبلاب.

يذوي، ويهبط لقاعه الموجْ.

تنطفئ نيرانهُ.

ويغيبْ.

يترك على الضفة أرديةً تفوح بعطر دمي

**

" شانيل " ..

يا أجنحةً تطلقُ رسائلَ وغلائل ومناديل

لماذا يرحل هو وترتضين المساءلة

ذكريهِ إذن ...فما بين شهقة ورقصة

تنهض المدنُ مرة أخرى

مكللةً بأقواس قزحِ ما بعدَ الطوفان

تنتظرُ في ظل رمانةٍ جديدة

أغصانَ زلالٍ طالع ٍ من عروق دجلة الجديد ...

***

ا. د. بشرى البستاني

قصيدة قديمة

نوارِسٌ قَبْلَها طاروا بأجْنِحةٍ

وَخَلّفوني جَريحَ القلبِ والرِئةِ

*

نصبْتُ قلبي لهم بل مهجتي شَرَكاً

فرّوا وقد سرقوا ريشي وأجنحتي

*

حَطّوا على سِدْرَةِ الفِرْدوسِ وانتبذوا

خَفّاقَ ناطورهم في جَمْرِ موقِدَةِ

*

شدّوا شراعَ النوى للغيبِ إذ تركوا

سفائني بعدهم من دونِ أشرعةِ

*

رُويْدَكُمْ قالها دمعي مُناشَدةً

فقد بنيتُ لكم عُشّاً بموْجدتي

*

لكنهم غادروا الناطورَ وارتحلوا

كأنهم بِرُبى الأخرى على صِلَةِ

*

مهْلاً رسولَ الردى واعتقْ نوارِسَنا

عَلّي أرى نورساً يرسو على ضفتي

*

ياكاسرينَ مَرايا الروحِ لا تَسَلوا

وخْزَ الشضايا بها من أيّما جِهَةِ ؟

*

ودّعْتموني مجازاً قَبْلَ رؤيتكم

وطيفُ أمّي أتى فجراً لِتعزيتي

*

وَ بُرْعُمٌ بعدها لاحتْ ملامحُهُ

فأعلنتْ صَوْمها للهِ مُؤْنِستي

*

قالت : عَصاكَ التي ترجو مَآرِبَها

لكنَّ حادي الردى أودى بِمِنْسَأتي

*

فاحْتجَّ قلبي على المنّانِ مُعترضاً

وَشَكَّ في حِكْمَةٍ ضيزى وفلسفةِ

*

لولا بَقايا يَقينٍ راسِخٍ بِدَمي

لارْتابَ عقلي بهِ واستنْفَدتْ ثقتي

*

رَبّاهُ عَفواً إذا ما إشتطَّ بي وَجَعي

وَرُحْتُ أرمي كما المكلوم أسئلتي

*

أنتَ الكريمُ الذي أهْديتَني هِبَةً

مِنْ بَعْدِ لأْيٍ فلا تَمْنُنْ على هِبَةِ

*

هل ذا سؤالٌ الى باريكَ أم عَتَبٌ؟

صاحتْ جروحي وشلَّ الرَيْبُ معرفتي

*

يا مُسْتَرِدّاً بِلا إذْنٍ أمانَتَهُ

وَمُستعيداً ذُرى جودٍ ومَكْرُمَةِ

*

سامحْ جريحاً أصابَ الفقْدُ مُهْجَتَهُ

لكنّهُ طامِعٌ في بعضِ مغفرةِ

*

أكرمْ فؤادي الذي يصبو إلى حُلُمٍ

يقتاتُ من دمعتي الحَرّى وأوردتي

*

لا تجزعي من قضاء الله سيدتي

قومي وَلَبّي على رَحْبٍ على سِعَةِ

*

صُبّي دموعاً على المدفونِ في كَبِدي

عَلّي أرى طيْفَهُ في النومِ والسِنَةِ

*

هبّتْ نُلَبّي بِلا سُخْطٍ مَشيئَتَهُ

وأثلجت صدرها في دمعِ تَلْبِيَةِ

*

وَحَسْبُنا أنّنا فُزْنا بقافِيَةٍ

وحيدةٍ إنّما في ألفِ أغْنِيَةِ

***

د. مصطفى علي

 

سومريٌّ انا

إبنُ الطينِ وصديقُ السمكِ النهريّ

نسبح سويّاً

في أعماق

جزائر المدينة المدينة المنفية

جنة الله في الأرض القصية

أهوار بصرياثا المدهشة

هناك فقط

تزهو سومرُ بسحر البساتين

وتتعالى خيراتها في اعالي الفلك

أنفاس الحوريات تصير نجوما وشهباً

بسمة حبيبتي

تضيء الطبيعة فتصير فجراً ترفرف بأجنحتها

لتنثر الضياء في الأنحاء

فتسكر العنادلُ

وترسلُ ألحاناً

عِذاباً

في الفضاء

اه منكِ

ومن أخضرار عينيكِ

ومن بلورة خدَّيكِ

أنيقة أنت ايتها الطالبةُ

الطالعة من وسط القصب والبردي

تراودني نشوةُ

عِناقٍ لاهبة..

عاشقٌ يحتضن حبيبته بين الاحراش

ولمَ لا أحبكِ

وانتِ الحورية المجهولة

أحلمُ في اليقظة والمنام

انْ ألمسَ تفاحتيكِ

بلهفةِ

طفلٍ يلتهمُ

حلمات الكروم

وأصيح من هناك

من اعلى نخلة عيطاء

-يا أنكيدو

صلِّ معي بجوار

الفرات

ياجلجامش

مازلنا نحلم مثلك بالخلود

ونحمدُ نعيمَ

العراق

أيها الطائرَ

أن ضللتَ السَبيلَ

فالنخيلُ

والتمرُ

والزوارق

والمجدافُ

دليلُ التائهين

***

باقر طه الموسوي / العراق

بعد كل هذه القصائد

يخونني قلبي

ويتركني

أبتاع الهواء

لعلّي أكمل القصيدة.

*

يتركني في منتصف النفس،

يجعلني أجمع بقايا شهيقٍ

كي أرمم بيتاً مكسوراً،

ويضحك مثل طفلٍ عابث

يرفض أن يكون وفيا

*

قلبي قصيدة ناقصة،

كلّ نبضة بيت،

كلّ شريان سطر.

إذا تلعثم،

انكسرت تفعيلة،

وإذا توقف،

بقيت على الكيبورد

علامة حمراء

تفضحني.

*

يقولون:

ستصلُ أنابيبهم إلى دهاليز الصدر،

وسيعرف المبضعُ كيف يفتح الطريق.

لكنني أعرف

أن الطريق إليكِ

لا يفتحه إلا دفء يديك.

*

بين برودة الأجهزة

وحرارة حضورك،

بين يد الجراح

ونظرتك،

يختار قلبي الرجاء.

*

ينزف قلبي

كما ينزف قلمٌ جريح،

دم على الورق،

حروف حمراء

تسأل عنك.

*

كل محاولة للبقاء

قصيدة جديدة،

وكل سقوطٍ

بيت ناقص

أبحث له عن قافية

في عينيك.

*

فلا تتركي قلبي

على مائدة الأطبّاء،

ولا على برودة الأجهزة.

*

أمسكيه كما لو كان بيتَ شعر،

قصيدةً لا تكتمل إلّا بك،

أو كطفلٍ يرتجف

يطلب حضناً.

*

إن عاد،

سيكتبكِ بيتاً جديدا

وإن رحل،

ستكون يدك

آخر قافية.

***

د. جاسم الخالدي

قالوا: غزا الجبال

ألّهٌ نفسه في آخر العتمة

لكن أحداً لم يقٌل…

إنه حين جاءني، كان غريباً

تاجهُ رماد

سيفهُ نائم عند عتبة الغواية

والحروب التي حملها على كتفيه،

سقطت،

بمجرد أن نظر.

صوته… طبول أكدية بعيدة

ايتها التي لا تُحاصر،

فتحتُ الممالك

لكنني لا أعرف باب صمتك!

ضحكتُ.

قلت: "لستُ مدينة.

أنا المعبد.

ومن يدخل… لا يعود.

خلع درعهُ

أقام حولي حصارا… من أنفاس

قلبه ألف جيش في قسوة

وعاشقٌ يرى ظلّ محبوبته… فوق الماء

نارام سين،

الذي كتبوا اسمهُ على الحجر

كتبَ اسمي في دمهِ

منذ ذلك الحين…

انهارت أوثانه

وصار يقول..

الخلود…

ليس أن تُعبد،

بل أن تُحب.

***

رائدة جرجيس

وأنا على مشارف الشيخوخة والهرم

كم من مرة همست لنفسي

كأنني أحاور مجهولا:

الماضي يا شيخنا لا يمكن تكراره

وأن كل الايام لها نفس النكهة

الا ايام عمري التاعسة

*

بابرة الزمن

ينزف عمري البطيء

وبأظافري

أحفر في ذاكرة الروح

وأبحث عن آخر أنفاسي

في جسد الاغتراب

*

سأحاول اصلاح شرخ الذاكرة

وأرتق ثقوبها

ثم أشطبها من سيرة ذاتي

*

أنا الآن تحت شجرة

مصابة باكتئاب

كانت تنعي أغصانها الذابلة

لم تعد تحمي أعشاش الطيور المبعثرة

*

أرفض أن أغمض عيني

سقطت آخر شعرة من رأسي

أنتظر اكتمال القمر

لأرى وجهي الآخر في المرآة

*

كلما رميت حجارة

في بحيرة راكدة

يرغب التمساح في تقبيلي

*

شتلة واحدة في قبضة يدي

أجدى من سبع سنبلات

في حقل ملغم

*

في حفل تأبيني

وضعت الزهور على قبري

أقف صامتا

احمل المهجر على يميني

والمنفى على شمالي

ثم أدب على عكازي

صراخي مكبوت

ودموعي جافة متحجرة

أمشي برفقة سراب

فيغمرني برذاذ دافىء

*

ساعتي البيولوجية معطلة

لا أمل في اصلاحها

قطاري انفصل عن مقطوراته

فصار يدوس كل المحطات دون توقف

ورغم ذلك لم يهزم المسافات

*

أنا أيضا مصاب بالهرم

ماذا لو أطلقت النار على شيخوختي

هل يثير حقد الشيب

فيبرق ويرعد

ثم يعيد تدوير تجاعيدي؟

*

منذ عقود وأنا أراوغ العتمة

في نفق مهجور

بلا أعواد ثقاب

ولا شموع

لا أعرف أين أمضي

أشعر أنني محاصر

بين الوجود والعدم

فقط أنتظر نحبي

وأمضي وحيدا

أعد السنين العجاف

فأرى جثثا أخرى تموت وتحيا

وأنا أبتعد عن صخب القبور

***

بن يونس ماجن

 

الفصل الثالث من رواية خلع خاتم الطائفية

كانت خلفيّة السيارة كأنها صندوق مُعدّ لهذا الغرض؛ صناديق مُحكَمة الإغلاق مصطفّة كجدارٍ صامت، وأرضية مفروشة ببطانياتٍ قذرة تفوح منها رائحةٌ قديمةٌ تشبه مزيج الغبار والرطوبة والسنين. لا نوافذ في هذا القفص المعدني، سوى فجوة صغيرة في الجدار الفاصل بينهم والسائق ونافذة سقفٍ صغيرة تسمح لشظيّة من ضوءٍ باهت أن تخطّ على الجدران خطاً رفيعاً يميّز بين ليلٍ كثيف ونهارٍ أقلَّ عتمة. هناك، في هذا الحيّز الضيّق، أحسّت عفراء أنّها في كهف يشبه سفينة النجاة؛ فُلك نوحٍ الذي قد ينتشلها من طوفان الجحيم الذي أغرقها، أو يبتلعها إن خانها موجُ القدر.

"تجاوزنا بغداد"،

هكذا قال السائق وهو يهمس من خلف المقعد: "الآن أنتم في أمان". ابتسمت بمرارةٍ لا يراها أحد، فالأمان في وطنها صار كلمةً منزوعة النبض، قشرةً هشةً تنكسر تحت أصغر ذبذبة خوف. عفراء لا تدري إن كانت قد وضعت قدمها على طريق النجاة حقّاً أم أنّها انحدرت إلى دهليزٍ أشدّ عتمةً، لكنّها تعرف يقيناً أن الرجوع مستحيل، وأن اختبارات السماء لا تُعاد.

ضمّت صغيرتيها إلى صدرها كمن يضمّ قلبه الأخير، تُحصي أنفاسهما كي لا يخذلها الإيقاع، وتسدّ بأكفّها شقوق الارتجاف عن وجهيهما. لم يكن الخوف وحده جاثماً على صدرها؛ كان معه قطيعٌ من الأسئلة والغصّات والرجاء. إلى أين تقود هذه الطرق المتعرّجة؟ ماذا ينتظرها عند أوّل مفترق؟ وهل ستنجح في محو أثرها عن أهل زوجٍ يرون مطاردتها ثأراً مقدّساً لا يهدأ إلا بدمٍ أو خضوع؟

الهروب خطوةٌ، أمّا النجاة فحربٌ تُخاض مع الزمان والمكان والناس والقدر.

لم تعد قصّتها شخصيّة فحسب؛ صارت مرآةً لمأساة امرأة تُعاقَب مرّتين:

مرّةً لأنّها تجرّأت على كسر القيد، ومرّةً لأنّ قوانين الطائفة والأعراف المتربّصة تحرس أبواب الهواء.

في دفاتر الدمّ، الأنثى ظلٌّ يمرّ ولا يُرى، ورقمٌ يُستدعى للتسويات، فإذا رفعت صوتها سُمّي ذلك فجوراً، وإذا صمتت عُدّ صمتُها اعترافاً.

كانت الرائحة الثقيلة للديزل تتسلّل إلى رئتيها، تُذكّرها بأنّها ليست سوى حمولةٍ إضافيّة على مركبةٍ تمضي. يهتزّ الصفيح عند المطّبات كأنّه يتنهّد، وتتكاثر الشقوق في الصمت: خشخشةُ صندوق، صريرُ برغيّ، نقرةُ حجرٍ على البدن القديم. ومن النافذة الضيّقة في السقف، تقرأ الزمن: عتمةٌ تتخلخل شيئاً فشيئاً، ثمّ خيط رماديٌّ يزحف على وجه العالم. خارج هذا الصندوق، تُفتَحُ محالّ وتُخبَز أرغفة وتُذاع نشرات، أمّا داخلَه فالساعاتُ تُعدّ بحركة محورٍ ومقياس وقود.

"إمّا الموت… أو الهرب إلى المجهول" هكذا تضع عفراء المعادلة على ميزان أمومتها، وتعرف أنّ الكفّة لا تحتمل الحياد. الحرّيّة ليست ترفاً حين يكون القيدُ سكيناً على عُنق البنات. كانت تتذكّر طفولتها المصادَرة، طفلةً أُلبست الحجاب قبل أن تفهم معنى الستر، ومنعت من اللعب قبل أن تتقن الهجاء. الآن، وهي تَحمل ابنتيها، تشعر أنّها تُهرّب مستقبلَهما من حفرةٍ حُفرت لهما باسم الشرف والسمعة والعشيرة، وأنّ عليها أن تدفع فديةً من قلبها في كلّ خطوة.

مدّت يدها المرتجفة إلى الهاتف، تُقلّب الشاشة كمن ينقّب عن نبعٍ في أرضٍ عطشى. ظهرت رسائل كثيرة، لا تدري متى وصلت، فالهاجسُ حين يعلو يصير حجاباً على الحواس. كلماتٌ من أهلها الذين تركوها، مثل قلوبٍ دامية وراء حدودٍ لا تُرى. ما إن قرأت السطور الأولى حتى انفجرت الدموع؛ دموعٌ حرّة كجيادٍ أُطلقت من عقال.

"نحن في عمّان… كيف أنتِ؟" أحسّت أنّ صدرها يتنفّس للمرّة الأولى منذ زمنٍ طويل، وأنّ حبلاً من نورٍ امتدّ إليها عبر الصحاري والحدود ونقاط التفتيش.

يا ابنتي، يا حبيبتي… كيف حالك وحدك هناك؟ غيابك يثقل أيامي، كأن الليل جثم على صدري."

ثم أتبعتها بأخرى: "كل لحظةٍ تمرّ من دونك، أشعر أنني اسير في عالم فارغ. سامحيني إن قصّرت، سامحيني إن تركتك في مواجهة المصائب وحدك."

واخرى، أشبه باعترافٍ دامع: "كنتُ أظن أنني قوية، لكنني بدونك أضعف من ظلّ يتلاشى مع غروب الشمس. أشتاق أن ألمسك، أن أضمّك، أن أسمع حتى تنفّسك."

وأردفت: "نامي يا ابنتي بطمأنينة… فأنا أسهر لك بالدعاء. ليت يدي تطال جبينك، فأمسح عنك كل هذا العناء."

أسرعت تكتب لهم: كلماتٌ قصيرة، لكنّها مكتوبة باتقادٍ داخليّ لا يُرى. تطلب منهم ألّا يذكروا اسمها لأحد، وأن يُبقوا على الدعاء مشتعلاً، وأن يهيّئوا لها ظلاً تدخل فيه حين تصل.

في تلك اللحظات الخاطفة، أدركت ما لم تكن تنتبه إليه من قبل: أنّ النجاة شبكةُ تفاصيل صغيرة تصنع المعجزة؛ شال يخفي ارتجاف كتف، زجاجة ماء محشورة عند الزاوية، شريحة هاتفٍ احتياطيّة في بطانة حقيبة، شهادات ميلاد مطويّة في كيسٍ بلاستيكيّ، مشبكُ شعرٍ يمكن أن يفتح قفلاً صغيراً إن أُغلِق عليها الباب.

وأكثر من التفاصيل، كانت هناك شيفرةٌ بشريّة تُفكّك المصيدة: كلمةُ مرورٍ اتفقوا عليها مع السائق، نظرةٌ يرسلها من مرايا السيارة عبر فجوة بينهما تعني "اصمتي الآن"، وأخرى تعني "تنفّسي". كانت تحسب المسافات بنبض قلب، وتستمع إلى حدسها لتميّز بين يدٍ تُسعف ويدٍ تتاجر بالبؤس. فالهاربون، كما تعلّمت في قسوة التجربة، يصيرون سوقاً، وأسماؤهم بضائع. لكنّها آثرت أن تصدّق هذا الرجل الذي عرّفه لها القدر، لأنّ الشكّ إن زاد حوّل الحياة إلى سجنٍ بلا قضبان.

"أنا ضعيفةٌ"، تقولها في سرّها دون جلدٍ للذات، بل باعترافٍ صادقٍ بحقيقةٍ تفرضها الجغرافيا والقوانين. ضعفُها ليس اختياراً، بل نتيجةُ منظومةٍ تُسقِط النساء خارج إنسانيّتهنّ. ومع ذلك، كانت في هذا الضعف قوّةٌ من معدنٍ آخر؛ قوّةُ من يعرف أنّ عليه أن ينجو لا لأنّه الأقوى، بل لأنّ خلفه من هم أضعف. كانت تتعلّم بسرعة: كيف تُسكت رعبها كي لا يفزع الصغيرتان، كيف تقسم لقمتها إلى ثلاثٍ متساوياتٍ ولو جاعت، وكيف تجعل من الصمت معبراً حين يصير الكلام فخّاً.

مرّت السيارة بمحاذاة أولى نقاط التفتيش خارج العاصمة. هدأت السرعة، ولاذت الأصواتُ بحذرٍ جليّ. كان قلبها يطرق كما لو أنّه يوشك أن يُسمَع. تشبّثت بثوب الصامت، ودفنت وجهي الطفلتين في حضنها كي لا تُغريهما همسات الأسئلة. سمعت تحيةً غليظة، ثمّ تبادلَ هويةٍ ونظرةٍ وخشخشة أوراق نقدية. انطلقت السيارة بعد دقائق، دقائق لم تقيسها عقاربُ ساعةٍ بل ساقيةُ عرقٍ سالت من صدغها إلى فكّها دون أن تجرؤ على مسحها.

في فسحةٍ قصيرةٍ من الطريق، مالت عفراء برأسها نحو النافذة الصغيرة فوقها تُصغي إلى السماء. كان المساء يضع أولى خرزاته على عنق الأفق. فكّرت: "المجهول ليس أرحم من الماضي، لكنّه على الأقل مساحةٌ يمكن أن يُكتب فيها نصّ جديد". تذكّرت أحلامها اليتيمة التي تُركت عند بوابات المدرسة: أن تدرس، أن تصير ممرّضةً تمسك يدَ مريضٍ بلا خوف، أن تعمل مربّيةً تعلم الأطفال أن العالم أوسع من حدود الطائفة وأدفأ من جدار العشيرة. تلك الأحلام لم تعد قصاصاتٍ في دفتر؛ صارت أسباباً للنجاة.

كتبت لأهلها مجدّداً: "إذا وصلنا إلى الحدود سأخبركم… لا تُقلقوا، واستمروا بالدعاء، فالدعاء حبلٌ وأنا أتسلّق". شعرت بأنّ عمّان لم تعد اسماً بعيداً على لافتة، بل حضناً يتشكّل في الخيال.

ليس أمامها وأمام طفلتيها إلا خياران: الموتُ في ماضيها الذي يعرف سبلَها كلُّ متربّصٍ، أو الهربُ إلى المجهول حيث يمكن للأقدار أن تُعيد ترتيب الأوراق. اختارت المجهول، لا لأنّها تُحبّ المغامرة، بل لأنّ الحياة أحياناً تُختصر في منعطفٍ واحدٍ: أن تمنح أبناءك غداً أفضل أو تسلّمهم لذئاب الأمس. في هذا الاختيار، قد تبدو عفراء ضعيفةً في عيون القانون العاثِر، لكنّها في ميزان المعنى أقوى ممّن صاغوا لها السلاسل.

واصلت السيارة ابتلاع الطريق، وحين غلب النورُ غبشَ العتمة، أحسّت أنّ قلبها بدأ ينسجم مع إيقاعٍ جديدٍ للكون. همست لنفسها وهي تطبّق جفنيها: "لن أعود إلى القيد، ولو كان الطريق إلى الحرّيّة مفروشاً بالخوف. سأحمل المجهول كصحيفةٍ بيضاء، وأكتب عليه أسماءنا بثبات". ثمّ شبكت أصابعها بأصابع طفلتيها، كأنّها توقّع مع الغد معاهدةً لا تملك سواها: أن تبقى على قيد الأمل، مهما تكسّر في الطريق من جسور.

الفصل الرابع: ليلةٌ على حافّة المجهول

سألت عفراء، وصوتها يزاحم رجفةَ العجلات:

ــ "أين نحن؟"

أجاب السائق وهو يثبت عينيه على الطريق:

ــ "باتجاه الشمال… إلى السليمانية. سنرتاح هناك، ثم نُكمل غداً، على الأغلب، نحو تركيا".

شهقت، كأنّ الهواء انكسر في صدرها:

ــ "تركيا؟"

قال ببرودٍ ناعم:

ــ "ومن تركيا ستتدبّرين أمركِ إلى أوروبا… هكذا كان الاتفاق".

همستُها خرجت كاستغاثة:

ــ " لكنّي أريد الذهاب حيث أهلي… إلى عمّان".

التفت قليلاً، ضاق صوته:

ــ "ولماذا لم تُخبِريني من قبل"

ــ "أنا آسفة… لم أعلم إلّا قبل قليل أن أهلي في الأردن".

هزّ كتفيه كمن يزيح عن نفسه عبئاً:

ــ "هذا صعب عليّ… عندي مشاغل والتزامات".

توقّفت السيارة عند باحةٍ إسمنتيةٍ واسعة تحدّها حيطانٌ عالية، كراج نصف مظلم، تتدلّى على مدخله مصابيح نيون ترتعش كنبضٍ مُجهَد. أطفأ المحرّك، نزل، وقال وهو يغلق الباب:

ــ " لقد وصلنا. الليل طويل، ولا أقود في الظلام. والسيارة تحتاج وقوداً. سنرتاح حتى الفجر".

همّت بالنزول وراءه، وابنتاها لا تزالان في غفوةٍ معلّقة بين تعبٍ وخوف، فتعلّقت بصوت رجاءٍ يُبلّل الحصى:

ــ "أرجوك… أنا وحيدة. ليس لي ولأطفالي في هذه العتمة غير ضميرك ورحمتك".

رفع حاجبيه، ثم تمتم:

ــ "أديتُ ما عليّ… سنرى غداً. ربما أجد من يوصلكِ إلى حدود الأردن. الآن أريد النوم… هل تريدين المجيء معي؟

اسوَدّت الدنيا في عينيها. فهمت الإشارة التي لا تُقال. غصّت الدموع في حلقها ثم قالت بثباتٍ هشّ:

ــ "لا… سأبقى مع طفلتيّ في السيارة. رجاءً… فكّر في هؤلاء الصغار… إن كان لك أولاد".

تنهّد السائق بمللٍ، ومال برأسه:

ــ "سأحاول غداً".

ثمّ استدركت بهمسٍ متخاذل:

ــ "إذا أمكن… اشترِ لهم شيئاً من الطعام والماء".

لم يُجِب. أغلق الأبواب بإحكام، وابتلعته العتمة مع وقع خطواتٍ تتباعد.

عاد الصمتُ يزحف بثقلِ زيتٍ مسكوب. خلفيّة السيارة، تلك الحُجرة المعدنية التي ظنّتها «كهف سفينة نوح» ساعة هروبها، بدت الآن كقبوٍ يتهامس فيه الظلام. بطانياتٌ قذرة تفوح منها رائحةُ العتق والرطوبة، صناديقُ مغلقة مرصوصة كجدرانٍ صمّاء، نافذة سقفٍ صغيرة لا تُري إلا خيطاً شاحباً من الضوء.

في الخارج، نباحُ كلابٍ ضالة، صفيرُ ريحٍ يجرّ غبار الساحة، وضحكاتٌ متقطّعة لرجلين مرّا ثم ابتعدا. مدينةٌ غريبة، طالما سمعَت أنّها تشتهر بسماسرةِ الدعارة والاتجار بالبشر وبالأعضاء؛ اسمها وحده صار فزّاعةً بالنسبة لها. تساءلت وهي ترتجف: "هل يمكن أن يبيعني السائق؟ هل أنا سلعة على قائمة الأسعار؟"

جلست تُحاذي الباب من الداخل، تسند ظهرها إلى لوح الصفيح، وتضمّ ابنتيها إلى صدرها كمن يحرس نبضه بمفتاح. كانت طفلتها الكبرى تهمهم بنومٍ مضطرب، فمرّرت كفّها على جبينها وتنفّست بعمقٍ كي تُسكت رعشة القلب. في تلك اللحظة انفتح في رأسها ميزانٌ لا يعرف الإنصاف: خياران لا ثالث لهما؛ موتٌ معلومٌ في حضن الطائفة وقوانينها التي تخلط الشرف بالدم، أو هروبٌ إلى مجهولٍ قد يبتلعها ويعيدها أشلاءً في خبرٍ صغير. اختارت المجهول. ليس لأنّ فيه بطولةً، بل لأنّ فيه احتمالَ نجاةٍ لطفلتين لا تفهمان من العالم سوى رائحة أمّهما.

راحت تُجرد ما تملك: حقيبةٌ صغيرة في الزاوية، فيها نسخٌ لشهادات الميلاد وجواز سفر مطويّة في كيسٍ بلاستيكيّ، بعض النقود في جيبٍ خفيّ، شريحة هاتفٍ احتياطية، قطعةُ خبزٍ يابسة، زجاجة ماءٍ نصف ممتلئة، ومشبكُ شعرٍ معدنيّ. «هذه ليست مقتنيات،» قالت لنفسها، «هذه أدواتُ حياة.» سحبت هاتفها. البطارية تُعلن تمردها على الصبر. فتحت الرسائل: حروفٌ من أهلها في عمّان، محمّلة بحرارةٍ لم تكن تملك وقتاً لذرفها حين وصلتها. كتبت بسرعةٍ متمايلة على إيقاع الرجفة: "أنا في كراجٍ على أطراف السليمانية… لا أعرف المكان تماماً. الرجل يقول نتحرّك فجراً. أحتاج طريقاً إلى الأردن. لا تُجيبوا كثيراً… سأبعثُ الموقع إذا استطعت"

وبينما أصابعها تتلمّس الأزرار، لاح وجهٌ عزيز يطفو في خاطرها: "أم أحمد". ذلك الصوت الذي شقّ صمتاً ثقيلاً في ليلةٍ سابقة وقال: "لن أترككِ وحدكِ". فتحت محادثاتها، كتبت:

"أنا هنا… المدينة التي حذّرتِني منها. اشك ان الرجل يساوم ظلي. إن عرفتِ أحداً أميناً يوصلني إلى حدود الأردن حيث اهلي، فافعلي… الليلة طويلة، وأنا لستُ إلّا أمّاً تخشى على طفلتيها". أرسلت الرسالة، ثم نزعت الشريحة وأخفتها في بطانة الحقيبة. "إن عاد السائق وفي عينيه سؤالٌ لا أستطيع دفعه،" همست، "فلن يجد لديّ وسيلةً للابتزاز"

الوقتُ يمشي ببطءِ قطرةٍ على جدار. تعلّم الهاربون، في مدارس الظلام، أنّ الساعة لا تُقاس بالدقائق بل بتناوب الأصوات: سيارةٌ دخلت ثم خرجت، بوّابةٌ صريرُها يتلو ركودها، أقدامٌ مرت من جوار الباب ثم ضاعت. في الداخل، كان البردُ يتسلّل مثل قطّةٍ لا تُصدر صوتاً. خلعت معطفها وغطّت الصغيرتين، ثم ضمّت كتفيها تحت حجابها كي تحفظ حرارةً تكفي لفجرٍ بعيد. تذكّرت بيتها الأوّل، وجدارَ الطفولة حين كان اللعبُ مباحاً قبل أن يتكلّس. تذكّرت صوت أمّها يناديها من شرفةٍ تشبه صدر الوطن قبل أن يحتله القتلة. ثم عادت إلى حيث هي الان… إلى هذه العلبة المعدنية التي تكوّر فيها الزمن، وإلى قلبٍ يحفر بأظافره نافذةً نحو الصبر.

في غمرة الصمت، انفتح بابُ الذاكرة على وجه الزوج وأهله، وهم يسوقون اسمَ الشرف كالمطرقة: «الشرفُ لا يُفاصل، والدمُ يُغسل بالدم.» كانت ترتعش من تذكّر تلك الجلسات التي تُدار فيها حياتها كصفقةٍ فوق طاولةٍ ملوّثة بالحجج؛ يدٌ تمسك دفترَ العشيرة، وأخرى تلوّح بآياتٍ تُنتزع من سياقها، وفمٌ يقرع على طبلةِ الفتاوى القديمة. كلّ ذلك صار وراءها الآن، لكنّ صوتَ المطاردين لا يزال يركض في أذنيها. وضعت يدها على فمها كي لا تسمع بكاءها. الأمهات حين يبكين وحيداتٍ، يخجلن من دموعهنّ أمام أطفالهنّ، فيحوّلنها إلى حكايات.

همست للصغيرتين بحكايةٍ مبتكَرة كي تناما: "هناك طائرٌ صغير، كان له بيتٌ في شجرةٍ عالية. جاء ريحٌ شرّير، كسّر الأغصان. فطار الطائرُ ومعه فرخان… ظلّ يطير حتى وجد شجرةً أخرى. الطائر لا يخاف حين يحمل صغاره… الصغار هم جناحاه". وهي تحكي، كانت تُقنع نفسها معهما بأنّ لها جناحين.

كلّما ارتعشت، ضغطت على كفّها مشبكَ الشعر المعدنيّ. تذكّرت أنّه يفتح قُفلاً صغيراً إن احتاجت ويمكنها استخدامه كأداة للدفاع. التفاصيل الصغيرة لا تصنع البطولة، لكنها تمنع الهزيمةَ من أن تكتمل.

مرّت ساعةٌ أو أكثر، لا فرق. طرقاتٌ خفيفةٌ على المعدن أفزعتها. انتصبت كمن يتهيّأ للذبح. ثمّ هدأت الطرقات وتلاشت. وضعت أذنها على الجدار، سمعت حفيفَ أكياس، وحواراً مقطّعاً بلهجةٍ غير مألوفة. "يا ربّ…" قالت وهي تشدّ الطفلتين إلى صدرها. كتبت رسالةً مقتضبة لأهلها: "إن لم أكتب عند الفجر… اتصلي بأم أحمد. قولي لها: "الميزان، ستفهم." كانت كلمة السرّ التي اتفقت عليها مع الجارة قبل أن تغادر بغداد؛ تفصيلٌ مشفّرٌ لم تنتبه من قبل إلى أهميّة وجوده.

في غفلةٍ من الخوف، غفَتْ دقائق. حين فتحت عينيها كان الضوء يزحف من نافذة السقف كخيطِ لبنٍ على وجه الليل. بردُ الفجر له طعمُ ماءٍ قديم، يعضّ العظامَ ببطء. عادت لتفقد الهاتف. رسالةٌ من أم أحمد: "اعطي السائقَ هذا الرقم، سيهاتفه رجلٌ في محطةٍ قريبة. لا تخرجي معه وحدكِ. ابقي حيث أنتِ حتى اكتب لكِ. الأردن أولى من أوروبا… والأمانُ أوّل الطريق." ابتسمت ابتسامةً صغيرة لا يشبهها سوى دعاءٍ تحقق. كتبت: "حسنٌ. أنا أنتظر".

وقبل أن تُعيد الهاتف إلى الحقيبة، أبلغت أهلها: "ثمة بصيص. ابقوا على الدعاء." ثمّ أسندت جبينها إلى الجدار تستجلب ما تبقى من سكينة. الخوف لم يخرج من السيارة، لكنه تراجع خطوةً إلى الخلف، كذئبٍ يعرف أن في اليد حجراً. نظرت إلى ابنتيها، ورأت في وجهيهما سبباً يتقدّم على كلّ التبريرات: الحرّيّة ليست شعاراً في لافتةٍ سياسية، الحرّيّة هذا الصباحُ الذي يمكن أن يُفتح بلا خوف، وهذا الحليبُ الذي يُشرب بلا كراهة، وهذه المدرسةُ التي تدخلها البنات بلا وصمةٍ معلّقة على جباههنّ.

حين ارتجّ القفلُ أخيراً، انقبض قلب عفراء كما لو كان يتهيّأ لاستقبال قدرٍ جديد. شدّت على معطفها، تتوسّل منه دفئاً واطمئناناً، واستعدّت لكلّ الاحتمالات التي قد تخبّئها خشبةُ الباب الحديدي. وحين انفتح، ظهر السائق أمامها، ملامحه مرهقة، لكن عينيه تخلو من الندم، كأنما اعتاد أن يرى الخوف في وجوه الآخرين فلا يحرّك فيه شيئاً. رمقها نظرةً سريعة، ثم قال بخشونةٍ تخالطها نبرةٌ عملية باردة:

ـ "هيا… سنملأ الوقود. بعد ذلك… سنواصل إلى الأردن، ولكن ستدفعين ثلاثة أضعاف المبلغ."

سقطت الكلمات على صدرها كصخرةٍ هوت من جبل، لكنها تماسكت، كأنها تعلّمت أن الحياة في المنفى تبدأ من لحظةٍ كهذه: لحظة ابتزازٍ لا مهرب منه. ردّت بصوتٍ هادئٍ خالٍ من الجدال، فيه من الشكر ما يشبه الخوف:

ـ "كما تريد… فقط خذنا إلى هناك."

لم تعد تثق به، ولا بغيره من الرجال الذين يبدّلون وجوههم بين قناعٍ وقناع، لكنها بدأت تثق بأسبابها الخاصة: رقم هاتفٍ تحفظه في ذاكرتها كآية نجاة، صورة لطريقٍ مرسومة في ذهنها تتجه غرباً، وقلبٍ يتعلّم أن القوة ليست صرخة، بل أن تمضي خطوةً أخرى رغم الارتجاف.

في اللحظة نفسها، وصلتها رسالة قصيرة على هاتفها المخبّأ بين يديها المرتجفتين: "ستصلين بالسلامة. اكتبي لي حال وصولك." كان التوقيع باسم "أم أحمد"، جارتها الطيبة، المرأة التي كانت تطرق بابها أيام المحن بقدرٍ من الحنان يضاهي الأمومة. أدركت عفراء أن هذه الروح النقية لا تزال تحرسها من بعيد، وأنها على الأرجح هي من تواصلت مع السائق ليعيد النظر في وجهته. دمعت عيناها، لكنّها أخفت الهاتف في صدرها، كما لو كان تعويذة نجاة لا تريد للقدر أن ينتزعها منها.

تنفّست بعمق، حاولت أن تزرع في رئتيها شيئاً من الشجاعة كي لا تنهار أمام طفلتيها. فتحت باب السيارة، خرجت للحظةٍ قصيرة، أصلحت وضع البطانية فوق جسديهما الصغيرين، ثم أعادت أطرافها بعنايةٍ أمّ تعاند القسوة. نظرت إليهما، تغطيان وجهيهما ببراءةٍ حالمة، وتساءلت في سرّها: كيف لطفلتين صغيرتين أن تدفعا ثمن خطايا وطنٍ يطارد أمهما كأنها مجرمة؟

كانت الشوارع خارج الكراج مظلمة، يتسلل إليها ضوءٌ باهت من مصابيح متعبة، والهواء يختلط فيه برد الليل برائحة الزيت المحترق. بدت المدينة غريبة، كأنها فمٌ مفتوح يتهيأ لابتلاعها. وكل خطوة كانت تحسّها كسيرٍ فوق جمر المجهول، لكنها مضت، بحذر، تتشبّث بالحلم البعيد: أن تصل، فقط أن تصل، ثم تفكّر بعدها كيف ستبني حياة جديدة من رماد قديم.

وفي أعماقها، كانت تعلم أنها لم تهرب وحدها من سطوة الطائفية، بل هربت من تاريخٍ أراد أن يجعل منها ظلاً لا يملك جسداً. كل خطوة على هذا الطريق كانت إعلاناً صغيراً ضدّ القيد، وصلاةً خفيّة بأن تكون حريتها ثمناً يليق بتضحياتها.

هكذا، في تلك اللحظة التي بدت صغيرة في ظاهرها، كانت عفراء تعبر من كونها ضحية مطاردة إلى امرأة تصنع قدرها بقدميها المرتجفتين، تكتب قصتها بالحذر والخوف، ولكن أيضاً ببصيصٍ لا ينطفئ من الرجاء.

كان الفجر قد استوى، والكراجُ يكشف ملامحه... بقعُ زيتٍ كخرائط سوداء، قطّتان تتشمّسان بحذر، عاملٌ يتثاءب، ومئذنةٌ بعيدةٌ تُخرج من حنجرتها الأذان الأوّل. ابتسمت. قالت في سرّها: «كان الموتُ يعرف عنواني في الأمس، أمّا المجهول… فليس له عنوان. هذا حسن.» ثمّ أعادت ابنتيها إلى الصندوق، جلست بينهما، وكتبت في قلبها معاهدةً جديدة: "لن أبيع نفسي ولا بناتي للخوف، ولن أسمح لاسم الطائفة أن يكون صكَّ ملكيةٍ لأجسادنا. إن كان المجهولُ هو الثمن… فليكن. لكنّي سأدفعه وأنا ممسكةٌ بأيديهما، لا مُساقَةٌ وحدي كنعجةٍ إلى الذبح".

***

سعاد الراعي

2025.09.09.

 

في الهزيع الأخير من الليل، وردته برقية مستعجلة عبر الأثير، تتماوج بين ذرات الهواء كأنها نداءٌ خفيٌّ يتسلل من عوالم غير مرئية. حاول جاهدًا التقاط معانيها، إذ بدت كنوتات موسيقية تتمايل بإيقاع غامض، جعلته يرتعش كمن تسرب إليه البرد في شتاءٍ قارس.

سارع إلى تفكيك كلماتها المشفّرة، فلم تكن واضحة المعالم، بل كعتمةٍ تتكاثف في ليلٍ بلا نجوم. كلما مدّ يده، تلاشت الرؤية، وكأن ثمة من ينازعه في الطرف الآخر. ساوره شعورٌ متأرجح بين البقاء والضياع، كمشيٍ على خيطٍ رفيعٍ فوق هاويةٍ لا قرار لها.

فجأة، انزلق مخلوق غريب من الأفق البعيد، لا يشبه أي كائن في الكون، وانقضّ بقوة على عالمه البسيط كريحٍ لا تُرى، لكنها تقتلع جذور الطمأنينة. أطلق همساتٍ مرعبة تنفث الشكوك في الأرجاء، تقطع أنفاس الليل، وتختزل الزمن في قارورةٍ من الأسر. لا جدوى من الصراخ في جوٍ خانق، فقد شُلّت أوتار الصوت في لحظة انهار فيها جدار الأمل.

كانت التجربة أوسع من كل تصور، إذ اجتاحت ذاكرته كالسيل، تستحضر الماضي والحاضر، وتغلق باب المستقبل قبل أن يُفتح. وعندما حانت اللحظة الحاسمة، وقف كالمسمار، جامدًا أمام الهول، أخرسته الدهشة، ولم تمنحه حتى رفاهية البكاء.

راح يتساءل، والحيرة تكسو وجهه الشاحب باستسلامٍ صامت:

ــ نعم، إنها النهاية… لكنني لم أرَ المستقبل بعد. لماذا كل هذه العجلة؟ ما زلت في طريقي نحو تحقيق ما تبقى من أحلامي المؤجلة.

بدأت الصورة تتضح، تأخذ منحى أكثر اتساقًا، حين أدرك أن الصوت الذي يطارده لم يكن غريبًا، بل كان صدى صوته الداخلي، يهمس له بما لم يجرؤ على الاعتراف به:

ــ أنا ملك الموت… لا لأنني جئت من الخارج، بل لأنك أنت من خنقت أحلامك، وأرجأت الحياة حتى تلاشت.

وما إن بزغ الفجر، كأنما يفتح بابًا نحو حياةٍ جديدة، حتى ارتجّت الغرفة بصوتٍ داخلي، لا يُسمع إلا لمن يتهيب النور. اهتزّ جسده، لا من صرخةٍ خارجية، بل من إدراكٍ مفاجئ: أنه هو ذاته من حكم على نفسه بالموت، حين خاف من الحياة. سقط ساكنًا، كمن قرر أن ينام إلى الأبد، لأن الصباح كان أكبر من قدرته على النهوض.

***

كفاح الزهاوي

ضربه على خدّه الأيسر، وصرخ في وجهه:

- ارفع رأسك "يا بّا"*، فأنت إنسان حرّ.

وتمنى عبد الله أن يدير له سعيد خدّه الأيمن ليلطمه ثانية. لكنّ سعيد رمق صاحبه باستغراب، وحكّ اللطمة الأولى دون أنين، ولم يفكر في ردّها له. وابتسم ابتسامة عريضة.. ثم طبع على وجنته قبلة...

و الذين حضروا الواقعة، ورأوا بأم أعينهم ما جرى بين عبد الله وسعيد، اسغربوا، وأصابتهم الدهشة.. واجتاحتهم الأسئلة الغريبة.. لماذا لطم عبد الله صديقه سعيد ؟ ولماذا لم يغضب سعيد، ويرد اللطمة باللطمة أو أكثر ؟ لماذا خيّم الهدوء على سعيد، وكأنّ اللطمة لم تقع على خدّه ولم تعنه ؟ لماذا ابتسم سعيد بعدما لطمه صديقه عبد الله ؟ أم أنّه عجز عن الدفاع عن نفسه، وردّ حق من حقوقه ؟

و الحقيقة أن عبد الله، قد لاحظ منذ أشهر عدة، أن رقبة سعيد قد بدأت تميل إلى الأمام، ومعها ظهره الذي استمر في أخذ شكل المنجل. وصارت هامته أقرب إلى الأرض، على هيئة الركوع. أمّا نظراته، فقد تقلصت مسافاتها.. بدت قزمة كالطحالب التي قهرها البحر .. لا تتعدى ظلّ جسده النحيف عند الظهيرة..

لاحظ عبد الله أنّ صديقه سعيد على وشك العودة إلى سيرة الحبو على أربع.. ليست مرحلة الصبا، فذاك حلم مستحيل.. ولكن حبو في مرحلة الكهولة.. فالعودة إلى الوراء، لن يكون فعلا بيولوجيا وفيزيولوجيا أبدا.. لأنّ ذلك يعني حدوث معجزة ربانيّة، لا اعتراض عليها.. ولاحظ أنّ سعيد، قد قلّ كلامه، وذبل صوته، وتحول نقاشه إلى مجرد هزّ للرأس.. كما صار لا يبرح بيته إلا قليلا.. يميل إلى المشي وحيدا ملتصقا بالجدران المهترئة كالحلزون.. وهو الذي عرفه، قبل سنوات، رجلا، ممشوق القوام.. مرفوع الهامة.. رأسه في السماء، وعيناه كوكبان دريّان.. وصوته يُسمِع الصم..

لم يدر سبب هذا التغيّر المفاجيء.. أهو مرض جسديّ أم نفسيّ ؟ أم أنّ الهرم قد داهمه قبل الآوان ؟ رغم انّه مازال في عقده الرابع. عقد الحكمة والتعقّل والنبوّة..

*** 

قال عبد الله، والحيرة تنوش قلبه:

- سعيد انخطف عقله يا ناس. صار كتلة لحم وعظم بلا روح. ضربته على خده، وقلت له:

- ارفع رأسك " يا بّا "، فأنت إنسان حرّ.

ظنّ عبد الله في تلك اللحظة، حين لطم سعيد على خدّه الأيسر، أن ينتفض سعيد كالأسد الهارب من قفص مروضه. ويردّ له الصاع صاعين.. لكنّ ظنّه ذهب أدراج الرياح.. كأنّ اللطمة أيقظته من غيبوبة استمرت عقدين من الزمن الحجريّ الأسود.. والحاصول، أنّ سعيد كان ضحية ما سميّ بحملة الأيدي النظيفة، ولم تكن نظيفة البتة، بل وسخة، نتنة، مقرفة، كرائحة الذئاب والخنازير البريّة.. كان سعيد جمركيّا نابها في مصلحة الاستيراد والتصدير بميناء الجزائر العاصمة... مجدا، صادقا في عمله، حريصا على المال العام، الذي هو مال الشعوب.. رجلا شهما، يحارب علل الرشوة والمحاباة والمحسوبية والغش والتزوير وكل مشتقاتها.. وحدث أن اكتشف عملية غش في الجمركة والفواتير.. لقد رأى بأم عينه، كيف كانت تغادر بعض الحاويات المشبوهة أرصفة الميناء دون تفتيش دقيق.. كل ما كان يحدث لها، عبارة عن مراقبة شكلية.. وتمنح لها تراخيص المغادرة.. لمّا تدخل سعيد لوضع الأمور في نصابها القانوني، قيل له:

- هذه الحاويات المملوءة هي ملك " للتماسيح ".. ولا واحد يقدر أن يمسّها. فهمت، يا سعيد.

- لكنّي، يجب أن أطبّق القانون على الجميع.

- "طز" على القانون. هؤلاء فوق القانون، يا صاحبي، يا مغفّل.

و حاول أن يخضعها للتفتيش والجمركة القانونيين، لكن جوبه برد قويّ من مسؤوله المباشر. فما كان من سعيد إلا أن كتب تقريرا مفصلا إلى السيد وزير المالية، يخبره فيه عن كل شيء.. وممّا جاء فيه:

- سيدي الوزير... إنّ بعض حاويات المعاليم الكبار، والحيتان الضخمة، لا يُسمح لنا، نحن كجمركيين، بمراقبتها وتفتيش محتوياتها، والأدهي من ذلك أنّها تغادر الميناء دون جمركة حقيقية. ممّا يكبّد الخزينة العمومية خسائر لا حصر لها....

و لمّا اُستدعيّ سعيد، ذات أمسية ماطرة، إلى مكتب المدير العام للميناء، ارتعش فرحا وتسارعت نبضات قلبه.. واعتقد أن رسالته تلك أثمرت، وأتت أكلها.. وستمنح له المديرية وسام صون الأمانة، وسيشكره المدير العام على حرصه الشديد على مال الشعب..و ربّما سيرقيه لمنصب أعلى.. حدس أنّه سيكون البطل المبجل، الذي سيؤدي له مسؤوله تحية التقدير والاحترام على صدق تفانيه في أداء الواجب الوطني..

***

وكانت المفاجأة، التي قصمت ظهره.. أحيل على المجلس التأديبي بعد أيام، بتهمة القذف.. وفُصل من وظيفته.. وبعد شهر، أُلقي به في غياهب السجن، بتهمة التبليغ الكاذب، وإزعاج السلطات الأمنية.. بل اُتهم بطلب رشاوي، ولمّا لم ينل مرغوبه. كتب تلك الرسالة لقذف غيره من الأبرياء..و كانت تلك التهمة ملفّقة بإحكام، ومدعمة بشهود الزور..

لمّا غادر سعيد السجن، بعد سبع سنين عجاف، كان ظهره، قد بدأ يأخذ شكل المنجل..أمّا هامته فقد أذبلت رطوبة جدران السجن أوراقها.. لقد حاولوا كسر رقبته، لكنّه صمد أمام أنيابهم ومخالبهم...

***

قال عبد الله، بعد لطمه لسعيد على خدّه الأيسر:

- يجب أن يرفع سعيد رأسه من جديد. يا إخوتي.. زمان الزور راح وولّى.. يا إخوتي...

وقاده إلى البريد المركزي، لا ليسحب مبلغا من رصيد زهيد، بل ليشهد شعلة الحراك.. وليقطف من مروج الحياة أزهار الحريّة.. وليرفع رأسه وهامته، ويستقيم ظهره المنجليّ.. وهنا أدرك شهود الواقعة؛ واقعة لطم عبد الله لسعيد على خدّه الأيسر، وقوله له:

- ارفع رأسك " يا بّا "، فأنت إنسان حرّ..

تمنى الشهود، لو يلطم عبد الله كل الخدود النائمة، لعلها تستيقظ من سباتها.. وتدوي تلك العبارة؛ ارفع راسك " يا بّا "، فأنت إنسان حرّ، مثل صوت المدفع، في أسماع النائمين على رصيف الاستسلام والهوان...

(تمت)

***

بقلم القاص: علي فضيل العربي – الجزائر

.....................

هامش:

بّا أو بابا: أبي بلهجة مغاربيّة.

في طريق ذهابي للعمل اليوم وقفت بالإشارة وإلتفت على يميني ورأيت باص من شركة النقل التي كانت تقلني للجامعة قبل خمسة عشر عاما تفاجأت من صموده في وجه كل هذا التغيير العاصف في الزمن، في الناس وفي الذاكرة، أعادني ذلك إلى حادثة غريبة:

في ذلك اليوم، بدا المشهد عادياً جداً: باص الجامعة المتأخر كعادته، الطالبات المتكدسات في المقاعد، والوجوه المتعبة من المحاضرات التي استنزفت كل ذرة من الطاقة. لم أكن أتوقع أن يتحول سائق الباص — ذاك الرجل الهامشي الذي بالكاد يعلق بالذاكرة — إلى مركز الحكاية.

في نهاية كل شهر كنا نصرف رسوم النقل ونسلمها لسائق الباص صباحاً وبالعادة يسجل المدفوعات بورقة، استمر الوضع على ماهو عليه لسنوات، وكجميع البنات من جيلي لم يكن الحذر حاضراً في تعاملاتنا الإنسانية لا أعلم كيف نجونا من مصائب محتملة "بالبركة وبدعاء الوالدين" لم نشعر بالخطر، لم تراودنا اي فكرة أن هنالك شيئا ما لايبدو صحيحاً، جمع النقود من أربع مئة طالبة. أربعون ألف ريال في كيسٍ واحد، ثم تبخر كما لو أن الباص ابتلعه في جوفه. لم يختفِ فقط، بل اتصل بي أنا بالذات قبل هروبه. صوته المرتجف كان يبكي:

“لمى.. سامحيني. أنا مضطر.. بس سامحيني.”

كنت خارجة لتوي من معمل الكيمياء العضوية، الأبخرة الثقيلة تلف رأسي، والواقع من حولي ضبابي. لم أفهم لماذا يكلمني أنا؟ ما الذي يريد اعتذاره مني؟ ولماذا من بين كل البنات اختار أن يخاطبني؟ أغلقت الهاتف ونسيت الأمر للحظة، لكن دوامة الشبهات لاحقاً عصفت بي حين استدعَتني الشركة:

“أنتِ آخر من اتصل بها، هل لك علم بسرقته؟”

في الحقيقة لم تكن تلك المرة الأولى التي تصدر منه تصرفات غريبة كانت نذير شر لكنا لم نعر لتلك الإشارات الواضحة بشكل فاضح أي إهتمام، بدا هذا الرجل وكأنه يصارع في داخله وحش ومنذ مدة طويلة.

فقبيل صفقة النصب والسرقة الكبرى التي قام بها كانت هناك حادثة أخرى، زميلتي طلبت منه أن يوصلها إلى مواقف سوق تجاري خلال ساعات الدوام الرسمي وبينما كانت منشغله بالرسائل الرومنسية ووضع المكياج غير مدركة أن موعدها الغرامي سوف يتحول بعد دقائق قليلة إلى موعد مع القدر. كان الباص والسائق قد انحرفا إلى الهاوية، فجأة غاب صوت المدينة، وحلّت عزلة المكان النائي، فراحت تترجاه بكل ما أوتيت من قوة أن يتركها وشأنها وبعد صراع عنيف بالفعل أطلق سراحها.

ولم يجد سوى دموعه، اتصل بي من جديد، يبكي ويقول:

“أنا آسف.. سامحيني.” لم أعلم وقتها أسامحه على ماذا حتى اليوم التالي عندما إلتقيت بصديقاتي وأخبروني عن الصباح المروّع، لكني لسبب ما أجهله أخفيت عنهن إتصاله

كنت مجرد طالبة مثلهن، لا أكثر ولا أقل. ولا أدري لمَ كان يربط اعتذاره بي؟ هل كان يرى في وجهي مرآة لصراعه؟ أم كان يطلب غفراناً يعرف أنه لن يجده في أي مكان آخر؟

أحياناً أتساءل: هل كان الرجل يحارب شياطينه الداخلية أم يحاول أن يلقي بذنوبه على كتفي لأحملها عنه؟ كأنه يبحث عن شاهد يصدّق أن الشر لم يكن خالصاً، وأن داخله بقايا ندم.. أو ربما كان يهيئ نفسه ليسقط في هاوية أكبر.

***

بقلم/ لمى أبو النجا

في دُجى الليلِ العميقْ:

"سألني الليلْ:

بتسهرْ لِيهْ؟"

قلْتُ:

أنتَ نديمي الَّذي يُوفِّى ويُكفِّى،

ويصفِّي..

منَ الشَّوائبِ العالقة..

بقفصِ صدري المليءِ بالذِّكرياتِ الَّتي

تعبرُ أفْقَ خيالي..

بارقاتٍ

لامعاتٍ

تَخرجُ مِنْ قُمْقُمِها،

ففيكَ، أيُّها الليلُ الَّذي لا تنجلي،

أُلقي صَخرةَ النَّهارِ عنْ كاهلي،

وأرفعُ صخرةَ الأيامِ والكتبِ والأقلامِ

والأحلامِ،

والكلامِ غيرِ المُباح،

وفي الحالتين أشهقُ..

وأتحسرُ

وأزفرُ..

زفراتٍ حرَّى،

تسمعُها أنتَ، وتعي،

فما فاتَ لمْ يفُتْ،

وما هو آتٍ آتٍ لا ريبَ فيهِ!

وأشتكي لكَ ولصمتِكَ المهيبِ؛

فأنتَ الشِّفاءُ،

وأنتَ الدَّواءُ..

(المؤقت)،

وانتَ شرَّاحُ الجراحِ،

وحمَّالُ الأسيَّةِ،

والمستمعُ المُصغي باهتمامٍ، والَّذي..

لا يُضاهيههِ مستمِعٌ،

وأنتَ الصَّامِتُ الخجولُ الَّذي..

لا يُشبهُهُ صامتٌ،

صامتٌ لا يصدِّعُ الرَّأسَ

بالقيلِ والقالِ

وكثرةِ السُّؤالِ،

والسُّعالِ،

مع أنَّ الأسئلةَ الكبرى والصُّغرى

تُكتَبُ على لوحتِكَ السَّوداء،

بطباشيرِ القلبِ والرَّأسِ والأحلام،

لا بتباشيرِ الصَّباحِ الأسودِ..

مِنْ ظلامِكَ المُدلَهِمِّ،

والأصمتِ منْ صمتِكِ الرَّاسخِ،

وسرِّكَ الأمين،

وحُلُمِكَ الأسير،

الأسيرِ الغارقِ في لُجِّ الأمنياتِ

خلفَ ضبابِ الرُّؤيةِ

في عينِ القصيدةِ الهاربةِ

في وَضَحِ النَّهارِ الدَّايرِ

على حلِّ شَعْرِهِ

في ضجيجِ عرباتِ الخيلِ المُطْهَمَةِ

في اسطبلاتِ التَّواريخِ المُنهَزِمَةِ

أمامَ الرِّياحِ العاتيةِ

الشرقيةِ والغربيةِ،

وأقدامِ الرَّايِح والجاي، والرَّاكضِ

في أعقابِ الرُّؤوسِ الخاويةِ

على عروشِها،

فأنتَ الوحيدُ الَّذي

يستمعُ إلينا بانتباهٍ وجلالٍ،

ونحنُ نغرقُ..

في أعماقِ طينِ الكلماتِ المُتقاطِعَةِ

والمُتشابِكةِ

والمُتشاكلةِ

والصَّامتةِ

حتى يرى اللهُ فيها أمرًا كانَ مفعولا،*

فالمفعولُ بهِ يعرفُ الفاعلَ جيداً

لكنَّهُ..

يستمرئُ الفعلَ مع الظَّرفِ المنصوبِ

على طبَّاخِ الطَّباخينَ..

في مطابخِ التَّنانينِ الْبِيْضِ والصُّفْرِ

ليقتاتَ الواقعونَ..

في الكمائنِ المنصوبةِ

منذ التَّاريخِ الأولِ لقابيلَ وهابيلَ

والإخوةِ الأعداء،

والعشاقِ السُّكارى الغارقين

في أحلامِ العصافيرِ:

قيس وليلى

روميو وجولييت

حسن ونعيمة..

الذَّائبينَ

في تيزابِ حكاياتِ ألفِ ليلةٍ وليلة،

لذا أسهرُ معكَ، أيُّها الليلُ الطَّويلُ؛

لأعانَي وجعَ القلبِ والرَّأسِ،

والجذعِ والأطرافِ،

كي أكتبَ قصيدةَ حبٍّ..

أُمَمِيّةٍ،

وإنْ كانتْ كلمةُ (أممية) تُصيبُ البعضَ

بالهستيريا،

والهذيانِ،

وعَمَى الألوانِ،

والشِّيزوفرينيا،

والفوبيا الصَّفراء،

مع أنَّها تعني الإنسانيةَ جمعاءْ:

(وإنّما الأُمَم الأخلاقُ...)**

ودونَ استثناءْ،

فما الفرقُ إذنْ،

أيُّها الليلُ الطَّويلُ..

"كموجِ البحرِ الَّذي..

أرخى سدولَهُ..

بأنواع الهموم" !!!

***

عبد الستار نورعلي

تشرين الثاني/أوكتوبر 2025

.....................

* تناصّ مع الآيةِ الكريمة (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) الأنفال 44

** تضمين لقول أحمد شوقي: وإنَّما الأُمَمُ الأخلاقُ ما بقِيَتْ...

 

تجمعوا عشاء في الزقاق المحاذي لبيت العريس. غمغم أحدهم مستنكرا قبل أن يمد يده لجيبه، ويدفع ثمن بضع قوالب من السكر ل"أعراب"، خامسهم الذي يملك الدكان كما يملك رقابهم كل آخر شهر. سحب أعراب من جيب سترته قارورة عطر يباهي بها بقية المفلسين.

ماذا لو أجّل عرسه لحين استلام الرواتب؟ غمغم ثانيهم مستنكرا، لكُنا أمطرناه عطرا وأشياء أخرى يُعز بها العريس عند الامتحان فلا يُهان!

لم يجدوا بابا ليطرقوه فتنحنح أعراب وتقدم. رائحة البخور امتزجت بروائح الدجاج المحمر والعطور الرخيصة. أزعجهم منظر الصبية وهم يلهون بأحذية الضيوف، لكن ما باليد حيلة. على أحدهم أن يتورد حياء وهو يسأل عن فردة حذائه قبل الانصراف.

أقبل العريس ببذلته السوداء متفرسا في تقاسيم وجوههم. يعلم جيدا أن خلف كل ابتسامة قصة عاش بعض تفاصيلها قبل دعوتهم للحضور. الرفاق هم الرفاق. يريدونك أعزبا لتظل سيرة الزواج مؤجلة. تماما كالديون التي سيطالِب بها فور استلام الرواتب!

احتضنوه ثم قبلوا وجنتيه. منهم من بارك له الزيجة، ومنهم من شد على يديه مؤملا له النصر على الأعداء. أما أعراب فبدا مبتهجا كصبي عائد من حديقة الألعاب. كيف لا والعريس سينضم إلى طابور زبائنه! مضت شهور لم يقتن فيها غير السجائر والعصائر بين فينة وأخرى. عانقه مجددا قبل أن يهديه قارورة العطر، تصحبها نظرات خزي ومهانة من المفلسين.

دارت كؤوس الشاي ثلاث جولات، بينما فرغت صحون الحلوى المجلوبة بعناية من مخبزة الحي المجاور. أصرت أخت العروس على أن تتولى شأن الحلويات والفطائر. أثنى ثالثهم على الحلوى فهمس العريس في أذنيه بأنها من أصابع تترقب خاتم النجاة. غمغم مستعيذا من حبائل الشيطان. في الشهر التالي تحديدا سيكون للشيطان رأي آخر!

أنهى مؤذن الحي تلاواته وابتهالاته، ثم مازح العريس بأنه لا يحتمل السهر شأنَ الذين ينتظرهم ليل طويل. ابتسم العريس خجلا، ثم أسرع إلى المطبخ لتُقبل على الفور صحون الدجاج المحمر.

غمغم رابعهم وهو يسحب فخذ دجاجة: ليت لي أمه! تطويني تحت جناحها كفرخ مبلول. لو كانت لزوجة أبيه ربع طيبتها لما سمح لابن حلّومة المهاجر أن يركن سيارته في الحي، ويطرق باب رقية.

رقية! من لم يُجرب الحب فلا داعي لأن يكتب عنه. وحدها آهات عبد الحليم حافظ، حين يرمي الورد ويطفئ الشمع، تحول ثورة جنونه إلى دمع ينساب في هدوء الحيّات كل ليلة. بكى بحرقة لأسبوع قبل أن ينجح أعراب في لملمة جرحه:

-    دُنياك تلك، فإما أن تتغافل لتحيا وإما أن تتحطم ضلوعك تحت وطأتها! في كل حي رُقَية أخرى، وعلى قلبك أن يتمرن ليحتمل أسباب العيش. اِنسَ !

غالبَ زفرة تحتدم في صدره كي لا يلحظ أعراب شيئا، ثم مد أصابعه وانتزع من صدر الدجاجة لقمة. تناهى إلى الأسماع لغط من الغرفة المجاورة حول إلحاح أهل العروس على إتمام مراسيم الزفاف قبل العودة فجرا إلى القرية. فهم الجميع ما يقتضيه المقام، فتلا المؤذن آيتين ثم دعا بالبركة وحمل بلغته خارجا. أما خامسهم "أعراب" فأقبل على العريس يحتضنه، ثم أشار إلى البقية بالانصراف قبل أن يستأنفوا الغمغمة!

***

حميد بن خيبش

........................

(*) الوليمة في التعبير المغربي الدارج

 

حور الصبا فيه الجمال الأغيد

أن الجمال سره متخلد

*

سبحان من صاغ الجمال كوردة

جورية ألوانها تتعدد

*

يا من بنى تلك الكؤوس منازلا

أو ترتجي تلك الكؤوس وتغمد

*

من طالها قد كان فيها سيدا

أعجازه من شوق قلب يعقد

*

يا شاكي الأحباب أية شكوة

أو ما ترى أن الملامة موقد

*

ما لي أرى الأحباب غاب جميعهم

أومآ رؤا شوق الحبيبة ينجد

*

لا أشتكي مهما الهوى قد طالني

أني به طول المدى أتعمد

*

قاربتها والليل أخفى بدره

فتوسمت أسناؤها تتوقد

*

فحسبته وجه الضياء كلجة

محبوبتي وجه الضياء السرمد

*

خوف على عيني يراها ضوؤه

شمس لها فيها الليالي تخمد

*

قد زارني والنور يكسو وجهه

وجديلة نحو الثريا ترشد

*

ناديتها قلبي أناخ لشوقها

حورية أي المسافة أقصد

*

قالت وما سر الجمال لعاشق

أو تبتغي سر الجمال وتوعد

*

قلت أحرصي تقديم أشهى قبلة

سحرية فيها شفاهي تصمد

*

قالت وما تروي الزهور لعطرها

شوك لها أنى الجروح ستضمد

*

كوني أذن نفسي ونفسك واحد

غيداء  ناهد صدرها يتمرد

*

قالت وهل هذي المحبة لعبة

كأس اللمى منه التواصل يجهد

*

وتيقنت نفسي أفاقت حلمها

من بعدما أرجو اللقاء وأوعد

*

واستذكرت نفسي بأني حالم

واستعذبت ليل الشتاء سيبرد

*

وتسارعت تطوي مفاتن ثوبها

حتى بدا صبح البلابل ينشد

***

علي جبار الاسدي

 

لا حزاماً لديك فأرتديهِ

حيثما أنت ما أزالُ كسيرا

*

لا حناناً لديك عندما أتشكّى

من ونى العمر إذ شكوتُ حسيرا

*

كلُّ ما فيك أنت أنت إذاما

مسّني الضّرُّ أو أكون فقيرا

*

ليس يؤسيك مرةً ما أعاني

عشت في العمر كالجمال صبورا

*

بينما أنت كلَّ يومٍ تراءي

تدّعي الحنو.. تدعيه شعورا

*

أحمد ﷲ ؛ أنني في حياتي

أطحن الصّخر في رحاي شكورا

*

فلذا القلب لم يعد مستطيعاً

ينبض اليوم في الكيان كثيرا

*

ألمح الموت .. ها أرى يتعالى

يمنع الشّمس أنْ تزور القبورا

*

كي يموت الأنام من غير ضوءٍ

و يكون الظّلام هاهناك سديرا

*

عندها النّاس يرحلون منايا

بالجثامين حين ضلّوا المسيرا

*

كلُّ من كان لا ملاذَ لديهِ

مثل من كان يملك دورا

*

يدري من عاش في الحياة بأنّا

ندري بالموت.. إذ جهلنا المصيرا

*

هكذا الحال .. كلنا نتذاوى

و تذوب الشّموع فينا أخيرا

*

نترك العطر و البخور .. نسجّى

و نشمُّ التّراب عطراً بخورا

*

فتنام الرفات فيها طويلاً

إذ يطول المنام فيها دهورا

*

عندما الحشر يستفزُّ البرايا

يوقظ الناس حين يُطلِقُ صُورا

***

رعد الدخيلي

 

رحلة أيوب بين حلم حالم وحلم يقظه

في أشهر مقهى أدبي وسياسي يقع في جانب المصرف العربي في وسط العاصمة الأردنية، جلس أيوب وحيدًا في زاوية تعلوها مصابيح، على شكل فوانيس ذهبية مزخرفة، تُلقي بضوء خافت على وجهه الشاحب. كان رجلاً في منتصف العمر، ذا شعر أسود قصير ولحية رمادية، يرتدي بدلة سوداء وقميصًا أبيض، وكان وجهه يحمل تعبيرًا عن الحزن العميق، كرجل محاصر في متاهة أفكاره. بينما كانت طائفة من الأدباء تتجاذب أطراف الحديث بحماس في المقاعد المجاورة له، منغمسين في سيمفونية من الأفكار التي تختلط بالحنين إلى الماضي وواقع الحاضر. كانت رائحة القهوة تفوح في الهواء، وتتخلل الأجواء أصوات السعال الجاف أو الضحك المتزايد، مما يوحي بأن المحادثات التي تجري في المقهى مثيرة وممتعة في ظل سحابة من الشك والحزن.

انسابت أنظاره بعيدًا نحو النافذة وما وراءها، كمن يراقب مشهدًا يتبلور أمام عينيه ثم ينحل. راح يتأمل حقيقة الأشياء، ويتأمل الأسئلة الكُبرى حول معنى الحياة والغرض منها. إلّا أنّ أفكارًا غيرَ منتهيةٍ كانت تتلاطم بعنف في ذهنه، بعضها يسبح في فلك الحيرة والتساؤل والألم، والبعض الآخر يتفكر في ماهية الحب والجمال، وما تبقى يدور حول الاغتراب والانتماء والمعنى والفناء والحرية. بعد دقائق قليلة، وجد نفسه محاصرًا بين جدران الشك والحقيقة والتشتت، كسفينة تائهة في بحر من القلق والحزن، مثقلا بشتى صنوف المعاناة.

مرَّت ساعة دون أن يعكِّر صفوَ أيوب شيءٌ، حتى لمح هيئة صديقه علي، المفكر الذي يكن له جل الاحترام والتقدير. عرف أيوب علي منذ أيام الدراسة في المدارس الحكومية، وكلاهما لم يعرفا اليأس بعد. أصبح علي كاتبًا وشاعرًا بارعًا ومؤرخًا ثنائي اللغة، في حين تحول أيوب إلى مترجم يستند في أسلوبه إلى أُسس الفلسفة والأخلاق والثقافة الكامنة وراء النص الأدبي. لم يكد أيوب يراه مقبلًا عليه وابتسامته البشوشة المعهودة تملأ وجهه المستدير، حتى استوى قائمًا، وقال باحترام بالغ: "أهلاً بالرجل النقي، باهر الحضور في حركة الثقافة العربية." مد علي إليه بكفِّ يده يُحيِّيه تحية المساء، ثم همس بصدق حقيقي: "اترك كل شيء وتابع كتابة الرواية." وأردف علي وهو يلاحظ ذبول روح أيوب وبداية انكسارها، قائلًا بنبرة رزينة: "أنا على يقين أنك الآن قادر على تحويل فكرة الرواية إلى حبكة عذبة فهي تُظهِر تماسكًا داخليًّا قويًّا ولا يمكن إلا أن تُعتبَر إرثَ مفكِّرٍ عظيمٍ بحق."

وجد أيوب نفسه مشتتًا بين الأحلام القديمة والتساؤلات الجديدة حول مكانته في العالم، واستمر في الإصرار على قراره بالابتعاد عن تطوير الرواية. فقد باتت الرواية خارج نطاق اهتماماته، بينما رأى علي في الرواية التي أطلعه أيوب عليها قبل أشهر قليلة إمكانية خلق عمل أدبي يتسم بالعمق والجاذبية، مشجعًا إياه بكلمات خارجة من القلب.

لم يكتف علي، المفكر الذي لا يحظى بالشهرة، وبادر أيوب بالقول: "لا تستعجل الحكم على الأمور، فأحيانًا لا تظهر الحقيقة إلا بعد انقضاء الزمن واستكمال دمج أدقّ ديناميكيات القصة تباعًا." ثم ألقى أيوب نظرة حزينة نحو الأفق عبر النافذة، وكأنه يحلق في فضاء الظلام الطاغي وخاطب صديقه علي بكلمات مستمدة من عقله اللاواعي: "أتذكر تمامًا ما قلته لي وأنا لا أزال يافعًا، مجتهدًا في الثانوية العامة... إن قوتنا الفطرية تدعونا لاستكشاف أعماقنا والبحث عن قيم الروح الإنسانية، مثل الأخلاق السامية وروح المغامرة والنزاهة والصبر والتضحية والشجاعة." ثم نهض يهم بمغادرة المقهى.

رفع علي يده بتأثر واضح وقال: "إلى أين؟"

رد أيوب كما لو كان رجلاً آليًا: "المعذرة... أشعر بالإعياء ويجب أن أغادر." ثم تابع وفكره غارق بتأمل عميق: "الحياة، يا صديقي، لا قيمة لها إلا إذا كنا قادرين على رؤية الجمال في الأشياء البسيطة."

بابتسامة تحمل تفهما كبيرا قال علي: "أحيانًا الأشياء البسيطة هي الأكثر قيمة. لكن، ماذا حدث؟ لماذا تبدو الآن بهذا الحزن؟ كلنا نخوض تلك التجارب المقدرة علينا في الحياة. لكن هل فكرت في قوتك الداخلية؟ يا صديقي، القوة ليست دائما في الفوز، بل في القدرة على الوقوف مجددًا بعد كل هزيمة. قلبك يبحث عن شيء خالد وغير محدود، أليس كذلك؟"

تراجع أيوب نحو مقعده بتأني، إلا أنه لم يجلس بل تسمر في مكانه، ثم قال: "قوتي؟! أنا ضائع بين أحلام قديمة وتساؤلات جديدة. لم يعد لدي القوة للتمييز بين هزائمي وانتصاراتي. لا أشعر بالاتحاد مع أي شيء في هذا العالم. ستقول انهارت أحلامي، أليس كذلك؟ وتعود لتحدثني عن قوتي؟! ولكن أين يمكنني العثور عليها؟"

بتأمل يكسوه التفاؤل، قال علي بحنان: "الجواب قد يكون في البحث داخلك، في اكتشاف قيم الروح الإنسانية." ثم استطرد بانفعال شديد وملحوظ، قائلاً: "لا تستعجل الحكم على الأمور، الحقيقة تظهر بعد مرور الوقت. دع الحياة تكمل تجميع دينامياتها وفقًا لخطاها."

قال أيوب بنبرة لا تخلو من النحيب الهامس: "ربما، ولكن الحياة تشعرني بالحيرة والشك." ثم نظر إلى النافذة باندهاش وأردف قائلاً: "كيف يمكن للأمل البقاء في ظل هذا الظلام؟"

رد علي بثقة حانية: "الأمل يولد من تحملنا للألم وقدرتنا على استكشاف أعماقنا. ابحث عن القوة في دواخلك، أيوب."

ابتعد أيوب عن الطاولة بخطوات ثقيلة، كأنه يحمل على كاهله وزر الحياة. ظلّ يتلوى في متاهات الظلمة، وعيناه تحملان عبء الألم الذي لا يمكن إخفاؤه. بينما علي، صديقه الوفي، بقي جالسًا يراقبه بعيون ممتلئة بالتفهم والقلق، يعلم أن أيوب يحمل على كتفيه ليس فقط وزر الحياة، بل وثقل الذكريات والهموم العميقة.

تأوه أيوب وهو يدفع بأقدامه نحو الشارع، وبعدما قطع مسافة بضع خطوات، اختار الجلوس على قارعة الطريق، كأنه أصيب بنوبة قوية من الحزن والألم بسبب فقدانه الفتاة التي لم يتسن له خطبتها، ورحلت عن عالمنا بحادث سير مؤلم.

مرت ساعة وهو جالس على رصيف الشارع، وفي عقله تتلاطم أفكار لا يمكن له أن يحللها وهو يحاول ويحاول. تزايدت معاناة أيوب وتفاقمت وهو جالس على الرصيف، واستفحل ألمه كمن يفاجأ بضربة قاسية على رأسه كالصاعقة. ولكنه يرى عصفورًا يحلق في السماء، فلا يملك إلا أن يرفع يده تحيةً واحترامًا لذاك الزائر المحلق وهو يتلاشى في أفق السماء.

بعد عودته بكل صمت إلى منزله، وهو تقريبا في حالة عدم وعي، بدأ ينزع ثيابه بحركاتٍ بطيئة، ثم اتجه إلى سريره وألقى رأسه على الوسادة ككائن يعاني من الإرهاق منذ سنين.

مرت عليه برهة وهو مشغول ومستغرق في مخيلته المشحونة المكتظَّة، التي تَفُوق سعة الجحيم الشاسع، حتى أُصِيب بنوبة من الهوس الخفيف أطاحت بصفاء ذهنه، ترافقها سرعة توارد الأفكار مع خيال خصب مفرط الحساسية. اسرع وتناول حبة مهدئ ثم أرخى رأسه على الوسادة.

خيل إليه أنه يشهد حلمًا يتَمثَّل أمام عينيه، وتحجر كالتمثال مكانه عندما لاح طيف خطيبته بظهوره السار أمامه. سمع صوتها الرخيم وهي تقول بنبرة أنعشت قلبه وأحيت روحه: "أنا فرحة للقائنا في الغد." اعتقد أيوب أنه فقد صوابه وضاعت آماله، وتردد بين الاستسلام للطبيعة المتناهية والزائلة والتمسك بالطبيعة الخارقة اللامتناهية الخالدة.

لكن خطيبته الغارقة في البعد عادت وظهرت له في نومه وقالت أخيرًا بنبرة مطمئنة: "لا تسعى كي تجدني... لن تعثر عليَّ إلا إذا استكشفت ذاتك في غمرة الألم." ثم تابعت بثقة: "البحث عن الذات يكمن في خضم الألم، وكل تحدٍّ يمثل فُرصة جديدة لاكتساب المعرفة والنضوج مع تقدم الزمن. أيوب، لا تخشَ الألم، بل استثمره وتجاوزه، فسيكون هو الدافع الحقيقي لتحقيق إشراقةٍ جديدة في حياتك. ففي خضم الألم، ستجدني، وستجد نفسك."

أفاق أيوب في الصباح وأدرك أن رحلته للعثور على ذاته ستكون صعبة ومؤلمة. لكنه كان مصممًا على مواجهة تحدياته. لم يعد خائفًا من الألم، بل أصبح يراه الآن كفرصة للنمو والتغيير. وقرر أيوب العمل على استكمال كتابة روايته. كان يعرف أن الكتابة ستكون طريقة له لاستكشاف ذاته والتعبير عن حزنه.

***

عبد الله محمد الزعبي – كاتب ومترجم / الاردن

 

أتَوني بأشجـارٍ ظَليلٍ ضَلالُهُـا

يسيرُ بِمَهْواةٍ بعيدٍ خَيـالُهـا

*

وما كانتِ الأشجارُ إلّا كمِثلِ ما

تَظُنُّ بـأمواهٍ ويَأْتِيكَ آلُـهـا

*

فَتَحتُ شَبابيكي وكانتْ رئاتُهم

عَناكِبُ تستقوي رويدًا حِبالُها

*

كتبتُ بحبرٍ مِنْ دِمائي حروفَهم

وآوَيتُهُم روحي وغَنَّتْ دِلالُهـا

*

وآنَستُ نارًا أصطلي بعضَ دِفْئِها

فألفَيتُني يَـنمو بِقَلْبي اشتِعالُهـا

*

فلا تأمَنِ الأفعى يَخُنْكَ انْسِلالُها

فَمهما نَضَتْ جِلْدًا سَتبقى خِصالُها

*

عراقَكَ لا تغفَلْ ففي كُلِّ ضِحكةٍ

فِجـاجٌ تَلَوَّى شَرُّهـا وَوَبالُهـا

*

فَكُنْ صَخرةً تأبى ويَختالُ سِرُّهـا

وَتَضْحَكُ لو مَرّوا وفيهِمْ سُؤالُهـا

*

تَدورُ بِكَ الدُّنيا رَحًى مُستَديرَةً

يُشَتِّتُ نَجمَ الأمنياتِ اخْتِلالُها

*

كحَسنـاءِ قَصرٍ لفتَةً ثُمَّ تَنثَني

ويَعبَثُ في غَيمِ المَسَرّاتِ شالُها

*

وتُوشِكَ أن تَدنو ولكنَّ أمرَها

عَجيبٌ فأشباهُ الرِّجـالِ تَنالُهـا

*

غَريبًا تَرى نَفسًا بِنَفسٍ غزيرةً

أصَبْتَ، سِوى أنَّ الرّزايا عِيالُها

*

لذلكَ لا إلّاكَ فالذاتُ نَجوَةٌ

فأَثِّثْ بِكَ النَّجوى يَزِنْكَ اخْتِزالُها

*

حَنانَيكَ لا بَلواكَ بَلْوًى تَرُدُّها

ولكنَّهـا بَلوًى يَضيقُ احتِمالُها

*

ولَو كنتَ لا مَعنًى يُطَرِّيكَ بينَهم

لَما هُنْتَ لَو ضَرَّ السَّوَامَ  ابْتِلالُها

*

ولكنَّكَ الفردُ الذي فوقَ رأسِهِ

تَشُبُّ نجومٌ بالسَّمـاء اتِّصالُهـا

*

ولَو كنتَ ذا خَصْمٍ شريفٍ عَذَرتَهُ

وخاصَمتَ لكنْ لا وإذْ ما يَزالُهـا

*

عراقَكَ هل في الأرضِ نِدٌّ تَرُدُّهُ

وأنتَ لَهـا تـاجٌ وأنتَ عِقالُهـا

*

ولكِنَّهـا الدُّنيـا عَجيبٌ سِجالُهـا

أصيلٌ بهـا تَكبو وتَسمو بِغالُهـا

*

وتَزعُمُ فيهـا الخُنفُسـاءُ فُرُوسَةً

وتُوهِنُ عَزْمَ الأُسْدِ فيها جِعالُها

*

ولكنْ سأَلْتُ الروحَ واشْتَدَّ حالُها

وأَرعَدَ فيهـا سَهْلُهـا وجِبالُهـا

*

أُبُوَّةُ هذا الأرضِ مَنذا يَطالُهـا

مَسَلَّتُهـا مِـنّي وصَوتـي بِلالُهـا

*

فإنْ خانَ دَهرٌ أو تَهاوَتْ رِجالُهُ

فَإنَّ بِلادي حُـرَّةٌ ورِجالُهـا

***

إبراهيم مصطفى الحمد/ آب 2025

 

في غرفة الإنعاش،

كلّ شيءٍ يتنفّس بصوتٍ ليس له،

الآلات تهمس كأنّها تصوغُ تراتيل من حديد،

والأكسجين ينزلُ من سقفٍ غريب

كأنه وحيٌ موقّت.

*

هناك، حيث الحدُّ دقيقٌ كالسكين

بين الوجود والغياب،

كنتُ أُحاور مجهولاً لا ملامح له، يجلس عند طرف السرير،

قال لي،

هل الحياة سوى إستعارة متعبة؟

وهل الموت سوى إستراحة من المعنى؟

*

أجبته، وأنا أستمع لقلبي في شاشةٍ زرقاء،

الحياة قصيدةٌ لم تُكتمل،

والموت فاصلةٌ

تظنّ أنّها النقطة الأخيرة.

*

تسقط أنفاسي مثل أوراقٍ مبتلّة،

لكنّها تعود لتنهض،

كجنديّ يرفض توقيع الاستسلام.

أحسّ أنّ جسدي ليس لي،

إنّه مخطوطٌ مفتوحٌ

تكتبه يدٌ مجهولة .

*

في العتمة التي تحاول إغواء الضوء،

يتدلّى السؤال،

هل أعودُ لأكتبَ نفسي مرّةً أخرى،

أم أترك السطر فارغاً

وأمضي مع المجهول

إلى حيث لا تحتاج القصائد

إلى رئةٍ أو صوت؟

***

مجيدة محمدي

هذا الدمُ لي

وبقايا خمار امي

لي

وعكّاز أبي

لي

وحدي أتجشم عناء البقاء حيّاً

فلا ضلٍّ قريبٍ

لأحتمي

أو حتى صديقٍ لأرتمي .

هذا الدثارُ

ليس لي

وبقايا الخيمة

ليس لي

ولابقايا المكرفون

الملقى على قارعة الموتى

ولاسترة ذلك الصحافي الشهيد،

كان شاب مغموراً

كثير ما كان يتررد اسمه في أروقة الإعلام

وهل من يبحث عن الحقيقة اليوم؟!

وحدي أدافع عن أمتّهِ من الموتى

وحدي أدافع عن الثكالى

عن الأرامل عن الجياع

وحدي بين ركام المدينة واقفٌ

وأسأل عروبتي هل مات آخركم ؟!

أأرعنْ أم ديوثٌ من يحكمكم ...؟!

ولازلت وحدي أروّض نفسي الثكلى

فتأبى أن تطاوعني ..

***

كامل فرحان حسوني - العراق

 

في ظلال الذئاب

ضاع يوسف وإخوته

في الصحراء

كما في بلدي الجريح

على يد ساسته

الحمقى

اه يا وطني .

مهد الحضارات

ضاع الحلم فيك والأماني

بغداد ......

هذه الروح تحفة

الوجع والقداسة

لا زال الميتون

يقرعون طبول

إباحة الدماء

والنهر بقميصه يصرخ

يجمع الخلق من الرمال

وفيض السعادة

يسكن الليل بأرتياب

والنخل الباسق في الحزن

يشكو من فؤوس الطغاة

هي تلك السنين العجاف

وبلادي يا إطلالة الانبياء

في مقلتيك الشعر يزهو والكلمات

في مقاهيك ينبض الشعر والشعراء

والقهوة العربية والمطر المدرار

يروي قصة

الف ليلة وليلة

دموع العاشقين

في الأسماء

السعف يهمس في الرباب

والرحالة في قوافل المسافرين والطرقات

وطني أيها الحضن الكبير

رايتك مرة بلا جبابرة

تحوم من حولك

الأطياف والألوان

وهذا المحراث يجمعنا

في ضحكة الأماسي والحمامات

***

باقر طه الموسوي / العراق

في نصوص اليوم