نصوص أدبية

نصوص أدبية

مَلامحُ العين ترنيمٌ بلا شَفَةٍ

والرمْشُ يَهْدأ، في وصفٍ به عِبرُ

*

وللمعاني صَدىً في رسْمِ صُورَتها

ومُقْلَةُ الرَّصْدِ، في مِرسالِها أَثرُ

*

نبْعُ المواهِبِ لا تَخْفى سريرته

وفي التصنّع تزويقٌ له صُوَرُ

*

والعَزْفُ إنْ غابَ عَنه الإنْتقاءُ سَرى

في غُربَة الذوق والأنماطُ تنْحسِرُ

*

(يامن يَعزّ علينا أن نفارقهم)

ذكراكُم يحتويه الشوقُ والسّهَرُ

*

إنّ الخيالَ اذا الابداعُ جَسّدَهُ

يُمَوْسِقُ الجوَّ في لفظٍ لهُ وَتَرُ

*

يَجوُبُ حوْلَ رِياض الشِعر مُنْتقيا

حُسْنَ القوافي، عفيفا حين ينْبهِرُ

*

نورُ التفوّقِ يبقى في جلالته

اذا التواصلُ صوْبَ العِز مُقتَدِرُ

*

نَيْلُ الوَجاهَةِ، في تحقيق غايتها

إنْ غادَرَتْها سِماتُ الحقِ تَنْدَثرُ

*

وبَصمةُ الودِّ توثيقٌ له صِلَةٌ

بعِفّة النهْجِ، لا زيْفٌ ولا ضرَرُ

*

إنْ حقّقَ الصوتُ في الأجواء هيْبتَه

بدافع الخير، فالأهدافُ تنتصر

*

وكلُ رُتْبةِ ابداعٍ اذا شَخَصَتْ

بَهاءُ طَوْدٍ، به الأحفادُ تفتخرُ

*

كَفٌّ يؤرّخُها سيفٌ بمَسْكَتِه

والخُلْدُ ينسى يداً، بالبَطْن تَأتَمِرُ

*

ينام صافي النوايا، والسَنا وَعَدٌ

دوما اليه زلالُ الماء ينهَمِر

*

يا صاعِدا سُلَّماً، تدري مدارِجه

حُبُّ الظهور، رويداً سوف تَفْتقر

*

لا ترتدي زُخْرفا في نسْجه بِدَعٌ

فالوَهْمُ يكْشِفُه التحليلُ والبَصَرُ

*

(إن العيونَ التي في طرفِها حَوَرٌ)

لا فخرَ فيها، إذا قلبٌ به عَوَرُ

***

(من البسيط)

شعر: عدنان عبد النبي البلداوي

بِـفَـاتِـنَـتِي يَــشِـعُّ الـعُـمْـرُ ضَــيَّـا

وَيُـشْرِقُ فِـي خَـفُوقِ القَلْبِ حَيَّا

*

بِـهَـا هَـتَـفَ الـفُـؤَادُ بِـلَحْنِ وُجْـدٍ

فَــكَـانَ لِـمَـسْمَعِي نَـبْـضًا شَـجِـيَّا

*

سَـقَـتْ قَـلْـبِي حَـنِينًا ذَاتَ وَجْـدٍ

فَـــأَرْوَتْ لَـهْـفَتِي وَالـشَّـوْقَ رَيَّــا

*

سَــرَى فِـيـنَا الــوُدَادُ فَـصَارَ نَـبْعًا

تَـدَفَّـقَ فِــي دَمِــي عِـشْـقًا نَـقِـيَّا

*

فَـتُـهْدِينِي مِــنَ الأَنْـفَـاسِ عـطرا

يَــفُـوحُ الـطِّـيْبُ مِـنْـهَا سَـرْمَـدِيَّا

*

أُدَاوِي هَــمَّــهَـا بِــالـحُـبِّ لُــطْـفًـا

فَــأَجْـنِـي وُدَّهَــــا رُطَــبًـا جَـنِـيَّـا

*

أَفِــيـضُ لَــهَـا حَـنَـانًا وَاشْـتِـيَاقًا

وَأَنْــسُـجُ عِـشْـقَـهَا شِــعْـرًا نَـدِيًّـا

*

تَـمُـدُّ الـحُسْنَ فِـي عَـيْنَيَّ سِـحْرًا

فَـيَـسْكُنُنِي الـهَـوَى عِـشْقًا طَـرِيَّا

*

أُحِــبُّ وَهَـلْ يُـلَامُ الـقَلْبُ فِـيهَا؟

شَـبِـيـهُ الـــرُّوحِ فَـاتِـنَـةُ الـمُـحَيَّا

*

إِذَا حَـضَرَتْ تَـرَى فِي اللَّيْلِ نُورًا

كَــأَنَّ الـصُّـبْحَ قَـدْ أَضْـحَى جَـلِيًّا

*

وَإِنْ هَـمَسَتْ تَـسَرْبَلَ فِي فُؤَادِي

ضِــيَـاءٌ يَـحْـمِـلُ الْـوَجْـدَ الـنَّـدِيَّا

*

وَإِنْ غَـابَتْ تَـغِيبُ الـشَّمْسُ عَنِّي

وَتَـسْـكُـنُ عَـتْـمَـةُ الأَقْـــدَارِ فِـيَّـا

*

تُـبَـعْـثِـرُنِي فَـتُـشْـعِـلُنِي حَـنِـيـنًـا

أَذُوبُ بِـــهَــا وَأَجْــمَـعُـهَـا إِلَـــيَّــا

*

فَـأَحْـمِـلُهَا عَــلَـى الأَهْــدَابِ وَرْدًا

لِأَطْـــوِي سَــطْـوَةَ الأَيَّـــامِ طَـيَّـا

*

وَأَرْسُـمُـهَا خَـيَـالًا فِــي ضُـلُوعِي

يُــسَـامِـرُنِـي وَيَـلْـقَـانِـي حَــفِـيَّـا

*

أَضُـمُّ هَـوَايَ فِـي صَـدْرِي وَأَبْنِي

لَـــهَــا وَكَــنًــا وَأُسْـكِـنَـهَـا عَــلِـيَّـا

*

وَكَـمْ خَـبَّأْتُ وَجْـدِي عَـنْ عُـيُونٍ

لِأَحْــفَــظَ عَــهْـدَنَـا سِــــرًّا نَـقِـيَّـا

*

فَـهَلْ يَـكْفِي الـهَوَى لِـحَيَاةِ قَـلْبٍ

إِذَا مَــا الـلَّـيْلُ سَــارَ بِــهِ قَـصِيَّا؟

*

وَهَلْ يُجْدِي حَنِينُكِ فِي ارْتِوَائِي

إِذَا مَــا الـبُـعْدُ أَوْجَـعَـنِي خَـفِـيَّا؟

*

إِذَا مَـا الـصَّمْتُ بَـاحَ بِـكُلِّ نَـبْضٍ

تَـعَـالَـيْ، فَـالْـمُنَى أَضْـحَـى لَـدَيَّـا

***

الشَّاعِر فَيْصَلُ النَّائِبْ الهَاشِمِي

اللوحة المفقودة في أدب الأطفال.......

تروي حكاية طفل لم يُسمع صوته بعد.

الألوان ضائعة بين أقدام المارة، والقصص تذوب في صمت الزوايا.

هناك صوت غير مسموع،

وذكريات لم تُدون،

وحياة لم تُرسم تفاصيلها.

بيت بلا سقف، ومحل بلا زقاق…

الفراغ هو ما يكتب، والصمت هو ما يرى.

أطفال عاشوا دون أسرة…

حكاياتهم مبعثرة بين الشوارع…

أجساد رقيقة لكنها تحجرت…

وكأن العالم بأكمله يتجاهلهم،

وكأنه لا يرى إلا نصف لوحاتهم،

التي ترسمها خطواتهم بين الأزقة وعلى الأرصفة،

وفي وحشة الظلام، حيث في عالمهم لا وجود لفجر يوم جديد.

صورة بألوان باهتة، حوافها ضبابية، ومحيطها رمادي.

أبواب مغلقة، لا فراش ناعم ينتظرهم، ولا أحلام وردية تزورهم،

ولا من يقرأ لهم قصصًا قبل النوم.

خطواتهم ترسم لوحات نصفية في وحشة الظلام…

تتبادل شمسهم وقمرهم الأدوار بصمت.

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

مِنْ جَوْفِ الطُّوفانِ

وَفِي أَمَلٍ ميئوسٍ مِنْهُ...

حاولتُ لفتَ أنتباه الله بِلهجةٍ بغداديّةٍ ولِدت معي

أسمعتْ مَنْ بِهِ صممٌ:

إِلهِي...

الْمَدِينَةُ المَعْروفةُ بَيْنَ الأممِ بِمدينةِ السّلَامِ

رغمَ أنَّ اسمها الحقيقي أَرْمَلَة الفرح

لَمْ يَكُنْ لَهَا مَلْجَأ سِوَاكَ

فَكُلّما عَزَّفَت قيثارتُها صَافِرَات الْإِنْذَار

وَأَطْفَأْتِ الْحُروبُ والنَّكْبَاتُ مصابيحَ شوارعِها....

أَوْقَدتِ الشُّمُوعَ لَكَ صلاةً!.

وهُوَذَا الطُّوفانُ أُطْفَأ شُمُوعها...

فهَلْ ستَتَقَبَّلُها فِي الْمَلَكُوتِ السَّمَاوِيِّ

بِلَا وشاحٍ أسودٍ

ودونَ ثيابٍ مُبقَّعةٍ بِالدّماءِ؟!.

فيَارّبُّ هَذِهِ المَدِينةُ القِدِّيسُةُ لَمْ تَقْتَرِف خَطِيئَةً

وإنّما تَوَارَثْت خَطايَا حُكَّامهَا

الحاكمُ تِلْوَ الحاكم!.

لقَد كَانَت جائعة للطُّمَأْنِينَةِ

وَلَمْ يُطْعِمُها سِوَى مُهَدْئَاتٍ

تَلُوكها مَا بَيْنَ حربٍ ومَأْساةٍ وطوفانٍ...

فهَلْ سيُعِلْنُ العالم الحدادَ عليها ثَلَاثَة أَيَّامٍ؟

أمْ ستقولُ لَهَا:

" اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ...إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ "؟.

مَهْلاً يَا الله:

بقيَ لِي أن أقولَ لَكَ:

لَا يفني تَارِيخَ مدينتي حاكمٌ أو طوفانٌ.

لِتَضَرُّعاتي أصغِ يَا رّبِّ. آمين.

***

الأب يوسف جزراوي

سَمِعْتُ الهديلَ برغمِ الصخبْ

وكنتُ المياهَ وكنتِ اللهبْ

*

تخفّفتُ حتّى توارَيتُ عنّي

وكُلّي بكُلّي إليكِ انجذَبْ

*

كأنّكِ أنتِ المدارُ الوحيدُ

وروحي تطوفُ وما من تعَبْ

*

سأحذِفُ ياءَ النداءِ فأنتِ

دمٌ فيَّ يجري وقلبي المَصَبْ

*

أُقبِّلُ منكِ الشفاهَ العِذابَ

فأهجُرُ كلَّ كرومِ العِنَبْ

*

وهبتِ لشمسِ الصباحِ الحزينِ

ضفائرَ شَعْرٍ بلونِ الذهَبْ

*

وعلّمتِ عُصفُورةً في الحروبِ

فنونَ الغناءِ ومعنى الطربْ

*

جمعتِ المحاسنَ من كلِّ أرضٍ

فنهدٌ دِمَشقٌ وخَصْرٌ حلَبْ

*

لقد حدّقَ الليلُ فيكِ طويلاً

وفي مُقلتَيكِ ارتمى وانسكَبْ

*

ألَا إنّما كلُّ حزنٍ عظيمٍ

يزولُ بهذا الجمالِ العجَبْ

*

فعيني وسمعي وفكري ونبضي

كخيلِ سباقٍ وأنتِ الأرَبْ

*

أسائلُ نفسي: تُرى أيُّ سِرٍّ

بهذي الزهورِ التي تُستَحَبْ

*

لأنّكِ أنتِ نظرْتِ إليها

فأنتِ لكلِّ جمالٍ سَبَبْ

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

 

لَمْ يمتْ بَلْ مشى يتمشى الطريقَ الجميلَ الذي بينَ دارتِهِ في الجنوبِ

ودارتِهِ في السماءْ

حقولاً ونوراً وماءْ

وجداولَ تملأُ منها الجرارَ النساءْ

*

لمْ يمتْ

والحناجرُ ضجَّتْ تناديهِ كيما يعودْ

حشوداً تسيرُ بجنبِ حشودْ

*

والجنودُ يريدونهُ حاضراً

لكي يجدوا بَعدَ بحثٍ جوابَ السؤالِ:

لماذا الجنودُ جنودْ؟!!

*

على ساحلِ البحرِ في فنزويلا لَهُ أصدقاءْ

لَهُ اصدقاءٌ بكوبا

وفي نجفٍ باسقٍ في العراقْ

ولَهُ في الجزائرِ، في المغربِ العربيِّ وفي المشرقِ العربيِّ رفاقْ

*

ولَهُ في اليمنْ

قلوبٌ اِذا خفقتْ

ستهزُّ دهورَ الزمنْ

***

شعر: كريم الأسدي

..........................

ملاحظة: زمان ومكان كتابة هذه القصيدة في يوم 24 أيلول 2025 ، في العراق ..

 

إقفلْ عينيكَ بقُرحةِ كافورِ الموتى

الكوّةُ غرقى بسوادِ يقينِ الأيامِ

والدربُ عسيرُ المرمى فضفاضُ شقوقِ الأكمامِ

ذكّرى مرّتْ مرَّ العاصفِ بعدَ الزلزالِ

أينَ مكانيَ مَنْ يُطفئُ نارَ الحرمانِ

شتّوا جَمْعاً وفُرادى

كانَ الأوّلُ مخضوبَ الرأسِ وكان الثاني مخنوقَ الأنفاسِ

ظلَّ الكهفُ سبيلاً مفتوحَ الثغرةِ والصدرِ

يستقبلُ عُوّادَ الدُنيا الأُخرى أجيالاً أمواجا

*

طافتْ أركانُ المعمورةِ جذلى

تصبغُ أُفْقَ الشرقين الأدنى والأقصى

بفنونِ بروقِ الطيفِ الشمسي

الحارسُ خلفَ المِقوَدِ يحكي للريحِ مخاريقَ الطُوفانِ

كيفَ انحرفَ الرأسُ العاري وحطَّ النورسُ  فوق الصاري

لا ريحَ تُعكِّرُ أمزجةَ الموجِ ولا قَمَرٌ يرقبُ عينَ الربّانِ

نوحٌ باحَ وراحَ يُجمِّعُ أخشابَ الأرزِ

كلكامشُ يقتلُ وحشَ الغابةِ (خِمْبابا)

أين صديقُكَ (أنكيدو)؟

تركَ الفُلكَ يُفتِّشُ عن قنينةِ خَمْرِ

طافتْ .. طوّفتُ ولمْ أغرقْ إلاّ في حالةِ إغماءٍ قسري

حالَ الباكي ينفثُ من رئةٍ غيماً منفوشا

قد يلحقُ بالموجِ الضاربِ أطنابا

يدّافعُ والحلْقاتِ العُظمى في دولابِ التدويرِ البحري

لا من صوتٍ إلاّ صوتَ زئيرِ سقوطِ الأفلاكِ

لا يخلو موجٌ من شارةِ حُزنٍ بعدَ الإقلاعِ

فشلَ الطوفانُ فأعلى الصاري رأسا

(نوحٌ) يسقي في حانةِ (سيدوري) (أنكيدو) كأسا

الماءُ يشفُّ وريشُ حمامٍ فوقَ الصاري

الرِحلةُ قد تمّتْ وانحسرتُ موجاتُ الطوفانِ

نوحٌ في حانةِ (سيدوري) يسقي (أنكيدو) كأسا

جذلانَ فقد جفَّ الماءُ.

***

د. عدنان الظاهر

أيلول 2025

من استبعاد محتلٍّ

إلى استعباد "أحرارِ"

*

هي الأحوالُ في دارٍ

مقسّمةٍ لأقطارِ

*

قرونٌ قد مضتْ والشّعـ

ـبُ مغتَصَبٌ بأفكارِ

*

حروبٌ لم تقمْ والربُّ

منتصِرٌ بإسكارِ

*

ربوبٌ هُدّمتْ واللا

تُ  ممتنِعٌ بزوّار

*

قصورٌ في السّما والجو

عُ مُكتسِحٌ بأسعارِ

*

علومٌ اُنشِئتْ والجهـ

لُ مُتّبَعٌ بإصرارِ

*

عصورٌ قد تلتْ والزّيـ

رُ مُمتدَحٌ بأشعارِ

*

شموسٌ أشرقتْ والغرْ

بُ مُنتدَبٌ لإعمارِ

*

بلادٌ حُرّرتْ والقد

سُ منتظِرٌ لأقدارِ

*

وتدري القدسُ أنّ الدّا

ءَ ليسَ بداءِ ثُوّارِ

*

و لا هوَ إن تسلْ غربٌ

تغلغلَ عبْر أنصارِ

*

ولا هوَ إن تُعِدْ جيشٌ

لحفظِ سُلالةِ العارِ

*

بأرضِ الدّارِ كرّارٌ

وعند الجار ِكالفارِ

*

ولا هي قلّةٌ أمسوا

بها خدمًا  بأمصارِ

*

ولا هي فرقةٌ عصفتْ

بهم عصفًا كإعصارِ

*

ولا هي أعينُ الحُسّا

د صابتْهُم بأعمارِ

*

وما ذاكَ وما ذا غيـ

رَ تعميةٍ لأبصارِ

*

عن الدّاءِ الذي أمسىْ

اسْمُهمْ ذاتَ اسمِهِ السّاري

*

ويَقسمُهمْ ويطرَحُهمْ

ويضرِبُهمْ كأصفارِ

*

ويُحصيهم ألوفًا حيـ

ن يجمعُهمْ على العارِ

*

وينُسيهم معالِمَهمْ

ويُلحِقُهم بأغيارِ

*

ويُوعدُهم بفردوسٍ

ويرسِلُهم إلى النارِ

*

كراهيةُ الرّدى ولعًا

جرى هوسًا بذي الدّارِ

*

وتدري القدسُ أن لا حلّ

إن تركوا لأقْدارِ

*

فوهْنُ القلبِ ليس يزو

ل دون مرورِ إعْصارِ

*

يعلّمُهم مقاومةَ

الدّنى نسفًا لأسْفارِ

*

يعلّمُهم مُخاللةَ

الرّدى سعيًا إلى الثّارِ

*

إذا اقتبسَ الحياةَ عزيـ

زةً من حيِّها العاري

***

أسامة محمد صالح زامل

 

في ساعة الظهيرة

حيث الأشياء تقترب من ظلها

ويحتمل الغبار خِفّته

لوّح سيدنا الشهيد بعصاه

فانبجست قصيدة.

*

كيف أكتب القصيدة؟

قلّبت أشعار من سبقوا

لعل شاردة تليق بي.

في عكاظ الغاوين

من يقدح زنده لا يثبت

كمن سرقوا

حي على التلصص

مهنة الشعراء الفريدة!

*

حملت صمتي الموقر إلى ضفة الوادي

للماء في الشعر ملحمته

هو الساكن/الخالد

هو الرجاء..

ينزّ من ثدي السماء العنيدة

كسارة الألوان هو

والحامل والمحمول

وما شئت من سلالم إلى الروح البعيدة.

تفتق شاعر على الراديو ليصيح:

ريب هي الحداثة!

مشقة وغياب

لا ماضي إلا ما مضى

والآتي.. عائد للتو من غربته

كن بلا وطن لتكتب

كن بلا وثن

لتضيء الحروف سبيلك

إلى مدن سطّرتها المكيدة!

تريث وأنت تعبر بين قلبين

لعل في البوح

ما يفسد الحنين إليك

لعل في صمتها ألف سنبلة

تحنّ إلى المناجل

لعلها قنديلك المُسرَج

إلى موت خفيف.. وعاجل

هُزَّ إليك بجذعها

تسّاقط الكلمات

خُذها.. لا تخف!

وضع في المقلتين زمردا

لتشرق الكائنات

دونك هذا الزمان الجريح

دونك ما تبقى من أمنيات

خُذها.. لا تخف!

ما الروح إلا همهمة

ما الشعر إلا نمنمة

سطّرتها يد الغلَس

هذي حروفك تجري على اليَبَس

لتضيء الروحَ داخلها

ويهتف الشعراء: حي على الفجيعة

وانكسار الذات كمرآة

وجع هي الكلمات!

*

ثم عدتُ الشاعر الذي كُنتُه

مُمحّصا هذرك الناقد

مُلوّحا بالشمس لظلك المارد

لي أبجدية:

عشرون حرفا تُقلّبها الصبابة

لي عرّافة تحثّ الرمل

في أثر الغياب

ولي زفرة

تصعد من ثقوب الناي إلى مولاي!

*

تلوّى كل بيت في دمي

لتكتمل القصيدة

وأظفر بالمعاني لأسُكّها

درهما للقُرُبات

وتشرد أوزاني بلا كلل

من خيمة إلى طلل

إلى نقش على دار الخلافة

أنا الشعر

والشعر كينونتي الأولى

رونق أوجاعي في مهب الحياة.

***

حميد بن خيبش

فاس- المغرب 2025

 

منذ اللحظة الأولى لوفودها إلى كان صديقي بائع الكاسيتات، ووقوفها هناك بجسدها الميّاس ونظراتها الحالمة، شعرت بأنها لن تكون صبية عابرة في حياتي وأنني سأتوقف عندها طويلًا. تقدّمت من القاطع الخشبي الفاصل بينها وبين صاحب المحلّ، أرسلت نظرة متمعّنة إلى الكاسيتات المفرودة على القاطع. قالت:

- اريد هذا. وتناولت كاسيت لم أتبين عنوانه.. رغم رغبتي. ابتسم لها صاحب المحل وهو يقول لها:

- أعرف أنك تحبين عبد الحليم حافظ. اختيارك لأغنية "بحلم بيك.."، يقول انك توغلين في عالمه. تناولت الكاسيت من على القاطع الخشبي، وضعته في حقيبتها اليدوية، ومضت غير عابئة بنظراتي المُختلسة تجاهها. تجاهلت وجودي، كأنما هي أرادت أن تقول لي إن نظراتي المتسائلة لا تعنيها. بدا أن صديقي صاحب المحل شعر بنظراتي الشابّة الطرية تلك، فتوجّه إلي:

- هذه جواهر ابنة الحارة. اكتشفت عبد الحليم مؤخرًا.. قبل ثلاثة أشهر.. منذ اكتشافها له، دأبت على زيارة المحل كل يوم ثلاثاء.. لتشتري كاسيت إحدى أغاني العندليب. بعد صمت قصير تابع يقول: اشعر أنها راقت لك. ولم ينتظر تصريحي المتوقّع، وتابع يقول، إنها فتاة مُرهفة، أعتقد أنك تكبرها بثلاث سنوات. إنها مناسبة لك.. أرجو أن ترافقك في توديع العزوبية.. يكفي أنك بلغت ربع قرن من الزمان.

الهبت كلماته هذه خيالي.. الملتهب أصلًا، ورحت أتساءل عن سبب تجاهلها لي كلّ ذلك التجاهل، ولا أخفي أنني أردت أن أتحدث إليها، أن أقول لها إنني أنا أيضًا أحب العندليب، لا سيمات أغنيته تلك التي اشترت تسجيلًا لها. ولو فتحت لي مجاًلا للتحدث إليها لقلت لها إنني سبق وأنتجت لوحة للعندليب، شهد لها القاصي والداني، ورفعت أسهمي بين فناني البلاد، بل جعلت بعضهم ينظر إلي بنوع من الحسد، فيما دفعت بعضهم الآخر إلى تجاهلي وكأنما أنا شكّلت بتلك اللوحة خطرًا عليهم وعلى ابداعاتهم الفنية.

ابتعدت جواهر عن محل صديقي، حتى اختفت في منعطف قريب. قلت لصديقي:

- أوافقك الرأي.. أشعر أن بيني وبينها أكثر من قاسم مشترك.. لا سيّما فيما يتعلّق بحليم.

أثني صديقي على جواهر قائلًا:

- إنها أجمل وأعقل مزز الحارة.. تعال يوم الثلاثاء المُقبل.. فقد يكون نصيبك.. في الزواج والحياة.. معها.

انتهى ذلك الموقف، غير أن تفكيري بجواهر لم ينته، فقد رافقتني طوال طريق العودة إلى البيت في القرية المجاورة. وأكاد أقول إنها دخلت معي باب شقتي الوحيدة وأنني أغلقت الباب محاولًاأان أحول بينها وبين المغادرة.

فكّرت في اليوم التالي بزيارة دكان صديقي بائع الكاسيتات، حاضنًا في عيني وفي كياني كله صورتها الجميلة وهي تضع كاسيت اغنية بحلم بيك، وانطلقت باتجاهه. غير أنني ما أن شارفت على الوصول إلى دكانه حتى استسخفت موقفي، أنا الفنّان رسام المطربين العرب الرائعين، وعدت من حيث أتيت. توقّفت في المحطة القريبة من الشارع المحاذي لدكان صديقي بائع الكاسيتات، وأنا أقول لنفسي، دعها.. دع جواهر فقد تلتقي بها، يوم الثلاثاء القادم، حين تتفحص كاسيتات حليم لاختيار واحدٍ منها. ما إن قلت لنفسي هذه الكلمات، حتى فوجئت بها.. بجواهر ذاتها بشحمها ولحمها.. تهلّ على محطة الباص.. كأنما هي واحدة من حوريات الجنة.. نزلت إلى الأرض في المكان المناسب والزمان المناسب. أرسلت ابتسامة غامضة نحوها، إلا أنها تجاهلت ابتسامتي بل تجاهلت وجودي كلّه. توقّف الباص المنتظر، لأراها تصعد درجاته، وترسل نظراتها الساحرة الحالمة إلى سائق الباص، ولم تكتف بذلك وإنما راحت تتحدث إليه بكثير من الود، الامر الذي جعلني أتجاوزها وأجلس في المقعد الأخير. استرقت النظرات إليها.. إلى جواهر.. كانت تتحدّث بحميمية إلى السائق، ولفت نظري أنها تتحدّث إليه وكأنما هي تعرف عن مواعيد الباصات مثلما يعرف، وربّما أكثر، فقد تأخرت عن موعدك ثلاث دقائق. هل أستطيع أن أعرف السبب؟.. ابتسم السائق وهو يردّ عليها قائلًا:

- أعرف أنك تعرفين كلّ شيء عن الباصات ومواعيدها. صمت وتابع: تعرفين أن حركة السير دائمة التعسُّر كثيرًا ما تحول بيننا وبين الوصول في الموعد المحدّد.

انطويت على ذاتي وأنا أفكر فيما إذا كانت مرتبطة كلّ ذلك الارتباط بذاك السائق، وبقيت أتخبّط في انطوائي ذاك حتى لمعت في ذهني هاجسة، لو كانت تعرفه أكثر مما يُفترض، لما عاتبته على ذلك التأخر، وربّما كان أخبرها أنه سيتأخر قليلًا في الوصول إلى محطتها تلك. هذه إذن بارقة أمل، تعيد ما أوشك على التكسر بيننا من زجاج، إلى صلابته المختلطة بنوع من الهشاشة. فماذا تراني أفعل.. توقّف الباص في محطته الأخيرة، في مركز بلدتي. ترجّلتْ منه، احتضنت حقيبتها اليدوية وهي تختلس نظرة غامضة.. شعرت أنها غاضبة نوعا ما نحوي، وولّت مبتعدة عن تلك المحطة. تابعتها مسترقًا النظر إليها ومُتابعًا خطواتها المتهادية على ارض بلدتي حتى اختفت في أحد المنعطفات البعيدة. فكّرت باللحاق بها، غير أن صورتها وهي تتحدث إلى ذلك السائق، دفعتني للتوقّف وعدم المغامرة .. فمن ادرأني انها مرتبطة به بعلاقة حبّ حَلِمتُ بمثلها منذ وقعت عيني عليها في الامس؟..

لم أنم في ليلة ذلك اليوم.. التالي.. على لقائي المتوهّم بها، وكنت طوال الوقت أحاول أن أغمض عينيّ تهرّبًا من طيفها الضاغط على مُخيّلتي. الغريب أنني كلّما كنت أتهرّب من طيفها كان يعود إلي بإلحاح اقوى وأكبر. "هل هجم النصيب"؟، ردّدت بيني وبين نفسي، واستسلمت لوسن غامر.. رأيها خلاله تقترب منّي وترسل ابتسامة مُلهمة ساحرة.. تُولّي بعدها مُنطلقة نحو البعيد وإيقاع خطواتها.. دائرة ظهرها.. تتحوّل إلى موسيقى حَليمية في عالمي المُبدع الجميل. تابعتها حتى ابتلعتها.. هذه المرة.. منعطفات البلدة كلّها. وفتحت عينيّ.. بعد ذلك الحلم الجميل.. وأنا أشد على قبضتي الفنانة وأؤكد لنفسي أن ما جَمعه الله لن يفرقه بشر. "سأتحدث إليها .. يعني سأتحدّث إليها". قلت لنفسي وأنا أتمعّن في غرفتي كابية الأضواء.

أخيرًا زارني ملك الكرى، احتضنني. قال لي اذهب إلى صديقك بائع الكاسيت.. زره في الغدّ.. فقد تلتقي بها قريبًا من دكانه، وقد تحصل فرصة غير متوقّعة لأن تتحدّث إليها. في صباح اليوم الثالث للقائي ذاك بها، حملتني قدماي إلى دكان صديقي بائع الكاسيتات، لكن ما حدث هو أنني قبل أن اترجّل من الباص وأنطلق باتجاه دكانه، حتى انتابتني حمية تميّزت بها.. "لا، لا أنا لن أذهب إلى هناك". هكذا وجدت نفسي في لحظة اليوم السابق ومحطّته الشكّاكة. أرسلت نظرة إلى ساعة القرية المُنتصبة بحيرة قُبالة محطة الباص.. كانت تشير إلى الثانية عشرة، إنه موعد الباص ذاته.. في الساعة المحددة تمامًا توقّف الباص لأجد نفسي أصعد درجاته الثلاث واتخذ مقعدي القريب من السائق. لم يكن سائق اليوم السابق، كان شابًا آخر. وقبل أن ينطلق الباص.. سمع الجميع.. نداء يطلب منه أن ينتظر قليلًا. انتظر السائق على غير عادة سائقي منطقتنا لتقع المفاجأة الغريبة الثالثة،" الثالثة ثابتة"، قلت في سرّي. كانت الراكبة المتأخرة قليلًا جواهر ذاتها. ما إن رأيتها حتى أخليت مقعدي القريب من السائق منتقلًا إلى المقعد الآخر. صعدت جواهر درجات الباص الثلاث كأنما هي غزالة طرية العود.. قفزت عنها مجتمعة. لتقف قُبالة السائق ولتأخذ في التحدث إليه وكأنما هي تعرفه أكثر من سائق اليوم السابق. اعتذرت جواهر عمّا تسبّبت به من ازعاج للسائق. واتخذت مقعدها القريب منه، لأفاجأ بالسائق يتحدّث إليها مُخبرًا إياها أن خيرًا حصل، وأنها ليست غريبة عن شركة الباصات.. وفهمت مما قاله أنها مُهتمة بالشركة وباصاتها.. وأن علاقة اخوة تربطها بجميع سائقيها. أنار ما استمعت إليه بكلّ جوارحي.. ما استغلق عليّ فهمه من أمر جواهر.. واتخذت قراري المصيري الأول.. أنا ينبغي أن أتحدّث إليها. لذا ما إن ترجّلت جواهر من الباص، حتى حاولت أن استوقفها للتحدّث إليها، غير أن ما حدث خالف كلّ توقّعاتي، فقد انطلقت بسرعة البرق في الشارع القريب، لأراها تختفي في المنعطف الثالث. وعبثًا حاولت أن أعثر عليها.. غابت مثل حلم ساحر ومراوغ.. في الشوارع والساحات.

مضى ذاك النهار دون أن أعثر لجواهر على أي أثر، أما الآن وقد ابتدأت الصورة العامة.. لها ولي.. تتضح، فأنا لا بدّ مِن أن أعرف جليّة الامر. استقللت الباص المتوجّه إلى بلدتها المجاورة. دخلت دكان صديقي بائع الكاسات، فابتسم وهو يقول لي بدون مقدّمات:

- لقد بهرتك جواهر.. أنا تحدثت إليها بشأنك.. فأخبرتني أنها شعرت باهتمامك بها .. إلا أنها مع احترامها لك ولفنّك.. ترجو أن تتعرّف على سائق باص جدّي وغير عابث لترتبط به. "افهم من هذا أنها لا تفكّر إلا في سائقي الباصات؟"، سألت صديقي، فردّ قائلًا:" نعم هي كذلك.. كّل ما تتمنّاه هو أن ترتبط بأحد السائقين المهرة.. لهذا هي تتحدّث إليهم جميعًا وفي بالها أمل لا يغيب بالارتباط بأحدهم". " والآن ماذا بإمكاني أن أفعل وقد فهمت سبب إعراضها عنّي وإقبالها على سائقي الباصات"، سألت نفسي.. و.. تتابعت الأسئلة تدنيني وتبعدني عن جواهر، إلى أن عرفت الطريق القوّيم لإعادتها من كلّ المنعطفات القريبة والبعيدة.. سأتعلم فنّ قيادة الباصات.. لا بُدّ مِن أن أتعلّم ما يُرضي جواهري الغالية أولًا ويرضيني ثانيًا.

***

قصة: ناجي ظاهر

هزم  المحارب في داخلي، لم يعد يستفيق مع نعيق البوم ويستل سيفه في جنحات الظلام على دقات طبول المعارك. الرماح التي أطلقتها قديماً في صدور الأعداء، بقبضة ثابتة كأنها امتداد لذراعي، عكست حدّها القاتل، وانغرست بصدري.

و كأن الحديد يحفر صدعًا لا يُرى، صدعًا يتسع ليبتلع كل ما تبقى من يقين.  لم أُهزم على يد الأعداء، بل على يدي أنا.

كل المعارك التي خضتها لم تتركني بطلة، بل جثة تائهة بين رماد الحروب. كنت أظن أنني أقوى من أن أهزم و أن الانتصار يعني النجاة، لكنني أدركت أن بعض الانتصارات لا تهب خلاصًا، بل تسرق آخر ما تبقى من براءةٍ واندفاع.

 المحارب في داخلي جثا أخيرًا على ركبتيه، خلع درعه قطعة قطعة، ليتركها تصدأ في العراء، وهمس بصوت لا يسمعه سواي: “لم أعد قادرا" كان في همسه ذهول من نفسٍ لم تعرف الخوف أبداً، خوفٌ ليس من الغياب بل من طول الطريق الذي يقود إلى الفراغ، إلى تلك الشيخوخة الروحية التي تُجبرنا على إطعام نارٍ بلا معنى حتى تأكلنا نحن آخرَ حطبها.

أجلس الآن أعدّ الأطلال — أسماءُ الهزائم، طقوسُ الوداع — وأتعلّم كيف أخوض معارك مجرّدة من السلاح. أسألُ نفسي إن كانت الشجاعة أن أقف من جديد، أن أسمح لأمانٍ صغير أن يرمم بعض الشقوق. ألمحُ في المرآة ظلّ امرأةٍ تهرأ قليلاً، ورغم ذلك تملك قدرةً عجيبة على أن ترى في الأشياء الصغيرة سببًا للوقوف، أن تخمد النيران دون أن تدوس على آخر شعلة فيها.

***

لمى ابوالنجا - أديبة وكاتبة من السعودية

 

أُراقبُ عبر نافذةِ الخريف

سحائبَ

تسيرُ على عَجَلٍ.

*

غيمةٌ تَسَمَّرتْ في كَبدِ السّماء

تُلوِّحُ كأنّها تُودِّعُ الغيماتِ

المُغادِرةَ نحو الجنوب.

*

تَقتربُ كثيرًا لِتَلتحِمَ بغيماتها الصغيرةِ المُبعثَرةِ مثلَ نَديفِ القُطن،

تَسبَحُ في الفضاءِ لتلحَقَ بِجبالِ السُّحبِ المحمَّلةِ ببلّوراتِ الثلجِ وزخّاتِ المطر.

*

ها قد وصلتْ، والتحمتْ في المُقدِّمة،

تَحثُّهم على السّيرِ قبلَ أن يأتيَ المساء.

تُناشدُهم: أن يَحافظوا على حُمولتِهم، فما زال الطريقُ بعيدًا إلى "غزّة " .

*

هناك، على بُعدِ مليارٍ ونصفِ خيبة،

وجوهُ أطفالِهم بلونِ الزنابقِ الصفراءِ،

تَقشّرتْ شِفاهُهم من وَهجِ الشمسِ، وعذابِ الجوعِ، وظُلمِ ذوي القُربى،

وذلك أعظمُ نكبةٍ.

*

عَدوٌّ يفتكُ بأحلامِهم،

يُحرِقُ بالبارودِ دُمىً وخَرائطَ

رَسموها بالطّباشيرِ على حقائبِهم.

*

شظايا القنابلِ سكاكرُ تُسكِتُ الجوع،

تَنهمرُ من نوافذِ المدارس،

ومن خلفِ رُكامِ البيوت، وتحتَ كلِّ حجرٍ.

*

يا غَيمتي الماطِرة، اسقِي العِطاشى حُبًّا وبلسَمًا، كوني للجراحاتِ مُغتسَلاً،

ولأشلاءِ الضّحايا غطاءً من رَحمة.

*

انثُري رحيقًا على مَن يده على الزِّناد

يُقاتلُ المُعتدي، ويدُه الأخرى

يُمرِّرُها على رُؤوسِ اليتامى.

*

أمطِري بأعذَبَ من النَّدى

فوقَ ثَرى سيِّدِ الأرزِ،

مُعطَّرًا بأريجِ الآس،

وحَولَ شواخصِ الشهداءِ،

ومن حولِها شقائقُ النُّعمان.

*

وهناك، وليس بعيدًا عن لبنان،

استريحوا قليلًا على سَفحِ “دَماوَند”،

واغتسِلوا بنديفِ ثلجِه المُعتَّق.

*

وإذا حلّ المساءُ، وتغطّتِ المدنُ بالضباب،

فلتكن وجهتُكم “جُمران”،

فهُناك تَتنفّسونَ من عبقِ الجِنان،

لأنَّ فيها مَن لا يَعرِفُ لُغةَ الخوف،

عَصيٌّ على كُلِّ مَكيدَة أو عتاب

*

وبَعدها…

شُدّوا الرِّحالَ إلى “صَعدَة” العِزِّ والكَرامة،

لِتسقوا شُجيراتِ البنِّ والرُّمّان،

املأوا غدائِرَ جبالِها،

وفَوقَ كُهوفِها

الشامخةِ بالعِزِّ والكَرامة،

اسقوا بُساتينَ الرُّمّان.

*

وأخيرًا، يا غَيمتي الوحيدة، ترفّقي بهُدهُدِ “صَنعاء”،

فما زال حافيَ القَدمينِ يَجوبُ القِفار،

ويطيرُ بين الأكوانِ كلِّها،

يَقصُّ علينا أخبارًا عن زَوالِ عرشِ الشيطان.

*

اسقِهِ من عَذبِ مائك، فعِنده “الخبرُ اليقين”.

لقد كِدتُ أن أشتهي “المُقيلَ والقَاتَ”

لأَنفضَ الرَّمادَ عن صَدرِي المثقَلِ بالقلقِ والإحباط،

مِن “خَنجَرٍ” قد يُباغِتُ خاصرتي،

أو قادِمٍ من الصّحراءِ يُفجِّرُ بي “حِزامَه”.

*

وإن بقي من غَيثِك قَطراتٌ…

فلتكُن حُممًا أشدَّ من أبابيل

على رُؤوسِ الحالمين

بوطنٍ من النيلِ إلى الفرات

***

جواد المدني

 

قلبي يؤلمني،

نصحني الطبيب ألا أثقله

بغزوة أخرى،

اهتزت شراييني لذكرى قديمة،

حين مرت بي،

أشارت بطرف… قاتل.

*

كلما تلمس قلبي،

ألتفت إلى الطبيب،

ثمة شيء

يثلقه.

*

ضحكت وقلت:

بعد كل هذه الآلام

ما زالت

تحرس شراييني،

تهمس في عروقي

بأسماء لم أستطع نسيانها.

*

ليس بيدي،

غفى في صدري،

وتركني

أبكي ذكراه.

*

تتراكض الأيام،

وأنا ما زلت في مكاني،

أنتظر

طائر الليل

يعود،

لا أغفى على صوته.

*

قلبي يوجعني،

الطبيب شعر بالحرج،

كيف له

أن يفرمت

شرايينه،

وذكراك

جدار لا يتزحزج.

*

وصف لي الطبيب دواء

أن تنام وأنت خال،

تحركت شراييني،

كيف

لك أن تقطع

المداد

عنا؟

*

أشباح الليل

تتسرب بين أنفاسي،

تهمس باسمك،

فتعود الذكرى

تجري في دمي

كخنجر لم يُسحب بعد.

*

أحاول أن ألتقط صمتك،

لكن يدي تصطدم بالفراغ،

ويظل قلبي

يتلوى بين كل "كان" و"ما زال".

*

في عينيك

أرى ما رحل،

وأسمع صوتي

يضيع بين جدران الغياب،

وأظل أنتظر

أن تلمس روحي

كما لمست قلبي يومًا.

*

ظلها يمر،

يصيب الهواء بصمت،

وأنا… أتبعه بلا أنفاس.

*

كل نبضة

تعيده لي،

وكل نفس

يثقل بالألم،

حتى أصبح صمتي

وحيدًا مثل قلبٍ لا ينسى.

***

جاسم الخالدي

 

وزدتي!

ذات ليل موحِش بالإنطفاء

آنستي وردتي

فَبَدَتْ أَمْناً كَأُمٍّ

تَشْهرُ الحُمَّى وتَملأُ

ظُلْمَةَ البيتِ ضِيَاءْ!

**

الغاوية!

عبثاً تُغازلني بأزياء جديدة.

كيف تدعوني إلى فَرَحٍ

وأتراحي عديدةْ؟!

كيف؟! والأسْقَامُ قائمةٌ

وأوطاني على أوجاعها

أبدًا قعيدةْ!

**

تبارکتِ!

تباركتِ

تباركَ سِحْركِ الميمون...نَوَّرْتِ

هَجَرْتِ الرُّجْزَ والأَقْزامَ إيماناً بما تُرْتِ

فقد خابوا.. وأَفْلَحْتِ

تباركتِ !

**

تذكير!

لذاكَ الغاصِبُ الجاني:

صدى الأحرار قيثاري

مُحالٌ أَنْ تراني عالقًا بدمي

فلي بالرُّوحِ إِقْدَامٌ

ولي بالبوحِ أَقدَامٌ

وليْ في الثلجِ

أَعْصَابٌ من النارِ !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

.............................

*كم هو صعب أن تغيب عن أصدقائك و(المثقف) الحبيبة بسبب السكري المزمن اعذروني...

 

يا للغيمِ، كيفَ يُطفئُ آخرَ قنديلٍ في دروبِ العائدين، وكيفَ للريحِ أن تحفظَ أسماءَ الذين رحلوا، دونَ أنْ تَخلَعَ جلدَ الذاكرة؟ في مساءٍ مهجورٍ من نبوءاتِ الوجع، ولدنا لاجئينَ من خاصرةِ الأرض، نحملُ على ظهورِنا وطنًا مكسورَ الضلوع، ونمشي كأننا سُلالةُ الأسئلةِ، لا أحدَ يُجيب.

**

في الخيامِ، تنمو الأحلامُ على عِكازِ الانتظار، ويغزلُ الأطفالُ نجومًا من طحينِ الحنين، تحتَ سماءٍ لا تعرفُ أسماءَهم. تقولُ الأمُّ: أين ينامُ قلبي؟ حينَ كلّ طفلٍ لي أصبحَ قارةً منفصلة، وصوتي لا يبلُغُ أعتابَ السماءِ؟ من يُعيدُ لي وجوهَهم قبل أنْ تأكلَها صورُ الهويات؟ وتبكي.

**

الأبُ، سقْفُهُ حنينٌ مُثقّب، وصدرُهُ خريطةٌ مُلغّمة بمدنٍ عبرها دونَ أنْ يراها، يحملُ عمرَه في حقيبةٍ رماديّة، ويقول: لقد تأخّرتُ كثيرًا عن حضنِ البيت، حتى صارَ الزمنُ كلّهُ مَعبرًا لا يُفتح، وكلُّ الجهاتِ حدودًا تبصقُنا.

**

أيُّ جدارٍ هذا الذي فُرِضَ بيننا؟ جدارٌ من تهجيرٍ، من لهاثِ الشظايا، من حقائبَ لا تُطوى، من مطاراتٍ تُطفئُ أملَ العيون، من خرائطَ هجرتْ أسماءَ مدنِنا واستبدلتها بترقيمٍ مُمِلٍّ يُناسبُ طُغيانَ النسيان؟

**

نُفتّشُ في وجوهِ المارّين عن شبهٍ لأبٍ كانَ يزرعُ القمحَ في الحناجر، لأمٍ كانتْ تُرضِعُ الشوقَ مع الحليب، لأخٍ لم يعرفِ الوداعَ إلّا حينَ شقّتْهُ الحدود. لكن لا أحد يُشبهُ أحدًا ولا أحدَ يُعيدُ أحدًا إلّا الله.

**

يا ربّ، أعدْ لنا أوطانَنا التي نحبّ، أعدْ لنا أحلامَنا التي شاختْ في العراء، أعدْ لنا أطفالَنا الذين كبروا بلا ملامح، وأمهاتٍ فقدنَ أسماءَ الندى، وأبناءً تاهوا في خرائطَ من لهب، اجعلْ من يدِك المعجزةَ التي لمْ تُخلَق بعد، واكسرْ جدارَ التهجيرِ العظيم، فما عادَ في القلبِ مساحةٌ أخرى للرحيل.

**

نحنُ العائدونَ إلى اللاعودة، الراحلونَ عن ظلالِ البيوت، المصلوبونَ على أسلاكِ الحدود، نكتبُ أسماءَنا على جدرانِ المجهول، وننتظرُ … أن يُطلّ الفجرُ من عينِ الله.

***

بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

في قرية تلوح

للنهاية "الحياة"

حيث الضحكات

(في مواسم الجفاف)

لم يعد الأطفال يلعبون

بالحبال ويغازلون البنات برقة

بل يلعبون بإشارات التلميح

يرسمون أشكال المسدسات

على أصابعم النحيلة

ويقلدون أصوات

الرصاص ببراعة

كأنهم يلعبون في سوح المقابر

حيث الحب أصبح جريمة

والبراءة ذكرى باهتة

في متاحف النسيان

في هذه القرية يولد

الأطفال بوجوهٍ متحجرة

يستعذبون ويتعذبون

بمهمة الجلاد ويمارسون

الموت في أحلامهم القاتمة

الأحبال التي كانت للقفز

صارت مشانق دامية

كالوقت الذي يصلب الأعمار

والضحكات التي كانت للفرح

صارت صرخات للموت

تقرح مسامع الزمن

***

الشاعر باقر طه الموسوي

نوم الشياطين،

نظرت يسار فتحسست من الشياطين تضحك ببهرجة تهكم، وجدتهم في نشوة التحدي والفوز. حينها لعنتهم صبحا وأيقظتهم باكرا انتقاما، ولم ألتمس منهم رد سلام الصبح حتى ولو بلغة موليير. تيمنت بالرجوع إلى الغرفة وليس إلى المنزل مادام هذه الأخير قد انتقم مني حين خرجت منه بلا كلام ولا ابتسامة. أول ما فعلت كررت الرجوع إلى الفراش وأنا ألعن ” السياسة والسياسيون، والروس واليابانيون، والدول الامبريالية بالجمع” ومن من زاد في الزمن المغربي ساعة ثابتة برحلة الشتاء والصيف.

صياح ديك الآلة،

لم أستسلم الليلة للنوم، لم ترتد عيوني نوما بثرثرة سلطة التفكير الممل المتكرر مثل الناسخ الأسود (كوبي كولي). لكن، من غفوة نوم صغرى أيقظني ناقوس ديك ساعة أيام زمان. توكلت على الله وقلت في نفسي (سبحان الله الذي أحياني بعد موتي الليلي) من غياهب سوء ذاكرتي، أني لم أتمتع بمذاق نوم لذيذ منذ أن وضعت تلك المرآة أمام سريري تراقبني وتعاتبني على الدوام.

مرآة فراش،

اليوم لم ألملم كلماتي بتمتمة دعاء صبح النهوض بتمامه من موضع فراش النوم، اليوم نظرت إلى المرآة التي أمامي فارتسمت صورتي متجهمة من حنق مغادرة النوم لمخيلتي باكرا. لم أمهل صورتي العبوسة بالتأمل بل فارقتها بالانسحاب بلا ردة عاثرة. تركت صورتي اللاصقة بالمرآة تتساءل: لما طلقتني صبحا بدون سلام ولا تحية مرفقة ببسمة؟

شاي أسود،

ليس من عادتي شرب عصير الشاي الساخن صبحا. لكن، ومادام المزاج غير مستوية أوتار نغمته الارتدادية، قررت شرب كأس شاي بدون نعناع مكناسي، فمادام هذا النعناع يحمل أثر الأدوية بكثرة المعالجة، فلن يدخل بعد اليوم براد صبحي. حين نظرت إلى كأس الشاي الصيني بالتأمل وجدته يميل إلى السواد و يكسر لون الصفرة المعتاد. تشاءمت من منظر الشاي الأسود ووضعته جانبا، وانسحبت هاربا من صبح المرآة المتجهمة، وكأس الشاي الأسود.

 مرآة الابتسامة،

ابتسمت أخيرا بعد استبعاد التجهم عن موضع سريري، لتخاطبني المرآة: ابتسم واطرب فلو قارنتها قضيت عمرك كله متألما. ضحكت من دعوتها إلى الابتسامة، فكان جوابي: كيف أطيق أن أتبسم وهي خانت عهودي؟ ورغما من ذلك تبسمت من ذكائها فهي تعرف خاصية نفسيتي بامتياز، وتساير أيام توتراتي الوجدانية، وتبحث عن اسم لحبيبتي ولو بحرف البداية.

تركت مرآة غرفتي الفرحة بالحياة، دون أن أرسم على زجاجها النير بسمة، ولا اسم حبيتي التي أخلفت وعدها لي بالوفاء. تركتها ولملمت بقايا قسوتي عليها، تركتها مع قصيدة إيليا أبو ماضي ومواضع الابتسامة والتجهم. أسرعت إلى عصارة النقط السوداء المتتالية من بن قهوتي المرة المذاق، حينها سمعت مول الهندية ينادي” الهندية والموس من عندي..”، ثم مول النعناع يردد لازمة ” نعناع مكناس”، لم أحفل بخطاب كذب البضاعة براح “بيو”، وارتشفت رائحة مهيجة من قهوتي بالتتابع السريع.

***

محسن الأكرمين

إلى الصقرِ الفدائي الذي رأى من جبالِ الضفةِ الشرقية فأوفى بعدما رأى

***

على جِسْرِ الكرامةِ حطَّ صَقْرٌ

جوانِحُهُ شَكَتْ ألَماً عظيما

*

(عُقابٌ) من ذُرى اليرموكِ آبا

كأوّابٍ محا ذنباً قديما

*

بَنى (الشاهينُ) في البلقاءِ عُشّاً

ومن قِمَمِ الجِبال رأى الجَحيما

*

رأى هَوْلَ القِيامَةِ من عُلُوٍّ

تُحِرّقُ نارُها الطِفْلَ اللطيما

*

رأى سودَ الظفائرِ نازفاتٍ

تغازلُ قُرْبها وَلَداً يتيما

*

رأى شيخاً غريقاً في دِماهُ

وأُمّا نزفُها غطّى الفطيما

*

رأى مَلِكَ البلادِ ينامُ رَغْداً

وقد خَبِرَ اللذائذَ والنعيما

*

ينادي زُمرةَ الشيطانِ حتى

تُذَبّحَ جارَها (الضيفَ) الرَجيما !!!

*

فَخُذْ كلَّ الديارِ وراءَ عَرْشي

وَذَرني أعبُدِ المُلْكَ العقيما

*

يجُدّدُ للعِدى أوفى سَلامٍ

فَحَسْبُ العَرْشِ أن يبقى سَليما

*

رأى عَرَباً سُكارى في البوادي

وحاديهم كَقاتِلِنا لئيما

*

كُثاراً إنّما كَغُثاءِ سَيْلٍ

تَيَبّسَ نخوةً فَغدى هشيما

*

رأى بعضَ المنابرِ نابحاتٍ

وشيخَ السوءِ نبّاحاً دميما

*

يَذُمُّ الواهِبينَ لها نفوساً

ويشمتُ في مصارعهم ذميما

*

رأى عُهْرَ الزعيمِ وداعميهِ

فشبَّ مغاضباً يهجو الزعيما

*

وحادي الركبِ للأنذالِ يسعى

خُلُوّاً من مواجِعِنا عَديما

*

بخيلاً نحو من جاعوا ولكن

جَواداً نحو قاتلهم كريما

*

يُقاسِمُ قاتلَ (القسّامِ) رزقاً

ويحسبُهُ شريكاً بل قسيما

*

رأى النهرَ المُقدّسَ في حِدادٍ

(ويَحْيى) يشتكي عطشاً أليما

*

يُعَمّدُ رأسَ (عيسى) في دمائي

وَينأى في بَراريها كَظيما

*

أ يسقي نهرُنا شَبَحاً هجيناً

لِيسقينا مع البلوى حَميما؟

*

وَهَلْ مسحَ المسيحُ صدورَ أهلي

وقد أمستْ أضالِعُهم رَميما؟

*

فَمعْذِرةً يَسوعُ على عتابي

فقبلَ صليبِكم خذلوا الكليما

*

توعّدَنا المُلثّمُ بعدَ يأسٍ

لنا سَيَصيرُ في الأُخرى خصيما

*

فَخُضْنا في خُصومَتِهِ فُجوراً

ولم يلمسْ بنا قلْباً رحيما

*

وكم لُمْنا المُحاصَرَ جاحِدينا

وَكلّا لم يَكُنْ فيها مُليما

*

رأى بجدارِ كعبتنا صُداعا

وعمَّ الحزنُ زمزمَ والحَطيما

*

رأى الرُكْنَ اليمانيَّ المُعَلّى

وحيداً سالكاً درباً قَويما

*

ينادي دونما جدوى هَلُمّوا

سَنسلكها طريقاً مُسْتقيما

*

فلم تسمعْ قبائِلُنا نِداءً

ولم نُبْصرْ بها شيخاً حَليما

*

رأى الوادي الخصيبَ يَسُحُّ دمعاً

ويبكي (غَوْرُها) شَجَراً هضيما

*

فليتَ البحرَ لم ينشقَّ يوماً

ولم يتركْ بها داءً وخيما

*

وليتَ التيهَ لم ينفضَّ حتى

يبدّدُ ذلكَ النسْلَ الأثيما

*

رأى كلّ الذي قلناهُ تَوّاً

فأشعلَ في مخالبه ضريما

*

نوى فإنقضَّ مفترساً عدوّاً

عُتُلّاً بعدَ ذلكَ بل زنيما

*

فِدائيٌّ رأى بعدَ اللَّتيّا

ضباعاً والتي : فغدا عليما

*

وصقرٌ طارَ من ضَفة لِأخرى

يُصلِّبُ تحتَ أجنحةٍ شَكيما

*

فَقدّمَ روحَهُ الثكلى خلاصاً

كفادٍ يرتجي ربّاً حكيما

***

د. مصطفى علي

 

في المساء،

يستيقظ الضوء من تحت الطاولة،

يتثاءب مثل كتابٍ نسي أحدهم أن يفتحه.

*

الكؤوس على الرفوف ترتعش بلمسة الهواء،

كأنها تسمع خبرًا لا تريد تصديقه.

*

المدينة تجلس على حافة النافذة،

تعد أنفاسها بحذر،

وتضع قناعًا من غبارٍ أبيض على وجوه المارة.

*

كنا نظن

أنّ الحجر سيكفّ عن التقيؤ دمًا من جدران البيوت،

وأن الأطفال سيكتبون أسماءهم على دفاتر نظيفة

بدل أن يعلّقوها على صمت القبور.

*

لكن الظلّ

يمد ذراعيه مثل أبٍ غائب،

يعانق ما تبقّى من العراء،

ويتركنا في منتصف الطريق،

نحدّق في لافتةٍ مقلوبة،

تقول:

هنا يبدأ وهم الارتقاء.

2

في الصباح،

تسقط الصحف على العتبات مثل طيورٍ ميتة،

تحمل أخبارًا

لا يجرؤ أحد على قراءتها بصوتٍ مرتفع.

*

النافذة تتنهّد،

تفتح عينيها على شارعٍ بلا أسماء،

تراقب عربات الخضار وهي تعود فارغة،

كأنها تحمل ذاكرة السوق وليس بضاعته.

*

الأمّهات يخبزن الخبز

بأصابع مرتجفة،

يضعن الملح كأنهن يذررن رمادًا على جسدٍ لا يبرد.

*

في المقهى،

الفناجين الصغيرة تصغي،

تشمّ رائحة البنّ

كأنها تبحث عن معنى لم يكتب بعد في أي كتاب.

*

كنا نظن أنّ الأرض سوف تنصت أخيرًا إلى صراخنا،

أن الأشجار ستنحني لتظلّل القوافل الهاربة من الدخان،

لكن السماء أغلقت بابها الأزرق،

وتركتنا نتسكع

تحت شمسٍ لا تفرّق بين القاتل والقتيل.

3

في الليل،

يجرّ القمرُ نفسه على السطح

مثل مصباحٍ قديم نسيَ كيف يضيء.

الأبواب تنام واقفة،

تحلم بخطواتٍ لن تعود،

والسلالم تئنّ من ثقل الغياب،

كأنها تحمل قوافل مجهولة

إلى مدنٍ لم تُرسم على الخرائط.

*

الأسماء التي كتبناها بالطبشور

على جدران المدرسة تلاشت مع المطر،

لكن صدى الحروف ما زال يركض في الرواق،

يبحث عن أطفالٍ لم يكبروا أبدًا.

*

كنا نظن

أنّ البشرية ارتقت،

أنها ستغلق عينيها أمام المذابح

كما يغلق العاشق باب بيته ليحمي لحظةً هشًّة من الضياع.

*

لكنّ الشاشات

تفتح أفواهها كل مساء على غزة ،

تمضغ الصور ببطء،

تبتلع المدن كحباتٍ صغيرة،

وتعيد لنا وجوهًا شاحبة كأنها مرايا متكسّرة،

تقول بلا صوت:

كل ما صدّقتموه لم يكن سوى أوهام.

***

مروان ياسين الدليمي

 

دمعي على وطني ما كانَ أجْمَلَهُ

الفارعُ

المُشْتَهى

المُشرِقُ

القَمَرُ...

دمعي على وطني المحسودِ ناظرُهُ

قد صيَّرتْهُ (الفتاوي) كلُّهُ عَوَرُ...

طِفْلٌ ومُخْتَبَلٌ رُكْنا إمامتهِ

والمؤمنُ المبتلى:

راضٍ ومُصْطَبِرُ...

الله أكبرُ مذُ عمَّ البلاءُ بنا

ما دعوةٌ لِأَبٍ ياربُّ تُعتَبَرُ

الله أكبرُ مُذْ جاعت جماعتهُ

ما عاد في قصعةٍ شِبْعٌ

ولا ثَمَرُ...

يا أيّها الخضرُ أدركْنا

سفينتُنا...تصبو لمسماركَ السامي وتنتظرُ...

يا أيّها (اللهُ) كلُّ الأنبياءِ بنا

تدعوكَ ضارعةً:

قد مسّنا الضَرَرُ

يا أيّها (اللهُ) أعطِ الخضرَ خِنْجَرَه ُ

ليُذبَحَ الطفلُ

هذا الأرعنُ

الأشِرُ. ..

***

د. لطيف القصاب

 

نَهَدَ القَمرُ

وَظِلَالُنَا فَارِغَةٌ حَتَّى مِنَّا

وُرَيْقَاتُ الجُورِي

تَهْذِي وَحِيدَةً

فُستُقَةٌ شَارِدَةٌ

بَيْنَ مَدَافِئِ اللَّيْلِ

تَتَلاَشَى فِي الشَّوْقِ..

**

صَفيرُ الذِّكْرَى..

أَنِينُ نَوْرَسَةٍ

**

لَسَعَاتُ الحَنِينِ

تَبْتَلِعُ شَهَقَاتِي

عَصَافِيرٌ تَرْتَعِشُ

**

أَنا فَتَاةُ الثَّلْجِ

عَلَى ثَغْرِكِ يَا شَامُ

أَذُوبُ لَهْفَةً

بَيْنَ يَاسَمِينِكِ

تَسْقُطُ بكَارَةُ قَلْبِي

**

أَحْمِلُ سَلَّاتِ السَّكِينَةِ إلَيْكَ

بِنُكْهَةِ البَرَاءَةِ

أَرْتَدِيْتك عِطْرَ بْقَائِي..

مِعْطَفَاً لِأنْفَاسِي

عَانِقْنِي بَعِيدًا

عَنْ تَرَاتِيلِ الفَنَاءِ

**

شَوَاطِئٌ تُسَافِرُ

مَعَ كُلِّ مَوْجَةٍ

البَحْرُ صَامِدٌ

العَدَمُ  أَسِيْرُ الوُجُودِ

وُجُودُنَا مَرَافِئُ

لَا اااااااااااااااتَرْحَل

***

سلوى فرح - كندا

 

أنا الطفل العابر للقارات

والفرح الساكن في قلوب العذارى

والمجد المنسي في لحظة عبير

هل تسمعني؟؟

أنا الفتى السابح في ملكوت الشوق

والشهوة البكر في مرابع الذات

همسة تتكرر

بَسمةٌ تتجدد

إِمساكٌ عن الغضب

تَجَاوُزٌ عن المَشَاعر الفاترة

إعلانٌ عن هُدنة مقيّدة

هل تسمعني؟؟

تريّثْ قليلا

أُخْبِرك

أنَّني عابرُ سبيل

قادم من بلاد الضَّباب

أبحثُ عن ملاذ

يستر غربتي

أستبقٌ الزمن لتجاوز محنة التفكير

في المجهول

تريّث

أُخبركَ

أنني صَنَّاجةٌ المنبوذين

وصعاليك أخر الليل

الساقطون من كُنَّاش الحالة المدنية

في لحظة سهو

هل تسمعني؟؟

أنا الكهل الذي "يسعل" في ناصيّة الشارع

أنتظر حافلة "المشبوهين"

وأتلهى بالحَفر في تجْويف حمأة الذاكرة

لن تتراجع الأيام عن جُورها

لن يأتي "غُودو"

وسيطول الانتظار

لن تهدأ الأمواج عن غدرها

لن يبلغ الحلم مداه

ويستمر ضنك السِّنين

هل تسمعني؟؟

التاريخ يشهد أنني خسرت الرِّهان

وأن الخريف يبتسم في وجهي

ويذكرني بأحلامي المنكسرة

وبقايا أشواقي التائهة

الأن

سأتراجع بهدوء عن رغباتي

الخفية

وأستسلم لطعم المرارة ولذة الحزن

سأطالب بجدولة أوجاعي

وإعلان إفلاسي

هل تسمعني؟؟

أيها الراقص على رعشات

قلبي

ها قد أعلنت ضعف قوتي

وقِلة حِيلتي وهواني على الناس

ها قد صرت سقط متاع

في كرِار الأيام .

وعلامة تعجب تحتاج لتعريف

في قواميس المهمشين

ها قد تسللت “برودة “ الحياة

إلى عظامي

وسكن الوهن أوتار عضلاتي

وخذلتني تداعيات السنين

***

محمد محضار

18 شتنبر 2025

 

(أبلغُ السكوتِ أن تصنعَ من الهدوءِ جسرًا، يعبرُ عليه الآخرُ.. فيجدُ نفسَه يبحثُ عن مرفأٍ لا عن معركة).. عبد الله الزعبي.

لَيْسَ كُلُّ سُكُوتٍ اسْتِسْلَامًا.

انْفَكَّ مشبك حمالة صدري وأنا أتحسس ظهري، فسقط ذلك الإبزيم الذهبي الرقيق — الذي لم يُختَرْ لقوامي، بل لقوام ليندا — واستقر في كفي هامدًا، بينما مرت في ذاكرتي أصداء ضحكتها كشظايا بلور مكسور. حينئذٍ، تعالى هدير قطارات منتصف الليل في برلين وطغى على كل صوت، بينما كانت شخصيتي المختزلة في تقمص السيناريو تؤدي الدور الذي أراده بإتقان. بيد أن شخصيتي الكامنة ظلت متوارية خلفها، متيقظة في ترصد صامت — ليس استسلامًا، بل استعدادًا متوثبًا للتحرك، كقوس مشدود على وشك الانطلاق.

مضت ثلاثة أسابيع، وكنت أظنّ أنَّ ما بيننا فنٌّ — فنُّه هو تحديدًا. لكنَّني الآن أتبينُّ مواضعَ التصدُّعِ بوضوح؛ أناملهُ تستقرُّ على نحر ليندا، واسمي الحقيقيُّ يكادُ يختنقُ في حنجرتِه كسطرٍ مُلقىً على قارعةِ الإهمال. كانت صفحاتُ النصِّ لزجةً نديةً، كأنها تبللت بأنفاس نبيذ، وحين باعدت بينها، تضاءلت حروف دوري المعاد كتابته، بينما اكتظت هوامشُ الصفحاتِ بملاحظاتٍ تفصيليةٍ عن ليندا — كزاويةِ معصمِها الدقيقةِ وهي تشعلُ سيجارة، والتجويفِ فوقَ نحرها حيثُ تتجمَّعُ خيوطُ الضوء. أما أنفاسي، فقد اختُزلتْ إلى مجرَّدِ تعليماتٍ أدائيَّة.

نشأت قصة حبنا عصيانًا، كنجوى مؤامرة في وجه عالمٍ يفرض الإذعان، أو هكذا خامرني الظنّ. مرّر زوجي أصابعه المرتعشة على حمالة فستاني. "ماذا لو نسينا ذواتنا قبل رفع الستارة؟" سأل، وإبهامه يتشبّث بالدانتيل بتوتر. ظل السؤال معلقًا بيننا كنصلٍ متأرجح في الهواء.

ضحكة إيلينا شقّت ضجيج الزفاف، حادّةً متوهجةً كلمعة فستانها الزمرديّ. قالت، "الرجال جامِعو النسوةِ," ثم أكملت، وإبهامها يترك أثرًا على نقطة نبضي، "ينسون رؤيتهن حقًا." في تلك الليلة، وضعتُ عود الفحم على فخذي — لا لاختبار مرونة بشرتي، بل لأرسم حدود ما أهدرتُهُ منّي. وعندما عثرتُ على صفحات السيناريو، كانت تفوح بِآثَارِ مَآقِيَ جَافَّةٍ... وتلمع كَحُلِيِّ أُمِّهِ — تلك الحواجز البرّاقة التي توهّمناها فنًّا.

تتبعنا حركات ممثلاتٍ على شاكلةِ إيلينا — "تلكَ..." تمتمَ في أذني، مُفترضًا أنني أعرفها. "أرأيتِ كيفَ تنبثقُ ابتسامتَها غيرِ مفتعِلة؟" لاحقًا، كنتُ أُطْبِقُ على المشبكِ الكسيرِ حتى يدمغ الذهبُ على كفيِّ خطوطًا باهتةً — تبدو كأهلةٍ صغيرةٍ، لعلَّها كانت في عوالمَ أخرى، هويتي.

غرزَ المشبكُ المكسورُ حدَّهُ في راحتي — لم يكنْ حادًّا بما يكفي لإسالةِ الدَّم، لكنَّهُ أيقظَ فيَّ يقينًا بأنني ما زلتُ أشعر. في الخارج، كانتْ قطارات الفجرِ تطلق صريرًا مكتومًا على مساراتها، بينما تخترقُ مصابيحُها ستائرَ غرفتنا بخطوطٍ عابرةٍ من الضوء. كانتْ تُضيءُ هيئةَ جسدِهِ متقوقعًا تحت الأغطية، وكتفاهُ مستديرانِ في نومِهِ ككتفي صبيّ. لم يكن صانعًا للأوهام، بلْ رجلٌ نسيَ كيفَ يشتهي دونَ نصِّ سيناريو مكتوب.

تذكرتُ مرسمَ إيلينا — كيفَ انصهرَ الشمعُ تحتَ أناملي الحارةِ في اللوحةِ المتشققة، فانثنتْ شفتاها بابتسامةٍ عارفةٍ، وقالتْ كمن يُلقي حكمةَ الأزل: "الحرارةُ تكشفُ عن الحقيقة." فكانتْ عيناها تُقرّانِ بكلِّ ما أدلينا بهِ من أكاذيبَ لذواتنا. كانَ عودُ الفحمِ المسروق يرزحُ في درجِ خزانتي كذنبٍ لم يُكفَّرْ عنه. لم أُقدِمْ على استخدامهِ بعدُ، بلْ ظللتُ أضغطُ بطرفهِ الحادِّ على فخذي بين الحينِ والآخر، كأني أختبرُ متانةَ بشرتي إزاءَ الألمِ.

ارتجفَ الغطاءُ قليلًا. "عُودي،" تمتمَ بها ثانيةً بصوتٍ أثقلَهُ النُّعاسُ وخلفَهُ ظلُّ شيءٍ آخر... لم يكُن طلبًا، بل استجداءً. ولأوَّلِ مرَّةٍ منذُ شهور، التقطتُ ذلك التَّمايُزَ الخفيَّ في نبرتِهِ.

التفتُّ عن المرآةِ والمشبكُ لا يزالُ مُحكمًا في قبضتي كشاهدٍ صامت. تعلَّقتْ بأسارير أصابعي ذرَّاتٌ ذهبيةٌ كغُبار طَلْعٍ ناعم. لاحقًا، سأنقشُ أثرها على صفحةٍ بيضاءَ من كرَّاسي المنسيَّة — لا صورةً لليندا، ولا له، ولا حتى لإيلينا، بل ظلًّا مُشعًّا لامرأةٍ تتبلورُ من عجينِ الشموع.

وفي ضوء المطبخِ البارد، انفرجتْ كفي فتناثرت الذرّات الذهبية على المنضدةِ — كلٌّ ذرة منها كشظيةٍ من بهاءِ ليندا المستعار. أطلقت آلةُ القهوةِ طقطقةً باهتةً، كصوتٍ لا يليقُ حتى بالسيناريوهاتِ التي لعبنا أدوارَها ذاتَ يوم. وحينَ ظهرَ في عتبةِ البابِ، استقرَّ بصرهُ على معصمي العاري — لا عبق ياسمين، لا دفء فانيليا — ثمّ هوى نحوَ عودِ الفحمِ المُهمَلِ قربَ سلّةِ الفاكهةِ. لم ينطقْ. ولم أنطقْ. لم يعدِ الصمتُ بيننا مجرّدَ فاصلةٍ، بلْ إزميلًا، يهشِّمُ آخرَ زيفٍ لما تظاهرنا به.

تقافزت الذرات الذهبية على سطح المنضدة مع مرور القطارات بصريرها العابر، فلم تعد كالأبراج السماوية، بل مجرد فتات متناثر. مررت بإصبعي بينها، تاركة أثرا ربما كان فيه انعكاس ليندا يلمع ذات يوم. أما خياله المرتسم على مرآة النافذة، فكان يرسل نبراتٍ عهدتها من نصوص طواها النسيان، غير أن القائم بباب الدار، لزم سكوتا كأنه قربان يقدم. ثم تدحرجت عصا الفحم بيننا لتستقر عند تفاحة مكدمة، تاركة بطرفها وَسْمَةً رمادية باهتة على قشرتها.

كان درج غرفة النوم مواربًا، احتضن في جوفه نصوصًا تفصيلية لنحر ليندا ذات مرة. وحين غاصت راحة يدي في المساحة الفارغة، لم يلامس بشرتي ذاك الانطباع المتخيل لنصوصه المصممة بدقة، بل شعرت بملمس الخشب العاري الخشن تحت أصابعي. وبقيت هناك آثار فحم خفيفة، كأصداء باقية من تعليماته للسيناريو التمثيلي — لم تعد فنًا، بل مجرد ذرات غبار تُنذر بالزوال.

كانت رسالة إيلينا المغلقة راسخة تجثم في جيبي كحمل من الذكريات، وبصمة إبهامها القرمزية تتلاشى بين أناملي المضطربة. تتبعت الوَسمةَ — ليست الضربة الجريئة التي طالما رسمتها على صورها، بل حافة تتضاءل، كحقيقة زلت من بين أصابعنا. تسللت أصابعي نحو نحري — لم يعد مشهدًا مرسومًا بعناية، بل مجرد التقاء جلد بعظم. وصار الدرج الخاوي يئن اتساعًا. كثيرًا ما يغفل الرجال جامعو النسوة عن رؤيتهن حقًا. وبقيت وسمة الفحم الرمادية على التفاحة تزداد عتمة كلما انسل ضوء الصباح من خلال الستائر.

وقف في المدخل، يحمل كوبين من القهوة — كوبه الأسود الخالص، وكوبي المحلى الذي توقف عن التظاهر بأني أحب مذاقه. تصاعد البخار بيننا كظل كل النصوص التي أحرقناها يومًا. وعندما تلامست أصابعنا خلال تبادل الحديث، لم أشعر بوله "ليندا" الاستعراضي، ولا بنظرة "إيلينا" المتحدية، بل بدفء السيراميك فقط، وارتعاشة خفيفة لنبضه العفوي.

لسعت القهوة لساني — مرارة رحبت بها بعد سنين من الأداء المصطنع. وبينما كنت أتجرعها، سرى الدفء ببطء نحو نحري، فلم يعد تجويفًا مرسومًا بدقة الفنان، بل مجرد حرارة تنتقل بين أنسجة سليمة. خارج النافذة، كانت عربات القطار تئن في مساراتها الصباحية بأنين ثقيل، ولم تعد أصواتها نغمة مصاحبة لانحلال عرى عشرتنا، بل نفسًا عاديًا لجسد المدينة النابض. وضعت الكوب بجوار التفاحة التي أحاط بقشرتها المجعدة هالة من أثر الفحم، وامتد الأثر كالظل، فمحا الحدود بين الجرح والفن، بين ما أهلكناه بأيدينا وما يمكن أن نشكله في المستقبل.

في الصمت الذي أعقب ذلك، أمسكت عود الفحم لآخر مرة. ليس لأترك أثرًا على بشرتي أو على سيناريوهات نصوصه، بل لأرسم ملامح ذلك الصباح — القهوة المرة، وضوء الفاكهة العليلة، ويديه اللتين توقفتا عن صنع الأوهام، واكتفتا بحفظ مسافة بيننا. تذبذب الخط قليلاً ثم استقر. في مكان ما، لا تزال رسالة إيلينا المغلقة تثقل كاهلي، لكن حقيقتها لم تعد بحاجة إلى تفسير — بل إلى تجربة معاشة فحسب. حين رفعت بصري، لم تكشف المرآة عن ذات متشظية، بل امرأة تتذوق ملح دموع لم تذرفها، وانعكاسها لم يعد متأخرًا، بل متسقًا مع نظرتها في انسجام هادئ.

امتد الصباح بيننا بلا سيناريو نص مكتوب. أصدر كوب قهوته رنينًا خفيفًا على سطح المنضدة — لم يعد جزءًا من مشهد مصطنع، بل شاهدًا على لحظة حقيقية. وضعت راحة يدي على المرآة، أحس من خلال الزجاج باهتزاز القطارات البعيدة وهي تدور في خطوطها الحديدية. كشف الانعكاس عن امرأة ليس في نحرها تجويفًا سوى تجويفها، ولم يحبس فمها إلا صمتًا أصيلًا الآن: ليس سيفًا، وليس جسرًا، بل السكون حيث يمكننا أن نلتقي أخيرًا. ليس كل سكوت استسلامًا — هذا الصمت، في النهاية، كان دعوة. خلفي، صدر صوت خفيف عندما قام عن الكرسي. لم ألتفت، لم يحن الوقت بعد، تركت الضوء يغطينا بلطافته الهشة - التفاحة الملطخة بأثر الفحم، وبخار القهوة الباقي، وذرات الذهب المستقرة في شقوق الأرضية كآثار جسر أحرقناه ثم أعدنا بناءه بتوازن. انتظار. ليس لرفع الستارة، بل لتجمع الشجاعة الهادئة للعبور.

***

عبدالله الزعبي

 

كانت تتسابق كل صباح، مع نسمات الريح التي تتماوج مع خصلات شعرها، وتراقب طلوع الشمس الذي يبدو لها كحدث كبير يحدث فرحا غير مفهوم بداخلها. كانت أمنيتها أن تظل للحظات تحت أشعة الشمس الوهاجة حتى تستطيع أن تستقبل اليوم بنفس جديد.  لكن ظروف عملها كانت كالسيف على رقبتها. التوقيت مهم في عملها. أصحاب البيت الذي تشتغل عندهم يرفضون أي تأخير أو تهاون مهما كان السبب.

من أحب اللحظات الى قلبها، ان تمشي والشمس ماتزال تستيقظ من سباتها الليلي. وتعشق تلك اللحظة التي تقف فيها عند الجسر وتهيم مع رائحة الشجر وصوت المياه ونور الشمس. كانت كعاشق ينتظر حبيبته. وتبتسم وتحضن كل الأشعة التي تخترق جسدها النحيل وتعيد اليه توازنه وحيويته. بديعة، هذا هو اسمها. فهي بديعة في التعامل مع الآخرين. هي من أسرة فقيرة، عملت كمساعدة بالبيت المتواجد في الطرف الآخر من المدينة. لكي تساعد عائلتها التي تتكون من أخ صغير وأب مقعد وأم تعبت من الخدمة في البيوت. كأنها تعيد حياة أمها رغما عنها. فتضطر عند كل صباح، أن تقطع الجسر من أوله الى آخره، لكي تصل الى مكان عملها.

كان صباحا ليس ككل الصباحات، وصلت عند الجسر واستقبلتها الشمس كاستقبال الضيف بعد سفر طويل. عادة، يكون الجسر صامتا الا من خرير المياه، وحفيف الأشجار. لا أثر لقدم بشري في تلك الساعة المبكرة. لكن هذا الصباح، رأت شابا، طويل القامة وقوي البنية. يخترق صمت المكان. واقفا لا يتكلم ولا يحرك ساكنا. كأنه يحمل سرا خطيرا.. في لحظة، بدأ يقترب من النهر دون أن ينتبه اليها. فتقدمت بديعة بشكل تلقائي نحوه وسألته:

- ممكن أسألك؟

التفت اليها ولم يجب. بل استمر ينظر الى المياه التي تجري من تحت قدميه. اقتربت منه رغم الخوف الذي يستوطنها وقالت له:

- لماذا تقترب من النهر؟ هل تريد السباحة؟

صمته أصابها بالتوتر والاضطراب. اقتربت منه أكثر وقالت له:

- السباحة ممنوعة هنا، فهي خطيرة جدا.

كأنها شجعته على الاستمرار في تنفيذ ما ينوي القيام به. وهنا حاول أن يتجاوز السياج بكل هدوء. وكانت بديعة، في حالة ذهول، لا تفهم ما يجب أن تقوم به. تحركت دون تفكير مسبق ومنعته من تجاوز السياج بكل قوتها حتى سقطا معا على الأرض.

امتلكها خوف شديد من نظراته، ووقفت بسرعة وابتعدت كأنها أدركت أنها تدخلت في شيء لا يعنيها. قالت له وهي تتأبط حقيبتها كتلميذة ذاهبة الى المدرسة وقالت له بصوت مضطرب:

- لا شيء يستحق. الانتحار ما هو الا وسيلة الضعفاء.

وتراجعت الى الوراء. تنتظر ردة فعله. وأخيرا انتبه الى وجودها ونظر اليها بنفس الهدوء وقال لها:

- من أنت؟

ابتسمت ثم أخفت ابتسامتها خوفا منه. وقالت له:

- اسمي بديعة، وأشتغل في أحد البيوت في الطرف الآخر من المدينة.

وهنا استغلت الفرصة وتشجعت وسألته:

- لماذا تريد أن تموت؟

وقف بشكل آلي، واتكأ على السياج.. وقال لها:

- الفقر. ثم تابع بعنف:

- من سمح لك بالتدخل؟

ارتكبت وغاب عنها الكلام. فهي لم تتعود على هذا النوع من الجدال. لا تعرف من الدنيا سوى البيت ومكان العمل. وطيبتها الزائدة جعلتها تحب مساعدة كل الناس. شعر بخوفها وقلقها. فتدارك الأمر وقال لها بصوت هادئ ويائس:

يبدو أنك طيبة، سأحكي لك قصتي.

"كنت عاملا في أحد المصانع بأجر يومي، ومن أجري الزهيد، كنت أبعث مبلغا منه الى أمي التي تعيش في بلدة بعيدة. وفي يوم، حاولت أن أفهم باقي العمال ان مالك المصنع يستغلنا بالعمل لساعات طوال دون الرفع من الأجر. فانقلبت الأمور علي، حيث وشى بي أحد العاملين وتم طردي. وظلت أمي تنتظر ذلك المبلغ الزهيد، حتى ماتت من الجوع والمرض. فاعتبرت نفسي المسئول عما حصل لها".

اقتربت منه وهي تحاول أن تساعده وتنزع عنه الحزن واليأس وقالت له:

- ليس الحل في الموت.

نظر اليها كأنه كان يريد ان يقول شيئا آخر، أو كان يحتاج الى من يكلمه حتى ينصرف عما في دماغه. وتابع وهو يرسم على شفتيه ابتسامة ساخرة:

- وهل تعتقدين أننا أحياء؟ هل تعتقدين أن الفقراء مثلنا أحياء؟

وهنا انتبهت الى الوقت الذي سرق منها دون أن تدري. تركته دون أن تكمل الحديث معه وأطلقت الريح لساقيها حتى لا تصل متأخرة.

حل الليل ونشر عباءته السوداء على المكان. لم يعد للجسر وجود، كان الليل ابتلعه. كانت هي هناك، بديعة، آتية من الطرف الآخر للجسر، متأخرة على غير عادتها. لا تهاب الليل ولا سواده. فهي تحفظ تضاريس الجسر كما تحفظ تضاريس جسدها. مشت مثقلة بما حصل لها. كأنها تحمل جبالا على كتفيها. كانت تبحث عن ذلك الشاب لكي تروي له قصتها أيضا. اعتقدت أنه مازال هناك. ولكي تقول له أنه ليس الوحيد الذي طرد من عمله. أو ربما لتحمله مسئولية طردها .لأنه لولا وجوده ذلك الصباح عند ذلك التوقيت، لما تأخرت وطردت. لم يتوقف دماغها عن التفكير، اقتربت من الجسر كما فعل ذلك الشاب، و جلست الليل كله عند حافته، كأنها تناجيه وتشكو اليه مصيبتها.

أشرقت شمس الصباح من جديد، انتشر النور في كل مكان. لمعان النهر وهو يتبع طريقه ولا يلتفت الى أحد. كان كل شيء يوحي بجمال وهدوء اللحظة. ظهر في الأفق، شاب طويل القامة وقوي البنية، يحمل كيسا وبعض الأمل في ابتسامته. جاء يشكرها على تواجدها في تلك اللحظة التي جعلته يفسح بابا للأمل. طال انتظاره، استقرت الشمس في كبد السماء، وبديعة غائبة، لا أثر لها. جلس عند حافة الجسر، وأخرج خبزا وحليبا من الكيس. في لحظة، توقف عن الأكل، وأثار انتباه قميصا يعرفه معلقا على السياج الذي كان سيتسلقه بالأمس. لم يفهم. ظل تائها وصامتا وشاردا، ويرفض أن يستمع الى صوت بداخله ينذر بمصيبة.

***

أمينة شرادي

آخر الأمر وصل صاحب الحظ السئ إلي. شاب في الخامسة والعشرين من عمره متَهم بجريمة قتل وسطو، لا تهمني التفاصيل والأسباب، فخلال حياتي الطويلة والتي لا أخمن كم تطول بعد أن يفارقني هذا المكان المعتم، فقد تعوّدت على ضوء المصباح، ينار وقتما يشاؤون. إنّه يقابلني قرب الباب. تحتي هوّة وفوقي سقف أحيانا تتخذه بعض العناكب والحشرات ملجأ، لا نافذة في الجدار، سوى بوابة حديدية تطلّ على غرفتي تفتح طول اليوم ثامّ بوابة غرفتي ذات القضبان لحادة المطلية بدهان أصفر ذات رؤوس سوداء.

لا أحد يدخل عليّ سوى صاحبي القديم الذي تعودت رؤية وجهه منذ أكثر من ثلاثين سنة. خلال تلك الفترة الطويلة عبر إليّ من البوابة ذات القضبان عشرات بل المئات من ذوي الحظوظ السّوداء.

كان آخر شخص، عاجزا عن النطق

ساهما

لا أعرف ذنبه

وليس بالضرورة أن أتذكّر اسمه

لقد مرّ بي كثيرون..

لا أذكر أسماءهم

غير أنّ آخر من يقدم يعيدني إلى ذكرى أول من جاؤوا به إليّ كان رجلا قي الخمسين مفتول الشارب، يلوح الغضب على وجهه.

سأله الضابط:

- ماذا تحب أن تشرب

فصاح هائجا كالثور الجريح:

- أخرس أيها الصعلوك.

وسأله رجل الدين:

ردد معي الشهادة:

فصرخ مهتاجا:

اخرس. إخرس لست بحاجة لك.

ازددت عجبا. أوّل حي ميت يقف على بعد خطوات مني يسلط، غير خائف، لسانه على المحيطين به. صمت الجميع وبقي بلعن ويسب. يشتم الدولة والحكومة والناس أجمعين.

لم أقرف منه..

واجه الموت بشجاعة متناهية

طلب أن يبقى وجهه مكشوفا فرفض صاحبي...

الأوامر كما يدعي في قرارة نفسه.

أحترمه، ولا أغضب من الآخرين الذين يتشاءمون منا. لست إلّا أدناة من أدوات القانون. لا أضيق بنفسي ذرعا ولا أضيق به.

أطبقت على سئ الحظ بكل قوة- شأني كل مرّة- احتضنته مثلما تحتضن أم صغيرها.. تململ لحظات سكنت حركة رجليه.. فأرخاني صاحبي ليسقط.

كان جميع الذين بعده ينهارون

قاتلون محترفون

هناك من اغتال وزيرا أو رئيسا

نساء قتلن أزواجهن

بعضهم قابلني بصمت

من ردد الشهادة فسمعت همسه

أو صلب أمام القسّ

من طلب جرعة ماء

ومن أعرض

 صامتون

أو ياكون

أحدهم انهار أمامي قبل أن يراقي إليّ...

هوى من بين يدي الشرطيين إلى الأرض أمامي، بقي صاحبي ينتظر، أما الشرطيّ عن اليمين فمال يحركه ي.. كان قد مات..

تحشب من الخوف قبل أن ألمسه

نادى الشرطي الآخر على الضابط الكبير

سيدي مات قبل أن يرتقي

فقال الكبير ذو النجمات الفضية اللامعة وسط الضباب الشاحب:

هي الأوامر، مادام القضاء أصدر حكما بالشنق، فلا بدّ أن يرتقي ويلتفّ الحبل على عنقه.

اشنقوه ميتا

كان هناك بعض التململ يجتاحني

أنا لا أتعامل مع الأموات

أريد أحياءً يرتقون إليّ

وصاحبي الممتلئ غيظا، ذو الشارب الكث والبطن الواسعة لا يبدي أي امتعاض، هي شغلته التي يأكل منها خبزا، سمعته يتحدّث عن نفسه لزميله الشرطي صاحب السجل الذي يدوّن الأسماء وساعات الموت. في المدخل المواجه لغرفتي أوّل يوم التقيته، فعرفت أنّه كان مخيّرا بين وظيفة صحبتي والبطالة. البلد يمرّ بأزمة خانقة، فأيّ موقع يمكن أن يحتلّه شاب لم يكمل الصفّ التاسع.. ؟

- لا بأس.. إنّه حظّك قد تشعر بالغثيان المرّة الأولى والثانية ثمّ تعتاد الأمر.

قال ذلك شرطي المكتب، ورأيته ينهض، ثمّ يعود بقدحي شاي، فيسأله صاحبي:

كم مرة في الشهر أرخي العتلة؟

هذا حال لايمكن أن تتوقعه، يمكن أن يجلبوا لك أكثر من محكوم في يوم واحد وربما تظلّ أسبوعا تنتظر، العلم عند علّام الغيوب.

وحدث ماتوقعه عسكري السّجل، شعر بالغثيان بعد أن نفّذ حكما بأوّل صاحب حظ سئ.. ذهب إلى البيت مهموما...

دوار...

غثيان

يسمع وشوشة وصفيرا...

الدنيا تلوح أمامه صفراء باردة مثل وجه ميت سقط إلى الأرض مختنقا

وجوه الناس باهتة لا حياة فيها

واجهات المحلّات

السيارت

الصفرة تغطّي الأرض

في البيت منظره الغريب لفت انتباه زوجته. كان يعود -قبل أن ينفّذ المهمّة- مبتسما، يروي النكات، ذلك اليوم دعى الإرهاق والتعب.. قالت له لاتبال اليوم الأول صعب، ولن تبقى في السجن طويلا، بمرور الأيام تنتقل إلى المرور.. أو مكاتب التحقيق، أخفى السرّ وجعلها تعيش وهما كبيرا، لا يريد أن يعرف أحد أنه رفيق الحبل، بعض الدول تحكم بالمقصلة.. ملك فرنسا قطعوا رأسه.. الحبل أهون.. ولعل الحظ يبتسم له فيصبح ذات يوم في قسم المرور أو مركز قريب من بيته.

الحالة النادرة..

وأمين سجل زمن زمن الموتى يهوّن عليه... كلنا نموت ويأكلنا التراب، مصيرنا للدود، احمد الله على أنك حصلت على هذه الوظيفة، كثير من دول العالم ألغت عقوبة الإعدام.. وإلّا أين سنكون مثل القطط والكلاب السّائبة.... أنا نفسي تساءلت أين أكون أنا لو لم أكن في هذا الموقع.. مجرد حبل ينشر عليه الغسيل على كلّ نشر الغسيل لا يقلل من درجتي سأظلّ في علو أو تنزل درجتي حين يلفونني على الأكياس والرزم، ويربطون بي الحيوانات، ويقودون بي الكلاب، وكم فرحت يوم سمعت من صاحبي وأمين سجل الموتى في مدخل القبو أنّ دولة كبرى ألغت المقصلة.. بدت علامات الرضا على صاحبي ورفيقه.. قطع الرؤوس.. وقال أمين السجل وهو بشفط بعضا من كأسه:

لم يبق إلّا الحبل والسيف

فردّ عليه صاحبي:

. غدا لا يبقى إلّا الحبل سوف يلغون عقوبة ضرب الرقاب بالسيف

فقهقه الآخر وقال:

من هو صاحب الحظ الحسن الذي يصدر عليه حكم باليوم وغدا تلغى العقوبة.

فقال صاحبي متهكما:

ومن هو صاحب الحظ السئ الذي يعدم اليوم وفي غد تلغى العقوبة؟

على الرغم من النقاش الذي يسدّ الفراغ، سأظلّ أنا في مكاني، مع أنّ جدي كان يعمل في الخارج. دخل في سباق مع مقصلة المجرمين والملوك حينما كانت تعمل في أوج نشاطها. يروي عن نفسه أن الناس احتضنته ولفته على عنق رئيس الوزراء فسحلته في الشارع. كان يعمل في مكان واسع، أبي تحمّل المسؤلية نفسها في مكان ضيق معتم مثلي التف على رقبة رئيسٍ، ووزراءٍ، ومجرمين، لكن صاحبي المسؤول عن دفع سيئ الحظ إليّ يتساءل ما ذا لو ألغيت العقوبة بالمرّة؟ كيف يتمتع القاتل بالحياة بعد أن حرم آخرين منها، هل يصبح العالم في فوضي؟.

أبدا

يسأل الله ألا يعيش إلى ذلك اليوم..

غير أنّ اليوم الموعود ظلّ حلما أو كابوسا.. تحقق أخيرا بشكل آخر... كان آخر من خكم عليه بالإعدام شاب نحيف في العشرين من عمره.. لا أعرف جريمته ولا يهمني ماذا فعل..

آخر ماوقعت عليه عينا صاحبي

وآخر من لففت نفسي عبيه

قبل أن يصعد إليّ ويُزاح الكرسيّ من تخت رجليه

تعالى صراخه يهزّ الصمت...

بلل نفسه..

وانهار يستغيث

هبط إلى الأرض

فرفعوه

وهكذا

 انتهى صاحبي

وانتهيت

2

بعد الحادثة المشهورة

اختفى صاحبي بضعة أيّام..

خلت أنّه مرض أو أثرت فيه الحادثة الأخيرة ثمّ اكتشفت أنّي على وهم كبير..

ذات صباح فتح علي البوابة وتحسس المكان..

ليست الساعة ساعة إعدام.. دائما يجلبون القتلة والسّفاحين قبل الفجر..

تحسسني

وخرج

ثم خطى إلى الممر خلف البوابة الثانية لم بغلق البوابتين، وعلى الرّغم من العتمة إلا أنّي رأيت ملامحه القاسية منداة ببعض الغم.. جلس على الكرسي مقابل أمين سجل الموتى وهو ينفث نفسا عميقا

-لا تحزن كلنا ننتهي مثلما يريدون أنا أصغر منك بسنة وخدمت قبلك بستة أشهر أظنّ أنّ الدور يقدم عليّ بعد بضعة أشهر.

-تخيل كيف يمرّ الوقت عليك من دون عمل تجلس في البيت أم المقهى أم أين تذهب!

 فقال الآخر كأنّه يرى في صاحبي نهايته الموعودة:

-ألم تفعل شيئا كي يؤجلوا أمرك.

فأطرق لحظة وقال:

-خلال اليومين الماضيين اللذين غبت فيهما طرقت باب أكثر من مسؤول. منذ أن استلمت كتاب نهاية الخدمة المشؤوم.. وأنا ألفّ وأدور ولا من مجيب!

خطرت في بالي صور عديدة..

فهمت الوضع جيدا

سيأتي شخص جديد لا أعرفه..

مازلت أحتفظ بقوّتي.. قد أكون انحدرا من أضعف سلالة فأبناء عمومتي جاؤوا من مخلفات صناعية، وبعضهم انحدروا من معادن أمّا أنا فقد جئت من الألياف والخيوط سلالتي أقلّ مقاموة للعث، والدولة تصرّ أن تستخدمني ولا ترغب بقريب لي.. يرون أنّ الموت منذ القلب حدث بحبال من ليف.. والدولة محافظة لا ترغب في التغيير.. يزعجني أيضا أن يتغيّر صاحبي الذي عاشرته فترة طويلة، كنّا ثلاثة.. المقصلة وأنا والسيف.. وبقيت أنا والسيف.. لا أحب تقطيع الأجساد.. وسيذهب من يرفعني وينزلي إلى الأبد وربما يلغى السيف ذات يوم فأعود أتحكّم بالموت وحدي، ولا أجد أحدا أنسجم معه مثل شخص يغادر اليوم أو غدا.

أيّ شخص جديد يرافقني؟

كيف تكون ملامحه؟

صوته

شاربه

بدين.. ؟

وحين حلّت ساعة الفراق، دخل صاحبي الغرفة وجرد كل شئ، الملابس الحمراء.. الحبل الآخر الذي يحلّ مكاني، ونادى على أمين السجل فهرع إليه على عجل:

-هذا ما في عهدتي، هل تسمح لي بشئ؟

-أنا في خدمتك!

-سآخذ الحبل معي.

-هذا سهل سأكتب أنّ الدودة والعث شرعا فيه..

هو يظلّ معي للذكرى.

غمرني شعور بفرح جارف.

الزهو

الخيلاء

هي المرة الأولى التي أخرج فيها من غرفتي وأبتعد إلى الأبد. مثلما كان عليه حال جدي الذي سحلوا به مسؤولا كبيرا في الشارع ذات يوم. إنّه صاحبي الذي سينقلني معه إلى مكان أوسع وأكبر.

وكنت أغادر المكان ملفوفا بكيس من الكتان.

شعرت بيده ترفعني بحنو ونعومة من الكيس، ويضعني في زاوية من باحة الدار.

كان صامتا لا يكلم أحدا. هجر الحديث مع ابنائه، وترك عشرة الناس.

قالت له زوجته:

- عليك أن تفرح. ستجلس معنا طويلا. سنراك كل يوم. آن الوقت أن تستريح.

طوال عمله -كما عرفته- لا تفارق البسمة شفتيه، وعندما ينتهي من حالة إعدام يتنفس بارتياح ويضاحك أمين سجل الموتى الذي يصغره بعشرة أعوام. يرى كل من يجيء إليّ قاتلا أو مذنبا تتنازعه روح شيطانيه.. وحش يهدم الدولة ويشيع الفوضى. حالما ينفض يديه يكون قد أدّى دوره، وأطاع القانون. بيده أمان الناس وراحتهم، ولولا وجودي معه _ أنا آلته_ لشاعت الفوضى وعمّ الخراب. ويبدو أنّ سلوكه في البيت لا يختلف عنه في السجن..

مرح

ضحك

نشوة طرب

مع ذلك لايجرؤ أن يفصح عن مهنته، الجميع يعرفون أنّه شرطي بعمل في الدولة يطارد المجرمين والمهربين وعصابات الجريمة.

قال لها وهو يشير إليّ من بعيد:

- حبل الغسيل أصبح قديما.. سأغيره بآخر من الآن سأنشر الملابس بنفسي. لن أجلس من دون أيّ عمل في البيت.

- كما تحبّ

تقريبا،

بعدها دخل بصمت عميق.

كان يذهب إلى المقهى صامتا. يجلس وحده...

يحتسي كأسه

لا يسلم على أحد. يظنه الجميع أصيب بالخرس.. كأنّه لا يعترف بعمره وبالشيخوخة التي لا تستثني أحدا...

بضع دقائق ثمّ يغادر المقهى إلى الشارع يتطلع في الوجوه وهو مبحر في صمته.

عندها

أبقى على سطح المنزل وحدي...

الملابس تتأرجح تحتي

ولا أحد يجرؤ على لمسي أو الاقتراب منّي.

هكذا كانت أوامره.

أمّا أنا فقد اختلف الأمر معي كثيرا.. أصبحت بين جدارين.. وضعي الأفقي يجعلني في تراخ.. وهناك الأشياء الخفيفة تلتصق بي مثلما تلتصق الحشرات بجسد الحيوان.

كنت في وضع عمودي، يجعلني أكثر راحة.

أيام الغرفة المعتمة لففت نفسي على أجساد ثقيلة، ترتفع إلي تبقى لحظات تركل ثمّ ينزلني صاحبي معها.. ويرفعني مرة أخرى..

في الهواء الطلق والنور

عرفت أنّي لا أباشر عملا مارسه جدّي قبل عقود

هناك أشياء خفيفة تلتصق بي.. تلتف حولي مع الرياح تتأرجح حتّى يأتي صاحبي يرفعها.

أبقى لا أتحرك..

مكاني ثابت تحت الشمس

هي وظيفة أخرى فب الهواء الطلق.

ربمّا أستسيغها ذات يوم.

وحين يعود الى البيت من جولإته المعتادة في المدينة، لا يرتاح إلا إذا قام بنشر الملابس على الحبل.. يرتقي الدرج بهمة، وفي لحطات يكون على السطح..

قطعة قطعة ينشرها.... يثبّتها بالمشابك ثمّ يسحب كرسيّا قديما. يجلس عليه ويروح يتطلع فيها بنشوة غريبة وهي تتأرجح في الهواء.

هكذا دخل في الصمت

وقد خرج ذات يوم في جولته المعتادة، المقهى.. الشارع.. التطلّع في المياني ووجوه الناس مثل أيّ غريب كانت هناك قطع متناثرة من الغيوم لم تثر شكوكه..

لا أقول فجأة

إنّه أمر مقدّر أن تتجمع الغيوم المتناثرة، وتدبّ البرودة

لا يهمّ الوقت..

ربيع

خريف

شتاء..

ليس من المعقول أن أظلّ طوال عمري تحت أشعة الشمس والصيف الاهب..

هكذا

من دون إنذار هبّت زوبعة، وهطل مطر

رزاذ

تحوّل إلى انهمار ثقيل..

برودة تسري في عروقي

لحظتها

أيقنت أن الرطوبة تسربت إليّ ونبؤة أمين السجل عن العثّ تلاحقني..

جسدي كلّه يقطر

أظنّه كان في الشارع يتطلع في الوجوه، وعندما وصل السطح وقف عند البوابة يلهث والمطر يقطر من جبينه. تمتم بكلمات ما، وأمعن النظر بي.. حدّق طويلا..

حكّ رأسه

ثمّ

تقدّم نحوي

خلع طرفي من الحائط المجاور للجيران ولفني على يده بعدها خلعني من حائط الملتصق بباب السطح، هبط الدرجات، ودخل غرفته.

كان مازال معرضا عن الكلام.

اعترضته، قائلة:

هل تتناول طعامك الآن أم ترقد. (بهدوء أكثر) أنت مبلل.. ستصحو الشمس وتنشر الغسيل !

للمرة الأولى أسمعه ينطق:

لا توقظيني.. دعيني أرتاح..

شلّتها المصادفة، فأطلقت زغرودة خافتة، وصاحت وهي تطير من الفرح:

ها أنت تقدر على الكلام من جديد!

دخل الغرفة، أحكم أغلاق الباب. جلب كرسيا من أمام خزانة الملابس، وضعه تحت مروحة السقف.

صعد

أخذ أخذ يربطني بحديدة السقف ثمّ لفني بهدوء على رقبته..

بكلّ جرأة معهودة عنه.. دفع الكرسي يرجليه، كما لو أنّه يعامل قاتلا محترفا ساقوه إليه..

خلال ثوانٍ

تأرجح، وركل برجليه

هذه المرة كنت ثابتا في مكاني تحت السقف. أنتظر

رجلا ما

امرأة ما

تأتي لتجعله يهبط منّي.

رحت أنتظر

وأنتظر

لا أخاف يعد نبؤة العث فقد أدّيتُ آخر مهمة لي.

***

قصي الشيخ عسكر

16-20\9\2025

 

كان الصمت يلتفّ حوله كأفعى تتربص بلحظة الانقضاض، يداهم حلمه الذي غدا نبراسًا للحرية والعدالة، ويخنق قصائد آماله قبل ان تلوح في الأفق الضبابي. لم يكن يعنيه ما يملكه من جسد أو متاع سوى أنه وسيلة للتضحية، فقد كان يحمل فكرًا متّقدًا يتنفس وجع المظلومين، ويصرخ بصمت في وجه السفاكين.

وفي الضفة الجسدية من حياته، كانت مرارة التجربة تصارعه، ومرض الجسد يطارده كالشبح، يتسلل بين أحشائه ويعبر ممرات الدم. فقد كرّس هذا الجسد بالكامل من أجل قضية آمن بها حتى النخاع. أما الفكر، فكان هو النور الذي يقوده، والوسيلة التي بها يسعى لتحقيق الأهداف. تسلّحه بمبادئ راسخة وإيمان لا يلين مكّنه من الوقوف منتصبًا في مواجهة الأهوال، رغم ما كان ينهشه من الداخل.

عندما أحس أن أنياب الشر تحف به، والخطر يتربص عند كل زاوية، هبَّ مسرعًا استعدادًا للرحيل قبل الوقوع في الفخ كفريسة سهلة في فم الوحوش. فكانت ساحته قمم الجبال ووديانها، وهناك وجد نفسه في صفوف الأنصار ليكمل مسيرته في وجه العاصفة.

لم يعد العمل السياسي السري ممكنًا، فالمطاردة اشتدت. كانت القوات الأمنية تداهم البيوت بلا رحمة، تقتحمها في الليل كما لو أن الظلام نفسه صار شريكًا في المطاردة.

بعد سنوات من تواجده في قواعد الأنصار، خضع لعملية جراحية دقيقة في ظهره، حيث كانت أكياس مائية تضغط على عموده الفقري. لم تكن الجراحة ناجحة، فانفجرت تلك الأكياس وتسببت له بعجز كامل عن الحركة من وسطه إلى الأسفل.

لم يعد جسده يستجيب، واشتدت معاناته الداخلية كعاصفة لا تهدأ. صار طريح الفراش، شاحب الملامح، لكن في أعماقه ظلّ لهيبًا صارخًا يتّقد، تمتد ألسنته نحو العلا، متحديًا حدود الجسد.

حين خذله الجسد، لم يتراجع العقل. وحين خفت الصوت، ظلّ الفكر يصرخ في صمت.

دخل في غيبوبة الكفاح استمرارًا لدوره النضالي المتفاني الذي لا تواريه الرماد لتحقيق أهداف إنسانية طالما وهب حياته قربانا ليجعل منها جسرًا يمنح العابرين الشعور بالأمان نحو أهداف إنسانية طالما حلم بها.

الضوء الخافت المتسلل من أبواب السماء كان يمنحه نبضًا للتحدي، فقد كان كائنًا شديد البأس، اعتمد في مسيرته على ما يحمله في جمجمته من وهج لا ينطفئ.

لم يكن اليأس خصمًا قادرًا على اختراقه. كانت إرادته جدارًا من صخر، لا تهزه أعاصير البحر ولا تغرقه أمواج العزلة. ظلّ واقفًا، شامخًا، كأنما الجسد لا يعني شيئًا أمام صلابة الروح.

كان حميد إنسانًا هادئًا، متواضعًا، خطاطًا يتقن التنظيم والتصميم، ويمنح الأشياء من حوله ترتيبًا يحمل بصمته الخاصة.

لاحقًا وصل إلى السويد، كأنما يبحث عن هدنة لجسده المُنهك، بعد سنوات من الإهمال والمعاناة. ورغم كونه جليس الكرسي المتحرّك، فقد أدار شؤونه اليومية بنفسه، متحديًا قسوة الحياة بابتسامة لا تنكسر.

تزوّج من امرأة رائعة، لم تتخلّ عنه يومًا، كانت له سندًا في لحظات الانطفاء، ورفيقة في أيام الضوء. لكن السعادة، كما لو أنها كانت تخشى البقاء، لم تطل كثيرًا.

في أحد الأيام، وبينما كان حميد يجلس في كرسيه الأبدي، داهمه ألم مفاجئ، كأن الجسد قرر أن يُعلن استسلامه الأخير. كان يناهز الثانية والخمسين من عمره حين اقتيد إلى المستشفى، عمرٌ لا يُعدّ متقدمًا، لكنه كان كافيًا ليكتب النهاية. أُجريت له العلاجات، لكنه ظلّ مستلقيًا في ردهته الخاصة، يراقب الضوء وهو يتسلل من النافذة كعادته.

حين نادى الممرضة كي ترافقه لقضاء حاجته، بدا كل شيء عاديًا. لكن الوقت مرّ، ولم يخرج.

فتحت الباب، فوجدت الصمت قد احتضنه إلى الأبد. رحل حميد، تاركًا وراءه نافذةً لا تزال تسرّب الضوء، وكرسيًا لم ينسَ جلسته الأخيرة.

***

كفاح الزهاوي

ألعِمارة ُتحتَ لِحافِ الظهيرةِ نائمة ٌ

والشَخيرُ يُصَعّدُهُ خشَبُ الشُرُفاتْ

بكاءُ نوافِذ َمَخلوعَةٍ

بَارَحَها الضِحكُ

مُذ مَسَحَ  ُالدهرُ ما بَصَمَتهُ بأحمَرهِنّ

على لوحِها قُبَلُ الفتيات

كِسَرٌ من كؤوس مُهشّمةٍ

كأنّ السَلالِمَ مَرشُوشَة ٌبرذاذِ الضياءْ

غرَفٌ حينَ تُفتحُ أبوابُها

يَنفخُ السُلّ ما في مناخيرهِ من هواءْ

... هكذا يتنزّلُ من غرفةٍ في السطوح الغريبُ

شفيفاً لفَرطِ نحافتهِ

مثلَ قنينةٍ اُلبِسَتْ سِترة ًوحِذاءْ

ولكنهُ عندما يتعثّرُ

ترتجّ من تحتِهِ طبَقاتُ العِمارَةِ

والمُذنبون يقومونَ ركضاً من النوم للصَلواتْ

وقد تترجرَجُ أبنية ُالحَيّ طُرّاً

إذا هُدنة ُالصمتِ ما نُقِضَتْ

وشَنّ بسكرتِهِ (أبو مرتا) على النائمينَ حروبَ الغناء

... لم تكُ تلكَ بزلزلةٍ

يومَ أنْ مالتِ الأرضُ

واندفعَ الخائفونَ عراة ًإلى الطرقاتْ

ناسينَ زوجاتِهمْ يتصايَحنَ تحتَ أسِرّتِهِنّ

وتسْوَدّ فوقَ اللهيبِ قُدُورُ الحَسَاء

ففي السطح قد بدأ السابحون السُكارى

مسابقة َالغوص داخلَ كاسَةِ ماءْ

**

هكذا هو ينزلُ في دَعَةٍ ووَقار

مخافةَ َأنْ يتخلّفَ عن ظِلّهِ خُطُواتْ

ويفجأهُ زمنُ الغادرين

فيقطفُ آخِرَ ما في غصون سكينتِهِ من ثِمار

خُطوة ٌمُتثاقِلة ٌ، ثمّ أخرى

وبينهما غفوة ٌوانتظار

وقد تتجاوزُ رحلتُهُ بين غرفتِهِ في السطوح،

وبابِ عمارتِهِ سنواتْ

(هل غرفةً هيَ كانت؟

أم هي كانت مَصيدَةَ فار؟)

تدخلها غازياتٍ جيوشُ الحنين بخَيلٍ من الذكرياتْ

وبالرغم من أنها دونَ بابٍ

ومن دون نافذةٍ

بيدَ أنّ الملائكة َالهائمينَ تحاشَوا محارقها

مخافة َتَلسعُ أقدامَهم جمرة ُالحسراتْ

**

ألمدينة ُنائمة ٌ

والسُكُونُ هو القاتِلُ المُتنقلُ عبرَ قطاراتِ منتصفِ العُمر

حاملاً بحقيبتِهِ حُقنة َالإنتحار

في فُندُقِ الليل يغفو السُكارى بجرارة المنضدة

تُضخّمُ سَمّاعة ُالصمتِ مكبوتة َالحسراتِ

فترتدّ مثلَ دويّ انفجار

- أنينَ كَمانٍ يُقدّمُهُ العازفُ الكَهلُ

من غرفةٍ في السطوح

لزوّاره الأوفياءِ: الجداجدِ والقملِ ليلاً

دليلَ التزامٍ بحُسنِ الجوار

- ترجيعَ صافرةٍ كالتثاؤبِ يطلقعهُ الحَرَسُ النائمونَ

لعلّ لُحُونَ النعاس التي جمّدتهم

تسُدّ أمامَ اللصوصِ دروبَ الفِرار

- آهاتُ جسمين مُرتجفين

يذوبان فوق السرير ببعضهما

ويفوحانِ ابخرةً ولهيباً

فمثلَ الحديدِ تذوبُ الجسومُ،

وتُلحَمُ – لَصقَ الجُسُوم - بنار

**

حينَ يُغطّي سكارى الحدائِق بالعُشبِ احلامَهم

وينامون في الساقية

ويُسدَلُ في غرفةٍ فوقَ سَطح الظنون سِتار

وحينَ تُصِرّ – وإنْ لم تُمَسّ – سلالمُ من خشبٍ

اصابَ ارتعاشُ النجوم مساميرَها بالدُوار

يلمّ الغريبُ بكفيه أدمُعَهُ

نادماً أنهُ ظلّ ينسى مَدى العُمر تخميرَها في جِرار

وما زالَ منذ ثلاثينَ عاماً يُغني

كمن قُلِعَتْ سِنّهُ دون بَنجٍ

يُغنّي، ويبكي

فتُظلِمُ مما بأعماقِهِ من غيوم سماءُ النهار

***

شعر / ليث الصندوق

في حيٍّ قديمٍ من ضواحي مدينة كولن، يقع منزلٌ من طابقين بطرازٍ تقليدي، مميّزٌ بنوافذه الخشبية الواسعة وجدرانه من حجر البازلت، وحديقته الكبيرة، بشجرة الكرز المعمّرة. ورثته إريكا شولتسه عن زوجها الذي توفّي قبل سنوات، وترك لها البيت وبعض المال، والكلب مولي؛ لكنّ أقسى ما ورثته كان الوحدة.

إريكا في أواخر الستينيات، مدرّسة رسمٍ متقاعدة، تعتني بمظهرها وبصحتها، يبدو على وجهها أثر جمالٍ قديم، تصفّف، بوقارٍ، شعرها الذهبيّ الذي غزاه خيطٌ رماديٌّ. ملأت وحدتها بأمرين: التعلّق بكلبها مولي، الذي رافقها منذ خمسة عشر عاماً، والحرص على أمسيات السبت الثقافية، التي تشارك فيها حلقةٌ ضيّقة من صديقاتها وأصدقائها من زمن الدراسة.

كان مولي رفيق إريكا الوحيد، يرافقها في كلّ مكان، يستلقي عند قدميها، وهي تقرأ في كتابٍ في المساء؛ تتحدّث معه عن تفاصيل يومها، عن ذكرياتها، عن ابنتها التي رحلت إلى هامبورغ ولا تزورها إلا نادراً. تقول له بمزاحٍ، وهي تلمس رأسه: "لو لم تكن هنا، يا مولي، لكنت تحوّلتُ إلى تمثالٍ من حجر".

منذ عامين فقط سكن عندها سامر، شابٌّ سوريٌّ في أواخر العشرينيات، نحيلٌ؛ لكنه مستقيم القامة، بجبهةٍ عريضةٍ، ولحيةٍ خفيفة، معتدٌّ بذاته من غير تبجّحٍ، جاء من دمشق بعد رحلة لجوءٍ طويلةٍ وشاقّة.

تعرّفت إريكا على سامرٍ بطريقةٍ غير متوقّعة؛ كانت، كلَّ مساء، تتنزّه مع مولي قرب ضفّة الراين، وكان يلفت نظرها ذلك الشاب الغريب الذي يجلس دوماً على المقعد الخشبيّ، يقرأ كتاباً بصمتٍ واستغراق.

ذات مساءٍ خريفيٍّ، والنسمة خفيفةٌ محمّلة برائحة النهر، كان سامر يجلس كعادته على المقعد الخشبي غارقاً في أفكاره، لا يهتمّ بما حوله، اقترب مولي منه، ومدّ أنفه نحو ساق سامر العارية، فانتفض سامر فجأة، ودفع ساقه بعنفٍ دون وعي، لتصطدمَ بأنف الكلب الذي انسحب يعوي نحو صاحبته.  هرعت إريكا غاضبةً: "كيف تجرؤ على أن تؤذي كلباً مسالماً؟". ارتبك سامر، وراح يدافع عن نفسه: "لم أقصد. هو الذي فاجأني. لقد تحرّكت بلا وعي!". لكنّها لم تقتنع بدفاعه، ارتفع صوتها، وهدّدته بأنها ستستدعي الشرطة. كانت توبّخ سامر، بالقدر نفسه الذي تواسي فيه كلبها العزيز.

ظلّ سامر يكرّر اعتذاره، ويؤكّد إنه لم يقصد إيذاء الحيوان، حتى هدأ الموقف بعد جدالٍ طويل. في النهاية قبلت اعتذاره علـي مضضٍ، ولم تطلب الشرطة "رأفةً بحالك! لأنك لاجئٌ من الحرب، لن أزيد معاناتك بمشاكل مع الشرطة".

منذ تلك الحادثة، تغيّر كلّ شيء؛ صارت تجلس، أحياناً، إلى جوار سامر على المقعد الخشبي، تتحدّث معه بحذرٍ في البداية، ثمّ صارت تترفّق معه بالكلام مع مرور الأيام. عرفت قصة لجوئه والحرب في وطنه، لم تعد تخشى على مولي حين يقترب منه، بل لاحظت أنّ الكلب نفسه صار يأنس به. من هنا بدأت صداقةٌ صغيرةٌ بينهما، انتهت بعرضها له أن يستأجر الغرفة العلويّة في منزلها.

انتقل سامر للسكن في المنزل، توثّقت العلاقة بينهما. مع الوقت أصبح سامر جزءاً من يومها. لم يقتصر حضوره على دفع الإيجار، بل كان يشاركها في تفاصيل الحياة الصغيرة، يساعدها في قصّ عشب الحديقة، وتبديل مصابيح الكهرباء العالية، ويصلح ما يمكنه إصلاحه في البيت، وأحياناً يرافقها إلى مكتب البريد، أو يذهب معها للتسوّق، يحمل الأكياس الثقيلة، وصناديق زجاجات المياه. هذه التفاصيل جعلت وجوده مألوفاً بين ضيوفها وأصدقائها.

بالتدريج صار يشارك في أمسياتها الثقافية، وصارت إريكا تقدمه أمام ضيوفها بعبارةٍ نصف مازحة: "هذا سامر، ضيفي، ومثل ابني"، وبلباقةٍ وذكاء يصحّح قائلاً: "مثل أخيك.. أشعر أنك مثل أختي الكبرى"، تبتسم إريكا، وتضيف: "لقد صرتَ فرداً من عائلتي الصغيرة، أنا ومولي". يبتسم سامر بخجلٍ، متقبّلاً موقعه الجديد في تلك "العائلة الصغيرة".

كان سامر يشعر، أحياناً، أنّ وجوده في هذا المنزل هو تفصيلٌ رمزيّ، تكمل به إريكا لوحة حياتها، أكثر من كونه جزءاً أصيلاً من هذه الحياة؛ مع ذلك، تقبْل هذا الدور برضا وامتنانٍ عميق.

في إحدى أمسيات الشتاء، اجتمع الضيوف في صالة المنزل الدافئة. حيث انتشرت الشموع فوق الطاولة، تعكس ضوءها الخافت على الكؤوس الصغيرة، وعبق الجوُّ برائحة القهوة الطازجة. جلست إريكا بفستانٍ كحليٍّ، وقد زيّنت أذنيها بقرطين ثمينين من الفيروز، عزيزين على قلبها، ورثتهما عن والدتها. جلس مولي، كعادته، قرب قدميها كحارسٍ وفيْ صامت.

كان بين الحاضرين فولفغانغ أستاذ الفلسفة المتقاعد، وصديقتها القديمة إيزابيل، الممرضة المتقاعدة، وجارتها هيلغا، معلّمة مدرسة، بالإضافة إلى صحافي ألمعي يدعى رينيه، له مقالاتٌ في السياسة والهجرة.

بدأت الأحاديث كالمعتاد عن الفنّ والمسرح، وسرعان ما تحوّلت إلى السياسة. قال فولفغانغ وهو يحرّك كأسه: "أوروبا صارت مثقلةً أكثر من طاقتها... اللاجئون يزدادون، والأنظمة عاجزة عن دمجهم بشكلٍ حقيقي".

لم تعجب إريكا نبرةُ التذمر في كلامه، فبادرت بابتسامةٍ متماسكة: "أعترض قليلًا يا عزيزي، انظر إلى سامر مثلًا...  يتحدّث بطلاقة، وليس، فقط، بمواضيع يومية، ألا يشكّل هذا إضافة؟"، ثم التفتت إلى سامر: "حدّثنا، من فضلك، قليلاً عن نفسك، وبلدك".

اعتدل سامر في جلسته، رفع كتفيه بتواضع، وقال بلغةٍ ألمانية، ببطء من ينتظر حضور الكلمة، وضبطها قواعدياً قبل نطقها: "كنت أحضّر بحث الماجستير في الأدب في دمشق. لدي شغفٌ بالأدب والتاريخ. لكنّ الحرب قطعت كلّ شيء. هنا أحاول العمل والتعلّم من جديد".

تدخّلت هيلغا بابتسامةٍ متردّدة: "المشكلة ليست مشكلة أفراد... مدارسنا صارت مكتظّةً بالتلاميذ من أبناء المهاجرين. أخشى أن نفقد هويتنا؟"

التقط الصحفيّ كلامها وتابع: "هل سار أحدكم في وسط كولن ليلاً؟ الشباب المهاجرون يملؤون الشوارع حتى منتصف الليل. متى كانت شوارع المدن أماكن للسهر؟ كولن لم تعد كولننا!  مدننا بدأت تفقد هويتها. هذا إذا لم نتحدّث عن الأمان… من يستطيع أن يتأكّد من أيّ خلفية جاء هؤلاء؟".

ساد صمتٌ قصير. ارتسم القلق في وجه سامر، لكنه تمالك نفسه وتحدّث بلطف: "أفهم خوفك، يا سيدي. الحرب تجعل كلّ شيءٍ يبدو مضطرباً وغير آمن. لكن اسمح لي أن أقول: الشارع ليس هو مصدر القلق الوحيد على الهوية الثقافية. هل الإعلام بريءٌ من التأثير على الهويات الوطنية؟ على العموم، الهوية ليست شيئاً جامداً، إنها مثل نهرٍ بجري. حين تلتقي به جداول أخرى، يكبر ويصير أعذب؛ لكنه لا يغيّر مجراه".

رفع فولفغانغ حاجبيه وقال: "تشبيهٌ جميل... لكنّ النهر أحياناً يفيض ويغرق الأرض".

ابتسم سامر بخفّة: "صحيح؛ لذلك فالمجتمعات بحاجةٍ دائمةٍ إلى سدودٍ من العقلانية، والقوانين العادلة. أما أن نمنع الجداول عن النهر، فلن نتجنّب الفيضانات، بل سيجفّ النهر نفسه ويأسن".

تبادل الضيوف النظرات. لم يتكلم أحدٌ في الموضوع بعد ذلك، لكن كان جليّاً أنّ ردّه ترك أثراً واضحاً؛ ارتسمت الدهشة في وجه إريكا، ألقت نحوه نظرةً تفيض بالفخر، وبحركةٍ آليةٍ نزعت قرطيها ووضعتهما على منضدةٍ جانبية واسترخت في جلستها تربّت على شعر مولي المقعي بجانبها، متباهيةً باكتشافها: "ها أنتم سمعتم! مأساة هذا الشاب تذكّرنا بما نسيناه بعد سبعين سنةً من الحرب. نحن أيضًا كنّا لاجئين في زمنٍ ما".

ضحكت إيزابيل ثمّ علقت: "إريكا دائماً تحبّ تحويلَ النقاش إلى درسٍ إنساني!"

بعد ساعةٍ أو أكثر، كانت الضحكات تتلاشى حين بدأ الضيوف يغادرون. ظلّ سامر، زمناً، يساعد إريكا في ترتب الأكواب والأطباق. كانت سعيدةً بحضوره الذكيّ في الأمسية، وقبل أن تصعد إلى غرفتها، لاحظت أنّ أحد فرطيها مفقود، بحثت على الطاولات والمقاعد، وتحت السجادة الصغيرة بلا جدوى، ساورها شكٌّ ثقيل، حاولت أن تطرد الفكرة؛ لكنها عادت بقوة. تردّدت قليلاً، ثمّ اتصلت بالشرطة.

وصل ضابطان، أحدهما امرأة، فتّشا بدقة، صعدا إلى الغرفة العليا. ظلّ سامر صامتاً بذهول، يجيب باقتضاب، وقد صعقته الفكرة. نظر إلى إريكا، رأى في عينيها ارتباكاً وتردّداً، شعر بالخذلان، لكنه ظلّ يحيب عن أسئلة الضابطين بثقةٍ وهدوء.  لم يجدا شيئاً. اعتذر الضابطان بأدبٍ وغادرا. جلس سامر على سريره يشعر أنّه تلقّى طعنةً في قلبه. كان يعرف أنّ الشكّ سيظلّ يلاحقه، حتى لو أثبت براءته، لكن ما يحزّ بنفسه أكثر، أنّ إريكا التي قدّمته كابنٍ لها، متباهيةً أمام أصدقائها، وضعته في دائرة الاتهام من أول تجربة.

جلست إريكا حزينةً على الأريكة، ركض نحوها مولي يتمسّح بركبتيها، لمحت شيئاً يلمع في ثنايا شعره، شهقت: "القرط!". انتزعته برفق: "يا مشاغب! أخذتَ كنزي الصغير؟!"، ضحكت من قلبها، ثم نظرت حولها ولم تجد من يشاركها الضحك سوى صدى الجدران. تذكّرت سامر في الطابق العلوي، وشعرت بوخزةٍ من الأسى، فكّرت أن تصعد لتعتذر، ثم عدلت عن ذلك، وقرّرت أن تدعوه في الصباح لتخبره كيف وجدت القرط، وتخفّف عنه ثقل هذه الليلة.

استمرّت الأمسيات في منزل إريكا؛ لكنّ شيئاً في أعماق سامر تغيّر. صار قليل الكلام، لا يشارك في النقاشات كما كان؛ يكتفي بابّتسامةٍ صامتة، أو جملةٍ مقتضبة. فضّل الاكتفاء بأعماله الصغيرة في المنزل: جزّ عشب الحديقة، وإصلاح إطار نافذة، أو مسح الغبار عن مصباحٍ مرتفع، وترتيب حطب المدفأة. أما إريكا، فلا تزال تناديه "ابني"، دون أن تلاحظ الشرخ العميق الذي حفرته تلك الليلة في داخله.

***

قصة: منذر فالح الغزالي

Wachtberg, 24.08.2025

كانتْ منذَ الأَفجارِ الأولىِ،

منذُ بداياتِ التكوينِ،

آنيةً لزُهورِ الخَصْبِ،

فاكهةً في رَحِمِ الطّينِ.

*

بالأنوارِ تحفّتْ،

بالألوانِ المائيّةِ الزرقاءِ،

وبالأخضرِ الغابيّ،

كِتابًا مَفتوحًا صارتْ،

ألواحًا زيتيّةً،

قارئُها الخلقُ:

الطّينُ اللازِبُ والأحجارُ،

الماءُ الجامدُ والأنهارُ،

الغيماتُ الحُبلى،

وحُبيباتُ الأمطارِ.

*

للأشجارِ افترشتْ راحتَها،

وانبسطتْ... فانغرستْ فيها، اكتشفتْ

ما تُثخِنهُ الشهوةُ في ليلِ الإعصارِ.

*

الديناصوراتُ انقرضتْ فيها،

وما انقرضتْ فيها الآهاتُ،

لَمّا احتضنتْ من أغواهُ التفّاحُ،

مَن لفظتهُ الجنّاتُ،

مَن سكنتهُ الشهوةُ والصبواتُ.

*

بالكلماتِ احتفلتْ،

بالورقاتِ،

لِتُؤرِّخَ للعالَمِ

أخبارَ الهجراتِ الأولى والرّحلاتِ،

بَصماتِ الخطواتِ المشروخةِ

فوقَ أديمِ الصدرِ العالي،

بَوحَ الأصداءِ بعدَ رحيلِ الأصواتِ،

أنباءَ نبوءاتٍ شهِدتْ،

ومصيرَ حضاراتٍ،

أفراحًا ومسرّاتٍ،

وأنينَ مُعاناةٍ.

*

منذ العصرِ الحجريّ

حتّى بزوغِ الإنترنتِ،

في الأعماقِ،

كَتمتْ صوتَ البُركانِ،

وقالتْ للنيرانِ: تعالي!

حملتْ كلَّ سلالاتِ الصيرورةِ

فوقَ سريرِ الماءِ الجاري،

ولمفاتنِها غنّتْ موسيقى الريحِ

وأسراب الأطيارِ،

هَسِيس عَناصرِها في الأشجارِ،

خَرير مياهِ الأمطارِ،

للشمسِ، للخضرةِ،

رَقَصَتْ للأنوارِ.

*

لم تَعبأْ بالأقدارِ،

بِكِتاباتِ اللاهوتِ،

وبالأسفارِ،

بالآمالِ المُغتالةِ ليلًا ونهارًا،

في أحشاءِ مقابرِها طمرتْ

كلّ الفُجّارِ، وكلّ الأخيارِ،

كلّ الأشرارِ، وكلّ الأحرارِ،

كلّ سِجلاّتِ الأسرارِ.

*

صُلبَ الحلاّجِ،

ولم تُصلبْ فيه الأشواقُ،

حقلَ نِفاياتٍ صارتْ،

مدارَ خُصوماتٍ،

جسدًا أدمَتْهُ الألغامُ،

مجنونًا، من ثقبِ الأوزونِ،

تسلّلَ شبحُ الأورامِ.

*

أتراها تبكي زمنًا

كانتْ فيه عذراءُ،

بكارتُها لم يَطمِث إنسانٌ؟

أم زمنًا آتٍ،

قُربانًا ستكونُ فيه

لِزَوالِ الإنسانِ؟

***

بقلم :️ سليمان بن تملّيست - الجمهورية التونسية

جربة في 2012/12/28

......................

* "ألواح الأرضِ"، نصٌّ شعريٌّ يرسمُ رحلةَ الأرضِ والحياةِ منذ الانفجارِ الكونيِّ الأولِ حتى العصرِ الحديثِ.. الأرضُ تتحوّلُ إلى شاهدٍ حيٍّ على الطبيعةِ، والحضاراتِ، والفرحِ والمعاناةِ، بينما يتأمّلُ الشاعرُ مصيرَ الإنسانِ وعلاقته بالكوكبِ.. النصُّ يمزجُ بين الصورِ الشعريةِ الملحميةِ والتأمّلِ الفلسفيِّ، مع وعيٍ عميقٍ بالبيئةِ والتاريخِ.

الوهم نهر..

يأخذنا إلى فكرة العشق الابديّ..

ثمّة رغبة في عدم التّوقف عند إحدى الضّفتين...

يقول:

عند المصبّ.. نلتقي..

حين تكفّين..عن تأمّل الصّفصاف.. على الضّفاف...

نلتقي..

*

تقول:

كيف نصل..

مثقل انت بذاكرة.. تقتات على وجعك..

كيف روحي. تستسلم للتيّار عاشقةً..

وروحك معلّقة بالظّلال...؟

*

مازالت الضفة تغازلني

ومازال النهر يأخذني.. معلّقة انا.. بين بين

*

بينما "البحر بيضحك ليه"

*

الوهم نهر..

يأخذنا إلى فكرة العشق الابديّ..

ثمّة رغبة في عدم التّوقف عند إحدى الضّفتين...

يقول:

عند المصبّ.. نلتقي..

حين تكفّين.. عن تأمّل الصّفصاف.. على الضّفاف...

نلتقي..

*

تقول:

كيف نصل..

مثقل انت بذاكرة.. تقتات على وجعك..

كيف روحي.. تستسلم للتيّار عاشقةً..

وروحك معلّقة بالظّلال...؟

*

مازالت الضفة تغازلني

ومازال النهر يأخذني.. معلّقة انا.. بين بين

*

بينما البحر.. بعيدا

كان.. يضحك..!!

*

..بعيدا

كان.. يضحك..!!

***

حياة بن تمنصورت - تونس

 

ليس عندي

ما أنفقه على صمتي،

صمتي

كبرَ حتى صار له لسان

يسلُق به المارّين،

ويَصمني بما ليس عندي،

يكفرُ بالنِّعَم،

وينسى أنّي

احتضنته

مذ كان غَضًّا

لا يعرف غير العويل،

يبكي

لسببٍ أو من دون سبب،

تحمّلته،

ولمّا اشتدَّ عوده،

سلقني بكلماته،

وأورثني وجعًا

يمتدُّ من حنجرتي

إلى ظلّي،

حتى صرتُ غريباً

في بيتي،

يأمرني أن أخرس

حين أودُّ الكلام،

ويُطلقني في الطرقات

حين أودُّ الاختباء،

فعرفتُ

أنني لم أُربِّ صمتي،

بل ربّاني هو،

حتى صرتُ أنا

صوتَه العالي،

وصمتُهُ يبتلعني

كأنّي لا شيء سوى صدى

في حنجرة لا تُسمَع.

***

د. جاسم الخالدي

طافَ الفُلْكُ فحلّقَ سربُ شُهودِ الغربانِ

يبحثُ في ما بعدَ اليمِّ الطاغي عن مأوى

ظلّتْ غِربانُ الشؤمِ تحلِّقُ في عُمقِ اللاجدوى

حتى أعيتْ ماتتْ جوعا

تصرخُ لا سلْمَ على أرضٍ غطّاها الطغيانُ

يتعدّدُ أشكالا

فيها الإنسانُ ظلامٌ مسلولٌ ظمآنُ

أعمى يقتلُ أعمى

غطّاني الطوُفانُ وأفقدني وعيَ الوجدانِ

فليبقَ الطُوفانُ مليكَ عروشِ الأزمانِ

لا دينَ يؤاسي لا حُكمُ الأوثانِ

هل أنجبني سببٌ مجهولٌ أمْ بشرٌ مجبولٌ مثلي؟

لا أعجبُ لا أحتارُ

مثلي ينبتُ في شَجَرٍ مقطوعِ الأغصانِ

لا أغرقُ لا أطفو

حسبيَ أنَّ الواقعَ في الدنيا أعماني

جرّدني من تُحفةِ عرشِ محطّةِ أحزاني

أفقدني وعيَ سلامِ القبرِ النائي

الدُنيا لُعبةُ قطعِ الأوصالِ

وخرابُ الناموسِ الأزليِّ وإخراسُ الصوت العالي

الروحُ تصيرُ مُحالا

والسمتُ الغالي أوطأُ من قامةِ فحلِ النملِ

أقصرُ من نابٍ في فكِّ الأفعى ..

سأُجمِّدُ نفسي والحاضرَ والماضيَ والآتي

خشيةَ أنْ أفقدَ وزنيَ في باقي أجسادِ الأولادِ

والقيمةُ في مرآةِ الظلِّ سوادُ

تَرَفٌ يبقى والناعي صوتُ الصرخةِ في الميلادِ

ما خطبُ الراكبِ ظهرَ الأنواء

يحسبُ أنَّ البردَ يُغطي دَربَ الأشواقِ

لا يعرفُ أنَّ الشوقَ قصيرُ

وحصادَ القمحِ المسمومِ هراءُ

إبعثْ للراحلِ من صدرِ المُشتاقِ سلاما

خبِّرْ أني معطوبُ القلبِ أُعاني من فقدِ الأوزانِ

لا أمسي يدنوَحتّى ليؤاسي

ويُخفّفَ عنّي وطأةَ شقِّ الأنفاسِ عميقا

أين الماضونَ وهل مِنْ لُقيا في طيفٍ أو رؤيا

أنقذني [أَبَتي] إني مأزومٌ أتداعى وصفاً وصفا

تتهرأُ أقدامي ويهزُّ الجُدرانَ مُقامي

بارِكْ سيلَ الروحِ على مجرى مخضوبِ دموعِ الأجفانِ

طوّعتُ بناني فتهاوى سقفُ الحِرمانِ العالي

يشكو شِدّةَ خطفِ الأبصارِ

ويُعيدُ الكرّةَ فصلاً فصلا

لا خَفْقٌ ينتابُ ولا هُدْبٌ يرتادُ الأجفانا

أينَ الُلقيا ؟ هل مِنْ أملٍ في قطعِ الكفِّ العاصي

ويمورُ كما مارَ الوعدُ المشنوقُ بمُرِّ حِبالِ الأبراجِ

كَفكِفْ هذي البُشرى وتبارَ ومجهولَ الأسفارِ

بَشِّرْ أنكَ لا تُحصي أنفاسَ الأقدارِ

ما مرَّ يمرُّ سريعاً

فتعالَ نغضَّ الطرفَ حِدادا

طابَ الطُوفانُ وطالَ المدُّ العالي

فتعالتْ أصواتُ الغِربانِ تنادي بالرهبةِ والويلِ

وتهاوتْ أشرعةٌ فالريحُ الصْرصرُ إعلانُ

(هيئْ نفسَكَ لليومِ التالي)

اليومُ التالي حصّةُ فقدانِ الأهلِ

لا جُرفٌ يؤويكَ ولا مِرساةٌ تُحصي أنفاسَ الربّانِ

اليومَ عُبابُ

وطريقُ الأوبةِ عينٌ تتلو عيناً سوداءُ

والباقي في كهفِ الماضي أكفانٌ بيضٌ وبقايا أوهامِ.

***

د. عدنان الظاهر

أيلول 2025

(مرثيّة كونية للأنثى التي لم تُترك لتكون إنسانة)

في البدءِ... لم تُخلق من ضلعٍ كما رووا، بل من ومضةِ نجمٍ، وشهقةِ ماء، ومن رغبةِ الحياة أن ترى وجهًا جميلاً كي تُحبّ نفسها. لكنّهم، منذ البدءِ، أقسموا أن يجعلوا منها سؤالًا لا يحقّ له أن يُجيب.

**

يا امرأةً، كلّ أرضٍ سقتها دماؤكِ ثم أنكروكِ. كلّ حضارةٍ صعدتْ على أكتافكِ، ثمّ دفنتكِ تحت أقدامها.

**

في الهند... حين يموت الرجل، يُحرق جسدُكِ معه، كأنّكِ لم تكوني إلّا ظِلّ رماده. وفي إفريقيا، يُنتزع منكِ الفجر، حتى لا تعرفي كيف تبتسمين حين تمطرُ الرغبة. وفي أوروبا، كنتِ تُباعين في أسواقٍ يتبادل فيها اللورداتُ مفاتيحَ الجسد كما يتبادلونَ الخيولَ المدلّلة.

**

وفي مصر، وُضعتِ بجوار المومياء، ليصحبكِ إلى الحياة الأخرى كأنّ موتَهُ أهمّ من بقاءكِ. وفي جزيرة العرب... أنتِ التي خُلقتِ من عارٍ يتوارثه الرجال، كأنّكِ سقطةُ المجد، ولستِ نبوءةَ الأرض. دفنوكِ حيّة، لا لأنكِ أخطأتِ، بل لأنّكِ تنفستِ.

**

آهٍ يا أنثى… كم مرّةٍ كنتِ زهرةً على كتفِ البركان، ثم قالوا: "هي السبب"؟ كم مرّةٍ سالَ دمكِ من شهوةِ سيوفهم، ثم قالوا: "الفتنة فيها"؟

**

وها أنتِ، حتى اليوم، تُجلدين بصمتك، يُصلبُ وجهكِ في شاشات الأخبار، ويُعاد تدويرُ مأساتكِ كأنها محتوىً ترفيهي، لا روحٌ تنزف.

**

لكنكِ، رغم ذلك، رُكنتِ في زاويةِ التاريخ، باسمِ القداسةِ أحيانًا، وباسمِ الرجولةِ أحيانًا أخرى، تارةً قدّيسةٌ يُرجمُ من يلمسك، وتارةً شيطانةٌ يُحرقُ من يحبّك.

**

ومع هذا… قمتِ من بين رمادكِ، في كلّ زمن، في كلّ لُغة، في كلّ طعنة، كنتِ النهوض. كنتِ التي تُرضعُ الحروبَ أطفالها، ثم تُهدهدُ في قلبها نواحَ الضحايا. كنتِ التي تُلملمُ الخراب، وتصنعُ منه بيتًا، وحلمًا، وقصيدة.

**

أيتها الخارجةُ من جحيمِ الإنسان، من فمِ الحضارةِ المشقوق، ما زلتِ تمشينَ بيننا كأنّكِ عارٌ لا يُغتسل، أو نبيّةٌ لم يؤمن بها أحد.

**

لكنّني أؤمن بكِ، كما يؤمنُ الطفلُ بالأم، كما يؤمنُ الجرحُ بالماء، كما يؤمنُ الليلُ بالنجوم التي لم تُطفأ.

**

سلامًا عليكِ، يا صديقةَ الألمِ والدهشة، يا صرخةَ الجبال، وحنانَ الأغصان، سلامًا عليكِ، في كلّ لغةٍ أُخفيتِ فيها، وفي كلّ جسدٍ أُرهِقَ باسمِ الحبّ.

**

سلامٌ على التي لم تُترك لتكون، لكنّها كانت… وستظل.

***

بقلم: كريم عبدالله - بغداد / العراق

 

فجأة، وفي غمرة من الحزم والعزم والحماس تدفق خلق كثير نحو الشوارع والأزقة والساحات.. كأنّ زلزالا عنيفا رمى بهم من وراء الجدران الأبواب والنوافذ والشرفات..

 يا إلهي، ماذا حدث؟ لماذا غادر أهل إيكوزيوم* البيوت والحوانيت والمقاهي والحدائق، وحتى المشافي والعيادات الخاصة؟ وكان من عادة الناس يوم الجمعة، وهو عطلة الأسبوع لجل الموظفين، أن يختفوا عن الأنظار.. وأن يناموا حتى ساعة متأخرة من الضحى.. يمارسون في نومهم عادات التثاؤب والتكاسل والشخير والتناسل والتمطط تحت الغطاء الدافيء.. وهي عادات محمودة بعد أسبوع من العمل والخصام والتعصب والسفر والانتظار والقلق ونزول الضغط الدموي وصعوده، وكثير من الآلام النفسية والجسدية..

 ليس من عادة المدينة أن تضج في هذا اليوم.. ثم ما بال الناس مجتمعون عند البريد المركزي؟ ماذا حلّ بهم؟ أهي أزمة سحب الرواتب كالعادة؟ لقد تعودت المدينة على الهدوء كل يوم جمعة.. فلا يخرج بعض أهلها إلاّ للصلاة عند منتصف النهار، والبعض الآخر فيخرج للتنزه على واجهة البحر، كون أنّ الحدائق نادرة، والمساحات الخضراء قد ابتلعها الإسمنت..أما السواد الأعظم، فيقبعون في البيوت، يمارسون القيلولة والشخير وأشياء أخرى...

تقول الحكاية، التي تشبه أساطير ما قبل التاريخ:

 إن أصواتا سُمِعت فجرا، وأمرت أهل إيكوزيوم بالمغادرة نحو الشوارع والساحات.. وبثت في نفوسهم شغف الخروج..

 ولم ير أحد لتلك الأصوات ظلالا، ولم تتبين ملامحها لأحد.. وكيف قدمت؟ ومن أين قدمت؟ وما مصدرها؟ أمن السماء أم من البحر أم من كهوف الأرض؟

 الحاصول، أنّ سكان المدينة، أصابتهم رغبة شديدة في مغادرة بيوتهم، وأشباه بيوتهم.. تلك الرغبة التي تتحول بسرعة فائقة إلى نوع من الجنون، يشبه جنون البقر، يصيب كل من رفض الخروج، او أبطأ فيه.. بل إنّ مجرد التفكير في عدم الخروج، يتحول إلى حكّة جلدية شديدة تشبه حكة الإكزيما ونوبة من القلق الذي يعقب عادة زلزالا عنيفا بعد منتصف الليل..

 وقال آخرون، إنّهم رأوا رؤيا واحدة موحدة، طوال الأسبوع الذي سبق تلك الجمعة.. والغريب أن الناس قد أصابتهم الدهشة، وهم يروون تلك الرؤيا الموحدة.. فكلّما رواها أحدهم قال آخر:

- لقد رأيت ذلك أنا أيضا ليلة البارحة أو ما قبلها.

 وهي ظاهرة غريبة وعجيبة.. أن يرى الناس رؤيا موحدة، وكأنهم على قلب رجل واحد.. وملخص الرؤية، أنّهم رأوا أنّ مدينتهم سيبتلعها البحر، إن لم يخرجوا لإنقاذها من الهلاك والفناء.. ليس مثلما حدث لمدن التسونامي.. بل إنّ مدينتهم ستهرول مسرعة ناحية البحر.. وترتمي في أعماقه.. وهي تعتقد أنّها سوف تبتلع البحر بما فيه.. لكن سيحدث العكس.. فقد ولد البحر قبلها بقرون.. كان هو السابق وهي اللاحقة.. هي الجزء وهو الكل.. والبحر ماؤه أجاج.. لا تستسيغ ماءه إلاّ مدن الملح.. ومن أجل ذلك خرجوا لدفع الكارثة عن مدينتهم.

 وصدّق سكان المدينة الرؤيا، وخرج منهم الرجال والنساء والشباب والشيوخ والعجائز، والرضع المحمولين بين الأيدي، وعلى الرقاب والكواهل، وحتى الأجنة التي مازالت في الأرحام، إلاّ شرذمة قليلة.. كذّبوا، وأبوا الخروج من بيوتهم..

و قالوا عن تلك الرؤيا:

- إنّها مجرد أضغاث أحلام لا غير.. ومتى كانت الرؤى يقينا.. ربما أكثر هؤلاء الحالمين من أكل الفول والبازلاء في موسم الربيع.. هههههه..

 وكان أن أصابتهم الحكة الشديدة.. واقتربوا من دائرة الجنون، بل وصاروا كأبقار مجنونة، لا يصلح لحمها ولا لبنها..

 وروى شاهد عيان عنهم، أنّهم فقدوا البصر والبصيرة.. ندم بعضهم، وتلاوموا، واشتدّ تلاومهم إلى حد الخصام والتنابز بألقاب الفسق. تدابروا وتقاطعوا، ولم يبق منهم رجل رشيد..

قال شاهد عيان:

- أنّهم، لمّا فقدوا السمع والبصر والفؤاد.. وسقط بين أيديهم. ادّعوا أنّ تلك الرؤيا، ماهي إلا سحر ساحر.. أراد أن يستوليّ على خيرات مدينتهم...بعد أن يقنع أهلها أنّه منقذهم من الغرق.. وأنّ البحر لا يبتلع مدنه الأصيلة..

و لمّا قيل لهم بالدليل والشاهد:

- ألم تروا كيف فعل المحيط بمدن في الشرق؟ ألم تشاهدوا ذلك التسونامي؟

قالوا، بنبرة الجدل العقيم:

- ذاك من عمل المحيط، وليس البحر.. بحرنا لا يأكل من لحم أبنائه، ولا يشرب من دمائهم.

 ونسوا آلاف الضحايا الحرّاقين الذين غيّبهم البحر، كما تغيّب أجهزة المخابرات ضحاياها في بلاد العُرب والأعراب.

 والغريب في الأمر – إضافة لعدم تصديقهم للرؤيا – أنّ حكماءهم، الذين منحوهم صكوك الهلاك والوباء نصحوهم بأكل نفايات دجاج التريسنتي ( الكهرباء )، من (الكاشير) والجبن، ليشفوا من سكرهم وكوابيس أحلامهم.. لكن حدث عكس ذلك تماما.. فقد اشتدّ عليهم مرض الجنون.. وأصيبوا بالكساح.. وفقدوا الذاكرة.. ونسوا محل وجودهم وزمانه..

و أضاف شاهد عيان:

- لقد أصابتهم حشرة " الطكوك "( 4 )، وتفاقم داؤهم، لمّا بقوا مصرين على تكذيب الرؤيا، وتساقط شعر رؤوسهم، فصارت قرعاء مثل أرض هجرها الماء.. وارتخت أطرافهم العليا والسفلى.. حتى عادوا لا يتحركون إلا زحفا على البطون أو الدبر...

 روى أهل إيكوزيوم الحقيقيون، الراسخون في الصدق والوفاء لمدينتهم، لا الوافدون، المزيّفون، الذين لا ظلّ لهم.. عن مدينتهم صفحات من عجائب البطولة والشهامة والإباء.. فهي، كما يقولون، مدينة لا يحكمها إلاّ الرجال الأحرار.. وكم حاول الغرباء من البدو والعجم استمالتها بشتى السبل والحيل والقسوة والمكر، لكنّها استعصت عليهم، وأذاقتهم مرارة الحنظل...

 اكتظت الشوارع والساحات بسيول بشرية.. لم تشهد مدينة إيكوزيوم مثلها قط من قبل.. كادت الأشجار والأحجار والجدران أن تسير في ركب حراكها.. وكانت أسراب من القطا والحمائم البيضاء والسنونوات تضفي على فضائها ألوانا من بهجة الربيع.. وبدت المدينة تعيش ربيعها الأخضر بعد عقود من اليباب..

 وانبسط البحر هادئا، ضاحكا، رومانسيّ الهوى، غارقا في لجّة الإغراء.. كان فيما يبدو، يعزف على أوتار الغواية، ويترنّم نسائم الانتظار.. كان عريسا ينتظر عروسه في ليلة الزفاف.. لكنّ إيكوزيوم، لم تترجل صوب البحر بفضل أهلها الشجعان، الأحرار.. ولم يبتلع البحر سوى المكذّبين بالرؤيا. فقد أقدموا على الزحف نحوه مثل السلاحف وكلاب البحر. وكانوا مأدبة نتنة لأسماك البحر.

 وعند الأصيل قاءهم البحر وأبصر أهل إيكوزيوم أسرابا من الغربان تنعق وتحوم على الشاطيء حتى أدركها الظلام.

 ونجت إيكوزيوم من الغرق والفناء، بفضل أهلها الشرفاء.

 (تمت)

***

بقلم القاص: علي فضيل العربي – الجزائر

..........................

هامش:

(1) إيكوزيوم: الاسم التاريخي لمدينة الجزائر، موقعها هو موقع حي القصبة في العاصمة الجزائرية الحديثة. ومن أسمائها: المحروسة، البهجة، الجزائر البيضاء.

 الطكّوك: حشرة تصيب الأبقار في زمن الربيع، فتهيّجها، وتحيلها إلى أبقار ناطحة، حرونة

 

مد يده مصافحا ثم دسها في جيب سترته. تلك النظرة الحائرة لم تفارق عينيه، كأن في الروح اضطرابا. شمالي الطبع كأنه رضع من غيم طنجة المالح. بياضه مشوب بحمرة وتحت الجفنين خطان أزرقان من فرط السهر.

جلسنا في المقهى قليلا ليفصح عن رغبته في تقاسم الحجرة الملحقة بقاعة الدرس. وعلى الطريق المتربة سرنا محملين بأعباء السفر. تكورت على جبينه حبات العرق كأن شمس الخريف لا ترصد غيره. حكى عن مواهبه في " العِشرة"، وانبساطه مع الإخوان لتمتين الصحبة. شر لا بد منه! حدثت نفسي المولعة بصمتها في كنف غابة البلوط.

تحوك ليالي الخريف همسنا فلا يسمع في الخارج غير عويل الريح. حديثه المقتضب يشوبه التردد. لم يفصح عن ماضيه إلا بعد مكالمة عاصفة:

- ضقت ذرعا بزيجة لا تحترم قواعد الاشتباك. لسذاجتي وضيق حالي لم أقلّب الأمر على وجوهه. قالت: هيت لك، فصحت: ما أجملك! ولُف الحبل بهوادة ليخنق رغبتي في الحياة. بين أربعينية ناضجة وغلام في العاشرة قربت نذور السعادة لكن..

بكى واشتكى ثم لوّح بخيار المحاصَر: علي وعلى أعدائي! جاريته قليلا وأنا أشتم هدنة سابقة في المقهى. كل روح تقول لا مساس قبل أن يهزمها التشظي. عليك أن تحفظ نسل آدم حتى وإن عشت الخطيئة مرتين.

- هاجِر، قلت، فأنت الشمالي المولع بالبحر والمرساة. ألق الشباك لعل حورية تسحبك إلى حلمها البلوري. في الضفة الأخرى فرص أخرى، وبلاد تأخذ لتعطي!

بكى واشتكى، ثم حكى عن سداد الديون، وبنوك تمضغ لحمه الحي منذ شهور. شر لابد منه! حدثت نفسي المولعة بصمتها في كنف الهموم. ليس على ظهرها مستريح. من يملك كمن لا يملك، سواسية نحن أمام تلك الهاوية التي تسحب العمر.

- أتدري، قلت، بأن الموظف هو صخرة سيزيف التي يحملها إلى القمة ثم تتدحرج في عبثية لا تنقضي؟ حياتك لن تمنحك فرصا أخرى ما دمت مصرا على رتابتك.  ستعثر على زوجة ودخل شهري، لكنك لن تجد السعادة مرتين!

كنت أقذف بالشمالي في غربة أرحب، حيث يُلمّع المرء إنسانيته ليحتمل العيش مع أعداء التاريخ والهوية. أثنى على رأيي لكن التردد يشلّ عزيمته. عوّل على استرداد نصيبه من مدخرات التهريب وسمسرة الأراضي. عليه وعلى أعدائه!

مضى أسبوعان قبل أن يهاتفني شاكيا غدر الزمان. من كانوا جيران الأمس تلذذوا بالفرجة على معركة صغيرة دارت رحاها على عتبة داره. تجردت الزوجة من كل معاني الشرف وهي تقذفه بكومة ملابس مما تبقى في دولابه. ترمقه نظرات الجيران بشماتة كأنه الجاني لا الضحية.

- ضحية؟ أجبتُ باستنكار وأنا أعيد على مسامعه عذر ضيق اليد الذي يبرر زيجة رمادية. البحر أوسع من الشباك التي صادتك طائعا لا مكرها. لكنها الحياة السهلة التي يطمح إليها جيلك ممن تلعب به الشَمول!

أرهفت السمع لوقع أقدام تبعثر سكون الليل. طرق خفيف على الباب ثم جسد متهالك يرتمي على الفراش. العينان مثقلتان بالسهر، بينما الشفتان تنفرجان عن حروف مُجهدة:

-- ريح شمالية عصفت بقاربي، لكني نجوت!

  ***

حميد بن خيبش

خيوط الشمس الذهبية تنتشر في كل زاوية من أركان المدرسة، تلمع على الطاولات وعلى وجوه الأطفال البراعم الصغيرة..

 معلمة الرسم مبتسمة، تراقب أصابع الأطفال التي تتحرك بين الفرشاة والألوان، وكأنها تعزف سيمفونية صغيرة على لوحة بيضاء..

جائزة اليوم ستذهب لأفضل رسام، يمزج الألوان بطريقة تعكس روح الحياة..

في ذلك اليوم، لم تكن المسابقة مجرد مزج ألوان؛ كانت نافذة للحياة، نوافذ صغيرة تُطل منها أحلام الأطفال، حيث تُكتب الفرحة على جدار المدرسة.. ثم تضيع، كما ضاعت الدار التي حلموا بها حين كبروا ولم يجدوها..

أنهى صابر لوحته ورفعها بفخر للمعلمة ولزملائه.. وطنه، المساحات الخضراء غابت، وألعاب الطفولة تبدّدت، وبقيت فقط مساحات الصغار.

كانت لوحة مختلفة، صامتة لكنها صادقة، تحمل ألم الوطن وشح الحياة فيه، لكنها في الوقت نفسه تعكس رؤية الطفل لعالمه ببراءة وصدق.

لم تكن المسابقة مجرد مزج ألوان، بل كانت نافذة لعيون الأطفال على الحياة، لكل حلم صغير، لكل فرحة ضائعة، لكل ذكرى ودار كتبناها على جدار المدرسة ولم نجدها بعد أن كبرنا.

رسم صابر لوحة مقابر.. بلون بني قاتم.

***

د. نسرين إبراهيم الشمري

 

كان الليلُ يُطبِقُ على الجهاتِ كلِّها كجدارٍ بلا أبواب،

والأرضُ ممدودةٌ مثل صفحةٍ من غبارٍ قديمٍ، لا يَجرؤ أحدٌ على الكتابة عليها .

غير أنّ في العظمِ صوتاً خفياً بدأ يَرتجُّ،

كأنه سحابة مرعدة لم تجد ارضها بعد،

صوتٌ يريدُ أن يتجسَّد،

أن يصيرَ خطواتٍ على الحصى،

أن يُثبت أنّ الحكايةَ تبدأ حين يُصرُّ إنسانٌ على أن يَصنعَ مقامَهُ بنفسه.

*

مشى… والظلالُ تَطوفُ حوله كذئابٍ من دخان،

والأحجارُ ترتفعُ أمامهُ كسؤالٍ يتجدّد عند كلِّ خطوة.

لم يحملْ خريطةً، لم يسألِ الغيمَ عن وجهة،

يريد إسترجاع الطريقِ القديم ،

وتطويعَ الأرضِ لتُقرَّ بوجوده.

*

وفي العراء، لمحَ كائناً صغيراً،

طفلاً يتيمَ الملامح،

يجلسُ على هامشِ الريحِ كأنّهُ ينتظرُ من يعترفُ به.

اقتربَ، فرآهُ مكسوراً، مطعوناً ،

طفلاً اغتيل إسمه بالصمت .

فعلم أنّهُ الشرف،

ذلك اليتيمُ الذي أهملهُ الجميع،

المطروحُ على العتبات،

الذي لا يُرفَعُ إلا بيدٍ تؤمنُ أنّ الاحتضانَ امتحانٌ للنار،

وأنّ النارَ لا تُحرقُ مَن وُلدَ ليصيرَ وقودَها.

*

مدّ ذراعيه وحملهُ إلى صدره،

فاشتعلَ الدمُ في عروقهِ،

صار أثقلَ، لكنّهُ أكثرُ امتلاءً،

وصارَ الجسدُ حجراً جديداً

وانقلبَ الطريقُ إلى ملحمة،

صارَ كلُّ حجرٍ كلمة،

كلُّ غبارٍ جملة،

كلُّ ارتطامٍ بياناً يكتبهُ بصوتٍ لا يَعرفُ التردّد.

*

لم يعدْ يسيرُ وحده،

كان يجرُّ خلفهُ ذاكرةً بأكملها،

ذاكرةَ السقوطِ والصعود،

ذاكرةَ الذين انحنوا،

والذين قاوموا،

والذين ناموا على أرصفةِ الانتظار.

كلُّ ارتعاشةٍ في جسده كانت صفحةً جديدةً

في كتابٍ لا يريدُ أن يُغلق،

وكلُّ صمتٍ حوله كان يشهدُ أنّ المكانَ يُولدُ الآن،

من خطى إنسانٍ يرفضُ أن يكونَ ظلّاً لغيره.

*

وفي الليل، حين تخلّت النجومُ عن الحراسة،

ظلَّ يسمعُ في داخلهِ صوتاً يُذكّرهُ ،

أنّ المكانَ ليس حدوداً مرسومةً بالحبر،

بل قَدَرٌ يُنتزعُ بالدمّ،

أنّ الشرفَ ليس وشاحاً يُعلَّقُ على كتفٍ،

بل جمرةٌ تُحتضنُ حتى لو أحرقتِ الجلد،

أنّ الكرامةَ ليست امتيازاً،

بل هواءً يساومُ عليه.

*

ومضى،

لا يتوكّأُ على وعودٍ،

ولا يستظلُّ بذاكرةٍ واهنة،

بل يصنعُ بنفسه سُلّماً من صوتهِ،

ويصعدُ بهِ نحوَ فجرٍ لا يُشبهُ ما عرفناه.

وعند الحافة،

حين ابتلعت السماءُ سوادَها وبدأت تُخرجُ لوناً جديداً،

وقفَ هناكَ كمن صارَ المكانَ نفسَه،

لا ضيفاً، ولا عابراً،

بل جذراً يُمسكُ الأرضَ،

وقصيدةً مفتوحةً على الدوام.

*

لقد أدركَ أنّ المسألةَ لم تكن رحلةً في الطريق،

بل رحلةً في ذاته،

أنّ كلَّ جدارٍ في الخارجِ ما هو إلّا صدى لجدارٍ في الداخل،

وأنّ الكرامةَ لا تُكتشفُ في الساحات،

بل في غرفةٍ سرّيةٍ بين الضلوع.

وأنّ من يحتضنُ الشرفَ لا يعودُ إنساناً فرداً،

بل يُصبحُ أمّةً تمشي على قدمين،

وفكرةً تتنفّس،

وأغنيةً لا تسكتُ حتى لو صمتَتْ الأرض.

*

و حين فتحَ الفجرُ نوافذَهُ،

كان واقفاً على العتبة،

ممتلئاً بالمعنى،

مُحتضناً ذلك الطفلَ الذي صارَ قلبَه،

مُمسكاً بمكانٍ لم يمنحهُ أحد،

بل انتزعهُ كما تُنتزعُ الحياةُ من بين فكّي الموت.

***

مجيدة محمدي – شاعرة تونسية

أحببتها والحب يعصفه النوى

فغدا بقلبي جنة وجحيما

*

تأتي إليّ، وكل درب حينها

يغدو ربيعًا باهياً ونسيما

*

ما بين نبضي والهوى ميعادنا

ويفوح من همس اللقاء نعيما

*

وأظل أنظر في عيون حبيبتي

حتى أرى في عينها تسنيما

*

وأرى الوجود بحسنها متجملا

وعلى فؤادي حاكماً وحكيما

*

يسري الهوى في مهجتي تسبيحة

فتصير أنجم ليلنا ترنيما

*

أهوى سهاد الليل إن سهرت معي

وبدونها قلبي يصير كليما

*

كل الحروف أمام سحر حديثها

صارت نشيدًا، عزفة، تنغيما

***

فيصل النائب الهاشمي

قدمت أوراقها أمام القاضي ووقفت تنتظر حكمه العادل بقضيتها. عدّل القاضي نظارته وقرأ طلبها بهدوء وروية شديدة دون ان تظهر على وجهه أي تأثيرات سلبية أو ايجابية فقد تمر عليه الاف القضايا المشابهة لحالتها

وأخيرا التفت اليها قائلا:ـ

دعيني اسمع أسبابك المقنعة لطلب الطلاق من هذا الرجل الماثل أمامنا

بثقة عالية وقفت وهي تبتسم ابتسامة متفائلة ثم تمالكت نفسها وبدأت تروي قصتها. قائلة

سيدي القاضي: حين يشعر المرء بحمى تصيب عظامه يبادر الى أخذ مسكنات علاجية ليريح جسده المتعب ثم ينام بهدوء. ولكن ما عساه ان يفعل من أصيب بوجع روحه وطعنة كرامته. دعني أحدثك سيدي القاضي بما ابتليت به من هذا الرجل فقد عشت معه عمرا مديدا وغدا أبنائنا اليوم بعمر الشباب والحمد لله.

كنت أشعر بضنك العيش فتصيبني كآبة مقيتة كان هو من يخفف عني بقوله: ان غدا يوم آخر. كنت أصدقه بثقة عالية لأني أعتبره الجدار الذي يسند ظهري. وربما تسألني هل أحببته. ؟؟

أجيبكم نعم بالتأكيد ولكن قبل ارتدائه معطف أبي ريغال. والذي خان بيته كمن خان وطنه وقومه. واليوم ها انا أقف أمامكم وأقولها كل ذلك كان كذبة كبيرة وهباء مزقته المواقف وقد تأكدتُ من خيانته واكتشفت مدى براعته بفن التمثيل طيلة تلك السنين التي عشتها معه وكان يدعي انه المخلص العتيد وفي ختام جملتها كانت تتمتم بكلمة غبي وكررتها عدة مرات مما جعل القاضي يرفع يده اشارة منه لإسكاتها وبدا مستاء منها.

اما زوجها فاخذ يردد بخجل وقلق واضحين ان هذا غير صحيح انها ليست خيانة بل كانت لعبة للتسلية.

القاضي:ـ ما قولك أنتِ.

أجابته على الفور: سيدي القاضي يبدو انه تفاجأ كيف عرفت هذه المرأة التي يعتبرها برأيه مسكينة ومغفلة..

وكيف خانه ذكائه هذه المرة ولا يعرف كيف ينسج لها قصة أو اكذوبة جديدة تنقذه من هذا الموقف المخزي بحق نفسه قبل الآخرين فادعى انها لعبة..

سيدي القاضي لم أخبره بمعرفتي بهذا الموضوع الا أمامكم لذلك بهت وظل يتأبط أعذاره الباهتة..

الزوج:ـ أخذ يسعل سعالا شديدا احمر وجهه وبانت على جبينه حبيبات تعرقه وكأنه تعرض لأزمة قلبية فتوقف عن الكلام ثم جلس على أقرب أريكة.

ما زالت هي واقفة والدموع تنهمر فوق خديها مثل المطر حتى جعلت كل من في قاعة المحكمة يتماهى مع قصتها ويتعاطف معها في محنتها.

كأنها تحكي ما تعانيه بملامح وجهها ودون ان تطأطأ رأسها.قابلته حين وقف أمامها وهو في غاية الخجل..

 سيدي القاضي تأكدتُ من خيانته في أمور كثيرة يندى لها الجبين. أضمرتُ ذلك في نفسي وحافظتُ على هدوئي. الخيانة يا سادتي لا تعني أني ضبطته مع امرأة أخرى فقط بل هناك أمور كثيرة أسمها الخيانة مثل سرد القصص الوهمية لتبرير مواقفه والقسم الكاذب بكل مقدساته وبرؤوس أولاده...

ما الفائدة من الكلام وقد وقع المحظور وربما كان يقنع نفسه ليتبع قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وان كانت بكل بشاعات الدنيا. غدت حياتي معه مسرحية هزيلة..

وبكل ثقة وطمأنينة وجهت سؤالها للقاضي الذي يصغي لها باهتمام بالغ لما تحمله كلماتها من وجع..

سيدي القاضي: بماذا تحكم لامرأة تكتشف مؤخرا ان سنوات عمرها قد ضاعت هباء مع رجل لا يستحقها أساسا انه أمر مثير للشفقة. اليس كذلك..؟؟

انتقلت لتحدثهم عن حادثة مجنون المدينة والذي تهجم على امرأة اجنبية في أحد المباني في (الكرفانات) التي ابتنتها الدولة لإكمال احد مشاريعها. ولولا تواجد بعض الحراس في موقع الشركة لنالت منه الكثير من الأذى ثم ليخبرهم هذا المجنون انها كانت لعبة.

وبسخرية تتساءل ، فهل تقادم السنين تجعل المرء أحمقا أو قريبا من حافة الجنون ليغدو مثل مجنون المدينة مثلا.؟؟؟.

وبالتأكيد يا سيدي القاضي انه نوّر بصيرتي وجعل مني امرأة أخرى وبصوت يتكسر وجعا قالت سأخبرك سيدي إنه تعرض في الماضي الى جلسات استجواب من قبل أمن النظام السابق ويدعي انهم اشبعوه ضربا وركلا وتحمل جسده اثار عصيهم وتعذيبهم بشتى أنواع التعذيب وشتموه بكل أنواع قذاراتهم التي تدربوا عليها. من اجل ان يتراجع عما امن به من مبادئ أو افكار سياسية. والتي كان يتبجح بها هنا وهناك

ان الرجل الذي امامي يا سادتي (وأشارت بيدها نحوه اشارة تدل على غضبها) هو صورة ممسوخة من ذلك الرجل الذي عرفته قبل عدة اعوام فربما اصيب بنوع من الخرف...

ساد صمت حزين. ودون ان ينطق هو بكلمة واحدة للدفاع عن نفسه لم يجد جوابا مقنعا يستعيد به ماء وجهه الذي أريق. فهرع الى خارج القاعة وروحه تئن ندما..

تابعت هي كلامها. اذن لا فائدة من الكلام وعليه سأطلب من سيادتكم الحكم العادل وان كان على حساب راحتي والدفء الذي من المفترض ان تتمتع به اي امرأة تعيش في كنف رجل محب ويرتدي ثوب الخجل من اي نقيصة تخدش كرامته بنظر زوجه التي شاركته عبء اشرس السنين واقساها ضراوة. لذلك كان قراري صائبا. ان أتركه والى الابد وأتحمل ثرثرة الاخرين وأسئلتهم..

ظل هو مضطربا بقميصه المتهدل وينفث دخان سيجارته.

وأخيرا. صدر حكم القاضي بالموافقة على قرار طلاقهما...

***

سنية عبد عون رشو

لمن يعانق الفراغ بالفراغ

تبقى فيه الكلمات صدى وجود

***

1. نوم المدينة

حين تنام المدينة في كفّي،

أحيا مرّتين في عيون القمر،

وأرحل إلى الفناء مع فجر كلّ يوم،

وأعود من رمادي طائرًا بلا جناحين.

**

2. الغياب

أبحث عن ظلّي بين أنفاس الطرقات،

وأكتب أسماء الغياب على جدران الصمت.

عائدٌ من المجهول أعلن عودة الخريف،

وعلى أعتاب الشتاء تمرّ الرياح من نوافذي

وتذرّ أوراقَ أيامي في الممرات القديمة.

**

3. الحنين

يحملني الحنينُ إلى صيفٍ لم يأتِ،

وأزرع في العتمةِ شتلاتِ ضوء

علّ صباحي يولدُ من بين أنقاض الغياب،

ويرجع الأمل من غبار الرماد

يمسح التعب عن الوجود، تتحطم الحدود والقيود.

**

4. الولادة الجديدة

فأتنفّس حرّيتي كما لو أنّي وُلدتُ الآن،

وأمشي نحو الأفق المبلّل بالندى.

أحمل في يدي شظايا حلمٍ قديم،

وأعيد تشكيله سماءً جديدة

تسكنها نجومٌ لا تعرف الأفول.

**

5. الفجر

ويعود صوتي من أعماق الصمت

يكتب البداية بعد النهاية،

ويزرع في جسد الليل فجري

الناهض من حنايا الغياب.

***

عبد العزيز قريش

فاس في:11/09/2025

في نصوص اليوم