نصوص أدبية

نصوص أدبية

مثلَ كلِّ مرةٍ

أجدُكَ مطرقًا

أحدثُكَ ولا تجيبُ

احضنُكَ ولا اتحسسُ حرارةَ جسدِكَ

الباردِ

اسلمُ عليكَ

ولا تردُّ السلامَ

اسألُ عن جدتِكَ

وجَدِكَ الذي يبعدُ عنكَ كثيرًا

ولا تجيبُ

أشكُّ في أنَّكَ تعرفُهُ

ربَّما أعرفُ بعضَ ملامحِهِ

لكنٍّنِي في النهايةِ

لا أتذكر الَّا زبونَهُ المائلَ إلى الاخضرارِ

ارفعْ رأسَك قليلًا

لم يعدِ النومَ مجديًا

فقد صار يومُكَ نومًا

الأطباءُ ينصحونني بالنومِ

ولم يدرِ طبيبُ السكريِّ

إنِّي نائمٌ

منذُ أنْ ودعتُكَ

*

ادري بأنَّكَ سئمتَ النومَ

وبأنَّكَ اشتقتَ لأصدقائِكَ

وعملِكَ

أتدري؟ أنِّي لا أقاومُ النظرَ

إلى مكانِ عملِكَ

حين أمرُ عليهِ

أشاغلُ نفسي

بقصيدةٍ

عاقرٍ

*

أحدثُ مَن معي

عن ولدٍ

ما زالتْ امُّهُ

تنتظرهُ

*

أيُّها الولدُ

اصدقاؤكَ طيبون

مازالوا يزورونكَ

ويتذكرون آخرَ وجبةٍ

عَمَلتَها بيدِكَ

أرجوكَ

لا تنسى أنْ تلبي دعوتَنَا

في الشهرِ القادمِ

أخشى أن أراكَ نائمًا

مرةً أخرى

***

جاسم الخالدي

صَدى الرفيفِ، له مَـعـنىً تُـفسِّــرُه

في الأفـق أجنحةٌ، أضواؤها القمـرُ

*

يُخَلَّدُ الوصفُ، في أجواءَ يحرُسُها

صِــدْقٌ ونُـبْـلٌ، وإيمــانٌ بــه عِـبَـرُ

*

إذا النـوايا، نَقـاءُ الحَرفِ صِيغَـتُها

وماؤها الطُهْرُ، يزهو وَجهُه الثمَرُ

*

عينُ الضَميرِ، هُدوءٌ في وِسادَتِها

إنْ كان للحَـقِ صـوتٌ فيه يَـنتَـصِـرُ

*

الطِّـيبُ في عِطْـرِهِ أنفـاسُ خاطِـرَةٍ

قد اسْتَـقَتْ مِن نقاءٍ، نَـبْـعُه عَطِـرُ

*

المـجـدُ ليـس كلامـاً بيـن أحْـرُفِــهِ

تِلاوةٌ، عَـزْفُهـا التفـخيـمُ والكِـبَـرُ

*

سَرِيرَةُ المرءِ، لا تخفى على أحَدٍ

إنَّ التـجـارِبَ مِـفـتــاحٌ ومُـخْـتَـبــرُ

*

حُـبُّ الـظـهـور بـأثْــوابٍ وأُبَّـهَــةٍ

إذا تَـلَـعْـثَـمَ بـان الـنـقصُ والهـذَرُ

*

تـاجٌ بلا سَبَـبٍ، وَهْـمٌ وغطرَسةٌ

ومُقْلَةُ العين تخطو ما خطا الخَبَرُ

*

إنّ الـظـنـونَ إذا غابَـت دلائِـلُـهـا

فـكـــلُّ ظـنٍ بلا فَـهْــمٍ بــه خَــوَرُ

*

الحِـلْـمُ إنْ رافـقَ الأخْـلاقَ مرتبـةً

كالتِبْرِ في مَوْضعٍ، أهلٌ له، نَضِرُ

*

شَتّـانَ بين انْسيابِ اللفظِ في ألَقٍ

وبيـن لفـظٍ بِـرُوْحٍ فيــهِ تَـحتَـضِـرُ

*

(ما كلُّ ما يَـتَـمنى المرءُ يـدركُهُ)

المجَدُ يُـدْرَكُ، إنْ جَـدَّتْ بـه الفِكَـرُ

*

فقـوّمِ النفـسَ بالأخـلاقِ، يأنَـسُـها

عَفيفُ نَفسٍ، ويَهْوى جوَّها النَظَرُ

*

(لا تحـمـدَنَّ امـرءً حتى تُـجَرِبَهُ)

وعـكـسُ ذلك إيـهــامٌ بـــه ضَــرَرُ

*

تغريدةُ الطيرِ فوق الغُـصْـنِ قافيـةٌ

كالعـزفِ يلـزمُـهُ الإنشـادُ والوَتَــرُ

*

في حـكمـةِ القـولِ تنـويـرٌ وتوعيةٌ

وفي التَبَـصُّـرِ أُنـسٌ ضوؤهُ البَصَـرُ

*

(يا مـن يعـزُ علينـا أنْ نفـارِقَـهُـم)

في ذِكرِكُم سلوةٌ، في شعركم سَهَرُ

*

طِـبُ الجُـســومِ دواءٌ فـي تنـوّعِــهِ

ولِلـنُـفـوسِ قـوافٍ طِبُـهـا السَـمَــرُ

*

(ما بيـن غفلةِ عينٍ وانتبـاهَتِـها)

ذكـرى الأحِـبَـةِ تجسيـدٌ لـه صُــورُ

*

جُنْحُ الظلامِ، قوافي الودِّ تُشْرِقُهُ

والضوءُ أقْسَمَ صَوْبَ الحُبِّ يَنْتَشِرُ

*

تبقى السواعِدُ رمزاً في تماسُكِها

مادام للعِــزِّ صَــرحٌ، تاجُــهُ دُرَرُ

*

صُورُ التحدي إذا كانت مُشَوَّشةً

فحكمةُ الصْمتِ في التأويلِ تسْتَتِرُ

*

مُذ قالوا : للشيبِ في نُزْرِ العطاءِ يَدٌ

هبَّ القريـضُ وصـاحَ القلبُ : أقـتَـدِرُ

*

(أنامُ ملءَ جـفوني عــن شوارِدهــا)

مَــنْ قالها، بــه تبقى الدنيا تَـفـتَخِـرُ

***

( من البسيط )

***

د. عدنان عبد النبي البلداوي

 

الى الشاعر السومري

الأستاذ إحسان الموسوي البصري

***

أهديتَ وجدانَكَ

للبحرِ المتلاطم

فاختاركَ سيداً لأمواجِ حكمتهِ

غرقتَ في ابداعاتِ

نبضاتِهِ الساحرة

ولم تهدر مشاعرَكَ النبيلة

حتى إذا أحاطتكَ

- علامات الاستفهام-

يا أيها البصراوي الأصلِ

والجنوبِي الأبي

كالنخيلِ العاليةِ

في سماءِ المعقل

كالخبزِ الطازجِ في

تنانيرِ أبي الخصيب

أنتَ كالتمرِ الطريِّ،

كالعشار

وأنقى من كلمة "أحبيب"

في لغةِ أهل البصرة الصادقة

كلما استيقظَ صمتُكَ،

تكاثرت التفاسير

من حولك

وشمسُ بصيرتِكَ وضحاها

تشرقُ على

قلوبِنا الحنونة

طوفانُ شعرِكَ

يسيرُ إلى مالا نهاية

قدمتَ يراعَكَ

قرباناً لربِكَ الأعلى

وسَبَّحتَ باسمهِ

حتى تباركَ طينُكَ

وأبلجَ وجهُكَ سناءً

وبهاءً وأزكى

وتجلتْ حروفك

في سماوات

الأدب مشرقة

في الضمائر وبالمهج نابضة

كأفق مشرق على الدوام

يحرسُ دروبَكَ

ويُغمدُ حزنَكَ في السرِ

وما يخفى

***

الشاعر: باقر طه الموسوي / العراق

أَوْقَفْتُها بِمَضَلَّةٍ تَتَحَيّرُ الْأشْياءُ في أَثْنائها وَبَهَتْتُها

اَلْفَجْرُ يَنْصبُ لي كَمائنَ صَفْوكِ الْمَنْسوجِ مِنْ خَيْطْ الرّجاءِ

فَلَا الْغِلالَةُ تَمْنَعُ الْعَيْنَ الّتي لا تَكْتفي

لا أَنْتِ يَغْلِبُكُ الْهُيامُ فَنَشْتَفي

وَقَصَدْتِني وَقَصَدْتِ خَلْقاً آخَرينَ

بِظاهرٍ

وَجَميعُهُمْ في قَبْضَةِ الْوَلَهِ الْكَمينِ

تُصَرِّفينَهُمُ

قِفي

فَالْاِصْطفاءُ بِأنْ تَميلي لِلْخَلِيِّ يُكَرِّرُ الْأصْفادَ

أَوْ تَرْضَيْ بِمُحْتارٍ أضاعَ مِنَ التّعاويذِ الْقَديمَةِ والْجَديدةِ

ما يُتيحُ دُخولِنا لِرَحابَةِ

التَّيَهانِ

كوني لِلشّساعَةِ يَخْتَفي فيها التّغابُنُ

بِاسْمِكِ

الْعالي

وَكُفّي عَنْ إدارَةِ مَسْلَكِ التَّكْرارِ

حَتّى تُزْهِرَ الْعَيْنانِ مِنْكِ عُذوبَةَ الْفَجْرِ الْحَيِيِّ وَتَنْكَفي

الْأَوْثانُ

هَلْ

وَقَفَتْ وَقالَتْ ما يَفي

لا لَمْ تَقِفْ

وَضَعَتْ لِبَسْمَتِها الْمُريبَةِ حينَها غَمّازَةً يُسْرى وأُخْرى بِالْيَمينِ

كَهَيْئةِ الْحَيرى

بِريشَةِ تائهٍ يَجْري وَرَاءَ الْحُسْنِ

مَرَّتْ كالّتي

لا تَحْتفي

لا تَصْطَفي

***

البشير النحلي

(مرثيّة إلى ضحايا البحارِ والطواغيت)

بَدْءا بجريمة تهجير الكرد الفيليّة مروراً بكلّ جرائم التهجير القسري،

حيثُ البحارُ والصحارى أمامهم والطواغيتُ وراءهم

***

سَفائنُ أهْلينا جَنَحْنَ غَوارِبا

وكمْ شَهِدتْ يَوْمَ العُبورِ نوائبا

*

تُرتّلُ أنغامَ السماءِ دُموعُهمْ

ويعزفُ أعداءُ الحياةِ مصائبا

*

دليلُكَ يا لرُبّانُ ضوءُ دُموعِهم

فَليلُ رُهابِ القومِ هَدَّ كواكبا

*

وكم نحرَ الطاغوتُ فيهِ شَواهِداً

وحَسبُكَ ربُّ الناسِ ظلّ مُراقِبا

*

وَيُمْهِلُ ما شاءَ العبادَ لِحِكْمةٍ

وَيَبقى ضميري شاهداً وَمُحاسِبا

*

ورُحْماكَ يا رحمانُ جِئتُكَ سائلا:

كُفوفُ ذويهم لا تُكَفُّ خوائِبا

*

قُبالَةَ بحرِ الرومِ يُبْصِرُ حَتْفَهُ

وَتُبْدي فَناجينُ الطَريدِ عجائبا

*

بها سَرَعانُ الموجِ يُخفي سِهامَهُ

تضاهي سِهاماً للرُماةِ صوائبا

*

فَيرصُدُ قُرصانُ السفينةِ روعَهُمْ

تعرّشَ لُبْلاباً وصارَ لَوالِبا

*

قَراصِنَةُ الويلاتِ تجترحُ الردى

وَمِن خُزَعِ الأكبادِ تُجْبى ضرائبا

*

وكاد ملاذُ الخائفينَ يُخيفُني

فَخِفْتُ هَديرَ الموجِ خِفْتُ عواقِبا

*

وَحولَ دِفافِ الطامعينَ تزاحَموا

وراءَ قراصينِ الظلامِ مَناكِبا

*

تُريهمْ مَرايا الماءِ هوْلَ مَصيرِهمْ

وَشاعرُ عَرْشِ الزورِ يلهَجُ كاذبا!!

*

أسِيّانِ أبناءُ العبيدِ وَسادَةٌ

وَرَبُّكَ قد صاغَ الأنامَ مراتِبا؟

*

أولئكَ كالجُرْذانِ فائضُ حاجَةٍ

سَواءٌ مَعَ اللاتي سَرَحْنَ سَوائبا

*

نُريدُ أُناساً كالزُلالِ غديرهُمْ

لِتَلْفُظَ غُدْرانُ المياهِ شَوائبا

*

أصَنّاجَةَ الطاغوتِ حاشِيَةِ الخنا

عَدِمْتُكَ شَعّاراً نَبَذْتُكَ كاتِبا

*

فلا تمْنحِ الجلّادَ قَطُّ دريئةً

وان تركَ البابَ اللعينَ مُوارِبا

*

ويكفيكَ من حَقٍّ شَقاءُ مُهَجَّرٍ

يُريكَ بِمَنْ واليْتَ يوماً مثالِبا

*

عَنادِلُ أشجارِ الديارِ أخافَها

رَصاصُ ذوي القُربى فَعِفْنَ أقاربا

*

رَموْكِ حُماةُ الدارِ يومَ كَريهةٍ

ولم تَجِدي في الأقربينَ مناقِبا

*

تُوافي ثَكالى الحَيِّ عن خَبَرِ الحِمى

عَدِمْتُ حُماةَ الدارِ ثُمَّ المضاربا

*

فَبِئسَ بنو عَمٍّ ظباءُ رُبوعِهمْ

تُهرْولُ للأغرابِ رُعْباً مواكبا

*

تَلوذُ بمن جاسوا خلالَ ديارنا

فَيا ذُلَّ منهوبٍ توسّلَ ناهِبا

*

طَفَقْنَ لأطواقِ النَجاةِ بلا هُدىً

مشارقَ أحياناً وحيناً مغارِبا

*

صَنعْنَ أضاليعَ الصِغارِ زوارقاً

فهل تذكرُ الأمواجُ تلكَ القواربا

*

وما جهلتْ هوْلَ البِحارِ وإنّما

رَبابِنةُ الدفّاتِ خانوا المراكِبا

*

وَثَمّةَ حوتٌ قد تَلَمّظَ ريقَهُ

كَحيّةِ سَحّارٍ ترومُ مآرِبا

*

وأبيضَ ما بين البحارِ وسيطُها

تسوّدَ محزوناً يُجيبُ نوادبا

*

ألا ليْتَ قيعانِ المحيط نواطقٌ

فَترثي رياحيناً هُناكَ رواسِبا

*

وَيونسُ نادى اللهَ فَرْطَ قُنوطِهِ

وفي فُلْكِهِ المشحونِ ضَجَّ مغاضبا

*

ورغمَ صدى (يونانَ) من جوْفِ حوتِهِ

أرى جُزُرَ اليونان سدّتْ مَهاربا

*

فَيا أيّها الإغريقُ لسْتُ خصيمَكم

وطفلُ غريبِ الدارِ رامَ ملاعِبا

*

وهلْ دثّرَ اليقطينُ قلبَ مُهَجّرٍ

جُوارَ نبيّ الحوتِ ماتَ مُعاتبا

*

وَتُهمةُ أطيارِ الديارِ رسالةٌ

بِها غرّدوا وَضْحَ النهارِ مَطالبا

*

عَشيّةَ أمسى القوتُ رَهْنَ سِياطِهم

وباتتْ فراديسُ البلادِ خرائبا

*

هُنالكَ صاحوا يا سماءُ تَكلّمي

فهيْهاتَ منكوبٌ يُسامِحُ ناكِبا

*

دَواليْكَ غنّوها غداةَ تبيّنوا

بيادِرَ قَمْحٍ دونهم وَحَواجِبا

*

فما ذنْبُ عُصفورٍ يُراودُ بيدراً

وَحقّكّ فَرْطَ الجوعِ شَبَّ مُشاغِبا

*

وَهُدْهُدُ فلّاحٍ تَنبّأَ هامساً:

حذارِ إذا العُصفورُ حازَ مَخالِبا

*

وَأعْلَمُ أصواتَ القصائدِ خُلّباً

وما هزمت يَوْمَ اللقاءِ مُغالبا

*

ولكنْ سأفتضُّ المواجِدَ عَنْدَماً

وأعصِرُ وجْدَ الفاقدينَ سَحائبا

*

وابعثُ ديماتِ الفؤادِ رسائلاً

على فُقَداءِ الجوْرِ تهمي سواكِبا

*

حَنانيكَ ربّي في رفاتِ طَرائدٍ

لها ظُلُماتِ اليَمِّ أضحت غياهِبا

***

د. مصطفى علي

 

أنا غريبٌ إذا هاجرتُ من وطني

وإن بقِيتُ سأحيا حاملاً كفني

*

جذري عميقٌ بأرضِ الرافدينِ هنا

لكن بتربتِهِ عاثَتْ يدُ الزمنِ

*

حتّى ورودي أرى الغِربانَ تسرِقُها

ولا فراشاتِ تأتي كي تُطمئِنَني

*

هذي البلادُ بِقَدْرِ الحبِّ تُهلكُنا

قد أورَثَتْنا سُلالاتٍ منَ الفتَنِ

*

زرعتُ بذرةَ خيرٍ في أزقّتِها

لكنّها أنبتَتْ غاباً من العفَنِ

*

ودجلةٌ ليسَ نهراً، مَحْضُ ساقيةٍ

بأمرِ أنقرةٍ يجري على المدنِ

*

لو أنّ قَزْماً أتاهُ اليومَ يعبُرُهُ

وكانَ قبلُ يُسمّى حاصدَ السفُنِ

*

كأنّها كرةٌ مملوءةٌ جُثثاً

شمسُ العراقِ وهذا الغيمُ كالكفَنِ

*

لا تحسبوا أنّني أقسو على وطني

لكنّها حسرةُ المحزونِ تخنقُني

*

إنْ مرّ يومٌ بخيرٍ قلتُ يا عجَباً

لا بُدّ يتبعُهُ يومٌ منَ المِحَنِ

*

حتّى البياضُ أرى فيهِ السوادَ ولا

أكادُ أعرِفُ قبري ذاكَ أم فنني

*

حتّى النخيلُ سهِرْتُ الليلَ أحرُسُهُ

وفي الصباحِ مشى عنّي يودِّعُني

***

د. عبد الله سرمد الجميل

 

فراغ الغياب يُجدِّف فيه فؤادي ضُحًى

ولا بدرَ في الدرب يرتق ما جرّفته سياط الجوى.

وكلّ الأغاني تلاشت

وذاك العِطاف هوَى

وذاك الجدار الّذي كنتُ أسري إليه

قضى

وحطّ الشّتاء على كتفي

وشظّى العِصِيَّ.

*

تجاويف وجهي

يُجدِّف فيها غبار اللّظى

ويَغشى الدّخان سمائي

وفيها يئنّ الشَّظى

وفيها يرين السّديم

ويطغى الأسى

وهذي الغيوم تُشظّي قصيدي

وتُدمي يدي.

*

ثقيلا يجيء شتاء الحروف ولستَ معي

ولا شيء في الكلمات يُعطّر محبرتي.

ولا سقف يحرس دفء شهيقي وحنجرتي.

فأيُّ مجاز يُطرِّز للّيل أجنحة؟

ولستُ أرى برتقالا بغير ازرقاق أبي

وهذا الغياب يُرصّف في الصّدر أقفاصه.

نوافذ فجري تُغَلِّقها زفرات الغروب، أبي

فأيُّ مجاز به أفتح اليوم للنّور بابا يُدفِّئني؟

أفتّش في الدّار عن وجه أغنية كنتُ ألمسها

فيهمي السّراب على مقلتيَّ كثيفا،

ويرغو الصَدى.

ولا نغمَ اليوم يُو قظ فيَّ الطّفولةَ

أو فيْأَها

ولا عنب اليوم يكتبني

في وميض السماوات أو ريشها.

وأسأل عشب الحديقة عنك،

فلا يبسم.

ويهطل منه سواد

يُغشّي الأديم فينتحب

ويختضّ بين يديّ ترابٌ جَفَته خُطاك

فما التأم.

*

ثقيلٌ، جُؤوم الشّتاء على معصمي، أبتي،

ولستُ أفيق لأقطف نورا يُحدِّثُني.

فيا ليت نجما يجيء إليَّ ويوقظني.

وإنّي لأدعو الّذي علّم الطّيرَ مَغْنَى الهدى

أن يُغيث الفؤاد بنور السّلام

وفيض التّقى

وإنّي لأدعو الرّحيم

يُفيضُ رضاه عليك، فترضى.

***

بقلمي: هادية السالمي دجبي - تونس

 

فعلوا العُجابَ لكي يظلَّ صغيرُنا

طفلًا بلا وزنٍ لخوضِ صِراعِ

*

فعلوا العُجابَ لكي يكونَ بوزنهِ

المأمولِ ذا حيَلٍ لطولِ جِماعِ

*

دون الزواجِ فوزنُه ذا لا يُؤَهْـ

ــــــهِلُهُ لوزرِ إعالةٍ ومَتاعِ!

*

فعلوا وفي أممٍ سوانا فعلُهمْ

يغدو جليًّا عند كلِّ نزاعِ

*

فيما تراه خنوثةً لم تَجْنِ ممْــ

ــــــما في الذّكورة غيرَ سدسِ ذراعِ

*

إلّا التي في قُدسِها تُسقى الرّجو

لةُ للطّفولةِ عندَ كلِّ رضاعِ

*

فشكى الأعاديْ طفلَها لرجولةٍ

فيهِ اسْتحالَ عبورُها بخداعِ

*

أو بالدّراهمِ والدّنانيرِ التي

فيها ترى ملكًا بهيئةِ راعِ

*

أو بالحصارِ وجيشِه ذاك الّذي

قهرَ الجيوشَ عدا فلولَ دِفاعِ

*

أو بالفجورِ جناحُهُ حريّةٌ

هبَطَت بهمْ من قمّةٍ للقاعِ

*

وبكىْ أعادينا بكاءَ ضباعِ

ففعالُ أصغرِنا فعالُ سباعِ

*

وغدا البكاءُ مهابةً جرّاءها

خاروا التّخاطبَ من وراء قناعِ

*

فبدتْ وجوهُ وفودِهمْ مثلَ الحجا

رِ شقوقُها تُؤوي رؤوسَ أفاعي

*

وغدت مهابتُنا سقامًا بينهمْ

يَسري إلى الأطرافِ عبرَ نُخاعِ

*

ولئن سألت الكِبْرَ فيهمْ لادّعوا

أنّ الذي عانوه محضُ صُداعِ

*

لمّا رأتْ سيفًا بيمناهُ بكتْ

عيناي عمرًا ميلُهُ لِوداعِ

*

وكأنني بالناصر الأمويّ آ

تٍ من غروبِ الشّمس تحت شراعِ

*

حتّى يمهّد للشروق على ترا

ــــــبٍ صاحَبَ الدّهرين دون شعاعِ

*

ولِمَنْ أرادَ نِزالَنا فالطّفلُ في

قدسٍ تتمُّ بضفّةٍ وقطاعِ

*

ولِمَنْ أرادَ سلامَنا فالطّفلُ منْ

يُملي الشروطَ وخِصمه لِسَماعِ

***

أسامة محمد صالح زامل

أنا لست سوى بدوي

أسكن خيمة –

سكنًا تعمره البهجة والدفءُ

نسيجًا خشنًا

من شعر الماعِز

يمنحني الظل

إذا ما أقبل صيفٌ

ويقيني من عصف الريح

إذا ما حلَّ شتاءْ

*

أمتعتي:

ثوب فضفاضٌ

أسودُ

نعلان عتيقانِ

ودلّةُ قهوةْ

وخليطٌ من أشياءٍ

أحملها في جعبةْ –

أشياءٍ لا يتقبلها

ريفيُّ الذوقِ

ولا حضريُّ الأهواء

*

وطنى:

هذا الأفق الممتد

رمالًا دكناء

*

ورفيقي الأوحدُ في الدرب:

بعيرٌ فيه وفاء

يحملني

ومتاعي

ومعا نمضي عبر مفازات الصحراء

وحين أغني

بحداء الجمّالينْ

يزهو

طربًا ويخفّ

ويعلو

نحو فضاءات الكون الزرقاء

***

نزار سرطاوي

النوم أصبح حلمًا، والحلم غدا عقدة الحياة الأبدية. والروح المهمشة تذوي مع أول سقوط لأوراق الخريف، والعمر لا يواكب الزمن، كقطارٍ قديم يصرخ في المدى ولا يتزحزح.

رجل عجوز ينتظر دوره في قائمة الموتى بعد أن فاته آخر غروب. لحظات الانتظار تتبدد كصقيع الثلج في مرجلٍ وصلت سخونة الماء فيه حد الغليان. ذكريات تختفي في مهب الريح كلما اشتدت العاصفة، كما لو أن الذاكرة كانت مجرد وهمٍ عابر.

لقد أحجمت عن النوم، لا لقلّة تعب، بل خوفًا من أن تغرق في نهر حلمٍ غامض الملامح، لا تعرف غور سبره، فتسقط في قرارٍ لا منقذ فيه.

كانت تعرف أن قشة الأمل لا تطفو إلا لمن تعلّم السباحة في مجتمعات لا تصنع عزلةً بل جسورًا؛ وأما هي، فقد نشأت في عالمٍ لا يتعدى أسوار النظر، تمشي بخفة النمل، كي لا توقظ في القلوب شقاء الزمن.

الفرص الهاربة في مهب الريح، تتبخر كأنها أنفاس ماءٍ مغلي، لا ذاكرة لها. وفي معمعة الطريق لا يدرك المرء حقيقة القادم خلف الأفق، قد يصطدم بجدارٍ قاسٍ، ما يدعو رواسب البؤس المزمنة أن تطفو على السطح، فترافقه كظله دون استئذان نحو مدياتٍ لا متناهية.

يتسلل إليك القدر من الكهوف المنسية، كما لو أنه خرج من نسيجٍ قديم، من خرافةٍ لم تُحسم بعد. يلوّح لك في لحظة المصير، كأنه يبحث عن دورٍ في مسرحٍ لم يعد يؤمن بالممثلين الغائبين. يتجول في الأنحاء، يراقب خطواتك، يحاول أن يلبس هيئةً جديدة — كآلةٍ ذكية، أو نظامٍ مبرمج، يواجه عاصفة المجهول ببرودٍ رياضي. لكنك، في قاع الحياة، لا تملك إلا جسدًا يتعفن من فرط الانتظار، كأنك لعنةٌ تجرّ لعنة، وفكرةٌ تجرّ خرافة.

وعندما لا تملك زمام القرار تصبح كالفارس المبتدئ يمتطي صهوة حصان ولا يدرك أهمية اللجام والقدرة على مسك الرسن. الحفر المتروكة على قارعة الطريق، تفتح أفواهها استعدادًا لابتلاع، فالخبرة البشرية المفقودة في سلسلة الحياة، تعيقك قدمًا في القفز على الموانع.

وفي خضم هذا التيه، حيث تتقاطع الخرافة مع العجز، والانتظار مع التآكل، لم يكن أمامها سوى أن تتشبث بما يشبه الخلاص، حتى لو جاء على هيئة وهم.

نقفت من ذهنها فكرة الرحيل بما يشبه المصادفة، وكأنها عثرت على الخيط الوهمي الذي بإمكانها السير عليه دون حسابٍ للسقوط، ومع ذلك فإن القلق والارتعاش لم يفكا الحصار عنها، وتفاقم هذا الاضطراب كلما تناهى إليها صدى صوتٍ مبهم يثير في نفسها الخوف والانكماش، باذلةً أقصى ما في وسعها من جهد في إبعاد فكرة الحلم التي تراودها في اليقظة، لكن اليأس بما يضمره لها من خذلانٍ وانحسار في الحياة، يمنعها من التوقف عن التفكير في رحلة البحث عن معنى الوجود.

كانت تُحدث نفسها وتتساءل، والاضطراب ما زال يحوم حولها كالنحل المؤذي على أهبة الانقضاض:

ــ ما هذه الفكرة العابرة التافهة؟ أشبه بريشةٍ تسبح في الهواء وتختفي في لمحة بصرٍ بنسمة ريحٍ مفاجئة.

واستطردت بالقول، والدهشة ما زالت معلّقة على شفتيها كارتجافةٍ لم تهدأ وهي تنظر إلى السماء:

ــ إن لا باب سواها يُفتح.

وأضافت وكأنها تعرف بيقينٍ غامض:

ــ وعلى الرغم من كل شيء، لا مفرّ، ولا عزاء، سوى أن أعود لطرق باب الوعي متى ما يزف الوقت.

ثم تمتمت، كمن يضحك في داخله على سذاجة الرجاء:

ــ كل ما ينساب من هذا الوعي أوهامٌ وآمالٌ من ورق… مغامرة لا أفهمها، ولا أملك لها خريطة، سوى صدفةٍ عمياء وحظّ كالبطيخ في عالم الخفاء.

كانت تحدق في المرآة بتركيزٍ عالٍ، وتتمعن قسمات وجهها فيها، تتأملها في شفقة، فألقت المرآة جانبًا كي لا تذكرها بنفسها. تراءى لها العالم كمستنقعٍ آسنٍ يلطخك، أو رمالٍ متحركة تبلعك كما لو لم تكن موجودًا أصلًا.

كانت المدينة مكشوفة كسهلٍ منبسط، جعلتها تشعر برهبةٍ غريبة، وتوترٍ شديد، كصرخةٍ مدوية بين جدرانٍ عازلة تهز البدن أضعافًا. ينتابها شعور بأن الوعي يتصدع ويكاد أن يدفعها إلى هاوية الحلم الذي تتفاداه في يقظتها البائسة.

كانت سفينة الصيد ذات محركٍ عتيق تشق عباب البحر في جوٍّ ضبابيٍّ مخيف، تشحن على متنها عشرات من أجساد البشر فوق طاقتها، مضغوطين في مساحةٍ ضيقة، كأنهم دُمىً محشورة في صندوقٍ مكسور. تفتقر إلى أبسط مقومات السلامة والراحة.

لم تكن وحيدة. بل فردًا في هذا الحشد المتهالك، استبد بها ذعرٌ شديد في فضاءٍ يزينه أملٌ مجهول. في تلك اللحظة المصيرية فقدت كل رغبة في شم نسيم الحياة، ولم يبقَ في ذهنها سوى أن يتسلق الموت أكتافها على عجل، كي يزيح عن كاهلها هذا العبء الثقيل. وفي وسط البحر، حيث الأفق يعاند البصر، كلما أبحرت السفينة باتجاهه ابتعد أضعافًا.

انقض عليها دوار البحر كأفواج الزنابير، يلسعها في كل خلية، ويثير في نفسها الغثيان وضيق الصدر. كانت تتراءى لها أشياء لم تألف أن تصادفها في طريقها. أخذ الهذيان يسري كتيارٍ جارف، لا تميز الأشياء، ولا تدرك أبعادها. تارةً تتخيل نفسها في جزيرةٍ بعيدة، معزولة في طيات النسيان، وتارةً أخرى تعيش في فوضى عارمة لا مخرج للنجاة منها. تسمع أصواتًا تثير الرهبة في النفس.

وأخيرًا سقطت في هاوية الحلم الذي طالما تفادت أن يقودها النوم إليها، فالسفينة لم تبلغ الشاطئ، بل سبقتها أجسادٌ راقدة تحت الماء، كأنها أعلنت الوصول بطريقتها الخاصة.

وهناك على الشاطئ، حيث الرمال الدافئة تعكس بلورات الشمس انعكاسًا جميلاً، كانت الرغوة البيضاء تغمر جسدها الهامد، كأن الطبيعة نسجت لها لحافًا أخيرًا من أمواجها، ناصعًا كبياض الرحيل الأخير، لا دفء فيه سوى صمت البحر، ولا عزاء فيه سوى أن الغياب صار أخيرًا ممكنًا.

ولم يعرف أحد، أكانت تغفو أخيرًا… أم تستيقظ للمرة الأولى.

***

كفاح الزهاوي

ا- [بوَّابةٌ لا تُفْتح]

وصَلْتُ إِلَى الْحُدودِ، فَوجدْتُ الجِدارَ أَعْلى مِنْ صَوْتي،

والسِّلاحَ يُسمُّونهُ هُنا "أَمْنًا"، والكَلامَ يُسمُّونهُ "جُرْمًا"

قَالُوا: "لا تَدْخُلْ، هَذا ليْسَ مَكانَكَ"،

فَقُلْتُ: "لكِنَّ الْأَرْضَ تَحْتي تَحْمِلُ تُرَابي ،

فَأَغْلقُوا البَوَّابةَ، وتَركُوني أُنَادي فِي فَراغٍ لا يُعيدُ الصَّدى

أُنَادي: "أَنا مِنْ هُنا... أَنا مِنْ هُنا"،

فَيرْتدُّ صَوْتي كَطرْقةٍ عَلى جَدارٍ لا يَموتُ،

وأَعْرِفُ أَنَّ الحدَّ ليْسَ خَطًّا عَلَى الرَّمْلِ،

بَلْ جُرْحٌ فِي الحَشائِشِ يَنْزِفُ صَمْتًا

فَأَكْتُبُ اسْمي عَلَى الجِدارِ بِدمي... فَيَمْحوهُ المَطرُ،

وأَعودُ فَأَكْتُبُهُ أَيْضًا... حَتَّى يَعْرِفَ الجَدَرُ أَنَّني لَمْ أَرْحَلْ

**

ب- [الحَقيقَةُ المُتَحرِّكَة]

لَا تَسْأَلُوني عَنْ حَقِّ الحَقيقةِ،

الحَقيقةُ هُنا سِجْنٌ مُتَحرِّكٌ يَتْبَطعُ خُطايَ

كُلُّ مَنْ يَنْطِقُ بِها يُسْجنُ، وَكُلُّ مَنْ يَسْكُتُ عَنْها يُدانُ،

أَنا مَا زِلْتُ أَكْتُبُ، رَغْمَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الصَّمْتَ نَفْسهُ أَصْبحَ شَهَادةً

أَكْتُبُ عَلَى الجَدَارِ: "الحَقُّ أَنَا... أَنَا... أَنَا..."

فَيَنْشَقُّ الجِدَارُ... وَيَنْشَقُّ صَدْري... وَيَنْشَقُّ الزَّمَانُ

وَأَعْرِفُ أَنَّني لَا أَكْتُبُ لِأُحَرِّرَ الْحَقَّ،

بَلْ لِأُحَرِّرَ القَلَمَ مِنْ خَوْفِهِ،

فَإِذَا كَتَبْتُ... صِرْتُ أَنَا الْحَقَّ... وَصِرْتُ أَنَا السِّجْنَ... وَصِرْتُ أَنَا الْحُرِّيَّةَ

**

ج- [نَذِيرٌ لَا يُرَى]

أَنَا نَذِيرُ رِسَائِلِ الحُدُودِ، أَحْمِلُ الكَلِمَةَ عَلَى كَتِفي كَصَليبٍ،

أَمْشي بَيْنَ الأَشْوَاكِ، أَحْمي الوَرْقةَ مِنَ الرِّصاصِ،

أُخْبِرُهُمْ أَنَّ الأَرْضَ تَحْتنا واحِدةٌ،

وأَنَّ التُّرابَ الَّذي نَمْشي عَليْهِ لا يَعْرِفُ الحُدودَ،

وأَنَّ اسْمي الَّذي كَتَبْتُهُ عَلَى الجِدارِ لَيْسَ اسْمي...

بَلْ اسْمُ الأَرْضِ... اسْمُ التُّرابِ... اسْمُ الكَلِمةِ

فَإِذَا أَغْلَقُوا البَوَّابةَ، أَكْتُبُ عَلَى الجِدَارِ: "افْتَحُوا قُلُوبَكُمْ"،

وَإِذَا مَحَوُوا الكَلِمَةَ، أَكْتُبُهَا فِي دَمِي،

وَإِذَا سَجَنُوني... أَكْتُبُهَا فِي صَمْتي...

حَتَّى يَعْرِفَ الصَّمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ صَمْتًا... بَلْ صَوْتًا أَخِيرًا.

**

د- [رِسَالَةٌ إِلَى مَنْ بَعْدي]

إِذَا وَقَفْتَ هُنَا يَوْمًا، فَأَعْلَمْ أَنَّ الجِدَارَ لَيْسَ نِهَايةً،

بَلْ بَوَّابَةٌ إِلَى مَا بَعْدَ الجِدَارِ... إِلَى مَا بَعْدَ الصَّوْتِ... إِلَى مَا بَعْدَ الحُدُودِ

وَأَعْلِمْ أَنَّ اسْمي الَّذِي كَتَبْتُهُ لَيْسَ اسْمي...

بَلْ اسْمُكَ أَنْتَ... فَاكْتُبْهُ... وَلَا تَخَفْ

فَإِذَا مَحَوُوا اسْمَكَ، فَاكْتُبْهُ فِي دَمِكَ،

وَإِذَا سَجَنُوكَ، فَاكْتُبْهُ فِي صَمْتِكَ،

وَإِذَا قَتَلُوكَ... فَاكْتُبْهُ فِي التُّرَابِ...

فَالتُّرَابُ لَا يَعْرِفُ الحُدُودَ... وَلَا يَعْرِفُ الْمَوْتَ...

وَالتُّرَابُ هُوَ الكَلِمَةُ الأَخِيرَةُ... وَهُوَ الْحَقُّ الْأَوَّلُ

**

هـ - [العَوْدَةُ دُونَ جَوَاز]

أَعُودُ إِلَى الحُدُودِ، لَا جَوَازَ فِي جَيْبِي... لَا اسْمَ فِي كَشْفِ الْعَدَدِ،

فَأَقِفُ أَمَامَ الجِدَارِ... أُقَبِّلُهُ... أُعَانِقُهُ... أُبْكِيهِ...

وَأَقُولُ لَهُ: "أَنَا لَسْتُ عَابِرًا... أَنَا مِنْكَ... أَنَا مِنْكَ"،

فَيَنْشَقُّ الجِدَارُ... وَأَمْشِي...

وَأَعْرِفُ أَنَّني لَمْ أَعْبُرْ الْحَدَّ... بَلْ عَبَرْتُ خَوْفي...

وَأَصْبَحُ أَنَا الحَدَّ... وَأَصْبَحُ أَنَا الجِدَارَ... وَأَصْبَحُ أَنَا الكَلِمَةَ

**

و- كُودَا

[نَبْضُ الجِدَارِ الأَخِير]

هُنَاكَ

-عِنْدَ آخِرِ الحَدِّ-

يَنْبُضُ الجِدَارُ كَأَنَّهُ صَدْرٌ يَبْتَلِعُ صَوْتِي،

وَيَرْفَعُنِي فِي هَوَاءِ اللَّيْلِ كَكَلِمَةٍ

تَخْرُجُ مِنْ جُرْحٍ وَتَعُودُ نُورًا

*

كُلَّمَا سَقَطْتُ، رَفَعَنِي تُرَابٌ يَعْرِفُ قُدُومِي،

وَكُلَّمَا انْطَفَأْتُ، أَضَاءَتْ فِيهِ نُقْطَةٌ

كَأَنَّهَا أَوَّلُ أَسْمَائِي

*

وَحِينَ أَمْتَدُّ فَوْقَ الظِّلِّ،

أَرَى أَنَّ الجِدَارَ الَّذِي كُنْتُ أَخْشَاهُ

هُوَ الَّذِي يَكْتُبُنِي الآنَ،

وَيَفْتَحُ فِي صَدْرِهِ بَابًا لَا يَغْلِقُ

*

فَأَدْخُلُ...

وَأَتْرُكُ وَرَائِي الخَوْفَ،

وَأَحْمِلُ أَمَامِي كَلِمَتِي

*

وَأَعْرِفُ-أَخِيرًا-

أَنَّ الحَدَّ لَمْ يَكُنْ سِوَى خُطُوطِ صَوْتٍ،

وَأَنَّ مَنْ يَعْبُرُ كَلِمَتَهُ

لَا يَعْرِفُ جِدَارًا...

بَلْ يَصِيرُ هُوَ البَوَّابَةَ

***

د. سعد غلام

 

يَا حكَايَا العُمْرِ كَمْ أَرْهَقْتِ رُوحًا

تَرْتَجِي شَدَّ الرِّحَالِ

كُلَّمَا اسْتَيْقَظَ فِينَا نَبْضُ شَوْقٍ

عَادَ يَغْفُو فِي الزَّوَالِ

فَأُنَادِي القَلْبَ مَهْلًا إِذْ أُنَادِي

فالهَوَى صَعْبُ المَنَالِ

يَا فُؤَادِي كَمْ تُعَانِي مِنْ جِرَاحٍ

مَا لَهَا فِي الدَّهْرِ آلِ

كُنْتُ أَمْضِي شَارِدَ الذِّهْنِ حَبِيسًا

بَيْنَ أَسْوَارِ الضَّلَالِ

عَلَّ رُوحِي تُمْسِكُ الحُلْمَ أَسِيرًا

قَبْلَ أَنْ يَطْوِيَ ظِلَالِي

هَائِمٌ أَبْحَثُ عَنْ دَرْبٍ عَتِيقٍ

ضَاعَ مِنِّي فِي خَيَالِي

فَدَنَتْ مِنِّي عَجُوزٌ حَيْثُ قَالَتْ:

يَا بُنَيَّ.. لَا تُبَالِي

فَاللَّيَالِي لَا تُبَالِي بِأَنِينٍ

أَوْ دُمُوعٍ أَوْ وَبَالِ

إِنَّ مَنْ تَهْوَى سَتَأْتِي، فَتَجَلَّدْ

يَنْجَلِي هَمُّ اللَّيَالِي

لَيْسَ فِي الدُّنْيَا سِوَى الصَّبْرِ مَلَاذًا

حِينَ يَعْيَا كُلُّ حَالِ

فَاسْتَرِحْ مِنْ لَوْعَةِ الشَّوْقِ المُعَنَّى

وَاهْجُرِ الغَمَّ لَيَالِي

وَاسْتَعِنْ بِالصَّبْرِ مِنْ حُرْقَةِ عِشْقٍ

قَدْ تَمَادَى فِي اشْتِعَالِ

إِنَّمَا العِشْقُ ابْتِلَاءٌ وَامْتِحَانٌ

بَيْنَ هَجْرٍ وَوِصَالِ

قُلْتُ يَا سَيِّدَتِي هَلْ لِي خَلَاصٌ

مِنْ جَوًى يُرْهِقُ حَالِي

فِي دُرُوبِ العِشْقِ أَضْحَى القَلْبُ شَاكٍ

مِنْ حِكَايَاتِ الوِصَالِ

قَدْ بَنَيْنَا مِنْ رَمَادِ الأَمْسِ قَصْرًا

بَيْنَ أَحْضَانِ التِّلَالِ

وَرَسَمْنَا أَلْفَ حُلْمٍ مُسْتَفِيضٍ

فَوْقَ كُثْبَانِ الرِّمَالِ

ثُمَّ جَاءَ الرِّيحُ يَمْحُو كُلَّ أَثْرٍ

مَا تَبَقَّى مِنْ وِصَالِ

قَدْ تَبِعْنَا وَهْجَ وَعْدٍ مِنْ سَرَابٍ

لَاحَ فِي لَيْلِ السُّؤَالِ

نَرْتَجِي صَمْتَ المَوَاقِيتِ وَنَخْشَى

كُلَّ ظَنٍّ وَاحْتِمَالِ

كُلُّ دَرْبٍ فِيهِ ذِكْرَى.. فِيهِ جُرْحٌ

كُلُّ جُرْحٍ فِيهِ بَالِ

كَيْفَ أَمْضِي وَالمَسَافَاتُ بِحَارٌ

وَالمُنَى مَوْجٌ عُجَالِ

نَحْنُ فِي التِّيهِ نُنَاجِي كُلَّ نَجْمٍ

عَلَّهُ يَمْحِي الضَّلَالِ

لَيْتَ فِي الأَيَّامِ رِفْقًا أَوْ سُكُونًا

لَا انْتِظَارًا لَا مُحَالِ

هَمَسَتْ تِلْكَ العَجُوزُ بِاتِّزَانٍ

يَا بُنَيَّ سِرْ لِلْمَعَالِي

فَقَمِيصُ يُوسُفَ الشَّافِي سَيَأْتِي

حِينَ تَشْقَى بِالثِّقَالِ

وَتَأَسَّى صَبْرَ يَعْقُوبَ فَتَلْْقَى

أَنَّ هَذَا الصَّبْرَ بَالِي

وَاصَلَتْ تِلْكَ العَجُوزُ النُّصْحَ حَتَّى

أَقْبَلَتْ مَنْ فِي خَيَالِي

فَالْتَقَيْنَا.. بَيْنَ صَمْتٍ وَانْكِسَارٍ

بَعْدَ هَجْرٍ وَانْفِصَالِ

فَلَمَحْتُ الدَّمْعَ فِي عَيْنَيْهَا يَغْفُو

مِثْلَ حُزْنٍ لَا يُقَالِ

فَدَنَتْ مِنِّي بِغُنْجٍ وَدَلَالِ

ثُمَّ قَالَتْ بِانْفِعَالِ

فَلْنُصَافِحْ هَذِهِ الأَحْزَانَ سِرًّا

ثُمَّ نَمْضِي لَا نُبَالِي

رُبَّمَا فِي آخِرِ الدَّرْبِ ارْتِيَاحٌ

أَوْ جَوَابٌ لِلسُّؤَالِ

فَالْتَزَمْتُ الصَّمْتَ مُرْتَابًا لِظَنِّي

لَسْتُ أَدْرِي مَا جَرَى لِي

فَدَنَتْ مِنْهَا العَجُوزُ ثُمَّ قَالَتْ

يَا ابْنَتِي لَا.. لَا تُغَالِي

ذَلِكَ العِشْقُ إِذَا مَا عَادَ يَوْمًا

عَادَ مِنْ دُونِ جِدَالِ

إِنَّمَا العِشْقُ إِذَا طَالَ اغْتِرَابًا

عَادَ كَالقَطْرِ المَسَالِ

وَإِذَا أَمْسَى بَعِيدًا.. عَادَ قُرْبًا

رَغْمَ أَهْوَالِ المُحَالِ

فَاحْذَرِي أَنْ تُفْرِطِي فِي الظَّنِّ يَوْمًا

وَاحْذَرِي صَمْتَ الرِّجَالِ

***

جليل إبراهيم المندلاوي

ذكرى

حزينا يعانق عزف الكمان روحه

يتذكر صباه

وتراب قريته

وبحيرتها

ونخيلها

ورغيف أمه

وسحر عينيها

ودفئها وهي تمشط شعره

فينكسر

هشا كجناحي فراش

يصيره غيابها فينكسر

**

سفر

على رصيف المحطة

وشوشت في أذنه

لا تتركني وحيدة

كأشجار الخريف بلا أمطار

وبلا أوراق

وبلا عصافير

وبلا أزهار الياسمين

يقتلني الغياب

غيابك ساعة السفر

***

عبد الرزاق اسطيطو

 

سكنت في مدينة الطائف، وبالتحديد في إسكان القوات المسلحة بحكم عمل والدي في الخدمة العسكرية؛ تلك المدينة الباردة، الهادئة، الباهتة، كأنها مبنية من رمادٍ متماسك. ما إن يحلّ المساء حتى يهبط معه ذلك الاكتئاب الكثيف… شعور لا يأتي من الداخل، بل من الهواء نفسه، من رطوبة الجدران ومن صمت الشوارع الفارغة. وحتى حين تشرق الشمس لا تجلب معها الحياة، بل تُلقي بوهجٍ متطرف، حارّ، غاضب؛ شمس لا تُنير بل تُعاقب، كأنها الوجه العاري لأرواح الناس من حولي. ولدتُ بطبيعة شاعرية—بطلة صغيرة ترى العالم كقصيدة غير مكتملة.

أذكر أن جحيم الوعي، وابتلاء السؤال، والمعضلة الوجودية… بدأت معي منذ التاسعة. كنتُ أحاول فهم العالم، تفكيك لغزه، وكنت أدفع ثمن كل سؤالٍ حقيقي بالتوبيخ من معلماتي بالمدرسة ووصف اسئلتي بالخطيرة وكأن امتلاك عقلٍ يقظ في ذلك العمر جريمة أخلاقية. وبسبب تلك الطبيعة العطشى، ظللتُ أبحث عن أي جمال يمكن لحواسي أن تتشبث به:

كنت أذاكر في الحديقة الصغيرة خلف المنزل، أراقب أوراق الزهور، عناقيد العنب المتدلية، شمس العصر وهي تتسلل كخيطٍ من ذهب عبر فوضى أغصان شجرة الجهنمية بزهورها الوردية. كنت أحاول سرقة لحظة جمال قبل أن تلسعني تلك الشمس الهوجاء المتطرفة، وتعيدني إلى حقيقة المكان الذي لا يحتمل الجمال ولا الخفة ولا البراءة.

وفي فترة العصر كل يوم، عند الرابعة مساءً تحديدا… يتكرر المشهد ذاته: تهب ريح مفاجئة، قوية، تهزّ الشجرة بعنفٍ غريب وكأنها تحاول اقتلاعها. كنتُ أركض مرعوبة إلى والدي، وبمجرد أن يخرج… يسكن كل شيء. تهدأ الريح، وتهدأ الشجرة، وكأنها لم تكن تثور إلا عليّ وحدي. أعود إليها ألمس جذعها، فتأخذني قشعريرة باردة وقوية جداً في النقطة نفسها كل مرة. تكرر الأمر كثيراً… حتى لم يعد يصدقني أحد.

مرت السنوات، وانتقلنا لمدينة جدة ودفنتُ تلك الظاهرة مثل ذكرى مشوهة. حتى استيقظت ذات صباح قبل عدة أشهر من حلمٍ عجيب… رأيتُ نفسي أقف تحت الشجرة نفسها، في الفناء نفسه قبل عشرين عاماً.

كان أمامي شاب ببدلته العسكرية، في منتصف العشرينات أو بداية الثلاثينات.

نظر إلي بحزنٍ  وقال:

“أنا متّ هنا.

كان لدي طفلة رضيعة… ولم أهنأ حتى بحملها.

كنتُ أحاول التواصل معكِ، لكنك كنتِ جبانة.

لم تسمحي لي.

أنا غاضب من الطريقة التي أزهقت بها روحي من الدنيا… لماذا أنا؟ قبل أن أعيش حتى؟ قبل أن أرى ابنتي تكبر؟ لماذا لم يعاقب ذلك الشخص؟"

ثم بدأ يبكي…

وبكاؤه كان ثقيلاً، كأن كل قطرة هي جملة مبتورة من حياة لم تكتمل.

استيقظتُ وأنا أحمل صوته في صدري كجرح قديم أعيد فتحه.

وقفت أتجهز للعمل.

وعندي عادة قديمة حين أضع مكياجي صباحاً:

أفتح مكتبتي الموسيقية، وأترك هاتفي يختار لي المقطوعات بلا تدخل.

وفي ذلك اليوم اشتغلت مقطوعة “Where Spirts Sleep” "حيث تنام الأرواح" للعازف إيريك هيتمان … ولم تكن الصدفة وحدها المرعبة، بل أن الصورة المرافقة للمقطوعة كانت شجرة كبيرة… تشبه شجرتنا القديمة .

لم أشعر بالخوف.

الخوف آخر ما يمكن أن يخطر لي.

الذي شعرت به كان شيئاً أعمق…

وجعٌ يشبه الاعتذار المتأخر.

ماذا لو كان ما رأيته حقيقياً؟

ماذا لو كانت تلك الريح…

وتلك القشعريرة…

وتلك اللحظة التي تسكن فيها الشجرة حين يرى والدي…

هي محاولته أن يقول:

أنا هنا.

سؤالٌ بلا جواب…

وتركة ثقيلة حملتها عشرين عاماً دون أن أدري.

***

لمى أبوالنجا – كاتبة وأديبة من السعودية

كَفَانِيَ الشِّعْرُ خَمْرًا فِي شَبَابِي

هُوَ الشَّهْدُ المُعَتَّقُ فِي شَرَابِي

*

بِهِ اسْتَمْتَعْتُ فِي سِرِّي وَجَهْرِي

وَفِي حُلُمِي الْمُوَلَّهِ بِاصْطِحَابِي

*

وَفِي حِلِّي وَفِي التَّرْحَالِ أَمْسَى

رَفِيقَ الدَّرْبِ دِيوَانِي كِتَابِي

*

وَفِي فَرَحِي وَفِي شَجَنِي اصْطَفَانِي

وَمَا كَانَ المُرَشَّحَ لِلْغِيَابِ

*

مَزَارَ الحُبِّ كَانَ وَمَهْدَ عِشْقٍ

أَسَالَ الوَجْدَ مِنْ كَنَفِ السَّحَابِ

*

هُوَ البَرْقُ المُضِيءُ سَمَاءَ فِكْرِي

هُوَ الإِحْسَاسُ وُقِّعَ بِانْتِخَابِي

*

فَمَا أَشْهَاهُ حِينَ يَجِيءُ لَيْلًا

يُغَازِلُنِي وَيُفْقِدُنِي صَوَابِي

*

يَدُقُّ القَلْبَ يَدْخُلُ دُونَ إِذْنٍ

وَيَكْتُبُنِي عَلَى وَرَقِ العَذَابِ

*

تُبَرْعِمُ مِنْ لَظَى حِمَمِي وُرُودٌ

مَتَى ازْدَانَتْ تَرَاءَتْ كَالزَّرَابِي

*

وَضَمَّدَتِ الجِرَاحَ بِمَسِّ حُسْنٍ

يُرَى لِلْعَيْنِ خَمْرِيَّ الخِضَابِ

*

فَيَا شِعْرِي تَرَفَّقْ بِي قَلِيلًا

وَكُنْ سَنَدِي إِذَا اسْتَعْصَى مُصَابِي

*

وَكُنْ لِلْعَاشِقِينَ مُدَامَ عُمْرٍ

يُتَعْتِعُهُمْ لِيَحْتَفِلُوا بِبَابِي

*

وَلَا تَحْرِمْ صَفِيَّكَ مِنْ هَوَاهُمْ

فَبِي ظَمَأٌ وَذَا زَمَنُ السَّرَابِ

***

بقلم: سُلَيْمَان بْن تَمَلِّيست

جربة - الجمهورية التونسية

 

هل عايَشَ الزعماءُ

حالة بُؤسِنا؟!

هل غَبَّرَتْ أقدامهم يوماً

مُعاناة الظمأ؟!

وهل اسْتَبَدَّ بهمْ

صرير الجوعِ..أَلْجَأَهُمْ

إلى (برميلِ) يقرضهمْ

فُتات الموجعاتْ؟!

*

وهل الرصيف أوى إليهم

ذات ليلٍ موحِشٍ

- حتى غفوا قسرًا -

وأبردهم شتاء القارساتْ؟!

*

وهل الخطوط تَزاحَمتْ

وتَعَسَّفَتٰ خطواتها في سَيْرهِمْ

والقَطْرُ فاتْ؟!

*

وهل... وهل....؟

يا سائلين تمهلوا

يا كُل آآآتْ

لا الحاكم المُعتل

أو أحزاب (قَرِّبْني)

سَتُوصِلكُمْ إلى نَيْلِ الحياةْ !

*

فقفوا أباةً يا حُماةْ

وثقوا بأن نضالنا

حتمًا سَيَصْدُقنا

ويَحملنا بألحانٍ بديعاتٍ

وعقبى الباقياتْ

*

وحدكم أمل البلاد

وحِرْزها المأمول

والسَّنَد الثِقَاتْ!

***

محمد ثابت السميعي

 

يا للغجريةِ التي تمشي على خيطِ نار، تجرُّ وراءها كونًا ضاع نصفه في الندى، ونصفه الآخر في حكاياتٍ لم تُروَ بعد.

*

هي لا تكشفُ الجسد، فالجسدُ لديها مجردُ ستارةٍ لعاصفة، مجرّدُ قشرةٍ لكوكبٍ يدور على إيقاع الطبول الأولى، كأنها حين تنفضُ غبار الطريق تُطلِقُ من أكمامها تاريخَ حضارةٍ استيقظت ذات فجرٍ على صهيل الأسلاف، حضارةٍ علّقت صبرها على حبالِ الريح ورفعتْ روحها عالياً حتى صارتْ عنفوانًا لا يُنسى، وشرارةً لا تخمد.

*

لا تقتربْ كثيرًا من الغجريات، فعيونهنَّ ليست عيونًا، بل بوّاباتٌ واسعةٌ تسفرُ عن أقاليمَ خفية، وعن ذئابٍ معلَّقةٍ في الهواء تترقّبُ الفارسَ الذي يظنُّ أن الحصنَ يحميه.

*

الفارسُ، وإن امتطى حصانهُ وأحكمَ قبضته على سيف الأيام، يستيقظ في اللحظةِ التي تومضُ فيها نظرتُها: تنهارُ دروعه، وتسقطُ الهيبةُ عن كتفيه، ويعرفُ— دون اعتراف— أن الخوفَ وجهٌ آخر للحب حين يمرُّ عبر قلبٍ لم يتعوّد الارتجاف.

*

الغجريةُ، كوكبٌ يتنقّل في ليلِ البشر ولا يحتاجُ مدارًا، تحملُ على أصابعها موسيقى لم تُكتشف، وتتركُ في الهواء أثرَ قبيلةٍ علّمتِ العالم كيف يصنعُ ظلّهُ من الشرر.

*

هي ليست امرأة؛ إنها الذاكرةُ حين تمشي، والماضي حين يرقص، والروح حين تتذكّرُ أنها خُلقت لتشتعل. فإذا مرّت، فاتركْ للدهشةِ بابًا مفتوحًا، وللقلب نافذةً ترتجف، علَّ ضوؤها البريّ يُعيد لك شيئًا من إنسانيتك… أو يأخذُ منك ما تبقّى منها.

***

بقلم: كريم عبدالله

بغداد - العراق

بَيْنَ اَلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولْ

بَيْنَ حُرُوفِ اَلْعِلَّةِ

وَالْمَبْنِيِّ عَلَى اَلْمَعْلُومِ

أَوْ اَلْمَجْهُولْ

بَيْنَ عَلَامَاتِ اَلِاسْتِغْرَابِ،

وَعَلَامَاتِ اَلِاسْتِفْهَامْ

كَانَ اَلْخَطَّاطُ يَنَامْ

وَهُوَ يُفَكِّرُ بِحُرُوفٍ عَشِقَتْهَا اَلْأَيَّامْ

تُصْبِحُ دُنْيَاهُ حُرُوفْ

تَأْخُذُهُ لِعَوَالِمَ يَجْهَلُهَا

تَسْألُهُ هَامِسَةً

مَنْ يَسْبِقُ مَنْ

فِي اَلْإِبْدَاعِ، وَفِي اَلتَّكْوِينْ؟

لَا يَجِدُ اَلْخَطَّاطُ جَوَابًا

يَنْهَضُ مُرْتَابًا

يَتَسَاءلُ مَنْ

مَنْ يَسْبِقُ مَنْ؟

هَلْ خَطُّ اَلنَّسْخِ، أَمْ اَلثُّلْثِ، أَمْ اَلرُّقْعَةِ؟

هَلْ خَطُّ اَلْكُوفِيِّ، أَمْ اَلدِّيوَانِيِّ، أَمْ اَلْعَجَمِيّ؟

أَتْظَلُّ خُطُوطِيَ غَارِقَةً

بِهُمُومٍ تَنْضَحُ أَسْئِلَةً

وَهْيَ تُرَدِّدُ بَاكِيَةً

مَنْ يَسْبِقُ مَنْ؟

***

شعر: خالد الحلّي

(قصائر)

سَئِمتُ التَجاعيدَ في وجهي

فثمّةَ إنسانٌ آخر

تحتَ جِلدي

يَعودُ الى الوَراء

رُغمَ أنفي

**

2

بَعدَكِ

بحَثتُ كثيرًا عن بيتٍ مَهجُور

لأجعَلَ خّدي

لا يستَنكِفُ الدَمع

**

3

يا للهُزْء

محظورٌ أن أنطقَ اسمكِ

ويذكرُهُ غيري..

بلا عاقبة

**

4

يا فَرَحي المُحتَجِب

جِدْني

لعلّي لم أعدْ أستحِقُ الرَجم

والجَنّةُ خَلفي..

بلا أبواب

**

5

عندَما تهَدّلتْ أيّامي

كغَيري

أُسرِعُ الى شَيءٍ فأنساه

كأنّي أُبْدِلُ اليومَ بالأمس

وأعود..

ببَسمةٍ بلهاء

**

6

لم أجدْ في لِحيَتهِ المُهذّبة

بالكثيرِ من العِناية .. والنِفاق

سوىٰ رَغبةٍ في البَقاء

طافيًا..

على ماءٍ آسِن

**

7

كثَورِ الحِراثة

كلُّ ما أحظىٰ بهِ

دلوٌ منَ الماء

وقبضَةٌ من حَشيش

كي أعيش

في وطَني

**

8

فلتَعبُري معي ذلكَ النَهر

طالما يَجري بهِ الحُبّ

سيَغمُرنا الوحلُ .. يا حبيبتي

إذا انحسَر

**

9

النجومُ ذاتُها كلّ مَساء

أمعِنُ فيها

أجهَلُ السبَب

ربّما أبحثُ عن موطِنٍ

بلا عَبيد ..

ولا جُنود

**

10

أيَمكنُ لكلّ تلكَ الذكريات

وأكوامِ السِنين

أن تختَفي

بطَعنةٍ واحدة

**

11

يَخالُ الحِكمةَ في عِمامَتهِ

جلَسَ يَستَشفي تَمرُّدي

بأدعيةِ المَساء

لم أرَ فيهِ سوى شِفاهٍ ..

تحتَسي الهَواء

**

12

أنتِ..

سورةٌ في كتابٍ مُقدّس

أقرَأُ عَينيكِ في خُشوع

كلّما تيَممتُ للصَلاة..

لكنّ غادراً..

حَطّمَ المِحراب

**

13

ما أتعسَ الحَياة

تحدّثَ كثيرًا على مَسمَعي الشارِد

وفي الخِتام

شَكرتُهُ ..

على الهَذَيان

**

14

بلا ملَل

أعيدُ كلَّ ليلةٍ دُعائيَ الأبتَر

سأنامُ في الليلةِ التالية

كي أبرّرَ الأرَق

**

15

ألهو بالكلماتِ التي أهمَلَها البَشَر

كمَن يَستَلقي على أحرفٍ شاردة

يمنحُني هذا لذّةً..

بالوحدة

**

عادل الحنظل

 

في جوفِ الأرضِ

ثمةُ مملكةٌ تُخطِّطُ لِمَا فوقها،

نملٌ صغيرٌ

يخبّئُ أسرارَ الطين

ويُرمّمُ فوضى الحقول

بحكمةٍ لا يفهمها

إلّا من جَرَّبَ أن يُنصِتَ

إلى خشخشةِ الوجود

حين يَحْتَكُّ بجلدِهِ.

*

أفكّر ،

هل نحنُ مثلهم ،

نحملُ أثقالَ أرواحِنا

إلى جُحورٍ ضيّقةٍ

صنعناها بأيدينا؟

هل نمشي في السطرِ نفسه

الذي خُطَّ لنا

قبل أن نعرفَ

أنّ الخطى تُكتبُ

كما تُكتبُ الأحلامُ المبتلّةُ بالخوف ...

*

يا لغرابةِ ما يدور!

النملُ يَرتِّبُ الفوضى

ونحنُ نُرتِّبُ الخراب،

النملُ يحرسُ

«بقاءَهُ البسيط»

ونحنُ نهدمُ

«معنانا العميق».

***

مجيدة محمدي

الجزء الأخير من رواية الحرز

تمتمت بهمسة خرجت من عتبةٍ كانت تخاف الاقتراب منها:

"حان الوقت.. لأعرف".

مدّت

يدها

نحوه

ببطءٍ

حَذِر،

كأنها تخشى أن تستيقظ الأرواح النائمة بين ثناياه.

تناثرت الأوراق التي في داخله واحدةً تلو الأخرى، رقيقة كأجنحة فراشات ذابلة، مرقَّمة بأناة تنحدر من الواحد إلى العشرة...

كأن حياةً كاملة أُفرِغت في هذا الترتيب الغريب.

التقطت إيفا الورقة الأولى بأطراف أصابعها المرتجفة، ثم فردتها ببطء، وكأنها تخشى أن تتمزّق الذاكرة ذاتها.. وبدأت

القراءة...

الورقة الأولى

كانت حياتنا قبل مرض أبي هادئة كجدولٍ صغير ينساب بين بيوت الفقراء، بسيطة، مطواعة، لا تُفاجئ أحدًا. كان أبي يعمل سائقًا في الميناء، رجلاً لين الملامح، طيب الطبع، يملك من الصبر ما يجعل صوته دائمًا منخفضًا حتى وهو يواجه قسوة الدنيا.

كنتُ ابنته الوحيدة.

طفلة في العاشرة، أعيش في كنف والداي كزهرةٍ لا تعرف من الرياح سوى النسائم، فأنا موضع دلالهما رغم ضيق الحال، وكانا يشيّدان لي في كل يومٍ حلمًا صغيرًا يعوّضني عن كل ما ينقصنا.

لكن الربو الذي لازم أبي سنينًا طويلة بدأ يتحوّل إلى ذئبٍ ينهش أنفاسه نهشًا. لم يعد سعاله عارضًا عابرًا، بل صار يتردّد في صدره كطبول حرب تقرع في ليلٍ بلا نجوم.

ومع تدهور صحته اضطر لترك العمل، او لأقل سرح منه.

حصل بعد جهدٍ مُرهِق على تقاعدٍ هزيل لا يكاد يسد الرمق.

بدأت أمي تُخفي دموعها في المطبخ، وأصبح وجه أبي أكثر انطفاءً، وكأن الهواء الذي يستنشقه لم يعد يكفي لبقائه في هذا العالم.

وحين ضاقت السبل، اضطر أبي إلى استدعاء أخيه.

كان عمي ــ ذلك الرجل الذي لا يأتي إلا إذا احتاج ــ يعمل في سلك الشرطة، ويتاجر في الظلام بكل ما يمكن بيعه أو تهريبه.

جاءنا بزيه الرسمي، مسدّسه يتدلّى عند خاصرته كتهديدٍ صامت، وحضوره يملأ البيت رائحة خوفٍ لم أعرفها من قبل.

سأل أبي عن قدرته على إيصال بعض "الصناديق"، كما فعل في مرةٍ سابقة.

ولم يجد أبي بُدًّا من الموافقة، فالعوز كان شرسًا، ينهش في نبرة صوته ورجولته.

منذ ذلك اليوم صار بيتنا مخزنًا لعلبٍ مبهمة ولفائف غامضة، صناديق مُحكمة الإغلاق لا يجرؤ أحد على السؤال عمّا بداخلها.

كان عمي يكلّف أبي بنقلها وحده، مريضًا كان أم على حافة الإغماء، لا يهمّ.

كان يكلّمه من علٍ، يوزّع كلماته وكأنه يرمي صدقاتٍ على متسوّل.

أما أنا، فكنت أرتجف كلما دخل البيت بحذائه الملطّخ وعينيه الزائغتين؛ كنت أشعر، على صغري، أن حضوره يطفئ شيئًا من نورنا.

زاد عمل أبي مع عمي مرضًا فوق مرض.

صار فراشه ضيقًا عليه، وأنفاسه كخشبٍ يابس يشقّ طريقه نحو الاحتراق.

وحين أخبرنا الطبيب بأن أيامه صارت معدودة، انكمشت أمي كظلّ يُسحب من عنفوان نهاره، بينما لم يكلّف عمي نفسه حتى بالسؤال عنه.

كنتُ أذهب إلى المدرسة بخطواتٍ متردّدة، أختبئ خلف صديقاتي، أستعرِض وجوههن لأتأكد أن أحدًا منهن لا تعرف بصدقات الجيران التي صارت أمي تقبلها مُكرهة. كنت أخجل، بل كنت أشعر بأن العالم كلّه ينظر إليّ بعينٍ تُشفق وتدين في آنٍ واحد، وكنت أبكي سرًا حين أسمع أمي تستقبل زوّارًا يحملون لنا ما يسد رمقنا.

وبعد اشهرٍ قصيرة وثقيلة، رحل أبي.

رحل وكأنه اعتذر عن الحياة، وتركنا معلّقتين في هواءٍ ملتبس لا نعرف كيف نتنفسه.

لم تمضِ أيام حتى أدركنا أن موت أبي لم يكن نهاية العذاب..

بل بدايته.

فقد أصبحنا تحت رحمة العم، ذلك الذي كان ظلّه وحده كفيلًا بأن يصادر الدفء من البيت.

كنت طفلة،

نعم...

لكنّ قلبي كان يرى ما لا تراه أعين الكبار. كنت أعلم، بيقينٍ يشبه حدس الجياع، أن الأيام المقبلة ستختبر قدرتي على البقاء.. وأن الخوف الذي يسكن البيت لن يغادر بسهولة.

الورقة الثانية

لمّا انطفأ وجه أبي إلى الأبد، وبات اسمه يُتلى همسًا في أركان الدار، حلّ عمّي في حياتنا كظلّ ثقيل لا يُرى منه سوى سواد الطمع ونتانة السلطة.

كان يأتي بصفة المعيل،

يحمل في يده ما يشبه الرحمة،

وفي قلبه ما يشبه الخراب.

يزورنا بحجّة السند، بينما كانت نظراته تفصح عن نوايا لا تخفى على من ذاقت الفقد وعرفت مبكرًا ألوان الخديعة.

كنتُ يومها طفلة، لكنّي أحمل في داخلي قدرًا من فطنة مبكرة، تلك التي تمنحها المآسي لأصغر أبنائها. كنتُ أرقب خطواته وهو يدخل غرفة أمّي، يغلق الباب وراءه، ثم يخرج بعد ساعات بنفَس متثاقل، وأمّي تلوذ بجدار المطبخ تنتحب، تشتم حظّها وتدفن وجهها في راحتيها كأنها تحاول إخفاء ما لا يُخفى.

أدركت،

دون أن يخبرني أحد...

أنّه كان يراودها عمّا لا حق له فيه،

وأنه يلوّح بقطع المعونة إن رفضت،

بل...

يتجرّأ على ضربها إن نهضت كرامتها لتقف في وجهه.

ومنذ تلك اللحظة، انفتح في صدري بئرٌ من الكراهية لا قرار له.

كنت أراه نجسًا يمشي على قدمين، وأتحاشاه كما يتحاشى الطاهر كل ما يدنّس روحه. صرت أختبئ في زوايا البيت، خلف ستارة متهالكة، تحت السرير، أو قرب سطح الدار حيث لا يصعد أحد.

لكن عينيه كانتا تلاحقانني أينما حللت، كأن حضوري يوقظ فيه شرًّا آخر.

يسأل أمّي دائمًا عن غيابي، وحين يعلم أنّني في الدار يطلب أن أقدّم له الطعام والشاي، مكرسًا من وجودي خادمة أبدية من حقه المكتسب.

كم كرهتُ تلك اللحظات. يدٌ صغيرة ترتجف وهي تحمل طبقًا أكبر من قدرتها، ونظرات متوحّشة تترصّد كل خطوة. وحدث غير مرة أن انزلقت يدي وسقط الطبق على الأرض، فيستشيط غضبًا، ينهال عليّ ضربًا وشتماً، ثم يعاقبني بعقوبة كانت أشدّ قسوة من الألم ذاته: حرماني من المدرسة، التي كانت نافذتي إلى العالم، ومهربي الصغير من رائحة الخوف في البيت ومن نظراته التي تغتال لحظات الطمأنينة المتلألئة بالامان.

مرّة، وحين تكدّست المرارة في صدري، قلت لأمّي

إنني أريد قتله.

كنت أقولها بصدق طفلة وصلت إلى منتهاها. وضعت أمّي يدها على فمي بسرعة، كمن يخشى أن تستيقظ العواصف، وقالت بصوت مبحوح، هادئ ولكنه حازم:

"لا تكرّري هذا أبدًا، يا حياة..

إن علم بما نويتِ سنُدفن معًا دون أثر.

عليكِ أن تكوني لطيفة معه..

فلا تظهري نفورك".

لكن كيف لطفلةٍ أن تجامل وحشًا؟

قلت لها: إنني أكرهه، ولا أطيق حضوره في بيتنا، ولا أحتمل إهانته لنا.

كنت أقول ذلك وقلبي يخفق بخوف وتمرّد لا يعرف شكلاً ولا مخرجًا.

لكن...

بلغني في المدرسة، همسًا بين الطالبات، أنّ عمّي يريد الزواج من أمّي، وأنه سيصير "والدًا" لي. كانت الفكرة وحدها كفيلة بإصابتي بالغثيان. نفيتُ الأمر..

لا بل رفضته بكل ما أوتيت من قوة الرفض... كأنها نبوءة شرّ لا يجوز أن تتحقق.

لكن اليوم الذي خشيتُه جاء، ولم يكن بإمكاني صده.

جلس عمّي أمامنا، بعينين لا تعرفان الحياء، وقال إن علينا الانتقال إلى بيته لتوفير الإيجار، وإنه ينوي الاقتران بأمّي "سترًا لها... لنا".

يا للسخافته!

كان

يمنّ

علينا

بما

سرقه

من

طمأنينتنا.

اقتاد أمّي إلى أقرب مأذون، وكأنها صفقة يجب إنهاؤها بسرعة.

عادت تلك الليلة صامتة، كأن صوتها نُزع منها.

عيناها تحملان أثر معركة خاسرة.

تم الزواج في يوم واحد، وكأن القدر استعجل الوجع كي يستقرّ في صدورنا.

وفي صباحٍ كالح، حملنا ما تبقّى من متاعنا القليل، وانتقلنا إلى بيت عمّي، تابعين اياه كمقادين لا حول لهم، كخراف تُساق إلى جزار الجديد.

كنت أسير باتجاه الشاحنة التي اقلتنا، وأنا أصر على اسناني وأضغط على يدي حتى تترك أظافري أثرًا في جلدي، كأن ذلك الألم الخفيف يُساعدني على احتمال ألم أكبر.

كنت أحسّ بأن الطفولة تُسلب مني، وأنني أدخل عالمًا غريبًا لا مكان فيه لضحكة، ولا لكتاب، ولا لسماء نظيفة. كل شيء كان ثقيلًا:

الطريق،

الهواء،

نظرة أمّي الشاردة،

وصمتها الذي يشبه استسلامًا مجبَرًا لا قبولًا رضيًا.

ومع ذلك، في داخلي كانت هناك شعلة صغيرة، لا أعرف من أين جاءت، ربما من ذكرى أبي، أو من شيء دفين في روحي، شعلة تقول إنني سأكبر يومًا، وإن هذا الظلم، مهما تمدّد، لن يبتلعني كاملة.

كانت الطفلة في داخلي ترتجف..

نعم، لكنها لن تركع.

وكل خطوة نحو بيت عمّي كانت تُعمّق عزيمتي على أن أحيا بطريقة لا تشبه قسوته، وأن أظلّ، رغم الخوف، حياة:

تلك الصغيرة التي لم يسمح لها القدر أن تكون طفلة،

لكنها أقسمت أن تحفظ ما تبقّى من نورها في قلبها، ولو سرًا.

الورقة الثالثة

منذ اللحظة الأولى لخطونا عتبة بيت عمّي، أدركتُ أنّ البيت ليس بيتًا، بل فخٌّ متقن نصبه القدر، وأُجبرتُ أنا وأمّي على الإقامة فيه كقطعتين زائدتين في معادلة لا ترحم.

خصّص لنا غرفة ضيقة، جدرانها رطبة، لا تُمسك سرًّا ولا تحفظ خصوصية.

وزاد الطين بِلّة أنّه انتزع المفتاح وأخفاه في جيبه، ليقتحمها متى شاء، في أي ساعة، وبلا استئذان، كأنه يختبر مدى ضعفنا حين تُفتح الأبواب قسرًا.

هناك، بدأتُ أتعلم مفردات الخوف المتواصل كما يتعلم الطفل الحروف الأولى.

تسلّل القلق إلى روحي كما تتسلل الرطوبة إلى جدار يتجمع نزيز الماء تحته، لا تُرى في البداية، ثم تُترك ندوبًا لا تُمحى.

كنت أقضم أظافري حتى ينضح الدم، أنتزع شعرات رأسي بعد أن أعقدها بين أصابعي بإلحاح، أجرح ساعدي بأي شيء حادّ يقع تحت يدَي.

لم أكن أفعل ذلك رغبةً، بل استجابة غامضة يفرضها خوف نامٍ في صدري، خوفٌ جعلني أتمنّى، في لحظات يأس مضاء بكراهية، أن أتحوّل في عيني عمّي إلى وحشٍ يخشاه، لا طفلة يستسهل دهسها.

وتعلّقتُ بأمي كتعلّق ظلّ بجسدٍ خائف.

كنت أرافقها أينما ذهبت... في المطبخ، في الفناء، وحتى حين تتهيّأ للنوم.

أعرف أنها لا تستطيع حمـايتي، لكن قربها كان يمنحني شيئًا الطمأنينة والأمان...

بقايا حضنٍ لا يحول دون الشرّ، لكنّه يخفف وخزه، ويبعد عواقبه.

ولهذا كنت أحمل معي دائمًا شيئًا خفيًا:

مسمارًا صغيرًا، حجرًا بحافة حادة، قطعة حديد صدئة، شوكة..

أي شيء يمكن أن يتحوّل في لحظة إلى أداة دفاع أو ربما إلى تميمة تمنحني وهم القوة كالحرز الذي شدته امي على ساعدي في اول يوم ذهبت به الى المدرسة ولازالت احمله.

لم نكن نعرف لمزاجه توقيتًا.

كان يخرج في ساعات مبكرة، ثم يعود فجأة في منتصف النهار، أو يدخل علينا ليلًا بعينين حمراوين تفحان شرّا، كأنّ الليل نفسه يتجسّد في موعد عودته.

وهكذا عشنا في ترقّب دائم، في توترٍ يشدّ الأعصاب كما يشدّ القوس وتره.

ثم بدأت تحرّشاته، واضحة، مقززة، لا يغطّيها حياءٌ ولا تسترها بذرّة رحمة.

كان يسحبني من ذراعي بعنف لأجلس قربه، يتعمّد مراقبة فتحة صدري الصغيرة، يمدّ يده إلى أردافي حين يعلم أنني نائمة، أو يفتح باب الغرفة لحظة تغيير ثيابي استعدادًا للمدرسة.

كانت عيناه تُعلن ما في نفسه قبل يديه. وكنتُ أعرف، بحدس طفلة خُدشت براءتها مبكرًا، أنّه ينتظر اللحظة المناسبة لارتكاب ما هو أفدح من اللمس.

ولم يكن لديّ مخرج. فكرتُ أن أهرب إلى بيت عمّتي، لكنّها كانت نسخة أخرى من أخيها: بخلٌ، وجشعٌ، وخوفٌ أعمى من سطوته، فلا ملاذ هناك.

حاولتُ التفكير بمن يمكن ان يصدقنا من الناس، معارف، اقرباء، جارة عجوز، معلمة في المدرسة، لكنّ الجميع كانوا يتجنبونه كما يُتجنَّب الوباء.

وحتى لو كلمتهم، فلن يصدّقني أحد.

بل ربما يُتهم جسدي الصغير بالعار، ويُلقى بي في أول مكبّ نفايات كما تُرمى الأشياء المكسورة.

كان عمّي يُذكّرنا، كلما سنحت له الفرصة، بأنه "سترنا" من الشارع، وأنّ فضل وجودنا فوق أرض بيته يعود له وحده.

يلوّح بالمهانة دائمًا كما يلوّح الظالم بسيفه، يريدنا ممتنّتين لظلمه، لاهجتين بمعروفه، ومدينتين لقهره حتى آخر العمر.

وحين كنت أدفع يده عني أو أرفض الجلوس قربه، كان يهددني بحرماني من المدرسة، ذلك الملاذ الذي لم يبقَ لي سواه.

يقول إنه سيحبسني في البيت، وإن عليّ أن أطيعه.

وحين تتدخل أمي، راجيةً، يزداد غضبه حتى يكاد يفقد صوابه، ينهال علينا شتمًا وضربًا، كأن وجودنا خطيئة تُستوجب العقاب.

ليالي كثيرة، كان النوم يجافيني خوفًا، فلا يغمض لي جفن إلا بعد أن أسمع وقع خطواته تغادر البيت.

حينها فقط كان جسدي يرضى أن يستسلم للنوم تَعِبًا.

كنت أدعو، بلسان طفلة لا تعرف سوى البكاء والدعاء، أن تحلّ به مصيبة تبعده عنا، أن يضلّ الطريق، فلا يعود أبدًا.

لم تكن أمنية مبطنة بالحقد فقط، بل كانت محاولة للنجاة، محاولة يائسة للبقاء.

كنت أتحيّن كل لحظة كي أتفادى ما قد يحدث، أنسلّ مبتعدة عن طريقه، أخفي جسدي في الظلال، وأتعلم، ما استطعت، أن أغدو أصغر ما يمكن، كأن الوجود يصير عبئًا يجب أن يُخفى. ومع ذلك، كانت هناك شرارة صغيرة في داخلي، لا تزال تقاوم.

الورقة الرابعة

مرّت

الشهور

ثقيلةً

كحجارةٍ تتدحرَج فوق صدري، أتحاشى وجودي في حضرته كما تتحاشى الظلالُ نوراً يحرقها.

كنت أتقن فنّ التواري والاختفاء، أختبئ خلف جدران الصمت وأبواب غرفتي، أحسب أن العزلة قادرة على أن تُعمي عين الشرّ المتربّصة بي.

لكن الشرّ يعرف أين يختبئ الخوف.. ويعرف كيف به يتربص.

حلّ يوم ميلادي الحادي عشر، يومٌ ما كان ينبغي له أن يكون سوى فرح صغير لطفلةٍ تُطفئ شمعة وتسرح بخيالها.

لكن السماء في تموز كانت قاسية، ترسل حرَّها فوق رأسي حتى شعرتُ أن وجهي يحمرّ كخبزٍ خرج تواً من فم التنور.

عدتُ من المدرسة أجرّ قدميّ المتعبتين، وركضت إلى المطبخ لأسكب ماءً يُطفئ جمراً يشتعل في صدري قبل وجهي.

وحين استدرتُ لأصعد إلى غرفتي وأستبدل ملابسي، وجدته يقف في باب المطبخ، يسدُّه بجثته كما يسدّ الغادرُ طريق نجاةٍ أخيرة.

كانت عيناه تنضحان بالدناءة، بريقٌ خبيث فيهما كأنهما ثقبان يقذفان شواظًا اسواداً.

تجمّدتُ مكاني وسألته بصوتٍ مرتعش:

ـ عمي.. أتريد ماء؟

لم يُجب. كان الصمت على لسانه أشدَّ رعباً من أي كلمة.

تقدّم نحوي خطوةً بعد أخرى، كذئبٍ يقترب من فريسته وهو واثقٌ أن لا خلاص لها. صرخت: "ماما!" فارتدّ الصوت عليّ كأنه ضائعٌ في بئر مهجورة.

قال ببرودٍ يُشبه برد المقابر:

ـ أمُّك ليست في البيت.. اهدئي وكوني عاقلة.

كنت أرتجف، لكن، ليس من الماء الذي بللت به يدي ووجهي، بل من شيءٍ أعمق:

من إدراكٍ مفاجئ بأنني وحيدة تماماً. قلت له محاوِلةً أن أستجمع بقايا شجاعتي:

ـ إذن.. اسمح لي أن أمرّ.

ـ سنخرج معاً.

ـ لا.. أريد غرفتي.

كنت قد خططت في داخلي أن أهرب إلى الشارع، إلى أي ضوءٍ يحميني من هذا الظلام الذي يقف أمامي الآن.

لكنّه لم يتركني أفكر طويلاً.

قبض على ساعدي بقوة، يده كانت خشنة كيد جلاّد.

لم أجد سلاحاً سوى كأس الماء إلى جانبي، فرفعتُه وضربتُ يده بكل ما في ذراعي الصغيرة من غضبٍ ويأس.

صرخ، شتمني، رفع يده وصفعني صفعةً أطاحت روحي قبل جسدي.

نهضتُ

كالغريزة،

لا كالقوة.

دفعته بكل ما فيّ من رمق نجاة، ركضت نحو باب البيت، كنت أسمع دقات قلبي أعلى من صراخي.

أصرخ لعلّ الشارع يسمعني، لعلّ العالم يسمع طفلةً تُستباح.

لكنه التقطني من شعري، سحبني كما تُسحب دمية قذرة.

كنت أتلوّى تحت قبضته، مستعدةٌ أن أفقد شعري كله ولا أفقد نفسي.

كان بكائي يثير فيه وحشاً كامناً. فقلت له وأنا أرتجف كعصفور مبتلّ:

ـ عمي.. أرجوك..

أنا حياة، ابنة المرحوم أخيك.

أستحلفك بالأخوّة..

بالدم..

لا تؤذني. أنا ابنتك أيضاً..

أرحمني.

لكن الرحمة لم تكن ضمن معجمه القذر...

رماني، وانا لا زلت اصرخ، في زاوية غرفته كما يُرمى جرمٌ لا قيمة له، ثم أغلق الباب وأخفى المفتاح. التفت إليّ وقال بابتسامةٍ منتهكة للإنسانية:

ـ ومن قال إنك ابنة أخي؟

اسألي أمك عن نطفتك..

أنتنّ بلا أصلٍ ولا نسب، ولولاي أنا، لكانت الشوارع مأواكنّ.

كانت كلماته أغلالاً تُلقى على روحي.

حاولتُ أن أبحث عن شيءٍ أدافع به عن نفسي، حجر، قلم، أي شيء، لكنّه انقضّ عليّ ككلبٍ مسعور.

مزّق ثيابي، يده تهوي عليّ ضرباً، وأنا أضغط أظافري في جلده، وأعض أي جزء منه في متناولي، أردّ الضرب بالضرب، كمن يدافع عن آخر نفسٍ في صدره.

دفعني بقوّة على حافة السرير، اصطدم رأسي بخشبةٍ بارزة منه، ورأيت العالم يُصبح ضباباً.

ظلّه يقترب، يشتم، يربط يديّ بعمود السرير كأنني جارية في زمنٍ مظلم.

وفي تلك اللحظة..

مات شيءٌ كبير في داخلي.

لم تكن مجرد لحظة اغتصاب..

كانت لحظة موت.

وحين انتهى، سحب جسدي كما تُسحب الجثة، ورماني خارج الغرفة.

كنت دماً بلا روح، أنفاساً متقطعة لروحٍ أُنهكت حتى النهاية.

ذلك اليوم..

لم أنتهِ فقط. بل بدأتُ أفهم أنني أصبحت "عاراً" في عينيه، وأن سيف الموت قد ينهال عليّ في أي لحظة بذريعة غسل العار.. فقط لأنني قاومتُ وصرخت.

الورقة الخامسة

لم أعد قادرةً على الحركة، كأن جسدي كله استحال حجراً يابساً طُرِح على أرضٍ باردة. انقطع صوتي عن البكاء، وتيبّست دموعي فوق وجهي كأثرٍ أخير لروحٍ كانت تقاوم ثم خارت.

لم أعد طفلةً في تلك اللحظات، بل شبحاً ينظر إلى الدنيا من وراء زجاجٍ معتم.

وبينما كنت غارقةً في وجعي وخوفي، سمعت صوت المفتاح يلتفّ في الباب كما لو أنه يفتح قبراً.

فتحت أمي الباب. وما إن وقعت عيناها عليّ حتى صرخت كأن شيئاً انتُزع من قلبها.

لم تسأل، لم تحتج إلى سؤال...

كانت الأم تعرف بعينها ما تعجز عنه لغةُ البشر.

هرعت إليّ، تنوح وتولول، تحاول أن تفهم أين يبدأ جرحي وأين ينتهي.

ساعدتني على النهوض، وأنا أثقل من أن تحملني ذراعاها الضعيفتان.

ساقتني إلى الحمّام، وأجلستني تحت الماء.

كانت تغسلني بدموعها قبل الماء، تمرر يديها المرتعشتين على وجهي وكأنها تحاول محو ما لا يُمحى.

كنت أسمع من خلف الباب صراخاً متقطّعاً، شتائمَ كالسهام، صوتَ ارتطامٍ غاضب.

كان عمي، ذلك الوحش الذي يتنفّس بين جدراننا، يهدّدها ويقذفها بالإهانات، يتوعدنا بالطرد والتشريد إن هي فتحت فمها أو حاولت أن تحميني منه.

كان صوته طعنةً أخرى، تُذكّرني بأنني لم أكن ضحية للحظةٍ واحدة، بل ضحية لقدرٍ جائر يحيط بي من كل الجهات.

مكثت أسبوعًا طريحة الفراش.

جسدي لم يعد جسدي، روحي معلّقة في مكانٍ لا أعرفه، لا أرض ولا سماء.

أمي كانت تجلس عند رأسي، تحاول أن تنطق بكلمة مواساة، فأصدّها بنظرةٍ هاربة. لم أرد شيئاً...

لم أعد أريد الحياة نفسها.

كانت فكرة الانتحار تمرّ بخاطري كما تمرّ السحابة بالسماء، لا تلبث أن تغادر، لكنها تُظلّل القلب بظلامها قبل أن تمضي.

كنتُ ضائعة في عالمٍ لا يرحم طفلةً كُسرت قبل أن تفهم معنى الكسر.

توقفت عن الذهاب إلى المدرسة. لم أُعدّ حقيبتي، لم أمسك قلماً، لم أودّع أحداً.

خرجت من عالم الطفولة كما تخرج الروح من الجسد: بلا عودة.

وحين بدأت أستعيد وعيي شيئاً فشيئاً، شعرت بوخزة في ذراعي.

لمست المكان فإذا به “الحرز”، ذاك التميمة التي ربطتها أمي حول ساعدي منذ صغري، وقالت إن فيها بركةً تحفظني من الشرور.

تأملتُه طويلاً، وفي داخلي مرارة لا تشبه أي شيء.

هذا الشيء، الذي كان يُفترض أن يحميني، خانني في اللحظة التي احتجت فيها إليه أكثر من أي وقت.

نزعته بغضبٍ وبكيت، كأنني أقتلع خيبةً عالقة في جلدي.

رمَيتُه بعيداً..

لكن شعوراً غريباً شدّني إليه. كأنه يناديني بصوتٍ خافت:

"صحيح أني خذلتك.. لكني ما زلت قادراً على أن أحفظ أسرارك".

ترددتُ،

ثم

التقطته

ثانيةً.

بوضعٍ ما، كان الحرز الشيء الوحيد الذي لم ينظر إليّ بعين إدانة، لم يجرحني، لم يلوّح بيدٍ قادرة على البطش. كان كصندوق صغيراً.. وفي داخله مكانٌ يصلح أن يحتضن وجعي.

فتحتُه...

كان يحوي بعض الأوراق القديمة الملفوفة.

أخرجتها، طويتها بهدوء ووضعتها في حقيبتي، ثم جلبت أوراقي الشفافة.

شعرتُ بأنني بحاجة إلى أن أُفرغ كل ما يثقل صدري.

أن أرسم جراحي بكلمات، أن أضعها على الورق علها تكفّ عن مطاردتي في الظلام.

لم أكن أبحث عن عزاء، كنت أبحث عن نجاة:

نجاةٍ روحية، خيطٍ رقيقٍ يربطني بما تبقّى مني.

وبدأت

أكتب..

كان قلمي يرتجف كقلبي، لكنّه يكتب.

يكتب ما لم أستطع قوله لأمي، ما لم يسمعه الشارع حين صرخت، ما لم يفهمه أحد.

كلما كتبتُ سطراً، شعرت أن قطعةً مظلمة داخلي تتلاشى وبصيص ضوء واهن يتنفس.

لم يختف الألم، لكنه صار قابلاً لأن يُلمس دون أن أموت مرةً أخرى.

وحين انتهيتُ من أول ورقة، طويتها طيّاً محكماً، وأخفيتها في الحرز، ثم ربطته حول ذراعي من جديد.

كان الربط أشبه بميثاقٍ جديد، كأنني أعيد بناء ذاتي بخيطٍ من الحبر والورق.

لم يكن الحرز هذه المرة تعويذةً ضد الشرّ، بل صندوق الريح الذي يحمل صوتي، سرّي، حكايتي..

التي لن تُدفن بعد اليوم.

ومع كل ورقةٍ أكتبها، كنت أشعر أن "حياة" ـ تلك الطفلة التي ظننت أنها ماتت ـ ما زالت في مكانٍ ما داخلي، تنفض غبار الانكسار، وتتهيأ ببطءٍ شديد للعودة إلى الضوء.

في مكانٍ عميقٍ داخلي، ظلّ جزء صغير من حياة..

يرفض أن يموت.

جزءٌ خافت، صغير جدا، لكنه موجود..

ينتظر يوماً ينهض فيه من بين الركام فينتقم.

الورقة السادسة

مضت

سنتان..

سنتان ثقيلتان كدهرٍ يجرّ أذياله على كتفيّ النحيلين، وأنا أبحث، في صمتٍ عميق يشبه خفوت الأنفاس، عن مخرجٍ آمن من عتمتي، عن نافذةٍ لا تطل على الهاوية.

لم أكن أفكّر بالخلاص بقدر ما كنت أبحث عن معنى أن أظلّ على قيد الحياة.

في داخلي كانت النار تشتعل، ورغم هشاشتي كنت أعي تماماً أن في قدرتي، لو أردت، أن أقتله.

غير أنّ الفكرة نفسها كانت تسقط من قلبي كحجرٍ في بئرٍ بلا قرار.

أيُّ عدالةٍ تلك التي ستُنقذني لو رفعتُ عني حاجز الخوف وطعنته بخيبتي؟

هل سأفلت من العقاب؟

أم سأُلقى في غياهب سجنٍ لا تنتهي لياليه، وتلاحقني لعنات مجتمعٍ يتقن قلب الحقائق؟ مجتمعٍ يرى في الجلاد ضحيةً بيضاء، وفي الضحية مجرمًا يستحق القصاص؟

في بلدٍ تحكمه شريعة الغاب، والعشائر، والأعراف التي تجعل المرأة مذنبة قبل أن تنطق، متهمة قبل أن تُسأل، عاراً يمشي على قدمين..

وإن كانت هي المكسورة الجناح.

كان عمي لا يملّ من التهديد.

صوته يأتيني كل ليلة كصفعةٍ جديدة:

ـ لا تنكشفي..

إن عُرفت الفضيحة فلن يكون لي حلٌّ سوى غسل العار.

كانت كلماته تتردد في داخلي كناقوس موت.

تعلّمتُ معها أن الصمت ليس اختياراً بل نجاة، وأن الرضوخ ليس ضعفاً بل محاولة يائسة لأن أبقى حيّة، ولو على حافةٍ ضيقة من الظلّ.

انطويتُ على نفسي. لم أعد أخرج من البيت، ولا أستقبل أحداً.

اختفت حياة من العالم، وبقيت «حياة» أخرى، ساكنة، تتنفّس في داخلي بشيءٍ يشبه الاحتضار.

غير أنّ السكون كان وهماً؛ فداخلي لم يكن خامداً كما يظنّ من يراني.

كان بركاناً صغيراً، يكتم غليانه في النهار ويستفيق ليلاً.

في النهار كنتُ أتحرك في البيت كأنني خيالٌ مدجَّنٌ، ألبي طلباته، أقوم بشؤون المنزل، أتعمد أن أبدو منحنية، صامتة.

ربما، لو رآني مكسورة يزهد في إيذائي، أو لعلّ انكساري كان درعاً أرتديه لأمضي يومي بحدٍّ أدنى من الألم.

ومع ذلك، كنت أشعر بثِقَل نظراته عليّ، كأنها يدٌ خفية تمسح على ظهري بنصل سكين بارد.

وفي الليل..

كان لي عالم آخر.

عالمٌ ضيق، لكنه العالم الوحيد الذي أتنفس فيه.

أجلس قرب نافذتي الصغيرة، تلك التي لا تكشف إلا قطعةً من السماء، وأرافق أوراقي كما ترافق الروحُ ظلَّها الأخير.

كنت أفتح الحرز، وأخرج أوراقي الشفافة، وأكتب وأمزق، واعود وأكتب بحمى، كأن الكلمات هي الهواء الوحيد الذي أستطيع أن أبتلعه دون أن أختنق.

كنت أكتب عن خوفي، عن قهري، عن البيت الذي يشبه قبراً، عن رجلٍ يعيش تحت سقف واحد معنا ولا يشبه البشر.

أكتب عن أمي التي تذبل كل يوم قليلاً، وتخفي ضعفها بقوةٍ مصطنعة، وعن تلك اللحظة التي تبدلت فيها حياتي إلى ما لن يعود.

وأحياناً..

كنت أكتب عن انتقامي.

لم يكن انتقاماً من لحمٍ ودم، بل انتقاماً من القدر الذي سلمني بيديه لطفولةٍ مُزقت قبل أوانها.

كنت أتخيلني أقف يوماً ما أقوى، أطول، لا يقدر أن يرفع صوته عليّ.

كان المشهد يشبه حلماً يتكرر، أحفظ تفاصيله: أنا واقفة أمامه، لا أرتجف، أقول له كلمة واحدة فقط، كلمة تشبه صفعة... كفى! تلك الكلمة وحدها التي كانت تعني لي القدرة على استعادة نفسي.

مرّت الليالي وأنا أكتب في الظلام، أدفن أوراقي في الحرز كما يُدفن سرّ في صدر الزمن. كنت كلما طويت ورقة شعرت أن جزءاً صغيراً مني يلتئم، وأنني أبني، ببطءٍ مؤلم، جداراً خفياً يحمي ما تبقّى من روحي.

مع كل كلمة، كنت أتعلم أن الخوف لا يُقاوم بالصراخ، بل بالبقاء..

بالبقاء حيّة رغم كل شيء.

لكن شيئاً آخر كان يتشكل داخلي..

شيء يشبه القوة.

قوةٌ لا تشبه العنف ولا الصراخ، بل أشبه بنبتة صغيرة تشقّ الصخر التماسًا للضوء.

لم أعد تلك الطفلة التي ماتت في الورقة الأولى.

كنت الآن الفتاةً التي تعرف عدوّها، تعرف ضعفها، وتعرف

ـ وهذا الأهم

ـ أنها يجب ان لا تبقى طويلاً على هذه الحال.

كان الليل صديقي الوحيد، والكتابة اليد التي تنتشلني من الغرق.

ورغم الصمت الذي يحيطني، كنت أعلم أنه ليس نهاية..

بل بداية لشيء ما يتشكل، ينمو، يكبر، وسيأتي يوم يخرج إلى النور.

الورقة السابعة

كأن البلاد قد انفجرت من داخلها، كجرحٍ ظلّ يخفي نزفه طويلًا ثم انفلت فجأة.

خرج الناس إلى الشوارع يصرخون بالعدالة، يطالبون بإطلاق المسجونين، يهتفون ضد القهر، حتى بدا أن الهواء نفسه صار يحتجّ.

وما هي إلا أيام حتى سقطت جدران النظام مثل غبار تهاوى تحت المطر.

انتشرت الفوضى كحريقٍ يتغذى من اليأس، تتقاذفها عصاباتٌ، وولاءاتٌ جديدة، وكلٌّ يمدّ يده ليقتطع نصيبه من الخراب.

في هذا الانهيار تغيّر عمي..

لا، بل تكشّف.

كانت لحيته التي نبتت فجأة لا تشبه التديّن، بل تشبه ستارًا يُخفي شيئًا أعمق من الدناءة، وأشدّ ظلمة من الخسّة.

صار يتجوّل في الحي وخلفه رجال مسلّحون، يرفعون شعارات الدين على أكتافٍ تلطخت بالغنائم.

يتحدثون عن الشرع، شرع الله، كما يتحدث اللص عن مفاتيحه.

وعندما يعودون إلى البيت، كان المكان يضيق بأنفاسهم، بأصواتهم الثقيلة، بضحكاتهم التي تجرح جدران الليل.

تحوّل بيتنا إلى وكر، لا يكاد يخلو من السلاح والرجال.

أمّي

وأنا

نخدمهم كأننا غبارٌ في طريقهم.

العيون "آه تلك العيون" لم تكن تنظر، بل تنهش.

رغم حجابي، رغم محاولتي الانكماش في ظلٍّ أصغر من جسدي، كانوا يرونني.

يرون اللحم الصغير الذي صار عبئًا عليّ، يرون خوفًا يحلو لهم أن يروه لأن الخائف يسهل امتلاكه.

لم يكن عمّي يومًا رجلًا رحيمًا، لكنّ البلاد حين احترقت، احترقت معه ذرة إنسانيته.

كان قد هتك طفولتي وأنا في العاشرة، سرق براءتي ثم أخفاها كما يُخفى جرمٌ مُحكم الإغلاق.

كنت أظنه يومها ذئبًا واحدًا منفردًا، لا يتكاثر، لكني كَبُرت لأكتشف أن الذئاب تتوالد حين ترى الفوضى وتمعن في الطراد والاغارة، وأن الوحش الذي مزق جسدي في صغري صار اليوم قائدًا لقطيعٍ جائع.

وما عاد يخفي رغبته في بيعي لهم، واحدًا تلو الاخر، باسم "الزواج" و"الشرع"، كفضيلةٍ تُهدى، لا كطفلةٍ تُذبح.

كنت في الرابعة عشرة، لكنني أشعر أن عمري صار ضعف ذلك.

كأن السنوات التي سُرقت مني أثقلت ظهري قبل أن يشتدّ جسدي الذي بدأ يتغير، يتفتح على أنوثةٍ لم أطلبها، ولم تحتملها روحي، بل صارت نذيرًا لما ينتظرني.

وكنت أخشى الليل أكثر من النهار، لأن الليل يحرر وجوههم من الأقنعة.

يضحكون كثيرًا حين يذكرون “التزويج”، يتهامسون عن “الليلة المباركة”، كأن الشرّ حين يُعطى اسمًا دينيًا يصبح نعمة.

في تلك الليالي، حين يدوّي الرصاص في الخارج، كنت أشعر أن الحرب كلها تتواطأ علينا. البيت يهتز، الشوارع تعوي، لكنّ خوفي الحقيقي لم يكن مما يجري للبلاد، بل مما يجري لجسدي، لروحي التي تختنق كلما ورد اسم “الزواج” على لسان عمي.

كنت أعرف أنه لا يقصد بي إلا الصفقة، إلا البيع، إلا أن يُسَلّمني لأول رجل من عصابته يرفع يده.

كنت أعرف أنني سأُعرى من كل شيء، من أمي، من نفسي.

أمّي

كانت ترى وتخاف،

لكنها عاجزة..

مكسورة..

تنظر إليّ أحيانًا وكأنها تعتذر عن الحياة كلها، ثم تخفض عينيها قبل أن يفضحها البكاء.

كنا نغرق معًا، لكنها كانت تخشى أن تسبح، وأنا كنت أخشى أن أموت دون محاولة.

الورقة الثامنة

وفي إحدى الليالي التي انشقّ فيها الظلام عن أصوات اشتباكٍ قريب، عاد عمي متجهمًا، غارقًا برائحة البارود والتعب.

دخل غرفته ثم ناداني بصوتٍ ملغوم.

كان صوته وحده يكفي ليعيد إليّ كل الكوابيس التي سجنتني منذ العاشرة.

ترددت لحظة عند الباب.

تساءلت:

ماذا بقي لي بعد أن سفك طفولتي؟

ماذا يمكن أن يأخذ أكثر؟

دخلت.

كان يجلس في عتمةٍ لا يضيئها إلا خيط من نور متعب.

لم يكن ينظر إليّ كطفلة، بل كشيءٍ يُسوَّق. قال لي بهدوءٍ شرس:

"غدًا.. سيأتي من سيتزوجك.

شرع الله، ولا اعتراض."

شرع الله..

كم من الجرائم تُرتكب حين يتوارى الله ويُترك الشرع بين أيدي الوحوش.

تجمدت.

شعرت كأن الأرض انكمشت حتى غدت حافة هاوية.

وعندما اقترب مني، خطوة بعد خطوة، نهض شيء في داخلي، شيء لم أعرفه من قبل. ربما هو الظل الأخير من إنسانيتي، ربما هو ما تبقى من طفلةٍ لم تمت بعد رغم كل شيء.

تراجعت.

قال غاضبًا:

"لا ترفعي عينيك عليّ هكذا والاّ!"

لكنّني

رفعت

عيني.

ثم صرخت..

صرخة خرجت من عمقٍ لم ألمسه أبدًا من قبل.

وركضت...

وركضت نحو حضن امي...

ركضت كأن الأرض تشتعل تحت قدمي، كأن صرختي كانت أول نسمة حريةٍ عرفتها.

لم أنتصر بعد.

ما زلت في بيتٍ تحكمه البنادق، وتديره الذئاب.

لكني في تلك الليلة أدركت أمرًا واحدًا، يكفي لأن يُبقيني واقفة:

إن الروح، مهما ضُيّقت عليها الجدران، تظل قادرة على أن تتمرد..

وأن تحيا...

الورقة التاسعة

لم تعد الغرفة غرفةً بعد ذلك اليوم؛ صارت كهفًا مظلمًا، وسجنًا بابه يقف على صريرٍ مرعب يمكن أن يُفتح في أي لحظة بيد رجلٍ يظن نفسه “مشتريًا” لجسدي.

كل زاوية فيها..

صارت فخًا، كل ظلّ..

احتمالًا لهجوم، وكل دقيقة..

انتظارًا لطاغٍ جديد يقتحم عالمي الصغير باسم:

الصفقة،

الشرع،

والمال.

كنت أعيش في تلك العتمة كعصفورٍ جريح، لكنه رافضٌ أن يُمدّ له أحدٌ يدًا تُقص جناحيه.

وحين دخل أولهم..

كان يجرّ أذيال رائحةٍ كريهة من التديّن المزيف، يتمتم باسم الله وهو يتنحنح كمن يتهيّأ لخطيئة يريد لها غطاءً من السماء.

لم يخجل من نظراتي، ولم يتردد لحظة.

أنا وحدي التي كنت أتردد بين الهرب والصراخ والقتال.

تجمّدت في زاوية الغرفة، أرتجف غضبًا، لا خوفًا.

قال بصوتٍ خشن:

"لقد دفعت لعمّك.. وسأصلي قبل كل شيء."

كم من الجرائم تبدأ بالصلاة حين يفقد الناس معنى الله!

قلت له، وأنا أشعر بصوتي يتحول إلى سيف:

"لكنني لم أوافق على الصفقة."

اقترب خطوة، وفي عينيه تلك الوقاحة التي تتغذى من الفوضى، وقال ببرود:

"دفعتُ.. وهذا يكفي."

أجبته، واقفةً رغم رجفة ركبتي:

"اخرج الآن.. لن تلمسني إلا على جثّتي."

ابتسم ابتسامة مستترة بالسخرية:

"ليس هناك وقت للجدال.. ولم أكن الوحيد الذي سيدخل هذه الغرفة."

كانت تلك اللحظة شرارة.

اندفعت نحو الباب بكل ما بقي في جسدي من قوة، لكنّه كان أسرع، قبض على ذراعي بقوة ذئب، ثم ضرب ظهري بمقبض رشاشه.

سقطتُ، غير أن القدر وضع بجانبي أحد الكراسي الخشبية.

أمسكت قائمته بكلتا يديّ، وصرخت صرخةً خرجت من أعماق السنوات التي سرقوها مني، ثم هويتُ بالكرسي عليه.

لم يكن يتوقع أن تنهض صبية مكسورة في وجهه.

ترنّح، ثم انقضّ كحيوان يُدرك أن فريسته قاومته.

التقط الكرسي من يدي، رفعه عاليًا ثم هشّمه على كتفي وظهري، تتناثر أجزاؤه في الغرفة كأنها شظايا من حياةٍ تتكسر.

الألم لم يشلّني، بل أشعل شيئًا داخلي.

شيء يشبه صمود شجرةٍ ضربتها العاصفة فلم تنحنِ.

ثارت ثائرته، وراح يضربني بعقب الرشاش على رأسي، مرارًا، وهو يصرخ:

"ستطيعن! غصبًا!"

لم أُطع.

لم أصرخ طلبًا للنجاة، بل صرخت لأردّه عني.

وعندما سقطت إحدى شظايا الكرسي قرب يدي، قبضت عليها، ونهضت مترنّحة، كأنّي أنهض بآخر قطرة كرامة تسري في عروقي.

وباغتّه بضربةٍ على زند ذراعه.

صرخ، ثم استدار وصفعني صفعةً كادت تخلع روحي من جسدي، وأسقطني أرضًا.

انقضّ عليّ بعدها بوحشيةٍ عمياء، يفترسني وكأنه ينتقم لرجولته التي هزمتها فتاةٌ، لم يتوقع مقاومتها.

لم يكن في ضرباته سوى الحقد، ولا في أنفاسه سوى الغلّ.

وحين انتهى من وحشيته، بصق على وجهي..

بصقة كانت أقسى من الضرب.

ثم خرج، يصرخ ويشتم، كأنه هو من تعرّض للظلم.

تركني جثةً ممدودة، نصف واعية، نصف طافية فوق الألم.

كنت أشعر بدمي يسيل على الأرض، بدقات قلبي تتثاقل، وبجسدي كأنه ليس لي.

أضربت عن الطعام والشراب، حتى أمّي..

لم أعد أريد رؤيتها.

ليس لأنها مذنبة، بل لأنها عاجزة، ولأن عينيها حين تلمحانني تحملان ألمًا لا أحتمله.

لم تمرّ سوى ساعات، حتى فُتح الباب مرة أخرى..

صوت ثقيل، خطوات خشنة، ظل رجل آخر يملأ المكان. لم أعد أميّز الوجوه، صرت أرى كل رجل وحشًا بوجهٍ واحد.

حاولت أن أصرخ، لكن الصوت خرج خافتًا، كأن حنجرتي ترفض العودة للحياة.

حاولت أن أزحف بعيدًا، لكن جسدي لم يعد يستجيب. شعرت ببرودة المكان تحاصرني، ثم عتمة ثقيلة طاشت فوق رأسي.

لم أعرف كم اجتمع حولي من الذئاب.

كانوا يتداولون الغرفة كأنها مسرح مُظلم يُعاد فيه المشهد نفسه، وأنا جثةٌ لا تقاوم إلا بعينيّ حين تفتحان لثوانٍ وتحدّقان فيهم بحقدٍ يرفض الموت.

كنت أرى فيهم ذئاب مفترسة، تأكل فتاةً مرمية على حافة الحياة.

لم أصحُ إلا على صوت أمّي وهي تبكي وتصرخ:

"حياة.. حياة! تنزف..

بُنيّتي تنزف! ..

يمكن أنها ماتت!"

لكنني لم أمت.

كنت معلَّقة بين الحياة والموت، لكن شيئًا داخلي ــ ككل مرة ــ رفض أن يستسلم.

كانت روحي، رغم كل ما جرى، تُمسك بي وانا اتدلى من حافة الهاوية وتقول:

اصمدي.. لم يبقَ إلا أنتِ لكِ.

ورغم أن الجسد كان منكسرًا، كانت الإرادة ما تزال، كجمرةٍ صغيرة في عمق الركام، ترفض أن تنطفئ.

الورقة العاشرة والأخيرة

لم تكن الورقة العاشرة شبيهةً بأخواتها.

لم تكن مشغولة بالسطور، ولا ممهورة بجملٍ تفيض وجعًا كما اعتدتُ.

كانت ورقةً مجعدة، متعبة، كأنها جسد حياة نفسها وقد انكمش من فرط ما تحمّل.

لم تُطوَ بعناية كغيرها، ولم تُرتَّب في الحرز بحرص يدٍ تعرف الخوف.

كانت منفلتة،

منفردة،

تتقدم الأوراق وكأنها تريد أن تُرى أولًا، أو تُقرأ أخيرًا.

كانت الورقة خالية من الكلمات..

إلا من بصمة.

بصمة إبهامٍ صغيرة مغموسة بدمٍ لم يجف.

كانت حمراء قاتمة،

منطبعة على الصفحة البيضاء كختمٍ نهائي،

كصرخةٍ لا تحتاج إلى حروف.

وقفتُ أمامها طويلًا..

أحسست أن حياة، حين وضعت إصبعها على الصفحة، لم تكن تسجل حضورًا عابرًا، بل كانت تجمع في تلك اللمسة خلاصة عمرها القصير، تختصر كل ما كُتب قبلها، وتشهد على ما لم تستطع قوله.

كانت الورقة، رغم فراغها، صاخبة كأنّ عليها صدى كل الليالي التي صرخت فيها ولا أحد سمع او استجاب، وكل محاولات المقاومة التي خاضتها بجسدٍ صغير وروحٍ كبيرة، لم تفشل في تؤكيد جراءتها ومقاومتها وعزة نفسها.

ربما لم تعد حياة قادرة على الكتابة في لحظتها الأخيرة.

ربما كانت يداها ترتجفان من النزف، أو ربما كانت عيناها تفقدان الضوء، فجعلت الدم حبرًا أخيرًا لخبر أخير..

وربما..

ربما أرادت أن تقول ما لا تحتمله الكلمات، ولا تستوعبه اللغة.

كانت البصمة،

وحدها كافية..

لتفتح أمامي أبواب المعنى.

أول ما خُيّل إليّ أن حياة لم ترد أن تكون ضحية صامتة تُطوى أوراقها وتُنسى.

كانت تريد أن تترك جزءًا منها، قطعةً من دمها، من لحمها، من حقيقتها، كشاهدٍ لا يُكذّب. ولعلّها أرادت أن تُثبت للعالم أنّ ما جرى لها ليس خيالًا ولا مبالغة.

الدم وحده

لا يكذب.

ثم خطر لي أنها ربما أرادت شيئًا آخر. كأنها تقول:

“أنا هنا.. كنت هنا.. ولن يستطيع أحدٌ محوي.”

كانت تلك البصمة أشبه بصرخة انتصار أخيرة. ليس انتصارًا بمعناه الظاهر، الملموس.

لقد كانت حياة في لحظاتها الأخيرة، منهكة جسدًا وروحًا، لكن انتصارًا من نوع آخر، انتصار الروح التي ترفض الاستسلام حتى وإن انكسرت العظام وتخاذلت العضلات.

كلما حدّقتُ في الورقة، شعرت أن حياة لم تكتب للشفقة، ولا لطلب الرحمة، ولا لتسجيل مصير مأساوي.

كانت رسالتها صلبة، حادة، تشبه حدّ السكين الذي يقطع الظلام.

كانت رسالة لكل فتاةٍ اغتُصبت، ولكل جسدٍ حاول أحدهم أن يدوس عليه، ولكل طفلٍ ظنّ أن العالم بلا سماوات.

كانت تقول:

“ليس الخطأ فيكِ.. ولا الخطيئة لكِ.. ولا العار يسكن جسدكِ، بل يسكن أيدي من اعتدى عليك. قاومي.. ولو لم يبقَ منكِ إلا نفسٌ واحد.”

لم تكن حياة تحلم بالنجاة وحدها. كانت تحلم بالمعنى.

كانت تريد أن تُثبت أن المقاومة ليست حكرًا على الأقوياء، وأن الضعف نفسه يمكن أن يتحول إلى سلاح حين يرفض الانكسار.

عندما كانت تقاوم عمها والرجال الذين اقتحموا غرفتها واحدًا تلو الآخر، لم يكن لديها سلاح سوى جسدٍ مثخن وجدارٍ تتكئ عليه، وامل يتراءى بصيصه في البعيد.

ومع ذلك قاومت، قاومت حتى انفجرت حياتها كالشرارة الأخيرة في ليلٍ طويل.

ولأنها..

لم تستطع أن تكتب جملتها الختامية،

تركت دمها يقولها عنها.

الدم الأكثر صدقًا من الكلمات،

والأكثر قدرةً على البقاء.

الكلام قد يُزوَّر، وقد يُمحى، لكن الدم حين يجف على الورق يبقى أثره لا يُمحى إلا باحتراق الورقة كلها.

ولم تكن حياة، في تلك اللحظة، تفكر بالذين قتلوها، ولا بعمها الذي باعها، ولا بالرجال الذين ظنوا أنهم سيغسلون خطاياهم بالصلاة. كانت تفكر بمن سيأتي بعدها.

بالفتاة التي ستقرأ أوراقها ذات يوم، في غرفةٍ صغيرةٍ مشابهة، ربما مختبئة، ربما جريحة، وربما تحاول أن تفهم لماذا يُعامل العالم الأجساد الضعيفة كغنائم.

كانت حياة تقول لها:

“اكتبي..

قاومي..

اصرخي..

اتركي أثرًا...

لا تبقي سجينة لأحد.”

ولعلّ دمها، حين صبغ الورقة، لم يكن شهادة موت، بل شهادة حياة. كأنها تقول:

"جسدي رحل..

لكن قصتي تبدأ الآن".

أدركت وأنا أتأمل البصمة أن حياة لم تكن تبحث عن الخلاص، بل عن الخلود.

أرادت أن تُخلد لا كنبيه ولا كبطلة،

بل كصوتٍ انكسر ولم ينطفئ،

كجرسٍ خفيفٍ يدق في الظلام ليهدي غيره للطريق.

ولم تكن الورقة العاشرة مجرد نهاية لسردها، بل كانت بداية لرسالة لا تُقال، بل تُفهم.

ورغم أن الكلمات غابت عنها،

بقيت الورقة الأكثر امتلاءً بين كل الأوراق..

لأن الفراغ، حين يُخَتَم بالدم،

يتحول إلى صرخة كاملة.

وها أنا اليوم أقف أمام تلك الورقة الأخيرة، كأنني على تخوم حياتين:

حياةٌ رحلت، وحياةٌ أخرى تُولد من رمادها.

كلما تأملتُ البصمة الممهورة بدمها، شعرت أن حياة، في لحظتها الأخيرة، لم تكن تموت.. بل كانت ترفع إليّ وهجًا أثقل من الروح وأبهى من البقاء.

كانت تُسلّمني وصيتها الأعمق، شيئًا أكبر من جسدها المكسور وأوسع من سنواتها القليلة. كانت تمنح كل فتاةٍ اغتُصبت صوتًا، وكل امرأةٍ قُهرت جناحين، وكل طفلةٍ ارتجفت خلف بابٍ مغلق نافذةً صغيرة على الضوء.

لم تكن حياة تطلب النجدة يوم عانقت الموت، بل كانت تطلب الشهادة، أن يجد ظلمها من يروي تفاصيله، وأن تجد صرختها من يحفظ صداها.

وكانت البصمة وحدها، فوق صفحةٍ فارغة، كافية لأن تُسمِع العالم أجمع ما لم تستطع حروفٌ كثيرة قوله.

حين أطبقتُ أصابعي على الحرز الذي تركته لديّ، انطلقت دموعي بلا إرادة، دموعٌ ساخنة حملت كل ما شهدته في تلك الليالي التي كانت فيها مريضتي، وكل ما عرفته عن قلبها الشجاع الذي كان يخفق رغم الانكسار، وعن ذلك اليقين المرير الذي كان يسكن عينيها كمن يتوقع نهايته ويقرأ الغيب في تضاريس مصيره.

أتذكرها في أواخر أيامها حين همست لي بصوتٍ أرهقه النزف:

"إذا لم أخرج من هنا..

خبري عني

أنّي قاومت".

كانت تعرف..

كانت تستشعر أن النهاية أقرب من أي دواء، وأن يد الموت تمتد لها من خلف الباب، ومع ذلك لم تسأل عن نفسها، بل عن قصتها؛ عن تلك الأوراق العشر التي خبأتها بقلقٍ يليق بالأسرار، كأنها تخشى أن تُسرق حكايتها مرة أخرى كما سُرق منها حقّها في الحياة.

ولم أفهم سرّ إصرارها إلا الآن، لحظة وقوفي أمام وصيتها، لحظة شعوري بأن دمها على الورقة ليس علامة موت، بل توقيع حياةٍ جديدة تُولد من جسدها الغائب.

لوهلةٍ شعرت أن حياة لم تكن تكتب لنفسها، بل لكل من تم تجاهل أنينها وخنق صوتها ودفنت مأساتها في صمت البيوت.

فما حدث لها ليس قصة تُروى للدهشة، ولا مأساة فردية تنتهي بآخر صفحة.

ما جرى لحياة يمكن أن يحدث كل يوم، خلف جدران لا نرى خلفها، في غرفٍ مغلقة لا تسمع العالم، وفي بيوتٍ تُطفأ فيها الأرواح كما تُطفأ المصابيح عند آخر الليل.

حياة ليست استثناءً؛ إنها مرآة لآلاف الأجساد التي تُعذَّب بلا صوت، وعشرات الأرواح التي تُزهق بلا اسم، وأحلامٍ تُقمع بلا جنازة.

ولذلك، حين أكملت العشر ورقات، شعرت أنني لا أغلق قصة، بل أفتح عهدًا.

عهدًا أعقده مع فتاةٍ غابت جسدًا وبقيت أثرًا، أن قصتها لن تُدفن معها؛ أن صمتها لن يُبتلع مرة أخرى.

يا حياة:

أعدك

أنّي سأكتب قصتك كما أردتِ،

صدقًا بلا رتوش،

وعمقًا بلا تزييف،

وقسوةً كما كانت.

سأكتبها لتكون صرخة، لا أنينًا. نارًا، لا دموعًا.

وسأضعها أمام العالم كما هي:

حقيقةً لا خيالًا، قدرًا لا مبالغة، وجعًا يحدث كل يوم ولا يلتفت إليه أحد.

سأكتبكِ...

لأنك تستحقين أن تُكتبين.

وسأنشركِ...

لأن العالم يحتاج أن يرى ما يختبئ خلف أبواب مغلقة، وما يُرتكب في العتمة باسم العيب والخوف والصمت.

وسأخلّدكِ..

لا كمأساة تبكيها العيون ثم تنساها، بل كقوة. كجسدٍ قاوم حتى آخر نفس، كروحٍ رفضت الإنطفاء، كفتاةٍ علمتني أنّ الدم حين يختلط بالحقيقة يصبح شهادة لا تُمحى.

ها أنا، اليوم:

أكتب ..

اكتب، ليست نهاية حياة.

إنها بداية الصرخة التي تركتها خلفها.

بهذه البصمة..

بهذه الورقة الفارغة التي امتلأت بدمها..

بهذه الوصية التي سلّمتني إياها وهي تعبر من عالمٍ إلى آخر..

أعلن أن حياة لن تُنسى.

ولن تُدفن قصتها.

وما دامت كلماتها قد وصلت إليّ، فسأجعلها تصل إلى العالم كله.

سلامٌ لروحك يا حياة.

سلامٌ لدمك الذي صار حبرًا.

سلامٌ لصرختك التي تحولت رسالة.

وليعلم الجميع..

أن حياة...

وإن رحلت،

قد تركت أثرًا لا يزول.

***

سعاد الراعي - المانيا

عيونٌ كثيرةٌ

لكنّ التي تبصرُ الحياةَ

أضعفُ من شهقةِ موت!

2

لم يُصدق النخيلُ

كلُ هذا الرطب

والعراقيون في أفواهِهم

مرارةُ الكراسي !

3

شوقي يمدُّ النورَ

بالنبضِ يكتبهْ

وأنتِ كما أنتِ

سماءٌ غائبهْ

4

وحيدٌ ..مثل حرفِ جرٍ

لم يتورطْ بجملٍ خائنة

5

كبرت الفكرةُ ــ ثم انفجرت

صارَ العصفورُ طريقا

والكلماتُ حجر.

6

في الليلِ

يكونُ المنفى رملًا

والسريرُ عواصفَ تبكي.

7

حينَ يرحلُ المكانُ

يتركُ أثوابًا في الرأسِ

تسرقُ منهُ الجنةَ.

8

لم يكنْ طلقةً

بل كانَ نظرةَ طفلٍ يتيم.

9

لا زمانَ للحلم

لا مكانَ للحلم

أصابعُكَ أُغنيةٌ

أيُّها الواقفُ هناك.

10

أيُّها الجالسُ

في نهايةِ العشقِ

دقت النهايةُ

وما زلتَ تبحثُ عن حرفٍ

أصبحَ شيخًا.

11

ما أتعسَ تلك العاشقة

تغزلُ همسَ تأملِها

لتنامَ على بساطِ البردِ..

بساطٌ يغزلُها

في همسِ تأملِهِ.

12

أنا شعرُها المُشاكسُ

يحملُني قلمي

كي يكتبَ عنها.

***

حسن رحيم الخرساني ـ السويد

ليس عندي

يا سؤالي

إلّاها

أسمْالي!

أسمْالي: رأسُ مالي...

يا سؤالي:

لا تَخَفْ أو تُخِفْ ودعْ:

(دع عنكَ  نَهْبًا صِيحَ في حُجُراته)...

نحنُ أبناء بني تَغْلُبَ إذا

(بلغَ الفطامَ لنا صَبيٌّ)...

يا سؤالي:

هات ردًّا يا سؤالي

لا يهولنّكَ هذا التعالي...

هذه الأحجام طُرًا محضُ وهمٍ

وخيالِ...

يا سؤالي:

لن يبلغوا منّي ولا عُجْبًا

أو غرورًا...

لن يبلغوا منّي

حُذْوةً من نعالي...

يا سؤالي:

أولسنا أهلَ حقٍ؟

فإذن لا تبالِ...

لا نبالي...

***

د. لطيف القصاب

 

في حضرةِ الألمِ العتيد تمزقت

وتبعثرتْ روحي كطيفٍ مبهمِ

*

خلعتْ يدايَ مسافريها مُذ رأتْ

ليلَ الأسى يمضي بِقلبي المُعتمِ

*

ومشيتُ حتى بانَ ظلّي في الدجى

وتهدّلتْ لغتي وضاعت في فمي

*

لا الحرفُ يُنقذُني، ولا صوتُ الندى

يشفي الجراحَ إذا تنامَت في دَمي

*

في حضرةِ الألمِ ارتديتُ تأمّلي

وتركتُ صوتي بين قبو مظلمِ

*

ومشيتُ نحو الليلِ وحدي هائمًا

أستفهمُ الظلماتِ عن وجهي الضّمي

*

سقطتْ ممالكي، وتاهتْ خطوتي

واختلَّ ميزانُ الشعورِ المُبهَمِ

*

كلُّ الحياةِ تحوّلتْ في ومضةٍ

لرؤىً تفرُّ من العيونِ وتسقمِ

*

يا من تُؤرّقني، وتقضي مضجعي

ما بينَ اجهارٍ وصمت محكمِ

*

هل كنتِ طيفا؟ أم شهابًا عابرًا؟

شقَّ الظلامَ ولم يُفارقْ أنجُمي

*

لكنني رغمَ انطفاءِ قصائدي

رغمَ انكساري رغم ذاك الألمِ

*

ما زلتُ أرجو من شتاتي لحظةً

تُحيي الفؤاد وتستفزُّ الأبكمِ

*

فانهضْ، وكنْ مثلَ الجبالِ شامخا

واصنع منَ اليأس طريقَ المُلهِمِ

*

واكتبْ على الجرحِ العتيقِ بلهفة:

من ها هنا كان.. انبثاق الحلمِ

***

جليل إبراهيم المندلاوي

بعد أن غسّلوه كفّنوه، ثم حملوا النعش بخفة إلى مسجد الحي للصلاة عليه. كبّروا أربع تكبيرات، تخللهن دعاء بأن الحاج يستحق من ربه ما لاعين رأت ولا أذن سمعت. وعلى الأكتاف مرة أخرى سارت به جموع المصلين إلى حفرته وديدانه، وما قدم في صحيفة أعماله.

تعشوا عشاء المفارق لخليله. بين اللقمة والأخرى تنهيدة واستغفار، وتحذير للعباد من الوثوق بدنيا بنت كلب. رددوا آمين بينما آذانهم تسترق السمع لهذا اللغط المتزايد في حجرة أخرى. لعلها قريبة تبدي لوعة الفراق، وتذكر محاسن الفقيد. بدا صوت ابنه البكر واضحا وهو يؤكد أن الوصية بخط يد المرحوم، لا شك في ذلك، لكنه لن ينفذ منها شيئا ولو على رقبته.

بعد أن تعشوا سار كل منهم إلى حال سبيله وهو يترقب انبلاج الصبح. خبر كهذا قد يصيب الحومة بالأرق، فنصف دورها من عرق الحاج وكدحه في الغربة. مربع سكني صار يعرف باسمه في مكاتب المقاطعة، ويلهج السماسرة بالثناء على ولد "ماما" الذي حل أزمة الكراء في ثلث البلدة، والسعيد من جاور دار الحاج العامرة.

إلى جوارهم طوت ماما عقدين من عمرها دون مشاكل. وحين أظهر رجولته يوما بركوب البحر إلى بلاد الصبليون، طمأنوه بأنهم الأهل والكنف إلى أن تستقر أحواله. يعانقها وتودعه كل صيف، لكنها تأبى غربة ثانية في بلاد لايعرفون الوضوء ولا القِبلة. يرجوها وترجوه ثم يفترقان. وفي عامه الثامن كان للحي الذي يوشك أن يتداعى، قصة أخرى مع ولد ماما.

أظهروا تأففهم من رزمة الأوراق التي يتأبطها ابنه البكر، متنقلا بين القيادة وسرية الدرك الملكي. عش نهار تسمع اخبار. وما هي إلا ساعات حتى ولجوا مقر الدرك للرد على اتهام بتزوير عقود كراء طويلة الأمد. تنهيدة واستغفار، ثم تنديد بقبح العالم الذي أخرج من ظهر الحاج فاسقا.

- هذا رزقكم، قال الحاج مصرا على أن يحضروا يومها إلى مكتب العدول. سومة كراء رمزية للأحباب الذين آنسوا وحشة "ماما"، وملأوا عليها الدار في غيابه. عليهم أن يكرموا جميله بالوقوف في وجه الورثة. تزوير؟ ألهذا الحد ترخص العِشرة والمودة؟ تريكة الصبليون، لا دين ولا مروءة. ارتسمت على شفاههم ابتسامة وهم يذكرون سخرية الحاج من حفاظات صغارهم:

- يحمل أحدهم غائطه، أعزكم الله، طوال اليوم حتى ترجع أمه من العمل. لاتسأل عن الروائح التي تحبس أنفاسك عند مدخل الزقاق، بينما يتمايل في مشيته كذكر البط.

انفجرت ضحكاتهم وهم يتخيلون ابنه البكر يلج مكتب القائد ليعطر المكان. استخرج كل واحد عقد الكراء وهو يتحقق للمرة العاشرة من توقيع الحاج. نعم إنه هو دون شك. ناموا ليلتها كالعائد من رحلة صيد، وفي الصباح كان اللغط يتزايد في ردهة المحكمة. تنهيدة واستغفار ثم جولة أخرى بين الحق والباطل.وعلى إبرة الميزان انتصب العدل معلنا بطلان الطعن في عقودهم.

عادوا وقد انكسر شيء بداخلهم. لايملك المرء إلا الحيرة أمام ما يُخلفه العدل من ندوب لا تشفى. حتى وإن كانت البيوت رزقهم فلن تعوض شيئا من لحظات السعادة التي عاشوها مع ماما. تبا لجيل لا يرى في الحياة غير صفقة. يرحل الطيبون ليستحوذ الشيطان على ما خلّفوه من غبار الذكريات.

انصرمت أسابيع قبل أن يتودد إليهم. حدثهم عن الديون التي خلّفتها مشاريع لم يكتب لها النجاح في العاصمة، بينما ارتسمت على وجهه ملامح غريق. ترحّم على الحاج الذي لازالت أفضاله تغمر الجميع فانتفضوا: أنت لا تعرف شيئا عن العِشرة وملح الطعام. كأنك اليأس يطرق باب الرجاء، فلا داعي لأن تخمش كالقطط وجه الحقيقة.

بدا عليه الضيق وهو يخطّ على ورقة صغيرة رقم حسابه البنكي. لم يبق في البلدة ما يغريه بالبقاء. سيقيم بالعاصمة ليلاحق فرصة أخرى تعوض ما خسره. يمكنهم إيداع مبالغ الكراء دون الحاجة لقدومه. دنيا بنت كلب، تمد لأحدهم طرف خيط وتوهمه أن السعادة في الطرف الآخر، فتنطفئ أيامه وهو يلهث خلفها. تنهيدة واستغفار، ثم تنديد بأرواح هائمة في دروب الغفلة والضياع.

***

حميد بن خيبش

 

مثنوياتٌ ورباعياتٌ عربية ..

رأيتُ سفينةَ خمرٍ بِعُرض المحيطْ

وقبطانها مدمنٌ مجرمُ

وطاقمها أخرسٌ أبكمُ

وموجٌ عنيفٌ بجدرانِها يلطمُ

**

الطيورُ اختفتْ حينَ هبَّتْ رياحْ

أدركتْ انَّ أظلمَ ليلٍ سيجلبُهُ اليومَ هذا الصباحْ

**

القناديلُ أرهقَها الليلُ حتى الذبالهْ

ولكنَّها تُدمنُ الضوءَ حتى الثمالهْ

**

نريدُ الفؤادَ الشجاعَ لكي يستمرَ الهوى

ونمضي الى الفاتناتِ قصائدْ

ونكتبُ بالماءِ شِعراً يُحيلُ النوى

وصالاً يرتِّبُ مِن ثمرِ الحُبِّ أحلى الموائدْ

**

تعالوا هنا فالموانئُ مجدبةٌ والجهاتْ

ظلامٌ، لأنَّ الرجاءَ خبا في عيونِ البناتْ

**

الدُمى في جيوبِ الرجالْ

والهتافُ الى الجوِّ طائرْ

فما سرُّ يُخفى وراءَ الستائرْ

وقدْ أحضرَ القادمونَ الحِبالْ

***

شعر: كريم الأسدي - العراق

 

(أسفارُ الماءِ في ظِلِّ الرُّوحِ)

أَمْضِي إِلَيْكِ بِثَبَاتٍ، وَكُلُّ نَافِذَةٍ

تُبْكِي شَكَايَا النَّهَارِ عَلَى فَمِ الشَّجَرْ،

وَيَفِيضُ مِنْ كَفِّ الغِيَابِ عَلَى يَدَيَّ

رَحِيقُ ظِلَالٍ تُرَدِّدُ مَا انْطَفَى،

وَتُذَكِّرُ النَّاسَ بِالأَمْسِ البَعِيدِ

2

وَيَمِيلُ لَيْلٌ كَانَ يَحْرُسُ خُطْوَتِي،

وَيَفُكُّ عَنْ قَلْبِي مَفَاتِيحَ السَّفَرْ،

وَيُعِيدُ مِنْ نَبْضِي حِكَايَةَ مُهْجَةٍ

ضَلَّتْ، فَنَادَتْ ضَوْءَهَا يَوْمًا ظَهَرْ

3

وَيَمُدُّ فِي صَدْرِي الظَّلِيلَ نَدَاهُ،

حِينَ ارْتَوَى قَلْبِي، وَبَاحَتْ سِرَّهُ،

وَتُفِيقُ مِنْ لَحْنِ الغِيَابِ حَكَايَةٌ

كَانَتْ تُخَبِّئُ فِي النُّشُورِ قَدَرَهَا

4

أَمْضِي إِلَيْكِ بِثَبَاتٍ،

وَفِي ظِلَالِكِ تَفْتَحُ الأَنْهَارُ أَسْئِلَةً،

وَيُشْعِلُ جَفْنُكِ المَطَرَ الأَخِيرَ

عَلَى جِرَاحِ المُنْتَظَرِ، فَتَنْزَوِي

5

وَيَجِيءُ مِنْ عَيْنِ السَّمَاءِ مَسَافِرٌ

يَرْفُو خُطَايَ إِذَا تَبَدَّدَ نُورُهَا،

وَأَرَى فِي الأَفْقِ البَعِيدِ مَآذِنًا

تَتْلُو هُدُوءَ الرِّيحِ، تَرْعَى سِرَّهَا

6

وَأَمْضِي بِصَمْتٍ،

فَيَصْعَدُ فِي دَمِي وَجَعٌ

كَالنُّورِ يَخْرُجُ مِنْ جِرَاحِ المُنْحَدَرْ،

وَيَعُودُ صَوْتُكِ فِي دَمِي مُتَأَلِّقًا

كَالوَتَرِ يَبْتَغِي غِنَاءَهُ إِذِ انْحَدَرْ،

وَتُفَاجِئُ الرُّوحَ ارْتِعَاشَةُ نَفْسِهَا

حِينَ ارْتَفَعْنَا فَوْقَ أَوْهَامِ البَشَرْ

7

هٰذَا السَّفَرُ الطَّوِيلُ

يَسْتَخْرِجُ الأَحْلَامَ مِنْ أَعْمَاقِنَا،

وَيُعِيدُ لِلرُّوحِ انْفِعَالَ شُعُورِهَا،

حَتَّى إِذَا اخْضَرَّ المَدَى فِي نَبْضِنَا،

قَامَتْ غُيُومٌ تَسْتَبِيحُ حُضُورَهَا

8

وَأَمْضِي بِثَقَةٍ،

وَحَتَّى الرَّمْلُ يَحْمِلُ خُطَايَ

كَأَنَّهُ اعْتِذَارٌ ضَاعَ فِي تَرَنُّحِي،

وَحَدَائِقُ القَمَرِ المُضَرَّجِ تُدَوِّي

بِأَنَاشِيدِ الحَنِينِ وَالسُّوَرْ

9

كَمْ كَانَ فِي عَيْنَيْكِ مَاءٌ يُوقِظُنِي

إِذْ جَفَّ فِي صَدْرِي البَقَايَا وَانْحَسَرْ،

قَدْ كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْكِ فِي خُطُوَاتِ مَا

ضَاعَتْ، وَرَجَّعَ صَوْتَهَا شَيْءٌ سُمِرْ،

قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُقِيمَ سَمَاؤُنَا

سَفَرًا يُعِيدُ إِلَى النُّجُومِ مَنِ انْحَدَرْ

10

يَا لَيْلُ، يَا صَهْدَ السِّنِينَ الطَّوِيلِ،

تَمَدَّدَتْ فِي صَدْرِي الغُيُومُ،

فَصِرْتُ غَيْمَةً أُخْرَى،

وَصَارَتْ رُوحِيَ الخَضْرَاءُ تُرَتِّلُ دَمْعَهَا

وَتَرِفُّ كَالنُّجُومِ المُشْرِقَاتِ إِذَا دَجَى،

وَتُصْغِي لِلْوَتَرْ

11

يَا غَيْمَةً خَضْرَاءَ، يَا نَفْسًا

يَصْعَدْ كَأَنَّ ضِيَاءَهُ مِنْ رُوحِنَا انْفَجَرْ،

إِنِّي أَرَى سِرًّا يُلَوِّحُ فِي يَدَيْكِ، فَهَلْ

أَخْفَيْتِ مِنْ وَقْتِ المَحَبَّةِ مَا سَطَرْ؟

إِنِّي سَمِعْتُ خُطَى المَدَى تَتَفَتَّحُ

كَيْ يَرْفَعَ الحُزْنَ الَّذِي فِينَا اسْتَقَرْ

12

لَوْ كُنْتِ لِي دُونَ النَّاسِ،

لَخَبَا التَّبَثُّرُ فِي دَمِي،

وَلَصِرْتُ وَجْهًا يَسْتَعِيدُ نُشُوءَهُ،

وَأَمْطَرَتْ فِي يَدَيْكِ تَفَاؤُلَهْ

يَمْشِي عَلَى كَتِفِ القَدَرْ

**

الكودَا

وَيَعُودُ مِنْ رِحْلِي نَشِيدٌ آخَرُ،

يَرْفَعُ فِي دَمِي الضِّيَاءَ إِذَا حَضَرْ،

فَأُرَتِّلُ الأَحْلَامَ فِي رِئَتَيَّ،

وَأَمْشِي فِي غَيْمِكِ سَاكِنًا

حَتَّى يَسْكُنَ الوَتَرْ

***

د. سعد غلام

 

لم يكن في القرية شيء يستحق أن يُروى فالبيوت متقاربة كأنها تتّخذ من بعضها سنداً كي لا تسقط والطرقات ترابية يمرّ عليها الزمن كعادته… ببطءٍ ثقيل ولكنّ الليل، في تلك البقعة كان يملك لغته الخاصة، لغـةً لا يسمعها إلا من وُلد بقلبٍ لم يُطفئه التعب.

سالم كان واحداً منهم

منذ صغره كان مختلفاً، يبقى مستيقظاً حين ينام الجميع يفتح نافذة غرفته الطينية ويحدّق في الحقول التي تحوّلها العتمة إلى بحارٍ سوداء وكان يشعر بأن الليل ليس ظلاماً فقط… بل كياناً يتنفّس، ينتظر من يقترب منه.

وفي إحدى الليالي، قبل سنوات، سمع سالم الصوت لأول مرة وكان خفيفاً، مثل دقاتٍ بعيدة على جدارٍ مكسور، ثم صار أعمق… كأنّ أحداً يُزاحم الهواء ليصل إليه ولم يخبر أحداً فهو يعرف أنّ القرية لا تؤمن إلا بما تراه. وما لا تراه… تنكره وتخافه.

مرّت الأيام، والصوت يقترب شيئاً فشيئاً حتى صار يوقظه كأنّ أحداً يهزّ كتفه برفق.

كان يقول له: "اسمعني…"

دون أن ينطق حرفاً واحداً.

وسالم يسمع… ولا يجرؤ على الرد.

في تلك الليلة التي تغيّرت فيها حياته، كان القمر مختفياً، والهواء بارداً يلامس عظامه. جلس كعادته قرب النافذة، ولكن الصوت لم يكن خارجاً هذه المرة من الظلام وكان يأتي من داخله… من أعماق صدره، من مكانٍ لم يعرف أنه موجود.

وفجأة، أحسّ أن البيت ضاق والجدران تقترب والسقف ينخفض.

فنهض، وخرج دون أن يلتفت واتجه نحو الساقية القديمة. كانت جافة منذ عشر سنوات، تحوّلت إلى شقّ في الأرض تجمع فيه أوراق الخريف وغبار الصيف ومع ذلك… كان يشعر بأنها لم تمت تماماً وكانت تنتظر شيئاً.

وحين وصل، رأى الظلّ لم يكن رجلاً، ولا شبحاً، ولا شيئاً يسهل وصفه كان شكلاً يتحرّك، كأنّ الليل قرّر أن يصنع جسداً من نفسه ولم يشعر سالم بالخوف أولاً؛ شعر بالدهشة، بالرهبة بشيءٍ يشبه الاعتراف.

قال الظلّ بصوتٍ لا يُسمع بالأذن بل بالقلب:

"تأخرتَ يا سالم."

ارتجف جسده وحاول أن يتكلم، لكن الكلمات علقت في حلقه.

تابع الظلّ:

"أعرف صمتك… أعرف صوتك الذي تخبئه منذ سنوات أعرف الحكاية التي لم تجرؤ على قولها."

تراجع سالم خطوة.

اقترب الظلّ خطوة أخرى.

"كل الناس يخافون أصواتهم يا سالم… أنت لست وحدك."

قال سالم بصوتٍ خافت:

“من أنت ؟”

أجاب الظلّ:

"أنا ما لم تقله… وما كان يجب أن تقوله."

شعر سالم كأنّ أحداً فتح باباً في داخله. تذكّر كلّ شيء:

تذكّر وجه أبيه حين كان يصرخ فيه: “اخرس !”

تذكّر المرات التي أراد فيها أن يدافع عن نفسه ولم يستطع.

تذكّر الأحلام الصغيرة التي وئدت قبل أن تكبر.

تذكّر الظلم الذي شاهده وسكت عنه وتذكّر صوته… الذي لم يسمعه أحد.

قال الظلّ بنبرة حادة:

"هل تريد أن يسمعك العالم ؟"

نعم… أراد ذلك وأراد أن ينطق بكل ما كتمه بكل ما ابتلعه خوفاً.

قال:

“أريد… أريد أن يسمعني أحد.”

ابتسم الظلّ، وكانت الابتسامة كشقٍّ في العتمة.

"إذن… أعطني صوتك."

مدّ يدَه وكانت يداً ليست من لحمٍ ولا من نور… شيئاً بينهما.

وضع سالم يده في يده دون أن يفكر.

وفجأة… شعر ببرودةٍ تضرب حلقه.

كأن شيئاً يُنتزع منه.

كأنّ صوته يتحوّل إلى دخان… يتصاعد… ثم يختفي.

حاول أن يصرخ، فلم يجد صوته.

حاول أن يهتف، فلم تخرج ولو همسة.

كان الشيء الذي أدخله الظلّ في جسده أكبر من الكلمات.

كان يحدث داخله زلزالاً… يهدم شيئاً ويبني شيئاً آخر.

وحين فتحت عيناه، كان الظلّ قد اختفى…

وكأنّه لم يكن يوماً.

عاد سالم إلى بيته.

فتحت أمّه الباب، وقالت بقلق:

“وين كنت ؟!”

فتح فمه ليرد…

ولا شيء.

رفع يده إلى حنجرته، كأنّ صوته عالق هناك لكنه لم يجد سوى الصمت… صمتٍ كثيفٍ يشبه حجراً.

وفي تلك الليلة، حين نامت القرية كلها، حدث شيء لم يحدث من قبل:

صوتٌ عميق خرج من الساقية الجافة.

صوتٌ يشبه صوت سالم تماماً…

لكنه ليس صوتَه.

كان الصوت يروي… يصرخ… يبكي… يحكي كلّ ما لم يقله سالم يوماً.

ومن تلك الليلة، قيل إنّ كل من مرّ قرب الساقية يسمع صوتاً يحكي حكايات لا يعرف أحد مصدرها.

حكايات عن الألم والقهر والرجال الذين فقدوا أصواتهم.

حكايات كان سالم يخفيها…

والآن أصبحت تخرج من مكانٍ آخر.

أما سالم…

فبقي ينظر من نافذته كل ليلة، يريد أن يقول شيئاً

لكن لا شيء يخرج.

فقد صوته…

وكسب الليل صوتاً جديداً

***

د. رافد القاضي

لاحت الاطيار من فوق الربا

تهزج الالحان ترجو مطلبا

*

ونسيم كان أذكى في الصبا

ذكريات بان فيها ما خبى

*

وبصرت الزهر فيها معجبا

كل بوح من قرين معجبا

*

وندي الفجر أرشى نسمه

من ندى أشفى علينا واصبا

*

غرد العصفور في أشجارها

اي تغريدة عزف طاربا

*

جنة المعبود أزجت ضرعها

ما أراد الله ما حق ربى

*

ينزل الطير فيدنو رزقه

كجموع وسم حب تصطبى

*

تسعد الاطيار في أبساقها

ضج صبحا ما ترى أن  يغربا

*

جالت الأنفاس ترجو طيفها

يا لشعري أين عمري والصبا

*

ما شفاني الحب أني متعب

ما دهاني صار عمري مركبا

*

ما عساني بعد هذا أبتغي

غير كأس من شفاه راضبا

*

ما لقيت اليوم هذا ضيعتي

ليس سرا قد أتاني مخصبا

***

د. علي جبار الاسدي

 

إسْتبشريْ خيرًا أنا الرجلُ الذي

أحْبَبتِهِ ما حِدْتُ عنهُ فَتيلا

*

واسْتغفريْ فأنا الذي فضَّلتِهِ

دينًا بحِفظيْ اللهُ كانَ كَفيلا

*

آياتُهُ ما انفكّ يتلوها الهوى

ذاكَ الذي اخْتارَ الفُؤادُ رَسولا

*

وأنا الذي أوجدْتُ قدسَكِ قِبلةً

والدّهْرُ غضٌّ يجهلُ التَّنزيلا

*

في القلبِ منكِ أقمْتُها هذا الذي

ما انفكَّ يُقصَدُ للسّماءِ دَليلا

*

فامتدَّ ذِكْرًا ظلُّها لجِوارها

والكونُ يسْمعُ حمدَهُ مَذْهولا

*

وكمِ امتَرىْ فيما رأى حتّى رأىْ

القرآنَ فيهِ يحضُنُ الإنْجيلا

*

و جرَىْ دَمي العَربيُّ فيهِ مُفصِّلًا

وجهَ السّما في وجههِ تَفْصيلا

*

فغدوتِ قُدسًا حولَ قُدسٍ عنْ ثرا

ها لستُ أقبَلُ ذي الحياة بَديلا

*

الرّوحُ روحُكِ أنتِ والقلبُ الذيْ

أنّبتهِ بكِ لمْ يزَلْ مَأْهولا

*

العينُ ذاتُ العينِ والدّمعُ الذيْ

أجْريتِهِ ما انفكَّ يَجري نيلا

*

الحرفُ ذاتُ الحرفِ والشّعرُ الذيْ

أنْطقتِهِ بكِ لمْ يزلْ مَشغولا

*

الخطوُ نحوَكِ ذاتُهُ حتّى وإنْ

شاخَ المُخلّصُ أو بدا مَعْلولا

*

الفعلُ أجْلَكِ لا لغيْركِ كلُّهُ

أُعْربتُ فاعلَهُ أمِ المفْعولا

*

والطّينُ طينُكِ هلْ نسيتِ بأنّني

مِنهُ ابْتُدِعْتُ مُفَضَّلًا تَفضيلا؟!

*

حَشَدَتْ ليَ الدُّنيا وقدْ كانَ السّلا

مُ معِ الوَرى نَفَسَ المُريحِ قَليلا

*

حتّى سألتِ ولمْ أَجِدْ فحَلَفْتُ ألّا

أرتَضيْ مهْما أُجِبْتُ حُلولا

*

فشُغِلتُ عنْكِ بها لأجلكِ إذْ أبىْ

عِشقيْ البَقاءَ بصَبرِهِ مَكْبولا

*

حَربي وما حاربتُ إلّا في هوىً

كم شئتُ كيْ يحْيا الرّجوعَ قَتيلا

*

سيْفى! وفي غيرِ الهَوىْ ما اسْتُلَّ سيـ

فٌ في سبيلكِ لم يزلْ مَسْلولا

*

زمَني وإنْ حاطَ الزّمانُ بهِ علىْ الـ

أزْمانِ يبْقى لو نظَرتِ طَويلا

*

ودَمي يَصوغُ الكونَ كيفَ أردْتِهِ

حتّى وإنْ غمَرَ البلادَ سُيولا

***

أسامة محمد صالح زامل

وأنا أسيرُ ككلّ يومٍ للعملْ

برتابةِ المألوفِ من أيامنا حيثُ المللْ

أبصرتُ لافتةً تقولُ: (إلى اليمينِ مدينةُ الألعابِ)

نادتني الطفولةُ قلتُ: أدخلُ ولْيمتْ في غيظِه ذاك المديرُ

وصِحتُ: حيَّ على الكسلْ

وأتيتُ شُبّاكَ التذاكِرِ

قال لي: هيَ للكبارِ بلا نقودٍ

يا إلي هل كبِرتُ!

دخلتُ والأطفالُ كالعشبِ المبللِ بالندى

وأنا أراني مثلَ فاكهةٍ تأخّرَ قطفُها فتيبّسَتْ

كالبرتقالةِ إذ تدلّتْ تشبهُ المشنوقَ والأغصانُ حبلُ المِشنقةْ

قد كنتُ يوما شرنقةْ

وركبتُ دولابَ الهواءِ

رأيتُهم ضحكوا عليَّ

ورحتُ أصعدُ في السماءِ فلا أحسّ برهبةِ الأطفالِ

يا ويلي تُرى كم قد كبِرتُ !

وظلّ يصعدُ ثُمّ ينزِلُ ثم يصعد ثم ينزل

والبيوتُ كأنها قد لوّحتْ بمدامعِ الأضواءِ

صاحَ بيَ المشغِّلُ: إن دورَكَ إنتهى فانزلْ

ولكني بقيتُ معلّقاً عندَ الهواءِ

عرَفتُ أين الشمسُ تذهبُ في المغيبِ

لحِقتُ سِرْباً من طيورٍ هاجرتْ

ولمستُ أحجارَ النجومِ براحتيّ

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

مُدَامُ اللَّيْلِ، لِلرُّوحِ الغَرَامُ،

وَحُبِّي فَوْقَ مَا يَصِفُ الكَلاَمُ.

*

إِذَا أَحْبَبْتُ، زُفَّتْ لِي الثُّرَيَّا،

وَصَلَّى لِلْهَوَى، البَدْرُ التَّمَامُ.

*

وَأَلْقَى النُّورَ، مِنْ عَلْيَاءِ عَرْشٍ،

عَلَى مَنْ أَدْمَنُوا عِشْقِي، وَهَامُوا.

*

فَأَرْسَوْنِي، عَلَى مِحْرَابِ شَوْقٍ،

يُؤَذِّنُ فِيهِ قَلْبِي، لا يَنَامُ.

*

وَلَمَّا لَاحَ، فِي العَشَّاقِ نُورِي،

تَنَادَوْا: هَا هُوَ الْهَادِي، إِمَامُ!

*

وَحَتَّى العَاشِقَاتُ، عَرَفْنَ أَنِّي

قَصِيدٌ، لَا يُعَاتِبُهُ المَلَامُ.

*

فَصِرْتُ المُفْرَدَ، الجَمْعَ المُعَنَّى،

بِوَجْدٍ، لَا تُحِيطُ بِهِ الأَنَامُ.

*

نُجُومُ اللَّيْلِ، حِينَ دَنَا جَنَاحِي،

تَضَوَّعَ حَوْلَهَا نُورٌ، وَقَامُوا.

*

وَمِنْ فَيْضِ الرُّؤَى، انْكَشَفَتْ دُجَاهَا،

وَفِي الأَحْدَاقِ، انقشَعَ الظَّلَامُ.

*

أَرَانِي، رَايَةً تَهْفُو إِلَيْهَا،

قُلُوبُ العِشْقِ، يَحْضُنُهَا الْمَقَامُ.

*

مَزَارُ العِشْقِ، صِرْتُ لِكُلِّ حُرٍّ،

وَفِي الأَرْجَاءِ، يَحْتَفِلُ الغَرَامُ.

***

بقلم: سليمان بن تملّيست

تونس - 2025/11/30

 

بَـعـد طول اِنـتـظـارٍ يَـجُودُ الـقَـدرْ

قدِمت تَـرفُل مِـن بَـعـيد السّــفـرْ

*

شَـوقُـها قَـد دَعَـا مَا ثَناها خَـطـرْ

في شَهيلٍ شَوى أو بسَـيْـلِ المطرْ

*

وعـدت أنـجـزت رب وعـد لـحُــر

مــثـلــهـا درة مـن بــديــع الــدُرر

*

عند شمس الضّحى أقبلت في حَذرْ

لا رقـيــبٌ رأى فـسريــعًـا تــمُــرْ

*

رَفرفت خَطْوَها كالشّـذى قد عَـبـرْ

وردةٌ أيْــنـعَــت والرّبــيع ازدهــرْ

*

حُـسنُــها فـائــقٌ بَـهـجـةٌ لـلــنّـظـرْ

بِـــقَـــوام بَــــدا مائــسًـا كالـزَّهَـــرْ

*

مِـن سَـنـا وجهِـها الـبَـهاءُ اِنـتشـرْ

فسَبحـنـا الصفا وسَلونا الــكـدَرْ

*

وارتقـيْنا السَّما فـوق دُنـيـا البـشـرْ

فمشيْنا النّـجـومْ وعَـدوْنـا الـقـمـرَ

***

سُوف عبيد - تونس

 

ثلاثون يوماً أعادت لي ترتيب وقار فكري حين وجدت نفسي في محيط إختبارات الحياة الأكثر ألما... أدركت إن كثيرون يكبرون بعد موتهم، ثقل رحيلهم، وغيابهم الخاطف يعيد إلينا شريط ذكريات حتى الفرح منها يدخل في إنهيار بكاء، وإنكماش نفس ....

هل تعلم الجهد الذي أبذله في هذه اللحظة وأنا أكتب غيابك الذي كان بمثابة وقع الدهشة بعد تلك الإرتدادات، والهزات التي لا تقاس حتى على مقاسات أرضية؟!

ليس سهلاً علي أن أرثيك في سطور الورق بعد أن كنت الحياة في حياة ممتلئة بك، ومعك....

  ليس سهلاً أن أعيد توازن نبضي بعد فاجعة رحيلك حين كان القدر يعده على مهل، وأنت ترقد على شراشف المشفى الباردة وعلى تلك الأجهزة الصوتية ....

كأنها حلم مرت ثلاثين يوماً دونك، ودون صوتك، ونبضك ...

أصبح مكانك خاليا منك سريرك الأبيض، وكل أشياءك التي شاخت معك حتى السبعون فصلاً، ونحن تتغير ملامحنا حين كنا ننظر إليك وأنت تذبل بعد أن كنت كنخل شامخ يقف في وجه تغيرات الحياة ومزاجياتها المتقلبة .

***

مريم الشكيلية / سلطنة عمان....

عشر ساعات مضت وأنا مقيمة على طاولة المكتب، أقلب وريقات ملفات أبحث عن حقيقة ما جرى في تلك الليلة التي سبقت راس السنة بفترة، البرد يتنفس على زجاج نافذتي الكبيرة التي تطل على حديقتي الخلفية.. ولولا ان مدفئتي مضاءة تدفع بأنفاسه بعيدا لتجمدت أوصالي، على أية حال وجدتني أنهض الى ماكينة القهوة لأحضر لي فنجان من البن العربي الذي تلقيته هدية من صديقة لي عربية الاصل تعمل معي في مكتب تحليل الجرائم تدعى مريم، أعلم حين تقرأ أسم مريم قد تستغرب كونها عربية وإسمها على أسم العذراء مريم... هذا ليس محور الاحجية التي بين سطور الاوراق هكذا هم العرب المسلمون يحبون العذراء مريم ويقدسونها مثلما يقدسون أبنها عيسى المسيح النبي لا الرب... إرتشفت من قهوتي رشفة كأنها أعادت رصف افكاري التي بعثرها إستطكاك أسناني من شدة البرد وبعثرة بقيتها على الطاولة هناك وهناك.. لا أدري لم طلب مني المدعي العام أن احلل هذه القضية التي شاركتني في تحليلها صديقتي مريم التي في الحقيقة لها الفضل الأول في ترسيم الخطوط الأولية للقضية ومجرد ان أسألها تقول إنها مسألة وقت حتى تنكشف حقيقة أي غموض ثقي بذلك سارة، كانت لارا وهي الفتاة التي قتلت في تلك الليلة خنقا بحزام رداء روب النوم الذي كانت ترتديه بعد أن تلقت لطمات على وجهها وبعض من جسدها هذا ما قالته الدكتورة في المشرح حين فحصت الجثة وقد صورت الكدمات التي تحولت الى زرقاء بعد ان ركد الجسد عن الحراك والى الابد، رشفة ثانية وكأني تلقيت ومضة بإسترجاع جملة قالتها لي مريم بإن التحدي الحقيقي لعقل الإنسان يعود الى التخيل واسترجاع الماضي فيه والبحث ما بين تفاصيل السطور المركونة في البعيد من العقل خاصة عندما يتصور الأحداث كأنها شريط سينمائي لموقع الجريمة من خلال الصور بشكل معكوس، لحظتها فقط يستنطق الصور التي تتحدث كي يمسك بتلابيب أذيالها وحتى يشعر أنه أمسك طرف حل اللغز.. في تلك اللحظة كنت أمسك بتقرير المشرحة الذي يقول كان موتها خنقا على شكل انتقام منها فلقد ضربت  لارا بعد موتها ضربا مُبَرِحا لإطفاء غليل حقد دفين.. في ذلك الأثناء أخذت الجريمة منحى آخر لقد كانت جريمة تصفية حسابات إذن لابد من تضييق حلقة البحث الى حلقات الاصدقاء من الابعد الى الأقرب.. وفعلا وأنا أبحث عن مفقود وأسترجع ما جمعته الشرطة من تحقيقات الذي إستدعتهم للإدلاء بأقولالهم إنصب إهتمامي على أثنين ولد وفتاة فهما المقربان الحميمان من لارا بشكل يكاد يجعلهم لا يفارقون بعضهم البعض..

يا إلهي إن البرد قارس جدا صفير الهواء لا ينفك يدعو أوصالي للإرتجاف.. فوجدتني أتجه إلى المدفأة كي أزيد من قطع الشجر المقطع الى فمها كي تستمر بإلتهام طعامها ثم يدفع بحرارة ما تأكله كي أتدفئ عليه وأنا احرك جذم الحطب بملقط  حديد، شيء ما خالجني أو ليس هناك ضربة في ساق لارا كان مكانها في كعب قدمها.. تركت ملقط الحديد مقلب الجذم وسارعت الى ورقة كان أحد المحققين قد ذكر فيها أن لارا قد تلقت ضربة على عقب قدمها أو ربما شخص ما أمسك بها فتعثرت قرب الأريكة التي قتلت عليها... فعدت الى تقرير الطب الشرعي فوجدت عبارة أصيبت لارا بقدمها من جراء آلة حادة على شكل عقفة... أخذت اوراق التحقيق وقارنتها بملقط محرك الجذم ... أدركت أن هناك شخص ما قد أمسك بقدمها في محاولة منها الى الهرب... تابعت تقارير المحقق لكني لم أجد ذكرا الى ذلك الملقط في مسرح الجريمة.. ملقط محرك جذم النار... من فوري إتصلت بصديقتي مريم التي كانت مستيقضة بدورها، أخبرتها بما وجدت وطلبت منها أن تتأكد من حدسِ الذي أعتقد أنه مفتاح القضية كلها.. لا أدعي الذكاء لكن الشرطة والمحققين قد يصادفهم هفوات بسيطة وهم في خضم معمعة وجلبة موقع الجريمة.. ساعة من زمن وإذا بالهاتف يرن وقبل أن أردد بألو.. سمعت تنهيدة حزينة تخرج من جوف مريم كأنها تفزر وجعا كان جاثيا على صدرها.. فقلت :

- مابك عزيزتي مريم؟؟ فردت..

- إن حدسك في مكانه سارة كانت هناك قاعدة معلق عليها ملقطين للمدفأة في زاوية لم تكن محسوبة للعين خاصة أن النار في المدفأة كانت طافية كما في الصور وكما هو مذكور عندك في تقرير المحقق جون، لعلك راجعته وعلمت عنه من خلال حدسك...

- باغتها بنعم.. نعم رغم  الحرج فأنا لم لم اقرأ عن تلك المعلومة.. لكني أردفت حسنا مريم ثم ماذا فعلت بعد ذلك عزيزتي مريم

- سارة لقد ذهبت بتلك الملاقط الى مقر الطب الشرعي كي أتحقق فيما إذا كان هناك بصمات عليها غير بصمات لارا، وخلال ساعة من الآن ستخرج النتيجة وها أنا أنتظر في الردهة حال ظهور النتيجة سأبلغك بها ومن ثم أحضرها اليك..

- شكرا لك عزيزتي مريم على سرعة تلبيتك ما طلبته منك.. أعتقد النتيجة تحسم أمر كل شيء

- أظن ذلك سارة.. لا بل أجزم بذلك فلقد تصورت وأنا أبحث وأحلل الاوراق والصور والبيانات والتحقيقات واقوال الشهود اصدقاء لارا حضر الى ذهني ما تبادرك لك ايضا... ( القلوب عند بعضها ) هذا مثل عربي نقوله بيننا حين تتحدث بحدس القلوب القريبة الى بعضها البعض كأنها قلب ونبض واحد...

- معك حق عزيزتي مريم .. الواقع كنت حاضرة معي بإتقاد ومضات عقلك الذي كنت حين أقرأ وأحلل تسبقني جمل كنت تقولينها لي عندما تحدثنا فيما بيننا على تحليل مفردات وصور وحقائق الجريمة.. سأبقى في انتظار نتيجة التحليل مريم الغالية

ساعتين من زمن رن الهاتف وإذا بصوت سارة يقول: لقد هناك بصمات سارة على المقبض واحدة لديفيد وأخرى الى شارلي.. اقصد شارلين أخت لارا الاكبر

- يا للرب!!! كيف يمكن ان تكون تلك هي الحقيقة... في فجر الصباح من تلك الليلة الباردة كنت قد ارتديت ثيابي وذهبت الى المدعي العام وبصحبتي مريم بعد ان وضعت جميع ما توصلنا إليه أنا ومريم بخصوص مقتل لارا ولولا نبضة متقدة من مريم وحدس كنت قد تيقنت منه ما كان لنا الامساك بديفيد وشارلين اللذان قاما بإرتكاب جريمة القتل نتيجة الغيرة التي كانت تضمرها شارلين لأختها في حبها لديفيد الذي استمالته شارلين وأوقعته في فخها وخيانة حبيبته نكاية بالجميلة اختها لارا التي علمت بخيانتهما.

***

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي

 

قالت وما بيننا بونُ من الحججِ

ما هزكَ الحسنُ في اطلالةِ الغنجِ

*

كنُا التقينا ولا وعدًا يجمعُنا

كنُا التقينا على قربٍ من الدرج ِ

*

قالت وقد عدلت من شالِها عمدًا

ماذا تقولُ بهذا الشالِ والوهجِ

*

ماذا أقولُ سؤالُ ظلَ يصرعني

موجٌ دهاني وموجٌ جاءَ في لججِ

*

حتى افتقدتُ الى عزمٍ ألوذُ بهِ

وشطَ عني جوابٌ يدعي حججي

*

فاخضرَ ما بيننا صمتٌ فأرقني

حتى ابتسمتُ فكانت ذروةَ الحرج ِ

***

عبد الهادي الشاوي

 

ولدتُ في حُلكَةِ الشرقِ

أَعْزفُ لحنَ النور

أشْدو أُغنيَةَ الأمل

أَتَمايَلُ على إيقاعاتِ الروح

فيسكر الموَّال في جنوني.

أَنا اِبتِداءٌ  و نهايَةٌ

الأولى وقد رحلت

الأُخرى وقد دَنت

وانْبعاثُ سُنونوتَينِ

ضحِكاتي رنينٌ الصَدى

ونزيفي عَميقٌ عَميقْ

لكنَّ الهدفَ أَسْمى وأغْلى

كنت وَسَأَبْقى غجريَّةَ اَلحريَّة

يَقْطُرُ البنَفسَجُ دماً في ذاكرَتِي

أَحْتَرقُ شَمعاً في أَرض الظلام

تَعبتُ منَ النفاق

مَلَلتُ مِنْ حِكاياتِ اَلجَهلِ

وأسطُواناتِ الضَّياعِ

أُريدُ العودةَ إلى دِيارِي

إِلى ديارٍ يَسودُها اَلصَفاءُ

ويَنامُ اَلحنانُ  في عُيونِ الأَطفال

أَتَنَهَّدُ بحُرِيَّةٍ .. أَحلُمُ بلا حُدود .. أَغْفو بأَمانٍ  ..

أَتَودُّ الرَّحيلَ معي أَيُّها العاشِقُ ؟

أَمْ أتْرُكُكَ بقايا إنْسانٍ على قارعَةِ الطَّريقِ

تَتوهُ بين الزَّوايا الميِّتة في مَدائن اَلِإنتِحارِ؟

نَفَدَ صبريَ، واهْتزَّتْ مَراكِبِي

سَقطَتْ عَروسُ اَلبَحرِ

وَتلاشت اَلآفاقُ الوردِيَّة

من سحر الغروب

عَصَفَتْ رياحُ أَيْلولَ تَمَرُّداً

ودارت الأَيَّامُ

لتُزهرَ براعمُ الحُبِّ وتَتَلألأَ الدُّرَرُ

يبتسم اَلسوسنُ

يعقد زهرُ الليمون شَوقاً للشَمسِ

ويرحَل ربيعٌ ويزهِرُ ربيعٌ

ونَرحَلُ وتَبقْى الحياةُ حُبَاً

وَالحُبُّ حَياةً .

***

سلوى فرح - كندا

 

كالنار في مهب الريح

يصيرني الحنين إليك

أحن إلى شرفاتك الوارفة

وهي تطل على ذكريات العمر

رمادا يصيرني الهجر

كما تشتهي النوارس

والموانئ ..

والمساءات..

خفيفة.. شفيفة

كالريشة تمضي روحي إليك

طنجيست يا ملهمة الشعراء

يا دهشة الغريب

يا شرفتي الأندلسية

التي يطل منها الفؤاد

على المراكب الهائمة

ولوعة الغياب

أما زلت هناك طنجيست

متاهة..

وغواية..

وقمرا..

وبحرا للغرباء؟

***

عبد الرزاق اسطيطو

 

 

(في مراسيم عبيق الورد)

[الدَّلال]

خَسِرْتُكِ

وَالدَّلالُ يَمُدُّ ضِياءَهُ المَطْمُوسَ فِي دَمِي

وَيَخُطُّ فِي لَيْلِي خُطُوطًا مِنْ نَدًى مُنْفَلِقٍ

وَيَرُشُّ فَوْقَ جُرُوحِ رُوحِي نُورَهُ الأَوَّلْ

صَوْتُكِ إِذْ يَسْقُطُ فِي عُتْمَةِ الذِّكْرَى

يَصْعَدُ مِثْلَ نَجْمٍ فِي السَّرَائِرِ

ثُمَّ يَتَّقِدُ

*

[مَرَاسِيمُ الكَظْم]

خَسِرْتُكِ

وَالكَظْمُ يَرْفَعُ مِنْ تَرَاتِيلِ المَسَاءِ

مَا نَسِيَتْهُ الرُّوحُ فِي خَوْفٍ مُعَتَّقِهَا

أَنْتِ الَّتِي أَوْقَدْتِ فِي أَغْوَارِ أَحْلَامِي

أَسْرَارَ لَهْفَةِ غَيْمَةٍ مُتَرَقْرِقَةٍ

حَتَّى تَبَدَّدَ وَصْلُنَا

وَتَبَدَّدَتْ خُطَاكِ فِي مَدَارِي المُنْفَطِرِ

*

[خَرِيطَةُ الدَّم]

خَسِرْتُكِ يَا مَنْ كَانَ يَنْبُوعُ الرُّؤَى

يَجْرِي بِوَقْعِكِ فِي شُرَايِينِي

أَنْتِ الَّتِي نَزَلْتِ عَلَى طِينِي

كَنُقْطَةِ نُورٍ تَنْشَقُّ مِنْ سِرِّ الْخَلَائِقِ

حَتَّى مَضَى الدَّمُ يَرْسُمُ اسْمَكِ

فِي طُرُقٍ لَا تُرَى

وَيَرُقُّ حِينَ يَمُرُّ فِي حَافَّاتِ أَحْزَانِي

*

[سُهُولُ الوَرْد]

خَسِرْتُكِ

يَا ظِلَّ وَرْدٍ يَسْرِي فِي أَسْرَارِ مَائِي

وَيُشِيعُ فِي أَرْجَاءِ رُوحِي بَهْجَةً أُولَى

أَنْتِ نُشُوءُ اللَّوْنِ

أَنْتِ بَدَاءَةُ الطِّيبِ

أَنْتِ سِرٌّ كَانَ يَنْسَجُ حُلْمَهُ فِي قَاعِ نَفْسِي

لَيْتَ مَا سَرَقَ الدَّلَالُ مِنَ الْمَوَاسِمِ

لَمْ يَسْرِقِ الْأَيَّامَ مِنِّي

وَلَيْتَ وَقْتَكِ لَمْ يَصِرْ غَيْمًا يُبَدِّدُنِي

*

[سُكُونُ اللَّيْل]

خَفَقَ اللَّيْلُ وَالنَّجْمُ فِي عُمْقِهِ سَاكِنُ

وَالصَّمْتُ يَحْمِلُ مِنْ صَوْتِكِ مَا يُؤَلِّفُهُ

أُسَرِّبُ عَطْرَ الذِّكْرَى فَتَنْبَعِثُ عَاطِرَةً

تُعَانِقُ خَافِقِي فَيَنْثَنِي لِلرَّجَاءِ مُنْكَسِرُ

*

[بُعْدُ الغَيْم]

غَادَرَتْ عَيْنَاكِ سُهُولَ صَدْرِي فَاسْتَوْلَى عَلَيَّ

بُعْدُ الغَيْمِ وَالْأَمْطَارُ تَصُكُّ نَافِذَتِي

وَأَنَا أُقَاسِي وَحْشَةَ اللَّيْلِ الطَّوِيلَ حَتَّى

يَعُودَ صَدَاكِ فِي أُذُنِي مُتَعَبِّدًا مُهجّدًا

*

[رَجَاءٌ عَابِر]

رُبَّ لَمْسَةِ يَدٍ فِي الظُّلْمَةِ تُشْعِلُ نَجْمَةً

تُرَاوِغُ قَلْبِي فَأَرْتَدُّ إِلَيْكِ مُسْتَجِيرًا

وَأَبْعَثُ فِي جَوِّ اللَّيْلِ دُعَاءً مُتَوَاضِعًا

لَعَلَّ عَبِيرَكِ يَعُودُ وَيُعَطِّرُ مَدَامِعِي

*

[خَاتِمَةُ وُجْد]

سَأَظَلُّ أُغَنِّي لِصَوْتِكِ فِي اللَّيْلِ مُعَتِّقًا

حُلْمًا يُقَاتِلُ عُيُونَ الصَّبْرِ حَتَّى تَثُوبَا

وَإِنْ غِبْتِ عَنِّي فَذِكْرَاكِ فِي دَمِي تَجْرِي

كَمَا يَجْرِي فِي عُرُوقِ الْوَرْدِ دَمْعُ السَّحَائِبِ

*

[كُودَا - سِفْرُ الطِّينِ وَوَشْمُ الْمَاءِ]

فِي الطِّينِ أَسْرَارٌ لَمْ تَقُولِيهَا

وَفِي الْمَاءِ أَسْمَاءُ الظِّلَالِ الَّتِي

مَرَّتْ عَلَى خُطَاكِ وَلَمْ تَرْجِعْ

وَحْدَهُ الْحُلْمُ - إِذَا سَقَطَ فِي عَيْنِ اللَّيْلِ -

يَرْسُمُ لِي مَسَافَاتِكِ

وَيَجْعَلُنِي أَتَعَلَّمُ

كَيْفَ يَنْطِقُ الطِّينُ بِمَاءِ الغِيَابِ

وَكَيْفَ تَجُرُّ الْوُرُودُ عَلَيْهِ

نَبْضًا يَخْفِقُ كَأَنَّهُ أَنْفَاسُكِ

***

د. سعد غلام

 

بمتاهاتِ لغةٍ

أخفتْ مكرُها

بزينتِها

وبشفرةِ

تفاهةِ اسرارِها

وبإلوانِ مساحيقِ

أساطيرِها

ودهاليزِ أكاذيبِها

صَدِئتْ كلماتي

فأسلمَتني أفكاري

لألدْ أعدائي

*

طردتِني مدينتي

كشريدٍ يتسكعُ

في أزقتها الخاويةِ

تناستْ بذرةُ جنوني

التي نمتْ ثمرةً على

أغصانِ أوهامها

*

أنكرني حتى نهرُها

الذي علمني العومَ

بين ضفتيه

*

ملوكُ مدينتي

مبجلون

موشحون بالأرجوان

لكنهمْ

مرابون وعشارون

متوجونَ

بأكاليلِ العارِ

أيديهم عضباء

لكنها طويلة

تمتدُ حتى الأقدام

تلتقطُ فُتاتَ الدراهمِ

*

لصوصُ مدينتي

مقنعون بالبراءةِ

وبنصوصٍ غير مقدسة

مسطورةٍ على

رقمٍ طينيةٍ

منقوشةٍ بإقدام خرافيةٍ

*

مدَّ أحدُهم يداً

عضباء

فسرقَ عشبةَ الخلودِ

نفحهُ جلجامشُ

قطعةَ نقودٍ

بحجمِ كسرة فخارٍ

فأستردها

فصار خالداً

*

في سوق الوراقين

تتسولُ الكتبُ

كسرةَ خبزٍ

تخشى متسولاً

يخطفها

ويلوذُ بها فاراً

***

صالح البياتي

في نصوص اليوم