نصوص أدبية

نصوص أدبية

لَمْ أَكُنْ غَيْرَ ارْتِجافِ الرِّيحِ

في جَسَدِ الغُيُومْ

كُنْتُ أَلْمَحُني

عَلَى كَتِفِ المُدَى

أَزْهُو وَأَنْفَصِلُ

كَأَنِّي المَاءُ

يَسْكُنُ في زُجَاجٍ لَا يُحِبُّ الشَّكْلَ

لَكِنْ... يُقَلِّدُ الانْكِسَارْ

2

أَنْتِ لَا تَأْتِينَ، لَا تَغِيبِينَ

تَتَمَوْجِينَ كَنَبْضِ نَفْسٍ

لَا تُجِيدُ تَخَيُّلَ المَوْتِ

كُنْتِ فِي جُرْحِي نَدًى

كُنْتِ تَحْتَ الجِلْدِ

أَشْتَاتَ التَّهَاوِي

كُنْتِ تُهْدِيني نَجَاةَ القَطْرِ

مِنْ أَوْرَاقِ نَارْ

3

نَتَقَارَبُ...

يَفْتَرِقُ الكَفُّ عَنِ الكَفِّ

يُلْتَصِقُ الظِّلُّ

بِالظِّلِّ الَّذِي لا يَثْبُتُ

فِي خُطَانَا

نَنْفَصِلُ فِي وَهْجِ لَمْسَتِنَا،

نَلْتَحِمُ فِي عُرْيِ مَا يَخْفَى

وَلَا يُدْرَكُ فِي اللَّفْظِ المُبَاحْ

4

أَيُّهَا اللَّمْسُ الَّذِي يُذْكِي بِيَاضَ الصَّمْتِ

خُذْنِي،

كَمَا يَأْخُذُ العُرْيُ ظِلَّهُ،

كَمَا يَأْخُذُ النَّزِيفُ مَاءَهُ

لأُكْمِلَ فِي الجَسَدِ انْكِسَارَ اللَّفْظِ،

أَوْ أَتَجَلَّى فِي الضِّيَاءِ...

بِلَا وُجُودٍ

أَوْ بِلَا أَلَمٍ يُفَسِّرُ مَنْ أَنا

5

فِي ضُلُوعي نَبْضُ مَنْ نَسيَ الرُّؤى

وَتَنَامَى كَالسُّؤَالِ المُنْحَدِرْ

كُلُّ جُرْحٍ فِيكِ مَاءٌ،

كُلُّ مَاءٍ فِيكِ نَفْيٌ،

وَالمَعَاني تَسْتَحِمُّ بِخَفْقَةٍ

ثُمَّ تَذُوبُ كَمَا البُخَارْ

6

هَلْ أَنَا ظِلٌّ؟

أَمِ اسْمٌ يُشْبِهُ الإِشَارَةَ في يَدِ النَّافِذةِ؟

هَلْ أُسَاكِنُكِ لِأَنْسَاكِ،

أَمْ أُقِيمُ عَلَى فُتَاتِ الحُلْمِ

فِي جَسدِ الغُيُومْ؟

7

أَنْتِ لَا تَجْرِينَ في عِرْقي

وَلَكِنِّي أُصَابُ بِكِ

كَمَا يُصابُ البَحْرُ

بِالرِّيحِ الَّتي تَنْسى اتِّجَاهَها

أَنْتِ خَارِطَةٌ،

وَنَبْضي بَلَلٌ في الهَامِشِ المَطْويِّ

في دَاخِلِ هَوَانا

8

هَذِهِ اللَّحْظَةُ كَانَتْ

رَجْعَ لَفْظٍ لَمْ يُقَلْ،

رَعْشةَ الصَّدْرِ الَّذي يَبْكي

إِذَا لَامَسهُ النَّوْمُ الخَفيفْ

9

فِي عِنَاقٍ يَصْطَفِي فِينَا الحُطامْ،

نَتَجاذَبُ نَفْسَنا،

وَنَعِيشُ في الأَشْلَاءِ

مَا كُنَّا نُسَمِّيهِ اكْتِمالاً،

ثُمَّ نَنْسَى،

ثُمَّ نُوجِعُ مَا تَشَكَّلَ

مِنْ هَوَانا... في الضَّريبةِ

10

لَسْتِ أَفْقي،

وَلَسْتُ أَنَا أَبِي،

نَتَناسَلُ كَالظِّلالِ

في مَسامِ العَالَمِ،

لَا نُشْبِهُ مَنْ كَانُوا،

وَلَا نَثْبُتُ فِي نَفْسٍ تَقُولُ: أَنا

11

في ضَرَبِ الأَشْيَاءِ،

أَسْقُطُ مِنِّي،

وَأَصْعَدُ في جَسدٍ

لَا يُسَمِّي نَفْسهُ

إِلَّا بَعْدَ الأَلَمِ

12

تَسْأَليني:

مَنْ يُقيمُ في خَطْوةِ الجَسدِ؟

أَقُولُ: هُوَ مَا يُبَالي

مِنْ نُفُورِ اللَّمْسِ، أَوْ إِنْسِجامِ الصَّدَى

هُوَ مَنْ يُقيمُ على مَدًى يُفْنيهِ

ثُمَّ يُعيدُهُ، بِلَا سَببٍ

13

كُنْتِ كَالماءِ،

وَكُنْتُ الجَرَسَ الَّذِي

يَقْطَعُ أَسْوَاتَ المَجَازِ

كُنْتِ خَيْطَ النَّفْيِ،

أَمْشِي فِيهِ،

وَأَكْتُبُ مِنْكِ نَفْسي

14

لَمْ أَكُنْ لي،

كُنْتُ أَنْتِ

في دَمي أَصْغَى إِلَيْكِ اللَّفْظُ،

في نَبْضي تَلاوحَ وَجْهُكِ كَ سِرٍّ

في يَدِ الأُفُقِ البَعيدِ

15

مَا الَّذي يُمْكِنُ

لِلْحُبِّ

إِلَّا أَنْ يَفْقِدَ نَفْسهُ

فِي وَقْتِ المُقامِ،

وَأَنْ يُقيمَ في انْهيارِهِ

كمَنْ يَبْني في العَدمِ

16

في جُرْحِنَا مِرْآةُ جَسدٍ

تَتَكَسَّرُ في شِفَاهٍ تُغْوِينا

وَتُبْصِرُنا

وَنَحْنُ نَحْترِقُ

17

كَيْفَ أَخْرُجُ مِنْ دَمي

وَأَنا نَفْسي

في انْهِدامِ نَفْسي؟

كَيْفَ أَتْرُكُني عَليْكِ،

وَأُسَمِّيكِ اسْميَ الثَّاني؟

وَأَنَا لَا أَمْلِكُ

إِلَّا خَفْقةً،

وَرَغْبةً

تُراوِغُ شَكْلَها

18

في خَاتِمةِ الشَّهْوةِ،

كُنَّا نَبْكي

لَا مِنَ الأَلمِ،

وَلَا مِنَ الفَقْدِ،

بَلْ لِأَنَّ المَكانَ

لَمْ يَتَّسِعْ لِكُلِّ مَا فينا

19

فَضيقٌ هُوَ الجَسدُ

على مَنْ عَاشَ بِلا وَجْهٍ،

وَبِلا أَجْفانْ

20

وَفي نِهايةِ النِّهَايةِ،

قُلْنا:

هَذا الهَوَاءُ… يُشْبِهُنا

***

د. سعد محمد مهدي غلام

 

كلُّ زهْرٍ فيهِ شيئٌ من شذاكِ

كلُّ درْبٍ فيهِ وَقْعٌ لخُطاكِ

*

فهنا يرسلُ لِي الموجُ صدى

أغنياتٍ ردّدتها شفتاكِ

*

غائبٌ في آخرِ الدنيا أنا

وبعيدٌ عنكِ لكنّي أراكِ

*

مثلما أنتِ معي حاضرة ً

مثلَ ظلّي في سكوني وحراكي

*

إنّهُ البحرُ يُناديني فهلْ

قدْ سحرتِ البحرَ قبلي فالتقاكِ

*

لستُ أدري ما الذي يضمرهُ

أسرورٌ فيهِ أم فيهِ هلاكي

*

أنا آتٍ لستُ أخشى ليلهُ

فعلى الموجِ شعاعٌ مِنْ سناكِ

*

أنتِ منّي وأنا منكِ فمنْ

ذا الذي حوريّةَ البحرِ دعاكِ

*

ستعودينَ إلى الأرضِ وإنْ

ضمّكِ البحرُ إليهِ واحتواكِ

*

سوفَ أصطادُكِ يا حوريّتي

أنتِ والبحر جميعاً في شباكي

*

أنتِ منْ ألهمني الشعرَ فما

كانَ لي شيطانُ شعرٍ يا ملاكي

*

كلُّ سحْرٍ آسرٍ أبطلتهُ

ليسَ في القلبِ مكانٌ لسِواكِ

*

قدْ هجرتُ الناسَ والدنيا معا

لمْ يَعُدْ يشغلني إلّا هواكِ

***

جميل الساعدي

........................

* القصيدة سبق وأن نشرت، لكنني أعيد نشرها استجابة لطلب الأخ الأديب والمترجم جمعة عبد الله في معرض تعليقه على قصيدة الأخ الشاعر طارق الحلفي. والقصيدة من وحي سفرتنا الى كوبا أنا والصديق المرحوم صباح النواب أخو الشاعر مظفر النواب.

ماذا جرى لديك الحيّ يا ترى؟ فجأة، ودون مقدمات، انقطع صياحه. لم يعد يوقظنا عند الفجر كعادته، أم أنّه أزعج الجيران بصياحه، عند الفجر والظهر والعصر. كما تقول لالة ورديّة، صاحبة الديك ومربيّته؟

فقس في خمّ بيتها. خرج من البيضة بحجم الإبهام. تدرّج رويدا رويدا، حتى كبر، نبتت له قبعة وريش أرجوانيّ منفوش وجناحان، وسلطة على دجاجات الحيّ، وأشباه الديكة. ديك الحي من سلالة حرّة. قويّ العظم. ابن البلد. شهم. حر. ورث الإباء عن أجداده. خرج من تحت حضن أمه ليس كالديكة التي تفقس في علب كأطفال الأنابيب. لٌقٍّب بديك الحي. واختفت كل الديكة في أرجاء الحي. كأنّها فقدت صياحها. لا صياح سوى صياحه. لا سلطة إلاّ سلطته.

تربى ديك الحي في خمّ لالة وردية. رعته مذ كان في قلب البيضة محّا وأحّا. هو من سلالة محليّة أصيلة. أطعمته أمّه من قمح وشعير البلدة. وكانت لالة ورديّة تباهي به جيرانها، وتمنّي النفس، بأن يعيش زمنا طويلا. وكم قيل لها: بيعيه في السوق الأسبوعي، واشتري بثمنه قطعة قماش خضراء اللون، لتبيّضي بها وجهك أمام زوا ر المقام الزكيّ للوليّ الصالح سيدي معمر بومكحلة، يوم الوعدة. لكنّ، رفضت، وصرخت قائلة:

- أبيع خلخالي، ولا أبيع ديكي.

يبدو أن القدر أدار ظهره لأمنيتها. وأصابها في مقتل. وفي قرّة عينها فجأة.. وما حيّر لالة ورديّة وأرّقها، وأفرغ في قلبها أكوابا من الهمّ والقلق، هو كيف اختفى الديك الأنيق فجأة؟ كان قبل اختفائه في صحة الأسد. لم تظهر عليه علامات قلق أو مرض أو كآبة. كان مساء اختفائه سعيدا، وهو يقفز فوق دجاجات الحيّ، يتبختر كالملك في مملكته، والأمير في إمارته. يقف أمام أشباه الديكة مختالا، مرفوع الهامة، يرمقهم بعيني الصقر، فتفر من أمامه، ومن خلفه. لا يجرؤ أحد منهم على تحدي نظراته، وحركات جناحيه. فكل الدجاجات حرث له. وهو لباس لهنّ، وهنّ له ثياب في كل فصل.

تغزو التكهنات والهواجس المرة جوانحها. تردد، متمنيّة ألا تكون صادقة:

- هل ألّمت به أزمة قلبية، فأزهقت روحه فجأة؟ أم غدر به ابن آوى في غفلة من أمره؟ أم اختطفه لصوص الدجاج بعد انتصاف الليل، وباعوه في سوق بلدة مجاورة بربع ثمن ديك غبي ّ، هرم، منتوف الريش والذيل؟

لم يحدث أن غاب ديك الحي كل هذه الأيام الثلاثة، منذ استلم، بل استولى على سلطة الدجاج. لقد فرض نفسه ومنطقه وسياسته. ألغى العقد القديم في جمهورية الدجاج، بحجة تخلفه، وعدم تماشيه مع نظام العولمة. وفرض عقدا جديدا تقدميّا. وكتب في مادته الأولى:

- المجد والخلود لي.

ولمّا احتجّ بعض أشباه الديكة، الذين ظنّوا في لحظة أنّهم ديكة حقيقيّون، أو أرادوا أن يصبحوا كذلك، وخرجوا، ذات صباح، إلى الشارع في مسيرة حاشدة، رافعين لافتات الرفض لتلك المادة، صارخين:

- الدجاج يريد إسقاط النظام. ارحل أيّها الديك..

أعدمهم ديك الحي، ورماهم لقيمات سائغة للقطط الجائعة.

لم يكن ديك الحي رحيما بمعارضيه. فهو يعلم أنّهم يعارضون من أجل المعارضة فقط. ومن أجل الظهور على شاشات التلفاز، وفي المعلقات على واجهات المحلات والساحات. هم كائنات دجاجية وديكية، تحترف الفوضى، وتبيع في سوق الأحلام سرابا. وهم أشبه بفطريات الكهوف، عندما تتشبّع بالرطوبة. هم مثل طحالب البحر، حين ترميها الأمواج على حافة الشاطيء الصخري.

ومن يومها، اطمأنّ ديك الحي. تخلّص من مغص المعارضة، التي صدّعت رأسه، وشوشت عليه راحته، وقيلولته. وكادت أن تنقل لدجاجاته وباء العصيان أو التمرد.

والحق أن لالة ورديّة هي سبب استبداد الديك وديكتاتوريته التي لامست حدود الفاشية أحيانا. فقد ربته منذ كان كتكوتا على أن يكون هو الأول دائما في كل شيء. لا أحد يصيح قبله، وإن تأخّر صياحه لظرف ما، كأن يغلبه النعاس بعد سهرة حمراء مع دجاجة عذراء. لا أحد ينقب الحب قبله. وكل الدجاجات يؤدين له الحب والولاء والطاعة. أما أشباه الديكة، فما عليهم سوى الرضا والتصفيق بالأجنحة، والقفز طربا له. كما علّمته لالة ورديّة حب الذات إلى درجة النرجسية. حيث صار يُرى - قبل اشتداد عوده - بعد آذان العصر، وعند الأصيل، يمدح نفسه. يجمع حول بعض الكتاكيت، ويأمرهم بالرقص حوله، وهو جالس وسط الدائرة، كشهريار، وقد استمرت معه هذه العادة أياما وشهورا، حتى أصبحت طقسا من طقوسه المفضّلة. كما ورثته أيضا المشي باختيال كمشي الأسد بين الظباء.

-2-

من ذا الذي سيصيح بعده في الحي؟ صحيح، أنّه ديكتاتوري، نرجسيّ، سلب من دجاجات الحي، وأشباه الديكة، حريتهم. حرمهم من حريّة التعبير والتفكير. حوّلهم إلى مجرد كائنات تدب على رجلين، ولها مناقير منتهية الصلاحية. لكنّه فرض النظام في الخمّ وخارجه. لولاه لعمّت الفوضى بين معشر دجاج الحي.

ديك لالة ورديّة ليس له بديل، ولا مثيل. أحيانا يجود الدهر بدرّة في كل مائة سنة. فمن الصعب على لالة ورديّة تحمّل وقع هذه المصيبة، التي ألّمت بها على حين غرّة. كيف اختفى في لمح البصر، كنيزك هوى في البحر. وفي ليلة مقمرة. وهو الذي كان لا يشكو من شيء، ينغّص عليه يومياته المرصعة بالمرح والسعادة. تأتيه لالة ورديّة بحفنات القمح والشعير. تغيّر ماءه في كل صباح، بعدما تنظّف الإناء بالماء والصابون. تكنس الخمّ في كل مساء، فلا تغادره إلا وهو خال من أدنى شائبة.

وجاءت العمة لالة خيرة، وقد لفت سمعها غياب صيحات ديك الحي، تسأل عن السبب. قالت متعجبة:

- ماذا جرى للديك، يا لالة وردية؟ منذ ثلاثة أيام لم نسمع له صياحا.

- لا أدري ماذا حدث له – كذلك ردّت لالة ورديّة بنبرة حائرة – انتظرت ظهوره منذ انقطاع صياحه، ثم سألت عنه الجيران، وبحثت عنه في كل الضواحي، لكنني لم أعثر له على ريشة، كأن الأرض انشقت وابتلعته، يا سبحان الله.

- ظننت أنّك ذبحتِه أو بِعتِه. جئت عاقدة النيّة والعزم على لومك ومخاصمتك على فعلتك.

- معاذ الله من ذلك. أبيع نفسي أو أذبح معصمي، ولا أقدم على التفريط فيه.

- لقد افتقنا صياحه يا لالة ورديّة.

- أما أنا فقد افتقت النوم، وطعم الحياة.

-3-

بدا الحي كأنّه مهجور من قاطنيه. أما الدجاجات فقد أصابتهنّ الكآبة. إلا أنّ أشباه الديكة شعروا بالغبطة والحريّة. استأسدوا على الدجاجات. وصاروا يقفزون على ظهورهن طول النهار، يجرون وراءهن الساعات تلو الساعات. ينزعون من مناقرهنّ الحب عنوة. ويركبونّ على ظهورهنّ دون عشق أو حب. عمت في الخم الفوضى. لم تعد لالة ورديّة تلتفت إليه، ولو بنظرة عاجلة. ذهب الذي كان يوقظها والجيران قبل بزوغ الفجر. ومازالت ترجو الله، وتدعوه في صلواتها، أن يعود ديك الحي من غيبته سالما، غانما، معافى من كل أذى.

تقول لالة ورديّة:

- لم يسبق لديك الحي، أن اختفى عن الأنظار والأسماع كل هذه المدة. ثلاثة أيام عند لالة ورديّة مقدارها سنة أو تزيد. كان من عادته في فصلي الصيف والربيع أن يغيب عن الحي صبيحة أو أمسية. أحيانا، وعندما ينشر الربيع بهاءه، ويُلبس الأرض حلّة خضراء كالزمرد، يخرج رفقة دجاجة فائقة الجمال، كي يمارس طقوس الحب العذري في أحضان النسائم الطريّة كالماء المنساب بين الخمائل. وتارة، عندما يحط الصيف رحاله، وينصب خيامه، ويدق أوتادها. يصطحب الدجاجات ذات الكتاكيت إلى حقول القمح القريبة، بعد حصادها، ويدربها على كيفية التقاط الحب، والحذر من الصقور والنسور السمراء. لكنّه يعود قبل انتصاف النهار، أو حلول الأصيل.

وتقول لالة وردية:

- أنّ ديك الحيّ، لا يخفى على أحد من أهل الحيّ. فقد صار صياحه مميّزا، ومسموعا من الضواحي القريبة. وصار يُعرف بـ(ديك لالة ورديّة). وكم من مرة سعىت إليها العجائز- الخبيرات في عالم الديكة الأصيلة – تبتغي منها إعارته يوما أو بعض يوم لدجاجاتهنّ. لكنّهنّ كنّ يصطدمن برفضها القاطع، خوفا عليه من أعين الحساد.

كانت تقول لهنّ:

- هاتوا بدجاجاتكنّ، يسرحن يوما أو بعض يوم رفقته.

- ألا يثير ذلك فتنة الغيرة لدى دجاجات الحي؟

- بلى. لكن سنحجزهنّ في الخمّ؟

وحدث ما لم يكن في الحسبان. ففي غفلة من لالة ورديّة، وأثناء تقديم الحب للدجاجات (المعتقلات) في الخم. نسيت أن تحكم غلق الباب. دفعته بعض الدجاجات دفعة واحدة وبقوة. وخرجن مطلقات سيقانهنّ للريح. وكانت المعركة الداميّة بينها وبين الدجاجات المجلوبة من الضواحي، لأجل التلقيح. وبدأت النقنقة وانفتحت الأجنحة والأظافر وهاجت المناقير. ولأول مرّة عجز ديك الحي عن فرض الانضباط، وحسم الموقف. كانت دجاجات الحي في هيجان عارم. عيونهنّ تقطر لوما أحمر. اتّهمنه بالخيانة، وكنّ يرددن:

- يا خائن الملح والعشرة.

حاول ديك الحي شرح حيثيات الموقف. فالأمر لا يعدو – في نظره - كونه خدمة إنسانيّة عابرة. لا تسمو إلى درجة الخيانة. فهو لم يخن أبناء الحي. ولم يفش أسرار قومه للأعداء، ولم يكن حركيا في صفوف الغزاة. ولم يفرّط في شبر من تراب الحيّ. وكان بإمكانه أن يذهب- وفي غفلة منهنّ – إلى دجاجات الضواحي، ويقضي في أحضانهنّ يوما أو بعضه، ويعود سالما، غانما. لكنّه – كما يقول – رفض، وعند لالة ورديّة الخبر اليقين.

لم تسلم دجاجات الضواحي من الرفس والنقب والنتف. عدن إلى أهاليهنّ مكلومات الجسد والروح. نادمات على رحلتهنّ المشؤومة. ناقمات على تلك العجائز الهرمات اللائي فقدن أحاسيس الغيرة وتقدير العواقب الناجمة عنها. واتفقت على تهشيم البيض فور إلقائه، لحرمان تلك العجائز منه. ورفضن حضنه. حتى تُسترد كرامتهن، ويعاد لهنّ الاعتبار بين دجاجات الضواحي، ودجاجات لالة ورديّة. لقد أُهدرت كرامتهنّ، ونلن من الإهانة ما لا يتحمّله ظهرجبل أرعن الذؤابة. واحتدم الخلاف بين العجائز ودجاجاتهنّ، حتى وصل بهم المطاف إلى محكمة بشريّة محايدة، التي قضت بأن الأمر لا يستدعي سوى المصالحة بالتراضي. لأنّ نيّات العجائز كانت حسنة. وإنّما الأعمال بالنيّات. ولم يقصدن أبدا إلحاق الضرر بالدجاجات. وعليه، تقوم العجائز باسترضاء دجاجاتهنّ، نزولا عند رغبتهنّ، بما يلي:

- زيادة كميات الأكل اليومي. وإعادة تجديد أرضية الخم وسقفه وطلاء جوانبه. وجلب اعتذار مكتوب من لالة ورديّة نيابة عن دجاجاتها المعتديّات.

ربّما كانت هذه الخطوة، هي القشة التي قصمت ظهر البعير، أو القطرة التي أفاضت الكأس. لقد رأى ديك الحي في تلك المصالحة هدرا لكرامته، وتفريطا في مكانة الحي.

قال بتهكم ومرارة:

- لم يكن الأمر يستدعي اللجوء إلى محكمة بشريّة، ولو كانت محايدة.

ولمّا سُئل عن العيب في ذلك، قال:

- ما دخل البشر في شؤوننا. ليتهم يقيمون العدل بينهم. إنّهم يفكّرون بالمنطق المادي فقط.

قالت لالة ورديّة:

- لولا لطف الله بخلقه، لحدثت مجزرة رهيبة.

- كنّا نبغي من وراء ذلك خيرا. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان.

كذلك أردفت قائلة.

و بدا للالة ورديّة أنّ اختفاء ديك الحي عائد – وهذا شبه مؤكد – إلى استبعاده من عملية الصلح. رغم أنّه ضلع رئيسي في المعركة الناشبة بين دجاج الحي ودجاج الضواحي. لقد حاول فك الاشتباك بين الطرفين دون انحياز لطرف على حساب طرف. لكنّه لم يفلح في ذلك. فقد كانت دجاجات الحي عازمة على الانتقام لشرفهنّ. كانت إحداهنّ تردد:

- لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى يراق على جوانبه الدم.

ولأول مرة، منذ خرج من بيضة أمّه، شعر بالعجز والفشل والهزيمة في معركة الحياة. بل ورمق في عيون دجاجات الحيّ غيظا ورعونة وإصرارا على الأذى، وتمردا على أوامره، وعتابا بلون الوعيد. أحس أنّ هيبته قد غاصت في الوحل. انتهى فيه ذلك الديك، الذي إذا انتصب وتمطى وصاح فجرا أو ضحى أو ظهيرة أو عصرا، وقفت له دجاجات الحيّ، وقفة الجنديّ للضابط الحازم تحيّة وإجلالا.

كان يمكن أن يختفي بأسلوب أكثر تحضرا وديمقراطيّة؛ وذلك بدعوة دجاجات الحيّ إلى اجتماع رسميّ، وإعلان استقالته، والدعودة إلى انتخابات مسبقة، وتكريس مادة في دستور جمهوريّة الدجاج، تُلزم الجميع على احترام مباديء التداول على السلطة. ويكون الجميع تحت السلطة القضائية، مهما كان المنصب. ولكنّ كل هذا استبعد. لأنّ سيادة الديك المحترم، لا يؤمن - أصلا- بمبدأ التداول على السلطة، فهو إما مقتول غدرا. أم مطاح به في انقلاب عسكريّ، أو خالد إلى أن يأتيه اليقين.

و حتى إن نظّم انتخابات (ديمقراطيّة ونزيهة)، فهي صوريّة فقط، ومن أجل الظهور بلباس ديمقراطيّ، على جسد ملك جبّار. إنّه يؤمن بنظريّة الحكم الشامل والجذريّ؛ وملخّصها، أنّه، إذا تمردت دجاجات الحيّ عليه، غيّرهنّ، وأتى بدجاجات جديدة. أما هو فثابت ثابت ثابت، إلى يتولّى أمره ملك الموت. كما قيل - والعهدة على راديو الأرصفة – أنّه فكّر في إضافة مادة إلى الدستور، تجبر الدجاجات وأشباه الديكة، بأن يشيّدوا له بعد مماته - إن مات طبعا – تمثالا من ذهب في قلب الحيّ، كي تُؤدى له طقوس الولاءات والطاعات والزيارات.

عجيب، أمر ديك الحيّ. كيف اختفي، وفي يده كل هذا الجبروت وهذه السلطات؟

(تمت)

***

بقلم الكاتب الروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

عادة ما تولد الفكرة من توتر الذهن أمام المدهش وغير المعتاد. يكسر حدث ما ألفة رتيبة مع وقائع غير متجددة، فيوقد الذهن شعلة تسري في المعاجم: حروف تلتقي، وكلمات تحن إلى استوائها على رصيف العبارة. يلتقط المؤلف مسودته ثم يشرع في تحديد معالم كذبته المقبلة. قيل أن الإبداع يتطلب المواجهة ومناداة كل لون باسمه، حتى وإن تأرجح قوس قزح فوق رأسك كحبل يشتهي الرقبة! لكن مشكلة حُسني أنه من صنف الرخويات، يكره رائحة الدم، ولا يطيق الكتابة بشفرة حلاقة.

 كان في مقتبل خربشاته حين استدعاه "الباشا" ليُحدثه عن افتتانه بالشباب الذين يُعبرون عن انتمائهم بنضج، ولا يتهيبون العصي والبنادق المحشوة ببارود تالف. لم يعلق بذاكرته غير دوي الصفعة الأولى، وسيل اللعنات التي اقتلعت أجداده من رحاب الفردوس لتلقي بهم في جحيم "دانتي".

إنه اليوم في عنفوان خربشاته؛ يتردد بين صالونات الفن متحينا فرصة الإدلاء برأي في لوحة رسام مغمور، أو مزهوا بكشف ثغرات في تجربة قصصية لحسناء لم تستجب لنداء الغريزة. وحده اليوم ناقد يحظى ببهجة الكاميرا وحفاوة الاستقبال. المسكينة أنيتا الغجرية، تتابع عن كثب كيف يلقي بها جحوده في عتمة النسيان. أرملة مقامر فر بجلده من جحيم فرانكو ليصرف عمره في تهريب اللوحات الرخيصة والتحف المسروقة من غرف الأميرات. وحَّدهما الدم الغجري، وما تخثر في النفس من أنين "الكالديراري". تلك الرحلة التي نثرت العارفين بأسرار البرونز في أنحاء القارة العجوز. إنها اليوم تدين له بثراء حرك شهوة الطامعين في البلدة. لكن حسني أدمن طرق الباب حتى ولج. تذكر إصراره على أن يكون ترياقا لوحشتها، وأبلغ في الحرص على أموالها من صيرفي يهودي.

 تصدر عن القلب تنهيدة وهي تتطلع لصورة حفل الزفاف. بدت يومها جذلى في ثوب أبيض أحال فارق السن بينهما إلى مزحة. حسني شاب طيب أجل، لكنه لا يحفل بمن تطأه قدماه في رحلة الصعود إلى المجد. يرتمي في حضنها شاحبا كعود قصب، ثم سرعان ما يسترد قواه الخائرة ليصفق الباب خلفه ويرحل.

تتابع كل ليلة خميس مداخلاته على الشاشة. لا يمل من كيل التهم ورشق الجهات الوصية على القطاع. جرأته وانحيازه للمسارات الهشة أكسباه حضورا لافتا في أدبيات الموجة الصاعدة. أب روحي؟ ربما، لكن حادثة الصفعة لا تزال كامنة في شقوق أحلامه المزعجة. حسني شاب طيب، أجل، وسيذكر حتما أنها كانت مجاله الرحب للإفصاح عن مخاوفه، أنيتا هي التعويذة التي تشفي روحه المتورمة، وتمسح بيد حانية حبات العرق البارد المكورة على جبينه كلما قفز من سريره مذعورا.

 يصر على أنها مجرد صفعة، وتذكرة عبور من بدايات الطيش إلى نضج وواقعية تستوعب قواعد اللعبة. لن تمنحك جرأة البوح سوى مقعد خلفي في الذاكرة، فالشعوب هي الشعوب، قد تحمد لك صيحات في الوادي ثم تستسلم لخدر النوم اللذيذ. كف عن ملاحقة خيط أحلامه الواهي لينساب كالحية على بطنها في الردهة الموصلة إلى المجد.

 لم يكن لذرائعه وقع في نفس أنيتا المصقولة مثل سيف محارب؛ فللمجد مرقاة واحدة مستقيمة كظل سنديانة، لا تمنح شرف الصعود إلا لمن خط بمداد الروح صدق انتماء للوجع الإنساني.

 يضحك حسني حين تحثه على أن يرفع رأسه بين الفينة والأخرى كي لا يألف الانحناء. ربما غاب عن أنيتا وهي تبدد الخوف الرابض في شقوق أحلامه، أن كاتبا من صنف الرخويات لا تأسره احتمالات السمو! 

***

حميد بن خيبش

الى صديقي حسام العبادي

حينَما حَدّقَتُ فيها

أينَعَتْ حوريّةُ البَحرِ

بغاباتِ القَصَب

ونما البَردِيُّ في حَضرَتِها

والزنابِق

وشحتها بزهورٍ من ذَهَب

فتَمَطّتْ

طارَ من بينِ يَدَيها

سِربُ وزٍّ وغَمامٍ من بَجَع

نَزَلَتْ تَسعىٰ إليّ

فَيئُها غَطّىٰ عَليّ

لثَمَتْ لي شَفَتي

ثمّ قالت

فيكَ من طَيشِ الخُلود

واريجٌ من مياهِ الآلِهة

عبَرَتْ بي مَوجَةُ البحرِ

الى مَرجِ الكُهولَة

كجَناحٍ فزَّ من غَفوَتهِ

طارَ بي الحاضِرُ يَسأل:

عن ممَرّاتِ الطُفولَة

نحوَ أهوارِ العراق

**

طارق الحلفي

 

هيَ الأرضُ... مِهبٌّ للرُّكودِ،

تدورُ كما يدورُ الحَجَرُ في فمِ النّهرِ،

تتآكلُ أطرافُها

من شدّةِ ما تُعيدُ ذاتَها إلى ذاتِها.

*

كيفَ تجذبُ وقتَكَ إذًا،

من بين أنيابِ الغياب؟

كيفَ تُحرّكُ واقعًا

تحجّرَ من فرطِ الحذر؟

الجبالُ تتهامسُ ساخرَةً، من رامَ القمّةَ،

يُصلبُ على سلّمٍ من هباء.

*

ثمّةَ في الهواءِ من يُطفئُ مصابيحَ الحلمِ،

من يُقايضُ الارتفاعَ، بأمانِ الحفرة،

ومن يهمسُ، ابقَ هنا،

في قاعِ الضّجيج،

فالأعلى مكتظٌّ بالوحشةِ.

*

كلّما صعدتَ،

سقطَ ظلّكَ عليكَ.

كلّما أنشدتَ، ابتلعَك الصدى ...

كلّما لامستَ النُّورَ،

عادتْ إليكَ أصابعُ العتمةِ

تُعيدُ ترتيبَك من جديدٍ....

*

ما الذي يدفعُكَ،

أيّها المتعبُ،

إلى حفرِ ملامحِك في الرصيفِ،

كأنّك تبحثُ عن وجهِك القديمِ

تحتَ الغبار؟

*

الحجارةُ تشيخُ،

الخطى تُجرّ أذيالَها كأسرى،

والهواءُ مُثقلٌ

بأنينِ من لم يُكملوا الحكاية...

تسيرُ،

كأنّكَ تعتذرُ عن البقاءِ حيًّا،

كأنّ الطريقَ ليستْ لكَ،

بل لجثثٍ تتدرّبُ على النهوض.

*

العصافيرُ تُذبحُ في السّماءِ

دونَ شاهدٍ أو محكمة،

والشجرُ يُجلدُ في صمتٍ

حتى يُقرَّ بخضرته.

*

يا الله،

هل هذه القيامةُ

تُجرَّبُ قبلَ الإعلان؟

هل نحنُ نُصلبُ

كي لا ينسى التاريخُ رائحةَ الألم؟

*

يا الله،

ارفعْ عنّا هذا الليلَ

الذي لا ينتهي،

نحنُ — أبناءُ الطينِ والرغبةِ —

سئمنا التّحوّلَ إلى رمادٍ

كلّما حاولنا أن نُضيءَ.

*

نحنُ الرّعاعُ الممنوعونَ من الحُلمِ،

نكتبُ على حوافِّ العدمِ،

"هنا مرَّ إنسانٌ

حاولَ أن يصيرَ نجمًا،

فسقطَ...

من فرطِ االنور "

***

مجيدة محمدي

رقصةُ التَّقَلُّبِ في ساحاتِ الحِبر

​كَانُوا هُنَا..

بالأمسِ القريبِ سِهاماً

في خاصِرةِ الكلماتِ

يَنسِجونَ مِن الهمسِ قُيُوداً

لِيَدِ الآخرِ أوْ يَدِ الأُخرى

وَالآنَ هُمْ:

خِلاّنُ مِسكٍ

يَرتَشِفُونَ نَبِيذَ الودِّ

مِنْ كأسٍ أَعَارَتْهُ المَصَالِحُ

أَلَقَاً

​وَأَنا المُتَفَرِّجُ

في زَاوِيةِ الصَّمتِ أَقِفْ

أَسْتَغرِبُ كَيفَ تَمُوتُ الخُصُومةُ

في لَحظَةٍ..

لِتبعَثَ صَداقَةٌ مَوهُومةٌ

تَحْتَ رَايَةِ تَمْرِيرِ (تَفعِيلَةٍ)

لِكِتابٍة

لِجَائزةٍ

لِصَدى

​نَعَمْ مُتَفَرِّجٌةٌ..

وَلَكِنْ لَسْتُ سَاذَجَةً كَي أَتْبَعْ!

فَمَا عَادَ يُغرِينِي ضَيَاءٌ

مُستَعَارٌ مِنْ لِصٍّ

وَمَا عَادَ يُرضِينِي صُحبةُ

مَنْ بَاعُوا النُّفُوسَ لِبُرْجٍ مِن وَرَقْ

​أَرَى الوَهَجَ الأَدبِيَّ كَي لا يخْفَى

يَسْتَمدُّ الآنَ زُوراً

مِن شَاشَةٍ

مِن خَوَارِزمِياتِ دَعْمٍ

يَصُبُّهَا ذَكَاءٌ صَارَ صِنْدُوقاً

لِتَلمِيعِ التُّرّهَاتِ

فَيَرتَفِعُ صَوتُ النّصِّ الزَّائفِ

فَوقَ صَوتِ القَلبِ الصَّادِقِ

المَنسِيِّ في الرُّكْنِ البَعِيدِ

​هُو (بَرِيْقُ الإِنسانِ الآليِّ)

لا شَيءٌ مِن رُوحٍ!

​يَا لَلعَجَبْ!

الأَدبُ قَنطَرةٌ

وَلَيسَ رُوحَاً أوْ غَايَةً

أَرَى المهازلَ تَرْتَدي

ثَوْبَ القَفْلَةِ الصَّادِمَةِ

عَلى خَشَبَةِ النِّفاقِ

​لَن أَرْتَدِي قِنَاعاً مِنْ رِياء

وَلَن أُصَفِّقَ لِقَلْبٍ

يَعرِفُ الوَجْهَيْنِ

والخُطُوَاتِ المُتَبَدِّلَة

أَنَا الحَقِيقَةُ

الصَّامِتَةُ

التي لا تَنسَحِقْ

​فَيَبقَى الصمتُ هو أبلغُ استهجانٍ

لِهذا الرقصِ المُتقنِ

حَولَ مَذبَحِ المصلحةِ

***

مرشدة جاويش

 

لطالما أدهشني هذا السقوط الهندسي.. كأن الدومينو تحاول أن تشرح لنا سرّ الحياة: أن النظام قد يولد من الفوضى، وأن الفكرة لا تشتعل إلا بعد سقوطٍ متتالٍ لشيءٍ فينا."

خطة الدومينو وهندسة السقوط

جلس سُهيلان أمام طاولة خشبية صغيرة، وعلى الطاولة صفٌّ من قطع الدومينو المصطفّة بدقة. لم تكن لعبةً للتسلية هنا فحسب، بل خريطةٌ لوعيٍ تأمل طريقته في السقوط. تذكر كيف أن كل قطعة عندما تميل، لا تهوي إلى العدم؛ بل تستند إلى من يجاورها.

 في ذلك المشهد البسيط رأى فلسفةً للمعركة: سقوط منظّم خيرٌ من ثبات فوضوي، والنهوض المُرتّب أقوى من الاحتشاد العشوائي.

أرسل النداء إلى جنوده، لكن كلماته لم تكن نداءً لحمل السلاح فحسب، بل دعوةً للاعتبار: "سنرتب صفوفنا كما تُرتّب الألوان في لوحة. كل لونٍ يحمل دورًا، وكل دورٍ يرتكز على الآخر. لا نبحث عن سحق العدو، بل عن أن نُعدّ أنفسنا لنقف حين يسقط الآخرون."

قسم الجيش إلى مستويات لونية: المشاة في المقدمة، كطبقةٍ من الظلال التي تختبر أرض المعركة، الرماة على الأطراف كخطِّ ضوءٍ يقوّم الزوايا، والفرسان كنبضٍ يربط المركز بالأفق. لم تُخفَ على الجنود رمزية الألوان؛ فقد صار كل درعٍ يكتسب تدرجًا من الرماد إلى الفجر، يذكّر من يسقط أنهم على وشك أن يقبعوا في حضن رفيق لا في فراغٍ بلا معنى.

خطةُ الدومينو لم تكن مجرد ترتيبٍ مادي؛ كانت هندسةَ سقوطٍ محسوب. سُهيلان علّمهم أن يتركوا فراغاتٍ صغيرة بين الصفوف، فراغاتٌ تسمح بالحركة، بالامتصاص، وبالتحويل، عندما ينهار صفٌّ أمام العدو، لا يستغلّ ذلك الفوضى ليلبسها سيفًا. بل يُولي رفاقه مهمّةً: تحويل هذا السقوط إلى متنفسٍ لإعادة التشكل، إلى نقطة ارتكازٍ جديدة.

 السقوط هنا ليس هزيمةً نهائية، بل إيقاعٌ يعاد عزفه بوعي.

وصلت الأخبار عن تقدم "دراكون " بجيوشه المدهشة في العدد لكن الفاقد في التنظيم. دراكون اعتمد على زعزعة النفوس؛ أشعل الخوف كشرارةٍ تمسح بها العقل، وظنّ أن الفوضى ستولد الانهيار التام. لكنه لم يعِ أن سُهيلان قد صاغ جيشه كلوحةٍ متآزرة، وأن كل سقوطٍ فيها سيُحتضن، لا يُهمَل.

حين اشتعلت المواجهة على حافة السهل، بدا الأمر لأول وهلة وكأن الدمار قادم؛ خطوطٌ تنهار، وصرخاتٌ تعلو. لكن سُهيلان ظل هادئًا.

 أمر بالانسحاب الجزئي لمجموعةٍ معينة — انسحابٌ محسوب جعله يبدو وكأن جيشه يتهاوى.

دراكون انتفض، يرى الفرصة في الاضمحلال الظاهر، فاندفع.

هنا بالذات نشطت هندسة السقوط: الفراغات التي تركها سُهيلان تحوّلت إلى قنوات، وتحولت حركات الانسحاب إلى أمواجٍ تعيد تجميع الصفوف من الخلف.

الجنود الذين قيل عنهم إنهم سقطوا، قاموا ووجدوا أيادي رفاقٍ ترفعهم، ودرعًا يستكمل مكانهم.

دراكون في يقينه المتقدس بأنه كسر توازن العدو، وجد نفسه في مواجهة نسقٍ لم يفهمه؛ جيشٌ لا يظفر بوقوعٍ نهائي للآخر، بل يتعامل مع السقوط كدرسٍ ومرحلةِ انتقال. رأسه الإستراتيجي تعثّر أمام هذا الاتساق، وقلّب التكتيك إلى ورطةٍ فكرية: كيف تهزم عدوًا ينهض حتى حين يسقط؟

في الساعة التي خمدت فيها أصوات الحرب، وقف سُهيلان على ربوةٍ صغيرة يطل على ساحة الصراع. لم يحمل رايةً حمراء تنذر بالنصر الدموي، بل رفع رايةً رمادية كالفجر، لون التوازن بين ضوءٍ وظل. اقترب منه جنديٌ شاب، وقد فرش غبار المعركة وجهه، همس: "هل كان هذا الانتصار؟" ابتسم سُهيلان بهدوء وأجاب: "ليس الانتصار في إسقاط الآخر، بل في أن نعرف كيف نعيد ترتيب قطعنا عندما تسقط. النصر أن نكون هندسةً تبقى إنسانيةً، لا آلةً تهشم."

وهكذا صارت "خطة الدومينو" أسطورةً تُروى؛ ليس لأنها علمت كيف تُوقع القطع، بل لأنها علمت كيف تجمّل السقوط، وكيف تجعل من كل سقوط فرصةٍ لسندٍ ولصنعةٍ أجمل. ومنذ ذلك اليوم صار يُقال في الميادين: إن الذين يعلمون هندسة السقوط هم وحدهم من يعرفون معنى النهوض، وأن أروع انتصارٍ هو أن تُنقش عبارات الرفق على شظايا الانهيار.

***

د. نسرين إبراهيم الشمري

 

يَا أَنْتَ، حِينَ تَبْلُغُ الحَافَّةَ، وَيَتَثَاقَلُ الهَوَاءُ فِي رِئَتَيْكَ، وَتَبْدُو الأَرْضُ حَجَرًا تَائِهًا فِي فَضَاءٍ لَا يَرْحَمُ، حِينَ لَا يَبْقَى فِيكَ إِلَّا نُقْطَةٌ هَشَّةٌ مِنَ الضَّوْءِ، اِغْمُضْ عَيْنَيْكَ، وَانْزِلْ إِلَى أَعْمَقِ نُقْطَةٍ فِيكَ، هُنَاكَ مَنْبَعٌ صَغِيرٌ لَا يَعْرِفُ الِاسْتِسْلَامَ.

*

إِنْ لَمْ تَعُدْ تَقْوَى عَلَى التَّحَمُّلِ، فَادْخُلْ إِلَى ذَاتِكَ كَمَا يَدْخُلُ الغَرِيبُ كَهْفًا مِنْ نَارٍ وَمَاءِ. قُلْ لِنَفْسِكَ: مَا الَّذِي جَعَلَنِي أَخْتَارُ الحَيَاةَ فَجْأَةً؟ ثُمَّ أَصْغِ جَيِّدًا… فَالأَجْوِبَةُ لَا تَأْتِي مِنَ الخَارِجِ، بَلْ مِنَ الأَنْسِجَةِ السِّرِّيَّةِ الَّتِي تَنْسُجُ الحَيَاةُ بِهَا مَعْنَاهَا حَوْلَكَ. فِي قَلْبِكَ — رُبَّمَا — شَجَرَةٌ صَغِيرَةٌ، لَمْ تَرَهَا قَطُّ، لِأَنَّكَ كُنْتَ مَشْغُولًا بِالظِّلَالِ.

*

تَذَكَّرْ… حِينَ قَرَّرْتَ أَنْ تَبْقَى حَيًّا، لَمْ تَكُنْ تَمْلِكُ خُطَّةً وَلَا خَارِطَةً، بَلْ كَانَ فِيكَ وَمِيضٌ وَحْشِيٌّ نَقِيٌّ قَالَ لَكَ دُونَ كَلَامٍ: لَا تَزَالُ هُنَاكَ مَعْرَكَةٌ تَسْتَحِقُّ أَنْ تُخَاضَ، أَوْ قُبْلَةٌ لَمْ تُعْطَ، أَوْ أُغْنِيَةٌ لَمْ تُكْتَبْ، أَوْ مَدِينَةٌ تَنْتَظِرُكَ لِتَفْتَحَ نَوَافِذَهَا.

*

فَكِّرْ فِي هَذَا السَّبَبِ… فِي تِلْكَ الِارْتِعَاشَةِ الأُولَى الَّتِي جَعَلَتْكَ تَخْتَارُ الحَيَاةَ، فِي ذَلِكَ الاِسْمِ، أَوِ الوَجْهِ، أَوِ الضَّوْءِ، أَوِ الكَلِمَةِ، أَوِ الحُلْمِ. هُنَاكَ يَكْمُنُ مَنْبَعُ القُوَّةِ — لَا فِي الصُّرَاخِ — بَلْ فِي النَّبْضَةِ الخَفِيَّةِ الَّتِي تَتَّقِدُ مِثْلَ شَمْسٍ صَغِيرَةٍ تَحْتَ جِلْدِكَ.

*

الحَيَاةُ لَيْسَتْ جَبَلًا يَصْعَدُهُ الأَقْوِيَاءُ، بَلْ غَيْمَةٌ يَرْكُضُ تَحْتَهَا المُنْهَكُونَ وَيَصِلُونَ رَغْمَ الارْتِجَافِ . أَنْ تَبْقَى، لَا يَعْنِي أَنَّكَ لَمْ تُهْزَمْ، بَلْ يَعْنِي أَنَّكَ أَعْلَنْتَ هُدْنَةً مَعَ الأَلَمِ لِتُرَبِّيَ فِي صَدْرِكَ طَيْرًا صَغِيرًا اسْمُهُ الرَّجَاءُ.

*

وَحِينَ يَشْتَدُّ اللَّيْلُ، وَتَتَكَاثَرُ الأَصْوَاتُ الَّتِي تَدْعُوكَ إِلَى السُّقُوطِ، اِرْكَعْ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، لَا لِتَنْهَارَ… بَلْ لِتَسْمَعَ الأَرْضَ. سَتَهْمِسُ لَكَ سِرًّا لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ: كُلُّ شَيْءٍ حَوْلَكَ يُرِيدُكَ أَنْ تَبْقَى. الهَوَاءُ، وَالبَحْرُ، وَأَصْغَرُ وَرَقَةٍ عَلَى شَجَرَةٍ فِي زَاوِيَةٍ مُعْتِمَةٍ، كُلُّهَا تُرَاهِنُ عَلَى لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْكَ… لَحْظَةِ نُهُوضِكَ مِنَ العَدَمِ.

*

فَلَا تَمُتْ، يَا مَنْ فِي دَاخِلِكَ شَمْسٌ لَمْ تُشْعَلْ بَعْدُ، فَلَا تَمُتْ، يَا مَنْبِعَ الأَنْهَارِ الصَّامِتَةِ، فَلَا تَمُتْ، لِأَنَّكَ حِينَ اخْتَرْتَ الحَيَاةَ، صِرْتَ جُزْءًا مِنْ إِيقَاعٍ كَوْنِيٍّ لَا يَتَوَقَّفُ.

*

اِبْقَ… وَلَوِ ارْتَجَفَتِ الأَرْضُ مِنْ تَحْتِكَ، اِبْقَ… وَلَوْ تَكَسَّرَتِ اللُّغَةُ فِي فَمِكَ، اِبْقَ… لِأَنَّكَ أَنْتَ السَّبَبُ الَّذِي تَبْحَثُ عَنْهُ، وَأَنْتَ حِينَ تَفْتَحُ عَيْنَيْكَ، تُعْطِي هَذَا الكَوْنَ سَبَبًا آخَرَ لِلْوُجُودِ.

***

بقلم: كريم عبدالله

بغداد - العراق

 

مرت ثلاث شهور دون اتصال، او سؤال منه، تاركها تغوص في بحر من الحيرة، وفي كل مرة تبعث له برسالة، يصلها الرد خذلان وانتظار بات لا يحتمل.

كانت تمشي ببطء في الأزقة الضيقة، تخشى أن توقظ وقع خطواتها، حبات الرمل التي تكسو الشارع الذي مازال نديا، محتفظا بقطرات المطر، مثل قلبها نابضا بالأمل..لا يجف أبدا.

لم تكن تؤمن بالخرافات يوما، حيث كانت تقولها وترددها دوما: " لا يعلم الغيب الا الله ".

ها هي اليوم تحمل فنجانها بيدها مستسلمة لهواجسها، متوجهه لبيت العرافة أم جابر، التي تتناقل النساء همسا، وتتحدث عن قدرتها وموهبتها التي تثير الحيرة والغموض في وجوه الأخرين.

كانت تجلس القرفصاء متقوقعة حول نفسها، نحيلة الجسد، خافته الصوت، تراقب بعينيها الكلمات قبل أن تصل الى أذنيها، قلبها يخفق سريعا، وكأنه يمد يده نحو السماء، داعيا من الله أن لا يخذلها.

انتظرت بفارغ الصبر محدثة نفسها: هل سترى أم جابر، الخط المرسوم في اعلى الفنجان؟ هل ستقول لي هناك اتصال؟ هل ستعرف أنه رحل، وأني لن أتوقف يوما عن تصديق ذلك!

دفعت أخر دنانيرها، وكأنها تشتري وعدا، لا تنبؤا.

أمسكت العرافة الفنجان، أمالته نحو صدرها، وهي تمد عنقها، حدقت به طويلا.. صمتت.

- فنجانك ملئ بالمفاجآت اليوم، أنني لم أشاهد مثله قط!! رفعت أم جابر أصبعها برمزية، أرى ديكاً يقف على جدار عالي!

انتفضت الفتاة من مكانها، شهقت: ماذا يعني ذلك؟!

أجابت العرافة بهدوء: يعني أن هناك خبرٌ سارٌ سيصل اليك.

اقتربت منها وهي تزحف بأمل، انفرجت سرائرها بابتسامة عريضة.

- وماذا بعد؟

- أنظري، هناك خط طويل مرسوم بشكل دائري في أعلى الفنجان.

فرحت في سرها، تنهدت، محدثة نفسها: هذا ماكنت أنتظره سألتها ماذا يعني ذلك؟

- سيأتيك أتصال منه، ربما عبر الهاتف.

هزت برأسها نعم، مع أنها لم تر أي خط، سواء كان قصيراً أو طويلاً!! كانت فقط تتشبث بكل ما يسمى " علامة ".

رفعت أم جابر حاجبيها، وهي تٌحدق طويلا في قعر الفنجان: هل أنت على علاقةِ قديمةِ به؟

-  نعم نحن نحب بعضنا.

- لا أقصد هذا، هل التقيتما لوحدكما سويا في مكان ما؟ وهل كان هناك تماس جسدي بينكما؟

- توهج وجهها واحمرت وجنتيها كلا أبدا!.

صمتت ام جابر، قالت بتردد: أرى رجلا وامرأة يجمعهم سرير واحد، لكن وجهيهما في أتجاهين مختلفين، ربما تكونين أنت، أو تكون هي!

- ماذا تقصدين "هي"، نعم لربما هو على علاقة بغيرك! والله أعلم.

لم تبكي، لم تجب، فقط ظلت تراقب حركات العرافة وتنتظر ما تقوله.

تابعت العرافة: أرى سلما مكسور الدرجات، تصعدينه عدة مرات، دون أن يؤدي الى باب، أنت تتقربين منه دوما، لكنه يشيح بوجه عنك، تنهدت ثم استأنفت القراءة من جديد.

- نعم انقطعت أخباره عني.

- ارى امرأة ببطن منتفخ، لا أحد بقربها وحيدة تصارع المخاض،هل لك أخت أو قريبة حبلى؟

هزت رأسها ببطء، لا تعرف ما الذي يعنيه ذلك!.

- أطرقت العرافة قائلة: أنه الحزن، فهو ينمو مثل جنين في بطنك، لا يريد الخروج، أنت تحملين هما كبيرا يا أبنتي ..

ثم فجأة تغيرت نبرة صوتها، قطبت حاجبيها، وقلبت الفنجان في نصف دائرة، عليك بالحذر..

 - ماذا هناك؟ سألتها بخوف.

-  ارى ثعبانا في قعر الفنجان.

قربت الفنجان من وجهها، لعقت أصبعها المصبوغ بالحناء، وضغطت على صورة الثعبان وكأنها تسحقه.

وضعت الفنجان على الأرض ونهضت.

-  خلاص.. قالتها العرافة وكأنها تختم قـدر، او تغلق بابا.

لم ترد، أعطتها أخر ما تبقى من دنانيرها، نهضت بهدوء، وضعت حجابها فوق رأسها، مشت نحو الباب، في الخارج كان الغروب قد بدأ، رفعت رأسها نحو السماء، لا طيور، ولا شيء في الأفق، شعور بالغربةِ يسيطر عليها، وهي تمشي على غير هدىٍ، عيناها تحدقان في الارض والخذلان يترأى أمامها، أخرجت هاتفها وكادت تعيده الى الحقيبة،

لكنه أهتز فجأة، نظرت الى الشاشة، لم يظهر لها أسمُ، هناك فقط رقم مجهول، رفت ابتسامة خفيفة على وجهها، ثم تلاشت وبدون أن تضغط " رد "، أغلقت الشاشة وأكملت طريقها.

***

نضال البدري

 

الغصن الذي كنت أقف عليه يافع أخضر، يبدو أنه قد شرب من العين المجاورة ما يكفي، اليخضور البارد وهو يغازل أظافري ألهمني الشجاعة، عندما تنفس الغصن صعد الدخان إلى نخاعي، شعرت بالدوران، ورغم ذلك استمريت أراقب كيف تتدرب فراخي على الطيران، لكنهم تهوروا وعادوا حيث تركت أمّهم في عمق الغابة، اتفقنا بأن تحاكي لآخر مرة ذكريات عشنا الذي بنيناه الربيع الفارط.

هروب الفرشات بطيء جدّا، أدخل اليأس إلى قلبي، جعلني أفقد الأمل في نجاة عصفورتي وفراخي، عجّت السماء بدخان أسود كثيف، طال أعيننا أنا والفراشة التي لجأت إلى الشجرة مثلي، وقد وصلت بجناح واحد، حطت وكانت مرهقة جدا، حين أيقنت بأن اللهب قد أكل أجنحة ما تبقى من الفراش بكيت.

النسور مرت فرحة بقوة جناحيها، صعدت إلى علو لا تراه أعين النار، الفراشة المعطوبة تناشدني لأطير بها إلى مكان آمن، ألسنة اللهب تتراقص متوعدة كل أخضر ويابس في غابة أولاد قدور، أما أنا فلم أكن خائفا على نفسي بسبب الماء الذي يحيط بالشجرة، لكن قلبي كان يتمزق خوفا على عصفورتي وفراخي، أكاد أخرج من عقلي، ومن حين إلى آخر أهمس للفراشة المسكينة بأن فرصة النجاة لا تزال متاحة لنا، زرعت فيها الأمل وعدت مجدّدا لأفحص الطيور لعلي أرى أسرتي من بينهم.

ورغم قلقي أمام هول النار لم أهمل الحشرات وهي تعبر الماء لتتسلق الشجرة، كتمت تغريدي حتى تشعر بالأمان ثم تتمكن من النجاة، كل الكائنات تطلب النجدة في هذا اليوم الملتهب المشؤوم، لا أحد لديه الوقت ليفترس الآخر في غابة أولاد سالم:

- الأرض تتكلم كل اللغات أيتها الفراشة، فالعمالة صارت تَنبُت في جيبونا لأنها مِنّا وفينا.

في حين كانت الفراشة تبحث عن إجابة، أقبل سربٌ من العصافير وملأ أيك الشجرة، راحت عصفورتي تتجاوز صفوف الطيور حتى حطّت بمحاذاتي فأعادت إلي روحي:

- أبشر يا زوجي العزيز فإنني حيّة أرزق وأن الفراخ كلهم بخير، إلّا ذلك الفرخ اللئيم الذي كان يتعبنا مرارا بمغدرته العش وهو لا يزال صغيرا.

هويت بظهري لأمكن الفراشة المعطوبة من الصعود، وطلبت منهم جميعا الاستعداد للمغادرة قبل وصول النار إلينا، فزقزق فراخي بمنقار واحد وطلبوا مني التريث حتى يتأكدوا من نجاة أو هلاك أخيهم الغائب.

الزواحف وهي فارة من النار حفرت في الأرض وصنعت سواقي عدّة، فتدفق الماء وسرى بين الأعشاب ناحية النار فتوارت قليلا، ثم تدخلت خراطيم مياه يحملها إنسان يلبس بدلة زرقاء داكنة، كانت خراطيم الماء قوية، ظلت تضرب على وجه النار حتى مسخته وصيرته رمادا.

شيئا فشيئا انقشع الدخان وصفت السماء، بينما نحن نتنفس هواء نقيا إذ بالفراخ تشير بأجنحتها مبتهجة، نظرنا فرأينا على مد البصر ذلك الفرخ اللئيم قادما من بعيد، يرفرف بجناحيه وكأنه علِم في التو أن الطبيعة على قدر ما هي جميلة ومنعشة فإنها مخيفة أيضا.

في الناحية الأخرى أولاد قدور هبوا مشمّرين على سواعدهم يحملون المعاول معولين على حفر مزيد من العيون، توزعوا عبر أنحاء عديدة والغابة تردد هديرهم وأصوات معاولهم، تفجرت العيون من كل ناحية ففرت النار ومن خوفها سقطت في البحر.      

***

عبد الباقي قربوعه / الجزائر 2025

       

تدورُ الطيورُ على نبأٍ غامضٍ

وتحاولُ أنْ تحملَهْ

لِتقولَ لأهلِ البلادِ بِصفقِ الجوانحِ: ما أجملَهْ

*

فالبلادْ

وهيَ ظمأى ومدحورةُ الرافدينْ

تحنُّ الى حسنِها في قوامٍ مهيبٍ وعينينِ ساحرتينْ

يضرمانِ الجوى في النخيلِ ولا يحرقانهْ

فيغري الجمالُ المُحَرَّمُ صبّاً يقاسي صنوفَ الغرامْ

فينهلُ عبّاً ولا يمنعانهْ

بينما النورُ يسري مع الماءِ في لمعانِهْ

*

هلْ تعودُ الطيورُ التي هاجرتْ بَعدَ حينْ

كأنَّ علائمَ دربَ الرجوعِ حنينٌ يقودُ حنينْ

فهي ظمأى، وأهلُ البلادْ

سروا نحوها كي تقولَ لهمْ ما تقولْ:

نبأٌ غامضٌ مِن ضياءٍ وماءٍ سيأفلُ فيهِ الأفولْ!!

***

شعر: كريم الأسدي - العراق

..................

ملاحظة: زمان و مكان كتابة هذه القصيدة في السابع عشر من تشرين الأول 2025 في العراق ، وقد أتت اثر ندوة فكرية وثقافية عُقدت يوم امس السادس عشر من تشرين الأول 2025 في الناصرية ـ العراق ، وتحدثت فيها في مداخلة عن دجلة والفرات وشحة تدفق المياه في الرافدين.

 

(بيانٌ عن هامشِ الضَّوْءِ وظلالِ مَنْ عَبروا)

هُنا،

في هَامِشٍ مُغبَّرٍ مِنْ خَارِطةِ الضَّوْءِ،

لا يَراني غَيْرُ رَجُلٍ تَخْنُقُهُ رُؤاهُ،

يَسيرُ بِأَثرِ نُجومٍ أُطْفِئتْ قَبْلَ أَنْ تُولَدْ،

يَتحسَّسُ مَسامَ الحُلْمِ كَمنْ يُفتِّشُ

في دفْترِ الرَّمادِ عَنْ وجْهِهِ

2

وحينَ يَبْلُغُ حَافَّةَ اللَّيْلِ يَسْقُطُ مِنْ ظِلِّهِ،

يَسْمعُ صَدى انْكِسارِ النُّورِ على مِرْآةِ نِسْيانِهِ؛

فَكَّرْتُ: زَهْرةٌ في قِدْرِ صَفْحٍ مِنْ صَفيحٍ قَديمْ،

يتغيَّرُ الشَّكْلَ كُلَّما بَعُدَتْ يَدايَ

عَنْ كُتيِّبِ النَّارِ القَديمْ

3

قَرأْتُ: فِئْرانُ فُنْدُقِ: الحُلُمِ، تَنامُ على قُطْنِ الدُّولارِ،

تُصفِّرُ لِلبشرِ الرَّخيصِ كيْ يُصفِّقوا؛

وخَنازِيرُ تَسْكُنُ الحرْفَ

تَدُوسُ القَصيدَةَ بِلِسانٍ مُهْشَّمٍ

4

رَأَيْتُ: كُلَّما وصلتْ خُطايَ إِلى جِهةٍ،

خَرجتْ لي: العَاصِمةُ الطِّينيَّةُ، مِنْ فُتْحةِ البَريدِ،

تُبلِّغُني: أَنْتَ الآنَ في مَعْرِضِ الطِّينِ المُعوْلمْ

رَأَيْتُ: كَأَنَّ الخَريطةَ فَرَسٌ يَجُرُّ سَوَاقيَ الذِّكْرى،

وكأَنَّ زَمانَنا كيسُ أَعْلافٍ مَشْقُوقٌ

يَسيلُ لِمقْبرةٍ بِلا عُنْوانْ

5

في كَرْكُوكَ تَتعرَّقُ مَعادِنُ النِّسْيانِ،

في الرِّياضِ أَدْهَنُ جَبْهةَ الذَّاكِرةِ

بِزَيْتِ الْإِغْفالِ والطُّلْسُمِ،

في عَمَّانَ أُقيمُ مَكْتبًا رَابِعًا لِإِحْصاءِ الْكوَابيسِ

6

ونُعِدُّ لِلْحرْبِ الجَديدةِ بِكُلِّ رَتابةٍ ورقْمٍ مُسْتقيمْ:

١ – في زَاويةٍ: مُوسيقَى مِنْ صَفيحْ،

٢ – في السَّطْحِ: شَاعِرٌ لا يَمْلِكُ إِلَّا رَمادهْ،

٣ – في التَّحْتِ: عُصْفورٌ يُدرِّبُ لَحْنهُ الأَخيرْ؛

*

وَنُعْلنُ بِاسْمِ اللَّائِحةِ الرَّابِعةِ:

١ – الْفَضاءُ صُنْدوقُ الخَوْفِ والخَشبْ،

٢ – الزَّمانُ يُقاسُ بِمِشْنقةٍ،

٣ – والْأَخُ يَذْبحُ أَخاهُ لِتنْجحَ خُطَّةُ الشِّعارْ،

٤ – الشَّمْسُ: وَجْهُ الحاكِمِ،

والقَمرُ: عُمْلةٌ في جَيْبِ خَليفتِنا الكبيرْ!

7

رَأَيْتُ أَسْماءً مِنْ قَمْحٍ تَتَوَهَّجُ في الغُرْبةِ،

لكِنَّها كَكوْكبٍ لا يَعْرِفُ نَسبَهْ؛

هُنا في الحافَّةِ البارِدةِ مِنْ كَوْكبِنا أَعْترِفُ:

أَحْببْتُ زَهْرةً أُسَمِّيهَا الحَياةَ فَقتلْتُها،

ثُمَّ سَمَّيْتُها: بِلادي

8

أُقَشِّرُ رِيحكِ كَيْ أَصْنعَ مِنْها رَايةً لَا تَرِفُّ،

أَصْفعُ كُلَّ مِرْآةٍ وأَقُولُ لها:

ضِدَّكِ يا بِلادي!

أَهْبِطُ نَارَكِ لِأُقَطِّرَ لَكِ سُمًّا

يَليقُ بِخُلودِكِ

9

وأَعْترِفُ: لكِ في بِلادي سريرٌ،

ولكِ كُرْسيٌّ يُلفُّ الرَّأْسَ بِاسْمِ الصَّداقةِ؛

كُلُّ شَيْءٍ مَعْروضٌ: نَهارٌ في مَزادِ الشَّرِكاتْ،

لَيْلٌ في خِزانةِ مَخْزنٍ قَابِضْ،

حَجرٌ منْ مَكَّةَ، وماءٌ مِنْ نَهْرٍ بِلا مَاءٍ

10

ومعَ ذلِكَ تَلْهثينَ كَأَنَّكِ القُدْسُ في دَمِنا،

وسَايِغونَ وأَنْفاسُ المَغارِبِ والشُّرُوقِ،

والغَرْبُ لا يَدْرِي اسْمهُ ويُقلِّبُ الأُفْقا

11

كُلُّ البَشرِ مُنْذُ المَعْمودِيَةِ الأُولَى

يَحْمِلُونَ رُؤُوسهُمْ في صَحْنِ مَذْبحِهِمْ،

ويُنادُونَ:

الوِلادةُ غَيْرُ آتيةٍ،

ونُرَاجي* الفُرْقا

*

الكودا

عُدْنا إِلى طِينٍ يُسمَّى وَطَنَنا،

وَظِلٍّ يُسمَّى مَجْدَنا وَهْنا،

وقَمرٍ مَهْشومِ الوَجْهِ يَدُورُ في سَماءِ اللَّاوَطَنِ،

في الجِهَةِ الأُخْرى مِنَ الكَوْكبِ تُزْهِرُ ذِكْرى وَحيدةٌ

كَنُقْطةِ مَاءٍ على زُجاجِ العَدمِ

***

د. سعد محمد مهدي غلام

 

كأنّ وشاح السّراب يُوَشِّي سديم المدى.

كأنّ مداه جراحُ الغياب ومَهْوَى الرّؤى.

كأنّ صهيلَ السّراب سحابٌ يَسُحُّ الصّدى.

وإنّي اُنَمِّي ضياء الكروم

بأغنيتي.

وأغرس في الرّملِ نَوْلِي

وأوْتارَ أجنحتي.

وإنّي أُعَتِّقُ ثوبَ النخيل

لِيَعْتِقَني.

وأَرْتق وجه المرايا بجفني

لِيَجمعني.

وأقطفُ من دَخَنِ الماء سقفا

يُدَثِّرُني.

*

وهذي المداخن حوْلي

تُهَجِّرُ أكوام أحذيتي

تُهَجِّنُ عطري وأرغفتي،

وخرائطَ لي.

وتوغل في نهش قوْسي

وإعطاب أمتعتي…

*

كأنّ وشاح السّراب يُوَشِّي سديم المدى

كأنّ مداه جراحُ الغياب ومَهْوَى الرُّؤى.

وما مِنْ ضمادٍ لِشَرْخِ شراعي

وأعمِدتي.

وما أوْقَدَتْ لي على الطّينِ أَيْدٍ

لِأَقتنِصَ البِشْرَ مِنْ وحشتي.

وما مِنْ يَدٍ أَسْرَجَتْ فَرَسي

لِأُعَمِّدَ صَرْحَ غدي.

وأبحث عنكم ،

عساني أُسَرُّ بمرأى المدى…

*

كأنّ صهيلَ السّراب سحابٌ يَسُحُّ الصّدى،

وهمْسُ التّراب شهيق شريد،

صَلاه الدُّجى  …

يقول:

" أَ يا مَنْ جَذَلْتُم بذاك الفحيح

وبسمةِ ذئبٍ عوى،

وقلتُمْ : " نراكَ غَوِيًّا،

وإنّكَ مِمَّنْ غوَى،

وإنّكَ رُغْتَ،

وما أيْقَظَتْكَ صُكوكُ الهدى… "

وقلتمْ : " أيا أرضُ!  طيبي،

حَبَتْكِ الحشودُ بِنُعْمَى،

وطوْقِ ندى،

ووجهُكِ بالوَجْدِ يَمَّمَهُ الباشقُ الْوَلِهُ،

وأنَّى تُصَدُّ له نَشَوَاتٌ وما قد نَوَى؟؟؟ "

*

وإنّي لَأَدْري

بِأنَّ النَّقِيقَ دعاه لِمَا قد هوَى …

وها قد رَضِيتُ بِمَا قد رَضِيتُمْ

مِنَ المنتدى…

وإنّي أَنَخْتُ نِيَاقي حِذاكُمْ

لِأَجْلِ السُّرى.

ولَسْتُ رَضِيتُ قُعُودًا،

ولَكِنْ نَضَيْتُ ثِقالَ الكُدَى…

***

بقلمي : هادية السالمي دجبي - تونس

 

هنا.. عليكَ أيضا أن تُصفّر

كما زوربا، حينَ داسَ على أوجاعهِ

ليماثلَ منطقها

يُعيدُ بالمصادفةِ لمسَ روحهِ بجسدهِ

عزلةً، اشتقَّ منها وحشةَ العالم

*

صفّ الضوءَ

وشيّدْ ظلّكَ جُملا

وتلالَ معنى

كأن الطيورَ باحةٌ لصوتكَ.

لا قطارَ سيصلُ

لا شجرةَ تثمرُ بالهدايا

ولا شتيمةَ تمحو كل هذا الدنسِ

انها الخلائق

والأشياءُ لتبطئَ

حتى تدخلَ في غرابتها اليك.

*

أنت الوتدُ

خيمةٌ تنتصبُ في أفق الأرضِ

أينما انبعث الترابُ

ليس هناك من ترابٍ حتى تصفَ السَّغبَ

فألقي بعصاكَ ساعةَ عُسرٍ

واهتدِ من حفيفِ الثوبِ لمحنتكَ

في قبضتها!

***

زياد كامل السامرائي

 

أيها العرّاف

اكشف لي

رؤياك كما هي

عارية من كل الاقنعة

لا تخجل من جرح خاطري

حدثني عن كل

الصباحات الممطرة

التي ماتزال رائحتها عابقة

إلى الآن

حدثني عن الخناجر الصدئة

التي ماتزال مغروسة في

جنب العراق

حدثني عن بغداد التي تبحث

عن جمالها في مرآة مكسورة

بعد أن هشمها التتار

لتختفي ضفائرها الذهبية

وعن قطاع الطرق

الانذال سرقوا حليها

وتركوا لها الامس

البارد في دياجير الليل

غريب هذا الزمن

يصافح الغرباء

احكي

لي

عن البصرة الفيحاء

عن الصمت المطبق

في ازقتها المهجورة

عن باعة الصحف

في دروب العشار المظلمة

عن الشعراء ندماء الشناشيل

والصيادون على شط العرب

يبحثون عن شيءٍ مفقود

قال العراف بعد

سكون يشبه

نهر أبي الخصيب

إسمع يا ولدي

أن الصدى بعيون قاتليك

كالقمر المحمر

ليلة الخسوف

فكن رومانسيًا

لتنجو ياولدي

من متاهات

وادي السلام

***

باقر طه الموسوي

 

إذا الشعبُ سَاَلَ وزاد النزيفْ

فلا بد للجُرح فَتْح المَـــمَرْ

*

ولا بد من ثـــــورةٍ للرصيفْ

تُسَجِّلُ حـــــاضِرها المُنْتَظَرْ

*

ومَن بعيونِ الظلام الكفيفْ

يَــرى..يَتَعَـــــــثَّرُ.. مهما عَبَرْ

*

ومَن بالنُفُـــــــوذِ يظلُّ يحيفْ

يَحُطَّهُ قَدْرًا كَـ(ضَفْعِ)* البَقَرْ !

*

بِغَفْلتِنا.. عُمْــــــــرنَا لن نَظيفْ

سوى عاش هذا الذي.. واحتَظَرْ!

*

تَعِبنا.. وأتعَبَنَــــــا كل (شِيفْ)

بمطبـــــخِ وَالٍ يُحِيـــكُ الخَبَرْ

*

فإن طال ليل الأسى يا رغيفْ

تَجيئُــــكَ ألف غَـــــدٍ بالسَّحَرْ

*

وإنْ سال بالغازِ دَمْعُ الضعيفْ

تَدَفَّـــقَ رِيفٌ.. وهــاج الحَضَرْ

*

فَتَبًّا لـِ(شَعْفَلَةٍ)*.. و(الوصيفْ)

وطــوبى لشــــعبٍ أَبِىٍّ كـَفَرْ!

***

محمد ثابت السميعي

......................

* ضَفْعِ: رَوَث البقر

* شعفلة:(رمز مبتكر) للسلطة والفاسدين

 

إلى متى أيها الأنامُ

يسوسُ أمرَكمُ الظلامُ

*

والشّمسُ من دونها نهارٌ

ملّ انتظارًا ولا يلامُ

*

إن عادَ أدراجَه فأضحىْ

بالبابِ من بعدهِ حِمامُ

*

لا يرقبُ الإذنَ بالدّخولِ

إذا ارتأى أنّه لزامُ

*

والنومُ إن طالَ يستحلْ مو

تًا ليس من بعده قيامُ

*

وما تعدّى النهار بابًا

مغلّقا أهلُه نيامُ

*

يا ساكني الليل لا تقولوا

لولاهُ ما بذّنا المنامُ

*

وإنْ ينُرْ قمرٌ أحطتمْ

به كأنكم الغمامُ

*

تخشون من سيفهِ وأنتمْ

في يدهِ الرّمحُ والحسامُ

*

فإن يثُرْ ثائرٌ فأنتمْ

له السّرابيلُ والسّهامُ

*

تعون إلحادَه وتمثا

لٌ كلّ يومٍ له يقامُ

*

فإن هوى زيلَ لا لشيءٍ

إلّا ليُبنى له مقامُ

*

تنسون آثامَه ورفعُ ال

قبورِ في نهجِكم حرامُ

*

و"حسبُنا الله" دونها في

كلّ فمٍ منكمُ لجامُ

*

تشكونهُ وإذا اختلفتمْ

أمسى له الحكمُ والكلامُ

*

فزال ما بينكمْ وعمّ ال

رّبوعَ في ظلّه سلامُ

*

والسّلمُ في ظلّه شقاقٌ

بين الأحبّةِ وانتقامُ

*

تشكونهُ وعلى المنصّا

تِ باسْمهِ البدءُ والختامُ

*

فإنْ مضيتمْ فمنه لا منـْ

كمُ التحيّاتُ والسّلامُ

*

وكلّ برٍّ لربّه حمـ

مادٌ ولو نالهُ القمامُ

*

والفضلُ عندكمُ لأفّا

قٍ باتَ في يدهِ الزّمامُ

*

ولا يلامُ سوى الأنامِ

إذا الظلامُ علا وناموا

*

وهل يلامُ على انفصامٍ

أصابَ أتباعَه إمامُ؟

***

أسامة محمد صالح زامل

 

إلى ياسر جرادي،

من أجل قابس

***

ليالي أشتية قابس القاتمة،

كان يتحدّاها فتات أضواء تنبعث بكلّ بطئ

من فوانيس "الكرنيش" المحتضرة،

وبعض وانعكاساتٍ خافتةٍ لمصابيح شبه بالية،

كانت تَنتثِرُ أمام نُزلي الشّاطئ الشّبه مهجور.

*

في الطّرف البعيد،

تتراءى أبراج الموت المتجبّرة،

مهيمنة بأدخنتها الشيطانيّة على شاطئ السّلام المخنوق.

*

مماشى الشّاطئ المحاصرة بالأشواك،

والملغّمة بزجاج قوارير السّخط،

وقمامات المتباكين على أوجاع المدينة المنكوبة.

*

"الكازينو" المليئ بذكريات طفولة مسلوبة،

آهات بحر مغدور،

قهقهات السّكارى،

صرخات نفوس مقهورة،

والغادر المارق يراقب بتكبّر من وراء الميناء المهترء.

*

في الألفين هَرَبتُ ياصاح،

أقصى "برشا" من ذلك البحر الذّي تلاقينا فيه،

وبقيت وحدك تغرّد عن أيكك

كالطّيور التّي كنت تعشقها،

وزدت عشقا بها في الكبر.

*

"ياسر" ربّما سأذاكرك من جديد

لسانا بكلّ براءة عشقناه.

"ياسر" ربّما سأساعدك من جديد

على تشفير مفردات " إيقاع الخنافس" و "ملوك الغجر".

"ياسر" ربّما سأسمعك من جديد

"حكمت الأقدار" و"إبيتاف" و"الضباب رماديّ"،

*

"ياسر" ربّما سأحدّثك من جديد

عن أب لم أكن قد رأيته بعد.

"ياسر" ربّما سنلعب كرة،

أحببناها فقرا في الصّغر،

وتنافسنا صخبا من أجل حومنا:

"الكنيسيّة" و "دشرة القاضي" مع باقي الحوم.

*

"ياسر" ربّما سنتقابل من جديد،

عندما نجهض على تلك السّموم الغَازِيَةِ

التّي أنبتها الأشرارفي مدينتك ووطنك وفلسطينك

التّي أحببتهم "ديما ديما"

رغم القهر وظلم البشر.

***

نزار فاروق هِرْمَاسْ

جامعة فيرجينيا

 

عُدتُّ يا غزّة،

وفي يدي مفاتيحي العتيقة،

وفي صدري أنينُ بيتٍ لم يبقَ له باب.

*

عُدتُ كما يعودُ الطّيفُ إلى ملامحِ المرايا،

فلم أجد سوى رُكامٍ يُحدّقُ بي،

كأرملةٍ فقدت وجهَ الحبيب.

*

أجلسُ على أطلالِ الذّاكرة،

أشمُّ ما تبقّى من خبزِ أمّي،

ومن عرقِ أبي،

ومن ضحكةِ إخوتي التي كانت تتقافزُ بينَ الجدرانِ كالعصافير.

*

كلُّ شيءٍ هادئٌ…

هادئٌ حدَّ الاختناق،

إلّا قلبي،

فهو ما يزالُ يتهجّى أسماءَهم في اللّيلِ كالأدعيةِ المنسيّة.

*

يا غزّةُ،

كنتِ في قلبي وطنًا بطعم قُبلة،

فصرتِ في العالمِ جرحًا بحجمِ صرخة.

*

كنتِ فراشةَ الحنينِ،

صرتِ رمادَها حين احترقَ الجناحانِ في لهيبِ البارود.

*

يا غزّةُ،

لو أنني كنتُ الجدارَ لاحتضنتُكِ حينَ مالَ عليكِ الحزن،

لو أنني كنتُ الشّمسَ،

لما تركتُكِ تُبردين في الظّلام،

لو أنني كنتُ المطرَ،

لسكبتُ نفسي على ترابكِ حتّى يزهرَ من جديد،

لو أنني كنتُ الرّيحَ،

لجمعتُ أنفاسَ أحبّتكِ من الأزقّةِ وأعدتُها إلى صدركِ.

*

لكنّي أنا…

أنا العائدُ ....

*

أجلسُ عندَ رُكامكِ

كمن يجلسُ عندَ أطرافِ قلبه،

أُحدّثُ الحجارةَ عن مواسمِ اللعب،

عن دفءِ المساءات،

عن رائحةِ البنّ التي كانت تغلي في المطبخ،

عن غناءِ أمّي وهي تُرتّبُ صباحاتِنا.

*

يا غزّةُ،

الآنَ فقط أدركتُ ،

أنّ الوطنَ لا يُفنى حينَ يُدمَّر،

بل حينَ لا يجدُ من يحلمُ به

كما نحلمُ بك...

*

عدتُ إليكِ،

عدتُ لأقبّلَ جبينَكِ المهدوم،

ولأقولَ ما زلتِ حيّةً،

فالقلبُ الذي يُحبّكِ

لم يزل ينبضُ تحتَ الرُّكام... فوق الركام...

***

مجيدة محمدي

(مرثيّةُ المدينةِ المُشتهى)

في البدءِ كانتِ المدينةُ نارًا،

تُقايضُ الريحَ بطفولةِ الظلالِ،

تسقي الأزقّةَ دمعَ النيونِ سَرًّا،

وتزرعُ تحتَ الجلدِ خارطةً شَرَرًا

*

كانَ علينا أن نُعيدَ ضياءَنا،

أن نبدأَ اللعناتِ من شررِ الضياءِ،

نسألُ الخرائطَ: مَن سرقَ المدى؟

فتجيءُ الشاشاتُ بإعلاءِ البُهتانِ

*

تعرجُ الريحُ من حناجرِ شرقِنا،

تُطيّرُ الخيامَ والأبراجَ والملحا،

جناحانِ من ورقٍ يخطّانِ المدى،

وأبجديةٌ تُسقطُ القِممَ نارًا

*

أُضرمُ نارًا من عودِ الحزنِ بَطَأً،

وأُسمّي ظلّي: وجهَ مَن لا يُنتمي،

أنقشُ اسمي في زجاجِ الفراغِ صَمَتًا،

وأصوغُ من خوفي قبيلةً مُفتَعَلَا

*

دُبيَ: تمثالٌ من قشٍّ محشوٌّ،

وسريرُها بينَ كثيبينِ يتمطّى،

والسقفُ سقفُ قصيدةٍ مُهجورةٍ

لم تُقرأْ، فاختفتْ في العمقِ كالصدى

*

كلُّ الحروفِ سقوطُ خطوةٍ فجّةٍ،

كلُّ الحراكِ جراحُ معنًى منطفِي،

يمينُها جسدٌ يُبدّلُ لذّتَهُ،

والبسرُ يسكبُ ذاكرةً في المقصفِ

*

ينفجرُ القفلُ، ينفجرُ الصمتُ المهذَّبُ،

الشعرُ والجنسُ والعطشُ إلى الرؤى،

يُفتّحُ كلُّ شيءٍ، ثم يُنفى القيدُ،

أقولُ: أُغري المؤتفكاتِ بصمتِي

*

لكنَّ الكلمةَ الميّتَةَ في الشفاهِ

ليستْ شِفرةً تُفكُّ إلا بفعلٍ

مُشتهى لا يُنتظرُ، لا يُرجى،

اكتبوا! لا تُقلّدوا الشكلَ المُبتذَلَ

*

ولا تنسخوا ضوءَ الحجرِ المُقفَّلَ،

من المحيطِ إلى الخليجِ لم أرَ

إلا صوتَ تصويتٍ يُقصُّ كالخبرِ،

الكلمةُ أخفُّ من جناحِ فراشةٍ،

*

وأثقلُ من قنبلةٍ تُنزَلُ في الليلِ،

الفعلُ لحظةٌ تمضي، تذروها الريحُ،

والكلمةُ زمنٌ من ملحِ الجرحِ إذا ما

جفا، وتركَ في الفمِ طعمَ البُعدِ المُريرِ

*

الكلمةُ يدٌ تُقبّلُ مفصلَ الرؤيا،

وأنا أكتشفُكِ، يا نارِ، يا عاصمتي،

يا من تُؤجَّلينَ في كلِّ صباحٍ،

أكتشفُكَ، يا شعرُ، يا شظفَ الغبارِ

*

يا سرَّ الندى، أُغري مدائنَ صالحٍ،

تلبسُني وألبسُها، نشرُدُ كالضوءِ،

نسألُ: مَن يقرأُ الآنَ؟ ومَن يرى؟

أثمّةَ مدينةٌ فوقَ الألمِ قد بَنَتْ؟

*

نعم، إنها مدينةُ المُشتهى المُؤجَّلُ،

في دُبيَ لا شيءُ يُرى كما هوَ،

كلُّ شيءٍ أقنِعةٌ، كلُّ شيءٍ بُهتانُ

*

الحديدُ ليسَ قوّةً، والحريةُ ليست نارًا،

والإلهُ ليسَ في المعبدِ المُقفَّلِ،

يتحوّلُ الجسدُ إلى سلعةٍ مُدجَّلةٍ،

*

والصوتُ إلى سهمٍ يُرسلُ في الظلامِ،

والظلُّ إلى طابورٍ يُساقُ للمحرابِ،

والزيتُ إلى مذبحٍ يُصلَّى بالدمِ

*

لا تُديني، بل أشهدُ اللغةَ على ما رأتْ:

أنَّ الحداثةَ ليستْ خلاصًا مُنتظرًا،

وأنَّ الجمالَ إن لم يكنْ حُرًّا،

يختنقْ في زجاجٍ مُغلقٍ كالقبرِ

***

د. سعد محمد مهدي غلام

 

بِلا جَسَدٍ أَتَيْتُ لِكَيْ تَرَانِي

شَفِيفًا تَعْكِسُ الرُّؤيَا افْتِتَانِي

كَتَمْتُ اللَّوْعَةَ الحَرَّى بِصَدْرِي

وَمِنْ فَرْطِ الصَّبَابَةِ كَمْ أُعَانِي

بَذَرْتُ الحُبَّ فِي الحُلْمِ حُقُولًا

مَتَى اخْضَرَّتْ سَتُدْرِكْ مَا اعْتَرَانِي

فَغَيْمَاتُ الهَوَى جَالَتْ بِقَلْبِي

فَهَلْ بِالغَيْثِ يُسْعِفُنِي التَّدَانِي؟

فَبَعْضُ الوَصْلِ يَكْفِينِي لِأَحْيَا

رَبِيعَ العُمْرِ فِي بَعْضِ الثَّوَانِي

فَطِينُ الأَرْضِ يَخْتَزِنُ الشَّظَايَا

وَمَاءُ الوَجْدِ يَشْهَقُ فِي كِيَانِي

كَأَنَّ الجَمْرَ مِنْ شَغَفِي مُعَنَّى

وَمِنْ وَجَعِي رَمَادُهُ كَمْ بَكَانِي

فَيَا مَنْ أَلْهَمَتْ أَبْيَاتَ شِعْرِي

وَكَانَتْ فَوْقَ إِدْرَاكِ المَعَانِي

جُبِلْنَا أَنْ نَكُونَ مَدَامَ عُمْرٍ

تُتَعْتِعُنَا المَوَائِدُ وَالأَغَانِي

يُجَمِّعُنَا الزَّمَانُ وَيَبْتَلِينَا

وَتُرْبِكُنَا المَوَانِئُ وَالأَمَانِي

فَهَلْ فِي الحُبِّ نَخْتَزِلُ الحَكَايَا

وَنَمْضِي فِي الهَوَى حَدَّ التَّفَانِي؟

نُذِيبُ اللَّيْلَ فِي وَلَهٍ وَنُصْغِي

لِمَا يُحْكِيهِ عَنَّا الخَافِقَانِ.

***

بقلم: سليمان بن تملّيست - جربة

 

لقد إكتشفت سرا صغيراً هذا الصباح وأنا أفتح نافذة غرفتي...

إن السر الذي أضاء في مخيلتي الصباحية كأنه ضوء إفترش نوره حتى وصل إلى أخمص سطور الورق ليصلك، وهو إنني لا أريد أن أسير بسرعة البرق في هذه الحياة وأنهك قواي الكتابية كباقي الناس حتى لو لم أصبح كاتبة في يوم ما... وإنما أريد أن أعيش اللحظة التي أنا فيها حتى تلك الأحداث الصغيرة التي لا يتوقف الناس عندها...

أريد أن أتنفس اللحظات، وأن أستنشق الثواني الحبلى بها...كما أريد أن أقفز من حواجز الماضي، وأن لا أفكر في سرب المستقبل...

إن العالم لا يعيش وإنما يركض بكل سرعته في هذه الحياة، ولا أريد أن أركض معه فقد تعبت حتى الرمق الأخير...

لا أريد أن ألتقط السراب في نهاية المطاف بقدر ما أريد أن أستريح لألتقط أنفاسي بشيء من أحرفي عند ذاك المقعد الأمامي تحت شجرة برتقالة التي أتوسد ظلها....

إن العالم يسير بذاك الاستعجال الحرفي الذي يشبه نوعاً ما لوحة مفاتيح التحكم في الأجهزة.. كأننا في حلقة مفرغة تدور حول نفسها ونكرر الأشياء نفسها في كل مكان...

إنني قررت أن أسير على مهل وأقطف المتع الكتابية والحياتية التي تبقيني خارج الضغط النفسي والحرفي...

كما قررت أن أكتب لك غزارة حديثي على طول فصل الحنين ونحن نقترب من فصلك الممطر..

***

مريم الشكيلية / سلطنة عمان....

 

أنا البائعُ في سُوق الأرواح، أفترشُ شظايا المدى، وأنصبُ خيمةً من دخانِ الأمل، وأنادي بصوتٍ لا يسمعه إلا الجائعون للضوء: من يشتري أحلامي؟

*

لي حلمٌ قديم، نامَ في عُشبةِ الوقت، يرتدي عباءةَ النيازك، ويحملُ في جيبه شمسًا صغيرة، كلما فتحها... احترقتُ أكثر.

*

ولي حلمٌ آخر، يجرُّ قدميه في المدى كأرملة، يبحث عن وطنٍ لا ينهشهُ الجوع، ولا يُقيم حدَّ الموتِ على الهواء.

*

أحلامي ليست للبيع، لكنني أبيعها، لأنّ قلبي لم يعد يتّسع لارتجافها، لأنّ الليلَ ضاقَ عن شهقتها، لأنّ الجفنَ ملّ زغاريدَ الفقد.

*

من يشتري حلمًا كان ذات يومٍ طفلةً تضحكُ في مرآة المطر؟ من يشتري حلمًا يكتب رسائلَ حبٍّ على زجاجِ قطارٍ لا يتوقّف؟ من يشتري حلمًا ظلّ يحرسه جنديٌّ ميتٌ على حدودِ الغياب؟

*

يا أيها العابرون في سوقِ اللهاث، يا تجّارَ الفجر المزيف، يا عشّاقَ الغد الذي لا يجيء، تعالوا… هاتوا لي وزنَ الحنين، هاتوا أكياسَ الشوق المفقود، هاتوا لي أعينًا لا تنام، أريدُ أن أزن بها أحلامي! هل تساوي حلمًا واحدًا قبلةً صادقة؟ هل يساوي آخرُ بيتًا من ترابٍ لا يُخيفهُ المطر؟ هل تكفي دمعةٌ واحدة لشراءِ الحلمِ الذي ماتَ في حضنِ السماء؟

*

أنا لا أبيعُ وهمًا، ولا أبيعُ دخانَ العدم، أنا أبيعُ ما تبقّى من إنسانيّتي في دُكاكينِ الحنين. أحلامي جرحى، لكنّها جميلة، كأطيافِ عاشقٍ ينتظرُ حبيبتَهُ من الحرب، كأنينِ أمٍّ تحفظُ أسماءَ أولادها في علبة دواء.

*

أحلامي… ليست زجاجًا، لكنها تتكسر، ليست ذهبًا، لكنها تُضيء، ليست سماءً، لكنها تحتضنُ العصافيرَ التائهة. فمن يشتري؟ من يشتري حلمًا يُنبتُ زهرةً في صدرِ الحجر؟ من يشتري حُلمًا يحلُم بي… أن أظلّ إنسانًا؟ من يشتري، قبل أن تُغلقَ السماءُ بابَها، ونبقى عُراةً من الحُلم... ومن الحياة؟

*

من يشتري؟ أنا آخرُ الحالمينَ في زمنٍ يتاجرُ بالكوابيس. أنا آخرُ النّداء.

***

بقلم : كريم عبد الله

بغداد - العراق

 

ونازعتُ الشُّجونَ بكلِّ وادٍ

أجاهدُ مكرَ أقوامٍ لئامِ

*

وجرَّبَني الزَّمانُ بكلِّ خَطْبٍ

فلَمْ تَوْهَنْ لشِدَّتِهِ عِظامي

*

ألستَ تَرَى بأنَّ اللهَ مُمْلٍ

لكلٍّ ما يُبادِرُ باعتزامِ

*

وأنَّ النَّاسَ أكثَرُهم لئامٌ

وما يُغْني اللِّئامُ عنِ الكرامِ

*

وأنَّكَ لا تَرَى إلا عدوًّا

يُداهِنُ أو صديقًا لا يُحامِي

*

وإنْ تَسألْ عنِ الدُّنيا تَجِدْها

كخَيطِ العنكبوتِ منَ الذِّمامِ

*

سئمتُ سِجالَها وضَربتُ عنها

بِصَفحٍ لا يَقُودُ إلى وئامِ

*

وجُلْتُ مَجالَها قَبْلًا فَهَبَّتْ

بكلِّ مهنَّدٍ عَضْبٍ حُسامِ

*

فتَرفعُ كلَّ ذي خبثٍ ولؤمٍ

وتَخفِضُ كلَّ وهَّاجٍ هُمامِ

*

وتُعْلِي مِن أسافِلِها رُؤوسًا

هُمُ الأذنابُ مِن تحتِ اللِّثامِ

*

بذلكَ سُمِّيَتْ للنَّاسِ دُنْيَا

وكم في النَّاسِ مِن خِبٍّ وَسامِ

*

فصَبرًا إنْ أردتَ بها بَقاءً

وأكثِرْ مِن جُنُوحِكَ للسَّلامِ

*

ورَبِّ النَّاسِ لن تَرضَى أُناسٌ

بِغَيرِ السُّوءِ يَضرِبُ كلَّ هامِ

***

حسن الحضري

شاعر وكاتب مصري

ما زالَ للشَّمسِ مهدٌ في رُوحِي

سَأستَرجِعُ ذاتِي

كَي يُعرِّشَ الآس

دَالياتُ الحبِ في قَلبِي

النَّدى يَقطرُ مِنْها

لا ترحَليْ أيَّتُها العَصافير

لنُكمل ترنيمةَ الصَّباحِ

الحُلمُ يُؤَرِّقني

رُويداً شَقائِقَ النُّعمان..

مَهلاً ياسمينَ الشَّام

مازال للحبِّ بقيَّــة

ما زال للأملِ بريقه

للفرحِ أُنشودتةُ

للبحرِ نوارسُهُ

سيبرق السُنونو رسائلَه

وينتفضُ السَّوسَن

ما زِلتُ على نافذَةِ الليْلَكِ

أَنتَظِرُ..

ولادة اليَمامَة

أتطرَّزُ جَناحَ حُلمٍ

فتتبعني الفراشات

***

سلوى فرح - كندا

 

حارَ المرءُ وجزّأَ في ساعةِ حُزنٍ ألواحاً سودا

إطفاءً لضميرِ الغيضِ المُندّسِ بأعراقِ السوسِ

خلاصاً من سُمِّ الروعِ وسلطانِ الإغواءِ

يا حسرةَ مَن أوفى الكيلَ وخانَ شروطَ الميزانِ

كَنّا جئنا دُنيانا لبلوغِ الجُبِّ الأزرقِ جريا

هل كافأَنا وحشُ الغابِ وباركَ مسعانا

لا أملُ في خَبِّ رِكابِ الخيلِ ولا وعدٌ يأتي عَجلانا

ما أنتَ ضميرُ ضمورِ الودِّ وتهريجِ الصوتِ العالي

لا خيرَ وقد بانَ الوهمُ الفاقدُ ألوانا

سأظلُّ أُلِحُّ على فقدِ البيتِ أصولَ الأهلِ

باعوني في سوقِ وداعِ الهِجرةِ بَخْسا

ما ضرَّ إذا ما أغضوا حلّوا أَضيافا

كنتَ الرافعَ تابوتَ البينِ الشامخَ رأسا ..

دارتْ طاحونةُ عُمرِ البلوى تلقائيا

طارتْ جابتْ أصقاعَ الدُنيا فَلَكاً دوّارا

يبحثُ عن معنىً في لغوِ المقهى والحانِ

الشمسُ الحمراءُ تُراقبُ قوّةَ دفعِ الريحِ العمياءِ

والقمرُ الطارقُ رجمُ خفايا النيرانِ

كرَّ وكرّرَ مرّاتِ الدوراتِ

أفقدني مِنظارَ العينِ وُغطّي أجفاني

راحوا فلماذا أبقى

ولماذا يمضي في مركبِ أضلاعِ الفِقدانِ

حتفاً ينسى أنَّ اللُقيا شأنٌ ثانِ !

الحاصلُ جَرْدٌ من كُلٍّ أبقاني

أتمرّدُ خلفَ حرارةِ دمعِ شرودِ الأوتارِ

أنسجُ للغائبِ في محرابي بيتا

وأُنقّحُ دربَ المُقلةِ في أدراجِ النسيانِ

لا وقتَ لمحرومٍ ضاقَ فكسّرَ في اللهفةِ أطواقا

يستصرخُ عُمقَ الحسرةِ في عينٍ دمعى

ويُجيبُ على تسآلِ الشاخصِ في دقِّ الطَرْقِ على البابِ

أحلمُ أنْ أنطُقَ من سالفِ عُرْفٍ حرفا

يُنهي حِقبةَ قلبِ الأوزانِ

يُدنيني من مَلكوتٍ غابَ يطوِّرُ في طينٍ جَذْرا

صدّقهُ مغرورٌ مقروحُ العينِ

يبكي الأوّلَ والآخرَ حتى قانونِ طلوعِ الفجرِ

الدمعةُ في المُقلةِ سلوى

مأوى شَفْةٍ تتلّوى ظمأى

ويُنادي وا .. وا .. يا ويلَ المتُسربلِ جِلبابَ الليلِ

سأُحِلّقُ فوقَ ممراتِ عقودِ الزيتونِ

لأَشمَّ خلائطَ عصرِ النكبةِ بالكافورِ

يضوّعُ كأساً رأسا

مضروباً بخروجِ مسارِ الخطِّ المرسومِ إيابا

ما آبتْ إلاّ بالكَفنِ الرافعِ تابوتاَ كفّا

تتكسّرُ ضِلْعاً أنفا

قالتْ لا رؤيا بعدَ اليومِ، بكتْ

صفَّ القلبً مساميرَ مجئِ الآجالِ

واستكثرَ أنَّ الرؤيا جاءتْ دمعاً رمليّا

أسعى لمحطّةِ أيواءِ الموتى مشيا

أستحضرُ ما كُنّا في الماضي ... أبكي

وألمَّ الرملَ دموعا

أشهدُ أنَّ القبرَ ضريحُ الحاضرِ والماضي والآتي

والداخلُ عيسى يُحيي أنفاسَ الموتى.

***

عدنان الظاهر

أُكتوبر 2025

نبحثُ

عمّن يشبهنا

لا لرغبةٍ

إلّا مواساةً

لأرواحِنا التي أجهدَها البحثُ

عمّن يشبهها

*

أحياناً

نَحظى

لكن عنادها

أرواحنا

الباحثة عمّن يُشبهها

يذرُ خلفَ خطوتها

مَن أهدتنا إيّاه

رحلةً محفوفةً بالفقدان

*

قالوا: "شبيهُ الشيءِ ..."

وحرصاً

أطلقتْ للرياحِ شهيقها

أنفاسنا

الباحثةُ عمّن يشبهها

*

لا أشبه أحداً

وما دمتُ

فلا أحدَ

يشبهني

***

إبتسام الحاج زكي

في قدحي دالية هجرها الحسّون

مُذْ بعثرها الصّدى

وغابة تنبتها ألوية الخريف

في المدى

لا فيْءَ في قدحي يرتوي به وجهي

ولا عنب أرتجي

يمتشق التّفّاح من كأسي

حساسين، ووجها يهَبُ النّدى

كأنّ "دانتي" في سراديب "جحيمه"

ألاقيه فأكتوي...

وإذْ يُطوِّق يديّ وجهُ " بلوتوس" بالدّجى،

يجرفني الأسى...

وأسأل البلّوط عمّن أجدب الوقواق

أغصانا تُظِلّهم

وأستفيض في السّؤال

عن سماء

كنت أقتات غراسها ...

**

أوّاه... يا من ترقصون فوق جرحي،

لِمَ تلقون قلادتي؟

ولِمَ تقبعون في ملهى الخريف،

تتلهّون بوحدتي؟

وتقفون زمنا على ضفاف الحلم

والموج وشاحكم.

لذت بكم، وما إليّ رجفت خيولكم

أو أظفاركم .

وليس أجدر من الظفر بحكّ الجلد

أو وسْم الأجنح .

يا من تهيمون بوجه اللّيل والغسق

حتّام شتاؤكم؟!!؟

و لِمَ في مجامر الموج تشدّون

رباطات جيادكم!؟

**

ها أقف اليوم، هنا، وحدي على ناصية الحلم

وأحلم...

وحدي أدُعُّ العالقين في جرابي

وأنادي في وحدتي:

يا أيّها العالق في كفّي!

أ ما تدري بأنّك

ستر حل؟!؟

يا أيّها العالق في كفّي!

أ ما تدري بأنني

سأشرق!!!!

***

بقلمي: هادية السالمي دجبي - تونس

 

إلى لؤلؤة العاصي الشهيدة

(حَماة)

***

وَمَدينةٍ

أرْختْ ضفائرَها

على الضَفَتيْنِ من نَهرِ الوداعةِ والتَبَتُّلِ والسلامْ

*

هَوَ نهرُها

عاصٍ يُسمّى دونَ مَعْصيَةٍ سِوى

عِشْقِ الصبايا في النهارِ براءةً

لا في دهاليز الظلام

*

وَتَؤمُّهُ عندَ المساءِ نوارسٌ

وَلَهُ مَواعيدٌ على ضَفَةِ الصباحِ بَهيّةٌ

كبياضِ ريشاتِ الحَمامْ

*

هو نهرها

عَشِقَ الكرامةَ فطرةً والكبرياءْ

*

لكنّ طاغيةَ العشيرةِ قلبهُ جرثومةٌ

تسطو كما العدوى وجائحةُ الوباءْ

*

هو نهرها

عاصٍ على ضبعٍ تسلّقَ سُلّماً في ليلةٍ مشبوهةٍ

حَمَلَ الضغائنَ كلّها متوعّداً أهلَ الكرامةِ

والتقى بالموتِ صبراً

حَدَّ أعتابِ الفَناءْ

*

هُوَ نهرُها

وَتَلوحُ مَعْصيةٌ به

لِسليقةِ الأنهارِ في دُنيا الأنامْ

*

فَمِنَ الجَنوبِ إلى الشِمالِ مُعاصِياً

بِمَسيرِهِ

لِسَجيّةِ الأنهارِ في أرضِ الشآمْ

*

لِيَشُقَّ (سَهْلَ الغابِ) مُرْتَجياً

عِناقَ الأبيضَ الروميَّ ذوباً

في أباريقِ المُدامْ

*

وَيَطُرَّ قلبَ مَدينةٍ سِحْريّةٍ

نصفينِ قد شَرِبا معاً

أمواجَهُ السكرى كؤوساً من غرامْ

*

غربيُّها يمتدُّ بحرُ الرومِ أزرقَ كالسماءْ

مُتوسّطاً في قلبِ عالمنا القديمْ

*

وسلاسلٌ جبليّةٌ حجبتْ

مدينَتَهُ عن اليَمِّ العظيمْ

*

وَصَدى الأوابِدِ في المدينةِ مثلُ

لحنِ كَمنْجَةٍ

تسري بها روحُ الوفاءْ

*

زُرْ (دَهْشَةَ) الدُنيا تَجدْ

أرقى أفاريزِ الرُؤى في بَهْوِها

وقبابِها تفدي بأزرقِها البديعِ

(أبا الفِداءْ)

*

وأكادُ أسمعهُ ينادي من بعيدْ

ياقلعةَ الدنيا (وَميْمَنةَ الجيوشِ) مهابةً

من زارَ قُبّتها وساقيةَ (الدهيشةِ) إنما

بلغَ المرامْ

*

فحماةُ مملكةُ البواسلِ والكرامْ

(وَأبو الفِداءِ) مَليكُها مُتَوَجّعاً

يُصغي الى وَجَعِ النواعيرِ الجريحةِ

يَوْمَ دارتْ مثْلما دارَ الزمانْ

*

أَبَكى عِمادُ الدينِ والدنيا كما بَكتْ

كُلُّ النواعيرِ الذبيحةُ بعدهُ

دمعاً بلونِ الأرْجوانْ؟

*

أمْ لَمْ يَزَلْ مُتَأبِّطاً قِرْطاسَهُ وَيَراعَةً

بظلالِ قلعتِهِ الأبيّةِ والنقيّةِ

من خطايا أو أثامْ؟

*

مُتوضّئاً تحتَ ظلالِ سيوفها وَمُدوّناً

(تقويمَ بُلْدانِ) الورى حتى بدا

جَبَلاً على وجه القمرْ

كوشاحِ عِزٍّ أو وِسامْ

*

هل كانَ قلبُكَ مثلُ قلبي شاهداً

شَهِدتْ بصيرتُهُ الفجيعةَ والخرابْ

وَرَأى مصيباتِ (الدَهيشَةِ) يَوْمَ

داهَمَها الضباعْ؟

*

وَيَقودُهمْ ضبعٌ خَسيسٌ إنّما

زوراً وَبُهتاناً يُسمّى

في قواميسِ التفاهةِ (قَسْورة)

ما أقذرهْ !

بشهيّةٍ حمراءَ يمتصُّ الدِماءْ

*

وَيَتيهُ منتشيا بأشلاء الجياعْ

وَيَلوكُ أفئدةَ الرجالِ ثمَّ أدمغةّ البنات

شَبَحاً كَغزّةَ يومها كانت حَماةْ

*

قَسَماً كَغزّةَ إنما غطّى ضحاياها الجُناةْ

أكبادُ صبيتها ونسوتها تقاذفها الرياحُ

عواصفاً شتى الجهات

*

والأجربُ المسعورُ ما بَرِحتْ لهُ

دنيا الفنادقِ والمصارفِ

في الولاياتِ هِباتْ

*

العارُ كلُّ العارُ لو فَلَتَ العُتاةْ

من قبضةِ الموتورِ أو حُكمِ القضاةْ

*

أَوَ لَمْ يَقُلْ من فوقِ سَبْعٍ

في القصاصِ لكم حَياةْ

*

لا شيءَ ألعنُ من طواغيتِ الزمانِ نذالةً

واسألْ قواميسَ اللغاتْ

***

د. مصطفى علي

 

ظلي الذي لا يشبهني

 يخترق ظله جسدي، فيصبح ظلي الأبدي، يرافقني حيث أكون، كأنه لم يرحل، بل سُجن في زوايا الروح المظلمة..

أما ظلي الذي لا يشبهني.. صار مثقلًا بالحنين.. أحيانًا تسبقني خطواته، وكأنه يعرف الطريق إلى الغياب أكثر مني.

حاولت أن أستعيد ملامحي القديمة، ولم أجد سوى ملامح لا تشبهني

أما خطواته، فكأنها صدى أيامٍ لن تعود ابدا.. حتى الضوء صار يخترقني بخفة، كأنه يخشى أن يوقظ ظلي من حزنه، أو يذكّرني بأنني ما زلت هنا…

وهو هناك.... حبريات جافة..

**

 وجع علاجه نشيد الوطن...

وجعٌ لا يرضى بالدواء..

وجعُ الرأسِ هذا…

عنيدٌ، مُترفٌ، لا يُشبه اي وجع، كأنّه لا يريد أن يزول، إلا إذا عُزفت له موسيقى تشبه نشيد الوطن.

موسيقى لا تُعزف إلا بأصابع أمي…

تلك التي كانت تهمس للحرارة أن تنخفض، وللقلق أن ينام، هو لا يريد حبة دواء،

ولا ضوء غرفةٍ معتمة، ولا كوب نعناع فاتر.

يريد أن تمسح يدها على جبيني، أن تهمس لي بكلمات لا أفهمها… لكن جسدي يفهمها.

يريد عطر يديها، دفء كفّيها، وصوتها وهي تقول:

"دلّلو.. "

بصوتها الذي كان وحده كافياً ليُطفئ كل نار.

لكنها بعيدة

والألم قريب...

***

د. نسرين ابراهيم الشمري

الكلُّ يضحَكُ في رقاعَهْ

دربي وأيّامي المُضاعَهْ

*

حتّى طُموحي الدَيْدُبانُ

أراهُ في كنزِ القناعَهْ*

*

ويطلُّ ماضيِّ الكئيبُ

يقولُ ما هذي الشناعَهْ

*

أنَسيتَ أنّكَ قد صبأتَ

وقد خرجتَ على الجماعَهْ

*

لَمّا سمحتَ لنفسِكَ العطشى

بحُلمٍ ما لهُ يومًا شفاعَهْ**

*

هَلّا حلِمتَ بأن تكون مُتاجرًا

أو تابعًا أو كالبضاعَهْ***

*

لتعيشَ عُمرَكَ هانئًا

في حانةٍ تُدعى الوضاعَهْ

*

فبها ترى الرهط الذينَ

بقربهمْ تَجدُ المناعَهْ

*

وتنالُ صفو العيشِ ما

دُمتَ المداومَ في الخناعَهْ

*

فبها سترقى منصبًا

وتحوزُ أوسِمةَ الشجاعَهْ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

في 10 تشرين أول 2025

.........................

* الديدبان: الرقيب

** البيت مدوّر

*** البيت مدور

 

حين تنسدل ضرائر العثرات سريالية متاعب، تتشابك أقنعة الظروف بأوجه القلق، يتسلق لبلاب الحزن مقصورات هفيف القلب، اجتياح مبرم، أحتضن نارجيل* العقل بأثير تفاهم، تتهافت بتلات الحواس على تشذيب الموقف، بلا أنصاف عقور، يتوقد رفيف الفؤاد أوبرا تفكر، أعتصر رئة التجارب لاستنشاق رحيق حل ظليل، يتأرجح كيد التخطيط لسد ثغرات غمامة الفكرة، تراودني أحجية كيف الحيرة، تقد قميص التساؤل زئير لكن ، لذا تركن بصيرة ترددي لتسونامي الذكريات، يتعالى صوت موسوعة أسلافي!!:لا ترمي كأس الموعظة بحجر التغاضي!!، أِشربْ نبيذ النصح بمقارعة وجوه الحكمة، لذا أمسك عقدة التدبر حتى يفلت من عنق التأزم شبه استواء ضنوني، ويتهاوى فتيل الشكوك لصفيف نصيحة، كي لا يرشقني سنان التخبط بنصل بسوس!!، وقبل أن توخز مدارات صمتي سبات خيبة، تلتهمني قشعريرة يقظة مترعة بمخيلة نباهة، طالما تُلهمني سماحة قناعة من أوركسترا الروح ، حينها تتهادى سرا زرافات الحلول على منصة الحسم، ولهاث نفسي أرخميدس** شعور، يلهمني نفير انفعال بذهن اصغاء التحدي، أُحيل ضجيج التلكؤ لحتمية ازاحة، تعلن بشارات التصدي سمفونية مشاعر، تدحض لسان المنطق تبر دليل ينطق: "وجدتها.. وجدتها*"، وحالما تطفئ لوعة القلق المتضور اللهفة، باستنارة تُفند لغز غوص يطفو صفوة نتائج، لذا أحلق على أتون المواجهة بدهشة سهولة.

***

إنعام كمونة

.................

نارجيل = شجرة جوز الهند

أرخميدس = عالم فيزياء يوناني مشهور بمقولة "وجدتها وجدتها"

 

يُروى أن قبل مئات السنين، في زمن لم تُسجَّل أحداثه في الكتب، كانت هناك قرية صغيرة يلفّها الضباب، كان الناس يتناقلون فيما بينهم همسًا عن غرباء جاؤوا في ليلة عاصفة. لم يعرف أحد من أين أتوا ولا إلى أين يقصدون، كانوا ثلاثة رجال بملابس بالية وعيون لا تنظر مباشرة في وجوه الناس.

 لم يتحدثوا مع أحد، واكتفوا بالمبيت قرب أطلال طاحونة قديمة مهجورة.

في الصباح التالي، وجدهم الأطفال مرميين بلا حراك، كأنهم سقطوا في نوم لا نهاية له، لم يكن على أجسادهم أثر دم أو جرح، فقط وجوه جامدة تشبه الأقنعة.

اجتمع أهل القرية حولهم مرتبكين:

من قتلهم؟

لماذا ماتوا جميعًا دفعة واحدة؟

هل جلبوا لعنة معهم؟

دفنوهم في طرف المقبرة، لكن الحديث عن هؤلاء الغرباء لم يتوقف، في كل ليلة، كان يُسمع وقع خطوات قرب الطاحونة القديمة، وأصوات خافتة تشبه الأنين، بعض الرجال أقسموا أنهم رأوا الغرباء الثلاثة يمشون بين الحقول، وجوههم بلا ملامح، يبحثون عن شيء ما لم يجدوه.  

مرت السنوات، وبقيت القرية تحمل اللغز، لم يُعرف سر موتهم، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب من الطاحونة القديمة بعد الغروب، صار يُقال: إذا مررت بتلك الأرض، لا تلتفت خلفك… لأن القتلى الغرباء ما زالوا يسيرون هناك، يبحثون عن حقيقة موتهم.

وبعد سنوات من تداول الحكاية، كبر جيل جديد من أبناء القرية، وكان بينهم شاب اسمه حسن، جريء أكثر مما ينبغي، لم يكن يصدق قصص الجدات، وكان يسخر قائلًا: إنها مجرد خرافات لتخويف الأطفال من السهر.

في ليلة مقمرة، قرر حسن أن يثبت للجميع أن الطاحونة ليست سوى أطلال حجارة، حمل مصباحًا زيتيًا وتوجه إلى هناك وحده، كان الهواء ساكنًا بشكل غريب، والضباب يزداد كلما اقترب، عند الباب المتآكل، لمح ثلاث ظلال طويلة واقفة كأنها تنتظره.

ظنّها وهمًا من الضوء، لكنه حين خطا خطوة للداخل، سمع همسًا بلغة لم يعرفها، فجأة تحركت الظلال، وتجمّعت أمامه، ثم تلاشت تاركة وراءها حجرًا دائريًا في وسط الأرضية، محفورًا عليه نقش غريب يشبه دوامة.

حين لمس النقش، ارتجّت الأرض، وانبعث ضوء أزرق من الدوامة، فرأى حسن مشاهد غريبة: مدنًا لم يعرفها، أنهارًا من نار، وأصواتًا تناديه باسمه، عندها أدرك الحقيقة: الطاحونة لم تكن مكانًا عاديًا، بل بوابة بين عالم الأحياء وعالم الأرواح.

الغرباء الثلاثة لم يكونوا مسافرين ضائعين، إنهم حرّاس البوابة، الذين خانوا عهدهم وحاولوا العبور.

موتهم لم يكن موتًا، بل عقابًا: أرواحهم حُبست بين العوالم، تبحث عن بديل يفكّ قيدها.

أسرع حسن بالهرب، لكن منذ تلك الليلة تغيّر، كان كلما نظر في المرآة، يرى خلفه ثلاثة وجوه باهتة تحدق به.

 لم يبح لأحد بما رآه، خوفًا من أن يُتهم بالجنون، غير أن الشيوخ لاحظوا أن الطاحونة القديمة عادت تُصدر صوتًا خافتًا يشبه التنفس… وكأنها تستيقظ من سباتها الطويل.

***

الكاتب: شادي مجلي سكر

دخلت استوديو التصوير سيدة فارعة الطول ناعسة العينين تقترب من الخمسين عاما رشيقة القوام شديدة الاناقة. رفعت عباءتها وعلقتها خلف الباب الخشبي داخل غرفة مخصصة لتصوير زبائن المحل

متشحة بملابسها السود من رأسها حتى أخمص قدميها. نظرت في المرآة التي عكست صورة كاملة لجسدها. انتابها احساسان أولهما انها مازالت شابة ومتمسكة بأذيال الحياة تحب الموسيقى والرسم والتنزه في المروج الخضر أما روحها الثانية فهي مهمومة ومنكسرة بداخلها فقط. دون ان تبدي ذلك للناس وحتى لزوجها الذي هو بحاجة لمن يسنده ايضا

لكنها أدركت فجأة ان عليها أن تجهز نفسها ولا تظهرها اضحوكة للآخرين

الحياة تناديها والقمر ما انفك يغازل جفنيها.. واليأس يسحبها وأجنحتها المتكسرة تؤلم روحها... لديها حلم طويل تنتظره الى الأبد. تتناثر أمانيها مع أحلامها كل يوم ثم تبدأ في اليوم الثاني لترسم أحلاما جديدة

كان الجو يبدو ربيعيا وقد منح روحها شيئا من انتعاشه وعليها ان لا تبدو قلقة رغم شعورها ان قلبها منقبض. العواصف لا تهدأ داخل روحها رغم محاولاتها كي تتأقلم مع وضعها الذي أجبرت ان تتعايش معه

انفتح الباب الخشبي وظهرت عاملة الاستوديو. هل جهزت نفسها سيدتي أو تحتاج لمساعدة ما..؟

بأدب شديد اللهجة طلبت منها السيدة ان تقوم بمساعدتها في ترتيب وأناقة شالها الحريري. بذلت العاملة مجهودا لإقناعها بوضع حجابها مرتفعا قليلا عن عينيها الواسعتين الجميلتين كي تظهران بشكل أجمل في

إلا انها قطبت ما بين حاجبيها وأظهرت انزعاجها. مع شعورها ان العاملة ليست مخطئة لكنها لا تعرفها ولا تعرف شيئا عن مصدر حزنها ولكن. عليها ان تتحاشى من شفقة أي انسان

فتذكرت وجهه الأسمر وهو يبتسم لها وكأنه يقول لها. حذاري من الضعف... لاح لها وجهه في المرآة...فلوحت له وهي مبتسمة ثم أغمضت عينيها

احترمت العاملة صمتها وشرود أفكارها وكان عليها ان تنزوي جانبا واكتفت بالنظر اليها من طرف عينيها وهي مندهشة لتصرفها الغريب

أخرجت المرأة الخمسينية من حقيبتها اليدوية خوذة عسكرية مرقطة ووضعتها فوق شالها الأسود وهي تنظر للمرآة ثم طلبت النصيحة من العاملة ان كان وضعها مائلا لجهة اليمين أو ان تتوسط رأسها. فإيهما هو الوضع الأفضل. ازدادت دهشة العاملة لهذه المرأة ولغرابة تصرفاتها التي لا تليق بعمرها فحاولت ان تخبرها ان الخوذة المرقطة ستجعل الصورة غير لائقة ومنظرها غير مناسب للصورة البتة

الا ان المرأة أصرت ان تظهر الخوذة فوق شالها. مما أثار في نفس العاملة طرافة حكايتها. وربما شككت بعدم اتزان عقلها

حاولت العاملة ان تخنق نوبة ضحكتها بصوتها المسموع فهربت خارجة من غرفة التصوير الى واجهة المحل وطلبت من صاحبتها التي حضرت توا ان تحل محلها. كي لا تسبب للمرأة احراجا أو ربما تثير غضبها ثانية

دخلت صاحبتها وقد أصيبت بالدهشة عند رؤيتها للمرأة. نعم اتضح انها تعرفها وتعرف حكايتها فهي احدى قريبات أمها فأخبرت السيدة ان القبعة المرقطة منحت الصورة اشراقة وجمالا فما كان من السيدة الا ان تطبع قبلة على خدها. ومضت بعد استلامها وصل المراجعة في يوم آخر لاستلام صورتها

غادرت السيدة محل التصوير وما زالت تردد هامسة مع نفسها لن أنساك أبدا من الغسق وحتى آخر نهار في عمري ستبقى حبيبي الى الأبد ولن يفرقنا سوى الرمس

انزوت العاملة مع صاحبتها وأخبرتها على الفور حكاية هذه السيدة. ان هذه الخوذة المرقطة طالما ارتدتها في مناسبات عديدة وحتى في دارها أحيانا. وانها تعود لأبنها الوحيد الشاب الذي اختفى قبل عدة أشهر ولم يحصلوا حتى على جثته في معسكر (سبايكر). كما يسمونه

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

2/ 10 / 2014

كل شــــيءٍ في بلادي

تَصطفيــــــهِ أحـــرُفي

*

تكشف المستـــور فيهِ

تُخْـــــرِج الحق الخفي

*

تَملـــؤ الأزهار عِطـــرًا

بربيـــــــــعٍ تَحتـــــفي

*

كل شــيءٍ في حُروفي

في اتِصــــــالٍ بيْ يَفي

*

كــل إبــــــداعٍ أتــــاكمْ

سَطَّــــــــــرَتْهُ أحـــرُفى

*

غير أَنَّي في اعْتِــــرافٍ

أنَّ حــــــــــــقي مُنتفي

*

بين كَبْتٍ فى الصحافةِ

وحِصــــــــاري المعرفي!

*

كيف غاب الوعي عنكمْ

مَنّ تُرَى لــي مُنصفي؟!

*

بين عَقْــــــلٍ للصحيفةِ

واعتِقــــــال الصحفي

*

أيهــــا الســـادة عفــــوًا:

لا.. لِـــــحَبْس الصحفي!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

٢٠٠٧م

 

تتبدّلُ الأشياءُ كما لو أنَّها تجرِّبُ وجوهَها على مهلٍ،

تستبدلُ ألوانَها كما تستبدلُ الغيومُ رغبتَها في المطر.

كأنَّها لا تثقُ بالثباتِ،

ولا بالإنسانِ الذي يُراودُها عن أسرارِها.

*

الأكوابُ التي شربتَ فيها نسيانَك،

صارتْ تنظرُ إليكَ بشكٍّ،

كأنّها تشكُّ في صدقِ عطشِكَ،

وجهُكَ الذي تعرّفُه في الصباحِ

يُصبحُ غريبًا مع المساءِ،

عينُكَ تكذّبُ مقلتها،

والمرآةُ تصيرُ نصًّا آخرَ عنك،

نصًّا كتبهُ الغيابُ بالحبرِ المعكوس.

*

كم مرّةً خُلِقتَ من رمادٍ لم يكنْ رمادَك؟

كم مرّةً انقلبتَ على ذاتِك كما ينقلبُ البحرُ

على نبوءةِ الريح؟

كم مرّةً أعدتَ ترتيبَ خرائطِ قلبِك

لتكتشفَ أنَّ الجهاتَ استقالتْ من مجالها ؟

*

الأشياءُ لا تموتُ...

إنّها فقط تُبدّلُ عاداتِها في الحياة.

الكرسيُّ الذي شهدَ انهيارَك الأوّل،

يُصافحُ الآنَ ضحكتَكَ ببرودٍ،

والبابُ الذي صدّكَ عن الدّاخلِ،

يستضيفُ اليومَ حضورك الباهت.

*

كلُّ شيءٍ يختبرُك.

حتى الريحُ التي مرّتْ على كتفِك،

كانتْ تُجرّبُ معنى اللمس.

كلُّ شعورٍ يشيخُ حينَ يُسمّى،

وكلُّ رغبةٍ تُصبحُ حذرةً حينَ تُقال.

*

في دورةِ الأهواءِ،

تتبدّلُ المسافاتُ بينَ الحنينِ والعزوف،

بينَ الاحتراقِ والبرود،

كأنَّك صرتَ مقيمًا في منفى الأضداد،

لا أنتَ فيك،

ولا ما حولكَ حولَكَ.

***

مجيدة محمدي

أتى زمنٌ فيه المقابرُ أصبحتْ

جنانًا يُباري كي يطاها الغِنى الفقْرا

*

فإمّا بموتٍ فيه راحٌ لأنفسٍ

تغالبُ في قبرٍ يُنغّصُها القهْرا

*

وإمّا بعيشٍ للطّريد الذي غدا

يرى كلّ قبرٍ مُبتنى في العرا قصْرا

*

ألا إنّها الدُّنيا تناديْ الهوى بنا

فيُتبعُها رغْبًا بما عِندها العُمْرا

*

يقومُ لها بل للذي عندها الضُّحى

ومن بعدهِ الظهرَ الذي يسحبُ العَصْرا

*

ويحرِمُ محرومًا هو الرّاحُ ما لَهُ

لِتملكَهُ دُنيا يُمَلِّكُها الفِكْرا

*

وما أنْ يُنادي الفجرُ حتّى يهبَّ كي

يُصّلي لربّ الكونِ من أجلِها الفجْرا

*

وما بين إصباحٍ وآخرَ ينزعُ الـ

الحيا علّها تُعطي فتَسْتَحْضِرُ الصّبرا

*

يبيعُ لِترضَى عنْه أهلًا وصُحبةً

ويزدادُ كبرًا لو نما ظلُّهُ شِبرا

*

وتُسكِرُهُ بالأُمنياتِ كؤُوسها

وعودٌ إذا ما اسْتُحْسِنَتْ أورثتْ حَقْرا

*

وخمْرُ الأمانيْ في كؤوس الوعودِ في

رهانِ الكؤوسِ لا مثيلَ لهُ خَمْرا

*

يمرُّ الصّبا سكرى لياليهِ بالهوى

الذي أسْكَرتْهُ أمنياتٌ روَتْ كِبْرا

*

وما أكذبَ الدُّنيا وما أسذجَ الهوى

إذا وعَدَتْهُ واحتفى بالهُرا صَدْرا

*

كحالِ شروقٍ يحتفيْ الغربَ كلّما

افترىْ قائلًا أنْ في غدٍ يُطلِقُ الفجْرا

*

فلا الغربُ يُوفي بالوعودِ ولا الأخُ الـ

غريرُ اهْتدى والعُذرُ يَسْتَخلِفُ العُذرا

*

مُضيَّ الصِّبا يمضيْ الشّبابُ وكاسُه

هوىً كاسُه المُثلى فِرىً تُفترى جَهرا

*

كحالِ بلادٍ أنكَرَتْها دِماؤُها

ولمّا تزلْ مِنْ ذي الدِّما ترقُبُ النّهْرا!

*

فلا النّهرُ جارٍ في سبيلِ خلاصِها

ولا دَمُهَا فيهِ دمٌ يبْلُغُ البَحْرا

*

يُشيبُ الهوى عمرُ الأماني وكاسُه

تصيرُ كما لو أنّها قُدِّمتْ صُفْرا

*

ونجهلُ لو يومًا عزونا مشيبَه

لشيبِ سنينٍ لا تشُدُّ له أَزْرا

*

ونصْحو ولا يصْحو هوىً راحَ عهدُهُ

فنحفرُ في بَرِّ الصّدورِ له حفْرا

*

وحين تبيتُ الأمنياتُ بلا هوىً

تخيرُ الدِّما فينا لتحْيا بِها جمْرا

*

ونمضيْ وتبقىْ الأمنياتُ وجمرُها

بهِ يكتويْ من بعدِنا ذكرُنا دهْرا

*

أكانَ سَيُرْضيْ ما انطوى من هوىً لها

بِنا أنْ تظلَّ الأمنياتُ به سِرّا؟

*

أكانَ علينا قهرُهُ قبل وأدِنا الـ

أمانيْ وحفرِ المسْتحيلِ لها قبْرا؟

*

أكانَ عليْنا أنْ نصلّيْ وندعوَ الـ

سماءَ فلا تُبقيْ لنا بعدَنا ذِكْرا؟

*

دروسٌ أمانينا لآتينَ خلْفنا

ولولا الهوىْ ما كانَ للدّرسِ أنْ يَطْرا

*

ومن يُبتلى من قلّةٍ قرأَتْ بما

اقْتراهُ فلا تثريبَ إنْ حصَّل الصِّفْرا

*

فإنّ هوىْ دُنياهُ مُنسيهِ ما رآ

هُ إلّا إذا بذَّ الهوى مُسْتنصِرًا صَبرا

*

ألا إنّها الدُّنيا وهذي فِعالُها

و نظلِمُ إذْ نعزو لأزمانِنا الشَّرّا

*

ألا إنّها أهْواؤُنا وفعالُها

ونظلِمُ إذْ نعزو لغيرِ الهوى الخُسْرا

*

ألا إنّها الصُّغرى وهذا لهيبُها

وجهلًا نُساويهِ بما أخْفَتِ الكُبْرى

***

أسامة محمد صالح زامل

اطمئني، يا نجمةً فارهةً بحمرةِ الشفق،

ما عاد الهدهدُ بأحاديثِ الرسل

ليُخضّب يدَ القدرِ بحناءِ أوزاركِ

وانشقي عن مزاجِ العشيرة

وأنتِ تؤدين صلاة العودةِ بتأويلِ الخاتمة

*

مرحى!

اشتعلتِ الظلاماتُ في نهاراتِ الأزهار،

وللمؤجل من شرابكِ

ترنّحت الكؤوسُ سهوًا،

وإن أفرطتْ،

ستعبرُ البيولوجيا،

وإن توقفتْ،

ستعدو النجومُ فرادى وهي تحمل

أوزارَها بنكهةِ الكون

*

مرحى!

سرق الغصنُ ما تبقى من البحر،

والزورقُ هناك، في أسى الكناري،

يَتهنى بالشبق

فعلامَ تُخضّبين الأيدي بتأويلِ الخاتمة؟

كي توغلي في الضياعِ بثمنٍ بخس،

أم لتفوحِي بالتراجيديا انتظارًا للوحي؟

*

أعذريني، يا السابحةَ في شبابيكِ البلاغة،

البنفسجُ في شفاهكِ

شاطئٌ تاه منه نهرُه،

وثلوجُ قلبكِ

بحرٌ وأفقٌ للنوارسِ المغتسلةِ بالشعر.

المطاراتُ ما زالتْ

تمارسُ آثارَ الثمالةِ بتروٍّ،

فهل ستسمحين لعصافيري بالهبوطِ عندكِ؟

*

بوسعنا الآن

أن نمزق القميصَ الزيتونيَّ للحزن،

ونحظى بعُريه وهو يتأوه،

ونُمارس بالمُكحلِ من اللحظات... سَفرَنا،

ونحن نُهلل بالصافراتِ

للساقطين عشقًا،

وإن صاح الإمامُ "يا للهول... يا للهول!"

*

وبوسعِ المحظوظين

استساغةُ اللحظةِ،

سيقولون: إنها خمرٌ مُجترَح،

وربما صلصالٌ احترق في يدِ الرب

ثانيةً وسنةً ضوئية

ومن لم تُؤاتهِ الفرصة

سيقول: كويكبٌ عنابيٌ

أفرطَ في الشرب!

*

اهديني هذه المجراتِ الساهبة،

بمقدورِ النارِ التشيعُ

في الكؤوسِ المُترنحة،

وأنا مسافرٌ في كُحلكِ الأسود... للمؤجَّل،

أتأملُ الفائتَ مُزدانًا بعُرسِ النجوم،

أتأملُ انشطارَ النارِ

احتفالًا بالمَولدِ الشبقي

أقسم إنها التفاتةٌ أخيرة،

ومن بعدها، إنِ التفتُ

سأقطعُ رقبتي!

***

حسين محمد خاطر - كاتب روائي وشاعر من السودان

 

مَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهَا

تَدْرِي بِمَا يَصْبُو لَهُ

أَوْ أَنَّهَا

اِنْكَشَفَتْ لَهَا

أَسْرَارَهُ

مُنْذُ اِلْتَقَاهَا صُدْفَةً

فِي مَسْرَحٍ يَرْتَادُهُ

مَشَيَا مَعًا

وَمَضَتْ سَرِيعًا رِحْلَةُ اَلْأَيَّامِ،

وَهْوَ  يُمَوِّهُ

وَيَظُنُّ دَوْمًا أَنَّهُ

لَا تَكْشِفُ اَلْأَيَّامُ يَوْمًا سِرَّهُ

حَتَّى أَتَى وَقْتٌ غَدَتْ أَيَّامُهُ

غَرْقَى بِحُزْنٍ يَسْتَبِيحُ كِيَانَهُ

جَاءَتْ إِلَيْهِ تَحُثُّهُ

أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا

أَنْ لَا تُفَارِقَ ظِلَّهُ

**

كَشَفَتْ لَهُ أَوْرَاقَهَا، لَكِنَّهُ

مَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ

قَدْ خَبَّأَتْ أَيَّامُهُ

لُغْزًا لَهُ

وَبِأَنَّ وَسْوَاسًا لَحُوحًا

صَارَ يَحْكُمُ خَطْوَهُ

فَتَخَاصَمَا

وَتَلَاسَنَا وَتَبَرَّمَا

كُلٌّ يُعَيِّرُ خِلَّهُ

فَمَضَى وَحِيدًا دُوُنَهَا

وَمَضَتْ بَعِيدًا دُوُنَهُ

وَاَللُّغْز ضَاعَ وَضَيَّعَا

مَاذَا اِحْتَوَتْ أَسْرَارَهُ

**

شعر: خالد الحلّي

 

في نصوص اليوم