نصوص أدبية

نصوص أدبية

رحت خلف الوقت أركض

أطارد حروفا مبهمة

قصيدة ثائرة

على الأوزان، متمرّدة

متجاهلة للأبجدية

ولأسماء البحور

وكتبت..

بشغاف القلب

بلغة الأسى

بحروف الصّمت

بحبر الزّمن

نصّا.. مبتورا

بلا روح

بلا نهد

بلا جسد

وتحت وسادة الوجع

خبّأت حكاياتي

كان رأسي يرتّبها بحسب

أهميّتها

يرصفها ساهما في صناديق

ذاكرتي

حواسي كانت مضطربة

وكانت أناملها تداعب

خصلاتٍ َمن شعري الغجريّ

المشاغب

لشفاهي المتورّمة

وخدّي المُلتهب

لا صوت للتّرانيم

لا همس لخطوط الجبين

جلستُ وذاكرتي القرفصاء

عند شاهدة.. قبر

والدتي

أتعبني صوت ندائها

يتردّد في مخيلتي، بارقا... خافتا...

الوقت يبتلعني

وأنا أبتلع خيالاتي وخيباتي

أمّي...

إنّي أتغذّى على دعواتكِ

وأتّعكّز على أمنياتكِ

فاستقبليني عند باب السْموات...

لعلّي ألقاكِ.. "

***

سونيا عبد اللطيف - تونس

 

للبحر نافذةٌ،

تطلُّ عليَّ من صخبٍ

وتحملني إلى شجنِ الرّحيلْ...

ولِنبض روحِكَ موجة ٌ

أمضي إليها،

كلَّما اتَّسعتْ جروحي

أو هوى قلبي،

إلى ليلي الطويلْ ...

لكأنَّ نبضكَ في دمي

روحانِ يفتتحانِ دربَ المستحيلْ ...

**

أتأمّلُ الصبحَ النّديَّ

يلفُّ روحي،

حينَ تتبعني خطاكْ ...

وألمُّ ماءَ الحلمِ

كي أسقي رؤاكْ ...

والسرُّ في عينيَّ

أنتَ ضياؤُهُ،

وفضاؤُهُ

والصّبحُ من وهج المحبّةِ

جاء يشدو في رُبَاكْ ...

هيَّا صغيري

ابقَ طفلاً شاعِراً

كالموج في صوتي

وأجِّجْ ماءَ روحي في ذراكْ ...

وامْلأ عيوني بالحنينِ

لكي أضيئكَ دائماً

وأظلَّ أومضُ

في هواكْ ...2140 daly

أملٌ يُطَيّرُ في فضاء الحبِّ

أجنحتي

ويحملني البريق إلى مدى بريّةٍ

في مهجتينْ

و أناملُ الورد التي حطّت سناها

في سماءِ السنبلهْ

تستصرخُ الأزهارَ في فينوسَ

أن تأتي،

وترسمَ قبلتينْ ...

وأنا وأنتَ ،

حمامتانِ

تُحمْحمانِ الضّوءَ

واللغة َ الغريدة َ

في مدائنِ غربتينْ ...

ألأننا طيران في أفق الصدى؟

نطوي جناحينا ربيعاً كالسَّناءْ ...

أم أننا ثمرٌ،

تفتّح في أنين الأرضِ

يلتمس البقاءْ؟

أمْ أننا نحن الطبيعة ُ؟

نحْنُ أولادُ الخصوبةِ

نحْنُ أزهارُ النقاءْ ...

من نبضنا،

من صوتنا الآتي

سنصعدُ في الضِّياءْ !...

***

إباء إسماعيل

.......................

* اللوحة لـسلفادور دالي

يستيقظُ الظلُّ قبلي،

يمتدُّ على الجدارِ

كما لو كانَ يبحثُ عن  وجه جديدٍ.

يلمسُني ببرودةِ مَنْ تَعلَّمَ الفقدَ باكرًا،

ثمّ يسألُني،

هل أنتَ أنا؟

أم أنا الحقيقةُ التي سقطتْ منك؟

*

يمشي في الأزقّةِ،

يحملُ اسمي،

متجاهلا الجميع،

يرتدي ملامحي كعباءةٍ ضاقتْ عليه،

ويتركني أُعيدُ تعريفَ نفسي كلَّ صباح.

*

في المرايا،

يُمارسُ سلطتَهُ عليَّ.

كلّما ابتسمتُ،

ابتسمَ أولًا.

كلّما حزنتُ،

سبقَني بالبكاء.

كأنّ الحزنَ ليسَ لي،

بل هو دَينهُ الذي يُسدَّدُه من وجهي.

*

أراهُ يتأمّلني،

أُسقِطُ بقايا وجعي،

وهو يجمعُها كغنائمِ نصرٍ.

يتسلّلُ إلى نواياي،

ويحرّفُها بخفّةِ نُسّاكٍ مُتمرّدين.

يكتبُ في الهواءِ وصيّتي،

"الكائنُ مملوكٌ لانعكاسه،

والضوءُ حارسُ سرّه."

*

حينَ أُطفئُ المصباحَ،

لا يختفي.

يبقى هناك،

ينتظرُني في الغيابِ،

يُرتّبُ كوابيسي،

ويجرّبُ جسدي كما يجربُ الخزاف طينه.

*

وفي الفجرِ،

حينَ أعودُ إلى نفسي،

يكونُ هو أكثرَ يقينًا بوجودِه.

أمدُّ له يدي،

فيُبعدُها برفقٍ،

ويقولُ،

"اخلعْ عنكَ هذا الجسدَ —

فقد صارَ لي."

***

مجيدة محمدي

(محو وصحو)

السِّفْرُ الأوّل: (نَفَسُ البَدءِ)

تَنَفَّسَ حَلْمُ السَّمَاءِ العَلِيِّ

فَفَاضَتْ شُهُودٌ تُنِيرُ العَدَمْ

*

وَهَبَّ الغَمَامُ يُفَتِّتُ صَمْتِي

وَيَبْنِي لِرُوحِي طَرِيقَ السَّنَا

*

وَنَادَى النَّهَارُ بِصَوْتٍ خَفِيٍّ

لِيَكْشِفَ بَابًا يُجَلِّي الخَفَا

**

السِّفْرُ الثَّانِي: (مِعْرَاجُ الغَيْم)

اِرَكْبْ جَنَاحَ الغِيَابِ المُنِيرِ

وَجُزِ الضِّيءَ حَتَّى يَفِيضَ الأَبَدْ

*

وَسِرْ فِي دُرُوبٍ تُنَادِي بِنُورٍ

يُقَلِّبُ فِي القَلْبِ شَكْلَ الزَّمَنْ

*

فَفِي كُلِّ نَبْضٍ مِنَ اللَّيْلِ سِرٌّ

وَفِي كُلِّ سِرٍّ فَتَحْنَا السُّدَا

**

السِّفْرُ الثَّالِث: (مَحْوُ الشَّمُوس)

اِمْحُو الشَّمُوسَ الَّتِي حَاصَرَتْنَا

فَمَحْوُ السَّنَا أَوَّلُ الاِشْتِعَالْ

*

وَدَعْ فَوْقَ صَدْرِكَ نُورًا يُنِيرُ

وَيَكْسِرُ بَابًا يَخَافُ الجَلاءْ

*

لِكَيْ يَتَجَلَّى لَكَ السِّرُّ حِينًا

وَيَفْتَحَ فِيكَ طَرِيقَ الفَنَا

**

السِّفْرُ الرَّابِع: (صَدَى البُخُور)

لَجَّ البَخُورُ، فَصَاغَ انْثِيَالًا

يُذِيبُ الظِّلالَ وَيَرْفَعُ نَبْضْ

*

وَعَادَ الصَّدَى مِنْ كُوَى الرُّوحِ،

يُنَادِي دَمَاعَاتِ سِرٍّ قَدَمْ

*

فَيَنْهَدُ فِيكَ زَمَانٌ قَدِيمٌ

يُفَتِّتُ صَمْتًا وَيَبْنِي صَدَى

**

السِّفْرُ الخَامِس: (خَلْعُ العُيُون)

اِنْزِعْ عُيُونَكَ إِنْ ضَيَّعَتْكَ،

فَفَوْقَ البَصَائِرِ يُولَدُ ضَوْءْ

*

وَدَعْ رُوحَكَ الوَحْدَ تُوغِلُ سِرًّا

وَتَحْمِلُ فِي الدَّرْبِ نَبْرَ الشُّهُودْ

*

لِتُبْصِرَ فِي الظُّلْمَةِ الوَجْهَ حِينًا

وَيَخْفُقَ فِيكَ ضِيَاءٌ نَقِيّْ

**

السِّفْرُ السَّادِس: (المِيضَأَة)

مِيضَأَةُ القَلْبِ تَجْلُو صَبَاحًا

يُسَاقِي جِرَاحًا نَمَتْ فِي الضُّلُوعْ

*

وَيَرْفَعُ فِيكَ دُخُولَ البَيَانِ

لِيَهْدِي لِرُوحِكَ مَدَّ الرُّؤَى

*

فَيَنْفَجِرُ السِّرُّ فِي لَوْنِ نَفْسٍ

تُرَاوِدُ نُورًا وَتَخْتَزِنُ الرُّوحْ

**

السِّفْرُ السَّابِع: (نَامُوسُ العِشْق)

فَعِشْقُ البِدَا نَامُوسٌ عَتِيقٌ

يُفَكُّ الطَّلَاسِمَ عَنْ بَابِهَا

*

وَيُمْهِلُ نَفْسَكَ حَتَّى تُصَلِّي

بِسِرٍّ يُقِيمُكَ فَوْقَ الزَّمَنْ

*

فَيَخْفُقُ فِيكَ وِصَالٌ يُنَادِي

وَيَسْكُنُ فِيكَ نَدَى الاِشْتِيَاقْ

**

السِّفْرُ الثَّامِن: (الغَيْبُ وَالوَصْل)

فَفِي الوَصْلِ غَيْبٌ، وَفِي الغَيْبِ وَصْلٌ،

وَفِي الحُضُورِ يُقِيمُ السَّنَا

*

وَفِي السَّهْوِ خَمْرَةُ نُورٍ تُضِيءُ

جَوَانِبَ قَلْبٍ يُفَتِّتُ لَيْلْ

*

فَيَغْدُو الطَّرِيقُ بُخُورًا رَخِيصًا

وَيَغْسِلُ صَوْتًا تَخَلَّفَ فِينَا

**

السِّفْرُ التَّاسِع: (سُكْرُ السَّالِك)

يُسَافِرُ فِيكَ دَمٌ مُنْسَرِي

يُنَقِّي طُرُوقَكَ مِنْ كَدَرِكْ

*

وَيَعْبُرُ مِنْ بَابِ نُورٍ خَفِيٍّ

لِيَهْدِي خُطَاكَ لِدَرْبِ الفَنَا

*

فَتَنْهَضُ فِيكَ أَسَارِيرُ وَحْيٍ

تُفَلِّقُ صَوْتًا وَتَبْنِي سَبِيلْ

**

السِّفْرُ العَاشِر: (خَاتِمَةُ النُّور)

فَسِرْ فِي دُرُوبِ اليَقِينِ الوَثِيقْ

فَلَا شَيْءَ يَهْدِمُ نَبْضَ الهُدَى

*

فَكُلُّ الطَّرِيقِ وُصُولٌ إِلَى

وُصُولٍ، وَكُلُّ الوُصُولِ سَنَا

*

وَفَوْقَ الفَنَاءِ يَقُومُ جَمَالٌ

يُؤَسِّسُ فِينَا حَقِيقَةَ نُورْ

*

الكودا

هذا السِّفرُ ليس قصيدة،

بل عودةٌ طويلةٌ إلى أولِ الضوء،

إلى اللحظة التي ينسحب فيها العالم

ويبقى وجهٌ واحد…

وجهٌ بلا شكل،

ولا زمن،

ولا ظلّ.

وما النورُ يا صاحبي

إلا أن تعودَ شيئًا

لم يمسّه أحدٌ

منذ خُلِق الوجود.

قالَ: غرابُ السدرةِ،

اركبْ جفنَ الغيمِ الأسمرِ

امحُ الشمسَ،

لَجَّ أقنومَ بخورِ قُمْقُمكَ

:تفتحُ أمامكَ الحضرةَ

فاِنزعْ عينيكَ،

واخْلَعْ حلمَكَ

مشكاةَ عشقكَ،

قلبُكَ

***

د. سعد غلام

 

عَانِقْ وُرُودَ الفَجْرِ مُؤْتَلِقًا،

وَاشْرَبْ رَحِيقَ العُمْرِ مِنْ ثَغْرِ الصَّبَاحِ.

ضَوْءُ النَهَارِ اصْطَفَاكَ،

وَاللَّيْلُ غَادَرَ مُذْ رَآكَ،

مُسْتَسْلِمًا،

فِي كُمِّهِ لَفَّ الجِرَاحْ.

*

فَاكْتُبْ —

بِنُورِ الضَّوْءِ — مَلْحَمَةَ الخَلَاصْ،

وَاسْكُبْ شُعَاعَ الشَّمْسِ

فِي طَلْعِ الأَقَاحْ.

*

إِنِّي أَرَاكَ اليَوْمَ مُخْضَرًّا،

وَأَرَى البِلَادَ بِكَ تَهِيمُ،

مَفْتُونًا بِأَعْرَاسِ الحَصَادْ،

مَسْكُونًا بِآيَاتِ اليَقِينْ.

*

فَاشْرَحْ نَشِيدَكَ لِلرِّيَاحْ،

وَاقْرَأْ قَصِيدَكَ — كَيْ يَفُوحَ اليَاسَمِينْ.

*

لَمْلِمْ دُمُوعَكَ فِي الغُيُومْ،

فَالنَّبْعُ جَفَّ،

وَالأَرْضُ حُبْلَى،

فَمَتَى سَتُمْطِرُ؟

كَيْ يَحِينَ مَخَاضُنَا،

كَيْ يُولَدَ الطِّفْلُ الَّذِي

مِنْ نَسْلِهِ نَحْنُ نَكُونْ.

*

لَا تَكْتَرِثْ —

تِلْكَ خِرَافُ الأَمْسِ،

أَرْهَقَهَا التَّطَلُّعُ لِلطُّلُولْ،

مَاضِيهَا حَاضِرُهَا،

وَوِجْهَتُهَا الأُفُولْ.

*

وَقِنَاعُ،

مَنْ مَنَحُوا الغَرِيبَ، وُجُوهَهُمْ!

سَهْمٌ يَشُقُّ الصَدْرَ!

أَطْلَقَهُ الغَرِيبْ!

*

لَا تَكْتَرِثْ —

مَا مَرَّ عَصْرٌ

دُونَ أَقْنَانٍ، عَبِيدْ،

لَقِّنْ، إِذَنْ،

لَقِنْ، حُرُوفَ الأَبْجَدِيَّةِ وَالكِفَاحْ،

هَذَا الَّذِي، مِنْ نَسْلِهِ،

سَيَكُونُ إِشْرَاقُ الصَّبَاحْ.

*

فَغَدٌ سَيُولَدُ مِنْ جَدِيدْ،

وَغَدًا يُوَحِّدُنَا مَعًا،

فِي حِضْنِهِ الوَطَنُ — القَصِيدْ.

***

بقلم:️ سلَيْمَان بن تمَلِّيسْت - تونس

جَرْبَة، 30 أُوتْ 1996

 

وَلِهالةِ القمرِ البعيدِ قَداسَةٌ

نقلَ السُراةُ حديثَها مُتَواتِرا

*

رَشَفوا النبيذَ مُعتّقاً من دَنِّها

ثمّ اهتدوا وَرَمَقْتَها مُتَحيّرا

*

أَفَكُلّما كَرَزُ الصِحاحِ يَلوحُ لي

رِيقي يَسيلُ فأنثني مُتحذّرا؟

*

شَغِفتْ بزخْرفةِ الغلافِ بصيرتي

وَلِعلَّةٍ رَأتِ المِدادِ مُشفَّرا

*

حُبْلى السنابلِ في الصِحاحِ نُجلُّها

وَنَرُدُّ أشواكَ الضِعافِ تَحرُّرا

*

وَنُجلُّ من حَصَدوا السنابُلَ خُشّعاً

إذْ أنجزوا ما قد بَدا مُتَعذّرا

*

لَسْنا ذَوي تِرَةٍ على قُدَمائِنا

وَنَرى القطيعةَ صَرْعةً وَتَهوّرا

*

لكننا نهوى التراثَ مَراقِياً

للماوراءِ وَليسَ عَوْداً لِلْورا

*

فَكرامةُ المخلوقِ خيرُ فريضةٍ

فافتحْ شبابيكَ البصيرةِ كي تَرى

*

واصعدْ سماواتِ السرائرِ رائياً

أسرارَ آلاءِ الكتابِ تَدبُّرا

*

تُثْري فتوحاتُ الجوى ان أشرقتْ

مُتذوّقاً عَرِكَ الرُؤى مُتبصّرا

*

فَتتبّعوا آثارَ أسلافِ النَقا

وَتَوجّسوا أثَراً هُناكَ مُزوّرا

*

أثَراً على عَدَدَ الشفاهِ رُموزُهُ

وَسَرى بِعَنْعَنَةِ الأُلى… مُتَحوّرا

*

هَوَساً بتحريمِ المُباحِ فصارَ مَنْ

يَسموا بِموسيقى الغرامِ مُكفّرا

*

وكذا مُصافحةَ الضباءِ جزاءُها

سَفَرٌ إلى سَقَرِ فَوا نِعْمَ القِرى !

*

تَهْوي العقائدُ إذ تَصُبُّ ضِعافُها

للشاربينَ نجيعَهُنَّ الأحْمرا

*

فكأنّها صَبّتْ زُعافَ ضَلالِها

وأحالتْ المَزّاءَ لُؤْماً أصفرا

*

وجميعها هَتَفتْ بدعوى أنها

منحت ذوي الالبابِ غصناً أخضرا

*

نسجوا أسانيدَ السَديمِ سلاسِلاً

نصبت على عُنُقِ السؤالِ مُسوّرا

*

واهتزّتْ الاكوابُ نَخْبَ حِكايَةٍ

إذ غائبُ النُدماءِ يُطربُ حُضَّرا

*

وتعاقبَ الإملاءُ سَجْعَ مُرَدِّدٍ

يُمْلي وَيَسْتمْلي الندامى سُكّرا

*

سَكِروا وراويةُ القبيلةِ شاهدٌ

لِيُبدِّعَ المرتابَ والمتذمّرا

*

(لا تربطوا الجرباءَ قُرْبَ صحيحةٍ)

وَحَذارِ من داءِ العليلةِ لو سَرى!!

*

أنا لا أصدّقُ ناقلاً مُتعالماً

لِهياكِلِ التقديسِ عاشَ مُسيَّرا

*

فَلَكَمْ قَذى المنقولِ أوهنَ عارفاً

وأزاحَ عن تلكَ الديارِ مُنوّرا

*

هل تُصلحُ الجُلّاسَ صرخَةُ شاهِدٍ

فلطالما غَشيَ الظلامُ المِنْبرا

*

يسقي الأنامَ مِنَ (الضعيفِ) غُثاءَهُ

مُتَبلّداً مُتَغوّلاً مُتحجّرا

*

يغلي بمكذوبِ الحديثِ مَزاجُهُ

وَيُردّدُ المَلَأُ البليدُ مُكبّرا

*

سكرى الطوائفُ والرَوايا تنتشي

فَمتى تُساقينا (الصحيحَ) فَنَشْكُرا

*

وَلَرُبّما (المغشوشُ) أسكرَ قاتِلاً

بِدِماءِ زرعِ اللهِ خاضَ لِيْسكرا

*

كيف الوصولُ لِماءِ زَمْزَمَ خالِصٍ

والماءُ من صَدَأ الدِلاءِ تعكّرا

*

تركوا الفواكِهَ عندَ موْسِمِ قَطْفِها

والى حصاد الأمس عادوا القهقرى

*

بَعُدَ المرامُ على اللواقطِ في الفلا

وتناثرَ الملقوطُ في أُدُمِ الثَرى

*

رَجَعوا إلى زمنِ السَماءِ بلابِلاً

طفقتْ تُغرّدُ كي تُحاكي البيْدرا

*

لكنّما التغريدُ أضعَفَهُ النوى

والرجْعُ من وَجَعِ الغيابِ تَكدّرا

*

أَتَلَمّسَ القيّافُ يُنبوعَ الهُدى؟

فَسَلوا (بُخارى) الأمسِ أو (أ مَّ القُرى)

*

وَسَلوا (كُليْنَ* ) وَ* سائلوا (الرَيَّ ) التي

زَعَمَتْ بِأنَّ الصيْدَ في جوْفِ الفَرا

*

رَكِبوا سُروجَ الليلِ صوْبَ سِراجِنا

بِيضُ المقاصِدِ قاصِدينَ الجوْهرا

*

عطشى القوافلُ والخيالُ هَوادِجٌ

هَتَكتْ سرابَ البيدِ ترجو الكوْثَرا

*

طَلَبوا رضابَ الحوضِ ثُمّتَ أدركوا

عَسَلَ الرضابِ على الشِفاهِ تَغيّرا

*

صَدَحَ الأوائلُ بالنُقولِ شَفاهَةً

وتناقلوا شوكَ الجنائنِ أعْصُرا

*

وَتَلقّطوا ثَمَرَ الصدورِ رواجِعاً

كَمُقامرينَ وما أباحوا المَيْسِرا

*

بذلوا قصارى العشقِ في قَطْفِ الجَنى

وَقِطافُهم بِصدى السنينِ تَعفّرا

*

ياناقلي (سُنَنَ) الحَبيبِ رُويدكمْ

(سُنَنُ) الدُهورِ قد تُغيّرُ أسْطُرا

*

بِكنوزِهِ حَفِلتْ حوافظُ ثُلّةٍ

ترعى الأمانةَ والذِمامَ تَذُكُّرا

*

مادنّسوا دُرَرَ البِحارِ وإنّما

زَبَدُ الذَواكِرِ قد يُخالطُ أبْحُرا

*

كَثُرَ الحُداةُ على الرواحِلِ في الدُجى

وَبِدمعِهم ياما الدليلُ تَعثّرا

*

نَفَدَ المجازُ مع المِدادُ فَهَيْتَ لي

غُرَرَ القوافي الراحِلاتِ مع السُرى

***

د. مصطفى علي

 

إِذا مـا رَأَيْـتَ النَّـاسَ عَنْـكَ تَحَـوَّلُـوا

تَحَـوَّلْ، تَجِـدْهُمْ مِنْ حَـوَالَيْكَ أَقْبَلُوا

*

طَـبَـائِعُ نَـفْـسٍ ما يُـطَاوِلُـهَا البِـلَـىٰ

ومَنْ كَـانَ مِنَّا لا يَرَىٰ النَّفْسَ أَحْوَلُ!

**

ولَـوْ أَنَّ (قَـيْـسًا) لَـمْ يُـجَنَّ جُـنُوْنُـهُ

بِـ(لَيْلَىٰ)، لـَجُنَّتْ/ (قَيْسُ عَيْلَانَ) زُلْزِلُوا

*

ولَوْ أَنَّ تِلْكَ (الدَّوْدَحِـيَّـةَ)(1) حَلَّـقَتْ

عَلَىٰ الحُبِّ، لَـمَ يَخْطُرْ قَنَا الغُصْنِ يَنْزِلُ

*

ولا قَتَـلَـتْهَا غَـيْـرَةُ الأَهْـلِ، لا.. ولا

هَـمَتْ في الأَغانِـيْ دِيْمَةُ الخُلْدِ تَهْمِلُ

*

أ تِلْكَ الفَـتَاةُ اغْتَالَـهَا الحُبُّ؟ أَمْ هُمُ؟

فيَا طُوْلَ هَمِّ الحُبِّ! والظُّلْمُ أَطْـوَلُ!

*

كَـقِـدِّيْـسَةٍ، ظَـنَّتْ سِـهَامًا تَنُوْشُـهَا

وُرُوْدًا، فَـضَمَّتْـهَا بِقَـلْـبٍ يُـقَــبِّـلُ

*

فيَـا وَيْلَ ما لاقَتْ مِنَ الوَيْلِ في الهَوَىٰ

وكَانَتْ فَـتَاةَ الحَـيِّ والحَـيُّ حُـوَّلُ!

**

وكَـمْ ذا يَـرُوْعُ العـاشِـقِـيْنَ تَـمَـنُّـعٌ

ومَـا هُـوَ إلَّا رَوْعُـهُـمْ آنَ كُـبِّـلُــوا

*

تُعَـادِيْ الفَتَىٰ نَفْسُ الفَتَىٰ في وُجُوْدِ مَا

يَـوَدُّ، وقَـلْبُ الـمَرْءِ لِلمَرْءِ يَقْـتُـلُ!

**

صَعِـيْـدٌ عَلَـيْـهِ كُلُّـنَا فِـي صعُـوْدِنَـا

ولٰكِـنْ هُـنَا كَلٌّ.. هُـنَالِـكَ كَـلْكَـلُ

*

فمَنْ عَـزَّ بَـزَّ السَّابِـقِـيْنَ، ومَنْ يَـهُـنْ

يُـبَزَّ: صَرِيْـمًا دِيْـسَ والخَـيْلُ تَصْهَلُ!

**

سَـلَامٌ عَـلَىٰ الإِنْـسَـانِ أيـَّانَ بُـدِّلَـتْ

مَعَـاهِـدُهُ الأُوْلَـىٰ وأَهْـلُـوْهُ بُـدِّلُـوا

*

وأَنَّـىٰ لِـمَيْتٍ يَـبْعَثُ المَـوْتَ طَـائِـرًا

جَنَاحَـاهُ نَـارٌ مِنْ دَمِ الدَّهْرِ تُشْعَـلُ؟

*

وما كَـانَ أَمْـسِ صَفْـوَةَ العُمْـرِ، إِنَّـما

نَحِـنُّ لذِكْـرَىٰ كالطُّـفُوْلَةِ تَهْـطِـلُ!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..................

(1)  إشارة إلى مأساة تلك الفتاة اليَمنيَّة، من وادي (بنا). وعنها جاءت الأغنية الشهيرة «خَطَر غُصن القنا»، من كلمات (مطهَّر بن علي الإرياني).

 

يهيمنُ ريحُ الشتاءِ ولكنْ

نَ ريحَ الخريفِ يعاود كرّا

*

يخالُ بأنّ الصّمودَ طويلًا

يُغيِّرُ حظًّا ويجلبُ نصْرا

*

وينسى بأنّ حليفَ الشتاءِ

زمانٌ تحدِّيه يقصِمُ ظهْرا

*

يعزُّ على ذا الخريف انكسارٌ

سينزعُ عنهُ رداءً وسِتْرا

*

وليس يفيدُ الدّعاءُ خريفًا

ولو قامَ دهرًا وأمسكَ دهْرا

*

أحبُّ الشتاءَ ولكنّ دمعِي

لأجلِ الخريفِ تدفّقَ نهْرا

*

ولو أذنَ اللهُ واسْطعتُ شيئًا

لنقّصْتُ عُمريْ ليزدادَ عُمْرا

*

ولكنّ أمرَ المُهيمنِ يمضيْ

وهل من مفرٍّ إذا رادَ أمْرا

*

وما عشتُ إلّا كهذا الخريفِ

بأرضٍ بها يولدُ العِتْقُ أسْرا

*

ويحيا بها الشرٌّ بشّا وحرا

ويسعىْ بها الخيرُ إنْ عاش سرّا

*

إذا ما بكى الناس عمر الشبابِ

ادّعيت وواسيتُ بالقول: صبْرا

*

وصدقُ المواساةِ إدراكُ معنى

الّذي فقدَ النّاسُ حلوًا ومرّا

*

ولكنّني والخريفَ شبيها

ن إذ لا شبابَ لنبكيهِ قهْرا

*

وإلا لأنسى البكاءَ بكاءٌ

فإنّ له مثلما قيلَ سِحْرا

*

وداعًا خريفَ الفصولِ وداعًا

خريفي وربّي بما ظلّ أدْرى

***

شعر: أسامة محمد صالح زامل

كفوا دواعي البهرجه

ليست حياتي سفتجه

*

ما بالكم عامت بكم

كل الدواعي المبهجه

*

كادت وما صارت لنا

كبش أتاه فرجه

*

ما لي أرى في حارتي

سوق علاه هرجه

*

كيف أكون فارها

صوت سماعي ضجضجه

*

قد قلت يوما حينها

كيف دجاي أوهجه

*

ما حيلتي كان معي

يرقى سلاما منهجه

*

كيف المساري كلها

نار بها قد تلعجه

*

أصغ وقال صاحبي

ميل الحياة رهججه

*

بدر السناء طافني

قد كنت أسري الدلجه

*

كفو خصاما في الهوى

شوق الغوالي هزجه

*

من بعدما شاءت لنا

سلمى أضاعت درجه

*

ما لي وصرت في الجوى

قلب الهوى ما احوجه

*

ثم أتيت يا سهى

أدعو وارجو مفرجه

*

كيف رقاني وصلها

شوق الهوى ما أولجه

*

ثم ركبت سفنها

بحر الكوى ما أموجه

*

كفو أذن من ضرمها

كف المعاني ناسجه

*

لست أنا من موشك

مهما الاماني ناتجه

*

ما لي أنا من دونه

ينهار بيت الاسيجه

*

أصغ وهل كنت لكي

غير رضاك ألهجه

*

ماذا أرى من  بعدما

قطف المنايا ناضجه

*

ما حالها تلك الدنا

غير ذئاب هائجه

*

كفوا أذن من قطفها

وصل الاماني مزعجه

*

ما بال من ذاق الونى

يلقى الثمار الناضجه

*

حبا لكم يا صحبتي

ضرم حشاي لاعجه

*

دفء لسلمى في الهوى

ريح الشتاء ثالجه

***

علي جبار الاسدي

 

سلمى، موظفة بسيطة تعيش في هدوء نفسي وسلام داخلي. لا تتدخل في شؤون الغير ولا تهتم بحياة الغير. حياتها تختزل في شغلها كموظفة في شركة استيراد وتصدير، وفي أسرتها المتكونة من والدتها التي تعيش معها وزوجها وابنيها. تراها صباحا ذاهبة الى عملها بسرعة لا تلوي على شيء، أو عائدة في المساء الى بيتها، لا تلقي بالا لما يحدث حولها. منحنية الرأس، تضع تحت ذراعها حقيبة متوسطة الحجم. لونها أسود. تقول دائما "انه لوني المفضل. يمدني بطاقة غريبة وراحة بال لا أفهمها. لست أدري لماذا ينعتونه بأنه لون الحزن؟". وهي دائما تسرع الخطى وتحاول أن تنتصر على المسافات التي تبعدها عن بيتها حتى تصل في الوقت المناسب وتلبي طلبات أسرتها الصغيرة. نادرا ما تأخذ سيارة أجرة. ترى أنها مصاريف غير ضرورية. حتى وهي في عملها، تكون منشغلة بما ينتظرها بالبيت من أشغال. قالت يوما لزميلة لها:

- لم أستطع أن أطبخ اليوم، ولست أدري كيف سأتصرف.

أجابتها زميلتها بصوت واثق:

- اطلبي من زوجك وهو عائد الى البيت أن يحضر معه أكلا. وهكذا سترتاحين.

ابتسمت سلمى وأجابت بافتخار:

- في البيت لا يحبون أكل المطاعم. يعشقون أكلي.

ظهرت علامات التوتر على ملامح زميلتها. وسألتها بعنف رغم أنها لم تكن تقصد ذلك:

- لا أفهمك يا سلمى. تشتكين من الإرهاق في البيت ولا ترغبين في المساعدة. زوجك لديه سيارة ولا تطلبين منه أن يتركها لك بعض الأيام في الأسبوع حتى ترتاحين من المواصلات. أمرك غريب.

وتذكرت ساعتها سلمى يوم فاتحت زوجها بخصوص السيارة وطلبت منه أن يوصلها الى العمل أو يتركها لها. قال لها:

- أنت تعلمين جيدا أنني لا أستطيع الذهاب الى العمل بدون سيارة. وأنت تعلمين أيضا أنني أكره سيارة الأجرة. ومع ذلك، تفتحين هذا الموضوع. انسي تماما السيارة.

فهي تحاول أن تترك حياتها الخاصة بعيدا عن ألسنة زملائها بالعمل. تخاف كثيرا من أحاديثهم التي تكبر وتكبر وتصير مثل كرة الثلج كلما تدحرجت، كلما ازداد حجمها. تفضل الصمت على الخوض في هذه المواضيع. حتى رفضها حضور احتفالات الشركة أو دعوة غذاء، كانت تجيب دائما من يبادرها بالسؤال: "بيتي أولى بكل دقيقة" ولا تقول لهم الوجه الآخر من الحقيقة.

تلك الحقيقة التي اكتشفتها يوما بعدما تأخرت بعض الشيء عن وقتها المعهود للعودة الى البيت. ولجت يومها بيتها، وكانت منهارة من التعب والقلق. وجدته بالمطبخ، كثور هائج. قال لها أمام والدتها وابنيهما:

- أين الأكل؟ آخر مرة أحضر الى البيت ولا أجدك..

حاولت أن تشرح له سبب تأخيرها، رفض الاستماع وخرج.

ووبختها والدتها وقالت لها:

- معه حق. بيتك أولا. وهو وافق على عملك بشرط أن تكوني دائما بالبيت.

نظرات متفرقة بين زوجها الذي خرج غاضبا وأمها التي تؤنبها وولداها اللذين ينتظران الآكل في صمت.

سألتها يوما احدى زميلاتها: " متى ستهتمين بسلمى؟" أجابتها بطيبوبتها المعروفة ودون تفكير:" من سلمى؟" ضحكت زميلتها وقالت لها "الى هذه الدرجة، نسيت اسمك؟".

وسط صخب الحياة اليومية، نسيت نفسها. وكانت تسارع الزمن والتعب والإرهاق حتى تلبي طلبات أسرتها دون انتظار أي اعتراف. فكلام والدتها لا يفارقها حتى وهي في الحمام." الزوجة التي تهتم ببيتها وزوجها وأولادها، هي الزوجة الصالحة...الزوجة التي تكون أول المستيقظين وآخر النائمين، زوجة محبوبة عند زوجها..." كلام يتطاير حولها من الصباح الى المساء حتى نسيت أن اسمها "سلمى".

استيقظت ذلك الصباح وهي غير مرتاحة. كانت تشعر بتعب وارهاق شديدين، كأنها لم تنم منذ زمن. قاومت ذلك الشعور الذي يستوطن جسدها، واتجهت صوب المطبخ لتحضير وجبة الفطور وسندويتشات لابنيها. تركت الأكل جاهزا على المائدة، وخرجت الى عملها. تضطر الذهاب باكرا حتى لا تتأخر في المواصلات. كل يوم، تعيش نفس الحكاية، تنتظر سيارة أجرة، ويمكن أن يطول الانتظار أو يقصر. دائما تضع في حقيبتها حذاء بكعب عال خاص بالعمل. وتلبس حذاء رياضي يساعدها على الوقوف والانتظار في صمت.

لازمها ذلك الإحساس بالتعب حتى أغمي عليها وهي وراء مكتبها.. حملت الى المستشفى. كلموا زوجها، لم يحضر لأنه كان لديه اجتماع. طلبوا والدتها في البيت، لم تستطع الحضور لأنها لا تعرف كيف تـأخذ سيارة أجرة. حيث أنها طيلة حياتها، لما كان زوجها على قيد الحياة، كانت لا تغادر البيت بتاتا. وكان زوجها هو الذي يتكفل بكل ما يخص البيت من الخارج. حتى زيارة أهلها، كان يصطحبها بالسيارة ويعود اليها بعض ساعات.

ظلت سلمى بالمستشفى اليوم كله، عادت الى بيتها مساء، تحمل أوراق التحاليل وبعض الأدوية. لم يكن زوجها قد حضر بعد. استقبلتها والدتها وحضنتها ثم قالت لها:

- انه التعب يا ابنتي. قلت لك اتركي العمل واهتمي ببيتك أحسن.

كانت سلمى ساعتها منهارة. ابتسمت لها ابتسامة باهتة وولجت غرفتها. عادت والدتها تشاهد التلفاز وتتابع مسلسلها المفضل، دخل الولدان غرفتهما بعدما عاتبا أمهما على الـتأخير لأنهما لم يجدا ما يأكلانه.

نامت سلمى بعد يوم شاق.  تركت التحاليل جانبا مع الأدوية. ونامت دون ان تغير ملابسها.

استيقظت في الصباح على صوت ولديها، يطلبان الفطور لأن وقت المدرسة قد حان. وعلى صراخ زوجها الذي من عادته، إذا لم يجد الأكل جاهزا، يصرخ ويثور ويغضب ويلومها على اهمالها. صراخه تجاوز غرفة نومها، حاولت والدتها تهدئته فقالت له:

- لقد عادت بالأمس مرهقة. سأوقظها.

دخلت غرفتها وحاولت ايقاظها فقالت لها بصوت خافت لكنه عنيف:

- زوجك ينتظر فطوره. انه سيتأخر على عمله. قومي ...ما هذا التهاون.

لم تفهم لماذا في تلك اللحظة، افتكرت ما قالته لها زميلتها يوما" ألهذه الدرجة، نسيت سلمى؟"

ظلت تتأمل الأدوية التي بين يديها، وأوراق التحاليل على الطاولة. والبلبلة الآتية من المطبخ. فقامت بشكل آلي، غيرت ملابسها وحملت حقيبة يدها ووضعت فيها الأدوية والتحاليل لأنها ستبدأ رحلة جديدة مع المرض. خرجت من غرفتها وكانوا هناك ينتظرونها ويصرخون كل واحد يريد منها أن تلبي طلبه. كثرة الطلبات التي تهاجمها كالحجارة منذ ولوجها البيت الى أن تغادره. تأملتهم ومرت من أمامها عشرون سنة تتسابق بشكل هيستيري. لم تنتبه للزمن. رأت كما يرى النائم في منامه، عشرون سنة من حمل ورضاعة وغسل الأواني وكوي الملابس ومراجعة الدروس والاستيقاظ الباكر لإعداد الفطور وكذلك وجبة الغذاء. سألت زوجها:

- هل تعلم اين كنت بالأمس؟

لم تنتظر منه جوابا. أردفت بكل قوتها الغائبة منذ سنين وقالت له:

- كنت في المستشفى. واتصلوا بك ولم تحضر. واتصلوا بوالدتي ولم تحضر. كنت وحيدة، مع أنني أهديتكم عمري.

اتجه صوب الباب وقال لها:

- أحسن لك الاستقالة من عملك وتتفرغين لأسرتك.

تأملته مليا وقبل أن يغادر البيت طلبت منه مفاتيح السيارة ومرت من أمامهم كما مرت سنوات عمرها وكسرت حائط الصمت وخرجت.

***

أمينة شرادي

 

(العبور إلى المجهول)

سَأُغْرِقُ خُطْوَيَّ فِي نِدَاءِ الضَّوْءِ،

وَأَمْضِي فِي انتِشَاءِ غَمَامَةٍ سَوْدَاءِ،

أَسِيرُ عَلَى مَدًى يَشْتَدُّ فِي صَدْرِي،

وَأَلُفُّ نُجُومَ أَحْلَامِي عَلَى رِيحٍ تُدَاعِبُهَا السُّهُوبُ.

2

أُرَاوِغُ سَاعَةَ الْفَنَاءِ، وَأَسْتَبْقِي

شُظَايَا الْوَقْتِ فِي أَكُفٍّ تَبْسُمُ الْأَفْلَاكُ فَوْقَ رَيَّاهَا.

3

يَذُوبُ صَدْرِي فِي مُرُوجِ الْمَاءِ،

وَيَصْحُو فَوْقَهُ صَوْتٌ مِنَ الْغَيْبِ،

يُسَافِرُ فِي جَنَاحِ الْحُلْمِ مُسْتَنْفِرًا كَوَاكِبَ السُّدُومِ.

4

لِأَقْرَعَ أَبْوَابَ الْغُيُوبِ، وَأَنْسُجَ

مِنَ الْيَأْسِ الْقَدِيمِ قُبَّةً أُخْفِي بِهَا وُجُوهَ الْكَوَاكِبِ.

5

يَا أَيُّهَا الصَّوْتُ الَّذِي يَأْتِي عَلَى ظِلِّي،

غَيِّرْ نِدَاءَكَ، لِيَفْتَحَ جُرْحُنَا أُغْنِيَّتَهُ الْمَرْسُومَةَ.

6

وَرَجَعَتِ الْقَافِلَةُ مِنْ بَحْرِ الرَّمَادِ،

وَأَشَارَ السِّرَاجُ إِلَى وَجْهِ الْفَتَى،

فَخَافَ الْخُطْوَةَ، وَارْتَدَّ إِلَى الظِّلِّ،

فَاقْتَادُوهُ، وَقَطَعُوا عُنُقَهُ فِي السُّحُبِ،

وَمَضَيْتُ أَجُرُّ وَجْهَ دَمِي، وَأَحْفَظُ حُلْمَهُ.

7

مَضَيْتُ كَالرِّيحِ الَّتِي تَجْتَازُ أَجْفَانَ الصَّدَى،

تَخُطُّ عَلَى ضُلُوعِ الْغَيْبِ أُغْنِيَةَ النُّدُوبِ.

8

قَطَعْتُ صَحَارِيَ الْيَأْسِ، أَحْمِلُ ظِلَّنَا الْمَجْرُوحَ،

يَرْتَفِعُ الْحِصَانُ عَلَى شُرُفَاتِ نَجْمٍ مُشْرِقٍ طَلِقٍ.

9

لَوْ أَنَّنِي أَمْلِكُ زَمَانَ النُّبُوَّةِ،

لَسَجَّيْتُ الطُّفُولَةَ فِي بُسْتَانِ اللَّوْزِ،

وَحَوَّلْتُ حُرَّاسَ الظِّلَالِ طُيُورَ أَمَانٍ تَطِيرُ.

10

يَا أَرْضُ، خُذِينِي إِلَيْكِ كَيْ أَسْكُبَ أَسْمَاءَ الْفَقِيدِينَ فِي نَبْضِكِ الْخَفِيِّ.

11

أَصْعَدُ كَالْجِذْوَةِ الْعَاتِيَةِ فِي وَقْدَةِ النَّهْرِ،

وَأُشْعِلُ فِي دَمَائِي وُجُوهَ أَيَّامِي الْقَدِيمَةِ.

12

يَرْفَعُنِي الْيَأْسُ كَهَزِيمَةٍ نَبِيلَةٍ،

وَيَغْسِلُنِي الْوَعْيُ كَمَطَرِ الْخَرِيفِ الْمُشْرِقِ.

13

لَسْتُ نَجْمًا وَلَا نَبِيًّا مُعَدَّدًا،

بَلْ سَاكِنُ الْخَلْقِ فِي مَتَاهَةِ الْجَسَدِ الْمُقَفَّرِ،

أَنْحِتُ مَصَائِرِي عَلَى أَكُفِّ الرِّيحِ، وَأَنْتَظِرُ الرُّجُوعَ.

14

فِي صَدْرِ هَذَا الْكَوْنِ أُشْعِلُ أَلْفَ نَشِيدٍ،

وَطَنِي نُقْطَةُ دَمٍ عَلَى جَبِينِ الرِّيحِ الرَّؤُوفِ.

كودا:

فِي الْمُنْتَهَى

يَبْقَى الظِّلُّ ظِلًّا،

وَتَبْقَى الْخُطَى فِي الرِّيحِ عَلَامَةً لَا تُمْحَى

فِي مَسَافَاتِ النُّورِ الْخَفِيِّ

يَصْغُرُ الْمَلَكُوتُ فِي صَدْرِي،

وَتَتَّسِعُ الْعُزْلَةُ حَدَّ الْكَوْنِ

أَنَا النَّازِفُ فِي جُبَّةِ الْغَيْبِ،

السَّابِحُ فِي مَرَايَا السُّدُومِ،

الْمَطْرُودُ مِنْ يَقِينِ الْحَشُودِ؛

أَكْتُبُ بِالدَّمِ رِسَالَتِي الْأَخِيرَةَ:

-وَطَنِي لَا يَسْكُنُ الْخَرَائِطَ؛

وَطَنِي هُوَ النَّازِفُ فِي نُقْطَةِ الضَّوْءِ،

يَنْبُضُ كُلَّمَا أَضَاعَهُ الزَّمَنُ في صمت الخراب، يهمس الضوء،

يقول لي: «هذا هو العبور».

كل رماد، كل سقوط، يولد صدىً جديدًا،

والظلّ يصبح وجه الحقيقة.

***

د. سعد محمد مهدي غلام

أحببتُ أيامي الماضية

ولوعتي وحنيني

أراه في زوايا

الحكايات

ثم أكتم قلبي

سقط فنجان قهوتي

برعشة يدي

أرسمه في مخيلتي

كأنه يبحث عني

أكتب له رسائل حنين

لكني لا أرسلها

أسرد حكاياته في كل ليلة

لكي أغفو بهدوء

أحفظ كلماته كأنها

خلاصة الحياة

أرسم وجهه

في لوحة ذاكرتي

وأشكر الحياة سرا

فقد منحتني هذا اللقاء

وان كان بعيدا

وأخاف ان تخذلني لهفتي

فيختل توازن قلبي

بين حضوره وغيابه

وأخاف ان لا يعرف

وخز أضلاع أشرعتي

فأبقى حبيسة هذا الوجع

لكن القمر يحب البحر

يقترب منه كل ليلة

ثم يعود الى وحدته

دون ان يلمسه

***

نص شعر

سنية عبد عون رشو

دَعَتْني وردتي اليومَ

أُلَبِّي دعوة الحَاجَةْ

وقد لَبَّيْتُها فَتنفْسَت صُبْحاً

وشمس بناتها شَرَعَتْ

تُكَفَّكفُ دمعَ مُحْتَاجَة

وَحَلَّقَ نورسٌ في الكونِ مُحَتَجَّاً

لماذا يَقْطَفُ الإِنسانُ

زَهْرَ أخِيهِ

مغتالاً بـ (دَرَّاجَةْ)!؟

***

محمد ثابت السميعي

 

لا الخيلُ تعرِفُني ولا البيداءُ

لكنَّما السمراءُ والشقراءُ

*

لا أدّعي أنّي نبيٌّ مثلَهُ

ديني النساءُ وكعبتي الأهواءُ

*

أنا ثورةُ الشِّعرِ التي قد زلزلَتْ

عرشَ الكلامِ وهابَني الشعراءُ

*

قبلي النساءُ قصائدٌ منسيّةٌ

حتّى استقَتْ حِبري فسالَ الماءُ

*

هم ينظرونَ إلى النساءِ كأنّهُنَّ..

سيوفُ حربٍ في الفلاةِ ظِباءُ

*

وأنا أرى فيهنَّ سِرَّ مجرّة

فالجاذبيّةُ هذهِ الأثداءُ

*

غَرِقَتْ بحورُ الشِّعرِ فيكِ حبيبتي

أنتِ القصيدُ وما سواكِ هباءُ

*

لمساتُ كفِّكِ ريشةُ الضوءِ الذي

نحتَ المكانَ فكلُّهُ أفياءُ

*

ورفيفُ همسِكِ مثلُ غيمِ غوايةٍ

وأنا بكلِّ جوارحي استسقاءُ

*

أنا ذلكَ البركانُ لكنّي إذا

دَنَتِ الفراشةُ من يدي أنواءُ

*

أنا لا أمرُّ بكلِّ أنثى عابراً

إلّا وكانَ بُعَيدَ ذاكَ لقاءُ

*

ثوبُ القصيدةِ كانَ قبلي مُترَباً

ومُمزَّقاً وأنا أنا الرفّاءُ

*

هل غادرَ الشعراءُ غزةَ بعدَما

نادَتهُمُ الأموالُ والأمراءُ

*

وفُحولةُ الشّعراءِ أينَ نِتاجُها

إنَّ القصائدَ عندَهم عذراءُ

*

ما خُنتُ لوني عندَما طلعَ الصبا..

حُ مُبشِّراً وكأنّني حِرْباءُ

*

يا دجلةَ الخيرِ التي بركاتُها

للآخرينَ، لنا هنا الأقذاءُ

*

لمّا هززتُ النخلَ في أرضِ السوا..

دِ تنزَّلَتْ جثثٌ عليَّ، دماءُ

*

لا الهُورُ مزهوّاً بأرضِ جَنوبِهِ

كلّا ولم تتعمّرِ الحدباءُ

*

أنا صرخةٌ مذبوحةٌ لكنّما

آذانُ قومي دائماً صمّاءُ

***

عبد الله سرمد الجميل

شاعر وطبيب من العراق

أتى زمنٌ ليَ التصْفيقُ فيهِ

اعْتزازًا وابْتهاجًا جَفوُ جافِ

*

وأُكْبِرُ جمعَكُمْ لكنّ ذبحي

بأيدي أمّ موسى غيرُ خافِ

*

و موسى حولَهُ الدّنيا انتصارًا

لهُ ولهَا جيوشٌ في اصْطِفافِ

*

وما زِلتُمْ كما كنتُمْ أَكُفًّا

تُصفِّقُ والمقاصدُ في تنافِ

*

وآمالًا بعتقٍ وانْتصافٍ

بعَصرٍ معْهُ أنتُمْ في تجافِ

*

وخوفًا من رؤوسٍ لا تُداوَى

بطولِ الصّبرِ لكنْ بالقِطافِ

*

وفي قلقٍ منَ الأيّام تُدني

لكمْ موسى بثوبِ الإنحِرافِ

*

ومعْهُ ثلّةٌ منكُمْ تناديْ

به أهلًا لها شكلُ الخِرافِ

*

وفي حُلم بمهديٍّ  يُعيدُ

السّيادةَ بعدَ أزمنةٍ عِجافِ

*

وأجْنادٍ على أسوارِ روما

وقُسْطنطينَ منْ بعدِ التّعافي

*

وعيسى في دمشقَ يردُّ ديْنًا

لمنْ خلَعوا الفُجورَ على العفَافِ

*

ويأجوجٍ ومأجوجٍ غزاةً

وأرضٍ عن مدارٍ في انْعطافِ

*

تيقّن ضعْفُكمْ أنّ المواضيْ

محالٌ عودُها بعدَ انْصرافِ

*

وقد كانتْ لكمْ كالحِصنِ حينَ

الشّعورِ بنقصِكمْ والإختِلافِ

*

عن الأُمَمِ الّتي صارتْ تخافُ

اسْمَكُم حتّى على وجْهِ المُضافِ

*

فطِرْتُمْ نحوَ آتٍ في حديثٍ

به يُمسي الرّواةُ على خِلافِ

*

وحاضِرُكُمْ بحاجتكمْ ليَخطوْ

بِكمْ خطْوَ الحواملِ في المشافي

*

وهَذي أمُّ موسى قدْ أعدّتْ

لمُحْتَملٍ بِلَمْلَمَةِ المَنافي

*

وجمْعِ الغرْبِ والشّرقِ المُنافيْ

وأُولي الأمرِ فيكُمْ في ائْتلافِ

*

وقتلِ مُحمّدٍ -صلّوا عليه-

وكم قتَلُوهُ بالسّمِّ الزُّعافِ

*

ودفنِ عزيزِكمْ حيًّا على أر

ضِ عزّتِكمْ وأنتُمْ في اعْتكافِ

*

ورصدِ رضيعِكُمْ فرضيعُكُمْ خصْـ

مُها مهما يقُلْ زمنُ التّصافي

*

وسحقُ حشودِكمْ آتٍ إذا ما

اكْتفيْتُمْ بالتّظاهرِ والهتافِ

*

ونهرُ دمائِكمْ جارٍ إذا ما

اكْتفيْتُمْ بالوقوفِ علىْ الضِّفافِ

*

وجوعُ صغيرِكم عارٍ إذا ما

اكْتفيْتُمْ بالمؤونةِ واللّحافِ

*

ومسخُ حروفِكم ماضٍ إذا ما

اكْتفيْتُمْ بالخطابة والقوافي

*

وجمعُ شتاتِكم ناءٍ إذا ما

اكْتفيْتُمْ باللّقا حينَ الطَّوافِ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

ما عادوا كما كانوا. عادوا وفي عيونهم نيازكُ لم تسقط بعد، وفي أفواههم مذاقُ رمادٍ يشبه الحقيقة. كلّ خطوةٍ يمشونها تُصدر صدى انفجارٍ قديم، كأنّ الأرض لا تزال تتذكّر وقعَ أجسادهم وهم يركضون نحو موتٍ لم يكن عدوّاً بقدر ما كان مرآة.

*

الرجال الذين شهدوا الحرب يعرفون شكلَ الضوء حين يُنزَع من صدر إنسان، ويعرفون كيف تُصبح السماءُ ثقيلةً حين تُفكّر في الله أكثر مما يحتمل الهواء. يبتسمون للأطفال بحذر، كأنّ الضحك قد يُوقظ جثّةً كانت نائمة فيهم منذ سنوات. وحين يحدّقون في المدى، ترى في نظراتهم خريطةً للدمع أوسعَ من المحيط.

*

الرجال الذين شهدوا الحرب يحملون أصواتَ رفاقهم في جيوبهم، كتمائم من طينٍ ومعدنٍ وصلاة. أصواتٌ تهتف في الليل: لا تنسَ... لا تنسَ. لكن النسيانَ، مثل المطر، يتسلّل من بين الأصابع، ويبلّل وجوههم في النوم، فيستيقظون وفي أعينهم شمسٌ مكسورة.

*

الرجال الذين شهدوا الحرب لم يعودوا يبحثون عن البطولة، بل عن معنى أن يبقى القلبُ نابضًا في عالمٍ يمكن أن ينهار بلحظة. يؤمنون أنّ السلامَ ليس غيابَ الطلقات، بل لحظةُ صمتٍ تقدر أن تحتملها الروح دون أن تنفجر.

*

هم أبناءُ الكواكب التي احترقت ثم أضاءت، أبناءُ الأزمنة التي عرفت كيف تُعيد تكوين نفسها من العدم. وحين يسيرون بيننا، نشعر أنّ الكونَ يمرّ فيهم مثل مجرّةٍ تتذكّر أصلَها الناريّ.

*

الرجال الذين شهدوا الحرب لا يموتون حين يسقطون، بل حين لا يجدون أحدًا يُصغي إلى ما لم يقولوه.

***

بقلم: كريم عبدالله

بغداد - العراق

سأني خطبي وأعياني الضجر

وتخطتني دهاليز الكدر

*

لا سواد الليل يشفي علتي

وضياء الصبح قد بات أمر

*

فكدير الخطب ما أن ينضوي

وهدير العشق ما أن ينتظر

*

بين أشجان وقلب موله

لم يزره السعد في يوم أغر

*

لا حبيب يرقب الشكوى ولا

وتر غنى ولا ذنب غفر

*

وسألت القلب عن حب لها

أنما الايام في الحب قدر

*

فرجاني الشوق أن لا أنثني

ورأيت القلب قد بات صقر

*

كلما رمت لأدنو قربها

جاءت الايام أمرا لا يسر

*

كلما عدت لأرجو وصلها

ما رأيت الحظ في يوم بدر

*

ليس بطرا كلما غبت  أسيت

قد طربت فوق فنجان السمر

*

قد يراني غير صوت صادح

كان عزفي فوق ألحان القدر

*

لست أخشى بعد كل ما رأيت

من دواهي سحرها او ما بدر

*

هل شهدت ميتا في جلد حي

أوكزته كل ألوان الشرر

*

يا ألهي كم رقاني حلمك

كنت وقدا مثل أسناء الدرر

*

كلما جئت رباك لائذا

لذت عني مثل سيف قد نصر

*

نعم بالله الذي في أضلعي

وهو يجزي حق من كان صبر

*

يا ألهي لست أخشى ما أسيت

عمر غاب فوق أوصاب الضجر

*

ورجوت في صلاتي محسنا

زال عني كل مشؤوم القدر

*

عدت أحيا في رباك صامتا

ورجائي مثل  تسبيح القمر

*

هذه الدنيا سراب زائل

أضرمتها كل أنفاس الشرر

*

هذه الاولى متاع راحل

ما رجاها الا وهن قد غرر

*

نعم بالله الذي في أنفسي

قد شفيت كلما سئت غفر

*

عندما صرت ضيائي مشرقا

ما ربتني الا أسرار الظفر

*

سطع البدر علينا بعدما

طالت الاحزان أغصان الشجر

***

د. علي الاسدي

 

تقول الشاعرة

لا تتكلمي مع شاعر، اقرئيه وحسب

إن كان مساءً، أعدِّي لنفسك كوباً من شاي الأعشاب

في النهار، لا تسرفي في القهوة أمام قصائده

ببساطة ابتعدي عنه

يقول الشاعر

لا تتكلم مع شاعرة، اقرأها فقط

إن كان مساءً، هيّئ نفسك للحلم

في النهار، هيّئ أيضاً نفسك للحلم

ببساطة ابتعد عنها

الشاعرة تفهم البحر

الشاعر يفهم الشجرة

هي تغرقُ وهو يحترقُ

يُرمى لها طوق النجاة فتخرج من البحر قائلة

لا تقرئي الشاعر وحسب، تحدثي معه

إن كان مساءً هيّئي نفسك لرقصة تحت القمر

‏في النهار هيّئي أيضاً نفسك للرقص أمام المرايا

ببساطة اقتربي منه

بعد الحريق ينزل المطر

فيخرج الشاعر من الرماد قائلاً

لا تقرأ الشاعرة فقط بل تحدث معها

إن كان مساءً، ادفن نفسك في سُرّتها

في النهار، ادفن نفسك أيضاً في سُرّتها

ببساطة وَحِّد صوتك فيها كي تولد منها

‏تقول القارئة لم أفهم شيئاً

ويقول القارئ لم أفهم شيئاً

المعنى في قلب المستمعات والمستمعين

***

فارس مطر

برلين 10.11.2025

من الغيابِ إلى دهشةِ العرشِ

(يَا ابْنَ مَزونَةَ، أَيُّ فَجْرٍ قَادَنِي

حَتَّى نَسِيتُ خَرِيطَتِي، وَسَرَتْ يَدَايَ)

[السِّفْر الأوّل: القلبُ الغريق]

*

المَوْجَةُ عَاتيَةٌ،

اِعْتَصَرَتْ قَلْبي،

غَسَلَتْ نَبْضَهُ،

عَلَّقَهُ الذُّهُولُ شِرَاعًا...

أَشْهَدُ لِيَباسٍ

كَشَفَ عَوْرَةَ فُرْشاةِ العُمْرِ.

بُهَاقُ صُورَتي لَفَحَتْها سُمْرَةُ المَعْرِفةِ،

قَضْمَةٌ قَادَتْني لِسَحيقِ القَصْرِ،

شَقَاءُ النَّفْسِ،

شَهْقةُ لَذَّةٍ،

قِناعُ الصَّمْتِ...

"وقالَ العَرّافُ:

هٰذا الفتى مَرْزوقٌ،

لكنَّهُ لَنْ يَسْعَدا،

محفوظٌ بسِرٍّ رَبّانِيٍّ،

لكنَّهُ

سَيُصْحِبُهُ الشَّقَاءُ

كَوَسْمٍ لا يَزُولُ..."

[كمْ وُرِّثتَ من المَنافي؟

مذْ خُطَّتِ النقوشُ على جُدرانِ وِلادتِك،

والماءُ غَرْبٌ،

والصلاةُ بَرْدٌ،

والسماءُ بلا جَناحينِ ولا طَلَلٍ…]

*

أُرْخِيتُ نَجْمِي فِي الدُّجَى، وَتَمَايَلَتْ

خُطُوَاتُ نَفْسِي فَوْقَ صَهْوَةِ غُرْبَتِي.

{2}

(مَا بَيْنَ زُبَيْدٍ وَسَلُوقَةَ غُصَّتِي،

وعَلَى يَدَيَّ تَمَزَّقَتْ سُبُلُ المَعَانِي)

*

[هلْ كانتْ وطنًا؟

أم خَيمةً للغيم؟

أم نَبيًّا ضَلَّ فِي لُغَةِ السراب؟

وحْدَهَا سَلُوقَةُ تُطفئُ فَزَعَ المدى،

تُربِّي الأسماءَ فِي كِنَانَةِ الشكِّ،

ثُم تُلقِّنُهَا النِّسْيَانَ، اسْمًا بَعْدَ اسْمٍ.]

*

"فَلَنْ يُفَارِقَ جُرْحُ الرُّوحِ مَنْ لَا يَكْرَهْ…

سَيَبْقَى وَحِيدًا طُولَ عُمْرِهِ،

لِأَنَّهُ لَا يَنْسَى."

ضَاعَتْ خَرَائِطُنَا، وَكُنَّا نَكْتُبُ الـ

مَجْهُولَ فِي أَسْفَارِ رَمْلِ الْمَأْتَمِ.

وَالْقَنْدِيلُ يَنْقُشُ فَوْقَ جِدَارِ نَفْسِي

أَنَّا سَنَرْجِعُ… لَوْ بِوَهْمِ الْعَاشِقِ!

{3}

(أَرْنُو إِلَى ظِلِّي… وَأَرْجُو صُورَتِي،

لَكِنَّنِي… فِي دَاخِلِي… كُنْتُ الْغَرِيبَا)

*

[وَكُنْتَ تَقُولُ: هَذَا الضَّبَابُ وَطَنٌ،

أَوْ: هَذِهِ السُّحُبُ الَّتِي لَا تَهْطِلُ إِلَّا شُبْهَ نَارٍ…

قُرَيَا؟

لِي مِنْهَا ظِلٌّ وَاحِدٌ فِي كُلِّ فَجٍّ،

وَلَكِنْ لَا رَبِيعَ لِي.]

*

"احْتَجَزَ الْبَرْقَ فِي الظَّلَامِ،

وَأَهْدَرَ ضَوْءَ الصُّبْحِ

عِنْدَ عَتَبَاتِ الْحُلْمِ."

فَتَحَتْ نُفُوذَ الْغَيْمِ فِكْرَتُنَا، وَمَا

خَرَجَتْ سِوَى الْأَشْوَاقِ مِنْ جُبِّ الدُّجَى.

{4}

(قَصْرُ طَيْبَةَ فِي جُفُونِي رُقْعَةٌ،

وَالْمَاءُ يُهْمِسُ فِي الرِّمَالِ: هُنَا الْمَآبُ)

[السِّفْر الثاني: الْحُبُّ وَالْغِيَابُ وَالْمُسْتَحِيل]

*

بَعِيدًا عَنِ الشَّاطِئِ،

الْوَحِيدُ الَّذِي لَمْ يَتْرُكْنِي هُوَ اللَّهُ.

الْحُبُّ…

الْأُنْثَى الْمُجَرَّدَةُ مِنْ مَفَاتِنِهَا،

الصَّدَى يُنَازِعُ صَوْتِي آنَئِذٍ…

أَحْلَامُ ضُحَى الشُّمُوعِ نَفَقَتْ بُكَاءً.

أَيَّتُهَا الْجَزِيرَةُ الْمَنْشُودَةُ…

أَعْلَمُ أَنَّكِ لَنْ تَكُونِي حَقِيقَةً،

لَكِنَّهُ الطَّبْعُ: الِاحْتِفَاظُ بِالْوَرْدَةِ طَيَّ دَفْتَرِ ذَاكِرَتِي…

لَمْ أَكُنْ مَعْنِيًّا بِالْعِطْرِ،

أَتَوَقَّعُ الشُّحُوبَ…

هِيَ مَا اقْتَرَفْتُهُ خَطِيئَةً أَعْتَزُّ بِهَا.

"عُشْبَةُ النِّسْيَانِ تَاهَتْ،

وَعَقِيقُ الصَّغِينَةِ عِنْدِي…

مِنْهُ أَرْتِيكَارِيَا!

فَكَيْفَ النِّسْيَانُ؟ وَأَيْنَ مَخَارِجُهُ؟

وَأَنَا؟ أَنَا لَسْتُ النِّسْيَانَ."

*

[أَعْرِفُ أَنَّكَ - مِثْلِي -

تَحْفُرُ صَوْتَكَ فِي جُدُرَانِ قَصْرِ طَيْبَةَ،

وَتَمْسَحُ مِلْحَكَ عَنْ رُخَامِ مَغَارَةٍ فِي صِقِلِّيَّةَ،

وَتَنْقُشُ وَجْهَكَ فِي زُرْقَةِ عَيْنِ امْرَأَةٍ تُسَمِّيهَا الْمَنْفَى…]

*

مَنْ فِي التَّنَاصِيفِ اغْتَسَلْنَا طِينَهُ،

لَمْ يَسْتَطِبْ خَمْرَ الْمَعَانِي وَافْتَرَى.

{5}

(صِقِلِّيَّةُ نَادَتْ بِرِيحٍ تَائِهٍ،

وَرَمَتْ عَلَى سَفَرِي مَلامِحَ ضَيْعَتِي)

*

[لَيْسَ فِيكَ مَكَانٌ وَاحِدٌ،

بَلْ كُلُّ مَا نُفِيَ فِيكَ… صَارَ مَقَامًا.

سَاحِلُ ظُفَارٍ،

أَدْغَالُ غَامْبِيَا،

ضَوْءُ بَرْكَةِ الْحَسْوِ حِينَ تَفُتُّ جُثَّتَكَ الْقَدِيمَةَ…

إِذْ تَنَامُ، وَيَغُوصُ الدُّودُ فِيكَ.

فِي فَلْكِنَا نَحْنُ النُّجُومُ، وَوَعْدُنَا

فَوْقَ الرِّمَالِ… وَمُهْرُنَا: أَسْرَارُنَا.

وَالْمَنْفَى امْرَأَةٌ تَبِيعُ أَصَابِعِي،

وَتُعِيدُنِي لُغَتِي… لِأَمْحُوَ مَا بَقِيَ.

"دَلَعَ لِسَانَ طَيْفِهَا،

تَغَنَّجَ عِطْرُهَا،

ذَاكَ الَّذِي يَسْكُنُ فِي أَحْنَاءِ نَفْسِي..."

*

[هٰذَا جِدَارُكَ!

يَا ابْنَ غُبَارِ الْقَوَافِلِ…

مَا كَتَبْتَ عَلَى الْحَجَرِ؟

*

(اسْمِي نَسِيءٌ فِي الدَّفَاتِرِ…

كُلُّ هُوِيَّاتِي رَمَادٌ…)]

{6}

(ظُفَارُ أُنْشُودَةُ الدُّخَانِ بِرَأْسِيَ،

غَانَا تَبْكِي فَوْقَ مَوْتِ الْبِدَايَةِ)

*

الْعِشْقُ،

بِفَرَحٍ غَامِرٍ،

يَسْكُنُ مِشْكَاةَكَ.

أَيُّهَا الْقِنْدِيلُ،

هَشٌّ نُورُكَ...

*

[سِفْرُ الثَّالِثُ: الْأَنْقَاضُ الْكُبْرَى]

مَأْتَمُ الدُّخَانِ،

أُمَمٌ تَؤُمُّ مَوَانِئَ النِّسْيَانِ،

تَمْلَأُ الرُّوحَ أَنْفَاسَ الْأَوْثَانِ

الْمُغِيثَ لِلْغَرْقَى

بِتَعْجِيلِ مَوْتِهِمْ غَصًّا!

عَيْنَاكِ تُدَاعِبُ أَوْجَاعِي،

خَجَلِي...

كُلُّ مَا سَأُصَادِفُهُ هُنَاكَ.

"لِيَكُنْ هٰذَا الْبُكَاءُ

صُورَةَ الرُّوحِ الَّتِي

لَا تَسْتَظِلُّ

سِوَى نَفْسِهَا…"

رُوحُ الْمَكَانِ كَانَتْ مُحِقَّةً.

أُفَكِّرُ بِالنَّهْرِ الْمَالِحِ،

وَعَبْرَةُ الرِّيحِ تَتَوَضَّأُ

لِتُمَارِسَ فِعْلَ التَّنَاسُلِ

مَعَ الْجُرُوفِ.

*

[لَمْ تَصِلْهَا…،

لَا لِأَنَّهَا وَعْرَةٌ،

بَلْ لِأَنَّ الطَّرِيقَ يُشْبِهُكَ حِينَ تُخَاصِمُهُ،

فَتَأْخُذَكَ مِنْكَ الرِّيحُ،

وَتُرَوِّحُنَكَ الْجِهَاتُ.]

*

مَنْ يَجْمَعُ الْآفَاقَ فِي كَفِّ الرُّؤَى؟

مَنْ يَسْتَعِيرُ النُّورَ مِنْ خَفَقِ الدَّمِ؟

{7}

(بِرْكَةُ الْحَسْوِ الَّتِي كُنَّا بِهَا

شَرِبَتْ جُرُوحَ الْقَافِلَةِ… ثُمَّ انْطَفَأَتْ)

[السِّفْرُ الرَّابِعُ: مِرْآةُ الْفَقْدِ وَمَسْرَحُ الْوَهْمِ

*

خَزَنَ عَقْلِي دِفْءَ لَوْنِ الْفُقْدَانِ...

أَيَّتُهَا الْأُكْذُوبَةُ:

أَضِيئِي فَنَارَ الْعَتْمَةِ،

دَرْبُ الْعَوْدَةِ دَنِفٌ بِالْغِيَابِ،

صَحْبُ الْبِلَاشِينِ الْمُهَاجِرَةِ،

سَحَرَتْهُ نَجْمَةُ الشِّمَالِ.

"يَتَكَوَّرُ الْحُلْمُ الْمُبَاحُ بِدَمْعِهِ،

وَيُرَتِّقُ الذِّكْرَى عَلَى أَشْلَاءِ نَفْسِي"

مُنْذُ فَجْرِ الْبَشَرِيَّةِ

أَسْمَالُ مَنَادِيلِ التَّضَرُّعِ

تَمْسَحُ دَمْعَ الضَّيَاعِ..

يَلُوحُ لِأَسْرَابِ الطُّيُورِ،

شَاخَتِ السَّمَاءُ،

وَهُوَ خَسِرَ خُلُودَ الْمَوْتِ.]

*

[أَكَانَ الْحِجْرُ مَخْبَأً لِلْغَيْمِ؟

أَكَانَ الْمَوْتُ رُقِيًّا؟

أَكَانَ دَفْقَ بُكَاءٍ فِي عُيُونِ الْأَوَّلِينَ؟

أَكَانَ الطِّينُ مَوْطِئَكَ الْأَخِيرَ؟

لِتَكُنْ رَحِيلًا دَائِمًا…]

*

كُلُّ الْمَنَارَاتِ انْحَنَتْ، وَمَآذِنُ

خَرَجَتْ مِنَ التَّكْبِيرِ صَوْتًا مُعْتِمًا.

{8}

(مَا بَيْنَ أَنْطَاكِيَةَ وَالْحِجْرِ ضَوْءٌ قَدْ نَامَ

فَانْحَدَرَتْ خُطَايَ إِلَى الرَّمَادِ)

*

(فَالْعَتْمَةُ غَابَةٌ أَثْمَرَتْ

كُلَّ مَا فِي السَّلَّةِ...)

*

"مَا بَقِيَتْ إِلَّا الرُّمُوزُ تُلَاحِقُنِي،

نَحْوَ سُؤَالٍ هَادِرٍ لَا يَرْحَمُ"

*

[أَنْتَ الْآنَ تُقِيمُ،

لَا فِي بَيْتٍ،

وَلَا فِي قُبَّةٍ،

بَلْ فِي تَأَمُّلِ وَرَقَةٍ طَارَتْ مِنْ صُفْرَةِ الْخَرِيفِ…

يَا ابْنَ النِّسْيَانِ،

هَلْ أَنْتَ شِعْرٌ لَمْ يُكْتَبْ بَعْدُ؟]

*

وَالْوَقْتُ يَبْصِقُ فِي السَّمَاءِ نُذُورَهُ،

وَالْأَرْضُ تَخْشَى أَنْ تُجِيبَ، وَتُتْهَمَا!

{9}

(أَسْأَلُ جِدَارَ الْوَقْتِ: هَلْ يُخْفِي دَمِي؟

وَيَقُولُ: دَعْ عَنْكَ الْوُجُوهَ، وَابْدَأْ!)

*

(الْعُوَيْلُ، هُوَ الْآخَرُ،

مِنْ أَوْطَانِ الضَّلَالِ.)

*

"كُلَّمَا أَقْبَلْتُ صَامِتًا كَصَلَاةٍ،

أَخْرَجَتْنِي الدَّمْعَةُ الْكُبْرَى لِنَفْسِي"

*

[فِي جُرْزِ الْهُوِيَّةِ رَأَيْتُ رُؤَايَ،

رَأَيْتُ الْوَحْيَ بَيْنَ أَظَافِيرِ الْعُمَّالِ…

فِي بَازِلَ سَكِرْتُ بِخُبْزِ الشُّعَرَاءِ،

وَفِي مَتْرُو أُوسْلُوَ قَرَأْتُ هُوِيَّتِي مَطْمُوسَةً…]

*

نَحْنُ الَّذِينَ تَفَحَّمُوا مِنْ صَمْتِهِمْ،

وَتَفَجَّرُوا فِي الشِّعْرِ صَوْتًا مُلْهَمًا.

{10}

(فِي … كُنْتُ الْقَصِيدَةَ، ثُمَّ قَبَضَتْ يَدَايَ

عَلَى اِرْتِجَافِ التُّرْجُمَانِ)

*

(ظِلُّكَ عَرَبَةُ غَجَرٍ

تَقْرَعُ جَرْسَ الرِّحْلَةِ الْجَافَّةِ…)

*

"كُلَّ مَا فِيهَا يُنَادِينِي خَيَالًا،

ثُمَّ يَخْفِي وَجْهَهُ فِي جَوْفِ كَأْسِي"

*

[تَقُولُ الْحُرُوفُ:

هَلْ هَذَا غُصْنُكَ؟

تَقُولُ الْأَنْهَارُ:

هَلْ هَذَا نُعَاسُكَ فِينَا؟

تَقُولُ التَّوَارِيخُ:

كُنَّا هُنَاكَ…

وَلَمْ نَجِدْكَ.]

*

إِنْ كَانَ فِي الْأَحْرُفِ نُجَاةٌ، فَاسْتَقِ

قَنْدِيلَكَ الْمُطْفَى، وَهَاتِ الدَّمْعَ مَا!

{11}

(فِي أُوسْلُو… رَأَيْتُ هُوِّيَتِي تَغُوصُ،

كَأَنَّهَا وَرَقٌ عَلَى سُهُدِ الشِّتَاءِ)

*

"هَلْ أُصَلِّي، أَمْ أُرَتِّلُ نَارَ وَجْدِي؟

أَمْ أَكُونُ بِغَيْرِ قَلْبٍ أَوْ جُلُوسِ؟"

*

[أَصِلُّ؟

لِمَنْ؟

لِكِتَابٍ لَمْ يُكْتَبْ؟

لِأُمٍّ بَعَثَتْنِي، ثُمَّ عَادَتْ تَوْصِينِي بِالضِّيَاعِ؟

لِظِلٍّ؟

لِرَمَادٍ؟]

*

يَا أَيُّهَا الْمَنْسِيُّ فِي صَحْرَاءِ نَفْسِي،

كَيْفَ انْتَبَهْتَ لِمَا أَقُولُ وَغِبْتَ عَنِّي؟

مَا بَيْنَ نَصِّي وَالْمَرَايَا فَاصِلٌ،

قَدْ كَانَ ظِلِّي، ثُمَّ صَارَ تَنَكُّرِي!

كُنْتُ الْمُسَافِرَ وَالطَّرِيقَ، وَمَا دَرَيْتُ

لِمَنْ أُضِيءُ الْحُلْمَ… لَكِنِّي أَرَى…

{12}

(هَلْ كُنْتُ صَوْتِي؟

هَلْ رَأَيْتُ حَقِيقَتِي؟

أَمْ أَنَّنِي كُتِبْتُ،

وَلَمْ تُقْرَأْ… خُطَايَا؟)

*

"أَيْنَ أَزْرَارُ الْحَنِينِ إِذَا طَفِتْ

فَوْقَ مَوْجِ الرُّوحِ أَشْلَاءُ الْقُيُودِ؟"

*

(يَقْطِينَةُ يُونُسَ،

ضَرَبَتْهَا هَاجِرَةُ الْقُرُونِ.)

*

[السِّفْرُ الْخَامِسُ: مُنَاجَاةُ الْقِنْدِيلِ وَصَرْخَةُ الْوَحْدَةِ

يَضْجَرُ أَنْ تَكُونَ

قُرْبَ الْعَرْشِ تَسْمَعُ وَتَرَى،

وَلَا أَحَدَ يَلْتَفِتُ إِلَيْكَ

مِنَ الشَّيَاطِينِ،

وَأَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ]

*

[لِكُلِّ مَا فَاتَ…

أُقَبِّلُ اسْمِي عَلَى زُجَاجِ نَافِذَةٍ،

وَأَمْحُوهُ بِنَفَسِي.]

*

فِي كُلِّ نَصٍّ: نَارُ وَجْدٍ سَرْمَدِيٌّ،

وَتَرَاتِيلُ الرَّمْلِ… تُسْمِعُنِي دَمًا.

فِي كُلِّ جُرْحٍ أَغْنِيَاتٌ مِثْلُنَا

تَبْكِي عَلَى حَافَاتِ نَفْيٍ أَسْهَرَا.

{13}

(يَا أَيُّهَا الْقِنْدِيلُ، لَا تَنْطَفِئْ، فَفِيـ

ـكَ الْحَرْفُ أَشْعَلَ مَوْتَنَا وَكَتَبَنَا)

*

"كُلَّمَا مَرَّتْ خُطَاهَا فِي دَمَائِي،

قُلْتُ: هٰذِهِ وَجْهَةٌ فَوْقَ الْوُجُودِ

فَاغْتَسَلْتُ بِمَاءِ حُلْمٍ يَابِسٍ،

وَانْتَشَيْتُ بِرُوحِ صَمْتٍ لَا يُفِيقُ

كَيْفَ لَا تَبْكِي الظِّلَالُ عَلَيْنَا؟

كَيْفَ تَصْعَدُ دِمَشْقُ فِي وَهَجِ النُّدُوبِ؟"

*

(الْخَائِبَةُ كَالنَّاسِكِ،

نَهْدٌ نَزَعَ عِبَادَةَ عُزْلَتِهِ.)

*

يَا أَيُّهَا الْقِنْدِيلُ، لَا تَنْطَفِئْ، فَفِيـ

ـكَ الْحَرْفُ أَشْعَلَ مَوْتَنَا وَكَتَبَنَا.

{14}

(فَاصِلَةٌ…

قَبْضَةُ السِّكِّينِ وَقَلْبُ الضَّحِيَّةِ.)

*

"مَا بَقِيَ فِينَا سِوَى وَجْدٍ يُنَادِي،

عَاشِقٌ يُصْغِي لِحُزْنٍ فِي السُّجُودِ"

*

[كَأَنِّي مِنْ…

يُعِيدُ اللَّهَ مِنْ مَنْفَاهُ…

إِلَيْهِ.]

*

نَحْنُ الَّذِينَ تَنَاثَرُوا فِي غُرْفَةٍ

صَفْرَاءَ، حَيْثُ النَّفْيُ يُرْعِبُ أَغْنِيَا.

مَا ضَاعَ مِثْلُ الْحُلْمِ إِلَّا فِي يَدَيْـ

ـنَا وَنَحْنُ نَظُنُّهُ لَنْ يُسَلِّمَا!

*

فَاكْتُبْ، كَمَا تَكْتُبُ النُّبُوءَةُ، صَمْتَهَا،

وَازْرَعْ كَمَا يَزْرَعُ الْحَنِينُ يَبَابَنَا.

وَاسْمَعْ أَنَاشِيدَ الضِّيَاءِ… فَإِنَّهَا

فِي اللَّيْلِ تُعْلِنُ: أَنْتَ… أَنْتَ الْغَائِبُ.

***

د. سعد غلام

 

من أيِّ نافذةٍ تلوّحُ باسِمًا

فتعيدُ لي وجهَ الطفولةِ حالِمًا

*

​يا نفحةَ السرِّ الخفيِّ ترفَّقي

قد عادَ قلبي للنداءِ مُخاصما

*

​في صمتِ عينيكَ التجَلّي واضحٌ

نوراً يُحيلُ الكونَ ظِلًّا ناعِمًا

*

​أنصتُّ لاسمِكَ في الرياحِ فإنّها

تُصغي إليكَ وتستفيضُ معالما

*

​ما كنتَ إلا في المدى سرَّ الهوى

متجسِّدًا نُورًا، وسِرًّا قادِمًا

*

​يا منْ تركتُ على المدى آثارَنا

ومضيتَ تزرعُ في الفؤادِ عوالِمَا

*

​علّمتَني أنَّ الطهارةَ رحلةٌ

تمضي خفيَّ البوحِ، صمتًا كاتما

*

​وغسلتَ في نهرِ اليقينِ حنينَنا

حتّى غدونا بالضياءِ عزائِمَا

*

​فإذا الظلامُ تبدَّدَتْ أستارُهُ

والصبرُ في دربِ الوصولِ غنائِمَا

*

​حتّى رأينا كلَّ شيءٍ واقعاً

في عينِ منْ بالحقِّ كانَ مُسالِمَا

*

نرنو إليكَ، وكلُّ دربٍ موصلٌ

نُورًا، إذا طَهُرَ الفُؤادُ سَلالِمَا

*

​وَيَظَلُّ سِرُّكَ لِلْقُلُوبِ مُلازِمَا

يَهْدِي سُلُوكَاً حَيْثُ كَانَ القادِمَا

*

​كُلُّ الوُجُودِ لَهُ صَدَىً وَخَفِيقَةٌ

يُصغِي إِلَيْكَ بِقَلْبِهِ مُتَفاهِمَا

*

​فَالشَّوْقُ حَوَّلَنَا إِلَيْكَ حَبِيبَنَا

وَالحُبُّ جَاوَزَ كُلَّ حَدٍّ حَاطِمَا

*

​نَهْرُ المَحَبَّةِ فِي الضُّلُوعِ مُتَدَفِّقٌ

يُجْرِي إِلَى بَحْرِ الحَقِيقَةِ عَالِمَا

*

​فِي كُلِّ سِرٍّ نَسْتَبِينُ ضِيَاءَهُ

مِنْهُ اسْتَفَقْنَا وَالصَّبَاحُ تفاقما

*

​فَكَأَنَّ قَلْبِيَ لَمْ يُغَادِرْ حُزْنَهُ

خَلْفَ النَّوَافِذِ بَاكِيًا وَمُلَازِمَا

*

فِي كُلِّ عُمْرٍ لِيْ سَرابٌ مَوْجِعٌ

وَالفَقْدُ ظِلٌّ مَا يُفَارِقُ عَالَمَا

*

رُوحُ المَحَبَّةِ فِي الضُّلُوعِ مُتَدَفِّقٌ

يَجْرِي إِلَى بَحْرِ الحَقِيقَةِ عَالِمًا

*

فِي كُلِّ سِرٍّ نَسْتَبِينُ ضِيَاءَهُ

مِنْ نُورِهِ نُحْيِي القُلُوبَ سَلَالِمَا

*

فَكَأَنَّ قَلْبِيَ لَمْ يُغَادِرْ حُزْنَهُ

إِلَّا لِيَرْتَقِيَ الفَنَاءَ كِرَامًا

*

فِي كُلِّ عُمْرٍ لِي سَرَابٌ لَامِعٌ

يَهْدِي خُطَايَ إِلَى الحَقِيقَةِ حَالِمًا

*

​وَلَقَدْ مَضَتْ خَمْسٌ وَلَمْ يَشْفَ الجَوَى

وَالجُرْحُ بَاقٍ بِالفُؤَادِ مُلازِمَا

*

​وَالآنَ نَخْتِمُ سِيرَةَ العُمْرِ الَّتِي

عَادَتْ إِلَى نَفْسِ النَّوَافِذِ باسِمَا

***

د. جاسم الخالدي

اركضْ بوجهكَ، فإنّ الْوحْلَ في الأذقانِ

للّذي به تَرَفٌ

فالنّخلُ قد سمَّجَه الْغيمُ

و ما طابت سماؤه وما هَطَلَتْ.

كأنّ صَمْغَ الْقَحْطِ عنه غيَّبَ القمرَ

فاكتفى به سَعَفًا

واتّسَعَتْ في نُسْغِهِ قصائدُ الْجَدْبِ وفي المطرِ.

قد شَحَّتْ أعذاقُهُ

مُذْ أرضُه عَقِرَتْ

و سكنت أقواسُه

مُذْ غَلَّها الْقَرَفُ.

*

اركُضْ بوجهكَ

فَصَكُّ الغفران للَّذي بالْوجهِ قد ركض،

و إنَّهُ أزمنةٌ للصَّبِّ في الصَّبَبِ.

صكُّ الغفران رذاذٌ مِن ظِلالِ الصّمتِ والتِّيهِ

بلا صَخَبٍ.

يأتيكَ بالْمَنِّ وأطواقٍ مِنَ الْغَمامِ

كالصَّدَفِ.

*

اركُضْ بوجهكَ

تَجِدْ مُغْتَسَلا مِن كَدَرِ الطّينِ،

و فيه أنتَ تعْتَكِفُ.

سيَنْزَعُ التُّفّاحُ منْكَ ظُفْرَهُ

ووَخْزَةَ الْقَشَفِ،

وستُصَفِّقُ لكَ الْمِرْآةُ

والْجُدْرانُ تبتَسِمُ.

ستَتَعَلَّمُ هناك

كيف تُنْسَى سِدْرَةٌ بالرَّمْلِ تَلْتَصِقُ…

*

اركُضْ بوجهكَ إلى الْهُناكَ

تَنْعَمْ بِهَوَى الْقِيعةِ والظُّلَمِ.

تلك الْفاتِنَةُ ،

في وجهكَ يَلْتَمِعُ غَيْمُها وينْتَثِرُ.

في كفِّها الْقَدَحُ والْأَعْنَابُ تَخْتَمِرُ.

مَفْتُونٌ بِثَوْبِها بَحْرُكَ والْبَصَرُ.

في أقداحِكَ

صَبَابَةُ الّتي شَغَفَها يُوسُفُ حُبًّا،

وبهِ كَلِفَتْ…

*

اركُضْ بالْوَجْهِ إلَيْها والْوَجْدُ فيكَ يَتَّقِدُ

و لكَ في ذاكِرَةِ الطّينِ

مَنَافِذُ لِأَوْجَاعٍ تَضْطَرِمُ .

و لَكَ في ذاكِرَةِ الْيَبَابِ،

مِعْرَاجٌ لِلْحَيَاةِ والسَّكَنِ…

***

بقلمي: هادية السالمي دجبي - تونس

في لَيْلِنَا انْفَرَجَ الكَلامُ وَأَزْهَرَا

وَتَناثَرَتْ أَرواحُنَا كَمْ أَبْحَرَا

*

جَلَسَ الرِّفَاقُ عَلَى مَقاعِدِ وُدِّهِمْ

كُلٌّ يُضِيءُ بِما تَجَمَّعَ أَشهُرَا

*

هذَا يُحَدِّثُ عَنْ حَنِينٍ غائِرٍ

ذَاكَ ارْتَوَى مِنْ وَجْدِهِ قَدْ أُغْمٍرَا

*

وَالنَّجْمُ يُصْغِي مِنْ عَلٍ فِي صَمْتِهِ

ضَيْفٌ كَرِيمٌ قَدْ أَتَى كَيْ يَسْهَرَا

*

وَالْبَدْرُ يَكْتُبُ فِي الفَضاءِ رِسالَةً

لِلشِّعْرِ: كُنْ شَهْدًا، وَكُنْ حُلْمًا يُرَى

*

أَقْداحُنَا لَيْسَتْ سِوَى كَلِماتِنَا

مِنْ نَبْعِهَا ارْتَشَفَ الجَمالُ وَأُسْكِرَا

*

فِي حَضْرَةِ الأَشْعارِ نُبْصِرُ أَنَّنَا

نُمْسِي لِنُوْقِدَ فِي الظَّلَامِ الأَدْهُرَا

*

بِضِيائِهَا حِضْنُ القَصِيدِ يَضُمُّنَا

وَتَزُفُّ أَوْتَارُ الهَوَى كُلَّ الوَرَى

***

بقَلَم: سليمان بن تملّيست

تونس فِي 2025/08/24

 

كانت الباب الحديدية لمدخل المنزل الخارجي مواربة، دَفَعتهُ بهدوء وحذر، على يساري تمتد حديقة البيت الصغيرة، كانت عالماً بظلالها الوارفة، يشذّب صاحبها أوراق أشجارها بحنان، ويرويها بيدٍ تعرفُ مواقيتَ العطش، كل نبتة فيها لها حكاية، كل شجرة تعرفُ صوتَه. تنصت إليه حين يتحدث، تعرف خطواته كانت كائناً يتنفس، يشبهه في صمته وإشراقه.

تُذكّرهُ شجرة النارنج في البيت الأول الذي أقامت فيه عائلته بعد عقود من (التّهجْوِل) في البيوت المستأجرة. وبالأمّ التي كانت بدموعها تسقي فيه شجرة النارنج. كانت الحديقة مرآة لروحه، بسيطة، مرتّبة، مسوّرَة بأشجار الآس.

في يوم قائظ استقبلتني الحديقة بصمتها الغريب، لأول مرّة بَدت غريبة، كأنّها تجهلني وتأنف من خطوي، لم يكن الصمت فيها هدوءاً، بل كابوسا يضغط على صدري بقوّة، لا عصافير تحطّ على الأغصان، ولا نسمات تعبث بأوراق الشجر، كل شيء واقف، صامت، مترقب. هالني مشهد شجرة النارنج التي تقوّس جذعها ويبست أوراقها، ومع ذلك بقيت ثمارها معلّقة، كأنها ترفض أن تهبَ الحياة بعد أن غاب من يحنو عليها بعينيه، رأيتها كأمّ مفجوعة تحمل أبناءها على كتفيها. إلى جوارها شجرة الزيتون، ما زالت خضراء يانعة، تتحدى الموت، تصرّ على أن تبقى حيّة.

بَدَت الحديقة كأنّها مرآة لفصول البشر: حياة تستمر، وأخرى تنطفئ، مشهد كأنه صراع بين غياب يحكم قبضته، وحضور يقاوم ليبقى. وبيت يحمل صدى خطوات غابت للأبد، لكن كل شيء في المكان يروي أن (علاء) ما زال حاضراً، وإن الغياب ليس سوى شكل آخر من الحضور. في ذلك المشهد، فهمت أن علاء موجود في الثمار اليابسة التي لا تسقط، في شجرة الزيتون الخضراء التي ترفض الموت، موجود في وداع الجيران لسيارته، كأنها جنازة ثانية، خرجوا جميعاً يودعونها كما ودعوا علاء ليلة التشييع، أحاطوها بنظرات حزينة حين تأكدوا أنها ستغادر المكان إلى حيازة رجل غريب.

تذكرتُ يوم كتبَ ماركيز عن قرية (ماكواندو) في «مئة عام من العزلة»، كيف كانت الأشجار تذبل حين يغيب أحد أحفاد العائلة. «ماكواندو» القرية الوهمية التي أنتجتها مخيلة ماركيز، كانت الطبيعة فيها شاهداً على انقراض العائلة. هنا في حديقة علاء تتكرر الحكاية بلغة حزينة أخرى، كان محمود درويش يقول: نكتب كي لا نموت، لكنه رحل وبقيت الكلمات تدور بين أغصان بيته، مثل أرواح تبحث عن صاحبها. والإنسان ليس خارج الطبيعة، بل ذروتها الواعية، حسب ابن عربي حين يقول: الكون كلّه شجرة، وأنت ثمرتها. هذا التواصل بنظر الصوفيين يسمّونه «أنس الكائنات»، حين تشعر بأن هذا الكائن يفهمك من دون كلام، كما يقول جلال الدين الرومي: أنصتُ إلى الشجر كيف يصلي حين يسقط المطر.

لم تعد شجرة النارنج بحاجة إلى كلام، أدركتُ منذ اللحظة الأولى أنها ليست كائناً صامتاً، بل ذاكرة قائمة بذاتها، إنها تحفظ الزمن في جذورها، وتخزن في جذعها النور، كما نحفظ نحن الوجوه والأصوات في أعماقنا. لقد فهم الأنبياء والعارفون هذه اللغة منذ البدء، وكان الحوار بين الإنسان والشجرة ليس مجازاً شعرياً، بل علاقة حقيقية تقوم على تبادل الصبر والحنين. في الكتب المقدّسة، كانت الشجرة أولى المعارف وآخر الوصايا، في الإسلام شبّه الخالق الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، كأن الجذر هو الإيمان، والفرع هو الأمل. اقتربت إلى الشجرة ببطء، مددت يدي ألمسُ لحاءها، فارتعشت أصابعي، هل الشجرة ارتجفت، أم أنا؟

ـ أين صاحبك؟ ألم يأت هذا الصباح ليسقيك ماءً؟ ألا تفتقدين صوته وهو يناديك: صباح الخير؟

لم تجبني. لكن نسمة خفيفة مرّت بين الأغصان، فسمعت ما يشبه تنهيدة بعيدة. كأنها تتذكر اسمه، أو تردّ عليه بتحية.

قلتُ ثانية: هل مات فيك حين رحل؟ أم ما زال في جذورك؟

الآن، وأنا أقفُ تحت أغصانك اليابسة، أشعر بأنكِ ما زلتِ في انتظاره. رفعتُ رأسي نحو السماء، شعرتُ بأنه يسمعنا، وربّما يبتسم الآن من جهة الشمس.

***

جمال العتابي

يـا عــاذلي في مَـنْ أُحـبُّ

هـل عـاد لـلـمـجـنـونِ لُـبُّ

*

كُـفِّ الـمـــلامَ ولا تَــزدْ

نــارًا بـأحـشـــائي تَـشــبُّ

*

نـاهـيـكَ عـن ذِكـر الهـوى

داءٌ ولـيــس إلـــيـــه طِـــبُّ

*

لـو كُـنـتَ مـمـن يـعـشـقـونَ

لـقُــلـــتَ إنّ الــحـــبَّ ربُّ

*

ولَـعَــمـري إنّ حـبـيـبـتي

مـثــل الـنـســيـمِ إذا يـهــبُّ

*

تـمّـتْ بهـا خـيـرُ الـصـفـاتِ

وحـسـنُها يـصــفـو ويـربـو

*

وإذا تُـطــــيـلُ لـوجـهـها

نَـظـــرًا فـــلا مـلـلٌ يــدبُّ

*

تـركــتْ فــؤادي مُـدنـفًـا

ولـهـــانَ مِـن ألـــمٍ يَـعِــبُّ

*

وأنـا أسـيـرُ حـبـيـبـتـي

مـاذا ســيـفـعـلُ مَـنْ يُـحـــبُّ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

العراق / الكوت في 3 / حزيران / 1971

(العراق في رباعيات)

عندما فتّحتُ عيني كان عهد النُخّب

كان عهداً جائراً في عين حرّ وأبي

صعقته ثورة جاءت بلا محتسب

فإذا بالحكم يهوي كبناءَ خرِبِ

**

رقص الشعب وغنّى عالياً في طرب

آملاً أن غداً جاء لنيل الأرب

لكنِ الفرحة زالتْ بتفشي الشغب

وخصام القادة الأحرار خلف الحجب

**

إذْ تمادت فئة جهلاً وراء المنصب

وبدا الإرهاب يسري كلسان اللهب

وقف القائد حيرانَ ولا من عجب

أنَّ من ناصره أصبح رهنَ الرِيَبِ

**

والذي عاداه حقّاً نال خيرَ الرتب

كان قد أخطأ تَكراراً ولمّا يُصِبِ

لم يدمْ إلّا سنيناً حيث بعث العرب

أغرق الشعب جميعاً في خضم لجب

**

صيَّر الأرضَ يباباً والدِّما في سَرَبِ

في حروبٍ أحرقتْ كلَّ ذكيٍّ وغبي

صرعته قوة عظمى أتت عن كثب

وأقامت حكم غاب من ضباع السّهب

**

ها هي الأعوامَ مرَّتْ حلماً فـي وسنِ

لمْ أكــنْ أحسَبُني مِن بعدَ كلِّ المِحَــنِ

أنْ سأبقـى نابضَ القلبِ صحيحَ البدنِ

شاهداً عَهْدَ لصوصٍ عصفـوا بالوطـنِ

**

هل يقوم البحر مهتاجاً بغسل الدرن؟

هلْ سيشدو الطائر الغريد فوق الفنن؟

هلْ يكون الروض فتّاناً لكلّ الأعين؟

أم تراه محضَ حلمٍ عُمَق هذي الدُّجَنِ؟

***

د. بهجت عباس

8 تشرين الثاني (نوفمبر 2025)

.........................

Eras have passed, and an era is yet to pass

Written and translated by Dr. Bahjat Abbas

When I opened my eyes, it was the era of the elites.

An unjust era in the eyes of a free man and a proud.

A revolution struck it down, unpredicted and fierce,

And the regime collapsed like a crumbling building.

**

The people danced and sang loudly in joy,

Hoping that tomorrow would fulfill their wishes.

But the joy vanished with the spread of chaos.

With the conflict of the free leaders behind the scenes.

**

A faction, in ignorance, chased after power,

While terror spread like a tongue of flame.

The leader stood bewildered and no wonder,

those who supported him became under suspicion.

**

And the one who opposed him rose to high ranks.

Though he erred again and again, never hitting the mark.

It lasted but years, when the Arab Baath sank,

Drowning the people in a turbulent dark.

**

It turned the land into a wasteland, and blood flowed in a stream,

In wars that burned the brilliant and dull.

A mighty power struck him down from nearness.

And set up a jungle rule of steppe hyenas.

**

Now the years have passed like a dream in sleep,

I never thought, after all ordeals,

That I’d remain—heart beating, body still sound—

A witness to era of thieves who ravaged the land.

**

Will the sea rise raging to cleanse the stain?

Will the songbird sing again on the bough?

Will the meadow bloom to charm all eyes?

Or is it but a dream in the depth of the darkness.

November8, 2025

كعادتها كلَّ صباحٍ، حين تنبثق الشمس من رحم البحر كوليدٍ يغتسل بالنور، خرجت فُلّة تركض على الساحل الصامت، ذلك الشريط الفضيّ الذي يمتدّ بلا نهاية أمام عينيها. كانت تركض وحدها كما اعتادت، تتنفس الملح والنسيم، وتُصغي إلى وقع أقدامها وهي تنسج لحنها الخاص على الرمل النديّ.

في تلك اللحظات، كانت تشعر أنها أخفّ من الريح، أن الشاطئ كله ملكها وحدها. بعض المارة حيّوها بابتسامةٍ خجلى، وآخرون حاولوا مجاراتها في الجري، لكنها ظلّت ماضية في خطّها، تتنفس بعمقٍ، وتُصغي إلى موسيقى أقدامها على الرمال، كأنها نبض الأرض نفسها وأن العالم يتراجع خلفها كظلٍّ ذابل.

لكن..

سرعان ما تغيّر كل شيء.

بدأت الوجوه تتكاثر حولها، أجساد بشريةٍ متلاحقة تتقافز، تركض بجنونٍ لا تعرف له سببًا. حاولت أن تسبقهم، أن تحافظ على نسقها ونغم خطوتها، غير أن الزحام تكاثف حولها والتفّ كطوقٍ خانق. سواعد تتشابك، أكتاف تتدافع، أنفاس تلهث... تحول الركضُ إلى معركةٍ بلا ضوابط، كأنهم يركضون لأجل النجاة من شيءٍ لا يُرى.... تعثّرت، ارتدت.. تراجعت خطوة، انكمش الهواء من حولها.. ضاق صدرها، شعرت بالاختناق، بالغثيان، بالعرق يتصبّب منها كخوفٍ سائل. دوّى في أذنها صخبٌ غريب، كأن البشرية كلها تركض على جسدها. أرادت أن تصرخ، لكن صوتها ضاع بين اللعنات والركلات والأنفاس اللاهثة الحامية.. عندها فقط، شهقت شهقةً واحدة، وقفزت كمن يبحث عن الهواء... وانطلقت فجأةً إلى الأعلى.. الى الأعلى....

ركضت فوق الرؤوس، خفيفةً كغمامةٍ من ضوء.

كان المشهد تحتها يتقلّص شيئًا فشيئًا، حتى صار كتلةً من الظلال المتزاحمة. هناك، في ذلك الارتفاع الطليق، شعرت بأنها تحررت من كل ما يقيدها. ملأت رئتيها بالهواء، وأحسّت أن روحها تنفتح كزهرةٍ خرجت من جحيمٍ عميق.

ركضت بكل ما أوتيت من قوة.

ارتطم بصرها بجدارٍ أسمنتيٍّ هائل، ممتدٍّ إلى ما لا نهاية، يقف أمامها كأنه حدّ الوجود ذاته. اصطدمت به بكل اندفاعها، اصطدمت به بكل قوتها محاولة اختراقه. ارتدت للخلف، سقطت، لكن شيئًا ما في داخلها رفض السقوط. نهضت، واجهت الجدار بعزمٍ جريح، ركلته بقدمٍ ملتهبةٍ بالإصرار، مرة.. ومرة أخرى..

وأخرى..

وأخرى، بلا كلل.. حتى انشقّ الجدار فجأةً، وتدفقت منه ريحٌ قوية أسقطتها على أرضٍ طريةٍ ندية..

وجدت نفسها بين أذرعٍ دافئةٍ تشبه حضن أمٍّ طال فراقها.

الطمأنينة تسللت إلى جسدها، والرائحة حولها تنضح بعطر الطلع الفتي. تلمّست الجسد الذي احتواها، أحسّت بخشونةٍ مألوفةٍ ودِفءٍ يعرفها منذ الطفولة... وعرفت فجأة: إنها النخلة العتيقة، عمّتها الحنون وسط الدار، التي طالما ظلّلت طفولتها، وها هي الآن تحتضنها من جديد.

ارتخت أنفاسها..

سكنت روحها..

كل شيء تلاشى، حتى البحر خلفها بدا كذكرى بعيدةٍ عند حافة السكون.

رفعت بصرها نحو السعف المتمايل قربها، رأت فيه لمسةً خفية، كأنها تسألها: ما الذي يحول بينك وبين نفسك؟

أغمضت عينيها..

تسلل من أعماقها صوتٌ خافت، كأنه اعترافٌ تأخر كثيرًا:

"كم نخاف الصمت، كأنه مرآة تكشف ما نحاول ستره و نسيانه."

وحين فتحت عينيها، تطلّعت إلى الفجوة التي خلّفتها ركلاتها في الجدار، رأت من خلالها عالمًا رماديًّا مترامي الأطراف، بلا سماءٍ ولا أرض، ضبابٌ كثيف يبتلع كل شكلٍ ولون. تسلّل رعبٌ غامض إلى قلبها، رعبٌ مجهول، كأنها تقف على حافة العدم. لكنها هذه المرة لم ترتدّ للوراء.. فقد كانت في حضن النخلة الام، وتذكّرت كيف يبقى الجذر صامدًا في عمق الأرض، لا يهرب من الريح، بل يعانقها حتى تهدأ.

مدّت يدها تلامس راس النخلة بخشوع، كابنةٍ عائدةٍ إلى رحم الامان، وقالت بصوتٍ مبلولٍ بالامتنان:

"ظننتني أهرب إليك، وما علمتُ أني كنت أعود إليّ. أنتِ لم تُنقذيني من الهلاك فحسب بل ولدتني من جديد،"

امالت النخلة رأسها في صمتٍ حنون، فاهتزّت سعفاتها كما لو كانت تبارك ميلادها الثاني، ثم أسقطت في كفِّها تمرةً تشعّ بلون الفجر. تناولتها برعشةِ مَن يذوق الحياة لأوّل مرّة، وكأنّ في الطعم نبوءةَ عودةٍ إلى أصلٍ لا يموت.

كانت تسمع في نسيم الريح همس السعف وقد اختلط بأنغامٍ بعيدة، كأنها تأتي من بيتٍ ناءٍ في الذاكرة:

صوت أختها الكبرى، حَنّة، تغني وهي تمشط شعرها كل صباحٍ بمشطٍ خشبيٍّ فقد لمعانه وبقي دفؤه. تجدل ضفائرها بأصابع تعرف كيف تزرع الطمأنينة في القلب.

تناهى إليها شذى الخبز حين كانت أمّها تعده لهم كصباح يوم جديد، وصوت الديك المشاكس الذي كان يُعلن أن اليوم يبدأ مع كل فجر واعد. كل شيء عاد دفعةً واحدة، كأن بابًا سريًا في الذاكرة انفتح على نهرٍ من ضوءٍ وحنين.

لم تكن تلك الصور مجرد ظلالٍ من زمنٍ مضى؛ كانت وجوهًا حيةً تتنفس داخلها، تمدّها بما نسيته من دفءٍ وقدرةٍ على البكاء.

سكنت فُلّة في حضن النخلة، تلك التي كانت تضمّها بذراعٍ من الرقة، تهدهدها ببطءٍ كأنها تخشى عليها من الهواء. كانت النخلة تحاول اُنزالها برفقٍ من عليائها إلى الأرض، كأنها أمٌّ تخشى أن تُوقظ حلم ابنتها.

غمرها دفءٌ لا يُشبه شيئًا، دفءٌ كأنما انبثق من رحم الكون، كأن نعيمًا خفيًا احتواها للحظةٍ لا يعرفها الزمن.

أحسّت بالأرض تمتد تحت قدميها بأناة تشبه الحنوّ.

فتحت عينيها على نورٍ ناعمٍ كابتسامةٍ نسيتها في زمنٍ بعيد، قبّلت جذع النخلة، وهمست لها بشكرٍ لا صوت له.

أومأت النخلة بسعفها نحو الأفق، كأنها تهمس: "هناك من ينتظرك".

التفتت فُلّة، فرأتها.

كانت حَنّة تمشي من عمق المسافة، يسبقها نورٌ يعرف طريقه إليها، وجهها هالة من سكينةٍ وحنان. بدت كأنها خرجت من عمق الأفق لتعيد للعالم نَفَسه الأول.

ركضت فُلّة نحوها، احتضنتها كما يحتضن الغريق اليابسة التي حلم بها دهراً، تشبّثت بيدها التي ما زالت تعرف شكل الطفولة والأمان.

قالت حَنّة بصوتٍ يشبه نسمةً تنحني على جرحٍ قديم.

ـ إلى أين نمضي يا فُلّة؟

ابتسمت فُلّة، وفي عينيها بريقُ مَن وصل بعد غيابٍ طويل، وقالت:

ـ إلى الشاطئ...  هناك حيث تبدأ الحياة..

سارتا بخطى متناسقةٍ، يداً بيد، حتى بدا وكأنهما ظلّان لروحٍ واحدة. وحين لامست المياه أقدامهما، أخذ البحر في احتضانهما شيئًا فشيئًا، حتى غمرهما برفقٍ مهيب. تمسكت "فُلّة" بأختها، لا خوفًا من الماء فحسب، بل اتكاءً على وجودٍ هو بالنسبة لها يقينٌ في وجه العدم. التحمت بها حتى تماهتا، حتى صار الاثنان كائناً واحدًا من نورٍ وماءٍ وذاكرةٍ نقية...

ثم، في لحظةٍ خاطفة، قفزت "فُلّة" من أعماق الموج، شهقت شهقة الحياة الأولى، ورفعت وجهها نحو السماء. هناك، رأت النوارس تحوم في دوائر واسعة، كأنها تبحث عنها هي، أو عمّا تبقى منها. أطلقت صرخةً حرّرت بها ما علق في صدرها من ضيق وأشجان، وفجأةً، ارتدّ الصدى جافًّا، بلا موجٍ ولا نوارس.

كانت على سريرها، استيقظت، تختنق من وهم الموج.

**

سعاد الراعي

2025.11.09 المانيا

 

طالتْ غفوتكَ تحت شعري المُنسَدِل

وضجِرت أَقْراطِي!

متى تصْحو لتلثِمَ ندى روحي؟

وتدغدغ بسمة نبضي

لا تتأرجح بين أَنفاسيَ مُتردِّداً

ها أنا وَعْدٌ يَتَهادى بثوبِ الأزل

يشُقُّ ضبابَ الحيرة

ليُزهرَ على شفتيكَ

قدراً سرمديَّ الصَّدى

يخفقُ بأجنحةِ الخلودِ

نحوَ عَينَيكَ

دَعْني أستَنشِقُ عَبيرَكَ

سَأبُثُكَ نَسماتِ المَلائِكة..

وأُهدي إليكَ أَسْرَارَها

هلمَّ إليَّ

وتشبَّثْ بجذع روحي

لأضمَّك بجناحي قلبي

أرويكَ من فيض وريدي

هَلْ ليَ أَنْ أُلَملِم

روحك بأهدابي؟

هل ليَ أن أحتضن

دموعَكَ بين ضفَّتَي شَفتيّ؟

***

الياقوتُ المُتكِئُ على شَواطِئكَ

يَتوقُ للتَجديفِ عكسَ التَّيار ...

ينتظرُ نبوءَةَ العِشقِ

وولادةَ العذْراء

أنتَ فقط مَنْ يَملِك القَرَار

تَرجَّلْ عن صهوَةِ الحيرة

خُذْ بيدي

إلى بَرزخِ الحُلْمِ

هناكَ أشاطِرُكَ العِشْق

طريقاً للفِردَوس

***

سلوى فرح - كندا

 

اللغةُ تهتزُّ بين أصابعي،

كما لو أنّها طفل عنيد،

تتشظّى في فمي قبل أن أتمكّنَ من جمعها،

تتعثرُ في مساماتي،

تسقطُ في أزقّة الروح،

تحاول أن تُغطّيَ صخبَ العدمِ،

لكنَّها لا تفي،

لا تفي بمقدارِ صراخِ الزمن.

*

أمزقُ الحروفَ كأوراقٍ قديمةٍ،

أجمعُها على شكلِ قميصٍ لم يعد يدفئ،

يغدو قلبي عارياً أمامَ التجربة،

أحاول أن ألبسه،

فتتمزّق الخيوطُ في راحتي،

ينسلّ المعنى بين الأصابع،

تظلُّ الكلماتُ تترنّحُ على حافةِ الصمتِ.

*

الواقعُ يضغطُ على اللغة،

يضغطُ على المسافاتِ بين النطقِ والفكر،

يطوي الصباحاتِ في سطرٍ واحدٍ

ويذبح الليلَ بلا رحمة،

والألمُ يمتدُّ كجسرٍ مهدمٍ

بين ما أرغب في قوله، وما أستطيع...

*

أرى الصورَ تتساقطُ،

تتكوّرُ كأجسادٍ صغيرةٍ

تختبئُ في حنايا النصّ،

أمسكُ ما تبقي،

أعيدُ ترتيبَها في جدائلَ متشابكة،

لكنّها لا تتّحدُ،

تبقى شظايا،

بقايا لغةٍ لم تعد قادرةً على التعبير.

*

أسألُ عن العالمِ،

عن أولئك الذين يشربون من أنهارٍ ملوّثةٍ،

عن الغيومِ التي تحمل دخانَ المدن،

عن الصباحاتِ التي تذهب بلا موعد،

عن المساءاتِ التي تنهار فوق رؤوسنا،

وكلُّ ما أملكَه هو قميصٌ ممزق،

أحاول أن ألبسه على جسدِ الواقع،

وأتمنى أن لا ينكشف كل شيء.

*

أحاول أن أغني،

لكن الأوتارُ مقطوعة،

والحنجرةُ مسدودةٌ بالحجارةِ،

أحاول أن أطير،

لكنّ الريشَ منتوف من جناحي،

أحاول أن أكتب،

لكنَّ الكلماتَ تهربُ مني

كما يهربُ الماءُ من أيدي العطاشى.

*

اللغةُ، مثل مرآةٍ مكسورة،

تعكسُ بعض ما هو موجود،

لكنها لا تُعيدُ الصورة كاملةً،

أرى في شظاياها نفسي،

أرى العالم،

أرى الألم،

وأدركُ أنّ ما بيننا وبين التعبيرِ

هو فجوةٌ سحيقةٌ،

لا يربطها إلا حلمٌ صغيرٌ،

قميصٌ ممزقٌ

يحاول أن يدفئَ الروح العاريةَ من المعنى...

***

مجيدة محمدي

اتركوا لە الطريق

سيأتي ههنا..

ظل طويل

ذو سبعة أرواح

مديد القامة في الليل

كشجر السرو

بينما في النهار

لا يكاد أن يرى،

عاد إلى شوارع متداخلة مكتظة

لم يبق رقعة، أزقة

لا يؤدي فيها رقصة الفوضى

مات بالأمس

يُقدم اليوم في عزائه ماء

حي يرزق ومتيقن

ان صرح الدنيا لم تبن لە وحده

والكل يمارس طقوس الحياة

حتى ضفدع أعور أو سلحفاة معاق.

*

لا تقترب كثيرًا من الأوركيد

لئلا تتحول فجأة إلى أشواك

كدبيب دعسوقة

على ظهر اليد

تثير دغدغة آثار الأقدام

إصبع تحركها، بغيا أن تطير

سرعان ما تلدغ وكأنها دبور

قالوا لا بأس

ربما بايبولار (١)

*

فسحة للخطوات

خفق وخطى

تحدث في القلب شرخا من بعيد

مثلثات، مربعات ومسدسات‌!

إنها قادمة

قطرة متجمدة

على حافة جرف

في شتاء أعزل

تشهد كل ما يفعله الصعيق القاهر

ولا تنطق بحرف،

بل تنتظر الربيع

أن يفك قيدها

ثم تتدفق الى النهر المضطرب

سعيا لسفر متجدد

*

ماذا عساك أن تفعل؟

أسهوا سقطت ههنا؟

أراك هكذا منطوية

على غصن زمزريق مقبرة صامتة،

وحشود متحمسة

على أبواب الوصول، جامدين،

قبل مد يد المصافحة:

ضربة شقت ظهر ديباج

وفوق كل شاهد قبر

حسرة صماء قابعة

وعلى غصن منكسر، قطرة متدلية

ترى الخفايا ولا تنطق حرفا

ويا عجبا لصدق الحقائق

عانقهم الشوق ورحلوا مبكرًا

ولا ينبض قلب الحياة

الا بالدماء..

*

ضجيج

لا شيء سوى رعد، تنكسر برقه في السماء

تنبت به (شوك الجمل) في القاع

محاط بضرعاء متطاولة متطفلة

قالوا: دونە ستجف الغابة

هذي حكمة الفوضى

اطردوا من جسد الشجر

هذه القوة الخارقة، صاعقة قشعريرة

تمر من الرأس الى القدم

وحلق مخنوق

ملأى بأطعمة عفنة.

هكذا ناقوس المحيط

الكل مستسلم، متلائم مع وجوده.

هو من:

يعلم سيموت إذا عض،

ويفعل!

ويستجيب لنداء بايولوجيا الأبكم

وقد يبوء عبء الندم...

قالوا لا ضير، إنه الأوكسيتوسين(٢)

*

يا قطرة تحولت من جامد الى سائل

مازلت باقية على الدرب

ترى من دون همس

يا قطرة متجمدة على الصخرة الصماء!

يا ندى نقية القلب والقامة!

يا من، همستك شفتي السحر

في هذا الحشر الجنوني

حفاة

والطرق جمر

خالية من المشاة

آثار الخطوات متبقية

متناثرة في كل الاتجاهات،

من سيتنبأ:

بتضاريس ضباب الفوضى؟

قراءة جغرافية الجبين؟

أم اعوجاج خطوط راحة اليدين؟

متحير

غير واثق

الطريق خال، وآثار الأقدام

مثلثات، مربعات ومسدسات‌!

على طول المنحدرات....

*

أين تتسائل؟

صرع يصيب كرسي

مستتر، مستهتر

وشعع من غرف المزارات

تضاهي ظلام الأكواخ.

أفي الشمال أم الجنوب

ترآى النقيضان؟

والتفاهات سواسية

قطرتان من الندى

معلقة بغصن زيتون شبه يابس

أفي الأسفل: دبكة، أم مأتم؟

وهنالك داخل نهرمتموج

سمكة متحيرة في مجرى تائه

تمر بوادي الذئاب المفزع،

وهل بقى شيء مازال لم يرَ

- لوحة غرنيكا؟(٣)

- ضحكٌة مليئة بالدموع؟

آن الأوان أن تبحث وتدور

مرارًا وتكرارًا

عن تفسير حلم

(بلا أجنحة..طيران)

ودون جدوى.

في جنون هذا الحشر

أين تسلك طريقا؟

بعدا لضغوط دوائرمجوفة

على أية خريطة

تجد جغرافيا الشعراء؟

إنها أرضٌ قاحلة معبئةٌ بالفوضى

هنا أطر الأفكار

تنكسر تباعا

ومازلت تبحث عن نفسك

في دواوين مهجورة

وفضاءات لامتناهية

***

سوران محمد

................

Bipolar -1: اضطراب ثنائي القطب

2- هورمون العاطفة Oxitocin

3- لوحة غرنيكا، بابلو بيكاسو، ١٩٣٧

هو واحدٌ مِنَ الرجال الافاضل الذين تعرّفت إليهم في لحظة قاتمة مُعتمة، فأناروا، لم يكن شخصية معروفة لدى الجميع، لا رئيس بلدية ولا مدير مؤسسة تُقدّم خدماتها الكريمة لى ناشدي مكرماتها، وإنما كان عاملًا اجتماعًيا ناشطًا في مكاتب الخدمات الاجتماعية في مدينتنا الحبيبة المشتركة.. الناصرة، يُقدّم خدماته بمهنية عالية رفيعة، مُرفقًا إياها بابتسامة جزلة كريمة، وكلمات طيبة، تدُّل على خلق كريم وأصالة مُحتدّ، ومعرفة مُتعمّقة بالنفس البشرية قبل هذا وبعده.

تعرّفت إلى الفقيد رمزي لطفي نصّار (1958/ الاثنين 4-11-2024)، قبل أكثر مِن عَقدين من الزمان، وكان ذلك عندما قدّمني إليه صديق آخر مِن فُضلاء مدينتنا، هو الصديق الراحل أيضا موسى خبيص.. تعطرت ذكراه. منذ اللحظة الأولى لتعارفنا ذاك شعرت بأنني عثرت على صديق، مُساند ومُعاضد، وأن تلك اللحظة ستشهد ما بعدها.. كونها كانت لحظة فريدة كما اخبرني قلبي. وأذكر يومها أنني أردت أن اطمئن قلبي على مشاعري تلك، فأخبرته أنني أعرف العديدين من الفضلاء من أبناء عائلته المكينة، أمثال الراحلين سمعان نصار، سهيل نصار وعزمي نصار، وما إن ذكرت هؤلاء حتى قاطعني بابتسامة دافئة قائلًا: الجميع يعرف هؤلاء وأنا اعتز بهم وبانتمائي إليهم وإلى هاته المدينة الكريمة المعطاء. أسعدني ما قاله، فاسترقت النظر إلى عينيه فرأيت فيهما لمعة أنس رانية واعدة.. قالت لي إنني ماض على خطى هؤلاء. وهذا ما أكدته الفترات التالية لعلاقتي به، فقد كان يؤكد لي، لقاءً إثر لقاء وجلسةً بعد سابقتها، أن انسانيته حضرت وآثرت الإقامة المُبشّرة في كلّ ما كان يقوم به مِن أفعال، سواء كان ذلك في المساحة الخاصة لعمله عاملًا اجتماعًيا أم في المساحة العامة لوجوده واحدًا مِن أبناء مدينة البشارة الغراء.

في كلّ لقاء لي به، سواء كان في مكان عام أو خاص، كنتُ أتأكد مِن ذلك الانطباع الأول عنه وعن شخصيته، ذلك أن كلّ لقاء يؤكد لي أنه إنسان إيجابي، مُحبٌّ لأهله وناسه وأهل مدينته، بل وعالمه الواسع، وأذكر في هذا السياق أنني كثيرًا ما كنتُ اطرق باب مكتبه، فينفتح لي بكلّ أريحيّة، رقة ولطف، مُرحّبًا مُهلّلا، وداعيًا إياي للدخول لنتبادل الأحاديث الحافلة بالمودة والحادبة على كلّ ما هو جميل ولطيف في الحياة. ولا أذكر أنّه اعتذر وتذمر، أو ادعى بالعمل والانشغالات الكثيرة، وهكذا كان بابه مفتوحًا ومُرحّبًا دائم الترحيب. أما في المرّات القليلة التي بقي بابُه موصدًا، فقد كنت أعرف مِن زملاء وموظفين آخرين له، أنه يخفي وراءه مُشكلة يسعى الفقيد لحلّها باحثًا مع أصحابها عن الحلول المُناسبة لها. وقد رأيت في قليل من الأحيان تلك الوجوه تخرج من غرفته مُبتسمة ومُزيلة عنها ما الحقته بها الأيام من آلام وأوجاع.

هذه النفس الطيّبة الكريمة، وطّدت العلاقة بالراحل الكريم، ولعلّ أطرف ما فيها أنها اتصفت بالندية والاحترام المُتبادل، وهكذا مثلما كنت أفخر به وبإنسانيته الفيّاضة، كان هو يفعل، وقد قدّمني إلى آخرين، في أكثر مِن موقف، على اعتبار أنني واحدٌ من الناس الذين غلبتهم انسانيتهم، ففاضوا على كلّ مَن أحاط بهم مِن مُعذّبي الأرض وأبناء السبيل، بكلّ ما حفلت به قلوبُهم مِن مَودّة، عطف وإنسانية.. حينها عادة ما كنت أرسل نظرة حانية إليه وكأنني أريد أن أشعره وأوحي إليه بما مُفادُه: أنت تتحدّث عني أم عنك؟

مما أتذكّره عن فقدينا الغالي، أنه كان ثاقب النظر، عارفًا لكلّ ما يدور حوله، مؤمنًا بإنسانيته السخيّة المُتدفقة عطاءً وجودًا، ولا أذكر أنني وجّهت إليه طالبَ مُساعدةٍ، إلا وعاد إليّ شاكرًا عارفًا لفضله، في كلّ ما قدّمه إليه مِن أيادي بيضاء، سواء بالقول الذهبي، أو بالفعل الماسي. وقد كان سريع التفاعل فهو لا يؤجل ويسوّف وإنما يُبادر مِن فوره إلى التحرّك والعمل، وتقديم كلّ ما توفّر لديه من معرفة، تجربة ومهنية، وطالما خفّفنا معًا مِن آلام واوجاع مُحيطين بنا مِن أبناء جلدتنا وإنسانيتنا.

لهذا كلّه وتبعًا له، سارع الكثيرون، حين انتشار نباء رحيله المُفزع، إلى الاعتراف بفضله ومبادراته السخية، سواء في تقديمه خدماته الكريمة، أو بمبادراته لتقديم كلّ ما بإمكانه تقديمه دون تذمّر أو تراخٍ. وقد سرّتني إشارة وردت في نعي إخوة لنا في حي الفاخورة، وقعها الأخ المحترم محمد الحلو، تقول إن الفقيد كان مِن أوائل العمّال الاجتماعيين الذين دخلوا إلى ذلك الحي، وبادروا لإقامة نادي المسنين فيه.

رحم الله الفقيد، فقد كان شخصية اجتماعية، تجاوزت حدود اسرتها الصغيرة، لتمتدّ على مساحات واسعة في حيوات اسرتها الكبيرة، اسرتها الإنسانية، لذا كانت الخسارة بها كبيرة وكبيرة جدًا، وتجاوزت حدودها العائلية المعروفة، لتمتدّ إلى آخرين، لا سيّما مِن أولئك الذين أنار لهم الطريق وجعل مِن كلّ مكان حلّ فيه مكانًا رائعًا ويطيب العيش فيه.

***

ناجي ظاهر

‏كنت مشرقةً..

نحيلةً بفستانِك الأسود

الذي يناظرُ أصابعَ البيانو في ركنه الأنيق

أما الليل،

فكان بكامل حُلَّته يُقطِّرُ نفسه في هدوئِكِ الساحر

وكان لابُدَّ من ريشةِ طائرٍ مغردٍ على قبعتِكِ،

لتعيدَ توازني

خلف النافذة الواسعة شارع واسع

وأضواءٌ ومطرٌ يكملُ المشهد

ولأَنَّ لي جرحاً واحداً، فقد آويتُ جراحاً أخرى

لأستطيعَ كتابةَ قصيدةٍ كما تأولّتِ

ثم خرجتُ حاسرَ الرأس

إلى حيثُ شجرةُ الجوزِ التي آثرتُ أن أكون تحتها

وقفوا خلفي بظلال طويلة هادئة

رائحتهم تشي بأنهم شعراءُ هبطوا من الغيم

أمهلوني دقيقةً لسيجارةٍ أخيرةٍ

عرفوا أني لا أدخن فقالوا اكتب قصيدتَكَ الأخيرة

وعندما لم أحرك ساكناً

لم يطلقوا النار على رأسي

ومضوا واضحين بلا أقنعةٍ تحُفُّهُمُ الموسيقا

شاهدُ العيان أكَّدَ أنَّهُ لم يرهم

لم يرَ شجرةَ الجوزِ

ولا الليلةَ الممطرةَ

لا الأضواءَ، ولا الشارعَ

ولا النافذةَ المضيئةَ الواسعة

لم يرَ القبعةَ ولا ريشةَ الطائرِ المغردِ

ولا الليلَ المُقَطَّرَ في هدوئِكِ الساحر

لم يسمع البيانو

ولم يرَكِ نحيلةً ومشرقةً بفستانٍ أسودَ

وقبل أن يختفي ويتركَ المشهدَ فارغاً همس لي مؤكداً،

أني ما زلتُ حياً برأسٍ حاسرٍ

وجراحٍ تؤهلني لكتابةِ قصيدة

***

فارس مطر / برلين

يَا أَنْتَ،

كَمْ بَقِيَ مِنْ صَدَاكَ فِي أَذَنِ الحَنِينِ؟

كَمْ مِنْ رُؤَاكَ تَكَسَّرَ فِي زُجَاجِ الغِيَابِ؟

أَنَا الَّذِي يَكْتُبُكَ مَاءً،

وَيَقْرَؤُكَ نَارًا

2

مَا بَيْنَ نَبْضَيْنِ،

أَغْسِلُ خُطَايَ بِحَبْرِكَ،

وَأَتْرُكُ لِلدَّمْعِ نَافِذَةً تَسْقُطُ فِيهَا اللُّغَةُ

3

أُرَتِّبُ فِي عُيُونِكَ لَيْلِي،

وَأُخَبِّئُ ضَوْءَكَ تَحْتَ جِلْدِي،

لِئَلَّا يَفْنَى المَكَانُ.

أُقَلِّبُ الرَّمَادَ،

فَتَنْبُتُ مِنْهُ حَبَّاتُ رُمَّانٍ

4

أَدْخُلُ غَيمَكَ وَحيدًا،

تَسْتَفِيقُ بِيَ الفُصُولُ كَأَنَّها وَرَقٌ فِي مَاءِ الخُطَى.

أَمْشِي وَالنَّارُ تَلْمَعُ فِي حَجَرِ الأَنْفَاسِ،

أَبْحَثُ عَنْ صَوْتٍ كَانَ يَنْقُرُ صَدْرَ اللَّيْلِ كَالرَّحِيلِ

5

كُنْتَ لِي وَطَنًا مِنْ خَفَقٍ،

وَأَصْبَحْتَ صُورَةَ مَاءٍ تُشْبِهُ الحُلْمَ،

تَنْفُضُ مِنْ نَفْسِهَا نُدُوبَ المَوَاسِمِ،

وَتَكْتُبُ عَلَى جِلْدِ الرَّمْلِ أُغْنِيَةَ التَّبَدُّدِ

6

أُرَتِّبُ فِي ظِلِّي نَبْضَكَ،

وَأُعَلِّقُ عَلَى جِدَارِ المَسَاءِ مَسَافَاتٍ مِنْ نَدَمٍ،

لِأَتَعَلَّمَ كَيْفَ يُصَلِّي الرَّمَادُ

7

مَا الَّذِي فِي صَمْتِكَ يُشْبِهُنِي؟

أَسْتَمِعُ لِحِرْفٍ يَنْزِفُ فِي المَدَى،

وَيَتَدَثَّرُ بِأَسْمَائِي القَدِيمَةِ.

أَسْأَلُ: هَلْ يَسْمَعُ النُّورُ خُطَايَ وَهُوَ يَتَعَثَّرُ فِي الطِّينِ؟

8

كَأَنَّ الغِيَابَ الَّذِي فِيكَ نَهْرٌ،

تَصُبُّ حَوَافِيهِ فِي جَسَدِي،

وَيَغْسِلُ وَجْهِيَ مِنْ وَحْلِ أَيَّامِنَا،

وَيُعَلِّمُنِي كَيْفَ أُصْغِي إِلَى صَمْتِكَ النَّازِفِ الآنَ،

كَيْ أَفْهَمَ المَاءَ حِينَ يَبُوحُ بِلَوْنِ الرَّمَادِ

9

أَنَامُ عَلَى رِيشِ جُرْحِكَ،

أَسْتَعِيرُ مِنَ الرِّيحِ نَبْضَكَ،

وَأَغْزِلُ مِنْ عَرَقِ المَسَاءِ قَمِيصًا لِيَوْمِي،

فَأَصْحُو عَلَى كَفِّ نَارٍ،

تُسَمِّينِي بِمَا لَا أُطِيقُ

10

فِي عَيْنَيْكَ وَرْدٌ يَنَامُ عَلَى جَنَاحِ الحَرِيقِ،

وَيُوقِظُ فِيَّ رَغْبَةَ البَحْرِ،

أَنْ أَسْقُطَ أَكْثَرَ فِي المَوْجِ،

وَأُولَدَ مِنْ جِسْرِ ضَوْئِكَ طِفْلًا

11

كُنْتَ فِي الأُفُقِ شَمْسًا تُفَاجِئُ طِينِي،

وَتُوقِظُ فِي صَمْتِيَ الغَيْمَ،

وَفِي عَرَقِيَ النَّبْتَ،

حَتَّى صِرْتُ أُغَنِّي ظِلِّي

12

مَتَى تَرْجِعُ الأَغَانِي الَّتِي ضَيَّعَتْهَا النُّدُوبُ؟

وَيَرْجِعُ الحُلْمُ مِنْ فَوْضَى الوَجَعِ،

وَيُصْلِحُ كَسْرَ المَرَايَا؟

13

أَمْضَغُ أَسْمَاءَنَا القَدِيمَةَ،

كَمَا يُمْضَغُ التَّمْرُ فِي مَوَاسِمِ الجُوعِ،

وَأَبْكِي إِذَا مَا تَسَرَّبَ مِنِّي الرَّمَادُ

14

فِيكَ أَسْكُنُ وَأَنْسَى المَدَى،

أَسْكُنُ وَجْهَ الحُرُوفِ،

وَأَتَسَلَّقُ نَبْضَ اللُّغَةِ،

حَتَّى يُصْبِحَ الكَلَامُ بُخَارًا

15

أَنْتَ حِينَ تَصْمُتُ،

تَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَجَسَّدُ فِي نَفْسِ الصَّدَى،

وَتَكُونُ الْمَوْتَ الَّذِي يَتَعَلَّمُ كَيْفَ يُحِبُّ

16

فِي زَمَنِ الْعَطَشِ،

أَشْرَبُ مِنْ عَيْنِكَ صَبْرَ الْمَلَائِكَةِ،

وَأَكْتُبُ فِي الظِّلِّ أَسْمَاءَ مَنْ لَمْ يُولَدُوا بَعْدُ

17

يَا ابْنَةَ الرَّمَادِ،

يَا مَنْ تَسْكُنِينَ فِي وَهَجِ النَّارِ،

أُسَمِّي الغِيَابَ قُبْلَةً،

وَأَمْشِي عَلَى سُرُوجِ الغَيْمِ،

وَأَحْمِلُ نَفْسِي إِلَى مَهَبِّ النُّورِ الأَعْمَى

18

أَرَى فِي خُطَاكِ حُرُوفًا تُصَلِّي،

وَفِي نَبْضِكِ مِئْذَنَةً تُنَادِي لِلرَّمَادِ،

فَأَسْقُطُ فِي المَاءِ كَمَنْ يَعُودُ مِنَ الغُفْرَانِ

19

أَضَعُ قَلْبِي عَلَى الطِّينِ،

فَيَنْبُتُ فِيهِ بَابٌ مِنَ الحُلْمِ،

يَفْتَحُهُ لَيْلٌ يَتَنَفَّسُ بِنَارِكَ

20

يَا زَمَنَ الْحُرُوفِ الْمَحْرُوقَةِ،

هَلْ بَقِيَ فِي الصَّفْحَةِ مَاءٌ لِكِتَابَتِنَا؟

هَلْ بَقِيَ فِي الْحُلْمِ مَتَّسَعٌ لِلنُّورِ؟

21

مَدِينَتُنَا تَنْهَضُ مِنْ تَحْتِ الرَّمَادِ،

تَرْتَدِي جَسَدَهَا مِنْ نُورٍ وَخُوفٍ،

وَتُسَمِّي الشُّهُودَ أَبْجَدِيَّةَ الدَّمِ

22

أَضَعُ نَفْسِي فِي وَرَقِ الْعُمْرِ،

أُسَمِّي النِّهَايَةَ بَدَايَةً،

وَأَخْتِمُ الرُّمَّانَ بِرَمَادٍ،

لِكَيْ تَبْدَأَ الْحِكَايَةُ مِنْ نُقْطَةِ النَّارِ

23

كودا

الرَّمَادُ…

مِسْكُ الحُرُوفِ بَعْدَ احْتِرَاقِهَا،

وَالرُّمَّانُ…

قَلْبُ المَاءِ حِينَ يَنْزِفُ جَمَالًا

فِيهِمَا تَلْتَقِي الأَضْدَادُ،

وَيَبْدَأُ الوُجُودُ مِنْ لَهِيبِ اللَّذَّةِ وَخُشُوعِ الفَنَاءِ.

***

د. سعد محمد مهدي غلام

كان الصباح شاحباً، والسماء تلبس لون الرماد، تجمّع عدد من الأمهات والآباء، مع الأشقاء، والزوجات والأطفال، كنت من بينهم، الجميع ينتظرون سيارة السجن التي تنقل المعتقلين، إلى المجلس العرفي، كان أحدهم أبي، وجوههم مشدودة، عيونهم تتطلع إلى اللحظة التي ينزل فيها المتهمون من السيارة نحو قاعة المجلس، " كاكا درويش" الوحيد الذي أُقتيد من بينهم نحو قاعة المحاكمة في معسكر في قلب المدينة، كان مركزاً لتدريب الجنود ومقراً للمجلس العرفي الذي تتشكل هيأته القضائية من ضباط برتب مختلفة، رئيسها برتبة عقيد، انسجاماً مع طبيعة النظام الذي يقوده ضابط عسكري أيضاً.

دُفعَت الأبواب الثقيلة لقاعة المحاكمة، فارتجّ صدى الحديد على الجدران الحجرية، دخل درويش، مكبّل اليدين لكنه منتصب القامة، بخطوات ثابتة كأنه يدخل قاعة للمؤتمرات. لم يلق نظره على أحد، حتى أفراد عائلته الذين انتظروا موعد يوم محاكمته، لم يلتفت لوجودهم، عيناه صوب القفص الحديدي، ثم إلى هيأة المجلس.

كان الصمت كثيفاً، حتى أن أنفاس الحضور على قلّتهم كانت مسموعة كصفير خافت، لا يسمح لأهالي المتهمين بالدخول باستثناء المحامين، ورجال الأمن، والآخرون ينتظرون خلف الجدران!

قاعة المحكمة فسيحة، جدرانها عالية، تتدلى من وسطها ثريا قديمة، مطفأة، علا زجاجها التراب. المقاعد الخشبية تصدر أزيزاً خفيفاً عند كل حركة، خلف المنصّة جلس العقيد رئيس المجلس، بوجه أحمر جامد، يقطر جبينه وقاراً زائفاً. على يمينه ويساره عضوا المحكمة، مختلفان في الرتب، ومتشابهان في حجم كرشيهما، وملامح وجهيهما القاسية. بينما كان المقدّم المدعي العام أشبه براقص يتمايل في عرض مسرحي، يوزع الاتهامات المجانية، منحازاً ضد المتهم.

بدأت الجلسة بصمت مطبق بددته أسئلة العقيد عن اسم المتهم وعمله ومحل سكناه، ثم وجّه اتهامه لدرويش:

ـ أنت متّهم برفع السلاح ضد الحكومة مع (عصابات) تتحصن في الجبال. ما أقوالك؟

رفع درويش رأسه بثبات، صوته قوي وواضح:

ـ هذا اتهام باطل وافتراء، الصحيح، نحن الذين لنا الحق في توجيه الاتهام للنظام الذي يمارس سياسة القمع ضد القوميات والأقليات، وأضاع ثروة البلاد في حروب لا معنى لها، نعم أنا ضد الديكتاتوريات وحكومة الاستبداد.

همهمة خافتة تتصاعد في القاعة، أحياناً تتحول إلى ضجيج، رجال الأمن يتحركون،

العقيد يصرخ بأمر التهدئة ويطرق على الخشب:

اسكت! هذه محكمة وليست منبراً سياسياً. أنت وقح تجاوزت حدودك. ثم يأمر بإخراجه، لكنه استدرك وأعاده إلى القفص بعد أن هدأ الهرج. ثم نادى على أول شاهد، رجل خمسيني بوجه متردد، يرتدي بدلة رمادية، عيناه كانتا تفضح قلقه. ثم نادى على الثاني، كان أشد وقاحة من الأول، شاب مشحون وعيون مراوغة. ثم نودي على محامي الدفاع المنسّب من المجلس، رجل أشيب ببدلة فاخرة، وربطة عنق مبالغ فيها. حال شروعه بقراءة لائحة الدفاع عن المتهم:

ـ درويش بصوت مرتفع.. أنت لا تمثلني، لم أطلب أحداً ليدافع عني، أنت جزء من المسرحية!

صدور القرار:

سحب العقيد ورقة مطبوعة معدّة سلفاً، من ملف أمامه على المنصة، لم ينظر فيها، بل قرأها كما لو أنها محفوظة منذ زمن: قررت المحكمة الحكم على المدان درويش بالإعدام شنقاً. رفعت الجلسة!

سكون عميق ثم تصفيق خفيف من رجال الأمن.

في لحظة صاعقة، وقف درويش في مكانه، ثم صاح بصوت اهتزت له جدران القاعة:

ـ لا.. لم ترفع الجلسة، ما زالت مستمرة!

ران ذهول عميق.. اتجهت العيون كأسهمٍ مشرعة نحو درويش صاحب الصوت، امتصت القاعة، والجدران، والهواء، لحظات الذهول...كأنما رفع عنهم مفعول سحر مفاجئ أغلق أفواههم.. فترة من الوقت، ثم عاد الصوت من جديد:

ـ عليك أيها العقيد أن تستقبل قراري الفوري.. سأنفّذه الآن:

حَكَمتُكَ أنا، بخُفين من نعليّ يصفعان وجهك القبيح، تذكّر دائماً أن فلاحاً من قرى الشمال نسجهما بإحكام. انحنى درويش نحو قدميه وسحب نعليه بسرعة خاطفة، ثم صرخ: خذ الأول، هذا للأحكام الجائرة، ورمى بنعله نحو منصة العقيد، وسط ذهول الجميع.

وخذ الثاني! هذا لعدالة تشترى وتباع!

سقط النعلان على المنصة، ارتجّ جسد العقيد، تراجع إلى الخلف، بينما انسحب العضوان بسرعة نحو الغرف الخلفية. تحرّك الحرّاس بسرعة خاطفة نحو المتهم، طرحوه أرضاً في ثوان، أوثقوا ذراعيه خلف ظهره وهو يصرخ، ويشتم، ويبصق في وجوه الهيأة. كاد صوته يمزّق جدران القاعة، وعيون الناس تتسع، بعضها متعاطفة وأخرى خائفة. آخرون تبادلوا نظرات حائرة. حركة الحرّاس كانت عنيفة، اندفع أربعة منهم باتجاهه دفعة واحدة فأحكموا إغلاق فمه بشريط لاصق، صوته محبوس، لكن عينيه كانت أبلغ من كل صراخ.

نودي على متهم آخر بينما كان العقيد يحاول أن يستعيد توازنه في غرفة المداولة، كأنّ يداً غير مرئية تسحبه للاستسلام إلى النوم، مرّت دقائق أغمض فيها عينيه:

كانت القاعة مكتظة بالحضور، لم يكونوا بشراً، بل أشباح رمادية بعيون مفتوحة على اتساعها، لا رموش لها، صمت ثقيل... يقف درويش في القفص من جديد، خلفه طوابير من الوجوه المحكومة ظلماً. يسمع العقيد طرقاً قوياً على باب القاعة، لا أحد يفتح الأنوار، فتشتعل وحدها. لا يجرؤ النظر في أعين المتهمين، كان وحيداً، لا موظفين، لاحرّاس، جلس على كرسيه، لم يعثر على شيء سوى نعلين استقرّا باطمئنان على سطح المنصة. وملف مغلق مختوم بشمع أسود، على غلافه كتب بخط مرتعش، "ملف قضية درويش لم يغلق بعد".

استيقظ العقيد فزعاً، وجهه يتصبب عرقاً، صدى المطارق يضرب قلبه، عيناه تغوران وصوته يخفت، حاول الصراخ لكن صوته اختنق.

كان أبيّ  مكبّل اليدين، يلتفت نحوي، تلك اللحظة ظلت محفورة في ذاكرتي مثل جرح لا يندمل..كأن العالم كله توقف هناك..بين نعلين على منصّة (الرئيس)، ويدين موثوقتين لرجل يحلم بالحرية.

***

جمال العتّابي

أخافُ جفافَ الفراتِ ودجلهْ

حينها تُخسَفُ أفئدةُ الكائناتْ

ولنْ يجدَ البدرُ نهراً لكي يتراءى

ولنْ يَكتبَ الشعرُ بيتاً

ولنْ يَعزفَ الحُبُّ جملهْ

ولنْ يتمشى على الماءِ قصدَ السماءِ

بأجنحةِ الوجدِ سربُ البناتْ

***

شعر: كريم الأسدي

...........................

ملاحظة:

تألفتْ أبياتُ هذه القصيدة عندي وأنا أعبر جسر المشاة المقام على ضفتي الفرات في الناصرية ـ العراق ليلة السادس من تشرين الثاني 2025 ..

 

فتحتها الغرفة السّابعة..

لم أحفل بوصاياه... السّراب..

فتحتها ...

كانت السطور الفارغة.. تقول الاعترافات المتاخّرة

كاملة ...

يباركها الصّمت الحزين...

الغرفة السّابعة بوّابة للمحطّات البعيدة..

للخريف وآخره...

كان القلب يجتثّ خطاه..

باكيا يتبعني...

غير انّي كنت اضحك..

اردّد اعترافه الأخير..

أحفظه عن ظهر خيبة..

حتى.. حين يسألني قلبي عن طريق الرّجوع..

اقول:

نسيت...

***

حياة بن تمنصورت - تونس

 

إنّي أنا الْهادئُ والرَّصينُ

والْباحثُ عنْ زاويةٍ ساكنةٍ،

لا تقتضي وسادةً مليئةً،

بالسَّيفِ والْخناجرِ،

والشَّوكِ والْحناجرِ،

أرصفةِ الشَّوارعِ،

ورأسِ ذاكَ الْمُبصِرِ الْعتيدِ،

داخلَ ذاكَ النَّفقِ الْبعيدِ،

صاحبْتُ شارعَ الْكفاحِ والرَّشيدِ،

عرفْتُ ذاكَ الشَّاعرَ الْمنعوتَ بالمُجيدِ،

وذلكَ الْمشهورَ بالسِّكِّيرِ والْعنيدِ،

والشَّاعرِ الْبليدِ.

سكرْتُ دهراً، وصحوْتُ أدهرا

ونمْتُ عصراً، ويقظْتُ أعصرا

لا عيبَ، لا خوفَ منَ السُّكّْرِ،..

يكونُ فيهِ الرَّجلُ السَّكرانُ أوهى..

مِنْ نسيجِ الْعنكبوتْ،

الْخوفُ مِنْ صَحْوٍ يكونُ..

الرَّجلُ الصَّاحي كبركانٍ يثورْ.

لم أحْملِ الْأوزارَ في رَبَابتي.

لم أمسحِ الْأكتافَ في الشَّبابِ أو كهولتي.

وما وقفْتُ في بلاطِ سلطانٍ، ولا الْأبوابْ،

أنتظر الرِّضى أو الْأكياسَ أو

ما يمنحُ الْحُجّابْ،

أو نظرةً مِنْ أعينٍ الذِّئابْ،

أو مَنْ يقولُ: يا هلا بأجملِ الأصحابْ،

وهو يحدُّ خنجراً ومِنْ وراءِ الْبابْ....

***

عبد الستار نورعلي

(حين تنقر الزنابق شبابيك الخريف يشتعل الرُّضاب حتى وإن كان في الطَّفِّ المَغول)

***

مَأْخُوذًا أَسْمَلُوني، وَشْمِي فِي الْعُيُونِ،

كُنْتُ الْخَافِرَ فِي وَجْدِي، أَوْلَمُونِي يَتِيمًا.

أَضَلُّوني هُوَايَ، هِمْتُ مُخَضَّبًا

بِوَبَاءِ الذِّكْرَى فِي تِيهِ التَّعْبِيرِ

٢

عَمَّ صَبَاحًا يا طَلَلُ،

اِسْتَفَاقَتْ فِتْنَةُ فِتَنٍ.

شُبَّاكٌ عَلَى الْمِحَنِ،

تَحْتَ الرَّمادِ الْمُظْلِمِ

٣

الحُرِّيَّةُ تُحْفَةٌ مَنْقُودَةُ الضَّوْءِ،

وَالنَّاصِرُ مَهْتُوكًا يَسْأَلُ الدَّمَ:

-أَتُجِيدُ العَرَبِيَّةَ؟

فَيَصْمُتُ الوَجْمُ

٤

الْقَاتِلُ عَادَ،

أَسْتَجِيرُ بِمَنْ؟

كُلُّ مَا حَوْلِي

مِنَ الْمَغُولِ الْقَاسِي

٥

عَبَثُوا بِالحُلْمِ،

أَشْبَعُوهُ طَعْنًا وَرَكْلًا.

صَارَ كَابُوسًا،

صَادَرُوا حَتَّى الْمَنْدَرِسَاتِ.

زَرَعُوا فِينَا بِالْعُقْمِ: العَاهَاتِ

٦

هَاجَرْتُ لِلْخَيَالِ،

دَاهَمُونِي فَاعْتَقَلُوا مِنْ أَفْكَارِي البَنَاتِ.

اِفْتَضُّوهُنَّ عَلَانِيَةً،

نَقَّبُوا فِي الْقُبُورِ عَمَّا نَسُوهُ.

مَقَامُ مَرْدُوخَ، مَنَامُ الإِبْرَامِزِ،

أُورُ وَكْرُ الطُّيُورِ تَقْذِفُ النَّارَ،

ثِيرَانُ نَيْنَوَى جَعَلُوهَا مَهِيضَةً

٧

فِي كُلِّ بَابٍ وَشُبَّاكٍ: الذِّئْبُ،

وَيُوسُفُ فِي الْجُبِّ يَنْتَظِرُ بُشْرَى

٨

هَنْدَسْنَاهَا: مُرَبَّعَاتٌ، مُثَلَّثَاتٌ، دَوَائِرُ،

الْمُدُنُ وَالْقُرَى وَالْقَصَبَاتُ، التُّرَعُ وَالْأَنْهَارُ

٩

الطَّفُّ عَادَ،

الحُسَيْنُ مَا مَاتَ.

السَّيْفُ مَاتَ،

الْيَوْمَ عَادَ الْفِينِيقُ،

مَغُولِيًّا يَمْتَطِي الْهَمَرَ الْمُتْعَبَا

١٠

تَشْتَاقِينَ، تَعَالَيْ نَشْكُو بَعْضَنَا.

مَفَاتِيحُكِ لَدَيَّ،

اُطْرُقِي شَرْيَانِي.

مَا دُمْتِ تَسْكُنِينِي، تَسْكُنِينِي

١١

يُؤْلِمُنِي أَمْلِي لِنَفْسِي،

وَأَنَا أُمْلِي أَلَمِي.

الدَّمُ الْمَطْلُولُ دَمِي،

أَهْطَأُ مَقْطُوعَ النَّفَسِ.

الطَّفُّ يَسْكُنُنِي: أَطْيَافًا وَظِلًّا.

هُنَا كَفٌّ، هُنَاكَ رَأْسٌ،

هُنَاكَ عَارٌ،

بِلَا رَأْسٍ وَلَا كَفٍّ يَقُومُ قَائِمًا

١٢

السَّمَاءُ تُطْفِئُ الرَّمَادَ،

وَتُمْطِرُ دَمًا يَانِعًا

١٣

اِكْشِفُوا الْقُبُورَ!

كُلٌّ مِنْ وَرَاءِ الثَّرَى

بِلَا كَفٍّ، وَلَا رَأْسٍ،

وَلَا كَفَنٍ مُبَهَّمًا.

اِنْفَرَطْنَا رُمَّانَةً

بَعْدَمَا كُنَّا وَطَنًا.

التُّخُومُ مَعَابِرُ الْغِرْبَانِ الرَّوَّاغِي،

وَالنَّهْرُ شَارِبُهُ رَدْمُهُ بِالْأَجْسَادِ

١٤

تَدَلَّى مِنَ السَّمَاءِ الشَّيْطَانُ،

وَمَعَهُ جُنْدُ وَهْمٍ؛

أَنْزَلُوا فِينَا النَّوَائِبَ،

أَضْرَمُوا بِالنَّخْلِ النَّارَ لِتَنْحَنِيَ.

وَالْوَرْدُ يُرَحِّلُ أَحْلَامَهُ النَّضِيرَا.

لَا جَنَاحَ فَرَاشَةٍ يَحْمِلُ الْكُحْلَ،

وَالْعَنَادِلُ بِدُونِ الْحَنَاجِرِ تُؤَنِّبُ،

وَالْحَمَّامُ أَبْقَى أَطْوَاقَهُ وَطَارَ

مِنَ الْمَرَاقِدِ يَبْحَثُ عَنْ عُشٍّ أَبْيَضَا

١٥

قَوَارِيرُ الْعُطُورِ عُبِّئَتْ كَافُورًا،

الْكَنَائِسُ خَالِيَةٌ، أَجْرَاسُهَا تُبَاعُ خُرْدَةً.

خِيَامٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ،

وَالسُّؤَالُ مِهْنَةُ مَنْ صَبَرَا

١٦

إِسْخِيلُوسُ يَكْتُبُ مَلْحَمَةً جَدِيدَةً لِلرَّمَادِ

١٥

يَرْتَدِي الْعُرْسَانُ الْأَكْفَانَ،

وَإِسْرَافِيلُ عَلَى السُّورِ

يُنَفِّخُ فِي الصُّورِ الْمُعَلَّقَةِ.

الطُّرُقُ مُزَوَّرَةٌ،

تَحْتَ أَقْدَامِنَا

عُبُوَّاتُ الْمَوْتِ تَنْتَظِرُ لَمْسَةَ أَحَدِنَا

١٨

أَتَسْأَلِينَنِي عَنِ الْحُبِّ؟

هُوَ هَجْرُ الْقُلُوبِ.

وَعَنِ الْهُوِيَّةِ؟

هِيَ ضَالَّةُ الدَّرْبِ الطَّوِيلِ.

وَعَنِ الْعُرُوبَةِ؟

التُّهْمَةُ الْمَكْبُوتَةُ فِي الظُّلُمَاتِ

١٩

الْقُلُوبُ سَرَادِيبُ أَهْرَامَاتٍ،

نَدْفِنُ فِيهَا أَمَالًا صَغِيرَةً،

جُلُّهَا مُحَنَّطًا رَقِيقًا

٢٠

اِمْتَشَقَ الشَّهِيقُ،

وَأَنَا أَخْنَقُ بِالْعِبْرَةِ.

كُلَّ لَحْظَةٍ قَتِيلٌ،

دِمَاءُ الطِّفْلِ: إِلَى مَتَى تَسِيلُ؟

نَتَنَفَّسُ مِرْآةً مِنْ كُتَلِ الْكُونْكْرِيتِ الْكَئِيبِ

٢١

غَدًا! لِأُتَسَلَّى بِهِ عَنِ الْغَدِ الْمَفْقُودِ.

الْغَدُ غَيْبٌ، لَكِنَّهُ يُلَوِّحُ رَمَادِيًّا قَاتِمًا

٢٢

اِشْفَعُوا يَا أَصْحَابَ الْقِبَابِ الْبَيْضِ!

فِي كُلِّ رُكْنٍ شَظِيَّةُ أَمَلٍ صَغِيرٍ.

اِنْثَالَتْ أَمَانِينَا هَبَاءً،

وَانْزَاحَ عَنِ الْبَالِ جَوَابٌ،

وَبَقِيَ السُّؤَالُ مُعَلَّقًا

***

د. سعد محمد مهدي غلام

خمس سنوات مضن، صار للصمت في بيت الشقيقة محاسن كرسي بعجلات، تجلس عليه، وتتحرك بأي اتجاه تريده، نصفها يذكّرنا بما كان، ونصفها الأخر مشلول إثر جلطة دماغية أصابتها، صارت محاسن كائناً نصف حي، عيناها نافذتان إلى ما وراء الكلام، تلاحقان كل حركة في البيت، تبحثان عن غياب تفتقدهم منذ سنوات.

لم تعد محاسن كما كانت، نصفها صامت، ونصفها الآخر يحاول أن يحمل روحه فوق كرسي متحرك، ومع كل يوم يمضي، كانت تفقد شيئاً من جسدها، لكنها لم تفقد يقظة القلب.

كان علاء الأقرب إليها، لا ينقطع عن زيارتها، يجيء كل نهار جمعة يجلس عند قدميها، يضحك، يمسح بيده على رأسها. ثم فجأة ...غاب، لم يطرق بابها منذ أشهر، وحين كانت تسأل عنه بإشارتها، ووويييينه ؟ نجيبها:

ـ سافر إلى الهند للعلاج.

فتسكت، لكن عينيها تشي بأمر آخر غير مصدّقة!2110 JAMAL

تجلس عند النافذة، تسند رأسها إلى الجدار البارد، فيما يدها وسيلتها الوحيدة بالسؤال تتحرك يميناً وشمالاً، ولسان متعثر كأنها تريد أن تتعلم النطق أول مرة. تحاول أن تقبض على الكلمات بلا جدوى، تمضي أيامها أسيرة لذاكرة انقطعت، لم تعد تفهم لماذا اختها عدوية تلبس السواد؟ كذلك اختها الأخرى هناء، وابنتها ابتسام، لماذا يحيط بها الحزن؟ تلتفت إلى الأبناء والأحفاد البنات وقد غرقن في ثياب سود أكبر من أعمارهن. تريد أن تصرخ، غير أن نصفها الميت يخونها، لا يخرج من فمها، سوى أنين ودموع، تتكدس الأسئلة في صدرها، لا تجد سوى صمت يضاعف حيرتها.

حين خانها الكلام، ابتكرت طريقتها الخاصة في السؤال، لم تعد تطيق أكاذيبنا. في لحظة عجز وارتباك، اهتدت محاسن إلى حيلتها الطفولية، أخذت قصاصات ورق، رفعت يدها الوحيدة المرتجفة نحو ابنتها، أشارت إليها أن تكتب، فهمت ابتسام على الفور، كما تمليها عينا الأم: جمال، عدوية، هناء، علاء، أديب، صفاء، فلاح، هاشم، إسماعيل، كما لو بدت الأوراق كأنها سجل حضور لعائلة تستحضر وجودها يومياً.

وضعت محاسن الأوراق في كيس يشبه أكياس اليانصيب، علقته على مسند كرسيها، كلما غلبتها الحيرة، وألح عليها السؤال، مدّت يدها، كأنها تستبقي الحياة بين أصابعها، لم تكن الأوراق مجرد أسماء، بل حبل نجاة يحميها من النسيان.

صار للكيس طقس يومي، كلما نتعاقب عليها بالزيارة. تمدّ يدها المرتجفة فتسحب ورقة واحدة، تفتحها ببطء، تؤشر بعينيها على الاسم، وتهمس:

ـ وووينننه هههههذا؟ تقصد علاء.

يصمت الجميع.

ثم تسحب ورقة ثانية باسم صهرها هاشم، وورقة ثالثة باسم صهرها الثاني إسماعيل. تأتيها الأجوبة وتهزّ رأسها غير مصدقة، فتشيح بعينين مشبعتين بالأسئلة من دون جدوى.

نحن أخوتها وأخواتها صرنا أسماءً مطوية بقصاصات في كيس محاسن، انكمشنا جميعاً داخل الكيس المعلق على مسند كرسيها، تتحسسنا بيد وحيدة بما يخدم وهمها بأن الغائبين مازالوا موجودين، لتشعر بالأمان أن أصحابها عند كيسها أحياء يرزقون.

***

د. جمال العتابي

عن الأرواح التي تلتقي كل مساء لتشرب قهوتها دون أن تتذكر من تكون

***

أنا لا أذهبُ إلى المقهى لأشربَ القهوة،

بل لأنتظرَ وجهي يعودُ من الغياب.

في مقهى النسيان رقمَ ثلاثةَ عشر،

تجلسُ الأرواحُ حولَ الموائدِ مثلَ جملٍ ناقصةٍ،

تبحثُ عن فعلٍ مفقودٍ،

عن معنى مؤجَّلٍ منذ آخرِ حياة.

*

الوجوهُ هناكَ بلا ملامح،

كأنَّ الذاكرةَ قد أُفرغتْ في فنجانٍ مائلٍ،

والملاعقُ تدورُ على مهلٍ

تريد إلتقاط الزمنَ الهارب...

*

في كلِّ مساءٍ،

يدور النادلُ مثلَ ملاكٍ ضجرٍ،

يوزّعُ فناجينَ الدهشة،

ويكتبُ على الحائطِ بالطباشير،

“من تذكّرَ نفسه، يُطرَدُ فورًا.”

*

نجلسُ طويلاً،

نبتسمُ بلا سبب،

نستمعُ إلى أغنيةٍ لا تتكرّرُ

لأنّ أحدًا لا يتذكّرُها بعد انتهائها.

*

إحداهنّ تضحكُ كما لو أنّها عرفتْ حبيبًا في حياةٍ سابقة،

ثمّ تسألُ: “هل قلتُ هذا من قبل؟”

ولا أحدَ يجيب.

*

تغفو الكلماتُ في أعيننا،

تتسلّلُ الأرواحُ إلى ما قبلَ الذاكرة،

نحنُ الظلال الذين نُعيدُ تمثيلَ أخطائنا القديمة

على مسرحٍ مهجور.

*

عندَ الإغلاق،

تطفأُ الأنوارُ ببطءٍ،

وتنسحبُ الأرواحُ إلى الغيبوبةِ الأولى،

كلٌّ يحملُ فنجانَه الفارغَ

كشاهدٍ على عدمِه.

*

وفي الصباح،

حين يفتحون المقهى من جديد،

تجدُ الطاولاتِ رطبةً

برائحةٍ تشبهُ الندم،

وكُرسيًّا مقلوبًا

تعثر به احد ما … حاول الهرب ...

***

مجيدة محمدي

 

حسناً أيتها الأبواب السمكية الصلدة

يدي اختبرت صلابتك

وقسوة فولاذك المعتدّ

يدي الدافئة بنقراتها المؤنسة

خمسة أصابع أيقظت سوناتا المساء

إيقاع مزهر رقص فوق صمتك المعدني

لي الحلم المسافر بجميع احتمالاته وإخفاقاته

ولك أناقتك الراسخة

***

فارس مطر

في نصوص اليوم