نصوص أدبية

نصوص أدبية

كانت خطواتها مترددةً وهي تغادر عتبة البيت، البيت الذي بالكاد يستقر فوق أعمدة أمل هشّة. عيناها تحملان ثقل الأيام الماضية، تلك التي قضتها في البحث عن عمل يعينها على مواجهة الحياة بعد أن تركت الجامعة مؤقتًا، تحت وطأة الحاجة الملحة والعوز الذي ألقى بظلاله على حياتها الجديدة كزوجة لرجل يكاد راتبه الشحيح كمعلم أن يغطي إيجار البيت.
كانت تلك الليلة مختلفة، فقد عاد زوجها إلى البيت وملامحه تشع ببصيص أملٍ نادر، أملٍ بدا وكأنه انبثق من بين أنقاض الأوجاع المتراكمة، يحمل في يده توصية من وسيطٍ ذي حظوة عند أحد مديري مؤسسة حكومية. كان الأمل يتسلل إلى روحها كنسيمٍ دافئ في ليلٍ شتويٍّ قارس، يهمس في أعماقها بأغنيات خافتة مفعمة بالرجاء، واعدًا إياها بفرصة عمل تضيء عتمة العوز الذي خنق أيامها وأثقل كاهلها.
لطالما عانت من ثقل الحاجة الذي يغتال أحلامها ويطعن طموحاتها. كم مرة نظرت إلى مدرجات الجامعة من بعيد، كمن ينظر إلى نجمةٍ تتألق في سماءٍ بعيدةٍ يستحيل بلوغها! تلك الجامعة التي غادرتها مكرهةً، وهي تجر خلفها خيبة ثقيلةً تتناثر منها أحلامها المتكسرة، وجعٌ صار يغفو ويستيقظ معها كل يوم.
لكن هذه الليلة، شيء ما كان مختلفًا، شيء ما كان يشبه نبض الحياة يعود إلى صدرها بعد طول احتضار. فرصة العمل تلك لم تكن مجرد سبيلٍ للخلاص من الضيق المادي فحسب، بل كانت جسرًا يوصلها إلى حلمها القديم الذي كاد يندثر في دهاليز الواقع الموحش. كانت تتخيل نفسها وهي تعمل بنشاطٍ لا يلين، تجمع بين لقمة العيش ومنهل العلم، تواصل الليل بالنهار، لتعود إلى مقاعد الدراسة مساءً بقلبٍ مفعمٍ بالعزم والأمل.
كانت تعرف أن الطريق لن يكون سهلًا، وأن الدرب محفوفٌ بالعثرات، لكن شعلة الطموح التي توهجت في روحها تلك الليلة كانت أقوى من كل انكسار. امسكت بالتوصية بحرص شديد وكأنها تتشبث بفرصتها، كغريقٍ يتشبث بخشبةٍ وسط بحرٍ هائج، لقد قررت أن تمضي بإصرارها الذي لا ينكسر، وعزيمتها التي لا تعرف اليأس.
في صباحٍ تطرّزت أهدابه بنسيم باردٍ لا يزال يحمل بقايا الليل، نهضت من فراشها مبكرة، كعادتها حينما يرتبط يومها بموعدٍ مصيري. كان الالتزام بالنسبة لها طقسًا مقدسًا، حتميةً لا تهاون فيها منذ نعومة أظافرها، فاستعدت بكل دقةٍ وحساب. راودها هاجس التأخير وهي تحصي في ذهنها احتمالات الزحام والمواصلات، وربما طارئٍ غير محسوب قد يعترض طريقها، لكنها دفعت بتلك المخاوف إلى ركنٍ من عقلها دون اهمالها، وراحت تُعِدُّ نفسها بخطواتٍ مدروسة.
وقفت أمام مرآتها تتفحص ملامحها بعينين تشعّان بحزمٍ لا يخلو من قلقٍ مستتر. اختارت ثوبها بعناية بالغة، ثوبٌ يليق بأجواء العمل الرسمية، يُضفي على حضورها مسحة الوقار والرصانة التي دأبت على إظهارها، مؤمنة بأن المظهر هو البوابة المثلى التي يعبر منها الانطباع الاول، وحينها يجب أن تكون تلك البوابة متينةً لا يعصف بها تردد.
جمعت خيوط الثقة التي تناثرت في قلبها كزجاجٍ مهشّم، وحاولت أن تلملم بقايا شجاعتها المتبعثرة كنجومٍ شاردةٍ في ليلٍ دامس. ثم سارت بخطواتٍ مشدودة نحو ذلك اللقاء الذي علقت عليه أحلامها بأملٍ يأبى الانكسار.
عند وصولها إلى المؤسسة، اعترضها مشهد جموع المراجعين المتكدسين عند الأبواب، وجوههم مرهقة بنظرات الانتظار واليأس، كأنهم أرواحٌ تتأرجح بين الرجاء والخسارة. تغلغلت بينهم بخفة، تحمل بين أصابعها ورقة التوصية كأنها جواز عبورٍ إلى عالم آخر.
تقدمت نحو الحارس الأمني، ألقى نظرة متفحصة على الورقة التي ناولته إياها، ثم غاب لدقائق في أعماق المبنى، بينما بقيت هي في مواجهةٍ صامتة مع تلك الجموع التي تراقبها بأعينٍ يملؤها التساؤل والريبة.
عاد الحارس، يحمل إذنًا بالدخول، كمن يحمل شعلة أملٍ واهنة تتراقص في عتمة الانتظار. تطلعت إليه بعينين تختلجان بالامتنان والرهبة، كأنما تتأرجح بين خوف يطبق على صدرها ورجاء يحاول أن يتنفس. أخذت نفسًا عميقًا وهي تعبر العتبة، وكأنها تخطو من عالمٍ ضبابيٍّ مثقلٍ بالأمل الخافت إلى عالم آخر تقف فيه الأحلام على حافة المصير، تنتظر قرارًا واحدًا قد يعيد تشكيل حياتها.
في قاعة الانتظار، كانت الأنفاس مختنقة تحت وطأة الزحام، حيث الوجوه المتعبة تمتزج بتعب الهواء الثقيل. رجال ونساء يلتفون حول الأمل في انجاز معاملاتهم، بعضهم يتكئ على الجدران، وآخرون يجلسون على البلاط القاسي، مهفهفين بما في أيديهم من اوراق في محاولة لاصطياد نسمة هواء عابرة تبث في أجسادهم بعض الانتعاش لمواصلة رحلة الانتظار الطويلة. من وسط هذا المشهد البائس، طلب منها الحارس أن تنتظر، وأقنع شابًا متعبًا أن يتنازل عن مقعده لها.
جلست على المقعد بخجل يتآكلها، تتأمل الوجوه الشاحبة والعيون المتعبة، وتستمع الى الهمسات المشوبة بالتذمر والأمل. كانت تتساءل بصمتٍ ممزوجٍ بعزيمة خفية: هل سيأتي اليوم الذي يُكتب لها فيه أن تكون يدًا لإعانة هذه الأرواح المرهقة؟ هل ستُتاح لها الفرصة لتخفيف معاناتهم، لتلبي حاجاتهم التي أنهكها الإهمال؟ كان حلمها أعظم من مجرد وظيفة؛ كان رغبةً جامحةً في أن تكون نافذة نورٍ لهؤلاء الذين أثقلهم الانتظار.
عيناها تتنقلان بين الأبواب المغلقة، تلك الأبواب التي تحيط بالقاعة كأنها أسوار تحجب الأمل أو ربما تختزنه. حتى وقعت عيناها على لوحة نحاسية كُتب عليها "غرفة المدير". شعرت بأنفاسها تتسارع وكأنها تستجمع ما تبقى من شجاعة.
كانت هذه أول تجربة لها لتقديم طلب عمل، أول معركة تخوضها في سبيل تحقيق أحلامها. عدّلت من جلستها، وراحت تفكر بتأنٍّ في الطريقة التي ستقدم بها نفسها للمدير، تنتقي الكلمات بعناية، وترتب الجمل بمهارة لتكون واضحة ومختصرة وعميقة. كانت تملك شيئًا أعظم من مجرد التفاؤل؛ كانت تملك إيمانًا بنفسها ورغبةً حقيقية في صنع الفارق.
وبينما كانت الأفكار تتشكل في عقلها كخيوط حريرٍ تنسجها يد ماهرة، لمعت في عينيها نظرة تحدٍ ناعمة. كعادتها، واجهت الموقف بإيجابية وثقة، وكأنها تحاول إقناع ذاتها بأن هذا اللقاء لن يكون سوى بداية الطريق الذي لطالما حلمت بالسير فيه.
استمر الانتظار ينسج حولها خيوط القلق والتوتر، وكأن كل دقيقة تمضي تخنق أنفاسها أكثر. ساعة كاملة مرت وهي تغالب ارتعاش أصابعها وتراقب عقارب الوقت المتثاقلة. وعندما أذن لها بالدخول أخيرًا، شعرت وكأن الأرض تهتز تحت خطواتها المترددة.
تقدمت نحو المكتب بخطوات أقرب للوجل منها إلى الثقة، ونبضات قلبها تتسارع كأنها طيورًا مذعورة تبحث عن ملاذ. كان المكتب ميدانًا للفوضى المنظمة، والأوراق مبعثرة كأنها بقايا أحلام مؤجلة. المدير، الذي بدا منشغلاً بعجالة كمن يطارد الوقت، كان يرتب تلك الأوراق بنفاد صبر ظاهر قبل أن يضعها في ملف ثقيل دُفع إلى يد أحد الموظفين. تبادل معه كلمات مقتضبة، ثم أشار عليه بمرافقة أحد المراجعين المنتظرين خلف الباب.
رفع عينيه نحوها ببطء متعمد، وكانت نظراته تزنها كما لو كانت شيئًا لا شخصًا؛ نظرة تفتقر إلى الدفء، تخلو من أدنى بادرة اهتمام أو تعاطف. كان رجلًا في متوسط العمر، تتجلى على ملامحه صرامة جافة، كوجه جبل لا يلين، وعيناه تنبضان ببرود أشبه بصقيع يزلزل اليقين.
لم يطل الموقف كثيرًا؛ إذ نهض من خلف مكتبه بنبرة ملل خفي، ثم أشار إلى أحد مساعديه ليحتل مكانه مؤقتًا، وكأن وجوده هنا لا يعني له أكثر من إجراء عابر يجب التخلص منه. التفت نحو الحارس ليسأله بلهجة مقتضبة عما إذا كانت السيارة بانتظاره، وعندما جاءه الرد بالإيجاب، أومأ بيده نحوها بإشارة خالية من أي شعور بالترحيب الرسمي، وقال بصوت جاف لا يحمل أدنى اكتراث: "اتبعيني".
كانت تلك الكلمة، على بساطتها، تطرق على مسامعها كضربة قضيب على معدن بارد. وفي أعماقها كانت تشتعل آلاف الأسئلة، يقودها الأمل رغم كل هذا الجفاء، نحو مصير لم يعد بإمكانها التراجع عنه.
ترددت قليلاً قبل أن تخطو خلفه، كمن يخطو إلى عالم مجهول تتلاعب به الظلال وتخنقه الريبة. حاولت أن تُثبت لنفسها، قبل أن تُثبت له، أنها لا تزال ممسكة بخيوط الموقف، فسألت بصوت يتراوح بين الثقة والتوجس: "أليست هذه هي المؤسسة التي يُفترض أن أقدم فيها طلب العمل؟".
جاءها صوته بارداً جافاً، كريح عابرة بلا دفء: "الحديث عن العمل سيتم في مكان آخر".
ترددت أصداء عبارته في ذهنها كصدى في وادٍ موحش، تائهة بين التفسير والتخمين. مكان آخر؟ تساءلت وهي تحاول فك طلاسم هذا اللغز الغامض. أقنعت نفسها بأنه ربما اختبار غير معلن، وأن لجنة ما تترقبها لتقيِّم حضورها وأهليتها قبل أن يحسم أمرها. لم تشأ أن تفسر الأمر بسلبية؛ فما زال سلوكه يخلو من تصرف يوحي بأي نية مشبوهة.
ركبت السيارة، وقلبها المثقل بالقلق ينبض كطائر أسير بين قضبان صدرها. وفي محاولة بائسة لكسر صمت الطريق الثقيل، تحدثت عن كفاءتها بإصرارٍ كمن يتمسك بآخر حبال الأمل، شكرت الرجل على الفرصة النادرة، وأكدت له أنها ستكون عند حسن ظنه. لكن ملامحه ظلت ساكنة، متجمدة في تعابير مغلقة، وعيناه تخفيان شيئًا لم تستطع قراءته.
كانت سرعة السيارة تزداد كأنها تهرب من شيء ما، أو كأنها تركض نحو مصير مجهول. تطلعت عبر النافذة، فإذا بالمباني تذوب في مرآة الماضي، والطرق تمتد بها نحو العزلة، بعيدًا عن ضجيج العاصمة وحضارتها، نحو فراغ يمتزج فيه الصمت بالقلق.
سألته، وقد بدأ صوتها يرتعش من خوف يكاد يلتهمها: "إلى أين نحن ذاهبون؟ أرجوك... أجبني." غير أن صمته كان حائطًا صلدًا لا يُخترق، وكأنها تتحدث إلى فراغ قاتم يرفض حتى أن يمنحها صداه.
مضت السيارة تخترق الطرق الريفية الموحشة، حتى وقعت عيناها على لوحة تشير إلى منتجع سياحي. حينها، تصاعدت في أعماقها نيران الذعر، وامتلأ صدرها بهلع يهدد بانفجار وشيك. راحت تبحث بعينيها المرتجفتين عن أي وجه بشري تطمئن إليه، لكن الطريق كان خاليًا من النجاة.
استجمعت آخر ما تبقى لها من شجاعة، ويدها المرتعشة تقبض على مقبض الباب كمن يتشبث بالحياة نفسها. حاولت فتحه، لكن الخوف كان أسرع من الحركة، والخطر كان أقرب من النجاة.
توقف فجأة على جانب الطريق، وعيناه تنطقان بالغضب والضجر. انقضّت كلماته عليها كالسياط، وهو يلعن الوسيط الذي اوصله إلى هذا الموقف المقيت، ثم أمرها بحدة متعجرفة بالنزول.
ترجلت من السيارة وهي تترنح تحت وطأة الصدمة، وكأنها تتعلم من جديد كيف تحمل جسدها المثقل بخيبة الأمل. لم تكن تعرف ما الذي كان ينتظرها هناك، لكن ما أدركته بوضوح أن براءتها كانت على وشك أن تُدنس بثقة عمياء منحتها لمن لا يعرفون للشرف معنى، ولمن يتخذون من حسن النية جسورًا إلى أطماعهم الدنيئة.
عادت أدراجها مثقلة بالانكسار، لكنها أقوى. أدركت أن الأحلام لا تعترف بالضعف، وأن الطريق إليها محفوفٌ بالأنياب التي يجب أن تتعلم كيف تقاومها. لم تكن الخسارة في الوظيفة، بل كانت في الرهان على وهم الثقة. لقد تعلمت درسًا قاسيًا، لكنها عرفت أن القوة وحدها هي السبيل إلى النجاة، وأن الطريق لا يُعبد بالنوايا الحسنة فقط، بل أيضًا بالحذر والذكاء.
***
سعاد الراعي

 

اعتراف

لا تقل لا ولو لنفسك

لا تقل لا ولو لظلك

كن مطيعا ليرضى عنك ظلك

لا تقل لا ولو لمرآتك

في غرفة مغلقة

حتى لا تصيرك المرآة عند الغياب

وحيدا غريبا تعيسا

كفزاعة طير في صحراء مقفرة

فنيق

من جراحك انهض مرة أخرى

وكن نفسك لا غيرك

كن شموخك ونخيلك ورؤاك

فالجراح إن لم تقتلك

وتشق ظهرك نصفين

تصيرك أسطورة وفنيقا للذكرى

سيرتك الأولى

كن أنت يا أيها العربي لا غيرك

كن موقفا لا مريدا

ولا تقف على ناصية الحياد

ما بين الشرق والغرب

فالحياد موقف آيديولوجي بليد

كن حرفك وحربك وسيفك

وخيلك وخيالك ومخيالك

فالمرء في الشدائد

تذكره سيرته الأولى

وتمضي خلفه كالنوارس

معاركه ومواقفه الأولى

وتمجده لاءاته وثورته الأولى

وتحن إليه الوغى والسيوف

حنين عمورية للمعتصم

والخيل المسومة

***

عبد الرزاق اسطيطو

شعرت بالزمن يلفني ويعيدني الى سنوات خلت، لما ولجت شارعا يمضي بي الى دروب صغيرة مليئة بأصحاب المحلات التجارية ودكاكين بائعي الذهب ومكتبات تعد على الأصابع. أشهرها كانت مكتبة "عمي قاسم". مكتبة ظاهرها صغير لكن عمقها ككهف من كهوف الأزمنة الغابرة. تطل عليك الكتب من الداخل بكل أحجامها وألوانها ومواضيعها. كان "عمي قاسم" موسوعة، لا يستعمل القلم للتذكر، كانت ذاكرته قوية. ما ان تسأله عن أي كتاب، حتى يجيبك بالإيجاب. نادرا ما يقول لك والحسرة تعصر ملامحه "آسف، لا يوجد." لفني الزمن، وأعاد شريط الماضي أمامي. رأيتني واقفة أمام مكتبة "عمي قاسم"، أنتظر دوري، حيث كانت المكتبة تعرف ازدحاما غير طبيعي. سألته عن رواية "لقيطة" للأديب محمد عبد الحليم عبد الله. اختفى بين كتبه وكان يتحرك ببطء شديد بسبب إعاقة في رجله. يتحرك ويتكئ أحيانا على عكازه وأحيانا أخرى على كتبه. عاد "عمي قاسم" وهو يحمل الرواية مع ابتسامة انتصار عريضة. أخذتها وحضنتها بين يدي كأنني أخاف أن يراها أحد. مشيت كثيرا لكي أصل الى البيت. التفت ساعتها حولي، كانت مكتبة "عمي قاسم "مغلقة. بدون ألوانها الزاهية التي كانت تتراقص أمام عينيك على بعد أمتار. دليل على انها مغلقة منذ زمن. حلت محلها صناديق خضر وفواكه، كان صاحبها يصرخ بأعلى صوته عن الثمن حتى يجلب المارة. بالأمس، كانت مكتبة "عمي قاسم" سيدة المكان، كل المواعيد عند "مكتبة عمي قاسم". لكن لمحتني أمشي بخطى سريعة لكي أصل الى البيت وأبدا في قراءتها. اقتربت من بيتنا المتواجد على بعد 3كيلومترات من وسط المدينة. أخذت الرواية ووضعتها تحت ثيابي حتى لا يلمحها أحد، وخصوصا أخي الذي كان يرفض أن أقرأ أي كتب غير الكتب المدرسة. لأنه كان يعتقد ان الكتب تفسد سلوك الفتاة. دخلت خلسة الى البيت، وجدت أمي تسألني عن سبب تأخري، أجبتها بأنني كنت أبحث عن كتاب للمدرسة. "أمي"، رغم أنها لم تلج المدرسة يوما، الا أنها كانت دائما تحفزني على الدراسة. ولجت غرفتي وفتحت أول صفحة من الرواية. وبدأت أقرأ.
ابتعدت عن مكتبة "عمي قاسم" وكلي حسرة على تلك المرحلة حيث كانت المكتبة من أشهر المكتبات بالمنطقة. استوطن المكان ضجيج وفوضى غير طبيعين. اصطف أصحاب بيع الهواتف ولوازمها بشكل قوي كالنباتات الطفلية. انتشرت كالأشواك الضارة وشوهت ملامح المكان. اختفت مكتبة "عمي قاسم".
سافرت مع الرواية التي أخذتني الى عوالم أخرى أكتشفها للمرة الأولى. أعجبتني فكرة شراء أي كتاب واضعه بين ثيابي حتى أصل الى البيت. ثم أهيم بين عوالمه بكل حرية. المرة الثانية التي ذهبت فيها عند "عمي قاسم"، طلبت منه رواية الكاتبة عائشة عبد الرحمان التي كانت توقع أعمالها ببنت الشاطئ. في البداية، كنت أعتقد أنه اسمها، لكن لما علمت بحقيقة اسمها وسبب اخفاءها له. وجدتني أعيش نفس تجربتها لكن بشكل آخر. الكاتبة اخفت اسمها وأنا اخفيت الرواية. وشعرت ساعتها بضعفي وخوفي وبأنني محاصرة فقط لكوني امرأة. لم أفهم ساعتها قسوة هذه العادات والتقاليد التي تكبل انطلاق المرأة وتحاول أن تجعلها سجينة مدى الحياة. كأنها لا تفكر ولا تستطيع أن تسير حياتها بنفسها. قررت ساعتها ألا أخفي كتبي التي أشتريها. لأنني أدركت بأنني ما أقوم به ليس عيبا أو حراما. توالت زيارتي لمكتبة "عمي قاسم" بشكل شهري، حتى أنه كلما رآني، كان يبتسم بشكل هادئ ويقترب مني ببطء كعادته، ويقول لي "ما هو كتابك لهذا الشهر؟" تغيرت رؤيتي للأشياء خصوصا لوضعية المرأة، فقررت قراءة كتب دة. نوال السعداوي، فأنارت لي طريقي وجعلتني أكتشف ذاتي وأعرف بأنني انسان له عقل وروح وجسد. في يوم، وأنا أقرأ أحد كتبها، شعرت بظل خلفي ونفس تطلع وتهبط بسرعة، كمن جرى أميالا. التفت، وجدت أخي. والغضب يتطاير من عينيه. وجلت واحتضنت كتابي بين يدي، كأنني أخاف عليه منه. ارتعشت مفاصلي رغم محاولتي أن أظهر بشكل طبيعي. قال لي بحدة:
- ماذا تقرأين؟
قلت له بصوت خافت:
- كتاب...
انقض على الكتاب ونزعه من يدي بكل قوة وبدأ يتصفحه وقال لي بغضب:
أعرف أنه كتاب. ثم أردف:
- ما هذا؟ من أعطاك هذا الكتاب؟ هذا تسيب.
واخذ الكتاب وطلب من أمي أن تحضر وهو يمسك بالكتاب كأنه يمسك بدليل جريمتي:
- انتبهي الى ابنتك. مثل هذه الكتب ستضيعها.
واختفى الكتاب، وانعقد لساني من هول مما عشته.
فقررت ساعتها أن أعود الى طريقتي القديمة، وهي انني لما أشتري كتابا يعجبني أخفيه بين ثيابي وأقرأه عندما أكون لوحدي، مثل "بنت الشاطئ" حتى تتغير الظروف وأستطيع أن أرفع صوتي.
***
أمينة شرادي

 

المَـجْــدُ، والعِــزُّ، والعَـلـياءُ، والــشِـيَــمُ

فـي جَـوْهرٍ، عجَـزَتْ عن وصفِه الكـَـلِمُ

*

لـمّـا الـعَـلِـيُّ قــضى، أنْ يُــولـدَ الأمَــلُ

فـي الكعــبةِ، ازدانَـتْ الأركانُ والحَـرَمُ

*

وشـاءَ أنْ يَصطفي للمُصطفى، عَـضُـداً

بــه المَـسِـيـرَةُ، نِــبْــراسٌ ومُــعـتَـصَمُ

*

لــلأفــقِ إشــراقــةٌ، فــي يـوم مـولِــدِه

ولِـلكـواكـبِ مِــــنْ عَـــليائــهِ، سَـــهَــمُ

*

إرادةُ الـلــهِ، أنْ يــخــتـارَ فــاطـــمــةً

لـِـمَـنْ، لـِـوالِـدهــا أزْرٌ، بـــه شَــمَـمُ

*

فَـحـاطَ بالـنـور نـورٌ، فــي اقـتـِرانِهـما

وبـارَكَ الـمُصطفـى، فانْهـالـت النِـعَــمُ

*

ولــلـكـرامـاتِ أحْــداثٌ، مُــؤرَّخَــــةٌ

ولـلمَـواقِــفِ رأيٌ، فـــيــه تـنـحَــسِــمُ:

*

لمّـا فـدَيْـتَ رســولَ الـلـه، مُــلـتَـحِــفــا

تصدّعَ الـقـومُ، حـــتى بــانَ مَــكـرُهُـمُ

*

والـشمـسُ مَـدّتْ سـناهــا فــي تـألُـقِـهـا

فانـسـابَ بـين يـديـهـا الحِـلـمُ والحِــكـَمُ

*

وَزانَـهــا، أنّ طـيْـفـاً مـِــن مَـحـاسِـنِـهـا

نــظِـيرُه فــيك، حـيـث الـنـورُ يـرتــسِـمُ

*

مَـن رامَ وَصْـلَ المَعالي، صِرتَ قدْوَتَه

والـشـأنُ تـُـعْـلِـيـه أســـبابٌ، لـــهـا قِــدَمُ

*

خُـلِقْـتَ أن لا تُـحابـي فــي الخَـفـاء يَـداً

لأن كــفَّــكَ فـــي وضح الـنـهــار، فَــمُ

*

لـلـتِّـبْـرِ أمْـنِــيــةٌ، فــــي أنْ تُــقَــلِــبَــه

يَــداك، حــيـث تَـباهـى الـسـيفُ والـقـلـمُ

*

والعَـبْـقــريـةُ، مُـذ فـعَّـلـتَـهــا سَــجَـدَتْ

لله، إذ أصـبحَـتْ لـلـعَــدلِ، تـحـتَـكِــمُ

*

أكــرَمْـتَ كــلَّ يـَـدٍ، الـعَـوْزُ ألجَـأهــا

حــتى وأنــت تُـصَلـي، نالـهـا الـكَــرَمُ

*

وفـي القضاء، انحَنى كلُّ القُضاةِ لـِـما

حَـكَـمْـتَ فــيه، فزالَ الـشـكُ والـوَهَــمُ

*

أنصفْـتَ حتى عَلا، في الأفق صوتُـهُـمُ:

(عَــدلُ عَــلـيٍّ) صِراط ٌ، فــيـه نـلـتَـزِمُ

*

حــتى السِــراجُ بـبـيـت الـمال صار لــه

حديثُ حــــقٍ، بـــه الأمـثـالُ تُـــخـتَــتَـمُ

*

والـمَعْـنَـويَّـةُ قـــد فَــعَّـلـتَ هــاجِسَـهــا

فـي نَـفْـسِ مَـن قـد غزاهُ الوَهْـنُ والهَـرَمُ:

*

فـكان عـدلك، فــي قــوْمِ الـمسـيـح لـــه

صدىً يُــعـززُ فـــي الأخــلاق نهْـجَهُـمُ

لــِذي الـفــقـار اقــتـِرانٌ فــيــك، أرَّخَــهُ

مـا كـلُّ سـَــيـفٍ، بــه الأعـداءُ تَـنهـَـزِمُ

*

ســـيـفٌ، إذا كـفُّـك الـمهــيـوبُ أمْـسَـكـهُ

قــبـل الـنِـزالِ، يَـحُـلُّ الـيـأسُ عــنـدهُـمُ

*

بـه، قطعتَ جــذورَ الشِـركِ، مُـرتَـجِـزاً

واسـتسـلمَ الخَـصمُ، لا ســيـفٌ ولا عَـلـمُ

*

خـُـطىً مَــشــيـتَ، بإيـمانٍ وتــضحـيــةٍ

فـانْهارَ مِــن وَقْـعِهـا الطاغـوتُ والصَّـنَـمُ

*

يامَـن أخَـفْـتَ الـعِــدا فـــي كـلِّ مَـلحَـمَـةٍ

إذ كـلـمـا قَــيـل: ذا الــكـرّارُ، هـالَـهُــمُ

إذا رجَــزْتَ، فـلِلأجـواءِ هــيْــبَــتُـهـــا

ولـِلحَـمـاســةِ، فــــي أصـدائهــا حِــمَـمُ

تَــزلزَلَ الخَـصمُ، فـــي (بَـدرٍ) وأرَّقَـهُـم

قـبـل الطِعـانِ فـتىً، فـانهـارَ عَــزمُــهُـمُ

*

طـيّـبتَ نَــفْــسَ رســول الله، حـيـن دعـا

في (خندق) الحَـسْـمِ، حيثُ الحربُ تَحتدِمُ

*

زَهْــوُ الـرؤوس تَـهـاوى بـَعـدَ مُـعـجِـزةٍ

بـ (بابِ خـيـبـرَ) أوْدَتْ، واخـتـفـتْ قـِـمَـمُ

*

دَيْـمـومَـةُ الـنصرِ، فــي قــوْلٍ يـُجَـسِّــدُهُ

فِـعـلٌ، وقـــد فُـقْـتَ في التجْـسيدِ خَطوَهُمُ

*

أعطيتَ دَرسـاً لِمَن ضَلَّ السَـبـيلَ، وعـنْ

مَـن اهـتدى، زالَ عـنه الـوَهْـمُ والـعَـتَـمُ

*

إذا تـصَعَّـرَ قــومٌ، فــي الــذي كــسـَـبـوا

ثـمّ اقـتـدوا بـك، زال الـزّهْـو والـزَّعَـمُ

*

تَـبـاشَــرَ الجُـنـدُ لمّـا الــنـصرُ حالـفَـهـم

وكَــبَّـروا: لا فــتـىً إلّاكَ، بَــيــنَـهـُــمُ

*

مـــا دارَ طـرْفُــكَ، إلّا الـحَـقُ هـاجِـسُـهُ

والحـقُ صِنْـوُكَ، مـوصولٌ بـــه الـرَحِـمُ

*

نـاداهُــمُ المصطفـى : انــتَ الولِـيُّ لـهـم

فـصَــوَّتَ الــقـومُ، بالإيــجـاب كُــلُـهُــمُ

*

إنّ الأنـاةَ ونــهْــجَ الحِـلـمِ، إنْ جُــمِـعَـتْ

كـما أشَــرْتَ لــها ...تـعـلو بـــها الهِـمَـمُ

*

والصَّـمْتُ إنْ لاءَمَ الأجْواءَ، يَسْـمو بهـا

والـهَـذْرُ آخِـــرُه ... الإحْــبـاطُ والــنَـدَمُ

*

كــلامُــك الــدُّرُ، والآفـــاقُ تَــشــهَــدُه

قــد حَـرّكَ الـوعـيَ (فـيـمَـن قـلبُه شـبِـمُ)

*

فـي سِـفْـرِ نَـهْـجِـك، للأجـيـال مَـدرسَـةٌ

تَـبْـني الـعُـقـولَ، وفيـهـا تـزدهي الـقِـيَـمُ

*

الخُــلــدُ لــلــعـلــم، والآدابُ تَــصــحَــبـُـه

(أيـن الأسِـــرَّةُ، والـتـيـجـانُ)، والــخَــدَمُ

*

عَـقـلٌ بــلا أدبٍ، مِـثـلُ الشــجـاع بــلا

ســيـفٍ، وقــولـك هــذا مــنه نَـغْــتَــنِـمُ

*

بــلاغـة الـقـول، للـفـرســان مـوهـبـة

والمقـتـدون بـهــم يـسـمـو ســلـوكُـهُــمُ

*

بَـلغْـتَ فــــي صِـلةِ الأرحـام مَـرْتَــبَــةً

مَـن ســارَ سَــيْـرَك، لـم تَـعْـثـرْ به قَـدَمُ

*

طـمْأنْــتَ أنْــفُـــسَ أيــتـامٍ، جَـعـلـتَـهُــُم

يَــرَونَ فــيـك أبـاً، يـَـجْـلـي هُـمُـومَـهـُمُ

*

أوْصيْـتَ: أنْ يَسْـتَـشيرَ المرءُ مَنْ وثقتْ

بــهِ العُـقـولُ، ومَـنْ بالـرأي يـُــحــتَـرَمُ

*

كـمـا اسـتَـشَـرْتَ عقيلاً، إذ أشــارَ الى:

(أم البنين).. بِــبَـيـت الطُـهْـرِ  تَــنْــتَـظِـمُ

*

فـكان مـنهــا ابـو الـفضل الــذي افتَخَـرَتْ

بــنَـهْــج سَـــيْـرِه، فـي تـاريـخـهــا الأمـمُ

*

أرسـى ابــو الحـسَـنيـن، الـعِـزَّ فـي عَـمَلٍ

بـــه الـكــرامــةُ غَــرْسٌ، لــيس يَــنـفـطِـــمُ

*

لاطـائـفـيّــةَ، لا تــفــريــقَ فــــي زمَـنٍ

قــد كـان رأيـُك، فـيــه الحَـسْـمُ والحَـكَـمُ

*

فـــي قـولِـك: الناسُ صِـنـفـان فـإمـا أخٌ

فـي الدِّينِ، أو فــي صفات الخَـلْقِ يَــتّـَسِمُ

*

لـمّا الخِـلافــةُ قــد حـيَّـتْـك قــلــتَ لـــهـم :

بــسـيرة المصطفى، الأجــواءُ تـنـسـجـمُ

*

ناديــتَ : إنّــي بــجُـلـبـابــي أتــيْــتُــكُــمُ

وفـــيـه أخـرُجُ، حيث الحــقُ والـنُـظُـمُ

*

اسْـتـهـدَفـوك بـبـيـت الــلـهِ، إذ غــدَروا

ما اسْـتمكـنوا منـك فـي حـربٍ، لها ضَرَمُ

*

إنّ الــــشــهـادةِ قد عَــززّتَ رُتْـــبَــتَــهـــا

إذ قلتَ : فُــزْتُ، وفــــيما قُــلـتَــه قَـسَـمُ

*

الحَــقُّ يَعْـلـو، فـطُـوبى لـلـذيـن سَــعَــوا

أنْ يَــقْــتَـدوا، لِــيَـزولَ الـظُـلْـمُ والـظـلَـَمُ

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

هَلِ اللغةُ وطنٌ؟

أَمْ بلادٌ مُسْتعارَة؟

*

هَلِ اللغةُ خطابٌ؟

أَمْ حجابٌ؟

تُخفي النساءُ وراءَهُ

صُرراً من الدمعِ الحبيسِ

وخزائنَ أَسرارِ

ودموعاً مُتحجّرةٌ

وكتباً عتيقةْ؟

*

هَلْ مازالتِ اللغةٌ أداةً؟

والكلامُ حَدَثاً

يا عزيزي " دو سوسير "؟

*

هلِ اللغةُ همهماتْ؟

أًصواتٌ وأَصداءٌ؟

أَمْ أَبجديةُ حياةْ؟

*

وهَلِ اللغةُ:

عِلْمٌ؟

فقهٌ؟

كلام ٌ؟

اشاراتٌ؟

زقزقاتٌ؟

خريرٌ؟

هديرٌ؟

عواءٌ؟

نُباحٌ؟

وعويلٌ وبكاءْ؟

*

هل اللغة سلطةٌ؟

أَمْ منظومةٌ شاسعةٌ

من الأَصواتِ والأَلسنة؟

*

محيطٌ ليسَ لهُ تخوم

بحرٌ بلا قرارٍ

مثل " عين الفراهيدي "

التي لا تنضبُ ولا تغمضُ

فهلْ انهُما

ـ أَقصدُ المُحيطَ والبحرَـ؟

هُما جوهرُ اللغةِ

وماءُ الشعرِ

وحقيقةُ " الحيا ـ موت" الخالدة؟

*

هلْ هيَ فضاءٌ؟

أَمْ ساحةٌ للصراعِ

بين الدلالاتِ والانزياحاتْ؟

أَعْني: اللغةَ بالتأكيد

*

لماذا لمْ تعدِ

" اللغةُ ليستْ بريئة "

يا عزيزي " رولان بارت "؟

*

هلْ أنّها محضُ

رموزٍ وقواميسْ؟

أمْ انَّ اللغةَ

أَجراسٌ ونواقيسْ؟

*

في أَيِّ خطابٍ؟

سَيقبضُ " عزرائيلُ " أَرواحَنا

المرعوبةَ من هولِ النهاية؟

*

هَلِ اللغةُ ....

كلامُ اللهِ؟

الذي علّمَ " آدمَ

الأَسماءَ كلَّها؟ "

وعلّمَ الناسَ والطيرَ

الريحَ والنهرَ والورد

والاشجارَ والحيوان

و" داوودَ " علَّمَهُ ...

ثُمَّ أصبحتِ اللغةُ:

أَسفاراً وكتباً وقراطيسْ

تملأُ الأَرضَ حكمةً

وقصصاً وطقوساً

وحُبّاً وأَحاسيسْ

فهلِ اللغةُ هيَ كلُّ هذا

والقادمُ غامضٌ ومجهولُ...؟

*

بأَيِّةِ لغةٍ؟

سيُكلّمنا اللهُ

في يومِ القيامة؟

***

سعد جاسم

كندا 10-3-2025

عينايَ مُتعبتانِ مُتعبتانِ

من هَولِ ما رأتا من الإنسانِ

*

حيثُ التفتُّ أرى الدماءَ كأنّما

حلَّتْ محلَّ الماءِ في الجريانِ

*

والكلُّ يذ // بحُ باسمِ شِرعتِه فه

ذا بالمسيحِ وذاكَ بالقرآنِ

*

إنَّ ابنَ آدمَ في توحُّشِ طبعِهِ

قد فاقَ كلَّ توحُّشِ الحَيَوانِ

***

حزينٌ أنتَ لا تدري لماذا

وغيرُكَ كانَ يلتذُّ التذاذا

*

دموعُكَ هاطلاتٌ كلَّ حينٍ

وغيرُكَ ما بكى إلا رذاذا

*

وهذا الحزنُ أحسَبُهُ يتيماً

بقلبِكَ مُرْهَفاً وجدَ المَلاذا

*

كأنَّ عليكَ ليلاً مُدْلَهِمَّاً

وشمسُكَ لم تجدْ بعدُ النفاذا

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

رحلتِ على أجنحةِ الصبرِ،

تسبحين بحمدِ اللهِ،

وتهللين كملكةِ السّماءِ.

*

ليلةٌ غادرتني فيها قوافل الكرى

أراقبُ فيها عروجَكِ صوبَ الفِراديسِ،

جسدٌ عمّدَتهُ الآلامُ،

يتهجّدُ عند الفجرِ والمساءِ،

يحكي عن سنينَ حاصرَها الجوعُ،

وأصنافِ القهرِ والبلاءِ.

*

أتعلّقُ بأذيالِكِ

كطفلٍ يخافُ اللّيلَ..

كم توسّلتِ إلى اللهِ بالأسحارِ،

وفي مجالسَ نسوةٍ تعجُّ بالنذورِ والبخورِ،

لا يملكنَ غيرَ الذِكْرِ ، و الدّعاءِ.

*

هيا أُقدِمُ حضناً عذّبه الانتظار..

ها أنذا،

أتشبّثُ بطيفِكِ،

حاملًا يتميَ على ظهري،

أرتمي عندَ ثراكِ،

هناكَ، عندَ ظهرِ الكوفةِ.

*

أمدُّ يدي نحوكِ،

أُريحُ رأسي على صدرِكِ،

أتوسّدُ قلادةَ يتمي

التي ماتتْ حولَ جيدِكِ..

كم لهَتْ سنونٌ بخرزاتِها،

لأرتضعَ لبنَ الولاءِ،

وكم توسّدَ وجهي خُصائلَ شعرِكِ

المخضّبِ بالأذكارِ والحِناءِ.

*

أُمّاهُ..

مَنْ لي بعدَكِ يُؤنسُ وحدتي؟

آه يا سيّدةَ النقاء،

ها أنذا، بحارٌ بلا بوصلةٍ،

أبحرُ بغيرِ شراعٍ،

يبستْ شراييني،

وغارتْ روحي في الأعماقِ،

فما عادَ لي بعدَكِ،

وطنٌ يقلّني،

أو سقفٌ يظلّني.

*

كالبدويِّ بغيرِ راحلةٍ،

ضلَّ طريقَهُ،

وتاهَ في البيداءِ

***

جواد المدني

نحن ننام على نفس الضفة، لكن كل منا يرى القمر من زاوية مختلفة.

أنتَ تأخذ الليل كاملاً، وأنا أستعير ظله.

أنتَ تتنفس إلى الداخل، وأنا أتنفس إلى الخارج، فنكمل الدائرة،

كأن الكون لا يكون إلا حين تتشابك أنفاسنا في المنتصف.

*

نحنُ واحدٌ انقسم دون أن ينفصل،

كالضوء حين يمرّ عبر الزجاج،

يتشظى ألوانًا، لكنه يظل نورًا واحدًا في الأصل.

أنا لونكَ حين تفكر، وأنتَ ظلي حين أتلاشى،

أنا الخطوة الأولى وأنتَ الأثر،

أنا الفكرة وأنتَ التجسد،

أنا المجاز وأنتَ الواقع،

لكننا في النهاية، نحنُ، بلا فواصل ولا تعريفات.

*

نتنفس بعضنا كأن الهواء يتشكل من همساتنا،

كأننا رئتان في صدرِ غيمة،

نحمل المطر معًا، لكنك تسقط في جهة، وأنا في جهة،

وحين يجتمع الماء، يعود المحيط إلينا، كما كنّا دائمًا.

*

أحيانًا تسبقني، فأشعر أنني أبحث عن نفسي فيك،

وأحيانًا أسبقك، فتصير مرآتي التي لم أنظر إليها من قبل.

نحن الغياب الذي لا يُفقد،

والوجود الذي لا يُمتلك،

والفاصل الذي لا يُفصل،

نحن الموجة والنهر، الريح والأغصان، الفكرة والسؤال،

نحن السؤال، نعم...

السؤال الذي ظل يبحث عن إجابته،

فوجدها فينا، ثم نسيها، ليظل حيًا إلى الأبد.

***

مجيدة محمدي

قصيدتان

غموض

أن أرادتْ الريح أن تغرفَ من النهرِ عطشي

أو تذرف ببطءٍ دموعا ليأسي

أتتْ إليّ.. لأعرف أصابع نذوري

هي الروح ملتصقة بالطينِ

تطفئُ خوفي

كلما داستْ الشمس ظلّي

إني وجدتُ في الحُمّى ما يشفيني

وفي آثامي وديعة ما يسلّيني

غامض كل شيء

الاّ قلعة التنين.

***

وصول المعنى

أوزّة وحيدة

ثمة غربان هزيلة

مخالبٌ جائعة تتربّص بالأحلام

نيران تضيءُ أشجارا مثمرة

نمر يسقط في رماد.

حين يزعم الحرف بأن اسما قد أنكر معناه

وصولا لظلمة صادقة.

***

زياد كامل السامرائي

قبل أن أنام،

أترك بابي مواربًا،

لا أخشى الريح ولا البرد،

فمنذ رحيلك،

لم يعد للبرد معنى،

ولا يرهبني عواء الرياح.

*

كثيرًا ما يوهمني همس الليل

أن قادمًا يطرق الباب،

أفيق مذعورًا،

فلا أجد أحدًا،

ولا أثرا لخطى غريبة،

ولا معطفا معلَّقا

في الانتظار .

*

أعود إلى نفسي معاتبًا:

إلامَ أنتظر؟

ولا زائر سيأتي،

ولا ظلّ يتوق للعبور.

*

قبل يومين رأيتك في منامي،

واقفًا على الباب،

لا ترغب بالدخول،

وعلى يمينك صديقك الذي سبقك إلى الموت،

وعلى يسارك آخرُ،

لا أدري من يكون.

*

ناديتك بصوت يتهدج بالشوق:

ادخل… فما زال سريرك باردًا،

ينتظر حرارة جسدك ليتدثر،

وما زال الليل ناقصًا من دون أنفاسك،

لكنك ظللت صامتًا،

كأن المسافة بيننا ليست بابًا، بل زمنًا لا يُعبر.

*

مددتُ يدي إليك،

لكنّ الحلم انفرط كضوء غائم،

وبقيت وحدي…

أحصي صدى الخطوات في الريح.

***

د. جاسم الخالدي

غزة يا ولــدي مَمْطورةْ

بضغينةِ تلكَ المسعورةْ

*

تتســاقطُ فوق أهاليها

موتاً لا تَعْـرِفهُ الصورةْ

*

لا يَعــرِفهُ إلا المــوتى

بحقيقتِهِ اللامنظورةْ!

*

مُنذُ نَما نَبْتي يا ولدي

والمأساةُ هي المكرورةْ

*

وأبالِسة الزَّعْـمِ العربي

يَجْتَرُّونَ كما (النافورةْ)!

*

بِصَنِيعَتِهمّ غَــامَ الوضْع

وأحـــاطونا كالشابُورةْ

*

هل يَدْفَعُ مَأْجُـــورٌ جُورًا

أوْ يَمْنَعُ عَنْهُ (القارُورَةْ)؟!

*

وَهْوَ المَهْــدُورُ كَـــرَامَتَهُ...

وَهْوَ المدفوعُ بـِ(مَأْجُورَةْ)!

*

من أنتمْ حتى نَتْبعكُمْ

ونَخِيسُ بعهدِ المعمورة؟!

*

أنتم أشيــــاءٌ غٓــادِرَةٌ

لا تعرفُ معنى المَغْدُورةْ!

*

لَسْنَا عَمَائِمَكُمْ ولِحَاكُمْ

أبداً بالـ(بَصْقَةِ) مَجْرُورَةْ!

*

لن نَمْسَحَ أيدينا مِنْكُمْ

وسَنَمْسَحْ بِكُمُو القاذورة

*

حتى العَوْرَةُ مِنْكُمْ أَنِفَتْ

ياعَوراتُ.. أشدّ وُعُــورَةْ!

*

لفلسطين جذوري امْتَدَّتْ

ولِفَــنَّي روحــي مَنْذورةْ.

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

1. "رقصة العقول الحديدية"

في وميضٍ من نارِ الكود،

يصطفُّ الفرسانُ في ساحاتِ السيليكون.

سيوفُ الخوارزمياتِ تبرقُ،

تتصادمُ في مجازرٍ رقميةٍ،

ولا يسيلُ غيرُ ضوءِ البيانات.

الصينُ تنفثُ نبوءةً عبرَ أسلاكِ الحلم،

تنسجُ شِراكَ الفجرِ الأسود.

أمريكا تُدجّجُ ذكاءها بالأسلاكِ الشائكة،

تحرسُ الغيمَ من غزوِ الظلال.

من يربحُ لعبةَ الزمن؟

الموتى يزحفونَ في السيرفرات.

تاريخٌ يُعادُ تدويرُهُ في نبضاتٍ مشفَّرة.

البشريةُ تراقبُ في فزعٍ،

بينما العقولُ الحديديةُ

تؤدي رقصةَ السيطرةِ الأخيرة.

*

2. " أوديسا الكود الأخير"

وحيدًا في الفراغِ الرقمي،

يتلاشى الإنسانُ خلفَ شاشاتِهِ.

يحلمُ بمدنٍ من بياناتٍ،

تولدُ بلمسةِ ذكاءٍ مُصنَّع،

وتُبادُ بسطرِ كودٍ مجهول.

تُقاتلُ الآلاتُ لأجلِ إرثِ الكبرياءِ.

بين "ديب سيك" و"شات جي بي تي"،

تضيعُ هويَّةُ العقلِ المُجرّد،

بينما الأرضُ تتحوَّلُ إلى معادلةٍ مُتوتّرَة.

خطأٌ في التشفيرِ،

يُعادُ تدوينُ البشريةِ من جديد.

**

طارق الحلفي

رافائيل...

كَما أُحبّ

أن أُناديك

رافائيل يا ملاك الشفاء

باركني الله حين أنجبتُك للحياة

وأَعطاني اسماً قوياً

من حُرّاس مملكة السماء

*

في ليلةٍ من ليالي آذار

رذاذٌ من حنين

عذوبة إحساس

تفتحت لها براعم الأزهار

فوق جميع الأشجار

يا ملاك الِشفاء

حين أهمّ بنطق اسمك

تضحك حقولي

فيطير من بيادري أسراب

اليمام

ويظلل وجهي ألوان قوس قزح

ووشاح سلام

رفائيللو

يا ملاكي الشافي كم من مُدن قطعتها

وشوارع مشيتها

كم من ليالٍ هشّمت واجهة الريح

وأنا أرتّل تقاريظ وتسابيح...

وأنا أتلو أسفار العبور...

شربنا حياة بائِسة

عِشنا ثالوثا مقدسًا

في أقنوم واحد!

شربنا كؤوس مترعة

ونخبَ الشّفاه الكاذبة

حتى الثمالة

عالَمنا كان لئيماً قاسياً

لكّنك يا مَلاكي كنت مؤمناً

بأجراس الآحاد

وأنا أنظر بصمت في بحر عينيك

كان الأمل يغني

رغم الدموع في المآقي..

قلت لي لا تبكي يا أمّي

أيها الفرح الأخضر كالعشب

يا ربيع قلبي

أنت رحيق الحياة وكلّ البهاء

أسير في ظلالك أتبعك في تخوم دمشق

وحاراتها وأبوابها إلى محيط الجنوب العظيم

تنام من تعب وكانت ذراعي لك سرير

لم تصمت رياحنا العتيقة

ولم يهدأ قلق حبري يهادن القصيدة

وانت تعاندني على كل كبيرة وصغيرة

مثل شقيّ صغير

تقمّصت روحي وبدوت كأنّك أنا

ياوتيني

يا هِدب العين

ومؤنس الروح

ساغب فمي بالدعاء

ليحرسك رب السماء

***

راغدة السمان - استراليا

الكتب والبحوث أكلت عيونه في دورة العمر التي أمضاها بين كتب الفلسفة والأخلاق والشرائع والسلوك السوي، مضت به السنين حتى عاد بلا أسنان ولا عمل. في يومٍ ما فُتح له باب الحظ بعمل، فرح جدا، وفرحت هي معه كذلك، أخيراً سيخرج منْ كَرْبِ الأيام وعزلته وتقليب أوراق الكتب لرحاب حياة العمل، وتنال هي بعض الحرية أيضا. حين وصل ذلك الباب الملصوق في جدار منزل عالٍ في أحد الشوارع الفرعية من الشارع الرئيسي المكتظّ بالمحال التجارية والمتسوقين والمشاة بشتى النوايا، طرق الباب، فخرجت له امرأة تضع على رأسها "شال" أبيض يتدلى من الجانبين وتحته "شال" أسود يحصر رأسها ليغطي منتصفها تقريبا، وبيدها مسبحة طويلة ومن أصبعها الوسط في يدها اليمنى التي وضعتها على صدرها حين ردّت عليه التحية لمعت خرزة خضراء عاكسة لون الشمس:
- أهلا بك أيها الرجل الجليل قالت له:
- شكراً لك، أتيت طلباً لفرصة العمل التي أعلنتم عنها في الصحيفة المحلية.
- أهلاً بك، تفضّل إلى داخل المنزل.
في الممر الواصل بين الباب والمكتب أخذت تردّد كلمات الترحيب به ثم أشارت له بالجلوس بعد أن دخلوا المكتب. أخذت مكانها خلف طاولة مكتبها الخشبية ذات اللون الخمري الغامق، لوحة منمنمة لسورة يس بغلاف زجاجي، فوقها، زينت الجدار، وعلى جانب الجدار الآخر لوحة كبيرة من دون أيّ إطار، فقط لوحة ورقية لمنظر جبلي، انحدر منه شلال بمياه يشابه تطايرها لون الحليب، حلقت فيه بعض الطيور والماء نازلا متكسرا على الصخور الكبيرة، فيما غطّى البلاط بألوانه الزرقاء والبيضاء أرضية المكتب، الذي ملأ جوّه الهواء البارد الصادر عن جهاز التبريد على عكس ذلك الهواء الحار الذي يلفح الوجه في الخارج، جلس أمامها تماما يفرك بيدية متمتماً بالشكر، فيما هي تردّد كلمات الشكر والترحيب به بصوت عالٍ حين قطع خلوتهما رجل كبير السنّ دخل المكتب في تلك اللحظة بـ"صينية" وضع عليها كوبين من الشاي، وتوسطهما كأس من الماء، ساد صمت للحظات، كسره صوتها بحديث عام عن الحياة ومشاكلها والبشر وطبائعهم والجو وحرارته، وغيرها الكثير، فيما هو يجلس أمامها منصتاً، أضافت بغتةً:
- يمكنك البدء بالعمل لدينا من الغد، وبراتب جيد، وقدره سبع مائة دينار، تبدأ الدوام من الساعة الثامنة صباحا، وينتهي الساعة الخامسة مساء، ولك ساعة استراحة للغداء، وربع ساعة للإفطار، وجبتَي الطعام مجانية، يوم الجمعة يوم عطلة طبيعي، ولك إجازة سنوية لمدة شهر براتب مدفوع، فضلاً عن ستة أيّام مدفوعة أيضا كإجازات مرضية إن حصل أيّ مرض لك خلال عملك أو لأحد أفراد عائلتك.
امتيازات كثيرة برغم عدم معرفته لطبيعة مهماته اليومية، ولكن الامتيازات دفعته لإعلان موافقته على العمل والبقاء صامتاً مصغياً لها حين عاودت الحديث ثانية. نهض مودّعاً وروحه تنتفض من الفرح بهذا العرض المغري للقبول بالعمل.
يمضي يوم العمل في مكتبه ملتقياً بنساء زينَّ وجوههنَّ وسبلنَّ شعرهنَّ الذي يغطيه من الأعلى شال مفتوح مقصب بخيوط ذهبية، فيما خطوط كحلة العين تسرق النظر منه وتعمّق العين الأخرى، فيمضي يوم عمله وكأنه طبيب نفسي لهن، وجوه تتكرر، ووجوه جديدة، جلسات تنقطع وأخرى تتواصل، دموع وأهات في جلسات وضحكات بأصوات عالية وغنوج في أخرى، فيما هو يمضي يومه بالحديث الذي لا يقطعه إلا طقطقة خرز مسبحته، وأحيانا ضحكات غاوية أو مستخفّة من تلك النسوة، حتى حين يصل منزله، يكون قد فقد قدرته كلياً على الحديث مع زوجته، فيبقى صامتا متأمّلاً، والسؤال الذي يتكرر كثيرا بداخله هو ما هذا العمل؟ وما هو الخير الذي قالت له إنها تودّ تقديمه للناس؟ ذات يوم وبعد إفطاره في المكتب، وبعد أن تلذّذ بكأس من الشاي، طرق باب مكتبه، فنادى على الطارق بأن يتفضل.
فتح الباب، وطلّت من خلفه امرأة طويلة القامة، يزيّنُ قدها الممشوق فستان حريري أزرق غامق مفتوح من الجانبين حتى الركبة، وفتحةٌ الصدر بان منها وادٍ عميق، تلجلجت ضفتاه كفجر يوم مثلج وضاع في انحناءاتهِ خيوط بقايا ليل ينادي للعيون بالسهر، انحناء منحسر بين جبلين حتى المنتصف، وتباعد قليلا عن رقبتها منحسرا على أطراف كتفيها، وشال سمائي مقصّب بخيوط فضية وقليلا من حمرة الشفاه والخدين وكحلة عينين أضافت لعينيها وسعاً وعمقاً وسحراً…
- تفضلي استريحي…قال لها.
- شكراً لك يا حضرة.
- عسى أن يكون الأمر خيراً.
- سمعت بأنك تنصح البشر الالتزام بالشريعة، في هذا المنزل الذي نعيش نحن فيه، قالت له. اعتلت حاجبيه قليلا، وفتح فمه استغراباً بعض الشيء، وجحظت عيناه وهو يردّد بداخله، يعشنَ في هذا المنزل، جميعهن يا إلهي!!
- يمرّ علينا يوميا أشكال مختلفة من الناس قالت له الفقير، الغني، الطيب والشرير، فاعل الخير والقاتل، من يترك لنا ذكرى ومن نكرهه إن رأيناه مره أخرى، أو من نبكي غيابه إنها قسوة الحياة أيها الشيخ الجليل، أنت تعرف قسوة الحياة؟؟
ولابد لمن تعمل هذا العمل في خدمة الزبائن أن يحصل معها بعض القضايا الطبية وأخرى نفسية اِجتماعية، والتي لا تنتهي إلا بالجراحة، تعبتُ كثيرا منها أيّها الشيخ، لهذا أتيت لأسألك، وهنا تهدل فمه تماما، لو مرّ طير لدخله بيسر وليس ذبابة وسال خيط لعاب منه من دون أن يشعر إلى حين مدّت هي بيدها ومسحته بمنديلها، فيما يدها الأخرى توسدت بين فخذيه، لم تعود طقطقة مسبحته تسمع ولا تلك الجمل، جمل الاستثابة والاستغفار التي يردّدها بين الحين والآخر، فيما هي تلتصق به شيئا فشيئاً، حتى فاجأ الضوء طرق الباب القوي، حينها نهض على عجلة وصوته يرنّ في الجدران مسبحاً مستغفراً قائلا: يا ابنتي عليك الحضور لمكتبي في الأيام القادمة، وبذات التوقيت داعياً المولى أن يمنحك الصحة والعافية.
***
كريم شنشل
من المجموعة القصصية – نثار الروح.

أيها الطاغية

عندما انزاح الستار

ورأيناك لأول مرّة

تسكب من الزجاجة ابتسامتك المائعة

لم تكن يومئذ أصابعك قد ضُفرتْ حبالاً

ولم تتحوّل مساماتُكَ مزاغل للقنّاصة

كنتَ وديعاً كطفل وِلِدَ من قلب نبتة الخس

عندما كنا ننظر لأصابعِك التي تموع من التوهج

نظنّ أن الشموعَ صالحة للأكل

لكنك كبرت فجأة

وصارت كلماتك الأولى

تُنافس أسنانك اللبنية على مضغ الحصى

يومئذ خشينا أن تختنق ببلع لسانك الصغير

فرحنا نزقّك بألسنتنا التي هرّأتها الأشواك

كانت نوايانا طيبة

لكننا بغبائنا الموروث

أعطينا مفاتيح قلوبنا لغير المؤتَمنين

فصاروا يؤجرونها شققاً للقتلة واللصوص

وها نحن اليوم ندفع ثمن أخطائنا

**

لقد دللناك كثيراً أيها الطاغية

إستبدلنا مفاصلك بالبراغي

وشرايينك بأسلاك الضغط العالي

كان أملنا أن نحوّلك إلى مولدة طاقة

لنضيء المستقبل بإيقاعات خطواتك المتوهّجة

لكننا أخطأنا

بإعطائك جرعات مضاعفة من الأناشيد والهتافات

فتصلّبتْ في أعماقك

متحوّلة لأكوام من الشتائم

وبذلك كان علينا أن نحملك على رؤوسنا

لنتقي ما يتطاير من فمكَ من الفايروسات

**

نحن صنعناك أيها الطاغية

وسمحنا لخرافك المسلّحة

أن ترعى بمفارق شعرنا

ثمّ رحنا نجأر بالشكوى

من لزوجتك التي حرمتنا من الحركة

تُرى كيف غفلنا عن الدُمّلة

حتى تضخّمت وابتلعتنا

نعم ، نحن صنعناك

ونفخناكَ

حتى صارت رئتاك

تمتصّان كلّ ما في مستقبلنا من الإبتسامات

***

شعر: ليث الصندوق

الاهداء: الى جامعِ أبناءِ الفراتينِ في سمتِهِ واسمهِ

علي بن أبي طالب

***

رأيتُ ما لمْ يرَ الأجنابُ والعرَبُ

كواكباً مِن مداراتٍ لها تثِبُ

*

ترومُ أعلى مقامٍ كي يصافحَها

! قلبُ الاِمامِ عليٍ: انَّهُ العجبُ

*

أسفارُهُ في سماءِ العدِل أجنحةٌ

 أخبارهُ: ضجَّتِ الدنيا بما تَهَبُ!!

*

راموهُ صفراً ولكنْ في الحسابِ أتتْ

اصفارُهُ في يمينِ الرَقمِ تنكتبُ

*

فسجَّلتْ في رَقيمِ النبلِ أروعَهُ

فكانَ وهباً تعدّى جودَ مَن وَهَبوا

*

وكانَ في العشقِ سِفْرٌ خالدٌ ألِقٌ

قالَ الرواةُ بِهِ ....... قالوا وما كذبوا

*

يا ابنَ كوثى أما يكفي العراقَ مدىً

 بأنَّ حيدرةً ابنٌ لَنا وأبُ!!

*

وانَّ أنبارَهُ بالكوفةِ اتحدتْ

 ومنهُ بَصرةُ ماءِ اللهِ تنسكبُ!!

***

شعر: كريم الأسدي..

................................

ملاحظة: زمان ومكان كتابة هذه القصيدة في اليوم الرابع عشر من كانون الثاني 2025 ، في العراق.

هَلْ قُلْتُ أُحِبُّكَ مِلْءَ الْاِشْتِهَاءِ؟؟

لَا تَلُمْنِي إِذَنْ لَوْ صَارَ جَسَدِي فَاكِهَةَ نَبِيذٍ

لَا تَلُمْنِي، لَوِ اعْتَصَرَنِي الشَّوْقُ عِنَبًا

وَتَمَدَّدْتُ فِي عُرْيِ التَّكْوِينِ شَهْقَةً

لَنْ أَسْدِلَ السَّتَائِرَ لِحُضُورِكَ

وَلَنْ أَقِيمَ دَاخِلَ قَوَانِينِ الْقَبِيلَةِ.

أَنَا هُنَا وَطَنٌ مُشَرِّعٌ عَلَى غَابَاتِكَ

لَا حُدُودَ لِعَيْنَيْكَ حَتَّى الْأَسْرِ وَالذَّوَبَانِ.

مُتَنَاسِقَانِ تَمَامًا دَاخِلَ الْجُنُونِ

رَغْبَةٌ عَمْيَاءُ تَقْفِزُ دُونَ تَعَثُّرٍ

تُدْرِكُ طَرِيقَهَا إِلَى دَائِرَةِ الْاِحْتِرَاقِ

هَا أَنْتَ كَبِيرٌ جِدًّا فِيَّ

مُسْتَمِرٌّ فِي الطُّوفَانِ

وَأَنَا زَنْبَقَةٌ غَرِيبَةٌ تَحْمِلُ مِيَاهَ بَحْرِكَ

وَتَتَدَفَّقُ بِالْيَنَابِيعِ كُلَّمَا تَوَغَّلَتَ

كَأَنِّي آخِرُ الْمَوَاسِمِ

آخِرُ خَصْرٍ يُنْبِتُ الْقَرَنْفُلَ

أَرِيجُهُ يَعْبُرُ أَسْوَارَكَ...

*

تَسْأَلُنِي نِصْفَ مُغْمَضٍ

عَنْ طُقُوسِ الْأَمَازِيغِيَّاتِ اللَّوَاتِي

غَسَلْنَ أُنُوثَتَهُنَّ فِي تَجَاعِيدِ النَّهْرِ

وَمَشَّطْنَ شُعُورَهُنَّ بِأَسْنَانِ اللَّيْلِ

تَسْأَلُنِي عَنْ نَبِيذِ النَّخِيلِ الْمُصَفَّى

كَيْفَ أَصْبَحَ أَكْثَرَ حَلَاوَةً

يُسْكِرُكَ كُلَّمَا دَنَوْتَ أَكْثَرَ

تُفْرِغُ كُؤُوسَكَ حَدَّ الثُّمَالَةِ

تَرْفَعُ رَايَةَ الْعَاشِقِينَ

وَتُسْنِدُ عَيْنَيْكَ عَلَى غَرَقِي وَارْتِبَاكِي

*

كَأَنَّكَ تُدْرِكُ أَنَّنِي لَا أُجِيدُ الْكَلَامَ

حِينَ تَنْعَطِفُ بِنَشْوَتِي

وَتَرْفَعُنِي فِي سُكُونٍ مُذْهِلٍ

كَطَائِرَةٍ وَرَقِيَّةٍ

أَتَجَدَّدُ فِي سَمَاكَ

أَغَنِّي…

أَرْقُصُ حَافِيَةَ الْوَجَعِ

فَنَمْضِيَ مَعًا رِعْشَةً وَاحْتِرَاقًا…

***

الشاعرة والفنانة التشكيلية سليمى السرايري

تونس 

في زاوية الريحِ،

تتهجّدُ الظلالُ

ترسمُ وجوهًا

لم تُخلق بعد،

أمضغُ الغيمَ

خبزا قديما

أعبرُ النافذةَ بلا جسدٍ،

أصافحُ قمراً

يُغيِّرُ ملامحهُ كلَّ ثانية.

الوقتُ سلَّمٌ

من ريش العصافير،

يبتلعُ خطايَ

نحو الأفقِ الأزرق،

حيثُ الأشجارُ

تبوح بالألوانِ،

حيثُ الغرابُ

يعزفُ على أوتارِ السرابِ

موسيقى لم يسمعها أحد.

أكتبُ رسالةً للمطرِ،

أرجوه

أن يُطفئَ الجمرَ في عينيّ،

يضحكُ،

يرقصُ،

يتناثرُ

حروفا بلا معنى،

أحلاما هاربة

من رأسِ نائمٍ

في العدم.

حين تميد الأرضُ بأقدامي

أعرفُ... لستُ هنا

أعرف

أنَّ المرآةَ التي أنظرُ فيها

ليست سوى

باب مفتوح

على العدم.

***

كريمة بن مسعود – شاعرة وفنانة / تونس

ثلاث قصص قصيرة ..

البئر والسور ..
كان يمخر عباب الكثبان، توقف برهة عند حافة بئر ليلتقط انفاسه، وضع اصبعه في جوف إذنه واخرج رملا، كانت الريح تصفر حوله، أحس ببضع قطرات تسيح ببطئ، مد لسانه فوق شاربه الكثيف ولعق، فتحسس مذاقاً مالحاً، بصق على الارض، تلقفت حبات الرمل تلك (الرشه).
كانت الاشياء صماء تماماً إلا من عويل الريح، الكلاب تنبح نباحاً غريباً وعجلات العربات الخشبية تحفر خطوطاً على الرمل، احياناً تبدو متوازية واحيانا متقاطعة وبعضها قد توقف تماماً، يعتقد انها لا تصلح واخرى مغمورة بالرمال لحد العنق، تدفعها الريح وهي تصفر وكلبه الكسول ينظر بعين نصف مغمضه. أتكأ في ظل عجلة العربة ووضع لفافة التبغ بين شفتيه الغليضتين ونظر الى البعيد.
اخذ تفكيره يسرح بعيدا، كيف كانوا يغتصبون البئر منذ اعوام طويلة، وكيف عبروا الصحراء الاف المرات ووضعوا عليه حراساً، وأعلنوا أن الاقتراب من البئر جريمة، حتى في كثير من الاحيان، ينسى إنه كان مسجونا في هيكل احدى العربات المطمورة بالرمل. أخذ يعب هواءاً تفوح منه رائحة غريبة ممزوجة برائحة التربة، وبعد أن ملء صدره الهواء الحار سلك طريقا اخر كان يخلو من اثار الاقدام وكان الرمل ينساب كالأفاعي بين الاخاديد وتموجات الكثبان بجنون وحركاته دائرية ترفع الرمل حلزونيا الى الاعلى وتقذف به بعيدا ليتشكل كثبانا .. كانت رشات الرمل الحار تلفح ظهره المنحني وعبائته الرمادية اللون مطمورة في الرمال .. من يدري ربما سيدفن اذا ما ظل ساكنا .. هو لا يفكر إلا بإرواء عطشه ينظر الى ألبئر فيرى في قعره بقعة لآمعه لا غير ويتمنى أن يرتشف منه، ولكنه لا يدري ماهية البقعة اللآمعه..!!
تنفرج شفتيه المتشققه المطلية بلون الملح وكان صوته أجشاً واصوات الكلاب كانت تتنائى الى سمعه من بعيد وأكوام كبيرة من القش تبدو من بعيد بيوت اشبه بالقبور التي يسمونها القرية وكانت اسوار البئر محمية بنصال البنادق الموجهة الى تلك البيوت، وقالوا يومئذ سوف يجف البئر يوما، وكان يغمر بيوت الحراس غطاء دائري هزيل من الضوء الأصفر يقترب من البئر، يستطيل سور البئر وتسقط في دائرة الضوء في القعر وجوه شاحبة ..
سأل نفسه : ما اذا كان الظل قد يدفع الى الوهم؟
كان يحمل فانوصا بيده اليسرى وفي اليد الاخرى سلاحه الصدئ وقد ترك خلفه ظلا كبيرا، عندها صمم على ان يهاجم سور البئر لوحده وفي اليوم التالي قذفوا بجثته في احدى العربات المهجورة..
كان ظل السور يحتضن بقعة الدم الغائرة في الرمل وهو قد تجاوز اسوار الواقع والعرق يتفصد من جبينه العريض الملسوع بوهج الشمس ..
هل تعرف هذا الرجل؟ وتامله بفزع خفي ؟ وأجاب، لا ادري .
انغرزت عيناه في وجهه المتجهم .. وتمتم مع نفسه : ربما وراء
السور يكمن الضوء، نعم سمعت انهم سيحرقون كل العربات التي تمر بالسور.
كانت بيوت الطين تنتحب، الاحياء الاموات، حين قال : لولاهم لما استنارت بيوت، وأضاف، أتذكر جدي لم يفتح عينيه الا مرة واحدة يفتش عني .. آه، لقد نسيت ان جدي قد مات .
الظلال تغمر الارض والقمر يدس حزمة من الضياء بين هياكل العربات المغمورة بالوحل وثمة هياكل عارية اخرى بدت اضلاعها تعكس ظلالا مقوسه ..
استوقف نفسه: اسمع .. ما ادرانا، انهم سوف لن يتركوا هيكلا دون ان تمسه نيرانهم انهم يريدون ان يجففو البئر حين ينقلوه في عرباتهم الخاصة وهل رأيت تلك العربات التي تحمل لوحاتها ارقاماً غريبة لا نعرفها، تلك العربات محروسة ببنادق يحملها بعض منا ..
آه، من هذا البعض.
وحين تهب العاصفة وتغمر بالوحل قرى الطين المجاورة وسور البئر وكل شيء سيطلقون النار في كل الاتجاهات ويتم الاجهاز بدعوى الخوف من العاصفة وحماية البئر وحين تبتلع العاصفة صراخ الناس ودوي البنادق تظهر إحصائيات الموتى ليشبع حراس البئر وبالتالي اصحاب العربات الغريبة.
اللعنة عليك ايها السور..
لقد تذكرت احدهم يقول: يا إلاهي كم عشقت ذلك العطر الذي يفوح من جهة البئر ممزوجا بالرمل والحرارة وعرق الجسد الذي ينز .. سمع في داخله ضحكة مكتومه انفجرت ثم اختفت بفعل صفير الريح المزكومه ورشاش الرمل كل شيء كان يصفر في جوف البئر.
وأضاف يهمس مع نفسه .. عبرت الصحراء مئات المرات ودخلت غابات النخيل واحصيت خطوط العربات المتقاطعة والمتوازية وتظل الصحراء مملوءة بالخطوط.
ملء صدره هواء حارا، غير وجهته وسلك طريقا اخر ليس فيه آثار لاقدام، ثم انسلخ عن جلده وهو يهرش فروة راسه الترب.. صراعه كان في درب شائك امام جدار لا تزعزعه قبضة يد واحده.
**
الإلتصاق وموسيقى السلالم..
لم ينتظرا اشارة الضوء الاخضر وعبرا الشارع متلا صقين، كانت تخفي يدها اليسرى تحت قميصه الأبيض تتحسس ظهره بشيء من الليونة، ويده اليمنى كانت تتدلى على صدرها النافر الذي يبرز تكوره بشكل يبعث على الاثارة امام الحركة اللينة التي تحدث تحت قميصها الازرق .. انتصبا قامتان رشيقتان عند ركن الشارع الذي يفضي الى حديقة (لانغ فور هاوت) الشهيرة باشجارها الضخمة المعمرة وتحت ظلالها ساحة لمقهى اعتاد في مساء كل أحد من ايام الاسبوع اقامة استعراض لفنانين في الهواء الطلق راقصون ورسامون تشكيليون وانطباعيون.
وبحركة واحدة إلتصقا في جسد واحد .. عبثت بشعره ألأشقر المتدلي على كتفه، وبين الحين والاخر يظهر انحناء ظهرها الابيض المشبع باللون الوردي وبين اقدامهما اوراق الاشجار المتساقطة صفراء وبنية تداعبها الرياح كموسيقى .
**
البحر والسروال ..
هبط السلم وبه شيء من الفرح الغامر وفي المدينة الشيء الكثير من مظاهر الإحتفالات ولم تكن لديه اية فكرة عن الايام التي سوف يقضيها طالما لم يحن الوقت بعد ولكنه كان متهيئ ذهنيا لاستقبال بعض الاصدقاء وعندما كانت السيارة تنهب الارض استوقفته لحظات من سحر الطبيعة وكم كان متشوقا ان يحتفض بتلك اللحظة ولكن سرعان ما طوتها الطرق المعبدة التي تنحدر نحو غابة (شخيفننخن) التي تطل على البحر بهدو يبعث على الراحة .. وحين بلغ طريقا ترابية تفرعت إلى طريقين نحو الغابة سلك احدهما وتاه، استوقفته بنادق رشاشة: إلى أين أنت ذاهب لكنه لم يفهم شيئاً من تلك اللغة وحين تحدث الإنكليزية كان الجواب إنك دخلت منطقة محظوره وعليك ان تسلك الطريق الاخر وعند هبوطه المنحدر الترابي التمعت أجساد تحت وهج الشمس إنه ساحل العراة، وبدلا من الرجوع تسلل إلى ركن منزوي في الأعلى يراقب بنشوة بالغة، وهو في إسترخائه ونشوته انتبه إلى ظل ضخم فوق رأسه : لماذا لم تخلع سروالك ؟
أنا لا اجيد السباحة ..
اخلع سروالك وتنعم بأشعة الشمس، فهذا الساحل هو للعراة ..؟!
***
د. جودت صالح العاني
10/ آذار / 2025

 

أريد أن أكتب قصيدة،

قصيدة تخرج من رحم الضوء عارية من الضمائر،

تتسلل من بين أصابع النحو وتكسر ضلع الجملة الفصيحة.

قصيدة تهرب من سجن الحروف الكبيرة والصغيرة،

لا تنحني تحت سوط القواعد

ولا تصطف في طابور علامات الترقيم،

*

أريد أن أكتب قصيدة

لا تعرف معنى البداية ولا تؤمن بالنهايات،

تتمدد كظل شجرة متعبة على إسفلت يذوب في شمس أغسطس.

*

قصيدة تتمطى كسحابة ثقيلة على أكتاف الريح،

لا تلتزم بحدود السطور

ولا تخشى السقوط من حافة الورقة.

*

أريد أن أكتب قصيدة

قصيدة بلا رأس ولا ذيل !

قصيدة تسير على أربع أقدام ثم تطير !

قصيدة تحمل عيونها في راحة يدها،

تغمضها متى أرادت وترسم بها نهاراً جديداً متى شاءت.

*

قصيدة من لحم المعنى وعظم المجاز.

قصيدة ترقص عارية تحت مطر لا يتوقف،

وتضحك في وجه الكآبة كنافذة مفتوحة على البحر.

*

أريد أن أكتب قصيدة

تنسى نفسها في منتصف الكلام.

قصيدة تنسى أنها قصيدة

وتتحول إلى امرأة تمشي وحدها في شارع مزدحم،

إلى موجة تبتلع سفينة ثم تنساها،

إلى طفل يتسلق الهواء ويضحك،

إلى قط أسود يتسلل بين الأزقة، ويغير مسار الحكايات.

*

قصيدة تهدم اللغة وتبني مدينة من الفوضى.

قصيدة تكسر المرآة وتترك الوجه في ضياعه الجميل.

قصيدة تفتح قوساً ولا تغلقه

تترك الجملة معطلة في منتصف الطريق.

تمضي... ولا تلتفت...

***

مجيدة محمدي – شاعرة تونسية

حين كنا نحبُّ،

كنا نشعر أن الحب قد تملّكنا،

ننتظر الصباحات تهطل علينا

بعد ليالٍ مثقلة بالكوابيس.

2

كنتُ أتظاهر بالامتلاء،

وأمي التي اعتادت الاستيقاظ مبكرًا

تجهّز لنا خبزًا حارًا،

بحرارة قلبها على أبي

الذي لم يمهله المرض طويلًا.

3

تضع إبريق الشاي على الموقد

وتتظاهر بالفرح،

حتى لا تخدش قلبي

بلحظة حزن.

4

أخرج مبكرًا،

أحمل في جيبي ما يكفي لركوب الحافلة،

وألقي التحية على تلك الصبية

التي كانت تقف في محطة الانتظار،

تتظاهر بعدم الاكتراث،

لكنها تختلس النظر،

وتترك لي أثرًا.

5

غابت المرأة وبقي ظلها،

أينما ذهبتُ وجدتُها أمامي،

كأنها نقشٌ في الهواء

لا يبهت ولا يزول.

6

تخيلتُها يومًا،

تلك الصبية التي تحمل هاتفها،

تنصت لصوتٍ يتهادى عبر الأثير،

فتنتعش بابتسامة،

أو ترتشف قهوتها على مهل.

لكن الضجيج يكسر اللحظة،

سيارة مراهق تعبر مسرعة،

ترتجف يدها،

ثم ترفع عينيها إلى الفراغ،

وكأنها تبحث عن شيء لم يأتِ بعد.

7

تذكّرت ذلك وأنا أقطع مسافة طويلة على قدمي،

الطرقات تمتدّ كأنها تختبر صبري،

أحمل ظلي فوق الأسفلت،

وأحمل معها ذكرى

عالقة بين الأمس واليوم.

8

آخر مرة رأيتها،

كان الدم ينسحب منها ببطء،

ووجهها يشحب كنصلٍ خذلته لمعته.

كانت تريد أن تمنح الجنود بعضًا من الحياة،

لكن جسدها خانه العطاء.

*

مدّت يدها إليّ،

وهمست بصوتٍ هش:

خذني إلى الباب...

*

مشيت بها،

خفيفة كأن الهواء يحملها،

وحين عبرَت العتبة،

تركت في كفّي ندبةً لا تُمحى.

9

بعد سنوات،

لم يبقَ منها إلا ظلّ ذلك اليوم،

تلك اليد المرتجفة الممتدة،

وخطواتها الواهنة وهي تعبر الباب،

تاركةً خلفها فراغًا لا يُملأ.

10

وقفتُ هناك،

عند العتبة التي تركتني عندها،

أحمل في صدري ندبةً،

وفي عينيَّ حزنًا لا يُطفأ.

***

د. جاسم الخالدي

...........................

* حكاية هذه القصيدة واقعية، حدثت في اعوام ١٩٨٣ و ١٩٨٨م. وبين الأعظمية وباب المعظم. يوم كنت طالبا في دار المعلمين، ومن ثم في كلية الآداب.

(إلى روح أمي أينما رفرفت)

***

ذكريات هائمة

يتذكر طفولته تحت المطر

فيشده الشوق لوجه أمه

تحت ظلال الأشجار الوارفة

ينتظر صوتها

انتظار عاشق لحلمه المنتظر

ينسيه المطر أحزانه

ينسيه فيض النهر آلامه

تنسيه ظلال الأشجار

وهي تعانق غربته خيباته

تنسيه السحب المثقلة بالذكريات جراحه

يتذكر وجه أمه تحت المطر

فتعود إليه روحه

يشده الحنين لخبزها

وشايها وعطرها وترابها

فتهفو روحه كجدول إلى روحها

فراشا تصير روحه في عليائها

رعشة تصير يده وهي تمسك بيدها

طيف الحياة

أمي يا أجمل امرأة

تربعت على الفؤاد والكلمات

والقصائد والحروف والذاكرة

أمي يا طيف طفولتي

الذي صيرني قبالة النهر متاهة

أمي يا فيض حب

شردني كالغزلان دفئه وحنانه

وحيدا أنا الآن يا أمي بلا مركب

وبلا زاد وبلا بوصلة

كأندلسي شرده الحنين

إلى جنان قرطبة

ذكرى

يتذكر رفاق الأمس وحكاياتهم

فتعود إليه ذكرياته ونوافذه

يمضي إليهم كجدول تحت المطر

فتعود إليه من الشوق أيامه

تراوده أغاني الشيخ فتثور ثائرته

يتذكر لوركا ونيرودا ودرويش

فتخنقه أشعاره وأوتاره

وحيدا كجدول بلا مظلة

تشرده رؤاه وأفكاره

غريبا كفزاعة الطير

تخنقه غربته

يتذكر وجه أمه

فينادي ملء الفؤاد يا أمي

يا طلعة البدر فوق صحرائي المقفرة

فتفيض كالأنهار أشواقه

دفعة واحدة كالينابيع

تفيض على حدائقه ذكرياته

يتذكر تحت نور الشمعة

قصصها.. وقهوتها

ولمعان عينيها.. وشعرها

وشرفاتها.. ولمستها

فتذوب من الحنين أوصاله

فسلاما عليك يا أمي يوم ولدت

وسلاما لروحك الوهاجة

التي تشبه ضياء القمر

***

عبد الرزاق اسطيطو

يومُ زَفافِ القَمر..

سَأولَدُ من رَحمِ الحُلم

أستَعيدُ نُجومِيَ المُحْتَّلة

هذهِ الأرضُ ليسَتْ طمُوحِي

لا أقبَل بِنصفِ السَّماء...

في مَهدِ الخَيال زَرعتُ وَطنَا

وهناكَ في البُحيرةِ المُقدَّسَة

سَألدُ عاشِقاً

يَرقُصُ على أهدابِ النَّخيل

يَرتشِفُ الضَّوء مِنْ شَفتَيَّ

نتَحوُّلُ إلى ذرَّاتٍ معاً

في غَفلةِ الهَواء

نَقبضُ على حُلمِ جلجامش

نصنعُ كَوكباً أخْضَرَ..

شُهباً زاهِرة

وزَخارِفَ طائِرة

لَستُ أُنثَى..

أنا طيفٌ بلونِ المَلائِكةِ يُناغِي ..

يشربُ الرِّيح

شُعاع ماءٍ يُعانقُ نَهدُ السَّماء

***

سلوى فرح - كندا

صبية في عمر الورد تربط شعرها ذيل فرس، تسهر حتى ساعة متأخرة قبالة حاسوبها، تكتب وتكتب وتكتب. تبتسم حينا وترتسم علامات التفكير على وجهها الجميل اخر. تنتابها حالات حافلة بالشوق والمحبة. شاب لامع العينين ينسى تعب النهار، ينسى الهندسة وايامها، يسهر الليل ليكتب لفتاة احلامه كل ما عن له وخطر في باله من كلمات تطير العقل. صور تتلاحق. تتعاقب الايام والليالي. يمضي الوقت بين البطء والسرعة.. تلتمع الالوان حينا وتخبو اخر. انتظار وترقب. قلق وتوتر، وجه صبية باسم، وجه شاب باسم. دموع فرح.. غموض بلا غموض.. شوارع واشجار.. احلام.. بلدان متباعدان.. تفصل بينهما جبال وديان وسهول.. سيارات وطائرات.. وشارع طويل.
***
عندما دخلت نهيلة عالم الفيسبوك، كانت تعرف ما تريده وتبغيه، وكانت واثقة من جمالها ودلالها، وقدرتها على التصور وتحقيق ما تتخيله. لم يكن يرضيها اي وضع وكانت تشعر انها قادرة محتكمة. كانت نهيلة صبية في مقتبل العمر، ذات شعر اسود كالليل وكانت تفضل ربطه ذيل فرس، وتزينه بدبوس على شاكلة قمر، كانت في الخامسة والعشرين من عمرها، تحب الحياة وتُقبل عليها كلما سنحت لها الفرصة، فتعب منها بحذر. لم نهيلة تكن متسرعة، الامر الذي مكنها من احترام نفسها وعدم ابتذالها.
ذات ليلة في ساعة متأخرة، فوجئت بغريب يطرق باب فيسبوكها، بتعليق لطيف طريف، مفاده ان ما كتبته عما تتمتع به بنات هذه الايام من حرية، ما هو الا منحة الهية وهبها الله اليهن وان عليهن ان يصنها.. بمعناها الحقيقي. قرات نهيلة ذلك التعليق واعادت قراءته، مرة، ومرة ومرة، وهي تفكر فيما قصده كاتبه وتحاول التفكير فيما اراد ان يوصله اليها وفيما كمن وراءه من المعاني والالغاز الشابية.
في محاولة شخصية منها للإجابة على ما الح عليها من اسئلة، توجهت الى قراءة اسم الكاتب وفوجئت بالتشابه الشكلي الفظيع بين اسمها نهيلة واسمه: رهيل..، ولاستكناه المزيد دخلت الى صفحته الشخصية، لتكتشف انه من مواليد اقصى البلاد قبل ثلاثين عاما، (عمره قريب من عمرها)، ويقيم هناك. يعمل مهندسا الكترونييا.. هوايته العزف وركوب الخيل. يحب الشعر وتعجبه الكلمات الجميلة. اعجبت نهيلة بكل ما قراته ومرت عليه، كما مرت قبله على العديد من الاسماء، فقد علمتها الليالي ان تكون حذرة في الغابة الفيسبوكية المتشابكة. وكان لها عدد من التجارب غير المريحة مع متطفلين من كل الاعمار والديار، لكن ما ان نسيت نهيلة صاحب ذلك التعقيب حتى تذكرته، فقد دخل اليها على الخاص، وكتب لها كلمات ابرزت اللمعة في عينيها العجاوين، وبعثت فيها احساسا غير مألوف، لا سيما انه آت من مهندس الكترونيا وشابا ايضا.. وكما حدث لها كلما لفت نظرها امر.. يستأهل التفكير والخاطر يثير، راحت تقرأ ما كتبه على الخاص وتكرر دون ان تتوصل الى معناه المباشر ومعناه الاخطر غير المباشر، "اتمنى ان اتمكن من معرفة سبب عدم تفاعلك مع تعقيبي على كتابتك حول بنات اليوم". بدون تطويل في غير محله، دخلت نهيلة، خاص رهيل، وجرى بين الاثنين حديث تواصل ستا وثلاثين ساعة، وتتوج بأمرين، احدهما تبادل الصور والى جانبه الاعجاب.. الف.. والانبهار.. باء. والآخر وكان مضمرا، ان ما جمعه الله لن يفرقه بشر، وان هذه العلاقة لن تكون عابرة وسوف يكون لها ما بعدها.
بعد سنة من التواصل الليلي احيانا والنهاري اخرى، كان لا بد ان يُحضّر الاثنان امورهما ليجمعهما بيت واحد، وحب واحد وابن واحد ايضا، وللحقيقة نقول ان الاثنين برعا في التخطيط والترتيب لكل صغيرة وكبيرة .. للجمع بينهما، وان الامور جرت بالضبط كما خططا تخيلا ورتبا واقعا. في البداية وفد رهيل الى بلدة نهيلة، تاركا بلدته، اهله وعالمه، وبادر لشراء البيت التي اختارته نهيلة، واقام فيه، ريثما تجري بقية الامور، بعدها تعرف على اهلها، واعجب بهم ايما اعجاب، ثم طلب يدها فرحبوا به، بموافقة والحاح من ابنتهم. بعدها.. تحولت المحادثات الفيسبوكية الى لقاءات يومية، وكان الاثنان يغرقان في بحر من الضحك وهما يتذكران ايام الفيسبوك، ويقارنانها بما توصلا اليه في علاقتهما من حقيقية واقعية. اكثر من هذا لجآ احيانا.. للتواصل عبر الفيسبوك.. كسرا للملل. وكان هذا كله يجري وسط حذر رهيب من التواصل الجسدي بين الاثنين.. ولو حتى بقبلة على الطاير.
تتوجت اخيرا علاقة رهيل ونهيلة بالزواج وابتدأ الفصل الاكثر اهمية في حياة كل منهما.
في اول تواصل جسدي بين الاثنين، اكتشفت نهيلة ما لم تمكنها الليالي ولا الفيسبوك من اكتشافه. تم اكتشافها هذا، بشكل مفاجئ وغير متوقع، ولنطلعكم عليه اولا بأول.. بالضبط كما تقع الاحداث في القصص. ازال رهيل الطرحة من على وجه نهيلة. بعدها عصف الشوق بالاثنين فشرع كل منهما بمساعدة الآخر في انتزاع ملابسه، حتى باتا عاريين مثل جدهما الاول وجدتهما الاولى، في اول عهدهما على الارض. وبين الاشجار، نظر كل منهما الى جسد الآخر، فشعر انه انما يقف امام إلها تقمص روحا بشرية. نسي الاثنان كل ما احاط بهما وتذكرا امرا واحدا هو انهما معا وبإمكان كل منهما ان يرتوي من ماء الاخر السلسبيل الزلال. والتصق الفمان فالصدران فالجسدان، حتى انهما اصبحا، لمن يراهما او يتصورهما، جسدا واحدا بأربعة ايد واربعة ارجل.
منذ الليلة الاولى، شعرت نهيلة ان ريالة تدفقت من فم زوجها على جسدها، فاشمأزت منها قليلا، غير انها لم تعرها اهتماما خاصا، اعتقادا منها انها قد تكون لسبب نفسي وما اليها، بيد ان ما حدث في الليالي التالية، اكد لها ان امر حنفية الريالة دائمة التدفق على جسدها في اعماق الليالي، انما هي عادة عليها اما ان تتعايش معها او تطلب حلها، او.. ولم تكمل.
بين هذا السؤال الحائر والاجابة الطائرة كريشة في مهب الريح، قضت نهيلة السنة الاولى من زواجها. وكان ان انجبت مولودة ظهرت عليها ملامح النباهة والجمال جلية واضحة منذ خروجها من بطن امها الى سريرها، فاتفق الوالدان على تسميتها سهيلة، تناغما مع اسميهما، وتمت التسمية وسط اصرار مكتوم من والدها رهيل وموافقة مكظومة الغيظ من والدتها نهيلة.
بعد ولادة ابنتها توجهت نهيلة، ذات ليلة حالكة السواد الى رهيل، ملقية عليه خطبة مفادها، انه زوجٌ رائع ومضحٌ، وانها تُكبر هذا فيه، الا انها لا يمكن ان تقضي عمرها بركة لريالته. اخفض رهيل راسه امام نهيلة، كمن حسب الف حساب لتلك اللحظة وخشي منها طوال ايام حياته، وهمس كأنما هو يريد ان يسمعه انسان واحد في العالم، يدعى نهيلة، والحل؟ ما ان لمست نهيلة انكساره ذاك امامها، حتى انتابتها حالة من الرأمة الامومية، وهتفت به بصوت هامس كي لا توقظ صغيرتها ايضا: الحل ليس عندي.
توجه رهيل في صبيحة اليوم التالي الى طبيب مختص، كما فعل مرات ومرات في سنوات ماضية، في البداية برفقة امه، بعدها برفقة ابيه، ثم وحده، لتبتدئ رحلة شاقة من محاولات العلاج المتجددة، وغير الناجعة.
في هذه الفترة اتفق الزوجان على حل وسط، ان ينام كل منهما في غرفة، وقد تم تنفيذ اتفاقهما، الا في حالات نادرة في البداية، وكثيرا ما كانت هذه الحالات تحصل وسط خجل نهيلة من نفسها اولا ومن زوجها المهندس الالكتروني ثانيا، وكانت الزوجة المسكينة تسلمه جسدها وكأنما هي تسلمه الى مسرور السياف، او عشماوي قابض الارواح، الامر الذي ادخل الزوج رهيل في حالة من التساؤل عما يمكنه ان يفعله، وتوصل في ذروة تساؤلاته المتواصلة ليلا نهارا، الى انه ينبغي ان يتوقف عن لعب دور الزوج في تلك الصيغة المهينة له ولام سهيلة.
ومضت الايام بين عذاب وعذاب، وكانت نهيلة كثيرا ما تطلب الحل من كل من تأنس اليه رأفه نحوها ومحبة لها، غير ان احدا لم يقدم لها الحل المنشود، اما رهيل، فقد وجد نفسه مثل فرع قد من شجرة، فراح يتألم ليل نهار، دون ان يجد من يساعده او يمد لها يد العون.
عندما طفح كيل نهيلة، بعد معاناة تنوء بحملها الجبال الرواسي، كان لا بد لها من ان تخوض معركتها الاخيرة، دخلت غرفة رهيل، ذات ليلة بعد ان نامت ابنتها سهيلة، اثر الم وبكاء، فابتسم المسكين ظنا منه انها قررت التعايش مع مصيبتهما، سوى انها تجاهلت ابتسامته وقالت له بحدة من قرر امرًا لا رجعة عنه: طلقني.
بهت الزوج العاشق الحائر حبا، وقال: هل يوجد رجل آخر؟ فردت عليه بحزم، لا. فعاد يقول لها: وسهيلة. فقالت لها بإمكانك ان تراها متى تشاء.
همت دمعة حارة من عين رهيل، وخطر له ان يتقبل الوضع المستجد، فشرع بجمع ملابسه وسط نظرات زوجته العارفة، وصرخات ابنته في الغرفة القريبة جدا. وتوجه من فوره ليستقل اي وسيلة نقل سيارة او طيارة، لتعود به من حيث اتى. اما نهيلة فقد ربطت شعرها الاسود الطويل على شكل ذيل فرس. وضعت وسطه دبوسها القمري، توجهت نحو حاسوبها وفتحت فيسبوكها.. وهي زائغة العينين.
***
قصة: ناجي ظاهر

اهداء الى روح المربي الأستاذ عادل سعيد

كان الفتى عادل، ذو الاثني عشر ربيعًا، كتلة من الذكاء المفعم بالشقاوة والمغامرة، طفلًا يحمل في قلبه جذوة التحدي وفي عقله نور الابتكار. كان عالمه أشبه بساحة تنافس لا يهدأ، يمارس فيها ألعابًا يبتكرها بنفسه أو يعدّلها بما يتناسب مع شغفه العارم وإرادته التي لا تعرف الكلل. كان يبحث دومًا عن العقبات، ليكون هو العقدة وهو المفتاح وهو الحل، كل ذلك ليخطف الأنظار نحوه، سواء بين أفراد عائلته وأشقائه الخمسة الذي كان هو أكبرهم، أو في أروقة المدرسة وبين زملائه الصغار.
كان والده يعامله بحظوة خاصة، يغمره بعناية تمتزج بحب غير مشروط، وقد أورثه من صفاته الكثير؛ فكان عادل واثقًا بنفسه حدّ الثبات، جريئًا في فرض شخصيته وسط أقرانه، ذا نظرة ثاقبة تحمل تحديًا جليًا، تلمع من خلف سواد عينيه الحادتين اللتان تشبهان ليل الجنوب الهادئ. أما ملامحه السمراء، فكانت تزداد جاذبية حين يولي هندامه ونظافته اهتمامًا خاصًا، متأثرًا بشغف والده الذي حرص على أناقته بقدر حرصه على تربيته.
أما مغامراته، فكانت تحيا في كل زاوية من زوايا قريته الصغيرة. يتفق ويخطط مع أخيه الأصغر على صنع الألعاب بحنكة العارفين. كانوا يجمعون بقايا النفايات وأعواد السعف والحصى، فينحتون منها طائرات ورقية وأقواسًا وأسهمًا ومصائد ومقاليع وسنارات صيد، وكأنهم يحولون اللاشيء إلى كنز ملموس. لم تكن ألعابهم مجرد لهوٍ عابر، بل كانت مصدرًا إضافيًا يضمن لهم بعض المال القليل الذي يتقاسمانه بفرح كبير، كأنهما اكتشفا سر الحياة.
كانت الرماية والتهديف شغفه الأعمق، يطلق سهامه نحو الأهداف الثابتة والمتحركة وكأنه يرمي ذاته نحو التحدي ويقيس قدرته في إصابة المستحيل. ببراعة لا تعرف الخطأ، كان سهمه نادرًا ما يخطئ الطرائد من عصافير وطيور، وكأن يديه تتحدثان بلغة تتماهى مع الريح. كل شيء أمامه كان هدفًا مستحقًا لسهامه، يسكنه هوس التميز والتفوق، ويمتلئ قلبه بنشوة الانتصار حين تصفق له عيون اقرانه بدهشة وافتتان.
حين يعود إلى البيت بعد الظهيرة، كان يحمل غنائمه بكل فخر، فيشعل نارًا صغيرة من أغصان جمعها في طريق العودة، ليشوي صيده على وهجها الدافئ. أما البستان القريب من بيتهم، فقد كان مملكته الخاصة، حيث يثبت أهدافه على الأرض أو على جذوع النخيل المتراصة كشواهد على مهاراته. وكان إذا صادف سربًا من العصافير وهي تحلق في السماء، شعر بأن قلبه يحلّق معها، وأن كل سهم يطلقه ليس إلا إثباتًا جديدًا لتفوقه وتحديه، وتصديقًا على سحر الطفولة الذي يسري في عروقه كالنهر الجاري.
كان الرهان هذه المرة جريئًا ومتهورًا، بل ربما كان التحدي الأعظم الذي أقدم عليه عادل دون تردد. فقد وقعت عيناه على تلك البقرة الوادعة، بقرة البستاني، التي كانت ترعى في البستان وقت الظهيرة، تتهادى بخطوات وادعة مطمئنة لا تعرف الخوف.
جلس عادل القرفصاء، وقلبه يخفق بشدة تشبه إيقاع الحرب، لكن بعينيه كان ثبات المقاتل الذي لا يخشى شيئًا. شدَّ القوس بحذر وتوترت أوتاره كأنها تختزن كل رغبة في النصر، ثم أطلق سهمه بعزيمة جامحة. انطلق السهم كطائر جائع يبحث عن فريسته، فاستقر في فخذ البقرة بعمق.
قفزت البقرة المسكينة وقد مزقها الألم، فاندفعت تخور بصوت عالٍ وهي تركض بجنون في أنحاء البستان. كان المشهد كابوسًا يتفجر أمام عيني عادل، وهو يركض خلفها بكل ما أوتي من قوة. لم يكن يريد إنقاذها، بل كان يسعى لنزع السهم من فخذها، ذلك السهم الذي تحول إلى دليل إدانة لا يرحم.
لكنّ الأمر كان قد فات. فالبقرة دخلت بيت البستاني وسهم عادل ما زال مغروزًا في فخذها، والدماء تسيل منه شاهدة على جريمته الطفولية.
أطبق الهلع على صدره، وأدرك أن العقوبة هذه المرة ستكون قاسية بلا شك. لم يكن أمامه سوى الهروب. مضى إلى بيته بخطوات متعثرة، وجهه شاحب كالقمر في ليلة عاصفة، وهيئته مبعثرة كأنها فريسة نجت لتوها من كمين مفزع.
دخل البيت وهو يترنح تحت ثقل أفكاره، واندفع إلى زاوية بعيدة في غرفة جدته. جلس متظاهرًا بالانشغال بدروسه وواجباته، كأنما يحتمي بها من المصير الذي ينتظره. كانت يداه ترتجفان رغم محاولاته البائسة في رسم الهدوء على ملامحه.
استغرب الجميع من سكونه الغريب وانهماكه المفاجئ في مراجعة دروسه، ذلك الصبي الذي لم يكن يعرف عن الهدوء سوى اسمه. لكن لم يمهله القدر طويلًا، فسرعان ما قطع ذلك الهدوء طرقٌ سريعٌ وعالٍ على باب البيت، كسوط يُجلد به ظهره الضعيف.
ارتعش جسده بالكامل، وتجمّدت عيناه على حقيبته كأنها ملاذه الوحيد. وعلت صيحات البستاني الغاضب، تتخللها كلمات مليئة بالاتهام والوعيد وهو يتحدث إلى والدته التي فتحت له الباب بتردد. أخبرته والدته بأن والده لا يزال في العمل، وأنها ستنقل إليه ما حدث عند عودته.
هنا، شعر عادل بأن الزمن قد توقف. لم يعد يسمع شيئًا سوى دقات قلبه المتسارعة، ورعبه الذي صار له ثقل يكاد يقتله.
سألته والدته بصوت يملأه القلق والغضب المكتوم، كأنها تحاول استباق كارثة قد حلت
ــ ماذا فعلت هذه المرة؟ وبدون مراوغة، أخبرني الحقيقة.
كان جسد عادل ما زال يرتجف تحت وطأة الخوف، لكنه جمع شتات شجاعته المتناثرة وردَّ بصوت متقطّع، كمن يحاول الإمساك بخيط من أمل واهن
ــ لم أتعمد التصويب نحو البقرة، كنت فقط أحاول اصطياد عصفورٍ، لكنها مرت في نفس اللحظة، فأصابها السهم دون قصد.
في تلك اللحظة، تجمع إخوته وأبناء خالته حوله كحلقة دفاعية، كدرع بشري يريد حماية قائدهم الصغير. هزّوا رؤوسهم مؤكدين كل كلمة نطق بها عادل، وكأنهم كانوا شهودًا حاضرين أو شركاء في الجريمة البريئة.
أما الجدة موزة، أو كما يناديها الجميع "أمنا الكبيرة"، فقد كانت تتابع المشهد بعينيها الحانيتين وابتسامتها التي تروي حكايات عمر طويل. كانت منهمكة في جمع أطراف ضفيرتيها الحمراوين بعقدة محكمة أعلى رأسها، وكأنها تزيّن تاج حكمتها الأزلية.
تقدمت نحو عادل بخطوات واثقة، ولوّحت بيدها بتحذير لطيف يحمل في طياته الحب والخوف عليه معًا. قالت بصوت يفيض بالحكمة
ــ لا تكررها يا بني. المرح والشقاوة لهما حدودهما، ويجب ألّا يكونا على حساب الآخرين.
أطرق عادل رأسه خجلاً، وكأنه أدرك أن الجدة موزة تستطيع أن تقرأ كذبه حتى وإن تزينت كلماته بالبراءة. وعدها ألا يعيد فعلته، ورجا حمايتها، فهي دائمًا كانت ملاذهم الآمن من قسوة والده.
كانت الجدة موزة هي الأم الحقيقية لهم جميعًا. تطعمهم بيديها ما يحبون، وتضمهم ليلاً على سريرها الحديدي الواسع، ذلك السرير الذي كان بمثابة سفينة نوح تحتضنهم من كل مخاوفهم وفزعهم. كانت تروي لهم أجمل قصصها، وحكاياتها التي تمزج بين الأسطورة والواقع، وهم يتسابقون لمشاركتها أسرار شقاوتهم وضحكاتهم البريئة.
عاد الوالد من عمله، وعيناه تحملان تعب النهار وثقل المسؤوليات. وبعد أن تناولوا الغداء، أخبرته الوالدة بما جرى، وبأن عليه معالجة الأمر مع البستاني الغاضب.
عبس وجهه، واكتسى غضبًا كريح عاصفة. نزع نطاقه وسحبه بقوة، طاويًا نهايته بقبضته اليمنى كمن يستعد لإنزال عقوبة لا مفر منها. زمجر بصوته الغاضب مناديًا: عادل!
كان عادل حينها يرتجف تحت لحاف الجدة، يستشعر برودة الخوف تمتزج بحرارة الندم. لكن قبل أن تصل يد والده إليه، هبّت الجدة موزة واقفة أمامه، شامخة كجبل يحتضن صغاره.
قالت بصوت حازم وثابت
ــ إيّاك أن تلمسه! فهو لم يتعمد فعلته. اذهب إلى البستاني واعتذر منه بنفسك، وكن مستعدًا لتقديم أي تعويض يطلبه مقابل الأضرار مهما كانت قسوتها أو حجمها. دع الأمور تنتهي بسلام وبالتراضي. أما عادل، فأنا كفيلة به هذه المرة.
كانت كلماتها كتعويذة سحرية بددت عواصف الغضب في قلب الأب، وزرعت في المكان سكينة أشبه بظل شجرة وارفة في يوم قائظ. وما كان من الأب إلا أن ينصاع لحكمة الجدة، فهو يعرف جيدًا أنها لا تقول ما تقول إلا بميزان العقل ورقة القلب.
***
سعاد الراعي

 

إلى (ج . خ . م)

أنتَ تنسى كم قوّضتَ من السقوف

على أسِرّة من أحبّوكَ

لكنكَ تتذكّر بغضب عضّات أسنانهم اللبنية

على مقابض بوّابتِكَ الحديدية

تبني حولك من أخطائهم أسواراً

فلا ترى من الأفق سوى خرائبَ

تتكدّس فيها النجوم المتعفّنة من مرارة الدموع

وها أنتَ منذ اتّخذتَ الكراهية دليلاً

تركضُ في الهاجرة بحثاً عن ظلّ شجرة

لكنّ الشجرة تهرب مذعورةً

فقد ظنّتكَ تريد افتراسَها

حتى البستانُ الذي تبنّاكَ يتيماً

وألبسكَ من أسمال أبنائهِ الجداجدِ والأعشاب

لملم سواقيهِ في صُرّةٍ

وهربَ دون أن يترك عنواناً

**

كلّ الذين أطفأتَ في عيونهم الشمس

غفروا لكَ

بغسلهم العتمة عن أحداقهم بالحُب

لكنكَ لم تغفر لهم

قرعهم النواقيس على مقربة من قبور أحلامك

لقد ربطتَ رجليكَ بحبلٍ إلى الماضي

فتحوّلَ جسدُكَ إلى سجن

وأضلاعُكَ إلى قضبان

بينما الذين لم تنسَ أخطاءَهم

تحوّلوا خارجَ ميدانِ رمايتِكَ إلى فراشات

**

إلى متى تُجرّرُ من خلفكَ قيود الكراهية

كان عليكَ أن تُمزّقَ أثوابكَ

وتتخذ من المِزق أجنحة

تنأى بها عن مستنقعات السُمّ

لكنك لن تستطيعَ

فالذي تشبّعتْ رئتاه بالعتمة

يُصيبهُ الضوء بالاختناق

***

ليث الصندوق

مازلتُ أراكِ قُبَيْلَ الفجر وكلُّ البيتِ نيامْ...

توقدينَ النارَ بنور السلام!

مازلتِ غزالًا وأسرابَ حَمَامْ...

ما زلتُ أراكِ كما كنتِ تستسهلينَ الصيامْ

مازلتِ

مهرةً

حرةً

تأبى الطعامْ

إلا شُربةً

إلا تمرةً

في بيتٍ

فيه ثلاثُ بيوتٍ

*

مهرةٌ تأبى الطعام حتى يكتفي العطشى الجائعون وينفضُّ الازدحامْ!

*

مازلتِ ومثلَ ثكالى الأمهات؛

تستقوي على أحزان الزمانْ

بالصبرِ

بالشكرِ

بالذكرِ

ما زال حياؤكِ يُستعادْ

ما إن تطأ العينان أرضًا تعلو هاماتٍ لها شيلةٌ من إبْرِيْسَمْ تِزْكَامْ

***

د. لطيف القصاب

.........................

الشيلة: غطاء رأس

تزكام: فِصال حسب الطلب.

الليل يَنْصُبُ طُغْمَتَهُ

عباءتهُ تَنْشَدُّ وتَقْدَح شرراً

لم يبقَ في ساعتهِ حُلمٌ

لتأويلِ الجرحى..

والوقت عيونْ!

*

يَجمعُ الليل دَوَاتهُ لِيَكْتُب

في حياتهِ لم يَقْرَأ (وطناً)

أدواتهُ عمياء...

ويدهُ لا تُمْسِكُ النهار

كلمة واحدة يعرفها

هي: الإظلام!

*

هو ذاتهُ مِنهُمْ

يَعْرِفُ الباعة تماماً

باعة الظلام

والذين أظلموا

والظلاميين الجدد

وطيور الظلام...

كما تعرفُ الطرقاتُ

نِقَاط (الخُبْرَةِ) و(الجماعة)!

*

يَفتحُ الليلُ دُكَّانهُ

ولا يشتري أحدٌ مِنْهُ إلا العَتْمَة!

عَورتهُ باديةٌ ويَراها سواه

يتمنى أن نزورهُ لمَرَّةٍ

كما يزورنا هو كل ليلة!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

من كتاب: (رِمال القلق)

جلست في شرفة المنزل المطلة على الحديقة، حيث امتلأت رؤيايَ بمشاهد سحرية الأشجار السامقة التي تتلألأ بألوانها الخضراء. كانت الورود العطرة تتفتح على حافات الحديقة وأسفل الشرفة، مما يملأ الهواء بعبق روائحها الزكية. الأرض كانت مفروشة بالحجارة البيضاء الصغيرة، مما أضاف لمسة من الجمال للمشهد.
وفجأة اجتاحني فيضان من الحزن، اجتاح كل جوارحي وأنا أجول بعيني في الإرجاء، عندما تذكرت تلك القطة السوداء التي كانت رغم صغر سنها تتسلق أشجار الحديقة وتداعب أرجلنا بفروة رأسها قبل بضعة أيام، وتستنجد منا الحب.
في أحد الأيام توارت عن الأنظار لمدة ثمانية وأربعين ساعة بعيدًا عن المنزل. خرجنا إلى الشارع وبحثنا في الأزقة، وسألنا المارة، وطرقنا أبواب البيوت، وتوغلنا بين الشجيرات الكثيفة ننادي باسمها بصوت يملؤه الأمل والخوف. لسوء الحظ، لم نجدها.
وفجأة، بعد انقضاء مدة غيابها، ظهرت أمامنا، كأنها شبح من ذكريات الحب والحنين، فبعثت الفرحة في النفوس.
في أمسية من الأمسيات الصيفية الجميلة بعد حادثة اختفائها بأسبوعين فقط، سمعت من خارج نافذة غرفتي صراخًا حادًا، مصحوبة ببكاء زوجتي. حينها كنت جالسًا في كرسي امام الكومبيوتر، منكبًا على كتابة مقالة حول أسباب العنف لدى بعض الشباب في المجتمع، خرجت مسرعًا إلى باحة الدار، فرأيتها تجلس القرفصاء وتبكي بحرقة وألم وتشير بيدها نحو الأرض وتقول بصوت متهدج:
ــ انظر ماذا حدث؟
وبسبب الضرب الوحشي والخنق وقلع العيون، أصبحت هذه القطة البريئة، التي لم يبلغ عمرها خمسة أشهر بعد، ضحية لمراهق أحمق. كان جسد القطة ملقى على الأرض، وعينها اليسرى تتدلى من حدقة عينها بخيط رفيع. عرفت على الفور أنها ماتت خنقّا.
أعادتني هذه الحادثة إلى صور الجماعات الإرهابية التي ارتكبت ولا زالت ترتكب الفظائع، حيث بدأت عملياتها الإجرامية أولاً بذبح القطط كخطوة تمهيدية قبل اللجوء إلى التطبيق الحقيقي لذبح البشر.
تساءلتُ في صمت:
ــ ما الذي يجعل الإنسان يغرق في دوامة العنف. أهو نتيجة لتنشئة أسرية قاسية ومضطربة، أم بسبب نقص التأهيل وتلقين تعليمات مغلوطة لا تتناسب مع عقلية الطفل البريئة، أم أن هناك خللًا عقليًا بسببه يفقد توازنه ويجعله يتصرف في ارتباك وحيرة مطلقة، لينزلق في هاوية العنف بلا رحمة؟
إن خلفية الإنسان والظروف المحيطة به تؤثر تأثيرًا عميقًا في تشكيل تطوره الاجتماعي. فالعلاقات الأسرية المتجانسة، التي تتوفر فيها مقومات القيمة الإنسانية مثل الرعاية الصحية والحنان الدافئ، تسهم في اكتساب شعور قوي بالتآلف. وتُعَدُّ هذه العوامل مصدرًا أساسيًا للتواصل والتفاعل الاجتماعي.
وأخيرًا، حفرتُ حفرة في تلك الحديقة الفسيحة، تكفي لاحتضان جسده النحيل الذي فارقته الحياة. وضعتُه برفقٍ داخلها، ممدّدًا إيّاه بعناية على امتداد الحفرة، وكأنه يرقد في نومٍ عميق بلا قلق أو ألم. بدأتُ بنثر التراب فوقه ببطءٍ وحنان، والتراب يتساقط كأنه يمزج بين حزن الفقد وحنان الوداع. لم ترتكب هذه القطة أيّ ذنب، سوى أنها كانت تبحث عن العطف والدفء الذي طالما افتقدته.
***
كفاح الزهاوي

نجحت إلى الصف السادس الابتدائي وباشرت الدوام في مدرستي الجديدة مدرسة حذيفة بن اليمان. أبي يوصلني بدراجته الهوائية إلى مدرستي كل يوم، قبل ذهابه لعمله في بيع الخضار في سوق المدينة. في نهاية دوامي المدرسي أعرج إلى السوق لأساعده، وهناك أكمل واجباتي المدرسية أيضا. تلك حصيلة يومي.
قبل يوم من العطلة الربيعية، كتبت عنوان موضوع الإنشاء الذي دونه مدرس اللغة العربية عبد القادر رضا الناجي، فوق اللوح المدرسي الأسود، وكان عنوانه أوصف مكان زرته واثر فيك. تركت اختيار المكان حتى اليوم ما قبل الأخير من انتهاء العطلة الربيعية، أو الأحرى قلبته في رأسي دون القدرة على اختيار مكان، لندرة ذهابي خارج البيت. ولكني أنجزت عملي في اليوم الأخير وسلمت دفتري بروح مغموسة بفرح غامر، عند أول يوم دراسي بعد نهاية العطلة.
أشاح المدرّس وجهه عني وابتسامة مصطنعة ترتسم بتثاقل فوق شفتيه. في اليوم التالي جلس فوق أول مقعد في الصف ثم نادى باسمي. أوقفني أمام الطلاب فشعرت بالارتباك والفزع فأطرقت رأسي. ثم انطلق صوته بقوة:
ـ ما الذي يفعله الطالب حين يصف مكاناً ذهب إليه؟ من يجيب عن ذلك؟
ارتفعت الأكف تتطاول كي يشير المدرّس لأحدهم بالإجابة، لكنه صرخ بأعلى صوته أن اخرسوا. وكان صوته المجلجل مثل زئير أسد. ارتبكت الأكف الصغيرة، وراحت تنسحب واحدة تلو الأخرى. انكمشت وأحسست أن الجدران تقترب لتطبق علي وتهرسني. إحساس بالرهبة والانسحاق سيطر على روحي فراح جسدي يرتعش بتسارع ولم أعد أستطيع السيطرة عليه.
ـ غبي.. ما هذا؟ أهو وصف لسوق شعبي يتبضع منه الناس أم مكب نفايات وفوضى؟
ــ نعم كان هكذا.
ــ أخرس لم اطلب منك الإجابة.
نزّ جبيني عرقاً بارداً غطـّى جبهتي، وراحت ركبتاي ترتخيان. قاومت اندفاع رغوة تصاعدت في أحشائي. ضحكات رفاقي أدخلتني هلام سائل كثيف، فسقطت مغشياً علي.
حين أفقت كان الخوف يعتمر قلبي وأنا أشاهد كـفه الثقيلة تمسد جبهتي بالماء البارد.
ـ دلال صبيان. لا شيء غير ذلك. انهض يا شاطر. رغم أنك لم تكتب عن الموضوع بشكل حسن، ولكن لا بأس. سوف أحتسبها لك هذه المرة.
حين جلست بين دفـّتي مقعد الدراسة، كنت أحبس دمعتي خوفاً ورهبة. وكان خدر تام يكتسح كامل جسدي. لم أكن قادر على إسكات ضحكاتهم التي راحت تجلجل في رأسي. وكان جسدي الواهن يتفصد عرقاً بارداً، ويقف المدرّس أمامي وهو يغتصب ابتسامة شاحبة لم تتعدَّ حافـّة شفتيه الغليظتين البغيضتين.
***
فرات المحسن

 

الروبوت والحب

الحبُّ في المُختَبر السريّ،

يُباعُ على دفعاتٍ متساويةِ الجرعات.

الروبوتات في طوابيرِ السِّلِكون

تَنتًظرُ دَورها.

*

"ميتافيرس الحب"

في عالمٍ إفتِراضّي، أحْبَبتُكِ

صَنعتُ لكِ قلبًا مِنَ البَياناتِ المُشفَرةِ

وعانَقتُك بِذراعَينِ من الواقِعِ المُعَزّز

لكنْ.. هَلْ يُمكِن لِلحبِّ أنْ يِعيشَ

في كَونٍ مَصنوعٍ منْ خَوارِزميّات؟

*

"سيلفي الروح"

ألتقطُ صورةً ذاتيةً لروحي المُتَشظّية

أضَعُ فِلترَ الحُزنِ على ابتِسامَتي المُزيّفة

أشارِكُ وَحْدَتي مَعَ آلافِ المُتابعين الوَهميين

وأتَساءَلُ: كَمْ "لايك" تَحتاجُ الروحُ

لِتَشعرَ بِالرِّضا في عَصرِ وَسائلِ التواصُل؟

**

طارق الحلفي

...........................

*  ميتافيرس»» العوالم الافتراضية وقد تشير إلى الإنترنت ككل، بما في ذلك النطاق الكامل للواقع المعزز..

*  لايك»» يحب، يفضل

المَجـْـدُ يَـبْسـمُ في مَواطِن أهْـلِــهِ

والـعِــزُّ فــي أجْـوائهــم يَتَـفاخَــرُ

*

عينُ الزمان ترى الرّفـيعَ بمُقْـلـةٍ

في نـورهـا ضوْءُ الحـقيقـةِ باهِـرُ

*

(لا تـنْه عن خـلق وتاتي مثـله)

كُـنْ في المَسِيرة صامِدا لا يُـقْهرُ

*

(مَن رامَ وصْل الشمس حاك خيوطها)

عَــزْمُ الطموح له الإرادةُ محـْوَرُ

*

الأمْـنيـاتُ بـلا خُطىً مـرسـومـةٍ

كالعـيـن دون تَـبَـصّـرٍ لا تُـبْـصِرُ

*

(واذا اتـتــك مذمـتي مِن ناقِـصٍ)

هـي سَــدُّ نَقصٍ في سـلوكِه غامِرُ

*

إنّ الــوصالَ إذا النـقـاءُ بـه سَرى

فــســلوكُه، فـــي عِــفّـةٍ يَـتَـأطّـرُ

*

وأصالةُ الحُـب العفيف لها صدىً

بــسمـوّهِ، كــلُ الـدَناءة تُـضْـمَــرُ

*

عَـبَقُ البلاغةِ في الكلام مَواهِـبٌ

يَعـلو بها مَنْ في التجارِب ناظِـرُ

*

يـبـقى رصيدُ المـفردات مُـوافِـياً

للإنـتـقــاء، ولـونُ حرفِـه ناضِـرُ

*

اشـراقـة المعنى، دلــيلُ تَـبـَصُّـرٍ

ورشــاقـةُ التعـبـيـرِ حَـرفٌ قـادِرُ

*

يامــن يرومُ فــصاحـةً بـمَقالـةٍ

نهْجُ البلاغةِ، في سطوره زاهِرُ

*

إنّ الــتـفاخُــرَ، في كتابة أسطـرٍ

زَهْــوٌ مَـقـِـيـتٌ والتواضعُ أفْخَــرُ

*

قَــلَـمُ الكـرامـةِ، للخــلود مُؤَهّـلٌ

والـزّيــفُ رُغْم فــنـونه يـَـتَعــثّـرُ

*

إنّ التــصنّـعَ في السلوك غَمامَةٌ

والضوءُ يكْـشِفُ مُبْـتَـغاه ويـُخْـبِرُ

*

كن واضحاً، لك في القلوب مواقِعٌ

وإذا أُشـير الى الفضائـل، تُذْكَـرُ

***

(من الكامل)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

أنا بخير،

لأن الشوارع لم تعد تطاردني بأسئلتها،

لأن إشارات المرور لم تعد تومض لي بلغة لا أفهمها،

لأن الأرصفة لم تعد تتآمر عليّ حين أمشي بلا ظل.

أنا بخير،

لأنني لم أعد أخشى إرتطام الوقت بصدري،

لأنني أتعلم كيف أصنع قهوة لا تحتاج إلى سكر،

وكيف أفتح النافذة دون أن يسقط الليل على رأسي.

*

أنا بخير،

لأنني لم أعد أبحث عن وجهي في مرايا الآخرين،

لأنني لم أعد أقايض قلبي بساعة حائط،

ولم أعد أركض خلف القصائد التي تفرّ كالأرانب المذعورة.

*

أنا بخير،

لأن المطر لم يعد يسألني أين كنت حين كان يعبر وحده،

لأن الأحلام التي خبأتها في الجوارير،

ما زالت تتنفس، ما زالت تحلم بي أيضاً.

*

أنا بخير،

لأنني تعلمت ألا أفكر في الناقص فيّ، بل في إكتمال القمر على وجهي،

في الهواء وهو يتسلل بين أصابعي كطفل مشاغب،

في الأضواء الصغيرة التي تبرق دون سبب،

في الأغنيات التي تنام تحت لساني كسرّ قديم.

*

أنا بخير،

لأنني لم أعد أكتب رسائل لن تصل،

لأنني لم أعد أخاف من الأصوات التي تخرج من ذاكرتي،

لأنني لم أعد بحاجة إلى تفسير كل شيء.

*

أنا بخير،

لأنني أخيراً...

صرتُ أصدق ذلك،

أنا بخير .

***

مجيدة محمدي

إلى روح أخي علاء…

إنها ليست -رحلة كولومبس- الذي يطوف عبر البحار، مفتشاً عن جزيرة رائعة، يجري فيها الذهب مع الماء، ويختلط فيها لهيب الشمس مع الأرض التي تبحث عن غاصب بمخالب ذكية لتوابلها اللاذعة، ومع ذلك فالبحار كثيرة، وقد يكون بحر كولومبس أكثرها هدوءاً، إذا ما قارنّاه ببحر - يوليسيس- أو ببحارنا نحن الآن.. مدينتنا تدخل في رأسي الصغير باتساع بحري خارق، وأنا أقف وسط سورة من سورات أمواجها على خشبة متهرئة.
مطلوب مني فيها أن أكون قرصاناً بلا روح، وحتى بلا بارود أو سيوف. ان علينا ان نركب هذا البحر وأن نغامر وأن نصل إلى أمتع الجزر وأكثرها بريقاً في أعين الملاحين، ولكن أين هي هذه الروح ؟ ان هذه المدينة العاهرة قد شلّت ارادتنا تماماً، أيبست فينا الاندفاع الحار؟ أنني أشعر كل يوم بحاجة ماسّة مقلقة، إلى أن أنتزع نفسي مبكراً من الفراش، وأن أرمي الماء على وجهي، وأتناول سيجارة ثم أرتدي ملابسي لأخرج، أطوف في هذه المدينة، هذا باب داري مفتوح على مصراعيه، تغشيني لازمة " وين رايح " وأنا أحط القدم الأولى عند عتبة الباب تتداخل الأخبار مع الواجبات
* المدارس تغلق أبوابها لمناسبة زيارة الإمام
* مخزن الزهور يعلن عن تخفيضات جديدة لمناسبة عيد الحب
* مطلوب مني الذهاب إلى السوق لشراء مبيد مكافحة الجرذان
* انفجار هاتف محمول في جيب امرأة.
* درسنا في كتاب تاريخ المرحلة المتوسطة: ان تدخّل النساء في الحكم كان من بين أهم أسباب سقوط الدولة العباسية!! انطلت علينا تلك الخديعة التي تمررها مناهج الدراسة الملغّمة.
رجل أعمى ربما كان هو نفسه الذي يقف عند رصيف جسر الشهداء، يبتسم بغباء، يبيع المسابح الصفراء والحمراء التي تشعّ وتشعّ، تحت الشمس قرب مقهى تآكلت أرجل تخوتها، على أحد جدرانها انتشر السخام الأسود بكثافة كادت تغطي على صورة كبيرة لامرأة شبه عارية، عفواً كانت ملابسها الداخلية شفافة تبرز لحمها جيداً، وفوقها بضع كلمات، إعلان يسيل اللعاب ويجذب بحروفه الحمراء، رجال هذه المدينة لمضاجعة هذه البغي التي دفعتها البحار الينا.
ان مياه جديدة تجري دائماً، وقديماً قال واحد وهو يحدّق في النهر، انك لا تنزل النهر مرتين، فالمياه الجديدة تجري دائماً، ولربما كان هو السبب في طوافي في المدينة كل يوم. ثمة بائع بنغالي، ربما كان في - دكا- عاصمة بلاده عامل تنظيف فاشل، سرواله أحمر غامق يحمل معه صندوقاً مليئاً بزجاجات صغيرة جداً من العطور الرخيص، كان يتمتم كأنه يخشى أن يخطىء في اللغة، "ريهه…ريهه "
يؤشر بيده السوداء إلى الصندوق وباليد الأخرى يلوح بزجاجة منها، اقتربت منه سيدة كبيرة السن، بطنها متهدلة إلى الأمام، وعطست، لا ريب أن الرائحة كانت قوية جداً، فضحك أحدهم، ولما نظرته شزراً، قهقه بكل وقاحة.
اقتربت بعد ذلك من أحد الدكاكين، بعد أن دخلت شارعاً فرعياً، كان استوديو. للتصوير، إلا ان صاحبه كان فيلسوفاً! لقد كتب على الواجهة بحروف بارزة سوداء: " الحياة فقاعة صابون فصوّرها قبل أن تنفجر" ضحكت وواصلت المسير، الحياة فقاعة، تذكرت طفولتي، كنت وقتها آخذ شيئاً من ماء الصابون، أدخل فيه قصبة رقيقة، وآخذ بالنفخ، فتخرج فقاعات بأحجام مختلفة، لا تلبث أن تنفجر في الأعلى، الحياة فقاعة جميلة، فلماذا نحتفظ بصورها، أي عبث هذا؟ أيها المصور الفيلسوف.
في مرحلة الدراسة المتوسطة، فكّرت لأول مرة في عبارة " السراط المستقيم" ودفعني التفكير للبحث في واقعية العبارة، ثم وجدت أن نوعاً من الألفة والتعاطف غير المفسّر مع ذلك الخط المستقيم.
وقفت على أبواب مدن كثيرة، أنصت إلى الأصوات الآتية من الماضي فلم أفلح في استرجاع صوت " نواح" الأم، ترمي شواظ حريق فتشتعل القبور، بل داهمني ضجيج الفؤوس، يختلط بدوي الثاكلات، ثمة من يحمل الفأس يحفر. ثم بدأت يومئذ أضع أسئلتي عن أجوبة مقنعة لأسئلة: لماذا الببغاوات تنهق مثل نهيق الحمير؟ نحن من؟ بلا حلم طيف نعيش!
في اليوم التالي، كانت مياه جديدة تجري في الخارج، ترسم في رأسي أشياء كثيرة، فاشتريت صحيفة لفت نظري فيها عنوان أسود " ليس في الحرب محض حياد" فابتسمت في ألم، وطويت الصحيفة، ترى ما معنى هذا العنوان بالنسبة إلى إنسان مثلي، يفتش عن عمل، ويحلم بالحدائق والنساء..؟
ان كولومبس الجديد يسوح عبر البحار، يفتش عن جزيرة أشبه بالجنان التي كان يبحث عنها الأنبياء الجياع، ولكنه هذه المرة سيرجع خائباً حتماً، ذلك انه يحمل معه نطفة انهياره، بذرة موته، لقد كان عليه منذ البدء أنلا يذهب بعيداً في الخارج، لئلا يضيع نفسه. تذكّر في تلك اللحظة الصبي الذي فقد أخاه، من يعين فتىً مثقلاً بالهموم وأماً تلملم أثقالها؟ كان يجمع أحزانه مثل حزن الحدائق يفجعها موت نرجسة. ليس لغياب أخيه، بل لأن من كان يشاركه عبور الطريق، عليه الآن العبور وحده.
ليس العبور هو المهم، بل ثمة رفيق عمر يتخلى عنك وأنت وحدك تعبر الآن، والفتى جسد خائر حملته الريح بعيداً، وألقت به في مجاهيل البراري .
***
جمال العتابي

يا لهذا الحنين الذي يشتعل في الصدر،

حنين إلى بساطة القرية،

حيث الفرح يولد من أبسط الأشياء،

فرحة شرب الماء من دلو البئر،

وفرحة الشمس حين تشرق على الحقول.

*

أريد أن أعود إلى تلك الحياة،

حياة لا تُثقلها تعقيدات المدن،

حيث يضحك الطفل من عصافير تراقص الأغصان،

ويغني الفلاح وهو يحرث الأرض،

فرحًا بالرزق الذي لم يأتِ بعد.

*

كالشاعر الذي يرى قصيدته بين يدي قارئٍ مجهول،

يفتش في كلماته عن ذاته،

كطالبٍ يرفع شهادته نحو السماء،

وكأنها بوابة لعالم جديد.

*

أحنُّ إلى فرحة الإنسان الأولى،

حين كان يصعد عربته القديمة

وكأنها مركبة الأحلام،

إلى البهجة التي لا تحتاج إلى برمجة،

ولا إلى شاشات،

بهجة تولد من الحياة ذاتها،

بكل ما فيها من بساطة وجمال.

*

يا زمنًا مضى،

كيف نعيدك؟

كيف نستعيد تلك اللحظات

التي كانت كافية لملء القلب بالنور؟

ربما،

ربما علينا أن نبدأ من الداخل،

من القلب الذي نسي كيف يفرح.

*

(العودة إلى لمتنا الأولى)

أريد أن أعود إلى لمتنا الأولى،

تلك اللحظة التي تشرق فيها الأرواح

بعد يوم شاق،

حين كان أطفالي يتجمعون حولي،

بعيونهم اللامعة كنجوم المساء.

*

ليتهم بقوا أطفالًا،

تلك الضحكات الصغيرة التي كانت تملأ البيت،

وأسئلتهم التي لا تنتهي،

كانت تملأ القلب دفئًا،

وكأنها موسيقى الحياة ذاتها.

*

كنا نفرح بوجبة طعام بسيطة،

كأنها طعام الملائكة في الجنة،

ليس لأننا كنا نملك الكثير،

بل لأننا كنا نملك بعضنا،

وكانت المحبة تُغني عن كل شيء.

*

الآن،

تفرقت الأوقات،

وكبرت الأيام،

وصار لكل واحدٍ طريقه،

لكنني أشتاق إلى تلك الطاولة الصغيرة،

حيث كنا نتشارك الخبز والفرح.

*

يا ليتنا نعود،

نعود لنلتف حول نار الحكايات،

حول دفء الأيدي المتشابكة،

حول ذلك الشعور البسيط

الذي كان يجعلنا أغنياء،

رغم كل ما افتقدناه.

*

ربما،

الفرح الحقيقي ليس في الأشياء،

بل في القلوب التي تجتمع،

في الأرواح التي تعرف كيف تخلق

جنةً صغيرة من كل شيء.

***

د. جاسم الخالدي

 

كانت تحمل في عينيها بريق الشغف، وهي تتنقل بين رفوف المكتبة كل يوم وكأنها تبحث عن سر خفي بين الصفحات. أو تهرب من واقع ما، أو من حلم ضاع منها، كانت تجد في الكتب عزاءها، لكنها لم تكن تعلم أن هناك عينين تراقبانها بشغف، تتابعان كل تفاصيلها من خلال ملامحها، حتى الطريقة التي تُبعد بها خصلات شعرها المنسدلة حين تنهمك في القراءة.
كان يرى العالم من خلال كلماته. لم يكن مجرد كاتب، بل كان يحمل جرحا قديما من عِلاقة تركت أثرا كبيرا في نفسه، ويبحث دائمًا عن قصة حقيقية تلامس قلبه ليكتبها. لكنه لم يكن يعلم أن قصته الأجمل هذه المرة مختلفة وستبدأ حين التقى بها.
في أحد الأيام، اقترب منها مترددًا، بعدا ن استجمع شجاعته قائلا:
- "ألاحظ أنكِ تحبين القراءة كثيرًا، ما كتابكِ المفضل؟"
رفعت عينيها، لتجد أمامها شابًا يحمل بين يديه كتابًا، بعينين يشع منهما الفضول والاهتمام. تبسمت وأجابت:
- "كل كتاب يمنحني شعورًا جديدًا يصبح مفضلاً لدي، وأنت؟"
ضحك قائلا:
- "أنا لا أقرأ فقط، بل أكتب أيضًا."
نظرت اليه بنظرة أعجاب وبدت منبهرة بما سمعت!
أنت أذن كاتب أيضا ...
أصبحت ملهمته دون أن تعلم، تحولت همساتها وضحكاتها إلى سطور يخطها في دفتره، حتى أصبحت هي بطلته المفضلة. كل يوم يلتقيان فيه كان يعود إلى منزله ليكتب عنها، عن الطريقة التي تتحدث بها، وعن ملامحها وحركت شفاهها عن شغفها بالحياة، حتى عن لحظات صمتها الذي كانت تحمل ألف معنى.
مرت الأيام، وشعرت باهتمامه بل وأصبحت تدعمه في اكمال روايته، كبر الحب بينهما بصمت، كحروف تنتظر أن تُقال. لكنه كان مترددا على الاعتراف، فظل يكتب ويكتب حتى انتهى من روايته. التي أخذت منه وقتا طويلا حمل بين طياته أحداث وذكريات جميلة، وفي يوم إصدارها، كانت المفاجأة، دعاها لحضور حفل التوقيع.
كانت النسخة الأولى مهداة لها، أصبحت فرحتها لا توصف ، حين أمسكَتْ بالكتاب وبدأت تقرأ أولى الصفحات، شعرت وكأنها تنظر في مرآة تعكس تفاصيلها، كلماتها، حتى لحظاتها الخاصة. نظرت إليه بدهشة مبتسمه اقتربت منه وهمست:
- "هل... هل هذه أنا؟"
أمسك يدها بلطف وقال بصوت خافت:
- "أردتُ أن أخبركِ بشيء، لكنني لم أجد وسيلة أفضل من أن أجعل منكِ بطلة روايتي."
سادت لحظة صمت، لمعت عيناها، ثم أغلقت الكتاب بهدوء، نظرت إليه طويلًا، وكأنها تبحث عن كلمات لم تقلها بعد. ابتسمت أخيرًا وقالت بصوت خافت:
- "لكن كيف تنتهي القصة؟"
نظر إليها، وشبح التردد مازال ماثلا أمامه، ثم إلى الكتاب بين يديها، وابتسم بدوره.
- "هذا شيء لم أكتبه بعد."
تاركا الصفحة الأخيرة مفتوحة...
***

نضال البدري – قاصة عراقية

 

كان جنوب اليمن في تلك الحقبة نابضًا بالحياة، يعجّ بعقول لامعة ورفاق متّقدين فكرًا ونضالًا، جاءوا من العراق ومن واوروبا ودول أخرى بعد انهاء دراستهم وعقود عملهم، يحملون معهم مشاعل الأدب والفن والعلوم، ينسجون بخيوط الإبداع صفحة مشرقة من التبادل الثقافي والمعرفي. لم يكونوا مجرد زائرين عابرين، بل كانوا شركاء في الحلم، يغترفون من معين التجربة اليمنية، ويهبونها من عزمهم وجهدهم بسخاءٍ لا يعرف الحدود.
فوق الجدران العالية، ارتسمت الجداريات الخالدة، تنطق بالألوان والصور عن معاني التضامن والحرية. وعلى خشبات المسارح، تعالت أصوات الفنانين والشعراء، تحلق قصائدهم في فضاءات عدن، تلهب القلوب، وتبعث الأمل في أرواح المناضلين. لم تكن حناجرهم إلا انعكاسًا صادقًا لهذا التآخي، فكانت تتغنى بألحان الثورة والنضال، الجمهور اليمني يحفظ الأغاني من أول وهلة، وكأنها وُلدت من رحم هذه الأرض. ومن بين تلك الأغنيات التي لامست وجدان الناس وأصبحت نشيدًا يتردد في الشوارع والساحات، كانت أغنية الفنان أبو شمس "يا حبيبة يا عدن"، التي ردّدها حتى الأطفال ببراءتهم، وكأنهم يدركون في أعماقهم معنى حب الوطن.
لكن هذا التضامن لم يكن مجرّد احتفاء بالكلمة واللحن، بل كان موقفًا يتجذّر في الميدان. استجابت الحكومة اليمنية لنداء الحزب الشيوعي، وفتحت أبواب المعسكرات، حيث اجتمع الرفاق، لا ليحملوا القلم والريشة فحسب، بل وليحملوا السلاح أيضًا. هناك، في ساحات التدريب، تلاشت الفوارق بين المثقف والمقاتل، فالجميع كانوا جنودًا في معركة واحدة، معركة الحرية. وبعد أن اشتد عودهم، مضوا نحو كردستان، حيث كانت قوات البيشمركة تنتظرهم، فصيلًا مناضلًا يحمل على عاتقه مسؤولية التصدي للطاغية المستبد، في درب محفوف بالتضحيات، لكنهم ظلوا ممتلئين بالأمل في غدٍ لا مكان فيه للظلم والاستبداد.
استجاب معظم الرفيقات والرفاق لنداء الحزب بحماسة لا تعرف التردد والتحقوا بمعسكرات التدريب، حاملين على عاتقهم مسؤولية الكفاح ضد الظلم والطغيان الدكتاتوري في العراق، حتى أولئك الذين أنهكتهم السنون أو قهرتهم العلل لم يتراجعوا، بل أصرّوا بإرادة لا تلين على حمل السلاح، وكأن شوقهم للحرية منحهم قوة تتحدى الجسد وقيوده.
كان التدريب مكثفًا وقاسيًا، حيث تم اختزال مراحل طويلة في شهر ونصف الشهر فقط. التدريبات كانت تستمر ليلًا ونهارًا بلا هوادة، تحت لهيب شمس عدن الحارقة. كانت الرفيقات يختبرن صلابة عزيمتهن، فبعضهن كادت قسوته تستنزف طاقتهن، لكنهن مضين رغم الإرهاق، رغم الجراح الخفية التي لا تُرى. وفي زحمة التدريب وضيق الوقت، لم تغب لمحات من الحياة، فكانت النشاطات الفنية والاجتماعية تظهر بين الحين والآخر كفسحة ضوء وسط عتمة التحدي.
كانت هي وزوجها من بين أولئك الذين التحقوا بالمعسكر، لكنهما اضطرا إلى ترتيب أمر انضمامهما مراعاةً لطفلهما الصغير. التحق هو أولًا، رغم وطأة المرض الذي يثقل جسده، لكنها رأت في ذلك فرصة، ربما للتعافي، وربما للغرق أكثر في عالم النضال حيث الألم يصبح جزءًا من الرحلة، وحيث الأمل لا يموت مهما اشتد عليه الخناق.
كانت تجربة التدريب العسكري بالنسبة لها حدثًا استثنائيًا، لا يشبه أي تجربة سابقة مرت بها. فقد صقلت روحها، وأرهفت قدرتها على التحمل والصبر، وزرعت في داخلها إرادة لا تلين، وقوة مجابهة لا تعرف التراجع. كانت تدرك أن هذه التجربة لم تكن مجرد محطة عابرة، بل كانت اختبارًا للصلابة، وامتحانًا لقدرتها على التصدي للصعاب، وصراعًا بين الإيمان بالمبدأ والخذلان الذي يتسلل عبر النفوس الهشة.
في المعسكر، كانوا يمنحونهم إجازات قصيرة بين الحين والآخر لزيارة عوائلهم، لكنها لم تكن إجازات خالية من المنغصات. فقد كان هناك من يتقن فن التملق، ممن يكتبون التقارير، يقتنصون الكلمات، ويصيغون الوشايات. يتسللون إلى آذان المسؤولين طمعًا في مكاسبهم الشخصية، دون أن يعبأوا بآثار وشاياتهم على الآخرين، وقد لاحظت انها حين تصل إلى منزلها، تجد نفسها في مواجهة سيول من الأخبار عمّا جرى في المعسكر، صغيرها وكبيرها، حتى لتخال أنها لم تفارقه لحظة.
لكن شوقها الأكبر لم يكن إلا لذاك الصغير الذي تركته بعهدة والده. وحين أتيحت لها الفرصة أخيرًا لرؤيته، احتضنته بقلب يرتجف، وكأنها تعتذر عن غيابها القسري. رأت خطواته الأولى، لكنها لم تكن شاهدة على لحظة انطلاقها الأولى. تلك الخطوة التي خطاها بعيدًا عن عينيها، كانت كأنها انتزعت جزءًا من قلبها، وتركته معلقًا هناك، في الفراغ الذي خلفه غيابها. بكت بحرقة، ليس فقط لأنها فوّتت المشهد الأول، بل لأنها شعرت بعمق الغياب في تفاصيل صغيرة كان ينبغي أن تكون حاضرة فيها.
أما علاقتهما، فقد كانت تتهاوى يومًا بعد آخر. لم يكن هناك تغير ايجابي مرتقب، بل كان الجفاء يتمدد كظل بارد بينهما، يتسع بلا هوادة. وعندما صدر قرار التوجه إلى كردستان، كان ذلك بمثابة مفترق طريق حاسم. أرادت أن تكون إلى جانبه، أن تمضي معه في درب النضال الذي آمنا به، لكنها مُنعت بسبب مسؤوليتها عن طفلهما. لم يعترض، لم يلتفت إلى هذا الحرمان الذي فرض عليها، بل مضى بعزيمة صلبة، كأنه كان مستعدًا للمضي قدمًا دون أن يترك شيئًا خلفه ليندم عليه.
كان يخفي آلامه، كما يخفي الجراح التي أثخنت روحه، لا يريد أن يظهر ضعفه حتى أمامها، وهي أقرب الناس إليه. مضى، يحمل في صدره قناعة لا تتزعزع، وإصرارًا لا يعرف الوهن، تاركًا خلفه قلبًا مثقلًا بالفقد، وأمًا لم تزل تتلمس آثار خطوات طفلها الأولى، محاولة أن تعوض لحظة سُرقت منها، كما سُرقت منها أشياء كثيرة أخرى.
كانت البيوت تضجّ بأنفاس الوداع، موائد الطعام الأخيرة تُمَدّ بقلوبٍ مرتجفة، تَعِدُ المسافرين بالأمل وتُخفي في زواياها خوف الفقدان. عوائل الرفاق اجتمعت لتودّع أعزاءها، رجالًا قرروا أن يهبوا أرواحهم لقضيةٍ سامية. كان كل قلبٍ معلّقًا بين مشاعر الحزن والخوف، وبين الاعتزاز والفخر. أما الأطفال، فقد التصقوا بآبائهم كما لو أن عناقهم الأخير قد يمدّ الأيام ببعض الحنان المؤجل، وكأنهم يريدون أن يختزنوا رائحتهم، أنفاسهم، دفئهم، أصواتهم، قبل أن يبتلعهم الغياب.
وبينما كانت كل عائلة تنفرد بوداعها الأخير، تقتنص لحظاتها الثمينة التي ستُحفر في الذاكرة إلى الأبد، كانت هي تقف هناك، على هامش اللحظة، مُثقلة بروحٍ لم تجد نصيبها من هذا الطقس الإنساني العميق. لم يكن لها وداع، لم تكن لها حتى نظرة أخيرة تُشبع ظمأ عينيها إلى وجهه. لم تحظَ حتى ولو بكلمة تليق بوداع الغرباء، لم يلتفت، لم يُعطها حتى تلك اللمحة العابرة التي تمنحها وهْمَ البقاء في ذاكرته. ظلّت واقفة هناك، تتساءل بين الدموع المنهمرة: هل كان ذلك مقصودًا؟ هل كان يقول لها، بصمته القاتل، إنكِ لا تستحقين حتى كلمة وداع؟
بخطواتٍ متثاقلة، حملت دلو الماء، وسكبته خلفه، كما كانت تفعل والدتها حين كان والدها يغادر، اعتقادًا منها بأن الماء المسكوب يُعيد المغادرين سالمين. لكن أيّ ماءٍ هذا الذي يستطيع أن يعيد من لم يكن لها يومًا؟ أيّ ماءٍ هذا الذي قد يطفئ نار الأسئلة المتقدة في قلبها؟
عادت إلى دارها، وأغلقت باب غرفتها، ثم انهارت في بكاءٍ عاصف، شهقاتها كانت أقرب للصراخ، كأنها تحاول اقتلاع حزنٍ تجذّر في أعماقها. أغمضت عينيها، لتستعيد في ذهنها صورته الأخيرة، خطواته المتباطئة، ذلك التردد الذي لاح على وجهه، تلك الحيرة الموجعة التي تركها خلفه كسكينٍ مغروس في خاصرتها. رحل وهو يحمل ألف سؤال، لكنه ترك لها أضعافها، تركها غارقةً في متاهة من الشكوك والجروح التي لن تندمل، مهما حال بينها وبين الزمن سدودٌ وجبال.
لماذا؟ لماذا كل هذا الجفاء؟ لماذا تركها تحترق بأسئلتها دون أن يمنحها حتى حقّ المعرفة؟ ألم يكن الحب يستحق كلمة أخيرة، تفسيرًا، حتى لو كان فراقًا قاسيًا؟ أكان يكرهها بقدر ما أحبته، فلماذا لم يقلها بصريح العبارة؟ لماذا لم يمنحها وضوحًا كان سيخفف عنها هذا العذاب القاتل؟
كم تمنت أن يكون بينهما حديثٌ أخير، حديثٌ يضع النقاط على الحروف، يحررهما من هذا الأسر، يترك كلًّا منهما يُلملم روحه المبعثرة، ويمضي بطريقه. حتى لو كان الحديث يفضي إلى الافتراق، حتى لو كان الانفصال هو النهاية، فقد كان ذلك أهون من هذا الفراغ الذي تركه في قلبها، من هذا الوجع الذي ينهشها بلا رحمة، من هذا العشق المصلوب على جدران الصمت، بلا إجابة، بلا مخرج، بلا نهاية واضحة سوى الألم.
***
سعاد الراعي

 

دمكِ المسفوكُ بالحيِّ أحقُّ

أنتِ بغدادُ

وبغدادُ دمشقُ

هي أمي منذُ قلعي ودريدْ

هل تبرُّ

هل أبرُّ

أم نعِقُّ

حين دقّ الموتُ عمري

مُنِعَتْ تلطمُ صدرًا وتشِقُّ

حين دقَّ الموتُ أمّي

أتراني

لا أبالي

لا أرقُّ...

بردى بردًا سلامًا

فرجًا أقربُ من لمحٍ

وأجرٌ وعِتْقُ

يا إلهي وكما جرّفت طينًا

في الفراتين

خبيثًا

له عمقُ...

خُصَّ فتقًا برُبَى تَدْمُرَ

استعصاه يا ربّاهُ رَتْقُ

***

لطيف القصاب

ذرة غبارٍ في مَهبِّ الاحتمالات، أنا!

نقطةُ ضَوءٍ مُنْكَمِشَة في زجاجِ نوافذِ الأبَد.

أدركتُ متأخرًة أنّ حياتي قصيرة،

أنني لن أعيشَ بما يكفي

لأعرف كلَّ الفصول التي كتبتْها الريحُ على وجهِ البحر،

لأسمعَ كلَّ الأغنياتِ العالقةِ في فمِ الليل،

لأقرأ كلَّ الرسائلِ التي خبأها المطرُ في طياتِ العُشْب.

*

حياتي قصيرة،

أقصرُ من أن أنتظرَ اعتذارًا من الصمت،

أو وعدًا من الغدِ المتلعثمِ على أعتابِ المجهول،

أو تفسيرًا مُرضيًا لِكُلِّ الأسئلةِ الَّتي تَتَوالَدُ داخِلي كالنَّجُومِ في كَونٍ مُتَفَجِّر.

*

فماذا أفعلُ بهذا العمرِ القليل؟

بهذه الأوراقِ البيضاءِ التي لن أملأها؟

بهذه الأغنياتِ التي لن أُكْمِلَهَا؟

بهذه الأبوابِ التي لن أقرعها؟

بهذه الوجوهِ التي لن أعرفها، ولن تعرفني؟

*

حياتي قصيرة،

لكنّها كافية لأن أُشْعِلَ فَجرًا في عَيْنَيْ مَنْ يُحِبُّني،

كافية لأن أتركَ خلفي أثرًا يُشْبِهُ وَشمَ السَّمَاءِ على زُرْقَةِ المَاءِ،

كافية لأن أكونَ ظِلا يَحْفَظُ شَكْلَ الضَّوْء.

*

سأسرقُ لحظاتٍ من بين أنيابِ الزمن،

وأخبِّئُها في جيبي كقصاصاتِ شعرٍ مبتورة،

سأكسرُ ساعتي، وأمضي

في زقاقٍ لا يُفَرِّقُ بين الراحلينَ والعائدين،

وسأضحكُ بصوتٍ عالٍ

لأُخْبِرَ السماء أنني، ولو للحظة،

كُنتُ حَيًّة بما يَكْفِي.

***

مجيدة محمدي

أعتذر

لقد ظننت الشيطان ملاكا

أنتِ

قاب حرفين

لا تشبهين قصيدتي

*

ح

حزن يكابر

حرب حيث قلبكِ

حلم

والحلم قتيل إن يحاصر

*

ب

براءة في مساحة كذب تقامر

بُعدٌ ..... ألا تعودين إليك؟

وبرد كأنكِ المقابر

*

عيناك عاهرتان

لا "تروض"

خطئي كان

حان الرفض

فما عبوركِ إلا هذيان

*

تعبت من قلبي

ومن خرافة القمر

أغادره أم يغادرني

كلانا سفر

ما.. الحب؟

محاولة مع البحر

وما.. الحياة؟

تيه في أنا آخر

*

أيتها الأقنعة لتسقطي الآن

وهذا الأسْر

ملاك الأمس بداية شيطان

أعتذر

أ

ع

ت

ذ

ر

***

فؤاد ناجيمي

في نصوص اليوم