نصوص أدبية

نصوص أدبية

كواكِبٌ من نجمِها تستقي

الضِّيا تَثَنَّى تحتَهُ أنْجُما

*

وأبرَصٌ عالٍ يُسامي الرِّشا

من جهلِه يحْسبُهُ أعْتما

*

من تحتِه بيدٌ تَعَالى علىْ

روضٍ عَليها طالما أنْعَما

*

من بينِها ماءٌ نضا زعْمُهُ:

يا بحرُ لولانا ابْتلاكَ الظّما

*

من خلْفِه برْدٌ فشا مُذْ غدا

بكلِّ جوٍّ دونَه مُغْرَما

*

من تحتِه فَيْحٌ لهُ اسْتسْلما

إذْ خالَ أنّ البردَ طالَ السّما!

*

في إثره دفءٌ غدا تابعا

لمّا تناسى فضْلَهُ الأقْدَما

*

بينهمُ آذارُ رايٌ بلا

أهلٍ إذا قيلَ فقدْ أجْرَما

*

وفوقَ ذا خلْقٌ يرى أنّه

من ربِّهِ الأعلىْ غدا أعْظَما

*

من دونِه خلقٌ يُماري السّما

-ما انفكّ- فِيمَنْ ربُّها كَرَّما

*

من حولهِ خلقٌ نباتٌ وآ

خرٌ جمادٌ أدْركا المُجرِما

*

فوقهُمُ ربٌّ عليمٌ غدًا

يُجري عليهمْ حُكمَهُ الأحْكَما

***

أسامة محمد صالح زامل

 

سكن القلب ساهياً

تحت همس الدوالي..

يذكر الأمس وأياماَ خوالي

يتغنى

ينتشى من همسه صمتا وخمرا..

ويرى فيها هياماً

وعناقيد تدلت

وانحنت

في ظل دالية

يهيم نسيمها سحرا وشعرا ..

تناثر ظلها بين الغصون

واوراقها، تراقص

للريح لحنا

وايقاعه شعرا ونثرا ..

هي تمرح في احضانه غافية

وهو يسرح في اجفانها

شوقاً وصبرا ..!!

***

د. جودت صالح

6 / 7 / 2025

 

منذ نعومة أظافري

كنت شاهدًا

على مسرحية الكراسي

الكوميدية السوداء للحكم

حيث يرقد المخرج

في قبر التغيير

لم يغير مشهدًا واحدًا

كأن الزمن في لحظة

قد تحجر على خشبة

المسرح الأبدي

والدهشة يصيبها الارتباك

كلما تكرر المشهد

والشخصيات تخنق الأنفاس

أعجب من حكمة المخرج

في اختيار بغايا الكراسي

وأشكال أهل المناصب

كيف أنهم متشابهون بالقبح

لكنهم يلعبون أدوار

السلطة ببراعة مذهلة

فاللصوص أذكياء

يجيدون الدراما ويحفظون

السيناريو قبل العرض

كيف لم ينهر المسرح بعد

كيف يصفق الجمهور حتى الآن

"عاش المسرح عاش المسرح"

***

باقر الموسوي

 

أحبت مدينته التي كانت تقرأ عنها في الروايات الأمريكية. كانت مسرعة بسيارتها المكشوفة فلحق بها وأوقفها تلكأت بجلستها وحديثها، سألها وقبل السؤال لا طفها بكلمة أوقعها في شباك قلبه، ومن ثم قال لها ابتعدي بسرعة بعد أن أخذ معلوماتها وهو يودعها بنظراته المملؤة حنية ومحبة لا تعرف لماذا وكيف!!

انطلقت ساندي مسرعة على غير هدى، وأوقفت سيارتها في أول تقاطع يؤدي إلى نهر جار وأرض خضراء لأشجار استظلت بهم وهي ترتعش من خوفها الذي أدخله إلى قلبها، جلست بحنو على جرف النهر وأخذت بطرف كف يدها وغسلت وجهها واستلقت على العشب، وراحت تستعرض ما مر عليها بهذا اليوم من بدايته إلى أن قامت بمخالفة مرورية لم تسجل بأوراق المرور..

ومن بين خيوط الحقيقة والتهيؤ لمحته..

لا يمل ضحكهما وهما يتجاذبان أطراف الحديث ويتذكران إحدى الفتيات اللواتي مررنا بروحه..

ينظر إلى عينيها بلهفة وهو ساكت، شيء ما يجذبه إليها، فتنهمر مياهها في ساعة الغيم. وهي تبكي بكاءً مرًا حين سمعت صوتها وهي تقول له برسالة من بضع كلمات:

" كن صديقي لا حبيبي الآن أنا بحاجة اليك. أتحبني مثلما أحبك؟" وتذوب روحها وتهمس بالقرب من قلبه:

" أم أنا توهمت ذلك الحب وبنيت عليه اشكاليات روحي ؟؟"

يرد عليها بعتب:

" أنا أحبك مثلما أنت تحبينني، أحب السطوح على جسدك البض الرائق مثل الليمون وأتجول بأصابعي وأمسد شعرك العسلي الطويل وأقبلك في كل جزء من جسدك، حتى تسكري تحت وقع شغفي، وأتمدد داخلك، أسكنك، أي قدرة الآن تأخذني إليك؟ وأنت في كامل البهاء، كل تخومك مستعدة لأن تستقبلني، سعيد بك وبأثرك وبنهج البلاغة الكامن في شغفي"

هكذا يحدثها بلهفة وهو يضاجعها بكلماته ويداعبها بعنفوان رجولته، الذي يدس الوجع اللذيذ فيها، فينتصب كل شيء في مداره، ويصبحان قدرة واحدة، أخذ وعطاء، ولهفة وتجرد وغياب، ويده تجوس عبر كنوزها، تستنطق الوقت فيها، ظهر يسلم قيده، وصدر يفك تمرده، فيكون طعمه ويقينه، يعود طفلاً على ربوعه، ويسرج من ذاته زيتًا لينير لها منعطفات الوقت.

أكمل معها حلمه وقام يكرره تباعا وهي تحوم بروحها شمالاً ويمينًا وتمؤ كالقطط بليل بارد يأجج مفاتن روحيهما وهي ترتفع وتنخفظ تأخذه كله بحق اللحظة وبحق الكلمة، وبحق ما فيها من نار تطلب دفئها، ينتهي وتنتهي، فيستقر ما بهما، وتنسحب بهدوء في متن النوم، ويظل بجوارها، ينظر إليها وقد راحت بنوم هادىء جميل وهي بين ذراعيه ظل يهمس بينه وبين روحه:

" أسدل النعاس رموش من أحب، الآن يا ربي ساعدني، في الصباح ستغادرني، وماذا أفعل؟ إنها سندريلا قلبي لا أحتمل فراقها، يبكي شوقًا إليها وهي ممددة بجواره في كامل البهاء، ينشد الوقت منها الهدوء، ويكتب قصته، احتضنها بلهفة عاشق متيم ينتظر هطول المطر، وراح يداعب كنوزها بشفتين تعرفان كيف يكون قطاف الشهد، تململت واستيقظت وضمته، وأخذته إلى حومة الرحيل حيث لا صبر ولا جلد إلا بالقدرة التي بيثها الشغف فيهما..

أشرقت الشمس وسطع نورها غلف الأرض بمروجها الخضراء، فتحت عينيها وتمتمت ببضع كلمات:

" لن يكتفي ما بي منك، فسدد لي فاتورة الأيام التي سبقت وجودك"

وعادت إلى النوم وهو يحتضنها بشوق، فلما استيقظت كانت كبحر لجي، توسده الشراع والريح هادئة، وكل شيء في قبض الشغف، ونام يلتفان ببعضهما، يتطاولان على كل شيء، والمحبة سند اللقاء، يأخذها وينحت بفعله هيبة اللذة.

انتهى غيابهما، فعادا منهمكين، أكل من تينها وشرب من سكرها، وقاما يغتسلان، تحت الماء المنهمر، قال لها:

" سارتشف الماء المنساب من على جسدك"

صرخت:

" لا "

أصر، وقال لها:

" هو عرقك، شهدك، هو نبع الحقيقة فيك"

شهدت اللحظات ولادة عمر جديد يضاف لأعمارهما، وخرجت من الحمام وجسدها ينقط قطرات الماء، حتى وقفت أمام المرآة، وبشفتيه جفف جسدها، وأجلسها وقام بتسريح شعرها ثم وضع قبله على رأسها، فابتسمت له ابتسامة المحبة التي دانت لها روح حبيبها.

توجهت بعد أن أعدت كوبًا لها وله من القهوة الساخنة، وهما يلتقيان عند نافذة المطبخ الكبير في بيت فخم يقع على ربوه الجبل في إحدى ضواحي كاليفورنيا..

اوكلاند مدينة الاخضرار والجبل وأيضا بلاد التهريب والعصابات والقتل والنهب.

في الليل رن هاتفها برقم لا تعرفه ولكن يرمز لمدينة اوكلاند، ردت بهدوء وسكينة على الهاتف، كان على الطرف الآخر رجل الشرطة المسؤول على أمن مدينة اوكلاند..

" اهلا ياحلوة كيف أنت الآن؟ ألا زلتِ مسرعة؟ "

ردت بخوف على الطرف الآخر:

" أنا بخير الآن لن أقود سيارتي بعد اليوم "

". لماذا هل أنت خائفة ؟"

ارتعش جسدها، وقامت لتدخل الحمام، وتبحث عنه..

***

نادية المحمداوي

 

إحذرْ عدوَّكَ مرَّةً واحذرْ صديقَكَ ألفَ مَرَّة

فَلَرُبَّما انقلبَ الصَّديقُ فكانَ أعلمَ بِالمَضَرَّةْ

علي (رض)

***

سأبتلِعُ ظِلِّي، وأتَحاشى الظلالَ المُجاوِرَةَ

وكوني لا أُجيدُ فَنَّ الهُروبِ، سأمشي حافيًا.

**

عندَما كنتُ بظِلالٍ عديدةٍ

كانتْ تنتفِخُ ...

تلمعُ انتفاخًا .. فيُعشيني السطوع

اكتشفتُ حصانَ طُروادةَ

بأقَلِّ الخسائرِ.

**

الظِّلالُ ألغامٌ بابتسامات عَريضةٍ، وقلبٍ مفضوحٍ بالحُبِّ،

وسِلالٍ مِنْ فاكهةِ الَّلغْوِ، وأقفالٍ لا مرئيَّةٍ، وقُبَلٍ، وبياضاتٍ...

في الواجِهةِ الخلفيةِ باندورا تَـتقيأُ ضَحِكاتِها..

**

كلكامشُ خانَ إنكيدو

حين أغرَتْهُ شهوةُ الحياة.

**

أرادوا أن يُجَمِّلوا الحروبَ

نَحَتوا عبارة (نيران صديقة).

ولم يَجِدِ المُمَثّل السوري محمد أوسو وَسْمًا لدراما عودَتِه

سوى (الأعدقاء).

فيما شاهدَ إميل حبيبي سُوريالةَ العالمِ

فصار مُتَشائِلًا.

الظِّلالُ ألغامٌ

بصيغةِ إخوة...

**

ظِلّي يتبعُني في الشمسِ

ويختفي في الظلامِ

وهو (أدرى بالمَضَرَّهْ)

**

الظِّلالُ قَنابِلُ موقوتَةٌ

و(الريمونت كونترول) آخِذٌ

السَّحْبَةَ الأولى مِنَ الزِّنادِ

بينَما تَنطفِئُ الشَّمسُ

يَنشَطُ الغُرَيْرِيُّ الـ(عَديقُ)...

ص!!

***

د. إبراهيم مصطفى الحمد

العراق - تكريت

 

"قُمْ للعراقِ ووفِّهِ التَّبجيلا"

وتعهّدوهُ شبيبةً، وكهولا

*

في ماضياتِ الدَّهر أبرَقَ دُرَّةً

كونيّـةً، ومُعلِّـماً، ودليـلا

*

قُمْ للَّذي سنَّ الشَّرائعَ مِشْعَلاً

للسَّائرينَ على هُداهُ سـبيلا

*

أيامَ تحبو في الحياةِ خليقةٌ

كانَ العراقُ كبيرَها المأهولا

*

وبهِ السَّفينةُ قد رسَتْ، وحمامةٌ

غرسَتْ غصونَ الخيرِ فيهِ جزيلا

*

فببصرةٍ وبمَوصلٍ وبأرْبِـلٍ

دارُ السـلامِ تألَّـقَتْ إكليـلا

*

شـرفُ المَقامِ بـدارِهِ آثـارُهُ

وبهِ الحضارةُ كانتِ القنديلا

*

قُمْ للذي غنَّى القصائدَ شامخاً

صاغَ الكلامَ مُفجِّـراً، وجميلا

*

فأبو مُحسَّدَ في الذُّرى أنشودةٌ

وأبو فـراتٍ واصلَ التَّرتـيلا*

*

والمُحْدَثـونَ كواكـبٌ، لا تختبـي

ساروا على دربِ الحديثِ فحولا

*

إسحاقُ غنّى فانتشوا وتمايلوا

وبناظمٍ طـرِبَ الغناءُ أصيلا **

*

تلكَ الشَّوامخُ في الأعالي عِزّةٌ

تتقدّمُ الدُّنيـا صدىً وعقولا

*

فتسامقَتْ بينَ الْعوالمِ كوكباً

حُضـناً يضمُّ رواسياً ونخيلا

*

واليومَ بينَ عصابةٍ منزوعةٍ

عنْ أرضِهِ لا ترتوي تقتيلا

*

أسَفي على مَنْ كانَ نجماً هادياً

واليومَ ضاعَ وقد أضلَّ سبيلا

***

عبد الستار نورعلي

..................

* إشارة الى المُغنيين إسحاق الموصلي، وناظم الغزالي

اللّيلةَ

في أوج الرّبيع

زهرةٌ من زَهرات الحديقة

باتتْ تحتَ ضياءِ القمر

يَرُشّها عشقًا وشوقًا

حتّى مطلع الفجر

عندما الشّمسُ وخزتْ وجنتيها

أفاقتْ

فإذا الطَلُّ أبيضُ

على اِحمرار

يُبلّل تاجَهَا…

***

سُوف عبيد - تونس

 

جلست هي خلف مكتبها المتواضع في دائرتها الحكومية، تخفي في قلبها همسا لا يسمعه سواها. أحبته بصمت حبا خجولا لم تجرؤ ان تنطق به، واكتفت بأن تراقب ابتسامته حين يلقي مزحة عابرة، أو تلمح انشغاله في الملفات التي بين يديه فتنهض مسرعة لمساعدته كونها أقدم منه بهذه الدائرة..

لم تنجح كل مساعيها ان تجذب انتباهه اليها. تعلقت روحها بضحكته بأحاديثه وبطريقة ادارته لعمله. كونه صادقا في تعامله مع الناس ويكره ان يؤجل عمله الى يوم آخر. نال احترام المراجعين أيضا. لا تدري ما سبب انجذابها له ربما كونها تحمل نفس صفاته اذن كان انجذابها مبررا. والمصادفة الغريبة انهما من نفس برج الحمل. وحين أخبرته بتلك المصادفة وبإحساس لم تشعر به من قبل..كأنها طفلة ترى الأشياء لأول مرة. ليتها قادرة ان تبوح بشئ من مشاعرها. ولعل هذه النقطة تكون مفتاحا للحديث بينهما. انفلتت من فمها جملة غير مترابطة بسبب ارباكها أجابها مع ابتسامة خفيفة على وجهه وببرود تام قال: بأنه لا يكترث لمسألة الأبراج ويعتبرها ضحك على العقول الساذجة.

حاولت ان تبوح له بهذا التعلق لكنها تتراجع في كل مرة وتخاف ان يصدمها برده. أو ربما أنه يحب امرأة أخرى وتكون تلك الخطوة انتقاصا لكرامتها كامرأة. غالبت مشاعرها بهذا الصمت الدائم ودون ان تخبر حتى صديقتها المقربة

مضت سنتان كانتا كفصل طويل من الانتظار، تخبئ في نظراتها له الف سؤال وسؤال، وتحلم ان يفهم يوما ما تخفيه عيناها من حنين صادق تجاهه..

لكنها استفاقت ذات صباح على خبر في الدائرة هز كيانها وصمتها: نعم ان الرجل الذي اختاره قلبها قد خطب امرأة أخرى، من خارج الدائرة وهي التي ارتدت اليوم فستانها الجديد وقررت ان تسأله عن ذوقها بينما رأت زميلاتها يشاركن بتوزيع الحلوى. وامتلأت أروقة الدائرة بالتهاني والتبريكات. دون ان يعرف هو أن قلبا بقربه قد تهشم تماما، وأن ابتسامتها في ذلك اليوم كانت ستارا يحجب انكسارها.

المحنة غدت أثقل من ان تحكى، وأقسى من ان تنسى

***

قصة قصيرة: سنية عبد عون رشو

 

مثنويّاتٌ ورباعيّاتٌ عربيهْ..

منحوا الفحّامَ مِن مَغنمةِ الليلِ محلّاً للجواهرْ

ثم قالوا: أنتَ في نسجِ اليواقيتِ بِنورِ البدرِ ماهرْ

**

طبقاتٌ طبقاتٌ طبقاتْ

صنفوا الانسانَ وفقَ العرقِ والدينِ ولونِ البشرَهْ

أهملوا في كنهِهِ أسمى السماتْ

تلكَ ما يمنحُ نفسَ المرءِ حقاً جوهرَهْ

**

سارقو تاريخِ أوطانٍ وأمجادِ مدنْ

قرصنوا في الليلِ تاريخاً وبحراً وسفنْ

**

صنعوا القزمَ وقالوا أنتَ عملاقٌ عظيمْ

فتعالَ الآن للحكمِ على رأسِ بلادِكْ

نحنُ نحتاجُكَ كي تبدو على ظهرِ جوادِكْ

فارساً، كي لا يرى الناسُ جواداً وكريم!!

***

شعر: كريم الأسدي

 

نطَقَتْ حجارةُ كوكبِ المرّيخِ

من خسّةِ ابن خسيسةٍ ممسوخِ

*

تسْتنْصرُ المولى على أحوالِها

حتّى تُطيحَ برأسهِ المنْفوخِ

*

غضَبًا لهاماتٍ أبى أنْ ينحَني

قرآنُها لكتابِهِ المنْسوخِ

*

وأخي على عهدٍ مع الصّمتِ الذي

قطَعَ العُهودَ لذلّةٍ ورُضوخِ

*

لا ينْقضُ الأخُ عهدَهُ والصّمتُ إنْ

يُأذنْ له فلحرفِهِ المشْروخِ

*

كحُروفِ علْمٍ أصبحتْ حِكْرًا على

المركوبِ والملبوسِ والمطْبوخِ

*

وزعيمِ قومٍ كالجبالِ بحيّهِ

بالقُدسِ سهلًا مرَّ دون شُموخِ

*

وإمامِ قُطرٍ غرَّبَ الأقصى عنْ

الحَرَمَيْنِ تأليهًا لشيخِ شُيوخِ

*

فإلى متى يبقىْ أخي العَربيُّ في

أرضِ الحضارةِ خارجَ التّأريخِ؟

*

وكأنّه لم يأْتِها إلّا ليُر

بي الصّمتُ من والَاهُ بالتّفريخِ

*

وإلى متى يبقىْ أخي العربيُّ في

أرضِ البيانِ مُكرّسًا لمُسُوخِ

*

وإلى متى يُغْنيهِ سلمُ قصورِها

من شرطِه فرطُ انْطواءِ الكُوخِ

*

جرَّاكَ يا! ظنّتْ عُيوني أنّها

حطَّت بأرضِ الهنْدِ بينَ السّيخِ

*

حتّى التقتْ حرَمًا على هَرَمٍ علىْ

متألّهٍ عن أصلهِ مسْلوخِ

*

عدِمتْ جذورُ الصّمتِ دونك أرضَها

وغدا الكلامُ لكوْكبِ المرّيخِ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

ذات مساءٍ كان الغيم يتأمّل صمت الجبال، جلستُ تحت شجرةِ التينِ القديمة، وأنا أرتّق ظلّي، وأعدّ أصابعي الناقصة من الذاكرة.

*

جاءت... كأنها النسيم حين يخجل من لمس جرحٍ مفتوح، كأنها الأمل حين يخطو فوق الرماد دون أن يُحترق.

*

مدّت يدها إلى التين، فتدلّت الثمرةُ خجلى، كأنها تعرفنا منذ دهرٍ لم يبدأ بعد، أو لعلها كانت تذرف دمعةً حلوةً على تلك الحكايات.

*

تناولنا التين كما يتناول العاشق الغفران، ببطءٍ، بخشوعٍ، كأن لكل لقمةٍ ذاكرة، ولكل حبةٍ نبضًا فاته أن يُولد في زمن الحرب.

*

قلت لها:

هنا، يا حبيبتي، كنتُ أقف ذات يومٍ على قدمين.

*

لم تسأل عن الأخرى، فالعين التي تحبّ لا تفتّش عن النقص، بل تخلع نعليها، وتدخل الحكاية حافيةً.

*

انفجر اللغم، وانفجر الوقت، وانفجرت السماء فوقي حجارةً من دم. رأيتُ الجنود يتساقطون كأوراق الخريف، والأشجار تتلو صلواتها الأخيرة، والعشب يحترق كما لو أن الأرض تعتذر عن إنجابنا.

*

تحت شجرة التين، نسيت الألم للحظة، كأن الحبيبة حين تضحك، تعيد ترتيب التاريخ.

*

سألتها:

هل تسمعين؟

قالت: ماذا؟

قلت: أنين التراب؟ أنين العروق التي ماتت تحتنا؟

*

فوضعت كفّها على التراب، وقالت: لا شيء يموت... كل شيء يعود بشكلٍ آخر. ربما كنتُ أنا هو اللغم في حياة أحدهم، وربما كانت شجرة التين هذه أمًّا، أنجبتنا من جذور الندم، وسقتنا من دموع الأرض.

*

يا أنتِ، حين نجونا من الحرب، لم ننجُ حقًّا، بل تغيّر شكل موتنا فحسب. لكنني، رغم ذلك، أحبّكِ... أحبكِ كما يُحبّ الجندي طلقةً لم تخرج، كما تحبّ الشجرةُ من ينام في ظلّها دون أن يقطعها.

*

تحت شجرة التين، بدأت الحرب تنسى أسماءنا، وبدأ الحب يتعلّم النطق من جديد.

***

بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

اليوم كانت خطواتي المسائية المعتادة رتيبة فوق البساط الأخضر المندى لحديقتي الواسعة المهملة، ذات الأشجار الكثيفة المتشابكة، وأصص الورود المبعثرة بفوضى عابثة.

كل شيء يشي بالترهل والجدب، حتى نقرات نعلي البلاستيكي الكتومة وهي تخطر بتثاقل فوق خضرة الأرض الندية، ما كانت تستسيغها روحي، وقدماي متعبتان تخطان سيرهما بتمهل دون هدي منذ أكثر من ساعة. هناك كتاب مهمل بغلاف جلدي كلح لونه لكثرة ما تعرض للفح الشمس، يرقد منذ أسبوعين فوق كرسي الخيزران العتيق لصق شجرة السرو القزمة.

مثلما البارحة وقبلها بأيام مضت مسرعة، اخترت النوم وحيدا في الغرفة الباردة ذات النوافذ العريضة المطلة على بركة ماء المسبح، الذي ما عادت الذاكرة تسعفني للتعرف على أخر مرة عام جسدي مسترخيا فيه. ولم اكسر اليوم عادة الأشهر التي سبقته في تنقلي الليلي للنوم وحيدا في باقي غرف الدار المسكونة بالصمت الموحش. أجوب أشبار الدار، أتنصت صوت التلفاز المرمي بعيدا في زاوية غرفة الضيوف، واسمع ضربات الأغصان في الخارج وهي تعاند وتتأرجح مع بعضها. وأعيد تكرار عد رخام درجات السلم كلما وجدتها أمامي، كل ذلك محاولا إبعاد ما رقد في الذاكرة.

اليوم اجتاحتني رغبة المبيت في إحدى غرف الطابق العلوي. الغرفة المغلقة منذ عامين مضين. الغرفة الأثيرة لابنتي الوحيدة التي ما عرفت عنها شيئا مذ هاجرت وهجرتني بعيدا مع أمها. لازالت الغرفة بستائرها الموشاة بالدانتيل الزهري والمسدلة طوال الوقت، ترسخ في سكونها القهري. لوحة الفرس الجامح المسمرة جوار المنضدة في طرف الغرفة البعيد، والسرير العريض ذي الغطاء المطرز بألوان فاقعة ولعبة الأرنب الوبرية الكبيرة المرمية جواره، تذكرني بصخبنا المفتعل وكلمات وداع تبادلناها عنوة وببرود تأبيني ذات صباح. حينها ضجت أشجار الحديقة بصيحات فزعة مجنونة لسرب طيور كثيف، وذبلت معها زهور الأصص بلمح البصر، بعد أن جف اخضرار سيقانها منذ ما يقارب العامين. ومع صمت الجدران الكثيف أحسست أن الكثير من كل ذاك الصخب قد هُد، وعرفت كيف أفل، وتسللت شمسه مسرعة نحو غروب. صباح بحثت فيه عن نفسي، ولكن وهو يسدل ستارته ويمضي بعجالة اكتشفت حينها وحدتي المفزعة. 

***

روح

ببرود دفع الطبيب جملته اللعينة وهو يتصفح الأوراق الموضوعة أمامه.

ــ إنها تملك قلبا بصمامين معطوبين شبه عاطلين، وتضخم متقدم واعتلال شديد بعضلته اليسرى، ليس سوى سرعة إبداله، ما ينقذ هذه الطفلة من موت فجائي.

كان هذا الإيجاز الطبي يكفي ليكون رصاصة ثقبت رأسها. نز عرق بارد عن صدغها وخارت قواها، فهربت بدمعها بعيدا دون وجهة معينة.

كانت أم رضاب بسنواتها الأربعين في حلمها وحيدة في مساء كالح الظلمة، تقف عند حافة هاوية عميقة في مكان موحش مقفر. يرن في رأسها دون فكاك ضجيج أهوج، وهناك في عمق الغور بعيدا، كانت ابنتها التي ما اجتازت بعد عامها العاشر، عارية مرمية في الجوف العميق، عيونها مفتوحة على سعتهما تلوح رافعة يدها وكأنها تطلب عونا.

استيقظت فزعة ومسحت بيد متخشبة عينيها، تلمست جسد ابنتها الراقدة جوارها.كان العرق الدافئ يبلل ثيابها. سحبت قطعة قماش مبللة ومررتها فوق صدغ الصغيرة وربتت على كتفها.

ــ ما الذي يجعلك مستيقظة لحد الآن.

ــ لا شيء يا أمي ولكن اشعر بألم في صدري.

ــ تناولت الدواء، أليس كذلك؟

ــ أخذته في موعده.

ــ حسنا سوف تتحسن حالتك.

شعرت بكدر يلف روحها، فقد كررت هذه الجملة عشرات المرات وفي كل مرة يبدو لها هذا سيئا، ولكنها تعيد تكرارها ببلادة. كانت السنة تحتضر في شهرها الأخير، دون ما يشي لوجود جواب من مستشفى ينقذ أبنتها. رغم التماساتها المذلة وترددها المتكرر على عديد العيادات التي ما عادت قادرة على دفع أجور الفحص فيها. ولم تنفع حتى ابتهالاتها ونذورها للرب. فليس هناك في هذه المدينة النائية ولا حتى في العاصمة من طبيب يجازف بإجراء عملية إبدال أو تطبيب لقلب متهرئ. ولكنه قلب طفلة يا الهي، هكذا في كل مرة تنهي أخر أمنياتها، وتختم تضرعها ببكاء مر مكتوم. 

ــ أود أن تضميني لحضنك.اشعر أن شيئا ثقيلا ينط ويطفو في الهواء ثم يرقد فوق صدري.

سحبتها بهدوء من ذراعها الذي بدا مثل قصبة خاوية وضمتها إلى صدرها وراحت تهدهدها وهي تطالع سقف الغرفة بعينين زائغتين مبتلتين.

ــ أمي.. هل يعيد الله الموتى إلى الحياة مرة أخرى؟

ــ ما الذي يجعلك تفكرين هكذا؟

ــ لا شيء فقط أردت أن اعرف لماذا يموت الناس والى أين يذهبون.

ــ الموتى يذهبون إلى السماء، هناك تكون لهم حياة أخرى أكثر سعادة وفرحا.

ــ ألن أعود لحضنك يا أمي؟

***

فرت المحسن

دخل علي في غفلة من عين الليل. تسلّل إلي عبر خطوط الفيسبوك الغامضة. سمعت رنته الغريبة.. الا انني لم اعرها اهتمامًا يذكر. كنت افكر في تفاصبل قصة الحت علي منذ سنوات. قصة تحكي عن كاتب موتور. حمل ضغينته سنوات وسنوات. لينتقم من معذبه.. بعد اربعين عاما وقال لنفسه.. لقد تسرّعت

قطع عليّ حبال تفكيري. اوقف التفكير في القصة الجديدة. ارسل ابتسامة بالوان قوس قزح. تجولت بين كل الوانها لأتوقف عند لونها الاصفر:

-ماذا تريد؟ سألته. بجفاء

-اريد منفعتك وفائدتك.. قال مرفقا ردّه بابتسامة. قبل ان اتوجّه اليه بسؤال آخر تابع يقول: اريد اولًا ان احييك على قصصك الاخيرة.. لقد تفوقت فيها على نفسك.. وكتبت ما يستحق القراءة ويلامس حفاف الخلود. يسرني ان اكرر تحيتي.. وان اقدّم لك كل تقدير واحترام.. كاتبًا عربيًا يرفع الراس.. ويساهم بجهوده الجبارة وقدراته الفائقة في وضع قصتنا العربية على خارطة الوجود.

تمعّنت في وجهه.. انه وجه معروف لدي.. لكن أين رايته؟ لا اتذكر.. لأدعه اذن يواصل كلامه.. ولأمنح نفسي فرصة أن امسك طرف خيط ذاكرتي،، فأتذكر.. وتتالت كلماته.. لأراه بعد الف كلمة وكلمة، يدخل إلى مكتبي ابان عملي محررًا ادبيًا في اكبر صحيفة تصدر في البلاد، وليقدم لي سبع ورقات.. طالبًا مني أن اقرأ ما ابتدعه فيها في الرواية والقصة.. تقبلت لحظتها ما قاله لي برحابة صدر.. دأبت على ان اتمتع بها وامتع غيري من زائري الصحيفة.. وشرعت في قراءة ورقاته السبع.. خلال قراءتي الصفحة الاولى. الكلمة الاولى الحرف الاول.. كان لا بد من اتناول قلم الحبر الاحمر.. لأشير الى ما حفلت به تلك الورقة من اخطاء.. بعد انتهائي من الورقة الاولى، ارسلت نظري إليه ضمن محاولة اعتدت عليها في مثل تلك المواقف.. لمعرفة ما يدور حولي.. فسارع إلى القول: اعرف انني ضعيف في الاملاء واللغة.. لقد تعلمت في مدرسة عبرية.. قال وتابع: ارجو أن تجد قصتي الاولى مساحة ولو متواضعة في الصحيفة. قال هذه الكلمات وانصرف وهو يمضي باتجاه باب الخروج خطوة إلى الامام واخرى الى الخلف. وخرج.. إلا أنه ما لبث ان عاد.. كان ذلك وانا اضع التصويبات الخطيرة الحمراء على اوراقه السبع. تناول الاوراق من يدي وهو يطويها في جيبه: شو هاي الاحمر طغى على الاسود. لا.. لا اريد ان انشرها. حمل اوراقه وتوجّه نحو باب غرفة التحرير. توقف في مدخل الغرفة وراسل نحوي قذائف من كلمات: من انت حتى تشوّه قصتي بأحمرك القذر؟.. وقبل ان ارد عليه قائلًا بإمكانك ان توجّه سؤالك هذا إلى اصحاب الجريدة.. اعتقد انك ستجد الاجابة الصافية لديهم.. كان قد اختفى.. وها هو يطل علي من خطوط الفيسبوك بعد ثلاثين عامًا على تلك الواقعة.. ترى هل يكون هو .. هل شبه لي؟ لا اعرف اختلط علي الامر، فعاد يقول لي:

-اعترف ان قصصك الاخيرة مكنتني من التجوال في بساتين بلادنا الغناء واعماق انسانها المعطاء.. شكرًا لك.. 

ما ان قال هذه الكلمات حتى رأيتها فرصة مناسبة لتبين جلية ما يحدث في تلك اللحظات العصيبة.. قلت له:

-كل كاتب في العالم يتمنّى ان يستمع إلى مثل هكذا كلام.. في مديح انتاجه.. شكرًا لك.. هل تريد ان تضيف شيئًا؟

ارسل ابتسامة ملأى بالغموض الواضح:

-طوّل روحك علي.. وتعامل معي تعامل كاتب مبدع مع قارئ معجب.. 

هززت راسي علامة تقبّل كلماته.. لعلّه يمضي في طريقه ويخلي لي ما تبقى من الليل لأواصل وحدتي معه.. إلا انه فأجاني بموقف غير متوقع.. خرج من خطوط الفيسبوك واتخذ مجلسه قبالة مكتبي.. وضع رجلّا على رجل:

-انت تستحق كل تكريم.. كاتب مبدع مثلك يستحق ان يقرأ في اكثر من لغة

هزّتني كلماته هذه. اثارت طيور طموحي فراحت تحلق شاقة الافاق غير عابئة بالليل واهله. نسيت ما انا فيه. وقلت له:

-اهلي لا يقرؤنني.. فهل يقرؤني الناس في لغات اخرى؟

ارسل ضحكة دوّت في ارجاء الغرفة، قال:

-اهلك لن يقرؤك يا مُعلم.. الا اذا قرأك ابناء لغات اخرى.. عندها سيعرفون قيمتك وقيمة ابداعك.. كما عرفت انا

عندها سألته عمّا اذا كان يعمل مترجمًا ادبيًا، فاخبرني انه تعلّم في مدرسة عبرية، وأن بإمكانه ان يفتح لي طاقة مشرّفة في هذه اللغة.. الاغلب ان توصلني إلى ما تبقى من لغات.. وتابع يقول:

-اعطني مجموعةً او مجموعتين من قصصك يا تشيخوف العرب.. وسوف ترى ماذا بإمكان زائر غريب يأتيك في آخر الليل وأول الصباح ان يفعل.. انتابني شعور غامر بالفرح.. وانا استمع إلى كلماته المعبّرة المؤثرة الرائعة.. خاصة عندما وصفني بما تمنّاه كل كاتب عربي ولم يكن لاحد منهم. تشخوف العرب.. تناولت مجموعة قصصية كتبتها مستوحيًا احداثَها من حياة الكاتب الروسي العظيم انطون تشيخوف.. محبوبي وفاتني.. واخرى من حياة نظيره الكاتب الفرنسي المفلّق جي دي موباسان. ناولته المجموعتين.. بيدين آملتين، فتناولهما بيدين واثقتين.. وخرج نازلًا ادراج بيتي.. درجة بعد درجة.. وكأنما هو يعد ادراجه.. بعد دهرٍ من الانتظار.. رأيته يبتعد عن بيتي.. ويأخذ في تطيير اوراق مجموعتي الغاليتين.. عن تشيخوف وموباسان.. واحدة عقب الاخرى.. كان يطير اوراقهما في الهواء القاتل.. وعندما ابقى عددًا من الاورق في يده.. تمكّنت من احصائها فتوقفت عند الرقم سبعة.. بعدها رأيته وهو يتناول قلمًا احمرَ يشبه قلمي ايام كنت محررًا فعالًا قبل حوالي الثلاثة عقود من الزمان.. وراح يشطّب كلماتي الرائعة.. كلمة اثر كلمة.. وسطرًا بعد سطر.. عندها.. عندها فقط.. همست في اذني.. قائلًا لها .. لقد وقعت اخيرًا يا مُعلّم.. وقعت في كمينك الليلي.. اي كمين هذا؟

***

قصة: ناجي ظاهر

أنا صوتٌ يتفجرُ مِن عُمق ذاتك

يجري في صحرائِك

الموحشة

محملاًً بأكاليل من زهرِ البيلسان

ينشرُ عطرَ المحبةِ

تنتشي روحُك

مِن عذوبتِه

ويغردُ حُلمُك على

رأسِ الصحو

يوقظُ فيك

بهجةَ الحبِ وجنونَ العشق ِ

لك أنا

كما أردتني

امرأةٌ مِن نورٍ ونار

أضيء عتمتك

وأحرِقُ بقايا

نسائِك المنسيات في جُبِ الذاكرةِ

أنا سنبلةٌ من سبعِ سنبلات

أبشرك بعمرٍ مِن اكتفاء

وحبةُ عنب عصرتها

نزواتُك لتصُب

في كأسكِ حتى الإرتواء

لن يأكل الطيرُ مِن رأسِك

إن زرعتني في حديقتِك الخلفية

وقفاً لطيورِ الحب

ولن أخبر بقيةَ النساءِ عنك

فموسمُ التفاحِ محجوب

لأجلٍ غير مسمى

وسكاكيني حادة ٌبما يكفي

لحزِ رؤوسهن اذا

دارت لكي تتبعك

قد يهزِم نوري ناري

وقد يحدثُ العكس

فعندما أحببُتك

تركت ُباب الجنونِ

مفتوحاً على الروح

مِن دونِ قيدٍ أو شرط

في شريعةِ الغاب

أنا ذئبةٌ ... بريئةٌ مِن دمِ ابن يعقوب

وان كانت دِماؤك هي

وسيلتي للحياةِ

على طريقةِ الزومبي

وفي شريعةِ المحبين

انا بثين وليلى وعبلة

كلهن أنا

فلا نجاة يا حبيبي

طريقُك نحو الهُيام بي

يلوحُ في الأفق

رأيتهُ في حُلمي

وفسرتُه كما يطيبُ لي ...

***

أريج محمد احمد

2/6/2021

 

‪‪تناءت وانتمت يوماً وراحت

إلى أقصى الدّيار فلن تعودا

*

إذا عادت؛ فلم ترجع بأمسٍ

ولن تأتي من الشّوك الورودا

*

لأنّ الغصن مقطوعٌ؛ فأضحى

يباساً أجرداً.. جذراً وعودا

*

إلى أنْ شاب فوديها بياضٌ

وطاف النّجمُ في الصَّدغين سودا

*

رأت ما كان في أمسٍ جفاءً

لنور الله مذ عمَّ الوجودا

*

فعاد اليومَ ما فيها وضيئاً

بروح كان يحويها وليدا

*

وذي كالحُور قد عادت إليهِ

أخاً قد صار في أختٍ سعيدا

*

فيا أختاه؛ ما أحلى زمانٌ

يعيد المرءَ في الدُّنيا جديدا

*

وما أقساه من عمرٍ تمادى

إلى منفاه مقصيّاً طريدا

*

فيا دنياي لا تبقي نفوساً

عنيداتٍ، ولا تبقي العنيدا

*

عسانا ﷲ يعطينا.. فنحيا

- كما أعطى - لنا عمراً مديدا

*

نموسق ما مضى لحناً قديماً

ونعزفُ حزننا ناياً وعودا

*

فقد ملَّ الفؤاد.. كما مللتِ

فحان الوقت.. هيتِ أنْ نعودا!

***

رعد الدخيلي

 

هُــدُوءُ الـلَّـيْـلِ يَـضْـجَـرُ مِـنْ سُـكُـونِي

تَـغُـوصُ خُـطَـايَ بِـالـدَّرْبِ الْـحَـزِيـنِ

*

وَقَـــدْ سِــرْنَـا نُـحَـدِّقُ فِــي سَــرَابٍ

يُــغَـنِّـي لِـلـعِـطَـاشِ بِـــلا مَـعِـيـنِ

*

أَنــــا والــحُــزْنُ أَنْـشَـبْـنَـا خِــيَــامًـا

عَــلـى طَــرْفِ الـحَـقِـيـقَةِ وَالـظُّـنُـونِ

*

نُـعَـانِـقُ لَـيْـلَـنَـا الْـمَـشْـحُـونَ زَيْــفًـا

تَــرَاكَــمَ مِــــنْ عَــنَــاءَاتِ الـسِّـنِـيـنِ

*

تَــوَضَّـأْتُ الْأَسَـــى فِـــي كُـــلِّ فَـــجٍّ

وَصَـلَّـيْـتُ الـتَّـوَجُّـسَ فِـــي عَـرِيـنِـي

*

فَهَلْ فِي الْأَرْضِ مَا يُرْضِي احْتِمَالِي؟

وَغَـــدْرُ الــنَّــاسِ أَصْــبَـحَ كَـالْـيَـقِـيـنِ

*

أَنــا يــا صَـمْـتَ لَـيْـلـي، كُـنْـتُ طِـفْـلًا

يُـخَـبِّـيءُ فــي الـنَّـدى شَـوْقَ الـجَـنِينِ

*

وَيَـحْـسَـبُ أَنَّ فـــي وَجْـــهِ الـمَـرَايَـا

رُجُـــوعًـــا لِـلـطُّـفُـولَـةِ وَالــحَــنِـيـنِ

*

وَلَـــكِــنْ كُـــــلُّ مِـــــرْآةٍ تَـــصَــدَّتْ

بِــكَــفِّ الــشَّــكِّ لِــلْـوَجْـهِ الأَمِــيــنِ

*

فَــأَدْرَكْــتُ الـنِّـهَـايَـةَ قَــبْــلَ بَــــدْءٍ

لِــمَــا تَـحْـوِيـهِ مِـــنْ خُــبْـثٍ دَفِــيـنِ

*

تَـعَـلَّـمْـتُ الْــــوَدَاعَ بِــكُــلِّ صَـــوْتٍ

وَصَـافَـحْـتُ الـشِّـمَـالَ مَــعَ الْـيَـمِـينِ

*

أَنَــا وَالْـحَـرْفُ نَـغْـزِلُ مِــنْ شَـظَـايَـا

رُؤًى تُـقْـصِـي الــرَّخَــاوَةَ بِـالْـعَـجِـيـنِ

*

وَنَــكْـتُـبُ فِــــي مَـلَامِـحِـنَـا حُــرُوفًــا

تَـخَـطَّـتْ فِــي الْــوَرَى حَــدَّ الْـجُـنُـونِ

*

فَـإِنْ سَـأَلُـوكِ عَـنْ وَجَـعِـي، فَـقُولِي:

شِــرَاعٌ لَــمْ يَـجِـدْ ظَـهْـرَ الـسَّـفِـيـنِ

*

أَنَـــــا أَفْــنَــيْــتُ شِــرْيَــانِـي نَــزِيــفًـا

وَصُـغْـتُ خُـطَـايَ مِــنْ نَــارٍ وَطِـيـنِ

*

أُقَـبِّـلُ فِــي الْـغِـيَـابِ ظِــلَالَ أَهْـلِـي

وَأَلْـثِـمُ فِــي الْـجِـرَاحِ مَــدَى الْـوَتِـيـنِ

*

سِـهَـامُ الْـغَـدْرِ لَــمْ تَـهْـدِمْ قِـلَاعِـي

فَــقَـدْ بَـنَـيْـتُ عَــلَـى صَــخْـرٍ مَـتِـيـنِ

*

وَلَا كَــيْــدُ الْـحَـسُـودِ يَــهُــدُّ رُوحِـــي

هِــيَ اعْـتَـادَتْ عَـلَـى صَــوْتِ الْأَنِـيـنِ

*

فَـيَـا صَـمْـتَ الـسِّـنِـينِ، أَجِـبْ نِـدَائِـي

أَأَمْــضِــي، أَمْ أُقِــيــمُ كَـمـالـرَّهِـيـنِ؟

*

أَأُكْــمِـلُ سَـيْـرِيَ الْـمَـنْـفِـيَّ وَحْــدِي؟

فتُـطْـفَـأ نَــشْـوَةُ الْأَحْــلَامِ دُونِــي؟

*

وَهَــلْ يَـكْـفِـيـكَ أَنْ تَـبْـكِـي قَـصِـيـدِي

إِذَا مَـــا مُـــتُّ وَانْـغَـلَـقَـتْ جُـفُـونِـي؟

*

أَنَـــا فِـــي فِـتْـنَـةِ الْـمَـعْـنَـى سُـــؤَالٌ

يُـحَـلِّـقُ فَـــوْقَ هَــامَــاتِ الـظُّـنُـونِ

*

أُغَــذِّي الـصَّـبْـرَ إِنْ مَــا ذَابَ صَـبْـرِي

وَلَا أُفْـشِـي لِـمَـنْ حَـوْلِـي شُـجُـونِـي

*

فـــإِنِّــي لَا أُجِـــيــدُ الْــيَــوْمَ عَــزْفًــا

سِـوَى رَسْـمِ الـسُّكُونِ عَـلَى الْـجَبِينِ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

مَـنْ يَـزرعُ الـوردَ في الـدُنـيا ويَـقـتَـلِعُ

جُـذورَ مَـنْ افـسـدوا فـيها بـمـا صَـنـعوا

*

مَـنْ يَـزرعُ الـوردَ في الـدنـيا ويَـجـعـلُها

لـلـخيرِ تـسـمـو وعـنـها الـبُـؤسَ يـنـزعُ

*

مَـنْ يَـزرعُ الـوردَ في الـدنـيا الـتي سـقَـطَتْ

فـيها الـمـفـاهـيـمُ حـتّى اسـتـفـحَـلَ الـجـشـعُ

*

مَـنْ يـزرعُ الـوردَ في الـدُنـيا وفي زَمَـنٍ

لـلـعُـهـرِ سـوقٌ بـه الاوبـاشُ قـدْ بـرعوا

*

تَـكَـشّـفَ الامـرُ للأعـمـى بـأُمَـتـنـا

أنّ الـطـواغـيـتَ أربـابٌ لِـمَـنْ خَـنـعـوا

*

تَـكَـشّـفَ الامـرُ مَـخـدوعٌ تَـصَـورها

دُنـيـا الـحـضـارةِ لا ظُـلـمٌ ولا طَـمَـعُ

*

تَـغـولَ الـغـولُ واهـتـاجـتْ غـرائـزهُ

فـهـي الـنـفـوسُ عـلـيـها الـنـاسُ قـدْ طُـبِـعـوا

*

إنّـا نـعـيـشُ بـدُنـيـا صـار سـيّـدُهـا

أعـتـى الـعُـتـاةِ وفي اسـتـهـتـارِهِ وجـعُ

*

لا الـديـنُ دانـوا لـهُ يَـومًـا ولا الـتـزمـوا

شـرعًا وعـهـدًا وإنّ الـشـرعَ مـا شـرعوا

*

وأُمّـةُ الـعُـربِ أرذالٌ يُـسـيُّـسُـها

فـمـا أقـولُ وهُـمْ مِـنْ ذلِّـهِـمْ شـبـعـوا

*

هـي الـوضـاعـةُ في حُـكّـامـنـا جُـبِـلَـتْ

مـنـها الـنُـفـوسُ وفي أوضـارها مَـتَـعـوا*

*

وصـار دأبُـهُـمُ في الـهُـونِ مَـكـرُمَـةً

نِـعَـمَ الـمـقـامُ لـهـمْ والـمُـرتَـجى لُـكَـعُ**

*

صار الـخـنـوعُ لـهُـمْ طـبـعًا وطـابِـعُـهُـمْ

عـنـهـا الـكـلابُ إذا قـارنـتَ تـرتـفـعُ

*

يـا أمّـةَ الـعُـربِ إنّ الله يـأمُـرنـا

ألّا نَـقِـرَّ عـلى ظـلـمٍ إذا يَـقـعُ

*

فـأيـنَ أنـتِ وفي حُـكّـامِـنـا خـورٌ

مِـن الـجـهـادِ وفـيـهِ الـحـقُّ يُـنـتَـزعُ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك / كوبنهاجن

الاثنين في 18 آب 2025

....................

* مَـتَـعَ بـا الشيء: أجـاد بـه

** الـمرتجـى لُـكَـعُ: أي الـمرجو لـئـيـم

جالس خلف نظارتي أتأمل الحديقة. كل شيء متناسق وبديع. الأزهار تغري بالشم والقطف، والشجيرات تنتصب على حياء. في الكشك المحاذي للبوابة يضطجع بستاني عركته السنون والتجارب. يعتذر وهو يبيعك قارورة ماء أو مشروب غازي بأن العين بصيرة واليد قصيرة.

في الجهة المحاذية للبوابة خص البستاني ليالي الشتاء بحوض زعتر وشجيرة ميرمية، لذا صرت كل سبت من أيام الخريف أشق طريقي إلى الحديقة ليقاسمني كوب شاي، ونتجاذب أطراف حديث تتخلله الكلمات. كان يؤثر الصمت، أما أنا فضجري من الحياة يغري بالبقاء إلى جواره.

تشكو العجوز جروها المشاكس. قابلتها مرتين أو ثلاث وهي تكسر رتابة يومها بالتنزه في الحديقة:

- أسكن في تلك البناية المحاذية لقسم الشرطة. وعدني ضابط بمسكن يحتضن ما تبقى من أنفاسي مقابل أن أتخلى له عن شقتي القريبة من مكتبه. بدا عليه التبرم حين سألته عن سنواتي الخمسين التي صرفتها هنا، كيف أنقلها إلى مكان آخر؟ صرخات أبنائي وهم يتدلون من بطني ليذوقوا طعم الحياة. وزيجاتهم التي أقيمت أفراحها هنا، والشرفة التي قضى زوجي نصف حياته وهو يحتسي شايه، ويلاعبني النرد على طاولتها الحديدية.

- وماذا جرى بعد ذلك؟

- لا شيء. صار نباح جروي يزعج الجيران، وتوالت الشكايات التي أظهر الضابط عناية خاصة بها، فكان يُسمعني في مكتبه فصلا عن حقوق الإنسان، ظاهره الرحمة وباطنه الشماتة!

تنصرف العجوز لأنفض عن قلبي حديث البشر. جئت إلى هنا مسترخيا لا رئيسا لمصلحة الشكايات. الجدير بالمسنين أن يكونوا حكمة لا نقمة. يعيش أحدهم حياته بالطول والعرض، ثم يترقب تكريما رسميا لمجرد أنه عاش!

كان مقعدي المفضل جوار بركة صغيرة، حيث الضفادع تموسق العشية بنداءات التزاوج. بدا الشاب الذي يتهيأ لامتحان التخرج متذمرا من حقيبته الجلدية فألقى بها على مقعدي.

شاب أسمر بوجه متغضن وعينين يشعان إصرارا على تحقيق شيء ما. ناولته سيجارة فاعتذر. هكذا هم أبناء الجنوب، لا يدخنون عادة إلا بعد رحيل الوالدين. كأن ضنك العيش ينقلب سياطا تجلد الصغار، فينشأ القلب وحوله ندوب لا تشفى!

أمطرت على غير عادة فلُذت بكشك البستاني. رائحة التراب تسعف ذاكرتي بشيء من الحنين. وهل التراب إلا غبار أجساد وأمنيات؟ تئن الأرض من وطأة سعينا إلى الخلود فينكفئ السحاب مثل دلو سماوي ليثير غبار الحقيقة. قال لي رفيق الزنزانة يوما أن بداخلي يرقد فيلسوف عميق. وفي السجن حيث كل صنوف البشر، قابلت بعضا من دارسيها. فلسفات بيضاء وسوداء وحتى ملونة لم تسعف هذا العالم للعيش بسعادة.

بين البركة والسياج الخلفي تنتصب أرجوحتان. وككل صباح تضج الحديقة بصياحهم وضحكاتهم وهم يتناوبون على التأرجح. أكتفي بالنظر من بعيد إلى أن تقرر الأمهات عودة الصمت إلى أرجائها. حينها أسرع الخطو باحثا عما خلفوه من نزق وسعادة.

لماذا يكبر الإنسان؟ وهل الزمان أبجدية كونية أم لعنة تلاحقه؟ كان اليوم أثقل من جلمود على قلبي وأنا أمضي عاما في المعتقل. عام واحد يصهر روحك لتشيخ بلا موعد.

على المدخل ألصقوا تنبيها مفاده أن الحديقة ستخضع لترميم يتناسب مع تصميم الحي الجديد. زفر البستاني بأسى وامتعاض لأن موقعها يسيل لعاب رئيس البلدية.

جالس خلف نظارتي أتأمل الحديقة. ريح خفيفة تكنس ما تبقى من وريقات أشجارها وضحكات صغارها، وتخدش روحي بلا هوادة.

لماذا يكبر الإنسان؟

***

حميد بن خيبش

قبل أن يعلو صوت المؤذن،

يجلس أبي،

يغسل وجهه بقطرات ماء

خبأها من شهوة الطين الأول،

يضعها في مدخل بيته،

كأنَّ أولَ صلاةٍ كانت تيممًا،

وعجينةَ الطين النجفي

تعود لتغسل يديه.

*

يركض لئلا تفوته صلاة الجماعة،

ويمسح جبينه

كمن يمسح غبار الطريق،

كأن الصفوفَ

امتدادٌ لخطى الآباء،

والمطرُ ينسكب فوق الأرض،

يغسلُ العمرَ

ويعيدُ الولادةَ لكلِ صلاةٍ.

*

يتذكرُ والدَهُ الذي رحل في ليلةٍ بعيدة،

وأورثه دينين:

أن يحفظ اسمه،

وأن يسدّد ما عليه

في أرضهِ

وفي سمائه.

*

قبل عيدين،

وقفت قبالة رسمه،

كأنني أمام معلّم قديم،

أقرأ الدرسَ الأولَ

في عينيه،

درس الطينِ

والماءِ

والدمعِ،

درس الحياةِ

الممزوجةِ بالسماءٍ،

حضور الأب

وغسله للروح

كما يغسل المطر الأرض.

*

حين خرجت،

حملت في يدي رائحة التراب المبتل،

وفي قلبي وصيّة لا تنتهي:

أن أظل أبحث عن النهر الذي شربه أبي،

حين كانت الأرض طفلة،

والماء أول صلاة،

والتراب أول تيمم،

والمطر أول هبات السماء.

*

وهكذا،

كلما أقبل الفجر،

وشهقت الأرض بنداوتها،

أغسل وجهي بقطرات خبأتها في قلبي،

من شهوة الطين القديم،

وأمضي،

كأنني أواصل وضوء أبي،

في الصف الذي يبدأ من آدم،

ولا ينتهي.

***

د. جاسم الخالدي

بشارع التين والزيتون

رقصتْ دمعة في عيني

ومضيت بهدوء طفل ألثُم جَبين

حُلمي المنفلت

تذكرت كل قصص حبي

تذكرت منارات الشوق

وساعات التيه

تذكرت زمن الشغف

وشَهيق الليل

لم يبق من سؤدد الأمس

إلا رعشات اشتياق

ولعب على أوتار المَغِيب

وانْفِلاتٌ من عِقال اللَّهيب

بشارع التين والزيتون

أيقنت لأول مرة أنني مَحضُ ذكرى

وإيفاعُ لِهمسة شَوقٍ عابرة

عند الحُدود الموعودة

رقص دفقُ البنفسج

وتلاشت بديهة الغبن

في بلاغة الخيبات

2

للمرَّة الألف

أدخل حربا خاسرة

أمتشق جنوني

أتمنطق بحماقاتي

أرتدي بدلة محارب مرتاب

مسّه عبير الذهول

الحرب خدعة

وخططي مكشوفة

الهزيمة ثابتة

وشروط "الخُزَيْرَات" مُعدّة

لألج  متاهة الاسْتِلام

3

أيها السّائل عَنِّي

مهلاً

كرنفال المهاترات

سيبدأ عند المغيب

بشوارع المدينة البلهاء

وستلفظ الأزقة راقصات الصامبا

وطيور البطريق

وسيأتي العازفون زرافات

والشعراء يتبعهم الغاوون

وستبزغ ربَّات المُوسيقى السبع

في إيهاب لازُورْدي

وستجدني بسُحنة رماديّة

أرقص على بقايا أوجاعي

وأُرمّم تصدّعات ذاتي

4

بشارع التّين والزّيتون

شجت رأسي فكرة

سَال دمُ الحكمة على وجهي

نبذني القطيع

لبستُ ثوب وحدتي

وتجرّعت مرارة الجرأة

ذابتْ ملامحي في حُرقة السؤال

تحجرت الكلمات في فمي

ويبستِ الحروف بين اللّهاةِ والحنجرة

صرت حَكيما يتأمل بصمت

ويهرطق بلغة الميم

أقول قولي هذا وأستغفر للقطيع

المستميت في شراء الوهم

***

محمد محضار

بوزنيقة : 09غشت 2025

حين يلبس الوطنُ بزّةَ المعركة، ويُعلّق وسامَ الدم على صدرِه، يتحوّلُ الحقلُ إلى خندق، والشجرةُ إلى مرمى قذيفة، ويصيرُ الطفلُ درساً في الطبوغرافيا العسكرية.

في البلادِ التي يحكمها العسكر، لا تنمو الزهور إلا على أفواه البنادق، ولا تُعزَف الموسيقى إلا برتمِ الطبول الحربية، ولا يُحبّ أحدٌ أحداً إلا إذا كان الحبُّ مرسوماً في خطابٍ تعبويّ.

هناك، يُمنع الورد من الازدهار، وتُمنع القصائد من التنفّس، ويُمنع الصمت لأنه يُشبه التفكير.

*

كلُّ الطرق تؤدي إلى المقصلة، إلى زنزانةٍ بلا نوافذ، إلى قبرٍ بلا اسم، إلى نشرةِ أخبارٍ تبدأ بالموت وتنتهي بالموت.

يسيرُ الجنديُّ في الشارع، كأنه النبيُّ الجديد، وحولهُ الرصاصُ صلاتُهُ، والسلاحُ وصيّتُهُ، والأوامرُ قرآنه.

أمّا الشعراءُ، فقد عُلّقوا على أبوابِ الإذاعة، وغُسلتْ ألسنتهم بالبارود، فصاروا يبشّرون بموتٍ "مقدّس"، ويشتمون الحياة لأنها تُعيقُ النصر.

*

لماذا لا يعودُ الليلُ لليلِه؟ لماذا لا تعودُ القصيدةُ إلى كاتبِها؟ ولماذا أصبحَ النشيدُ الوطني مرثيةً جماعية؟!

*

في البلاد التي استولى عليها العسكر، يتحول المناضلون إلى مرتزقة، إلى أبواقٍ تسعل الموت، إلى شعراءَ يكتبون بالحبرِ المسفوكِ من رؤوسِ الرافضين.

*

في تلك البلاد، تسيرُ سياراتُ نقل الجثث أسرع من سياراتِ الإسعاف، وتُبنى المتاريسُ قبل المدارس، وتُفتَحُ المقاصلُ قبل قاعاتِ الدرس.

*

هناك، لا تعني كلمة "وطن" شيئاً سوى خريطةٍ محروقة تُعلّقُ على الجدار تحت صورةِ جنرالٍ يبتسمُ مثل تمثالٍ لا يُحِبّ أحداً.

*

السماءُ رمادية، والأنهارُ تفيضُ بالأسماء، والشمسُ ترتجفُ كلما سمعَتْ النشيد.

*

وحدها أمٌ في زقاقٍ مهدّم، تغنّي لطفلٍ لم يعد، تكتبُ ملحمةً من الدموع، تفوقُ كلَّ بياناتِ النصر.

*

أيّها العسكر، خذوا أرضَ الحربِ، واتركوا لنا قصيدةً ندفنُ فيها ما تبقّى من إنسانٍ في هذا الإنسان.

***

بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

 

امرأة من غزة

تعرّي الصمت العربي

***

يا مالكـي الأمر والأموالِ والذهــبِ

على ذراعيَّ طفلي مـاتَ مِنْ سَغَـــب(1)

*

قدْ جوّعـــونا وأنتمْ مُتخمــونَ فهلْ

(ماتَ الضميــرُ وماتتْ أمّـــة العــربِ)(2)

*

قرصُ الرغيف بعيــدٌ عن منالِ يدي

بُعْـدَ السمــاواتِ والأفــــلاكِ والشهبِ

*

أتنكـرونَ بأنّــا مـن سلالتكــــم

وأننـا واحــدٌ فــي العرْقِ والنســــبِ

*

مأسـاتنا حرّكـتْ أحــرارَ عالمنا

وأنتـــمٌ مثــــل أوتــادٍ مــن الخشــبِ

*

أيـنَ العروبةُ أينَ القائلـــونَ لنـأ

انصر أخـــــاكَ ولا تســألْ عن السببِ

*

لــمْ يبقَ منـــها سوى لفظٍ نرددهُ

مـا عادَ يُسمـعُ فـي دنيـــا مـن الصخبِ

*

وغبر بضـــعِ عبــاراتٍ منمّقـةٍ

طــابَ المقامُ لهــــا في باطــنِ الكتبِ

*

أمّا العروبةُ، دفعُ الضيم عن وطنٍ

أمسى مُباحـاً لمحتـــلٍّ ومُغتصــــبِ

*

أنكرتمـــوها جهـاراً دونما خجـلٍ

آثرتُمُ الزحــفَ في ذلٍّ علـــى الرُكبِ

*

قد خــابَ ظنّي بكم ما عُدتُ أسألكم

مـا عادَ ينفعُ لا لــــــومي ولا عتبي

***

جميل حسين الساعدي

18/8/2025

...........................

(1) السغب: الجوع

(2) عجز البيت من قصيدة للشاعر عبد الحميد الجيداوي، أحد أصدقائي القدامى ألقاها قبل أكثر من نصف قرن

أذق رغبتي طعم الرّضاب برشفةٍ

بها أنتشي كيما يقر هيامي

*

فقد قضّني فيك الهجوع بليلتي

ولم أستطع أن أكتفي بمنامي

*

إلى أن مضى الليل الطويل وأشرقتْ

على أفقها شمس الصّباح أمامي

*

مضت منيتي.. حزَّ النّعاس دواخلي

وقد ساور النّوم العتيد مرامي

*

فما لفّني نور الطّلوع، ولفّني

على ما أنا آن المنام ظلامي

*

لذا لم أزل فيه أعيش كأنني

من القَزِّ أغفو في حرير نعامِ

*

إذا شاءني حُبّي أحوك شراشفي

إلى العرس حسبي قد غزلتُ غرامي

*

بهِ كنتُ أسري .. ما أزال بوجهتي

وفي اللّيل يؤذي في المنام سقامي

*

فما كان لي عزف يسوق ربابتي

ولا كنت أشدي بالهديل حمامي

*

إلى أن سرى نايُ الغروب فهزّني

و مذ ذاك نمتُ هانئاً بسلامِ

***

رعد الدخيلي

 

كلّ كا أفتقِدُهُ أجدُهُ في صوت فيروز

ما دامتْ بابُ خِزَانة الذهب مفتوحة لي

فلن أعْدَمَ الشبابَ ولا الحبّ ولا الجمال

ربما تُغطّي العمرَ زهورُ القطن البيض

لكن ربّ زهرةٍ حمراء

ستطلّ من وسطها باسمة بأسنانٍ هازئة

**

صوتها يتناهى لسمعي من داخل قلبي

فقلبي هو جهازُ مذياعي

ولمذياع قلبي مفتاحُ تشغيل

وبطارية تنبض

ومع كلّ نبضة يتوهج المذياع بصوت

يُنيرُ ملايينَ القلوب المظلمة

أينما أدرتُ مؤشرَ المذياع لا أسمع سواها

ربما لأن فيروز لم تكن في بيروت

بل كانت تجلسُ على أريكة داخل صندوق المذياع

أي داخل قلبي1836 laith

إلى الحرب رافقتني فيروز

كان البعض يحشونَ جلودهم بقوالب الخرسانة

بينما هربتُ أنا إلى النهر

لأغسلَ ما علقَ بقلبي من الطين

نصفُ قلبٍ هو ما تركته لي الحرب

أما ما تركه لي الحب

فشفاهٌ ممزقة من عُنف القبلات

ودموعاً بالرغم من الملوحة

ما زالت صالحة للسقي

لكن كلما انخفضت مناسيب الدموع

جئتُ لفيروزَ

لتمنحَ طفولتي جرعة من الحليب

**

صوتها علمني أوّلَ درسٍ في الحب

ولم يتركني أخوضُ التجربة منفرداً

بل رافقني منذ أول قبلة

وكان يحثّني على المزيد من القبلات

فرياحُ الثلج عاتية

وإدامة النارُ تتطلبُ المزيدَ من الحطب

***

شعر: ليث الصندوق

أدوية الصباح

محطة الباص الزجاجية

‏الكرسي الذي أجلس عليه منتظراً

جسدي الذي لا يحبُّ الإضافات

مثل أن يلبسَ ساعةً أو خاتماً

‏حقيبة الظهر التي نسيت أن أضع فيها علبة وجبة الغداء

ملابس العمل الكحلية

الحذاء الذي ملَّ من خطواتي

الشجرة التي بجانبي، أقصد الشجرة التي أنا بجانبها

بناية الإسمنت التي تضعني أمامها

الشارع الذي يعاكسني

الرصيف المرصوف

‏الباص الذي يمر بالمحطة ولا يراني

أجراس يوم الأحد

فيزيائياً، كل هذه الأشياء حاضرة

إلَّا أَنا..

أَنا الغائب

***

فارس مطر

 

بعد عبور البحر من تركيا إلى اليونان، كما لو أن الأمواج فتحت لها باباً من زبد ومجهول، لم يكن الطريق إلى الحلم قد اكتمل بعد. كانت وجهتها القادمة ألبانيا، ومنها نحو وسط أوروبا التي طالما سكنت أحلامها مثل مدينة بعيدة تتلألأ خلف ضباب القدر. ترافق والدتها المسنّة، تحملها كما تحمل الأرواح أثقالها الثمينة، بينما بقي شقيقها في اليونان، يغامر بالاستقرار حيث انتهى به الموج. اتفقوا مع مهرّبٍ وصفه العابرون قبلاً بأنه رجل لا يساوم على صدقه، ولا يخون الوعد، وحدد يوم الرحيل كمن يخطّ على الرمل موعداً مع المدى.

طيف.. اسمها يشبه ملامحها الشابة، عابرة كنسمة، شفافة كظل في صباح شتوي. عيناها واسعتان، لكنهما محروستان بقلق رقيق، كأنهما نافذتان تطلان على حياة لا زالت تخشى الانكسار. التقيتها صدفة في محطة برلين، حين كنت أنتظر قطاري عائدة من رحلة عمل قصيرة. تقدمت نحوي بخطوات بين الجرأة والتردد، تسأل بألمانية متعثرة عن وجهة القطار والرَّصيف الصحيح. كان صوتها خافتاً، يتلمس الطريق في لغة لا تتقنها، قلت: "يمكننا أن نتحدث العربية، إن كانت لغتك."  انفرجت أساريرها، كمن وجد في صحراء غريبة جرعة ماء. ابتسمت، وبدأت الأسئلة تتدفق من شفتيها كما تتدفق الحكايات حين تجد من يصغي. سألتني عن وجهتي، وحين علمت انها ذات وجهتها تهلل وجهها بشرًا. سألتني عن اسمي وموطني، ثم بادلتني تعريفها بنفسها وأصلها. كنا نتحدث، والوقت ينساب من بيننا مثل نهر هادئ، حتى دخل القطار، فاصطحبنا معه، لا كمسافرين فحسب، بل كمَن يحمل في حقيبته بذور حكاية كانت قد زُرعت بالفعل في صمت المقاعد والمسافات لبداية قصة لم تُكتب بعد.

حين توقّف القطار في محطّة مدينتنا، كان صوت احتكاك العجلات بالسكك يصرخ مثل صفيرٍ طويل يودّع الرحلة. ارتجّ الرصيف تحت وقع الحديد، وانبعثت من العربات أنفاسٌ دافئة امتزجت بضباب الظهيرة البارد، فتشكّلت غلالة رقيقة كأنها ستارة تفصلنا عن بقية العالم. على الجدران العالية، ارتطمت أصداء أصوات المسافرين بأزيز الريح، وتردّد النداء الميكانيكي باسم المحطّة كصوتٍ بعيد يخرج من بطن آلة عجوز.

كانت طيف واقفة أمامي، يلفّها معطف داكن يضيق على جسدها النحيل، لم تكن تبتسم، لكن في عينيها بريق خافت يشبه شرارةً تقاوم العتمة. بصوتٍ منخفض، أقرب إلى بوحٍ على عتبة الوداع، قالت إنها ما تزال في النزل المخصّص للاجئين، وأنها تسعى لإيجاد منزل بعدما حصلت على الإقامة في ألمانيا. أضافت أنها تدرس الألمانية، بصبرٍ يشبه مشي المسافر في طريقٍ مغمور بالثلج.

ابتسمتُ لها وأنا أقاوم ذلك الشعور المزدوج بالفرح والحذر:

"ممتاز، أنتِ شابة طموحة، والمستقبل أمامك، أتمنى لكِ التوفيق."

مددت يدي لأصافحها وأغادر، لكنّها أوقفت حركتي بطلبٍ مباغت:

"أيمكنني الحصول على رقم هاتفك؟"

ترددتُ، وأحسست للحظة أن بيني وبينها جدارًا من هواءٍ ثقيل. قلت بسرعة، محاوِلةً التملّص:

"ربما في المرّة القادمة، فأنا الآن على عجلة."

لكنها تقدّمت خطوة، وكأنها تخترق الضباب بيننا. كانت نبرتها هذه المرّة أكثر قربًا ودفئًا، وفيها حافّة خفيّة من القلق:

"وكيف ذلك؟ لقد التقينا صدفة، وبصراحة.. أنا ارتحت لك. لاحظت أن لغتك جيدة، وربما سأحتاج مساعدتك."

أجبتها محاوِلة أن أبقي المسافة بيننا واقعية:

"في المراكز الاجتماعية هناك مترجمون، ويمكنهم مساعدتك إن احتجتِ، فهذا عملهم."

تردّدت قليلًا، ثم امتدّت يدها لتقبض على يدي، قبضًا لا يعرف التردّد، وفي عينيها التماعة مزيج من الرجاء والخوف. قالت بصوتٍ يوشك أن ينكسر:

"لا أثق بالمترجمين.. وبصراحة، لقد وثقت بك. ثقي أنني لن أضايقك، ويمكنك في أي وقت أن ترفضي إذا شعرتِ أنني أثقل عليك. سأكون ممتنّة لك في جميع الأحوال."

كان في كلماتها شيء يتجاوز الطلب العابر؛ كان نداء روحٍ تبحث عن مأوى. عندها أعطيتها رقمي، وقلت:

"أتمنى أن أستطيع مساعدتك."

فاجأتني حين تقدمت قليلًا، وطبعَت على وجنتي قبلة امتنانٍ سريعة، خجولة، لكنها تركت دفئًا مفاجئًا على جلدي. ارتبكت، ثم ابتسمت لها، ولوّحت مودّعة. ظلّ وجهها أمامي، محاطًا بضباب المحطّة وصوت القطار وهو يبتعد، كصورةٍ من مشهدٍ لن يغادر ذاكرتي، على أمل أن يصلني عنها يومًا خبرٌ سعيد يليق بعناد عينيها.

مرّت الأيّام، وملامح طيف تراجعت في ذاكرتي كما يتراجع صدى بعيد بين جدران مدينة غريبة. كنتُ قد طويتها في زاوية النسيان، لولا أنني حين رويت لزوجي قصّتها وما دار بيننا، أبدى رغبةً ملحّة في أن أمدّ لها يد العون، قائلاً:

"ربما هي حقًّا تحتاج إليك، فلا تُغلقي الباب قبل أن تطرقه."

ابتسمت بفتور، وفي داخلي صوت آخر يهمس: وماذا لو لم تكن تحتاج سوى شفقة عابرة لا أملك أن أقدّمها؟ قلت له:

"سنترك الأمر حتى تتصل.. وسنرى."

 ثم تركت الأمر يذوب مع تفاصيل الحياة اليومية.

وفي صباحٍ رماديّ الضوء، كان الهاتف يرنّ من رقم مجهول. تركته يتوقّف دون أن أجيب. لكن دقائق قليلة مضت، وإذا برسالة نصيّة تنبثق على الشاشة:

"أنا طيف.. هل لي بمهاتفتك والتحدث معك؟"

توقّفت عند الاسم، كمن يلمح من بعيد ظلّ وجهٍ كان يظنّ أنه غاب. كتبت ردًا قصيرًا:

"أهلًا وسهلًا."

لم أكن قد أعدت ترتيب أفكاري حين جاء رنين الهاتف مرّة أخرى. ضغطت على زر الإجابة، فإذا بصوتها.. كان فيه رجاءٌ خافت، كما لو أنها تقف على حافة جملة وتخشى أن تسقط. قالت:

"هل لي بلقائك هذا الأسبوع.. إن أمكن؟"

سألتها بلهجةٍ تحمل الحذر وأنا أزن الكلمات:

"هل الأمر ضروري؟"

أجابت دون تردّد هذه المرّة:

"نعم، أرجوك.. فأنا أعاني من آلام وأودّ الذهاب إلى الطبيبة النسائية."

تسلّل التعاطف إلى صوتي رغم محاولتي ضبطه:

"أنا أفهم.. ومتى الموعد؟ بإمكاني أن ألتقيك في عيادة الطبيبة، أليس هذا أفضل لكلينا؟"

تردّد صمت قصير، وكأنها تبتلع شيئًا بين الحلق والقلب، ثم جاء صوتها هادئًا لكنه ثابت، يحمل إصرارًا هادئًا:

"لا.. أودّ أن ألتقيك قبلها، وكما تشائين وأينما تشائين."

تساءلت في داخلي: ما الذي تحتاج أن تقوله قبل الطبيب؟ وما هذا الإصرار الذي يلبسه صوتها مثل معطفٍ ثقيل في يومٍ بارد؟ لكنني قلت فقط:

"أين تقيمين؟ اكتبي العنوان، وسنلتقي خلال عطلة نهاية الاسبوع.. ما رأيك؟"

انفرج صوتها فجأة، وكأن حملاً هائلًا انزاح عن كتفيها، جاء صوتها مشبعًا براحةٍ مفاجئة:

"أنا ممتنّة وشاكرة لك كثيرًا.. لقد أزحتِ عن كاهلي جبلًا كان يثقل أنفاسي."

وفي تلك اللحظة، شعرت أن كلماتها لم تكن مجرد شكرٍ عابر، بل كانت تنهيدة روحٍ وجدت فجأة من يلتقطها قبل أن تهوي. في خلفية المشهد، كان صوت الريح يمرّ عبر نافذتي كأنّه يحمل معه شيئًا من برد الغربة الذي يحيط بها، فيما ارتسم أمام عينيّ وجه طيف من جديد، هذه المرّة أكثر وضوحًا،

وجدتُها واقفةً عند محطة الباص، كأنها تنتظر منذ دهور، وعيناها تلمعان بوميضٍ دافئ يشبه الرجاء الممزوج بالامتنان. ما إن صافحتني حتى ارتمت عليّ بعناقٍ حار، ذلك العناق الذي لا تكتفي فيه الأذرع بالتشابك، بل تشارك فيه الروح كلها. كان في حضنها اعتراف صامت بفضلٍ لم أقدّمه إلا بدافع إنساني، لكنها تلقّته وكأنه شريان حياة.

سألتها إن كانت قد وجدت سكن، فأجابت بنبرة يكسوها شيء من الخيبة:

ـ الحصول على سكن لشخص واحد أمر صعب.. أغلب الشقق معدّة للعائلات.

تردّد في خاطري سؤال ظلّ معلقًا في ذهني: ألم تقل لي من قبل إنها حين غادرت اليونان اصطحبت والدتها معها؟ لكنني آثرت الصمت، كأنني أُرجئ مواجهة ظلّ ما سيظهر لاحقًا.

قالت وهي تبتسم ابتسامة خفيفة:

ـ زميلتي في الغرفة ذهبت لزيارة أختها.. سنكون وحدنا.

دخلتُ معها، فاستقبلتني رائحة البخور ممزوجةً بعبق القهوة المغلية، رائحةٌ لها هيبةٌ هادئة، تمنح المكان قدسيةً لا تراها العين بل يلمسها القلب. في منتصف الغرفة، طاولة مُهيأة بعناية للاستقبال: قالب كيك يلمع تحت ضوء النهار، أقداح شاي، فناجين قهوة صغيرة أنيقة، وأوانٍ تفيض بالمكسرات من كل صنف.

نزعت معطفي، فتناولته مني، وعلّقته، ثم جلست بدعوة متكرّرة منها، وكأنها تخشى ألا أستقرّ في مقعدي. عيني وقعت على الصور المعلّقة أمامي على الجدار، فتسمّرت عليها رغمًا عني.

قطعت شرودي بصوتها:

ـ تشربين الشاي أولًا أم القهوة؟

ـ رائحة القهوة بالهيل مغرية جدًا.

ابتسمت وسكبت لي فنجانًا برغوته الطازجة، بينما كانت الصور تواصل اختراق نظري، كأنها تحاول البوح بسرّ دفين. أشارت إلى إحداها، والدمع يثقل رموشها:

ـ هذه أمي.. هنا كنّا صغارًا، وأنا الصغرى بين إخوتي الثلاثة.

قلت بلطف:

ـ اجلسي.. لا داعي للبكاء.

جلست تمسح دموعها التي أصرّت على الانهمار، فأحسست بحرجٍ جعلني أضع كفّي على كتفها، مؤاسيةً:

ـ كلّنا نحمل أثقال الهموم، لكنّها جزء من نهر الحياة الذي لا يتوقف.. وأنتِ ما زلتِ شابة وجميلة، والبدايات ما زالت أمامك، بأفراحها، إن شاء الله.

بابتسامة باهتة قالت:

ـ أشعر أنّك قريبة مني كثيرًا.. أحببتك كما أحب أمي.

عندها اجتاحتني رغبة غامرة في احتضانها كما يُحتضن طفلٌ فقد أمانه.

ثم أفرغت قلبها دفعة واحدة، بصوتٍ يختنق بين شهقات البكاء:

ـ أمي ماتت في الطريق.. كان ذلك حين تركنا المهرّب ليلًا في بيتٍ مهجور، وسط غابة على الحدود الألبانية، بعد أن أخذ كل ما نملك. تفرّق الجمع، وبقيتُ مع أمي وشابين صديقين لأخي، رافقانا منذ البداية وساعداني في رعايتها. انتظرنا طويلًا أن يعود، لكن بدلًا من خطواته، سمعنا أصواتًا تتسلل من بين الأشجار.. فهربنا.

توقفت لحظة، كأنها تعيد مشهدًا محفورًا في ذاكرتها، ثم تابعت:

ـ أمي لم تستطع الجري.. كان البرد ينهش عظامها، والجوع يثقل أنفاسها، والطريق وعرة، فحملها أحد الشابين على ظهره، أما الآخر فمضى بعيدًا، يبحث عن نجاته. أمي كانت تعاني من السكر والضغط، وكانت تسعل بصوت مبحوح، تحاول أن تكتمه.. توسّلت إلينا مرارًا أن نتركها ونهرب.

ثم شهقت، وعيناها تمتلئان بالذعر:

كانت الغابة تمسك بأنفاسها، والليل يجرّ فوقها عباءته السوداء حين بدأت نقاط الضوء تلمع في البعيد، وتهتز مع وقع أقدامٍ غامضة. كانت أضواء المصابيح تقترب كأعينٍ متوحشة، حتى خرجوا من بين الأشجار فجأة، كأن رحم الظلام نفسه أنجبهم. أسلحة طويلة في أيديهم، ورشاشات مشدودة إلى الأكتاف، لكن زيّهم لم يكن زيّ شرطة.. بل ملابس سوداء عادية، ووجوه مموهة بالقماش، كأنهم يخفون عنّا حتى ملامح ادميتهم. لا يُرى منهم سوى قبضة السلاح، وبرودة الحديد، ونصل الليل المسلط فوقنا.

لم أحص عددهم، فقد التفوا حولنا كالأشباح، وأفواه الرشاشات تحدّق في جمجمتك قبل عينيك. أشاروا بصمتٍ قاسٍ إلى الأرض، أمرونا أن نجلس ونشبك أيدينا خلف ظهورنا. لكن أمي.. أمي التي ورثت صلابة الجبال، لم تنحنِ لأمرهم. ارتفع صوتها من قلب الخوف، استغاثة وشتيمة في آن واحد، كأنها تمزق صدر الليل لتخرج منه.

اندفع أحدهم من خلفها، ضربها على ظهرها بقسوة، فترنحت، لكنها لم تسقط في روحها، بل أطلقت صرخة أشدّ حدة، فأطبق بعقب الرشاش على رأسها.. كانت الضربة ثقيلة كحكم إعدام، فتهاوت، والدم يسيل من شعرها كجدول أحمر يفترش وجهها والتراب.

صرخت باسمها، وركضت نحوها، لكن عاصفة من الألم انقضّت عليّ بضربةٍ او ضربات جعلت الأرض ترتطم بوجهي، ثم غاب عني كل شيء في عتمةٍ غليظة.

استيقظت على حفيف الفجر، ونشيج يتسلل إلى أذني. كان الألم يثقل كل عصب، وكل مفصل، حتى الهواء كان يؤلمني. التفتُّ بصعوبة، فرأيت الشاب الذي كان معنا منكسرًا، يلطم رأسه وينوح، وكأنه يحاول أن يوقظ روحه من الكابوس. همست أسأله: "أين أمي؟" لم ينطق، بل أشار إلى مكانٍ قريب. هناك.. كان جسدها مسجى على الأرض، مغطى بشالها الذي اعتادت أن تدفئ به كتفيها.

عند هذه اللحظة، انكسرت طيف.. انكمش صوتها تحت وطأة الدموع، وارتعشت يداها كأوراقٍ في ريحٍ باردة. قلت لها برفق: "كفى.. خذي نفسًا، لا داعي لان تكملي، فقط استريحي." التقطت قدح الماء، ارتشفت منه كأنها تبتلع مرارة الجمر، ثم قالت بصوتٍ مبحوح:

"لقد خسرت كل شيء.. أمي، ونفسي، وحتى الشاب الذي كنت أتشبث به لأفهم ما جرى.. لم ينطق. وحين وصلنا وقدّمنا طلب اللجوء، تبخر أثره. ومنذ تسعة أشهر وأنا أعيش مع ألمٍ لا يفارقني، عاجزة ومترددة حتى عن دخول عيادة طبيب، حتى ولو كان معي مترجم."

***

سعاد الراعي

2025.08.14

كلُّ شيءٍ يقولُ غادرْ بلادَكْ

فَجَرادُ العراقِ أنهى حصادَكْ

*

كلُّ شيءٍ يقولُ غادرْ وغادرْ

إنَّ هذا الظلامَ يخشى اتّقادَكْ

*

غادرِ النهرَ كم قرأتَ لهُ الشِّعْـ..

رَ لِيغفو وكم أطالَ سُهادَكْ

*

غادرِ النخلةَ الـ (تَّغزلْـتَ) فيها

ثُمَّ أعطَتْ تُمورَها جلّادَكْ

*

أيُّ شيءٍ تخشاهُ عندَ المنافي

بعدَ أن روّعَ العراقُ فؤادَكْ

*

أوَتخشى على الصغارِ فساداً؟!

إنَّ هذا البقاءَ كانَ فسادَكْ!

*

غادرِ المَوْصِلَ التي تتباهى

أنتَ فيها فأكثرَتْ حُسّادَكْ

*

بعدَ دفنِ المنارةِ انْفَضَّ عنها

أهلُها أنَ لم تُغادرْ حِدادَكْ

*

فوقَ أنقاضِها كتبتَ قصيداً

فاستفاقَتْ لأنّ فيها امتدادَكْ

*

أعطَتِ الضوءَ للجميعِ ولمّا

وهبَتْكَ الضياءَ كانَ رمادَكْ!

***

عبد الله سرمد الجميل

شاعر وطبيب من العراق

أنا للموتِ لم أُخلقْ وإنّي

أَحَقّ الخلقِ بالأُخرىْ وهَذي

*

أُعمّرُ ذي لأظْفرَ ذيْ وما عشـْ

تُ فالدُّنيا بلا شطَطٍ مَلاذي

*

ورايٌ قابلٌ بالموت غايًا

شذوذٌ أصْلُه شذُّ الشّواذِ

*

وإنْ نادىْ به دينًا إمامٌ

لبيْتِ الشّمسِ مَسْكنُهُ مُحاذِ

*

وإنْ حاباهُ يأسٌ مُبتليهِ

على الدّنيا اصْطبارٌ في نَفاذِ

*

أنتْبَعُهُ ولمْ نسْمَعْ بهِ مِنْ

رجَالٍ مثْلِ سَعْدٍ أو مُعاذِ؟

*

و مُنقطعٍ عن الدّنيا كشوكٍ

ببيدٍ أُلْقِيَتْ خلْفَ العَواذي

*

فلا جانٍ ولا مُعطٍ لاُخرى

سيحْظى مِن جَداها بالرّذاذِ

*

فأحيا لا أحرِّمُ ما أحلَّ الـ

عليُّ بذي الحياةِ مِنَ اللِّذاذِ

*

وأمضي لا أحلّلُ ما كتابي

يُحرِّمُ أجْلَ ميلٍ والتِذاذِ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

أرى الجوع كحيوانٍ شفاف،

ينام على وسادةٍ من عظامٍ لم تجد أسماءها بعد.

يستيقظُ ببطءٍ مع أول ضوء،

يُطلّ من نوافذ البيوت المطفأة،

يحرك أصابعه

كما لو كان يعزف على وترٍ خفي

يجعل القلوب ترتجف.

*

التجويع ...

كلمةٌ تمشي على أربعٍ في الظلام،

تلعقُ الأرصفةَ الباردة،

وتترك وراءها أثرًا يشبه العطش.

*

غزة،

مدينةٌ تتنفس بخبزٍ غائب،

وتعيش على رائحةِ ماءٍ يتبخر،

لكنها، رغم كل شيء،

تستيقظ في الصباح،

تضع الشمس في يدها،

وتعلّم الأطفال كيف يضحكون

على كذبة العالم.

*

السماء هنا ليست سماءً،

إنها عينٌ زرقاءُ مملوءةٌ بالحجارة،

تحدّق في الأرض

وتسألها:

كيف تصنعين الحب من لا شيء؟

*

وأنا

أجلس أمام هذا المشهد،

أشرب القلق كما لو كان قهوةً مُرّة،

وأقول لنفسي:

الجوع ليس قَدَرًا،

إنه وجه آخر للوحش،

وجهٌ يبتسم ببرودٍ

حين يظن أنه انتصر.

2

الجوع ليس صمتًا.

إنه صوتٌ أجوف،

يضرب الجدران بأظافره،

يترك ندوبًا على أبواب البيوت

كأنها خرائط من دمٍ ناشف.

*

أراه يمشي في الشوارع كمتسولٍ أعمى،

يمد يده إلى الروائح،

يبحث عن فتات الكلام

الذي نسيه البشر على موائدهم.

كل حجرٍ هنا يعرفه،

كل بابٍ يسمع أنينه،

حتى الريح حين تمرّ

تخفض صوتها احترامًا

أو سخرية.

*

غزة تصنع من رمادها خبزًا خياليًا،

تعجن صمتها بدموعٍ دافئة،

وتوزعه على الأمهات

ليظلّ في قلوبهن طعمٌ آخر للحياة.

*

يقال: التجويع أقوى من السلاح.

لكنني أرى في عيون الأطفال

ابتساماتٍ تلمع كالسكاكين،

تقطع الظلام نصفين،

وتعلن أن الجوع

يمكنه أن يحني الظهور،

لكن لا يستطيع أن يسرق الأغنية.

*

وأنا

أتذكر أن العالم كلّه

يضع يده في جيب الموت

ويبحث عن مفاتيح البقاء،

لكنه يجد صدى،

صدى فارغًا،

يضحك بصوتٍ عالٍ.

3

الجوع

يرقص في الأزقة،

يضع قناعًا من الهباء على وجهه،

ويصفق كأنه مهرجٌ في مسرحٍ مهجور.

لكن خلف ستار الظلام،

تلمع العيون، وتهمس:

"لن نكون وجبةً سهلة في المأدبة ."

*

الأرض هنا تنبض كقلبٍ قديم،

ترفع رأسها من تحت الركام،

وتضحك،

ضحكة متعبة،

لكنها تكفي لتفتح نافذة صغيرة للريح.

*

السماء

تبدو أحيانًا متواطئة،

ترى كل شيء،

لكنها تعود في لحظةٍ واحدة،

ترسل غيمة صغيرة

تسقي الوردة التي نبتت على طرف السور،

وكأنها تقول:

"انظروا، الحياة لم تنتهِ بعد."

*

وأنا

أكتب،

وأعرف أن الكلمات،

حتى وإن كانت جائعة،

تستطيع أن تشبع الروح،

أن تشعل نارًا صغيرة في عتمة هذا الليل البارد.

أضحك من الجوع نفسه،

لأنه، رغم كل قسوته،

لا يعرف كيف يهزم قلبًا يظل يردد الحكاية.

***

مروان ياسين الدليمي

 

إذا سرقتني الحرب، لا تبحثي عني في ممرّات المشافي ولا تحت أنقاض المدن. ابحثي عني في الورق. أنا، ذلك الظلّ الذي وقع بين سطرين، وترك قلبه ينبض في منتصف القصيدة. لا تصدّقي النعوات، ولا ترتدي سوادًا من قماش. ارتدي حروفي، إنها أثوابي الأخيرة، وشهقتي المعلّقة على حبل الوقت. إذا اختفيت، وكان العالم مزدحِمًا بالرائحة والرماد، فأنا لم أمت، بل تسرّبت من جسدي، كالحبر حين يُغتال من قلمٍ مكسور. لا تبكي على قبرٍ مسمّى باسمي، أنا لست هناك. أنا في الصفحة التي رفّ فيها اسمك كعلمٍ أبيض في ميدانٍ لا ينتصر فيه أحد.

*

أوصيكِ، أن تحتفظي بقصائدي كما يحتفظ العشّاق بصوت المطر، وأن تقرئيها بصوتٍ منخفض، كما لو أني أتنفّس في رقبتكِ. فإن سألكِ أحد: أين ذهب الشاعر؟ قولي لهم: سافر في قصيدةٍ لم تنتهِ. وإن لاحظتِ يوماً أن الشمس تبكي في شقوق الجدران، فتلك روحي، تمشي حافية، باحثة عنكِ.

*

لقد عرفت الحرب جيداً. كان لها أصابع حبيبة، وعيونُ قاتل. نادَتني.  فمضيتُ مثل غزالٍ لا يعرف أن الشبكة من حرير. أبقي على روحي في رفٍّ عالٍ من مكتبتكِ، فإنّ الأرواح تموت فقط حين تُنسى.

*

أوصيكِ أن تنجبي لي حياةً من الذاكرة، طفلًا من ضوء الكلام، يسير في الأزقّة وهو يتهجّى اسمي. أوصيكِ أن تضحكي — حتى وأنا غائب، فالضحكُ مقاومة، وأنا يا صغيرتي كنتُ دومًا أحارب بالنكتة وبأبيات الشعر لا بالرصاص.

*

إذا مرّت الحرب من هنا، وأخذتني معها، فدَعيها، لكن لا تمنحيها قصائدي. هي لكِ. أنتِ وريثتي، وصوتي، ويدي التي لن تعجز عن الكتابة، طالما أن قلبكِ ما زال يخفق فوق كل ورقة.

*

توقيعي:

شاعرٌ فقد جسده

ولم يفقد صوته.

***

بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

 

لا ترتجي هذي الحشودُ نواحا

أو أنْ تضيفَ الى الجراحِ جراحا

*

لا ترتجي نزعَ السلاحِ وقد سرتْ

دولٌ الى كفِّ اللئيمِ سلاحا

*

بلْ ترتجي كوناً يكونُ بِهِ المدى

اُفُقاً يشعُّ عدالةً وسماحا

*

هذي الحشودُ عواصفٌ هدّارةٌ

انْ هبَّ حقدُ الظالمينَ رياحا

*

أتتِ العراقَ سليلَ آدمَ وانضوتْ

تحتَ القبابِ فأشغلتْ أشباحا

*

بالهمِّ والأرقِ الطويلِ وافصحتْ:

مَنْ يذبحُ الأطفالَ لنْ يرتاحا!!

*

أتتِ الحسينَ فقادَها نحو العلى

مُستبشِراً مُتبسِماً وضّاحا

*

هذا الهتافُ بِهِ النجوم تألقتْ

ليصوغَ مِنْ بَرقِ النجومِ رماحا

*

تهوي على عرشِ الذين تكبّروا

وتحيلُ أرضيَ للعدالةِ ساحا

***

شعر: كريم الأسدي

القليل من الهشاشة

أو

الكثير من الهشاشة

تلك بدايات ليست مبشرة

لنص يقف عند مفترق الطرق

بدايات لا تصلح لأن تركل بها أي شيئ

ستكتب وتكتب

ولكن لن يتوقف إحساس الأكلان عن العواء

إذن تلك هي البداية المناسبة

عطب ينهش الداخل

في مناوبات مجنونة

عرائس بحر تصرخ

ودموع تنهمر بألوان خرساء

ساعات بعقارب تجري عكس التوقيت

وقلب واحد

مفتوح البوح على كل الجبهات

يحارب لغة البؤس

الجوع المرض العبث الموت

بكل لغات الدنيا

ولا يفهمه أحد

يتكئ على صور شاردة من ذاكرة عرجاء

على جذرين من آخر شجرة حناء

كانت تنمو في باحة بيت الجدة

قبل قيام الساعة في زمن آخر

وبنت يتدفق نيلان من وقع تثنيها

وتنبت في كفيها حقول ومواسم وفرة

لن أستغرق أكثر

في حميمية هذا الصدر الأغبش

وهو يناولني في مطلع كل نفس

أبجديته الأولى لتعلم الغناء بفم مغلق

القليل من الهشاشة

أو

الكثير من الهشاشة

مقاييس هزيلة

لاحتمال كل هذه الغرابة الخرابة

التي تتشدق وهي تلقي هذه القصيدة

وتنهش ما تبقى في تلذذ

بينما يحاول القلب أن يمنحها عنوانًا

قبل أن يستسلم للسقوط الأخير

***

أريج محمد أحمد

 

استغرق وقتًا طويلًا حتى شعر بنبضات قلبه تتدفق، كمن يعود من غيبوبة حلمٍ قديم. كان يتكئ على حافة الزمن، كغريبٍ تاه في زحمة الفوضى، يرى الأفق ضبابًا يعانق السماء، فيواري صفاء النهار، ويبث في نفسه دائرة من الشك، كمن يسير على خيطٍ رفيع فوق هاويةٍ لا قرار لها.

صدى صوتٍ يخترق حدود الصبر، كأنه تلميحٌ بشؤمٍ يسكن قاع المكنون، صراخٌ مكتوم ينطلق بصمتٍ عبر الأثير، لا يثير ضجيجًا في الفضاء المترامي، بل يتلاشى كفقاعاتٍ بلا أثر.

إنها لحظة الانكسار الحقيقي، حين تتكشّف هشاشة الروح في مجتمعٍ تتنازعه الخيبات والانتهازية، ويترك أبناءه معلّقين بين الرجاء والخذلان.

تتنازع الأفكار فوق طاولةٍ من الجهل والكراهية والتنافر، كأنها خلطةٌ من عناصر متنافرة، تفتقر إلى النوعية والاتساق.

وفي أروقة الخيال، حين يطرق الجحيم أبواب الرزق وأعماق الضمير، تتكشّف الحقيقة: لا سند في زمن التشتت، ولا دفء حين يتفكك نسيج الألفة، ويتهاوى جسر التضامن كسرابٍ يعبر سواد الليل بصمتٍ مريب.

إنها مأساةٌ في بحر الظلمات، تتضاعف فيها المعاناة كلما غاب الانتماء، وتحوّل الجمع إلى جزرٍ متباعدة. هناك من يوزّع الصكوك على أراضٍ معلّقة خارج الكون، ويحفّز الأرواح على القبول بموتٍ مجاني، لا لشيء سوى أن يبقى الفكر حبيس القهر والتشظي، كأن الخبث صار سياسة، والوهم عقيدة.

ومع كل انكسار، يظلّ في الأفق نبضٌ خافت، كأن الحياة تهمس: ما زال في القلب متّسعٌ للدفء، إن عاد الجمعُ من غربتهم، وإن خيطت الألفة من جديد بخيوط الصدق.

وربما، في لحظة صدقٍ نادرة، حين يعود الجمع من غربتهم، نعمر ما تهدّم، لا بالحجارة، بل بالصدق، وبنبضٍ لا يخاف الغياب.

***

كفاح الزهاوي

لم يبذل جهدًا كبيرًا وهو يعتلي إحدى تلال قريته التي اعتاد ملامحها منذ صباه، ولم يتكاسل… رغم جوعٍ عضَّه مرارًا، وعطشٍ ظلّ يجرّح داخله كحبلٍ مبلول بالملح.

لم يكن الجوع غريبًا عليه؛ الغريب كان ذلك الفراغ المتسع داخله، مذ فقد أتانه البيضاء تحت قصف مدفعي أعمى، نُسفت معه سلالات دفءٍ قديم، وأحلامٌ صغيرة بولادة جحشٍ يشبهها… أبيض، بعينين لامعتين كحلمٍ لم يكتمل.

منذ تلك الليلة، فقد شهية الطعام والشراب، وتحول نصفه حمارًا، ونصفه الآخر ألمٌ يتعفن بصمت.

عندما مرّ بعشبة ربيعية مزهرة، توقّف. كمن يستعيد وطناً من رماد. أحنى رأسه إليها بخشوع، شمّها بعمق، كأنه يريد أن يستنشق وجهها من جديد، وجه المواسم التي هجرت تلال قريته. منذ أعوام، لم تزر أنفه تلك الرائحة. رفع رأسه إلى الفراغ، كان يبحث عن شيء لا يعرفه، يسأل الغياب عن الغياب، وعندما عجز، عاد بأنفه العريض إلى العشبة، يداعبها بلطف، كأنها أنثى بين حلم وذكرى غابت عنه.

لم يتذوقها. تركها، معتقدًا أن بعض الأشياء أجمل في مكانها وأن العشب الذي يُترك للنظر خير من الذي يموت في الفم.

واصل طريقه… والمسافة إلى قمة التلة لم تكن طويلة، لكنها بدت كأنها عُمرٌ آخر. على الطريق، كانت الدجاجات يقفزن بكسلٍ، ينظرن إليه كصندوقٍ رمادي أجوف، وحتى إحداهن، أرادت أن تبيض في أذنه ذات ظهيرة، لولا صهيل الحصان الأشهب، جاره الوحيد الذي ما زال يعترف بأن الألم له اسم.

في رأسه، ارتفعت أسئلة كالعوسج:

- ماذا لو لم أكن حمارًا؟

- بل ماذا لو لم تُخلق سلالة الحمير أصلًا؟

- كيف ستحتمل قريتي المنكوبة ثقل أكياس القمح، وأحجار السواقي، والشتائم؟

- من سيحمل الهوان عنهم، ويُجلد بدلًا عنهم؟

- بماذا تحلم الحيوانات لو لم يكن بينهن حمارٌ صبورٌ مثلي؟

- كيف ستنجو سفينة نوحهن، لو غبتُ عن ظهرها؟

فكّر… بأن كل الموجودين ينتمون للهواء، وهو الوحيد الذي ينتمي للتراب.

أخذته وخزةُ هذه الأسئلة كسوطٍ، كأن وليّه القديم عاد بعصاه، يضربه في خاصرته، ويجرّ روحه خلفه على الطرقات.

كان كل ضربةٍ توقظ في جسده شهوة الركل… لكنه صبر. صبر لأن الجوع أرهف قلبه. وصبر لأن التراب حافظُ السرّ الأخير.

وعند قمة التلة بدت قريته كخرقةٍ محترقة. لم يتبقَّ من خميسة سوى دخان وأصوات بعيدة، كأن الريح تكنس ذاكرته حجرًا حجرًا.

تذكّر أم نافع… رحيمته البيضاء، أنثى حلمه التي قضت مع الجحش الذي لم يُولد. كانت تحك له ظهره بأسنانها، تغمض عينيها حين يغازلها، وتكتفي بإيماءة صغيرة فيها من القبول ما يُصلح خراب الدنيا.

الحياة دونها… ظلمةٌ واجترار. والطريق إلى الحظيرة صار أبعد. لم يعد التراب يحفظ أثر حوافرها. حتى الحصان الأشهب بات صامتًا، كأن الخسارات تعلمت كيف تصمت.

أتذكر كيف كنا نتمرغ تحت الشمس… نفتعل الفوضى، نلعب بالتراب، نخدش ظهر الأرض بأجسادنا. كان يضربنا… سيدنا الذي لم يكن سيدا سوى على أسمائنا. يضربنا ويخفي وجهه كمن يخشى أن يرى رجولته تتساقط أمام بهيمة.

لكنه كان أجبن من أن يقترب من الحصان. لطالما جرحنا ذلك… أن الألم انتقائي، وأن الوجع يعرف أين ينزل.

كنت قادرًا أن أركله بحوافري… أن أطرحه أرضًا وأكسر قفص أضلاعه… لكنني صبرت.

صبري ليس ضعفًا، بل حيلةٌ لأجل شعير الغد. غير أن صبري له حدود. موت زوجتي المبكر جعلني أؤجل مصيري معه. ربما سيأتي اليوم الذي أفجّره في جسده.

ـ لا تخف، أيها الحمار، قال لنفسه. ما زلت في مأمن من الجوع، ما دام في فمك رمق.

وعلى حين غرة تذكر حكمة أبيه الحمار الأكبر:

- إذا ما خانك صبرك، فتيقّن أنك ستطير كنورس.

ابتسم… ولم يفهمها. لأن زمن النوارس لم يصل بعد.

ولأن النوارس لا تطير إلا حين تتعب الأرض من العابرين، ظل الحمار يعدّ الأيام، يحمل أعباءه بصبرٍ معلّق على حبل ذاكرة تفور كالقَدر.

***

زياد السامرائي

كان سلام، بعينين شاخصتين وروح معلّقة، يلتقط كل كلمة من الخطاب المهيب الذي ألقاه الأمير على نخب الطاعة، المدعوّة بمناسبة العيد الوطني لاستقلال إمارة سيكا.

في القاعة المفروشة بالحرير والمخمل، كانت الثريات تبعث على الوجوه وهجًا ذهبيًا، غير أن صوت الملك كان يقطع السكون كحدّ السيف العاري.

سقطت الفقرتان الأوليان كأحكام قاسية، بنبرة جافة لا تعرف المساومة:

"عليكم، وبعزيمة لا تلين، أن تهيئوا الساحة السياسية لولي عهدنا. عليه، بعد غيابي، أن يعتلي العرش محمولًا على مناخ من المجد والوحدة الوطنية".

زفرة قصيرة، وصمت عابر… ثم عاد الصوت الملكي، أكثر عمقًا، يكاد يرتجف:

"لقد حانت ساعة التحولات الجذرية. لم يعد مقبولًا أن يبقى وطننا أضحوكة الممالك والإمارات في العالم! واعلموا أنّه، رغم جهودي الإصلاحية التي لم تعرف فتورًا، فإن أعداءنا لا يتورّعون اليوم عن وصمنا بلقب مهين : "غابة سلطة فاسدة".

كانت كلمات الملك لا تزال تتردّد في أرجاء القاعة الفسيحة، تصطدم بأعمدة الرخام وتتلاشى في الستائر الثقيلة، وكأنها تبحث عن مخبأ.

أما سلام، فظلّ واقفًا بلا حراك أمام شاشة التلفاز، يداه مشبوكتان خلف ظهره، وعيناه معلّقتان خلف الزجاج الملوّن بألوان زاهية.

كل جملة ملكية، مدروسة وحادّة، تركت فيه أثرًا حارقًا، كندبة طازجة على جلد أنهكته خيبات سابقة.

فكّر في ذلك "الوريث" الذي أُعلن عنه بكل وقار… وجهٌ ما زال فتيًّا، لم يتذوّق مرارة المعارك بعد، يستعدّون لتتويجه في صندوق من ذهب.

وفي قلب سلام كان يدور سؤالٌ مكتوم: هل العرش في هذا الوطن وعدٌ أم لعنة؟

***

الحسين بوخرطة

......................

الترجمة بالفرنسية

Labyrinthe du pouvoir

Lhoussain BOUKHARTA

Salam, le regard fixe et l’âme suspendue, buvait chaque mot du discours solennel que le souverain adressait aux élites dociles, convoquées à l’occasion de la fête nationale de l’Indépendance de la principauté de SIKA.

Dans la salle tendue de soie et de velours, les lustres jetaient sur les visages une lumière dorée, mais la voix du souverain, elle, tranchait comme une lame nue dans le silence.

Les deux premiers paragraphes tombèrent comme des sentences, d’un ton sec et implacable :

« Vous devez, avec une ardeur sans faille, préparer la scène politique à notre prince héritier. Il devra, après ma disparition, s’asseoir sur le trône, porté par un climat de gloire et d’unité nationales. ».

Un souffle, un court silence… puis la voix royale reprit, plus grave, presque vibrante :

« L’ère des bouleversements radicaux est venue. Il est désormais insupportable que notre patrie demeure la risée des royaumes et des principautés du monde! Sachez que, malgré mes efforts inlassables pour réformer, nos ennemis ne se privent plus de nous flétrir d’un surnom infâme : « la jungle d’un pouvoir corrompu »

Les mots du Roi résonnaient encore dans la vaste salle, rebondissant contre les colonnes de marbre et se perdant dans les draperies comme s’ils cherchaient à se cacher.

Salam, lui, restait immobile devant sa télévision, les mains jointes derrière le dos, le regard perdu au-delà des vitraux aux couleurs vives.

Chaque phrase royale, pesée et tranchante, avait laissé en lui une empreinte brûlante, comme une cicatrice fraîche sur une peau déjà marquée par les désillusions.

Il songea à cet “héritier” annoncé avec solennité… Ce visage encore jeune, encore vierge de combats, qu’on s’apprêtait à couronner dans un écrin d’or et de gloire feinte.

Dans le cœur de Salam, une question sourde tournoyait : le trône, dans ce royaume, est-il une promesse ou une malédiction ?

كنت أظن أن الشعر هو ما تقولهُ جدّتي وهي تطهو*

***

أكتبُ القصيدة كما يكتب المجنونُ

وصيّتَه على الحائط:

كلماتٌ مجرّدة من العقل،

لكنها مبلّلة بدم القلب.

*

أترك علاماتٍ لا ترشد،

وخرائطَ بلا شمال،

وأمنحُ لكلّ قارئٍ حقّ التيه،

فمن لم يضِع في المعنى،

لن يعرف أن الشعر هو نوعٌ آخر من الخراب،

خرابٌ

يجعلُك تحبّ العالم أكثر،

لأنه لا يفهمك.

2

الشعرُ لا يُولد من العقل،

بل من عطبٍ صغير في آلة الفَهم.

هو جرحٌ يتقنُ التخفي،

يضحكُ حين نُحاول تضميده بالكلمات،

ثم يفتحُ فمهُ ليلتهمَ الصياغة.

*

في تلك اللحظة،

أدركتُ أنّ البيت الشعري ليس بيتًا،

بل زقاقٌ ضيّق تضيع فيه خطواتي،

وأصواتُ المارّة كلُّها تقول لي:

"ارجع إلى الخلف،

فلا أحد هنا يعرفُ لماذا البكاءُ يبدو موسيقًى

حين لا يسمعه أحد".

3

حين كنتُ صغيرًا،

كنت أظن أن الشعر هو ما تقولهُ جدّتي وهي تطهو.

الآن،

أفهم أنها كانت تكتبُه بالبصل،

وتنقّطهُ بالملح،

وترتّله بصوتٍ مُبحوح،

في صحنٍ من الخوف

وأصابعَ من ذهبٍ مكسور.

4

أحيانًا،

يمرُّ أمامي ظلٌّ أشعر أنه يشبهني،

لكنه لا يسلّم.

*

أتبعه،

أدخّن خطواته،

أسأله: هل الشعرُ أنت؟

فيضحك كمن وجد مزحةً في جنازة،

ويرد:

"أنا فقط

الفكرة التي نسيتها على السطر الرابع،

حين خفتَ من نفسك".

5

أكتب لأني لا أجيدُ الحديث.

أحبُّ المجاز،

لأنه لا يطلبُ إثباتًا

ولا يردّ على الهاتف.

*

الصورةُ عندي لا تُوصف،

بل تُشمّ،

تُذاق،

تُغنّى بين الأسنان،

كأنها خُدعة

أُتقنتْ لا لتُفهم،

بل لتوقظَ فيك إحساسًا بأنك نسيت شيئًا…

ولا تعرف ماذا.

***

مروان ياسين الدليمي

................

* المقاطع جزء من مجموعتي الشعرية "أبحث عن الشعر" 2025

 

في أعماق التاريخ

حيث تتشابك

الأرواح مع الطفوف

تنحني الهامات

إجلالاً لفارسٍ مهيب

أسطورة الموقف

الخالد،

في ذاكرةِ الزمن

في هذا المكانِ المقدس

يقطر النورُ الإلهيُّ

ويصعدُ من موقدِ الثورةِ

شعاعٌ لا يخبو

يحملُ في طياتهِ

الولاءَ والوفاءَ

أحرفاً كُتِبتْ

بدمِ الصمودِ

فكانتْ عنوانًا

للثباتِ والبقاء

لم يهَبِ

الموتَ بل يقاومُ

بكلِّ عنفوانٍ واقتدار

هو الحسين المستقيم

نورُ الحقِّ في قلوبُ المؤمنين

شمسٌ يهدي

إلى طريق الحرية

في ليلِ كربلاءَ يثورُ

الفراتُ بصرخةٍ مدوية

شوقًا لوجهِ الحسين

وفي دموعهِ عويلُ السماء

وانينُ الأرضِ يصمُّ الآذان

من لهيب النيران

التي التهمت الخيامَ

والزمنُ يبكي

والخلودُ يهتفُ

باسمِ الحسين

باسم الضحايا

في مشهدٍ لا ينسى

وذكرى لا تمحى

وحزنٍ لا يُطوى

ولم يزلِ الفراتُ ظماناً

لأنه لم يرتوِ

من ثغرِ الحسينِ المبجل

يبكي الفراتُ

ندماً

كما ينزفُ جرحٌ عميق

لا يندثرُ

ولا يشفى

جرح يتجدّدُ

مع كل ذكرى

وسيبقى الفرات أسيرًا للشوقِ

وامواجُه تردَدُ

يااااحسرتاهُ عليك ياحسين..

***

باقر الموسوي

 

سل خيالك في صقيع الليل

سله..

سله، لا ينحني لشيء،

أو يهادن او يكلُ ..

سلهُ، في عتمة الليل البهيم

عن القرارْ..

سله عن شغف النهار

وعن الفجر والصبح

والانتظار..

إن كان في وضع يملْ ..

وفي حالٍ تملُ

ونهاره مسخ غدى

شيئا يذلْ ..

كإنه شبح يغامر

في دروب، لا يكلْ..

لا صراخ أو شجار

هوذا الدليل على القرارْ ..

**

لا تسلْ، عن منبعٍ الصحو

يغفو، بين جنبيه جرح..

**

سل جحيم النار

عن صمت الدهور

سله عن مثوى القبور

وكل مهزلة وعارْ..

تلك، مرحلة الهروب

على طريق الانتظارْ..!!

***

د. جودت صالح

12/ آب 2025

 

كثير ما يواجهني سؤالُ

لماذا الشوقُ يقتله الوصالُ؟

*

لماذا كلما اقتربت فُتَاتٌ

من الآمال ينقطع المنالُ

*

لماذا كلما طلعت شموسٌ

شكت عيناي والشكوى انخذالُ

*

لماذا كلما حاولت دفئًا؟

أفاق القلبُ والتاعَ السؤالُ

*

كأنَّ البعد يشعل في الحشايا

لهيبًا من حنينٍ لا يُحالُ

*

كأنَّ القربَ يقصيني بعيدًا

وياخذني إلى الوهم الخيالُ

*

كأنَّ الدربَ يطويني جحيمًا

ويُغرقني، ولا يُجدي النضالُ

*

كأنَّ الحلمَ ينسجُ لي سرابًا

ويُخلفُ وعدَهُ حتى المُحالُ

*

أحاولُ أن أرى في الليلِ ضوءَا

ولكنْ كيفَ والظلُّ احتلالُ؟

*

يُناديني الهوى صوتًا شجيًّا

فأصغي ثمَّ يخذلني المآلُ

*

أحنُّ إليكَ رغم البعدِ شوقًا

كأنَّ الوصلَ يعشقُهُ الزوالُ

*

فهلْ يبقى على الأملِ انتظاري

وهلْ يُجدي من الصمتِ انفعالُ؟

*

كأنّي فيكَ لم أُخلقْ ولكنْ

لأحيا فيكَ يُرشدني الضلالُ

*

كأنّي فيكَ لم أعشقْ ولكنْ

تصيَّرني المنى وَهْماً يُقالُ

*

أجوبُ الليلَ، أستجدي رؤاهُ

فلا حلمٌ.. ولا طيفٌ يُطالُ

*

تمرُّ الريحُ، تُلقيني جريحًا

وتَسلبني المواسمُ والظلالُ

*

إذا جفَّتْ عروقُ الأرضِ يومًا

فإنَّ الحُبَّ أنهُرُهُ سِجالُ

*

وإنْ ضاقتْ على العشّاقِ دنيا

فعشقُ الروحِ لا يُبليهِ حالُ

*

أحبُّكَ كيفما جُرِحَتْ يدانا

وكيفَ تَبدّدَ الوصلُ المِثالُ

*

فإنْ طالَ الرحيلُ، فذاكَ دربي

وإنْ عُدنا، فيغمرني الوصالُ!

***

د. جاسم الخالدي

ها أنا أستريح على أريكة حزني

ولا أنام،

مثلي مثل جرح قديم،

أتركني بلا همهمات،

أعاند رعشة الصلصال

في زفرته الأولى،

ثم أجمع خرسي

في حنجرة غزالة

حبيسة نبوءاتي.

هذا الذي في الصدر

ما عاد يهدأ،

غريب هذا الطرْق،

غريب هذا التعب،

هذه الصورة الموحشة،

وهذا الدمع الذي

يخط رائتحه بين أضلعي.

صوتي مازال في النايات منكسرا،

عزلتي التي اختارت الصلاة

في شهقة الريح،

ووجهي الذي اختلط

بضجيج الغناء،

فهل أصحو مني

وأحجيات النداء مفاتيحي؟

هل أثور على منامات الثلج

أم أبني خياما من شمس

تخفي ندوبي الغارقة؟.

هاربة أنا...

منفلتة من أهداب النشيد،

لا شيء يشدني إلى أقنعة الماء،

لا شيء يعيدني إلى النهر المجفف

غير ظلي المعكوس،

بي مس العارفين،

وكل الزوايا لي،

لي طيف يرتب إشراقتي،

ثم يسندني إلى ظله المعتق.

بغيمة واحدة

أبلل قلب النجمات،

ثم اوي إلى سوسنة الروح،

تلك التي وعدتني بسلال ياسمين،

تلك التي نادتني باسمي الاخر

نسرين،

تلك التي لمت شتاتي،

وعطرت خارطة همسي،

وحملتني روحا

إلى خطو الذاكرين.

***

اجليد وفاء ام حمزة - المغرب

 

في نصوص اليوم