نصوص أدبية

نصوص أدبية

لم تكن الزيارة إلى مدينة بورغاس البلغارية مجرد رحلة عابرة، بل كانت انعطافة خفية في درب الغربة. كانت ممتنّة بصدقٍ لزميلتها البلغارية ميرا حين لبّت دعوتها، تلك الزميلة التي جمعتها بها علاقة احترام دافئ منذ الأيام الأولى في المجمع الطلابي بالأكاديمية. كانت صداقتهما أشبه بمرآة صافية، تعكس ودًّا وحنينًا صامتًا بين غريبتين عن أوطان مختلفة، تجمعهما اللغة، وتفرّقهما الذاكرة.

لطالما تبادلتا الزيارات البسيطة وأطباقًا من مطبخَيهما الشعبي، كأنّهما تداويان غربتهما بالمذاق والرائحة، وتتعلّمان من بعضهما بعضًا مفردات الاندماج. كانت زميلتها تتحدث دوماً عن بورغاس ـ تلك المدينة الساحلية التي يحتضنها البحر الأسود وتفتن زائريها بمينائها العريق وشواطئها الممتدة، وتتناثر في شوارعها مبانٍ قديمة وحديثة كأنها تحاور الزمن بلغتين.

وحين لاحظت الزميلة ذلك البريق المشتعل في عينيها، ذاك البريق الذي يُولد حين يتقاطع الحنين مع الحلم، أصرّت أن تستضيفها مع صغيرها خلال عطلة نهاية الأسبوع. لبّت الدعوة، وفي قلبها امتنان حقيقي لتلك البادرة.

بلغت سنتها الثانية في اكاديمية صوفيا، ترافقها مسؤولية جسيمة في هيئة طفل لا يزال في سنّه الطري، بالكاد بلغ الثالثة. كانت تقاوم مشقة الغربة وضيق ذات اليد بمنحة دراسية بالكاد تسد رمق الحاجة، ومع ذلك ضلت تحاول أن تبقى شامخة، مرفوعة الرأس، تكتب كل يوم فصلاً جديدًا من كرامتها.

لكن في زحمة الجمال الذي أحاط بها في بورغاس، وبين دفء الاستقبال وكرم الضيافة، شعرت فجأة بأنها أصغر من اللحظة، كأنها لا تملك ما يوازي هذا الكرم لتردّه. راودها شعورٌ ثقيل، خانق، بأنها عاجزة عن أن تكون بالمثل، بأنها لا تستطيع دعوة زميلتها إلى ما يوازيه من مكان أو ظرف، فهي غريبة، مقيمة على حافة الضرورة، وحيدة إلا من طفلها، ومالها الشحيح، كظلّ في آخر النهار.

تضاربت المشاعر في أعماقها: بين امتنان نقيّ وبهجة خجولة، وبين إحساس داخلي ينهشها بالصمت... شعور بأن الكرم، حين لا يمكن رده، يتحوّل أحيانًا إلى عبءٍ ثقيل مرهق. كأنها في مأزق لا يُقال، وموقف لا يُفهم إلا بقلبٍ يعرف معنى العجز المؤدّب.

رغم هدوء الليل ودفء الغرفة وطمأنينة الصغير المستسلم لنوم عميق كأنما يحلم بشيء من أمانٍ مؤقت، كانت عيناها مفتوحتين على وسعهما، تسهران على صمتٍ ثقيل لا يقطعه سوى صوت أنفاسه الهادئة. كانت ممتنّة، نعم، شكرت زميلتها مرارًا على حسن الضيافة ودفء الاستقبال، لكن قلبها كان منشغلاً برغبةٍ ملحّة في الرحيل، وكأن البقاء ـ رغم الجمال ـ بات أثقل من طاقتها.

اقتربت من ميرا، تلك البلغارية التي منحتها سخاء ما لا يُقابل، وقالت بصوت خافت يحترم الليل:

ــ سأغادر حالما يستفيق صغيري… أنوي العودة إلى صوفيا اليوم.

رفعت ميرا حاجبيها بدهشة طفيفة، وقد أدركت أن لا قطار يغادر المدينة في مثل هذا الوقت:

ــ ولكن… أقرب الرحلات صباح الغد!

ابتسمت ابتسامة شكرٍ خجولة وأجابت:

ــ لا بأس، سننتظر في المحطة حتى بزوغ الصبح.

قالت ميرا، بصوت ممتلئ بالقلق الصادق:

ــ ولكن المحطة باردة في الليل، لا تصلح لطفل صغير!

أجابت بنفس ذلك الهدوء الذي يخفي اضطرابًا داخليًا لا يُقال:

ــ لا عليكِ… فقط أرجوكِ، إن أمكن، أن توصليني إلى هناك، وسأتدبر أمري.

أدركت ميرا أن لا جدوى من الإصرار، فرافقتها إلى المحطة، وهناك تركتها ومضت، تلوّح لها بنظرة مشوبة بالعجز.

كان الوقت يقترب من العاشرة مساءً، حين قطعت تذكرة العودة، وهي تمسك بكفّ صغيرها الدافئ، تستمد منه شيئًا من الطمأنينة في هذا الليل الغريب. تلفّتت حولها، تبحث بعيني من تعوّدت أن تتدبر أمرها بنفسها، رغم قلة الحيلة وضيق الإمكانيات. لم يكن في نيتها الانتظار على مقعد بارد يلسع عظام صغيرها قبل أن يلسعها، فقررت أن تمضي في درب آخر أكثر رحمة.

هناك، على مقربة من المحطة، لمحت لافتة مضيئة لفندق صغير. توقفت لحظة، تأملت اللافتة كما لو كانت تشير إليها وحدها. لم يكن القرار سهلاً؛ كانت المنحة بالكاد تكفي، وكانت كل ليلة مضافة في مكانٍ مأجورٍ تعني تنازلاً عن شيء آخر لاحقاً. لكنها، في تلك اللحظة، اختارت كرامتها وصغيرها، اختارت ألا تجعله يقاسي بردًا ولا قلقًا.

استجمعت قواها، رفعت رأسها كمن يدخل معركة داخلية بشجاعة هادئة، وعزمت أن تدلف باب ذلك الفندق الصغير، لتحجز غرفة ـ ليلة واحدة فقط ـ تكفيها لعبور هذا الليل الثقيل بسلام.

كانت تعرف أن الغربة ليست في المكان وحده، بل في أن تضطر، كل مرة، لاختيار الأمان على حساب الراحة، والكرامة على حساب الراحة النفسية. لكنها ـ رغم كل شيء ـ سارت بخطى واثقة، ووجهها يفيض بتصميم خافت، ونفسها تهمس لها: "كل هذا سيمضي... المهم ان لا أنكسر."

كانت تعلم أن زميلتها لا تنتظر مقابلًا، ولكنها ـ وهي ابنة الكبرياء ـ كانت تشعر بأن الكرم الذي لا يُردّ، يبقى دينًا معلقًا في أعماق النفس، يطرق وجدانها كلما ابتسمت ابتسامة شكرٍ صامتة، وكلما عاد طفلها إلى حضنها فرحًا بما رآه.

كان الرواق المؤدي إلى غرفتها يضجّ بالحياة الصاخبة من نوعٍ لا يشبه الحياة التي تعرفها. ضحكات عالية، أصوات متشابكة بلكنة البحر، ورائحة الشراب النافذة كأنها بخار فاسد يتصاعد من قاع الأرصفة. رجال بأجساد متعبة ووجوه سمراء، تحملهم أمواج البحر إلى هذا الفندق المتواضع كما تحمل النوارس تعبها إلى اليابسة.

رغم ما سمعته ورأته، لم تتراجع. لم تكن تملك رفاهية الاختيار، وحين أخبرها موظف الاستقبال أن سعر الغرفة يناسب ما في حوزتها، دفعت فورًا دون تردد، كما لو أنها تشتري بقية كرامتها من ضجيج العالم. حين أغلقت باب الغرفة خلفها، شعرت وكأنها أغلقت على نفسها زمنًا آخر، زمنًا تخلّت فيه عن الخوف وارتدت ثوب السكينة.

تنفّست بعمق، وهي تهيّئ السرير الوحيد في الغرفة، فردت الغطاء كما لو أنها تنسج لطفلها عالماً من الطمأنينة فوق سريرٍ عابر. وضعته برفقٍ بين ذراعي الليل، ثم استلقت إلى جانبه، تضمّه إليها كأنها تخلق من حضنها جدارًا ضد كل شرور العالم. أطفأت النور، وأغلقت عينيها، علّ النوم ينقذها من ارتباك اللحظة.

لكن الليل، في هذا المكان، لم يكن هادئًا. الأصوات تصاعدت، أكثر حدّة، أكثر عنفًا. طرقٌ على الجدران، صياح، شتائم، صراع مخمور. نهض صغيرها من نومه مذعورًا، باكيًا، وكانت دموعه تنزلق على خدّه كما تنزلق هي في داخلها نحو هاوية القلق.

جلست تمسك به، تغنّي له بصوتٍ خفيض مرتجف، كأنها تحاول أن تطمس بهذا اللحن البسيط جلبة الخارج كله. لكن الطرق تزايد، ارتفع الصوت خلف الجدار، وكأن جدران الغرفة بدأت تتنفس توترها. نهضت بتوجّس، مشَت نحو الباب بخطى محسوبة، تأكدت من أنه مغلق بإحكام. وضعت يدها عليه برفقٍ، كأنها تحرس عالمًا هشًا خلفه.

عادت إلى السرير، وضعت رأس طفلها على صدرها، وبدأت تتمتم له بكلمات لا تعني سوى شيء واحد: "أنا هنا… لن يحدث شيء، ما دمت أتنفس."

وفي داخلها كانت العاصفة: لو حاول أحدهم دفع الباب، ماذا ستفعل؟ لا سلاح، لا معين، لا صوت ينادي… وحدها هي. تمنّت في تلك اللحظة لو أنها بقيت في برد المحطة، فهناك، على قسوتها، لم تكن الخشية من بشرٍ أثقل من صقيع المكان.

ثم، وبعد ساعة ثقيلة ومفزعة، خفتت الاصوات. كما لو أن أحدًا أطفأ الليل بيده. خيّم الهدوء على الرواق، توقف العراك الا من أصوات بدت كأنها عادية وكأن كل ما حولها كان اختبارًا مدبّرًا لعزيمتها.

ثوانٍ من ترقّبٍ ثقيلٍ مضى، ثم وقعَت طرقات خفيفة، هادئة، على باب غرفتها. تجمّدت. حضنت صغيرها أكثر، وقلبها يطرق هو الآخر من الداخل. لم تتحرك. عاد الطرق، مرةً أخرى… ناعمًا… كأنه ليس تهديدًا بل رجاءً.

اقتربت، بثبات من يواجه مصيره، وسألت دون أن تفتح:

ــ من؟

جاءها الردّ بصوت نسائي مرتجف:

ــ أنا… أعمل هنا… سمعت طفلك يبكي… هل تحتاجين شيئًا؟

لحظة صمت، ثم همست من خلف الباب:

ــ لا… نحن بخير.

وتحت ضوء المصباح المعلق قرب السرير، عادت إلى طفلها، ودمعة ساخنة انزلقت من عينيها، لم تكن دمعة خوف، بل دمعة امتلأت بكل ما لم تستطع أن تقوله منذ بدأت هذه الرحلة.

احتضنته بقوة، وتمتمت له:

ــ نحن بخير… حتى لو لم يكن هناك من يشهد… نحن بخير، لأننا اخترنا ألا نخاف وسنعود الى صوفيا.

وفي اول ساعات اليوم التالي، حين غادر القطار محطة بورغاس، كانت تجلس قرب النافذة، تحمل طفلها النائم في حجرها، ووجهها ساكن كبركة ماء بعد عاصفة… لم تنم تلك الليلة، لكنها خرجت منها بشيءٍ لا يُشترى ولا يُعلّق: صوتها الداخلي، وقد صار أقوى من كل ما يمكن أن يحدث خلف باب مغلق.

***

سعاد الراعي

2025.07.29

 

لطالما ردَد نشيد الولاء،

ومات مشرداً،

لم يجد ظلاً يؤويه.

2.

أرفق مع الطلب صورة ابنه الشهيد،

قالوا له:

اكتب الطلب مرةً أخرى،

وبخطٍّ أوضح.

فكتبه بالدم،

فرُفِضَ،

وقالوا: "الحبر غير رسمي."

3.

عند بابٍ نخرته السنين،

رسم طفل على التراب

سورًا، وبابًا، وحديقة.

ثم سأل أمه:

"هل سنسكن هذا البيت يومًا؟"

4.

في طابور الخبز،

يقرأ منشوراً على الجدار:

نُطعم الوطن، ونبني الغد.

ينظر إلى يده الفارغة،

ويهمس:

"نسيتُ أن أحمل وطني معي.

5.

سأل مَن خلفهُ في الطابور:

هل سيرانا أحد؟

ردَ عليه هامساً:

" لكنك.. لم تصفق يوماً. "

6.

على رصيف ظهيرة موحشة،

تمتم الأب في لنفسه:

"هل يُطعم الوطنُ ابنه،

أم هو من يُطعم الوطن؟"

7.

امرأة تكنس أرضًا غمرتها الذكريات،

يوقفها المذياع للحظة،

بوعدٍ جديد،

ثم تتابع الكنس،

كأنها تودّع وهماً

خُدعت به طويلاً.

8.

ليبقى الوطن شامخاً،

مزّق الرصاص صدره،

وسال دمه على التراب،

لكن اسمه اُسقط

من سطور التاريخ."

***

مامند محمد قادر

شاعر وقاص عراقي كوردي

 

قصائر (12)

لم أبكِ قطّ على المَوتىٰ

لكنّ عنادَ عينيَّ امَّحىٰ

علىٰ مَيّتٍ.. لا يُدفَنْ

اسمُهُ العِراق

**

2

النَخلَةُ والنَهر

وتَراتيلَ البَلابل

أبقَياني أسيراً

لمّا أقَمتُ طليقاً

في بلادٍ

لا نخلَ فيها..

ولا بلابل

**

3

أنتَ كالخشَبةِ في البَحر

لا ريحَ تُلقيكَ علىٰ الشاطئ

إبحثْ لنفسِكَ عن نَجاة

أو ابدأ كفَرخٍ صَغير

بلا جَناح

**

4

فلتَعترِفْ

أيّامُك كحَبلٍ عَتيق

سيَنقَطِع

إنْ علّقتَ آمالَكَ الكُبرىٰ..

معَك

**

5

أطفأتُ شَمعَتي

لستُ أخدَعُ الليلَ

أرغَبُ أن ألمَسَ الأشياءَ

في الظَلام..

فلا أفقدَ الشُعور

**

6

لستَ اقربَ الى اللهِ .. منّي

كلّ ما في الأمر

لا نسلكُ الطَريقَ ذاتَها..

الى الخاتِمة

**

7

إثنانِ أخشاهُما كثيراً

أنا..

كلّما أعمَلتُ فِكري

وقُدومَ الليل

فأبحَثُ كالمَشلول

عن الرُقاد

**

8

بالأمسِ

عَبَثَتْ بعَقلي حكاياتٌ بالية

عَرَفتُ فيما بَعد

أنّ خَوفي البَليد

صَدّقَها

**

9

مُشاة..

الجَميعُ مُشاة

تلفظُهُم الأمكنة

تتَسارعُ الخُطى

لا يتبقّى سوىٰ آثار

لن يُبالي بها أحد

**

10

تحتَ وطأَة السِنين

تَجفّ المَعاني، تذبَل

وحدَها الدُموع

تعاندُ الزَمَن..

فلا تَخيب

**

11

في رُكودِ البَحر

نظَرَ الى الأفُقِ الأغبَش

لم يَعبأ بما هناك

أسقطَ عامَهُ السَبعين منذُ حين

كصَخرةِ الشاطئ

جلسَ بهدوء

يُبذّرُ الوَقت

**

12

في عالمي

جفّتْ جَميعُ واحاتِ النَشوَة

أبحَثُ عن عالمٍ آخر

لا يبدَأُ فيهِ مثلي

من الصِفر

**

13

اللصُّ في بلَدي..

مُوقّر

تَعلو جبهتَهُ سِمةٌ سَوداء

ليكونَ مايسرقُهُ

من عرَقِ الإيمان

**

14

كطائرٍ غاضَ من تَحتهِ النَهر

أحلّقُ عالياً

أبحثُ عن بُقعةٍ داكِنة

لا يُحيطُها سَراب

لأنحَدِر

**

15

يسخُرُ القدَرُ منّي .. ومنكِ

ولمّا لم يجَد ما يقتُلُ الشَوق

جّعلَ الصَمتَ..

وسيلَتي إليكِ

**

16

صَخرةُ الشاطئ

تلكَ التي آوَتنا نرقبُ استِحمامَ الشَمس

لا تعرف إنّا افترقنا

جعلتُ منها مزاراً..

لأدمُعي

***

عادل الحنظل

ابتلع القمرَ بين شفتيه

وصارَ بطنهُ سماءً مضيئةً

ضحكٌ يخرجُ من عمق الليل

قهقهاتٌ تنثر النجومَ على الأرضِ

*

نامَ عشرين ساعةً

سقطَ في سُباتٍ كأنّ الأرضَ تلتهمهُ تحت الحرب

لكنه صحا

يحملُ في ضحكته سرّ الضوءِ

كأنه قمرٌ صغيرٌ يُعيدُ بناء السماء

*

المدينة تحفرُ تحت أقدامها

تبحثُ عن شظايا ضحكته

تتنفسُ غبارَ الألمِ والعظامِ

لكنَّ القمرَ صارَ في قلبِ الطفلِ وحده

*

هو الضاحكُ القمريُّ

يحملُ نوراً لا يُرى بالعين

ضحكتهُ سلاحٌ وسط الخراب

وصمتهُ أغنيةُ نجاةٍ لا تنتهي

في بطنه

ينمو أملٌ من رحمِ العبث

يرقصُ بين الدمار

ويزرعُ الحياة في قلب الليل

***

بولص آدم

26.07.2025

 

لم أعد أثقُ بمذيع الأخبار

خدعني بإعلانه أنّ ديناصورات الحرب تتبرّجُ وتتعطّر

لحضور حفلة رقص

فرزمتُ أضلاعي في الحقيبة

وزممتُ فمي

مخافة أنْ أفقدَ ما أبقتهُ لي سنواتُ أكلِ الحصى

من الأسنان

**

ما إنْ تنبّهتُ أني ما زلتُ حيّاً

حتى أسرعتُ أعُدُّ أصابعي

ألحمدُ لله، لم تنقُصْ

ثوبي ما زال يستُرني

ولحافي لم يتحوّل إلى غربال

إذن لم تنشبِ الحرب

وديناصوراتها مذ بلغت سنّ اليأس لم تُنجب صغاراً

لكنّ القذائفُ التي لم تسقط بعد

ما زالت معلّقةُ بالسماء

وأية ابتسامة عابثة ستُسقِطها على الرؤوس

سأعودُ إلى النوم

فهدفُ كلّ الحروب ليس النصر

بل حرمان الناس من النوم

**

لم أعد أثق بمذيع الأخبار

ولا بقناة CNN المُصنّعةِ للمُعجّنات

لقد كذبوا بإعلانهم أن الحرب قادمة

بينما كانت تتشمّسُ عارية على الشواطيء

كما أنهم أساءوا إلى الأحفوريات

عندما اتهموا الديناصورات بأكل اللحم

بينما هي ملتزمة بحِمية مشددة لتخفيف الوزن

أيها الإعلاميون:

إنّ الحربَ لا تندلع من عيادات زرع الشَعَر للصُلعان

بل من استوديوهات الأخبار

أما ديناصوراتها فليست البوارج ولا الطائرات

بل الذين يتّخذون من المذياع

سبطانة لقذائف من العجين

***

ليث الصندوق

مُنْذُ رَأَيْتِ شُمُوعًا

تَذْرِفُ فِي اَلْفَجْرِ دُمُوعًا

رِحْتِ تُصَلِّينَ لِفَجْرِ اَلْكَلِمَاتْ

دَاعِيَةً

أَنْ لَا يَأْتِي ثَانِيَةً

مُكْتَظًّا بِالْحَسَرَاتْ

حِينَ يُفَجِّرُ حُزْنُ اَلْعُمْرِ

بِعَيْنَيْكِ اَلْعَبَرَاتْ

**

صَارَتْ أَيَّامُكِ تَخْشَى أَيَّامِي

وَشُهُورُكِ بَاتَتْ

تَخْشَى أَعْوَامِي

وَمَلَايِينُ اَللَّحَظَاتْ

مَا زَالَتْ

تَرْكُضُ كُلَّ اَلْأَوْقَاتْ

بَيْنَ سِنِينٍ وُئِدَتْ

وَسِنِينٍ وُلِدَتْ

وَسِنِينٍ لَا يَعْنِيهَا

مَا نَشْهَدُهُ أَوْ مَا شَهِدَتْ

**

تَخْتَلِطُ اَلْأَيَّامُ مَعَ اَلسَّنَوَاتْ

سَكْرَى تَتَرَنَّحُ بَيْنَ اَلْخُطُوَاتْ

لَا تَحْسَبُ لِلنَّوْمِ حِسَابًا

وَأَنَا أَسْأَلُ مُرْتَابًا

مَا جَدْوَى اَلْأَحْلَامْ

إنْ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ إِلَّا اَلتَّأْجِيلْ؟

هَلْ تَبَقَى طُولَ اَلْعُمْرِ مُؤَجَّلَةً

نَتَوَارَثُهَا جِيلاً يَتْبَعُهُ جِيلْ

هَلْ تَبَقَى تَأتِي مُبْطِئَةً

وَتُغَادِرُ مُسْرِعَةً

وَالدَّرْبُ طَوِيلٌ

وَالْعِبْءُ ثَقِيلْ؟

***

شعر: خالد الحلّي

أبحرتُ في وَجَعِ المَدَى

وغَفَوْتُ فَي ظِلِّ الضّيَاءِ كَأنّنِي

طِفلٌ يُلامِسُ بِالرَّجَاءِ الأبْحُرَا

*

ومَضَى الحنينُ على الدّرُوبِ يُسَائِلُ

قدْ كنتُ أحفِرُ في الغُيوبِ مَلامحِي

وأخبِّئُ الأشواقَ، كي لا تُؤسَرَا

*

عيناهُ أقمارٌ تُطِلُّ عَلى الدُّجَى

والنّارُ تَعرفُ صَبرهُ

فتَجمَّدَتْ حينَ الفؤادُ تَكَسَّرَا

*

طفلٌ يُدارِي جُوعَهُ

والأمّ ترسمُ في الخيالِ وليمةً

والهَيْمُ يَجْرِي في الوَرِيدِ مُجَمّرَا

*

يبكونَ من لهَبِ الجفافِ

وحولهم ناحَ الغمامُ

كأنّهُ ما أمْطَرَا

*

في كلّ صحراءٍ نجومٌ أُطفِئَتْ

خَفَتَتْ عَلى قَلقٍ

ضَوْءٌ يتيمٌ فِي المَدَى قدْ أزْهَرَا

*

نَامُوا عَلَى حَجَرٍ تَكلّسَ فِي الرُّؤَى

يَتكوّرُ الجُوعُ القَديمُ بجُرْحِهِ

ويَلوحُ كالمُدِنِ البعيدةِ مُقْفِرَا

*

ذَبُلَتْ عَلى صَدْرِ المَجَاعَةِ وَرْدَةٌ

قال: الرّغيفُ إذا أتَى مِنْ عاشِقٍ

صارَ القصيدَ، وصارَ مِنّي أسْطُرَا

*

الفَارِسُ العربيُّ

يَرْنُو مِنْ بَعيدٍ حائرًا

والصّمتُ يَرْفَعُ صوتهُ مُتفجّرَا

*

كمْ شمعةٍ ذابتْ سُدًى

والرِّيحُ تَلفحُ جِيدَهَا

والأرْضُ مَلْحَمَةٌ تَتُوقُ تَحَرُّرَا

*

القلبُ يَعْصِرُ غيمةً يا غزّةُ

تَسْرِي لحُضْنِكِ فَي الغِيابِ

فتَسُوقُنِي الأحْداقُ حُلمًا مُزهرَا

***

الشاعر: أنور بن حسين / تونس

جويلية 2025

 

الماء أجاج

الشجر عقيم

الدروب تعوسج فيها الخطو

والمسافات نام على ضجيجها الفقدان

ابتلعتها ريح ندم الأزمنة

كان يداعب بعضا من حلم عتيق

يجرجره تيه الممرات الراعفة

يصفعه ذهول مقيت

فيرى على ناصية الخيبة

عري حيرة المحطات ووجع بوح المشاوير

ولا عزاء...

ما زال يهمس ببطء في أذن الوجع

يشاغل عصاه التي تتوكّأ عليها الشيخوخة مكرهة

يتلفّت عند عين الضياع علّه يجدهم

هم كثيرون في سعة الموائد

قليلون جدا عند شراسة الوقت

قليلون جدا حدّ أنه لا يراهم في نزف تململ عكازه البليد..

يحادث الزمن الساكت

يحكي وجعه المزمن للجدران

يتمدّد على وجيب آهاته

حد احتراق الأنين

يغفو على جمر قارعة الألم

والألم لا يشيخ

***

نص: شلال عنوز

النجف ١٩- ٧- ٢٠٢٥

 

أَلَا يَــا لَائِـمِـي فِــي الْـحُبِّ رِفْـقًا

فَـكَمْ مِـنْ فَـارِسٍ قَدْ مَاتَ عِشْقًا

*

وَكَـمْ مِـنْ هَـائِمٍ فِـي حُـبِّ لَيْلَى

فَـكَيْفَ بِـحَالِ مَـنْ يَـهْوَى دِمَشْقَا

*

هَـوَاهَا فِـي سَـوَادِ الْـعَيْنِ رَسْـمٌ

سَـيُـخْـبِـرُهَا إِذَا أَعْـيَـيْـتُ نُـطْـقًـا

*

إِذَا أَبْـصَـرْتُ وَجْـهَـكِ مِــنْ بَـعِـيدٍ،

رَأَيْــتُ الْـكَوْنَ فِـي عَـيْنَيْكِ أَرْقَـى

*

أَنَـا الْـوَلْهَانُ، فِـي عِـشْقٍ وَقَلْبِي

إِذَا ذُكِـــرَ الْـحَـبِـيبُ يَـزِيـدُ خَـفَـقَا

*

وَلَــوْ خُـيِّـرْتُ فِــي مَـوْتِـي بِـيَـوْمٍ

عَـلَى رِمْـشِ الْـعُيُونِ أَمُوتُ شَنْقَا

*

أَرَاكِ بِـعَـيْـنِ قَـلْـبِي حِـيـنَ أَغْـفُـو

وَأَمَّــــا إِنْ صَــحَــوْتُ أَرَاكِ حَــقَّــا

*

عَـلَى خَـدَّيْكِ زَهْـرُ الـرَّوْضِ يَـزْهُو

وَفِـي شَـفَتَيْكِ شَـهْدٌ فَـاضَ دَفْقَا

*

أرَى بَــوْحَ الـنَّـسِيمِ لَـهَـا يُـنَاغِي

عَـلَـى الْـخَـدَّيْنِ طَـلُّ الـصُّبْحِ رَقَّـا

*

فَـفِـيكِ الــرُّوحُ تَـسْـمُو لِـلْمَعَالِي

إِلَــى حَــدِّ الـسَّـمَاءِ تَـكَادُ تَـرْقَى

*

أَيَـــا نَــفْـحَ الـرَّبِـيعِ يَـضُـوعُ طِـيـبًا

فَـتَـنْـشَقُ عِـطْـرَهُ الْأَرواحُ نَـشْـقَا

*

وَيَـسْـكَرُ مَــنْ يَــرَى يَـوْمًـا رُبَـاهَا

بِــــلَا خَــمْــرٍ وَلَا يَــحْـتَـاجُ زِقَّــــا

*

أَيَــا بَــرَدَى وَفِــي قَـلْـبِي حَـنِينٌ

يَــكَـادُ يُــحَـرِّقُ الْأَحْــشَـاءَ حَـرْقًـا

*

دِمَشْقُ هَوَاكِ فِي الشِّرْيَانِ نَبْضٌ

وَمَــنْ يَـهْـوَاكِ يَـعْـرِفْ ذَاكَ صِـدْقَا

*

دِمَـشْـقُ وَفِـيـكِ لِــلْأَرْوَاحِ سِـحْـرٌ

أَرَى الْـعُشَّاقَ فِـي عَيْنَيْكِ غَرْقَى

*

رُبَــــاكِ تُــعَـانِـقُ الْــجَـوْزَاءَ تِـيـهًـا

فَـتَـضْرِبُ حَـوْلَـهَا الـنَّجْمَاتُ طَـوْقَا

*

فَـهَلْ لِـلْعَاشِقِ الْمَجْرُوحِ سُكْنَى

سِـوَى قَـلْبٍ عَـلَى كَفَّيْكِ يُلْقَى؟

*

وَفِــي نَـجْوَى الْـمَآذِنِ بَـوْحُ صَـبٍّ

سَــتُــدْرِكُـهُ، إِذَا الــنَّـاقُـوسُ دَقَّ

*

دِمَـشْقُ، وَفِـيكِ لِـلْمَعْنَى طَـرِيقٌ

إِذَا كُـــلُّ الـــدُّرُوبِ تَـصِـيرُ زَلْـقَـى

*

تَـلِـينُ الــرُّوحُ مِــنْ طِـيبِ الـتَّكَايَا

وَمِـنْ زَيْـتِ الـسِّرَاجِ تَـصِيرُ أَنْـقَى

*

هَـــوَى الْأَوْطَـــانِ تَــيَّـارٌ شَــدِيـدٌ

وَيُـصْـعَقُ نَـبْـضُهُ الْـعُشَّاقَ صَـعْقًا

*

فَــهَـلْ بَــعْـدَ الْــهَـوَى إِلَّا افْـتِـتَانٌ

مَـتَى ألْـقَى لِـهَذَا الْـعِشْقِ عِتْقًا

*

وَكَـمْ هَـبَّتْ عَـلَى الـشُّهَدَاءِ رِيـحٌ

تُـقَـبِّـلُ جُـرْحَـهُـمْ صَــبًـا وَشَـوْقَـا

*

دِمَـشْـقُ، وَسَـيْـفُكِ الْـفُولَاذُ رَمْـزٌ

لِأَنَّـــكِ مَـــا رَضِـيـتِ الـدَّهْـرَ رِقًّــا

*

كَــرَرْتِ عَـلَى الـطُّغَاةِ بِـكُلِّ حَـزْمٍ

فَـمَـا لِـلـظُّلْمِ فِــي دُنْـيَـاكِ حَـقًّـا

*

فـفِي نَـقْشِ الْـعُصُورِ لَـهَا سُطُورٌ

لِــذَا فِـيـهَا الْـبَـيَانُ يَـفِيضُ عُـمْقَا

*

هُـنَـا الـتَّارِيخُ كَـمْ سَـجَّلْتِ فَـخْرًا

وَكَــمْ رَفَـعَـتْ بــكِ الْأَيَّــامُ عُـنْـقَا

*

هُـنَـا الْـفَـارُوقُ قَـدْ خَـطَّ الْأَمَـانِي

وَفَـجْـرُ الـنُّـورِ فِـي الْأَرْجَـاءِ شَـقَّ

*

أَتَـى الْـجَرَّاحُ وَابْـنُ الْـعَاصِ سَعْيًا

يَـقُـودَانِ الْـجُـيُوشَ إِلَـيْـكِ سَـبْـقًا

دِمَـشْـقُ وَوَجْـهُـهَا الْأُمَـوِيُّ فَـخْرٌ

لِـنَـفْـخِ الـصُّـورِ عَـامِـرَةً سَـتَـبْقَى

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

حزن الجميع لأجلي

عدا أخوتي

فهم صامتون

ترق قلوبهم احيانا

فيسألون

يتحدثون كثيرا

ومرة أخرى يصمتون

يخجلون

وعن ذكر اسمي يحذرون

ايها السامع انيني

أخبرهم

ان قامتي لم تعد كما الثريا

وان العيد خان عهده المبرم

لم يعد يعرفني

أمسيت غريبة بين اهلي

سرقوا مني التين والزيتون

وسرقوا مني

جلباب أبي المطرز بشمس الحقيقة

وسرقوا

شيلة أمي التي حاكتها جدتي

منذ الف عام

سرقوا قطرات دمي وهويتي

وحتى بطاقة عروبتي

***

نص شعر

سنية عبد عون رشو

متى تأتيْ أيا موتيْ لِنمْضيْ

عليكَ غدوْتُ للآمالِ أَبْني

*

على هذي التي أحْيا كثيرًا

بنَيْتُ ولم أزلْ للوَهْمِ أَجْني

*

فلا المالُ الذي أَلْقَتْهُ أغْنَىْ

ولا ذاكَ الغِنى ما كنْتُ أَعْني

*

ولا الشأنُ الذي علّيتُ يُعلي

ولا الشأْنُ الذي أَعْلَتْهُ شَأْني

*

ولا السّلمُ الذي تُمليهِ سِلمي

ولا الأمنُ الذي تُعطيهِ أَمْني

*

ولا الشّعرُ الذي قالتْهُ شِعري

ولا اللّحنُ الذي غنّتْهُ لَحْني

*

وآهِ لو ِاكْتَفَتْ مِنّي بعُمرٍ

غدوتُ بهِ لدَيْها محْضُ رَهْنِ

*

فكَمْ مِنْ مَنِّ ربّي مِنهُ حظّي

كدَيْنٍ لا يُجازُ بغيرِ مَنِّ

*

أبيتُ اللّيلَ ألعنُها لعُمرٍ

جديرٍ مثلُها عدلًا بلَعْني

*

فلولا ما بهِ من خفّةٍ ما

جرى جريَ الهوا في إثْرِ ظَنِّ

*

وأقضيْ اليومَ أُكْسِبُها لِيَمْضيْ

بما تُلْقيهِ من خُبزٍ وسَمْنِ

*

وأَحْمَدُهُ على ما قلَّ منها

فلولا اللهُ ما رقّتْ لبَطْنِ

*

وأعلمُ لوْ لها كرَّسْتُ حمْدي

لزادَ بعينِها قدْري ووَزْني

*

ولكنّي علىْ ما كانَ منّي

أُحَمِّدُ من سأَلْقىْ بعدَ دَفْنِ

*

فيا مَوتي لمِا قدْ ظلَّ مِنها

بأنفاسيْ ونَفْسيْ لا تدَعْني

*

أقِمْ في خاطِري وارقُبْ بعيْنيْ

وزلْزِلْ مُهجتي واسْهرْ بجَفْني

*

ولا تترُكْ لها أرضًا بروحي

وذُدْ عمّا ظفرتَ به و عَنِّي

*

فأنفقَ في الأخيرةِ ما تبقّى

وأبرأَ مِنْ هوىً سُمِّيْ بوَهْنِ

*

وقد أحْسَنْتُ بالرّحمنِ ظنّيْ

فكُنْ بابيْ إلى جنّاتِ عَدْنِ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

ها أنا مَنسيٌّ

أَسيرُ في الطُّرُقَاتِ حافيًا

مع ذُبولَ مُهجَتِي

وتَحطُّمَ قَلبِي..

أجرُّ مَنَارةَ مَنفَايَ

إلى دَوَامةِ النَّحيبِ

أَسُلُّ ثَوبَ النَّبِي وأرتَدِي ثَوبَ العَبِيدِ..

أُكفَّنَ بآياتٍ مُجلجِلَةٍ

وأرغِفَةِ الخُبزِ، وسِياطِ العاطِفَة..

خُذْيني يا قافلةَ المَصِيرِ...

لِعالمٍ لا يَعرِفُ

العَبَثِيةِ والعِتْمَةِ حَيثُ لا يأسٌ،

ولا مُستَحيلٌ

هُناك...

حيثُ يرتَجُّ وَمِيضُ الرُّوحِ

كالغَجَرِياتِ فِي

احتِفالاتٍ صاخِبَة

حيثُ لا سُكونَ لِحركةٍ هائِجَة..

خُذيِني لِوجودٍ

بَلا هَوَسٌ، غارقٌ بالبَهجةِ...

***

باقر طه الموسوي

 

قصّة ومضة

صداقتي مع مرجان تمتدّ إلى أكثر من عام!

كان يهر إليّ عن بعد

يتمسح بساقي سواء أمشي أم أجلس على أيّة منضدة فارغة أجدها على الرصيف، وحالما يأتي النادل أرمي إليه-قبل أن تمتدّ يدي إلى فمي- بقطع من شطيرة اللحم وكسرة خبز.

يحدث ذلك كلّ يوم تقريبا

تقرؤ ملامحه جيدا فاشيع في نفسي البهجة

حتى إنّي من شدّة إعجابي به سمّيته (مرجان)

صاحب المطعم الطيب ذو الابتسامة الواسعة ارتاح للتسمية وأضاف أنّه لطيف حقّا لقد طهّر المطعم من الفئران!

ومنذ يومين لم أره

افتقدت مرحه

ومواءه الهادئ وتمسحه بساقي وهو يستقبلني حين آتي لتناول طعامي.

ظننته في الداخل يتابع مطاردة الفئران

وقد صدمت حقّا حين عرفت فيما بعد أنّ مطعما جديدا افتتح في الشارع القريب الموازي تُقَدَّم فيه وجبات السمك المشوي وإنّ الرائحة استرفزّت مرجان فرحل إلى هناك!

***

قصي الشيخ عسكر

يأتون من بعيد، لا يحملون متاعًا، بل حكايات مثقوبة. جراحًا تلفّها أكياس النايلون، وصورًا بالأبيض والأسود لأمهاتٍ ينتظرن عند بابٍ لم يعد موجودًا. يأتون من الخرائب، من الحقول التي أُحرقت فيها السنابل قبل أن تثمر، من المدارس التي صارت سجونًا، ومن السجون التي صارت أوطانًا مؤقتة. يأتون، والريح في وجوههم ليست نسيمًا، بل صفعة التاريخ. الطفل الذي يعبر الحدود، لا يسأل عن اسمه، ولا عن اللغة التي يجب أن يبكي بها. كل ما يريده أن يصل إلى مكانٍ يمكن فيه للدمعة أن تسقط دون أن تُعتقل.

سألهم الشاشات:

ـ من أنتم؟

فيقولون:

نحن الأحياء الذين لم يعيشوا بعد، نحن الذين نكتب أسماءنا على الورق المقوّى ونعلّقه على صدورنا خشية أن نموت. بلا تعريف. نحن أبناء الأنهار التي اختنقت، وأحفاد المدن التي بكتنا، ثم طردتنا، نحن من يعرف أن الحب لا يحتاج إلى تأشيرة، لكن الخبز. يحتاج.

على القوارب المطاطية، جلس الحالمون مثل الأنبياء في العواصف، يتلون أدعية لم تُكتب بعد، ويؤمنون بأن الأرض، يوماً ما، ستكون أوسع من جواز السفر.

رأيتُ امرأةً تحمل رضيعها بين صدرها والموت، وتغني له كي ينام . والموج ينهش قدميها. رأيتُ رجلًا يبتسم وهو يغرق، لأنه أخيرًا. لم يعد يسمع صوت القذائف.

أيها العالم:

ضع حدودك في جيبك، وامحُ أسماء الدول من خرائطك، واسمع ـ فقط ـ صوت الإنسان حين يقول: أنا جائع. أنا خائف. أنا حي. فمن يعبر نحو الشمال، لا يطلب الجنة، بل يهرب من الجحيم.

***

بقلم: كريم عبد الله - بغداد - العراق

 

لِدِراما الحَــــــرْبِ مُؤَلِّفُها

ولِمُخْرِجهـا بـاقي الحِبْكةْ

*

والمــشهدُ: حَـــرْبٌ مَاثِلةٌ

يَطْبَعها الغَرْبُ على الدَّوْكَةْ

*

يَزرعهـــــا في كـــل بـــلادٍ

ويَسُوقُ المِــــحَن المُسْتَكَّةْ

*

فَبِرَنَّة (جَـــــيْبٍ) يَرْعـــاها

فُرَقَاءُ الصَّـحْفَةِ والكـــعكةْ

*

وبِطَــرْفَةِ عـــينٍ يَغشـــاها

زُرْقُ العينـــــــــينِ بلا فَكَّةْ

*

ما أصعب وضعكَ يا وطني

بين الأهــــــواءِ المُــــعْتَكَّةْ

*

ما ضــــــــاقَ بها جَـــيْبٌ إلا

جـــــــاءتها (فَكَّةُ من مكةْ) !

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

 

أتّفق معك أنّ الوقت يمرّ

والأشياء لا تنفكّ تتغيّر

ولكن لمَ تبدو السّاعات في بيتي معطّلة

ودقّاتها تشبه الأنين.

*

حسنا

أعلم أنّ الشّمس ستشرق

سيتسلّل نورها كطفل فضولي

وتغنّي فيروز طويلا عن البحر والوطن وحبيبٍ غائب.

فلِم أشعر أنّني أسكن في ليل طويل

وأنّني على مسافة بعيدة من كلّ شيء..

*

رائحة الخبز شهيّة والقهوة مرّة كما أحبّ

تغنّي أمّي مع الرّاديو

وتشي الضوضاء في الخارج بأجواء مشوّقة

ولكن قل لي

لماذا تتعالى الأصوات في رأسي

لمَ لا تمتدّ يدي

ومن ذا الّذي يصرخ بي لأنهض..

*

الحياة تستمرّ، لا شكّ في ذلك،

والأيّام تجرف جسدي كَسيْلٍ لا ينتهي

الرّحلة تستحقّ المحاولة وستثمر الجهود ذات يوم

أفهمك

العالم يعجّ بالنّاجحين

*

لا بأس إن لم يعنِني ذلك في شيء

أنّ الضباب يلفح وجهي ويملأ عيناي وأن طريقي بلا خريطة..

*

سأحبّ من جديد

لا داعي للقلق

والكلمات الّتي أحرقها الغياب

سأكتب برفاتها قصيدة أو اثنتين

ثمّ أختبئ داخل أغنية

*

أجل، كلّ شيء على ما يرام

فعلت كما قيل لي

لقد نسيت ذاك الحلم، صحيح،

دفنته جيّدا تحت الوسائد حتّى اختنق و لن يزعجني

ولكن أخبرني أرجوك

لماذا أحلم كلّ ليلة بظلّ يتمزّق

ومن أين تأتي الدّماء على يديّ حين أستيقظ

***

بقلم مريم عبد الجوّاد - تونس

أفتح نافذة القلب على رائحة الخبز المفقود.

الجوع يقف هناك،

على الرصيف،

يضحك

كأبلهٍ في جنازة.

أقول له:

أنت لست فكرة.

أنت أسنان تنهش الهواء،

وأصابع تبحث عن عظام الطير في القمامة.

لكنك تصمت،

مثلما تصمت الشجرة حين يصفعها الغبار.

*

أرى العصافير تتقيأ أجنحتها،

ترميها كرسائل غير مرسلة،

وتقف حافيةً في فناء غزة،

حيث الوقت يمشي على ركبتين

والماء يتلعثم في فمه.

الجوع ليس ظلاً،

هو جنديٌّ أعمى

يخيط الليل على العيون،

ويتركنا نضحك من الألم

كأننا نضحك من نكتةٍ قاسية

في وجهٍ غارق بالدموع.

*

أمدّ يدي.

كل ما ألمسه يتحول إلى رماد ساخن.

الأحجار نفسها تصرخ،

والشمس، تلك الأم الهاربة،

تضع رأسها في الفراغ،

تغني بصوت خافت

كأنها تسخر من موتٍ يتكرر كل ساعة.

*

في الشارع،

يرقص الغبار كعجوزٍ سكران،

يحمل على ظهره صرخات الصغار،

ويبيعها بأبخس الأثمان في سوق الليل.

الجوع

يصفّق بيدين من عظام،

يضحك حين يرى القدور فارغة،

كأنه مهرّج بائس

يسخر من أحلامنا التي تشبه خبزاً يابساً

ينكسر قبل أن نلمسه.

*

في غزة،

حتى البحر صار يتذمر،

ماؤه مرّ

كأنه شرب الدخان وأدمن طعم الحديد.

الأمواج تصرخ في وجهنا:

"هل أنتم أحياء،

أم مجرد ظلال تمشي بلا أصوات؟"

*

أضع أذني على الأرض،

أسمع نبض الجوع

كأنه طبلٌ قديم

يستدعي جيوشاً من الذكريات الميتة.

أسمع أيضاً ضحكة ساخرة

تأتي من بائع الخضار،

الذي صار يبيع الهواء،

يقول: "خذوا هذا النسيم، طازج من الحقول!!  "

ثم يضحك

حتى يسقط على الأرض

ويكاد يبكي.

*

الغروب حزين.

يلبس وجهاً بلون الصدأ،

ويمد ذراعيه ليغطي العراء،

لكنه يكتشف أن لا شيء يستحق الغطاء.

حتى الظل هرب،

تركنا مثل مقاعد مهجورة في ساحة مدرسة مدمرة.

*

وأنا ....

أنا أجلس في منتصف الليل

كأنني آخر سائح في مدينة أكلها الجوع،

أكتب رسالة فارغة

وأوقعها باسم كل جدارٍ تعلم الصبر،

ثم أضحك،

لأن الضحك آخر ما يمكن أن نهديه للحياة

حين تسرق كل شيء وتتركنا عراة.

*

أنا الجوع.

لا تظنوا أنني فكرةٌ عابرة،

أنا كائنٌ من لحم الظلال،

أتنفس من أفواهكم الفارغة،

وأحيا في الصمت الذي يسقط من العيون.

أتمدد مثل قطةٍ جائعة

على أرصفة غزة،

أشمّ بقايا الخبز،

ألحسُ الطين وأبتسم،

كأن الطين صار ولدي المدلل.

*

أطرق أبوابكم في الليل،

أدخل بلا استئذان،

أجلس بينكم

كضيفٍ يعرف أن حضوره أقوى من كل الصلوات.

أضحك حين يشتمني الأطفال،

أضحك لأنني أعرف

أن ضحكاتهم الصغيرة،

تحت وسائدهم،

تحولت إلى عظامٍ بيضاء تنتظر حليب الغيم.

*

هل رأيتم البحر؟

أنا من جعلته أزرقَ حزيناً،

أوهمته أن الملح دموع،

فصار يبتلع صرخاته ويختنق.

أنا من سرق الدفء من النار،

وتركتها تتلوى كأفعى عاجزة عن العضّ.

*

أنا لست عدوكم فقط،

أنا مرآةٌ صادقة،

أقول لكم:

هكذا أنتم بلا قمح،

بلا زيت،

بلا ماء.

هكذا أنتم... مجرد أصواتٍ تطرق جدار العالم

ولا يفتح لها أحد.

*

وأضحك.

لأن الضحك آخر ما تبقى لي

كي أبدو أقل وحشيةً

حين أرى قلوبكم تتحول إلى حجارة

لا تشبع أبداً.

*

في الليل،

تأتي الريح مثل بائعة هوى عجوز،

تغني للجوع أغنيةً بلا لحن،

وتوزع بردها على البيوت كأكياسٍ فارغة.

*

القمر،

ذلك الوجه الشاحب،

يضحك ببرود،

يمد لسانه من خلف الغيوم،

ويشير إلى غزة:

"أنتم عراة حتى من الضوء."

*

الأشجار تخلع أوراقها

كمن يلقي آخر أسراره في النهر،

تنحني،

تستجدي الظلّ،

وتبكي على جذورها التي لم تعد تجد ماءً ولا خبراً من الطيور.

*

السماء،

أمٌّ غاضبة،

تسكب نجومها على الأرض

كأنها زجاج مكسور،

ثم تصمت،

تصمت كمدينةٍ اختنقت بأدخنة القنابل.

*

حتى النار،

تآمرت مع الجوع،

صارت تبرد كأنها تخجل من دفء غائب.

وأنا،

أجلس تحت هذه السماء المعتمة،

أعدّ أصوات الأشياء

وأسمعها كلها تقول الكلمة ذاتها:

جوع،

جوع،

جوع.

*

أضحك.

لأن الضحك صار طريقتي الوحيدة

لأقول للعالم:

نحن ما زلنا هنا،

لكننا نأكل الهواء

ونتحدث إلى الرماد

كأنه آخر من بقي ليسمعنا.

*

في الفجر،

يمشي الضوء على عكازين من رماد،

يرتجف،

كأنه شيخٌ فقد ذاكرته في أزقة غزة.

أمدّ يدي نحوه،

فأرى أصابعي تتحول إلى طيورٍ محروقة

تسقط بلا صوت.

*

الجوع هناك،

يجلس على درجٍ مكسور،

يمضغ ضوء النهار

كما يمضغ عاشقٌ ماضيه،

ويراقب السماء

كمن ينتظر معجزة تتأخر عمداً.

*

العصافير صارت أرقاماً،

تعدّ أيام الحصار

بمنقارٍ مبلل بالبكاء،

والقطة التي في الزقاق

تلعق جرحها،

تلعقه كأنها تمحو اسمها القديم.

*

حتى الضحك،

ذلك الصعلوك الهارب،

يلتف حول عنقه حبل الصمت،

يختنق،

ثم يعود كصرخة مكتومة في حلوقنا.

*

أسمع الحجر يتكلم:

"لقد تعبتُ من حمل أقدامكم،

من دفن دموعكم في ثقوب صدري."

ثم يبتسم الحجر،

ابتسامة ساخرة،

كأنه يعرف

أن أحداً لن ينقذه من صمت الجوع.

*

أفتح فمي كي أصرخ،

لكن صرختي تخرج كريحٍ بلا اتجاه،

تتسلق الجدران،

وتسقط،

تسقط مثل ظلّ فقد جسده.

*

غزة الآن،

ليست مدينة،

بل صدرٌ هائل يعلو ويهبط

كأن العالم كله محشور في رئتيها.

*

الجوع يقف في المنتصف،

يحمل ساعةً بلا عقارب،

ويقول للوقت:

"أنت مجرد وهمٍ قديم،

أنا من يصنع الدقائق

بأنياب الفراغ."

*

أرى الأزقة تتلوى مثل أفاعٍ عمياء،

تبحث عن دمٍ جديد كي تبقى حيّة،

وأرى الأسطح تتحول إلى أذرع طويلة

تمدّ أصابعها إلى السماء،

تسأل عن المطر

كطفلٍ نسي اسمه.

*

حتى الظلال تتقاتل،

كل ظل يريد أن يسرق مكان الآخر،

كأن الضوء نفسه أصبح فكرة عنيفة.

*

الجوع الآن أسطورة:

ملكٌ أسود

يرتدي تاجاً من دخان،

يسير في المدينة

كما لو كان كاتب مصائر،

يضع توقيعه على البطون

ويتركها تغني أغنية العدم.

*

أنا لست سوى شاهدٍ يتأمل،

أضحك بمرارة،

لأن السخرية آخر ما يمكن أن يقاوم هذا الخراب،

وأكتب،

لأن الكتابة هي آخر الفتات

الذي نقتسمه مع الحياة

قبل أن تبتلعنا الأسطورة كلها.

***

مروان ياسين الدليمي

عِندَ مبنى البَريد تَوقّف حُلمي

لن تصل رسالتي

ستصادرها أنظمة الحواسيب

النائمة

وستطلب منّي المضيفة الحسناء

الاِنصراف إلى حين.

سأغادر المبنى وفي نفسي

شيء من حتى.

هكذا عشت الحالة مرة أخرى

رفستُ علبة حليب مُهملة على الرصيف

ولعنتُ نفسي، ثم لعنتُ الشيطان

وقلت لمتسولة عجوز في طريقي:

" رِزقُنا معا على الله يا أمّي "

النّظام " نائم " والحواسيب تتلكأ في وجهي

أرقام " الكود " قرصنها هاكرز من زمن الرّماد

2

عطفا على ما سبق

يجوز للمعلّم أن يرقص على السلاليم

المتحركة

ويقرأ ديوان مديح الظّل لبورخيس

ويمتعض حين " تشدُّ خناقه "

قصيدة " إسرائيل"1

3

أُحس أنني أحتاج لشهور من الصمت

حتّى ألتقط أنفاسي وأصلح ذات بَيْنِي

وأرتق جُبّة إفلاسي

دعوني أبوح لكم بسري

هم سرقوا حلمي

هم فتكوا بسنوات عمري

وأدرجوني رقما مشفرا في حواسيبهم

أشتهي أن أقَبل يد أمي

وأستعيد حبل مشيمتي

أشتهي أن ألثم جبين أبي

وأستنشق عبق طفولتي

4

عطفا على ما سبق

يجوز للمعلم أن يُزيح أقنعة

النّفاق

ويبرأ من وَهْمِ "التاريخ" والعروبة

وأساطير الأولين

ويفتح قلبه للحقيقة

وينتظر مرور ريح عاتية

يجوز للمعلم أن يقرأ قصيدة مديح الظل العالي

لدرويش2

ويحمل انكساره وحزنه بأريحية زائدة

ويُحدّث معارفه على كراسي المقاهي

عن النكبة، عن النكسة، عن الموت السريري

للنخوة.

يجوز للمُعلّم أن يلقي بكتب اللغة خلف

ظهره

ويعلن سقوطه بضربات الترجيح

5

وطني ..

هذا أنا صورة فتوغرافية

ورقم مشفر وقبعة بالية

وأسنان تعضُّ على لهيب المحنة

وأَقْدَامٍ قطعت مسافات بين محطات الضياع

وطني..

هذا أنا أعيش وحيدا نوبات جنوني

وخلفي تلهث سنوات عمري الشقية

تُنْبِئِني بأحداث تَلَاشت مِن الذَّاكرة

تُحدِّثني عن أَزمنة مُنفلتة

عن تَوارِيخ مُضْمَرَة في حياتي

عن مَحطات عَبرها قِطاري

تُنبئني أنّ ما تبقّى أقل ممّا مضى

وأن القسمة كانت دائما ضيزى

6

عند مبنى البريد تداهمني

موجة توتر، تجلس القرفصاء

وتمر عربة خيول صامتة

ترسم لي طريقاً نحو الفجر

بين رُبَى غزيرة الاِخضرار

وسماءٍ تمطر الأشواق.

وطني

هذا أنا صفحة باهتة في مكتب أرشيف

بارد.

هذا أنا رهينة في يد تجار اللعنات

يحجزون على أحلامي

ينتزعون حقي في الحياة

وطني

سأشرب نخب هزيمتي في حضرتك

وأمشي على أنين قلبي

بملامح حادّة تشهد أنني عابر سَبيل

أنهكته تراكمات مبنية للمجهول

وطني

غضون الزمن تحاصِر أحلامي البسيطة

ورذاذُ الحزن يُناكف ذاكرتي العليلة

شارد على أرصفة النسيان

أرسم بخطوي وسم انكساري

بهدوء صبي ساذج

بفزع حَدثٍ ثائر

بحكمة كهل سادرٍ

7

عطفا على ما سبق

يَجوز للمُعلم أن يرسم للفراغ

وجوها متداخلة.

ويستعير من تاريخ الشوق

قصصا مُتلاقحِة

يجوز للمعلم أن يسأل "شات جي بي تي"

عن "أمّ عامر" وعن مريم المجدلية

ويضع علامات استفهام تربك حساباته

يجوز للمعلم أن يستعيد زمن الحِبر والريشة

ويملي نصوصا من " قاع الخابية "

ثم يخطئ "عمدا" ليكتشف الصواب في ظنونه

8

عند مبنى البريد تكلمت الساعة الناطقة

وتهاوت أورق سنديانة عجوز

تنبئُ بخريف مبَكّر

بصمت قادم

بهشيم ذكريات مُرّة

بصفير زفرات حَرَّى

برقصة صامبا في كرنفال الجموح

بجماجم ناطقة في متحف الحياة

برؤوس قد أينعت وحان وقت قطافها

بأعوام الجوع وحروب الطواحين

***

محمد محضار

23يوليوز 2025

.................

1- قصيدة ضمن قصائد ديوان مديح الظل لبورخيس والذي صدر  بعد زيارته لإسرائيل

2- قصيدة مديح الظل العالي كتبها محمود درويش سنة 1983م بعد الهجمة الشرسة لإسرائيل على بيروت سنة 1982

 

قبل أن آوي إلى فراشي

فتحتُ النافذة

لأسترجع تفاصيل أيام بعيدة

فجأة

رأيتُ قمر الأمس، دنا وتدلّى

قلتُ أهلا..

ورحتُ أرحّب بهذا الزائر

فالزمن ليس شيئاً مجرداً

بقدر ما هو، مجموع الوقائع التي تشكّله

غير أنّ الزمن قد يفلتُ منّا

ولكنّي..وأنا بين..بين

تناهى إلى سمعي صوت أنين

قلتُ: ها هو أيقاع الأعوام

واستفقتُ وحدي

على تخوم ايام الصبا

واللحظات الهادئة الخجولة

بعيدا عن عجاف السنين

في طفولتي، كنتُ احبُّ المطر

أنظر إليه، بمحبّة وحميمية

أحدّق في السماء

أغيبُ في تأملاتي

على مخدة الخير

اتدبّر امري بطراوة ملامحي

أرى الغيوم

وقد أسبلت جفونها

لتلمّ شعاع حلم المطر

وتترك ضفافها، تفيض بحنان

لأرض الفقراء، والمساكين، ولكلّ الناس

قطرات.. قطرات

تتهادى تغسل- بمودّة - أوراق الشجر

وتبارك سعف النخيل

وتبلّل كل المساحات بخضرتها العاقلة

انها مواصفات للحياة، بلا ظلال قلق

انها لوحات، بحقول من ضوء، يلوّن أفق الزمان

تضمخت ْبعليل هواء أبي الخصيب

كنتُ أحسّ بسعادة، بشكل متوازن

بعيدا عن مرافئ القلق والغبار

كأنّني بحلم جميل

وللحلم رائحة البساتين، والشعر

ويمضي بي الوقت

في أرجوحة الأمل البعيد، القريب

كأنّي أضمّ الأرض، أشمّ عطرها بعد المطر

بل كأنّي مواويل العشب الأخضر

الذي ظهر بغتة

بعد أن أشرقت الشمس

وراحت تخترق جدران الغيوم

وتضيء قريتي بأشعتها الملونة

مرحّبة بالطيور لكي تستريح

بشرفات سماويّة جديدة

بجدائل من حبّ...

على افق من نجوم

وأنا بين شوق يحطّ هنا

وشوق يطير.. هناك..!

أمنح نفسي فهما ً جديدا، للخير والجمال

بعيداً عن ظمأ العشق

وسراب العاشقين

ومضت أقدامي تسير

وتسير

تطير مثل طيور المساء

تسافر بين بلاد أحلامها

على شجر البوح

تاركة قشرة الأيّام الخاليات

فهي قادرة على أنْ تضمّ إلى صدرها

ضفائر النخيل.. وأوراق السدر

لتحّقق الحبّ...

والسلام والهناء

وتأبى الخضوع، لغير الله تعالى

***

حامد عبد الصمد البصري

وإنّيْ إذا لقيتُ ربّي مُكبَّلا

بوزنِ الجبالِ والهضابِ ذُنوبا

*

وصمتُ ندامتِي برأسيْ مُجَلجِلا:

فلو أنّهُ يعيدُني فأَتوبا

*

وبعْضِي على بعْضِي يَشدُّ مُنكِّلا

وكلٌّ غدا بيْ للجحيمِ شَبُوبا

*

أمِنْ حُجّةٍ لي كي يقومَ معلِّلا

لمَن قلبُهُ بالشّركِ كان مَشُوْبا

*

وناصحُ دنيايَ يَمرُّ مُهلِّلا

ومنْ عبتُ بالأمسِ أقلُّ عُيوبا

*

وصاحبُ دنيايَ جِواريْ مُعذِّلا:

فلو كنتُ إذْ شمّلتَ رُحتُ جنُوبا

*

وميزانُ عدلٍ فيّ يصْحو مُقلقِلا

أتملأُ "دنيا" في القيامةِ كوبا؟

*

فيا تعسَ يومٍ عشتهُ مُتخيّلا

بأنّي نُصِرْتُ إذْ ملأتُ جيوبا

*

ويا شؤم حربٍ عدتُ منها مُكلَّلاً

بنصرٍ لقاءَه خسرتُ حُروبا

*

ولسْنٌ من النارِ تُمدُّ كأنّها

رؤوسُ شياطينٍ أبنّ نُيوبا

*

وأحمدُ ما انفكَّ لذِيْ العرشِ ساجِدا

وذو العرشِ ما انفكَّ لطهَ مُجيبا

*

وخوفٌ يداهمُ الرّجاءَ مُزلزلِا

أربّاً عبدْتَ أمْ عبَدْتَ رُبوبا؟

*

أقولُ وقد خذلْتُ يومِي بأمسِهِ

ونفسِي بظُلمِها وكنْتُ لعُوبا

*

إلهي مددْتَ من لدنكَ مودَّةً

فما كانَ إلّا أنْ مددْتُ ذُنوبا

*

وإنّي لراضٍ إنْ نجوتُ برحمةٍ

وراضٍ إذا بُتَّ العذابُ نصِيبا

***

أسامة محمد صالح زامل

الهاربون من الجحيم

يأتون من بعيد، لا يحملون متاعًا، بل حكايات مثقوبة. جراحًا تلفّها أكياس النايلون، وصورًا بالأبيض والأسود لأمهاتٍ ينتظرن عند بابٍ لم يعد موجودًا. يأتون من الخرائب، من الحقول التي أُحرقت فيها السنابل قبل أن تثمر، من المدارس التي صارت سجونًا، ومن السجون التي صارت أوطانًا مؤقتة. يأتون، والريح في وجوههم ليست نسيمًا، بل صفعة التاريخ. الطفل الذي يعبر الحدود، لا يسأل عن اسمه، ولا عن اللغة التي يجب أن يبكي بها. كل ما يريده أن يصل إلى مكانٍ يمكن فيه للدمعة أن تسقط دون أن تُعتقل.

تسألهم الشاشات:

ـ من أنتم؟

فيقولون:

نحن الأحياء الذين لم يعيشوا بعد، نحن الذين نكتب أسماءنا على الورق المقوّى ونعلّقه على صدورنا خشية أن نموت. بلا تعريف. نحن أبناء الأنهار التي اختنقت، وأحفاد المدن التي بكتنا، ثم طردتنا، نحن من يعرف أن الحب لا يحتاج إلى تأشيرة، لكن الخبز. يحتاج.

على القوارب المطاطية، جلس الحالمون مثل الأنبياء في العواصف، يتلون أدعية لم تُكتب بعد، ويؤمنون بأن الأرض، يوماً ما، ستكون أوسع من جواز السفر.

رأيتُ امرأةً تحمل رضيعها بين صدرها والموت، وتغني له كي ينام . والموج ينهش قدميها. رأيتُ رجلًا يبتسم وهو يغرق، لأنه أخيرًا. لم يعد يسمع صوت القذائف.

أيها العالم:

ضع حدودك في جيبك، وامحُ أسماء الدول من خرائطك، واسمع ـ فقط ـ صوت الإنسان حين يقول: أنا جائع. أنا خائف. أنا حي. فمن يعبر نحو الشمال، لا يطلب الجنة، بل يهرب من الجحيم.

***

بقلم: كريم عبد الله - بغداد - العراق

 

أصغي إلى سخونتها

في ترتيب شعرها

المخمور بالأبجديات

مثل مجنون ثمل بالتفاحات

هذا ثغرها يلف وجهك

المشتاق للحنين

دع صهيل خيولك

نائمة في الكلمات

لا توقض نبضها

المتعطش للطقوس

أصغي إلى غناء البلابل

تراها في تعب المتجولين

تلك اعينهم نكهة في البوح

وخلف ابتسامتم

عناقيد لوحات وحنين

حين يتركوا العمال

بصماتهم في الصباح

تجمعهم احلامهم في الحياة

بعناق طويل

هم لا يحبون الاكاذيب

ينتقلون بمعاولهم

من قرية إلى قرية

يمشي النهار

مع صبرهم

اغنيات في مناقير العصافير

***

باقر الموسوي

 

لم تكن المدينة كما هي الآن. قبل أن يُغلق الضوء، كانت الشرفات تضحك، والطرقات تحفظ أسماء المارّين، والأشجار تهتزّ لا بالريح وحدها، بل بأغاني النساء وهنّ ينشرن الغسيل في الصباح الباكر. وكان الأطفال يركضون حفاة في الممرات الطينية، يخطئون ثم يضحكون. لكن شيئًا ما تغيّر في الأعماق. لم يكن مفاجئًا، بل تراجعًا بطيئًا لكل ما هو حيّ. تسلّلت التعليمات ببرودٍ تدريجي : "قلّلوا من فتح النوافذ"، لأن الهواء قد يكون محمّلًا بالأحلام. ثم جاء همسات من أفواه الرُعب : "أِياكم أن تصغوا للريح ، فبعض الروائح تحمل ذاكرة لا يطيقها الواقع المرسوم." قاوم البعض، لكن الخوف طرق الأبواب، ودخل كالضيف الذي لا يُغادر، ثم استقرّ كقانون لا يُناقش.

انغلقت النوافذ واحدة تلو الأخرى. صار الكلام يُوزن، والضحك يُؤجّل، والغناء يُخبّأ في الحناجر. المروج هجرت الحياة، وتقلّص ظل الغابة شيئًا فشيئًا، حتى الورود فقدت رائحتها الأولى. أصبح الأطفال يولدون في صمت، ويكبرون في صمت، وحتى نسي الجميع كيف يبدو الصوت حين لا يُقص جناحه. ولكن مع هذا السكون المتراكم، كان شيءٌ ما يرتجف في العمق، نبض خافت تحت الركام، صرخة مخنوقة في عتمة الليل، لكنها ترفض الموت. كأن المدينة بكاملها كانت تنتظر زفرة لم يُسمح لها بالخروج.

في ليلة لم تُعلن عن نفسها، مرّت نسمة على المروج، أيقظت قامات السنابل، عبرت الغابة ، حاملة أنينها، ولمَت آثار الأقدام على الدروب، حتى وصلت المدينة. طرقت زجاج النوافذ المغلقة وهمست : "أنا خطاكم المبتورة."

في زقاق ضيّق، كانت عجوز تسرّح شعرها في العتمة، رفعت رأسها ببطء، وشعرت بالنسمة تلامس وجنتها. نظرت إلى السماء من خلال النافذة، وأخذت نفسًا عميقًا كمن يستنشق الحياة بعد انقطاع، ثم فتحت النافذة. تبعها رجل بتردد، ومدّ يده نحو النافذة كمن يفتح صدره لشيء نسي ملامحه. أرسل نظره يتسرّب إلى السهول البعيدة، وكأنه يبحث عن وطن لم يعشه.

وهكذا بدأ الأمر. من بيت إلى بيت، من شارع إلى آخر، ومن زقاق الى زقاق آخر. انفتحت النوافذ والشرفات، وتذكّر الناس فجأة أن الريح لا تخيف، بل توقظ.

دخلت الريح كأغنية مشبعة بما لا يُقال. حملت معها رائحة التراب المبلل، جعلت الأبواب ترتجف، والقلوب تتفتح. أعادت للعشب ضحكته، وللطير نداؤه، وللغابة حنينها القديم. وعندما فُتحت النافذة الأخيرة، ساد سكون، سكون مفعم بالتشوق، كأن المدينة بعد انقطاع طويل حبست أنفاسها لتصغي... لا لشخص، بل للأغاني التي جاءت من الأعالي، وأطلقت سراح الحضور المختبئ خلف أبواب الغياب، ليعود إلى المدينة، لكن هذه المرة، بنبض لا ينتهي.

***

د. مامند محمد قادر -  شاعر وقاص عراقي كوردي

 

في غمرة الصمت المختلق، جلست حنان على شاطئ البحر تتطلع إلى الأفق، حيث لحظة الغروب تزيل بقايا أضواء النهار. بدا البحر لها كمرآة مائلة، تنعكس فيها ظلال لم تُفكك بعد.

كانت تتأمل الغيم وهو يتبدد على أطراف السماء، وكأنّه ينسحب بهدوء تاركًا مساحةً للشعور كي يتكلم. في داخلها، كان الشوق ينسج وردة من الضباب، تتمايل في نسيج وردي كعالم غامض، تعانق أنامل القلب فتتلظى الرغبة المدفونة عميقًا.

ومن غابات الذكريات، تنتفض عاصفة مباغتة. كحلمٍ لا يطلب الإذن، يطفو فوق بارجة النهار وسط عاطفة هوجاء، تتدفق منها كلمات لم تبح بأسرارها بعد. كلمات ترتجف على حافة البوح، لكنها تخشى أن تُفسد صورةً رسمها الحبيب ذات يوم.

همست لنفسها دون أن يجرؤ صوتها على الخروج: 

"أنا لست ما تحسبه قلبك... لا زهرةٌ تنمو في ضوء عينيك، ولا دفءٌ ينتظرك كل مساء. أنا خواءٌ تعلّم كيف يبتسم، كي لا يُفضَح."

ثم سكت البحر، كأنّه أنصت. أغمضت عينيها، كمن يدفع الذاكرة إلى الهامش، قبل أن تنظر من جديد إلى الأفق: 

أما الآن، فسأدع النسيج الوردي يتمزق ببطء، ولن أخيطه مجددًا.

تنويه: هذه القصة تمثل مشهدًا مستقلًا من رواية قيد الإنجاز بعنوان "صرخة في صمت الحالم"، وتتناول لحظة اكتشاف داخلي تتقاطع فيها الهوية والبوح والصمت العاطفي.

***

بقلم: كفاح الزهاوي

عبد الكريم قاسم

ألزعيمُ ذو الصوت المرتجف

يُذكّرني ارتجافُهُ بالأعاصير التي تقتلع السقوف

على مدى أربعِ سنواتٍ من حُكمه

كانت أعاصيرُهُ تقتلع قلوبَ مؤيديه

لتلقي بها في الثلج

وتقتلع قلوبَ مناوئيه

لتلقي بها في النار

مرّتْ عقودٌ على خمود الأعاصير

لكن في 14 تموز من كلّ عام

يجتمعُ ذوو القلوبِ المُثلّجةِ بذوي القلوب المحترقة

فيفتحُ الفريقان أزرارَ قمصانهم

ليلمس كل منهم في صدر الآخر

أثرَ الثلج،

أو أثر النار

**

... بتاريخ 8 شباط من كلّ عام

يتوجه الزعيمُ بخطوات مسرعة إلى قاتليه في مبنى الإذاعة

ومن ورائه مؤرّخٌ عجوز

بَلغَ من العمر ثلاثة آلاف عام

يُهرول،

متعثّراً بلحيته الطويلة الفضيّة

وهو يصرخ: يا قاسم انتظرني

أرجوك لا تسرع

أنا لستُ من أصحاب القلوب المُثلّجة،

ولا من أصحاب القلوب المحترقة

لكني أريدُ أن أعرف من أية رَحِمٍ تولدُ الأعاصير؟

***

شعر: ليث الصندوق

 

إلى قارئ لا أعرفه

هل تجلس مثلي بين ثنايا الصفحات البيضاء، تتدفق روحك حبرا، ولا تعرف كيف تُوقف جريانه؟

هو الفراغ يناديني باسمي، أكتبُني لأهرب مني، لكنني كلما كتبتُ، انكمشتُ في الحروف أكثر، وصرتُ ظلاً لمجازٍ لم يُكمِل رحلته.

وكأن عصافير الصمت تطير من كفي لتحط فوق جسر الخيال، فأخفي ارتجافي بين السطور. وحين يطرق الشوق باب الهواء، أتطلع للسماء كي يهطلَ عليَّ مطرُ الرؤيا، لأرى ما لا يُرى...

يا قارئي الذي لا أعرف

يا من تمرُّ على نبضي كمن يعبر غيمةً لا تمطر، هل شعرتَ بثقل الكلمات حين تصير مرآةً لا تعكس سوى صخب الذكريات؟

أنا الآن؛ أقطف من الريح فاكهة وجودي المُرِّ، وأغتسلُ بماء الوجع مرات، لعل رسائلَ البحر تنثر الحنين في كف الشوق. لكنها لا تجد غير صدى لقصيدة تجمع حقائبها كل ليلة كي تستقبل ماء الحزن من كل الجهات.1682 najat

يا قارئي الذي لا أعرف

إني أتلاشى كلما جرحتني الأخبار حتى لم أعد أدري إلى أين يحملني كل هذا الصراخ...

فهل مرّت عليكَ خريطة ملفوفةٌ كالكفن؟ ، قرأتَ فيها عن وطن يتنقّلُ في الجنازات، وهل سمعتَ الضحكة وهي تُختَنق بينَ خوذةِ جنديٍّ، وصوتِ أمٍّ لا تعرفُ بأيّ لهجةٍ تنادي؟

نحن يا قارئي نتقنُ البكاء بلهجاتٍ شتّى، نبكي بصمتِ أصوات عربية كثيرة، ثم نمد كفنا في الخواء وكأننا ننتظر شيئا ما.

لقد صار لنا في كل مدينةٍ نكبة، وفي كلّ زقاقٍ مآذن بلا مؤذّن.

فيا قارئي الذي لا أعرف

هل رأيت مثلي طفلًا يحملُ حقيبةً أكبر من حلمه، يسألُ عن الطريقَ إلى مدرسةٍ هُدمتْ قبل أن يعرف الأبجدية، ويجرُّ وراءه ظلّ بيتٍ اندثر قبل أن يحفظ عنوانه، ويرسم بعمق في قلبه اسم أمّه كي لا يضيع في خيامِ الذاكرة؟

يا قارئي الذي لا أعرف

أنا لا أُحسنُ صياغة النهايات، أكتبُ فقط لأنفُضَ عن قلبي الغبار و أمضي، ولأسرّب الأمل من شقوق الكلام حين يعجزُ النهار عن تبرير عتماته.

وها أنا أرتق الفراغ بإبرة التساؤلات، فلا أجد غير ممرات معتمة تضع فوق كتفي شال استعاراتها.

فهل شعرتَ يومًا بأنك تهرول على حافة المعنى، مثلي. وكأن ناي جلال الدين تردِّدُ صداه ريح قديمة تمسك بأطراف ثوبك فتهرب منك إليك؟، وكأنك تصغي لصوت انكسار القلوب ونزيف اللغة.

فيصبح الورق أضيق من أن يصير أنشودة غجرية ترافقني بدهشتي الطفولية، كي أجدني بعد منتصف الليل، أستمع لكمنجات الألحان القديمة.. وأمشي فوق الطين، لعل أقدامي تشكل بداية جديدة لحلم قد يأتي.

***

نجاة الزباير

07/07/2025

 

مازلت مستندة على الجدار هادئة بلا صوت، خشبك الخيزران

 البنيّ المصقول اللّامع يحيطك بهالة من الفخامة لا تخفى عن عين مغرم بالتّفاصيل، عصا جميلة انت بلا شكّ تليقين بيد باشا وأبي ملكٌ..

هادئة تتّخذين مكانك قرب سريره لا بدّ انك تشعرين بخيبة مريرة يوم تحسّسك بيده الصّلبة وجرّب ان يتمشى متكئا عليك مزهوا بك.. ثم سرعان ما القاك بعيدا لم يحتج اليك وهو في الثمانين لطالما كان عنيدا ازاء الزمن.

يومها استرعيت انتباهي وانت مخبّأة وراء الخزانة بعيدا عن ايدي الاطفال العابثة قلت في نفسي: لو كان لك قلب مثلنا.. بم كنت ستشعرين؟..

هل ستحزنين لانه استغني عن خدماتك؟.. ام انك تفضلين ان يحتفظ بك في مكان يليق بقطعة فنية نادرة.. لا تقولي ان خيالاتك بلغت بك حدّ أن تكوني كما عصا موسى تشطر البحر الي نصفين..؟

اعترف اني اشفقت عليك يومها وتطاوست مزهوة بقرار ابي ان يخفيك وراء الخزانة ويجدّد العقد مع ساقيه نكاية في الزمن..

صاحبك فتك به الزهايمر وما خانته ساقاه لم يلتجئ اليك ايضا.بحذر يقوم بجولته الصباحية في ارجاء الحوش.. يتلمّس الجدران، الياسمينة شجرة الرمان حتى يصل آمنا الى مقعده الحجريّ مستأنسا بشيء من البصر وبعضا من بصيرة.

وها قد بحثت عنك اخيرا ايتها العصا الجميلة الوحيدة الكئيبة، كان يجب ان اخرجك الى النور.. صاحبك لم تخنه ساقاه ذلك اليوم، فلا يهزّك الغرور وتتعالي. لم تخنه ساقاه بل خذلته الذاكرة فنسي كيف يمشي.. وكان عليّ ان استعين بك، كنت انا ساقه الثّالثة وكنت انت ساقه الرّابعة.حين وضع يده المرتعشة عليك استقام ظهره، استعاد توازنه بخطًى وجلة مرتبكة مشى.. خطوة.. خطوتين ثم تركته انا اودعته ايّاك امانةً.. كان يردّد دائما وهو فى اوج عنفوانه.. لن اموت الا واقفا.. وكان علي ان لاانسى ولم انس

متّكئة انت الآن قرب فراشه الفارغ البارد متكئة على وجعي.. رحل هو وبقيت انت تحدّقين بي وانا احدّق في الفراغ ربما تقولين في سرّك.. "نحن الأشياء نودّع اصحابنا نرافقهم الى مثواهم الاخير ونعود لنوجع الأحياء.. "

***

حياة بن تمنصورت

 

أَنْ تكونَ تائهًا في أَبجديَّةِ الكوْنِ،

غيمةٌ رماديَّةٌ وحيدة

تتراقصُ دونَ تكلُّفٍ

تتوكَّأُ على مساءٍ باردٍ

يُنقذكَ مِنْ حُلمٍ فقد نشوته

هلْ أَضعتَ النَّهرَ؟

أَمْ كُلَّما مررتَ بجدبٍ، تَهذي؟

لستَ سعيدًا بما يكفي،

لستَ سالما

عندما لا يستطيعُ القلبُ

أن يحطّم كآبته

أن ينجو من غناءٍ مرٍّ

ولو جمعتَ الشَّرقَ والغربَ،

اليابسَ والأَخضرَ

لضحِكتَ مِنْ هذا السراب

لُجّة الغياب

لهذي الحقائب المفتوحة

مشهدٌ طالَ عمرا

تكدّس بالانظار

يعجزُ عنْ صدِّ دمعةٍ

كسَرَتْ بابَ الحُزنِ

صِرتَ في الحياةِ

أَلْفَ أَلْفِ حَرفٍ

رأيتَ العواصف بأسمائها ونحيبها

بكيتَ

وما من صدى يتساقطُ

يريني ملائكتي

التقيك .. في الضفّة الأخرى من ذاك العمرِ

عطشا

يعيدني إلى أوّل صباح أرويه.

***

زياد السامرائي

 

رَعَيْتُكَ غُصْنًا فِي رُبَى الْحُبِّ نَاهِضًا

وَرُحْتُ أُغَذِّيهِ الْحَنَانَ فَيَكْبُرُ

*

كَبُرْتَ كَمَا تَرْجُو الرِّجَالُ لِسَيْفِهَا

وَصُغْتَ جَبِينَ الْعِزِّ مَجْدًا يُبَشِّرُ

*

خَرَجْتَ كَبَدْرٍ فِي الدُّجَى تَحْمِلُ الضِّيَا

وَخَلْفَكَ أَحْلَامٌ تُضِيءُ وَتُزْهِرُ

*

وَكُنْتَ إِذَا نَادَى التُّرَابُ سَمِعْتَهُ

بِقَلْبٍ كَصَخْرٍ لَا يَلِينُ وَيُعْصَرُ

*

لَقَدْ عِشْتَ مِثْلَ اللَّيْثِ، تَرْفُضُ نَفْسُهُ

إِذَا مَا رَأَى الْأَعْدَاءَ تَطْغَى وَتَغْدِرُ

*

فَفِيكَ وُجُودُ الْحَقِّ قَامَ مُبَشِّراً

وَفِيكَ نُبُوءَاتُ الْأُبُوَّةِ تُثْمِرُ

*

فَلَوْلَاكَ مَا كُنَّا نُعَدُّ مِنَ الْوَرَى

وَلَا كَانَ فِينَا مَنْ يَرَى وَيُقَرِّرُ

*

فَمَا كَانَ فَقْدُ الْبَدْرِ فَقْدًا، وَإِنَّمَا

هُوَ الْفَجْرُ إِنْ جَاءَ الظَّلَامُ سَيُسْفِرُ

*

فَمِنْ نَفْحِ جُرْحٍ قَدْ تُفَتِّقُ وَرْدَةٌ

وَيَنْمُو رَبِيعٌ مِنْ دِمَاكَ وَيُزْهِرُ

*

وَقَدْ يَخْرُجُ الْمِسْكُ الدَّفِينُ مَتَى سَقَتْ

دِمَاؤُكَ تُرْبَ الْعِزِّ حَيْثُ تُفجَّرُ

*

وَكُلُّ انْطِفَاءٍ فِي جِرَاحِكَ غَائِرٌ

تَشُبُّ بِهِ النِّيرَانُ دَوْمًا وَتَسْعَرُ

*

وَكَمْ مِنْ صَبَاحٍ لَمْ يَجِئْ بخُيُوطِهِ

سِوَى طَيْف ظِلٍّ مِنْ ظِلَالِكَ يُخْبِرُ

*

وَأُمُّكَ تَبْكِي فِي الْخَفَاءِ كَأَنَّهَا

تَمُرُّ عَلَيْهَا الذِّكْرَيَاتُ وَتَعْبُرُ

*

تُقَبِّلُ تُرْبَ الْقَبْرِ شَوْقًا كَزَهْرَةٍ

تُصَلِّي عَلَى دِرْعِ الشَّهِيدِ وَتَذْكُرُ

*

جَلُودٌ وَفِي جُرْحِي نَزِيفُ مَعَازِفٍ

أُقَبِّلُ فِيكَ الصَّمْتَ، أَزْهُو وَأَفْخَرُ

*

تُحَدِّثُنِي الْأَيَّامُ أَنَّكَ نَجْمُهَا

فَأَبْكِي وَمِنْ دَمْعِي تَوَلَّدَ أَنْهُرُ

*

أَرَى فِيكَ مَعْنَى الْحَقِّ يَجْرِي كَجَدْوَلٍ

وَيَرْوِي ظِمَاءَ الصَّابِرِينَ وَيُنْصِرُ

*

تَرَكْتَ لَنَا حَدْبًا، وَهَمًّا، وَغَصَّةً

يُسَافِرُ فِيهَا كُلُّ حُرٍّ وَيُبْحِرُ

*

وَفِيكَ تَنَاهِيدُ الْبِلَادِ وَحِلْمُهَا

تَبُوحُ إِذَا عَيْنُ الْحَقِيقَةِ تُبْصِرُ

*

يَمُرُّ نَسِيمُ الصَّبْرِ فَوْقَ جِبِينِهِ

وَيَحْمِلُ ذِكْرَاكَ الَّذِي لا يُكَرَّرُ

*

وَمَا زَالَ فَوْقَ الرَّمْلِ خُطْوُكَ شَاهِدًا

يُقَبِّلُهُ التَّارِيخُ حِينَ يُسْطَّرُ

*

وَيَا قُبْلَةَ الدُّنْيَا عَلَى جُرْحِ بَاسِلٍ

تَنَامُ عَلَى أَكْفَانِهِ فتُعَطَّرُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

قاسية كلمات الوداع

اشدها عندما نقولها للوطن

ياللأسف يُلذع جراحنا

ملح السذاجات

والرصاص المتناسل

يجعل الكلام في

خريف الفم

يتكاثر مثل

جراد الاوبئة

متُّ عطشًا من

سواقيك يا وطني

من وجوه موشومةٍ

بالكذب مشوهة بالدم

سلطان يرتدي

تيجان الجهل

وجدلية العلم

تضيق حدوده الجغرافية

لحفيضته

لا يواكب القلم

ولا يعرف ملاحم العقل

هو حمار

يصول في (الطولات)

لا يصلح حتى

لجر العربات

ونقل الحمولات

له ذيل بطول فهمه

يطرد القراد عن موخرته

سمعه ثقيل جدًا كنباهته

لا يتلقف سوى (الديخ)

فصيح بعدد أمثالة

في (سوق الغزل)

يهلهل نهيقًا

وصوته مثل

ضجيج (السكراب)

ياله من سلطان عظيم

يبني خيالات من

(تنك عتيك)

في وهم خياله

انه حاكم حكيم

ينحر العالمين

نحو المحراب

وباسم الرب

يرتل ايات النحر

هكذا الطغاة

متشابهون في

اشكالهم فكلهم

خلقوا من ماء النفايات

يا وطني اراك

على صدري تتكئ

تذرف خيبات الظنون

بما فعله السجانون

واتوسد اسمك يا وطني

وارتمي بحطام الحاضر

لحروفك التي يجرحها السفاح

ومعناك يأبى الخنوع

وان كثرت اقدام الوقاح

***

باقر طه الموسوي

 

عِنْدَمَا أَشْرَقْتِ نُورًا وَبَهَاءْ

طَفْحَ اَلْقَلْبُ حُبُورًا وَانْتِشَاءْ

فَتَسَاءَلَتُ بِحُزْنٍ

أَيْنَ كُنْتِ ؟

لِمَ أَنْتِ،

قَدْ تَأَخَّرْتِ كَثِيرًا، فَخَسَرْتُ

وَخَسَرْتِ

سَنَوَاتٍ ذَهَبَتْ مِنَّا سُدَى

فَغَدًا اَلدَّرْبُ كَئِيبًا أَجَرَدَا

**

قَدْ تَخُونْ

هَذِهِ اَلْأَيَّامُ

قُلْتِ

أَوْ  تُخَانْ

لَمْ أَقُلْ شَيْئًا

فَقَدْ خَانَتْ لِسَانِي

اَلشَّفَتَانْ

وَغَزَتْ رُوحِي شُكُوكٌ وَظُنُوْنْ

بَعْدَ أَنْ كَانَ اِشْتِيَاقِي وَالْحَنَانْ

يَغْمُرَانْ

دَرْبِيَ اَلْمَمْلُوءَ حُبًّا وَأَمَانْ

**

غَامَتْ اَلدُّنْيَا، وَهَبَّتْ عَاصِفَةْ

اِخْتَلَطَ اَلْحَابِلُ بِالنَّابِلِ

فَاحْتَارَ اَلطَّرِيقْ

بِخُطَانَا اَلرَّاجِفَةْ

غَدَرَتْنَا الذاكرةْ

حِين جَاءَتْنَا طُيُورٌ  مَاكِرَةْ

هَاجَمَتْنَا

أَحْرَقَتْ أُرْيَاشِهَا بَيْنَ يَدَيْنَا

فَاخْتَفَيْنَا

دُونَ أَنْ نَذْكُرَ

مِنْ أَيْنَ بَدَأْنَا

لَا. . وَلَا  كَيْفَ اِنْتَهَيْنَا

***

شعر: خالد الحلّي

يا نداوةَ الضوء!

ماذا لو نحتنا صورتنا صلاةً

في ذاكرةِ القبيلة؟

طيب!

ماذا لو غسلنا المسافةَ رعشةً

وأسدَلنا المغادرةَ نهرًا

وقطّرنا خمرَنا من القُبَل

وتأوّهْنا غنجًا

وضحكْنا في وجهِ الجيران

تَناصًّا مع الرحيل؟

بوسعنا قتلُ أولئك الغارقين

في عصفِ المسرح

لتظلَّ النافذةُ بهيجةً

أين نحن الآن من خيالِ اللاهوت؟

أيتها البحرُ المدلَّل

لنحظَ بلمحةٍ مرتجَلةٍ تمزّقُنا

وأقبيةِ العفّة،

اللعنةُ على الطهر!

اللعنةُ لنا إن نافقنا

أو أُصِبْنا بعَطَبِ القبيلة

هذا سفرٌ خالقٌ

وفي جوهرِ الحب، أنتِ

أنا قادمٌ من صحوِ شفتيكِ

لعينًا... ملعونًا... لاعنًا

ألملِمُ شظايا رائحتكِ الباقية

فوقَ الملاءة

*

كلّما أستشعرُ لذّةً فيكِ

أمُرُّ وجودًا في مخيالِ العدم

تصوّري عشوائيّةَ المعنى

إنّها قيامتُنا المؤجّلة

أنصتي لهمسِ الأبد

أحفرُ في الزمنِ دروبًا

تقودني إليكِ اعتباطًا، بعيدًا

شحيحةٌ هي الأزمنةُ حين تتعلّقُ

القصيدةُ بكِ

أشرقَ وجهُكِ، حبيبتي

حين سألتِني عن جدوى المقدّس؟

عاجلًا كالبحرِ أخبرتُكِ

أن الرحيلَ عاهرٌ

وكلَمعَةِ الحقيقةِ حين لا تَبين

خرجتْ من وجنتيكِ

حقولُ القمح

ورفرفَ الزمنُ بطيفِكِ

لشاعريَّ منّي

لماذا ينحني الرِّيحُ لوجهِ الغياب؟

حان الزمنُ الغائب، أليس كذلك؟

يقهرني جدًا أن أكون نبيذًا منسيًا

يؤلمني أن تكوني وحدكِ في ظلامِ الغرفة

مع رجلٍ أطلقتْ عليه القبيلةُ زوجَكِ

وحدي الآن أرتعدُ من العشق

أتجرّعُ شهدكِ، حالِمًا بكِ

عروسًا للعُمرِ الآتي

***

حسين محمد خاطر

كاتب روائي وشاعر من السودان

في هذا العالم الذي تقيّأَ رمادهُ على وجهِ الصباح، تتكسّرُ المدنُ كما تتكسّرُ الفصولُ في دفترِ طفلٍ نازح. الأنهارُ هجرتْ مجاريها، والموسيقى أصبحتْ شهقةً مكتومةً في حلقِ البيوتِ المحترقة. لم يعد للسلامِ وجهٌ نعرفه، فهو يتنكرُ بأقنعةِ القادةِ، يُصافحُ الضحايا بيدٍ ملوّثةٍ بالرماد. كم قصيدةٍ انتحرتْ على رصيفِ مدينةٍ تُقصفُ كلَّ مساء، وكم طفلاً حَلِمَ بلعبةٍ، فاستفاقَ على صاروخٍ يسألُ عن اسمه! العالمُ يتأرجحُ على حبلِ الكارثة، يتقيأُ بياناتٍ رسمية، ويرشّ عطرَ الصمتِ فوقَ مقابرَ بلا أسماء. قلوبٌ مُعلّبة، ضمائرُ محفوظةٌ في ثلاجاتِ الدبلوماسية، وخطاباتٌ مملّحةٌ بحبرٍ لا يموتُ لكنه لا يقول. العدالةُ تجلسُ على رصيفِ الحياد، تعدُّ القتلى وتنسى أن تبكي. أكتبُ، لا لأُنقذَ العالم، بل لأشهَدَ أنني كنتُ هنا حين أصبحَ الخرابُ وطنًا، والصمتُ جنسيةً مؤقتة.

***

بقلم: كريم عبد الله - بغداد - العراق

الحشيش ضرورة

محمد عبدالوهاب، ذلك الفتى الشامخ، الذي لم يترنح تحت ثقل ذلك العبء الباذخ، توفي والده، وترك له رسالة كافية، شافية، لم يكن هو يحتاج إلى سواها، يوصيها فيها بأمه، وشقيقاته، ومحمد المنتصب القامة،  القوي الساعدين، حوى وجهه بيان كل شيء، فقد كان بارز الجبين، واسع العينين، أزج الحاجبين، أقنى الأنف، أسيل الخدين، ضليع الفم، رقيق الشفتين، ورونق وجهه هذا، وقسامة تقاطيعه، جعلته قبلة للعواطف والأهواء، والميول، فلم يخرج جماله مطلقاً، حتى بعد أن أزف على الستين،  خارج دائرة الوجدان، والعاطفة، عند الفتيات،  فالبنات في منطقته، كان يجمعهما رابط واحد، وهو محبته، والتدله في عشقه، ومحمد الذي قد عرف كل شيء، وأحاط بكل شيء، لم يكن يعنيه هيام الفتيات به، وسعيهن الدائب، لايقاعه في شباكهن، فلم يرضخ لامتزاج متصل، واختلاط دائم، يجمعه بهن، كان هاجسه هو، أن يتصدى لتلك الأزمات، من جميع وجوهها، لأجل ذلك، طوى صفحة النساء عن حياته، وصمد أمام مغريات كثيرة، يحتاج سردها لاستشهاد طويل، ومكث على هذا الحال، حتى نهض بمهمته على أكمل وجه، و استقرت كل واحدة من شقيقاته الثلاث في بيتها، واستأثرت بقلب زوجها، بعدها رضخ محمد، لنصيحة صديقه" عصام سراج"، الماركسي المتعجرف، الذي ألحّ عليه في أمر الزواج، فتزوج محمد من "حد الزين" المرأة التي كان لا يخفي اعجابه بها، وإكباره لها، لقد كان زواج محمد من حد الزين، موضع نقاشات حامية من علماء النفس، وأهل الفضول، في تلك الناحية، فما أن انتشر الخبر، وتسامع به الناس، حتى انتشرت معه حدة التفاوت، بين وسامة الزوج، ودمامة الزوجة، وبقيت حد الزين القبيحة، المشوهة، التي تتناغم فلسفتها المادية الجامحة، التي تجحد أطر الدين، مع إلحاد زوجها، على العهد الذي قطعته لمحمد، فلم تسعى أن تستحوذ على عقل زوجها، وتسيطر عليه، وتركته يتعثر في دقائق" الحشيش" وتفاصيله، ومهما يكن من أمر هذا "البنقو" الذي تبغض رائحته، فهي تنتظر مساهماته في عتمة كل ليلة، لرفع معنوياتها، وذلك عندما يحتويها زوجها "المسطول" بين ذراعيه، ويهمس في أذنها، بأنها أحلى إمرأة في الوجود.

فاتورة العرقي

بعد مقدمه من الخرطوم، عقد العزم، بأن يمضي مع بن عمه" فيصل" ثلاثة أيام، حتى يغذي عقله بمؤثرات دائمة، ونقاشات لا تنقطع وتيرتها، علها تكفل له أن يقلع عن الخمر،  ويوصد بابها إلى الأبد، بعد أن تعقدت ألوان حياته وضروبها،  ففيصل الذي بات لا يطمح إلى شيء، ولا يطمع في شيء، غير أن يجد المال الكافي، الذي يضمن له شراء قارورة "العرقي"، قد تم فصله من إدارة الشئون الهندسية، التي كان يعتلي فيها مكانة عالية، ومنصب مرموق، وهجرته زوجته، وإزورّت عنه خاصته، وتحاماه الناس، وقد ينبغي أن نعرف قبل ذلك، أن نديم فيصل، وصديقه الحميم، "إبراهيم" صاحب الصوت النحيل الضئيل، هو الذي نمأ "الفرع المعرفي الجديد"، الذي أضافه فيصل مؤخراً، إلى نكبات حياته، ولعل الشيء الذي لا ريب فيه، أن "كبد" فيصل الضاوي، الهزيل، لن يستطيع أن يصمد طويلاً،  وسيده يغرقه في"  كوكتيلات" الفودكا نهاراً، وأقداح" العرقي البلدي" الحامي ليلاً، حضر بن عمه إلى منزله،  وفيصل الذي لم يكن يدري أن غيبة "قريبه" عنه، طويلة كانت أو قصيرة، أحسّ بأن" عباس" يسعى لخلق "عوالم غضة" معه، وأنه شرع في تنفيذ برنامجه الاحترافي الدعوي، الذي يقتضي الأحاديث الطويلة المرسلة، والتوسع في المناظرات، والزج بالتراكيب الدينية، الرامية لتمرير رسائل كامنة، تخلق الخوف، والفزع، في دواخل فيصل، ولكن فيصل الذي أضحى لا يدري من يكون، ولا من أين جاء، أوضح لابن عمه عباس، أن قضايا الجنة والنار، باتت مستعصيه على فهمه، وأنه قد اجترح الكثير جداً من المعاصي والذنوب، ولكنه يثق تماماً، بأن فاتورة "العرقي" وحدها، هي التي سوف تقرب الشقة، بينه وبين "أبو جهل"  فرعون هذه الأمة، في قاع جهنم، بعد هذه القناعة الراسخة، اضطر عباس إلى المغادرة، ولم يعد طامحاً أو حريصاً، على هداية صاحبها.

الندامى

جلس "مرتضى" يشاهد المباراة الختامية، في نهائي الدوري السوداني، بين الهلال والمريخ، ولكن تفاصيل المباراة، لم تكن تسترعى اهتمامه، بصورة كاملة، فقد أخذ  في البداية، يستمع بأذن واحدة، وهو سعيد مغتبط، لأحاديث" مجدي الأنوك"، و"برير" العجلاتي، تلك الأحاديث، التي استشف مرتضى من رصد خلجاتها، بأن" الصهباء" التي يحتسيانها في لذة ونهم، قد استشرت في عقليهما، فكلامهما الغير متزن، ساقه إلى الطريق المعوج، منحاه العقلي، المنحى العقلي الغائب، الذي أوشك، أن يبلغ حافة العي، عند مجدي الأنوك، الذي بدأ في سرد قصة خيانة زوجته الفاتنة له، وهروبها مع عشيقها، ومرتضى الحائر الذي لا يدري ما هي" الدوافع" التي جعلت مجدي الأنوك، "يبتدع" هذه التراجيدية الحزينة، التي صاغها في ألفاظ معبرة، وأساليب بديعة، مهدت السبيل لانخراط "برير" في بكاء حار، زاعماً أنه لم يبكي مثل هذا البكاء، في وفاة والدته "ست النفر"، مرتضى حقاً يريد أن يحيط بعوامل هذا "الاختلاق"، ويتوسع في نتائجه، فمجدي الأنوك، لم يتزوج مطلقاً، ولم يعرف العالم له حبيبة، كما أن والدة برير، الحاجة ست النفر، ما زالت على قيد الحياة.

الصول خاطر

ليس في وسعنا أن نعرف كل أسباب الوقائع، التي دفعت الصول" خاطر" للسرقة، في عهد صباه، ولكننا نستطيع أن نجزم، بأن اليوم  الذي شارك فيه، في تلك الحملة الواسعة، لمحاربة الظواهر السالبة في الأسواق العامة، مع لفيف من الأجهزة الموكل إليها حماية الأمن، والحفاظ على النظام العام، يعد من أتعس أيام حياته، ولعل عقولنا التي تكتسب نوعاً من التقدير، تجاه المؤثرات المجتمعية القديمة، تحتم علينا أن نتعاطف مع حضرة الصول خاطر، ونذهب إلى أن عصره، كان عصر انحطاط، فليس إذن من الاغراق، والغرابة، أن يسرق خاطر اليافع، الذي لم يناهز الحلم حينها، حزمة من الذرة الرفيعة، التي تحتوي سيقانها على نسبة عالية من السكر، عشية كل يوم، وأن يسدل الله على عبده" خاطر" ستره، فلما أراد الله سبحانه وتعالى، أن يهتك حجب ستره، على عبده خاطر، الذي أدمن سرقة حزم" العنكوليب" من السوق المركزي للفاكهة والخضار، أرسله إلى الجهة التي ينام فيها الغفير  "المرضي" وسط لفائف هذه الحزم، و"خاطر" الذي شعر لوهلة، أنه أضخم أهل الأرض ثراء، وأوسعهم غنى، تشبث بكلتا يديه بحزمة "العنكوليب" الغليظة، ولم يكن يعلم المسكين أنها "ساق" الحارس "المرضي"، الذي انهال عليه بضربة قوية من عصاه، تركت شرخاً غائراً في وجهه، لم تطمس معالمه، تعاقب السنين، هذه الندبة القديمة، كانت هي الأداة التي جعلت" المرضي" يتعرف على حضرة الصول خاطر، الذي يعبث بفاكهته، وخاطر الذي كان يجهل "المرضي" تمام الجهل، سعى أن يصادر عناقيد العنب، وسبائط الموز الطازجة، التي كان يبيعها" المرضي" في الطريق العام المؤدي إلى سوق المدينة الكبير، لقد استأنف المرضي مشاركته، بصوته الجهور، في امتاع النفوس، واغناء العقول، مجتراً تفاصيل قصته، مع حضرة الصول خاطر، صاحب الماضي المخضب بالدنايا، هذه الأسباب المتحدة، تفضي دائماً إلى نتائج واحدة، وهي أن قبيلة التجار، تشارك دائماً مشاركة أصيلة، في "قدح" الأجهزة التي تكافح الظواهر الهدامة، وتضيف إليها من عندها.

جريمة شرف

لم يكن جنون عفاف، وعجزها عن أن تدافع عن نفسها، كفيلاً بأن يحد من جموح "الطاهر"، الذي كان يسعى وراء غاية واحدة، لم يتكهن بمستقبلها، لقد وضع الطاهر الذي يعمل حمّالاَ في السوق، حائلاً بينه وبين دينه، الذي يصده عن ارتكاب مثل هذا الفعل المشين، وانساق وراء هذه الحرارة، التي يختلف حظها من الجنوح والاعتدال، وحينما حظي بأوفر قسط من النقد، على فعلته الشنعاء تلك، لم يكن يتوسع في تقديم الأعذار، والمبررات، على اغتصابه لإمرأة مجنونة، ضعضع الخبل قوة عقلها، وجردها من كل أهلية، كان فقط يبتسم في هدوء، ويقول في تهكم:" دلوني على صاحب نفس معصومة من الزلل، فاتخذه شيخاً وهادياً لي، وعفاف التي احتفظت بكامل قدرتها الخفية، على العناية بولدها" منصور"، كانت دائماً تبحث له عن المكان الملائم لحياته، فتارة تتواجد في الأدغال المتشابكة، حتى تبعد عنه القيظ والحر، في الصيف، وتارة أخرى، تلوذ بالأبنية الخراسانية، حتى تصونه في الشتاء، من البرد والزمهرير، ولما شبّ منصور، وبلغ مبالغ الرجال، أوعز إليه تجار السوق، الذين كانوا يعتنون به هو وأمه، أن يتحرر من قبضة الذل والصغار، وألا يتواني في تأدية هذا الواجب، ويضع حداً لخصومتهم المستمرة مع الطاهر البغيض.

لم يكن مقتل الطاهر يحتاج إلى تعاليل أخرى، فالجميع كانوا يعلمون بأن منصور الذي يحسن معاملة أمه، ويكرمها، ويصبر على عتهها، هو الذي غرس نصل خنجره الحاد، في صدر الطاهر، وسلبه روحه، والشرطة التي وجدت أن اخضاع منصور أمراً شاقاً، اكتفت بتقييد القضية ضد مجهول، بعد أن شهد نفر من الناس، بأن منصور كان بمعيتهم، وقت وقوع الحادث.

***

د. الطيب النقر

الأربعاء 16/7/2025

أسام، مهندس عراقي، نشأ في بيتٍ تتقاطر من جدرانه رائحة المعرفة وتنضح زواياه بحب الحياة. بيتٌ تملأه موسيقى الرحابنة، وتتعطر صباحاته برائحة القهوة التي كانت والدته تصنعها بحنو. في كنف والدين، لا يملكان سوى تعليم متوسط ولكنهما ربيا اولادهما على الانفتاح، متشربين معنى الحرية لا كترفٍ أناني، بل كمسؤولية تتطلب وعيًا ونضجًا وسموًّا عن الأهواء العابرة.

حين ضاق الوطن بأحلامه، حملها أسام الى المنفى. كانت أوروبا هي الأرض التي رماه القدر في حضنها، وتحديدًا مدينة رمادية المناخ، باردة العاطفة، تئن من وطأة الصمت. هناك، التقى بـ إليزا، مهندسة معمارية كأنها جاءت من كتب الحداثة، بعينين عسليتين كغابات الشمال، وابتسامة فيها من الجرأة ما يغري ومن الثبات ما يطمئن. كانت مثلَه مغتربة، لكن غربتها صقلتها، فبدت متجذّرة في عالم الدقة والنظام، تسير بخطى مدروسة لا تعرف العشوائية.

جمعت بينهما الهندسة أولاً، ثم الموسيقى، ثم ليالٍ من الحديث المتواصل عن الخرائط المعلقة في القلب: عن الوطن الذي خلّفاه، والغربة التي وجدا فيها ملاذًا وعبئًا معًا. لم يكن حبًّا عابرًا، بل اتحادًا حقيقيًّا بين روحين تتلمّسان معنى الأمان في بعضهما.

جاءت الطفلة الأولى، ليلي، فكانت إشراقًة جديدة في حياتهما. لم يلبث هذا النور أن تضاعف بولادة التوأمين، نوح وآدم. بدا كل شيء في بدايته كقصيدة حب تكتبها الحياة بمداد النعمة، لكن سرعان ما انقلبت المشاهد إلى مزيجٍ يوميّ من الصراخ، والفوضى، والتعب الممتد على مدار الساعة.

استحال المنزل إلى ورشة حياة لا تهدأ، يعمل فيها الأبوان بصمت وجَلَد وكان له منها النصيب الاكبر: إطعام، تبديل حفاضات، تهدئة نوبات البكاء، تنظيم نوم الأطفال، إعداد وجبات، تنظيف لا ينتهي... ثم دوام عمل لا يرحم أمام شاشات لا تطفأ. ومع كل ذلك، لم يكن أسام وحده في الميدان، لكن شيئًا غريبًا كان يتآكل روحه، شيئًا لا يُرى ولا يُقال، إنما يُحسّ كغصة في القلب.

لم يكن التعب من الشراكة، بل من تآكل الذات تحت وطأة الأدوار المتعددة. بات يشعر أن كيانه يُضغط بين جدرانٍ غير مرئية: جدران الروتين، والمسؤوليات المتزاحمة، وفقدان اللغة الام التي تعبّر عنه دون حاجة إلى ترجمة. كل شيء صار مختلطًا: النهار بالليل، الزوج بالحاضن، العاشق بالمُجهد. حتى صوته الداخلي لم يعد يُسمع وسط ضجيج الواجبات.

إليزا، التي أحب فيها قوتها ووضوحها، بدأت تبدو له أشبه بمديرة مشروع أسري، تدير اليوم برتابة، لكنها تفقد شيئًا من العذوبة التي ألفها فيها. أو لعلّ روحه هو من صارت متعطشةً لما هو أكثر من الرتابة؛ لصوتٍ يشبه نغم طفولته، لنظرة تُشعره أنه ما زال يستحق الحب دون جدول مهام.

كان الحنين ينقر على قلبه كالمطر على زجاج نافذة قديمة: اشتياقٌ لأمه، لندائها الناعم، لدفء البيت البغدادي، وللرجولة الشرقية التي كانت تُحاط بالتبجيل لا بالتكليف. اشتاق للغته، لألفاظ لا تُفسَّر، ولوجوهٍ تفهمه من نظرة لا من قاموس.

ولعلّ أكثر ما كان يؤلمه هو تغيّر العلاقة الحميمة بينه وبين إليزا. لم تعد تهمس، لم تعد تتوق، كما لم يعد هو يبادر. صار جسده آلة تؤدي دورها، لا وقت للشوق، لا مكان للرغبة.

وحين تسلل إلى نفسه سؤال موجع في عزّ الليل وهو يهدئ أحد التوأمين: هل هذه ضريبة الحب؟ أم أنه مجرد انسحاق تحت عجلة الحياة الحديثة؟

ورغم كل شيء، حين تجلس ليلي في حضنه، وتلف ذراعيها الصغيرتين حول رقبته، وتهمس ببراءة:"بابا..."، يشعر بأن هذا التعب، رغم قسوته، ليس هزيمة، بل شكلٌ جديد من أشكال الحبّ... حبٌّ يصنعه التعب، ويحرسه الصبر، ويبرّره وجود من يُشبهه في عينيه.

ظلّ أسام، رغم انغماسه في تفاصيل العائلة ومتاهات العمل، يبحث عن نسمة صداقة ينتشل بها نفسه من هذا الغرق الهادئ. طرق أبوابًا كثيرة، وجالس وجوهًا مختلفة، لكنّه لم يجد في تلك العلاقات ما يستحق الرهان. كانت النفوس من حوله شاحبة، مترددة، أو عابرة كأرصفة لا تحفظ المارّين.

وكان له صديقٌ قديم، رافقه في محطات غريبة من العمر، تعرف إليه في اليمن قبل سنواتٍ طويلة، يوم كان الزمن أقل وطأة، وكان الحنين أخف وقعًا. كان يناديه مازحًا بـ"الأب الروحي"، لكنه في قرارة نفسه كان يرى فيه أكثر من ذلك: صوته البعيد الذي يهدأ إليه قلبه، ومرآته التي لا تجامله. كان حين يثقل صدره بالضيق، يرفع الهاتف ويجري ذلك الاتصال المنتظر، كمن يبحث عن ملاذ، أو لحظة دفء تُرمم تصدعات روحه. وكان ذاك الصديق يُنصت بصبر، يمتص الألم كإسفنجة حانية، ثم يحاول أن يسحب أسام برفق نحو الضوء، نحو ما هو أصلح له ولمن يحبهم.

ومع تعاقب السنوات، لم تتوقف دوّامة التحديات، بل تغيّر شكلها. كبر الأولاد، ولم تعد مشاكلهم تُحل بحفاضة نظيفة أو قصة قبل النوم. صارت الهواجس أوسع، والمخاوف أعمق، وحالة الطوارئ العاطفية في بيته لا تنتهي. دخلت ليلي سن المراهقة، وتحوّلت من تلك الطفلة الراقصة على الجليد إلى شابة تبحث عن ذاتها وسط صخب المشاعر واكتشاف العالم. أما نوح وآدم، فانشغلا بكرة القدم، وسعى أسام جاهدًا لتأمين الطريق أمامهم ليصنعوا لأنفسهم مستقبلًا مختلفًا.

كان قلبه ممتلئًا بالحب، لكن خوفه الشرقي، حذره الفطري، غيرته الصامتة، جعلته أكثر صرامة مع ابنته. كان يراها تتزين، تتألق، تخرج مع صديقاتها وتغيب عن عينه، فيتملّكه قلقٌ يتجاوز المنطق. يبدأ بنصيحة، ثم يتحول الكلام إلى ملاحظة، والملاحظة إلى توتر، حتى أصبح بينه وبينها جدار من النفور الصامت. هي لم تعد تطيق ملاحظاته، وهو لا يحتمل عنادها.

كان يشعر بذلك الصدع يتسع، لا بينها وبينه فقط، بل بينه وبين إليزا كذلك. رأى في عيني زوجته نظرة استفهام، وربما لومًا مكتومًا. لكنها، كعادتها، آثرت ألا تُضيف وقودًا على النار.

وفي إحدى مكالماته المعتادة مع صديقه، قال له بأسى:

– أنا لا أريد أن أخسر عائلتي.

جاءه الردّ هادئًا، حاسمًا:

– طبعًا لا تريد. لكن هل نسيت ما حدث قبل ثلاث سنوات؟ حين أبلغت إدارة المدرسة الشرطة ببلاغ عن احتمال تعنيف، فقط لأن أحد أبنائك عبّر عن خوفه منك بطريقة عفوية؟

– نعم، أتذكّر تمامًا.

– ولولا شهادة أولادك بأنك أب محبّ، لكنت خسرتهم جميعًا... إذن، أرجوك، حاول أن تضبط انفعالك. أحبهم واحترمهم. لا تجعل حبك يتحول إلى عبء، ولا حرصك إلى قيد.

– أنا لا أضيق بشقاوة الأولاد، بل أفرح بهم، وأضحك معهم، لكن... ليلي، عنيدة جدا. تريد كل شيء بطريقتها. تدفعني إلى الغضب دون أن تدري.

صمت الصديق لحظة، ثم قال بصوتٍ يملؤه الحنان:

– لا تنسَ أنها كانت مدللتك الأولى، ثم انشغلت بالتوأم عنها. قد تشعر بأنك تُفضل إخوتها عليها. وربما ترى أنك تتعامل معهم كرجال، وهي لا تزال تحت نظرتك، طفلة أنثى يجب أن تُضبط.

– لكن والدتها قريبة منها، صديقتها وأمانها.

– وأنت أيضًا، يجب أن تكون لها سندًا لا رقيبًا. لا تجعلها تخشى حضورك. يا أسام... انتبه قبل أن يأتي اليوم الذي تشتاق فيه إلى حضن ابنتك فلا تجد إلا ظهرًا مُعرضًا.

أغلق أسام الهاتف تلك الليلة، وقلبه يئنّ. لم يكن يحتاج إلى من يعنّفه، بل إلى من يذكّره بحقائق القلب. كان يعرف في قرارة نفسه أنه لا يُسيء، لكنه أدرك أن الحب، حين لا يُصاغ بلغة أبنائه، يُصبح وجعًا يُفسَّر ضدّ صاحبه.

ثم جاء ذلك الصباح... الصباح الذي ظلَّ أسام طويلاً يحاول الفرار من مجرد تخيله، كأن قلبه كان يعرف أن الألم لا يطرق الأبواب بلا موعد، بل يتسلل حين تظن أن كل شيء تحت السيطرة.

كان الفجر رماديًا، السماء مُلبدة بغيم ثقيل يشبه مزاجه في الأيام الأخيرة. استيقظ على صوت زوجته، مرتعشًا ومضطربًا، تناديه بقلق مكتوم: "أسام، ليلي في الحمّام... لا تردّ عليّ، والباب مغلق من الداخل!"

قفز كمن خرج لتوه من كابوس، تهاوى نحو الباب الصامت، طرقه بقوة، ناداها، توسّل، لكن لا جواب. لم ينتظر أكثر. بكفٍ مرتجفة وقلبٍ يشتعل، اقتلع الباب من مفصلاته كما تُقتلع الحقيقة من الإنكار. وهناك... على بلاط الحمّام البارد، كانت ليلي، طفلته التي كانت ترقص يومًا على الجليد، ممددة كغيمة منكفئة، ساكنة، ساكنة جدًا... والدم ينزف من معصمها النحيل كقصيدة نزفت معناها.

صرخ الأولاد، شهق الهواء، تجمّدت اللحظة في ذاكرته كصورة لن تغيب. ربطت إليزا معصمها بما وقعت عليه يدها، وحملها أسام بذراعين كادتا تنهاران من ثقل الذنب لا من ثقل الجسد. ركض بها إلى المستشفى كمن يركض لإنقاذ روحه، لا ابنته. بقيت ليلي في المستشفى أيامًا، بين فحوصات دقيقة ورقابة صارمة، وبين والدين مشوشين تتناوشهما الأسئلة والتأنيب والخوف.

ثم جاء التحقيق... تحقيق لا يرحم، أسئلة الشرطة كانت كأنها تقلب مواجع البيت علنًا، تسأل الأب عن قسوته، عن صراخه، عن ضغوطه، تسأل الأم عن غياب الحوار، وعن إشارات لم تُفهم، وصمتٍ كان يجب أن يُقرأ.

بكى أسام... بكى كما لم يفعل من قبل. بكى في أروقة المستشفى، في السيارة، في الحمام، أمام صديقه على الهاتف، وأمام نفسه في الليل. لم تكن دموعه مجرد ندم، بل كانت كأنها تطفئ حريقًا في داخله ظلّ مشتعلاً بصمت.

جلس ذات ليلة بجانب سريرها، بعد أن استعادت وعيها، لم يجرؤ على سؤالها: لماذا؟ لأنه كان يعرف الجواب، يعرفه منذ سنوات، لكنه تجاهله، أغرقه بالصراخ والنُصح والمواعظ، وغطّاه بخوفه من فقدها حتى كاد أن يفقدها فعلاً.

كان يدرك الآن، بعد أن اقترب من حافة المأساة، أن الحب لا يُقاس بكمّ ما نمنعه عن أبنائنا، بل بكمّ ما نمنحهم من مساحة ليروا أنفسهم من خلاله. أدرك أن اللغة التي تحدّث بها مع ليلي، وإن كانت بدافع الحب، لم تكن لغتها. كانت تراه سجّانًا يُلبسها قميص الغيرة باسم الحنان، وحارسًا يقيّدها باسم الحماية.

في تلك الليلة، كتب في دفتره:

"لم أكن أريد أن أخسر عائلتي، فكدت أن أخسرها فعلاً. بين ثقافتي الأم التي تعلّمت فيها أن الأب سلطان لا يُناقش، وثقافة هذا العالم الجديد الذي يعلّم أبناءنا أن الحب لا يُفرض.. ضعتُ... ضاعت لغتي، وضاع صوتي، وكنت على وشك أن أفقد كل شيء."

ثم كتب:

"لكنني الآن، سأبدأ من جديد. ليس من الماضي، بل من هنا... من يدٍ صغيرة ستتعافى، ومن قلبٍ سيغفر، ومن درسٍ لن أنساه ما حييت: أن تكون أبًا لا يعني أن تُحكم السيطرة، بل أن تمنح الأمان. أن تكون رجل العائلة لا يعني أن تُطاع، بل أن تُفهم، وأن تَفهم."

وها هو الآن، بعد أن رأى الموت يمر بقربه على هيئة دم يسيل من معصم ابنته، عاد إلى الحياة بشيءٍ من الحكمة... عاد إلى نفسه، لا كـ "أسام" المهندس فقط، بل كأبٍ يُجيد أخيرًا أن يصغي، لا ليُصحّح، بل ليحب.

***

سعاد الراعي

2025.07.16

(قصيدة لعراة العالم)

وها هي القمصان تترجّلُ من عرشِ الدولاب،

تفوحُ منها رائحةُ الوقتِ المُترَف،

والتأنّقِ البورجوازي،

وشيء من الغطرسةِ الفجة .

*

تُلقى كأنها طُعوم لاصطيادِ الزهو،

كأنّ الكفنَ حين يُهدى

يمنحُ حياة جديدة ،

مع انه لا يفعل.

*

روبا فيكيا...

أغنيةٌ مقلوبة،

حيثُ يُعاد تدويرُ الخطيئة،

لإلباسها لونًا قابلاً للغفرانِ ....

*

طفلَ الريح، يرفض إرتداء قميصًا قُدّ من استعلاء،

ولا يريد شكر أحد ،

لان الشكرُ للسجان يُطيلُ عمرَ القيد.

*

علم ، انه ،

ليس شماعةً لندمهم،

ولا واجهةَ عرضٍ لكرمهم المتصنع ،

فهو جسد يليقُ به الضوء،

لا ظلّ رداءٍ خلعوه على عجل،

كي لا يروا أنفسهم عراةً من الرحمة.

*

اللوحة للفنان العالمي فان خوخ

"قوة الهشاشة "

***

| مجيدة محمدي

إذا ما جاءَ شيطانُ القوافي

لكيْ يهديْكَ قافيةً ووزْنا

*

وأنهارًا من الدّمعِ وذكرىْ

ورتلًا من قواميسٍ ومعْنى

*

وصرْحًا من قواريرٍ ولجّا

وليلًا من أهازيجٍ ومغْنى

*

وأكوانًا من الوهمِ ومُلْكا

وأمتعةً وأشْرعةً وسُفْنا

*

وأقداحًا من النّورِ وثغْرا

وأطباقًا من السّحرِ وعيْنا

*

على وجهٍ سماويٍّ لأُنثى

ترىْ في عينِها يُمناكَ يُمنى

*

بجفنٍ يرسلُ الألوانَ شتّى

سبقْتَ الجنَّ لو ميَّزت لوْنا

*

عدا لونِ هوىً يستلُّ سهْما

من الرّمشِ لقوسٍ فاق جفْنا

*

عسى ألّا تغالبَهُ وإلّا

فإنّك بالهزيمةِ سوف تُمْنى

*

تصيبُ سهامُهُ الرّوحَ فتعرىْ

منَ الثّوبِ الّذي أعياك سَجْنا

*

يمُدُّ إليكَ قوسًا ثمّ نبْلا

لتصطادَ أتمّ القولِ حُسْنا

*

ليشربَ من معانيكَ ويغْشى

إذا أطلقتَهُ قلبًا وأُذْنا

*

وجُمهورًا من الأنْجامِ منْ عرْ

شِكَ المسْكوبِ من نورٍ تدَنَّى

*

لكيْ يُنسيكَ بالتهْليلِ دُنيا

إذا أسْمعتَهُ ممّا تسنَّى

*

وكم ليلاءَ فيها النّجمُ أغنَى

عن الإنسانِ أو منْ كانَ جِنَّا

*

عدا من كانَ منّا إذ تأسَّى

بمن بأبي فراتٍ قد تكنَّى

*

وقالَ اتْلُ عليهِمْ من قريضٍ

بهِ الحلْمُ من الأنفاسِ أدْنى

*

به الشّركُ أقلُّ الراي حشْدا

ودينُ اللهِ أعلَى الدّينِ شأْنا

*

وأرضُ العُربِ -خيرُ الأرضِ-أحنى

غدا الذئبُ بها للشّاةِ إبْنا

*

وذو علمٍ أتمُّ النّاسِ حظًّا

من الدُّنيا بهِ الأوطانُ تُبْنى

*

به لمّا يزلْ قيسُ يُغنِّي

على أبوابِ ليْلى كيْ تمُنّا

*

وهل للعشقِ في دُنياكَ معْنى

إذا قيسٌ بليلىْ ما تغنَّى؟

*

وأنذِرْ كافرًا بالشّعرِ فنّا

وبشِّرْ مُؤمنًا بالشّعرِ خِدْنا

*

وقلْ لهُما بأنّ البيتَ أبْقى

من الدّنيا الّتي حتمًا ستفْنى

*

فمنْ لانَ لنا قلبًا وغنّى

جعلنا صدرهُ للشّعر كِنّا

*

إذا ما قالَ بيتا نيلَ خُلْدا

فكانَ لهُ من النّسيانِ حِصْنا

*

ومن لمْ يستجِبْ وازدادَ عِنْدا

كفاهُ أنّهُ المطْرودُ مِنّا

*

وسلْ نجمًا حبيبًا ناءَ فجْرا

عن النّوءِ وما ألهاهُ عنّا

*

وسلْ نجمًا عن الجمعِ توانَى

عن الشرقِ لمَ الشّرقُ تأنَّى

*

ولُمْ فجرًا أمِلْنا أن يحنّا

فكان الليلُ إذْ طالَ أحنّا

*

فمنهُ لا تعُذْ باللهِ ظنّا

بأنّكَ تطردُ الملْعونَ لَعْنا

*

فيرحلُ عنكَ مُحتجًّا بأنّ

عليْها من يرى الإحسانَ دَيْنا

*

وتبكِيْ بعدَها وتئنُّ أنّا

لفقدِكَ صاحبًا عِشتَ تمنَّى

*

ومن بالوعدِ أوفىْ ما أخلّا

وأعطىْ يومَ ضنَّ الغيرُ ضنَّا

*

فلا مخلوقَ أوفىْ منهُ خلّا

ولا خلّاقَ أكثرَ منه عوْنا

*

ملاكٌ هُوْ، بأجنحةٍ وربِّي

فيا تعسَ الّذي سمّاهُ جِنَّا

***

أسامة محمد صالح زامل

في عَتَمةِ الدَّهرِ، حينَ الأرضُ شاخَتْ،

وحينَ الجُرحُ يُسقى بالمَلامِ،

خرجوا مِن بطنِ عَتمَتِهم،

كأفاعٍ سودِهِم حُكمُ الظلامِ.

يَرتَقونَ العَرشَ بالنابِ،

ويَسرقونَ العِزَّ من وَجهِ السُّهادِ،

ثَوبُهُم من وَحلِ كِسرى،

والمَناصِبُ فَوقَ أكتافِ العِبادِ

*

كذِبوا

حينَ قالوا: الأرضُ سَرخَتْ بالرُّعودِ،

والحَقلُ مِن غَيثٍ يُنادي،

والنخلُ ما زالَت جِباهُهُ سامِقاتٍ

في سِفوحِ الشمسِ والعِزِّ المُبيدِ

*

كذِبوا

حينَ غنَّوا في المآذِنِ،

حينَ صَاحُوا في الجِراحِ المُستَباحَةْ،

حينَ قالوا: نحنُ جُندُ طاهرون،

ونحنُ العادِلونَ،

ونحنُ كَفُّ المُخلِصِينَ،

ونحنُ للعَدلِ المُقَامِ

*

أينَ كنتم؟

حينَ شَاخَت أضلُعُ النهرِ اليتيم؟

حينَ جاعَ الطِفلُ،

,وأُغلق الفمُ  فِي المَساءِ المُغتَصَبْ؟

حينَ باعوا الأرضَ حَفنةَ مَعدِنٍ،

وحَفَروا صَدورَ الناسِ

بالنارِ الجَسُورِ،

وبِالكَلامِ المُلتَهِبْ؟

*

يا كِلابَ المترفين، يا جُندَ الرِّياحِ!

هَل سمِعتُم

كيفَ جَفَّ التِّبرُ في كَفِّ الحَصادِ؟

كيفَ ضَاعَ الصوتُ في صَمتِ العِبَادِ؟

كيفَ سَالت من شفاهِ القَهرِ،

آياتُ الفَنَاءِ المُستَبِدِّ؟

*

أينَ خَيلُ الفاتِحينَ؟

أينَ سَيفُ اللهِ؟ أينَ العادِلُونَ؟

كيفَ ضَاعَ النُّورُ في وجْهِ العُيُونِ؟

كيفَ ماتَ الحَقُّ،

وارتَفَعَ الدَّخَانُ إِلَى السَّماءِ

بِاسْمِ دِينِ العَارِ،

والمَجدِ العَتِيقِ المُنكَسِرْ؟

*

لَكِنَّهُم سيرحلُونَ…

كمَ يسقُطُ الوَهمُ إِذَا ضَجَّتْ شِفَاهُ الحَقِّ

فِي وَجهِ التُّرَابِ المُنْدَحِرْ

*

سيسقطونَ…

حينَ تَنهَضُ مِن رمادِ الذُّلِّ

أصواتُ الجياعِ،

وحينَ ينفَجِرُ النَّهارُ

بِسَيفِ فَجرٍ مُنتَظَرْ،

وحينَ يَرتَجفُ الطَّغاةُ

كَمَا تَرتَجِفُ العِصِيُّ

بِوَجهِ عاصِفَةِ المَدَرْ.

*

يا وَجهَ الظُّلْمِ المُقَنَّعِ بالنُّبوءَةِ،

يا رايةً بيضاءَ فوقَ سُيوفِ قَتلى،

يا تَمرَةً علقَى تُساقُ

إلى موائدِ العابِثينَ،

أينَ الأمانةُ في يَديكَ؟

أينَ المِسكُ، أينَ اللُّبَّ،

أينَ رَفِيفُ أجنِحَةِ العَدلِ العَتيقِ؟ أنتمُ اللَّيلُ، ونحنُ الصُّبحُ إنْ هبَّ الرَّبيعُ!

أنتمُ القَيدُ، ونحنُ النَّارُ

إنْ ضَجَّ الحَدِيدُ.

كُنتُمُ العَارَ الذي سَارَ، ومَشتّ

فَوقَ عِظامِ الأرضِ

*

أقدَامُ العبيد

كيفَ اشتَرى الطاووسُ عَرشًا مِن دماءِ الأبرياءِ؟

كيفَ صارَ اللُّصُّ وَلِيَّ الأمرِ

في أرضِ السُّيُوفِ المُنذَرينَ

إلى المَنايا كَالضِّياءِ؟

كيفَ تَركَضُ خَيلُهُم

فَوقَ العُروقِ المُنهَكَةْ؟

كيفَ جَفَّت في العيونِ

سُحُبُ الكَرامَةِ والتُّقَى؟

كيفَ ضَاعَت في المَدائِنِ

كُلُّ أجنِحَةِ الغُيُومِ الصامتة؟

*

أيُّها المَاضُونَ فَوقَ الجُثَّةِ المُنهَارَةِ

هَل تَظُنُّونَ النَّهَارَ

سَيَحني هامَهُ للظَّالِمِينَ؟

هَل تَظُنُّونَ الحَقيقةَ

سَوفَ تَغفُو في عُيونِ الغافِلِين؟

*

كَلَّا!

فالزَّمانُ لَهُ يَدانِ مِن جَحِيمٍ،

والتَّأرِيخُ سَيفٌ،

لا يُطِيقُ ظُلُومَةَ المُتَجَبِّرِينَ.

*

سَيَسقُطُونَ…

وَسَيَشتَعِلُ الفَجْرُ الذِي نامَت عَلَيهِ

بِأذرُعِ الجَمرِ الطَّوائِفُ،

سَيَسقُطُونَ

كَما يَسقُطُ من وجهِ الخَريفُ

فَوقَ غُصنٍ وَاهِنٍ،

وَتَرتَفِعُ الجِراحُ

إلى السَّماءِ المُتعَبَةْ.

*

يا أيُّها الوَطَنُ المُضَاعُ،

هَل سَتُشرِقُ؟

أَمْ تُبَاعُ مَرَّةً أُخرَى

إلى الجَيشِ المُقَنَّعِ؟

هَل سَتَرفَعُ وَجهَكَ الغَضَّ المُعَذَّبَ

نَحوَ رُوحِ العادِلِينَ؟

أَمْ تَظَلُّ بِلا دَمٍ

تَحفِي بِحَقدِ السَّارِقِينَ؟

كَلَّا! فَالأَرْضُ تَصْرُخُ… وَالحَقُّ يَزْحَفُ… وَالنُّورُ يَأتي مِن جَحِيمِ المُنتَظَرْ!

*

سَيَسقُطُونَ…

كما يَسقُطُ اللَّيلُ فِي حِجرِ الصَّباحِ،

كما يَنفَضُ الغَيمُ رَمَادَ العَاصِفَةِ،

كما يَنحَسِرُ المَدُّ عَن شَطآنِ الجِياعِ

ويَنكَسِرُ المَوجُ بِالكَفِّ العَارِيَةِ.

*

يا أيُّها الطُّغاةُ، يا أيُّهَا الأوجهُ البَاهِتَةُ،

يا رَاهِني النُّورِ بِدَينَارِ الظَّلامِ،

يا سارِقي سُفُنَ العَاصِفَةِ،

يا مَن بَاعُوا الدِّمَاءَ

لِتَشتَرُوا أوهَامَ العَرُوشِ المُرَصَّعَةِ

بِأَسنَانِ المَساكِينِ،

يا سَادَةَ الجُبنِ المُسَطَّحِ

فَوقَ صُدُورِ المَقَابِرِ.

*

مَاذَا أَورَثَكُمُ الذَّهبُ؟

مَاذَا أَغدَقَتْ سُرادِقُ المُلْكِ عَلَيكُمْ؟

سِوَى جِيفَةٍ يَنهَشُهَا اللَّيلُ،

وسَيفٍ كُسِرَ عَلَى صَخرَةِ الجَوعِ،

وكَأسٍ مَملُوءةٍ بِالزَّيفِ،

تُهرَاقُ فِي مَأدُبَةِ الدُّجَى.

*

يا سُوقَ النِّخَاسَةِ، يا أَصَابِعَ المَوتِ،

هَل رَأَيتُم كَيفَ يَشتَعِلُ الجَسدُ

فِي أَحشَاءِ الأَرَضِينَ؟

هَل شَمَمتُم رَائِحَةَ الرُّوحِ

وَهِيَ تُذْبَحُ عَلى مَذابِحِ المَعَابِدِ الكَاذِبَةِ؟

هَل أَدرَكتُم أَنَّ الكُرُوشَ

إِذَا غَرَسَت فِي جَوفِهَا الشَّوكَ،

تُصبِحُ مِقبَرَةً لِلظُّلْمِ

يَنبُتُ فَوقَهَا الغُصْنُ المُقدَّسُ؟

*

سَيَسقُطُونَ…

وَتَنبُتُ مِن نَصلِ الأَحزَانِ

أَجنِحَةٌ خَضرَاءُ،

وَيَشتَعِلُ الصَّخرُ نَشيدًا،

وَتُغسَلُ الجِدرَانُ مِن وَحْلِ العُبُودِيَّةِ،

وَتُشرِقُ فِي المَنازِلِ

أَعيُنُ الطِّفلِ المُنتَظِرْ.

*

هَل سَألتُم، أَيُّهَا المُتَوَّجُونَ بِأَوهَامِكُم،

لِمَاذَا تَتَشَقَّقُ الأَرضُ

حِينَ تُزْرَعُ فِيهَا خُطَاكُم؟

لِمَاذَا تَتَحَجَّرُ الأَعيُنُ

كُلَّمَا حَلَفْتُم بِالعَدْلِ؟

لِمَاذَا تَخرُسُ المَنَابِرُ

وَالرِّيحُ تَئِنُّ فِي أَرُوقَةِ القُصُورِ؟

*

كَلَّا!

إِنَّ الأَرْضَ لا تَنسَى دَمَ المَسلُوبِينَ،

وَإِنَّ الجُدرَانَ تُنبِتُ الآذَانَ،

وَإِنَّ النُّورَ يَشُقُّ

بُطُونَ الدَّجَلِ المُبَلَّلِ بِالرِّيَاءِ.

*

سَيَسقُطُونَ…

كَمَا يَسقُطُ الجَرحُ مِن سِيفِ القِصَاصِ،

كَمَا يَنشَقُّ السَّرَابُ عَن أَوجُهِ المَوتَى،

كَمَا تَخرُجُ العَاصِفَةُ

مِن أَنفَاسِ القَهْرِ وَالحَنِينِ.

*

فَمُدُّوا أَيدِيكُم إِلَى الشَّمسِ،

وَاغرِسُوا بِيَادِرَ القَمحِ فِي وَجهِ الرِّيحِ،

فَإِنَّ الغَدَ لَا يَنتَظِرُ

بَقَايَا أَوهَامِ اللُّصُوصِ،

وَإِنَّ المَدِينَةَ الَّتِي يَحلُمُ فِيهَا النَّاسُ

سَتُشرِقُ…

وَلَو مِن دَمَانَا!

*

سيسقطونَ…

كما يَسقُطُ الغَيمُ عن كَتفِ الغَابةِ المُجدِبَةْ،

كما يَنحَني الزَهرُ إذْ يَعبُرُ المَوتُ

فَوقَ الرُّبَى المُظلِمَةْ،

كما يَتَهاوَى السَّفينُ المُثَقَّبُ

فِي لُجَّةٍ مُظلِمَةْ!

*

سيسقطونَ…

ولو عَبَّدُوا الطُّرُقَ العَوجَ،

لو دَثَّرُوا حَزنَنَا بالكَلامِ،

ولو نَثَرُوا مِن دِمَانَا

رُخامَ القُصُورِ العَتِيقَةِ،

لو عَرشُوا سُطُوحَ الجَبَابِرِ

بِالذَّهَبِ المُنبَثِقْ!

*

يا خُيُولَ الهَوَانِ،

أما تَسمَعُونَ؟

أما تَسمَعُونَ؟

هَذِهِ الأرضُ تَشتَعِلُ الآنَ،

تَنطِقُ في جَوفِها نَارُ مَوتِ الجُدودِ،

وهَذِهِ السَّاحةُ الغَاضِبَةْ،

مِن كُحُولِ المَآذِنِ الزَّائِفَةْ،

مِن قُصُورِ المُلُوكِ العُراةِ،

مِن وُجُوهِ السِّفَاحِينَ،

مِن وَجْهِ هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي يَحتَسِي العَارَ

مِن كَأسِهِ المُظلِمَةْ!

*

هَذَا الرَّصِيفُ،

كَسِيرٌ كَأنَّهُ ظَهرُ جَوعَى،

يَنشُجُ فِي قَلبِهِ أَوجَاعَ أَمسِهِ،

وَهَذَا الدَّمُ النَّازِفُ الآنَ

فِي طُرُقَاتِ المَدِينَةِ

هُوَ الوَطَنُ المُستَبِيقْ!

*

أَيُّهَا النَّائمُونَ عَلَى حَافَّةِ الحُلُمِ المُنهَكِ،

أَيقِظُوا نَارَكُم،

أَيقِظُوا شَرَرَ الكَونِ،

لا تَرفَعُوا كَفَّكُم لِلسَّماءِ،

فَمَا بَاتَ يَسمَعُكُم غَيمُهَا،

بَل اضْرِبُوا الأرضَ

حَتَّى تَصِيحَ الكُرُومُ،

ويُورِقَ فِي جَذعِهَا الأَمَلُ المُنتَظَرْ.

*

هُمْ لِسَانُ الكَذِبْ،

وَنَحنُ الصَّدَى المُتَوَقِّدُ

فِي صَدرِ هَذَا المَدَى.

هُمْ بَنُو السُّرْقَةِ،

وَنَحنُ اللَّيَالِي التِي سَوفَ تُطلِقُ

مِن كَفِّهَا فَجرَها،

وتُصبِحُ شَمسًا

لِمُدنٍ ذَاتِ يَومٍ

سَتَنفَضُ عَن نَفسِهَا كُلَّ قَيدٍ،

وَتَحكِي الحَقِيقَةَ

بِالسَّيفِ،

لا بالكَلِمْ!

***

د. عصام البرام

 

هذا الغبار قادمٌ لا ريب فيه

تنقلنا الرياح في دروبه

كأننا الاغصان في عز الخريف

كأننا نشيخ من سبات

تلهو بنا العواصف التراب

تطل فينا كالعناقيد الغضب

هواجسٌ تَفيقُ سراً في سكون

بدون اذنٍ أو قناعة نستجيب

نحاول القيام من فقاعة

لأنها تنتظر الخروجْ

من قمقم الوداعة

لآننا في غرفة الرتابة

معلقين في الهواء

فيدلف السؤال من علياء

ومن بنودهِ بداية العقاب..

ننوح من زخم الوصايا

وتظهر الرسائل العسيرة من خباء

ومن ثنايا قهرنا

يجلس في الشقاء من سهاد

يقول ان الحزن فراشات الحقول

ينمو كما تنمو اليراعة

الحزنُ شفافٌ كأجنحة العصافير الفتية

يطير مقياساَ بلا مراقب أو حساب

يغفو على لحنٍ من الاشجار

أغصانها الصفصاف في الوداعة

تلاعب الريح ومن كل الجهات

لها ظلالٌ من شموس غائبة

تغسلها أمطار آذار الربيعية

وبالأغاني السرمدية

تغوص في الأعماق تزحف في الصوامع

والمشاعر والظنون

**

ها انها تصطف في قرار

وفي رواق القادمين

تطالب الخروج التام والأكيد

من قسوة العزلة والغياب

تخاطب الغريب في النهوض

داراً وداراً جاء في برد الشتاء

يدعو السكوت تيمماً

ويستجيب صاغراً في رجفة السكون

أواه يا أواه ينسج في الجنون

ليس لهُ خلاف من قديم

ودهشة الود النديم صارتْ براقعاً من الجحيم

يقول سراً لن يخاف

ويعلنُ المعنى من القول القطاف

"عندي من الصبر زحاف

طلبتُ مني ان أكون قاهراً

شخصت وقتاً حاسماً في لغة النهوض

فتحت باباً للصراصر والعناكب الصفراء

وقلت لي هذا هو السر السراب"

لكنني متقلب المجيء وفي الرواح

أكون وداً من خداع

سم مع العسل المضاف.

**

ماذا تريد من المنايا؟

هي النتائج من دماءٍ والضحايا

"والى الحساب من التراب الى يوم الحساب!!"

أتعاتب القهر استجابة من رضوخ

وتستفيق على صوت الضحايا

ماذا تريد من هذا البلاء؟

وما تريد من العباد؟

متاهة استجابة في الضياع

سوى التزحزح من رقود الخائبين

فأحذر سؤالاً من سؤال من ضباع

فهو المساعي والعقوق المستديم

والمكر في خلطٍ رفيع

أواه يا أواه يا فن الخداع

واحذر جواباً من جواب الانتفاع

واحذر من الاقناع في الغباء

فهو السقوط بلا ارتفاع

***

مصطفى محمد غريب

24 / 6 / 2025

 

لم آتِ مع الجيوش التي جثمت على الأرض؛ لم آتِ لأسرقها أو أقتل أهلها، لم آتِ لأغزوها بالخراب، بل جئت من أجلها، من أجلها وحدها. من أجل تلك العينين اللتين كانتا يومًا أرضًا لم أستطع العيش دونها. من أجل تلك اليدين اللتين كنت أمسكهما في الليل كأنهما زهور قُطفَت من حديقة حلمي. في الحروب لا أبحث عن النصر بل عن نبضات قلبي الضائع، عن تلك الحبيبة التي كانت، ثم اختفت كما تختفي الغيوم في السماء. لم آتِ لأسرق الأرض أو أُطيح بالملوك، بل جئت من أجل كلمة واحدة، من أجل صدى تلك الكلمة التي كانت ترفرف بين شفتيها، كالعصفور الهارب من الأسر:

"أنت".

أتعلمون ماذا يعني الحب بالنسبة لي؟ هو ألا أجد نفسي في قلب هذا الكون إلا عندها، فقط عندها. أن أضيع في كلماتها كما يضيع الموج في البحر أو كما يضيع الليل في ضوء النهار. أنا لم آتِ لأفتح خزائن الأرض، لم آتِ لأبني إمبراطورية من رمال الجشع، بل جئت لأبحث عن صوت قلبها الذي ضاع بين الحروب والدماء، بين الجراح التي لا تلتئم إلا بحضورها. لقد خُنتُ في أرضي، ولكن لم أخن حبي. لقد تركتُ الوطن خلفي، ولكنها كانت وطني. وها أنا ذا، أسير في طرقات مدنٍ لا تملك الأسماء، أبحث عنها، عن تلك التي أنارت حياتي وأطفأت جميع الحروب التي خاضتها الأرض. لقد جئتُ من أجلها، لأعيد قلبها إليّ، وأضمها في قلبي كما يضم الشاعر كلماته في قصيدته الأخيرة.

***

بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

 

في نصوص اليوم