نصوص أدبية

نصوص أدبية

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا

فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)

***

ما لهذي الذّنوبِ يا نفسُ قد سُدَّ

بها مِنكِ أبهرٌ ووريدُ

*

شَغَلَتْ منكِ كلَّ فعلٍ وقولٍ

فاشْتكاها قبلَ القريبِ البعيدُ

*

واشْتكاها لِمَنْ قرا بعدَ شكواكِ

لهُ منها والبكاءِ القصيدُ

*

واشْتكى مِنها من قرا وبكى حيْنَ

رأىْ ما يشيبُ منهُ الوليدُ

*

ما كفاكِ ما شابَ منها فأمسيْتِ

يُرى منكِ كلَّ يومٍ جديدُ

*

تسألينَ الرّحمنَ غفرانَهُ لَيلًاْ

ويأتيْ غدٌ ومعْهُ المزيدُ

*

فيكِ شرٌ لا يعرفُ ال "لا" لذنبٍ

مُستجدٍّ يلقاهُ وهْوَ سعيدُ

*

فيكِ خيرٌ ألزمتِهِ الدّارَ عمرًا

فخَلا عندَ اللهِ منهُ الرّصيدُ

*

شأنهُ شأنُ كلِّ خيرٍ أغاظ الـــ

شرَّ فعلًا بهمسِ ما لا يُريدُ

*

ولو الخيرُ آثرَ الصّمتَ فالشرُّ

لِمَن خارَ صمتَهُ لا يكيدُ

*

عجَبًا للنّفوسِ إذْ تؤثرُ الشرَّ

اتّقاءَ الحروبِ وهْوَ الوقودُ

*

تحتكِ النّارُ لمْ تُحسّي بها بعْدُ

وعنها غدًا يذوبُ الجليدُ

*

تنظرينَ المرآةَ صُبحًا فيبدو

الشرُّ والخيرُ من وراهُ بعيدُ

*

إنْ تعدَّى صفعتِهِ صفعةً من

بعدِها أمضىْ اليومَ وهْوَ فقيدُ

فإذا نلتِ أختَها لُمْتِ منْ

أوجَعْتهِ زعمًا أنّه لا يفيدُ

*

فيلامُ من لا تراهُ الشّهودُ

ويُزكّى منْ أنْكَرَتْهُ الوُعودُ

*

لا يردُّ الّذي افترى مِن شرورٍ

غيرُ خيرٍ بهِ الأمانُ يعُودُ

*

فمتى الخيرُ فيكِ يغلبُ شرًّا

طِبْتِ بيتًا لهُ وعنكِ يذودُ

*

يرفضُ السّلمَ والحلولَ مع الخيرِ

وعمّا بنىْ رُؤىً لا يَحيدُ

*

أم رضيتِ السّلامَ في ظلّ شرٍّ

ذاكَ سلمٌ قدِ ارْتضاهُ العبيدُ

*

سلمٌ اليومَ من وراهُ هلاكٌ

يرتضيهِ لكِ اللعينُ المَريدُ

*

أفلا تنصرينَ من نَصْرُه يو

مَ التّناديْ لكِ انتصارٌ أكيدُ!

*

فإذا عاصَ نصرُك الخيرَ عوْصًا

فصراعٌ معْهُ يذوبُ الحديدُ

*

كيْ يقرَّ الرّجاءُ بي إنْ رأى في

نفسهِ أنّ ذا لذاكَ نديدُ

*

كيْ أرانيْ يومًا أقولُ لذنبٍ

دقَّ بابيْ: أليومَ لا ..فهْوَ عيدُ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

في المساء،

تتثاءب المصابيح مثل قطط جائعة،

وتسأل الورقة البيضاء:

من سيكتب أسماء الغائبين؟

الحِبر يذوب في كأس الماء،

يتحوّل إلى دمعةٍ بلا ملامح،

تجري على الطاولة

وتترك أثراً من الملح.

*

في الممرّ،

الأحذية تصطف مثل شهداء صغار،

تنتظر أن ينهض أصحابها

ليذهبوا إلى المدرسة،

لكن الساعة معلقة على الجدار

تصرّ على تكرار لحظةٍ لا أحد فيها.

*

الريح التي مرّت على غزة

لم تترك سوى كومة من المفاتيح

تلمع في العتمة،

كما لو أن البيوت

انكمشت فجأة إلى جيوب غريبة.

المفاتيح تتناوب في الهمس:

"أين الأبواب؟"

لكن الجدران ذابت مثل خبزٍ في ماء.

*

أنا لا أرى موتاً،

بل غياباً يتكاثر مثل الظل،

يغطي الكراسي،

الأطباق،

الصور.

حتى السرير صار شجرة يابسة

تخفي جذورها في تراب بارد،

وتترك للريح

أن تعلّق الغطاء على غصنها الوحيد.

*

الخبر في الصحيفة

يشبه سكيناً بلا قبضة،

يطير فوق الطاولة

ويقطع صمت المطبخ إلى نصفين.

الخبز لا يُؤكل،

يُترك ليشيخ في السلة،

كما لو أنه يعرف أن الأفواه

لن تعود.

*

العائلة برمتها

لم تُمحَ من السجل المدني فحسب،

بل من المِرآة أيضاً،

من رائحة القهوة،

من الزيت  ،

من الزعتر ،

من صدى الخطوات في الفجر.

كأنهم لم يولدوا أبداً،

كأن اللغة نفسَها

تراجعت خطوةً إلى الوراء،

وتخلّت عن أسمائهم.

*

أنا أكتب

لأُبقي ظلهم حيّاً على الجدار.

أكتب لأمنح الكرسي دماً جديداً،

وللأرض قلباً ينبض تحت الركام.

لكن الكلمات تتناثر،

تبحث عن أجسادٍ تسكنها،

فتنام على السطر

كما تنام الطيور المهاجرة

على أسلاك كهرباء ميتة.

2

في زاوية الغرفة

ما زالت حقيبة المدرسة مفتوحة،

تخرج منها رائحة طباشير،

وممحاة صغيرة

تتذكر أصابع الطفلة التي كانت تمسح

الخطأ بحذرٍ،

كما لو أنها تمحو الغبار عن قمرٍ هشّ.

*

الملاعق في المطبخ

تحاور الصمت.

كل واحدةٍ تنعكس فيها صورة وجهٍ غائب،

وجوهٌ تتقاطع ثم تختفي،

كأن الملاعق مرايا صغيرة

ابتلعتها النار.

*

في الخارج،

الأشجار لم تعد تهتز بالريح،

بل بأسماء مجهولة

تتدلّى من أغصانها مثل ثمار يابسة.

الطيور تحاول نطقها،

لكن أصواتها تتكسر

وتسقط مثل زجاجٍ قديم.

*

الليل يقترب

وفي جيبه خريطةٌ سوداء،

كل خطٍّ عليها نهرٌ بلا ماء،

كل نقطةٍ مدينةٌ مطفأة.

حتى النجوم لا تضيء،

بل تحترق ببطء

كما لو أنها تكتب وصيةً أخيرة

على جلد السماء.

*

الخبر الذي عبر شاشة التلفاز

كان يمشي على قدمين،

يدخل البيوت

ويجلس على الكراسي الخالية.

صوته يشبه حذاءً عسكرياً

يدوس زهرةً نائمة.

وكلما أعاد المذيع الجملة،

كان الجدار يتشقّق أكثر،

حتى صار جداراً بلا بيت.

*

أحاول أن أضع اسماً على الصفحة،

لكن القلم يرفض.

أحاول أن أكتب "أمي"،

فتنطفئ الحروف.

أكتب "أخي"،

فتتحول الكلمة إلى غبار.

كأن اللغة نفسها

أدركت أن ما انمحى من السجل المدني

انمحى من حروفها أيضاً.

*

في النهاية،

يبقى فقط كرسيٌ مكسور،

مزهرية بلا ماء،

وبابٌ مغلق

يُفتح ويُغلق وحده،

كما لو أن العائلة برمتها عادت في هيئة هواء،

تطرق المكان ولا تدخل.

3

الزمن يجلس على الكرسي الوحيد

ويعدّ الساعات بأصابع من غبار.

يضع أمامه ساعةً ميتة،

ويبتسم وهو يراقب عقربها

يُصرّان على الدوران في الفراغ.

في دفاتر الأحوال المدنية

الأسماء ليست إلا ظلالاً،

تتحرك مثل سمكٍ بلا ماء،

تفتح أفواهها بصمت

كأنها تطلب هواءً آخر

غير هذا الهواء المشبع بالحديد.

*

أسمع المدينة تتنفس لكنها تتنفس بصعوبة،

كأن رئتيها مليئتان بالرماد.

كل حجرٍ فيها ينادي بحرفٍ ناقص،

وكل شارعٍ يردد سؤالاً لا جواب له:

من يكتب العائلة من جديد؟ .

*

أمسكت بمرآة صغيرة،

رأيت وجهاً لا أعرفه.

ربما هو وجهي،

وربما وجه رجلٍ آخر فقد اسمه.

*

في الحروب،

تصبح الملامح مرايا متشظية،

وكل عابرٍ يحمل أكثر من وجه،

أو لا يحمل وجهاً أبداً.

*

الغياب ليس موتاً،

إنه سماء بلا نجوم،

بيتٌ بلا جدارٍ يقيه من الريح.

الغياب يضع يده على كتفي

ويقول:

"أنا أخوك الجديد،لن تفلت مني."

*

أصغي إلى خطواتٍ لم تعد موجودة.

ربما هي خطوات الذاكرة،

تعود إلى البيت كل مساء لتشعل المصباح

ثم تختفي.

وربما هي فقط أوهام تتجول في الممرات،

تطرق الباب ولا تنتظر جواباً.

*

في النهاية،

أكتشف أن العائلة تسكنني الآن،

كصوتٍ يتردّد بين أضلعي،

كرائحة خبزٍ قديمٍ لا تزال معلقة في الهواء.

السجل المدني أوراقٌ يمكن تمزيقها،

لكن الذاكرة

مدينة لا تسقط أبداً،

مهما اشتد القصف.

4

السماء تميل برأسها كما تفعل أمّ متعبة،

تبحث في الغيوم عن أسماءٍ ضاعت،

لكن المطر ينزل بلا حروف،

مجرّد ماءٍ يطرق الأرض كأنه يكتب بالسرّ

رسالةً لا أحد يفكّ شفرتها.

*

الأرض تستيقظ من نومها الثقيل،

تفتح عينيها على حفرٍ سوداء،

وتسأل:

أين أبنائي؟

ثم تصمت،

تسمح للأشجار أن تتحدث مكانها،

لكن الأشجار مشغولة بحمل جثثٍ من الضوء

على أغصانها اليابسة.

*

القمر فوق غزة لا يضيء،

بل يتدلّى مثل مصباحٍ مكسور

في سقف غرفةٍ خالية.

*

العائلة في غيابها،

تحوّلت إلى مجرّةٍ صغيرة تسبح في داخلي.

كل نجمٍ فيها اسم،

كل مدارٍ خطوة،

كل شهابٍ ذكرى.

أرفع يدي

فأشعر أنني ألمَسُهُمْ،

لكن أصابعي تعود فارغة،

كما لو أن الكون نفسه

يرفض أن يعيد ما أخذه.

*

الحرب ليست سوى حيوانٍ جائع،

يفتح فمه على مدنٍ كاملة ويبتلعها دفعةً واحدة.

ثم يجلس لاهثاً،

يمضغ الأسماء ببطء،

ويترك عظامها تتناثر في نشرات الأخبار.

*

أغمض عينيّ،

أرى القافلة تمشي في الصحراء،

كل جملٍ يحمل بيتاً،

كل خيمةٍ تحمل قلباً.

لكن الريح تغيّر الطريق،

فتتحول القافلة إلى غبارٍ

يتوزع على الجهات الأربع.

أفتح عينيّ،

فلا أجد سوى شاشةٍ صغيرة

تكرر العبارة ذاتها:

"العائلة برمتها مسحت من السجل المدني."

*

أعرف الآن أن الغياب لغةٌ أخرى للوجود.

الأرض تكتب بها رسائلها،

السماء تعيد صياغتها،

والإنسان يقرأها بصمتٍ في قلبه المرتجف.

كل عائلةٍ تُمحى من السجل

تصبح قصيدةً مخفية في كتابٍ كوني،

لا يقرؤه أحد

إلا الأرواح التي لم تعد تحتاج إلى أوراق رسمية.

5

الزمن لا يقف، بل يتعثر مثل شيخٍ ضرير،

يمد عصاه على الطرقات ولا يجد مَن يعيده إلى بيته.

كل ثانيةٍ تمرّ تترك وراءها حجراً بارداً

على قبرٍ لم يُكتب عليه اسم.

*

الذاكرة،

هي الأخرى،

تتحوّل إلى طائرٍ بلا عش،

تحطّ على غصنٍ مكسور،

ثم تطير فجأة

لتختفي في فضاءٍ لا يملك حدوداً.

أحياناً تعود

في صورة رائحة خبز،

أو ضحكة طفلٍ لم يكتمل،

لكنها سرعان ما تتبخر،

كأنها لم تكن سوى خدعةٍ صغيرة

من يد الغياب.

*

أفتح السجل القديم،

لا أجد إلا فراغاً منظّماً،

سطوراً مرتبة بعناية لكن بلا أسماء.

أكاد أسمع الورق يتنهّد،

يقول لي:

"أنا أيضاً يتيم، أحتاج إلى حروفٍ تعانقني."

*

أجلس أمام النافذة،

أراقب الغروب يذوب في البحر.

الشمس تبدو مثل جرحٍ ذهبي يحاول أن يلتئم ببطء.

أفكر:

هل للغياب لون؟

ربما هو هذا اللون البرتقالي

الذي يتردد بين الاحتراق والانطفاء.

*

الليل يقترب،

وفي جيبه مفاتيح بلا أبواب.

الليل يعرف أنني وحيد،

فيترك لي واحدة منها،

كإشارةٍ غامضة

أن الأبواب التي سقطت

يمكن أن تُفتح من جديد،

لكن ليس هنا،

ولا الآن.

*

في الصمت،

أسمع همساً عميقاً،

ليس من الأرض ولا من السماء،

بل من قلب الزمن نفسه.

يقول:

"كل ما يُمحى من دفاتركم

ينقش على جدارٍ آخر،

جدارٍ لا تراه العيون،

لكن الأرواح تحفظه."

*

هكذا،

أدرك أن العائلة لم تُمحَ،

بل عادت إلى صيغةٍ أخرى:

موجة تمشي في البحر،

ريح تمرّ بين النوافذ،

ظلّ يرافقني وأنا أعبر الشارع.

العائلة لا تُسجَّل في الأوراق،

بل في هذا الارتجاف العميق

الذي يسكن صدري

كلما تذكرت.

***

مروان ياسين الدليمي

القسم الأول: مدن الشمال

هكذا كان الأمر حسبما نشرته إحدى الصحف الأجنبية

شخص ما

في مكان ما

يبني عنكبوت في إحدى أذنيه بيتا

والحق إني عشت حالة رعب قبل أن يجذبني النوم إليه. في يقظتي رأيت خرابا:

بيوتا تحترق

أشلاء

ركام

وفي أحد مشاهد اليوتوب وقع بصري على جنديّ إسرائيليّ يطرق بوابة عريضة لبيت متهدم من جراء غارة في غزة. أظنه كان مرتبكا أو فقد أعصابه.. كان هناك ركام خلف البوابة والجندي يدقّ بقبضته. دفعني الخوف والملل وكثير من الحنق إلى أن أعرض عن المشاهد المتحركة أمامي وأنصرف إلى الصحف الأجنبية، والمذياع، وربما أنساني خبر العنكبوت في تلك الصحيفة هول الحرب المتحركة على وسائل التواصل الاجتماعي في غزة.

لكنني مع ذلك تمتعت بنوم مذهل بعد كل ما شاهدت وقرأت:

ليست هناك من كوابيس اجتاحت نومي سوى بعض حركة في أذني..

الأذن اليمنى بالضبط....

قيل إن الأنبياء يأتيهم الوحي من الأذن اليمنى والشياطين تنفث هلوستها للسحرة والساحرات باليسرى.. أعرف نفسي لست شيطانا ولا نبيا. أذني الآن ثقيلة خَدرة.. نعومة غير معهودة وهناك شئ ما.

نهضت من فراشي متثاقلا، ووقفت وقفة جانبية أمام مرآة خزانة الملابس الطويلة:

دهشة

تأمل

صدمة

شبكة على بوابة أذني وسطها عنكبوت يتربص بعينيه الجاحظتين

إذن كانت الصحيفة تكتب عني.

لا أحد سواي

لفت نظري قبل النوم مشهدان أحدهما منظر الجندي الذي يقرع بوابة بيت أصبح أنقاضا، وخبر قرأته.. رؤيا ثابتة وأخرى متحرّكة.. ما أبصرت من عنف وماقرأت نصفه تحقق.. فأين أدرك النّصف الآخر؟

كنت أخشى أن يكون العنكبوت ساما، يلدغني إذا ما أهجته بيدي. كل شئ أصبح الآن واضحا: عليّ أن أضع سماعة الهاتف عند الأذن اليسرى لأرد على أية مكالمة وأتعامل بالطريقة ذاتها مع الهاتف النقال…

لكن عليّ أن أطمئن... عرفت أنه قد يبقى يوما أو يومين. رحت أراقب أذني عبر المرآة بيت جميل.. نت متقن الصنع يربض وسطه عنكبوت يظلّ يطل من موقعه على العالم بعينين مذهلتين. خلت أن نصفه عينان، وقد اتعبني الوقوف الجانبي أمام المرآة والنظر إلى أذني فيما يشبه حالة الشزر، فلجأت إلى المرآة الصغيرة التي أمسكها أمام أذني وأحركها نحو زاوية أقرب إلى عيني. فأتقين أن هتاك بقايا بعوضة أو جناج ذبابة اصطادها ضيف أذني الطفولي.

صيق سيغادر

لن أزعجه

كنت أتحاشى النوم على جانبي الأيمن، لو كانت أمي حية لقدمت لي تفسيرا أرتاح له. كانت تقول إن العنكبوت خير فهو الذي بنى بيته على باب الغار ليوهم المشركين ألا أحد فيه في حين كان النبيّ ورفيقه داخله.. أووه معان كثيرة كان يمكن أن أستوحيها من ضيف لم أتوقعه فيما لو أردت.

إذهب إلى الشارع

أتبضع

أقابل أصدقاء

حياة عادية

ولا أظنّ أحدا التفت إلى أذني. ولم تعد قنوات التواصل الاجتماعي تظهر مشهد الجندي الإسرائيلي الذي دق عدة دقات على بوابة بيت فلسطينيّ تهاوى تحت القصف. لم يغادر العنكبوت ومن خلال المرايا رأيت بقايا ضحاياه. زرت الطبيبة مرة أخرى فطمأنتني أنه سيغادر، ولا ضرر مادمت أمارس عملي وأعيش حياة طبيعية. ولكي أتجاهل أروح أتابع القنوات.

أرى جيدا

أسمع بكل وضوح وهو اليوم الرابع أو الخامس والثمانون للحرب

بين حين وآخر ألجأ للمرآة فأرى ضيفي القبيح في مكانه. أحيانا أشعر بهزات بيته فأعرف أنه اصطاد حشرة ما

ومرآتي اليدويّة التي أزوغ ببصري معها تساعدني على أن أجد في بيت هش مشادٍ في أذني بعض بقايا الحشرات.

هل أصبحت منفى للحشرات الميتة؟

أم

مزبلة ؟

مرّ أكثر من شهرين مع ذلك مازلت أواصل مشاهدة الأخبار.. ثم انام على جنبي الأيسر في انتظار أيهما يغادر قبل الآخر الحرب أم العنكبوت؟

2

لم أشعر بقيح في أذني

ولا خدوش...

والحرب التي ربطتني بالعنكبوت أوّل يوم للجؤه في صيوان أذني لمّا تنته بعد.

قد تكون هي المصادفة.

من قبل لم أكن أراجع الطبيب

لا أتذكّر ماعدا بعض اللقاحات التي عملها لي أبواي بعد ولادتي وبقيت محفوظة في ورقة قديمة..

ويبدو أنني لا أشكو من علّة ما.

حتّى طبيب التلاميذ الذي يزور مدرستنا أبدى إعجابه بصحّتي، أمّي وضعت الملح في جيبي خوفا من الحسد، والعين الحارقة، طبيب الأسنان تحايلت عليه، كانت الطبابة الحكومية جنب المدرسة، بين فترة وأخرى يأتي المدير يسأل إن كان هنا من يشكو من وجع في أسنانه، ثلاثة تلاميذ من صفنا رفعوا أيديهم، فجاء الفراش وصحبنا إلى العيادة، لا أدري. اغتنمناها فرصة لنزوغ من المدرسة بعض الوقت، وحين جاء دوري وضع الطبيب الآلة الكاشفة أمام فمي، وهتف بلهجة حادة: كذّاب إذا فعلتها مرّة أخرى سأقلع جميع أسنانك.. الحكمة نفسها ألقاها على مسمع الجميع.. دخلنا الصف وتنفسنا الصعداء حين علمنا أنّ المدير غادر إلى مديرية التربية في شغل.

نجونا من عقاب آخر...

منذ جلوسي على المقعد عند طبيب الأسنان لم أراجع طبيبا

لكن

هذه المرة

تختلف تماما، قالت لي الطبيبة: من الأفضل أن تدعه وشأنه فهو لا يقدر إن يتوغل داخل الأذن وإلا ستقتله مادة الصمغ المرة، وعليك أن تضع في الحسبان على الأقلّ أن يكون من النوع السام فلا تحرك يدك نحوه (ذكرّني تحذيرها بشريط قديم لممثل لم أعد أذكر اسمه انتبه وهو مستلق على ظهره لعنكبوت حطّ على إحدى يديه.. ظلّ في حالة صنمية وكان يلصق إصبعه الأوسط بإبهابه لينقر بحركة مفاجئة سريعة العنكبوا فيبعده)

وقد تجرّأت على أن أمد يدي إلى أذني فلم يتحرّك العنكبوت ولم تتمزق الشبكة بل تساقطت على راحة يدي بقايا بعض الحشرات من كسر أجنحة وأرجل..

أتغاضى عن أن أكون حوضا للنفايات.

بإمكاني أن أرفع يدي وأهشّم الشبكة، سيضطر العنكبوت إمّا للولوج في أذني فيموت من مرارة الصمغ، أو يقفز إلى الخارج، فأسكت عنه مؤقتا لأنّني أرغب في أن أعيش هذه التجربة الجديدة.

أعاشرها

أحياها من دون ملل.

في الوقت نفسه أشعر أنّ عليّ أن أتجاوز الماضي فأراجع الطبيب..

أتابع وضع أذني

فأتأكّد...

مرّة أخرى.. زرت طبيبا جراحا ذا خبرة بالأورام والتشوّهات. لا أظنّ الوضع الجديد أثّر في سمعي، فمازلت أميّز الأصوات وأسمع أخبار الحرب بشكل يوميّ، هناك جنود يقتلون وضحايا يسقطون، ومثلما بنى العنكبوت بيته في أذني بداية الحرب أظنّه سيغادرها إذا توقفت الحرب.

أعود أتساءل أيّة حرب؟

غزة

أم حرب إيران وإسرائيل.

لو كانت الحرب هي الواعز افذي حرّك العنكبوت نحوي لكان يمكن أن يفعل ذلك خلال أيّة حرب سابقة.. في الحرب العراقية الإيرانيّة.. كنت شابا.. وقبلها في عِزِّ ّصباي خلال حرب الايام الستة بين العرب وإسرائيل أو الحرب الأهليّة السورية.. لابدّ أن يكون هناك شئ ما أكبر من الحروب، ولكي أتأكّد من شكوكي، وقفت أمام المرآة الطويلة التي تزين خزانة ملابسي، لففت رأسي باتجاه الشمال وزغت بعينيّ نحو أذني.. حشرة ما تقترب من رأسي.. العنكبوت يقبع في الجهة البعيدة من الشبكة.

أراقب بحذر

يراقب ويتأهّب

المرآة تقول إنّ حشرة ما ذبابة أو دبّور تقترب من أذني تدور حول الصّيوان

تلفّ

أسمع بعض الأزيز

لا أستطيع أن أمدّ طرف عيني طويلا باتجاه أذني

أحس بحركة قوية

خرخشة

قد أظنّها حربا

دقيقة

لخظات

ويعود السكون من جديد

أريد أن أعرف شيئا ما عن الحالة الغريبة فالعنكبوت يجعلني أزور الطبيب للمرّة الثانية،

لا أدري

أحس ببعض الذبذبات والحركة في أذني

قد تكون هناك بعض الهزات الخفيفة أعرف منها أن المعارك كانت بين ضيفي وحشرات صغيرة مثل الذباب والبعوض والبرغش بعكس المعركة الأخيرة التي سمعت هزاتها بوضوح.

مع كل التوقعات أردت أن أحوز على بعض المعلومات قبل زيارتي الثانية للطبيب الجراح.

كتبت في الشبكة العنكبوتيّة العنكبوت في الأذن:

جاءني الجواب:

لبضعة أيّام لكن ليس أكثر من أسبوع، قناة السمع ليست بيئة مثاليّة، فهي دافئة ورطبة، تفتقر إلى الغذاء والمساحة الكافية، أضف إلى ذلك أن نقص الأوكسجين والحركات الطبيعية للجسم يجعلان من الصعب البقاء، في معظم الحالات تدخل العنكبوت عن طريق الخطأ، أثناء نومنا، بحثا عن مأوى مؤقت، إذا لم تخرج من تلقاء نفسهافقد تسبب إزعاجا أو ضوضاء أو حكة أو بعض الألم).

أظنّ أنّ هناك بعض المبالغة في الجواب على سؤالي، نعم بعض الإزعاج لكنني بعد مرور أسبوع أستطعت التكيّف مع الوضع الجديد.

والأغرب أن العنكبوت لم يمت في المساحة الضيقة.

3

قبل أن أذهب إلى الطبيب سبقني أمر آخر.

كنت صممت أن أزور الجراح الشهير كي أزيح وساوس راودتني حول إذني زادتها شهرتي التي لفتت الانتباه. في البدء ازداد فضول الناس وأخذ يزداد، أصبحت ظاهرة غريبة في البلد.، وفي اللحظة التي هممت أن أغادر البيت إلى الجراح، واجهتني شخص ما.. أنبق الملبس. واسع الابتسامة:

لوح لي ببطاقة في يده …

رجل أمن، وأشار لي بأصبعه أن اصمت...

منذ قدومي لهذا البلد القابع في الشمال لم يعترضني أيّ من رجال الأمن

عاملني باحترام طوال إل صحبىته لي. قال إنّها إجراءات لا بدّ منها، وحولني إلى رجل أعلى منه، كهل نحيف، أبيض الملامح بصفرة باهتة. استقبلني بلطف، تطلع في أذني، وأشار بيده إلى الشخص الذي أوصلني، هزّ الثاني رأسه وحضر اثنان. بإشارة من الكبير فخرجت معهما، كتب لي أحدهما على ورقة:

اصمت لو سمحت.. نأمرك بالصمت

شعرت بدبيب الشبكة، وحركة العنكبوت، دقائق ثمّ سكن كلّ شئ

تركني الرجلان الضخمان عند بعض الأجهزة وحضر آخرون... ثلاثة.. استداروا نحو أذني، سلطوا عليها بعض الأجهزة... شعرت يدف ءوبرودة، وأحسست بحركة الشبكة...

اهتزّت هزّات عنيفة أشبه باهتزازها من ضخيّة كبيرة

دبّور... خنفساء..

ثمّ سكنت

عندئذ عدت مع الإثنين الضخمين...

الرجل الكبير يأمرني بالجلوس، يكسر الصمت:

- كنّا نشتبه في أنها لعبة ألكترونية زرعتها في أذنك جهة ما... فأعرضنا عن الكلام حتّى قطعنا الشكّ باليقين.

ياسيدي لو كان هناك استهداف ما لاختاروا رجلا مهما يحتل منصبا... فابتسم الرجل للمرة الأولى:

- علينا أن نشكّ في البدء

أهناك من شئ يخصني؟

- أبدا تستطيع الانصراف

فنهضت متسائلا:

- هل تقترح عليّ إزالته؟

فعاد إلى سيرته الجادة:

- تلك مسألة تخصّ الطبيب (والتفت إليّ قبل أن أخطو خارج مكتبه): قد نحتاج اليك!

غادرت مبنى التحقيق وأنا مطمئن إلى أنّ العنكبوت في أذني ليس روبوتا زرعته شركة أو دولة لغاية ما، والحق لم يخطر على بالي الأمر منذ رأيته يغزوني.. شككت في أنّه روبوت ساعة رأيت المحققين يتحدثون بالإشارة، وها أنا أخرج من دائرة التحقيق وفي أذني كائن حيّ.

لم أتردد

مباشرة

قصدت عيادة الطبيب الجراح الشهير. كان كهلا في الستّين من عمره. نهض مرحبا بقسمات باردة، تمعن في أذنيّ كليهما، بعينيه المجرّدتين، وقف برهة عند كلّ أذن ثمّ توقّف أمام صاحبة العنكبوت، مسك أعلاها برفق وقرب منها عدسة تكبير الرؤيا. سألني ياستغراب:

- منذ متى احتل أذنك؟

- قرابة شهر أو أقلّ

- وماذا كنت تفعل.

- ظننته يبقى بضع دقائق أو ساعات ويغادر!

- نعم!

- ثمّ طابت لي اللعبة..

- لعبة؟

- نعم؟

- بالتفصيل لو سمحت، فكلّ حرف تقوله بنفع الطبيب وينفعك!

- مثلما ألتذ بمشاهدة مباراة في كرة القدم أو مراقبة مسرحيّة.. راودتني فكرة أن أعايش وجود العنكبوت في أذني، وأستمتع لضجيج الحشرات فأصبح معه طرفا في اللعبة.

- لقد لفت ظري شئ مختلف تماما...

خطر؟

- أبدا لا

لكن ما هو الشئ المثير.

- العنكبوت حين تبني بيتها على الأرض تستقرّ في وسط الشّبكة، أما حين يصحبها رواد الفضاء ليجروا عليها التجارب فأنها بعد أن تنسج شبكتها فإنّها تستقرّ في أعلاها إن سلوكها في إطار الجاذبية الأرضية يختلف عما هي عليه في الفضاء.

- وماهو السر

- لا أعرف؟أما ما رأياته فإنّ العنكبوت في أذنك أعلى الشبكة . !

- بغض النظر عن الأرض والجاذبية إنّي أندهش لم اختارني العنكبوت من دون خلق الله؟

- لأنك تسمع أكثر مما ترى ربما لا تدري أنك في عصر يرى أكثر مما يسمع!

بعد فترة صمت:

- ماذا لو غيرت رأيي ذات يوم وطردت العنكبوت؟ هل هناك من نتائج تضرّ؟

- لن تقدر إنه أصبح جزءا من أذنك. التحم بها وأصبح منك. هذه هي الطبيعة بدأت تتحرك نحونا بعدما كنا نتحرك نحوها.

صدمة مفاجأة

شعور بالألم يجتاح جسدي:

- سيدي لا أخفيك سرا إنه الفضول ولا أخفي أني زرت طبيبة المركز الصحي فطمأنتنتي وكان أبعد احتمال أنّه إما يغادر أو يموت!

- لكنه استعصى وأصبح جزءا منك!

أدركت أنّ الوقت انتهى ولاشئ يمكن أن أقوله، وليس عنده من شئ فنهضت وشدّ على يدي مصافحا:

- عليك أن تسمع بأذن واحدة وتتقبل الوضع الجديد برحابة صدر، وأتوقّع أنّك ترفض قبول بعض الأمور الآن وسوف تسعى إليها في المستقبل.

- أهناك مانع أن تذكرها لي الآن.

- بكل صراحة، الطبيب الجراح لا يخدعك إذا نصحك أن تذهب إلى طبيب نفساني.

- ثق سيدي أني سأختصر الزمن وأسعى منذ الغد لما نصحتني به.

4

لا أشكّ أنّ هناك شيئا غير عادي فلم أرفض زيارة الطبيب النفساني بحجة أن أكون مشبوها بالقلق والجنون، .. حالتي تختلف تماما، فمن يرفض يعان من إحساس داخلي، أما حالتي فتتلخّص بشئ خارجيّ محسوس بعيد عنّي كلّ البعدغزا جسدي فتصوّرته لعبة، وإذا به يصبح جزءا منّي، فلأكن جريئا... لأكن صريحا لا لأعرف نفسي فقط بل الشئ الذي داخلني وفي أسوأ الاحتمالات: هل يمكن لأشياء أخرى لا تخصّ الحروب والعنف تجتاحني في المستقبل؟

الطبيب الشاب الوسيم بعد حديث قصير عن اسمي، وعملي، والتحقق من حال أذني، وبعد المرور على رأي طبيبة الصحة والطبيب الجراح، أخذ يعاين بدقة أذنيّ كلتيهما السليمة وذات العنكبوت، تساءل كأنّه يحدث طفلا:

- إذا حطت ذبابة على أنفك ماذا تفعل؟

أجبت بتقزز:

أنشها.

- أو بعوضة.

- ماذا يادكتور لست طفلا

فقاطعني:

- حسنا تلك هي الخطوة الصحيحة، أريد أن أعيدك إلى زمن الطفولة، زمن ماقبل الحروب، أيام اللعب.

صمتُّ مقتنعا، وأردف:

- يمكنك الآن أن تسترخي على أريكة الفحص.

أطفأ نور الغرفة وسحب الستارة فتحققت عتمة سرعان ماشتّتها نور أزرق دوار اجتاحت دوائره المتلاحقة السقف والفراش:

- استرح.. استرح.. استرخ

- نعم

أشعر بأزيز ناعم يشبه الموسيقى قادما من بعيد:

- هل كانت لك علاقة بالحيوانات؟

- الصغار في سني يربون القطط والحمام وبعضنا يصطاد العصافير والضفادع مجرد اللهو أو نطارد الكلاب بالحجارة!

- ربيتم في بيتكم كلبا أو قطة؟

- كلا

- والحشرات؟

أكره البعوض الذي يهتاج في الصيف والذباب.

ألا تحب الحشرات؟

أحب الفراشات.

والعناكب؟

لا أحبها ولا أكرهها يقول الناس إنها تخلصنا من الحشرات.

وبعد هل تتذكر ملامح أخرى؟

فاستسلمت للصمت برهة ونطقت:

- معلم درس الأحياء طلب من التلاميذ ذات يوم أن يأتي كل منا بحشرة، بعضنا جمع ذبابا. والآخر صراصير، أو اليعاسيب وأنا جمعت أكثر من عشرين فراشة حية.. كنت مثل الآخرين أمسكها حية.

سألني باهتمام:

وصفتها حينذاك ولا أذكر ماذا كتبت !

هل أخذتها حية إلى المدرسة؟

- حملتها داخل حقيبتي في صندوق وعندما فتحت الحقيبة وجدتها ميتة فرفعتها بملقط ووضعتها على المنضدة!

- من منكم جلي عناكب؟

- أحد التلاميذ لا أذكر اسمه!

- المعلم أخطأ كان يجب ألا يقبل من جلب عناكب... العنكبوت ليس حشرة الحشرات لها ستة أرجل و العناكب ثمانية. ؟

- هذا ما لا أعرفه إلّا منك!

- لا بأس.. لحظة عابرة.. تذكر.. في مكان ما غابة.. طريق.. منزل قديم.. لقاء طالت مدته.

قل لعل ماتكشف عنه ينفع.

إنّه يوم التوصية ياسيدي كنت أبصق على العنكبوت لم أقتله... لم أدمّر بيته أو أكون عنيفا مثلما يفعله الأطفال والصبيان مع الضفادع والوزغ ذلك اليوم عدتا إلى لعبة الطفولة لا أنكر أني كنت أبصق على شبكتها فتهتز لتظنها حشرة وقعت. أبصق برفق لئلا أهشّم الشبكة.. ولعلها تلحس قطرة بصاقي ، ذلك اليوم، انتظرت الوظيفة بفارغ الصمت، وحاولت قتل الوقت باللهو مع العنكبوت. أقسم أنّي جعلته وسيلة للفتك. بصقت عليه.

كيف؟

تحدثت من دون توقف والموسيقى اللذيذة تلاحقني:

5

التوصية

بعد جهد حصلت على توصية إلى السيد المدير الذي قيل لي إنّه يمكن أن يجد لي عملا في دائرته. حملت بطاقة التوصية، وقصدت العنوان. كنت أواجه، بعد دقائق موظف الاستعلامات الذي قال لي إنّ سيادته يأتي بعد ساعة.

ساعة من الانتظار القاتل تجعلني أفكر بوسيلة لقضاء الوقت. اتجهت إلى فسحة من النبات والحشائش عند الرصيف المقابل، وارتميت على أحد المقاعد الخشبيّة أحاول قتل الوقت بأيّة صورة كانت.

الوقت بدا مملا، ورتابة المكان جعلتني أهمّ بالعودة من حيث أتيت لولا حاجتي للوظيفة. لم يكن هناك من شيء يبعث في نفسي المرح سوى بيت عنكبوت يجثم بالقرب منّي. دائرة من الخيوط الرفيعة الرقيقة تتأرجح من الإعياء تحت هبّات النسيم بين جذع شجرة يوكالبتوس وحافة المقعد الخشبي. كان العنكبوت يربض في إحدى الدوائر البعيدة !

تذكرت أني، وأنا طفل، كنت ألعب معه. أخدعه. هكذا تصوّرت. والآن أرى الزمن حيوانا غير أليف ربما لعبي مع العنكبوت ذي العينين الخشنتين ينفعني في ترويضه. كنت أخدع صديقي القديم. أقترب منه بحذر ثمّ أرشق رشقة خفيفة من البصاق على حافة النسيج. ينتاثر الرذاذ، على أطراف الدائرة، ويهتزّ الببيت، فيتحفّز العنكبوت. ينتفض من سكونه، ويندفع بحماسه المعهود إلى رقعة البصاق الكبيرة، فأروح أقهقه ساخرا منه...

الآن لايجدر بي وأنا في هذه السنّ، أن ألعب مع العنكبوت لعبة أخرى. والدتي قالت ذات يوم إنّها من الألعاب القذرة. وأرى أنّها على حقّ، فما يحق لي من باب الذوق في هذه السنّ أن أعود إلى مشاكسات الطفولة.

رحت أبحث عن لعبة جديدة، كسرت غصنا تدلّى من شجرة يوكالبتوس، وبدأت أطارد الحشرات. وقع بصري على حشرة تجثم فوق ورقة آس، وفي لمح البصر هويت بالغصن عليها، ثمّ التقطتها من جناحها بين إصبعيّ، وتسللت بخفة وحذر إلى بيت العنكبوت، وصوّبتها نحوه....

كنت أقف على بعد خطوة أراقب ماذا يحدث. استقرت الحشرة، واهتزت دائرة الشباك، فتحفزّ صديقي القديم، وهمّ بالوثوب إليها... فجأة... وهذا مالم أتوقعه، وقف برهة، كأيّ إنسان يفكّر، أو يتأمّل، وعاد إلى مكانه غير مبال بالحشرة. رحت أبحث عن حشرة أخرى. لاحقت فراشة تطير عبر الممرّ باتجاه الساقية، وما أن استقرت على وردة خزامى حتّى هويت بالغصن عليها، وعدت أدراجي إلى بيت العنكبوت، فحدث لي مثل المرّة السابقة بالضبط. العنكبوت يتحفزّ، ينظر بعينيه الكبيرتين المتوعدتين... لحظة يتأمّل ويعود إلى مكانه.

هكذا كنت أجمع الحشرات وأرميها في بيت العنكبوت، وهو لمّا يفترسها بعد كأنّه لايعيرها أيّ اهتمام!

وفي آخر لحظة، لفتت انتباهي حركة ما. سمعت أزيزاً، فتوقفت عن مطاردة الحشرات. كانت هناك حشرة تقترب من النسيج، وهي لاتعي أيّ مصير ينتظرها. أخيراً وقعت في الدائرة وانقلبت تحيط بها الخيوط الرقيقة. هذه المرة انتفض ولم يقف أو يتأمّل. ارتسم مشهد الصراع أمامي: الحشرة ترفس بأرجلها وأجنحتها، والعنكبوت يدور حولها ينفث عليها خيوطه وحين سكنت حركتها دبّ من خلفها وراح يمتصّ بطنها.

تلك اللحظة شُغِلت باللعب مع العنكبوت عمّا يحيط بي. انتبهت إلى أنّ موعد المقابلة انتهى. كلّ الجهد الذي بذلته من أجل مقابلة سعادة المدير ضاع منّي أمام خيوط واهية ذكّرتني بلعبة من ألعاب الطفولة، وما عليّ إلاّ أن أبحث عن عمل من دون التفكير بأيّة توصية من أحد بعد الآن.

توقفت الموسيقى

فتساءل الطبيب

اختفت الدوائر الزرقاء، فنهضت وعدت إلى المقعد، فتأمل الطبيب وقال:

- لا أظنّ أن هناك أمرا يثير القلق.

- لست قلقا لكني أشعر بالندم كوني بدأتها لعبة تشبه ألعاب الطفولة فإذا بالشئ الخارجي يصبح جزءا لا يتفصل عني. يأكل لي وآكل له. نجوع نحن الإثنين، ونشبع.

- لا أرى أنك تحتاج إلى علاج. أذناك سليمتان حيويتان أكثر من أي عضو في جسدك.

هل من خطر؟

- كل شئ طبيعي وما عليك إلا أن تتعايش مع الحدث الجديد الذي حل فيك احتسبه مثل سنّ صناعي تزرعه في فكك ولا تنس أن الطبيعة أرادت أن تعبر عن حبها لك عبر العنكبوت!

- هل تظنّ العمليّة سهلة

- أتفق معك جرّب أن تتعايش ويمكنني أن أساعدك أتفق مع لجنة الأطباء أنّك أصبحت من ذوي الاحتياجات فلا يضايقك أحد.

تلك هي الصدمة وليست

المفاجأة

وهو بعض من

الخوف

كنت أقبل العنكبوت ضيفا يقيم لأجل غير معلوم وق استُثرت حين عرفت أنّه اصبح بعضا من جسدي

استفزّتني الرؤيا الجديدة

هل أفقد أذني ذات العنكبوت؟

فإذا ما استأصلته هل تعود إلى سيرتها الأولى؟

اللعبة اختلفت

تحولت إلى معادلة جديدة

في جسدي شئ يحب القذارة

قريب من رأسي

ليس ببعيدٍ أن أصبح هدفا لحشرات أو حيوانات أخرى تريد أن تحتلّ جسدي.

من قبل سمعت أكثر مما رأيت

ربما أكون انحزت لسمعي أكثر من بصري والطبيب الجراح أجرى عليّ فحوصات شاملة:

العين

الأنف

الأعضاء الأخرى كلها سليمة

وفي الزيارة الثانية انكشفت خبايا لاتخطر على بال.. منذ يومين فقدت شهيتي.. أشعر أن معدتي ممتلئة حتى عرفت ان العنكبوت في أذني يأكل لي... مثل الأم التي تتغذى فيتسرب الطعام إلى طفلها.. معدتي اكتفت... أصبحت زائدة لا فائدة منها.. وأصبح طعامي مجموعة من الحشرات..

إني آكل ذبابا

وفراشا وصراصير

قذارات كثيرة..

- لم لا تغير الأجواء؟

أشار عليّ الطبيب:

- يعني؟

- أن تسافر مثلا.

بمعدة زائدة؟الماء نفسه لم أعد بحاجة له!

بضعة أيام...

رجعت إلى الحاسوب أبحث عن رحلة قصيرة، بعد دقائق من البحث توقف المؤشرة عند رحلة أمدها عشرة أيام في منتجع بجزيرة (رودس) حيث المنام والطعام الذي لست بحاجة له |.. قلت أجرب لعل أرى وأستاف أشياء أخرى جديدة علي غير التي كنت أسمعها!

هذا ماحدث بالضبط بعد أقرت اللجنة كوني من المعاقين!

***

القسم الثاني: رودس

أخيرا

بعد بضعة أيام

مارست الرحلة الأولى

هبطت رودس

بين بحر مرمرة والمتوسط أصبحت

كان المنتجع جميلا بشرفه الممتدة بين الشارع الفرعي وحقل الزيتون الذي يحاذيه من جهة الغرب، وحين أقف من شرفة غرفتي أرى على بعد قريب بركة السباحة التي تعج بالحركة فتزدحم بفتيات وفتيان أحبوا تاماء والشمس. وكان الساحل على بعد مسافة يسيرة من شارع المنتجع الذي تتناثر على جانبيه أشجار الزيتون والبردي والدفلى. ثمّ تقاطع الشارع العام فموقف الحافلة لأدخل بعدئذ طريقا قصيرا على جانبية حقل فلفل وخيار ينتهيان ببعض البيوت.

منظر مهيب أوصلني إلى الساحل

مع ذلك لم أجرؤ على العوم خشية على أذني أمّ العنكبوت.

كنت بعد قدوم الضيف الذي التحم بي أمسح شعري بالماء. وأشطف وجهي. اضطر أن أغتسل من رقبتي إلى قدمي.

ربما فكّرت أن أغطي أذني بغطاء لا يتسرب منه الماء... راودتني الفكرة فأعرضت.. خشية من أن يتوغل العنكبوت في أذني أو يختنق فيموت، فيسبب لي مضاعفات مزعجة.

أصبحت حركتي مع الماء محدودة.

وصلت الساحل.. تمتعت.. بمنظر المتزلجين على الماء والأشرعة.. جلست بعيدا أراقب رجالا ونساء وأطفالا مفتونين بالماء والموج..

خانتني الشجاعة في أن أنزل إلى الماء، وواسيت نفسي بالشمس التي بدت ساطعة قبل أن تهبط من جديد إلى الماء بوقت بعيد.

كنت قبل أن اصل جزيرة رودس أنفر من الطعام..

أكتفيت بما يأكله العنكبوت، أما هنا في رودس فكان المنتجع يقدم كلّ يوم ثلاث وجبات.. ألتفت في مرآة الحمام إلى أذني، وأوحت النظرة الجاذبية التي لملمت المشهد.. لمحة ارتدت إليّ، بشبكة في أعلاها يصحو أو ينام الكائن الصغير المرعب.

لم تعثر عيناي على بقايا حيوات.

رحت أشعر بالجوع..

جوع حقيقي.

مضاعف...

كنت أقف في الطابور السريع حيث امتدت أمامي أصناف الطعام... سجق

بطاطا.. لحوم..

خبز يبهر العيون

مقبلات

حلوبات

زيتون

كأنّها الجنة الموعودة..

هي أشياء ترى ليست جديدة عليّ إذ سافرت من قبل وحدي، ولربما كان نظري أقوى من سمعي فلم أنبهر بها، ومارأيت الآن يدلني على ألا آكل لي وحدي.. كان العنكبوت المخبوء في أذني ساكنا طول الرحلة التي امتدت بالطائرة أربع ساعات.

لا أظنّ أحدا التفت إلى أذني منذ وصولي المطار وركوبي الطائرة إلى الآن....

لم يتحرك

أقنع نفسي وأضحك في سري من أين يدخل الذباب في الطائرة، من أين تأتي الحشرات، أظنّه جائع مثلي!

اخترت منضدة تسع اثنين في مواجهة زرقة تنتهي بسلسلة جبليّة، رحت ازدرد الطعام واسمع طنينا خافنا في أذني. أراه رجع ثانية إلى حسابات قديمة، آكل يشبع، ويأكل فيشبع. الطبيب على حق حين قال لي إن الإنسان انفصل عن الطبيعة فصمتت عنه دهرا، أما الآن فقد بدأت تتجلّى نحوه لكي تلتحم به.. بدأت مشوارها من جديد لكي لا بقضي عليها الإنسان بجنونه المفرط.. اليوم أصبحتُ هدفا لعنكبوت، وغدا غيري يصبح مرمى لذبابة أو دبّور.. عقرب... سبعة مليارت تعيش على الأرض سبعة مليار هدف بنظر الحشرات.

أو

غيرها

من تحليات الطبيعة الأخرى

رقم هائل...

أنهيت جلب المرطبات، وحين عدت اعترضني رجل في الخمسين من عمره أبيض بحمرة.. تجلس قبالته سيدة شقراء، في الأربعين معتدلة القوام.. رشيقة ذات عينين زرقاوين:

- مرحبا!

قالها بابتسامة ودوددة.

- أهلا...

- إذن أنت عربي..

- كيف عرفت؟

من سحنتك وتقاطيع وجهك في مثل هذه الحالة ألقي بكلمة مرحبا فإذا كنت غير عربي لن تجيب!

سحبت كرسيا وجلست بينهما، وقال:

- زوجتي روسية تتحدث العربي’’عاشت معي في لبنان فترة، نحن الآن نعبش في ألمانيا

هززت رأسي مرحبا:

أهلا وسهلا

فقالت بلهجة عربية ذات لكنة

شكرا لك.

فقال الرجل من دون تردد، وهو يضع الملعقة جانبا:

- أنا من بيروت سنّي وأختي متزوجة من شيعي جنوبي والله لقد فرحت حين رأيت الصواريخ تحوّل بعض أحياء تل أبيب إلى أنقاض مثل غزة.. يلكن هؤلاء الحكّام الخونة...

عدنا للحرب ثانية، الحرب التي أدخلت العنكبوت في أذني... أكثر ممن حرب مرت بي.. 67.. 73 الخليج الأولى.. الثانية.. العراق.. سورية.. كلها تجمعت في أذني بشكل عنكبوت.. جئت هنا لكي أرتاح. زرودس جزيرة السحر والأساطير مع ذلك علي أن أكتم علامات الضيق.:

- ياسيدي العرب غير راضين لا عن إيران ولم يكونوا راضين عن الاتحاد السوفيتي الذي دعمهم زمن الشيوعية ولن يرضوا عن أيّ أحد.

فقالت زوجته بلغتها الغريبة المفهومة:

- لو كان الزمن زمن خروتشوف وبريجينيف لما تجرؤوا على فعل ذلك لا في غزة ولا في أوكرانيا

فابتسم ابتسامة واسعة، وقال:

- لا تقلقي البركة في بوتن أبي علي سيعيد أوكرانيا إلى بيت الطاعة!

حاولت أن أغير الموضوع:

- كم يوما ستبقى ها؟

- نحن غدا نعود إلى ألمانياصار لنا عشرون يوما هنا!

قد يكون التفت إلى أذني وتجاهل أن يسألني عنها.. ربما يظنه - فيما لو انتبه - جهاز سمع جديد أو تشوها خلقيّا غير أني أدركت أن الحرب تلاحقني إلى أي مكان.. مثل الموت.. في الوقت نفسه خَفِي عنّيِ أن سمعي أقوى من بصري حتى كشف الحالة الطبيب، ليست يداي ولا يصري أو حتّى رجلاي .. لوكان نظري هو الأقوى فأيّ مخلوق من مخلوقات الطبيعة يمكن أن يحلّ فيه؟!.. مع ذلك تفاءلت أن هذا الرجل الذي يتحدث معي بلغتي الأم هو آخر من ألتقيه هنا في هذا المكان الآمن.

نهضت، ومددت يدي مصافحا... فأخرج الرجل بطاقة من جيبه وَبَسَطَ إلّيَ يَدَه:

- اسمي وعنواني والإيميل آمل أن نبقى على اتصال.

شكرته وصافحت زوجته، ووعدته أن أتصل به، كان في ذهني أن أزور القرية السياحية القريبة التي وصفها لي موظف الاستعلامات وتحدّث عن مشهد تمثيلي يقدم في الساحة العامة. عدت إلى غرفتي، استرخيت ساعتين، في الساعة الرابعة وقفت في الشرفة أتمطى فوقع بصري على السيد ( واثق)وزوجته يتجهان إلى حوض السباحة كانت في المايوه.. وعن بعد تبينت جمال قوامها... حبب إليّ - والمسافة غير بعيدة - أنّ السنين لم تترك في جسدها أثرا ولم تبالغ كثيرا... لم ينتبها إليّ وطالت وقفتي لبضع دقائق حتى اقترب موعد قدوم الحافلة التي تمر كلّ ساعة فارتديت ملابسي وغادرت إلى القرية الصغيرة حيث المهرجان الصيفي والعروض المسرحية في الهواء الطلق.

بدت القرية بشارعها الضيق، وساحتها الصغيرة ودرجها الهابط إلى شارع فرعي آخر، بدت مثل مدينة كبيرة يمكن أن تبتلع العالم كلّه في بضع لحظات.

لم أشعر بالوقت.

انتبهت والغروب يهبط والشمس تعانق البحر إلى أني لم أر إلى الآن عنكبوتافي الجزيرة. لا شك أنه موجود، عيناي هما الغائبتان اللتان رآتا حشرات مألوفة تطير وتحط..، ربما شغلني الأكل. كنت آكل بنهم، وأتحدث مع جليسي بالعربية... غدا لا أحد يكلمني بلغتي الأم، ولعله يكتب إليّ ذات يوم.

سأظلّ أحدّث نفسي وهذا يكفي على الأقلّ من باب المواساة..

لا يهمّ

يمكن لصاحبي أن يحب حزب الله

إيران..

قد أختلف معه وقد أتفق

مع ذلك شعرت بالارتياح حين تحدثنا

لا عليّ.. مسحت على أذني حاضنة العنكبوت برفق فشعرت باهتزاز خفيف.

ساورني اطمئنان

فكرعت جرعة ماء، وقصدت مسطبة صغيرة..

بدأ الناس يتجمعون. أجانب ومن أهل الجزيرة، صدحت موسيقى، وصعد شباب وشابات، من حسن حظي أني وجدت مكانا فقد اكتظت الساحة بالحشود التي جاءت تتابع العرض.

قرية صغيرة بحجم العالم..

أغان لا أفهمها وأتفاعل معها.

رقصات تجعل جسدي يرتعش..

يصعد مقنعون.

يتصافحون

يتحاربون

سيوف ورماح

الحرب بصيغة أخرى.. حين أبصرت مصادفة حرب غزة اغتنمها فرصة عنكبوت فدخل أذني...

الآن

لا أبصر وجوه المتحاربين

آنسة تزعق

وأخرى تقهقه

أشعر بهزة خفيفة في أذني

رجل في السبعبن جالس جنبي يتابع العرض أظنّه يكلمني

لغته غريبة لكني أهمه.. ليست الإنكليزية، ولا العربية اليونانية بلا شك..

مع ذلك أفهمها بوضوح

....

العرض رائع هل تفهمني.

يبتسم ويهز رأسه:

...

أيّة معركة هذه..

لايعرف لغتي بالتأكيد، لكنه يفهمني:

معركنا كثيرة... مع الفرس.. الرومان.. معركة طيبة... معركة الآلهة، عليك أن تختار أيّة منها، فالتاريخ يعيد نفسه في كلّ لحظة.

.....

أنت على حقّ

في اليوم التالي جلست على مائدة الفطور. التقطتُّ جبنا وزيتونا وخبزا خفنة وقصدت وعاء القهوة.

الحق شعرت بجوع شديد، فابسمت

العنكبوت اعتمد عليَّ في هذه الجزيرة

لعله في يوم ما... ساعة ما لا يفَكِّر بالطعام

ليأكل اما يشاء بفمي

من الأفضل...

مع رغبتي في الأكل راودني فراغ لرحيل سائح وحيد حدثني باللغة العربية بتعبير آخر شخص اكتشفني.. مباشرة بعيدا عن المقدمات خاض في حرب الإثني عشر يوما..

سبّ الحكام...

وأمريكا

وإسرائيل

وتشفّى بالصواريخ الإيرانية التي جعلت بعض مبانٍ من تل أبيب أنقاضا مثلما حدث لغزّة

يمكن أن أختلف معه أو أتفق سوى أن دهشة اعترتني من داء الزمن الذي يسمونه مصادفة

مع أني لا أؤمن بالمصادفات

وحجتي التي لا تجد تفسيرا أن عنكبوتا قصد أذني وحدها

كانت إحدى العاملات الرشيقات تقترب من منضدة تركها عجوزان، تلمّ صحونها الفارغة.. ألقيت نظرة من خلال الزجاج على البحر وسلسلة الجبال واغتنمتها فرصةً لحظةَ دفعت العربة بمحاذاة منضدتي:

سلسلة جميلة أليس كذاك؟

- إنّه بحر مرمرة وأسطنبول هناك بواخر تبحر إليها من الميناء في مركز المدينة..

الدّهشة تراودني:

- كم يستغرق الوقت؟

- أقلّ من ساعة جرّب!

تأملت قليلا:

- لا أظن فليس في خطّتي جدول آخر. لكن لو سمحت.. هل تحبين... هل تحبين حضور العرض المسرحي معي الليلة في ساحة القرية.

- لا مانع لدي فعملي في المنتجع وقت الفطور والغداء.

- إذن إحسبي حسباك لن أتناول عشائي هنا في المنتجع !

غادرت قاعة الطعام ودار في خلدي أن ألفّ في المناطق القريبة أحدق في الحقول على جانبي الطريق وساحل البحر.. أبحث عن عنكبوت.. وأظنني تجاهلت رجلا قابلته البارحة حدثني بلغة لا أعرفها وفهمته وحدثته بلغة لا يعرفها وفهمني. فمن هو؟كان عليّ أن أسأله عن اسمه.. الليلة الماضية شهد العرض معارك وأقتعة.. غناء حزين وصراخ.. الليلة سأعيد الكرة لكن مع امرأة أفهمها وإن كانت تتحدث بلغة عايشتها.. ليست لغتي. وليست لغتها.. كيف تداهمنا المفاجآت.. سرتُ في الطريق نفسه.. دخلت حقلا مزروعا بالفلفل.. وآخر عبر يمين الطريق خيار.. لم تقع عيناي على عنكبوت... جالتا بين أشجار الخطمي والبطم واللانتانا وبهرني جمال البونتينا بزهورها البنفسجية وقامتها.. رأيت حشرات كثيرة.. البارحة تركت النافذة مفتوحة فجالت في غرفتي حشرة غريبة لفت ودارت.. كنت متثاقلا من أن أنهض فأطردها، لكن الآن وفي مكان أوسع لا أرى عنكبوتا.

هل هربت العناكب لتغزو الأماكن البعيدة...

للمرّة الأولى أشعر بقلبي يخفق. أتساءل أو يسألني غيري هل أحببت من قبل؟لم أكن أعرف الحب، تجاهلته، فأكتشف أمرا خطيرا، مع كلّ هزّة في الشبكة حيث لا حشرة تقع أعرف أنّي أكذب. هذه المرة لا هزة في الشبكة. فتحت عيني على المدرسة وجمع الحشرات، المعلم نفسه لم يقل إن العنكبوت ليس حشرة، وللطرفة أذكر أنّ أحدنا _أميّز ملامحه ولا أتذكّر اسمه- أحضر في يوم جمع الحشرات للمعلّم دودة أم أربع وأربعين... يقال إنها تدخل في الأذن، هذه الملاحظة نسيت أن أتحدّث مع الطبيب النفسي عنها.. وفي الحرب أو الحروب التي عاصرتها ولم أساهم فيها وجدتني ابتعد عن الحب، كلما اندلعت حرب وإن كنت بعيدا عنها نسيت الحب. الروعة أن ترى الرعب من بعيد ولا تكون جزءا منه..

كانت (أسترا) علامة جديدة ذكرتني بما نسيته، اهتزت شبكة أذني، فاعتذرت. علي أن أقول تجاهلت. نعم تجاهلت في الثالثة والثلاثين من عمري، وهي على ما أظن في الثانية والعشرين.

أشعر بفراغ كبير

لا أجد عنكبوتا في الجزيرة، وأرى حشرات أخرى، ماذا يحدث لو وقع بصري على شبكة بين أغصان الورود، هل يغار الذي يتربّص مقيما في أذني؟

جلست على البحر أراقب المتزلجين على الماء والأشرعة،، واتجهت نحو زحمة الساحل. بودي لو أستطيع النزول إلى الماء كما لو كنت من قبل قبل أن يأتيني الغزو. في الحمّام. أغطي أذني بمنشفة خفيفة، وأغسل شعري بحذر. ثم أرش الماء على رقبتي وجسدي.

أظن أنني أستطيع أن أدخل الماء أتوغّل فيه إلى صدري ولا أنزل بعيدا، مادام العنكبوت أصبح امتدادا من جسدي، فلا أدري ماذا يحدث لو اختنق..

جربت.

شعرت ببعض البرودة

وتوغلت.

وشوشة ما في أذني ولا اهتزاز.

تجرأت أن أدخل الماء إلى حدّ رقبتي ثمّ توقفت.

وفي الظهيرة وجدتها مع ثلاثة أخريات، ينضمن الموائد.

ابتسمت لي، فبادلتها بابتسامة.

التقطت. سمكا، ومرقة فاصوليا، وبعض الللبن. ملأت صحنا آخر بتفاحة وكمثرى وحبة مندرين وجدت منضدة فارغة في منتصف قاعة الطعام، كانت تروح وتأتي مثل نحلة سكرى. رفعت لها يدي فقدمت مبتسمة:

- سآكل بشهية كبيرة فقد كنت في البحر.

- صحة

- لا تنسي سأنتظرك في ساحة العرض بالقرية هل يناسبك الساعة... السادسة

- أوكي

وانصرفت.. عنّي إلى عملها..

فرح يغمرني..

لوكنت كاذبا لاهتزت الشبكة من دونما حشرة، وهنا أنا آكل لي وللعنكبوت حتى لا يجري في دمي غذاء آخر من بعوض وذباب.

أكلت

وأكلت

التهمت الطعام بشهية مفرطة

وتمتعت بالآيس كريم...

بلا شك مرت الساعات ثقيلة، حاولت أن أغفو، لسخونة الطقس تركت باب الشرفة مفتوحا. شعرت براحة تامة، وأدركت أن الوقت للحب وإن جاء متأخرا فهو ما كان ينقصني.

نشوة

ارتياح

شعور بالزهو...

انتصار من دون التحضير إلىحرب وقتال...

غادرت المنتجع إلى موقف الحافلة ـووصلت إلى ساحة القرية قبل ساعة.. جلت في الطريق الضيق وأبصرت تغيرا في الساحة.. هناك حركة.. بدأ الحرّ يخفت.. عبرت الساحة من عند الدرج الهابط إلى الشارع الضيق الموازي الذي يكتظ بأشجار الليمون..، استدرت في نهاية الشارع.. صاعدا إلى الشارع العام حيث تجلس امرأة ضخمة الجسم خلف منضدة صُفّت عليها جرار تنادي بنغمة هادئة.. عسل طبيعي حالما اجتزت مسطبة العسل، رأيتها تتهادى مثل حمامة باتجاه الساحة الصغيرة حيث المهرجان. كانت ترتدي قميصا أبيض يكشف عن ساعديها وتنورة طويلة طراز طبعةَ الورد باللونين الأحمر والأبيض حثثت الخطى خلفها وحالما أصبحت على بعد خطوات هتفت:

- أسترا

التفتت إلي:

- هل جئت مبكرا؟

- وصلت قبل دقائق فهبطت الدرج ثمّ التففت من طريق آخر إلى الشارع العام...

- أعجبتك القرية؟

- هل أبالغ إذا قلت قد تكون الفردوس!

- هناك أيضا المدينة القديمة.

- يمكن أن نزوره اأيّ يوم إذا أحببت.

للمرة الأولى تلتقي عيوننا ونحن سائران:

- كما تشاء.

قلت كأنّي أتطلّع إلى زمن سرمديّ:

- كم شهرا تستمر حركة الناس والمهرجانات ؟

- موسم السياحة من حزيران إلى منتصف أكتوبر.

- ماذا عن المنتجع؟هل يتحوّل إلى مشتى؟

- يغلق.

تنتهي الضجة.. الحيوية.. الصخب اللذيذ، ولا أتصوّر كيف يكون لون الشتاء...

وصلنا إلى الساحة التي بدأت تكتظ بالناس، من حسن الحظ وجدنا كرسيين متجاورين في الصفوف الخلفية. الم أزاحم ماريا فأسبقها، كانت تتقدمني فتجلس عن يميني.

أذني العنكبوت

هل أثير فضولها.... طول الطريق جعلتها عن شمالي...

كان معظم النظارة من الأجانب وبعض اليونايين السياح، ارتقت فتاة عذبة رشيقة المسرح، وصدحب موسيقى، فراحت الفتاة تتحرك برشاقة ثمّ توقفت الموسيقى وكفَّت عن الرقص ليرتقي، شاب، فيبدأ بالغناء، مالت على أني فاعترتني خيفة من أن تلمح من بين ضباب الأضواب مافي أذني:

- أغنية لمطرب يوناني.. الشاب المغني أعرفة من رودس.

لم يبن على قسماتها أي انفعال فقلت مجاملا:

- يبدو أنّها أغنية جميلة:

فمالت ثانية تهمس:

ذهبت حيث تهمس عيناك لأوّل مرّة...

أين الحب حبي العذب

حتى يدفننا في البرد والصقيع

أَقْفَلَ الباب وضاعت المفاتيح

لديّ رغبة أكبتها.. رغبة أن أمسك يدها... شئ جديد لا أعرفه غير العنكبوت يجتاحني.. لا أستطيع أن أصفه.. بالأمس حضرت معارك بالأقنعة البارحة والليلة تبدأ مسرحية، الوجوه فيها، مكشوفة.. واضحة القسمات.. فتاة.. وأم... وشاب يحمل السهام.... يرمي السهام على فتيان وفتيات فيهيم كل فتى بفتاة.. وينسى الرامي فيجرح نفسه.

ملت عليها:

- أليس كيوبيد..

هو نفسه عندنا أوريوس..

لا أتذكر بقية القصة، بل عرفت كيوبيد يرمي السهام، هناك حركة.. فتاة تختطف.. لا أدري مايجري، وفي النهاية انكشفت الأنوار، فنهضنا، كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة:

- هل نتعشى؟

- كما تحب.

أشرت إلى مطعم قريب على الرصيف المقابل:

أ- تحبين البتزا؟

فأطلقت ضحكة قصيرة وقالت:

- هذا لا يبيع البيتزا.. إنها ريتزا.. جبن بالخبز.. حرف P في اللغة الإنكليزية R باليونانيّة

فضحكت من نفسي.. ومسكتها من كتفتها، مازلت أحتفظ بحدودي معها.. لا أريدها أن تهرب من حياتي مع أنّي أدري أنّها تجيد الإنكليزية.. وأنا أتحدثها غير أننا مثل الكومبيوتر.. مثل نظام Yotub لا نتحدثها بمشاعرنا ...

مجرّد مهارة..

قادتني إلى مطعم هادئ في شارع فرعي، قالت:

- لن تجد البتزا إلا في المدينة القديمة.

- مارأيك أن نتناولها غدا.

- هذا كثير

- ولا يهمك.

في نفسي أن ألمس يدها. أبحر في عينيها. لمت نفسي على أني هجرت المشاعر لأمر لا أعرفه حتى تجاوزت الثلاثين. قد يكون في حياتي السابقة جانب عبث.

إهمال...

إنبهار بما يجري من حولي.

لا أحب أن أتحدّث عن نفسي وعن الماضي، ولا عن أغلب الحاضر، ثلاث ليال انقطعت فيها عن أخبار العالم والحرب.. أريد أن أعيش بلا حروب.

بلا مشاكل

بلا ماض.

لتذهب الأحداث التي عشتها إلى الجحيم.

الحروب.

الأزمات الاقتصادية

الأمراض

الجوع.

قدم النادل، فتركت لها حرية الاختيار. وجاء بعدئذ يحمل بعض الأطباق، فنظرت إليّ بحنو وابتسمت:

- الدولما طبق يوناني مفضل.

مازلت أحبها، وأطبخها. شعرت بهزة في أذني

هزّة خفيفة. أظنّه راضيا.. هكذا خيل إليّ، أما الوعاء الثاني فامتلا بالزبادي والخيار والثوم.:

التزازيكي

أشارت إليه، فهززت رأسي مسرورا:

نسميه الجاجيك عندنا.

في نفسي أن أرفع لفة دولما إلى فمها. كثير من الرغبات أؤجلها، حرصا على المستقبل. لكن هل تظن سوءا بي حين ترى أذني؟قلت أقطع الصمت:

أمس كنت وحدي، حضرت معركة وكان الممثلون مقنَّعين، واليوم شاهدت معك رواية والممثلون من دون أقنعة.

فردت بابتسامة عريضة:

الحرب غموض، أما الحب فجمال وروعة، لا تنس أن الممثلين الأوائل كانوا يمثلون الحروب والمآسي بأقنعة.

فخطرت في ذهني فكرة عن نهاية لا أعرفها:

ماذا يفعل هؤلاء بعد الصيف.

لا شئ نبحث عن عمل آخر وبعضنا يتحول على نظام المساعدات.

وأنت؟

أنا جمعت نقودا لا بأس بها سأذهب لأسجل في الجامعة بأثنا قسم التاريخ.

أكلت بلهفة والعنكبوت ساكن.. ارتحت لروائح الطبخ في المطعم، ودقة الترتيب، وحضر الآيس كريم، فتساءلت:

أترغبين في شئ آخر؟

كلا من الأفضل أن نذهب؟

ممكن أن تتصلي بسيارة أجرة نسقلها معا فتوصلك قبلي ثمّ تقلني إلى المنتجع..

أنا أسكن في بيت أختي ليس بعيدا عن المنتجع! (وأضافت) زوجها يعمل بحارا على البواخر التي تتجه من المرفأ إلى تركيا فإذا مافكرت أن تعبر بحر مرمرة أخبرني!

- ربما.... ماذا عن غد؟

سأنتهي من دوامي الثانية أذهب للبيت ساعة.

نلتقي هنا في القرية؟

يمكنك أن تستقل الحافلة إلى القرية فآتيك عند البوابة الساحة الرابعة أ نذهب إلى وادي الفراشات ثمّ نقصد المدينة القديمة!

وهو كذلك. دلفنا في السيارة، وراحت المشاهد تتراقص في عيني؟ أذني اليمنى حيث الشبكة تقابل الساحل. الطائرات التي تقلع من المطار.. الأضواء التي تتراقص.. الحر الذي افتقدته في مدن الشمال.. الحب الذي عثرت عليه مصادفة..

دخلت بنا السيارة في شارع زراعي خمنت على ضوء السيارة الساطع أنّها أشجار زيتون وحشائش ورمان، كان الشارع لايبعد سوى مسافة كيلومتر عن التقاطع المفضي إلى الساحل القريب من المنتجع. وتوقفت بعد مسافة قصيرة أمام بيت في مقدمة بيوت تبيَّنت أنها لم تزد عن خمسة أوستة، هبطت ولوحت لي بيدها:

أراك غدا.

استدارت السيارة نحو الطريق العام. شعرت بحيوية ونشاط، وكدت أنسى العنكبوت. حركت يدي وضغطت ضغطة حفيفة نهاية شحمة أذني.

كل شئ على مايرام.

في الفندق استرخيت قليلا...

اضطجعت على ظهري، وغالبت النوم. كانت الليلة حارة، فتركت باب الشرفة مفتوحا، رددت الستارة الناموسية على الباب، وبقيت وحدي مع العنكبوت. هناك حالة جديدة.

حالة غريبة..

أفهمها ولا أفهمها.

حياة تجذبني عن الماضي إلى الماضي.

في بلدي غادرت مباشرة بعد أن لاعبت العنكبوت. قلت إنّي حملت توصية، وحين وصلت مبكّرا لمقابلة السيد المدير اغتنمت الفرصة فجلست في الحديقة، لكن بعد أن رأيت العنكبوت لا يأبه لرذاذٍ من بصقتي يهزّ الشبكة... غادرت المكان..

هذا ما حدث بالضبط..

ظننت لعبتي مع العناكب انتهت...

هربت

غادرت الحروب والخوف

القلق والخشية من االحاضر

رحلت إلى مدن الشمال

ولم يخطر أن لعبة بدأتها في الطفولة أو الصبا ارتدت عليّ

فما

أحسه الآن هو شعور بالدفء والحب.

بداية تعوضني عما فات

ماذا بعد؟

وسط الهواجس غلبني النوم، سكنت تماما، فذهبت إلى ساحل البحر. الوقت ضحى، والشمس ساطعة. لا أحد على الساحل غيري سوى ما يقع عليه بصري من جبال ممتدة على بحر مرمرة... نسيت العنكبوت، وقفزت إلى الماء.. ويبدو أنّي نسيت السباحة فوجئت بعمق البحر على الساحل. ضربت بيدي ورجليّ

لا أحد يسمع

وبين اليأس والأمل مددت يدي فأحسست بكف ناعمة تسحبني إلى الساحل. لم أر وجها بل عرفتها من ضحكتها... فسقطت على الساحل لأجدني أستفيق من كابوس البحر، والعرق يتصبب من جسدي....

العطش.. يباس فمي..

والعنكبوت.. يهتزّ هزة خفيفة...

فعرفت أني انقليت على جبني الأيمن.. إذ منذ مارست اللعبة اعتدت أن أنام على ظهري وجنبي الأيسر، فخطوت إلى المبردة.. ورحت أكرع قنينة ماء.

3

في الصباح رأيت إطلالتها عند الفطور

مريلتها البيضاء

لفة شعرها الحفيفة

رشاقتها وجدتهافي المطبخ مع عاملتين يتعاونَّ على توزيع الطعام في العارضة وعلى المساطب، كوب شاي، وبعض الجبن والبيض، وعيناي تحومان بين سلسلة الجبال والبحر، وخطوتها الرشيقة بين المطبخ وعارضة الطعام تسد النقص أو تجمع الصحون الفارغة.

كم كنت أشعر بالفراغ لو لم ألتقها.

أظنّ أنّي أكثر سعادة من الآخرين.

وعندما ختمت فطوري غادرت قاعة الطعام، وتوليت عن غرفتي.

لدي الكثير من الوقت.. حشود من الثواني والدقائق. والساعات.، البحر أمامي ولا أقدر أن أغطّ إلا إلى رقبتي.. خلَّفت المنتجع وراء ظهري وتجاوزت البيوت القريبة، قبل أن أصل التقاطع إلى حيث البحر، استدرت يمينا فعبرت أوّل سويرماركت، ومعرض السيارات القديمة فالمطعم السياحي

عندئذٍ

لاح لي الدرب الذي دخلته سيارة الأجرة البارحة، تخميني كان في محله.. أشجار رمان وليمون وعنب، وحين تقترب من البيوت عن يسارك محل مفتوح تكدست في واجهته ربطات من البصل الأخضر...

بيت أختها أوّل السطر..

ابتسمت لي السيدة من عمق المحل.. فبادلتها بابتسامة، وتمعنت في البيت جيدا.. حديقة صغيرة شجرة ليمون.. وباب في أعلاه رأس تمثال قديم.. ثمّ رجعت إلى الشّارع العام... تجوّلت في المحلات الثلاث القريبة من المنتجع.. ماذا يمكن أن أشتري.. قبعات، وميداليات.. سفن صغيرة من خشب ذات شراع.. وأخرى من نحاس.. تراث جزيرة عبر قرون... ترددت أن ابتاع شيئا غير قنينة ماء.. شراء أيّة تحفة يذكّرني باليوم الأخير.. الرحيل.. أحاول أن أتجاهل.. أحيانا من دون مسوّغات.. نتجاهل أو ننسى.. لو سألني الطبيب النفساني ماذا جمعتم قبل أن يأمركم المعلم بجمع الحشرت.. لتذكرت أنّه طلب منا أن نجمع أوراق الشجر نلصق ورقة في كل صفحة ونكتب وصفا لها.. جمعت ورق سدر وتوت.. صفصاف.. ورق ورد الجهنمي.. ورق الدفلى.. استحسن المعلم مافعلناه وعاتبني.. كان إنسانا لطيفا.. أنبني أن عدنا في حديقة البيت نخلتان ولم أقطف خوصة أضعها في الدفتر... الخوص أيضا ورق.. وكأنّ نسياني خوص النخلة دفعني لأن أفرط خلال الواجب الجديد في صيد الفراشات،

حقا رأيت نخلة صغيرة ذات ثمر صغير أخضر بين السوبر ماركت ومعرض السيارات القديمة..

كرعت نصف قنينة الماء وغادرت إلى البحر.

ارتحت للجلوس على الساحل.. بضع خطوات عن الماء...

المناظر تنسخ نفسها من دون أن تسبب ضجرا

سلسلة الجبال..

القوارب الشراعية

زوارق التزلج..

نساء بالمايوهات..

كل مارأره الآن يصبح في الشتاء سرابا

أطلالا لا أثر على الماء

مشاهد تسبِت مثلما تسبِت الدببة في صقيع سيبيريا!

هل يمكن أن أعبر هذه اللحظة بمعجزة ما الخريف والشتاء إلى صيف آت..

لقد بدأت أخشى البرد

والعتكبوت في أذني هادئ صامت!

قبيل الغداء عدت من البحر إلى غرفتي، ارتحت قليلا، وغادرني حين رأيتها الإحساس الهائل بالوحدة.. العنكبوت ظلّ في سكونه... وزعت ابتساماتي بينها والعاملات المنهمكات في خدمة القاعة.. هذه المرة اتخذت مكاني خارج القاعة في الشرفة تحت المظلّة.. جمعت أنواعا من الطعام.. واستمتعت بعد الوجبة بالآيس كريم.. كانت الحرارة بلغت الرابعة والثلاثين.. في النهاية قدمت العاملة ذات الأربعين عاما تجمع أطباق مائدة غادرها الزبائن.. ثمّ خرجت تدفع عربتها ثمّ بعد دقائق قدمت أسترا تحمل صحنا صغيرا فيه قطعتا بقلاوة:

البقلاوة قدمت متأخرة... هذه لك

شكرا.. (تسرعتُ) أسترا بيتكم ليس بعيدا من هنا هل تمانعين أن أنتظرك عند موقف الحافلة ؟

فابتسمت ابتسامة واسعة:

- يمكنك أن تشرب القهوة ثم نغادر!

_إدن اتفقنا!

غادرت الشرفة الملحقة بقاعة الطعام، وكانت ماريا منهمكة، في جمع الأطباق وترتيب الشراشف.. راودني وأنا أهبط، الدرجات أن أمرّ على مكتب الاستقبال، وجدت الشاب مارك الذي استقبلني أول يوم وصلت.. قلت: متسائلا

هل يمكن للسائح أن يدعو إحدى العاملات لمرافقته إلى إلى المعالم السياحية؟

هذا شئ طبيعي لكن أنصحك أن تتفق معها سلفا على النقود. وساعات العمل التي تقضيها معك..

هو الهاجس القاتم الذي وخزني، فلم أتحمّل حتىّ تبينته. هل ذهبت مع مشاعري بعيدا؟أشكّ أنّها عدت دعوتي لها ساعات عمل تنتظر أن أدفع أجرها. لقد جمحتُ إذن بخيالي إلى درجة أنّي أحس العالم خواء بغيرها على الأقل في الأيام الباقية لي من رحلتي، وماذا بعد. أنا في مدينة من مدن الشمال، هل تحقق في غضب الطبيعة بصورة عنكبوت ليدفعني إلى هذا المكان الدافئ.

استلقيت على سريري، انتظر الوقت، لكن الضّجر نكزني.

هاجس الخوف

هبطت إلى بركة السباحة. راقبت بلا رغبة فتاتين تتناولان الكرة وسط الماء وشباب، وصغار عند حوض السباحة الخاص بهم.

لايثيرني أيّ مشهد

ومازال عنكبوت أذني ساكنا، منذ أصبح جزءا مزروعا في جسدي لم يعد يهتم بالصيد وغواية الحشرات إلى شبكته.

غادرت البحيرة والمنتجع، عليّ أن أقضي الوقت، فأتأكّد من أنّه حب لا عمل.

هل اكتشفت عطشي متأخّرا؟

وصلت الساعة الرابعة إلى البيت، ضغطت على الجرس فسمعت الرنين ورأيت من فتحة الباب العلوية برقا يومض، وحالما انقطع الرنين انتهى البرق، فتحت الباب وخلفها طفلة صغيرة ذات وجه مدوّر في السنة الرابعة من عمرها.

- تفضل (وأشارت إلى الصغيرة ) ماريا ابنة أختي.

اجتزنا الممر المزدان بفاترينا اعتلاها تمثال العذراء وبعض الشموع، وصورة المسيح معلقة على الجدار إلى غرفة الضبافة فاستقبلتا سيدة ممتلئة القوام تضع سماعتين في أذنيها..، قالت كاليوبي.. أختي.... رحبت بي السيدة بابتسامة واسعة وكلمات يونانية لا أفهمها، انتقلت الطفلة إلى حيث أمها.. الشبه بينهما كبير وتكاد أسترا تنفرد عنهما بوجهها البيضوي وعينيها الواسعتين. وبلمحة عابرة رأيت صورة على الجدار تقابل الباب لرجل في االعقد الرابع، ممتلئ الوجه يرتدي ملابس البحر الزرقاء، اتخذت مكاني قرب المنضدة. قلت:

- هل هناك من شئ ؟لقد أوجست أمرا فقد رأيت وميضا يرافق صوت الجرص؟

غادرت الأم والطفلة صالة الاستقبال، وقالت أسترا:

- أختي ثقيلة السمع. أحيانا تخلع سماعتي الأذن حين تشعر باحتقان في أذنيها فتعتمد على ضوء الجرس الذي يرافق الرنين.

قدمت المرأة بالقهوة وكأس ماء، ونطقت فعقبت: تقول تفضل، وأردفت:

- سماعة أذن... ممتازة أحيانا تسبب التهابا.. أظنّ سماعة أذنك مزروعة أليس كذلك؟

ياللهول...

قد يكون من حسن حظي أن تراه جهازا يقوي السمع لا غازيا احتل أذني فأصبح بعضا منها.. منذ أن جئت إلى هذه الجزيرة تركت النت والبحث عن الأخبار. لا أعرف عن الحرب ولا يجذبني سوى الطبيعة والشمس والبحر.....

النت نفسه ضعيف في غرفتي ولا يعمل إلا حين أكون قرب مكتب الاستقبال

لقد تركت كل شئ ورائي..

لكنّ تصوّرها أراحني قليلا وعي تظنّ العنكبوت في أذني شبكة متطورة اقوّي سمعي الضعيق

وضعت فتجان القهوة جانبا:

أنا جاهز (التفت إلى سيدة البيت) شكرا للضيافة، ولوحت للطفلة بيدي...

راحت السيارة تنهب بنا الطريق ، وأنا أتجل المشاهد، المنحدر، التلة المغطاة بالأشجار، رصيف تتناثر عليه مساطب خشبية،، فاستقرت بنا السيارة عند باب ارتقت عليه لوحة Butterfly vally.، قطعت تذكرتين.. صعدنا درجات ليقابلنا جسران أحدهما ذو سنام.. أول نسمة قابلتنا هبت على شجرة خماسية الأوراق فتطايرت من بين أغصانها فراشات زاهية اللون عبرت من أمامنا وتأرجحت أخريات تعبر فوق رؤسنا الجسر إلى الشلال.

ترددت...

هل ألمّح لها عن أجور ساعات تقضيها معي.. أسألها هل عدَّت السّاعات؟

ترددت ثانية.

ههممت أن أضع يدي بيدها فأختبر إن كانت تحمل لي حبا أم مجرد خدمة بأجر فخانتني الشجاعة.. قالت:

- هو الوادي سنقضي ساعتين ثمّ نذهب إلى المدينة القديمة.

نظرت إلى ماء المجرى الذي يعكس خضرة الأوراق، لا أريد أن أتفاجأ، أشارت بيدها نحو شجرة ضخمة ذات أوراق إبرية تتداخل بين أوراقها التي تنشر على الجذع فراشات وتلتمّ بشكل كما لو يتجمع النحل على خلية عسل.. في هذه اللحظة انصرف ذهني إلى فراش جمعته ذات يوم فارتسم بذهني سؤال أخفيته: هل هناك في هذه المستعمرة فراش بشبه فراشة حنطتها لمعلم المعلومات، وأردفت سؤالي إليها بصيغة أخرى:

- أسترا لم أفهم السرّ في احتشاد هذا الوادي بالفراش دون سواه من أرض الجزيرة؟

فأجابتني بابتسامة فرحة:

- لذلك سموه وادي الفراش. !

- لعلها معجزة!

- ربّما فهنا يتكاثر... أغلبه يعيش ويموت في هذا المكان!

هواجسي هربت من كلّ مشهد

في لحظة انحشرت عند الشلّال الهابط من بين الصخر إلى البحيرة الصّغيرة، وفراش يطير جماعات لينتشر في فضاء المكان أشبه بالنجوم الساطعة في النهار أم حزمة متناثرة من الألعاب النارية ليلة عيد المبلاد، كانت هناك فراشة تستفزني..

تحطّ على جذع شجرة حور

وأخرى

تجثم قرب مساقط الماء تحرّك جناحيها كأنّها تمسّد الهواء..

لايهمني قطّ أن يكون كل ما أراه حلما..

وليكن العالم كلّه حلما

إلاّ أن أراها حقيقة

النقاء والهدوء اللذين بحثت عنهما

لا أريد أن يكونا حلما...

مقابل الحروب التي عاصرتها

والمآسي

ومارأيته من خراب ودمار...

والطبيعت التي اقتحمتني وصارت بعضي

أريدها هي

كلّ مافعلته مدفوع بإحساس العاشقين

فمعها

رأيت السلام

والأمان

والطمأنينة

لا أعقل أنها فعلت كلّ مافعلته من أجل ساعات تأخذ عنها أجورا

مع ذلك أجلت سؤالا خفت منه.

هل نغادر الآن؟

- كما تحبّ.

- تستدعين سيارة أجرة؟

- دعني أحاول.

رجعنا باتجاه المدخل، وقفت أمام كهل في الخمسين يدخّن على أحد المقاعد الخشبية في الفراغ المحيط بالبوابة، استقبلها بلطف.. تحدّثا باليونانيّة.. ضحكا، أخيرا هزّ رأسه، والتفتت إليّ:

- سيارة الأجرة من هنا إلى المدينة القديمة تكلفك 30 يورو الرجل الذي تحدثت معه أعرفه سائق إحدى حافلات السياحة التي جلبت سياح أحد المنتجعات وستقلهم إلى المدينة القديمة سنذهب معه.

- كم أدفع له؟

- لاشئ

هل هو الحب الذي دفعها، ربما، لا أتعجّل في المدينة حين ينتهي النهار ساعة نجلس إلى طاولة العشاء وتطلّ علينا المصابيح بسطوعها الأنيق، تواتيني الشجاعة.

تركتني أجلس جنب النافذة.. شعرت بخدر لذيذ وطمأنينة...

أغمضت عيني كمن يقبض على المناظر التي أمامه ببصرة ويحفظها من التشتت والتلاشي.

هنا ننزل...

بدأ الظلام يهبط والمصابيح تستفيق، أمّا المدينة فكانت تعجّ بالعابرين...

نزلنا في شارع ضيق عند موقف الحافلات وعبرنا بوابة إلى داخل سور ملئ بمحلات تبيع الملابس والأحذية، وكانت هناك مقهى ينادي صاحبها على كلّ عابر..

- تحبّ أن تشتري شيئا؟

- لمن؟

صديق؟زوجة؟صديقة؟

- أبدا لو كنت متزوجا أو لي صديقة لجاءت معي.

اجتزنا المحلّات لنخرج من الباب الخلفي، فطالعنا البحر، والشارع الواسع، وحشد البواخر:

- هنا يعمل زوج أختي فاسيليوس.

- الرجل الذي رأيته صورته.

- نعم.

عبرنا رصيفا عريضا تحتله كراس تتحلق بشكل دوائر حول مناضد، واعترضنا شاب يدعو بكل أدب العابرين إلى الطعام، فقابلناه بايتسامة، بعد خطوات واجهتنا ساحة مستطيلة تتوازى مع طريق الساحل، تحت أشجارها وأعمدة المصابيح انتشر رسامون شباب يعرضون لوحاتهم للسياح كانت فرصة لأدعوها إلى تناول الآيس كريم من كشك عند الاستدارة:

لنر أيّهما أطيب الأيس كريم هنا أم في المنتجع!

أوكي.

تناولت لعقة:

مارأيك!

- لا الصراحة هذا.

فضحكت:

- لا ذاك لأنك أنت تجلبينه لنا.

قابلتني بضحكة ولم تعقّب.

دخلنا المدينة القديمة فأحاطني عبق الماضي وتسللت إلى أنفي رائحته

الماضي الذي كانت تعج فيه بالحياة قبل قرون بقيت منه محلات تعرض ملابس وتحفا مذهلة، فوق تلك المحلات الأنيقة بيوت لا يسكنها أحد....

مذهلة قلت عبارتي وأضفت: تعجبني الشوارع الضيقة وعبق الماضي

وانبسطت أمامي سلع كثيرة.. هي نفسها التي رأيتها في مدن الشمال.. لا أنكر أن لها رائحة تعبق بالدفء..

قبعات

سفن

تحف تعبق بالماضي

ميداليات مفاتيح تحمل كل ميدالية حرفا أبجديا:

قالت تشرح لي بعض ما غمض عليّ

هنا كان يسكن أجدادنا تحصنوا في هذه المدينة وكان الأتراك يحكمونهم حتى كانت الحرب الأولى فجاء الإيطاليون وطردو الأتراك!

ابتعت ميداليتين واحدة تحمل الحرف الأول من اسمي والأخرى حرف اسمها الأول، لو تحقق ما في ذهني لتبادلنا بعدئذ الحروف:

وقفنا أمام مقهى امتلأت بالزبائن:

هل ترغبين أن نتناول العشاء في هذا المكان أم على البحر.

مثلما ترغب.

- إذن لنعود إلى المطعم الأول.

رجعنا من الطريق ذاته، كان هناك ازدحام القادمين إلى المدينة اضطرنا ومن خلفنا والعابرون أمامنا إلى أن نحشر أنفسنا إلى حافة الرصيف حيث الحائط ففتحة تنهي بنافورة وباب أثري مهجور، وعبرنا ساحة الرّسامين.. وصلنا المطعم والشاب لمّا يزل يقف على الرصيف ينادي على العابرين.:

حقا إني أشعر بالجوع؟

جلسنا متقابلين، فجاء النادل، طلبنا طبقي سمك، وبعض المقبلات، وذهب ليغيب بعض الوقت عندئذ أخرجت الميدالية التي تحمل حرف اسمها الأول:

- أسترا هذه لك؟

- جميلة شكرا لك!

وتجرأت فكسرت خوفي والتردد وقفزت على هواجسي، فقلت:

- هل تحسبين الساعات التي ترافقينني لكي أعرف كم عليّ من حساب قبل سفري.

فابتسمت بنشوة:

سجلتها في البيت لا تشغل بالك!

تماسكت

كلّ ما في داخلي ارتعش ارتعاشة خفيفة

لا أحس بحركة العنكبوت منذ أصبح جزءأً منّي

راودني زعل مثل زعل الطفولة.....

لقد خسرت الرهان على نفسي

قدم النادل يحمل صحني السمك والمقبلات، والتحلية، هززت رأسي أعرب عن شكري، وقلت:

- أسترا. أتعرفين أنّك خلال هذه الفترة القصيرة أثرت اهتمامي ومشاعري!

- أشكرك جدا.

- قد أبالغ أو أتسرّع إذا قلت لك أحبّك!

فعبثت يدها بالشوكة، وجرعت من كأس العصير:

- أنت فاجأتني!

- لا أبالغ في مشاعري بضعة أيام تعادل شهورا والحب لا يحتاج لوقت قصير!

فاالتقطت بيدها قدعة سمك، وقالت:

كلْ ألم تقل أنك جائع.

مضغت بعض السمك والخبز، فابتسمت بوجهي وتساءلت:

- ألم تحبّ من قبل؟

- لم يكن لديّ الوقت، كنت.. (توقفت عن الكلام أعرضت أن أقول كنت أتابع الحروب والقتل. أرى أكثر مما أسمع وعندما زاد سمعي عن بصري... ): شاء القدر أن تكوني أنت.

فصمتت قليلا ورفعت رأسها إليّ:

أنا.... العام القادم سأتقدّم للتسجيل في جامعة أثنا. قسم الآثار لقد جمعت مبلغا من عملي في المنتجعات وأعمالا أخرى، افكر أن أعود بعد التخرج للعمل في رودس.

لعلي قاطعتها:

- أوروبا مفتوحة أمامك، تستطيعين أن تعيشي معي هناك في مدن الشمال.

- مسألة لا أفكر فيها على الأقل الآن (ثمّ استدركت): هل تقدر أن تقيم مشروعا هنا في رودس أو أثنا؟

- قد يكون الأمر صعبا.

فقالت من دون تردد:

- يسعدني أن أرتبط بك لكن لا أظنّ أني أقدر أن أعيش بعيدا!

استفقت من حلم صنعته منذ بضعة أيام. حاولت أن أستبق الزمن فأراه بصيغة أخرى غير واحدة... نسيت أو تجاهلت كلّ شئ محتمل..

- هل تطلبن شيئا آخر:

- لا شكرا..

وعن غير وعي، أخذت يدها وطبعت عليها قبلة، فهمست بصوت خافت:

أشكرك

وزاغت ببصرها عني إلى الطريق، لتختفي عن بصري ضجة الشارع، والناس، والبواخر القادمة من بحر مرمرة، محملة بأجواء الشرق، لم نتبادل حروف الأسماء، ولم ألتفت إلى الطريق الموصل إلى بيت أختها المليئة حافته بأشجار الزيتون والرمان، وتجاهلت نخلة صغيرة مهملة عند حافة الشارع العام أمام معرض السيارات القديمة...

كأنّي خسرت كل شئ..

كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة

فهبطت من من السيارة، وأعرضت عن أن أذهب إلى غرفتي في المنتجع، قصدت الطريق الجانبي إلى الشارع العام، وعبرت التقاطع، دخلت درب البحر.. فوصلت الساحل الذي همد منذ غياب الشمس

لا أحد معي..

سوى ضياء مصابيح خافت..

الجو حار والريح ساكتة..

ابصرت في البحر... واتخذت مكاني إحدى المساطب..

هناك معالم أخرى... الكنيسة الأثرية.. حصن القديس نيكولاس.. سيدة القلعة.. ينابيع كاليثيا.. قالت لي هناك مسجد من زمن الدولة العثمانية... هل ألغيها... ظننته الحب، فظهر لي بشكل ساعات عمل... وفي خضم الهواجس.. ونغمة الحزن أطلّ عليّ من حيث لا أدري شخص ما.. من البحر أم من جهة البستان قبل الساحل.. اختار مجلسه جنبي... حياني بلغة أفهمها ولا أعرفها.. وعلى الرغم من خفوت المصابيح وظلّ الشجرة الذي يحجب الضوء، تبينت وجهه حين التفت. إنّه هو نفسه الرجل االذي جلس جنبي في القرية الصغيرة بساحة العرض، واستعراض الحروب الأسطوريّة من قبل ممثلين مقنعين:

هذا أنت حسنا أنّي وجدتك هنا.

فهمت نبرته بوضوح، لم يكن غاضبا ولا مستاءً

- حسنا أنّك تذكّرتني.

فضحك ضخكة طويلة وقال:

بحثت عنك فوجدتك تبحث عن امرأة تشغلك عني.

قلت بضيق صدر:

- مالعمل الآن

لا بدّ أن تفهم... كان الناس إذا رؤوا الأسطورة من قبل يتحجرون.. أنت الآن آمن فأنت في بلاد الأساطير التي أصبحت حقائق.. لكن إذا خرجت إلى أيّ مكان آخر أوّل مايراك الناس تتحجر مادام العنكبوت بأذنك؟

أخذتني المفاجأة:

- ماذنبي أنا؟

- لأنكّ قبلت أن يقتحم العنكبوت أذنك وجدتها لعبة.. أحذرك.. حالما تغادر الجزيرة ويقع بصر الآخرين عليك تتحجر تصبح تمثالا.

جمدت في مكاني ولزمت الصمت.. لا قدرة لي أن ألتفت.. رجلاي تتخدران...

أشعر بنعاس خفيف

ثقيل...

لم أعد أشعر بما يحيط بي...

لا أدري كم بقيت على حالة الخدر والصمت لكنني شعرت بدف مفاجئ وعطش وحرارة تلامس جبيني ففتحت عيني، فأبصرت الشمس أمامي على الطرف الآخر من سلسلة الجبال...

استعدت أنفاسي..

لم يشغلني الحرّ ولا تيبس شفتي... ولا أفكر إلا بالعنكبوت الذي التحم بأذني... صدقت تماما الرجل الحقيقة الأسطورة الذي قال لي أني سأتحجر حالما يراني الناس الآخرون خارج الجزيرة، فوضعت يدي على أذني، وهمست:

أسترا!

ملحق

عندما عدت إلى الشمال تاركا سعة الحرّ خلفي، شعرت بعد يومين أو ثلاثة في خدر بأذني.. تنمّل بشبه خدرا تتعرض له من إبرة تخدير موضعي، وقد اتسع الخدر بعد بضعة أيام، زرت الطبيب الجراح ففاجأني أن العنكبوت مات وتعفّن في أذني، والورم بدأ يسري في، لابدّ من أذهب إلى المشفى...

لا حلّ سوى أن أرقد على ظهري...

لم تعدّ الجراحة تنفع...

كنت أرقد على السرير . يزورني. زأطياء.. ويمرّ عليّ ممرضون وممرضات.. كبّ يوم أشعر بخدر يتسرب إلى جسدي....

نصفي الأيمن تحجّر تماما

إحدى الممرضات انصرفت إلى مرافقتي طول اليوم.. تحدثني...

تنقل لي الأخيار

وقد أشرت لها أن تفتح بريدي الألكتروني لأرى أن كانت هتاك رسابة من أسترا.. فتحت البريد الألكتروني، فاتصرفت عن رسائل الإعلانات، ولفتت نظري رسالة غريبة.

مازلت أعي

وغدا يتحجر كلّ جسدي فلا أرى شيئا..

وضعت الحاسوب برفق على صدري...

كانت الرسالة من واثق زوج السيدة الروسية...

أنا بخير.. آمل التواصل

وآمل أن تكون بخير

كانت تبك آخر عبارة ألتقيها من الآخرين قبل أن يتحجّر جسدي كلّه فلا أستطيع حينذاك أن أعي شيئا!

***

(رواية)

د. قصي الشيخ عسكر

4 \9 \2025

مِنْ حريرٍ حُلْمهُ

حَلْوَاهُ : دنياهُ

تُعَانِقَهُ هداياهُ

ونَكْهَتهُ بألْعَابٍ تَشِبُّ..ولا تَشِيبُ!

*

أبيضٌ تُفَاحَهُ

عَبَقٌ براءَتهُ

وثوبهُ بالهوى قَمَرُ خَصِيبُ!

*

أَنَّى لَهُ

إِطفَاءَ شَمْعَتِهِ وَحَوْلَهُ

بَهَجَةٌ تَكْلى

مُطَوَّقَةٌ بآلامٍ تُذِيبُ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

 

إهداء: إلى الحروف التي لم تُكتب، والأسماء التي صارت شواهد، إلى الغائب الذي تحوّل قصيدة، والدمعة التي سالت حبرًا، والصمت الذي اختار أن يتكلّم بطريقته.

هناك أماكن لا تحتفظ بالزمن فحسب، بل تُخفيه في قلبها كما تخبئ الحقول آخر دفء للشمس قبل أن يبتلعها الغروب. تلة وادي هدسون، في خريف 1985، بدت خارج إيقاع التغيّر؛ جمالها مؤصّد في زجاجة زمن مغلقة. الأعشاب تنمو كما تشاء. ولولا أميليا، لكنت مررت بها كما يمرّ الغيم على قمم بعيدة، عابرًا بلا أثر.

في صباح ضبابي، حين كانت الأشجار ترسم أسماءها على الهواء، أشارت إلى ممر ضيق وهمست: «هذا المكان يناسبك». مشيت معها. الأرض تفوح برائحة المطر، والهواء مشبع بندى الطين ودخان مدخنة بعيدة. باغتها سعال رقيق وأخفَته في منديل أزرق. سألتها إن كانت تشعر بالبرد. ابتسمت: «لا شيء يدعو للقلق». لم أكن أعلم أن تلك التلة ستبقى في ذاكرتي لا كصورة، بل كفصل مؤجَّل من حياتي، وأن نظرة واحدة كانت كافية لفتح باب ظلَّ يطلّ على فراغ منذ ذلك الحين.

في أسبوعي الأول بالجامعة، كنت أتنقّل كحرف غريب في نصّ لا أفهم لغته. الوجوه تمرّ كأطياف، واللغة كزجاج نافذة قديمة؛ تُظهر كل شيء، لكنها لا تمنح دفئًا. دخلت القاعة متأخرًا، تعثّرت وسقطت كتبي. ارتطم صوتها بالأرض نقيًا، كأذان فجر في قرية نائمة. قبل أن أنحني، مرّت ضحكة خفيفة، كنسيم يتسلل من نافذة مواربة. رفعت بصري ببطء. كانت واقفة في صمت، خارجة من حلم لم أره قط. شعرها منفلت كأنفاس الحقول المذهّبة قبل الحصاد. ابتسمت وقالت: «بداية قوية». أجبت: «أو نهاية مبكرة». ابتسمت، كمن يعرف أن اللحظات الصغيرة لا تبدأ إلا بعد أن تنقضي.

بعد المحاضرة، وجدتها عند الباب. «أنا أميليا»… همست، كما تُولد أول كلمة في قصيدة يؤمن بها الشاعر قبل أن يخطّها. كان في حضورها ما يجعل الغريب مألوفًا، وما يجعل اللقاء الثاني بلا دهشة.

في الأيام التالية، كنا نلتقي بلا موعد. أحاديثنا، وإن قصرت، كانت تترك أثر تفاهم لا يحتاج إلى شرح. في إحدى النزهات، وقفت أمام النهر كأنها ترى فيه ظلّ سلما، ألاباما، وقالت، وعيناها معلّقتان على صفحة الماء: «بلدة صغيرة، لا يحبها أحد، لكنها تحفظ الوجوه كما هي». ثم تابعت: «ربما من وُلد فيها يقضي عمره محاولًا مغادرتها… أو يحملها معه أينما ذهب». تذكرت مدينة والدي. لم يكن يذكرها كثيرًا، لكنه كان يحملها في نبرة صوته كما يحمل الفلاح أول قطرة مطر في موسم جاف، بحذر لا يخلو من رجاء. قلت: «ثمة مدن نظن أننا تجاوزناها، لكنها تظل كامنة في طريقة تنفّسنا». ابتسمت، كأنها تودع الفكرة للنهر، وتركتها تنساب مع التيار.

بعد أيام، دعتني إلى التلة من جديد. قالت: «هذا مكاني. هنا أسمع صوتي دون أن أرفعه». ما بلغني لم يكن صوتًا، بل سكونًا يتشكّل بيننا، كخيط ضوء يتسلل من نافذة مغلقة.

وفي أحد أيام الخريف، ونحن نعبر فناء الجامعة، توقفت عند شجرة الدردار. قالت: «أحب هذه الشجرة الطاعنة؛ تتجدّد بصمت كل عام، وتلوّح بذاكرة لا تنطفئ، كيد عجوز تعرف كل الوجوه». صمتت لحظة، ثم أضافت بلهجة حالمة: «أريد أن أترك أثرًا قبل رحيلي». ابتسمت، مستعيرًا سؤالًا من نص مألوف: «أليست هذه رغبة الجميع؟». لم تُجب، بل حدّقت بعيدًا، حيث كانت الأشجار تتوارى في الضباب، ككلمات تُمحى من قصيدة غير مكتملة.

ثم جاء أول شتاء لي في ألباني، شمال نيويورك. هبطت الحرارة إلى ما دون عشر درجات تحت الصفر. من خلف زجاج الكافتيريا، راقبت البياض يغمر الحديقة بصمت لا يحتاج تفسيرًا. أشارت أميليا: «هيا، لنخرج. هذا أول ثلج حقيقي». توقّفت وسط الساحة، رفعت ذراعيها، وأمالت وجهها نحو السماء. استقبلت الثلج كطقس طفولي تحفظه في قلبها. قالت: «ألا ترى؟ كل شيء يُمحى… أليس ثمة ما هو أنقى من بداية بيضاء؟». فكرتُ في المدن التي تُمحى ملامحها تحت الثلج، وقلت ممتعضًا: «إنه الجحيم». ضحكت: «ربما ترتجف لأنك تفكر في البرد. لا تدعه يفكر عنك».

ثم حكت بصوت خافت عن شتاء بعيد بألاباما، كانت فيه طفلة عليلة، وأمها تهمس: "البرد يسكن القلوب قبل الأجساد، ومن يبرأ منه لا يعود كما كان." صمتُّ، لكن وقع كلماتها ظل يطرق داخلي.

في الطريق عائدًا، خطرت لي حكاية زواج والديّ. جدي هو من قرّر أن يزوّجه بابنة عمّه، حفاظًا على صلة الدم؛ كأن العائلة أثقل من نداء القلب. لم يخترها، بل وُضعت في طريقه كما توضع الحجارة في مجرى النهر. ربما لهذا كنت أبحث عن علاقة لا تبدأ بختم العائلة، بل من ارتباك صادق، من رعشة لا تُفسَّر. كأنها أول برق في ليل طويل.

مرّت ثلاث سنوات على لقائنا الأول. ما بيننا لم يكن حبًا معلنًا، ولا صداقة عابرة، بل مساحة رمادية بين كلمة لم تُقل ومعناها. ثم جاء المساء الذي طلبت فيه أن ألقاها على التلة. كانت على صخرتنا القديمة، والجدية الحزينة تملأ صوتها: «حين يبدأ الجسد في الغياب، لا يبحث عن معنى… فقط يريد أن يُرى». صمتنا قليلًا، ثم قالت إنها لم ترد أن أركض خلف نبض يُقاس بالأرقام، وإنها لم تعد تملك رفاهية الصمت. أخرجت دفترًا صغيرًا: «فيه مغلف. لا تفتحه الآن… اقرأه حين يصمت كل شيء».

لم أرها بعد ذلك لأسبوعين، حتى وردني اتصال من والدتها. تكلمت بصوت واهن، كأن الحروف تمشي على حافة الصمت، تتعثر بين الحلق والقلب. صمتت لحظة، ثم أفرغت ما في صدرها. قالت أخيرًا: «كانت تقول إنك لا تحتاج وصية… أنت تعرف. أردت فقط أن أخبرك… أنك لم تكن صديقًا. كنت الباقي».

بعد يومين، صعدت إلى التلة. جلست على صخرتنا، وفتحت المغلف. كان الورق باردًا، خشن الحواف، ورائحته تشبه دفاتر المدرسة القديمة. الحبر الأزرق يلمع تحت الضوء. قرأت: «كنت أتمنّى أن يكون لي معك زمن لا يخذلني». أعدت قراءة السطر الأخير، وشعرت أنه يتنفّس معي. همست، كمن يطلق صرخة سرية لا يسمعها أحد: «سأتخرّج يا أميليا… وسأحمل هذا النقاء الذي أهديتِني إيّاه، آخر ما تبقّى من أمريكا يجاور نبضي».

وبينما كان الصمت يهبط على التلة مثل ثلج متأخر، أدركت أن البياض لم يكن غيابًا، بل شكلًا آخر للحضور؛ حضور يظلّ يرافقني حتى وأنا أمضي، كظلّ لا يذوب في الضوء، وكأغنية لا تنتهي حين يسكت العازف.

***

عبد الله محمد الزعبي

 

يصر على الموت واقفا، كما قرأ يوما في أخبار النبي سليمان. أن تموت واقفا معناه أن تُطمئن الحياة بأنك عائد مرة أخرى. وحدها النفوس الضعيفة تستلقي معلنة عن نهايتها.

 بعد كل صلاة عصر يؤكد لهم أنه لا يخاف الموت. كيف يخافه وهو الذي بارك حضوره الغليظ والقاسي في لاندوشين(*). حرب بلا مجد أو هوية. قاتلوا إلى جانب محتل ضد أبناء الأرض، ثم استسلموا لحقيقة مرة.

 كيف يخافه وهو الذي عاين بقلب متحجر تطاير أحشاء رفاقه، فتلاشت قدسية هذا الإهاب الرباني، الذي تلُفّه منذ الطفولة جلابيب صوف في أعالي الأطلس. هناك وُلد، وهناك تبرعمت أحلامه بالزواج، وزعامة القبيلة، ثم الفرار من إدانة بالحبس سنة ونصف بعد اتهامه بسرقة المواشي.

لا مشكلة لديه في الإقرار بأنه تاجَر بأحلام البسطاء أمثاله. ما الذي تتوقعه من جبل لا يلد إلا الحجارة؟ عشرون سنة وهو ينحت أمنية الثراء، فوجدها يوما في الاحتيال على رعاة الجبل.

- يعرض أحدهم النعجة كما لو في بطنها خاتم سليمان. الطماع يقضي عليه الكذاب. أعدهم بأثمان مغرية في سوق المدينة، فأقبض نصف المبلغ من السمسار ويقبضون الريح!

لكنهم سامحوه يوم علموا بنقله تعسفا إلى لاندوشين. الذاهب مع الفرنسيس مفقود، والناجي مولود. لم يأسف سوى لتركها وحيدة، تستجدي لقمتها من بعثرة خيوط الصوف على النول.

هبت نسمات رطبة من ردهة البيت فألقى حصيرا وتمدد. في الشقوق البارزة يجهد عنكبوت ليبني مصيدته. كأنها غذّته من صبرها وطول بالها. تدلى الجنين الأول من بطنها ميتا فلم تحزن. أما الثاني فكانت الولادة متعسرة، ثم قرار بأن يلحق أخاه إلى جنة الصبيان.

بلا ولد ولا وتد. الولد مفقود، والوتد غارق في طيشه ورعونته. كالأرزة تحملت ومدت جذور أحلامها بعيشة الكفاف في حضنه. ملعون ذاك الذي يسمونه حبا، فالقلب بلا بصيرة كالنار الموقدة.

مرت سنة، سنتان، ثم فقد إحساسه بالزمن. باع نولها المسجى في زاوية الغرفة كي لا يذرف مزيدا من الدموع. حتى أشياء مطبخها تشير إليه بأصابع اتهام

- لماذا خلّفتها وحيدة؟ هل قطفت ثمرة فؤادها لتعتلي صهوة جنونك؟ كلكم أنذال! سيمضي زمن قبل أن تدركوا أن الدنيا لا تساوي شهقة محب في ليلة باردة. هنا تقلبت في فراش الانتظار، تتلمس خبرا أو فجيعة. الحرب هي الحرب. طاحونة ابن آدم الأول. لكنها تجلّدت وأرهفت سمعها كل ليلة لوقع أقدامك.

حمّلوه رسالة من زعيمهم "هوشي مِنه" إلى الخطابي في أعالي الريف:

- الأحرار يموتون وقوفا لأنهم أوتاد الوطن.

بعد رسو الباخرة في ميناء كازابلانكا، صادف فرنسيا يعربد في الجوار فطعنه. لتكن ضريبة احتلال ساق رفاقه إلى الذبح. بعد ليال من السير المتخفي في الأودية، داهم قريته كالذئب الجريح:

- كلكم أوغاد. يجركم الفرنسيس إلى حتفكم خاضعين. ليس الوطن خيمة وشياها ترتع في الوادي. لو رأيتم ما يصنعون بهم في غابات لاندوشين. قطط تموء من الذعر. موتوا وقوفا ليكون لهذا الوجود معنى. رأيت الموت وشممت ريحه. إنه خطوة. نعم مجرد خطوة، كلما مشيتها تراجع للخلف. الحر من يملك مصيره. كونوا رجالا أو احفروا لهذا الصمت مقبرة.

انزعجوا قليلا ثم سامحوه!

***

حميد بن خيبش

........................

* حرب الهند الصينية أو فيتنام. شارك فيها جنود مغاربة إلى جانب القوات الفرنسية.

في الليلْ

حينَ يداهمُ رأسَك صراعُ الذِّكرياتْ

على فراشٍ مارجٍ مِنْ قلق

تُلقي رحالَكَ

في ميدانِ صراعِ الأضداد

حيث السَّاحةُ حُبلى

بالمعاركِ الدُّونكيشوتيةِ المطبوخة

على نارٍ هادئة

في طواحينِ الهواء التي تدور

بالمقلوبِ (المطلوبِ إثباتُه)

فيومَ قامَ الرَّفيقُ ماوتسي تونغ

بثورةِ الألفِ ميل

كانتِ الإمبرياليةُ نمراً..

(مِنْ ورق)

بأسنانٍ مِنَ القنابلِ الذَّرية

ومخالبَ مِنَ الاستراتيجياتِ الدِّيناميتية

المدروسةِ بعنايةٍ مُركَّزَة،

وليستْ بالعنايةِ المُركَّزة

كما اليوم،

على طاولته (الرفيق ماو) اليوم

يلعبُ بنا الشّطرنج

فوق ذرى السُّورِ العظيم

مع التِّنين الأصفر.

الأصفُر لونُ الخباثة،

ولونُ صحفِ اليوم (إيّاها؟)

يتحوّل التِّنينُ الى جسرٍ

على نهر اليانتسغي

مثلَ "جسر على نهر درينا"*

بسيوفٍ من الذَّكاء الاصطناعي،

هذا زمنٌ سيتحوَّلُ العالمُ فيه

الى ألفين وخمسمائة قبيلة،

كما تنبّأ الرَّفيقُ أبو الألفِ ميل

في ثورتِهِ الثَّقافيةِ غير العنترية،

فالعنترياتُ "التي ما قتلتْ ذبابة!"

مازالتْ هباءً منثورا

منذ أيام:

"سنرميهِمْ في البحر!"

فرمَونا..

في غيابة الجُبِّ

حتى يوم يُبعثون!

فظلَّتْ القبائلُ تتناسلُ

مثلَ الفُطْرِ،

بفضلِ النَّمر الورقيّ الهائج؛

بسببِ الدُّبّ الأبيضِ المُهتاج

حتى نخاع البروليتاريا العالمية

الغافيةِ

على أوتارِ عزفِ شِلَّة الأُنس

في (الوادي الأخضر) طُوى،

وشِلّةِ الرَّقصِ على الحبال!

في هذا الزَّمان الأغبرِ..

مِنَ الصَّحراءِ الكبرى،

والمليء بالدُّمى المُتحرِّكة

بالرِّيموت كونترول...؟

***

عبد الستار نورعلي

...........................

* جسر على نهر درينا: رواية الروائي اليوغسلافي إيڤو أندريتش (1892-1975) والتي نال عليها جائزة نوبل في الأدب عام 1961.

لا يمكنني أن أتذمّر،

فكيف يشكو القلبُ وهو يطفو ،

في بحرٍ ماؤه من عطاءٍ لا يُحصى؟

كيف تضيق الروحُ وقد سُقِيَت

من نبعِ رحمةٍ لا ينضب؟

*

أنا الغافلةُ التي مرّتْ على النِّعَم

كما يمرّ العابرُ على حدائقٍ مطرّزةٍ بالعطر،

ثمّ لم يلتفتْ ليقول ، شكرًا.

*

لكنّ الله،

المنعِمُ بكرمه ولطفه،

ظلّ يُفيضُ عليّ من خزائنِ غيبه،

كمن يُطعمُ طفلًا غافلًا

ويغطيه برداءٍ من دفءٍ وهو نائم.

*

إنّ الخطوب ليست سيوفًا مسلّطة،

إنّها أبوابٌ خفيّةٌ يُدخلنا الله منها

إلى قاعاتٍ من الفهم،

إلى سكينةٍ لم نكن نعرفها،

إلى حوارٍ صامتٍ مع السّماء.

*

فكلّ ما يأتي من الله جيّد،

حتى ما نراه جرحًا

إنما هو نافذةٌ أخرى للضوء،

وكلّ دمعٍ ينحدرُ منّي

هو حبرُ صلاةٍ مكتوبةٍ في الغيب.

*

فلا مجال للشكوى،

ولا حيلة للغضب،

إنّما نحنُ قلوبٌ على مائدةِ اللطف،

تتعلّمُ ببطءٍ

أن تُسمّي كلّ ما يجيء ،

خَيْرًا.

***

مجيدة محمدي

لم يكن اللقاء عاديًا، بل كان صامتًا أكثر مما ينبغي، خافتًا، كأن الكلمات خجلت من أن تُقال.

جلست أمامه، تحدّق في وجهه وكأنها تفتّش عن شيء كان هناك قد اختفى.

لا لهفة، لا ذلك البريق المعتاد في العيون، لا ضحكة تفلت بين الحين والآخر، حتى الوقت بدا ثقيلًا، يتثاءب بينهما.

تأملته، كان شاردا كأنه يحادث أفكاره... لا يحادثها هي، مما زاد من توترها، تملّكها شعور بالإحباط.

قالت بنبرة حاولت أن تخفي فيها خذلا نها: بإمكانك الذهاب.

ثم أضافت وهي تشيح بنظرها عنه: أنت لم تطلب لي حتى فنجان من القهوة. ما جدوى جلوسنا، وعامل الكافتيريا لا يزال يترقب إشارة منك؟ لا قهوة، لا حديث، لا اهتمام.. صمتَ.

لم يجد ما يقوله، فقط تمعّن في الطاولة الخشبية أمامه، كأنه ينتظر أن تجيبه هي نيابة عنه.

وقفت، رتّبت حقيبتها الصغيرة وهمّت بالرحيل.

قال وهو يرفع رأسه فجأة: لكن لم تمضِ سوى عشر دقائق.

أجابت، دون أن تلتفت:

"لا بأس... الأسبوع القادم نلتقي وغادرت.

في الحافلة، كانت الخيبة تجلس بجانبها، وجدت مقعدا خاليًا بجوار رجل في الأربعين من عمره. في البداية، لم تنتبه له، كانت غارقة في التفكير، ترسم في رأسها سيناريوهات كثيرة لما كان يمكن أن يكون.

لكن بعد خمس دقائق، بدأت تشعر بنظراته تتسلل إليها. التفت بخفة، فإذا به يبتسم ابتسامة متصنّعة، ثم يعبث بهاتفه بطريقة مكشوفة، كأنه يبحث عن طريقة للحديث معها، أو أسوأ من ذلك، هو الحصول على رقمها دون إذن.

انكمشت على نفسها أكثر، ألصقت كتفها بالنافذة، متمنية أن تتوقف الحافلة فورًا.

اشتد الضيق داخلها. فجأة، بدا لها فنجان القهوة المفقود أغلى من لحظة النجاة.

قالت في سرها: ليتني لم أغادر.. ليتني بقيت لأعلم ما به، ماذا لو بادرت أنا بالسؤال، حتى دون قهوة، حتى وأن كان في الصمت.

أخرجت هاتفها، بحثت عن أسمه في قائمة الاسماء، ضغطت على زر الاتصال.

انتظرت...

"الجهاز مغلق، يرجى الاتصال في وقت لاحق.

ضغطت مرة أخرى، ثم ثالثة، ولا رد.

أعادت الهاتف إلى حقيبتها ببطء، وحدها أنفاسها كانت مسموعة، وداخلها شعور ثقيل، أثقل من فنجان قهوة لم يُطلب.

***

نضال البدري

 

تعالَي إليَّ لِأسقي الحديقةَ هذا المساءْ،

تعالَي إليَّ أرى النارَ تخبو بهذا السراجْ،

أرى نبتةَ الصمتِ طالتْ وصارَتْ كمثلِ السياجْ،

تركتِ الندى ذاهلاً في الحديقةْ،

ووحدَكِ كنتِ أمامي الحقيقةْ،

أنا لا أراكِ ولكنْ أرى أثراً منكِ مثلَ السّناءْ،

**

تَبينُ الورودُ تجِفُّ الورودُ وأنتِ انعطافُ النسيمِ على عُنقِها في مدارِ التشظِّي،

إذا كانَ للماءِ جذرٌ فأنتِ وإنْ كانَ للنارِ نبضٌ فأنتِ،

إذا سالَ نهرٌ منَ الليلِ فوقَ حصى الضوءِ أنتِ،

وإنّي صببْتُ بكفَّيكِ بعضَ المياهِ وأنتِ قبضْتِ الأناملَ فوقَ المياهِ،

وحينَ فتحْتِ يديكِ رأيتُ هنالكَ نجمةَ صيفٍ تَشِعُّ،

لقد كانَ ممشاكِ طيفاً رفيعاً على جانبيهِ سنابلُ صُفْرٌ،

وشَعْرُكِ حينَ تهبُّ الرياحُ كرايةِ عشقٍ تشيرُ لكلِّ الجهاتِ،

ويا نارَ جلدِكِ كوني سلاماً وبرداً على كلِّ ثوبٍ يلامسُ هذا العذابَ،

**

زجاجٌ يُطوِّقُني حيثُ كلُّ انعكاسٍ سيَبْذُرُ غابةَ ظلٍّ عليَّ،

وأنتِ بهاءٌ فلا تُسألينَ كأنَّكِ وحدِكَ وقتٌ كأنَّكِ أنتِ مكانٌ جديدٌ ووحدي إليهِ وصلْتُ،

كأنَّكِ قبلَ الحياةِ وبعدَ الحياةِ لذا إن أردتُ الحديثَ إليكِ،

فلا بُدَّ من لغةٍ وقعُ أحرفِها في السماعِ كمثلِ الفَراشِ يُلامسُ ضوءَ التُّوَيجِ،

وإمَّا أرادَتْ يدايَ يدَيكِ فلا بُدَّ أن أتوضَّأَ بالنبعِ يا امرأةً تسكنُ الغيمَ والأمنياتِ،

لكِ الليلُ مملكةً لا تزولُ وروعةُ هذا الغروبِ إذا الشمسُ ذابَتْ كمثلِ انصهارِ الحديدِ،

أحبُّكِ، لسْتُ أمَلُّ التغزُّلَ فيكِ كشمسٍ ستُشرقُ كلَّ صباحٍ،

دخانُ التجلِّي يُنادي عليَّ سديمٌ تكثَّفَ أوحى إليَّ،

**

خذيني لغرفتِكِ المشتهاةِ فإنَّ أناملَ كفّي تسافرُ باللمسِ فيكِ،

جدارُكِ خلفَ السريرِ فُصوصُ المجرّةِ أمّا مراياكِ ماءٌ تصلَّبَ،

هذي الجواهرُ إذ تلبسينَ تُغادرُ عُنصُرَها الرَّخْصَ،

نافذتانِ أرى منهما ظبيةً لا تُنالُ، ستائرُ ترقصُ، عطرٌ منَ الرغباتِ النديّةِ، ساعةُ رملٍ كخصرِكِ،

بعضُ النباتاتِ فيها الجذورُ مُعلَّقةٌ في الهواءِ وما من ترابٍ وتُسقى إذا ما نظرتِ إليها وما من مياهٍ،

**

وتحرُسُ نومَكِ تلكَ الفراشةُ،

قولي لها إنْ دنت نحلتي: ذا حبيبي،

أميرةَ كلِّ الطبيعةِ إنّي أتيتُ وعندي بذورٌ،

فهلّا أذِنْتِ لتفتحَ هذي الشرانقُ باباً منَ الخِصْبِ،

إنّي شفيفٌ،

وإنّي أتيتُ لأسقي الحديقةَ هذا المساءْ،

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

 

أبوابها مصفّحة

حجارتها من صَلد الصوّان

حيطانها شاهقات من إسمنت وحديد

تدور بالريح

إذا ما خفتت أو سكنت

تدور بالنفط

إذا اِنتهى النفط والغاز

تدور بالكهرباء

إذا توقف

تدور بالماء

إذا جفت الينابيع والسواقي

تدور من الآبار بالدلاء

إذا غارت

تدور بالسّيول والأنهار

إذا عمّ الجفاف ولم يسقط المطر

و لم يبق إلا الحجر

تدور بأمواج البحار

والمحيطات

إذ نزحت

تدور بملح السّباخ

إذا بلغت التراب

تدور الطاحونة بالسواعد

سواعد العبيد

إذا تحرّروا يوما

تدور بعرق الكادحين

إذا أضربوا

تدور بدولارات أصحاب المليارات

إذا أفلسوا

الطاحونة تطحنهم

و تدور بحقائب الوزراء

إذا أقيلوا

تدور بكراسي الرِؤساء

إذا ما سقطوا

في اِنتخاب

أو في اِنقلاب

الطاحونة تطيح

بعروش الأمراء

و بتيجان الملوك

إذا عَصفت بهم الثورات

الطاحونة تطحن الشعوب

تعصرها

تدور بدمائها

و تقول هل من مزيد

تطحن القمح والشعير

الحنطة / الأرز/ القهوة / السكر

تقول هل من مزيد

تطحن القصب / الصبار/ السدر / الحلفاء

هل من مزيد

تطحن التين والزيتون / النخيل / الليمون/ اللوز / الموز

هل من مزيد

تطحن الغابات / الحدائق / الورود/ الزهور

الياسمين

هل من مزيد

تطحن الخيول / الخرفان / الأبقار/ الغزلان / العصافير / الفراشات

هل من مزيد

الطاحونة تطحن الأسوار

الأهرامات

برج بابل

برج إيفل

جدار الصين

حنايا قرطاج

أعمدة البتراء

منارة اﻹسكندرية

كوليزي روما

ناطحات السحاب

هل من مزيد

الطاحونة تطحن الجبال والبلدان

هل من مزيد

تطحن الأرض والبشر

هل من مزيد

تطحن القمر

هل من مزيد

الأفلاك والنجوم

الطاحونة مازالت تريد

إلى أن تدور الدواليب على نفسها

تطحن أسنانَها وسلاسلَها بأسنانها وسلاسلها

فتهوي كأعجاز نخل خاوية

ويبدأ تاريخ

...جديد

***

سُوف عبيد ـ تونس

 

حكم لسانك يا فتى

كالسيف في غمد الحكيم

وصن الكلام من الأذى

كالدر

في الحصن الأمين

وكن السمو

موازيا

شم العلا

وكن الروابي والزهر

وكن النسيم

بعبقه

ريان كالورد الندي

ما انت إلا لحظة

فابعد فؤادك ما استطعت

عن الغوى

ياراسخا يا وادعا

فالصدق

يهديك النجاة

والحب يهدي للحياة

***

باقر طه الموسوي

(الى أطفال غزّة الصابرين صبرَ الرّجال على الجوع والحصار)

جُوعُكَ ...

يا طِفلي الشّاحِبَ

يُمزِّقُ قَلبِي ... يُضنِينِي ...

يَقضِم خُبزَ حُرّيّتِي

يَنثُر أوْجاعَ الجَمرِ مِن فُرنِي

يُغمِّسُ في طَبَقِ المُرِّ أرغِفَتِي ...

فَأرَانِي مُحاصَرَةً بالعَجزِ

يتبَعُنِي إثمُ العرَبِ

حَيث ولّيْتُ يُلاحِقُني

لا مَأمَنَ مِنه يَحمينِي ...

*

دَمعُكَ ...

يا طِفلِلي البَاكِي

يُفَجّرُ حزنِي أنهَارًا

مَن يَقدِرُ عَنه يُسْلينِي ؟؟

يُمَزّقُ قَلبَ التّاريخِ

يَسألُهُ عَن عصرِ العَطَنِ ...

يَسألُهُ عَن إثمِ العَرَبِ

عَن حُكمِهِ بَين الكَبائرِ ؟؟

فَغَدا السّؤالُ يَجلِدُني

هَل جَلدُ الذّاتِ ...

يَكفِيكَ ... ويَكفِيني ؟؟

*

خَوفُكَ ...

يا طِفلِي الغَافِي

في قَاعِ الجُبنِ يَرمِينِي ...

عَينُكَ نِصفُ المُغمَضَةِ

راصِدَةً أصدَاءَ القَصفِ

تَلدَغُ كبِدي النّنازِفَةَ

تُقِضُّ هَجعَةَ جَفنِي

فأرَى الأقمارَ تنطَفِئ

وسَماءَ الوَطنِ آفِلَةً

وأرَى الأفجارَ تنسَحِبُ

مِن بَينِ أصابِعِ أمنيَتِي

حتّى ما بَقِيَ في الأفُقِ ضَوءٌ

تَزهُو لِرؤيَتِهِ عَيني ...

*

جِسمُكَ ...

يا طِفلِي العَاري

في كُلِّ الصّوَرِ يَأتِيني ...

كعصفورٍ بِلَا رِيشٍ وأجنِحَةٍ

بَين الرّكامِ ... تَحُطّ

بَعضَ التّرابِ ... تَسِفُّ

بِمَلامِحَ تَقتَحِمُ الكَونَ

وتُزعزِعُ شريانَ المُدُنِ

فتُلطّخُ وجهي بالذّلِّ

عند المِرآةِ تُعرّينِي ...

*

حِصَارُكَ ...

يا طِفلِي ... شَرَفّ

يَرفَعُكَ للمَجدِ رَجُلًا

بِسِياطِ الخجَلِ يَكوِينِي ...

فأنتَ الحُرُّ

مِن جوعي ... ومِن عَطَشي

وأنتَ الحُرُّ

مِن خَوفِي ... ومِن خِزيِي

وأنتَ الحُرُّ ... في القَبرِ

وأنتَ الحَيُّ ... فِي الموْتِ

تَركتَ لِي الخُبزَ والماءَ

فما شبِعتُ مِن جُوعِي ...

ولا استطاعَت مِياهُ الأرضِ

تُطهِّرُني وتَروِينِي ...

وظَلّ الإثمُ

يَتبَعُنِي ... يَصفَعُنِي ...

يُعفِّرُ وَجهِي وجَبِيني ...

***

كوثر بلعابي

(تونس - القصرين: في أوت 2025)

 

ما زال هذا الجرحُ ينزفُ راعفًا

فإلى متى نتقاسمُ الآلاما؟

*

ستونَ جرحًا قد حملتُ شجونَها،

قد صيرتني للجراحِ إماما.

*

أمضي وأحملُ في الفؤادِ مواجعي،

كالنارِ تأكلُ في الحشا إضراما.

*

وأرى الليالي، وهي تزرعُ وحشتي،

تُهدي إليَّ من السنينِ سهاما.

*

كم قد بكيتُ على رُفاتِ أحبّتي،

حتّى غدوتُ لأدمعيَ إقلاما.

*

إنّي غريبٌ في الدروبِ كأنّني

زرعٌ تجرّعَ في المدى أيتاما.

*

والصمتُ يوجعُ مهجتي في وحشةٍ،

فيغورُ في صدري الأسى إقداما.

*

أبقى وحيدًا، والظلامُ يطوِّقُ الـ

أحلامَ حتّى يعتلي الأحلاما.

*

وتنازعتني في الليالي لوعةٌ،

تمضي لتُشعلَ في الفؤادِ حطاما.

*

أبني على أملِ النجاةِ قصائدي،

لكنْ يُحوِّلها الأسى أوهاما.

*

والجرحُ أوسعُ من يدي، فكأنّهُ

بحرٌ يمدُّ إلى العروقِ سهاما

*

أُلقي على شفتيَّ صمتاً بارداً

كي أستبيحَ بها الجراحَ خصاما.

*

وأضعتُ في ليلِ الفناءِ ملامحي

وتناثرتْ في مقلتي أيّاما.

*

وسَكبتُ في جوفِ الخرابِ حكايةً

ومضيتُ مكسورًا أجرُّ حُطامًا

*

أبقى غريبَ الروحِ، أحملُ غصّةً،

تغتالُ طيفي، تستبيحُ مناما.

*

فإذا رحلتُ، فلن أخلِّفَ غيرَ ما

خطّت جراحي للورى أقلاما.

*

دمعي نشيدي، والدماءُ قصيدتي،

قد علَّمتني أن أصوغَ مَراما.

*

وإذا رحلتُ فهل سأتركُ بعديَ الـ

ـجرحَ الذي كانَ الوجودُ قيامًا؟

***

د. جاسم الخالدي

لا شيء ينتظرني على الرصيف

سوى ظلّي.. يختبئ من الليل

وأنا، أُصلح زِرّ الوقت في معطفي القديم

كأنّ التأخير خطيئةُ قلبي وحده

قلتُ له ..تعال حين يكبر القمر

لكنه اختار أن يغيب

الساعة تنقر فراغ السماء

والضوء المعلّق على ناصية الحلم

يرتجف كشمعةٍ في صدرِ منفى.

هل كنتَ موعدا؟

أم وهمًا يتقن ارتداء العطر

والغروب

القهوة بردت

الكرسيّ الآخر ظلّ فارغا

إلا من وردةٍ بيضاء

تركتها الريح

حين جلستَ ذات حلمٍ ولم تأتِ.

***

رائدة جرجيس

ليت الأماني تباع وتشترى

وليت حنين الزمان

كرجع الصدى

كأن الزمن توقف هناك. في عشرينيات عمرها، دموعها سرا، تحمل الف معنى ومعنى. واليوم تذكرته بلهفة تلك السنين. وكأنها بالأمس القريب، وأبجدية الحاضر تتقن فن اللعبة- بخيالها المتعب لاحت عقود عمرها. ليشهد الزمن: انك في عقدك الخامس سيدتي. !!

تجاهلي ماضيك وأحتفلي بمقالاتك وأحلامك-.

قالت: سأطوي صفحة ذكرياتي مجبرة مذ طفولتي. ولكن سبابتي تشير الى أخطاء الاخرين- البغيضة. واللعنة الأبدية لمن يكسر قلب امرأة في ربيع صباها.

شعرت بسعادة وهي تقرأ سطور الناقد التي كتبها عن مقالتها الأخيرة وتمنت ان يقرأ كل أصدقاءها ما كتبه الناقد المعروف-.

كان الناقد يشيد برصانة مقالتها من الناحية الأدبية مع ملائمة ثيمتها للحاضر، وما مدى تأثيرها على القارئ.

تحدثت الكاتبة خلال مقالتها عن الوفاء لدى الرجال والنساء على حد السواء لكنها في الحقيقة انحازت لجانب المرأة فهي بنت جنسها. فكتبت- ان الرجل أقل وفاء منها وتعني بان- المرأة تقولبت روحها مع مشاعر أمومتها لتصبح أكثر التصاقا ببيتها وابناءها وزوجها دون ان تلتفت الى الجوانب الأخرى بذات الاهتمام.

وذكرت الكاتبة في نهاية مقالتها ان الوفاء ينبع من أعماق النفس البشرية، ومن تبلور مشاعر الألفة بين الطرفين. فان كان الارتباط قد نتج عن بذرة حب. فقد نجحنا في الوصول لهذا الحب الرصين وربما الدائم-.

اما زواج المصالح فهو عرضة سهلة للريح القادمة من جميع الاتجاهات.

قرأت الكاتبة سطور الناقد وهي في غاية الرضا والطمأنينة

نشرتها ايضا على صفحتها الخاصة-.

وتلقت الكثير من التعليقات من اصدقائها وصديقاتها والكل يشيد بمنجزها وانها تستحق هذا النقد البناء.

ولكنها تفاجأت وبدهشة كبيرة عن تعليق كتبه أحدهم باسم كنية لا تعرفها وقد كتب في تعليقه-.

وهل تعرف سيدتي معنى الوفاء. ؟؟ لتكتب عنه !!

هذه العبارة هزت كيانها حتى انغرست قطرات الخجل فوق محياها وأخذت تذرع الغرفة ذهابا وايابا.

أصابتها الحيرة. فهمست بنبرة المنكسر مَنْ هو صاحب التعليق يا ترى.؟؟-.اذن كيف تجرأ وكتب هذه العبارة. ؟؟

وهل يعرفني شخصيا أم ماذا.؟؟

حاولت ان تأخذ مشورة زوجها. لكنها تراجعت فربما لا يهتم لما تكتبه وتنشره كعادته دائما.

اذن لأبحث في صفحته الخاصة- علني أجد ما يساعدني للوصول اليه. ومعرفة السبب الذي دعاه لكتابة هذه السطور..؟؟

أخذت تقلب بمواضيعه المنشورة الواحد تلو الآخر فكانت مواضيعا عامة لم تفدها بشيء. عليها ان تستمر في البحث والتتبع.

وهنا وجدت ضالتها. لقد وجدت صورته (قام فلان بتغيير صورة ملفه الشخصي) نعم عرفته !!

يا الهي انه هو وجع الماضي. وغصة في ذاكرة الزمن-.

اذن من حقه ان يكتب هذا التعليق !!.

ولو كنت مكانه لكتبت ما هو أبشع من ذلك.

فهو الرجل الذي أضاعته الأيام- لظروف غامضة لم تُعرف ملابساتها الا بعد سنين طويلة.

تقدم لخطبتها مع عائلته الذين وفدوا من محافظة بعيدة رحب بهم أخوها الكبير بطريقة لائقة وأسلوب مهذب. وأكرمهم التكريم الذي أظهره. وكأنه ذاك الرجل المتحضر الذي أحترم اختيار أخته لشريك حياتها.

رافقهم صباحا الى مرآب السيارات ليودعهم بكل أريحية. الا انه طلب من ذلك الشاب ان يزوره منفردا حتى يتفاهم معه عن الية الخطوبة وعقد القران.

وبعد عدة أيام عاد الشاب الى دارهم وحسب الاتفاق المبرم- وتقاليدهم- لا تسمح- للمرأة المخطوبة- ان تشارك بالحديث. انما الأخ الكبير هو من يتحدث نيابة عنها. في حالة وفاة الوالد.

خرج الشاب. وكالعادة رافقه أخوها الى مرآب السيارات. لكن هذه المرة غيّر طريق مسيرهما نحو المرآب- من خلال طريق زراعي قلما يتواجد فيه أحد-. لكن اختياره كان مقصودا. فقد أوقف الشاب في منتصف الطريق- وطلب منه بصيغة التهديد ان لا يعود الى هذه المدينة مرة أخرى. وربما اسمعه كلمات غير لائقة بلا أدنى شك.

هرب الشاب الى مدينته وهو يحمد الله لعدم تورطه مع هذه العائلة دون معرفته بشكل المؤامرة التي حاكها أخوها-.

وبكل وقاحة أبلغها ان الشاب قد تراجع عن طلبه.

وعاد مزهوا بهذا الانجاز الرخيص الذي رسم داخل روحه علامة تجبر فارغة.

ومضتْ هي مكابرة في متاهة عمرها. مع انتصار قسوته

***

قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

منذ زمن بعيد ظل سجين أسئلة متناسلة، لا يكاد يجد جوابا لواحدٍ منها حتى تحاصره أُخَرٌ أَكْثر غُموضاً فيجد نفسه فريسة لعملية تكرار مُمِلَّة، في البَدء كانت الأسئلة وجودية محضة، لكن مع تقدُّمِه في العمر حضر الهاجس الاجتماعي بكل تجلياته وترتّبَ عن ذلك تَخبُّط نفسيٌّ قويٌّ، زاده حجم السؤال المعجون والمموه بتلاوين متضاربة تَجمعُ بين الغُموض والمجهول، وتدمج بين المعقول والسوريالي، وبالتالي تنامت درجة ضيَّاعه في بحر بلا قرار، وصارت سِدرة المنتهى بالنسبة له الخروج من وجع التَّوجسَات وقهر الهلوسات.

عندما سألته زوجته عن سر شُروده وهذيانه المُتكرر، لم يجد ما يردّ بِه عليها واِكتفى بابتسامة شَاحبة وغير مُقنعة، قالت له بإلحِاح:

" تَمتّع بما تبقى لك من عُمْرٍ، ولا تشغل بالك بالهرطقات، فلست بقادر على تغيير المسار والتأثير على ما كانَ وما هو كائن وسيكون"

لم يحفل بكلامها رغم اِيمانه برجاحته، وعقلا نِيته، لأن هُناك شَيئا داخله يمنعه من القُبول بالأمر الواقع، والاِستسلام لسطوةِ الغُموض. ثم أسند ظهره للخلف ونظر إليها بعيون ذَابلة، وعادت به ذاكرته سنوات إلى الخلفِ، شاءتِ الأقدارُ أن يتعرَّف عليها صدفة في طريقهما من الرباط إلى مدينتهما، ومن يومها تعددت لقاءاتهما، ولم يعد أحدهما يطيق البعد عن الأخر، كان يهرول لانتظارها كل مساء قرب مقر عملها، فتحتضنهما شوارع المدينة وأزقتهما، وهما في حالة انتشاء متقدمة، حتى إذا أحسا بالتعب، هرعا إلى مقهى الحديقة الكائن وسط الغابة المَخْزنِيّة، وطلبا مشروبا ساخنا، أو باردا حسب الأجواء، ثم يندمجا في الحديث، تحدثه عن نفسها، عن أحلامها وطموحاتها، ويحدثها هو عن ولعه بها وارتياحه لوجودها معه، وعندما يأتي المساء يفترقا، ليتكرر اللقاء في اليوم الموالي، وهكذا دواليك حتى قررا دخول القفص الذهبي، فتزوجا، وتدرّجا في دروب الحياة صعودا وهبوطا، ورُزقا بالذرية الصالحة، ثم ركبا قطار الحياة المتجه إلى حيث لا يعلمان.

الأن توقف الزمن، وصارت الحياة نسخا كَربُونية، وكل تلك الوجوه التي كان لها أثر في حياته رحلت في هدوء وصمت، ولم يعد له منها إلا تلك الصُّور الذِّهنية الملتبسة، وتلك القَسمات المتناثرة في تعاريج الذَّاكرة المنهكة، منذ شهرين اِلتقى بِسيّدة في إحدى الحفلات العمومية، بالكَاد تذكرها وهي تبادله التحية والترحيب وتنطق اسمه بحميمية، عرف فيما بعد أنها صديقة مقربة لحبيبته السابقة نُعمة  التي هاجرت منذ ما يربو على الثلاثة عقود ونيف إلى كندا، قالت له: " العالم صغير، من كان يظن أننا سنلتقي مرة أخرى بعد كل هذه السنوات"، سألها عن أحوال نعمة، أخبرته أنها لم تتزوج رغم دخولها في علاقات انتهت بالفشل، وهي تعيش حياة عادية.

" النبش في الماضي، يمنحنا فرصة لإعادة ترتيب الأوراق وقراءة الحاضر بنكهة الأمس، إرضاء للآنا الباحثة عما يُرضي بعضاً من تطلعاتها المكبوتة، وتحقيق التَّوازن المَطلوب للاسْتمرار في العيش دون مُركبات نقص أو خَوف من الأخر، والسَّعي لِتَحقيق مُصالحة مع النَّفْس، وترديد قولة نتشيه على لِسان زرادشت :( عَليك أن تُصالح نَفْسك عَشر مراتٍ في النهار لأنه اذا كان في قهر النفس مرارة فان في بقاء الشِّقاق بينك وبينها ما يزعج ُرقادك)"

لقد كانت نُعمة أخر عشيقاته اللواتي كُنّ كثيرات، وكان يغيرهن كما يغير قُمصانه، ولا يتردد في دخول مغامرات غرامية دون تقدير للعواقب والتَّبعات، ويفرط في القفز من حضن إلى أخر، ولا يكاد يرسو على برّ، كان شخصا بوهيميا يمارس جنونه الموسوم بجرأة ظاهرة ولا مبالاة فاضحة، كانت المرأة هي عالمه الوحيد الذي يجد فيه السلوى، ولم تكن الجَرّة تسلم في بعض الأحيان، فقد كانت المشاكل تنزل عليه كالمطارق فتشج رأسه وتدفع به إلى أتون مُزهرٍ، لكنه كان يتدارك الأمر ويحلها باللجوء إلى الحيل والمواربة تارة، أو الكذب والمراوغة تارة أخرى، لكنه في أخر الأمر أُصيب بخيبة أَمل لا حدود لها وأصابه الملل من كثرة المطاردات الدونكيشوتية التي كان يخوضها بحثا عن طرائد نسائية مفترضة، وفجأة ظهرت نُعمة في حياته فغيّرت مسارها، وهي الخَارجة من تجربة زواج فاشلة، أحس بأنه لم يعد قادرا على فراقها فأسر لها برغبته في الاِقتران بها، لم تُمانع ورحبت بالفكرة ، فكلاهما كان في حاجة للأخر لكنها اشترطت عليه الهجرة صحبتها إلى كندا لأنها قد حصلت على عقد عمل مدفوع الثمن، بضمان من محام محلف، لم يتقبل الشرط ، فقد كانت الهجرة بالنسبة له أخر ما يخطر على البال، لأنه كان يكفل والدته وأختيه ولا يستطيع التنصل من هذه المسؤولية من أجل عُيونها ، عند هذا الحدّ اختلفتْ المشارب وتباعدت الأهداف، فمضى كل إلى غايته، يسعى لما ساقته إليه الأقدار.

عاد إلى عادته القديمة بعد رحيل نُعمة، واندفع بنزق يبحث عن لحظة انتشاء تبدّد ما كان يعتمل في صدره من شعور بالكآبة بعد سفر نعمة، وأقبل دون وازع على خوض مغامرات غرامية، و هو مقتنع تماما بأن هذا الفعل هو الوسيلة الناجعة لاقتلاع طيف نُعمة من ذهنه، و تكفلت الأيام والأحضان النسائية التي كان يتنقّل بينها في تحقيق السلوان الذي كان يصبو إليه. ولم تمض إلا أيام قليلة على ما كان فيه من فوضى مشاعر، حتى ساقت إليه الأقدار فتاة أحلامه وهو عائد على متن القطار من الرباط إلى مدينته، فتزوجها وطوى صفحة الدون جوانية إلى غير رجعة.

تزوج فريدة بهدوء وبسكينة زائدة، دون ضجيج أو بهرجة مفرطة، صار بإمكانه الأن مشاركة زملائه وزميلاته في العمل أحاديثهم عن الأسرة ومشاكل الأولاد، فقد أكمل نصف دينه ولم يعد مشبوها، وكأن الزواج هو صكُّ الفضيلة ومانع الرذيلة، فهو "الجنس الحلال" وهو سدرة المنتهى والحصن المستدام للفرج الذي يقي من المعصية ويجنب المرء الأدواء العصِيَّة.

نام في العسل ربع قرن، ورُزق بالخَلفِ الصَّالح ذكورا وإناثا، وتقطَّعَت به السُّبل في تجاذب مُسترسل بين الأحْداث والأفكار والوقائع، وتَفَاعُلٍ مع الأشخاص فُرادى وجماعاتٍ، هذه هي الحياة وعليه أن يعيشها بحَذافيرها ويَقبل بقواعد اللُّعبة، ويمارس طقوس الأبوة كما تقتضي الأعرافُ وتفرض سُنن المجتمع، لم يعد يَشْرب خمراً أو يُدخّن سجائرا، وأصبحَ يكتفي بنظرات يسرقها من الغَواني اللائي يصادفهن في طريقه.

فجأة، استيقظ من سباته الطويل، وانتبه إلى أنه قد دخل إلى مرحلة الكهولة، وأن شطط الأيام ساقه إلى فترة منتصف العمر وهو شبه منهك فكريا وعاطفيا، فقد أهمل كثيرا في منظره الخارجي، وصار همه الوحيد هو ضمان حاجيات الأبناء ودفع مصاريف دراستهم المرتفعة، ولا شيء يَهُمُّ فيما بعد، لكن وخزا عجيبا مسه على حين غَرّة في مواضع متعددة من جسده وعقله أيقظ حواسه ودفع به نحو بُؤرة الانفتاح على الحياة من جديد، فداهمه دون سابق إنذار شيطان الظُّهْرِ، وإذا به يتحسَّس شعر رأسه الرمادي ويتأمل تقاسيم وجهه المنعكسة على المرآة، مُحيّاه مازال مشرقا وبقليل من العناية يمكنه أن يستعيد نشاط الأيام التي ولّت ويتلمس طريق استعادة شذرات من الزمن الضائع.

2

ضَغط على هذه المشاعر المُحدثة في البداية دون أن يتمكن من كبح جِماحها، وحاول تصريف ضغوطها باللجوء إلى السَّفر صحبة زوجته، وممارسة بعضٍ من هواياته القديمة، عاد لكتابة الشِّعر من جديد، ومراسلة المجلات والمواقع، وحضور اللقاءات الأدبية والحفلات الفنية، كفَّ عنه شيطان الظهر حينا، فظَنّ أن الأمر قُضِي وأن السّكينة عادت لتعيده لجادة الصواب، وزمرة العقلاء الفضلاء.

مرت على لحظة الكمون التي دخلها سنة ونيف، إلى أن دعاه اِبنه لزيارة مدينة غرناطة التي استقر بها بعد اتمام دراسته في الهندسة المدنية، واختياره الاشتغال في إحدى الشركات الإسبانية صحبة زوجته التي كانت تشاركه نفس التخصص، اعتبرها فرصة لا تعوض فهو سيزور مدينة لسان الدين الخطيب الوزير الشاعر الذي كانت موشحاته تأسر قلبه، ويعانق تاريخ أسلافه المسلمون المغاربة الذين حكموا الأندلس سواء كانوا مرابطين أو موحدين، بعد أن عبّد الطريق أمامهم طارق بن زياد الذي كان له فضل الفتح المبين رغم تلكؤ موسى بن نصير، وشطحات سليمان بن عبد الملك الذي كان يرغب في أن يكون الفتح في عهده، تلك أيام مضت بما لها وعليها.

عندما وصل إلى مطار مالقا شّم عبير انتصارات المرابطين الذين دخلوها سنة 1090م بعد معركة الزلاقة، وانتشى بآثار المصامدة الموحدين الذين تسلموا مالقا سنة 1151م.

ركب الحافلة نحو غرناطة مرورا بشواطئ  كوستا ديل سول، استسلم لسحر المكان وجماليته، وغمرت نفسه موجة غبطة من توالي المناظر الطبيعية الساحرة، أحس أن الزمن يعود به إلى الخلف ويرتب له فصولا متداخلة من أشياء يذكرها وأخرى تنبثق فجأة بين تضاريس ذاكرته، لقد زار غرناطة طفلا صغيرا رفقة والده الذي كان متيما بالأسفار والرحلات، وما يتذكره عنها مجرد لمحات ضبابية، بإمكانه اليوم وهو في نهاية مرحلة كهولته استجلاؤها ووضعها في سِيّاق قَابل لإِرضَاء مزاجه، ومسايرة رغباته.

وصلت الحافلة محطة غرناطة، وجد ابنه في انتظاره، تعانقا وتبادلا القبل، قال لابنه :" سنتان مضتا على أخر لقاء لنا" ابتسم الابن وقال :"كنت أتمنى حضور أمي، فقد حجزت لكما جناحا بفندق غرانادا سنتر"

ردّ :

- طيف أمك دائما يرافقني، اِعْتبِرها موجودةً معي فأنا لا أتوقف عن الاتصال بها.

ضحك الابن، ولم يعلق بشيء.

أحس بكثير من الانتشاء، فاختلاؤه بنفسه في جناح خاص بفندق فاخر يسعده ويمنحه فرصة للاستمتاع بحوار داخلي افتقده منذ زمن بعيد، لهذا لم يتردد في كيل المديح لابنه وزوجته وحفيده، والدُّعاء لهم بِكل ما عَنّ

 بخاطره من أدعية صَالِحة ظَلّت راسخة في ذاكرته، وحاضرة بقوة في لحظات ضعفه ورضاه.

بعد تناوله وجبة العشاء في بَيْت ابنه، وقضاء لحظة سمر مع حفيده، أوصله ابنه إلى الفندق، كان الجناح الذي حجز له ابنه فاخرا، بسرير مزدوج وصالون أنيق  وحمام جاكوزي، و غرفة معيشة واسعة، بدأ بأخذ حمام ساخن، ثم تناول مشروبا كحوليا مما كانت تزخر الثلاجة، ونام على الفراش الوتير، وهو يحس بانتشاء غريب، حلم أحلاما لذيذة فيها مزيج من الفرح والحنين.

عندما استيقظ في اليوم الموالي كان مُبتهجا، ويشعر بخفّة زائدة تعتري جسده ، تناول إفطاره بِمطعم الفندق ، ثم نزل إلى حوض السباحة، مارس رياضته المفضلة في تقوية العضلات، ثم استلقى على كرسي الاسترخاء مستمتعا بأشعة الشمس الدافئة، وقد أغمض عينيه، تاركا لخياله فرصة التحليق في عوالم تجمع بين الماضي والآتي، وتسمح لذاكرته بالانتعاش واستعادة الأمل في حياة أكثر دفئا وسطوعا، فجأة لمع في ذهنه بيت علي ابن أبي طالب الشعري: 

ذهب الشباب فما له من عودة،

وأتى المشيب فأين منه المهرب

أحس بِثقله، لأنه ذَكّرهُ بالضُّعف وقلة الحيلة، وأعاد إلى ذهنه المسار الوجودي الذي يقطعه الانسان منذ خروجه من رحم أمه إلى هذا العالم الظالم، الخاضع لنواميس غير مُنصفة، تقتضي منذ البداية الرضى بحتمية المصير المقدر، ومحدودية التدخل فيه.

 تجاوز هذا الشعور، وفتح عينيه فالتقتا فجأة بعينيها، هي بلحمها وشحمها  نُعمَة حبيبته القديمة بلباس العوم، كانت تنظر إليه بشراهة غريبة.   

ابتسمت له، بادلها الابتسام،  اِستقام واقفا واتجه صوبها، هتف بها قائلا:

   - نعمة ..أليس كذلك؟

ردت وهي تمد له يدها مسلمة:

- نعم بشحمها ولحمها

عانقها بحرارة، لم تتواني هي الأخرى في تبادل العناق معه دون تحفظ،

سألها :

- كيف هي أحوالك

ردت بمحيا طلق:

-  أحوالي طيبة، العيش في كندا لم يغير في شيئا، وأنا هنا في رحلة استجمام

استعادا ذكريات الأمس بكثير من الحنين، حدثها عن زواجه بعد رحيلها، وحدثته عن علاقاتها الفاشلة، وعن نجاحها في مسارها المهني الذي توجته بحصولها على منصب أستاذة جامعية بمونتريال، اتفقا بعد ذلك على تناول وجبة الغداء معا بمطعم الفندق.

انتابه إحساس غريب، وغمرته مشاعر مشوبة بروح المغامرة والرغبة في الخروج عن المألوف، وهو جالس بمواجهة نعمة فتاة الأمس التي صارت اليوم سيدة ناضجة، ولا تزال تحتفظ بمعالم جمالها الذي كان يأسره ويسحره إبان الأيام الخوالي.

كانت تتحدث بمرح، ولا تتوانى عن إطلاق ضحكات تهز المكان،   وحديثها العذب يُشنِّف أسماعه.

في المساء تجولا بين أزقة حي البيازين الضيقة، وعاشا لحظات مفعمة بالبهجة، واستعادة عبق التاريخ، وعندما تعبا جلسا بمقهى ومطعم        AMAYRMO de  MIRADOR المطل على قصر الحمراء، طلبا عصير منجاة وكريب بالشوكولاتة، قالت نعمة :

- بقدر ما يستمتع المرء بجمال المنظر  وسحره بقدر ما يشعر بالوجع من فقدان هذه المعلمة التي ضيعها المسلمون الأمازيغ والعرب، ولعل مقولة السيدة الحرة الشهيرة لابنها أبو عبد الله الصغير وهو يسلم مفتاح غرناطة لملكي قشتالة إيزابيلا وفرناندو،   "ابكِ كالنساء على مُلك لم تُحافظ عليه كالرجال" توجز درجة هذا الوجع المتناسل .

ابتسم وقال وهو يضم يديها إلى يده:

- هي سنة الحياة ما من صعود وطلوع إلا ويتبعه نزول وسقوط ، من سوء حظ  أبو عبد الله  أن سقوط غرناطة ارتبط باسمه، وربما كان هذا سببا في عيشه منبوذا  بمدينة فاس التي هاجر إليها، وحتى ضريحه لم يتم ترميمه إلا مؤخرا بمبادرة من الأندلسيين الذين لازال الكثير منهم يحن إلى أصوله.

ثم تابع بصوت منفعل:

- الإسبان لا يزالون أوفياء لوصية إيزابيلا التي تركتها قبل وفاتها بأربعة أيام هي تقول إذا لم تخني الذاكرة:

 "أوصي وأنصح وآمر بالطاعة النهائية للكنيسة الكاثوليكية والدفاع عنها دائما وأبـدا بكل غال ونفيـس من الأموال والأرواح، وآمركم بعدم التردد في التخطيـط لتنصيـر المغرب وإفريقيا ونشـر المسيحية فيهما ضمانا لكل استمـرار كاثوليكي في جزيـرة أيبيريا الصامدة، ومن أجل ذلك فالخير كل الخير لإسبانيا في أن يكون المغرب بلـدا مشتتـا جاهـلا فقيـرا مريضـا على الدوام والاستمـرار"

قالت نعمة وهي تعض على شفتيها:

 - مع كامل الأسف مازال المغرب يدفع إلى اليوم ضريبة هذه الوصية العنصرية.

ران عليهما صمت قصير، تبادلا خلالها النظرات وهما يزدردان الكريب ويرتشفان العصير، ها هي نُعمة الكرواني تعود به سنوات إلى الوراء وهما معا في أحضان غرناطة المدينة الأندلسية، الفردوس المفقود، فهل هذه بداية لتجليات جديدة تسمح له باستعادة توازنه النفسي والروحي؟.

أحَسّت نعمة أن " حبيب الأمس " يعيش أزمة مشاعر ويبحث عن وسيلة تخرجه من وضعيته الصعبة، لهذا لم تتواني عن محاولة اِقتحام عالمه واكتشاف ما يجري ويدور في سريرته، لم يتردد هو في البوح لها بحالة الاغتراب التي أصبحت تلازمه   في  الآونة الأخيرة، خلال بوحه كانت نعمة تنصت إليه باهتمام، وفجأة هتفت به:

- اسمع يا مجيد لم تبقَ لي إلا ثلاثة أيام هنا في غرناطة، قبل شدّ الرحيل إلى مونتريال، وأريد أن نعمل معا على تبديد هواجسك وإنهاء حالة اغترابك.

 كانت الشمس تشدّ الرحال نحو مغربها، والسماء اكتست بحمرة ساحرة، غادرا المقهى ممسكان بيدي بعضهما وهما في حالة انتشاء، تَشِي بانْسجام طارئ ولحظة انصهار لم تكن في الحسبان، ضمتهما شوارع وأزقة غرناطة، وكلاهما مستسلم لأجوائها الدافقة بسحر غريب يمتزج فيه الدفء بإيقاعات موسيقى الفلامِينكُو ، ما يجعلك تشعر بأنك تعيش أجواء كرنفال مفتوح على آيات الجمال والافتتان.

كانا قد وصلا إلى ساحة بيب- رامبلا ، المكانُ مكتظُ، والناس منصرفون إلى عيش اللحظة بكل تجليتها وتَقاَسُمِ مُتعة الكينونة والوجود، حيث تسقط الفَوَارِق، ويَتَخلَّص المرءُ من ثِقل السِّنين ويتحول إلى كائن لا يَأبهُ بِقيود الاِحترام والحِكمة، ويُمارس شغبَ الطُّفولة والمراهقة غير آبه ولا مُهتَمٍّ بما قد يَتركه سُلوكه لدى الأخر مِن أثرٍ، غَايته القُصوى هي البَحْث عن السَّعادة  ولا يهم شكل الوسيلة.

 توقفا بين الجموع، المُتناثرة زرافاتٍ بَين مُتتبع لبعضِ العَازفين، وبين راقص على إيقاع موسيقاهم، وبين واقف أمام الفنانين المُتخصصين في رسم البُورتريهات، اقترحت نعمة على مجيد دخول إحدى الحانات لتتبع موسيقى ورقص الفلامينكو، لم يتردد في قبول الدعوة.

دخلا ملهى " ماي ويست" ، كانت الموسيقى صاخبة، رجال ونساء يتمايلون على إيقاعها، رائحة المتعة وجنون الأجساد يفوح من المكان، جلسا إلى طاولة مستقلة، قال مجيد:    "الصخب مطلوب أحيانا، حتى نتوقف عن التفكير ونعيش اللحظة بحذافيرها، أعرف أن الزمن يسارع الخطو ليطوي الصفحات ويتسلى بعذابات البشر"

قاطعته نعمة محتجّة:

  "دع الفلسفة والحكمة لوقتهما، فأنا أريد أن أرقص وأمارس شَغَبي وجنوني".                                 

ثم تابعت قائلة: " أريد أن أمنح لجسدي فرصة الخروج من حالة السُّكون إلى حالة الجنون، أريد أن أرقص بفرح كمراهقة ودَّعت طفولتها"

أَمسكتْ يده وجذبتهُ نحو حلبةِ الرَّقص، اِندمجا ضِمن كوكبة الراقصين والراقصات، بدآ يتمايلا ويُحركَا جسديهما بِشغف وفرح، مُسايرينِ إيقاع المُوسيقى وحركات من معهما على الحلبة، سَرقهما الوقتُ على هذا الحال حتى كَلَّا وتعبا، فعادَا إلى طاولتهما، وأشار مجيد إلى النادلة، التي  أقبلت ضاحكة، طلب منها أن تَمُدّهما بعشر زجاجات جُعّةً باردة.

جاء الطلب بعد حين مع بعض المكسرات وحبات الزيتون، شربا وهُمَا في حالة انسجام وتناغم يتبادلان النكت والقفاشات، فكّر مجيد: الحياة لحظة ومُتعها لا تُتْركُ ، وزَمنُ الحُبّ لا ينتهي إلا مُتداخلا مع سِيّاقات أُخرى لا أحد يَعلم سَبيلها.

مع كل كأس جعة كانت تَسري في جسديهما حرارة ودفءٌ، وكانت النَّشوة تَتَجلّى على محيّاهما، وترتسم اِبتساماتٍ وكلمات وِدّ مُحلقة كَفراشات الرّبيع.

أشعل مجيد سيجارةً ونفث دخانها، ثم نظر إلى نعمة مبتسما، وقال بصوت عال:

" (أشتهيكِ بفرح

 أشتهيك كحبة كُمثرى

 أتلهف شوقا لأقطف

 نُسْغَ الفرح من ثِمار

 نهديك

 أشتهيك كحبة منجاة

 أحترق كعود الصندل

 عند الفجر

 وأسجي جسدك النابض

برداء حبي"

نظرت إليه نعمة بدهشة واستغراب ثم قالت: " يبدو أنك تتكلم بلغة الماضي،

ما زلت أتذكر هذا المقطع الشعري، سمعته منك منذ أكثر من ثلاثين سنة"

ووصلت حديثها قائلة:

" أقسم أنني أعيش معك أحلى لحظات العمر"

سرقهما الوقت وهما غارقان في نشوتهما، غير آبهين بما يُعكّر الصفو أو يعطل فرص الاستمتاع، بدأت تباشير الفجر تلوح، وأخذ الرواد يغادرون الملهى، كانا قد  ثَملا ووصلا درجة متقدمة من السُّكر، طلب مجيد سيارة نقل عن طريق تطبيق UBER.

عندماخرجا من المرقص، استقبلتهما تباشير الفجر الأولى بنسيم عذب، ولاحت حمرة الشفق في السماء راسمة لوحة فنية تفيض بصفاء صوفي رهيب، لم تتأخر السيارة في الحضور، ركبا وهما في حالة انتشاء وذهول.

 قطعت السيارة شوارع غرناطة شبه الفارغة، كان الليل ساحرا، لأنه يحمل سكونا تفتقده غرناطة في نهارها الصاخب، عندما وصلا إلى الفندق نزلا وهما متعانقين، استقلا المصعد، ودون مقدمات دخلا الجناح الذي كان يقيم به مجيد، ثم استلقيا منهكين على السرير، هتفت نعمة بصوت تشوبه رنّة توتر : " أحس بالغثيان"، ثم اندفعت نحو الحمام، ومضت تفرغ ما جوفها، لم يتردد مجيد في اللحاق فوجدها قد نضت ثيابها ووقفت عارية تحت مسرة الدوش وقد انساب الماء رقراقا محتضنا جسدها المنحوت في أبهى صورة، قال وهو ينظر إليها باندهاش ورهبة:

- منظرك يذكرني "بماجا" الفتاة العارية في لوحة فرانسيسكو غويا

قهقهت ضاحكة وهتفت به:

  - ماذا تنتظر.. تعال الماء منعش، ستحس بانتعاش وطاقة جديدة

تردّد لحظة، ثم أزلَ ملابسه واندفع نحوها، ضمها فشمّ عبيرَ ورد أحمر، رنت له بطرفها الحالم، وأحس أنفاسها تلهب أنفاسه، فغرقا في ذوب قبلة ملتهبة، عَبَرا بهدوء إلى مرابع الحلم، وحلَّتْ رُوحاهما الجَذلى كفراشتين منتشِيّتين تمتصان رحيق الزهور. لا مجال الآن للمَرَارات والغُصَصِ، الجِراحُ العَميقة تندملُ، والأحزان المتأصلة تتَبَدّد، الحياة تُطَأطئ الرَّأسَ صَاغِرة، مُستسلمة لنشوتهما.

أنهيا الاستحمام، ثم نشفا جسديهما بالمناشف المخصصة لزبائن الفندق، هرولت نعمة نحو الفراش واندست عارية تحت الملاءة، وجلس هو على حافة السرير، فتح دفة الخزانة الصغيرة واستخرج  من محفظته الجلدية ورقتين وزاريتين وانهمك في الكتابة، كانت نعمة تتطلع إليه في استغراب وعلى وجهها ترتسم ابتسامة عريضة، عندما انتهى من التحرير قدم لها الورقتين وطلب منها التوقيع، سألته بصوت رقيق :" ما هذا ؟"

  رد قائلا:

-  عقد زواج عُرفي، أريد أن تكون علاقتنا ذَات صبغة شَرْعِيّة

قاطعته ضاحكة:

- تريده زواج متعة على صداق متفق عليه أليس كذلك؟

- بلى ...هل توافقين؟

- يكفيني يورو واحد مقدمَ صداق ومثله مُؤخرا

وقَّعا معاً على الورقتين، وقال مجيد بأن الشاهد على زواجهما هو "الله" وسيغفر لهما زلّة السُّكر، ما دام يغفر كل الذُّنُوب إلا الشّرك به، وهما مؤمنان، وزواجهما حلال طيب، والنّية في أخر الأمر أبلغ من العمل.

3

"أيها الشوق العابر للقارات ها أنت تأتي طائعا متقاطعا مع هبات الوجد التي تسكن صدري، وتحملني في رحلة عشق ولهفة، أمارس هوسي الغريب، وأعلن لنفسي أنني واثق الخطى، أتعلم أبجدية الحب بأسلوب جديد، ولغة أنيقة تجعل المعنى يتجاوز الواقع، ويسبح في ملكوت التجلي دون حواجز أو موانع"

مرّت لحظة التأمل، وسكنت الجوارحُ، وتجدَّدت المشاعرُ التي توقفت منذ ثلاثة عقود مضت، الحياة عادتْ لتُكسِّر ذلك الجمود، أيام ثَلاث عاشها مع نُعْمة غيَّرت الكَثِير من قناعَاته وبَدّدت يَأسَه، ودَفعته إلى ترديد بيتي أبو تمام :

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى 

ما الحب إلا للحبيب الأولِ

كَمْ منزل في الأرض يألفه الفَتى

 وحنينه أبداً لأوّل منزلٍ

في حَضرتِها، عَلَّقَت نُعمة قَائِلة: " حَياتُنا سِلسلة حِكايات، قد لا تَتكرَّر، ولكنها بالنِّسْبة لنا تكرّرت بشكل لا يَستوعبه العقل، أنا وأنت نستعيد حبنا الضَّائع في مدينة كانت ومازالت فِردوساً مفقودا نتوق إليه"

 "تعطيل العقل ومنعه من مواجهة الحقائق  والوقائع المرّة ، يصبح ضَرورة  قُصوى ، حتى لا يَدخل المرء مرحلة اكتئاب جِدُّ محتملة،

التفكير والتحليل ومحاولة فهم الصورة، كما هي بادية للعِيان، يقود إلى دَوّامة لا سبيل للخروج منها، وبالتالي تُصبح أي خطوة في هذا الاتجاه عديمةَ الجَدوى"

أحس مجيد، أن عليه أن يعيش اللحظة كما هي وأن لا يشغل باله بطرح مزيد من الأسئلة، لهذا لم يَتَردد في اِستعارة قَول أمرؤ القيس وَهُو   يوجّه كَلامه لِنعمة:

"لا صحو اليوم ولا سُكْرَ غدًا، اليوم خمرٌ وغدًا أمر"

هكذا طوى صفحة التساؤل، واستشراف المستقبل، وعليه الأنْ أن ينعم بما جادت به الظروف عليه ولو في حدوده الضيقة، فهو يَعلم أن قِصَّته مع نعمة توشك على لفظ أنفاسها الأخيرة، وهو قانع بما كان، ولا يهمه ما سَيكُون، نُعْمة أَخبرتْه أنها عائدة إلى مونتريال لأن حياتها هناك ولا تستطيع تغيير نَمطها، أما هو فعائد للدار البيضاء، لأن حياته هناك وفريدة تبقى هي الاستمرار والاستقرار، وما عاشه مع نعمة كان مجرد نزوة.

***

محمد محضار 30 غشت 2025  

 

في ساعة الغروب، انزلقت العتمة على وجه الأرض، تاركة نوافذ النهار مشرعة لبعض الوقت، كما لو أنها لا تعارض وجوب الرؤية بوضوح.

وحين لمح ذلك الشبح الذي بدا كسراب، لم يكن الجسد مرئيًا، ولا نابضًا بالحس أو الحياة. انتابته صدمة، أعقبتها رعشةٌ جعلت أسنانه تصطك.  لم يكن يعرف إن كان ذلك السراب هو الآخر، أم هو نفسه حين نسي كيف يبدو وجهه.

كان الوقوف أمامه أشبه بالجلوس على حافة حلمٍ مبتور في شتاء تلك الليلة المشؤومة، حين لامس وميضُ البرق النافذة المغلقة، كرسالة تحذير لم تكد تُسجَّل في الذاكرة حتى زمجر الرعد كأنما ينتقم من صمتٍ قديم. ثم اخترقت صاعقة شجرة الزيزفون الواقفة في وسط الحديقة، وتصاعدت ألسنة اللهب، لتسقط ضحية الغدر.

لم يتكلم... لم يتحرك… كأنما تجمد الزمن في عينيه.

لكن الذكريات المدفونة بدأت تتسلل من جوف الحلم، وتخرج كخيوطٍ غير مرئية تسبح بين ذرات الهواء، على هيئة جحافل من الوهم، لا تزحف بل تندفع كأنها تعرف الطريق إلى مواضع الألم، تتكوّن من ظلالٍ متراكمة، لا تُرى إلا حين يصمت العقل، وتُصغي الروح لما يُشبه الحقيقة، تتجه نحو السراب كأنها حكاية من قصص الخيال، ينفصل فيها العقل عن الواقع. ساوره شكٌّ، بل أثار ألمًا في جرحٍ لم يكن يعرف موضعه.

وهكذا بدأت رحلة الشقاء نحو المجهول، محاولةً الحفاظ على إيقاع الحياة الهش، والتغلغل إلى دهاليز البحث عن انفاس مبعثرة في زوايا الزمن.

مع كل دوي برق كانت الجروح القديمة تفتح أفواهها لا لتجدد الألم فحسب، بل لتذكره أنه ما زال حيًا.

ــ الجرح لا يسكن، بل يتذكّر.

ــ الجرح لا يسكن، بل يتذكّر.

ــ الجرح لا يسكن، بل يتذكّر.

كررها في داخله، كأنما يحاول أن يثبت لنفسه أن الألم ليس نهاية، بل بداية الإدراك.

ذبذبات مكتومة تتماوج فوق جيش من الغيوم، مدفوعة بأعاصير البحر، مقتحمة أديم السماء، كأنها تُعيد تشكيل الجرح ليغدو أكثر وجعًا، أكثر حضورًا، كوميضٍ لا يهدأ.

ثم تلاشت الأصوات، وسكن الضوء، ولم يبقَ سوى صمته...

أدرك حينها أن كل ما رآه لم يكن سوى رعشةٍ في الذاكرة، تتجسّد كلما نطق البرق كأنما الجرح لا يسكن، بل يتذكر.

***

كفاح الزهاوي

سألتني مرة لماذا تكتبين؟

سيدي المتكئ على ظل الورق سوف أجيبك ...

إنني كتبت كل هذه السطور، وكل هذه الأحرف الشاحبة تارة وتارة أخرى النابضة بالحياة كتبتها لأخفي جزء مني داخل صندوق الورق ...

ذاك الجزء الذي لم يصل إليه الضوء يوماً فقد كان يقبع في أعماق العتمة وشيء من الوحدة المترفة ....

كنت على الدوام أحرص إلا أكون من الذين يوزعون عواطفهم عبر المجالس المكتظة بالثرثرات، ولا من الذين يتاجرون بمشاعرهم من أجل أن يصوب إليهم الأضواء الخادعة ...

وكنت دائماً ما أحاول أن أخرج تلك الشحنات القابلة للإنفجار على صفيح الورق لا على حقول الألسنة الرطبة ....

لست من الذين يطفون فوق الهواء بفعل إنعدام جاذبية واقعهم

لطالما كنت من الذين تلتصق جذورهم بضبابية الوقت .

أعلم أن الغالبية الساحقة قد تركت نوافذها مشرعة للضوء والضجيج، ولكنني لا زلت أحكم إغلاق الأبواب أمام شح العواطف اللازوردية حتى ولو لم يصلني منها سوى القطرات ..

أعجبت بزمن الأشياء البسيطة التي كان الناس فيه كزمن زحام بيع أوراق الجرائد على طول الأرصفة، أو كالرسائل التي يوصلها ساع البريد ...

دعني أقول لك إن الرسائل فقدت رونقها وشغف إنتظارها وكذا صدقها حين أعلن عن موت ساع البريد...

هل تعلم لما لا ألتقط صوراً بهاتفي لسبب واحد فقط وهو إنني لا أرغب أن أجمد اللحظات بوميض ضوء الصورة، وإنما أرغب في أن أعيشها وهي على قيد الحياة.

***

مريم الشكيلية / سلطنة عمان.....

(قصيدة نثر)

هذا اللون الأخضر في المرايا العاشقة لا يراني مفردا. يفتحُ لي في جنون الشّفاهِ شريطَ الجمال، ويلُمّني مع ظلّي كائنا متعددا.

*

يقتلع الشبحَ من خدّي، يقيمُني على نبوءةٍ، ويمسح مائدتي من آثار الجحيم. فأكون أنا المعذّبَ في ظلالِ الجسارة... أكونُ شكلاً إنسياً مغرّدا.

*

لُمّيني أيّتها الْإنْجِيّةُ، يا سيدةَ الياسمينِ، لُمّيني عُجالةً سابِحةً في مطايا  الرّحيل... فما عادَ ترابُ هذِي الْيابسةِ يستوعبُ أنْهاري الخالدة.

*

وما عاد ارتِفاعُ منسوبِ النبْضِ يقدّمُ للعابر خبزاً ولا صاعاً من ماء. أو يضيفُ لروعةِ اللّقاء وصفاً يطفئُ الْموجدَة.

*

ها القلب الآن ماءٌ مشقوقٌ، هاربٌ من قراراتِ الضّفاف، يستأنِفُ سبْكَ الموجِ في تراتيلِ الموت، يعومُ في ظلالِهِ ويحشد في حبّه كل حوارِيّي الإيمانِ، يرتّبهم سطوراً: سطراً سطرا... في دواوينه الماجدة.

*

قدْ أكونُ عابداً وقد لا أكون في عشقِ الجبينِ اللّجين عاشقا ماردا.  ولكنني في ظلّ الصفصافة، أجدني أنا المرتهنَ وأنا الرسول الّذي في كفّيها بدا... وقدْ بدا ماجداً وأمجدا.

***

نورالدين حنيف أبوشامة \ المغرب

 

كنت تحت إدارة مشرفة، وتُعد هذه كارثة بالنسبة لي: أن تترأسني “امرأة”، والكـارثة الأخرى أن يرأسني “رجل” كذلك!

لعل الكارثة الحقيقية في أنا..

المهم أنني قرأت شخصية هذه الإنسانة منذ اليوم الأول، قرأت لغة جسدها، نظراتها، تصرفاتها، ولمست ما يفيض منها من حقد وكراهية وشر محتمل. وفوراً رسمت الشخصية التي سوف أكون عليها عند التعامل معها منذ تلك اللحظة.

علمت أن ردود الأفعال المباشرة لا تجدي نفعاً مع من هم على شاكلتها، ولا يجب أن يُرد لها الصاع صاعين على الإطلاق. بعض الشخصيات يجب ألّا تتوقع ردود أفعالنا، وعلينا التعامل معها باستراتيجية الغموض.

يقتلها عدم الرد عن الرد، يحرقها الصمت والبرود الشديد، والطاعة العمياء. وذلك بحد ذاته يتطلب مقدرة كبيرة على ضبط النفس ومراقبة كل كلمة وكل تصرف. وقد استغرقني الأمر سنوات حتى تعلمت هذه المهارة.

كنت أعرف في داخلي أن هذا القناع الرمادي الذي قررت ارتداءه قد يخنقني ببطء. لم يكن برودي سوى درع فولاذي يخفي وراءه بركاناً من الغضب، وحرقة أسئلة مؤلمة: لماذا أُجبر دائماً على أن أبدو أقوى مما أشعر؟ ولماذا لا أملك رفاهية الانهيار؟ عموماً لم أملك الوقت لذلك فمستقبلي المهني كان على شفير جرفٍ هاوٍ.

مشرفتي هذه كانت تفعل كل شيء لتخرج مني رد فعل واحد متوقّع: غضب، إحباط، بكاء، فرح، امتنان… أي شيء. لكنها لم تقابل إلا جداراً خشناً رمادياً، لا شيء فيه ملفت لأي انتباه. للدرجة التي جعلتها تكلفني بأربع تقارير مفترض أن ينجزها أربعة موظفين كحد أدنى! كلفت بإدخال بيانات يصل عددها إلى ١٨٠٠ قبل بداية كل شهر، وعليّ إنجاز هذا التقرير خلال ثلاثة أيام.

كنت أبقى بالمكتب إلى ما بعد وقت الدوام الرسمي الذي يمتد من السابعة صباحاً إلى الساعة الخامسة عصراً، لأغادر المكتب العاشرة والنصف مساءً ثم أستيقظ الخامسة فجراً. بقيت على هذا الوضع لقرابة العام.

أعمل بطريقة غير طبيعية، حتى قال لي أحد زملائي يوماً: “أشعر أنك تعيشين على التمثيل الضوئي! أتمنى أن أراكِ تأكلين أو تشربين شاي، قهوة، ماء، أي شيء! عمل عمل عمل… لا يصح أن تضغطي نفسك لهذا الحد.”

كنت أفعل ذلك لأختبر حدودي بهذه الحرب الصامتة، كيف لي أن أحرقها غضباً وأُظهر أسوأ ما لديها بدون أي ردة فعل مني؟ وواجهت ضغطاً كبيراً من قبل جماعة التبرع بالنصائح والتدخل في حياة الآخرين دون طلب، بضرورة تقديم شكوى رسمية.

وربما كانت معظم تلك النصائح منطقية، ولكن—كما أسلفت—من خلال تحليلي لتلك الشخصية ولتلك البيئة الموبوءة لم تكن المواجهة المباشرة خياراً جيداً. بل الحرب الباردة والتكتيكات بعيدة المدى هي ما أطاحت بهم جميعاً.

ولأنني كنت مضطرة ألّا أكشف شخصيتي الحقيقية، تحملت اتهامي بالسلبية والضعف والخضوع.

لم يجدِ تنمرها معي نفعاً، فقررت تحريض المدير ليبدأ هو الآخر تلك الحرب التي لا مسبب حقيقي لها سوى أنها لا تستسيغ شخصيتي!

كنت أحياناً أدخل المكتب وأقطع حديثاً عني بين زملائي، والذي على ما يبدو كان مثيراً للشفقة.

في مرة، دخلت المكتب ولم ينتبه لي أحد، وسمعت مديري يتكلم عني عند مجموعة من أعوانه، يخبرهم برغبته في طردي، وأنه لا يستطيع نكران الكفاءة الاستثنائية التي أقدمها، لكني “بومة” و”أسد النفس”، ويفضل استبدالي بسكرتيرة غنوجة تفتح له نفسه!

لا أدري ما هو مفهومه الحقيقي للسكرتارية، عدا عن حقيقة كونه إنساناً فاشلاً سواء فُتحت نفسه أم سُدت؟

المهم أن أحد الزملاء كان يدافع عني باستماتة قائلاً:

“إذا طردتها سوف تندم، فلن تجد من يأخذ العمل بكل هذه الجدية والتفاني ويحتمل كل المهام دون شكوى أو تذمّر.”

كان متحمساً جداً بالكلام، ولم ينتبه لدخولي. فجأة التفت خلفه ووجدني جالسة بمكاني. اصفر وجهه من الصدمة وقال:

– بسم الله! منذ متى وأنتِ بالمكتب؟

– رددت: منذ أن كنت بومة.

فاجأه الرد، وحاول طوال ذلك اليوم رفع معنوياتي بمدحي وإحضار قهوة وحلويات وغداء. وبعد انتهاء الدوام قال:

“كنت أراقب تصرفاتك، أحاول أن أرى دمعة، كتمة، زعل، أي شيء… معقول لم تتأثري بالكلام؟ أنا رجل، لكن إذا حصل وسمعت كلاماً عني بهذا الشكل ربما أختنق.”

رددت عليه بكل برود:

“تعتقد أني فعلاً ممكن أتأثر من هذا الإمعة؟ خيشة البصل الجالسة بالمكتب؟”

ضحك، وأطلق علي اسم “حديد” تعبيراً عن القوة والصمود، لكن للصمود ثمناً باهضاُ ولم يكن يدرك وقتها أن "الحديد" الصلب اللامع صدءٌ من الداخل.

اليوم التالي، دخلت على مديري هذا لمناقشة مهمة عاجلة كلفني بها. وقبل أن أخرج من مكتبه قلت له:

“على فكرة، حتى أنا أكرهك وأحمل هم ضغط العمل ورؤية وجهك، لكن دعنا نحتمل بعض إلى أن تجد الغنوجة وتفتح لك نفسك. وإلى ذلك الوقت يخلق الله ما لا تعلمون.”

بعد سنة وشهرين، نُقلت إلى قسم آخر. وفي حفلة توديعي قالت مشرفتي:

“سمعنا إن عندك هوايات ومواهب، كلمينا عنها.”

قلت: “الفنون القتالية، والكتابة، والقراءة، والتمثيل، والصيد.”

قالت إحدى الزميلات: “صيد؟ كيف؟”

قلت لها: “في الماء العكر.”

ضحكوا كلهم، وقاطعتنا المشرفة وقالت: “بما إن هوايتك التمثيل، مثلي لنا مشهد.”

تحمس الجميع، وأصرّوا على تمثيل مشهد صغير أمامهم.

لكني نظرت إليها وقلت:

“غريبة… ألم يعجبك أدائي سنة وشهرين!؟”

***

لمى ابوالنجا – كاتبة سعودية

 

لمْ تعرِفيْ القصرَ كيْ تخشَىْ من القبرِ

يا نفْسُ ما الفرقُ بين الفقْرِ والقفْرِ؟

*

لمْ تبتلِيْ العِتقَ كيْ تخشَيْ من الحشْرِ

يا نفسُ لا فرقَ بين الحشْرِ والأسْرِ

*

ما كُنْتِ فيها سوى عُشْرٍ منَ العُشْرِ

وما جَمَعْتِ إلى صِفرٍ سوى الصِّفْرِ

*

وما انْتَقَلْتِ بها إلا على الجَمرِ

وما اصْطَحَبْتِ سوى صَبرٍ على الصّبرِ

*

أذُقْتِ من أُكْلِها أحْلى من المُرِّ؟

أشربةً نلتِ لم تُغلىْ على الوَغْرِ؟

*

أعزَّ فيها امرؤٌ منْ غيرِما  وزرِ؟

أجاعَ من خلْقهِ فيها سوى الحُرِّ؟

*

أذاعَ من قلمٍ فيها سوى الهِتْرِ؟

أَرُدَّ إلّا كتابٌ مِنْ ذوي الفكرِ؟

*

أمِنْ جديدٍ سوى عن صَولةِ الحُمْرِ؟

أمن مُعادٍ سوى عنْ نكبةِ النُّمْرِ؟

*

أطالَ عُمْرًا بها حُكْمٌ سوى الكُفرِ؟

ألم يطُلْ حُكمُهُ فيهاعلى الدّهْرِ؟

*

يا نفْسُ ما ظلَّ من أهليكِ من نَفَسٍ

تخشيْن من أجلِه آتٍ بلا عُمْرِ

*

ما ظلّ منهُمْ وقدْ كانوا سوى صُورٍ

تضيعُ في زحمَةِ الأبياتِ والنَّثْرِ

*

وذكرياتٍ على النسيانِ قادرةٍ

لولا الكثيرُ من الإتيانِ والهَجْرِ

*

عاشُوا كما عِشْتِ ما نالوا وقد وُعِدوا

كما وُعِدْتِ سوى الآلامِ والقَهْرِ

*

يا نفسُ تحتَ الثّرى صاروا وخلفَهُمُ

ما تشهدينَ مِنَ الطّغيانِ والشَّرِّ

*

يا نفسُ فوق الذُّرى كانوا وحِلفُهُمُ

الذي افْتَقَدْتِ منَ الإحسانِ والبّرِ

*

والعزُّ والعلمُ والإيمانُ في شظَفٍ

والآلُ والصّحبُ من أسْرٍ إلى أسْرِ

*

والذلُّ والجهلُ والإلحادُ في دَعَةٍ

والتِّترُ والرّوم منْ نصْرٍ الى نصْرِ

*

فاليومَ يا نفْسُ من فقرٍ الى فقرِ

وفي غدٍ حانَ منْ قفرٍ الى قفرِ

*

فأحسني الظّنَّ بالرّحْمنِ وارتقبي

اسْتحالةَ القفْرِ فردوسًا إلى النّشرِ

***

أسامة محمد صالح زامل

 

أحببتُ رجلاً صامتًا،

رجلاً يضع الكلمات في جيوبه

ويترك لي مهمّة إنطاقها بالقصائد،

كنتُ أستفزُّه بقلقي، بثرثرتي،

أنتظر من شفتيه ضجّة اعتراف،

غير أنّه كان يجيبني

بهديةٍ صغيرةٍ،

بلمسةٍ غير معلَنة،

بكرمٍ يفيض كنبعٍ في ليلٍ عطِش.

*

كنتُ أقول في نفسي،

أيّ حبٍّ هذا الذي يختبئ في العيون ولا يُقال؟

أيّ رجلٍ هذا الذي يشيّد لي قلاعًا

من تقديرٍ،

ويضع على جبيني تاجًا من صمته الرزين؟

*

واليوم…

في أزمتي، في عجز الجسد،

فهمتُ.

فهمتُ أنّ الحبَّ ليس كلمةً تُلقى كزهرةٍ عابرة،

ولا وعدًا يذوب مع الغياب،

إنّه الفعلُ،

الفعل وحده،

أن يحميني حين أنكسر،

أن يظلّلني حين أقع تحت غيوم الألم،

أن يحملني بعينيه حيث لا يقوى ظهري على الحمل.

*

أدركتُ أنّ الشعرَ لا يحتاج دائمًا إلى حروف،

وأنّ بعضَ الرجال يكتبون قصائدهم

بأفعالهم،

ونحن الشاعرات،

لا نملك إلّا أن نقرأها…

ونبكي،

ونشكر الله.

***

مجيدة محمدي

قُمْ أَخِي وَامْسَحْ جِرَاحَاتِ الْأَسَى

مِـنْ بَـقَايَا الْأَمْـسِ، وَازْرَعْ نَـرْجِسَا

*

وَاخْـلَـعِ الـظَّـلَّ الَّــذِي فِــي ثَـوْبِنَا

إِنَّــــهُ الْــعَـارُ ارْتَــدَانَـا وَاكْـتَـسَـى

*

نَــظِّــفِ الــتَّـارِيـخَ مِــــنْ أَدْرَانِــــهِ

مِـنْ غُـثَاءٍ فِـي الْـمُدَى قَـدْ كُرِّسَا

*

لَا تُـــــصَــــدِّقْ أَنَّ ذُلًّا عَـــــابِــــرًا

ذَاتَ يَـــوْمٍ قَـــدْ يَــحُـطُّ الْأَنْـفُـسَـا

*

نَــحْــنُ أَبْــنَــاءُ وَمِــيـضٍ خَــاطِـفٍ

يَــدْفَـعُ الــنَّـوْمَ، وَيَـجْـلُـو الـنَّـعَسَا

*

نَــحْـنُ أَبْــنَـاءُ الـتَّـجَـلِّي إِنْ أَتَـــى

سَــتَـرَى زَهْـــرَ الْأَمَــانِـي وَرِســا

*

كُــــلُّ تِـمْـثَـالٍ تَــهَـاوَى وَانْـتَـهَـى

بَــاتَ ظِــلًّا فِــي الـخَيَالِ انْـعَكَسَا

*

لَـيْـسَ فِــي الْأَلْـفَـاظِ مَــا يُـنْـقِذُنَا

مِـنْ صَـدَى الـتَّارِيخِ إِذْ مَـا هَـجَسَا

*

نَـحْـنُ جِـيـلُ الْـفَـتْحِ بِـتْنَا مِـشْعَلًا

لِــغَـدِ الْأَجْــيَـالِ نَـبْـنِي الْأُسُـسَـا

*

سَــوْفَ نَـمْـضِي، لَا نُـبَالِي بِـالْبُكَا

أَوْ نُــرَائِـي مَــنْ تَـمَـادَى أَوْ دَسَــا

*

هَـا هُـمُ الْآتُـونَ مِـنْ صَمْتِ الرُّؤَى

كَـسَـرُوا الْـقَـيْدَ وَفَـكُّـوا الْـمِحْبَسَا

*

إِنَّــمَــا الْإِنْــسَــانُ فِـيـنَـا صَــاعِـدٌ

لِـقِـبَابِ الْـفُـلْكِ، يَـمْـحُو الْـحَنْدَسَا

*

إِنَّــنَــا نَـشْـهَـدُ مِــيـلَادَ الـضُّـحَـى

وَعُـيُـونُ الْـفَـجْرِ أَضْـحَـتْ مِـقْـبَسَا

*

إِنَّــنَــا نَـشْـهَـدُ إِشْـــرَاقَ الـــرُّؤَى

حَـيْـثُ زَالَ الْـوَجْـهُ عَـمَّـنْ أُلْـبِـسَا

*

سَــوْفَ نَـبْـنِي مِــنْ حُـطَـامٍ عَـابِرٍ

وَطَــنًــا كَــــانَ غُــلَامًــا أَخْــرَسَــا

*

رَكِــبُـوا أَصْـوَاتَـهُمْ حِـيـنَ انْـطَـفَتْ

جَــعَــلُـوهَـا لِــلْأَمَــانِـي فَـــرَسَــا

*

لَا تَـقُـلْ: كَـانَـتْ حُـرُوفِـي بِـدْعَـةً،

حِـبْـرُنَـا يَـجْـلُـو ضَـبَـاباً عَـسْـعَسَا

*

قَــدْ غَـرَسْـنَا فِــي فَــرَاغٍ صَـرْخَـةً

عَـلَّ هَـذَا الْكَوْنَ يَنْسَى مَا نَسَى

*

فِـــي دَمِ الْأَحْـــلَامِ شَـــكٌّ نَـاعِـمٌ

وَعَــلَـى جَـمْـرٍ بِـلَـيْلٍ حَـسْـحَسَا

*

كُــــلُّ فَــجْــرٍ فِــيــهِ لَــيْــلٌ آخَـــرٌ

فَـــازَ مَــنْ لِـلْـغَدْرِ كَــانَ احْـتَـرَسَا

*

فَـاحْمِلِ الْـمِرْآةَ فِي عُمْقِ الدُّجَى

عَــلَّ فِـيـهَا قَــدْ تَـرَى مَـنْ عَـبَسَا

*

وَابْـــنِ بَـيْـتًا مِــنْ زُجَــاجٍ كَـاشِـفٍ

يَـعْـكِـسُ الـضَّـوْءَ إِذَا مَــا انْـبَـجَسَا

*

نَــحْــنُ لِـلْـغَـيْـمِ رُعَــــاةٌ، كُــلَّـمَـا

خَــانَ بَــرْقٌ، لِـلـضُّحَى أَوْ غَـلَّـسَا

*

مَــــــنْ يَـــرَانَــا أنَّـــنــا أَعْـــــدَاؤهُ

عَـــاشَ فِـــي قِـصَّـتِـهِ وَاحْـتَـبَسَا

*

دَاخِــلَ الـسَّـطْرِ الَّــذِي خَــطَّ بِــهِ

كَــــانَ مَــــاءً آسِــنًــا، أَوْ نَـجِـسَـا

*

قَـــدْ بَـنَـيْـنَا مِــنْ شَـظَـايَا صَـوْتِـنَا

هَـيْـكَـلًا يَـحْـكِـي كَـلَامًـا مُـؤْنِـسَا

*

وَسَــكَـنَّـا فـــي بُــيُـوتٍ أُحْــرِقَـتْ

قَــرَّرَالـبـاغـي لــهَــا أَنْ تُـكْـنَـسَـا

*

صَــارَ مِـفْـتَاحُ الْـخَـلَاصِ الْـمُـدَّعَى

فِــــي أَيــادِيـنَـا حُــلِـيًّـا مُـلْـبَـسَـا

*

نَــحْـنُ لَا نَـخْـشَى ظَـلَامًـا، إِنَّـمَـا

مِــنْ شُـعَـاعِ الـضَّـوْءِ إِذْ مَـا دُنِّـسَا

*

لَا تَـلُـمْنِي إِنْ تَــرَى فِــي لُـغَـتِي

شَـبَـحًـا يَـقْـضِـمُ مَـــا قَــدْ يَـبِـسَا

*

تَــارِكًــا لِــلْـقَـارِئِ الْآتِــــي غَــــدًا

أَنْ يُـسَـمِّـيَ مَـــا رَأَى أَوْ حَـدَسَـا

*

إِنَّـــهُ الْــوَعْـيُ: الـشَّـظَايَا، كُـلَّـمَا

لَـمْـلَـمَ الْـقَـلْـبُ شَـتَـاتًا، ضُـرِّسَـا

*

نَـحْـنُ مَـنْ عَـلَّمَ هَـذَا الـصَّمْتَ أَنْ

يَـلْـبَسَ الْأَصْــوَاتَ كَـيْ لَا يُـبْخَسَا

*

وَجُــنُــودُ الْــفِـكْـرِ صَــــارُوا تَــبَـعًـا

لِــلَّـذِي خَـــانَ الْــوَرَى وَاخْـتَـلَسَا

*

قُــمْ وَشَـاهِـدْ مَـوْكِبَ الْأَطْـيَافِ إِذْ

مِـنْ ضِـيَاءِ الـشَّمْسِ يَـوْمًا أَفْـلَسَا

*

كُــــلُّ قَــلْــبٍ صَــــارَ فِــيـهِ كُـــوَّةٌ

أَصْــبَــحَ الْـعَـالَـمُ فِـيـهَـا مُـبْـلِـسَا

*

قَــدْ مَـضَـى عَـهْـدٌ، وَجِـئْـنَا بَـعْـدَهُ

أَثْــقَــلَ الْـكَـاهِـلَ مِــمَّـا أَوْجَــسَـا

*

وَأَتَـــــى فَـــجْــرٌ رَمَــــادِيٌّ، بِــــهِ

وَسَـوَّسَ الشَّيْطَانُ مَا قَدْ وَسْوَسَا

*

هَــــذِهِ الْأَبْــيَــاتُ ظِــــلٌّ شَــــارِدٌ

يَـرْتَـجِـي فِــي صَـمْـتِهِ مُـلْـتَمَسَا

*

فَـاطْمَئِنْ يَـا شَـكٌّ، وَارْسُـمْ خُطْوَةً

لَـــنْ تَـــرَى وَجْــهًـا بَـرِيـئًا يَـائِـسًا

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

أثرٌ يمرُّ بي.

وَجهٌ

ينظرُ مِنَ الورقِ.

صوتٌ

لا يُسمعُ، لكنّهُ يَنفُذ.

كلَّما انطفأتُ،

زهرةُ نارٍ

داخلي تضحك...

***

أنا طفل الوقتِ

أحاول إيقافه

أدوس على أسمال

ذاكرتي

ألقي ببصري بعيدا

وقبل أن

ينفدَ الشغفُ

أتبعثرُ

وأجمعني

حين يفهمُني الغبارُ

***

مُسَطّحَةٌ أحلامي

والوقتُ مُدَوَّرٌ

كيفَ سأفرشُ

مدادَ أخيِلَتِي ؟!

سَجّادةُ الوقتِ

فُسيفساءُ ألوانٍ

ولَونُيَ الأبيضُ

لن أكونَ مُحايدًا

إذن .!

***

لا أحدَ ...

أدخل ...

تتكوّر النافذةُ.

البيتُ: رمادُ صوت.

الغيومُ

تمحو ما لم يُكتب.

شمعةٌ

ترتجفُ من نظرتي.

البعيدُ

يسكنُ المقعدَ المقابلَ.

***

الحظُّ:

جِرْسٌ في بيتٍ مهجور.

الأصدقاءُ؟

خطأٌ إملائيّ

في رسالةٍ محترقة.

أنا؟!

صدًى لأحدٍ

لم يأتِ.

***

مسطّحٌ

مثل ارتباكٍ أولٍ بينَ بُعدين،

لا اسمَ لما يطفو،

ولا ضفافَ للانتظار.

الزمنُ ...

خدشٌ على قشرة اللا مكان،

يدورُ،

يعلمُ

أن الخطأَ كانَ أول النُطق.

***

المداد؟

هُلامُ هاجسٍ

ينفرُ من اللغة،

يسيلُ على فراغٍ

مُصابٍ بالوعي.

والخَطُّ؟

فكرةٌ تهربُ من نفسِها.

***

السجادةُ

بُقعةُ صمتٍ ملوّنة،

كلُّ خيطٍ فيها

ذاكرةٌ رفضتْ

أن تولد.

***

الأنا ...

بياضٌ يفقدُ توازنَهُ

كلّما نادى عليهِ اللونُ الآخر.

لم أعد محايدًا

إذن

سأكون

أثرًا في ذاكرة البياض.

***

د. إبراهيم مصطفى الحمد

العراق تموز 2025

لن أجد ما يوازي حبكِ

الاّ أن استعير من المحال وصفكِ

كان قد بدأ الحب هكذا

ضوءٌ رسا على رصيف قلب مهجور.

*

في كلِّ مرة

أمدّ يدي لحلم بلّله اليقين

وانتِ تتكئين على بؤرة العواصف

تكتبين عطشكِ في زاويا الأمنيات

تحرسين نشوتكِ الاّ تغفو

فأغفو ..

وفي رأسي منكِ تدور رائحة المسك

*

أردّد "صباح الخير"

واذا بك عارية تضحكين

ترجمين المستحيلات برمشة عين

وحين يتأخر الليل، تحت ثراء البرق والرعد

يفيض حرفي الأول

معلّقا على ثوبك القصير

*

شجرة، تكاد بين أرضين

تسقط مغشيا عليها

تنفرط سعفاتها

ويخذلها قلبها عن واجبه العادي

*

لا مصبّ لهذا النهر التائه

لا فيضان في ساقه يفجع القلوب اليتيمة

لا فانوس يسرق منها الأحلام

ويهرب بوجنتين حمراوين.

*

أنا التالي

في ريشة خيالكِ حين طعنتْ الفصول بالأصفر.

وجع الطريق

جرح الاقحوان

يوم قصدَ السنونو سطوح ذكرياتٍ

فرّتْ من سمائها الأقاويل

وتركتْ ممراتنا الطويلة يابسة.

*

لئلاّ يلومني ظلّي،

حين رآني أتبعكِ، وأنتِ تهشّين الحاضر والماضي

بياقوت الكلام....

انصرفُ.

*

أبحث عن عونٍ

عمّن له حجة اكثر بياضا من سؤالي

لكنها ارتحلتْ كتابوت.

***

زياد كامل السامرائي

 

عانقيني

احمليني

لم أزل طفلاً صغير

فأنا في الدّرب أعمى

لم أطق وحدي أسير

أنتِ يا أنثاي ظلّي

وعصا الشيخ الضّرير

في ظلام اللّيل أمشي

ونهاراتي كسير

لا أرى إلّا أراكِ

بين بستاني الكبير

فالفراشاتُ تهامت

فوق ما فيكِ نضير

أنتِ يا أنثاي أنتِ

ملمسُ الحسّ الحرير

وأنا الشيب كساني

رهن إحساسي المرير

فأنا مازلت أنّي

لفّني هذا المصير

بينما أنتِ بقيتِ

نورساً حلواً يطير

فوق ذي الأمواج يزهو

بارتياحٍ للأخير

فمتى تحنين يوماً

نحو ذا العبد الفقير!؟

بعدما ظلّ يعاني

من متاهات الهجير

يمشي في الصّحراء ظهراً

مثلما يمشي البعير

وإذا اللّيلُ تراخى

إعتلى منه الشّخير

بينما أنتِ غفوتِ

بين أنغام الخرير

تشربين الماء عذباً

والوصيفات تدير

أكؤس الخمر المنقّى

وأنا قوتي الشّعير

مرغَماً بالعيش وحدي

بين قطعان الحمير!!

***

رعد الدخيلي

 

كَمْ بَقْعَةٍ لِلْعِشْقِ تَلْعَبُ فِيَّ أَرُوقَةَ الزَّمَنِ

حَتَّى بَزَغْت كَرُدَهَةٍ

خَلَعْتُ رِدَاءَ العَيْنِ ثُمَّ

تَنَاهَبَتْ ذَاتِي

فَخَرَجْتُ مِنْكَ إِلَيْكَ

فَاخْرُجْ مِنْ جَوَارِحِكَ الَّتِي

عَبَرَ النِّدَاءُ بِسَقْسَقَاتِ الحُلْمِ مَوْجَ نَزِيفِهَا حَيْثُ مَلَكْتُهَا

هَذِهِ رُوحِي كِتَابٌ عَاثِرُ الصَّفَحَاتِ

فِي جِهَةِ الْيَمِينِ

وَكَانَ قَلْبُكَ يَرْعَشُ الْوَجْدَ

الْمُحَلَّى فِي عَرَائِشِ غُرْبَتِي الْقُصْوَى

وَوَهَجُ تَوَحُّدِي جِهَةَ الْيَسَارِ

وَمِيَاهُ عِشْقِكَ بَيْنَ أَوْرِدَتِي

تَسِيرُ عَلَى ارْتِعَاشِ النَّبْضِ فِيكَ

فَاذْهَبْ لِقَلْبِكَ مُسْرِعاً

وَتَحَسَّسِ الْوَشْمَ الَّذِي تَرَكَتْهُ آثَامِي عَلَيْهِ

نَادِنِي مِنْهُ إِلَيْهِ

تَرُدُّ النَّارُ صَامِتَةً

وَتَمْلَأُ جَرْتَيْنِ مِنَ الْعَسَلِ

وَاسْكُرْ صَلَاةً كُنْتُ أُخْفِيهَا بِخَمْرِ التَّمْتُمَاتِ

شَفَاهَ هَمْسٍ

فِيكَ تَذَرِينِي وَتَجْمَعُنِي

نِثَارَ الرَّغْبَةِ الْأُولَى

فَهَلْ تَسْتَطِيعُ حَمْلَ أَنُوثَتِي؟

هَلْ أَثْقَلَتْكَ مَشَاعِرِي؟

وَرَضِيتَ أَنْ تُلْقِيَ بِصَخْرِ تَلَهُّفِي

فَارْحَلْ وَخُذْ أَنْفَاسَكَ الْمُتَكَوِّمَاتِ عَلَى فَمِي

كُنْ رَاحِلاً بِي

بِصَبَوَةِ خَافِقِي

بِصَلِيلِ أَوْهَامِي

بِآيَاتِ الْعُرُوجِ إِلَى سَكَنٍ

لِقَاعِ النَّشْوَةِ الْأُخْرَى

وَثَبِّتِ الرِّيحَ فِي عُنْتِ الْوَهْنِ

إِذْ لَيْسَ تَعْلُونِي طَواحِينُ الْهَوَاءِ وَلَا وَثَنٌ

غَيْرَ امْتِشَاقِ النَّايِ مِنْ سَفَرِ الزَّمَنِ

إِنِّي هُنَا امْرَأَةٌ مِنَ الْجُورِيِّ

تَفْتَحُ طَاقَةَ الْمَعْنَى

لِكُلِّ الْعِطْرِ

فَاخْرُجْ مِنْ أَنَايَ فَرَاشَةً

ثُمَّ احْتَضِنْنِي وَاسْتَرِيحْ

***

مرشدة جاويش

 

كَانَ الْمَسَاءُ رَمَادِيًا، وَالْقِطَارُ يَسْتَعِدُّ لِلْمُغَادَرَةِ. جَلَسَتْ فَتَاةٌ قُرْبَ النَّافِذَةِ، تَحُدِّقُ فِي الْفَرَاغِ كَأَنَّهَا تَهْرُبُ مِنَ الْعَالَمِ. بَيْنَ يَدَيْهَا كِتَابٌ مَفْتُوحٌ، لَكِنَّ عَيْنَيْهَا لَمْ تَلْمِسِ السُّطُورَ.

قَبْلَ إِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ بِلَحْظَةٍ، دَخَلَ رَجُلٌ يَلْهَثُ، حَقِيبَتُهُ تَضْرِبُ رُكْبَتَيْهِ، يَبْحَثُ بِنَظَرَاتٍ سَرِيعَةٍ عَنْ مَكَانٍ. لَمْ يَتَبَقَّ سِوَى مَقْعَدٍ وَاحِدٍ... بِجِوَارِهَا.

جَلَسَ وَقَالَ، كَمَنْ يُحَاوِلُ تَبْرِيرَ تَأَخُّرِهِ: "كَادَ الْقِطَارُ يَسْبِقُنِي، كَعَادَتِي فِي كُلِّ شَيْءٍ."

ابْتَسَمَتْ مُجَامَلَةً، لَكِنَّهُ تَابَعَ وَهُوَ يُلَمِّحُ عُنْوَانَ الْكِتَابِ: "قَرَأْتُ هَذَا الْكِتَابَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يُنْقِذْنِي مَرَّةً وَاحِدَةً."

نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِدَهْشَةٍ. ضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ: "رُبَّمَا كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْ نِهَايَةٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي كُلِّ مَرَّةٍ."

هَكَذَا بَدَأَ الْحَدِيثُ... بَسِيطًا، غَرِيبًا، لَكِنَّهُ مَأْلُوفًا. تَحَدَّثَا عَنِ الْكُتُبِ، عَنِ الْمُدُنِ، عَنِ الْوَحْدَةِ، عَنِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تُقَالُ عَادَةً فِي أَوَّلِ لِقَاءٍ.

عِنْدَمَا وَصَلَ إِلَى مَحَطَّتِهِ، نَهَضَ وَهُوَ يَضَعُ الْحَقِيبَةَ عَلَى كَتِفِهِ، وَقَالَ: "أَنَا أُدْعَى مَالِكٌ... وَسَأَكُونُ فِي هَذَا الْقِطَارِ غَدًا فِي نَفْسِ الْوَقْتِ. إِنْ مَرَرْتِ مِنْ هُنَا مُجَدَّدًا." وَغَادَرَ.

بَقِيَتِ الْفَتَاةُ تَحُدِّقُ فِي الْمَقْعَدِ الشَّاغِرِ بِجِوَارِهَا، وَكَأَنَّ فِيهِ شَيْئًا مِنْهَا. لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ بَعْدُ إِنْ كَانَتْ سَتَعُودُ غَدًا، لَكِنَّهَا أَدْرَكَتْ شَيْئًا وَاحِدًا: أَنَّ مُصَادَفَةً وَاحِدَةً قَدْ تَظَلُّ عَالِقَةً بَيْنَ الْقَلْبِ وَالذَّاكِرَةِ إِلَى الْأَبَدِ.

فِي الْيَوْمِ التَّالِي، كَانَتِ السَّمَاءُ تُمْطِرُ بِخِفَّةٍ، وَقَطَرَاتُهَا تَرْسُمُ خُطُوطًا بَاهِتَةً عَلَى زُجَاجِ نَافِذَةِ الْقِطَارِ. جَلَسَتِ الْفَتَاةُ فِي ذَاتِ الْمَقْعَدِ، وَيَدَاهَا مُشْتَبِكَتَانِ فِي حَجْرِهَا، وَقَلْبُهَا يَخْفِقُ بِإِيقَاعٍ لَا يُشْبِهُ الْمَطَرَ. لَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ لِمَاذَا عَادَتْ. رُبَّمَا لِتَتَأَكَّدَ أَنَّهُ لَنْ يَأْتِيَ، أَوْ لَعَلَّهَا خَافَتْ أَنْ يَأْتِيَ وَلَا تَكُونَ هُنَاكَ.

ثَوَانٍ تَمُرُّ كَأَنَّهَا سَاعَاتٌ... الْقِطَارُ يَسْتَعِدُّ لِلْمُغَادَرَةِ. لَا أَحَدَ دَخَلَ.

بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ (أَحْم)...

الْتَفَتَتِ الْفَتَاةُ فَجْأَةً، وَهَا هُوَ وَاقِفًا بِنَفْسِ حَقِيبَتِهِ، وَبِنَفْسِ ابْتِسَامَتِهِ الْمَائِلَةِ. "كَادَ الْقِطَارُ يَسْبِقُنِي مُجَدَّدًا."

ضَحِكَتْ - لِأَوَّلِ مَرَّةٍ مِنْ قَلْبِهَا، بِلَا حَذَرٍ. جَلَسَ بِصَمْتٍ، ثُمَّ قَالَ: "كُنْتُ خَائِفًا أَنَّكِ لَنْ تَعُودِي."

قَالَتْ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى النَّافِذَةِ: "وَأَنَا كُنْتُ خَائِفَةً أَنَّنِي سَأَعُودُ."

سَادَ صَمْتٌ خَفِيفٌ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْرِجًا... بَلْ سَعِيدًا، كَأَنَّ الْكَلِمَاتِ بِحَاجَةٍ لِفَرَاغٍ كَيْ تَسْتَقِرَّ.

ثُمَّ سَأَلَهَا فَجْأَةً: "هَلْ تُؤْمِنِينَ أَنَّ الْغُرَبَاءَ يُمْكِنُ أَنْ يُصْبِحُوا مَحَطَّاتٍ فِي حَيَاتِنَا... أَوْ رُبَّمَا مَصِيرًا؟"

نَظَرَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ إِلَى الْمَقْعَدِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا. "لَا أَعْرِفُ... لَكِنَّنِي أُؤْمِنُ أَنَّ بَعْضَ اللِّقَاءَاتِ لَا تَحْدُثُ عَبَثًا."

كَانَ الْقِطَارُ يَمْضِي بِهِمَا شَمَالًا، وَالْوَقْتُ يَمُرُّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا. لَمْ يَسْأَلَا عَنِ الْمَاضِي. لَمْ يُخَطِّطَا لِلْغَدِ. كُلُّ مَا بَيْنَهُمَا هُوَ هَذِهِ اللَّحْظَةُ، وَهَذَا الْمَقْعَدُ... وَشَيْءٌ يُشْبِهُ الِاحْتِمَالَ.

***

شادي مجلي سكر

 

فصل من رواية: خلعُ خاتَم الطائفية

الفصل الأول: عفراء في مهبّ الطائفية

لم تكن الشتيمة التي ارتطمت بأذن عفراء سوى كلمة عابرة في ظاهرها، لفظة يومية ممجوجة اعتادت أن تُلقى في وجهها بلا اكتراث، غير أنّها في تلك اللحظة لم تكن مجرّد صدى باهت، بل الشرارة الأولى التي أشعلت نارًا هوجاء ستأتي على ما تبقّى من حياتها. أحسّت كأنّ الكلمة، برغم صغرها، قد شقت جدار صمت طويل، فارتجّ قلبها قبل أن ترتجّ الجدران.

فجأة، اهتزّ البيت القديم بانفجار الباب، كأنّ عاصفة من الجحيم هبطت لتقتلع سكينته. ارتطم الخشب المهترئ بجدار الصالة ارتطام قنبلة، فتردّد الصوت في أرجاء الدار كهدير موت يقترب. وما هي إلا لحظات حتى اندفع إخوة زوجها إلى الداخل، وجوههم الداكنة عابسة كالأقنعة الغاضبة، عيونهم تلتمع بلمعانٍ راعد لا يشبه عيون البشر، بل يشبه لهبًا متقدًا بالثأر. كان المشهد أشبه بقطعان ذئاب جائعة وجدت فريستها أخيرًا.

ارتجفت ركبتاها، لكنها تماسكت بحدس غريزي، تحاول أن تفهم، أن تلتقط من وجوههم جملة تفسّر هذا الجنون، غير أنّ الكلمات تأخرت، والأيدي سبقتها بعنف صاعق. انهمرت اللطمات والركلات على وجهها كالمطر الأسود، وانغرست قبضاتهم في جسدها الضعيف، بينما كانت صغيرتاها تصرخان في هلعٍ يضاعف عجزها. تحوّلت اللحظة إلى دوامة من الألم والضجيج، والبيت إلى ساحة حرب بلا رحمة.

كانت صيحاتهم تنفجر في الهواء كالرعود:

ـــ "أهلك قتلو اخونا، زوجك!"

انكمشت الأرض تحت قدميها، كأنها لم تعد أرضًا بل هاوية تسقط فيها بلا قاع. لم تعد الوجوه وجوهًا، بل جمراً متقدًا بالكراهية. لم تعد الكلمات كلمات، بل خناجر تطعن روحها قبل جسدها. شعرت بالهواء يضيق في صدرها، مزيجًا من عرق الغضب وأنفاس الغيظ ورائحة الدم التي تسللت من أنفها إلى شفتها الممزقة. صار المكان خانقًا، كقبر حي، يُدفن فيه صراخها مع كل نفس.

لم تجد ما تفعله سوى أن تضمّ طفلتيها المذهولتين والباكيتين بذراعين مرتجفتين، تحاول أن تشكّل بجسدها الهزيل درعًا واهنًا، تعرف أنه سيتحطم أمام أول ركلة، لكنها لم تجد غيره سبيلًا لتأجيل موتهما. كل صفعة كانت تسقط على وجهها، كانت تظن أنها ستصل إلى وجهيهما، فتشدّهما إليها أكثر، وكأنها تتوسد بهما لتستمدّ من براءتهما القليل من الصمود.

كانتا تحدّقان بعينين غارقتين في الذهول، كأن العالم انحصر أمامهما في وجه أمّ تُجلَد بلا رحمة. ارتجفت أصابعهما الصغيرة وهما تتشبّثان بثوبها الممزق، تبحثان في حضنها المرتعش عن مأوى من طوفانٍ لا يُدركان معناه، سوى أنه يهدّد كيانَهما الصغير بالانهيار.

كل صفعةٍ سقطت على وجهها، كان صداها يرتطم بقلبيهما، فيرتعشان كأن الألم انتقل إليهما خفيًّا. لم تفهما لماذا تُهان أمّهما، ولا كيف يتحوّل البيت إلى ساحة عذاب، لكنّهما شعرتا أن الكون كله قد انقلب إلى سوطٍ يجلد أضعف ما فيه: امهما، تلك المرأة التي طالما ضمّتهما برفقٍ وحمت أحلامهما من الكوابيس.

كانت دموعهما تختلط بدموعها، حتى صار البكاء واحدًا، وجسد الأم وذراعاها المرتجفتان غدتا آخر قلاع الحماية. كانت تُطوّق جسديهما بذراعين كالهشيم، تضعهما بين صدرها وجدار الضربات، وكأنها تفتديهما بكلّ ما تبقّى من جسدها المنهك. وفي عيونهما الصغيرتين ارتسمت صورةٌ ستظل محفورة للأبد: أمٌ تتكسّر أمامهما، ومع ذلك تحاول أن تبقى جبلًا.

وفي خضم العاصفة، تسللت إلى وعيها الحقيقة القاسية: لقد قُتل زوجها، ليس لأنه اقترف ذنبًا، بل لأنه رفض أن يُذعن لأوامر الطائفتين، رفض أن يطلّقها هي، "السنيّة"، ليصون دمه "الشيعي". دفع ثمن رفضه بطعنة غادرة في دكانه، والآن جاء دورها لتكون قربانًا جديدًا يُقدَّم على مذبح الطائفية العمياء.

كانوا يريدون غسل دمه بدمها، تحويلها إلى شاهدٍ إضافي على أسطورة الثأر، إلى ذريعة جديدة تديم دورة الانتقام، كأنها ليست إنسانة من لحم ودم، بل مجرّد رمزٍ تُقاد إلى الذبح. شعرت أن الجحيم قد فُتح على مصراعيه فوق رأسها ورأس طفلتيها، وأن لا منفذ للخلاص.

لكن مأساة عفراء لم تتوقف عند هذا الحدّ. ففي الوقت الذي كانت فيه صرخاتهم تمجّد زوجها المقتول "شهيدًا كما يدعون"، لم تستطع أن تمحو من ذاكرتها قسوته هو نفسه عليها. كان شريكًا في كسرها، يغضّ الطرف عن إهانات اهله، بل يشاركهم في تجريحها وسحق كرامتها، يتلذذ بضعفها ليشعر برجولته الواهنة. لم يكن في موته خلاص لها، كما لم يكن في حياته سند. رحيله لم يحررها، بل دفعها من سجنٍ مألوف إلى جحيمٍ أعمق.

تذكّرت لياليها القاسية معه، حين كان يتركها تبكي وحدها بينما يغطّ في نوم ثقيل. تذكّرت كيف كانت أصوات إخوة زوجها تعلو في البيت، يتدخلون في كل تفاصيل حياتها، يصرخون في وجهها لأتفه الأسباب، ويضربونها بحضوره، فلا يجد في نفسه غضاضة أن يشيح بوجهه، بل ربما ابتسم في سرّه لأنه رأى فيها عبرة تذكّرها بمكانتها الدونية.

الآن، وهم يهجمون عليها كالوحوش، كانت تشعر أن الموت يحيطها من كل جانب: موت جسدها الذي يتلقّى الضربات، وموت روحها التي عاشت مديدة في قفص الإهانات، وموت أملها الأخير في مستقبل آمن لطفلتيها.

 أي مستقبل يمكن أن يولد في بيت تحكمه الكراهية، وفي دولة تنخرها العشائرية والطائفية حتى العظم؟

بين ارتطام الأجساد وصراخ الأطفال، لمحت وجه ابنتها الكبرى، وقد تجمّد فيه الرعب. نظراتها الواسعة البريئة كانت كمرآة تعكس لها حجم الكارثة: ماذا سيبقى من طفولة هذه الصغيرة حين ترى أمها تُسحق أمام عينيها؟ أي ندبة ستخلفها هذه اللحظة في قلبها الصغير؟ وأي ضوء يمكن أن ينقذها من ليلٍ كهذا؟

تمنّت عفراء لو أن الزمن يتوقف، لو أن الباب لم يُفتح، لو أنّ الحياة منحتها فرصة واحدة لتصرخ في وجوههم:

"أنا لست عدوّتكم، أنا أمّ تحمل على كتفيها جرح هذا الواقع مثلكم".

لكن صوتها كان محبوسًا في صدرها، يختنق تحت وطأة الركلات والشتائم.

كل شيء في المكان تآمر عليها: الجدران الصامتة، الأثاث المهتزّ، حتى المصباح المعلّق في السقف كان يتأرجح مثل مشنقة تُعدّ لها.

 شعرت أنها غريبة في بيتها، مُجرّدة من كل حق، مُحاصرة بين ماضٍ لم يرحمها وحاضر يلتهمها ومستقبل مسدود لا يَعِد سوى بالهاوية.

وبينما كانت تُضرَب وتُهان، راودها خاطر مرّ كالسكين: ربما كانت مجرد رقم في سجل طويل من الضحايا، لا أحد سيذكرها سوى طفلتيها، ولا أحد سيبكيها في غدٍ ملطخ بالدم. وراودها شعور أكثر مرارة: أنّها لم تمت بعد، لكنها في نظرهم قد ماتت بالفعل؛ ماتت كإنسانة، ولم تبقَ سوى جسدٍ يُنهش ليُشبع عطش الطائفة للانتقام.

ارتفعت صرخات بناتها أكثر، فارتجف قلبها. تلك الصرخات لم تكن مجرد بكاء طفلتين، بل نداء استغاثة للعالم بأسره، علّه يسمع ويرى. لكن العالم كان أبكم أصمّ، كما كان دومًا.

هكذا وجدت عفراء نفسها في مهبّ الطائفية، امرأة ضعيفة بلا سند، يطحنها واقعٌ جائر لا يعرف الرحمة. لم تكن تدرك إلى أين ستمضي الأحداث، لكنها أيقنت أن حياتها انكسرت عند تلك اللحظة، وأنها، منذ الآن، لن تكون سوى ظلّ امرأة، شبحًا يلاحقه وجعٌ لا ينتهي.

عفراء... طفلة الأمس، بسمرتها الجنوبية المضيئة كدفء شمس الفجر على بساتين نخيل دجلة، وبعيونها السوداء الواسعة التي كانت تلمع ببراءة ومرح، كأنها نوافذ صغيرة على الفرح. لم يُتح لها أن تُكمل مقاعد ابتدائيتها، حتى تقدّم لخطبتها رجل من طائفة أخرى. لم يتوقف أهلها طويلًا عند حدود المذهب، فقد طغت سطوة المال على يقينهم، ورأوا في يسرِه صفقة العمر. وهكذا دفعوا بابنتهم الغضة إلى يديه كما تُدفع أمانة إلى غريب، غافلين عن أنهم سلّموها إلى قدرٍ معتمٍ لا يرحم.

 ومنذ تلك اللحظة، انزلقت حياتها إلى أرض رخوة، حُفرت فيها أخاديد الطائفية بالحقد والعداوة، وصار جسدها الندي وروحها البريئة ساحةً لتصفية ثاراتٍ قديمة بين الدم والدم.

 الليل كان قد بدأ يسدل ستائره الثقيلة حين خبت العاصفة الأولى. جلست عفراء في زاوية غرفتها، وطفلتها الصغرى نائمة على حجرها، بينما الكبرى تحدّق في العتمة بعينين واسعتين، خائفتين كمن شهد نهاية العالم. كان صمت الليل يقطعه صدى بعيد لرصاصٍ يتردّد في أزقة المدينة. كل شيء في الخارج يذكّر بالموت، حتى نباح الكلاب بدا كتحذيرٍ من غول يتربّص خلف الظلام.

انطفأت مصابيح الشارع، وبقي نور القمر يتسرّب عبر الشقوق، يسقط على الجدران الرطبة فيرسم أشكالًا مخيفة. أحسّت أنّ البيت كله صار مسرحًا للرعب، وأنّ كل زاوية فيه تحمل خنجرًا مخبوءًا أو عينًا تترصّدها. رائحة الدم لم تفارق المكان، مختلطةً برائحة الدخان والعرق، حتى صارت جزءًا من أنفاسها.

الآن، وقد صارت أرملة بين ليلة وضحاها، لم تجد حولها سوى صغيرتيها اللتين التصقتا بها كغريقتين تبحثان عن قشة نجاة. كان بكاؤهما المكتوم يدوّي في أعماقها كصدى سؤال مرير: "من يحميكِ ويحميـنا؟" لم تجد جوابًا سوى دمعة ساخنة انسابت على وجنتيها، تكثّفت فيها كل وحشتها. أدركت أنّها وحدها تمامًا، تواجه عاصفةً أكبر من قدرتها، وأنّ لا سند لها غير صبرٍ يذوي ودمعٍ يتدفّق.

ومنذ تلك اللحظة، دخلت حياة جديدة، أشبه ما تكون بقبر مفتوح. أُغلقت الأبواب عليها، ومُنع عنها الضوء، حتى زيارات أمّها وأخوتها حُرمت منها. لم تعد ترى أحدًا، ولا يُسمح لها بالخروج إلى السوق أو إلى جيرانها. أرادوا لها أن تتعفّن حيّة في زوايا الدار مع طفلتيها، كأنها جثة تنتظر ساعة دفنها.

 ولم يكتفوا بذلك، بل خطّطوا لمصير أشدّ قسوة: تزويجها إلى شقيق زوجها القتيل بعد انقضاء عدّتها الشرعية، لا حبًا ولا رأفة، بل انتقامًا وتشفيًا. أرادوا أن يحوّلوها إلى أسيرة جديدة في بيت أشدّ قسوة، إذ كان ذلك الأخ أحقدهم عليها وأقساهم قلبًا. لا تنسى كلماته حين قال لها وبكل ما تحمله عجرفته الوقحة:

 ـــ "سأجعلك جارية تحت قدمي حتى تُقبري"

هكذا، صارت عبدةً مقيّدة، مسلوبة الإرادة، يُراد لها أن تقضي ما تبقّى من عمرها في خدمة جلاديها. شعرت بالدنيا تدور بها، سوادًا كثيفَا يغمرها، دموعها تفيض حتى كادت أن تذيب جفونها، وصوت داخلي يلحّ عليها بسؤالٍ لا ينطفئ: "كيف الخلاص؟"

كانت الأخبار تتسرّب إليها خلسةً كهمسٍ بعيد، تحمل معها وجعًا آخر أثقل من طاقتها: أهلها لم يكونوا في منأى عن التهديدات التي تلاحقهم ليل نهار. لم ينجُ أحد من لعنة الدم التي صارت تطاردهم أينما حلّوا، كأنهم شركاء في جريمة لم يعرفوا عنها سوى وقعها على ابنتهم. حاولوا جاهدين أن يثبتوا براءتهم من التهمة التي طالتهم ظلمًا، يطرقون الأبواب، يستجدون العدالة، يرفعون أصواتهم أمام كل من يُصغي، لكنّ الحقيقة ضاعت بين جلجلة الثأر وصمت الخوف، فظلّت صرخاتهم معلّقة في الفراغ، بلا صدى.

ولمّا ضاق بهم الوطن، عزَموا على الرحيل، تاركين العراق كلّه خلف ظهورهم، يلوذون بالمنفى هربًا من سطوة الدم المهدور. أرادوا أن يأخذوها معهم، أن ينقذوا ابنتهم من المصير الأسود، لكنّ أخ الزوج سدّ الطريق، وتصدّى بوجهٍ متجبّر كأنه قاضٍ ينطق بحكم القدر. اعتبر نفسه الوريث الشرعي لأخيه في كل شيء، حتى في زوجته وطفلتيها، ففرض سطوته عليها كما يُفرض الليل على نهارٍ أعيا.

كانت هي تسمع عن مآسي أهلها من بعيد، فتشعر أنهم يواجهون مأساتها بوجه آخر، كل منهم يقتطع من قلبه ليحفظ كرامته ويثبت براءته، بينما هي تُساق إلى مصيرها كجارية مسلوبة الإرادة. أيُّ عجزٍ هذا الذي جعلها تتجرّع ألمها وحدها، وأيُّ ظلمٍ ذاك الذي طعن أهلها مرتين: مرة حين خسروا ابنتهم حيّة، ومرة حين وُسموا بعارٍ لم يرتكبونه؟

هكذا غدت مأساة عفراء مأساة مضاعفة، لا تخصّها وحدها، بل انسكبت ظلالها الثقيلة على أهلها جميعًا؛ كلهم عالقون في دائرة ظلم واحدة، وكلهم ينزفون بلا عدالة، فيما القدر يسخر منهم جميعًا.

عندها راحت تسأل نفسها بأسى يائس: أية حفرة مظلمة وقعتُ فيها؟ أي مستقبل ينتظر ابنتَيها؟ أسئلة كالسياط تتناوب على رأسها، تحرق روحها ليلًا ونهارًا.

 كلما خطرت ببالها فكرة الانتحار كمهرب، ارتسمت ملامح طفلتيها أمامها، حاجزًا يمنعها من الفناء. أي يدٍ ستمسح دموعهما إن رحلت؟ أي صدرٍ سيحتضنهما إن تركتهما؟

ظلّت معلّقة بين هاوية الانتحار وظلمة المصير الذي يُحاك لها، تتقلّب بين العجز والرعب، تبحث عن بصيص نورٍ في نفقٍ لا نهاية له. كانت تدرك أنّها ليست سوى ضحية صغيرة في حرب طائفية كبرى، وأنّ حياتها الممزقة ما هي إلا مرآة لعنفٍ أعمى يحكم البلاد.

عفراء... امرأةٌ ضعيفة لم تختر قدرها، ولم تجد من ينصفها، محكومة بقوانين لا ترحم، وبأعراف لا تعرف غير الثأر. كل ما بقي لها أن تتشبّث بطفلتيها، لعلّ حنانهما يمدّها بجرعة حياة، أو يهبها شجاعةً لمقاومة ليلٍ طويل، ليلٍ قد يطول حتى يتماهى مع الأبد.

الفصل الثاني: خيط في العتمة

في وطنٍ انكسرت فيه موازين العدل، وغابت فيه سلطة القانون لتعلو مكانها أعراف العشائر وأحكام الطوائف، وجدت عفراء نفسها عارية من كل حماية، لا سلاح لها سوى الصمت والدموع. الليل عندها كان أثقل من أعمار الدهر كله، يمتد كأبدٍ موحش، والنهار يتحول إلى ساحة حصار لا مخرج منها ولا ملاذ.

ومع ذلك، تسلّل إليها خيط أملٍ واهن، كوميض شمعة في عاصفة، عبر يدٍ صديقة قديمة ترتبط بقرابةٍ بعيدة لعائلة زوجها، ما سمح لها بطرق باب عزلتها دون ريبة. تلك اليد خبّأت لها سرًا ثمينًا: هاتفًا صغيرًا كان أهل عفراء قد تركوه أمانةً عندها قبل أن يغادروا العراق، علّه يكون جسرًا يوصلهم بابنتهم الأسيرة خلف جدران الخوف.

أخفت عفراء الهاتف كما تُخفى الروح بين ركام التأني، تغلّفه برعشة قلبها كلما لمسته، وكأنها تمسك بطوق نجاةٍ معلّق بمعجزةٍ مؤجّلة، تنتظر أن يفتح لها فجوة في جدار عزلتها، ويعيد إليها صوت الحياة.

ذات مساء، عادت بها الذاكرة إلى جارتهم القديمة، أم أحمد، المرأة الجريئة التي نجحت في إخراج أبنائها من العراق قبل أعوام. تساءلت عفراء: هل يمكن ليد تلك الجارة أن تمدّ إليها الآن خيط نجاة؟

انتظرت عودة صديقتها في زيارة جديدة إلى بيت أهل الزوج، وما إن سنحت الفرصة حتى توسّلت إليها أن تحصل لها على رقم هاتف أم أحمد، متذرعةً بأنّها امرأة وحيدة ومريضة بالسرطان وتحتاج للاطمئنان على أحوالها.

وبالفعل، نالت ما أرادت.

وحين أرخى الليل سدوله الثقيلة وغرق البيت في صمتٍ خانق، بدت الجدران وكأنها تنصت لأنفاس ساكنيها. كانت عفراء في غرفتها، تبحث عن ركن قصيّ بعيد عن سرير طفلتيها الغافيتين، كأنها تهرب من ضجيج العالم إلى عزلتها الخاصة. تأكدت من أن الباب قد أُغلق بإحكام، ثم التحفت البطانيات الثقيلة تغطي رأسها وجسدها، لا اتقاءً للبرد، بل خشية أن يتسرب صوتها المتهدّج إلى من يجاورها. كانت أشبه براهبة في صومعة معزولة، تحتمي بالصمت والظلام كي تُخفي ضعفها عن الأعين.

مدّت يدها المرتجفة نحو الهاتف، كأنها تستنجد بحبل نجاة أخير. ارتجف الجهاز بين أصابعها المرتعشة، قبل أن تفتح خطاً إلى الخارج، إلى ما وراء جدران وحدتها الثقيلة. وما إن جاءها الصوت المنتظر حتى بدا وكأنه نسمة رقيقة تهب في قلب إعصار:

ــ عفراء… كيف أنتِ يا حبيبتي؟ لقد حزنا لمصابك، وأعلم تمامًا ما تعانينه، فما غادرتِ فكري ولا فكر أبنائي يوماً.

توقفت أنفاسها لحظة، إذ انسكبت عليها نبرة أم أحمد دفئاً وحناناً، كأنها ماء بارد يطفئ لهيباً داخلياً أو كفّ رحيمة تمتد لتمسح دمعة خفية. في تلك الكلمات البسيطة، شعرت عفراء أن جدار وحدتها قد تصدّع، وأن الصمت الذي كان يطبق على روحها قد انفرج ليمنحها متنفساً.

لم تستطع عفراء أن تجيب؛ بكت بصمت، وخنقها نشيجها حتى عجز لسانها عن النطق. أدركت أم أحمد بحسّ الأم حجم ما يعتصر قلبها، فقالت مواسية:

ــ كل عقدة ولها حلّ يا ابنتي، فلا تيأسي. أنا هنا كأمك، بانتظار أن تبوحي لي بما يختلج روحك.

جاء صوت عفراء مبحوحًا متقطعًا كأنّه يتكسّر بين الضلوع:

ــ خلصيني يا خالة… إنّي أموت كل يوم ألف مرة.

التقطت أم أحمد المفهوم، وفهمت ما وراء الكلمات، فأجابتها بحزمٍ حنون:

ــ لا تخشي شيئًا، سأتدبّر الأمر قريبًا وأكتب لك بالتفصيل، لكن إيّاكِ أن تتساهلي في الحذر.

لأول مرة منذ زمن طويل، أحسّت عفراء بأنّ صدرها يتنفّس بحرية.

ضمّت طفلتيها الصغيرتين، وغمرتهما بذراعيها، فيما قلبها يتهدّج بارتعاشة أمل، أمل خافت لكنه حقيقي، قد يكون مفتاح النجاة من ليلها الطويل.

منذ تلك المكالمة الليلية، تبدّل قلب عفراء. لم يعد ينبض كما كان من قبل، بل صار كوترٍ مشدودٍ بين الخوف والرجاء.

كان صوت أم أحمد في أذنها كأنشودةٍ بعيدة، لحنٌ هادئ وسط ضجيج العاصفة، يبعث شيئًا من الطمأنينة في قلبٍ أنهكه الرعب.

 كلماتها ــ "كل عقدة ولها حل" ــ ظلت تتردّد في روحها كترتيلةٍ صغيرة تعيدها إلى الحياة، وكأنها يدٌ خفيّة تمسح على جراح نازفة منذ زمن. كانت تلك الجملة وحدها كافية لتفتح كُوّة ضئيلة في جدار ليلها الطويل، كأنها تقول لها: لا بد أن للفجر موعدًا، مهما طال الليل.

بعد أيام، وصلت إليها رسالة قصيرة على هاتفها، كأنها شفرة نجاة.

 "علينا أن نتحرّك بحذر. لا تتعجّلي. سأمدّ لكِ خيطًا واحدًا كل مرة، حتى تخرجي من هذا القبر... اصبري."

قرأت عفراء الكلمات مرارًا حتى حفظتها، ثم خبأتها بين ثنايا قلبها، كأنها تعويذةٌ سحرية تحرسها من الانكسار. كان قلبها يتشبث بالحروف كما يتشبث الغريق بخشبةٍ في بحرٍ هائج.

بدأت ملامح الخطة تتضح شيئًا فشيئًا. طلبت أم أحمد منها أن تراقب البيت بدقة: مَن يزور، مَن يغادر، أوقات نوم العائلة، متى يخرجون إلى الأسواق، ومتى يسكن البيت تمامًا. عليها أن تحفظ كل ذلك عن ظهر قلب، فهذه التفاصيل الصغيرة هي مفاتيح الخلاص.

كانت الليالي تمرّ ثقيلة كالحديد. يجثم فوق صدرها خوفٌ لا يزول، يتناوب مع أملٍ هشّ كشمعةٍ في مهبّ الريح.

كانت كل مساء تجلس قرب ابنتيها النائمتين، تحدّق في وجهيهما الصغيرين، ثم تهمس في سرّها: "لن أترككما في هذا الجحيم ابدًا… سنخرج، مهما كان الثمن." وكانت الدموع تهرب من عينيها، فتبتل وسادة الطفلتين وهما لا تشعران.

وفي ليلةٍ بعيدة، انساب إليها صوت أم أحمد عبر الهاتف، خافتًا لكنه واضحٌ كإشارةٍ لا تخطئها الأذن:

ــ "استعدّي. الليلة الثالثة من الأسبوع القادم ستكون فرصتك. سيأتي رجل أثق به، سينتظرك عند الباب الخلفي ساعة السحر. لا تحملي شيئًا سوى الطفلتين واوراق السفر. أيّ تردّدٍ سيُضيّع كل شيء."

ارتجف قلبها كعصفورٍ في قفص ضيق. بين الخوف والرجاء وقفت حائرة: هل حقًا يمكنها أن تغادر؟ هل يُعقل أن تنجو من سطوة تلك العائلة، ومن أعين الجيران، ومن الجدران التي مثلت حولها سجنًا للطائفة والعار والقيود؟

الأيام التي تلت كانت أطول من عمرها. كانت تخطو في البيت مثل شبح، تحاول أن تخفي رجفة يديها وارتعاش عينيها، فلا يلحظ أحدٌ ما يضطرب في داخلها. كل صباح ينهشها القلق، وكل مساء يوقد فيها الأمل شرارةً صغيرة تكاد تخبو لكنها لا تنطفئ. كانت تحفظ خبر الهروب بين ضلوعها، وتخاطب به جدران غرفتها الصامتة، التي ابتلعت دموعها مثل قبرٍ بلا صدى.

وحين جاءت الليلة الموعودة، كان الليل ساكنًا على نحوٍ مريب، كأنه يتآمر معها أو عليها. السماء معلّقة فوق البيت مثل غطاءٍ من رماد، والريح تتسلّل عبر الشقوق نافخةً بردها في أركان الغرفة. أيقظت طفلتيها برفقٍ وهمسٍ مرتعش:

ــ "هس… حبيباتي، لا تُصدرن صوتًا، لا تخفن، نحن ذاهبات في رحلة معًا."

عيون الطفلتين تفتحت مذعورة، لكنهما أطاعتاها، تمسكتا بثوبها كما لو كان حبل النجاة الأخير. حملتهما بين ذراعيها، تتقدّم بخطواتٍ حذرة نحو الباب الخلفي، حيث يبتلع الظلام المكان كعباءةٍ سوداء.

هناك، سمعت نحنحة رجلٍ تتردّد ثلاث مرّات، متباعدة كما وصفتها لها أم أحمد. شدّت على ابنتيها وفتحت الباب، فإذا برجلٍ غريب الملامح يقف في العتمة.

 لم تعرفه من قبل، لكن في صوته كان شيءٌ من الصدقٍ، جعلها تطمئن للحظةٍ وسط ارتجافها. همس لها بسرعة:

ــ "أنا من طرف أم أحمد… أسرعي قبل أن يفيق أحد."

خرجت عفراء وطفلتَاها خلفه، والخوف يطاردهنّ كظلٍّ لا يرحم.

 كان البرد يضرب وجوههن، والريح تتلاعب بثيابهن، وأصوات الكلاب الضالة تتعالى في الأزقة، كأنها تنبح سرّهن المخفي. عبروا أزقّةً ضيّقة ملأتها روائح العفن والمجاري، وانعكست أضواء باهتة من مصابيح الشوارع على جدران حجرية متصدعة، فبدت كوجوهٍ قبيحة تترصدهم.

كل حركة في العتمة بدت كعينٍ تراقبهم. قلب عفراء يخفق بعنف، كأن صدرها لم يعد يسع نبضه. لكنها تماسكت، شدّت على يدَي ابنتيها، وهمست لنفسها: "لن أعود… لن أُسلمهما لهذا الجحيم."

طال الطريق حتى بدا كأنه قرن. خطواتهم المتسارعة تُحدث صدى مكتومًا على حجارة الأزقة، والليل يحبس أنفاسه معهم. وأخيرًا توقّف الرجل عند سيارة قديمة رابضة في الظل، كأنها تنتظرهم منذ دهر. فتح الباب الخلفي وأشار إليها:

ــ "اركبوا بسرعة."

دخلت السيارة تحتضن طفلتيها بكل ما بقي من قوة في ذراعيها. ارتعش جسدها وهي تشعر لأول مرة أن الجدران التي طوّقتها سنين بدأت تتلاشى خلفها. كان صرير الإطارات على الطريق أشبه بصرخة تحرّر. لم تعد تسمع صخب البيت، ولا شتائم إخوة الزوج، ولا صرير أبوابهم المؤصدة. لم يبقَ سوى أنفاس ابنتيها الدافئة تختلط بدموعها، ورائحة الخوف تنسحب تدريجيًا من صدرها، تاركةً مكانها لارتجافة أملٍ جديد.

في تلك اللحظة، همس قلبها بصوتٍ مبحوح:

"لقد بدأنا طريق النجاة."

**

يتبع

سعاد الراعي

قرر "سلام" هذه المرّة أن يزور السوق الأسبوعي لعاصمة إمارة سيكا عند الفجر. البارحة، في المقهى الملاصق لبيته، جرى بينه وبين صديقه "عبد العليم" حوار طويل حول تحولات الأسواق الأسبوعية، وكيف أصبحت سلوكيات الوافدين إليها مرآة صافية لقياس حرارة المجتمع ونبضه.

حين بلغ السوق بعد أن قطع كيلومترات على قدميه، كانت العتمة ما تزال تكسو الأفق. جلس ليستريح على صخرة عند جذع شجرة هرِمة يتجاوز عمرها القرنين، وأطلق بصره في حركة القادمين، أفرادًا وجماعات، يتدافعون صوب البوابة. كانت عيناه تلتقطان التفاصيل، بينما ذهنه غارق في تأمل عميق في دلالات ما يرى.

وفجأة دوّى صراخ حاد، اهتز له فضاء السوق:

ــ "لص! لص!"

انتُزع سلام من شروده حين لمح شابًا قوي البنية يركض بجنون، وخلفه أصوات التجار والزوار تتعالى باللعنات. وبعد لحظات لحق به أربعة شبان أكثر قوة ونشاطًا، يركضون بأرجل مرفوعة كأنهم في سباق، يصرخون:

ــ "قف أيها اللص الملعون!"

اقترب سلام من أول خيمة نُصبت بعد بوابة السوق، وكان صاحبها شيخًا يبيع أقمشة بيضاء، فسأله:

ــ "السلام عليك، ما الذي حدث؟"

رد التاجر دون تردد، وعلى ملامحه مرارة السنين:

ــ "انتشرت السرقة هنا منذ ثلاث سنوات، يا سيدي الفاضل. كان سوقنا مضرب المثل في الأمان، ثم تغيّر كل شيء. هذا اللص اختطف محفظة فلاح لحظة قبض ثمن بيعه لأجود ثور لجزار كبير في العاصمة."

عاد سلام إلى مكانه مضطربًا. اجتاحه حزن غامض وسهاد ثقيل. تذكّر حديث البارحة مع عبد العليم، واستحضر في ذهنه شذرات من أقوال الفلاسفة في الشخص والهوية والغير، وفي الحرية والاضطرار، وفي جدوى القيم حين تنكسر الموازين.

وبعد نصف ساعة عاد الشبان الأربعة. كانوا يبتسمون كأنهم أحرزوا نصرًا أخلاقيًا. نهض سلام متفائلًا، فبادرهم:

ــ "أمسكتموه؟"

مر ثلاثة منهم أمامه بضحكات غامضة. أما الرابع فتوقف قليلًا، نظر في عيني سلام طويلًا، كأنه يعرفه ويقدّر مكانته، ثم اقترب وهمس في أذنه اليمنى سرا وطلب منه أن لا يفشيه لأحد:

ــ "أمسكناه يا عمي سلام... لكنه مكّننا من نصيبنا."

شعر سلام بارتجاف يديه، فشدّ على جذع الشجرة الهَرِمة وهمس لنفسه بمرارة:

ــ "انتهى الكلام..."

***

قصة قصيرة: الحسين بوخرطة

أنتَ لَمْ تُحسِنِ التَّحديقَ

ولم تتركِ الخُنفساءُ

آثارًا

سوى

تلك الرائحة.

*

الأصدقاء:

أخطاء طباعية

نُدَبٌ

يصعبُ محوُها

*

البياضُ

أسطورةٌ هَشَّةٌ

تبتلعُها جيوشُ السَّواد

الحقيقةُ

لم تلتقطها السيارة

*

أحتاجُ الكثير من الصداقات

وحكمةُ زوربا

تلك عادةٌ سيّئة

*

المثال المُقيمُ

في رأسِ أفلاطون

أرخصُ مِن قيمتِهِ

في سوقِ النّخاسة

مَنْ سَيُزايدُ..

*

الدخولُ إلى الذات

ممرٌّ مُضاءٌ بسؤال،

وسقراطُ هناك،

ينفخُ في رمادِ يقينه

*

عندما أسَرَّكَ صديقُكَ

كانت يدُهُ الأخرى

تعبثُ

بسلسلةِ المفاتيح...

*

البياضُ خرافةٌ

طَعِّمْهُ بالسَّوادِ

قبلَ أن يفوتُكَ مَوسمُ الظِّلالْ

*

عندَما كنتُ صغيرًا

كنتُ أضحكُ

حتى تبْتَلَّ

لِحْيةُ الزَّمَنْ

*

عندَما كبُرتُ

صرتُ أبكي

حتى تشتعلَ

لحيةُ المكان

*

الانتماء:

أن تكونَ محاطًا بالبياضِ

ولكن...

*

التَّحَقُّقُ:

أن تستيقظَ

ولا تجدَ ظِلَّكَ

في صفوفِ الطباشير.

***

إبراهيم مصطفى الحمد

لم يكن في الجوار غيرها ليخدش الباب في ساعة متأخرة. يبدو أن المطر داهمها في كرتون زيت تبرع به الجار لإيوائها. رقة هذا الكائن تأسر سكان العمارة، لكن صغارهم لا يهتمون بالفرق بين دمية وقطة. آثار السلك الذي ربطها به أنذال صغار بادية على رقبتها. تموء وهي تتمسح بسروال نومه. لعلها جائعة!

سارع إلى المطبخ بحثا عما تبقى من سندويتشات الغذاء. معذرة يا صغيرتي، فالحرم المصون غاضبة في بيت العائلة. الشقة برأيها أضيق من كرتونك، ولا تليق بشاعر رأسماله في الحقيقة كومة أحاسيس، ونسخ أعماله الملقاة في أرجاء الغرفة.

هل يليق بشاعر مثلك أن تحاصره امرأة في زوايا أربع من الطوب والإسمنت؟ قدرك أن تتفجر دفئا ورقة لتذيب صقيع الحياة. هكذا أنتم أيها الشعراء! ثم انصرفوا إلى حيواتهم يديرونها بخبث ومكابرة، غير عابئين بسطوره الممددة على صفحات الجرائد.

شاعر.. ثم ماذا؟

تموء القطة فيمسح على ظهرها ليدخل السعادة إلى قلبه. بعض النساء قطط! يتجدد المواء بينما يقلب درج مكتبه بحثا عن مسودة أشعار في الحب والجمال، وبؤس بني البشر. لا فرق بيني وبين أي صعلوك آخر في الحي. تلك هي الحقيقة. يقرر الصعلوك أن يجابه واقعه بما يليق باللحظة الإنسانية من قسوة أو جنون. مهمتي أنا هي تزييف كل شيء. أحاسيس تنبض على الورق، بينما تُداس في الخارج بأقدام الباحثين عن عالم أفضل.

جمال تديره صالونات الأزياء والعطور بأنفاس حرب باردة.

عزلة محب لا يطيق الجلوس بمفرده لتناول فنجان قهوة.

وحب ملتهب الكلمات لكنه سريع الذوبان. يكتنفه لغط الحياة وشدتها فيصير عبئا على قلبين.

كفّ للحظات عن سهوه حين نطّت من مكانها إلى النافذة المجاورة. تحب القطط مشاهدة ما يجري لساعات. هل أكتب شيئا جديدا لو استلهمت حضورها الآن؟ من يدري، فقد يكون للوجود معنى إذا تفحصته بعيني قطة!

رن هاتفه فجأة، فتنحنح قبل أن ينصت بلباقة معهودة لحديث صهره. ألح على أن يكون للشاعر دور آخر غير إتلاف عمره بين كومة أوراق:

- تطلب الأمر ساعات لإقناع رئيس البلدية. ستكون رئيس الدورة العاشرة للمهرجان الثقافي. هي صفقة لتجديد أثاث البيت، وفض النزاع المستمر بينك وبين الحرم المصون!

كل شاعر هو، بنظر العائلة، بطل من ورق. كي يلمع صورته يحتاج إلى سمسار لإتمام مهمة التألق والظهور. رئيس دورة! هل يسخر من نفسه أم يُجاري قواعد اللعبة؟ التفت إلى القطة التي تلعق طرفيها في لحظة استحمام فريدة. تذكر ما قاله دافنشي يوما: "كل قط هو تحفة أدبية". ما عساه يكون الشاعر إذن إن لم ينسجم مع النفحة الإلهية التي ألهمته سحر بيان؟

أي شأن يتفرد به الصدق بعد انكسار المرايا؟

وهل..؟

التقط بسرعة قلم حبر أسود، ثم ارتمى على أريكته ليغزل من العاصفة خيوط مطر. يبدو أنها استشعرت ما يهز كيانه، فنطت إلى جواره لتموء وتتمسح بسروال نومه. بعض المشاعر قطط، تخدش قلبك ليسترد حماسه الفاتر. وفي لحظة مفعمة بالتجاوز، يصير العالم الفسيح كرتون زيت، لا يلبث أن يضيق بك ذرعا حين يُبلله المطر!

شاعر.. ثم ماذا؟

لا شيء!

***

حميد بن خيبش

 

أَرَدْنَــــاها بما تَمْــــلِكْ حَلُـــوبًا

وقَدَّمْنَا لها (غَسَنًا)* حُــــرُوبا!

*

وحَدَّثْنَا (ضُرُوعهــا) في ثوانٍ

فَتَـــمَّ لنا إذْ انْتَزَفَتْ.. نُضُــوبا!

*

فَـدَرَّتْ واستَدَارَتْ في خُشُوعٍ

تُقَبِّلُ كَفَّ (حَالِبها) رُغُـــــــــوبا

*

وخَصَّتْـــهُ (مُؤَخِّـرَةً) سَخَــــاءً

فَثَمَّـــــنَها وبَــــــــــارَكَهَا رُكوبا

*

وما فَطَـــرَتْ ولا جَــرَحَتْ صيامًا

إِذْ انْبَطَحَـتْ وقد بَلَعَتْ حُبُوبا!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي

10/8/2025

 

لا شيء يثير فضولي،

ضيقة هي الرحابة

وللفضاء انكسار

كما استدامة شفق،

لا شيء يشبه نفسه

وإن تعدد الأشباه،

لو كان لي صوت هنا

ما صرخت،

فمن عاداتنا اللا انتباه

*

بداخل كل واحد منا جدار

وما الحب إلا احتمال غيمة

هذا الرمادي لا يكتفي،

قل: أنك متعب

قل: أنك اقتربت

قل: إنَّ خطاك إليك محاصرة

لا أحد هنا

هل من طريق؟

ترتد الخطى لا اتجاه

*

ما العالم؟

صورة لم تكتمل

تُعد غدها للأمس

هي مرآة الأنا

مكياج باهت

وأسود الشفاه

***

فؤاد ناجيمي

قصيدة/ هذا الرمادي لا يكتفي

من المجموعة الشعرية/ كأني أحمل الصحراء

 

قصتان قصيرتان

عادات قديمة

اليوم الذي يسبق المدرسة.. مازلت للآن أستقبله بنفس الحفاوة من الضجر والإكتئاب والبكاء.. في صباح يوم الجمعة، أستلقي أمام التلفاز مسندة رأسي على وسادة خضراء مطرز في الطرف العلوي منها طاووس وعبارة " أحلام سعيدة"

أمد قدمي على الطاولة التي تحمل التلفاز، أحركه بأطراف أصابعي حتى يوشك  أن يقع وجدتي تردد " يابنت لاتطيحي التلفزيون" "يابنت التلفزيون خربان، ياويلك من خالك"

و كأنها تخاطب الجدار، فمازلت ألعب بالتلفزيون حتى إهتزت الصورة وتشوت..تصيح جدتي.. "يابنت..الله يكافيكي، تعالي يا فاطمة صلحي التلفزيون خربته هذه الآفة"

تأتي دادا فاطمة تحرك الأريل " لا أعلم إن كانت هذه التسمية صحيحة لكن هذا ما اعتد قوله "تضرب الجهاز عدة ضربات، تعتدل الصورة.. لم تكن فاطمة كهربائية ولا خبيرة في الأجهزة الالكترونية.. هي فقط تضرب التلفاز كما كنا جميعا نفعل.. لكنه لايستجيب إلا لها.. تنظر إلي بعدما أصلحت الجهاز وتقول: " ليش طفشانه؟"

وتعلم أنني لن أجيب تخرج إلى الشرفة وتحضر بطانيتي المفضلة وتلقيها علي، كنت اشعر بالراحة الان استطيع التبسم دون أن يهتز بريستيجي.. أدّعي النوم إلى ما بعد الظهيرة  ممدة في منتصف الصاله أعيق حركة جدتي ان ارادت دخول الحمام، أعرقل فاطمة ومكنستها ملقاة وكأنني حجر على الطريق..

**

بقالة الحي

أسمع جدتي تكلم صاحب البقالة وتطلب "خبز ابيض مفرود، جبنة بيضاء وحلاوة لمى".. أسعد لحظة في يومي كله فلم أتحمل إختناق اللحاف ولا الإزعاج وشتم المارّين إلا لأجل هذه الفقرة.. كان البائع يعرف كل طلباتي لأنني من النادر أن أغير روتين شيء راق لي إلا بعد الملل منه..

سئلتُ في مرة:" إذا ذهبت لبقالة حارتنا القديمة ماذا سوف تشتري؟"

فأجبت:

ان إلتقيت صاحب البقالة أسأله أن يبيعني شوكولاتة جالكسي السادة التي كنت أتلذذ بها بعد الإستحمام مع كوب القهوة الذي تخادعني به فاطمه وتضع القليل فقط من  النسكافيه وتطفح الباقي بالحليب..

أو أشتري منه شامبو بيرت بلس الكبير للأستحمام، أضعه فوق منشفتين بيضاء وأركض على الحمام أسابق خالي الذي يقدس الإستحمام أكثر من أي شيء آخر..

أفتح صنبور الماء وأقف بعيداً عنه لأضبط درجة الحرارة التي كانت واضحة من البخار المتصاعد من كل مكان.. وجدتي تطرق الباب بشدة، أجيبها : " أنا أستحم يا جدة"، ثم بعد عدة دقائق تعيد طرق الباب وأصرخ للمرة الثانية " أنا أستحم أستحمممم"

وكأنه يصعب إستنتاج الإجابه فمع خرير الماء ورائحة الشامبو والبخار المتصاعد من تحت الباب يستطيع الجار أن يعرف أني أستحم في هذه اللحظة..

يطرق الباب من جديد فأغضب وأغلق الصنبور وأقول بطريقة ناعمه وراقيه "ها"

ترد علي فاطمة: افتحي الباب بسرعه، تناولني كأس ماء بارد حتى لا أصاب بالدوار من شدة الحرارة.. لا أعلم لماذا كنت ومازلت أعذب نفسي بهذه الطريقة!!؟

أو أشتري بسكويت الشاي والجبنة البيضاء والجلو لجدتي لتجهز لي حلى طبقات الجلو والبسكويت والجبنه في زيارة الأسبوع القادم..

لو إلتقيت صاحب البقالة أسأله أن يبيعني تلك التفاصيل الصغيرة، الذكريات والمشاعر

لو إلتقيته لطلبته أن يبيعني الزمن.. أن يعطيني جدتي ومنزلها… وفاطمة

***

بقلم: لمى ابوالنجا

. هذا خطأ كبير علينا إصلاحه سواء بالمال او بالقتل

. رد مساعده..

كان الاختيار غير صحيح ورغم بذل جهود كثيرة الا انها مصرة على أداء عملها حسب ما تمليه عليها القوانين وما يراه ضميرها كما قالت

. وانتم ما تفعلون حيال ذلك.. هل تخنعون؟

وتصفقون لها عندما ترون عنق قريبي متدليا على حبل مشنقة؟

تصرفوا بأية طريقة ترونها مناسبة وتقصر لنا الطريق وان لم تنجح قضية الإقناع او الضغط او حتى الرشوة تحولوا إلى الجانب الدموي

. وماذا نعمل عندما تصبح الحالة قضية رأي عام؟

. ليذهب الرأي العام للجحيم ولدينا المال والسلطة والاعلام والقدرة على صناعة الأحداث وفبركتها واخراس الأصوات المعارضة حتى لو تطلب الأمر استعمال (الكاتم) وماعليكم سوى سرعة التحرك قبل أن يفلت زمام الأمور ويطلع الآخرين على التقرير

. عند بداية الدوام جلست خلف مكتبها وهي مليئة بالاصرار على انجاز ما طلب منها حسب ما يمليه عليها واجبها المهني والانساني ولن تخضع لضغط او مغريات مهما كان مصدرها او حجمها وقبل ان تنهي قهوتها دخل مكتبها زميل بصحبة المساعد واختليا بها وقدما لها عروض برشوة تشتمل على الكثير الكثير ووعود واغراءات لكنها رفضت وبعد يأس المساعد تحول للتهديد والوعيد لكنها لم ترضخ ولم تبالي واصرت على موقفها فنهض المساعد مهددا

. إذا بعد هذا اعلمي انك لن تعيشي أكثر من يومين ان لم تتراجعي عن موقفك حتى مساء هذا اليوم

. فردت بهدوء..

افعل ما بوسعك فلن ابيع ضميري حتى لو كان الثمن حياتي وابلغ من يقفون خلفك اني لن أكون سببا في افلات مجرم من العقاب

فخرج غاضبا وأغلق الباب خلفه

. دخل المساعد على سيده واخبره بماجرى مع الطبيبه وفشله في اقناعها فابتسم بمراره وسأله..

. وماذا بعد؟

. نستخدم الوجه الثاني في طريقة التعامل معها

. وماهي ادواتكم؟

. لديها اخ يتعاطى المخدرات وام تحب المال كثيرا وأب يسكته التهديد ويلجمه الخوف وهناك عوامل مساعدة أخرى

. وماذا ستفعلون؟

نشتري اخوها ونساوم امها ونخيف ابيها وبعد ذلك نفعل المطلوب

. اعطوهم كل مايطلبون حتى إذا كان منزل فخم خارج البلد واستخدموا اخاها في ماتنوون عمله إلى أقصى حد واريد ان لايظهر على جثتها علامات تصفية او قتل متعمد او انتحار وإنما خليط بين كل هذا لكي يختلف المختصين عند التشريح مع إمكانية شراء بعضهم وغدا عندما تأتي للدوام لا تتصلوا بها واتركوا زميلها فقط يسالها عن موقفها فأن لم تغيره باشروا عملكم مساء وساحرك الصفحات الاخرى بعد انتهائكم ونعمل ضجة اعلامية عن انتحارها ثم يخفت كل شيء تدريجيا

. امرك سيدي

. في مساء اليوم الثاني اخلي بيت الطبيبة من ساكنيه واختبأت بداخله فرقة مختصة بالاغتيالات والتصفية الجسدية حتى وصولها وبعد وقت قصير تم قتلتها وتشويه جسدها بضربات وطعنات متنوعة ثم جيء باخيها ومعدته ممتلئة بكمية كافية من المخدرات ووضع مع القتيلة في البيت وبعد وقت قصير وصل احد اقربائها المتعاونين معهم ليكتشف الأمر ويبلغ الشرطة بانتحار المومى إليها وياتي بعد التبليغ دور الإعلام وتفتعل الضجة الخادعة ثم يبدأ الصراع بين الحقيقة والخداع.

***

راضي المترفي

 

دعي عيني على يومٍ تراكِ

وفي قلبي هوى يغلي هواكِ

*

فلا جدوى إذا المرأى ترآى

وفي عيني أرى فيهِ سواكِ

*

أيا أنثى بها حورٌ تجلّتْ

تُنَزَّلُ بالأنوثة من سماكِ

*

فتمطرُ في المجامر قطر مزنٍ

ليطفئَ ما تجمّر في نواكِ

*

فيا أنثى من الفولاذ قدّتْ

عناد الفرس يسري في جواكِ

*

فما اهتزتْ على يومٍ غصونٌ

ولا بثّت أزهارُ من شذاكِ

*

تناءيتِ إلى شرقٍ بعيدٍ

أيا شمسَ الصّبيحةِ في ذراكِ

*

فما في الأُفْق إلّاكِ شموسٌ

فلم تطلع ولم تطلق سناكِ

*

أعيشُ اللّيلَ في عمري كئيباً

فقد طال الظّلام على مساكِ

*

متى تأتين.. كي يأتي صباحٌ

مضيءٌ.. مبلجٌ.. صحوٌ؛ وراكِ!؟

***

رعد الدخيلي

 

أينَ الراكبُ أضلاعي يمشي أين؟

راقبتُ سلوكَ الممشى حتّى ساختْ أقدامي في حقلِ البينِ

لمْ أيأسْ لم أركبْ يختاً عشوائيّاً في بحرِ النونِ

يا حافظَ خطِّ الباقينَ سُكارى في جُرفِ العينِ

تمهّلْ .. عفوكَ لا يُجدي لا ينفعُ دفعا

لا يصلُحُ إلاّ للقفزِ على لوحِ التوفيقِ المُنشقِّ الخصرينِ

حيثُ المرآى ولاّعةُ خزّانِ التسخينِ

المرجلُ أعلى من فوّهةِ البركانِ الموبوءِ سواداً يغلي

آهٍ لو رفَّ الجفنُ الساقطُ بين الحافرِ والنعلِ

تطوانُ بلادي

العطفةُ في أعطافِ غلافِ الساهي العملاقِ

لا يرجو سهواً عَطْفا

لا ينتظرُ الباقي من حفلِ الإخفاقِ

شدَّ اصفرَّ تحرّقَ في وجدِ الماءِ الرقراقِ

(تطوانُ مصيرُ الغائبِ عنّي)

يتلوّنُ حسبَ مرامِ شموسِ الأخلاقِ

أو حسبَ مِزاجِ الطاحونةِ في صدرِ الحُبِّ الباقي

اللونُ يُشاكسُ خرقَ الطيفِ الشمسي

والبعدُ مُقايضةُ العُملةِ في سوقِ الأوراقِ

**

أبعدتُ ظنوني زَحْفا

كي لا أصطادَ الخيبةَ في سلةِ مُهر التغييرِ

لا أعرفُ تفصيلَ كلامِ الزَغَبِ المُصفّرِ سريعا

فكلامي يتفرقعُ شَجْواً مُنطفئاً

هذا أنتِ الليلُ الساجي وأنتِ الطَرَفُ الماحي للشوقِ

أين الغُربةُ كيف اللهوُ؟

لا أعرفُ خطَّ سَواءِ التوقيعِ على إنذارِ التبشيرِ

قُلتِ أراكَ ولم تقدحْ عينُ الرؤيا

هذي لحظةُ إيقافِ التنفيذِ

قولي أحسنتَ وقولي للبحرِ التطوانيِّ متى تنشقُّ الأقمارُ

لا أُهديكِ وروداً فالوردُ مشاعلُ تصعيدِ الأنفاسِ

قولي حتماً يأتي البرقُ

قولي البرقُ يُريدُ خُلاصةَ إعلانِ الأخبارِ

ما يأتي لو خابَ الظنُ وطنَّ الطرقُ على مِسمار الأبوابِ

" طَنجةُ " في المرمى عنوانُ سكونِ الأطباقِ

التوأمُ ضِدّانِ

طنجةُ – تطوانُ

من دِنِّ الخمرةِ في طنجةَ حتّى ضجّةِ عينيْ تطوانِ

***

عدنان الظاهر

12/ 8 / 2025

 

تقولين: لِمَ قصائدُك موحشةٌ؟

كلماتُك تفوحُ رهافةً، وصورُك تجعلُ الأنهارَ مرآةً

تغتصبُ أُنوثةَ الحوريّات.

*

أُحبُّكَ واحدًا، شامخًا أو منكسرًا... سيّان!

فما تدّخرُه من الوُدِّ يُصلحُ ما فسدَ من العالم.

*

قد يشغلني عنكَ حزني، وفقدي،

لكنّي لن أجزعَ من طرقِ بابك.

*

ثمّةَ ما يجعلني منجذبًا إليك؛

إنَّ قلبي اختار أن يكون بقربك، وكفى!

*

تُعيدُ عليّ السؤال: "لِمَ أنا؟"

أضحكُ، ويأتيني النّداء: "الطريقُ من هنا."

*

في أوّلِ فراقِنا تحتجبُ الشمس،

وفي الثاني نبتلعُ القمر، حوريّةً سماويّةً،

وفي الثالث يطرقُ بابي بردُ السماء،

فأشعرُ أنّ البيتَ أوسعُ من أن يضيق.

*

قد تغيبين، لكنَّ خيالَكِ ما زال بيننا...

قصيدةٌ لم يُفضَّ بكارتُها.

*

مَن يُصدِّقُ أنَّ رجلًا مثلي

يحملُ قلبَ عصفورٍ؟

***

د. جاسم الخالدي

في نصوص اليوم