نصوص أدبية

نصوص أدبية

لم يعد محتملا البقاء

الأرض ترفض النزلاء

*

عدوى الغرائز تنفست الصعداء

بذور الخرائب لبت النداء

*

من صميم اليأس ضاجعت الحياة

قبل أن تواري عن نفسها عاهرة الفناء

*

أعوام الأسى ولت بقرار

كتمته حتى صار قضبان العراء

*

تنتشر العدوى بالمال والنفوذ

تزحف الشكوك حول الملوك

*

وعيد بثورة مقبلة لأجل البقاء

تنهي ما تبقى من سياسة البغاء

*

أما أنا مع جميلتي نمارس القيم

تحت الغطاء نناقش سياسة العطاء

***

حسام عبد الحسين

ولــقد أَطَــلَّ عَــلَى المَلَا (عِيْوَاظُ)

تَيْــسٌ تَــجَـمَّعَ حَـوْلَهُ الأَوْشَــاظُ

*

يَــحْمُونَهُ  مِــنْ كُلِّ خَصْمٍ غَاضِبٍ

وَكَـأَنَّــهُـمْ  لِــنَـصَــالِهِ  أَرْعَـــاظُ

*

خَـرِقٌ غَــبِيٌّ أَحْــمَقٌ لا يَــرْعَوِي

عَــيَّـتْ بِــوَصْفِ غَـبَائِهِ الأَلْــفَاظُ

*

فَـإِذَا  تَــفَلْسَفَ  مُــطْلِقًا لِــنَبِيبِهِ

مُــتَــفَــاخِرًا وَكَـــأَنَّــهُ لَــظَـلَّاظُ

*

وَلَــطَـالَمَا نَــطَــقَ الـكَلامَ مُــثَأْثِئًا

لِــيُـصَفِّقَ  الــجُـهَّالُ وَالأَفْــظَــاظُ

*

وَإِذَا تَــنَـحْنَحَ لِــلْقَطِيعِ مُــضَأْضِئًا

تُـحْنَى الـرِّقَابُ وَتَغْمُضُ الأَلْحَاظُ

*

وَبِــهِ  تَــغَنَّى كُـلُّ جَـدِيٍّ شَــاعِرٍ

وَتَــحَـذْلَقَ  الــخِـرْفَانُ وَالــوُعَّاظُ

*

قَـالُوا أَتَـتْهُ مِـنَ الــسَّمَاءِ رِسَــالَةٌ

فَـلِـمِثْلِ هَـذَا يَــحْــفَظُ الــحُــفَّاظُ

*

حَـتَّى ظَــنَنَّا جَــازِمِــينَ بِــأَنَّــهُ

فِــي  الــمَوْسِمِ الآتِـي يُـقَامُ عُكَاظُ

*

كَـالْعِيرِ أَتْـعَبَهَا الْـمَسِيرُ يَـقُودُهَا

حَــادٍ  عَـلَـتْهُ غُــبْــرَةٌ وَغِــنَــاظٌ

*

فَـإِذَا تَـأَفَّفَتِ الـمَعِيزُ أَوْ اشْــتَكَتْ

حَـامِي الـحِمَى مِـنْ فِعْلِهِمْ يَغْتَاظُ

*

يَــبْـدُو كَـقِـرْدٍ قَــدْ تَـحَرَّقَ ذَيْـلُهُ

حَـوَلٌ  أَصَـابَ عُــيُونَهُ وَجِــحَاظُ

*

وَيُــبَرِّزُ الــقَرْنَيْنِ مِـثْلَ عَـرَنْـدَسٍ

وَيَـــــؤُزُّهُ   مُــتَــمَــلِّقٌ  لِـعْـمَـاظُ

*

يُـزْجِي الجَحَافِلَ وَالجُّيُوشَ لِقَتْلِهِمْ

فــيَقُودُهَا  صُـفْرُ الــوُجُوهِ غِــلَاظُ

*

وَكَـأَنَّ هُــولَاكُــو يَــعُودُ مُــجَدَّدًا

وَبِـهِ  تَــفَـاخَرَ سُــوقَـةٌ وَجِــعَاظُ

*

فَـيَقُولُ  لا تَـرْحَمْ قَـطِيعًا سَــيِّدِي

فِــيــهِ عَــمِـيلٌ خَـائِــنٌ جَـــوَّاظُ

*

فَـإِذَا  بِــهِ جَـمْعُ الــنِّيَامِ تَــأَثَّرُوا

سَــيَحِلُّ مِـنْ بَـعْدِ الـكَرَى إِيـقَاظُ

*

هَـرْجٌ  ومَـرْجٌ قَـدْ يُــشَتِّتُ شَمْلَنَا

هَـلَــعٌ يُــصِـيبُ ذُيُـولَنَا وَكِــظَاظُ

*

أَنْــزِلْ عَــذَابَ الـهُوْنِ فَوْقَ إِهَابِهِ

جَـمْــرٌ  يُـحَـرِّقُ جِــلْدَهُ وَشَــوْاظُ

*

لِــيَكُونَ لِــلْـبَاقِينَ أَفْــضَلَ عِــبْرَةٍ

فَـهُـوَ الـمُجَرِّبُ قَـدْ أَتَــاهُ لَــمَاظُ

*

رَدَّ المُحَرِّضُ يَا رِفَـاقَ ألا اصبروا

وتَـحَمَّلُوا  وَتَـذَكَّرُوا مَــنْ فَــاظُوا

*

يَـا  قَوْمُ إِنْ ظَفِرَ التُّيُوسُ بِإِرْضِكُمْ

شَــتُّوا عَــلَى أَحْـلامِكُمْ وَاقْــتَاظُوا

*

أَخْـشَى  عَلَيْكُمْ مِنْ نَصِيحَةِ حَاقِدٍ

أَوْ أَنْ يُــفَـرِّقَ جَـمْـعَكُمْ تِــلْــمَاظُ

*

لا  تَـضْعُفُوا أَبَــدًا وَلا تَـسْتَسْلِمُوا

مَــا خَــابَ مَــنْ نَيْلِ المُنَى مِلْظَاظُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

.............................

1-عيواظ: دمية مشهورة في مسرح خيال الظل

2- الوَشِيظُ: .الجمع : أَوْشاظٌ و وشائظُ، وهم السِّفْلةُ من الناس التابعين أو لفيفٌ من الناس ليس أَصلُهم واحداً

3- رُعظ: الجمع أَرعاظٌ : مدخَلُ أَصلِ النَصلِ، أَو الثَّقب في السهم الذي يَدْخُلُ فيه أصل النصل

4- النبيب صوت التيس

5-اللَّظْلاظُ: الفصيحُ

6-الغِناظُ: الهمُّ الشديدُ والمشقَّة

7- اللِّعْمَاظُ: الذي يعطيك من الكلام ما لا أَصلَ له

8-الجَعْظُ: العظيم المستكبر في نفسه وفي الحديث: حديث شريف أَلا أُنبئكم بأَهل النَّار؟ كُلُّ جَظٍّ جَعْظٍ /الجمع جعاظ

9-الجَوَّاظُ المتكبِّر الجافي محرض للناس على الفوضى

10-الكِظَاظُ: الشِّدَّة والتعب

11-لَماظٌ: شيءٌ يذوقُه

12-التلماظ من لا يثبت على مودة أحد ولا يخلص لأحد ولاءه

13- المِلْظَاظُ: المِلْحَاحُ

جميل حسين الساعدي: اعترافات عاشق

الإعتراف الأول:

لا أنــــــا أنــتِ ولا أنـــــتِ أنــــا

نحــــنُ أصبحنــا غريبيــنِ هنــــا

*

مــــا الذي أبعـــــدنا عنْ بعضنــا

مــا الذي في لحظـــــــةٍ غيّــــرنا

*

أمــسِ قــــدْ كـــانَ لنا فردوسنــا

كلّ شــــــيئ ٍ كانَ يزهـو حولنــا

*

سامــرتْ أرواحنـا كأسُ المنــى

فانتشينـــا ونسينــــــا الزمنــــــا

*

ما الذي أغرقنــــا فــي نشــــوة ٍ

أهـــوَ الحــبُّ الـذي أسكـــــرنـا

*

فكتبنـــا رائـــعَ الشــعرِ فهـــــلْ

يـــا تُرى يُصبـحُ أحلى بعــدنــا

*

فلمـــاذا عثــــرتْ أقـــــــدامُنا

فجــــــأةً والدربُ قـــدْ أنكـرنا

*

حيــــرةٌ كالظلِّ تخطو معنــــا

قــدْ أضعنــا الحُبَّ مــا أضيعنا

*

أنـــــا من أجلكِ أبحــرتُ ومنْ

أجــــلِ عينيـكِ هجـرتُ السفنا

*

لــمْ يَعُـــدْ لــي وطــنٌ إلّا الذي

فيـه أحيـــــا بشـــرا ً لا وثنـــا

*

وطنــي أنســـامُ حُــبٍّ لا أرى

حيــنَ لا أنشقُهـا لـــي وطنــــا

*

نحنُ في الحُـبِّ نسينا ما(الأنا)

فبـِهِ في (أنـتِ) قـدْ ذابتْ (أنـا)

***

الإعتراف الثاني:

 أنا ما نسيتــــــك ِ أو مللتُــك ِ كــلُّ مـا

                               نقلــــوهُ عنّــــي كـانَ محــضَ إشــاعهْ

    صعْــب ٌ علـــيَّ بانْ أغــــادرَ عالمــي

                                واكـــــونَ شخصـا ً آخــر ا ً في ساعهْ

     انا لنْ أكــــــونَ سوى انــا ، فبداخلي

                                 ضدَّ التقلّـــــبِ مُذْ ولدتُ مَنَـــــــــــاعهْ

     سأكــــــــونُ أوّلَ مَنْ يغيّـــــرُ طبعـهُ

                                 لوْ غيّــــــــرَ الورْدُ الجميـــلُ طِبــاعَـهْ

     مَنْ لِــيْ ســوى عينيــك ِ ألمـحُ فيهما

                                  سِـــــــرَّ الجمــالِ وسِحْــــرَهُ وشعاعـهْ

     الحـبُّ مُنْــذُ البدْءِ زورقنــــــــا الذي

                                 كُنّــــــا نسجنــــــا بالوفــــاءِ شِـــراعهْ

بالأمـسِ عِشتُ مــع َ الأماني حالما ً

                                 حتّــــى تلاشتْ فجـــــأة ً كفُقـــــــــاعهْ

    واليوم َ إذْ أيقظتِنـــي مِـــنْ غفوتـــي

                                 أرجعـــت ِ ما لمْ أسْتطـــعْ إرجـــاعَــهْ

     وأضأت ِ فــــي قلبـي قناديل الهوى

                                  وجعلــــتِ نبْـــــع َ مســرّةٍ أوجــــاعَهْ

     حرّرتِنــــي مِنْ عـــــالم ٍ مُتحجّــرٍ

                                 اللـــــهُ والإنســـانُ فيــــه ِ بضــــاعــهْ

     مـنْ يربــحُ الدنيــا ويخســــرُ حُبّـهُ

                               ضحّـــــــى بعمْـــــرٍ كامــل ٍ وأضـــاعـهْ       

                                ***

الاعتراف الثالث:

الصبـــــرُ ليسَ بمُستطـــاعِ               فهجــــرتهُ بعـــد َ اقتنــــــاعِ ِ

مــــا عـــــادَ غيرُ الشكّ ينـ                ـــهشُ في يقينـي كالضبـــاع ِ

قلــــــقٌ يمزّقنــــــني ويهــ                ــزأُ ُ بي، بأحلامي الوســـاع ِ

لمّــــا تألّقَ في سمــــاءِ الفــــــــــنّ نجمـــــك ِ فــــــي ارتفـــــــــــاع ِ

وفتنـــــتِ جمهــــورا ً يتـو                قُ إلــــــى لقــائكِ كالجيـــاع ِ

أنكــرتِ أني كنتُ يــــــــو               مـــا ً فــي سمائك ِ كالشــعاع ِ

فسخـــــرت ِ مـــن كتبـــي وممّـــا خطَّ منْ شعـــــــر ٍ يراعـــــــــي

ونفثـــتِ في وجهـــي دخا               نـــك ِ وانصـــــرفتِ بلا وداع ِ

فكأننــــــــــي ثوبٌ عتيـــ                  ـــقٌ , بعضُ شئ ٍ مِنْ مَتــاع ِ

قدْ عفتِنــــي فـي دهشــــة ٍ               ثمِلا ً بحزنـــــي والتيــــاعـــي

وحــــــدي كأعقـابِ السجا              ئرِ فوق َ أرصــــــفةِ الضيـــاع ِ

هـــلْ تذكـرينَ الأمسَ حيـ               ـن َ جريت ِ نحوي في ارتيــاعِ

وأملت ِ رأســــــك ِ ثمّ سـا               لـتْ دمعتــــــانِ علــى ذراعـي

أنفاســـــــك ِ الحرّى بوجـ                ــــهي في هبــــــوط ٍ وارتفاع ِ

عينــاك ِ فـي عينـــــيّ تلـ                ـتمســــان ِ أمْنــا ً فــي قلاعــي

لكنّ غيــــــــمَ الحزْنِ أمــ                 ــطــــر َ فجأة ً دون َ انقطـاع ِ

لمْ أدْرِ أنّ البحْــــــــرَ يغـ                 ـــدرُ بـــيْ ويخذلنــي شراعي

لمْ أدْر ِ يومـــــــا َ أنّ رو                 ض َ الحبِّ تسكنـــهُ الأفاعــي 

كالطفـــل ِ كنتُ أحسُّ في                 شـــــوقي إليك ِ وفي اندفــاعي

فاجأتِنـــــي مـــــا كانَ يو                مــــا ً هكذا عنـــك ِ انطباعــي 

لم تظهـــري لي مثلمـــــا                 قدْ كنتِ في الزمـن ِالمُضــــاع ِ

أصبحــتِ شيئـــــا  ً آخرا ً                وجــها ً تخفّــى فـي قنـــــــا ع ِ

يكفيــــــك ِأنّك ِنجمــــــة ٌ                 بيـــن َ الأكــابر ِ والرعـــــاع ِ

قلقـــي عليكِ برغم ِ مــــا                قاسيــتُ دومــا ً فــي اتّســـــاع ِ

أخشــى ضياعـك ِ بعدَ أنْ                ألقيت ِ بِــيْ  وســــط َ الضيا عِ

أخشــــــى بأن تغتالَ فيــ               ــك ِ النور َ أضـــــواءُ الخـــداع ِ

***

جميل حسين الساعدي

  

وعدتُ طيفاً بلا جسد

هائماً في متاهاتي

لعلي استنشق بعضها

ريحاً

من الهوى الجذابْ

*

وتحيا هي بلا سأم ٍ يخامرها

تُضمّخ الخدين في غرورٍ

تكحل العينين

وإن ضاقت مقاصدها

تغدو إلى الصلاة

في رسوم المستجابْ

*

كل شيء فيها من تفاصيل

منزهةً

ينابيع شوقٍ

لا غارت ولا بُليت

في مائها صوتٌ

طافحٌ بالعتابْ

*

وانفجرت بالقول صمتاً

كنت أظن به

آمالاً معقبةً

وقاصر الرد مثلي

لا يحضره الجوابْ

*

ويسأل القلب

حين بدت لي

كلها غاياتٌ

بلون الفصول مزركشةً

يا بؤس قلباً

أنت صاحبه

أوينفع العذر في شريعة الغابْ!

*

ماذا لو يغفو هارباً من سجنٍ

غالبه الكرى شوقاً

بين ذراعيها

وهو موثق قبيل العقابْ

*

وما أن نظرتُ في وجهها

تسمرت قدماي

وتحوّلت من حولي

الجبال هضابْ

*

وكان لي عقل استضيء به

وصرحٌ، وعزيمةٌ، وهمةٌ، وصوابْ

ذابت كلها بنفحةٍ منها

وبقيت كخيال طيفٍ في ثيابْ

*

وأموراً ليس يُخفى كنت أحسبها

صوت العصافير توقظني

اشتياقاً وعهداً واقترابْ

*

ماذا أنت لو أنت قارنتها

كل النساء في الدنيا

سماء صافية وسحابْ

*

روح المكان زمان كنت به

لا تجزع اليوم من عجائبٍ

إن رأت فيك

نجماً آفلاً بعد غيابْ

*

وأنتَ ...

أنت حقلاً أفنى عمره

تحت الشمس محترقاً

وعاد بائساً على عجلٍ

يزيح بيديه صور الضبابْ

*

كعش حمامٍ على شجرٍ

يقاوم الريح اجتلاباً لمرضاة

والأغصان

تدفعه ضجراً

كآخر لذةٍ

والباقيات عذابْ

*

والروح أين الروح معلقة

في ذاريات الهوى..؟

أمجاداً مشوشةً

طارت كأثواب سرابْ

***

بقلم: د.علي الباشا

كاتب سوري مقيم في السويد

الزمان: ساعات اول النهار.

المكان: شارع ما زال يتنفس أنسام الهزيع الاخير مِن الليلة المولّية.

الشارعُ خالٍ إلا من بعض السيارات المنطلقة مسرعة وكأنما هي هاربة.. فزعة.. من سياط الكورونا اللاسعة، وما تجرّه من حجر فظيع على مَن حلّت ضيفة ثقيلة في حلوقهم واجسادهم، ولولا عدد قليل من المارّة لخلا الشارع تمام الخلو. ولخيّل إلى القلة من العابرين والناظرين مِن وراء ستائر شبابيكهم المطلّة على الشارع الممتد، أن يوم الحشر قد حلّ أو أن الكورونا اللعينة أوشكت على وضع حدٍّ لهذه الحياة الفظّة الغليظة القلب القاسية.

بعد لحظات مِن الهدوء الحذر الصامت صمت أحياء أرادوا أن يعيشوا الحياة بكلّ ما زخرت به من حركة موّارة، تتوقّف سيارة جيب ليلية اللون.. ينزل منها رجل في أواسط العمر. يتوجّه نحو المقصف القريب من السيارة واضعًا يده على جَيب بنطاله الفضفاض.. خاكي اللون.. كمن يريد أن يشتري شيئًا طلبته النفس وتاقت إليه في ذلك الصباح الهادئ.. هدوء عاصفة توشك على الهبوب. ما إن يقترب الرجل من شباك المقصف، حتى يقفز كلب صغير ذو لونين أبيض واسود. يقترب الكلب من الرجل الواقف هناك، وما إن يصل إليه.. حتى يغيّر اتجاهه، فينطلق جاريًا في الشارع. عندها يُعيد الرجل جزدانه الشخصي الصغر إلى جيبه وسط صوت رجل مسنّ، يبدو أنه أبوه، وقد فتح باب السيارة المحاذي لمقعد سائق السيارة، ويهتف بالكلب:

-بيرو.. بيرو تعال.. تعال إلي.. تعال.

يترك الرجل موقعه قُبالة شباك المقصف، ويجري وراء بيرو، يجري وهو يتابع الانطلاقة المجنونة لبيرو في الشارع شبه الصامت،" الشكر لله.. أن الشارع يكاد يكون خاليًا من السيارات.. وإلا كنّا فقدنا بوري"، يقول لنفسه.

يتجمّد المنظر.. كأنما هو مشهد سينمائي.. توقف عن العرض. تتخذ الصورة أبعادًا متوتّرة قلقة: الرجل صاحب الكلب وأبوه يتوقّفان مذهولين على رصيف الشارع، في حين أن بيرويّ.. هما.. ينطلق في حالة شبه هستيرية، متقافزًا ما بين السيارات القليلة العابرة من الشارع.

الاب لابنه: لقد غافلني وقفز من شباك السيارة.

الابن: لا تهتم هو يحبنا.. سيعود إلينا.

الاب: ما كان علينا أن نعاقبه فنحجر عليه.. ماذا سنفعل الآن.. الله يستر.

الابن يُدني فمه من أذن والده، يهمس فيها ببعض الكلمات. يجري الابن في واحدة من ناحيتي الشارع، في حين يجري الاب في الناحية المقابلة. لقد بات بيرو الآن بينهما شبه محاصر، غير أن بيرو، ينطلق غير عابئ. عندما يُحكم الاثنان الحصار على بيرو الصغير، يركض هذا باتجاه صاحبه الرجل مرتدي البنطلون الخاكي، يركض باتجاهه.. يهتف الرجل:

-بيرو تعال .. تعال إليّ هنا. لن احجر عليك مرة أخرى.. تعال إلي.. وسوف أمنحك الحرية كاملة..

بيرو يقترب من صاحبه وسط تصفيق الاب واقترابه من ابنه، غير أن بيرو يغير اتجاهه هذه المرة بذكاء ويعود إلى انطلاقته في الشارع متقافزًا بين السيارات وكأنما هو وجد حريته المفقودة.

في الجانب الآخر الآمن من الشارع، تمضي اللحظات متنقلةً بين قلق حذر وتوتّر مترقّب. يبدو أن قلبيّ الرجلين، الاب وابنه، يخفقان على إيقاع أقدام بيرو الفزعة الراكضة. تطلّ حَيرةٌ شبهُ دامعة من عينيّ الاب:

-والان ماذا بإمكاننا أن نفعل؟

تنطلق من عينيّ الرجل، صاحب الكلب، نظرة غامضة.. تُشبه نظرة مَن وجد فكرةً طالما راوغته وتهرّبت منه فأتعبته. يجري الرجل باتجاه سيّارته سوداء اللون.. يفتح بابها بثقة، يتّخذ مجلسه وراء مِقود قيادتها، يحتضن المقود بثقة مَن وجد الحلّ المناسب لمُعضلة مصيرية، وينطلق باتجاه بيرو. بيرو يقفز جانبًا. يُخرج صاحبُه رأسه من نافذة سيارته يرسل نظرة واثقة إلى بيرو.. يتبادل الاثنان نظراتٍ حافلةً بالأمل.

-بيرو.. تعال.. سآخذك مشورًا رائعًا.. لن أحجر عليك مرةً اخرى.. سنشمّ الهواء معّا.

يقترب بيرو من السيارة و.. ما إن يفتح سائقُها بابها مطمئنًا إلى أن كلبه المحبوب الصغير عاد إلى رُشده، حتى يعود هذا إلى فقدان الرشد مرة أخرى، وينطلق في الشارع المُمتدّ، غير عابئ بالكورونا ومخاطرها القتّالة و.. رافضًا الانصياع لهُتافات صاحبه القلق وأبيه الحائر.. إنه يجري شاقًّا فضاء الشارع.. غير ملتفت إلى الوراء.. كأنما هو يُريد أن يُلقّن ملاحقيه درسًا حقيقيًا في الحُرّية.

***

قصة ناجي ظاهر

ملء مرتفعاته الجبلية

بغيوم كثيفة من اللامبالاة

باغتيال حراسه السريين بدم بارد

نهب كنوزه

والهروب من مقاطعته النائية

على دراجة من القش

لأباطن أنوات مغايرة

وأكتشف حركات الأشياء

في المحيط الواسع من العالم.

*****

وداعا أيها الصيف القاتل

أيتها النهود الثرثارة

المليئة بالدموع والنوستالجيا

أيها القارب المتوحش

حامل الأميرة إلى غابة السماء

أيها البحر

أيها الماهر في إخفاء القتلى

يا دموع الأسماك المتلألئة

وداعا أيها الصيف

أيها اللصوص المختفون

تحت جلد العجوز

أيتها الساعات العمياء

التي ترتمي تحت جذعي

تدفع عربة الشيخوخة

إلى الإسطبل

تجيء وتمضي محملة بالأكفان

وداعا أيها الصيف القاتل

لم تترك غير حيتان نافقة

على ساحل القلق

موتاك كثر

ينبحون في الحديقة المجاورة

بيننا الفراغ الأشيب يلوح للمارة

من بعيد.

**

أنا أحب الويسكي كثيرا

الهمبرقر وشطائر البطاطس

أحب أمطار الموسيقى العابرة

وأنا أصطحب جثة متعفنة

داخل المصعد لعشاء الأطباء

أحب رائحة  المستشفيات

أدوات الجراحة الدقيقة

عيون المنتحرين الصافية جدا

إيقاع الخطوات الضائعة في قاع الدماغ

أحب رقصة السالس

وأدعي أني مقاتل جيد لنهديك المتآمرين

أنا الفارس الشركسي

أعبر القارات المنسية

أحشو مسدسي بالرصاص الحي

لا أحب أن يتبعني أحد

لا السحرة ولا العميان

سأحرس المستقبل

من عضة الكوبرا

من سارقي شواهد القبور

من المحرفين الجدد لسيرة الهدهد

أنا أحب فاكهة المتناقضات

الأبله الذي يسقط في المرآة

قبل أن يغمض صوته الضرير

النساء اللواتي يحملن من الأشباح

يختفين في النصوص الحزينة

أنا لا أحب الخريف

الرياح التي تعول مع المشردين

الأشجار التي تتكلم خلسة

لا تفكر في سلسلة الجرائم

سرقات الحطابين المكرورة

في بؤس موتها القدري

أنا أحب المشارح جدا

الجثث التي حملتها بيدي

وعضتني في عز النوم

الممرضات وهن يحملن جبلا

من العذاب اليومي

أحب الملائكة واللعب معها

في أرجوحة السماء

أحب الله كذلك

رغم غموضه الفلسفي

وعدم تدخله في شؤون العالم

رغم مناداتي له

ألف مليون مرة

في المبغى مع الجنيات والأبالسة

في دار الأوبرا

بجوار المقابر الجماعية

تحت شباك جارتي المسنة

في الباص المنذور إلى موت مفاجىء.

أحب معاشرة المستحيل

وطرد الأنا من البيت مثل طفل شرير.

***

فتحي مهذب تونس

أتسألُ عن صمتي ..؟

أم عن وجعي

وأدري انك تدري

وتومئ للسحاب ان يهطل

في عز القيظ وفي صحراء مهجورة

تناشد روحا سحقتها حوافر

موغلة في القدم .

تناثر رمادها في أعالي الهزيمة

خيوط حزن تبوأت فنجان قهوتي

هكذا أخبرتني العرافة

لست أنا

ان تجرعت صدى حكاياتي

أنا المرأة التي تكبدت رخص الحياة

وخسائر الحكاية الملونة بخداع الحقيقة

والمرأة التي تحذر أنياب البسمات

وتحذر رقص الأفاعي

تقيأتْ روحها عطر الذكريات

ممجوج طعم لبانها المر

تقرع أجراس ماضيها

بعيدا عن أوهامه  الحمقى

معلقة  أمانيها بجناح يمامة جريح

لا تحلم الا بكابوس تلك الوحشة

وبلعبة زخارف الكلمات

فتبكي مسامير نواياه

وصدى هباء قصائده القديمة

بكلمات مسروقة من اضغاث حلم

مزقته الريح مع طائرتي الورقية

منذ زمن قطعت القابلة حبلي السري

وترميم ملحي  فوق جروح الماضي

لا تصدق هذيان العاشقين

وحلو الكلام من (كثير عزة)

انتفضتُ  مثل طائر الفينيق

وحيث تنتظر نوارسي

نقاء غربتي بعد الرحيل

وخداع الكلمات لا تشفع حيث

ملكوت الله

***

سنية عبد عون رشو

من يضمد، بعد الصيد،

جرح الغزال؟(*)

من يشتري الصدق

فوق راحلة المحال؟

هو ذا القليل من الخيال..

حيث السهول

وصمتها المزري الحزين..

من يسمع الشكوى وحشرجة الأنين..؟

**

من ينزع السهم الملطخ بالنجيع..

والصرخة الحمقاء تهتف للقطيع..؟

من يرتجي موت الرضيعة والرضيع؟

هذا هو القدر الشنيع،

يقتات من وجع الضحايا

ويرقص فوق اكداس المنايا..

تحت يافطة سوداء يأكلها الجذام

هو ذا الغمام أراه يطفح

في عيون جمهرة النيام

فمتى تشفى جموع الحزن

من رجع الخطايا..

القابعات الحاشدات

على النفير السائرات

منذ عهود غابرات..

**

لا ذنب يسري في الزمان دهوره

لا ذنب يبقى في الدهور يلامً

قهر وهم ولا شيء غير

مهزلة النحيب..

لم تكن في العصر مأثرة

تقتات من وجع المغيب..

الكل في الدنيا، سواء

من يحمل الذنب الخرافي العتيق

من يرفض القلب السليم..؟

هذا هو الوجع الوخيم

**

هم يتبعون غلاة القوم

في الزمن اللعين..

هذا هو المأثور

في زمن الأنين.!!

***

د. جودت صالح

9 / 9 / 2024

..............................

(*) كاهلو 1907- 1954 فنانة مكسيكية اسلوبها يدمج بين الفلكلور المكسيكي ونوع من الفن يعرف بالفن الساذج (جينرا آرت).

 

إلى الشيخ أحمد

أمرُّ عليّ

متخفيا

عن مدن تتبعني

كي تعبئ آمالي باليأس،

وأشلاء الذكريات،

*

أمرُّ علَيّ

من مسافة صفر

واللاشيء يحددني،

بينما الأمهات

تحتل صمتي

المثقل بالصرخات،

*

كنتُ هناك،

نعم قلبي هناك،

أذكر عكاز امرأة عجوز

فصَل التاريخ عن الحب،

ولعبة طفل دامية،

ربما عبرتها المجزرة،

من ماي لاي

إلى توتسي،

ومن توتسي إلى الأغواط،

ومن الأغواط

إلى نانجينغ،

ومن نانجينغ إلى حماة،

ومن حماة

إلى قلبي،

وقلبي نبضه غارات،

*

لا مأوى لحزني،

أفر منه إليّ

وأختبئ خلفي

إلى أن يكف الموتى

عن الصحو داخلي

بينما خوفي

يقيس الحرب بالنايات،

*

مَن يُخفي النبأ عني؟

والخبر العاجل

يجتاح مسائي جوا،

ويشتد بالطائرات،

المحرقة شمالا

الرماد جنوبا

شرقا،

غربا،

الطائرات جهات،

*

أكلما آنَسْتُ غيمة

يباغتني،

كم من قصف

يحاصر حلما

ولا يبالي،

يشي بالقُرى للموت

ويُصرح بالتالي/

تتسلل الهاجاناه الآن.. برا،

إلى ظل مقدسي،

وتصرخ،

لا صياح للديكة

بعدما.. نلغي الفجر،

لا حاضر لهم،

قد أُلقي الخوف

في غد السيدات،

والطين لنا،

كم أعدمنا من نخلة

وزرعنا المشاة

*

الهاجاناة في بيتنا،

بيننا.. سيدي،

رصاصها يطل من غرفتي

على دم إخوتي،

ترتل أمسها

رغما عن أمسي،

تضاجع الليل

فوق جثتي،

ترقص، تغني، تتناسل،

وتأكل خبزنا

حول بقيتي،

سيدي.. سيدي.. سيدي،

بني!..

ما بك تصرخ!؟

لعله جاثوم!؟

نعم أمي،

جاثوم

لا يغادر صرختي

*

الهاجاناه لم تنته بعد

بقية مَن خانوا

عبور البحر،

تلمودي يمشي

محدودب السبي

مِن أقصى خرافة،

ولا يرى

يسِّل من دم الأنبياء صلاة

ويجترني أسرى،

*

عن يساره وعد،

وما يمينه إلا نبوءة

نَزلت لتوها

من جبل "صهيو.ن"

تقتفي قفائر النحل

بالحديد،

وتضرم به ذكرى

الهاجاناه لم تنته

وصبرا مرة أخرى

ص ب ر ا

مرة

أخرى

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: تعرفني هذي الأرض الخافتة

 

مِن أيِّ الأكوانِ جِئتِ

تَعبثينَ بِما تَبقَّى مِن عُمري؟

وعلى مَذبحِ سِحرِكِ

بأنفاسِي تُضَحّين

هو حُلُمٌ يَجيءُ

وطَيفٌ يَفِرُّ

فكيفَ بالأوهامِ

سوفَ تقتنعُ الرُّوحُ

كأنِّي مُعَلَّقٌ في أُرجوحةٍ

بينَ عينَيكِ ونَجمةِ الصُّبحِ

كلَّما حلَّقتُ بعيداً

تُبدِّدُ النَّشوةُ

كُلَّ ألوانِ الفَزعِ

مَهما أنهلْ مِن الطَّيِّباتِ

تَصرخْ رُوحِي جوعاً

وتتوجَّعْ

مثلَ حُلمٍ فيه تَتراءى

ولِمرَّةٍ يتيمةٍ

كُلَّما صَحوتُ مِنهُ

أحبِسُ الكَرى مُجدَّداً

في زنازينِ الجُّفونِ

عَلَّني مِن ذاكَ الحُلُمِ

لا استفيقُ أبداً

مثلَ أيقونةٍ

على صَدرِ امرأةٍ غَجريَّةٍ

كُلَّما تَعدو

خفقاتُ القلبِ

إمَّا على الرَّقصِ تُرغِمُها

فتضطَربُ

أو عنوةً بينَ المفارقِ

تنزلقُ

لِمَ جئتِ الآنَ

بعدَ أنْ أطفأتُ كُلَّ شُموعي

وأسدلتُ ستائرَ النِّسيانِ

فوقَ رُفاتِ أحلامي؟

لمَ جئتِ الآنَ

بعدَ أنْ وضعتُ النِّهاياتِ

ورسمتُ الخاتمةَ

في كُلِّ حكاياتي؟

عَسْفاً كانَ ذاكَ الحضورُ

وهل تنفعُ أنهارُ العِطرِ

حينَ يحينُ الاحتضارُ؟

سَرابُ الواحاتِ

لِلظَّامئِ، يا مَعشوقتِي

حينَ في الأفقِ يتبدَّى

هو التَعذيبُ والتنكيلُ

فدَعيْ المُنازِعَ يَمضي

في زُقاقِ العَتمةِ

فرَسْمُ الوَلائِمِ

في الدَّفاترِ والكُتُبِ

﴿لَّايُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾

ولكن مَن يقرأ

ومَن ذا الَّذي يَسمعُ

***

بقلمي: جورج عازار - ستوكهولم / السويد

1 ــ من هذين المشهدين

اجلس وحدي باحثاً عن فسحة الفراغ

يدي أشدها اقولُ واجماً

يا ويلتي من الآهات

يا ويلتي من الجراح

يا ويلتي من القديم

وصرختي من الجديد في الوريد

اصفنُ مأخوذاً بلهفتي

لعالم الألوان في سلالم الحدود

أرى السديم بلسماً يحملني لغيمة الرياح*

في مشهد من الوضوح

في مشهدٍ من مسرح التأويل والبعاد

يا ويلتي هذا المباح

بحجة التاريخ والعفن الجديد

كي يدفنوا بغداد

بغداد يا مدينة الحضارة في افول

كنت اراها في الصباح

بالقرب من حديقة الاتراح

غنيمة تقاد للذباح

وقرب مخبز الشواء

من مشهدين يظهران في وضوح

يخبز خبزاً من لحوم الفقراء

القابعين في الفناء كالخراف

لأجل فكرة الذبيحة

اقول قولا صادقاً

مصاب بالتشوش والرثاء

هذا الوباء الخالد اللعين

يضرب في اوردة السعير

والرأسمال اللص يسرق العباد

يسرق في رياء

في مشهدين

بغداد يا ذبيحة الاهواء والفخاخ

**

2 ــ أراها خصلتين

كنت اراها في المساء ِقبتين

تفلي راسها في مشهدٍ مثير

تنزع ثوبها الصغير

وترتدي دشداشة الحرير

في منظرٍ يثير

وكل من يرغب في التبصير

يا ويلتي بغداد في النذير

وحنظلة السفير

في قالب التسفير

ولهبة السعير

يشتد بين زفرتين

مهاجر في غرف التحريف

أو اغتيال فوق قامة الرصيف

***

3 ــ من كرمتين

كنت اراها منظرين

تفاحتين

كمْثرتين

كنت اراها قدحاً من الشراب

من كرمتين

في الكأس كانت مسرحين

وعيني كانت كالبراق

تراها حباً وعناق

سمراء كالدقيق

حمراء كالعقيق

كنت اراها حبة الضياء

تشع مقلتين

تغني بانشراح

" على الجبين اللجين

ان كنت تقصد قتلي"**

فأنا القتيل مرتينْ

فكلما اراك قادماً

أصاب من صبري عليك

وكلما اراك غائماً

يا سالب العقد الثمين

أقول ضوء قادم من ظلمة الوجه الحزين

يضيء ظلمة البغداد

ويطرد الاوغاد

في منظرين

***

مصطفى محمد غريب

20 / 8 / 2022

...................

* السديم: غيمة سوداء تتكون من غازات شديدة الحرارة، تدور حول نفسها كأنها سحابة شفافة

**  الشاعر اللبناني بشارة الخوري (الاخطل الصغير)

 

بين القصائد تعبر

حاملا حلمي القتيل

تضرب رقاب القوافي ...

فتسقط الوعود قتلى

وتنتشي أنت.. بسلافة الندم

خلفك الرماد

يؤرخ أزمنة العشق

الدمع على شاشة الريح

ينقش تاريخ الخيانة

ميلاد ثدي ...

تحته خبأت الكلمات

المطرزة بالاحتراق

*

بكامل اجهاضاتي

أقف أمامك اليوم

مغلوبة....ولا أستسلم

فابحث عن الخلاص

من القبل الموشومة

بالحديد المحمى

قرب موقد

يشتعل فيه البخور

في حجر الشب

يتفجر النبض

عينا ...تسفك الدمع

على يباس الخريف

*

أنا الراقصة المقدسة

المرجومة بتهمة العشق

ارتكاب الانتظار

خارج دوران الفصول

أرقص رقص غزالة منحورة

وأنت المجيد لمهنة الغربان

فانقر الحروف المعفرة بالنجيع

قد نغادر الهاوية

بقفزة مفاجئة

تفك قيد الحلم المأسور

بين شرخ السماء

وجرح الماء

*

كم الحرف رخيص

يتكون على مهل كالدغدغة

في الحنايا يتكور

ليشعل شهية امتداد

*

لا تتظارف....رفقا

ارم علبة السجائر الخاوية

فك حزام الوقت

واتركني عارية

ثمة جزء مني

لا يشعر بسوء الحال

سأرويه بنسغ الخصب

شد جيدا حبال التأرجح

عل العودة المأمولة ترقى

إلى مصاف الأسطورة

تحت سقف يروي

بلبلات الشعر

وهمهمات الوعد المكنون

*

لا أريد قراءة جهرية

تكشف مآزق الوضوح

لن أحمل راية الجنون

ولن ألتقيك

حيث يفلت المارق من القوانين

***

مالكة حبرشيد - المغرب

الإوزةُ التي تسبح في اتجاهات مختلفة

قد تبدو حائرةً، لكنها في البحيرة

الشجرةُ التي تبدو أغصانُها مسافرةً مع الريح ثابتةٌ..

وأجلسُ في ظلها

الأحجارُ سعيدةٌ في الضفةِ المتلألئة

والقهوةُ المعتدَّةُ بالرغوةِ والنكهةِ

أنيقةٌ في فنجانها

رغم مضي العمر،

يثبُتُ المُسِنُّ والمُسِنَّة على المقعدِ الخشبي بانتظار غودو

نسبياً تبدو الأشياءُ ساكنةً مؤمنةً بوجودها

عدا ظهوري المريبِ في المشهد

لا بأس،

لا بأسَ أن تفشلَ اليوم أيضاً يا فارس مطر

ربما غداً.. لم العجلة؟

مازلتَ في منتصفِ عقدكَ الخامس

عليك أن تكابرَ وترممَ أكتافَك المنهدمة

عليك فقط أن تَثبُتَ في مكان

وألّا تُشَعِّرَ هذا النصَّ كخِفَّةِ ريشةٍ

كلما حَطَّت تَشُكُّ في مكانها

***

فارس مطر

أرقدُ كيمامةٍ في حُضنِ الغُروبْ

أرتجفُ مِن سيلِ الشَّقائِقْ

اِغْتالوا فضائِيَ عَشيةَ أمسْ

قمري يَنتَحبْ

السَّماءُ غَدَتْ قريبةً جداً

لا لونَ لي ... لاظلَّ لي

تساقَطتْ عَناقِيدي

وجَفَّ نَبيذِي

يا قمري الدَّامعْ

الياسَمينُ يبكي الياسَمينْ

يعتَصِرُني الحنينُ إلى تلكَ الليمونة

الغافيةِ على كتفِ أمّي

إلى خصلاتِ الأكِدينا

تغازلُ العصافيرَ

وهزَّاتِ الزِّنابقِ

في حقولِ الغيومِ الثَّائرةْ

أين أنتَ أيُّها الحُلمْ ...

سأجسِّدك رغماً عنكْ

أريدُ عرشاً في زوايا عَينيكْ

كَناسِكٍ أتعبَّدُ فيها

لا تتسِعُ الأرضُ لي

سأتحوَّلُ إلى نَسرٍ شُعاعيّ

نصفي ملائكة ٌ

ونصفي الآخرُ امرأةْ

شيءٌ ما يَسحبُني نحوَ السَّماء والخلود

أين أنتِ أيَّتُها الملائكةْ؟

سأنتزعُ خِنجر الغُربةِ من خاصِرَتي صارخة

هِبيْنِي أجنحَتكِ لأعيدَ لوطني اليَقينْ

***

سلوى فرح - كندا

 

هكذا أَنا:

رجلٌ تتساقطُ النساءُ

من جيوبهِ

وعاشقٌ يتنفسُ الأنوثةَ

في كلِّ الاوقاتِ والأمكنةِ

حيثُ منِ المستحيلِ

أَنْ أَكونَ وحيداً

وبلا امرأةٍ رائعةٍ

تعشقُ خضرةَ عينيَّ

قامتي الفارعةَ كما الشجر الرافديني

وقصائدي المُكتظةَ بعسلِ الكلامِ

والشغفِ والأَحلامِ والمرايا والأسرارْ .

*

هذا هو ما يُشَيعَهُ عني

أصدقائي العشاقُ والشعراءُ والمجانينَ

الذينَ أُحبُّهم جداً جداً

لأَنَّهم يغمرونني بينابيعِ المحبّةِ

هالاتِ الصداقةِ البيضاءِ

جوهرِ الأُخوّةِ الخالص

وكذلكَ يبتكرونَ من أَجلي

أَقصى التفاصيلِ المُضحكةِ

المواقفَ اليوميةِ الطريفة

التآويلَ والأَوهامَ والتهاويلْ

الحكاياتِ المكتظةَ بالسحرِ والذكرياتِ

أَبهى الأَغاني والمواويلْ

وأَساطيرَ الحُبِّ والجنونْ .

*

أَتذكَّرُ خضير ميري مثلاً:

إنَّهُ كانَ وبكلِّ قدراتهِ الهائلة

على الإقناعِ والمراوغةٍ

كانَ قادراً على جعلِ أيِّةِ امرأةٍ

مُستعدةٍ للوقوعِ في غرامي

أَو الهروبِ مني

وحتى شتمي والحقدِ عليَّ

لا لشيء إلّا لمجردِ وشايةٍ

من نسجِ خيالِ واحدٍ مجنونٍ

واسمَهُ: خضير بن عباس بن ميري

حَسْبَ سجلاتِ (مدينة الثورة) العتيقةِ

والمُتطايرةِ في (عاصفةِ الصحراء) الاولى والثانية

والثالثة والعاشرة وييييييييييييييي ...

وأَعني: في العواصفِ التي لاتنتهي أَبداً.

*

وكذلكَ اتذكّرُ الشيخَ الشاعرَ ابنَ (آل ياسين)

حيثُ كانَ أَخي وصديقي الجليل والجميل هذا

دائماً يفضحُني بكلِّ صراحةٍ ومتعةٍ وبسالةٍ

أَمامَ صديقاتي الطيّباتِ وحبيباتي الجديداتِ

وفي ايِّ مكانٍ ومناسبةٍ

نكونُ فيهِ معاً،

وخاصةً في الاصبوحاتِ الشاعريةْ

أَو في الجلساتِ الليليةِ

التي تُقامُ لي بإعتباري شاعراً مغترباً

ومعارضاً للطغاةِ والمافياتِ

وذوي " المحابسِ " والخرافات

وكذلكَ معارضاً (مال سيارات  هاهاهاي) .

*

ثمَّتَ مايدعو للدهشةِ والذهولِ والغرابةِ

حيثُ أَنَّ تلكَ المواقف والأَشخاص والاحوال

تُصبحُ على الأَغلبِ وفي العادةِ

كما هو مزاجُ شيخِنا الشعري (آل ياسين)،

وعليهِ العُهْدَةُ والفكرةُ والرؤيةُ

ولهُ عطرُ الوردة،

وغوايةُ الفتنةِ

التي هي أَشَدُّ من العقلِ،

حيثُ أَنَّ وشاياتِهُ العجيبةَ

تُربكُ أَصابعي وتُلعثمُ لساني

وتُغْشي رؤيايَ المُلوّنة،

وتورّدُ خدودَ حبيباتي وصديقاتي الجميلات،

فأراهنَّ يتوعدنني سرّاً

وعلانيةً بالعضِّ والخنقِ والحرقِ والقتلِ أيضاً .

وهذا ما يجعلُني اصرخُ في بعضِ الأحيان

وعلى طريقة أَخينا الفنان (عادل امام ):

انا بعرضكَ يا شـــــــيـيـيـيخ ...

والبقيةُ في النصِّ القادم .

***

سعد جاسم

كان عليّ أن أتسلّح بعزيمة أكبر

عزيمة تجعلني قادرة على أن أتخلّى عمّا يرهق فكري

فكري الذي بدأ يُصاب بالتحجر وأنا أروّض هذا الفراغ

وألملم أوراقي

المبعثرة هنا وهناك

سألتقط نثارات الضوء من فمّ الأفق

وأرعى فراشاتٍ هدّها الشتاء

فلم تقْو على تصميم أشكال خاصة بالربيع القادم

*

أنا قرية يغشاها الظلّ

يتفسخ الظلام على صوتي

يمدّ ساقيْه على صمتي المتنامي

تسعل أبوابُ الطريقُ الممتدةُ في المدى

تسعلُ الجدرانُ التي تُسند ظهري

وكلّما تداعى حجرٌ منها

فتحتْ فَمها تروّض الحاضرَ

على النظر إلى الماضي بعينٍ ودودةٍ

لن أفسحَ المجال لك

كي تتمدّدين في اتجاهٍ معاكسٍ

ولن أُعِيرَ بعضَ الفرح لسيلفيا بلاث

هي لم تنجحْ في رأبِ صدعِ قلبِها الصغير

واختارتْ أن تجتازٓ عتبة الممكن

إلى المطلق من فجوة ضيقة

لم تُكفّر عن سيّئاتِها

ولم تستطعْ أن تخضعَ للروتين المتواتر

وعندما سكبتْ الصباح في مِشكاتها

ذبلتْ كلّ الورود على شفتيْها

لم  تصَلِّ من أجلِ عودة الشمس..

ولم تتزينْ وهي تستقبل نهايتها

ولم تخبئ العطشَ في كُم قصيدتِها الأخيرة

ولا على وُجوه العشاق

ولا في آثار المارة..

لم تخبئها على الأرصفة

ولا على المقاعد في محطات القطار

وبين دَفتي دفاتري

حيث يستحيلُ الحبرُ

أوديةً عظيمةً

على ورقةٍ صغيرة.

***

العامرية سعد الله

 

قصص قصيرة جدا

1 - زهرة

زهرة الوقت اضرموا النار فيها وحينما

اشرقت الشمس فروا فروا صوب كهوف

عريهم وخزيهم يجرون اذيال الخيبة والخذلان

**

2 - شموع

الشموع التي اوقدتها الوعول في طرقات العنادل

اطفاتها العناكب ومرايا الشمس التي هشمتها

الذئاب رممتها العصافير وجعلت اليمامات من

هديلها شموعا في طريق القطا والعصافير

**

3 - نعاج

حينما سمعت النعاج عواء ذئب تفرقت خائفة

عبر المنحدرات والسهول وحينما سمعت نباح

كلاب القطيع اتقدت شموع الهداة والالفة في

قلوبها وشرعت ترعى العشب الاخضر

بكل طمانينة وامان

***

قصص قصيرة جدا

سالم الياس مدالو

قصتان قصيرتان

(1) الاقفاص والفناء الخلفي..

كان ذلك الوقت من نيسان حين عاد من رحلة طويلة مرهقة توقف عند حانوت تتقدمه اقفاص مصنوعة من سعف النخيل، وفي داخل الحانوت اقفاص اخرى مملوءة بالطيور والببغاوات الملونة التي لا تكف عن الصراخ، فيما ترفرف بعض البلابل باجنحتها العارية إلا من الزغب الأصفر تتوسل شيئاً من الطعام أو الماء.

اشترى اثنين منها وقال في نفسه ربما سيموتان في الطريق قبل الوصول الى البيت .. وكانا ملتصقين في عش صغير مملؤ بالمخلفات، فوضع تحتهما قطعة من ورق نشاف ليخفف عنهما خشونة عيدان القش البائسة .. وكان بين الحين والآخر ينظر اليهما خلال الطريق، فيجد احدهما يحرك رأسه والآخر نائم وكان يحسبه ميتا .. وصل المنزل عند الظهر واسرع بنقلهما الى الحديقة الداخلية، التي تضم مجموعة من النباتات والمتسلقات وأصص اخرى .. تأكد ان أياً منهما لم يمت واسرع في مزج قطعة صغيرة من البسكويت مع بضع قطرات من الحليب في حقنة طبية وقطر في منقاريهما بعد أن فتحهما بصعوبة، وحين تذوقا تلك القطرات راحا يرتشفان المزيج بشهية واضحة، ثم جاءت بعد ذلك قطرات الماء عندها أخلدا للنوم في القفص .

في صباح اليوم التالي لاحظ ان احدهما لا يتحرك وأدرك أنه ربما فارق الحياة، وكان ولده الصغير بالقرب منه يحب العصافير وحين اخرجه ميتا من القفص رأى عينيه مغرورقتين بالدموع .. قال له لا تبك انه صعد الى السماء، دعنا نذهب لندفنه في حديقة الدار الخلفية وتحت شجرة السدر حفر حفرة صغيرة بعد ان احاط البلبل الميت بقطعة من ورق ابيض ثم واره التراب، ثم ركض الصغير وجاء بوردة حمراء قانية وأنبتها فوق جثمان البلبل، مسك يده وادخله الى البيت. وعادا الى البلبل الآخر وقال لصغيره إنه سيعيش وسنطعمه سوية، ابتسم واستعاد فرحته.

تعاونا على إطعام البلبل الأزغب مرات عديدة خلال النهار.. وعندما لاحظ  نمو الريش في الجناحين والجسم والرأس وبدأ يرفرف على اصبعه ويد الصغير، بدء بإطعامه التمر وبات يحبه كثيراً .. عندها اخرجاه من قفص سعف النخيل الى فناء الحديقة الداخلية المكتضة بالنباتات والمتسلقات وهي بيئة صالحة لمثل هذا الطائر.

بات يعرفه حين يدخل عليه ليطعمه ويعرف مكانه جاثماً على غصن مطاطة قريبة من شباك المكتبة في المنزل، ولما لم يستطع الطيران يبدأ برفرفة جناحيه ثم يعوف الغصن ويقفز بفرح على يده ليأكل شيئا .. .. فكر بأن لا يبقى هذا البلبل وحيداً، وعزم على شراء أنثى له ليتعايشا معا في هذه البيئة .. وبعد بضعة اسابيع لموسم التكاثر اشترى له انثى واطلقها في الحديقة الداخلية، ومن تلك اللحظة بدأت مطاردات عدائية مذهلة سقط من الطائرين ريش كثيف على الأرض. ثم حل السلام بعد حين ولكن، حول الطعام تنشب معارك من نوع أخر.. ولكن الطائر الذي تربى على يده وهو أزغب يبدو اكثر ألفة من الآخر، أما الثاني فهو اكثر حذرا، فيما يلاحقه الأول أينما ذهب داخل البيت، وحين اخرجه مرة الى الحديق الامامية واطلق سراحه، ابى إلا ان يعود ويحط إلى كتفه .

الذي كان مزغباً وما يزال يتلقى طعامه إلى الآن بعد مضي ثلاث سنوات، لا يعرف العالم الخارجي، أما الثاني فهو يعيش عالمين أحدهما مضطراً عليه والآخر يراه طبيعياً .. يدخل اليهما في الحديقة الداخلية الكبيرة فيأتي يزقزق ويتمتم ويتلفت وينظر في وجهه ويتمعن ثم يطير ليحط على شعره ويعبث فيه وينزل الى رقبته وكتفه ويده ليأكل قطعة صغيرة من التمر او التين ويطير إلى الأغصان العليا، أما الثاني فيأكل على عجل ويطير بسرعة الى حيث يجثم الذكر، ثم يبدأ الغزل .

كانا يتفحصان اغصان الاشجار صعوداً ونزولا وقد اختارا مكانا منزوياً لا يرصده أحد وبدءا يجمعان العيدان الصغيرة ويلفانها على بعض وعاونهما ببعض العيدان النحيفة جداً وبعض الخيوط وسرعانما كان العش جاهزا تدخله الأنثى دائماً مع الذكر ليريا نجاحهما في بنائه الذي استغرق قرابة اكثر من اسبوعين ، وكل الظن أن هناك بضع بيضات ستكون في العش  تفقس بضع صغار تحتاج الى تغذية خاصة ، فزاد اهتمامه بهما في تنوع الأكل وزيادة في النظافة وتغيير المياه .. ومضى الاسبوع الاول والثاني واوشك الثالث على الانتهاء ولم ير البيض ولا الفراخ، والغريب في الأمر انهما هجرا العش وبدءا ببناء عش آخر في مكان أخر على غصن الشجرة الباسقة في الحديقة الداخلية المغلقة ذات القبة الزجاجية المكتضة بالاغصان.

كانا يتقابلان احيانا ويتنافران، فهي ذي سلوك شرس في تصرفاتها، وهو هادئ ولا يستعجل التصرف ويأكل بهدوء فيما هي تنهش بسرعة قطعة من الأكل وتطير ثم يأتي بعدها ليأخذ ما يريد ويتحاشى تصرفاتها النزقة في ذلك الحيز من حديقة البيت الداخلية.

***

(2) الجمال والأخلاق وملح الطعام..

قال إنه يحبها كثيراً ويتمنا لو يراها في كل يوم وإن شغفه بها وصل حد الهوس وكان يريد الزواج منها وهي تموت فيه اشتياقاً .. وكان جمالها طاغياً لا احد يستطيع ان يصمد أمام وجهها ثانية واحدة .. وجه برنزي دائري وأنف صغير وعينان واسعتان عسليتان وشعر كستنائي ناعم وطويل وشفتان ممتلئتان شهيتان وبشرة تكاد ان تكون كالعسل وقوامها رائع بشيء من البدانة المحببة .

وكان لا يعرف شيئاً عن طبيعتها، تفكيرها، تعاملها، مزاجها، انفعالاتها وقدرتها على ضبط النفس .. هذه كلها كانت مخفية أو مجهولة تماماً إلا من الإنطباع العام، الذي عكس الاخلاق الحميدة والاستقامة والطيبة وهي معايير تعد الركن الأساس في حياة أي إنسان .. مبنية على قاعدة، ما فائدة الجمال بدون الأخلاق وتتبعها الاستقامة والطيبة؟

لم يظهر سلوكها العصبي الذي يعكس شخصيتها الإنفعالية إلا بعد الزواج منها.. ورغم أنه سلوك معكر للمزاج وللحياة، إلا أنه يمكن ترويضه مع الزمن ليخف تدريجيا ويروض مع الحياة بفعل الأخلاق الحميدة التي تتمتع بها ومعايير القيم وموروث التقاليد.

والترويض اسلوب سوسيولوجي ذو أبعاد عميقة مؤثرة في الروح الانسانية .. ومثل هذا الاسلوب الذي يمتزج فيه التهذيب والعقلانية يبث روح المثل العليا في التعامل ويسقط التعامل بالمثل، ومن هذه الزاوية يتم إحراز خطوات مهمة على مسار تغيير السلوك الانفعالي المقابل، ورفض اسلوب التعامل بالمثل - الصراخ بالصراخ والتهديد بالتهديد - وأحياناً يكون إيقاع الصمت مهماً ومؤثراً يرغم الاخر على إعادة حساباته بطريقة يكتسب من خلالها شيئاً من الهدوء والتبصر وتقبل الآخر.

فالجمال والاخلاق هما اللذين كانا حاظرين عند الاختيار، أما الشخصية الانفعالية فقد كانت غائبة تماماً أو مختبئة تحت غطاء الخجل او غطاء العرف والتقاليد، ومع ذلك وكما قال الفيلسف الهولندي باروخ سيبنوزا (الجوهر يكشف عن نفسه دائماً)، خلال التعايش ومواجهة طبيعة الحياة اليومية، وعلى مدار السنين تشذبت وتأقلمت وتروضت الشخصية الانفعالية وباتت أشبه بملح الطعام، لأن الأخلاق حاضرة دائماً .!!

***

د. جودت صالح

21 / 08 / 2024

في عينيكِ، انعكاسٌ سريالي،

يرسم لوحةً من خيالٍ لا يُدركه الناظرون،

ألوانٌ تتشابك،

تُولد من رحمِ العتمة،

وأبعادٌ تتداخلُ كأمواجٍ تصطدمُ بسواحلِ الفكر.

أغوصُ في أعماقِ نظرةٍ،

كأنها رحلةٌ عبرَ أزمانٍ منسية،

إلى عالمٍ يطفو فيه الغموضُ كضبابٍ كثيف،

حيثُ تُولدُ الأحلامُ والأوهامُ معًا،

في فضاءٍ لا يعرفُ الحدود.

تُبحرني نظراتُكِ في محيطٍ من غبش،

أمواجهُ أفكارٌ تتلاطمُ،

وسفينتي قلبٌ تائه،

تتقاذفُها رياحُ الشوقِ العاتية.

أرى في عينيكِ مدنًا غريبة،

وشوارعَ من ضياءٍ وظلالٍ متشابكة،

أجوبُها باحثًا عن معنى،

عن سرٍ يُفسرُ هذا الجمالِ العصي.

تُلاحقني نظراتُكِ،

كأشباحٍ من لهيبٍ ونار،

تُشعلُني، تُحرقُني،

في لهفةٍ لا تُطفئها بحارُ النسيان.

أجنحُ نحوكِ،

كطائرٍ يُحلقُ في سماء العشقِ البعيدة،

أرسمُ في الفضاءِ لوحةً،

بألوانِ الشوقِ والاشتياق.

في كلِ ركنٍ من نظراتكِ،

كهفٌ يخبئُ ألفَ حكايةٍ وحكاية،

وأنا الساري في دروبِ الضياع،

أبحثُ عن مفتاحِ هذا اللغز الأبدي.

يا شمسًا تشرقُ في عتمةِ الليل،

يا قمرًا يُنيرُ دربي المُعتم،

خلفَ شرفاتِ عينيكِ،

أنتظرُ لقاءً يُزهرُ كربيعٍ في عزِّ الشتاء.

في عالمِ اللاوعي،

أضيعُ، أغرقُ، وأتحررُ في الوقتِ ذاته،

فأنا والليلُ والنجوم، شهودٌ

على سحرِ هذا الوجود.

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

 

أشكر الله كثيرا

أشكر الذين نقضوا ديكور الجنازة

واختفوا أسفل البئر

أشكر الكلمات التي تحرسني من القناصة

وصراخ المنتحرين

الصلوات التي جمعتها في سلة قلبي

أشكر الطائر الذي لا ينام في حديقة رأسي

أشكر صديقتي ونهديها اللذين يموآن طوال الليل

الفلاسفة الذين يقفزون من شباك الطائرة

لمعرفة ماهية العدم

أشكر المصادفة العمياء

التي رمتني في بئر يوسف

لتنتشلني ذئبة البراري

وترضعني حليب الكلمات المتوحشة

أشكر الفراشة التي ارتمت على ياقة قميصي

ثم أرخت أنفاسها واستسلمت للموت

أشكر حارس المقبرة

الذي منحني مصباحه الليلي

لاكتشاف أسرار الموتى الأحياء

أشكر صوتك الذي له ملمس شال الأم

صوتك الذي يطير

مثل فراشة ناعمة

أشكر الله كثيرا

لأني لم أمت بعد

رغم هجوم الكثير من الحتميات البائسة

رغم الطلقات المكرورة من فوهة اللاشيء

رغم تساقط أغصان الجسد

وأفاعي الأصدقاء المرقطة.

***

فتحي مهذب - تونس

 

قَصَفَتْ حقائبهمْ بغاراتٍ عديدةٔ

قَصفتْ بعنفٍ بربريٍ

كي تَموتَ

ولاتَظَلٌ حقيبةٌ تسعى

إلى المسعى

بمحبرةٍ

وأقلامٍ سعيدةْ

وتؤدي فروضها في البيتِ

آمنةٌ

وواثقةٌ

بصبحٍ ...وجريدةْ!

ووصولٍ يَسبِقُ الوقتَ

إلى الأقصى

برايتهِ الوحيدةْ

وحَمَامٍ يَنشرُ اللهَ

بآياتٍ مجيدةْ!

*

قَصفتْ حقائبهم...

لِتَأْمَنَ (وعْيَهُمْ)

قصفتها دون هَوادةٍ

خوفاً من الآتي...

إذْ الآتي بِقَبْضتِهِ الحديدة!

ووعيدٌ

ما احتوتهُ جهنمّ

مِن فٕرْطِ زَلزلة القصيدةْ!

أبداً

وما احْتَملَتْ رؤاهُ بِعِزّٕةٍ

أبداً

ومااسْطَاعَتْ إبادتهُ

وبادتْ

تحت خيبتها وئيدةْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

3/9/2024

 

أيتها الأرض الخطيئة

يا سيدة الشمس

والحَجَرْ

لا تزوريني ليلا،

إني أخاف العري،

لم أنته بعد

من عهر الرصيف

والمؤخرات شوارع

تستفز براءتي

وتقصي القَمَرْ

*

تملؤني المسافات

كأني سَفَرْ

لم أمش إلي،

كنت بعيدا عني

وكانت الوجوه بيننا

بقايا أثَرْ

*

لي ما ترك

الأجداد من دهشةٍ

حين حاصرهم البحر

لي أمس،

وحاضري هناك

لا يطيعني

ولي مساء كما

ينبغي للحزن

أن يكون لي

أشارك تعبي تعبه

وأمارس عادات القوافي،

كأن أمسح

عن وجه الليلِ

هواجسي

وأعبر إلى عزلتي واضحًا

كما تعبر السماءُ الغَجَرْ

*

هنا سقطت عن حلمي

وعن نهاري المؤجل،

وكان بوسعي أن أعود

إلى غيمتي

أنى شئتُ،

لولا هذا الغموض الودِيُّ،

أحدد ملامح اسمي

انفض عنه غبار البدو

وأحفظه عن ظهر نسيانٍ،

كم علي أن أنسى

وصدى الخرافة

يركض خلفي،

يعبئ خطاي بتفاصيل

الحروب الغريبة

ويسبقني

إلى مرآتي ضَجَرْ

*

ربما كنت قريبا من حتفي

حين أخبرت الصحراء

عن مصير أيامنا حولها،

كنا نحملها

وكانت تدس الجفاف

بيننا وبين من نحب،

فنحن أهل الخيام

والليالي القاحلة

لنا حظ في الرحيل،

نعرفه مثلما نعرف

أسماء النجوم

على الطريقِ المؤدي

إلى غيابنا،

لكننا لا نفهم

حوار حبٍ

بين وردة و مَطَرْ

***

فؤاد ناجيمي

من ديوان: كأني أحمل الصحراء

 

كلما إزداد أعوان الخطأ كلما ضعفت حجة الصحيح.

ولدت أنهر في دولة عربية؛ من أسرة مسلمة ومحافظة جداً. تربت على التقاليد والأعراف المنقولة لها أباً عن جد بالتوارث. لبست الحجاب قبل فترة بلوغها بقليل دون فهمها. هي اليوم في الثامنة عشر من عمرها. جميلة كالزهرة تتهيأ لامتحانات سنتها المنتهية في الإعدادية القسم العلمي. لها صديقة وزميلة اسمها طيبة في ذات الصف ودارهم يلاصقهم كتف بكتف. أنهر تحبها كثيراً كونها متفتحة ولها بُعد نظر في المسائل الاجتماعية وأحياناً حجتها تبهر بها أنهر وتكاد الأخيرة تنساق معها ولأفكارها، وعندما تتذكر أهلها ترتد رعباً مما تفكر فيه أو ما تأثرت به من قبل صديقها طيبة.

في الأفق كانت كرة حمراء متوهجة، تهرب ببطء؛ تأملتها أنهر بانبهار أسر لبها وهي ترى منظر غروب الشمس بوقفتها عند سطح بيتهم في تلك العصرية وهي تطالع امتحاناتها لنيل شهادة البكلوريا وإذا بصوت بكاء ونحيب يكسر صمت تأملها ويرجعها لواقع تعودت عليه في الآونة الأخيرة صادر من بيت جيرانهم وبالتحديد صوت صديقتها طيبة وهي ترفض الانصياع لطلب أخوها الذي يصغرها بثلاث سنوات طالباً منها لبس الحجاب. حججها لا يستطيع إجحاضها أو الرد عليها بذات القوة التي تمتلك سبلها ومفاتيحها بكل مرونة أخته طيبة..

صعقت أنهر في مكانها وهي ترى أعز صديقة لها تهان وتضرب بهذه الطريقة القاسية غير الآدمية ومن أقرب الناس لها، أخوها الذي يصغرها.. كانت طيبة منهارة تماماً وهي تتلقى الضربات واللكمات من كل جهة والدماء تسيل من فمها وأنفها متمرغة في التراب تزحف سائبة وكلماتها القاطعة، الحادة كحافة المقصلة تخرج مسموعة دون ارتجاف:

- العفة يا أخي ليست بغطاء الرأس، ولا علاقة للحجاب بالأخلاق، ثم تواصل بنبرة تجعله يفقد أعصابه أكثر لينهال عليها بالسب والشتم والركل:

- مهما ستحاول وتفعل لن أتراجع عن أفكاري التي أومن بها. أنا لست آثمة، ولم أتنكر للرب إطلاقاً. وما دمت لم أمارس الخطيئة وأعمل بالوصايا العشرة لا يحق لك أن تفرض على شيء لا يعني لي أكثر من قطعة قماش لا تنفع ولا تضر. الرب خلقني مثلك. إنسان حر. بعقل. أفكر وأعمل. أكون نافعة في المجتمع. يقاطعها،.. يكتم صوتها، يضع يده على فمها بغية إسكاتها ولا يتردد في خنقها للتخلص منها!..

هو لا يقدر على سماع صوت الفكر الحر. الصوت الذي لم يعتد سماعه. يرى من حوله يفعلون ذلك فيقلدهم، هكذا على علاته. لم يعرف لماذا؟ ولم يسألها أو يحاول أن يتفهم موقفها. هو الرجل في ذاته. الفحل الذي يمتلك كل مقومات الحياة دون الأنثى. ماذا تعني الأخيرة له؟ لا شيء. قطعة أثاث ينقلها من مكان إلى آخر، ويمكنه استبدالها أو رميها وقتما يشاء. وعندما يقول لها ألبسي هذا عليها أن تفعل دون نقاش. الذكر في دولتهم هو الذي يحكم، وهو الذي يعظ، وهو الذي يقطع الرأس!.. في بلده الرجل كل شيء.. فكيف تستطيع طيبة بطيبها وثقافتها وقوة شخصيتها أن ترفض الانصياع؟!

تنهار أنهر في مكانها مصعوقة لمنظر صديقتها.. ترفع يدها، تجد الغطاء يلف رأسها. تشعر بقشعريرة، ترتجف أوصالها. تنظر إلى طيبة وتُعجب بها. كيف كانت تدافع عن منطقها، عن جسمها، عن استقلاليتها كإنسان كامل له مطلق الحرية في اتخاذ ما يناسبه مادام لا يأت بخطيئة، أو إثم، أو أن يتعدى على حقوق الآخرين. طيبة لم تفعل كل هذا. كانت صافية كماء النبع. شديدة الذكاء ومنسجمة مع نفسها، لا تغشها ولا تناقضها. ما يتردد في داخلها يصاغ في فعلها. واضحة لا تحب اللف، مباشرة كالسهم عندما ينطلق نحو هدفه. أنهر كانت تعرف صفات زميلتها جيداً، تقول عنها، طيبة ذهب خالص.. ألتفتت دون قصد نحو قرص الشمس الغارب. وجدته أكثر احمراراً من قبل لحظات، أحست بأن شعرها يحترق تحت غطاء رأسها..

وهي تسترق النظر لطيبة كانت أصابعها تفتح عقدة غطاء رأسها، نزعته غير آسفة عليه، مررت أناملها على شعرها، لم تجد عائقاً كما من قبل، حركت رأسها، تناثر شعرها كسنابل الحنطة الناضجة، فجأة تشعر بأنها أصبحت أقل وزناً، غمرتها فرحة غير متوقعة في لحظات كهذه، هي لم تحسب لذلك حسابا، كانت مترددة لأشهر مضت من فك شبكة غطاء رأسها، ثوانٍ قليلة تمر لتجد نفسها حرة، أكثر جمالاً ونقاء، تشعر بالصداقة مع نفسها، رددت في سرها وهي تقفز بمرح غير مقصود، طبيعي كقرص الشمس:

- أخيراً تصالحت مع نفسي مثل طيبة. 

***

قصة قصيرة من وحي عصر التنوير بعنوان

بقلم/ هيثم نافل والي

على شجرة قريبة نعب غراب

فدعت بالنجاة لابنها الذي لا تعرف أنّه هارب من الحرب في بلد آمن!

2

كان يتأمل في السماء

حين سقطت ذبابة في كأسه

3

هجمت على اللوحة تقتلعها من على الجدار وتهرول بها لترميها في حاوية أزبال في الشارع بعيدة عن البيت. كانت مغرمة بها،فقد كان رسام المدينة الشهير يرسم لوحاته باللون الأحمر اللامع.

الأرض حمراء

الشفق

الغابة البيوت

الهواء

السماء

والورود

هذه الساعة فقط، مع تناولها الفطور رأت من خلال نشرة الأخبار  الفنان الشهير الذي جعل المدينة كلها مغرمة بلوحات ذات لون واحد، يقف أمام المحقق  فيعترف أنّه يرسم لوحاته بالدم.

***

قصي الشيخ عسكر

في رحاب الزمان(*)

ثلاثة، لا غير

في فلك هلامي

لا يُعَدُ هو الزمان

هذا الفضاء الهلامي

يحتضن (الثالثة)

من شروق الشمس

حتى الغروب

زمن عجيب..

لا حد في شكله

لا عقل يدركه

ويظل يسبح

في فضاء الكون

لا يغرب

ولا يشرق

في متاهاته

يمضي مع التكرار

في الزمن  المديد..

ترائت فيه أشياء

وقد تحجب

ولا تكتب

لا يملك البشري غير ثلاثة

أولاهما الماضي السحيق:

يراه الكائن البشري بعضاً

من تلاحين النهار..

تلاشت كالغبار..

ليس فيها غير احداث

تماهت في متاهات القفار..

لم تعد تجدي له نفعاً

وباتت في مطاوي

الذكريات الراحلات

الى الكهوف المظلمات..

ليس فيها قدراً يجدي

سوى قدر النثار..

وثانيهما مستقبل لم يعد ظاهراً

ولا حتى حضورا غائما

يسبح في غيم ولا يُلْمَسْ

فراغ هائم

في مستقبل الكون فراغ

فراغ لا يجاريه فضاء

والثالث حاضر، كالبرق

يومض كالشهب

قد يجعل الكائن يصغي لهفيف الريح

والأغصان في الفجر المعفر بالندى

والشمس تضفي الدفؤ في الزمهرير

ورحلة الصيف الرحيم

إنه الثالث محسوس وملموس

كضوء الفجر

وحسٌ في الظلام،

ثم يمسي سحباً تمضي

وتمضي صوب مأذنة الفنار..

وكما يراه،

نهاره برقاً يزول

الى الوراء الى الغبار..

يبقى الزمان هلامي الرؤى

لا شيء يبقى عند ناصية النهار..!!

***

د. جودت صالح

2 / 9 / 2024

....................

(*) من وحي فلسفة الزمان .

(*) الثالوث هو الماضي و (الحاضر) والمستقبل. 

 

حين يهجر العالم

ويكتفى

بنافذة مشرعة

تطوَّف أحلام المهاجرين

فتلك هي الحياة

*

لهم بواباتهم

ولي نافذتي

قد تبدو صغيرة

وقد يزدرى بها

لكن

حين يُتَكأ عليها

فهي المدى بجهاته الأربع

*

اعتني بتفاصيلها

أمسح ما علق بها من غبار

وأُزينها بنبتة

تكافح

لتحظى

بفرصة

تمنحها حياة

تلاصق النافذة

*

تتعاقب عليها الفصول

خريف يعقبه شتاء

وربيع يمهّد لصيف

يُعوَّل على لفح حرارته

لعلّه يمحو

آثام خطيئة

سوّغت لها الظنون

أن العبث بالنوافذ يلوّث الطهر

*

ترفرف محلّقة في فضاءات رحبة

أحلامي الغضّة

وقد تسربت من بين نافذة

كانت لها

مفتاح سعادة

*

تزداد جمالا

وأزداد تمسّكا بها

نافذة

تنأى بحلمها

عمّن سويعاتها متصرّمة

وموصوفة بالغرور

آه يا نافذة

تختزل الهنا والهنالك

وترفرف شوقا

لآت

آتٍ لا محالة

***

ابتسام الحاج زكي

قبل كل فجر بساعة تقريبا، لا يرتاح سلام إلا عندما يجد نفسه مسجى على سريره المقابل لنافذة غرفة نومه. يحملق في نجوم السماء ومصابيحها. يستمر في تفكيره منتظرا حلول العتمة من بين خيوط الظلام الحالكة. إنه الفضاء المفضل لديه لتعميق تفكيره في منطق ممارسة السلطة على أرض إمارة وطنه المسماة "ألغاز". يسترجع أحداث ساعات يوم كامل من حياته. يراكم الأحداث بتأمل مضني محاولا الاقتناع قبل أن ينام مجددا بنجاحه في حل خبايا بنية ونسق قيادة رعايا موطن وجوده.

هذه الليلة ليست عادية بتاتا. لقد بزغ أمامه نجم من نوع غريب. ركز على موضعه وحركيته ووظائفه. لاحظ أن له سلطة مركزية عظمى. أصابه الرعب عندما لاحظ كيف تتزاحم من حوله بعنف نجوم محورية بأعداد كبيرة تتكاثر كل ليلة. اعتقد بعد تأمل شديد أنه ربما استوعب درس صراعاتها تارة، واقتتالها الدامي تارة أخرى، من أجل الاقتراب من النجم المركزي. لاحظ كيف يتوهم هذا الأخير ابتهاج نوره وازدياده لمعانا كلما اشتد الصراع من حوله. العملة السائدة هي التفنن في إبداع المكائد والدسائس لوأد وإزاحة الآخر.

البحث عن التميز والريادة في التبرك بنور النجم المقدس وطاقته أصبح هاجسا خانقا للوظائف الطبيعية وتكاملها. لقد اكتشف سلام كيف يتم اغتيال نجوم براقة ظلما وعدوانا وبدون رحمة. استخلص في ليلته الأخيرة، أن هناك تداخل فظيع بين النجوم الطبيعية وشياطين عالمها الموازي. تعجب لوجود نجوم شيطانية معادية للطبيعة وخزائنها.

ربما اكتملت دورة تفكير سلام وتحليله. اعتقد أخيرا أنه استوعب درس تأملاته. اعتقد أنه ربما كشف أسرار منطق وجود النجوم وصراعاتها. لم يصدق الخلل الذي أصاب نسق وجودها الطبيعي. الوفية منها تغتال أو تنتحر. تابع كيف يخفت نور موطنه كل ليلة. انتابته فكرة اقتراب تسلط الظلام قريبا.

حل النهار. استيقظ في منتصفه. خرج إلى الشارع العام، فلم ير إلا وجوها عبوسة تتطاير من عيونها شرور لا توصف شدة هولها. هرع عائدا إلى منزله مفزعا من شدة التشنج الذي انتشر في كل فضاءات الحياة العامة : أسلحة بيضاء تتطاير في السماء، وشجارات دموية هنا وهناك، واعتداءات على الأبرياء في واضحة النهار، واحتلال للفضاء العمومي بالقوة، وإخراج وطرد الأسر الضعيفة من منازلها،

عاد إلى سريره نهارا مسرعا بعدما أحكم إغلاق باب منزله. تعب من شدة سهاده في التفكير. نام إلى أن حلت الليلة الموالية. استيقظ فوجد النجم المركزي حزينا وعلامة الندم بادية على طبيعة نوره. تسمر في مكانه عندما سمع صوت النجم الأكثر مكرا يصيح في الفضاء موجها كلامه للنجوم المتصارعة قائلا: أنا النجم المركزي الجديد، فخروا له ساجدين.

***

الحسين بوخرطة

من قصص المعركة (3)

أشقاؤنا العرب، يشاركونا في الملمـات  دائماً، جاؤا بأقدامهم الى الموت، انهم يعشقونه من أجل (العقيدة)، والحدود الشرقية.

أجيال من الشباب المصري كانت تبحث عن العيش وان كان عبر سواتر المعركة، كان للتطوع أنواع وأشكال في أغلب الأحيان، كيف نتصور تطوع الفرد ليموت في أرض ليست وطنه برضاه؟

كانت الحرب حرب العرب جميعاً من المحيط الى الخليج، أفواج من المصريين العاملين في العراق، او من القادمين من الصعيد ومن بلدان أخرى، لملء الفراغ الذي تركه الأخوة والأبناء العراقيون ، اذ لا مفرّ لهم إلا أن يموتوا ميتة معجّلة كما أراد صانع الموت.

كان مغول الحرب يستدرجون أولئك بالمال، والامتيازات، وتحويل الدولار، فيندفعون بحماس الى القتال، يشكلون منهم بسرعة أفواجاً غير مدربة، منهم من لا يجيد استخدام السلاح، وبما ان المعركة (قومية)، والطريق الى تحرير القدس يبدأ من عبادان. فليس عدلاً ان لا ينالوا شرف الشهادة؟

دفعوا بهؤلاء المساكين إلى الحجابات الأولى المواجهة للعدو. ما أن أصبحت ساحة المعركة حاسرة الأرض، بلا حجاب، وانكسرت الشمس إذ نالها الرصاص، والسماء كالجحيم، كانت أجسادهم تتناثر مثل الطيور الذبيحة.

واحد من المقاتلين المصريين نجا بنفسه، استردً بقاياه، وهو بلا مغيث! من يغيث من؟ يصرخ : أوومّال فين خط النار؟؟

***

د. جمال العتابي

سفح الحب

المضيء

تعشقه العصافير

القطا واليمام

معلنة انضمامها

الى جوقة قوس قزح

الصباح

جوقة الغزلان

الايايل

والفراشات

العاشقة

والحزينة

والمطاردة

افي ارض الله

الواسعة

مستنكرة

ثرثرة الدود

العناكب

والجراد في حقول

الحنطة الخضراء

وفي سهول

وهضاب

وتلال الشفق

الازرق

وقوس قزح

الصباح

فيما احصنة قلبي

الصاهلة في مروج

الالفة الحب

والعطاء

تعزف على

قياثر قلوبها

لحن الحب

لحن البنفسج

ولحن المطر .

***

سالم الياس مدالو

 

الرمل في قرية الصمت

حكيمها الوحيد

ظلاله المائلة تتوعد الشجر

بطين يجر استراحته المبللة

وقلقي مطرز بلعنة السؤال

كأنه أنهار

تنحت سرها في فمي

وتربي عطشي.

ما بال الدمع يستعين برمشي

وما بال درويش أضاع يمامته

في دمي؟

صرت صوفية الآهات

أطعم الغمام بعض لغتي

وبعضها أقرضه لعرافة

تائهة في المي.

ها سيرة البراق

تدحرجني على عتبة سهوي

أتبل جرحا أصابه العياء

أمجد فراشة تقاسمني ضوءها

وتمنع عني

رفرفاتها المثالية

أخمد شغف رصاصة

ظللها العوسج

فتاهت عن الرفاق.

باردة أجفان الورد

وهذا النزيف سلم

وتلك الرسائل أسهم

تستبيحني

متى حدثني البخور

عن آخر الشهادات.

وحدك أنت

قمر تزينه الزغردات

من فوقك نجم ارتعد

ومن تحتك زعفران

ودالية

وطائر أفلت رائحة القمح

فتبسم في روعه الندى

***

وفاء اجليد - المغرب

 

تطوّرت المشادة بينهما، صفعَ وجهها بعد سبّ وشتيمة أمطرها بهما، ثم أشعل سيجارة تليها أخرى وعرقه يتصبب .. يهشم كل أفق ويترك في الضياء ألـف انكسار!؟ لعلها عتبات أرذل العمر/  الأفول .

 قائلاً: من أنت كي تحدثيني بهذه النبرة أيتها الحسناء الجاهلة، هل نسيت من أكون، وهل لزاماً عليّ أن أذكّرك بذلك كل يوم!؟ أين كلامك قبل زواجنا عن الشخصية القوية التي أمتلك، والحكمة، والوقار، والشعر الذي خالطه الشيب، وكم كان يسحرك!! كلّ ذلك تلاشى أمامك  في رأيك ؟؟

سارت أمامه حاملة بيدها حقيبة ثيابها متسلحة بعنادها وماضيه في قرارها بالمغادرة .

نظر إليها بعد أن أخذ نفَساً عميقاً، وقد هدأت ثورته:

- إلى أين ستذهبين في هذا الوقت المتأخّر من الليل!

ذاهبة لمنزل أمــــي .

-انسي كلّ ما قلت، أشعر بتعبٍ شديد، لو أحببتِ يمكنك أن تؤجلي قرارك التعسفي هذا الى الغد، أنا من سيقوم بإيصالك دعيني أستريح الليلة، أشعر بألم يشقّ عٌباب  صدري.

- لا.. لا أستطيع.

- كما تشائين عزيزتي.. رافقتك السلامة!

- أكيد أفضل من مرافقتك لي، فماذا يضير الشاة بعد سلخها.

تكسّرت صورته الأنيقة أمامها، قالت محدثةً نفسها: ستكون لدي إرادتك نفسها التي كنت تفخر بها، وسيكون لي أشياء أخرى، بل سيكون لدي كلّ شيء.. سأعتلي المنبر الذي اعتليت وسأهتف كبطل ثائر ضدّ عدوه، لكن ثورتي أنا تختلف، لأنها ستكون ضدّك وضدّ جبروتك وتجنيك عليّ، سألهب الشوق داخلك، وسأجعلك تنظر من ثقب الباب ترقب عودتي. احتضن شهاداتك ومنجزاتك، ونم على صوت شخيرك أيّها الأسد الهرم.

غادرت متكئة على عنادها  مكابرة والغصّة تخنقها وتثقل صدرها الذي راح يرتفع وينخفض سريعاً دون إرادة منها، بكت بحرقة فرت الدمعة  من مقلتيها و سالت دون توقف رسمت  خطوطاً داكنة بلون كحلها الأسود الذي يشبه تلك الليلة السوداء التي غاب فيها القمر.

المكان بعيد في أقصى أطراف المدينة حيث تسكن أمّها، سائقو مركبات الأجرة جميعهم رفض الذهاب، والبعض منهم اعتذر متحججاً بأن الطرق الى هناك غير سالكة، ولا يمكنهم المرور بمركباتهم في هذا الوقت المتأخر من الليل، مع أن المساء لم ينتصف بعد!

الشوارع بدأت تخلو من المارة ، ساد الصمت وخف الضجيج تلفتُ أنظرٌ  يميناً ويساراً باضطراب وقلق سرى خوفاً في داخلي، اضطرب واختلط مع صوت نباح كلاب قادمة من بعيد، لم تكن الشجرة التي أتكئ عليها تخفف عني ذلك الشعور، بل كانت تخيفني وكأنها تهمس في أذني: ارحلي.. لا يمكن لأغصاني الميتة أن تكون لك  رداء يحميك، والعصافير نأتْ أن تغرد ليلاً، اسألي الليل عني.

هطل الظلام مقبلاً نحوي حاملاً سحباً حبلى بمشاهد خوف، حاولتُ أن ألملم خوفي، فوضعت كفي وسددت بها أذني، لكن صوت تلك الشجرة  مازال نافذا إليه يثرثر ودون توقف: غادري قبل أن تأكلك كلاب الشارع الذي بات خالياً أمامها، وستصبح هي سيدة الموقف.

من حسن حظي لم يدم ذلك الخوف طويلاً، إذ رأيت سيارة أجرة قادمة وقد أثار صوت منبهها  خوف تلك الكلاب وأخرس صوت نباحها بعد أن أخذت تقترب بحذر وبطء شديدين، مما تسبب ذلك في شرودها وتراجعها الى الوراء.

أشرت إلى السائق، فتوقف على الفور، اقتربتُ من السيارة ودنوت برأسي نحوه أحدثه، فعصفتْ بأنفي رائحة خمر أفاقتني من شرودي وخوفي، تراجعتُ خطوتين الى الخلف!! ترددتُ قليلاً وجلتُ بنظري في المكان حولي، قلتُ في سرّي: لابد من أن أغادر هذا المكان الموحش حالاً. سألت السائق الذهاب والأجرة مقابل أن يوصلني، صمت قليلاً، ثم قال بلسان ثقيل وكأنه يلوك قطعة خبز يابسة: المكان بعيد جداً، والطرق غير معبدة هناك... طلب مبلغاً كبيراً.

موافقة، سأدفع لك ما تريد، ضع هذه الحقيبة في الصندوق وانطلق فقد تأخّر الوقت كثيراً وأتعبني الانتظار.

بعد أن سار مسافة قصيرة، مدّ يده وأخذ يقلّب موجات المذياع وقنواته الأثيرة، شعرتُ بأنه يبحث عن موجة محددة، توقف عن البحث على صوت تصفيق حادّ يخرج من المذياع يُنبئ بأن هناك ستارة كبيرة سترفع، ثم بدأ صوت الموسيقى يملأ المكان ويشغل مقاعد السيارة الفارغة. راح يضرب ضرباً خفيفاً بيده على المقود وهو يقول، "يا سلام على كوكب الشرق"، وراح يدندن معها: هو صحيح الهوى غلاب.. ثم سألني: هل تحبيّن أم كلثوم؟

نعم أحبّها أكيد، سدّد نظرة نحوي من خلال مرآة السيارة قائلاً: لماذا خرجت في هذا الوقت المتأخر! أنت امرأة شابة وجميلة، ألا تخافين من الليل ووحشته. لا، لمَ الخوف، أكملْ طريقك لو سمحت، لا مزاج لدي للحديث. ضغط على دوّاسة البنزين قائلاً: كما تشائين!! وراح يدندن كلمات الأغنية من جديد. يبدو أن الرجال جميعهم تعجبهم.

تلك العبارة، هل تعرفين بأني السائق الوحيد الذي يعمل في مثل هذا الوقت المتأخر!! أنا هارب من المنزل وجو المناكدة الذي تصطنعه زوجتي وحين عودتي تكون زوجتي قد نامت. أتعلمين! ركلت بقدميها أبسط حقوقي، لم أعد أشعر معها بشيء، (الأسوأ من شعور الإنسان بالسعادة أو الحزن أن لا يشعر بشيء)، هل تعلمين أني حين استيقظ صباحاً أجدها قد أفرغت كل ما في جيبي من نقود. ثم حول نظرة نحوي، قائلاً: يبدو أني قد ثرثرت كثيراً!؟. ضغط على دواسة البنزين، فانطلقت السيارة تمرّ بسرعة كبيرة من فوق المطبات دون اكتراث. المسافة شاقة وطويلة، أعمدة الإنارة بدأت تختفي من وسط الشارع، فجأة توقفت السيارة تزامناً مع ارتفاع صوت الفرامل التي شوهت وجه الإسفلت. لا أعلم لماذا توقف وما السبب!؟ ثم رأيت من بعيد ظلاً لرجلين اقتربا بسرعة فائقة من السيارة، وأخذا يدوران حولها، وراحا يرتفعان إلى الأعلى ثم يهبطان بخفة كبيرة، اقتربا وقد أدنيا وجهيهما من زجاج النافذة، كان أحدهما يُخرج لسانه كثعبان يتلوى، أثار فزعي كثيراً، أظنّ أن وجهي ووجه السائق قد بدا لهما بوضوح كبير... اعتراني خوف شديد وارتباك، كدت أستفرغ ما في معدتي.

مَن هؤلاء؟ وما الذي يحدث؟ قل لي أرجوك!؟ ليتني لم أغادر منزلي وأركب مع سكير ثمل مثلك، ردّ بكل برود: لا علمَ لي، حتى إني لا أراهما بوضوح، لا تخافي، الآن سنعرف كل شيء.

اقترب أحدهما، قائلاً: هيا ترجّلا من السيارة، وإلا سأفرغ هذا المسدس في رأسيكما.

- ردّ السائق: كيف ذلك؟ ماذا تقول! أنت حتماً تمزح، هيا.. اركبا سأوصلكما في طريقي.

- أنا جادّ! انزلا على الفور..

- ماذا؟ ثم أعاد عليه العبارة نفسها: أنت تمزح!

- نحن قاطعا طريق (سلابة)، انفدا بجلديكما، ونفّذا ما أقول، هيا لا تؤخرنا.

- هههههه.. أنت تمزح (سلابة)!؟

- نعم (سلابة)! هل تودّ أن أفجّر رأس تلك الحلوة برصاصة كي تتأكد بنفسك.

- أطلق ضحكة أخرى،  قائلاً: (أقسم أنكما سلابة).

- اركبا، سأقصّ عليكما حكايتي، هيا...

- ألا تفهم؟ ألا ترى... ألم تفكّر ماذا نفعل وسط الطريق ووسط هذا الظلام،  أو تظننا!!... ثم توقف عن الكلام.

- أقسم بشرفي أنتما رجلان طيّبان.

أماط اللصّ اللثام عن وجهه، كان لون بشرته أشبه بالموت، ثم قال بصوت أجشّ أسرى قشعريرة في جسدي: لا طيّب بيننا سواك.. اخرج من داخل السيارة.. وقلِّد لنا بصوت عالٍ كيف ينهق الحمار، وسندعك تذهب. نكزتُه من الخلف بيدي أتوسله بصوت منخفض: هيا اخرج بسرعة، انهق لهما، انهق أرجوك..

خرج على الفور، وأخذ ينهق دون توقف، وهما يدوران حوله ويضحكان. توقف الصوت فجأة، فالتفتُّ فلم أجدهما، لقد اختفيا في عُباب الظلام.

- كفى نهيقاً.. اصمت، لقد رحلا. هيا عُدْ بي بسرعة من حيث أتيت وسأعطيك ما تطلب.

***

القاصة / نضال البدري

العراق

 

احترس من تلك الغربان التي تحلق فوقك بصوتها المرعب.

أنا وأنت قد رأينا إمتداد ذاك الجسر الذي يمتد بيننا دون حواجز أو مسافات .

هذا الصباح وفي تمام الثامنة كنت قد إستيقظت دون حراك ..

كنت أطوف بعيني إلى سقف الغرفة الباردة

بعد قراءة رسالتك في منتصف ليل وعتمة

قلت في نفسي هل تدرك إن رسائلنا تشبه ذاك الجسر المعلق بين ضفتين ومدينتين وحرفين

إن تلك الرسائل التي تسير في ذاك الجسر الوهمي فقط أنا وأنت نراها تعبر المسافات بين مدن الحرب والحرف

أنا هنا اجالس إشتباك حروف اللغة ليصلك نصل حرف تتمسك به كقشة في كومة دمار

وانت هناك تجالس دخان حرب يعلق في حنجرتك كأنه يتراكم يوماً بعد يوم في صوتك لرميك قتيلاً دون دماء

الجميع يرتعشون من الخوف والبرد و الإنتظار.... إلا أنا وأنت لا نزال نمسك بقنديل أمل وقلم

تتشابك رسائلنا كأن أيادينا في تلك الأسطر لا حديثنا

نحاول أن نخمد ذاك الخوف الذي يشتعل في  أجسادنا بمطر أيلول الآتي حتى نوهم الأوراق بخريف لا إصفرار فيه....وكأن الربيع لم يغادرنا يوماً.

لن تخيفنا أصوات الغربان وهي تأتي كل مرة في سماءنا الزرقاء

سوف نجعل من ذاك الجسر حقل مزهر بشقائق نبضاتنا وتفتح رسائلنا العصية على الدمع

ذاك الجبل الجليدي الشاهق الذي يفصلنا  كلانا يعلم إنه سوف يذوب ويصبح بحيرة شفافة مدهشة

بفعل رسائلنا التي لاتزال تعبر سياج الحرب والحرف عثرنا على فصلاً خامساً لا علاقة له بمواسم السنه

وتشبثنا بخيوط ضوء الشمس الذي أحدث ثقبا في ذاك الإنهيار وأخترق جدار غيمات سوداء

هل تدرك معنى أن تكون لأحرفنا تلك القوة التي تفوق جحافل محتل تتوغل في حدائق الأرض المعطرة .

***

مريم الشكيلية/ سلطنة عمان.....

أمضى عشرين يوما من عمره في دار العجزة ذلك بعد أن فقد قدرته على المشي، أما اليدين فكانتا تتحركان كما حركة ساقه اليمنى، ما زالت ذاكرته مبتلة بالأحداث مثل تربة تساقط المطر عليها دون أن تجف، ابتدأ يومه الأول بقراءة رواية ل همنغواي، وكان بطل الرواية يعيش في داخله مثل قرين يحثه على التحدي، لم يكن في حينها يحب أن يحضر إلى دار المسنين لكن ابنه الأكبر وبحسب وصية من زوجته قرر أن يأتي به إلى ذلك المكان، بات المكان هادئا، وكانت الأيام تمر بلا ضجيج، لكن العم أبو(م) لم يكن يروق له أن يرى نفسه هكذا عاجزا، فقد كانت عربته الإلكترونية تسير به من مكان إلى مكان، وكان يقصد محطة القطار عندما يود أن يذهب إلى وسط المدينة عند البحر ليرى الناس والأشياء حية تمضي بطريقة تحثه على التفاعل حتى مع السفن والزوارق تلك التي تتحرك وسط المحيط، وما أجمل منظر المساء عندما تهبط الشمس عند الضفة الثانية لتبشر بصباح جديد في مكان وزاوية أخرى من هذا العالم، بقي الرجل بحاجة إلى من يخرجه من هذا المكان، حتى لو اقتضى الأمر أن يزج نفسه في مكان ليته يجد عملا يتمكن منه مقابل أن يعيش حرا طليقا، انصرف ذات مساء إلى الصلاة وكانت الرغبة في داخله تتوهج لمغادرة الدار بأي ثمن كان حتى ولو اقتضى الأمر أن ينام في الشارع على الرصيف، صار شريط الذكريات ينساب في مخيلته مثل مقاطع فلم سينمائي، لا زالت تلك الأيام التي كان فيها موظفا في إحدى المكاتب الحسابية، ولا زالت ربطة العنق التي كان يرتديها حيث داعبته ذات يوم أصابع موظفة كانت تعمل معه وهي تحاول مجاملته بطريقة تليق بأناقته المعهودة، صارت دموعه تتساقط دون إرادة، وراح يدعو بلهفة أن يتحرر من قيود المكان والزمان، هاتفَ صديق له كان قد سافر قبل فترة إلى دولة أخرى، تحدث إليه لعله يحقق ضالته المنشودة راح يحكي معه دون توقف وكأنه يريد أن يصرخ بوجه الزمن الذي أطاح به، اختلطت ساعات المساء مع الغروب، خفتت المصابيح، تساقطت بعض أغصان الشجرة القريبة من النافذة، هطل المطر بعد أن أحاط الليل بآخر ما تبقى للرجل من أنفاس، ليغادر السرير مصطحبا معه آخر ما تبقى له من كلام.

***

عقيل العبود/ سان دييغو

 

أَصبَحتُ الآنَ أَقوَى

استَجمَعتُ ما لَدَيَّ مِن سِنِين

وَحَسَرتُ رَأسِي

بِعِصَابَةِ أُمِّي

وتَحَزَّمتُ

بِحِزَامِ أَبِي

واسمُ جَدِّي الَّذِي وَرِثتُهُ عَنهُ

وَلَطَمتُ الرِّيحَ عَلَى وَجهِهَا

وَأمَرتُ حِصَانِي القِرمِزِي:

أَحمِل عَلَى الرِّيح؟

لَا يُقَلِّلُ عَزِيمَتَكَ

عَوِيلُهَا المُزَيَّف

فَمَا زِلتُ أَرَاكَ وَحِيدًا

بَينَ مَن عَرَف

كَيِفَ يَتَعَلَّمُ لُغَةَ الرِّيح

وَيَتَحَاوَرُ مَعَهَا

بِضَربَاتٍ عَنِيفَة؟

أَتَعَجَّبُ كَثِيرًا

حِينَ أَرَى دَمعَتَهَا

وَلَكِن مَا أَن

تَهبُّ عَلَى الفُقَرَاءِ

تَحمِلُ مَعَهَا كُلَّ كُثبَانِ الصَّحرَاءِ

وَتَذرُوهَا فِي أَعيُنِ

طِفلٍ نَائِم

نَسِيت أُمُّهُ أَن تَعصِبَ عَينَيهِ

يَا إِلَهِي:كَيِفَ أُقنِعُ الرِّيح

أَلَّا تَهبَّ فِي اللَّيَالِي البَارِدَة

وَأَلَّا تَحمِلَ كُثبَانَ الصَّحرَاءِ

فِي اللَّيَالِي الصَّيفِيَّة

وَأَلَّا تَمُرَّ عَلَى أَجدَاثِ

الفُقَرَاءِ

فَلَيسَ هُنَاكَ مَا يُقَدِّسُ الأَحدَاثَ

سِوَاكِ

أَيَّتُهَا النَّائِمَةُ فِي آخِرِ الطَّرِيق

وَرِثتُ مِنكِ

زِيَارَةَ المَقَابِر

وَالاحتِفَاظَ بِتُرَابِ

قَبرِ أَبِي

مَاتَت وَلَم تُصَدِّق

أَنَّ المَوتَ قَد لَا يَتَوَانَى

أَن يَختَارَ

أَصغَرَ الأَقمَار

ضَعِي ذِرَاعَكِ تَحتَ رَأسِه

وَلَا تَنسِي أَن تُغَطِّيهِ

فَمُذ كَانَ طِفلًا

لَا يَنَام

إِلَّا وَالوِسَادَةُ فَوقَ رَأسِهِ.

***

د. جاسم الخالدي

أنَا .. إسمِي الكَوثرُ

بِلَوْنِ القَمحِ بَشَرتِي السَّمرَاءُ

عَينَايَ تَنافُرٌ مُنسَجِمٌ

بَيْنَ صَفَاءِ الثّلجِ وحُزنِ الكُستُنَاءِ

لَستُ مِن ذَواتِ المَالِ والجَمَالِ

و لا مِن رَبّاتِ الحِجَالِ..

لا أملِكُ سِوَى حُضْنٍ وَاسِعٍ

و بَعضِ كِبرِيَاءِ..

*

قَدَمَايَ مِن رُخَامِ بَلدَةِ الحَجَرِ

دَومًا تَركُضَانِ بِاندِفَاعٍ نَحْوَ الآتِي

تُراقِصَانِ دَورَةَ الفُصُولِ فِي خَفَرٍ

تَقفُوَانِ بِي هَودَجَ  العَليَاءِ..

أومِنُ بِالحرِّيّاتِ.. كُلِّ الخرّيَّاتِ

التي لا أفْهمُهَا:

كَحُرّيّةِ المَرأةِ.. وحُرّيّةِ الضّمِيرِ

والحُرّيّةِ الشّخصيّةِ...

والتي أفهَمُهَا طبعا :

كحُرّيةِ التّفكِيرِ والتّعبِيرِ

وحرّيةِ التّقديرِ والتْدبِيرِ

وحُرّيّةِ الإنسَانِ في الحقِّ فِي البَقَاءِ ..

*

رُبّما كُنتُ سَأولَدُ بِجَناحَيْنِ

لكّن لِسَبَبٍ أجْهَلُهُ

أنجَبَتْنِي امِّي فِي زَمَنِ الهَزَائِمِ

بِجسمٍ لِلمَتَاعِبِ..

برَأسٍ للنَّوائِبِ

بأجْنِحَةٍ فِي قَلبِي تُجاوِزُ الأمدَاءَ..

فَلَمْ أُولَدٰ  مَلاكًا

ولم أُجَرّبْ يَومًا التّحلِيقَ

بِجَنَاحٍ لَيسَ مِلْكِي

و لا أحِبُّ السّفَرَ في أرضٍ لا تقبَلُنِي

و دائمًا تفتِننِي مُغَامَرَاتُ

اِختِراقِ الأرضِ وغَزوِ الفَضاءِ ..

*

كَانَ أبِي يَحمِلُنِي إلى المدرسَةِ

بِفَخرٍ واعتِزازٍ

كان يَقولُ لِي :

إنّ كُلْ درسٍ احفَظُهُ هُنَاكَ

يُضَاهِى عُشبَ الأرضِ وأنجُمَ السّمَاءِ

اِحتَضنَتٰنِي الكُتُبُ بِرِفْقٍ

عَشَقْتُ سِحْرَ الصّمتِ في حَديثِهَا

عَرَفتُ فِيهَا  الفَرقَ

بَيْنَ الواقِعِ والخَيَالِ

بَينَ المُمكِنِ والمُحَالِ

عَرفتُ فِيها الفَرقَ بَينَ القُبحِ والجَمَالِ

و أنّ مَا لا يُفِيدُ النّاسَ يذهبُ جُفَاءً

قَرأتُ فيها عَن خُبزِ الجَائِعينَ

يُغَمِّسونَهُ بالقَهرِ والضّنَى..

عن كِذبةِ الأبطال الغابرينَ

عن خدعَةِ اِنتِصارِ الحَقِّ ودحرِ الظّالمِينَ

فأرهَقتْنِي حَيرَتِي في مَنطِقِ الأشيَاءِ ..

*

ها انّنِي اجُولُ فِي زِحَامِ العَابِرِينَ..

اعْلَقُ في شِرَاكِ البَعضِ كُلَّ حِينٍ

في وَرطةٍ مِن حُبٍّ .. أو فرحةٍ بِجُبٍّ

و أستفيقُ بعدَها أُحاذِرُ أقنِعَةَ الرّياءِ  ..

لا هَمَّ لي في هَذهِ الحياةِ

غيرَ سعادةٍ بسيطةٍ تنبثِقُ في داخِلي

و شَيءٍ من حقيقةٍ أكتُبُها

بغُصّةِ الدّموعِ في حلقِ الأشقِياءِ ..

لذلك.. قضّيتُ العمرَ ركضًا

و رقصًا.. كطائرٍ ذبيحٍ..

تقتُلُنِي مَخاوِفِي.. مِن حِقدّ مُغلَّفّ بِوِدٍّ

مِن شِعرٍ وَطنيّ مُحمَّلٍ بِشَرٍّ..

تُثقِلُني أحلامٌ إنسانيّةٌ

بتركِ كلِّ الحُجُبِ السّاترةِ

بالعَودةِ مِن جديدٍ إلى حياتِنا العاريةِ

إلى نقاءِ الطّينِ.. إلى صَفَاءِ الماء..

***

كوثر بلعابي (تونس)

 

وَقَـــدْ  جَــاءَ تَــمُّوزُ كَــالْهَاوِيَةْ

لِــيَــنْـفُثَ  أَنْــفَـاسَهُ الــحَـامِيَةْ

*

جَــمِيعُ الــخَلَائِقِ تَــحْتَاجُ حَـلًّا

يُـخَــفِّـفُ لَـسْــعَاتَهُ الــقَــاسِيَةْ

*

كَثِيرٌ مِنَ النَّـاسِ تَهْوَى اصْطِيَـافًا

وَكُـــلٌّ  يُــفَــتِّشُ  عَــنْ نَــاحِيَةْ

*

خَــرَائِدُ شَــتَّى مِــنَ الحَـرِّ فَرَّتْ

إِلَــى الــبَحْرِ جَــاءَتْ لَهُ شَاكِيَةْ

*

فَــحَـنَّ لَــهُــنَّ بِــكُــلِّ اشْــتِيَاقٍ

وَمَــــدَّ  ذِرَاعَــيْــهِ  كَـالــحَانِيَةْ

*

وَأَغْــرَقَــهُنَّ بِــفَــيْضِ حَــنَــانٍ

فَــتِــلْكَ  تَــغُوصُ وَذِي طَــافِيَةْ

*

كَــأَنَّ الــشَّوَاطِـئَ بُــسْتَـانُ زَهْـرٍ

يَــعِــجُّ  بِــأَلْــوَانِــهِ الــزَّاهِــيَةْ

*

فَــحَــسْنَاءُ لَاذَتْ بِـظِــلِّ خِــيَامٍ

وَأُخْــرَى عَــلَى الرَّمْـلِ مُسْتَلْـقِيَةْ

*

وَأُخْــرَى تَــحَـدَّتْ لــكُلِّ قُــيُودٍ

فَــرَاحَتْ تَــسِيرُ كَــمَا الــعَارِيَةْ

*

(فَمَايُوهُهَا)  شَلَّ فِـكْرَ الحُضُـورِ

كَــأَنَّ  الــجَـمِيعَ  بِــهِمْ دَاهِــيَةْ

*

تَــرُوحُ إِلَى البَحْـرِ دُونَ ارْتِـيَابٍ

تُــصَــارِعُ أَمْــوَاجَــهُ الــعَــاتِيَةْ

*

وَتَــلْـطِمُ  بِالـصَّدْرِ صَدْرَ الـعُبَابِ

لِــيُــوقِظَ  صَــبْــوَتَهَا الــغَــافِيَةْ

*

فَــتَنْهَضُ مِــثْلَ نُــهُوضِ التِّلَالِ

وَفِــيــهَا انْــزَوَتْ قِــمَّةٌ عَــالِيَةْ

*

وَمِــنْ قَــبْلُ كَــانَ هُنَـاكَ سُهُولًا

تُــدَانِــي هِــضَـابًا بِــهَا رَابِــيَةْ

*

وَكَــانَتْ تَــدَلَّتْ كَــأَكْمَامِ نَــخْلٍ

كَــكُسَلَى الـعَنَاقِيدِ فِــي الــدَّالِيَةْ

*

لِــمَـاذَا تُـرِيدِينَ هَــذَا الــعَذَابَ

فَــرِفْــقًا  بِــنَــفْسِكِ يَــا غَــانِيَةْ

*

سَــيَمْـضِي الـنَّهَارُ وَيَأْتِـي المَسَاءُ

وَمَـــا  زِلْـــتِ عَــابِــثَةً لَاهِــيَةْ

*

بِـعَــيْنَيْكِ يَــكْــمُنُ سِــرٌّ دَفِــينٌ

يُــفَــسِّرُ نَــظْــرَاتِكِ الــسَّــاهِيَةْ

*

فَــرُوحُكِ تَــشْتَاقُ حُــبًّا جَــدِيدًا

يُــغَطِّي انْــكِسَارَاتِـكِ الــمَاضِيَـةْ

*

حَــذَارِ  حَــذَارِ اصْفِـرَارَ الرَّبِـيعِ

وَتَــبْــقَــيْنَ زَنْــبَـقَــةً نَـائِـيَــةْ

*

فَـــإِنَّ الــزَّنَــابِقَ تَــحْتَـاجُ مَــاءً

تَــمُـوتُ  إِذَا سَــكَـنَتْ بَــادِيَــةْ

*

تَــعَــالَيْ  لَــعَـلِّيْ  أُقَـــدِّمُ حَــلًّا

فَــتُــسْــعَدُ  أَيَّــامُــكِ الــبَـاقِيَةْ

*

زَمَــانٌ مَــضَى مِثْـلَ حُلْمٍ جَمِيـلٍ

وَآمُــــلُ  تِــكْــرَارَهُ  ثَــانِــيَــةْ

***

عــبد الناصر عـليوي الـعبيدي

"رَأَيْتُ الْعَبَثَ ولَمْ تَضِقْ يَدايَ بِسُكونِ الْجِهاتِ الْنَّائِمَةِ. ورَأَيْتُ خَرائِطَ الْفَرَحِ تُعِدُّها بِمَكْر، ثَعالِبُ الْوَقْتِ الْعابِرِ فاتَّسَعَتْ بُقَعُ السَّفَرِ في قدمِي. ولَمَّا رُمْتُ انْتِشالَ الْحُقولِ مِنْ ضُباحِ الْكائِناتِ اللَّوْلَبِيَّة فَرَّتْ مِنْ أَصابِعي كُلُّ الدّالِياتِ. سَقَطَ الدَّمْعُ في جَيْبِي الْمُعَلَّقِ فِي فَهارِسِ النِّسْيانِ، فَتَّشْتُ في قاعِهِ عَنْ دُرَيْهِماتٍ أسُدُّ بِها ثُقوبَ الْحُقولِ الْمَسْلوخَة فَلَمْ أَجِدْ رَنيناً، وَوَجَدْتُ بَقايا مَخالِب، ونُتْفاتٍ مِنْ زَغَب وَحُشاشَةً مِنْ روح وبَعْضَ أحْلام كانتْ دَفِينَة. "

ماذا تَقول أيّها الْمعْقُوفُ في يدِ الكلام؟ وهل أنتَ شاعرٌ فقدَ بوصلةَ البيان أم حاكٍ تاهَ عنهُ غزالُ المَجاز؟

انا الحاكِي والْمحكِيُّ عنه. وأمّا العبثُ أعلاهُ فبعضُ السّلوك. وأمّا الجهاتُ النّائمَة فبعضُ السّكوت. وأمّا خرائطُ الْفرح فبعضُ الانْفِراجِ في سيماءِ العسْف والخسْفِ و...

هل أنتَ تشْرَحُ لي؟ وهل بدوْتُ لك جاهلاً بمسارِب الْكلام؟

سيدي... لا تقلق ولا تندفع فليس قصدي أيُّ إهانة أو ما شابه. كلّ ما في الأمرِ أن الرّغبةَ في الكتابة انزاحتْ نحو التغميضِ الدّلاليّ بِقصدٍ يُنيخُ بالمحْكِي في أرْضِ النّخبة. ولا أرانِي جانَبْتُ صواباً إذْ ضيّقْتُ أفقَ الاستِقْبال. أليسَ من حقّي وأنا الحاكِي أن أختارَ قُرّائي؟

سأتركُكَ إلى نخبَتِكَ وأغادِرُ حماكَ. وليس مطلوباً منّي أن أذعِن لهذيانِك...

لك ما تشاء...

قال الحاكي:

و في غمْرةِ انتصارِ الثّعالِب على نقاءِ التّراب، دلفتُ أنا المحكِي عنهُ إلى ثقوبِ البسْتان. عبرْتُ شُعاعَ الثّقبِ الْوحيد الذي نسلتْ منهُ فصيلةُ ابنِ آوى. وجدتُ المقاسَ أكْبَرَ من بطنِها، فعلمتُ أن الثعالِبَ استأْسَدتْ وتكوّن أو تكوّمَ على صدرِها لِبْدٌ كثيف. وعلمْتُ أيضاً أن بعض الجهاتِ النّائمة تستيقِظُ في حالةٍ واحدَةٍ عندما تُدرِكُ أن الثعالِبَ في مأزق. فتصنعُ لها وجْهاتٍ أخرى أنسبُ لمواقِيتِها الثعْلبِيّة.

قالَ الّذي انتدبتْهُ الثّعالِبُ: أعلنُ باسمِ كل الثّعالِبِ أن الأمر لا يعْنِينا، وأن الثّقبَ لم يدْلِفْ منهُ ولا ثعْلبٌ واحِد. وإنها لفرْيةٌ عظيمةٌ ما جاء بها زمان. نحنُ لم نَلجِ البستانَ ولم نسرِقْ غلّته، كما لم نبدّل فرواتِنا أبداً. فابحثوا عن الفاعلِ ولا تذهبوا في تحقيقكم هذ المذهبَ المغلوط والّذي سيودي بكثيرٍ من الثعالِبِ البريئة. وفضلاً عنْ ذلك فشبَعُنا فيما يغمُرُنا من رزقٍ غابويٍّ يكفِينا والحمدلله على نعمِه.

" رَأَيْتُ الْعَبَثَ ثانِياً ولَمْ تَضِقْ يَدايَ بِسُكونِ الْجِهاتِ الْنَّائِمَةِ. ورَأَيْتُ خَرائِطَ الْفَرَحِ تُعِدُّها بِمَكْر، ذِئابُ الْوَقْتِ الْعابِرِ  فَاتَّسَعَتْ بُقَعُ السَّفَرِ في قَدَمَي .وَ لَمَّا رُمْتُ انْتِشالَ الْحُقولِ مِنْ ضُباحِ الْكائِناتِ اللَّوْلَبِيَّة فَرَّتْ مِنْ أَصابِعي كُلُّ الدّالِياتِ. سَقَطَ الدَّمْعُ في جَيْبِي الْمُعَلَّقِ فِي فَهارِسِ النِّسْيانِ، فَتَّشْتُ في قاعِهِ عَنْ دُرَيْهِماتٍ أسُدُّ بِها ثُقوبَ الْحُقولِ الْمَسْلوخَة فَلَمْ أَجِدْ رَنيناً وَوَجَدْتُ بَقايا مَخالِب وَنُتْفاتٍ مِنْ زَغَب وحُشاشَةً مِنْ روح وبَعْضَ أحْلام كانتْ دَفِينَة. "

أهذا أنت ترجعُ بعد أن غادرتَ حكْيِي ووصمتَه بالنّخبوِيّ؟ مرحبا بحضورك مهما كان موقفك، فأنا أعتبركَ نُخْبَويّاً بامتِياز.

سيدي، كل ما في الأمر أن مسارَ الحكيِ انبعثَ مُشوّقاً فقرّرتُ أن أستمْتِع.

مرحبا بقلبك وعقلك وسمعك وكل جنود استساغاتك.

يبدو أنّ المسألةَ ستأخُذُ مجرىً آخرَ غيرَ الذي خطّطتْ له الجِهاتُ النّائمة. وأنّ الثعالِبَ بمكرِها الغريزيّ أسقَطتْ كفّةَ المتلاعِبِين وكسّرتْ أجنداتِهِم تكسيراً سينجُمُ عنهُ الكثيرُ من الضّرر. ولولا صبْرُ الجهاتِ واستعانتُها بالخبراتِ الأجنبية والمتخصّصة والمُكوّنَة أشدّ التكوين لكلّفها الأمرُ خيباتٍ لا قِبَلَ لها بتجاوُزِها...

هكذا تحوّل الدمعُ في مجراهُ... فمسحتِ الجهاتُ النّائمةُ التّهمَةَ في معشرِ الذّئابِ. وألْصقَتْها بمكْرِها اللّولبِي. فشاعَ بينَ الأنامِ أن الذّئابَ دلفتْ إلى البستانِ وسرقتْ ما سرقتْ وعاثَتْ فيه ما عاثَتْ ودمّرتْ وخرّبتْ وأفسَدتْ . انطلتِ الحيلةُ زمناً على الإعلامِ والمثقّفينَ وباقِي الدهْماء وسائرِ الأنامِ. حتّى أوشكَ كلّ ذِئْبٍ على الرحيلِ من البِلادِ جرّاءَ هذه الوصمة وهذا الْبلاء.

انبرى ذِئْبٌ مثقّفٌ من عامّةِ الذّئابِ ويبدو من تعابيرِهِ أنهُ اشتغلَ سابقاً في المحاماة. قال والعهدةُ على الرواي: لم نشغلْ بالَنا نحنُ معشر الذئابِ بالسّرِقَة إلا لجوعٍ اعترضَ بطونَ صنفِنا أو لخصاصة هدّدتْ فصيلَتنا أو لسغبٍ شديد وضعَ انقِراضَنا في ميزان الموجودات. وأمّا اللمْزُ من جهاتٍ معلومةٍ أو مجهولَةٍ بأنّنا نمثّلُ متّهما أو مُداناً في قفص الاتّهامِ أو ما شابَه، فأمرٌ يبعث على الضحك، لأن الإشارةَ واضحةٌ أوضحُ من شمسٍ في ظهيرة. وإنّنا من هذا المنبرِ الموقّر نقول لا لكلّ أفّاكٍ أثيم. ونشجبُ التهمةَ قبل الفعل ، وندين من وصمنا بأدني صفة. وليطمئنّ الفاعل أننا لن نألوَ جهداً في المتابعةِ القضائية حتّى نبرّئَ ساحتنا من هذا الذي كان، بفعلِ فاعل موبوء...

لم يغمض لِلْجهاتِ النائِمة جفنٌ ولا استراحَ لها جنب. وقضت مواسِمَ حصادِ الانتخابات والترشيحات في قحطٍ بائنٍ ومحلٍ أبْين. تجرّ ذيولَ هزيمَتِها خلفها أينما حلّتْ وارتَحلتْ. ولمّا ضاقَ بها الأمرُ ذِرْعاً جنّدتْ للأمر جيشاً عرمْرَما من جنودِ الشبكات العنكبوتية، تستثمرُ الوسائط الاجتماعية في التشهير بالفاعل الحقيقيّ الذي وضعتْ فيه ثقَتها العمياءَ وانصدَمتْ فيه أشدّ الصدمات...

الْصقَتْ إفْساد البستانِ لفصيلةِ الكلاب.

" الآنَ رَأَيْتُ الْعَبَثَ ولَمْ تَضِقْ يَدايَ بِسُكونِ الْجِهاتِ الْنَّائِمَةِ. ورَأَيْتُ خَرائِطَ الْفَرَحِ تُعِدُّها بِمَكْر، كِلابُ الْوَقْتِ الْعابِرِ  فَاتَّسَعَتْ بُقَعُ السَّفَرِ في قَدَمَي .وَ لَمَّا رُمْتُ انْتِشالَ الْحُقولِ مِنْ ضُباحِ الْكائِناتِ اللَّوْلَبِيَّة فَرَّتْ مِنْ أَصابِعي كُلُّ الدّالِياتِ. سَقَطَ الدَّمْعُ في جَيْبِي الْمُعَلَّقِ فِي فَهارِسِ النِّسْيانِ، فَتَّشْتُ في قاعِهِ عَنْ دُرَيْهِماتٍ أسُدُّ بِها ثُقوبَ الْحُقولِ الْمَسْلوخَة فَلَمْ أَجِدْ رَنيناً وَوَجَدْتُ بَقايا مَخالِب ونُتْفاتٍ مِنْ زَغَب وحُشاشَةً مِنْ روح وبَعْضَ أحْلام كانتْ دَفِينَة. "

 سيّدي... وهل الكلابُ صاحبةُ الفعل؟

لا تتسرعْ يا صديقي. فأنا أربأ بك أن تكون ممّن يجتنون الثمارَ قبل نضجِها.

الحقيقة يا سيدي أنك شوّقْتني للنهاية حتّى نسيتُ نفسي، ووجدتُني كذلك المتفرج على شريط سينمائيٍّ عبر آلية اليوتوب، ووجدتُني كأنني أضغط على سهم التسريع لأحداث الحكاية. والأمر في حقّه وحقيقته يُعاش حكياً وحياةً بتفاصيله الدقيقة. هذا فرقٌ سرديّ ينبغي أن نسجّله في مقامات الحكي المتعددة بين مكتوبٍ ومسموعٍ ومرئيّ...

لا عليك يا صديقي، فالأمر يوشِكُ أن يكون عامّا. فأنا غالباً ما أقع في هذه الرغبة.

في سياقٍ مستضعفٍ لم يستطع كلبٌ واحدٌ ردّ التهمة. والسبب في ذلك مرجعهُ إلى أن الكلابَ لا تحظى بصفة النّدرة. فهذه تلعبُ دوراً في ترجيح كفّة الميزان للثعالبِ وللذّئاب. وأما الكلابُ فشأنها مختلف.

قد يقول قائلٌ مُعترضاً على تعليلنا بأن فصيلة الكلاب من نوع  (البيتبول) أو (الجولدن) نادرة. نقول له وبسرعة الموقنِ من دليله، إننا نقصد بذلك الكلاب الضّالّة فقط. جفّتِ الأقلامُ وطُوِيتِ الصحف.

أفحمْتَني أيها الحاكي كما لم يفعل ذلك حاكٍ من قبل. وإنني لأشهد لك بالبراعة في وصم الحكي بالموضوعية. فأين تعلمتَ هذا؟

تعلّمته في حلقاتِ أسواقِ الحي المحمدي. دعنا من هذا، وقل لي أين وصلت حكاية الجهات النائمة مع الكلاب الضّالّة؟

لم تقف الكلابُ مكتوفةَ الأيدي أمام هذا العار وهذا الشّنار. فانبرتْ على بكرةِ أبيها إلى تفعيل نقابةٍ قديمةٍ للكلابِ كانتْ قد جمّدتْ أنشطتَها ولم تُجمّد أوراقها الرسمية. أعادت هيكلتها بسرعة برقية وانتدبتْ ناطقيها ليبلوا بلاء حسناً في صدّ ما هجمتْ به الجهاتُ النّائمة ونقضِ ما حاكتْهُ عبقريتُها الخائبة. لم تلجأ نقابة الكلاب إلى بديع القول وحجيج المرافعة وجميل البيان وقويّ البرهان، وإنما لجأت إلى فعل المقاطعة تنديداً بالإساءة الحاصلة في حقّهم.

سيدي، وما موضوع المقاطعة التي يمكن أن تكون وازنة ومؤثرة وفاعلة وناجعة؟

صبراً يا صديقي صبرا...

لم أعد أطيق الانتظار يا سيدي... هات ما عندك هات.

حاضر يا سيدي ... إن فعل المقاطعة سلوكٌ حضاري وسلمي لا يقترفه إلا واعٍ بالمسؤولية. وقد أُسْقِطَ في يدِ الجهاتِ أن صدر هذا الفعل من الكلاب. حتّى ظنّتْه قاصمة ظهرِها. وقد ركزت نقابة الكلاب على مقاطعةِ قرار تسميم الكلاب بنشر الوعي بين صفوفها بمغبّات تناول هذه المواد القاتلة التي ترّوج لها الجهات النائمة للتقليص من عدد هذه الكلاب الضالة.

هل أفهم أن الكلاب كانت واعية بحملات التسميم وكانت تغض الطرف عن ذلك؟

نعم، سيدي... بعض الكلاب فقط.

هذا غريب جدّاً.

نعم، غريب ومؤسف ومأساوي.

و لمَ ذلك؟

تواطؤٌ من أجل البقاء في مقابل الإبادة الجماعية.

أكلّ هذا يحدث في بلادنا؟

نعم، وأكثر...

" ها أنا أرى الْعَبَثَ ولَمْ تَضِقْ يَدايَ بِسُكونِ الْجِهاتِ الْنَّائِمَةِ. ورَأَيْتُ خَرائِطَ الْفَرَحِ تُعِدُّها بِمَكْرٍ ناسُ الْوَقْتِ الْعابِرِ، فَاتَّسَعَتْ بُقَعُ السَّفَرِ في قَدَمَي . ولَمَّا رُمْتُ انْتِشالَ الْحُقولِ مِنْ ضُباحِ الْكائِناتِ اللَّوْلَبِيَّة فَرَّتْ مِنْ أَصابِعي كُلُّ الدّالِياتِ. سَقَطَ الدَّمْعُ في جَيْبِي الْمُعَلَّقِ فِي فَهارِسِ النِّسْيانِ، فَتَّشْتُ في قاعِهِ عَنْ دُرَيْهِماتٍ أسُدُّ بِها ثُقوبَ الْحُقولِ الْمَسْلوخَة فَلَمْ أَجِدْ رَنيناً وَوَجَدْتُ بَقايا مَخالِب ونُتْفاتٍ مِنْ زَغَب وحُشاشَةً مِنْ روح وبَعْضَ أحْلام كانتْ دَفِينَة. "

سيدي... أراك حوّلْتَ الحكيَ إلى بني البشر.

نعم، لأنّ البشر هم من دلف إلى البستانِ وسرقَ البستانَ وعاثَ في البستان ثم تركَ الثّقْبَ يتّسع في البستان...

***

قصية قصيرة

نورالدين حنيف أبوشامة - المغرب

من قصص المعركة (2)

كانت المعركة بحاجة الى وقود، والأيام مثقلة بحزن وبكاء الامهات، حين يتصاعد ضجيج سرف آليات الحرب، الموت والجحيم يفغران - ياهولهما - شدقين من نار وغبار، يأتي فحيح الرصاص ينثال على جماجم الشباب، من ايما سماء تنهال الشظايا؟

كان الوطن ثكنة عسكرية، فتحت أبوابها (للمتطوعين) في قواطع الجيش الشعبي، حقيقة الأمر لا تطوع عندما تتصاعد النيران في جبهات الحرب تتشكل القواطع عبر تبليغات في بداية الامر،  ثم تتحول الى مداهمات للبيوت، ومرحلة تالية اقامة مفارز في الشوارع للخطف ، وسعيد من يفلت لغاية اكتمال القاطع،

كانت الجثث تتناسل في مملحة الفاو عام 86، أين المفر.؟ (جاك الموت يا تارك الصلاة)، مسؤول المنطقة الحزبي مسرعاً يحمل بيده عشرات التبليغات للالتحاق فوراً في القاطع، طرق باب  منزل (س) ورمى واحدة بوجه الطفل الذي فتح له الباب، لم يكن أمام (س) إلا الهروب من البيت وحي السكن، يقضي ليلة هنا، ويبيت ليلة هناك.

كان يعمل بأجور مقطوعة مصمماً لنشرة شهرية تصدر عن اتحاد نساء العرب، يشرف عليها طيب الذكر الدكتور سنان سعيد فنياً وصحفياً، كان في غاية الأدب والخلق، الدكتورة ناجية عبد الله المسؤول العام عن النشرة،  انسانة وديعة ومحترمة، شكى اليها(س) الحال، فتعاطفت معه وأوعزت للدكتور سنان اصطحاب (س) معه الى مقر الاتحاد في الوزيرية عززته بكتاب مضمونه : الحاجة القصوى لخدمات ( س)، وتعذر الاستغناء عنه.

اسرعا دكتور سنان و(س)  اللقاء بمسؤولة الثقافة والاعلام الدكتورة (هاء. تاء) في مكتبها الفخم في الاتحاد.

انتقلت بجلستها قبالة الاستاذ سنان احتراماً له وتقديراً لشخصه، لم تمض الا ثوان قصيرة بعد اطلاعها على مضمون الكتاب حتى بادر ها بالكلام :

- دكتورة، الأخ (س) نحتاجه في العمل، غيابه يعني توقف.......!

لم يكمل الدكتور سنان العبارة بعد، فقاطعته فجأة، بصوت بدأ يعلو بشيئ من الاستخفاف والتعجب :

- الله يخليك دكتور!! كيف تقبل تحرم (الولد) من فرصة العمر؟!

هنا سكت دكتور سنان عن الكلام بشكل نهائي.

تلك اللحظة كان (س) يُصلب في صمت،

- ما أمنية المصلوب يا (س)، ما مطلبك الأخير؟

- أرمي لكلاب مسعورة كل الامجاد الزائفة.

***

جمال العتابي

** بدلا مني

تبكي الشمعة بهدوء القديسين..

يمتلأ سقف حجرتي بدموع المتصوفة..

هذه حبال مخيلتي جاهزة

لسحب عربات النسيان.

بدلا مني

يسخر قطار  منتصف الليل

من مشية المارة النائمين..

القطار الصاعد الى تلة رأسي

والسائق يمضغ ذيل الأسد .

(لإفناء هضاب الفوبيا).

بدلا مني

تمضي رصاصة القناص مسرعة

لدحض مفاهيم الذئب .

بدلا مني

تصلي سيارة اسعاف

مدوية بتراتيل شجية..

طوبى لسيدة الجنازات اليومية.

معمدة الأرواح بجناحيها المصطفقين.

بدلا مني

يسقط البهلوان من الجسر

في قاع اللامعنى.

بدلا مني

تشرب الشمس مع الغزلان في النهر

ثم تموت بعضة تمساح عبثي .

بدلا مني

ينبح الفراغ في الحديقة.

شبح يروض جنازة جامحة

بضحكته المريبة .

بدلا مني

يفتحون النار على غراب الحظ

بينما ريشه المتطاير

يغزو باحة العالم .

***

فتحي مهذب - تونس

 

... لليوم الثاني لم تغمض أطراف عيوني نومها الطبيعي ، حينها قررت الترجل والتجول كالمتسكع بين أزقة حواري المدينة القديمة .ثِقل النوم يَبْرز من قسمات وجهي مُنْتكسا بالتشويش، وغياب عدم تهديف الاتجاه. لحد الآن، لم يلازمني الفرح منذ أن تحولت دفة حياتي بمتحول القدر غير المقدور عليه بالتغيير، فدوام التفكير المرهق داخليا بالتساؤل: لم أنا؟ ، فالرأس يزيد ثقل حمل همِّ الحياة ويشتعل شيبا.

بتلك الأزقة الضيقة في المدينة العتيقة بمكناس، لا تسمع إلا صوت من يستعطفك ويطلب منك الصدقة لوجه الله. لا تسمع إلا دقة نجار شيخ بمطرقة على خشب العرعار الجاف، و الذي تَنْخره عيون (معزة) بارزة. في آخر الدرب، لاحت لي بالتقابل غير البعيد، امرأة قصيرة القامة مكتنزة الجسم  تلتحف حايكا أبضا. امرأة لا تتحرك بالبطء إلا بمساعدة عكاز من غصن شجرة خروب غير مستو الأطراف. بِتْتُ أقترب منها بالاتجاه المعاكس، حاولت أن أسحب عيني من التقاط نظراتها الحادة، لكني وللأسف لم أفلح من سحر ملمح قامتها. إنها بحق امرأة مميزة بقسمات وجهها المستديرة، وجبهتها العريضة المتجعدة ، ونور رباني يَسْطع بخفة حركة ارتداد العيون.

  لحظة توقفت عن المشي واستدارت بملمح الإبصار رافعة رأسها نحوي، فمادام قِصر قامتها قد منحها ولو للحظة تعديل تقويسة ظهرها بالتمام . هنا لامست من عينيها قسوة الزمان، وحينها لم أستطع لا إتمام سيري ولا افتتاح الكلام . كنت أتابع حركاتها باهتمام، وكأنني أعرفها متم المعرفة، وكل صغيرة أو كبيرة إلا وعيني تتبعها بالتسجيل والمعاينة. استبدلت المرأة يد العكاز من اليسار إلى اليمين بالتوسط ، ولحد حركاتها المتتالية لم تبح لا بكلمة واحدة . هنا استرجعت ماضي الطفولة عندما كنا نتبع تلك المرأة التي لا تزور حينا إلا مرة كل شهر، كنا نطلق عليها (أم صاندلة) تسمية كانت تتردد على ألسنا الصغيرة لا نعرف دلالتها، إلا من أنها كانت تنتعل (صاندلة) بلاستيكية من فردتين مختلفتي اللون .

أحسست بيد خشنة تقبض على أطراف أصابعي، فزعت رُعبا وتخيلت أن (أم صاندالا) عادت لتنتقم مِنِّي اليوم، ومن شقاوة الصغر في مشاكستها. في دواخلي سكن خوف شديد ، ولم يسحبني منه إلا صوت طالب (معاشو) بحماره الأشهب (عنداك عنداك...)، لحظتها سحبتني العجوز برفق من مكاني، لأفسح الطريق للحمار المتبختر، والذي من المؤكد الأكيد أنه خبر الأزقة، وعرف أن المارة يفسحون له الطريق كرها لا احتراما. مرَّ الحمار مزهوا ولم يُبد أية التفاتة إلينا مادام انه يحمل ثقلا يترنح تحته، وبالكاد يرفع رجلا تلو الأخرى. تابعت مسيرة الحمار رغم أن صاحبه تخلف عن إدراكه بالسير، وهو في قراره يَفطن أن حماره لن يتيه في مدينة الأحاجي وسبع لوييات .

وبمتم إطلالة أشعة شمس من فجوة صغيرة بين المنازل العتيقة المتهالكة والمتهاوية، أعادتني إلى المكان بعين طرفها الأكبر المغمض من نور الشمس، وكان هذا سببا آخر من شدة الأرق الذي يركب جسمي كليا. عودتي إلى من لا زالت تشد على رؤوس أصابعي اليمنى ، حينها سحبت يدي برفق وأردت أن التقط ولو درهما من جيبي للسيدة التي تبدو عليها أثر قسوة زمن الجذب بالمدينة البئيسة، لكنها أشارت أنها لا تعنيها الصدقة، وليست في حاجة إلى درهم قتل الحلاج بسببه يوما ما، وابتسمت برفق الشفاه المطبقات. حينها لاحظت أنها لم تعر ملمح عيناي لها بالاستفهام ولا الملاحظة ، لكنها أسرت على الحديث معي، والله لقد توجست خيفة من أمرها، وبدأت لعبة تكاثر التفكير في مخيلتي تتوافد، أكثر من طلب وسؤال واستفسار واستفهام، لكنها بذكاء العارف، سحبتني من مكاني منادية علي بأسلوب نداء القريب: أيها التائه الغريب في مكان الأجداد. لقد كان حلمي الواقف المتردد الليلة باللقاء بك في نفس المكان أمام مدفن سيدي عمرو بوعوادة، هنا تلفتتُ يُمنة ويسرة فلم أجد إلا دربا أحدب الهندسة ضيق الجوانب ... قاطعتها برفق لالة الشريفة ما مسك من حلم إن هو إلا أضغاث أحلام . نعم، أنا ابن المدينة، ولست بذلك الغريب التي تقطعت به السبل وتخلفت عنه الطرق. ضحكت بالتكرار الخفيف غير المفهوم المرامي، حينها كنت ألقيت نظرة خاطفة على فمها فلم أجد أي سن بادية فيه، إلا بقيا جذور من النوعية المنكسرة السوداء. هنا اختلط علي أمر المرأة بملامحها الذي شاخت وهرمت، وشأن مدينتي التي تتقاذفها الأيدي والسياسات التي لا حكمة فيها إلا من نفع المنتفعين، واسترزاق الفساد.

أقسمت المرأة بغليظ الأيمان أنني غريب ليس على المدينة ولا على شوارعها وأزقتها الضيقة، بل غريب عن ذاته، عن تفكيره، عن مستقبل حياته. هنا استولى علي الفزع كمن يلطمني على وجهي الأيسر بقوة ، فق مالك ناعس وأنت ماشي... ما لك مغمض "عنيك" وأنت وسط مدينيك وناسك ... هنا استويت مستقيما في وقفتي، ولمحت شقا قليلا من عيناها، فلم ألحظ عليها أثر الشيخوخة ولا شح الحياة، إنها نظرة مرتدة سريعة بين الأولى و الثانية .

آه ، لو كانت المرأة (لالة الشريفة) جنية المدينة الماردة ، لأمرتها حالا بالإصلاح وتشكيل هندسة لمدينة مك..و...ناس. لحظة أحسست بمن يسرق أفكاري. أحسست بأنها الحقيقة الإنسية الماثلة أمامي. أحسست بأني من أبناء هذه المدينة المنسية المنكوبة، حتى ولو اسمها ضاع بين الأوراق والتقارير. تشجعت قليلا، ورحت بيدي أمسح ما علق على رأسها من وهن بيت العنكبوت، الآن وجهت خطابي إليها عن حُلمها الذي راودها غير ما مرة باللقاء معها. استندت إلى الحائط الذي يماثلها شيبا بالتاريخ الماضي، وأكدت أنها زارت جميع زوايا المدينة، زارت جميع المزارات و الأضرحة، وحين تغفو في نومها تلحظ أهل المدينة يسيرون فرادى في حلقة مكشوفة منغلقة، وهم نيام ولا حول لهم ولا قوة ...الآن، فكرت في قولها بالصدق من أنني واحد من ناس أهل هذه المدينة التعيسة...

***

محسن الأكرمين

(مشهد من رواية : نوارة ...وجه عروس).

في نصوص اليوم