نصوص أدبية

نصوص أدبية

كان الضوء يتسلّل شاحبا بخجلٍ رمادي من نافذة الغرفة الصغيرة، كما لو أنّ الصباح نفسه يخجل من الدخول، ضوءٌ باهت كذكرى فقدت لونها، يغمر زاويةً مظلمة جلس فيها متأمّلا ورقةً بيضاء كأنها صفحة منسية من حياته، بل كأنها مرآة لفراغه، يتأملها بعينين مرهقتين لا تطلبان شيئا سوى الصمت.. لقد مضى وقتٌ طويل... لا يدري كم، ولم يعد يُهمّه الحساب، كل ما يعرفه أن الظلال انسحبت من حياته كما انسحب الآخرون، تركة من الخيبات تكدّست في صدره دون عزاء.. ورغم محاولاته المستميتة لتمزيق خيوط الذاكرة، لتطهير روحه من طيف تلك الخيانة، إلا أن رائحتها ما زالت عالقة في أنفاسه كرائحة عطر قديم يُصرّ على البقاء حتى بعد أن يتلاشى صاحبه، فلم تكن فقط ذكرى امرأة خذلته، بل ذكرى نفسه حين كان يؤمن بشيء.. كان قد أقسم على قطيعةٍ لا رجعة فيها، حتى صار الوفاء للعزلة هو المبدأ الوحيد الذي يحكم حياته..

- "لن أسمح لنفسي بأن أغوص في بحر الوهم مجددا"، هكذا كان يهمس لنفسه كل صباح، وكأنه يوقّع كل يوم على اتفاقية هدنة جديدة معها، يعرف أنها هشّة، مؤقتة، لكنها تمنحه سببا للاستمرار، فيما تمرّ الشهور وهو يشحذ قلبه ليغدو صخرة، تتحطّم عليها أمواج المشاعر دون أن تترك خدشا، دون أن تترك أثراً.

كان الصمت في تلك الغرفة لا يُشبه الصمت العادي، بل أقرب إلى هديرٍ داخلي، يهمس له بما لا يُقال، بما دُفنَ منذ سنين تحت طبقات من النسيان المتعمد، فلم يكن وحده في وحدته، كانت هناك أصوات خافتة تتسلّل من جدران ذاكرته، تعود إليه من أماكن لم يزرها منذ زمن، من شوارع تنكر له أهلها، ومن وجوهٍ كان يظنها الوطن.. مرّت صورة والده أمامه، كما تمرّ طيف ابتسامة في حلمٍ مكسور، رجلٌ لم يكن حنونه ظاهراً، لكنه كان حاضراً كظل شجرة قديمة، لا تتكلم كثيراً، لكنها تحميك من الشمس في أيامٍ لم يكن فيها سقفٌ للنجاة. تذكّره وهو يمدّ له كوب الشاي في مساءٍ شتويّ، دون أن ينبس بكلمة، كأن المحبة كانت تُصبّ في الكؤوس لا في العبارات.. ثم جاءت صورة أخرى... صبيٌ نحيل في ساحة المدرسة، يحمل دفتراً ملطّخ الحواف، يكتب فيه جملاً لا يفهمها أحد، ولا حتى هو، لكنّه كان يؤمن أنها نافذته إلى عالمٍ آخر، كم ضحكوا عليه حين قرأ أحدها بصوتٍ عالٍ في الصف، وكم سخر المعلم من "أحلامه البلاغية". كانت تلك اللحظة أول طعنة يتلقاها الحلم وهو يرتدي زيه المدرسي.

لم يكن الليل قد حلّ بعد، لكن الغرفة بدت كأنها دخلت مساءها مبكرا، كعادتها، تنسحب من النهار كما انسحب هو من كل ما يشبه الضوء، جلس ثابتا في مكانه، لا يتحرك، كأنه يخاف أن يُحدث صوتا يُربك هدوءه المتشظي، غير أن شيئا خافتا بدأ يطرق باب ذاكرته... لم تكن صورةً، بل صوتا... ضحكة قصيرة، مألوفة، كأنها خيط من زمنٍ مائل، يعود رغماً عنه.. ارتجف قلبه فجأة، كما لو أنّ تلك الطعنات القديمة ما زالت تملك حق الدخول دون استئذان، عاد إلى الورقة البيضاء أمامه، كانت ما تزال تنتظره، صامتةً كسابق عهدها، لكنه الآن بدأ يشعر أنها لا تشبه المرآة فقط... بل تشبه الكفن.. لم يكتب، لم يحرّك القلم، لكنه كان يكتب في داخله، كأن الماضي نفسه بدأ يُملي عليه، جملةً بعد جملة، لا بالحبر، بل بما تبقّى من صدق.

"هل تذكرين؟".. همس في نفسه دون وعي وبشيء من الرجفة، وفجأة، شعَر أن الورقة أمامه لم تعد بيضاء تماما، بل بدأت تتلوّن من الداخل، كما لو أن الكلمات التي لم تُكتب قد قررت أن تكتب نفسها.. "ليست الخيانة هي ما يؤلم"، فكّر، "بل أنّني صدّقت أنني لا زلت أستحق أن يُحَبّ مثلي".. وسكت، كأنه سمع نفسه لأول مرة.

في مساء بارد لم تكن الرياح سوى شهقة مؤجلة من قلب مثقوب، كأن الأرض تنفست بعد طول حبسٍ، ولفظت حكاية كانت مختبئة في جوف الليل، تنحت ملامحها فوق ضلوع من لا يُراد له أن يُروى، حيث رن هاتفه بمكالمة من رقم مجهول، تردد قليلاً قبل أن يجيب، وعندما فعل، سمع صوتاً يشبه ترنيمة ناعمة خرجت من صندوق موسيقي قديم، كان صوتها يحمل نبرة خاصة، مزيجاً من القوة والرقة، كنسمة هواء لطيفة تحمل عبقاً غريباً، في البدء كان الصمت.. لا أحد، لا شيء، سوى صوتٌ عبر هاتفه، جاء كنسمة من غيمٍ لم يمطر بعد، لم يكن يبحث، بل كان قد أقسم، بملح الجراح، أن لا يعود، أن لا يمنح قلبه لظل امرأة بعد اليوم، أن يُطفئ كل الشموع التي أحرقت يديه في ماضٍ ذاب فيه حتى العظم.. للحظة، شعر بشيء يتحرك في تلك الصخرة الصلبة التي صارت قلبه..

- "آسفة للإزعاج.. هل يمكنني التحدث معك."

- "لا بأس.. بالتأكيد.."

لم تكن الكلمات بحد ذاتها ما أربكه، بل الطريقة التي قيلت بها، تلك اللهجة التي تشبه الذاكرة حين تتنكر في صوت غريب، لا تعرفه... لكنك تشتاقه، كان يريد أن يسألها: "من أنتِ؟"، لكنّ لسانه خانه، أو لعلّ عقله تريّث، كأن شيئا في داخله خاف من الإجابة، من كسر الطقس الذي اعتاده... الطقس المملوء بالوحدة والصمت والورق الأبيض، فساد صمت غريب، كأن صوتها تسلل من زمنٍ آخر، من حياةٍ لم تكتمل أو حلمٍ تعثّر عند مشارف الصباح، لم يسألها من تكون، ولم تسأله إن كان يعرفها، بينهما، كان الزمن يُصلّي بصوت خافت لا يسمعه سوى أولئك الذين خسروا أكثر مما اعترفوا به.

- "أعرف أني أتحدث في ساعة غريبة..." قالت، وكأنها تمشي على حافة الاعتراف.

- "كل الساعات أصبحت غريبة منذ زمن..." ردّ بصوت متعب لم يُفلت من عتبة الحنين، ثم سعل بصمت، كمن يختبر حقيقة كونه ما يزال حيّا، ثم جلس، وضع الهاتف على طاولة قريبة، لكنه لم يغلق المكالمة، بقي يستمع، لا لأنه مهتم، بل لأنه خائف من أن يكون مهتمّا.

- "لم أطلب شيئا، فقط أردت أن أسألك شيئا ما.". همست بذلك، وكأنها تكتب رسالة في زجاجة وترميها في بحر لا تعرف ماؤه، ثم ضحكت بخفة، ضحكة لم تكن مستفزة، بل أشبه برائحة قهوة تُصادفها في شارعٍ لم تمرّ به من قبل، فتذكّرك بشيءٍ لا تملك اسمه.

أحسّ بشيءٍ يتحرك مجدداً في صدره، ليس حنينا، ولا حباً، ولا رغبةً حتى، بل ذلك الشعور الغريب الذي يُولد حين يُفاجئك صوت في العتمة، ويذكّرك أنك ما زلت حياً، وما زال أحدهم... يستمع.. تردد، كان عليه أن ينهي المكالمة، أن يعود إلى جدار صمته، أن يُغلق هذا الباب الذي بدأت نسائم الغيم تتسرّب منه، لكنه قال: "هل أخطأتِ الرقم؟".. قالها بنبرة تشكك أكثر مما تسأل.

ضحكت، ضحكة صغيرة، رقيقة، كأنها لم تُستخدم منذ سنين: "ربما... وربما لا. أحيانا نحتاج أن نُخطئ كي نصل إلى الطريق."

كان يعرف تلك النبرة، ليس الصوت بالضرورة، لكن المعنى، كأنها تكلّمه من زاوية نسيها في نفسه، زاوية لا تُضاء إلا حين يكون القلب نصف ميت ونصف نادم: "أنا لا أُجيد الحديث مع الغرباء.". قالها وكأنه يُنذرها لا يُخبرها، فقد كانت الخيانة قد حفرت اسمه تحت رمادها، حتى بات كل حنينٍ رجفة ألم، وكل أنثى احتمالاً للفقد، وكل صوتٍ أنثويّ، فخا أخيرا، تخلص من ذلك الحب كما يتخلص الجسد من شوكة دخلت عظمه؛ ببطء، بألم، بعرقٍ ودمعٍ وجرحٍ يشفى دون أن يُنسى، لكنه سمعها.. لا وجه، لا هيئة، لا تفاصيل.. فقط صوتٌ كأنما ولد في فجر غامض من دهشة ناعمة، مبحوح برفق، شفيف كوشوشة وردة في ليلٍ ساكن، لم يكن الصوت دعوة، بل كان شغفا خفيا، شمم الروح حين تستنشق أول نسمة بعد أن تغادرها الحياة، فكانت تلك اللحظة التي تغيرت فيها حياته، كمن وجد نبعاً في صحراء، تشبث بالمحادثة، وبدأت قصة جديدة من حيث لم يتوقع أبداً، مكالمة تلو الأخرى، صارت الأحاديث أكثر عمقاً، وأصبح الهاتف جسراً يربط بين عالمين، فبينما كان الليل يواصل تنفّسه خارج النافذة، جلس هو قبالة الهاتف، يسمع صوتها يتردد الأثير، لا يحمل طلبا، لا يحمل ماضيا واضحا، لكنه يحمل شيئا يشبه الباب... لا يُفتح، ولا يُغلق... فقط يُترك مواربا، كقلب لم يعد يريد أن يُحب..

– "أنا لا أطلب حديثا... لدي سؤال واحد فقط.".. قالت ذلك بشيء من الخجل.. وانتهت المكالمة.. بقي الهاتف في يده، لا يصدق ما حدث تماماً، كأنّ الحياة لمست باب وحدته بخفة، ثم تراجعت.. لكنه هذه المرة لم يغلق الباب.

في الليلة التالية، جلس أمام النافذة، دون أن يشعل الضوء، ترك الغرفة كما هي، نصف ظلامٍ، نصف انتظار.. لم يكن يترقّب شيئاً محدداً، لكنه أحس أن الصمت هذه المرة ليس كالسابق.. كأن الهاتف نفسه صار ثقيلا، يزِن في حضوره أكثر من المعتاد، مرّت الساعات، ولم تتكرر المكالمة.. "كما توقعت"، قال في داخله، محاولاً أن يُقنع نفسه بأن الأمر انتهى، أنه كان محض صدفة لا أكثر… لكن قلبه لم يصدق، فمنذ فترة طويلة، لم يحدّث امرأة، لم يفتح باب الحديث إلا على سبيل المجاملة أو التملّص، لم يعد يرى في الأصوات إلا احتمالات للخذلان، للرجوع إلى الهاوية التي بالكاد نجا منها.. لكن هذا الصوت كان مختلفاً، لا لأنّه أنثوي، بل لأنه لم يطلب شيئاً، لم يحاول الدخول، فقط مرّ، كما يمرّ طيف حلمٍ جميل في نومٍ مضطرب.

في اليوم الثالث، وبينما كان يرتشف الشاي على مهل، رنّ الهاتف مجددا.. الرقم ذاته، لم يتحرّك على الفور حيث توقف قلبه للحظة، ثم رفع الهاتف أخيرا وأجاب دون كلمة، الصمت كان هناك أولاً، مثل المرة السابقة، لكنه هذه المرة كان يعرف أن في الطرف الآخر روحا تتنفس.. لم تكن المكالمة عادية، لم تكن صوتا فقط، بل حضورا رماديّا يتسلل في المسافة بين الوحدة والنسيان، لم يكن الحديث هو ما شدّه، بل تلك الطريقة التي يسري فيها الصمت بين الكلمات، كما لو أن الآخر لا يريد شيئا سوى أن يوجد.. فقط أن يوجد، بصوتٍ لا يطلب، لا يشرح، لا يقتحم.. في داخله، تحرك شيء، لم يكن دفئا، ولا حنينا، بل تلك الرعشة الخفيفة التي تسبق المطر، أو الذكرى، أو الحنين الذي لا يريد الاعتراف باسمه، لم يفهم تماما، لكنه لم يرفضه، تركه يمر، كما يمر الهواء في غرفة أُغلقت طويلا، فقد اعتاد أن تكون وحدته محكمة، كقلعة مهجورة لا تزورها سوى الأشباح، لكن الآن، ثمة طيف غريب يمشي على أطراف الحروف، يشارك الصمت، لا يفرض نفسه، ولا ينسحب، كأنه ظلّ بعيد، لا يريد الاقتراب، لكنه لا يستطيع الرحيل.. وعلى غير عادته، لم يغلق الهاتف فور انتهاء المكالمة، بقي يحدّق فيه، كمن يلمس أثرا لا يُرى، وفي صدره، كانت الصخرة القديمة تبدي تشقّقا صغيرا، لا يُلاحظ.. إلا لمن عاش فيها طويلا.

مرت ليالٍ عدة، صار صوتها خلالها طقسا يوميّا، كأن روحه اعتادت الانتظار دون أن تعترف، وكأن الزمن، المتوقف في غرفته منذ سنين، بدأ يتحرك على وقع كلماتها البسيطة... لا تسأل كثيرا، لا تبوح بما يفوق حاجتها، لكنها تترك في حديثها فراغات ذكية، كأنها تدعوه لاكتشافها دون أن تعطيه خريطة.

- "أخشى الاقتراب كثيراً." اعترفت له بعد أيام قليلة من المحادثات الطويلة، "فالقرب يكشف العيوب، والكشف يجلب الخذلان."

- "وأنا أخشى أن أمنح ثقتي مرة أخرى،" أجاب بصدق، "لكنني أجد نفسي أتجاوز هذا الخوف معك".

في لحظة لم يستطع تفسيرها، استنشق عبير أملٍ دفين، شمم روحه تنبعث من جديد، كانت لحظة انفجار داخلي، حين استشعر أن روحه تأخذ نفساً عميقاً بعد خنق طويل، لم يكن هذا الاستنشاق مجرّد شعور عابر، بل كانت ثورة صامتة في داخله، تخرج روحه من ظلال السكون لتعلن انتصارها على كل ما كبلها، شمم الروح لم يكن مجرد شعور، بل تحول إلى قوة تمنحه القدرة على الوقوف مجدداً في وجه الألم، لينسجا معاً حلماً، رسما تفاصيله بكلمات متبادلة في منتصف الليل، وخططا لمستقبل كأنه قصيدة من خيال، كان يحكي لها عن نفسه وكأنه يكتشفها للمرة الأولى، ويستمع إليها كما يستمع الظمآن لصوت الماء، فتسللا إلى الحلم كطفلين يكتشفان مدينة مهجورة، بنيا عالما لا تُطال خرائطه، تحدّثا كما لو أنهما أرواح تلاقت قبل أن تُخلق الأجساد، استحضرا ماضيهما كمن يُحرق آخر رسائل الأسى على ضوء شمعة، حكى لها كيف خانته تلك المرأة ذات الذاكرة الحادة، وكيف أمسك خيط العشق فقط ليخنقه لاحقا بيده، وأقسمت هي، ببراءة ترتعش، أن لا شيء سيعكر صوتيهما، لا غيرة، لا ظنون، لا أشباح..

في ليلة موشومة بالثقة، فتح لها صندوق ذكرياته المؤلمة، وأفرغ فيه الخيانة التي غيّرت مسار قلبه، لا حياته فقط، حكى كل التفاصيل، كيف وثق بلا حدود، وكيف سقط من علوِّ ثقته تلك ليرتطم بأرض الواقع القاسي:

- "لقد تخلصت منها تماماً،" أكد لها، "ولم يعد لها أي وجود في حياتي."

- "أفهم، ولن أتأثر بهذا." أجابت بثقة، "الماضي ماضٍ."

لكن ما لم يدركه أن قصته أشعلت شيئاً في داخلها كان يبحث عن ذريعة، وأيقظت في داخلها جرحاً لم يُسمّه أحد، أو لعله شكٌ خفيّ، فخلال الأسابيع التالية، بدأت الأسئلة تزداد، وصارت التلميحات أكثر وضوحاً:

- "هل ما زلت تفكر فيها أحياناً؟" سألته ذات مرة بنبرة تحاول إخفاء ما وراءها.

- "لا، كيف أفكر فيها وأنت ملء روحي وخيالي؟"

لكن الغيرة من شبح امرأة لم تعرفها قط بدأت تستولي عليها، مرة بعد أخرى، كانت تعود للحديث عن تلك المرأة، حتى صارت وكأنها حاضرة معهما في كل مكالمة، تسللت كلماتها للومه، وأحياناً تجرحه:

- "يبدو أنك لم تتخلص منها كما تدعي، ربما ما زلت تقارن."

- "كيف يمكنني أن أثق بأنك لن تعود إليها؟"

حاول أن يشرح، أن يبرهن، أن يؤكد، لكن الشك كان يزداد مع كل محاولة للإثبات، تحمل الكثير، واستمر يغذي الحلم المشترك رغم التصدعات التي بدأت تظهر فيه، كالغيرة، تلك الندبة الأنثوية التي لا تعترف بالمنطق، وتُراكم الألم على صمتٍ قديم، حيث بدأت تزحف، ببطء، كأنها لعنة لا صوت لها، أسئلتها لم تعد حنونة، كانت تنقب في رمادٍ برد منذ زمن، وتصرخ: “ألم تُطفئه بعد؟”

- "كيف يُطفئ ما لم يعد له لهب؟ كيف يُبرر للريح أنه لم يعد يملك جناحين؟"

تحملها.. كمن يتحمل موجا يُقبّل صخره ثم يعود، تحملها وهو يظن أن الحب يُغفر، أن الخوف الأنثوي يمكن أن يُحتوى، أن الألم قد يُعاد تشكيله أغنية، حتى حلت تلك الليلة العاصفة، حيث انفجر كل شيء، اتهمته بصراحة: "أنت ما زلت على اتصال بها، أليس كذلك؟"

حين سمع منها التهمة الأخيرة، تلك الطعنة التي لا يسبقها إنذار، عرف أن شيئا ما انكسر، ليس في قلبه، بل في ذلك العالم الورقيّ الذي بنياه معا:

- "هذا محض خيال." أجاب بإرهاق، "لقد انتهى كل شيء منذ زمن بعيد."

- "أرى في كلماتك ظلها، وأسمع في صوتك نبرة مختلفة عندما تنفي."

استمر الجدال حتى ساعات طويلة، وعندما وضع الهاتف أخيراً، أدرك أنه كان يعيش وهماً جديداً، ببطء، بدأت الحقيقة تتكشف أمامه، حلقة تلو الأخرى، حيث لم تكن تغار، لم تكن تتألم من امرأة لم تعد تسكنه… كانت تهدم، فقط، تهدم لسبب لم يبلغه، لم يعرفه، وربما لن يعرفه أبدا.. كانت تبحث عن مخرج، عن سبب للانسحاب، وكانت قصة الماضي فرصتها المثالية.. في صباح اليوم التالي، أرسلت رسالة قصيرة: "أظن أنك تحتاج للوقت لتنسى الماضي تماماً."

رحلت، أو تلاشت، أو انحلّت في الفراغ كأنها نوتة أخيرة في سمفونية لا جمهور لها، ولم يبكِ، بل وقف على حافة ذاته، ينظر إلى اللاشيء، ويهمس لصوته الداخلي: "كم مرة يجب أن أُولد من رمادي؟ وكم شمما للروح يحتمل القلب قبل أن يصبح حجراً؟"

أدرك حينها أن الشبح الحقيقي لم يكن في ماضيه بل في الصورة التي رسمتها هي لذلك الماضي، صورة استخدمتها كسلاح وكذريعة، ليقف الآن أمام النافذة، يراقب المطر يغسل الشوارع، في يده ورقة صغيرة عليها كلمات كان قد كتبها لها ولم يرسلها أبداً، يبتسم بسخرية هادئة من سذاجته، ثم يمزق الورقة إلى قطع صغيرة ويتركها تتطاير مع الريح، فهذه المرة، لم يقسم على شيء، فقط أغلق النافذة بهدوء، وترك للصمت أن يملأ المكان، ربما لم يكن الدرس الحقيقي في اجتناب الحب، بل في توقيت الانسحاب، أن تعرف متى تُطفئ الشمعة، ومتى تعترف أن النسمة كانت وهما.. في معرفة متى تكون رائحة الروح حقيقية، ومتى تكون مجرد سراب، ففي المكان الذي انتهت فيه الحكاية، لم يبقَ شيء سوى صدى صوتٍ يشبه نسمة، عبر هاتفٍ لم يعد يرن.

***

جليل إبراهيم المندلاوي

استيقظ الفنان فائق حسن في صباح باكر، ثمة أشعة شمس خجولة تتسلل إلى مرسمه المطلّ على حديقة فسيحة تحيط بها أشجار النارنج، كان صباحاً بارداً، مدّ يده كعادته نحو فرشاة الرسم، لكن شيئاً غريباً حدث، تجمّدت أصابعه، لا بل ارتجفت أولاً، ثم انثنت للوراء كأنها تأبى الطاعة. حاول أن يرسم لكن أصابعه تتوقف عند الحافة، كأنها تقول: كفى، لقد رسمت ما يكفي من الأحلام لدهر بأكمله، أما آن لك أن ترتاح؟

فائق بدهشة:

ـ ما بكنّ؟ هيا، أمامنا لوحة تنتظر الحياة.

ـ كفاك يا فائق .. منذ الساعة نعلن احتجاجنا، نتوقف عن الرسم، جفّ الجلد، وتخشبت الأصابع لفرط ما نالها من تعب وجفاف وأمراض جلدية بسبب المواد الكيمياوية التي تدخل في صناعة الألوان، لم تعد الفرشاة أداتك الوحيدة في الرسم، أرفق بنا قليلاً، دعنا نستريح!

ـ نعم ! أعرف ذلك، لكنني أذهب إلى يدي حين أشعر بتهديد يهاجم الفكرة، أخشى عليها من الضياع، فألجأ إلى اليد التي تنطق الألوان صمتاً وبسرعة، لأسكب الروح على (الكانفاس). امهليني أيتها اليد ريثما أنجز أعمالي قبل أن أشيخ..

هاهو رغم الألم يشرع في تحضير اللوحة.. قد لا تكتمل، لكنها ستظل تشهد على يدٍ أرهقها الجمال. كانت يده معجزة صغيرة، تبدع حين يشيح العالم وجهه عن الجمال، أصبحت ثقيلة، متعبة، كأنها تشيخ قبله، ليس الألم فقط ما يربكها بل تعب السنوات المتراكم في طي المعجزات على القماش، يشدّها الشغف، لكن الجسد يأبى، واليد ترتجف. تهمس له في صمت:

ـ أرهقتني يا فائق! ما زلت تعيش في الحاضر بكل أمجادك ومسراتك، حاضرك المفعم بصهيل الخيول والتداعيات، تضخّ مشاعرك في اللون بقوة مثل عازف سمفونية بالفرشاة، تتنقل أصابعك على أوتار خفية، تجلس أمام لوحتك غارقاً في لحظة صمت، الغليون " البايب" هوجزء من طقوسك الإبداعية، ومن كيانك، لا تتخلى عنه للحظة، لكنه يخنق أنفاسنا. لم يكن مجرد عادة، بل أصبح رمزاً لشخصيتك، كان رفيقك الدائم.

يرتجف قلب فائق، بصمت يحاوره:

ـ هل انتهى كل شيء؟ أم أن الفن مثل الحياة، يولد من العجز أحياناً؟ ينظر إلى يده بحزن العاشق الذي خانته محبوبته:

ـ حتى لو خذلتني يدي، فلن تخذلني روحي، سأرسم بك يا ذاكرة الضوء، يا ظل الفرشاة. الفن.. لا تصنعه اليد وحدها، الفن رؤى وأفكار وخيال وموهبة. وبطبعه لا يستأّذن، بل يسكن الجسد رغماً عنه. الفن في الفكرة التي تضيء قبل أن تولد، في الخيال الذي لا يموت، في بقعة ضوء على جدار مهجور، فليتوقف الجسد، وليصمت الألم، لكن اللوحة باقية.

يقف أمام لوحته، يحدّق في بياضها الفارغ، لا يعرف إن كان هو أنهك يده، أم أن اليد أنهكت روحه؟ لقد تخلّت اليد عن سطوتها على الفرشاة، كأنها تخاطب الرسام:

ـ لقد منحتك كل ما أملك.. والباقي عليك!

مات فائق حسن، توقف قلبه عن الخفق، لكن قلبه ظلّ نابضاً فوق القماش، لوحته الأخيرة لم تكتمل، لكنها تنبض بظله، بصمته، أبت فرشاته أن تجفّ، ما زالت طرية، لم تغلق باب الحلم، كأنها تبكي في صمت نبيل، تتلمس الهواء، تبحث عن كتفه، عن دخان غليونه، ودفء أنفاسه.

أما اللوحة، فوقفت وحيدة في الضوء، تقول للعابرين: هنا مرّ.. هنا رسم عمراً من المعنى. لم يمت فائق، بل عبر إلى الضفة الأخرى من الخلق، حيث يرسم من دون ألم، ويخلد من دون نهاية.

***

د. جمال عتابي

 

في مساءٍ تتسكّع فيه الأرواح على أرصفة الخديعة،

رأيتُ جديلةً تمشي وحدها،

عارية الرأس إلا من ظلِّ أنوثةٍ شرسة،

جديلةٌ فاحمةُ الحزن،

مجدولةٌ بأصابع الحاجة،

مبلولةٌ بعرق الأمهات حين يُخيَّط الفقرُ في أثواب البنات.

*

يا للجدائل...

كم تشبه السلاسل حين تُترَكُ على أبواب المصانع،

كم تُشبه السنابل حين تُدهسها أقدام الموضة،

كم هي هشّة،

صلبة،

متمرّدة،

هادئة كدمعة،

شرسة كجملةٍ أخيرة !

*

في الجانب الآخر من المدينة،

على مقاعد الزيف المخمليّة،

تتمايل باروكاتٌ مستوردة،

صناديق من الوهم الممشّط،

شَعْرٌ لا يعرف طَعمَ المطر،

ولا نُدبةَ مشطٍ قديم،

ولا حكايات الجدّات بين الخصل.

*

باروكاتٌ تشتهي أن تَنسى الأصل،

أن تتجاهل أن الجَمالَ لا يُشترى،

وأن اللمعان لا يُغني عن الحقيقة،

فما أغرب هذا الزمن الذي يُزيّن الغنى بدموع الفقراء!

*

أيتها الغنيّةُ بتاجٍ ليس لكِ،

هل تعلمين أنّ الفقيرة حين تُقصُّ ضفيرتها،

تُقصُّ معها حياةٌ كاملة؟

هل تعلمين أنّ ثمنَ باروكتكِ

هو شهقةُ طفلةٍ رأت أمّها تبيع أنوثتها قطعةً قطعة؟

أنّكِ حين تَسحرين الجميعَ بتلك الخصلات،

تسرقين قمرًا من سماءٍ مكسورة؟

*

ألا يكفي هذا العالم سطواً على الأحلام؟

أما آن له أن يكتفي من فُجورِه في التسلّق؟

لقد نَهَبَ القمحَ،

والحبرَ،

والحنجرة،

والآن... ينهبُ الضفائر؟

*

أيتها الجدائل...

يا خرائطَ الصبر،

يا أنينَ القصائد المدفونة في صمتِ الصالونات،

عودي،

عودي عاصفةً،

عودي نارًا تحرق كلَّ ما يُلبَسُ على الكذب،

أعيدي للسماءِ مطرَها،

للشعرِ سِرَّه،

وللفقرِ شرفَ البقاءِ جميلًا… دون إذنِ الأغنياء.

***

مجيدة محمدي

 

كنتَ تنمو على أهدابي

كالسَّنابلِ،

طوالَ النَّهارِ،

لكي أَحصُدَكَ ليلًا

بِالدُّمُوعِ،

ويَفيضُ من فَضائي

فَراغُكَ الواسِعُ،

ويَنبثِقُ الألَمُ

من هٰذهِ النُّجومِ،

وأَموتُ

حيالَ رَغبَتي

أن أراكَ… أو أَبتَعِدْ،

كأني أُراوِغُ خُطايَ إليكَ،

فلا الأرضُ تَحمِلُني

ولا السَّماءُ تُجِيرُني،

كأنَّكَ مَدى،

وأنا الوقتُ يَنفَلتُ منّي،

كأنَّكَ نَجمٌ

وأنا رُوحٌ تُطفِئُها الظُّلُماتُ،

تَعودُ إليَّ كلَّ مساءٍ

ولا تَجيء،

تُحدِّقُ في قلبي

ثم تَمضي…

وأنا،

أجمعُ ما تناثرَ من ظِلِّك

كأنَّهُ نَفَسٌ أَخِير،

أَجلِسُ في زواياكَ الغائبة،

أُحادثُ ضوءَكَ البعيد،

أُعِدُّ رسائلي القديمة،

وأَفتحُ النوافذَ على صوتِك،

وأُغلِقُها

كأنّي أُغلِقُ على قلبيَ الرِّيح،

أُفتِّشُ في الأيّامِ

عن شُرفةٍ لم تَخطُها الذكرى،

عن ممرٍّ

لم تَحفظْهُ خُطاكَ،

فلا أَجِدني…

ولا أَجِدُكَ.

***

هند حاتم الطائي - العراق

 

فإنهم يطرقون الأرض بأقدامهم، لا بأصواتهم.

"مرثية لرئيسٍ لم يشترِ المجد: خوسيه، أفقر من حكم وأصدق من مضى"

***

لأن الحناجر، في زمن القمع، تُستخدم للنجاة لا للرثاء.

ولأن بعض الموتى لا يُرثون بالعبارات، بل يُعاد ترتيب وجدان العالم على غيابهم.

*

مات خوسيه موخيكا…

ولم تمت معه السلطة،

بل تهاوى أحد احتمالاتها النبيلة.

ذاك الاحتمال الذي كان يمشي على قدمين حافيتين،

ويقرأ في الريح حال الشعوب، لا في تقارير المخابرات.

*

يا ابن الزنزانة الطويلة،

والصمت الذي صار لغةً للحكم…

كيف ترحل الآن؟

والعالم لا يزال يُدير الخراب وكأنه برنامج انتخابي،

ويُعيد تدوير السفاحين على هيئة أقنعة لما تبقى من الدولة.

*

غيابك ليس نهاية رجل،

بل هو ارتباك أخلاقي على مستوى العالم،

وثُلمة جديدة في شرف الفكرة.

وسؤالٌ معلّق في الهواء:

هل يُمكن للفكرة أن تنجو بعد صاحبها؟

وهل للكرامة أن تستمر، إن لم يسندها الجسد؟

*

أعذرنا…

فقد جاءك نعيك من أقصى الخراب،

من بلادٍ تُحكم بالدبابة وتُغنّي للرصاصة،

بلادٍ تتكدّس فيها الأناشيد فوق ركام المعتقلات،

وتُباع فيها الوزارات في السوق الموازي،

ويُعامل فيها الحاكم الناس كما تُعامل الثكنة أجسادهم المُنهكة.

*

بلدٌ يبحث عن ظلّ شجرة ولا يجده،

عن رئيسٍ فقيرٍ ولا يجده،

عن موتٍ نظيف… فلا يجده.

*

نعيك رجلٌ من بلدٍ لا يُحكم… بل يُداس.

لا لأنك تشبهه،

بل لأنك نقيض كل ما يعيشه.

ولأن موتك — الآن تحديدًا —

فضيحة أخلاقية في وجه الذين يحكمونه بالقيد والخطاب.

*

سلامٌ عليك،

وأنت تغادر دون حراسة،

وتترك السلطة حيث وجدتها:

مجرد فرصة للعدل،

لا ميراثًا للذين يخلطون المجد بالقمح الفاسد.

*

سلامٌ عليك،

كما يُلقى السلام على وجه نبيٍّ تعب من المعجزات،

وغادر الحكاية قبل أن تُفسدها السياسة.

***

إبراهيم برسي

تَسابقتِ الضِباعُ إلى القتالِ

وأسْدُ الغابِ سَيِّدةُ النِزالِ

*

ضَحاياها ظباءٌ في كِناسٍ

تُصارعُ بَعْضَها دونَ اعْتِقالِ

*

تَعادى كلُّ مَوجودٍ بعُشٍ

تُشيّدهُ المَطامِعُ باكْتفالِ

*

عَوى ذئبٌ تطاردهُ كِلابٌ

فبَرْقَشَتِ الحَواضرَ بالزوالِ

*

تَطايرَ شرُّها والخَيرُ يَنأى

وأجْوبَةٌ بها نَعْيُ السؤالِ

*

أخوَّتُها بلا فِعلٍ وقَولٍ

فعادَتْ نحوَ موقدةِ السِجالِ

*

كبَغلٍ قالَ أمّي ذات أصْلٍ

وصِدقُ القولِ في مُدنِ البِغالِ

*

عَلائمُ قَهْرِها دَوْراً تَناسَتْ

فبَعْثرتِ الجَواهرَ بالجِدالِ

*

فما غنِمَتْ ولا رَجَحتْ برأيٍّ

تُقزِّمُها مَعاييرُ احْتلالِ

*

إذا جاعَتْ خلائقُها أُهينَتْ

وحاقَ حياتَها داءُ  اتّْكالِ

*

أسودُ اليومِ تَحكُمها النَوايا

فتحْرِقُ أمّةً رُغمَ ابْتسالِ

*

قويٌّ في مَواطنها تَهاوى

لضُعْفٍ عَن مُكافَحةِ الهُزالِ

*

سَمِعتُ صُراخَها في قلبِ طفلٍ

تُداعِبهُ المَنايا بالخَيالِ

*

عَجائبُ قدرةٍ في فعلِ شَرٍ

تُسيِّرهُ العواذلُ بالنِبالِ

*

تَكاثرتِ الظباءُ وما تَلاشتْ

وكلُّ فَريسةٍ  رَهنٌ لوالي

*

أ تَرْضى أمّةٌ قنَتاً كَسيْحاً

يُدَحْرجُها لآبارِ الهَوالِ

*

تَفرّقَ جَمْعُها وغَدتْ فتاتاً

وما اعْتَصَمَتْ بواعيةِ المآلِ

*

تَسارعَ ركبُهمْ وبها رُكودٌ

يُؤخِّرُها بقافلةِ الحِصالِ

*

عُقولٌ غادَرتْ وَطنَ ابْتداءٍ

فَسامَ وجودَها فِعلُ ابْتقالِ

*

فَهلْ شَبِعَتْ سِباعُ البينِ مِنها

وهلْ لأسودِها وَقفُ المُحالِ

*

هوَ النفطُ الذي فيهِ احْترَقنا

فلا تَعْتبْ على أجَجِ اشْتعالِ

*

تَوَهَّمْنا بتأريخٍ بَعيدٍ

فتَحْسَبُنا كأنّا في هَبالِ

*

وأنيابُ الوحوشِ تَنالُ قَضماً

وتَنثرنا على سُفحِ انْخِذالِ

*

فخاضِعْ أُسْدَها وارْهَنْ مَصيراً

وعِشْ زمَناً بأيّامٍ عِسالِ

*

وكنْ فيها رَسولاً للتآخي

ومَرْتعةً لمُحْضِرةِ الخَوالي

*

فإنْ لَمْ تنْطلقْ ذئباً ذؤوباً

تدوسُ عَليْكَ سائِمةُ الغَوالِ

*

سَباتٌ في مَرابعها مُقيمٌ

ونكبةُ شَعْبها فوقَ الرمالِ

*

تَهجَّرَ أهْلها والأرضُ شاعَتْ

لأقوامٍ بمَشروعِ انْفِصالِ

*

طيورُ المَوتِ صادِحةً كنسرٍ

تَجوبُ فضاءَها بذرى الأعالي

*

فلا ردْعٌ ولا أمَلٌ بصَيدٍ

لغاراتٍ على نَسقِ التوالي

*

تَبلدَ عاشقٌ مِنْ حُبِّ ليلى

فولّى هارباً صَوبَ الجِبالِ

*

قبائحُها تواصَتْ بانْتشارٍ

فغابَ الشوقُ مِنْ قُبحِ الفِعالِ

*

نَواكبُها بها الأضْغانُ بانَتْ

تُكبّلها بأصْفادٍ ثِقالِ

*

ضِباعٌ في مَكامِنها تآوتْ

فكانَ الصيدُ مِنْ حُصَصِ العِجالِ

*

أسودٌ في توحّشِها أبادَتْ

خَلائقَ غابِها بِشَرى اخْتبالِ

*

وفي زمنٍ بهِ الأزمانُ حارَتْ

تَنافَستِ البَرايا لارْتحالِ

*

فلا وطنٌ يُبادلُها أماناً

ولا أسَدٌ بحالتها يُبالي

*

شرائعُ غابةٍ تَحيا بأرْضٍ

ضَحاياها طوابيرُ اغْتفالِ

*

بها بَشرٌ توالى دونَ أنسِ

يُترجمها بخائبةِ احْتمالِ

*

فواجِعُها على أمَمٍ أصالتْ

فأفْنتْ حالها بقِوى ارْتِجالِ

*

تخابَتْ دارُها حينَ ابْتلاءٍ

وأرْغَمَتِ الغيارى لانْغلالِ

*

كلابٌ أوْهَنتْ أُسُداً تلاحَتْ

عَرائِنها كمَيْدانِ احْتفالِ

*

فسَلْ زمناً وتأريخاً أثيلاً

سَوامقهُ تراءَتْ كالتِلالِ

*

تَزاحَمَتِ الضِباعُ على ثريدٍ

وأسْدُ الغابِ في ضَرمِ انْفعالِ

*

تَلاحمَ جهدُها فغَزتْ أسوداً

فأمْسَكتِ الطرائدَ باحْتيالِ

*

تفرّق جَمعُها والأمُّ ثكلى

تقددَ قلبُها بمُدى اغْتيالِ

*

إذا نطقَ الحَكيمُ بها كلاماً

رمَتهُ كلُّ ناعقةٍ بقالِ

*

وأبيضُ ثورِها يُهْدى لوَحشٍ

وأكلُ جميعِها قيدُ التوالي

*

بَراهينٌ لمأسَدةٍ أقامتْ

على صَدرِ المَرابعِ كالطِلالِ

*

مَلامحُ نَكْسةٍ برَزتْ بعَصرٍ

يُعَنْتِرُ ناكراً مَعْنى النِضالِ

*

وأجْيالٌ يُجَهّلها انْكسارٌ

ويُطعِمُها مَراراتَ انْخذالِ

*

وتَمنحُها الليالي سُوءَ آتٍ

يُكدِّسُها كأمْواتٍ بخالي

*

تفانتْ في مَواضِعها البَرايا

لجُرْحِ الروحِ يا روحَ الرِسالِ

*

تُسائلها شواهدُ مُرتقاها

لماذا الفِعلُ مَنزوعُ الجَلالِ

*

ودَمْععْ من مآقي الكونِ يَجري

على عُصُرٍ مُكنّزةِ المِثالِ

*

وقالَ النورُ من ألمٍ وحُزنٍ

أ هذا الجيلُ مَبتورُ الخِصالِ

*

بدائعُ أمّةٍ في بئرِ سُوءٍ

تطمِّرُها أساطينُ الكَمالِ

*

مُحجبةٌ مصادرةٌ بقمْعٍ

وتَحْرسُها عَفاريتُ اسْتلالِ

*

فَعِشنا ضُدَّ ذاتٍ أو كأنّا

نُناهِضُها بداعيةِ انْسِدالِ

*

مَلأنا عَصرَنا قولاً مَريضاً

فأمْسَينا بمُزمِنةِ اعْتلالِ

*

أساليبٌ مِنَ الأغرابِ جاءَتْ

مُعززةٌ براعيةِ انْشغالِ

*

فعَنْ زمَنٍ توارى في زَمانٍ

تُحدّثنا النواكبُ باعْتِضالِ

*

ودَعها في روافدِها حَيارى

فنهرُ وجودِها رهنُ القَنالِ

*

ألا تَبّتْ يدا زمنٍ عَضوض

يُجابهُ خطوَها برؤى اخْتيالِ

*

تآكلَ جَمعُها والخَطبُ يَسعى

بأروقةِ التوَحدِ بارْتقالِ

*

سَتَرقى أمّةُ الوَجعِ المُشَنى

بداءِ وجودِها رغمَ اخْتمالِ

*

فضوءُ مَصيرِها يُسْقى بعَزمٍ

كما تُذكى المَشاعِلُ من ذُبالِ

*

فيا ليتَ الرسالَ بها مُنيرٌ

وعَزمُ مَسيْرِها نحوَ اقْتبالِ

*

فرأسُ وجودِها عَلمٌ ونارٌ

وما عَهدتْ بها حالَ الذِيالِ

*

وسَوفَ تسيرُ في وثَبٍ وجِدٍّ

إلى هَدفٍ بأرْوقةِ النَوالِ

*

يَخافُ اليأسُ منْ شررِ انْسجارٍ

فأجّْجْ نارَها برؤى الكمالِ

*

فهلْ أنوارُها سَطعتْ بآتٍ

يُعللنا برائعةِ المِثالِ

*

ففعِّلْ عَقلَ أمَّتنا لمَجْدٍ

ولا تَجْهلْ أفانينَ الصِقالِ

*

بها أممٌ على أفقٍ تَسامَتْ

وبعضُ جُموعِها رهنُ الخِشالِ

*

بُدورُ مَسيرةٍ بَزغتْ بليلٍ

وإنّ البدْرَ مِنْ نَسْلِ الهلالِ

***

د. صادق السامرائي

لمَ تأبَ

أن تُواري الشوقَ في قاعِ الليالي

صرتَ كالأعمى

بلا القِبلةِ إذْ صَلّيتَ حُبّا

يا شقيّاً

أنتَ اصبحتَ سراباً

هل تُرى تأتيكَ عطشى

مَنْ كبا قلبُكَ في ساحتها

كبوَةَ ساهٍ

لا يُبالي

**

ليتَ أنّي ما طلبتُ الشمسَ

في ليلِ العشيرة

ليتَ قلبي لم يكنْ أجهلَ قلبْ

لا يَرى الأعينَ في شُؤمِ الظهيرة

كيف لم يُدركْ بأني ذاهبٌ ..

صوبَ أحلامٍ

جرَعتُ السُمَّ منها

لم أمُتْ

لكن حمَلتُ النفسَ..

في تابوتِ ذنبْ

**

أيهذا القدَرُ الخائنُ ..

يا لِصقاً بعمري

ساقكَ النحسُ لأن تختارَني

لستُ إلّا حاملاً قلبي

على كفّ الهوى

لمّا الهوى في حُظوةٍ

قد عادني

لم أكن أطمعُ في الجنّةِ لكن

جئتَ كي تُخرجَني منها

أجُرماً أنني ..

قدّستُ حبي

**

ندمٌ

حتى العصافيرُ رَأَتْ

في شَدوِها

أني دفينٌ بين أوحالِ النَدم

غائرٌ في هُوّةِ الآسي

كسيرٌ

فتغنّتْ ألَماً حوليَ لمّا

صارَ سيمائي الألمْ

**

سوفَ أتلو من كتابي

ما تأتّى من سُوَرْ

كنتِ ديني

وأنا المُرسَلُ أدعو

أن تكوني كالبشَر

أنتِ أنزلتِ عليّ الوحيَ أشواقاً

فصارت تلكَ آياتُ العُمُرْ

**

هل عقابُ الحبّ أن تفقدَ قلبْ

وتواري بين خَصْرَيكَ الهوى

أيُّ شرعٍ غادرِ

فرّطَ بي

خُبثا

ولم أُسلِمْ لروحي ..

أيَّ عَيبْ

**

أيها الكأسُ أعنّي

خَدّر الذكرى

فقد صارت كنَصلٍ

أينما جالَ بآهاتي بَضعْ

ثمِلاً بِتُّ بآلامي

فزدني

يقضمُ الليلُ جِراحي

والثواني تتلوّى

تنفثُ اليأسَ فأُمسي

بين أنيابِ الوَجعْ

**

إمنحيني

بعضَ ما عندكِ من حِلمِ لأنّي

قد نحَرتُ الصبرَ..

كلَّ الصبرِ..

لمّا ضِعتُ في سعيي إليكِ

واغفري لي زلّةَ

أغرقتُ فيها القلبَ ..

والدنيا ..

بدمعٍ

حائرٍ

يسألنُي

عن أيِّنا أبكي

ولا أدري

فأمضي أحتَسي حُزني ..

عليكِ

**

د. عادل الحنظل

 

بناءٌ في قلب العدم

أيها الشاعرُ،

يا نحّات تماثيل الجمال،

تُعيدُ ترسيةَ قواعدِ القصيدة

كمن يُعيدُ بناءَ سجنٍ

ويزخرفُ جدرانَهُ

بألوانِ الاختناق.

تُعلِّقُ الأوزانَ كالثرياتِ

في سقفٍ من رماد.

تُعيدُ ترميمَ اللغة

لتصبحَ مقبرةً

تسكنها أشباحُ المعاني.

2

قفا نبكِ من قافيةٍ

تُسقطُ الجبالَ على رؤوسِ الغاوين.

قفا نستخرجُ من حطامِ اللغة

طلاسمَ ما بعد الوعي،

وننبشُ في قبورِ الوزنِ

عن جثثٍ ما زالت تحلمُ بالانعتاق.

أيها الشاعرُ،

هل ما زلتَ تُسمي القبرَ بيتاً؟

هل تُعيدُ بناءَ القصيدة

لتصلبها على أعمدةِ النسيان؟

3

يا دارُ ما فعلتِ بكِ القواعدُ؟

أضافتكِ إلى خرائطِ العدم،

وألغتكِ من ذاكرةِ الريح.

فيكِ يا دارُ

خطوطٌ مقطوعةٌ بينَ الشاعرِ والظل،

وأنقاضُ حروفٍ

تتوسدُ الفراغَ

كأنها تحلمُ بالقيامة.

يا دارُ،

يا قبراً في قلبِ البلاغة،

كم نعيدُ بناءكِ

في كلِّ قصيدةٍ

لتنهاري من جديد.

4

أيها البنّاءُ في اللغة،

يا مِعولَ التهديمِ في أساسِ البلاغة،

تَستأنفُ الحطامَ كأبجديةٍ جديدة.

أنظرْ،

أنقاضُ الشعرِ تتكاثرُ في حُفرِ الصمت،

تنتشرُ كالنملِ على ظهرِ الورق.

تُعيدُ السقفَ حيث الجُملةُ خرساء،

والنافذةُ تُطلُّ على بحرٍ من الأسئلة.

يا مهندسَ الهدم،

يا صانعَ خطوطِ الفراغ،

هل كُنتَ تعلمُ أن القافيةَ،

صندوقٌ مغلقٌ على جثةِ الروح؟

5

يا منزلَ الشعرِ،

يا كهفَ البلاغةِ المتداعي،

كم مرةً أعدتَ بناءَ نفسك

لتصبحَ أطلالاً

تؤوي الريحَ

ولا شيء غير الريح؟

كم مرةً زرعتَ القوافي

لتنبتَ شواهدَ قبورٍ

تحملُ أسماءَ الشهداءِ

من كلماتٍ لم تُكتب؟

أيها المنزلُ،

يا شقيقَ الركام،

هل تحلمُ بالسماء

وأنتَ جدارٌ يتآكلُ بالنسيان؟

6

قُم يا شاعرُ من بين الأنقاض،

احملْ معك القصيدةَ

كهيكلٍ عظمي،

ضعها في متحفِ الخراب.

دعها تتنفسُ رمادَ الأرض

وتشربُ من ينابيعِ الحطام.

قُم يا شاعرُ،

وانزع عن قصيدتكَ

أثقالَ القواعد،

دعها تُحلّقُ كصدى

في فضاءِ العدم.

7

يا أيها البنّاءون في الشعر،

يا من تنحتونَ القوافي

كأنها شواهدُ القبور.

توقفوا.

دعوا الكلماتَ تتناثرُ

كالحصى على طرقاتِ الفراغ.

لا تُعيدوا بناءَ القصيدة،

لا تضعوا سقفاً لاحتمالات الحياة،

لا تُغلقوا الأبوابَ

على الريح.

دعوا الفكرةَ تسكنُ في العراءِ،

فلا قافيةَ تُقيّدُها،

ولا وزنَ يُسجنُها

في قفصِ البلاغة.

8

أيّها الشاعر

لاتبنِ بيتًا للمعاني

اتركها تُسافر

تعبرُ كثبانَ الأفكار،

القواعدُ ليست سقفًا للسماءِ

والفراغُ وطنُ الحريةِ.

***

ريما الكلزلي

 

في هذا الحي ومنذ أن وعيت، وجاري الذي يسكن في الجانب المقابل لمنزلنا، لغزا حير الجميع. لا أحد يعرف اسمه، ولا أحد رآه يتحدث لأحد، كان طويل القامة نحيلًا، كظل شجرة سقطت أوراقها، يسير بخطى واثقة حين يمر وَسَط الحي، لا يبتسم لأحد ولا يرُى إلا نادرًا.

منزله الصغير له حديقة تحيط بها أشجار للحمضيات، يانعة متدلية ثمارها، تعبق بعطر ليمونها. في فصل الصيف كانت تلك الأشجار تثير فتنة الصغار، ويسال لها لعابهم، يتقافزون فوق الجدران الصغيرة، لا حبا بالليمون فقط، بل حبا في التحدي أيضا. لكن مغامرتهم تلك لم تكن تنتهي على خير، فكلما مد أحدهم يده، دوى صوت نباح مخيف، يزلزل الأرض من تحته، كان الصوت لكلب أسود ضخم، يخرج من بين الأشجار مثل وحش خرافي، عينيه الغارقتين لا ترى وَسَط فرائه الأسود.

على إثر صوته يفر الصغار مذعورين، فتسقط نعِالهم وسط الحديقة.

يبكي أحدهم قائلًا: من يجلب لي فردة نعلي، يلقي الآخر بفردة نعله هو أيضا ويولي هاربًا، تضامنا معه، ومخففًا عنه الخوف من الكلب ومن عقاب والدته.

كنت أراقب كل ما يحدث، من شباك غرفتي الذي يطل على منزله، كم كنت أتمنى في حينها لو كنت صبيا، لتسلقت الجدار مثلهم، حتى وإن فقدت فردة نعلي، لم أكف عن التفكير بجارنا وكلبه المخيف، الذي صار لغزا يؤرق نومي ويشغل تفكيري

سألت والدتي من يقيم داخل منزل جارنا، ولماذا ليس لديه زوجة وأولاد ؟!، ردت بكلمة واحدة: رجل غامض!

- كيف حدثيني

- في يوم من الأيام، ألقى والدك عليه التحية، لم يرد، مرت الأيام والحي تغير إلا هو، ظل بابه مغلقَا وكلبه ينبح، ثم صمتت.

- لا شأن لنا به، كفي عن الأسئلة واهتمي بدروسك فحسب.

-لن أسائل ثانية، صعدت إلى الطابق العلوي، دخلت غرفتي وجلست على سريري، حاولت أن أقرأ لكن بلا جدوى، أنا فقط أتابع الكلمات بعيني، وضعت الكتاب جانبا.

قبل المغيب، نظرت إلى خارج النافذة، كما أفعل كل يوم، أرى حديقة جارنا، الأشجار، والغيوم في السماء تتلبد، الأغصان بدأت تتمايل، وثمة طيور تقف عليها، تحُرك رأسها كيفما يميل الغصن، وصوت ريح تزأر في الأطراف، يرجع لها صدى مخيف، على ما يبدو أنها بدأت تشتد، الأبواب والشبابيك تصطفق، أغلقت النافذة، وعدت إلى سريري، لا أستطيع القراءة ولا حتى سماع الموسيقى، آنا فقط أتابع الكلمات بعيني، وضعت الكتاب جانبا، كانت الليلة الأكثر غموضا وأثارة، كنت فقط أنتظر الفجـر.

في الصباح الباكر، السحب التي تغطي السماء ما زالت على حالها، لا رياح تذكر، المكان كله يبدو ساكنا، كصورة لمقدمة فيلم، سكونا لم يشهده الحي من قبل.

لاحظت شيئا غريبًا، الكلب لم يكن هناك، لا نباح يسمع له، والباب الحديدي لجارنا كان مواربًا، الجميع نيام، والحي بدا مهجورًا، دفعني الفضول، وكانت الفرصة المناسبة، لأجد بها الإجابة على سؤالي، وحل اللغز الذي طالمَا شغل تفكيري، وتفكير الجميع.. تقدمت مترددة بخطوات بطيئة، اقتربت بحذر شديد، وكأني أسير نحو حلبة نزال، في مواجهة وحش كاسر، أمام أنظار وصفير عشرات الحاضرين فوق المدرجات، مترقبين بلهفة ما سيحدث، همست بصوت بالكاد يسمع.

صباح الخـير: لا رد..

اقتربت أكثر نظرت من فتحة الباب، في الفناء الخلفي، كانت تتدلى أرجوحة خشبية قديمـة من شجرة معمرة، تتمايل بخفه كما لو أن أحدا كان جالسا عليها للتو، أو كما لو أن ريح تحمـل ضحكات لطفل لم تعد تسمع !! فجأة تعالى صوت نباح الكلب، كان جديرا بأن يجعل الشعر تحت جلدي يقشعر، تملكني الرعب، هرعت الى منزلي مذعورة .. بفردة نعل واحدة.

***

نضال البدري

 

" ثم ان الصياد نصب شبكته ونثر عليها الحَب وكمُنَ قريبا منها. فلم يلبث الا قليلا حتى مرت به حمامة يقال لها الحمامة المطوقة وكانت سيدة الحمام، ومعها حمام كثير فعميتْ هي وأصحابها عن الشرك. فوقعن على الحب يلتقطنه فعلقن في الشبكة كلهن. وأقبل الصياد فرحا مسرورا فجعلت كل حمامة تضطرب في حبائلها وتلتمس الخلاص لنفسها.. قالت المطوقة: لا تخاذلن في المعالجة، ولا تكنْ نفس احداكن اهمّ اليها من نفس صاحبتها، ولكن نتعاون جميعا فينجو بعضنا ببعض.. "

.. انا ولد عادي اسمي (خلدون). لدي شارب خفيف كأنه مرسوم بقلم رصاص، وعندي دفتر يوميات اصطحبه أينما ذهبت، اكتب فيه عما أراه في المدرسة والشارع وما اسمعه في الراديو والتلفزيون.. أما دفتر الإنشاء

فقد ملتُ الى اهماله رغم انني كتبت فيه موضوعين احدهما عن الأم والثاني بشأن الطيور التي اعشق.. انها همي الأول والأخير.

الصفحة رقم 3 في دفتر اليوميات

الجمعة مساء. لم اكملْ تمرين الرياضيات.. انا لا افهم فيها الكثير. يضجّ في رأسي صراخ الطيور. سأتابع قراءة حكاية عنوانها (الحمامة المطوقة) جاءت في كتاب اسمه (كليلة ودمنة) قمت باستعارته من مكتبة المدرسة:

" فقال الغراب لأتبعهن وانظر ما يكون منهن. فالتفتت المطوقة فرأت الصياد يتبعهن فقالت للحمام هذا الصياد مجدٌ في طلبكن فإن نحن أخذنا في الفضاء لم يخفِ عليه امرنا ولم يزل يتبعنا وإنْ نحن توجهنا الى العمران خفي عليه أمرنا وانصرف وبمكان كذا جرذ فلو انتهينا اليه قطع عنا ذلك الشرك.. ففعلن ذلك وأيس الصياد منهن وانصرف وتبعهن الغراب فلما انتهت الحمامة المطوقة الى الجرذ، أمرت الحمام ان يسقطن الشبكة وكان للجرذ مائة جحر للمخاوف.. "

اغلق الكتاب. أتثاءب، انا متعب بسبب جولة نهار الجمعة في (سوق الطيور)

كان يوم جمعة بنهار نصف غائم والأفق مغلق برسوم ناتئة مجبولة من كونكريت ضاعف من سقف الكآبة الوهمي الذي يظلل ساحة الطيور. كيف قفزت هذه العمارات في بحر أشهر وبسرعة تفوق أضعاف تلك التي تزدهر فيها شجرة اية شجرة في أيما مكان؟

اليوم ومثل حمامة في قفص تم تطويق الساحة بهاته البناءات المتعاظمة واجتثاث الافق الأزرق وليّ اعناق نسيمات البحر بدلا من ذلك نحو بضعة بيوت شرقية الطراز لها اسيجة طابوقية مخرمة بسطوح تنوء بملابس عمال الشركات وتانكيات الماء ذات الأشكال المكعبة وقد غزاها الصدأ.

قبل الظهيرة بساعة يكون سوق الطيور في عز نشاطه. هذا هو يومه الأثير. يمارس (خلدون) لذّة شقّ الزحام بسكين حماسه لاكتشاف المجهول، ببطْ سلحفاة وعيني باز. ليس في نيته ان يبيع او ان يشتري طيرا. انه يقضي وقتا حافلا. مجموعة من الديكة الرومية تتزاحم مثل أسطول من المراكب حشر في بركة سباحة. انها في سيارة (بيك أب) ينادي عليها شخص انقر الوجه وهو يبحلق في خلدون وكأن الأخير محفظة نقود.. طائر وحيد في قفص اخضر.. صباح الخير ايها (الكاسكو).. وحيد أنت تختال بجناحيك اللذين يماثلان غيمتين رماديتين وذيلك ذي العلامة الحمراء.. أقفاص على ارض الرصيف، من خوص او أسلاك معدن بعضها فارغ وبعضها الآخر يحتجز حمامة جوزية اللون. ان طائر (المينا) لا يتوقف عن التقافز داخل القفص وهو يضرب القضبان بمنقاره البرتقالي اللون الذي يوحي ببهجة ذات نثيث ذابل. لا يبدو عليه ذلك الكائن الصغير القادم من أقاصي الأرض. أقفاص اخرى مجاورة تضم طيورا اصغر من الحمامات بقليل وان كانت تشبهها.. ناصعة البياض لا يعرف لها اسم إنما اعتاد ان يطلق عليها اسم (طيور البراءة) وترتعش في قفص آخر كتاكيت بزغب ملطخ بأصباغ فاقعة الألوان في حين تتراكم فصوص من التمر على قضبان القفص.

رفع خلدون رأسه باتجاه السماء.. سرب من الطيور يعبر الأفق مضمحلا وراء جدران العمارات نحو البحر. على ارض الرصيف أعدتْ للطيور طرائق ومعدات تبعث على الانقباض. إنها آخر ما توصلت اليه الجهود البشرية من براعة في الإمساك بهذه الارواح: فخاخ.. أقفاص ملونة، قفازات نايلون.. شِباك.. أنابيب اختبار.. علف. كل شيء قد تم توفيره للطيور كل شيء عدا الفضاء!

الورقة رقم 5 من الدفتر:

الأحد: همتُ على غير هدى في ساحة النافورة.. صحيح ان السوق بعيدة لمن هو في عمري ولكنني ارى بعضا من الفتيان منكبين على الدراجات النارية يتفحصونها وعلى الطيور يستلون ريشها.. في باص المواصلات أتعمد ان اجلس عند الشباك اتأمل البيوت الفارهة ذات الحدائق التي تتوسطها الأزاهير والأراجيح الى ان يدور رأسي وقد أغفو قليلا..

في السوق اشتريت شطيرة فلافل. عثرت عيناي على قصاصة جريدة قرأت فيها الخبر التالي:

" من ظلال المأساة في لبنان. طفل يكبر مائة عام خلال اسابيع. الطفل الفلسطيني عدنان عمره ثمانية اعوام سقطت بالقرب منه قذيفة اسرائيلية. لم يصب بسوء. لكن الشيب غزا شعر رأسه خلال ايام معدودات. أصابه ذهول ثم ظهرت على وجهه بقع وبثور مريعة.. "

فارقني الجوع.. عدت فورا الى البيت. كان وجهي مبللا بالأمطار، وكانت معدتي خالية الوفاض!

يشق زحام الساحة المألوف. يرنو الى المسجد الأثري الصغير يرفع رأسه ملقيا بناظريه الى أعلى نقطة في العمارة التي تشمخ بارتفاع اجرد. عمارات أخرى تحت الانشاء، رافعات، أسياخ حديد أ ضلع خشب. ينكفئ بعينيه الى المسجد في آخر الساحة وقد تركت على سطح منارته الطيور آثارها.

ينهي المؤذن حديث الجمعة.

تنطلق من جديد أصوات الباعة. تدنو اللحظة النادرة المنبثقة من القلب الى القلب. انه الطائر الذي ملأ الساحة يوم انعقد السوق قبيل اسبوع بالفرح. جعل يزقزق دونما انقطاع فبلغ من صفاء تغريده انه ارتفع على كل ضجيج المزاد الذي فحّت حرارته لتضاهي خيوط الشمس. وحين يتعالى التغريد في فضاء الساحة مثل نافورة ملونة، تتجمد الحياة في ذياك المكان. بالنسبة لخلدون على الأقل فلا يعود يسمع سوى ذلك الانهمار المجهول المنبعث كشلال في غابة لم تطأها قدم متطفل، الا انه فشل في معرفة ذلك البلبل الذي اطلق الأشجان داخل قفص ما.. في مكان ما.. مجهول. لبث طويلا يرهف السمع وفي الليل كتب:

" ايامي الأجمل هي الجمعة ثم الجمعة ثم الجمعة، ليتني اعثر على ذلك الطائر المجهول! "

" حلمت البارحة بوجه أمي التي لم ارها قط ولكنه كان بالتأكيد يشبه كل وجوه النسوة اللواتي يفتقدن وجوه اولادهن! "

تنتشر في الفضاء رائحة عرق انثوي ممزوج بعطر متذاكِ. يشدّه جاذب غريب. ينطلق مثل ورقة تجرفها الريح حسبما تشاء او كمركب على ساحل جزيرة ممغنطة يحاول ربانه بلا جدوى ان يدير الدفة كيما ينأى به عن تأثير تلك القوى اللا مرئية. انه مجرد بيت عربي الطراز قريب من الساحة بعيد عنها. يتمتع بشرفة مقوسة ذات زخارف. لم يعبأ طويلا بالتمعن في تفاصيلها. يتطاول نبات متسلقا سياج الشرفة ذا القضبان ثم ما يلبث ان ينعقد هناك باخضرار يندر وجوده. في ارض كهذه تخضع لقوانين الصحراء المناخية من غبار وتجريد.

وجه فتاة الشرفة يشع كل البهجات المخلوقة وغير المخلوقة ولو ان مسحة من الحزن قد عطفت عليه. تطل وحيدة على الساحة كطائر في قفص. ترنو الى الفراغ الشرقي أمامها.. تتدلى ضفيرتها الفاحمة السواد طويلة لتشتبك وتصطرع وسط حبال النبتة وكأن الأخير ما قام بتسلق الشجرة الا من اجلها! ولقد شعر الفتى برعدة تسري في أوتاره. كان يتنازعه أمران: وجه البنت وما في الساحة من طيور. تلتف من حوله كحبال مخاوف لا يدرك كنهها.. تدوّي قذائف.. تنهار عمارات.. يتناهى اليه صوت تداعيها المكتوم من بعيد وطقطقة العظام البشرية تحت الركام.

وكتب: " بالأمس لم اذهب الى سوق الطيور. العدو يطوق بيروت.. عشرات الأجساد ترقد الى الأبد تحت ركام الحجر. القذائف بالآلاف.. اطفال الآربي جي يتصدون للزحف القادم من الجنوب. يشده وجه الفتاة اليه. انه يقضم شفته بعنف. يهطل المطر.. صحيح انه يباغت الأشياء في البدء ولكنه في النهاية ينقيّها.. ما هذا؟! انه مطر غريب من نوعه.. سيول وكرات ثلج. تشج واحدة رأسه.. تنقر الأخرى ظفر ابهامه الأيمن في قسوة. تزرق بقعة ملليمترية وسط الظفر كأنه ضرب خطأ بمطرقة عملاقة.. أهو يوم النشور؟ تسود الساحة فوضى.. يتفرق الباعة مفضلين الاحتماء بمظلات سوق القماش. يظل خلدون وحيدا وسط الساحة مظللا جسده بعذاب قلبه الصغير وما يصطخب على شاطئيه من هواجس لم يتح لها الامتداد الى حد الفيضان.. يتجلد رغم الدم اللزج الساخن الذي ساح على جبهته ورغم قسوة الوابل.. !

احيانا تعيننا اشياء صغيرة دافئة على البقاء مثل زوج من طيور الحب.

او تغريد بلبل حتى وإن كان غير مرئي، ولكنها ايضا لحظة القصاص الذي طالما اضطرب في القلب كلما وطئت قدماه سوق الجمعة. يتحدر الى الأقفاص المكتظة بالطيور. ينتزع أقفالها مطلقا اياها نحو الفضاء في جنون بارد يشف عن تصميم على استباق الحتف. خفّ المطر وصار رذاذا. اصطفقتْ اجنحة. ودرجت حمائم (البراءة) على الرصيف كما لو انها امست غير مؤهلة لعالم غادرته منذ زمن غير مسجل في ذاكرتها اللحظية الإشعاع. حنجلت دجاجات وهي تغادر سلال الخوص موحية بأنها مصابة بإسهال جماعي. امّا الطيور النادرة فقد اخذتْ بالتحليق بعيدا مع جارف الريح التي هبت فتية آنذاك. ومثل ليلٍ يخرّ ساجدا لسلطان الصباح اضيئت شرفة في مكان ما بوجه لايفتأ يرنو الى الفراغات الفضائية التي تتأرجح على حبالها غشاوة من الذرات الغبارية، ورفّ حول الوجه بلبل ما لبث انْ

حطّ على كتف البنت ليعاود الارتطام بوجهها في نعومة ليتكئ اخيرا على حافة السياج مطلقا تغريده اللؤلؤي.

الجمعة: لم اغادر الفراش طيلة النهار. انا محموم. كان هنالك من سمعني اهذي. تسللتُ كماء في ساقية. وفي زمن ملغي رأيت بلبلي جثة مدماة على ارض الرصيف في حين تهافت ريشه هابطا من شرفة خاوية، بلا وجه ولا ضفيرة.

اين راحت كل تلك الوجوه؟ اين صار البلبل.. الشرفة.. الوجه.. الضفيرة.. اللبلاب؟! كنت في الساحة، دون ان ادري ودون ان تغادرني الرغبة في اطلاق كل طيور العالم. ابتعت مرآة من بائع متجول. أدخلتُ وجهي في اعماقها. كان شكلي مهولا:

شاب شعري وكبرت ألف عام!

***

محمد سهيل احمد

...........................

(*) ورد النص في مجموعة الكاتب القصصية (العين والشباك)

الطفل الذي رسم الشمس على التراب، وحين مرّت العاصفة، محتها دون اعتذار،

المرأة التي حاكت ثوبًا من الصبر، لكن الريح سرقته قبل أن ترتديه،

*

الوجوه المتعبة التي تحمل مواسم الهزائم،

الأيدي التي نسيت طعم اللمس،

العيون التي تحمل حكاياتها كخناجر مغروسة،

الضحكات المبتورة،

و الأغاني التي لم تُكمل لحنها.

*

ظلال عابرة،

أرواح متهالكة،

قصائد محاصرة في صدور الصامتين،

دموع جافة على خدود لا يراها القمر،

ونسيم يمضي دون أن يحرك ستائر النوافذ.1464 bapy

في تلك الشوارع الذي نسيت المدينة اسماءها، هم،

تحت السقوف التي تئن من ثقل المطر،

في المرايا التي لا تعكس سوى الغياب،

وفي الرسائل التي لم يفتحها أحد.

*

كالشموس التي لم تُشرق،

الكتب التي لم تُقرأ،

الأغنيات التي لم تُغنّ،

والأحلام التي لم تجد من يحتضنها.

*

هل تسمعهم؟ هل تستطيع أن تنفض الغبار عن أرواحهم؟

أم أنك ستمضي كما مضى غيرك،

تتذكر أنك نسيتهم، ثم تنساهم مجددًا؟"

***

مجيدة محمدي

بيانٌ شعريٌّ

لتحريمِ وتجريمِ بيعِ أرضِ العراق

 ***

لكُلِّ شبرٍ تواريخٌ واحساسُ

لوْ يعلمُ الناسُ ماذا يعلمُ الناسُ!!

*

لِكُلِّ شبرٍ أقاصيصٌ وذاكرةٌ

أتتْ مِن الماءِ: انَّ العرقَ دسّاسُ!!

*

لا تنسَ اِنَّ بلادَ اللهِ رائدُها

أنتَ الذي يَعتريهُ الآنَ وسواسُ

*

فحُبُّك الحُبُّ كلُّ الأرضِ تعرفُهُ

اذا سرى صهلتْ للوصلِ أفراسُ

*

هذي ديارُكَ روحُ الكونِ مُذْ بزغتْ

مِن الشموسِ أساريرٌ وأقباسُ

*

فلا تَبِعْ أرضَكَ الأبهى فليسَ هنا

بِمَنْ بِها ـ لو أردتَ الحقَّ ـ ينقاسُ

*

سلِّ النخيلَ وما تروي ذوائبُهُ

لَديهِ مِن ملتقى العشّاقِ أنفاسُ !!

*

اِذْ يجلسونَ وقلبُ الماءِ صوَّرَهمْ

غابوا؟! فما غابَ في الأحداقِ جلّاسُ

***

شعر: كريم الأسدي

 

استهلال والفصلين 1 و2 من رواية: مرثية كفاءة

استهلال الرواية

العاصمة – سيكا، صيف 2030

***

منذ الفجر، زحف الشباب نحو العاصمة، كما لو أن الأرض لفظتهم دفعة واحدة. عيونهم لا تطلب شيئًا سوى الاعتراف، وصدورهم تفيض بندوب الإقصاء. أتوا من كل جهات إمارة سيكا، يهتفون ضد الظلم والتهميش، حاملين رايات الكلمات الأخيرة: "نريد وطناً لا يتوارى خلف الأسوار".

في قلب الحشد، وقف سلام، رجل السبعين، بعينين هادئتين تخبئان عاصفة. لم يهتف. لم يرفع لافتة. كان واقفًا هناك فقط، كأنه يشهد جنازة حلمٍ يعرفه جيدًا.

كان يعرف حسن أبو العز، الواقف على صندوق خشبي كمنبر من رماد. رفع مكبر الصوت، وصاح بصوت مجروح:

"لا حق؟ لا واجب!

باعونا باسم الوطن، وطلبوا منا أن نعبد الرماد.

سلبونا الحلم، وأغرقونا في صمت مهين.

كلّنا نعرفهم: بارعون في الولاء، محترفون في الخضوع...

الوطن يئنّ، ويطلب منّا أن ننهض... فهل سنفعل؟"

ثم اشتعلت المدينة.

النار لم تأتِ من الشعب، بل من فوهات الدبابات. جنود بأقنعة صلبة اجتاحوا الساحات. عربات تندفع نحو قصور الأمراء، الجسر، الفيلات المحصنة، مؤسسات الإمارة، كأن الدولة كلها تصطف لحماية ممتلكاتها وثروات رجالها من أهل الوطن.

سلام، وسط كلّ هذا، لم يتحرك. لم يرتعد. اكتفى بأن يفتح دفتر ملاحظاته الجلدي، ذلك الذي يحمله منذ الطفولة، وسجّل فيه سطرًا واحدًا:

"أخاف أن يكون الوطن حلمًا أكبر من أن نعيشه... وأصغر من أن ندفنه."

انتظر الناس البيان.

وظهر الأمير.

كان متأنقًا، كأنه على موعد مع التاريخ. بصوته الرخيم قال، دون مقدمات:

"أنا أميركم...

ثورتنا تبدأ اليوم، مني وإليكم.

لم أكن ضدكم، بل كنت محاصرًا باسمكم.

ابتزني من نازعوني في الحق في الحكم باسمكم.

سايرت الأوضاع مركزا على تقوية شرعية نظامكم.

عودوا إلى بيوتكم، وامنحوني مزيدا من الوقت لاستعادة الوطن".

سادت لحظة من الذهول.

ثم انطفأت الشاشات.

وفي قلب العاصمة، دوّن سلام السطر الثاني:

"كان يمكن أن نولد من جديد... لكننا ربما اخترنا أن نموت ببطء أو نحيا تحت عبقرية نظام إمارة نجهله".

الفصل الأول: مرايا الصمت ... سنة 1985.

كان المطر ينقر زجاج النافذة بإيقاع كئيب. وقف "سلام" أمام المرآة المعلقة على الحائط، يحدّق في وجهه المرهق كأنه غريب عنه. ظلال زرقاء تحت عينيه، وتجاعيد صغيرة بدأت تظهر حول فمه رغم أنه لم يتجاوز الخامسة والعشرين سنة بشهور. ضغط بإصبعيه على صدغيه، كأنه يودّ أن يُسكت شيئًا ما في داخله.

كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحًا. حان وقت المحاضرة. لكنه لم يكن مستعدًا لمواجهة القاعة ولا العميد... ولا نفسه.

مونولوغ داخلي

أعود إلى هنا، إلى هذه القاعة، كأني أعود إلى قبر مفتوح. كم دفنتُ من نفسي في هذه المؤسسة؟ كم مرة ابتلعتُ الغضب حتى لا أنفجر؟

ارتدى معطفه الرمادي المبلل، وخرج تحت المطر، عابرًا ساحة الجامعة بخطى ثابتة رغم الارتباك الذي يعصف داخله. الطلاب يتجمعون تحت المظلات، والموظفون يتناقلون أوراقًا لا معنى لها، كما لو أن الحياة تمضي دون أن تلاحظ انهياره الصامت.

دخل قاعة المحاضرات، فعمّ الصمت.

العميد كان جالسًا على المنصة، وإلى جانبه بعض الأساتذة ممن يصطفّون معه دائمًا. رفع نظره إلى سلام بابتسامة مصطنعة.

قال العميد بصوته الأجش:

–   أستاذ سلام، تأخرت عن المحاضرة. كنت أتوقع انضباطًا أكثر من رجل مثلك.

أجابه سلام وهو يخلع معطفه:

–   كنت أتوقع أن أدرّس في جامعة، لا أن أُحاسب كما لو أنني في ثكنة.

ضحك بعض الطلاب بخفة. ارتبك العميد للحظة، ثم قال:

–   نحن نحرص على النظام، لا أكثر. أم أن الأستاذ يرى نفسه فوق القوانين؟

اقترب سلام من الطاولة، ووضع حقيبته بهدوء. نظر في عيون الطلاب، ثم قال بصوت هادئ لكنه مزلزل:

–   أنا لست فوق القوانين. لكني ضد قوانين لا تفعل سوى خنق العقول. ضد مؤسسة تسرق السنوات من أعمارنا ثم تعاقبنا إن فكرنا أو اعترضنا.

تململ العميد في كرسيه، وارتفعت همسات خفيفة.

أردف سلام:

–   أتيت إلى هنا لأكون معلمًا، لأمنح هؤلاء الشباب أفقًا لا سجنًا فكريًا. لكن يبدو أن الكفاءة في هذا الوطن تُدفن لا تُكافأ. ونحن من نحفر القبور، بأيدينا وصمتنا.

تدخل أستاذ آخر، متصنعًا الابتسامة:

–   أستاذ سلام، نحن نحترم حماسك، لكن الأمور تُعالج بالحوار، لا بالشعارات.

التفت سلام إليه:

–   أي حوار هذا، والأبواب موصدة، والعقوبات جاهزة، والتقارير تُكتب في الخفاء؟ هل نسمي هذا حوارًا؟ أم مكيدة؟

ساد الصمت. وحدها أعين بعض الطلبة بدت لامعة، كأنها تسمع لأول مرة شيئًا يشبه الحقيقة.

ثم قال سلام بصوت مكسور:

–   لقد أخطأت حين ظننت أن الجامعة مكان للكرامة. لكنني لا أستطيع الصمت. ليس بعد اليوم.

أدار ظهره وغادر القاعة. خطواته على الأرضية الرخامية كانت ثقيلة، كأنها آخر ما تبقّى له من حضور.

وفي الخارج، تحت المطر، وقف لحظة، رفع وجهه للسماء، وهمس:

–   إنهم لم يطردوني... أنا من غادرتهم.

الفصل الثاني: العبور إلى الضفة الأخرى

وقف سلام عند بوابة الجامعة القديمة، محاطًا بظلالها الثقيلة، كأن كل آجرٍ في جدرانها يحمل جزءًا من خيبته. كانت الشمس تنزلق ببطء خلف قبة المكتبة العتيقة، لتغمر الأروقة بنور ذهبي لا يكفي لتدفئة ما بقي من حلمه الأول. تنفّس بعمق، وشعر بأن الهواء في صدره لا يعود كما دخل. بدا كأن كل شيء ينفصل عنه، حتى جلده.

في قلبه، شيء ينكسر بصمت، يشبه انطفاء شمعة في قاعة مهجورة. لا صراخ، لا دموع، فقط فراغ مترف بالحيرة.

سلام (بصوت داخلي):

"كان يجب أن أكون هنا من أجل المعرفة... لا من أجل أن أصبح رقماً آخر في جوقة العابرين. كانوا يقولون إنها جامعة الكفاءة. لكنني لم أرَ سوى مقبرة جديدة، اسمها مختلف."

لم يكن قراره سهلاً. لقد قاوم كثيرًا. حاول أن يصمّ أذنيه عن نداء أبيه الذي كان يطالبه بالمغادرة، وأن يعاند نظرات أمه التي غلبها الحزن. لكنه الآن واقف، بشنطة صغيرة، فيها أوراقه وبعض الكتب التي قرر ألا يتخلى عنها، وكثير من الأسئلة التي لم تجد بعدُ طريقًا للجواب.

عند بوابة الخروج، التفت وراءه. لحظة أخيرة. لم يرَ الجامعة كما رآها أول مرة، لا بهالة الطموح ولا بصخب الأمل، بل كجسدٍ منهك، تسكنه أرواح الطلبة الذين لم يُسمح لهم أن يُكملوا الطريق.

خرج...

الطريق إلى عاصمة إمارة "سيكا" بدا له أكثر طولًا مما تخيّل. كانت الرمال تمتد كأنها تاريخ بلا ذاكرة، والسماء فوقه لم تعد زرقاء كما يعرفها. بدا له أن كل شيء تغيّر، أو أنه هو من تغيّر ولم يعِ بعدُ حجم التبدّل.

وصل إلى المدينة التي وُلد فيها، لا كعائد منتصر، بل كغريب يدخل بيتًا يعرفه ولا يشعر بالانتماء إليه.

احتضنته أمه عند الباب، ولم تقل شيئًا. لم تسأله عمّا حدث في الجامعة، ولم تفتح جراحًا تعرف أنها لم تلتئم بعد. فقط وضعت يدها على كتفه، كأنها تقول: "أنت حي، وهذا يكفيني".

أما والده، فكان أكثر صمتًا من المعتاد، لكن عينيه قالتا كل شيء. فيها مزيج من الارتياح والخذلان. لم يُرد لابنه أن يُكمل حياته في تلك الجامعة، لكنه لم يُرد أيضًا أن يعود مكسور الخاطر.

بعد أسابيع، التحق سلام بكلية الهندسة. جلس في مدرج بارد، يراقب السقف العالي، ويتأمل في الملامح الجديدة من حوله. لم يكن الأمر سهلًا. لم يشعر بالحماسة، لكن شيئًا ما داخله رفض أن يستسلم تمامًا.

سلام (في دفتره):

"لست هنا لأثبت لأحد أنني قادر... لست هنا لأنني أحب هذا. أنا هنا لأنني لا أملك رفاهية أن أفشل مرتين."

في أول حصة، طلب الأستاذ من الطلبة أن يرسموا قطعةً ميكانيكية معقّدة. نظر سلام إلى الورقة، ثم إلى القلم، ثم أغمض عينيه، ورسم.

ما رسمه لم يكن قطعة ميكانيكية. كان جسرًا. جسرًا بين مكانين. ربما بين الجامعة التي تركها وهذه الكلية، أو بين حلمٍ قديم وأملٍ جديد. لا يعلم.

لكنه رسم، للمرة الأولى، شيئًا يشبه نجاته.

يتبع ......

***

الكاتب الحسين بوخرطة

في الخريفِ.....

تُصلبُ الفصول

على بوابةِ الريح...

تُقلم الغيومُ أظفارها

وتخمشُ وجهَ السماء....

*

على قارعة الانتظار

تموت الأحلام واقفة...

والضوءُ النّاسكُ ....

يتعثرُ في الحنينِ

ويُكملُ نُسكهُ في العتمة.

*

في الخريف....

يتفتح الألمُ

زنبقة بيضاء

تنقرُ غربانُ الوقت...

قلبها...

فتهتز موالا حزينا

لا يسمعهُ سِوى الغائبين.

*

الريحُ تعوي

تناهيد أفئدة مهملة

قصائد أمس مبعثرة....

لأنينها....يخلعُ الشجر أوراقَه

كما تخلعُ الروح بدنها

قبل القيامة.

*

أي خريفٍ هذا....؟

يكور العمر بقايا

في رحمِ الظلال....

تنتحبُ الذكريات .....

وتشيع الاماني

الى مثواها الاخير

*

هكذا...

يينعُ الألمُ

كما يينعُ الخمرُ

في جرارِ النسيان....

وتُسكبُ الأرواحُ

في كأسٍ واحدة...

يشربُها الخريفُ

ويبكي حتى الثمالة.

***

مالكة حبرشيد

 

أُحدِّقُ في المرآةِ هل ذلكُم أنا؟!

وأينَ اختفى الطفلُ الذي كانَ ها هنا؟!

*

أذلكَ صدْعٌ في الزجاجِ أمِ انّهُ

بروحي انكسارٌ صارَ في الوجهِ مُعلَنا؟!

*

ويا عجبي منها ضحكتُ فأظهرتْ

دموعي كأنّي قد سُرِرتُ لأحزنا

*

تواجِهُني المرآةُ بالأمرِ هكذا

كما الموت لا يعطي انتظاراً إذا دنا

*

فحيناً تُريني الوجهَ منّي سحابةً

وحيناً قناعاً من حروبٍ تكوّنا

*

ورُبَّتما أخفتْ عليَّ ملامحي

لأنّيَ ماءٌ ما عرفتُ التلوُّنا

*

أرى الناسَ في هذي الحياةِ كأنّهم

مرايا فقفْ تعرِفْ كلاماً مُبطَّنا

*

فمنهم يُريك الحُسْنَ رغم معايِبٍ

ومنهم يُريكَ العيبَ لو كنتَ مُحسِنا

*

وأفضلُ مرآةٍ عيونُ حبيبتي

رأيتُ بها وجهَ الجمالِ مُبيَّنا

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

مذ استبدل

طهرها

ببئر رذيلة

تتقاذف مسوخها

ليُحار

في توصيفهم

*

مساكين حد الترّفع

أيتامها

وأرضهم

المتقيئة لمسوخ

يُحار

في توصيفهم

***

إبتسام الحاج زكي

 

فلْتَلْتمِسْ لِمَنِ انقضىْ الأعذارا

وبِرحْمةٍ ادعوْ لهُ الغفّارا

*

تلكَ الأخوّةُ أصْبَحتْ خبَرًا على

موجِ سرىْ عبرَ الفضا دوّارا

*

والذِّكْرُ لولا ربُّه ما ظلَّ وال

حَرَمانِ لولا حفظُهُ لانهارا

*

والميْتُ لو ناديتَ كلَّ الدّهرِ ما

قرَّ النِّدا في سمعِهِ أوْ دارا

*

وبقيّةٌ منهُ تناشِدُها الدِّما

ءَ ولم تزِدْ عن كونِها أحْجارا

*

جلبَتْ لكَ الأعداءَ والعُبدانَ وال

أوغادَ والشُّذّاذَ والفُجّارا

*

ألصّفحَ أيتها الحجارةُ فاتَني

أنّ الحجارةَ أنجَدتْ أحرارا

*

عبر البلادِ وخلّدتْ أمصارا

عبر الزمانِ وحُمِّلتْ أخبارا

*

للسابقينِ وأَلهمتْ أفكارا

للمُنشئينَ ونَزَّهَتْ جبّارا

*

ومآثرٌ لِمَنِ انقضَوا حمّالةٌ

للوهْمِ أسرابًا تُذَكِّي نارا

*

حتّى ليغدو واحدُ الثُّوارِ في

الوِجدانِ منكَ متى هوَتْ ثُوّارا

*

فتُصِرُّ أنّك لو خرجْتَ بهم إلى

البلدانِ لاسْتَعْمَرتها اسْتعمارا

*

وتقيمُ إحياءً لها الحَفلاتِ وال

نَدواتِ فيها تُنشِدُ الأشْعارا

*

وتقودُ مُعْتدًّا بها الحملاتِ وال

غزواتِ حتّى تصْحبَ الأقمارا

*

في قرنِ إسرائيلَ والأعرابِ أن

صارًا غدَتْ تَتسوَّلُ الأنْصارا

*

بل إنّها في دورِهمْ طمعًا بِصف

حِ إلههِم تُسْتنكرُ اسْتنكارا

*

ومعالمٌ في الأرضِ ترويْ نجْدةَ ال

أخِ للإخاءِ بحصْرهِ الأنهارا

*

وكأنّ ما يتَخلَّلُ الأصْقاعَ مِنْ

ماءٍ دماءٌ تجْمعُ الأقطارا

*

وعلى نفوسٍ باسقاتٍ حجّةٌ

لا تُتّقى تسْتوجِبُ الإبْحارا

*

ما أضيقَ الأكوانَ والأزمانَ إذْ

تُجرىْ الدُّنى لأُخوّةٍ إعْصارا

*

لم يبْقَ من تلكَ الأخوّةِ غيرُ ما

يرتادُه زوّارُها آثارا

*

ومغانمٌ غُنمتْ بما في اللهِ دو

ن الضّادِ والدّمِ أصبحَتْ أخْبارا

*

تأتيكَ في نغَمِ المواضي كُلّما

راقَ الزّمانُ وأشعلَ الأنوارا

*

ومتى ترُقْ نفسُ الزّمانِ فما مَضى

أحْلى الّذي يُشجيْ بهِ الزوّارا

*

وأخوةٌ في اللهِ والإعرابِ وال

دّمِ لهْيَ أجملُ ما انْقضى أقْدارا

*

وَيْ لو يعودُ بنِا الزمانُ لما مضى

ويْ لو يعودُ بما مَضى إعْمارا

*

ومجلّداتٌ أينَ رُحتَ وجَدْتَها

ووجَدْتَ فيها أهلكَ الأطْهارا

*

تُحْمي بكَ الأنفاسَ رهبَتُها فتُم

سي مثلَ مَن يَتَرَقَّبُ الأخْطارا

*

فإذا دَخَلْتَ مُقَلِّبًا أوشَكْتَ مِنْ

حرِّ الإخاء هُناكَ أنْ تنهارا

*

فتنامُ فوقَ سُطورِها مُتلحِّفًا

دفءَ الإخاءِ وتمتطيْ الأدْهارا

*

وجرائدٌ موصوفةٌ بالعارِ من

كُبرى الفِرى تستلهمُ الأخبارا

*

وكأنّها وُجدَتْ لتلْجمَ كلَّ مُن

تصِرٍ لقُدسٍ تنقضُ الأعذارا

*

ماتتْ أُخُوّتُنا ليخلُفَ إخوةٌ

في العارِ علَّوا بينهُم أسْوارا

*

ماتتْ وماتَ نصيرُها في أمّةٍ

باعتْ أخًا كي تشْتري أغيارا

*

وكأنّ من نادَوا بها نوحٌ فلمْ

يُبقِ المهَيمِنُ منهمُ ديّارا

***

أسامة محمد صالح زامل

 

هذا الليلُ يُطاردني

ليقبض بسوادهِ

على روحي المرتجفه

ويرمي بها في جوف

الأحلام البعيدة

كيف الفكاكَ منهُ؟

وقلبي يرتجفُ

كل ليلةٍ

خائفاً من أن لا ينجو

وينفذ بنبضاتهِ الأخيرة

فإلى أين؟

إلى أين تأخذني؟

أيها الليلُ الطويل

فأنا لم أعد قادرةً على

البقاءِ فيك أكثر

الشمسُ ستشرقُ يوماً

من قلبي

وأنت ستنجلي عندما

يحينُ وقت الرحيل!

وستقول وداعاً

وداعاً أيها الماكثون

على ضفاف الحياة!

***

أريج الزوي - ليبيا

 

سأرحلُ وحيداً

وملفوفاً بخرقة بيضاء

خرقةٍ تُعينني على خِداع النسور القمّامة

فتظنّ أني من فصيلتها

ستمضي روحي كالسهم مخترقة السقوف

ومحدثة فيها بعضَ الصدوع

أيها الواقفون على سطوح منازلكم

أطلقوا أياديكم حماماتٍ لتوديعي

إطمئنوا

ستعود إليكم أياديكم سالمة

من دون أن تفقد ريشة واحدة

ولكن أرجوكم

لا أريد مجالسَ عَزاء

ولا نُواحَ

أتركوا روحي تتحرّر من قنينة الغاز بدون خسائر

أزيلوا لافتاتِ النعي

فهي تُعيقُ تنقية الهواء

أخلعوا الملابس السود

كي لا تُحرّضوا الغربان على مضاعفة التفقيس

هكذا أرحل مطمئناً بأن الطريق سالكة

وأن حذائي الجديد لن يُلوّثَ بالوحل

**

أسمع طَرقاً على باب ذاكرتي

أنهم أصدقائي الراحلون

جاءوا من أقاصي السماء للترحيب بي

ربطوا عند الباب الغيومَ التي جاءوا عليها

وترجّلوا

حاملين ابتساماتهم في أوانٍ من الفضّة

بينما نبضاتُهم ما زالت تُخلخل مسامير الأبواب

أعذروني أيها الأصدقاء

كان ينبغي أن أكون معكم قبل اليوم

ولكنّ دائرة الجوازات

تأخرت في ختم جواز سفري

**

لا أحدَ يعلمُ أين سأذهب

حتى الذين رافقوني في حياتي

لن يجرأوا اليوم على مرافقتي لتبيّنِ الطريق

ربما سأذهب إلى السماء

لكني أخاف المرتفعات

ولم أتناول فطوري في صحن واحد

مع الطيور الجارحة

وربما سأذهب إلى حفرة في الأرض

حفرة ليست عميقة

لأتمكن من رصد لصوص الأسنان الذهبية

ألحمد لله ليس في فمي شيء من الذهب

لأني أخفيته بعيداً عن اللصوص

أنه في ضميري

سانام إلى أن يصل القطار الذي يُعيدني لحياة ثانية

لكن كيف أواجه في محطة الوصول الأحياء المتأنقين؟

وليس على جسدي سوى خرقة نخرها الدود

***

شعر: ليث الصندوق

 

معطفك يتسلَّلُ في عِطري

وقلبِي يَسيلُ كماءٍ بينَ ضُلوعِي

أنفاسُكَ دافِئَة..

كَمذاقاتِ النَّعناع في صَباحِ النَّشوة

كَحنينِ الرَّذاذ...

أنثرُ ضَوئِي زهورًا لنَدى شَفتَيك

مطرٌ بَلَحِيٌّ يُعانق نافِذَتي

خيالاتٌ تُداعبُ الفضاء...

شلالاتٌ تراقصُ الصَّحوة

نُورٌ ونَار

والبحرُ يُصبحُ كُلَّ شيء

هل ترغبُ في اكتشافِ اللؤلؤِ

تَرفَّق بالموجِ يا سَيدي

يَدُلكَ صَوبَ شَواطئِي

لمْ تُحسِنْ قِراءَةَ ألواحِي المُقدَّسَة

واخطأتَ بحقِّ براعمِ المَطر

تحتَ نَخلةٍ

زَرَعَها جلجامِش

قَبلَ الرَّحيل ستصلب

أخشـَى مِنْ إدمانِكَ على حَبَّاتِ البـَلح

لـَنْ أُقبـِّلَكَ حَتـى الشِّـتاءِ القـادم

***

سلوى فرح - كندا

 

الفصل الأول من رواية: هو والنافذة والغرفة المعتمة..

تطلع نحو الخارج من خلال نافذة غرفته الوحيدة فرأى جواً غائماً وسمع قطرات المطر تقرع زجاج النافذة مما زاده إكتئاباً،

تأفف، ثم تحدث مع نفسه وقال:

يا لهذه الحياة المملة التي تبعث على الشفقة، إنها بلا معنى ولا جدوى يحيطها التكرار الممل ويسيطر عليها حلزون الخارج الذي يملؤه الضجيج .. وشعر بانه كان في وضع الصحو قبل ان يتطلع الى الخارج من خلال زجاج نافذته التي يتجمع عليها ضباب كثيف وقطرات تسيح من ماء المطر..

لم يعد قادراً على الوصول الى نهاية مريحة تخلصه من بؤس الخارج، لذا واصل التفكير بطريقة بعيدة عن التوجس واعتقد بان ذلك مجرد وهم، وكان المهم لديه عدم بقاء شعوره يقتصر على البقاء في محيط الغرفة بلا معنى، ومع ذلك، عاد وتطلع نحو الخارج، ولكن الضباب الذي يلف الشارع الضيق لا يمنح سوى القليل من الراحة النفسيه، عندها ادرك انه لا بد من ازاحة القلق عن طريق الخروج من هذه العتمة، بغض النظر عن الباب المغلقة أن تمنح نفسه الفرصة لرؤية الضوء خشية العمى وفقدان التوازن الذي يسببه الضوء الساطع المشبع بالضوضاء . انها بلا شك، لم تكن فكرة ميسرة لاقتحام الخارج رغم إلحاحه على اتخاذ القرار الذي لا يرى فيه سوى قرارا متعجلا نحو الفوضى..

كان يقضي يومه بعد الاخر على سريره بجوار النافذة المطلة على شارع لا يخلو من يوم ماطر ولم يكن يستطيع أن يتمتع بحياته على نحو لم يخرج عن تطلعه للاستمتاع برذاذ العزف على وجهه المتعب.

وبين الحين والحين يترك جسده بجوار النافذة على سريره البارد المحشو بقطن تنبعث منه رائحة نتنه طوال الوقت والتي لم تعد تهمه ابدا، إلا انه لم يغمض له جفن طالما كان الكرسي الهزاز الى جوار النافذه والضوء المتسلل منها، تلك النافذة التي لم تسدل عليها ستارة بعد .

السرير بارد وهو ملاصق للنافذة وكان عليه ان يتذكر ذلك على نحو ما، كشعور متحرر من وهم الخارج ومع كل هذا بات يرى الاشياء مشوشة ما دام يطل من شباك الماضي الذي لا يرى منه شيئا ثابتاً .

لقد اصطنع لنفسه، من اجل تمضية الوقت، عادة هي ان يرى الاشياء ليس كما هي، انما من خلال مخيلته الغارقة بالتأمل بعيدا عما يجري حوله وهنا يكمن الفرق بين التأمل الفكري وواقع التأمل المجرد حيث المفارقات تقذف به بعيدا عن مرمى (ينبغي أن يكون عليه الواقع) وليس (ما هو كائن عليه) .

إن ادراك الغياب التام للإحساس الانساني المرتبط بالحياة هو الذي أجبره على تغيير مفهوم التعايش، وإلا فلن يكن بوسعه تفسير تطلعه صوب محيطه الخارجي.. فهل كانت لديه فعلا تلك الرغبة في التطلع نحو الواقع الذي يحيطه من كل جانب وخاصة من خلال تلك النافذة التي يشوبها الضباب.. ربما بلغ مرحلة الدخول الى فقدان الذاكرة او بالاحرى التشويش الذهني الغارق بضوضاء الخارج، الذي لن ينتهي ابدا.. كانت شخصيته الحالمة التي اكتسبها منذ طفولته هي ما دفعته الى اتخاذ هذا القرار، فهل يمكن في حالة الضرورة الاستغناء عن الشعور بالحرية ؟ وهل هناك فعلا حرية بمعناها المجرد؟ إلا انه كان يدرك ان الصخب يطبق عليه من كل جانب وهو يتطلع عبر النافذة ولم يعد له وقت للبقاء بالقرب منها، الا انه لم يسمع سوى صوت دبيب اقدام متثاقلة على رصيف الطريق خلف النافذة الوحيدة لغرفته المعتمة، ولم يعد هناك ما يفعله سوى الانتظار حين نظر إلى الخارج بعدم الأكتراث.

عاد الى مقعده وكأن حركته باتت عبءاً ثقيلا حين هم الى تلك الزاوية التي تطل على الحديقة الداخلية المحاطة بالزجاج .. وفي الصباح الباكر كان المطر عاصفا يضرب النافذة بقوة ايذانا لفصل الربيع ومع ذلك باتت نفسيته انعكاس لحال غرفته الكئيبة، رغم الضوء الذي يبعث على الازعاج، عندها احس انه يرى طريقا يقوده الى المجهول حين سحبته موسيقى الجاز لشخص في ركن الشارع واخر بعده ببضعة امتار يعزف على ألة كمان بطريقة مذهلة .

كانت رغبته جامحة في رؤية النور من النافذة ولكنه كان يخشى الوهج الذي قد ينتهي الى العتمة .. وفكر بعمق، وهمس يلوم نفسه:

ماذا دهاك هل تريد أن تغلق النافذة على عقلك لكي لا يطل على العالم أم تتقبل عواصف الفوضى تتدفق عليك من نافذتك المطلة على الشارع المشبع بالضوء والفوضى؟ ألا ترى انها معضلة الادراك والمعرفة وهي تكمن في النتائج .

التزم الصمت ولم يعد قادراً على الإجابة وقبل ان ينهض بصق على الآرض وقال: خارج النافذة هو هكذا اما الداخل فيسوده عدم الارتياح في ذاته وهو إنعكاس لما هو في خارج النافذه.. هذا الامر جعله غير قادر على الحركة من خشية السقوط في دائرة الضوء غير المجدية، وبالتالي انهيار وضعه ما دام يشعر بأنه محاصرا بين النافذة والغرفة المعتمة.

ظل في مكانه متسمراً ينتظر أي شيء، عدا الرذاذ وزقزقة العصافير وهي تسبح في بركة من مياه المطر ومواء قطة وفرقعة صحون في المطبخ وبكاء طفل رضيع .

ولكن، لم يحدث أي شيء من هذا وظل الصمت يأكل داخله، فيما بات ضوء الشباك يتسلل دون استأذان الى عتمته الداخلية..

تمتم مع نفسه ببضع كلمات لم يسمعها غيره:

كيف هذا العذاب الذي ربما لن ينتهي .. عندها نظر الى الأرض وكأنه يريد ترتيب أفكاره في رأسه المشوش.

تحرك خطوتان نحو النافذه ثم ازاح الكرسي الهزاز وجلس على سريره واخذ يراقب اهتزاز الكرسي الى الامام والى الخلف الى ان توقف وحين استفاق لسعته نسمة منعشة من هواء بارد اقتحمت عليه خلوته البائسة وتذكر ان الخارج لن يجد فيه شيئا من الانتعاش كهذه النسمة التي قذفتها موجة من رذاذ المطر وهي مشبعة بالطراوة، وما ان اطل من النافذة تصاعدت الى انفه رائحة المجاري الكائنة خلف البنايات القديمة، قدم مداخنها المتروكة التي تعشش عليها اللقالق وتقف عندها الغربان تنعق بين الحين والاخر دونما توقف ورائحة البصل واللحم المقلي وطبخات المرق ورائحة الخبز الذي تلسعه النار نتيجة السهو فيحترق، وكل هذه الروائح التي تدخل انفه تختلط بروائح لا يتقبلها العقل مبعثها عفونة الخارج

اطفأ الضوء ونظر الى ساعته الجدارية فوجدها تشير الى العاشرة والنصف ليلا وحين نظر الى ساعة يده القديمة وجدها تشير الى الثامنة والنصف ولما حدق جيدا وجدها معطلة والزمن فيها قد توقف اما في الخارج فكان بندوله يقرع على نافذة الغرفة بقطرت من ماء المطر.

ظل شباك غرفته يسمح بتسلل ضوء الشارع وحين يدخل، يجول بنظره فيرى غرفته شبه معتمه تتوجس فيها اقدامه بعناية خشية السقوط.. غرق في نعاسه الثقيل وشعر انه يطوف في فناء الغرفة يسبح عند سقفها وكان يشعر بالارتياح والانعتاق من وهم السقوط نحو الاسفل وكان شعوره يمنحه المتعة في انه كالطير خفة ولا تمنعه سوى الجدران اللعينة، بيد انه لا يجرؤ على الوصول الى النافذة لأن ما ورائها ضوء مشوب بضوضاء عبثية لا معنى لها والتي تتصادم كما هائلا من الكلمات والمفردات والصراخ وزعيق المركبات تتكاثر وتنتشر لتعاود ايقاعها المزمن.. فكر في قراءة شيء من الحكمة وسخر ضاحكا أين هي في عالم يعوم منذ الأزل ولن يستقر أو يبقى على حاله ثابتا .. وقع بصره على مقولة ساخرة (من يصلح الملح إذا الملح فسد..)؟

لا احد يصلح الملح ولا يصلح الملح من ذاته ولا يصلح بالانتظار لأن الملح لا يفسد .. هذا الإيهام الذي يقود الى أن الرأس لا يفسد .. والتوصيف هنا خبيث وماكر .. الرأس ليس ملحاً .. قد يتسلل من الرأس الخبث والفساد ليتحول الواقع إلى بركة راكدة من القيح يسود فيها البعوض والموت. من يجعل رأس الهرم منتصباً ؟ هي القاعدة، قاعدة الهرم ولولاها لما كان هنالك رأس.. وإذا تفسخت القاعدة فإن الرأس يبقى قائماً على الركام.. إنها معادلة الرأس والقاعدة التي تشكل معظلة العصر، يراد بها أن تبقى متفسخة ليبقى الرأس .. هل هو الملح الذي لن يفسد؟!

إذا ساد الجهل وساد المرض تداعى الجسد بالسهر والحمى .. ولكن قاعدة الهرم هي المسؤولة عن تنصيب الرأس وعليها تغييره اذا ما فسد ولكن الحال يكشف أن إفساد القاعدة لكي تنصب رأساً فاسداً.. فمن أين يأتي القرار؟ من الداخل أم من الخارج ؟

الخارج هو الذي يتحكم بالهرم والداخل يئن ويتوجع من تفسخ القاعدة وفساد الرأس ولكن، الا يرى أن قاعدة الهرم ينخرها التشتت والصمت على القيح والفوضى.. ما العمل؟

اشكالية الهرم ..

في كل مجتمع هنالك هرم وفي كل دول العالم هناك تشكيل هرمي له قاعدة اجتماعية وله رأس .. وكما أسلفنا، ان القاعدة هي التي تنصب الرأس وليس العكس. وتسائلنا من يحكم العلاقة بين القاعدة والرأس إذا ما اختل التوازن؟ اقول، هو العرف الاجتماعي والعالمي .. لأن لا احد يخالف العرف ولا احد يتقبل خروجه عن العرف العام السائد في كل العالم إلا الذي يريد أن يخالف هذا العرف، لهدف يتعارض مع القاعدة العامة للهرم .

يتبع رجاءً ..

***

د. جودت صالح

10/مايس2025

 

يا لروحِكَ الكونيِّةِ الخضراء

في كلِّ المواسمِ والفصولِ

والمدائنِ والمنافي الفادحة

ويا لقلبِكَ العاشقِ أبداً

والأَبيضِ مثل حقولِ الثلجِ

وسهولِ الملحِ

وقلوبِ العاشقينْ

ويا لأصابعكَ الشفيفةِ

ومشاعركَ الرهيفة

وصوتِكَ الجريح

الذي كانَ ينزفُ

بكلِّ قهرِ الجنوبِ

ودموعِ الفراتِ الذبيح

وكنّا ننزفُ معك َ

بـ " نجمة والطيور الطايرة

وبنادم والكَنطرة بعيدة

وبساتين البنفسج،

ودفتر حزن

وصار العمر محطّات "

وها أَنتَ تودّعنُا في محطّتِكَ الأخيرةِ

حراً وضحوكاً وناصعاً

ومُعطّراً بضوعِ البنفسج

والجوري والياسمين

وموشوماً بالكحلِ والحنّاء

على أَبوابِ قلوبِنا

وذاكراتنا المحتشدةِ

بتفاصيلِ سيرتِكَ المريرة

وحياتِكَ المُرَّة

وحاضراً في أرواحِنا الجنوبية

التي أضأَتَها بنورِ روحِكَ

وضوءِ أناملِكَ الأَبنوسيّة،

وصوتِكَ الفاجعِ الشجي

والمسكونِ بحُبِّ العراق

وحزنِ العراق

ودمعِ العراق

ونحيبِ أَهلِهِ المكسوري الخواطرِ

والحناجرِ والرقابِ والظهور

منذُ صدمةِ " جلجامشَ"

المفجوعِ بموتِ خلِّهِ وصاحبِهِ

البَرِّيِّ المُروَّضِ

برغبةِ السلطةِ

غوايةِ الانوثةِ

حقيقةِ الصداقةِ

لذّةِ الخمرةِ

والتحليقِ بأَجنحتِهِا الحريريةِ

بعيداً عن سطوةِ العقلِ

والأَساطيرِ والتابوهاتِ الخانقةْ

ومنذُ مناحاتِ " تموزَ "

و صيحاتِ البابليات

وآهاتِ السومريات

وأَنينِ الأُمهاتِ والحبيباتِ

والعاشقاتِ المسبياتِ

والحسينياتِ والزينبيّاتِ

والعراقياتِ الجريحاتِ

من أعالي دجلةِ الخرساء

إلى براري الدم

وبحيراتِ الجثثِ

في جنوبِ الأسى والحنينْ

**

ها أَنا استحضرُك الآنَ صديقي

يا كوكبَ الحُبّ الفراتي

الأغاني الشجية

النواح البابلي

المُعتَّقِ في قلبِكَ العليل

وفي قلوبنا المقهورة

على غيابكَ الثقيل

وعلى ضحكتكَ الهائلةِ

التي كانت تملأُ المُدنَ

وبيوتَ الناسِ والأصدقاءِ الرائعينْ

وتُبْهجُ العاشقاتِ والحبيباتِ

والعشّاقَ والشعراءَ والمُغنّينْ

وتتلألأُ في ليلِ المنافي

وحاناتِ الإنتظارِ المُرِّ

والموتِ الرخيصِ

في حياتِنا العراقيةِ

التي لمْ نرَ فيها سوى القليل ِ

من المباهجِ والمسرّاتِ

والفرحِ الشحيح

**

ما الذي تفعلُهُ ياكوكب هنااااكَ؟

هَلْ مازلتَ تُغنّي

بخجلِكَ الطفولي

وجنونِكَ ألعراقي؟

" آنه مجنونْ

آآآنه مجنووونْ

وخذاني الهوى

وأطَّوَّح غرامْ

أَنا شوكَي بالعراق

والعراق بعينج الحلوه ينامْ "

**

كيفَ لنا يا كوكب؟

وهَلْ يُمكنُنا أَن ننسى؟

ضحكتكَ التي تجعلُنا أَصداؤها

نشعرُ أَنَّكَ مازلتَ سعيداَ وبهياً

وباذخَ الروحِ والموسيقى

ولازالتْ أُغنياتُكَ الكوكبية

تنبضُ في قلوبِنا

وتنثالُ بندى البساتينِ

فوقَ شفاهِنا اليابسةِ

وها هيَ طيورُكَ تُرفرفُ طائرةً

في سماواتِ بلادِ الرافدين

حيثُ أَنَّها تبحثُ عنكَ

حتى تُطعمَها من حنطةِ يديكَ

وتسقيها من نَبْعِ عودِكَ

الذي بقيَ صادحاً ومتوهّجاً

مثلَ قلبِكَ الشاسع

مواقفِكَ الباسلة

دموعِكَ الحارّة

ضحكتِكَ الباذخة

أَغانيكَ الفاجعة

ومثل روحِكَ الخالدة

***

سعد جاسم

2025 - نيسان

أَيَّتُهَا السِّرَاجُ الْمُضِيءُ بِلَا زَيْتٍ، إِنَّ نُورَ جَوْفِ قَلْبِكِ خَالٍ مِنَ الْبَاطِلِ لَا يَنْطَفِئُ، تَعَالَيْ لِتُصْبِحِ الْآلامَ الَّتِي قَيَّدَتْكِ أَصْدَاءً فِي فَرَاغٍ بَعِيدٍ، تَتَلَاشَى كَمَا تَتَلَاشَى خُيُوطُ الشَّمْسِ فِي غُرُوبٍ وَرَاءَ تِلاَلِ الْحُزْنِ. اقْتَرِبِي لِتَتَحَوَّلَ الْجِرَاحُ إِلَى نَوَافِذَ مُفْتَحَةٍ تَسْتَقْبِلُ النَّسِيمَ الْعَذْبَ الْقَادِمَ مِنْ أَرَاضٍ أَبْعَدَ مِنَ الذَّاكِرَةِ. تَعَالَيْ لِنَتْرُكَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ لَنَا لِنَمْنحَ لِلْعِشْقِ مَكَانًا آمِنًا وَلْيَتَسَاقَطِ الْمَطَرُ عَلَى قَلْبَيْنَا وَيَزْهَرَ فِيهِمَا النَّرْجِسُ بَعْدَ طُولِ جَفَافٍ. تَعَالَيْ نُفَرِّغُ الرُّوحَ مِنْ زُبَدِ الدُّنْيَا وَنتْرُكُ الْأَرْضُ تَنبتُ زُهُورًا مِنْ ضَوْءِ. تَعَالَيْ نَسْحَبُ أَيْدِينَا مِنْ بَحْرِ الظَّلَامِ لِيُصْبِحَ قَلْبُنَا سَمَاءً بِلَا غُيُومٍ. تَعَالَيْ نَكْسِرُ قُيُودَ الزَّمَانِ وَلْتَمُتْ أَصْدَاءُ الْمَاضِي كَمَا تَمُوتُ النُّجُومُ فِي لَيْلٍ بِلَا قَمَرٍ. تَعَالَيْ لِنَلْتَقِ بِذَاتِنَا الْأُولَى لِتُزْهَرَ حَدِيقَةُ رُوحِنَا أَزْهَارًا لَا ذُبُولَ لَهَا. تَعَالَيْ لِنَتَقَرَّبَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْقٍ أَبَدِيٍّ لَا يَمُرُّ عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَلَا تَطَأْهُ قَدَمَا الفَقْدِ. فَقَطْ تَعَالَيْ لِنَجِدَ أَنْفُسَنَا ثَانِيَةً، كَمَا يَجِدُ الْعُصْفُورُ فِي الرِّيَاحِ جَنَاحَيْهِ الْمَفْتُوحَيْنِ.

***

كريم عبد الله

 

هبطت الطائرةُ بهم اضطراريٌا/ فوجد نفسهُ قُبطانَ سفينة انقاذٍ  تائهة في البحار/ تتّلبط كالسمكِ فوق الامواج/باخرةٌ ليست Titanic/ تستغيثُ وتطلبُ النّجدةِ/ يطلقُ طاقمها نداء استغاثة الواحد تلو الآخر: ألو…هل هناكَ مَن يسمعني؟!/ ولكن مَا مِن مُجيبٍ!/ مٓا الحلُّ إذًا؟/ فلا من طائرة إنقاذ تحوم في سمائهم لتسعفّ المنكوبين أو قوارب نجاة/ على مَا يبدو قد تخلت عنهم السّماء!.

يجيدُ السباحة فلا يخشى الغرقُ/ بل يتوخى سبي الأسماك والقروش والدلافين…/هو شاعرٌ سوريالي، وأديب نثري/ سردي ووجداني/ وكاهن بغدادي مفقودٌ في البحار مع طاقمهِ/  حينَ جلسَ على الحافةِ ليكتب/ هاج البحر وماج!/  لعلّهُ ليسَ محظوظًا بما يكفي وألاّ لغمز برماش العين،  ووضع يده في فمه وأطلق صفيرًا لحوتٍ  وجرّب حظّه في العومِ على ظهره مع سواه إلى برِّ الأمان/ مَا مِن شبكةِ اِتصالاتٍ تمكّنهُ من إجراء مكالمةِ استغاثةٍ لسفاراتِ البلدان التي يحملون جناسيها/ يال سوء الطّالع حَتّى قوارب الإنقاذ مُعطّلّة/ كانَ يقفُ بجانبهِ إناسٍ صراخهم  عناءٌ آخر/ ولكن ثمّة بحّارٍ حاولَ إنقاذ ما يمكن انقاذه/ لكنّهُ كُلّما تمعّن واعاد النّظر إلى المياهِ وجدَ صورتها/ فهل سوف يعلّق مرثيتهُ على مراياها ويقفز إلى لُجّةِ البحر/ كانَ يلزمهُ الكثير لكي يصلُ إلى الجرف/ أكانَ عليه أن يخرجَ محفظته لينظر إلى صورتها/ ليتهُ كانَ يقوى على التّوقف مِنَ التحدّيقِ في مراياها/  وكأنّهُ في قلبِ تلكَ المعَمعةِ يودّ توديع نسخته الاصلية فيها/ كانَ البحرُ هائجًا  وليسَ بوسعنا رؤية صورنا في مراياه/ فانعكاساتهُ تشوه وتخون ناظرها!1449 mayson

قالتْ إحداهن: تعرف شو/ عين الربّ لا تسهى ولا تنام/ فجأةً/ مرَّ بقربنا قاربٌ بِلا شراعٍ ودونَ قبطانٍ/ ربُّما الله تحنّن وسمعَ نداء الأبرياء/ في لحظة قفز جماعي إلى المياهِ للسباحةِ نحوه/  وبينما أنا التقطُ الأنفاس سألتهُ: علامَ تحملُ صورتها؟/ أجاب: وكيفَ تنسى الوجوهُ مراياها!.

***

يوسف جزراوي

.........................

* من ديوان (وكيف تنسى الوجوه مراياها) عن دار ميشان للطباعة والنشر

* اللوحة بريشة الفنانة ميسون الربيعي

 

هذي المدينةُ ليسَ تُؤتى كالمدنْ،

لا البَرُّ أوصلَني إليها لا السماءُ ولا السُّفُنْ،

لكنَّما إغماضُ عينيَّ التّلفُّظُ والتلذُّذُ باسمِها:

مَرَّاكُشُ المطرُ العتيقْ / مَرَّاكُشُ الشفقُ الغريقْ،

فإذا بها مثَلَتْ أمامي مثلَما امرأةٍ بها اختُصِرَ الزمنْ،

**

هذي المدينةُ لا تُقاسُ بوحدةٍ فوقَ الخريطةِ،

إنّما بقلوبِ أهليها التي اتّسعَتْ وفاضَتْ بالمحبّةِ والجمالْ،

فهنا الشوارعُ بُلّطَتْ بالوردِ لا الأسفلتِ،

والشرفاتُ كالعنقاءِ إذ تلدُ الغيومَ على الجبالْ،

**

لا ضَيرَ أنّي لم أزرْها بعدُ قد قالوا قديما:

إنّما أحلى القصائدِ شاعرٌ أعمى سيكتبُها عن البحرِ،

الذي أغوى المدينةَ عندما قد قالَ: كوني لي سديما،

**

وعصيّةٌ أبوابُها العُليا فكم صدِئَتْ مفاتيحُ الغزاةِ وغادروها خائبينْ،

فالرملُ فيها لم يزل يندى،

النجومُ مُبلَّلاتٌ من تباشيرِ الصباحِ على عيونِ الساهرينْ،

**

هذي المدينةُ قُبلةُ الشمسِ اللعوبِ على شفاهِ الغيمِ،

زنبقةُ المدائنِ والتُّوَيجاتُ التي منها الضياءُ يصيرُ أحمرَ،

عندَ وقتِ العصرِ حيثُ كآبةُ الأشياءِ تلبَسُ دمعةً،

نُسْغاً بنُسْغٍ سوفَ تُولَدُ ثُمَّ تعلو في فضاءِ حديقةٍ سِريّةٍ،

يا أيُّها الملقى على عشبِ الليالي الصامتاتْ،

فلتنتظرْ، مَرَّاكُشٌ تأتي إليكَ من الحقيقةِ من جذورِ الضوءِ تنثُرُ سِحرَها فوقَ الجهاتْ،

**

لمسُ الحجارةِ نبضُنا،

والماءُ يعرِفُ عن حكايا الأرضِ أكثرَ من رمالِ التيهِ،

يا زمناً بهِ الفَخّارُ يصبحُ وردةً كن لي هنا،

**

إنّا وُلِدْنا مرّتينِ،

فمرّةً في أرضِنا،

والثانيةْ،

مَرَّاكُشٌ كانت لنا أُمّاً رَؤُوماً حانيةْ،

**

هذي المدينةُ لا تَشيخُ معَ السنينْ،

جئنا إليها ضائعينْ،

منها خرجْنا عاشقينْ،

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

الأنوالُ، ضلوعٌ مقلوبة على صبرٍ قديم،

كل خيطٍ يمتدّ من نبضٍ مهمل،

من حلمٍ لُفّ بعهن متشابك،

من صوتٍ لم يجد فمه بعد.

*

وهنّ لا يقلن شيئًا،

لكن السجادة تنطق،

بلغةٍ الوخز،

وبالانتظار الممتدِّ كشَعرٍهن الأبيض الذي تخلص من ألوانه...

*

اللون الأزرق؟

دمعةٌ وقفت على بابها ولم تطرق.

والأحمر؟

صرخةُ رحمٍ تكسّر داخله الحنين.

والأخضر؟

ظلُّ حقلٍ لم تزرعه سوى الخيبة.

*

كلّ غرزةٍ قبرٌ صغير،

دفنت فيها امرأة ضحكتها،

وكل طرفٍ، شرفة،

تطلّ منها على أحلامٍ تتكسر، كالأواني الطينية.

يا لَسِرِّ الأصابع،

كيف تخدعُ الخيط ليصبح زهرة،

تُسقطها في حاشيةٍ بلا اسم.

كيف تهندس الحزن في نمطٍ متكرر،

كأن الوجع قابِلٌ للقياس.

*

وهنّ لا ينتظرن أحدًا،

لكن العُقَد تذكّرهنّ،

أن العالم مرّ من هنا

ولم يسأل .

*

الصمت أكثر كثافة من الجدران،

تتقاطع العيون،

تغيب ملامحُهن في الزخارف،

ويصرن مجازًا لا يُفَكُّ شفْرته.

ويودِعن أسماءهنّ في نسيجٍ يتكوّر،

ولا يطالبهن أحدٌ بالتوقيع ...

*

في المساء،

حين يتثاءب الضوء من ثقوب الباب،

وتغفو الأرواح على أكتاف الغبار،

تُطوى السجادة كجسدٍ تعب،

ولا أحد يعلم

أن في طيّاتها صرخةً

لم تجد فجرا يُنصت.

*

الحائكةُ الأخيرة،

تشدّ خيطًا رماديًّا

كأنها تستخرج شيئًا من صدرها،

نَفَسًا،

أو اسمًا قديمًا نسيه النداء.

*

كل خيطٍ متعب،

سار آلاف الحكايات

دون أن يُروى.

وكل لونٍ مطحونٌ تحت أصابعها،

أراد أن يقول شيئًا

ثم سقط في الحلقِ

كحصاة.

*

في الصباح التالي،

تُعلّق السجادةُ على الحائط،

وتمرّ العيونُ عليها

كما تمرّ الريح على مقبرة.

ولا أحد يسمع النبض،

ولا أحد يشمّ الدمع المجفف بين الخيوط.

*

فقط النمل يعرف الطريق،

يزحف على الخطوط الدقيقة،

يحمل أسرار النساء

إلى عمق الأرض،

ويبتلعها ببطء،

كما تفعل الذاكرة....

***

مجيدة محمدي

ظل الأبد

أنا السراب الذي لا يشيخ، ظل يتراقص بين الحضور والغياب، وعد معلق بين الفناء والانبعاث.

كلما حسبت أنني تلاشيْت، وجدتني أتسلل من بين أصابع العدم، كوميض يتجدد كلما أطبقت الظلمة على الأفق.

أنفاسي شررات، وصمتي اشتعال مؤجل، يترصد لحظة الانفجار، كبُركان هادئ في ظاهره، لكنه في عمقه يخبئ صخب الخلود.

أيها الأفول المتكئ على عنق الضوء، لن تخمدني.

كم مرة سحبت النهار إلى جوفك، متوهماً أنه صار لك، وأنني ذبت في ظلالك؟

لكنك لم تدرك أنني أستفيق في اللحظة التي تعلن فيها انتصارك، أنبثق من حواف الهزيمة، كطيف من وهج لا يذوي.

كم ظننت أنك أطفأتني، وأنا الطعنة التي لا تموت، الجنون الذي يلد نفسه.

كلما احتضنني الفناء، أفلتُّ من قبضته، كأنني فجر يتوهج من لهيبه الأخير.

مثل "بروميثيوس" الذي سرق النار من الآلهة ليمنح البشر الحياة، أنا المتمرد الذي يتحدى الموت ليولد من رماد نفسه عاصفة جديدة.

لا شيء يطفئني، لا الغياب، ولا الامتداد، ولا الليل المتربص بي، الساكن في وهمه أنه يستطيع احتوائي.

فأنا النبض الذي ينسل من ضوء يحتضر، والموت الذي يخون حتميته ليولد مجددًا.

كلما ضاق بي الأفق، تمددت في الهوامش.

كلما ظنوا أنني انتهيت، وجدتني في البدء من جديد، أتشظى في الفراغ، ثم أتوحّد، أتناثر كذرات غبار، ثم أعود إعصارًا.

أهيم كوهج في مجرات الصمت، ثم أهبط كعاصفة على قلب الزمن.

أنا الاسم الذي لا يُمحى، والأثر الذي لا يتآكل، والصوت الذي يعود، ولو تخثّر في الصدى.

أنا اللحن العالق في أذن الأبد، والنقش الذي يأبى أن يتلاشى.

يفرّ مني النسيان مذعوراً، فأنا الحقيقة التي تتوارى بين السراب واليقين، والظل الذي يراوغ الضوء والظلمة معًا.

لا حد لي، لا قيد لي، لا انتهاء لي...

فأنا اللازوال

***

بقلم فاطمة عبد الله

 

لست ذو قوة أو نفوذ، فمنذ كان والدي يمتلك حق التنقيب في منجم متهالك كما هي سنين جدي التي قضاها يبحث عن عرق الذهب الذي أوهمه من باعة ذلك المنجم الخرف.. مات جدي دون أن يحقق غايته وأستلم النبؤة والدي الذي قبع بخيمة متهالكة قرب باب المنجم ليل نهار فارق بيتنا الصغير، أختبرت والدتي صبرها لمدة عشرون عاما جيئة وذهابا وهي تحمل ما تيسر من الطعام! هذا إذا كان يطلق عليه طعام.. صباي كان بطاقة الدخول الى عالم والدي وجدي قبله قدرتي على حمل معول يحطم وينقب، صرت عامل منجم أم تراكم تقولون سيكون مصيري أو مستقبلي رجلا ثريا أو صاحب شهادة بعد أن نجد الذهب، غير أن الحمار لا ينجب سوى جحش والحصان حينما يتزاوج مع الحمار لا ينجب سوى بغل والحقيقة أقول لا أعلم الى من أنتمي الى هذا السلالة أم تلك؟!! على أي حال خمس سنوات أخرى قضيتها مع والدي أبلينا فيها رؤوس معاول وعِصِيها دون أن يبلى الصخر أو نجد ما نصبو أو رمق من أمل حتى.. قضينا في مرة راحة لمدة يوم أو يومين كان ذلك بعد رجعت ليلا الى كوخنا الذي تهالك لأجد أن والدتي قد فارقت الحياة عند بابه وهي تمسك بصرة الطعام... الموت... الموت لم يسمح لها بإيصال فتات الطعام لنا، شعرت أنها رسالة مبطنة تهمس... الموت أقرب إليكم مما تطمحون إنه حليف الفقراء والحظ صنو الأغنياء هكذا هي المعادلة التي مرة سمعت من أحدهم عن رجل مر يسأل عن جهود والدي وهل توصل الى عرق ينبض من فضة حتى وليس ذهب قال تلك العبارة.. سارعت أخبر والدي الذي لم يسارع الى مواراة والدتي ربما حزن عليها ليس كثرا بل أغلب حزنه كان على من سيعد الأكل له... ضحكت في سرِ كثيرا، لقد تلبسته لعنة الحصول على الذهب وجعلت منه رجل بلا أحاسيس أو مشاعر، عاد بعد أن طلب مني أن أكون من يَعُد ما يتوفر من خبز وماء وبعض خضروات كانت والدتي تزرعها في باحة صغيرة أمام الكوخ هي كانت مورد الطعام الذي نقتاته من تربتها... في يوم كنت قد لبست حلة الإرهاق والتعب فتوسدت الأرض فراشا وثيرا بالغضب من والدي ونفسي محللا واقعي أني ميت لا محالة مادام والدي يقيس ثراءه بحلم ومنجم مظلم مخيف... ساعات طوال نقضيها نحطم الجدران طمعا في لمعان يشع من خلال ضوء شمعه أو سراج بزيت مهووس بالسخام... دخل والدي وهذه أول مرة يدخل يحفر دون أن يطلب مني أن أشاركه يبدو إنه شعر بمعاناةِ.. ساعة من صمت سوى تحطيم جدار عصي سمعته يصرخ ينادي بإسمي الذي نسيت... لقد ظهر لقد حصلت على لمعان ضياء عرق الذهب هيا يا بني تعال أعني.. ساعدني لقد إنهار الجدار على أقدامي... سارعت أفض الركام والصخور التي كان قد تراكمت على أغلب رجليه وهو يقول أنظر هناك أليس هذا هو بريق لمعان عرق الذهب لقد بتنا أغنياء هيا سارع على رفع هذه الصخور كنت شغفا أجاريه فرحته لكن خوفِ على خسارته وفقدانه إبتلعت فرحتي... ساعة من هلع وفزع كنت أحاول ترميم أقدام والدي التي تهشمت إحداها تماما... غير أنه لم يبالي كان قد طلب مني إكمال الحفر في نفس المنطقة... لم أرفض طلبه غير أني كنت خائفا أن ينهار علي ما تبقى من جدار.. فصرت أضرب الأرض أسمِعَهُ صوت المعول ظنا منه أني أحفر... دفعني الفضول الى ما كان يحفر فيه جوانبه كان فعلا هناك بريق لمعان .. حدثتني نفسي هل تعتقد أنه عرق ذهب أم وهم جائع بسنين حلم كاذب، سارعت في الحفر دون مبالِ بما سيحدث يبدو أن لعنة الذهب قد طالتني... ساعات قضيتها أحفر بضراوة حيوان جائع... نسيت والدي، نسيت نفسي، نسيت من أكون حتى وصلت غايتي كان الضياء جميلا دفع بي الى متابعته الى أن أوصلني غايته... لقد كان ثقب يؤدي الى مكان يفضي الى طريق يوصل الى الضفة الأخرى...تسعون عاما قضاها جدي ربعها أو أكثر أكملها والدي وو رثت بقاياها عنهما... رجعت كي أخبره حقيقة الأمر فوجدته قد فارق الحياة, لم أحزن كثير لقد مات فرحا بأن حلمه قد تحقق فليعش ما كان يرنو في عالمه الآخر.. أما أنا فانتهزت الفرصة بعد أن واريته الأرض بجانب والدتي خرجت من نفق المنجم من تلك الفجوة الى عالم يكسوه الضياء دون أن يكون تابعا لأي عالم.. تركت المنجم وحلم والدي إرث للشيطان فلابد أنه سيغري الباحثين عن عرق الذهب في نفق مظلم دون بقعة ضوء.

***

القاص والكاتب

عبد الجبار الحمدي

 

أَقْبَـلَتْ

فِي رَفَائِـفَ خُضْرٍ

يَدَاهَا مَنَائِـحُ بُهْرٍ

وَ بَسْمَتُهَا خَيْـلُ نَارْ،

مِنْ أَعَالِي اُلْمَوَاجِيدِ ذَاتَ مَسَاءْ

أَقْبَـلَتْ دُرَّنَارْ

بَسَطَتْ فِي اُلْفُؤَادِ طَنَافِسَ أُبَّهَةٍ

وَ سَرِيرَ رُوَاءْ

قَالَتِ: اُلْآنَ سَمْعُكَ لِي

وَمَشَتْ فِي دَمِي نَغَمًا كَاُلْجَدَاوِلِ

حَتَّى اُخْضِرَارِ اُلْحَنَادِسِ،

كُنْتُ أُحَدِّقُ فِيهَا

وَأَدْنُو...اُلْبَصِيرَةُ كَفُّ نَدًى

أَنْحَنِي أَلْفَ ضَوْءٍ لِأُصْغِي إِلَيْهَا

اُلسُّكُونُ أَصَابِعُ تَفْتَحُ لِي عَرَصَاتِ اُلْمَدَارْ.

**

كَتَبَتْ يُتْمَهَا دُرَّنَارْ

وَ اُسْتَقَلَّتْ حِجَابَ اُلنَّهَارْ

أَيُّ بَرْقٍ يَقُودُ إِلَيْهَا

اُلسَّمَاوَاتُ أُحْبُولَـةٌ

وَ اُلْمَسَالِكُ أُخْبُولَةٌ؟

فِي اُلدَّوَاخِلِ دَقَّتْ دَسِيرَ اُشْتِهَاءٍ

تَحَسَّسْتُهُ حِينَ طَارَتْ،

سَأَرْفًعُ نَبْضِي إِلَيْهَا صَلاَةَ ضِيَاءْ.

2

وَرْطَـتِي دُرَّنَارْ

لِتَفَاصِيلِهَا مَاءُ حَدْسٍ

يَقُولُ تَخَارِيمَ عُمْرِي

أَقُولُ اُلزَّمَـانُ يَدٌ

يَتَقَفَّعُ مَشْـرِقُهَا

وَ اُلْفَرَاغُ خُـطًا

يَتَغَيْهَبُ سُنْـبُلُهَا،

لاَ شَبِيهِي يُلَمْلِمُ ظِلِّي

يَقُولُ رَذَاذَ غِـيَابِي

إِذَا وَجْهُهَا تَلَّنِي

فَوْقَ جُودِيِّ قَافٍ وبـاءْ.

3

كَمْ سَأَعْزِفُ مُزْنَ اُخْتِلاَفِي لَهَا

حِنْطَةُ اُلْحُلْمِ صَحْوِي

وَ بُسْتَانُ تَسْمِيَّتِي

كَاُلرَّغِيفِ اُلْإِلَهِيِّ،

جِذْرُ اُلْأَقَاصِي سُهَادِيَ

تَـتْبَـعُنِي

فَخْفَخَاتُ اُلْقَنَادِسِ

عُبِّيَةٌ مِنْ صُنُوجِ اُلْجَدَاجِدِ،

مِزْوَلَةُ اُلْهَتْكِ حِسِّي

اُلَّذِي لاَ تُرِيدُهُ يَنْبُتُ فِيَّ

بِأَيِّ اُلْمَنَاجِلِ أَحْصُدُهْ

كَيْ تَرَانِي ؟

لَهَا ضِفَّةُ اُلنِّكْرُوفِلْيَا

وَ لِي ضِفَّتَانْ

اُللَّيَــالِي

وَ غُرْبَةُ ذَاتِيَ عَنِّي

فَكَيْفَ أُرَاوِدُهَا عَنْ غَوَايَتِهَا ؟

لاَزَوَرْدُ تَرَائِبِهَا مُهْرَةٌ

تَتَطَوَّحُ بِي بَيْنَ أَحْرَاجِ هَذَا اُلْعَمَاءْ.

4

يَا اُنْثِيَالَ تَلاَوِينِهَا فِي اُلْعَنَاصِرِ؛

بَـابُ اُلظَّمَأْ

لِشُهُودِ فُيُوضَاتِهَا

جَـسَدِي

وَ اُلطُّـقُوسُ اُلْأَرَقْ

أَتَنَشَّـقُ أَنْفَاسَـهَا

مِثْلَ رُوحٍ مُبَلَّلَةٍ بِاُلْأَلَقْ

وَ أُسَمِّي اُلْكَوَائِنَ مِنْ نُقْطَةٍ

فَوْقَ كَـاهِلِهَا،

هِـيَ لاَ مُنْتَهًى

شَجَرُ اُلطَّبْعِ يَشْرَبُ مِنْهُ نَبِيذَ تَسَلْطُنِهِ

وَ بُذُورُ اُلتَّآوِيلِ قِنْدِيلَ لَذَّتِهَا

فِي مَتَاهِ اُسْمِهَا أَتَدَكْدَكُ

تَـسْـلَخُنِي

بِدِمَقْسِ اُللُّغَاتِ

وَ أَسْرَارِ سُرَّتِهَا

شَهْوَةً أَتَحَلَّلُ فِي مَائِهَا

مِثْلَمَا اُلْوَمْضُ تَشْفُطُنِي

كَرْكَرَاتُ أَنِينِي

وَهِيجُ اُنْتِسَابٍ إِلَيْهَا

وَ عُنْقُودُ سُكْرِي غَدَائِرُهَا،

لاَ فَضَاءَ سِوَاهَا يُمَسِّدُنِي

إنْ تَهَاوَتْ عَلَيَّ اُلْفَضَاءَاتُ

وَاُشْتَعَلَتْ فِي اُلْهَشَاشَةِ رِيحُ اُلدِّمَاءْ.

***

أحمد بلحاج آية وارهام

https://mail.google.com/mail/u/0/#inbox/FMfcgzQbfBtlFvHfqcBpLbNbLBxClrJJ?projector=1

أو الملمَّع المالطيّ

في ڤاليتّا،

مئةُ حكايةٍ وحكاية هجينة،

تقرؤها بإمالاتٍ وإضافاتٍ واتّجاهات مغاربيّة،

على لوحاتِ الأبواب، والسّور، والأزقّة، والطُّرق:

Sqaq il-Barrakka t'Isfel،

Triq il-Kavallier ta’ San Ġwann،

Is-Sur ta’ Santa Barbara

في حمرون، في المدينة،

في المرسى، في السواطر،

في Il-Blata l-Bajda،

في Għar id-Dud،

و غار الظلام،

وفي Daħlet Ġnien is-Sultan،

دخلة جنان السلطان.

*

كلُّ صعودٍ من Bieb il-Belt

عبر Triq ir-Repubblika،

إلى Marsamxett (مرسى المشتى)،

أو Marsaxlokk (مرسى شلوق)،

إلى Msida (المسيدة) وGżira (الجيرة)،

تُغازلك سليمة،

وتناديك السواقي وغرغور.

*

وجوهُ المالطيين، وأحاديثهم الملمّعة،

تحوم بخفّة حول Misraħ San Ġorġ

على أنغامِ عودٍ وقيثارة وصيحاتٍ عابرة:

Imxi, stenna!

كأنك لم تغادر الحومة قط.

قبل أن تُصادفها مكتوبةً:

Il-Barani lil barra

"البرّاني للبرّة"،

كأنّهم نسوا،

أنّ il-Malti،

وُلِدت من أفواه il-barani،

الذين تركوا وراءهم

أصواتًا لا تزال تنشد في ڤاليتّا

ملمّعا مالطيّا هجين.

***.

نزار فاروق هِرْمَاسْ

أستاذ دراسات الشّرق الأوسط وجنوب آسيا

جامعة فيرجينيا

 

أجلس مع قهوتي على السّطح، أدخّن سيجارة وأسخر من تقديسك للتقاليد..

تحترق السيجارة بين شفتاي وأحترق أنا على أعتابك..كلانا سننطفئ في النهاية دون أن يلحظنا أحد..

أنا وسيجارتي يائستان، هي تعلم أنّها ستتلاشى لا محالة وأنا أعلم أنّك لن تعود..

أراقب المارّة بعين ساخطة وألومهم على ما فعلت..

أكره الجميع إلا أنت، أنت الّذي عليّ أن أمقت لكنّك أكثر من أحبّ..

أسحب نفسا عميقا من السّيجارة وأنا أتذكّر تعاليمك وخوفك أن تفسد القهوة قلبي لكنّك أنت من أفسدته في النّهاية، أو ربّما أنا من فعلت ذلك.

تكره القهوة وتخبرني إنّ السهر سيرهق عيناي

لكنّ اللّيل هو من يعانق قلبي الآن بينما تواسيني القهوة في غيابك..

أنا لا أصلح لك حبيبة يا عزيزي

لكنّني أحبّك رغم ذلك..

لا شأن لك برئتاي ولا بقلبي.

نسيت كم مضى من الوقت وأنا أراقب شجرة ضخمة على الجانب الآخر من الطّريق، كم أحبّ الأشجار لكنّك لا تعلم هذا..أنت لا تؤمن بقدرتي على الحبّ حتّى..

خلال محاولاتي لقتل آخر نجم يهمس بالأمل في سماء ليلتي الوحيدة، مرّت فتاة لا أظنّ أنّها كانت ستلفت انتباهي في المعتاد

لكنّها بدت من تلك العاديّات الّتي تفضّل..

ترتدي فستانا مزيّنا بالورود وحقيبة عصريّة، تبتسم بحياء وهي تبالغ في تسوية حجابها..

كانت ترتدي ساعة أنيقة في معصمها

أنا لا أحبّ ارتداء السّاعات فهي تذكّرني بالوقت

و لكن دعك منّي ولنعد الى فتاتك..

هي جميلة وكلّ تفاصيلها توحي بالنّظام والاستقامة.. تضع أحمر شفاه وردي وتبدو تفاصيلها متناسقة..

فكّرت لو أنّني كذلك ربّما كنت سأتقبّل حبّك،

لو كنت واثقة، مطمئنّة، لو كان لي عقل هادئ ،

لو أنّني أعرف كيف أحبّ وأعرف ما أريد..

لكنّني لست كما تعتقد

شخص مثلك لا يمكن أن يحتمل جنوني.

أنا فوضوية جدّا، أرتدي السّواد في معظم الأيّام وأزيّن عيناي بكحل أسود ثم أسطّرهما بالسّواد من جديد.. أضع أحمر شفاه صارخ في أغلب الأوقات وأجعل من ذلك الحلق الّذي تكره زينة لأنفي..

أنا هكذا يا عزيزي أقع في حبّ الأشياء المبعثرة وأحرق معابد الأسوياء. إلى أن أحببتك.

كلانا من عالم مختلف وكلانا عاد إلى عالمه الآن، أو ربّما منذ سنة

أنت نسيت فكرة وجودي ومضيت في سعادتك مع شخص رأى فكرة حبّك مغرية بدل أن يرتعد منها، شخص يجد في اهتمامك نشوة لذيذة ولا يختنق بين ذراعيك..

و أنا هنا أشتاق لشخصك الّذي أحبّني وأرفض كلّ فرصة متاحة..

لا أريد أحدا، ولا حتّى أنت.

أنا فتاة لن تسعد بحبّك رغم إنّه كلّ ما تريد..فتاة باتت تعلم أنّ لها قلبا خلقته أنت من رحم الذّنب ثمّ مضيت..

قلب بات الآن كلّ ما أملك.1438 marim

بقلم مريم عبد الجواد

في أحد الأحياء الهادئة في المدينة، كانت "رُبى" تسير بخطوات واثقة نحو الجامعة. امرأة في منتصف الثلاثينات، تتلفّح بكبرياء ناعم لا تصنعه الكلمات، بل تبنيه التجارب. خلف نظارتها الصغيرة عينان تلمعان بعزيمة من طراز نادر. لم تكن الحياة سهلة معها، لكنها لم تكن يومًا من أولئك الذين يطلبون الحياة سهلة.

"رُبى" كانت قد توقفت عن الدراسة بعد الماجستير بعام واحد فقط من نيلها الشهادة. في وقت كانت الفرص تفتح ذراعيها لها، جاءت العاصفة. والدها أصيب بعارض صحي خطير، والعبء المالي والعائلي وقع على عاتقها. أخواتها الثلاث كنّ لا يزلن في المدرسة، وأمها ضعيفة البنية، لا تملك سوى دعائها الدافئ وصبرها الطويل.

لم تكن الظروف سهلة، لكنها لم تسمح لنفسها بالاستسلام. عملت في أكثر من وظيفة، كانت تدرّس في النهار وتكتب مقالات علمية لطلبة الدراسات العليا ليلًا، تجمع دينار فوق دينار لتُعيل أهلها وتحافظ على بقايا حلمها. مرت السنوات. ومع كل سنة، كانت تسجل في مفكرتها: "لم أنسَ الدكتوراه، وسأعود." لم يكن ذلك مجرد وعد تكتبه بقلم، بل عهد بين قلبها وسماء كرامتها.

ذات مساء، وفي لحظة صفاء داخلي، نظرت إلى المرآة وقالت: "حان الوقت." في اليوم التالي، بدأت رحلتها في التقديم للمنحة التي لطالما حلمت بها. لم تكن سهلة، فالمنافسة شرسة، وهي امرأة تجاوزت الثلاثين، من دولة تتقلّب فيها الظروف، وبملفٍ دراسي توقف منذ سبع سنوات.

لكنها لم ترَ في ذلك عائقًا، بل حافزًا. كتبت خطاب الدافع بلغة صادقة، تحدثت فيه عن الشغف والعقبات والصلابة. قدمت ملفها، وانتظرت.

وفي تلك الفترة، كانت تنهض قبل الفجر، تقرأ أبحاثًا حديثة، تحضر ندوات افتراضية، وتتواصل مع أساتذة في الخارج. كانت تستعد ليس فقط لقبولها، بل لتميزها إن قُبلت.

وجاء اليوم المنتظر. بريد إلكتروني يحمل العنوان: "تهانينا!" فتحت الرسالة، ويدها ترتجف. لقد قُبلت في جامعة أوروبية مرموقة بمنحة كاملة.

في تلك اللحظة، لم تبكِ. فقط أغلقت الحاسوب، وخرجت إلى الشرفة. وقفت تحت السماء، رفعت رأسها عاليًا، كما اعتادت أن تفعل في كل سقوط. تمتمت: "عرفتُ أن السماء لا تخذل من لا ينحني." سافرت، وبدأت مرحلة الدكتوراه. لم يكن الطريق مفروشًا بالورود، لكنها اعتادت المضي في الطرق الصعبة. كانت تواجه تحديات اللغة، والاختلاف الثقافي، والحنين، لكن شيئًا في داخلها ظلّ صلبًا لا يتزحزح: "لن أعود دون الدكتوراه."

مرت سنوات. وفي قاعة كبيرة، ارتدت ثوب التخرّج، ووقفت لتلقي كلمتها أمام الحضور. كانت كلماتها بسيطة، لكنها قوية: "أنا لستُ هنا فقط بفضل علمي، بل بفضل كبريائي، الذي لم يسمح لي يومًا أن أنسى من أكون، وأين أريد أن أصل."

وحين نزلت من المنصة، صافحت أساتذتها، ثم نظرت في عيون والدتها التي حضرت الحفل، وقالت لها: "لقد وعدتُكِ، وها أنا أوفي."

***

قصة قصيرة

رنا خالد

في يَومٍ كانَ حَرُّهُ ناراً ولَهيبْ.

جاءَني حِمَاري (أَبو الحَيْرانِ) المَهيبْ.

مُنْزَعِجٌ مَألومٌ أَمْرُهُ مُريبْ.

فاستَقبلتُهُ باحْتِرامٍ وبوَجْهٍ طَليْقٍ رَطيبْ.

وَ قُلتُ لهُ:-

أُحَييكَ يَا (أَبَا الحَيرانِ) يَا حِمارَنا الحَبيبْ.

يَا حَبيْبَ القَلّْبِ يَا خَفيْفَ الظِلِّ كالعَنْدَليبْ.

قَالَ لي (أَبو الحَيْرانِ) بصَوّتٍ حَزينٍ كَئْيبْ.

لا حَيَّاكُمْ اللهُ ولا بَياكُمْ.... قَوْمٌ ليْسَ فِيْكُمْ لَبْيبْ؟.

تَركُضُونَ وَراءَ الأَوهَامِ رِكْضاً عَجيبْ.

فَلا تَنالُونَ غَيْرَ العَنَاءِ والأَلَمِ العَصيبْ.

مِنْ خَجَلي عَرَقَ جَبيْني؛ وصِرتُ بوَضعٍ كَئيبْ.

قُلتُ لنَفسي:

هَذا حِمَارٌ وسَاءَهُ ما بنَا مِنْ أَمرٍ غَريبْ؟!.

فَكيفَ يَصبرُ النَّاسُ على الظُلمِ والحَميرُ مِنهُ تَستَريبْ؟!.

قُلتُ يا حَبيْبي يَا (أَبا الحَيرانِ):

هَوْناً... هَوْناً... فأَنْتَ الحَليمُ اللبْيبْ.

مَا أَغاضَكَ مِنّا أَيُّها الرَّفيقُ النَّجيبْ.

فَأَنْتَ يَا حِمَاريَ مَعَنا إِنّْ طابَتْ بِنَا الدُنْيَا أَنْتَ تَطيبْ.

وَإِنْ تَعَسَّرَتْ بِنَا الدُنْيَا فَأَنْتَ مَعَنَا شَاهِدٌ ورَقيبْ.

لَقَدّْ عَثَرَ الزَّمَانُ بِنَا فَصَارَ حَالُنَا مُعيبْ.

******

التَفَتَ إِليَّ  (أَبو الحَيْرانِ) بغَضَبٍ شَديدْ.

وَ قَالَ لي:-

بِصَوّتِ مَكْسُورٍ حَزينٍ؛ كَصَوّتِ (فَريدْ)* *.

يا (ابنَ سُنْبَه):-

لِمَ تُبَذِرونَ أَمْوالَ العراقِ بِلا عَقّْلٍ سَديدْ؟.

قُلتُ يَا نُورَ عَيني يَا (أَبَا الحَيْرانِ):-

لا عِلْمَ لي بمَا تَقْصِدُ ومَا تُريدْ؟.

قَالَ صَديْقي (أَبو الحَيرانِ) بنَبرَةِ الغَضِبِ العَنيدْ:-

صَهٍ يَا (ابنَ سُنْبَه)؛ أَمَا بِكُمْ عَاقِلٌ رَشيدْ؟.

هَلْ هَذا هُو عِراقُنَا الجَديدْ؟.

عِراقُ المُستَقْبَلِ والأَمَلِ... عِراقُنَا السَعيدْ!.

أَهْلُ الحَلِّ والعَقّدِ يَسرقونَ أَمْوالَ الشَّعبِ بِكُلِّ تَأْكيدْ.

قُلتُ لحِماريَ الحَبيْبِ (أَبَا الحَيرانِ):-

و الخَجَلُ تَغَشَاني وصَارَ جِسْمي كالجَليدْ!.

يَا حَبيْبي يَا (أَبَا الحَيرانِ):-

ماذا نَفْعَلُ وهُمّْ يَحسَبونَ الشَعّْبَ سَخيْفٌ وبَليدْ!.

المرتَشونَ والسُرّاقُ يَنهَبونَ أَمْوالَنا؛ ويَقولونَ هَلّْ مِنْ مَزيدْ؟.

استِثْمَاراتُهُمْ خَواءٌ بِخَواءٍ كَريْحٍ صَرصَرٍ حَصْيدْ!.

قَالَ عَزيزي (أَبو الحَيرانِ) ؛

بلَهْجَةِ الزَجّرِ والتَبْكيْتِ والتَنْديدْ:-

وَالآنْ تُحَضِّرونَ لقِمَّةِ قُمَمِ العُربِانِ بجُهْدٍ جَهيدْ؟.

مَاذَا سَيُقَدِّمُ لَنا هَؤلاءِ العَبيدْ؟.

سِوَى اجْتِماعَاتِهِم عَلى مَوائِدِ الثَّريدْ؟.

لقَدّْ تَلَطَخَتّْ أَيديهُمُ بِدِمَا الأَخيارِ وكُلِّ شَهيدْ.

عُروشُهُم قَامَتْ عَلى العَمَالَةِ والظُلْمِ العَنيدْ.

لِمَ لا تَحفَظُونَ أَمْوالَ العِراقِ مِنَ التَبْذيرِ والتَبْديدْ؟.

فَقَدّْ سَبَقَتْ هَذِهِ القُمَّةُ قُمَمٌ؛ فَمَا الجَديدْ؟.

كُلُ قُمَّةٍ تَنتَهي بزَيفِ الوعُودِ كَسَرابٍ بَعِيدْ!.

قُمَمٌ لا يُرتَجى الخَيرُ منها؛ فَلمْ تَأْتِ بقَرارٍ مُفيدْ!.

اكتَوى العِراقُ وغَزَّةَ ولُبْنَانَ، بنَارِ ظُلْمِهِمْ الشَّديدْ!.

فَهذهِ قُمَمٌ تَأْنَفُ مِنْها حَتّى القُمَامَةَ والأَوْسَاخَ بالتّأكيدْ!!.

***

محمد جواد سُنْبَه

كاتب واعلامي عراقي

...................

* القُمَّة من القُمَامَة وهي الكُناسة تُجمع من البيوت والطُّرق والجمع: قُمامٌ.

** المُطرب فريد الأَطرش.

"ابنةُ الدواميس"

أنا ابنةُ مدينةٍ لا تُذكرُ في خرائط الضوء،

مدينةٌ منجمية،

نقطةٌ بُنّية في كفِّ الوطن،

حيثُ الترابُ لا يُغسل، بل يسكنُ الشرايين.

هنا، يولدُ الصباحُ من بينِ شقوق الخوذة،

وتتثاءبُ الشمسُ على فُوهاتِ المناجم .

*

أنا ابنةُ الغبارِ حين يصبح وطناً،

وحفيدةُ الرئاتِ التي علّمتني

أن أتنفس ببطءٍ، كي لا أبتلع القهر دفعةً واحدة.

*

كان جدي …

يعود من الدواميسِ بنصفِ ظلّ،

مُحمّلاً بصوتِ الحجر،

برائحةِ الفوسفات،

بعينينِ لم تعتادا الضوء منذ عقود.

وكنتُ أسترقُ النظرَ إلى وجهه

فأراهُ متآكلاً… كأنّ الأرضَ تقتاتُ على ملامحه،

فهمتُ أن العُمّال ليسوا أشخاصاً،

بل نُسخاً صخريةً من الخسارة،

يعبرون الوقت… ولا يعبرهم أحد.

*

أنا ابنةُ السكونِ الذي يسكنُ المقابرَ السفلية،

أعرفُ لغةَ الآلاتِ الغليظة،

أفهمُ صراخَ الحبال حين تتدلّى بأجسادِ الأحلام،

تعلمتُ أن أكتبَ بالتراب،

أن أقرأَ التجاعيد كأنها نصوصٌ مقدسة،

أن أفرشَ الليلَ بأحذيةِ العمال…

وأنتظرَ الحكاياتِ التي لا تُقال.

*

كلما مشيتُ في طرقات المدينة،

تعثرتُ بظلّي الثقيل،

مزروعٌ هنا، في هذا المكان

حيث كل شيءٍ يهبط…

الوجوه، الأمنيات، والمجاذيب.

*

أنا التي وُلدتُ من رحمٍ طيني،

لا تشتهي الذهب،

بل تعرفُ أن بريقهُ يُزهق الأرواح.

من قال إن الزهد لا يُورث؟

أنا أحملهُ في مفاصلي،

في نظرتي الثابتة،

في انحرافي الفجائي عن كل شيءٍ لامع.

*

إن جئتَ تبحثُ عني،

فتش عني تحت العربات،

بين الأحلام المحروقة

والأسماء التي لم تُكتب على جدرانِ التاريخ.

*

أنا تلك التي تسيرُ في صمت،

لكنها تتركُ أثراً من معدنٍ

في قلبِ كل عابر،

أنا التي تعرفُ

أن الجمالَ لا يأتي من البقاء…

بل من النقاء .

*

أنا ابنةُ المدينةِ المنجمية،

أحملُ على ظهري طبقاتٍ من الأرض،

وأمشي…

كأنني صدًى قديم لحفرةٍ

لم يغلقها أحد.

***

مجيدة محمدي - تونس

كانت تطالع وجهها في المرآة، تتأمل خطوط الزمن وقد ارتسمت بوضوح على ملامحها. كل تجعيده، كل ظل تحت عينيها، يشهد على ما مرّ بها من ألم وذكريات ثقيلة. مدت يدها إلى صدرها، تتحسس الجهة اليسرى، حيث بقيت الندبة شاهدةً على قرار مصيري.

همست لنفسها:

"هل يُعقل أن كل هذا قد مرّ؟ وأنني ما زلت هنا، على قيد الحياة، كنت أظن أنني سأصمد أكثر من عام أو عامين؟، وأن من يضع الزهور على قبره.. هو أنا؟ أغلبنا يموت، لكن الموت لا يُعدّ انتصارًا، آه يا زوجي العزيز... لا تجوز على الأموات سوى الرحمة".

كان يحتضنني باكيًا يوم عِلم بمرضي، يقول: "لو حدث لكِ مكروه، لن أعيش من بعدك. أنتِ زوجتي التي أحب."

كان قرار استئصال أحد ثديي مؤلمًا، لكن الموت كان أقسى. اخترت الحياة، وسندت نفسي على وعوده وكلماته الحنونة.

يومها، كان صوته يداوي جراحي، وحبه يخفف من شعوري بالنقص.

حين سقطت آخر شعرة من رأسي، بعد أن تساقطت الواحدة تلو الأخرى، استعنت بشعر مستعار أخفي تحته رأسي الحليق. وأخبئ به اّلمي من نظرات الشفقة والعطف، التي كانت تلاحقني في كل مكان.

مرّت الشهور قاسية، لكنني قاومتها، وخرجت من التجربة بخسائر كبيرة، وشعور دائم بأني لم أعد كاملة... بل أصبحت نصف امرأة.

لكن الحقيقة لم تتوقف عند الجسد، تغيّر هو أيضًا... صار بعيدًا، غريبًا، لا يقترب، لا يهمس، ولا يضم.

لم يعد ذاك العاشق الذي يغفو على صدري كطفل صغير، بل صار جسدًا ساكنًا في فراش بارد. بدأ يتهرب من لمساتي، يلجأ إلى النوم مبكرًا بحجج واهية، ويتحاشى النظر في عيني، لكن فجأة، حدث ما لم يكن بالحسبان !؟

حين سمعته ذات ليلة يهمس في الهاتف، لامرأة غريبة، قائلاً لها: "لن أنسى فتحة الصدر" التي كشفت عن المرمر الخزفي المخبأ تحته، بلدانته ورقته، وجسدك الباذخ الذي انتشلني من شعوري بالقرف، ذاك القرف الذي لم أعد احتمله معها.

ثم خطّطا للقاءٍ حميميٍّ آخر معًا... لم أصرخ، لم أعترض. اكتفيت بالصمت، أصبحت كـ ورقة خريف بكفّ ريحٍ هوجاء. لن أمني النفس بالقول إنه يحبني، فكل شيء بات واضحًا أمامي. تجرعت كأس الخيانة، وأخفيت هزيمتي أمامه، أدمن الخمر والنساء، و استساغ طعم الخيانة وتلذذ بها.

لكن تلك النشوة لم تدم طويلا، بل سرعان ما تلاشت، مخلفة حطام رجل مهزوم. فجأة، أصابته حمى شديدة، وإعياء لم يجد له تفسيرًا... تهاوى جسده، كما تهاوت وعوده.

كان طريح الفراش لشهور عده، ضعيفًا، ينظر إليّ بعينين خائفتين، بعد أن ساءت حالته كثيرا، وتدهورت صحته بشكل ملحوظ، عكسها لون بشرته التي أصبحت أشبه بالموت .

فتح فمه الناشف، كفم وطواط يحتضر، أخذ نفسًا عميقًا على مهل، ثم قال: " لا تتخلي عني..."، وقفت عنده لكني، لم أقترب كثيرا، مددت يدي وعدّلت الغطاء فوق جسده،

 ثم همست بهدوء: " أشفق عليك... لا لأنك زوجي، بل لأنني بشر."

وخرجت من الغرفة بخطى ثابتة، كمن دفن خيبته الأخيرة.

***

 نضال البدري – قاصة عراقية

 

أعَزَّ الله (غزةَ) إذْ حَبَـــاها

رِجَالا مِنْ بَنيها ومِنْ دِمَـاها

*

أشاوِسَ أَمهروها مُستحيلاً

وأنذروا عُمْرَهُمْ حتى لِقَاها

*

يبيعُ النَّـــفْسَ مَنْ يَبتاعُ رَبًّا

ويقضي نَحْبَهُ شَرَفًا وجَاها

*

ويَطْفو فوق جَبْهَتِهِ رِيَـــاءً

ويَذهَبُ في جفاءٍ مُنتهاها

*

مَنْ اصْطَنَعوا لغزةَ ألف وَجْهٍ

ليَبْكُوها احتِفــاءً في عَزَاها

*

وقد عَقَروها منذ البدءِ حتى

تُـــلاقَي مَصيرها أبدًا لَظَاهَا

*

أَدِيـــن الله يأمُــرنا بِصَـــمْتٍ

ونَصْلُب في الشِفَاهِ أَسَاً..وآهَا

*

ونَعنـــو للبُغَاثِ ونحـــنُ نَسْرٌ

نُحَلِّقُ عــــاليًا...نحمي حِمَاها

*

ونُزجي بعضنا...وطــــنًا وعِــزًّا

ونُزجي للعِـــدا...كَفَــــنًا يَرَاها

*

ونَلْعَنَهُمْ بـ(فَرْط الصوتِ) لَعْــنًا

كبيــراً.. في البحـــارِ وماوراها

*

ونَقْلَعهُمْ جُــــذُورًا حيث كانوا

فلا يَدرونَ أرضًـا من سَمـــاها

*

إلى الأقصى سَتَسْبِقُنا حيــــاةٌ

ودُنيــــانا اخضرارًا في رُباها

*

يُعِـــــزُّ الله من يَرجوها صِدْقًا

فَيَصْـــــدُقهُ ويَمْنَحَـــــهُ لِواها

*

ومَنْ غَــامَتْ نواياهُمْ وغَـالَتْ

يَتِيـــــهُونَ  ضَـلالاً.. واشْتِباها

*

وشِرْذِمةٌ قليــــلٌ سوف تهوي

ويهوي كيانها سَحـقًا... وشَاها

*

وشَاهَتْ عُصْبَة (القِصَعِ) الرِّئاسي

وربَّهُمُـــو الذي يَقتَادُ فَــــاهَا

*

يَجُرُّ أنوفهــمْ بِزِمـــامِ جهلٍ

ويَجهلُ فوقهُمْ... ماشاء لَاهَى

*

أعَزَّ الله (غزةَ).. واصطفاكمْ

لِنُصْرتهـــا رِجَـــــالاً لا تُضاهى

*

فويــلٌ للعُلُوجِ ونحنُ أهـــلٌ

لها والنصْــــــرُ آتٍ قد تَبَاهَى!

***

محمد ثابت السميعي - اليمن

 

قطرةُ ملحٍ تسقُطُ منهم،

تجعلُ ماءَ الأرضِ فُراتا،

خرجوا قبلَ شروقِ الشمسِ،

افْترشوا أرصفةَ الطرقاتِ،

وقالوا: (اللهُ) الرزّاقُ،

فجاءَتْ حافلةٌ،

كلُّهُمُ قاموا،

قال السائقُ: لا أحتاجُ سوى خمسةِ أشخاصٍ،

صَعِدُوا في الحوضِ الخلفيِّ،

وعادَ الباقونَ بخيبَتِهم،

والحافلةُ ابتعدَتْ،

سيمرُّ الوقتُ ثقيلاً،

منهم من سيعودُ بكيسِ حليبٍ للأطفالِ،

ومنهم من سيعودُ بكيسٍ مملوءٍ بالحَسَراتِ،

ويغلي في القِدْرِ نباتا،

*

قطرةُ مِلْحٍ تسقطُ منهم،

تجعلُ ماءَ الأرضِ فراتا،

***

عبد الله سرمد الجميل شاعر وطبيب من العراق

سائرٌ والطموحُ عَزْمُ رِكابي

وأماني العَلياءِ تطرقُ بابي

*

وبَرِيقُ العيونِ يَحكي صُمودا

ونقاءُ الضمير حرفُ كتابي

*

عِزّةُ النفس والإباءُ سبيلٌ

صوْبَ نيلِ العُلا ونَهْج الصوابِ

*

صُنْتُ نفسي والصبرُ يَرفدُ دَربي

ولُبابُ الآدابِ ضوءُ رِحابي

*

والخُطى زانَها رَبيعُ التأني

ورفيفُ الآمالِ حَوْلَ قِبابي

*

والتمَنّي ان لم يكن في طموحٍ

صَرْحُ لَهْوٍ، في جيئةٍ وذهابِ

*

(مَن يهن يسهلُ الهوانُ عليه)

والصمودُ الأبِيُّ كشْفُ الضّبابِ

*

في اختيار الجُلْبابِ ذَوْقُ عُمومٍ

ونقاء الإبداعِ تبْرُ الخِطابِ

*

يرتدي الوصفُ في المضامين ثوبا

إن صَفا عُدَّ مِن حِسان الثيابِ

*

كلُّ عَزْمٍ يرى بلمسٍ وحسٍ

ما أعدَّ الفؤادُ خلْف النِقابِ

*

رُبّ هَمْسٍ طي الجفونِ خَجولٍ

يقرأ الرمْشُ حالَه في اضطِرابِ

*

عن بِعادٍ وعن غيابٍ وصدٍّ

وحديثٍ بدمعةٍ واكتئابِ

*

يَغْمرُ المَوْجُ مَن غزاه غرورٌ

أو أصابَتْه غَفْلةُ الأسْبابِ

*

قارِبُ العينِ في سَواقي المَآقي

رَمْزُ طِيبٍ في غُربَةٍ واقْتِرابِ

***

(على وزن الخفيف)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

لا أملَ في العثور على مخرجٍ من النفق

لا أملَ في ومضة راكدةٍ من نهارٍ سابق

أطرقُ جثثَ الصمتِ المتحجّر

فأسمعُ الزمن الجريحَ يقول:

لا أحدَ هناك،

أنتَ وخوفكَ وحدُكُما

محبوسان داخلَ بعضِكما

**

أسمعُ جَلَبةً لأناسٍ خارجَ النفق

أنهم يستنفِرونَ عضلاتِهم بالصُراخ لفتحِ ثغرةٍ

وإدخال شُحنةٍ متفجّرةٍ من الحرية

كأنّ حُريّتَهم فاضت عن حاجتهم

وجاءوا يقتسمونها معي

أنهم يُدينون صمتَ الأحجار المريب

ويدعون لتفجير أنفاق العالم

وتحرير قاطرات السكك الحديد

أنهم يُطالبون بنُظمٍ سياسية تقودُها الجرّافاتُ

وثاقباتُ الصخورِ

وأصابعُ الديناميتِ

يركضون، ويقفزون ممزّقين الفراغ

أميّزُ في هتافاتهم النارَ التي طَبَخوا عليها حناجرهم

هتافاتُهم تبلغُني مُجعّدةً

إلا أنها غاضبةٌ ومحتقنة ومجنونة

هتافاتٌ تُفجّرُ ترساناتِ الأمل

لكنها ما إن تُلامسُ الحجارةَ الباردة

حتى تتجمّدَ

وتفقدَ القدرةَ على النطق

تلك هي ضالة الثورات الصوتية

أنها تُشعركَ بالشِبَع

لكنها لا تضعُ بين يديكَ رغيفاً

***

شعر: ليث الصندوق

 

أجمع السُهاد

العالق فوق أجفاني.

على ضفةِ حلمٍ

كنتُ أنتظرك

أمَنِي خيالي الخصب

بأقصى أمانِي الفرح

وعد بلقاء

ابتسامة

تبدد ما تركم من وجعِ السنين

تنفض غبار الايام

من أقاصي الالم..

***

كامل فرحان حسوني - العراق

 

في نصوص اليوم