آراء

آراء

هل نحن على مشارف الاختراقيه الثانيه؟ لاشك ان افتراضا من هذا القبيل يتعدى ما يعتبر في باب المعقول او الممكن استيعابه على مستوى الموضوعات والاسباب، عدا المعطيات الفاعله، سواء على جسامة المدى الزمني على طوله، او من حيث النوع، الامر الذي يذهب بنا الى افتراض التفارقيه النوعية بين عالمين وزمنين، من حيث مراحل ومستويات الادراكية والوعي البشري المتاح للكائن الحي حتى الان، وماقد تسببت به القصورية العقلية من عجز عن مقاربة الظاهرة الاجتماعية ومنطوياتها، والمآلات التي هي ذاهبه اليها، وظلت تحكم تفاعليتها التاريخيه مع حجب الهدف المقرر لها.

والاهم فيما يشار اليه هو التراكمية الهائلة المتولدة عن القصورية العقلية الطبيعية، وعن توالي تكريس المنظورات والمفاهيم الموافقه، بالذات منها تلك العادة للاشتراطات اليدوية الجسدية الحاجاتيه، ماقد القى بثقله على اللحظة الانقلابيه الالية ساعة وقوعها، واخضعها لماقبلها من رؤى وتصورات راسخه، من المستحيل حتى اليوم تصور ماعداها، يدخل في ذلك ميل الكائن البشري العضوي والعقلي الى الخضوع للعادة والتكرار، هذا غير الانسياق وراء امكانية ان يذهب ماهو حاصل، مع ما يمكن ان يكون " تقدما"، وسيرا الى الامام من دون خروج على اسس الراسخ والمعتاد، ان لم تعيد تكريسها بصيغة اخرى.

كل هذا ونحن نقف امام ثورة عقل تنفي "العقل" كما متعارف عليه، وكما موصوف ومستعمل، مالايمكن تخيل احتمالية وقوعه باي شكل كان، الا اذا استوجب ضرورة عليّه قصوى راهنه على الكائن البشري ووجوده، وفي هذا السياق سيكون من غير المعقول، وبعد كل المسار المجتمعي التاريخي، القول بلا ادرية او صدفوية الحياة والوجود البشريان، او عدم اتفاقهما مع الغائية الكونيه العليا الناظمه للكون وتحولاته ومساراته العظمى غير المدركة، ولا المماط عنها اللثام كما قد يعتقد بناء للمحدودية العقلية الراهنه، اي تلك التي تصدر عن مابين عشرة الى خمس عشرة بالمئة من الطاقة العقلية المتاحة والقابلة للاستعمال، والمدخره لحين حلول اشتراطات العيش بالعقل خارج الجسدية.

المؤكد ان الغائية الكونيه العليا قد هيات الاسباب واللوازم الضرورية حتى تتوفر اسباب الانقلابيه الحالية بكل مايفترض ان تنطوي عليه من "اكراهية " لزومية، واشتراطات واسباب مادية ضرورية لاجل التحول الانقلابي الاعظم، بعد ان وفرت العامل الاهم الالي المتحول اليوم ومن هنا فصاعدا، الى تكنولوجية عقلية غير قابلة للتفاعل مع اشتراطات المجتمعية الانتاجية الجسدوية اليدوية ومتبقياتها الصناعية الاولى، او حتى الحالية التكنولويجية الانتاجيه، وبالاجمال توفير الانتقالية الفاصلة بين اليدوية ومابعدها، بما هي عليه، اي كانتقال من اليدوية الجسدية الى العقلية، لاكما تقول الى اليوم متبقيات المنظور اليدوي للاله، مكرسه اليدوية، بافتراضات من نوع "التقدم" تكريسا للبقائية الاحادية الابدية المجتمعية الارضوية الجسدية.

يجب ان نكون واثقين من ان العالم مقبل على "مالاعين رات ولا اذن سمعت"، وذلك بحكم نوع وطبيعة ومستوى الانقلابيه الفنائية التحولية المقصوده، ونوعها غير المسبوق، والذي عاشت البشرية تاريخها الى الساعة بانتظار بلوغ مشارفه، بالمقابل وفي ارض الاختراقية اللاارضوية الاصل الاولى، سيكون المطلوب والمتوقع هو الاخرمما لايمكن تخيل نوعه ومستواه من حيث الرؤية الموافقة للانتقالية التحولية الكونية، من الجسدية منتهية الصلاحية، الى العقلية مافوق اليدوية، بالانتقال من النظر النبوي الحدسي الابراهيمي الاول، الى المنظور اللااارضي العلّي السببي، وسط وفي غمرة الاضطرابيه الافنائية العظمى، مايضع الايديلوجيات والموروثات خارج الاحتساب، وخارج العالم.

هذا بينما يكون الغرب قد غادر موقع الفعالية القيادية وتوهميتها الاليه المؤقته.

***

عبد الأمير الركابي

..........................

(1) فبعد سقوط روما "راح الوثنيون وكانوا مايزالون هم الاغلبية يعزون اسباب انهيار روما والانحلال العام الذي اصاب الامبراطورية الرومانيه الى انتشار الديانة المسيحية . لهذا انتدب اوغسطين للدفاع عن المسيحية ضد هذا الاتهام، فانشا يكتب كتابه الاساسي المشهور "مدينة الله" ابتداء من سنة 415 او بداية سنة 416 م وفرغ من كتابة المقالات العشر الاولى منه في ذلك الوقت، لكنه احس بان كتابه هذا بحاجة الى تكمله تتولى بيان ماوقع في تاريخ العالم قبل ذلك الوقت من مصائب وكوارث لاشان للمسيحية بها. لانها سبقت ظهورها، فعهد اوغسطين بهذه المهمة الى اوروسيوس"/ اوريسيوس ـ تاريخ العالم: الترجمه العربيه القديمه حققها وقدم لها د عبدالرحمن بدوي/ المؤسسة العربيه للدراسات والنشر/ ص 6 / هذا وكتاب اوريسيوس اصلا معنون ب " التواريخ ضد الوثنيين".

(2) نلفت النظر الى كتابنا الصادر قبل اشهر عن / دار الانتشار العربي ـ بيروت/ كتاب العراق: الكتاب اللاارضوي المنتظر منذ سبعة الاف عام/ عبدالامير الركابي/. كبداية ومنطلق تاسيسي.

* ازيل هامشان كانا وردا ترقيما في الحلقات، لانتفاء اللازمه.

رحلَ البابا فرنسيس (1936-2025) تاركاً بصمته الإنسانيَّة في تاريخ الفاتيكان والعالم، كان قريباً مِن الفقراء ببساطته، ومحاولاته في التّجديد الدّينيّ، لمواكبة مستجدات العصر، العِلميّة والاجتماعيَّة، مع دعمٍ لا محدود للتسامح والتّعايش بين الأديان، وفي هذا المجال، كان توقيعه وإمام الأزهر «وثيقة الإخوة الإنسانيَّة» بأبوظبي (2019).

عُدَّ البابا فرنسيس أكبر الزَّعامات الدِّينيَّة تأثيراً لصفاته الشّخصيَّة، والمسيحيَّة، بطوائفها، غادرت الكراهيات في ما بينها، ناهيك عن الكاثوليكيَّة، التي يتزعمها روحيَّاً، تبلغ نحو مليار وأربعمائة مليون كاثوليكيّ، مِن مليارين وأربعمائة مليون مسيحي، تأتي الأرثوذكسية بعدها عدداً، وكان قريباً مِن الجميع. ظلّت الكاثوليكيَّة تترقب فرصة العودة إلى العراق، فمنه اِمتدَّت الكنيسة الشَّرقيَّة إلى الهند، فما الآثار الكنسيَّة بجزر على الخليج العربيّ، إلا مراكز في الطّريق مِن البَصرة إلى الهند، مثل كنيسة جزيرة صير بني ياس، والسّينيَّة، بدولة الإمارات، ومِن آثار ذلك الكنيسة الشَّرقيَّة بكيرلا الهنديَّة، فقبل سنوات يُبعث قساوستها مِن العِراق. مع دخول الكاثوليكيَّة العراق (القرن 16 الميلاديّ)، عبر التبشير بين أتباع الكنيسة الشّرقية، ووجود ما يُعتقد أنها مدينة إبراهيم (أور)، الحاضر في (اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام)، لم يزر العراق بابا مِن بابوات الفاتيكان، غير فرنسيس (2021)، مع أنَّ أول جاثليق عراقيّ وصل إلى روما، ومنحه الفاتيكان (1553م) «دِرع الرَّئاسة» (أبونا، تاريخ الكنيسة الشّرقيَّة)، لكن «سولاقا» اغتيل (1555م). عُدت زيارة البابا إلى العراق تحدياً، فيومها مازال الوباء مُهدداً، الأمن قلقاً، لكنه أصرَّ، ليلفت أنظار العالم إلى مآسي البلاد المبتلية، بعد الغزو الأميركيّ وتداعياته، وعبث الجماعات المسلحة بالدِّماء، ناهيك عن استنزاف مسيحييه بالهجرة والتّهجير.

قبل ذلك، عزم البابا يوحنا الثّاني (ت: 2005) زيارة العراق (1999)، ضمن جولته بالشّرق الأوسط، وكان النِّظام آنذاك متحمساً للزيارة، بسبب الحصار (1990-2003) الشَّامل، ظناً أنَّها بارقةُ أملٍ لرفعه، لكنَّ الدُّول الكبرى حالت دونها، بعذر تهديد حياة البابا، وقيل ألغيت لاجتناب الصّبغة السّياسيَّة التي سيفرضها النّظام العِراقيّ، والخبر المقبول أنَّ الأميركان منعوها، كي لا تفتضح كارثة الحصار، ويتشكل ضغط دوليّ لصالح العِراق.

بعد اثنين وعشرين عاماً، أثير إلغاء زيارة البابا يوحنا، بوجه زيارة البابا فرنسيس، ففسر المعارضون: أنَّ النِّظام العِراقيّ رفض استقبال الحبر الأعظم، كي لا تطأ قدمه مدينة إبراهيم (أور)، فيكون مقدمة لتدويلها دِينياً، باسم الخليل، وهذا خلاف الواقع، إنما كان النّظام ينتظر الزِّيارة، وقد انتقد إعلامه موقف البابا، والدُّول التي ضدها.

لكنَّ غاية ذلك التلفيق هو الهجوم على الزّيارة الأخيرة، وعندها هوجم عرَّاباها رئيس الجمهوريّة ورئيس الوزراء، وكانا سبب نجاحها، وترتيب زيارة البابا النَّجف، وأور، والمناطق المسيحيّة التّاريخيَّة كقراقوش بالموصل، فعلى الرّغم مِن الصِّلات السابقة بين النّجف والفاتيكان، كوصول الوفد البابوي للتعزية بالمرجع محسن الحكيم في صيف 1970 (الصّغير، أساطين المرجعية العليا)، لكنَّ أول مرة يتم لقاء مباشر بين مرجع النَّجف وبابا الفاتيكان. عن أور، صحّح الأب أنستاس الكرمليّ (ت: 1947) الخطأ التّاريخيّ، فليس مِن علاقة بين أبي الأنبياء إبراهيم ومدينة أور السومريّة، والخطأ حصل في تعريب النّص التَّوراتيّ: «أنت الرَّبُّ الإله الذي أخرجته (أي أَبرام) مِن نار الكلدانيين»، فعرَّب النّص عن أصلها العبراني: «مِن أور الكلدانيين، وسبب هذا الفرق في الاستخراج أن اسم النَّار، واسم المدينة الكلدانية أُور هما واحد بالعبرية» (مجلة المشرق، السنة 1900). القصد أنّ القصة لا تستحق الضّجيج، فالحقيقة أنَّ البابا زار أقدم آثار الخليقة، ومكان القصة الأصلية للطُّوفان (باقر، ملحمة جلجامش)، وليس مدينة إبراهيم. أقول: كانت زيارة البابا، رسالة إلى العالم عن هذا البلد العريق، الذي لا يستحق ما تفعل به قوى داخليّة وخارجيّة مِن شرور. كان حقَّاً بابا المعذبين، قصدهم، وصلى لأجلهم، وما زيارته العِراق إلا بهذا المنحى.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

الأول من أيار/ مايو مناسبة عالمية تحتفل بها اغلبية الشعوب تكريماً للطبقة العاملة ودورها النضالي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. يوم تتوحد فيه الأصوات المطالبة بالحقوق، ويستحضر فيه التاريخ لحظات من التضحية والكفاح التي مهدت الطريق نحو بعض من قوانين العمل العصرية التي انصفت نضال العمال وأكدت القيم الإنسانية.

تعود جذور هذا اليوم إلى أواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً إلى عام 1886 في مدينة شيكاغو. كانت امريكا تعيش بداية الثورة الصناعية، وكان العمال الأوروبيون المهاجرون إلى "العالم الجديد" يمثلون الشريحة الأكبر في القوة العاملة، وكانت ظروف العمل قاسية وغير آمنة مقابل أجور زهيدة وساعات عمل طويلة. تلك الظروف حفزت النقابات العمالية في امريكا في الأول من أيار 1886، بتنظيم إضراباً واسعاً شارك فيه أكثر من 300 ألف عامل. حركة احتجاجية واسعة طالبت بحقوقها، كان من بين قادة الحركة العمالية عدد كبير من الاشتراكيين والشيوعيين واليساريين الذين كانوا يؤمنون بضرورة إنهاء الاستغلال، قُوبلت الاحتجاجات بعنف من قبل السلطات، نتج عنها عدد من الضحايا.

وتبع ذلك حملة قمع واعتقالات عنيفة ضد قادة العمال، ومع استمرار الاحتجاجات السلمية، وقعت حادثة عُرِفت باسم "مجزرة هايماركت" (Haymarket Riot)، ألقى شخص مجهول قنبلة على رجال الشرطة عندما كانوا يفرقون العمال المضربين. أدى الانفجار وإطلاق النار الذي تلاه إلى مقتل (7) من رجال الشرطة و(4) من العمال. وبعد المحاكمة التي جرت بعد حادث الانفجار، تم الحكم على ثمانية من القادة النقابيين بتهمة الضلوع في الهجوم، وأعدم أربعة منهم عام 1887.

 تبلورت فكرة الاحتفال بالأول من أيار كيوم رمزي لتكريم نضال العمال عبر العالم، وفي عام 1889، كتب رئيس اتحاد نقابات العمال في أمريكا إلى المؤتمر الأول للأممية الثانية الذي عقد في باريس (وهي منظمة أممية لليسار والعمال) لتبني فكرة أن يكون الأول من أيار يوماً للاحتفال العالمي بحقوق العمال. وقد استجاب المؤتمر لهذه الدعوة عرفاناً بتضحياتهم وتوحيداً لصفوفهم في مواجهة الظلم والاستغلال. ومنذ ذلك الوقت، اصبح مناسبة رسمية تحتفل الكثير من بلدان العالم سنوياً بهذا الحدث التاريخي من خلال إقامة احتفالات ومسيرات ومهرجانات وندوات ثقافية تؤكد على حقوق العمال وضرورة تحسين ظروفهم.1411 iraq

وبعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، تغير مسار الخريطة العالمية، وأصبح الصراع الطبقي والانقسامات السياسية والاقتصادية أكثر حدة  ووضوحاً، وظهرت الكثير من المفاهيم الحقوقية التي تصب في تعزيز دور الطبقة العاملة في نضالها ضد الإستغلال والجشع الرأسمالي. وأخذ الأول من أيار "عيد العمال"، يحمل أبعاداً فكرية تتجاوز الطابع الاحتفالي، ليكون مناسبة لتعزيز قيم العدالة والمساواة والكرامة، وليذكرنا بأن العمل ليس فقط وسيلة للعيش، بل ركيزة أساسية للهوية الإنسانية، لتحقيق الذات والمساهمة في بناء المجتمعات، ولترسيخ فكرة التضامن الطبقي والوحدة بين مختلف فئات الشعب في مواجهة سياسات التهميش والتمييز.

وفي عالمنا المعاصر، تتعدد صور المعاناة والتحديات العمالية، التي تتمثل في تصاعد معدلات البطالة، وهشاشة العمل غير النظامي، وانتشار العمل غير الآمن، فضلاً عن التأثيرات السلبية للتطور التكنولوجي المتسارع، والاستخدام الواسع للذكاء الاصطناعي، ما يستدعي تأملات جادة حول مستقبل العمل وحقوق الإنسان في ظل الرقمنة. وهو أيضاً دعوة للحكومات وأرباب العمل إلى تبني سياسات عادلة ومستدامة تضمن الحقوق العمالية، وتوفير بيئة عمل آمنة، لتحقيق التوازن بين متطلبات السوق وكرامة الإنسان.

فالاحتفال بالأول من أيار يعبر عن وعي العمال في تجسيد رمزية وفكرة الصراع الطبقي (كما تحدث عنها ماركس)، حيث تتجلى علاقات القوة بين الطبقة العاملة وأصحاب رؤوس الأموال. ويسهم في بناء الهوية الجماعية للطبقة العاملة، من خلال المشاركة في الفعاليات العمالية الشعبية التي تؤكد الانتماء إلى مجموعة اجتماعية لها مصالح مشتركة، قيم مشتركة وتطلعات متشابهة. وبذلك فهو مناسبة لإبراز التضامن الاجتماعي، ليس فقط بين العمال على المستوى العالمي بل امتدت تأثيراته على الأصعدة المحلية، هذا التضامن تجاوز الأفراد ليشكل روابط اجتماعية قوية تصب في تعزيز التماسك الاجتماعي داخل الطبقة لتسلط الضوء على القضايا الحقوقية المطلبية كالمساواة في الأجور، والحماية الاجتماعية، والمشاركة في مجالات العمل النقابي وصنع القرار السياسي والاقتصادي، وبالتالي نقل هذه القيم والأعراف من جيل إلى آخر.

أولت الأحزاب الشيوعية واليسارية في أغلب دول العالم أهمية كبيرة للحركات العمالية في إعادة إنتاج القيم والرموز الثقافية للطبقة العاملة، قيم الكفاح من أجل المطالبة بالحقوق وتفعيل عمل المؤسسات الاجتماعية مثل النقابات والأحزاب اليسارية كوسائط تنظيمية، تعبوية وتفاوضية لصالح العمال. وبإضفاء الشرعية على المطالب، وخلق آفاق للاعتراف بقضايا العمال بشكل رسمي وشعبي، كفاعل اجتماعي قادر على التأثير في عملية التغيير الاجتماعي.

إحياء عيد العمال ليس مجرد تقليد سنوي، بل فعل نضالي مستمر، كحق مطلبي أساسي وقيمة إنسانية، ومصدر لتحقيق الذات والمشاركة الفعالة في مجالات التنمية، مما يتطلب من المجتمعات التمسك بقيم التضامن والعدالة، وتكريسها في السياسات والتشريعات. ويمثل هذا اليوم دعوة لتجديد الالتزام بالمبادئ التي طالما نادى بها المفكرون التقدميون والنقابيون، وعلى رأسها: قيم العدالة الاجتماعية، والمساواة، وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لكل عامل دون تمييز.

والغريب بالأمر أن الولايات المتحدة، مهد الحراك العمالي للأول من أيار، لا تحتفل بعيد العمال في الأول من مايو، بل تحتفل به في أول اثنين من شهر سبتمبر (عيد العمل – Labour Day)، وذلك لتجنب ربطه بجذوره الاشتراكية والاضطرابات العمالية. أما في معظم دول العالم، الأول من أيار عطلة رسمية، يتم فيه تنظيم مسيرات ضخمة يقودها النقابيون والأحزاب اليسارية. بعض الحكومات تعترف بهذا اليوم رسمياً لتفادي الغضب الاجتماعي، واحتفالات العمال بهذا اليوم هو تذكير سياسي مستمر بأن العمال ليسوا مجرد قوة اقتصادية، بل فاعلون سياسيون يطالبون بحقوقهم: الحق في التنظيم النقابي، الإضراب، المشاركة في صياغة السياسات العمالية. ويشكلون مجموعة ضغط مؤثرة في القرارات الحكومية. 

 بدأ العراق بالاحتفال الرسمي بعيد العمال العالمي في الأربعينيات من القرن العشرين، بالتزامن مع تطور الحركة العمالية والنقابية في البلاد، خصوصاً بعد تأسيس الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق عام 1944. وبمرور الزمن وبعد سقوط الملكية، أصبح الأول من أيار يوماً معترفاً به، تُنظم فيه فعاليات نقابية ومهرجانات وخطب سياسية وثقافية تركز على حقوق العمال وأوضاعهم المعيشية، وقد لعبت الحركات النقابية وقوى اليسار، خاصة الحزب الشيوعي العراقي، دوراً مهماً في ترسيخ أهمية هذا اليوم داخل المجتمع العراقي بأن يكون له طابع نقابي وشعبي وإعلامي، لا سيما بعد ثورة 14 تموز 1958، التي جعلت المسيرات فرصة يتجدد فيها إحياء الذاكرة النضالية. (أرسل لي مشكوراً مؤرخ ثورة تموز الأُستاذ هادي الطائي صور مرفقة داعمة لذلك).

يواجه العراق الكثير من التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية والنقابية، كارتفاع معدلات البطالة بين الشباب والخريجين، وعمالة الأطفال، وغياب الحماية القانونية للنقابيين، وانعدام الرقابة على بيئة العمل. ورغم وجود نقابات، إلا أن الكثير منها يُعاني من التسييس أو القيود القانونية التي تحدّ من القدرة على تمثيل العمال بشكل حر ومستقل. واليوم التركيبة السياسية الطائفية والمحاصصة جعلت من الملفات العمالية ملفات مؤجلة أو ثانوية أمام صراعات السلطة، وقوانين العمل غير مفعّلة ولا تواكب التحولات العصرية. ورغم ظروف اللاستقرار الأمني، يظل عيد العمال مناسبة حيوية تعبّر عن طموحات الطبقة العاملة في السعي إلى حياة معاشية كريمة. وفي كل عام، ترتفع الأصوات للتذكير بأن العدالة الاجتماعية تبدأ من احترام العامل، وحماية حقوقه، والاعتراف بدوره في إعادة بناء العراق.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

 

عشية الذكرى اﻟ 76 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10 كانون الأول / ديسمبر 1948)، احتفلت البشرية باليوم العالمي لمكافحة الفساد (9 كانون الأول / ديسمبر)، وذلك استجابة لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يقضي بنشر الوعي بخطورة ظاهرة الفساد على المستويات السياسية والإدارية والمالية، وذلك انطلاقًا من اتفاقية الأمم المتحدة التي أبرمت في 31 تشرين الأول / أكتوبر 2003، والتي دخلت حيّز التنفيذ في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2005.

فايروسات الفساد

تمتدّ ظاهرة الفساد لتشمل جوانب الحياة كافة، حيث تكمن خطورتها في الآثار السلبية التي تتركها على التنمية والاستثمار وانخفاض الانتاج، حيث تنتشر فايروساته بالتكاثر على عموم جسد الدولة، ابتداءً من تأثيره على حكم القانون ونزاهة الانتخابات، فضلًا عن استشرائه في مفاصل العلاقات السياسية، إضافةً إلى انعكاساته الأخلاقية، التي ستقود إلى تفشّي الرشا وغياب الرقابة والمساءلة، واستبدال ذلك بتسويات سياسية أو صفقات اقتصادية على حساب العدالة، وهو الأمر الذي لا يؤثر على المجتمع فحسب، بل سينعكس على سلوك الأفراد كذلك.

وتُعتبر الأنظمة الشمولية والاستبدادية، سواءً المدنية منها أو الدينية، بيئة صالحة لتفقيس بيض الفساد، خصوصًا بغياب الحكم الرشيد وانعدام الشفافية وشحّ حريّة التعبير وتعطّل المسائلة، وهو ما عكسته تقارير "المنظمة العالمية للشفافية" ، وكذلك "المنظمة العربية لمكافحة الفساد".

وحسب التقارير الدولية لعام 2023، جاءت الدانمارك وفنلندا ونيوزلندا في طليعة دول العالم الأقل فسادًا، وفي الوقت نفسه، كانت بعض الدول مثل سوريا وفنزويلا والصومال في أسفل قائمة البلدان الأكثر فسادًا في العالم. وعلى الرغم من المساعي المبذولة لمكافحة الفساد في العراق، إلّا أنه ما يزال حسب التصنيفات العالمية من الدول الأكثر فسادًا، وقد كشفت ما سمّي بسرقة القرن، التي أثارت ضجّة كبرى في العام 2022 عن تورّط الكثير من كبار السياسيين العراقيين والمسؤولين الحكوميين، الذين ظهروا غارقين في الفساد حتى أذنيهم، وهو ما أثار حفيظة الشارع العراقي، بل والعربي، الذي أخذ يتندّر بسخرية سوداء عن أننا لم ننتهِ بعد من مناقشة "صفقة القرن" حتى داهمتنا "سرقة القرن" .

ووفقًا للمفوضية العليا لمكافحة الفساد فإن أكثر من 1000 مسؤول عراقي رفيع المستوى بينهم وزراء ووكلاء وزراء ومدراء عامين ومستشارين ونواب، ناهيك عن المواقع الأولى في الدولة، كانوا قد اتّهموا بالفساد، وهناك ما يزيد عن 15 ألف ملف من الدرجة الأولى أمام المفوّضية والقضاء.

الفساد ظاهرة عالمية

صحيح أن الفساد يُعتبر ظاهرةً عالميةً، إلّا أن حاجة الدول النامية إلى مكافحته أشدّ بسبب غياب أو ضعف حكم القانون، فضلًا عن شح الثقافة الديمقراطية والحقوقية، وعدم استقرار المؤسسية في العمل على صعيد الإدارة والأفراد، ناهيك عن ضعف الشعور بالمسؤولية وقصور حريّة التعبير والصحافة الاستقصائية.

وكثيرًا ما أخفقت البلدان النامية ومنها البلدان العربية في محاولاتها لمحاربة الفساد، وباءت الخطط بالفشل بسبب غياب وعي جماعي يرسخ ثقافة المساءلة والشفافية والالتزام الأخلاقي، إضافة إلى عدم التعاون بين المؤسسات الحكومية والمنظمات الوطنية والدولية، وحجب حق الاطلاع على المعلومات.

ولكي تسهم الحملات الوطنية لمكافحة الفساد بقسطها، لا بدّ من مشاركة الأفراد والجهات خارج نطاق القطاع العام والمؤسسات الحكومية، مثل منظمات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات والنشطاء المنشغلون بمكافحة الفساد للتصدّي لهذه الآفة الخطيرة، ويحتاج الأمر إلى تحالفات إقليمية ودولية، انسجامًا مع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لضمان جهود جماعية وفاعلة للحد من هذه الظاهرة.

الفساد ضدّ الفساد

ثمة فساد من نوع جديد يزعم مكافحة الفساد، حيث أن بعض الجهات الرسمية التي يتم إنشاؤها لمكافحة الفساد سُرعان ما تنخرط هي في الفساد ويسيل لُعابها له طالما لم تتوفر سبل المساءلة الجادة والمسؤولة، وكثيرًا ما يتساءل المواطنون، هل سيضع المسؤولون عن مكافحة الفساد المالي والإداري حدًّا له، أم سيضيف أعباءً جديدة تكرّس البيروقراطية السائدة؟ وأحيانًا يعلو صوت الفاسدين بالحديث عن ظاهرة الفساد ومساوئه في صخب وضجيج يستهدف التغطية على فسادهم، سواء كانوا في السلطة أم خارجها من المتواطئين معها.

ويمكن القول أن الفساد هو الوجه الآخر للإرهاب، وهو الذي يموّله ويغضّ النظر عن تداعياته لتشاركهما في المصالح، كما أنه يسهّل مهماته ويغطّي على مرتكبيه؛ وتتعدّد أسباب الإرهاب اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، وهو انعكاس لظاهرة التعصّب، وهذا الأخير حين يتحوّل من التفكير إلى التنفيذ يصبح تطرفًا، والتطرّف يصير عنفًا إلى أن يُصبح سلوكًا، وحين يضرب العنف عشوائيًا يُصبح إرهابًا، وحين يستهدف إضعاف ثقة الدولة بنفسها وإضعاف ثقة الفرد والمجتمع بالدولة ويكون عابرًا للحدود يوصف بأنه "إرهاب دولي".

جبهات مكافحة الفساد

للوقوف ضدّ ظواهر الفساد وذيوله، لاسيّما التي ترتبط بالمحاصصة والطائفية والانتماءات الضيّقة على حساب الهويّة الوطنية، وتغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة يتطلّب العمل على أربع جبهات؛ الجبهة الأولى - بناء المؤسسات وتوطيد الأطر المؤسسية وتعزيز الشفافية في القطاع العام وعموم أجهزة الدولة؛ أمّا الجبهة الثانية - فهي القضاء، الذي لا بدّ له أن يكون مستقلًا ونزيهًا ومحايدًا وعادلًا في إطار حكم القانون، بحيث يكون رادعًا؛ والجبهة الثالثة - تتمثّل في إعادة النظر بالتشريعات والقوانين النافذة، وسن طائفة جديدة منها، التي تنسجم مع القوانين الدولية التي تحارب منظومة الفساد؛ والجبهة الرابعة - رفع مستوى الوعي بخطورة هذه الظاهرة والتثقيف ضدّها وإشراك منظمات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات للقيام بدورها التوعوي والتنويري.

ولا بدّ للشباب من القيام بمبادرات وأنشطة من شأنها عرض بعض التجارب الدولية والإقليمية والتدريب والتربية على سُبل مكافحة الفساد، والدعوة إلى تفعيل آليات عملية لتعزيز المساءلة والشفافية وكشف جراثيم الفساد المنتشرة تحت أسماء مختلفة، باعتبارها "ثقافة" تقوم على "التذاكي" و"التشاطر"  و"التكسّب" و"الفهلوة" على حساب تنمية البلاد وتطوّرها، ونزاهة الأفراد والمؤسسات وصدقيتها.

بريمر وفساده

يكفي أن نشير إلى ما فعله الفساد في بلد خرج لتوّه من رحم الديكتاتورية، فخلال عام واحد من حكم بول بريمر السفير الأمريكي المطلق الصلاحيات في العراق (13 أيار / مايو 2003 - 28 حزيران / يونيو 2004)، بدّد لوحده نحو 8 مليارات و800 مليون دولار، وذلك بعد أن تعرّضت الدولة العراقية إلى عملية نهب منظّمة خارجية وداخلية، إقليمية ودولية، وذهب نحو تريليوني دولار، وهي واردات النفط خلال عقدين من الزمن، هباءً منثورا دون حصيلة تُذكر.

وكان بإمكان هذه المبالغ الطائلة إعادة إعمار العراق وترسيخ كيانيته ووحدته الوطنية وتحقيق السلام المجتمعي، لكن الفساد الضارب الأطناب شكّل عائقًا جديًا أمام تطوّر الأوضاع المعيشية والخدمية والصحية والتعليمية والبلدية والبيئية، بما فيها الماء الصافي والكهرباء والبنى التحتية، خصوصًا في ظلّ زيادة السكّان والتغيّرات المناخية وزيادة التصحّر والجفاف، ولم تنفع جميع محاولات الاحتجاج الشعبية، التي شهدتها بغداد وبقية المحافظات العراقية.

محنة القضاء

وشاعت ثقافة السخرية في مجتمع لم يعرفها إلّا ما ندر، وفقد مصطلح مكافحة الفساد الكثير من معانيه، بل أصبح "شعاراً" يتشبث به الفاسدون أيضًا، وربما قبل غيرهم، حيث يتجرؤون على اتهام خصومهم، أو التواطؤ مع فاسدين آخرين للانتقام أو الثأر أو الكيدية، من المنافسين السياسيين. وقد بيّنت التجربة أن ليس كل من يزعمُ مكافحة الفساد حريص على المال العام، لاسيّما حين يتم غض النظر عن بعض الملفات وإشهار أخرى، فمن يريد مكافحة الفساد حقاً لا يتّجه لزج القضاء في علاقات نفوذ، وتواطؤ مع من يسعى للتسقيط السياسي، أو النيل من منافس، وهناك أمثلة عدة على ذلك، جرت تسوية ملفاتها بعد ضجة صارخة، وتشويه سمعة، ووقف القضاء في الحالين عاجزاً، أو مغلولاً، لاسيّما في ظلّ أعمال العنف والتداخلات العشائرية، وإن كان هناك أمثلة إيجابية جريئة دفع بعض القضاة ثمنها باهظاً، علمًا بأن القضاء العراقي، بغضّ النظر عن الضغوط والتداخلات والتحدّيات السياسية التي تعرّض لها في السابق والحاضر، فقد ظلّ وفيًا لسيادة العدل وإحقاق الحق على الرغم مما أصابه من تصدّعات.

وفي الختام أقول ليس المهم إكثار الحديث عن الفساد وتشكيل الهيئات واللجان، والبحث عن انتشاره، وتسطير توصيات لمكافحته، بل تمكين المؤسسات والأفراد وتنظيمات المجتمع المدني لمكافحته، وتحصين الإدارة بالوقاية، والحماية، والإجراءات الفعّالة لتطويقه، وحصره.

***

د. عبد الحسين شعبان

مفكّر وأكاديمي

 

يغلب التوهم والشطط الادراكي للحظة في الموضع المنطلق حيث  تبلورت الظاهرة المجتمعية، لاسباب في مقدمها حضور او غياب الديناميات الناظمه للمكان بحسب الطور الزمني، فاذا كانت الديناميات الشرق متوسطية في حال غياب وحصل الانقلاب الالي، وان بصيغته الابتدائية الافتتاحية، مع قوة حضوره الكاسح نموذجا وتفكرا، فان المتوقع ساعتها يكون بالحتم شكلا من اشكال الحضور المتماهي مع الاخر، بما في ذلك القول ب "النهضة" باستعارة ماهو واقع لدى الاخر المقابل، يجاريه وينطق بمقابله بنوع من "نهوض زائف" منفصل عن فعل آلاليات التاريخيه الذاتيه، الامر الذي لن يعدم الاسباب المحفزة والحاضرة من بين اجمالي تنوعات البنية المجتمعية مدار البحث،  وبالذات منها المقارب نوعا نمطيا للنمطية الغربية من بين  تلك الموزعه على بضعة انماط مجتمعية متكامله، مابين ازدواج ارضوي لاارضوي رافديني، ومجتمع دولة احادية نيلي، ومجتمع لادولة احترابي محكوم لاقتصاد الغزو في الجزيرة العربية، ومجال مفتوح غير قابل للتبلور الكياني، شامي.

والمهم الاخطر الغائب هناهو الانتباه الى احتمالية حلول زمن نوعي انتقالي بمرويتين: اولى آنية يدوية الاساس، واخرى متاخرة منتظرة، معها  تصبح الادراكية المفهومية العقلية متطابقة مع اشتراطات الطور الحالي، فالغرب الذي عرف الانبجاس البكوري الالي بصيغته الابتداء المصنعية، لم يكن في وضع ادراكي مكتمل، لان الظاهرة المستجده لم تكتمل اصلا بعد، فما كان بالامكان وقتها وحتى الساعه، النظر الى الالة بغير الموروث والراسخ من التصورات والمفاهيم العائدة الى ماقبلها من حيث الجوهر، بانتظار بقية محطات ومراحل الانقلابيه المستجدة بعد الاله المصنعية، ذهابا الى التكنولوجيا الانتاجية الراهنه، قبل الاخيرة العليا الموشكة على الحضور، مايعني اختلافا كليا في قواعد النظر للمستجد الشامل الحاصل، مابين ابتداء اولي غير مكتمل، وآخر هو "انقلابيه عظمى"  نحو عالم آخر مختلف على مستوى النظر و الوسائل، واجمالي العلاقة بالتاريخ والوجود ومساراته، مع الاليات الناظمه لحركته ومستهدفاته.

هذا السياق يدخل عملية التفاعل الشرق متوسطي الاوربي الحداثي، مسارا يذكر بحالة انصبابية اوربيه/ شرقية  سابقه، صارت اليوم مقتصره على الغرب الاوربي ذهابا الى ماينتج عنها وعن تفاعليتها بين موضعين حكمتهما على مر التاريخ مثل هذه العلاقة، كما كان عليه الحال ابان الانصبابية الرومانيه الفارسية ومانتج عنهما من اختراقية كونية مضادة صادرة عن المنطقة الشرق متوسطية، منطقة الانماط الثلاثة والمجال الوسط، امتدت من الصين الى اوربا غربا، الامر الذي لم يسبق ان جرت ملاحظته فضلا عن التوقف عنده من قبل، مايجعل من غير المنتظر حضور اي شكل من اشكال استعادتة كواقعه تاريخية تفاعلية كبرى نوعية، تتعلق بخاصية الازدواج المجتمعي المغيبه على مر التاريخ.

ولنتصور لو انه قد جرت عملية تحديد مراحلية كونية ابعد من النطاق الاوربي للانقلاب الالي تقول: بان العملية المذكورة تبدا اوربية وتنتهي شرق متوسطية، تبدا احادية ارضوية وتنتهي  تحولية عظمى ينتهي عندها التاريخ الارضوي المجتمعي الحاجاتي، يوم تنبثق بعد التفاعل المديد الاصطراعي الشامل، النطقية اللاارضوية المؤجله، والتي ظلت الى اليوم خارج الادراكية العقلية، خاضعة لاشتراطات اليدوية، تلك التي تنطوي على الرؤية التحولية الكبرى البشرية من "الانسايوان" العقل/ جسدي الانتقالي، الى " الانسان/ العقل"، وهو الهدف والغرض الفعلي  الحاكم اليوم، ومع الانقلاب الالي لعملية التشكل المجتمعي كونيا، مايعني كون الانقلاب الالي مازال طي المستقبل، وانه لم يحصل بمعنى الاكتمال،  حتى الساعه.

هل المنطقة خالية كليا من حضور الاليات الذاتية؟ لايمكن  الاجابه على سؤال من هذا القبيل اشارة لما هو غير مدرك، فالمنطقة ماتزال غير واعية لذاتها، ولا لاليات تاريخها، وهي تظل على مدى القرون تعيش تاريخها بلا وعي للذاتيه المجتمعية، مايجعلها اقرب اليوم للاحتفاء ب " نهضة" محمد على الالباني وعفلق السوري، متغاضية كليا عن احتمالية الانبعاثية مابين النهرينيه التي تبدا مع القرن السادس عشر، اي قبل بداية الانبجاس الالي الاوربي، بعد فترة  من الفوضى استمرت من انهيار الدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، مع سقوط عاصمة الامبراطورية الكونيه بغداد عام 1258،  الى القرن السادس عشر حين قام "اتحاد قبائل المنتفك" في ارض سومر التاريخيه، ارض الدورة الاولى الازدواجية،  والبدئية المجتمعية وتعبيريتها  الكونية اللاارضوية الابراهيمه، لنشهد اليوم عملية تشكل تاريخي حديث يبدا قبليا، ثم انتظاريا نجفيا، ثم ايديلوجيا، قبل ان يدخل طور الفنائية الكيانيه الوجودية الحالية.

وهو مسار مغفل غيرحاضر على مستوى الوعي، حيث القصورية العقلية التاريخيه تتحول اليوم الى معضله عالمية كبرى، مع التازم الغربي المتعاظم، وتزايد التفارقية بين وسيله الانتاج وشروط الانتاج الجسدية، بينما متبقيات "النهضوية الزائفة" الايديلوجية الحضاروية في حال انهيار وترد، تقابله محاولة تسييد نمطية مغايرة للخاصيات التاريخيه، على قاعدة الريع النفطي والتدخلية الامريكيه المباشرة، بغطاء تشبهي زائف ابراهيمي،  خارج عن حكم الاليات التاريخيه، في وقت تتزايد مظاهر الانهيار النموذجي الغربي، مقابل غلبة الكيانيه الامريكيه المفقسه خارج رحم التاريخ، بينما الديناميات الانتاجية تنتقل تباعا الى مابعد مجتمعية وكيانيه، وماوراء دول وممارسات حياتيه جسدوية يدوية  منتهية الصلاحية، يخيم عليها شبح ينتمي لاحتمالية الفنائية.

العالم على مشارف الانقلاب والثورة العظمى الانقلابيه التحولية، بينما تتاكل وتسير للانهيار متبقيات المبتنيات الكيانوية والمفهومية الارضوية الجسدية، وبالذات منها وعلى راسها التوهمية الغربية الجاري الاصرار على اعتمادها والتمسك بها في غير اوانها، وبعدما فقدت مصداقيتها واقعا معاشا، بالمقابل لا تاخذ الانقلابيه المفهومية لاسباب غير عادية مكانها المفترض بين ليله وضحاها، وفي حين تجر ي محاولات معزوله ومؤطره بالتجاهل العمد او بسبب العجز عن الاستيعاب، لارساء بدايات انتقالية  تفتح الباب لعملية ازاحة متبقيات الهيمنه الارضوية اليدوية، فان كل ماهو مودع في الذاكرة والوجدان البشري، وفي طريقة النظر الى الاشياء والى الذات والوجود، يقف مايزال بقوة سدا مانعا دون حصول الاختراقية اللاارضوية، بغض النظر عن ظهور بدايات ماتزال خارج الاستيعاب او الوعي(2)، بانتظار حضورية تطابقية وقائعا وحدثيا، مع ماهو مذاع  ولازم وشيك من نداء انتقالية عظمى ماتزال خارج الانتباه.

***

عبد الأمير الركابي

 

الشرق الأوسط حقل تجارب لصراعات القوى العظمى؟

الأديان ساحة معركة: من يحارب باسم الله؟

***

لا تخفى على متأمل في أحوال الشرق الأوسط اليوم حقيقة مرة: أن الفوضى العارمة التي تكتسح المنطقة ليست وليدة الصدفة، ولا هي مجرد انتفاضة شعوب عطشى للحرية فحسب. بل هي، وكما يخبرنا التاريخ حين يقرأ بعين ثاقبة، حلقة من حلقات مسلسل طويل من التآمر العالمي، تديره أياد خفية تحمل أختام الماسونية والصهيونية، وتستظل بخيانة حكام تخلوا عن عروبتهم قبل أن يتنكروا لشعوبهم. 

المؤامرة.. ليست وهماً! 

من ينكر نظرية المؤامرة اليوم، كمن ينكر حرق نيرون لروما! التاريخ، منذ اتفاق سايكس-بيكو إلى وعد بلفور، إلى غزو العراق، وإلى "الربيع العربي" المشبوه، يخبرنا أن المنطقة لم تكن يوماً ساحة لصراع القوى العظمى فحسب، بل ميداناً لتنفيذ مشاريع استعمارية تهدف إلى تفكيك الهوية وإعادة تشكيل الخريطة بما يوافق مصالح الكيان الصهيوني. فكيف لنا أن نفسر تزامن الحروب الأهلية، وتفتيت الدول، وتغيير الحلفاء، وخروج الثوابت السياسية عن مسارها، إلا بضغطة زر من غرفة تحكم في عاصمة غربية أو تحت أنقاض هيكل مزعوم؟ 

ليس غريباً أن تتحول الفضائيات ومواقع التواصل إلى ساحات لحرب نفسية تذيب العقول قبل الأجساد. فالثورة الإعلامية التي يزعمونها "تحريراً للرأي" هي في حقيقتها آلة لتزييف الوعي، تصنع الأعداء وفق القلب، وتبرر الغزو باسم الديمقراطية، وترفع شعارات الحرية بينما تدفن الحقيقة تحت ركام الأكاذيب. ألم يكفنا أن الإعلام الغربي يعلق على دموع الأطفال في غزة بينما يبرر قتلهم باسم "الحق في الدفاع عن النفس"؟! 

رغم ذلك، فإن المفارقة الأقسى هي تنامي الحس الإنساني لدى شعوب المنطقة رغم القهر. فالشاب العربي اليوم يقرأ التاريخ بعين نقدية، ويربط بين النقاط بين الماضي والحاضر، ويرى أن الفوضى ليست قدراً، بل نتيجة لسياسات ممنهجة. والسؤال الآن: هل ستنجح هذه الشعوب في كسر حلقة المؤامرة، أم أن التضحيات ستذهب سدى كما حدث في مآس سابقة؟ 

التاريخ يعيد نفسه.. فمن يتعلم؟ 

لطالما كان التاريخ ساحة لصراع الإرادات. وإذا كانت المؤامرات قادرة على صنع فوضى، فإن إرادة الشعوب قادرة على صنع مستقبل يكسر القيود. فهل ننتظر جودو ليخلصنا، أم نكون نحن البناة الحقيقيين لتاريخ جديد؟ الجواب يكمن في ذاك الحس المشبوب بالغضب والأمل الذي يملأ شوارع بغداد ودمشق والقاهرة وغزة.. فلا يأس مع الحياة! 

إذا كانت الفوضى في الشرق الأوسط تشبه زلزالاً لا يتوقف عن الهز، فإن يداً خفية تحرك الصفائح التكتونية للتاريخ من خلف الستار. فما نراه اليوم من دمار وتفتيت ليس انهياراً تلقائياً، بل هو "فوضى منظمة" تدار بمزاج القوى الكبرى، وتوجه نحو أهداف محددة: إضعاف المقاومة، تفكيك الهوية، وإعادة تشكيل المنطقة وفقاً لخرائط جديدة تكرس التبعية والانقسام. 

لا يخفى على أحد أن الكيان الصهيوني هو أكبر مستفيد من هذه الفوضى. فكلما اشتعلت حرب أهلية في دمشق أو بغداد، ازدادت شرعية "إسرائيل" كـ"واحة استقرار" في محيط مضطرب! والأمر لا يقتصر على ذلك، بل يتعداه إلى اختراق الاقتصادات العربية عبر شركات وهمية، والتغلغل في الإعلام لترويج "ثقافة الهزيمة". حتى بات بعض العرب يصدقون أن السلام مع العدو هو الحل الوحيد! 

الإعلام: سلاح التضليل الأكثر فتكاً 

في عصر "الحروب الهجينة"، لم يعد السلاح التقليدي هو الأشد فتكاً، بل الإعلام. فبينما تقصف غزة، تتحول الفضائيات إلى منصات لتبرير المجازر أو ليّ الحقائق. والمؤسف أن بعض العرب انضموا إلى هذه الآلة الإعلامية، فصاروا يروجون للأجندة الصهيونية دون أن يشعروا! 

الشرق الأوسط اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يستمر في لعبة الفوضى، أو ينتفض ليكتب تاريخه بنفسه. والخيار ليس صعباً.. فالشعوب التي قاومت، انتصرت. والباقون سيدفنون في صفحات التاريخ كخونة أو خونة! 

ليس غريباً أن تتحول بوصلة السياسة الدولية نحو الشرق الأوسط، فمنذ أن أدرك الاستعمار القديم أهمية المنطقة الجيوستراتيجية، واللعبة الكبرى مستمرة. لكن الجديد اليوم هو تحول المنطقة إلى "مختبر مفتوح" لتجارب العصر: من حروب الجيل الرابع إلى هندسة المجتمعات، ومن اقتصاديات الحروب إلى اختراق السيادات الوطنية تحت شعارات براقة. 

لم تعد الحروب التقليدية هي الأداة الوحيدة للهيمنة. اليوم، نرى "حروب العقوبات" التي تحولت إلى أداة لإخضاع الأمم. من حصار العراق في التسعينات إلى عقوبات إيران وسوريا اليوم، تظهر معادلة واضحة: "أفقر الشعب تسيطر على القرار". والغريب أن المؤسسات المالية الدولية أصبحت أدوات تنفيذ لهذه السياسات، بينما تتحول البنوك إلى حراس للهيمنة الغربية. 

الثورات الملونة: عندما تتحول الأحلام إلى كوابيس 

ما يسمى "الربيع العربي" لم يكن سوى فصل جديد من فصول تفكيك المنطقة. اليوم نرى الحصاد المر: دول منهارة، هويات ممزقة، ومجتمعات تعيد تعريف نفسها بقوة السلاح. اللافت أن نفس أدوات "صناعة الثورات" تتكرر: من منظمات المجتمع المدني الممولة خارجياً إلى قوى إعلامية تزرع الفتنة تحت شعار التغيير. 

أصبح الخطاب الديني سلاحاً ذا حدين. من جهة، نرى "الإسلاموفوبيا" كأداة لتبرير العدوان، ومن جهة أخرى نرى الجماعات المتطرفة كأداة لضرب استقرار الدول. المفارقة أن نفس القوى التي تدعي محاربة الإرهاب هي من صنعته وموّلته في ثمانينيات القرن الماضي. اليوم، تحولت سوريا والعراق وليبيا إلى ساحات لتصفية الحسابات تحت غطاء ديني. 

بين حرية التعبير واستعمار البيانات 

في عصر الثورة الرقمية، لم تعد الحدود الجغرافية كافية لحماية السيادة. منصات التواصل الاجتماعي تحولت إلى أدوات للتأثير السياسي، وشركات التكنولوجيا الكبرى أصبحت لاعباً أساسياً في تشكيل الوعي الجمعي. الأسئلة المقلقة تتكاثر: من يملك بياناتنا؟ كيف تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتوجيه الرأي العام؟ ولماذا أصبحت "الرقمنة" شكلاً جديداً من الاستعمار؟ 

في مواجهة هذه العواصف، تبرز المقاومة الثقافية كخندق أخير. من إحياء التراث الفلسطيني إلى صمود الهوية اليمنية، تثبت الشعوب أن الثقافة يمكن أن تكون سلاحاً أقوى من الدبابات. هنا يبرز سؤال المصير: هل نستطيع تحويل تراثنا من مجرد ذاكرة إلى مشروع مستقبلي؟ 

رغم كل هذا الظلام، تبقى المقاومة هي الأمل الوحيد. تثبت الشعوب أنها قادرة على كسر القيود. والسؤال الآن: هل نتعلم من الدروس؟ فالتاريخ يعلمنا أن الأمم التي توحدت أمام المؤامرات، استطاعت أن تصنع مصيرها. 

هل نستحق البقاء؟ 

التاريخ لا يرحم الضعفاء. أمام هذا المشهد المعقد، لم يعد أمام شعوب المنطقة إلا خياران: إما الاستسلام لمشروع الفوضى الخلاقة، أو إعادة اختراع الذات من خلال: 

1-  بناء وعي جمعي قادر على قراءة المؤامرات

2-  إعادة تعريف مفاهيم السيادة في عصر العولمة

3-  تحويل الأزمات إلى فرص للبناء الحضاري

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل نتعلم من دروس الماضي أم نكرر أخطاءنا؟ الجواب لن تجده في الكتب، بل في إرادة الشعوب التي ترفض أن تكون ضحية للتاريخ.

***

د. عبد السلام فاروق

كتبت وول ستريت جورنال ان فرض الرسوم الجمركية كان من المفروض ان يقوي من سعر صرف الدولار، ولكن ما حصل هو العكس تماما. منذ منتصف يناير حتى الان فقد الدولار حوالي 9 ٪ من قيمته مقابل سلة من  اهم العملات. حدث خُمسا هذا الانخفاض منذ الأول من أبريل، حتى مع ارتفاع عائد سندات الخزانة الأمريكية لعشر سنوات تدريجيًا بمقدار 0.2 نقطة مئوية. هذا المزيج من ارتفاع العائدات وانخفاض قيمة العملة يُنذر بالخطر: إذا ان المستثمرين  يهربون رغم ارتفاع العوائد، فلا بد أن ذلك عائد إلى اعتقادهم بأن أمريكا أصبحت أكثر خطورة. تنتشر شائعات بأن كبار مديري الأصول الأجنبية يتخلصون من الدولار الأمريكي.

تقول مجلة الإيكونيميست البريطانية، لعقودٍ من الزمن، اعتمد المستثمرون على استقرار الأصول الأمريكية، جاعلة منها ركائز للتمويل العالمي. يساهم عمق سوقٍ بقيمة 27 تريليون دولار في جعل سندات الخزانة الأمريكية ملاذًا آمنًا؛ إذ يهيمن الدولار على تداول كل شيء، من السلع والبضائع إلى المشتقات المالية. ويدعم هذا النظامَ الاحتياطي الفيدرالي، الذي يَعِدُ بمستويات منخفضة للتضخم، والحوكمة الأمريكية المتينة، التي تُرحّب بالأجانب وأموالهم وتُؤمّن لهم الأمان. في غضون أسابيع قليلة، استبدل الرئيس دونالد ترامب هذه الافتراضات الراسخة بشكوكٍ مُقلقة.

ان دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود حسب معظم المراقبين بات امرا واردا نتيجة لفرض الرسوم الجمركية، مما سيضطر الفدرالي الامريكي الى خفض أسعار الفائدة ( قام ترامب بتهديد السيد بأول رئيس الفدرالي بإعفائه من منصبه ). ان خفض أسعار الفائدة سيكون امرا ضروريا خاصة اذا سات الاحصائيات الخاصة بسوق العمل. مما سيؤدي الى زيادة في انخفاض للدولار امام العملات الأخرى.

وفي سياق متصل، اعلن صندوق النقد الدولي اثر اجتماعات الربيع المنعقدة في واشنطن حاليا، الى خفض من توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي وذلك من 3 ٪ الى 2.8 ٪ كما حذر من المخاطر المتزايدة والمحتملة على النظام المالي والمصرفي العالمي.

ان انخفاض الدولار الأمريكي سيكون له تداعيات مهمة على اقتصادات دول الخليج، التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالأسواق المالية العالمية، كما ان عملاتها مربوطة بسعر صرف الدولار وفيما يلي اهم القنوات التي سيتجلى فيها تأثير هذا الانخفاض:

الإيرادات النفطية: الدول الخليجية تعتمد بشكل كبير على الإيرادات النفطية، وبما ان النفط مسعر بالدولار، فان انخفاض الدولار قد يخفض إيرادات هذه الدول مقابل العملات الأخرى. ورغم احتمال ارتفاع سعر النفط. نتيجة لانخفاض الدولار غير ان ما شهدناه خلال الأسابيع الماضية هو انخفاض كبير في أسعار النفط، لذلك، هناك انخفاض في قيمة الدولار كما ان الأسعار انخفضت نتيجة الى الزيادة في الإنتاج التي قررتها أوبك بلس. ان انخفاض أسعار النفط بالإضافة الى انخفاض سعر الدولار وبالتالي انخفاض أسعار صرف عملات دول الخليج مقابل العملات الأخرى سيعقد من وضع الموازنات العامة في دول الخليج وقد يؤدي ذلك الى عجوزات في هذه الموازنات.

ان انخفاض قيمة الدولار ستجعل من الصعب الحصول على قروض مقومة بالدولار وخاصة بأسعار تنافسية مما سيؤثر على خدمة الدين العام. رغم ان معظم دول الخليج لا تزال تتمتع بملاءة جيدة للاقتراض غير ان ذلك لن يستمر طويلا اذا واصل الدولار نزوله.

المسالة الأخرى، هي موضوع إدارة الاحتياطيات الأجنبية، دول الخليج تحتفظ بجزء كبير من احتياطاتها بالدولار الأمريكي، سيؤدي انخفاض سعر صرف الدولار الى انخفاض قيمة هذه الاحتياطيات، مما سيؤثر على الاستقرار المالي في هذه الدول ومما سيجعل هذه الدول تبحث في استراتيجيات جديدة في مجال الصرف الأجنبي. كما تحتفظ معظم الصناديق السيادية بأصول بالدولار مما يسبب لها هذا الانخفاض هبوط في أرباحها وربما خسائر في حالة إعادة تقييمها.

الواضح جدا ان انخفاض سعر الدولار وبالتالي انخفاض أسعار صرف عملات دول الخليج، سيرفع من قيمة الواردات، وخاصة ان هذه الدول تستورد تقريبا معظم السلع والخدمات من الخارج، فنتيجة لذلك سترتفع أسعار هذه السلع وخاصة السلع الغذائية. ان ارتفاع أسعار السلع وبالذات السلع الغذائية سيكون له تأثير كبير على الفئات الفقيرة والمتوسطة. ان هذا الارتفاع في أسعار السلع والخدمات سيرفع من معدلات  التضخم في هذه الدول.

صحيح ان انخفاض الدولار سيؤدي الى ان صادرات دول الخليج ستكون اكثر تنافسية في السوق العالمية، وبالتالي ستستفيد هذه الصادرات من هذا الانخفاض. غير ان معظم الصناعات الخليجية تعتمد على المدخلات المستوردة، فقيمة هذه المدخلات سترتفع أسعارها نتيجة لانخفاض سعر الدولار.

ستستفيد. السياحة من انخفاض الدولار ومن انخفاض قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأخرى. قد يؤدي ذلك الى زيادة في عدد السواح. نظرا لانخفاض قيمة العملة. ولكن انخفاض قيمة العملة أيضا سيؤثر سلبا على السياح الخليجيين، حيث ان الأسعار ستكون مرتفعة بالنسبة لهم في البلدان التي سيقومون بزيارتها.

بالنسبة للعمالة الوافدة: ان عدد كبير من العمالة الوافدة تقوم بتحويل جزء كبير من دخلها الى بلدانها. الانخفاض في قيمة العملة سيؤدي الى انخفاض في قيمة الأموال المحولة ومما سيرفع من رواتب العمالة الأجنبية لتعوض هذا الانخفاض.

ارتباط العملات بالدولار : عملات دول الخليج مرتبطة بالدولار الأمريكي (عدى الكويت الى حد ما، تربط عملتها بسلة من العملات يهيمن عليها الدولار)، انخفاض الدولار ممكن يؤدي الى تغيير في السياسات، بما في ذلك تغيير في أسعار الفائدة او إعادة تقييم لربط العملة.

الواضح ان ارتباط سياسة سعر صرف عملات دول الخليج بالعملة الامريكية، وان كان لفترة طويلة كان مناسبا واستفادت دول الحليج من استقرار الدولار. ان دخول الاقتصاد الأمريكي في مرحلة عدم اليقين وخاصة اذا ادركنا ان الدين العام وصل الى مرحلة خطرة مما سيهدد باستقرار هذ العملة، فقد يكون من المناسب ان تبحث دول الخليج خيارات ربط عملاتها بسلة من العملات او تعويم عملاتها او البحث في خيارات أخرى وخاصة بعد ان توقف قطار توحيد وتقريب عملات دول المجلس.

***

علي الرئيسي - باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية

..................

* نشرت بالتزامن مع صحيفة الرؤية العمانية.

 

امتثلت رؤية الأنظمة العربية لواقع التبعية المشبوهة المفعمة بالشر، واعتمدت تلك الأنظمة على سياسةٍ قمعية بحقِ شعبها على امتداد الساحةِ العربيةِ المتراميةِ الأطراف، وانحازت بمجملها إلى جانب القوى الأجنبية الخارجية، وبذلك تلاشت السيادة، وتلاشى الاستقلال والتحرّر.

ومن خلالهم ووفق توجيهات من يدعمهم تشوّهت الرسالة الإعلامية، كما الرسالة الثقافية والتربوية، وبرزت ثوابت الانتهازية والفساد والتكبّر والإقصاء والقمع.

كما تلاشى الحقّ العربي منذ سنواتٍ طوال، وتلاشت أيضاً اللحمة العربية أيضاً، حيث عجزت كل القمم العربية من توحيد الصف العربي، ومن تطوير مشروع الأمن القومي العربي، أو أي مشروع واضح المعالم والأهداف، يجمع العرب ويوحّدهم، رغم كثافة طاقتهم وقدرتهم وثرواتهم، وعلى الأقل على المستوى الإقتصادي، أو التعاون العسكري، أو حتّى تطوير المؤسسات التربوية. لكنهم نجحوا فعلاً في مُطاردةِ المواطن العربي وقمعه ومحاربته في أمنه الغذائي والصحي.

لذلك فرغت الساحة العربية من المفكرين ومن السياسيين الجادين في عمل أي خطوةٍ إيجابية ٍ نحو الأمام.

كما انتشرت الإجتهادات الغوغائية التي تلعب دورها أيضاً في تمزيق الأمّة والموقف العربي.

فهل يُعقل أن الأنظمة العربية والحكّام العرب عجزوا فعلاً عن رؤية الطريق الصائب نحو بناء الإنسان العربي المبدع والمبتكر والحفاظ على كرامته وسيادته.

من خلال هذا الواقع المتردي إنتشرت شعارات دخيلة على الساحة كأن يُقال الأردن أولاً أو لبنان أولاً. في الوقت الذي يُعاني فيه الشعب الفلسطيني وتواجهه مشروعات إبادة، لكنه لا يزال صامداً ومقاوماً وهو يتطلّع بشغف إلى دولته على رقعة جغرافية من وطن، كما رسمها لهم العرب.

إن الذي أوقف وحدة الشارع العربي، وثقافة التعايش العربي والإعتزاز، وامتلاك الهيمنة والقوة، وعلى كل المستويات، أسباب عديدة.

مثل القمع الذي مارسته الأنظمة العربية بحق المواطن، والذي أثار الكراهية بين الشعب الواحد، فهناك شريحة واسعة من الناس تم حرمانها من الوظائف بسبب رؤيتها للواقع المُعاش، أو لموقفها السياسي، وبقيت الوظائف في الدولة محجوزة لمن يوالون النظام القائم.

وكثيرون من الناس تتم ملاحقتهم ويتم زجّهم في السجون، ومنهم من تمت تصفيته، ومنهم أيضاً من فرّ إلى خارج البلاد.

كافة الأنظمة العربية تُكرّم على الدوام من يواليها، كما تُقدّم جماعة على أخرى، وطائفة على أخرى، وتنحاز بشكلٍ جلي لصالح مجموعة سياسية على حساب مجموعات سياسية أخرى.

الجميع يعلم أن كل الدول العربية في القرن الماضي تحررت من الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإيطالي، وأعلنت إستقلالها، لكن هذا الاستقلال تبرعت به الأنظمة العربية مرة أخرى للقوى الإستعمارية من خلال التبعية الشريرة التي تحكم العالم العربي كله.

الأنظمة العربية نفسها هي التي اجتهدت ونشرت قيم الفساد والنفاق والكراهية، وفرّقت الناس عن بعضهم، ونشرت فيما بينهم الأحقاد والفتن لسببٍ وجيهٍ واحد، أن الأنظمة القمعية المشبوهة ليس بوسعها أن تكون لصالحِ المواطن والمجتمع، بل تضخ بين مواطنيها كلّ أشكال الفتن كي يبقى الحاكم على الكرسي كحارسٍ أمين للمجتمع وللدولة من وجهة نظرها.

وهذا يكفي وكما يشاء الغرب أن تتدهور الدول العربية، حتّى أن أي حاكمٍ لم يعد بمقدوره تحقيق التآلف في وطنه.

تمزّقت الهوية العربية، وبالتالي تشوّهت هوية المواطن أمام نفسه والآخرين.

علينا أن لا ننسى أن تجّار الدين المقرّبون من الأنظمة الذين أباحوا لأنفسهم أن يقوموا بالإفتاء في مختلف الأمور نيابةً عن الأمّة، ووجّهوا الأمور ليس وفق التعاليم الإلهية، بل وفق مصالحهم ومصالح الحاكم، وكما يُملى عليهم.

ومعظم هؤلاء فتحوا درب التمزّق والاقتتال، لذا انتشرت العديد من الجماعات الإسلامية التكفيرية المتشددة والمتطرفة، وكلّ منها يدّعي أنه يملك مفاتيح الجنّة ومجموعته هي الفائزة.

هؤلاء تحوّلوا إلى خلفاء الله على الأرض ولديهم التفويض المطلق لتوزيع الناس، هذ إلى الجنة، وذاك إلى النار، ويجب قتله.

وأصبحت كل جماعةٍ تُكفّر الأخرى، بل وتُخرجها من ملّةِ الإسلام، وبالتالي انتشرت الفتن المذهبية.

ويبقى المواطن وحده هو الذي يدفع ثمن العهر السياسي للدولة والفتن المذهبية، دماً غزيراً في كلّ بقعةٍ جغرافيةٍ عربية.

وانحاز الإعلام العربي الأسود والمشبوه للفرق الضالة، ضد فرقٍ أخرى، وهو يُمجّد بسلطان الدولة، فغرقَ العربي في التشويه والتضليل الذي زاد الهوّة بين الناس وغُيّبَ وإلى الأبد أي مشروعٍ عربي موحد.

مشكلتنا الأساسية نحن العرب بأننا نفتقد الطموح والإبداع، ولا نريد أن نتعلّم ونسمو بالعقلِ وبالفكرِ والتحليل الموضوعي لكل مشاكلنا، ولكل الظواهر السياسية والاجتماعية التي نعاني منها.

وستبقى الأوضاع تتدهور ويتحكّم بنا الأجنبي الذي يُسيّرنا وفق مصالحه ومخططاته المدمّرة، ما دام التفكير غائباً، والفهم العقلاني لمجريات الأمور لا يُؤخذ به، ولا تأتي الصحوة إلاّ بعد أن يبلغ نزيف دماء الساحة العربية حدّه الأقصى، وعندما تقع الفأس على الرأس، حينها يمكن أن نفكّر.

مع الأسف معظم مشاكلنا ونزيفنا الدموي لم يتوقّف ما دامت هناك دول عربية تقوم بسكب الزيت على النار وعلى الدوام، بسبب الخلاف العربي - العربي.

والكيان الصهيوني يلعب دوراً مهماً في هذا المجال، فلقد إستطاع أن يكسب ود بعض الأنظمة العربية التي أصبحت حليفة له، ووفيّة للكيان الصهيوني وتُنفّذ كل أوامره وطلباته.

كما أن الكيان الصهيوني يعنيه تماماً إضعاف العرب وتمزيق العرب، من خلال ممارساته في إشعال الفتن وتمزيق كلّ ما يمسّ النسيج الاجتماعي والأخلاقي والإنساني العربي.

بكل تأكيد إن المسؤولية تقع علينا حول التدخل الصهيوني والخارجي بشؤوننا، لأننا ربطنا تبعيتنا معهم وبهم، ومن خلال هذه التبعية قاموا بفتح كلّ الثغرات في بلادنا، إن كانت اجتماعية أو ثقافية أو عسكرية وسياسية واقتصادية، وأصبح هو الذي يتحكّم بنا وبمسيرتنا.

إذاً العرب أنفسهم هم الذين يسمسروا على أوطانهم وعلى أنفسهم، وبذلك أصبح العداء بين العربي والعربي أشدّ وأقسى من عدائنا لكل الأعداء الخارجيين بما فيهم الكيان الصهيوني.

مع الأسف أمّتنا تعيش أسوأ أحوالها، بينما الصهيونية أصبحت في أحسن أحوالها وتطورها، وتقوم أيضاً بتصعيد الحروب الأهلية والصراعات داخل المنطقة العربية، وتُدمّر بنفس الوقت تركيبة الجيوش العربية.

لقد ساهمت الدول الاستعمارية بعد مرحلة الاستقلال العربي بصناعة نظاماً عربياً مختلاً، رغم أن المنطقة العربية تملك كل مقوّمات التمسّك والشموخ والقوة والثروات الهائلة، والحضارة والتاريخ والمصالح الواحدة، وزرعت في أحضان هذه الأمّة كياناً صهيونياً غريباً.

لا ننكر أن النظام الاقليمي العربي قد وُلدَ مختلاً فعلاً، لذلك اليوم يحصد هذا العالم العربي نتاج ما زرعته الأنظمة العربية طوال سنواتٍ سابقة طوال، ولن تقوم له أي قائمة إلاّ بعد إصلاح هذا الخلل، والإصلاح في حالة سُبات.

الخلل في ممارسة كل أنواع القمع والوصاية والإقصاء من قبلِ الأنظمة الحاكمة، وتبعيتها للأجنبي من أجلِ حماية الكرسي، واحتكار هذه الأنظمة لكل الثروات الطبيعية الوطنية، ونشر الفساد وحيتانه، وتجميد العقول والسيطرة عليها، وانتشار مفهوم دولة المخابرات، حيث أُهين المواطن، وتم الإختراق الخارجي لهيبة الدولة.

لقد أصرّ الحكّام العرب على إغلاق مختلف أبواب التغيير السياسي، من خلال تبريرات سرابية، مفعمة بالشعارات الزائفة.

ولا بُدّ لنا إلاّ أن نتساءل، ما هو موقف العرب في حال اندلاع حربٍ موسّعة إقليمية أو دولية، وما هو مستقبل " جامعة الدول العربية "، وما هو موقف الأنظمة العربية من الموجة التصاعدية للحركات المتطرفة بعد سنواتٍ من موجات العنف وبروز التنظيمات المسلحة المتطرفة الجهادية في الميدان العربي ؟.

كلّ المؤشّرات تؤكّد أن الوطن العربي يمرّ بأزمةٍ كبيرة، وأن الحديث عن مستقبل العرب المعروف منذ إنتهاء الحرب العالمية الأولى والخلافة العثمانية، لا يزال الحديث عنه قائماً منذ أكثر من 100 عام بدون أي إجابةٍ أو حل، إنّه الفراغ الفكري والايديولوجي لكافة الأنظمة العربية.

لذا على كافة الكتاب والمفكرين المثقفين العرب أن يأخذوا دورهم الفاعل ويتحمّلوا مسؤولياتهم الوطنية والقومية والإنسانية من أجل تقييم الواقع، ورسم البرنامج الفعّال كرؤيةٍ مستقبلية جديدة، وتفعيل مشروعٍ نهضوي للعالم العربي، يستطيع الإجابة بعمق عن " مستقبل العرب ".

مع الأسف لقد إنهزمت الأنظمة العربية استراتيجيّاً، والتجأت إلى القوى الخارجية وحوّلت الساحة العربية إلأى ساحةٍِ لصراعات المصالح الأجنبية، وبذلك تلاشت الثروة العربية، المال العربي، والأمن العربي، والمواطن العربي.

الإقليم العربي يشهد صراعات وترتيب صفقة المستقبل، كل القوى العدوّة تلعب كما يحلو لها ويروق في الميدان، ووحدهم العرب هم الغائبون عن الميدان، في الوقتِ الذي تصلهم فيه أخبار الميدان من الخارج، وكأن ما يحدث في المنطقة العربية لا يعنيهم، أو أنه يحدث في مناطق نائية خلف المحيطات.

مع الأسف أن العرب هم آخر من يعلم تأثير الأزمات الاقليمية عليهم، ومن المؤكّد أن كلّ أزمةٍ إقليمية ينتج عنها العديد من التداعيات والشروخات، والتي بالتالي تؤثّر عميقاً في الدول، بحيث لا تستطيع أجهزة تلك الدول منع حصولها.

فقط العرب الذين يقعون في هكذا مطبات التي تُعتبر من البديهيات عند الدول الأخرى، المُعادلة تؤكّد أن القوة والحكمة تكمن في السيطرة على الأزمة قبل وقوعها، بهدفِ صيانة الأمن الإقليمي.

أمام هذا الواقع المتردي والمتشعّب لا بُدّ إلاّ أن نتساءل:

هل هناك من وسيلة للحدّ من مسار الانحدار المتفاقم عند العرب؟.

الشعب العربي هو كبقية شعوب العالم، الجميع يتشاركون بشكلٍ جاد للنضال ضد العدوان والقمع والإستبداد، والجميع تابع ولا يزال التضحيات التي قدّمتها الجزائر وسورية ومصر وفلسطين واليمن وليبيا، والدم الذي قدّمته هذه الدول وغيرها بهدفِ التحرّر والسيادة، ومع ذلك هذه الدول لم تصل إلى برّ الأمان المُراد، فالشعارات والأغاني الوطنية لا تصنع دولاً، والحاكم المستبد ولا جيشه يصتع وطناً.

ما تشهده الساحة العربية يُؤكّد لنا بصيص النور الذي يُرى في نهاية النفق، لا يملك الأمل للخروج من هذا الواقع المرير، غزّة وفلسطين ينتهج الكيان الصهيوني حولها حرب إبادةٍ صريحة، والعرب صامتون لغاية الآن، والعالم كله يتابع بصمتٍ وتجاهل.

في عملية إستلام وتسليم برعايةٍ إقليمية ودولية، جاؤوا بأبو محمد الجولاني ليكون متنفّذاً بسورية، وهو الذي كان في القاعدة، ومن ثُمّ في داعش وبعد ذلك جبهة النصرة، ومن ثم في فتح الشام وأخيراً في تحرير الشام، وتاريخه كله يشهد له بأنه كان يُمارس القتل والذبح والإبادة لمختلف الطوائف التي يجدها أمامه، وأصبح الجيش السوري معظمه من الأجانب المتطرفين والجهاديين المرتزقة من الشيشان والأنغور وسواهم، وكلهم عبارة عن فصائل مسلحة تكفيرية يحكمون سورية الآن، وإسرائيل اقتحمت الجنوب السوري ووصلت إلى حدود الأردن والعراق، والعرب صامتون وكأنهم لم يسمعوا شيئاً، وتركيا تقيم قواعد عسكرية، وأمريكا أيضاً، والأكراد أيضاً لهم حصّة، والساحل السوري له حصّة، وهذا يعني أن سورية تتحوّل تدريجياً إلى خمس دويلات، والعرب نائمون في سباتٍ عميق، والمخطط الصهيوني يتابع مسيره فهو واضحٌ وتم الإعلان عنه، سورية هي المفتاح ومن ثم يبدأ دور لبنان والأردن والعراق ومصر والسعودية، وأيضاً العرب يتجاهلون، وكأنهم ينتظرون أن يصل الدور عليهم.

المخطط واسع وخطير، ومع الأسف العرب لم يتفاعلوا مع هكذا مخطط بشكلٍ يتناسب مع خطورة الحدث، وكأنهم في حالة موتٍ سريري.

كافة المنظمات الحزبية والفكرية والأدبية تتناول الأزمات بشكلٍ خجول مع الأسف.

إننا بحاجةٍ ماسّة إلى صحوة الضمير العربي، وإلى العمل الجاد من أجلِ النهوض بمشروعٍ عربي قبل فوات الأوان.

وعلى الأنظمة العربية الكف عن تقليد النعامة ودفن الرأس في الرمال، وكأن الأمّة مصرّة على تلقّي النكسات المتتالية، والصعود وبقوة نحو الهاوية.

يا ابن الوليد ألا سيفُ تؤجّره

فكلّ أسيافنا قد أصبحت خشبا.

نزار قباني.

إن انتهاج سياسة الحكمة والعقلنة قبل فوات الأوان جديرٌ بأن يُخرج المنطقة العربية من هذا الوضع اليائس.

إن التمترس وراء ممارساتٍ كيدية على حساب الأمن القومي العربي المشترك، وعلى حساب الأمن الاستراتيجي سيجعل المنطقة العربية بقعةً من سراب.

يبدو أن الحكّام العرب لا يعنيهم إلاّ الكرسي مهما كان الثمن، حتّى ولو أُبيدت الأوطان أمام أعينهم وهم يتباهون بأوسمة التبعية، ولا يحرك ذلك فيهم أي أي حسٍ وطني أو قومي أو إنساني. كأن ضميرهم ميّت، بل هم كذلك.

كما صمتوا عن ذبح وإبادة العربي في غزّة وفلسطين فإن مدية الجزّار ستحزّ دمهم عاجلاً أم آجلاً ومن الوريد إلى الوريد.

هل يستطيع المفكرون والسياسيون وعلماء النفس البشرية والاجتماع أن يأخذوا دورهم الجريء لبناء جيلٍ حر كاسر لجدار الخوف وهو بطبعه ينادي بجرأة وإخلاص ووعي وإدراك من أجل الحرية وطمس كلّ معالم القمع الإستبدادي والفساد والعهر السياسي المتفشي في البلاد، وأخذ دوره الفاعل المُشارك في صناعة القرار السياسي والعسكري والأمني والثقافي والتربوي والاقتصادي والاجتماعي في الدولة ؟.

على كافة الكتّاب والمفكرين والمثقفين والأدباء العرب أن يتحمّلوا مسؤولياتهم الجادّة من أجلِ إعادةِ الصواب إلى البوصلة العربية، وإلاّ عليهم أن يستمروا في صمتهم، ويعلنون فشلهم وبالتالي أن يخرجوا من الميدان، ويكفّوا عن النفاق، وعلى الأمّة والأوطان السلام.

وسيبقى السؤال الذي يأتينا وعلى الدوام بدون أي إجابة، وكأنه قادمٌ من سهول السراب مخترقاً الفضاء المبهم.

*** 

د. أنور ساطع أصفري

إذا صدّقتَ كل ما يُقال في وسائل الإعلام عمومًا، وعن الانتخابات النيابية المقبلة في 2025 خصوصًا، فأنت ضيف دائم مخدوع في نشرات الأخبار والبرامج الحوارية.

لن أعود بعيدًا في أغوار التاريخ لكشف زيف الإعلام، ولكن سأبدأ من جوزيف غوبلز، وزير الدعاية السياسية في عهد هتلر، الذي قال: "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون". ونظرًا لأهمية أفكاره وتأثيرها، فقد اهتم الدارسون بإرثه، وأطلقوا عليه "النظرية الغوبلزية".

وفي منطقتنا العربية، نجد مثالًا آخر على الإعلام المضلل. ففي مصر خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان الإعلامي أحمد سعيد يبث عبر البيانات العسكرية تأكيدات على "انتصارات ساحقة" للجيوش العربية، بينما كانت الحقيقة تظهر تدريجيًا، كاشفة عن حجم الخسائر الفادحة. أعقب ذلك تنحي عبد الناصر وعودته إلى الحكم، وبقي اسم أحمد سعيد مرادفًا للكذب في نظر كثيرين. وقد صرح في أحد لقاءاته لاحقًا قائلاً: "العلاقة بين القوات المسلحة والإذاعة هي علاقة آمِرة، كأننا جنود في المعركة. تُملَى علينا البيانات ونُجبر على إذاعتها، مهما كانت مخالفة للواقع، وإلا فالعقوبة هي الإعدام!"

وقد وثّق الصحفي المصري ياسر بكر هذه الظاهرة في كتابه"صناعة الصحافة المصرية للكذب في نصف قرن".

أما في العراق، فلدينا المثال الأشهر: إعلام محمد سعيد الصحاف قبيل الغزو الأميركي عام 2003. كان الصحاف يرى الدبابات الأميركية بعينيه من فندق الميريديان وسط بغداد، لكنه يصرّ على أن "العلوج" قد تم دحرهم على أبواب المدينة! (العلج: وصف يُطلق على الأحمق الغليظ بدناً وعقلاً ومعاملة).

كان الرئيس الأمريكي بوش الابن مولعا بمتابعة المؤتمرات الصحفية للصحاف. وفي كل مرة كان يبدو بوش مندهشاً من تخريجات الصحاف، والسخرية من انتصارات أمريكا، بل كان لايأوي إلى فراشه إلاّ بعد أن يستمع إلى تصريحات الصحاف ثم يضحك ويشعر بالغبطة والسرور، وهذا النجاح هو ما جعل شركة غربية تبيع 5 ملايين فانيلة عليها صورة الصحاف ، ولم يتوقع أحد أن يُنقذ الصحاف نفسه بتلك الأكاذيب، لكن الأميركيين تعاملوا مع تصريحاته بوصفها مادة ساخرة للضحك، بل أحبوه بسببها!

قبل الخوض في هذا الموضوع أكثر فأكثر، لا بد من التفريق بين "المعلومة المغلوطة" و"الخبر الكاذب". في الأولى، يكون هناك جزء من الحقيقة يُضاف إليه جزء من التضليل، وغالبًا ما تُستخدم الإثارة والمبالغة. كتب كثير من الباحثين عن الكذب، أبرزهم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، أستاذ "الكوليج دو فرانس"، الذي ألّف كتابًا بعنوان: "تاريخ الكذب".

وأعود إلى جوهر هذه المقالة: تشخيص واقع شراء السلطات الفاسدة في العراق ذمم أغلب وسائل الإعلام، وفي مقدمتها القنوات الفضائية. فمعظم هذه القنوات مملوكة لأحزاب السلطة التقليدية، أو لرجال أعمال يجعلون منها أبواقًا تمجّد تلك الأحزاب، ما دامت الأموال تتدفق، والعقود تُمنح، والتسهيلات تُقدَّم.

وعندما تُتهم هذه الوسائل، تردّ بوقاحة: "نحن لا نكذب، نحن نُجمّل!". لكن الحقيقة أن الواقع في إجازة... والبديل تُنتجه وسائل الإعلام. من فبركة العناوين إلى صناعة "الواقع البديل"، يُمارس الكذب على الهواء مباشرة، أو عبر الصحف والمواقع الإلكترونية!

وبات إطلاق الأخبار الكاذبة أسهل من أي وقت مضى: يكفي هاتف ذكي، واتصال بالإنترنت، وحساب على منصات التواصل الاجتماعي. ومن هناك نسمع ثرثرةً لا تميز بين "قانون انتخابات"، و"نظام التمثيل النسبي"، و"الصوت غير المتحول"، و"صيغة توزيع المقاعد سيئة الصيت: سانت ليغو"، فيحدث الخلط والبلبلة.

الخلاصة: إعلام زائف في أغلبه، ضجيجه أعلى من معلوماته، ولن يؤدي إلا إلى مزيد من السوء في الانتخابات المقبلة.

***

د. وليد كاصد الزيدي

 

لقد ناقش الفلاسفة، منذ سقراط الى عصرنا هذا، قضايا الخير والحق والعدل والسلطة والعنف والدولة.... ومع ذلك، لم يُسهم الفلاسفة حتى الآن إلا قليلاً في تسليط الضوء على القضية الفلسطينية سيكون من المُحزن حقا أن نرى ان سماء الفلسفة اليوم قد انطفأت مصابيحها ولم تعد مرصعة بالنجوم كما يجب لها ان تكون والأنوار التي سحرت كانط توارت في الأفق البعيد بعد ان أفرغ الخطاب الفلسفي من بعده الإنساني ومحتواه الأخلاقي وسيكون هذا العصر شاهدا على عجز الفلسفة المعاصرة في التخفيف من معاناة واحزان أطفال غزة وتحقيق العدالة للذين قتلوا بوحشية هناك في فلسطين.

عجز الفلسفة المعاصرة عن مقاومة الشر وافتقار المشتغلين بالفلسفة الى فضيلة قول الحق والوقوف في وجه الأنظمة المستبدة يجعلنا نشعر بالاستياء فلا وجود لنقاش فلسفي جاد حول فلسطين في الفصول الدراسية ومؤسساتنا الثقافية وحتى في المعاهد التي تحمل ما يسمى قسم الفلسفة في جامعاتنا. وعلى رغم من اقتناعنا بأن الفلسفة تفكير اشكالي وايماننا بانه من واجب الفيلسوف تحمل مسؤوليته الأخلاقية والانحياز الى كل ما هو انساني مادام هو حارس القيم ومشرعها في بعض الاحيان الا ان الناظر بعين النقد في شكل ومضمون الخطاب الفلسفي المتداول عندنا يلاحظ تهافت هذا الخطاب.

و مع ذلك هناك حالات من الاستثناء فقد نشر في 8 نوفمبر2023 مجموعة من أساتذة الفلسفة في أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وأوروبا رسالة للتعبير علنا وبشكل لا لبس فيه اعلنوا فيها تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وإدانة المجزرة المستمرة والمتصاعدة بسرعة التي ترتكبها إسرائيل في غزة وبدعم مالي ومادي وأيديولوجي كامل من الحكومات الغربية و في مقال للمؤرخ وعالم الاجتماع ماكسيم رودنسون ، بعنوان "إسرائيل، حقيقة استعمارية؟" تساءل عن الأسباب الحقيقية لما يحدث في فلسطين وأجاب أن "تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين هو تتويج لعملية تنسجم تمامًا مع حركة التوسع الأوروبي الأمريكي الكبرى في   القرنين التاسع عشر والعشرين، بهدف استعمار أراضٍ أخرى أو السيطرة عليها اقتصاديًا وسياسيًا".

موقف الفلاسفة من القضية الفلسطينية من سارتر وإيمانويل ليفيناس الى حنة آرنت

الحاخام سعاديا جاؤون [سعيد بن يوسف أبو يعقوب الفيومي] (882 م-942م) قبل ما يزيد على ألف عام تحدث عن اليهود قائلا : «أمتنا توجد فقط داخل التوراة» وقد علق عبد الوهاب المسيري في كتابه نهاية التاريخ دراسة في بنية التفكير الصهيوني عن هذا القول بأنه لم يعرف الشعب اليهودي التاريخي كعرق، ولا كشعب ينتسب إلى هذا البلد أو ذاك، أو هذا النظام السياسي، أو ذاك، أو كشعب يتكلّم اللغة نفسها، بل كشعب يهودية التوراة، ووصاياها وقد أشار في كتابه هذا وغيره من الكتب الى مواقف بعض الفلاسفة اليهود والتي تتأرجح بين التطرف والاعتدال ذكر منها:

-  موقف مارتن بوبر (1878 ـ 1965) هذا الفيلسوف الصهيوني الصوفي يري أن «تاريخ اليهود هو تاريخ يتدخل فيه الرب». ويفرق بوبر بين «التاريخ» (التجربة التي تعيشها الأمم، على حد قوله) «والوحي» (وهو التجارب الهامة الخالصة التي يعيشها الأفراد)، ويرى أنه حينما يتحول الوحي إلى أفكار تفهمها الجماهير وتؤمن بها، فإنها تصبح عقائد. هذا هو الوضع بالنسبة لسائر الأمم، أما بالنسبة لإسرائيل، فالأمر جد مختلف، إذ إن ثمة تطابقا كاملا بين الوحي والعقيدة والتاريخ. إن إسرائيل تتلقى تجربتها الدينية الحاسمة كشعب، فليس النبي وحده هو الذي تشمله ظاهرة الوحي «التاريخ كوحي، الوحي كتاريخ». وهكذا يتحول اليهود، في هذا الإطار الحلولي، إلى شعب من الأنبياء، ويتحول تاريخهم إلى وحي مستمر، ولذا فاليهود بحسب تصور بوبر الصوفي العلماني «أمة تحمل وحيا (إلهيا) عبر تاريخها المقدس» الذي لم يكن سوى صراع لا ينتهي من أجل وضع مُثُل الأنبياء موضع التطبيق» كما يقول نحمن سيركين (1868 ـ 1924) الزعيم الصهيوني العمالي. إن الفيلسوف المتصوف والمفكر «الاشتراكي» يتفقان على خصوصية «التاريخ اليهودي» وقدسيته، كما يتفقان على تداخل التاريخ المقدس والتاريخ الإنساني.

-    موقف موسى مندلسون (1729-1786) الفيلسوف اليهودي الألماني، فيلسوف الهسكلاه بالدرجة الأولى الذي حاول أن يحطم “الجتو العقلي الداخلي” الذي أنشأه اليهود حول أنفسهم لموازنة الجتو الخارجي الذي كانوا يعيشون فيه، وقد بذل أقصى جهده لتبيان علاقة الدين بالعقل، ورفض أن يعترف بأي جانب من اليهودية يتنافى مع العقل، بل إنه ذهب إلى حد الإيمان بأن اليهودية ليست “دينًا” مرسلًا من عند الله، بل هي مجموعة من القوانين الأخلاقية المُنزلة، وأنه عندما تحدث مع موسى في سيناء لم يذكر له أي عقائد بل ذكر له طريقة للسلوك يتبعها الأفراد في حياتهم الشخصية وقد انتقد مندلسون سيطرة الحاخامات على الديانة اليهودية واليهود، وبيَّن في كتابه (أورشليم أو انعتاق اليهود المدني 1873) أن هناك أسسًا ثلاثة لليهودية؛ أولًا: وجود الله، ثانيًا: الإيمان بالعناية الإلهية، ثالثًا: خلود الروح، وهو -يُمثل ديكارت- تقبل هذه القيم لأنها حقائق بديهية مثل الحقائق الرياضية كما تُشكل الأساس الفلسفي لكل الأديان قاطبة، وحاول مندلسون أن يعيد تعليم إخوانه في الدين حتى يمكنهم الاندماج منع بقية الشعوب، فقام بترجمة “أسفار موسى الخمسة” إلى الألمانية ليقضي على عزلة اليهود الموضوعية والنفسية وكتب تعليقًا مستنيرًا على الكتاب المقدس، وأصدر مجلة لنشر كل ثمار الثقافة العالمية بالعبرية، وأخيرًا أنشأ مدرسة في برلين للأطفال اليهود لتعليهم الألمانية وبعض الأعمال اليدوية إلى جانب العلوم اليهودية التقليدية وحاول مندلسون أن يضمن استمرار حركة الهسكلاه، فطالب بمنح كل فرد حرية العقيدة ليُقرر كل ما يشاء حسب ما يمليه عليه ضميره وتصوره الأخلاقي، أي أنه كان يحاول أن يجعل من اليهودي فردًا له حريته ووعيه وليس مجرد وحدة في مجموعة قومية دينية تسلبه حريته وإنسانيته، وقد تركت فلسفة مندلسون أثرًا عميقًا على الفكر اليهودي، بل ويمكن اعتبار مذهب (اليهودية الإصلاحية) نتاجًا مباشرًا للهسكلاه عامة ولفكر مندلسون على وجه الخصوص، فقد حاول مؤسسوا هذا المذهب أن يصلوا إلى صيغة معاصرة لليهودية تلائم العصر وتتخلص من أثار المطلقات اللاتاريخية التي كانت تدور في فلكها، وتتضح هذه النظرة التاريخية في موقف المفكر الإصلاحي صمويل هولدهايم (1806-1880) من التلمود إذ يقول: “يتكلم التلمود بأيديولوجيا العصر؛ أما أنا فأتكلم من وجهة نظر الأيديولوجيا العليا لهذا العصر؛ لذلك فأنا مٌحق ولي الصلاحية لعصري”.

وبالعودة الى تاريخ الفلسفة المعاصرة بداية من القرن العشرين يمكننا ان نشير أيضا الى :

-    موقف إيمانويل ليفيناس (1906-1995) ولفهم وجهة نظره بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لابد من الإشارة أولا الى ان ليفيناس لم يقوم بالهجرة إلى فلسطين وانه كان يردد عبارة "الإنسان أقدس من قطعة أرض". ومع ذلك لم يكن معارضا لقيام الدولة اليهودية على ارض فلسطين بل كان مدافعا عن قيام دولة يهودية على أسس أخلاقية او كما يقول - دولةً تتجسد فيها الأخلاق النبوية وفكرة السلام فيها. " إن الأخلاق التي تحملها اليهودية "لا تنفصل عن الغايات الدنيوية للدولة" وتذهب إلى أبعد من هذه الغايات . "و في نصوصه من الخمسينيات، والتي جُمعت بعضها في كتاب "الحرية الصعبة" (1984)، كتب قائلا: "إن الشيء المهم في دولة إسرائيل لا يتمثل في تحقيق وعد قديم، ولا في البداية التي ستمثل عصرًا من الأمن المادي - وهو أمر إشكالي، للأسف! - ولكن في الفرصة التي أتيحت أخيرًا للوفاء بالقانون الاجتماعي لليهودية. كان الشعب اليهودي حريصًا على أرضه ودولته، ليس بسبب الاستقلال الذي لم يكن مضمونًا الذي توقعه منها، ولكن بسبب عمل حياته الذي يمكنه أن يبدأه أخيرًا ، وهو تحقيق العدالة، وسياسة أخرى موضوعة تحت علامة الأخلاق - "  تمامًا كما بررت ممارسة العدالة في العصور القديمة الوجود على الأرض. »  إن الواقع التاريخي سوف يؤكد جزئيا مخاوف ليفيناس. في عام 1967، شنت إسرائيل "هجوماً استباقياً" ضد جيرانها العرب ، واحتلت قطاع غزة وصحراء سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية ، ولكن قبل كل شيء احتلت القدس، التي أصبحت عاصمتها بحكم الأمر الواقع، حتى ولو لم يتم الاعتراف بها دولياً. وفي ندوة المثقفين اليهود في فرنسا، أصدر ليفيناس - على الرغم من تمسكه الراسخ بوجود الدولة العبرية - انتقادات قوية. وهو يتحدى الفيلسوف أندريه نيهر الذي يزعم أن "  إسرائيل تقف إلى جانب العدالة"  : فيرد ليفيناس : "  لا يجوز لإسرائيل ولا ينبغي لها أن تكون مضطهدة " . اسمع يا نهير، ألم تشعر قط بأدنى تساؤل، أو أدنى شك في ضميرك؟ [...] اسمع مجددًا: 800 ألف عربي بلا مأوى. بالنسبة لهم، التشرد يعني الحرمان من كل شيء. [...] بدأنا نمتلك ردود أفعال المحتل. [...] يجب أن تكون مؤتمراتنا هي المكان الذي نعبر فيه عن تحفظاتنا. »

ولكن ليفيناس يدرك، في الوقت نفسه، الخطر: خطر أن تصبح هذه الأرض بمثابة مصفوفة لهوس بالهوية، وأرض خصبة لدولة، مثل كل الدول التي سبقتها، سوف تسمح لنفسها بأن تقع في شباك التجذر والقومية، في غموض التجذر. اليهودية، تحديدًا، تدعونا إلى الحذر من تقديس الأرض، كما سيوضح ليفيناس في كتابه "هايدغر، غاغارين، ونحن" (1961): "لطالما كانت اليهودية حرة فيما يتعلق بالأماكن. وهكذا ظلت وفية للقيمة الأسمى. لا يعرف الكتاب المقدس إلا أرضًا مقدسة واحدة. [...] الطعام، [...] الشراب، [...] والمأوى، ثلاثة أشياء ضرورية للإنسان، يقدمها الإنسان للإنسان. الأرض لذلك. الإنسان سيد نفسه لخدمة البشر، لا غير". أليست إسرائيل، كدولة ذات سيادة، في خطر نسيان هذه الطريقة في سكن الأرض كأجنبي؟ ليس على الفور، مسبقًا . لأن هذه الأرض التي ترتبط بها الدولة العبرية، والتي هي موضع نزاع دائم، لا تشكل بأي حال من الأحوال أساساً دائماً. "انعدام الدعم العالمي، وغياب أي "موقف احتياطي مُجهّز""  : "هذه هي الأرض التي تمتلكها إسرائيل في دولتها. وتُجهد جهود بنائها والدفاع عنها بسبب الاحتجاج والتهديد المستمر والمتزايد من جميع الجيران. دولة لا يزال وجودها موضع شك في كل ما يُشكّل جوهرها؛ بينما تُعدّ أرض الأمم السياسية دائمًا "المصدر الأقل نقصًا" والذي يبقى عندما يُفقد كل شيء. " إن ما يُشكّل أساسًا دائمًا بالنسبة للدول الأخرى يُعتبر بالنسبة لإسرائيل "تحدٍّ أو طريقًا مسدودًا ". ولكن تحديدًا، ألا تُخاطر إسرائيل، في مواجهة جيرانها المعادين "المُحاطين بأراضيهم"، بالتصلب في رغبةٍ تفاعليةٍ في جذورٍ أرضية؟ على أية حال، ليفيناس حريص على تذكيرنا بما لا تمثله هذه الأرض: لأن "الكتب [...] تحملنا إلى عمق أكبر من الأرض" (وخاصة "الكتاب"، الكتاب المقدس العبري)، لأن "الإنسان أقدس من قطعة أرض" . ولن يتردد في انتقاد الشكل الذي تتخذه الصهيونية في كثير من الأحيان: "لقد تم تفسير الصهيونية بحثًا عن دولة يهودية، وتطوير المستعمرات في فلسطين، لفترة طويلة، على الرغم من أشكال الحياة الجماعية الجديدة التي ظهرت في الكيبوتسات ، من حيث القومية" (ما وراء الآية).

إن الواقع التاريخي سوف يؤكد جزئيا مخاوف ليفيناس. في عام 1967، شنت إسرائيل "هجوماً استباقياً" ضد جيرانها العرب ، واحتلت قطاع غزة وصحراء سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية ، ولكن قبل كل شيء احتلت القدس، التي أصبحت عاصمتها بحكم الأمر الواقع، حتى ولو لم يتم الاعتراف بها دولياً. وفي ندوة المثقفين اليهود في فرنسا، أصدر ليفيناس - على الرغم من تمسكه الراسخ بوجود الدولة العبرية - انتقادات قوية. وهو يتحدى الفيلسوف أندريه نيهر الذي يزعم أن "  إسرائيل تقف إلى جانب العدالة"  : فيرد ليفيناس : "  لا يجوز لإسرائيل ولا ينبغي لها أن تكون مضطهدة " . اسمع يا نهير، ألم تشعر قط بأدنى تساؤل، أو أدنى شك في ضميرك؟ [...] اسمع مجددًا: 800 ألف عربي بلا مأوى. بالنسبة لهم، التشرد يعني الحرمان من كل شيء. [...] بدأنا نمتلك ردود أفعال المحتل. [...] يجب أن تكون مؤتمراتنا هي المكان الذي نعبر فيه عن تحفظاتنا. »

في "السياسة بعد!" يتناول ليفيناس، البعد الدولي للصراع. ويبدأ بالعودة إلى "أصل الصراع اليهودي العربي"  : "لقد كان الأمر حادًا منذ إنشاء دولة إسرائيل على قطعة أرض قاحلة كانت ملكًا لأبناء إسرائيل منذ أكثر من ثلاثين قرنًا، أنه على الرغم من تدمير يهودا في عام 70، فإن المجتمعات اليهودية لم تهجرها أبدًا، وأنها في الشتات لم تتوقف أبدًا عن المطالبة بها، وأنها منذ بداية القرن ازدهرت مرة أخرى من خلال عملهم؛ بل على قطعة من الأرض سكنها منذ قرون أولئك الذين يحيط بهم من جميع الجهات وعلى مساحات شاسعة الشعب العربي العظيم الذي هم جزء منه، ويطلقون على أنفسهم اسم الفلسطينيين. "

في عام 1979، وقعت إسرائيل ومصر معاهدة سلام. ويريد ليفيناس أن يرى في هذا أملاً بالمصالحة المحتملة.: "لا يحتاج اليهودي إلى أن يكون "نبيًا أو ابن نبي" لكي يتمنى ويأمل في المصالحة اليهودية العربية، لكي يلمحها، بما يتجاوز الجيرة السلمية، كمجتمع أخوي. »

وفي الوقت نفسه، يريد ليفيناس أن يؤكد بشكل عام على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. تصريح بعيد كل البعد عن الوضوح في سياق أخلاقياته. ويؤكد ليفيناس بالفعل على "المسؤولية اللانهائية" للوعي تجاه الآخرين، تجاه الآخر المطلق. ولكن بعد ذلك يسأله أحد محاوريه: "أليس الآخر بالنسبة للإسرائيلي هو في المقام الأول والأساس الفلسطيني؟" ، بدلاً من الإسرائيلي الآخر الذي يشبهك إلى حد ما، ويشاركك الانتماء إلى نفس المجتمع؟ يرد ليفيناس بهذه العبارات: "  إذا اعتدى جارك على جاره أو ظلمه، فماذا عساك أن تفعل؟ هناك، تتخذ الغيرية طابعًا آخر؛ هناك، في الغيرية، قد يظهر عدو، أو على الأقل تنشأ مشكلة معرفة من هو المصيب ومن هو المخطئ، ومن هو العادل ومن هو الظالم. هناك أناس مخطئون". ويضيف الفيلسوف: "  شعبي وأقاربي ما زالوا جيراني" ، فهم ما زالوا آخرين مهما كانت الصلة الطبيعية والسياسية والإقليمية التي تجمعنا. "نحن ندافع عن جيراننا عندما ندافع عن الشعب اليهودي". إلى جانب الشعور بـ "المسؤولية غير المحدودة"، هناك مجال للدفاع، لأن الأمر لا يتعلق دائمًا بـ"أنا"، بل بأحبائي الذين هم جيراني. أنا أسمي هذا سياسة الدفاع، ولكنها سياسة ضرورية أخلاقياً ، تركز على الدفاع عن الآخر.

كما نرى، لم يتوقف ليفيناس أبدًا عن مواجهة فهمه الفلسفي لدعوة إسرائيل بالأحداث المأساوية التي يشهدها العالم. إن رسالته تركز في المقام الأول على الأمل في المصالحة: "إننا نستطيع ويجب علينا أن نفكر، في بعض الأحيان بالاتفاق مع المفكرين الأكثر وضوحا في المعسكر المعارض، أن الوقت قد حان لتهدئة هذه المحنة". ليس هذا واضحا تماما، بلا شك. ولعل موقفه يمكن تلخيصه في الحكاية التالية: في عام 1992، عندما سئل إيمانويل ليفيناس في مقابلة مع الفيلسوف الإسرائيلي  يعقوب غولومب عن كيفية وضع نفسه في مواجهة حقيقة الصراع المؤلم بشكل متزايد، أجاب بشكل مقتضب: "أنا سعيد دائمًا إذا تحدث الناس"

-    موقف جان بول سارتر منذ عام 1949 وحتى وفاته، كانت مواقف بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مدفوعة بالرغبة في "التخلص من اللامبالاة الأوروبية" ، ولكن أيضا بنوع من الحياد. نظرة إلى الوراء على التزامات هذا "الصديق لكلا المعسكرين" ، الذي أحزنه وضع اعتبر - حتى في ذلك الوقت - لا يمكن حله.إن الرجل الذي ألقى بنفسه بكل قلبه (ورغما عنه) لسنوات في النضال من أجل تحرير الجزائر كان دائما يشعر بقلق بالغ إزاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ومن ناحية أخرى، أقنعت دراما الحرب العالمية الثانية سارتر بضرورة حماية الشعب اليهودي من رعب معاداة السامية من خلال إنشاء دولة إسرائيل. ومن ناحية أخرى، ألهمه نضاله ضد الإمبريالية الأميركية ومن أجل تحرير الشعوب المستعمرة رغبة ملحة في الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، إن لم يكن الدفاع عنها.

دعم سارتر منذ البداية قيام دولة إسرائيل الى جانب دعوته إلى إقامة دولة فلسطينية حيث أظهر دعمه لدولة إسرائيل التي أنشئت بعد قرار الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 وأعلنت رسمياً في 14 ماي 1948 وقال: " لقد كنت آمل ولا أزال آمل أن تجد المشكلة اليهودية حلاً نهائياً في إطار إنسانية بلا حدود، ولكن بما أن أي تطور اجتماعي لا يستطيع تجنب مرحلة الاستقلال الوطني، فيجب علينا أن نفرح لأن دولة إسرائيل المستقلة سوف تأتي لتضفي الشرعية على آمال ونضالات اليهود في جميع أنحاء العالم"

وفي عام 1966 بدأ سارتر يجمع نحو 40 مثقفاً إسرائيلياً وفلسطينياً، بهدف اقتراح تقرير خاص لمجلة Les Temps Modernes. وعلى هذا الأساس قام أيضاً برحلة إلى الشرق الأوسط، مع سيمون دي بوفوار والصحفي والكاتب كلود لانزمان .

ويختتم الفيلسوف في مقدمة العدد قائلاً: "لقد توجهنا إلى الإسرائيليين والعرب أنفسهم، وعرضنا عليهم، كليهما، الفرصة للتحدث في مجلتنا لعرض وجهة نظرهما علينا". كما أعرب كلود لانزمان، الذي قدم الملف، عن أسفه لغياب الحوار بين المثقفين من الجانبين، مستحضراً "تعايشاً خامداً" و "تجاوراً سلبياً".

في 3 فبراير 1969، أجرى سارتر مقابلة مع الصحفية كلودين شونيز لمجلة Le Fait Public من خلالها لخص سارتر المسار المستقبلي في ثلاث نقاط: اولا سيتعين على إسرائيل إعادة الأراضي التي تحتلها، بل ويجب عليها اتخاذ قرار بذلك دون ضغط، من تلقاء نفسها؛ ثانيا: يجب الاعتراف بسيادة إسرائيل؛ ثالثا: يجب أن تكون المشكلة الفلسطينية الموضوع المباشر للمفاوضات الأولى.

في عام 1976، قبل سارتر ـ الذي رفض العديد من الألقاب الفخرية، بما في ذلك جائزة نوبل ـ درجة الدكتوراه  الفخرية  من الجامعة العبرية في القدس، قائلاً إنه كان ليفعل نفس الشيء لو منحته جامعة القاهرة هذا اللقب. بالنسبة للعديد من المراقبين، كانت هذه الفترة بمثابة نقطة تحول، لأن سارتر أصبح في هذا الوقت قريبًا من بيني ليفي ، وهو ماوي سابق اعتنق اليهودية وأصبح سكرتيره. في ذلك الوقت، كان جان بول سارتر أعمى وضعيفًا بالفعل: وتحدث البعض عن "سرقة رجل عجوز".

وفي عام 1979، نظم الفيلسوف مع بوفوار، في منزل ميشيل فوكو، "مؤتمراً من أجل السلام في الشرق الأوسط" ، والذي تعرض لانتقادات شديدة من المفكر والمؤرخ إدوارد سعيد . إن منظّر كتاب الاستشراق: الشرق الذي خلقه الغرب (1976) ورائد ما بعد الاستعمار، والذي تمت دعوته لتمثيل المفكرين الفلسطينيين، يندد بالحضور المفرط لليفي، في حين يأسف على  حضور سارتر "السلبي الغريب، غير المثير للإعجاب، الخالي من التأثير" والذي يبدو وكأنه "شبح ما كان عليه". ويعتقد سعيد بأسف أن "الموضوع الحقيقي للاجتماع هو تعزيز مكانة إسرائيل  [...]  وليس الفلسطينيين أو العرب".

-    موقف ريموند آرون  (1905-1983) كان شاهداً على الاضطرابات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في النصف الثاني من القرن العشرين  ولم يتوقف عن التشكيك في مستقبل دولة إسرائيل غير المؤكد. إن مداخلاته المكتوبة، والتي تكون في بعض الأحيان عاطفية، وفي أغلب الأحيان مليئة بالتفاصيل الدقيقة، ومترددة ومتغيرة، يجب أن توضع في منظور العلاقة المعقدة للمؤلف مع يهوديته.ورغم أنه نشأ في عائلة يهودية من جهة والده ووالدته، وكان معاصراً للنازية والمحرقة، إلا أن ريموند آرون يعترف بسهولة: "" إن ميلاد دولة إسرائيل في عام 1948 لم يثير أي عاطفة في نفسي" ( مذكراته ، 1983.ورغم هذه التكهنات وحتى هذا البرود النسبي، فإن ريموند آرون سيغير وجهة نظره كلياً خلال عامي 1966 و1967، عندما تبرز إمكانية اندلاع حرب بين إسرائيل والدول المجاورة. فأخذ قلمه وكتب العديد من المقالات في أعمدة صحيفة لوفيجارو ليعبر عن قلقه العميق. بدأت في 30 أبريل 1966. راقب الفيلسوف سباق التسلح الدائر في المنطقة، فقال لنفسه إن الحرب القادمة قد لا تنتهي، وأنها تهدد بالاستمرار ما دام جيران إسرائيل ينكرون عليها حقها في الوجود: "إن الصراع، الذي سيستمر ما دام جيران إسرائيل لا يعترفون بدولة إسرائيل، كامن مؤقتًا [...] حتى مع تفوق إسرائيل عسكريًا، لا يمكنها حل مشكلة وجودها بالقوة. من ناحية أخرى، في اليوم الذي يتفوق فيه جيرانها عليه، قد تتاح لهم الفرصة لخلق أمر واقع".  الأولية، يكشف ريموند آرون، المتفرج على السياسة، عن ارتباط وجودي قوي جداً بإسرائيل، وهو الارتباط الذي لم يقيسه هو نفسه.

-    موقف حنة أرندت إذا كان هناك فيلسوف كانت له علاقة معقدة مع دولة إسرائيل والقضية الفلسطينية، فهو بلا شك حنة أرندت. وباعتبارها ناقدة يهودية للمنظمات اليهودية، التي اتهمتها على وجه الخصوص بالتواطؤ مع ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، تعاملت أرندت مع إسرائيل بمزيج من التضامن الأساسي والقلق الواضح. لا شك أنها كانت متحمسة لإقامة "وطن قومي يهودي" في فلسطين - وفي باريس، تعاملت مع نقل الأطفال اليهود إلى "الأرض الموعودة" في ثلاثينيات القرن العشرين، الأمر الذي أتاح لها فرصة الذهاب إلى هناك لأول مرة في عام 1935. لكنها نظرت بريبة إلى تحول هذا المركز من الابتكار الاجتماعي والسياسي إلى دولة قومية منخرطة في حرب لا نهاية لها مع جيرانها العرب. في عام 1961، عادت إلى فلسطين الإسرائيلية لتغطية محاكمة أدولف آيخمان  : وعلى الرغم من موافقتها على اختطاف الشخصية النازية البارزة، فقد عارضت علناً الطريقة التي تم بها استخدام المحاكمة، في وقت كانت فيه الدولة العبرية الشابة تسعى إلى ترسيخ مكانتها، كأداة لتشكيل التماسك الوطني. "إن المحاكمة تتعلق بأفعاله [أيخمان] ، وليس بمعاناة اليهود، أو الشعب الألماني أو الإنسانية، ولا حتى بمعاناة السامية والعنصرية".

إن تأملات هانا آرندت حول القضية الإسرائيلية الفلسطينية لا تنفصل عن تساؤلاتها حول الصهيونية. إن الصهيونية ، التي ولدت في القرن التاسع عشر ، تمثل بالنسبة لأرندت نقطة تحول في التاريخ اليهودي، " عنصراً ثورياً في الحياة اليهودية"  : حيث تم استبدال الاستسلام، وقبول الألم الناجم عن التيهان الذي لا نهاية له، بـ "الرغبة في فعل شيء ما بشأن المشكلة اليهودية" ، "الرغبة في العمل وحل هذه المشكلة". بالنسبة لليهودية، فإن الأمر يتعلق بتسييس وجودها.

كانت هذه الحركة العظيمة، منذ البداية، متعددة. تحدد آرندت على نطاق واسع اتجاهين رئيسيين. ومن ناحية أخرى، هناك ما يمثله على وجه الخصوص تيودور هرتزل واليهودية الأوروبية الغربية. هدف هرتزل هو القضاء على معاداة السامية. ولكن في نظره فإن معاداة السامية هي في المقام الأول رد فعل من جانب الدول الأخرى تجاه الوجود اليهودي في الشتات. والحل هنا يصبح واضحا، وبشكل ميكانيكي تقريبا: إنه من الضروري "تحويل اليهود إلى أمة مثل أي أمة أخرى". النموذج الذي يشير إليه هرتزل ـ والذي هو بلا شك المرجع في عصره ـ هو نموذج الدولة القومية التي تعيش منطوية على ذاتها في شكل من أشكال العزلة المحصنة عن الآخرين. "لا يمكن التعبير عن الواقع بأي شكل آخر غير شكل الدولة القومية"  ؛ لقد تم وضع أسس الصهيونية في وقت لم يكن أحد يستطيع أن يتصور فيه أي حل آخر لمشاكل الأقليات أو القوميات سوى دولة قومية مستقلة ذات سكان متجانسين. وبالتالي، فإن معاداة السامية سوف تختفي بالنسبة لهيرتزل. "لذا فمن الضروري "إيجاد مكان في البنية الثابتة للواقع" ، مكان "  الشعوب المنظمة في هيئات ثابتة" ، "حيث يكون اليهود في مأمن من الكراهية والاضطهاد"  : "سوف يلجأ شعب بلا أرض إلى أرض بلا شعب حيث يمكن لليهود، دون تدخل من دول أخرى، أن يطوروا كائنهم الحي المنعزل الخاص بهم. » حلم هرتزل، بالنسبة لأرندت، بـ "الهروب من العالم" .

من الواضح، وهذا هو الهدف الكامل بالنسبة لأرندت، أن "البلد الذي حلمت به لم يكن موجوداً [...] مهما كانت فلسطين، فهي ليست مكاناً يمكن لليهود أن يعيشوا فيه في عزلة، وليست أرضاً موعودة حيث يمكنهم الهروب من معاداة السامية ". ولكن هذا التيار القومي اليهودي سوف يتأكد من تجاهل هذه الحقيقة. تُشير أرندت إلى "خطر إبعاد اليهود عن الواقع مجددًا ". وفي مواجهة واقع معاداة السامية المُستمر، والذي من الواضح أنه لم يختف مع بداية قيام دولة إسرائيل، توقعت الفيلسوفة رد فعلٍ انفعالي، وتصلبًا قوميًا نتيجةً لهذا العمى: "يتظاهر بعض القادة الصهاينة بالاعتقاد بأن اليهود قادرون على الحفاظ على وجودهم في فلسطين ضد العالم أجمع، وأنهم قادرون على مواصلة سياسة كل شيء ولا شيء ضد الجميع وكل شيء. [...] لكن وراء هذا التفاؤل يكمن يأسٌ عميق وقبولٌ عميقٌ للانتحار. "

***

علي عمرون – أستاذ فلسفة

 

تشكل مجزرة الأرمن واحدة من أبشع الجرائم والمآسي التي شهدها القرن العشرون، تحديداً في (24) نيسان/ أبريل 1915، التي تجلى بها الفكر القومي المتطرف في ممارسة التطهير العرقي. حصلت المأساة في قلب الدولة العثمانية المتهالكة التي بدأت تفقد نفوذها مع تصاعد النزعات القومية. ومع تأسيس "جمعية الاتحاد والترقي" واستلامها السلطة، برز تيار قومي تركي عنيف يدعو إلى "تتريك" الدولة، وجعل الهُوِية التركية فوق جميع الهُوِيات الأُخرى. هذا الطابع القومي المتشنج لم يكن مجرد شعور بالإنتماء، بل تطور إلى شوفينية عنصرية تُقصي الآخر المختلف، حيث كُتب فصل دامٍ مازال عالقاً في الذاكرة الجمعية المؤلمة، اسفر عن نتائج مرعبة أدت إلى مقتل ما يقارب مليون ونصف المليون أرمني خلال سنوات الحرب العالمية الأولى (1915-1917). إلى جانب تهجير وتشريد مئات الآلاف من السكان وتدمير مجتمعات كاملة كانت جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي الثقافي للمنطقة.

المسيحيون الأرمن إحدى أكبر الجماعات العرقية المتميزة التي كانت تعيش منذ قرون في منطقة الأناضول التي هي جزء من الدولة العثمانية، وكانوا يتمتعون بحضور اقتصادي وثقافي واجتماعي متميز. وفي أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، شكَّل بعض الأرمن منظمات سياسية تهدف إلى المطالبة بحقوقها في إطار الحكم الذاتي، هذا التوجه أثار شكوك الدولة العثمانية حول مدى ولاء الأرمن. في بادئ الأمر، كانت السلطات العثمانية تستوعب بعض المظالم الاجتماعية الأرمنية، ولكن في ربيع عام 1909، تحولت المظاهرات الأرمنية المطالبة بالحكم الذاتي الى أحداث عنف دموية راح ضحيتها الكثير من المواطنين من الطرفين.

مجزرة الأرمن، كانت نتيجة لمجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والدينية. أُرتكبت في سياق قومي شوفيني، حيث اجتمعت النزعة القومية المتطرفة مع أدوات السلطة العثمانية، في إطار تطهير عرقي ممنهج أدى إلى كارثة إنسانية. كانت السلطات العثمانية متذمرة من وجود الأرمن، بسبب قربهم من روسيا، وإحتمالية انضمامهم للعدو الروسي أثناء الحرب، مما أدى إلى اتخاذ إجراءات قاسية ضدهم. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك خوفاً من زيادة نفوذ الأقليات المسيحية داخل الدولة العثمانية، مما دفع بعض القادة إلى اعتبار الأرمن تهديداً يجب التخلص منه. 

ومع زيادة مطالب الأرمن الحقوقية، بدأت التوترات تتوسع بين الأرمن والحكومة العثمانية نتيجة للتمييز الديني والعرقي، وأخذت مسارات معقدة، لا سيما خلال الحرب العالمية الأولى، اتهمت السلطات العثمانية الأرمن بالتعاون مع عدو تركيا الجيش الروسي، ما أدى إلى إشكالات عديدة أدت إلى اتخاذ قرارات جائرة بالضد من الأرمن. وفي 24 أبريل 1915، بدأت السلطات العثمانية باعتقال وقتل قادة المجتمع الأرمني في إسطنبول، وهو ما يُعد بداية الإبادة الجماعية.

 وفي بداية مايو 1915، توسعت المضايقات الحكومية للأرمن، ترحيل قسري لمئات الآلاف من الأرمن من منازلهم في شرق الأناضول باتجاه سوريا والعراق، وزحفت أعداد كبيرة من المدنيين على شكل قوافل إلى أقاليم أرمنية ذات كثافة سكانية في شرق الأناضول. وقد رافق هذا الهجوم العنفي مشاهد دموية وعمليات سرقة واغتصاب واختطاف وابتزاز وتعذيب وتنكيل، أدت إلى موت مئات الآلاف من الأرمن قبل الوصول إلى معسكرات الاعتقال المخصصة لهم. ووسط هذه المشاهد المرعبة سقطت القيم الأخلاقية والإنسانية، وتواطأت السياسة الدولية بالصمت أو التجاهل لتضيف مزيداً من الآلام على ذاكرة الناجين من المجزرة.

ارتبطت مسألة محاربة الأرمن ارتباطًا وثيقاً بأحداث الحرب العالمية الأولى، حيث شاركت الدولة العثمانية بشكل رسمي في الحرب في نوفمبر 1914 إلى جانب دول المحور (ألمانيا والنمسا-المجر)، الذين قاتلوا ضد (بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا وصربيا). وفي ظل تلك الظروف الاستثنائية أُرتكبت الأعمال الوحشية وعمليات الإبادة الجماعية.

ورغم التعددية الثقافية والدينية التي كانت تتسم بها الإمبراطورية العثمانية، فإن صعود الفكر القومي الطوراني - الشوفيني - إلى سدة الحكم عبر "حزب الاتحاد والترقي"، شكل تحوّلاً خطيراً نحو سياسات الإقصاء والتصفية العرقية، خاصة ضد الأقليات غير المسلمة، لاسيما المسيحية منها.

كان الفكر القومي الشوفيني الذي تبناه قادة "الاتحاد والترقي" يقوم على فكرة مركزية تفوق "العرق التركي"، وسعيه لخلق وطن متجانس عرقياً ودينياً. واعتُبرت الأقليات، خصوصاً الأرمن والمسيحيين، "كياناً غريباً" داخل هذا المشروع القومي، مما جعلهم هدفاً مباشراً لخطط "التطهير" التي رُوج لها باعتبارها ضرورة وطنية للحفاظ على أمن الدولة ووحدتها، تحت ذرائع واهية مثل "الخيانة" بعد اتهام الأرمن زيفاً بالتحالف مع قوى أجنبية معادية، أي "التحالف مع الروس".

استغلت السلطات العثمانية هذه الاتهامات كذريعة  نفذت من خلالها مذبحة مأساوية من خلال  القتل الميداني وارتكاب أبشع حالات الاضطهاد والقتل الجماعي، والتهجير القسري،  وعمليات الاغتصاب وغيرها من الممارسات البعيدة عن القيم الإنسانية. لم تكن هذه الأفعال مجرد تجاوزات عسكرية في زمن الحرب، بل كانت مدفوعة بعقيدة واضحة تسعى إلى تطهير الأناضول من كل ما هو غير تركي وغير مسلم. ولم يكن الأرمن وحدهم من دفعوا ثمن هذا الفكر المتطرف، بل طالت المذابح أيضاً الآشوريين والسريان والكلدان، حيث شُنت حملات إبادة مماثلة ضدهم نتيجة للنهج القومي المتطرف.

هذا التصرف العنفي الدموي كشف عن حقيقة طبيعة المشروع القومي العثماني الجديد الذي أراد خلق "أمة واحدة" بالقوة، ولو على أنقاض شعوب بأكملها. أظهرت أحداث الكارثة بأنه يمكن للفكر القومي الشوفيني المتعصب الراغب في النقاء العرقي أن يتحول إلى أداة فتاكة بيد سلطة الدولة.

رغم مرور أكثر من قرن على مأساة المجازر، لا تزال الدولة التركية الرسمية ترفض الاعتراف بهذه الجريمة إلى يومنا بأن ما حصل يعتبر "إبادة جماعية". هذا الموقف الرسمي المتشنج المتمسك بمسألة استمرارية الإنكار، يشكل جزءاً من البنية الفكرية القومية المتطرفة. ويُعد هذا الإنكار امتداداً لنفس المنظومة التي سمحت أصلاً بوقوع تلك المأساة.

إن مذبحة الأرمن لم تكن مجرد فصل من فصول من العنف العشوائي، بل كانت نتاجاً مباشراً لفكر قومي شوفيني تبنى الإقصاء والتطهير العرقي كوسيلة لصياغة هُوِيّة وطنية متخيلة. وهي حقيقة مأساوية توضح لنا كيف يمكن للفكر المتطرف أن يتحول إلى أداة إبادة حين يتحالف مع السلطة والقوة العسكرية.

ورغم محاولات التعتيم على هذه الجريمة وإنكارها، ولكن الدلائل التاريخية والشهادات الموثقة والوثائق الرسمية أثبتت بأن ما حدث يرقى إلى مرتبة الإبادة الجماعية وفقاً لتعريف الأمم المتحدة لعام 1948 بشأن منع جرائم الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

إحياء ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن لا يعني تغذية مشاعر العداء أو الانتقام، وإنما إلى ترسيخ ثقافة الوعي بالتاريخ، وتعزيز احترام حقوق الإنسان، ومنع تكرار هكذا جرائم مشينة بحق البشرية. مأساة مجزرة الأرمن ستبقى جرحاً مفتوحاً لا يندمل في ضمير وذاكرة الإنسانية، ومسؤولية أخلاقية لتذكيرالأجيال بكيفية التصدي للظلم بكل أشكاله. وهذا يتطلب عملاً متواصلاً ومتعدد الجوانب في تثقيف الأجيال القادمة، بأهمية إستذكار هذا الحدث المأساوي الذي يهدف إلى تكريم ضحايا المجزرة، ومنع حدوث مثل هذه الجرائم مستقبلاً من خلال إقامة فعاليات تذكارية تسلط الضوء على الأحداث التاريخية تسهم في نشر الوعي والتعليم، وإدراج مادة الإبادة الجماعية في المناهج الدراسية وتعزيز البحث الأكاديمي حولها. والتواصل في مجالات العطاء الفني والأدبي، كتابة المقالات والكتب، وإنتاج أفلام وثائقية، وإقامة معارض فنية تعكس معاناة الأرمن وقصص الناجين من تلك الأحداث. والمساهمة في الدعوة للاعتراف السياسي بالضغط على الحكومات للاعتراف بهذه المجزرة وإدانة مرتكبيها، والمطالبة بالعدالة التاريخية.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

التضامن المغربي مع فلسطين.. بين الولاء الوطني والتضامن الإنساني

"لسنا صدى لأحد، ونحن فخورون بمغربيتنا، لكننا مع فلسطين ضد همجية الاحتلال" – هذه العبارة التي أطلقها الكاتب والإعلامي ياسين عدنان تختزل إشكالية معقدة يعيشها المغاربة في تعاطيهم مع القضية الفلسطينية. فكيف يمكن الجمع بين الفخر بالهوية المغربية والانحياز إلى قضية تحررية خارج الحدود؟ ولماذا ينظر إلى التضامن المغربي مع فلسطين على أنه "صدى" لجهة ما، بدلاً من اعتباره موقفاً مستقلاً نابعاً من قناعة ذاتية؟

في هذا المقال، سنحاول تفكيك هذه الإشكالية من خلال أربعة محاور رئيسية: الجذور التاريخية للتضامن المغربي مع فلسطين، السياق السياسي والثقافي لهذا التضامن، القراءات المختلفة لهذه الظاهرة، وأخيراً مستقبل هذا التضامن في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية.

المحور الأول: الجذور التاريخية للتضامن المغربي مع فلسطين

1.1 البعد الديني والروحي

يرتبط المغاربة بفلسطين بروابط روحية عميقة تجعل من القضية الفلسطينية جزءاً من الوجدان الجمعي المغربي. فالمسجد الأقصى، كأولى القبلتين وثالث الحرمين، يحتل مكانة خاصة في المخيال الديني المغربي. وقد ظل سلاطين المغرب على مر التاريخ يوجهون الهبات والعطايا لعمارة المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية في القدس، مما خلق تراكماً تاريخياً للارتباط الروحي بين المغرب وفلسطين.

1.2 ذاكرة المقاومة ضد الاستعمار

يشترك المغرب وفلسطين في تجربة الصراع ضد القوى الاستعمارية، وإن اختلفت السياقات التاريخية. فبينما كان المغرب يحارب الاستعمار الفرنسي والإسباني في النصف الأول من القرن العشرين، كانت فلسطين تواجه المشروع الصهيوني المدعوم من بريطانيا. هذه التجربة المشتركة خلقت نوعاً من التضامن العضوي بين حركات التحرر في البلدين.

وقد تجلى هذا التضامن عملياً عام 1948 عندما تطوع المئات من المغاربة للقتال إلى جانب الفلسطينيين ضد العصابات الصهيونية، في إطار ما عرف بـ"جيش الإنقاذ" الذي شكله عبد القادر الحسيني. ولا تزال ذاكرة هؤلاء المتطوعين حية في الوعي الجمعي المغربي كرمز للتضامن مع القضية الفلسطينية.

1.3 التضامن الشعبي في زمن الملك الحسن الثاني

في عهد الملك الحسن الثاني، اتخذ التضامن المغربي مع فلسطين أبعاداً رسمية وشعبية. فمن الناحية الرسمية، كان المغرب من أوائل الدول العربية التي دعمت منظمة التحرير الفلسطينية واعترفت بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. ومن الناحية الشعبية، شهدت المدن المغربية مظاهرات حاشدة تضامناً مع الفلسطينيين، خاصة بعد حرب 1967 واحتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين التاريخية.

المحور الثاني: السياق السياسي والثقافي للتضامن المغربي المعاصر

2.1 الربيع العربي وتحولات الوعي

شكلت أحداث الربيع العربي منعطفاً مهماً في تعاطي الشعوب العربية مع القضية الفلسطينية. فبعد عقود من احتكار الأنظمة العربية لملف الصراع العربي-الإسرائيلي، برزت مبادرات شعبية مستقلة للتعبير عن التضامن مع الفلسطينيين. وفي المغرب، تجلى هذا التحول في ظهور حركات مناهضة للتطبيع مع إسرائيل، مثل "الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع"، التي نظمت وقفات واحتجاجات في مختلف المدن المغربية.

2.2 المسيرات الشعبية: الرباط نموذجاً

في أبريل 2025، شهدت العاصمة المغربية الرباط مسيرة حاشدة تضامناً مع غزة، شارك فيها عشرات الآلاف من المغاربة من مختلف الشرائح الاجتماعية والانتماءات السياسية. ووصفت وسائل الإعلام المسيرة بأنها "ملحمة جديدة سطرها المغاربة"، حيث رفعت الأعلام الفلسطينية إلى جانب الأعلام المغربية، وهتف المشاركون بشعارات تندد بـ"حرب الإبادة" التي يشنها الجيش الإسرائيلي على غزة.

2.3 المثقفون والفنانون.. صوت التضامن

لعب المثقفون والفنانون المغاربة دوراً بارزاً في تعبئة الرأي العام المغربي للتضامن مع فلسطين. فمن ياسين عدنان الذي يدافع عن شرعية هذا التضامن، إلى اللاعب الدولي حكيم زياش الذي عبر علناً عن رفضه لجرائم الاحتلال الإسرائيلي، إلى المهندسة المغربية ابتهال أبو السعد التي ضحت بوظيفتها في مايكروسوفت احتجاجاً على تعاون الشركة مع إسرائيل. هؤلاء وغيرهم يمثلون وجوهاً مغربية بارزة اختارت أن تعلن تضامنها مع فلسطين دون أن يتناقض ذلك مع انتمائها المغربي.

المحور الثالث: قراءات في التضامن المغربي مع فلسطين

3.1 القراءة الوطنية: التضامن لا يناقض الهوية

ينطلق أنصار هذه القراءة من فكرة أن التضامن مع القضايا العادلة في العالم هو جزء من الهوية المغربية الأصيلة. فالمغرب، بموقعه الجيوستراتيجي وتاريخه الحضاري، لا يمكن أن ينغلق على همومه الداخلية ويتجاهل معاناة الشعوب الأخرى، خاصة إذا كانت تربطه بها روابط دينية وتاريخية كما هو الحال مع فلسطين.

3.2 القراءة النقدية: بين التضامن والمصالح الوطنية

يطرح بعض المغاربة تساؤلات حول مدى استفادة المغرب من هذا التضامن، خاصة في ظل ما يرونه تقاعساً فلسطينياً عن دعم القضية الوطنية المغربية، كما حدث في تصريحات جبريل الرجوب التي اعتبرت متحيزة للجزائر في نزاعها مع المغرب حول الصحراء. وهنا يبرز سؤال مركزي: إلى أي حد يمكن الفصل بين التضامن الأخلاقي مع قضية عادلة وبين حسابات المصلحة الوطنية؟

3.3 القراءة الاستراتيجية: التضامن كخيار سياسي

ترى هذه القراءة أن التضامن المغربي مع فلسطين ليس مجرد موقف عاطفي، بل هو خيار استراتيجي يستند إلى رؤية مغربية للصراع في المنطقة. فالمغرب، بحكم حضوره الدولي وعلاقاته المتوازنة مع مختلف الأطراف، يرى في دعمه للقضية الفلسطينية مساهمة في إرساء استقرار المنطقة برمتها.

المحور الرابع: مستقبل التضامن المغربي مع فلسطين

4.1 تحديات التطبيع

يشكل التطبيع الرسمي بين المغرب وإسرائيل تحدياً كبيراً للتضامن الشعبي المغربي مع فلسطين. فمن ناحية، هناك إرادة سياسية مغربية لتحقيق مصالح معينة من خلال هذا التطبيع، ومن ناحية أخرى هناك رفض شعبي واسع للتطبيع مع دولة تحتل أراضي عربية. هذا التناقض يضع المغاربة أمام اختبار صعب لموازنة ولائهم الوطني مع التزامهم الأخلاقي تجاه القضية الفلسطينية.

4.2 صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف

مع صعود حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل، وتصاعد وتيرة الاستيطان والاعتداءات على المقدسات الإسلامية في القدس، من المتوقع أن يشهد التضامن المغربي مع فلسطين مزيداً من الزخم. فالمغاربة، كغيرهم من المسلمين، يرون في القدس والأقصى رمزاً دينياً لا يمكن التنازل عنه، مما يجعل القضية الفلسطينية قضية شخصية بالنسبة لكثير منهم.

4.3 دور الشباب المغربي

يلعب الشباب المغربي دوراً محورياً في إعادة تعريف أشكال التضامن مع فلسطين، بعيداً عن الخطاب التقليدي. فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي والحركات الاحتجاجية المبتكرة، يستطيع الشباب المغربي التعبير عن تضامنه مع الفلسطينيين بطرق تتناسب مع روح العصر، مع الحفاظ على الثوابت الوطنية المغربية.

نحو تضامن عقلاني متوازن

التضامن المغربي مع فلسطين ليس ظاهرة طارئة أو موضة عابرة، بل هو جزء من نسيج الهوية المغربية المركبة التي تجمع بين الانتماء الوطني والالتزام الإنساني. وكما قال صديقي المثقف المغربي "ياسين عدنان"، يمكن للمرء أن يكون فخوراً بمغربيته وفي نفس الوقت منحازاً إلى قضية عادلة مثل القضية الفلسطينية.

إن التحدي الذي يواجه المغاربة اليوم هو كيفية الحفاظ على هذا التضامن الأصيل مع فلسطين، دون أن يتحول إلى أداة في الصراعات الإقليمية، ودون أن يؤثر سلباً على المصالح الوطنية للمغرب. وهذا يتطلب وعياً نقدياً قادراً على التمييز بين التضامن المشروع مع المظلومين وبين الاستغلال السياسي لهذا التضامن.

في النهاية، يبقى التضامن المغربي مع فلسطين شاهداً على حيوية المجتمع المغربي وقدرته على الجمع بين الانتماء الوطني والانفتاح على قضايا الأمة، وهو ما يجعل من المغرب نموذجاً فريداً في المنطقة العربية.

***

د. عبد السلام فاروق

ما كان في الخاطر ظهور مثقفين، تجمَحَ بهم الطّائفيَّة إلى تسمِّية القنابل النَّوويَّة بالأديان والمذاهب، توصلوا إلى هذه الأفكار الجهنميَّة بعد الحديث عن نِفطٍ شِيعيٍّ وماءٍ سُنيٍّ، فعندهم الأوطان مؤامرات على الطَّوائف، لا العكس. إنَّها ضمائرٌ غاطسةٌ في الكراهيَّة، مع أنَّ القهر ينبع في داخل الطَّائفة وبشدةٍ أيضاً، لكنَّ هؤلاء يعتبرون القتل داخل الطَّائفة بتراً لخيانة المقدس، فقد شمتوا بمئات الشّباب، القتلى بسلاح طائفتهم، لأنَّهم كفروا بسلطة الطّائفة. عندما انتجت الهند القنبلة «النَّوويَّة» (1974)، لم تسمِّها بـ«الهندوسيَّة»، ولما لحقتها باكستان (1998) لم تُقدمها «الإسلاميَّة»، ولا الاتحاد السُّوفييتي عَرَّفها بـ«الشّيوعيَّة».

كذلك أميركا انتجت «النَّوويَّة»، ولم تسمِّها بـ«المسيحيَّة»، وإذا كانت بريطانيا إنجيليّة بروتستانيَّة، وفرنسا كاثوليكيَّة، فهما لم يدعوا قنبلتيهما بمذهب الكنيسة، التي يتعبدون بتقاليدها. كذلك بعد (يونيو1967)، أعلنت الصّين إنتاج «الهيدروجينيَّة»، لكنها لم تسمِّها «كونفوشوسيّة»، وفقاً لعقيدتها الفلسفيَّة، أو «بوذيَّة» لديانتها، ولا بالشّيوعيّة مجاراةً لحزبها الحاكم، فإطلاق اسم الدِّين والمذهب على سلاح الإبادة، ليس في ذاكرة حكومة مِن الحكومات، ولا حزب مِن الأحزاب، مثلما عَشعَش في عقول الطّائفيين، فاطلقوا الحديث عن قنبلة شيعية، يقولون إن إيران تنوي إنتاجها، وسُنيّة كالتي أنتجتها باكستان، على أنَّ إيران شيعيّة وباكستان سُنيّة. لم تتحدث الدول عن شيعيّة أو سُنيّة قنابلها النَّووية، إنما يقترحها السَّادِلون في طائفيتهم، وبينهم مَن يملك الموهبة والقدرة في التأليف والخِطابة، لكنْه خسرها وأَضاعها بالغلو الطّائفيّ، فلا تجد له فكراً ولا ثقافةً، غير الأراجيف لتعميق الضَّغائن. تجاوز إلى القنابل المذهبيَّة، ولم يحسب للأوطان حساباً، أخذته الطَّائفيَّة إلى أوطانٍ متخيلةٍ، وبها تتحول المجتمعات، المختلطة دينيّاً منذ قرون، إلى جزرٍ عائمةٍ على الدِّماء. يُقدم أصحاب تقابل القنبلة الشِّيعيّة مع السُّنيّة، أنفسهم بمثقفي الطَّائفة، وقد صدعوا الرُّؤوس بدعواتهم إلى بيوت طائفيَّة، وثقافة شيعيّة خصيمتها السُّنيّة، وهم ذاتهم، المحامون عن الطَّائفة، يعلمون أنَّ هتك الطّائفة بهتك الوطن، فمِن الواقع أنّ الوطن واحد يشمل الجميع، والطّائفة لم تكن واحدة، فعصر الإمبراطوريات الدّينيَّة والمذَّهبيَّة والعرقيّة- على مثال صفويّة وعثمانيّة، ورومان وساسان- قد ولى.

أحسبُ دعوات تسليح الطّوائف بالنَّوويّ، ستكون مفاتيح إطلاقها بيد مرضى الخرافة، الذين يعيشون في أوهام الماضي الغابر، عندها تصبح أتانين لحرق الطّوائف نفسها، وأصحاب مثل هذه الثّقافة الأنانيّة، إذا تمكنوا تطبيق دعواتهم، سيحرقون اليابسة والخضراء. شتان بين الجامحين طائفيّاً، إلى حدّ تقسيم المذاهب نوويَّاً، ممَن لا يعدّون الأوطان التي لامست جلودهم ترابها، سوى خرائب، وبين صاحب العِمامة البيضاء، الشَّيخ العراقيّ الحليّ عبد الكريم الماشطة (ت: 1959)، وكان مِن دُعاة السّلم والإنسانية، وقف مع الدّعاة العالميين ضد السّلاح النّوويّ، وهم أشراف العالم، من الذين عرفوه زميلاً في مجلس السِّلم العالمي، كان الهدف وقاية البشرية من حرب نووية مرتقبة، بينما المقصودون في مقالنا هذا، ظلوا يتفاخرون بانتصارات طائفيّة طاعونيَّة. أقول للطائفيّ: «خفف الوطء» ما أظن خراب الأوطان إلا من هذه الأفكار.

فلا الأوطان ولا الطَّوائف تتحمل زيادة الخراب، بجِماح عابر إلى نوويّة شيعيَّة وسُنيَّة! قيل: «العين أنطق مِن اللِّسان، وأوقد مِن النّيران» (التّوحيدي، الصّداقة والصّديق)، فهل ترى عيونكم أنَّ باكستان نصرت السُّنَّة بها، أو إيران لو ملكتها ستنصر الشّيعة؟ ولا ندري كم سيكون عدد قنابل كلّ طائفة، والطَّوائف لها اِنشطارات داخلها، وكل شطر له قنبلته حسب دعوتكم. يجري التفكير بالنَّوويّ والبلدان وطوائفها «عاشقاها» الفقرُ والجهلُ. لكنَّ العقول الرَّخوة تفتقد رؤية الحقِّ، ولمسكين الدَّارميّ (ت: 89 هـ): «ثلاثةُ أملاكٍ رَبوا في حجُورنا/ فهل قائلُ حقَّاً كمن هو كاذبُ» (الدّيوان)، أنتم كاذبون واهمون ياسادة، بقولكم مِن مصلحة الطَّائفة أنْ تكون «نوويّة» شيعيَّة ومقابلها أخرى سُنيَّة!

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

الورقة الأخيرة لم تسقط بعد ..

في زمن يباري فيه "الرقمي" الريح سرعة، ويحاكي البرق خفة، يقف "التقليدي" كشجرة عتيقة، جذورها في أعماق التاريخ، وأغصانها تحاول أن تلامس سماء المستقبل. هل انتهى زمن الصحف المطبوعة والقنوات التلفزيونية؟ أم أنها تصارع كالفرس العجوز الذي يعرف أن ساعة رحيله قريبة، لكنه يرفض أن يموت واقفًا؟ 

الحقيقة التي لا يريد أن يعترف بها الكثيرون هي أن الإعلام التقليدي لم يمت، بل تحول. مثل الماء الذي يغير وعاءه، لكنه يبقى ماء. الصحف التي كانت تطوى تحت الإبط صباحًا، صارت تقرأ على الهاتف في القطار. الأخبار التي كانت تذاع في ساعة محددة، صار يمكنك سماعها وأنت في سريرك قبل النوم. الفرق أنك اليوم لا تنتظر الخبر، الخبر هو الذي ينتظرك. 

إذن لماذا لا يزال التقليدي صامدًا؟ 

لأنه يحمل شيئًا من "الروح". هناك سحر خاص في صوت مذيع الراديو الذي يرافقك في زحام الصباح، أو في صحيفة الأحد التي تقرأها مع فنجان القهوة. هناك طقوس إنسانية لا يمكن للرقمي أن يقتلها. الأجيال الكبيرة ما زالت تثق أكثر بما تراه على الشاشة الكبيرة أو ما تقرأه في الجريدة الورقية، ليس لأنها لا تعرف التكنولوجيا، بل لأنها تعرف أن بعض الأشياء لا تستعجل. 

فهل الرقمية عدو للأصالة، لا هي مرآة تعكسها بزوايا جديدة. المؤسسات الإعلامية العريقة التي خافت من الانقراض، اكتشفت أن بإمكانها أن تعيش مرتين: مرة في الماضي حيث المصداقية والعمق، ومرة في الحاضر حيث السرعة والانتشار. القناة التلفزيونية التي كانت ترفض "اليوتيوب" أصبحت تنافس "المؤثرين" على مشاهداتهم. الصحيفة التي كانت تحتقر "التغريدات" صارت تنشر مقالاتها على "إكس".   

لو كانت الأخبار هي القلب، فالإعلانات هي الدم. واليوم، انتقل هذا الدم من شرايين الإعلام التقليدي إلى أوعية الرقمي. لماذا؟ لأن المعلن لم يعد يبحث عن "الجمهور"، بل يبحث عن "الجمهور الذي يريده بالضبط". في الرقمي، يمكنك أن تعلن عن ساعة فاخرة لهواة الرفاهية، أو عن لعبة إلكترونية للمراهقين، دون أن تضيع قرشا واحدًا على من لا يهتم. 

لكن هل هذا يعني أن الإعلان التلفزيوني أو المطبوع قد مات؟ كلا. ما زال هناك بريق خاص لإعلان يبث في منتصف مباراة كأس العالم، أو ينشر في مجلة شهيرة. الفرق أن الإعلان التقليدي صار "للتذكير" أكثر من "التعريف"، بينما الرقمي صار "للتوجيه" أكثر من "الرش". 

الرسالة لا تموت..

يقولون إن الإعلام التقليدي يشبه "الفنار" القديم الذي كان ينير الطريق للسفن. اليوم، صارت لدينا أضواء أكثر، وأجهزة أحدث، لكن بعض السفن ما زالت تفضل الضوء الخافت الذي يعرفونه منذ زمن. الفانوس لم ينطفئ، إنما صار besideه مصابيح LED.

السرعة مقابل العمق: هل نضحك على أنفسنا؟  في زمن يقاس فيه عمر الخبر بالساعات بل بالدقائق، صار "التفاعل" هو المعيار، لا "التأمل". نقرأ العناوين في عجلة، نشارك قبل أن نفكر، نعلق قبل أن نعرف. الإعلام الرقمي حولنا إلى "فئران تجارب" في متاهة لا نهاية لها من الإشعارات. كل منا صار يحمل في جيبه صحيفة عالمية تصدر كل ثانية، لكن قلوبنا لم تعد تتسع لأكثر من "منشور". 

التقليديون يقولون: "نحن نصنع الخبر". والرقميون يردون: "نحن نصنع الزخم". والسؤال الذي يطارح نفسه: ماذا ينفع زخم بلا معنى؟ 

الجمهور الجديد: سيد أم عبد؟

لطالما كان الجمهور في الإعلام التقليدي "متلقيا"، يصغي إلى صوت الخبراء والمحررين. أما اليوم، فكل فرد صار "إعلاميًا". هاتفك الذكي هو استوديوك، ومتابعوك هم جمهورك. هذه الديمقراطية الإعلامية سلاح ذو حدين:  الحد الأول: كسرت احتكار السلطة الإعلامية، وأعطت صوتًا للمهمشين.  والحد الثاني: غيبت "التصفية الذهنية"، فصار الرأي العابر بمنزلة الحقيقة المطلقة.  الإعلام التقليدي كان "حارس بوابة"، والرقمي حول البوابة إلى ساحة مفتوحة يدخل منها الصادق والكاذب، النبيل والوضيع.

في الماضي، كانت المؤسسة الإعلامية تخشى أن تفقد "سمعتها" إن أخطأت. اليوم، "التريند" يغفر كل شيء. الإعلام الرقمي صنع "ثقافة الاعتذار السريع": تخطئ اليوم، تعتذر غدًا، ينسى الجميع بعد أسبوع. الكل يريد "المحتوى" الآن، بغض النظر عن مصدره. 

لكن أين الحقيقة في هذا الزحام؟ يقولون: "الحقيقة أول ضحايا الحرب". ونقول: "الحقيقة أول ضحايا التريند".

البيضة والحجر!

لم يعد السؤال من يملك المعلومة، بل من يملك القدرة على جعلها تنتشر كالنار في الهشيم. الإعلام التقليدي كان كالحجر الصلب .. ثقيل الوزن، بطيء الحركة، لكن أثره عميق إذا سقط. أما الرقمي فهو كالبيضة .. سريع الكسر، ينتشر محتواه بلمسة، لكنه قد لا يترك أثراً يدوم.

في زمن "اللايكات" و"الشارات"، صار الجمهور يحكم على الخبر ليس بمضمونه، بل بعدد التفاعلات حوله. وكما قال أحد الحكماء: "عندما يصبح المقياس هو العد لا العمق، فكل الأرقام تصير خداعاً".

المفارقة العجيبة أن الإعلام الرقمي أعطى الفرد قوة المؤسسة، لكنه في الوقت نفسه سلبه حصانتها: المؤسسة تخطئ فتعترف وتصحح، أما الفرد يخطئ فيصعد إلى التريند ثم يختفي.

أصبح كل منا يحمل في جيبه ما كان يحتاج إليه الإعلام التقليدي مبنى كاملاً وميزانية ضخمة لتحقيقه. لكن هذه القوة الجديدة جاءت بثمن باهظ: اختفاء "المراجعة الذاتية" التي كانت تميز المؤسسات الإعلامية العريقة.

الحرب الخفية

في معركة جذب الانتباه، صار المحتوى سلعة والجمهور عملة:

1. الإعلام التقليدي كان يبيع المحتوى للمشاهد

2. الإعلام الرقمي يبيع المشاهد للمعلن

هذه الثورة الاقتصادية حولت الإعلام من صناعة المعرفة إلى صناعة البيانات. لم نعد نحن الجمهور، بل صرنا "المنتج" الذي يتم تسويقه. وكما قال الشاعر: "صرنا نبحث عن الحقيقة، والحقيقة أننا صرنا سلعة".

للأسف أنتج الإعلام الرقمي ظاهرتين متناقضتين: الأولي : تسارع نشر المعلومات: حيث تنتقل الأخبار بسرعة الضوء. والظاهرة الثانية هي : تباطؤ التصديق: حيث لم يعد أحد يصدق أي شيء تماماً. أصبحنا نعيش في زمن "الشك المنهجي"، حيث كل خبر يحتاج إلى تحقيق، وكل تحقيق يحتاج إلى خبر. هذه الدائرة المفرغة خلقت ما يمكن تسميته "الغيبوبة الإعلامية" - حالة من الوعي المستمر لكن دون يقين حقيقي.

نحو إعلام إنساني

قد نكون اليوم بحاجة إلى "إعلام هجين" يجمع بين سرعة الرقمي في النقل، ومصداقية التقليدي في التحقق، فضلا عن شفافية المؤسسات في المساءلة، وأخيرا إنسانية الأفراد في التعبير. فكما أن الحضارة لم تلغِ الطبيعة بل أدمجتها في عمارتها، كذلك يجب أن يكون الإعلام الجديد: ليس إلغاءً للماضي، بل ارتقاءً به. عندما يصبح كل شيء إعلاماً لم يعد الإعلام مهنة أو وسيلة، بل صار حالة وجودية. كل نقرة على الهاتف، كل مشاركة، كل تعليق – هي لبنة في صرح الإعلام الجديد. السؤال الذي يبقى: هل نبنيه لنعيش فيه، أم ليحيا بنا؟

في النهاية، كما أن النار تدفئ إذا أحسنا استخدامها وتحرق إذا أسأنا، كذلك الإعلام الرقمي: قد يكون نوراً يهدينا، أو حريقاً يلتهمنا. الفرق يكمن في يد من يوقد الشعلة، وفي عين من يتابع الضوء.

***

د. عبد السلام فاروق

 

"ليست الدراما مجرد ضرب من ضروب الترفيه، بل هي أداة مركزية في تشكيل الوعي الإنساني وإطلاق قوى التفكير وطرح التساؤلات وإحداث التغيير الاجتماعي"، تلك هي كلمات الكاتب والروائي الجنوب إفريقي الشهير أثول فوجارد مؤكداً الأهمية المركزية للدراما في المجتمع، أيّ مجتمع، إذا ما حسُن توظيفها لتلامس نبض هذا المجتمع ولتأتي انعكاساً صادقاً لقضاياه، وتعبيراً عن همومه وطموحاته وآماله في مستقبل أفضل، عبر مساءلة إخفاقاته وإعادة صياغة وجدانه الجمعي بما يتفق وقناعاته المركزية: الإنسانية أو الدينية أو القومية.

غير أن ما حدث في راهننا الحالي، وتحديداً في مصر، هو سقوط الدراما لهوة سحيقة من الاضمحلال والانحدار القيمي والأخلاقي، وتواترت الألفاظ المبتذلة والسوقية داخلها بشكل غير مسبوق، حيث يجرى استخدام لغة خادشة للحياء وللذوق العام بشكل فج، وشيوع مشاهد وسلوكيات العنف والبلطجة والعري، والأمر المثير أنه يجري الترويج لذلك عبر التحجُّج بأطروحة "الجمهور عايز كدة"، وأن ذلك يجري وفقاً لنظرية (الاستخدامات والإشباعات)  الشهيرة.

فبدلاً من أن تأخذ الدراما بقيم المجتمع لأعلى عبر السمو بأخلاقياته صوب المُثل العليا وتعميق هويته وإنعاش ذاكرته الوطنية، أضحت أداة لاضمحلال قيمي وتحلل مجتمعي عام، كذلك ما تطرحه من رؤى ظلامية ساهمت في إنتاج واقع مُفعم بالمادية النفعية والصراع، فقد تم عبر بعض هذه الأعمال الدرامية حقن شرايين المجتمع بجرعات عالية من الانحطاط والكراهية وتغذية الصراعات الطائفية والمذهبية داخله.

وربما يأتي ذلك كله تزامناً مع انتشار الفلسفات والقيم السلبية المصاحبة لحقبة ما بعد الحداثة وما صاحبها من انهيار قيمي وأخلاقي واسع، فلا ثوابت أخلاقية يمكن الدفاع عنها، ولا قيم عُليا يمكن الموت من أجلها، فكل الأمور أضحت نسبية، والمطلق الوحيد هو التغيير المستمر الفاقد للغاية والمعنى.

وهي قيم وافدة علينا، يتحتم التصدي لها عبر تأكيد منظومتنا القيمية المتفردة التي طالما حفظت هويتنا طويلاً، وكان لها الدور المركزي في تعميق تلاحمنا المجتمعي على مر السنين.

والحقيقة أنه ومن أجل إعادة بعث الدراما المصرية لتعود لعنفوانها الإبداعي مرة أخرى علينا التحرك بقوة في مسارات عدة، لعل أبرزها:

حتمية معالجة أزمة الاستنساخ والقولبة، فكل الأعمال متشابهة، كما كل الوجوه متشابهة، فهي إذن نمطية مقيتة علينا الخلاص منها عبر تفجير مكامن الإبداع وتحديداً لدى المخرجين والكتاب الشباب عبر تدريبهم على يد أهل التخصص والخبرة والكفاءة.

لا يجب ترك الأمور لشركات إنتاج غير مصرية لتقدم مضامين سلبية من شأنها العبث بهوية المجتمع وقيمه والإضرار بسلم أولوياته، وذلك كما حدث في السنوات القليلة الماضية.

إشكالية الاهتمام بالجانب التجاري وتحقيق الأرباح المادية حتى لو جاء ذلك على حساب الجانب الإبداعي، وهو ما يقود إلى إنتاج ما يسمى بدراما المقاولات الفاقدة للعمق والقيمة، كان ألبرت آينشتاين يردد " حاول ألا تكون رجل النجاح بل رجل القيمة"، غير أن ما نتغياه هو في الذهاب بعيداً وتحقيق القيمة والنجاح معاً، وهي، معادلة ليست بالمستحيلة في عالم الانتاج الدرامي إذا ما جرى العمل وفق استراتيجية جيدة تسعى للتوفيق بين متعة العرض وجاذبيته وغائية المضمون وجديته .

الكف عما يسمى بورش كتابة السيناريو التي أنتجت سيناريوهات ضحلة هي أقرب إلى الوجبات السريعة، التي ضررها هو أكثر من نفعها، والتي كثيراً ما تقوم بكتابة السيناريو على عجل ووقت التصوير فيأتي سطحياً مبتذلاً دون عمق فكري حقيقي، أضف إلى ذلك ضعف النصوص وهشاشة البناء الدرامي.

من المهم عقد عدد من بروتوكولات التعاون مع مؤسسات أكاديمية ومراكز بحثية متخصصة لتطوير المحتوى الدرامي وإجراء الأبحاث الأكاديمية واستطلاعات الرأي وقياس رجع الصدى حول الأعمال الدرامية المقدمة.

أهمية عقد مؤتمر سنوي دوري لمناقشة التجربة على مدار العام وتقييم نجاحاتها وإخفاقاتها وسبل تطويرها نحو الأفضل.

فيما يتعلق بالتمويل، فالحقيقة المؤكدة أنه ليس هناك أزمة في التمويل بدليل العدد الضخم من الأعمال الدرامية التي يجري إنتاجها كل عام وخاصة في رمضان، فالعبرة ليست في الكم لكنها في الكيف، أي في الإبداع والجودة شكلاً ومضموناً.

الملاحظة المركزية في الأعمال الدرامية السابق تقديمها هي غياب وتهميش دور الطبقة الوسطى داخل تلك الأعمال الدرامية، فأضحت تتأرجح بين ثنائية حادة: أثرياء أو فقراء ومهمشين، حياة القصور الفارهة أو الحارات والعشش والأكواخ، الأولى حيث السرقات وغسيل الأموال والانحلال الخلقي، والثانية حيث العنف والبلطجة، في حين غابت الطبقة الوسطى تماماً تلك الطبقة التي تضم العلماء والمثقفين والمفكرين الذين لديهم القدرة على إحداث التغير الحقيقي في أي مجتمع.

نعتقد أنه من أجل التغلب على إشكالية ضعف القضية المطروحة درامياً وضحالة السيناريو، أنه علينا الذهاب مباشرة للأعمال الأدبية والفكرية الكبرى وتحويلها لأعمال درامية، على أن تجري عملية صياغة السيناريو بحرفية عالية كي لا يجري تفريغ القضية المطروحة داخل العمل من مضمونها العميق.

على الدراما أن تُحلِّق بالمشاهد نحو أفق إنساني رحب حيث تسامي الغرائز في معارج الروح، وأن تُهدِّئ من هواجسه الميتافيزيقية وشعوره بالاغتراب الناجم عن أزمة المعنى، وأن تتمركز حول القيم الإنسانية العامة: قيم الحق والخير والجمال، وقيم الحرية والمواطنة واحترام المرأة والأقليات والأديان وغيرها وعدم التمييز على أُسس العرق أو الدين أو اللون أو الجنس.

من المهم السعي نحو تقديم القدوة والمثل، ذلك الذي نفتقده كثيراً في أيامنا هذه، عبر إنتاج سلسلة من الأعمال الدرامية التي تتناول السير الذاتية للشخصيات التاريخية والوطنية والإنسانية العظيمة، وهو أمر يتطلب إعادة قطاع الإنتاج بالتليفزيون المصري إلى سابق عهده في إنتاج مثل تلك الأعمال الملحمية والرسالية، تلك التي لا يقبل عليها القطاع الخاص .

حقيقة أن هناك أعمالاً متميزة جرى إنتاجها في السنوات الأخيرة غير أنه لم يتم الترويج لها جيداً، في المقابل، نجد أعملاً درامية سطحية ومبتذلة وقد حققت جماهيرية كبيرة نتيجة للآلة الدعائية الضخمة المصاحبة ومشاركة وتعليق الكثير من الحسابات الزائفة والمدفوعة التي جرى إنشاؤها على السوشيال ميديا خصيصاً لهذا الغرض اعتماداً على استراتيجية سلوك القطيع، من هنا أهمية الشروع في إنتاج حملات دعائية مصاحبة، وبخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي (أي توظيف الثورة الرقمية)، للترويج لتلك الأعمال الدرامية الجيدة التي سيجري إنتاجها وعرض مقتطفات منها وآراء النقاد والجماهير فيها وما تتسم به من أبعاد إبداعية.

إشكالية مركزية أخرى تعاني منها الدراما الحالية، وهي تغوُّل البطل على العمل الدرامي، إذ يجري تفصيل رواية وسيناريو ما ليناسب البطل الذي تم اختياره مسبقاً، بل ويقوم هو الآخر، أي البطل، بإحداث تغييرات جوهرية في السيناريو والإخراج لتدور جميعها في إطار تفخيمه وتعظيمه وتأكيد نجوميته في مقابل تقزيم الأخرين، ولو جاء ذلك على حساب المستوى الفني والإبداعي للعمل الدرامي، من هنا أهمية إعادة الاعتبار للكاتب ووضعه في المقدمة مع الالتزام بالمعايير العالمية في الإنتاج والإخراج .

من الأهمية بمكان السعي الحثيث نحو توظيف ممكنات الذكاء الصناعي والتقدم التكنولوجي الهائل في تحقيق جودة وجاذبية عالية للمنتج الدرامي الذي يراد إنتاجه.

تأكيد دور الدراما في الترويج لمعالمنا السياحية والأثرية عبر الخروج للتصوير في تلك الأماكن، وذلك بما يخدم اقتصادنا القومي في محورين مركزيين : المحور الأول جذب السائحين لزيارة تلك الأماكن السياحية والأثرية التي شاهدوها في الأعمال الدرامية، والمحور الثاني لتكون قبلة للمخرجين والمنتجين العالميين لتصوير أعمالهم الفنية بتلك الأماكن.

أعتقد أنه قد انتهى عصر اللجان المتخصصة في الرقابة على الأعمال الدرامية بشكلها التقليدي، فإعادة إحيائها هي فكرة غير جيدة، لكنه يمكن الاستعانة بلجان من الأكاديميين والمبدعين ليكون دورها استشارياً من أجل تطوير العمل (شكلاً ومضموناً) ومن أجل تعميق أطروحاته.

علينا أن نُقدِّم أعمالاً درامية من شأنها تفجير الملكات النقدية لدى المشاهد وتوريطه في القضية المطروحة عقلياً ومعرفاً، فها هو الكاتب المسرحي الشهير هنريك إبسن يقول: " علينا أن نطرح الأسئلة، وليس علينا أن نقدم الحلول والإجابات الجاهزة"، فالفن الحقيقي ليس نقلاً فوتوغرافياً للواقع بقدر ما هو استجابة جمالية إبداعية لحيثيات هذا الواقع وإيقاظ الخيال لدى المشاهد لطرح التساؤلات حول ممكنات تغييره للأفضل.

وفي التحليل الأخير فإن ما نتغياه هو إنتاج أعمال درامية من شأنها إشهار غصن الزيتون وورود المحبة في وجه سيف الكراهية، وإعلاء قيم التراحم والتسامح في وجه تِنّين الانتقام، وتأجيج قوى الأمل في وجه جحافل العجز واليأس، وإيقاظ عالم الروح الذي اغتالته الأطروحات المادية في صيغتها ما بعد الحداثية.

وإذا ما كانت الدراما هي أداة لوصف حيثيات الواقع، فهي أيضاً الرغبة العارمة في تجاوز هذا الواقع ومن ثم معانقة الخيال، أن ترنو صوب المُثُل العليا تأسيساً على مفردات الواقع وممكناته، فالدراما بقدر ما هي صدى صوت أنين المعذبين هي أيضا ترجمة لهمس أحلام وطموحات المبدعين والمفكرين.

ما نريده هو تدشين عصر جديد للدراما بوصفها ثورة على كل ما هو قبيح في هذا العالم، والإيمان بأن " الجمال هو ما سينقذ العالم" كما كان يردد أديبنا الكبير فيودور دوستويفسكي، من هنا يمكن أن تتأسس دراما عالمية ذات أبعاد جمالية وذات هم إنساني مشترك في آن، أن تصبح ملاذاً آمناً للهاربين من جحيم الحداثة بكل نفعيته ولا قيميته، وتجذير قيمة الحب في المجتمع الإنساني كقيمة مركزية.

في تلك اللحظة ستكون تلك الدراما (بأبعادها الفنية والجمالية والإنسانية) قابلة للتصدير لبلدان أخرى ومن ثم حتمية ترجمة الجيد منها للغات عدة لتقوم بدورها كمصدر دخل للاقتصاد المصري وكقوة ناعمة لوطن يسعى لأن يستعيد رونق حضارته ومهامه المركزية في منطقة الشرق الأوسط .

كما أنه عليها، أي الدراما، أن تكون خط الدفاع الأول عن الهوية الوطنية والتلاحم المجتمعي ضد محاولات التفتيت وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية بقصد بلقنة بلداننا وتمزيقها لدويلات وكيانات متناحرة.

ومن ناحية أخرى فعلى الدراما أن تتخذ موقفاً احتجاجياً ضد إخفاقات هذا العالم بحروبه وصراعاته المتفاقمة وطرح سيناريوهات من شأنها دفع مستقبله نحو الأفضل.

كما أنها يجب أن تصبح أداة قوية في مواجهة من يدّعون امتلاك الحقيقة المطلقة (دينية كانت أم قومية) وتعرية منطقهم المغلوط، ذلك المنطق الذي قاد إلى تأجيج الصراعات في جنبات المجتمع، ومن ثم علينا أن نُعيد الاعتبار للدراما كأداة بناء وليس وسيلة هدم، بناء الوعى العام الذي هو إنساني وقيمي وتراحمي بالضرورة .

ومن دون شك فإن التخوف الحقيقي والمركزي لدينا هو من الهجرة الجماعية، هجرة المُشاهد، لدراما بديلة تُروِّج لأحلام ومطامع أيديولوجية وطموحات إمبريالية لدول تريد إعادة بعث ماضيها على ركام حاضرنا.

وفي النهاية دعنا نردد مع برجينسكي قوله: "التليفزيون يقوم بدور يفوق دور المدرسة والمؤسسات الدينية والجيوش".

***

دكتور محمد عمارة تقي الدين: كاتب وأكاديمي مصري متخصص في الأديان والصراع العربي الصهيوني وخبير إعلامي

سؤال أطرحه: ما علاقة نظرية الفوضي بالقدر؟

تعدُّ نظرية الفوضي من أحدث النظريات الرياضية الفيزيائية، نشأت في سياق الأرصاد الجوية وهي من أكثر المسائل إشكالية، بل تزداد تعقيدا، لأنها تعيدنا إلى حياة الإنسان البدائي الذي اتسمت حياته بالفوضى، كما أنها مدمّرة للعقل وللثقة بين المناهج العلمية للمعرفة، وهي تعني كما يقول مفكرون عدم القدرة على التنبؤ بالعديد من التسلسلات العلمية، ويراها البعض على أنها عبارة عن اضطراب، مثلما نراه في تقلبّات المناخ وحركة أمواج البحر والتي تؤدي إلى كوارث طبيعية.

كما لها علاقة أيضا بالجانب الصحي يعبر عنها كبار الأطباء بحركة التذبذبات في عمل القلب والدماغ، يقال أن النظرية تطرح فكرة أن تحريك فراشة لجناحيها في مكان ما، سيساهم على المدى البعيد بتغيرات في الطقس من خلال إحداثها تموجات مهملة وصغيرة جدا في البداية، لكنها مع الوقت ستسبب إعصار في مكان آخر، عن نفسي لا أؤمن بفكرة الفراشة وحركتها في إحداث تغيرات في الطقس.

ما يلاحظ أن العامة من الناس ينظرون إليها من جانب سطحي، ويعبرون عنها بفقدان "النظام"، فنحن نعيش فوضى في حياتنا وداخل بيوتنا، في مأكلنا وملبسنا  في نومنا، نتقلب يمينا ويسارا  في علاقتنا بالناس  من يربطنا بهم قاسم مشارك ومع الأخر (الأجنبي)، وحتى في فكرنا وفي عباداتنا، نتخبط في أشياء هي من صنعنا، فنحن بسطحية فكرنا وبهمجيتنا قلبنا النظام إلى فوضى، نشنّ الحروب بدلا من أن ننشد السلام، وحكامنا يضعون قوانين ثم ما يلبثون أن يستبدلونها بقوانين جديدة خدمة لمصالحهم، فتخلق فوضى في التسيير، نحن فوضويون بطبعنا  في عواطفنا، فوضويون في ممارستنا السياسة، فوضويون في قراءة الأحداث، فكل واحد يطعن الأخر، لأن هناك من يريد إلغاءه ومحوه من الوجود.

تبقي فكرة أن نظرية الفوضى  إن كانت "حتمية" أم لا، جدل قائم بين طرفين (مؤمن وكافر بها)، فمنهم من يصدقها ومنهم من يُكَذِّبْ، لأنها تعبر عن " القدر"، والسؤال: ما علاقة الفوضى بالقدر؟ إذا قلنا أن القدر شيئ أخر، لا يمكن رؤيته أو  قراءته وفهمه، لكننا نؤمن به، ولا أحد يستطيع أن يوقفه  (وهذه مسألة أخرى)،  لأنه مرتبط بشيئ ثابت لا يتغير كـ: "الموت وخروج الروح من الجسد"، (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربّي)، فهي من "الإعجاز" وبالتالي لا علاقة لها بالفوضى، لأن العقل الإلهي أكبر من العقل البشري، فهو "نظام" (بمفهومه الفلسفي) قائم بذاته، لا يقدر على تفسيره إلا الراسخون في العلم، والسؤال يطرح نفسه بنفسه: هل الأديان نشأت على نظرية الفوضى؟

***

علجية عيش

عادة ما يلجأ صناع السياسات العامة إلى الخبراء، حين يتعلق الأمر بتصميم جسر معلق، أو استخدام عقار جديد ضد الأمراض الفتاكة. أما في مواجهة القضايا التعليمية الشائكة فإن القائمين على السياسة التعليمية يميلون إلى تدعيم قراراتهم وخططهم الإصلاحية بفرضيات وتحيزات مبسطة، تستند إلى توظيف انتقائي للبحث العلمي.

وإذا كانت إحدى مهام المدرس المحورية هي تحدي التصورات القائمة في أذهان متعلميه، وحثهم على مراجعتها في ضوء الحجج المنطقية، فإن المنظومة بكاملها تفتقر إلى دليل لتفكيك الأحكام التبسيطية، والاستعمال السيء لما يصدر عن علم النفس وعلم الأعصاب من تفسيرات لا تصمد أمام الفحص الدقيق، من أجل ضمان ألا يتلقى أطفالنا تعليما رديئا.

في تصورهما العام لكتاب (تعليم رديء) يثير فيليب إيدي وجوستين ديلون دواعي التئام زمرة من الخبراء العالميين، لرصد نماذج التطبيق غير الرشيد، والادعاءات المبالغ فيها داخل النظم التعليمية. إذ ينطلق المحرران من خمسة أسباب تستدعي عودة الخبير للإمساك بزمام الأمور، ونزع غطاء العلمية الذي يتدثر به صناع السياسة التعليمية.

أول تلك الأسباب هو التفكير الحالم، أو ما يرغب التربوي في الإيمان به بغض النظر عن وجاهته العلمية.

ثانيا: التفكير الكسول الذي يبرر قبول أي نظرية تم عرضها بشكل جيد ومنسق لتحسين التعليم؛ كالافتراض مثلا بأن التدريس لكل طفل وفق نمطه المفضل يعزز جودة التحصيل الدراسي.

ثالثا: الاستعمال السيء للإحصائيات والمعطيات الرقمية.

رابعا: الاستناد إلى أصول فلسفية، بدل أن ينبني التعليم على معطيات وحقائق أمبريقية، من قبيل أن فرض الزي الموحد يجعل الأطفال أكثر ذكاء.

وأخيرا: التبسيط المفرط في التصنيف والتنميط وإصدار الأحكام.

رسخت هذه الأسباب قناعة لدى المسؤولين بأن العملية التعليمية التعلمية يمكن ضبطها بالكامل، فأصبح المدرسون عرضة لوابل من التعليمات، والتوجيهات لتفاصيل ما يجري في قاعة الدرس. الأمر الذي انعكس سلبا على مهنية المدرس، وحال دون التأمل الناقد لبعض الأفكار والممارسات، كنظرية الذكاءات المتعددة، لمجرد أنها تحظى بدعم حكومي!

يقع أولياء أمور التلاميذ ضحية تمثل سائد مفاده أن هناك فروقا شاسعة بين المدارس من حيث التحصيل الدراسي، وبالتالي فإن الطفل سيكون أفضل إذا كانت المدرسة جيدة. وغالبا ما تستند المقارنة إلى نتائج الامتحانات، ونسب النجاح العالية. غير أن ديلان وليام، أستاذ التقييم التربوي بجامعة لندن، يعتبر أن الوصول إلى رأي سديد يحتاج البحث في مدى جودة تعلم التلاميذ فعليا في المدارس.

إن التقسيم الشائع للمدارس إلى جيدة ورديئة، يخفي وراءه ما يسميه ديلان ب"العوامل السياقية"؛ حيث تكون النتائج الجيدة أحيانا حصيلة دافعية، يُعبر عنها التلاميذ الذين أتيح لهم اختيار ما يدرسونه.

كما أن بعض المدارس تعتمد الانتقائية من الناحية الاجتماعية، فيكون من الخطأ أن نقارن أداءها بمؤسسات أخرى، تقدم خدماتها في مناطق هامشية. بالتأكيد سيبدو الأمر أشبه بلوم مستشفى على ارتفاع عدد الوفيات، رغم أنه لا يستقبل سوى الحالات الخطرة جدا.

إن السياسة التعليمية تفترض أن الأداء الأكاديمي للمدارس هو الشيء الأهم، يقول ديلان، لكن العدالة تقتضي أن المعلمين والمدارس تجب محاسبتهم فقط على ما يمكنهم التأثير فيه وهو التنمية المتكاملة لشخصية الطفل، بالإضافة إلى التقدم الدراسي الذي يحققه. بهذا الشكل فإن الغالبية العظمى من المدارس ستتشابه على نحو يجعل الفروق بينها بالغة الضآلة.

إلى جانب التمييز غير الموضوعي بين مدرسة جيدة وأخرى رديئة، سادت في أوساط أولياء الأمور نظرة مريبة إزاء التعليم المهني، مقارنة بالتعليم العام وما يحظى به من مزايا. خاصة في ظل ثورة تكنولوجية، تشيد بالذكاء وبالقدرات المعرفية. ولبحث المعتقدات التي غذّت هذا الخطأ الشائع، توصل كل من جاي كلاكستون، وبيل لوكاس، الأستاذان بجامعة وينشستر، إلى وجود رواسب علمية وفلسفية، عززت حضور العقل كأرقى مظهر للتعبير الإنساني، في مقابل الجسد ونزعاته الآثمة.

ترجع بعض هذه الأحكام التبسيطية إلى أفكار جان بياجيه، وبحوثه التي اعتبر فيها أن التنمية المعرفية تؤدي بالضرورة إلى هجر الطرق الحس-حركية، في مقابل إتاحة المجال للاستدلال المنطقي. فأصبح التقدم في التحصيل العلمي رهينا بتغليب المعرفة المجردة على الأنشطة البدنية، وتشكلت قناعات مفادها أن الحرف والصناعات اليدوية لا تحتاج إلى إعمال العقل، لأنها في الغالب روتينية، ولا يتطلب التمكن منها سوى الملاحظة والتقليد.

ارتبط التعلم الأكاديمي إذن بإعداد أفضل للحياة في ظل فوضوية الواقع اليومي. لذا يُنظر للمتعلم الذي لا يسلك المسار الأكاديمي بأنه أقل شأنا، ويتم ربط الأمر بنقص في قدراته العقلية أو البدنية، وفي أفضل الأحوال بغياب الدافعية. غير أن دراسة العلاقة بين العقل والجسد، من منظور علم الأعصاب المعاصر، تنطوي على قدر كبير من التقدير للذكاءات التي يتمتع بها البدن، والتي تفترض مستوى عاليا من المعرفة، والحساسية، والخبرة البديهية. يتحدث مايك روز، على سبيل المثال، في كتابه "العقل عندما يعمل"، عن البنية المعقدة للذكاء المهني، وكفاءته في دمج مجموعة من المهارات للاستجابة لموقف معين؛ حيث تصبح عملية الحساب البسيطة عملية تصميم معقدة بالنسبة لنجار في الورشة، وتحت ضغط قد لا يتحمله الحاصل على درجة امتياز في امتحان الرياضيات.

وفي ارتباط بمسألة تصنيف المتعلمين في المدارس، يثير إد بينيس، الأستاذ المحاضر في معهد التربية بلندن، شكوكا حول الفرضية التي يستند إليها التصنيف، بناء على أداء التلاميذ في اختبارات التحصيل. حيث يسود الاعتقاد بأنه إجراء سيتيح إمكانية تكييف مدخل التدريس وأسلوبه بما يتفق مع حاجاتهم.

من خلال جرد نتائج عدد من الدراسات حول الموضوع، يلاحظ بينيس أن تصنيف القدرات ينجم عنه عدم المساواة، وتفاوت الفرص في الاستفادة من المناهج، ومصادر التعلم. إضافة إلى الوصمة التي تلاحق المتعلم عند تصنيفه في مجموعة متدنية القدرات، واحتمال أن ينزع التصنيف، بشكل أو بآخر إلى توزيع المتعلمين انطلاقا من الطبقة الاجتماعية، أو العرق، خاصة حين يتعلق الأمر بالقبول في المدارس، والذي لا يخلو من انتقائية على أساس الوضع الاجتماعي.

ويخلص البرنامج الدولي لتقييمات الطلاب، عبر رصده المستمر لأداء المتعلمين في تقييمات العلوم والقراءة والرياضيات، إلى أن تصنيف القدرات في المدارس يؤدي إلى تراجع الأداء الكلي للمتعلم، بحيث تتسع الفجوة في الإنجاز بين القادمين من خلفيات أسرية ميسورة وأخرى متواضعة. وأن التغلب على المشكلات المرتبطة بالتعلم لا يمكن أن يُحل بمزيد من التصنيف، وإنما بدمج المتعلمين ذوي القدرات المنخفضة، والمتوسطة، والعالية، والعمل على دعم المدرسين لتبني مداخل تدريس تلبي حاجات تعلم كل تلميذ.

من حق كل متعلم أن تُهيأ له الظروف المواتية لتدريس عالي الجودة. ويندرج حجم الصف ضمن تلك الشروط التي تتلاقى مع المنطق السليم في نظر أولياء الأمور، وتبرر إنفاقهم المال على التعليم الخصوصي الذي تتمتع فصوله الدراسية بحجم أصغر. بل ويؤمن المعلمون بدورهم أن الفصول الصغيرة تجعل مهمتهم أيسر، وبالتالي فإن تقليص حجمها سيسفر عن أداء تعليمي جيد.

غير أن بيتر بلاتشفورد، أستاذ علم النفس بمعهد التربية بلندن، يخلص في دراسة واسعة النطاق حول تأثير حجم الفصل على الإنجاز الأكاديمي، إلى محدودية الأثر الذي يُمكن أن ينتج عن وضع حد لأعداد التلاميذ في الفصل. فقد أبرزت نتائج الدراسة تحسن الانتباه وسلوكيات التعلم لدى التلاميذ في عامهم الدراسي الأول، إلا أن تلك المكاسب سرعان ما تراجعت بحلول العام الثالث.

إن تأثير الحقيقي لحجم الفصل مرتبط بطرق التدريس المتميزة، كالتدريس الأحادي، والتعلم بالأقران، والتعلم المعزز بالحاسوب. في حين أن الاكتفاء بتقليص أعداد التلاميذ لا يمكن أن يؤدي بالضرورة إلى تعلم أفضل. فهناك، بحسب بلاتشفورد دائما، أدلة بحثية على أن المعلمين لا يغيرون بالضرورة أسلوب تدريسهم في الفصول الصغيرة، إضافة إلى أن الدراسات الدولية المقارنة تؤكد أن مستويات الأداء العليا تتحقق في أنظمة تعليمية، تتمتع بفصول دراسية حجمها أكبر، كاليابان وكوريا الجنوبية.

بيد أن الاحتكام إلى البيانات الدولية، والإيحاء بأهمية المقارنة عند صياغة أي تغييرات، لا يمكنه أن يشكل بديلا للمعرفة الواقعية. من هذا الجانب تتصدى مارغريت براون، أستاذة الرياضيات بالكلية الملكية في لندن، للتمييز الشائع، سواء في الخطاب السياسي أو الإعلامي، بين التعليم التقليدي والتعليم التقدمي؛ إيمانا منها بأن الرؤى والممارسات في مجال التعليم، تتبدى بغاية البساطة والوضوح، مثل الرسوم الكاريكاتورية، حين ينظر إليها السياسي من مقعده في الصف الأول.

ترصد براون مواقف صناع القرار السياسي في إنجلترا من تدريس الرياضيات في المرحلة الابتدائية، بناء على نتائج اختبارات دولية، بعضها تبدو عيناته غير قابلة للمقارنة، وكيف أن المخاوف حول الكفاية الحسابية تحولت إلى صراع إيديولوجي بين الداعين إلى العودة للنموذج التقليدي، باعتباره ذو شعبية لدى الناخبين، وبين المناصرين للنهج التقدمي، حتى في غياب دراسات تشير إلى وجود ارتباط فاعل بين "العملية والمنتج"، بشكل يرجح أفضلية التعليم التقليدي أو التقدمي.

وفي خطوة لحسم النزاع، تخلص براون إلى أن إخضاع التعليم لطرق التدريس التقليدية أو الحديثة لا يمكن أن يسفر عن أية فروق حقيقية في الاختبارات الدولية. حيث إن الدول التي تقبع في مؤخرة الترتيب قد تستخدم نفس طرق التدريس التي تتبعها دول تتصدر القائمة، مما يحيل على فروق أخرى، تعززها شبكة معقدة من المعارف والمهارات المترابطة. لذا فالأجدر في هذه الحالة هو دعم طرق التدريس التي تجعل التعلم ذا معنى بالنسبة للتلاميذ.

وضمن مسعى لتحسين معدلات القراءة والكتابة، تناقش بيثان مارشال، المتخصصة في قضايا تدريس اللغة الإنجليزية وتقييمها، خلفيات التأييد الحكومي لطريقة تدريسية دون أخرى، ومدى ارتباط الأمر بموقف إيديولوجي يتذرع بالإحصاءات والمقارنات الملتبسة. 

 ففي سياق التصدي لمشكلة الأمية داخل المجتمع البريطاني، راهن صناع القرار على مدخل منظومي، يتضمن تقديم الصوتيات التركيبية في بداية تدريس القراءة، باعتبار أنه يقدم للغالبية العظمى من الصغار أفضل الطرق ليصبحوا قراء وكتابا ماهرين. وكان دعاة هذه الطريقة يرون أن الطفل يلزمه تعلم 44 فونيما في اللغة الإنجليزية قبل تقديم أي كتاب له. وبالنسبة للكتب المصورة يجب أن تشتمل فقط على الكلمات التي يمكن فك ترميزها صوتيا بمجرد عرضها.

تم اعتماد هذه الطريقة من لدن الحكومة قبل المراجعة الأكاديمية، في الوقت الذي أثبت بحث قامت به لجنة القراءة الأمريكية، عدم وجود فروق بين مدخل الصوتيات التحليلية والتركيبية، إضافة إلى أن اللغة الإنجليزية ليست لغة صوتية ثابتة، لوجود عدد هائل من الاستثناءات لكل قاعدة صوتية.

لكن على مستوى النقاش السياسي، لم توافق مجموعة برلمانية على ما اعتبرته طريقة "نهج واحد يناسب الجميع"، انطلاقا من أن ليس هناك دواء سحري وحيد، يضمن لكل الأطفال أن يصبحوا قراء. لذا تم إطلاق مشروع بحثي جديد، أشرف على تنسيقه البروفيسور ألكسندر روبين، وعرف باسم "مراجعة كمبريدج".

 دافع روبين في مشروعه عن مدلول متقدم للقرائية، يتجاوز التعرف على الكلمات المطبوعة في الصفحة إلى إدراك المعنى الكلي، وتوسيع آفاق الطفل للتفكر في الحياة والعالم كما هما في الواقع. وبذلك انتقل روبين من قرائية مدرسية تستهدف الانقياد والطاعة، صوب قرائية ناقدة، تستجيب للرصيد الثقافي التراكمي للجماعة، وتُعود الطفل على النقد والمساءلة، في ظل مجتمع منفتح يسعى لترسيخ الديموقراطية.

إن تدني القرائية يرجع بالأساس إلى كون المعلمين يميلون إلى التدريس الآمن غير الخلاق، وإلى اتباع الأطر الموضوعة للتدريس كما لو كانت نصا مقدسا. ولو أننا قمنا بتمثيل القرائية في المنهج، بناء على تصور يدعم الفضول حول كيف صارت الأشياء إلى وضعها الراهن، ويتحيز لمسؤولية الفرد وسيطرته، لتابعنا كيف يتشكل أمام أعيينا شخص نشط، ومبدع، وواسع الأفق.

ورغم القناعة السائدة بمحورية التعليم النظامي، إلا أن جوستين ديلون، أستاذ العلوم بالكلية الملكية في لندن، يتساءل عن سر البغض الذي يُبديه المتعلمون للعلوم حين يتم تلقينها في حجرات الدرس، بينما نراهم مأسورين ومفتونين بالخبرات الأصيلة التي تُمدهم بها مواقع "غير نظامية"، كالمتاحف، والمحميات البيئية، ومراكز العلوم.

لقد ظل الناس لحقب طويلة يتعلمون عن طريق الملاحظة، والمحاولة والخطأ، والاستماع لقصص الجدات. تعلم لا منهج له، ولا يحظى بصفوف دراسية ولا شهادات، وغالبا ما يكون مرتجلا. لكنه في عقد التسعينات سيثير الاهتمام بفضل العدد المتنامي من وسائط الإعلام، ويتيح فرصا للتعلم في سياقات غير مدرسية، وضمن مسارات أصبحت جزءا لا يتجزأ من الحياة اليومية.

بدل التقسيم الشائع للتعليم إلى نظامي وغير نظامي، يقترح ديلون تحويل بؤرة التعلم للخارج، وتمكين المتعلمين من خبرات مدرسية أكثر تشويقا. لكنه ينبه إلى بعض المحاذير التي ينبغي مراعاتها لضمان التكافؤ. صحيح أن درسا واحدا في الخلاء يعادل سبعة في حجرة الدراسة، كما ردد التربوي المعروف تيم بريجهاوس، لكن هذا العمل الميداني بحاجة إلى تصميم جيد، ومتابعة فعالة. كما يجب التصدي للمخاوف التي تثيرها التبعات القانونية للرحلات والزيارات الخارجية، وتجاوز المعيقات المرتبطة بالكفاءة الذاتية للمدرسين، والعلاقة بين المدارس ومقدمي الخدمات، من مراكز، ومتاحف، ومحميات بيئية، وتوفير التمويل اللازم لتعزيز الشراكات.

ولأن التعليم بحاجة إلى مواكبة نتائج البحوث المعاصرة، لتجديد ممارساته واعتناق رؤى أكثر علمية، فقد نشأت روابط مثيرة للاهتمام بينه وبين علم الأعصاب، لم تخل، للأسف، من نماذج لسوء التطبيق، أو تبني ما يسميه كوري نريد ومايك أندرسون، المشرفان على برنامج بحوث الأطفال في جامعة غرب أستراليا، ب"الخرافات العصبية".

تنطوي الخرافة على بذرة من الحقيقة، لكن القول بأننا نستخدم فقط %10من أدمغتنا، فلا يوجد دليل يدعمه. وعلى مدى سنوات عديدة لم تُظهر الخرائط الدماغية أية مناطق لا وظيفة لها في الدماغ البشري. لكن هذا الادعاء تحديدا لقي رواجا مذهلا في سوق برامج التدريب العقلي.

ويروج أيضا بين التربويين الحديث عن اختلاف نمط تعلم الفرد، تبعا لنصف الدماغ الذي يستخدمه. فأصحاب الجانب الأيسر يميلون إلى المهام التحليلية والتفكير القائم على اللغة، أما من يستخدم الجانب الأيمن، فيُبدي كفاءة أكبر في المهام المكانية، والفن، والرياضيات. غير أن هذه الخرافة بنيت على ملاحظة أدمغة تعرض أصحابها لحوادث، فكان هذ التمايز بين فصي الدماغ عرَضا لحالة مرضية، وليس نموذجا للأداء الوظيفي للدماغ.

تنبثق أغلب الخرافات التي عرضها الباحثان من سوء فهم أو تقدير للمسافة بين ميدانين، لكل منهما لغته المختلفة ونهجه المستقل. لذا نشأ عن الارتباط بينهما مبالغة في تفسير مسوح الدماغ، ونتائج البحوث المرتبطة بعلم الأمراض، أو التي تمت على أدمغة حيوانات، تختلف في بنيتها ووظائفها بدرجة فارقة عن البشر. وهو ما يستدعي التروي، وتجميع الأدلة القائمة على أساس نظري سليم، حتى يتسنى تطوير أدبيات قادرة على توظيف بنية العمليات العقلية في سياقات التعلم بشكل صحيح.

في سياق مماثل يعترض فيليب إيدي، أستاذ العلوم المعرفية في الكلية الملكية بلندن، على التوظيف المتسرع وغير الناقد لنظرية "الذكاءات المتعددة" في المناهج الدراسية. وسر اعتراضه يرجع بالأساس إلى المعايير التي احتكم إليها هوارد غاردنر لتحديد ما يمكن اعتباره "ذكاء". فادعاءه، على سبيل المثال، بأن كل جزء من الدماغ مرتبط بمهمة محددة، يُكذبه مبدأ التناغم الذي كشف عنه المسح المتطور بالرنين المغناطيسي، حيث أظهر التضافر بين مناطق متعددة في الدماغ لأداء مهمة معينة، كالرؤية، أو اللغة، أو الإدراك الفراغي.

وأما القول بوجود تاريخ تطوري لكل ذكاء، ونموه في مسار خاص وغير مقيد بالذكاءات الأخرى، فلا يصمد أما حقيقة العلاقة الارتباطية التي تنشأ دائما بين القدرات المختلفة. نعم، يمكننا عمليا وحتى منطقيا أن نميز بين القدرات اللغوية، والعددية، والحس-حركية وغيرها؛ إلا أن القياسات النفسية تكشف أن ثمة عاملا واحدا ومشتركا للذكاء، تنضوي تحته كل تلك القدرات.

وفي احتكامه لمعيار النوابغ الذي يتسمون بذكاء معين، يتجاهل غاردنر صعوبة تفسير النبوغ، إضافة إلى أن الأمر يتعلق بعدد صغير من الأفراد الاستثنائيين، ولا يمكن بالتالي استغلال ذلك لبناء مسار تعليمي يفترض قابلية تطبيقه على الجميع.

تتراوح القضايا التي يعالجها مؤلفو كتاب "تعليم رديء" ما بين الحديث عن كيفية تنظيم المدارس، وصولا إلى طرق التدريس، واختبارات تصنيف القدرات، والتدريب الذهني، والتعليم المهني. لكن خلف هذه القضايا وغيرها مما لم يُثر إما لارتباطه بسياق محلي، أو لكونه لم يرتق بعد سلم الأولوية، يُرفع تحد وجيه، لتسديد الممارسة التربوية بناء على الأدلة العلمية الأصيلة، ووضع التصورات والبرامج لتعليم أكثر واقعية، بعيدا عن التضليل، والمسلمات غير العقلانية للساسة وصناع القرار التعليمي بلا استثناء!

***

حميد بن خيبش

في النقاش بشأن سياسة أميركا الخارجية، حدد الباحثون 4 اتجاهات، يمثل كل منها سمة عامة لسياسات الرؤساء المتعاقبين وحكوماتهم. أظن أن كثيراً منا يستطيع رؤية الفوارق بين السياسة الخارجية للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، وسياسات سلفه جورج بوش، ومن قبله جيمي كارتر ورونالد ريغان... وغيرهم. وها نحن نرى العالم مشغولاً اليوم باستكشاف النهج السياسي للرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب.

يُنسب كل من تلك الاتجاهات إلى واحد من الرؤساء القدامى، الذين يُنظر إليهم أيضاً بوصفهم صنّاعاً للآيديولوجيا السياسية الأميركية. دعنا نأخذ مثلاً الاتجاه الذي يميل إلى «الانكفاء على الذات»، ويُنسب عادة إلى الرئيسين جورج واشنطن (1789 - 1797) وتوماس جيفرسون (1801 - 1809). فهذا الاتجاه يميل إلى تحاشي الانخراط في حروب خارجية. ويرى أن الخيار الأمثل للولايات المتحدة هو أن تكون القطب الاقتصادي للنصف الغربي من الكرة الأرضية؛ ذلك أن تفاعلها مع أوروبا والأميركتين سيتيح لها تطوير اقتصاد مزدهر، يغنيها عن النزاعات المحتدمة في آسيا وأفريقيا.

وعلى العكس من ذلك تماماً «الاتجاه الليبرالي»، الذي يُنسب إلى الرئيس وودرو ويلسون (1913 - 1921)، ومبدؤه أن الولايات المتحدة ستكون أكثر أماناً وازدهاراً إذا كان العالم مستقراً متصالحاً. ويرى أن انتشار مبادئ الديمقراطية الليبرالية عبر القارات سيجعل الحكومات أميل إلى التفاوض والتفاهم، ويحجّم تأثير المتطرفين ودعاة الحروب.

بين هذين الخطين المتناقضين، يذكرون أيضاً «الاتجاه المتشدد»، الذي يميل إلى التدخل الواسع، اقتصادياً وعسكرياً، في شتى أنحاء العالم، ويعدّ الكرة الأرضية كلها نطاقاً للأمن القومي الأميركي. إن الميل الشديد إلى «العولمة الاقتصادية» ثمرة لهذا الاتجاه، الذي يُنسب عادة إلى الجنرال آندرو جاكسون، الرئيس السابع للولايات المتحدة (1829 - 1837).

أميل إلى تقسيم السياسة الأميركية الدولية إلى اتجاهين فحسب: «اتجاه محافظ» و«اتجاه تدخلي». وأرى أن هذا التقسيم - رغم عموميته - أوسع انطباقاً على الواقع التاريخي للسياسة الأميركية خلال الخمسين عاماً الماضية. وهما على أي حال متداخلان؛ بقدر أو بآخر.

يحمل «الاتجاه المحافظ» معظم السمات المعروفة عن «الآيديولوجيا المحافظة»، من التركيز على التجارة والاقتصاد، إلى تحاشي النزاعات العسكرية الكبرى، وعدم الثقة بالمنظمات التي تؤطر العمل السياسي الدولي، أو تقرر سياسات طويلة الأمد نيابة عن الدول الأعضاء. هذا الاتجاه ينطلق من أن الولايات المتحدة قوة اقتصادية متكاملة، وأن بوسعها تطوير تفاعل نشط بين العرض والطلب في سوق محلية متكاملة، لا تنعزل بالضرورة عن الأسواق ومصادر الخامات الدولية، لكنها أيضاً لا تخضع للضغوط النشطة في هذه الأسواق.

يميل هذا الاتجاه إلى «الانكفاء على الذات». وحين يبدي حماسة للعمل الدولي، فسيكون على الأغلب مكرساً لخدمة استراتيجيات محلية قصيرة الأمد، وليست بالضرورة آيديولوجية أو جيوبوليتيكية.

أما «الاتجاه التدخلي»، فهو يرى، عموماً، أن قوة الولايات المتحدة تكمن في حضورها الفعال على الساحة الدولية، وأن العالم كله سوق للمنتجات الأميركية ومصدر للخامات والموارد الأولية. يحظى هذا الاتجاه بدعم الشركات الكبرى، المالية والصناعية واللوجيستية، كما يحظى بدعم الأكاديميين ومن يمكن إدراجهم ضمن «الاتجاه الأخلاقي» في النخبة العلمية والمجتمع المدني. دعم التجار سببه واضح، أما دعم الأكاديميين والمجتمع المدني، فيرجع إلى اعتقادهم بأن لدى الولايات المتحدة قوة ناعمة مؤثرة، تشكل وسيطاً فعالاً في علاقتها بشعوب العالم. تمتد القوة الناعمة من التجارة إلى الثقافة والفن والعلوم... إلخ.

أرى أن السمات الرئيسية لـ«الاتجاه المحافظ» أكثر انطباقاً على سياسات الرئيس ترمب، وفقاً لما عرفنا في دورته الرئاسية الأولى (2017 - 2021)، وهذا واضح أيضاً في دورته الثانية، رغم أن الوقت ما زال مبكراً لوضع تقييم دقيق.

وفقاً لهذا التصور، أستطيع القول إن ترمب ليس رئيساً محارباً، ولا هو ميال إلى التوسع الخارجي وخوض صراعات مكلفة... إنه أقرب إلى تاجر يسعى إلى بيع بضاعته وتخفيض التكلفة. وهو يرفع صوته بالتهديد والوعيد كي يُبعد الآخرين عن طريقه، من دون حماسة للصدام الفعلي.

ستظهر صدقية هذا الاحتمال أو بطلانه مع نهاية العام الحالي كما أظن.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

ان أفضل توصيف لسياسات الرئيس ترامب هو ما تفضل به الاقتصادي الأمريكي المعروف والحآئز على نوبل في الاقتصاد جوزيف استغلتز الذي قال " ان سياسات ترامب لا تعتمد على أي نظرية اقتصادية، وبالتالي حتى أولئك الذين يريدون التفاوض معه لا يعرفون كيف، لأن سياساته لا تعتمد على نظرية اقتصادية أو حتى على منطق سليم. طبعا هناك آراء عديدة حول كيف توصل ترامب الا ان فرض التعرفات الجمركية سيجبر المصانع الأمريكية إلى العودة إلى الولايات المتحدة وستخلق فرص عمل في الداخل الأمريكي. يعتمد ترامب على مستشاره للتجارة وهو السيد بيتر نافارو، وهو اقتصادي أمريكي عمل مساعدا لترامب في عدد من الوظائف. نافاورو معروف بآرائه المتشددة حول التجارة وكان من اهم مستشاري ترامب في السياسات المتعلقة بالتجارة وبالذات فرض الرسوم الجمركية على الصين.

 نافورو أستاذ الاقتصاد في جامعة كالفورنيا في أرفين، لدى نافاورو عدد من المؤلفات حول التجارة وهو أحد أبرز منتقدي سياسات الصين التجارية، أعماله تركز على الاختلالات التجارية وتراجع التصنيع في الاقتصاد الأمريكي.

منهج وسياساته مثيرة للجدل وهي محل نقد من معظم الاقتصاديين. حيث يعتقد الكثيرين ان هذه السياسات ستقود إلى حروب تجارية، بينما يرى مؤيديه أنها ضرورية لحماية المصالح الأمريكية.

نظرا للمخاوف من تراجع سندات الخزانة الأمريكية الأسبوع الماضي (إضافة الى انهيار سوق الأسهم). تراجع الرئيس ترامب – على الأقل في الوقت الحالي عن معظم الرسوم الجمركية الجديدة التي هدد بفرضها على نحو 60 دولة، ولكن، بينما قد تكون الاسواق قد كسبت هذه المعركة فان الحرب التجارية لم تنته بعد.

كان تراجع ترامب ملحوظا، كما يتضح من رد فعل السوق، فبعد ان شهدنا أكبر انخفاض في مؤشر ستاندارد بورز 500 منذ عام 2020، شهدنا بعد ذلك أكبر انتعاش منذ 2008. لكن خلف الكواليس، يشعر العديد من المستثمرين بالقلق من أننا لم نشهد بعد نهاية الانهيار، ولا يزال العديد يتوقعون ركودا اقتصاديا هذا العام، على الرغم من تراجع ترامب.

يعود جزء من سبب التشاؤم المستمر إلى بقاء العديد من التعرفات الجمركية سارية. لا تزال الواردات إلى الولايات المتحدة خاضعة للتعرفة الأساسية البالغة 10٪. حتى أسابيع قليلة مضت، كانت الرسوم الجمركية تعتبر صدمة عميقة لنظام التجارة العالمي. ولا يزال من المتوقع ان يكون لها تأثير كبير على التضخم والطلب الكلي في الولايات المتحد،. بالإضافة إلى عائدات التصدير للعديد من شركاء الولايات المتحدة التجاريين. بينما يامل ترامب في إبرام صفقات مع دول مختلفة، الا انه من غير الواضح ما سيحدث بعد فترة التوقف التي تبلغ 90 يوما للتعرفات الجمركية المتبادلة (باستثناء الصين)، خاصة في حالة عدم وجود اتفاقيات.

لكن الخبر الأبرز هو التصعيد الكبير في الحرب التجارية مع الصين. رفع ترامب الرسوم الجمركية على الواردات الصينية الى نسبة مذهلة بلغت 125٪ بعد أعلنت بكين عن رسوم جمركية متبادلة على الوردات الأمريكية. سيكون تاثير هذه المرسوم كبيرا. فرغم تصاعد التوتر بين البلدين، حافظت التجارة بين الولايات المتحدة والصين على أهميتها، حيث بلغت 585 مليار دولار في العام الماضي وحده.

إجمالا، يعد معدل التعريفات الجمركية الحالي في الولايات المتحدة الأعلى منذ الثلاثينات من القرن الماضي. ستسبب هذه التعريفات فوضى للمصنعين الأمريكيين، الذين يستوردون العديد من مدخلات الإنتاج من الصين. ستؤدي هذه التعريفات الى انخفاض إيرادات الشركات المصدرة الى الصين، وارتفاع لأسعار للمستهلكين في أمريكا. كما سيتأثر الاقتصاد الصيني سلبيا. ستنخفض عائدات التصدير، وسترفع التعريفات الصينية الانتقامية أسعار الواردات من الولايات المتحدة، مما يؤثر على أسعار كل شيء من الهواتف الذكية الى فول الصويا.

يبدوا ان فريق ترامب أدرك هذا هذا متاخرا. فقد أصدرت الإدارة مذكرة خلال عطلة نهاية الأسبوع تعلن فيها ان الهواتف الذكية، أكثر السلع المستوردة من الصين الى أمريكا، ستعفى من الرسوم الجمركية، كما ستعفى واردات مهمة أخرى، من الأجهزة الإلكترونية الى أشباه الموصلات والخلايا الشمسية. (ان مسؤولي ترامب أشاروا الى ان هذه الإعفاءات قد تكون مؤقتة فقط). وستستفيد دول أخرى تعاني من عجز تجاري كبير مع الولايات المتحدة، من فيتنام الى تايلند الى ماليزيا الى تايوان، من الإعفاءات.

هذا تحول هادئ، وان كان صارخا، عن إدارة زعمت الأسبوع الماضي أنها ستعيد تصنيع هواتف آيفون الى الولايات المتحدة. وقد أديرت هذه المسالة بشكل سيء للغاية. كما أشار بول كروغمان في مقال نشر مؤخراً على موقعه. بات من الواضح ان ترامب وفريقه الأساسي يدركون أنهم تجاوزوا الحدود. فحسب جميع الروايات، يهمش الآن مدير الحرب التجارية- بيتر نافارو- مع تغيير الإدارة لتكتيكاتها.

لكن حتى مع تراجع ترامب عن موقفه، لايزال العديد من المستثمرين متشائمين. فرغم تراجع ترامب عن العديد من الرسوم الجمركية التي هدد بفرضها الأسبوع الماضي. الا ان الضرر الذي أحدثته هذه المعركة التجارية الأخيرة لا يمكن إصلاحه بين عشية وضحاها. فقد أدى سلوك ترامب المتقلب الى زيادة حالة عدم اليقين، وتفاقم التشرذم الاقتصادي وانهيار الثقة في نظام التجارة العالمي المدعوم من الولايات المتحدة.

***

علي الرئيسي - باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية 

 

نعيش زَمناً نهمس في دواخلنا: أنحن أبناء القرن الحادي والعشرين، وأدركنا منتجات العقل البشري في اِختراعاته واكتشافاته الهائلة؟ بينما تجدنا ضائعين في الأعجبَ والأغربَ مِن الأوهام! زمن يحلق بنا بأجنحة التَّخلف، حتَّى صرنا كما قال ابن حِلِّزَة اليشكريّ (قبل الإسلام)، في نشوه وصحوه، وهو ما ليس في المعلقة: «إذَا انتشيتُ فَإِنَّنِي/ رَبُّ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ/ وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِي/ رَبُّ الشُّوَيْهَةِ وَالْبَعِيرِ»، ومنها البيت الذَّائع: «وأحبها وتحبني/ ويحب ناقتَها بعيري»(المغربيّ، نشوة الطَّرب).

دعا الاِنتشاء بنزاعات الماضي صاحب عِمامة سوداء، يقف محمساً الأتباع بهتاف «البصرة علويَّة»، وهي مجرد إغفاءة، ما أن يستيقظ منها، الخطيب والجمهور، سيجدون أنفسهم بين ركام مِن المآسي. تجده بالوهم ملكَ الخورنق والسّدير، قصري النّعمان بن المنذر بالحِيرة، وإذا البَصرة التي يخاطبها بمجدٍ علويّ، يطلب صبيانها الماء العذب، وكانت أم الماء، ويستورد أهلها التّمر، وكانت أمَّ النّخيل، لكنَّ «كلّ خَاطِبٍ عَلى لِسَانِهِ تَمْرَةٌ» ما يراه لنيل حاجته (الميدانيّ، مجمع الأمثال).

سَلخ هتاف «البَصْرة علويّة» البَصْرة عن العِراق، عشية مباراة كرة، على أرض البَصرَة، ويصادف تاريخها طعن عليّ بن أبي طالب، ثم وفاته (21 رمضان 40هج)، وموعد المباراة ليس بيد حكومة البَصْرة ولا العراق كافة، إنما توقيت خاص مِن «الاتحاد الدُّولي لكرة القدم» (الفيفا)، وحسب تقدير صاحب الهتاف أنَّ البَصْرة، إذا سمحت بالمباراة، في عشية المناسبة، ستكون «عثمانيَّة»، نسبةً إلى عثمان بن عفان (قُتل: 35هج)، وتعود إلى أجواء معركة «الجمل» (36هج) حيث البْصَرة! فحسب أصحاب المنابر، على العِراق ألا يحسب للعالم حساباً، تُحدد أفراحه وأتراحه بالولادات والوفيات، ونزاعات قبل أربعة عشر قرناً.

لم يكفِ صاحب العِمامة الجدل، الذي ملأ الكُتب في هذه القضية وغيرها مِن السّابقات، تراه أعادنا إلى الجدل بين معتزلة البصرة ومعتزلة بغداد، وعليه صُنف معتزلة البَصْرة عُثمانيَّة سُنيَّة، ومعتزلة بغداد علويّة زيديَّة، ويومها كتب الجاحظ (ت: 255هج) رسالة عُرفت بـ«العثمانيَّة»، رابطاً الأفضلية بين الأربعة الرَّاشدين، حسب القِدم في الخلافة، فردها عليه المعتزليّ البغداديّ أبو جعفر الإسّكافيّ (ت: 240ه) في «نقض رسالة العثمانيّة»، ولأنَّ الجاحظ كان أستاذاً في زَمنه تجاهل الإسكافيّ.

حصل أنّ «دخل أبو عثمان (الجاحظ) صف الوَّراقين (سوق الكُتب) ببغداد، فقال: مَن هذا السّواديّ (الريفيّ) الذي بلغنا أنه يعرض لنقض كُتبنا! والإسكافيّ جالسٌ، فاختفى حتَّى لم يره» (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة). غير أنّ الجاحظَ إذ جعل التَّفضيل حسب تسلسل الخلافة، مقابل الإسكافي وأصحابه، الذي قالوا بالفاضل والمفضول، كان يكن لعليّ كلّ التقدير، وكَتب في خصومه رسالة «النَّابتة» (رسائل الجاحظ)، والتي سميت أيضاً بـ«رسالة بني اُميَّة»، ومع ذلك، صنّفه الفقيه الشّيعيّ أحمد بن موسى بن طاووس (ت: 673هج) في: «المقال الفاطميَّة في نقض رسالة العثمانيَّة» مِن النَواصب، والنَواصب، الذين يسيئون لآل البيت، هم عند فقهاء السّنّة، مثل الغلاة بهم عند فقهاء الشِّيعة، خارج الإسلام.

كيف يُعتبر الجاحظ ناصبيَّاً وهو القائل: «وقال عليّ رحمه الله: قيمة كلِّ امرئ ما يحسن. فلو لم نقف مِن هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة، لوجدناها شافية كافية، ومجزئة مغنية، بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية، وغير مقصرة عن الغاية» (البيان والتبيين).

أقول: ماذا تجني البصرة مِن علويتها أو عثمانيتها، والقوم اختلفوا وتصالحوا، وماذا يجني العِراق مِن خطاب مأزوم، غير جهلٍ تراكميّ، وربّما لا يهم صاحب الهتاف أمر العِراق، وهو مِمَن سمنت نحورهم بخيره، فمِن حقّه إذا تمثل بما تمثل عبيد الله بن الحر (قُتل: 68هج): «لا كوفة أمّي ولا بَصْرة أبي/ ولا أنا يثنيني عن الرِّحلة الكسل» (الطّبريّ، تاريخ الرُّسل والملوك)، فقلبه لا يعتصر على بلد يهدمه الطّائفيون، مِن أمثاله، «حجراً حجراً»، فليس له مصلحة ببَصرة عراقيّة عامرة، لا عثمانيّة ولا علويَّة.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

الدولة - إن صح التعبير - مؤسسة متطورة، وإذا كانت هناك قيم مطلقة عابرة للزمكانية، إلا أن الدولة إجرائيا لها ارتباط وثيق بالظرفية، ولا يمكن بحال استنساخ نماذج إجرائية سالفة في واقع مختلف تماما، كما لا يمكن الوقوف عند حرفية النصوص الإجرائية الماضوية في واقع مختلف، قد تكون الروح مطلقة كالمساواة والعدل والحرية، إلا إن إجراء تحقق ذلك لا ينفصل عن الواقع المعيش، وفي نظري لا توجد ديانة أو فلسفة من حيث الابتداء أرادت أن تختزل الدولة في صورة إجرائية مغلقة، لكنها تناولت الدولة وفق ظرفية واقعها الذي تعيشه، فإذا وجدت نصوص في ذلك فهي لا تخرج عن روح القيم المطلقة، أو الظرفية المقيدة بواقعها، وعليه ربط الدولة كليا بواقع ظرفي مختلف تماما ربط يقود العقل المعاصر إلى الجمود والتخلف، وقد يقوده إلى الصراع والنزاع والاحتراب، كما يجعل العقل يعيش في مخيال وهمي يتمثل في أن استنساخ الدولة في صورتها الإجرائية الماضوية تقوده إلى الرفاهية والكرامة والخلاص من آلام الواقع، وهو نوع من الوهم، والهروب من واقع الحال الذي ينبغي أن يدرس بعقلانية الواقع، لا بأوهام الماضي، والكثير مما يروى عن الماضي يصلنا منه ما هو مختزل عن واقعه، وليست الصورة الحقيقية المرتبطة بإنسان تلك المرحلة وفق تقدمه أو تأخره وفق مقياس واقعه وظرفية زمنه.

ولما نتحدث عن السلفية لا نريد هنا السلفية بالمفهوم المذهبي المغلق المتمثل في بعض الجماعات الدينية المعتدة بأرثوذوكسيتها، أو التي ترى الخلاص في رؤى واجتهادات السلف، وليس المراد أيضا الوقوف عند بعض الجماعات الإصلاحية المعاصرة والتي تبنت السلفية لقبا لها، والمراد من حديثي هنا أنه لا يوجد ديانة أو مذهب أو حركة لا سلف لها، أو لا رؤية سلفية لها، تسمت باسم السلفية، أو حتى كانت رافضة لهذا المصطلح، فالعديد من هذه الحركات لها ارتباط سياسي في النشأة، ولها رؤية سلفية حول الدولة والاجتماع البشري، قد تجمد عليها، وقد تتطور رؤيتها إذا ما حدث انفتاح عند بعض منظريها وأتباعها، بيد أن الخلاص من الرؤية الماضوية لا يمكن أن يتمثل في جميع أفرادها، وقد يتعرض المنظرون الجدد لإقصاء من قبل التقليديين - السلفيين - في كل مذهب، والذين يستخدمون البراجماتية النفعية وفق كيان الدولة القائم، وإن كان واقع خطابهم له رؤية ماضوية خلاصية حول واقع الدولة، لهذا يحاربون المنظرين الجدد باسم الدولة نفسها عندما تكون المصلحة واقعة بين السياسي والديني الأرثوذكسي.

قد يكون من الناحية الشكلانية لا خطورة في علاقة السلفيات الدينية والمذهبية بالدولة في الخطوط الجامية والنفعية البراجماتية، الخطورة لما تتسع دائرتها حيث يتمثل إشكاليتها في رفض الآخر القريب دينيا أو مذهبيا إذا كانت مخالفا لسلفيتها الحرفية، ورفض البعيد خارج التفكير الديني ذاته محاولة لإقصائه وإبعاده، مستخدمة أدوات الدولة ذاتها من حيث المؤسسات، وقد تتسع إلى القضائية والضغط الاجتماعي، ولو كانت الدولة لها صورة ليبرالية أو علمانية من حيث الابتداء، ليخرج مفهوم الآخر المختلف من دائرة المواطنة المرتبطة بالذات الواسعة، إلى المواطنة المرتبطة بمدى النفعية من جهة، وبضيق التصنيفات المذهبية تجاه المختلف من جهة ثانية، وتتسع الخطورة عندما يملأ العقل الجمعي المستقِبل لخطابات سلفية ترى الخلاص في نماذج ماضوية هي بذاتها تصارعت وتحاربت، واختزلت في روايات وقصائد شعرية، يستقبل العقل الجمعي هذه الخطابات بلا إعمال عقلي، ولا نقد معرفي، تجعله يعيش الازدواجية بين مخيال الخطاب وظرفية الواقع، ليسقط ذلك سلبا في تأثره بجماعات متطرفة باسم الدين، أو يكون ناقما لمحيطه الذي يعيش فيه.

لهذا لابد من إعادة قراءة الدولة وفق نظريات الواقع، ولابد من نقد مثل هذه الخطابات غير المنضبطة من تديين الدولة وإخراجها من إطارها الإنساني المتحرك، إلى الأطر اللاهوتية المغلقة من جهة، ومن طبيعتها الحالية الواقعية إلى الخلاصات الماضوية الوهمية من جهة أخرى، ليبنى العقل الجمعي على المواطنة المرتبطة بالذات المتساوية بين الجميع، هذه الذات لا تلغي الخصوصيات الدينية والمذهبية والفكرية والثقافية، ولكنها من حيث الدولة يبقى الجميع ذاتا واحدة لا تمايز بينهم، والكل سواء في العمل والاجتهاد والشراك والإبداع والكفاءة، فإذا لم يحدث مثل هذا النقد، وإذا لم يتم إعادة التعامل مع العقل الجمعي ليكون متعقلا ناقدا محاورا، وليس مستقبلا فقط لخطابات من الخارج باسم المقدس أو غيره، قد ينضبط تفكيره حاليا نتيجة قوة الدولة الوطنية، وليس لسبب ما يتمثله من ثقافة جمعية مؤمنة بإنسانية الدولة وظرفيتها الزمكانية، يظهر ضرر ذلك في الخطابات غير المنضبطة التي قد تتحول إلى فعل حال ضعف الدولة المركزية.

فالجماعات الحركية المتطرفة مثلا لم تكن بعيدة عن هذه الخطابات والسلفيات غير المنضبطة، التي بنيت على كراهية وإقصاء الآخر تحت مفهوم «الولاء والبراء»، أو تحت عمومية الأسلمة بما في ذلك المتحرك في الاجتماع البشري، ومحاولة لاستنساخ تجارب سابقة لها ظرفيتها وفق التديين والخلاص باسم المقدس، ولو كانت مرجعيتها روائية وتطبيقات تراثية لا علاقة لها بالنص الأول من حيث الابتداء، هذه الجماعات تجاوزت حد الخطاب إلى الفعل، بيد أن الخطاب الذي تحمله لا يختلف عن خطاب السلفيات الدينية والمذهبية في عالمنا العربي والإسلامي، فما زالت النظرة الخلاصية للدولة في صورتها الماضوية حاضرة، والعديد من أدبيات هذه الجماعات الحركية المتطرفة لا يختلف تماما عن الذي يطرح في الجامعات والمساجد، وما نراه أيضا في الكتب الدينية التقليدية فيما يتعلق بالحكامة، وتصنيف المختلف الديني والمذهبي، وكلاسيكية الولاء والبراء والتكفير والتفسيق، وإسقاطات ذلك على المعاملات والحدود والقوانين المدنية وما يماثلها.

***

بدر العبري – عُمان

 

في زمنٍ لا يتذكّر إلا ما يمكن أرشفته، يغدو غسان كنفاني احتمالًا معطّلًا في ذاكرة تتذكّر اسمه أكثر مما تقرأه، وتردّد صورته أكثر مما تصغي إلى رجفته الأولى.

لا أحد يعرف يقينًا من أين بدأ الحريق، لكن الدخان الذي لا يزال يعلو من جثّة الفكرة، يشير إلى أن شيئًا ما احترق في مكانٍ ما بين اللغة والرصاصة، بين الكتابة والمقصلة، بين أن يكون المرء “غسانًا” أو يُستدعى بوصفه كذلك.

هشاشة الاسم لا تعني ضعف الرمزية، بل إنها علامتها القصوى: حين يُعاد إنتاج الاسم خارج سياقه، وحين يُنزَع عن صاحبه ليُلبَس لغيره، يصبح الاسم نفسه منفى آخر، مؤجّلٌ، معطّل، ومرهق من كثرة الاستخدام.

غسان لم يكن يكتب عن فلسطين كما تُكتب الخُطب أو البيانات. لم تكن فلسطين عنده ساحة، بل سؤال. لم تكن شعبًا، بل صورة ناقصة عن الإنسان في لحظة انكشاف. في البدء لم تكن هناك خرائط، بل وجع. وجع فادح يشبه ما يسميه فوكو بـ”المعرفة الجريحة”، تلك التي لا تأتي من التنظير بل من الحفرة، من الجسد الملقى خارج كل مؤسسات المعنى. وفي هذا البدء، لا يقف غسان كشاهد، بل كمُتّهم يشهر نصّه في وجه محكمة بلا عدالة. لم يكن منفيًا فحسب، بل صار المنفى نفسه. كائنًا مشطورًا بين طفولة مسروقة وأحلام لاجئة، بين بيت يرفض أن يتذكره، ومخيم لا يتوقف عن التكرار.

أن تكتب عن غسان يعني أن تعترف بأنك تأخّرت. أن كل محاولة للكتابة عنه اليوم، تجيء محمّلة بإرث من التأجيل، ووعي متأخر بجرح لم يُختم. لا أحد يكتب عن غسان، بل يحاول أن يكتب تحت وطأة ما تركه غسان في الكلمات. أن تكتب عنه هو أن تكتب من مكان لا تستحقه تمامًا، أن تدخل مساحة خُلقت لتُقفل بعد رحيله. لكن لا بأس. فالكتابة، كما تعلّمنا منه، ليست امتيازًا ولا شرفًا، بل هي اضطرار أخلاقي، فعل قلق لا يهدأ، ومرآة مشروخة نعيد فيها النظر إلى وجوهنا لا لنُصلحها، بل لنفهم لماذا تكسّرت هكذا.

في عالم ما بعد النكبة، كانت اللغة آخر ما بقي للفلسطيني. كل شيء صادرته السلطة: الأرض، والحدود، والجغرافيا، وحتى الحق في الغضب. وحدها اللغة تسللت من بين البنادق، لتقول ما لا يستطيع الإعلام أن يموّله.

هنا تحديدًا كتب غسان. لا بصفته رجل تنظيم، ولا بصفته مناضلًا مؤطرًا، بل بوصفه شظيّة لغة، مقاومة في بنية الجملة، وتمردًا في صيغة الحكاية. لم يكن الطفل في “عائد إلى حيفا” عائدًا، بل هو قطيعة بين زمنين، لا يعترف أحدهما بالآخر. لم تكن المرأة في “أرض البرتقال الحزين” محض أمٍ، بل كانت مجازًا لخراب أنثوي نازف في ذاكرة لم تعد تخص أحدًا.

لقد أدرك غسان مبكرًا أن الكارثة لم تكن في ما فعله العدو فقط، بل في ما فعله أبناء البيت حين صدّقوا خطاب المالك. حين صارت القضية إدارة، وصار الحلم ورقة، وصارت اللغة نشرة حزبية. قالها ذات مرة: “الخيانة ليست دائمًا خيانة القضية، أحيانًا هي خيانة الفكرة داخل القضية.” وهذا، في جوهره، أخطر ما فعله. لم يكن عدوًا واضحًا لأحد، لكنه كان خطرًا على الجميع. لأنه لم يهادن، ولم ينتظر التوقيت المناسب. كتب قبل أن تُراجع الفكرة، وتكلم قبل أن يُسمَح له بالكلام. ولهذا ظلّت الجبهة تنظر إليه ككائن يجب احتواؤه، أو التخلص منه.

غسان لا يُستعاد. من يستعيده يزوّره. لا يُحتفَى به، بل يُقرأ بحذر. لأن نصه لا يُطرب، بل يُفزع. لا يُطمئن، بل يهز. لا يعرض حلاً، بل يفضح من ينتج الحلول الجاهزة. من يحاول تحويل غسان إلى جدارية، يشارك في اغتياله مرة أخرى. ومن يكرّمه بصيغة المؤسّسة، يجهّز له تابوتًا لغويًا لا يليق به.

المنفى، كما كان يراه، ليس غياب الوطن، بل حضور زائد للسلطة. هو اللحظة التي تنسى فيها صوتك، وتبدأ في تكرار جمل الآخرين. هو أن تحضر في المكان، لكنك مغيّب عن الزمن. أن تكون في الجغرافيا، لكن بلا تاريخ خاص بك. وأن تحيا كما يقول أغامبين بـ”الحياة العارية”، تلك التي لا تملك فيها حق أن تكون أكثر من مجرد أداة في يد المراقب.

في عالم عربي يصر على التواطؤ مع النسيان، يصبح استدعاء غسان فعل مقاومة. لا لأننا نحتاج إلى رمز، بل لأننا نحتاج إلى لحظة صدق. والصدق ليس في إعادة تدوير مقولاته، بل في خيانة الموروث البليد، في مساءلة اللغة التي أصبحت صنمًا، وفي تمزيق الصورة التي صارت شعارًا بلا روح. أن نقرأ غسان اليوم يعني أن نقرأ أنفسنا في مراياه المهشّمة، أن نعيد طرح الأسئلة التي سُكِت عنها طويلاً: من سرق الوطن؟ من استبدل الثورة باللجنة؟ من تواطأ على اللغة؟ ومن رضي بالانتظار؟

غسان، في النهاية، لم يمت لأنه كتب عن فلسطين. مات لأنه كتبها بطريقة لا تصلح للبيع. لأنه لم يقدّمها كبطاقة، بل كسؤال.

لم يروّج لها كماركة، بل كشظية. لأنه لم يمنح السلطة مخرجًا، ولم يعطِ الاحتلال فرصة للرد.

مات لأنه لم يكن صالحًا لأن يكون جزءًا من العرض.

ولأننا لم نغادر المنفى، فإن غسان لم يغادرنا. لا بوصفه نبيًا، بل كجرحٍ مفتوح في خاصرة اللغة. هشاشة اسمه لا تعني نسيانه، بل تعني أنه لا يزال يوجع. وأن من يحملون اسمه اليوم لا يفهمونه، بل يعيدون قتله كل يوم. وفي هذا، ليس المنفى ما نتعرّى منه، بل ما نكتشف أننا نرتديه كلما ظننا أننا عدنا.

***

إبراهيم برسي - السودان

 

النسق الثقافي الذي يرفض الاختلاف ويتجاهل قيمة التعددية محكوم عليه بالموت، فالحياة الثقافية تُبنى على التنوع والتفاعل بين المختلفين. الهوية ليست كيانًا مغلقًا، بل هي عملية ديناميكية تتشكل من خلال الحوار والتبادل مع الآخر. عندما ترفض ثقافة ما الاختلاف، فإنها تفقد قدرتها على التكيف مع التغيرات وتصبح عاجزة عن مواكبة تطورات العصر، مما يقودها في النهاية إلى الانعزال والموت الثقافي. ويؤكد عالم الأنثروبولوجيا "كليفورد غيرتز" أن "الثقافة هي شبكة من المعاني التي ينسجها البشر من خلال تفاعلهم مع بعضهم البعض." وبالتالي، فإن أي محاولة لإغلاق هذه الشبكة أو رفض التعددية تؤدي إلى تصلب الثقافة وفقدانها لمرونتها، مما يجعلها غير قادرة على التكيف مع التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. من جهة أخرى، يرى المفكر "إدوارد سعيد" في كتابه "الثقافة والإمبريالية" أن "الهوية الثقافية لا يمكن أن تكون معزولة أو منفصلة عن العالم، بل هي دائمًا في حالة حوار وتفاعل مع الآخر." وهذا الحوار هو الذي يضمن استمرارية الثقافة وتطورها، بينما يؤدي الانغلاق والأحادية إلى جمودها وانحسارها. وفي السياق العربي، يقول المفكر "عبد الله العروي": "التعددية هي شرط أساسي لتقدم المجتمعات، فبدونها تصبح الثقافة مجرد صدى للماضي، عاجزة عن مواجهة تحديات الحاضر." وهذا يؤكد أن رفض التعددية ليس فقط تهديدًا للثقافة، بل أيضًا لعملية التقدم الاجتماعي والفكري.

مثال: خلال القرن العشرين، شهدت العديد من الأنظمة السياسية التي تبنت أفكارًا عنصرية أو شمولية محاولة فرض ثقافة أحادية على مجتمعاتها، مثل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا أو المانيا النازيه أو البهلوية في إيران. هذه الأنظمة رفضت الاعتراف بالتنوع الثقافي والإثني، مما أدى إلى تفككها وانتهائها بسبب مقاومة الشعوب ورفضها لهذه السياسات. في المقابل، نجد أن المجتمعات التي تبنت التعددية الثقافية، مثل كندا، نجحت في بناء هوية وطنية قائمة على احترام الاختلاف، مما جعلها أكثر استقرارًا وتقدمًا.

الأهوازيون، وهم سكان العرب في الأهواز (المعروف أيضًا باسم خوزستان في إيران)، يتمتعون بتاريخ طويل من الانفتاح الثقافي والتعددية، وذلك بسبب موقعهم الجغرافي الاستراتيجي الذي جعلهم على تماس مع حضارات وثقافات وديانات مختلفة عبر التاريخ. هذا الموقع جعل الأهواز نقطة تقاطع بين الثقافات العربية والفارسية والتركية وحتى الأوروبية (بريطانيا وفرنسة والبرتقال)، مما ساهم في تشكيل هوية ثقافية غنية ومتنوعة وبعيدة عن الأحادية. من أسباب هذا الانفتاح يمكننا أن نشير إلى الموقع الجغرافي المحادي للخليج حيث جعلها على اتصال دائم مع ثقافات وشعوب متعددة، أيضاً التاريخ الحضاري حيث شاهد الأهوازيون ظهور حضارات عدة عندهم وعند جيرانهم، كالحضارة العيلامية والسومرية والبابلية والعربية والفارسية.

 على الرغم من انفتاح الأهوازيين وتقبلهم للثقافات الأخرى على مدى التاريخ، إلا أنهم واجهوا صعوبات في أن تتقبلهم الثقافات الأخرى كشعب أهوازي له تاريخه وثقافته، خاصة في السياق الإيراني الحديث. هذه الصعوبات يمكن تفسيرها بعدة عوامل: أولا: السياسات الاحادية الإيرانية التي تنبع من فكرة الدولة الأمة والتي يصر عليها بعض السياسيين، ثانيا: الإعلام المضلل والصورة النمطية للأهوازيين الذي يحاول أن يظهرهم على أنهم مجرد قبائل مشتتة تسكن هنا وهناك بأعداد قليلة. ثالثاً: حالات عدم الاعتراف بالحقوق اللغوية والثقافية المنصوصة في الدستور الإيراني تجاه كل القوميات المتواجدة في إيران (بناء على إحصائية اليونسكو هناك أكثر من ٧٤ لغة وثقافة في إيران) ورابعا: عدم وجود نخبة حقيقية تطالب بالحقوق الأساسية والدستورية.

إذن هذا الأمر يسلط الضوء على أهمية تعزيز الحوار الثقافي والاعتراف بالتنوع اللغوي والثقافي كأساس لبناء مجتمعات أكثر انسجامًا وتفاهمًا في عصر أصبحت التعددية وقبول الآخر والاعتراف بحقوقه أمر بداهي.

***

د. سعيد بوسامر

أبريل ٢٠٢٥

بهدف التحقق ابتدءا من تعيين موضع مدينة بغداد عند انشائها وهو جزء من موقعها؛ نحتاج إلى الدقه في ذلك من الذين وصفوها جغرافيا من القدماء أمثال الخطيب البغدادي وياقوت الحموي وان لم يعاصروها، وما تيسر لاحقا من الكشوف الاثارية، وباعتماد تكنولوجيا المعلوماتية المتاحة الان وفقا لنظم المعلومات الجغرافية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي المناسبة للتحليلات الجيومكانية للمرئيات الفضائية والصور الرادارية والليزرية والجوية لمتابعة التغيرات المكانية على المدى الزمني. ومدينة (بغداد المدوّرة، أو المنصور، أو العبَّاسية، أو مدينة السَّلام كما عُرفت به رسميًا) أسسها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام 145هـ / 762م، وشيدت على الضفة الغربية لنهر دجلة عند بقايا قرية بغداد القديمة. واستهدف المنصور جعلها مقرا رسميا عاصميا للخلافة العربية الإسلامية العبَّاسية.

الموقع الجغرافي لمدينة بغداد المدوّرة وفق الوصف الأول الذي ورد بالنصوص التي دونها القدماء؛ وقوعها على ضفاف نهر دجلة الغربية، ما بين مجرى النهر الذي غير مجراه مرارا بسبب الفيضانات المدمره، وبين مجرى نهر الصراة الذي يتفرع من نهر الفرات، ومساره اصبح يحاذي جنوبي غربي إحدى بوابات المدينة بعد تشييدها، ومنه (أُنشئ نهر كرخايا لتغذية الاجزاء الغربية للمدينة، والذي شُقّت منه أيضا؛ قناة بطول أحد عشر كيلومترا تقريبا للخندق الذي أُحيط بالمدينة)، ومن بقايا نهر الصراة الحديث مسار نهر الخر الذي يمر حاليا في منطقة المنصور/ حي دراغ غربي بغداد.(1)

التخطيط العمراني وتوىسع المدينة

الأبعاد الهندسية التقريبًة لمدينة بغداد المدورة لكل من؛ مساحتها الكلية داخل سورها سبعة كيلومترات مربعة، وبقطر كيلومترين ونصف، ومحيط سورها الدائري تسعة كيلومترات ونصف، وتحيط بمركز المدينة أسوار دائرية قوية مكونة من ثلاثة أسوار متداخلة فيها أربعة أبواب (خراسان، الشام، الكوفة، البصرة) ولكل باب برج مراقبة، اما الشوارع الرئيسية فتمتد من هذه الأبواب إلى مركز المدينة، وخلف الاسور احيطت المدينة بخندق عميق لتعزيز دفاعاتها وشُقّت له قناة من نهر كرخايا ليجري فيه الماء ليشكل أحدى التحصينات العسكرية للمدينة، ويتوسط مركز المدينة المسجد الجامع/ المنصور يجاوره قصر باب الذهب عند تقاطع قُطرَيها المتعامِدَين، ومكتبة دار الحكمة، وتميزت المساجد والقصور والقباب بالزخرفة  بأشكال هندسية أو نباتية. تميز مخطط مدينة بغداد المدورة بأسوارها الدائرية ومركزها المتوسط بأتخاذها شكلًا هندسيًّا منتظمًا دائريًّا كامل الاستدارة، وعليه عدت ظاهرة الجديدة في الفن المعماري الإسلامي، ومثلت قمة الإبداع الهندسي والتخطيط الحضري مما جعلها نموذجًا فريدًا في تاريخ المدن. وقد عانت المدينة لموقعها على ضفاف نهر دجلة من مشكلات الفيضانات المتكررة نتيجة لنظامً النهر الجيومورفولوجيً المعقدً والمتغيرً بالتعرية بنحت الضفاف والترسيب المتراكم مما افضى الى تغير مسار مجرى النهر باستمرار عبر الزمن، وشهدت المدينة اربعة عشر فيضانا عارما بين عام 186هـ/ 802م أي بعد حوالي 40 سنة من تأسيسها، وعام 654هـ/ 1256م، وقد أثر ذلك بشكل كبير على المدينة وسكانها عبر تاريخها.

بعد بناء بغداد المدورة وتزايد السكان فيها وتجنبا للاكتظاظ السكاني سمح الخليفة الثالث محمد المهدي في عام160هـ / 776م، بالبناء في الضفة الشرقية المقابلة للمدينة المدورة واسماها الرصافة (الجانب)، ثم شيد جسرا بينهما كمدينة واحدة. وفي عام 279هـ / 892م فضل الخليفة أحمد المعتمد نقل دار الخلافة الى الرصافة، وتبعه في ذلك كافة الخلفاء من بعده حتى سقوط الخلافة العباسية، واتخذو من قصر المأمون وهو قصر قديم دارا للخلافة؛ لأقامة الخليفة ومقرا لدواوين الدولة، ثم قام الخليفة المعتضد بضمه لقصر الفردوس الذي بناه، وجعل منهما (قصر التاج), "وطبقا لخرائط جونز/ 1852م واطلس بغداد/ 1952م وكوكل/ 2022م"  كانت قصور الخلفاء العباسيين الرئيسة في الرصافة مجاورة لكل من؛ مقبرة (باب أبرز للخلفاء العباسيين خارج قصورهم)، وموضعها محلة البارودية في منطقة الميدان، ومحلة (المخرم وفيها مبنى طاق قصر الخليفة العباسي المأمون القديم)، وموضعها القلعة/ وزارة الدفاع في باب المعظم، و(جامع القصر)، وموضعه جامع الاحمدي في الميدان، و( قصر ام حبيب ابنة هارون الرشيد)، وموضعه قصر الحرم شرقي القصر العباسي في الميدان. وشيد الخليفة المستظهر بالله سور بغداد/ الرصافة عام 488هـ / 1095م، بخمسة ابواب ابرزها باب المعظم والذي دخل منه تخريبا وتدميرا المغول بقيادة هولاكو عام 656هـ / 1258م )). (2)

الكشف الآثاري والتحليل الجيومكاني

بداء الكشف المكاني لموضع مدينة بغداد المدوَّرة عام 1420هـ/ 2000م مع الشروع في مدينة بغداد الحالية بتكسية شواطئ ضفاف دجلة بالحجر، وقبل التكسية عثرت لجنة مرافقة من مؤسسة الاثار العراقية على؛ لَقًى أثرية (قوارير، كِسَر فخارية مزخرفة/ نباتية وهندسية، مسكوكات، وقطعة فخار دائرية فيها أختامُ الخليفة المنصور)، كما عُثر على جدار أثري مغمور بالماء بعمق ستة أمتار، وتكشفت الأسس الضخمة لبقايا قاعة كبيرة، من المحتمل ان تكون قصر المنصور الذي عُرف بقصر باب الذهب. وهكذا فأن الكشوف الآثارية هذه تتوافق مع ما ورد في كتابات المؤرخين القدماء. (3)

تأكيدا لما تقدم نحاول الان؛ استخدام معطيات كل من؛ الخرائط الكارتوغرفية وخرائط الكوكل ايرث والتحليلات الجيومكانية للمرئيات الفضائية، والتي أظهرت أن (ضفة نهر دجلة الغربية) التي جرى فيها الكشف الآثاري المذكور (حاليا مقابل كورنيش الأعظمية)؛ خارجة عن مسار النهر بفعل النحت/ الجرف المستمر لها، وعميقة الشاطيء، خلافا للضفاف المجاورة في شماليها وجنوبيها الحاوية على الرواسب المتراكة؛ وذلك ما يدل على تعرية مياه النهر بنحت هذه الضفة باستمرار عبر الزمن وأدى الى جرف الضفة، وبالتالي جرف نصف المدينة المدورة تدريجيًّا نحو قاع نهر دجلة.

التحليل الطيفي بالألوان المتعددة للمرئية الفضائية لضفة النهر هذه وجوارها؛ اتاح رؤية "هالة دائرية" نصفها تحت سطح مياه نهر دجلة والنصف الاخر تحت سطح ترب الضفاف، وموقعها الفلكي حول تقاطع خط طول 44.3141 شرقا، ودائرة عرض 33.3611 شمالا. ان هذة الهالة تشيرنا الى اطلال السور او اطلال الخندق الدائري الذي كان يحيط بالمدينة بطول تسعة كيلومترات ونصف.

هـكذا يمكن التقرير بان؛  بغداد الحالية بتوسعها المساحي المتواصل هي استمرار للعاصمة العربية الأسلامية العباسية "مدينة بغداد المدوره" ، والتي تقع جغرافيا عند الضفاف الغربية لنهر دجلة، وعبر عشرات السنين ساد الرأي والرأي الاخر لدى الباحثين بصدد الموضع المكاني للمدينة ضمن موقعها، والمؤكد؛ تشييد مدينة بغداد المدوره على ضفة النهر وليس حافته، وأن المساحة الكلية للمدينة المبنية وسورها وخندقها وجوارها من الترع والمزارع والتجمعيات الريفية شغلت مساحة واسعة من الأراضي، وقد توصل التحليل السابق إلى تعرض أجزاء كبيرة من مركز المدينة للغرق، وعليه فأن موضعها المكاني الأن هو؛ "ضمن الأضلاع الوهمية للمثلث المساحي الذي يبداء من مركز المدينة المدوره على ضفة نهر دجلة الغربية (شمالي مقتربات جسر الاعظمية حاليا)، وباتجاه شمالي غربي نحو ساحة عدن/ الكاظمية، وباتجاه جنوبي غربي نحو مسار شارع مطار المثنى". ولا نعلم حاليا حدود أبعاد الاتجاه غربي مركز المدينة المدوره.

***

مجيد ملوك السامرائي – كاتب اكاديمي

........................

المـراجـــع

(1) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج1، مكتبة نور،

https://www.noor-book.com

(2) مجيد ملوك السامرائي، باب المعظم وبغداد، مجلة الكاردينيا،2022،

https://algardenia.com

(3) عماد عبدالسلام رؤوف، أكتشاف مركز المدينة المدوَّرة، شبكة الألوكة، 1439هـ/ 2017م،

https://www.alukah.net/cultura

 

أُغلق فندق هيلتون لندن المتروبول (أجوور روود) لاجتماع المعارضة العراقيَّة، لثلاثة أيام من (12 إلى 14 ديسمبر 2002)، حضر المئات، مِن سياسيين، ومَن دخل السّياسة لحظتها، مع المنسق الأفغانيّ الأميركيّ زلماي خليل زادة، أول سفير أميركيّ ببغداد، بعد الغزو، ومتظاهرون خارج الفندق حملوا لافتات الاعتراض، تلاشت هتافاتهم بعد المؤتمر.

كانت الكلمات تلقى، ولا نسمع منها غير العِراق الجديد، والنّظام الدّيمقراطيَّ، ومثالب النّظام المُحتضر. كنا نمزح مع الأصدقاء الكُرد، أنَّ ننتخب، مِن الآن، مسعود البارزاني رئيساً، وبهذا تُحل القضية الكرديَّة، فانبرى أحدهم قائلاً: لا، فأيام وتنقلبون عليه. كنا نمزح على هامش الاجتماعات، بينما تَمرُّ بنا مواكب المختلفين والمؤتلفين مِن عمائم وأفندية، وكاكه مسعود أحدهم، وكان زلماي يطوف، بصحبة أحمد الجلبي (ت: 2015)، على غرفهم، لإصلاح ما بين الفرقاء، فاستعدادات الغزو قد تمت، لحمل المؤتمرين إلى بغداد.

لم يُطرح مشروعٌ مفصل للعمران، غير إسقاط النّظام ومحاكمة أركانه، وكأنها تهيئة للانتقام، فكانت ساحة الطّرف الأغر بلندن تضم تظاهرة أسبوعيّة لهذا المطلب، اخترقها النّظام ببغداد، فشخصيات داخل المعارضة، مِن النّاشطين، غابوا في اليوم الأول بعد السُّقوط، وبعد فرهود وثائق المخابرات، ظهرت قصصهم، ومنهم مَن افتضح قبل ذلك، بعضهم اِتخذ التَّعامل مع النّظام سراً، بسبب اليأس مِن تغييره، لضمان راتبٍ جارٍ، فلا هو يدري ولا المعارضة تدري أنَّ دور بغداد سيأتي بعد كابول.

لكنَّ معارضة الأمس، وسُلطة اليوم، تناسوا الفضل الأميركيّ، فما أنْ فُتحت بوابات بغداد، أدعوا أنّهم فاتحوها، وساعات ويُبث نبأ قتل ابن المرجعية عبد المجيد الخوئيّ بالنّجف، بسكاكين عمائم الميدان الصَّاعدة، وكانت فاتحة المقاتل.

أفرحتنا صبيحة الأربعاء (9/4/ 2003)، وأوحشتنا، فأمام الكاميرات لم يسقط النّظام كالمعتاد، ببيانات وأناشيد، وتلاوة: «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ»، فلهذه الآية صلة بأسماع العراقيّين، في الانقلابات، الصَّحيحة والمفبركة. ذاب صبيحة الأربعاء النّظام الصّلب كفص ملحٍ، طُبعت صور أركانه على كارتات لعبة «الورق»، وزعها الأميركان، بما يوحي أنَّ اللَّعبةَ قد بدأت.

مَن ولد صبيحة الأربعاء، بلغ اليوم الثّانية والعشرين، سمع بجبروت السّابقين وعاش نظام (الفوضى الخلاقة)، بالقتل والنّهب. بعد هذه السّنوات لم تبق كلمة مِن خطابات الهيلتون، فقد بدأ توزيع الغنائم، واستبدلت الطَّوائف بالوطن، وشُرع الانتماء إلى الخارج، فانقلبت الخيانة فضيلة والوطنيّة رذيلة. أخذ حزب «البعث» السُّلطة الأربعاء (17 يوليو 1968)، ولم يعلن عن هويته لأيام، حتَّى بانت مِن تنصيب أحمد حسن البكر رئيساً (1968-1979)، فُسر ذلك تحسباً مِن ذاكرة العراقيين عن اِنقلاب (8/2/1963)، وكانت إحدى أقسى المحطات في تاريخ العراق، لكنّ العجب ليس في عودة «البعث»، إنما لسقوطه في الأربعاء نفسه، فبعد اِقتحام الدَّبابتين الأميركيتين لساحة الفردوس ببغداد، هوى التّمثال، وانتهى كلّ شيء. فلم تلتقط كاميرات الشَّاشات صورة لأحد أركانه، وبلمحة البصر، اختفت الجداريات والتَّماثيل، ودبت أفواج النَّاهبين لآثار الأولين مِن المتحف، فتداول جنود أميركان حكاية «علي بابا والحرامي»، وهي تعرض أمامهم حيّةً، فسنوات الحصار أفقدت ضحاياها التّوازن الأخلاقي، ولم تنفع الحملة «الإيمانيّة الكبرى» بترقيع الفتوق. كانت الصّورة أمامنا، في أروقة الهيلتون، مفعمة بالآمال، ولم نحسب للمآلات حساباً، بسماع خطابات العمائم والأفندية، الذين كادوا يتلاشون ببلدان الاغتراب، بين التجارات الزَّهيدة والمهن الرخيصة، وإذا بالغزو يمنحهم الجاه والمال، وتسري الحياة في عروقهم. كان نهب العقارات، وتشكيل الفصائل المسلحة، أول الإنجازات، والإصرار على هدم الدّولة، فلكلِّ فصيل دولته. هذا، وشتان بين آمالنا ومآلاتنا.

لم نسمع ما قاله مسكين الدَّارميّ (ت: 89هج) في معادن الرّجال: «ولا تحمد المرءَ قبل البلاء/ ولا يسبق السّيل منك المطرْ/ وإني لأعرف سيما الرِّجال/ كما يعرف القائفون الأثرْ» (التوحيديّ، الصّداقة والصَّديق)، والدَّارميّ شاعر عراقيّ، صاحب البيت الذّائع: «قُل للمليحةِ في الخِمارِ الأسودِ / ماذا أردْتِ بناسكٍ مُتعبّدِ».

***

*كاتب عراقي

 

العولمة كانت حلمًا أمريكيا خالصا. ولد من رحم انتصارات الحرب العالمية الثانية، عندما اجتمع المنتصرون في "بريتون وودز" ليقسموا العالم إلى مربعات اقتصادية، ويختاروا الدولار لغة وحيدة للتبادل. كانت الفكرة بسيطة كخدعة ساحر: اجعل الجميع يؤمنون أن السوق الحر هو طريق الخلاص، ثم امسك أنت بزمام البنوك والجيوش. العولمة لم تكن نظامًا طبيعيًّا، بل قصة روتها أمريكا لذاتها أولًا، ثم صدقها العالم حين رأى في الدولار مرآة تعكس قوة لا تهزم. لكن المرايا لا تكذب إلا حين تكون الأشباح خلفها حية.

الليبرالية الجديدة، ذلك التنين الذي روضته أمريكا، لم يكن سوى وحشٍ من ورق. لقد أقنعونا أن يد السوق الخفية ستوزع العدل، وأن حرية رأس المال ستجعل الفقير يرقص مع الغني على إيقاع واحد. لكن اليد الخفية كانت دائمًا ترتدي قفازًا عسكريًّا. حين انهارت الاتفاقيات، أو رفضت دولة لعبة الدولار، كانت حاملات الطائرات تذكر الجميع بمن يملك حق الفيتو على القوانين والأخلاق.

إذن العولمة الأمريكية لم تكن نظامًا اقتصاديًا، بل آلة لترجمة القوة إلى هيمنة. الدولار لم يكن عملة، بل سيفًا مسلطًا على رقاب الدول. حين أرادت إيران أن تبيع نفطًا باليورو، تحولت حساباتها إلى أشباح في النظام المصرفي العالمي.

شروخ في المرآة

لم تسقط العولمة لأن أحدًا كسر القواعد، بل لأن أمريكا نفسها بدأت ترتعش بيدها. حين أدار ترامب ظهره لاتفاقيات المناخ ورفع شعار "أمريكا أولًا"، وفرض جمارك علي واردات نحو 184 دولة حول العالم، لم ترامب يكن يخون المبدأ، بل يكشفه: العولمة مجرد غطاء لمصالح القوي. الصين، التلميذة التي تجاوزت المعلم، لم تعد تخشى السيف القديم. أقامت طرقًا حريرية تتفادى الدولار، ونسجت شبكات تجارية مع من كانوا بالأمس عملاء لواشنطن.

أوروبا، التي ظلت لعقودٍ جالسة في الظل، بدأت تلملم كرامتها. اتفاقيات التجارة مع آسيا، والحديث عن جيشٍ أوروبي موحد، كلها إشارات إلى أن التبعية لم تعد خيارًا. حتى أمريكا اللاتينية، التي ظنتها واشنطن حديقتها الخلفية، ترفع الآن رايات التحرر من "العقيدة الشمالية"، وتتطلع إلى بكين وموسكو.

الأكاذيب:

أول أكذوبة هي أن "العولمة تعني الازدهار للجميع". الحقيقة أن الازدهار كان يوزع كالجوائز في حفلةٍ خاصة. الشركات العابرة للقارات نقلت المصانع إلى حيث الأجور أرخص، وحولت العمال إلى أرقام في جداول أرباحها. أوهايو التي كانت تغني بصناعة الصلب، صارت ترثي أبنائها الذين تسمموا بأحلام الوظائف العائدة.

ثاني أكذوبة: "العولمة تنشر الديمقراطية". الحقيقة أن الديمقراطية صارت سلعة تصدر مع الأسلحة. حين فتحت واشنطن أسواق الشرق الأوسط بالدبابات، لم تكن تزرع حرية، بل تخلق فوضى تسمح لشركاتها بسرقة النفط تحت شعار "إعادة الإعمار".

صحوة الجنون الأمريكي

أمريكا التي صنعت النظام بدأت تهدمه بشراهة لا تعرف الخجل. الحروب التجارية مع الصين، والتهديدات لأوروبا، والعقوبات التي تشل حركة الحلفاء، كلها أفعال تشبه انتحارًا بطيئًا. لم تعد واشنطن قادرة على لعب دور الشرطي واللص في آن واحد.

الجنون الأمريكي ليس في رفض العولمة، بل في اعتقادها أنها تستطيع العيش خارج التاريخ. الصين تبتكر، روسيا تعيد تشكيل تحالفاتها، والجنوب العالمي يكتشف أن اللعبة يمكن أن تلعب بأكثر من مائدة.

ما بعد السقوط

العولمة الأمريكية تحتضر، لكن العالم لا ينتظر الجنازة. الفوضى التي نراها ليست نهاية، هي مخاض ولادة نظام جديد. العملات الرقمية تتحدى الدولار، التكتلات الإقليمية تعيد رسم الخرائط، والتكنولوجيا تمنح الصغير سلاحًا لمحاربة الكبير.

السؤال الآن: هل سنرى عالمًا تتعدد فيه المراكز، أم ستنزلق البشرية إلى حروبٍ باردة جديدة؟ التاريخ لا يكرر نفسه، لكنه يعلمنا أن القوة لا تموت، بل تتنكر في أزياء مختلفة. أمريكا قد تفقد تاجها، لكن المعركة القادمة هي بين من يريدون إمبراطوريات مغلقة، ومن يحلمون بعالم لا يملك فيه أحد حق فرض القواعد.

العولمة كانت مرآة أمريكا. الآن، وبعد أن سقطت المرآة، نرى وجوهًا كثيرة تبحث عن هوية جديدة في شظايا الزجاج.

العولمة ليست شيئًا، بل قصة. والقصة الأمريكية بدأت تنفد من الحبر. ما فعله ترامب وماسك ليس خيانة للفكرة، بل كشفًا لجوهرها: أنها كانت دائمًا أداة للهيمنة، وليست عقيدة مقدسة. هنا تكمن المفارقة: النخبة التي صنعت الوهم صارت أول ضحاياه. حين تخلت وول ستريت عن "اليد الخفية" لتنقذ نفسها خلال أزمة 2008، كانت تقطع الغصن الذي تجلس عليه.

مقارنة واحدة تكفي: في 1944، اجتمع رجال "بريتون وودز" ليكتبوا دستور العالم الجديد. في 2024، يجتمع قادة مجموعة "بريكس" في كازان الروسية ليعلنوا موت ذلك الدستور. الفرق ليس في القوة، بل في السردية. أمريكا التي روت للعالم حكاية "القرية الكونية" تكتشف أن القرويين قرروا بناء قرى متوازية.

التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يغمز. روما التي نشرت القانون ثم انهارت تحت ثقل فسادها، بريطانيا التي غربت عنها الشمس حين رفعت شعار "بريطانيا أولًا" في حقبة الاستعمار الجديد، والآن أمريكا التي تبيع أسهمها في مشروعها العالمي. الفارق الوحيد: الإمبراطوريات القديمة كانت تسقط بفعل الغزاة، أما أمريكا فتنهار بيد أبنائها.

ترامب ليس برتوس يطعن قيصر، إنه قيصر الذي يطعن نفسه. حين قال: "أمريكا لم تعد ترضى بأن تكون ممثل العالم"، كان يجهل أن البطولة كانت السبيل الوحيد لبقائها. الصين، بتلمذتها الذكية، تعلمت درسًا من التاريخ: الإمبراطورية تدوم حين تكون قواعد اللعبة ملكًا للجميع، لكن الفائز دائمًا هو من يكتب القواعد.

صخرة التناقض..

الهند.. تحولت من مستعمرة رقمية إلى إمبراطورية بيانات: كانت الشركات الأمريكية ترى في الهند سوقًا لبيع الهواتف الذكية، لكن "الرقمنة الهندية" قلبت المعادلة. نظام "اليوبي آي" للمدفوعات الإلكترونية حول المليارات من الفقراء إلى لاعبين في الاقتصاد الرقمي، دون المرور عبر فيزا أو سويفت. الهند لم ترفض العولمة، بل اخترقتها بأدواتها.

أفريقيا: حين يتحول المستعمَر إلى شريك: الصين لا تقدم خطابات عن الديمقراطية في أفريقيا، بل تبني موانئ وسكك حديد. النتيجة؟ 43 دولة أفريقية وقعت على مبادرة الحزام والطريق، ليس حبًا في بكين، بل لأن واشنطن ظلت لعقود تتعامل مع القارة كمتسولةٍ تنتظر الصدقات.

أوروبا الشرقية: سور من الخرسانة واليورو: بولندا التي قاومت الشيوعية بمساعدة أمريكا، ترفض اليوم استقبال اللاجئين من الشرق الأوسط بدعم من الخطاب الشعبوي. هنا يظهر تناقض العولمة الأمريكية: شعارات "حقوق الإنسان" تتحطم أمام أول اختبار لمصالح الدول.

من نيتشه إلى زوكربيرج..

"كل ما هو عظيم ينهار من الداخل" – هذه العبارة التي تنسب إلى نيتشه تصف أمريكا بدقة. حين حول المشرعون في واشنطن الكونجرس إلى سوق لصفقات السلاح والنفط، كانوا يحفرون قبر الهيمنة الأخلاقية.

"لا يمكنك أن تكون سوبرمان وضحية في الوقت نفسه" – مقولة الكاتب الهندي أروهنداتي روي تشرح تناقض الخطاب الأمريكي: التمسك بلقب "الشرطي العالمي" مع تصوير النفس كضحيةٍ للصين والهجرة.

"البيانات هي النفط الجديد" – مقولة ماثيو هوبرت لم تكن بريئة. حين قالها مدير "إيكسون موبيل" السابق، كان يعترف بأن عصر الهيمنة بالدبابات انتهى، وأن المعركة القادمة ستكون على خوارزميات الذكاء الاصطناعي.

لقد كانت العولمة أشبه بتمثال ضخم من الثلج. نحتته أمريكا بيدين خبيرتين، لكنها نسيت أن الثلج يذوب تحت شمس مصالحها القصيرة. حين أسمع سياسيًا أوروبيًا يتحدث عن "الاستقلال الاستراتيجي"، أو شابًا مصريًا يبيع منتجات على "علي بابا" دون دولار، أعلم أن العالم يعيد تشكيل نفسه خارج الصندوق الأمريكي.

التكنولوجيا علمتنا درسًا قاسيًا أن الهيمنة لم تعد تحتاج إلى أساطيل، بل إلى رموز برمجية. الصين التي تفوقت في صناعة الرقائق الإلكترونية، والهند التي تصدر المبرمجين، كلها علامات على أن القوة صارت سائلة، تتدفق عبر الكابلات الضوئية لا عبر سفن الأسطول السادس.

صعود التنين

العالم يقف على مفترق طرق تاريخي: فوهة بركان تنفث فرصًا لم تكن متاحة منذ قرون، وفي نفس الوقت تهديداتٍ كامنة قد تعيدنا إلى عصور الظلام. الصين ترفع مشعل "العولمة البديلة" عبر طرقها الحريرية الرقمية، بينما أمريكا تطلق رصاصاتها الأخيرة في حروب تجارية وثقافية قد تحرق الأخضر واليابس.

لكن الخطر الحقيقي ليس في القوة الصينية، بل في الفراغ الذي ستتركه أمريكا. حين ينهار "الشرطي العالمي"، تظهر عصابات إقليمية (إيران، تركيا،،...) كل يحمل سلاحه ويرسم حدوده بالدم.

هل نستحق فرصةً ثانية؟

العالم اليوم، أمام اختبار وجودي: إما أن يتعلم من أخطاء العولمة الأمريكية فيبني نظامًا متعدد الأقطاب يتشارك الثروات، أو يسقط في فخ "الحروب والصراعات " حيث تحل النزاعات بالحصار الاقتصادي والجيوش الالكترونية.

***

د. عبد السلام فاروق

 

من البديهي ان تظل المنطقة مشمولة باجمالي الانتكاس القصوري التصوري للحظة على المستوى الاعم، وبالذات ذلك الاكثر فعالية على مستوى المعمورة، المتميز بانبثاق الاله بين تضاعيفه،  اضافه لعلو دينامياته الاصطراعية الطبقية التكوينيه البنيوية، وماقد تولد عن ذلك من انقلابيه عليا ارضوية استثنائية، تسنى لها التحول الى نموذجية شامله على مستوى الكرة الارضية وعموم مجتمعاتها، مع الاخذ بالاعتبار كون المنطقة الشرق متوسطية  تكوينا وحضورا تاريخيا، هي بالاحرى مقابل ومناظر، له حضوره الفاعل وغير العادي في المتغير الحاصل الانقلابي على مستوى وسيلة الانتاج، ومن ثم المجتمعية البشرية.

هذا مع العلم ان مايشار الية من دور، يظل بلا اثر، ومن دون اي درجه من الحضور او لفت الانتباه، الامر المحال الى اللحظة وطبيعتها بغض النظر عما يظل  يواكبها من نظر وادراك الامر المتوقع اذا نحن اخذنا بالاعتبار حقيقة كوننا امام انقلابيه وجودية نوعية، تضاهي تلك التي عرفتها الظاهرة المجتمعية ابتداء، وقت تبلورها بصيغتها اليدوية الجسدية الاولى وماقد استغرقته من تفاعل واعقال مديد،  وتدرجات  من محاولة الادراكية الوجودية  على مدى القرون، قبل الاستقرار على الحد الادنى الممكن من التوفر على اسبا ب التفاعلية مع الذات والطبيعه، واجمالي الوجود، مع ان المتحقق في حينه لم يكن  وافيا تماما بالغرض، ولا انطوى على الادراكية الضرورية اللازمه، لاسباب اهمها تمكن القصورية العقلية من الكائن البشري، بالاخص بازاء ادراكه للظاهرة المجتمعية ومنطوياتها.

واخطر ماتتميز به  اللحظة الراهنه على هذا  الصعيد، كونها لم تبادر ابتداء، ولاكانت مؤهله لحظتها لعبور النقص القصوري المومى اليه، على العكس من ذلك فانها قد كرسته مع شيء من الادعائية الابتدائية بخصوص فك رموز الظاهرة المجتمعية،  مع ماعرف ب "علم الاجتماع" اخر العلوم، وهو محاولة ابتدائية ارضوية لا "مجتمعية" كما تريد ان توحي، فالمجتمعية لاتغدو قيد الاحاطة قبل الادراك الضروري وقت يماط اللثام عن طبيعتها " الازدواجيه"، ويحصل معها كل مايترتب على واقع كهذا من انقلاب شامل في المنظور ومجمل الرؤية البشرية للمجتمعات والتاريخ والياته ومستهدفاته الغائبة، الامر الذي يعيد بصيغة اخرى مناسبه للحظة، مفعول واثار حالة الانصباب الثاني الراهن المختلف نوعا بعد الانصباب اليدوي الاول، الروماني ومقابله الشرقي الفارسي، وماترتب عليهما وتولد عنهما من حال تشكلي تصارعي مع الكينونه اللاارضوية الشرق متوسطية، انتهى بالاختراقية المسيحية الاسلامية الجزيرية  كاختراقية شامله شرقا وغربا، حققت الازدواج في الكيانات والامبراطوريات الارضوية الاحادية على مستوى المعمورة، بغالبتها الفعاله.

والانصبابية المزدوجه هي مظهر تشكلي مجتمعي على مستوى المعمورة، خاضع لقانون التشكل الازدواجي المجتمعي، به تتكامل بنيه المجتمعات الاحادية  كما حصل في الطور اليدوي، اذ هو  يحدث اليوم فياتي مشفوعا بالانقلابيه الاليه الاحادية، في حين يتحول الازدواج الى  ضرورة تحوليه نهائية، تبدا بالغلبة النموذجية والتفكرية الكاسحه بظل حال من الانقطاعية والانهيار الشرق متوسطي، يضعه  تحت طائلة لحظة استثناء غير مسبوق، ساحقة للاليات الذاتيه من دون اي احتمالية دالة على الحضور المباين التاريخي الازدواجي كينونة، بما في ذلك الحالات التي من شانها ان تذكر بالاليات التاريخيه، وفي مقدمها الانبعاث التاريخي " المنتفجي" الحاصل في ارض سومر اليوم منذ القرن السادس عشر، بعد الانهيار الذي حل على هذا الموضع الازدواجي النموذجي البؤرةعام 1258 بسقوط بغداد، وحلول الانقطاع  الثاني بعد الاول  اللاحق على سقوط بابل،  بانقضاء الدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، المواكبه للوثبة الجزيرية المنطلقة في القرن السابع.

ولايمكن الشك في الاستحالة شبه المطلقة المانعة لاية بوادر حضور للاليات المحركة لعملية الانبعاث الراهنه، اشارة الى الدورة الثالثة الازدواجية، بالخصوص بازاء ظاهرة محمد علي الالباني  المصري وقرينه الشامي، ومقابله التشبهي الابراهيمي الارضوي، بينما الموضع اللاارضوي اصلا، مايزال في حال اصطراع مع البرانيه التي حلت عليه متخذة من بغداد عاصمة الامبراطورية  المنهارة موضعا للتعاقبة الشرقية، يدويا قبل ان تظهر في الافق ايه ملامح للانقلابية الالية وامتداداتها، الامر الذي ظل ساريا حتى بدايات القرن العشرين، ليبدا مع الاحتلال البريطاني 1917 تاريخ من الافنائية النمطية المتعدي للاصطراعية الذاتيه، يريد تكريس الارضوية بقوة مفعول الاله وماتسببه من تسارعية استثنائية في الاليات المجتمعية، عدا القفزة المفهومية والتصورية عموما، وهكذا وقع الموضع الازدواجي البؤرة التاريخي في غمرة نوع من الاصطراعية غير المسبوقة، وغير المتكافئة، فاذا كانت الاصطراعية الاولى قد حصلت بين قوتين  ارضوية ولاارضوية،  كانا بالاحرى بما فيهما بابل، اعلى تجليات الارضوية الازدواجية، يدويان، امكن للجانب اللاارضوي منهما،ان ينتج تعبيريته الدالة على حضوره في غمارهما منتقلا  تحت وطاة احتمال الافنائية من الاصطراعية الذاتيه الى الكونية ليصبح بمواجهة الانصبابية المزدوجة الشرق غربيه.

كل الشواهد التي يمكن التعرف عليها اليوم لاجل قياس مامتوقع، ومايمكن ان يتمخض عنه الاصطراع الافنائي الناشب بين الكينونة اللاارضوية المنبعثة، ومايتعلق ويتصل بالحضور الارضوي بصيغته الالية، تدل على ان الجانب اللاارضوي زائل وذاهب الى الفناء الحتمي، بالاخص اذا عولنا على القصورية مدعية العلموية، وصدقنا ماشاع من توهمية توصيفية للالة مسارها ومنحاها، واذا كانت هي ارضوية متوافقه مع هذا النمط المجتمعي ام لا، الامر الذي يستوجب مايلزم من الوقت ومن التطورات الاصطراعية المتعددة الاوجه، قبل ان يكتشف الجانب اللاارضوي الاساس من الانقلاب الالي، مع تحولات الالة من "المصنعية" المعززة ابتداء لليدوية ومنظوراتها في الجوهر، ذهابا الى التكنولوجيا الانتاجية الحالية، المعززة بصيغة المجتمعية  المفقسة خارج الرحم التاريخي الامريكية، الخارجة عن احكام المجتمعية وتبلوراتها وتمايزاتها، ومنها الطبقية التي تميز الموضع الذي انبجست فيه الالة.

لن تلبث الخطوه، او الحقبة الاخيرة من الاله ان تتحقق كقوة انقلاب تحولية مافوق مجتمعية، حين يغدو الانقلاب التكنولوجي عقلي  مفارق للموروث وللحالة الجسدية التاريخيه، حتى تسقط  مبررات الارضوية، ولا تعود اوربا قوة فعالة بقدر ما تاخذ بالغرق خارج الديناميات المجتمعية المفارقة للمجتمعية التي صارت من هنا فصاعدا، ومع الطور الالي الاخير، هي المجتمعية، فاذا بنا امام حضور متاخر غير ملحوظ ،وخارج الاعقال القصوري التا ريخي، وحينها  تعود الكتابية/ من كتاب،  النمطية فوق الكيانية، ذات الكينونه الكونية، هي الثورة العظمى المنتظرة الاليه، بعد تلك الاولى التمهيديه اليدوية، ومجتمعيتها المنتهية الصلاحية الارضوية، ليرتفع في الافاق صوت ومفهوم اللاارضويه مابعد النبوية، تلك التي كانت تواكب اليدوية الارضوية موضوعيا، وتفاعلت مع اشتراطات غلبتها الاولى، لتسود تعبيرية اللاارضوية الثانيه العليّة السببية العقلانيه مافوق الارضوية، ولتبدا المجتمعية الجسدية الحاجاتيه بالانتهاء مغادرة المسرح الارضي.

***

عبد الأمير الركابي

في كل منعطف تاريخي تمر به الأمة العربية، يتجلى أمامنا مشهد التناحر الداخلي، وكأن العرب قد استبدلوا قضيتهم الكبرى بصراعات صغيرة تستنزف قواهم وتبقيهم في دائرة الجمود، في حين أن العالم من حولهم يتحرك ويتغير، أحيانًا لصالحهم، لكن غالبًا ضدهم. هذا الواقع يدفعنا إلى طرح السؤال الجوهري: إلى متى سنظل غارقين في الخلافات الداخلية، بينما تتكالب علينا الأخطار من الخارج؟

حتمية التغيير: لماذا يجب أن نتجاوز خلافاتنا؟

العالم لا ينتظر أحدًا، والسياسة لا تعترف بالضعفاء. الدول التي لا تتعلم فن التكيف مع الزمن ومواجهة تحدياته محكوم عليها بأن تكون مجرد أداة في يد القوى الكبرى. وللأسف، فإن العرب – رغم ما يملكونه من مقومات حضارية وثقافية واقتصادية – ما زالوا عاجزين عن استثمار هذه الإمكانيات لصالح مستقبلهم. والسبب الرئيسي؟ هو الانقسام الداخلي الذي يتغذى على الاختلافات المذهبية والعرقية والدينية، في وقت لا تستطيع فيه الدول القوية أن تنهض دون الحد الأدنى من الوحدة الوطنية والتوافق المجتمعي.

إن الخلافات الداخلية بين العرب لم تكن يومًا مصدر قوة، بل كانت دائمًا مدخلًا للغزاة والمحتلين والمتربصين. عبر التاريخ، كانت الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية سلاحًا استخدمه أعداء الأمة لتفكيكها وإضعافها، بدءًا من الحروب الصليبية، مرورًا بالغزو المغولي، وانتهاءً بالاستعمار الغربي ومخططاته الحديثة. ومع ذلك، يبدو أننا لم نستوعب الدرس بعد، فنكرر الأخطاء ذاتها، لكن بثوب جديد في كل مرة.

كيف نحول طاقة الصراع إلى منصة للفعل؟

بدلًا من إهدار الجهد والوقت في النزاعات العقيمة، يمكن توجيه هذه الطاقة نحو بناء مشروع عربي مشترك قائم على التعاون والتكامل، لا على الإقصاء والإلغاء. لا يعني ذلك إلغاء التعددية أو تجاهل التنوع الثقافي والديني، بل يعني إدارة هذا التنوع بحكمة بحيث يكون مصدرًا للإثراء لا للصراع.

إعادة تعريف الهوية العربية

الهوية العربية ليست هوية عرقية أو دينية محضة، بل هي هوية ثقافية وحضارية تجمع بين كل من يتحدث العربية وينتمي إلى تاريخ هذه الأرض. تجاوز الخلافات يبدأ بإعادة فهم أنفسنا بعيدًا عن التصنيفات الضيقة التي تكرس الانقسامات.

بناء مشروع اقتصادي عربي موحد

الاقتصاد هو أحد أكثر العوامل القادرة على تجاوز الخلافات السياسية. حين تتشابك المصالح الاقتصادية بين الدول والمجتمعات، تصبح النزاعات أقل حدة، وتزداد الحاجة إلى التعاون. فلماذا لا يكون هناك سوق عربية مشتركة، أو على الأقل تكامل اقتصادي حقيقي بين الدول العربية؟

تطوير منظومة تعليمية تعزز قيم التعددية والانتماء المشترك

منذ الصغر، يتم تشكيل وعي الأفراد من خلال التعليم والإعلام. ومن هنا، فإن إدخال مناهج تعليمية تكرس ثقافة التعايش وتاريخ العرب المشترك يمكن أن يسهم في بناء أجيال ترى في الاختلاف مصدرًا للتكامل لا للصدام.

إصلاح الإعلام العربي ليكون أداة بناء لا هدم

الإعلام العربي في كثير من الأحيان يغذي الفرقة أكثر مما يوحد. يجب أن يكون لدينا خطاب إعلامي يعزز نقاط الالتقاء بدلًا من تضخيم نقاط الاختلاف، ويحث على العمل الجماعي بدلًا من نشر ثقافة الإحباط والهزيمة.

تحييد الصراعات الخارجية عن الداخل العربي

العالم العربي يعاني من كونه ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، حيث تُستخدم بعض القوى العربية كأدوات في مشاريع الآخرين. يجب أن يكون هناك وعي سياسي بأن العرب بحاجة إلى استراتيجية مستقلة، تحميهم من أن يكونوا مجرد بيادق في لعبة القوى الكبرى.

خاتمة

ان تجاوز الخلافات الداخلية ليس ترفًا، بل هو ضرورة وجودية. نحن اليوم في مرحلة مفصلية، حيث تتشكل التحالفات العالمية وتُعاد صياغة التوازنات الدولية. وإذا لم يتمكن العرب من تجاوز انقساماتهم الداخلية، فسيجدون أنفسهم مجرد كيانات ضعيفة تابعة للقوى الكبرى، بدلًا من أن يكونوا فاعلين في تقرير مصيرهم ومستقبلهم.

لقد آن الأوان لأن ننتقل من مرحلة الشكوى والبكاء على الأطلال إلى مرحلة الفعل والإنتاج. التحديات التي تواجه العرب اليوم تستوجب إرادة سياسية وشعبية صلبة، ورؤية مستقبلية تتجاوز الحسابات الضيقة، من أجل بناء مشروع نهضوي عربي قادر على مجابهة الأخطار وصناعة التاريخ بدلًا من أن يكون مجرد متلقٍ له.

إذا لم نبدأ الآن، فمتى؟ وإذا لم نكن نحن، فمن؟

***

مجيدة محمدي – تونس

.................

المراجع:

1. في الهوية العربية والتحديات الداخلية:

- محمد عابد الجابري، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي

- عبد الإله بلقزيز، العرب ومستقبل الأمة: دراسات في المسألة القومية

- برنارد لويس، أين الخطأ؟ التأثير الغربي واستجابة الشرق الأوسط

2. في التاريخ العربي والانقسامات الداخلية:

- ابن خلدون، المقدمة

- ألبرت حوراني، تاريخ الشعوب العربية

- حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي

3. في الاقتصاد العربي والتكامل الإقليمي:

- جلال أمين، العالم عام 2050: كيف سيبدو الاقتصاد العالمي في المستقبل؟

- سمير أمين، التراكم على الصعيد العالمي

- مجموعة من الباحثين، التكامل الاقتصادي العربي: الواقع والتحديات (منشورات مركز دراسات الوحدة العربية)

4. في الإعلام ودوره في تشكيل الوعي:

- نعوم تشومسكي، السيطرة على الإعلام

- إدغار موران، ثقافة أوروبا وبربريتها

- علي حرب، المصالح والمصائر: صناعة الحياة ومآزق العولمة

5. في الجغرافيا السياسية والاستراتيجيات الدولية:

- هنري كيسنجر، النظام العالمي

- زبيغنيو بريجنسكي، رقعة الشطرنج الكبرى: الأولويات الجيوسياسية للولايات المتحدة

- فواز جرجس، أمريكا والعالم العربي: سياسات الهيمنة وصناعة التبعية

 

تظل البشرية قاصرة اعقالا بازاء التاريخ والظاهرة المجتمعية، مادامت محكومه الى النظر " الاحادي" قبل كشف النقاب عن الحقيقة الازدواجية واشكال تجليها بحسب طبيعتها، الملكية الكيانوية / الوطنيه الامبراطورية الارضوية ونموذجها التاسيسي الفرعوني الملكي المصري، واللاارضوية  النبوية السومرية،  الكونية، المتعدية للكيانيه وللدولة، واشكال تفاعلهما النموذجي مع الاشتراطات الانتاجية وممكنات التحقق، الارضوي الغالب بحكم الطور اليدوي الجسدي، واللاارضوي المضمر والمصادر المبعد من الحضور، المضطر للتجسد اختراقا في قلب المجتمعية الارضوية ابان زمن ماقبل تحققه، لافتقاره  ابتداء للعناصر الضرورية المادية والاعقالية اللازمة للحضور واقعا.

وهذا مايجعل اللاارضوية تتخذ الصيغة التي تظل عليها، توافقا مع اشتراطات اليدوية وغلبة الجسدوية الحاجاتية الارضوية، مولدة عالمها الموازي السماوي المفارق المتعالي (3)على الارضوية قوة وعالما مقابلا اعلى، ومحتاز على القدرات والفعل الاستثنائي الكوني  الابدي، بمقابل سلطة الارضوية الحاكمه المؤقته، والايله للزوال لمصلحه عالم اخر هو الابقى، والغاية  من الوجود، تعبيرا فوق عادي، يتجاوز الملموسات، مرتكزا الى الكينونه البشرية والى ازدواجها الاصل ك (عقل/ جسد)، العقل نصفها الافعل، و "الارض" التي عليها تقف الكيانيه اللاكيانيه، الاتيه من العالم الاخر حكما، بالالهام والاصطفاء السماوي، والنطقية الكتابيه التي هي الكيان اللاكيان الباقي ماثلا وحيا، في قلب وبين تضاعيف الارضوية الى الابد.

وبما ان اللاارضوية غائبه  متعذرة على الادراك اصلا، فان افتراض خضوعها لتاريخيه تشكلية وتطورية غير وارده قطعا، علما بانها مسار تشكلي مستمر على مدى عشرات القرون، يبدا مع تبلور الظاهرة المجتمعية في ارض سومر جنوب مابين النهرين حيث الاشتراطات البيئية المجافية الطاردة للنهرين العاتيين المخالفين للدورة الزراعية،  والاكثر تدميرا بين الانهار، بما  يجعل الكائن البشري  مع اجمالي اشتراطات الحياة والانتاج  مجتمعيا، مرهونا ابتداء بالاصطراعية الاقرب للفنائية مع الطبيعه، ضدها وبمفارقة معها من دون توافق من نوع ذلك المقابل النيلي، المعاكس كليا، والقائم على وحدة النيل والارض، حيث اتفاق فيضان النهر مع الدورة الزراعيه، عكس دجلة والفرات، مايجعل الحصيله في الموضوعين البدئيين ثنائية في الرافدينه، منهما تتاسس مرتكزات المنظور المفارق السماوي، قبل ان يدخل على المشهد الطور الثاني من الاصطراعية المجتمعية، في موضع مفتوح شمالا وشرقا وغربا على الانصبابات السلاليه من الجهات الجبلية الجرداء والصحراوية الطامحه للهيمنه على الموضع الجنوبي شديد الخصوبه( وادي النيل بالمقابل محمي بالصحراء شرقا وغربا وبالبحر شمالا) مايزيد من اسباب لاارضويته، من دون ادراكية او امكان ملاحظة حتى للخاصيات المميزه للمجتمعية في موضع هذه مواصفات تبلوره، والظروف التي تشكل ضمنها وفي غمرتها، بما جعله بلا تمايزات من نوع الملكية والسلطوية، مع اسبقية للتشاركية التضامنية الواعية،  مايولد من حينه حالة اصطراع بين شكلين ونمطين مجتمعيين، الاعلى النازل الارضوي العادي، والاسفل اللاارضوي، ويحفز ضمن مجراه وفتراته وحقبة، ضرورات التبلور التعبيري المجتمعي اللاارضوي، بالتوافق مع ميل الجهات الغازية الى المزيد من تعزيز قدراتها، باتخاذ موقع الاستقلال والعزله في مدن عليا، تقام على الحواف  العليا لمجتمع اللاارضوية، تكون محصنه اعلى تحصين، تمارس حلب الريع الزراعي بالغزو الداخلي المكلف للغاية، ثم العودة للانعزال وراء الاسوار والقلاع  داخل مدن "الامبراطوريات"، واكملها بابل ثم بغداد.

ومن التالهية الابتدائية وليدة الاصطراع الاول البيئي، وتطوره اللاحق في سياق الاصطراعية بشكلها الثاني  حين تضاف وطاة الارضوية الانصباببية الى الاولى البيئية الطاردة، ذهابا الى المراحل والمحطات المتاخرة من تبلور الاصطرعية، وقيام الامبراطوريات المدينيه و وبلوغها ممكنات واحتمالية افناء المجتمعية السفلي، بالمصادرة الالهية والنموذجية، وبوسائل القوة التي   يحوزها مركز مثل "بابل"، تبلغ الاحتدامية الاصطراعية معه ذروتها، مايسرع في اكتمال النموذجية الكونية  المجتمعية السفلى، بتبلور الكيانيه اللاارضوية مافوق الكيانيه باعلى صيغها النبوية الابراهيمة، الذاهبة خارج ارضها،  التي هي في الواقع  ارضها ومكان تحققها، ليبدا من يومها مسار التحقق الكوني  الدعوي النبوي التراكمي كمرحلة فاصله، وصولا الى التجسد العملي للكيانيه الكتابية  التاسيسي الاول، التوراتي، ومن بعده الانجيلي المسيحي، وصولا الى الاسلامي الكمال والذروة النهائية التي من اهم خواصها، واجلى مناحي عبقريتها اللاارضوية اعلانها قرب انتهاء الصراع الارضوي اللاارضوي، والانفتاح على عالم "فك الازدواج"، وهو ماقد تكفل النبي محمد في الاعلان عنه كختام يساوي البدء الابراهيمي الاول، ويعلن انقضاء دوره ومهمته.

بعني " ختام النبوة" بالمنطوق اللاارضوي وتاريخانيته المجتمعية الشاملة للمعمورة، ان الاصطراع المجتمعي الازدواجي قد شارف على الانتهاء من هنا فصاعدا، وان الصيغة او النموذجية الارضوية الجسدية صارت على وشك الاختفاء وجودا، وهو ماسوف تصلة البشرية بناء على الانقلابية الاليه ومغادرة الزمن الارضوي اليدوي، حين كانت  اللاارضوية غير قابله للتحقق، وهنا يبرز في السياق  واحد من اخطر التحديات الموروثة عن القصورية العقلية التاريخيه، وهو ماينشا عن انبجاس الاله في الموضع الارضوي الاعلى ديناميات ضمن صنفه، باعتباره النموذج الازدواجي الارضوي الاصطراعي الطبقي، والذي يذهب مستغلا الانقلابيه الاليه، وماتوفره من ممكنات استثنائية الى تكريس مفهوم ورؤى الارضوية ذهابا الى تابيدها، وجعلها النموذجية التي لاغير لها، ولامن مواز، ومن ثم لامستقبل يمكن ان يضعها بموقع الموقت الضروري قبل توفر اسباب سيادة المجتمعية العقلية.

وهنا  تحل لحظة الافتراق الاكبر تحت غمرة التناقضية الاعلى، بين الوسيلة الانتاجية ومنطوياتها، وماهي محكومة له، وبين الاعتقادية القصورية المناقضة لها نوعا، فالاله وسيلة لاارضوية نوعا وكينونة، تحتاج للمرور بمعبر اصطراعي انتقالي لاارضوي يكون الاعلى ديناميات حتى تنتقل تباعا، من المصنعية الاقرب لليدوية، الى التكنولوجية الانتاجية الحالية، الى التكنولوجيا العليا العقلية اللاارضوية، حيث لاتعود المجتمعية الارضوية قابلة للاستمرارموضوعيا وماديا،  وحيث تبدا بالانهيار المتوالي، بينما يصبح العالم والمجتمعية البشرية ككل "لاارضوية" محكومه لاشتراطات من نوعها، وتعود الرؤية الكونية الاولى اللاارضوية لتغدو غالبة، والكتاب ضرورة وجودية، وقد انتقل من الالهامية النبوية الحدسية، الى نوع اخر من الاعلان اللاارضوي "العلّي/ السببي " ساعة يصير التاريخ والماضي المجتمعي قابلا للقراءة لاارضويا عليّا فيماط عنه اللثام بعد طول غياب، اي بانتقال العليّة المعروفة ب " العلمية العقلانيه"  درجات فوق التخيل الارضوي، تلائم نوع ومنطلق المنظور المشار اليه كلزوم وضرورة اساس، لابد منه قبل الانتقال نحو عالم "المجتمعية العقلية".

***

عبد الأمير الركابي

 

سوريا والسودان وليبيا واليمن، أربع دول عربية تعيش مخاض الدولة المطلقة. وبيان ذلك: أن أي بلد لا يستطيع العيش في أمان واستقرار، من دون حكومة قوية، سواء كانت عادلة أو جائرة. صحيح أن العدل هو مطلب الناس وغايتهم، لكنه لا يتحقق إلا بوجود حكومة قوية مستقرة. من هنا قال علماء السياسة إن الخطوة الأولى لاستقرار السياسة العادلة، هو وجود دولة قوية مطاعة. فإذا وجدت، حان وقت الانتقال للمرحلة الثانية، أي تنظيم إدارة الدولة على أساس المشاركة العامة للمجتمع في الحقوق والتكاليف.

يبدو لي أن معظم الدول النامية، وقعت أسيرة الخلط بين المرحلتين، فبعضها تجمّد عند الأولى، وبعضها انخرط في جدل مبكر حول المرحلة الثانية، بحيث بدا للمواطنين وأطراف المشهد السياسي أن الاتفاق على الخطوة الأولى مشروط باتفاق مسبق على تفاصيل الثانية. دعنا نأخذ مثلاً من ليبيا، حيث اتفقت القوى السياسية مرات عديدة على عقد انتخابات عامة لاختيار رئيس الدولة، مع أنهم لم يقيموا الحكومة الواحدة التي تبسط سلطانها على أرض البلاد أقصاها وأدناها.

ربما ظن الوسطاء الذين سعوا لحل الأزمة الليبية أن انتخاب الرئيس سيوفر فرصة للإجماع على التمثيل السياسي للبلد. وهو ظن في غير محله. ولو حصل فسوف يكون الرئيس مجرد وسيط وطني، يضاف إلى الوسطاء الدوليين، ولن يكون حاكماً بالمعنى الذي نعرفه عن رئيس الدولة. السبب ببساطة هو أن مصادر قوة الدولة، ولا سيما الأموال والقوات المسلحة، في يد أطراف سياسية متنازعة، لأن الدولة المركزية غير موجودة في الأصل. على أي حال فحتى هذه الخطوة الرمزية لم يكتب لها النجاح، فلم تعقد الانتخابات ولا انتُخب الرئيس. وبقيت البلاد، كما كانت منذ 2014، مقسومة بين حكومتين؛ تسيطر إحداهما على بعض الشرق والأخرى على بعض الغرب.

قيام الدولة الواحدة القوية ضروري للتطور السياسي. ومن دونه ستعود البلاد إلى فوضى ما قبل الدولة، كالذي نشهده اليوم في البلدان المذكورة.

حسناً. لماذا لا تبادر الأطراف السياسية للاتفاق على معالم المرحلة الثانية، وتضعها كمسودة إعلان دستوري، ثم تتفق على إقامة السلطة الواحدة القوية؟

الجواب معلوم: كل طرف لا يطمئن للآخر، بل يخاف أن يقع في قبضته فيخسر حقوقه، أو يخسر فرصته في أن يكون حاكماً أو شريكاً في الحكم.

لعلكم الآن تقولون إن هذه هي أيضاً مشكلة السودان واليمن وسوريا. لماذا انفصل جنوب السودان عن شماله في 2011؟ لأن الرئيس السابق عمر البشير أبى أن ينتقل بالنظام السياسي من حكم الفرد إلى المشاركة السياسية الفاعلة، فضحى بوحدة البلد، كي لا يخسر سلطانه. وحدث الأمر نفسه في اليمن عام 1994، وحدث شيء قريب من هذا في سوريا خلال السنوات العشر الماضية، حين أبى الرئيس السابق أن يشرك معارضيه في السلطة، فقاد البلد إلى أزمتها الحالية، وكان في وسعه أن يبرز كمصلح تاريخي، كما يأمل كثير من الناس.

في ظني أن جذر المشكلة، في كل هذه البلدان، هو أن الذين بيدهم مصادر القوة، خاصة أصحاب السلطة والسلاح، لا يؤمنون بأن جميع المواطنين شركاء في سياسة بلدهم، شراكة جذرها امتلاكهم تراب الوطن، وأن هذه الشراكة مصدر لحق المواطنين في شراكة مماثلة في الشأن العام. بعبارة أخرى فهم لا يؤمنون بتساوي جميع أهل البلد في الحقوق والواجبات، بناءً على كونهم ملاكاً لوطنهم، وأنهم – لهذا السبب أيضاً – مكلفون بحمايته وتنميته وتطوير إنجازاته. وفي السياق نفسه، فإن الغالبية الساحقة من المواطنين، لا يرون أنفسهم معنيين بالشأن العام، أو ما يسمى في الثقافة العربية الدارجة «التدخل في السياسة».

الشراكة المتساوية بين المواطنين، هي القاعدة الأولى لما يعرف في علم السياسة بالإجماع الوطني. والإيمان بها هو الأساس لكل مجتمع سياسي حديث. ولنا عودة إلى الموضوع في قادم الأيام.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

يستعمل تغلبيون قبليون مثل ال سعود والشخص الذي وظفوه تكريسا لغلبتهم، يستعملون النبوة المحمدية الخاتمه والاسلام ك "تراث وطني"، وكمادة استثنائية الحضور بمالها من قدسية وقوة اثر وفعاليه يتم تزييفها واخراجها عن مساقها التاريخي، باسم "السلف" تفاديا ل "النبوه" الاصل، وتهربا من الاساس غير القابل للاستحضار اليوم، مع عملية الغاء شامل وكلي لتاريخ النبوة والسلف الذي يراد بعثة من لحظة الدعوه في القرن السابع الى حينه، بالغاء الفتح وماتمخض عنه من امبراطوريات ومنجز هائل حضاري بقوة غلبة العقيدة الاجمالية، على اعتباره خطئأ، بما يعني اتهام النبوة نفسها باللاجدوى، وبالخضوع لفعل التاريخ والواقع المجافي لها، بغض النظر، وباسقاط بشع بغيض لأعظم منجز في التاريخ اللاارضوي الابراهيمي بالاحتساب التاريخي الواقعي الذي لم تقم الثورة النبوية الجزيرة خارجه، مع انها قد فرضت عليه ذاتها، بعكس دعوة محمد بن عبدالوهاب التي تبدا اليوم من الرضوخ للواقع، والانكسار امامه بالتحاقها المسبق البدئي بالقبيله.
وبالمقارنه اخيرا واليوم، لابد من طرح التساؤل عن ما يفترض الغاءه وازالته من سجلات التاريخ، تاريخ الثورة الجزيرية الكبرى العالمي الاكبر، الساري مفعولا تصارعيا الى اليوم ازدواجا (عقيدة/ واقع ارضوي) باشكال متعدده، وصولا لظاهرة استعادة واستغلال التاريخ اللاارضوي واخر تجلياته الختامية الكبرى بعد مصادرته ارضويا، وبحسب ماقد آلت اليه حركة محمد بن عبدالوهاب الملحق بال سعود وحكمهم الريعي النفطي المرتهن للغرب واقتصاده، هل يمكن باية حال تصور مجرد المقارنه وان من بعيد، بين الظاهرتين، التزويرية البلهاء التي تلغي النبوة والكتاب باسم السلف، محولة النبوة الختام الى فعل بشري ارضوي صرف، فكان "السلف" موجود بذاته وصفته، مثلما ان محمد بن عبدالوهاب موجود بذاته، ومن دون آل سعود ونزوعهم التغلبي السلطوي الارضوي.
تقوم الاستعادة "السلفية" الاصل على محاول بائسه للهروب من شرط "النبوة" وقد اعلن ختامها، وبما ان الحاصل حاضرا لايستطيع الارتقاء اليوم الى مستوى الكينونة الابراهيمه الحدسية النبوية الالهاميه، وبظل ماقد صارعاما من الانهيار والتردي، وضرورة استحضارماقد سلف، فان مايبقى ويمكن الركون اليه هو تخريج ينتمي الى الفبركة التردوية التي يراد الخروج منها عن طريق تكريسها، مادام المطلوب يتعدى الطاقة الادراكية المتاحة، وماتتطلبه لحظتها من التجرؤ على فتح باب التساؤل: ماذا بعد النبوة وقد اعلن ختامها في موضع من العالم التاريخ فيه موكول لفعلها اللاارضوي؟ وهل من صيغة تحقق تعبيري لاحق عليها بعد ان ادت المطلوب، وحققت ابان الزمن اليدوي ماكانت موكلة به؟
تساؤل كهذا يعني انقلابا خارج التخيل، ليس لمحمد بن عبدالوهاب وغيره من اشباهه وعينته موقعا على اطرافه او حوافه لصغر حجمهم المتناهي، وانغماسهم فيما هم غارقين فيه من اشتراطات التردوية بين المراحل الكبرى والانتقالات التاريخيه النوعيه، فاذا جاء مايوجب الحضور باي شكل بظل صعود الطرف الاخر على المنقلب المتوسطي الغربي، والتحول النوعي مابعد اليدوي، واجمالي المفاهيم والنموذجية المجتمعية الحياتيه ومنجزها الارضوي الهائل الباهر انقلابيا، لم يبق امام التردوية الانقطاعية الغامرة لمنطقة التعبيرية اللاارضوية، سوى التشبه الاحيائي الجاهز، المزورواقعا وادراكا كما كان يمكن للاارضوية ان تظهر تكرارا اليوم وفي ارضها ابتداء، محسنة باسم خصوصيتها اسباب التحاقها ببزه ولغة ابراهيميه ظاهرية مستعاره من طور مضى، بالعالم الاخر الحداثي الغربي الالي وغلبته الكوكبيه.
والمسالة الجوهر الغائبه على هذا الصعيد، قصور العقل الحالي بما هو عليه من تردوية انقطاعية عن التفريق اللازم غير المماط عنه اللثام، بين المجتمعتين ونوع التعبيريتين الغالبتين على التاريخ المجتمعي، وبالذات في المنطقة مدار البحث الشرق متوسطية، من دون بقية انحاء العالم حيث الازدواج المجتمعي اضعف، واشتراطات تجسده لاتتيح التبلور النموذجي الكوني الحاصل في هذا الجزء من المعمورة، موضع تبلورالابراهيمية بما هي تعبيرية مجتمعية موازية ومفارقة لتلك الارضوية المعتادة، والبارزه الشامله، وباصطراعية معها تنتهي بتجسد اللاارضوية داخل الارضوية على مستوى العالم، مخترقة مجتمعاته الارضوية في غالبيتها، وهذا النوع من النظر ليس واردا في عرف شخص شبه امي مثل محمد بن عبد الوهاب، متاخر سنين ضوئية ادراكا عن التمييز بين الفعالية اللاارضوية النبوية، والارضوية، وكيفيات حدوث الاختراقية الازدواجية باستعمال الوسائل الارضوية شرطا، ومنها السلف الذي يرتكز هو اليه على انه ممكن تحولي قابل للاعتماد، خارج الفعالية اللاارضوية النبوية واشتراطاتها.
وتبرز لهذه الناحية مسالة غاية في الاهميه ميزت التاريخ الازدواجي المجتمعي في هذا الجزء الفعال لهذه الجهه من المعمورة، تلك هي مسالة "الختام النبوي" ومترتباته فضلا عن دلالته الانقلابيه، حيث النطقية المجتمعية هي الطور اللاارضوي مع توفر الاسباب اللازمه لتحققه، بعدما ظلت النمطية الارضوية هي الغالبه على مدى الطور اليدوي من تاريخ المجتمعات، بمعنى قرب حدوث الانقلاب التاريخي، الهدف الاساس للوجود المجتمعي، وانتهاء صلاحية المجتمعية الارضوية الجسدوية، بعد توفر الاسباب المادية الضرورية للتحقق المضمر في العملية المجتمعية، وتجلي المنظور اللاارضوي كواقع معاش قابل للادراك بلا الهامية ووحي، اي من دون "نبوه"، الامر الذي يظل منتظرا حاكما للحقيقة التاريخيه المضمرة غير مكشوف عنها النقاب، مع قرب ساعتها المنتظرة على مدى التاريخ.
وقتها وبالانتظار، اي قبل حلول لحظة الوثوب العقلي الاعظم، بالتخلص من قصورية العقل الطويلة الامد، والباقية مرافقه للعقل وعلاقته بالظاهرة المجتمعية واغراضها، وماهي موجود لبلوغه، تتكرر في موضع غلبة الديناميات اللاارضوية، وقوة حضورها، ظاهرة استعمال النبوة بوسائل ارضوية، واعمال الايهامية، وهو ماتصطنعه الظروف واللحظات التاريخيه ووطاتها كما الحال الذي حفز اليوم ظاهرة السلفية، وغيرها من اشكال وتشبهات ايحائية تدعي احضار الاصل النبوي الذي انتهت مهمته في حينه، بعد ان ادى المطلوب ضمن اشتراطات لحظته التاريخيه ازدواجا، بانتظار لحظة تحققه واقعا ونهائيا، من دون وطاة الازدواج الغالب فيها حضور الارضوية.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

 

مع تناول أحداث غزوة حُنين، يبلغ مسلسل معاوية ذروة التجهيل والتزوير المقصود في محاولة لأدلجة وتسييس الحدث التأريخي الفني لأغراض معاصرة قد لا تخلو من البواعث والميول الطائفية أو التكفيرية.
تزوير الحقائق في غزوة حُنين
لنقل هذا الحدث الضخم في السردية الإسلامية درامياً، يرينا "مسلسل معاوية" مشاهد مضطربة لجيشين يلتحمان في الصحراء. ويستمر القتال في لقطات سريعة لبضع ثوان، ثم يفر جيش الوثنيين المشركين، وينتصر المسلمون، فيما تكون عدسة الكاميرة مسلطة غالباً وفي لقطات قصيرة متلاحقة على معاوية وهو يقتل الأعداء واحداً بعد آخر على طريقة الكاوبوي الهوليودي الخارق وهو يجندل السكان الأصليين. وأخيراً، يرفع معاوية يديه متهللاً مكبراً مع هزيمة جيش العدو. يصلح هذا المقطع ليكون مثالاً بالغ السوء على القراءة الفنية التلفيقية والمزيِّفة لوقائع تاريخية ثابتة فَصَّل فيها المؤرخون المسلمون القدماء أيما تفصيل.
فأولاً، لم تجرِ وقائع غزوة حُنين في صحراء، بل في واد منحدر كثير الشِّعاب والشجر من أودية تهامة ويدعى "حنين" فهو أقرب إلى الغابة منه إلى الصحراء المفتوحة كما تقول كتب المغازي كلها. وقد كمن مقاتلو القبيلتين الوثنيتين هوازن وثقيف بقيادة مالك بن عوف النصري في شعابه وأحْنائه ومضايقه وبين أشجاره لجيش المسلمين بناء على نصيحة الشاعر المُسن المرافق لهم دريد بن الصمة. وبلغ تعداد جيش المسلمين اثني عشر ألف مقاتل بينهم ألفان من الطلقاء الذين أسلموا كرهاً بعد فتح مكة كأبي سفيان وأولاده.
قسَّم النبي جيش المسلمين إلى كتائب؛ فكانت الأولى من بني سُليم بقيادة خالد بن الوليد في المقدمة، والثانية للمهاجرين بقيادة علي بن أبي طالب، والثالثة بقيادة الزبير بن العوام. وهناك تقسيم آخر أكثر تعقيداً وفروعاً للمهاجرين والأنصار وللعرب المسلمين من أبناء القبائل والطلقاء.
كانت كتيبة خالد بن الوليد في المقدمة، وهي التي وقعت في الكمين المعادي، إذْ باغتها المقاتلون القبليون بالهجوم من مكامنهم وأمطروها بالنبال والحجارة، فتشتت شمل الكتيبة وقتل بعض مقاتليها وأصيب خالد بجروح بالغة وفرَّ كثيرون من الميدان نحو مكة. لم يبق مع النبي إلا نفرٌ قليل، اختلف الرواة في تحديد عددهم. فأبو حجر العسقلاني يقدرهم تارةً بأربعة أنفار: ثلاثة من بني هاشم، ورجل من غيرهم، وكان علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب يقاتلان بين يدي النبي، وتارة يقدرهم بعشرة بينهم إضافة الى الأربعة سالفي الذكر أبو بكر وعمر بن الخطاب، وصعد رواة آخرون بالعدد إلى أربعين صحابياً لم يكن بينهم أحدٌ من آل سفيان!
في تلك اللحظات العصيبة ارتجز النبي أرجوزته الشهيرة: "أنا النبي لا كَذِب ...أنا ابن عبد المطلب"، واستمر يقاتل بسيفه هو ومن معه. ثم طلب من عمه العباس، الذي عرف بصوته الجهور القوي، أن ينادي على "أصحاب بدر" أن اقبلوا ولا تفروا! فحضر ممن شاركوا في معركة بدر العشرات وكأنهم الحرس الاستشهادي الخاص بالإسلام في ساعة الشدة. وبدأوا يتصدون للمقاتلين القبليين ويكشفونهم عن مواقعهم فمالت الكفة لمصلحة المحمديين. وبدأ مسلمون آخرون يعودون إلى الميدان، وانقلبت المعركة لمصلحة المسلمين وهُزمت قبيلتا هوازن وثقيف في النهاية تاركين خلفهم غنائم ضخمة!
كانت حُنين معركة هائلة ومعقدة من عدة أجزاء، كاد يباد فيها جيش المسلمين، وهرب معظم مقاتليه في جزئها الأول. ثم، وبسبب ثبات آل بيت النبي والمسلمين الأوائل البدريين، لا الطلقاء، انتصر المسلمون انتصاراً حاسما وصعباً. لقد تحولت هذه الأحداث التي فصَّل فيها المؤرخون وكتاب السِّير القدماء إلى مشاهد تلفزيونية ركيكة كالتي التي عُرضت، فهل هذا معقول ويمكن تبريره؟
ترى، ألم يقرأ المؤلف والمخرج شيئاً عن تفاصيل هذه الغزوة في أمهات الكتب الإخبارية وموسوعات التراث؟ ألم يقرآ ما ورد بخصوصها في القرآن الذي تحدث عن هذه المعركة بتفصيل كافٍ، وعلل سبب هزيمة المسلمين في بدايتها، تقول الآية {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ/ التوبة 25}، أم إنَّ همهما كان مُنصباً على إظهار آل سفيان أبطالاً!
ثم أين نضع روايات وأحاديث معاكسة لرواية المسلسل وردت في أهم المصادر السُّنية وقالت إنَّ "أبا سفيان وبعض أهله اعتزلوا النبي (فارقوه وابتعدوا عنه) قبل بداية معركة حُنين وشمتوا بهزيمة المسلمين"، ففي "شرح مشكل الآثار" (6 / 412) للإمام الطحاوي المولود في القرن الثالث الهجري بصعيد مصر، نقرأ بعد سلسلة العنعنة: "لَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ يَوْمَ حُنَيْنٍ جَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ يَقُولُ: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَصَرَخَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ وَهُوَ مَعَ أَخِيهِ لِأُمِّهِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ: أَلَا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ" يقصد السحر الذي رموا به نبي الإسلام". ونجد هذه الرواية بنصها هذا في تاريخ الطبري (224 هـ - 310 هـ) ص 347 مج2 - دار مؤسسة الأعلمي.
ونقرأ على ص 197 من "سير أعلام النبلاء" للذهبي وهو من أهل القرن السابع الهجري ما ورد من وصف للأحداث صباح يوم غزوة حنين حيث كتب: "فلما أصبح القوم، اعتزل أبو سفيان، وابنه معاوية، وصفوان بن أمية، وحكيم بن حزام، وراء تل، ينظرون لمن ستكون الدَّبرة (الهزيمة)". كما ورد هذا الحديث في مغازي التابعي عروة بن الزبير بن العوام (ت 94 هـ/713) ولم يُعرف عنه أنه كان مناوئاً لبني أمية بل كان مقرباً منهم!
نقدُ بعض نقدِ المسلسل
نال مسلسل معاوية الكثير من النقد في أيامه الأولى، وكاد يتحول إلى قضية رأي عام وفضيحة فنية (بجلاجل)، وخرج النقاد والصحافيون غالباً بأحكام سلبية قاسية عليه وعلى القائمين عليه، ودعا بعضهم لمقاطعته ثم انحسر اهتمام النخبة وعامة الناس به وكاد يتوارى تماماً بين المسلسلات الرمضانية.
ومما كُتب من نقد عن هذا المسلسل أتوقف عند مثالين. الأول كتبه د. عبد الله معروف، أستاذ السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي في "جامعة 29 مايو" بإسطنبول، وهو ممن يترضَّون على معاوية، فسجل على لغة المسلسل ركاكتها وبعدها عن جزالة لغة ذلك العصر، وضرب لذلك مثالاً في ما قالته هند بنت عتبة مُناغيةً وليدها معاوية: "أنتَ إنجازي الأعظم"! وإذا كنا نتفق مع د. معروف على أن هذه العبارة المستحدثة المعاصرة ناشزة وركيكة، فليس من السهل الاتفاق معه على وجوب كتابة حوار المسلسلات التاريخية في عصرنا بلغة عصر صدر الإسلام. فعلى صعوبة ذلك تنفيذياً، من المرجح أنَّ كُثراً من المشاهدين اليوم لن يفهموها بسهولة. والحل كما أعتقد يكون في استعمال لغة وسيطة لا تجنح إلى الجزالة والتقعر اللفظي القديمين ولا تسقط في المباشرة والركاكة الفظة كلغة "أنت إنجازي الأكبر"!
ويتساءل الناقد وهو هنا على حق: "متى كان العرب في مكة يلبسون القفطان العثماني وملابس العصر المملوكي؟! أما من الناحية التاريخية، فيجد د. معروف فرقاً بخمس سنوات بين عمر معاوية في المسلسل وعمره في المصادر التأريخية. والحقيقة، فلا يوجد عمر متفق عليه في المصادر القديمة لمعاوية. إذْ أنَّ هناك أكثر من تقدير لعمره بين من قال، ولد مُعاوية قبل البعثة بخمس سنين، وقيل بسبع، وقيل: بثلاث عشرة، أي أن الفرق في المصادر القديمة يصل إلى ثماني سنوات.
نقد يوسف زيدان للمسلسل
كما انتقد الكاتب المصري يوسف زيدان، والذي يُعرِّف نفسه بـ "الباحث المتخصص في التراث العربي المخطوط وعلومه" مسلسل معاوية. ومما قاله بهذا الصدد: إنَّ المسلسل "أظهر مكة قبل وبعد الإسلام كروما القديمة، ومعاوية كسقراط/ المصري اليوم عدد 6 آذار مارس 2025". وهذا كلام مرسل وغير صحيح البتة؛ فالبنايات والبيوت كلها طينية وبسيطة وذات طابق واحد. والأدوات الحياتية والملابس والإكسسوارات بسيطة جدا بما فيها بيوت الخلفاء كبيت عثمان وهو أغناهم، وهذا ما شاهده المشاهدون على الشاشات.
وقد سجلنا في مقالة سابقة أن المخرج أظهر بلاط هِرَقْل وكأنه حمام تركي مهجور خالٍ من مظاهر الأبهة الرومانية. ولكني أضيف الآن، أنَّ الحلقات اللاحقة، وبدءاً من الحلقة العاشرة، تحسنت فيها الديكورات كثيراً، وخصوصاً قصر معاوية بدمشق الشام. ولا أدري عن أي روما يتكلم يوسف زيدان، خصوصاً وهو يعلق على الحلقة الأولى وشيئا من الثانية من المسلسل فقد اعترف بأنه لم يتمكن من مشاهدة أكثر من حلقة وثلث!
يعترض يوسف زيدان على أن معاوية لم يكن كاتبا للوحي لأن عمره حين توفي النبي كان أحد عشر عاماً. وهذا تخريج غير صحيح في أي حساب حسبناه. وإذا كنا نتفق مع زيدان على أن معاوية لم يكن من كتاب الوحي، ولكن لسبب آخر غير صغر سنه، بل لأنه لم يكن كاتبا للوحي بل كاتبا للنبي يملي عليه مراسلاته مع الأمراء وزعماء القبائل العرب. أما لناحية عمره، فما يقوله زيدان ليس صحيحاً؛ فقد توفي النبي في ربيع الأول سنة 11 هـ / حزيران - يونيو 632 م. أما معاوية، فقد ولد على أرجح الروايات وأقواها في 15 ق. هـ / 608 م. وهذا يعني أن عمر معاوية حين توفي النبي كان لا يقل عن 25 عاما. وإذا افترضنا أنه أصبح واحداً من كتاب النبي بعد فتح مكة فيكون عمر معاوية عندها ليس أقل 22 عاما. فكيف خرج علينا زيدان بهذه الحسبة؟
معاوية كاتب الوحي أم القبائل؟
يحتفل المسلسل في الحلقة الثانية بكون معاوية صار أحد كتاب الوحي، ويعطي لهذا الأمر أهمية استثنائية خارقة ويخصص له العديد من المشاهد الطويلة، والهدف هو دائما تنزيه بطل المسلسل ومنحه صفات إيجابية شتى حقا أو باطلا. والحال فإنَّ كتابة الوحي ليس شيئا يُقدِس أو يعصِم فاعله. وينكشف لنا الحجم الحقيقي وغير المهم لهذه الحيثية حين نعلم أن معاوية كان واحداً من عدد كبير من الكتاب في خدمة النبي. فقد قال بعض المؤرخين إنهم ثلاثة عشر، وصعد بهم ابن كثير في "البداية والنهاية" إلى ثلاثة وعشرين كاتبا، وبالغ آخرون فقالوا بل هم أربعون كاتبا. ويمكن القول إنَّ هؤلاء هم غالبية إنْ لم يكونوا جميع من كانوا يجيدون الكتابة في مجتمع مكة الصغير الجاهلي، والذي لم يعرف الكتابة كثيرا من قبل.
وقد أورد الإمام عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن صاحب "تخريج الأحياء" أن ثلاثة من كتاب الوحي ارتدوا عن الإسلام وهم ابن خطل وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخو عثمان بن عفان في الرضاعة، وثالث لم يذكر اسمه.
وبمراجعة كتب التراث والمصادر الوثيقة لم يثبت أصلاً "ان معاوية كان كاتبا" للوحي؛
ففي "سير أعلام النبلاء" للذهبي نقرأ أن زيد بن ثابت كان كاتب الوحي، وكان معاوية كاتباً لما بين النبي وبين العرب. وورد في "الإصابة في تمييز الصحابة" للحافظ ابن حجر الهيثمي هذا الخبر تكراراً. قال: كان زيد بن ثابت يكتب الوحي وكان معاوية يكتب للنبي فيما بينه وبين العرب. "ولم يُصَرَح بكتابة معاوية للوحي إلا في حديث لأبي عوانة الإسفراييني النيسابوري وهو حديث موضوع لا يصح" كما كتب الباحث الإسلامي د. عدنان إبراهيم في مقالة له على مدونته بعنوان "هل كتب معاوية الوحي - 21 شباط فبراير، 2011".
وقد جاءت الضربة الأخيرة والقاضية لهذا الزعم من الفقيه الحنبلي المتشدد صاحب كتاب "تلبيس إبليس"، والذي لا يمكن اتهامه بممالأة العلويين وشيعتهم، ابن الجوزي القرشي البغدادي (510هـ - 597 هـ) في كتابه "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه". حيث ردَّ على ابن كثير الذي وصف معاوية بأنّه "كاتب وحي رب العالمين وخال المؤمنين"، فخاطبه قائلاً: "وأما قولك (ومعاوية كاتب وحي رب العالمين) فليس بصحيح، وذلك لأنَّ معاوية أسلم عام الفتح، وهو وأبوه من الطلقاء، وقد أسلم في أوقات قد فرغ فيها نزول الوحي ووصل عند قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا - سورة المائدة آية 3 ﴾ فماذا سيكتب معاوية بعد هذا- دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ص242" - طبعة دار الإمام النووي، حققه وقدم له حسن السقاف. ويضيف ابن الجوزي في كتابه هذا، أن معاوية حتى حين كتب رسائل النبي إلى زعماء القبائل العرب فهو لم يكتب إلا ثلاث رسائل، فيقول: "وليكن معلوماً أنه -معاوية - أيضاً ما كتب للنبي (ص) إلا ثلاث رسائل – م.س".
ومن طريف ردود ابن الجوزي على ابن كثير، رده بخصوص وصف معاوية بـ "خال المؤمنين" كتب: "فأما قولك "خال المؤمنين" فليس بصحيح البتة، لأنه لم يرد في سنة صحيحة أو أثر. وعلى قولك هذا في الخؤولة، فإن حُيي بن أخطب اليهودي يكون جد المؤمنين لأنه والد السيدة صفية زوجة النبي"ص"- م.س.
إن مشكلة أهل مسلسل "معاوية" والمسلسلات التأريخية التجارية المماثِلة المؤدلجة بالفكر السلفي التكفيري ذي الدوافع الطائفية المعاصرة، ومهما بُذِلَ عليها من ملايين الدولارات، إنها باتت تُصنع في زمن صار من السهل فيه حتى على المسلم البسيط وقارئ العربية غير المتخصص الوصول إلى أمهات المصادر التراثية بسهولة تامة، ليتبن له الحقُّ من الباطل والغثُّ من الثمين والصحيح من السقيم والحقيقي من المزور والمُدَلَس. وفي ما أثاره هذا المسلسل من ردود أفعال درسٌ قاسٍ ولكنه مفيد لمن يتعظون من أخطائهم وأخطاء غيرهم!
***
علاء اللامي - كاتب عراقي

 

لاوجود في الشرق المتوسطي العربي لايه تفاعليه مع الراهن الحاضر ذاتيا على المنقلبين النقلي عن النموذج الاوربي، او الاستعادي الابراهيمي، المنحنيان المهمينان على العقل ومظاهر حضوره بغض النظر عن فعاليتها، وان هي قد دلت وان بلا ابداعية مواكبه للحظة، على قوة حضور الذاتيه غير الناطقة ولا المفصح عنها، وبغض النظر عن راهنيتها، ومع تعدد مظاهر واشكال الاستعادية التشبهيه الابراهيمه كما تجلت تحت وطاة النهوضية الاوربيه، فانها تظل تعكس من موضع حساس، قوة حضور المنجز الذاتي التاريخي وتعذر اقصائه من اللوحه.
وتولد التشبهية الابراهيمه كمنزع مقاومه ورفض ينطوي على رفض النموذجيه التفكرية والنموذجيه الاوربيه، بالاخص مايبدو من جانبها الالغائي للنمطية المجتمعية المقابله اللاارضوية التي هي خاصة ونوع تعبيريه هذا الموضع من العالم، علما بان حركة رفض الاوربة الحداثية تجري اليوم، ضمن حاله عدم توازن ذاتيه اهم معالمها واخطرها غياب النبوة و"الكتاب"، العنصران الحاسمان في بنية وفعالية اللاارضوية من جهه، والارجحية التاريخانيه المتولدة عن راهنية المنظور الغربي مقارنه بتاريخ المصدر اللاارضوي النبوي بصيغته الاخيرة الخاتمه، مايضع الاخير بموقع اللافعالية التاريخيه، بما انه لم يحقق المطلوب ويسود هو على مستوى المعمورة، بل على العكس تردت وضعفت نتائجا مفسحة المجال اما م الصعود الغربي وهيمنته الكاسحه على مستوى المعمو رة، الامر الذي يضعف للوهلة الاولى من مصداقية اللاارضوية النبوية تاريخيا، كحقيقة شمولية نهائية.
وكما سبق التنويه فان الحال العقلي اللاارضوي وقت مواجهته التحدي الصعودي الالي الغربي، يكون في حال من التردي الاقصى، هذا اذا اخذنا بالاعتبار كون التعبير المذكور ليس من دون حكم الفعالية التغييرية التاريخانيه، الامر الذي تكرسه الانحطاطية التشبهية، وشخص من مستوى محمد بن عبدالوهاب ادنى من ان يرتقي لمستوى التعبيرية التي يريد استحضارها مفصوله عن متعلقاتها اللاحقة على الوحي والكتاب الاخير، اي اجمالي ماقد حدث منذ القرن السابع حتى الثالث عشر، وانتهاء فترة النهوض الموصوله بالانطلاقة الجزيرية الكبرى، ونحن نعرف ان المذكور مجرد دارس للسلفيه الموروثة تلقاها في بغداد، وبعد تجربة عارضة له في البصرة، هرب منها وكاد ان يقتل اثناء هربه الى ان عاد الى بلاده ليباشر نوع استحضار مقفل، مادون عقيدي، ومستوى تدن معرفي منعه وقتها ان يعي نوع العلاقة الجوهر والاصل بين " العقيدة" و " القبيله"، فوضع دعوته التي بلا الهام راهن مشفوعة بتوهماته الموكوله الى اسباب تهديديه برانبه محفزه، بين يدي القبيله/ ال سعود/، الامر المخالف كليا للمبدأ النبوي المحمدي الذي حقق وقتها اخضاع القبيلة للعقيدة في مجتمع قبلي، الامر الذي استمر طيله عهده والراشدين من بعده، الى معاوية بن ابي سفيان بطل الانقلاب القبلي وعودة القبيله التي تستعمل العقيدة لاغراض الحكم العضوض الوراثي، غير المعروف في الجزيرة نفسها اصلا حتى قبل الاسلام، بحكم كونها مجتمع لادولة خاضع لاقتصاد الغزو، بلغ ذروة تازمه بسبب قطع الاحتلال الفارسي على مدى سنوات طويله للشريان التجاري الواصل بين البحر عند جنوب الجزيرة العربيه، والهلال الخصيب شمالا، المصدر الذي كان يؤمن الحد الادنى من التوازن المعاشي المجتمعي.
ولاشك ان بعضا من ملامح الاختناق التجاري المذكور قد لاحت في حينه مع الاحتلالات البرتغالية والهولنيه والبريطانيه للساحل الخليجي، وقطعها للطريق البحري الواصل للهند مصدر التجارة الحيوي التاريخي، الا ان شيئا نوعيا وانقلابيا كان قد حصل وقتها تاتى في حينه من افتقاد الجزيرة العربيه لميزتها الاهم، باعتبارها مجتمعا احترابيا استثنائيا بناء على نوع الاقتصاد الناظم لحياة هذا الموضع الصحراوي، الامر الذي اليه يعود بالدرجه الاولى ماقد حدث في حينه من انتشار لامثيل له في التاريخ البشري لانطلاق احترابي خارج من ارضه الصحراوية الجرداء المعزوله، بما لايصل الى ربع مليون مقاتل حاف، احتلو العالم الشرقي وصولا الى الصين والهند، والى الغرب وصولا لاسبانيا بما لايزيد على العشرين سنه، الامر الذي لامثيل ولاشبيه له في التاريخ البشري، علما بان الخارجين الحفاة من الصحراء لم يكونوا متميزين تسلحا وماكانوا يمتطون الدبابات ويطلقون الصواريخ، ولا تميزوا في اي مجال تسليحي احترابي ان لم يكن العكس، هذا وهم دخلوا الهلال الخصيب بزمن قياسي، والهلال يضم خمسة ملايين ساكن وقتها، وهم ليسوا اكثر من مائتي الف في ارض يحميها الغزاه الفرس والرومان، وجيوشهم المسلحه اعلى تسليح في وقته.
التازم الاقصى في مجتمع احترابي، السيف فيه يرضع مع صدر الام، وهو الحياة لمجتمع "طلع" لايحكم ولايحكم كما يقول عنها اهلها، حيث الفكرة الالهام اللاارضوي / النبوة /كيانيه مطابقه متعدية للكيانيه، يريد استعادتها ارضوي امي، يبدا من اعتماد قانون الغلبه القبيلي المتضاد كينونه مع مايجري استعماله لاغراض الحكم والسيادة التي ماتلبث ان تهزم "عسكريا" في ارضها على يد محمد على الالباني، ليذهب ال سعود بعدها منفيين الى الكويت فلايعرف عنهم وقتها دين ولادعوة، الى ان تحولت النبوة على يدهم الى ريع نفطي يستدعي الانكليز للاتيان بهم من منفاهم ليقيموا " دولة استعمال النبوة ريعيا للحكم المجافي كليا حتى لطبيعة المكان التاريخيه، محولة اياه من مجتمع محارب اعلى،الى مجتمع منزوع السلاح يعيش على اعطيات الحكم الممسك برقبة الابار ومردودها، نهايته محمد بن سلمان وتحديثاته الكاريكاتورية"، وكل هذا لم يستوجب بعد والى الساعه، اي توقف عند معنى التشبهية الابراهيميه ودرجة ترديها المريع قياسا لما تدعية وتتوهمه، من دون حتى مجرد انتباه الى اختلاف وتباين الدعوة السلفية المريع، مع ماتدعي استحضاره في غير ساعته واوانه، وبالذات بين هبة "الفتح" المحمدية الكونية العظمى، وبين الانهزام المخزي امام محمد علي للوهابيه في عقر دارها، كدالة على تغير اساس لم ينظر فيه الى اليوم، بين زمن ونوع ممارسة عسكرية ماقبل وابان الانطلاقة الجزيرة ومابعد، وصولا الى الانقلاب الالي واثاره على الممارسة العسكرية عموما، مايجعل التوافق بين الالهامية النبوية في حينه في القرن السابع والميزة الكينونه البنيويه، وطبيعة المفهوم المجتمعي المعاش والموروث للحكم، ونوع الدولة، ركائز مادية اساسية لتكريس الالهامية الايمانيه بغض النظر عن الفعالية، بالاخص ابان الطور التعبيري اللاارضوي النبوي الحدسي وختامه المحمدي.
ـ يتبع ـ
***
عبد الامير الركابي

 

خرج علينا رجلٌ يعتمر العِمامة البيضاء، وهو يقف أمام خريطة، يُحدد عليها مسار «السُّفيانيّ»، حسب الكتب الخاصة بظهور المهدي المنتظر، يقابل هذا المشهد هتافات علت وسط دّمشق: «بكرية عمرية أمويَّة»! خطاب لا يدر على العراقيين والسُّوريين سوى القتل والجهل!
عاد اسم «السّفيانيّ» إلى الواجهة، لاختصار السّياسة بنزاع العلويين والأمويين، قبل (14 قرناً) بينما أولادهما وأحفادهما اعتبروه ماضياً قد ولى، فالمهدي، والممهد له اليماني، علويان، بالنَّسب والانتماء، والسُّفيانيّ مِن آل أبي سُفيان الأمويّ، ويظل النّزاع (الأبديّ) جارياً بينهما، دون الاكتراث بأن ابنة أبي سفيان أُمُّ حبيبة رملة، كانت ومازالت أمَّ المؤمنين (ابن سعد، الطبقات الكبرى)، وأن عليَّ الأكبر بن الحُسين (قُتلا: 61هج) أمه ليلى، حفيدة أبي سفيان، فأشير إليه بعلوي العمومة، وأموي الخؤولة (القُميّ، منتهى الآمال).
بالمقابل، تزوجت فاطمة بنت الحُسين، بعد ابن عمها الحسن المثنى العلويّ، حفيد عثمان بن عفان الأموي، فولد أخٌ أموي لآل الحسن العلويين (الزبيريّ، نسب قُريش). القصد لم يكن هناك سفياني يُهدد المستقبل، مثلما خرج علينا أمين «الدّعوة الإسلاميَّة» مُتوكّئاً على هذا الماضي، فلو تركه ليس له ما يُحشد الجمهور.
وقف المعمم، يحدد مسار رؤية أمين الدّعوة بإقليم شيعيّ، في أنّ السُّفياني سيدخل بغداد مِن الشَّام، متناسياً أنّ شاحنات متفجرات دخلت أمام ناظره منها، مثل صناديق حلوى عنده، تكلم ضدها ليومين وقلب الرِّداء مدافعاً عن مُرسليها، بينما كانت تهز بغداد على مدار الأسبوع، فبدل الخطاب ليصرخ: أتيناك يا بيروت، أتيناكِ يا دَمشق، أتيناكِ يا صنعاء، والمؤتمرون برئاسة مستشار الولي الفقيه يردون: أتيناكِ يا بغداد! ولم يأتِ بغداد سوى الخُرافة والاغتيال والخطف، فضاق أهلها بهول ما يواجهون ويعانون.
حسب الكتب الخاصة بالمنتظر، يسبق ظهوره السُّفيانيّ، وكانت المفاجأة، خروج رجلٍ كان مختلط النسب علويَّاً وأمويَّاً، اعتبروه السّفيانيّ، وهو عليّ بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأمه نفيسة حفيدة العباس بن عليّ بن أبي طالب، لقبه «العُميطر»(ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق). بويع بدَمشق ضد العباسيين، في عهد عبد الله المأمون(ت: 218 هج)، كان هدفه مشتركاً أمويَّاً وعلويَّاً، ثم انحسر مختفياً(195-199هج).
أُهملَ السّفيانيّ هذا، ففيه ما يخالف منطقهم، واليوم يهددون بسفيانيّ، بعد الذي حصل بسوريا، والسّفيانيّ المهدد به، قد يكون «بعثياً» سُنيّاً، أو «بعثيّاً» علويّاً، فذاك يُحسب بحساب منطق الممهد للظهور، فيجري الخسف المعروف في الآثار، مُثلت خرافته في أكثر مِن زمان، فلا خسوف بيداء، ولا النَّفس الزَّكية يعود، ولا علامة مِن العلامات تحققت.
غاب المنطق، فما تحاوله الدّولتان، العراقيّة والسُّوريَّة، التعامل بالواقع، تفسده الجماعات بهتافها وسلاحها، جماعات يمثلها أمين «الدّعوة» في خطابه المأزوم، وقد تخيل نفسه «طالب الثَّارات» المختار الثّقفي(قُتل: 67هج)، وغيره الخصم عبيد الله بن زياد(قُتل: 67هج)، يقابله خطاب الدَّواعش، الذين يريدونها «طالبان»، والطائفية قاسمهما المشترك.
هدد المعمم بسفياني «الدَّعوة الإسلاميَّة»، أنه قادم من «قرغيزيا»، سيطرق دمشق، ويحتل ما يمر به مِن بلدان وأراضين، ويُستقبل من قِبل غرب العراق(السُّنيّ)، ويدخلون معه لاحتلال النّجف، وبغداد، وحسب المعمم سيحكم لأيام، ثم يقوم اليماني، وجيشه مِن الميليشيات الولائيَّة، ويطرد السفيانيّ، كي يمهدها للمهدي المنتظر، فانظروا حجم المأساة والملهاة في وقت واحد!
هذا الخطاب المشروخ، لكثرة طرحه، يخطف مِن أهل العراق العقل، ويجعلهم أمام جهل، يُحار باختراقه، فإذا كان هناك سفيانيّ حقّاً، فأصحاب هذا الخطاب هم (السفياني) بعظمه ولحمه، وللأمير عبد الله بن المعتز العباسيّ(قُتل: 296هج)، ما يُنشد: «قد عضَّني صَرْفُ النّوائبْ/ ورأيتُ آمالى كواذب/ والشّمْسُ تأكُلُ ظلّها/ أكلَّ اللّظَى عيدانَ حاطبْ»(الصُّولي، أشعار أولاد الخلفاء)، فالخُرافة حين تَضرب أطنابها تُحيل الآمال كواذبَ.
***
د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

في البدء، لا بد من الإقرار بأن التاريخ ليس خطًّا مستقيمًا، بل هو موجات متكسرة، تتلاطم فيها القوى، وتتصارع فيها الأوهام والحقائق. لقد ظن العالم، بعد سقوط جدار برلين عام 1989، أن عجلة التاريخ قد توقفت، وأن “نهاية التاريخ” التي بشّر بها فوكوياما قد حلت، حيث لم يعد هناك صراع، بل سيادة مطلقة لقيم الليبرالية الغربية. لكن السنوات التي تلت كانت كفيلة بفضح هذا الوهم. لم يكن التاريخ قد انتهى، بل كان يعيد تشكيل نفسه، متحركًا في دوائر عبثية حيث تُعيد الأنظمة المستبدة إنتاج ذاتها بأشكال جديدة، وحيث يتقدم العالم إلى الخلف، كراقص سكير يتعثر بين نشوة القوة وفوضى الانحطاط.
في الولايات المتحدة، تتجسد هذه الحركة النكوصية في عودة ترامب، ليس كشخص بل كحالة، كفكرة جذرها الخوف وساقها العنف. لم يكن ترامب سوى انعكاس لحقيقة أكثر عمقًا: أن الديمقراطية الليبرالية، التي يفترض أنها بلغت قمتها، قد بدأت في التآكل من الداخل، ولم تعد سوى غطاء شفاف يحجب تحت سطحه تصدعًا أخلاقيًا وسياسيًا. إن الشخصيات التي تحيط به الآن—من ستيف بانون الذي يحلم بثورة يمينية شاملة إلى جي دي فانس الذي يرى في السلطة المطلقة حلًّا لكل شيء—تكشف عن نزعة فاشية تتبلور ببطء، وتعيد إلى الذاكرة مشاهد صعود الطغاة في ثلاثينيات القرن الماضي.
لكن التآكل الأمريكي ليس مجرد صراع أيديولوجي، بل هو انعكاس لفشل اقتصادي عميق. فقد صنعت الرأسمالية المتوحشة طبقة صغيرة تملك كل شيء، فيما تآكلت الطبقة الوسطى، ما خلق حنقًا شعبيًا غذى الشعبوية اليمينية.
إن هشاشة البنية الاجتماعية ليست سوى ممر مفتوح للديكتاتوريات القادمة.
ولكن، هل يمكن فصل هذه التحولات عن صعود الأنظمة القمعية في الشرق الأوسط وأفريقيا؟ هل يمكن فصل صورة الطاغية العربي، المتكئ على بندقية القمع، عن صورة السياسي الغربي، الذي يتحدث عن الديمقراطية فيما يوقّع صفقات الأسلحة مع أمراء الحرب؟ من القاهرة إلى موسكو، ومن الرياض إلى الخرطوم، تتشابك المصالح في نسيج من الدمار، حيث يصبح المواطن البسيط مجرد رقم في معادلة القوة، وحيث تُعاد كتابة الخرائط بدماء الشعوب.
في السودان، مثلًا، لم يكن النزاع بين الجيش والدعم السريع مجرد صراع داخلي، بل كان امتدادًا لسياسات دولية ترى في البلاد مجرد رقعة شطرنج، تُحرَّك فيها القطع كيفما تشاء مراكز القوى. وفي سوريا، حيث تحولت البلاد إلى مسرح مفتوح للقوى المتنافسة، من الولايات المتحدة وروسيا إلى إيران وتركيا، باتت سيادة الدولة فكرة هشة، بينما تقتسم الفصائل المسلحة، المدعومة من الخارج، أراضيها كغنائم حرب. أما في اليمن، فقد أصبح البلد ساحةً لحرب لا تنتهي، مدفوعة بأطماع إقليمية وخارجية، حيث تُستخدم المأساة الإنسانية كأداة ضغط سياسي، وحيث الموت اليومي لا يُعد خبراً يستحق الذكر.
وفي الخليج، تبدو الصورة أكثر فجاجة. أنظمة ملكية مترفة تحكم بالحديد والنار، تدفع الأموال بسخاء للإمبريالية كي تضمن بقاءها على العرش، وتنفذ الأجندات الغربية بوعي الطامع في الخلود السياسي.
السعودية، التي تحلم بأن تكون قوة عالمية، تمارس أعتى أشكال القمع الداخلي، فيما تشتري شرعيتها الدولية من خلال عقود السلاح والصفقات الاقتصادية الضخمة.
لكنها ليست فقط دولة بوليسية، بل هي نموذج لرأسمالية ريعية تُبقي شعبها في حالة خضوع من خلال توزيع الريع النفطي، بينما تبني ناطحات سحاب تعكس وهم الحداثة. الإمارات، التي تقدم نفسها كواحة للاستثمار والانفتاح، لا تتردد في سحق أي صوت معارض، وتدير عمليات تدخل خفية في دول أخرى لإعادة تشكيل المشهد السياسي بما يتناسب مع مصالحها.
نموذجها الاقتصادي، الذي يقوم على العمالة المهاجرة الرخيصة وقوانين الاستثمار التي تخدم النخبة العالمية، ليس سوى واجهة لاستبداد مموه بحداثة زائفة. أما قطر، التي تتباهى بإعلامها الحر، فلا تزال تحكم بقبضة العائلة الواحدة، حيث الديمقراطية مجرد زينة لا تتجاوز حدود الاستعراض. هذه الدول، التي تتاجر بواجهات الحداثة، تحافظ على جوهرها السلطوي، حيث يصبح الولاء للعرش أهم من الولاء للوطن، ويصبح الشعب مجرد تفصيل ثانوي في معادلة الحكم.
في بغداد، المدينة التي كانت يومًا قلب العالم النابض بالمعرفة، ومركزًا للفكر والفلسفة، لم يبقَ سوى أطلال تحكي حكاية مدينة خُذلت مرارًا. هناك، حيث كانت الحلقات الفلسفية تُعقد تحت ظلال النخيل، وحيث كان الورّاقون ينسخون كتب أرسطو وأفلاطون، لم يتبقَّ سوى أنقاض تحرسها الميليشيات، وشوارع تنتظر قدوم الضوء من نفق لا يبدو أن له نهاية.
في بغداد، كما في دمشق، كما في بيروت، تبدو المدينة وكأنها تجاهد لتبقى على قيد الحياة، تحاول أن تتذكر أيامها الخوالي، لكنها لا تجد في حاضرها سوى الخراب.
لقد أدرك غرامشي، حين كتب من سجنه، أن “الأزمة تكمن في أن القديم يحتضر، بينما الجديد لم يولد بعد”، وهذه هي المعضلة التي يعيشها العالم اليوم: أنظمة فاسدة لكنها متجذرة، وحركات مقاومة لم تجد بعد لغتها الخاصة. المثقف، في ظل هذا كله، يبدو كمن يقف على حافة هاوية، متسائلًا عن جدوى كلماته في عالم يحكمه الصخب والسلاح.
ما مصير المثقف في زمن الهيمنة المطلقة؟ هل يُعقل أن يكون قدره الصمت، أو أن يتحول إلى أداة في يد السلطة، كما فعل كثيرون ممن ارتدوا عباءة الثورة ثم باعوا أنفسهم في مزاد المصالح؟
إن مصير المثقف في هذا الزمن يشبه إلى حد بعيد مصير بطل كونديرا في “كائن لا تحتمل خفته”، الذي يجد نفسه ممزقًا بين ثقل الالتزام وخفة التجاهل. هل يكون شاتوف، ذلك المثقف الروسي الذي قتله أصدقاؤه الثوريون في “الشياطين” لدوستويفسكي، أم يكون ساراماغو الذي كتب عن العمى في عالم يرى لكنه لا يبصر؟ المثقف الذي يرفض الانخراط في اللعبة السياسية يجد نفسه منفيًّا داخل وطنه، مسجونًا في لغة لم تعد قادرة على وصف الخراب، لكنه، رغم ذلك، يظل الشاهد الأخير، ذاك الذي يسجل الهزائم حتى حين يكون عاجزًا عن منعها.
أما المواطن البسيط، فهو الضحية الحقيقية لهذا النظام العالمي المختل. في السودان، في العراق، في اليمن، في فلسطين، في كل مكان حيث الحروب تدار كاستثمارات، يتحول الإنسان إلى مجرد وقود في آلة السلطة. المواطن، الذي كان يحلم بحياة كريمة، يجد نفسه مطاردًا بالجوع والخوف، مرغمًا على قبول واقعه كأنه قدر مكتوب.
إن الحروب الحديثة، التي يديرها أمراء الحرب بشراكة مع القوى العظمى، لم تعد تحتاج إلى مبررات أيديولوجية كما كان الحال في القرن العشرين، بل صارت تدار بوقاحة لا تخفى: حرب من أجل الغاز، حرب من أجل النفط، حرب من أجل النفوذ، بينما الشعوب تدفع الثمن وحدها.
في نهاية المطاف، تبقى الأسئلة مفتوحة: هل نحن في زمن تولي الأشرار زمام الأمور، أم أن العالم لطالما كان يحكمه الطغاة، لكننا فقط صرنا أكثر وعيًا بهذه الحقيقة؟ هل يمكن أن يولد من هذا الدمار شكل جديد من المقاومة، أم أننا محكومون بالعيش في هذا الدوران العبثي؟ هل سيسجل التاريخ هؤلاء الطغاة كمنتصرين، أم أن هناك، في مكان ما، في زقاق ضيق، أو في قلب مدينة تشتعل، ثائرًا يحمل في عينيه وعدًا لم يتحقق بعد؟
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

 

أثارت التغييرات المفاجئة التي حصلت في سوريا على نحو سريع إشكاليات ومشكلات بناء الدولة أو إعادة البناء، باستعادة مصطلح غورباتشوف "بريسترويكا"، خصوصًا ما أعقبها من تطوّرات في الملف الكردي بإعلان عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمّال الكردستاني (المحكوم مدى الحياة) منذ العام 1999 في سجن إمرالي، الطلب من أنصاره إلقاء السلاح وحل الحزب، الأمر الذي يطرح مجددًا مسألة إعادة بناء الدولة في ظل تحديات المواطنة ونظام الحكم ومشكلة المجموعات الثقافية والعلاقة بين الهويّة العامة والهويّات الفرعية، وهو ما واجه الدولة العراقية منذ تأسيسها وإلى اليوم، والتي تعمّقت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003.
وإذا كان توصيف الدولة التركية كدولة بسيطة تقوم على نظام مركزي يعتمد على القومية الأكثر عددًا، وهو ما كان سائدًا في سوريا والعراق، وكذلك إيران، إلّا أن العراق بعد الإطاحة بالنظام السابق وقيام نظام جديد، انتقل من الدولة البسيطة إلى الدولة المركبة، ومن النظام المركزي إلى النظام اللّامركزي "الاتحادي – الفيدرالي"، وهو ما تسعى المجموعات الثقافية الكردية – السورية إلى ما يماثله من خلال الإدارة الذاتية التي تشكّلت بعد الانتفاضات التي عمّت البلاد منذ العام 2011 فيما يسمّى ﺑ "الربيع العربي".
وكان عبد الله أوجلان قد طرح مشروع "الأمة الديمقراطية"، الذي يعتبره مبادرة ترتقي بالطموح إلى تحقيق دولة تقوم على المواطنة، وأساسها المساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، وبالطبع فإن ذلك يحتاج إلى أجواء من الحريّة، وهو ما يعتبره أوجلان مدخلًا مناسبًا لحلّ المسألة الكردية في تركيا، بل لمشكلة التنوّع الثقافي في المنطقة. ويحتاج الأمر إلى اعتراف بالتعددية والتنوّع، وبالتالي إدارة حوار سلمي حول سُبل الحل المناسب في الوضع الملموس وفي الظرف الملموس.
وعلى الرغم من توقيع رئيس الجمهورية أحمد الشرع اتفاقًا مع مظلوم عبدي القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وإعلان الدستور السوري المؤقت الذي حدّدت فيه فترة الانتقال ﺑ 5 سنوات، ومنحت رئيس الجمهورية صلاحيات تكاد تكون غير مسبوقة، باستثناء الأنظمة التي شهدت انقلابات عسكرية، إلّا أن الإشكاليات الإثنية – القومية ستظلّ تطلّ برأسها بين الفينة والأخرى، ما لم تجد حلًّا مقبولًا يقود إلى تسوية تاريخية بالاعتراف بها على أساس حق تقرير المصير، واختيار الصيغة المناسبة للعلاقات العربية – الكردية، علمًا بأن الكرد شهدوا حالات تهميش وإقصاء ومحاولات صهر وحرمان من الجنسية لأعداد كبيرة منهم والذين يسمون بالمكتومين، وتشييد ما سمّي ﺑ "الحزام العربي" ، تلك التي خطط لها النظام السابق منذ العام 1964، وشملت نحو عقد كامل من التغيير الديمغرافي، وقام بتنفيذها بقسوة محمد طلبة هلال، الضابط السابق في جهاز الأمن السوري.
أما بالنسبة للعراق، فعلى الرغم من إقرار الدستور بالنظام الفيدرالي، فحتى الآن لا تزال هويّة النظام غير محدّدة، وصعوبة تصنيفه بسبب تعويم سيادته وعدم فاعليته بفعل هيمنة العامل الخارجي، سواء كان دوليًا، والمقصود بذلك الولايات المتحدة، أو الفاعل الإقليمي المؤثر في الداخل، والمقصود بذلك إيران، علمًا بأن للولايات المتحدة ولتركيا قواعد عسكرية في العراق، في حين أن إيران تمتلك علاقات وطيدة مع فصائل مسلحة في الحشد الشعبي وعبر أذرع مؤثرة من خارجه.
ولعلّ ازدواجية نماذج التدخّل الخارجي الدولي والإقليمي، أثرتا بشكل خاص على الشرعية السياسية والمشروعية القانونية للنظام، ارتباطًا بقضايا التنمية التي تحتاج إلى الأمن ومكافحة الإرهاب والمخدرات، فضلًا عن تداخلات السياسة مع السلاح والدين والمال.
وإذا كانت صيغة النظام المركزي الشمولي قد جرّت البلاد إلى حروب ودمار واستبداد، فإن صيغة ما بعد العام 2003 لم تسهم في لحمة الدولة العراقية، على الرغم من رواج دعوات إلى المحاصصة الإثنية - الطائفية باعتبارها هي الحل، لأن البلد عانى من المركزية الشديدة والصارمة التي أنتجت ديكتاتورية منفلتة من عقالها، ولكي يُصار إلى تنظيم العلاقة بين الفرقاء والفاعلين السياسيين، كان لا بدّ من وضع حلّ لمشكلة الحكم المعتقة، فاختُرعت مسألة ما يسمّي ﺑ "المكونات" التي وردت في الدستور7 مرّات، ثم جاء بايدن، الذي أصبح رئيسًا، بمشروعه الثلاثي القاضي بتقسيم العراق إلى ثلاث فدراليات شيعية، كردية وسنية، ووضع نقاط تفتيش وإصدار هويّات خاصة وجيش لحماية حدود هذه الفيدراليات، وكان الأمر يعني مستقبلًا تقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق، حيث يصبح التقسيم كواقع أمرًا واقعًا.
وعلى أساس هذه الصيغة الثلاثية ابتُدع العرف الذي قُسّمت به الرئاسات الثلاث، فللشيعية السياسية (رئاسة الوزراء)، وللسنية السياسية (رئاسة البرلمان)، وللكردية السياسية (رئاسة الجمهورية)، دون اعتبار للكفاءة بقدر الولاء والزبائنية السياسية، لكنها لم تؤدّ إلى حل مشكلة الحكم بل زادتها تعقيدًا، وكانت بداية نزاع جديد ومركّب.
ويعرف العراق اليوم كيانيتين دستوريتين وإن كانتا متحدتين، لكنهما شبه منفصلتين أو مستقلتين من الناحية الفعلية، ولم يتكوّن فهم مشترك للفيدرالية ومضامينها والتجربة العراقية وخصوصيتها، وحسب وصف رئيس إقليم كردستان نجرفان البارزاني، فإن الدولة تترنّح بين: مركزية شديدة وفقًا لمنظور بغداد، ولا مركزية فيدرالية تتجاوز الحدود.
أعتقد أن النظام الفيدرالي الحالي كصيغة راهنة، لم يعد فعّالًا، والدليل على ذلك تفاقم المشكلات وتراكمها وصعوبة إيجاد حلول لها، فالمجلس الاتحادي الذي أقرّه الدستور في المادة 65، وكان يمكن أن يشكّل العامود الفقري للنظام السياسي في العراق، ظلّ معطلًا منذ 20 عامًا (أي منذ الاستفتاء على الدستور في 15 تشرين الأول / أكتوبر 2005) وإلى اليوم، والمشاكل عالقة مثل المادة 140 والاختلاف حول عائدية كركوك والمناطق المتنازع عليها وقانون النفط والغاز وصلاحيات الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، التي غالبًا ما نرى التنازع بينهما، إضافة إلى الاختلاف الشديد في تفسير بعض مواد الدستور، حتى أن المحكمة الاتحادية، بدت متناقضة أحيانًا، فاليوم تعطي تفسيرًا وغدًا يكون تفسيرًا آخر مختلفًا، بسبب التداخلات السياسية والضغوط التي تمارسها القوى المتنفّذة.
ليس من باب التشاؤم القول أن الصيغة الراهنة وصلت إلى طريق مسدود، إذْ تقضي المسؤولية البحث عن صيغ جديدة بوضع معالجات وإصلاحات واتفاقات عملية من شأنها انتشال الدولة العراقية من واقعها الهش والمتفتّت، وصولًا إلى دولة أكثر تماسكًا وانسجامًا، دون أن يعني ذلك العودة إلى الدولة المركزية، بقدر ما هو إشباع صلاحيات الدولة الاتحادية والإقليم والمحافظات، وفقًا لما ورد في الدستور النافذ، والأمر يقتضي استبدال صيغة المحاصصة بالمواطنة.
الجدير بالذكر أن نظام المحاصصة الذي قاد إلى تعويم الدولة، وأصبح عقبة كأداء أمام تطورها، هو ذاته الذي كان وراء إغراق الدولة اللبنانية حتى أذنيها منذ العام 1943 بالمشاكل العويصة، والتي ما تزال، على الرغم من مرور ثمانية عقود من الزمن، بعيدة كل البعد عن الوصول إلى شاطئ الأمان، وإذا كان التوازن مسألة أساسية في الأنظمة الاتحادية، فإنه يقوم على الثقة أولًا، وتلبية الحقوق واحترام مبادئ المواطنة دون الإخلال بصلاحيات الحكومة الاتحادية أو صلاحيات إقليم كردستان. والتوازن لا يعني العودة إلى المركزية المفرطة التي أصبحت من الماضي، ولا التحلّل من الالتزامات التي يفرضها الدستور على الإقليم فيما يتعلّق بصلاحيات الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم.
إن إدارة التنوّع في مجتمع متعدّد الثقافات مسألة ضرورية، وهي مسألة تواجه العراق اليوم، مثلما تواجه سوريا، كما أنها إن عاجلًا أم آجلًا ستكون ملحةً وأساسيةً بالنسبة لتركيا وإيران، طالما بقت المسألة القومية دون حل مقبول يستطيع فيه الكرد أن يعبّروا عن أنفسهم باعتبارهم قومية متميزة وجزء من أمة عريقة، مثلما هي الأمة العربية والأمة الفارسية والأمة التركية، والكل له الحق في تقرير المصير وفقًا للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، بما يعزّز من سبل التقدّم والتنمية والمشترك الإنساني، الذي يقوم على تعظيم الجوامع وتقليص الفوارق واحترامها.
إن المشاركة الإيجابية في الحياة العامة عنصر لا غنى عنه لأي مجتمع ذي طبيعة تعدّدية مثل مجتمعات الشرق الأوسط وأممه الأربعة، وحماية التنوّع وحُسن إدارته ومنع ذوبان الهويّات الفرعية مسألة أساسية. ولعلّ المشاركة هي الدرس الأول في التربية على المواطنة، تلك التي تكون حاضنة للثقافات على أساس العيش المشترك أو العيش معًا، بغض النظر عن الدين والقومية واللغة أو غيرها، وذلك عبر حوار فعّال ومستمر لبناء هويّة موحّدة تعترف بالخصوصية وتعتبرها مادة غنية لإثراء الهويّة العامة.
***
د. عبد الحسين شعبان

ازداد الاهتمام في السنوات الأخيرة على المستوى الرسمي والأكاديمي والإعلامي والشعبي بموضوعة الفاشية الجديدة وعلاقتها بصعود شخصيات وأحزاب اليمين المتطرف في العديد من البلدان الأوروبية والولايات المتحدة، وبعض البلدان النامية، خصوصا في أمريكا اللاتينية. وجاء فوز دونالد تراب بفترة رئاسية ثانية في انتخابات عام 2024، والذي ينتمي إلى اليمين المتطرف وذو توجهات فاشية شعبوية واضحة ليزيد من هذا الاهتمام؛ إذ يشكل صعود اليمين المتطرف تحولا خطيرا، وستكون له تداعيات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأمني، وعلى مستوى النظام العالمي، وهو أكبر تحول تلا صعود الفاشية بين الحربين العالميتين.
لاشك أن هذه التحول مرتبط بشكل وثيق بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمر بها البلدان الرأسمالية في المركز والأطراف، خصوصا بعد تبني نهج الليبرالية الجديدة-على الرغم من ثبوت فشله بعد اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية عام 2008- وما تركه من نتائج فاقمت حدة الفوارق الطبقية، ودفعت المزيد من الشرائح الاجتماعية نحو الهامش. كل هذه الظروف تهيأ الحاضنة الخصبة لصعود الأحزاب والشخصيات اليمينية المتطرفة، والتي تجد فيها شرائح اجتماعية واسعة يائسة منقذا لها من الأزمات التي تعيشها بعد خيبة آملها بالأحزاب الليبرالية التي حكمت طيلة عقود.
نحاول في هذه المقالة تتبع نشوء بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة، وعلاقتها بإرث الفاشية، من خلال تحليل الآتي: مفهوم الفاشية الجديدة، الجانب النظري-التفسيري، العلاقة بين اليمين المتطرف والفاشية الجديدة، اليمين المتطرف والهجرة الوافدة، وظاهرة الترامبية.
ما هي الفاشية الجديدة؟
يُطلق مصطلح الفاشية الجديدة في المقام الأول على تلك المجموعات السياسية والأيديولوجية والأحزاب التي عملت بعد عام 1945، خصوصا في أوروبا، والتي استلهمت بشكل مباشر تجربة الأنظمة الفاشية والنازية في فترة ما بين الحربين العالميتين في ألمانيا وإيطاليا وبلدان أوروبية أخرى. كانت هذه المجموعات تتكون في كثير من الأحيان من بقايا الناشطين الفاشيين والنازيين الذين لم يكونوا مستعدين للتخلي عن نشاطهم السياسي أو في الواقع التخلي عن أيديولوجياتهم على الرغم من الهزيمة العسكرية. وكان عدد كبير من الذين يدعمون هذه المنظمات يحنون إلى الماضي ومعزولين عن المؤسسات الديمقراطية الليبرالية وثقافتها لفترة ما بعد الحرب، ويحمل الكثير منهم وجهات نظر متطرفة وغير قابلة للمساومة، مؤكدين على الطابع "الثوري" للفاشية بدلا من نسختها القومية أو تلك التي تؤكد على بناء دولة قوية(1). وما نفهمه عن الطابع الثوري هنا استخدام العنف المفرط ضد الخصوم، وهذا يذكرنا بالمجازر التي ارتكبتها النازية ضد خصومها الداخليين والخارجيين، والاعتداءات المتكررة على المهاجرين من قبل اليمين المتطرف.
حديثا، وبعد رفع السرية عن وثائق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ظهر ما كان مشتبها به لفترة طويلة، وهو أن الجيش الأمريكي وجهاز الخدمة السرية قاما بحماية العديد من المجرمين النازيين والفاشيين بعد الحرب العالمية الثانية، وتجنيدهم كجنود وجواسيس ضد البلدان الاشتراكية(2). وكان العمل الأساس لوكالة المخابرات الأمريكية هو زرع الجواسيس في البلدان الأخيرة، وهذا ما أقر به رئيسها ألين دالاس للفترة 1953-1961، بشكل موسع في مذكراته.
على الرغم من تشوه سمعة الفاشية، وما أرتبط بها من تمييز عنصري بعد الحرب العالمية الثانية، ونجاح البلدان الرأسمالية في أوروبا الغربية في بناء دولة الرفاه الاجتماعي، لكن كان هناك وجود مستمر للفاشية على هامش السياسة السائدة. لقد كانت واحدة من السمات الأكثر لفتا للانتباه لهذه الفاشية الجديدة تتمثّل في الغياب الكلي تقريبا للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين والتي ازدهرت فيها الفاشية لأول مرة، إنها ظروف عدم الاستقرار السياسي، والضائقة الاقتصادية الشديدة، والخوف من تمدد الشيوعية والشعور الواسع بالإذلال الوطني والتطلعات المحبطة. يتمثّل أحد العوامل المساهمة في صعود الفاشيين المعاصرين في الهجرة الوافدة. خصوصا عندما يتفاقم الوضع نتيجة الركود الاقتصادي على الرغم من عدم ظهور ضائقة اقتصادية كالتي كانت بين الحربين العالميتين(3)، علما أن موضوع الهجرة يجري تسيسه على نطاق واسع، لأغراض انتخابية بحتة، حيث تشير الدراسات الأكاديمية إلى أن هناك حاجة ماسة للهجرة الوافدة حاليا وفي السنوات القادمة.
منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، برزت إلى الواجهة كثير من الحركات اليمينية المعادية للأجانب، متأثرة باليمين الجديد في أوروبا وأمريكا، لهذه الحركات في بعض الأحيان جذور واضحة مع الماضي الفاشي والفاشية الجديدة، ولكنها غالبا ما تنأى بنفسها عن ذلك علنا. لقد ركزت كثير من المناقشات الأخيرة بين العلماء على التوصل إلى إجماع جديد حول تعريف شامل للفاشية، والذي من شأنه أن يسمح بتصنيف أكثر وضوحا للحركات اليمينية المتطرفة والشعبوية(4) عبر العالم، أي التمييز بين الفاشية الحقيقية وغيرها من الظواهر الزائفة. فقد عرّف روجر غريفين الفاشية على أنها صنف من الأيديولوجيا السياسية التي يتمثل جوهرها الأسطوري في شكل متخلف من القومية الشعبوية المتطرفة(5).
منذ انبثاق النظام الاجتماعي- الاقتصادي والسياسي العالمي الجديد، بعد تفكك المنظومة الاشتراكية، حلت إلى حد كبير أنماط جديدة من الأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة محل المجموعات المتطرفة الأقدم أو التي تحن إلى الماضي الفاشي، وحققت إنجازات كبيرة في الانتخابات في العديد من البلدان. هذه الأحزاب لا تسعى في أوروبا الغربية علانية إلى الإطاحة بالأنظمة الديمقراطية أو تدعو إلى العنف، بدلا من ذلك، تؤكد على قضايا هي موضع اهتمام كثير من الناخبين، خصوصا الهجرة الوافدة والقانون والنظام. وعلى العكس من ذلك، اتخذ إحياء اليمين المتطرف في أوروبا الشرقية، شكلا من القومية المتطرفة، والتي قد تكون لها جذور مع فاشية ما بين الحربين العالميتين أو لها صلات مع الأيديولوجية الفاشية(6). وهنا لا تكون الهجرة أحد الأسباب لأن هذه المنطقة طاردة للمهاجرين، ويمكن أن يكون تاريخ الحروب والتطورات السياسية التي مرت بها المنطقة، وإعادة رسم الخرائط السياسية عدة مرات، وضم بعض الأراضي إلى دول أخرى، واخفاق التجربة الاشتراكية أسبابا قد ساهمت في صعود هذا التوجه القومي المتطرف.
الجانب النظري - التفسيري
بحكم نفور الفاشية من الفكر، تفضل عدم إضاعة الوقت في بناء نظريات مجردة حول نفسها، لكن لا ينبغي لنا أن نستنتج أنها ممارسة عمياء أو طريقة غريزية بحتة. ترى الفاشية نفسها أنها معادية لجميع الأنظمة الطوباوية التي ليس مقدر لها أن تواجه أبدا اختبار الواقع. إنها معادية لكل العلوم وكل الفلسفات التي تظل مجرد مسائل خيال أو ذكاء. لا تنكر الفاشية قيمة الثقافة، إذا كانت المساعي الفكرية العليا تجري من خلالها تنشيط الفكر باعتباره مصدرا للعمل(7)، أي موجها للعمل الذي تريد تنفيذه خصوصا العمل على تزييف وعي الناس واشغالهم عن أسباب مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية.
تدور سياسة الفاشية بالكامل حول مفهوم الدولة القومية، وبالتالي فهي لديها نقاط اتصال مع العقائد القومية، إلى جانب التمييز بينها وبين الأخيرة والذي من المهم أخذه بالاعتبار. وترى أنها تتوفر على حل للتناقض بين الحرية والسلطة؛ إذ تكون سلطة الدولة مطلقة. وإن الدولة لا تلجأ إلى الحلول الوسط، ولا تساوم، ولا تتنازل عن أي جزء من مجالها لمبادئ أخلاقية أو دينية أخرى قد تتداخل مع الضمير الفردي. ولكن من ناحية أخرى، لا تصبح الدولة حقيقة إلا في وعي أفرادها. وتوفر الدولة الفاشية التشاركية نظاما تمثيليا أكثر صدقا وأكثر اتصالا بالواقع من أي نظام آخر تم ابتكاره سابقا، وبالتالي فهو أكثر حرية من الدولة الليبرالية القديمة(8). علما هذه الأفكار تطرحها الأحزاب اليمينية المتطرفة الحالية على نحو مباشر أو غير مباشر، حيث تنتقد المؤسسات والنخب السياسية الليبرالية وتتهمها بالفساد.
يعتمد اليمين الجديد على منظري "الثورة المحافظة" مثل كارل شميت، وأوزوالد شبنغلر، ومنظري الليبرالية الجديدة مثل فريدريش فون هايك الذي يفضل دكتاتورية ليبرالية، وعلى هذا الأساس رأى في حكومة الوحدة الشعبية المنتخبة في شيلي في بداية سبعينيات القرن الماضي بزعامة سلفادور اليندي دكتاتورية مستبدة. وفرض الليبرالية الجديدة بواسطة العنف في هذا البلد رأى فيها تحقيقا لـ "الحرية"،(9)، وهو ما أثبت الواقع عدم صوابه، حيث جلب تطبيق الليبرالية الجديدة كوارث اجتماعية واقتصادية واسعة وعمق التفاوت الطبقي.
أصبح ألكسندر دوغين الفيلسوف السياسي الروسي ونظريته "السياسية الرابعة" أحد المبادئ لتوجهات الفاشية المنظمة عالميا وفوق الوطنية. وتتمثّل موضوعته الرئيسة: أن جميع الأيديولوجيات السياسية، باستثناء الليبرالية، قد عفا عليها الزمن ويجب على جميع معارضي الليبرالية أن يتحدوا. ويجب ان يتم هذا الاتحاد تحت خيمة نظام اجتماعي استبدادي تقليدي واضح"(10).
ظهرت خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، دراسات ماركسية غنية بشأن الفاشية والتي اتجهت لتأكيد وجود تناقضات متنوعة ومتعددة الأشكال أدت إلى ظهور الفاشية، علما تعتبر النظرية الماركسية عادة أن الرأسمالية أو الليبرالية هي منشأ الفاشية.
الكتاب الماركسيون الذين تصدوا للقيام بمهمة بناء مفهوم نظري للفاشية، من الذين جرى الاستلهام بأعمالهم، هم: ليون تروتسكي، جورجي ديمتروف، أنطونيو غرامشي، دانيال غيرين، بالميرو تولياتي، ونيكوس بولانتزاس(11)، والأخير لا يقوم بتقليص تفسير الفاشية إلى تناقض بسيط بل يرى أنها على العكس تنتج من تناقضات معقدة للغاية.
تؤكد جميع الكتابات الماركسية بشأن الفاشية على الصلات التي تربطها بالرأسمالية. وكان أكثر تعريفات الفاشية تأثيرا الصادر عن مؤتمر الأممية الشيوعية في عام 1935، والذي نصَّ على أن "الفاشية الممسكة بزمام السلطة هي الدكتاتورية الإرهابية السافرة لأكثر عناصر الرأسمالية المالية رجعية وشوفينية وإمبريالية". وكان رأي الأممية الشيوعية أن الأزمة التي عانتها الرأسمالية على درجة من الخطورة لم تكفِ معها الدكتاتورية التقليدية؛ لذلك استخدم الرأسماليون الحركة الفاشية الشاملة لتدمير الاشتراكية. ويذهب تعريف عام 1935 إلى أن الفاشية ليست "صنيع" الرأسماليين فقط؛ لأنها اعتمدت أيضا على أفراد من البرجوازية الصغيرة التي كانت ناقمة بشدة على رأس المال الكبير(12). وهذا ما نراه أيضا في الأحزاب اليمينية المتطرفة الحالية.
وقد شعر بعض الماركسيين أن هذا التعريف يسم جميع الأنظمة الدكتاتورية دون تمييز بالفاشية. وشعر آخرون أن البرجوازية الصغيرة تلعب دورا أكثر استقلالية، وأنها تقف إلى حد ما في طريق مصالح الرأسماليين. تبنى الماركسيون هذه الانتقادات في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين في محاولة لإضفاء قدر أكبر من المرونة على نموذجهم. لكن معظم الماركسيين لم يتخلوا عن قناعتهم بأن الفاشية تعمل بالأساس لمصلحة الرأسمالية(13).
وقد سبق أن قدم ديميتروف، في ثلاثينيات القرن العشرين، بداية الإجابة على سؤال، ما الذي يحفز كتلاً كبيرة من الناخبين على الانضمام إلى الفاشية؟ بالقول: "ما هو مصدر نفوذ الفاشية على الجماهير؟ إن الفاشية قادرة على اجتذاب الجماهير لأنها تخاطب بشكل ديماغوجي احتياجاتها ومطالبها الأكثر إلحاحاً. إن الفاشية لا تؤجج الأحكام المسبقة المتجذرة بعمق في الجماهير فحسب، بل إنها تلعب أيضاً على مشاعر الجماهير، وعلى شعورها بالعدالة، بل وأحياناً حتى على تقاليدها الثورية. إن الفاشية تهدف إلى استغلال الجماهير على نحو غير مقيد، ولكنها تقترب منها بأشد أساليب الديماغوجية المناهضة للرأسمالية، مستغلة الكراهية العميقة التي يكنها العمال للبرجوازية الناهبة، والبنوك، والترست، وأباطرة المال"(14).
حاليا يقدم لنا الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو في كتابه "التعرّف على الفاشية"، الصادر حديثا، وصفا للفاشية، مؤكدا أن ظهور بعض سماتها لا بد أن يؤدي إلى عودة "فاشية جديدة" قد تكون أكثر قسوة من فاشية موسوليني. وإن تغيير الفاشية لشكلها لا يعني استحالة كشفها، فهي تشترك في جميع أشكالها، حتى تلك التي لم تظهر بعد، في 14 سمة يعتقد إيكو أنها تمثل جوهر كل نظام فاشي، وهي: "عبادة التقاليد، رفض الحداثة بالمطلق، اللاعقلانية، رفض النقد والفكر النقدي، الخوف من التنوّع، العمل على إحباط الطبقات الوسطى، تصوير الخصوم كأعداء يمكن هزيمتهم بقوة مفرطة، تكريس فكرة الحرب الدائمة وضرورة الاستعداد لها دائما، تكريس الفكر الشعبوي والعمل على تبرير احتقار كل طبقة للطبقة التي تخضع لها، ابتكار بطولات جماهيرية ولو وهمية، استعمال الخطاب الشعبوي السهل في مخاطبة الشعب، تقديس ما يسمى بالزعامة والرجولة، إعمال "الشعبوية النوعية" في مواجهة إنكار الحقوق الفردية"(15). كل ذلك من اجل أن تحتفظ الطبقة الحاكمة بالسلطة. وكما يقول تون فان دايك "الحق أن التاريخ يقول إن الأيديولوجيات غالبا ما تتشكل لإضفاء الشرعية على سيطرة طبقة حاكمة أو نخب أو منظمات"(16).
العلاقة بين اليمين المتطرف والفاشية الجديدة
يرفض كثير من الكتّاب تطبيق مفهوم الفاشية لوصف التوجه الفكري لليمين المتطرف الحالي. يستند هذا الرفض إلى دوافع وحجج تختلف استنادا إلى رؤية كل كاتب والنظرية التي يستند إليها في التحليل. فمثلا، يرفض إميليو جنتيل التفريق بين المفهوم والظاهرة التاريخية. ويذكر أن مفهوم الفاشية هو تاريخ الفاشية بحد ذاته، الذي ليس له أسلاف في القرن التاسع عشر، ولن يتكرر في القرن الحادي والعشرين. ويرى أرماندو بواتو، إذا أردنا أن نقبل التماهي الكامل بين المفهوم والحقيقة التاريخية المذكور في هذا القول، فإن ذلك من شأنه أن يمنعنا من استخدام مفاهيم أخرى، مثل الديمقراطية والدكتاتورية في التمييز بين ديمقراطيات ودكتاتوريات مختلفة عرفناها عبر التاريخ. وسوف يصبح استخدام العلوم السياسية مستحيلا(17)، وهذا القول دقيق وينسجم مع واقع البحث في شتى صنوف المعرفة.
لا يبدو أن هناك إرثا واضحا منفصلا للفاشية الجديدة؛ إذ إن الإرث الرئيس، هو الإرث الأيديولوجي الذي ينتمي إلى الفاشية بدلا من الفاشية الجديدة. قد يبدو قبول اليمين المتطرف الأوروبي الجديد بالنظام الديمقراطي، لكن في الواقع، ربما لا يزال مثقفوه يؤمنون بمعتقدات راسخة تتمثّل في العودة الأسطورية إلى العصر الاستبدادي الذهبي. ومن ناحية أخرى، جرى تهميش النزعة العسكرية العنيفة والروح الحربية (18)، دون أن يعني ذلك التخلي عنها.
لقد بدا واضحا أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن هناك علاقة بين فضائع الفاشية الكلاسيكية لسنوات ما بين الحربين العالميتين والحركات المعاصرة لليمين المتطرف الأوروبي؛ إذ في أواخر الأربعينيات والخمسينيات، جرى تحديد أي مجموعات قومية متطرفة باعتبارها تمثّل الفاشية الجديدة أو النازية الجديد، لأسباب ليس أقلها أنها كانت تؤوي الكثير من أتباع الأنظمة الفاشية القدامى. ولكن حتى حاليا، فإن أخبار أعمال العنف أو النجاحات الانتخابية لليمين المتطرف في أوروبا تحيي شبح الفاشية في أذهان المراقبين في كل مكان. وبدون شك، ظلت العلاقة بين جميع حركات اليمين المتطرف وسنوات ما بين الحربين العالميتين أمرا واقعا لا مفر منه(19).
تحتل في عصر القطبية الأحادية، معاداة أمريكا مركز الصدارة، وكذلك معاداة العولمة والهجرة الوافدة. وبما أن التعاون عبر الحدود الوطنية آخذ بالازدياد، وخاصة بفضل شبكة الإنترنت، لذلك فإن الجيل الجديد من الأحزاب اليمينية المتطرفة لم يعد كما يبدو مهتما بإحياء الفاشية الدولية(20)، ولكن لا يعني هذا عدم وجود علاقات وتنسيق وتعاون بين الأحزاب اليمينية المتطرفة خصوصا في أوروبا، وهذا ما يلاحظ في برلمان الإتحاد الأوروبي، حيث تعززت كتلة الأحزاب المذكورة في الانتخابات التي جرت عام 2024.
1- ألمانيا
بعد الحرب العالمية الثانية، كان لا يزال في ألمانيا عدد مهم من النازيين السابقين. وكانت حكومة ألمانيا الغربية، تخشى من انتعاش التطرف، لذلك، حظرت الأحزاب المناهضة للدستور ومنعت أعضائها من العمل الحكومي. وعلى الرغم من ذلك، كان هناك كثير من المجموعات النازية الصغيرة، لكن دون أن تتمتع بأهمية سياسية، إضافة إلى ذلك تقدم أعضائها في السن. لكن الانتعاش الحديث والأكثر خطورة لنشاطات النازيين الجدد حدث في أوائل التسعينيات ردا على الهجرة الوافدة(21)، خصوصا من بلدان أوروبا الشرقية.
وأحدث الأحزاب اليمينية المتطرفة هو حزب البديل من أجل ألمانيا الذي تأسس عام 2013، لكنه في هذه السنة لم يتمكن من الدخول للبرلمان. ومنذ انتخابات عام 2017، أصبح الحزب أكبر أحزاب المعارضة، وهو أول حزب يميني قومي متطرف يدخل البرلمان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وحقق الحزب نجاحات مهمة في الانتخابات الإقليمية عام 2024 في عدد من الولايات خصوصا في شرق البلاد وللحزب ارتباطات مع النازية الجديدة (22)، ويتبنى مواقف عنصرية معادية للمسلمين والمهاجرين عموما.
2- إيطاليا
كانت ومازالت إيطاليا النموذج الأول لدراسة الحركة الفاشية، حيث ظهرت هناك واستولت على السلطة منذ عشرينيات القرن الماضي بقيادة بينيتو موسوليني، وتحالفت مع النازية. وقد كانت الازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحروب وما خلفته من تداعيات هي الحاضنة المناسبة لنمو الحركة الفاشية.
أصبحت إيطاليا أول دولة في الاتحاد الأوروبي تقودها حكومة أكثر يمينية بقيادة جورجيا ميلوني، زعيمة حزب إخوة إيطاليا، الذي لديه علاقات تاريخية بالفاشية الجديدة، وذلك بعدما تمكن التحالف اليميني المُكون من حزبها بجانب حزب الرابطة وحزب فورزا إيطاليا من الفوز بأكثر من ثلث الأصوات بنسبة تقدر 44 في المئة في انتخابات عام 2022. بالنسبة إلى تاريخ حزب إخوة إيطاليا الذي تأسس عام 2012 على يد ميلوني، فإنه يعود إلى حزب الحركة الاجتماعية الإيطالية الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية بقيادة جورجيو ألميراني، رئيس الأركان في حكومة موسوليني الأخيرة، وضم في عضويته أنصار الفاشية. واستمر الحزب خلال الثلاثة عقود التي أعقبت الحرب يُمارس العمل السياسي باعتباره حزبا يمينيا صغيرا (23).
وفي التسعينيات شهد الحزب تحولا جديدا على يد جيانفرانكو فيني، المتأثر بالفاشية الجديدة، وكان ينظر إلى موسوليني باعتباره أعظم رجل دولة في القرن العشرين، غير أن فيني حاول تقديم صورة أقل تطرفا؛ حيث أعاد تسمية الحزب باسم التحالف الوطني.
وفي ظل قيادته انضمت ميلوني للتحالف وتدرجت فيه. وعلى الرغم من أنها كانت من المعجبين بموسوليني، فإنا قامت بزيارة نصب "ياد فاشيم" التذكاري للهولوكوست في إسرائيل، إبان توليها وزارة الشباب في حكومة سيلفيو برلسكوني عام 2009(24). وهذا الموقف محاولة للتقرب من اللوبي الصهيوني الداعم لإسرائيل على المستوى الأوروبي والعالمي.
3- روسيا
لفترة من الوقت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي مباشرة، ظهرت بعض السمات التي حفزت سابقا نمو الفاشية وتطورها في إيطاليا. فقد تواصل ارتفاع معدل التضخم المفرط في روسيا ووصل إلى ما يقرب من 2000 في المئة سنويا. وتراجع الإنتاج الصناعي في الاتحاد السوفيتي السابق نحو 40 في المئة عام 1994 (25).
كانت هذه الفترة التي حقق فيها فلاديمير جيرينوفسكي أكبر نجاحاته. متسلحا بأفكار الفاشية المألوفة، إذ نجح في جذب 22,8 في المئة من الأصوات في انتخابات عام 1993. وأشار أحد التقارير إلى أن 43 في المئة من العسكريين الروس في طاجاكستان صوتوا إلى حزب جيرينوفسكي (الحزب الليبرالي الديمقراطي). وبعد ذلك، ولأسباب عدة، تراجع الدعم للأخير وحزبه(26). ويُعد جيرينوفسكي "أول شعبوي حديث" وأحد أعمدة نظام بوتين عن طريق استيعاب أصوات الناخبين الغاضبين والمخيبة آمالهم وأصحاب التوجهات اليمينية المتشددة(27) وبقي على الدوام عضوا في الدوما حتى وفاته عام 2022.
4- البرازيل
تُعد البرازيل نموذجا لدراسة الفاشية الجديدة، حيث أنها ظهرت في بلد غير أوروبي، ويُعد من البلدان النامية، ولهذا فإن هذه التجربة جديرة بالدراسة واستخلاص النتائج منها، لأنها قد تكون مفيدة لبقية البلدان النامية التي ربما تواجه مثل هذه النزعات. علما امتدت هذه التجربة أربع سنوات (2019-2022) وهي فترة حكم الرئيس جير بولسونارو وحركته.
ولدت حركة بولسونارو من تظاهرات الشوارع الكبيرة التي جرت عامي 2015 و2016 للمطالبة بعزل رئيسة البرازيل ديلما روسيف، وهي أول مرأة تتولى هذا المنصب للفترة 2011-2016. وتستند الحركة الفاشية كحركة رجعية على البرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى، بتعبير أدق الجزء العلوي من هذه الطبقة. وتضم هذه الحركة أيضا المالكين الصغار – الجزء المنظم جدا والمستقل من أصحاب الشاحنات والذي كان منذ بدايته ذو توجه يميني فاشي. وقد بحثت الأنثروبولوجية ايزابيلا خليل لمدة ثلاث سنوات توجهات المتظاهرين ذوي التوجه اليميني في البرازيل من خلال إجراء مقابلات معهم في التظاهرات، وقد أحصت أحد عشر عنصرا رئيسا حاضرا في خطاب بولسونارو ومؤيديه ضد كل من: الفساد، الشيوعية، اليسار، النسوية، السياسيين، الأحزاب، الإجهاض، المثلية الجنسية، الامتيازات والنظام(28). ويُلاحظ هناك مشتركات بين هذا الخطاب وخطاب الشخصيات والأحزاب اليمينية المتطرفة في بلدان أخرى خصوصا الأوروبية منها.
في الفاشية الأصلية، كانت البرجوازية المهيمنة هي البرجوازية الإمبريالية الكبرى، ويمكن أن تكون الفاشية عكس ذلك في بلد تابع، فهي تنظم هيمنة رأس المال الأجنبي الإمبريالي والجزء المرتبط به من البرجوازية المحلية الخاضعة لهذا الرأسمال. لذلك، فإن الليبرالية الجديدة والبرامج السياسية توسع انفتاح الاقتصاديات التابعة على رأس المال الإمبريالي، والفاشية، باعتبارها نوع خاص من الدكتاتورية، لا تتعارض مع الليبرالية الجديدة. لذلك فإن حكومة بولسونارو تنتمي إلى الفاشية الجديدة والليبرالية الجديدة(29) في الوقت نفسه. وبحسب أرماندو بواتو توجد في البرازيل ديمقراطية برجوازية تواجه أزمة وتدهورا.
اليمين المتطرف والهجرة الوافدة
أصبحت الهجرة الوافدة في عدد من بلدان أوروبا الغربية قضية سياسية، خصوصا في أوقات الصعوبات الاقتصادية. وفي ظل هذه الظروف التي أصبحت شائعة على نحو متزايد في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، يمكن بسهولة التلاعب باستخدام التمييز العنصري من قبل الأحزاب ذات التوجهات الفاشية والنازية. وبحسب إيان آدمز يبدو أن الفاشية الجديدة ليست أكثر من كراهية عنصرية منظمة سياسيا. ومن المؤكد أن هذا هو الحال في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا(30).
وإذا تركنا جانبا مسألة التصنيف، من الممكن مناقشة أن اليمين المتطرف في أوروبا الغربية حاليا، مقارنة بفترة الحرب الباردة، اضطر إلى التأقلم مع الديمقراطية الليبرالية، وبالتالي وضع جانبا أفكاره "الثورية". لكن لم يتم كبح العنف بالضرورة، حيث يمارس العنف من خلال الهجمات ضد المهاجرين من قبل المتعاطفين مع اليمين المتطرف. وتراجعت في أوروبا الغربية معاداة السامية إلى الخلف في حين برزت إلى الواجهة معاداة المسلمين، على عكس أوروبا الشرقية حيث ظلت الأولى بارزة فيها(31).
يذكر دايك "نفهم من هذا الطرح أن الأيديولوجيات العنصرية ليست نظاما مجردا سقط من السماء مصادفة على المجتمع الأوروبي، بل هو معتقدات ترسّخت تاريخيا واجتماعيا وثقافيا في الذهن الاجتماعي لعدد كبير من الأوروبيين، وتتحكم إلى حد ما في معتقداتهم عن الآخرين ضمنيا. وقد تظهر هذه المواقف مثلا حقيقة أن أكثر من ثلثي سكان أوروبا الغربية اليوم يعارض وفود المزيد من المهاجرين"(32). على الرغم من الحاجة الماسة للعمالة المهاجرة في أوروبا، نتيجة تراجع النمو الطبيعي للسكان، وهذا ما أعلنته مؤخرا عدة دول منها ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وحتى هنغاريا وغيرها.
1- ألمانيا
كانت ألمانيا الغربية سابقا تتوفر على سياسية ليبرالية للغاية تجاه الهجرة الوافدة، وكانت ترحب بالكثير من "العمال الضيوف"، خصوصا من تركيا. لكن ساهم ارتفاع البطالة في الثمانينيات في نمو الفاشية الجديدة التي تغذت على الخوف والاستياء من الهجرة. وقد بقي الأمر تحت السيطرة خلال هذا العقد؛ بسبب أن الاقتصاد الألماني كان قويا ومزدهرا، لذلك نظر معظم الألمان إلى المشكلات الاقتصادية باعتبارها مؤقتة.
وقد تغيرت هذه الوضعية بسبب عاملين مترابطين. يأتي في المقام الأول، تفكك الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية والفوضى الاقتصادية التي أعقبت ذلك ما عزز من تدفق المهاجرين من هذه المنطقة باتجاه الغرب الغني. وتمثّل العامل الثاني في إعادة توحيد ألمانيا عام 1990 الذي عقب انهيار المانيا الشرقية، إذ لم يكن هذا التوحيد نجاحا فوريا. وسببت إعادة هيكلة الاقتصاد بطالة ضخمة في المانيا الشرقية، وهددت ازدهار المانيا الغربية. وترافق هذا الوضع واحتمال الهجرة الوافدة مع الاضطراب الاقتصادي، كل ذلك كان أرضا خصبة لنمو الفاشية الجديدة. لذلك، كان هناك نمو سريع للمجموعات النازية الجديدة، وهجمات على المهاجرين، خصوصا في ألمانيا الشرقية. وقد تأسس الحزب الجمهوري الجديد باعتباره الحزب اليميني المتطرف الرائد في وقته بعد عام 1989. وكان برنامجه يتضمن ترحيل المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية (33).
2- فرنسا
على نحو مشابه، غذت الهجرة الوافدة والقلق من آفاق المستقبل النشاط الفاشي الجديد في فرنسا. على الرغم من أن كثير من الهجرة يرتبط بإرث الاستعمار الفرنسي. فهناك أعداد كبيرة من المهاجرين من بلدان شمال أفريقيا، إضافة إلى توقعات بأن كثير من المهاجرين الجدد يريدون الدخول إلى البلد نتيجة المشكلات الاقتصادية والحروب الأهلية في عدد من بلدان هذه المنطقة، لذلك كان هناك نمو في المشاعر المعادية للمهاجرين.
أسس جان ماري لوبان حزبا يمينيا متطرفا عام 1972، لكنه أصبح في الصدارة مع الركود الاقتصادي وارتفاع البطالة في أوائل الثمانينيات، عندما فازت الجبهة الوطنية بمقاعد في الجمعية الوطنية الفرنسية والبرلمان الأوروبي. وعندما وصلت البطالة إلى ثلاثة ملايين، زعم لوبان أن ترحيل ثلاثة ملايين مهاجر سيحل المشكلة "بضربة واحدة". وتحدث عن تنامي أسلمة أجزاء من فرنسا وعواقب تهديد الهوية والثقافة الفرنسيتين. يبدو من المرجح أن مسألة الهجرة ستكون ذات أهمية متنامية، وقد تكون مصدرا لتنامي الدعم لليمين المتطرف في المستقبل(34). وقد كادت الجبهة الوطنية أن تحتل الصدارة في انتخابات الجمعية الوطنية التي جرت عام 2024 لولا مبادرة تحالف اليسار الذي أحتل المرتبة الأولى.
الترامبية
نشأ مصطلح الترامبية وبات يتداول على نطاق واسع خصوصا من قبل المحللين السياسيين والإعلاميين والكتّاب، خلال فترة رئاسة ترامب الأولى (2017-2021)، وزاد الاهتمام أكثر بهذا المصطلح بعد فوز الأخير في انتخابات عام 2024. وتواجه دراسة الترامبية صعوبات منهجية، لأن صاحبها لا يتوفر على فكر سياسي - اقتصادي منسجم، ويتسم بالمزاجية وتقلب الآراء، ثم أن صعوده السياسي لم يأت بالتدرج عبر المؤسسات السياسية بل جاء من خارجها، ومن قطاع العقار والمال حصرا، ولا يمتلك خبرة واسعة في إدارة شؤون الدولة.
الحقيقة أن فوز ترامب في انتخابات عام 2024، ودراسة النتائج المترتبة عليه سيستغرق بعض الوقت قبل التمكن من تكوين صورة كاملة له. إذ ليس كل شيء واضحاً كما قد يبدو من الوهلة الأولى. وكما قال كارل ماركس: "كل العلوم ستكون زائدة عن الحاجة إذا كان المظهر الخارجي وجوهر الأشياء متطابقين بشكل مباشر"(35).
وعن أسباب فوز ترامب يبدو أن الجانب الاقتصادي لعب دورا محوريا في ذلك. فقد شكلت الأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد وارتفاع تكاليف المعيشة والإسكان والتضخم محور اهتمام الناخبين. إذ تشير استطلاعات الرأي التي جرت للخارجين من التصويت إلى أن ثلثي الناخبين يرون أن الاقتصاد في حالة سيئة أو ليست جيدة، وأن 69 في المئة منهم صوتوا لترامب(36) إضافة إلى ذلك، فقد اجتمعت أكثر القطاعات رجعية وتطرفا في الطبقة الرأسمالية لدعم دكتاتور متمرس نجح في حشد حركة جماهيرية من القوى المتناقضة خلفه. إنها الصيغة الكلاسيكية للفاشية(37).
والأسوأ من ذلك، على عكس ما حدث عندما فاز عام 2016، لن يتصرف ترامب بشكل ارتجالي هذه المرة. فسوف يدخل البيت الأبيض بأجندة مدروسة بالكامل للمليارديرات ــ مشروع 2025 ــ تستهدف الطبقة العاملة والنقابات، والأشخاص الملونين، والمهاجرين، والنساء، والمثليين جنسيا، والرعاية الطبية للمعمرين، والضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية المساعدة، وتشريعات تغير المناخ، وغير ذلك. ومن المتوقع أن يفرض تخفيضات ضريبية كبرى لصالح الأغنياء وتخفيضات في الخدمات العامة لبقية الناس(38). وقد وقع بعض الأوامر التنفيذية التي تخص ذلك منذ اليوم الأول لاستلامه الرئاسة. وهذ جلي إذ أنه جاء ليخدم الشركات الكبرى التي أوصلته إلى الحكم بتبرعاتها الضخمة لحملته الانتخابية.
أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية المتوقعة لترامب "على الرغم من المؤشرات المبنية على رؤية ترامب وترشيحاته للمناصب الرئيسة في إدارته، فإن مزاجيته، وتقلباته، وعدم امتلاكه منظومة أفكار منسجمة، كلّها عوامل ستجعل من الصعب التنبؤ بسياسته الخارجية"(39). وهذه تعد من الفترات الصعبة التي تتطلب تنسيق جهود قوى السلام والديمقراطية لإجبار ترامب على احترام حقوق الآخرين وقبول الحقائق الجيوسياسية.
باتت فترة حكم ترامب السابقة، محل دراسة وتحليل واستخلصت منها نتائج مهمة منها: إن فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية عام 2016، والدعم اللاحق الذي كان قادرا على المحافظة عليه أثناء وجوده في منصبه، حير العديد من المهتمين. فمثلا، يشير ويندي براون وبيتر جوردون وماكس بنسكي إلى أن صعود ترامب، إلى جانب صعود الحركات اليمينية الشعبوية المعاصرة، لا يتناسب مع التصنيفات المعترف بها في التحليل السياسي. ومن بين الألغاز الرئيسة التي تمثلها الترامبية لمثل هؤلاء المراقبين افتقارها إلى التماسك الأيديولوجي(40). وهذه الصفة تنطبق على الفاشية في إيطاليا في عهد موسوليني.
كذلك، "على الرغم من نجاة المؤسسات الديمقراطية الأميركية من رئاسة ترامب، إلا أنها ضعفت بشدة. وعلاوة على ذلك، تحول الحزب الجمهوري إلى قوة متطرفة معادية للديمقراطية تعرض النظام الدستوري الأميركي للخطر. إن الولايات المتحدة لا تتجه نحو الاستبداد على الطريقة الروسية أو الهنغارية، كما حذر بعض المحللين، بل نحو شيء آخر: فترة طويلة من عدم استقرار النظام، تتميز بأزمات دستورية متكررة، وعنف سياسي متزايد، وربما فترات من الحكم الاستبدادي"(41).
على الرغم من أن ترامب حفز على هذا التحول نحو الاستبداد، إلا أن تطرف الحزب الجمهوري كان مدفوعا بضغط قوي من الأسفل؛ إذ أن الناخبين الأساسيين للحزب هم من البيض والمسيحيين، ويعيشون في الضواحي والمدن الصغيرة والمناطق الريفية. ولا يقتصر الأمر على تراجع المسيحيين البيض كنسبة مئوية من الناخبين، بل إن التنوع المتزايد والتقدم نحو المساواة العرقية قد قوضا أيضا وضعهم الاجتماعي النسبي. ويعتقد كثير من الناخبين الجمهوريين أن بلد طفولتهم يؤخذ منهم. فقد وجد مسح أجري عام 2021 برعاية معهد أمريكان إنتربرايز أن 56 في المئة من الجمهوريين وافقوا على أن "طريقة الحياة الأميركية التقليدية تختفي بسرعة كبيرة لدرجة أننا قد نضطر إلى استخدام القوة لوقفها"(42). وهذا ما دفع بعض المهتمين للقول بإمكانية حدوث حرب أهلية.
هذه المواقف تعكس اشتداد الصراع الطبقي في الولايات المتحدة، ويتطلب حسم هذا الصراع لصالح الطبقات والفئات المتضررة ولو تدريجيا، معارك ونضالات سياسية وفكرية وثقافية لوقف هجوم اليمين المتطرف واستعادة المبادرة للقوى اليسارية والديمقراطية المناهضة لهذا التوجه، لأن خطورة صعود اليمين المتطرف لا تقتصر على الولايات المتحدة، بل سينعكس ذلك في تعزيز مواقع هذا الجناح في أوروبا وبقية العالم.
***
د. هاشم نعمة
....................
الهوامش
(1) Bosworth R. J. B. The Oxford Handbook of Fascism, Oxford University Press, 2009, p. 586.
(2) Ibid., p. 593.
(3) Ian Adams, Political ideology today, Manchester, Manchester University Press, 1993, pp. 249-250.
(4)للمزيد راجع: هاشم نعمة، "في سمات الشعبوية"، الثقافة الجديدة، العدد 447، أيلول 2024، ص 46-57.
(5) Bosworth, p. 601.
(6) Ibid., p. 587.
(7) Paul Schumaker (ed.), The Political Theory Reader, Oxford, Wiley Blackwell, 2010, p. 58.
(8) Ibid., pp. 59-60.
(9) رشيد غويلب (ترجمة وإعداد)، قوى اليسار الأوروبي: الأزمة المالية والسياسات البديلة، بغداد: دار الرواد المزدهرة، 2015، ص 232.
(10) عصر ذهبي تقليدي جديد - اليمين المتطرف والرأسمالية المتخلفة / ناتاشا شتروبل، ترجمة رشيد غويلب، 12 تشرين الثاني 2022.
(11) Armando Boito, Reform and Political Crisis in Brazil, Leiden/ Boston: Brill, 2018, p. 190.
(12) كيفن باسمور، الفاشية: مقدمة قصيرة جدا، ترجمة رحاب صلاح الدين، القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014، ص 23.
(13) المصدر نفسه، ص 23-24.
(14) سي. جيه. أتكينز، "صباح اليوم التالي: تحليل ماركسي لفوز ترامب"، موقع صحيفة "عالم الشعب" (الحزب الشيوعي الأمريكي)، 6 نوفمبر 2024.
(15) الفاشية اللافكرية الجديدة كما فضحها أمبرتو إيكو /ثقافة / الجزيرة نت.
(16) تون فان دايك، الأيديولوجيا والخطاب، ترجمة سعيد بكار ولحسن بوتكلاي، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023، ص 50.
(17) Boito, p. 188.
(18) Bosworth, pp.603-604.
(19) Roger Griffin, (ed.) International Fascism, London: Arnold:1998, p. 305.
(20) Bosworth, pp.603-604.
(21) Griffin, p. 305.
(22) البديل من أجل ألمانيا - ويكيبيديا، 3 كانون الأول 2024.
(23) آية عبد العزيز، "تهديد محتمل! صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في السويد وإيطاليا"، اتجاهات الأحداث، العدد 34، نوفمبر- ديسمبر 2022، ص 53.
(24) المصدر نفسه، ص 53.
(25) James A. Gregor, Phoenix: Fascism in our Time: USA/ UK, Transaction publishers, 2002, pp. 150-151.
(26) Ibid., pp. 150-151.
(27) رحيل السياسي الشعبوي الروسي فلاديمير جيرينوفسكي عن 75 عاماً، العربي الجديد، 6 أبريل 2022.
(28) Boito, p. 191.
(29) Ibid., pp. 189-190.
(30) Adams, pp. 249-250.
(31) Bosworth, p. 603.
(32) دايك، ص 56.
(33) Adams, pp. 250-251.
(34) Ibid., p. 251.
(35) أتكينز.
(36) المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الانتخابات الرئاسية الأمريكية: أسباب فوز ترامب والتداعيات المحتملة، الدوحة: 11 تشرين الثاني | نوفمبر 2024، ص 1.
(37) أتكينز.
(38) المصدر نفسه.
(39) المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، السياسة الخارجية لرئاسة ترامب الثانية: الرؤية والتوقعات، الدوحة: 18 تشرين الثاني | نوفمبر 2024، ص 5.
(40) Jeremiah Morelock (ed.) How to Critique Authoritarian Populism, Leiden, Brill, 2021, p. 366.
(41) Foreign Affairs, 20 January 2022.
(42) Ibid.
* نشرت في الأصل في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 451، آذار| مارس 2025.

 

لنتصور لو ان العقل في المنطقة قد ذهب ـ وهو افتراض غير واقعي ـ الى المقارنه بين الرؤية والتصورات التي عمت المنطقة تحت طائلة المتغير الالي الغربي ارتكازا للمروية التي تضع محمد على الالباني، ومعه مصر، بموقع البؤرة الانقلابيه التشبهية المتماهية مع النموذج الاعلى، بلا اي عنصر فعالية ذاتي يمكن التوقف عنده سوى الاستعانه بالخاصية التكوينيه الكيانوية لمجتمع الدولة التاريخي المنزوع التفاعلية والاصطراعية الداخلية، ضمن شروط البرانيه والفعل من خارج المكان رضوخا لنموذج مطلوب نقله،وبين حالة الانبعاثية الراهنه خارج الاله ومفعولها الابتداء، المطروده من المقاربة لتعديها الطاقة العقلية المتاحة على الاحاطة، والحاصلة في القرن السادس عشر، قبل بدايات العمليه الانقلابيه الالية الاوربية بصيغتها الاولى "المصنعية"، لنصبح في غمرة دورة تاريخيه/ آليه تكنولوجيه/ ثالثة بعد دورتين يدويتين، تعذر فيهما لنقص في المتوفر الضروري، ماديا واعقاليا، تحقق النموذجية المجتمعية فوق الارضوية، اصل ومبتدا الظاهرة المجتمعية ومنتهاها.
هذا والغالب المتوقع المستحيل هنا، احتمالية الذهاب الفوري للنطقية، واسباغ الطبيعه والخاصية المحركة والقابعه خلف الانبعاث الحالي، بعد دورتين ناقصتي النطقية، كمثل الذهاب الخارق وفوق الممكن في ساعته، لاعتبار الحاصل من قبيل الانتقال الى المجتمعية العقلية، مع اعتبار انتهاء الطور اليدوي بمثابة انقضاء اجل نوع معين من المجتمعية، انتهت وظيفتها، الامر الذي اوجد تناقضية احتدامية كبرى بين المجتمعية القائمه الاوربية الارضوية الازدواجية الطبقية، عالية الديناميات ضمن صنفها المجتمعي، والتي انبثقت الاله المتجاوزة لها فعالية بين ظهرانيها، وبين اداة الانتقال المجتمعي النوعي الاعظم غير المكتمله الكينونه ماتزال، بما يعني كون الغرب ليس اكثر من تمهيد غير مكتمل العناصر، ولايستقيم كينونة تفاعليه وتعبيرا مع الانقلابيه المطلوبة والمضمرة، بما يضع غيرها، المجتمعية اللاارضوية، بموقع الغاية والهدف المتلائم مع سياقات الانقلابية المجتمعية الراهنه، فهل كان او هو اليوم حتى واردا باي شكل، الاعتقاد بان الانقلاب الالي هو انقلاب رافديني شرق متوسطي، كتب له ان يغرق ابتداء وسط طور وحالة من التوهمية الكبرى المخالفه للحقيقه، ولطبيعة الانقلاب التاريخي الحاصل.
يصل الامر بواحد من المع المحسوبين على الافكار الحداثية في مصر، حد القول باندهاش:"ياالهي مصر جزء من اوربا" وهذا مافعله الدكتور طه حسين حين عاد لمصر من زيارة لاوربا ووجدها تعاني وطاة مرض الكوليرا، والشخص نفسه عبر عن اعتقادة الجازم بان المجتمعيات الاصطراعية مثل العراقي هي مجتمعات اقل "حضاروية"(2) مقارنه بتلك السكونية الاجترارية التي امضت قبل وقت غير قصير، اربعة قرون تحت الهيمنه العثمانيه عرفت خلالها 150 واليا، كانوا يعينون من الاستانه بفرمان دون ان يعرف اي اعتراض او حتى اعلان عن عدم الرضى عن واحد منهم، بينما قل من بين من وضعوا بموقع حكم بغداد العاصمة الامبراطورية المنهارة، من مات على فراشه، الظاهرة التي استمرت الى الغزو الابادي الامريكي 2003 .
البشرية مجتمعيتان تظل تحت طائلة منظور واحد، يجعل الظاهرة المجتمعية موجودة بلا ولادة، في حال تصير تستغرق تفاعليتها الرحميه المفضية للولادة، فلا تبدا علائم الطلق، ويصير الصراخ النطقي الاول واقعا، الا بعد ان ينتهي الطور اليدوي الرحمي بعد احتدام اصطراعي انتقالي عالي التوهميه، مابين متبقيات اليدوية، والاليه الذاهبة تحورا الى التكنولوجيا العقلية، الجنين المودع بين تضاعيف الوجود الحي، والاكثر حضورا ووجودا اصلا في الموضع الابتداء التبلوري المجتمعي في الشرق المتوسطي، وتحديدا في ارض مابين النهرين، والمكتوب عليها مواجهة اعلى مايمكن تصوره من اشكال القصورية العقلية المتجدده، والهيمنيه الساحقة الافنائية، المعجونه باشتراطات الانهيارية والتردي التاريخي الموضوعي، المنوط اصلا باليات الانتقال والصعود الكبرى، حين هيأ هذا المكان بازدواجيته ونهوضه في الدورة الثانية مابين القرن السابع والثالث عشر، اسباب الانقلابيه الاقتصادية التجارية عالميا وعلى المنقلب الاوربي حيث الديناميات الارضوية العليا تحديدا، لتبدا من هنا آليات استكمال التفاعلية التجارية الذاهبة الى الالية الصناعية، قابلها كما هو قانون الدورات والانقطاعات الرافديني، انهيار انقطاعي تاريخي هو الاخير خلال الطور اليدوي.
وتلعب التقابلية التاريخيه الشرق متوسطية الاوربيه ومحطاتها، دورا اساسا في تامين البنية الاعتقادية الحداثية المقابله للغرب من موقع الشعور بنوع من التساوي او المضاهاة، فالمنطقة تعرف انها كانت قبل قرون ليست بعيده استمرت حتى الثالث عشر، مركزا حضاريا متقدما عالميا، وهي مركز فعالية كونيه وحضاريه بدئية اسبق من الاخيرة، مامن شانه جعل التساؤل" لماذا تاخرنا وتقدم الغرب؟" من قبيل المقوله العملية، لولا انها ترد من دون اعتبار (لمابعد) اي لما يتعدى الغرب الحالي والطور النهوضي المتلازم مع الثورة الجزيرية الابراهيمه الاخيرة، لا التماهي المتمثل بالصيغة و النموذجية الغربية، ما يفترض التفريق بين "تقدم الغرب" و"تاخرنا" كذاتيتين تاريخيتين، كانتا ووجدتا في التاريخ منفصلتين متباينتين نوع محركات واسباب، وصنف تعبيرية، مابين فلسفية ارضوية نخبوية اغريقية، ولاارضوية كونية نبوية ابراهيمه، هي من اخترق الاخر مجتمعيا وسكن بين تضاعيفه الى اليوم، مع تباين الوسائل والاسباب، بين الامبراطوريات والانصبابات الكيانوية باتجاه شرق المتوسط، وبين نوع الرد الاختراقي المجتمعي العقيدي اللاارضوي.
الاهم في كل هذا هو المتغير الحاصل خارج محركات التقابلية التارخية المعتادة بصيغتها اليدوية، اثره ونوع فعاليته مجتمعيا، مع اخذ التباين البنيوي بالاعتبار، وهنا تظهر واحده من اهم قصورات العقل الابتدائية، اذ يظل مجهولا الاثر البنيوي الطاريء على التفاعلية البنيوية المجتمعية الاصل اليدويه، بما هي ( كائن بشري/ بيئة)، الى ( كائن بشري / بيئة/ آلة) وهي عنصر جديد طاريء مختلف، تتغير بموجبه الاصطراعية التشكلية المجتمعية بدخول عنصر مستجد من خارجها ومن غير طبيعتها، مايجعل من الفاصل من وقته العودة الى النوع المجتمعي الاصل ونمطيته، بما لايترك اي مجال بعدها للتغاضي عن الانشطار الازدواجي اللاارضوي / الارضوي مجتمعيا، بحثا عن مسارات الاصطراعية التفاعلية المجتمعية وانواعها بعد حضور الاله، حتى نتعرف على اشكال التفاعلية الطارئة في الحالين والصنفين، اللاارضوي والارضوي، كل ومدى قربه او بعده تلاؤما مع المستجد الانقلابي الفاصل، بحثا عن سلامة المسار المجتمعي والوعي به، بظل الانقلابيه الكبرى الواقعه بما هي الاصل الواجب التركيز عليه، وليس التوهمات الصناعوية الاليه التي كرسها الغرب دالة وهمية اعتباطية على الحداثة والعصر.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

 

الدول الريعية، تلك التي يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على الإيرادات التي تأتي من الموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز، تقدم نموذجًا فريدًا ومختلفًا في السياسة والاقتصاد. في هذه الدول، لا تساهم الأعباء الضريبية ولا الإنتاج المحلي في تمويل الدولة كما هو الحال في الدول الصناعية، بل تقتصر هذه الوظائف على الريع الطبيعي الذي يتم استغلاله وإعادة توزيعه بشكل غير متوازن.
وغالبًا ما تتحول هذه الأنظمة إلى أنماط من الحكم القائم على الولاء الشخصي والتوزيع العشوائي للثروات، مما يعزز من حالة الفساد المستشري وغياب المؤسسات الحقيقية. يتم تثبيت سلطة النخب الحاكمة عبر آليات غير قانونية وغير مؤسسية، مما يجعل القوانين مجرد أدوات تبرير لسلطة غير شرعية وتزيد من تفشي “الزيف” في النظام.
بعد أن لفظني السودان ونظامه الإسلاموي العسكري، لم يكن خروجي مجرد هروب من جحيم السياسة، بل قفزة في الفراغ، حيث لا يقين سوى في الابتعاد عن آلة القمع التي التهمت أجيالًا وأحلامًا ومصائر. لكن الرحيل، مهما بدا فكاكًا، لا يعني القطيعة، بل إعادة تعريف العلاقة مع المكان، مع الذاكرة، مع السؤال الأزلي عن الوطن. و قد كنت محظوظًا أن أجد نفسي في بلد تُدار فيه الأمور بقواعد واضحة، حيث الدولة ليست انعكاسًا للأفراد، بل كيان مستقل، يتجاوز الولاءات الشخصية إلى منطق المؤسسات، لكن هذه الاستقلالية ليست مطلقة، بل مشروطة ببنية أعمق، بنية لم يكن من السهل تجاهلها.
حين عدت، ولو عابرًا، إلى دول قريبة من السودان، دول احتضنت كثيرًا من أهلي وأصدقائي الفارين من ذات الجحيم، دول تحمل ملامح الثراء والبذخ، لكنها تخفي في عمقها ذات الاختلالات التي جعلتني أفر من وطني.
منذ اللحظة الأولى، كان ثقل الوهم أشد حضورًا من صلابة الواقع. الأبراج الزجاجية، الطرقات الواسعة، العلامات التجارية المتوهجة، كلها كانت تؤدي دورها في رسم صورة الحداثة، لكن ما كان غائبًا هو العمق، ذلك الإحساس بأن وراء هذا المشهد نظامًا يعمل باستقلال عن إرادة الأفراد، عن العلاقات الشخصية، عن تلك المكالمات العابرة التي تفتح الأبواب وتختصر الزمن. لم يكن الأمر مجرد صدمة حضارية، بل مواجهة مع بنية تدور حول ذاتها، تعيد إنتاج أنساقها بصرامة لا تلين، حيث يتغير الشكل لكن الجوهر يظل ثابتًا، وكأن الدول ليست كيانات سياسية وإدارية، بل مجرد تقنيات للهيمنة، آليات مُحكمة لإدارة الامتثال، حيث لا شيء يعمل بالقانون، لكن لا شيء يعمل بدونه أيضًا.
الرعب في هذه المنظومة لا ينبع فقط من فسادها، بل من قدرتها العبقرية على المحاكاة. إنها لا ترفض الحداثة، لكنها تفرغها من مضمونها، تحوّلها إلى أداء، نسخة مشوّهة من الدولة الحديثة، حيث الشكل يتقدّم على الجوهر، والإجراء يحلّ محل الفعل، كما لو أن كل شيء مجرد تمثيل لا يبلغ أبدًا لحظة التحقق. هنا، القوانين ليست قوانين، بل أدوات انتقائية تُستخدم لتعزيز الهيمنة حين تلزم، وتُترك معلقة حين تصبح عبئًا. المؤسسات ليست مؤسسات، بل هياكل فارغة تحافظ على التراتبية دون أن تنتج شيئًا حقيقيًا. الزمن نفسه يفقد صلابته، لا يسير إلى الأمام، بل يلتف حول نفسه في دائرة مغلقة، حيث التغيير ليس أكثر من إعادة تدوير للفشل بصيغ مختلفة.
ليس هذا الفساد مجرد خلل، بل هو المنطق الذي تعمل به البنية ذاتها، ليس استثناءً بل القاعدة. إنه ليس مجرد انحراف عن مسار الدولة، بل هو الدول كما تشكلت وكما تعيد تشكيل نفسها. هنا، لا يعمل النظام بالمنع الصريح، بل بالإغراء المستمر، لا يفرض الطاعة بالقوة، بل يجعل العصيان أمرًا مكلفًا حد الاستحالة. وهنا، يصبح الإنسان كائنًا رماديًا، عالقًا بين الامتثال والتواطؤ، بين الرفض والتكيف. هل يتمسك بمثالية ستتركه معطلًا إلى الأبد؟ أم ينخرط في اللعبة، مدركًا أن كل تنازل صغير ليس مجرد تكيّف، بل مساهمة في إعادة تدوير المنظومة؟ هنا، لا شيء يُحسم بالمجرد، بل بالتجربة اليومية، حيث تنحلّ الحدود بين الأخلاقي والعملي، حيث يجد المرء نفسه، رغم كل مقاومته، منزلقًا إلى الداخل، يتحول إلى ترس في آلة كان يظن أنه قادرًا على البقاء خارجها.
لم يكن عبد الله العروي مخطئًا حين تحدث عن “الدولة المستحيلة”، ذلك الكيان الذي يبدو دائمًا على أعتاب الحداثة لكنه لا يدخلها أبدًا، يراوح مكانه بين إرث سلطاني لم يختفِ تمامًا، ووعود حداثية لا تتحقق، كمن يقف على عتبة باب لا يجرؤ على عبوره.
الدول هنا ليست أدوات لتنظيم المجتمع، بل مسارح كبيرة لإعادة إنتاج علاقات القوة، حيث القانون نفسه ليس سوى قناع، حيث المؤسسات مجرد ديكور، حيث الفساد ليس مجرد عرض جانبي، بل هو الطريقة الوحيدة التي تستمر بها اللعبة.
إنها ليست دولًا فاشلة، بل دولًا تتقن فن إعادة إنتاج فشلها، تجعل منه ضرورة، تحوله إلى إيقاع يومي، إلى طريقة للحياة.
في فضاء كهذا، لا أحد بريء تمامًا، لأن الجميع، بطريقة أو بأخرى، متورطون في اللعبة. حتى أولئك الذين يرفضون الانخراط يجدون أنفسهم، في لحظة ما، مضطرين للانتظار، ينتظرون المكالمة المناسبة، لأن أي محاولة للخروج الكامل من هذه المنظومة تعني العيش على هامشها، بلا صوت، بلا تأثير، بلا قدرة على الحركة. المكالمة الهاتفية من شخص نافذ تصبح الحل الوحيد في وجه بيروقراطية موظف لا يعرف ماذا يفعل مع سيستم عقيم، حيث لا خيار آخر. في النهاية، الدول الريعية ليست مجرد أجهزة حكم، بل حالات ذهنية، أشكال من أشكال الوعي التي تجعل القمع يبدو طبيعيًا، والفساد ضرورة، والوساطة مهارة أساسية للحياة. إنها ليست مجرد أزمة أنظمة، بل أزمة وجودية، حيث الفرد لا يعيش في دول تقرر مصيره، بل في فراغ ممتد بين القانون واللا قانون، بين المؤسساتية والوصولية، بين الرسمي وغير الرسمي، حيث لا شيء قطعي، لكن كل شيء متوقع، حيث الماضي ليس تاريخًا مضى، بل حاضر يُعاد إنتاجه بلا نهاية، حيث كل محاولة للخروج ليست سوى خطوة أخرى في طريق العودة.
في هذه المنظومة التي تشكلت في دول النفط والزفت، حيث الفائض الاقتصادي يولد نمطًا من العيش قائمًا على التوزيع غير المتوازن للثروات، تكون الدول الريعية آلة لصنع الانتماءات الهشة. في هذه الدول، تتماهى السياسة مع الاقتصاد في علاقة تبعية تامة، حيث يُخضع المواطنون للولاءات الشخصية والوساطة، وتبقى الدول في يد أقلية احتكارية، مما يعزز من سطوة النخب المتنفذة. كما يقول فوكو في تحليله للقوى المنتشرة في المجتمع، إن هذه القوى لا تعمل بشكل مركزي، بل تتمثل في شبكة معقدة من العلاقات التي تشكل “الذات” وتعيد إنتاج التبعية بشكل دائم. في هذا السياق، تصبح الدول الريعية أكثر من مجرد نماذج اقتصادية؛ هي مشاريع للهيمنة اللامباشرة، وهو ما يعزز مفهوم غرامشي للهيمنة الثقافية، حيث تسعى النخب الحاكمة إلى تثبيت سلطتها من خلال “القبول الطوعي” للمواطنين بما يرضي مصالحهم.

إن هذه الدول، رغم تظاهرها بالحداثة، لا تبرح مكانها، فهي تحتفظ ببنية اجتماعية تشبه إلى حد بعيد المجتمعات التقليدية، حيث تبقى وسائل الإنتاج (النفط والزفت) تحت سيطرة نخبة محدودة، فيما يتم إغراق الشعب في دوامة استهلاكية لا نهاية لها.
***
إبراهيم برسي

في سبتمبر (أيلول) 2017 صوَّت غالبية الأكراد العراقيين (92 في المائة) لصالح استقلال إقليم كردستان، بعد نحو عقدين من الحكم الذاتي الموسع. هذا يشبه إلى حد كبير مشهد جنوب السودان في يناير (كانون الثاني) 2011 حين صوَّت 99 في المائة من سكانه على الانفصال عن الشمال.
بوسعنا أن نمرّ أيضاً على الحرب الأهلية في جنوب اليمن عام 1994، والتمرد الذي أدى إلى انفصال باكستان الشرقية عن أختها الغربية، وظهور دولة بنغلاديش في 1971، أو الحرب التي أدت إلى تفكك يوغوسلافيا، وقيام جمهوريات البوسنة وكرواتيا والجبل الأسود في 1992 ثم انفصال كوسوفو عن صربيا في 2008.
هذه أمثلة، أحسب أن غالبية القراء الأعزاء يذكرونها، وهي حوادث أدت أو كادت أن تؤدي إلى تفكك دول، ظن كثيرون أنها راسخة الجذور عصية على التفكيك.
المؤكد أن كلاً منا قد علم بتجربة واحدة على الأقل، تتضمن حالات انفصال بين أزواج أو أعضاء في عائلة واحدة أو شركاء في عمل تجاري، يعرف كل العقلاء أنه يؤدي إلى خسائر كبيرة. مع ذلك، فإن الناس يقدمون عليه، أفراداً – كما في الأمثلة الأخيرة – أو شعوباً كاملة كما في الأمثلة السابقة.
السؤال الذي لا بد أن يواجهه إخوتنا في سوريا: ما هو الظرف الذي تبلورت فيه إرادة الانفصال وتفكيك البلد، في التجارب التي ذكرناها، وفي عشرات التجارب المماثلة على امتداد تاريخ العالم الحديث، وما هي العوامل المماثلة التي قد تكون متوفرة فعلياً في سوريا اليوم؟ التأمل في هذا السؤال سيأخذنا إلى الجزء الثاني الأكثر أهمية: كيف نحول دون تفاقم العوامل الدافعة لانكسار الوحدة الوطنية، وكيف نعزز إرادة العيش المشترك والسلم الأهلي؟
إن سمحتم لي بالجواب، فإنني أرى أن ظرف انكسار الوحدة الروحية، أي إرادة التعايش، يتبلور عندما تشيع الميول المتطرفة وتنكمش الميول المعتدلة عند شريحة واسعة من السكان. التطرف يعني أن الفرد مطلع على الخسائر التي ستحصل جراء الانفصال، لكنه مع ذلك يراه أقل سوءاً من أي ضرر يترتب عليه، أو لنقل إنه يرى الوضع القائم أسوأ كثيراً من أي ظرف سيأتي بعد الانفصال. إنه أشبه بالذي يقدِم على الانتحار، أو يخوض مغامرة، يعلم سلفاً أن احتمالات السلامة فيها أقل من احتمال الهلاك. هذا تصور متطرف بلا شك، وإذا حمله الفرد فإنه يُعدّ متطرفاً.
خلال السنوات العشر التي مضت من عمر الثورة السورية، لم نسمع أحداً يتحدث عن تقسيم البلاد. حتى في المناطق الكردية التي انفصلت فعلياً عن حكومة دمشق، كان أقصى المطالب هو الحكم الذاتي، على النحو القائم في كردستان العراق. أما اليوم فنرى خرائط عن ثلاث دول أو أربع، ونسمع أشخاصاً يقولون من دون اكتراث: إذا أرادوا أن ينفصلوا، فليذهبوا إلى الجحيم، نحن أيضاً لا نريد العيش معهم. وحين ينشر هذا الكلام على منصات التواصل الاجتماعي يتفاعل معه آلاف الناس، مرحبين أو رافضين.
أعلم أن من يقول هذا متطرف أو جاهل، وأن من يتفاعل معه مثله. لكن ما الذي جرى حتى بات الناس يائسين من الشراكة الوطنية، غير مكترثين بانكسارها. يتحدثون عن تقسيم بلدهم، كما لو كان وليمة يتنافس عليها البعض ويزهد فيها آخرون.
إنني أتمنى من كل قلبي ألا يصغي السياسيون إلى من يدعوهم لإرسال الدبابات والمدافع لقتل المتمردين. أتمنى ألا يصغوا لمن يقول إن للأكثرية أن تقرر وإن على الأقلية أن تسمع وتطيع. هذه الدعوات تنبئ عن ذهنية متطرفة، وهي تؤدي إلى إشعال جمرة التطرف عند الطرف المقابل. لو كان هذا مثمراً لكان بشار الأسد قد نجح في إنهاء الثورة الشعبية طوال عقد كامل. ما يحتاج إليه السوريون هو احتواء الخائفين والغاضبين والمتشككين، وليس قمعهم أو إقصاءهم. هذا هو طريق السلامة إن أردنا العبور بسوريا إلى بر الأمان.
***
د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في المثقف اليوم