قراءة في كتاب
محمود محمد علي: قراءة في كتاب "كُنْ أو لا "لصالح الطائي
أولا: مقدمة: الشعر لغة الأرواح، وزقزقة الأفراح في الأشباح، وشقشقة عصافير البوح في الأدواح، وهو المشاعر الدافقة من الصدور تصب في السطور، والشاعر نحلة تحط من زهرة إلى زهرة، تمتص رحيقها، تتذوقه، تهضمه يخرج عسلا أبيض، هكذا الأدباء والمبدعين في روضات الإبداع يدخلون ويخرجون لنا بالإمتاع.
ومنذ فترة وانا أتساءل عن بعض الأقلام المبدعة في ساحتنا الأدبية، والتي تلامس بإبداعاتها أوتار القلوب، وهمس النفوس المتعبة من معاناة الزمان، ذلك الزمان الذي يمنحه الوجود الشعري للإنسان الذي يريد أن يصرخ بلسان حال المبدع، ليخرج شيئا من صراعاته الدفينة التي تظهر النفس .
ولا شك أن علاقة الأدب والنفس علاقة وثيقة، فالأدب صدى النفس وترجمانها، إنه إفضاء فني بالتجربة التي حملتها النفس واستوعبتها فغيرت، وأفسحت المجال للتطهر من العديد من عراقيل الحياة بما تحمله ليواجهها الإنسان في اقتدار بعد ان حص نفسه ضدها، وروضها في مواجهتها ولتثري الآخرين، وتمدهم بتجربتها فتكون عونا لهم للارتقاء بالواقع بعد تخطي عقباته، فالعمل الأدبي ليس تعبيرا عن الواقع فحسب، بل هو تعبير عما يجب أن يكون عليه الواقع.
أعود أقول إنه في خضم هذا التساؤل عن هذه الأقلام المبدعة المطهرة لنفوسنا، يظهر قلم رشيق بعد صمت طويل ليحفزنا حروفا، ومن هؤلاء الأقلام المبدعة رفيقي الحس، جياشي المشاعر، صاحب الفكر الفيلسوف الرائع كاتبنا: صالح الطائي هذا المبدع الذي يحلق في سماوات الإجادة ويغوص بحار المعرفة ليخرج لنا اللؤلؤ من أصداف الأفكار، حيث يضيف إلى تجاربنا وخبراتنا محلقا في آفاق الشاعرية، وقد سما فوق الذاتية وارتقي بالوجدان والأحاسيس، وقد امتلأت نفسه وامتلأ عقله وفكره بالعديد من التجارب والثقافات نتيجة تعدد مجالات عمله، وفطرته الشعرية، وطلاعاته المتنوعة في السياسة، والمجتمع، والدين، والتاريخ .
2- قيمة الديوان:
فها هو كاتبنا ينطلق من عتبة نصه راجيا من قارئه أن يكون أولا، فليس هناك من يستحق أن يكون سواه، ثم يعبر من خلال قنطرة وخزة الألم إلى حديقة الذكريات التي يشم عبير فتوته فيها، ولا يستطيع أن يرجع شابا فتيا بعد تقدم العمر به.
ويدلف بنا كاتبنا إلى واحة الأخلاق يتفيأ ظلال الصدق، ويغتسل بعين السماحة وحسن السيرة، ونقاء السريرة، وجمال الطوية، وينساب سريعا من بوابة الأخلاق حتى يدخل ممر الأمل يخلع رداء الجموح، ويلبس ثوب الطموح ليبني في مخيلته قصر الأمل الذي يهرب إليه حينما تتشابك حوله أشواك الهموم ليخرج دون جروح أو أذى.
رغم دعوة كاتبنا للأمل إلا أنه يجد في الألم مدعاة التشبث بالأمل حتى لو سالت دماء أمانيه، يخرج من عنق زجاجات التيه، إلى التضحية من أجل مباديء سامية، يغرسها في قلب عاشقيه.
لا يلبث كاتبنا أن يضحي لكن لا بد لتضحيته من ثمن غال، ألا وهو الحرية، فليس هناك ما هو أكثر قيمة في الحياة من الحرية، وقد يكون ثمن الحرية الموت، أجل لكنه موت الحياة وليس موت الفناء والذل والخزي.
إذا كان كاتبنا يحب الحرية ويموت من أجلها، فهو بالطبع يمقت الكبر ويحب التواضع الذي يبني جسرا من المحبة بين القلوب.
وهكذا كاتبنا كالنحلة ينتقل من زهرة إلى فلة إلى وردة، ومن مذاق الرحيق إلى مذاق أجمل ليخرج لنا في نهاية قراءة الديوان عسل المتعة، وشهد المعرفة.
3- التعريف بالكاتب:
في حياة الأمم والشعوب أفراداً يتميزون عن غيرهم بحيوية الفعل، وبالقدرة علي التضحية، وقد عرفت العراق الشقيقة نماذج رائعة من هذا النوع من الرجال الذين شكلوا طلائع الإحساس العميق بضرورة التغيير، وتمتعوا بقدرة كبيرة علي الاستنارة، وكان المفكر والباحث والكاتب الدكتور صالح الطائي، واحداً من كبار الباحثين العراقيين والذي تميز بإنتاجه العلمي الفكري الثري والمتنوع في مختلف أبعاد وجوانب العلم والثقافة
والدكتور صالح الطائي، دكتوراه فلسفة لاهوت، استغل تخصصه العلمي ومهاراته ونشأته الدينية لامتحان نقاط الخلاف والاختلاف بين الفرق الإسلامية، وعمل على تفكيكها وتحليلها بحثا عن أجه تقارب لإشهارها، ونقاط اختلاف وخلاف ليبحث عن أصلها لمعرفة أسباب ولادتها ونشوئها على أمل تجاوزها ونسيانها، ولا سيما وأنها غالبا ولدت قبل مئات السنين وبدوافع أغلبها سياسية، وقليل منها دينية.
وهو بذلك نجح في تجاوز مرحلة الولاء الفرقي وانفتح على الهوية الجمعية الإسلامية من خلال التأكيد على المشترك القيمي الذي يربط المسلمين ببعضهم رغم اختلاف فرقهم ومناهجهم البحثية والعقدية.
أكد في بحوثه ودراساته ومقالاته ونشاطاته الفكرية على أهمية ووجوب البحث في الجزئيات؛ بعدما آمن أن تفكيك الجزئيات والتعمق في دراستها، وكشف أبعادها الحقيقية، يتيح له تشذيبها وتهذيبها وتصحيحها، وهو الحل الأمثل الذي يزيل العوائق والسدود التي تعزل العقول عن بعضها، ويسمح لها بالالتقاء والتقارب؛ ما دامت النتائج مدعومة بالدليلين العقلي والنقلي المحترم، وبجهد علمي محايد وغير متحيز، وذلك كله يختزل المسافات بين الكليات ويقرب رؤى المسلمين من بعضها.
انجز في مسيرته البحثية التي تجاوزت الخمسة وأربعين عاماً عدداً كبيرا من المؤلفات (الكتب) التي صدر منها لحد الآن أكثر من ستين مؤلفا، ترجمت بعضها إلى اللغات الأخرى، وأعتمد بعضها مناهج ثانوية في بعض الجامعات العراقية، وأعيدت طباعة بعضها مرات عديدة.
فضلاً عن ذلك لديه مجموعة مؤلفات منجزة لا زالت مخطوطة ينتهز الفرص لنشرها، ومجموعة مشاريع كتب غير مكتملة تقدر بالعشرات. ولديه مجموعة كبيرة من البحوث التخصصية المنشورة في المجلات المحكمة، وآلاف المقالات المنشورة في الصحف والمجلات الورقية التخصصية والعامة والمواقع الالكترونية المختلفة.
نجحت أغلب مؤلفاته في عبور مرحلة الولاء الفرقي إلى الكلية الإسلامية المشتركة، ولقيت قبولا لدى الفرق الإسلامية على اختلافها. وربما لهذا السبب نجحت مؤلفاته بالفوز بالمركز الأول في ثلاث مسابقات دولية، اشتركت فيها بلدان عربية وإسلامية عديدة
غير ذلك لديه اهتمام بالأدب ولاسيما الشعر المقفى والشعر باللهجة المحكية (العامة)، يمارسه أثناء فراغه وأوقات راحته، وقد أصدر مجموعة كتب أدبية، منها مجموعة شعرية بعنوان "نوبات شعرية" ومجموعتي نثر مركز الأولى بعنوان "ملكوت الروح" والثانية بعنوان "صدى وجعي"، ولديه مخطوطة شعرية يأمل بنشرها.
كتب مقدمات لمجموعة من الكتب التي أصدرها أصدقاؤه ومعارفه، جمع بعضها واصدره بكتاب تحت عنوان "مقدمات ونصوص". وجمع ما أهدي إليه من قصائد الشعر التي نظمها معارفه واهدوها إليه واصدرها بكتاب بعنوان "أنا وصورهم الشعرية"، وما أهدي إليه من نصوص نثرية، وأصدرها تحت عنوان "أنا وصورهم النثرية".
ولعلاقته الوطيدة بالشاعر الفلسطيني الكبير المقيم في الناصرة (فلسطين) سعود الأسدي، جمع ما اهداه الشاعر له من مقطوعات فضلا عن المراسلات بينهما وأصدرها تحت عنوان "سعود الأسدي سيد اللغتين".
ولقربه من الشباب واحتضانه لهم وتبادله الآراء معهم من خلال اللقاءات التي يتعمد جرهم إليها، أصدر كتابا تربوياً إمتاعي بعنوان "إليك فقط" لقى قبولا رائعا من قبلهم، وقد طبع مرتين ونفدت نسخه.
وعمل أثناء الحراك الطافي البغيض في العراق عام 2006، ولاسيما بعد أن تعرض هو شخصياً للاختطاف لمدة ثلاثة عشر يوما، عمل على محاربة الطائفية والتصدي لها بقلمه وحاضراته، وأصدر كتاب "نحن والآخر والهوية" الذي حاول من خلاله أن يؤكد للعراقيين بأنهم شعب واحد، وهويتهم الوطنية أهم من الهويات الفرعية الأخرى: الدينية والعشائرية والمناطقية، وأنهم من أصل يعود إلى بدايات عصر البشرية الأول وليس من حاجة لهم إلى (العرقنة) قريبة الشبه بـ(الأمركة) التي فرضتها أمريكا من أجل توحيد المجاميع المهاجرة إليها لتخلق منهم شعبا متجانسا.
وهو رغم تجاوزه السبعين لا زال يعمل بجد من أجل إنجاح المشروع الذي نذر عمره له، ويأمل بأن يرى المسلمين يدا واحدة تحترم نفسها وتحترم إنسانيتها وتحترم الإنسان الآخر وتعمل من أجل صالح الإنسان في كل مكان.
4- أقسام الديوان:
قبل أن أتطرق للحديث عن أقسام الديوان، أود أن أسأل صديقي صالح الطائي (مع حفظ الألقاب): لماذا اختار لكتابه عنوان " كُنْ أو لا"، ولم يختار له اسم " نكون أو لا نكون " على غرار ما كتبته شهيد الليبرالية " فرج فودة" .
وهنا يجيبنا الدكتور " صالح الطائي " على هذا السؤال في خاطرة من أروع الخواطر وهو يقول في أول الديوان:" لست معلماً... وإنما أنا متعلمٌ على سبيلِ النجاةِ، أنجاني بعض ما تعلمته من الضياع، وحماني في أشد اللحظات خطرا وتعقيدا.. ولأني من مناصري نظرية النفعية في الفلسفة .. يهمني كثيرا أن تشاركني فيما أعرف .. فتعال لنتبادل المعرفة .
ومن هذه الكلمات نستشعر أن هذا الديوان الذي بين أيدينا يمثل مجموعة من الخواطر، ولكل خاطرة منها قصة، والقصة ضرورية أحيانا لفهم الخاطرة ومعايشتها، وأغلب هذه الخواطر لطيف، بينما أغلبها عنيف، لأنها كتبت بأعصاب مشتعلة، ونحتت من الوجدان، وصدقت في مشاعرها إلى أقصى الحدود.
وهنا المؤلف أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلي مستوي علمي رفيع، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:
الدافع الأول: صبانة مجهول المسكن: لقد اثبت الدكتور الطائي في كل خواطرة الشعرية والتي أخذت شكل القصيدة، إثبات أنه بالقصيدة، وفي مجهولها الراعش بالمستحيل، يحس الناس على الدوام بكون ينشأ ولا ينتهي .. كون تجدبهم بالأسرار التي يتكلمها، فيتسابقون نحوها .. ولكنهم لا يصلون إليها لكونها ممعنة في الهروب كما نقطة سر التكوين، ضوؤها متوهج برعشة الخلق، يُعيد تشكيل ذواتنا ووجودتنا لتنطق بحقيقة عالم حيوي، تصوغ منه إرادة هذه الذوات والوجودات، وتتنافذ تنافذ الضوء مع الماء، والعطر مع الصوت، وتسكن فيما نتوحد فيه من أسرار الوجود على الأرض.
الدافع الثاني: البحث عن اللانهائي: إن هذا السري هو الذي تسكننا فيه قصائد الدكتور الطائي فننشد إلى اللانهائي سائرين على طريق المجاهدة والمكابدة لبلوغ الصفاء واللمعة، والنزول ضيوفا دائمين فيه، حيث تكون الرؤية بحج0م الماء واللغة بحجم الإبرة، مما يجعل التوتر المتولد عن هذا التباين صرخة رائجة مندفعة تحت ضغط قوة الرؤية؛ باتجاه الذات لحثها على السهر على اللغة في قصيها الأعلى، وإنقاذ الشعر من أجل إنقاذ اللغة . فالسعر في نظر الدكتور الطائي هو المتعدد الذي ينفرد بالإقامة في اللغة، وباستضافة لغة الآخر.
الدافع الثالث: ضغط الهاجس: تحت ضغط هذا الهاجس كانت الكتابة الشعرية للدكتور الطائي خلال هذا الديوان منفذ خلاصه .. خلاص من الاحتراق بالاحتراق .. احتراق بالتجربة، وفيها ومعها، والتجربة التي خاضها الدكتور الطائي هنا سباحة ومغامرة في أدغال وأحراج وأنهار مرئية، واصطدام بالشبكات العنكبوتية وأودية السيلكون، وبعواصف اجتثاث الثقافات الأصلية التي هي مشاتل طبيعية للذاركة الشعرية.
الدافع الرابع: الهروب من أحادية المعنى وتبلد الروح: كان الهدف الأساسي الذي سعت إليه خواطر الدكتور الطائي في هذا الديوان التخلص من أحادية المعنى وتبلد الروح وانبتار الوجدان، وشبقية الاستنساخ، حيث كلها في نظره تهدد خواطره في نظره لا محالة، مثلها مثل منطق السوق، ومنطق المباهج التقنية المسطحة للخيال . وفي ظل هذا الطقس، وهذه الطقوس المنتجة للذات والروح، ألا يمكن للنفس الصوفي أن يقود ثورة روحية تمكنه أرخبيلات النزوع الاستفرادي بالإنسان وبطموحه الرحبة الصافية ؟ وأن يخلق الوجود والكتابة تخليقا يرى فيه الإنسان مرجعيته الروحية وسنده الذاتي في الوجود ؟.
وختاما، وبعد هذه القراة السريعة للديوان أخي الكريم الشاعر الدكتور الطائي، وبعد هذه الرحلة الممتعة التي صحبنا من خلالها، أستطيع أن أقول: إن هذا الديوان يحفل بتجارب عاطفية عميقة، متنوعة وصادقة، وآمل أن تتنوع تجارب الشاعر في دواوينه القادمة، وهو صاحب خبرات طويلة، وقدرة جيدة علي صياغتها في قالب قالب شعري جذاب، وكلما كثرت التجارب زادت الناس بصرا بأنفسهم وبالحياة من حولهم، وما ينبغي أن يرتفع إليه الإنسان في تفكيره وشعوره وسلوكه، لأن القيمة الحقيقة للأدب أنه يخدم المثل العليا ويبصر الإنسان من خلال متعة فنية وليس من خلال درس تعليمي أو بحث علمي.
ولقد أمتعنا الدكتور الطائي بهذا الديوان القيم، ووجدنا فيه تاثرا بالغا بالتجربة الإنسانية، والمثل إلى المفاهيم العامة، والحنين إلى الماضي بكل ما يحمله الماضي من عظمة وأمجاد سجلها التاريخ، وهو استشراف لمستقبل واعد، أو يجب أن يكون واعدا يحمل هموم شاعرنا الكريم، ويرنو إله ببصره وبصيرته .
وكل هذا قد جسه الدكتور الطائي في هذا الديوان الشيق " كن أو لا"، فتحية أقدمها لكاتبنا الفيلسوف الراقي على هذه الوجبة الدسمة من المعرفة ورشاقة العبارات، وسلاسة الألفاظ، ورقي الأسلوب، وسهولة المعنى، ووضوح الفكرة، متمنيا لكتابه أن يجد ما يستحق من الذيوع والانتشار.
***
دكتور محمود محمد علي - مفكر مصري






