دراسات وبحوث

دراسات وبحوث

عناصر تشكيل العقل الغربي في وعيه بالإسلام

يعود الاهتمام الغربي بدراسة الإسلام وتاريخه واتجاهاته الفكرية والاجتماعية إلى ما قبل مرحلة تشكيل الوعي الاستشراقي، وهي المرحلة اللاهوتية المسيحية؛ إذ بدأ الوعي دينياً لاهوتياً (مسيحياً)، وانتهى مركّباً من عدة اتجاهات ومدارس غربية، بالتزامن مع الصراعات العسكرية بين الدول المسلمة والدول الاوروبية، ثم موجات الغزو والاحتلال الأوروبي للبلدان الإسلامية منذ القرن السادس عشر الميلادي.

أما المرحلة الجديدة من الدراسات الغربية؛ فقد بدأت في نهاية السبعينات، مع اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية، ثم أخذت - تلك الدراسات - شكلها الحالي في مطلع الثمانينات مع إعلان الحركة الإسلامية العراقية عن نفسها، وصولاً إلى تأسيس حركة المقاومة الإسلامية في لبنان(1). ويشتمل الإهتمام على دراسة تيّارات النهوض الإسلامي وجذورها العقدية والفقهية والتاريخية، ورموزها وأهدافها، والقواعد الفكرية السياسية والفكرية التي تشكّل بعضها دوافع لتأسيس تيّارات الصحوة والنهوض الإسلامي. فخلال الثمانينات تأسست في الغرب مئات المراكز واللجان والمجموعات البحثية لدراسة الصحوة الإسلامية الجديدة، وصدرت آلاف الكتب والبحوث والمقالات في هذا المجال. وقد ذكرت بعض المصادر أن وكالة المخابرات الأمريكية (C.I.A) موّلت خلال عام 1983 أكثر من (120) مؤتمراً وندوة لدراسة (ظاهرة) الصحوة الإسلامية وجذورها(2).

ومنطلقنا هنا في تقويم الوعي الغربي بالإسلام والمسلمين وفهمه وتفكيك عناصره، ليس ردود الفعل تجاهه، أو وعي التناقض المسبق مع معاييره، بل المنطلق هو تكوين وعي موضوعي به، من خلال استقراء اتجاهات أكبر عدد ممكن من التيّارات والرموز التي تمثّل العقل الغربي. فالنظرة الواقعية للغرب ولبناه العقلية والفكرية والاجتماعية، ليست نظرة ستاتيكية ذات أحكام جاهزة وفي إطار إتجاه فكري وثقافي محدد، كما هو الحال مع النظرة الغربية للإسلام والمسلمين وعموم الشرق، وإن كانت هناك بعض الثوابت في هذا المجال، والتي يحاول بعض المفكّرين المسلمين تحويلها إلى بنية فكرية في مقابل الاستشراق، أطلقوا عليها عنوان: «الاستغراب»(3).

يقف فهمنا الواقعي لوعي الغرب بنا على دعامتين:

1- وعينا بذاتنا وعياً موضوعياً، والذي يتضمّن اكتشاف هذه الذات والعودة إليها وإعادة إنتاجها.

2- وعينا المستقل لبنية العقل الغربي ومعاييره في فهمنا وتقويمنا.

ويشتمل هذا الفهم على قواعد الوعي الغربي وخلفياته وأهدافه، إضافة إلى الوعي اللاهوتي السلطوي والاستشراقي والاستعماري، ومعاييره ومناهجه، وأساليبه وإفرازاته؛ إذ أن العقل الغربي الذي ينتج هذا الوعي المتجدد بالإسلام والمسلمين والصحوة الإسلامية ومظاهر الصعود الإسلامي، ليس أحادي العامل، بل يتشكل من أربعة عناصر أساسية، متمازجة ومتشابكة في نشأتها وتأثيراتها المتبادلة، هي: لاهوت السلطة والخطاب الاستشراقي والنزعة الإستكبارية وفكر النهضة الاوروبية:

1-لاهوت السلطة:

تأسس التحالف بين سلطة الدولة المطلقة والسلطة الدينية المسيحية في أوروبا، على يد الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول (272 ـــ 337 م)، خلال انعقاد المجمع المسكوني المسيحي الأول في روما (305 م)، أي بعد ثلاثة قرون من ميلاد عيسى المسيح، وهو تحالف تخادمي بين سلطة الإمبراطور وسلطة الكهنة، وقد نقل المسيحية الروحية الناصرية التي جاء بها السيد المسيح، الى مسيحية سلطوية، عنوانها "لاهوت السلطة"، وهو اللاهوت الجديد الذي حوّل الإمبراطور الروماني قسطنطين الى قدّيس، له الحق في نشر المسيحية الجديدة (القسطنطينية) واحتلال أراضي الغير واستعباد الشعوب، وفرض الدين الجديد عليها بالذبح والسيف، باسم الرب والمسيح والصليب. وقد اختلف هذا اللاهوت اختلافاً بنيوياً عن المسيحية العيسوية التي كانت السائدة آنذاك؛ فالأولى هي المسيحية الروحية الأخلاقية الاجتماعية، الخالية من التشريع ومن النظم السياسية والاقتصادية، والثانية هي المنظومة المسيحية السلطوية الإستعمارية، التي نشرت المسيحية في اوروبا والعالم بالسيف والقهر، وهي التي أسست لنظام الاستبداد الديني الكنيسي.

لقد تبلور لاهوت السلطة الأوروبية من خلطة عجيبة، جمعت بين:

1- تعاليم روحية أخلاقية بشّر بها النبي عيسى المسيح.

2- عقيدة أسسها بولس (5- 67 م)، الذي يعد المؤسس الحقيقي للعقيدة المسيحية، التي تتمحور حول شخصية السيد المسيح حصراً. وتمكن بولس، عبر هذه العقيدة، من تحويل التعاليم المسيحية من انشقاق ديني يهودي الى ديانة مستقلة على أرض الواقع. مع الإشارة الى أن بولس هو يهودي روماني أصلاً، وكان يضطهد المسيحيين الأوائل بعد عروج السيد المسيح، ثم زعم أنه رأى نور السيد المسيح في الطريق، وطلب منه الإيمان به، وأن يصبح رسوله الى العالم، لذلك أسمى نفسه بولس الرسول.

3- شريعة يهودية توراتية، لأن السيد المسيح لم ينشىء شريعة مستقلة عن الشريعة اليهودية، لذلك فإن المسيحيين الأوائل اعتمدوا التوراة ككتاب عقيدة وتشريع وتاريخ، وعدّوه العهد القديم، مقابل الإنجيل الذي يمثل العهد الجديد.

4- أنساق فلسفية يونانية، أغلبها إفلاطونية.

5- عرفان غنوصي.

6- مثيولوجيا وثنية رومانية.

7- ايديولوجيا سلطوية استعمارية أسسها الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول، الذي كان ذو طموحات سياسية إمبراطورية توسعية لاتنتهي، ولم يكن يعنيه الجانب الديني، بقدر ما يحقق له طموحاته.

ويعد تأسيس الديانة المسيحية الجديدة على يد قسطنطين، التأسيس الثالث للمسيحية، بعد التأسيس الأول على يد النبي عيسى المسيح ثم التأسيس الثاني على يد بولس الرسول. وقد فرضت هذه الديانة الجديدة على أوروبا، عصوراً مظلمة قاسية من التخلف والمرض والجوع والاستبداد والحروب والانكسارات، عرفت بــ "العصور الوسطى"، لأنها ديانة تركيبية متحولة وافدة لا تنتمي إلى أوروبا في الجذور الاجتماعية، ولأنها باتت سلطة قمع للعقل والعلم والمعرفة والكلمة وإرادة الإنسان، وأداة سلطوية استكبارية، نجحت في تأسيس امبراطورية استعمارية رومانية مترامية الأطراف، بعد أن استولت على أراضي الشعوب وخيراتها، واستعبدتها، وفرضت عليها المسيحية القسطنطينية. ولذلك؛ لاتوجد ايديدلوجية دينية على مر التاريخ، انتشرت بالسيف والقهر، كما انتشرت المسيحية القسطنطينية، بل أن هذه الايديولوجيا قمعت مسيحيي الشرق الأصلاء، وذبحتهم، ودمّرت كنائسهم، وفرضت عليهم اتّباع المسيحية الأوربية. وبمراجعة سريعة لما فعلته الجيوش المسيحية القسطنطينية الرومانية بمسيحيي مصر وفلسطين والشام؛ يتبين مدى تعارضها البنيوي مع المسيحية الأصيلة ومع تعاليم السيد المسيح.

وما لبثت المسيحية الرومانية المتحولة أن انتشرت في جميع البلدان الأوروبية، ثم سار على نهج قسطنطين جميع أباطرة الغرب من بعده، وباتت المسيحية ديانة أوروبية، ليس في نكهتها العامة، بل حتى في جوهرها؛ فحين اعتنق الملوك والأمراء الأوروبيين الديانة المسيحية البولسية القسطنطينية، فإنهم حوّلوها أيضاً الى ديانة أوروبية داعمة لامبراطورياتهم وملكياتهم وإقطاعياتهم، ومشرعِنة لها دينياً، أي أنهم أخضعوا المسيحية للنظام الإجتماعي السياسي السائد في أوربا؛ إذ لم تؤثر المسيحية الأصلية في واقعهم الروحي والأخلاقي والاجتماعي، بل استحال السيد المسيح نفسه أميراً أو فيلسوفاً إغريقياً ورومانياً وجرمانياً وانجلوسكسونياً في شكله وهيئته التي تصورها التماثيل واللوحات الأوروبية القديمة، والأفلام السينمائية الحديثة، فالمسيح الأوروبي رشيق طويل، أبيض البشرة، أزرق العينين، أشقر الشعر، صغير الفم، إغريقي الأنف، وهي مواصفات لاتنطبق بتاتاُ على سكان فلسطين من الكنعانيين والعبرانيين والسريان وغيرهم.

ثم حمل القساوسة الأوروبيون المستعمرون، ديانتهم هذه، الى أفريقيا والأمريكتين واستراليا وشرق آسيا، برفقة القوات المسلحة الإستعمارية البرتغالية والإسبانية والفرنسية والبريطانية والبلجيكية والأمريكية والهولندية، وحينها لم تقتصر الديانة المسيحية الأوروبية على كونها ديانة أوروبية سلطوية، بل باتت ركيزة أساسية من ركائز الإستعمار الأوروبي للبلدان الأخرى، وكثير منها بلدان إسلامية أو تسكنها كثرة سكانية مسلمة. وكان المستعمرون الأوربيون ينظرون الى هذه الشعوب باعتبارهم كفاراً وعبيداً لهم، بوصفهم شعب الله المختار، كما تؤكد التعاليم التوراتية والتلمودية التي ضمّتها المسيحية القسطنطينية الى لاهوتها السلطوي. وهنا يكمن تحديداً العنصر الاول في الوعي الغربي بالإسلام والمسلمين.

وقد بدأ التمرد الأوروبي على المسيحية القسطنطينية الرومانية يبرز تدريجياً خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، متخذاً أشكالاً فكرية أحياناً وقانونية أخرى وسياسية ثالثة وعلمية رابعة، مناهضةً لسلطة التابوهات اللاهوتية السلطوية، الكنيسية والثيوقراطيات الملكية المتحالفة معها، حتى استحال هذا التمرد صراعاً مستداماً بين سلطتي الكنيسة والحكم المطلق من جهة، والنخب الأوروبية العلمانية المتطلعة الى النهوض والبناء والتغيير من جهة أخرى، حتى أنتج هذا الصراع نهضةً شاملة خلال القرن الثامن عشر، عرفت بعصر التنوير وعصر النهضة الأوربية. وكانت العلمانية (Secularism / Laicite)، هي عنوان هذا العصر، والتي تعني باختصار "الدنيوية" وفصل الشريعة الدينية والمؤسسة الدينية عن الشأن الدنيوي، وخاصة مايرتبط بالدولة والحكم والتشريع، أو بكلمة أدق فصل سلطات الدولة ونظامها السياسي وتشريعاتها عن التشريعات الكنيسية، ومنع الكنيسة من أي تدخل في شؤون الدولة، بما في ذلك الشؤون القانونية والسياسية والافتصادية والعسكرية، واعتبار التشريع وإدارة الدولة وسلطاتها شأناً بشرياً محضاً لاعلاقة للاهوت به.

وقد أدخلت النخب الأوروبية العلمانية على معادلات الصراع هذه؛ عناصر قوة جديدة تتمثل في مخرجات التطور الفكري الميداني التراكمي، وأهمها: العقلانية المنهجية، والتجريبية العلمية، والديمقراطية السياسية والتشريعية، والليبرالية الاجتماعية والاقتصادية. وهي المذاهب التي تحولت الى نظم قائمة، قنّنت كل مجالات الفصل بين الدين والدنيا، وبين الكنيسة والدولة، وكانت بمجموعها أدوات تدمير للتخلف والاستبداد الثيوقراطي، بشقيه المتحالفين: السياسي (الدولة) والديني ( الكنيسة).

وهنا؛ يمكن القول بأن النهضة العلمانية الأوربية، قضت على ثلاثة عشر قرناً من الهيمنة المطلقة للمسيحية الأوروبية القسطنطينية، وأعادت المسيحية الروحية الاجتماعية نسبياً الى جذورها الفلسطينية، كما أعادت أوروبا نسبياً الى جذورها الالحادية العلمانية. وبكلمة أخرى؛ فإن عصر التنوير والنهضة الأوروبية، لم يكن ثورة على دين عيسى الأخلاقي، ولا على الدين بشكل عام، بل على السلطة الثيوقراطية الاستبدادية المتمثلة بسلطة المؤسسة المسيحية الأوروبية القسطنطينية.

إلّا أن المفارقة الكبرى تكمن في احتفاظ العقل الأوروبي العلماني النهضوي بعنصر لاهوت السلطة في نظرته للآخر ولأراضيه ومقداراته، سواء كان مسلماً أو وثنياً، رغم التحول البنبوي في العقل الأوروبي بعد تحوله الى العلمانية، وإسقاط تحالف لاهوت السلطة بين سلطة الكنيسة وسلطة الملك؛ إذ بقيت الحملات العسكرية الأوروبية تصطحب معها ممثلي الكنيسة والإرساليات والمبشرين القساوسة، وتدعمهم بقوة السلاح لفرض المسيحية على الشعوب المحتلة، أو للحصول على الشرعية الدينية في احتلال أراضي الغير ونهب ثروات الشعوب واستعبادها. وكان المحتل الأوروبي يعد العامل الديني هو عامل بقاء مستدام لاحتلاله؛ فإذا اعتنقت الشعوب المحتلة الديانة المسيحية؛ فإن الاوربيون سيضمنون ولاء هذه الشعوب لها، بفعل المشترك الديني، ولأن السيد المسيح هو الذي شرعن لهذا الاحتلال والاستعباد!(4).

2-الخطاب الاستشراقي:

شكّلت الخلفية الاستشراقية الفكرية عنصراً مهماً في تشكيل وعي العقل الغربي بالإسلام والمسلمين. ورغم أن ظاهر الخطاب الاستشراقي ودوافعه، ظل يتمحور حول محاولة فهم الإسلام واتجاهاته الفكرية والمذهبية، وانعكاسات ذلك في حركة الواقع، إلّا أنه كان ولايزال يعطي للدول الغربية والمجتمعات الغربية فهماً شبه دقيق لواقع المسلمين وطرائق تفكيرهم وأساليب اختراقهم والسيطرة عليهم، كما يحدد - بأسلوب مباشر أو غير مباشر - النظم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي ينبغي على البلدان الإسلامية أن تطبقها، أي أن الخطاب الاستشراقي تقدم فهماً لما يحتاجه الغرب في كل مرحلة. وكان ملفتاً أن الخطاب الاستشراقي عمل بكل ثقله بعد العام 1979 على الدخول إلى عمق البنية الإسلامية لفهم ما تستبطنه من تعاليم وأصول تشكّل الدوافع والدعائم لحراك الاستقلال الشامل والصحوة والنهوض، واستشراف مستقبل هذا الحراك واكتشاف احتمالاته، ومحاولة التحكّم ببدائله.

والاستشراق هو خطاب وبنية فكرية، وليس مجرّد أعمال وبحوث وتقارير أكاديمية، وإن كانت هذه الأعمال هي التعبير الخارجي عن ذلك الخطاب؛ إذ يعرفه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد بقوله: ((الاستشراق أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه (إعادة تشكيله)، وامتلاك السيادة عليه. أي إعادة إنتاج الشرق سياسياً، واجتماعياً، وعسكرياً، وعقائدياً وتخيلياً في مرحلة ما بعد النهضة))(5)، ما يعني أن الإستشراق ـــ غالباً ـــ يمثّل سلطة فكرية علوية أو أداة فكرية استعمارية، هدفها السيطرة وإعادة البناء، ولذلك؛ كانت قوى الاستعمار القديم والحديث، ولا سيما فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وراء تشكيل حقل الدراسات الاستشراقية الغربية، كامتداد للوعي الكنيسي بالإسلام والمسلمين.

وتتميز أغلب الدراسات الاستشراقية الأولى بالهجوم المباشر على الإسلام وعقيدته ورموزه من منطلق ديني ينسجم مع قواعد لاهوت السلطة. أما الدراسات التي تلتها، ولا سيما في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين والعقود الأولى من القرن الماضي؛ فكانت تمارس الدور نفسه، ولكن تحت غطاء أكاديمي وعلمي. وهذه الدراسات - بالخصوص - هي التي شكًلت الوعي الغربي بالشرق والإسلام والمسلمين(6). وتذكر بعض الاحصاءات أن الفترة بين عاميْ 1800 - 1950م، أي خلال قرن ونصف القرن، أفرزت (60) ألف كتاب ودراسة في الغرب، عن الشرق، بما فيه المنطقة الإسلامية. وهذا ما يشير بوضوح إلى هيمنة العقل الاستشراقي في الغرب وقوته وسعته، وفي الوقت نفسه، تؤكد أهمية الشرق للغرب كـ«مَعْجَبة»، كما يصطلح عليه الروائي الفرنسي «فلوبير»(7).

وكما هو واضح من النتاجات الحديثة؛ فإن الكاتب الغربي أو المستشرق الجديد، يفكر - عادة - بعقلية استشراقية ذات بنية جاهزة، أسسها المستشرقون السلف الأكثر تأثيراً في خطاب الاستشراق أمثال: الإنجليزي «وليم لين». والفرنسيين «دي ساسي»، و«راينهارت دوزي» و«ارنست رينان» خلال القرن التاسع عشر الميلادي، إضافة إلى مساهمة الروائيين الفرنسيين «فلوبير» و«دو لامارتين»، وكذلك من جاء بعدهم من المستشرقين الإنجليز والفرنسيين والألمان والأمريكيين وغيرهم، والذين شكّلوا بنية خطاب الإستشراق الغربي الحديث، خلال النصف الأول من القرن الماضي، وأبرزهم: «هاملتون جيب»، «لويس ماسينيون»، «فلهاوزن»، «غولد سهير» و«دنكن مكدونالد»، و«مرجليوث». كما كان لجهود بعض السياسيين الغربيين كـ«بنيامين دزرائيلي» و«كرومر» و«جيمس بلفور» و«لورانس» أثر بارز في هذا المجال.

وفي النتيجة؛ فإن الخطاب الاستشراقي ساهم مساهمة أساسية في تشكيل الوعي الغربي الثابت بالشرق وبالإسلام، وقلّما تمكّن كاتب غربي معاصر من الإفلات منه؛ لأنه يمثّل جزءاً من وعي الذات الغربية، رغم أن بعضهم يدّعي منهجاً جديداً في الدراسات الإنسانية ينسجم مع الفكر الليبرالي الحديث، في مقابل الفكر الأصولي الغربي الحديث، إلا أن الدراسات الأكاديمية الاستشراقية غالباً ما تكون أصولية، أي إنها تعيد إنتاج البنى والأفكار نفسها، وفقاً لمتغيرات وأحداث المرحلة الجديدة(8).

3- النزعة الاستكبارية الاستعمارية:

بدأت النزعة الاستكبارية الأوروبية الحديثة بالظهور خلال القرن الخامس عشر الميلادي، بالتزامن مع الحملات الاستكشافية العسكرية لقارتي أمريكا (قبل أن يتسميا بهذا الاسم) وأفريقيا والبلدان الإسلامية وشرق آسيا، وهي نزعة قديمة، تمثل امتداداً للنزعة الرومانية والاغريقية، وخاصة النزعة الاستكبارية المشرعنة بلاهوت السلطة المسيحية.

وكما ذكرنا؛ فإن دول أوروبا العلمانية الديمقراطية الليبرالية الناهضة، التي أسقطت تحالف لاهوت السلطة؛ لم تتخل عن النزعة الاستكبارية القسطنطينية اللاهوتية، التي تتضمن استخدام الديانة المسيحية كداعم استعماري، بل احتفظت بهما معاً، واكتفت بالفصل بينهما فقط؛ إذ سلبت من الكنيسة حق تدخلها بشؤون الدولة، وصادرت سلطتها التشريعية والسياسية، لکنها احتفظت لنفسها بمنافع المسيحية والتبشير المسيحي كسلطة روحية، لتستمر في استخدامها كركيزة استعمارية ضد الشعوب التي تحتلها، وهي مفارقة أوروبية أخرى؛ إذ لم يرض الأوروبيون العلمانيون التنويريون لأنفسهم أن تكون الديانة المسيحية سلطة معرفية وسياسية عليهم، لكنهم فرضوها بالقوة على الشعوب المحتلة، كجزء من سلطة المستعمر.

لذلك؛ كانت الدولة الفرنسية التي تأسست بعد الثورة الفرنسية وأسست للنظام الديمقراطي الغربي ولمنظومة الحقوق والحريات الليبرالية، كانت الى جانب الدولة الليبرالية الديمقراطية البريطانية؛ أكثر الدول توسعاً استعمارياً، واحتلالاً لأراضي الغير، واستعباداً للشعوب، ونهباً لثرواتها. وكانت الإمبراطوريتان العلمانيتان الفرنسية والبريطانية تصطحبان المبشرين المسيحيين في كل حملاتهما الاستعمارية، وتدعمان تأسيس الإرساليات التبشيرية، وتؤسسان الكنائس والمؤسسات الكهنوتية في البلدان المحتلة، لأنهما كانتا مقتنعتين بأن اخضاع الشعوب المحتلة المستعبدة لسلطاتهما، لايستتب إلّا باتباع هذه الشعوب لدين المحتل وايديولوجيته(9).

4- فكر النهضة الاوروبية:

لم تكتف جيوش الاحتلال العلماني الأوروبي، وخاصة البريطاني والفرنسي، ثم الأمريكي، بفرض دينها المسيحي على الشعوب المحتلة، كما مر، بل أرغمتها أيضاً على اعتناق العقيدة العلمانية الغربية بجذورها الوثنية الأوربية؛ فكانت المسيحية الأوروبية، بنسختها الروحية الجديدة، والعلمانية الأوروبية بثوبها الليبرالي الديمقراطي، هما القاعدتان الايديولوجيتان اللتان تمكّن الاستعمار الغربي من خلالهما فرض وجوده ومصالحه على الشعوب الأخرى، حتى بعد خروج جيوشه وسلطاته المباشرة من البلدان المحتلة، ومنحه استقلالها الشكلي، أي أن العلمانية كانت ولاتزال أهم قاعدة للاحتلال الفكري والسياسي والاقتصادي الغربي المستدام لبلاد المسلمين.

وكانت نتيجة هذا المنهج الاستعماري، القوي في بنائه؛ ظهور نخب سياسية وثقافية عميلة فكرياً، ومشبعة بأدبيات المحتل ومفاهيمه ومصطلحاته ولغته، لكنه تشبعٌ قشري سطحي، لا يرقى الى فكر الاستقلال السياسي والاقتصادي الغربي، ولا الى النهضة العلمية والتكنولوجية الغربية، لأن الغرب فرض أدبياته ومفاهيمه الفكرية والسياسية على هذه النخب، وسلبها إرادة الاستقلال والنمو والتطوير الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي. وهكذا ظل بناء السلطة، والتمسك بها، هو الهمّ الأساس للنخب العلمانية المحلية في البلدان العربية والمسلمة، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، العسكرية منها والمدنية، وليس همها بناء الدولة ونظامها السياسي وسلطاتها، واقتصادها وتعليمها ووسائل استثمار ثرواتها. كما قامت سياسات هذه النخب في بناء السلطة، على محاربة الإسلام وشريعته، وليس على ما يفرزه الواقع الاجتماعي للشعب وقاعدته الدينية، لأن الاستعمار الغربي زرع في عقول هذه النخب بأن مشكلة بناء الدولة والتطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي هو الدين وتشريعاته، ويجب التخلص من هذه التشريعات المتخلفة الرجعية التي تعيق كل أنواع التطور والتقدم، أسوة بما فعلته النخب الغربية حين تخلصت من هيمنة الدين خلال عصر النهضة والتنوير.

ولعل من أهم أسباب نفوذ العلمانية والليبرالية الى مجتمعات المسلمين: احتكاك النخب المحلية بالغرب والانبهار بانجازاته المادية، واليأس من الحلول المحلية للاستبداد السياسي، والتخلف بكل تمظهراته العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. هذه الأسباب دفعت بعض المثقفين والسياسين العرب والمسلمين الى البحث عن علاجات وأفكار نقدية للواقع، فوجد قسم منهم في الماركسية أو القومية العنصرية أو العلمانية والليبرالية، دواءً لأمراض المجتمعات العربية والمسلمة، هذا فيما لو أحسنا الظن بهذه النخب، وأنهم لم يكونوا عملاء فكريين وسياسيين للغرب والشرق. بيد أن هذه المستحضرات الدوائية الفكرية الاجتماعية، لم تكن لتصلح لكل بيئة، بل ثبت أن استخدامها خارج بيئتها الغربية، وخاصة بهدف مواجهة الإسلام وشريعته، تؤدي الى مضاعفات خطيرة، لأنها مادة فكرية وايديولوجية اجتماعية، وليس كأدوية الطب وعلوم الهندسة والزراعة والصناعة، والتي يمكن استخدامها في كل مكان وعلى كل البشر، بصرف النظر عن نوعية الدين والعرف، وهو ما لا يمكن تعيمه على الأفكار والمذاهب الاجتماعية والسياسية والنظم القانونية، لأن هذه الفلسفات والأفكار تتعرض تعارضاً عميقاً مع الإسلام وشريعته، ومع الأعراف والبنى الاجتماعية للمسلمين.

هذا فضلاً عن أن العلمانية والرأسمالية والليبرالية هي القواعد التي قام عليها الإستعمار بكل ألوانه، فالعلمانية بعد أن طردت الدين من الحياة والدولة والقانون، فإنها توجهت لاحتلال أراضي الغير واستعباد الشعوب، بحثاً عن الموارد الخام والمواد الطبيعية وأسواق جديدة. أما الليبرالية فهي الايديولوجيا الاجتماعية التي بررت للغرب المستعمر الغازي كل أنواع الغزو الثقافي والفكري للمجتمعات الغربية والمسلمة، وفرض الحكام العملاء والدعاية للمثقفين التغريبيين.

وربما كان من حسن حظ الاستعمار الغربي وسوء حظ الشعوب المسلمة؛ إن عطش النخب العلمانية المحلية الى السلطة وصراعاتها عليها، واندفاعها للتعبير عن عمالتها السياسية للغرب، وكذا اندفاع النخب الثقافية باتجاه التعبير عن عمالتها الفكرية للغرب، وانبهارها بتطوره العسكري والعلمي والتكنولوجي؛ قد راكم من أميّتها الفكرية، بحيث لم تلتفت الى الفرق الهائل بين الدين الإسلامي وبين الدين المسيحي، بنسختيه الروحية والسلطوية، بل وعدم الالتفات الى خديعة التعميم العلماني الغربي لمفهوم الدين. وفي المقابل؛ لعب التفوق الغربي في جانب المكر والخديعة، وفي الجانب العسكري والاستخباري؛ دوراً أساساً في تمرير هذا الفهم الغربي للدين.

أما "العلمانية المستوطنة"(10)؛ فنقصد بها العقيدة العلمانية المترجمة أو الممنتجة في البلدان الأخرى غير الغربية، أي أنها العلمانية الأوروبية نفسها، ولكنها الصيغة التي استخدمها الأوروبيون كجزء من عناصر الاستعمار القديم والحديث، لترافق جيوش الاحتلال الأوروبي العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، في حملاتها وغزواتها، ويتم توطينها في البيئات المحتلة الجديدة، وخاصة البيئات المستعمَرة العربية والمسلمة، وفرضها أمراً واقعاً فكرياً وقانونياً واجتماعياُ وسياسياً واقتصادياً، بمساعدة عملاء المحتل المخابراتيين والسياسيين والثقافيين، وكذا النخب الثقافية المنبهرة بالتطور العلمي والاقتصادي والسياسي الغربي، وأغلبهم ممن سافر الى أوروبا أو درس فيها، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين. أي إن العلمانية المستوطنة هي علمانية غير موضوعية وغير واقعية، لأنها سلعة مصدرة قسراً من أوروبا، ومفروضة بالقوة على البلدان العربية والإسلامية، بصورة مونتاج معرفي، أو نتاج مترجم أو معرّب.

وقد ساهمت أنظمة الاستبداد والتخلف والفساد في البلدان العربية والمسلمة، ولا سيما في الدولتين المستقلتين الأكبر حينها، العثمانية والقاجارية، في خلق الذرائع والمسوغات لعلمانيي البيئة العربية والإسلامية، لطرح العقيدة العلمانية كدين جديد منقذ من كل أنواع الاستبداد السياسي والديني، والتخلف العلمي والمعرفي والاجتماعي، والجوع والفقر والفساد الاقتصادي. وبالتالي؛ تعاضدت أضلاع مثلث: الإستعمار، والنخب العلمانية المحلية، وأنظمة الحكم المحلية، على توطين العلمانية الأوروبية في البلدان العربية والمسلمة، ومحاولة إعادة انتاجها بصيغ هجينة، لتتلاءم مع البيئات المحلية.

وللعلمانية الأوروبية تجليات متعارضة أحياناً، فهناك العلمانية المقترنة بفلسفة الإلحاد، كالوجودية، والعلمانية المقترنة بالإلحاد والمتعارضة مع الليبرالية، كالماركسية (الشيوعية) والاشتراكية، والعلمانية المقترنة بالليبرالية وأصالة الفرد، وهي العلمانية الغربية القائمة حالياً، والعلمانية بثوبها القومي الشوفيني، وهي ايديولوجيا تقوم على التمييز العرقي. ولا يعنينا هنا القواعد التفصيلية لهذه المذاهب الفكرية، بل ما يجمعها من قاسم مشترك، يتلخص في رفض أية علاقة للدين ومؤسسته بالدولة وسلطاتها وتشريعاتها. كما لا تعنينا المناخات الأوربية التي انتجت العقيدة العلمانية، بل محور بحثنا يدور حول موضوع العلمانية في البلدان العربية والإسلامية، والتي أسميناها "العلمانية المستوطنة"(11).

معايير وعي الغرب بالإسلام

يمكن القول إن الخلل الجوهري في فكر الغرب وثقافته، يكمن في التباين والتناقض بين معاييره النقدية التقويمية في وعي ذاته، ومعاييره المتعصبة الأصولية في وعي الآخر، أي أن الغرب لا يريد أن يفهم الإسلام كما هو، بل كما يريد أن يكون المسلمون عليه. وربما هناك عدد قليل جداً من الدراسات الغربية(12) احتوت على فهم قريب من الواقع للإسلام كنظام شامل للحياة، حيث مكّنها ذلك من وعي دوافع تيّارات الصحوة والنهوض وأسسها الفكرية، وذلك من خلال منهج آخر، انتقدت فيه المنهج الغربي السائد في الدراسات السسيولوجية للظواهر الاجتماعية، ومنها ظواهر النهوض الإسلامي. ورغم ذلك؛ فإن هذه الدراسات المستقلة في دوافعها، سارت بالاتجاه نفسه، لأنها اضطرت لاستخدام المعادلات والمصطلحات ذاتها في التحليل والاستنتاج.

وبشكل عام؛ يمكن استخلاص أهم خصائص ومعايير الوعي الغربي بالإسلام، كما يلي:

1- إنها تحاول فهم الإسلام من خلال المسلمين، أو من خلال الظواهر الخارجية للمجتمع وليس العكس.

2- تقويم حراك النهوض الإسلامي من خلال الرؤية الغربية نفسها، وليس من وجهة النظر الإسلامية، أو من وجهة نظر تيّارات النهضة.

3- إن وعي الغرب بحراك النهوض الإسلامي ليس وعياً مستقّلاً بوجود مستقل، بل هو جزء من وعي الغرب بذاته، لأن الشرق، وخاصة المسلمين، يمثّل «الآخر» بالنسبة لـ«الذات»، أي الغرب، و«التمثيل» بالنسبة «للحقيقة»، و«الأطراف» لـ«المركز»، وإن هذا «الآخر» الخارجي هو امتداد لعناصر الخارج في نظام «ميشيل فوكو»، وهي: الانحراف والشذوذ والجنون(13).

4- إن الشرق (الناقص الضعيف!) لا يمكنه وعي ذاته وعياً حقيقياً إلا من خلال وعي الغرب لها.

5- الرؤية الغربية تقتطع حراك النهضة الإسلامية الحديثة من سياقها التاريخي، وتدرسها كظاهرة ضمن مرحلتها الزمنية فقط، أما الخلفيات والأبعاد التاريخية والعقائدية؛ فإنها تستعيرها جاهزة من لاهوت السلطة والخطاب الاستشراقي.

6- أنها تعتمد النظريات الغربية الجاهزة في علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي، كنظرية «أريكسون» في الشخصية والقيادة الدينية، أو نظرية «ماكس فيبر» في قدرة القيادة الكاريزمية (الملهمة)، فضلاً عن آراء فلاسفة اجتماعيين آخرين أمثال «ماركس» و«دوركهيم» و«برغر»، الذين يؤكدون على أن منطلق الالتزام الديني وزيادته، هو الحرمان الاجتماعي والاقتصادي. ثم تُخضع الحراكات الإسلامية للتقنيات المنهجية لهذه النظريات (حسابات وإحصاءات ورسوم بيانية).

هذه الخصائص والمعايير تجعل العقل الغربي متخبّطاً في معلوماته وتحليلاته ونتائجه، بالنظر لوعيه الذاتي بالإسلام ومرتكزات النهضة فيه، وبدوافع تيارات النهوض الإسلامي الجديد وأسسها العقدية والفكرية، وعلى حد تعبير أحد الكتّاب الغربيين: إن ما نعرفه عن هذه الجماعات أقل مما لا نعرفه، والذي نعرفه وصلنا مشوّهاً ومرتبكاً(14)، هذا إضافة إلى المنهج المنحاز في التفكير، وعدم الموضوعية في استنباط النتائج. ويطلق «روجيه غارودي» على هذا الوعي أو الرؤية تسمية «الأصولية الغربية اللاواعية والمميتة»، التي تُستخدم كمسوّغ ايديولوجي لكل تجاوزات الاستعمار(15). في حين يصف باحث آخر العقل الغربي الاستشراقي، بأنه العقل الذي يعتبر الغرب الحقيقة والمركز والقوة، ويصور الشرق تصوراً استعمارياً عرقياً وفوقياً(16).

وبالتالي؛ فالوعي الغربي بالاسلام والمسلمين والحركات الإسلامية هو وعي استعماري سلبي مرعب، شكله القساوسة والمستشرقون، ويغذّيه الباحثون الأكاديميون، وتنشره وسائل الإعلام ضمن إيحاءات نفسية سلبية، وتستثمره السلطات العسكرية والسياسية والاقتصادية. أي أن مظاهر الوعي الغربي هذا تمثّل الإفرازات الخارجية لوعي الغرب الايديولوجي بذاته وبالآخر ، وطبيعة تعامله السلطوي مع مفرداته، وفي مقدمتها الإنسان المسلم ونهوضه الجديد. وفضلاً عن الأهداف الستراتيجية والتاريخية للغرب، والتي تمثل إرادة عقله ووعيه بإزالة أي عنصر للنهوض الإسلامي، وتدمير أي مستقبل مستقل ونام وناهض للمسلمين؛ فإن أهم الأهداف المرحلية لهذه الإرادة، والتي تنفذها الأنظمة الغربية عبر حملات الغزو الإعلامي والثقافي والتآمر السياسي والمخابراتي والحصار الاقتصادي والتهديدات العسكرية:

1- المحافظة على صورة مشوّهة عن الإسلام في العقل الغربي الشعبي، والحيلولة دون تأثّر سكان الغرب بالمد الإسلامي أو التدين (الأصولي) كما يسميه الخطاب الغربي.

2- تحميل الإسلام وزر ممارسات المسلمين وتخلفهم، بما في ذلك الممارسات الإرهابية لبعض التيارات المحسوبة على الإسلام، والتي ساهم الغرب نفسه في صناعتها، بهدف اتهام الإسلام بأنه يحمل في ذاته مكامن العنف والإرهاب، وأن الحركات الإسلامية المقاومة والنهضوية هي الوجه الآخر للجماعات الإرهابية تلك.

3- ملء ما يسمّى بمناطق الفراغ الفكري في المجتمعات الإسلامية، من خلال الترويج لمبادئ العلمانية والليبرالية والعقلانية بشكلها ومضمونها التقليديين في الغرب، كبديل فكري ومنهجي وتنظيمي للمسلمين.

4- دفع أنظمة البلدان الإسلامية، لتطبيق العلمانية الليبرالية وإلزاماتها الحقوقية والثقافية، مع إعطاء بعض الحريات وتجنب مظاهر القمع الاجتماعي، ورفع شعارات إسلامية (معتدلة)، كمحاولة لتقويض ما يسمونه بالنزوع الشعبي نحو الحركات الإسلامية كخيار سياسي وفكري.

5- إظهار (فشل) النماذج الإسلامية المعاصرة، كالجمهورية الإسلامية الإيرانية، والحركة الإسلامية العراقية، والمقاومة الإسلامية اللبنانية، والمقاومة الإسلامية الفلسطينية، وعدم صلاحيتها سياسياً وثقافياً واجتماعياً لحل مشكلات الإنسان المعاصر، بوصفها تمثل «الإسلام الأصولي»، وتقديم ما يسمى بــ «الإسلام المعتدل»، والذي عُرف بـ «الإسلام الامريكي»(17)، كبديل عنها.

المصطلح: أحد مظاهر وعي الغرب بالإسلام

من أهم مظاهر الوعي الغربي وإفرازاته، التسميات والمصطلحات التي يعرّف بها الواقع الإسلامي والحركات الإسلامية وتيارات النهوض، وهي مفاهيم تحمل فهماً مسبقاً وأحكاماً جاهزة لا تمت إلى الموضوعية والبحث العلمي بصلة، ويراد بها التعتيم على حقيقة الواقع الإسلامي وتشويهه. ووفق هذه القاعدة؛ فإن الدراسات الغربية تقسم المسلمين إلى ثنائيات متعارضة، تنسجم مع وعي الغرب بالظواهر والأحداث التي تمثل الآخر المختلف، وليس لهذه الثنائيات وجود عقدي إسلامي؛ فمثلاً تضع مصطلح «المسلم» في مقابل «الأصولي»، و«المتديّن» مقابل «المتعصّب» أو «المتطرّف»، و«الإسلام المعتدل» مقابل «الإسلام المتشدد».

كما تضع لكل مفردة أو مصطلح تعريفاً خاصاً، فالإسلام السياسي (political Islamic) هو الإسلام الذي لا يؤمن بالفصل بين العقيدة والسياسة، ويقف في صف المعارضة لاستلام السلطة. أما الإسلام الثوري (Revolutionary Islam) أو الراديكالي (Radical Islam) فهو الإسلام الذي يهيئ المجتمع لصنع ثورة في داخله تطيح بالبنى الوضعية التي يقف عليها، والإسلام الرسمي (Official Islam) هو الذي تتبناه الحكومات المحافظة أو العلمانية، ويرادف - غالباً - الإسلام التقليدي (Traditional Islam)، ويقابل الإسلام الشعبي (Popular Islam) الذي يتبناه الجمهور المؤمن بحركة النهوض الإسلامي.

وهناك مصطلحات أطلقت لتوصيف النهضة الإسلامية، كالغضب المقدس، الهياج الإسلامي، تيّار التشدد، ولكن مصطلح «الأصولية الإسلامية» (Islamic Fundamentalism) يبقى هو الأبرز على الإطلاق؛ إذ يؤكد الغربيون على أنه التعبير الأفضل، والأكثر انطباقاً على (الظاهرة!). ينسب هذا المصطلح إلى المفكر المسيحي الماركسي المصري أنور عبد الملك(18)، كان قد وضعه بالانجليزية كمرادف لمصطلح «السلفية»، ثم تبنّاه الغربيون فيما بعد. والملفت أن بعض الكتّاب والمثقّفين المسلمين، قد استعمل ذات المصطلحات التحريفية التي يصوغها الغرب، وتبنّاها كمسلمّات، ولعلّ أحد أسباب ذلك هو ضعف أدبيات الصحوة، فروجيه غارودي المسلم - كنموذج - يقول: «إن الأصوليات، كل الأصوليات، سواء أكانت تكنوقراطية، أم ستالينية، أم مسيحية، أم يهودية، أم إسلامية، تشكل اليوم الخطر الأكبر على المستقبل»(19) أي أنه يصنف الصحوة الإسلامية كأصولية، بل ويقرنها بالأصوليات الأخرى!

وبمراجعة سريعة لجذور المصطلح - بغض النظر عن مصاديقه - نجد أنه ينطوي على انحراف كبير في الفهم والتشخيص. فمعجم لاروس (الفرنسي) الصادر عام 1984 يعرّف الأصولية بأنها «موقف جمود وتصلّب». في حين تحدد الطبعة الصادرة عام 1979 الأصولية بـ«الأصولية الكاثوليكية» فقط. ومن هنا فالأصولية تعني لدى الغرب: الجمود، العودة إلى التراث والماضي، الانغلاق التحجر المذهبي، التعصّب، وكل ما هو مضاد للحداثة والمعاصرة والعلمية والانفتاح والاعتدال والتسامح والتطور والانماء والعقلانية.

والمدلول الآخر للأصولية هو الأقلية المنعزلة في المجتمع. يذكر أن المصطلح أطلق - بادئ الأمر - على حركة مسيحية بروتستانتية متعصبة ظهرت في أمريكا في بدايات القرن الماضي ويتميز أعضاء هذه الحركة - كما تشير قواميس اللغة والمعاجم الغربية - بالتعصب إلى حد الجهل، والتمسك الحرفي بالكتاب المقدّس، وأنهم أقلية منعزلة عن المجتمع. كما وضعت كلمة الكنيسة الأصولية في مقابل الكنيسة المعتدلة المتأثرة بالتجديد والعصرنة.

ويفهم من ذلك أن خلفية إطلاق الغرب مصطلح الأصولية على الصحوة الإسلامية تتمثّل في محاولة تقريب الصورة إلى ذهن المواطن الغربي، الذي يدرك جيداً ما تعنيه الأصولية المسيحية أولاً، وثانياً الإيحاء للذهنية الغربية التي تكره الأصولية المسيحية - غالباً - بخطورة الصحوة الإسلامية؛ لأنها وجه آخر للأصولية الكاثوليكية في أوروبا والأصولية البروتستانتية في أمريكا.

وفي الوقت نفسه، انتقد بعض الباحثين الغربيين - أمثال «لورانس بروك» - استعمال تعبير الأصولية، لعدم وجود دلالة لها في الفكر العربي. في حين فنّد معظم الباحثين والمستشرقين هذا الانتقاد؛ لأن التعبير - حسب ادعائهم - يكفيه أن له دلالة في العقل الغربي، الذي يفهم أن هذه (الظاهرة) هي أصولية وحسب، وذلك انطلاقاً من كون الحقيقة المطلقة لجميع الظواهر الاجتماعية والكونية، هي وعي العقل الغربي بالظاهرة، بل لدلالاتها التاريخية والفكرية، وتأكيدها البعد السياسي للإسلام أكثر من بعده الديني(20). وهذا الفهم - هو الآخر - فهم ناقص ومشوّه؛ لأن الأصولية، حسب المداليل السلبية الغربية الاصطلاحية، ليس لها ارتباط من قريب أو بعيد بالأصولية في مدلولها الإسلامي، فالأصوليون - حسب المدلول الاصطلاحي الإسلامي - هم المتخصصون بعلم أصول الفقه، أو أصحاب النزعة لاستخدام أصول الفقه في عملية الاستنباط الفقهي، في مقابل النزعة الإخبارية.

وفي السنوات الأخيرة بدأت الدراسات الغربية تعي ظواهر أخرى في مجتمعات المسلمين، غير ما تصطلح عليه بالأصولية الإسلامية والإسلام المحافظ، وأبرزها ظاهرة «إسلام النخبة»(21) أو «اليسار الإسلامي»(22)، أو «الإسلاميون الحداثّيون» (Islamic Modernists)، كتيّار وسط بين المتطرفين (Extremists) والتقليديين، وهؤلاء يتميزون بكونهم نخباً وجماعات تتصدى لقيادة المجتمع ثقافياً وفكرياً وليس سياسياً.

ويرجع بعض الكتّاب المسلمين - ربما عن حسن نيّة - سبب ظهور الأصولية في العالم الثالث إلى الأصولية الغربية، التي يعتبرونها العلة الأولى المتسببة في ولادة كل الأصوليات الأخرى، كردّ على أصولية الغرب، إذ إن «الأصولية في العالم الثالث ولدت جراء زعم الغرب، منذ النهضة فرض نموذجه الإنمائي والثقافي»(23). ومعنى ذلك أن الصحوة الإسلامية هي مجرد ردّ فعل ضد الأصولية الغربية. وهذا الزعم خاطئ هو الآخر، رغم محاولته تعرية ادّعاءات الغرب، وردّ تهمه إليه، لأنه يؤكد - في جانب منه - كون الغرب هو «المركز»، وهو مصدر التأثيرات، وما عداه «أطراف» ومتأثرون ليس إلاّ! فضلاً عن أنه ينفي الأصالة والعمق التاريخي والفكري والاجتماعي عن الصحوة.

وعي الغرب بالنهوض الإسلامي الجديد

ظل الحديث في الأوساط الفكرية والسياسية والاجتماعية، الغربية والإسلامية، عن مستقبل النهوض الإسلامي الجديد، وما سيؤول إليه وضع التيارات الإسلامية في المرحلة القادمة، يتزايد باطراد بمرور الزمن، منذ تحقيق انجازاته الأُولى خلال العام 1979. وتختلف نتائج المقاربات في هذا المجال، وفق المقدمات والأسس والمناهج الاستشرافية التي يستخدمها كل اتجاه في تحليله ومعالجته لهذه الموضوعة. وهناك ثلاث رؤى أساسية في هذا المجال، تمثل نتاج جهود بحثية واسعة، هي: الرؤية الغربية، رؤية العلمانيين في المنطقة الإسلامية والرؤية الإسلامية الذاتية. ولا شك أن كلاً من هذه الرؤى تشتمل على عدة رؤى فرعية، تختلف فيما بينها في كثير من التفاصيل، بل وفي الأسس والمناهج أحياناً، ولكن يبقى أن هناك قاسماً مشتركاً بين اتجاهات كل رؤية، يمكن أن نعتبره الإطار الفكري العام للرؤية:

1 - الرؤية الغربية:

تستند الرؤية الغربية - غالباً - في معالجتها وتحليلها لموضوع النهوض الإسلامي الجديد إلى نظريات علماء الاجتماع الغربيين، وخاصة الاثنولوجيا والانثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع الديني، وهي نظريات جاهزة ومفصّلة على مقام النظام الغربي ومناهج تفكيره، وهي نتاج وعي العقل الغربي بالإسلام والمسلمين وفق العناصر الأربعة التي تشكله.

والنتائج الأولية التي تقدمها هذه الرؤية تؤكد أن ظواهر النهوض الإسلامي الجديد بعد العام 1979 هي ظواهر طارئة وليست أصيلة أو متجذرة؛ إذ نشأت ردّ فعل على مجموعة من الأزمات الاجتماعية في بلاد المسلمين، أبرزها: أزمة الهوية الاجتماعية الدينية السياسية، أزمة شرعية الأنظمة الحاكمة، أزمة الثقافة والسلوك المجتمعي، الصراع الطبقي، الفقر، التخلف، الشعور بالتبعية للغرب، الأزمة النفسية، ضعف قيادة النخب الحاكمة المتغربة وسوء إدارتها. وبتعبير آخر، فإن الصحوة الإسلامية، على وفق ذلك، ليست ظاهرة حقيقية، وإنما تمثّل، وبرزت نتيجة لضغوط الغرب وهيمنته، وممارسات الأنظمة الحاكمة وتبعيتها وأساليب حكمها وممارساتها القمعية، وما نشأ جراء ذلك من أزمات اجتماعية، كما أن الظواهر النهضوية الإسلامية اللاحقة لقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إنما هي محاولة للتشبّه بالنموذج الإيراني.

وبهذا التوصيف؛ بات بإمكان الرؤية الغربية أن تحدد مستقبل النهوض الإسلامي الجديد، وكأنه حتمية تاريخية؛ فهي حين تعتبر هذا النهوض مجرد ظاهرة اجتماعية محدودة ومنعزلة وغير أصيلة؛ فإنها ترفض أن يكون لهذه الظاهرة بنى حضارية وفكرية وسياسية واقتصادية حقيقية، تحقق لها الاستمرار والنمو والتمدد وتمثيل الشعب والإمساك بقرار الدولة، وبالتالي؛ فهي ظواهر ليس لها أي مستقبل، وزائلة بزوال أسبابها وعوامل ظهورها، وبانهيار نماذجها الناجحة الصاعدة.

ووفقاً لمناهج الدراسات المستقبلية؛ فإن البديل الذي تطرحه الرؤية الغربية، هو بديلها الذي تريده وتخطط له، وقد اختارته من بين مجموعة الاحتمالات، بهدف التحكّم به وبناء مقوماته المستقبلية، وهو الاسلام العلماني الليبرالي المدجن، أو مايسميه الغرب الإسلام المعتدل كما أشرنا. ويهدف الغرب من وراء إعلاناته المتكررة المركّزة عن رؤيته لمستقبل النهوض الإسلامي الجديد، ووصفها بالرؤية العلمية المتجردة، ومحاولة زرعها في عقول المسلمين ووعيهم، من خلال مختلف الأساليب والوسائل؛ يهدف إلى أن يفرض على المسلمين وعيه بذاتهم وجودهم ومستقبلهم، في محاولة قسرية لإعادة إنتاجهم واستحضارهم وتحديد مستقبلهم، على المستويين النظري والعملي. وجزء من هذا الوعي أن يشعر المسلم - دائماً - بالدونية والضعف، وعدم الثقة بالنفس والمستقبل، والهزيمة المستدامة تجاه الغرب وقيَمه ومعاييره وتفوقه الشامل. أي أن الغرب حين يضع المسلمين أمام الحتميات والخيارات والبدائل التي يفرضها؛ فإنه يقدر أن كثيراً من المسلمين سيتبنون خيارات الغرب، بوعي أو بدونه.

2 - رؤية العلمانيين في البلدان الإسلامية:

من نقطة الخيارات الغربية، ينطلق العلمانيّون في المنطقة الإسلامية، في تحديد رؤيتهم لمستقبل النهوض الإسلامي الجديد، لأنهم يعتمدون بدائل الغرب ومحدداته، ويستعيرون مناهجه في التفكير والتحليل والاستنتاج. ورغم أن هؤلاء يستندون في تكوين رؤيتهم إلى مقدمات أقرب للواقع من مقدمات الرؤية الغربية، إلا أنهم يخرجون بنتائج أكثر تطرفاً في عدم موضوعيتها، وأكثر بعداً عن الواقع من الرؤية الغربية. والسبب في ذلك يعود إلى أن علماني البلدان الإسلامية يعيشون الواقع الإسلامي من جهة، وأن مظاهر النهوض الإسلامي الجديد ومستقبلها يعنيهم بشكل مباشر من جهة أخرى، ولذلك؛ فإنهم يسقطون أمانيهم وطموحاتهم وأهدافهم على رؤيتهم؛ فتكون النتائج غير موضوعية إلزاماً وبعيدة عن الواقع.

وهذا النمط من العلمانيين هم أدوات الغرب في محاولة إعادة إنتاج الواقع الإسلامي، من خلال مشاريعهم الهادفة لعلمنة المجتمع، وفرض الأنماط الاجتماعية الغربية عليه. ويلاحظ أن بينهم من يحشر نفسه في زاوية دفع التهم التي يكيلها الغرب للمسلمين، لكنه يمارس عملية الدفاع بأساليب سلبية، وبثقافة وسلوك متغربين، وبما ينسجم مع خيارات الغرب وأطروحاته، وذلك نتيجة لحساسية العلماني المفرطة تجاه الاتهامات الغربية. وربما يرفض بعض العلمانيين الغرب السياسي أو الغرب المحتل والمستعمر، لكنه يندفع وراء التبلس بثقافة الغرب وسلوكه، لينتج ما يسمونه العلمانية الشرقية أو الليبرالية الشرقية بالعقلانية الشرقية أو المسلمة، لردّ تهمة لا عقلانية الشرق. أو تفصيل مفاهيم الحداثة والمعاصرة بلباس (مسلم)، لردّ تهمة التحجر والجمود وعدم التكيّف مع النمو والتطور، ويرفع لافتة «العلمانية» بقوة، ليقول بأن الغرب مخطئ حين يتهمنا بالتخلف الفكري، والفهم الطولي للواقع، والإيمان السطحي.

ويشترك الخطاب العلماني المحلي في البلاد الإسلامية مع الخطاب الغربي في ضرورة التخلص من التيارات الإسلامة وحراكاتها النهضوية، وتحذير الشعوب المسلمة منها، وأنها ظاهرة طارئة غير أصيلة، وأنها ستنتهي بنهاية العوامل التي أدت الى ظهورها، ويجد علمانيو المنطقة الإسلامية، بمن فيهم الأنظمة العلمانية الحاكمة، أن من واجبهم مواجهة مفردات النهوض الإسلامي بكل الوسائل، من خلال عزل التيارات الإسلامية عن الشعوب، تمهيداً للقضاء عليها. ويتمثل جزء من هذه المواجهة في ملء ما يسمونه بالفراغ الفكري والاجتماعي الناشئ عن فشل الأطروحات العلمانية المستوردة، بأطروحات أكثر بريقاً وواقعية، تقترب من بعض مظاهر الإسلام، بما يشبه « الإسلام المعلمن » أو «العلمانية المؤسلمة»(24)، وهي توليفة أكثر خطورة في المواجهة من العلمانية الأصلية، لأنها تقرأ الإسلام بغير أدواته، وتحاول توظيفه للأهداف العلمانية الأساسية نفسها.

3 - رؤية النهضة الإسلامية لنفسها:

تستند رؤية تيارات النهوض الإسلامي الجديد لنفسها إلى معطيات وحقائق التكليف وسنن الله في الخلق، لقراءة معالم مستقبلها. ورغم أن هذه الرؤية تتفرع إلى عدة رؤى ثانوية - كما مرّ - تبعاً لتعدد الاتجاهات الإسلامية، واختلافها في أساليب التحرك، والأسس الفكرية التفصيلية لكل منها؛ إلّا أن هناك قاسماً مشتركاً بين رؤى هذه الاتجاهات، يتمثّل في حقيقة أن التكامل البشرية يكمن في الإسلام، وأنه شريعة وعبادة ومعاملات ودولة ونظام سياسي وإقتصادي وقانوني، وهو دين المستقبل كما هو دين الماضي والحاضر، وأنه الحبل الذي يربط دنيا المسلم بآخرته.

ومن أبرز المعطيات والحقائق التي تستند إليها هذه الرؤية:

1- الفراغ الفكري والروحي العالمي، الذي حدث في أعقاب انهيار أو تصدّع كثير من الأفكار والمدارس الوضعية الغربية والشرقية، وبروز مؤشرات التصدّع في المجتمعات والنظم الغربية، وهو ما يؤكده المفكرون الغربيون أنفسهم، ولا سيما في نظام الولايات المتحدة الأميركية واجتماعه واقتصاده(25).

2- القوة الذاتية الهائلة التي يمتلكها الإسلام كنظام شامل للحياة، يمتلك أبلغ الحجج في الإجابة على تساؤلات الإنسان المعاصر وحل مشكلاته وتلبية حاجاته المختلفة، النفسية والعقيدية والاجتماعية والاقتصادية.

3- التطور النوعي والكمي في الخطاب الإسلامي المعاصر، وتمكنه من بلوغ متطلبات المرحلة والتناغم معها، وقدرته المتنامية على الإقناع والنفوذ، خاصة مع صعود بعض النماذج الإسلامية السياسية الناجحة، والتي تفوقت في نموها ونهوضها جميع الأنظمة العلمانية في البلدان الإسلامية، كالنموذج الماليزي والنموذج التركي والنموذج الإيراني.

4- المد الإسلامي العقدي والإيماني الشعبي، وبروز المظاهر الشاملة للالتزام بالدين، والإيمان به نظاماً لحياة الفرد والمجتمع، وهي مظاهر لم تكن مألوفة في العقود الأولى للقرن الماضي وحتى عقده السابع.

5- النتائج المشروطة التي تفرزها السنن الإلهية وقوانين التاريخ، وهي تسير في مصلحة النهوض الإسلامي الجديد.

وبالتالي؛ فإن النهوض الإسلامي الجديد هو مسعى جاد لبلورة ذات مستقلّة رصينة للمسلمين، لها أبعادها المتكاملة تاريخياً وحضارياً، ووعي هذه الذات المعاصرة بمعزل عن وعي الغرب لها، وانطوائها على عوامل النمو الإنساني والتقدم العلمي والتكنولوجي.

كيف تكون العلاقة المتوازنة للمسلمين بالغرب؟

مرت العلاقات بين الغرب والمسلمين، بمراحل مختلفة، منذ بدء عملية الاحتكاك الثقافي بين الطرفين في أواسط العصور الوسطى؛ فقد مثلت المرحلة الأُولى حالة من التفاعل الثقافي والاحتكاك المنتج، ولم تتضمن أهدافاً سلطوية على المستويين الفكري والسياسي، رغم أن العالم الإسلامي كان في ذروة تألقه الثقافي والسياسي والعسكري، في مقابل التخلّف القياسي الذي كان يسود الغرب؛ فقد اقتبس الغرب من الحضارة الإسلامية ـ خلال هذه المرحلة ـ معظم عناصر نهوضه. والملفت للنظر، أن ما اقتبسه الغرب من مدنية المسلمين وحضارتهم، كان يدخل في إطار المشتركات العامة، الأمر الذي حال دون حصول أي نوع من أنواع التبعية للعالم الإسلامي، على العكس مما حدث في المرحلة اللاحقة، حين تغيّرت موازين المعادلة.

وفي المراحل اللاحقة التي بدأ فيه الواقع الإسلامي بالتراجع والتفتت، تغيّرت طبيعة العلاقة الغربية الإسلامية وآلياتها؛ إذ أدخل فيها الطرف الغربي مضامين جديدة، تزامناً مع بدايات تشكيل العقل الغربي الحديث، خلال مرحلة "عصر النهضة" الأوروبية. حينها اتجه الغرب الناهض الى تشكيل منهجه الجديد في معرفة الإسلام والمسلمين، وبلورته بالتدريج، من خلال الخلفية اللاهوتية السلطوية والوعي الإستشراقي والفكر العلماني والمعارف المنهجية الجديد، وخاصة في مجالات علم الاجتماع والانثربولوجيا والاثنولوجيا، إضافة إلى قاعدة التفوّق الاقتصادي والسياسي والعسكري.

وكانت النتيجة أن أصبح وعي الغرب بالإسلام والمسلمين، يمثّل جزءاً من وعي الغرب بذاته، كما ذكرنا سابقاً؛ فالغرب في إطار هذا الوعي ـ كما يقول مفكّروه ـ هو «الذات» و«العقل» و«القوة» و«الحقيقة» و«المركز». أما العالم الإسلامي فهو بالنسبة له يمثّل «الآخر» و«الجنون» و«الضعف» و«التمثيل» و«الأطراف»(26).

هذا النزعة الاستكبارية الفوقية، كرّست الغرب بوصفه منظومة ايديولوجية (فكرية ـ سياسية)، وليس مجرد بقعة جغرافية، وجعلته يعطي الحق لنفسه بانتهاج مختلف أساليب الغزو والسيطرة والنهب تجاه العالم الإسلامي. ويتضح هذا المنهج من خلال الخطاب الغربي الحديث ومنهجه المعرفي. ولعل بريطانيا وفرنسا خلال القرنين التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والولايات المتحدة الأمريكية منذ النصف الأول من القرن العشرين وحتى الآن، تمثل التجسيد الحقيقي للرؤية الغربية المتفوقة تجاه الآخر.

ولاشك أن المسلمين، وعموم دول العالم الثالث والجنوب، لايستطيعون تغيير الرؤية الغربية تجاهم، وليست لديهم القدرة الواقعية على تفكيك العقل الغربي، وإعادة صياغته، كما نجح الغرب قبل ذلك مع العقل المسلم غالباً، إلّا أن المسلمين بإمكانهم تشكيل رؤية واقعية متوازنة تجاه الغرب، تستند الى معايير العلاقة المتوازنة، والندية النسبية، والمصالح المشتركة، والممانعة الإيجابية، فلا رفض للمنتج الفكري والعلمي والسياسي والإقتصادي والثقافي للغرب بالمطلق، ولاقبول له بالمطلق، بل يكون الرفض والقبول معيارياً، وخاضعاً لمتطلبات الواقع، ولضوابط التكوين العقدي والفكري والثقافي الإسلامي.

هذه المعيارية تحول دون الإنغلاق على الذات وحرمان الواقع الإسلامي من الإقتباس من النتاجات الغربية المحايدة المقبولة معيارياً، وفي الوقت نفسه تحول دون الإنسحاق والهزيمة أمام الغرب ونتاجاته وصادراته، أو الحيادية تجاه معاركه مع المسلمين، لاسيما معارك الخنق السياسي والغزو الإعلامي والحصار الإقتصادي والاختراق الاستخباري والتنكيل النفسي والضربات العسكرية.

***

د. علي المؤمن

...................

الإحالات

(1) أنظر: علي المؤمن، "سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق"، الفصل السابع.

(2) انظر: فهمي هويدي، إيران من الداخل، ص 36.

(3) وفي مقدمتهم الدكتور حسن حنفي، الذي ألّف كتاباً في أكثر من (900) صفحة تحت عنوان «مقدمة في علم الاستغراب»، دعا فيه إلى دراسة الغرب، في مقابل «الاستشراق».

(4) علي المؤمن، العلمانية المستوطنة بين الإيمان المسيحي والشريعة الإسلامية (دراسة)، ص 6-24.

(5) إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة.. السلطة.. الإنشاء، ص 39.

(6) انظر: د. محمد دسوقي، "الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه"، ص 40 - 70.

(7) إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 198 - 202.

(8) علي المؤمن، مقدمة كتاب "الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه" للدكتور محمد الدسوقي، ص 5 -6.

(9) أنظر: علي المؤمن، "القرن العشرون: مائة عام من العنف"، ص 9، و"العلمانية المستوطنة"، مصدر سابق، ص 16.

(10) أنظر: علي المؤمن، العلمانية المستوطنة (دراسة)، مصدر سابق.

(11) المصدر السابق، 12- 19.

(12) ومن أبرزها كتاب الدكتور هرير ديكمجيان - أمريكي من أصل إيراني مسيحي - الأصولية في العالم العربي وكذلك كتاب الصحفية الأمريكية روبن رايت، الغضب المقدس، وعدد آخر من دراساتها التي نشرتها في مجلة فورين أفايرز.

(13) إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 4 - 6، من مقدمة كمال أبو ديب.

(14) انظر اوفرن بنغيو، الشيعة والسياسة، مجلة مدل إيسترن ستديس، نقلاً عن: علي المؤمن، سنوات الجمر، ص 315.

(15) انظر: روجيه غارودي، الأصوليات المعاصرة.. أسبابها ومظاهرها، ص21 - 22.

(16) الاستشراق، ص 6، من مقدمة كمال أبو ديب.

(17) وهو ما طرحته تفصيلاً مؤسسة راند الأمريكية في مؤتمراتها وندواتها وبحوثها خلال العقدين الأخيرين. أنظر: شيربل بينارد، «الإسلام المعتدل»، سلسلة تقارير مؤسسة راند.

(18) أنور عبد الملك، في كتابه: "نهضة مصر"، والذي ترجم مصطلح "السلفية" الى مصطلح (Islamic Fundamentalism) أي "الأصولية الإسلامية" عندما ترجم كتابه الى الإنجليزية.

(19) روجيه غارودي، ص 10.

(20) هرير دكمجيان، الأصولية في العالم العربي، ص 87.

(21) ويقصد بها النخبة المثقفة، وليست النخبة السياسية أو الحاكمة، ويعد "تيار اليسار الإسلامي" في مصر، أحد نماذج ظاهرة إسلام النخبة، وهو التيار الذي نظّر له المفكر المصري الدكتور حسن حنفي. انظر: ماذا يعني اليسار الإسلامي؟، مجلة اليسار الإسلامي كانون الثاني 1981، ص 5 - 48.

(22) المصدر السابق.

(23) روجيه غارودي، ص 12.

(24)أنظر: علي المؤمن، النظام السياسي الإسلامي الحديث، ص 53.

(25) انظر مثلاً: كتاب الإفلاس 1995: الانهيار القادم لأمريكا، للاقتصادي الأمريكي هاري فيجي.

(26) أنظر: ادوارد سعيد، الاستشراق.

خلاصة الدراسة:

إن الدول في المجال العربي على نحوين: دول أيدلوجية تعمل بمختلف الوسائل بما فيها القهرية لتعميم أيدلوجيتها واقتحام مجتمعها بكل فئاته ومكوناته وشرائحه في بوتقة أيدلوجيتها.. وكل طرف أو مكون يرفض الانضمام إلى هذه الأيدلوجيا، فيمارس بحقه النبذ والإقصاء والعنف المادي والرمزي.. لهذا فإن صلة هذه الدولة بمواطنيها يتم عبر الأجهزة الأمنية، وإذا توفرت فيها بعض أشكال الديمقراطية، فهي شكلية وتمارس الاستبداد والقهر بقفازات ناعمة..

ودول تقليدية تعتمد في بنيتها الأساسية على حكم العائلة أو العشيرة أو أي شكل من أشكال الانتماءات التقليدية وهي أيضا بحكم بنيتها حاضنة للبعض وطاردة للبعض الآخر..

ولعل أحد الفروقات الأساسية بين الدولة الأيدلوجية والدولة التقليدية في التجربة العربية المعاصرة، هي أن كلا الدولتين وديكتاتوريتين واستبداديتين، واحدة باسم الأيدلوجيا الدينية أو الأيدلوجيا التقدمية، والأخرى باسم حكم العائلة وتقاليد المجتمع والحياة العامة في البلد..

فكلاهما ديكتاتوريتان تمارسان الاستبداد والإقصاء والنبذ بكل صنوفه.. ويضاف إلى هذا أن الدول الأيدلوجية هي بطبيعتها أيضا دولا قمعية.. بمعنى أن لأجهزتها الأمنية سطوة وصلاحيات هائلة لإدامة الاستقرار وحماية السلطة.. فهي دول ديكتاتورية وقمعية في آن.. وفي ظل هذه الدول فإن الأقليات الدينية تعاني العديد من المآزق والمشاكل المتعلقة بحريتها الدينية ومستوى مشاركة أبناءها في الحياة العامة..

وقناعة الدراسة الأساسية: أنه إذا لم تتغير بنية الدولة في المجال العربي من دولة أيدلوجية أو تقليدية إلى دولة مدنية – تشاركية – تعددية محايدة تجاه عقائد مواطنيها، فإن مشاكل الأقليات ستستمر وتزداد استفحالا..

والذي يزيد أزمة الأقليات في هذا السياق، هو طبيعة فكرها السياسي المحافظ، الذي يجعلها تحذر من الانخراط في مشروعات الإصلاح الوطني..

لهذا فإن الدراسة تعتقد: أن تطوير فكر الأقليات السياسي، ودفعه نحو الانخراط في مشروعات الإصلاح والتفاعل الخلاق مع قضايا التغيير السياسي، يساهم في معالجة مشكلة الأقليات في الدول العربية المعاصرة.. وتطوير الفكر السياسي للأقليات للخروج من نفق المحافظة إلى رحاب الإصلاح يعني النقاط التالية:

1- الانخراط في مشروعات سياسية وفكرية عابرة للمكونات التقليدية ومتجاوزة للانتماءات الطبيعية، والمساهمة في بناء كتل وطنية تطالب بالإصلاح وتعمل من أجله..

2- الانعتاق من ربقة الانكفاء والانزواء، وكسر حواجز الانطواء، والتفاعل الكامل مع شركاء الوطن..

لأننا نعتقد أن الطائفية في المجال العربي تمارس على نحوين أساسين وهما: النحو الأول: الطائفية الغالبة وهي تمارس طائفيتها بتبني سياسات النبذ والتهميش والإقصاء للآخر المختلف والاستمرار في دفعه عبر وسائل قسرية وناعمة للمزيد من الانكفاء وبناء الحواجز النفسية والاجتماعية والسياسية مع الآخر المختلف الديني أو المذهبي أو القومي..

والنحو الآخر: هي الطائفية المغلوبة وهي طائفية معكوسة تبرر انكفاء الذات وتسوغ المفاصلة الشعورية والعملية.. فإذا كانت الطائفية الغالبة تمعن في سياسات الإقصاء والتمييز، فإن الطائفية المغلوبة تمعن في سياسات الانعزال والنظرة النرجسية للذات.. والتحرر من النزعة المحافظة في الفكر والسياسة، يقتضي العمل على نقد وتفكيك أسس ومتواليات الطائفية المعكوسة المتعشعشة في نفوس وعقول الكثير من أبناء الأقليات الدينية والمذهبية والقومية في المجال العربي..

3- بناء العلاقة ونظام الحقوق والواجبات على أساس المواطنة المتساوية مع الاحترام التام لخصوصيات المواطنين الدينية والمذهبية..

والمواطنة بحمولتها القانونية والدستورية، هي بوابة الانتقال بمجتمعاتنا من حالة السديم البشري إلى المجتمع التعاقدي الذي يضمن حقوق الجميع، ويفتح المجال القانوني للجميع للمشاركة في بناء الأوطان واستقرارها السياسي والاجتماعي..

مفتتح:

ثمة مسائل وقضايا شائكة وحيوية في آن، تثيرها التطورات الإقليمية والدولية اليوم.. حيث مستويات التفتيت ودرجات التشظي. حيث الكيانات السياسية الكبيرة وما تسمى بالإمبراطوريات، التي قامت بالقوة واستمرت بالقهر والغصب والإرهاب. هذه الكيانات والتي تمتلك ترسانات عسكرية ضخمة بدأت بالتلاشي. حيث استيقظت كل الوطنيات والأثنيات والقوميات المقموعة خلال السنين المنصرمة وبدأت تبحث عن ذاتها وكيانها وخصوصياتها.

والذي يزيد المشهد قساوة ورعبا، هو تكاثر بؤر العنف الكامنة والصريحة والمفتوحة على كل احتمالات الفوضى وهوس استخدام القوة بلا وعي وبصيرة وعقل.

ولا نبالغ حين القول: أن تسعير التوترات وإشعال بؤر العنف بكل أصنافه وأشكاله، واستيقاظ كل التنوعات والخصوصيات، كل هذا من جراء العقلية الاستبدادية والعنفية، التي سادت في مناطق عديدة من العالم، واستخدمت كل قوتها وجبروتها وغطرستها لمحو خصوصيات الأمم والمجتمعات، ولطمس حقائق تاريخية ومجتمعية متجذرة في العمق الحضاري للأمم والأوطان.

- الاستبداد جذر الأزمة:

فالعنف والقهر والاستبداد، هو الذي أيقظ الخصوصيات بنحو سلبي، كما أن إرهاب الدولة وغطرستها وتغّولها وسعيها المحموم لدحر ما عداها، هو الذي أدى إلى تسعير التوترات وتفجير الاحتقانات في مواضع ومناطق عديدة من العالم.

وعلى هدى هذا نستطيع القول: أن كل الكيانات والوجودات، التي تأسست على قاعدة الوحدة القسرية والقهرية لتنوعاتها وتعدداتها، فإن مآلها الأخير هو التشظي والتفتت، والإمبراطوريتين السوفيتية واليوغسلافية نموذجان صريحان لذلك.

فالوحدة القهرية لا تفضي إلى استقرار مستديم، بل تؤسس لاحتقانات وانفجارات ونزاعات جديدة محورها التداعي والتآكل الوحدوي، واليقظة العنيفة لكل الخصوصيات والهويات المقموعة.

ولا ريب إننا بحاجة إلى حياة سياسية سليمة، تفسح المجال لكل التعبيرات والقوى بدل إقصائها وقمعها، وإلى فضاء عام حر، يساءل الواقع، وينقد الممارسات، ويحاسب المقصرين والمستهترين بالقانون. ونحتاج أيضا إلى مواطنة نشطة تعبر عن آمالها ومصالحها ونفسها بمشاركة سياسية وديمقراطية فاعلة، لبلورة الخيارات والرهانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الوطنية.

والتمييز بكل صوره وأشكاله، والتهميش بمجالاته وآلياته، لا يفضيان إلى الوحدة والاستقرار السياسي والمجتمعي، وإنما يؤسسان الظروف الذاتية والموضوعية معا لتشظي الواقع، واستيقاظ العصبيات بكل زخمها وعنفها وعنفوانها.

وإن منطق الاستبداد يؤبد الأنظمة، ولا يفضي إلى الاستقرار، وإنما يفاقم العيوب، ويعمق التوترات، ويفجر الخصوصيات.

وإننا بحاجة إلى تحول نوعي وتطور استراتيجي في فكرنا السياسي والاستراتيجي، يعمق خيار الديمقراطية في واقعنا، ويسعى نحو صناعة حقائقه ووقائعه، ويحارب كل موجبات الاستبداد وحالات التهميش والتمييز، ومواقع النبذ والإقصاء.

لهذا نحن بحاجة أن نعيد قراءة مسألة الأقليات والخصوصيات الذاتية في المجالين العربي والإسلامي.. وهذا ما نحاوله في السطور القادمة..

- مفهوم الأقليات:

بعيدا عن المضاربات الأيــدلوجية والسياسية، بإمكاننا أن نحدد معنى الأقليات بأنها: التكوين البشري، الذي يتمايز مع جماعته الوطنية في أحد العناصر التالية (الدين ـ المذهب ـ اللغة ـ السلالة). وهذا التمايز تعبير عن التنوع الطبيعي بين البشر.

فالأقليات هي " أي مجموعة بشرية تختلف عن الأغلبية في واحد أو أكثر من المتغيرات التالية: الدين أو اللغة أو الثقافة أو السلالة. ولا يعني ذلك كل من يختلف عن الأغلبية في أحد هذه المتغيرات هو مناوئ للقومية العربية أو لمطلب الوحدة. فهناك من بين أفراد بعض هذه الأقليات من ناضلوا في سبيل قضية الوحدة، وأسهموا مساهمات رائدة في الفكر القومي العربي. لذلك فإن توصيف جماعة معينة كأقلية لا يعني بالضرورة أي حكم مسبق على اتجاهاتها نحو مسألة الوحدة. والعبرة كما قلنا هي ما إذا كان أي من هذه المتغيرات (الدين ـ اللغة ـ الثقافة ـ السلالة) يضفي على مجموعة بشرية معينة قسمات اجتماعية ـ اقتصادية ـ حضارية تلون سلوكها ومواقفها السياسية في مسائل مجتمعية رئيسية " (1).

" والجماعة الأثنية تستخدم في العلوم الاجتماعية، لتشير إلى أي جماعة بشرية يشترك أفرادها في العادات والتقاليد واللغة والدين وأي سمات أخرى متميزة بما في ذلك الأصل والملامح الفيزيقية والجسمانية " (2).

وبالتالي فإن الحديث سيتجه إلى الأقليات الأقوامية والدينية والمذهبية.. " ففي أفريقيا السوداء، التي يناهز تعداد سكانها اليوم (750) مليون نسمة، توجد (54) دولة، وتوجد في مقابلها (2200) أثنية تتكلم بمثل هذا العدد من اللغات. وفي آسيا أكبر قارات العالم من حيث تعداد السكان، يعيش اليوم (5ر3) مليار نسمة، يتوزعون بدورهم على أكثر من (2000) أثنية وينطقون بأكثر من (2000) لغة ويعتنقون ديانات شتى.

فاندونيسيا مثلا، وهي رابع أكبر دولة في العالم، ويقطنها (215) مليون نسمة، يتوزعون على (300) أثنية وينطقون بـ (365) لغة. والفليبين، بلد الـ (100) أثنية ولغة. ويصل تعداد الأثنيات والأقليات الأثنية في لاوس إلى (70)، وفيتنام إلى (55)، وتركيا إلى (66)، وإيران إلى (21) وبنغلاديش إلى (52) والنيبال إلى (30).

وفي العالم اليوم (188) دولـــة أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، ولكن هناك في المقابل (8000) أثنية و (6700) لغة.

ولقد أقرت كندا في عام (1988م) لسكانهـــا الهنــــود (850) ألفا يتوزعون بين (600) قبيلة بوضعية ثقافية خاصة، وأفــــردت بندا خـــاصا من قانــــونها الاتحادي (البند 27) لتكريس حق الأفراد الذين ينتمون إلى أقلية أثنية أو لغوية أو دينية في التمتع بتقاليدهم الثقافية الخاصة وبممارسة شعائرهم الدينية والتكلم بلغاتهم الخاصة وتعليمها. ولقد أنشأت كندا أخيرا للهنود المعروفين باسم (الأينويت) من سكانها منطقة مستقلة ذاتيا لها برلمانها الخاص وعاصمتها الــخاصة ومدارسها الخاصة، وحتى شــركة طيرانها الخاصة، مع أن تعداد الهنود الأينويت لا يزيد عن (35) ألف نسمة. والسويد أباحت تعليم (265) لغة في مدارسها، بما فيها لغات الجاليات المهاجرة كالعربية والسريانية والتركية. وأقرت ايطاليا في عام (1999م) قانونا تشريعيا لحماية الأقليات اللغوية، ومنحت وضعية إدارية وثقافية خصوصا لخمس من محافظاتها في جزيرتي صقلية وساردينيا وفي جبال الألب والتيرول " (3).

وإن درجة التميز وحدته وعمقه الاجتماعي والسياسي وأهدافه وتطلعاته القريبة والبعيدة، مرهون كل هذا إلى حد بعيد إلى طبيعة التعامل الذي تمارسه السلطات السياسية والاجتماعية. فإذا كان التعامل جافا وبعيدا عن مقتضيات العدالة والحرية، فإن الشعور بالتميز الذي يفضي إلى تمييز وتهميش من قبل السلطات، سيؤدي إلى المزيد من التميز والتشبث بالخصوصية، وسيدفعه هذا الشعور العميق بالتميز بتبني خيارات واتجاهات تزيد انفصاله الشعوري والعملي عن المحيط العام.

إما إذا كان التعامل مرنا وسياسيا وبعيدا عن العقلية الأمنية و ممارساتها وهواجسها وأعمالها، فإن درجة الشعور بالتميز تتضاءل وإمكانية الاندماج الطوعي تتعمق وتتواصل.. فـ " ملاحظة التميز في هذه الصفة أو الصفات المشتركة في أفراد جماعة معينة، وتباينها عن جماعات بشرية أخرى، ينطوي على عنصر ذاتي وعلى عنصر موضوعي. العنصر الموضوعي هو وجود الاختلاف أو التباين بالفعل في أي من المتغيرات المذكورة أعلاه (اللغة، أو الدين، أو الثقافة، أو الأصل القومي والمكاني، أو السمات الفيزيقية). أما العنصر الذاتي فهو إدراك أفراد الجماعة وإدراك الجماعات الأخرى القريبة منها لهذا التباين والاختلاف. وهو يؤدي إلى الشعور بالانتماء إلى جماعة معينة في مواجهة الجماعات الأخرى " (4). فدرجة الشعور بالتميز الذي يؤدي إلى تبني سياسات واتجاهات انفصالية يرتبط بشكل أساسي بطريقة التعامل السياسي والاجتماعي والقانوني مع هذه الأقليات.

فالسلطة النابذة والمستخدمة لكل أنواع القوة المادية الغاشمة لفرض الاندماج وتغييب التميز الطبيعي، تزيد بشكل أو بآخر من فرص بذور مشكلة الأقليات وعقدها الاجتماعية والسياسية.. أما السلطة التي تبحث عن نظام للتضامن والتعامل الحسن والحضاري مع هذه الأقليات، نظام يلبي متطلبات الأقليات الدينية والثقافية والتعليمية والاجتماعية، كما يلبي متطلبات الوحدة والاستقرار.

هذا النظام المرن والحيوي، هو الذي يزيل كل التوترات، ويحد من نزعات التهميش والتميز.. بل نستطيع القول: أن النظام السياسي والاجتماعي المرن والمتسامح، يتمكن من توظيف الشعور بالتميز لدى المجموعات البشرية، في بناء الوطن وإزالة كل عناصر التوتر.. أي أن الديمقراطية تجعل دور التميز دورا وحدويا، اندماجيا، بعيدا عن كل أشكال التقوقع والدوائر المغلقة. فالمساواة في الحقوق السياسية والمدنية، يجعل كل المجموعات البشرية، تباشر دورها الإيجابي في الحفاظ على أمن الوطن ومكتسباته السياسية والاقتصادية والحضارية. وهذه المساواة لا تتأتى إلا بتحقيق المشروعية الدستورية والمؤسسية للاختلاف والتنوع والتعدد في الوطن الواحد.

ولا بد من القول: أنه كلما قلت وتضاءلت مستويات الاندماج، كلما برزت في المجتمع مسألة الأقليات وتداعياتها السياسية والاجتماعية والثقافية.

بمعنى أن وجود الأقليات في أي فضاء اجتماعي، يتحول إلى مشكلة، حينما يفشل هذا الفضاء ولعوامل سياسية واجتماعية وثقافية عديدة في تكريس قيم التسامح واحترام الآخر وصيانة حقوق الإنسان والمزيد من الاندماج والانصهار الوطني. حينذاك تبدأ المشكلة، وتبرز الخصوصيات الذاتية، وتنمو الأطر التقليدية لكي تستوعب جماعتها البشرية بعيدا عن تأثيرات المحيط وإستراتيجياته المتجهة صوب فرض الانصهار وقهر الخصوصيات الذاتية.

إن الأقليات كمفهوم وواقع مجتمعي، لا يكون في قبال ومواجهة القوميات والوطنيات، ويسيء إلى جميع هذه المفاهيم من يجعل من مفهوم الأقليات مواجها لمفهومي القومية والوطنية، لأنه من المكونات الأساسية لكل قومية ووطنية هويات متعددة أما دينية أو مذهبية أو أثنية أو لغوية.. ولعل من الأخطاء الكبرى أن " تعالج الطائفية كما لو كانت إحدى ترسبات التاريخ الأيدلوجي العربي وتجلياته المرضية، وتفسر بقاءها ببقاء الجهل واستمرار الأميّة، أو تربط أحيانا بينها وبين الوعي الديني بشكل عام. وهي ترى أن الحل الوحيد لها هو مواجهتها بالوعي القومي والعلماني وبالتنوير الفكري والقضاء على من يمكن أن يتهم بنشرها والعمل على الترويج لها. وهي لا تجعل منها إذن قضية كبرى من قضايا التنمية والتطور السياسي و الاجتماعي العربي، وإنما قضية ملحقة بغيرها. وتنظر إلى التهابها الراهن في بعض المواقع كأثر من آثار تراجع الأيدلوجية القومية العربية. فبالتأكيد على هذه الأيدلوجية القومية والدعوة لها ونشرها يمكن في نظرها القضاء على الطائفية، وهذا يعني باختصار أن الوعي الطائفي هو نقيض الوعي القومي، وأن هذا النقيض أصبح يعبّر عن الماضي أكثر مما يعبر عن المستقبل، وأنه لا بد زائل من تلقاء نفسه متى ما تم التأكيد على الوحدة والشعور القوميين وضرب على يد كل من يسعى إلى استغلال الشعور الطائفي البغيض والمتقادم " (5).

ولا نبالغ حين القول: أن أحد الأسباب الرئيسة لسقوط الإمبراطوريات وتداعي الكيانات السياسية الكبرى، كان بفعل الاستبداد وغياب الحريات النوعية الناظمة للعلاقة والمصالح بين مجموع التعبيرات والأطياف المتوفرة في المجتمع. وإن هذه الإمبراطوريات والكيانات والدول، بدأت الانحدار حينما ساد التمييز بين القوميات والأثنيات، وغاب التضامن الداخلي على قاعدة المواطنة الواحدة، وبرزت كل النزعات الاستبدادية، التي حاولت الاستفادة من كل أسباب القوة للغلبة على الأطراف الداخلية الأخرى.

ومسألة الأقليات بكل عناوينها ومسمياتها، من المسائل الحساسة في المجالين العربي والإسلامي، وتحتاج إلى قراءة ودراسة عميقة لواقعها وصولا إلى بلورة رؤية حضارية متكاملة في طريقة التعامل معها وكيفية اندماجها الطوعي والاختياري مع النسيج الوطني والمجتمعي. ولعلنا لا نعدو الصواب حين القول، أن الكثير من النكبات الاجتماعية والانفجارات السياسية، كان من جراء عدم التصدي الجاد لعلاج هذه المسألة في الواقعين العربي والإسلامي.

- نقد العلمانوية:

على المستوى التاريخي، نجد أن علمانية الحركة القومية، وعلمنة مشروع الوحدة، لم يلغ مسألة الأقليات ولم يعالجها وفق نسق حضاري يحترم خصوصياتها ويشركها على قدم المساواة في اجتراح دورها في مشروع الوحدة. وعلى المستوى الواقعي، نجد أن العديد من الكيانات السياسية العلمانية، لم تستطع أن تتجاوز عصبيات الواقع والدوائر التقليدية المتوفرة في المجتمع. بمعنى أن العديد من الوجودات السياسية العلمانية، هي عبارة عن يافطة حديثة لواقع تقليدي، عصبوي.. فالكثير من الأحزاب هو واجهات لواقع تقليدي. لذلك فإن العلمانية في التجربة العربية والإسلامية، لم تستطع أن تتجاوز بشكل حضاري خصوصيات الواقع ودوائره الخاصة المتوفرة. فلا يزال المجال العربي إزاء علمانية مبدونة (إذا جاز التعبير). حيث تمارس الاضطهاد والاستغلال بمضامين موغلة في القدم. فالتجربة العلمانية العربية، مارست السياسة بآليات متخلفة وتنتمي إلى عصور الانحطاط، واستقوت على غيرها من الوجودات والتعبيرات، بالاستقواء بالعصبيات التي جاءت على المستوى النظري كحل لتجاوزها ومنع تأثيراتها السلبية.. فالممارسة العلمانوية أضحت في مناطق العالم العربي، ممارسات طائفية، حيث الاحتماء بطائفة ضد أخرى، وممارسات قومية شوفينية، حيث الاستناد بقومية وقمع القوميات الأخرى.. وهذا أدى في المحصلة النهائية إلى أن التجربة العلمانوية العربية، أنتجت وبزخم جديد كل الصراعات والنزاعات الداخلية، والتي جاءت كوصفة نهائية لعلاجها وإسقاط موجبات بقائها. فتحولت على مستوى التجربة العملية، إلى إضافة جديدة إلى الصراعات العميقة التي كانت تعاني منها مجتمعاتنا. وهذا يدفعنا إلى القول: أنه حينما تغيب الديمقراطية والحريات النوعية، تتحول كل الشعارات والمضامين الحديثة، إلى واجهات لإنتاج الأزمات التقليدية والعقد الكامنة في المجتمعات العربية والإسلامية.

فالديمقراطية هي الشرط الذي لا بد منه للسير نحو تطوير البنى السياسية والثقافية والاقتصادية للمجتمع..كما أن الديمقراطية هي التي تدفع السيرورة الاجتماعية للتعاون والتضامن والاندماج بين الأقليات على أسس أكثر عدالة وتسامحا ومساواة.. فالاستبداد والديكتاتورية، هي التي جعلت الواجهات الحديثة ذات محتوى أو طابع طائفي أو قومي محض.وبهذا غابت المواطنية، وسادت البنى الطائفية والقومية المغلقة والمنعزلة في آن..

فالأمن الشامل والدائم، هو وليد العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وكل محاولات وإجراءات استتباب الأمن لا فعالية لها ما دام مفهوم العدل لم يتحقق في الواقع المجتمعي. وترتكب الدول والمجتمعات أخطاءً فادحة، حينما تنشد الأمن والاستقرار بعيدا عن متطلبات العدالة وحقائق الحرية والمساواة. والدين كمنظومة مفاهيمية متكاملة، ليس هو مصدر التعصب الطائفي أو الأثني، وإنما الأوضاع السياسية والاقتصادية الشاذة والظالمة، هي التي تدفع المجموعات البشرية المتضررة من هذه الأوضاع إلى البحث عن وسائل لحماية ذاتها في خصوصياتها وإنتماءاتها العميقة. كما أن المجموعات البشرية المستفيدة من الأوضاع، فإنها تتشبث بخصوصياتها، لكي تحافظ على مكتسباتها ومصالحها. لذلك فإن مصدر التعصب والتطرف، هو الأوضاع السياسية والاقتصادية الظالمة، التي تمارس فرزا عميقا لكل فئات المجتمع على قاعدة انتماءاتهم المذهبية والأثنية والسياسية والأقوامية.

والقضاء على هذا التعصب والتطرف، لا يتم عبر محاربة الدين وأشكال التواصل معه بل عبر مواجهة الظروف السياسية والاقتصادية، التي عمقت هذا التعصب، وعملت على بناء واقع سياسي على قاعدة التمييز والتهميش لفئات اجتماعية، والامتيازات والثروات والمناصب لفئات اجتماعية أخرى.. فالأداء السياسي الظالم والبعيد عن مقتضيات العدالة والمرونة والتسامح، هو المسئول عن كل حالات التعصب والتطرف بكل أشكاله ومستوياته.

وإن الاستقرار السياسي والمجتمعي، القائم على احترام تعدديات المجتمع وتنوعه الفكري والسياسي، هو الذي يؤدي إلى نضوج خيار التمازج والتداخل والتواصل المتبادل بين مجموع تعبيرات المجتمع والأمة.

ويبدو أننا من دون فهم واقع الأقليات والأثنيات في المجالين العربي والإسلامي، وبلورة المعالجة الحضارية لهذا الواقع. من دون هذا سيبقى الواقع الداخلي والمجتمعي للعرب والمسلمين، يعاني الكثير من الأزمات والاختناقات والنكبات، لأن العديد من الصراعات والحروب الصريحة والكامنة، تجد جذورها ومسبباتها العميقة في هذا الواقع الذي يتم التعامل مع الكثير من عناوينه وقضاياه بعيدا عن مقتضيات العدالة والديمقراطية.

وحينما نلح ونصر على ضرورة قراءة هذه المسألة ودراستها بشكل معمق، لا نريد تبرير واقع الانقسام والتجزئة، أو نشجع أصحاب المصالح في الخارج للاستفادة من هذا الفسيفساء أو التناقضات، وإنما نريد إعادة بناء مفهوم الوحدة الوطنية على قاعدة أكثر حرية وعدالة ومساواة. ولا يمكننا الوصول إلى ذلك دون الاعتراف بهذه المشكلة، والعمل معا من أجل بلورة المعالجة المناسبة لها.

فإننا نقف بقوة وحسم ضد كل محاولات التفتيت والانقسام، كما إننا نقف بنفس الدرجة ضد كل محاولات التجاهل والظلم والتعسف والتعدي على الحقوق تحت أي مبرر كان.فالوحدة الوطنية الصلبة، لا تبنى على أنقاض تجاهل حقوق الأقليات بل إننا نرى أن بوابة الوحدة الوطنية، هو أن ينال المجتمع بكل قواه ومؤسساته وفئاته الحرية اللازمة للتعبير عن آماله ومطامحه، وإدارة شؤونه بما ينسجم ومصالحه العليا.

وعندما ينال المجتمع حريته، وتتعمق في فضائه الممارسة الديمقراطية، تزول كل هواجس الخوف، وتضمر كل نوازع الاستقلال الذاتي والانفصال. فالديمقراطية بكل آلياتها ومؤسساتها ومقتضياتها، هي التي تعمق خيار الوحدة الداخلية، وتبنيه على أسس متينة وقواعد حضارية صلبة. فالتعدد الثقافي واللغوي في سويسرا (حيث هناك ثلاث مجموعات ثقافية ـ لغوية كبرى) لم يمنعهم من بناء وحدة داخلية حضارية تعطي لكل مجموعة حقوقها دون أن تنحبس وتنعزل هذه المجموعة عن المحيط العام ومتطلبات الوحدة الوطنية. كما أن الديمقراطية الهندية، هي التي سمحت لأربعين جماعة ثقافية ـ لغوية، من بناء دولة مقتدرة ومجتمع ديمقراطي يمتلك تجربة تاريخية متواصلة في الحرية والتسامح بين المجموعات المتعددة التي يتشكل منها المجتمع الهندي.

فالتعدد والتنوع لا يمنعان الاندماج والوحدة الاجتماعية والوطنية.. الذي يمنع كل هذا هو الاستبداد وغياب العدالة والمساواة. فلو توفرت الديمقراطية وتجسدت العدالة السياسية والاقتصادية، فإن الاندماج والوحدة الداخلية تكون متحققة من جراء ذلك..

- العدالة سبيل التعايش:

ولا يمكن أن تتعايش التنوعات كلها في إطار أمة واحدة ووطن واحد، إذا لم تسود قيم العدالة الواقع الذي تعيشه هذه التنوعات.. فالظلم بكل صوره وأشكاله، يفتت التنوعات ويشرذمها ويؤسس لمنطق الحروب والنزاعات المفتوحة بينها. ولا سبيل لتعايش حضاري بين التنوعات والتعبيرات المختلفة، بدون عدالة، تلغي كل حالات التهميش والتمييز، وتمنع سيادة منطق الغلبة والإلغاء، وتحافظ على كل أسباب العدالة في نمط العيش وأشكال العلاقة.

والعدالة التي نعتبرها سبيل التعايش الحضاري بين مختلف التنوعات تعني:

1) نبذ كل أشكال التمييز والإقصاء والإلغاء، واعتبارها من القضايا الرئيسة التي تهدد وحدة الوطن وأمنه. فحقائق التنوع بشكل مجرد لا تهدد الوحدة، ولا تلغي حالة التعايش، ولكن الذي يهدد الوحدة الاجتماعية والوطنية، ويلغي مستويات التعايش في الدائرة الوطنية، هو التأسيس الظالم على هذه التنوعات، عبر ممارسة كل أشكال التمييز ضد كل تنوع أو تعبير.

فالذي يهدد الوحدة، هو التمييز والتهميش والإقصاء. ولا سبيل لإنجاز مقولة العدالة، إلا بنبذ كل أشكال التهميش والإقصاء الذي تتعرض إليه بعض التنوعات. وهنا يتطلب أيضا الوقوف بحزم ضد كل محاولات التشويه التي تتعرض إليها بعض المدارس العقدية والفكرية والسياسية، وذلك لأن السماح إلى المغرضين إلى تشويه سمعة الآخرين الذين هم جزأ لا يتجزأ من الوطن والأمة، يعد وفق كل المقاييس تعريض كل مكاسب الوطن ووحدته الداخلية للكثير من المخاطر والأزمات. لذلك فإن رفضنا ونبذنا لكل أشكال التمييز والتهميش، لحرصنا الدائم على التعايش السلمي والوحدة الوطنية.

2) تكافؤ الفرص الوظيفية والإدارية والسياسية والثقافية، فلا يعقل أن تمنع كفاءة من خدمة وطنها من موقع تخصصها وتميزها بفعل انتماءها العقدي أو الاجتماعي أو السياسي. إن مقتضى العدالة، أن تكون جميع الفرص متاحة للجميع والأكفأ هو الذي يتحمل المسؤولية , فلا عدالة حقيقية إذا منعت بعض المواقع عن بعض الفئات والشرائح، كما لا تعايش حضاري بين التنوعات، إذا سادت عقلية الاستثناء والإقصاء لأسباب لا تنتمي إلى عالم العدالة والحضارة والإنسانية.

3) صيانة الحقوق الدينية والسياسية والثقافية، فلا يكتمل عقد العدالة، إلا بالعمل على صيانة حقوق الأقليات الدينية والسياسية والثقافية، عبر مؤسسات وقوانين دستورية، تتجاوز استقطابات اللحظة، وتؤسس لسياق وطني، يصون حقوق الأقليات كسبيل لتوطيد موجبات الوحدة الوطنية والاجتماعية.

4) تطوير النظام السياسي وإرساء دعائم ومتطلبات الديمقراطية فيه. وذلك لأن الداء الأكبر الذي يعرقل الاصلاحات ويعمق الفروقات الأفقية والعمودية في المجتمع، هو الاستبداد. ولا يمكن أن تحترم أقلية ما في ظل نظام سياسي مستبد. فلا بد من إرساء دعائم الديمقراطية على المستوى السياسي وتطوير وتوسيع بنية النظام السياسية والاجتماعية، حتى تتسنى الظروف المفضية إلى صيانة حقوق الأقليات ومشاركتها الفاعلة في بناء الوطن وتطوير الأمة. وإن تذويب الفوارق التقليدية المتوفرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، يتطلب تأسيس الممارسة الديمقراطية التي تعلي من شأن القيم الإنسانية، ويتم تجاوز كل الحواجز التي تحول دون التلاحم الوطني المطلوب. ولمؤسسات التعليم والإعلام أدوار ووظائف رئيسية في هذا المجال.. بمعنى أن المناهج التعليمية في مختلف المراحل المدرسية وكذلك البرامج الإعلامية والثقافية بحاجة دائما إلى إبراز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتسامح، والابتعاد التام عن كل ما يجرح أو يشين بفئة أو شريحة في المجتمع.

فمؤسسات الديمقراطية وأطر وأوعية المشاركة في الشأن العام، هي القادرة على تذويب الفروقات التقليدية. بمعنى هي القادرة على إزالة كل عناصر التوتر والتأزم بين الفروقات التقليدية.

- الحرية تعني غياب الإكراه:

فالمعنى البسيط والمباشر للحرية، يعني حرية الاختيار. ولا اختيار حر في ظل الإكراه. لذلك فإن الحرية تعني غياب الإكراه على المستويات كافة. بحيث أن الإنسان يمارس حقوقه ويلتزم بواجباته بعيدا عن الإكراهات المتعددة، التي تحول دون الممارسة السليمة لمفهوم الحرية.

وعلى المستوى التاريخي كان تطور مفهوم الحرية على الصعيد المجتمعي، هو من جراء نضالات مستميتة ومعارك ضارية من أجل تثبيت قيم الديمقراطية، وإنهاء كل عناصر الإكراه التي تحول دون التراكم الإيجابي لقيمة الحرية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال، اعتبار القمع والإكراه والعنف، وسيلة من وسائل تنظيم الحياة الوطنية وضبط العلاقة بين السلطة والمجتمع. وذلك لأن هذه العناصر تزيد الأزمات وتعمق خيارات الإقصاء، وتزيد من فرص الحروب بين السلطة والمجتمع.

إن الحرية هي القيمة الأساسية التي تحقق مفهوم العدالة في بعدها السياسي والثقافي فلا عدالة سياسية بدون حرية سياسية تتجسد في حرية تشكيل الأحزاب والتكتلات السياسية وتجذير مفهوم تداول السلطة، كما أنه لا عدالة ثقافية، إذا لم تعطى الحرية لكل القوى والوجودات، لكي تعبر عن ذاتها وخصوصياتها الثقافية. فالعدالة لا تتأتى إلا بتوافر الحريات العامة على نحو حقيقي ونوعي.. فهي (الحريات بمعناها الشامل والمتكامل)، هي التي تنتج العدالة.. وإن الحرية هي التي حركت في نماذج تاريخية ومعاصرة عديدة، الأقليات أو زعامات وقيادات تاريخية تنتمي إلى الأقليات في مشروع الدفاع عن الوطن والأمة.

فالحرية هي التي توفر المناخ الطبيعي لتجاوز كل الحساسيات واستيعاب كل الأطياف والقوى في مشروع الأمة الجامعة والوطن المشترك. وبدون الحرية (أي مع سيادة الاستبداد) تنمو العصبيات، وتبرز الأطياف والخصوصيات وتتطلع إلى بناء كيانات خاصة بها. لأن مشروع الاستبداد همشها ومارس التمييز بأقسى صوره ضد وجودها وتطلعاتها المشروعة.

إن تسفيه مشاعر الآخرين، لا يقود إلى التضامن والوحدة، بل إلى الشقاء والمحنة. وهكذا نصل إلى حقيقة أساسية مفادها: أن اندماج الأقليات في مشروع الوطن والوحدة الوطنية أو القومية، يتطلب إعطائها الحرية لممارسة شعائرها وطقوسها الدينية وفسح المجال القانوني لتاريخها الثقافي، ولمساهمة ثقافتها الــراهنة في صياغة واقعها الخاص. حينذاك (أي حينما تمنح الأقليات الحرية)، سيتم الاندماج الطوعي والاختياري في مشروع الوحدة الوطنية والقومية. فطريق الوحدة يمر عبر الحرية فلا وحدة بدون حرية، ولا اندماج بدون قانون ودستور يحمي خصوصية الأقليات الدينية والثقافية.

وهذا لا يعني التشريع للكيانات الخاصة والدويلات الضيقة، وإنما نعتبر هذه الكيانات وليد طبيعي للاستبداد والديكتاتورية. لذلك فإن المطلوب احترام الخصوصيات الدينية والثقافية، لأنها الطريق الحضاري لخلق وحدة في الاجتماع السياسي.

- الحرية بوابة الوحدة:

لكي ترتفع الأقليات والاثنيات من دوائرها التقليدية وكياناتها الذاتية إلى مستوى المواطنة الجامعة، هي بحاجة إلى عوامل موضوعية وسياسية، تساهم في إشراك هذه الدوائر والكيانات في بناء مفهوم الأمة.

ولقد علمتنا التجارب أن التعامل القهري مع هذه الكيانات الأقلوية والإثنية، لا ينهي الأزمة، ولا يؤسس لمفهوم حديث للأمة والوطن، وإنما يشحن المجتمع بالعديد من نقاط التفجر والتوتر، ويدفع هذه الكيانات إلى الانكفاء والانعزال، وبهذا يسقط مشروع الأمة والمواطنة الجامعة.

وخيار القمع والاستبداد خلال العقود المنصرمة، وفي مناطق عديدة من مجالنا العربي والإسلامي لم يقض على هذه المشكلة، ولم يؤصل لمنظور وحدوي جديد، يتجاوز فيه بشكل حقيقي وعميق مشكلة الكيانات الخاصة.

وإنما أدى خيار الديكتاتورية والقمع، إلى مسلسل رهيب من التهميش والتمييز على مختلف الصعد بحق أبناء الأقليات والأثنيات.

وفي المقابل وأمام هذه الهجمة الشرسة ضد هذه الكيانات، مارست الأخيرة عملية انكفاء وانعزال من اجل الدفاع عن ذاتها وخصوصياتها الأثنية أو القومية أو الدينية أو المذهبية.وفي المحصلة النهائية كان الوضع عبارة عن قمع وتهميش وتمييز وإلغاء تمارسها مؤسسة الدولة تجاه هذه الوجودات، لتذويبها بالقوة والقهر في الدائرة الوطنية أو القومية الغالبة، وممانعة مستميتة من قبل هذه الوجودات، ألصقتها بخصوصياتها وشخصيتها التاريخية وانغلاق تام في الدائرة الخاصة. ومن جراء هذه المسألة لم ينجز مشروع الأمة الواحدة، ولم يتحقق الإجماع والوحدة الوطنية على قاعدة طوعية واختيارية.. وإنما جعل المسألة الوطنية في خطر عظيم ودائم من جراء هذا الخيار المتخلف في التعامل مع مسألة الأقليات والاثنيات والقوميات المتوفرة في مجالنا العربي والإسلامي.. فالاستبداد فاقم المشكلة، والقهر عمقها وأضاف لها أبعادا جديدة، والتهميش والتمييز المقصود، حرك كل الكوامن والخصوصيات باتجاه المزيد من التشبث بها والالتزام بمقتضياتها.

وهذا يعني أن الديكتاتورية والاستبداد، لم يدفع هذه الدوائر إلى مصاف الأمة الواحدة، كما أنها لم تشعر بالاطمئنان التام تجاه كل شعار ومشروع وحدوي، تقف وراءه مؤسسة مستبدة وديكتاتورية عسكرية أو سياسية. وذلك لأن هذا المشروع الوحدوي، يخفي في واقع الأمر صراعا أقلويا وعصبويا، يتجذر ويتعمق في وسط الأمة بيافطة وحدوية وتوحيدية..

والمشروع الوحدوي الذي يستند على الديكتاتورية والاستبداد،يفضي إلى المزيد من الفرقة والتشرذم والتشظي والبعد عن كل متطلبات الوحدة.

لأن الوحدة الوطنية أو القومية، لا تنجز على قاعدة إفناء التنوعات الداخلية، وإنما عبر توفير الحرية لها، ولكي تمارس دورها في بناء الوحدة.. والخطاب الوحدوي الذي حارب الأقليات والاثنيات والقوميات الأخرى، باعتبارها مضادات للوحدة أو طوابير خامسة للقوى المعارضة للوحدة، انتهى المطاف إلى إقليمية ضيقة، لا يرى إلا الإقليم القاعدة، ولا يحترم إلا مصالحه وتحالفاته وواقعه السياسي. لدرجة نستطيع القول فيها، أنه لا يوجد قطر من الأقطار العربية، من يتعاطى مع مشروع الوحدة من موقع الجدية والخطوات المرحلية الدائمة الموصلة إلى هدف الوحدة.. وإنما يتم التعاطي مع هذا المشروع كشعار يخفي المصالح والمطامع الإقليمية، ولتبرير وتسويغ واقع الحال.. فالوحدة سيرورة تاريخية يتداخل فيها السياسي مع الثقافي والاقتصادي والنفسي، وهي بحاجة إلى عمل يتراكم مع بعضه البعض، لكي تخلق الحقائق والوقائع الوحدوية الموصلة إلى مشروع الوحدة الشاملة. ولكن وبفعل النزعة الشوفينية والعدمية لمشروع الوحدة الشاملة، نجد المفارقات العجائبية. خطاب وحدوي مركزي، ووقائع قطرية ضيقة، عاطفة جياشة تجاه الوحدة، وواقع يتم تبريره وإسناده مضاد للوحدة وموغل في الدوائر الضيقة، شعار وحدوي يتطلع إلى الوحدة بشوق وشغف، ومسيرة التجزئة وشرعيتها تأخذ مسارها في الوجود والممارسة.

لذلك نستطيع القول: أنه ليس كل خطاب وحدوي، يوصل إليها، بل على العكس من ذلك في كثير من الأحيان.. الخطابات الوحدوية (على المستوى الفعلي) تعمق الفروقات القطرية، وتتعامل مع واقع التجزئة من موقع استراتيجي، ينشد إبقاء الأمور على حالها.

لذلك فإننا بحاجة أن نعيد النظر في مشروع الوحدة، بمعنى أن التجارب والممارسات خلال الأربعة عقود الماضية، أوصلتنا جميعا إلى طريق مسدود في مسألة الوحدة. ولعلنا لا نعدو الصواب، حين القول، أن جذر الإخفاقات ليس في العوامل الخارجية التي وقفت ولا زالت تقف ضد مشروع الوحدة، بل في العوامل الداخلية، التي هي بحق المعوق الأساس والجوهري لهذا المشروع. ولعلنا نكثف هذه العوامل الداخلية في محور واحد هو: العلاقة بين مشروع الوحدة والاستبداد.

والتجارب الوحدوية الفاشلة، التي عمقت بفشلها وتراجعها وسلبياتها حالات التجزئة، كان السبب الأساسي في تقديرنا لفشلها وإخفاقاتها، هو في اعتماد هذا المشروع على ديكتاتورية عسكرية وسياسية لإنجاز هذا المفهوم الحضاري.

كما أن الوحدة التي تستند في خلق واقعها ومسيرتها الفعلية على سلطة مستبدة، لا تنجز الوحدة، بل تعمق خيار التفتيت والتشظي تحت مسميات ويافطات عديدة. فالاستبداد لا يخلق وحدة، بل تشظيا وتفتتا وانزلاقا نحو الحروب الداخلية المميتة لكل حيوية وفعالية باتجاه الوحدة ومتطلباتها السياسية والاجتماعية.

ولا نبالغ حين القول: أن من الأخطاء التاريخية الكبرى، التي وقعت فيها مشاريع الوحدة والتوحيد في مجالنا العربي والإسلامي، هو اعتمادها عسكرتاريا ديكتاتورية ونخبة سياسية مستبدة لا ترى إلا بلون واحد ولا تتعامل إلا بعقلية ضيقة، صحرت الواقع الاجتماعي، وأفقرت العمل السياسي والمدني، وخلقت الحواجز النفسية والفعلية الكبرى التي تحول دون الوحدة والتوحيد. لذلك لم نجن من هذه التجارب والممارسات إلا المزيد من التشظي والتجزئة والتشرذم.

وكمون قيمة الوحدة في قاع الوعي والعاطفة، ينبغي أن لا يدفعنا إلى تبني خيارات فوقية وشكلية لانجازها. لأن الخيار الخاطئ يفاقم العقد، ويبرز إشكاليات جديدة، تزيد من أزمات وعقبات مسيرة الوحدة.

كما أن الميل التاريخي نحو الوحدة والتوحيد في المجال العربي والإسلامي، من الضروري أن نقرأه بعمق، حتى يتسنى لنا خلق آليات مناسبة، تدفع هذا الميل التاريخي نحو مسيرة تصاعدية، إيجابية، تتجاوز مناخات الواقع السيئة. فالأزمة دائما ليس في قيمة الوحدة وإيجابياتها وآفاقها الكبرى التي توفرها على مختلف الصعد، بل في الطريق الذي تنتهجه النخب للوصول إليها..

- الحرية شرط تجاوز الطائفية:

الحقائق التاريخية عنيدة، ومشروع الوحدة لا ينجز على أنقاضها. حيث تعلمنا التجارب أن كل المحاولات التي بذلت لتدمير هذه الحقائق التاريخية كشرط للوحدة باءت بالفشل، وذلك لأن هذه الحقائق متجذرة وتمتلك امتدادات عميقة في الجسم الاجتماعي.. لذلك نستطيع القول أن طريق الوحدة، لا يمر عبر محاربة هذه الحقائق، وإنما عبر احترامها وتوفير الحرية اللازمة لها، حتى تتوفر الظروف والمناخات المؤاتية لانخراطها الحضاري في مشروع الوحدة والتوحيد.

فالمشترك الوطني، لا يعني إلغاء الخصوصيات الدينية أو المذهبية والثقافية، وإنما يتطلب احترامها وفسح المجال لها، لكي تمارس دورها ووظيفتها في إثراء مفهوم الوحدة بمضامين حضارية، تتجاوز الرؤية الآحادية والنهج الإقصائي.

واحترام الأقليات وإعطاءها الحريات اللازمة يعني:

1. فسح المجال القانوني والاجتماعي والسياسي، لكي تمارس هذه الأقليات شعائرها الدينية بعيدا عن الضغوطات والتجاذبات. ومن الأهمية أن ندرك جميعا، أن من الحقوق الأساسية لكل إنسان، أن يمارس عقائده وشعائره في مناخ من الحرية والاحترام و القانون. وحينما لا تتوفر هذه الحرية، لا يعني انعدام ممارسة الشعائر،بل يعني أن الأقليات ستبحث لها عن طرق وأساليب أخرى لكي تمارس شعائرها وطقوسها.

2. فسج المجال الثقافي والسياسي، لكي تمارس الأقليات خصوصياتها اللغوية والثقافية. إذ أن لكل جماعة بشرية خصوصيات ثقافية. قمع هذه الخصوصيات، لا يفضي إلى وحدة، بل إلى أساليب جديدة، تمارس هذه الأقليات من خلالها خصوصياتها الثقافية.

لذلك فإن المطلوب دائما، أن لا تقمع ثقافة الأقليات، أو يتم التعامل معها بفوقيه واستعلاء.. المطلوب الحرية بكل آفاقها ومتطلباتها للثقافة والخصوصيات المعرفية لكل جماعة بشرية.

3. الشراكة السياسية والاقتصادية، حتى تنطلق الطاقات والقدرات في مشروع بناء الوطن وعمرانه.

والشراكة السياسية والاقتصادية، تقتضي تكافؤ الفرص، وفسح المجال للجميع بعدل للمشاركة في الإدارة والتسيير.

لهذا نستطيع القول: بأن مفهوم الشراكة السياسية والاقتصادية في بناء الوطن وإدارته تقتضيان إلغاء كل أشكال الإقصاء والتمييز، والشفافية في الإدارة وتسيير الشؤون العامة، ووجود عقد اجتماعي ـ سياسي ينظم العلاقة بين مختلف الدوائر والقطاعات، حتى تنتظم جميع الكفاءات الوطنية في مشروع البناء والعمران.

فالاستبداد والتمييز، لا يخلقان وحدة واندماجا، وإنما تحاجزا وانفصالا عميقا بين مجموع القوى والتعبيرات المتوفرة في الساحة. ولذلك فإنه لا شراكة حقيقية على المستويين السياسي والاقتصادي مع وجود الاستبداد السياسي، وذلك لأنه يفرغ هذه المقولة من مضمونها الحقيقي والفاعل. فالشراكة السياسية والاقتصادية، تتطلبان تفكيكا متواصلا للبنية الاستبدادية، حتى يتسنى للجميع وعلى قدم المساواة المشاركة في إدارة الشأن العام وتطوير الوطن وعمرانه وتنميته على مختلف الصعد والمستويات.

وبكلمة: إن العدل السياسي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ودلالات، هو الذي يوفر الأرضية المناسبة، لإنجاز مقولة الشراكة السياسية والاقتصادية لكل القوى والأطياف في البناء والإدارة والتسيير.

- الحرية طريق المواطنة:

إذا توفرت الحرية والعدالة، توفرت عناصر العقد الاجتماعي الحقيقي، الذي يحافظ على الاستقرار ويعمق عوامل الأمن الشامل. فتتوفر كل العناصر المطلوبة لمفهوم المواطنة الحقة. فلا مواطنة بدون حرية وعدالة، فهما طريق خلق المواطن الصالح المدافع عن منجزات وطنه ومكتسباته، والمدافع عن ثغوره وحدوده، وهو الذي يكافح باستماتة من أجل عزة الوطن وتطويره. فالإنسان المقموع والمضطهد في وطنه، لا ينمو لديه حسن المواطنية بشكل إيجابي، وذلك لأنه باسم الوطن يضطهد ويقمع، وتحت علمه وشعاراته الوطنية تهان كرامته وتنتهك حقوقه. لذلك فإن طريق المواطنة هو الحرية وصيانة حقوق الإنسان والدفاع عن كرامته الإنسانية.

إن هذه القيم والمبادئ، هي التي تخلق عند الإنسان الحس الوطني الصادق. وبدون هذه القيم، تضيع المواطنية،و إذا ضاعت المواطنية ضاع الوطن.لذلك لا وطن عزيز بدون مواطنية عزيزة.

وإذا توفرت الحريات العامة، فهذا يعني توفر المناخ الملائم لتعبئة طاقات المجتمع، وبلورة كفاءات نخبته، وازدادت إبداعاته ومبادراته. وكل هذه الأمور من القضايا الحيوية لصناعة القوة في الوطن. ويخطأ من يتصور أن القهر والاستبداد والأساليب الأمنية المختلفة، هي القادرة على خلق المواطنية وحالة الولاء الصادق إلى الوطن.

إننا ومن خلال التجارب التاريخية العديدة، أن الحرية والشفافية وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هو الكفيل بتعميق حس المواطنة الصالحة. فشعب الولايات المتحدة الأمريكية، أتى من بيئات جغرافية متعددة، وأطر عقدية ومرجعيات فكرية وفلسفية متنوعة، ولكن الحرية بكل آلياتها ومجالاتها ومؤسساتها، وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي التي صهرت كل هذه التنوعات في إطار أمة جديدة وشعب متميز.

فالحرية وحدها هي القادرة على خلق المواطنة الصالحة، وبدونها تتحول كل المشتركات عوامل للجمود والتخشب والبعد عن الحيوية والفعالية في كل مجالات الحياة. وإن المجال الإسلامي خلال العقود الماضية، دفع ثمن تهميش أقلياته وممارسة أقسى أشكال التمييز تجاه هذه الأقليات. حيث الحروب العبثية، التي أهدرت الكثير من الطاقات والثروات، والتدخلات الأجنبية السافرة في مصالح واستراتيجيات هذا المجال، حيث وجدت في سياسة التمييز والإقصاء الأرض الخصبة لإرباك الساحات الداخلية للعرب والمسلمين. والمحصلة النهائية لكل ذلك الشعور بالضياع وضمور الحس الوطني الصادق، والبحث الشره على المصالح الضيقة، حتى ولو كان ثمنها حرية الوطن واستقلاله.

ولا نعدو الصواب حين القول، أن جذر هذه الأزمة هو الاستبداد السياسي الذي يلتهم كل فعالية، ويقمع كل أمل وحيوية، ويزدري من كل تطلع وطموح.

فالاستبداد يدمر الأوطان ولا يحفظها، ويمتهن كرامة المواطنين، ويدوس على مقدساتهم وتطلعاتهم.

وحدها الديمقراطية التي تعيد الاعتبار إلى الذات والوطن، وتعيد صياغة العلاقة بينهما، فتنتج وعيا وطنيا صادقا، يحفز هذا الوعي على الدفاع عن عزة الوطن وكرامة المواطنين.

فالاستقرار السياسي والمجتمعي، يتطلب باستمرار تطوير نظام الشراكة والحرية على مختلف الصعد والمستويات، حتى يتسنى للجميع كل من موقعه خدمة الوطن وعزته.

والمواطنة التي نراها شرط إنجاز الحرية على الصعيد المجتمعي، ليست شعارا يرفع أو يدّون في الأنظمة الإدارية والإجرائية، بل هي منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات، تدفع باتجاه تنمية مشاركة المواطن في قضايا وطنه المختلفة.. " ومن أجل تجسيد المواطنة في الواقع، على القانون أن يعامل ويعزز معاملة كل الذين يعتبرون بحكم الواقع أعضاء في المجتمع، على قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو طبقتهم أو جنسيتهم أو عرقهم أو ثقافتهم أو أي وجه من أوجه التنوع بين الأفراد والجماعات. وعلى القانون أن يحمي وأن يعزز كرامة واستقلال واحترام الأفراد، وأن يقدم الضمانات القانونية لمنع أي تعديات على الحقوق المدنية والسياسية، وعليه أيضا ضمان قيام الشروط الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق الإنصاف. كما أن على القانون أن يمكن الأفراد من أن يشاركوا بفعالية في اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم، وأن يمكنهم من المشاركة الفعالة في عمليات اتخاذ القرارات السياسية في المجتمعات التي ينتسبون إليها " (6)

فالمشاركة الواعية بدون استثناءات ووصايات في شؤون الأمة والوطن، وقدرة كل مواطن إلى الوصول بكفاءته إلى أعلى المناصب والمستويات بصرف النظر عن منبته ومذهبه وقوميته، هو الذي يثري مفهوم المواطنة، ويجعل إنجازه مرهونا إلى حد بعيد إلى الحرية والديمقراطية. فلا مواطنة حقة بدون ديمقراطية سياسية، تعطي لكل المواطنين حق المشاركة والتعبير والاجتماع والتنظيم والإدارة. فطريق المواطنة بكل متطلباتها وشروطها، يمر عبر الديمقراطية، فهي التي تحقق مفهوم المواطنة، وبدونها نبقى سديما بشريا لا يشترك في تقرير مصيره، ويمارس عليه كل أنواع التمييز والتهميش.

ولا شك أن أحد الأسباب الرئيسة لانهيار الوعي الوطني الصادق، هو عدم التعامل الجاد والديمقراطي مع مسألة الأقليات. إذ خضعت هذه المسألة للعديد من الاستقطابات السياسية المختلفة، وتم استخدامها كورقة في الصراعات السياسية، دون أن تنبري قوى نوعية للقيام بمبادرات سياسية جادة، تسعى نحو بلورة رؤية متكاملة وممكنة لهذه المسألة في المجالين العربي والإسلامي.

ولنا في التجربة النبوية في المدينة المنورة خير مثال ونموذج، إذ أن المواطنة التي شكلها رسول الله (ص) لم تلغ التعدديات والتنوعات، وإنما صاغ دستورا وقانونا يوضح نظام الحقوق والواجبات، ويحدد وظائف كل شريحة وفئة، ويؤكد على نظام التضامن والعيش المشترك. إذ جاء في صحيفة المدينة: " وإنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا، ولا يؤويه، وإنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنكم مهما اختلفتم في شيء (فيه من شيء)، فإن مرده إلى الله وإلى محمد (الرسول) وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما دامو محاربين.. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم، إلا من ظلم، أو أثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته " (7).

فسبيل المواطنة الصادقة، ليس التوحيد القسري والقهري للناس، وإنما بالحرية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وكرامته، نخلق مواطنا صالحا وفاعلا وشاهدا.

ومواجهة تحديات الخارج المختلفة، لا تتم عبر قهر الناس ومصادرة حقوقهم وحرياتهم،وإنما على العكس من ذلك تماما. فمواجهة تحديات الخارج، تتطلب انبثاق قوة وحدوية وتوحيدية في داخل الوطن، تأخذ على عاتقها تجميع الطاقات وبلورة الاستراتيجيات، والاستفادة من كل القدرات والإمكانات. وهذه القوة الوحدوية، لايمكن أن تبنى على قاعدة القهر ومصادرة الحقوق والحريات،وإنما على قاعدة صيانة الحقوق والكرامات، ومأسسة الحريات. إن هذه القاعدة الحضارية، هي التي تفشل كل عمليات ومحاولات الاختراق للجسم الوطني، وهي القادرة على إفشال كل الرهانات التي تسعى إلى تجزئتنا وتفتيتنا وانقسامنا.. " والديمقراطية بهذا المعنى هي تعظيم لقدرات المجتمع وتحصين له ضد الانفجارات الداخلية والاختراقات الخارجية. روح الديمقراطية، مثل روح الفيدرالية، لا تكمن في الآليات الشكلية بقدر ما تكمن في معنى تعظيم المشاركة وتعظيم الاستفادة من قدرات كل التكوينات الاجتماعية – ـ الاقتصادية، دون قهر أو استغلال من إحدى هذه التكوينات للتكوينات الأخرى. فليست الديمقراطية الليبرالية، مثلا، هي الشكل الأوحد أو الأنسب لكل الأقطار في كل الحالات. ولكن الأنسب والأمثل هو إتاحة الفرص المتكافئة لأبناء كل الجماعات الإثنية للمشاركة في إدارة مجتمعهم، وفي إنتاجه، وفي خدماته " (8).

والمجتمع الاستبعادي والمغلق، لايمكن أن تنمو في محيطه قيم الديمقراطية والتسامح، وذلك لأنه يستند على نظام اجتماعي مغلق، يحارب كل محاولة نحو الانفتاح والتواصل، ويقف موقفا مضادا من كل عمليات إعادة بناء المجتمع على أسس ومعايير جديدة..

والمطالبة بالديمقراطية، والشعور بضرورتها وأهميتها لواقعنا الراهن، ليس وليد التقليد الصرف للآخرين وأطوارهم التاريخية، بل هو من صميم واقعنا ومسيس حاجتنا إلى هذه الحريات، حنى نتمكن جميعا من الخروج من المآزق الكبرى التي نعاني منها، وتحول دون إنطلاقتنا الحضارية..

إن الديمقراطية بثقافتها وآليات عملها والمناخ الذي تخلقه على مختلف الصعد، هي القادرة على تفكيك الكثير من العقد والأزمات بأقل خسائر ممكنة. وإن رفض هذا الخيار والنهج، يفاقم من العقد والأزمات، ويدخلنا جميعا في حقبة الانفجارات الاجتماعية والحروب الداخلية، التي لا تزيد أوضاعنا وأحوالنا إلا سوءا وتدهورا.

وحدها الديمقراطية والحريات السياسية والثقافية، هي التي تؤسس لطريق جديد لمعالجة الأزمات من جذورها، وتنهي موجبات ديمومتها بأقل خسائر ممكنة على جميع الصعد والمستويات.

ولا يوجد شيء مهما علا شأنه يعوضنا عن قيمة الحرية. فحينما تتوفر كل أسباب القوة الاستراتيجية والعسكرية والشعبية، دون قيمة الحرية، فإن هذه الأسباب لا تباشر دورها المطلوب، ولا تقوم بممارسة تأثيراتها المنشودة.

فكاريزما جمال عبد الناصر والشعبية العارمة التي اكتسبها، لم يلغ حاجتنا إلى الحرية. والأحداث والتطورات اللاحقة في التجربة الناصرية، أكدت حيوية هذه القيمة، بل إن " الشعور الذي تولد لدى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد الهزيمة،والذي عبر عنه في مناقشات مغلقة ومفتوحة كثيرة. هو أن تحييد الجماهير وإقصاءها عن المشاركة في تشكيل القرار السياسي بالرأي ـ مهما كانت ثقتها في الصفات الاستثنائية لكاريزما عبد الناصر، ومهما كان اقتناعها بسلامة وصحة الاختيار أو القصد الوطني عند هذه الكاريزما ـ قد أسهم بشكل محسوس في إضعاف مركز القيادة السياسية، أمام مراكز القوى التي مارست صراعا على السلطة، استنزف قدرات هذا النظام، وعبث بمقدراته، ودفع به إلى هاوية الإخلال بأول واجبات أي نظام سياسي، ألا وهو الحفاظ على استقلال التراب الوطني " (9).

مع الحرية والديمقراطية، يبقى مشروع الوحدة ممكنا، وبدونها يبقى واقعنا ممزقا وراهننا متشرذما. ولاعلاج لمآزقنا العديدة إلا بالحريات السياسية الحقيقية التي تسمح لجميع القوى والتعبيرات من المشاركة النوعية في إدارة الشأن العام وتطوير الحقل السياسي والمدني الوطني. ومع الديمقراطية والحرية تبقى الأقليات عامل إثراء لمضامين الوحدة على المستويات السياسية والاقتصادية والحضارية.

وبدونها تبحث الأقليات عن مشروعها الخاص، وتتكور في دائرتها الخاصة.فيضيع الوطن الجامع، وتتبعثر مشروعات الوحدة والتوحيد.

وإذا أردنا للأقليات أن تعود إلى فضاء الوحدة ومجال التوحيد، فما علينا إلا إرساء دعائم الديمقراطية ومتطلبات الحريات الدينية والثقافية والسياسية، حتى تتجاوز مشروعاتها الخاصة وهواجسها الذاتية.

فالحرية والديمقراطية هي الوسيلة الحضارية الوحيدة، القادرة على إدماج الأقليات بشكل اختياري وإنساني مع النسيج العام. وذلك لأن الحريات تساهم بشكل أساسي في تنمية المشتركات وتفعيلها والدفع بها باتجاه خلق الوقائع السياسية والمجتمعية المنسجمة وحاجات و متطلبات القواسم المشتركة.

إن الاندماج العام، لا يمكن أن يتم إلا على أرضية سياسية جديدة، قوامها الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والدستور. وبالتالي فإن عملية الاندماج منوطة في عناصرها الكبرى إلى الأغلبية، حيث بإمكانها عبر الخطوات السياسية الجادة والنوعية نحو الانفتاح وتغيير قواعد اللعبة السياسية، أن تجعل المناخ العام مؤاتيا مع خيار الاندماج الوطني العام.

فالتقدم السياسي باتجاه الحريات، هو الذي يعالج مشكلة الأقليات. بمعنى أن عدالة العلاقة وديمقراطيتها بين الأغلبية والأقلية، هو الذي ينهي العناصر النابذة والنافرة في العلاقة بين الطرفين.

***

محمد محفوظ

..................

الهوامش

(1) د. سعد الدين إبراهيم، تأملات في مسألة الأقليات، ص 18، دار سعاد الصباح، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، القاهرة 1992م.

(2) المصدر السابق، ص 23.

(3) جريدة الحياة اللندنية، العدد (13923)، الأحد 29 أبريل / 2001م، مقال الاعتراف بحقوق الأقليات اعتراف بوحدة العالم وتنوعه. جورج طرابيشي.

(4) تأملات في مسألة الأقليات، ص 23، مصدر سابق.

(5) برهان غليون، نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة، ص 6، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1990م.

(6) مجلة المستقبل العربي، العدد (264)، (2/2001م). مركز دراسات الوحدة العربية، ص 118. دراسة الدكتور على الكواري: مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية.

(7) الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، الجزء (19)، ص 110 ـ 111، الطبعة الثانية، مؤسسات الوفاء، بيروت 1983م.

(8) تأملات في مسألة الأقليات، ص 237، مصدر سابق.

(9) عمرو عبد السميع، أحاديث الحرب والسلام والديمقراطية ـ الكتاب الثالث، ص 15، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى، القاهرة 1998م.

لا غرو في أن أنبياء المورمونية المعاصرين قد استفادوا من الحركات الإصلاحية والملل العقدية اليهودية المستحدثة مثل “الأدفنتست” (السبتيين) و”شهود يهوه” اللتين ذاعت أخبارهما في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بأميركا؛ فجميعهم قد اتفق على جحد التراث العقدي ونقده والتشكيك في سلامة نصوصه، وقدرة أنبياء الملل الثلاث على تجديد شريعة الرب، وإزالة ما أفسده الأولون من اللاهوتيين الذين قادتهم أهوائهم على التجديف والدس والانتحال. وقد اتفق أيضاً أنبياء المورمون والسبتيين وشهود يهوه على أن الرب قد منحهم القدرة على تأويل الوحي على نحو يتفق مع ثقافة العصر واحتياجات الواقع الإنساني وما انتهى إليه العقل البشري من علوم ونظم ثقافات وقيم تحقق السعادة لمن يؤمن بالبشارة الجديدة التي خَصَّ بها الرب سكان الكرة الأرضية في الغرب – ليعلموا الأجيال المُقبلة حتى قيام الساعة – والمتمثلة في أصول المدنية في العلم والاستنارة.

وجميعهم قد اتفق أيضاً على النهاية الدرامية للعالم حيث القوة والعنف وإسالة دماء الخصوم الذين لم يؤمنوا بتعاليم الصهيونية المقدّسة. وحريٌّ بنا الإشارة في عجالة للأثر الصهيوني على الديانات الأمريكية المعاصرة وعلى رأسها المورمونيّة.

ــ الدعوة الصهيونية:

لم تعتنق المورمونية عقيدة شعب الله المختار اليهودية لتميز بين الساميين والآريين؛ بل تجاوزت ذلك إذ أمنت بأن الرب قد نسخ شريعته ورفع من قدر المؤمنين بالتعاليم الصهيونية التي دعا إليها رُسل المورمونية فهم وحدهم دون سائر البشر الذين سوف ينعمون بالخلاص والبركة والسعادة في الملكوت الأعلى وسوف تُكتب لهم العزة بعد أن يتم خلاصهم بهزيمة أعدائهم على يد جنود الرب وقيادة يسوع لجيوش الصهاينة الذين سوف ينطلقون من أورشليم وذلك استناداً على ما جاء في سفر المورمون الإصحاح العاشر (31) (فأستيقظي وانتفضي من الثرى يا أورشليم، نعم، وألبسي حللك الجميلة، يا ابنة صهيون)، كما جاء في الإصحاح الرابع عشر (6) (لا تعطوا القوس للكلاب ولا تطرحوا دوركم قدّام الخنازير؛ لئلاً تدوسها بأرجلها وتلتفت لتمزّقكم … إنه ستكون هناك عاصمتان في العالم: الأولى في أورشليم, والثانية في أميركا؛ لأن صهيون تخرج من الشريعة, ومن أورشليم تخرج كلمة الرب).

كما تشير العديد من الدراسات المعاصرة على ذلك التقارب الأيدلوجي الذي جمع بين الطائفة البروتستانتية والثقافة اليهودية الصهيونية في المجتمع الأمريكي منذ منتصف القرن التاسع عشر. ومن مظاهر ذلك التآلف، اهتمام عوام المثقفين وجل خواص الأكاديميين لدراسة اللغة العبرية وآدابها والفكر السياسي الصهيوني، وأدبيات شعب الله المختار، وأخبار يوم القيامة وعودة يسوع في نهاية الزمان. ويستشهد سمير مرقص في كتابه “الأصولية البروتستانتية والسياسة الخارجية الأمريكية” بتأثر نبي المورمون ومن بعده رجل الأعمال الأمريكي القس وليم بلاكستون (1841-1935م) الذي قاد الدعوة الصهيونية لإعادة اليهود إلى فلسطين واتخاذ القدس مركزاً لهم وذلك انطلاقاً من معتقده المورموني بأن جيش الخلاص سوف ينطلق من القدس في المستقبل،

ومن ثم كان لزاماً عليه استمالة المسيحيين الأمريكان إلى زعم الحق اليهودي في إنشاء دولة لبني إسرائيل، وقد عبر كتابه (عيسى قادم – 1878م) عن تلك الأفكار، فأسس منظمة (البعثة العبرية من أجل إسرائيل) في شيكاغو وهي لم تزل مستمرة في مهمتها حتى اليوم باسم جديد هو (الزمالة اليسوعية الأمريكية) والتي تعد قلب جهاز الضغط الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد شارك هرتزل (1860-1904م) في انتقاء النصوص التوراتية التي يجب التعويل عليها في دعوتهما الاستيطانية وتكوين جماعات أمريكية تروج للفكر الصهيوني المسيحي، وتوجّت هذه الجهود بوعد بلفور عام 1917م.

وتضيف الكتابات التاريخية بعض مظاهر تلك العلاقة التي ربطت بين المورمونيين البروتستانت والصهاينة موضحة أنه ليس هناك مجالاً للشك في أن حركة التهود التي طالت الاتجاهات الأصولية المسيحية – إلى درجة اقتباس بعض النصوص التوراتية وتوظيفها في رسومات وشعارات أمريكية تفيد وحدة التراث المسيحي اليهودي المشترك وما يتبعها من أخلاقيات وسياسات ليبرالية براجماتية والخلاص الفردي وتفعيل ما يسمى بالإنجيل الاجتماعي- لا يمكن إنكارها ودورها في الفكر السياسي الأمريكي.

وفي عام 1942م تأسست (الرابطة الوطنية للإنجيليين). وفي عام 1990 أضحى اليمين المسيحي المفعم بالتعاليم الصهيونية المحرك الأول للسياسة الأمريكية.

ونستنبط من ذلك كله أن المورمونيين قد لعبوا دوراً مهماً جنباً إلى جنب مع الديانات اليهودية الإنجيلية المعاصرة لتحقيق ما جاء في كتاب المورمون وأقوال “سميث” ومزاعم “هرتزل”.

وتكشف قراءتنا لأصول العقيدة المورمونية عن عدة حقائق:

- أولها: أن المورمونية ديانة وضعية ذات منحى أيديولوجي راديكالي ووجهة صهيونية شيفونية تسعى إلى نقد دونها من الديانات والملل والمذاهب، وتجعل إنجيل المورمون هو الشريعة الحقة والكتاب المقدس الناسخ لكل الشرائع والضامن الأوحد للنعيم والسعادة للبشر في الدنيا والآخرة.

- وثانيها: أن بنية الأفكار والمعتقدات المورمونية مُنتحلة ومُلفقة بتأثير من الفلسفات الشرقية، وعلى رأسها الفلسفة الرواقية، والكتابات الهرمسية والشيفونية الغربية، وشطحات الربانيين والتلموديين والحسيديين من اليهود، وفرقة القبالة الباطنيّة الحلوليّة المؤصلة لقضية نسخ الشريعة على يد الأنبياء المحدثين وبروتوكولات حكماء صهيون، وذلك كله تحت مظلة الماسونية المنتحلة لمعظم الفلسفات المعاصرة.

- وثالثها: أن سياستها في التبشير تنحو منحى براجماتي في إقناع الشباب على وجه الخصوص بأرض الميعاد الجديدة المتمثلة في المدنية الأمريكية حيث التقدّم العلمي والتكنولوجي والرقي والرخاء والحرية ونعمة الرب والإخلاص في طاعة يسوع والنعيم المنتظر في أورشليم التي سوف تشهد الخلاص النوراني القاهر لأعداء الصهيونية في حرب آخر الزمان التي سوف يُسحق فيها الشيطان وزبانيته.

- ورابعها: ادّعاء المورموني أن من اعتنق الديانة المورمونية سوف يتحرّر من جميع الشرائع والمعتقدات السابقة؛ فالخلاص المورموني الذي يتم بالعمادة يغفر كل ما سبق ويخلص العقل والقلب من كل العوائق التي تحول بين المورموني وما يحقق له السعادة والهناء والأمن والطمأنينة في كنف المجتمع الصهيوني الجديد.

- وخامسها: أن العقدية المورمونية قد ابتدعها المفكرون الصهاينة المتأخرون لفض النزاع القائم بين اليمينين اليهود المتعصبين للقديم والحداثيين العلمانيين الغربيين الأمريكان والروس والأوروبيين على وجه الخصوص، وذلك منذ القرن 19م، وقد ساهم التيار الإصلاحي الصهيوني المتمثل في حاخامات الألمان في تشكيل بنية المورمونية الجديدة للربط بين السياسة والدين في البرنامج التثقيفي للمورمونية، حتى يتمكن يهود العالم من وضع قومية معاصرة خاصة بهم من جهة، والتأليف بين الإنجيليين المسيحيين والعلمانيين في شتى بقاع الأرض من جهة أخرى، والقضاء على كل الأصوليات الدينية باسم وحدة الأديان أو فلسفة ما بعد الدين أو إحياء الديانة الإبراهيمية كما بيّنا فيما سلف.

والجديرُ بالإشارة أنّ التيار الصهيوني الماسوني قد وجد في العقيدة المورمونية إحدى الآليات لفض النزاع الذي شب بين اليهود اليمينين والعلمانيين الليبراليين في القدس منذ عام 1939م. وقد روج الاتجاه الصهيوني في ألمانيا وبولندا للأفكار التي توحد بين الزعامة الصهيونية والكتابات المقدّسة التي تتنزل على التلموديين من قبل الرب؛ وذلك لإقناع الإسرائيليين بقومية جامعة بين الدين والسياسة في سياق علمي معاصر.

وخليقٌ بنا التنبيه على وجود أوراق خفية وتعاليم مشفرة وأهداف غير معلنة لهذا التحالف الأمريكي البروتستانتي الصهيوني الذي يسعى لقيادة العالم تارة عن طريق الاقتصاد، وتارة أخرى عن طريق تفكيك المجتمعات اجتماعياً وأخلاقياً وسياسياً، وذلك كله لخدمة الصراع المنتظر قبيل يوم القيامة انطلاقاً من دائرتين مركزيتين أولهما القدس والأخرى من نيويورك.

- أشهر الديانات الأمريكية المناصرة للمورمونية:

تعد ديانتي الأدفنتست وشهود يهوا من أهم الديانات الصهيوماسونية ذات الأثر الأكبر على المورمونيّة المعاصرة من جهة، والمشروعات الفلسفية التي تدعو لوحدة الأديان أو نسخها في دين واحد أو ابتداع العديد من المصطلحات الميتافيزيقية مثل عولمية الأديان، وما بعد الحداثة الروحية، وفلسفة النبوة، والتأويل التفكيكي للنصوص المقدّسة واللاهوت النسوي.

- السبتيون:

فقد ظهر السبتيون عام 1844م على يد الأميركي وليم ميللر(1782-1849م) أي عقب ظهور كتاب المورمون بإحدى عشر عاماً، وكانت أشهر عقائدهم وأهمها على الإطلاق هو إيمانهم بالعود الثاني والخلاص الأخير. والحرب الفاصلة بين شعب الله المختار الذي يمثله السبتيون بقيادة يسوع ضد أبناء الأفاعي من الأغيار الذين لن يؤمنوا بعقيدتهم الجديدة من سائر الأمم.

وقد تميزت التعاليم المورمونية بالمرونة وعدم القطع في المسائل التي يمكن الشك أن يتسرب إليها وتحاشت كذلك التصريح بأحداث مستقبلية غيبية يصعب التنبؤ بها وعلى رأسها تحديد موعد يوم القيامة والصراع الأخير. في حين أن أنبياء “الأدفنتست” قد وقوعوا في هذا الخطأ مراراً؛ الأمر الذي دفعهم إلى انتحال الأكاذيب واختراق الأحداث, فقد صرح أحد لا هوتيهم ويدعى “حيرام إدسون” (1806-1882م) : أنّ المسيح قد هبط بالفعل من السماء إلى القدس عام 1844م، وانشغل بإكمال بعض الأعمال قبل المجيء إلى الأرض, سوف يقرّر موعد بدء الحرب عند الانتهاء ممّا يشغله”. ولم تقف الحكايات عند هذا الحد؛ بل جاءت العرافة الشابة “ألن هرمون” (1827-1915م)؛ لتخبر الجميع أن المسيح قد هبط في هيئة غير مرئية وبارك يوم السبت وجعله يوم الحسم بين الخير والشر دون أن يصرح بزمن قدومه وبداية الحرب. وقد صرحت أيضاً بأن الرب قد اصطفاها وأنعم عليها بالنبوة والعصمة والتنبؤ بالغيب؛ الأمر الذي جعل كل السبتيين يبجلونها ويرفعون قدرها لدرجة القداسة واعتبروا أقولها مؤيدة وناسخة للكتابات المقدّسة السابقة عليها. ولا تتفق عقدية “الأدفنتست” مع المورمونين في قداسة النبي ونسخ قانون الإيمان والمجيء الثاني للمسيح فحسب؛ بل تتفق معها أيضاً في أن كنيستيهما لم تخل من التدليس ودس الكهنة والكذب على الرب والتجديف. أمّا قضية الخلاص والسعادة الأبدية فللسبتيين رؤية مُخالفة أيضاً لكل الطوائف اليهودية والمسيحية بوجهٍ عام والمورمونية بوجهٍ خاص، ويتمثل ذلك في اعتقادهم بأن الخلاص الأبدي يمر بثلاث درجات : بدأت الأولى عام 1844م وتختص بمحاكمة جميع البشر (للفصل بين الأخيار والأشرار) ومازالت منعقدة جلساتها حتى الآن وتسمى بالدينونة التحقيقية. أمّا الدرجة الثانية فتختص بمحاكمة القديسين وأخذ آراؤهم أو شفاعتهم في الساقطين والعصاة من الإنس والملائكة والجن والشياطين.

أمّا الثالثة والأخيرة؛ فلا حكم فيها إلا للمسيح؛ ليفصل في الأحكام السابقة في الجلستين السابقتين ويصدر الحكم الأخير بالسعادة الأبدية على الأخيار والجحيم الأبدي على العصاة والأشرار وتسمى بالدينونة التنفيذية.

وللحديث بقيّة

***

بقلم : د. عصمت نّصار

 

 

أسهم الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن الحاصل على جائزة الإيسيسكو في الفلسفة والفكر الإسلامي عام 2006 من خلال سلسلة من الأعمال الفكرية منذ سبعينيات القرن العشرين في المنهجيات الحديثة في التحليل النصي والدرس التأويلي للنصوص، انطلاقا من قناعته بضرورة تجديد النظر في كثير من المفاهيم المنثورة من حولنا، فحصا ونقدا وتصحيحا وتنقيحا للخروج من تيه الأفكار الذي نعيشه، "والتيه في الفكر كالتيه في الأرض؛ إذ لا أهداف يعلمها التائه يقينا حتّى يتّجه إليها؛ ولا وسائل يملكها حقًّا حتى توصِّله إلى هذه الأهداف؛ والتِّيه الفكري الذي أصابنا ينطق به حال الشتات الذي يوجد فيه أهل الفكر بين أظهرنا؛ وهذا الشتات ألوان شتّى: شتات في المكان؛ فلا رواق يُظلّهم، ولا مجلس يضمّهم، ولا ملتقى يشملهم، ولا دار ندوة تؤويهم. وشتات في الزمان؛ فلا حضور في عالم القرار لأفكارهم، ولا أثر في أفق المستقبل لمواقفهم، ولا تحاور بين أفراد الجيل الواحد منهم، ولا تخاطب بين مختلف أجيالهم. وشتات في الأفكار؛ وهو أسوأ ألوان الشتات؛ فهذا واقع تحت طائلة التقليد، داعياً إلى الترديد والانكماش؛ وذاك واقع تحت طائلة التنميط، داعيا إلى التكيُّف والاندماج؛ وهذا يتشبّث بكل قديم خوفًا على فقدان الهوية؛ وذاك يتقلّب مع كل جديد، طمعا في التحقّق بالغيرية؛ وهذا كل يوم في إشْكال، فتارة يندمج وتارة ينكمش، وتارة بين بين، وذاك لا إشكال عنده، يفكّر لساعته لا يعدوها؛ لكن على تباينهم درج كلُّ واحد منهم على أن يفكّر مذكيا لنفسه، وهيهات أن يفكّر معترضا عليها! والحق أنه لو اشتغل بالاعتراض على نفسه، لأدرك أنه في تيهٍ عظيم، ولا سبيل للخروج منه إلا بالاهتداء إلى الأهداف الصالحة والوسائل النافذة".(1) وهذا ما دفع طه عبد الرحمن إلى الوقوف أمام علاقتنا الحتمية بالتراث على مستوى تصوّر موضوعه ومنهج قراءته، "فنحن في التراث كما نحن في العالم لا اختيار لنا معه ولا انفصال عنه".(2)

والتراث عند عبد الرحمن "عبارة عن جملة المضامين والوسائل الخطابية والسلوكية التي تحدّد الوجود الإنتاجي للمسلم العربي في أخذه بمجموعة مخصوصة من القيم القومية والإنسانية حيّة كانت أم ميتة".(3) ودائرة مصادر التراث الإسلامي العربي ليس مقصورة عنده على اجتهادات المسلمين بل تمتد؛ لتشمل النص الديني المؤسِّس مستندا في ذلك إلى "قول الله عز وجل: أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا (فاطر: 32) فمفهوم التراث موجود في هذا النص الديني، فالقرآن والسُنّة هنا إرث للمؤمنين، أي يندرجان في تراث المسلمين."(4) غير أنّ هذا التصور لا يخلو من إشكاليتين: الأولى اتكائه على الدلالة اللغوية لكلمة الإرث في القرآن الكريم؛ لتحديد مفهوم التراث متجاهلا أنّ المفهوم في التداول الإسلامي اكتسب أبعادا ثقافية أكثر تعقيدا من الدلالة اللغوية للفعل "ورث" الذي لا يُشير في القرآن الكريم سورة الفجر: 19 إلا إلى ما يتركه الميت من مال فيورث عنه، فالمادة اللغوية القرآنية الأقرب إلى مفهوم التراث في التداول الإسلامي هي المشتق "سنة - سنن" في إحدى مدلوليه في القرآن الكريم، وقد حملت مدلولين تبعا لقيد الإضافة، الأوّل: "سُنّة الله" فهي بمعنى القوانين الإلهية العامة الثابتة في الكون والطبيعة من جهة، والإنسان والمجتمع من جهة أخرى، والثاني: "سُنّة الذين خلوا من قبل" فهي المفاهيم والقيم والمعتقدات والتقاليد والمحددات للسلوك والأعراف التي كانوا عليها، فالسنّة بالمفهوم الثاني أقرب الدوال إلى مفهوم التراث.

الإشكالية الثانية: إدماج طه عبدالرحمن القرآنَ الكريم في بنية التراث يُضفي قداسة على التراث، وهذا - من ناحية - يختلف عن رأي مؤتمر الأزهر الأخير الذي أكّد في توصياته(5) على نفي القداسة عن التراث، وأنّ القرآن الكريم ليس جزءا منه، بما يؤسّس لفكرة قابلية التراث للنقد، كما يقودنا هذا الاختلاف حول مفهوم التراث بين عبدالرحمن والأزهر إلى تعدّد الصور الذهنية التي بُنيت حول "التراث" في فكر الإسلاميّين المعاصر، ومن ناحية ثانية يتنافى إدماج القرآن الكريم في بنية التراث مع طبيعته في كونه فكرا واجتهادا إنسانيا لا يتم بمعزل عن واقعه، فهو نتاج مباشر للمكان والزمان الذي أنتج فيه، ووفق الآليات المعرفية التي توفّرت له. كما أنّ التراث ليس معطى واحدا، بل هو متعدّد ومتنوّع، فلا يخضع لمنظومة فكرية موحّدة متجانسة، بل لمجموعة من الأنساق الفكرية المختلفة الرؤى والتوجّهات، ومن أمثلة ذلك الاختلاف حول تعريف "الإيمان" بين كونه قاصرًا على تصديق القلب وبين كونه مرتبطا إلى جانب تصديق القلب بالعمل (العبادات)، ومثل قضية المجاز في القرآن الكريم التي شهدت اختلافا وتنوعا في تراث الأشاعرة والحنابلة والمتصوفة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم... مما يجعل الباحث - شاء أم أبى - في حالة اختيار مع التراث الذي هو في واقعه متنوّع، فالباحث لا يقدّم التراث بالألف واللام الجنسية، وإنما يُقدّم اختيارا وموقفا من التراث.

وفي الوقت الذي نسلّم فيه بتنوّع وتعدّد مجالات واتجاهات التراث إلاّ أنّها تربطها بنية فكرية واحدة، يُمكننا الوقوف عليها من خلال اكتشاف العلاقات العضوية المُشكّلة لمختلف مجالات التراث من اللغة والنقد والبلاغة وعلم الكلام وعلوم القرآن وغيرها، وهذا ما أطلق عليه الدكتور طه عبد الرحمن "القراءة التكاملية" أو "مبدأ تكامل المعارف" احدى المبادئ التي انتهى إليها عبد الرحمن من طول اشتغاله على روح التراث الإسلامي، على حدّ تعبيره، "فلو أنّ الغرب أخذ بمبدأ "تفاصل" أو تباين المعارف، فالمعرفة الإسلامية تتداخل أقسامها تداخلا كاملا، بحيث يبدو الفقه موصولا بعلم الكلام، وعلم الكلام موصولا بالفلسفة، والفلسفة موصولة بأصول الفقه؛ فقد حصل في التراث الإسلامي تداخل قويّ بين المعارف إلى حدّ أنّ بعض العلماء جمعوا بين الطب والفقه أو بين الفلسفة وأصول الفقه. فلا مفرّ لنا عن التكامل، لندخل إلى الحداثة محتفظين بعلاقتنا مع التراث الذي لابدّ لاستئناف النظر فيه من البحث عن الحبل السري الذي يمكن أن يربط بين الإبداع والنهضة في لحظة من لحظات الفعل الحضاري"(6)، وفي هذا الإطار تنوّعت كتابات عبدالرحمن بين التأسيس لقراءة تكاملية اعتمادا على آليات التداخل المعرفي، والتقريب التداولي ونقد الخطابات التجزيئية والتفاضلية في قراءة التراث.

تنوّعت كتابات عبد الرحمن بين التأسيس لقراءة تكاملية اعتمادا على آليات التداخل المعرفي، والتقريب التداولي ونقد الخطابات التجزيئية والتفاضلية في قراءة التراث

وقد فسّر تلك المظاهر التجزيئية بأنّها وليدة تقويم يغلب عليه الانشغال بمضامين النص التراثي، ولا ينظر البتّة في الوسائل اللغوية والمنطقية التي أُنشئت وبُلِّغت بها هذه المضامين".(7) فميّز عبدالرحمن بين نظرة جزئية تفاضلية لا تتجاوز في دراستها المضامين المعرفية للتراث بوسائل تجريدية وتسيسيه منقولة مع نسيان الوسائل التي عملت في تأصيل وتفريع هذه المضامين التراثية، وبين نظرته هو القائمة على الشمولية التكاملية غير التجزيئية للتراث بوصفها منحى غير مسبوق، لكنّ الواقع المعرفي يُشير إلى أنّ من الباحثين من شارك عبدالرحمن بدايات ظهور هذا المنحى (القراءة التكاملية للتراث) منها الدراسة المبكّرة في مسيرة جابر عصفور عن "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي" التي قدّم فيها قراءة للنقد والبلاغة في ضوء علاقتها بعلوم التراث كلّها من فلسفة وعلم الكلام وتصوّف وتفسير وعلوم القرآن وغيرها في أوائل سبعينيات القرن الماضي، كما لم يكن ارتياد الجابري أو أركون أو أبو زيد وغيرهم مجال الدراسات التراثية مقصورا على المضامين بل ركّزوا على بنية العقل المنتجة للتراث وأدواته الاستدلالية واللغوية في محاولة لاكتشاف التراث في سياقه التاريخي الثقافي الفكري.

وإذا انتقلنا إلى منهجية عبدالرحمن في قراءة التراث بوصفها الإشكالية التي تُميّز العقل "المتسائل" من العقل "المذعن" والعقل القادر على إنتاج المعرفة من العقل الذي يُلوّن المعرفة، أو يكرّرها، فسنجد أنّها لا تنتمي إلى العقلية الأصولية الرافضة للتجديد بشكل عام والحداثة بوجه خاص تلك التي تُؤمن بكفاءة السلف العلمية وكفاية المرجعية السلفية العلمية التي أخذوها عنهم، داعين إلى القطيعة المعرفية مع الغرب العدوّ الذي يرونه معرفيّا وسياسيا وحْدة واحِدة لا تتجزأ، فيتطابق المعرفي الفكري مع السياسي في العقلية السلفيّة الأصوليّة المشبعة بفكرة المؤامرة، إلاّ أنّ عبدالرحمن تأثّر بالفكر السلفي في التركيز على خصوصية العقل المسلم وخصوصية المعرفة التي يُنتجها، فلا يتعامل مع العقل المعرفي بالمعنى الإنساني العام...

ومن جانب آخر، لا ينتمى منهج عبد الرحمن إلى الحداثة العربية التي رأى في تقليدها للغرب نقيضا لفكر الحداثة القائم على الإبداع، فمثّل تعاطِي الحداثيين العرب مع التراث - من منظوره - أحد مظاهر أزمة علاقتنا مع التراث في مستوى تصوّر موضوعه ومستوى منهج قراءته، فعلى مستوى الموضوع تمّ التعاطي مع التراث بطريقة تجزيئية، وعلى مستوى المنهج خرجت عن المقتضيات المنطقية والمنهجية في المعالجة، "فاستندت إلى أساليب أقل ما يُقال فيها بأنها تعسفية، لم تتردّد في أن تُسلّط على التراث بعض المقولات الماركسية أو البنيوية أو التفكيكية؛ وهكذا، كان الباحث يتقلّب بتقلّب الأدوات التي كان يستخدمها الغرب، فيقوم باستنساخها وتطبيقها على التراث؛ وقد أزعجني هذا الأمر كثيرا، وجعلني أنظر إلى هذا الأعمال على أنّها لا تعدو كونها تمارين يتدرّب فيها العربي على استعمال هذه الأدوات المقتبسة؛ لذلك رغم تقديري لهذه المنهجيات الغربية، ورغم اعتباري للنتائج التي توصّلت إليها في تراثها الأصلي وفائدتها في الوصول إلى نتائج مهمة بالنسبة للدراسات الغربية، كنت لا أرى مثل تلك الفائدة بالنسبة لنقلها إلى التراث الإسلامي العربي؛ فقلت في نفسي لا بدّ من إيجاد منهجية تناسب خصوصية تراثنا، ولا تكون واردة من خارجه أو مسلَّطة عليه بتعسّف بل لابدّ لهذه المنهجية النقدية من أن تنبعث من الداخل؛ فالمطلوب إذًا هو أن نستمدَّ المنهجية التي نقوّم بها تراثنا الإسلامي العربي من التراث نفسه".(8)

فقراءة النص التراثي عند عبدالرحمن قائمة على "مطالبة النص بالتدليل على وسائله أو مضامينه"(9) بأدوات مأصولة، وليس بأدوات منقولة، واختار من بين تلك الآليات والوسائل الاستدلالية واللغوية التي أنشأت المضامين التراثية آلية أطلق عليها "المناظرة العقلانية" أو "العقلانية الحوارية" انطلاقا من أنّ الأصل في الكلام هو الحوار، فحقيقة الكلام الذي تكلّم به الإنسان الأوّل كانت حقيقة حوارية؛ فالحوار موصول بالفطرة بالوجود بالروح، ثم دخلت فيما بعد على الحوار تهذيبات وتقنيات وضوابط محدّدة... والحوار له أهمّية آلية وداخلية وخارجية.. فعلى المستوى الآلي يعطيك الحوار حقوقا ويوجب عليك واجبات، إذ يعطيك حق الاعتقاد والقول فتبدي الرأي الذي تريد، ويعطيك حقّ انتقاد الرأي والاعتقاد المخالف، كما يوجب عليك أيضا واجبات فمن اعتقد شيئا وادّعى دعوى لابد من أن يستدلّ عليها؛ أي يتولّى بنفسه تقديم الأدلة على صحة دعواه واعتقاده، كما أنّه لا بد للمنتقد الذي يُطالب بالأدلة من أن يستمع أولا إلى أدلة المدّعي قبل الدخول في الاعتراض على دعواه؛ وعليه فإنّ الحوار هو مجال لممارسة القوة الاستدلالية للإنسان فعن طريقه يمكنك أن تظهر قوتك العقلية وقدرتك الاستدلالية، فالحوار هبة إلهية للإنسان تُمكّنه من تطوير أساليب استدلالاته على الأشياء. وعلى مستوى الأهمية الداخلية والخارجية، فإنّ الحوار يعود بك إلى الأصل، وهو أنّ الإنسان ليس مفردا بل هو جمع، هو "ذات" و"غير" في الآن نفسه، بدليل أنّ الإنسان قد يحاور ذاته كما يحاور غيرها، فالحوار فرصة لمعرفة الغيرية أو الآخرية، وممارسة لمعرفة الذات من حواري مع الآخرين، فالحوار تحقيق للإنسانية بالتعرّف عليها وتنمية للقوّة الاستدلالية.

وليست "العقلانية الحوارية" عند عبد الرحمن منهجا لتصحيح المعرفة فحسب، بل وسيلة لتحصيل المعرفة والزيادة فيها أيضا؛ فالحوار أصلا هو البحث المشترك طلبا للصواب، سواء ظهر هذا الصواب على يد هذا الجانب المعتقد أو المدّعي أم ذاك المنتقد أو المعترض، فهو بخلاف الجدل القائم على طلب الغلبة والنصرة على الخصم. غير أنّ آفة الحوار في مجتمعاتنا الغضب، فيقول شخص قولا أو يرى رأيا فيتصدى له الآخر قائلا: "لا، رأيك غير صادق، والرأي الصواب هو كذا وكذا"، وهذا ينافى قواعد التناظر الذي يتطلّب السماع للرأي المخالف ومنحه فرصة عرض أدلته ثم أبدأ ليس برفض رأيه أو عرض رأيي بل بإبطال أدلته واحدا واحدا ثمّ بعدها أعرض رأيي المناقض له، فالأصل أنّنا لا ندخل الحوار إلاّ لنُبين لغيرنا أدلتَنا على صحة ما ندعيه، وليس لمجرّد إرسال الكلام على عواهنه، وليس الحوار أن أقول قولا وأن أترك الآخر يقول ضده. والآفة الثانية غياب اللغة التوصيلية الجيدة فخسر الفلاسفة المسلمون معركة الحوار؛ لأنّهم كانوا على خلاف المتصوّفة ينقصهم الكفاءة التبليغيّة، فكانت لغتهم غير توصيلية تكاد لا تبين؛ فتكلموا لغة عربية مشوهة بالترجمة الحرفية، فجاءت العبارات قلقة ركيكة مما جعل الأفكار مستغلقة على الأذهان، وهذا ما جعل الشروح تتسلسل ولا تنتهي يحاول الشارح تلو الآخر رفع ذلك الاستغلاق كل على قدره.(10)

ليست "العقلانية الحوارية" عند عبد الرحمن منهجا لتصحيح المعرفة فحسب، بل وسيلة لتحصيل المعرفة والزيادة فيها أيضا.

وهذا ما جعل عبدالرحمن يرى أنّ تأسيس حداثة بنسخة إسلامية لا يتمّ إلاّ بواسطة مدخلين أساسين؛ أوّلهما مدخل الترجمة المبدعة، وثانيهما: مدخل القراءة الحداثية للقرآن الكريم المصدر المؤسّس الذي ولَّد التراث الذي بين أيدينا، فالدخول إلى الحداثة يحتاج قراءة جديدة مبدعة للقرآن بالمعنى الإنشائي والجمالي، وتلك القراءة الحداثية للقرآن - من منظوره - أبعد ما تكون عن قراءة الحداثيين للقرآن الكريم التي تأثرت بالغرب في تعامله مع الإنجيل بخطط ثلاث للقراءة: الخطة الأولى أطلق عليها خطّة الأنسنة وهي محاولة ردّ النص الإلهي إلى نص إنساني، فيحاولون أن ينقلوا النص من شروطه الإلهية إلى شروط إنسانية بنقل الآيات القرآنية من الوضع الإلهي إلى الوضع الإنساني، والغاية من ذلك هي محو القدسية عن النص الديني؛ وخطة الأرخنة هي وصل النصوص بسياقها التاريخي وبظروفها، والغاية من ذلك هي صرف الأحكام التي جاءت في النصوص الدينية؛ أي صرف ما اصطلح على تسميته بالحُكمية أي صلاحية الأحكام لزمان آخر غير الزمان التي وردت فيه؛ إذ يحاولون أن يرفعوا عن النص القرآني قيمته الحُكمية، حيث تفقد الأحكام قيمتها الإجرائية، فضلا عن قيمتها التشريعية، سالكين طريقا يُخرج هذه الأحكام من مستواها التشريعي المحض إلى مستوى يتجاوز هذا التشريع تاريخيا. ويتجاهل أصحاب هذه الخطط أنّ فرقا بين تراثنا الديني والتراث الغربي، وهو أنّ تراثنا باستمرار فاعل فينا ولو على أقدار مختلفة، وخطّة العقلنة وتعنى تطبيق الوسائل العقلية المستخدمة في المجال العلمي على النص القرآني، وهذا يصرف أثر الغيبية عن النصوص القرآنية، وإقصاء كل ما له دلالة على اللامحسوس واللامعقول (بالمعنى العقلي الحداثي كما حدوده)؛ فكلّ ما يوجد في النص من مضامين غيبية، يعملون على إزالتها باعتبار أنّ هذا الغيب لا يمكن أن نراه أو أن نحسّه، وخطؤهم يكمن في أنّه ليس كل ما لا نراه أو لا نحسه، يلزم بالضرورة أن يبقى كذلك حتى بالنسبة إلى المستقبل القريب أو البعيد.. فالحداثيون العرب يردّون النص القرآني إلى ما هو بشري وعقلي وتاريخي، حيث يصبح مجرّد نصّ من إنتاج العقل العربي، ولم يفعلوا ما فعلوه متوسّلين بآليات ابتكرتها قرائحهم، حتّى يستحقّ أن يكون اجتهادا منهم، ولو أنّه اجتهاد باطل! وإنّما نقلوا وسائلهم النقدية عن الغرب، ونزّلوها على النص القرآني بتقليد أعمى واستنساخ مطلق؛ فكلّ ما وضعه علماء الغرب لدراسة نصوص الكتب المقدّسة -أي التوراة والإنجيل- من مناهج مقرّرة، وما توصلوا إليه من نتائج محددة، أخذه العلمانيون العرب وأنزلوه على القرآن الكريم بخصوصيته المسيحية وبتفاصيله السياقية والتاريخية التي تخص الممارسة الغربية للدين... فليس لهم القدرة على تمثّل الأدوات الإجرائية، واستيعاب المنهجيات العلمية التي وضعها الغرب، بل يسقطون هذه الآليات على تراث الإسلام دون نقد أو تمحيص لها."(11)

وقيّد عبدالرحمن الاستفادة من المناهج المعاصرة بأن تكون لها جذور في التراث، وأن يتّفق المنهج مع طبيعة الموضوع التراثي الذي ستقوم بمعالجته، فيقول: "عندما أحدّد طبيعة الموضوع التراثي الذي أنظر فيه، ويتبين لي أن الآلة المنطقية مفيدة في بيان خصائصه، فإنّي أعالج عمل هذه الآلة المنطقية مفيدة في بيان خصائصه، فإنّي أعالج عمل هذه الآلة داخل النص لا من جهة خصائصها التي أقرّها التراث فحسب، بل يُمكن أن أتوسّل أيضا في هذه المعالجة بالمستوى المعرفي والمنهجي الذي وصلته هذه الآلة في العصر الحديث لقد استفدت كثيرا من تطور الأداة المنطقية كثيرا داخل النص التراثي وهكذا أكون قد استعنت بالآلة المنطقية التي حققت تطورا وتقدما خارج التراث لدراسة الآلة داخل التراث، باعتبارها خاصية مميزة له، وخير مثال على تشبع التراث بالآلة المنطقية هو عنايته بالمناظرة فمعلوم أن منهج المناظرة يقتضي دخول شخصين على الأقل في حوار على أساس الوصول إلى نتيجة غالبا ما تكون معرفية؛ فكانت المناظرة عند المسلمين بمثابة وسيلة لتحصيل المعرفة، ولم تكن وسيلة لحل المشكلات الاجتماعية والسياسية فقط كما هو حالها اليوم؛ ولقد أُهملت المناظرة عند المسلمين لسبب واحد هو تقليد الباحثين العرب للغرب في دراسة التراث؛ فلما لم تكن المناظرة عند الغرب بمثل القوة والتوسع في إنتاج المعرفة اللذين كانا لهما عند المسلمين، فإنهم لم يولوها في دراستهم التاريخية النقدية لتراثهم أهمية كبيرة؛ ولما جاء الدارسون العرب لتناول تراثهم، اتبعوا خطواتهم، فلم يعطوا للمناظرة أيّة قيمة في دارستهم، ولربّما هذا الوجه الذي يُسهّل وصله بالمعاصرة والحداثة. ويتدخّل مع آلية المناظرة العقلانية عند عبدالرحمن النقد المنطقي الذي جعله بديلا للنقد التاريخي في قراءة التراث، فهو من منظوره آلية من داخل التراث تشبّع بها إلى درجة كبيرة كما في أصول الفقه، والفقه، والبلاغة؛ "فكان للآلة المنطقية دور كبير في إنتاج المعرفة الإسلامية؛ لذلك، كان استخدامي لها في الكشف عن روح التراث الإسلامي المتمثلة في المقاصد والقيم والمبادئ التي بُنى عليها التراث وتحّكمت في عملية توليده وتطويره؛ فإذا استطعنا أن نقف على هذه المبادئ التي تحكم التراث وتشكّل روحه، فبإمكاننا من خلال هذه الروح أن نحقّق نتائج إيجابية في الربط بين التراث والمعاصرة حتّى نستأنف العطاء ونتصل بالمعاصرة".(12)

وتقوم قراءة التراث عند طه عبد الرحمن كسائر مشروعه الفكري على ثنائيات، فكما تقوم الأخلاق من منظوره على ثنائية بين الهيئات والأفعال الروحية والظاهر والباطن، وتقوم الحداثة عنده على ثنائية بين واقع متمثل في تطبيقاتها وروح متمثلة في قيمها ومبادئها، كذلك يقوم التراث على ثنائية بين ذاكرة معرفية وروح أنتجت تلك المعرفة، فإعادة الماضي على مقتضاه القديم يستحيل عقليا وتاريخيا؛ لكن ما يمكن أن يُعاد من الماضي هو روح التراث الإسلامي متمثلة في استلهام القيم الإنسانية والأحكام الشرعية القطعية التي تخدم الإنسانية التي لا يمكن نهائيا أن تموت مع مرور الزمن، فالتراث يبقى في الذاكرة التي فيها الميّت والحي، فهناك قيم داخل التراث لم يعد من الممكن اليوم الدخول بواسطتها إلى الحداثة. فيؤسّس عبدالرحمن بذلك لعلاقة تفاعلية بين التراث والحداثة داعيا إلى الأخذ بروح الحداثة التي تكمن في مجموعة القيم والمبادئ التي علينا أن نبحث عنها دون أن نتوقّف أمام واقعها الذي ينقله البعض نقلا حرفيا، فهم تقليديّون، وإن ادعوا الحداثة، ولا أن نرفضها ونراها كفرا، فالحداثة أن يكون الإنسان حاضرا مبدعا في عصره لا في زمان غيره، فنستعيد من أسلافنا قدرتهم الإبداعية في الأخذ من اليونان واللاتين حتى نكون حداثيين، واستكمل الدكتور طه عبد الرحمن مجملا روح الحداثة في ثلاثة مبادئ، الأول: ألا تقبل بوصاية أحد على تفكيرك، ورأى أنّه ليس حداثيا فحسب، بل تراثيا يتّفق مع التصوّر التداولي الإسلامي لا رشد مع تقليد. والمبدأ الثاني: الفكر النقدي أن تكون لك القدرة على الاعتراض على ذاتك وغيرك وعلى الأشياء من حولك، فالاعتراض ليس محدودا بل هو شامل واسع. المبدأ الثالث الشمول، فالحداثة تنتشر في المجتمعات والمجالات كلّها، ولا يمكن حصرها في مجتمع مخصوص، ولا مجال مخصوص، فلا قطيعة بين الحداثة والدين أو الأخلاق فهي الروح التي ينبغي أن نأخذ بها اليوم، ونتوسّل بها كغيرنا من الأمم في تحقيق نهضتنا. إذا أردنا أن نصل التراث الإسلامي بالحداثة اليوم أو بالمعاصرة، فإنّنا في حاجة إلى الاستفادة من الصفات خاصة والمبادئ المميزة التي يقوم عليها التراث وهو ما أسماه ه بـ "مبدأ التداول"، ويقصد به أنّ التراث الإسلامي أو الحضارة الإسلامية كانت دائما تستوعب الوافد عليها أو المنقول إليها استيعابا يُخضعه للقيم المعرفية والقيم اللغوية والقيم العقدية الخاصّة به، فالتراث العربي لديه قدرة متميّزة على تحويل المنقول من ثقافة أخرى إلى مضمون يوافق مقتضيات وقيم الإسلام، فكلّما ورد علينا مضمون حداثي أو مضمون عصري أو مفهوما أو حكما تعيّن علينا أن نخضعه لهذه المقتضيات التداولية التي اختصّ بها التراث الإسلامي من قيم عقدية ولغوية ومعرفية.

فـ"الحداثة ليست في تجاوز المصادر الأصلية للتراث، وإنما أن نجدد استخدامنا لهذه المصادر، فنولد منه تراثا غير مسبوق نضيفه إلى ما سبق... وأدعو هؤلاء إلى قراءة حداثية مبدعة حقا تستجيب لما يبتغون هم، ولكن على الوجه الذي يجب وحيث يجب؛ فهم يريدون أن يرفعوا القدسية، فيمكن أن نرفع هذه القدسية حيث ينبغي، إذ يكفى أن نستبدل مكان هذا المقصد مقصدا آخر أوسع منه مثل "تكريم الإنسان" ومتّى كرّمنا الإنسان، تعين رفع القدسية عن الاجتهادات التي لم تعد صالحة لسلوكه ولا خادمة لوجوده؛ وعلى هذا ينبغي أن تغير المقاصد والغايات التي وظفها أهل التقليد لرفع القداسة ورفع الغيبية ورفع الحكمية، وأن نضع مكانها مقاصد أخرى تعمها وتحفظها جزئيا حيث أصابت، وفي المجالات التي يجب أن تحفظ فيها."(13)

وفي الوقت الذي أقرّ عبدالرحمن التفكير النقدي كأحد مبادئ الحداثة شكّك عبد الرحمن في جدوى القراءات النقدية للتراث، ورأى أنّها ليست سوى صدى لقراءات الغرب النقدية لتراثه الكنسي، مؤكّدا أنّ الغرب في بداية النهضة الأوروبية لم ينتقد التراث، بل عاد إلى التراث اليوناني دون نقد، وكان النقد للتراث الكنسي والسلطة الكنسية، وكان الغرب يعتبر تراثه جزءا من هويته، فاشتغال الغرب بالتراث كان تأييدا لمقوّماته وإحياء لقيمه، بينما أهل الاشتغال بالتراث على أساس مبدأ الحداثة من العرب تولّوا نقد التراث؛ لينتهوا إمّا إلى إلقائه كلّيّا والدعوة إلى الانفصال عنه، بحجة أنه لا يمكن أن ندخل عصر الحداثة إلا بتطليق هذا التراث تطليقا، لا رجعة فيه، وبعضهم رجع إلى ما يراه مقبولا من التراث، وهو نصوص الفلسفة اليونانية التي نقلت إلى العربية فهو مقبول عندهم من حيث كونه جانبا موصولا مع التراث اليوناني، وحاول بعض الحداثيين العرب البحث عن المفاهيم الموجودة في الحضارة الغربية مثل العقلانية في التراث بشكل انتقائي، فاتجه الأغلبية نحو التراث المعتزلي واعتبروه نقطة الانطلاق، وهذا تعاطي تجزيئي مع التراث ينتهى إلى ترك أغلب التراث، أو تنتهي إلى الانقطاع كليا، فالبحث عن مفاهيم موجودة في الأصل عند الغرب وفي ثقافته وتسليطها على التراث الإسلامي في شكل استنساخ لها من غير القيام بنقدها وتمحيصها، بل من غير التمكن من آلياتها هو أمر يتعارض مع مقتضيات البحث العلمي: فكم من مفاهيم أخذ بها الدارسون للتراث لم يتمكنوا من ناصية إجراءاتها ومن طرق استثمارها في التراث مما أفضى إلى نتائج فاسدة عن التراث.(14)

ولا تخلو منهجية عبدالرحمن في قراءة التراث من جوانب نتفق معها ونُؤسّس عليها، وجوانب أخرى نختلف معها ونُعيد التفكير فيها، فمن إشكاليات منهاجيته في قراءة التراث التعالي به عن النقد بزعم خصوصية الأدوات التي أنتجت مضمونه، وأنه لا يستقيم إخضاع مضامين التراث لأدوات تمّ إنتاجها في غير بيئته، ورأي في اعتماد العقل الحداثي على آلية نقد النصوص تقليدا للدراسات الغربية في محاولتها رد النصوص إلى سياقاتها التاريخية المنتجة لها، فهو يعتقد اعتقادا جازما بأنّه لابدّ من أن يقوّم التراث ويُنقد بحسب الأدوات التي استخدمت في إنتاجه، حتى يُعرف هل استوفى شرائط هذه الأدوات أم لم يستوفها.. وأنّه لا يجوز الاعتماد على أدوات أخرى لم تُنتج مضمونه إلاّ على سبيل المقارنة لا على سبيل التحقيق. فشكّك في جدوى قراءات الحداثيين للتراث، ووصفها بمحاولات تنقية أو استصلاح أو عقلنة للتراث، باعتبار أنّ قسما قليلا منه فقط ينسجم في رأيهم مع روح العصر، فقراءات الحداثيين للتراث قراءات مقلدة، وليس لها من الحداثة شيء؛ لأنّها تنقل وسائل وأدوات تخص الغرب وحضارته وتاريخه، وإن كان يتّفق معهم في حاجتنا إلى نهوض الإسلام إلى تجديد قراءة التراث، ولكنّه تجديد ينبغي أن نبدع فيه، فنأتي من عندنا بأدوات وآليات يحدّدها تاريخنا وتراثنا أي مجالنا التداولي الخاصّ بنا، فيتناقض عبد الرحمن مع نفسه حين يتحدّث عن الإبداع، وفي الوقت نفسه يُلزم بأن نستولد من التراث وسائلنا في تحديث هذا التراث، ويجعل القراءة الحداثية مقيّدة بما يجب وحيث يجب.. فما انتهى له الدرس اللغوي الحديث مثلا ليس نتاج فكر إنساني عام يصلح لدراسة النصوص العربية، فيستعلى بنصوص وخطابات التراث عن الخضوع لتلك النظريات اللغوية الحديثة، ويرى أنّ أدوات ووسائل القدامى هي الأجدى في التحليل والفهم ليس لشيء سوى لتراثيتها.

إنّها الإشكالية التي تغلّب عليها الشيخ عبد القاهر الجرجاني، فتفرّد عن معاصريه بتجديد ما زلنا نحتفي به إلى يومنا، وعجزنا نحن عن مواجهة إشكالية المنهج فلا تعدو قراءاتنا للتراث عن كونها عكوفا على القديم نقلا وترديدا فحسب، وإذا كان عبد القاهر قد أفاد لا من جهود سابقيه فقط، وعلى رأسهم "القاضي عبد الجبار الأسد آبادي المعتزلي"، بل من إنجازات "أرسطو" اليوناني في كتابه "الشعر" و"الخطابة"، فإنّ واجبنا كباحثين معاصرين أن نفيد من إنجازات المناهج الحديثة المعاصرة في "اللسانيات" و"علم تحليل الخطاب" و"السميولوجيا"، و"السرديات" إنّ التخوّف من هذه المناهج في دراسة التراث بدافع الخوف من الخطأ يتنافى مع الإسلام الذي جعل للمجتهد المخطئ أجرين، والتخوّف منها بدافع من الوقوع في التبعية يعكس ضعفا في الثقة بالنفس، ويوهم بقداسة التراث وتعاليه عن كونه اجتهادات صاغها القدامى في الوقت الذي نُقرّ فيه بنفي القداسة عنه وقابليته للنقد، القراءة الواعية للتراث لا سقف يحدّها ولا شروطا تعوقها سوى "التمكّن" المعرفي أي تمام العلم بشروط وأدوات "المعرفة" والتمرّس بأدوات البحث ومناهجه حسب المواصفات التي وصل إليها التقدّم المعرفي في عصر الباحث. وليس معقولًا، ونحن في القرن والحادي والعشرين، أن نتمسّك بشروط وقواعد القراءة العلمية التي وضعها أسلافنا تمسّكا حرفيا، ونتجاهل تطوّر أدوات المعرفة في عصرنا هذا. "إذا كانت علوم اللغة والبلاغة وعلوم القرآن من العلوم الأساسية التي اعتبر أسلافنا -على حق- أنّ الإلمام بها شرط من شروط التأهُّل للاجتهاد والقراءة العلمية المنتجة. فهل معنى ذلك أن نتمسك بمستوى علوم اللغة والبلاغة في القرن الخامس أو السادس الهجريين، وأن نتجاهل مستوى التقدم المُذهل الذي تحقق في مجال هذين العلمين! لماذا لا نستفيد في المنجزات المتغيرة للعلم والمعرفة في قراءة النصوص اللغوية والخطابات الفكرية"!(15) لماذا عندما نتحدّث عن تناول التراث وفق أدوات منهج التحليل اللغوي الحديث مثلا نراها محاولات لإخضاع التراث لمنهجيات غربية ألم تكن لغة العلم لغتنا في عصور التألق الحضاري، لماذا ألصقناها اليوم بالغرب وجعلناها مرادفة له!

من ناحية ثانية، تتمحوّر مركزية التراث في مشروع طه عبد الرحمن في كونه وسيلة لتثبيت الهوية، وأداة لدعم الإبداع، "فلا إبداع بغير تراث ولا هوية بغير تراث إذ يكون التراث بمثابة المرتكز الذي يسمح للإنسان أن يستجمع قواه ليمتدّ في المستقبل، فالماضي هو عبارة عن نقطة ارتكاز للاندفاع بقوة إلى المستقبل... ففي الماضي وفي إنتاجه كل ما يمكن أن يمدّ المسلم بأسس تثبيت هويته ودعم إبداعه."(16) ويُعلل ذلك بأنّ الإنسان بطبعه كائن متّصل واتصاله يكون بالزمان والمكان، واتصاله بالزمان يجعله يربط الماضي بالحاضر والمستقبل معا؛ فلابد لكلّ إنسان، كيفما كان حاله، من أن يكون له امتداد فيما سبق وامتداد فيما سيأتي؛ فعنده حاجة ميتافيزيقية أو روحية إلى أن تكون ذاته موصولة؛ ووجوب هذه "الموصولية" هو الذي يدفعه إلى الاهتمام بالتراث، فإنه يرجع إلى حالة الاتصال بالماضي باعتباره مقوّما من مقوّمات ذاته؛ لذلك كان الماضي يمدّ الإنسان بشيئين أوّلهما الهويّة فهذا الاتصال يوفّر للفرد البعد الثقافي الذي يجعله يحدد ذاته، مدركا تميّزه عن باقي أفراد الإنسانية، ولعلّ هذا ما دفع عبد الرحمن إلى عدم التفكير خارج مجال التداول الإسلامي التراثي، على حد قوله: "إذا انتابني ولو للحظات الشعور بأنّني أفكّر بعيدا عن هذا المجال، سرعان ما أعود إليه وأغوص بكلّيتي فيه؛ لأستخرج ما يمكن استخراجه من الحقائق".(17)

تتمحوّر مركزية التراث في مشروع طه عبد الرحمن في كونه وسيلة لتثبيت الهوية، وأداة لدعم الإبداع.

نتّفق مع عبدالرحمن في أنّ الماضي، وإن كان قد انقطعت صيرورته ولم يعد فاعلا إلاّ أنّه ما زال يتحرّك من خلالنا في وعينا به وتفاعله - إيجابا أو سلبا - مع سعينا لبناء الحاضر واستشراف المستقبل، غير أنّ التراث ليس هو الذي يُؤثّر في الحاضر على نحو أحادي الاتجاه فحسب، بل الحاضر أيضا يُؤثّر في التراث بالقدر نفسه، لأنّه ليس كيانا منفصلا عنّا، بل نحن مركز ذاك التراث نعيد تشكيله وفق الحاضر منه في عقولنا، لذا تتعدّد صور التراث بتعدّد العقول المستدعية للتراث، فكلّ قراءة للتراث ليست سوى محاولة لإعادة تفسيره من خلال الحاضر، ولا تبدأ تلك القراءة من فراغ بل من طرح أسئلة الحاضر التي تبحث لها عن إجابات داخل بنية التراث، ففي حالة الأسئلة المعلنة الصريحة الواضحة تكون آلية إنتاج المعرفة من التراث واضحة، وتكون القراءة قادرة على إنتاج وعي علمي بالتراث، وفي حالة السؤال المضمر تكون آليات القراءة مضمرة، وتكون القراءة للتراث مزيّفة للوعي متحيزة لموقف أيديولوجي، وإن تظاهرت بالموضوعيّة.

كما أنّ فكرة عبد الرحمن في التعامل مع التراث كجزء من الهويّة سرعان ما تتحوّل إلى كل الهوية في التداول الإسلامي، ومثل هذا الاختصار لهوية الإنسان في بعد واحد، وإن كان "الدين" فهو إشكالية كبيرة؛ لأنّ تلك الخصوصية المُغلقة تجعل الإنسان يحصر المعرفة في الدين، ويزعم امتلاكها، ومن تجلّيات تلك المشكلة أنّه وجدت جماعات تحتكر الإسلام، وتنسب نفسها وحدها إليه، والأدهى أنّها لا تحتكر جانب المعنى الديني فحسب، بل المعنى الاجتماعي والمعنى الثقافي والمعني السياسي، بالإضافة إلى المعاني الأخلاقية والروحية، ونصبت كل جماعة من نفسها سلطة حامية لفهمها الذي جعلته دينا.

ومن جانب آخر، يصبح الماضي بمثابة نقطة استقرار وجمود، فالاستغراق في الماضي هو أحد الأمراض الفكرية المزمنة للعقل المسلم التي تقتل فيها الإبداع أهمّ سمات المشروع الحداثي، فلا يتّبع مسار التطوّر الإنساني التقدّمي إلى الأمام، بل يقف عند نقطة من الماضي يريد الارتداد بالزمن إليها؛ بغية تطهير الحاضر بإعادته إلى الماضي، ويضيع الأفق المستقبلي بالارتداد إلى حلم الماضي، فنسعى إلى المستقبل ليس في نقطة زمن آتية، بل في نقطة زمنية ماضية، ويقتل الإبداع بالتقليد، وتتحوّل الحداثة إلى عمليّات طلاء مستمرة لتقديم الموروث التراثي في صورة الحداثي.

أخيرا إذا كان التراث الذي بين أيدينا تشّكل في مصنفات من خلال اللغة التي هي ظاهرة اجتماعية ثقافية وموجّهة إلى متلقٍّ اجتماعي تاريخي، فلماذا لا نقرؤه من خلال المناهج التي انتهى إليها الإنسان حديثا في تحليل النصوص اللغوية، لماذا نتعامل مع تراثنا ولغتنا كاستثناء! لماذا لا نفتح الباب للاختلاف في الفهم والقراءة والتفسير، الجهل لا يحارب بالجهل بل بالمعرفة العلمية التي تهدف إلى إطلاق حيوية البحث والتفكير وإعلاء شأن العلم في هذه الأمّة... إنّ وقوع بعض الدراسات في التعسّف على مستوى النتائج لا يقتضي رفض المناهج العلمية المتبعة في تلك الدراسات، وإنّما حصر الرفض في التطبيقات الخاطئة أو المتعسّفة في استخدام الأدوات المعرفية، وتظلّ جميع نصوص التراث نصوصا لغوية موصولة بالسياقات الاجتماعية والثقافية التي تشكّلت فيها، لا تكتفي القراءة العلمية الدقيقة باكتشاف دلالاتها في سياقها التاريخي الثقافي الفكري، بل تتعدّى ذلك إلى ضرورة الوصول إلى "المغزى" المعاصر للنصّ التراثي في أيّ مجال معرفي، وإذا كنّا في حالة خوف من ضياع الهويّة والقلق من حالة التبعيّة الثقافية الكاملة للآخر، فإنّ الوعي العلمي بحقيقة تراث وكيفية تكوّنه والعوامل التي ساهمت في حركته وتطوّره حتّى وصل إلينا سيُساعدنا على الصمود والتصدّي والمقاومة بل والتجاوز والتأسيس والمضيّ في البناء المعرفي.

***

بقلم عبد الباسط سلامة هيكل

....................

(1) د. طه عبد الرحمن (2013)، الحوار أُفقا للفكر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، ص 7

(2) د. طه عبد الرحمن (2011)، حوارات من أجل المستقبل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، ص 13

(3) ا. د. طه عبد الرحمن (1993)، تجديد المنهج في تقويم التراث، بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، ص 19

(4) السابق، ص 19

(5) توصيات مؤتمر الأزهر "قراءة التراث الإسلامي" موقع فيتو، القاهرة، 8 مارس 2018

(6) الحوار أفقا للفكر، ص 48

(7) تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 75، 76

(8) تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 237

(9) السابق، ص 81

(10) ينظر: الحوار أُفقا للفكر، ص 25: 37

(11) د. طه عبدالرحمن، روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، ص١٦١، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب، الطبعة الأولى، 2006

(12) الحوار أفقا للفكر، ص 79

(13) روح الحداثة، 32، 33

(14) يُنظر: تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 257: 237، روح الحداثة: ص 35: 54

(15) ينظر: د. نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة، ص ص 7، 8

(16) الحوار أُفقا للفكر، ص 60

(17) السابق، ص 62

 

من الطبيعي القول، أن الشدة والغلظة لا تفضيان إلى وحدة وطنية حقيقية، لأنهما يعملان على إلغاء كل الخصوصيات التي تساهم في إثراء مفهوم الوحدة. كما أن الإنحباس الضيق والقشري في الخصوصيات السوسيولوجية، يؤدي إلى التحاجز، ويمنع تطوير حالات العيش الواحد.

والثقافة لا تنمو وتتطور إلا في إطار احترام كل الخصوصيات والتنوعات، هذا الاحترام المستند إلى إطار قانوني وإنساني، يقوي من خيار الوحدة على قاعدة التنوع. فالخصوصيات تتحرك في فضاء الوحدة، كما أن الوحدة لا معنى لها على الصعيد الإنساني والواقعي إلا بفسح المجال لكل الخصوصيات، لكي تعبر عن ذاتها اجتماعيا وثقافيا وسياسيا.

فلكي تزدهر ثقافة شعب ما ( كما يعبر إليوت ) ينبغي ألا يكون شديد الاتحاد ولا شديد الانقسام . ففرط الوحدة قد يكون ناشئا عن التحلل وقد يؤدي إلى الاستبداد أيضا. وكلا الطرفين يعوق اطراد النمو في الثقافة.

الثقافة وخصوصيات المجتمع:

فالثقافة الوطنية ليس إنتاج خصوصية دون أخرى، وإنما هي نتاج الحراك والتفاعل بين الخصوصيات المتوفرة في الفضاء الوطني كلها. فمن خلال تنمية الجوامع والمشتركات، وتفاعل الخصوصيات مع بعضها، والتواصل بين مختلف الفعاليات الثقافية والأدبية والإبداعية، تتشكل مقولة الثقافة الوطنية. فهي نتاج المجتمع بكل خصوصياته وتنوعاته المعرفية والتاريخية.

فتغييب الخصوصيات لا يثري الثقافة، بل يجدبها، ويخرجها من دائرة الفعل التاريخي في الواقع المجتمعي. وإمعان السياسي في إبراز خصوصية واحدة، أو العمل على تذويب وصهر الخصوصيات الصغرى في خصوصية كبرى بوسائل قسرية، لا يؤدي إلا إلى المزيد من التشظي الاجتماعي والثقافي .." فالإفراط في عزل الثقافة عن معناها الخلاق، وبالتالي عن كيفيتها في إنتاج المجتمع الذي نعيش فيه، إنما يؤدي إلى خلق ثقافة مركزية منغلقة تتصور الوجود الاجتماعي من خلال تصورها، وتوجه الخطاب الثقافي (بمعناه الشامل في الحياة) من خلال ما تنتجه النخبة المركزية من أفكار تتصل بكيفية إنتاجها للمجتمع . ويورث هذا السياق السوسيولوجي للثقافة المركزية سلسلة طويلة من الإشكاليات يوازي حجمها حجم التنوع في المجتمع (ديمغرافيا وثقافيا)، وتكون ـ عادة انعكاسا لمجتمع تسوده علاقات متنوعة ومتغيرة مع الثقافة المركزية (السلطة) تتوزع بين التحالف، والولاء والانقسام والاختلاف والتمرد والعزلة. إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من المواقف التي تنتج ثقافات موازية ومتصارعة أحيانا . ولعلنا نلاحظ الآن أن حجم إشكاليات الثقافة في دول الخليج يتفاوت فيها بمقدار ما ترثه من التنوع الثقافي "(الثقافة وإنتاج الديمقراطية، إبراهيم عبدالله غلوم، ص 121، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2002م).

فالهوية الثقافية لمجتمعنا ووطننا، تتشكل من مجموع التشكيلات الاجتماعية المتعددة في منابتها وميراثها الديني وتحولاتها الثقافية، وإن أي تنكر لواحد من هذه المصادر، يفضي إلى انقسامات مجتمعة عميقة. وإن استخدام القوة والغلبة والقسر في عملية التنكر والتغييب، لا تزيد الأمور إلا تفتتا وانقساما وتشظيا.

فالتعصب الأعمى لبعض الخصوصيات والعمل على إلغاء وقهر الخصوصيات والتنوعات الاجتماعية الأخرى، يؤسس لمشروع حروب اجتماعية مفتوحة، تهدد بمتوالياتها النفسية والعملية أسس الاستقرار وعوامل الوحدة في الإطار الوطني والاجتماعي.

وذلك لأن عقلية التعصب والإلغاء، تمنع من تبلور خيار الشراكة والمشاركة لكل التنوعات في بناء الوطن وتطوير المجتمع على مختلف المستويات.

من هنا تجد أن مختلف الصيغ والطروحات التي تتداول في الساحة، لإنجاز الاستقرار وحماية الوحدة الوطنية، تصاب بالتكلس والخمول ولا ترقى إلى ممارسة دور حقيقي في الإطار المرسوم لها، وذلك بفعل أن هذه الصيغ تستند إلى خيار استبعاد العديد من مكونات التأثير والقوة من القيام بدورها في هذا السياق. فالتجانس الثقافي في الإطار الوطني، لا يأتي بالقسر وقانون الغلبة والتغييب، وإنما هو وليد حياة ثقافية واجتماعية مفتوحة على كل الاجتماعات والقراءات والآراء، وتدخل عبر أطر ومنابر وطنية في عملية حوار وجدل ثقافي لتنمية الجوامع وضبط الاختلافات والتمايزات وصياغة مشروع ثقافي وطني على قاعدة التنوع في إطار الوحدة.

التعددية الثقافية والاستقرار:

وإن التعدد الثقافي بحاجة إلى نمط من الإدارة ينطوي على قيم الحوار والاحترام والتسامح، حتى يتسنى له المساهمة الجادة في إثراء مفهوم الثقافة الوطنية. فالثقافات الهامشية لا تموت حينما يستخدم تجاهها القسر والقهر والإلغاء، وإنما تتمرس وتتمكن من استيعاب كل مفاعيل الإلغاء والقهر. بينما إعطاؤها الحرية والسماح القانوني والإعلامي للتعبير عن ذاتها، يساهم في امتصاص العناصر الإيجابية ويحول دون تأثير الواقع المجتمعي بعناصرها السلبية. فمبدأ المشاركة في بناء وتسيير الوطن، هو القادر على اجتراح وقائع وحقائق تزيد من فرص الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويحمي الوحدة الوطنية من كل المخاطر والتحديات. ولا شك أن " هناك منفعة، مصلحة يقتنصها الجميع في سياق النظر إلى الثقافة بوصفها شراكة في الإنتاج واعترافا عقلانيا شاملا بالتنوع. سنجدها تتجسد بصورة أساسية في توفر إمكانيات أوسع وأعمق في الاستثمار الثقافي، إن سباقا حقيقيا نحو الموضوعية يتحقق من جراء استثمار التنوع. بل إن النزوع الذاتي حينئذ يتمثل بوصفه تروعا إلى الموضوعية والعلموية، ومن شأن ذلك أن يعيد ترتيب الأشياء والأولويات في ضوء استراتيجية الفعل لا رد الفعل، وفوق أرضية مهيأة لامتلاك أدوات المعرفة وإنتاجها أيضا" (الثقافة وإنتاج الديمقراطية، مصدر سابق، ص 153).

الانفتاح الثقافي أولا:

 والانفتاح الحقيقي على قوى المجتمع ومكوناته المتعددة، لا يبدأ من الاقتصاد والسوق، وإنما من الثقافة. لما تشكله هذه المقولة من تعبير عميق عن مكنونات الإنسان ونسيجه الاجتماعي وعلائقه الإنسانية. فالانفتاح الاقتصادي ليس بديلا عن الانفتاح الثقافي. ونستطيع القول في هذا الإطار: أن أفق الانفتاح الحقيقي يتشكل ويتبلور من الثقافة وأنظمتها الاجتماعية.

لذلك فإن الانفتاح الثقافي الحقيقي، هو بوابة الانفتاح في مختلف المجالات والمستويات. وإذا كانت الرقابة معرقلة لحركة الاقتصاد والتجارة، فإن الرقابة في الحقل الثقافي مميتة للثقافة، ومعيقة للإبداع، وكابحة للتطور والتقدم. فكما أن التشريع الديمقراطي للحركة الاقتصادية يزيد من فرص الاستثمارات والإنتاج، كذلك فإن إرساء دعائم قانون وطني يعطي الحرية للمثقف وأطره القائمة والمرتقبة، سيساهم في تطوير الحركة الثقافية، وسيدخلها في مرحلة جديدة من العطاء والإبداع المتميز في كل الحقول.

ولعلنا لسنا بحاجة إلى إثبات، أن فسح المجال للثقافة والمثقفين من القيام بدورهم ووظائفهم العامة، لا يضر بمفهوم الأمن الوطني، بل هو رافد من روافد تعميق خيار الأمن والاستقرار في الوطن والمجتمع.

والحوار الثقافي والتواصل الفكري بين مختلف المكونات والتعبيرات، لا يهدد الاستقرار الاجتماعي، وإنما يثريه ويزيده صلابة وتماسكا.

وإن الاشتغال الثقافي والسياسي على إلغاء التنوعات الاجتماعية ومنعها من التعبير عن ذاتها ثقافيا وإعلاميا وسياسيا، لا يصنع نسيجا اجتماعيا متماسكا، وإنما هذا الاشتغال يزيد من تمسك هذه التنوعات بخصوصياتها،وبحثها عن سبل أخرى للتعبير عن ذاتها ثقافيا وسياسيا.

وجماع القول في هذا الإطار: إننا بحاجة إلى رؤية سياسية واجتماعية جديدة في التعامل مع التنوعات والتعدديات (التقليدية والحديثة) المتوفرة في مجتمعنا ووطننا. وهذه الرؤية قوامها أن هذه الحقائق لا يمكن نفيها وإقصاءها من الواقع المجتمعي، وإنما نحن بحاجة إلى التعامل معها على قاعدة الاحترام وفسح المجال القانوني لها للتعبير عن ذاتها، وذلك لإثراء مفهوم الوحدة الوطنية، وتمتين جبهتنا الداخلية في وقت نحن أحوج ما نكون إلى التراص والائتلاف وتجاوز الثغرات الداخلية للبناء الوطني.

التنوع والقانون:

  فالبناء القانوني السليم، وسيادة القانون، وتوسيع حق المشاركة في الشؤون العامة كلها عوامل تساهم في توطيد أسباب الوحدة الوطنية، وتعمق من خيار البناء والعمران، ولا يمكن الحصول على الاستقرار والتقدم الثقافي والاجتماعي من خارج حركة المجتمع بخصوصياته وتنوعاته. لذلك فإن الإنصات إلى حقيقة التنوع والتعدد في المجتمع، هو البداية الحقيقية والخطوة الأولى في مشروع الاستقرار وبناء الوحدة الوطنية على قاعدة صلبة وذات عمق تاريخي. فالتنوع والتعدد في المجتمع ليس انقساما وتشرذما، وإنما هو حقيقة تاريخية ومجتمعية ينبغي أن ننطلق منها في عملية التوحيد والائتلاف، وتشريع قوانين وطنية جريئة، تحمي التعدد، وتتعامل معه باعتباره جزء من قوة الوطن ومنعته.

فالوحدة الوطنية هي محصلة كل الجهود والمبادرات التي تطلقها جميع التنوعات والتعدديات في إطار ترسيخ خيار العيش المشترك(الواحد) والوحدة الداخلية للمجتمع.

الوحدة وحق الاختلاف:

فالوحدة الحقيقية ليست ضد حق الاختلاف واحترام المغاير، كما أن حق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى والانقسام والتشرذم. فالتنوع المحاط بالحرية والتسامح، هو الذي يصنع الوحدة، وهو الذي يضبط الاختلاف لكي لا يتحول إلى تفتت وتشظي، وهو الذي يجعل احترام المغايرين وسيلة الاستيعاب والتفاعل.

فقد مضت أزمنة التوحيد القسري وإلغاء الخصوصيات، وذلك لأن هذه التجارب البشرية لم تزد الواقع الإنساني إلا تشتتا وانقساما وحروبا. وأي فئة أو مجموعة بشرية تتطلع إلى السيادة والغلبة على قاعدة نفي التنوعات ومحاربة مظاهر التسامح والاختلاف فإن مآلها السقوط والفشل، وذلك لأن جميع القوى الإنسانية أدركت أن القهر لا يلغي حقها في التعبير عن ذاتها، وأن الاستبداد ليس سبيلا إلى التمكن والاستقرار، بل على العكس من ذلك حيث أنه هو الذي يساهم بمتوالياته الاجتماعية في تكثيف لحظات الإحساس والشعور بالذات وخصوصياتها المتعددة. فنحن مع " احترام الاختلاف بوصفه سبيلا للاتفاق، والاعتراف بالتباين بوصفه دليلا على العافية، وتأكيد أنه ما من أمل في سلام البشرية ما ظلت حضارة من الحضارات أو ثقافة من الثقافات أو أمة من الأمم تمارس قهرا سياسيا أو فكريا أو أخلاقيا على غيرها من الحضارات أو الثقافات أو الأمم بدعوى أن الطبيعة والتاريخ ميزاها على غيرها بما لا يمتلكه سواها، فمستقبل البشرية مرهون بالاحترام المتبادل، والتخلي عن رواسب التمييز العرقي أو التعصب المذهبي، والتسليم الذي لا رجعة فيه بأن إنكار الخصائص الثقافية أو الحضارية لشعب من الشعوب، إنما هو نفي لكرامة هذا الشعب وكرامة الإنسانية جمعاء " (راجع مقدمة كتاب: التنوع البشري الخلاق، تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية، الطبعة العربية، المشروع القومي للترجمة (27)، 1997م).

ولكن السؤال هو: كيف نتيح لحالة التنوع أن تقودنا إلى التعايش والوحدة وليس إلى الانقسام والحروب. ولا ريب أن الإجابة على هذا السؤال المركزي، يعد من القضايا الأساسية التي تساهم في خلق رؤية جديدة لواقع التعدد والتنوع في واقعنا ومجتمعنا. وأن صون الحقوق الثقافية والسياسية للتنوعات هو السبيل الذي يوصلنا إلى أن تكون حالة التنوع طريقا للتعايش والوحدة بدل أن تكون سببا للانقسام والحروب. وما نود أن نبلوره في هذه الدراسة، هو الحقوق الثقافية للتنوعات والتعدديات المتوفرة في فضائنا الاجتماعي. فما هي حقوق التنوعات الثقافية؟

الحرية الثقافية:

وذلك عبر السماح لكل التنوعات الاجتماعية من توفير مصادرها الدينية والفكرية، حتى يتسنى لكل الأجيال من التواصل المباشر والحر مع هذه المصادر.

وهذا من الحقوق الثقافية الأصيلة والرئيسة لكل التنوعات الاجتماعية، بصرف النظر عن أحكام القيمة تجاه هذه المصادر. وإن كل أشكال محاربة وإقصاء هذا الحق الطبيعي، يعد وفق المقاييس الإنسانية والحضارية، تجاوزا نوعيا وخطيرا على قيم التعددية والتسامح وحرية العقيدة والرأي والتعبير.

لهذا فإننا نرى أن التنوعات الاجتماعية، بحاجة إلى إطار قانوني في إطار وحدة الوطن والمجتمع، حتى يتسنى لها من خلال هذا الإطار ممارسة شعائرها والتعبير عن ذاتها الثقافية، وتتواصل بحرية مع مصادر وأمهات كتبها الدينية والتاريخية والعقدية.

وإن منع هذه التنوعات من التواصل الحر مع مصادرها العقدية والثقافية، تحت دعاوى الحفاظ على الوحدة والوئام الاجتماعي، لا يؤدي إلى إرساء دعائم الاستقرار الثقافي والاجتماعي، بل العكس من ذلك تماما. إذ أن هذا المنع، يزيد من الاحتقانات، ويوفر فرصا عديدة لتجاوز القانون والدخول في مواجهات تهدد حالة الاستقرار والوحدة الوطنية .

فالحرية الثقافية بكل مفرداتها وآفاقها، حق طبيعي لكل التنوعات، وعلى مؤسسة الدولة أن تصيغ وتبلور قانونا يكفل هذا الحق لكل التنوعات والتعبيرات الثقافية والاجتماعية المتوفرة في المجتمع.

وإن الوحدات الاجتماعية والسياسية والوطنية القائمة اليوم في أصقاع الدنيا، ليس بسبب التجانس التام بين مكونات هذه الوحدات. فهي قائمة على التعدد واحترامه . والطريق الذي تعلمنا إياه التجارب لوحدة المتنوعين هي في خلق النظام الاجتماعي والثقافي والسياسي المتوازن والمرن في آن .

بناء الأطر والمؤسسات:

فتشكيل الأطر والجمعيات والمؤسسات الثقافية والأدبية والإبداعية الأهلية، هو حق ثقافي ـ طبيعي لكل التنوعات المتوفرة في المجتمع.

وهي مؤسسات تعنى بتنمية العمل الثقافي الوطني، واستيعاب كفاءات الوطن، والمساهمة في معالجة بعض المشاكل الاجتماعية والثقافية، والتي تتطلب تكاتف الجهود في سبيل بلورة رأي وموقف وطني تجاهها .

والتنوعات الاجتماعية، تعبر عن ذاتها الثقافية والاجتماعية من خلال هذه الأطر والمؤسسات، وتعمل على توفير كل متطلبات الساحة الثقافية والأدبية .

وإن غياب هذه التشكيلات القانونية، هو الذي يساهم في تشرذم النخب الثقافية والأدبية أو في انخراطها في أطر وأوعية غير رسمية تمارس من خلالها دورها ومسؤوليتها .

وإن المرحلة الراهنة تتطلب إطلاق مؤسسات المجتمع المدني (التعاقدي) لكي تمارس دورها في بناء الوطن وتنمية المجتمع وإشاعة ثقافة العمل المؤسسي، بحيث يتوفر الإطار القانوني لكل المبادرات الفردية والأهلية، التي تتطلع إلى تشكيل مؤسسة أو بناء جمعية وهيئة.

الحماية القانونية:

فصيانة حقوق الإنسان واحترام كرامته وخصوصياته الذاتية والثقافية، والعمل على سن القوانين والأنظمة التي تحول دون التعدي على هذه الحقوق أمر مطلوب في هذا السياق. فالاختلافات المذهبية والقبلية والعرقية والدينية، لا تبرر بأي شكل من الأشكال التعدي على حقوق الآخرين . فكل القناعات الدينية محل احترام وتقدير . والاختلاف في الفكر والانتماء، لا يقود إلى التعدي على الآخرين في وجودهم وأفكارهم، بل على العكس من ذلك، حيث إننا مأمورون دينيا من احترام الآخرين وممارسة العدل تجاههم والإحسان إليهم .. قال تعالى [يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون] (سورة المائدة، الآية 8).

 وعن معاوية بن وهب قال: قلت له عليه السلام: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قــومنا وبين حلفائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ فقال: تنظرون إلى أئمتكم الذي تقتدون بهم فتصنعون، فو الله إنهم ليعودون مرضاهم ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويــؤدون الأمــانة إليهم. (موسوعة الكتب الأربعة في أحاديث النبي والعترة،أصول الكافي ج 2، محمد بن يعقوب الكليني، ص 600، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1990م).

فلا نحارب الآخرين بسبب أفكارهم وآرائهم، كما إننا ينبغي أن لا نمارس عملية الإقصاء والإلغاء تجاه الآخرين بفعل اختلافنا معهم في دائرة من دوائر الانتماء لدى الإنسان . فالمطلوب دائما وفي كل الأحوال، ومن كل الأطراف، هو العمل على صيانة حقوق الإنسان وعدم امتهان كرامته . فالإنسان مطلقا مصان في ذاته وكل ما يتعلق به من أمور وقضايا. " والاحترام يفوق التسامح، فهو ينطوي على موقف إيجابي تجاه الغير في تعددية خلاقة . ولا يمكن لأصحاب القرار أن يقننوا الاحترام بالتشريعات، ولا يستطيعون إكراه الناس على احترام الغير . ولكن يمكنهم أن يدعموا الحرية الثقافية باعتبارها من الدعامات التي تقوم عليها الدولة . والحرية الثقافية، على خلاف الحرية الفردية، هي حرية جماعية .

فهي تشير إلى حق جماعة من الناس في أن تتخذ ما تشاء من أساليب الحياة . والحرية الثقافية هي ضمان للحرية ككل . فهي لا تحمي الجماعة وحسب، بل تحمي حق كل فرد من أفرادها . والحرية الثقافية بحمايتها لمناهج حياة الغير، وتشجع على التجريب والتنوع والخيال والإبداع " (التنوع البشري الخلاق، مصدر سابق، ص 13).

المشاركة وتكافؤ الفرص:

إذ أن من الحقوق الثقافية لكل تنوع اجتماعي، حق المشاركة في الحياة الثقافية الوطنية وتكافؤ الفرص، بحيث أن الإمكانات الثقافية الرسمية تصرف وتوزع بالتساوي، ويحق لكل الكفاءات والطاقات الوطنية أن تصل إلى أعلى المناصب والمسئوليات الثقافية . وأن لا تكون للانتماءات الطبيعية أو الحديثة دور في منع أو تهميش إنسان أو طرف من ممارسة دوره ومسئولياته على الصعيد الثقافي . فكما أن الثقافة الوطنية هي محصلة التفاعل الخلاق بين مجموع التعبيرات والمكونات، كذلك آفاق الحياة الثقافية وإمكاناتها، فإنها مفتوحة للجميع بدون التنوعات والخصوصيات، وإنما على قاعدتها ومن خلال التعامل الحضاري معها تتم المشاركة في تفعيل وتنمية الحقل الثقافي في الوطن والمجتمع .

والسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحققان في أي مجتمع متنوع ومتعدد إلا على قاعدة نفي التمييز والتعامل الحضاري من كل أشكال التعددية في المجتمع ومشاركة هذه التعبيرات في البناء والإدارة وتسيير الشئون العامة، هو المؤشر الأقصى لارتقاء هذا المجتمع وتوفره على سلم مجتمعي صلب واستقرار سياسي متين .

وعلى هذا نستطيع القول: أن محاولات التطهير العرقي والتمييز الطائفي والتعصب الديني وممارسة العنصرية، كلها قضايا وممارسات لا تفضي إلا إلى المزيد من التدهور الاجتماعي والفوضى السياسية والانهيار المجتمعي .

فالكراهية لا تصنع استقرارا والإكراه لا يقود إلى تغيير حقائق التاريخ والمجتمع . فالمشاركة لا تحمي الجماعات الخاصة فقط، " بل تحمي المجتمع بأسره حاضرا ومستقبلا . وعدم التفرقة ليس شعارا يرفع أو مقولة تقال، بل هو نظام قانوني ينص على ذلك، وممارسة مستديمة من مختلف المواقع تؤكد على خيار المساواة واستيعاب جميع مكونات الوطن والمجتمع .

ويعرّف مصطلح عدم التفرقة في القوانين الدولية والإنسانية، بأنه المساواة في الفرص أمام الأفراد دون اعتبار للجنس والدين، والعرق، والأصل الاجتماعي، واللغة والثروة . وذلك في القانون وسلوك الحكومة والأعمال الفعلية .

وتؤكد التوجيهات الإسلامية على ضرورة أن يتعامل الإنسان مع الآخرين بمقتضيات العدالة . قال تعالى [ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم] (سورة فصلت، الآية 34) .

فالتعامل الإيجابي مع الآخرين، هو الكفيل على امتصاص تشنجهم واستيعاب سلبيتهم، فتتحول من جراء التعامل الأخلاقي الرفيع إلى معرفة متبادلة قائمة على الصدق والاحترام العميق، ونبذ كل أشكال الضغائن .

وعديدة هي القصص الإنسانية التي تـــــؤكد على هذه الحقيقة . ويكفينا أن نشير أن أخلاق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الراقية أدخلت الكثير من الكفار والمشركين إلى الإسلام . فأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم ومداراته للناس وحسن تعامله معهم نقلت الكثير من الناس من موقع معاداة الإسلام إلى موقع المؤمن المدافع عنه. لذلك جاء في الحديث الشريف (دار الناس تستمتع بإخائهم، وألقهم بالبشر تمت أضغانهم) (ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 3، ص 240، الدار الإسلامية، لبنان) . و (ما كرهته لنفسك فأكرهه لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحبه لأخيك، تكن عادلا في حكمك، مقسطا في عدلك، محبا في السماء، مودودا في صدور أهل الأرض) (ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج 6، ص 86).

و(ثلاث خصال تجتلب بهن المحبة: الإنصاف في المعاشرة والمواساة في الشدة والرجوع على قلب سليم) (ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج 2، ص 205).

فالعلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية في الإطار الوطني والإنساني، ينبغي أن لا تكون قائمة على أساس التمييز والمفاضلة، وإنما على قدم المساواة، والكفاءة بصرف النظر عن منبتها وأصلها هي التي تتحمل المسئولية العامة . ولقد نصت المواثيق الدولية على حق التعبيرات الدينية والثقافية في التمتع بثقافتهم وممارسة شعائرهم الدينية واستخدام لغتهم، والمشاركة في الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والعامة، وفي عملية اتخاذ القرار فيما يتعلق بالأقلية التي ينتمون إليها وتكوين اتحاداتهم والرقابة عليها، وإقامة علاقات حرة وسلمية مع سائر جماعات الوطن أو مواطني الدول الأخرى ممن يمتون لهم بصلة قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية .

وخلاصة الأمر: إن التنوع الاجتماعي حقيقة إنسانية وتاريخية، ونحن بحاجة إلى رؤية حضارية جديدة للتعامل مع هذه الحقيقة، بما يؤدي إلى توظيف هذا التنوع في سياق إثراء مفهوم الوحدة الوطنية وتعميق خيار التعايش الواحد والسلم المجتمعي.

***

محمد محفوظ

يستند المورمونيون في نسخهم واجتراءاتهم على الكتابات المقدسة بخاصة، والديانات الإبراهيمية (الزرادشتية، الصابئة المندائية، اليهودية، السامرية، المسيحية، الإسلامية، السيخية، الطائفة الدرزية، البابية، النصيرية، الراستفارية، المعتقدات الباطنية) بعامة، على كونها – أي الديانة المورمونية – واحدة من الديانات المكتملة الأركان (وحي، نبي، كتاب مقدس، معبد، عُباد وأتباع) وذلك فضلًا عن انتمائها إلى الديانات التوحيدية. ويبرر لاهوتيوها أيضا نسخهم للشرائع السماوية السابقة على دعوتهم بسنة تلك الأديان وعلى رأسها المسيحية والإسلام والفرق والملل والطوائف والمذاهب ذات الصلة بتلك.

وخليق بنا قبل الخوض في قضية نسخ العقائد عند المورمونيين الوقوف بالنقد والتحليل على مصطلح الديانات الإبراهيمية، وذلك لأهميته حيث المشكلات والقضايا التي تثار في محيطه العقدي والفلسفي والسياسي من جهة، ودوره في تشكيل بنية العديد من المصطلحات المعاصرة وعلى رأسها مصطلحي وحدة الأديان وما بعد الدين وهو كذلك من أكثر المصطلحات انتشارًا في الأبحاث الفلسفية المعاصرة المعنية بتاريخ ومقارنة الأديان وتطور الفكر العقدي في العالم بوجه أعم من جهة ثانية.

الديانات الإبراهيمية:

يصعب على الناقد المحلل التأصيل لهذا المصطلح في ضوء الكتابات التاريخية، ويرجع ذلك لندرة الوثائق من جهة، وتشعب المصادر من جهة أخرى. فالديانة الإبراهيمية قد أرخ لها اليهود في كتابهم المقدس بـ 1900 ق.م وجعلوها أصل لكل الملل اللاحقة التي يعتبرونها هرطقات باطلة وتجديفات كاذبة، وذلك باستثناء الديانة الموسوية التي جاءت بالتوراة بعد ضياع صحف إبراهيم وهي الشريعة الأم التي تحمل كلام الرب وناموسه. أما المسيحية فهي تعتبر نبي الله إبراهيم من أكابر الأتقياء وأوائل الأصفياء وهو أب كهنوتي للسيد المسيح وذلك بحسب ما ورد في إنجيل متى (1:1) وكذلك في رسالة غلاطيا للقديس بولس (16:3) وهو كذلك أب لبني إسرائيل بحسب بما ورد في أعمال الرسل (26:13)، وهو بالجملة أرفع وأسمى قدراً ومثالاً بشرياً على الإيمان بالإله، وقد أكدت ذلك أقوال يسوع بنفسه في العهد الجديد. وجاء القرآن مؤكداً أن الدين عند الله الإسلام، والإسلام هو دين الحنفية “ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”.

وقد أضحت بذلك الديانة الإبراهيمية هي الأصل الملي والمصدر الشرعي للعقائد السماوية، الأمر الذي أعطى للمصطلح مشروعية الانتشار في الأحقاب التاريخية المتواترة رغم غيبة التوثيق التاريخي لبنية الفكرة والمصطلح معًا.

وللكتابات الماسونية رأي آخر فيحدثنا محمد رشاد فياض رئيس محفل الشرق الأعظم الذي تأسس عام 1717م ببريطانيا أن مصطلح الديانات الإبراهيمية كان يتردد بين الأساتذة الماسونيين وفي جلساتهم المؤسسة لفكرة وحدة الأديان ويقول في ذلك: “الميمات الثلاث في الموسوية والمسيحية والمحمديّة تجتمع هكذا في ميم واحد وهي ميم الماسونية، وأن باء البوذية والبرهمية تجتمع أيضاً في باء البناء – بناء هيكل الإنسان – ثم يقول: الماسونية ليست عمالة لأي ديانة أو عنصرية معينة، إنها عقيدة العقائد وفلسفة الفلسفات وبالمبادئ الإنسانية هي مزينة”.

وقد تردد هذا المفهوم بين أوساط المثقفين والساسة والفلاسفة، وبات شائعاً منذ عام 1811م في كتابات الروحيين وعلى رأسهم جماعة الثيوصوفية والفرق الباطنية الصوفية فضلاً عن المحافل الماسونية في مصر والشام وتركيا.

ثم جاء الفيلسوف والمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (1883-1962) الذي يعد بحق الآب الروحي لهذا المصطلح في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، فيرجع له الأثر الأكبر في الجمع بين التصور العقدي والتوظيف الماسوني والأيدلوجيّة السياسية، لهذا المصطلح، وذلك منذ مؤتمر الجزائر للمستشرقين عام 1906م، ومؤتمري الأديان في أثينا ولندن عام 1912م. ثم جماعة (البدلية) في دمياط بمصر عام 1934م مع ماري كحيل الحلبية (1889-1979م) التي أسست العديد من الجمعيات الخيرية للإخاء الديني أشهرها جماعة (إخوان الصف) بمصر عام1941. وأخيرًا أعلن صراحة عن مشروعه عن الديانة الإبراهيمية في مقاله الأشهر عام 1949م وكتابات تلميذه الكاهن الماروني اللبناني يواكيم مبارك (1924-1995م) الذي انصرفت جهوده لتدعيم الحوار بين الإسلام والمسيحية. وجميعهم كان يرمي إلى نسخ الأديان السماوية الثلاثة بالإضافة إلى بعض الديانات الوضعية والطوائف في سياق واحد؛ ليسهل في البداية السيطرة عليها بعد تحليل بنية ثقافاتها وإتاحة الفرصة أمام الماسونيين والسياسيين للتخطيط لتقسيمها.

في أخريات القرن العشرين يظهر في الأفق دور المخابرات الأمريكية والصحف الأوروبية والجامعات ذات الصلة المباشرة بالماسونية وعلى رأسهم جامعة هارفرد، ذلك للترويج للديانات الإبراهيمية بمعان ودلالات براقة تبعًا للثقافة السائدة المراد نشر المصطلح فيها. وذاعت رسالة وقصة السجين المصري في أمريكا ويدعى (سيد نصير- 1955م) وهو فنان بورسعيدي حصل على الجنسية الأمريكية وأدين بالتورط في قتل “الحاخام مائير كاهانا” زعيم حركة كأخ الإسرائيلية المتطرفة في 1990م وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفحوى رسالته هو ضرورة الجمع بين شتات الموحدين ودياناتهم وعلى رأسها الديانات الإبراهيمية السماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وتلقف هذه الرسالة الفيلسوف السويسري هانس كونج (1928-2021م) الذي جعل الأخلاق التطبيقية أساس الحوار بين الأديان الإبراهيمية وأقوى الروابط التي توحد بين المؤمنين بها وذلك في المؤتمر الذي دعا إليه تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية الصادر عن اليونسكو عام 1995م.

والسياسيان الأمريكيان ديك تشيني (1941م) والرئيس أوباما (1961م) في مطلع الألفية الثالثة، ثم مع دعاة التطبيع وعلى رأسهم ترامب (1946م) ونتنياهو (1949م) عام 2020. وأخيراً اتفاق أبراهام الذي عقد في البيت الأبيض أغسطس 2020م بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، فظاهره تسامح عقدي وباطنه علمنة ماسونية وجوهره تطبيع صهيوني وهيمنة أمريكية وما خفي كان أعظم.

والذي يعنينا في هذا المقام هو الكشف عن أبعاد المصطلح الذي تبنته الديانة المورمونية وبات البرهان الذي احتج به أنبياءها أمام الأغيار المعترضين على اجتراءاتها ونسخها للديانات السابقة عليها.

والجدير بالملاحظة في هذا السياق أيضا أن الديانة المورمونية في أمريكا لها نظير آخر في إفريقيا وهو متمثل في الديانة الراستافارية التي ظهرت عام 1930م بأثيوبيا وهي من أكثر المتأثرين بالمورمونية في معظم معتقداتها ولاسيما في قضية النسخ إذ جعلت من هيلاسيلاسي عوضا عن المسيح في قيادة الديانة المسيحية وحرب آخر الزمان.

وإذا ما عدنا للأعمدة الرئيسة التي تربط بين الديانات الإبراهيمية سوف نجدها تتلخص في : وحدانية الإله، المقصد العام لشريعة السماء، الإيمان بالبعث والآخرة حيث الثواب والعقاب، ذلك فضلاً عن يوم القيامة والصراع السابق عليه بين قوى الخير التي يقودها أحد الأبرار من الأنبياء أو الأتقياء (المسيا، يسوع، المهدي)، وأولياء الشيطان وقوى الشر.

حجية النسخ المورموني:

يجتهد أنبياء المورمونية المتتابعين في استنباط أدلتهم على مشروعية نسخهم للشرائع بحجتين : أولها نقلية مستمدة من العهد الجديد، والثانية عقلية لا ينكرها إلا المغيبون والحمقى لأنها تتصل بالواقع المعيش وكل مقتضيات العصر من علوم وفلسفات ونظم وسياسات. ومن الأدلة النقلية ما جاء به يسوع في العهد الجديد إذ قام بإلغاء بعض الأحكام وتعديل البعض الآخر؛ إذ جعل أسفار العهد الجديد (27) ناسخة لما ورد في أسفار العهد القديم (39)، وفضّل عطلة الأحد عوضًا عن السبت، معمدية المنتمين عوضًا عن الختان، والقربان عوضاً عن الذبائح، واستقبال القبلة إلى الشرق عوضًا عن جدارية “مزراح” بالقدس. كما عطل عقوبة الرجم للزاني والزانية التي رواها أبو التاريخ الكنسي يوسابيوسالقيصري (265-339م) لضعف مصدرها، وقدم التسامح والسلم على القتال والقصاص. وقد تحدثنا فيما سبق عن بعض التعديلات التي أجراها نبي المورمون على الكثير من المعتقدات اليهودية والمسيحية وها نحن نكمل ما بدأناه في السطور التالية.

جاء في إنجيل لوقا على لسان يسوع (36:39 – 5) قوله: “ليس أحد يضع رقعة من ثوب جديد على ثوب عتيق والا فالجديد يشقه والعتيق لا توافقه الرقعة التي من الجديد، و ليس احد يجعل خمرا جديدة في زقاق عتيقة لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق فهي تهرق والزقاق تتلف؛ بل يجعلون خمرا جديدة في زقاق جديدة فتحفظ جميعا، وليس أحد إذا شرب العتيق يريد للوقت الجديد لأنه يقول العتيق أطيب”.

يبدو أن جوزيف سميث تأثر بهذا القول عند تعديله أو نسخه للأقوال والأحداث والقصص والأحكام الشرعية الواردة في الكتاب المقدس، فجعل النسخ لاغيًا لما قبله وليس مكملًا أو معدلًا أو شارحًا، وبنفس المعيار أوّل قانون الإيمان ومفهوم الخلاص وحقيقة الصراع الذي سوف يأتي في آخر الزمان. غير أنه أهمل قول يسوع أيضاً الذي ورد في إنجيل متى (5- 22:17) ’’لا تظنوا اني جئت لانقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لانقض بل لأكمل، فاني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل؛ فمن نقض احدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات    وأمّا من عمل وعلم فهذا يدعى عظيماً في ملكوت السماوات؛ فإني أقول لكم إنكم ان لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات، قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم، وأما أنا فأقول لكم ان كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع ومن قال يا احمق يكون مستوجب نار جهنم’’.

ويشير القول السابق إلى وحدة الناموس وحرص يسوع على تصحيحه أو تعديله وليس إلغاءه كلية كما فعل أنبياء المورمون.

ويبدو أن نبي المورمونيين قد حاول الجمع بين المنحى التفكيكي في قراءة النص المقدس تارة والنهج البنيوي النسقي السياقي تارة أخرى، والتأويل الذاتي الحر تارة ثالثة. لذا قد اختلف المفسرون حيال موقف نبي المورمونية من الديانات السابقة، فذهب البعض إلى أن الأساس الذي أقام عليه دعوته النقضية قد انطلق من تعاليم أريوس المنطقي ولا سيما في قضية (الكروستولوجي) أو طبيعة المسيح وقانون الإيمان النيقي، في حين ذهب البعض الآخر إلى أن الأثر الأكبر الواضح في كتاب المورمون هو الأثر التوحيدي المصري والفكر العقدي الإسلامي الذي تأثر به سكان أميركا قبل نزوح الأوروبيين إليها أي في الفترة التي اكتشف فيها العرب المسلمون وجود القارة الأمريكية على الشاطئ الثاني من المحيط الأطلنطي أو بحر الظلمات كما كانوا يسمونه، حيث كان سكان هذه الأرض من الموحدين المؤمنين بوحدانية الإله من المنظور الإخناتوني والتعاليم الإسلامية.

وتشهد بذلك كتابات أمير البحار الأندلسي خشخاش بن سعيد بن أسود (871/957م). وعثور لويس بيركلي على آنية من الخزف تحوي نقوداً رومانية ترجع إلى القرن الرابع الميلادي وأخرى إسلامية تعود إلى القرن الثامن الميلادي وذلك في القرن التاسع عشر. وتقطع هذه القرائن بأن الأفكار العقدية والثقافة الرومانية والإسلامية كانت معروفة لسكان الأرض الأمريكية في تلك الأحقاب التاريخية. ونستخلص من ذلك كله أن الإشارات التي وجدت في كتاب المورمون تحدثنا عن الأثر المصري واليوناني وتعكس دراية نبي المورمونية بتلك الحقائق عند وضع روايته عن الألواح الذهبية المقدسة التي اتخذ منها حجّة على نبوته.

وللحديث بقيّة

***

بقلم : د. عصمت نصار

 

لقد اجتهد اللاهوتيون المورمونيون في ابتداع الكثير من المعتقدات عوضاً عن مثيلاتها في العقيدة المسيحية الأرثوذكسية والإنجيلية، لذا قوبلت بالارتياب في مصدرها والشك في مصداقية تعاليمها (من قبل جل الطوائف اليهودية والمسيحية معاً)، لأنها لا تحمل في بنيتها مقاصد مقبولة عند المُفكرين الوضعيين أو الفلاسفة العقليين من جهة، أو المتدينين العوام من جهة أخرى. في حين نجد من استهوتهم كتابات المورمونيين وأحاديثهم – التي روجت لها عشرات قنوات الإعلام من صحف وإذاعات وقنوات تلفزيونية ومواقع بحثية وجامعات لاهوتية بـ 15 لغة من بينها العربية والفارسية- لا يعبئون بجحود معارضيهم، بل زاد إيمانهم بتصريحاتهم الجامحة وشرائعهم الجانحة. ويبرر العديد من المحللين جرأتهم واجترائهم، بقوة نفوذ موجهيهم من أصحاب رؤوس الأموال والساسة والمشاهير من الفنانين والرياضيين. ناهيك عن الأموال التي ينفقونها في جمعياتهم الاجتماعية وقوافلهم التبشيرية، فقد بلغت دخول أثريائهم نحو 50 مليار دولار سنويا، وقد سعى منظريهم بشغل العديد من الوظائف المؤثرة في أمريكا ورُشح أحدهم وهو السيناتور ميت رومني  (1947- …) من قبل الحزب الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عام 2012 رغم كراهية الأمريكان لهم ونفور المسيحيين واليهود من وجهتهم الصهيونية.

وترجع العديد من الدراسات (المعنية بنقد الديانات الحديثة) أن ادعاء أنبياء المورمونية بأنهم مفوضون في نسخ الشريعة (نقض، إلغاء، تعديل، تأويل) أو بالإضافة على ما ورد بها من أوامر ونواهي تبعاً لمقتضيات الواقع والثقافة السائدة، هو العلة الحقيقية لشطحاتهم وبدعهم. تلك الحقيقة التي كشفت بوضوح عن تأثرهم الكبير بالديانات الوضعية التي خرجت من رحم الحركات الصهيونية أو الاتجاهات اليهودية على أنها ثورات حداثية أو حركات إصلاحية من جهة، أو المخططات الماسونية من جهة أخرى. تلك التي أرادت مصادرة المذهب البروتستانتي إلى وجهتها الفلسفية النقديّة في قراءة النصوص المقدسة أو تخليص الديانتين اليهودية والمسيحية من الشرائع غير المقبولة في نظر الاتجاه العلماني المعاصر. وسوف نعرض في عجالة لأهم تلك المخالفات والمؤثرات.

ــ عقيدة الخلاص والفداء:

يميز المورمونيون بين الخلاص العام وهو “خلاص النعمة” لكل الموجودات المُكلفة من إنس وجان وشياطين، فجميعهم سوف يتم خلاصهم بموجب بعثهم من الموت وذلك بحسب أعمالهم منذ ولادتهم الأولى. وسوف ينقسم الذين تم خلاصهم وحسابهم في الملكوت السماوي إلى درجات يُقدرها إله السماء بغض النظر عن دياناتهم التي اعتنقوها منذ نشأتهم. فالبعث والحساب عند المورمونيين يُعد ضرباً أو درجة من درجات الخلاص. أما الفُجار من الإنس والجان فلا يُبعثون ولن يتم خلاصهم وذلك لإنكارهم الحقيقة الإلهية وكفرهم بالإيمان الرباني.

أما الخلاص الخاص فلا يحظى به إلا الأتقياء والأبرار وأصفياء الروح والأنفس، فهم دون غيرهم تبعث أرواحهم في المعية الإلهية فمعظمهم من المورمونيين والرسل والصالحين من أرباب الديانات الأخرى والذين شفع لهم ذويهم وأهدوا لهم كتاب المورمون بعد موتهم، فجميع هؤلاء سوف يُخلدون في مملكة السماء – شأن العودة الأبدية عند الهندوس وأفلاطون والاحتراق الكلي عند الرواقيين والنيرفانا عند البوذيين، أو عالم الخلود عند المصريين حيث الجيل الذهبي الذي تحدث عنه أفلاطون.

أما الأشرار والعصاة وشياطين الإنس والجن لهم مراتب أيضاً في الحساب الأخروي، فأشرار البشر يُحشرون في مكان يدعى “مملكة تلستال” وهي أدنى ممالك السماء لينالوا قدراً من العقاب على ما ارتكبوه من ذنوب وآثام، في حين يُسجن الشياطين في مملكة الجحيم الأبدي، بينما يسكن جاحدي النعمة وأرباب الخطايا من المورمونيين “مملكة تريستال” وهي أقل درجات التعنيف والتوبيخ وعدم القبول الإلهي، وذلك لأنهم شعب الله المختار الذين أمانوا بالمورمون غير أن الشيطان نجح في إغوائهم. وهؤلاء لن يخلدوا في عالم العصاة، بل سوف يقضون فيه حقبة من الزمان حتى يتم تطهيرهم ويحظون بالمغفرة الربانية.

فعقيدة البعث عند المورمونيين تتصل بعقيدة الفداء وعودة المسيح في آخر الزمان فقد أراد رب السماء أن يطمئن أبناء آدم من البشر وأقرانهم من الجن والعفاريت -الذين حاكوا البشر الآدميين في أفعالهم – بأن أباهم السماوي قد غفر خطيئة آدم وأرسل أكبر أبنائه الإلهيين وهو يسوع بن مريم ليُسفك دمه ويموت على الصليب فداءً وخلاصاً لهم. وسوف يتم لهم ذلك بعد قيامهم من بين الأموات فلا يُحاسبون على جحد آدم نعمة الميلاد البشري وخطيئته الأولى، ولكنهم سوف يُحاسبون عن خطاياهم اللاحقة وذنوبهم التي ارتكبوها رغم تحذيرهم من عقوبة مخالفتهم للناموس في حياتهم الأولى على لسان الأنبياء والرسل والمرشدين. كما أن العدل الإلهي يقتضي بألا يُخلّص سوى الأتقياء وأن ملكوت السماء لا تُفتح أبوابه إلا أمام الأخيار والأبرار ودونهم يسكنون طبقات أدنى؛ الأمر الذي يكشف زيف المعابد اليهودية رواية الكنائس المسيحية – في نظر المرمونيين – التي تُعلّم بأن مجيء المسيح وصلبه يكفي لخلاص من أمن به وبألوهيته.

وقد تأثر سميث في ذلك بعقيدة “الكارما الهندية” “الجزاء من جنس العمل”. وقد عدّل سميث بذلك شعار (شعب الله المختار) من اليهودية و(خراف بني إسرائيل الضالة) من المسيحية، وجعله حكراً على المورمونيين فقط.

ويمكننا أن نلاحظ تسامح أنبياء المورمونية مع الأغيار أي الذين لم يؤمنوا بتعاليمهم، ويتمثل ذلك في الاعتراف بخلاص خيارهم ونجاته من العقاب، وإن كان في مرتبة أدنى من المورمونيين، وذلك على العكس من الديانات السماوية الثلاث التي تؤكد أن شعب الله المختار في اليهودية والمسيحية هم الذين سوف يتم خلاصهم فقط، وإلى مثل ذلك ذهبت بعض الفرق الإسلامية المعاصرة مثل الخوارج وغلاة الشيعة وداعش ومن نحا نحوهم من الذين أولوا مصطلحي الفرقة الناجية وخير أمة.

 ــ معمودية الأموات:

لم تتوقف رسالة المؤمنين بالعقيدة المورمونية عند تعميد أبنائهم في سن الثامنة أو هداية ذويهم الأحياء ليتم خلاصهم، بل اضطلعوا بمهمة أخطر ألا وهي تخليص أباءهم الذين ماتوا على ضلالهم، وتصديقهم للديانات السابقة على البشارة المورمونية. ويختلف اللاهوتيون المورمونيون في ذلك عن سائر المذاهب المسيحية، ففي مقدور الكنيسة المورمونية أن تهب الخلاص والتوبة إلى الذين انتقلوا إلى الملكوت السماوي، ليس بالترحّم عليهم والدعاء لهم فحسب؛ بل باستدعائهم واستحضار أرواحهم والحديث معهم وإقناعهم بعقيدة المورمون. وذلك بتأثير من الجمعيات الروحية الحديثة التي أباحت الاتصال بعالم الأموات والاستعانة بهم في قضاء الحاجات؛ الأمر الذي يُناقض ما جاء في سفر التثنية من التوراة الذي نهى فيه الرب عن الاتصال بالعالم الآخر وأرواح الموتى والجن والعفاريت والسحر وكيد الشياطين، وقد توعد الرب من يفعل ذلك بالعذاب في الآخرة والخسران في الدنيا. غير أن اللاهوتيين المورمونيين نسخوا هذا النص. ويضيف كهنة المورمونية أن في مقدور اللاهوتيين الربانيين الإتصال بعالم الأموات الذين ينتظرون في البرزخ يوم القيامة في آخر الزمان فيستنهضوا أرواحهم ويبلغونها ببشارة المورمون ورسالة الرب التي هبطت على شعب الله الصهيوني الحقيقي الساكنين في أمريكا ويفوضهم الرب – شأن الربانيين التلموديين- في مخاطبة الأرواح الراغبة في التوبة والمتشوقة للخلاص المورموني الذي تبشر به كنيسة قديسو آخر الأيام في كل أنحاء الدنيا. ويزعمون أن تلك القدرات قد منحها يوحنا المعمدان لنبي المرمون وعلّمه معمودية هارون شقيق موسى وزوده بالنصائح التي وردت على لسان بطرس ويعقوب ويوحنا صاحب الرؤية وغيرهم من القديسين المسيحيين التي تجلت أرواحهم وظهرت صورهم للموعودين من اللاهوتيين المُكلفين بهداية سكان العالم الآخر، وقد نقلها بدوره لخلفاءه المورمونيين.

ويبدو تأثر اللاهوتيين المورمونيين بفرقة الربانيين اليهودية والحسيديين العلمانيين (الذين ظهروا في أخريات القرن السابع عشر وجمعوا بين السحر والشعوذة والكهانة والزهد والفكر الليبرالي والاقتصاد الرأسمالي والأخلاق الفردية في بنية آراءهم)، مع عدم تمسكهم بحرفية الكتب المقدسة الكلاسيكية، والترويج للتفكير العلمي ومصطلحات: النهضة والاستنارة والمدنية العلمانية والحداثة وما بعد الحداثة وغير ذلك من شعارات إصلاحية، وذاعوا ذلك كله بين الشباب المتطلع لغد أفضل من شتى الديانات. وقد نشطت الجماعات اليهودية المعاصرة في أمريكا منذ منتصف القرن التاسع عشر الحاملة لهذه الأفكار على وجه الخصوص، واتخذت من الليبرالية والرأسمالية والنفعية دستوراً لا غنى عنه للأمم الراغبة في التقدّم العلمي وقيادة العالم.

ــ تعدد الزوجات:

تحدثنا التوراة في سفر الملوك واحد الإصحاح 11 وسفر صموئيل الإصحاح 5 وسفر التكوين الإصحاح 29، 30 وسفر التثنية الإصحاح 21، وسفر أشعياء الإصحاح 4 عن العديد من الإشارات الصريحة بتعدد الزوجات. بينما في المسيحية قد استند اللاهوتيون على ما جاء في سفر التكوين (2:24) “لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسداً واحداً”، لتحريم التعدد، ويضيف “فيلو ثاؤس” (رئيس الكنيسة الكبرى المرقسية بالقاهرة سابقاً) في كتابه (قانون الكنيسة القبطية) عام 1876م “لا يجوز للمسيحي أن يتخذ سوى امرأة واحدة في الحال لا أكثر، وإن توفيت أو افترقت عنه شرعاً له أن يتزوج بأخرى”. أما في كتاب المورمون فورد في سفر يعقوب (2:2،27) أن الرب قد أستاء من تعدد الزيجات وكذا عادة التسّري فنصح المؤمنين بإتيان زوجة واحدة. ورغم ذلك نجد سميث نبي المورمونية يدعي أن يسوع قد أوحى له بالعودة إلى نصوص التوراة حيث التعدد ونسخ معتقد الكنائس الأرثوذكسية وما تبعها. وذلك رغم أنف الحكومة الأمريكية التي فرضت عقوبات مشددة على المورمونيين الذين أباحوا التعدد في ملتهم. ويبرر اللاهوتيون المورمونيون العودة إلى شعيرة التعدد بأن الرب سوف يكافئ المؤمنين مئات الزوجات والسراري بعد بعثهم في الجنة، وقد تزوج سميث نبي المورمونيين الأول بعشرات الفتيات اليانعات والسراري الفاتنات، الأمر الذي يقطع بعدم حرمانية التعدد عندهم غير أنهم حرموا الطلاق ولم يثبتوا في سجلات كنائسهم إلا من تزوج بمورمونية بيضاء وأعتبروا دونها تسرّي أو زواج متعة.

ــ العنصرية والشيفونية:

لم تتحرر المورمونية من العنصرية والشيفونية الغربية بوجه عام والعصبية اليهودية بوجه خاص، إذ رفضت تعميد أو قبول الزنوج تحت مظلة كنيستها، وذلك استناداً على ما جاء في سفر إبراهيم من إنجيل مورمون “أن الذين جاؤوا من صُلب كنعان ملعونون لأن كنعان كان أسود.” من صلب حام وقايين (أي قابيل) الذي قتل أخاه هابيل أبن أدم. وقد تسامح اللاهوتييون المورمونيون المحدثون فقبلوا الزنوج الذين جاؤوا طوعاً بغير بشارة طالبين الانضمام إلى الكنيسة المورمونية غير أن هذا الانضمام ظل غير رسمي ولم تتم لهم العمادة حتى عام 1954م وقد اشترط اللاهوتييون أنذاك قبول الزنوج كخدام أو عبيد دون أن يُمنحوا البركات مساواة بالمورمونيين البيض الأحرار، وذلك في الملكوت الأعلى. كما حذرت الكنيسة زواج المورموني الأبيض من الزنوج رجلاً كان أو امرأة لأن الرب يبغضهم ولا يبارك نسلهم. وفي عام 1978م خضعت الكنيسة الأمريكية لجمعيات حقوق الإنسان التي يقودها الماسونيون فسمحت للزنوج بالعمادة مع كراهتها لزواج المورمونيين البيض من الزنوج.

ــ بين الراديكالية والإباحية:

يحرم معظم المورمونيين تناول الخمر والتبغ والقهوة والشاي والمخدرات، ويرفضون العري والإجهاض والمثلية ويحرصون على عذرية الفتيات قبل الزواج واحتشام ملابسهن، ولا يسمحون بالعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، ويعتبرون الصلاة والصوم فروض واجبة ولها كفارة ويؤكدون على التماسك الأسري ورعاية الفقراء والمعوذين من المورمونيين. وتعد جامعة السياحة الدراسية بالقدس من أهم دعاة التعاليم المورمونية في الشرق الأوسط، غير أنها محظورة من قبل الفلسطينيين والإسرائيليين معاً، وبات التبشير بتعاليمها سرًا بين الفلسطينيين وغيرهم من الذين طمعوا في استكمال دراستهم في أمريكا. في حين نجد المورمونيين العلمانيين يبيحون التسري والتعدد الشرعي للزوجات، ولم ينكر نبيهم (وارين جيفز) كثرة زوجاته وعشيقاته؛ الأمر الذي انتهى به إلى السجن مدى الحياة. بيد أن بعض طوائفهم في ولاية يوتاه الأمريكية قد أعلنت تحريم الإباحية الجنسية والشذوذ والإجهاض، ومال قادتها إلى دراسة الفقه الإسلامي والأخذ عنه، ورحبوا بهجرة العراقيين والسوريين إلى أمريكا رغم معارضة أكثر من 30 ولاية لهذا الإجراء. وسعى الملياردير السياسي الموروني ميت رومني – حاكم ولاية ماساشوستس من عام 2003 إلى 2007- إلى الجلوس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض منافساً للرئيس أوباما، تحقيقا لما جاء في كتاب المورمون بشأن علو سلطان المورمونيين وقيادتهم العالم.

وقد اختلف الكثيريون من المحللين حيال تفسير تعاطف المورمونيين مع المسلمين، فبيّن أحدهم أن شعورهم بالاضطهاد داخل المجتمع الأمريكي هو الذي دفعهم لنحت روافض لهم أو صناعة أذرع وأبواق لعقيدتهم بين المسلمين في آسيا وأفريقيا، وقد أكدت ذلك صحيفة وول ستريت وصحيفة بلومبرغ وشبكة إن بي سي نيوز. والجدير بالذكر أن هناك مورمونيين غير محافظين على الثوابت الدينية أو الآداب التي حث عليها الكتاب المقدس غير أنهم منتسبون للفكر المومرموني كأيدلوجية صهيونية منفتحة على العالم بموجب منطق المنفعة وسلطة رأس المال. بينما كشف تفسيراً آخر عن نزعاتهم الصهيونية التي تنشد إضعاف طائفة الأرثوذوكس في مصر وتأييد الشيعة في سوريا ولبنان والعراق واليمن وذلك لضمهم جميعا للفكر المورموني في المستقبل لينطلقوا جميعاً من القدس للقضاء على كل الأغيار المناهضين بقيادة يسوع كما ذكرنا.

ويشير الكاتب الأمريكي مايكل دبليو هومر في كتابه (العلاقة الديناميكية بين الماسونية والغطاء المورموني)

The dynamic relationship between freemasonry and Mormonism 

والكاتب المصري رأفت ذكي في كتابه (المورمون صناعة الآلهة) وكذلك الكاتب اللاهوتي الأرثوذكسي حلمي القمص يعقوب (1950م- …) في كتابه (عبادات الشيطان وسلطان القديسين): أن تعاليم المورمونيين لا تخلو من الهرطقات الشيطانية وعلى رأسها إنكار ألوهية المسيح وقانون الإيمان ووقائع يوم القيامة الواردة في الكتاب المقدس بالإضافة إلى تأليه أنبياءهم وقادتهم الروحيين، أما تمسكهم بالفضائل والأخلاق الدينية لا يعدو أن يكون تمسكاً ظاهرياً، غير أنهم على النقيض من ذلك تماماً في السر وأن صهيونيتهم لا تخف على أحد، تلك التي تزعم أنهم مفوضون من قبل الرب بحكم العالم ومراجعة دساتيره وتعيين ملوكه وحكامه وأن روح يسوع سوف تحل في جسد كل من يتولى رئاسة أمريكا من المورمونيين لقيادة جيوش الرب للقضاء على الكافرين بملكه.

ويضيف بعض المعنيين بمقارنة الأديان المعاصرين: أن معظم الرموز التي يستخدمها المورمونيون منقولة حرفيًا من التعاليم الماسونية، ويستشهدون في ذلك بالعلاقة التي كانت تربط بين نبي المورمونيين “جوزيف سميث”، والمحافل الماسونية التي ضمت عقيدته إلى دعاتها ومنظريها وذلك منذ عام 1842م. ومن أشهر الرموز المشتركة بينهما (العين، خلايا النحل، المربع، الشمس والنجوم). غير أن الماسونيين قاموا بقتله لمخالفتهم. ثم انقسمت إلى شعبتين صهوينية يمينية وماسونية منذ عام 1966م.

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم: د. عصمت نصار

 

إنّ من يتأمل تاريخ الديانات الوضعية الحديثة سوف يُدرك أنها قد انطلقت استجابة لآراء ونظريات ومذاهب وانقلابات سياسية وأهواء أخلاقية رغبةً في إصلاح قضايا اجتماعية وإرضاءً لنزاعات إنسانية، وذلك كله بعد  أن عجزت الديانات السماوية القائمة في زعم أربابها من تحقيق الأمن والسلم والسعادة للمؤمنين بها.

وبغض النظر عن البيئات الثقافية التي ساعدت في انتشار هذه المِلل، والمصدر الرئيس الذي حَبك وسَبك تلك التصورات الجامعة بين السياق الأسطوري والمسحة الروحية من جهة، والرؤى النقدية العقلية العلمية من جهة ثانية، والأزمة الأخلاقية والفراغ العاطفي والرغبة في إصلاح الواقع من جهة ثالثة، والتأكيد على قدرة الإنسان على خلق العالم الموازي الشاغل بالأسرار والغيبيات والمعجزات واجتذاب المؤيدين للحق المغترب والمهدي الغائب المؤيد من السماء من جهة رابعة، كل ذلك سوف يمكن المُفكك والمُؤول لهذه الأنساق الاعتقادية أن جميعها لم يضف على الواقع المعيش إلا مزيدٌ من القلق والخوف واليأس والاغتراب والرغبة في الانتحار والعنف والصراع وغير ذلك من الآلام التي يمسي فيها الإنسان بائساً حزيناً مستلباً.

وسوف يتعجب المتأمل من تلك الأكاذيب البدعية والحيل التي اصطبغت بها بنية جُل الديانات الوضعية، وتلك النسقية المضطربة الجامعة بين المقدس والمدنس، وذلك التلفيق بين العقيدة والفلسفة، وطرافة النسيج الخيالي الجاذب للعقلاء والمُفكرين قبل الجهلاء المُعدمين من العوام المعوزين في مجتمعات جحدت الغيبيات واتخذت من الإلحاد عقيدة حسيّة، ومن الشهوات المادية سبيلاً للعيش ودستوراً للحياة.

وخيرُ شاهد على ما سبق هو ما ورد في الديانات الأمريكية المعاصرة، وعلى رأسها المورمونية صنيعة الفكر الصهيوني الراغب دوماً في الترويج لهذه الأفكار العفنة المخربة.

أهم المعتقدات والشرائع التي روج لها المرمونيون:

أصول التبشير:

يقوم شبان من المبشرين الأمريكان بدق أبواب مساكن المرغوب في اجتذابهم وإقناعهم بالانتماء إلى الملة المورمونية حاملان العهد الجديد وكتاب المورمون ليعلمان بهما أهل الدار التي طرقا أبوابها شريطة أن يمضي سنتان على عملية التبشير قبل أن يعاود أحد المبشرين طرق أبواب هذه الدار ثانية وذلك لمنح الفرصة الكاملة أمام المريدين بالدخول إلى الملة طواعية بعد استيعابهم لأصول التعاليم وقواعد العقيدة عن طريق الحوار الدعوي الذي يتدرب عليه المُبشرين قبل مباشرتهم لأعمالهم، ويؤكد المؤرخون للمورمونية أن دور الدعاة المُبشرين – الذي بلغ عددهم نحو 30 ألف مُبشراً في نهاية القرن العشرين- لم يقف عند الدعوة والنصح والإرشاد بل أمتد إلى تقديم الكثير من المعونات المادية للفقراء ورعاية أسرهم اجتماعياً وصحياً وتعليمياً في الجامعة التي أُطلق عليها “بريغام يونغ”، وقد تأسست عام 1875م في مدنية بروفو بولاية يوتاه بأمريكا التي شيدتها الكنيسة المورمونية، وأضحى عدد طلابها نحو 25 ألف طالب.

ومن الطريف أن نجد أتباع المورمونية في مصر منذ عام 1977م، وذلك على يد بعض المبشرين العاملين بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. وقد احتجت الكنيسة الأرثوذكسية على السماح لهم بالتبشير العلني بحجة أنها عقيدة فاسدة ومخالفة ومناهضة لتعاليم الكنيسة المصرية؛ بل اعتبرتها  إحدى الفرق الضالة والمُهرطقة. وبلغ عدد المورمونيين الأمريكان في مصر عام 1995م نحو 500 مورموني. ثم توسع المُبشرون الأمريكان في جذب الأتباع من المصريين تحت ستار التبشير بالبروتستانتية والكنيسة الإنجيلية الأمريكية. وكذا إيعاد المستجيبين بالكثير من التسهيلات للعمل بأمريكا. وتشير بعض الدراسات المعاصرة إلى انتشار هذه العقيدة بين اللبنانيين والأفارقة، وذلك تحت رعاية الدبلوماسيين الأمريكان المنتمين إلى المورمونية منذ بداية الألفية الثالثة.

قدسية الكنيسة المورمونية وتكفير الأغيار:

الإيمان بأن كل الكنائس المسيحية السابقة فاسدة والتعاليم اليهودية التوراتية الواردة في الكتاب المقدس محرّفة ويبدو كل ذلك في أقوال سميث (نبي المورمونية) أن اللاهوتيين الذين زعموا بأنهم ينطقون باسم الرب أبناء زانيات وأرباب الفُحش والكذب والاجتراء على يسوع المسيح، وأن ما جاءوا به في كتبهم محض تلفيق وتدليس، وأن كتاب المورمون هو أصدق كتاب مقدس على الأرض، وأن الكفر بكل ما هو دونه واجب، وأن الشريعة المورمونية ناسخة لكل الديانات السابقة بما في ذلك الإسلام. وأن النبي (سميث) هو الذي تلقى كلمات المخلّص يسوع المسيح، ومن ثم كانت طاعته واجبة وكنيسته هي المرشد الصادق للطوباوية حتى آخر الزمان. وأن أي شك أو ارتياب في كتاب المورمون يرجع إلى حديث الشيطان ووسوسته، وكيد المُحرّفين الذين أخفوا بعض شذرات كتاب المورمون المقدّسة حتى لا يُفضح غييهم وإفكهم.

وقد قُوبلت هذه الآراء بالرفض والاستنكار من قبل كل الطوائف المسيحية وجُل المذاهب اليهودية ويستثنى من ذلك معظم الصهاينة والمسيحيين الإنجيلين الأمريكان الذين آمنوا بالمورمونيّة. وتتمثل أهم الاعتراضات في أن حديث “سميث” عن الكتاب المقدس يخالف الحقيقة، وأن العبارات المنقولة من أسفاره وإصحاحاته التي استشهد بها مُخالفة لمتن الكتاب المقدس نسخة الملك جيمس التي استغرقت ترجمتها إلى الإنجليزية الفترة من 1604م إلى 1611م، وظهرت طبعته الأولى عام 1612م. ويعني ذلك أن هذه الديانة قد أرتدى قساوستها عباءة المجددين والمصلحين لإنقاذ الشعوب التي تعاني من قسوة العوز المادي والفراغ الوجداني بخلاص دنيوي وسعادة أخروية للترويج لديانتهم .

نسخ قانون الإيمان وطبيعة المسيح:

أمّا زعم “سميث” بما جاء على لسان الرب يسوع المسيح بشأن قانون (الإيمان النيقي) المتفق عليه منذ 325م – وعُدل في 381م في مجمع القسطنطينية الأول – فهو لا يخلو من التدليس، ولا سيما المواضع التي ذكر فيها برهان نبوته وأخبار اليهود الصهاينة وكنيسة آخر الأيام وغير ذلك من الأكاذيب بداية من الألواح الذهبية ونهاية بنسخ الشريعة اليهودية وأقوال بطرس وبولس ويوحنا. بالإضافة إلى المسائل ذات الصلة بطبيعة السيد المسيح وخلاصه؛ فالإله في العقيدة المورمونية ليس مُشخصاً وليس له لحم ودم وطبيعة إنسانية كاملة كما يزعمون، وأنه لم يخلق العالم من العدم؛ بل كان عمله أقرب إلى التنظيم والتهذيب والهندسة شأن إله أفلاطون، وأن أبوته للبشر أبوة غير حقيقية قريبة الشبه بقصة ميلاد البشر في الأساطير الإغريقية والشرقية القديمة مثل (أسطورة الإله زيوس في الإغريقية)، والإله اندرا في الأساطير الهندية، والإله تينيا في الأساطير الأتروسكانية الإيطالية نحو 900ق.م، وكذا أسطورة إبيمثيوز اليونانية)، كما أكد المرمونيون أنه (أي يسوع المسيح) ليس إلهاً منفرداً للكون؛ بل هو عضو في مجمع الآلهة واختص بألوهية سكان العالم الأرضي، وأنه توأم الشيطان، وابن مريم من أحد آلهة السماء، وبكورة الاتصال الجنسي غير المباشر بين الآلهة والجنس البشري.

أمّا الروح القدوس فهو المسئول عن خلق أرواح الإلهة الصغرى في الكواكب الأخرى. وبذلك يُصبح الثالوث المُقدس المورموني على النقيض تماماً ممّا تؤمن به كل الكنائس المسيحية على اختلافها؛ فيسوع المسيح عند المورمونيين ليس إلهاً للكون بل هو عضو في مجمع الآلهة، وأنه مخلوق وليس خالق وله كل الصفات الآدمية وأنه ولد من اتصال جنسي بين الآب إله السماء والكون، ومريم – على نحو خاص- وكان ليسوع زوجات وأبناء وأنه مخلّص بالتفويض وليس له إرادة حرة مُطلقة، وأن الأقانيم الثلاثة التي تتحدّث عنها الأناجيل المسيحية ليست كياناً واحداً في شخص المسيح، بل هي أقانيم منفصلة في الوضع والحالة والزمان والقدرة ويستحيل جمعها في شخص واحد حتى على سبيل المجاز، وأن نصوص العهد الجديد مضطربة ومتناقضة في حديثها عن سيرة المسيح بداية من ولادته وصفاته ومعجزاته.

وعليه؛ لا يمكن الاعتماد أو الاحتجاج بها في سياق الحديث عن طبيعة المسيح. ومع ذلك كله فالعقيدة المورمونية تؤمن بمجد المسيح وقداسته وطهارته وصَلبه وعودته ثانية في آخر الزمان.

ويجمع اللاهوتيون المسيحيون على هرطقة تعاليم المورمونيين وتجديف زعمهم بأن نبيهم نبي آخر الزمان المتمم للشريعة والمُصحح لتحريف الكتاب المُقدس والناسخ للعقائد الإيمانية ومانح حرية تأويل الوحي للعقول البشرية بمعزل عن سلطة الكنيسة وأوهام القساوسة. وكل ذلك لا سند له ولا برهان على صحته عندهم. وينظر المجمع الكنسي لهذه العقيدة بعين الريبة والجحود ويعتبرها بدعةً مُحرمة يجب اجتنابها، وأنها من المعتقدات المهرطقة المعاصرة والمناهضة للاهوت المسيحي بعامة الأرثوذكسية بخاصة.

ويبدو بوضوح تأثر إنجيل مورمون بالعقيدة الآريوسية تلك التي وردت في كتاب “إلثاليا” الذي حرّره آريوس (256- 336م) بقلمه، وجاء فيه:

أن الإله واحد أزلي، غير مخلوق، لا بداية له ولا نهاية، وهو الحكيم الديان والذي لا ينقسم ولا يتحول ولا يتغير.

وهو الذي أنبثق عنه أبنه الوحيد يسوع، (أي أنه ابن بالتبني شأن غيره من المُختارين والمُصطفين) قبل كل الدهور، وبه خلق العالم وما فيه من الموجودات المحسوسة.

وأن يسوع لم يُولد كسائر البشر بل وجد بإرادة إلهية “كن فكان” فهو مخلوق ويستمد وجوده ومجده من الإله المُطلق (الآب)، فأضحى الكلمة التي لا تتغير، ومن ثمَّ كان وجود الآب سابقاً على كل الموجودات بما في ذلك الابن الذي خُلق بإرادة الإله قبل الزمن، وقبل كون العالم. هو قد نال حياته وكينونته من الآب، الذي أعطى مجده للابن، وأعطاه سلطاناً على كل شيء.

والخلاصة أن “جوزيف سميث” قد ذهب مع الآريوسيين إلى أن يسوع المسيح ليس إلهاً، وأنه ليس من جوهر الآب الخالق، كما أن الذي وُلد ونَمى وصُلب وتألم لا يمكن أن يكون الإله، ولا الكلمة الخالدة، بل هو الابن الذي تجسد في صورة يسوع البشري.

وإذا أمعنا النظر سوف نجد هذا التصور المورموني للقانون الإيماني الجديد قد تأثر إلى حد كبير بالكثير من الآراء الفلسفية المطربة والنحل العقديّة المجترئة، نذكر منها آراء البطريرك نسطوريوس (386- 451م) والفيلسوف الفرنسي أبيار أبيلار (1079- 1142م) والفيلسوف البوهيمي يان هوس (1369-1415م)، والفيلسوف الإيطالي جوردانو برونو (1548م- 1600)، والفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632- 1677م) وغيرهم من الذين وسموا بالهرطقة لانتصارهم للعقل وتشكيكهم في سلامة الكتاب المقدس.

الأبوة الإلهيّة والبنوة البشريّة:

يُعلّم “سميث” في كتاب المورمون والأحاديث التي روتها زوجته عنه، بأن إله السماء له مئات الزوجات اللواتي وهبهن القدرة على الحمل والإنجاب، ثم وهب هذا الحمل الروحي المادة الجنينية التي حولت النطفة الروحية إلى لحم ودم، وتشكل في هيئة البشر ومخلوقات أخرى لها طبائع مختلفة مثل (المردة والجن والعفاريت والشياطين) وذلك وفق إرادته. ولم يُدرك الأنبياء السابقين حقيقة إله السماء فوقعوا في التجسيد والتشبيه واعتقدوا أن أبوته للبشر أبوة مادية، وأن مواقعته للبشريات أو الجنيات مواقعة حسية (زواج ونكاح). والحقيقة أنه اتصال جنسي مجازي وأبوة ربوبية ميتافيزيقية (أقرب إلى فيض أفلوطين أو تصورات الغنوصيين أو الهرامسة التي حولت الوجود الروحي إلى وجود مادي) وعليه؛ فالبشر في رأي المورمونيين “أبناء الرّب”، والرب أي الإله أباً لهم من أم بشرية مخلوقة في زمن سابق على اتصاله بها، والأمهات قد تشكلت وفق تصور إله السماء فحملت ببشر وملائكة ومردة وشياطين وعلى رأسهم آلهة صغرى تحكم الأجناس والأمم. وقد منح الرب لهؤلاء الآلهة الصغار بعض قدراته وخصاله وطباعه، وذلك وفق ما صورته الأساطير المتواترة. أما الأبناء فينمون ويكبرون ثم تموت أجسادهم وتعود أرواحهم إلى سابق عهدها بعد تطهيرها فتعود إلى المعيّة الربانية، أو تُرد ثانية في ميلاد ثاني في أجساد أخرى وفق طبائعها الجديدة. وهو تصور أقرب إلى الفكر الهندوسي الرواقي والبوذي وسيوصوفي (تناسخ الأرواح) وغير ذلك من تصوّرات الجماعات الروحيّة.

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم د. عصمت نصار

 

جعفر نجم نصرلعل العنوان أو المصطلح المركب يبدو متناقضاً بين العرفان الذي هو تجربة ذوقية روحية باطنية فردية خارج دائرة المجتمع وانشغالاته ومصطلح السياسة الذي يشير إلى عملية بشرية اداتية لأدارة السلطة وشؤون الدولة عموماً، وهو أمرٌ دنيوي صرف ولا شأن له بعالم الباطن أو عالم الاخرويات.

ان سبب هذه الصدمة أو التناقض الظاهري بين العرفان والسياسة هو السياق التاريخي الثقافي لكلا المسارين العرفان والسياسة في العالم الاسلامي، فلقد ترسخ على مدى قرون خلت أن هنالك انفصالا كليا بين التجربة الصوفية والعرفانية وبين شؤون الدولة أو العمل السياسي، ولعل هذا الامر يعزى إلى اعتقاد الكثير من الباحثين ان العرفاء والمتصوفة هم مشغولون بعالم الباطن الروحي وبالتالي فهم منصرفون كلياً عن الشأن السياسي، أو بعبارة أخرى ان العارف أو المتصوف هو زاهد في الدنيا برمتها وبذلك فهو غير معنى بالسياسة ومفاتنها وشهواتها وسياقاتها السلطوية على الناس.

وهذا الأمر مناف لكثير من الحقائق التاريخية والاصول الثقافية التي تبين لنا أن ظهور المتصوفة والعرفاء في داخل الاسلام انما جاء بوصفه رد فعل ضد السياسة واهلها من الخلفاء والامراء والوزراء وقادة جيشهم، بل ان فعل المعارضة بحد ذاته هو فعل المتصوفة والعرفاء على طول الخط إلّا بحالات شاذة هنا وهناك، إذ قال الكاتب هادي العلوي عن تلك المعارضة عندهم لم يستعمل مشايخنا (يقصد المتصوفة والعرفاء) هذا المصطلح الذي هو من مستحدثات جيلنا لكنهم مارسوه بوصف انه مسلك للخروج من قيد الاغيار، وتعني المعارضة قطع العلاقة مع الدولة وأربابها والدعوة إلى - أو العمل على تغييرها، والدولة شيطان تتألف من شياطين وفعلها شيطاني وسلوك أربابها شيطاني، وشيطان من يعاملها ويتعامل معها، وتتألف منهم جملة الاغيار المقيمين في دار الضد والحس والشهوة، وهم عماد الظلم ومنشأ الظلمة والخلق منهم في بوار (1).

وهذهِ المعارضة تجسدت بمظاهر اجتماعية وثقافية بل وسياسية متعددة على مدى العصور، ولهذا وجدنا كبار العرفاء من اوائل المقتولين على ايدي السلطة(الحلاج، السهروردي، عين القضاة الهمذاني) وغيرهم الكثير، وإذ كان هؤلاء يناؤون السلاطين في العالم الاسلامي، فإن الكثير من المتصوفة في عصور لاحقة دخلوا في صراع مع السلطات السياسية الاستعمارية في عدد من البلدان لاسيما في شمال افريقيا.

وفي هذا السياق ينبغي التذكير بما قاله الكثير من الباحثين حول عصر ظهور التصوف والعرفان، والذي ظهر بوصفه أتجاه معارضة صامتة للوهلة الاولى ازاء عالم الاسراف والبذخ ومظاهر الفسق والفجور التي سادت العالم الاسلامي بعد تزاحم  الفتوحات وتضخم بنية الدولة الاسلامية من جهة مواردها المالية (الخراج) الذي بلغ حد التخمة.

إذ يذهب الباحث علي سامي النشار إلى ان الزهد ومظاهر التقوى كانت موجودة في القرن الاول الهجري، وان الكثير من هؤلاء الزهاد ظهروا معارضين لبعض الخلفاء أمثال ابو ذر الغفاري والحسن البصري وغيرهم الكثير، ولكن لم تظهر اللغة الاصطلاحية وتقعيد القواعد الصوفية والعرفانية إلّا في القرن الثاني الهجري، والامر الجوهري هو ان هنالك روحا للمعارضة كانت تسري في هذين القرنين ازاء ترف السلطة ومفاسدها (2).

ولا يخرج كامل مصطفى الشيبي عن ذلك الامر كثيراً ويزيد عليه بالحديث المفصل عن خصوصية المجتمع الكوفي وبداية تشكل حركة للزهد على نطاق واسع، أذ يقول: أما ميادين الزهد الكوفي فقد تعددت، فقد وجدنا فيها الزهد الاسلامي الاصيل القائم على التواضع في الملبس والمأكل والتزام تلاوة القرآن والخوف من عذاب الاخرة، ووجدنا في الكوفة الزهد المنبعث من عذاب الاخرة ، والزهد الاتي من الاحداث التي تناوبت عليها من قتل ذريع ومن خيانة ومن نصرة للباطل ومن حسرة على العجز عن رد الظلم. وسنرى أن الكوفة ستكون مثابة للبس الصوف في العالم الاسلامي كله وسيتبين لنا ان ذلك كان مقصوراً عليها، وكان تعبيراً عن معارضة سلبية، وفوق هذا كان في الكوفة أول من تسمى صوفياً وأول من قال بالولاية الصوفية (3).

يعلل الشيبي هذا السلوك ويربطه بما جرى في عصر الفتنة أبان الخليفة الثالث وثم تصارع معاوية بن أبي سفيان والامام علي بن ابي طالب وثورة الامام الحسين ونكص اهل الكوفة على عقبيهما، ومن ثم شعورهم بالندم الشديد ومحاسبة النفس، مما دفعهم إلى ذلك، ولكنهُ رغم ذلك يعد هذا الامر معارضة سلبية لأنهم لم ينصروا الحق وأهله آنذاك.

وتأسيساً على هذا العصر واعتماداً على أنموذج سعد بن أبي وقاص يرى الباحث السنغالي الاصل الفرنسي الجنسية سليمان بشير ديان ان المتصوفة كانوا انسحابيين من الحياة السياسية من جهة، وغير مدركين لتمامية وجود دولة اسلامية يوالونها أو يسعون دائماً لأقامتها من جهة اخرى!؟.

إذ يقول: يقف سعد بوصفه نموذجا مثاليا في عيون المسلمين لما يعنيه (القتال في سبيل الله بالأموال والانفس) خاصة الصوفيين منهم، عندما أصبح في نهاية حياته رمز التوجه الواضح الذي يقف أمام الدولة وجهاً لوجه. وخلال الفتنة والحروب الطاحنة التي شقت المجتمع المسلم، بدءاً من السنوات الاخيرة من حكم الخليفة الثالث عثمان (ت656م) إلى ان بلغت ذروتها في المعارك بين علي الخليفة الرابع، ومعاوية الذي تمرد عليه (بدءاً من عام 656م وحتى وفاة علي عام 661م) انسحب سعد بن أبي وقاص، ببساطة من المجال العام، رافضاً الانحياز وتأييد احد الطرفين في مسألة الخلافة السياسية - الدينية وعندما تم الضغط عليه ليفعل ذلك، نقل عنه انه قال : لن اشارك في القتال حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان يقول هذا مؤمن وهذا كافر. يستدعي هذا الموقف ملاحظتين أثنتين، الأولى وثيقة الصلة بما يسمى الدولة الاسلامية، والثانية معنية بما يمكن تسميته بالنزعة الصوفية للانسحاب(4).

ثم يستمر ليقول: كان للطريقة التي انحسب بها سعد بن أبي وقاص من الميدان العام، حيث كان وجوده قد يعني الاجابة عن السؤال الصعب حول من يجب ان يكون الخليفة، إرث غني، وقد تبناها عدد من الفلاسفة والصوفيين ونظروا لها، وكان ابو نصر الفارابي (874-905م) الذي يمكن اعتباره مؤسس التراث الاسلامي للفلسفة السياسية المتجذرة في تعليمات أفلاطون احد هؤلاء، وتبعه في ذلك فيلسوف مثل ابن باجة (1085-1138م)، الذي اعتبر ان الدرس الرئيس الذي يمكن أخذه من فلسفة افلاطون هو أن: (المدينة الفاضلة) يوتوبيا مستحيلة، ولذلك فقد رفض مجرد فكرة تدخل (محب الحكمة Lover of Wisdom) في شؤون الدولة (5).

ان الباحث ديان هنا يمظهر مديات الانسحاب الصوفي من المجال السياسي ويجعله يأخذ منطقاً فلسفياً كذلك عاداً تجربة ابي وقاص انموذجاً متكرراً احتذى بهِ الفلاسفة والمتصوفة على حدٍ سواء، على اعتبار ان اليوتوبيا السياسية أمر مستحيل ومن ثم الانخراط في أي ممارسة سياسية هي أمرٌ عبثي، بل ليسهم في تلويث صاحبه واعاقته عن القيام بالعمل المثمر الخادم لشؤون المجتمع واعضائه.

ثم يستمر قائلاً: تقليد تقدير الانسحاب بالطريقة التي قام بها سعد بن أبي وقاص بوصفها رد فعل على حالة الشؤون العامة تم استحضارها كثيراً من فلاسفة حديثين، اعتبر محمد إقبال ان واحداً من الاسباب المبكرة لحالة التحجر التي وجد فيها الفكر الديني للإسلام نفسه بعد القرن الثالث عشر هو حقيقة أن أفضل العقول المسلمة انسحبت من حالة الوهن التي انتابت الشؤون العامة واختاروا مسار الانسحاب في تصور نيو- أفلاطوني يقدر الحياة التأميلة ''Viata Contempativa'' قبل كل شيء. يقول إقبال إن: الروح الغيبية الكلية في الصوفية المتأخرة حجبت رؤية الناس عن مفهوم مهم جداً في الاسلام كأدب اجتماعي، وبتقديمه امكانية التفكير المتحرر بجانبه التأملي، فقد جذب وأخيراً امتص أفضل العقول في الاسلام ولذلك، فقد تُركت الدولة المسلمة بشكل عام بأيدي متوسطي القدرة فكرياً، والاغلبية غير المفكرة في الاسلام، بلا شخصيات ذات معايير عليا لتقودهم، ووجدوا الامن فقط بالاتباع الاعمى للمدارس (6).

لا أعتقد ان اختيار شخصية مثل ابن ابي وقاص كان أمراً دقيقاً وملائماً بالنسبة لذلك العصر، وكان الاولى اختيار شخصية اكثر ورعاً وزهداً من قبل الاستاذ ديان، وكان جيل وعصر بن ابي وقاص يضم شخصيات مشهورة بالميل الصوفي والعرفاني الواضح امثال: عمار بن ياسر وابي ذر الغفاري وأضرابهم، إذ كان الانموذج هذا من كبار اصحاب الاقطاعيات والثروات بعد فتح العراق وعاش حياة ترف كبيرة (7).

ولربما كان الكاتب نفسه (ديان) لا يعرف الحق وأهله في ذلك العصر، فوجد ان ابي وقاص يمثل ذاته، أي انه اختاره، كأسقاط نفسي وذلك لعدم اتضاح الرؤية أمامه، ان انسحاب المتصوفة والكثير من الفلاسفة يرتبط بأمر جوهري لم يلتفت له (ديان) مطلقاً وهو (شرعية السلطة) هل كانت موجودة أم ان الحاكم والنظام هو منطق المغالبة المسند إلى (العصبية) بالمعنى الخلدوني؟ ان هذا الامر هو ما استشعره هؤلاء وليست مسألة علمانية الدولة آنذاك التي وجدوا فيها مبرراً للأنسحاب ولعدم نصرة طرف على آخر!؟.

ولعل محمد اقبال ادرك هذا الامر وزاد عليه ان الاسلام الطرقي هو الخطر الماحق لتجارب المتصوفة والعرفاء، لأن التنظيمات الصوفية أياً كانت (أخوانيات أو هياكل طرقية) أو نحو ذلك ستكون مبعثاً للبحث عن مصالحها المادية ومن ثم تدخل في هدنة مع الوضع السياسي القائم، وهذا ما جرى في المشرق والمغرب على مدى قرون إلّا حالات محدودة دخلت في صراع سياسي.

يقول الباحث بومدين بوزيد بهذا السياق: ظلت ظاهرة التحالف مع السلطة أو التمرد عليها ملازمة للطرقية الصوفية التي هي شبيهة ما ننعته اليوم بالإسلام السياسي، ولعل الصورة تتضح حين نعلم ان بعض الطرقيين كانوا مباركين للمستعمر الفرنسي، وهذا لا يطعن فيها كطريقة صوفية ولكن علينا ان ندرك التفاوت والاختلاف بين مرحلة وأخرى... (8).

وقد تزامنت مواقف بعض المتصوفة وأحكامهم الفقهية-الباطنية مع قيام بعض الانتفاضات وأستغلها المستعمر، كمنشور محمد الموسوم (3 فيفري 1883) الذي يحرم على أتباعه الثورة ويلغي من يتدخل في السياسة، كما استعمل الفرنسيون سمعة الشاذلية وطلبوا تأييدها في حربهم سنة 1914 فقد اصدر شيخ زاوية قصر البخاري فتوى مضمونها طاعة الفرنسيين لأنهم (أولو الامر) وهنا فسر أولي الامر بأنهم الحكام الفرنسيون، وقد كان اول الخارجين عن ثورة بوعمامة عام 1881 أتباع الزيانيين والتيجانية (9).

فلهذا كان المتصوفة والعرفاء الاوائل كأفراد هم أكثر مواجهة للأمر السياسي من التنظيمات أو الاسلام الطرقي، ولهذا الامر دلالة واضحة من جهة ان نفي المصالح بوجود الجماعة صعب بالنسبة للطرق ولزعمائها وليس لجميعها لأن بعضهم دخل في مواجهة مع المد الاستعماري كما نعلم أمثال (السنوسية) وغيرهم، هذا من جهة، ومن جهة اخرى فأن صلة تجربة الباطن بالنسبة للعارف مع عالم الظاهر (الدنيا وشؤونها) ستكون تجربة فردية ذوقية خاصة، لا تؤثر فيها الضغوط الحياتية التي ممكن مصادفتها في الطرق التي اصبحت مرتبطة اقتصادياً بحسب اتساع عدد أسر المريدين والذين لم تكتمل لديهم عملية السير والسلوك كما لدى كبار العرفاء، فلهذا كانوا يتأثرون سريعاً بالضغوط السياسية ويخضعون لها إلّا بعضا منهم وهم عدد ضئيل بطبيعة الحال.

ان المسألة معقدة للغاية، ولا يمكن اختزالها بسببين أو علتين وينتهي الامر، وذلك لأن الكثير من الامور متداخلة ضمن سياقات اجتماعية وسياسية واقتصادية فرضت نفسها على الكثير من الطرق الصوفية والعرفاء، ونحن هنا ليس بصدد الدفاع بقدر ما نبحث عن مشهدية سياسية متعددة الاوجه لممارسة العرفاء والمتصوفة في عصور متفاوتة.

في قبالة ذلك كله نجد ان هنالك دولة أو سلطة روحية تسيّر شؤونهم ان كان ضمن مديات علاقة العرفاء ببعضهم البعض أو من خلال علاقة المريدين المخلصين بوليهم أو شيخهم الروحي (شيخ الطريقة) ولقد تحدث الباحث حسن محمد الشرقاوي عن هذا الامر والذي أطلق عن عالم السياسة الباطنية هذا ومتعلقاته اسم (الحكومة الباطنية).

إذ قال لهؤلاء الصالحين، دولة وحكومة، ونظام رئاسة، وطاعة واخلاص، واحكام، واتصالات، ومجالس واجتماعات، وأوامر وتعليمات، وسلطات واختصاصات، وليس كما نراها في الحكومات المدنية، أو في القوانين الوضعية، أو في الدساتير والقواعد القانونية، وانما دستورهم لم يضعه من البشر أحد، وقانونهم لم يضعه احد من الناس، وانما خصهُ رب الناس، وخالق الموجودات، الحق تعالى إله العباد (10).

والاولياء يتصل بعضهم ببعض عن طريق المبشرات، وهي رؤى يراها المؤمن فتتحقق له، ويتقابلون بطريق التوجه رغم بعد الزمان والمكان ويلهمون الهاماً بالمغيبات، وحلول المشكلات، ودولتهم تقوم على مصادر ثلاثة: الرؤيا، والطاعة، والاخلاص،...، ويتأكد للدولة الباطنية وجودها بما يفيض الله على اعضائها من كشوفات وانتصارات وفتوحات، وفيوضات، وما يمن عليهم من نعم، ومنن وعطايا ومشاهدات، وتجليات، وما يتولاهم الله برعايته من رحمات، فيفتح عليهم، فيصبحون في عباده المخلصين، إذا قالوا صدقوا، وإذا وعدوا انجزوا، لهم فراسات وتوسمات ، ورؤى وكرامات، وحكم ومعارف ،وعلوم اشراقية عجز عنها الوصف ويقف امامها العقل حائراً (11).

بطبيعة الحال ان الحديث هنا عن حكومة روحية خاصة لا تسري سلطاتها الروحية على افراد المجتمع كافة، إذ هي مخصوصة بأبناء الطرق الصوفية وجملة العرفاء الموجودين، ولكن السؤال المحوري الذي يطرح هنا هو: هل لهذهِ الحكومة الباطنية تأثير على الدولة وسلطتها السياسية وسائر المؤسسات المرتبطة بها؟: وهل هؤلاء اعضاء هذهِ الحكومة الباطنية لهم أدوار أو وظائف سياسية، ومن ثم لديهم مواقف سياسية واضحة؟.

لا يمكن ان يكون لها اثر سياسي أو نشاط سياسي مباشر وواضح ولكن انعزالها وانسحابها عن المشهد السياسي بالضرورة سيكون ذا صيغة معارضة بطبيعة الحال، ولعل السلطات السياسية في الكثير من البلاد تسعى إلى ارضائها، لما لها من دور كبير في العملية الانتخابية كما في مصر والمغرب والجزائر على وجه الخصوص، ومن ثم فإن دورهم سلبي بنحوٍ ما، ولكن احدى ايجابياتهم هي ترشيد سلوك اعضائها أو مريديها الذين ينتشرون بين المدن والارياف بنحوٍ كبير، ولعل السلبية السياسية هي الطاغية عليهم عموماً.

ولكن المعوّل دائماً منذُ القرن الثالث الهجري إلى القرن المعاصر على العرفاء المتفرقين هنا وهناك في العالم الاسلامي، وهذا الامر هو الذي أشار اليه وأكده العارف الاكبر الشيخ محي الدين بن عربي، من خلال حديثه الدائم عن الولاية المطلقة لـ(الولي) العارف. وهذا ما فصلَ في وظائفه ومن جملته الوظائف السياسية في كتابه المبرّز في هذا الشأن (التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية) والذي يقابل فيه بين العوالم المادية والاجتماعية والباطنية، وقال عنه ابن العربي واصفاً: وهو مشتمل على مقدمة وتمهيد وأحدٍ وعشرين باباً من دقائق التوحيد في تدبير الملك الذي لا يبيد على الترتيب الحكمي والنظام الالهي، وجاء غريباً في شأنه ممزوجاً رمزه ببيانه، يقرأه الخاص والعام ومن كان في الحضيض الاوهد ومستوى الجلال والاكرام. (قد علم كل اناس مشربهم) ففيه للخواص اشارة لائحة وللعوام طريقة واضحة، وهو لباب التصوف، وسبيل التعرف بحضرة الترؤف والتعطف، يلهج به الواصل والسالك، ويأخذ منه حظه منه المملوك والمالك، يُعرب عن حقيقة الانسان وعُلو منصبه على سائر الحيوان، وانه مختصر من العالم المحيط مركب من كثيف وبسيط لم يبق في الأماكن شيء إلّا أودع فيه اول منشئه ومبانيه، حتى برز على غاية الكمال وظهر في البرازخ بين الجلال والجمال (12).

وهو يقابل بين الممالك الثلاث عالم الافلاك والاجرام وعالم الطبيعة (النبات والحيوان) وعالم الانسان كيما يصل بين تداخلهن وتمازجهن وتشابهن، ولكنه يولي لعالم الانسان أو المملكة الانسانية الحصة الاوفر لمقام الانسان (خليفة الله) وهنا تظهر ملامح الرؤية السياسية لديه والتي تتمظهر بحسب المنطق العرفاني والعالم الباطني للإنسان الكامل أو الساعي للكمال ضمن كافة شؤونه ومن ضمنها (الشأن السياسي) الذي لا يغيب عن أبن عربي.

إذ يقول: ولما أردنا ان نأخذ في مقابلة النسختين العالم الاكبر والاصغر على الاطلاق في جميع الاسرار العامة والخاصة، رأينا ان ذلك يطول وغرضنا من العلوم ما يوصل إلى النجاة في الآخرة، إذ الدنيا فانية داثرة، فعدلنا إلى امرٍ يكون فيه النجاة ويتمشى معهُ المراد الذي بنينا عليه كتابنا وهو: أنا نظرنا الانسان فوجدناه مكلفاً مسخراً بين وعدٍ ووعيدٍ، فسعينا في نجاته مما توعد بهِ وتخليصه لما وعد الله فأضطرنا الحال في اقامة القسطاس عليه من العالم الاكبر، فقلنا: أين ظهرت الحكمة من الخطاب والوعد والوعيد من العالم الاكبر؟ فرأنيا ذلك في حضرة الامر والنهي وحضرة الامامة ومقر الخلافة، فوجدنا الخليفة شاهداً، فيه ظهرت الحكمة وأثر الاسماء وعلى يديه تنفعل أكثر المكونات المخلوقة للباري تعالى. فتقصينا الاثر وأمعنا النظر في حظ الانسان من هذه الحضرة الامامية، فوجدنا في الانسان خليفة ووزيراً وقاضياً وكاتباً، وقابض خراجٍ وجبايات، وأعواناً ومقابلة اعداء، وقتلاً وأسراً  إلى إمثال هذا مما يليق بحضرة الخلافة التي هي محل الارث، وفي الانبياء انتشرت راياتها ولاحت علامتها، وأذعن الكل لسلطانها (13).

هي مقابلة تامة بين الدولة بالمعنى الخاص بأدواتها أو مؤسساتها باختلاف العصور وبين الانسان الحاوي لذات تلك الادوات، فالخليفة عنده هو الروح، والذي يضع لها واجبات ومشاغل خاصة، والوزير عنده هو العقل، والقاضي هو العدل، وهكذا يستمر ابن العربي في بيان معالم تلك الدولة أو الحكومة الباطنية التي تقابل عالم الظاهر والحس في الدنيا، وما مراده إلّا ليبين ان اصلاح الباطن كفيل بأصلاح الظاهر والتي في مقدمتها ( السلطة) ومؤسساتها الراعية لها، ونحيل القارئ إلى الكتاب للمراجعة والبحث عن المماثلة والمطابقة بين ما قاله ابن العربي وبين الدولة في صيغتها الواقعية.

لعل أحدهم يتساءل: هل ان المتصوفة مشغولون ومنهمون بمدوناتهم بحكومة الباطن اكثر من حكومة الظاهر؟ ام ان للأمر وجهة نظر أخرى؟ او توجد مواقف اخرى عن مواجهة العرفاء أو التصدي للشؤون السياسية وتحولاتها ان كانت لحاكم من أبناء البلد أو كان غازياً؟ بطبيعة الحال نحن نوهنا عن ألوان وصيغ التعاطي مع الشأن السياسي وعلى عدة مراحل تاريخية متباينة، ولعلنا سنجعل من سيرة ومواقف وتنظيرات العارف التركي سعيد النورسي (1877-1960) الملقب بـ(بديع الزمان) خير انموذج واجه أعتى وأبشع اشكال إنهاء الحياة الروحية واقصاء الدين عن الدولة والمجتمع إلّا وهي سياسات (العلمنة) التي أعتمدها كمال أتاتورك وأسلافه (  1881-1938 )، لأجل الوقوف عن معاني ودلالات (عرفان سياسي) مارسهُ الاستاذ النورسي إلى ساعة رحيله، وهو يتحدى ويقارع تلك السياسات التي أستدعت منهُ نهضة روحية بثها في مشروعه الفكري والروحي والاخلاقي (رسائل النور).

لعل في حدود المواجهة المباشرة كان النورسي ضد علمنة الدولة العثمانية بعد سقوط الخلافة وتولي أتاتورك الحكم كرئيس جمهورية، ولكن في حقيقة الامر ان المواجهة التي أقامها النورسي ازاء العلمانية كانت تنتمي إلى حدود وفضاءات أوسع لأنه جعل من مركزية القرآن الكريم مواجهة للمركزية الغربية وفي شتى القضايا، وهذا الامر ظل يعمل عليه إلى حين وفاته، وهذا ما أكدته (رسائل النور).

وذلك أنه لجدير بالاهمية والتأمل، ان مؤلف رسائل النور قد حدث له انقلاب مهم في حوالي سنة 1899م (1316ه) إذ كان يهعتم بالعلوم المتنوعة إلى هذا التاريخ لأجل استيعاب العلوم والاستنارة بها، أما بعده فقد علم من الوالي المرحوم (طاهر باشا) ان أوروبا تحيك مؤامرة خبيثة حول القرآن الكريم، إذ سمع منهُ ان وزير المستعمرات البريطاني قد قال: (ما دام هذا القرآن بيد المسلمين فلن نحكمهم حكماً حقيقياً، فلنسع إلى نزعه منهم)، فثارت ثائرته واحتد وغضب... وغير اهتمامه من جراء هذا الانقلاب الفكري فيه... جاعلاً جميع العلوم المتنوعة المخزونة في ذهنه مدارج للوصول إلى ادراك معاني القرآن الكريم واثبات حقائقه، ولم يعرف بعد ذلك سوى القرآن هدفاً لعلمه وغاية لحياته، واصبحت المعجزة المعنوية للقرآن الكريم دليلاً ومرشداً واستاذاً له حتى انه اعلن لمن حوله: (لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن اطفاء نورها) (14).

والنشاط السياسي للنورسي مر بأطوار مختلفة ينبغي الاشارة اليها، لأنها تبين لنا كيف تحول من رجل كان على المحك بالشؤون السياسية بنحوٍ مباشر، وكيف تحول النشاط السياسي لديه عبر انتقاله الى (العرفان السياسي) وبطريقة مغايرة ولما أسماه هو في مذكراته بين (سعيد القديم) و(سعيد الجديد)، ولهذا الامر مغزى جوهري من جهة أن تركيزه على القرآن الكريم وتلمذة اتباعه في اجواء الفهم الجديد للقرآن أو استخراج جواهره المتنوعة، استدعى منه فهماً جديداً لمعنى ان يكون مواجهاً السلطات آنذاك.

مرحلة (سعيد القديم) تبدأ من السنوات المبكرة لشبابه حتى نفيه إلى (بارلا) سنة (1926م) وخلال هذهِ المرحلة حاول النورسي خدمة الاسلام عبر الانخراط في الحياة السياسية ومحاولة التأثير فيها، وعبر دعوته للإصلاح السياسي والتعليمي في عهد السلطان عبد الحميد، والقائه الخطب في الجوامع والساحات، ونشره للمقالات السياسية العنيفة في جريدة (وولقان) ومحاولته استمالة رجال الاتحاد والترقي وتسخيرهم لخدمة الاسلام، وتصديه للتيارات المُعادية للدين(15).

فلقد كان ينظر بعين الريبة والشك في رجال الاتحاد والترقي وكان يتهمهم بالتغريب وسحق الهوية الاسلامية، وهذا ما عبرت عنه مواقفه ابان أعلان المشروطية التي أيد دلالاتها وأهميتها في ادارة الدولة، ولكن كان يخشى من سطوة الحرية المنفلتة، التي يتزعمها رجال الاتحاد والترقي، ولهذا قال: ان اصحاب الافكار الفاسدة يريدون الاستبداد والمظالم تحت شعار الحرية، فلأجل إلّا نشاهد مرة اخرى تلك الاستبدادات التي دفنت في حفر الماضي ولا تلك المظالم التي جرت في سيل الزمان،...، إن هذا الانقلاب لو أعطى الحرية التي ولدّها لأحضان الشورى الشرعية لتربيها فتُبعث أمجاد الماضي لهذهِ الامة قوية حاكمة، بينما لو صادفت تلك الحرية الاغراض الشخصية، فستنقلب إلى استبداد مطلق، فتموت تلك المولودة في مهدها، يا أبناء الوطن، لا تفسروا الحرية تفسيراً سيئاً، كي لا تفلت من أيديكم، ولا تخنقونا بسقي الاستعباد السابق الفاسد في إناء آخر. وذلك لأن الحرية إنما تزدهر بمراعاة الاحكام الشرعية وآدابها والتخلق بالأخلاق الفاضلة(16).

والمركزية الغربية لا تغيب ناظريه حتى لو كان الشأن داخليا وخاصا للغاية، إذ ينوه عنها قائلاً: ان اوروبا تظن ان الشريعة هي التي تمد الاستبداد بالقوة وتعينه، حاش وكلا.. ان الجهل والتعصب المتفشيين فينا قد ساعدا أوروبا لتحمل ظناً خاطئاً من أن الشريعة تعني الاستبداد، لذا تألمتُ كثيراً من أعماق قلبي على ظنهم السيء هذا بالشريعة.... (17).

النورسي بعد ذلك اتخذ موقفا مغايرا من السياسة، ولعل الامر يبدو كمفارقة للوهلة الاولى، ولكن من يتمعن يدرك ان ممارسة الموقف من السياسة والسياسيين بطريقة جديدة نلاحظها بوضوح شديد بعد مجيء أتاتورك لسدة الحكم، ولعل هذهِ المفارقة تظهر لمن يرى جوابه عن السؤال الآتي: لم انسحبت من ميدان السياسة ولا تتقرب إليها قط؟ قال مجيباً: لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب عشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها، فذهبت محاولته ادراج الرياح، إذ رأى ان تلك الطريق ذات مشاكل، ومشكوك فيها، وان التدخل فيها فضول- بالنسبة إليَّ، فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب، وهي ذات خطورة، وأن أغلبها خداع واكاذيب. وهناك احتمال ان يكون الشخص آلة بيد الاجنبي دون ان يشعر، وكذا فالذي يخوض غمار السياسة إما ان يكون موافقاً لسياسة الدولة أو معارضاً لها، فإن كنت موافقاً فالتدخل فيها بالنسبة إليّ فضول ولا يغنيني بشيء، حيث إنني لست موظفاً في الدولة ولا نائباً في برلمانها، فلا معنى -عندئذٍ- لممارستي الأمور السياسية وهم ليسوا بحاجة إليّ لأتدخل فيها، وإذا دخلت ضمن المعارضة أو السياسة المخالفة للدولة، فلابد ان أتدخل إما عن طريق الفكر أو عن طريق القوة، فإن كان التدخل فكرياً فليس هنالك حاجة إليَّ أيضاً، لأن الأمور واضحة جداً، والجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا داعي إلى الثرثرة. وان كان التدخل بالقوة، أي بأن أظهر المعارضة بإحداث المشاكل لأجل الوصول إلى هدف مشكوك فيه، فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والأوزار، حيث يُبتلى الكثيرون بجريرة شخص واحد، فلا يرضى وجداني الولوج في الآثام وإلقاء الأبرياء فيها بناء على احتمال أو احتمالين من بين عشرة احتمالات، لأجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالسها الدنيوية وقراءة الجرائد... (18).

ان الهاجس الدائم عند النورسي ليس اسقاط النظام السياسي، بل كل اعماله قبل موقفه انف الذكر وبعده، انما يقوم على ضرورة الاصلاح الدائم وبذل النصح، لكنه كان يدرك ببصريته الثاقبة ان المعارضة المسلحة وتغيير النظام بالقوة يقود إلى الفوضى وأسالة الدماء، وهذا ما رفضه بشكل قاطع، ولهذا لم يشارك بالثورة التي تزعمها سعيد بيران 13/2/1925(19)، فعرفانهُ السياسي كان يدور في فلك اصلاح الباطن كمقدمة لأصلاح الظاهر عبر انشاء واعداد جيل كامل تحت تربيته على المعاني الكلية في القرآن الكريم.

ان التحولات الهائلة التي حدثت بعد انهاء الخلافة وتأسيس الجمهورية التركية الحديثة، دفعت النورسي إلى اتخاذ مواقف سياسية متعددة، لاسيما بعد القرارات التي أقصت الدين من الدولة والمجتمع على حدٍ سواء، إذ قام أتاتورك إلى حين وفاته عام 1938 بكل ما ملكت يداه وما من شأنه انهاء الحضور الاسلامي في مختلف مجالات الحياة، ألغى الخلافة والمحاكم الشرعية، وعدل الدستور لإلغاء الدين من نصوصه، وحظر نشاط كل الفرق والطرق الدينية، وقام بتغييرات تطمس حتى بعض المظاهر الدالّة على ماضي إسلامي، مثل إلغاء الطربوش والحجاب، والابجدية العربية، والتقويم الهجري، وعطلة يوم الجمعة... مقراً، بدلاً منها، مظاهر غربية مثل: القبعة والحرف اللاتيني والتقويم الميلادي والتعطيل يومي السبت والاحد، ومضى أتاتورك أبعد من ذلك عندما فرض مبدأ العلمانية في الدستور وانشأ مؤسسات تابعة للدولة تشرف على الشؤون الدينية و(تضبط) حركة الائمة والوعاظ الذين تحولوا موظفين عند الدولة، كما ألغى الدروس الدينية من المدارس بموجب قانون (توحيد التدريس) أي بأختصار، وضع أتاتورك تركيا على سكة (العلمنة والتغريب) (20).

بوجهٍ عام حاربت السلطة الجديدة الدين، وطال اضطهادها كل من رأت منه عدم الامتثال لها، فأعدمت عدداً كبيراً من علماء الاسلام، وأصدرت بحقهم قانون الخيانة الوطنية، وهو القانون نفسه الذي تم بموجبه اعدام (الشيخ سعيد بيران) وسجنت أربعين عالماً من أصحابه بحجة قيامهم بحركة مقاومة كردية مدعومة من قبل الانجليز، على حين كانت في حقيقتها حركة إسلامية ضد النظام العلماني، كما أُعدم كثيرون غيرهم، وسجن وعذب آخر في محاكم الاستقلال التي أنشئت لتصفية الخصوم(21).

ان الاستبداد السياسي العلماني الجديد ذو القبضة الحديدة والعنيفة فرض على الاستاذ النورسي ممارسة تقية سياسية لأجل تمرير خطابه الروحي والنقدي ضمن سياقات خاصة، إذ بعد فشل ثورة الشيخ بيران اتهم النورسي بدعمها مما دفع السلطات إلى نفيه إلى قرية نائية في غربي الاناضول من أعمال (إسبارطة) أسمها (بارلا)، وكان تحت المراقبة الدائمة والمستمر’، وكما قال كاتب السيرة :كانت عيون السلطة تترصد الاستاذ وتراقب حركاته وسكناته لذا كان الاهالي يتجنبون الاقتراب منه والتحدث إليه، فكان يقضي اكثر قوته في البيت أو يخرج في فصلي الربيع والصيف إلى جبل وجام، ويختلي هناك بنفسه في قمة الجبل وبين الاشجار متأملاً ومتعبداً(22).

ولكن رويداً رويداً بدأت الناس تتجمع حوله بعدما بنى مسجداً في هذهِ القرية وبدأ في مشروعه العاكف على تجريد فهم آيات القرآن واستخراج المعاني والدلالات الكونية والروحية والاخلاقية والاجتماعية منها، وعن ذلك الامر قال النورسي: أخذتني الاقدار نفياً من مدينة إلى اخرى... وفي هذهِ الاثناء تولدت من صميم قلبي معانٍ جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم... أمليتها على من حولي من الاشخاص، تلك الرسائل التي أطلقت عليها اسم (رسائل النور) إنها انبعثت حقاً من نور القرآن الكريم لذا نبع هذا الاسم من صميم وجداني، فأنا على قناعة تامة ويقين جازم بأن هذهِ الرسائل ليست مما مضغته أفكاري وانما هي إلهام إلهي (23).

ولكن هذهِ الرسائل لا يمكن ان تستمر دون هذهِ التقية السياسية التي مارسها الاستاذ وعبّر عنها بمبادئ معينة قائلاً: في زمن عجيب كزماننا هذا، لا بد من تطبيق خمسة أسس ثابتة، حتى يمكن انقاذ البلاد وانقاذ الحياة الاجتماعية بأبنائها من الفوضى والانقسام، وهذه المبادئ هي: 1- الاحترام المتبادل 2- الشفقة والرحمة

3- الابتعاد عن الحرام  4-الحفاظ على الامن 5- نبذ الفوضى والغوغائية، والدخدول في الطاعة (24).

وهو كان يتوخى نشر فكره وكسب الاتباع والمريدين عبر هذه الرسائل التي لا يمكن نشرها على نطاق واسع من دون الاعتماد على هذهِ المبادئ، ولهذا قال: والدليل على ان رسائل النور في نظرتها إلى الحياة الاجتماعية قد ظلت تُبث وتُحكم هذهِ الأسس الخمسة وتحترمها احتراماً جاداً محافظة بذلك على الحجر الاساس لأمن البلاد، وهو ان رسائل النور قد استطاعت في مدى عشرين عاماً ان تجعل اكثر من مائة الف رجل اعضاء نافعين للبلاد والعباد دون ان يتأذى أو يتضرر بهم احد من الناس، ولعل محافظتي إسبارطة وقسطموني خير شاهد وأبرز دليل على صدق ما نقول (25).

من يتمعن جيداً برسائل النور وبجملة المواضيع التي غطتها منذُ انطلاقها واهتمام الناس بها ومن كل الفئات والطبقات، انما يؤكد لنا ان الاستاذ النورسي أراد لتلك الرسائل ان تعبر عن مضامين القرآن الكريم المتعددة والتي تغطي كافة شؤون الحياة والوجود بشكلٍ عام كيما تكون هي (المعادل الموضوعي) لسياسات العلمنة وثقافتها التي ابتلعت كل جوانب الحياة آنذاك في تركيا.

ولعل الامر اللافت للنظر هنا أن علمنة الدولة التركية أسست جيلا واسعا من الشباب اللادينيين الذين كانوا يناصبون الاستاذ النورسي العداء، قبالة جيل روحي/ أخلاقي عمل الاستاذ على أعداده وتهذيبه، ولهذا كانت هنالك حرب مجتمعية خفية بني هذين الجيلين، جيل (العلمنة) وجيل (رسائل النور).

ولهذا قدم الجيل العلماني ومن خلفه السلطات السياسية والامنية المراقبة لنشاطات الاستاذ وجليه (القرآني الجديد) تهمة تشكيل جمعية سرية، والقيام بأعمال ضد النظام الحاكم وما يهدم أسسه... وأمثالها من التهم. وعلى إثر هذا أخذ الاستاذ النورسي وطلابه في 25/4/1935 وسيقوا مكبلي الايدي إلى (أسكي شهر) لمحاكمتهم، وكانت هنالك خشية من السلطات لحدوث ثورة واسعة فلهذا كانت الاجهزة الامنية وبرئاسة رئيس الوزراء آنذاك (عصمت إينونو) تراقب خطورة الموقف(26).

وهكذا اقتيد الاستاذ النورسي ومائة وعشرون من طلابه إلى سجن أسكي شهر ووضعوا في السجن الانفرادي والتجريد المطلق، وبدأت عمليات التعذيب الرهيب تنهال عليهم، لكن الاستاذ رغم الظروف الشاقة استمر في الارشاد والتوجيه، فتحول كثير من المسجونين إلى ذوي صلاح وتقوى (27).

لاشك في ان النورسي قد وجه جزءاً كبيراً من عنايته إلى مسألة (التربية الروحية) أو بالأحرى (التزكية)، كيف لا؟ وهي مفتاح الفهم لكل عملية تربوية تتغيا اخراج جيل قرآني رباني يُساهم من خلال (العمل الايجابي البناء) في خلافة الارض وعمارتها، والقيام بمسؤوليات الأمانة الملقاة على عاتقه بحكم اختياره وحمله لها (28)، وانطلاقات من القرآن الكريم الذي حث في الكثير من آياته على ضرورة التزكية، واتساقا مع تركيز النورسي على الجانب العملي في التربية الروحية، أكد بديع الزمان ان الطرائق إلى الخالق عز وجل كثيرة ومتعددة، لكن مردّها جميعاً إلى القرآن الكريم(29).

وبعد ان قضى مدة محكوميته في سجن (أسكي شهر) تم نفيه إلى مدينة قسطموني وقد بقي فيها ثماني سنوات، وهو يكتب رسائل النور ويرشد المجتمع، ويستمر في تهذيب الافراد آنذاك كيما ينظموا إلى الجيل القرآني/النوراني الذي عكف على تهذيبه قبالة جيل اللادينيين، ثم يستمر مسلسل الاتهامات له ولتلاميذه واتباعه بأنهم يألفون (جمعية سرية) تحرض الشعب على الحكومة العلمانية، ومحاولة قلب نظام الحكم، ثم تسمية مصطفى اتاتورك بـ(الدجال و(السفياني)(30).

ولقد حاولوا مراراً وتكراراً تسميم طعامه، ولكن بعض تلاميذه ينقذوه ويستمر النفي تلو النفي والسجن تلو السجن، تحت دعاوى الاتهام ذاتها التي تتكرر، وما خشيتهم منه ومن رسائل النور ومن تلاميذه، إلّا لأنهم جيل قرآني يمارس العرفان السياسي بنحوٍ من التقية المكثفة تحت مظلة نشر معارف القرآن الكريم المتعددة.

ما نريد ان نختم بهِ هو القول بأن الاستاذ النورسي على سيرة الاولياء والعرفاء وفي مقدمتهم أبن العربي، ذهبَ نحو أن اصلاح الباطن مقدمة جوهرية لا مهرب منها لإصلاح الظاهر، فإصلاح الدولة لا يتم من دون أفراد صالحين يقودون هذا الامر ويولونه اهميته، ومن دون هذهِ المعادلة لا طائل من الاندكاك بالعمل السياسي.

 

جعفر نجم نصر

.......................

المراجع:

(1) هادي العلوي، مدارات صوفية: تراث الثورة المشاعية في الشرق، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق - بغداد، ط2، 2007، ص49.

(2) ينظر: علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، الجزء الثاني، دار المعارف، القاهرة، ط7، 1977، ص63-65.

(3) كامل مصطفى الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع، الجزء الاول، منشورات الجمل-بيروت-بغداد، 2011، ص280.

(4) سليمان بشير ديان، الصوفي والدولة، مقالة في كتاب: ما وراء الغرب العلماني، تحرير: عقيل بلغرامي، ت: عبيدة عامر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2018، ص41-42.

(5) المصدر نفسه، ص47-48.

(6) المصدر نفسه،ص50_51.

(7)لتفاصيل أكثر ينظر: خليل عبد الكريم، شدد الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، دار مصر المحروسة، القاهرة، ط1، 2011، ص328 وص334.

 

(8) بومدين بوزيد، التصوف والسلطة: جدل المقاومة والسلم ورمزية صاحب الوقت، دائرة الامة، الجزائر، 2012، ص85.

(9) المصدر نفسه، ص87.

(10) حسن محمد الشرقاوي، الحكومة الباطنية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1992، ص20.

(11)المصدر نفسه،ص20.

(12) محي الدين بن العربي، التدبيرات الإلهية في اصلاح المملكة الانسانية، دراسة وتحقيق وتعليق: د. محمد عبد الحي العدلوني الادريسي الحسني، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1، 2015، ص70.

(13) المصدر نفسه، ص77.

(14) بديع الزمان سعيد النورسي، كليات رسائل النور، سيرة ذاتية (المجلد 9)، اعداد وترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار سوزلر، القاهرة، ط6، 2011، ص88-89.

(15) ابراهيم سليم ابو حليوه، بديع الزمان النورسي وتحديات عصره، مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي، بيروت، ط1، 2010، ص30.

(16) بديع الزمان سعيد النورسي، المصدر نفسه، ص105-106.

(17) المصدر السابق نفسه، ص107.

(18) المصدر نفسه، ً241.

(19) ينظر تفاصيل اكثر: المصدر نفسه، ص243.

(20) محمد نور الدين، قبعة وعمامة: مدخل إلى الحركات الاسلامية في تركيا، دار النهار للنشر، بيروت، ط1، 1997، ص20.

(21) إبراهيم سليم ابو حليوه، بديع الزمان النورسي، مصدر سابق، ص65.

(22) بديع الزمان النورسي، سيرة ذاتية، مصدر سابق، ص259.

(23) المصدر نفسه، ص277.

(24) بديع الزمان النورسي، كليات رسائل النور، الشعاعات، المجلد (4)، مصدر سباق، ص384.

(25) المصدر نفسه، ص384-385.

(26) ينظر: بديع الزمان النورسي، سيرة ذاتية، مصدر سابق، ص295-296.

(27) المصدر نفسه، ص296.

(28) محمد حلمي عبد الوهاب، التصوف في سياق النهضة: من محمد عبده إلى سعيد النورسي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2018، ص145.

(29) المصدر نفسه، ص146.

(30) بديع الزمان النورسي،سيرة ذاتية ،مصدر سابق، ص375.

 

 

محمد بنيعيش1- بعدما بهت الذين كفروا أمام الذي رأوا في الصحيفة الظالمة من خلال تحقق معجزة الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والتي كانت ذات قوة مضاعفة جمعت بين الصور المادية المتمثلة في انتقاء الحق من الباطل، كما ارتقت على كل العقول والتخمينات البشرية العادية إخبارا بالغيب كمعجزة معرفية وعلمية.

فقد لجأ الكفار، عوضا عن أن يسلموا ويستسلموا، إلى مضاعفة العناد والزيادة في نسبة ومقادير العداء للدعوة وصاحبها وأتباعه .

وفي هذه المرحلة سيتصاعد البلاء على أشده وعلى عدة مستويات، يمكن أن نستعرض بعض أوجهه مما قد لا تستطيع الجبال تحمله.بحيث هنا ستتداخل المراحل والأماكن والطموحات والآمال مصطدمة مع الإحباطات وخيبة الرجاء حتى قد بلغت القلوب الحناجر وترددت النفوس بين خيار البقاء أو الرحيل والإقامة أو الهجرة...

فكان عثمان بن مظعون السابق ذكره من بين الذين امتحنوا بعدما فرج الله عنهم ووجدوا السعة في أرض الحبشة حتى عادوا إلى مكة، متفائلين بالنصر والتمكين لمعطيات وأخبار وصلتهم ببصيص الفرج كان من بينها إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

بحيث قد اصطدم بالواقع الذي ليس له دافع، فوقع من جديد في الحصار من غير حصار الشعب وتم التنكيل به ومن معه من الصحابة الكرام الذين سلكوا نفس مسلكه في اختيار الجوار المقدس جوار الله العزيز الحميد.

أما بالنسبة إلى رسول الله (ص) وهو أشد الناس بلاء فلقد كان على موعد مع القدر في ابتلائه، وهو كأشد ما يكون من وسيلة لامتحان القلوب وصقلها على التسليم وتقبل ما يلائم وما لا يلائم بحسب علو المقام، كما أن فيه سبرا لصدق التوكل وحسن الظن بالله تعالى، وأنه لا يقدر للعبد إلا ما فيه سر عبوديته وحقيقتها، وسر شكره وحمده حيث لا يحمد على مكروه سواه .

وكيف لا يكون البلاء بهذا المستوى وهذا الصنف والرسول (ص) سيد الموحدين وهو سيد الخلق والرسل وهو أول العابدين في قبول امتحان سيده.

فلقد جاء القدر مباشرة، بعد معاناة الحصار والتطلع إلى الفرج و نسيان الأضرار والركون إلى تدارك الأنفاس وبسط الاستبشار، مختطفا أهم سند قومي ومدافع عصبي له (ص) وذلك بوفاة عمه أبي طالب، ثم بعده بزمن قليل، لا يتجاوز الأيام على عد الأصابع، زوجته وسنده العاطفي والمعنوي والمادي سيدة الصديقات في تاريخ أزواج الأنبياء والرسل من أولي العزم، أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، كما عبر عن ذلك ابن كثير في وصف ذوقي جميل إثر الحديث عن وفاة أبي طالب:"ثم من بعده خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله (ص) ورضي الله عنها .وقيل :بل هي توفيت قبله والمشهور الأول .

وهذان المشفقان :هذا في الظاهر، وهذا في الباطن .هذا كافر، وهذه مؤمنة صديقة ر ضي الله عنها وأرضاها.

2- قال ابن إسحق:ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد.

فتتابعت على رسول الله (ص) المصائب بهُلْك خديجة وكانت له وزير صدق على الابتلاء يسكن إليها، و بهُلْك عمه أبي طالب، وكان له عضدا وحرزا في أمره ومنعة وناصرا على قومه وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين "1 .

فعبارة هذا في الظاهر بالنسبة إلى أبي طالب وهذا في الباطن بالنسبة إلى السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها مع التمييز بين العقيدتين لدى كل من أبي طالب والسيدة خديجة رضي الله عنها لهو وعي دقيق وشفافية روحية في ملامسة الموضوع وطبيعة المرحلة ذات الارتباط بوجدان النبي (ص) .

إذ أبو طالب قد كان يمثل عصبية بالنسبة إليه (ص) وهي مع ما لازمتها من مؤازرة وثبات موقف وعدم تخلي عند الشدائد ستكون بلسما ودعامة معنوية على المستوى النفسي باعتبار بشريته (ص) وطبيعتها المحتاجة إلى المساندة المجتمعية، ابتداء من الأسرة والقرابة وانتهاء بالعشيرة والقبيلة أو الوطن...

فكان حينذاك رائد هذا الموقف هو أبو طالب بلا منازع، لما له من صفة قد تعوض عن مقام الأبوة بل هي نفسها ولكن في صورتها الفرعية المعاضدة بالعصبية وتبادل الحقوق والواجبات الأبوية والبنوة والتوارث ماديا ومعنويا.

ومما زاد في حزن النبي (ص) على عمه أبي طالب وأسفه ليس فقط لأنه مات وافتقد مساندته، لأنه يعلم يقينا وشهودا أنه منصور بإذن الله تعالى ولن يطاله من الكفار إلا ما أذن الله فيه كترقية وزيادة مقام له، ولكنه وهذا هو الأدعى إلى الحزن والشفقة والأسى أن عمه هذا قد مات على كفر ولم يعلن عقيدته وتصديقه لرسالة ابن أخيه، وهي نهاية كانت أصعب على نفس النبي (ص) من الموت نفسه.بحيث سيكون في الغالب قد اعتراه تأسف على سلبية المصير وسوئه الذي آل إليه أبو طالب بالرغم من مساندته له ونصرته كأعمال جليلة تحتسب له في دائرة الناجين .كما أن الموت على هذه الحالة وبحضرة صناديد قريش قد فتح فرصة ثمينة لهم لإعلان الشماتة بالنبي (ص) والمغالاة في الاستفزاز والمعارضة غير المحدودة لغاية إذايته جسديا والنيل من حريته بالمضيقات والتهديد بالتصفية العلنية .فكانت حينذاك وفاة أبي طالب ذات سلبية على نفسه أولا وذات انعكاسات مرهقة على النبي (ص) ومسار دعوته وأصحابه تبعا.

أما بالنسبة إلى السيدة خديجة رضي الله عنها فقد كانت شريكة حياته (ص) وأم أولاده ومسنده وملاذه في جسمه وروحه وعينه وعاطفته، وهو يرثها وترثه من كل الجوانب، وهي بهذا ستكون قد فاتت عمه أبا طالب من حيث قوة دعمها له (ص) ومركزيتها الجامعة بين التوافق الجسدي وبين الروحي العقدي، وهو الأهم والنقطة الأصعب في تمثل هذا الفقد، أي أنها كانت مؤمنة ومتحدة به روحيا وعاطفيا وجسديا ونسبيا.

ومن هنا فموت أبي طالب كما تذكر الروايات قد كان سابقا للسيدة خديجة رضي الله عنها وذلك كتمهيد للصدمة الكبرى الموالية وتأهب لتحملها، إذ المواساة النفسية النسبية، أي عصبة النسب التي كان يمثلها أبو طالب، ستكون أيضا مما توفرها له (ص) بحكم القرابة والعشيرة، ولكنها ليست كل شيء، بل الأهم هو المقام، أي مقام الصديقية الذي كانت تتمتع به السيدة خديجة ووصلت إليه بواسطة زوجها السيد الرسول (ص)، وهو أعلى مقام مساند للنبوة والرسالة ومناصر لها، سبق وتحدثنا عنه بتفصيل نسبي في كتابنا:نور الأمين ومقدمات إسعاد العالمين.

والنبي الرسول في مثل هذه المراحل الشديدة قد يحتاج إلى الصديقين لمؤازرته أكثر من احتياجه إلى المساندين، إذ هنا يتبين الفرق بين المقامين، بالرغم من أن الصديقين قد يكونون ضرورة مساندين، ولكن ليس كل المساندين قد يكونون صديقين.

3 - وعند هذا الفقد المضاعف جاء عام الحزن الكبير للنبي (ص) بفقد السيدة خديجة رضي الله عنها كصديقة مساندة وهو الذي تلا فقد أبي طالب كمساند غير صدِّيق.وهذا كما قلت قد كان فيه تدريج للنبي (ص) فيما يبدو أن القدر أراده له ليرتقي في عالم معرفة النفس وطب القلوب وانشراحها، وهي ممهدات إلى المعرفة الكبرى، معرفة الله تعالى وتحصيل الشهود بغير قيود وتحقيق الرؤية القدسية من غير حجاب ولا بواب، إذ البواب الأكبر والأجمل سيصبح هو سيدنا محمد (ص) نفسه، أول العابدين وسيد ولد آدم والخلق أجمعين.

وقد سمي العام بعام الحزن، أي أنه قد اكتمل دورته الزمنية بكل أحوالها وظروفها، وتعاقبت عليها جميع الشهور بتلوناتها وأسمائها، وأظلمت مظاهرها ومعابرها فغمت وعمت، وضاقت النفس وتألمت، فما كان بعد هذا الفقد والقبض والجلال إلا طلب الهجرة والترحال إلى ذي العزة والجلال:(حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)2 .

لكن محنة النبي (ص) قد طالت حتى محاولة هذا الخلوص نجيا نفسه، فحوصر في الداخل، في الشعب وخارج الشعب، ومنع من الذهاب إلى الخارج في إقامة إجبارية كأسوأ ما تكون هذه الإقامة وأشدها على النفس.

 

الدكتور محمد بنيعيش

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب

.........................

1- ابن كثير: السيرة النبوية ج2ص122

2- سورة يوسف آية 110

 

اياد الزهيريلا شك بأن ظاهرة الأسطورة تعتبر ظاهرة ثقافية، فهي تمثل المحاولة الأولى للأنسان في سعيه لأنتاج المعرفة، وهي تعكس شوق الأنسان لرصد الحقيقة، والغوص في أعماقها، وهي ظاهرة أختص بها الأنسان عن غيرة من الكائنات الأخرى، هذا التميز كان نتيجة لما يتمتع به هذا الكائن البشري من قدرات عقلية خلقت فيه قابلية التفكير، وأثارت فيه النزعة الملحة لأشباع نزعته المعرفية. فالأسطورة كانت تعتبر الخطوة الأولى للأنسان القديم في تصديه لمحاولة تفسير ما حوله من ظواهر طبيعية أثارت في نفسه الخوف والدهشة، كما أثارت فيه الرغبة والأمل في معرفة كنهها، ولعل لتجنب مضارها، وجلب فوائدها. أن أول سرد أسطوري وضعه الأنسان كان هو أسطورة التكوين، لأن معرفة الكون الذي هو جزء منه كان هاجسه الأول، وكان هاجساً قوياً هزه من الأعماق، مما جعلها تحتل في نفسة مكاناً مقدساً، وقد سيطرة على عقله ومشاعره، وسجلت درجة الأعتقاد منزلة القداسة، حتى بات يزاول طقوساً وشعائر يعبر بها عملياً عن شغفه وأحترامه لها، كما يمكننا القول بأن هذا الأعتقاد شكل أول خطوات التدين عند الأنسان، ومن ذلك سجل الدين له حضور منذ بداية ظهور الأنسان، ومن ذلك لا يمكن لأحدنا أن يجد مجتمعاً أنسانياً خالياً من الدين، منذ الخليقة وليومنا هذا، فالدين حاجه نفسية وعقلية . فالأسطورة كانت باكورة التدين، وهذا ما جعل الباحث فراس السواح يصفها في كتابه (الأسطورة والمعنى ص 20) بأنها (حكاية مقدسة) . أستمرت سطوة الأسطورة على نفوس وعقول البشر لفترة طويلة كنمط تفكير أوحد، الى أن جاءت الفلسفة كنمط تفكير متقدم، أنتقل فيه الأنسان من الخيال والحدس ووعي المشاعر الى التفكير العقلي والمنطقي، ومن نظرة التسليم المطلق لما جاء به السرد الأسطوري الى فلترة عقلية تعتمد في قناعتها على المسلمات المنطقية . هذا التحول في النظرة هو الذي حدى بأفلاطون بجمهوريته بأن صرح بضرورة أبعاد الشعر عن الجمهورية الفاضلة التي تقوم على العقل، لأن السماح بالشعر يعني فتح الطريق أمام الأسطورة (الأسطورة والمعنى ص31). يتضح من كتابات الدكتور خزعل الماجدي، بأستخدام حسه الشعري الخيالي، في التحليل التاريخي للأسطورة، كما أن لأفلاطون كل الحق في أبعاده للشعراء من جمهوريته الفلسفية، وأن هذه الجمهورية حسب أدعاءه تقوم ركيزتها على المنطق، في حين أن الدكتور الماجدي هو في الأصل شاعراً ومجيئه للدراسات التاريخية متأخر على شاعريته، فمزج شاعريته في المنهج العلمي للدراسات التاريخية وخاصة الأسطورة، مما جعله يقع بالمحذور الذي حذر منه أفلاطون بضرورة أبعاد الشعراء من هذا المجال الذي يعتمد بشكل أساس على المنطق.

ولكي لا نطول في هذه المقدمة الضرورية، ننتقل الى الدكتور الماجدي في كيفية خلطه للأسطورة الرافدينية القديمة مع أسطورة قابيل وهابيل التوراتية، وهي أسطورة لست بصدد الدفاع عنها لأني أساساً لا أعتقد بصحتها بأعتبارها تمثل أيضاً سرداً أسطورياً، ولكن كُتبت على أيدي حاخامات اليهود، وهذا ما أكده بوكاي حيث يقول (كان الكتاب المقدس قبل أن يكون مجموعة أسفار تراثاً شعبياً لا سند له الا الذاكرة، وهي العامل الوحيد الذي أعتمد عليه في نقل الأفكار) (بوكاي دراسة الكتب المقدسة ص20 )، ولم أجد هناك مصدراً رئيسياً لها كما يدعي الماجدي في الأسطورة الرافدينية، الا اللهم قد يكون أوحت الأساطير الرافدينية لكتاب الأسفار التوراتية ببعض الأفكار أو أستنهضت بهم أيحاءً أسطورياً، ولكن بنفس الوقت لا يمكنني أن أنفي أفكاراً فيها كان مصدره النبي موسى عليه السلام، ولكن كما هو معروف للمطلعين على السرد الأسطوري أنه قد يبدأ من حقيقة معينه وينسجون عليها حبكة سردية كبيرة تغطس فيها الحقيقة الأولى، ويبقى الوجود الأكبر لما نسجه النساجون من سرد قصصي أسطوري يطغي على البذرة الأولى. أن خطورة ما يريد التوصل اليه الدكتور الماجدي هو سعيه الحثيث، وقصديته الواضحة الى ربط الأسطورة الرافدينية القديمة بالتوراة، متجاوز بها الى المسيحية ليختمها بالأسلام، وهذا مقصده المهم والنهائي. وأن حكاية قابيل وهابيل من خلال تحليل سرديتها التي ربطها الدكتور الماجدي ستكشف أن ليس هناك تناصاً تاماً، ولكن لا يمكنني الجزم بأنه ليس هناك أيحاءً قدمته الأساطير الرافدينية لكتبة التلمود والكابالا وأسفار أبو كريفا وغيرة من الكتب اليهودية التي تناولت حكاية قابيل وهابيل .لنذهب بعد هذه المقدمة الى رصد أدعاءات الدكتور الماجدي في ربطه بين حكاية قابيل وهابيل والأسطورة الرافدينية، وهي بالحقيقة أن هناك أكثر من أسطورة رافدينية يدرجها الدكتور الماجدي والتي يدعي أن التوراة والكتب اليهودية تناصت معها، وأول هذه الأساطير هي أسطورة (أنانا ودِموزي) التي جعل منها الدكتور الماجدي الجذر الذي أرتبطت به أسطورة التوراة، والتي جعل الماجدي من هابيل فيها نضيراً لدِموزي الذي يمثل اله الرعي في المعتقد الأسطوري السومري، وهنا يربطه الماجدي مع هابيل بأعتبار هابيل يمتهن الرعي أيضاً . أن عنصر مشترك واحد لا يشترط التناظر بين الأسطورتين، كما أن هناك أختلافات كثيرة تبعد كل مقاربة بينهم، فمثلاً أن دِموزي يمثل اله الخصب الذي يرعى الزرع،الذي هو مهم للرعي،وهذا يعني أنه ليس ممارس للرعي حتى نماثله مع هابيل الذي تدعيه التوراة أنه مارس الرعي، كما لدِموزي معبد يُعبد فيه أسمه (أي موش) وهو نفس المعبد الذي تُعبد به الآلهة أنانا،كما ذكر الماجدي في كتابه (أنبياء سومريون ص ٢٥٢) وهذه مفارقة في حين أن قابيل أنسان، كما أن هابيل أختلف مع أخيه قابيل، في حين أن دِموزي لم يختلف مع أنانا عشيقته وزوجته، بل أن أنانا شعرت بأنه لم يعد يهتم بها فغضبت منه، فأرسلته الى العالم السفلي غضباً عليه، ولكن بعد توسط الاله أنكي وشفاعته له أرجعت المياه الى مجاريها بين دِموزي وأنانا الالهين العاشقين، ولم يحدث أي جريمة قتل كما حدثت بين هابيل وقابيل، وأن الشفاعة التي حصل عليها دِموزي لم يحصل عليها قابيل من الله، لذى لا أرى أي حالة من التماثل أو التناظر بين حكاية هابيل وقابيل وبين الأسطورة الرافدينيه (دِموزي وأنانا)، فالرجل قد جارى ما فسره الآخرون وخاصة الغربيون في ربطهم هذا بين حكايتين لا رابط لهم، كما أن الماجدي مارس ربطاً تعسفياً يتماشى ونظرته الآيدلوجية التي تسعى الى نسف الأديان السماوية.

كما يمكننا الذهاب الى أسطورة أخرى يتعلل بها الدكتور الماجدي، ويعتبرها دليل آخر مضاف للتناص الحاصل بين الأدب الأسطوري الرافديني وما جاء من حكايات بين دفتي التوراة وغيره من كتب اليهود الأخرى . هذه الأسطورة هي أسطورة (أيميش وأنتين) و هي أسطورة لا علاقة لها بما جاءت به حكاية هابيل وقابيل، ولا علاقة لهما في فحوى الحكايتين، فأيميش وأنتين، هما ألاهين مخلوقين من قِبل الاله انليل، فكان الاله ايميش خُصص ليرعى فصل الصيف والرعي، أي لم يكن راعياً، بل يهيء ظروف الرعي، أي الحقول التي ترعى فيها الحيوانات أما أنتين خلقه لرعاية فصل الشتاء والفلاحة، وقد حصل خلاف بينهما، ولم يُذكر سبب الخلاف، ولكنهما أحتكما الى الاله انليل، والتي يذكر الماجدي أن الاله انليل فض الخلاف بينهما، وقد مال الى جانب الفلاحة والشتاء على الرعي والصيف، في حين أن حكاية التوراة قد بينت الخلاف وسببه، وهي تنافسهم على الزواج من أختهم (أقليما)، وأن الخلاف أنتهى الى مقتل أحدهما، في حين لم يبين في أسطورة (أيميش وأنتين) لا نوع الخلاف وسببه، ولم ينتهيا الى القتل كما حصل مع قابيل وهابيل، وهنا أسئل الدكتور الماجدي أي تشابه وتماثل بين هذه الأسطورة السومرية وماجاء بالتوراة؟، كما أن الباحث فراس السواح ذهب الى أن أنليل قد صالح أيميش وأنتين وأنتهى الأمر بمديح لأنليل (مغامرة العقل الأولى ص211). ولو ذهبنا الى أسطورة رافدينية أخرى أستطراداً بالدليل على لا تناصية التوراة مع الأسطورة الرافدينية في هذا الخصوص، والتي يسوقها خزعل الماجدي كدليل على هذا التناص هو أسطورة (أشنان ولاهار)، حيث يخلق انليل (ألاهار) النعجة، ويخلق (اشنان) الحبوب، وعندما تنافسى أحتكما الى أنليل، وحينها أنحاز انليل الى أشنان الهة الحبوب على حساب لاهار الهة النعجة، وهنا أيضاً تمثل هذه الأسطورة عكس ماذهبت الية حكاية قابيل وهابيل التوراتية، حيث نرى الاله انليل وقف الى جانب أشنان الهة الحبوب في حين أرتضى الله في النص التوراتي الى قبول تقدمة هابيل لحسن سيرته وتقواه، وأنه مجني عليه من قِبل أخيه قابيل، فالله التوراتي يقدم أسباب وجيه للرضى من هابيل والغضب على قابيل، في حين نرى أن الاله انليل يقبل عن أحدهم ولا يقبل من الآخر أنه  مجرد أمر مزاجي للأله أنليل.

أن خلاصة ما أُريد قولة أنني لست بصدد الدفاع عن التوراة، بل بصدد نفي التناص الذي يدعيه الدكتور خزعل الماجدي وغيره من الكثيرين، وكما بينا أنه دليل واهن ولم يقم على حجة يُعتد بها أو يمكن الركون أليها، وأن لا تناظر بين الأسطورة السومرية والحكاية التوراتيه فيما يخصل قابيل وهابيل، بل أنا أميل تماماً الى أن ما جاءت به التوراة والكتب اليهودية الأخرى هو من أنتاج المخيال اليهودي، وهم يمتلكون من الأمكانية ما تغنيهم من الأقتباس من غيرهم، وأن لم أنفي تماماً أنهم لم يأثروا بغيرهم، وهذا ما يحدث في كل زمان ومكان، كما أحببت أن أشير الى نقطة مهمة الا وهي أن القرآن الكريم لم يرد في نصوصه أي أشارة الى أسماء أبني أدم هابيل وقابيل، كما لا يردا حتى في الأحاديث النبوية، الا في حديث ضعيف عن طريق أبن كثير، وأن أبن كثير أعتمد على أبن عباس، وعبد الله بن عمر أبن العاص، وهؤلاء الأثنين وخاصة في مجال التاريخ القديم وقصص الأنبياء القدامى، وقصص الخليقة، يعتمدون كثيراً على أهل الكتاب، وأن هناك الكثير من الباحثين الأسلامين القدامى قد أعتمدوا كثيراً على ما يسمى بالأسرائيليات، وهذا ما نجده مثلاً في كتاب (بدائع الزهور في وقائع الدهور) لمؤلفه محمد بن أياس الحنفي، كما أن هناك بعض المفسرين القريبي عهد منا، قد ذكروا في تفاسيرهم أسما أبني آدم (قابيل وهابيل)، ومنهم محمد رشيد رضا، وسيد قطب، ومحمد جواد مغنية، وهم يعتبرون ذلك من الروايات الأسرائيلية (قصة أبني آدم...غسان عاطف بدران ص12-13).

ومما يجدر الأشارة اليه أن للشيخ محمد جواد البلاغي كتاب مهم بهذا الصدد تحت عنوان (الأكاذيب الأعاجيب)، كما هناك كتاب تحت عنوان (الموروث الأسطوري في تفسير أبن كثير) وهي أطروحة ماجستير في جامعة النجاح بفلسطين من أعداد (مؤيد أحمد سعيد خلف)، حيث تبين ولوج الأسرائيليات في التفاسير الأسلامية، وهناك الكثير الكثير في هذا الصدد . ان التلاعب بالتاريخ أصبحت لعبة تهوي الكثير ممن يسعى للشهرة، أو ينفذ من خلالها أجندة خطيرة، وهي مهام تقوم بها مراكز تنتمي لدوائر دول وجهات متنفذه عالمية تستخدمها كأدوات في حربها الناعمة ضد أديان ودول وشعوب يُراد تحطيمها بأدوات فكرية معقدة لا تحسن عملية النفاذ اليها ومعرفة حقيقتها، وخاصة الشعوب القليلة القراءة مستخدمين التاريخ الموغل بالقِدم والذي يتجنب دخوله الكثير لتشابك أحداثه، والشك في مصادره، كما أني لا أستطيع أن أزعم أن ليس هناك تناص في نقل الأفكار سواء على المستوى التاريخي أو الأدبي، وحتى العلمي والفني، ولكن ما أُريد الأشارة اليه أن ما قد تسلل من خيوط تناص في مواقع سردية أخرى، فهو تناص نقله الكتاب والباحثون والمفسرون في أطار التراث الثقافي التاريخاني، وهو ما حدث بالفعل في الكثير من السرديات، ولكن المهم هو الفصل مابين ما هو موروث ثقافي في مجال التفسير والتأويل، وبين ما يمثل النص الأصلي (الألهي) المتمثل بالكلام الذي أرسله الله سبحانه وتعالى للأنبياء، فالفرق كبير، ولكل منهما مصدره، ولكن الخطورة في دمجهما وأعتبراهما حالة واحدة، ويتمتعان بنفس الدرجة من المقام والقدسية، وهنا هو الخطأ الفادح لمن سهى، والخطيئة العظمى لمن أستهدف ورمى، محاولاً التشوية والتحريف.

 

أياد الزهيري

 

الصفحة 7 من 7

في المثقف اليوم