
نحو تأسيس قاض فيلسوف
مقدمة: يُعَدّ القانون أحد الركائز الأساسية التي يقوم عليها النظام الاجتماعي والسياسي، إذ يشكّل الإطار المنظّم للعلاقات بين الأفراد والجماعات، ويضع الحدود الفاصلة بين الحقوق والواجبات. غير أنّ القانون، في جوهره، ليس مجرد نصوص جامدة أو قواعد ملزمة، بل هو انعكاس لنسق فكري وأخلاقي أعمق، يفتح المجال لتداخل الفلسفة مع بنيته وممارساته. ومن هنا تبرز ضرورة حضور الفلسفة في مجال القضاء، بوصفها أداة لتأصيل المعاني، وتوضيح الغايات، وترسيخ العدالة التي تُعد الغاية العليا لأي نظام قانوني.
ويناقش هذا البحث فكرة "ضرورة الفلسفة للقضاة: نحو تأسيس قاض فيلسوف" من خلال ثلاثة محاور رئيسة: في المحور الأول، نتناول تعريف القانون وأنواعه، مبرزين علاقته باللغة وخصائصه التي تمنحه طبيعته المعيارية والتنظيمية. أمّا المحور الثاني، فيركّز على فلسفة القانون، حيث نتتبع طبيعة العلاقة بين القانون والفلسفة، ونوضح كيف تسهم الفلسفة في إبراز القيم والمعايير التي يقوم عليها التشريع، وصولاً إلى اعتبارها مرافعة فكرية مكمّلة للمرافعة القضائية. وأخيرًا، يتناول المحور الثالث الفلسفة القانونية، فنقف على طبيعتها، وأهميتها في تعزيز الوعي القانوني، مع بيان أهمية الفلسفة القضائية ودورها في صقل وعي القاضي وتوجيه أحكامه نحو ما يحقق العدالة الإنسانية المنشودة.
بهذا التصور، يسعى البحث إلى الكشف عن الصلة الوثيقة بين الفلسفة والقضاء، مبرزًا كيف أنّ الفلسفة ليست ترفًا فكريًا بعيدًا عن ساحة المحاكم، بل ضرورة معرفية وأخلاقية لا غنى عنها لتقويم العقل القضائي وضمان عدالته.
مشكلة البحث
رغم التطور الكبير في الدراسات القانونية والفقهية، يظل حضور الفلسفة في تكوين القاضي وعمله أمرًا يثير تساؤلات جوهرية. فالقانون في صورته التطبيقية قد ينحصر أحيانًا في النصوص واللوائح، بينما العدالة — باعتبارها الغاية الأسمى — تتجاوز حدود النص إلى مقاصده ودلالاته. وهنا تبرز الإشكالية: كيف يمكن للقاضي أن يُفعّل دوره في تحقيق العدالة إذا افتقر إلى البعد الفلسفي الذي يمنحه القدرة على التأمل، والتحليل، وإدراك أبعاد النص القانوني؟ وهل يمكن الاكتفاء بالمعرفة القانونية وحدها لضمان أحكام عادلة، أم أن الفلسفة تمثل عنصرًا مكمّلًا وضروريًا لصقل العقل القضائي وتوجيهه نحو ما هو أعمق من ظاهر النصوص؟.
تساؤلات البحث
ينبثق عن هذه الإشكالية مجموعة من التساؤلات التي يسعى البحث للإجابة عنها، أهمها:
1- ما هو القانون؟ وما هي طبيعته وأنواعه، وكيف تتداخل اللغة في صياغته وتفسيره؟
2- ما طبيعة العلاقة بين الفلسفة والقانون؟ وهل يمكن اعتبار الفلسفة ضرورة لفهم القانون لا مجرد إضافة نظرية؟
3- ما أهمية الفلسفة القانونية في تكوين الفكر القضائي وإبراز مقاصد العدالة؟
كيف تسهم الفلسفة القضائية في توجيه القضاة نحو إصدار أحكام أكثر عدالة وإنصافًا؟
4- إلى أي مدى تمثل الفلسفة ركيزة فكرية وأخلاقية تضمن للقاضي عدم الوقوع في جمود النصوص أو الانحيازات الضيقة؟
منهج البحث
يعتمد هذا البحث على المنهج التحليلي- الوصفي؛ حيث يقوم أولًا بتوصيف المفاهيم الأساسية مثل القانون، الفلسفة، وفلسفة القانون، ثم تحليل طبيعة العلاقة بينها. كما يستعين بالمنهج المقارن لإبراز الفروق بين القانون في صورته النصية وبين القانون المؤسس على رؤية فلسفية أعمق، وذلك من أجل الكشف عن الأبعاد الفكرية والأخلاقية الكامنة خلف الأحكام القضائية. ويهدف هذا المنهج إلى بيان أنّ الفلسفة ليست مجرد إطار نظري، بل وسيلة عملية تسهم في بناء قاضٍ أكثر وعيًا بمقاصد العدالة.
محاور البحث:
مقدمة
المحور الأول: تعريف القانون وأنواعه
المحور الثانى: فلسفة القانون
المحور الثالث: الفلسفة القانونية
الخاتمة
المحور الأول: تعريف القانون وأنواعه
أولًا: تعريف القانون
مصطلح "القانون" (lex باللاتينية، loi بالفرنسية، legge بالإيطالية، ley بالإسبانية، lei بالبرتغالية، nomos باليونانية، law أو statute بالإنجليزية، wet بالهولندية، gesetz بالألمانية، prawo أو ustawa بالبولندية، törvény بالمجرية) يُعَدّ من أكثر المصطلحات شيوعًا في اللغة القانونية.(1) ومنذ القدم، أثارت هذه الكلمة أسئلة وجدلًا حول ماهية القانون، ولم يستطع الفقهاء وضع تعريف جامع مانع له، إذ اختلفت التعريفات باختلاف الزاوية التي يُنظر من خلالها إلى القانون.
فمن المنظور العام، يُعرف القانون بأنه: "مجموعة القواعد التي تضعها سلطة مختصة لتنظيم العلاقات داخل المجتمع، وضبط سلوك الأفراد، بما يكفل استقرار النظام العام وتحقيق العدالة".(2) أما في المعنى الواسع، فيُنظر إليه على أنه: "مجموعة من القواعد الإلزامية التي تصدر عن سلطة عامة مختصة، بهدف الحفاظ على الأمن والنظام، ومنع الفوضى والاعتداء".(3)
وعلى الصعيد الفلسفي، يمكن فهم القانون بأنه: "تجسيد للإرادة العامة، وأداة لتحقيق التوازن بين الحرية الفردية والمصلحة الجماعية".(4) ويعكس هذا البعد الفلسفي الاهتمام بالقيم الأساسية وراء القانون، بعيدًا عن مجرد كونه مجموعة أوامر.
وفي هذا الإطار، يقدّم بلاكستون Blackstone تعريفًا موسعًا للقانون: "تلك القاعدة التي تُفرض من قِبل سلطة عليا، ويجب على الأدنى أن يطيعها"، أما القانون المدني فقد عرّفه بأنه: "قاعدة للسلوك المدني يضعها السلطان الأعلى في الدولة، آمرة بما هو حق، وناهية عمّا هو باطل".(5) وتُبرز هذه التعريفات فكرتين أساسيتين: مفهوم السلطة العليا (superior)، ومفهوم الأمر الملزم (command). ومع ذلك، أثار تعريف بلاكستون جدلًا، إذ قد يستبعد القانون الدولي والقوانين الدستورية التي يسنّها الشعب بنفسه.(6)
ومن جانب آخر، يرى ليون دوغي Léon Duguit أن: "القانون ليس أمرًا من دولة ذات سيادة، بل هو قاعدة تنظّم جماعة ما"،(7) وهو تصور يركز على الوظيفة الاجتماعية للقانون بدل النظر إليه كسلطة مفروضة. وبناءً عليه، يمكن القول إن القانون هو مخطط للضبط الاجتماعي؛ فهو ليس مجرد أمر يصدر من سلطة عليا إلى أدنى، بل منظومة مترابطة تهدف إلى تنظيم سلوك الأفراد بما يحفظ مصالح المجتمع.
أولًا: هذه المنظومة تعنى بالضبط الاجتماعي لا بالتحكم في الفرد مطلقًا؛ إذ يبقى الفرد حرًا في حياته الشخصية ما لم تؤثر أفعاله على الآخرين.
ثانيًا: يتدخل القانون بما يقتضيه الحفاظ على المصالح الاجتماعية، وهذه المصالح تتزايد مع كثرة احتكاك الناس وتنوع علاقاتهم. كما أشار كانط، فالإنسان المعزول لن يكون له مطالب أو حقوق أمام الآخرين، وبالتالي لن تكون هناك مصالح اجتماعية.(8)
ومع تطور المجتمع، ازدادت وتنوعت المصالح الاجتماعية، ما استدعى تدخل القانون لحمايتها. فالمجتمعات الحديثة لا تكفيها مصالح بسيطة مثل حفظ السلام فقط، بل تتطلب حماية مصالح اقتصادية، اجتماعية، وثقافية متعددة.(9) ويقوم المجتمع، غالبًا عبر سلطته السيادية، بتحديد هذه المصالح وضمان حمايتها، رغم التحديات الناجمة عن تضارب مصالح الجماعات المختلفة.(10)
وعليه، يمكن تلخيص دور القانون بأنه مخطط للسيطرة الاجتماعية يهدف إلى حماية مصالح المجتمع التي يقرّرها المجتمع نفسه أو السلطة المختصة، مع الحفاظ على النظام والاستقرار.(11) وهذا ما يؤكده تعريف قاموس بلاك للقانون: "مجموعة من القواعد المنظمة للسلوك أو الفعل، التي يقرّرها سلطة مُهيمنة، وتتمتع بقوة إلزامية قانونية، وما يجب على المواطنين طاعته والامتثال له تحت طائلة الجزاءات أو النتائج القانونية يُعدّ قانونًا".(12)
ثانيًا: اللغة والقانون
بعد أن تناولنا طبيعة القانون وتعريفاته المختلفة، من المهم التطرق إلى وسيلته الأساسية في التعبير والتنفيذ: اللغة. فالقانون، مهما كان دقيقًا أو شاملًا، يظل مجرد مجموعة قواعد على الورق ما لم تُترجم هذه القواعد إلى نصوص قانونية مفهومة وواضحة. إن مساعينا الفكرية في فهم القانون أو تطويره لا تُحرز تقدمًا من دون اللغة، فهي تنقل الرؤى والمعتقدات والأحكام المشتركة، وتتيح التفاهم بين أعضاء الجماعة التي ينتمي إليها القانون.(13)
فاللغة القانونية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أداة لتنفيذ الإرادة التشريعية وضمان التعاون والعدالة. من خلالها يتم وضع القواعد وصيانتها، ومن خلالها يفهم الأفراد حقوقهم وواجباتهم، كما تحدد نطاق المسؤوليات القانونية. ومن هنا تظهر أهمية دقة اللغة القانونية، إذ إن أي غموض أو لبس في النص قد يؤدي إلى تفسيرات متعددة ومتناقضة، مما يفتح الباب أمام النزاعات.(14)
كما أن دراسة اللغة القانونية تكشف الترابط الوثيق بين القانون والثقافة، إذ يعكس القانون تصورات المجتمع عن العدالة، والسلطة، والعلاقة بين الفرد والجماعة، وبالتالي يصبح تحليل الخطاب القانوني مدخلاً لفهم البنية الفكرية والسياسية لأي مجتمع.(15)
وفي الفلسفة الحديثة للقانون، تُعَد اللغة القانونية أداة لضبط السلطة، من خلال صياغة قواعد عامة تُلزم الجميع، حاكمًا ومحكومًا، بما يضمن استقرار النظام القانوني وحماية الحقوق الأساسية.(16)
ثالثًا: أنواع القوانين
بعد أن تناولنا تعريف القانون ووظيفته الأساسية في ضبط المصالح الاجتماعية، وكذلك الدور المحوري للغة القانونية في صياغته وفهمه، يصبح من الضروري التعمّق في تصنيفه وأنواعه. فالفكر القانوني منذ القدم انشغل بتصنيف القوانين وفقًا لمصادرها، ووظائفها، ومجالات تطبيقها، إذ يكشف هذا التصنيف عن تنوع القواعد التي تنظّم العلاقات الإنسانية في المجتمع.
يمكن تصنيف القوانين بطرق متعددة: فقد تُصنَّف بحسب النظم القانونية التي تنتمي إليها (كالإنجليزي، الروماني، الدولي، إلخ)، أو بحسب الموضوعات التي تنظّمها (العقود، الملكية، المسؤولية التقصيرية، إلخ)، أو بحسب نوعها المعياري (ما يفرض الواجبات، ما يمنح الأذونات، إلخ).
1- القانون التشريعي (Legislated law)
القانون التشريعي هو القانون الذي يُنشأ بصورة صريحة ومباشرة، ويشمل القوانين الدستورية المكتوبة، والقوانين العادية الصادرة عن البرلمان، واللوائح التنفيذية، والأنظمة المحلية، بالإضافة إلى الإعلانات الرسمية، والمراسيم، والتوجيهات، والأوامر الحكومية العليا. وفي بعض النظم القانونية، يدخل القانون الاتفاقي (قانون المعاهدات) ضمن دائرة التشريع.(17)
السمات الأساسية للقانون التشريعي:
- قانون مُنشأ صراحةً من سلطة مختصة.
- يتضمن مصادر متعددة: الدساتير، القوانين العادية، اللوائح، الإعلانات، الفرمانات، التوجيهات، الأوامر الحكومية.
- قد يشمل القانون المعاهداتي في بعض الأنظمة القانونية.
- يُعبّر عنه صراحة، أي واضح ومباشر، وليس ضمنيًا أو عرفيًا.
- عادةً ما يكون مكتوبًا ومفصّلًا بالكلمات (قانون واضح) (articulate law)، مع احتمال التعبير عنه بالإشارات أو الصور في ظروف استثنائية (تشريعات غير واضحة) (inarticulate legislation).
2- القانون العرفي (Customary law)
القانون العرفي لا يُنشأ بصورة صريحة، بل يُشكّل من خلال الامتثال والممارسة الاجتماعية، إذ تتكون قواعده من تكرار الأفعال المتقاربة بين أعضاء الجماعة. ولا يتطلب القانون العرفي وجود نية مشتركة أو وعي متبادل بين المشاركين، فالتقارب في السلوك يكفي لتشكيل قاعدة عرفية تصبح ملزمة مع مرور الوقت.(18)
3- القانون القضائي (Case law)
القانون القضائي يُنشأ بواسطة القضاة من خلال الأحكام التي يصدرونها عند الفصل في القضايا. وهو يختلف عن القانون التشريعي في طريقة نشأته، إذ قد يكون القاضي مقصودًا أو عَرَضيًا عند إنشاء قاعدة جديدة. وعلى هذا الأساس، يُعد القانون القضائي أقرب إلى القانون العرفي من التشريعي، لأنه يقوم على استخدام القواعد القائمة في الجدال القانوني وتطويرها حسب الحاجة. ومع ذلك، يتحمل القاضي مسؤولية أخلاقية ومهنية في تأسيس قواعد جديدة على أسس قانونية سليمة.(19)
4- القانون العام (Common Law / Public Law)
القانون العام ينظّم العلاقة بين الدولة ومؤسساتها وأفرادها، ويشمل فروعًا أساسية مثل القانون الدستوري، القانون الإداري، والقانون الجنائي. ويهدف إلى حماية النظام العام وضمان سيادة الدولة على أراضيها وسلطاتها.(20)
ويتميز هذا التقليد القانوني بعدة خصائص:
- يعتمد على عملية مميزة لاكتشاف الحقائق تتمثل في الطابع الخصومي (adversarial)، مع المحاكمة أمام هيئة المحلفين كنموذج رئيسي.
- يجسّد مبدأ سيادة القانون (rule of law)، حيث يخضع الجميع للقواعد نفسها.
- يستخدم فئات قانونية مميزة مثل الوصي (trustee)، المقابل (consideration)، ومانع الدفع. (21)
5- القانون الخاص (Private Law)
القانون الخاص ينظّم العلاقات بين الأفراد بعضهم ببعض، مثل قوانين الأحوال الشخصية والعقود والملكية والالتزامات المدنية، ويركز على حماية الحقوق الفردية وضبط التعاملات بين الأشخاص بعيدًا عن سلطة الدولة المباشرة.(22)
6- القانون الوضعي (Positive Law)
جميع القوانين التي ناقشناها سابقًا تُعدّ ضمن القانون الوضعي، أي أنها مصنوعة من قبل فاعل محدد: التشريعات بواسطة المشرّعين، السوابق القضائية بواسطة القضاة، والقانون العرفي بواسطة السكان. وقد يطلق على القانون القضائي والعرفي أحيانًا "القانون غير التشريعي"، إلا أن كلاهما موجود وملزم بمجرد ممارسة المجتمع له أو تبنيه.(23)
7- القانون الدولي (International Law)
القانون الدولي ينظّم العلاقات بين الدول والمنظمات الدولية، ويشمل المعاهدات والاتفاقيات وحل النزاعات الدولية. ويُقسم عادة إلى قانون دولي عام وخاص.(24)
تثير فلسفة القانون الدولي تساؤلات حول وجوده وشرعيته وأهدافه، بما في ذلك حفظ السلام، تحقيق العدالة، حماية حقوق الإنسان، وتقرير المصير. وقد ساهم العديد من الفلاسفة والقانونيين المعاصرين في تطوير هذا المجال، مثل مايكل وولزر، تشارلز بيتز، هنري شو، مارثا نوسباوم، وآخرين.(25)
8- القانون الموضوعي (Substantive Law)
يحدد القانون الموضوعي الحقوق والواجبات، بينما يحدد القانون الإجرائي الوسائل والإجراءات الكفيلة بحماية هذه الحقوق وتطبيق الجزاءات.(26)
رابعًا: طبيعة القوانين
بعد أن تناولنا أنواع القوانين المختلفة – التشريعية، العرفية، القضائية، العامة، الخاصة، الوضعي، الدولي، والموضوعي – يتّضح أنّ فهم طبيعة هذه القوانين يُعدّ خطوة أساسية لفهم الفقه القانوني، إذ يكشف عن الأسس التي يقوم عليها النظام القانوني ودوره في تنظيم المجتمع. فالقانون ليس مجرد قواعد مكتوبة، بل هو نظام معقد يعكس توازنًا بين السلطة والعدالة، وبين الحرية الفردية والنظام العام.
1- الطابع الإلزامي
تتسم القوانين بكونها إلزامية، أي أنها تفرض واجبات وتقر حقوقًا، ويترتب على مخالفتها توقيع جزاءات محددة من قبل السلطة المختصة، مما يجعلها أداة لضبط السلوك وضمان الاستقرار الاجتماعي.(27)
2- العمومية والتجريد
تتميز القوانين بصفة العمومية والتجريد، فهي لا توضع لأشخاص معينين أو حالات فردية، بل تخاطب الجميع بصفة عامة ومجردة. ويضمن ذلك المساواة أمام القانون ويحول دون استخدامه كوسيلة للتمييز أو الامتياز.
3- الطابع الاجتماعي
يعكس القانون في جوهره الطابع الاجتماعي، فهو وليد الحاجات الاجتماعية ومتأثر بالبيئة الثقافية والسياسية التي ينشأ فيها. لذلك تتغير القوانين وتتطور بتغير الظروف المجتمعية والتاريخية.(28)
4- الطبيعة الوظيفية
للقانون طبيعة وظيفية، إذ لا يقتصر دوره على فرض النظام، بل يمتد إلى تحقيق العدالة وحماية الحقوق والحريات، فضلًا عن كونه أداة للتنمية والتغيير الاجتماعي.(29)
انشغل هارت بتحليل طبيعة القانون بهدف تطوير النظرية القانونية عبر تقديم تحليل دقيق للبنية المميّزة للنظام القانوني الوضعي، محدّدًا ثلاث قضايا أساسية في الفقه القانوني:
- التمييز بين القوة الإلزامية للقانون والبعد التوجيهي للسلوك الناشئ عن الإكراه.
- التمييز بين الالتزامات القانونية والالتزامات الأخلاقية.
- التمييز بين القواعد القانونية، أو أوسع، القواعد الاجتماعية التي تتطلب سلوكًا معينًا، وبين القواعد التي تصف نمطًا سلوكيًا دون إلزام.(30)
1- نظرية القانون الطبيعي عند توما الأكويني
ركز الأكويني على تقديم نظرية في الالتزام السياسي، أي تفسير مصدر وحدود الالتزام الأخلاقي بالامتثال للقانون، وليس على تقديم وصف للطبيعة القانونية بحتة. ففي كتاباته، سبقت "رسالة في القانون" مجموعتان هما "رسالة في الفضيلة" و"رسالة في الرذيلة"، واللتان تقدمان وصفًا لمفهوم الفضيلة والرذيلة وأسبابها، وهو عمل تأملي أكثر من كونه عملي.(31)
المبادئ الأساسية للقانون عند الأكويني:
- القانون هو معيار عقلي للسلوك، إذ أن العقل هو المبدأ الأول الذي يحدد السلوك البشري العقلاني.(32)
- التعريف الشهير للقانون: أمر صادر عن العقل، من أجل الخير العام، يصدره من له عناية بالجماعة، ويكون معلنًا.(33)
- الخير العام: القانون موجه لتنظيم سلوك الجماعة، لا الفرد فقط.
- سلطة التشريع: فقط من أوكلت إليه السلطة يمكنه إصدار قوانين ملزمة.
- الإعلان: يجب أن يُعلن القانون ليعرف الناس بما يلتزمون به ويعملوا وفقه.(34)
2- القانون كأوامر (بنتام – أوستن)
ارتبط القانون عند جيريمي بنتام وأوستن بالمدرسة الوضعيّة، إذ يُنظر إليه على أنه أوامر صادرة من سلطة عليا مقترنة بعقوبة عند العصيان.
أفكار جيريمي بنتام (1748–1832):
- القانون ليس نابعًا من مبادئ أخلاقية، بل أداة لضبط السلوك وتحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس.(35)
- القانون أداة عملية، ويُقاس نجاحه بمدى تحقيق المنفعة العامة.(36)
أفكار جون أوستن (1790–1859):
- القانون هو أوامر الحاكم، مدعومة بالجزاء، وموجهة إلى المحكومين.(37)
- العناصر الأساسية: سلطة سيادية، إلزامية الأوامر، خضوع الأفراد للأوامر.
- فصل أوستن القانون عن الأخلاق، مركزًا على القانون كما هو (law as it is) لا كما ينبغي أن يكون.(38)
3- القانون كقواعد اجتماعية (هربرت هارت)
هربرت هارت (1907–1992) قدّم تصورًا حديثًا للقانون باعتباره ظاهرة اجتماعية قابلة للتحليل المفهومي:
1- القانون ليس مجرد أوامر أو مبادئ مجردة، بل نظام ينبع من الممارسات الاجتماعية الواقعية.
2- وجود حد أدنى لمحتوى القانون الطبيعي ينبع من الطبيعة البشرية:
- قابلية الإنسان للأذى.
- التساوي النسبي بين البشر.
- الأنانية المحدودة.
- ندرة الموارد.
- محدودية الفهم والإرادة.(39)
3- القانون نظام من القواعد الأولية والثانوية:
- القواعد الأولية: تحظر السلوكيات الضارة (العنف، السرقة، الخداع).
- القواعد الثانوية: تشمل قواعد التغيير، وقواعد القضاء، وقواعد الاعتراف، لتكييف القانون مع تعقيدات المجتمع الحديث.(40)
4- القانون كمعايير(هانس كيلسن)
هانس كيلسن (Hans Kelsen) (1881–1973) يُعدّ من أبرز فقهاء القرن العشرين الذين سعوا إلى وضع أساس نظري للقانون بعيدًا عن السياسة والأخلاق. وقد طور ما عُرف بـ "النظرية الخالصة للقانون" (Pure Theory of Law)، التي اعتبرت القانون منظومة من المعايير (Norms)، أي أوامر عامة ومجردة تصدر عن سلطة مختصة، وتكتسب إلزاميتها من علاقتها بمعايير أعلى منها. ومن هنا يمكن فهم موقفه من القانون كظاهرة مستقلة عن الإرادة الشخصية والقيم الأخلاقية.
ويرى كيلسن أن القانون لا يُفهم بوصفه تعبيرًا عن إرادة الحاكم أو عن قيم أخلاقية مطلقة، بل بوصفه نظامًا هرميًا من المعايير: كل قاعدة قانونية تستمد صلاحيتها من قاعدة أعلى، وصولًا إلى ما سماه بـ القاعدة الأساسية (Grundnorm) التي تمنح الشرعية لبقية القواعد.(41) وبذلك، يتميز القانون عنده عن العادات أو القواعد الأخلاقية، حيث يستند إلى مؤسسات الدولة التي تمنحه القوة الإلزامية.
وفي هذا السياق، يوضح كيلسن في نظريته المعقدة المسماة "النظرية الخالصة في القانون"، أن القانون يجب أن يُفهم باعتباره نظامًا من "الواجبات" أو المعايير (Norms). ومع أن القانون يتكوّن أيضًا من الأفعال القانونية التي تحددها هذه المعايير، إلا أن الطابع الجوهري للقانون ينبع من هذه المعايير، التي تشمل القرارات القضائية والمعاملات القانونية مثل العقود والوصايا. ومثلما يقترح الفيلسوف إيمانويل كانط، يرى كيلسن أن فئات شكلية مثل القاعدة الأساسية ضرورية لفهم القانون بشكل موضوعي.(42)
وبناءً على ذلك، يقترح كيلسن فصل القانون عن الأخلاق وعلم النفس وعلم الاجتماع والنظرية السياسية، أي ما يسميه "التطهير الأخلاقي"، بحيث يتركز التحليل على الواجبات القانونية الواضحة والملزمة. وهذا يضمن أن يظل القانون علْمًا مستقلًا قائمًا على معايير محددة، بعيدًا عن التأثيرات الخارجية.(43)
كما شدد كيلسن على ضرورة التمييز بين ما هو كائن (Sein) وما ينبغي أن يكون (Sollen)، أي بين الواقع الاجتماعي والقواعد القانونية، مؤكدًا أن القانون معيار يُلزم الأفراد بسلوك معين، وليس مجرد وصف للواقع. ومن هنا تنبع أهمية نظام المعايير الهرمي في ضمان الشرعية القانونية واستقلالية العلم القانوني عن السياسة أو الأخلاق أو علم الاجتماع.(44)
إن مفهوم كيلسن للمعيار يعني أن هناك شيئًا ينبغي أن يكون، سواء كان سلوكًا محددًا مثل "ينبغي أن يُغلق الباب" أو التزامًا إشاريًا مثل إشارة المرور الحمراء. ومع ذلك، لا يكون المعيار صحيحًا إلا إذا استند إلى معيار أعلى يسبغه بالشرعية، الأمر الذي يبرز النسبية الداخلية للمعايير داخل النظام القانوني. وهكذا، يوفر كيلسن تصورًا للقانون كعلم مستقل قائم على بنية متماسكة، مما أسهم في ترسيخ الأساس الوضعي الحديث للقانون وجعل منه فرعًا قائمًا بذاته.(45)
5- القانون كحقيقة اجتماعية (جوزيف راز)
يُعد جوزيف راز (Joseph Raz) من أبرز فقهاء الوضعية القانونية المعاصرين، وقد طوّر ما يُعرف بـ "نظرية الخدمة"(مفهوم الخدمة للسلطة) (Serivce Conception of Authority)، التي ترى أن القانون يستمد شرعيته من كونه وسيلة لمساعدة الأفراد على تنظيم سلوكهم بما يتوافق مع أسباب عملية قائمة مسبقًا. ومن هذا المنطلق، يقدم راز تصورًا قانونيًا يركّز على وظيفة القانون العملية بدلًا من قيمته الأخلاقية.
لا يمكن تلخيص كتابات الفيلسوف الأكسفوردي جوزيف راز(1939–) بسهولة، فهو يُعدّ أحد أبرز ممثلي الوضعية القانونية الصارمة. ويرى راز أنّ وجود وهوية النظام القانوني يمكن اختبارهما بالرجوع إلى ثلاثة عناصر أساسية: الفعالية، والطابع المؤسسي، والمصادر. وبالتالي، يتم تجريد القانون من أي مضمون أخلاقي، حيث لا تعتمد صلاحية القاعدة القانونية على قيمتها الأخلاقية.(46)
وفي هذا السياق، يؤكد راز أن القانون يتمتع بقدر من الاستقلالية، بحيث يمكن تحديد مضمونه دون الحاجة إلى الرجوع إلى الأخلاق، مع الإشارة إلى أن التفكير القانوني ليس مستقلاً تمامًا، بل هو سمة حتمية في عملية الاستدلال القضائي. ومن هنا، يصبح القانون سلطة ملزمة، قادرة على توجيه سلوك الأفراد بطريقة لا تستطيع الأخلاق أن تفعلها، ما يبرز طابعه السلطوي الفارق عن أي نظام اجتماعي آخر.(47)
ويضيف راز أن القانون في جوهره حقيقة اجتماعية (Social Fact)، فهو ليس انعكاسًا لقيم أخلاقية مطلقة، ولا مجرد معايير مفترضة كما عند كيلسن، بل نتاج لمؤسسات اجتماعية وسياسية تُنشئ القواعد القانونية وتطبقها. وبذلك، يبرز القانون كظاهرة اجتماعية ملموسة، قائمة على الممارسات الفعلية مثل التشريع وأحكام المحاكم وتطبيق السلطات المختصة.(48)
ويؤكد راز أن الشرعية القانونية لا تُفهم إلا في ضوء هذه الطبيعة الاجتماعية، فالقانون ليس ما ينبغي أن يكون، بل ما تحدده المؤسسات التي يعترف بها المجتمع بصفتها صاحبة سلطة الإلزام. وهذا التصور يقربه من مقولات الوضعية القانونية التي فصلت بين القانون والأخلاق، مع الاحتفاظ بإمكانية وجود علاقة غير مباشرة بينهما.(49)
كما طوّر راز مفهوم "الأطروحة الاجتماعية" (Social Thesis)، التي تعني أن صلاحية القاعدة القانونية يمكن تحديدها بالرجوع إلى مصادر اجتماعية واضحة مثل التشريع أو السوابق القضائية، دون الحاجة لتقييمها أخلاقيًا. ومن هنا، اعتبر أن القانون منظومة من المصادر (Sources Thesis)، أي أنه يُعرف من خلال مصدره الاجتماعي لا من خلال مضمونه القيمي. وبذلك، يضع راز القانون ضمن إطار اجتماعي بحت، يركّز على السلطة والمؤسسات والممارسات التي تمنحه وجودًا فعليًا، بدلًا من اعتباره نظامًا مجردًا أو انعكاسًا للقيم الأخلاقية، مما عزز الوضعية القانونية المعاصرة وجعل القانون علمًا لدراسة الواقع المؤسسي الاجتماعي.(50)
المحور الثانى: فلسفة القانون
أولًا: طبيعة العلاقة بين الفلسفة والقانون
يمكن النظر إلى القواعد القانونية الموضوعية على أنها قائمة على افتراضات ومفاهيم واختيارات يمكن وصفها بأنها ذات طبيعة فلسفية، إذ تتعلق بأسئلة مثل: كيفية تقييمنا للصواب والخطأ، الالتزام الأخلاقي للفرد تجاه الآخر، نسب المسؤولية عن السلوك (بما في ذلك مسائل السببية والوكالة والإرادة الحرة)، طبيعة العلاقة بين الدولة والفرد، وكيفية إقناع أنفسنا بمعرفة شيء ما وما معنى هذه المعرفة.(51) وبالتالي، يتضح أن الفلسفة تقدم الأساس النظري الذي يساعدنا على فهم القانون بصورة أعمق وأكثر وضوحًا.
تتميز الكتابات الفلسفية بالوضوح والحجة القوية، وهو ما ينعكس في فهم القوانين، كما يظهر عند هارت، الذي كان فيلسوفًا أولًا، ثم محاميًا، وأخيرًا أستاذًا في علم أصول القانون، من خلال أعماله مثل مقاله «الوضعية والفصل بين القانون والأخلاق» وكتابه الشهير «مفهوم القانون».(52) وفي هذا السياق، يرى جون غاردنر أن التدريب القانوني والفلسفي يتشابهان في كونهما تدريبًا على الجدل والتحليل النقدي، ويقترح تأسيس "مدرسة الجدل" التي تجمع بين القانون والفلسفة بعيدًا عن العلوم الاجتماعية والإنسانية التقليدية.(53)
وقد حددت الحاجة إلى الأمن العام ومصلحة النظام الاجتماعي مسار التفكير الفلسفي في القانون منذ نشأته، إذ دفع البحث عن أساس ثابت لتنظيم السلوك البشري إلى صياغة قواعد توازن بين سلطات الدولة وحريات الأفراد. وفي الوقت نفسه، أوجد ضغط المصالح الاجتماعية المتغيرة تحديات مستمرة لإعادة صياغة القواعد القانونية بما يتلاءم مع التغيرات المستجدة، وهو ما دفع الفلاسفة إلى تطوير نظريات قانونية تحاول توحيد الثبات مع المرونة في النظام القانوني.(54)
ومع توقف المشرعين عن تبرير القانون باعتباره وحيًا إلهيًا، واجه الفلاسفة معضلة إثبات أن القانون ثابت ومستقر وذو سلطة، وفي الوقت ذاته قابل للتغيير وفقًا للظروف المتغيرة. ومن هنا، كانت فلسفات القانون محاولات عقلية لتفسير القانون القائم في زمان ومكان معينين، أو لصياغة نظرية عامة للنظام القانوني، بما يلبي حاجات كل مرحلة من التطور القانوني، وهو الجانب الأكثر قيمة لفهم الفلسفة القانونية واستخدامها في الحاضر.(55)
ومنذ صدور كتاب هارت "مفهوم القانون" عام 1961، وتلاه كتاب جون رولز "نظرية في العدالة"، شهدت الفلسفة القانونية في العالم الناطق بالإنكليزية نهضة واسعة، حيث انشغل الفلاسفة بأسئلة مفهومية حول طبيعة القانون والتفكير القانوني، ومفاهيم مثل السلطة والالتزام والإكراه، إلى جانب أسئلة معيارية تتعلق بالقيم التي يجب أن يخدمها القانون مثل العدالة والحرية والمساواة والتسامح والنزاهة. وقد نتج عن هذا طيف واسع من النظريات المبتكرة التي تطورت في إطار الفقه العام والخاص، وصولًا إلى الفلسفة الناشئة للقانون الدولي، مع إحداث نقاش مستمر حول العلاقة بين البحث المفهومي والبحث المعياري في القانون.(56)
1- القانون الإغريقي
مرّ القانون الإغريقي بمراحل متعددة، بدءًا من إلهام الملوك وصولًا إلى احتكار الأرستقراطية، ثم النشر والتدوين، لكنه لم يبلغ مرحلة القانون الصارم كما حدث في روما. وظل القانون الإغريقي يتميز بالمرونة والفردية في التطبيق، مما مهّد الطريق للتفكير الفلسفي في طبيعة القانون والعدالة، لا سيما في أثينا.
أ- المراحل المبكرة للقانون عند الإغريق
في البداية – كما صُوّر في أشعار هوميروس – كان الملك هو الذي يحكم في النزاعات، مستندا إلى إلهام إلهي. لاحقًا، تحوّلت السلطة إلى الأرستقراطية التي احتكرت القواعد القانونية الموروثة، واستخدمتها كأداة للحكم.
مع الوقت، دفعت المطالب الشعبية إلى نشر هذه القواعد بشكل مكتوب، فتكوّن أول شكل من التشريع المعلن. وبينما كان هذا التشريع في بدايته مجرد إعلان للأعراف القديمة، سرعان ما أصبح وسيلة لإدخال تغييرات مقصودة وصريحة على القانون، أي ظهور فكرة القانون الوضعي. (legislation) (57)
ب- القانون الأثيني في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد
تميز القانون الأثيني بمزيج من:
1- تقاليد مكتوبة (قانون مدوَّن).
2- تشريع جديد.
3- تطبيق فردي للقوانين عبر محاكم شعبية واسعة.
ورغم وجود التدوين، ظل القانون في أثينا محتفظًا بمرونة القانون البدائي، مما أتاح له أن يصبح أرضية خصبة لتكوين فلسفة القانون الروماني في مرحلته القائمة على الإنصاف والقانون الطبيعي.(58)
2- المقارنة مع روما
في روما، تمكّن القانون من تطوير مرحلة قانون صارم (strict law) قبل الانتقال إلى مرحلة الإنصاف والقانون الطبيعي. أما في المدن الإغريقية، فظل القانون محتفظًا بطابع فردي ومرن يشبه القانون العرفي الفرنسي (droit coutumier)، مع أن هذا الأسلوب – رغم فوائده – كان بحاجة إلى قاعدة صارمة لضمان الأمن القانوني في المجتمعات المعقدة.(59)
3- طبيعة المصطلح القانوني في أثينا
في العصر الكلاسيكي، كانت كلمة νόμος (نوموس) تعني:
- العرف،
- القانون المكتوب،
- القانون بشكل عام.
هذا التعدد في المعنى يعكس غياب التحديد الصارم وتفاوت التطبيق، وهما سمتان من سمات القانون البدائي. ومن الطبيعي أن يثير هذا الالتباس تساؤلات فلسفية حول حقيقة القانون وجوهره.(60)
وقد انطلق الفلاسفة اليونانيون في تحليلهم للقانون من خطاب ديموستينيس إلى هيئة المحلفين الأثينية، مؤكدين أن طاعة القانون واجبة لأربع علل:
1- لأنه صادر من الإله (أصل ديني).
2- لأنه استمرار لتقاليد قديمة أرساها الحكماء (بعد عرفي).
3- لأنه مستخلص من شريعة أخلاقية أزلية وثابتة (بعد أخلاقي/عقلي).
4- لأنه اتفاق بين البشر ملزم من باب الوفاء بالوعود (بعد تعاقدي).(61)
وهكذا، يظهر تطور النظرة للقانون عند اليونان: من تشريع إلهي، إلى عرف وتقاليد الأجداد، ثم كجزء من منظومة أخلاقية أزلية، وأخيرًا كعقد اجتماعي بين المواطنين لتنظيم الصراعات اليومية. لكن رغم هذا التنوع، ظل هناك فراغ نظري يحتاج إلى مبدأ أعلى يفرض "روابط العقل" على من يضع القانون، من يطبقه، ومن يخضع له، أي الحاجة الملحّة إلى نظرية فلسفية للشرعية والسلطة القانونية لضبط هذا النظام القانوني المتشعب في أثينا الكلاسيكية.(62)
يُعَدّد شيشرون سبعة أشكال من القانون، ثلاثة منها لم يُذكَر لها أثر لاحق في الكتابات الفقهية الرومانية، مما يدل على أنها كانت قد اندثرت بحلول زمنه ولم تعد أشكالًا فعّالة من القانون الواقعي. أما الأشكال الأربعة الباقية فهي: القوانين (Statutes)، قرارات مجلس الشيوخ، المراسيم الصادرة عن الحكام (Edicts)، وسلطة الفقهاء (Authority of the jurisconsults)، والتي يمكن تلخيصها ضمن ثلاثة عناصر رئيسية: التشريع، المراسيم الإدارية، والتفكير الفقهي المستند إلى التقليد القانوني.(63)
وتتطابق هذه العناصر مع تكوين القانون الروماني في شكلها الكلاسيكي كما يلي:
1- القانون المدني (ius civile):
ويتضمن قانون الألواح الاثني عشر، والتشريعات اللاحقة، وتفسيرهما، بالإضافة إلى القانون التقليدي للمدينة. وكان يُنظر إليه على أنه مستند إلى سلطة الدولة، أي قانون محلي يخص روما بالذات، يقوم على السلطة التشريعية للشعب الروماني ويدعمه التفسير القضائي المقبول عرفيًا، ليُصنَّف بالاتفاق والتشريع وفق المصطلح اليوناني.
2- القواعد الإجرائية في المراسيم (Edicts):
وهي مجموعة من القواعد، معظمها إجرائي، حيث كان مجال النمو القانوني يتركز فيها، واستمر تطورها حتى استقرت في عهد الإمبراطور هادريان. وكانت تُطبَّق بين الشعوب المتمدنة، خاصة في القانون التجاري، بما يجعلها قريبة من مفهوم القانون بالاتفاق .
3- آراء الفقهاء (Jurisconsults):
هذا العنصر أصبح الأهم في الفترة الكلاسيكية (من عهد أغسطس حتى القرن الثالث). لم يكن للفقهاء سلطة تشريعية أو تنفيذية، لكن قوة آرائهم كانت تستند إلى معقوليتها الجوهرية وقدرتها على إقناع العقل وحس العدالة لدى القاضي . وبالعبارة اليونانية، إذا كان هذا قانونًا، فهو قانون بالطبيعة.(64)
وبذلك، يمكن القول إن القانون الروماني الكلاسيكي استند إلى مزيج متوازن بين التشريع الرسمي، والإجراءات الإدارية، والفكر الفقهي العقلاني، وهو ما أرسى قاعدة متينة لتطور القانون في العصور اللاحقة، سواء في البنية العملية أو في التفكير الفلسفي حول العدالة والطبيعة القانونية.
2- العصور الوسطى
مع بدء التطور القانوني العلمي في العصور الوسطى، عاد القانون ليقترب من الفلسفة من خلال دراستهما معًا في الجامعات. وكان الدافع وراء هذا الالتقاء الحاجة إلى النظام والتنظيم بعد عصر من الفوضى والتفكك والعنف، حيث تاقت البشرية إلى السلام وإلى فلسفة تعزز السلطة وتُعقلن الرغبة في فرض نيرٍ قانوني على المجتمع.
تميز هذا العصر بانتقال القانون من شكله البدائي لدى الشعوب الجرمانية إلى قانون صارم، سواء عبر:
- تلقي القانون الروماني باعتباره تشريعًا سلطويًا،
- أو جمع العرف الجرماني في تقنين مستلهم من النموذج الروماني كما في شمال فرنسا،
- أو إعلان القانون العرفي من خلال قرارات صادرة عن محاكم مركزية قوية كما في إنجلترا.
وبذلك أصبح العصر عصر القانون الصارم. وقد استجابت الفلسفة المدرسية لهذه المتطلبات بدقة، من خلال الاعتماد على التطوير الجدلي للمقدمات المقررة سلفًا، وإيمانها بالمنطق الشكلي، ومشكلتها المركزية المتمثلة في إقامة العقل أساسًا للسلطة. ولذا، ليس من الخطأ أن نطلق على الشُرّاح أو فلاسفة القرن الرابع عشر والخامس عشر لقب "الفقهاء المدرسيين".(64)
في هذا السياق، من المفيد ملاحظة التباين الضمني بين «فلسفة القانون» و«النظرية القانونية». فالتمييز اللفظي بينهما جاء إلى حدٍّ كبير نتيجة صدفة تاريخية، حيث ترتكز فلسفة القانون على مناهج فلسفية تقليدية وأولويات بحثية، بينما تميل النظرية القانونية إلى مشروع أكاديمي يهدف إلى عقلنة وإضفاء الشرعية على أقسام محددة من العقيدة القانونية، مثل المسؤولية التقصيرية والعقد، ودور القضاة غير المنتخبين كمشرّعين بحكم الواقع في النظام الديمقراطي. ومع ذلك، فإن الفارق بينهما ليس جوهريًا، وهو في الواقع أشبه بالتمييز بين الفقه العام وفلسفة القانون من حيث نطاق البحث الأكاديمي ومجال الاهتمام.(66)
ثانيا: اهمية فلسفة القانون
تُعَدّ فلسفة القانون (Philosophy of Law ) من أبرز الفروع الفكرية المعنية بدراسة الأسس النظرية والغايات النهائية للنظام القانوني. فهي لا تكتفي بالبحث في القواعد القانونية كما تُطبَّق عمليًا، بل تتجاوز ذلك إلى مساءلة أصلها وطبيعتها وغاياتها وصلتها بالقيم الأخلاقية والاجتماعية.
وظيفة الفلسفة في القانون تتمثل في دراسة طبيعة القانون والمبادئ الفلسفية للعدالة، مع الإشارة إلى أصل القانون المدني، وغايته، والمبادئ التي تحكم صياغته. أما الفقه فهو المعرفة العملية بنظام قانوني معين، ويهتم بممارسة وظائف صنع القرار الخاص والعام، والنقد العلمي للإجراءات الناتجة. ومن ثم، يمكن تصنيف الموضوع الرئيسي لفلسفة القانون إلى ثلاثة محاور:
1- المفهوم العالمي للقانون: السمات الأساسية التي يجب أن تتوافر في كل نظام قانوني.
2- أساس القانون: المصادر والأصول والقيم التي يستمد منها كل نظام قانوني قوته.
3- المعيار أو المعايير: التي تُسترشد بها جميع القوانين القائمة ويُقيَّم بموجبها القانون، حيث تُعد مشكلة تقييم القانون جوهرية في فلسفة القانون.(67)
تختلف فلسفة القانون عن علم القانون، فبينما يُعمّق علم القانون معرفة الإنسان بالقواعد القانونية، توسّع فلسفة القانون أفقه ليدرك أن واقع القانون والخبرة القانونية أعمق مما يمكن إدراكه من خلال الدراسة التجريبية.(68)
الحاجة إلى فلسفة القانون
الاهتمام بفلسفة القانون ليس مجرد فضول فكري، بل له آثار عملية على المحامين والقضاة والمشرعين وأساتذة القانون، كما أشار لون فولر. فهي تمنح هؤلاء القدرة على تطوير وعي فلسفي وفهم معمّق لطبيعة القانون وأصوله وأهدافه.(69)
فلسفة القانون تتعامل مع القانون باعتباره استجابة لمشكلة اجتماعية أساسية: كيف يمكن للأفراد في المجتمع أن يتعايشوا بسلام، بحيث يحقق كلٌّ منهم رؤيته الخاصة لـ "الحياة الطيبة" من دون أن يعيق الآخرين؟(70)
القانون هو القاعدة التي تنظّم سلوك الأفراد. وبدونه، لا يمكن للأفراد التمييز بين السلوك المشروع وغير المشروع، ولا معرفة ما إذا كانت أفعالهم ستساهم في بناء مجتمع منظم أو ستؤدي إلى الفوضى.(71)
وظيفة الفلسفة في تدريس القانون تكمن في توسيع فهم الطلاب بحيث يدركون أن القواعد القانونية ليست معطيات نهائية، بل تقوم على افتراضات فلسفية قابلة للنقد والتغيير. ومن خلال طرح أسئلة فلسفية، يمكن استكشاف أسس القانون:
1- هل يستند القانون إلى فكرة الاستقلالية الفردية؟ وهل هذا الأساس متماسك معياريًا؟
2- ماذا عن العدالة التصحيحية والتوزيعية؟
3- هل مفهوم الخطأ يمنح القانون طابعًا أخلاقيًا؟
4- هل ينبغي تحويل القانون العام من فرداني إلى نهج أكثر اجتماعية؟(72)
المغزى: تدريس القانون عبر الفلسفة يحوّل الطالب من متلقٍ للنصوص إلى مشارك فاعل في صياغة مستقبل القانون. كما يُنمّي قدرته على التفكير الفلسفي وفهم مفاهيم مثل الاستقلالية والمسؤولية والعدالة، ويتيح له اكتشاف لغة جديدة ورؤى جديدة.(73)
وعليه، تتجلّى أهمية فلسفة القانون في عدة محاور أساسية:
أولًا: فهم طبيعة القانون
تساعد فلسفة القانون على الإجابة عن تساؤلات جوهرية حول ماهية القانون: هل هو أوامر صادرة عن سلطة سيادية كما يرى أوستن؟ أم منظومة من المعايير كما عند كيلسن؟ أم حقيقة اجتماعية كما ذهب هارت وراز؟ هذا التحليل يكشف عن طبيعة القانون ويميزه عن الأخلاق والعادات والأنظمة الاجتماعية الأخرى.(74)
ثانيًا: تحديد غاية القانون
تُسهم فلسفة القانون في توضيح أهداف القانون: هل يسعى إلى تحقيق العدالة، أم المنفعة العامة، أم الاستقرار الاجتماعي؟ هذه الأسئلة لا يمكن للقوانين الوضعية وحدها الإجابة عنها، بل تحتاج إلى إطار فلسفي يُحدد الغاية النهائية للنظام القانوني.(75)
ثالثًا: النقد والإصلاح القانوني
تُعتبر فلسفة القانون أداة لتقييم القوانين القائمة وكشف مواطن النقص أو الانحراف فيها عن مبادئ العدالة أو المصلحة العامة، مما يجعلها أساسًا لأي عملية إصلاح قانوني فعّالة.(76)
رابعًا: تعزيز البعد الإنساني والأخلاقي
تذكّر فلسفة القانون بأن القانون ليس مجرد أداة سلطة، بل وسيلة لحماية الكرامة الإنسانية وضبط التوازن بين الحرية الفردية والمصلحة الجماعية.(77)
خامسًا: الربط بالعلوم الأخرى
تُعد فلسفة القانون جسرًا لفهم العلاقة بين القانون والعلوم الأخرى مثل الفلسفة السياسية، علم الاجتماع، والاقتصاد، مما يمكّن من دراسة القانون ضمن إطار أوسع من الفكر الإنساني.(78)
ثالثًا: الفلسفة كمرافعة فكري
تُعَدّ الفلسفة في جوهرها نظامًا فكريًا قائمًا على استخدام الحجج المقنعة، وفنًا يمزج بين الجدل والأسلوب الرفيع. لذلك، يُشبه أي عمل فلسفي – سواء كان مقالًا أو كتابًا – مرافعة فكرية متكاملة تهدف إلى إقناع العقل الجمعي بالأفكار المطروحة. ومن هنا، تتجلى أهمية دراسة الفلسفة للطلاب الراغبين في مجالات مثل القانون، السياسة، الأعمال، أو أي ميدان يعتمد على قوة التعبير ومنطقية الحجة.(79)
تتطلب الفلسفة طابعًا إقناعيًا، يجمع بين الجهد الفكري والحكمة والأسلوب الجاذب، فهي تعيد تشكيل الأفكار الشائعة أو نقدها بطريقة غير مألوفة. ويصبح المعنى الحقيقي للفلسفة واضحًا عندما يشارك الفرد مباشرة في ممارسة التفكير الفلسفي، أي حين يصبح فيلسوفًا بدوره. لتحقيق ذلك، يحتاج الفيلسوف إلى عناصر أساسية:
1- الأفكار: هي الأساس الذي يقوم عليه كل تفكير وكتابة فلسفية.
2- التفكير النقدي: فحص الأفكار وتطويرها ودعمها بالحجج، مع جمع المعلومات بأسلوب موضوعي ومنهجي.
3- الجدل وتقديم الحجج: عرض الآراء وبناء حجج تدعمها، مع الرد على الاعتراضات المتوقعة.
4- المشكلة: تركيز الفكر على مشكلات حقيقية تمس الوجود أو المعرفة أو القيم.
5- الخيال: استخدام الاستعارات والقصص والأساطير لتوضيح الأفكار المعقدة وجعلها أكثر تأثيرًا.
6- الأسلوب: صياغة الكتابة بأسلوب حي وجذاب يعزز الرسالة الفكرية ويؤثر في القارئ.(80)
الخلاصة: الفلسفة ممارسة جدلية قائمة على الحوار والنقد والإقناع، تمامًا كما يقوم القانون على المرافعة لإثبات الحق والدفاع عن العدالة.
ويمكن تلخيص طابع الفلسفة كمرافعة فكرية في أربعة محاور رئيسية:
1- الجدل (Dialectic): كما عند أفلاطون، الفلسفة تقوم على حوار متبادل يختبر فيه العقل المقولات والافتراضات للوصول إلى الحقيقة، مشابهة للمرافعة القانونية القائمة على الحجة والدليل.(81)
2- تقديم الحجج والدفاع عن الرؤى: الفيلسوف محامٍ عن الحقيقة، يقدم دفوعًا عقلية ضد الباطل أو السفسطة.(82)
3- الإقناع العقلاني: الفلسفة تستهدف العقل الجمعي، وتسعى لتشكيل وعي مشترك حول الحقيقة والعدل والمعنى.(83)
4- وظيفة نقدية وإصلاحية: الفلسفة تكشف المغالطات والتناقضات، وتبني وعيًا نقديًا يحرّر العقل من التسليم الأعمى.(84)
إن النظر إلى الفلسفة كمرافعة فكرية يبرز طابعها العملي الحواري، ويؤكد أن التفكير الفلسفي ليس انعزالًا، بل مشاركة جدلية في ساحة الأفكار، حيث تُختبر المقولات وتُبنى القناعات على أساس عقلاني راسخ.(85)
المحور الثالث: الفلسفة القانونية
أولًا: طبيعة الفلسفة القانونية
يُعَدّ ميدان الفلسفة القانونية امتدادًا لمفهوم التشريع عند أرسطو، ولفكرة الوضع التشريعي عند توما الأكويني. وهو ميدان يتجاوز حدود الفلسفة باعتبارها "علمًا عمليًا"، ليشمل – وإن كان بدرجة أدنى من وضع الدساتير والتشريع – الفن والحكمة اللازمة للقاضي، والفهم المدني، والالتزام بالقانون، والولاء النقدي الذي يميّز المواطن الصالح.(86)
تستند الفلسفة القانونية إلى الأخلاق لفهم الخير المشترك، بالاعتماد على المبادئ الأولى للعقل العملي التي توجّه الإنسان نحو الخيرات الأساسية، وعلى المبادئ الأخلاقية التي ترشده لاختيار الأفعال المناسبة وسط تنوّع الخيرات والطرق والأشخاص. كما تستند إلى الفلسفة السياسية لفهم الخير العام للأسرة والمجتمع والدولة، مع مراعاة شروط التعايش والتعاون، ومنها استحالة تحقق الإجماع التام، مما يستلزم وجود السلطة ومؤسساتها لضمان الطاعة للتوجيهات التشريعية أو القضائية أو التنفيذية. كذلك، تُبرر محدودية إدراك الإنسان مبدأ الإنصاف الذي يتيح تجاوز حرفية القانون لصالح تحقيق مقاصده العادلة.(87)
تنطلق الفلسفة القانونية من الأخلاق والفلسفة السياسية لتطبّق مبادئهما على المجال القانوني، مع التركيز على ربط القرارات الحالية بالوقائع الماضية عبر مصادر القانون الإيجابية: التشريعات الصريحة، الأعراف القضائية، وآراء الفقهاء. وتُفسَّر هذه المصادر لإنتاج مجموعة من القواعد المعيارية التي تتعلق بالحقوق والواجبات، تُصاغ بصورة متماسكة لضمان انسجامها كقواعد للاختيار والعمل. ويُنظر إلى هذه المجموعة – أي "النظام القانوني" أو "قانون الدولة" – على أنها قابلة للتطبيق على جميع الأشخاص والوقائع ضمن نطاقها، كما تُعد صلاحية كل قاعدة مشروطة بمدى اتساقها مع بقية القواعد داخل النظام ذاته.(88)
باختصار، يُستحسن دراسة الفلسفة القانونية بعيدًا عن التسميات الملتبسة مثل "الوضعية" أو "اللاوضعية". ومع ذلك، لا يمكن استبعاد مصطلح "نظرية القانون الطبيعي"، إذ يجب أن تراعي أي فلسفة قانونية متينة نوعين من المبادئ:
1- تلك التي تستمد إلزاميتها من قرارات واختيارات المجتمع السابقة.
2- تلك التي تظل صالحة وملزمة بغض النظر عن تلك القرارات، وهو ما اصطلح على تسميته تاريخيًا بـ"القانون الطبيعي".
وقد جاء هذا المصطلح استنادًا إلى استعادة أفلاطون لمفهوم "الحق الطبيعي" لمواجهة السفسطائيين الذين ربطوا الحق بالقوة والمكر، وترسخ عبر أرسطو والرواقيين وشيشرون والقديس بولس وغايوس والأكويني وصولًا إلى ميثاق الأمم المتحدة. ورغم سوء فهمه وتعقيداته التاريخية، فإنه يظل أكثر وضوحًا من مصطلح "الوضعية" في قصوره أو التباسه.(89)
رغم استقلالية الفلسفة القانونية بطابعها التقني، إلا أن مفهوم القانون نفسه يعتمد على مبادئ أوسع في الفكر الأخلاقي والسياسي، فلا يمكن فصل القانون وفلسفته عن القضايا الأخلاقية والسياسية المعاصرة. فقد تُستعمل القوانين لتعزيز الخير العام، أو على العكس لإضعافه أو تقويضه، كما يحدث أحيانًا في مجالات مثل حقوق الإنسان، الإجهاض، القتل الرحيم، الهجرة، الزواج المثلي، أو قمع المعارضة. ومع ذلك، قد تتحقق أهداف النخب الاجتماعية أحيانًا دون اللجوء إلى هذه الأدوات القانونية، أو رغمًا عنها.(90)
ثانيًا: أهمية الفلسفة القانونية
تُعَدّ الفلسفة القانونية من أهم فروع الفلسفة، إذ تسعى إلى فهم طبيعة القانون ومصادره ووظيفته في المجتمع. فهي لا تقتصر على تحليل النصوص القانونية فحسب، بل تمتد إلى دراسة الأسس الأخلاقية والسياسية التي يقوم عليها القانون، مما يجعلها ضرورية لتوضيح العلاقة بين العدالة والقواعد القانونية.(91)
من أبرز وظائف الفلسفة القانونية تمييز القانون عن العدالة. فقد تكون بعض القواعد القانونية صحيحة من الناحية الشكلية، لكنها تفتقر إلى العدالة الجوهرية، وهنا يأتي دور الفلسفة القانونية في تقديم معيار نقدي يمكّن من مراجعة القوانين القائمة وتطويرها.(92)
كما أنّ الفلسفة القانونية تمنح القاضي والمشرّع أدوات فكرية لتحليل النصوص وفهم مقاصدها بعيدًا عن التفسير الحرفي الجامد. فهي تربط القانون بمفاهيم أوسع مثل الحرية والحقوق والمساواة، مما يجعلها عنصراً أساسيًا في بناء دولة القانون.(93)
وتتجلى أهميتها أيضًا في بعدها الأكاديمي، حيث تشكّل مجالاً للتفكير النقدي يساعد طلاب القانون والباحثين على تجاوز حدود الدراسة التطبيقية إلى فضاء أوسع من التأمل الفلسفي، مما قد يقود إلى ابتكار نظريات جديدة حول وظيفة القانون ومكانته في المجتمع.(94)
وباختصار، فإن الفلسفة القانونية ليست علماً نظريًا مجردًا، بل ضرورة عملية تساعد على بناء أنظمة قانونية أكثر عدلاً وإنصافًا، وتوفر أساسًا أخلاقيًا وسياسيًا متينًا للتشريعات الحديثة.(95)
ثالثًا: أهمية الفلسفة القضائية (فلسفة القضاء)
تُعَدّ الفلسفة القضائية أحد الركائز الجوهرية في الدراسات القانونية، إذ تهدف إلى فهم الأسس الفلسفية التي يقوم عليها عمل القضاء ووظائفه في المجتمع. فهي لا تقتصر على تفسير النصوص القانونية فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى البحث في معايير العدالة، وطبيعة القرارات القضائية، ودور القاضي في تحقيق التوازن بين القاعدة القانونية والواقع الاجتماعي.(96)
تستند الفلسفة القضائية إلى مبدأ أن القانون ليس مجرد مجموعة قواعد جامدة، بل عملية ديناميكية تتطلب من القاضي امتلاك مهارات معرفية متقدمة للتعرّف على المشكلات، التنبؤ بها، وحلّها. ومن هذا المنظور، تُعد الفلسفة القضائية عملية تعليمية مستمرة، حيث تمثّل القضايا رصيدًا من التجارب الإنسانية التي تُسهم في تطوير قدرات اتخاذ القرار، وتحسين الكفاءة المهنية مع مرور الزمن.(97)
كما أنّ الفلسفة القضائية تُبرز أهمية العوامل السياقية والشخصية في عملية اتخاذ القرار، مثل الخلفية الثقافية والاجتماعية، التراتب الاجتماعي، التوجهات الثقافية، أو حتى ظروف الأزمات الطارئة. وهذه العوامل تؤثر على تفسير المبادئ القانونية وتأويلها، وعلى الأطر المعيارية التي يستند إليها القاضي لدعم أحكامه.(98)
وتكتسب الفلسفة القضائية بعدًا اجتماعيًا وأخلاقيًا واضحًا، إذ تركز على حقوق الإنسان وكرامته. ويؤكد فقهاء معاصرون، مثل دوركين، أن الاهتمام بحقوق الأفراد يجب أن يُنظر إليه على أنه مسألة أخلاقية وسياسية، وأن احترام هذه الحقوق يُكمل الأسس الأخلاقية للعمل القضائي.(99)
وباختصار، تمنح الفلسفة القضائية القاضي أفقًا أوسع من النصوص القانونية الجامدة، فتُمكّنه من النظر إلى القانون في ضوء مبادئ العدالة والأخلاق، وتحوّل مهمته من دور فني بحت إلى دور إنساني وفكري. ومن خلال هذا المنظور، تصبح الأحكام القضائية اجتهادات تُسهم في تطوير النظام القانوني وإثرائه، كما تساعد في فهم التوتر بين اليقين القانوني والمرونة العملية.(100)
علاوة على ذلك، تُبرز الفلسفة القضائية قيمة القضاء في حماية الحقوق والحريات الأساسية، إذ تعكس الأحكام القضائية الرؤية الفلسفية للقاضي حول العلاقة بين الفرد والدولة، وبين السلطة والحرية. كما تُتيح الفلسفة القضائية توجيه النقد للنظام القضائي، بما في ذلك حياد القاضي وتأثير العوامل السياسية والاجتماعية، مما يجعلها عنصرًا أساسيًا في تجديد الفكر القانوني وضمان عدالته.(101)
الخاتمة
يتضح من خلال ما سبق أنّ العلاقة بين الفلسفة والقانون ليست علاقة تكميلية عارضة، بل هي علاقة جوهرية تكشف عن عمق الحاجة إلى البعد الفلسفي في تكوين القاضي وفي ممارسته العملية. فالقانون في صورته النصية يظل قاصرًا عن إدراك جميع أبعاد العدالة، ما لم يُستنر بالعقل الفلسفي القادر على تجاوز حدود الألفاظ إلى مقاصدها، ومن ظاهر النصوص إلى روحها. ومن هنا فإن الفلسفة تمثل أداة أساسية للقاضي، تعينه على تأمل المعاني، واستكشاف الغايات، ومواجهة المعضلات الأخلاقية والفكرية التي تعترض طريق العدالة.
لقد أظهر البحث أنّ القاضي الذي يتسلح بالفكر الفلسفي لا يكتفي بتطبيق القانون بجمود، بل يسعى إلى إحقاق الحق بما يتوافق مع مبادئ العدالة الإنسانية، ويوازن بين صرامة النص وروح المقصد. كما بيّن أن الفلسفة القانونية والفلسفة القضائية تشكلان معًا أساسًا لتطوير العقل القضائي، وتعميق وعيه، وإكسابه القدرة على معالجة الإشكالات المستجدة في ضوء القيم الكلية.
وعليه، فإن الضرورة الملحّة للفلسفة في مجال القضاء لا تكمن في إضافة معرفة نظرية فحسب، بل في ترسيخ رؤية شاملة تجعل القاضي أكثر وعيًا بمسؤوليته الإنسانية، وأكثر قدرة على خدمة العدالة بوصفها الغاية العليا للقانون. وبذلك يظل حضور الفلسفة في القضاء ضمانةً أساسية لصون العدالة، وحماية الحقوق، وتحقيق التوازن بين النص والواقع. ويمكن عرض ضرورة الفلسفة للقضاة فى النقاط التالية :
1- تعميق فهم النصوص القانونية: تساعد الفلسفة القاضي على تجاوز ظاهر النص إلى مقاصده وروحه.
2- تحقيق العدالة الحقيقية: تجعل القاضي أكثر وعيًا بالغاية الأخلاقية للقانون، وليس فقط بتطبيقه الشكلي.
3- تنمية القدرة على التفكير النقدي: تمنح القاضي أدوات عقلية لتحليل القضايا المعقدة ومواجهة التناقضات.
4- مواجهة الثغرات القانونية: الفلسفة تعينه على سدّ الفراغ التشريعي بتأمل المبادئ العامة للقانون والعدالة.
5- توازن بين الصرامة والإنصاف: تمنع القاضي من الجمود عند النصوص، وتجعله أقرب للإنصاف الإنساني.
6- إثراء الملكة القضائية: تساعد في صقل شخصية القاضي وتجعله أكثر مرونة وعمقًا في إصدار الأحكام.
7- حماية القاضي من الانحياز: بفضل الأفق الفلسفي، يصبح القاضي أكثر استقلالًا في فكره وأحكامه.
8- الاستعداد لمستجدات الواقع: تزوده بقدرة على التعامل مع القضايا الجديدة التي قد لا يغطيها القانون صراحة.
9- إبراز البعد الإنساني للقضاء: تذكّر القاضي أن عمله مرتبط بحياة الناس وكرامتهم، لا بمجرد نصوص جامدة.
10- توحيد بين القانون والأخلاق: تجعل القضاء ليس مجرد تطبيق للمواد، بل ممارسة إنسانية تهدف إلى حماية القيم العليا.
***
دكتور ابراهيم طلبه سلكها
2025
...................
الهوامش
1- Mehrdad Payandeh: The Concept of International Law in the Jurisprudence of H.L.A. Hart, The European Journal of International Law, Vol. 21, no. 4 © EJIL 2011, p. 3.
2- Friedman, W. Legal Theory. Columbia University Press, 1967, p. 45.
3- Hart, H. L. A. The Concept of Law. Oxford University Press, 1994, p. 82.
4- Locke, John. Two Treatises of Government. Cambridge University Press, 1988, p. 123.
5- Hugh Evander Willis: "A Definition of Law" (1926). Articles by Maurer Faculty. 1250. https://www.repository.law.indiana.edu/facpub/1250, p. 203.
6- Hugh Evander Willis: "A Definition of Law" (1926). Articles by Maurer Faculty. 1250. https://www.repository.law.indiana.edu/facpub/1250, p. 203.
7- Ibid, p. 204.
8- Ibid, pp. 204- 205.
9- Ibid, p. 205.
10- Loc- Cit.
11- Ibid, pp. 205- 206.
12- Black’s Law Dictionary, Ninth Edition, p. 1690.
13- Jules L. Coleman and others: The Oxford Handbook of Jurisprudence and Philosophy of Law, Online Publication Date: Sep 2012, p. 21.
14- Mellinkoff, David. The Language of the Law. Boston: Little, Brown and Company, 1963, p. 21.
15- Tiersma, Peter M. Legal Language. University of Chicago Press, 1999, p. 67.
16- Hart, H. L. A. The Concept of Law, p. 102.
17- John Gardner: Some Types of Law, Cambridge University Press, 2007, p. 4.
18- Ibid, pp. 15- 22.
19- Ibid, pp. 25- 30.
20- Wade, H.W.R., & Forsyth, C.F. Administrative Law. Oxford University Press, 2014, p. 12.
21- John Gardner: Op. Cit., p. 34.
22- Cheshire, G.C., & Fifoot, C.H.S. Law of Contract. Oxford University Press, 2001, p. 33.
23- John Gardner: Op. Cit., pp. 37- 38.
24- Samantha Besson and John Tasioulas: The Philosophy of International Law, Oxford University Press, 2010, p. 89.
See Also: Shaw, Malcolm N. International Law. Cambridge University Press, 2017, p. 56.
25- Samantha Besson and John Tasioulas: Op. Cit., pp. 2- 6.
26- Friedman, W. Legal Theory. Columbia University Press, 1967, p. 78.
27- Hart, H. L. A. The Concept of Law, p. 88.
28- Pound, Roscoe. An Introduction to the Philosophy of Law. Yale University Press, 1922, p. 47.
29- Friedman, W. Legal Theory. Columbia University Press, 1967, p. 95.
30- Mehrdad Payandeh: Op. Cit., p. 72.
31- Martin P. Golding and William A. Edmundson: The Blackwell Guide to the Philosophy of Law and Legal Theory, Blackwell Publishing, 2005, pp. 15- 16.
32- Ibid, p. 16.
33- Loc- Cit.
34- Ibid, p. 17.
35- Bentham, Jeremy. An Introduction to the Principles of Morals and Legislation. Oxford: Clarendon Press, 1789, p. 67.
36- Raymond Wacks: Philosophy of Law: A Very Short Introduction, Oxford University Press, 2006, pp. 20- 21.
37- Austin, John. The Province of Jurisprudence Determined. London: John Murray, 1832, p. 101.
38- Raymond Wacks: Philosophy of Law: A Very Short Introduction, Oxford University Press, 2006, pp. 22- 25.
See Also: Hart, H. L. A. Essays on Bentham: Studies in Jurisprudence and Political Theory. Oxford University Press, 1982, p. 45.
39- Raymond Wacks: Op. Cit., pp. 26- 27.
40- Ibid, pp. 27- 28.
41- Kelsen, Hans. Pure Theory of Law. University of California Press, 1967, p. 5.
42- Kelsen, Hans. General Theory of Law and State. Harvard University Press, 1945, p. 110.
43- Raymond Wacks: Op. Cit., p. 32.
44- Paulson, Stanley L. Normativity and Norms: Critical Perspectives on Kelsenian Themes. Oxford University Press, 1998, p. 34.
45- Raymond Wacks: Op. Cit., pp. 33- 34.
See Also: Raz, Joseph. The Authority of Law: Essays on Law and Morality. Oxford University Press, 1979, p. 92.
46- Raymond Wacks: Op. Cit., p. 37.
47- Ibid, p. 38.
48- Raz, Joseph. The Authority of Law: Essays on Law and Morality. Oxford University Press, 1979, p. 37.
49- Raz, Joseph. Practical Reason and Norms. Oxford University Press, 1999, p. 128.
50- Raz, Joseph. Between Authority and Interpretation: On the Theory of Law and Practical Reason. Oxford University Press, 2009, p. 45.
See Also: Coleman, Jules. The Practice of Principle: In Defence of a Pragmatist Approach to Legal Theory. Oxford University Press, 2001, p. 76.
51- Chris Maxwell: Thinking Philosophically About Law: The Role of Moral and Political Reasoning in Shaping the Law, Melbourne University Law Review, Annual Lecture, 2023, p. 231.
52- Ibid, p. 247.
53- Lo- Cit.
54- Roscoe Pound: An Introduction to the Philosophy of Law, with a new introduction by Marshall L. DeRosa, Routledge, Yale University Press, 2022, pp. 4- 5.
55- Ibid, pp. 5- 6.
56- Samantha Besson and John Tasioulas: The Philosophy of International Law, Oxford University Press, 2010, pp. 1- 2.
57- Roscoe Pound: Op. Cit., pp. 6- 7.
58- Ibid, p. 7.
59- Ibid, pp. 7- 8.
60- Ibid, p. 8.
61- Ibid, pp. 8- 9.
62- Ibid, p. 9.
63- Roscoe Pound: An Introduction to the Philosophy of Law, with a new introduction by Marshall L. DeRosa, Routledge, Yale University Press, 2022, p. 27.
64- Ibid, pp. 27- 28.
65- Ibid, pp. 36- 37.
66- Martin P. Golding and William A. Edmundson: The Blackwell Guide to the Philosophy of Law and Legal Theory, Blackwell Publishing, 2005, p. 1.
67- Dr. Oyekunle O. Adegboyega: Introduction to Philosophy and Logic, National Open University of Nigeria, Printed 2018, pp. 30- 31.
68- Ibid, p. 31.
69- Randy E. Barnett: Why We Need Legal Philosophy, Georgetown University Law Center, [email protected], p. 1.
70- Ibid, p. 7.
71- Loc- Cit.
72- Chris Maxwell: Thinking Philosophically About Law: The Role of Moral and Political Reasoning in Shaping the Law, Melbourne University Law Review, Annual Lecture, 2023, p. 249.
73- Ibid, p. 250.
74- Austin, John. The Province of Jurisprudence Determined. London: John Murray, 1832, p. 89.
75- Bentham, Jeremy. An Introduction to the Principles of Morals and Legislation. Oxford: Clarendon Press, 1789, p. 112.
76- Kelsen, Hans. Pure Theory of Law. University of California Press, 1967, p. 64.
77- Fuller, Lon L. The Morality of Law. Yale University Press, 1964, p. 15.
78- Hart, H. L. A. The Concept of Law. Oxford University Press, 1994, p. 201.
79- Robert C. Solomon and Kathleen M. Higgins: The Big Questions: A Short Introduction to Philosophy, Wadsworth, Cengage Learning, 2006, p. 15.
80- Ibid, pp. 13- 14.
81- Plato. The Republic. Trans. Allan Bloom. Basic Books, 1968, p. 112.
82- Aristotle. Topics. Oxford University Press, 2001, p. 56.
83- Habermas, Jürgen. The Theory of Communicative Action. Beacon Press, 1984, p. 89.
84- Popper, Karl. The Open Society and Its Enemies. Routledge, 1945, p. 211.
85- Gadamer, Hans- Georg. Truth and Method. Continuum, 2004, p. 305.
86- John M. Finnis: What is the Philosophy of Law?, Journal Articles, https://scholarship.law.nd.edu/law_faculty_scholarship, p. 135.
87- John M. Finnis: What is the Philosophy of Law?, Journal Articles, pp. 135- 136.
88- Ibid, p. 136.
89- Ibid, p. 139.
90- pp. 141- 141.
91- Hart, H.L.A., The Concept of Law, Oxford University Press, 1961, p. 15.
92- Fuller, Lon L., The Morality of Law, Yale University Press, 1964, p. 97.
93- Dworkin, Ronald, Taking Rights Seriously, Harvard University Press, 1977, p. 211.
94- Coleman, Jules. The Practice of Principle. Oxford University Press, 2001, p. 145.
95- Finnis, John. Natural Law and Natural Rights. Oxford University Press, 1980, p. 273.
96- Winston P. Nagan and Samantha Manausa: Judicial Philosophy for Thoughtful Politicians and Business Leaders, Corporate and Business Law Journal, Vol. 1:1, Jan. 2020, pp. 30- 31.
97- Ibid, p. 31.
98- Loc- Cit.
99- Ibid, p. 135.
100- Ronald Dworkin, Law's Empire. Cambridge, MA: Harvard University Press, 1986, p. 90.
See Also: H.L.A. Hart, The Concept of Law. Oxford: Clarendon Press, 1994, p. 135.
101- John Finnis, Natural Law and Natural Rights. Oxford: Clarendon Press, 1980, p. 210.
See Also: Joseph Raz, Between Authority and Interpretation. Oxford: Oxford University Press, 2009, p. 55.