أقلام ثقافية
عبد السلام فاروق: جمعة اللامي.. السجين المثقف

عرف التاريخ أدباء كثيرين، ولكن قل بينهم من جعل من محنته منجماً لإبداعه، ومن سجنه مدرسة لفكره، ومن منفاه وطناً لروحه. ذلك هو جمعة اللامي، الرجل الذي لم يعرف الأدب طريقاً إليه إلا عبر ظلمة الزنزانة، ولم يكتشف صوته الإبداعي إلا بعد أن صمتت حوله كل الأصوات. إن تجربة هذا الرجل لتذكرنا بحقيقة جلية: أن العبقرية قد تولد في أحضان المعاناة، وأن الحرية الحقيقية هي حرية الروح قبل حرية الجسد.
لقد كان اللامي – كما يروي لنا معاصروه – غريباً عن عالم الكتابة قبل سجنه، وكأن تلك السنوات القاسية التي قضاها خلف القضبان كانت بمثابة بوتقة انصهرت فيها مواهبه الكامنة، ليفاجئ الجميع عند خروجه بأديبٍ مكتمل الأجنحة، وصحفي يمتلك رؤية فريدة. أليس هذا التحول العجيب دليلاً على أن الإبداع الحقيقي لا يورث ولا يكتسب بالدراسة وحدها، بل هو وليد التجربة الحية والمعاناة الصادقة؟
فهم اللامي أن السجن ليس نهاية المطاف، بل هو بداية لرحلة جديدة، رحلة البحث عن الذات عبر اللغة. وكما يقولون: "إن بعض النفوس تصنع من الحجر سلماً، بينما يصنع منها الآخرون حاجزاً". فاللامي صنع من محنته سلماً يعتلي به قمم الإبداع، جاعلاً من تجربة السجن مادة دسمة لأدبه، ومن ألم الغربة وقوداً لإبداعه.
تأتي روايته الشهيرة "من قتل حكمة الشامي؟" لتكون شاهدة على رؤيته الفريدة للأدب. فهي ليست مجرد رواية بوليسية تقليدية، بل هي مغامرة وجودية تطرح أسئلة جوهرية عن الحياة والموت والهوية. لقد تجاوز اللامي في هذه الرواية حدود الشكل التقليدي، مازجاً بين الواقعي وما وراء الواقعي، بين التاريخي والراهن، بين الذاتي والجماعي.
إن السؤال الذي تطرحه الرواية في عنوانها ليس سؤالاً بوليسياً فحسب، بل هو سؤال وجودي يمس كل عربي وكل إنسان: من يقتل الحكمة فينا؟ من يذبح طموحنا إلى الحرية؟ من يقضي على أحلامنا في التغيير؟ إنها رواية تفضح الزيف وتكشف الأقنعة، وتكاد تكون صرخة مدوية في وجه كل أشكال القمع والاستبداد.
الصحافة مشروع ثقافي
ولم يكتفِ اللامي بالأدب الإبداعي، بل جعل من الصحافة مشروعاً ثقافياً متكاملاً. لقد أراد أن يحرر الصحافة مما أسماه "تقريرية الكتابة"، جاعلاً منها فضاء للتأمل والتفكير، ومزجاً فيها بين العام والشخصي، بين اليقظة والحلم، بين المادية والروحانية. ألا يذكرنا هذا بروح طه حسين نفسه الذي جعل من المقال الصحفي عملاً إبداعياً راقياً؟
لقد فهم اللامي أن الصحافة الحقيقية ليست مجرد نقل للأخبار، بل هي مشاركة في تشكيل الوعي الجمعي، وهي مساءلةٌ دائمةٌ للواقع، وهي أيضاً بحث عن الحقيقة مهما كانت مريرة. وهذا ما جعل "عموده" الصحفي مميزاً ومثيراً، لأنه كان يخترق المألوف ويهز الثوابت، ويطرح الأسئلة المحرجة التي يتهرب منها الآخرون.
وعندما اختار اللامي المنفى، لم يكن هروبا من الواقع، بل كان بحثا عن فضاء أكثر رحابة للإبداع. لقد أدرك أن الكاتب الحقيقي قد يكون مضطراً أحياناً لأن يبتعد جسدياً عن وطنه ليكون أقرب إليه روحاً وفكراً. وفي الإمارات، وجد الرعاية التي مكنته من مواصلة مشروعه الإبداعي، فكانت كتاباته من المنفى أشبه برسائل حب موجهة إلى العراق، وإلى الإنسان العربي في كل مكان.
لقد عاش اللامي المنفى بكل تناقضاته: ألمه وحنينه، وحريته واغترابه. وكما قال أحد النقاد: "ظل العراق حاضراً في كل ما كتب، حتى عندما كان يكتب عن أبعد الأشياء عنه". وهذا هو قدر المبدع الحقيقي: أن يحمل وطنه في قلبه أينما حل وارتحل.
لقد رحل جمعة اللامي جسداً، لكنه بقي حاضراً في أعماله التي تشكل علامة فارقة في الأدب العراقي والعربي الحديث. إنه نموذج للمثقف العضوي الذي لم يفصل بين الأدب والحياة، بين الإبداع والالتزام، بين الفكر والممارسة. لقد كان صوتاً حراً في زمن القيود، وشاهداً على عصره بكل تحولاته وتناقضاته.
واليوم، ونحن نودع هذا الرجل الاستثنائي، علينا أن نستلهم من سيرته الدرس الأهم: أن الإبداع الحقيقي هو ذلك الذي ينبع من التجربة الحية، والذي يتحول فيه الألم إلى طاقة خلاقة، والسجن إلى فضاء للحرية، والمنفى إلى وطن بديل. وهكذا يكون الأدب الحقيقي: شهادة على العصر، وصرخة في وجه الظلم، وأملاً في غد أفضل.
"سيبقى ذكر جمعة اللامي علامة بارزة في أرشيف الذاكرة العراقية والعربية الحية".
***
د. عبد السلام فاروق