اخترنا لكم

مئوية الفيلسوف الفرنسي وثلاثة عقود على رحيله

لم يكن جيل دولوز، الفيلسوف الفرنسي الشهير (1925 – 1995)، ممن يرجون فائدة من الكتابة عن حياة المؤلفين الشخصيّة، إذ كان يعتقد بأهمية أن تستحوذ على اهتمامنا أفكارُهم حصراً، وما يمكن أن ينشأ عن تلك الأفكار حين نشتبك معها.

دولوز في ذلك ربما كان يسير على نهج فلاسفة القارة الأوروبيّة، من الألماني مارتن هايدغر -الذي لخّص يوماً لتلامذته سيرة أرسطو، فيلسوف اليونان العظيم، بقوله: «لقد ولد، وأَعملَ فكره، ثم مات»- إلى رولان بارت صاحب فكرة موت المؤلف، مروراً بموقف صديقه ومعاصره جاك دريدا الذي رأى أن «حياة المؤلف ما هي إلا تراكم سلسلة من التجارب - الحوادث»، على أنَّ مَن يدرس نهجه الفلسفي سرعان ما يرى أن موقفه ذاك نتاج نظرة كليّة للحياة والعالم وموقع الإنسان فيها، مما يجعل سرد سيرة شخصية ما نوعاً من إيداع لتلك الحياة في سجن قالب محدود، يفرض عليها شكلاً نهائياً غير قابل للتغيير، مما يحرمنا من فرصة إعادة التفاوض مع تلك الشخصية وتجديد قراءتها في ظل التحولات المستمرة للفكر. هذا، إلى جانب تصوره الذي رافق مساره المهني كفيلسوف، وهو لا محدودية الإنسان، واستحالة انفصاله بوصفه هوية فريدة عن محيطه الكلي في نقطة تقاطع الزمان والمكان (أو التاريخ - الجغرافيا)، إذ يظل دائماً مجرد جزء من كلٍّ تكون العلاقات في إطاره سائلة، ودائمة التحرك، ومتغيّرة، وفي طور التكوّن.

ومع ذلك، ويتفق كثيرون معي، إن ثمّة ما يغري دائماً باستعادة محطات أساسيّة في حياة قادة الفكر –والفلاسفة تحديداً– واستنطاقها توازياً مع الإبحار في المنتج الفكري الذي أنجزه أولئك القادة، إذ قد يسعفنا الحظ ونعثر على مفاتيح هنا قد تعين على فك مستغلقات هناك، أو مواقف هناك تفسّر خيارات هنا، وبالعكس، فكأننا نفكك الجدليّة التي هي مجمل الحياة، ونعيدها إلى مكوناتها الأساسيّة.

في حالة دولوز، هناك ما يلحّ على الجيل المعاصر الذي لم يلحق به، أن يُقْدم على قراءة جديدة للفيلسوف سيرةَ وفكراً. إذ إننا على وَشَك أن نشهد مئوية ولادته وأيضاً مرور ثلاثة عقود على غيابه، وتلك مناسبات صارت تجد صدى واسعاً ربما بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ناهيك بسعي الحكومات والدول إلى تكريم الشخصيات الفكرية البارزة في تاريخها بوصف ذلك نوعاً من تدعيم مصادر قوتها الناعمة في عالم ديدنه تنافس البرجوازيات. لكن الأهم، أن إعادة قراءة دولوز لعصرنا، والاشتباك مع نصوصه، وتجديد تأويلها هو أعلى أشكال الوفاء للرجل الذي قال عنه ميشيل فوكو: «ذات يوم، ربما، سيُعرَف هذا القرن بالدولوزيّ».

كان العهد بدولوز دائماً صرفه النظر عن طفولته بوصفها غير ذات قيمة. لكننا نعثر في حياته قبل تفلسفه على نقاط ارتكاز تساعد القارئ على رسم مخطط يستند إليه في عبور فكر الفيلسوف. أولاها، أنّه وُلد في باريس، وعاش فيها معظم أيّام حياته باستثناء فترات قصيرة خلال شبابه، واختار أيضاً أن تكون مكان موته، فكان مخلوقاً باريسياً بامتياز -إن جاز التعبير- بكل ما يعنيه ذلك من تأثيرات دامغة لا يمكن تجاهلها في التاريخ، والمجال الحضري، ونظم العيش، والتقلبات الحادة في المناخ الثقافي والفكري والسياسي الاستثنائي الذي حفلت به العاصمة الفرنسية في موازاة عمر دولوز. أما ثانيتها فإنه وُلد لأسرة محافظة، برجوازية الأهواء، يمينية التوجهات السياسيّة، الأمر الذي ترك بصمات على طريقته في التحدث والسلوك واختيار الكلمات، لكن لعله كان محفزاً مستفزاً قاد إلى انحياز فلسفته وأدائه كمفكر إلى المقهورين ضد كل أشكال السلطة. وثالثتها أن الحرب العالمية الثانية أنهت طفولته ونقلته إلى مرحلة جديدة بعيداً عن أهله الذين فضّلوا، بعد سقوط باريس عام 1940، أن يبقى وشقيقه جورج في النورماندي ويرتادا المدرسة هناك، ومن ثم التحاق جورج بالمقاومة الفرنسيّة قبل وقوعه في الأسر، ومن ثم مقتله على يد آسريه النازيين. لقد كانت تلك تجربة قاسية دون شك، وتركت، سوى جروح الفقدان، نوعاً من ثقل العيش الدائم في ظل الأخ البطل الغائب -الذي لا يمكن للأخ الباقي أن يبزّه في القيمة عند الأبوين. كل ذلك، كان خلفيّة لبُعدٍ دائم في فلسفته، حيث تفتقر كل الأشياء، والأشخاص، والمجتمعات إلى الثبات، وتستمر أبداً في الانتقال، والتحوّل، والتكوّن.

جاء دولوز إلى الفلسفة من بوابة الأدب، إذ سحرته قدرة الروائيين على خلق العوالم وتصوّر الحيوات الممكنة، وسرعان ما وجد في تاريخ الفلسفة وأعمال أسلافه المفكرين فضاءً شحذ همته للمعرفة، وفتح له مسارات لتوظيف دهشته الدائمة وبراءته الصافية في مساءلة القائم من التركيبات والنظم والأفكار، في وقت كان الناس قد انصرفوا عن ذلك التاريخ، وطفقوا يأتون إلى الفلسفة من بوابات أخرى: الهيغلية وهايدغر، أو هسرل والفينومولوجيا (الظاهراتية)، أو مادية ماركس التاريخيّة، أو المناهج اللغوية والتفكيكيّة.

يمكن قطعاً التعامل مع تاريخ انخراط دولوز مع الفلسفة عبر مراحل ثلاث متباينة: بداية في قراءة تفاعليّة مشتبكة مع كتابات السابقين: سبينوزا، وكانط ونيتشه وبرغسون، وتالياً في شراكات فكرية وكتابيّة وأكاديميّة مع عدد من الفلاسفة والمفكرين والفنانين والطلاب مجايليه: فيليكس غوتاري، وميشيل فوكو، وجاك دريدا، وكلير بارنيت، وآلان باديو، وغيرهم –وهي شراكات أخذت أشكالاً متنوعة تراوحت بين الحوار المكثف والكتابة المشتركة، وبين النقد المتبادل للنصوص والمراسلات، وبين العمل الأكاديمي والنشاط السياسي، وأيضاً بين الصداقات العميقة والجدل العدائي. وأخيراً، كفيلسوف ممارس: يختبر مفاهيمه الفلسفية والعالم عبر التَّماس مع الفّنون –الرسم، والعمارة والسينما– وأيضاً مع الألم، والمرض، وخيبات الأمل.

لا أحد يجرؤ على نفي وعود دولوز للإنسانية: البراءة والإصرار على حتمية الممكنات في مواجهة فلاسفة الانغلاق ومشعوذي نهاية التاريخ

لقد كانت بحق حياة ثرية تليق بفلسفة عميقة، والتي مع أهميتها لم تنل ما تستحقه مقارنةً بما انتهت إليه أعمال مفكرين أقل شأناً منه. جزء من ذلك يعود إلى أن الثقافة الأميركيّة مالت إلى الهيغليين والهايدغرية، ودولوز كان على مستوى ما نقيضاً فلسفياً لهما، فتجاهله العالم الأنغلوساكسوني طويلاً، كما أنّه شنّ هجوماً لا يرحم على من سمَّاهم تيار «الفلاسفة الجدد»، تلك المجموعة من الراديكاليين المرتدين بعد ثورة الطلاب في 1968 ممن انقلبوا على الماركسيّة وقيم نصرة المضطهدين، لينتهوا إلى ثلة من أنبياء كَذَبَة، تدعو إلى الليبرالية، والصهيونية، وثقافة السوق. وكان أن تولى هؤلاء تحديداً قيادة الإنتاج الثقافي عبر المؤسسات الثقافية، والأكاديمية، والصحف، والمجلات الثقافية، ودور النشر واستوديوهات التلفزيون. وفوق ذلك كله، فإن هذا الفيلسوف المترفع عن الثرثرة، ذي العقل المبدع، والنزاهة الفكرية اتخذ مواقف سياسية خالفت التيار السائد وأفقدته صداقات كثيرة لا سيما مع رفيقه المقرّب فوكو: ضد الحرب على فيتنام، ومع الشعب الفلسطيني. لقد آلمه احتلال أراضي الفلسطينيين والمعاملة التي تلقوها على يد المحتل الصهيوني، وأصابته مذبحة صبرا وشاتيلا (1982) بالصدمة والاكتئاب، فكتب لشريكه الفكري، غوتاري، شاكياً: «لقد عمّ الظلامُ العالمَ. لا يمكنني احتمال هذا الذي يجري (للفلسطينيين) في لبنان»، كما نشر في غير مناسبة نصوصاً ومقابلات نظّر فيها للمقاومة الفلسطينية، مؤكداً دائماً أن أساس المسألة الفلسطينية يكمن في تجاهل من أقاموا دولة عبرية واقع وجود شعب فلسطيني يعيش بالفعل على أرض تلك الدّولة الملفقة.

التركة الدولوزية ظلت موضع خلاف بين النقاد والمفكرين. باديو مثلاً رأى أنّها ليست ذات فائدة للمنخرطين في العمل السياسي، واتهمه سلافوج جيجيك بأنه «صانع آيديولوجيا الرأسماليّة المتأخرة»، فيما رآه أنطونيو نيغري ومايكل هاردت مصدراً لإلهامها في وضع ثلاثية «الإمبراطورية» -مساهمتهما الفكرية المشتركة الأهم في البحث عن عالم بديل- ووصفه البعض برائد للبيبوليتيك (السياسة الحيوية)، وفيلسوفٍ للراديكالية. ومهما مال الرأي، فإنه لا أحد يجرؤ على نفي وعود دولوز للإنسانية: البراءة والإصرار على حتمية الممكنات في مواجهة فلاسفة الانغلاق ومشعوذي نهاية التاريخ.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 17 أغسطس 2024 م ـ 12 صفَر 1446

بقلم: ا. د. سيد حسين نصر

ترجمة العنود سعد

***

نجد في المشهد الثقافي الحالي في الغرب وأنحاء العالم الأخرى التي تأثرت بالحداثة وما بعد الحداثة أنّ الفلسفة والنبوّة تعدّان منهجين متباينين في فهمِ طبيعة الحقيقة، بل متضادّين في أعين الكثير، غير أنّ الحال لم تكن على هذا النحو في جلّ الحضارات التقليدية قبل ظهور العالم الحديث، وليست اليوم كذلك في الأماكن التي ما زالت محتفظة بالنظرة التقليدية إلى العالم، وغنيٌ عن الإشارة أنّنا لا نقصد “النبوّة” بمعنى الإخبار عن الغيب، بل إبلاغ رسالةٍ من مستوياتٍ أعلى من الحقيقة وأعمق إلى مجموعةٍ مخصّصةٍ من البشر، وهي وظيفةٌ تتفاوت أنماطها من دينٍ إلى آخر، لكنّها حاضرةٌ بجلاءٍ في عوالم مختلفة، فنحن نجدها في مصر واليونان القديمتين والديانة الهندوسية، فضلًا عن الديانات الإبراهيمية التوحيدية التي تحظى فيها بدورٍ مركزي، كما نراها إذا لم نتقيّد بمفهومها في التصوّر الإبراهيمي حاضرةً في دياناتٍ أخرى شديدة التنوّع، والتي لا تقتصر أهميّتها فيها على الجانب التشريعي والأخلاقي والروحي فحسب، بل تشمل أيضًا جانبَ الحكمةِ المعنيّةِ بالمعرفة، نشهد هذه الحقيقة في عالم الريشيين Rishis في الهند، والشامانيين في الديانات الشامانية، والإياترومانتس Iatromantis في الدين الإغريقي، والخالدين في الطاوية، وفي استنارة بوذا، وعند شيوخ بوذية الزِن الذين بلغوا الاستنارة أو الساتوري، وأنبياء الديانات الإيرانية مثل زرادشت، وأنبياء الديانات الإبراهيمية دون شك، إذن لطالما ارتبطت الفلسفة بمعناها العام بالنبوّة على صورٍ متعددةٍ ما ازدهرت في هذه سائر هذه العوالم.

وحتّى إذا حصرنا تعريف الفلسفة في النشاط الفكريّ الذي عُرِف بها في اليونان القديمة، والذي يُعتبر في المفهوم الغربي الحديث للتاريخ أصل النظر الفلسفي ذاته، فإنّنا نجد الصلة بين الفلسفة والنبوّة كانت وثيقة منذ نشأة الفلسفة الإغريقية، كما نلاحظ أنهما لم تفترقا إلّا لاحقًا إذ لم تَكُنَا منفصلتين عن بعضيهما في مستهلّ التراث الفلسفي الإغريقي، ولنبحث في أهمّ ثلاث شخصيات من مطلع هذا التراث: لم يكن فيثاغورس، الذي يُنسب إليه سكّ مصطلح الفلسفة، قطعًا فيلسوفًا عاديًا شأنه شأن ديكارت وكانط، بل يُقال أنّه امتلك قوةً نبويةً خارقة، وكان أشبه بنبيٍ عمل على تأسيس تنظيمٍ دينيٍ جديد[1]، ولقد رآه المسلمون في واقع الأمر موحدًا، وعدّه بعضهم في مصاف الأنبياء.

لطالما أطلق على بارمنيدس “أبَ” المنطقِ والفلسفةِ الغربية، ووصِف بالعقلانية، وكان قد كتب قصيدةً متواضعةَ الجودة، بيدَ أنّه كما أظهرت دراسات بيتر كينغزلي البارعة بوضوحٍ كان مُنغمسًا في عالم النبوّة بدلالتها في الدين الإغريقي، وكان رائيًا متنبئًا[2]، وهذا ما لا يتفق مع معنى العقلانية الحديث، ففي قصيدته التي ضمّت رسالته الفلسفية، تقود بناتُ الشمس القادمات من قصر النور الواقع في أقصى الوجود بارمنيدس إلى العالم الآخر[3]، أمّا عن كيف حصلت هذه الرحلة فمن خلال “الاحتضان”[4]، وهي ممارسةٌ روحيةٌ معروفةٌ في الدين الإغريقي، يستلقي فيها المرءُ في سكونٍ تام حتّى تُرفع روحه إلى مقاماتٍ أعلى من الحقيقة فتنكشف له أسرار الوجود.

وهكذا انطلق بارمنيدس في رحلةٍ داخليةٍ إلى أن التقى الإلهة التي علّمته كل أمرٍ ذي أهميّة، أي علّمته ما يعدّ اليوم أسّ النظر الفلسفي الإغريقي، وجديرٌ بالملاحظة أنّ الإلهة لدى مقابلتها بارمنيدس خاطبته بالكوروس Kouros، أيّ الشاب، وهذه معلومة مثيرة ومدهشة، فمصطلح الفُتُوّة -جوانمردى بالفارسية- مأخوذٌ من لفظة فتى –جوان- الدالّة على المعنى عينه، وقد كانت هذه الفتوّة كما يُذكر موجودة من قبل الإسلام، وأُحْيَت بعد بزوغه إحياءً جديدًا، ارتبط فيه مرجعها بعليّ الذي تلقّاها عن نبيّ الإسلام[5]، وحيث كان التحامها بالتصوّف، كما تعزو المصادر الإسلامية التقليدية نشأة الميتافيزيقا الإسلامية إلى عليّ[6].

كما أُطلق لقب كوروس على إيبيمنديس من كريتِ، والذي كان قد ارتحل إلى العالم الآخر أيضًا، والتقى العدالة، وعاد بشرائع إلينا، كان إيبيمنديس، مثل بارمنيدس، يكتب الشعر، وعُرِفَ بجَمْعِه بين النبوّة والقدرة على الشفاء، أي ممّن يُسمّون بالإياترومانتس، فقد رُفِع له ستار الغيب أثناء عملية “الاحتضان” التي استغرقت سنواتٍ من الاستلقاء في أحد الكهوف[7]، وهو تقليدٌ ارتبط ببارمنيدس، يرتحل فيه الإياترومانتس إلى العوالم الأخرى مثل الشامانيين الذين لا يكتفون بوصف رحلاتهم فحسب، بل يستخدمون اللغة على نحوٍ يتيحها لغيرهم، فهم يستعملون التعاويذ والتكرار في قصائدهم، وهذا ما نراه عند بارمنيدس أيضًا، كما يأتون بقصص وأساطير من بلدانٍ بعيدةٍ بُعدَ التّبت والهند، وهذا أمرٌ لافتٌ جدًا، إذ ينحدر مجتمع بارمنيدس في الجنوب الإيطالي من شرق الأناضول حيث يُبجَّل الإله أبولو، والذي يُعدّ النموذج المقدّس للإياترومانتس الذين يُلهمهم النبوّة لينسجوا قصائدَ تنويميةً تحمل بين ثناياها معرفةَ الحقيقة.

تكشف الحفريات التي أُجريت في العقود الأخيرة في إيليا، مسقطِ رأس بارمنيدس في الجنوب الإيطالي، عن نقوشٍ تضعه في صلةٍ مباشرةٍ بأبولو والإياترومانتس، يقول كنغزلي: “يظهر لنا أنّ بارمنيدس كان ابنًا للإله أبولو، بِجِوار رسوم غامضة للإياترومانتس الذين برعوا في الشعر التعويذي والخوض في رحلاتٍ إلى العوالمِ الأخرى”[8]، ويتضح لنا إذا ما استحضرنا، من جانبٍ روحي، أنّ “أبولو ليس إله النور، بل نور الإله”[9] مدى عمقِ علاقة الفلسفة التي أتى بها أبوها بارمنيدس الإغريقي بالنبوّة منذ لحظة تشكّلها، وذلك حتّى في تصوّرها في الديانات الإبراهيمية على ألّا يُغفل المرء معناها الباطني والذي سنأتي على ذكره لاحقًا، لقد نشأ تقليدٌ شامل من الكهنة الشُفاة الذين انْبَروا لخدمة أبولو أوليوس ‘أبولو الشافي’، والذي يُعزى تأسيسه إلى بارمنيدس، إنّه لمن العجيب أنْ اندثرت نواحُ بارمنيدس هذه في الغرب فيما بعد، بينما ظلّت حاضرةً في الفلسفة الإسلامية، إذ لا يُقيم مؤرّخو الفلسفة المسلمون العلاقة بين النبوّة والفلسفة الإسلامية فحسب، بل بينها وبين الإغريقية كذلك[10]، ونستحضر في هذه المناسبة الأثر العربي القائل: “تنبع الحكمة من مشكاة النبوة”.

وممّا يسترعي الانتباه غموضُ معلِّم بارمنيدس وفقرُه، وتعليمُه تلميذه السكون أو الهيزاخية Hesychia قبل كل شيء، والتي بلغت أهميّتها أنّ الذين سعوا لفهم بارمنيدس لاحقًا، كأفلاطون مثلًا، استعملوها أكثر من أيّ مصطلحٍ آخر لوصف مفهومه عن الحقيقة، “في نظر بارمنيدس، بواسطة السكون نصل إلى السكون، ومن خلال السكون يسعنا أن نفهم السكون، فعبر ممارسة السكون يتسنّى لنا اختبار الحقيقة الكامنة ما وراء عالم الحواس”[11]، ويجدر التفكّر مرةً أخرى في توظيف ‘الهيزاخية’، المنسوبة إلى مؤسّس المنطق والفلسفة الإغريقية، في الحركة الهدوئيّة Hesychasm التي تجسّد تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية الغنوصية، والتي تصبو إلى تحقيق القداسة والعرفان.

تطلب الإلهة بارمنيدس في قصيدته صراحةً أن يعود بما علّمته إيّاه إلى العالم ويكون رسولها، يوضّح كنغزلي معنى مصطلح الرسول في هذا السياق فيقول: “هناك كلمةٌ محدّدة تبيّن أيّ نوعٍ من الرُسُل كان بارمنيدس وهي: نبيّ، ولا علاقة لمعناها الدقيق بالقدرة على الإخبار عن الغيب، فهي تعني في أصلها شخصًا تمثّلت وظيفته في التحدّث نيابةً عن قوةٍ عظمى أو أحدٍ أو أمرٍ ما”[12]، ولم تقتصر هذه “الوظيفة النبويّة” التي تولّاها بارمنيدس على كونه فيلسوفًا وشاعرًا وشافيًا، بل اقتضت أيضًا أن يكون حاملًا للشريعة مثل إبيمنديس.

لم تكن صلة بارمنيدس بالنبوّة اجتماعيةً وتشريعيةً ظاهريةً في جوهرها، بل كانت ذات ملمحٍ داخليٍ باطنيٍ روحيٍ، فقصيدته بحدّ ذاتها، إذا ما حُمِلت على وجهها الصحيح، ما هي إلّا إعدادٌ روحي لعالمٍ آخر: “تدل كلّ هذه العلامات التي لا يفوّتها إلّا الجاهل على أنّها نصٌ للمُريدين”[13]، ويشترك في هذا مع فيثاغورس وإيمبيدوكليس اللذين كانت فلسفتهما موجّهةٌ حصرًا لمن حاز الاستعداد لتلقي رسالتها، فقد كان مدارها الجانب الباطني من الدين الإغريقي لا ظاهره، وكانت تتطلّب تلقينًا روحيًا لاستيعابها بشكلٍ كامل، ونلاحظ مرةً أخرى التشابه الكبير بين تصوّر الفلسفة في الفلسفة الإسلامية وتصوّرها عند هذه الشخصيات التي عاشت قبل سقراط، كفيثاغورس وبارمنيدس وإيمبيدوكليس، والذين ينظر إليهم الفلاسفة المسلمون بعين التبجيل لا سيّما أتباع مدرسة الإشراق.

وفي الحديث عن شخص إمبيدوكليس الغامض، نرى من جديد فيلسوفًا قال الشعر وامتلك القدرة على الشفاء، وأنزله العديد منزلة الأنبياء، “فقد كان نبيًا شافيًا من الأنبياء الشفاة الذين ذكرتهم آنفًا، إلى جانب كونه ساحرًا وشاعرًا”[14]، كما كتب إمبيدوكليس في علم الكونيّات وفي العلوم الطبيعية كالفيزياء، وحتّى في مواضيع كهذه، لم تكن الأعمال تُكتَب لتقديم الحقائق فحسب، بل “لتخليص الأرواح” أيضًا[15]، وهذا يُماثل ما خطّه جمْعٌ من الفلاسفة المسلمين في علم الكونيّات كالسهروردي، وحتّى ابن سينا في رسائله[16]، وأهمّ ما علينا اعتباره هو أنّ إمبيدوكليس قد رأى نفسه نبيًا وعدّ قصيدتَه عملًا روحيًا.

حريٌ بالإشارة أنّ كلّ واحدٍ من هؤلاء الأشخاص الثلاثة الذين برزوا في طليعة التقليد الفلسفي الإغريقي كان شاعرًا، وهذه سمةٌ اصطبغ بها شطرٌ واسعٌ من الفلسفة التي ازدهرت تحت شمس النبوّة على مرّ العصور، وبِحَسْب المرء أن يستحضر حكماء الهندوس الشعراء، وآباء الفكر الفلسفي الهندوسي التقليدي، وثلة من حكماء الصين الذين وجدوا في الشعر وسيلةً للتعبير، كما نلاحظ ذلك في الديانات الإبراهيمية التوحيدية بين عددٍ من الفلاسفة اليهود والمسيحيين، وبين الفلاسفة المسلمين على وجه الخصوص، مثل ابن سينا، وناصر خسرو، والخيّام، والسهروردي، وأفضل الدين كاشاني، وميرداماد، والمُلّا صدرا، والحاج المولى هادي السبزواري الذي عاش في القرن الثالث عشر هـ/ التاسع عشر م.

وفي مثل العالمٍ الذي نعيش فيه اليوم، حيث تُختزل الفلسفة إلى العقلانية أو إلى اللاعقلانية أكثر فأكثر، وتُقصى فيه الروحانية بل الدين كذلك أو يُهمّشان، يُرفض التفسير السابق حول مؤسّسي الفلسفة الغربية في العديد من الدوائر، ويُضرب صفحًا عن العلاقة بين الفلسفة والنبوّة بشكل عامٍ، وعن الصلة بين الشعر والروحانية خاصّةً، أو يُستهان بأهميّتهما، لكنّ القارئ الغربي يجد، خلافًا لما يتوقعه، أنّ العلاقة بين الفلسفة والنبوّة والروحانية، التي أكّدها عددٌ من علماء الغرب المعاصرين، تحظى بمكانةٍ جوهريةٍ في الموروث الفلسفي الإسلامي، وهذا ما سيكون محطّ تركيزنا في معظم الكتاب، لقد أوردنا النقاش حول هذه الشخصيات الإغريقية لنبيّن أنّ الصلةَ بين الفلسفة والنبوّة ، برغم ما اعتراها من انقطاعٍ غير مسبوقٍ منذ نهاية العصور الوسطى وما تلاها، ذاتُ أهميّةٍ عظيمةٍ لا لفهم الفلسفة الإسلامية فحسب، بل لاستيعاب أصول الفلسفة الغربية ذاتها استيعابًا عميقًا، وهي أصول تشترك فيها الفلسفة الغربية والفلسفة الإسلامية، بيد أنّ كلًا من الاتّجاهين الفكريين قد نحى في فهمها مناحٍ تختلف عن الآخر اختلافًا جذريًا، فقد نأت الفلسفة الغربية بنفسها بعيدًا عن الفلسفة الخالدة واللاهوت المسيحي.

˜™

لا شكّ أنّ للنبوّة أنواعٌ ودرجاتٌ مختلفة، وهذا ما يلاحظه المرء إذا ما درس التقاليد الدينية المتنوعة، أو حتى لو اقتصر على تقليدٍ واحد، فنرى في اليهودية والإسلام مثلًا أنّ وظيفة يونس ودانييل النبويّة تختلف عن دور موسى ونبيّ الإسلام، لكن ثمّة عناصر مشتركة بين مفاهيم النبوّة المتعددة فيما يتعلق بالتحديات التي تعرض للفلسفة، تفترض النبوّة أولًا تعدد مستويات الحقيقة، سواء صوّرت هذه المستويات في تراتبيةٍ موضوعيةٍ أم ذاتية، إذ إن لم يكن للحقيقة إلّا مستوى واحدًا يرتبط موضوعيًا بالعالم الحسيّ، وذاتيًا بوعينا الطبيعي، والذي يعدّ الصورةَ الوحيدة المجازة والمقبولة من صور الوعي، تفقد النبوّة معناها باعتبارها مهمةً تتمثّل في إبلاغِ رسالةٍ من عالمٍ أو مستوى آخر من الحقيقة، إذ لم يعد لهذا العالم أو المستوى وجود، وسيعدّ أيّ زعمٍ بوجوده أمرًا منكرًا وهذيانًا شخصيًا، وهذا واقع الحال مع العلموية الحديثة والنظرة السائدة التي تنزع القداسة عن العالم، فكلا المنظورين يستبعد وجودَ حقيقةٍ متعالية، أو أبعادٍ من الوجود تتجاوز عالمنا، أو ذاتٍ محايثة، أو طبقاتٍ من الوعي أعمق من وعينا الطبيعي، أمّا العوالم التي تؤمن بحقيقة النبوّة في أي شكلٍ من أشكالها، فهي تسلّم جميعها بأنّ الإيمانَ بوجودِ مستوياتٍ أرفع من الحقيقةِ ودرجاتٍ أعمق من الوعي هو النهج السليم لفهم طبيعة الحقيقة التي يعيشها البشر بإجمالها[17]، ويشمل هذا التسليم، وفقًا للصياغة السابقة، الديانات التوحيدية الإبراهيمية، والديانات الهندية، والطاوية، والكونفوشيوسية، بالإضافة إلى الديانات القديمة في حوض البحر المتوسط، والديانات الإيرانية القديمة، والشامانية، والبوذية، التي تؤكّد على تعدد طبقات الوعي، لا على تعدد مستويات الوجود الموضوعي، يستوجب مفهوم النبوّة بحدّ ذاته الإيمان بهرميّة الحقيقة، سواء أكانت هرميةَ حقائق مستقلة عن حاسة المرء ‘موضوعية’، أو هرمية حقائق متصوّرة ذهنيًا ‘ذاتية’، ذلك لأنّنا إذا اخترنا الاكتفاء بالثقة بحسْبةِ أذهاننا، والاعتماد على ما تمليه علينا حواسّنا، بطلت فكرة النبوّة، وتساوت جميع الفلسفاتِ مع الفلسفة الغربية الحديثة.

وتُثير النبوّة في جلّ هذه العوالم التي تعتبرها حقيقةً مركزيةً تبعاتٍ يتعيّن على الفلسفة معالجتها، فهي تمدّ المجتمعَ بقوانين وتعاليم أخلاقية تبحث فيها الفلسفة الأخلاقية والسياسية والقانونية، كما تدّعي تقديم معرفةٍ بطبيعة الحقيقة، كمعرفةِ أصل جميع الأشياء، وخلق الكون وهيكله، أي علوم نشأة الكون والكونيّات، وطبيعة الروح الإنسانية التي تضمّ ما يسمى “بعلم الكائنات الروحية” وعلم النفس التقليدي، إلى جانب المعرفة بنهايات الأمور أو ما يُعرف بعلم الأخرويات، وتكمن ثمرة النبوّة في التعرّف إلى جوانب الحقيقة الرئيسة التي يعيشها البشر، ويتساءلون عنها، مثل مسألة الزمن، والمكان، والجوهر، والعرض، والسببيّة، والقدر، وغيرها من المسائل الكثيرة الواقعة في دائرة اهتمام الفلسفة العام.

كما تختصّ بعض أشكال النبوّة بالمعرفة الداخلية، والأمور الباطنية الروحية، وبالكشوف من مستويات الحقيقة الأخرى، والتي لا تلاؤم العامّة من الناس على وجه الإجمال، لقد سبق أن رأينا الارتباط بين منشأ الفلسفة الإغريقية والبعد الروحي للدين الإغريقي، ويمكننا أن نرى أمثلة وافرة في التقاليد الأخرى، بما فيها البوذية، والإسلام على وجه الخصوص، والذي اشتدّت فيه أصر العلاقة بين الفلسفة والجانب الباطني للوحي القرآني أكثر فأكثر في القرون المتأخرة، كما أنّ تاريخ الارتباط بين الفلسفة والروحانية، وهو أحد أبعاد النبوّة بدلالتها العامّة، طويلٌ في الغرب، إذ استمرّ قائمًا حتّى الحركة الرومنطيقيّة الألمانية.

لقد ارتأت الفلسفة الغربية منذ القرن السابع عشر فصاعدًا بأنّ عليها الإدلاء بدلوها حول الصورة التي رسمتها العلوم الحديثة للعالم، فصارت سندًا يؤازر العلم الحديث لا سيّما مع كانط، بالغةً ذروتها في القرن العشرين في قسمٍ كبيرٍ من الفلسفة الأنجلوساكسونية، والتي تكاد لا تعدو أن تكون سوى منطقٍ جرى ربطه بنظرة علمية تجاه العالم، أمّا على صعيد العوالم التقليديّة، لم تجد الفلسفة بدًا من أخذ مركزية النبوّة والوحي فيها بعين الاعتبار، سواء تجسدت النبوّة في كتابٍ أو نمطٍ آخر من الرسائل السماوية، أو في النبيّ ذاته كما هي الحال مع الأفاتار في الهندوسية وبوذا والمسيح، تقدّم الفلسفة تفسيرًا فلسفيًا لموضوعٍ ما، ولطالما ضمّ هذا الموضوع في العوالم التقليدية التي نحن في صددها الحقائقَ التي تُكشف من خلال النبوّة، والتي تتباين في هيئاتها، من استناراتٍ تعرض للريشيين الهندوس وبوذا، وكلامِ الله مع موسى في طور سيناء، وتبليغِ جبريل رئيس الملائكة القرآنَ إلى نبيّ الإسلام.

وليست الفلسفة في هذه العوالم التقليدية مجرد مرادفٍ لعلم اللّاهوت كما يدّعي البعض، إلّا إن قمنا بحدّ الفلسفة في تعريفها الوضعي الحديث، وحينها ستختفي كلّ الفلسفات غير الغربية، بل حتّى الفلسفة الغربية الوسيطة، ولن يبقى لنا ما نتحدّث عنه في هذا الصدد، لكنّنا إذا ما سلّمنا بالفلسفة كما يعرّفها فيثاغورس، الرجل الذي ابتكر مصطلحها، ونظرنا إليها باعتبارها حبًا للحكمة، أو قبلنا بها “تدربًا على الموت” كما عند أفلاطون، بحيث تشتمل الفلسفة على النشاط الفكري والممارسة الروحية معًا، نرى وقتئذٍ تعدّد المدارس الفلسفية في شتّى العوالم التقليدية، والتي ما يزال بعضها قائمًا في صورته الشفهية فقط كما عند سكّان أستراليا الأصليين والهنود الحمر[18]، فيما حفظت أممٌ أخرى فلسفاتها في مجلداتٍ خطّتها على مرّ القرون.

وحتّى في حال أزمع المرء تناول الفلسفة في أرض النبوّة بالبحث مقتصرًا على الأعمال الفلسفية المدوَّنة، ففي وسعه تأليف المجلدات في هذا الموضوع إذا ما نظر في التقاليد الصينية الفلسفية الطاويّة والكونفوشيوسية والبوذية التبتيَّة وبوذية الماهايانا، بما فيها المدارس اليابانية، والتي تتميّز كل واحدةٍ منها بسماتها الخاصّة، بالإضافة إلى التراث الفلسفي الهندوسي الغنيّ في الهند، كما في وسع المرء التوجّه إلى الديانات الإبراهيمية، والكتابة عن المدارس الفلسفية اليهودية والمسيحية والإسلامية في ضوء ما كان من النشاط الفلسفي في الآفاق التي هيمنت عليها النبوّة، ولن تكون طرق البحث في هذه التقاليد المتقاربة متماثلةً تمامًا رغم التشابهات الكبيرة فيما بينها، إذ على الرغم من التقارب الشديد بين اليهودية والإسلام في مفاهيم النبوّة والكتاب المقدس، فإنّ المسيحية التي ترى مؤسِّسها تجسيدًا للإله تختلف عنهما في مناحٍ شتّى بخصوص هذه المسألة، وتشتد أهميّة هذا التباين من الجانب الفلسفي كما نرى في المعالجة الفلسفية للتجسّد في الفلسفة المسيحية و”الفلسفة النبويّة” في السياق الإسلامي[19].

سنقصر نقاشنا في هذا الكتاب الذي يتناول الفلسفة في أرض النبوّة على الفلسفة الإسلامية، وذلك نظرًا لطبيعة دراساتنا في الفلسفة على مدار العقود الخمسة السالفة، والتي انصبّ جلّ اهتمامها على الفلسفة الإسلامية، غيرَ أنّنا درسنا أيضًا ما سواها من التقاليد ما يخوّلنا الجزمَ على إمكانيةِ تأليفِ عملٍ مماثلٍ في الفلسفة الإغريقية، واليهودية، والمسيحية، والكونفوشيوسية الجديدة، والهندوسية، بما بينها من شبهٍ واختلاف، وأوجه التشابه، من ناحيةٍ، أشدّ جوهرية من الاختلاف، إذ تتمثّل في الحقائق الميتافيزيقية الأساسية التي تشكّل قاعدةً مشتركة، وهي ما نطلق عليه مصطلح الفلسفة الخالدة philosophia perennis، فاختلاف تمظهرات هذه الفلسفة يعود إلى اختلاف المناخ الفكريّ الذي يحتضنها، مثلما تتفق الأديان في الوحدة الروحية وتتنوع في أشكالها[20].

نستهدف بهذا المؤلّف تقديم الفلسفة الإسلامية بتعاليمها وتاريخها باعتبارها فلسفةً عمِلت في أفق الإسلام الذي هيمنت عليه النبوّة وساده كتابٌ مقدس، مركّزين على حقبها المتأخرة، بخاصةٍ في بلاد فارس التي أضحت بعد الغزو المغولي في القرن السابع هـ/ الثالث عشر م. ميدانًا رائدًا استدامت فيه الفلسفة الإسلامية، واقتربت أكثر من ذي قبلٍ من الحقائق الخفيّة المتحصّل عليها من خلال النبوّة، كما يوجد الباعث المهم في أنّ هذه الفترة ليست معروفة في الغرب جيدًا رغم الأبحاث التي قام بها عدد من علماء اللغات الأوروبية في النصف الثاني من القرن العشرين، فيعرض الكتاب في قسمه الأخير، حقيقةً، العديد من الشخصيات والأفكار التي يجهلها الغرب تمامًا، ويهمّ تسليط الضوء على الفلسفة الإسلامية المتأخرة الدراسات المقارنة أيضًا، إذ يبيّن كيف افترق التقليدان الفلسفيان الإسلامي والمسيحي عن بعضهما سالكين مصائر مختلفة منذ القرن الثامن والتاسع هـ/ الرابع عشر والخامس عشر م. فصاعدًا، فقد نأت الفلسفة المسيحية أكثر فأكثر عن اللّاهوت من بعد القرن الثامن هـ/ الرابع عشر م.، ولم تعد المدارس الفلسفية الرئيسة في الغرب شيئًا فشيئًا فلسفة المسيحية، بل انقلب معظمها، في واقع الحال، على الدين إجمالًا، والمسيحيةِ على وجه الخصوص، جاعلةً من الفلسفة عدو الدين الأَّلد، أمّا في العالم الإسلامي، فقد ظلّت الفلسفة تعمل في نطاقٍ تحكمه النبوّة، ولم يزل هذا الوضع قائمًا على امتدادٍ واسع حتّى اليوم برغم ظهور الفلسفات العلمانية هنا وهناك في دول إسلامية مختلفة.

إنّه لمن العجيب جنوح جمْعٍ من علماء الفلسفة الإسلامية من المسلمين العلمانيين ممّن يكتبون عنها ولا ينتمون إليها إلى انتقاد مفهوم “الفلسفة النبويّة” عينه، وسعيهم إلى فصل الفلسفة عن النبوّة سَيْرًا على مثال الغرب الحديث، في حين نجد عددًا معتبرًا من الفلاسفة الأمريكيين ينضمّون في الحاضر إلى جماعة الفلاسفة المسيحيين، ونرى تزايدًا في الاهتمام بالفلسفة اليهودية أيضًا باعتبارها فلسفةً للحياة، وفي معرض هذا الحديث، يمكن للفلاسفة الغربيين الساعين إلى إحياء الفلسفة اليهودية أو المسيحية أن يُفيدوا من حضور التقليد الفلسفي الإسلامي المتّصل بوصفه فلسفةً للحياة، والذي طَالَمَا عمل في محيطٍ تسيّدته النبوّة، كما قد تساعد هذه الدراسة بعض المسلمين المهتمّين بالفلسفة ممّن كانوا قد انقطعوا عن إرثهم الفلسفي دون أن يتخلّوا عن إيمانهم بالنبوّة.

***

عن موقع حكمة

............

* سيد حسين نصر ولد في (7 أبريل 1933 م) في العاصمة الإيرانية طهران الإيرانية، هو فيلسوف إسلامي معاصر يعمل بروفسورا في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة جورج واشنطن، وهو فيلسوف إيراني بارز، ولديه العديد من المؤلفات والمقالات. اشتهر سيد حسين نصر في مجال مقارنة الأديان والصوفية وفلسفة العلم والميتافيزيقيا فلسفته تتضمن نقد ورفض شديد للحداثة وتأثيرها السلبي على روح الإنسان.

الملاحظات

* هذا النص ترجمةٌ لمقدمة كتاب سيّد حسين نصر Islamic Philosophy from Its Origin to the Present.

[1]على المرء أن يتذكّر أنّ فيثاغورس أنشأ تنظيمًا دينًا يتمركز حول أبولو في كروتونه، سنّ فيه قانونًا للحياة مثلما يفعل الأنبياء في الأديان الأخرى، انظر:

Kenneth S. Guthrie, compiler and trans., The Pythagorean Sourcebook and Library (Grand Rapids, MI: Phanes, 1987).

وانظر على وجه الخصوص ما كتبه يامبليخوس عن “حياة فيثاغورس”، حيث نجد إشاراتٍ تدّعي ألوهية فيثاغورس، وتعرّفه كأبولو ذاته، بالإضافة إلى عمل بيتر كينغزلي الأصيل والذي يتقصّى فيه حياة فيثاغورس وإيمبيدوكليس:

Ancient Philosophy, Mystery and Magic (Oxford: Clarendon, 1995).

[2] Kingsley, Peter. In the Dark Places of Wisdom (Inverness, CA: The Golden Sufi Center, 1999); Reality (Inverness, CA: The Golden Sufi Center, 2004).

[3] لقد ارتكزت فيما يلي عن بارمنيدس على كتاب Reality لبيتر كنغزلي [pp.31ff].

[4] تقابل هذا المصطلح لفظة Incubation بالإنجليزية، يقول بيتر كنغزلي في كتابهDark Places of Wisdom and Reality: “إنّ الشكل الذي يتّخذه الاحتضان بالغ البساطة، حيث يستلقي المرء عادةً في مكانٍ خاصٍ بعيدٍ عن الإزعاج، والذي قد يكون -أحيانًا- غرفةً داخل المنزل أو المعبد، ويغلب أن يكون كهفًا أو مكانًا يعتبر محطّةً لدخول العالم السفلي، ولا يلجأ الناس إلى هذه الممارسة حال مرضهم فقط، فهناك خبراء في الاحتضان، يتقنون فنّ الانتقال إلى حالة وعيٍ مختلفة… وقد يقومون بذلك أحيانًا من أجل شفاء الآخرين، لكنّ مقصد الاحتضان الرئيس، في حقيقة الأمر، لم يكن الشفاء على الإطلاق، وإن بدا كذلك، فمربط الفرس يكمن في حقيقة أنّ الشفاء مجلوبٌ من مستوى آخر من الوجود، مكانٍ مختلف، فقد كان هؤلاء الخبراء أناسًا قادرين على الوصول إلى العالم الآخر، والتواصل مع المقدّس، وتلقّي المعرفة من الآلهة مباشرة.” – المترجمة.

[5] Nasr, S. H. “Spiritual Chivalry,” in ed. S. H. Nasr, Islamic Spirituality, vol. 2 (New York: Crossroad, 1991), pp. 304–15.

[6] Allamah Sayyid Muhammad Husayn Tabatabai, Ali wa’l-Hikmat Al-Ilahiyyah, Majmu’a-yi Rasa’il, Sayyid Hadi Khusrawahahi (ed.) (Tehran: Daftrar-i Nashr-i Farhang-i Islāmī, 1370 A. H. [solar]), pp. 191ff.

[7] Kingsley, op. cit., p. 33.

[8]  المصدر السابق [p.40].

[9] Martin Lings, The Secret of Shakespeare (New York: Inner Traditions International, 1984), p. 18.

[10]  يلقّب النبيّ إدريس ‘أخنوخ’، والمعرّف بهرمس Hermes، بأبي الحكماء في الموروث الإسلامية الكلاسيكي، انظر:

Nasr, S. H. “Hermes and Hermetic Writings in the Islamic World”, Islamic Life and Thought (Chicago: ABC International Group, 2001), pp. 102–19.

[11] Kingsley, op.cit., p. 46.

[12]  المصدر السابق [p.87].

[13]  المصدر السابق [p.62].

[14]  المصدر السابق [p.320]. انظر أيضًا كتاب بيتر كينغزلي Ancient Philosophy, Mysticism, and Magic.

[15] Kingsley, Reality, p. 323.

[16] Nasr, S. H. An Introduction to Islamic Cosmological Doctrines (Albany: State University of New York Press, 1993), chapter 15, “Nature and the Visionary Recitals,” pp. 263–74.

[17] Huston Smith, Forgotten Truth (San Francisco: Harper, 1992), esp. chapter 3, “Levels of Reality,” pp. 34–59; and chapter 4, “Levels of Selfhood,” pp. 60–95; René Guénon, The Multiple States of Being, trans. Joscelyn Godwin (Burdett, NY: Larson, 1984).

[18] ليس على المرء إلّا قراءة تعاليم بلاك إلك Black Ilk، حكيم قبيلة السيوكس العظيم، ليدرك مدى عمق الفلسفة التي كانت حاضرةً في صيغةٍ شفهيةٍ بين شعبٍ عدّ النبوّة حقيقةً مركزيةً في حياته الروحية:

Joseph E. Brown, The Sacred Pipe (New York: Penguin Metaphysical Library, 1986).

[19] لقد تطرّق هنري كوربين إلى هذه المسألة في العديد من أعماله، والتي سنعود إليها لاحقًا في هذا المؤلَّف.

[20] انظر أعمال فريجوف شوان الأصيلة حول هذا الموضوع، بالأخص:

Transcendental Unity of Religions (Wheaton, IL: Theosophical Publishing House, 1993); Form and Substance in the Religions (Bloomington: World Wisdom Books, 2002).

قدّم فلاسفة ما بعد الحداثة، مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا، انتقادات حادة للعقلانية المطلقة، مشيرين إلى أن هذه العقلانية قد تتحول إلى أداة للسيطرة والهيمنة بدلاً من أن تكون وسيلة للتحرر. (الأمم المتحدة)

يتناول هذا المقال ـ بصورة مختصرة أردنا لها أن تكون مركزة حتى تغطي موضوعا متشعبا بأقل قدر من التفصيل كي يلائم المساحة المتاحة في هذا المقام ـ قضية العقلانية المطلقة ودورها في تشكيل الفكر الفلسفي الغربي، متتبعًا جذورها الأولى في الفلسفة اليونانية القديمة وتأثيراتها على الفلسفات اللاحقة حتى العصر الحديث. كما يسلط الضوء على الانتقادات الموجهة للعقلانية المطلقة من قبل فلاسفة معاصرين وما بعد حداثيين. هذا البحث يسعى لفهم كيفية تشكيل العقلانية للفكر الإنساني وما ترتب عليها من تحديات وإشكاليات فلسفية، وأثرها على المجالات العلمية والثقافية.

1 ـ  جذور العقلانية في الفلسفة اليونانية:

تعود فكرة العقلانية إلى الفلسفة اليونانية، حيث كان سقراط وأفلاطون وأرسطو من أبرز المؤسسين لهذه الفكرة. ارتكز هؤلاء الفلاسفة على العقل كأداة لتحقيق المعرفة، ورأوا فيه السبيل الأسمى للوصول إلى الحقيقة. فقد قسم أفلاطون الوجود إلى عالمين: عالم المثل، الذي يمكن إدراكه فقط من خلال العقل والتأمل الفلسفي، والعالم الحسي الذي لا يعدو كونه ظلًا للعالم الحقيقي. من جهة أخرى، رأى أرسطو في العقل القدرة الحاسمة لفهم العالم الطبيعي، معتبرًا أنه عبر التفكير المنطقي يمكن الوصول إلى المبادئ الأساسية للوجود.

2ـ تأثير الفلسفة المسيحية على العقلانية:

مع ظهور المسيحية وتداخلها مع الفلسفة اليونانية، ظهرت تغييرات مهمة في مفهوم العقلانية. كان القديس توما الأكويني من أبرز الشخصيات التي سعت إلى التوفيق بين فلسفة أرسطو والعقيدة المسيحية. حاول الأكويني، مستفيدا مما قدمته الفلسفة الاسلامية من تقريب بين الفلسفة والدين، بناء جسر بين الإيمان والعقل، مؤكدًا على أن كليهما يمكن أن يساهما في الوصول إلى معرفة أعمق للحقيقة الإلهية. هذا التزاوج بين العقلانية والفكر الديني أدى إلى تعديل بعض المفاهيم اليونانية لتتناسب مع التعاليم المسيحية.

3ـ صعود العقلانية الحديثة:

أشار العديد من الفلاسفة إلى أن الاعتماد المفرط على العقل قد يؤدي إلى اختزال التجربة الإنسانية، إذ يُنظر إلى الإنسان باعتباره كائنًا عقلانيًا بحتًا، يتصرف بناءً على منطق حسابي دون اعتبار للعواطف والمشاعر. وتؤدي هذه النظرة إلى تفسيرات غير مكتملة للطبيعة البشرية، حيث يتم تجاهل تأثير العوامل العاطفية على القرارات الإنسانية والتجربة الوجودية.في العصر الحديث، شهدت الفلسفة تحولًا جذريًا في فهم العقلانية مع ظهور فلاسفة مثل رينيه ديكارت وإيمانويل كانط. ديكارت، الذي يُعد من رواد العقلانية الحديثة، طرح مقولته الشهيرة "أنا أفكر، إذن أنا موجود" كقاعدة أساسية للفكر الفلسفي، مؤكدًا أن العقل هو المصدر الأوحد للمعرفة. كان هذا الموقف ديكارت بمثابة نقطة انطلاق لتطوير فلسفات تعتبر العقلانية أساسًا لكل فكر نقدي وتحليلي، كما ظهر في فلسفة كانط التي سعت لتحديد حدود العقل البشري وقدرته على فهم العالم من خلال النقد الذاتي.

4ـ النقد المعاصر لفكرة العقلانية المطلقة:

على الرغم من الإسهامات الكبيرة التي قدمتها العقلانية في تطور الفلسفة، إلا أنها لم تسلم من الانتقادات، خاصة من قبل الفلاسفة المعاصرين وما بعد الحداثيين. نيتشه، على سبيل المثال، انتقد التركيز المفرط على العقل، مشيرًا إلى أن هذا التوجه أدى إلى إهمال الجوانب الأخرى من الوجود الإنساني مثل الإرادة والشغف. هيدغر، بدوره، قدم نقدًا للعقلانية الحديثة، معتبرًا أنها أغفلت العلاقة الأصيلة بين الإنسان والعالم، وأدت إلى نوع من الجمود الفكري والتقني.

الجزء الثاني ـ الإشكاليات والتحديات المرتبطة بالعقلانية المطلقة

1ـ تأثير العقلانية على فهم الطبيعة الإنسانية:

تناولت الفلسفة الغربية عبر تاريخها دور العقل بوصفه الأداة الرئيسية التي تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة وإدراك الحقائق. ومع تصاعد هيمنة العقلانية المطلقة، ظهر تركيز كبير على قدرة العقل في فهم وتفسير كافة جوانب الحياة الإنسانية. هذه الهيمنة لم تخلُ من تبعات سلبية؛ إذ أدت في بعض الأحيان إلى تهميش الجوانب العاطفية والوجدانية، التي تعتبر جزءًا لا يتجزأ من طبيعة الإنسان.

أشار العديد من الفلاسفة إلى أن الاعتماد المفرط على العقل قد يؤدي إلى اختزال التجربة الإنسانية، إذ يُنظر إلى الإنسان باعتباره كائنًا عقلانيًا بحتًا، يتصرف بناءً على منطق حسابي دون اعتبار للعواطف والمشاعر. وتؤدي هذه النظرة إلى تفسيرات غير مكتملة للطبيعة البشرية، حيث يتم تجاهل تأثير العوامل العاطفية على القرارات الإنسانية والتجربة الوجودية.

2ـ نقد فلاسفة ما بعد الحداثة للعقلانية المطلقة:

قدّم فلاسفة ما بعد الحداثة، مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا، انتقادات حادة للعقلانية المطلقة، مشيرين إلى أن هذه العقلانية قد تتحول إلى أداة للسيطرة والهيمنة بدلاً من أن تكون وسيلة للتحرر. فوكو، على سبيل المثال، يرى أن "العقلانية" التي تتبناها المجتمعات الغربية الحديثة ليست إلا وسيلة لتكريس أنماط معينة من السلطة. في أعماله، خاصة في "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، يستعرض فوكو كيف استخدم المجتمع العقل والعلم كأدوات لإقصاء الأفراد الذين يُعتبرون غير عقلانيين، وذلك من خلال مؤسسات مثل المصحات العقلية.

أما جاك دريدا، فقد قدم نقدًا بنيويًا للعقلانية، متخذاً من اللغة أداةً لتحليله. في كتابه "الكتابة والاختلاف"، يجادل دريدا بأن اللغة تحمل في طياتها تناقضات لا يمكن تجاوزها، مما يؤدي إلى انهيار الأسس التي تقوم عليها الفلسفة الغربية التقليدية. من خلال مفهوم "التفكيك"، يسعى دريدا إلى الكشف عن هذه التناقضات والتفاوتات داخل النصوص الفلسفية، مؤكداً أن أي خطاب عقلاني هو في نهاية المطاف قابل للتفكيك والتقويض.

3 ـ  تأثير العقلانية على العلم والتكنولوجيا:

في سياق تطور العلم والتكنولوجيا، لعبت العقلانية المطلقة دورًا حاسمًا في تحقيق إنجازات علمية ضخمة. إلا أن هذا التقدم لم يخلُ من إشكاليات. العقلانية التي تركز على الفعالية والإنتاجية قد أدت في بعض الأحيان إلى تجاهل الأبعاد الأخلاقية لاستخدامات التكنولوجيا، مما أثار قضايا جوهرية حول الخصوصية والاستقلالية الإنسانية وحتى الأخطار البيئية.

على سبيل المثال، أدى السعي وراء التقدم التكنولوجي دون اعتبار كافٍ لتداعياته الأخلاقية إلى مشكلات مثل انتهاك الخصوصية، التحكم البشري المفرط بالتكنولوجيا، والتلوث البيئي. هذه القضايا تسلط الضوء على أهمية إعادة النظر في مدى تأثير العقلانية المطلقة على مسار التطور العلمي والتكنولوجي.

4ـ العقلانية والهوية الثقافية:

مع انتشار الفكر العقلاني الغربي، واجهت العديد من الثقافات غير الغربية ضغوطًا للتكيف مع هذا النموذج الفكري، مما أدى في بعض الأحيان إلى تآكل هوياتها الثقافية. العقلانية الغربية، التي تم تصديرها باعتبارها النموذج الأمثل للتفكير والتحليل، فرضت معيارًا ثقافيًا واجتماعيًا على المجتمعات الأخرى، مما أدى إلى تقويض التنوع الثقافي والتعددية.

يجادل النقاد بأن العقلانية المطلقة ليست حلاً عالميًا لجميع المشكلات الثقافية، وأن هناك ضرورة لاحترام التعددية الثقافية وحقوق الشعوب في الحفاظ على هوياتها الثقافية الفريدة. الفلاسفة المدافعون عن التعددية الثقافية يرون أن للعقلانية حدودًا، وأن فهم العالم وتفسيره يتطلب الاستماع إلى أصوات متعددة واحترام الفروق الثقافية.

الجزء الثالث ـ التحليل الفلسفي لنظريات الحداثة وما بعد الحداثة

1ـ الحداثة ونظرتها إلى الذات والعقل:

تمثل الحداثة فترة محورية في تاريخ الفلسفة، حيث شهدت تغيرات جذرية في نظرة الإنسان إلى ذاته والعالم من حوله. بدأت هذه الحقبة في عصر التنوير الأوروبي، حيث ركز الفلاسفة على العقل بوصفه المصدر الأساسي للمعرفة والتحرر من قيود التقليد والجهل. كان إيمانويل كانط ورينيه ديكارت من أبرز الشخصيات الفلسفية التي ساهمت في تشكيل ملامح هذا العصر.

في سياق تطور العلم والتكنولوجيا، لعبت العقلانية المطلقة دورًا حاسمًا في تحقيق إنجازات علمية ضخمة. إلا أن هذا التقدم لم يخلُ من إشكاليات. العقلانية التي تركز على الفعالية والإنتاجية قد أدت في بعض الأحيان إلى تجاهل الأبعاد الأخلاقية لاستخدامات التكنولوجيا، مما أثار قضايا جوهرية حول الخصوصية والاستقلالية الإنسانية وحتى الأخطار البيئية. كان كانط، في عمله الشهير "نقد العقل المحض"، يعتقد أن العقل البشري قادر على الوصول إلى المعرفة من خلال مزيج من التجربة الحسية والعقل المجرد. رفض كانط الأفكار الميتافيزيقية التي لا يمكن التحقق منها عبر العقل أو التجربة، مؤكدًا على أهمية العقل كمرجع نهائي لكل معرفة.

ديكارت، من جهته، أسس لفكرة أن العقل هو الأساس الوحيد للوجود اليقيني من خلال مقولته الشهيرة "أنا أفكر، إذن أنا موجود". كان هذا الإصرار على العقل كمصدر لكل يقين فلسفي جزءًا من مشروع أوسع للحداثة، هدفه تحرير الإنسان من السلطات التقليدية والمعتقدات الموروثة، وإقامة مجتمع قائم على المعرفة العلمية والتفكير النقدي.

2ـ نقد مشروع الحداثة عند فوكو ودريدا:

مع تقدم الزمن، ظهرت تيارات نقدية توجهت إلى مشروع الحداثة ذاته، وكان من أبرز هؤلاء النقاد فلاسفة ما بعد الحداثة مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا. فوكو، في أعماله مثل "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، أشار إلى أن العقل لم يكن دائمًا أداة للتحرر، بل يمكن أن يصبح وسيلة للسيطرة والإقصاء. بالنسبة لفوكو، فإن العقلانية التي تبنتها المجتمعات الغربية قد استخدمت لتبرير إقصاء من لا يتوافق مع معاييرها، مثل المرضى العقليين، عبر مؤسسات مثل المصحات العقلية.

دريدا، من جهته، قدم نقدًا للغة باعتبارها أداة عقلانية تستخدم لتأسيس وتثبيت الهياكل السلطوية. في كتابه "الكتابة والاختلاف"، يرى دريدا أن اللغة ليست مجرد وسيلة لنقل المعاني، بل هي نظام معقد يساهم في تشكيل الفهم والعقلانية ذاتها. من خلال منهجيته في التفكيك، يسعى دريدا إلى إظهار التناقضات الداخلية في النصوص الفلسفية، مؤكداً على أن أي محاولة لتأسيس نظام معرفي شامل سوف تحتوي بالضرورة على تناقضات تقود في نهاية المطاف إلى انهياره.

3ـ ما بعد الحداثة وتفكيك الميتافيزيقا:

حملت ما بعد الحداثة معها نقدًا لاذعًا لمفاهيم الحداثة، خاصة فكرة العقلانية المطلقة. لم تعد الحقيقة مفهومًا ثابتًا أو مطلقًا، بل أصبحت حقيقة متعددة ومتشظية، تعتمد على السياق الثقافي والاجتماعي الذي تُفهم فيه. جان بودريار، في كتابه "المجتمع الاستهلاكي"، أكد أن الواقع ذاته لم يعد يمكن تمييزه عن الصور والعلامات التي تروج لها وسائل الإعلام. أصبحت الحقيقة في زمن ما بعد الحداثة "محاكاة" أو "هيبرواقع"، حيث لم تعد الحقيقة المطلقة موجودة، بل توجد فقط تفسيرات متعددة ومتضاربة للواقع.

يرى بودريار أن المجتمع المعاصر لم يعد يتعامل مع الحقائق بل مع رموز وصور تحاكي الواقع ولكنها لا تمت له بصلة. هذه الرموز تخلق نوعًا من الواقع الزائف الذي يتداخل مع الحياة اليومية، مما يؤدي إلى فقدان القدرة على التمييز بين الحقيقي والزائف. هذه التحليلات أثرت بشكل كبير على الدراسات الثقافية والإعلامية في العصر الحديث، حيث أصبح من الضروري إعادة التفكير في كيفية تأثير الإعلام والتكنولوجيا على تشكيل الوعي الإنساني.

4ـ النقد والاستمرارية بين الحداثة وما بعد الحداثة:

رغم النقد القوي الذي وجهته ما بعد الحداثة لمفاهيم الحداثة، إلا أنها لا تمثل قطيعة تامة معها. بدلاً من ذلك، يمكن النظر إلى ما بعد الحداثة كاستمرارية ونقد ذاتي للحداثة، حيث تسعى لتفكيك الأسس العقلانية التي قامت عليها، ولكنها في الوقت نفسه تعتمد على أدوات النقد العقلاني نفسها لتحقيق هذا الهدف.

هذا التفاعل المعقد بين الحداثة وما بعد الحداثة يمثل مرحلة جديدة في تطور الفكر الفلسفي، حيث يتم التعامل مع قضايا مثل السلطة، والمعرفة، والهوية الثقافية بطرق جديدة تتجاوز الثنائيات التقليدية. من خلال هذا النقد المتواصل، ساهمت ما بعد الحداثة في توسيع آفاق الفلسفة لتشمل قضايا لم تكن مطروحة من قبل، مثل دور اللغة في تشكيل الفهم الإنساني، وأهمية السياق الثقافي في تحديد ما يُعتبر حقيقة.

الجزء الرابع.. التأثير الفلسفي والاجتماعي للأفكار النقدية في عصر العولمة

1ـ الفلسفة النقدية وتأثيرها على الفكر المعاصر:

مع دخول العالم في عصر العولمة، أصبحت الفلسفة النقدية أكثر أهمية من أي وقت مضى. فالفلاسفة النقديون مثل ميشيل فوكو، وجاك دريدا، وجان بودريار أسهموا في تشكيل تفكير جديد يتعامل مع التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي نتجت عن العولمة. حيث طرحوا تساؤلات جوهرية حول السلطة، والمعرفة، والهوية في هذا السياق الجديد.

في هذا العصر، لم تعد الحدود بين الثقافات والمجتمعات واضحة كما كانت من قبل، مما أدى إلى إعادة التفكير في الكثير من المفاهيم التقليدية مثل الهوية، والدولة القومية، والسيادة. على سبيل المثال، يرى سلافوي جيجيك أن الفلسفة النقدية يجب أن تعالج التحديات التي تطرحها العولمة من خلال تطوير نظريات جديدة تتناسب مع هذا الواقع المعقد. هذه النظريات تعالج قضايا العدالة الاجتماعية، والنضال الطبقي، والسياسات الثقافية في عالم يتزايد فيه التداخل بين الثقافات.

2ـ نقد المجتمع الاستهلاكي والرأسمالية العالمية:

قدم فلاسفة مثل جان بودريار وسلافوي جيجيك انتقادات حادة للمجتمع الاستهلاكي والرأسمالية العالمية. بودريار، في كتابه "المجتمع الاستهلاكي"، يرى أن العالم الحديث قد تحول إلى "مجتمع استهلاكي" حيث تسيطر فيه "العلامات" والرموز على حياتنا اليومية، وتخلق واقعًا مشوهًا يتحول فيه الإنسان إلى مستهلك وليس فردًا فاعلًا. هذا الواقع الجديد يؤدي إلى اغتراب الإنسان عن ذاته وعن محيطه، حيث يصبح السعي وراء السلع والخدمات هو الهدف الأساسي في الحياة.

إن الفلسفة النقدية تلعب دورًا حيويًا في تحليل وفهم التغيرات التي يشهدها العالم اليوم. من خلال نقدها العميق للسلطة والمعرفة والهوية، تقدم هذه الفلسفة أدوات فعالة للتعامل مع التحديات المعاصرة، مثل العولمة والرأسمالية العالمية.جيجيك، من جانبه، يجمع بين الفلسفة النقدية والتحليل النفسي ليتناول التناقضات التي تسكن في قلب النظام الرأسمالي. يركز على كيفية تحويل الرأسمالية العالمية كل شيء إلى سلعة، حتى القيم والأفكار، وكيف يؤدي ذلك إلى أزمات اجتماعية واقتصادية متكررة. جيجيك يستخدم هذه التحليلات لتقديم نقد لاذع للنظام الاقتصادي والسياسي السائد، مقترحًا أن الحل يكمن في إعادة النظر في القيم التي تحكم حياتنا وإيجاد بدائل للرأسمالية.

3ـ الفلسفة النقدية والهوية الثقافية في ظل العولمة:

تناول الفلاسفة النقديون أيضًا تأثير العولمة على الهوية الثقافية للشعوب. مع تزايد التداخل بين الثقافات المختلفة، أصبحت مسألة الهوية موضوعًا رئيسيًا في الفلسفة المعاصرة. يرى هؤلاء الفلاسفة أن العولمة يمكن أن تؤدي إلى تآكل الهويات الثقافية التقليدية، مما يدفع الشعوب إلى إعادة تعريف هويتها في ظل تأثيرات خارجية متزايدة.

لكن بدلاً من رؤية هذا التغيير كتهديد، يقترح بعض الفلاسفة النقديين أن التعددية الثقافية التي تنتج عن العولمة يمكن أن تكون فرصة لإثراء الحوار الثقافي وتعزيز الفهم المتبادل بين الشعوب. هذه الفلسفة تدعو إلى احترام التنوع الثقافي والاعتراف بأهمية الحفاظ على الهوية الثقافية في وجه التحديات العالمية.

4ـ دور الفلسفة النقدية:

في الختام، يمكن القول إن الفلسفة النقدية تلعب دورًا حيويًا في تحليل وفهم التغيرات التي يشهدها العالم اليوم. من خلال نقدها العميق للسلطة والمعرفة والهوية، تقدم هذه الفلسفة أدوات فعالة للتعامل مع التحديات المعاصرة، مثل العولمة والرأسمالية العالمية.

تدعو الفلسفة النقدية إلى اليقظة المستمرة والنقد المستمر لكل ما هو مألوف أو مسلم به، وتشجع على البحث عن معانٍ جديدة في عالم يتغير بسرعة فائقة. في عصر يسيطر عليه الإعلام والتكنولوجيا، يصبح الدور النقدي للفلسفة أكثر أهمية من أي وقت مضى، حيث تسعى لتفكيك الواقع الزائف الذي تخلقه هذه القوى، ولإعادة بناء فهم أعمق وأكثر إنسانية للعالم.

ويبقى التساؤل قائما ملحا حول مشروعية ادعاء وجود حقيقة واحدة ينبغي إعلاؤها وفرضها على ما سواها أو ،على الأقل، التمسك بها من قبل من يتبناها، في مقابل ادعاء وجود أكثر من حقيقة تختلف باختلاف الزمان والمكان. ويترتب على ذلك قبول اختلاف الثقافات أو محاولة صهرها في ثقافة واحدة هي الثقافة التي يفرضها المنتصر أو المتفوق تقنيا.

***

ا. د. منذر جلوب

أستاذ جامعي عراقي ـ جامعة الكوفة

عن موقع، عربي 21، يوم: 14/8/2024م

...............................

الهوامش والمراجع

1. أفلاطون. *الجمهورية*، ترجمة وتقديم فؤاد زكريا، دار المعارف، القاهرة، 1984.

2. أرسطو. *الميتافيزيقا*، تحقيق أحمد فؤاد الأهواني، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1960.

3. توما الأكويني. *الخلاصة اللاهوتية*، ترجمة وتعليق جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1982.

4. ديكارت، رينيه. *تأملات ميتافيزيقية*، ترجمة أحمد عبد الحليم عطية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1995.

5. كانط، إيمانويل. *نقد العقل الخالص*، ترجمة موسى وهبة، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008.

6. نيتشه، فريدريش. *ما وراء الخير والشر*، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، بيروت، 2007.

7. هيدغر، مارتن. *الكينونة والزمان*، ترجمة فتحي المسكيني، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2012.

8 ـ  **ميشيل فوكو، "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، ترجمة: سعيد بنكراد. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. 2006.

9 ـ  **جاك دريدا، "الكتابة والاختلاف" ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي. دار توبقال للنشر، الدار البيضاء. 1988 .

10 ـ  **جان بودريار، "المجتمع الاستهلاكي: أساطير بنيته"،  ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي. دار الفارابي، بيروت، 2009.

11 ـ  **مارتن هايدغر، "السؤال عن التقنية" ترجمة: سعيد توفيق.  دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت.  2012.

12 ـ  **يورغن هابرماس، "نظرية الفعل التواصلي" ،ترجمة: حسن صقر. دار الفارابي، بيروت.2009.

13 ـ  **ميشيل فوكو، *تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي*، ترجمة سعيد بنكراد، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006.**

14 ـ  **جاك دريدا، *الكتابة والاختلاف*، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، بيروت: دار توبقال للنشر، 1990.**

15 ـ  **جان بودريار، *المجتمع الاستهلاكي: أساطير بنيته*، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2009.**

16 ـ  **سلافوي جيجيك، *العنف: ست تأملات جانبية*، ترجمة أحمد فؤاد، بيروت: دار نينوى، 2015.**

هل حربُ التَّحرير - كما قال عبد الحميد أبو سليمان - هي الصيغة العصرية للجهاد؟ أعيد طرحَ سؤال المقال الماضي، لأكمل الإجابة عنه في هذا المقال.

في الخطاب القومي العلماني وفي الخطاب اليساري بمختلف تياراتِه كانت تستعمل كلمة «مناضل» وكلمة «النضال» وكلمة «الكفاح» بديلاً علمانياً لكلمتي «مجاهد» و«الجهاد».

وفي الأدبياتِ الماركسية العربية يسمى الجهاد «الجهاد المقدس». صحيح أنَّ سواهم - والذين منهم من ينتمون إلى الخطاب الديني الإسلامي - يستعملون هذه التسمية، إلا أنَّ هؤلاء يستعملونها بعفوية لغوية وببراءة آيديولوجية تأثراً بلغة الصحافة وبلغة الأدب المتأثرتين هما أيضاً بلغة الترجمة من اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية إلى اللغة العربية. فعن طريق التأثر بالترجمة من هاتين اللغتين صارت صفة القداسة - بالتذكير والتأنيث - تلحق بكلمات لم يكن معهوداً في الأسلوب والبيان العربي القديم أو الأصلي إلحاقُ هذه الصفة بها.

في الكتاب التجميعي «الجهاد في سبيل الله» للمودودي والبنا وقطب، الذي أحال عبد الحميد أبو سليمان إليه في غير موضعه - كما أوضحت ذلك في المقال الماضي - يقول أبو الأعلى المودودي: «فأنت ترى أن الإسلام قد تجنّب لفظة (الحرب) وغيرها من الكلمات التي تؤدي معنى القتال (war) في اللغة العربية، واستبدل بها كلمة (الجهاد) التي تؤدي معنى (بذل الجهد والسعي)، ويرادفها كلمة (struggle) في اللغة الإنجليزية، غير أن لفظة (الجهاد) أبلغُ منها تأثيراً وأكثر إحاطة بالمعنى المقصود».

Struggle ترجمتها إلى اللغة العربية هي: يكافح، والكفاح؛ إذ إنها فعل واسم في آن واحد. وحين تُراجع معانيها بقواميس اللغة الإنجليزية، وتُراجع معاني كلمة «جهاد» بقواميس اللغة العربية، ستعرف أن ما قاله المودودي هو قول صحيح.

بعد الثورات العلمانية على صُعُد شتى في الغرب ونجاحها، اكتسى مصطلح «حرب مقدسة» و«حرب أو حملة صليبية» معنًى سلبياً، لذا فإنَّ المصطلح الأخير من أجل استمرار استعماله أُفرغ من معناه الديني الأصلي، واستُبدل به معنى دنيوي نافع، مثل قولهم: سنشنُّ حملة صليبية على المرض أو على الفقر أو على الفساد؛ الفساد السياسي أو الاقتصادي... إلخ. وعلى الضفة السوفياتية قيل: سنشن حرباً مقدسة على الإمبريالية.

ولمَّا ترجم الغرب كلمة «الجهاد» إلى «الحرب المقدسة»، فهو ترجمها بهذا المصطلح غير المستحَب في الغرب بعد أن تعلمن. وممَّا زاد الأمر سوءاً أن أوروبا كانت في قرونها الدينية ساحة حرب بارزة صالَ فيها الجهاد الإسلامي قروناً عدة.

بدأ الغرب استعمال كلمتي «جهاد» و«جهاديين» بلفظيهما العربيين في وسائل الإعلام وفي الأوساط الأكاديمية، في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات الميلادية. وقد ذاعتا عند أهله كثيراً بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001.

في اللغة العربية معنى كلمة «جهاد» متعدد، ولا يقتصر معناها على المصطلح الإسلامي «الجهاد في سبيل الله».

ولأن معانيها متعددة أطلقت عائلات مسيحية فلسطينية وسورية ولبنانية على أبنائها اسم «جهاد» بالمعنى اللغوي وليس بمعناه الفقهي. وتقصر معرفتي عما إن كانت العائلات القبطية في مصر، والعائلات المسيحية في العراق، سمّت أبناءها بهذا الاسم، أم أنها لا تسمي أبناءها به.

أَخلصُ من بعض ما ذكرتُ إلى أن اعتبار عبد الحميد أبو سليمان في رسالته للدكتوراه «النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية» حروب التحرير صيغة عصرية للجهاد، وتسميته لها جهاد «التحرير» كان خطأً بيِّناً.

رأى عبد الحميد أبو سليمان أن «التأثير الماركسي على العلاقات الدولية من الفكر الماركسي ذو أهمية لا تُذكَر (كذا في الترجمة العربية لرسالته)، كما كانت المفردات الماركسية، بشكل عام، منبع إرباك وحيرة متزايدين، ولم يكن من الواضح ممن يُراد التحرر ولماذا.

وللدلالة على ذلك فقد حملت هذه المفردات معاني مُبهمة لمفهوم الجهاد في حرب التحرير الجزائرية والحرب الأهلية اليمنية.

إن نقده هذا فيه ارتباك، وفيه أخطاء معلوماتية؛ فليس واضحاً إن كان يتحدث عن حروب التحرير الوطنية أم حروب التحرير الشعبية.

لقد مهّد للحديث عن تأثر العالم الإسلامي بالماركسية، بقوله: «وكان الاتجاه المتنامي لعلاقات الدول الإسلامية الخارجية، بعد الحرب الكونية الثانية مباشرة، يبتعد عن السلام، ويخطو نحو المواجهة مع الغرب. وشهدت هذه المرحلة تورط الدول العربية بالمسألة الفلسطينية (!) وثورة العرب المسلمين في شمال أفريقيا ضد الاحتلال الأوروبي لبلادهم، وكان الإندونيسيون المسلمون منشغلين في حرب عصابات ضد المستعمر الهولندي».

إندونيسيا من البلدان التي شهدت حرب تحرير شعبية. ودول جنوب شرقي آسيا عامة شهدت حروب تحرير شعبية. الجزائر شهدت حرب تحرير وطنية وحرب تحرير شعبية.

حُدِّد تأثر العالم الإسلامي بالماركسية زمنياً ببروز الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مع أن زمنه أقدم من ذلك. فعلى نحو عام، هذا التأثر بدأ بُعَيْد الثورة البلشفية 1917، إذ أنشئت أحزاب شيوعية في بلدان إسلامية عدة.

النطاق الجغرافي في العالم الإسلامي الذي خصّه بالوقوف على تأثره بالماركسية، هو البلدان العربية. وكان بذلك يشير إلى البلدان العربية التي ربطتها علاقات صداقة ونصرة وتحالف مع الاتحاد السوفياتي.

مرة أخرى، نحن أمام تحديد زمني خاطئ، فمصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن الجنوبي لم يكن لها هذا النوع من العلاقة بالاتحاد السوفياتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. كما أن هذه العلاقة الخاصة بين هذه البلدان والاتحاد السوفياتي نشأت في أعوام متفاوتة، ولم تنشأ دفعة واحدة. ولم يكن سببها سبباً عاماً - كما قال - وهو ظهور الاتحاد السوفياتي بعد الحرب الكونية الثانية كقوة عظمى، فلكل بلد من هذه البلدان أسبابه في تكثيف العلاقة بالاتحاد السوفياتي.

وللتنبيه، أنا لم أنس ليبيا، فلم أذكرها لأنه في العام الذي أنجز أبو سليمان فيه رسالته، عام 1973، كان رئيسها معمر القذافي لا يزال يذم في العلن العقيدة الشيوعية. فليبيا ارتبطت بعلاقة خاصة مع الاتحاد السوفياتي عام 1974. وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: الأحد - 06 صفَر 1446 هـ - 11 أغسطس 2024 م

 

أزمات المجتمع العربي عميقة ومعقدة وعصية على التشخيص والتجاوز، لكن الحكم عليها بالانحطاط المانع مطلقاً للتغيير هو ضرب من الموقف العملي الضمني والاختيار العقيم. وكما كان يقول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي لا بد من الجمع بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة.

مقولة «الانحطاط» لا معنى لها في القاموس النظري لأدبيات التفكيك لكونها تصدر عن مقاربة تاريخية غائية ومثالية، إلا أنها هي النتيجة العملية لهذه الأدبيات، لكونها حالة غير قابلة للتجاوز أو الإصلاح.

هل نعيش في لحظة انحطاط أو لحظة أزمة؟ الفرق كبير بين المفهومين حسب تمييز الفيلسوف الفرنسي جان ليك ماريون، الذي يرى أن الانحطاط يكون في حال العجز عن تغيير المسار بحيث يفقد السياسي القدرة على التأثير على الوضع القائم، أما الأزمة فهي لحظة فارقة تفتح آفاقاً متباينة للفعل والحركة، ولذا فإنها مفعمة بالأمل والرجاء. في كتاباتنا العربية الرائجة الحديث يدور في الغالب عن الأزمات في مناحيها المختلفة: أزمة الثقافة والفكر، أزمة النظام الإقليمي، أزمة التحول الديمقراطي، أزمة التخلف، الأزمة الاقتصادية والاجتماعية..

ما تعنيه مقولة «الأزمة» في هذه المناحي هو الوعي بأن الأوضاع المختلفة للمجتمع العربي تعاني من التردي المتزايد والانتكاسة المتواصلة، بيد أن الأمل يظل قائماً للتغلب على هذه النقائص والانتكاسات في أفق تجديد الفكر وإصلاح النظم السياسية والمجتمعية المعطلة. في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، برز مصطلحان أساسيان في رصد أزمات المجتمع العربي هما: النقد والتفكيك. النقد ينطلق من سياقين نظريين متمايزين هما: نقد ملكة العقل والحكم بالمفهوم الكانطي؛ أي ضبط أدوات التصور والمعرفة، والنقد الإبستمولوجي المتعلق بمناهج النظر والتحليل ونماذج التطبيق الإجرائي في الظواهر الطبيعية والإنسانية.

ورغم أن المفكرين الراحلين محمد أركون ومحمد عابد الجابري أصدرا أعمالاً مهمة بعنوان «نقد العقل» (الإسلامي والعربي)، إلا أن الإشكالية الكانطية كانت غائبة في هذه الأعمال التي نحت، إما منحى أنثروبولوجياً (الأنثروبولوجيا المطبقة بالنسبة لأركون) أو منحى إبستمولوجياً (الإبستمولوجيا المطبقة على النمط الباشلاردي بالنسبة للجابري). النقد يحيل في منطقه العميق إلى إمكانية تجاوز الأزمة الفكرية القائمة، من خلال الكشف عن الهنات ونقاط الضعف، ومن ثم الوصول إلى الإدراك الدقيق للظواهر والتوصل إلى الحلول المناسبة للقضايا العالقة.

في استراتيجية نقد العقل، يكون المخرج هو التشخيص الصحيح وبناء الموقف العقلاني العلمي الذي هو البديل الناجع عن الانغلاق في الممارسات التراثية المعيقة للنهوض والتحديث. أما التفكيك، فلا يحمل هذه الشحنة المتفائلة، لكونه ينطلق من مسلمة استحالة الخروج من سلطة النص والمعنى وسطوة الحقيقة الدوغمائية، وليس ثمة مسالك للخلاص والتحرر.

مفاهيم التفكيك دخلت أساساً عن طريق أدبيات الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، التي اخترقت العلوم الإنسانية والكتابات الفلسفية، وقد تركزت في الفكر العربي المعاصر في مواضيع مثل نقد التنوير والحداثة والالتزام.. ما نلاحظه هو أن أفكار التفكيك وظفت أساساً في الخطاب العربي المعاصر ضد الأيديولوجيات التاريخانية والوضعية، أي ضد مشاريع النهوض والتحديث التي بلورتها النخب الفكرية والسياسية منذ نهاية القرن التاسع عشر.

وهكذا نخلص إلى أنه في حين تظل المقاربات النقدية دائرة في أفق التحديث والتنوير، فإن الكتابات التفكيكية لا تفضي إلى أي أفق للتغيير الإيجابي أو الحلول الناجعة لأزمات المجتمع العربي.

ومع أن مقولة «الانحطاط» لا معنى لها في القاموس النظري لأدبيات التفكيك لكونها تصدر عن مقاربة تاريخية غائية ومثالية، إلا أنها هي النتيجة العملية لهذه الأدبيات، لكونها حالة غير قابلة للتجاوز أو الإصلاح. لقد كان الفيلسوف الألماني نيتشه من أهم من فكر فلسفياً في مفهوم «الانحطاط» الذي ربطه بالظاهرة العدمية الحديثة، ويعني بها سيادة التصور الأخلاقي للوجود وما ينجر عنه من تراجع الغرائز الحية وسيادة قيم الضعف والانتكاسة والجمود. وفي ما وراء الحرفية المباشرة لهذه العبارات، ما يقصده نيتشه هو أن الانحطاط ينبع من التشبث بالقيم السائدة من حيث هي معارف موضوعية ويقينية، بدلاً من اعتبارها قوى دافعة للفعل والنشاط والإبداع.

ما يبينه نيتشه هو أن الحضارة الأوربية المعاصرة قوضت كل إبداعاتها المعرفية والعلمية والإنسانية، من خلال اختزالها في حقائق موضوعية أو معايير قانونية عادلة، بما يفضي إلى تحصين الوضع القائم وكبح كل إمكانات تجاوزه. عندما تستخدم هذه المقولات التفكيكية في رصد وضع الانحطاط العربي، يتم في الواقع تثبيت حالة التردي الفكري والاجتماعي العربي عبر نفي إمكانات تغيير الواقع وتجاوزه إيجابياً.

ما نريد التأكيد عليه في نهاية المطاف، هو أن أزمات المجتمع العربي عميقة ومعقدة وعصية على التشخيص والتجاوز، لكن الحكم عليها بالانحطاط المانع مطلقاً للتغيير هو ضرب من الموقف العملي الضمني والاختيار العقيم. وكما كان يقول الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي لا بد من الجمع بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 11 أغسطس 2024 23:45

لاحقته المخابرات الأميركية في كل مكان حتى في مستشفى الأمراض العقلية

كان الكاتب الأميركي إرنست همنغواي قد نشر ثلاث أو أربع روايات متتالية أمّنت له المجد الأدبي من كل أبوابه. وكانت أولاها: «الشمس تشرق أيضاً» (1926). وقد نالت شهرة واسعة وحظيت بأفضل المبيعات. وهي تعدُّ إحدى أعظم روايات اللغة الإنجليزية في القرن العشرين. وفيها يصور لنا الكاتب أجواء باريس بكل دقة في فترة ما بين الحربين العالميتين. إنه يتحدث لنا عن ذلك الجيل الضائع، جيل الاحتراق والعبور، الذي عاش أهوال الحرب العالمية الأولى ولم يستطع نسيانها.

ثم في عام 1929 نشر همنغواي رائعته الثانية «وداعاً أيها السلاح». وقد بيع منها خلال أربعة أشهر فقط ما لا يقل عن ثمانين ألف نسخة. ثم تحولت بسرعة إلى مسرحية تمثيلية، ثم إلى فيلم سينمائي، وانهالت عليه الشهرة العريضة من كل حدب وصوب. وكذلك الأموال والفلوس. وراح يدلي بالمقابلات الصحافية للجرائد الأميركية والعالمية وتحول إلى نجم النجوم. وقد صرح لأحد الصحافيين بأنه كتب الصفحة الأخيرة من روايته 39 مرة. وفي كل مرة كان يشطبها قبل أن تعجبه أخيراً في المرة الأربعين... وهي تشبه السيرة الذاتية. وفيها يتحدث عن الحب والحرب والممرضة الإيطالية التي عالجته وشفته من جرح خطير كان قد أصيب به على الجبهة في نواحي ميلان أثناء الحرب العالمية الأولى. ولكن المشكلة هي أنها جرحته جرحاً خطيراً من نوع آخر: لقد لوعته حباً وغراماً. وهذا الجرح الثاني لا علاج له ولا شفاء منه.

وفي عام 1940 نشر رائعته الكبرى الثالثة «لمن تقرع الأجراس؟»، وهي عن الحرب الأهلية الإسبانية. وقد نالت نجاحاً فورياً مدوياً. وبيعت منها مليون نسخة بعد عام واحد فقط من ظهورها. مليون نسخة! ثم قبض مبلغ مائة وخمسين ألف دولار على تحويلها إلى فيلم سينمائي. وهذا رقم قياسي في ذلك الزمان. ولم يسبق أن ناله أي كاتب آخر أميركي أو غير أميركي. وهو الذي اختار الممثل غاري كوبر والممثلة أنغريد بيرغمان لكي يلعبا دور بطل الرواية وبطلتها.

وفي عام 1952 تصدر رائعته الكبرى الرابعة «الشيخ والبحر». وقد نالت نجاحاً هائلاً وفورياً. وربما كانت هذه آخر ضربة عبقرية وأكبر ضربة حققها همنغواي في ساحة العمل الروائي. وقد توج همنغواي عام 1954 بجائزة «نوبل للآداب». لكنه لم يكلف نفسه عناء السفر إلى استوكهولم لتسلمها. فأرسل لهم كلمة قصيرة جداً قُرئت بالنيابة عنه. وكان مما قاله فيها: «إن حياة الكاتب هي حياة متوحدة أو وحيدة. إنه يشتغل ضمن أجواء مطبقة من الوحدة والعزلة والصمت. وإذا كان كاتباً جيداً بما فيه الكفاية فإن عليه أن يواجه كل يوم مسألة وجود الأبدية أو عدم وجودها. بمعنى آخر فإن سؤال الموت وما بعد الموت، سؤال الخلود أو الفناء الكامل سوف يظل يلاحقه باستمرار».

هكذا نكون قد عدنا إلى مسألة السر الأعظم أو اللغز الأكبر الذي لا يعطي نفسه لمخلوق على وجه الأرض.

سؤال بلا جواب؟

ولكن يبقى السؤال مطروحاً: لماذا ينتحر كاتب حقق كل هذا النجاح الأدبي غير المسبوق؟ لماذا ينتحر بعد أن نال «جائزة نوبل» ووصل إلى قمة الأدب الأميركي والعالمي؟ لماذا ينتحر بعد أن حققت رواياته مبيعات خيالية ودرت عليه الملايين؟ لماذا ينتحر وهو في عز الشباب: ستون سنة! كان يمكن أن يعيش منعماً مرفهاً عشرين سنة أخرى أو حتى خمساً وعشرين. وهي أجمل سنوات العمر، سنوات التقاعد، خصوصاً إذا كنت تمتلك كل هذه الملايين من الدولارات المتراكمة على حسابك البنكي. إنه تقاعد من ذهب...

ولكن إذا عرف السبب بطل العجب.

في عام 2011 وفي يوم 2 يوليو (تموز)، أي بعد خمسين سنة بالضبط من انتحاره نشرت جريدة «النيويورك تايمز» خبراً مثيراً سرعان ما انفجر كالقنبلة الموقوتة. مفاده أن الرجل لم ينتحر اختياراً وإنما اضطراراً. فقد كان ملاحقاً من قبل عملاء المخابرات الأميركية (إف بي آي)، وذلك بتهمة التعامل مع النظام الكوبي. وللتدليل على هذا نشرت الجريدة الأميركية الشهيرة رسالة لصديقه هارون إدوارد هوتشنير. وهي رسالة ألقت أضواء جديدة على المراحل الأخيرة من حياة إرنست همنغواي. ماذا يقول صديقه الشخصي في هذه الرسالة التي قلبت الأمور رأساً على عقب. إنه يقول ما معناه: في أحد الأيام اتصل بي همنغواي وهو في حالة من الاضطراب لا تُوصف. وقال لي بأنه متعب جداً من الناحية النفسية والجسدية. وفهمت منه أنه يعيش حالة هلع وأنه بحاجة لأن يراني. فذهبت فوراً للقياه وعندئذ كشف لي السر الخطير الذي يؤرقه ويقض مضجعه. قال لي: أنتم لا تعرفون ماذا يحصل لي؟ أنا في خطر يا جماعة. أنا ملاحق من قبل المخابرات ليلاً نهاراً فقط. تليفوني مراقب وبريدي مراقب وحياتي كلها تحت الرقابة. أكاد أجن!

ثم يضيف صديقه في الرسالة قائلاً:

ولكن المقربين منه لم يلحظوا وجود أي برهان عملي على ذلك. ولذلك اعتقدوا أنه أصيب بمرض البارونايا: أي الذُهان الهذياني أو الهلوسات الجنونية. لقد غرق الكاتب الشهير في هوس الإحساس الوهمي بأنه ملاحق من قبل أجهزة المخابرات. فأين هي الحقيقة إذن؟ هل كان ملاحقاً فعلاً أم أنه كان موسوساً عقلياً ومتوهماً بأنه ملاحق؟ ومعلوم أن أحد النقاد كان قد اتهمه سابقاً بعد أن تعرف عليه بأنه مصاب بمرض العُصاب الجنوني والهستيريا الشخصية. وإلا من أين جاءت كل هذا الإبداعات العبقرية؟

فيما بعد كشفت الأرشيفات أن رئيس المخابرات إدغار هوفر الذي كان يرعب حتى رؤساء أميركا كان قد وضع بالفعل همنغواي تحت المراقبة والتنصت بتهمة التعامل مع جهة أجنبية معادية. ولذلك لاحقته المخابرات في كل مكان حتى في مستشفى الأمراض العقلية، بل وحتى على شواطئ البحار حيث كان يعشق التنزه. لقد أرهقوه فعلاً بالملاحقات حتى جننوه ودفعوه دفعاً إلى الانتحار. والأنكى من ذلك أنهم اتهموه بأشياء لا علاقة له بها. ماذا تستطيع أن تفعل إذا غلطت بك إحدى الجهات ولعنت أسلافك وأنت بريء كلياً مما يظنون أو يتوهمون؟ هذا ما حصل لإرنست همنغواي على ما يبدو. وبالتالي فقد ذهب ضحية عبث الأقدار الاعتباطية أو غلطات الوجود. لقد غلطوا به مكان شخص آخر. المجرم الحقيقي نجا بجلده والبريء دفع الثمن!

ضريبة العبقرية والشهرة غالية جداً. فالكثيرون جنوا أو عانوا أو نُحروا أو انتحروا بسببها

ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج ما يلي: أن تكون عبقرياً مشهوراً فهذا يعني أنك قد دخلت فوراً في الدائرة الحمراء للخطر. سوف تنزل على رأسك النوازل غصباً عن أبيك. يقول الفيلسوف الفرنسي المعروف ميشيل سير: لقد درست سيرة حياة مشاهير علماء فرنسا وفلاسفتها على مدار 400 سنة متواصلة ولم أجد واحداً منهم عاش مرتاح البال. كلهم كانوا معرضين للخطر بشكل أو بآخر وأحياناً لخطر الاغتيال. نستنتج أيضاً أن ضريبة العبقرية والشهرة غالية جداً. فالكثيرون جنوا أو عانوا أو نُحروا أو انتحروا بسببها. لقد احترقوا لكي يضيئوا لنا الطريق. وبالتالي فإذا كنا نريد أن نعيش مرتاحي البال فمن الأفضل أن نكون أشخاصاً عاديين كبقية البشر لا أكثر ولا أقل. كنا نعتقد أن العبقرية أو الشهرة نعمة فإذا بها نقمة حقيقية. تقريباً لا يوجد عبقري واحد إلا ودفع ثمن شهرته عداً ونقداً بشكل أو بآخر: المتنبي قُتل في الخمسين، ابن سينا مات على الأرجح مسموماً في السابعة والخمسين، جمال الدين الأفغاني مات مسموماً في الآستانة عند الباب العالي وهو لما يبلغ الستين، عبد الرحمن الكواكبي قتله الباب العالي أيضاً في القاهرة عن طريق فنجان قهوة صغير وهو في السابعة والأربعين. ديكارت مات مسموماً في السويد وهو في الرابعة والخمسين، وذلك على يد كاهن أصولي كاثوليكي دس له السم في القربان المقدس! الدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق وأحد أساطين القانون السوري والعالمي سقط مضرجاً بدمائه تحت وابل من رصاص الطليعة المقاتلة لـ«الإخوان المسلمين» وهو في الثامنة والخمسين. والقائمة طويلة... عندما نكتشف كل ذلك نتنفس الصعداء ونحمد الله ألف مرة على أننا لسنا عباقرة!

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: 10 أغسطس 2024 م ـ 05 صفَر 1446

 

ظلّت طويلاً أقرب لاشتغال مهني مركون في المكاتب الهندسية وعالم المقاولات

لا يمكنُ للمشتغل في تاريخ الثقافة وفلسفات الحداثة وما بعد الحداثة في عالمنا العربي إلّا أن يدقق كثيراً وطويلاً في الحقيقة التالية: كانت العمارة (Architecture)، إلى جانب بعض ألوان الأدب «الرواية بالتخصيص» والفن التشكيلي والمسرح، إطلالتنا المبكّرة على عالم الحداثة وما بعد الحداثة؛ لكنْ برغم هذه الطلائعية الحداثوية ظلّت العمارة أقرب لاشتغال مهني مركون في مثاباته الوظيفية العالية (المكاتب الهندسية وعالم المقاولات)، ولم تتحوّلْ نسقاً ثقافياً فاعلاً. هذا ما تعزّزه حقيقة النقص الفادح في المطبوعات التي تتناول تأثير العمارة في تشكيل السياسات الثقافية. ظلّ المعمار العربي أسير الرؤية الضيقة التي لا ترى في العمارة سوى طريق نحو تحقيق نوع من الحظوة الاجتماعية بفعل الانضمام إلى المجتمع المعماري الكلاسيكي الذي تشيع فيه أخلاقيات «الأرستقراطية المالية» المتوقعة. كانت النتيجة فقراً مزمناً في المنشورات التي تؤكّد على «دور المعمار في حضارة الإنسان»، وهو عنوان كتاب مثير للمعمار العراقي الراحل رفعة الجادرجي.

كانت العمارة تَرِدُ في مقروءاتنا كمَنْشط إنساني ملحق بالفعاليات البشرية. هذا ما حصل معي - وكثرةٍ من مُجايليّ - طيلة سنوات السبعينات من القرن العشرين. أذكرُ أنني قرأتُ في عدد شهر مارس (آذار) لعام 1978 من مجلة «آفاق عربية» العراقية موضوعاً مثيراً عنوانه «أسرجة الفن المعماري الحديث الثلاثة»، ترجمه المعمار العراقي محمود حمندي. توفّر الموضوع على ميزة استثنائية وهي أنك كنت تقرأ فيه نتاج عقل مهجوس بالوضع البشري وليس بنطاق مهني ضيق فيه، وظهر الكاتب أقرب لمشتغل متمرّس بالأنساق الثقافية امتدّ بصره خارج أنطقة المكاتب المعمارية وسياقات عملها الوظيفية الصارمة. عزمتُ بعد تلك القراءة الكاشفة على أن أتابع قراءاتي في الثقافة المعمارية، وكان بعضُ ما عزّز هذه الاندفاعة لديّ هو أنّ بعض مُنظّري ثقافة الحداثة وما بعد الحداثة في العالم كانوا من أكابر المعماريين العالميين، وأخصُّ منهم تشارلز جينكس (Charles Jencks) الذي يمكنك أن ترى في بعض كتاباته آثاراً من الآباء المؤسسين لما بعد الحداثة الثقافية مثل إيهاب حسن.

تحفة بصرية

حصل معي بداية ثمانينات القرن العشرين أن قرأتُ كتاباً صغيراً بعنوان «حديث في العمارة» نُشِر في العراق ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة. مؤلف الكتاب هو الدكتور خالد السلطاني، الأستاذ في قسم العمارة بجامعة بغداد، والمقيم حالياً في الدنمارك. منذ ذلك الحين حرصتُ على متابعة منشورات السلطاني في مقالاته الغزيرة أو في كتبه العديدة التي جاوزت العشرات. خالد السلطاني، كما أرى، هو أحد الأضلاع في المثلث المعماري العراقي (رفعة الجادرجي، معاذ الآلوسي، خالد السلطاني) الذي عمل على تكريس العمارة اشتغالاً نسقياً ثقافياً مؤثراً في طبيعة المعيش اليومي وحركياته المتطورة سعياً نحو تثويره وتحفيزه للارتقاء الحثيث بالمجتمع في كلّ جوانبه. آخِرُ كتب السلطاني هو الكتاب المعنون «عمارات: لمحةٌ إلى عمارة الحداثة... وأخرى إلى ما بعدها». الكتاب من منشورات أواخر عام 2023.

أربع خصائص مميزة يمكن تنسيبها لهذا الكتاب:

* أولاً، قَصَدَ المؤلف أن يكون الكتاب تحفةً بصريةً يرى فيها القارئ أعاظم المنجزات المعمارية لأسماء كبيرة في عالم العمارة. أراد المؤلف إحداث انعطافة مفصلية عن سياق مؤلفاته السابقة فعمد إلى تحريك الحواس كاملةً بدلاً من الاكتفاء بالجهد الذهني والتفكّر المعقلن. أنت هنا «ترى» الحداثة وما بعد الحداثة في سياق تشكلات صُوَرية معمارية غاية في الجاذبية ولا تكتفي بالقراءة الموغلة في التنظير الفلسفي للأفكار. من المؤكّد أنّ الإخراج الفني البديع ساهم في تعزيز قصد المؤلف.

وثانياً، الكتاب ليس ترتيباً زمنياً خطياً رتيباً (كرونولوجياً) يُشترطُ فيه القراءة السياقية المنتظمة. يكفي القارئ أن يطّلع على قائمة محتويات كلّ فصل ثم ينتقي ما يشاء من عمارة محدّدة أو اسم معمار عالمي أو مدرسة معمارية عالمية. الكتاب في النهاية ليس مقرراً دراسياً ولا كتاباً توثيقياً شاملاً لأفكار عمارة الحداثة وما بعد الحداثة بقدر ما أراده المؤلف خلوة محببة مع بعض منتجات الحداثة وما بعد الحداثة المعمارية. كان المؤلف واضحاً منذ البدء في إشارته إلى أنّ خياراته للشواخص المعمارية في الكتاب إنّما تعكس ذائقته الشخصية وليس من المفيد أن تترتب عليها أي تقييمات على صعيد الجودة التنفيذية أو الأمثلية المعمارية.

وثالثاً، مع أنّ المؤلف لم يشأ بقصدية واضحة تقديم أطروحة تنظيرية مغالية في أكاديميتها؛ كانت المقدمة المختصرة التي كتبها مثابة مميزة حقاً لأنه استطاع في صفحات قليلة ضغطَ خبرة مديدة وتكثيفها وتقديمها لقارئ لم يتمرّس في دروب العمارة ومتاهاتها حتى لو كانت له حصيلة ثقافية عامة معتبرة.

وأخيراً، عهد المؤلف في التفاتة لمّاحة إلى إناطة كتابة تمهيد الكتاب بشاعر وإعلامي عراقي له صيته الجميل في الساحة الثقافية العراقية. وهو (المؤلف) في هذه الالتفاتة يؤكّد على كسر النخبوية المعمارية الضيقة والعمل على انفتاح الفضاء المعماري على أنسقة ثقافية أكثر اتساعاً من حدود القاعات الجامعية أو المكاتب المعمارية المهنية.

نظرية العمارة

الكتاب بسيط الترتيب ولا تعقيد فيه من جهة المحتويات، وهذه بعضُ فضائله. ثمة مقدمة (أؤكّد أنها عظيمة الفائدة) موجزة، يعقبها فصلان يختص الأول بنماذج من عمارة الحداثة، ويختص الثاني بنماذج من عمارة ما بعد الحداثة، ثم يختتم الكتاب بفصل قصير أوجز فيه المؤلف رؤاه السابقة (تسمى إيجازاً Summing Up). يرد في خاتمة الكتاب قائمة موجزة ومهمة بالمصادر والمراجع، مع ملحق قصير بالإنجليزية.

يؤكّد المؤلف أنّ مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة المعمارية كانت سابقاً تدرّسُ كنُتَفٍ مفاهيمية مبعثرة في منهاج «تاريخ العمارة»؛ لكنّه عمل بجهد حثيث على التأكيد عليها وتضمينها في منهج دراسي منفصل هو «نظرية العمارة» متمايز عن تاريخ العمارة. يكتب المؤلف واصفاً بعض تفاصيل الحداثة المعمارية:

«اعتمدت الحداثة المعمارية على التقدم الصناعي والنجاحات الجديدة التي حدثت فيه، وتبنت الأفكار الطليعية المنادية للتغيير، كما اهتمت بالجانب الاجتماعي للعمارة...» ، ثم يوردُ صفات محددة للحداثة المعمارية: النزعات العقلانية في إيجاد حلول المعضلات المعمارية، رفض الطرز التاريخية للمباني، وإهمال لغة الذاكرة التاريخية المحلية.

شاعت عمارة الحداثة في الفترة الممتدة من أوائل القرن العشرين حتى سبعيناته، ثم بدأت طلائع ما بعد الحداثة المعمارية تقتحمُ حصون الحداثة منذ أواسط ستينات القرن العشرين بفعل تأثير ثلاثة أساطين معماريين. يكتب المؤلف في بعض هذا الشأن:

«معلومٌ أنّ روبرت فنتوري Robert Venturi (1925- 2018)، المعمار الأميركي المعروف، الذي ارتبط اسمه كأحد المنظّرين اللامعين لظاهرة عمارة ما بعد الحداثة، قد ألّف كتاباً ونشره عام 1966 بعنوان (التعقيد والتناقض في العمارة Complexity and Contradiction in Architecture) يتناول مسوّغات التغيير وضرورته في الذائقة الجمالية للعمارة، ويروّجُ لأطروحة تقف بالضد من عمارة الحداثة...». لقي الكتاب التأسيسي لفنتوري رواجاً واسعاً عقب نشره، وتُرجِم إلى 16 لغة عالمية، وقامت المعمارية العراقية سعاد مهدي بترجمته إلى العربية ونشره في بغداد عام 1987، ثم أعقبت هذا الكتاب بكتاب تاريخي مهم عنوانه «عصر أساطين العمارة». نجد في كتاب فنتوري تأكيداً صارماً لفكرة أنّ العمارة نظام نسقي معرفي متكامل مع المعرفة البشرية:

«الفعالية المعمارية ما هي سوى شكل من أشكال المعرفة حالها حال الرياضيات والفيزياء والأدب، ولتوسيع شكل المعرفة هذا ينبغي النظر إلى علاقتها بالأنظمة الأخرى...».

يشيرُ المؤلف في انتباهة شديدة الأهمية إلى جملة من العوامل التي تدفع الارتقاء الحثيث للممارسة المعمارية المعاصرة؛ فيذكر من هذه العوامل: تطور تقنيات المحاكاة الحاسوبية، العلوم الجديدة (علم الكونيات الحديث، علوم التعقيد)، توظيف المعلوماتية والعولمة، الاستفادة من المواد النانوية فائقة الصغر.

عقب الاستفاضة في الحديث عن عمل فنتوري يتناول المؤلف مُنظّراً معمارياً آخر هو تشارلز جينكس (1939 - 2019) وكتابه «عمارة ما بعد الحداثة» المنشور عام 1977. يعجب المرء لقلّة مترجمات أعمال جينكس الكثيرة إلى العربية، وربما من المفيد الإشارة إلى عمله الموسوم «عمارة الكون الوثاب» الذي تُرجِم قبل بضع سنوات.

بيتر آيزينمان (Peter Eisenman)، المولود عام 1933، هو المنظّر الثالث لما بعد الحداثة المعمارية، الذي تناوله المؤلف. تناغمت أفكار هذا المنظّر مع الفلسفة التفكيكية للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، وهذه المقاربة نراها واضحة في كتبه العديدة.

بعد القراءة المدققة للمقدمة المكثفة للمؤلف يمكن للقارئ الترحّلُ بتجوال بصري حر في عوالم منتقاة من عمارة الحداثة وما بعد الحداثة. للقارئ أن يحلّق كما يشاء ويحطّ أنّى يشاء؛ فالمؤلف يبتغي إمتاعه أولاً وقبل كل شيء من غير ضواغط فكرية أو منهجية ثقيلة.

عالمنا يتفجّر بألوان من المعارف كلّ يوم حتى بات المرء مثقلاً بعبء البحث عن الجديد مع عدم إغفال المعرفة القديمة. وَسْطَ شواغل ومثيرات حسية لا تنتهي قلما يجد القارئ (حتى الشغوف) وسيلة مناسبة لقراءةٍ مُصممة لإثرائه وتوفير الجهد والزمن له مع عدم الاخلال بالخصيصة الفكرية التي تشتغل في الجبهات العالية للمعرفة. أعتقد أنّ كتاب السلطاني أوفى بمتطلبات هذا الاستحقاق الذي سيقدّمُ خدمة كبرى لكثرة من القرّاء المهجوسين بالمعرفة المعمارية والإنسانية الشاملة.

***

لطفية الدليمي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 7 أغسطس 2024 م ـ 02 صفَر 1446 هـ

كان يرى أن التضاد بين الغرب والآخرين لم يعد صالحاً في عصر العولمة الكونية

لا أعرف مثقفاً عربياً ولا مسلماً واحداً أكثر انهماكاً في مسألة العلاقة بين التراث والحداثة من داريوش شايغان. لقد كانت شغله الشاغل على مدار خمسين سنة متواصلة؛ أي حتى رحيله عن هذا العالم عام 2018، مخلفاً وراءه العديد من الكتب المرجعية.

وهنا منذ البداية أقول: لحسن الحظ، فإن الفكر لا يموت بموت صاحبه، وإنما يظل حياً متألقاً بعده، إذا كان فكراً حقيقياً مضيئاً للإشكاليات العويصة. ما دام المثقف يخلِّف وراءه أعمالاً كبرى تخلده، وتضيء للأجيال القادمة الطريق، فإنه لا يموت. المفكر الكبير -بهذا المعنى- يظل يعيش معنا، بيننا، يظل يرافقنا. يكفي أن نفتح كتبه لكي نسمع صوته، لكي نستفيد من إضاءاته وإرشاداته. وهذا هو عزاؤنا الوحيد في الواقع بعد رحيله. هل مات ابن سينا؟ هل مات المعري؟ هل مات المتنبي؟ أين هو انتصارك يا موت؟ العباقرة لا يموتون!

نذكر من بين مؤلفاته: «ما الثورة الدينية؟»، وفيه ينتقد أدلجة الدين بعد الفورة الأصولية الخمينية عام 1979. والمقصود بالأدلجة هنا نزع القداسة عن الدين، وتحويله إلى مجرد آيديولوجيا سياسية مربحة جداً، على صعيد التجييش الشعبي، أو بالأحرى: الشعبوي و«الانتخابات الديمقراطية»! وحدها المتاجرة بالدين تبدو فعالة وفتاكة وقادرة على إنزال الجماهير إلى الشارع بالملايين. شيخ صغير واحد يعادل كل المثقفين العرب دفعة واحدة!

ثم كتاب: «النظرة المبتورة. البلدان التقليدية في مواجهة الحداثة»، وفيه يدرس ظاهرة الانفصام السيكولوجي أو «الشيزوفرينيا» التي نعاني منها نحن أبناء العالم الإسلامي، بين الانكفاء على التراث من جهة، والانبهار بالحداثة الغربية من جهة أخرى. فنحن نتذبذب بين قطبين. نحن في منزلة بين المنزلتين. فلا القدامة انتهت بعد، ولا الحداثة انتصرت بعد. من هنا قلقنا وعذابنا وعدم استقرارنا على «خازوق» محدد؛ إذا جاز التعبير. نحن في منزلة بين المنزلتين. نحن نعيش مرحلة انتقالية مترجرجة، مليئة بالمخاضات والعذابات. ولا ننسى كتاب المقابلات الشخصية الحميمية الذي أجاب فيه على أسئلة أحد الباحثين، بعنوان شاعري جميل جداً: «تحت سماوات العالم». ولا ننسى كتابه: «النور يأتي من الغرب». ولا ننسى، ولا ننسى...

لو لم يغادر داريوش شايغان إيران بعد انتصار الظلامية الخمينية، لما استطاع إتحافنا بكل هذه الروائع والمراجع. كيف يمكن التفلسف والتعمق والتحرر في مثل هذا الجو الخانق لرجال الدين؟! لولا استقراره في باريس، عاصمة الحضارة والأنوار، لما بقي منه شيء يذكر.

ما هي النظرية الأساسية لداريوش شايغان؟ يمكن تلخيصها على النحو التالي:

على الرغم من كل نواقص الغرب وانحرافاته العدمية المقلقة، فإن داريوش شايغان يعتقد بأن النور -أي الحل والخلاص- سوف يأتي من جهة الغرب لا محالة. لماذا؟ لأن الغرب على عكس الشرق هو الذي شهد عصر التنوير الكبير في القرن الثامن عشر. ويرى أن هذا العصر يشكل منعطفاً حاسماً في تاريخ البشرية كلها، وليس فقط في تاريخ أوروبا الغربية. فالإنسان في تلك الفترة الذهبية من عمر الحضارة البشرية، أدرك لأول مرة معنى حريته وحقوقه، وأراد نفض الغبار عن نفسه، والتحرر من وصايتين اثنتين مرهقتين فوق رأسه، هما: وصاية السلطة السياسية القمعية ورهبتها، ووصاية الجلالة المقدسة لرجال الدين القمعيين أيضاً. لقد كبر الإنسان، لقد شب عن الطوق، لقد انتقل من مرحلة القصور الشرعي إلى مرحلة سن الرشد، كما يقول كانط في تعريفه للأنوار. باختصار شديد لقد تحرر من وصاية الكاهن المسيحي، وأصبح يفكر بنفسه، ويتجرأ على استخدام عقله.

ولذا يرى شايغان أنه لكي تتفتح شخصية الإنسان وتزدهر؛ بل ولكي تتفتح الروحانيات الدينية ذاتها، فإنه -ويا للمفارقة الكبرى- لا ينبغي أن يعيش في مجتمع ديني شرقي، وإنما في مجتمع غربي علماني حديث، محرَّر كلياً من اللاهوت والكهنوت. ينبغي أن تعيش في ظل حماية دولة القانون المضادة لدولة الاستبداد والتعسف والاعتباط. ينبغي أن تعيش في ظل مؤسسات عقلانية ديمقراطية، إذا ما أردت أن تكتب وتبدع. وهي المؤسسات السائدة في دول الغرب المتقدم في أوروبا وأميركا الشمالية.

ولهذا السبب، فإن معظم المثقفين العرب والمسلمين يحلمون بالهجرة إلى جامعات أوروبا وأميركا؛ حيث يستطيعون مواصلة أبحاثهم بكل حرية. لو أن فضل الرحمن لم يغادر باكستان على وجه السرعة، ولم يستقر في جامعة شيكاغو، هل كان سيتجرأ على كتابة ما كتب عن التراث؟ لو أن محمد أركون لم يبقَ في باريس وعاد إلى الجزائر بعد تخرجه في جامعة «السوربون»، هل كان سيتجرأ على إتحافنا بأكبر مشروع فكري في هذا العصر: «نقد العقل الإسلامي»؟ بالمعنى الفلسفي العميق لكلمة نقد، وليس بمعنى التجريح.

بهذا المعنى، يعتقد داريوش شايغان أن مغامرة الحداثة الكبرى كانت بمثابة حركة تحريرية ضخمة، هادفة إلى تحرير الإنسان من كل الضغوط التراثية التي تجثم على قلبه. هنا يكمن إنجاز الحداثة الأعظم.

ولذلك يقول المفكر الإيراني الشهير ما فحواه: عندما ننظر إلى أوضاع العالم الإسلامي، ماذا نلاحظ؟ نلاحظ أن رجال الدين يتعدون أو يتطاولون على الحياة الشخصية للفرد أكثر فأكثر ويقمعونها. إنهم يراقبونك في كل حركاتك وسكناتك. فكيف يمكن للفكر أن ينتعش في مثل هذه الأجواء؟ كيف يمكن أن يبدع؟ ولذا نقول: من دون الفصل الحقيقي بين التدين التقليدي المتزمت، والمعرفة الفلسفية النقدية، فإننا لن نتوصل أبداً إلى مجتمع حر أو متحرر من السلفيات الموروثة؛ أياً تكن سنية أم شيعية.

كل هذا يدل على أنه لولا أربعة قرون من الفلسفة والعلمنة، لما استطاعت أوروبا التخلص من القمع اللاهوتي المسيحي، والتوصل إلى المفهوم الحديث والعلماني للحرية والديمقراطية. هذه أصبحت بدهيات، ولكن ينبغي التذكير بها.

وعندما تسأله: هل التضاد بين الغرب والآخرين لا يزال صالحاً؟ يجيبك قائلاً: لم يعد له أي معنى في عصر العولمة الكونية. وهنا يكمن النقص الأساسي في نظرية صموئيل هانتنغتون عن صدام الحضارات. لماذا نقول بأن صدام الحضارات لن يحصل؟ لأنه لم تعد توجد حضارة صافية أو خالصة على وجه الأرض. كلنا أصبحنا مزيجاً، خليطاً من القديم التراثي والحديث الأوروبي. لم تعد توجد كتلة واحدة في مواجهة كتل أخرى. وذلك لأن الحداثة الغربية اخترقت خلال القرنين الماضيين جميع الحضارات البشرية، بما فيها الحضارة الإسلامية، عربية كانت أم فارسية أم تركية أم أفغانية باكستانية... إلخ. وبالتالي فنحن نعيش جميعاً في حالة من الخليط الحضاري، من التمازج والتفاعل المشترك والمتبادل. من هنا كتابه المهم: «الوعي الخليط أو الهجين»، باريس، 2012.

ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أننا أصبحنا جميعاً نعيش داخل حضارة كونية واحدة؛ سواء أكنا شرقيين أم غربيين، صينيين أم يابانيين أم إيرانيين أم عرباً أم فرنسيين... إلخ.

يقول داريوش شايغان في أحد اعترافاته: «لقد دهشت كثيراً عندما عدت إلى إيران بعد طول غياب في الخارج. فوجئت بمدى نجاح كتبي المترجمة من الفرنسية إلى الفارسية، فوجئت بمدى إقبال الشباب الإيراني عليها. وعرفت عندئذ أن الشباب تواقون فعلاً إلى الخروج من الأصولية الخمينية، من الظلامية الدينية. الشباب يريدون الانفتاح على العالم، على أفضل ما أعطته الحضارة العالمية؛ وخصوصاً الحضارة الأوروبية والأميركية». ثم يضيف المفكر الإيراني الكبير قائلاً: «سوف أفاجئكم -وربما أصدمكم- إذا قلت لكم إننا أصبحنا جميعاً غربيين! بمعنى أن الحداثة الغربية وصلت إلى كل الثقافات والحضارات الأخرى. لقد دخلت فيها، تغلغلت إلى أعماقها». ثم يضيف شايغان: «أنا في أعماقي أشعر عاطفياً وشعورياً بأني شرقي. على المستوى الشخصي عواطفي شرقية من دون شك. ولكن فيما يخص وعيي الفكري وروحي النقدية الفلسفية، أشعر بأني فرنسي أو أوروبي أو غربي. أنا مشكَّل من ثلاث هويات متراتبة، بعضها فوق بعض: الهوية الفارسية، والهوية الإسلامية، والهوية الحداثية الأوروبية. وكل هذا يشعرني بغنى الشخصية، ولا يسبب لي أي مشكلة. على العكس».

ثم يردف الفيلسوف الإيراني الشهير قائلاً: «اعلموا أن الحضارة الغربية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الكونية. لقد عُمِّمت على جميع شعوب الأرض. فالعلم والفلسفة والروح النقدية والمخترعات التكنولوجية كلها أشياء غربية في الأساس. ولكنها صُدِّرت إلى شتى أنحاء العالم. وبالتالي فإن أي أمة ترفض التنوير الفلسفي بحجة الحفاظ على خصوصيتها وأصالتها، تعاقب نفسها بنفسها، وتحكم على ذاتها بالتقوقع التراثي والتأخر عن ركب الحضارة والعصر. كل مقاومة لمنجزات عصر الأنوار ومكتسباته هي عبارة عن محاولة يائسة تعيدنا إلى عصر الظلامية. لقد تشربنا الحداثة الغربية على غير وعي منا تقريباً. وهذه الهوية الجديدة التي اكتسبناها في جامعات أوروبا وأميركا هي وحدها المسلحة بالملكة النقدية، بالروح الفلسفية الحرة».

لكن داريوش شايغان يقول مستدركاً: «صحيح أن الغرب اخترع ما هو أفضل في هذا العالم: (الديمقراطية)، أي حل الصراعات عن طريق الحوار لا عن طريق العنف والضرب. صحيح أنه اخترع دولة القانون، والروح الفلسفية، والتقدم العلمي والتكنولوجي. ولكنه اخترع أيضاً الأسوأ للأسف الشديد: لقد اخترع الاستعمار، والاستعباد، والتوتاليتارية الفاشية أو النازية، والانحرافات الشذوذية. وبالتالي فهناك الوجه والقفا، هناك الأبيض والأسود. هناك الجوانب التحريرية الإيجابية للحضارة الغربية، وهناك الجوانب السلبية القمعية».

وعندما تطرح عليه السؤال التالي: لماذا يكره العالم الإسلامي الغرب؟ فإنه يجيبك قائلاً ما معناه: إذا ما وضعنا ظاهرة الاستعمار جانباً، فإن هذا الكُره ناتج عن الفشل التاريخي الذريع للعالم الإسلامي. فهو يشعر بالمهانة والذل والنقمة العارمة على هذا الغرب الذي نجح نجاحاً صارخاً، في حين أننا بقينا في مؤخرة الأمم والشعوب. هذا الشيء لا يستطيع أن يتحمله المسلم المعاصر. فهو يقول في قرارة نفسه ما يلي: أنا أنتمي إلى أعظم دين على وجه الأرض، أنا أنتمي إلى الدين الذي ختم الأديان الإبراهيمية أو السماوية كلها، أنا أنتمي إلى الدين الذي يتفوق ميتافيزيقياً وأنطولوجياً وإلهياً على الأديان كلها، فكيف حصل أن سبقني هؤلاء الغربيون المسيحيون؟ هذا شيء لا يُحتمل ولا يُطاق بالنسبة للعربي أو المسلم.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 6 فبراير 2022 م ـ 05 رَجب 1443 هـ

نعيش اليوم في عصر مختلف عن أي عصر عاشه وتعايش به الإنسان، حيث يتقاسم العيش على هذا الكوكب في تشاركية لم يتمتع بقدرها يوماً ما، حيث هي تشاركية اتصالية وتواصلية، غيّرت من معنى الاختلاف الثقافي والفكري والجغرافي حتى، فإما كان التغيير عليه من باب إزالة المعوقات والحدود، وإما كان ذلك التغيير منصباً في باب تغيير الشكل والدلالة المعتادة عليها.

وعند النظر لهذه المعطيات في سياق الحديث عن التطور المعرفي والعلمي، فإننا نجد أن هناك الكثير من السبل التي وجدت ولا تزال تتطور وتتغير وتتحور لتتجه أكثر وأكثر نحو المزيد من خدمة الإنسان، وتسخير المتاحات كافة لجعل حياته في مختلف تفاصيلها أيسر وأكثر مرونة واستجابة.

وفي الوقت الذي ساعدت فيه التطورات الرقمية والمستحدثات المتسارعة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي ومتعلقاته على تجاوز نسبة كبيرة جداً من الصعوبات والتحديات، في مجال تحصيل المعلومات وبناء المعارف، ظهرت إشكاليات وجدليات ولدت اهتمامات جديدة لأصحاب السعي العلمي والبحثي، حيث شكلت ملامح وأدوات ووسائل وتطبيقات الكثرة والمبالغة في السهولة والمرونة، إلى ولادة التحديات جديدة تتعلق بالمعرفة وأدواتها وطبيعة الوسائل التي يمكن أن تجتمع مؤديةً لمعرفة جديدة. وفي صدد ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، هل نحن الآن في عصر سخاء المعرفة، أم تشتت المعرفة؟

فإذا كنا مع من يرى أن التشتت المعرفي هو عنوان المرحلة، فإن ذلك يعود إلى عشوائية انتشار أنواع وألوان وأصناف المعارف على مختلف التطبيقات والوسائل التي يستخدمها الإنسان اليوم، وهو أمر الذي يؤدي لإنتاج مكتسب ثقافي لدى الإنسان، ولكن هذا المكتسب يتميز بالعشوائية والكثرة غير المنظمة، وهذا إلى جانب ما توفره تعدد خيارات المصادر ومحركات البحث التي تتيح لنا معلومات لها تأثير مباشر على القدرة الإنسانية المتعلقة بالإرادة والشغف الموجهين للاستزادة المعرفية.

وقبل وجود هذه الوسائل، كان الشغف يدفع بإرادة الإنسان للانتقال من مشارق الأرض إلى مغاربها للحصول على المعلومة، ما يدل على قيمة العلم ومستوى الشغف الذي كان يتشبث به الإنسان من أجل تطوير مكتسباته ولمعرفية حينما كانت الوسائل والأدوات شبه معدومة إلا تلك المنوطة بسعي الإنسان الذي يتطلب منه جهداً ووقتاً والتزاماً مادياً كبيراً، وهو في الوقت ذاته السبب الذي حد من طموح الكثير من أصحاب الهمة العالية في المجال البحثي والمعرفي والثقافي والفلسفي لقلة الإمكانيات في ذلك الوقت.

وإذا اعتبرنا أن التشتت (وفرة وزخم المعلومات والمصادر والوسائل) ما هو إلا أسلوب اكتساب المعرفة، وأن ما وجد اليوم من أدوات ووسائل هو سبيل يسر على الإنسان طريقه المعرفي، وفتح العديد من المجالات والأبواب التي يمكن من خلالها زيادة رصيده المعرفي والثقافي، فإن ذلك يحتاج التأكيد على ما وفرته التقنية من سهولة ووفرة في أدوات تحصيل المعلومات، وما وفرت على الإنسان في ذات الوقت من مستلزمات كانت ضرورية قبل ظهور التقنية وتطورها.

وبالتالي يمكن القول بأن الوفرة في الأدوات والتقنيات الحديثة لا يمكن اعتبارها إلا مصدراً للتشتت، خاصة في ظل غياب منهجية تحصيل المعرفة، وغياب إطار منظم، وثقافة كافية تعمل على توجيه السلوك الإنساني على المنصات والمواقع. وغالباً ما يصبح المرء في حيرة بين مئات، بل آلاف النوافذ الرقمية التفاعلية، دون مرجعية رقمية ثقافية كافية، أو مهارات تجعلها مطلعة على التنظيم القانوني والتشريعي الحاكم لها، بحيث يكون عنوان تلك الرحلة المعرفية: (استزادة رقمية واعية ومنظمة)، وهذا ما سيؤول لاحقاً لإحداث تغيير فعلي، ربما على محركات البحث نفسها، أو المواقع وطبيعة تصنيفها من حيث الاختصاص والتوجه، وقبل ذلك كله تكوين صورة واضحة لدى الطالب والباحث والمثقف والمفكر عن طبيعة استخدام المصادر المتاحة في الفضاء الرقمي.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 7 أغسطس 2024

 

في مقابلة أخيرة مع «المجلة الفلسفية الفرنسية» (1 أغسطس 2024)، يبين الفيلسوف الأميركي المعروف مايكل فالزر أن الصراع السياسي الدائر حالياً في الولايات المتحدة يتعلق بمقاربتين متمايزتين للأمة الأميركية: إما النظر لهذه البلاد بصفتها من دون هوية إثنية، وحدتها الاعتبارات السياسية وبنيتها الدستورية وتاريخها الخاص والتزامها القوي بالديمقراطية، أو النظر إليها من زاوية القومية الإثنية المتمحورة حول البيض المسيحيين المهددين بمخاطر الهجرة والتعددية العرقية والدينية.

«فالزر» يُفسر صعود التيار القومي الإثني بامتعاض الطبقات العاملة والريفية من سياسات الليبراليين الجدد الذين راهنوا مطولا على القدرة على حسم الصراع الانتخابي من خلال تصويت الطبقة الوسطى العليا المتعلمة والأقليات السوداء والإسبانية (ذوي الأصول اللاتينية).

ما تغير أن فكرة الحركية الاجتماعية التي هي جوهر الحلم الأميركي تراجعت جذرياً، بما انعكس سلبا في تزايد أصناف التفاوت واللامساواة خصوصا في المدن الصناعية العتيقة، إلى درجة انهيار آفاق الصعود المهني والاجتماعي.

إن هذا الوضع يمهد حسب «فالزر» للحالة النازية كما حدث في ألمانيا في الثلاثينيات، حيث تركزت هذه النزعة المتطرفة في أوساط العاطلين عن العمل وأصحاب المهن الهشة وفي صفوف الطبقة الوسطى التي تستشعر مخاطر التراجع والانهيار. وما يحدث حالياً في الولايات المتحدة هو بروز قاعدة اجتماعية من هذا النوع، هي الدعامة الأساسية للترامبية، في الوقت الذي تسعى فيه القيادات الديمقراطية إلى إعادة الاعتبار للنقابات العمالية وحركة الشغيلة وفق معايير الليبرالية الأميركية الأصلية التي تقوم على المساواة الاجتماعية والديمقراطية الدستورية.

هل ستنجح المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في تنشيط الليبرالية الأميركية على أساس تجديد المسألة العمالية في أفق العدالة الاجتماعية من حيث هي محور الخطاب السياسي للحزب «الديمقراطي»؟ السؤال مطروح بقوة، لكن «فالزر» يرى أن مسألة القومية المسيحية ستظل حاضرة بكثافة في الحقل السياسي الأميركي، مهما كانت نتيجة الانتخابات المقررة في نوفمبر القادم.

من المعروف أن هذه النزعة القومية المسيحية تتغذى من مفهوم «الديانة العمومية» التي هي القاعدة المرجعية الصلبة للمجتمع الأميركي، وإن حاولت اختزالها في الطابع الإثني الانغالوساكسوني، بينما تفيد المعطيات الموضوعية أن الديانة العمومية تتوسع تدريجيا لتشمل مختلف المعتقدات بما فيها اليهودية والإسلام، ضمن النسيج القومي الأميركي الخاص. تلك هي قراءة فالزر للواقع السياسي الأميركي الحالي في توتره الجدلي بين النزعتين الليبرالية والقومية الدينية، وقد خلص منها إلى أن البلاد سائرة نحو تصدع فكري واجتماعي حاد، لكنه لن يصل إلى خطر الحرب الأهلية التي يحذر منها كثير من السياسيين من مختلف الاتجاهات.

ما نريد أن نضيفه على هذا التحليل المهم، هو أن صراع الأفكار المحتدم حالياً في المجتمع الأميركي لم يعد محصورا في الحزبين الكبيرين اللذين يتقاسمان منذ عقود طويلة الحياة السياسية الأميركية. فالنزعة الليبرالية في مقوماتها الثلاث (الفردية والمساواتية والديانة العمومية) تخترق مختلف الاتجاهات الحزبية وإن كانت تتأرجح بين نزعة محافظة تقليدية ونزعة راديكالية تفكيكية لكل الثوابت والتصنيفات السائدة، كما أن المقاربة الهوياتية حاضرة في كل الاتجاهات وإن كانت تتفاوت بين نزعة اجتماعية اختلافية وأخرى عرقية إثنية.

ما حدث مع ظاهرة ترامب منذ عشر سنوات هو خروج الصراع السياسي عن محدداته وتقاليده المألوفة، باعتبار الطبيعة الشخصية للرجل الذي وإن كان يعبر عن حالة أميركية عامة، إلا أنه ترك بصماته الخاصة على المشهد السياسي. صحيح أن الظاهرة الشعبوية المحافظة تتجاوز السياق الأميركي وتمتد إلى العالم الليبرالي الغربي بكامله، لكن لها خصوصيات مميزة في المجتمع الأميركي الذي هو خليط واسع من هجرات متتالية إلى حد التشكيك في هوية قومية لهذه البلاد الواسعة. لم تعرف أميركا مسارات التحديث الأوروبي من نهضة وتنوير وثورات اجتماعية، بل إن ما عرف بالثورة الأميركية كان في حقيقته حركة استيطان وتحرر وضعت شروط الحكم السياسي على أساس هوية اجتماعية تشكلت قبل الدولة ضمن منظور تشاركي توافقي حسب ملاحظة الفيلسوفة الشهيرة حنة ارندت.

إن هذه الخصوصية التاريخية (المجتمع السياسي المتزامن مع نشأة الدولة)، هي التي تمنح الحالة السياسية الأميركية صلابتها، باعتبار أن النزعة القومية، وإنْ قامت على اعتبارات إثنية أو دينية، فإنها تظل مقيدة بالطابع المدني المفتوح للمجتمع. الجدل الحقيقي هنا يبقى متمحوراً حول مطلب العدالة والمساواة وإن اصطدمت المقاربات القائمة حولهما.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 4 أغسطس 2024 23:45

كان من ضمن قائمة المصادر العربية في رسالة الإسلامي السعودي عبد الحميد أبو سليمان للدكتوراه «النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية» التي أنجزها في جامعة بنسلفانيا عام 1973، كتاب «الجهاد في سبيل الله» لأبي الأعلى المودودي وحسن البنا وسيد قطب الذي أصدره الاتحاد العالمي للجمعيات الطلابية في طبعته الثانية 1970.

هذا الكتاب أصدره هذا الاتحاد في طبعته الأولى عام 1969، وقد ضم فيه كتيب المودودي «الجهاد في سبيل الله» المعرّب عن الأردية والصغير جداً، الصادر عن لجنة «الشباب المسلم» بالقاهرة عام 1950، بمقياس 5.15x5.11 سم، وضم فيه رسالة لحسن البنا في الجهاد، وفصلاً من كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب عنوانه «الجهاد في سبيل الله».

كان أول متأثر ومتبنٍّ في العالم العربي لرؤية المودودي الجديدة لفريضة الجهاد في الإسلام، سيد قطب، وقد ظهر ذلك في الطبعة الثانية المزيدة والمنقحة لكتاب «في ظلال القرآن» الصادرة عام 1961، وفي كتاب «معالم في الطريق» المسلوخ من بعض أجزاء من كتابه «الظلال» في طبعته المزيدة والمنقحة. الكتاب المسلوخ صدر عام 1964 في طبعات متعددة في ذلك العام!

رؤية المودودي الجديدة للجهاد، كانت أن البلاد الإسلامية هي «دار حرب» وليست «دار إسلام»؛ لذا فاستئناف الجهاد يجب أن يبدأ بها، وذلك بالانقلاب على حكومتها، لتكون «دار إسلام». وبعد أن تكون «دار إسلام» يمتد الجهاد إلى أنحاء المعمورة.

وحين صدر ذلك العمل التجميعي، كانت تلك الرؤية متخمرة لدى الشباب المسلم بفضل كتاب «معالم في الطريق» الواسع الانتشار في الستينات الميلادية، وكتاب «واجب الشباب المسلم اليوم» للمودودي، وكتاب «ردّة ولا أبا بكر لها» لأبي الحسن الندوي، الصادرين في تلك الآونة.

لنرَ في أي موضع من رسالته أحال الإسلامي السعودي عبد الحميد أبو سليمان إلى كتاب «الجهاد في سبيل الله» للمودودي والبنَّا وقطب.

أحال إليه بعد قوله في رسالته: «كما أخفق المنهاج الليبرالي هو الآخر في الإصلاح الداخلي للحكومة وفي تكوين مجتمع ديمقراطي حر، وفي إيجاد نظام دولي تحدد فيه العلاقات بين الدول على أسس من السلام والتعاون بينهم وبصورة خاصة مع القوى الغربية».

أحال إليه مع كتابين منشورين باللغة العربية؛ الأول للإسلامي محمد المبارك «الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية»، والآخر لليساري نايف حواتمة «أزمة الثورة في الجنوب العربي: نقد وتحليل»، ومع تسعة كتب منشورة باللغة الإنجليزية، هي: «الفكر العربي في العصر الليبرالي» لألبرت حوراني، و«نشأة تركيا الحديثة» لبرنارد لويس، و«ردة الفعل في الشرق الأوسط تجاه الثقافة الغربية» لهاملتون جيب، و«الحرب والسلام في قانون الإسلام» لمجيد خدوري، و«مصر تسعى بحثاً عن مجتمع سياسي» لنداف سفران، و«إطار وأسس الدبلوماسية العثمانية في عهد سليم الثالث 1789 – 1807» لتوماس ناف، و«الإسلام في التاريخ الحديث» لولفريد كانتويل سميث، و«ما هو الإسلام؟» و«الفكر السياسي الإسلامي» لمونتجمري وات.

ما الذي جعل أبو سليمان يحيل إلى كتاب «الجهاد في سبيل الله» للمودودي والبنا وقطب للتوسع في معرفة أسباب إخفاق الليبرالية في العالم الإسلامي؟!

ما الذي جعله يحيل إليه في غير موضوعه؟!

سؤال بوسعك أن تعيده بصيغ متعددة، لكن – مع كل تغيير لصيغته – لن تفلح في الإجابة عنه!

إذا نظرنا في العام الذي أنجز فيه أبو سليمان رسالته للدكتوراه، وهو عام 1973، فإنه في هذا العام وفي السنين التي قبله، بوسعنا القول إن الليبرالية أخفقت في دول عربية، كمصر والسودان والعراق وسوريا. ويصعب إطلاق هذا القول على العالم الإسلامي.

تركيا الحديثة كانت إلى عام 1946 محكومة بنظام الحزب الوحيد؛ حزب الشعب الجمهوري. وكون هذا الحزب هو الحزب الوحيد لا يعني أنه غير ديمقراطي وغير ليبرالي أو حزب شمولي، على شاكلة الحزب الاشتراكي الوطني في ألمانيا، والحزب الفاشي في إيطاليا، والحزب الوحيد في البلدان الشيوعية. ومع انتقال تركيا الحديثة من الحزب الوحيد إلى التعددية الحزبية، حدثت ثلاثة انقلابات عسكرية، واحد منها فشل. وفي العام الذي حاز فيه عبد الحميد أبو سليمان درجة الدكتوراه، رُفعت الأحكام العرفية وأجريت انتخابات نيابية عامة.

إندونيسيا منذ استقلالها إلى انتهائه من كتابة رسالته، ثم مناقشتها، كانت دولة سلطوية. وماليزيا كانت دولة مستقرة على ديمقراطية توافقية. وباكستان منذ تأسيسها لم تكن دولة ليبرالية – علمانية.

إن الإسلامي عبد الحميد أبو سليمان كان يخلط عن قصد وبتضليل متعمّد بين الحداثة أو العلمانية وبين الديمقراطية في المجال السياسي!

بعد فراغه من الحديث عن عصر الليبرالية في العالم الإسلامي، تحدث عن عصر اليسار فيه، فقال: «عملت الدول الإسلامية، وخاصة الدول العربية منها، عقب ظهور الاتحاد السوفيتي بعد الحرب الثانية كقوة عظمى، على استخدام المساعدات الاقتصادية والتقنية والسياسية السوفيتية لصالح قضيتهم. وهكذا فليس غريباً من هذا المنظور أن أبرزت هذه التطورات الجديدة وأفرزت بعض جوانب النظرية الماركسية أوفدتها إلى محيط الفكر الإسلامي، وخصوصاً مفهوم حرب التحرير (وهي الصيغة العصرية للجهاد) بيد أن المصطلحات والمفردات الأيديولوجية الماركسية تنبع من فلسفة تتعارض، بل وتتناقض مع الأيديولوجية الإسلامية التقليدية».

هل – فعلاً – حرب التحرير الشعبية هي الصيغة العصرية للجهاد؟

إن حروب التحرير الشعبية من أنواع الحروب في الماركسية. وهي تخالف المقولة الماركسية التقليدية التي تضمن الحصول على النصر مع توفر «الحالة الثورية»، التي يعقبها كفاح حاد قصير الأمد؛ لأنها تقوم على الحرب الطويلة المدى أو الكفاح الممتد الشاق الذي يخلق «الحالة الثورية»، ولا ينتظر حلولها أو مجيئها.

يعرِّفها الجنرال الفيتنامي جياب بأنها: «تحول مستمر وتدريجي يتبع خطاً مستقيماً من حرب العصابات إلى الحرب المتحركة مروراً بمرحلة انتقالية هي حرب المواقع». وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 29 مُحرَّم 1446 هـ - 4 أغسطس 2024 م

 

حلقة جديدة من الحرب الثقافية في فرنسا

لا يزال الخلاف الذي يقسّم النخبة الثقافية والسياسية بخصوص «الووكية» في فرنسا تترصّده وسائل الإعلام، حتى إنه لا يمر أسبوع من دون أن يكون هناك هجوم ضد هذه الحركة الآيديولوجية الثقافية المحسوبة على اليسار.

للتذكير، فإن «الووكية»، المشتقة من فعل الاستيقاظ باللغة الإنجليزية، هي مفردة انتشرت في الولايات المتحدة في العقد الثاني من هذا القرن، وهي تعني حرفياً أن يكون الشخص يقظاً إزاء الظلم وانتهاك حقوق الأقليات سواء أكانت عرقية أم دينية أم جنسية. الدخول القوي لهذا التيار الفكري إلى المشهد الثقافي الفرنسي تحولّ إلى كابوس للنخبة اليمينية التي تعده «غولاً آيديولوجياً» يهدد ثقافة فرنسا ومؤسساتها العريقة ويستبدل بأنساق ثقافية تعد أساسية لاستقرار المجتمع، أخرى تفتيتية تخريبية ومدمرة. آخر حلقات هذه الحرب الثقافية كانت بمناسبة افتتاح دورة للألعاب الأولمبية التي تنظم حالياً في باريس إلى 11 من أغسطس (آب)، حيث طالت موجة من الانتقادات اللاذعة من مختلف أنحاء العام منظمي هذه الاحتفاليات، تحديداً بسبب مشهد «العشاء الأخير» اللّوحة المعروفة للرسام ليوناردو دافنشي التي تمثل النبي عيسى عليه السلام والتي تم تجسيدها بطريقة ساخرة مثيرة للجدل؛ حيث تضّمن المشهد فنانين من المتحولين جنسيّاً والشواذ، إضافة إلى ظهور المغني فيليب كاترين عارياً لتجسيد الإله اليوناني ديونيسيس في المشهد نفسه. العرض لم يصدم النخب السياسة والمجتمعات المسيحية والمسلمة فحسب، بل أيضاً النخب الفكرية اليمينية المحافظة التي عبرت عن غضبها موجهة أصابع الاتهام إلى اليسار «الووكي» الذي يسعى، حسب اتهامات اليمين إلى تفكيك المجتمع وفرض ثقافة دخيلة، بحجة الدفاع عن حقوق الأقليات.

الفيلسوف الفرنسي آلان فينكلكروت، في مقال على صفحات جريدة «لوفيغارو» بعنوان: «العبقرية الفرنسية تألقت بغيابها في احتفاليات افتتاح الألعاب الأولمبية» كتب: «أنا مذهول بما رأيته في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية، لم أكن أتصور أن تصل المشاهد إلى هذه الدرجة من القبح والابتذال... أين كان الذوق الرفيع، الرّقة، الخفة، الأناقة، الجمال؟ الجمال لم يعد موجوداً بحجة الدفاع عن كل أنواع التمييز»، ملمحاً بصفة واضحة ومباشرة لا تدع مجالاً للشك إلى «اليسار الووكي». وكان هذا الأخير قد ربط في عدة مناسبات بين الووكية وثقافة الرداءة، حيث كتب: «عندما نتوقف عن تعليم نتاجات الشعراء والفلاسفة والكتاب، وعندما يصبح التعليم تعليماً للجهل، تنطفئ النظرة، ولا يعود هناك أي عائق أمام تقدم القبح، إنها مشكلة الووك، إنهم يعيشون في غطرسة الحاضر وبحجة أنهم يقظون لكل أنواع التمييز فهم ليسوا بحاجة إلى شيء وتحديداً إنجازات الماضي التي لا يقرأونها لقراءة الذات، بل يستحضرونها ويستدعونها لمساءلتها وتوظيفها في خدمة روح العصر».

الباحث فرغان أزيهاري المندوب العام للأكاديمية الحرة للعلوم الإنسانية هاجم في عمود بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان «حفل افتتاح أكثر رجعية مما يبدو عليه»، التيار اليساري الذي يرُوج لثقافة الرداءة تحت أسماء الحرية؛ حيث كتب: «يبدو أن مقياس نجاح الأداء الفني أصبح مقروناً بقدرته على الإساءة للآخر، عندما يكون أول رد فعل يتبادر إلى ذهنك بعد عرض فني ليس مشاركة إعجابك، بل متعة المشاكسة لأنك أزعجت جارك، فماذا يقول ذلك عنك وعن علاقتك بالفن والثقافة والعالم؟ عدد السياح الأجانب الذين يتدفقون لزيارة متحف اللوفر والتحف الرائعة التي يضمها يفوق عدد الذين زاروا عمل بول ماكارتي المثير للجدل بسبب إيحاءاته الجنسية، والذي تألّق فقط بسبب موقعه في ساحة فاندوم، لأن الجميع نسيه الآن».

أما الباحث الحاضر بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي إدريس أبركان، فقال في مداخلة على حسابه على «اليوتيوب» بعنوان: «الألعاب الأولمبية في باريس: هل يزال هناك مكان للجميل في مجتمعاتنا؟»، ما يلي: «أن تكون فرنسا بلداً يسمح بحق التجديف شيء، ولكن أن تصبح الدولة هي حاملة هذا الشعار بسبب إرث 1968 و(شارلي إيبدو) فهذا عار كبير، ما كنا ننتظره من هذه الحفلة هو التمتع بالجمال والفن وليس عرضاً استفزازياً لنخبة يسارية أنانية نرجسية حاولت إحداث صدمة ليقال إنها طلائعية، لم يكن المكان مناسباً ولا الزمان».

الفيلسوف ميشيل أونفري، رغم ميوله اليسارية المزعومة ودفاعه عن حق التجديف في قضية «شارلي إيبدو»، لم يترّدد في الهجوم على منظمي عرض الافتتاح في مدونتّه الخاصة، حيث كتب ما يلي: «كان حفل افتتاح الألعاب الأولمبية فرصة فرنسا لتقدم عرضها للعالم، فكان لحظة عظيمة من (التهريج)».

ويضيف أونفري: «أعلن رئيس دولة من دون حكومة افتتاح الألعاب الأولمبية فكان بياناً (للووكية) عُرض على العالم بأسره وتّم فيه الاحتفال بالرجل الجديد... المفكك، من أجل فرنسا جديدة مختلطة، عالمية، مفتوحة على الأقليات الجنسية...». الباحث والإعلامي ماتيو بوك كوتي انتقد بالشّدة نفسها اليسار الووكي في عمود بعنوان: «ماذا وراء الجدل الذي رافق حفلة افتتاح الألعاب الأولمبية»، حيث كتب: «أراد مصممو هذه الألعاب سحق فكرة معينة عن فرنسا، أرادوا إذلال الوطنية الفرنسية، من هنا جاء مشهد الرأس المقطوع لماري أنطوانيت، أما الحضور القوي للمتحولين جنسياً والذين أصبحوا بمثابة حاملي لواء التقدمية الغربية فهو سعي واضح لتفكيك حضارتنا بأكملها». وفي عمود على صفحات جريدة «لوفيغارو» بعنوان: «الحفلة لم تعظم الروح الفرنسية بل فرنسا التي يريد المنظمون أن يروها في المستقبل» كتبت الفيلسوفة بيرينيس لوفي، ما يلي: «تاريخنا لم يكن سوى سوق استغلها المنظمون كما أرادوا، كل شيء كان مقروناً بـ(الحاضر) ولكن من يصنع نكهة مدينة كـ(باريس) سوى ماضيها التاريخي؟ هذا العرض كان رسالة للعالم بأسره بأننا - نحن الفرنسيين - لم نعد نعرف ماذا نفعل بتاريخنا وبماضينا، وكأننا نرمي (الاستثناء الفرنسي) في سلّة المهملات، أقولها وأعيدها، هذا الحفل كان عرضاً (ووكيا) ولا يمكن لتوماس جولي وفريق المنظمين إنكار أن الهدف منه هو الدعاية للتعددية الثقافية والهويات الخاصّة». الكاتب والمفكر والمُنظر السياسي، جاك أتالي، في مداخلة على منصّات التواصل الاجتماعي، صرّح بأن التاريخ هو الذي سيحكم: «بعد عشر سنوات، إما أن تصبح هذه التجاوزات طبيعية ومألوفة وإما أن تُعدّ مقياساً لما كان عليه عام 2024 من انحطاط».

***

أنيسة مخالدي – باريس

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 3 أغسطس 2024 م ـ 28 مُحرَّم 1446 هـ

في ذروة تجلي الجميل، تنبجس علامات الغموض ليجعل من لحظة الجمال محرجة تتجاوز حروف اللغة وتستعصي تلك اللحظة على التشريح أو الاختزال أو التعبير.

من هنا تم الربط بين الصوفية والفنون، إذ تبدّت اللحظة الفنية بكثافتها لتنافس اللحظة الصوفية بعمقها وتكثفها وغموضها، هذا التشارك بين اللحظتين خدم الرؤية الفنية العميقة وأحيت الذوق الجمالي وأنماط التفكير والرسم والتحليل، حتى في السينما أو الموسيقى تبدو لحظة تجلي الجميل صوفية في معانيها ورموزها وعلاماتها. الجمال يخاطب العمق والسطح معاً، يخاطب النزعات والحوافز الذاتية، الجمال يختبئ بالنفس أكثر مما ينسدل باللسان، فهو عصيّ على التعبير، ومن جميل قول هيراغليطس: «لن تجد تخوم النفس إن كنت تبحث عنها حتى لو طرقت كل طريق، ذلك أن لوغوسها بالغ العمق».

إذا كان هيغل يعتبر الجمال بأنه «تجلي الفكرة بطريقة حسية»، فإن هذا لا يشرح غموض الجمال أو انبجاسه أو علاماته ورمزيته، ذلك أن التعريف بهذا الاختزال إنما يجعل الجمال مدركاً ومفهوماً ومشروحاً. الجمال بطبيعته يخاتل ويراوغ، ليس جرماً يمكن جسّه ولا مثالاً يمكن بروزته، بل يتحوّل ويتجدد ويتغير.

وإذا كان الجمال يتحول تبعاً للذوق، فإنه لا يمكن أن يكون نظرية، بل هو فضاء وضوء ووميض أكثر منه رؤية أو فكرة أو مثالاً يحتذى. في مايو عام 1980 ألقى بيير بورديو محاضرة بعنوان: «تحوّل الأذواق» ونشرها ضمن كتابه «مسائل في علم الاجتماع»، وبورديو من المتأملين في علاقة التصوف بالجماليات والفنون. في ديسمبر عام 1978 أجرى سيريل هوفي حواراً مع بيير بورديو حول الموسيقى والعالم قال فيه: «إن أكثر الفنون صوفية وأكثرها روحانية هي لربما ببساطة أكثرها جسدية، وهو ما يجعل الحديث عن الموسيقى صعباً جداً من دون استخدام نعوت أو علامات تعجب». كما أن التجربة الصوفية حرقة خاصة، فإن التجربة الجمالية بصمة خاصة لا تتكرر لدى الآخرين. الوميض الذي زلزل ابن الفارض غير الذي زلزل ابن عربي، النشوات الوجودية تشبه كثيراً النشوات الجمالية.

يغدو الجمال فضاءً تتداخل ألوانه وتنفجر عيون مياهه على بعضها فيتغذى كل نهر على الآخر، الجمال أكبر من أي مثال، من هنا يكون التحديد الصارم معادياً للجمال، لأن ما يحدد يأسن كما يأسن الماء. في مجال التحديد هذا يكتب سارتر عن مفارقة الجميل للعالم، إذ رأى أن «الجميل ليس كائناً قابلاً لأن يكون موضوعاً للإدراك إنه في صميم مفارقته للعالم، والواقع أن الفنان لا يحقق صورة نعقلها وإنما يقدم مماثلاً مادياً، يمكن لكل من أراد أن يدركه بمجرد أن ينظر إليه ويلفت له».

التجارب لا تتطابق كذلك ومضات الجمال وحدوس التصوف ونشوات الذوق، كلها ضمن سياق خاص لا يمكن أن تخضع للنمذجة أو التطقيم أو التأبيد. الخلاصة، أن الفنون بما تنتجه من مبهر وجميل إنما تضعنا أمام استثناءات وجودية، فلا شيء يشعرك بأن في الوجود ما يبهج ويستحق العناء مثل تجلي الجميل، إنه «تجلي» كما هو عنوان كتاب هانز جورج غادامير «تجلي الجميل».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 22 يوليو 2024 23:45

توقعنا جميعاً مع نشوب حرب غزة أن تلتهب ثلاثة ملفات: الملف الديني، والملف الأخلاقي أو القيمي، وملف العلاقات الدولية. على الملف الديني تنافس الإصلاحيون واليهود المحافظون والأصوليون. يجد الإسلاميون في محاولات الاستيلاء على المسجد الأقصى وهدم المساجد في كثير من الأمكنة، أنّ هناك مؤامرةً يهودية على هدم المسجد وإعادة بناء الهيكل على أنقاضه. أما المتدينون اليهود المتعصبون فيدعون إلى الاستيلاء على المسجد أو مناصفته على الأقل مع المسلمين! وعلى كل حال، فالحرب دينية أو ينبغي أن تكون كذلك كما يزعم الطرفان. وهذا منطق جديد يتصاعد لدى الطرفين، وكل طرف يتعمد الوقوع في «أخطاء» كلامية أو فعلية، إما لإثبات مشروعيته الدينية أو لإثارة الطرف الآخر.

في ملف العلاقات الدولية وبعد بداياتٍ واعدةٍ لإسرائيل بسبب بدء «حماس» للحرب، تحول ملف العلاقات الدولية لغير صالح دولة الكيان بالتدريج بسبب الفظائع في غزة. وبالطبع، كان العرب أول دعاة وقف الحرب وتبعهم الأوروبيون ثم الأميركيون الذين تابعوا تنظيم التفاوض بين طرفي الحرب بلقاءات في مصر وقطر وفرنسا وروما. وقد سمينا الملف علاقات دولية لأنه حدث انقسام بمجلس الأمن بين الصينيين والروس من جهة، وأميركا وبريطانيا في البداية، قبل أن يجمعوا في مجلس الأمن على وقف النار. وتوالت بيانات المؤسسات الإنسانية الدولية والخاصة، وتدخلت محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية.

في الملف الأخلاقي المسألة مختلفة وتتخذ مديات انقسامية. الجمهور العربي شديد السخط على أخلاقيات المجتمع الدولي، حيث لبضعة أشهر عجز مجلس الأمن عن اتخاذ قرار بسبب معارضة أميركا وبريطانيا لوقف النار (!). ثم صار السخط على ازدواجية المعايير وكراهية الإسلام والعرب، وهو يتصاعد يوماً بعد يوم. وقد كنت قبل أيام بمصر، وقرأت وسمعت كثيرين من أساتذة الجامعات والإعلاميين يجددون المواضيع القديمة حول ازدواجية المعايير، وحول النفاق الغربي. وذكرت لي أستاذة في علم الاجتماع أن صديقتها وزيرة خارجية جنوب أفريقيا أسلمت قبل فترة هي وأسرتها، وكان ذلك قبل حرب غزة؛ لأنها أعادت مع والدها مراجعة تاريخ تجربة التمييز العنصري وكيف صادروا بيتهم من دون سبب لأنهم سود! وقد أزعجني بعض الشيء أن محدّثتي أرادت بالتحول إلى الإسلام تعليل شكوى جنوب أفريقيا على إسرائيل أمام محكمة العدل! المهم أنّ موجة لعن الغرب والتنبؤ بانهياره ما بقي أحد في اليسار وفي اليمين إلاّ ودخل فيها. ولدى الكاتبين الغربيين لا يلعب الانحلال الأخلاقي دوراً في الانحطاط أو الانهيار وهما أمران مختلفان. وكنت قد كتبتُ عن تيار «التابع» الفكري الذي يعتبر الغرب متآمراً على نفسه وعلى العالم. وهو تيار رفضي راديكالي يعلِّل كلَّ حملة باستمرار ثقافة الاستعمار في الأنثروبولوجيا والعلوم الاجتماعية والفلسفة، ولا تنجو من ذلك أفكار النهضة والتنوير واتجاهاتهما!

لا أظن أنّ تجدد النعي القاسي على الغرب يشبه ما يقوم به تيار «التابع» ولا ما قام به إدوارد سعيد واستغلّه الإسلاميون. بل يشبه لدى متعلمي العرب في الحاضر ما حدث بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. فقد تعاصر ذلك مع اغتصاب فلسطين وقيام دولة إسرائيل التي دعمتها الدول والمثقفون الذين كتبوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولذلك سارع وقتها مثقفون عرب إلى اتهامهم بازدواجية المعايير. القضية الفلسطينية شديدة العمق والفاعلية في نفوس العرب جميعاً. ولذلك يعودون اليوم بسبب الحرب على غزة إلى الحملة على الغرب كلّه لأنه انحاز إلى إسرائيل بدلاً من المسارعة لوقف الحرب، ومثقفو العرب على اقتناعٍ شديدٍ أنهم كانوا يستطيعون ذلك لو أرادوا حقاً!

وقد علّلتُ الأمر أولاً بما سميته موجة التضامن من حول غزة، وقد أفاد منها الإسلاميون هذه المرة أيضاً مقاتلين وغير مقاتلين. بيد أن عودة تعبير الشرق والغرب والإسلام والغرب، يشير إلى اعتقاد تناقض القيم وليس ازدواجية المعايير فقط. فالمسألة لدى أستاذ فلسفة مصري أنّ الغربيين يمتلكون قيماً غير قيمنا وإلاّ فكيف نعلّل موقف هابرماس الفيلسوف الألماني وزملائه. ولذلك لا بد من النظر والمراجعة في «قيمهم» و«قيمنا»، أو بالأحرى ما هي قيمنا التي تتناقض مع قيمهم؟! الغربيون المعاصرون، فلاسفةً وعلماء اجتماع وعلماء علاقات دولية، كتبوا في المعايير العلمانية والأخرى الدينية وكيف تختلط وتتفكك في زمان أو أزمنة العولمة. أما عندنا فقد اقتصرت الدراسات على نقد المنظومات الأخلاقية الكلاسيكية، وما كُتبت دراسات جادةٌ عن منظومات الأخلاق العربية والإسلامية المعاصرة، إلاّ إذا اعتبرنا نظريات العقل العربي والعقل الإسلامي المعاصرة نظرياتٍ في القيم الحاكمة؟

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الجمعة - 27 مُحرَّم 1446 هـ - 2 أغسطس 2024 م

لا يمكن تصور إمكانية قيام أية حضارة من دون تحقق للوعي البشري؛ فمن دون هذا الوعي يصبح الوجود الإنساني أشبه بالوجود الحيواني أو أقرب إليه، أعني يصبح وجودًا يحيا على مستوى قضاء الحاجات الغريزية ومتطلبات الحياة الضرورية للعيش والبقاء. ولأن الحضارة هي تجلٍ للوعي، فإن تطور الحضارة هو تطور للوعي الإنساني، وتجلياتها عبر التاريخ هي تجليات لهذا الوعي؛ ولهذا ذهب هيجل إلى القول بأن العالم لا يتغير بذاته، وإنما الوعي هو الذي يغير هذا العالم. تلك مقدمة ضرورية تنطوي على بداهة.

الحضارة إذن هي تجليات للوعي. وقد قلت مرارًا أن تجليات الوعي تتبدى على أنحاء شتى: كما في الوعي العلمي والديني والأخلاقي والسياسي والتاريخي والفني أو الجمالي، دون أن يعني ذلك تجزئة الوعي؛ فالوعي يظل دائمًا وعيًا كليًّا، أي شاملًا، ونحن نشاهد وحدة الوعي وكليته على مستوى الدولة وعلى مستوى الفرد أيضًا: فالدول المتطورة علميًّا على سبيل المثال، نجدها متطورة أيضًا على مستوى الإبداع في الفنون. كما أننا نلاحظ من خلال الخبرة أن المرء الذي يكون عالمًا حقًّا، يتميز أيضًا بدرجة ما من الوعي الفني والجمالي، بل قد يكون ممارسًا لفن ما من الفنون، كالموسيقى أو التصوير على سبيل المثال. ولكن السؤال هو: هل هناك أولويات في تجليات الوعي لدى الشعوب في عملية تطورها الحضاري؟ ذلك سؤال عويص، سنحاول الإجابة عنه فيما يلي:

يمكن القول إن أولويات تجليات الوعي تختلف من دولة أو أمة إلى أخرى بحسب إرثها ووضعها وسياقها التاريخي. وفي هذا الصدد أظن أن الوعي الديني تظل له أولويته بالنسبة إلى السياق الراهن الذي تحيا فيه الأمة العربية عمومًا، دون أن يعني ذلك- بطبيعة الحال- إغفال أهمية تجليات الوعي الأخرى. ذلك أن هشاشة، بل ضلال الوعي الديني في عالمنا العربي يظل عائقًا أمام تطور الوعي العلمي والوعي الفني أو الجمالي، بل الوعي التاريخي نفسه.

الأمر المؤكد أن الدين كان حاضرًا دائمًا في بنية الحضارة العربية التي تُسمى أيضًا بالحضارة الإسلامية، وهي الحضارة التي تألقت في العصور الوسطى، وهي تلك العصور التي تخلفت فيها أوروبا حتى إنها كانت تسمى بالعصور المظلمة. ولعلنا نلاحظ أن الدين كان حاضرًا في الحالتين: أعني في حالة تألق الحضارة الإسلامية وحالة أفول الحضارة الأوروبية، وفي ذلك مفارقة تستدعي التأمل؛ لأننا بذلك القول نجعل الدين عنصرًا أساسيًّا في التحضر والتخلف في الوقت ذاته! وهذا هو بالضبط ما نسعى إلى التأكيد عليه في هذا المقال!

يمكننا التأكيد ابتداءً على أهمية الدين في بنية أية حضارة. هذا ما أكد عليه فلاسفة التاريخ العظام من أمثال اشبنجلر ومن بعده توينبي. فقد نظر هؤلاء الفلاسفة إلى الدين باعتباره قوة روحية تنبع منها القيم الأخلاقية، وحينما تفتقر الحضارة إلى القيم الروحية والأخلاقية؛ فإنها تفقد روحها بحيث تُقَاس قوة كل شيء فيها بالقوة المادية. ومن هنا يمكن أن نفهم رؤية اشبنجلر التي عبر عنها في كتابه «أفول الغرب»، والتي يتنبأ فيها بمصير الحضارة الغربية. حضور الدين إذن أمر جوهري في بنية أية حضارة، ولكن الكيفية التي يكون بها الدين حاضرًا هو الأمر الحاسم هنا: فالحضارة الأوروبية قد آلت إلى الأفول في العصر الوسيط حينما تحول الدين إلى سلطة قمعية على العلم والفكر والفن، بعدما كان الدين مندمجًا في عالم القدماء، أعني في دنياهم وحياتهم الاجتماعية وفي فنهم وأساطيرهم. وهذا هو بالضبط ما تحررت منه الحضارة الإسلامية، فكان هذا التحرر هو مبعث نهضتها وتألقها؛ إذ كان الدين حاضرًا باعتباره قوة روحية دافعة على العلم وعلى إعمار الحياة: فلم تكن المساجد مجرد دور للعبادة، بل كانت مراكز للتعلم والبحث، بما في ذلك البحث في أمور العلم والفقه والفلسفة وعلوم الكلام. ولقد تبدت حالة التحرر من سلطة الدين في تعايش الديني مع الفلسفي والجمالي، فكانت هناك إبداعات فكرية فلسفية وشعرية تتجاوز ما يمكن أن يُقَال في يومنا هذا؛ فكل هذا كان يمكن أن يُقال في نوع من التسامح الديني الذي لم يعد مسموحًا به في يومنا هذا، ومنذ أن فارقنا هذه الحضارة، أعني منذ أكثر من سبعة قرون، اللهم باستثناء لحظات مضيئة كنا نحاول فيها استعادة هذه الروح الحضارية.

روح التسامح الديني كانت تتبدى أيضًا في العديد من المستويات الأخرى، إذ ساهم في صنع هذه الحضارة الاستعانة بالعلماء والمفكرين على اختلاف دينهم وقومياتهم، فبرزت أسماء عديدة من الفرس والسريان من المترجمين والفلاسفة والعلماء، كما سُمِح بتولي بعض المسيحيين مراكز مهمة في السلطة. وفضلًا عن ذلك، فإن الدين لم يكن في حالة عداء مع الفن، بل كان متعايشًا معه، وذلك- في رأيي- خصيصة رئيسة شاهدة على أية حضارة. هذه الخصيصة تتمثل إذن في حالة التعايش، بل الانسجام، بين الديني والجمالي أو بين المقدس والجميل في عمومه. ويمكن أن نلحظ ذلك بوضوح في كل تلك اللحظات المضيئة في تاريخ الحضارات، وهو ما يصدق أيضًا على لحظات التنوير القصيرة نسبيًّا في الحضارة العربية المعاصرة التي تم وأدها.

***

د. سعيد توفيق - أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة

عن صحيفة عمان العمانية، يوم: الخميس / 25 / محرم / 1446 هـ - 01 أغسطس 2024 م

 

أصدرتُ قبل أيام كتاباً بعنوان: «الفلسفة الحرام» وهو كتاب له أسبابه المنهجية والموضوعية. لما رأيت التوفيقية وإدماج التفسيرات الدينية مع النظرية الفلسفية أو محاولة تطويعها لغرض أيديولوجي عند بعض المؤلفين في المجاميع الشعبية رائجة، مع أسئلة تتعلق بأهمية الفلسفة على واقعنا، هذه الرؤية على سذاجةٍ تعتورها غير أن انتشارها جعلنا أمام دفاعٍ ضروري عن الفلسفة، بوصفها النشاط العلمي الأكثر تماسّاً بالإنسان ووجوده لا بأيديولوجيته المحدودة.

يمكن قراءة الحداثة كأثر من آثار الفلسفة، ذلك أن الفلسفة كانت هي محتوى الحداثة، فتلازم مسار الفلسفة بمسار الحداثة شديد الإلحاح، أو على حد وصف هيغل: «يستحيل التوصل إلى المفهوم الذي تدرك به الفلسفة ذاتها، خارج مفهوم الحداثة». بمعنى أن الحداثة بمواضيعها لم تكن مجرد نقْلة ضيقة للحياة، فالحداثة لم تكن نقلة تقنية، بل غدت «التقنية» – ذاتها – موضوعاً للحداثة، وصعوبة رصد ثمار معدودة لأثر الفلسفة على الواقع، يأتي من كون كل نظرية فلسفية مهمة أنتجت دينامية مختلفة للحياة، إذ يمكن الرجوع إلى النظريات الحديثة، وربطها بنتائجها، ومن ثم اعتبارها ضمن الآثار التي رسختها الطروحات الفلسفية وجادت بها على العالم، ويمكنني هنا التذكير بإسهامات فلسفية أساسية.

من أبرز إسهامات الفلسفة أنها حوّلت الإنسان إلى موضوع للدراسة، وإذا كان «فوكو» كتب عن «كانط»: «ما كان يهم كانط هو الإصلاح الفكري والثقافي وتمكين جمهور المواطنين من قسط من الحرية يُسمح لهم بأن يفكروا بتلقائية»، فإن الفلسفة بالنسبة له لم تكن مجرد موضوع تأملي، خصوصاً إذا وافقنا «هيغل» بأن فلسفة كانط هي: «بؤرة العالم، ونوع من التأويل الذاتي له، وأن عصر الأنوار ينعكس في فلسفة كانط». صحيح أن الوعي الفلسفي بالحداثة تجلى بوضوح لدى «هيغل»، لكن ما يميز فلسفة «كانط» - بحسب فوكو - أنه وضع الإنسان «موضوعاً للدراسة»، كما أنه – وفق فوكو أيضاً – «أول فيلسوف يتخذ من عصره وحاضره موضوعاً للتفكير».

أسهمت الفلسفة في ترسيخ مبدأ الذاتية، وهو مفهوم متعدد الدلالات، لكنه ارتبط فلسفياً بمفعولات النزعة الإنسانية، فهو بالمعنى العام يعني مركزية ومرجعية الذات الإنسانية، وحريتها وشفافيتها، ومبدأ الذاتية يضم وفق «هيغل» الحياة الدينية والدولة، والمجتمع، والعلم والأخلاق، والفن، كل تلك الفروع تبدو جميعها تجسيداً لمبدأ الذاتية. من إسهامات الفلسفة الأساسية أيضاً تدشين الفضاء العلماني، إذ يرى «لوك فيري» أن «كانط» هو الذي دشن فضاء الفكر العلماني في الغرب، ويكتب «هابرماس»: «إن فلسفة كانط كانت ضمن مخاض الحداثة، باعتبارها عصراً كان في طور الانفلات النهائي من كل الإيحاءات المعيارية لنماذج الماضي، وبصدد إعداد مشروعيته الخاصة واستمداد معياريته وضماناته الخاصة من ذاته، فتلك الانفلاتات والانبثاقات ولدت تمايزات واستقلالات على مستوى المؤسسات والبنيات الاجتماعية، وعلى مستوى الثقافة «علم، أخلاق، فن»، ما جعلها منطلق دينامية حداثة فكرية لم تتوقف عن التجدد حول قضايا التناهي، والعلمانية، والذاتية والعقل والنقد».

الخلاصة، أن مفعول الفلسفة يتطوّر تبعاً لتطوّر منابع الإشكاليات الفلسفية، وذلك بتغيّر العصر، كما أن «أثرها» لا يبدو واضحاً للعيان، وتحتاج إلى عبقرية تشبه عبقرية الفيلسوف الألماني الرياضي «فريدريش لودفيج غوتلوب فريجه»، الذي لم يحفل علماء عصره بما كتب.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 29 يوليو 2024 23:45

حسب المؤشرات البارزة، يبدو أن حظوظ نائبة الرئيس الأميركي الحالية كامالا هاريس مرتفعة لخلافة الرئيس جو بايدن في الترشح عن الحزب الديمقراطي الأميركي في الانتخابات الرئاسية القادمة. ومع أن صوت هاريس كان خافتاً خلال الولاية المنتهية، فإنها تمثل خطاً قوياً وفاعلاً في الحزب الديمقراطي، يختلف عن بايدن الذي كان مرشح الإجماع الحزبي في الانتخابات الماضية.

ومع أن كامالا هاريس لا تنتمي للتيار اليساري الذي يمثله السناتور بيرني ساندرز، إلا أنها تعبر عن التوجه الليبرالي التقدمي الذي بدأ سابقاً مع الرئيس باراك أوباما، إلى حد أن المرشح «الجمهوري» دونالد ترامب نعتها مؤخراً بالليبرالية المتطرفة. لقد دأبت كامالا هاريس في السنوات الأخيرة على الإحالة إلى كتابات وآراء الفيلسوف البرغماتي الأميركي جون ديوي، الذي عرف بانتقاداته القوية لليبرالية الكلاسيكية في نزعتها الفردية المناوئة للدولة والشأن العمومي، معتبراً أنها كانت مشروعة ومقبولة في بداية عصور الحداثة عندما كان الإنسان يواجه سطوةَ وسيطرة الأنظمة التسلطية القمعية.

أما في الوقت الراهن، فلا بد من تدعيم نفوذ وتدخل الدولة لحماية الحرية الحقيقية التي لا معنى لها إلا في مجتمع حر ومتضامن. ومن الواضح أن هذه الرؤية تتعارض مع التقليد القومي المحافظ الذي تحدثنا عنه الأسبوع الماضي، كما تتعارض مع التيار الليبرتاري الذي يمنح الأولوية للحقوق الطبيعية والحرية الفردية ومنطق السوق الحرة (أطروحة الفيلسوف روبرت نوزيك في الأهلية التي تتأسس على ثلاث مبادئ: حق التحكم المطلق في النفس، والحق الأصلي في الحيازة، ومبدأ الدوران العادل).

وفي مقابل النزعة المحافظة ما بعد الليبرالية التي يتبناها الرئيس السابق دونالد ترامب، ترى هاريس أن الديمقراطية ليست آلية إجرائية لضبط الساحة السياسية دون سقف معياري أو موجهات قيمية، بل هي ممارسة عملية متجددة ومسار مفتوح قابل للتعديل والمراجعة الدائمة. في هذا الباب، تكرر هاريس حرفياً عبارات جون ديوي الذي ألقى محاضرات نقدية حول الليبرالية سنة 1935 نُشرت لاحقاً في كتاب هام بعنوان «بعد الليبرالية؟ مسالكها المسدودة ومستقبلها». في هذا الكتاب يعتمد ديوي خطَّ «الليبرالية الراديكالية» التي تسعى إلى تنزيل القيم والمعايير الإنسانية الأصلية الليبرالية في الواقع الراهن. ووفق هذه المقاربة، ليست الحرية الفردية مفهوماً ميتافيزيقيا متعالياً أو مجرداً، بل هي فكرة موجهة للعمل الاجتماعي، ولا بد أن تتأقلم مع التجربة التاريخية الواقعية. وبغض النظر عن التصدع الأصلي بين الليبرالية الفردية الحقوقية والليبرالية الاجتماعية التضامنية، فإن مقولة «الليبرالية» في السياق الأميركي تحمل دلالة ثورية راديكالية في مواجهة أفكار الانكفاء على الذات والتمسك بالتقليد والموروث.

ومن هنا ندرك أن أهم فيلسوف ليبرالي أميركي معاصر، وهو جون رولز الذي وضع نظرية شاملة وعميقة حول العدالة التوزيعية، يصنَّف في صف اليسار الاجتماعي، لكونه وضع مفهومَ التضامن في صلب أطروحته حول الحرية والمساواة في المجتمع الصناعي الجديد.

لقد تبنى الديمقراطيون الأميركان منذ نهاية السبعينيات أطروحةَ «الليبرالية المساواتية» كما بلورها رولز، لكنهم اصطدموا بالمصاعب العملية المتزايدة المتعلقة بالمطالب الهوياتية في مجتمع تطبعه التعددية الثقافية وانفجاز الخصوصيات الحقوقية. ذلك ما أدركه الفيلسوف الأميركي مايكل صاندل الذي يعتبر من أهم قراء رولز ونقاده، وقد أصدر منذ سنوات قريبة كتاباً هاماً بعنوان «استبدادية الاستحقاق»، بيَّن فيه أن عدالة الحقوق والمساواة الأصلية تؤدي في نهاية المطاف إلى أبشع أنواع الغبن والإقصاء، بما يفسر صعود التيارات الشعبوية المتطرفة التي ترفع مطالب المجموعات الواسعة التي ألغتها النظم الحقوقية المجردة والمثالية. ومن هنا ضرورة اعتماد مفهوم تضامني للعدالة، لسد الطريق أمام النزعات الشعبوية التي تتغذى من إشكاليات الاعتراف والمطالب الهوياتية الخصوصية.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن أفكار صاندل تحظى باهتمام واسع من لدن تيار عريض داخل الحزب الديمقراطي الأميركي، يرى فيها المسلكَ إلى تجديد الأطروحة الليبرالية في ثوابتها التقدمية الحداثية في مواجهة النزعات القومية المحافظة.

من الواضح إذن إن الصراع السياسي المحتدم راهناً في الساحة الأميركية يتمحور حول الإرث الليبرالي، الذي يرى البعضُ أنه لا بد من تجاوزه من منطلق الديمقراطية القومية المحافظة، ويرى البعض الآخر أنه أفق ثابت لا محيد عنه وإن كان يحتاج إلى المراجعة الدائمة والتجديد المستمر. ومن الواضح أن الانتخابات الأميركية القادمة ستكون مناسبة كبرى لتصادم هذين الخطين المتمايزين.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 28 يوليو 2024 23:45  

يختلف بعضنا مع بعض في الأمور السياسية والاجتماعية حتى الدينية، لأننا لم نتفق على المصطلح و«اختلاف المصطلح» في اللغة العربية وافر، فحين يغيب فهم مشترك على المصطلح في المناقشة يحدث الاختلاف، والتنافر.

في كتاب قديم (متاح اليوم على الشبكة العالمية مجاناً) أصدرت سلسلة عالم المعرفة، التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت، كتاباً عام 1979 بعنوان «التفكير السليم والتفكير الأعوج» من تأليف روبرت شاولي، ترجمه إلى العربية شيخ المترجمين حسن سعيد الكرمي، صاحب أشهر برنامج للعربية في وقته بمحطة «بي بي سي العربية»، وهو برنامج «قول على قول»، وهو ضليع في اللغة العربية.

في مقدمته للكتاب مسّ المترجم عصباً لا يقربه كثيرون، وبخاصة المتحمسون للغة العربية، أنها تفتقر للمصطلحات الحديثة، وبرر ذلك بأن العالم الذي تقدم في الدول الصناعية الحديثة ابتكر مصطلحات حديثة في لغاته، بسبب التطور التقني، الذي لم تواكبه اللغة العربية.

رجعت إلى تلك الفكرة الشاملة مؤخراً، حيث شاهدت حواراً في إحدى محطاتنا التلفزيونية اشترك فيه «فقيه» كان وزيراً للأوقاف في إحدى الدول العربية، ولأنه معتاد على «حديث المنابر» أخذ موضوع النقاش لمكان يفضله، وهو أن الإرهابيين اليوم الذين يفجرون تقريباً في كل مكان ليسوا من المسلمين. والتفكير العلمي يقول لنا إننا من أجل حلّ المشكلة، أي مشكلة، يتوجب الاعتراف بها أولاً، ثم البحث عن حلول، أما نفيها فذلك يضفي ضبابية على الحلول المتوخاة.

الحقيقة أن كل المجرمين الذين يفجرون في المسالمين في العواصم الكثيرة في العالم، سواء أكانت عواصم إسلامية أم غير إسلامية هم في الغالب، وليس حصراً، من المسلمين الذين يعتمدون على «نصوص» يجري تفسيرها على هواهم في لبس واضح للمصطلحات التي يتبنونها! مستلة من كتب ألّفت في عهود الظلام.

ذهب الرجل للتدليل على أن «الغرب متعصب» بالقول إن «فرنسا تمنع الحجاب للنساء» في مؤسساتها التعليمية، من أجل أن يأخذ المشاهد إلى الاقتناع أن فرنسا «تعمل على عكس ما تدعي من حريات»، لست هنا للدفاع عن فرنسا أو غيرها في موضوع حقوق الإنسان، فهي كغيرها في الغرب الليبرالي ليست امرأة قيصر!! ما يهمني أن الافتراض الذي أقامه ذلك الشخص، وهو افتراض يقول به كثيرون، ضبابي في «المصطلح نفسه»، والسؤال المنطقي: ما شكل الحجاب الإسلامي؟ من قال إن طريقة الملابس، بالشكل هذا أو ذاك، هي من صلب الإسلام؟ هل الحجاب الإسلامي ما تقوله «طالبان» في أفغانستان إنه ما تلبسه المرأة الطالبانية؟ «أي شبكة على الوجه والجسم» تسدل حتى لا أحد يعرف ما بداخلها، هل هو نفس الحجاب الذي تلبسه المرأة التونسية في لباسها التقليدي مثلاً، أو ما تلبسه الإيرانية أو الإندونيسية أو التركية؟ ملابس المرأة، هي كما الرجل، في الغالب «تراث اجتماعي وتقاليد موروثة، كما أنه أيضاً متغير الشكل» يتطور مع الزمن، ولا يوجد لدينا يقين قاطع أن المرأة في التاريخ الإسلامي كانت مقيدة بنوع واحد من الملابس، بل استخدم المظهر الخارجي في بعض الأوقات كسلاح سياسي، كما حدث آخر أيام حكم الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، وقتها كان لبس الحجاب في الغالب صورة احتجاجية على السياسات التي اتبعها الشاه، فقد قرر أشكال الملابس بقوة القانون «أي فرضاً». وفي السنوات القليلة السابقة، أصبح رفض استخدام الحجاب في إيران نوعاً من الاحتجاج السياسي، كما شاهدنا قبل عامين في الأحداث التي تمت بعد مقتل مهسا اميني في عام 2022.

الإسلام الحركي أقنع كثيرات بأن الحجاب من أصول الدين، لسبب سياسي، حيث تعرف الأخت الإخوانية بذلك المظهر، وعندما ينتشر «تُرهب السلطة»، ولأن الثقافة الدينية الحقّة باهتة في عقول الكثرة، فمن السهل أخذ الجمهور إلى مكان له شكل التقوى ومخبر السياسة!

في وقت ليس ببعيد حرم في مصر في بداية القرن الماضي لبس البنطال للرجل، حتى العمل في الصحافة، على أن المظهرين مخالفان للدين! وبيننا اليوم من «يفتي» بأن لبس المرأة للبنطال «محرم» لأنه «لا يستر العورة»!! بل البعض قد لا يعرف أن استخدام المطبعة في العالم الإسلامي قد «حرم» لثلاثة قرون، بعد اختراعها في العالم، أما المذهب الحنفي تاريخياً فهو الوحيد الذي أفتى بعدم حرمة الوضوء من الصنبور، لذلك سميت في مصر «الحنفية»! في حين حرمت مذاهب أخرى ذاك الوضوء، يقول لنا التاريخ إن المماليك في مصر حرموا استخدام البارود، لأنه «بدعة»!

وهكذا في غياب تحديد دقيق للمصطلحات في اللغة، بسبب تجاهل التطور التاريخي، نجد أنفسنا في شقاق وخلاف اجتماعي وسياسي حتى ثقافي محتدم.

آخر الكلام... ملابس البشر أياً كانت مقبولة، من باب الحرية الشخصية، وليس الفرض، ومن غير المعقول عقلاً ربطها بالتراث!!

***

د. محمد الرميحي

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: السبت - 21 مُحرَّم 1446 هـ - 27 يوليو 2024 م

10 سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها

أنْ تصل إلى قمة الشعر كالمتنبي وفيكتور هيغو فهذا شيء مفهوم ومقبول وإن على مضض. أنْ تصل إلى قمة الفكر كديكارت وكانط وهيغل، فهذا شيء مفهوم ومعقول، وإن على مضض أيضاً. أما أنْ تصل إلى قمة الشعر والفكر في آن معاً فهذا شيء ممنوع منعاً باتاً. هذا شيء لا يحتمل ولا يطاق. هل لهذا السبب جُنَّ نيتشه؟ من يعلم؟ أم أنه اقترب من السر الأعظم أكثر مما يجب فعميت عيناه؟

في شهر مايو (أيار) من عام 1879 استقال نيتشه من جامعة بال بسويسرا بسبب أمراضه العديدة المتفاقمة على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين عاماً: أي في عز الشباب. وقد اقتنعت الجامعة بظروفه وحيثياته وقبلت بأن تصرف له تقاعداً شهرياً متواضعاً يكفيه لدفع أجرة الغرفة والأكل والشرب وشراء بعض الكتب والمراجع. أما الثياب فلم يكن بحاجة إلا إلى أقل القليل: غيار واحد فقط، طقمان وقميصان. وكفى الله المؤمنين شر القتال. بدءاً من تلك اللحظة أصبح نيتشه شخصاً تائهاً مشرداً على الطرقات والدروب. بدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً حقيقياً وكاتباً ضخماً لا يُشقُّ له غبار. لقد بقيت له عشر سنوات فقط لكي يعيش حياة الصحو. بعدئذ سوف يقلب في الجهة الأخرى من سفح الجنون. ولكن هذه السنوات العشر كانت كافية لكي يضع مؤلفاته الكبرى التي دوخت العالم منذ مائة وخمسين سنة حتى اليوم. بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم كله بوديانه السحيقة وغاباته العميقة مثل كتاب مفتوح على مصراعيه لكي يتفلسف عليه. هل يمكن أن يمضي نيتشه حياته كلها في إعطاء الدروس الجامعية بأوقات محددة وإكراهات وظيفية مزعجة وتصحيح أوراق الطلاب؟ محال. هذه حياة لا تليق بفيلسوف بركاني زلزالي يكاد يتفجر تفجراً... نقول ذلك، بخاصة أنه كان يكره الفلسفة الجامعية وأستاذ الجامعة ويعدّه «كالحمار» الذي يحمل أثقالاً وأفكاراً جاهزة يكررها على مدار السنوات حتى سن التقاعد. هل هذه حياة؟ هل هذه فلسفة؟ على هذا النحو انطلقت عبقريته وانفتحت طاقاته الإبداعية على مصراعيها. عشر سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها.

كل كتاباتي ليست إلا انتصارات على ذاتي!

هذا ما كان يردده باستمرار. وهي بالفعل انتصارات على المرض والمخاطر والصعوبات. إنها انتصارات على تربيته الأولى بشكل خاص. والأهم من ذلك كله أنها كانت انتصارات على التراث الموروث المتراكم والراسخ في العقليات رسوخ الجبال. هنا تكمن الزلازل النيتشوية. أين أمضى الشهور الأخيرة قبل أن ينفجر عقله كلياً؟ لقد أمضاها في مدينة تورين الإيطالية الجبلية الساحرة وهناك شعر بالارتياح وباسترجاع الصحة والعافية إلى حد ما. لقد استقر فيها خريف عام 1888 وأظهر شهية هائلة للكتابة وتفجرت طاقاته الإبداعية في كل الاتجاهات. وما كان أحد يتوقع أنه سينهار بعد أربعة أشهر فقط، ولا هو كان يتوقع ذلك بطبيعة الحال. ولكن الأشياء كانت تتراكم والانفجار الصاعق قد اقترب. نقول ذلك بخاصة أنه استطاع تأليف 5 كتب متلاحقة في ظرف 5 أشهر فقط. من يستطيع أن يؤلف كتاباً كل شهر؟

فلماذا الإعصار إذن؟ لماذا الانهيار بعد كل هذه الانتصارات التي حققها على ذاته وعلى أمراضه وأوجاعه؟ هل لأنه أنهك نفسه أكثر مما يجب فانفجر عقله في نهاية المطاف من كثرة التعميق والتركيز؟ هل الفلسفة تجنن إذا ما ذهبنا بها إلى نهاياتها، إلى أعماق أعماقها؟ هل يمكن أن ينكشف السر الأعظم لمخلوق على وجه الأرض؟ لا أحد يؤلف 5 كتب في 5 أشهر أو حتى 4. أم هل لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله ووصل إلى ذروة الإبداع العبقري ولم يبق له إلا أن ينبطح أرضاً؟ أم هل لأنه كان مصاباً بمرض السفلس (الزهري) الذي اعتراه منذ شبابه الأول في مواخير مدينة كولونيا عام 1966. أم أن تلك الغاوية الحسناء سالومي جننته؟ أم؟ أم؟ أم؟ والله أعلم. البعض يقولون إنه دفع ثمن هجومه الصاعق على المسيحية غالياً. ينبغي ألا ننسى أنها كانت دين آبائه وأجداده، وأن والده كان قساً بروتستانتياً وجده كذلك، وجد جده أيضاً.. إلخ. ومعلوم أن أمه فرانزيسكا جن جنونها عندما سمعت بأنه أصبح ملحداً بعد أن كان مؤمناً متديناً بل وتقي ورع طيلة طفولته وشبابه الأول. فكيف انقلب على كل ذلك؟ كيف انقلب على ذاته وأعماق أعماقه؟ ألم يدفع ثمن هذا الانقلاب باهظاً؟ يحق له بالطبع أن يفكك الأصولية الطائفية والمذهبية الموروثة عن القرون الوسطى. يحق له أن يستأصلها من جذورها كما فعل أستاذه فولتير الذي أهداه أحد كتبه قائلاً: إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية. ولكن لا يحق له أن يستأصل العاطفة الدينية ذاتها. لا يحق له أن يستأصل أعظم ما أعطاه الدين المسيحي من قيم أخلاقية تحث على الإحسان والشفقة والرحمة وحب الآخرين (بين قوسين: وهي قيم موجودة في الإسلام أيضاً إذا ما فهمناه بشكل صحيح وليس على طريقة الإخوان المسلمين الذين لا شفقة لديهم ولا رحمة، وإنما فقط طائفيات ومذهبيات وتكفيرات وتفجيرات). لحسن الحظ فإن أمه لم تطلع على كتابه الأخير عن الدين وإلا كانت قد أُصيبت بالسكتة القلبية على الفور.

ما هي العلائم الأولى التي أرهصت بانهياره العقلي؟

تقول لنا الأخبار الموثقة ما فحواه: لقد ظل يكتب بشكل عقلاني متماسك حتى آخر لحظة تقريباً من عام 1888. ولكن بعد ذلك ابتدأت عبارات الجنون تظهر وتختلط بالعبارات العقلية المتماسكة أو التي ما زالت منطقية متماسكة. ابتدأت هذياناته غير المعروفة تظهر رويداً رويداً. ابتدأ يشعر بالبانورايا الجنونية. بموازاة ذلك تضخمت شخصيته وتحولت إلى هذيان كوني. هل هو جنون العظمة؟

بعدئذ في 6 يناير (كانون الثاني) من عام 1889، أي بداية العام الجديد الذي شهد انهياره تلقى البروفيسور الكبير جاكوب بوركهاردت أستاذ نيتشه والجيل كله رسالة هذيانية يقول فيها:

«الشيء الذي يخدش تواضعي وحيائي هو أنني أجسد في شخصي كل الأشخاص العظام الذين ظهروا في التاريخ. لقد شهدت خلال الفترة الأخيرة جنازتي ودفني مرتين في المقبرة»... ما هذا الكلام؟ ما هذا الهذيان؟ ما هذا الجنون؟ من يشهد جنازته ودفنه في المقبرة؟

عندما وصلت هذه الرسالة إلى بروفيسور سويسرا الكبير اتصل فوراً بأقرب صديق عزيز على قلب نيتشه: الدكتور فرانز أوفربيك وسلمه الرسالة قائلاً: لقد حصل شيء ما لنيتشه. حاول أن تفهم. حاول أن تفعل شيئاً. عجل، عجل. وعندئذ هرع الرجل وركب القطار فوراً من سويسرا إلى إيطاليا لكي ينقذ الوضع إذا أمكن. ولكن بعد فوات الأوان.

يقول ما فحواه: عندما دخلت عليه الغرفة وجدته مستلقياً نصف استلقاءة على الأريكة وبيده ورقة مكتوبة. فتقدمت نحوه لكي أسلم عليه ولكن ما إن رآني حتى انتصب فجأة على قدميه وهرع هو نحوي ورمى بنفسه بين أحضاني. لم يقل كلمة واحدة، لم يلفظ عبارة واحدة، فقط كان ينتحب بصوت عال والدموع تنهمر من عينيه مدراراً. وكل أعضاء جسمه كانت تختلج وترتجف وهو يردد كلمة واحدة هي: اسمي فقط. لكأنه يستغيث بي. لم تكن الحساسية البشرية قد انتهت فيه كلياً آنذاك. لم يكن عقله الجبار قد انطفأ كلياً. فيما بعد لم يعد يتذكر إلا أمه وأخته اللتين أشرفتا عليه حتى مات عام 1900. (بين قوسين: انظر صورته مع أمه أكثر من مؤثرة). وفجأة شعرت أخته إليزابيت بأنها تمتلك كنز الكنوز: مؤلفاته العبقرية! فقد راحت تكتسح ألمانيا كلها من أولها إلى آخرها في حين أنه لم يبع منها في حياته أكثر من عشر نسخ. بل وكان ينشرها على حسابه الشخصي على الرغم من فقره وتعتيره. ولكن بعد جنونه بفترة قصيرة ذاع صيته وانطلقت شهرته. ثم راح صوته يخترق كالرعد القاصف السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. وأصبحت كتبه تباع بالملايين. بل وتحول كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إلى إنجيل خامس كما يقال. وأقبلت عليه الشبيبة الألمانية تتشرب أفكاره تشرباً. وقد تنبأ هو بذلك عندما قال: «هناك أناس يولدون بعد موتهم. سوف تجيء لحظتي ولكني لن أكون هنا».

رسائل الجنون

سوف أتوقف فقط عند تلك البطاقة التي أرسلها إلى «كوزيما» زوجة صديقه ومعلمه السابق الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. كل المخاوف والإحراجات التي كانت تمنعه من البوح لها بعواطفه ومشاعره حرره منها الجنون. يبدو أنه كان مولهاً بها منذ زمن طويل عندما كان يزورهم في البيت الريفي ويمضي عدة أيام في ضيافتهم. وحتماً كان يغازلها بشكل خفيف. ولكنه كان حباً عذرياً خالصاً لا تشوبه شائبة.

يقول لها في تلك الرسالة الجنونية:

«حبيبتي الغالية جداً أميرة الأميرات. من الخطأ اعتباري شخصاً عادياً كبقية الناس. لقد عشت طويلاً بين البشر وأعرف كل ما يستطيعون فعله من أسفل شيء إلى أعلى شيء. بين الهنود كنت بوذا بشخصه. وعند الإغريق كنت ديونيسوس. والإسكندر المقدوني وقيصر روما هما من تجلياتي أيضاً. وحتى الشاعر شكسبير واللورد فرانسيس بيكون تجسدا في شخصي. وكنت فولتير ونابليون وربما ريتشارد فاغنر ذاته. لقد تقمصتهم جميعاً.

ولكن هذه المرة أجيء كديونيسوس الظافر الذي سيجعل الأرض كلها كرة من نور وحفلة عيد. السماوات ذاتها أصبحت ترقص وتغني وتطلق الزغاريد ما إن وصلت.. وكنت أيضاً معلقاً على الصليب».

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 27 يوليو 2024 م ـ 21 مُحرَّم 1446 هـ

لا يمكن الحديث عن الهوية، من منظور فلسفي، بمعزل عن الإشكالات التي يطرحها خاصة في عالم اليوم، حيث تنبت الهويات المنغلقة فتُفْسِد حيث تَظنُّ الإصلاح.

لكن الحديث الإشكالي لن يصرفنا عن محاولة لتقعيد مفهوم نرى وضوح دلالته، قمينٌ بأن يجعلنا موصولين بتراثنا وشخصيتنا القاعدية، منفتحين على واقعنا وفلسفاته المتعددة، ومن هنا لا يمكن فصل الحديث عن الهوية عن مفهوم الانتماء بتجلياته المختلفة. يتأزم القول في الهوية عندما نرى بأمّ أعيننا كيف يؤدي الاعتقاد بالهوية المتفرّدة إلى إشاعة الكراهية وتفشي العنف وتجاهل الهويات الأخرى التي تحظى عند المنتسبين إليها بالتقدير والاعتبار، حيث يمتنع السّلام لغياب الاعتراف بتعدد الانتماء، فالهويات المنغلقة لا يمكن أن تكون إلا هويات قاتلة بعبارة أمين معلوف، فكيف السّبيلُ إلى الخروج من الانغلاق إلى الانفتاح، ومن التّفرد إلى التّعدد؟

يحظى مفهوم الهوية بإعجاب الكثيرين باعتباره الوسيلة الوحيدة لخلق اللحمة بين الجماعة الواحدة، ولعل رالف لنتون، وهو يبدع مفهوم «الشّخصية القاعدية»، باعتبارها شخصية اجتماعية ثقافية مشتركة بين مجموع مكونات مجتمع ما يربط بين أفراده نظام مشترك من القيم والمعايير وطرق الاستجابة، لم يكن بعيداً عن مفهوم الهوية الخاصة. فمفهوم «الشخصية القاعدية»، هو مفهوم أنثروبولوجي ثقافي يصف طبيعة المجتمعات وترابطها من خلال نظام موحد من القيم والاستجابات، وكذا مفهوم الهوية.

لا تخطئ النّاظر إلى المجتمع العربي هوية عامة مشتركة بين أفراده، وليس من العيب في شيء أن يفخر الإنسان بهويته، ولكن العيب أن يذهل عن «الشخصيات القاعدية» للآخرين غير معترف بها، مع حرص كبير على تخسيسها وإقصاء أصحابها. عندئذ تصبح الهوية منغلقة وقاتلة للآخر، والقتل ضربان: قتل مادي يُجلّيه هذا العنف الملطخ بالدّماء جراء حقد طائفي مدمر، وقتل رمزي تكشفه هذه الإساءة المقيتة لرموز الأديان جراء سخرية طليقة جارحة. والقتل، بنوعيه، كلما احتد أنتج قتلاً شرساً، إذا لم يكن من العقل عاقل، ولا من القوانين الدولية عاصم.

ومن بلاد الله التي تسعى إلى جعل الهوية متعددة ومنفتحة، وتريد بإصرار أن تتعايش على أرضها جنسيات مختلفة بعقائد ومذاهب وعادات ورموز متعددة، الإمارات العربية المتحدة، التي تقدم نموذجاً لانفتاح الهوية وتعدّدها، إذ في الوقت الذي تسعى فيه إلى تثبيت شخصيتها القاعدية والتّنويه بها، والتّرويج لها، والذّوذ عنها، لا ترى غضاضة في الاعتراف بانتماءات الآخرين، والحرص على وضع الحدود القانونية لصونها، تجسيداً للاحترام المتبادل، وتكريساً للتعاون المشترك البناء. ولا يمكن للدّارس أن يلحظ هذا المعطى الحضاري المهم دون أن تحضر في ذهنه صورة «المعلم الأول» للإمارات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه.

ومن أراد أن يلمس عن كثب صورة هذا المعلم فلينظرها في عيون عياله الكبار والصغار، ولْيَتحسسها في قلوبهم النّابضة بحبّه، والخفّاقة بشكره لجميل صنيعه بهم بروح الأبوة الخالصة، كما عليه أن يتلمّسها في طبيعة الحياة الإماراتية التي رسّمت معالمها توجيهاتُ وأقاويلُ معلّم الإمارات الأول، والتّي يتقصّاها أبناؤه ومحبّوه من بعده، وهو معطى مهم يدعو الباحثين والدّارسبن إلى تتبّعه في ما خلّف الشيخ زايد من شذرات قولية أو مُصوّرة أو مكتوبة، وللشّذرات عبر التاريخ الثقافي دور كبير في صنع الهويات، التي أرادها الشيخ زايد منفتحة غير منغلقة، متعددة غير متفردة.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 25 يوليو 2024 23:42

رمسيس الثاني ليس فرعون الخروج، وإخناتون ليس النبي موسى، ويويا ليس النبي يوسف.. ولكن الفراعنة كانوا أمّة مؤمنة. حسب مؤرخين جادّين.. لم يكن نبي الله موسى أول من دعا للتوحيد في مصر، فقد كانت عقيدة التوحيد راسخة في مصر قبل قرون عديدة من بعثة نبي الله إبراهيم، فضلاً عن نبي الله موسى، وحسب «عباس محمود العقاد».. فقد قرأ سيدنا إبراهيم صحف النبي إدريس، واطلع على التوحيد المصري وعبادة المصريين لله الخالق الواحد، وكانت ذلك قبل نبوته بعدة عقود.

وقبل أربعة آلاف عام أضاء مصر الحكيم لقمان الذي كان من أبناء الصعيد، وعاش في عهد الأسرة الحادية والعشرين الفرعونية. ثمّة توافق على أن نبي الله إدريس كان من أنبياء المصريين القدماء، وثمّة اختلاف حول ما إذا كان هو نفسه أوزوريس، حيث ينفي علماء التاريخ ذلك الطّرح.

كانت الحضارة الفرعونية المصرية عظيمة إلى الحدّ الذي جعلها موضع حقدٍ وحسدٍ لدى الكثيرين، من مزاعم أفريقية بكونها حضارة سوداء، ومزاعم غربية باعتبارها تمّت بأيدي الآخرين، إلى مزاعم علمية زائفة بأنها بُنيت بأيدي كائنات فضائية، ومزاعم دينية بأنها كانت حضارة وثنية عاشت خارج دائرة الإيمان.

في رسالة للدكتوراه بجامعة القاهرة.. بعنوان «الأخرويات بين الحضارة المصرية القديمة والفكر الإسلامي» يذهب الباحث أسامة زايد إلى أن التحريف في العقيدة - في بعض الأحيان - كان بسبب عبث الكهنة وخلط الدين بالسياسة، ولكن الإيمان كان هو الأساس، ولولا إيمان المصريين بالآخرة، لما وصَلَنا شيء من الآثار والأهرامات الضخمة، التي كان هدفها إيمانياً يقوم على عودة الروح بعد الموت.

ولقد ظهرتْ العديد من الكتابات التوحيدية الخالصة في العصر الحجري الحديث، وتمتلئ الأدبيات المصرية القديمة بالحضّ على قيم الحق والعدل ومكارم الأخلاق. في كتاب نديم السيّار «قدماء المصريين أول الموحدين» وفي كتاب العالم الفرنسي «روبير - جاك تيبو» بعنوان «معجم الأساطير والرموز المصرية»، وفي كتاب «فرانسوا دوما» بعنوان «آلهة مصر»، وفي كتاب رمضان عبده «حضارة مصر القديمة» - وغيرها كثير - تأصيل للعقيدة المصرية القديمة، من الإيمان بالله الواحد، الذي لم يخلقه أحد ولكنه خلق الإنسان والكائنات جميعاً، وهو أزلي أبدي، يرزق الناس لكى يعطوا الآخرين، ويحاسب في الآخرة من فعل خيراً أو شراً.

ويُعد كتاب «الموتى» الشهير باسم «الخروج إلى النهار» أو «إنجيل المصريين» أقدم كتاب في العالم تحدث عن عقيدة التوحيد والبعث والخلود. حسب موقع (بي بي سي)، فقد جاء في تراتيل إخناتون «أيها الإله الذي لا شبيه له، خلقتَ الدنيا كما شئتَ، عندما كنتَ وحدك»، وفي تعاليم بتاح حتب «ليست إرادة هى التي تتحقق بل إرادة الإله».. ويقول جاك تيبو: «قطعاً.. لم يتجه ملوك مصر وشعبها بعبادتهم نحو مجموعة من الآلهة الوثنية، بل عبدوا إلهاً واحداً، خالق الأرض، شكّل خلقه من طين صلصال ومياه النيل، ثم نفث فيه من روحه».

لقد كانت هناك مراحل في ذلك التاريخ الطويل بعيدة عن الإيمان، وقد كان فرعون موسى نموذجاً لذلك، لكنها ليست الخط الرئيسي للتاريخ، بل كان الخط الرئيسي: فراعنة مؤمنون.

***

أحمد المسلماني - كاتب مصري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 25 يوليو 2024 00:46

الأدب في عيون السلطات السياسية مسألة نخبوية

ملخص

تعمل شرطة أدب محاكم التفتيش الجديدة على فرض تعريف جديد للأدب وإلحاقه بالفقه والشريعة، مع احترامنا لهذين الحقلين المعرفيين، ومن هذا المنطلق فكل كاتب يخرج عن نطاق هذا المفهوم الأخلاقوي الأيديولوجي يعتبر إنساناً غير مرغوب فيه، ولا أخلاقياً وزنديقاً وأن أدبه هو هرطقة ومآله المحرقة.

إن الرقابة المؤسسة والمقننة أهون من الرقابة التي تمارسها الميليشيات الأدبية الهوجاء التي تعرض سجاداتها وألسنتها النارية على مواقع التواصل الاجتماعي، جامعة بين القذف والسبّ والتخوين والتهويد.

من بغداد إلى نواكشوط، تحول كثيرون من القراء العرب والمغاربيين، على قلّتهم، إلى ميليشيات شعبوية أخلاقوية وشبه دينية في مواجهة حق الكتاب في الحرية الخيالية في نصوصهم، وبالأساس ضد الرواية.

والقارئ الجزائري لا يشذّ عن هذه الوضعية الثقافية والكتبية المأزومة.

تجد هذه الظاهرة المَرَضية مرتعها الأيديولوجي المناسب في المدرسة ثم الجامعة وفي كثير من المؤسسات الدينية والثقافية.

إن الأنظمة السياسية الجزائرية المتعاقبة على السلطة منذ الاستقلال، وعلى رغم اختلافاتها النسبية أو الفارقة، وعلى رغم هيمنة الحزب الواحد، ظلت تحتفظ وتحافظ بصورة طبيعية وعفوية على هامش الحرية الخاصة بالإنتاج الأدبي بالعربية والفرنسية على حد سواء.

إن هذا القسط من الحرية المسموح به للأدب، في الكتابة أو في النشر أو في التوزيع أو في الاستيراد، مبرر، إذ إن الأدب في عيون السلطات السياسية مسألة نخبوية، ولكونه يرتبط بنيوياً بالخيال وموجهاً لقلة قليلة، فإنه لا يثير الخوف ولا يخلّ بالنظام.

نادرة هي الكتب الأدبية، رواية أو شعراً، التي تم منعها في الجزائر على مدى 62 عاماً من الاستقلال. من الشاعر جان سيناك إلى الروائي الطاهر وطار مروراً بالطاهر جاووت ومحمد ديب وكاتب ياسين ومولود معمري ومراد بوربون وآسيا جبار ورشيد ميموني وبوعلام صنصال وكمال داود ورشيد بوجدرة...، جميع هؤلاء الكتاب من الروائيين والشعراء نشروا نصوصهم أو بعضها في الجزائر وتم استيراد بعضها الآخر أو إعادة نشرها محلياً وتوزيعها على مكتبات البيع أو مكتبات المطالعة العمومية من دون إقصاء أو تذمر.

ويبدو أن صورة الأدب تظل في عيون الأنظمة السياسية الجزائرية المتعاقبة مرتبطة بفعل التسلية بوصفه (الأدب) يستند في جوهره إلى الخيال البعيد من الواقع، أو يُتصور هكذا، وهو في محصلة الأمر نتاج لغوي ليس من السهل للجميع اقتحام عالمه وفك رموزه.

ويجب الإشارة إلى أمر في غاية الأهمية، وهو أن الأنظمة السياسية في الجزائر كانت تضم في أطقمها السياسية والتنفيذية مجموعة من الأسماء المتنفذة التي كانت معروفة بحبها للأدب وبممارستها للكتابة أيضاً، بخاصة في الفترة الممتدة ما بين عام الاستقلال وحتى نهاية السبعينيات، وقد عرفت بمواقفها الإيجابية تجاه الأدب والفن والثقافة بصورة عامة، وهنا يجب التذكير ببعض هذه الأسماء من أمثال مصطفى الأشرف ورضا مالك ومحمد الصديق بن يحيى وبوعلام بسايح وعبدالحميد مهري وعبدالحميد بن هدوقة وعبدالمجيد مزيان وأحمد طالب الإبراهيمي وزهور ونيسي وعبدالحميد أبركان... هؤلاء وغيرهم، وهم في مواقع القرار كانوا يملكون ثقافة أدبية مميزة سمحت لهم بالدفاع عن القضية الأدبية من دون أن تشكل عائقاً أمام سير ماكينة السلطة المركزية التي يدينون بدينها.

أثناء إقامته في الجزائر، كأستاذ للتعليم الثانوي، بمدينة عنابة ما بين 1970-1974، كتب الروائي والقاص حيدر حيدر أشهر وأجرأ رواياته وهي "وليمة لأعشاب البحر"، وفيها يحلل بكثير من الدقة الحياة السياسية في الجزائر بعد 10 أعوام من الاستقلال وينقد ما آلت إليه أحلام الثورة من انهيارات، كل ذلك في أسلوب نقدي ساخر تارة ودرامي تارة أخرى، ووزعت الرواية في الجزائر وقرئت بصورة كبيرة ولا تزال تقرأ حتى الآن من دون أي تحفظ أو منع أو تهويل.

إلا أنه عام 2000 حين أعيد نشر الرواية في القاهرة، قامت القيامة، وخرج طلاب "الأزهر" في تظاهرات منددة بالكاتب وبالرواية، مطالبة بحرق الكتاب وبرأس الروائي بتهمة الإساءة إلى الإسلام، مما اضطر "الأزهر" إلى منعه.

في رواية "اللاز" للطاهر وطار وهي أشهر نصوصه السردية على الإطلاق وأكثرها شهرة التي نشرت عام 1974 في الجزائر، كتبها بهامش كبير من الحرية وشجاعة أدبية مميزة، فبصورة كلاسيكية تستعرض الرواية تفاصيل مشاركة الحزب الشيوعي الجزائري في الحرب التحريرية وخلافاته مع جبهة التحرير الوطني، كل ذلك من خلال شخصية مناضلة حقيقية وتاريخية هي شباح المكي. وللإشارة نشرت الرواية في الجزائر ووزعت في كل البلاد وقرئت على نطاق واسع، نسبة كبيرة منها تعدّ قراءة نضالية!، وقدمت عنها مئات الأطروحات الجامعية وترجمت إلى الفرنسية وقرئت بصورة واسعة من قبل القراء الفرنكوفونيين، ولأن الرواية في تصور النظام السياسي تحيل الخيال المقطوع عن الواقع، فإن الكتاب لم يتعرّض للمنع ولا للتضييق حتى الآن.

ومنذ صعود قوى الإسلام السياسي السلفي العنيف في الجزائر نهاية السبعينيات، بوضع اليد أولاً على المدرسة ثم الجامعة، ارتفعت أصوات متطرفة تنادي بالحد من حرية الخيال، فتراجع التسامح، وشرع بداية في رجم الساحة الأدبية، ومنح الصفويون والأخلاقويون أنفسهم حق المطالبة بصورة واضحة بمنع رواية أو فيلم أو أغنية.

مع بداية الألفية الجديدة، كرّست وسائل التواصل الاجتماعي قيم الكراهية ورفعت من منسوبها ضد حق حرية الخيال في الكتابة الأدبية، وساعد صمت المثقفين والجامعيين في انتشار هذا الزخف الشعبوي ضد الأدب، وأسهم في تعميم ظاهرة النفاق الاجتماعي والسياسي والثقافي في البلاد.

لهذه الميليشيات المعبأة بالتطرف ولقادتهم، وبكل احترام، عليهم قراءة كتاب "حكايات متحررة مغاربية" للكاتبة نورة أسيفال (منشورات المنار 2008)، بطبيعة الحال إذا كانت القراءة هاجسهم، وهو كتاب اشتغلت عليه الكاتبة مدة 20 عاماً، جمعت فيه كثيراً من الحكايات الشعبية التي يتميز فيها الخطاب الشعبي بعفوية وبحرية عالية، وهي حكايات تجاوزت الزمن لتظل خالدة تروى جيلاً بعد جيل، هي حكايات نسوية من عمق تاريخ ثقافتنا الشعبية، جمعتها الكاتبة من منطقة الهضاب العليا، وفيها تروي النساء من دون مانع أو حرج وبلغة واضحة مواضيع متصلة بالجسد والجنس والعلاقات الحميمة والحب. وللإشارة فهذه الحكايات ليست مقصورة على عالم النساء فحسب، بل هي أيضاً متداولة بين الرجال من دون حرج، ولم يشعر يوماً مجتمعنا المنسجم والمتناسق والمسلم في الهضاب العليا بأن إسلامه مهدد أو أن أخلاقه مهدورة أو شرف أبنائه وبناته منتهك.

***

أمين الزاوي

عن موقع إندبندنت عربي، يوم: لخميس 18 يوليو 2024

 

يرى الفيلسوف الفرنسي مايكل فوسل أن الصراع السياسي المحتدم راهناً في الغرب بين الاتجاه الليبرالي والاتجاه القومي المحافظ، يتمحور حول الجبهة المدافعة عن القيم والأخرى المتشبثة بالمبادئ.

والفرق جوهري بين القيم والمبادئ، باعتبار أن الحركية الليبرالية الحديثة قامت على استبدال المعايير الخلقية والتقويمات الجوهرية بأدوات قانونية إجرائية وكونية. والقيم تحيل إلى التقليد الحضاري والموروث الديني، ومن ثم تداخلها مع محددات الهوية والوعي الثقافي، بينما تحيل المبادئ إلى النظم العملية والأحكام الصورية الشكلية التي لا مناص منها في مجتمعات متعددة قيمياً ومجتمعياً.

ومع أن النظام الليبرالي حكم في جل البلدان الغربية منذ القرن الثامن عشر، فإن الجبهة القيمية ظلت حية وفاعلةً في الحقل السياسي، منذ الحركة الرومانسية التي كرست الاهتمامَ بالعالم المعيش والشعور الجمعي، إلى التيارات القومية التي أعطت الأولوية لهوية الأمة على مقاييس العيش المشترك بالمفهوم القانوني الإجرائي. لقد ظل تصور الأمة في التقليد الغربي متأرجحاً بين النظرة العضوية لها من حيث هي وحدة ثقافية تاريخية وشعورية طبيعية على السياسة أن تجسدها في مؤسسات عمومية تترجمها في الواقع، وبين النظرة القانونية التعاقدية التي ترى في الأمة كياناً توافقياً تحكمه مبادئ المواطنة المتساوية والإرادة المشتركة الحرة. ومن المعروف أن هذه البلدان على اختلاف أنظمتها السياسية وتقاليدها القانونية دخلت في مسار العلمنة المجتمعية، الذي يعني أمرين أساسيين مترابطين هما: انحسار الدين في المجال العمومي بحيث لم يعد حاضراً في النظم القانونية والمدنية التي تقوم عليها مؤسسات الدولة، ونضوب منظومة القيم التقليدية التي كانت تحدد سابقاً معاييرَ السلوك الفردي والجماعي.

وفي مثل هذه المجتمعات أصبح الصراع السياسي يتركز حول ضوابط ومتطلبات العدالة التوزيعية في أبعادها الحقوقية والمادية، ولم يعد للقيم دور أساسي في الحقل الأيديولوجي. وهكذا تحولت الحركات اليمينية من خط الدفاع عن الخصوصية القومية إلى مبادئ حقوق الإنسان الكونية ومتطلبات الاندماج الواسع، سواء في الإطار الإقليمي (الاتحاد الأوروبي مثلا) أو في إطار العولمة المتنامية.

وفي ذلك المناخ، قال الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران كلمتَه الشهيرة: «إن القومية تعني الحرب»، واعتبر الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون أن المجموعة الدولية أصبحت حقيقة ناسخة للقوميات والأمم. ومع أن الكاتب الأميركي صمويل هانتغتون تحدث أوانها عن «صدام الحضارات» على أساس تعارض القيم، إلا أن هذه الرؤية بدت غريبة ونشازاً في عالم مندمج، وقلصت هذه السردية من بعد في المجال غير الغربي الذي ما تزال فيه الأنساق الدينية والعقدية حاضرة ومؤثرة. وحتى حروب الإرهاب التي ضربت قلبَ العالم الغربي، نُظر إليها في البداية من زاوية أمنية بحتة، باعتبارها عملية بوليسية لملاحقة مجرمين خارج القانون لا حرب قيم أو حضارات.

لقد تبدلت الصورة نوعياً في السنوات الأخيرة نتيجة لعوامل ثلاثة كبرى هي: واقع التعددية الثقافية الذي أصبح يطبع الدول الليبرالية الغربية مما أعاد طرحَ إشكال الهوية الحضارية والقومية للبلدان التي استقبلت هجراتٍ واسعة من أفريقيا جنوب الصحراء والعالم العربي، وبروز قوى دولية صاعدة تتبنى المرجعيةَ الحضارية والقيمية أفقاً للشرعية والتمدد كما هو حال روسيا والهند وتركيا، وانهيار الأيديولوجيات التاريخانية والتقدمية التي عوّضت في السابق الانتماءات القيمية والحضارية في الغرب الليبرالي. ومن هنا ندرك طبيعة الشعبويات الجديدة في الغرب التي تتبنى بوضوح السردية القيمية والحضارية، بالعودة إلى مرجعية التقليد المسيحي والزمنية الحضارية السحيقة والهوية القومية العضوية.

عندما سئل السياسي القومي اليميني الراديكالي الفرنسي أريك زمور عن الهوية الفرنسية، قال إنها تتحدد وفق ثوابت عرقية وثقافية في مقدمتها النزعة الكاثوليكية، ونمط العيش الخصوصي المتوارث تاريخياً، والقيم الذكورية... معتبِراً -على غرار ساسة عديدين في عموم أوروبا- أن القارة تواجه خطرَ ما سماه «الاستبدال الكبير» الناجم عن الهجرات الخارجية. وبطبيعة الأمر، يعاني الخطاب القيمي الجديد في الغرب من اختلالات كثيرة، باعتباره يتعارض مع جوهر الحداثة الذي يعني الانتقال من نظام الانتماءات الجوهرية الشمولية إلى نظام الحقوق والحريات الكونية كما تحدده اعتبارات العيش المشترك الحر والتضامني. بيد أن ليبرالية المبادئ تواجه مصاعبَ كثيرة ناجمة عن التصدع الاجتماعي المتنامي بين النخب المعولمة التي فقدت مشاعر الانتماء العضوي لمجموعات قومية مدنية خصوصية وبين الجمهور الواسع الذي يستخدم القاموس القيمي والحضاري أداةً للدفاع عن حقوقه ومصالحه باسم شعارات الهوية والسيادة.

***

د. السيد ولد أباه – أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 14 يوليو 2024 23:45

بسبب رفضه مقولة «شعب الله المختار»

كان المجلس الديني اليهودي في مدينة أمستردام بهولندا، قد أصدر فتوى لاهوتية، بتاريخ 27 يوليو (تموز) من عام 1656، تدين سبينوزا إدانة قاطعة مانعة، بحجة الزندقة والكفر، والخروج على عقيدة الطائفة والملة.

وكان مما جاء في النص الحرفي للفتوى: «لقد اطلعنا منذ بعض الوقت على الزندقة الرهيبة والأفعال القبيحة لهذا الشخص المدعو سبينوزا، وقد حاولنا مراراً وتكراراً ردعه عن نهجه المنحرف، ولكن بلا جدوى، ولذلك قرّرنا فصله من أمة إسرائيل، ولعنه دينياً وأبدياً ولاهوتياً بإصدار هذه الفتوى، لعنه الله في الليل، ولعنه الله في النهار، لعنه الله إلى أبد الآبدين، لعنه الله إلى يوم الدين».

ما سبب كل هذه الغضبة الشديدة على المسكين سبينوزا؟ ماذا فعل؟ ما الجريمة التي اقترفها؟ نقول ذلك، خصوصاً أن كل الأخبار تقول بأنه كان تقياً ورِعاً منذ نعومة أظفاره، وكان مثابراً على الصلوات والتعبد في الكنيس اليهودي، بل كان والده يُحضّره لكي يصبح حاخاماً، أي رجل دين.

يبدو أن سبب ابتعاده عن التدين التقليدي الأصولي يعود إلى اطلاعه على الفلسفة الحديثة، أي فلسفة ديكارت، التي كانت رائجة كثيراً في تلك الأيام، كما يعود إلى اختلاطه بالأوساط المسيحية الليبرالية المستنيرة، الخارجة على العقائد اللاهوتية لرجال الدين من يهود ومسيحيين.

ولذلك انقطع عن التردّد على الكنيس اليهودي والطقوس والعبادات بعد سن الثامنة عشرة، لقد أقنعَته الأفكار الحديثة بالتراجع عن التدين التقليدي المجترّ والمكرور والعقيم في نهاية المطاف، لقد حصل له ما يحصل حالياً للعديد من الشباب العرب، الذين يُتاح لهم الاطلاع على الأفكار الحديثة واللغات الأجنبية.

فالطقوس أصبحت مُرهِقة بالنسبة للشباب الصاعد، الذي يبحث عن الخروج من الجو الخانق للقرون الوسطى، هنا تكمن مشكلة سبينوزا بكل بساطة، وهذا ما حصل له بالضبط. لقد أغوته الفلسفة العقلانية، وأبعدته عن التدين التقليدي ورجال الدين في آنٍ معاً، ولذلك لم يَعُد يذهب إلى الكنيس اليهودي في أمستردام لأداء الفرائض والصلوات... وهنا، في هذه القطيعة، يكمن لب الحداثة وجوهرها، هذا لا يعني أنه أصبح ملحداً أو كافراً كما يُشاع، ولكنه لم يَعُد قادراً على التقيد بكل هذه الإكراهات والقيود التي يفرضها رجال الدين.

علاوةً على ذلك فإن المسيحيين الليبراليين، الذين أصبح يعاشرهم ويختلط بهم، تخلَّوا هم أيضاً عن أداء الطقوس المسيحية في الكنيسة، وأصبحوا يعتقدون مثل سبينوزا بأن الإيمان الحقيقي يكمن فقط في المعاملة الطيبة مع الآخرين، واتباع قيم العدل والإحسان والنزاهة والصدق.

هذا هو الدين في نظرهم، هذا هو جوهر الدين، أما التعصب الطائفي والمذهبي، الذي كاد أن يدمر هولندا وكل أوروبا في عصر سبينوزا، فهو عدو الدين بالمعنى الحقيقي للكلمة، وعدو الفلسفة العقلانية، وعدو الإنسانية.

هناك الدين، وهناك الطائفية، وهما شيئان مختلفان تماماً، وهذا ما لا يفهمه الأصوليون وعامة الشعب، لهذا السبب انتفض سبينوزا ضد الكنيس اليهودي، وأعلن العصيان على الحاخامات الكبار، ولهذا السبب فتكوا به فتكاً ذريعاً، عن طريق إصدار هذه الفتوى اللاهوتية التي تكفّره وتزندقه.

ولكن المشكلة ليست هنا، فهذا الشيء كان متوقَّعاً في القرن السابع عشر، حيث كانت الطائفية الأفق الذي لا يمكن تجاوُزه تماماً، كما هو عليه الحال حالياً في العالم العربي، المشكلة هي أن هذه الفتوى التي خلّدتها كتب التاريخ لم تُرفَع عن سبينوزا حتى الآن، أي بعد حوالي الأربعة قرون من إصدارها، فعندما حاول دافيد بن غوريون عام 1953 إزالتها وردّ الاعتبار لسبينوزا، بوصفه أحد عباقرة اليهود الكبار على مدار التاريخ، رفض حاخامات إسرائيل طلبه رفضاً قاطعاً، بل حتى بعض فلاسفة اليهود ومثقّفيهم الكبار رفضوا إعادة الاعتبار له.

نضرب على ذلك مثلاً بالفيلسوف المشهور إميل ليفيناس، صاحب المؤلفات المعدودة، لقد قال لبن غوريون ما معناه: هذا الرجل عدو لليهود، حتى ولو كان من أصل يهودي أباً عن جد، إنه خائن لشعبه وأمّته، إنه خائن لدينه وتراثه، لقد أخضع اليهودية لعدوّها اللدود، أي المسيحية. هذا ما يقوله مثقف طائفي كبير هو إميل ليفيناس، فما بالك برجل الشارع؟

لقد جرت محاولة ثانية عام 2012، أي قبل بضع سنوات، لرفع فتوى التكفير عن سبينوزا، فقد اجتمع بعض عقلاء الطائفة اليهودية في مدينة أمستردام، وطلبوا رسمياً من السلطات الحاخامية الكهنوتية إزالة هذه الفتوى، قائلين: والله عيب! لقد مرّت حوالي الأربعمائة سنة على هذه القصة، أما آنَ الأوان لأن تُزال هذه اللعنة عن سبينوزا؟! فاجتمع الحاخامات الكبار في هولندا، وتشاوروا في الأمر على مدار سنة كاملة، فماذا كانت النتيجة؟ الرفض القاطع أيضاً. قالوا: لا، لا نستطيع إزالة هذه الفتوى عنه، ولا نستطيع أن نَعدّه يهودياً حقيقياً؛ لأنه كان مارقاً زنديقاً كافراً بثوابت العقيدة والدين، وأكبر دليل على ذلك أنه هو شخصياً لم يطلب من السلطات الدينية في عصره رفع الفتوى عنه، ولا ردّ الاعتبار له، ولم يهتم بالأمر على الإطلاق، ولم يقدّم التوبة عما فعل، ولم يطلب الصفح والغفران من الكنيس اليهودي، بل ربما كان يعدّ الفتوى التكفيرية هذه بمثابة وسام على صدره، ومفخرة كبيرة له، وبالتالي فلا نستطيع أن نفعل له شيئاً؛ لأننا إذا ما رفعنا الفتوى التكفيرية عنه، فهذا يعني أننا وافقناه على زندقته وكفره بعقائد الملة.

كيف نفسّر ملابسات كل هذه القضية التي شغلت اليهود على مدار القرون دون أي حلّ؟ كيف يمكن أن نفسّر في العمق موقف سبينوزا؟ يمكن أن نقول ما يلي: بما أن سبينوزا كان ينتمي إلى أقلّية محتقَرة ومضطهَدة على مدار التاريخ، فإن الحل الوحيد بالنسبة له كان الانصهار في المجتمع المسيحي كلياً، أي أغلبية الشعب.

نقول ذلك، وخصوصاً أن الأفكار التنويرية الجديدة كانت قد أخذت تنتشر بسرعة في هولندا آنذاك، وبالتالي فإن الانغلاق داخل جدران الطائفة ليس هو الحل، الحل الوحيد بالنسبة له هو الخروج كلياً من الانغلاقات الطائفية، الحل الوحيد هو اعتناق الفلسفة العقلانية الديكارتية، التي كانت واعدة بالمستقبل.

نحن نقول الآن: كانت تمشي ضمن اتجاه حركة التاريخ... بمعنى آخر فإن الحل الوحيد بالنسبة لسبينوزا كان يكمن في التخلّي كلياً عن التدين الطائفي السائد، نقول ذلك خصوصاً أنه هو الذي مزّق أوروبا ودمّرها بسبب الحروب الكاثوليكية - البروتستانتية التي لم تُبقِ ولم تَذَر.

كان سبينوزا يقول ما معناه: التدين الحقيقي هو أن نحب الله فكرياً وفلسفياً وعقلانياً، دون أي هيجانات طائفية، أو تعصب أعمى. ثم يُردِف: التدين الحقيقي هو اتّباع مكارم الأخلاق، أي ممارسة الفضيلة والنزاهة والصدق والعدل والإحسان، بقدر الإمكان طبعاً، ليست لدينا أوهام حول الموضوع، الناس ليسوا ملائكة، الإنسان ضعيف أمام الإغراءات والشهوات والانحرافات.

علاوةً على كل ذلك فإن سبب غضب حاخامات أمستردام على سبينوزا، هو أنه أنكر صحة بعض العقائد اليهودية الأساسية، وفي طليعتها: مقولة «شعب الله المختار»، فقد رفضها رفضاً قاطعاً، يقول بالحرف الواحد: «عندما ننظر إلى الشخص اليهودي بحدّ ذاته، فإننا لا نجد أنه يتمتع بميزات خارقة تضعه فوق بقية البشر، وبالتالي فلا يوجد أي فرق بين اليهود والأغيار، كلهم بشر، ومتساوون في البشرية والإنسانية».

بمعنى أنه يوجد في اليهود الأخيار والأشرار، الصالحون والفاسدون، تماماً كما لدى بقية البشر، وبالتالي فبأي حق نعتبرهم شعب الله المختار؟ هذه مقولة لاهوتية أصولية، وليست مقولة عقلانية منطقية. ثم يضيف سبينوزا هذه العبارة الخارقة التي جنّنت حاخامات هولندا: «لم يتفوق العبرانيون على بقية الشعوب، لا بالعلم، ولا بالنزاهة، ولا بالورع والتقوى»!

ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني ما يلي: لقد دشّن سبينوزا في عصره المثال الأعلى على المثقف الحديث اللاطائفي، أي المثقف الذي لا ينتمي إلى أي طائفة، ما عدا طائفة الفلسفة التنويرية وعشاق الحقيقة.

والآن دعونا نستجوب أحد كبار فلاسفة فرنسا المعاصرين بخصوص سبينوزا، عنيت آلان باديو، ما رأيه بهذا الفيلسوف المارق الزنديق؟ إنه مُعجَب به كل الإعجاب، إنه يقول حرفياً: لقد كان سبينوزا يهودياً متحرراً من كل القيود الدينية واللاهوتية والطائفية، لقد كان يهودياً حراً، ولذلك لا يمكن أن يفهمه المثقفون الطائفيون المنغلقون داخل جدران طائفتهم ومذهبهم، بينه وبينهم سنوات ضوئية، لقد كان سبينوزا يهودياً حراً، أو بالأحرى إنساناً حراً، نقطة على السطر.

ولكن بعض المثقفين الفرنسيين الحاليين، من أمثال جان كلود ميلنر، يعتبرونه عدواً لذاته، أي لليهود، فما رأيك؟

على هذا السؤال يجيب آلان باديو قائلاً: بهذا المعنى فأنا أيضاً عدو لذاتي، وعدو لفرنسا، على الرغم من أني فرنسي أباً عن جد منذ آلاف السنين، وذلك لأني أنتقد بشدة العنصرية الفرنسية تجاه المهاجرين والعمال المغتربين بشكل عام، هؤلاء الناس الذين يتّهمون سبينوزا ويلاحقونه بشراسة أشخاص ضيّقو العقول، إنهم لا يفهمون أنه توجد قيم كونية تتجاوز الطائفية والعنصرية كلياً.

هذه القيم الكونية التنويرية هي التي دشّنها سبينوزا في القرن السابع عشر، ثم مشى على خطاها كل فلاسفة الأنوار في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، من فولتير إلى كانط إلى هيغل... إلخ، ثم تجسّدت هذه القيم الكونية المضادة للطائفية والعنصرية في إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الذي أعلنته الثورة الفرنسية عام 1789.

وأخيراً يضيف الفيلسوف الكبير آلان باديو هذه العبارة: هؤلاء الناس الانغلاقيون المتعصبون يريدون أن يقضوا على فكرة اليهودي الحر المستنير، ولكن لحسن الحظ فإنه يوجد في عالمنا اليوم عدد كبير لا يُحصَى من اليهود الأحرار المستنيرين.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 14 يوليو 2024 م ـ 08 مُحرَّم 1446 هـ

ينشغل العالم اليوم بثورات وسائل الاتصال التي تغير العالم وطبيعة الإنسان، واستطراداً العلاقات الدولية. وفي كتابه الأخير عن عصر الثورات (بين السادس عشر والحادي والعشرين) يدرس أو يستعرض فريد زكريا، المفكر الأميركي من أصل هندي، المتغيرات الكبيرة التي أنتجت الحداثة التي ما عاد الإنسان سيداً فيها أو أنّ الوقائع ذاتها هي التي تحدد للإنسان ما يفكر فيه أو يقرر، حتى إذا ما أهمل أو تقاعس توالت الأحداث عليه وعلى غيره. وهو عندما يفعل لا يعرف بالتأكيد ما إذا كانت الآثار ناجمةً عن فعله هو بالذات.

يعتبر زكريا أنّ هولندا في القرن السابع عشر، والثورة الفرنسية في أواخر الثامن عشر، هما اللتان أنتجتا بشكلٍ مباشر وغير مباشر الأزمنة الحديثة. فهولندا الصغيرة اقترنت في تطورها المتسارع ثلاث ظواهر: الإدارة الداخلية غير البيروقراطية، وأفكار جديدة بشأن التجارة البحرية، وقرن التجارة بالقوة مما خلق تقاليد جديدة سرعان ما سارت فيها سائر القوى الأوروبية.

أما الثورة الفرنسية فشرعنت للعنف الداخلي المدمر الذي لا تعلّله الصراعات على السلطة السياسية وحدها، وبقيت آثاره حتى القرن العشرين. أما الثورة الثالثة ولا شك فهي الثورة الصناعية في إنجلترا والولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، وهي التي غيّرت الدواخل في العمل والإنتاج، وأطلقت موجة استعمار العالم التي غيّرت العلاقات الدولية تغييرات هائلة. لقد بدت تطورات وترتيبات القوانين والأعراف الدولية ناجمةً عن ضرورات تنظيم العلاقات بين دول الاستعمار لكي تقلّ الحروب، ثم اتخذت تلك التطورات طابعاً إنسانياً فيما بعد.

لقد كان يمكن الحديث عن الحربين العالميتين باعتبارهما ضمن مؤثرات الحداثة وتطوراتها. بيد أن فريد زكريا يرى أن تطورات القرن التاسع عشر لجهة الثورة الصناعية ولجهة استعمار العالم وصنع نظام العيش فيه، هي المتغير الأكبر في تلك الحقبة. لذا فإنّ الثورة الحقيقية هي ما يجري في العقود الأربعة الأخيرة حيث تنقض متغيرات وسائل الاتصال والعقول الإلكترونية وكل التقنيات التي تتوالى من دون انقطاع، كل الاستقرار الذي جرى اصطناعه في القرن العشرين: لجهة نظام العيش، ولجهة العلاقات الدولية، وصولاً إلى التغيير في طبيعة الإنسان أو اكتشاف أبعاد جديدة لتلك الطبيعة تبدو بمثابة نقضٍ لها. من أين تأتي التطورات السلبية الكبيرة في العلاقات الدولية، قبل الحديث عن الثورات في عوالم الطبيعة الإنسانية؟ في الأصل هو الصراع على الموارد والمجالات الاستراتيجية.

إنما الفرق أنّ المرجعية لمعالجة آثار هذا التنافس اختلّت بحيث ما عاد أحد من القوى الكبرى والوسطى وحتى الصغرى راضياً بالانخراط في آلياتها. فالأميركيون وأنصارهم يعتبرون النظام السائد مثالياً رغم كثرة خروجهم عليه، أما الطرف الآخر فيعتبر النظام ظالماً ثم صار فاسداً أيضاً!

ويبقى الطرف الثالث في دول الجنوب الذي يزداد اضطرابه تحت وقع التنافس بين الدول الكبرى والذي يتجلى في حروب مباشرة وأخرى بالواسطة. هل تتزامن أو تقترن التطورات؟ يساور المؤلّف زكريا قلق شديد في المجالين، مجال ثورات الاتصال، ومجال اضطراب العلاقات الدولية. إنه وغيره هم مفكرو «ما بعد عالم أميركا»! وهم يتصورونه عالماً شديد الاضطراب، وهو ينال أول ما ينال من الاستقرار النسبي لعالم الجنوب. وكل الأميركيين وبعض الأوروبيين مرعوبون تارةً لتراجع السطوة الأميركية، وطوراً لأن الآسيويين صاعدون من دون توقف بعد أن أتقنوا العلوم الغربية وراحوا يطالبون بنصيبٍ أكبر في صنع سياسات العالم ومصائره.

***

د. رضوان السيد

13 يوليو 2024 23:45

 

الموسيقى ليست فكرة، أو دعوة، أو رسالة، وإنما حيلة حسّية، عمقها في اعتباطية دلالتها، وهي ليست دلالة حتى نحكّمها إلى الفهم، من هنا يكون التأثير الفلسفي على الموسيقى ليس تأثيراً في جوهر المجال وإنما بالإيحاء إلى تماسّ المنتج للموسيقى مع المنجزات الفلسفية القائمة.

بقيت «الموسيقى الكلاسيكية» ضمن التهم الطبقية مع صعود الماركسية، وانتهتْ لأن تكون وجبة شعبية تعمل في المحالّ وأماكن الترفيه. حمّلت الموسيقى خطأ الأفكار، وباتت مشجباً لانهيار النظريات الكبرى في القرون الثلاثة المشار إليها في بدء المقال. كتب «إيفانجليوس موتسوبولوس» بحثاً عن «الميتافيزقيا والموسيقى»، وهو بحثٌ بدأ من فرضية كون الموسيقى دلالة، إذ رأى في ختام بحثه «أن الموسيقى كبقية النشاطات الفنية، تعبّر ولكن بقوة أشد عن التساؤل الميتافيزيقي، وذلك من خلال مضاعفته على طريقتها»، وهو يستمد دلاليّة الموسيقى من أسسٍ أفلاطونية تربط الموسيقى بالكون، غير أن الموسيقى براءة مستمرة، وفطريّتها لا تكدّرها دلاء النظريات المرهقة التي تستعمل الموسيقى دينياً ونضالياً أو دلالياً.

الموسيقى بقيت متمسّكة باستقلاليتها، وتأثّرها بالفضاءات الفلسفية، ليس تأثراً دلالياً وإنما هو التأثير الذي يمنح الموسيقى قدرتها على الممانعة ضد تدجينها، سواء ضمن «الاتهام الشيوعي» أو أي ادعاءات أخرى، ولا يمكن لمطرقة النضال أن تهشّم بيت الموسيقى العتيد.

لم تكن الفنون منعزلةً عن حلقات النقاش أو صرعات النظرية أو غليان التأويل، كانت حاضرةً ومحايثةً، بل سابقةً في كثير من الأحايين، وآية ذلك أن الموسيقى ارتبطت بالتحولات البشرية، فهي تتفاعل مع المحيط وتأخذ منه وتعطيه، ذلك أن الفنون إجمالاً، والموسيقى تحديداً، لا تلبث أن تخاتل النظرية. ولو تأملنا في سير الحضارات وشرر النظريات لوجدنا أن الموسيقى إما أن تسبق التحول، وإما أن تحايثه، وإما أن تتبعه، فهي منفعلة بالتحول وفاعلة له، والأمم التي تأسست تحولاتها ضمن فضاء الموسيقى استطاعت أن تفتتح مشروعاً أبدياً لتأميم الموسيقى وجعلها لغة سائدةً بين المجتمعات، من هنا يكون العالم عبثاً من دون موسيقى أو غلطة كما يكتب «نيتشه».

يشكو الراحل الكبير فؤاد زكريا من عدم وجود موسيقى عربية بينما غرقنا بـ«الأغنية» العربية، والأغنية لا ترتبط بالفضاء الموسيقي بالمعنى الرحب، بل تتحول الأصوات إلى جيشٍ من الخدم للكلمات، من هنا صارت حتى موسيقانا شعرية، طغت الأغنية على الموسيقى في الحال العربية، والموسيقيون العرب هم بمعنًى ما جزء من حال «الشعرنة»، إذ يرتبطون بالألحان والكلمات غير أن نماذج التكوين الموسيقي على الطراز الأوروبي أو الروسي لم يكن سائداً عربياً، ذلك أن الفضاء الموسيقي فضاء شعري وكلاميّ، من هنا يأتي النقص في القدرة الموسيقية العربية على مستوى التأليف الرحب، ليطغى التكوين الشعري أو تحويل صراعات الموسيقى لتكون خادمةً للأشعار ومن ثمّ تخلق الأغنية.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 9 يوليو 2024 00:27

كان الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو قد اعتبر، في كتابه «الكلمات والأشياء»، أن مفهوم الإنسان دخل إلى الفكر الغربي خلال القرن الثامن عشر في سياق فلسفات التنوير التي كرست لأول مرة المنظورَ الإنتربولوجي الحديث، قبل أن «يموت الإنسان» ويخرج كلياً من حقل الدراسات الإنسانية.

وفي كتابه الجديد الصادر بالفرنسية تحت عنوان «مجيء الإنسان في الإسلام واختفاؤه.. من أثينا إلى بغداد»، يذهب هواري التواتي إلى أطروحة مغايرة، معتبراً أن النزعة الإنسانية لم تكن اكتشافاً أوروبياً في نهاية القرن الثامن عشر، بل تعود إلى العصر اليوناني مع أفلاطون ومن بعده التقليد الفلسفي والكلامي الإسلامي.

وفي محاورة «ألسيياد»، يتحدث أفلاطون عن معرفة الإنسان لذاته شرطاً لممارسة السياسة وبلوغ العدالة، وهي مقاربة شغلت فلاسفة الإسلام ومفكريه في العصور الوسيطة، كما بين محمد أركون في كتابه الشهير حول «النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري». ما يوضحه التواتي هو أن «علم الإنسان» تحول في التقليد الإسلامي الوسيط إلى نمط من الممارسة المعرفية المستقلة، حتى ولو كان في الأصل امتداداً للعلم الإلهي. والأمر هنا يتعلق بتحول إنتروبولوجي نوعي، يتجسد في كون الإنسان لم يعد يحدد بالامتثال للمعايير الأخلاقية المطلقة التي يضعها الشرع، بل بكونه فرداً عاقلاً وقادراً بنفسه على التمييز بين الخير والشر، ومؤهَّلا بذاته لتعيين منزلته المتميزة عن نظام الطبيعة.

وقد ظهر هذا التوجهُ مبكراً لدى الفلاسفة من طينة الفارابي وابن سينا في تفكيرهم الأخلاقي المتمحور حول السعادة والفضيلة والتدبير العقلي للوجود في أبعاده الأخلاقية والمدنية. لكنه ظهر أيضاً في المباحث الكلامية، وبصفة خاصة لدى المعتزلة في قولهم بالتحسين العقلي وبنظرية الطبائع حيث يقول الجاحظ مثلاً إن «المعارف تحصل بطبع المحل عند النظر، وإن أفعال العباد كلها طبيعية لا كسب فيها». بيد أن التواتي يرى أن الإنسان اختفى في التقليد الأشعري الذي يرى أنه ألغى التعريف الطبيعي العقلاني للإنسان، معتبراً أن الإنسان ليس سوى البنية الخاصة للجسم، وبالتالي ليس له جوهر نفسي أو روحي، بما يبطل كل دلالة فعلية للإرادة البشرية الحرة والمستقلة.

ومن ثم لا معنى لأي علم طبيعي للإنسان، لكونه فاقداً لأي وحدة داخلية. لا شك في أن أطروحة التواتي مهمة وتستحق المتابعة، وقد وُفِّقت في رصد تشكل النزعة الإنسانية في التقليد الإسلامي الوسيط، في امتدادٍ للفكر اليوناني الذي انتقل مع أفلاطون من محورية الطبيعة إلى محورية الإنسان. وقد يكون فوكو نفسه انتبه إلى هذه الإشكالية في أعماله الأخيرة حول «الاهتمام بالذات»، والتي تركزت حول أخلاقيات الرغبة في العصر اليوناني الكلاسيكي.

إلا أن الاختلاف الحقيقي مع أطروحة التواتي يتعلق بقراءته للأشعرية التي اعتبر أنها في نزعتها الطبيعية الحسية ألغت المسألةَ الإنسانية التي برزت في الفكر الاعتزالي. ما نريد أن نبيّنه هو أن الخطوة الأشعرية الكبرى تتمثل في الانتقال من النظرة الكيفية المعيارية للطبيعة إلى التصور الرياضي الكمي الذي يلغي كل المضامين الجوهرانية الأنطولوجية في الكوسموس المادي.

وما تؤسس له هذه القطيعة هو النظرة الغرائزية النفسية للإنسان من حيث هو كائن تحركه نوازع وأهواء دافعة ليس العقل سوى أحد مكوناتها الفاعلة. ولا يختلف هذا التصور الأشعري في جوهره عن فلسفات العصر الأوروبي الحديث في فهمها الجديد للعقل الذاتي لا بصفته جوهراً وجودياً أو قوةً ناطقةً للنفس، بل من حيث هو إرادة مستقلة عن الطبيعة قادرة على السيطرة عليها والتحكم فيها.

لقد كُتب الكثير عن «الكسب الأشعري» الذي اعتُبر تكريساً للعقلية الجبرية ونفي الحرية الإنسانية، لكن الصحيح هو أنه بإلغائه أطروحةَ النظام الضروري للطبيعة وتأكيده المشيئة الإلهية المطلقة، حرَّر الفعلَ الإنساني مِن إكراهات الطبيعة التي قيدت الإرادتين الإلهية والبشرية معاً في المنظومة الاعتزالية.

ليس الغرض هنا حسم الجدل الكلامي القديم حول خلق الأفعال، من حيث كونه جدلاً لسنا طرفاً فيه ولا معنيين به الآن هنا، بل التنبيه إلى أحد الاختلالات السائدة في الفكر العربي المعاصر في نظرته الزائفة حول العقلانية الاعتزالية وما يزعم لها من مضامين ليبرالية إنسانية. خلاصة الأمر، أن النزعة الإنسانية تنتمي إلى تراث التنوير والتحديث الأوروبيين، لكن التقليد الكلامي الإسلامي لم يكن عائقاً دونها، وفي الأطروحة الأشعرية على الخصوص ما يمكن اعتباره من الإرهاصات الممهدة لها.

***

د. السيد ولد أباه

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 7 يوليو 2024 23:45

تبادل العراقيون، الشهر الماضي، صوراً لتمثال محطّم ملقى على الأرض، قيل إنَّه للفنان جواد سليم. وجواد هو رائد فن النحت في العراق الحديث. ترك لنا جدارية صارت رمزاً لبغداد. نصب الحريّة. أزيح الستار عنها في مثل هذه الأيام من يوليو (تموز) قبل 63 عاماً. وتموز الذي «يغلي فيه الماء في الكوز» هو شهر الثورات للعراقيين. شعب يغلي دمُه حين يُساء إلى رمز من رموزه الثقافية. وحين تمعن النوازعُ الطائفيةُ في التخريب فإنَّ الأمل يبقى معلقاً بأهداب الإبداع. لن يجمعنا سوى القصيدة والأغنية واللوحة والآثار الخالدة.

تروي الرسامة البريطانية لورنا هيلز، زوجة جواد سليم ووالدة ابنتيه مريم وزينب، أنها في تموز 1958 كانت تمضي إجازة هادئة مع طفلتيها في ويلز، صحبة والديها، بينما بقي زوجها في بغداد لارتباطه بأعمال مختلفة. وصباح الخامس عشر من ذلك الشهر نزل أبوها لشراء الصحف وعاد مسرعاً ليقول: «لقد قتلوا مَلِكَكم». أمضت الأسرة ما تبقى من العطلة في متابعة الأخبار الآتية من بغداد. إلى أن جاءت برقية من جواد يطمئنها إلى أنه بخير.

بعد عودتها تلقى جواد طلباً، عن طريق صديقه المعمار رفعة الجادرجي، لعمل منحوتة كبيرة عن الثورة التي قلبت نظام الحكم الملكيّ إلى جمهوريّ. كان عليه أن يُنجز تصميماً مُصغّراً للعمل، وأن يسافر إلى فلورنسا في إيطاليا لاستكمال المنحوتات وصبّها في قوالب من البرونز. أرادوها جاهزةً في العيد الأول للثورة. مهلة وجيزة ومهمة مستحيلة. خصصوا له ثلاثة آلاف دينار. والسفارة في روما تطالبه بقوائم الصرف وهو فنان لا يفقه في الحسابات. زاد عليه الضغط فانفلتت أعصابه.

كان يتوتّر ويمضي الليالي يذرع الشقة ذهاباً وإياباً، يتخيّل أن هناك من يراقبه ويتآمر عليه لمنعه من إنجاز النصب. بل إن هناك من يُدبّر لاغتياله. وقد اضطرت زوجته إلى نقله إلى المستشفى. قدموا له العلاج وتعافى بعد أسبوع. لكنها فوجئت بأنهم يرفضون إطلاق سراحه. يمنع القانون الإيطاليّ نزلاء المصحات النفسية من المغادرة قبل مرور ثلاثة أشهر على دخولهم.

في مثل ذلك المخاض ولدت المنحوتات الأربع عشرة المعلّقة على الجدارية الشهيرة في ساحة التحرير. وفي تموز 1961، جرى افتتاح النصب دون أن يكون صاحبه بين المحتفلين. أزمة قلبية أسكتت نبض جواد وهو بحدود الأربعين. وذهبت لورنا للوقوف، مرتعشة خاشعة، أمام نصب الحريّة. تتأمل الصرح البديع بعينيها وبعيني جواد.

ثم جاء يوم رهيب وقفت فيه دبابة أميركية تحت نصب الحرية. ويدور بين حين وآخر كلام عن محاولات لهدمه والعبث به. ماذا يقلقهم فيه؟ يقول شاعرنا بدر شاكر السيّاب:

ونحنُ في بغدادَ من طينِ... يَعْجنهُ الخزّافُ تمثالا... دنيا كأحلامِ المجانينِ... ونحنُ ألوانٌ على لُجّها المُرتجّ ... أشلاءً وأوصالا.

***

إنعام كجه جي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 01 مُحرَّم 1446 هـ - 7 يوليو 2024 م

 

يقول كأنما في دماغي جزآن أحدهما علم في خدمة المؤسسة والآخر ناقد لها

قُوبلت الأنباء التي تم تداولها عن نقل البروفيسور إفرام نعوم تشومسكي إلى المستشفى في ساوباولو (البرازيل)، بينما كان يتعافى من إصابته بجلطة دماغيّة شديدة أُصيب بها العام الماضي، بسيل من المقالات الصحافية العاجلة التي تحاول تقديم سيرة ذاتية لهذا المفكّر واللغوي والناشط السياسي اليهودي الأميركيّ.

لكن الحقيقة أن كثيراً مما كُتب في الصحف والمواقع الإلكترونية قصر عن رسم صورة وافية لهذه الشخصيّة، ليس فقط بسبب تعدّد فضاءات انشغاله بين النشاط السياسيّ، والبحث الأكاديمي، والكتابة في السياسة والحروب والإعلام، ولكن أيضاً لصعوبة تفسير مواقفه أحياناً في واحد من هذه الفضاءات بالمقارنة مع التوقّعات منه في الفضاء الآخر، ولأن كثيرين - من منطلقات متباينة – منَحوه مكانةً خاصةً رفيعة أكبر من حياة البشر في مجالات علميّة، وفكرية، وسياسيّة عدّة، حتى ليظن المرء أنّه يقرأ عن عدّة شخصيات تحمل اسماً واحداً؛ حيث هو الأكاديمي النجم الذي قضى سحابة عمره في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أقرب الجامعات الأميركية إلى البنتاغون (وزارة الدّفاع الأميركية)، ولكنه في ذات الآن أبرز المثقفين الأميركيين الناقدين للإمبريالية، ولخطاب السلطة، وللحرب، والرأسمالية النيوليبرالية، وهو أمر أقرّ به تشومسكي نفسه فقال: «كأنّ في دماغي جزأين؛ أحدهما علم محض في خدمة المؤسسة، والآخر نشاط سياسي ناقد له»، معترفاً بأن لا تواصُل ممكناً بين تشومسكي العالِم وتشومسكي الناشط السياسي.

ولعل مَردّ هذا الانفصام بين عديد الشخصيات العميقة والثرية لتشومسكي متأتٍّ من تجارب حياة مديدة متعدّدة المراحل بدأت من بنسلفانيا، حيث وُلد في 1928 لعائلة مهاجرة من اليهود الأشكناز (والده أوكرانيّ، ووالدته بيلاروسيّة بمقاييس اليوم).

كان والده باحثاً وأكاديمياً في العلوم العبرانية، يعمل لساعات طويلة بأجر قليل، بينما تُدرّس والدته للصغار في كنيس يهودي، لكن تأثير عمّه الناشط اليساري عليه كان أعمق فيما يبدو؛ إذ كثيراً ما تردّد على مجلسه عندما يجتمع عنده ناشطو اليسار اليهود من الطبقة العاملة لمناقشة الأمور المُلحّة في ذلك الوقت، فكان يستمع ويتأثر، ويتشكّل وعيه السياسيّ الأوّلي، فكانت إحدى اللحظات المبكرة التي علِقت بذاكرته من تلك الفترة مشهد رجال الأمن وهم ينهالون ضرباً على النساء المُضرِبات عن العمل خارج مصنع للنسيج خلال فترة الكساد الكبير، فانتهى إلى تبنّي وجهات نظر اليسار الفوضوي.

كان تشومسكي الصغير محظوظاً لأنه أُرسل لتلقّي علومه الأساسيّة بمدرسة رائدة تأسّست على مبادئ المصلح التربوي والفيلسوف البراغماتي الأميركي جون ديوي، وسعت لجعل التعليم تجريبياً، والمعرفة اكتشافاً بدلاً من التلقين، فأبدع وتفتّحت مداركه، فقُبل وهو لمّا يزال في السادسة عشرة من عمره بجامعة بنسلفانيا المرموقة لدراسة الفلسفة والمنطق واللغات.

كان تشومسكي وقتها قريباً من الأفكار الصهيونية الطوباوية التي انتشرت بين اليساريين اليهود، وكاد يترك دراسته الجامعية للتطوع في كيبوتس يهوديّ في الأراضي الفلسطينية، لكنّه لم يحب أجواء الحماسة القوميّة هناك، ودفعه إعجابه حينئذ باللغوي وعالم الرياضيات زيليج هاريس إلى الانصراف بكليّته إلى اللسانيات، ليحصّل فيها درجات البكالوريوس والماجستير، ويحوز بعدها على الدكتوراه بأطروحة أصبحت أساس أول كتبه المنشورة «الهياكل النحويّة - 1957».

من هذا الكتاب تحديداً بدأت، وفق أنصار تشومسكي في فضاء اللغويات، ثورة معرفية؛ إذ قبله كانت اللغة والكلام مفهومَين على نطاق واسع على أنهما سلوك بشري مكتسَب، حيث كانت المدرسة السلوكيّة التي أطلقها الروسي الحائز على جائزة نوبل، إيفان بافلوف، سائدة خلال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وجعل منها البروفيسور بورهوس فريدريك سكينر، الكاهن الأكبر لمختبرات جامعة هارفارد، النموذجَ القياسي المهيمن في علم النفس بالولايات المتحدة.

وعَدّت السلوكية أن أدمغة البشر تبدأ صفحةً بيضاء ثم تتطوّر وفق المعطيات البيئية، ولذلك فإن تعليم اللغة للأطفال يتم بخطوات صغيرة متدرّجة، وبتطبيق مبدأ الثواب والعقاب، فإن هم أصابوا يجب الثناء عليهم، وإن وقعوا في الخطأ ينبغي تصحيحهم.

مضى تشومسكي في كتابه إلى تحدّي هذا التصور، مشيراً إلى السرعة المثيرة للدهشة التي يتعلّم بها الصغار الكلام بمجرد الاستماع إلى البالغين والأطفال الآخرين وتقليدهم، وعَدّ محاولة سكينر غزوَ مجال اللغة تطبيقاً اختزالياً سخيفاً للافتراضات السلوكية، وأن دراساته في هذا المجال ذات أهمية ضئيلة، أو حتى معدومة، عندما يتعلّق الأمر باللغة والقدرات العقلية العليا للبشر، وبشكل حاسم جادل تشومسكي، دون الاستناد إلى أبحاث مختبرية، إلى أننا كما لو كنا «مصمَّمين خصيصاً بطريقة أو بأخرى» لاكتساب اللغة.

كانت المدرسة السلوكيّة قد بدأت بالترنّح بعدما فشلت في تقديم حلول عمليّة لإسناد الملاءة النفسيّة لعمليات الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية، لكن تشومسكي كان كمن دفع بها إلى حافة القبر.

في تلك المرحلة بدأ البنتاغون في تجميع جهود خبراء المعلوماتية والكمبيوتر وعلماء النفس وخبراء اللسانيات ومُصنّعي الأسلحة من أجل بناء منصة لـ«دمج المشغّلين البشريين في تصاميم أدوات القتال»، كان حلم وزارة الدفاع الأميركية وقتها صنع «آلة لغوية» تكون بمثابة واجهة تعامُل بين القادة العسكريين متخِذي القرار وأنظمة أسلحتهم، بحيث يُصدر هؤلاء القادة أوامرهم بإنجليزيتهم اليومية، فتنطلق الصواريخ والقذائف بناءً على ذلك.

لقد حان وقت تشومسكي الذي تم تقديم أفكاره على أنها موضوعية، وضمنياً مناسِبة للأغراض العسكريّة المأمولة، ولذلك استُقطب، رغم توجهاته الفوضوية الظاهرة، إلى منصب أكاديمي مرموق في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وحصل لأبحاثه على دعم سخي ومُعلَن من المجمع الصناعي العسكري رغم الأجواء المكارثيّة التي كانت سائدة حينها، التي كانت تُشيع مناخاً من الشكوك بكل اليساريين.

لم يَبنِ تشومسكي ما يمكن القول إنّه كان ذا فائدة في تصميم أجهزة القيادة والتحكم الصاروخيّة مثلاً، ولم يَبنِ جهاز كمبيوتر أو نظام ذكاء اصطناعيّ، وحتى نموذجه في التعامل مع الدّماغ البشري ككمبيوتر رقمي مبرمَج مسبقاً تجاوَزه سريعاً علم الأعصاب، لكنه قدّم تصوّراً مناسباً للغة في فترة تطور العسكريتاريا العلميّة في الولايات المتحدة خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حين كان من المناسب فصل اللسانيات عن السياسة والمجتمع، وتكريس مشهد فصل العلم عن النظرية السياسية.

هذا الفصل النظري العميق سمح للمؤسسة العسكرية الأميركية بتقبّل تشومسكي السياسي في قلب الأكاديميا المعسكرة، وفي ذات الآن سمح لتشومسكي الموظف في معهد تطوير الأسلحة بأن يتحوّل إلى الناقد، الأهم عالمياً ربما، للإمبريالية الأميركية.

كانت حرب فيتنام نقطة مفصلية في حياته كناشط سياسي، فأصدر كتابه الشهير عن مسؤولية المثقف، ووقف بصرامة ضد الحرب، وشارك في الاحتجاجات ضدّها، مع أنّه لم يترك العمل في ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأصبح لاحقاً أستاذ شرف مدى الحياة هناك، كما عُيّن أستاذاً في فلسفة العدالة الاجتماعية بجامعة أريزونا.

وقد كتب بعدها أكثر من مائة كتاب في مسائل السياسة، اشترك في العديد منها مع مثقفين يساريين من مختلف أرجاء العالم، أربعة منها عن مسألة فلسطين، وإن كان فيها لا يرى في الدولة العبرية قبل حرب 1967 أمراً ينبغي الشك بأحقيّة وجوده.

أما كتابه الأخير فقد وضعه بالمشاركة مع ناثان روبنسون بعنوان «أسطورة المثالية الأميركية... كيف تُعرّض السياسة الخارجية الأمريكية العالم للخطر».

لتشومسكي اليوم تراث في فضاءات كثيرة يمكن في كل منها انتقاده ونقضه وتجاوزه، لكن الرجل تحوّل بمجموع شخصياته إلى ظاهرة أكبر من الحياة بالفعل، فهو كما شامان لجيل من اللغويين الذين تربوا على نظرياته وكسبوا عيشهم من وراء تعليمها لغيرهم، ويراه اليساريون «أسداً لليسار» يزأر في قلب الإمبراطورية الأميركية، وانتخبه قُراء «بروسبيكت» (المجلّة اليمينية البريطانية) في 2005 المثقف الأوّل في العالم.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 29 يونيو 2024 م ـ 23 ذو الحِجّة 1445

 

يسيطر بعض الجهات في المشرق وإفريقيا، وبين شبابها خاصةً مزاجٌ خلاصيٌّ يتمثل في مغادرة ثقافة الدولة والاستقرار والتنمية وسلامة الإنسان والعمران، والاتجاه إلى النزعات القتالية التي تتخذ شكل تنظيماتٍ مسلَّحة تحمل شعاراتٍ قتالية، وما عادت تقتصر على الصراع على فلسطين بل تنتشر في بلدان الشرق الأوسط وغرب أفريقيا وشرقها.

ويذهب المراقبون والمحللون إلى أنّ العلّة في ذلك عدم وجود ثقافة الدولة أو تأثيرات حقبة الاستعمار أو الصراع الاستراتيجي بين الدول الكبرى والوسطى. لقد كان يمكن التفكير بصحة هذه التعللات لولا أنّ هذه البلدان جميعاً مرت بحقبة استقرارٍ تزيد على نصف القرن. وفي تلك الحقبة كانت تحدث انقلاباتٌ عسكريةٌ تغيّر الحكومات والأنظمة، لكنها لا تهزّ الاستقرار ولا تثير الانقسامات الرأسية التي تشهدها أخيراً بعضُ البلدان.     والملاحظ أنه حتى التدخلات الدولية تَحدث بعد أن تكون الاضطرابات قد بدأت وتصاعدت، وسعت سائر الأطراف المسلَّحة إلى الاستنصار بالخارج. لذا لا يمكن الذهاب باستمرار إلى أنّ الدول الكبرى هي التي صنعت الاضطراب والاقتتال واستثمرت فيه.

أما التعليل بالحقبة الاستعمارية فيحول دون الاقتناع به أن بلدان الاضطراب، وبعد جلاء الاستعمار، استقرت كما ذكرنا وحقق بعضُها إنجازاتٍ تنمويةً.. فمِن أين أتت ثقافة الميليشيات المدمِّرة؟ تذهب الإنثروبولوجيا الاستعمارية إلى أنّ مجتمعاتنا انقسامية بطبيعتها، وهذا يسهّل حدوث الانقسامات والانشطارات عندما تضعف السلطة المركزية أو تخطئ في التعامل مع إحدى الفئات العشائرية التي تثور إذا أتيح لها ذلك، بحجة سوء المعاملة، أو تطلب الاستقلال.     ومن المؤكد أنّ اعتبار الانقسامات هي من طبيعة المجتمعات أمرٌ غير صحيح. إنما الذي لا يمكن إنكاره أن الحركات الخلاصية تستثير هذه الفئة أو تلك. والخلاصيات هذه كانت قوميةَ الأيديولوجيا ثم صارت تحمل شعاراتٍ إسلامويةً.

وفي الحالتين ينشب النزاع العنيف، وتتدخل الجهات الخارجية القريبة والبعيدة. وبالحرب الداخلية لا يحقق فريقٌ ما يطمح إليه، لكنّ هذا التنظيم أو ذاك يصبح أبدياً، ويعمد الخصوم المنافسون إلى إنشاء تنظيماتهم الخاصة فيبدو هذا الاحتراف الميليشياوي كأنما هو حركة ثوران ديني تستثير الجمهور لأهدافٍ مقدسة أو ما شابه ذلك!

لماذا هذه القابلية للاختراق من جانب الخلاصيات المزورة؟ هذا هو الأمر الذي ينبغي التفكير فيه أو نعود إلى مقولات «الطبيعة العنيفة للإسلام»!

لا بد من الخروج من المزاج الخلاصي الوهمي المتمثل في نشوب الاقتتال الداخلي أو نشوب الاقتتال مع الغرب (الاستعماري!). وبعد كل مذبحة يتبين أن التغيير لم يحصل، وأن الدماء سُفكت، وأن الدول التي تنطلق منها أو إليها الهجمات قد تضاءل استقرارها وانقسم شعبها، وشاع فيها القتل والتدمير.

هل هي ظاهرةٌ خاصةٌ بالإسلام أم بمجتمعات معينة في أفريقيا والشرق الأوسط؟ لقد كانت ظواهر متفرقة، لكنها في العقدين الأخيرين صارت سلسلة تمتد ولا تتوقف، وإذا بدأت إحدى حلقات السلسلة فإنه يتعذر انتهاؤها.

وكما سبق القول، عندما تحدث إحدى الحلقات، تسارع الميليشيات وتسارع الدول الكبرى والإقليمية إلى التواصل فيما بينها لإطالة أمد الاقتتال وتعريض الأوطان والناس والهياكل التي بُنيت على مدى عقود لأخطار الانقسام والدمار.

إنّ هذه المعالم أو الأوصاف تُظهر الميليشيات الخلاصية كأنما وُلدت لتبقى وكأنها جزء من عيش المجتمعات والدول، والأمر ليس كذلك.. ولا حلَّ إلا بالدولة الوطنية القوية التي تحقق الاستقرار والتنمية وصنع المستقبل الواعد لشعوبها وجوارها.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 29 يونيو 2024 23:45

 

نوم العقل يوقظ الوحوش هو عنوان لوحة للفنان الإسباني فرانشيسكو دي غويا (1746 1828) وقد شرحها الدكتور علي بن تميم بقوله في تغريدة له مصحوبة بصورة للوحة حيث كتب (في هذه اللوحة يصور رجلاً نائماً وقد أسند رأسه ويديه إلى طاولة بينما نحّى قلمه جانباً. وخلف الرجل تظهر مجموعة من البوم والخفافيش الضخمة، وهي تصفق بأجنحتها وتصيح. كما يظهر وحشان غريبا الهيئة أحدهما رابض على الأرض وقد صوّب نظراته الشرّيرة إلى الرجل، بينما قفز الآخر على ظهره وعيناه تلمعان في الظلمة، وعلى مقدّم الطاولة التي ينام عليها الرجل كُتبت عبارة: (إذا نام العقل استيقظت الوحوش).

والذي يلفت نظري هو عنوان اللوحة (نوم العقل يوقظ الوحوش)، وهي عبارة تفسر حالة البشر على مر تاريخهم، حيث يظهر التوحش مع التحضر في آن واحد، وتتبدى الوقائع وكأنها تقول: كلما تحضر البشر زادوا وحشيةً، ولنأخذ القرن العشرين الذي هو تتويج لكل منجزات البشرية في العلم وفي الاقتصاد والتكنولوجيا والنظرية السياسية، وفي الوقت ذاته هو قرن الحروب الكبرى في تاريخ البشرية، ووقعت هذه كلها حسنها وسيئها في قلب أوروبا الأكثر تحضراً من بين دول العالم حينذاك، ومعها أميركا التي لم تتورع عن إسقاط قنبلتها الذرية على هيروشيما، وهذه القنبلة تفسر كيف اجتمع التحضر مع التوحش، فالقنبلة تلك كانت تتويجاً لأخطر منتجات الفيزياء، والفيزياء هي علم يشمخ بين كل العلوم بصفتها الأكثر حداثةً والأكثر تفوقاً، وكذلك هي الأعمق معنى في صيغة المنجز البشري لدرجة أن الفيزياء أزاحت كثيراً من الأسئلة الفلسفية المحيرة، وقدمت لها إجابات دقيقة وعملية، مما جعل هوكينج يحكم بموت الفلسفة وحلول الفيزياء محلها في التعامل مع الأسئلة المحيرة، وكما أن الفيزياء فائقةُ العلمية فهي كذلك فائقة الوحشية، ولها قدرة هائلة على تنويم العقل لكي ترتع الوحوش حسب عنوان لوحة فرانشيسكو دي غويا، وبمثل ما قتلت الفيزياء الفلسفةَ حسب دعوى هوكينج فقد قتلت العقل بمعنى التعقل رغم أنها منتوجٌ لعقل الإنسان القوي والمتجبر في آن واحد، وكأن العقل ليس للتعقل وإنما فقط لابتكار أخطر الوسائل للتدمير وتحقيق معنى التوحش الذي تفوق به الإنسان على كل الوحوش، ليجمع بين العقل والتوحش وبين التحضر والوحشية، وفي هذه الحال لم يحتج الشر لنوم العقل وإنما احتاج ليقظة العقل وتطوره وتوظيف كل حيله ومهاراته لكي يصنع قنبلةً إذا سقطت على بشر أو حجر أحرقته وأنهته بمراد وتخطيط واع ٍ وعاقل وبصير، وبقرارٍ من رجل انتخبته بلده ليقود أهم ديمقراطية بشرية. وهذا الديمقراطي المتحضر والعاقل والسياسي البارز هو من أمر بإسقاط تلك القنبلة في وقت كان هو في أشد حالات يقظته ووعيه وبشريته، لكنه فاق بفعله كل وحوش الكون وفعل ما لم يفعله أي توحش سابق ولا لاحق (حتى الآن)، وستظل إمكانات العقل البشري أكبر من تصور العقل ذاته، ومهما افترضنا أن العقل أشرف من العاطفة، وأن العاطفة متهورةٌ والعقل متبصرٌ، فإن الذي نكتشفه هو أن العقل أخطر من العاطفة في الحالين، حال البصيرة والتبصر وحال الوحشية والتوحش.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن الاتحاد الاماراتية، يوم: 29 يونيو 2024

لعلنا لا نبالغ إذا وصفنا الحراك النسوي بأنه من أبرز المنتجات الثقافية للحداثة. فالثورة الصناعية، التي أدخلت الآلة مكان الجهد البشري، الذي غالباً ما يقوم به رجل؛ لعبت دوراً في طرح التساؤل على المجتمع الأبوي الذي يُعطي سلطة للرجل على المرأة. وعليه، ظهرت الحركات التي تدعو إلى مساواة المرأة بالرجل بوجه عام، وتغيير الصورة النمطية للدور الجندري، ومن أجل إعادة ترتيب الدور الاجتماعي على أساس المفاضلة الفردية، وليس على أساس الجنس/الجندر.

على مدى التاريخ ظهرت أربع حركات نسوية عالمية، تميّزت اللاحقة على السابقة برفع سقف المطالب بخصوص فكرة المساواة. لن نخوض في تاريخ هذه الحركات، لأنه ليس موضوعنا، ولكن يهمنا هنا التركيز على فكرة المساواة مقابل العدالة. فالتقدم التقني أغرى دعاة النسوية بإلغاء الفوارق الجندرية، ومحاولة تحديها باستشهادات من قبيل: ثمة نساء أقوى جسدياً من بعض الرجال، وثمة رجال أكثر عاطفية من بعض النساء.

غير أن أخطر ما يُتداول من أفكار تُوصف بالنسوية تلك التي تطالب بالامتيازات التقليدية التي يعطيها المجتمع الأبوي للمرأة، مع إضافة الاستحقاقات الجديدة التي منحتها إياها القوانين الحديثة التي راعت مطالب الحراك النسوي. إن المرأة القوية المستقلة -حسب النظرة النسوية- ما زالت تتمسّك بكونها الطرف الأضعف الذي تجب مراعاته في حال النزاع مع الرجل؛ وهنا يكمن التطرف في الطرح.

في السنوات القليلة الماضية، ظهر خطاب ينادي بعودة ترسيخ الأبوية في المجتمعات، وتقوم بالدفاع عن موقفها بشكل حثيث. وتأتي فكرة «الحبة الحمراء» بوصفها مصطلحاً مجازياً لحبة يتناولها الشخص؛ ليتمكن من رؤية الحقيقة المرة كما هي، مقابل «الحبة الزرقاء» التي تُبقي الإنسان في الوهم، وهذه الفكرة ترتبط بشكل واضح بأفكار سيغموند فرويد، الذي يقسّم المبادئ إلى مبدأ الواقع ومبدأ المتعة التي غالباً ما تكون وهماً. وقد سبق استخدام هذه الفكرة المجازية في أفلام «هوليوود»، ابتداءً من فيلم «The Matrix» عام 1999.

في عالمنا العربي، ظهر كثير من الحسابات على مختلف منصات التواصل الاجتماعي تحمل معرفاتها اسم الـ«Red pill» يجمعها قاسم مشترك هو الدعوة إلى توعية الرجال حول قدراتهم الحقيقية، ومكانتهم التي تحاول النسويات سلبها منهم. وعلى منصة «X» فُتح كثير من النقاشات التي تردّ على المحاججات النسوية الرامية إلى المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة. ولعل أبرز نقاط القوة في حِجاج جماعة «الحبة الحمراء» يتلخّص في فردانية السلوك. فليس مطلوباً من رجال العالم أن يتحدوا ضد النساء، وليس مطلوباً منهم المطالبة بتغيير القوانين، ولا شيء يمتّ إلى رفع راية المظلومية؛ كل ما هو مطلوب من الرجل أن يعي طبيعة المرأة ونظرتها إلى الرجال وتصنيفها لهم، ثم يحمي نفسه منها من خلال «عقلية الوفرة».

وفي حِجاجهم، يرى ذكور «الحبة الحمراء» أنهم لا يعتنون بأنفسهم لكسب الإناث بصفتهن هدفاً، بل هم يعتنون بأنفسهم؛ لأن الرجولة استحقاق جندري يجب على الذكر المحافظة عليه عن طريق تنمية القدرات الطبيعية التي يمتلكها، وهذا ما سيجعله رجل «ألفا» في موضع القوة الذي يعطيه جاذبية عليا. ومصطلح الـ«ألفا» يقابله الـ«بيتا» الذي يأتي في مرتبة أقل منه بكثير. تأتي هذه المصطلحات من خوارزمية يستخدمها لاعبو الشطرنج، التي يرمز فيها الـ«ألفا» إلى الحركة التي تضمن الأفضل للاعب، والتي تضعه في موضع قوة، بينما الـ«بيتا» حركة تضع اللاعب تحت رحمة خصمه، فقد تعطي الخصم فرصة للقيام بـ«كش» ملك عبر خطوة أو خطوتين.

وبالاستعارة من الحقل الدلالي للعبة الشطرنج، رُسمت صفات الـ«ألفا» والـ«بيتا». فالرجل الـ«ألفا» يمتاز بالثقة في النفس والجرأة في الإقدام؛ لأنه يحسب خطواته بصفتها عاملاً مستقلاً في المعادلة. في المقابل، الرجل الـ«بيتا» تابع لغيره -المرأة- لأنه قد قبل أن يقوم بخطوات تضعه تحت رحمة غيره الذي يستطيع التخلص منه متى ما وجد خياراً أفضل منه.

يرى البعض في طرح جماعة «الحبة الحمراء» تطرفاً ضد المرأة، وتحريضاً للرجال عليها، ويرون هم في أنفسهم أنهم يضعون أنفسهم في الموضع الذي يستحقونه. ويرى خصومهم أنهم مجرد ذكور يريدون تطبيق قانون الغاب، في حين يرون هم أنفسهم أنهم يحافظون على وضعهم الطبيعي من دون أن يجبروا أحداً على تبنيه. وفي الوقت الذي يتفهمون كره دعاة النسوية لهم، فهم يُضاعفون القسوة على الرجال الذين يساندون النسويات؛ إذ يرون فيهم مجرد ذكور «بيتا» قبلوا بالخضوع لسلطة المرأة.

خلاصة القول: إن ظهور جماعة «الحبة الحمراء» اليوم أمر طبيعي جداً، بعد تكاثر الحسابات التي تصف نفسها بالنسوية والنسوية الغاضبة، إذ طغى عليها الخطاب المعادي للرجال. وكما هو معروف، فإن استعداء الآخر بخطاب ممنهج ضد النوع/الذكور لن يأتي بخصم يتبنى خطاباً محايداً يضع الذكور والإناث في سلة واحدة. وبين النسوية و«الحبة الحمراء» على الإنسان أن يهتم بمميزاته التي وُلد بها ويعزّزها بكل وسائل القوة المتاحة. وفي حال وُفق إلى الارتباط، على الشخص الاستمتاع بحياته بعيداً عن الصراعات. ولا ننسى أن السلام والبعد عن الصراع يجب أن يكون من الطرفين وليس من طرف واحد؛ تلك هي السعادة المنشودة.

***

د. عبد الله فيصل آل ربح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأربعاء - 27 ذو الحِجّة 1445 هـ - 3 يوليو 2024 م

معظم المبدعين الكبار كانوا يعانون معاناة نفسية هائلة

تقول لنا النظرية الحديثة في علم النفس والتحليل النفسي: العُصاب الجنوني هو الذي يصنع الكتاب الكبار والإبداع العبقري هو الذي يشفيه. العبقرية بهذا المعنى تعني الانتصار على الجنون الداخلي، أو ترويضه، أو تحجيمه. كان دوستيوفسكي قد قال لأخيه في رسالة مبكرة: عندي مشروع كبير؛ أن أصبح مجنوناً (أي عبقرياً). وبالفعل لو لم يستطع تأليف رواياته الهائلة كـ«الجريمة والعقاب» و«الإخوة كرامازوف» لكان قد جُنَّ نهائياً. وقل الأمر ذاته عن سلفادور دالي الذي أنقذته لوحاته الخارقة من الجنون. وقِسْ على ذلك... هذه هي المعادلة الجدلية، أو المعادلة الديالكتيكية، التي تربط بين العبقرية والجنون. معظم العباقرة الذين نسمع بأسمائهم ونُبجّلهم ونعظّمهم كانوا يعانون معاناة سيكولوجية هائلة تصل أحياناً إلى حافة الجنون. ولكن بضربة عبقرية خارقة كتأليف قصيدة، أو رواية، أو كتاب فلسفي نادر، استطاعوا التغلب عليها. بهذا المعنى كل عبقري مجنون بشكل من الأشكال ولكن ليس كل مجنون عبقرياً. فجنون المجانين لا يؤدي إلا إلى الهذيان الكامل ولا ينتج عنه أي شيء. إنه لا يؤدي إلى تأليف روائع أدبية كبرى كتلك التي أتحفنا بها شكسبير أو المتنبي أو جان جاك روسو الذي أوصلوه إلى حافة الجنون في أواخر حياته من كثرة الملاحقات والاضطهاد. كنت قد كرست فصلاً كاملاً لمعالجة هذه الإشكالية الكبرى في كتابي الأخير الصادر عن «دار المدى» بعنوان: «العباقرة وتنوير الشعوب».

والآن ماذا عن جيرار دو نيرفال الذي جُنَّ وانتحر في نهاية المطاف بعد أن أتحفنا بروائع أدبية خالدة؟ لم يستطع حتى الإبداع الخارق أن يحميه من السقوط في حمأة الجنون وجحيمه البهيم. وبالتالي فهو استثناء على القاعدة. ولكنه ليس الوحيد. هناك نيتشه أيضاً وهولدرلين وبعض الآخرين. نيرفال، هذا الرجل المسكين الطيب الذي احتقره عصره في القرن التاسع عشر بسبب متاعبه النفسية وفقره، راح القرن العشرون يرفعه إلى مصافِّ الكبار، بل كبار الكبار من أمثال بودلير، وفلوبير، وبلزاك، وفيكتور هيغو، وسواهم من المشاهير. بل إن بودلير ذاته كان مجهولاً في عصره إلى حد كبير ولم تنفجر شهرته كالقنبلة الموقوتة إلا بعد موته. وقد استشعر ذلك هو شخصياً عندما قال هذه العبارة الرائعة: شهرة ما بعد الموت تعنيني! ولكن على الأقل شهرة بودلير لم تتأخر نصف قرن أو قرناً كما حصل لجيرار دو نيرفال. هل نعلم مثلاً أن غوستاف لانسون، أستاذ طه حسين في السوربون وأشهر ناقد أدبي فرنسي في مطلع القرن العشرين، لم يذكره إلا في هامش صغير في أسفل الصفحة؟ كان مارسيل بروست أحد الأوائل -والقلائل- الذين عرفوا أهمية جيرار دو نيرفال. كان أول من أدرك قيمته داخل الأدب الفرنسي وربما العالمي. وكان أول من أطلق عليه لقب: عبقري! كان ذلك في بدايات القرن العشرين. ولكن لم يستمع أحد لصوت مارسيل بروست صاحب الرواية الخالدة: بحثاً عن الزمن الضائع. لم يكن قد آن الأوان لكي يعرف الناس من هو جيرار دو نيرفال...

والحقيقة هي أن الفضل في اكتشافه وإعطائه المكانة التي يستحقها على قمة الأدب الفرنسي تعود إلى السرياليين. ولو لم يكن لهم إلا هذه الميزة لكفاهم ذلك فخراً. صحيح أن الشاعر أبولينير قال عنه عام 1911 هذه العبارة اللافتة: «إنسان رائع. لو تعرفت عليه لأحببته كأخ، كشقيق»... ولكنّ أندريه بريتون، زعيم السرياليين، هو الذي خطا الخطوة الحاسمة في اتجاه الاعتراف بأهمية جيرار دو نيرفال. يقول عنه عام 1924 في المانيفست الشهير للحركة السريالية:

«كان بإمكاننا أن نستعمل مصطلح ما فوق الطبيعية بدلاً من مصطلح ما فوق الواقعية: أي السريالية في اللغة الفرنسية. والمعنى واحد في نهاية المطاف. لقد سبقنا جيرار دو نيرفال إلى اختراع السريالية الواردة في كتابه: بنات النار.

ينبغي أن نعترف بذلك. إنه الرائد الأول بالنسبة لنا. فالواقع أن نيرفال كان يمتلك الروح التي تهمنا والتي ننسب أنفسنا إليها: عنيت الروح الهذيانية السريالية، أو روح ما فوق الواقع، ما فوق الطبيعة والطبيعية. هناك عالم آخر فوق هذا العالم التافه البليد الذي نعيشه: إنه العالم السريالي الرائع. إنه أجمل وأبهى بألف مرة من جحيم الواقع الأرضي». بهذا المعنى...

يقول الناقد ريمون جان إن موقف السرياليين من جيرار دو نيرفال كان معقداً. فهو يتراوح بين الإعجاب العقائدي به، والانبهار بالتجربة المعيشة للجنون. السرياليون كانوا مهووسين بالجنون، كانوا يحبونه، يقدسونه. كانوا يعدّونه مرادفاً للإبداع العبقري. لا إبداع بلا جنون خارق. نقول ذلك ونحن نعلم أن جيرار دو نيرفال قد عرف هذه التجربة الجنونية واكتوى بحرِّ نارها. والدليل على ذلك أنه دخل المصحَّ العقلي أكثر من مرة. وبين كل إقامتين في مستشفى المجانين كان يُنتج رائعة أدبية، عبقرية. وربما لم يكن انتحاره وهو في الثامنة والأربعين إلا تتويجاً لتجربة الجنون. فقد وصل به التأزم النفسي إلى درجة لا تُحتمل ولا تُطاق فقرر أن يضع حداً لحياته. وشنق نفسه على عمود كهرباء في ساحة الشاتليه وسط العاصمة الفرنسية. مهما يكن من أمر فإن السرياليين أعطوا نقطة الانطلاق للاعتراف بجيرار دو نيرفال بوصفه كاتباً كبيراً. وقد وصل الأمر ببول إيلوار إلى حد الانبهار بعبارته التي تقول: «الطقس رائع إلى درجة أننا لا نستطيع أن نلتقي أو يقبِّل بعضنا بعضاً في البيوت. لنخرج فوراً»!

ينبغي في هذا الصدد أن نطَّلع على ما كتبه عنه الناقد الكبير شارل مورون في كتابه المرجعي الأساسي: «من المجازات الهلوسية إلى الأسطورة الشخصية- مدخل إلى النقد التحليلي النفسي». فهذا الناقد المهمَل عندنا لأننا لا نعرف غير رولان بارت الذي بلور نظرية كاملة متكاملة عن الإبداع الأدبي العبقري. وإذا كنت قد فهمته جيداً فإنه يريد أن يقول ما يلي: كل شاعر كبير يكون مهووساً حتماً ببعض العُقد النفسية. وينعكس هوسه هذا على كتاباته الإبداعية بطبيعة الحال. ويتجلى هذا الهوس في نوعية المجازات الإبداعية الرائعة التي يبتكرها والتي تتكرر بأشكال مختلفة على مدار أعماله. وبالتالي فلكي نفهم هذا الشاعر، لكي ننْفذ إلى عالمه الحقيقي، ينبغي أن نستخلص هذه المجازات اللغوية الإبداعية الخارقة من كل مؤلفاته من أولها إلى آخرها. ينبغي أن نفرزها فرزاً وأن ندرسها عن كثب لكي نتوصل إلى معرفة الأسطورة الشخصية التي تكمن وراءها، أي لكي نتعرف على شخصيته الحقيقية العميقة. فبودلير مثلاً كان مهووساً بأشياء محددة، وقد انعكس هذا الهوس على موضوعاته الشِّعرية ومجازاته اللغوية وصياغاته التعبيرية التي تسحرنا حتى اللحظة. وشكَّل هذا الهوس عالماً بأسره هو عالم شارل بودلير. وهو يختلف عن عوالم كل الشعراء الآخرين. ورامبو أيضاً كان مهووساً بأشياء أخرى، وقِسْ على ذلك... الشاعر الكبير هو وحده القادر على اختراع مجازات وعلاقات لغوية خارقة لم يعرفها تاريخ الشِّعر من قبل. من هنا جاذبيته التي لا تقاوم.

لكنَّ هوس نيرفال كان من النوع الثقيل جداً من الناحية النفسية وكان يضغط عليه أحياناً إلى حد الشلل. وقد سخر بعض الأصدقاء منه ومن جنونه بشكل ودود ومحب فتأثر كثيراً وقال ما معناه: يصعب عليَّ أن تروني مجنوناً. لم أعد أستطيع تقديم نفسي إلى أي مجلس. لم أعد أستطيع أن أتزوج أو أن أجد امرأة تقبل بي. بل لم أعد أستطيع أن أُقنع الآخرين بأن يُصغوا إليَّ بشكل جدي عندما أتحدث. مَن يستمع إلى مجنون؟ لقد فقدت هيبتي واحترامي في أعين الناس. وربما تخليت عن هذه المهنة التعيسة: مهنة الكتابة. لم يعد لي أمل بأي شيء. لقد انتهيت أنا، انتهيت...».

هذا القلق المرعب الذي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً هو الذي زعزع شخصيته وأفقده هيبته وأدى به إلى الانتحار في نهاية المطاف. ولكن قبل أن ينتحر كتب هذه القصيدة:

شاهدة على قبر

لقد عاش أحياناً فرحاً مرحاً كزرزور

أحياناً عاشقاً خليَّ البال حنوناً

وأحياناً مكفهراً حالماً كطائر حزين

حتى سمع في يوم من الأيام دقاً على الباب

×××

إنه الموت! لقد جاء ملاك الموت. فترجاه أن ينتظر قليلاً

حتى يكون قد وضع اللمسة النهائية على قصيدته الأخيرة

ثم من دون أي تأثر أو انفعال راح يتمدد

في أعماق الصندوق البارد حيث يرتجف جسده

×××

لقد كان كسولاً حسبما تقول الرواية

كان يترك الحبر ينشف كثيراً في المحبرة

كان يريد أن يعرف كل شيء

ولكنه جاء وراح ولم يعرف شيئاً

×××

وعندما حانت اللحظة حيث متعباً من هذه الحياة

قُبضت روحه في أمسية شتائية

رحل وهو يقول: لماذا جئت إلى هذا العالم؟ الشاعر الكبير هو وحده القادر على اختراع مجازات وعلاقات لغوية خارقة لم يعرفها تاريخ الشِّعر من قبل.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 1 يوليو 2024 م ـ 25 ذو الحِجّة 1445 هـ

تتمةً للمقالة الماضية، فقد عمل إيمانويل كانط -يضيف سمير بلكفيف-على: «تحليل فكرتي المكان والزمان باعتبارهما أساس القبْلي والتركيبي، ومثل هذا التحليل يسميه كانط «الاستطيقا الترنسندنتالية»، لذلك نجد كانط يبدأ بتحليله لفكرتي المكان والزمان حيث يتجاوز التصور اللايبنتزي (مجرد علاقات) والتصور النيوتني (المطلق)، حتى يضمن لهما الذات الإنسانية، ولكي يتسنى لنا تسويغ مشروعية قيام الرياضيات وبالتحديد تفسير الحكم التركيبي القبلي، وهذا هو مسوغ تقديمنا لنظرية كانط في المكان والزمان قبل نظريته في الرياضيات، فتحليلنا لنظرية كانط في المكان والزمان يعكس مدى صلتهما بنظريته في الرياضيات.

وبالتالي فالعيان القبْلي (المكان والزمان) -كما يشرح بلكفيف بكتابه القيّم-:«هو الذي يؤسس مشروعية قيام العلم الرياضي الحساسية الترنسندنتالية: إن المعرفة عند كانط مشروطة بعاملين أساسيين هما: الحدس «Anchauung» والفهم «Verstand»، أي الحس والفكر، فالحس دون مفاهيم فوضى، والمفاهيم دون حدوس جوفاء، والخطوة الأولى هي تمييز المفاهيم عن الحدوس بغرض التحليل والوقوف عند الحساسية في جانبها الترنسندنتالي، أي في جانبها «القبْلي» وقد عزلت عن كل مقولات (kategorie) الفهم وأحكامه وتصوراته، فنصبح بذلك إزاء معطيات حسية (sense data) غير خاضعة لأطر ومفاهيم قبلية، أما الخطوة الثانية فتتمثل في عزل تلك الحساسية عن الإحساس، فلا يبقى لنا سوى الحدس المحض، الذي هو مجرد صورة للظاهرات، والعلم الذي يبحث في مبادئ الحساسية القبْلية يسميه كانط «الاستطيقا الترنسندنتالية»، وهو الذي يسمح لنا بالوقوف عند الحدوس الخالصة، أو الصور الخالصة للحدس، فالمكان (ort) والزمان (zeit) هما صورتا الحساسية الخالصة والإحساس هو مادتهما العامة، ومعرفتنا لهما هي دائماً قبلية (priorita) أولية متقدمة عن كل تجربة، في حين أن الإحساس عنصر نستمد منه معرفتنا البعدية (spatersein)».

بينما «هسرل» ذهب أبعد من ذلك عبر طرحه علم الظاهريات، وبدوره استطاع أن يفتح أسئلة حول علاقات الفلسفة بالعلم والسيكولوجيا والخبرة السابقة للإنسان، فكيف يمكن نحت سؤال فلسفي من دون تنحية الخبرات الذاتية حول الموضوع؟! سؤال جعل كتبه الأساسية تدور في فلكه، وخصوصاً كتابيه: «أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص والفلسفة الظاهراتية» وكتابه الآخر: «مباحث منطقية» إذ خصص الجزء الأول بكامله تقريباً للبحث في هذه المعضلات.

الخلاصة، أن كانط نقل مسار الفلسفة، ووضع لها منعطفاً لم تتجاوزه حتى الآن، ويتعلق بنحت أسئلة في طريقها وجعل مهمتها أكثر جدية، ووضعها في سجالٍ مع العلم من دون أن تذوب فيه، وإنما السجال بين العلم والفلسفة يجب أن يظل قائماً ليس على مستوى تماهي الإجابات، ولا تشابه الأسئلة، وإنما لغرض تمتين عرى الفلسفة وجعلها تأخذ مكانتها الطبيعية بين المجالات المعرفية، وسيأتي من بعد مارتن هيدغر الذي يعتبر الفلسفة تتفوق على العلم لأن: «العلم لا يفكر».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

24 يونيو 2024 23:45

قدّم كارل ماركس، في أهم أعماله المنشورة «رأس المال – 1867» أفضل نموذج نظري نمتلكه اليوم لفهم ديناميكية عمل النظام الرأسمالي منطلقاً في توصيفه من موقف فلسفي مادي يرى في الصراع الطبقي محركاً للتاريخ. وفسّر التقلبات الاقتصادية بالجدليّة بين قوى الإنتاج وعلائق الإنتاج مستنداً في ذلك إلى مجموعة متقدّمة – بمقاييس عصره - من الإحصاءات والدراسات والوثائق، التي قضى ورفيقه الجليل فريدريك إنجلز سنوات طوالاً في تتبعها، ودراستها، واستخلاص الاستنتاجات منها. وعلى الرّغم من أن نظريات الاقتصاد الماركسيّ أصبحت جزءاً من الصراع بين الشرق والغرب بعد قيام الاتحاد السوفياتي في 1917، وأن النخب الغربيّة بذلت جهوداً مكثفة للتعمية عليها وتجاوزها لمصلحة نظريات أحدث، فإن الأزمات البنيوية المتلاحقة التي وكأنّها لازمة للنظام الرأسماليّ لا بدّ منها في كل جيل، فرضت دائماً تساؤلاً صار موسمياً على عناوين الصحف وأغلفة المجلات المؤثرة: هل كان كارل ماركس على حق؟

إن الواقع العمليّ يظهر أن (علم) الاقتصاد التقليدي – بما في ذلك الاقتصاد الماركسيّ – لا يزال بشكل عام متخلفاً عن التقدّم الهائل الذي حققه البشر في مجالات معرفية مختلفة، وعاجزاً عن توظيف الإمكانات اللانهائيّة لتكنولوجيا المعلومات الحديثة، وما زالت افتراضاته الأساسية سهلة الدّحض، وقدرته على التنبؤ محدودة للغاية، ما يجعله أقرب لعلم زائف، رغم كل المعادلات والصيغ الرياضيّة التي يرطن بها دهاقنته.

البروفيسور جوين دوين فارمير، الذي يدير برنامج الاقتصادات المعقدة في معهد الفكر الاقتصادي الجديد بجامعة أكسفورد (المملكة المتحدة)، يعتقد أنه قد حان الوقت لنقل الاقتصاد إلى مساحة العلم الحقيقي عبر تجاوز الأساليب الاقتصادية التقليديّة، والانتقال إلى ما يسميه في كتابه الجديد «فهم الفوضى: علم اقتصاد أفضل من أجل عالم أفضل – 2024» باقتصاديات التعقيد التي تنظر إلى النظام الرأسمالي الكليّ كما الأنظمة الشبيهة بالنظم الأيكولوجيّة الطبيعيّة التي تتحكم بمناخ كوكب الأرض، ومن ثم تأمل بالاستفادة من المحاكاة الحاسوبيّة العملاقة وأحدث أدوات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بمسار الاقتصاد العالميّ ورصد كيفيّة تفاعل مليارات الأشخاص داخله، تماماً كما نبدع اليوم في التنبؤ الفعال بالطقس، ومتابعة التغيرات اللّحظية التي تطرأ عليه.

يرى فارمير أن إحدى مثالب علم الاقتصاد التقليديّ تكمن في ذلك التنوع المتناحر أحياناً في الآراء تجاه القضايا الأساسيّة في الاقتصاد، الأمر الذي يعني أن مجتمعاتنا ما زالت تتخذ القرارات الفاصلة بناء على المشاعر والمعتقدات الغريزية بدلا من موضوعيّة العلم، وهو يزعم أن اقتصاديات التعقيد توفر إمكانية لعلم اقتصاد أكثر موضوعية، حيث لا تولد الإجابات من خلال الافتراضات السابقة، بل من معطيات الواقع. ويفترض الاقتصاد القياسي أيضاً أن الأنظمة الاقتصاديّة تستقرّ وتصل على المدى الطويل إلى التوازن، لكن ذلك ليس – وفق فارمير دائماً - سوى تعميم مخل لا يعمل إلا في حالات بسيطة ومعزولة، إذ إنّه من الجليّ أن العقلانية ليست مرجعيّة حاكمة للسلوك البشري، ومن دونها، فإن الإطار الرياضي الذي يحكم النموذج الاقتصادي الحالي سينهار بكليته.

يستند فارمير في طروحاته إلى التقدّم النظريّ الهائل الذي تحقق في العقود الأخيرة ضمن فضاء نظريّة الفوضى ونمذجة الأنظمة المعقدة – أي تلك التي تتقاطع فيها العديد من الظواهر ما يخلق كلاً يختلف نوعياً عن مجموع أجزائه متفرقة - مثل الدماغ البشري، والمناخ، والنظام الرأسمالي. وبالطبع، فإن عمليّة النمذجة ليست مثالية، بمعنى أن معطياتها تعتمد أساساً على العوامل التي ستؤخذ بعين الاعتبار، وكمية ودقة البيانات المتوفرة عنها، والفترة الزمنية التي تغطيها تلك البيانات. ومع أن معظم هذه الأدوات النظريّة متوفرة منذ ستينات القرن الماضي، إلا أن البروفيسور فارمير يقول إن قوة الحوسبة في وقتنا الرّاهن أقوى بمليار مرّة مما كانت عليه في القرن العشرين، وهو ما يمنح العلماء قدرات متفوقة على التنبؤ بسلوكيات الأنظمة المعقدة عموماً والاستمرار في تحسين دقة تلك التنبؤات مع مرور الوقت.

ويعطي المؤلف في «فهم الفوضى» أمثلة واقعية من خبرته الشخصيّة المديدة عن إمكانات اقتصادات التعقيد تبدأ من عام 1975 عندما ترك كليّة الدراسات العليا وتفرّغ للتنبؤ بلعبة الروليت في دور المقامرة في لاس فيغاس، وهو أمر لم يكن متوقعاً. لكنّه نجح في بناء نموذج يتنبأ بالنتائج واستخدم أرباحه لتأسيس تعاونية مع رفاقه نجحت في بناء أول جهاز كمبيوتر يمكن ارتداؤه، كان يخفيه تحت معطفه، وينقل الحسابات إلى شريكة له كان ترتدي جهاز استشعار مخفياً لتراهن على الأرقام الفائزة. ولاحقاً – عام 1991 – أسس مستغلاً قدرته على بناء نماذج التنبؤ شركة للتداول الإلكتروني بالأوراق المالية يفوق أداؤها معدلات السوق في 19 عاماً من أصل عشرين، قبل أن يبيعها لإحدى الشركات الكبرى مقابل مائة مليون دولار في 2006.

وفي 2010، نشر مقالة له في مجلة مرموقة تنبأ فيها بأن الطاقة الشمسية ستكون أرخص من الكهرباء التي تعمل بالفحم بحلول عام 2020 مخالفاً بذلك عدداً من الاقتصاديين. وبالفعل انخفضت التكلفة وفق توقعاته، وأصبحت الطاقة الشمسية الآن أرخص من الكهرباء التي تعمل بالفحم، وتتجه تكلفتها إلى مزيد من الانخفاض.

وفي أجواء «كوفيد - 19» توقع فارمير وزملاؤه أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد البريطاني للربع الثاني من عام 2020 بنسبة 21.5 في المائة بسبب سياسات الإغلاق التي تبنتها الحكومة في ذلك الحين، في حين تنبأ بنك إنجلترا (المركزي) بانكماش للفترة نفسها بنسبة 30 في المائة. ولكن رقم فارمير وزملائه كان أقرب بشكل لافت للرقم الفعلي الذي انتهى إلى 22.1 في المائة.

ويقود البروفيسور فارمير مختبراً لسياسات المناخ، يحلل ويقيّم أساليب ومنهجيات اقتصاديّة للتعامل مع تغيرات المناخ، بما في ذلك أنجع السبل لضمان الانتقال السلس نحو اقتصاد صديق للبيئة في إطار عالمي يأخذ بعين الاعتبار الفروقات البنيوية في اقتصادات مختلف الدول.

فإذا كانت هذه القدرات متوفرة فعلاً، فما الذي يمنع الدّول من توظيفها بشكل مباشر في تفكيك أسس الاقتصاد العالمي وفهم سبل بناء تنمية مستدامة والبحث عن حلول للفقر، وانعدام المساواة، والطبقيّة السافرة؟!

يلمّح البروفيسور فارمير إلى مسألة تتعلق بنظرة الطبقات المهيمنة على الاقتصاد العالمي، التي في أغلب الأحوال لا تجد مصلحة لها في فهم جمعيّ أفضل لطريقة عمل النظام الرأسمالي، ومن ثم استخلاص سياسات قد تنهي انعدام المساواة مثلاً – سواء بين الدول – أو حتى على صعيد الطبقات في المجتمع نزولاً عند مصالح مجموعة من الأفراد المفرطي الثراء، لكنه يتوارى وراء نص ينقله عن الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور الذي يذهب فيه إلى القول إن التناقض الأساسي للنظام (الرأسمالي) مستمر لأنه لا يوجد عدد كاف من المنتفعين الذين يقبلون بالتضحية بمصالحهم على المدى القصير لمصلحة غد أفضل للجميع. على أن البروفيسور فارمير يجرؤ على الإشارة إلى أن مصلحة الحضارة الإنسانية وصيانة مستقبلها على هذا الكوكب تحتّمان أن تنتقل البشرية من التخبط في اتخاذ القرارات الاقتصادية إلى استخدام اقتصاديات التعقيد، التي دون شك تتطلب إلى جانب التزام النخبة بتنفيذ معطياتها توفير الاستثمارات الهائلة اللازمة والكوادر لمدّ النمذجة بأكبر كميّة ممكنة من البيانات من المصادر المختلفة، وهو أمر أصبح في الثورة التكنولوجية أقرب إلى الواقع منه إلى الخيال.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: 19 يونيو 2024 م ـ 13 ذو الحِجّة 1445 هـ

السؤال في عنوان المقال قد يكون صادمًا للقارئ، لكن الواقع الآن يتحدّث عن مغادرة باتت واضحة للدراسات الإسلامية من المنطقة العربية، إما إلى جنوب شرق آسيا، خاصة إندونيسيا وماليزيا، أو إلى أوروبا والولايات المتحدة، والآن على استحياء في بعض الدول الأفريقية.

فالجمود ومطاردة من يفكّرون ويجددون بجرأة، ومحاصرة الدراسات الإسلامية في بعض الدول العربية، يقابلها صعود متزايد للدراسات الإسلامية خارج المنطقة العربية.

إندونيسيا

هناك فلسفة وراء صعود الدراسات الإسلامية في إندونيسيا. في كتاب العالم الإندونيسي فضل الرحمن مالك الصادر عام 1982م بعنوان "الإسلام والحداثة"، يقول: "إنّ الديناميكيات بين العلوم الاجتماعية، كعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وما إلى ذلك والمجتمع الإسلامي ليست مدروسة بشكل جيد في إطار التعليم الإسلامي في جميع أنحاء العالم، ونادرًا ما يتم التطرق إلى الأفكار والفلسفات المعاصرة".

هذا، في رؤية الإندونيسيين، جعل المؤسسات الإسلامية التقليدية في العالم العربي (كالأزهر الشريف في مصر) غير قادرة على الاستجابة بفاعلية للتحديات المعاصرة. في بلد به 1300 مجموعة عرقية وأكثر من 225 مليون مسلم، لا بدّ من البحث عن قضايا تجعل السِلم المجتمعي أولوية، بل دراسات تؤكّد التنوع مع الوحدة، فضلًا عن المعاصرة. بناءً على ذلك، أعلنت إندونيسيا عن تأسيس ما أسمته "الجامعة الإسلامية الدولية الإندونيسية".

ورغم وجود عدد من الجامعات المتخصصة في الدراسات الإسلامية بإندونيسيا، فإن تأسيس هذه الجامعة جاء ليعبّر عن عدد من المعطيات، من بينها أن إندونيسيا صار لديها كوادر علمية تتلمذت في الأزهر والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وغيرهما، وحان الوقت ليكون لإندونيسيا دور يوازي وزنها السكاني في العالم الإسلامي (13% من المسلمين)، فضلًا عن سعيها لتكريس نموذج للدراسات الإسلامية مختلف عن نموذج المنطقة العربية.

لهذا السبب، رأينا إندونيسيا تؤسس في هذه الجامعة مركزًا لدراسة الثقافة الإندونيسية الإسلامية، وآخر للدراسات الإستراتيجية الإسلامية، مستعينة في ذلك بتجربتَين من خارج المنطقة العربية، هما: مركز لايدن لدراسة الإسلام والمجتمع، ومركز أكسفورد للدراسات الإسلامية. وتسعى إندونيسيا حاليًا لجذب مئات الطلاب لدراسة العلوم الإسلامية بها.

ماليزيا

جذبت الدوريات الإسلامية العلمية الصادرة في إندونيسيا، وماليزيا باللغات المحلية، والعربية، والإنجليزية عددًا كبيرًا من العلماء العرب للنشر فيها، بسبب إصرار لجان الترقيات في الجامعات العربية على التصنيف الدولي للدوريات. وهو ما نجحت فيه جامعات هاتين الدولتين، فيما فشلت الجامعات العربية الإسلامية في بناء تصنيف يحترم ويقدر دورياتها.

في ماليزيا كذلك، هناك رؤية وراء الاهتمام بالدراسات الإسلامية وضعها الفيلسوف الماليزي السيد محمد نقيب العطاس (مواليد 1931م)، حيث صاغ مفهوم "غرس وتلقين الأدب في الإنسان عبر تأديب العقل والروح"، وهو ما جنّب ماليزيا ظهور متطرفين بها. في ماليزيا، توجد 23 جامعة على الأقل، بها تخصصات الدراسات الإسلامية، أبرزها الجامعة الإسلامية العالمية.

تدرك ماليزيا أن دورها في تحديث الدراسات الإسلامية يقودها إلى مكانة بارزة في العالم الإسلامي، لذا فهي تعتمد على سياسة المنح الدراسية للطلبة المسلمين، في سياسة النفس الطويل بعيد المدى في التأثير، وهو ما جعلها نموذجًا كدولة إسلامية ناجحة يمكن الاقتداء بها.

أوروبا

المشاكل المتتالية التي مرّت بمسلمي أوروبا، جعلت الدول الأوروبية تفكّر مليًا في هؤلاء إلى حد التفكير العنصري. لكن في نهاية الأمر ومع الجيل الثالث من مسلمي أوروبا، ومع المسلمين من أصول أوروبية، صار الإسلام حاضرًا في أوروبا. هذا ما اقتضى أن تكون معظم جامعات أوروبا معنيّة بالدراسات العربية الإسلامية، وبدراسة الإسلام كدين.

على عكس ما كان في القرون من الرابع عشر إلى القرن العشرين، صارت الدراسات الإسلامية في الجامعات الأوروبية يقودها مسلمون، في حين أنه في السابق كان يقودها مستشرقون أوروبيون. الآن، تولد في أوروبا دراسات إسلامية معاصرة بدأت تلفت الانتباه بقوة. فبدءًا من دراسة المجتمعات الإسلامية إلى الشريعة والفقه إلى غير ذلك، لدينا مئات الدراسات. وقراءة لمجلة "تعارفوا" التي تصدرها الهيئة الأوروبية للمراكز الإسلامية كاشفة. كما أن هناك 59 جامعة أوروبية معنية بصورة مباشرة بالدراسات الإسلامية.

صار بناء علماء مسلمين أوروبيين هدفًا أوروبيًا بعد أن عانت أوروبا من تصدير مشكلات العالم الإسلامي لها. لهذا السبب، رأينا ذلك في المعهد الأوروبي للعلوم الإسلامية في بروكسل الذي تأسّس عام 2010م، وكذلك كلية الدراسات الإسلامية في ألمانيا.

تجربة عبد الحكيم مراد

إن أقصى ما كان يجول في الخيال أن تأتي رؤية لتجديد الفقه الإسلامي من جامعة أكسفورد، حتى إن مركز "نهوض" في الكويت رأيناه يترجم "مرجع أكسفورد في الفقه الإسلامي وأصوله وتاريخه"، وهو في مجلدَين ليقرأَه العرب، ويقبل عليه علماء عرب مسلمون، ويصبح مرجعًا في دراسات الفقه الإسلامي في المنطقة العربية.

وفي السياق أيضًا، يطل علينا من جامعة كامبردج أحد العلماء المسلمين المجددين، بل ممن يطرحون رؤى تلفت الانتباه، وهو العالم الإنجليزي المسلم عبد الحكيم مراد (تيموثي وينتر) الذي شكل مدرسة علمية مجددة وراشدة في التعاطي حتى مع الحديث النبوي الشريف، عكس ما يطرحه التنويريون العرب من تعطيل للسنة النبوية. لقد صار تلامذته بدراساتهم معلمًا للإسلام في أوروبا. درس عبد الحكيم مراد في جامعات كامبردج، ولندن، والأزهر، ولديه عناية خاصة بالسنة النبوية، ومنصة رقمية لتعليم الإسلام، عليها إقبال من كل أنحاء العالم، يقدم فيها السيرة النبوية، والإمام الغزالي، وقصص القرآن.

وأخيرًا، ففي الولايات المتحدة، بات صعود الدراسات الإسلامية في حاجة لرصد وتحليل عميق في ظلّ تزايد المسلمين بها، بل تمركزهم في ولايات مثل نيويورك، وتكساس.

تشير المؤشرات إلى أن الإسلام ستكون له لغة أخرى إلى جانب العربية، وهي اللغة الإنجليزية. فهل نرى قريبًا اجتهادات إسلامية بالإنجليزيّة؟

***

د. خالد عزب - أكاديمي وخبير في مجال التراث

عن  موقع الجزيرة، يوم: 21/6/2024

 

ليست إشكالية السياسة والحقيقة بالإشكالية الجديدة في الفكر الفلسفي، بل نجدها حاضرةً بقوة في كتابات أفلاطون، أهم فلاسفة العصور القديمة.

بيد أن السنوات الأخيرة شهدت عودةً لهذه المسألة المعقدة في إطار الجدل الذي خلّفته الثورة الاتصالية الراهنة، بتأثيراتها البارزة على نمط انتقال المعلومة في المجال العمومي، من خلال شبكات المواقع الاجتماعية وطبيعة الخطاب السياسي الموجه للقاعدة الشعبية العريضة.

ومن الأعمال التي صدرت مؤخراً في الموضوع كتاب الفيلسوفة الإيطالية غلوريا أوريغي، «الفلسفة مسألة سياسية»، وفيه تتساءل: هل تشكل الحقيقةُ موضوعاً سياسياً على غرار مفاهيم محورية أخرى مثل العدالة والمساواة والحرية؟

ومعلوم أن الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة أرندت قد عالجت هذا الإشكال في مقالة بعنوان «الحقيقة والسياسة» (1967)، خلصت فيها إلى أن الحقيقة مقولة خارج الحقل السياسي، وإن كانت شرطاً في بناء عالم مشترك صلب ومتماسك.

عندما تتحول الحقائق الطبيعية والعقلية إلى رهان سياسي، تفقد الديمقراطية بصفتها مساراً حوارياً احتمالياً دلالاتَها، ولقد شكلت اليقينياتُ القطعية على الدوام أداةً مِن أدوات الاستبداد السياسي.ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن فكرة الحقيقة الموضوعية المستمدة من المعاينة التجريبية، والتي هي الخلفية الإبستمولوجية للعلوم الوضعية الراهنة، قد تزامنت مع الممارسة الديمقراطية الحرة بمقوماتها المرجعية المؤسسة على التداولية التعددية، أي غياب حقيقة مطلقة مهيمنة مسبقة.

ومع فلسفات الشك المعاصرة، وبصفة خاصة نقدية نيتشه، تعرّضت فكرة الحقيقة لنقد جذري، إلى حد القول بأن الحقائق كلّها تقويمات وتأويلات وليست مواقف وصفية للوقائع. إلا أن ما يجري حالياً هو أبعد من هذه الاعتبارات الفلسفية المجردة، بل يتعلق بالخروج من أفق الحقيقة نفسه، وذلك بالحديث عن «ما بعد الحقيقة» أو «الحقائق البديلة» بلغة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. لكن ما معنى الديمقراطية إذا انهارت فكرة الحقيقة وانتهت القسمة الوجودية بين الوقائع الوصفية والتأويلات النظرية؟

ألا ينفتح المجال رحباً أمام الصور الخطابية التي تستخدم الأهواءَ والمشاعر النفسية أداةً للإقناع والإجماع على غرار شخصية السوفسطائي التي حاربَها سقراط في المحاورات الافلاطونية؟

في عالمنا العربي، اتسم الخطاب السياسي لدى قطاع واسع من الفاعلين في المجال العمومي، مِن قادة رأي وصناع قرار، بالخطابية الأيديولوجية التي لا تقيم شأناً للحقائق الموضوعية ولا المعرفة التقنية الدقيقة.

وكان ميشال عفلق، مؤسس التيار البعثي وتلميذ الفيلسوف الفرنسي برجسون، يدافع عن «الحقيقة الوجدانية» في مقابل الحقيقة الوضعية، ويرى أن مشروع التغيير منوط بتوجيه الوعي عبر أساليب التعبئة الشعورية.

وسلك دعاة الأيديولوجيا القومية ثم الإسلام السياسي في عمومهم هذا المسلك، الذي أفضى إلى تحويل السياسة إلى فن للتعبئة والتحفيز، بدلاً من استخدامها في معاييرها القانونية والفنية الحديثة التي تكرس نمطاً من مرجعية الحقيقة.

ومن المعروف أن هوبز وسبينوزا اللذَين أدركا دورَ الأهواء والنوازع في العمل السياسي الجماعي، وبصفة خاصة ما يتعلق بمتطلبات الخضوع والإذعان للسلطة (الخوف والرغبة على الأخص)، أخرجَا السياسةَ مِن منطق التحكم الفردي إلى منطق التسيير التقني لمؤسسات الدولة والتدبير القانوني للميدان العمومي. وهكذا ندرك دورَ الخبير المتنامي في الفعل السياسي، من حيث كونه يتأسس على نمط من الحقيقة التقنية الوضعية التي تُقيِّد إلى حد بعيد ديناميكيةَ التداول والنقاش الجماعي التي هي أرضية الممارسة الديمقراطية في دلالتها الواسعة.

إلا أن ما يفرق بين الأنظمة الكليانية التسلطية والأنظمة الليبرالية المفتوحة هو أن الحكومات الاستبدادية تحكم باسم الحقائق اليقينية الملزِمة المفروضة على وعي الناس، كما هو شأن الأيديولوجيا الماركسية التي تدّعي الاستنادَ إلى علم موضوعي بقوانين التاريخ البشري. أما في الأنظمة الليبرالية، فتظل الحقيقة أفقاً احتمالياً مفتوحاً، بما يضمن التخلص من الوثوقيات الهشة والأوهام الشائعة.

في أعماله الأخيرة حول حفريات الذات، يبين ميشال فوكو أن الديمقراطية قامت تاريخياً على أساس ثلاثة مفاهيم ترجع للقاموس اليوناني: الإيزنوميا (أي المساواة أمام القانون)، والأيزوغريا (أي المساواة في حق الكلام العمومي مهما كانت طبيعة الاختلاف الطبقي بين الأفراد)، والباريزيا (أي شجاعة قول الحقيقة مهما كلف هذا الخيار ومهما كانت تبعاته الاجتماعية).

ومن دون الباريزيا، تتحول الديمقراطية إلى إجماع نخبوي تسيطر عليه النوازع والأهواء والمعتقدات الوثوقية، في نمط من إجماع التواطؤ الذي هو النقيض الفعلي للتوافق الحر في مجتمع ليبرالي مفتوح. وخلاصة الأمر أن التحدي النوعي المطروح على المجتمعات الديمقراطية الحالية هو الحفاظ على معيار الحقيقة البرهانية في مواجهة الفردية النرجسية المغلقة على نفسها والأهواء المتقاسَمة التي تتخذ شكل إجماع وهمي زائف.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 23 يونيو 2024 23:45

 

من أهم ما يميز الفلسفة أنها مجال مفتوح، يتجدد مجالها، وتتصاعد وظيفتها مع تغير الأحوال والظروف، ومن يطالع أي تاريخٍ لها وإنْ كان مختصراً على النحو الذي فعله هيغل في محاضراته وفي فاتحتها يعتبر أن: «ما يمثله تاريخ الفلسفة هو توالي النفوس الشريفة، معرض أبطال العقل الذي يتفكر، الأبطال الذين تغلغلوا، بفضل هذا العقل، في جوهر الأشياء، في الطبيعة والروح، وأقاموا لأجلنا الكنز الأعظم، كنز المعرفة العقلانية، إن الحوادث والأفعال في التاريخ هذا تكون على إثر نوعٍ يجعل مادته وقيمته متمايزتين عن الشخصية والطابع الفردي، في حين أن الفرد في التاريخ السياسي، حسب خصوصية طبيعته وعبقريته وأهوائه وقوة مزاجه أو ضعفه، وبوجهٍ عام حسب ما هو مبرر لكونه هذا الفرد المتعين هو فاعل بحيث لا يمكننا عزوها إلى الفرد الخاص، وبحيث لا يمكن إسناد استحقاقها إليه، وأنها تتوقف أكثر على الفكر الحر، على السمعة العامة للإنسان من حيث هو إنسان، وأن هذا الفكر المحروم من الخصوصية بالذات هو الفاعل الذي ينتج».

ليس هناك صراعٍ بين العلم والفلسفة، برغم وجود نعرات لفلاسفة وصراعٍ حول هذين المجالين من حيث التفضيل، بيد أن الفلسفة بتاريخها كانت رافعة للنظرية العلمية من حيث توفير أرضية الأسئلة التأملية، التي لا يشترط أن تكون مرتبطة بنظرية علمية، كذا فعل الفلاسفة اليونانيون حين تحدثوا عن النار كما لدى هيرقليطس، أو الماء كما لدى أرسطو، أو الذرة كما لدى ديموقريطس.

العطاء الذي تمنحه الفلسفة يأتي على شكل فتوحات وشذرات، التماعات ورؤى وومضات حين تناقش أصل الكون، ولكنها لم تبقَ منفصلة مع التطور العلمي، خصوصاً في المجالات الرياضية منذ القرن السادس عشر وما تلاه.

غير أن العلم لم يستطع اجتياح الفلسفة ولا إلغاء دورها، حيث نجد النمط التأملي حاضراً لدى فلاسفة رياضيين من أمثال ديكارت وبليز باسكال ولايبنتز، فالعلم لم يغلق أسئلة الفلسفة، ولا يمكنه ذلك، بل كل حلٍ علمي لسؤالٍ فلسفي، يعقبه سؤال فلسفي جديد على النحو الذي يطالعه كل قارئ للنظريات الشاملة حول المعرفة لدى فلاسفة لهم باعهم في العلوم الطبيعية من مثل إيمانويل كانط، والذي لا تزال آراؤه ومفاهيمه فاعلة ومحل نقاشٍ حتى اليوم، فهو من أعظم فلاسفة التاريخ إن لم يكن أكثرهم أهمية وإشعالاً للجدل والنقاش الحيوي، وخصوصاً في كتابه «نقد العقل المحض».

الخلاصة، ان مشروع إيمانويل كانط بحر متلاطم. ومن ظريف ما وصف به قول سمير بلكفيف، في كتابه: «التفكير مع كانط ضد كانط»: «إنك لتشعر في مؤلفات كانط كما لو أنك في سوق ريفية، فبمقدورك أن تشتري منه أي شيء ترغب فيه، فستجد لديه حرية الإرادة وعبوديتها، والمذهب المثالي ودحضه، والإلحاد والإيمان بالرب الخيّر». وتقوم هذه الفلسفة على الأسئلة الثلاثة المشهورة: ما الذي يمكنني أن أعرفه؟ ويمثل مشكلة المعرفة، وما الذي ينبغي أن أعمله؟ ويمثل المشكلة الأخلاقية، وما الذي أستطيع أن أملّه؟ ويمثل المشكلة الدينية».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 18 يونيو 2024

تختلف الأحكام على نعوم تشومسكي الذي بلغ الـ95 بين مَن يتطرف في اعتباره مؤيداً شرساً لفلسطين والعرب، ومَن ينظر إليه كمراوغ يقول الشيء ويلمح لضده، وبأنه بقي صهيونياً مخلصاً، لكن على طريقته. الالتباس متأتٍّ من سعة معرفة الرجل، ولدانة فكره، وطواعيته أمام التحولات. كان منافحاً عن حل الدولتين مع يقينه بأنه لن يتحقق، ولم ير بعين الرضا «اتفاق أوسلو» لأنه الأدرى بنيات إسرائيل. وقبل أن يفقد النطق، وتبدأ مجازر غزة، تصوَّر أن الحل المتبقي والممكن، هو الدولة الواحدة بغالبية يهودية، تُستثنى منها التجمعات الفلسطينية الكبيرة. ولا نعرف مِن آرائه في الأشهر الأخيرة، سوى غضبه بتلويحات باليد اليسرى، قبل أن تخرج إشاعات موته التي جزع لها محبوه.

لا يجادل اثنان في عبقرية تشومسكي، ومهاراته التحليلية، وموسوعيته. ما جعله شهيراً في البدء، وما سيبقى منه للتاريخ، ليس آراءه السياسية الآنية الفانية، ولا مواقفه الاجتماعية الإنسانية، وإنما نظريته اللغوية الفذة، وإنجازاته في ميدان اللغات، حتى قيل إنه «أبو اللسانيات الحديثة».

قبل أن يتعرف طلابنا في الجامعات إلى تشومسكي اليهودي المرتدّ عن صهيونيته، ومنعته إسرائيل، ذات مرة، من دخول الضفة الغربية، ونُظِر إليه على أنه مارق وناكر لبني قومه، يتعلمون إنجازاته الرائدة، كواحد من أهم علماء اللغة وأعظمهم تأثيراً، في عصره.

نظرية هذا العبقري، «التوليدية التحويلية»، لم تسهم في تغيير اتجاه الدراسات اللغوية فقط، بل كان لها تأثيرها على علوم الأنثروبولوجيا، والنطق، والأعصاب، والطب، والمناعة، وكذلك علم النفس، والاجتماع. أكثر من ذلك، لتشومسكي فضل في تطوير أساليب البرمجة وعلم الحاسوب، والترجمة الآلية، من خلال فتوحاته العلمية حول احتمالات التبديل اللغوي الذي يستخدمة المبرمجون؛ فهو رياضي من الدرجة الأولى، علمي المنهج، قدَّم رؤية لغوية أنقذت الإنسان من جلافة النظرية السلوكية التي كانت تعتبر قدرات البشر الذهنية ميكانيكة، آلية، كالحيوان. أما تشومسكي فأثبت أن لدماغ الإنسان مرونة وقدرة فطرية خلاقة، ليست لأي مخلوق آخر؛ فالطفل بمفردات قليلة، وتراكيب محدودة، خلال فترة قصيرة، يستطيع أن يولد ويستنبط ويركب عدداً كبيراً من الجمل، وهي خاصية لم تُعطَ لغير البشر. هذا ما سماه «جهاز اكتساب اللغة» الذي انشغل باكتشاف أسراره وفك رموزه.

اللغة بالنسبة إليه مرآة، من خلال ظواهرها وبنيتيها «السطحية» و«العميقة» نفهم البنية الذهنية للبشر.

ما يهمنا أن تشومسكي دخل عالم اللغات من باب العبرية، وتزوج إسرائيلية، وعاشا معاً عام 1953 في مستوطنة حزوريا، وقضى وقتاً طيباً هناك، لكنه رغم ذلك لحظ تطرف الروح القومية وخشي بحدسه المبكر من العنصرية التي يُعامل بها الفلسطينيون، ففضل العودة إلى أميركا.

كل الظروف اجتمعت لتشومسكي ليصبح صهيونياً، انعزالياً، متقبلاً لوحشية إسرائيل وهستيريا حروبها. العائلة أوكرانية هاجرت إلى أميركا، في الوقت الذي توجهت فيه أسر أخرى إلى فلسطين. هناك علم والده في مدرسة دينية يهودية، وصار مديراً لها، قام بأبحاث حول اللغة العبرية، تعليمها وقيمتها وأهميتها وقواعدها. نعوم نشأ في هذه البيئة، تعلم العبرية، وتحدث الإيديشية، عايش الفكر الصهيوني، عانى من معاداة السامية، توجس من انتشار الفاشية في أوروبا، لكنه كان شغوفاً بالقراءة، وانخرط في الجامعة بدراسة اللسانيات والفلسفة، نال شهادة الماجستير عن أطروحته حول «الصيغ الصرفية في العبرية»، وتمكن بفعل براعته في القياس من توسيع دائرة نتائجه الأولى لتشمل لغات أخرى.

أعجب بأفكار التيارات اليسارية صغيراً، وتبلور حسه النقدي من نقاشاته التي بدأت في البيت، ساند الحركات الطلابية التي قامت ضد حرب فيتنام، وكتب مناهضاً هذه الحرب، ثم عارض الغزو الأميركي للعراق، وزار قطاع غزة عام 2012 تضامناً مع أهلها المحاصرين. وذهب تكراراً إلى الضفة.

حين ينتقد تشومسكي إسرائيل، فهو يفعل كيهودي، يفهم البنية العميقة لهذا الكيان، ومخاطرها على نفسها، ويشن حملاته على السياسات الأميركية كيساري يفهم سلطة المال ولعنته. يستشهد بآدم سميث الذي يقول إن أصحاب الثروات يتبعون مبدأ حقيراً هو: «كل شيء لأنفسنا، ولا شيء للآخرين»، معتبراً أنها جملة مفتاح لفهم السياسة الداخلية لأميركا التي تحكمها مافيات المصالح، ويقيس عليها السياسة الخارجية، ومن هنا تأتي حملاته على وسائل الإعلام التي هي مجرد أبواق يعدّها بديل السوط في الأنظمة الديكتاتورية.

الحكم على تشومسكي، وهو على سرير المرض، لا بد أن يتحرَّى العدل الذي يليق برجل تحلى بالشجاعة، وصدق الرأي، وسوية النفس، لنقول إنه قد يكون من أواخر الذين آمنوا بدور المثقف الفاعل العضوي، الذي دعا إليه غرامشي.

هو من سلالة مثقفي «المسؤولية الأخلاقية»، مثل إدوارد سعيد، إقبال أحمد، نورمان فينكلشتاين، الذين دانوا باستمرار صمت النخب، ولعبوا أدواراً تاريخية، بتوظيف اختصاصاتهم الضيقة، من أجل المصلحة العليا للإنسانية.

***

د. سوسن الأبطح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:

الخميس - 14 ذو الحِجّة 1445 هـ - 20 يونيو 2024 م

 

في الانتخابات الأوروبية الأخيرة (بين يومي 6 و9 يونيو الجاري)، عززت رئيسة وزراء إيطاليا جيورجيا ميلوني مكاسبها السياسية، بحصول حزبها على قرابة ثلاثين بالمائة من أصوات الناخبين. ومع أن اليمين الراديكالي في جل دول أوروبا حقق نتائج غير مسبوقة، إلا أن الأمر يتعلق في الحقيقة باتجاهين متمايزين لا زال أحدهما قريباً من النزعات القومية المتطرفة في تركيزه على هاجس الهوية السيادية والخصوصية الحضارية ورفضه للديمقراطية الليبرالية، في حين يعتمد الآخرُ قيمَ الليبرالية المحافِظة ضمن النسق الأوروبي العام. في البرلمان الأوروبي شكّل اليمين الراديكالي مجموعتين متمايزتين هما «مجموعة الهوية والديمقراطية» ومجموعة «المحافظين والإصلاحيين»، بما يحيل إلى المعادلة المذكورة.

لقد درس هذا التحول عالم الاجتماع تيبوت ميزرعس في كتابه الأخير الصادر بعنوان «ما بعد الشعبوية». وفيه يبين أن إيطاليا تشكل مختبراً هاماً للتجارب السياسية الأوروبية كما كانت دوماً في السابق. في هذا البلد صعد إلى السلطة أولُ زعيم شعبوي غربي هو برلسكوني، سنة 1994، قبل وصول التشكيلات اليمينية الشعبوبة إلى بلدان أخرى، وقبل وصول دونالد ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة، وقبل استفتاء البريكسيت في بريطانيا سنة 2016.

وحسب المؤلف، تمثل تجربة رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني التي انتُخبت عام 2022 نموذجاً جديداً يدعوه بما بعد الشعبوية، سيكون له تأثير واسع في بقية الدول الأوروبية، من حيث التوجهات والسياسات والبرامج الحكومية. ميلوني تختلف نوعياً عن سلفها الشعبوي اليميني سلفيني، كما تختلف عن حزب سيريزيا اليوناني الذي أخفق في الاحتفاظ بالسلطة، وعن حزب فوكس الإسباني المتآكل.الأمر هنا يتعلق بالعودة إلى ثنائية اليمين واليسار التقليدية، لكن من منظور جديد كلياً، مع العلم بأن الشعبوية لم تكن خاصة بأحزاب اليمين وحدها، بل إن بعض الحركات اليسارية اعتمدت المسلكَ ذاتَه عبر التشكيك في الديمقراطية الانتخابية والهجوم على النخب المتحكمة اجتماعياً.

اليسار الجديد (كما هو بارز مثلا في الدنمارك) يختلف عن الاشتراكية الديمقراطية في تشديده على موضوعات الهوية والعدالة التمييزية، ولو اقتضى الحال اللجوء إلى بعض السياسات اليمينية التقليدية (مثل تقييد حركية الهجرة)، في حين تخلى اليمين الشعبوي عن إجراءات تقويض المؤسسات العمومية والحد من استقلال القضاء والتخلي عن ديناميكية الاندماج الأوروبي.

لقد اعتمدت رئيسة الحكومة الإيطالية ميلوني سياسةً ليبرالية تقليدية، لا تختلف في الجوهر عن برامج الحكومات اليمينية المعتدلة، حتى في موضوع الهجرة المعقد والسياسة الخارجية، وإن تمسكت برؤية محافظة في الملفات الاجتماعية المطروحة. وحسب ميزرعس، فقد بدأت الموجة الشعبوبة في العقد الماضي، نتيجة لبعض العوامل، أهمها الأزمة العميقة التي عرفتها المنظومة الليبرالية خلال الأزمة الاقتصادية لسنة 2008 وقد ضربت أوانها بقوة مختلفَ الدول الأوروبية، وفي مقدمتها المجر واليونان، الدولتان اللتان انطلقت منهما التجارب الشعبوية اليمينية الحالية.

إلا أن العديدَ من الأحداث الأخيرة دفعت إلى انحسار هذه الموجة، مثل تحدي جائحة كورونا التي فشلت في مواجهتها الأنظمة الشعبوية، والآثار السلبية الفادحة لخيار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وردود الفعل التي واكبت هزيمة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وانعكاسات الحرب الأوكرانية الحالية على الصعيد الأوروبي.

وهكذا تراجعت بوتيرة متسارعة جلُّ الأحزاب الشعبوية اليمينية في عموم البلدان الأوروبية (باستثناء فرنسا)، وبدأت تبرز تشكيلاتٌ جديدة مغايرةٌ مِن حيث البرامج والتوجهات.

وإذا كان الحديث قد كثُر في السنوات الأخيرة حول نهاية ثنائية اليمين واليسار التي طبعت الحياة السياسية في الغرب الليبرالي خلال القرنين الماضيين، باعتبار أنها ارتبطت تاريخياً بالمسألة العمالية، فإن ميزرعس يرى أن الاستقطاب ذاته لا يزال قائماً بعد نهاية الموجة الشعبوية التي قوضت مرحلياً هذه القسمة الأيديولوجية.

ومعلوم أن اليمين الليبرالي والاشتراكية الديمقراطية يتفقان في المحددات الجوهرية، مثل: دولة القانون، ونظام الفصل بين السلطات، وآليات التنافس الانتخابي.. وإن اختلفا في طبيعة البرامج المجتمعية.

ما تعيشه أوروبا حالياً هو بروز خط تصدع جديد ضمن الثنائية نفسها على أساس التجاذب بين الليبرالية المحافظة والليبرالية التقدمية، بما نلمسه بوضوح في الخطاب السياسي للقوى الصاعدة في المعترك الانتخابي. في هذا المعترك يبدو أن الشعبويات الراديكالية، من يمين ويسار، لا مكان لها في المستقبل المنظور وإن كانت في جوهرها تمثل تعبيراً عن غضب اجتماعي عارم لم يعد بالإمكان احتواؤه بالقنوات المؤسسية التقليدية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 16 يونيو 2024 23:30

في المثقف اليوم