اخترنا لكم

ينشغل العالم اليوم بثورات وسائل الاتصال التي تغير العالم وطبيعة الإنسان، واستطراداً العلاقات الدولية. وفي كتابه الأخير عن عصر الثورات (بين السادس عشر والحادي والعشرين) يدرس أو يستعرض فريد زكريا، المفكر الأميركي من أصل هندي، المتغيرات الكبيرة التي أنتجت الحداثة التي ما عاد الإنسان سيداً فيها أو أنّ الوقائع ذاتها هي التي تحدد للإنسان ما يفكر فيه أو يقرر، حتى إذا ما أهمل أو تقاعس توالت الأحداث عليه وعلى غيره. وهو عندما يفعل لا يعرف بالتأكيد ما إذا كانت الآثار ناجمةً عن فعله هو بالذات.

يعتبر زكريا أنّ هولندا في القرن السابع عشر، والثورة الفرنسية في أواخر الثامن عشر، هما اللتان أنتجتا بشكلٍ مباشر وغير مباشر الأزمنة الحديثة. فهولندا الصغيرة اقترنت في تطورها المتسارع ثلاث ظواهر: الإدارة الداخلية غير البيروقراطية، وأفكار جديدة بشأن التجارة البحرية، وقرن التجارة بالقوة مما خلق تقاليد جديدة سرعان ما سارت فيها سائر القوى الأوروبية.

أما الثورة الفرنسية فشرعنت للعنف الداخلي المدمر الذي لا تعلّله الصراعات على السلطة السياسية وحدها، وبقيت آثاره حتى القرن العشرين. أما الثورة الثالثة ولا شك فهي الثورة الصناعية في إنجلترا والولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، وهي التي غيّرت الدواخل في العمل والإنتاج، وأطلقت موجة استعمار العالم التي غيّرت العلاقات الدولية تغييرات هائلة. لقد بدت تطورات وترتيبات القوانين والأعراف الدولية ناجمةً عن ضرورات تنظيم العلاقات بين دول الاستعمار لكي تقلّ الحروب، ثم اتخذت تلك التطورات طابعاً إنسانياً فيما بعد.

لقد كان يمكن الحديث عن الحربين العالميتين باعتبارهما ضمن مؤثرات الحداثة وتطوراتها. بيد أن فريد زكريا يرى أن تطورات القرن التاسع عشر لجهة الثورة الصناعية ولجهة استعمار العالم وصنع نظام العيش فيه، هي المتغير الأكبر في تلك الحقبة. لذا فإنّ الثورة الحقيقية هي ما يجري في العقود الأربعة الأخيرة حيث تنقض متغيرات وسائل الاتصال والعقول الإلكترونية وكل التقنيات التي تتوالى من دون انقطاع، كل الاستقرار الذي جرى اصطناعه في القرن العشرين: لجهة نظام العيش، ولجهة العلاقات الدولية، وصولاً إلى التغيير في طبيعة الإنسان أو اكتشاف أبعاد جديدة لتلك الطبيعة تبدو بمثابة نقضٍ لها. من أين تأتي التطورات السلبية الكبيرة في العلاقات الدولية، قبل الحديث عن الثورات في عوالم الطبيعة الإنسانية؟ في الأصل هو الصراع على الموارد والمجالات الاستراتيجية.

إنما الفرق أنّ المرجعية لمعالجة آثار هذا التنافس اختلّت بحيث ما عاد أحد من القوى الكبرى والوسطى وحتى الصغرى راضياً بالانخراط في آلياتها. فالأميركيون وأنصارهم يعتبرون النظام السائد مثالياً رغم كثرة خروجهم عليه، أما الطرف الآخر فيعتبر النظام ظالماً ثم صار فاسداً أيضاً!

ويبقى الطرف الثالث في دول الجنوب الذي يزداد اضطرابه تحت وقع التنافس بين الدول الكبرى والذي يتجلى في حروب مباشرة وأخرى بالواسطة. هل تتزامن أو تقترن التطورات؟ يساور المؤلّف زكريا قلق شديد في المجالين، مجال ثورات الاتصال، ومجال اضطراب العلاقات الدولية. إنه وغيره هم مفكرو «ما بعد عالم أميركا»! وهم يتصورونه عالماً شديد الاضطراب، وهو ينال أول ما ينال من الاستقرار النسبي لعالم الجنوب. وكل الأميركيين وبعض الأوروبيين مرعوبون تارةً لتراجع السطوة الأميركية، وطوراً لأن الآسيويين صاعدون من دون توقف بعد أن أتقنوا العلوم الغربية وراحوا يطالبون بنصيبٍ أكبر في صنع سياسات العالم ومصائره.

***

د. رضوان السيد

13 يوليو 2024 23:45

 

الموسيقى ليست فكرة، أو دعوة، أو رسالة، وإنما حيلة حسّية، عمقها في اعتباطية دلالتها، وهي ليست دلالة حتى نحكّمها إلى الفهم، من هنا يكون التأثير الفلسفي على الموسيقى ليس تأثيراً في جوهر المجال وإنما بالإيحاء إلى تماسّ المنتج للموسيقى مع المنجزات الفلسفية القائمة.

بقيت «الموسيقى الكلاسيكية» ضمن التهم الطبقية مع صعود الماركسية، وانتهتْ لأن تكون وجبة شعبية تعمل في المحالّ وأماكن الترفيه. حمّلت الموسيقى خطأ الأفكار، وباتت مشجباً لانهيار النظريات الكبرى في القرون الثلاثة المشار إليها في بدء المقال. كتب «إيفانجليوس موتسوبولوس» بحثاً عن «الميتافيزقيا والموسيقى»، وهو بحثٌ بدأ من فرضية كون الموسيقى دلالة، إذ رأى في ختام بحثه «أن الموسيقى كبقية النشاطات الفنية، تعبّر ولكن بقوة أشد عن التساؤل الميتافيزيقي، وذلك من خلال مضاعفته على طريقتها»، وهو يستمد دلاليّة الموسيقى من أسسٍ أفلاطونية تربط الموسيقى بالكون، غير أن الموسيقى براءة مستمرة، وفطريّتها لا تكدّرها دلاء النظريات المرهقة التي تستعمل الموسيقى دينياً ونضالياً أو دلالياً.

الموسيقى بقيت متمسّكة باستقلاليتها، وتأثّرها بالفضاءات الفلسفية، ليس تأثراً دلالياً وإنما هو التأثير الذي يمنح الموسيقى قدرتها على الممانعة ضد تدجينها، سواء ضمن «الاتهام الشيوعي» أو أي ادعاءات أخرى، ولا يمكن لمطرقة النضال أن تهشّم بيت الموسيقى العتيد.

لم تكن الفنون منعزلةً عن حلقات النقاش أو صرعات النظرية أو غليان التأويل، كانت حاضرةً ومحايثةً، بل سابقةً في كثير من الأحايين، وآية ذلك أن الموسيقى ارتبطت بالتحولات البشرية، فهي تتفاعل مع المحيط وتأخذ منه وتعطيه، ذلك أن الفنون إجمالاً، والموسيقى تحديداً، لا تلبث أن تخاتل النظرية. ولو تأملنا في سير الحضارات وشرر النظريات لوجدنا أن الموسيقى إما أن تسبق التحول، وإما أن تحايثه، وإما أن تتبعه، فهي منفعلة بالتحول وفاعلة له، والأمم التي تأسست تحولاتها ضمن فضاء الموسيقى استطاعت أن تفتتح مشروعاً أبدياً لتأميم الموسيقى وجعلها لغة سائدةً بين المجتمعات، من هنا يكون العالم عبثاً من دون موسيقى أو غلطة كما يكتب «نيتشه».

يشكو الراحل الكبير فؤاد زكريا من عدم وجود موسيقى عربية بينما غرقنا بـ«الأغنية» العربية، والأغنية لا ترتبط بالفضاء الموسيقي بالمعنى الرحب، بل تتحول الأصوات إلى جيشٍ من الخدم للكلمات، من هنا صارت حتى موسيقانا شعرية، طغت الأغنية على الموسيقى في الحال العربية، والموسيقيون العرب هم بمعنًى ما جزء من حال «الشعرنة»، إذ يرتبطون بالألحان والكلمات غير أن نماذج التكوين الموسيقي على الطراز الأوروبي أو الروسي لم يكن سائداً عربياً، ذلك أن الفضاء الموسيقي فضاء شعري وكلاميّ، من هنا يأتي النقص في القدرة الموسيقية العربية على مستوى التأليف الرحب، ليطغى التكوين الشعري أو تحويل صراعات الموسيقى لتكون خادمةً للأشعار ومن ثمّ تخلق الأغنية.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 9 يوليو 2024 00:27

كان الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو قد اعتبر، في كتابه «الكلمات والأشياء»، أن مفهوم الإنسان دخل إلى الفكر الغربي خلال القرن الثامن عشر في سياق فلسفات التنوير التي كرست لأول مرة المنظورَ الإنتربولوجي الحديث، قبل أن «يموت الإنسان» ويخرج كلياً من حقل الدراسات الإنسانية.

وفي كتابه الجديد الصادر بالفرنسية تحت عنوان «مجيء الإنسان في الإسلام واختفاؤه.. من أثينا إلى بغداد»، يذهب هواري التواتي إلى أطروحة مغايرة، معتبراً أن النزعة الإنسانية لم تكن اكتشافاً أوروبياً في نهاية القرن الثامن عشر، بل تعود إلى العصر اليوناني مع أفلاطون ومن بعده التقليد الفلسفي والكلامي الإسلامي.

وفي محاورة «ألسيياد»، يتحدث أفلاطون عن معرفة الإنسان لذاته شرطاً لممارسة السياسة وبلوغ العدالة، وهي مقاربة شغلت فلاسفة الإسلام ومفكريه في العصور الوسيطة، كما بين محمد أركون في كتابه الشهير حول «النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري». ما يوضحه التواتي هو أن «علم الإنسان» تحول في التقليد الإسلامي الوسيط إلى نمط من الممارسة المعرفية المستقلة، حتى ولو كان في الأصل امتداداً للعلم الإلهي. والأمر هنا يتعلق بتحول إنتروبولوجي نوعي، يتجسد في كون الإنسان لم يعد يحدد بالامتثال للمعايير الأخلاقية المطلقة التي يضعها الشرع، بل بكونه فرداً عاقلاً وقادراً بنفسه على التمييز بين الخير والشر، ومؤهَّلا بذاته لتعيين منزلته المتميزة عن نظام الطبيعة.

وقد ظهر هذا التوجهُ مبكراً لدى الفلاسفة من طينة الفارابي وابن سينا في تفكيرهم الأخلاقي المتمحور حول السعادة والفضيلة والتدبير العقلي للوجود في أبعاده الأخلاقية والمدنية. لكنه ظهر أيضاً في المباحث الكلامية، وبصفة خاصة لدى المعتزلة في قولهم بالتحسين العقلي وبنظرية الطبائع حيث يقول الجاحظ مثلاً إن «المعارف تحصل بطبع المحل عند النظر، وإن أفعال العباد كلها طبيعية لا كسب فيها». بيد أن التواتي يرى أن الإنسان اختفى في التقليد الأشعري الذي يرى أنه ألغى التعريف الطبيعي العقلاني للإنسان، معتبراً أن الإنسان ليس سوى البنية الخاصة للجسم، وبالتالي ليس له جوهر نفسي أو روحي، بما يبطل كل دلالة فعلية للإرادة البشرية الحرة والمستقلة.

ومن ثم لا معنى لأي علم طبيعي للإنسان، لكونه فاقداً لأي وحدة داخلية. لا شك في أن أطروحة التواتي مهمة وتستحق المتابعة، وقد وُفِّقت في رصد تشكل النزعة الإنسانية في التقليد الإسلامي الوسيط، في امتدادٍ للفكر اليوناني الذي انتقل مع أفلاطون من محورية الطبيعة إلى محورية الإنسان. وقد يكون فوكو نفسه انتبه إلى هذه الإشكالية في أعماله الأخيرة حول «الاهتمام بالذات»، والتي تركزت حول أخلاقيات الرغبة في العصر اليوناني الكلاسيكي.

إلا أن الاختلاف الحقيقي مع أطروحة التواتي يتعلق بقراءته للأشعرية التي اعتبر أنها في نزعتها الطبيعية الحسية ألغت المسألةَ الإنسانية التي برزت في الفكر الاعتزالي. ما نريد أن نبيّنه هو أن الخطوة الأشعرية الكبرى تتمثل في الانتقال من النظرة الكيفية المعيارية للطبيعة إلى التصور الرياضي الكمي الذي يلغي كل المضامين الجوهرانية الأنطولوجية في الكوسموس المادي.

وما تؤسس له هذه القطيعة هو النظرة الغرائزية النفسية للإنسان من حيث هو كائن تحركه نوازع وأهواء دافعة ليس العقل سوى أحد مكوناتها الفاعلة. ولا يختلف هذا التصور الأشعري في جوهره عن فلسفات العصر الأوروبي الحديث في فهمها الجديد للعقل الذاتي لا بصفته جوهراً وجودياً أو قوةً ناطقةً للنفس، بل من حيث هو إرادة مستقلة عن الطبيعة قادرة على السيطرة عليها والتحكم فيها.

لقد كُتب الكثير عن «الكسب الأشعري» الذي اعتُبر تكريساً للعقلية الجبرية ونفي الحرية الإنسانية، لكن الصحيح هو أنه بإلغائه أطروحةَ النظام الضروري للطبيعة وتأكيده المشيئة الإلهية المطلقة، حرَّر الفعلَ الإنساني مِن إكراهات الطبيعة التي قيدت الإرادتين الإلهية والبشرية معاً في المنظومة الاعتزالية.

ليس الغرض هنا حسم الجدل الكلامي القديم حول خلق الأفعال، من حيث كونه جدلاً لسنا طرفاً فيه ولا معنيين به الآن هنا، بل التنبيه إلى أحد الاختلالات السائدة في الفكر العربي المعاصر في نظرته الزائفة حول العقلانية الاعتزالية وما يزعم لها من مضامين ليبرالية إنسانية. خلاصة الأمر، أن النزعة الإنسانية تنتمي إلى تراث التنوير والتحديث الأوروبيين، لكن التقليد الكلامي الإسلامي لم يكن عائقاً دونها، وفي الأطروحة الأشعرية على الخصوص ما يمكن اعتباره من الإرهاصات الممهدة لها.

***

د. السيد ولد أباه

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 7 يوليو 2024 23:45

تبادل العراقيون، الشهر الماضي، صوراً لتمثال محطّم ملقى على الأرض، قيل إنَّه للفنان جواد سليم. وجواد هو رائد فن النحت في العراق الحديث. ترك لنا جدارية صارت رمزاً لبغداد. نصب الحريّة. أزيح الستار عنها في مثل هذه الأيام من يوليو (تموز) قبل 63 عاماً. وتموز الذي «يغلي فيه الماء في الكوز» هو شهر الثورات للعراقيين. شعب يغلي دمُه حين يُساء إلى رمز من رموزه الثقافية. وحين تمعن النوازعُ الطائفيةُ في التخريب فإنَّ الأمل يبقى معلقاً بأهداب الإبداع. لن يجمعنا سوى القصيدة والأغنية واللوحة والآثار الخالدة.

تروي الرسامة البريطانية لورنا هيلز، زوجة جواد سليم ووالدة ابنتيه مريم وزينب، أنها في تموز 1958 كانت تمضي إجازة هادئة مع طفلتيها في ويلز، صحبة والديها، بينما بقي زوجها في بغداد لارتباطه بأعمال مختلفة. وصباح الخامس عشر من ذلك الشهر نزل أبوها لشراء الصحف وعاد مسرعاً ليقول: «لقد قتلوا مَلِكَكم». أمضت الأسرة ما تبقى من العطلة في متابعة الأخبار الآتية من بغداد. إلى أن جاءت برقية من جواد يطمئنها إلى أنه بخير.

بعد عودتها تلقى جواد طلباً، عن طريق صديقه المعمار رفعة الجادرجي، لعمل منحوتة كبيرة عن الثورة التي قلبت نظام الحكم الملكيّ إلى جمهوريّ. كان عليه أن يُنجز تصميماً مُصغّراً للعمل، وأن يسافر إلى فلورنسا في إيطاليا لاستكمال المنحوتات وصبّها في قوالب من البرونز. أرادوها جاهزةً في العيد الأول للثورة. مهلة وجيزة ومهمة مستحيلة. خصصوا له ثلاثة آلاف دينار. والسفارة في روما تطالبه بقوائم الصرف وهو فنان لا يفقه في الحسابات. زاد عليه الضغط فانفلتت أعصابه.

كان يتوتّر ويمضي الليالي يذرع الشقة ذهاباً وإياباً، يتخيّل أن هناك من يراقبه ويتآمر عليه لمنعه من إنجاز النصب. بل إن هناك من يُدبّر لاغتياله. وقد اضطرت زوجته إلى نقله إلى المستشفى. قدموا له العلاج وتعافى بعد أسبوع. لكنها فوجئت بأنهم يرفضون إطلاق سراحه. يمنع القانون الإيطاليّ نزلاء المصحات النفسية من المغادرة قبل مرور ثلاثة أشهر على دخولهم.

في مثل ذلك المخاض ولدت المنحوتات الأربع عشرة المعلّقة على الجدارية الشهيرة في ساحة التحرير. وفي تموز 1961، جرى افتتاح النصب دون أن يكون صاحبه بين المحتفلين. أزمة قلبية أسكتت نبض جواد وهو بحدود الأربعين. وذهبت لورنا للوقوف، مرتعشة خاشعة، أمام نصب الحريّة. تتأمل الصرح البديع بعينيها وبعيني جواد.

ثم جاء يوم رهيب وقفت فيه دبابة أميركية تحت نصب الحرية. ويدور بين حين وآخر كلام عن محاولات لهدمه والعبث به. ماذا يقلقهم فيه؟ يقول شاعرنا بدر شاكر السيّاب:

ونحنُ في بغدادَ من طينِ... يَعْجنهُ الخزّافُ تمثالا... دنيا كأحلامِ المجانينِ... ونحنُ ألوانٌ على لُجّها المُرتجّ ... أشلاءً وأوصالا.

***

إنعام كجه جي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 01 مُحرَّم 1446 هـ - 7 يوليو 2024 م

 

يقول كأنما في دماغي جزآن أحدهما علم في خدمة المؤسسة والآخر ناقد لها

قُوبلت الأنباء التي تم تداولها عن نقل البروفيسور إفرام نعوم تشومسكي إلى المستشفى في ساوباولو (البرازيل)، بينما كان يتعافى من إصابته بجلطة دماغيّة شديدة أُصيب بها العام الماضي، بسيل من المقالات الصحافية العاجلة التي تحاول تقديم سيرة ذاتية لهذا المفكّر واللغوي والناشط السياسي اليهودي الأميركيّ.

لكن الحقيقة أن كثيراً مما كُتب في الصحف والمواقع الإلكترونية قصر عن رسم صورة وافية لهذه الشخصيّة، ليس فقط بسبب تعدّد فضاءات انشغاله بين النشاط السياسيّ، والبحث الأكاديمي، والكتابة في السياسة والحروب والإعلام، ولكن أيضاً لصعوبة تفسير مواقفه أحياناً في واحد من هذه الفضاءات بالمقارنة مع التوقّعات منه في الفضاء الآخر، ولأن كثيرين - من منطلقات متباينة – منَحوه مكانةً خاصةً رفيعة أكبر من حياة البشر في مجالات علميّة، وفكرية، وسياسيّة عدّة، حتى ليظن المرء أنّه يقرأ عن عدّة شخصيات تحمل اسماً واحداً؛ حيث هو الأكاديمي النجم الذي قضى سحابة عمره في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أقرب الجامعات الأميركية إلى البنتاغون (وزارة الدّفاع الأميركية)، ولكنه في ذات الآن أبرز المثقفين الأميركيين الناقدين للإمبريالية، ولخطاب السلطة، وللحرب، والرأسمالية النيوليبرالية، وهو أمر أقرّ به تشومسكي نفسه فقال: «كأنّ في دماغي جزأين؛ أحدهما علم محض في خدمة المؤسسة، والآخر نشاط سياسي ناقد له»، معترفاً بأن لا تواصُل ممكناً بين تشومسكي العالِم وتشومسكي الناشط السياسي.

ولعل مَردّ هذا الانفصام بين عديد الشخصيات العميقة والثرية لتشومسكي متأتٍّ من تجارب حياة مديدة متعدّدة المراحل بدأت من بنسلفانيا، حيث وُلد في 1928 لعائلة مهاجرة من اليهود الأشكناز (والده أوكرانيّ، ووالدته بيلاروسيّة بمقاييس اليوم).

كان والده باحثاً وأكاديمياً في العلوم العبرانية، يعمل لساعات طويلة بأجر قليل، بينما تُدرّس والدته للصغار في كنيس يهودي، لكن تأثير عمّه الناشط اليساري عليه كان أعمق فيما يبدو؛ إذ كثيراً ما تردّد على مجلسه عندما يجتمع عنده ناشطو اليسار اليهود من الطبقة العاملة لمناقشة الأمور المُلحّة في ذلك الوقت، فكان يستمع ويتأثر، ويتشكّل وعيه السياسيّ الأوّلي، فكانت إحدى اللحظات المبكرة التي علِقت بذاكرته من تلك الفترة مشهد رجال الأمن وهم ينهالون ضرباً على النساء المُضرِبات عن العمل خارج مصنع للنسيج خلال فترة الكساد الكبير، فانتهى إلى تبنّي وجهات نظر اليسار الفوضوي.

كان تشومسكي الصغير محظوظاً لأنه أُرسل لتلقّي علومه الأساسيّة بمدرسة رائدة تأسّست على مبادئ المصلح التربوي والفيلسوف البراغماتي الأميركي جون ديوي، وسعت لجعل التعليم تجريبياً، والمعرفة اكتشافاً بدلاً من التلقين، فأبدع وتفتّحت مداركه، فقُبل وهو لمّا يزال في السادسة عشرة من عمره بجامعة بنسلفانيا المرموقة لدراسة الفلسفة والمنطق واللغات.

كان تشومسكي وقتها قريباً من الأفكار الصهيونية الطوباوية التي انتشرت بين اليساريين اليهود، وكاد يترك دراسته الجامعية للتطوع في كيبوتس يهوديّ في الأراضي الفلسطينية، لكنّه لم يحب أجواء الحماسة القوميّة هناك، ودفعه إعجابه حينئذ باللغوي وعالم الرياضيات زيليج هاريس إلى الانصراف بكليّته إلى اللسانيات، ليحصّل فيها درجات البكالوريوس والماجستير، ويحوز بعدها على الدكتوراه بأطروحة أصبحت أساس أول كتبه المنشورة «الهياكل النحويّة - 1957».

من هذا الكتاب تحديداً بدأت، وفق أنصار تشومسكي في فضاء اللغويات، ثورة معرفية؛ إذ قبله كانت اللغة والكلام مفهومَين على نطاق واسع على أنهما سلوك بشري مكتسَب، حيث كانت المدرسة السلوكيّة التي أطلقها الروسي الحائز على جائزة نوبل، إيفان بافلوف، سائدة خلال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وجعل منها البروفيسور بورهوس فريدريك سكينر، الكاهن الأكبر لمختبرات جامعة هارفارد، النموذجَ القياسي المهيمن في علم النفس بالولايات المتحدة.

وعَدّت السلوكية أن أدمغة البشر تبدأ صفحةً بيضاء ثم تتطوّر وفق المعطيات البيئية، ولذلك فإن تعليم اللغة للأطفال يتم بخطوات صغيرة متدرّجة، وبتطبيق مبدأ الثواب والعقاب، فإن هم أصابوا يجب الثناء عليهم، وإن وقعوا في الخطأ ينبغي تصحيحهم.

مضى تشومسكي في كتابه إلى تحدّي هذا التصور، مشيراً إلى السرعة المثيرة للدهشة التي يتعلّم بها الصغار الكلام بمجرد الاستماع إلى البالغين والأطفال الآخرين وتقليدهم، وعَدّ محاولة سكينر غزوَ مجال اللغة تطبيقاً اختزالياً سخيفاً للافتراضات السلوكية، وأن دراساته في هذا المجال ذات أهمية ضئيلة، أو حتى معدومة، عندما يتعلّق الأمر باللغة والقدرات العقلية العليا للبشر، وبشكل حاسم جادل تشومسكي، دون الاستناد إلى أبحاث مختبرية، إلى أننا كما لو كنا «مصمَّمين خصيصاً بطريقة أو بأخرى» لاكتساب اللغة.

كانت المدرسة السلوكيّة قد بدأت بالترنّح بعدما فشلت في تقديم حلول عمليّة لإسناد الملاءة النفسيّة لعمليات الجيش الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية، لكن تشومسكي كان كمن دفع بها إلى حافة القبر.

في تلك المرحلة بدأ البنتاغون في تجميع جهود خبراء المعلوماتية والكمبيوتر وعلماء النفس وخبراء اللسانيات ومُصنّعي الأسلحة من أجل بناء منصة لـ«دمج المشغّلين البشريين في تصاميم أدوات القتال»، كان حلم وزارة الدفاع الأميركية وقتها صنع «آلة لغوية» تكون بمثابة واجهة تعامُل بين القادة العسكريين متخِذي القرار وأنظمة أسلحتهم، بحيث يُصدر هؤلاء القادة أوامرهم بإنجليزيتهم اليومية، فتنطلق الصواريخ والقذائف بناءً على ذلك.

لقد حان وقت تشومسكي الذي تم تقديم أفكاره على أنها موضوعية، وضمنياً مناسِبة للأغراض العسكريّة المأمولة، ولذلك استُقطب، رغم توجهاته الفوضوية الظاهرة، إلى منصب أكاديمي مرموق في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وحصل لأبحاثه على دعم سخي ومُعلَن من المجمع الصناعي العسكري رغم الأجواء المكارثيّة التي كانت سائدة حينها، التي كانت تُشيع مناخاً من الشكوك بكل اليساريين.

لم يَبنِ تشومسكي ما يمكن القول إنّه كان ذا فائدة في تصميم أجهزة القيادة والتحكم الصاروخيّة مثلاً، ولم يَبنِ جهاز كمبيوتر أو نظام ذكاء اصطناعيّ، وحتى نموذجه في التعامل مع الدّماغ البشري ككمبيوتر رقمي مبرمَج مسبقاً تجاوَزه سريعاً علم الأعصاب، لكنه قدّم تصوّراً مناسباً للغة في فترة تطور العسكريتاريا العلميّة في الولايات المتحدة خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حين كان من المناسب فصل اللسانيات عن السياسة والمجتمع، وتكريس مشهد فصل العلم عن النظرية السياسية.

هذا الفصل النظري العميق سمح للمؤسسة العسكرية الأميركية بتقبّل تشومسكي السياسي في قلب الأكاديميا المعسكرة، وفي ذات الآن سمح لتشومسكي الموظف في معهد تطوير الأسلحة بأن يتحوّل إلى الناقد، الأهم عالمياً ربما، للإمبريالية الأميركية.

كانت حرب فيتنام نقطة مفصلية في حياته كناشط سياسي، فأصدر كتابه الشهير عن مسؤولية المثقف، ووقف بصرامة ضد الحرب، وشارك في الاحتجاجات ضدّها، مع أنّه لم يترك العمل في ماساتشوستس للتكنولوجيا، وأصبح لاحقاً أستاذ شرف مدى الحياة هناك، كما عُيّن أستاذاً في فلسفة العدالة الاجتماعية بجامعة أريزونا.

وقد كتب بعدها أكثر من مائة كتاب في مسائل السياسة، اشترك في العديد منها مع مثقفين يساريين من مختلف أرجاء العالم، أربعة منها عن مسألة فلسطين، وإن كان فيها لا يرى في الدولة العبرية قبل حرب 1967 أمراً ينبغي الشك بأحقيّة وجوده.

أما كتابه الأخير فقد وضعه بالمشاركة مع ناثان روبنسون بعنوان «أسطورة المثالية الأميركية... كيف تُعرّض السياسة الخارجية الأمريكية العالم للخطر».

لتشومسكي اليوم تراث في فضاءات كثيرة يمكن في كل منها انتقاده ونقضه وتجاوزه، لكن الرجل تحوّل بمجموع شخصياته إلى ظاهرة أكبر من الحياة بالفعل، فهو كما شامان لجيل من اللغويين الذين تربوا على نظرياته وكسبوا عيشهم من وراء تعليمها لغيرهم، ويراه اليساريون «أسداً لليسار» يزأر في قلب الإمبراطورية الأميركية، وانتخبه قُراء «بروسبيكت» (المجلّة اليمينية البريطانية) في 2005 المثقف الأوّل في العالم.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 29 يونيو 2024 م ـ 23 ذو الحِجّة 1445

 

يسيطر بعض الجهات في المشرق وإفريقيا، وبين شبابها خاصةً مزاجٌ خلاصيٌّ يتمثل في مغادرة ثقافة الدولة والاستقرار والتنمية وسلامة الإنسان والعمران، والاتجاه إلى النزعات القتالية التي تتخذ شكل تنظيماتٍ مسلَّحة تحمل شعاراتٍ قتالية، وما عادت تقتصر على الصراع على فلسطين بل تنتشر في بلدان الشرق الأوسط وغرب أفريقيا وشرقها.

ويذهب المراقبون والمحللون إلى أنّ العلّة في ذلك عدم وجود ثقافة الدولة أو تأثيرات حقبة الاستعمار أو الصراع الاستراتيجي بين الدول الكبرى والوسطى. لقد كان يمكن التفكير بصحة هذه التعللات لولا أنّ هذه البلدان جميعاً مرت بحقبة استقرارٍ تزيد على نصف القرن. وفي تلك الحقبة كانت تحدث انقلاباتٌ عسكريةٌ تغيّر الحكومات والأنظمة، لكنها لا تهزّ الاستقرار ولا تثير الانقسامات الرأسية التي تشهدها أخيراً بعضُ البلدان.     والملاحظ أنه حتى التدخلات الدولية تَحدث بعد أن تكون الاضطرابات قد بدأت وتصاعدت، وسعت سائر الأطراف المسلَّحة إلى الاستنصار بالخارج. لذا لا يمكن الذهاب باستمرار إلى أنّ الدول الكبرى هي التي صنعت الاضطراب والاقتتال واستثمرت فيه.

أما التعليل بالحقبة الاستعمارية فيحول دون الاقتناع به أن بلدان الاضطراب، وبعد جلاء الاستعمار، استقرت كما ذكرنا وحقق بعضُها إنجازاتٍ تنمويةً.. فمِن أين أتت ثقافة الميليشيات المدمِّرة؟ تذهب الإنثروبولوجيا الاستعمارية إلى أنّ مجتمعاتنا انقسامية بطبيعتها، وهذا يسهّل حدوث الانقسامات والانشطارات عندما تضعف السلطة المركزية أو تخطئ في التعامل مع إحدى الفئات العشائرية التي تثور إذا أتيح لها ذلك، بحجة سوء المعاملة، أو تطلب الاستقلال.     ومن المؤكد أنّ اعتبار الانقسامات هي من طبيعة المجتمعات أمرٌ غير صحيح. إنما الذي لا يمكن إنكاره أن الحركات الخلاصية تستثير هذه الفئة أو تلك. والخلاصيات هذه كانت قوميةَ الأيديولوجيا ثم صارت تحمل شعاراتٍ إسلامويةً.

وفي الحالتين ينشب النزاع العنيف، وتتدخل الجهات الخارجية القريبة والبعيدة. وبالحرب الداخلية لا يحقق فريقٌ ما يطمح إليه، لكنّ هذا التنظيم أو ذاك يصبح أبدياً، ويعمد الخصوم المنافسون إلى إنشاء تنظيماتهم الخاصة فيبدو هذا الاحتراف الميليشياوي كأنما هو حركة ثوران ديني تستثير الجمهور لأهدافٍ مقدسة أو ما شابه ذلك!

لماذا هذه القابلية للاختراق من جانب الخلاصيات المزورة؟ هذا هو الأمر الذي ينبغي التفكير فيه أو نعود إلى مقولات «الطبيعة العنيفة للإسلام»!

لا بد من الخروج من المزاج الخلاصي الوهمي المتمثل في نشوب الاقتتال الداخلي أو نشوب الاقتتال مع الغرب (الاستعماري!). وبعد كل مذبحة يتبين أن التغيير لم يحصل، وأن الدماء سُفكت، وأن الدول التي تنطلق منها أو إليها الهجمات قد تضاءل استقرارها وانقسم شعبها، وشاع فيها القتل والتدمير.

هل هي ظاهرةٌ خاصةٌ بالإسلام أم بمجتمعات معينة في أفريقيا والشرق الأوسط؟ لقد كانت ظواهر متفرقة، لكنها في العقدين الأخيرين صارت سلسلة تمتد ولا تتوقف، وإذا بدأت إحدى حلقات السلسلة فإنه يتعذر انتهاؤها.

وكما سبق القول، عندما تحدث إحدى الحلقات، تسارع الميليشيات وتسارع الدول الكبرى والإقليمية إلى التواصل فيما بينها لإطالة أمد الاقتتال وتعريض الأوطان والناس والهياكل التي بُنيت على مدى عقود لأخطار الانقسام والدمار.

إنّ هذه المعالم أو الأوصاف تُظهر الميليشيات الخلاصية كأنما وُلدت لتبقى وكأنها جزء من عيش المجتمعات والدول، والأمر ليس كذلك.. ولا حلَّ إلا بالدولة الوطنية القوية التي تحقق الاستقرار والتنمية وصنع المستقبل الواعد لشعوبها وجوارها.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 29 يونيو 2024 23:45

 

نوم العقل يوقظ الوحوش هو عنوان لوحة للفنان الإسباني فرانشيسكو دي غويا (1746 1828) وقد شرحها الدكتور علي بن تميم بقوله في تغريدة له مصحوبة بصورة للوحة حيث كتب (في هذه اللوحة يصور رجلاً نائماً وقد أسند رأسه ويديه إلى طاولة بينما نحّى قلمه جانباً. وخلف الرجل تظهر مجموعة من البوم والخفافيش الضخمة، وهي تصفق بأجنحتها وتصيح. كما يظهر وحشان غريبا الهيئة أحدهما رابض على الأرض وقد صوّب نظراته الشرّيرة إلى الرجل، بينما قفز الآخر على ظهره وعيناه تلمعان في الظلمة، وعلى مقدّم الطاولة التي ينام عليها الرجل كُتبت عبارة: (إذا نام العقل استيقظت الوحوش).

والذي يلفت نظري هو عنوان اللوحة (نوم العقل يوقظ الوحوش)، وهي عبارة تفسر حالة البشر على مر تاريخهم، حيث يظهر التوحش مع التحضر في آن واحد، وتتبدى الوقائع وكأنها تقول: كلما تحضر البشر زادوا وحشيةً، ولنأخذ القرن العشرين الذي هو تتويج لكل منجزات البشرية في العلم وفي الاقتصاد والتكنولوجيا والنظرية السياسية، وفي الوقت ذاته هو قرن الحروب الكبرى في تاريخ البشرية، ووقعت هذه كلها حسنها وسيئها في قلب أوروبا الأكثر تحضراً من بين دول العالم حينذاك، ومعها أميركا التي لم تتورع عن إسقاط قنبلتها الذرية على هيروشيما، وهذه القنبلة تفسر كيف اجتمع التحضر مع التوحش، فالقنبلة تلك كانت تتويجاً لأخطر منتجات الفيزياء، والفيزياء هي علم يشمخ بين كل العلوم بصفتها الأكثر حداثةً والأكثر تفوقاً، وكذلك هي الأعمق معنى في صيغة المنجز البشري لدرجة أن الفيزياء أزاحت كثيراً من الأسئلة الفلسفية المحيرة، وقدمت لها إجابات دقيقة وعملية، مما جعل هوكينج يحكم بموت الفلسفة وحلول الفيزياء محلها في التعامل مع الأسئلة المحيرة، وكما أن الفيزياء فائقةُ العلمية فهي كذلك فائقة الوحشية، ولها قدرة هائلة على تنويم العقل لكي ترتع الوحوش حسب عنوان لوحة فرانشيسكو دي غويا، وبمثل ما قتلت الفيزياء الفلسفةَ حسب دعوى هوكينج فقد قتلت العقل بمعنى التعقل رغم أنها منتوجٌ لعقل الإنسان القوي والمتجبر في آن واحد، وكأن العقل ليس للتعقل وإنما فقط لابتكار أخطر الوسائل للتدمير وتحقيق معنى التوحش الذي تفوق به الإنسان على كل الوحوش، ليجمع بين العقل والتوحش وبين التحضر والوحشية، وفي هذه الحال لم يحتج الشر لنوم العقل وإنما احتاج ليقظة العقل وتطوره وتوظيف كل حيله ومهاراته لكي يصنع قنبلةً إذا سقطت على بشر أو حجر أحرقته وأنهته بمراد وتخطيط واع ٍ وعاقل وبصير، وبقرارٍ من رجل انتخبته بلده ليقود أهم ديمقراطية بشرية. وهذا الديمقراطي المتحضر والعاقل والسياسي البارز هو من أمر بإسقاط تلك القنبلة في وقت كان هو في أشد حالات يقظته ووعيه وبشريته، لكنه فاق بفعله كل وحوش الكون وفعل ما لم يفعله أي توحش سابق ولا لاحق (حتى الآن)، وستظل إمكانات العقل البشري أكبر من تصور العقل ذاته، ومهما افترضنا أن العقل أشرف من العاطفة، وأن العاطفة متهورةٌ والعقل متبصرٌ، فإن الذي نكتشفه هو أن العقل أخطر من العاطفة في الحالين، حال البصيرة والتبصر وحال الوحشية والتوحش.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن الاتحاد الاماراتية، يوم: 29 يونيو 2024

لعلنا لا نبالغ إذا وصفنا الحراك النسوي بأنه من أبرز المنتجات الثقافية للحداثة. فالثورة الصناعية، التي أدخلت الآلة مكان الجهد البشري، الذي غالباً ما يقوم به رجل؛ لعبت دوراً في طرح التساؤل على المجتمع الأبوي الذي يُعطي سلطة للرجل على المرأة. وعليه، ظهرت الحركات التي تدعو إلى مساواة المرأة بالرجل بوجه عام، وتغيير الصورة النمطية للدور الجندري، ومن أجل إعادة ترتيب الدور الاجتماعي على أساس المفاضلة الفردية، وليس على أساس الجنس/الجندر.

على مدى التاريخ ظهرت أربع حركات نسوية عالمية، تميّزت اللاحقة على السابقة برفع سقف المطالب بخصوص فكرة المساواة. لن نخوض في تاريخ هذه الحركات، لأنه ليس موضوعنا، ولكن يهمنا هنا التركيز على فكرة المساواة مقابل العدالة. فالتقدم التقني أغرى دعاة النسوية بإلغاء الفوارق الجندرية، ومحاولة تحديها باستشهادات من قبيل: ثمة نساء أقوى جسدياً من بعض الرجال، وثمة رجال أكثر عاطفية من بعض النساء.

غير أن أخطر ما يُتداول من أفكار تُوصف بالنسوية تلك التي تطالب بالامتيازات التقليدية التي يعطيها المجتمع الأبوي للمرأة، مع إضافة الاستحقاقات الجديدة التي منحتها إياها القوانين الحديثة التي راعت مطالب الحراك النسوي. إن المرأة القوية المستقلة -حسب النظرة النسوية- ما زالت تتمسّك بكونها الطرف الأضعف الذي تجب مراعاته في حال النزاع مع الرجل؛ وهنا يكمن التطرف في الطرح.

في السنوات القليلة الماضية، ظهر خطاب ينادي بعودة ترسيخ الأبوية في المجتمعات، وتقوم بالدفاع عن موقفها بشكل حثيث. وتأتي فكرة «الحبة الحمراء» بوصفها مصطلحاً مجازياً لحبة يتناولها الشخص؛ ليتمكن من رؤية الحقيقة المرة كما هي، مقابل «الحبة الزرقاء» التي تُبقي الإنسان في الوهم، وهذه الفكرة ترتبط بشكل واضح بأفكار سيغموند فرويد، الذي يقسّم المبادئ إلى مبدأ الواقع ومبدأ المتعة التي غالباً ما تكون وهماً. وقد سبق استخدام هذه الفكرة المجازية في أفلام «هوليوود»، ابتداءً من فيلم «The Matrix» عام 1999.

في عالمنا العربي، ظهر كثير من الحسابات على مختلف منصات التواصل الاجتماعي تحمل معرفاتها اسم الـ«Red pill» يجمعها قاسم مشترك هو الدعوة إلى توعية الرجال حول قدراتهم الحقيقية، ومكانتهم التي تحاول النسويات سلبها منهم. وعلى منصة «X» فُتح كثير من النقاشات التي تردّ على المحاججات النسوية الرامية إلى المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة. ولعل أبرز نقاط القوة في حِجاج جماعة «الحبة الحمراء» يتلخّص في فردانية السلوك. فليس مطلوباً من رجال العالم أن يتحدوا ضد النساء، وليس مطلوباً منهم المطالبة بتغيير القوانين، ولا شيء يمتّ إلى رفع راية المظلومية؛ كل ما هو مطلوب من الرجل أن يعي طبيعة المرأة ونظرتها إلى الرجال وتصنيفها لهم، ثم يحمي نفسه منها من خلال «عقلية الوفرة».

وفي حِجاجهم، يرى ذكور «الحبة الحمراء» أنهم لا يعتنون بأنفسهم لكسب الإناث بصفتهن هدفاً، بل هم يعتنون بأنفسهم؛ لأن الرجولة استحقاق جندري يجب على الذكر المحافظة عليه عن طريق تنمية القدرات الطبيعية التي يمتلكها، وهذا ما سيجعله رجل «ألفا» في موضع القوة الذي يعطيه جاذبية عليا. ومصطلح الـ«ألفا» يقابله الـ«بيتا» الذي يأتي في مرتبة أقل منه بكثير. تأتي هذه المصطلحات من خوارزمية يستخدمها لاعبو الشطرنج، التي يرمز فيها الـ«ألفا» إلى الحركة التي تضمن الأفضل للاعب، والتي تضعه في موضع قوة، بينما الـ«بيتا» حركة تضع اللاعب تحت رحمة خصمه، فقد تعطي الخصم فرصة للقيام بـ«كش» ملك عبر خطوة أو خطوتين.

وبالاستعارة من الحقل الدلالي للعبة الشطرنج، رُسمت صفات الـ«ألفا» والـ«بيتا». فالرجل الـ«ألفا» يمتاز بالثقة في النفس والجرأة في الإقدام؛ لأنه يحسب خطواته بصفتها عاملاً مستقلاً في المعادلة. في المقابل، الرجل الـ«بيتا» تابع لغيره -المرأة- لأنه قد قبل أن يقوم بخطوات تضعه تحت رحمة غيره الذي يستطيع التخلص منه متى ما وجد خياراً أفضل منه.

يرى البعض في طرح جماعة «الحبة الحمراء» تطرفاً ضد المرأة، وتحريضاً للرجال عليها، ويرون هم في أنفسهم أنهم يضعون أنفسهم في الموضع الذي يستحقونه. ويرى خصومهم أنهم مجرد ذكور يريدون تطبيق قانون الغاب، في حين يرون هم أنفسهم أنهم يحافظون على وضعهم الطبيعي من دون أن يجبروا أحداً على تبنيه. وفي الوقت الذي يتفهمون كره دعاة النسوية لهم، فهم يُضاعفون القسوة على الرجال الذين يساندون النسويات؛ إذ يرون فيهم مجرد ذكور «بيتا» قبلوا بالخضوع لسلطة المرأة.

خلاصة القول: إن ظهور جماعة «الحبة الحمراء» اليوم أمر طبيعي جداً، بعد تكاثر الحسابات التي تصف نفسها بالنسوية والنسوية الغاضبة، إذ طغى عليها الخطاب المعادي للرجال. وكما هو معروف، فإن استعداء الآخر بخطاب ممنهج ضد النوع/الذكور لن يأتي بخصم يتبنى خطاباً محايداً يضع الذكور والإناث في سلة واحدة. وبين النسوية و«الحبة الحمراء» على الإنسان أن يهتم بمميزاته التي وُلد بها ويعزّزها بكل وسائل القوة المتاحة. وفي حال وُفق إلى الارتباط، على الشخص الاستمتاع بحياته بعيداً عن الصراعات. ولا ننسى أن السلام والبعد عن الصراع يجب أن يكون من الطرفين وليس من طرف واحد؛ تلك هي السعادة المنشودة.

***

د. عبد الله فيصل آل ربح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأربعاء - 27 ذو الحِجّة 1445 هـ - 3 يوليو 2024 م

معظم المبدعين الكبار كانوا يعانون معاناة نفسية هائلة

تقول لنا النظرية الحديثة في علم النفس والتحليل النفسي: العُصاب الجنوني هو الذي يصنع الكتاب الكبار والإبداع العبقري هو الذي يشفيه. العبقرية بهذا المعنى تعني الانتصار على الجنون الداخلي، أو ترويضه، أو تحجيمه. كان دوستيوفسكي قد قال لأخيه في رسالة مبكرة: عندي مشروع كبير؛ أن أصبح مجنوناً (أي عبقرياً). وبالفعل لو لم يستطع تأليف رواياته الهائلة كـ«الجريمة والعقاب» و«الإخوة كرامازوف» لكان قد جُنَّ نهائياً. وقل الأمر ذاته عن سلفادور دالي الذي أنقذته لوحاته الخارقة من الجنون. وقِسْ على ذلك... هذه هي المعادلة الجدلية، أو المعادلة الديالكتيكية، التي تربط بين العبقرية والجنون. معظم العباقرة الذين نسمع بأسمائهم ونُبجّلهم ونعظّمهم كانوا يعانون معاناة سيكولوجية هائلة تصل أحياناً إلى حافة الجنون. ولكن بضربة عبقرية خارقة كتأليف قصيدة، أو رواية، أو كتاب فلسفي نادر، استطاعوا التغلب عليها. بهذا المعنى كل عبقري مجنون بشكل من الأشكال ولكن ليس كل مجنون عبقرياً. فجنون المجانين لا يؤدي إلا إلى الهذيان الكامل ولا ينتج عنه أي شيء. إنه لا يؤدي إلى تأليف روائع أدبية كبرى كتلك التي أتحفنا بها شكسبير أو المتنبي أو جان جاك روسو الذي أوصلوه إلى حافة الجنون في أواخر حياته من كثرة الملاحقات والاضطهاد. كنت قد كرست فصلاً كاملاً لمعالجة هذه الإشكالية الكبرى في كتابي الأخير الصادر عن «دار المدى» بعنوان: «العباقرة وتنوير الشعوب».

والآن ماذا عن جيرار دو نيرفال الذي جُنَّ وانتحر في نهاية المطاف بعد أن أتحفنا بروائع أدبية خالدة؟ لم يستطع حتى الإبداع الخارق أن يحميه من السقوط في حمأة الجنون وجحيمه البهيم. وبالتالي فهو استثناء على القاعدة. ولكنه ليس الوحيد. هناك نيتشه أيضاً وهولدرلين وبعض الآخرين. نيرفال، هذا الرجل المسكين الطيب الذي احتقره عصره في القرن التاسع عشر بسبب متاعبه النفسية وفقره، راح القرن العشرون يرفعه إلى مصافِّ الكبار، بل كبار الكبار من أمثال بودلير، وفلوبير، وبلزاك، وفيكتور هيغو، وسواهم من المشاهير. بل إن بودلير ذاته كان مجهولاً في عصره إلى حد كبير ولم تنفجر شهرته كالقنبلة الموقوتة إلا بعد موته. وقد استشعر ذلك هو شخصياً عندما قال هذه العبارة الرائعة: شهرة ما بعد الموت تعنيني! ولكن على الأقل شهرة بودلير لم تتأخر نصف قرن أو قرناً كما حصل لجيرار دو نيرفال. هل نعلم مثلاً أن غوستاف لانسون، أستاذ طه حسين في السوربون وأشهر ناقد أدبي فرنسي في مطلع القرن العشرين، لم يذكره إلا في هامش صغير في أسفل الصفحة؟ كان مارسيل بروست أحد الأوائل -والقلائل- الذين عرفوا أهمية جيرار دو نيرفال. كان أول من أدرك قيمته داخل الأدب الفرنسي وربما العالمي. وكان أول من أطلق عليه لقب: عبقري! كان ذلك في بدايات القرن العشرين. ولكن لم يستمع أحد لصوت مارسيل بروست صاحب الرواية الخالدة: بحثاً عن الزمن الضائع. لم يكن قد آن الأوان لكي يعرف الناس من هو جيرار دو نيرفال...

والحقيقة هي أن الفضل في اكتشافه وإعطائه المكانة التي يستحقها على قمة الأدب الفرنسي تعود إلى السرياليين. ولو لم يكن لهم إلا هذه الميزة لكفاهم ذلك فخراً. صحيح أن الشاعر أبولينير قال عنه عام 1911 هذه العبارة اللافتة: «إنسان رائع. لو تعرفت عليه لأحببته كأخ، كشقيق»... ولكنّ أندريه بريتون، زعيم السرياليين، هو الذي خطا الخطوة الحاسمة في اتجاه الاعتراف بأهمية جيرار دو نيرفال. يقول عنه عام 1924 في المانيفست الشهير للحركة السريالية:

«كان بإمكاننا أن نستعمل مصطلح ما فوق الطبيعية بدلاً من مصطلح ما فوق الواقعية: أي السريالية في اللغة الفرنسية. والمعنى واحد في نهاية المطاف. لقد سبقنا جيرار دو نيرفال إلى اختراع السريالية الواردة في كتابه: بنات النار.

ينبغي أن نعترف بذلك. إنه الرائد الأول بالنسبة لنا. فالواقع أن نيرفال كان يمتلك الروح التي تهمنا والتي ننسب أنفسنا إليها: عنيت الروح الهذيانية السريالية، أو روح ما فوق الواقع، ما فوق الطبيعة والطبيعية. هناك عالم آخر فوق هذا العالم التافه البليد الذي نعيشه: إنه العالم السريالي الرائع. إنه أجمل وأبهى بألف مرة من جحيم الواقع الأرضي». بهذا المعنى...

يقول الناقد ريمون جان إن موقف السرياليين من جيرار دو نيرفال كان معقداً. فهو يتراوح بين الإعجاب العقائدي به، والانبهار بالتجربة المعيشة للجنون. السرياليون كانوا مهووسين بالجنون، كانوا يحبونه، يقدسونه. كانوا يعدّونه مرادفاً للإبداع العبقري. لا إبداع بلا جنون خارق. نقول ذلك ونحن نعلم أن جيرار دو نيرفال قد عرف هذه التجربة الجنونية واكتوى بحرِّ نارها. والدليل على ذلك أنه دخل المصحَّ العقلي أكثر من مرة. وبين كل إقامتين في مستشفى المجانين كان يُنتج رائعة أدبية، عبقرية. وربما لم يكن انتحاره وهو في الثامنة والأربعين إلا تتويجاً لتجربة الجنون. فقد وصل به التأزم النفسي إلى درجة لا تُحتمل ولا تُطاق فقرر أن يضع حداً لحياته. وشنق نفسه على عمود كهرباء في ساحة الشاتليه وسط العاصمة الفرنسية. مهما يكن من أمر فإن السرياليين أعطوا نقطة الانطلاق للاعتراف بجيرار دو نيرفال بوصفه كاتباً كبيراً. وقد وصل الأمر ببول إيلوار إلى حد الانبهار بعبارته التي تقول: «الطقس رائع إلى درجة أننا لا نستطيع أن نلتقي أو يقبِّل بعضنا بعضاً في البيوت. لنخرج فوراً»!

ينبغي في هذا الصدد أن نطَّلع على ما كتبه عنه الناقد الكبير شارل مورون في كتابه المرجعي الأساسي: «من المجازات الهلوسية إلى الأسطورة الشخصية- مدخل إلى النقد التحليلي النفسي». فهذا الناقد المهمَل عندنا لأننا لا نعرف غير رولان بارت الذي بلور نظرية كاملة متكاملة عن الإبداع الأدبي العبقري. وإذا كنت قد فهمته جيداً فإنه يريد أن يقول ما يلي: كل شاعر كبير يكون مهووساً حتماً ببعض العُقد النفسية. وينعكس هوسه هذا على كتاباته الإبداعية بطبيعة الحال. ويتجلى هذا الهوس في نوعية المجازات الإبداعية الرائعة التي يبتكرها والتي تتكرر بأشكال مختلفة على مدار أعماله. وبالتالي فلكي نفهم هذا الشاعر، لكي ننْفذ إلى عالمه الحقيقي، ينبغي أن نستخلص هذه المجازات اللغوية الإبداعية الخارقة من كل مؤلفاته من أولها إلى آخرها. ينبغي أن نفرزها فرزاً وأن ندرسها عن كثب لكي نتوصل إلى معرفة الأسطورة الشخصية التي تكمن وراءها، أي لكي نتعرف على شخصيته الحقيقية العميقة. فبودلير مثلاً كان مهووساً بأشياء محددة، وقد انعكس هذا الهوس على موضوعاته الشِّعرية ومجازاته اللغوية وصياغاته التعبيرية التي تسحرنا حتى اللحظة. وشكَّل هذا الهوس عالماً بأسره هو عالم شارل بودلير. وهو يختلف عن عوالم كل الشعراء الآخرين. ورامبو أيضاً كان مهووساً بأشياء أخرى، وقِسْ على ذلك... الشاعر الكبير هو وحده القادر على اختراع مجازات وعلاقات لغوية خارقة لم يعرفها تاريخ الشِّعر من قبل. من هنا جاذبيته التي لا تقاوم.

لكنَّ هوس نيرفال كان من النوع الثقيل جداً من الناحية النفسية وكان يضغط عليه أحياناً إلى حد الشلل. وقد سخر بعض الأصدقاء منه ومن جنونه بشكل ودود ومحب فتأثر كثيراً وقال ما معناه: يصعب عليَّ أن تروني مجنوناً. لم أعد أستطيع تقديم نفسي إلى أي مجلس. لم أعد أستطيع أن أتزوج أو أن أجد امرأة تقبل بي. بل لم أعد أستطيع أن أُقنع الآخرين بأن يُصغوا إليَّ بشكل جدي عندما أتحدث. مَن يستمع إلى مجنون؟ لقد فقدت هيبتي واحترامي في أعين الناس. وربما تخليت عن هذه المهنة التعيسة: مهنة الكتابة. لم يعد لي أمل بأي شيء. لقد انتهيت أنا، انتهيت...».

هذا القلق المرعب الذي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً هو الذي زعزع شخصيته وأفقده هيبته وأدى به إلى الانتحار في نهاية المطاف. ولكن قبل أن ينتحر كتب هذه القصيدة:

شاهدة على قبر

لقد عاش أحياناً فرحاً مرحاً كزرزور

أحياناً عاشقاً خليَّ البال حنوناً

وأحياناً مكفهراً حالماً كطائر حزين

حتى سمع في يوم من الأيام دقاً على الباب

×××

إنه الموت! لقد جاء ملاك الموت. فترجاه أن ينتظر قليلاً

حتى يكون قد وضع اللمسة النهائية على قصيدته الأخيرة

ثم من دون أي تأثر أو انفعال راح يتمدد

في أعماق الصندوق البارد حيث يرتجف جسده

×××

لقد كان كسولاً حسبما تقول الرواية

كان يترك الحبر ينشف كثيراً في المحبرة

كان يريد أن يعرف كل شيء

ولكنه جاء وراح ولم يعرف شيئاً

×××

وعندما حانت اللحظة حيث متعباً من هذه الحياة

قُبضت روحه في أمسية شتائية

رحل وهو يقول: لماذا جئت إلى هذا العالم؟ الشاعر الكبير هو وحده القادر على اختراع مجازات وعلاقات لغوية خارقة لم يعرفها تاريخ الشِّعر من قبل.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 1 يوليو 2024 م ـ 25 ذو الحِجّة 1445 هـ

تتمةً للمقالة الماضية، فقد عمل إيمانويل كانط -يضيف سمير بلكفيف-على: «تحليل فكرتي المكان والزمان باعتبارهما أساس القبْلي والتركيبي، ومثل هذا التحليل يسميه كانط «الاستطيقا الترنسندنتالية»، لذلك نجد كانط يبدأ بتحليله لفكرتي المكان والزمان حيث يتجاوز التصور اللايبنتزي (مجرد علاقات) والتصور النيوتني (المطلق)، حتى يضمن لهما الذات الإنسانية، ولكي يتسنى لنا تسويغ مشروعية قيام الرياضيات وبالتحديد تفسير الحكم التركيبي القبلي، وهذا هو مسوغ تقديمنا لنظرية كانط في المكان والزمان قبل نظريته في الرياضيات، فتحليلنا لنظرية كانط في المكان والزمان يعكس مدى صلتهما بنظريته في الرياضيات.

وبالتالي فالعيان القبْلي (المكان والزمان) -كما يشرح بلكفيف بكتابه القيّم-:«هو الذي يؤسس مشروعية قيام العلم الرياضي الحساسية الترنسندنتالية: إن المعرفة عند كانط مشروطة بعاملين أساسيين هما: الحدس «Anchauung» والفهم «Verstand»، أي الحس والفكر، فالحس دون مفاهيم فوضى، والمفاهيم دون حدوس جوفاء، والخطوة الأولى هي تمييز المفاهيم عن الحدوس بغرض التحليل والوقوف عند الحساسية في جانبها الترنسندنتالي، أي في جانبها «القبْلي» وقد عزلت عن كل مقولات (kategorie) الفهم وأحكامه وتصوراته، فنصبح بذلك إزاء معطيات حسية (sense data) غير خاضعة لأطر ومفاهيم قبلية، أما الخطوة الثانية فتتمثل في عزل تلك الحساسية عن الإحساس، فلا يبقى لنا سوى الحدس المحض، الذي هو مجرد صورة للظاهرات، والعلم الذي يبحث في مبادئ الحساسية القبْلية يسميه كانط «الاستطيقا الترنسندنتالية»، وهو الذي يسمح لنا بالوقوف عند الحدوس الخالصة، أو الصور الخالصة للحدس، فالمكان (ort) والزمان (zeit) هما صورتا الحساسية الخالصة والإحساس هو مادتهما العامة، ومعرفتنا لهما هي دائماً قبلية (priorita) أولية متقدمة عن كل تجربة، في حين أن الإحساس عنصر نستمد منه معرفتنا البعدية (spatersein)».

بينما «هسرل» ذهب أبعد من ذلك عبر طرحه علم الظاهريات، وبدوره استطاع أن يفتح أسئلة حول علاقات الفلسفة بالعلم والسيكولوجيا والخبرة السابقة للإنسان، فكيف يمكن نحت سؤال فلسفي من دون تنحية الخبرات الذاتية حول الموضوع؟! سؤال جعل كتبه الأساسية تدور في فلكه، وخصوصاً كتابيه: «أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخالص والفلسفة الظاهراتية» وكتابه الآخر: «مباحث منطقية» إذ خصص الجزء الأول بكامله تقريباً للبحث في هذه المعضلات.

الخلاصة، أن كانط نقل مسار الفلسفة، ووضع لها منعطفاً لم تتجاوزه حتى الآن، ويتعلق بنحت أسئلة في طريقها وجعل مهمتها أكثر جدية، ووضعها في سجالٍ مع العلم من دون أن تذوب فيه، وإنما السجال بين العلم والفلسفة يجب أن يظل قائماً ليس على مستوى تماهي الإجابات، ولا تشابه الأسئلة، وإنما لغرض تمتين عرى الفلسفة وجعلها تأخذ مكانتها الطبيعية بين المجالات المعرفية، وسيأتي من بعد مارتن هيدغر الذي يعتبر الفلسفة تتفوق على العلم لأن: «العلم لا يفكر».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

24 يونيو 2024 23:45

قدّم كارل ماركس، في أهم أعماله المنشورة «رأس المال – 1867» أفضل نموذج نظري نمتلكه اليوم لفهم ديناميكية عمل النظام الرأسمالي منطلقاً في توصيفه من موقف فلسفي مادي يرى في الصراع الطبقي محركاً للتاريخ. وفسّر التقلبات الاقتصادية بالجدليّة بين قوى الإنتاج وعلائق الإنتاج مستنداً في ذلك إلى مجموعة متقدّمة – بمقاييس عصره - من الإحصاءات والدراسات والوثائق، التي قضى ورفيقه الجليل فريدريك إنجلز سنوات طوالاً في تتبعها، ودراستها، واستخلاص الاستنتاجات منها. وعلى الرّغم من أن نظريات الاقتصاد الماركسيّ أصبحت جزءاً من الصراع بين الشرق والغرب بعد قيام الاتحاد السوفياتي في 1917، وأن النخب الغربيّة بذلت جهوداً مكثفة للتعمية عليها وتجاوزها لمصلحة نظريات أحدث، فإن الأزمات البنيوية المتلاحقة التي وكأنّها لازمة للنظام الرأسماليّ لا بدّ منها في كل جيل، فرضت دائماً تساؤلاً صار موسمياً على عناوين الصحف وأغلفة المجلات المؤثرة: هل كان كارل ماركس على حق؟

إن الواقع العمليّ يظهر أن (علم) الاقتصاد التقليدي – بما في ذلك الاقتصاد الماركسيّ – لا يزال بشكل عام متخلفاً عن التقدّم الهائل الذي حققه البشر في مجالات معرفية مختلفة، وعاجزاً عن توظيف الإمكانات اللانهائيّة لتكنولوجيا المعلومات الحديثة، وما زالت افتراضاته الأساسية سهلة الدّحض، وقدرته على التنبؤ محدودة للغاية، ما يجعله أقرب لعلم زائف، رغم كل المعادلات والصيغ الرياضيّة التي يرطن بها دهاقنته.

البروفيسور جوين دوين فارمير، الذي يدير برنامج الاقتصادات المعقدة في معهد الفكر الاقتصادي الجديد بجامعة أكسفورد (المملكة المتحدة)، يعتقد أنه قد حان الوقت لنقل الاقتصاد إلى مساحة العلم الحقيقي عبر تجاوز الأساليب الاقتصادية التقليديّة، والانتقال إلى ما يسميه في كتابه الجديد «فهم الفوضى: علم اقتصاد أفضل من أجل عالم أفضل – 2024» باقتصاديات التعقيد التي تنظر إلى النظام الرأسمالي الكليّ كما الأنظمة الشبيهة بالنظم الأيكولوجيّة الطبيعيّة التي تتحكم بمناخ كوكب الأرض، ومن ثم تأمل بالاستفادة من المحاكاة الحاسوبيّة العملاقة وأحدث أدوات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بمسار الاقتصاد العالميّ ورصد كيفيّة تفاعل مليارات الأشخاص داخله، تماماً كما نبدع اليوم في التنبؤ الفعال بالطقس، ومتابعة التغيرات اللّحظية التي تطرأ عليه.

يرى فارمير أن إحدى مثالب علم الاقتصاد التقليديّ تكمن في ذلك التنوع المتناحر أحياناً في الآراء تجاه القضايا الأساسيّة في الاقتصاد، الأمر الذي يعني أن مجتمعاتنا ما زالت تتخذ القرارات الفاصلة بناء على المشاعر والمعتقدات الغريزية بدلا من موضوعيّة العلم، وهو يزعم أن اقتصاديات التعقيد توفر إمكانية لعلم اقتصاد أكثر موضوعية، حيث لا تولد الإجابات من خلال الافتراضات السابقة، بل من معطيات الواقع. ويفترض الاقتصاد القياسي أيضاً أن الأنظمة الاقتصاديّة تستقرّ وتصل على المدى الطويل إلى التوازن، لكن ذلك ليس – وفق فارمير دائماً - سوى تعميم مخل لا يعمل إلا في حالات بسيطة ومعزولة، إذ إنّه من الجليّ أن العقلانية ليست مرجعيّة حاكمة للسلوك البشري، ومن دونها، فإن الإطار الرياضي الذي يحكم النموذج الاقتصادي الحالي سينهار بكليته.

يستند فارمير في طروحاته إلى التقدّم النظريّ الهائل الذي تحقق في العقود الأخيرة ضمن فضاء نظريّة الفوضى ونمذجة الأنظمة المعقدة – أي تلك التي تتقاطع فيها العديد من الظواهر ما يخلق كلاً يختلف نوعياً عن مجموع أجزائه متفرقة - مثل الدماغ البشري، والمناخ، والنظام الرأسمالي. وبالطبع، فإن عمليّة النمذجة ليست مثالية، بمعنى أن معطياتها تعتمد أساساً على العوامل التي ستؤخذ بعين الاعتبار، وكمية ودقة البيانات المتوفرة عنها، والفترة الزمنية التي تغطيها تلك البيانات. ومع أن معظم هذه الأدوات النظريّة متوفرة منذ ستينات القرن الماضي، إلا أن البروفيسور فارمير يقول إن قوة الحوسبة في وقتنا الرّاهن أقوى بمليار مرّة مما كانت عليه في القرن العشرين، وهو ما يمنح العلماء قدرات متفوقة على التنبؤ بسلوكيات الأنظمة المعقدة عموماً والاستمرار في تحسين دقة تلك التنبؤات مع مرور الوقت.

ويعطي المؤلف في «فهم الفوضى» أمثلة واقعية من خبرته الشخصيّة المديدة عن إمكانات اقتصادات التعقيد تبدأ من عام 1975 عندما ترك كليّة الدراسات العليا وتفرّغ للتنبؤ بلعبة الروليت في دور المقامرة في لاس فيغاس، وهو أمر لم يكن متوقعاً. لكنّه نجح في بناء نموذج يتنبأ بالنتائج واستخدم أرباحه لتأسيس تعاونية مع رفاقه نجحت في بناء أول جهاز كمبيوتر يمكن ارتداؤه، كان يخفيه تحت معطفه، وينقل الحسابات إلى شريكة له كان ترتدي جهاز استشعار مخفياً لتراهن على الأرقام الفائزة. ولاحقاً – عام 1991 – أسس مستغلاً قدرته على بناء نماذج التنبؤ شركة للتداول الإلكتروني بالأوراق المالية يفوق أداؤها معدلات السوق في 19 عاماً من أصل عشرين، قبل أن يبيعها لإحدى الشركات الكبرى مقابل مائة مليون دولار في 2006.

وفي 2010، نشر مقالة له في مجلة مرموقة تنبأ فيها بأن الطاقة الشمسية ستكون أرخص من الكهرباء التي تعمل بالفحم بحلول عام 2020 مخالفاً بذلك عدداً من الاقتصاديين. وبالفعل انخفضت التكلفة وفق توقعاته، وأصبحت الطاقة الشمسية الآن أرخص من الكهرباء التي تعمل بالفحم، وتتجه تكلفتها إلى مزيد من الانخفاض.

وفي أجواء «كوفيد - 19» توقع فارمير وزملاؤه أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد البريطاني للربع الثاني من عام 2020 بنسبة 21.5 في المائة بسبب سياسات الإغلاق التي تبنتها الحكومة في ذلك الحين، في حين تنبأ بنك إنجلترا (المركزي) بانكماش للفترة نفسها بنسبة 30 في المائة. ولكن رقم فارمير وزملائه كان أقرب بشكل لافت للرقم الفعلي الذي انتهى إلى 22.1 في المائة.

ويقود البروفيسور فارمير مختبراً لسياسات المناخ، يحلل ويقيّم أساليب ومنهجيات اقتصاديّة للتعامل مع تغيرات المناخ، بما في ذلك أنجع السبل لضمان الانتقال السلس نحو اقتصاد صديق للبيئة في إطار عالمي يأخذ بعين الاعتبار الفروقات البنيوية في اقتصادات مختلف الدول.

فإذا كانت هذه القدرات متوفرة فعلاً، فما الذي يمنع الدّول من توظيفها بشكل مباشر في تفكيك أسس الاقتصاد العالمي وفهم سبل بناء تنمية مستدامة والبحث عن حلول للفقر، وانعدام المساواة، والطبقيّة السافرة؟!

يلمّح البروفيسور فارمير إلى مسألة تتعلق بنظرة الطبقات المهيمنة على الاقتصاد العالمي، التي في أغلب الأحوال لا تجد مصلحة لها في فهم جمعيّ أفضل لطريقة عمل النظام الرأسمالي، ومن ثم استخلاص سياسات قد تنهي انعدام المساواة مثلاً – سواء بين الدول – أو حتى على صعيد الطبقات في المجتمع نزولاً عند مصالح مجموعة من الأفراد المفرطي الثراء، لكنه يتوارى وراء نص ينقله عن الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور الذي يذهب فيه إلى القول إن التناقض الأساسي للنظام (الرأسمالي) مستمر لأنه لا يوجد عدد كاف من المنتفعين الذين يقبلون بالتضحية بمصالحهم على المدى القصير لمصلحة غد أفضل للجميع. على أن البروفيسور فارمير يجرؤ على الإشارة إلى أن مصلحة الحضارة الإنسانية وصيانة مستقبلها على هذا الكوكب تحتّمان أن تنتقل البشرية من التخبط في اتخاذ القرارات الاقتصادية إلى استخدام اقتصاديات التعقيد، التي دون شك تتطلب إلى جانب التزام النخبة بتنفيذ معطياتها توفير الاستثمارات الهائلة اللازمة والكوادر لمدّ النمذجة بأكبر كميّة ممكنة من البيانات من المصادر المختلفة، وهو أمر أصبح في الثورة التكنولوجية أقرب إلى الواقع منه إلى الخيال.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: 19 يونيو 2024 م ـ 13 ذو الحِجّة 1445 هـ

السؤال في عنوان المقال قد يكون صادمًا للقارئ، لكن الواقع الآن يتحدّث عن مغادرة باتت واضحة للدراسات الإسلامية من المنطقة العربية، إما إلى جنوب شرق آسيا، خاصة إندونيسيا وماليزيا، أو إلى أوروبا والولايات المتحدة، والآن على استحياء في بعض الدول الأفريقية.

فالجمود ومطاردة من يفكّرون ويجددون بجرأة، ومحاصرة الدراسات الإسلامية في بعض الدول العربية، يقابلها صعود متزايد للدراسات الإسلامية خارج المنطقة العربية.

إندونيسيا

هناك فلسفة وراء صعود الدراسات الإسلامية في إندونيسيا. في كتاب العالم الإندونيسي فضل الرحمن مالك الصادر عام 1982م بعنوان "الإسلام والحداثة"، يقول: "إنّ الديناميكيات بين العلوم الاجتماعية، كعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وما إلى ذلك والمجتمع الإسلامي ليست مدروسة بشكل جيد في إطار التعليم الإسلامي في جميع أنحاء العالم، ونادرًا ما يتم التطرق إلى الأفكار والفلسفات المعاصرة".

هذا، في رؤية الإندونيسيين، جعل المؤسسات الإسلامية التقليدية في العالم العربي (كالأزهر الشريف في مصر) غير قادرة على الاستجابة بفاعلية للتحديات المعاصرة. في بلد به 1300 مجموعة عرقية وأكثر من 225 مليون مسلم، لا بدّ من البحث عن قضايا تجعل السِلم المجتمعي أولوية، بل دراسات تؤكّد التنوع مع الوحدة، فضلًا عن المعاصرة. بناءً على ذلك، أعلنت إندونيسيا عن تأسيس ما أسمته "الجامعة الإسلامية الدولية الإندونيسية".

ورغم وجود عدد من الجامعات المتخصصة في الدراسات الإسلامية بإندونيسيا، فإن تأسيس هذه الجامعة جاء ليعبّر عن عدد من المعطيات، من بينها أن إندونيسيا صار لديها كوادر علمية تتلمذت في الأزهر والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وغيرهما، وحان الوقت ليكون لإندونيسيا دور يوازي وزنها السكاني في العالم الإسلامي (13% من المسلمين)، فضلًا عن سعيها لتكريس نموذج للدراسات الإسلامية مختلف عن نموذج المنطقة العربية.

لهذا السبب، رأينا إندونيسيا تؤسس في هذه الجامعة مركزًا لدراسة الثقافة الإندونيسية الإسلامية، وآخر للدراسات الإستراتيجية الإسلامية، مستعينة في ذلك بتجربتَين من خارج المنطقة العربية، هما: مركز لايدن لدراسة الإسلام والمجتمع، ومركز أكسفورد للدراسات الإسلامية. وتسعى إندونيسيا حاليًا لجذب مئات الطلاب لدراسة العلوم الإسلامية بها.

ماليزيا

جذبت الدوريات الإسلامية العلمية الصادرة في إندونيسيا، وماليزيا باللغات المحلية، والعربية، والإنجليزية عددًا كبيرًا من العلماء العرب للنشر فيها، بسبب إصرار لجان الترقيات في الجامعات العربية على التصنيف الدولي للدوريات. وهو ما نجحت فيه جامعات هاتين الدولتين، فيما فشلت الجامعات العربية الإسلامية في بناء تصنيف يحترم ويقدر دورياتها.

في ماليزيا كذلك، هناك رؤية وراء الاهتمام بالدراسات الإسلامية وضعها الفيلسوف الماليزي السيد محمد نقيب العطاس (مواليد 1931م)، حيث صاغ مفهوم "غرس وتلقين الأدب في الإنسان عبر تأديب العقل والروح"، وهو ما جنّب ماليزيا ظهور متطرفين بها. في ماليزيا، توجد 23 جامعة على الأقل، بها تخصصات الدراسات الإسلامية، أبرزها الجامعة الإسلامية العالمية.

تدرك ماليزيا أن دورها في تحديث الدراسات الإسلامية يقودها إلى مكانة بارزة في العالم الإسلامي، لذا فهي تعتمد على سياسة المنح الدراسية للطلبة المسلمين، في سياسة النفس الطويل بعيد المدى في التأثير، وهو ما جعلها نموذجًا كدولة إسلامية ناجحة يمكن الاقتداء بها.

أوروبا

المشاكل المتتالية التي مرّت بمسلمي أوروبا، جعلت الدول الأوروبية تفكّر مليًا في هؤلاء إلى حد التفكير العنصري. لكن في نهاية الأمر ومع الجيل الثالث من مسلمي أوروبا، ومع المسلمين من أصول أوروبية، صار الإسلام حاضرًا في أوروبا. هذا ما اقتضى أن تكون معظم جامعات أوروبا معنيّة بالدراسات العربية الإسلامية، وبدراسة الإسلام كدين.

على عكس ما كان في القرون من الرابع عشر إلى القرن العشرين، صارت الدراسات الإسلامية في الجامعات الأوروبية يقودها مسلمون، في حين أنه في السابق كان يقودها مستشرقون أوروبيون. الآن، تولد في أوروبا دراسات إسلامية معاصرة بدأت تلفت الانتباه بقوة. فبدءًا من دراسة المجتمعات الإسلامية إلى الشريعة والفقه إلى غير ذلك، لدينا مئات الدراسات. وقراءة لمجلة "تعارفوا" التي تصدرها الهيئة الأوروبية للمراكز الإسلامية كاشفة. كما أن هناك 59 جامعة أوروبية معنية بصورة مباشرة بالدراسات الإسلامية.

صار بناء علماء مسلمين أوروبيين هدفًا أوروبيًا بعد أن عانت أوروبا من تصدير مشكلات العالم الإسلامي لها. لهذا السبب، رأينا ذلك في المعهد الأوروبي للعلوم الإسلامية في بروكسل الذي تأسّس عام 2010م، وكذلك كلية الدراسات الإسلامية في ألمانيا.

تجربة عبد الحكيم مراد

إن أقصى ما كان يجول في الخيال أن تأتي رؤية لتجديد الفقه الإسلامي من جامعة أكسفورد، حتى إن مركز "نهوض" في الكويت رأيناه يترجم "مرجع أكسفورد في الفقه الإسلامي وأصوله وتاريخه"، وهو في مجلدَين ليقرأَه العرب، ويقبل عليه علماء عرب مسلمون، ويصبح مرجعًا في دراسات الفقه الإسلامي في المنطقة العربية.

وفي السياق أيضًا، يطل علينا من جامعة كامبردج أحد العلماء المسلمين المجددين، بل ممن يطرحون رؤى تلفت الانتباه، وهو العالم الإنجليزي المسلم عبد الحكيم مراد (تيموثي وينتر) الذي شكل مدرسة علمية مجددة وراشدة في التعاطي حتى مع الحديث النبوي الشريف، عكس ما يطرحه التنويريون العرب من تعطيل للسنة النبوية. لقد صار تلامذته بدراساتهم معلمًا للإسلام في أوروبا. درس عبد الحكيم مراد في جامعات كامبردج، ولندن، والأزهر، ولديه عناية خاصة بالسنة النبوية، ومنصة رقمية لتعليم الإسلام، عليها إقبال من كل أنحاء العالم، يقدم فيها السيرة النبوية، والإمام الغزالي، وقصص القرآن.

وأخيرًا، ففي الولايات المتحدة، بات صعود الدراسات الإسلامية في حاجة لرصد وتحليل عميق في ظلّ تزايد المسلمين بها، بل تمركزهم في ولايات مثل نيويورك، وتكساس.

تشير المؤشرات إلى أن الإسلام ستكون له لغة أخرى إلى جانب العربية، وهي اللغة الإنجليزية. فهل نرى قريبًا اجتهادات إسلامية بالإنجليزيّة؟

***

د. خالد عزب - أكاديمي وخبير في مجال التراث

عن  موقع الجزيرة، يوم: 21/6/2024

 

ليست إشكالية السياسة والحقيقة بالإشكالية الجديدة في الفكر الفلسفي، بل نجدها حاضرةً بقوة في كتابات أفلاطون، أهم فلاسفة العصور القديمة.

بيد أن السنوات الأخيرة شهدت عودةً لهذه المسألة المعقدة في إطار الجدل الذي خلّفته الثورة الاتصالية الراهنة، بتأثيراتها البارزة على نمط انتقال المعلومة في المجال العمومي، من خلال شبكات المواقع الاجتماعية وطبيعة الخطاب السياسي الموجه للقاعدة الشعبية العريضة.

ومن الأعمال التي صدرت مؤخراً في الموضوع كتاب الفيلسوفة الإيطالية غلوريا أوريغي، «الفلسفة مسألة سياسية»، وفيه تتساءل: هل تشكل الحقيقةُ موضوعاً سياسياً على غرار مفاهيم محورية أخرى مثل العدالة والمساواة والحرية؟

ومعلوم أن الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة أرندت قد عالجت هذا الإشكال في مقالة بعنوان «الحقيقة والسياسة» (1967)، خلصت فيها إلى أن الحقيقة مقولة خارج الحقل السياسي، وإن كانت شرطاً في بناء عالم مشترك صلب ومتماسك.

عندما تتحول الحقائق الطبيعية والعقلية إلى رهان سياسي، تفقد الديمقراطية بصفتها مساراً حوارياً احتمالياً دلالاتَها، ولقد شكلت اليقينياتُ القطعية على الدوام أداةً مِن أدوات الاستبداد السياسي.ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن فكرة الحقيقة الموضوعية المستمدة من المعاينة التجريبية، والتي هي الخلفية الإبستمولوجية للعلوم الوضعية الراهنة، قد تزامنت مع الممارسة الديمقراطية الحرة بمقوماتها المرجعية المؤسسة على التداولية التعددية، أي غياب حقيقة مطلقة مهيمنة مسبقة.

ومع فلسفات الشك المعاصرة، وبصفة خاصة نقدية نيتشه، تعرّضت فكرة الحقيقة لنقد جذري، إلى حد القول بأن الحقائق كلّها تقويمات وتأويلات وليست مواقف وصفية للوقائع. إلا أن ما يجري حالياً هو أبعد من هذه الاعتبارات الفلسفية المجردة، بل يتعلق بالخروج من أفق الحقيقة نفسه، وذلك بالحديث عن «ما بعد الحقيقة» أو «الحقائق البديلة» بلغة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. لكن ما معنى الديمقراطية إذا انهارت فكرة الحقيقة وانتهت القسمة الوجودية بين الوقائع الوصفية والتأويلات النظرية؟

ألا ينفتح المجال رحباً أمام الصور الخطابية التي تستخدم الأهواءَ والمشاعر النفسية أداةً للإقناع والإجماع على غرار شخصية السوفسطائي التي حاربَها سقراط في المحاورات الافلاطونية؟

في عالمنا العربي، اتسم الخطاب السياسي لدى قطاع واسع من الفاعلين في المجال العمومي، مِن قادة رأي وصناع قرار، بالخطابية الأيديولوجية التي لا تقيم شأناً للحقائق الموضوعية ولا المعرفة التقنية الدقيقة.

وكان ميشال عفلق، مؤسس التيار البعثي وتلميذ الفيلسوف الفرنسي برجسون، يدافع عن «الحقيقة الوجدانية» في مقابل الحقيقة الوضعية، ويرى أن مشروع التغيير منوط بتوجيه الوعي عبر أساليب التعبئة الشعورية.

وسلك دعاة الأيديولوجيا القومية ثم الإسلام السياسي في عمومهم هذا المسلك، الذي أفضى إلى تحويل السياسة إلى فن للتعبئة والتحفيز، بدلاً من استخدامها في معاييرها القانونية والفنية الحديثة التي تكرس نمطاً من مرجعية الحقيقة.

ومن المعروف أن هوبز وسبينوزا اللذَين أدركا دورَ الأهواء والنوازع في العمل السياسي الجماعي، وبصفة خاصة ما يتعلق بمتطلبات الخضوع والإذعان للسلطة (الخوف والرغبة على الأخص)، أخرجَا السياسةَ مِن منطق التحكم الفردي إلى منطق التسيير التقني لمؤسسات الدولة والتدبير القانوني للميدان العمومي. وهكذا ندرك دورَ الخبير المتنامي في الفعل السياسي، من حيث كونه يتأسس على نمط من الحقيقة التقنية الوضعية التي تُقيِّد إلى حد بعيد ديناميكيةَ التداول والنقاش الجماعي التي هي أرضية الممارسة الديمقراطية في دلالتها الواسعة.

إلا أن ما يفرق بين الأنظمة الكليانية التسلطية والأنظمة الليبرالية المفتوحة هو أن الحكومات الاستبدادية تحكم باسم الحقائق اليقينية الملزِمة المفروضة على وعي الناس، كما هو شأن الأيديولوجيا الماركسية التي تدّعي الاستنادَ إلى علم موضوعي بقوانين التاريخ البشري. أما في الأنظمة الليبرالية، فتظل الحقيقة أفقاً احتمالياً مفتوحاً، بما يضمن التخلص من الوثوقيات الهشة والأوهام الشائعة.

في أعماله الأخيرة حول حفريات الذات، يبين ميشال فوكو أن الديمقراطية قامت تاريخياً على أساس ثلاثة مفاهيم ترجع للقاموس اليوناني: الإيزنوميا (أي المساواة أمام القانون)، والأيزوغريا (أي المساواة في حق الكلام العمومي مهما كانت طبيعة الاختلاف الطبقي بين الأفراد)، والباريزيا (أي شجاعة قول الحقيقة مهما كلف هذا الخيار ومهما كانت تبعاته الاجتماعية).

ومن دون الباريزيا، تتحول الديمقراطية إلى إجماع نخبوي تسيطر عليه النوازع والأهواء والمعتقدات الوثوقية، في نمط من إجماع التواطؤ الذي هو النقيض الفعلي للتوافق الحر في مجتمع ليبرالي مفتوح. وخلاصة الأمر أن التحدي النوعي المطروح على المجتمعات الديمقراطية الحالية هو الحفاظ على معيار الحقيقة البرهانية في مواجهة الفردية النرجسية المغلقة على نفسها والأهواء المتقاسَمة التي تتخذ شكل إجماع وهمي زائف.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 23 يونيو 2024 23:45

 

من أهم ما يميز الفلسفة أنها مجال مفتوح، يتجدد مجالها، وتتصاعد وظيفتها مع تغير الأحوال والظروف، ومن يطالع أي تاريخٍ لها وإنْ كان مختصراً على النحو الذي فعله هيغل في محاضراته وفي فاتحتها يعتبر أن: «ما يمثله تاريخ الفلسفة هو توالي النفوس الشريفة، معرض أبطال العقل الذي يتفكر، الأبطال الذين تغلغلوا، بفضل هذا العقل، في جوهر الأشياء، في الطبيعة والروح، وأقاموا لأجلنا الكنز الأعظم، كنز المعرفة العقلانية، إن الحوادث والأفعال في التاريخ هذا تكون على إثر نوعٍ يجعل مادته وقيمته متمايزتين عن الشخصية والطابع الفردي، في حين أن الفرد في التاريخ السياسي، حسب خصوصية طبيعته وعبقريته وأهوائه وقوة مزاجه أو ضعفه، وبوجهٍ عام حسب ما هو مبرر لكونه هذا الفرد المتعين هو فاعل بحيث لا يمكننا عزوها إلى الفرد الخاص، وبحيث لا يمكن إسناد استحقاقها إليه، وأنها تتوقف أكثر على الفكر الحر، على السمعة العامة للإنسان من حيث هو إنسان، وأن هذا الفكر المحروم من الخصوصية بالذات هو الفاعل الذي ينتج».

ليس هناك صراعٍ بين العلم والفلسفة، برغم وجود نعرات لفلاسفة وصراعٍ حول هذين المجالين من حيث التفضيل، بيد أن الفلسفة بتاريخها كانت رافعة للنظرية العلمية من حيث توفير أرضية الأسئلة التأملية، التي لا يشترط أن تكون مرتبطة بنظرية علمية، كذا فعل الفلاسفة اليونانيون حين تحدثوا عن النار كما لدى هيرقليطس، أو الماء كما لدى أرسطو، أو الذرة كما لدى ديموقريطس.

العطاء الذي تمنحه الفلسفة يأتي على شكل فتوحات وشذرات، التماعات ورؤى وومضات حين تناقش أصل الكون، ولكنها لم تبقَ منفصلة مع التطور العلمي، خصوصاً في المجالات الرياضية منذ القرن السادس عشر وما تلاه.

غير أن العلم لم يستطع اجتياح الفلسفة ولا إلغاء دورها، حيث نجد النمط التأملي حاضراً لدى فلاسفة رياضيين من أمثال ديكارت وبليز باسكال ولايبنتز، فالعلم لم يغلق أسئلة الفلسفة، ولا يمكنه ذلك، بل كل حلٍ علمي لسؤالٍ فلسفي، يعقبه سؤال فلسفي جديد على النحو الذي يطالعه كل قارئ للنظريات الشاملة حول المعرفة لدى فلاسفة لهم باعهم في العلوم الطبيعية من مثل إيمانويل كانط، والذي لا تزال آراؤه ومفاهيمه فاعلة ومحل نقاشٍ حتى اليوم، فهو من أعظم فلاسفة التاريخ إن لم يكن أكثرهم أهمية وإشعالاً للجدل والنقاش الحيوي، وخصوصاً في كتابه «نقد العقل المحض».

الخلاصة، ان مشروع إيمانويل كانط بحر متلاطم. ومن ظريف ما وصف به قول سمير بلكفيف، في كتابه: «التفكير مع كانط ضد كانط»: «إنك لتشعر في مؤلفات كانط كما لو أنك في سوق ريفية، فبمقدورك أن تشتري منه أي شيء ترغب فيه، فستجد لديه حرية الإرادة وعبوديتها، والمذهب المثالي ودحضه، والإلحاد والإيمان بالرب الخيّر». وتقوم هذه الفلسفة على الأسئلة الثلاثة المشهورة: ما الذي يمكنني أن أعرفه؟ ويمثل مشكلة المعرفة، وما الذي ينبغي أن أعمله؟ ويمثل المشكلة الأخلاقية، وما الذي أستطيع أن أملّه؟ ويمثل المشكلة الدينية».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 18 يونيو 2024

تختلف الأحكام على نعوم تشومسكي الذي بلغ الـ95 بين مَن يتطرف في اعتباره مؤيداً شرساً لفلسطين والعرب، ومَن ينظر إليه كمراوغ يقول الشيء ويلمح لضده، وبأنه بقي صهيونياً مخلصاً، لكن على طريقته. الالتباس متأتٍّ من سعة معرفة الرجل، ولدانة فكره، وطواعيته أمام التحولات. كان منافحاً عن حل الدولتين مع يقينه بأنه لن يتحقق، ولم ير بعين الرضا «اتفاق أوسلو» لأنه الأدرى بنيات إسرائيل. وقبل أن يفقد النطق، وتبدأ مجازر غزة، تصوَّر أن الحل المتبقي والممكن، هو الدولة الواحدة بغالبية يهودية، تُستثنى منها التجمعات الفلسطينية الكبيرة. ولا نعرف مِن آرائه في الأشهر الأخيرة، سوى غضبه بتلويحات باليد اليسرى، قبل أن تخرج إشاعات موته التي جزع لها محبوه.

لا يجادل اثنان في عبقرية تشومسكي، ومهاراته التحليلية، وموسوعيته. ما جعله شهيراً في البدء، وما سيبقى منه للتاريخ، ليس آراءه السياسية الآنية الفانية، ولا مواقفه الاجتماعية الإنسانية، وإنما نظريته اللغوية الفذة، وإنجازاته في ميدان اللغات، حتى قيل إنه «أبو اللسانيات الحديثة».

قبل أن يتعرف طلابنا في الجامعات إلى تشومسكي اليهودي المرتدّ عن صهيونيته، ومنعته إسرائيل، ذات مرة، من دخول الضفة الغربية، ونُظِر إليه على أنه مارق وناكر لبني قومه، يتعلمون إنجازاته الرائدة، كواحد من أهم علماء اللغة وأعظمهم تأثيراً، في عصره.

نظرية هذا العبقري، «التوليدية التحويلية»، لم تسهم في تغيير اتجاه الدراسات اللغوية فقط، بل كان لها تأثيرها على علوم الأنثروبولوجيا، والنطق، والأعصاب، والطب، والمناعة، وكذلك علم النفس، والاجتماع. أكثر من ذلك، لتشومسكي فضل في تطوير أساليب البرمجة وعلم الحاسوب، والترجمة الآلية، من خلال فتوحاته العلمية حول احتمالات التبديل اللغوي الذي يستخدمة المبرمجون؛ فهو رياضي من الدرجة الأولى، علمي المنهج، قدَّم رؤية لغوية أنقذت الإنسان من جلافة النظرية السلوكية التي كانت تعتبر قدرات البشر الذهنية ميكانيكة، آلية، كالحيوان. أما تشومسكي فأثبت أن لدماغ الإنسان مرونة وقدرة فطرية خلاقة، ليست لأي مخلوق آخر؛ فالطفل بمفردات قليلة، وتراكيب محدودة، خلال فترة قصيرة، يستطيع أن يولد ويستنبط ويركب عدداً كبيراً من الجمل، وهي خاصية لم تُعطَ لغير البشر. هذا ما سماه «جهاز اكتساب اللغة» الذي انشغل باكتشاف أسراره وفك رموزه.

اللغة بالنسبة إليه مرآة، من خلال ظواهرها وبنيتيها «السطحية» و«العميقة» نفهم البنية الذهنية للبشر.

ما يهمنا أن تشومسكي دخل عالم اللغات من باب العبرية، وتزوج إسرائيلية، وعاشا معاً عام 1953 في مستوطنة حزوريا، وقضى وقتاً طيباً هناك، لكنه رغم ذلك لحظ تطرف الروح القومية وخشي بحدسه المبكر من العنصرية التي يُعامل بها الفلسطينيون، ففضل العودة إلى أميركا.

كل الظروف اجتمعت لتشومسكي ليصبح صهيونياً، انعزالياً، متقبلاً لوحشية إسرائيل وهستيريا حروبها. العائلة أوكرانية هاجرت إلى أميركا، في الوقت الذي توجهت فيه أسر أخرى إلى فلسطين. هناك علم والده في مدرسة دينية يهودية، وصار مديراً لها، قام بأبحاث حول اللغة العبرية، تعليمها وقيمتها وأهميتها وقواعدها. نعوم نشأ في هذه البيئة، تعلم العبرية، وتحدث الإيديشية، عايش الفكر الصهيوني، عانى من معاداة السامية، توجس من انتشار الفاشية في أوروبا، لكنه كان شغوفاً بالقراءة، وانخرط في الجامعة بدراسة اللسانيات والفلسفة، نال شهادة الماجستير عن أطروحته حول «الصيغ الصرفية في العبرية»، وتمكن بفعل براعته في القياس من توسيع دائرة نتائجه الأولى لتشمل لغات أخرى.

أعجب بأفكار التيارات اليسارية صغيراً، وتبلور حسه النقدي من نقاشاته التي بدأت في البيت، ساند الحركات الطلابية التي قامت ضد حرب فيتنام، وكتب مناهضاً هذه الحرب، ثم عارض الغزو الأميركي للعراق، وزار قطاع غزة عام 2012 تضامناً مع أهلها المحاصرين. وذهب تكراراً إلى الضفة.

حين ينتقد تشومسكي إسرائيل، فهو يفعل كيهودي، يفهم البنية العميقة لهذا الكيان، ومخاطرها على نفسها، ويشن حملاته على السياسات الأميركية كيساري يفهم سلطة المال ولعنته. يستشهد بآدم سميث الذي يقول إن أصحاب الثروات يتبعون مبدأ حقيراً هو: «كل شيء لأنفسنا، ولا شيء للآخرين»، معتبراً أنها جملة مفتاح لفهم السياسة الداخلية لأميركا التي تحكمها مافيات المصالح، ويقيس عليها السياسة الخارجية، ومن هنا تأتي حملاته على وسائل الإعلام التي هي مجرد أبواق يعدّها بديل السوط في الأنظمة الديكتاتورية.

الحكم على تشومسكي، وهو على سرير المرض، لا بد أن يتحرَّى العدل الذي يليق برجل تحلى بالشجاعة، وصدق الرأي، وسوية النفس، لنقول إنه قد يكون من أواخر الذين آمنوا بدور المثقف الفاعل العضوي، الذي دعا إليه غرامشي.

هو من سلالة مثقفي «المسؤولية الأخلاقية»، مثل إدوارد سعيد، إقبال أحمد، نورمان فينكلشتاين، الذين دانوا باستمرار صمت النخب، ولعبوا أدواراً تاريخية، بتوظيف اختصاصاتهم الضيقة، من أجل المصلحة العليا للإنسانية.

***

د. سوسن الأبطح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:

الخميس - 14 ذو الحِجّة 1445 هـ - 20 يونيو 2024 م

 

في الانتخابات الأوروبية الأخيرة (بين يومي 6 و9 يونيو الجاري)، عززت رئيسة وزراء إيطاليا جيورجيا ميلوني مكاسبها السياسية، بحصول حزبها على قرابة ثلاثين بالمائة من أصوات الناخبين. ومع أن اليمين الراديكالي في جل دول أوروبا حقق نتائج غير مسبوقة، إلا أن الأمر يتعلق في الحقيقة باتجاهين متمايزين لا زال أحدهما قريباً من النزعات القومية المتطرفة في تركيزه على هاجس الهوية السيادية والخصوصية الحضارية ورفضه للديمقراطية الليبرالية، في حين يعتمد الآخرُ قيمَ الليبرالية المحافِظة ضمن النسق الأوروبي العام. في البرلمان الأوروبي شكّل اليمين الراديكالي مجموعتين متمايزتين هما «مجموعة الهوية والديمقراطية» ومجموعة «المحافظين والإصلاحيين»، بما يحيل إلى المعادلة المذكورة.

لقد درس هذا التحول عالم الاجتماع تيبوت ميزرعس في كتابه الأخير الصادر بعنوان «ما بعد الشعبوية». وفيه يبين أن إيطاليا تشكل مختبراً هاماً للتجارب السياسية الأوروبية كما كانت دوماً في السابق. في هذا البلد صعد إلى السلطة أولُ زعيم شعبوي غربي هو برلسكوني، سنة 1994، قبل وصول التشكيلات اليمينية الشعبوبة إلى بلدان أخرى، وقبل وصول دونالد ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة، وقبل استفتاء البريكسيت في بريطانيا سنة 2016.

وحسب المؤلف، تمثل تجربة رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني التي انتُخبت عام 2022 نموذجاً جديداً يدعوه بما بعد الشعبوية، سيكون له تأثير واسع في بقية الدول الأوروبية، من حيث التوجهات والسياسات والبرامج الحكومية. ميلوني تختلف نوعياً عن سلفها الشعبوي اليميني سلفيني، كما تختلف عن حزب سيريزيا اليوناني الذي أخفق في الاحتفاظ بالسلطة، وعن حزب فوكس الإسباني المتآكل.الأمر هنا يتعلق بالعودة إلى ثنائية اليمين واليسار التقليدية، لكن من منظور جديد كلياً، مع العلم بأن الشعبوية لم تكن خاصة بأحزاب اليمين وحدها، بل إن بعض الحركات اليسارية اعتمدت المسلكَ ذاتَه عبر التشكيك في الديمقراطية الانتخابية والهجوم على النخب المتحكمة اجتماعياً.

اليسار الجديد (كما هو بارز مثلا في الدنمارك) يختلف عن الاشتراكية الديمقراطية في تشديده على موضوعات الهوية والعدالة التمييزية، ولو اقتضى الحال اللجوء إلى بعض السياسات اليمينية التقليدية (مثل تقييد حركية الهجرة)، في حين تخلى اليمين الشعبوي عن إجراءات تقويض المؤسسات العمومية والحد من استقلال القضاء والتخلي عن ديناميكية الاندماج الأوروبي.

لقد اعتمدت رئيسة الحكومة الإيطالية ميلوني سياسةً ليبرالية تقليدية، لا تختلف في الجوهر عن برامج الحكومات اليمينية المعتدلة، حتى في موضوع الهجرة المعقد والسياسة الخارجية، وإن تمسكت برؤية محافظة في الملفات الاجتماعية المطروحة. وحسب ميزرعس، فقد بدأت الموجة الشعبوبة في العقد الماضي، نتيجة لبعض العوامل، أهمها الأزمة العميقة التي عرفتها المنظومة الليبرالية خلال الأزمة الاقتصادية لسنة 2008 وقد ضربت أوانها بقوة مختلفَ الدول الأوروبية، وفي مقدمتها المجر واليونان، الدولتان اللتان انطلقت منهما التجارب الشعبوية اليمينية الحالية.

إلا أن العديدَ من الأحداث الأخيرة دفعت إلى انحسار هذه الموجة، مثل تحدي جائحة كورونا التي فشلت في مواجهتها الأنظمة الشعبوية، والآثار السلبية الفادحة لخيار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وردود الفعل التي واكبت هزيمة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وانعكاسات الحرب الأوكرانية الحالية على الصعيد الأوروبي.

وهكذا تراجعت بوتيرة متسارعة جلُّ الأحزاب الشعبوية اليمينية في عموم البلدان الأوروبية (باستثناء فرنسا)، وبدأت تبرز تشكيلاتٌ جديدة مغايرةٌ مِن حيث البرامج والتوجهات.

وإذا كان الحديث قد كثُر في السنوات الأخيرة حول نهاية ثنائية اليمين واليسار التي طبعت الحياة السياسية في الغرب الليبرالي خلال القرنين الماضيين، باعتبار أنها ارتبطت تاريخياً بالمسألة العمالية، فإن ميزرعس يرى أن الاستقطاب ذاته لا يزال قائماً بعد نهاية الموجة الشعبوية التي قوضت مرحلياً هذه القسمة الأيديولوجية.

ومعلوم أن اليمين الليبرالي والاشتراكية الديمقراطية يتفقان في المحددات الجوهرية، مثل: دولة القانون، ونظام الفصل بين السلطات، وآليات التنافس الانتخابي.. وإن اختلفا في طبيعة البرامج المجتمعية.

ما تعيشه أوروبا حالياً هو بروز خط تصدع جديد ضمن الثنائية نفسها على أساس التجاذب بين الليبرالية المحافظة والليبرالية التقدمية، بما نلمسه بوضوح في الخطاب السياسي للقوى الصاعدة في المعترك الانتخابي. في هذا المعترك يبدو أن الشعبويات الراديكالية، من يمين ويسار، لا مكان لها في المستقبل المنظور وإن كانت في جوهرها تمثل تعبيراً عن غضب اجتماعي عارم لم يعد بالإمكان احتواؤه بالقنوات المؤسسية التقليدية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 16 يونيو 2024 23:30

يعد الميل للفردانية والاكتفاء بالذات من أخطر من التطورات التي يعيشها البشر في حقبة ما بعد الحداثة. فقيمة الأسرة تتراجع بشكل كبير مقارنة بالحُقب الماضية حين كان الأفراد يعيشون في منظومات تكافلية تحتّم عليهم المشاركة في توفير ضروريات حياة أفراد المجموعة. فمرحلتا ما قبل الحداثة والحداثة اتسمتا بوضوح تقسيم العمل بين أفراد الأسرة، مما يجعل الطفل والمراهق يؤمنان بحتمية الزواج (أو أشكال المشاركة الأخرى) حيث ثمة احتياجات لا تتم تلبيتها إلا من خلال إيجاد الشريك الذي يبني مع الشخص منظومة مشابهة لتلك التي تخرّج فيها، أي الأسرة.

إذا كانت فترة ما قبل الصناعية (التي رافقتها ما قبل الحداثة) قد اتسمت بالتعامل المباشر مع الطبيعة للحصول على أساسيات الحياة، فإن مرحلة الثورة الصناعية (التي رافقتها الحداثة) قد أعطت للعلاقات البشرية بُعداً آخر يتناغم مع تعقيد تعامل البشر مع الطبيعة من خلال «التصنيع». لقد لعبت الصناعة دوراً في تغيير مسار الاقتصاد الكلي للدول مما فرض فكر الحداثة على المجتمعات. ومن أبرز تلك الآثار تقلّص الحاجة للمنظومة الكبرى (أي الأسرة الممتدة) والاكتفاء بالدائرة الصغرى، حيث يتقاسم الشريكان المسؤوليات المادية والأعباء المنزلية على أساس تناسب المشاركة المادية مع المشاركة المنزلية.

بالوصول لمرحلة ما بعد الصناعية التي واكبتها ما بعد الحداثة، تم التحول من سوق الإنتاج إلى سوق الخدمات. ولتسهيل ذلك تم التوسع في تقديم الخدمات التي كانت يوماً ما جزءاً من التكافل الأسري. لم تعد هناك حاجة ملحة للطبخ وغسل الملابس أو تنظيف المنازل، فكل تلك أمور يمكن توفيرها من خلال مزودي الخدمات. وعليه، وجب على كل فرد أن يقوم بالبحث عن مصدر دخل خاص يجعله قادراً على الحصول على تلك الخدمات بشكل فردي. كل ذلك يصب في صالح الاقتصاد الرأسمالي القائم على ثنائية العمل الدؤوب والاستهلاكية. فالفرد يعمل بشكل دؤوب من أجل كسب المال الذي سينفقه لاحقاً على استهلاك البضائع والخدمات؛ وكلّما ارتفع الدخل توسّعت دائرة الاستهلاك التي تعيد أموال الدخل المرتفع إلى أصحاب رأس المال عن طريق الاستهلاك.

إن التطور في الاستغناء المادي عن الأسرة سهّل عملية الاستغناء المعنوي. فالشعور بالحاجة لتكوين أسرة قد تغيّرت محفزاته بشكل جذري؛ فلا الرجل يبحث عن زوجة تقوم بأعمال المنزل، ولا المرأة تبحث عن زوج يرعى أمورها المادية. بالتالي، فقد تحول تفكير الناس إلى مميزات أخرى للشراكة الزوجية تقوم على نوعية جديدة من المطالب. أصبح الانسجام والتناغم في الرغبات (نوعية الطعام المفضل والموسيقى والأفلام) من الأمور الرئيسية في الشريك الذي لم يعد زوجاً أو زوجة تقليديين. يُضاف لذلك أن مسؤولية تربية الأطفال اختلفت من كونها عملية تنشئة اجتماعية تقوم على غرس العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية، إلى عملية البحث عن التعليم ذي الجودة العالية، والتدريب على هوايات يُرجى أن تعود بالنفع على الطفل سواء في الرياضة أو الفنون.

خلاصة القول: إنه بتوفير ضروريات الحياة عن طريق مزودي الخدمات، وبضرورة الخروج للعمل الدؤوب للجنسين، فإن الرجل والمرأة قد أُجبرا على رفع مستوى الاستحقاق في نوعية الشريك الذي سيعيش كل منهما معه. فهو وهي يريدان شخصاً يضيف لحياة الآخر شيئاً لا يوفره مزودو الخدمات. بالتالي، فإن صعوبة الاختيار تحتاج إلى حيلة نفسية تشرعن هذا النوع من الشعور بالاستحقاق المرتفع؛ وهنا يأتي شعور «الاكتفاء بالذات» عن الآخر.

عبارات مثل: «أنا سعيد بوحدتي ولا أريد أن يعكر عليّ أحد حياتي»، و«أنا أولى بنتاج جهدي وعملي»، و«لا أريد تحمل مسؤولية أحد» وغيرها من العبارات... ليست أكثر من عبارات تحفيزية تشرعن للفرد حالة الإحجام عن الانتقال من حالة الفرد إلى الأسرة. هذه الحالة تجعل من الشخص أسيراً لثنائية العمل والاستهلاك؛ فالعمل تحقيق للذات المُكتفى بها، والاستهلاك للسلع الباهظة عملية مكافأة لتلك الذات التي تستحق وحدها أن نعتني بها.

أخيراً، فإن الواقع يقول إن العجلة لن تعود للوراء، وإن الاقتصاد الرأسمالي يسير بخطى ثابتة نحو «ما بعد بعد الصناعية» التي من أبرز تجلياتها الذكاء الاصطناعي، وهذا ما سيستدعي بالضرورة الدخول في مرحلة «ما بعد بعد الحداثة» التي قد يحلّ فيها الذكاء الاصطناعي محل البشر في إيجاد رفيق على مزاج الفرد. وقتها، سيكون الاستهلاك قد وصل إلى الذروة في تقليص الأسرة، وربما يكون السبيل لتراجع عدد سكان الكوكب.

***

د. عبد الله فيصل آل ربح - أستاذ علم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية بجامعة غراند فال

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:

الثلاثاء - 12 ذو الحِجّة 1445 هـ - 18 يونيو 2024 م.

 

300 سنة على ولادة الفيلسوف الألماني الشهير

تحتفل ألمانيا هذا العام بمرور ثلاثمائة سنة على ولادة مفكرها الأعظم: كانط. ولكن هل هو أعظم من هيغل؟ كلاهما عظيم. وسوف تقام المعارض وتنظم الندوات والمؤتمرات والمحاضرات في شتى أنحاء البلاد بهذه المناسبة. على هذا النحو تحتفل الأمم المتحضرة بعباقرتها وتفتخر بهم. يقول الباحث ميكائيل فوسيل، أستاذ الفلسفة في إحدى الجامعات الفرنسية: «منظوراً إليه من فرنسا، فإن كانط هو الفيلسوف الأكبر للأنوار. لقد نوَّر أوروبا والجنس البشري كله عندما أسهم في انتصار العقل على النقل، والفلسفة المستنيرة على ظلمات الأصولية الدينية والعقلية الخرافية. ولا تزال أفكاره تهمنا حتى اللحظة: كالبحث عن السلام الدائم بين الأمم، وكبلورة قيم أخلاقية كونية تنطبق على جميع شعوب الأرض، وكالدفاع عن العقل والعقلانية دون تقديم أي تنازل للعصبيات المذهبية والهيجانات الطائفية».

كانط هو فيلسوف النقد بامتياز. كان يقول ما معناه: إن عصرنا هو عصر النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء بما فيها العقائد الدينية ذاتها وبخاصة عندما تتحول إلى طائفية مدمرة. لا شيء فوق النقد بمعنى التمييز والتمحيص والغربلة لا بمعنى الشتم والتجريح المجاني. هذه ليست شغلة كانط. كيف يمكن أن نفهم تراثنا المقدس من دون دراسة علمية تاريخية نقدية له، وفي الختام تقييم فلسفي؟ لهذا السبب ألَّف كانط في أواخر حياته كتابه: «الدين مفهوماً ضمن حدود العقل فقط». ولكن هذا الكتاب سبَّب له بعض المشكلات. فقد احمرَّت عليه الأعين بسبب آرائه الجريئة عن الأصولية المسيحية. ووشى به المتزمتون المتحجرون عند الإمبراطور فريدريك غيوم الثاني. معلوم أن كانط كان في أمان طيلة عهد عمه فريدريك الأكبر المدعو بالمستبد المستنير الذي كان يسمح بحرّية كبيرة في مجال نقد الانغلاقات الدينية ورجال الدين. وقد أهدى كتابه الشهير: «نقد العقل الخالص» إلى أحد وزرائه الكبار.

كان يشعر بحرِّية كاملة في التفكير والنشر والتعبير طيلة عهده. ولكن بعد موته خلفه على رأس السلطة ابن أخيه فريدريك غيوم الثاني الذي كان مستبداً ظلامياً مقرباً من الأوساط الأصولية البروتستانتية التي تملأ رحاب القصر. فهدده الإمبراطور وتوعده بعد أن سمع بآرائه الجريئة عن الدين. كان كانط يبلور تفسيراً عقلانياً للدين المسيحي. لم يكن ملحداً ولا كافراً بالقيم الإنجيلية العليا للدين. لم يكن ضد الدين كدين وإنما كان ضد الطائفية التي دمَّرت ألمانيا سابقاً. لهذا السبب اصطدم تفسيره الجديد للدين المسيحي بشكل مباشر بتفسير الأصوليين.

ولذا فالمعركة بين الطرفين كانت إجبارية ومحتومة. ولكن عندما شعر كانط بأن المقصلة قد اقتربت من رأسه تراجع قليلاً إلى الوراء بعد أن كان قد نشر بالمفرق جزءاً من كتابه الشهير. وقال للإمبراطور: «أعدكم يا جلالة الملك، كأحد رعاياكم المطيعين المخلصين، بألا أخوض في الشؤون الدينية بعد اليوم». بالطبع كانط كان يعرف في قرارة نفسه أنه سيكون في حِلٍّ من القرار إذا ما مات الملك قبله. وهذا ما حصل عام 1797 لحسن الحظ. وعندئذ أكمل الفيلسوف بحوثه المضيئة عن الدين ونور ألمانيا وكل أوروبا.

هنا نلمس لمس اليد الفرق بين المستبد المستنير والمستبد الظلامي. إنه فرق كبير جداً على عكس ما نتصور. المأمون كان مستبداً مستنيراً محبذاً للعلم والفلسفة والترجمة، على عكس المتوكل الذي جاء بعده وكان مستبداً ظلامياً يكره المعتزلة والفلاسفة ويضطهدهم. واليوم نتساءل: هل العالم العربي جاهز للديمقراطية؟ والجواب هو قطعاً: لا. العالم العربي بل الإسلامي كله بحاجة إلى مستبد مستنير وحكم رشيد، وبعدئذ تجيء الديمقراطية على مراحل تدريجية. كل شيء بوقته. بعد أن يستنير الشعب ويخرج من عباءة الأصوليين والإخوان المسلمين والخمينيين وبقية الظلاميين، عندئذ تصبح الديمقراطية تحصيل حاصل. لا ديمقراطية من دون فلسفة. لا ديمقراطية من دون استنارة فكرية تشمل شرائح واسعة من الشعب. هذا شيء مفروغ منه. وبالتالي كفانا شعارات ديماغوجية.

لكن لِنَعُد إلى كانط. ماذا فعل هذا الرجل؟ ماذا حقق؟ لقد حقق معجزة تقريباً. لقد أصدر عدة كتب متلاحقة غيَّرت خريطة الفكر البشري: نذكر من بينها: «نقد العقل الخالص» 1781، و«نقد العقل العملي» 1788، و«نقد ملكة الحكم أو التمييز» 1790، ثم توج كل ذلك بكتابه عن «الدين مفهوماً ضمن حدود العقل فقط» عام 1793، وأخيراً لا ينبغي أن ننسى كتابه: «لأجل السلام الدائم بين الأمم» 1795.

كانط سبق عصره بـ150 سنة على الأقل. مَن يعرف ذلك؟ كانط هو أستاذ الرئيس الأميركي الكبير وودرو ويلسون، صاحب المبادئ الشهيرة، وبخاصة حق الشعوب في تقرير مصيرها. كان رئيس أميركا يرى نفسه تلميذاً صغيراً من تلامذته. لم يكن يحلف إلا باسمه. لم يكن يهتدي بعد الله إلا بهديه. الفلاسفة الكبار ليسوا كمثقفي الدرجة الثانية أو الثالثة. الفلاسفة الكبار ليسوا أشباه مثقفين يركبون الموجات الأصولية والشعبوية الغوغائية.

الفلاسفة الكبار هم كالرادارات الكاشفة: منارات العصور. إنهم يسبقون عصرهم، إنهم يرهصون بالعصور القادمة. إنهم يفكرون إلى البعيد أو بعيد البعيد. باختصار شديد: إنهم يرون إلى أبعد من أنفهم! من بين هؤلاء إيمانويل كانط وأستاذه العزيز جداً على قلبه جان جاك روسو. وهو الشخص الوحيد الذي كان يضع صورته على مكتبه لكي يستأنس بها وهو يفكر ويكتب. العباقرة يعرف بعضهم بعضاً.

من المعلوم أن الأفكار الأخلاقية والفلسفية التي بلورها كانط في كتابه «لأجل السلام الدائم بين الأمم» هي التي ألهمت تأسيس عصبة الأمم أولاً، فالأمم المتحدة ثانياً؛ أي قبل قرن ونصف من تأسيسهما. وهذا أكبر دليل على مدى تأثير الفكر في الواقع. ثم يقولون لك بعد كل ذلك: ما معنى الفلسفة؟ ما معنى الثقافة؟ ما معنى المثقفين؟ معناهم عظيم إذا كانوا مثقفين حقيقيين من أمثال كانط، من وزن كانط، من حجم كانط. الأفكار هي التي تقود العالم. نقصد الأفكار الجديدة، الأفكار المتينة، الأفكار المضيئة التي تشق ظلمات العصور.

أخيراً...

يبدو أن كانط لم يعشق ولم يتزوج ولم يعرف أي امرأة في حياته. وهذا من عجائب الأمور. لقد تفرَّغ كلياً لقضية الفكر والفلسفة. وكفاه ذلك فخراً. ماذا كنا سنستفيد لو أنه أنجب عشرة أطفال؟ أمَا كان ذلك سيكون على حساب إبداع مؤلفاته الكبرى؟ أمَا كنا سنخسر كل هذه الكنوز والجواهر والإضاءات؟ نقول ذلك خصوصاً أن أولاد العباقرة نادراً أن يكونوا عباقرة. بل إنهم في معظم الأحيان يكونون أشخاصاً عاديين كبقية البشر، هذا إن لم يكونوا أقل من عاديين. ثم إنهم كانوا قد عاشوا وماتوا ولم يبقَ لهم من أثر. مَن يتذكر أبناء هيغل، أو ماركس، أو فرويد، أو تولستوي، إلخ؟ أما مؤلفاتهم العظمى فخالدة على الدهر. لا تزال كتب كانط تدرَّس في كل جامعات العالم. لا تزال تضيء لنا الطريق. أطفاله الحقيقيون هم كتبه ومؤلفاته. نقطة على السطر. ولكن للحقيقة والتاريخ يقال إنه عشق مرة إحداهن. ولكنه غطس بعدها مباشرةً في الحفر عن بعض نظرياته العويصة المعقدة. وما إن استفاق من غيبوبته الفلسفية وأراد العودة إليها حتى كانت المحروسة قد تزوجت وأنجبت الأطفال. ولكن يبدو أن السبب مادي. لعن الله الفقر. قال مرة للكثيرين الذين يُلحِّون عليه في السؤال ويُقلقونه: لماذا لم تتزوج يا أستاذ كانط؟ فأجابهم على النحو التالي لكي يتخلص من ملاحقاتهم: «عندما كنت راغباً في النساء كنت فقيراً ولا أستطيع الاضطلاع بتكاليف الحياة الزوجية. وعندما أصبحت قادراً على ذلك لم تعد لي رغبة في النساء».

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: نُشر: 16:28-16 يونيو 2024 م ـ 10 ذو الحِجّة 1445 هـ

في منتصف القرن الـ20 راجت بقوة «أحاديث النهايات»، مثل نهاية الفلسفة، ونهاية الجغرافيا، وصولاً إلى أطروحة فوكوياما عن «نهاية التاريخ». لم تكن أطروحة نهاية الفلسفة تعني انتهاء معناها، وإنما كانت تمهيداً لإعلان إعادة تشكّل الفلسفة بأنماطٍ جديدة وطرق فريدة.

أخذت الفلسفة خطوطاً أخرى في تدخلها وفضولها وتجسسها على المجالات الأخرى، وبفضلٍ من طفرات مفهومية فجّرتها البنيوية وما بعدها استطاعت أن تتدخّل في مجالات «أنثروبولوجية» متجاوزة التحديدات الميتافيزيقية التي كادت تحصر بها، ومنهية الموضات والصرعات التي طرأت مثل «الوضعية المنطقية». دخلت الفلسفة في «المطبخ - السينما - الأزياء - الموسيقى - الكليبات»، كان هذا التدخّل الصارخ بمثابة إعلان بدء حقبة جديدة من علاقة الفلسفة بالبشرية. لم تكن فكرة نهاية الفلسفة إلا إعلان بدئها... كسرت الفلسفة جُدُر التقليد، لتجعل من أطرافه شلالاً لها، لم تسلم من مدّها وجزرها الأرجاء.

كان من اللافت دخول الفلسفة على السينما بأسماء فلاسفة كبار...، وعلى رغم عمر السينما القصير، الذي لا يتجاوز 100 عام، ظلت بمنأى عن درس معناها وتمظهراتها وتمدداتها في مجالات التفكير والحياة. وإذا كانت الفلسفة لم تستوعب بعد بشكل عام هذا الفن بالشكل نفسه الذي استوعبت به الفنون الأخرى، كالموسيقى والفن التشكيلي، فإن الفلسفة الحديثة نشطت على مستويات متفاوتة في رصد هذا الفن واللحاق بآثاره درساً وتحليلاً، هذا مع سبق برغسون وجيل دلوز لميشيل فوكو في استيعاب هذا الفن المدهش، ووجود تحليلات سريعة من فاتيمو وجاك دريدا، لكنها لا تصل إلى عمق اشتغال الفرنسي جيل دلوز.

لم يكن الانشغال الفلسفي بالسينما ذا هدف «سينمائي»، وإنما جاء كعمل فلسفي داخل «المفاهيم»، فهو يعمل داخل الصورة التي تنتج مفاهيم جديدة، وهو صلب تنظير جيل دلوز الفلسفي، الذي اعتبر الفلسفة كلها «تشكلات المفاهيم»، كما اعتبر الفيلسوف «صديق المفاهيم»، وتلك المفاهيم التي تنتجها السينما لا توجد بشكل مباشر، وإنما «ينحتها الملاحظ»، إذ يستقل الفيلسوف عن العمل السينمائي ليصبح «شغّيلاً» داخل المفاهيم التي يستخلصها من شريط طويل من المشاهد والصور، ولهذا يقول جيل دلوز: «المفاهيم التي تلحق بخصوصية السينما هي من أمر الفلسفة».

في يونيو (حزيران) 2012، ترجَم إبراهيم العريس كتاب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، الذي عنونه بـ«نجوم السينما»، وفيه مراجعة لمعنى النجم السينمائي ولشرط صناعته، كما يشرح العوامل «السيكولوجية» و«السوسيولوجية» التي تحدد هذه العلاقة، وبذل العريس جهداً واضحاً في ترجمة هذا العمل الذي أصبح كلاسيكياً في هذا المجال، وحين يكتب الفيلسوف عن «النجم السينمائي» إنما يعبّر عن تحوّل دور الفلسفة من جهة، ويعبّر عن اكتساح تاريخي للسينما التي باتت غذاءً يومياً للبشرية.

الخلاصة؛ أننا مع كل حالٍ من الخراب يجترحها الإنسان تعود الأسئلة إلى فضاء الفلسفة بحثاً عن التعليل لكل هذا التوحش وإرادة التخريب. كان نيتشه حاضراً في حروبٍ خاضها بلده ورأى الدماء والأشلاء كما رأى القوة والبطش، من عمق ذلك الحدث صاغ نظريته في إرادة القوة وإدانة الضعف ومحاكمة الأديان المحرّضة على التسامح والصمت، لهذا نجده في كتابه «عدو المسيح» ينتقد المسيحية والبوذية بحدّة، بينما يمتدح الإسلام لما فيه من فضاءٍ للقوة ومن مدح القتال في مواضعه اللازمة. وحين نشبت الحرب الأهلية الإنجليزية، كتب توماس هوبز نظريته في الدولة التي بناها على أصالة الشر في الإنسان.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الخميس - 29 ذو القِعدة 1445 هـ - 6 يونيو 2024 م

 

لم ينجُ منها إلا قلة قليلة من المثقفين النقديين التنويريين الأحرار

اطَّلعتُ باستمتاع كبير على كتاب المفكر العراقي المعروف الدكتور عبد الجبار الرفاعي، بعنوان: «مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث»، وفيه يتحدث عن جملة من مشاهير الفكر العربي والإيراني، من أمثال: علي الوردي، وحسن حنفي، وداريوش شايغان، ومحمد عمارة، وجودت سعيد... إلخ. منذ البداية يعيب علينا المؤلف انشغال الفكر العربي كلياً بالفكر الغربي، وإهماله الفكر الشرقي في الهند واليابان والصين؛ بل وإهماله حتى الفكر الإيراني المعاصر والمجاور، ما عدا في الأربعين سنة الأخيرة. ولذلك يحاول سد النقص، والتحدث عن جملة من المفكرين العرب والإيرانيين على حد سواء.

ولكن الملاحظ هو أن حتى المثقفين الإيرانيين مهووسون بالفكر الغربي الأوروبي الأميركي، تماماً كما المثقفين العرب. والسبب هو أن الغرب سيطر على العالم طيلة القرون الأربعة الأخيرة، وبالتالي فجميع مثقفي الأمم الأخرى أصبحوا مضطرين للتموضع قياساً إلى الفكر الغربي غصباً عنهم. وهذا الكلام لا ينطبق على المثقفين العرب والإيرانيين فقط، وإنما ينطبق على جميع مثقفي العالم، من أتراك وروس وصينيين ويابانيين... إلخ. وذلك لأن الحداثة الغربية أصبحت ظاهرة كونية، وتشكل مرجعية كبرى لجميع مثقفي العالم. فمن لا يعرف ديكارت أو كانط أو هيغل أو نيتشه أو ماركس أو فرويد أو هيدغر، أو حتى هابرماس المعاصر لا يعد مثقفاً. هذه حقيقة ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار، إذا ما أردنا أن نفهم ما يجري حالياً؛ بل وحتى منذ مائتي سنة. وسوف يظل الأمر كذلك حتى يظهر فلاسفة كبار لدى الأمم الأخرى، في حجم من ذكرناهم من فلاسفة الغرب.

هل يوجد فيلسوف عربي أو إيراني أو تركي، أو حتى روسي أو صيني، في حجم ديكارت أو كانط أو هيغل... إلخ؟ هل يوجد هيغل تركي؟ أقصد مفكراً تركياً في حجم هيغل الألماني؟ هل يوجد كانط إيراني أو ديكارت عربي؟

على أي حال، الفصل الذي لفت اهتمامي في كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعي هو ذلك المخصص للدكتور حسن حنفي، وكذلك الفصل المخصص للدكتور محمد عمارة. فلنحاول أن ندخل في التفاصيل قليلاً هنا. الشيء الغريب العجيب في الدكتور حسن حنفي هو أنه كتب عدة مقالات جريئة جداً في نقد الأصولية الظلامية، بعد مقتل الرئيس أنور السادات. ولكنه في الوقت ذاته كثيراً ما أثنى على جماعة «الإخوان المسلمين»؛ بل وحتى على مفكرهم الراديكالي سيد قطب الذي يصفه بالإمام الشهيد! فكيف يستقيم ذلك؟ كيف يعقل هذا التناقض؟ من أخطر الأشياء لدى حسن حنفي هو الجمع بين المتناقضات؛ أي بين الشيء وعكسه، دون أن يشعر بأي مشكلة. وهذا ما عابه عليه أيضاً، وبقسوة، جورج طرابيشي.4042 مفارقات واضداد

يلخص الدكتور عبد الجبار الرفاعي رأيه في حسن حنفي قائلاً: «لا يكترث حنفي كثيراً بالوظيفة المحورية للدين في إثراء الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية، وتكريس صلة الإنسان الوجودية بالله. ولكنه يشدد باستمرار على ضرورة تحويل الدين إلى آيديولوجيا».

ثم يضيف قائلاً هذا الكلام المهم: «من يقرأ حسن حنفي يندهش من الحضور الطاغي لتأويله الآيديولوجي للدين، وإفراطه في تطبيق آيات القرآن الكريم والنصوص الدينية والتراث بمنطق آيديولوجي على الواقع».

ولكن كل حركات الإسلام السياسي -أو المسيس- قامت بأدلجة الدين والتراث. وهذا ما عابه الفيلسوف الإيراني داريوش شايغان على الخميني والثورة الخمينية. وبالتالي فليس غريباً أن يسقط حسن حنفي في الخطأ ذاته. نقول ذلك، وبخاصة أنه كان من جماعة «الإخوان المسلمين» في بداياته. ونحن نعرف مدى ارتباط الثورة الإسلامية الإيرانية بجماعة «الإخوان المسلمين» المصرية. فالمرشد علي خامنئي هو مترجم سيد قطب إلى الفارسية. وبعد اغتيال الرئيس السادات، أصدرت إيران طابعاً لتخليد خالد الإسلامبولي، وعليه صورته المرعبة. وبالتالي فأدلجة التراث ظاهرة ضخمة تشمل جميع أنحاء العالم الإسلامي، ولم ينجُ منها إلا قلة قليلة من المثقفين النقديين التنويريين الأحرار.

إنهم لا يقرأون التراث لكي يفهموه ضمن ظروفه وحيثياته ومشروطياته القديمة، كما يفعل محمد أركون مثلاً، وإنما يقرأونه لكي يسقطوا عليه هموم الحاضر وقضاياه، أو لكي يسقطوه عليها. إنهم يستغلونه آيديولوجياً لكي يخلعوا المشروعية الدينية القداسية على أحزابهم السياسية، ولكي ينسفوا مشروعية الأنظمة القائمة باعتبارها خارجة على الدين والشريعة في رأيهم. وبما أن جماهير الشعب متدينة جداً، وبما أنهم يعرفون ذلك، فإنهم برعوا في أدلجة الدين واستخدامه كسلاح فعال وفتاك لتحقيق مآربهم.

وهنا نلاحظ الشيء الغريب التالي، وهو أن حسن حنفي الذي قدَّم نفسه كمثقف حداثي تنويري، هو في الواقع من أشد المدافعين عن «الإخوان المسلمين». ولكن لا ينبغي أن نظلمه أكثر من اللزوم. فهو يبقى حداثياً وتنويرياً، والدليل على ذلك أنه يعترف صراحة أو ضمناً بأن رؤية «الإخوان» للعالم مغلقة أو منغلقة، ويعيب عليهم النزعة الحادة المتطرفة في تفكيرهم. ويستنكر تصنيفهم الخاطئ للمجتمع المسلم إلى إسلام وجاهلية. وهنا تكمن الخطيئة الكبرى لسيد قطب.

ولكن حسن حنفي -كما يقول عبد الجبار الرفاعي- سرعان ما يعود في كتابات عديدة إلى تبجيلهم، ويفتعل دوراً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً استثنائياً اضطلعوا به في مصر. فكيف يمكن أن نفسر كل هذه التناقضات؟ هل يريد الرجل أن يجمع بين الماء والنار في يد واحدة؟ هل يريد أن يرضي جميع الناس؟ أم هل يريد أن يثبت أنه حداثي وتراثي في الوقت ذاته؟ ربما كان هذا الحل الأخير هو الأمثل لتفسير شخصية حسن حنفي. فهو لا يستطيع أن يقدم نفسه كمثقف حداثي تنويري تخرَّج في «السوربون» إذا ما اكتفى بكونه من مداح «الإخوان المسلمين»، ولا يستطيع أن يرضي الشارع العربي الأصولي إلا إذا أثبت أنه «إخوان مسلمين»! هنا تكمن مشكلة حسن حنفي. ولذلك فإنه راح يلعب على الحبال. وفي نهاية المطاف خسر الدنيا والآخرة. فلا مثقفو الحداثة يعدونه جزءاً أصيلاً منهم، ولا مثقفو القدامة يعدونه متديناً فعلاً.

كان ينبغي على حسن حنفي أن يحسم أمره: إما من معسكر التنوير والتقدم، وإما من معسكر الرجعية والتأخر. ولكنه أراد أن يلعب على كل الحبال، ويربح على كل الجهات. ولكن هذه ليست مشكلته وحده، وإنما مشكلة كثير من المثقفين العرب، بمن فيهم المقيمون في عواصم الغرب الكبرى، كباريس ولندن وبروكسل وواشنطن... إلخ. هم أيضاً يخجلون من كونهم متعاطفين في أعماقهم مع التنظيمات الإخوانية الأصولية، ولذلك يحرصون كل الحرص على أن يظهروا بمظهر المثقفين الحداثيين العصريين.

الشيء ذاته يمكن أن يقال عن محمد عمارة، الذي خصص له عبد الجبار الرفاعي فصلاً كاملاً بعنوان موفق يلخص مسيرته كلها: «محمد عمارة من الماركسية إلى السلفية». منذ بداية الفصل يقول المؤلف هذا الكلام البليغ: «لأننا محكومون بالتراث وقيمه وأحكامه، ترسخت لدينا تقاليد الاحتفاء المبالغ به بالأموات، والإفراط في الثناء على آثارهم، والإعلاء من قيمة منجزهم، وتجاهل ما أنتجته هذه الآثار من تعصبات وكراهيات وأحقاد وجروح نازفة في حياتهم وبعد وفاتهم».

هذا المقطع النقدي العميق مهم جداً؛ لأنه يحذِّرنا من الانبطاح أمام القدماء. فهم ليسوا معصومين لمجرد أنهم من الأسلاف والآباء والأجداد. ينبغي أن ننظر إليهم نظرة تاريخية. ينبغي أن نموضعهم ضمن مشروطيات عصرهم القديم الذي لم تعد له علاقة بعصرنا. فمعارفهم وحاجياتهم لم تعد لها علاقة بمعارفنا وحاجياتنا.

هذا التعلق الأعمى بالأسلاف تخلى عنه اليابانيون كلياً، ولذلك نجحت انطلاقتهم الحضارية، وانتصر تنويرهم، كما ذكرنا في مقال سابق.

أخيراً، يقول عبد الجبار الرفاعي عن محمد عمارة هذا الكلام الصائب والدقيق: «لم ينتبه من كتبوا عن محمد عمارة لتحولاته ورحلته الفكرية الطويلة من الماركسية إلى السلفية، ومحطاته الاعتقادية المتعددة، وكيف أضحت آثاره المتأخرة تنقض كتاباته المبكرة. نقرأ كتابات تصنفه على أنه مفكر تنويري وعقلاني ومجدد، وأحد رواد النهضة، وغير ذلك من توصيفات لا ينطبق أي توصيف منها على محطته الاعتقادية الأخيرة».

لا تعليق. الكلام واضح جداً. فقط نطرح هذا السؤال، وبه نختتم: كيف يمكن لمفكر يحترم نفسه أن يلتحق بالحركات الإخوانية الظلامية ويدافع عنها بشراسة، بعد أن كان قد أمضى جُل عمره الأول في الدفاع عن قيم العقلانية والتقدم والحداثة؟

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: 5 يونيو 2024 م ـ 28 ذو القِعدة 1445 هـ

 

لكل مرحلةٍ تحولية كبرى مثقفوها. فالفكر التغييري لا يمتد ويتَّسع داخلَ المجتمعات والشعوب من تلقائه. صحيح أنَّه وليدُ معطياتٍ وظروف تاريخيةٍ عديدة ومتشعبة، تلتقي فيها العواملُ الداخلية والعوامل الخارجية. لكنْ للنخبة المثقفة دورٌ محوري في إحداثه؛ فهي الطليعة الأولى التي تنعكس عليها وتتجسّد فيها معطيات التحول التاريخي، وتنتقل منها شيئاً فشيئاً إلى فئات المجتمع الكلي. والانتقال يمكن أن يحدث أو لا يحدث. وفي أي حال، هو مسار غالباً ما يكون طويلاً وليس بين ليلة وضحاها.

من اللافت أن تكونَ النهضة الأوروبية الكبرى، نهضة النصف الثاني من القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، التي نقلت أوروبا من القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة، قد بدأت في الفن، فن الرسم والنحت والعمارة، انطلاقاً من فلورنسا، عاصمة توسكانا. كانت شخصية «العلّامة الإنساني» هي الغالبة على النخبة المثقفة التي أطلقت النهضة، وهو العلّامة الملتئمة فيه المعارف الفنية والأدبية والفلسفية والتاريخية، إضافة إلى المعارف الرياضية والهندسية والطبية، والذي يعدّ الإنسان محور التاريخ ومحرّكه. يمكن الإشارة إلى ليوناردو دا فينشي بوصفه نموذجاً «للعلّامة الإنساني»، لكن هناك العشرات من الرسامين والنحاتين والمعماريين والفلاسفة والمفكّرين والأدباء المنضوين، بشكل أو بآخر، ضمن تلك النخبة النهضوية، يضيق المكان بذكرهم، من أيراسم إلى رابليه، ومن مور إلى مونتينيه.

مع ذلك، مضى في حينه أكثر من قرن ونصف قرن على بدء النهضة من دون أن يتسرَّب فكر النخبة المثقفة إلى المجتمع. لا بل في حركة معاكسة، وصل «النظام القديم» بملكيته المطلقة وطبقاته الثلاث (الأكليروس والنبالة والشعب) إلى ذروة نفوذه في القرن السابع عشر، مع الملك لويس الرابع عشر في فرنسا، أقوى دول العالم في حينه. لكن «نخبة النهضة» ما لبثت أن قادت مع الزمن إلى نخبة أخرى أكثر اهتماماً، إضافة إلى الفلسفة الشاملة، بالتحولات المجتمعية والسياسية والعلمية. إنَّها نخبة «فكر التنوير»، خصوصاً في القرن الثامن عشر، التي قادت نهاية القرن إلى الثورة الفرنسية الكبرى، وإلى سقوط «النظام القديم» برمته.

وتضم تلك النخبة التنويرية هي أيضاً عشرات الوجوه التي يضيق المكان بتعدادها، من كانط إلى مونتيسكيو، ومن هيوم إلى روسو. وفكر التنوير لم يتسرّب هو أيضاً إلى المجتمع الكلّي، بل إلى فئة منه، هي الطبقة البورجوازية الأحدث عهداً، الآتية من الشعب، التي حققت ثراءها ونفوذها من ممارسة التجارة والإقامة في المدن، والتي كان لها الدور الأبرز في قلب «النظام القديم».

والنخبة الماركسية الثورية، التي طليعتها لينين وتروتسكي، هي التي قادت إلى ثورة 1917 البولشيفية، منهية أربعة قرون من النظام القيصري في روسيا. وهي لم تراهن على البورجوازية الروسية، بل على تحالف الفلاحين والعمال والجنود في صنع التحوّل.

بضعة أمثلة لا أكثر على دور النخب المثقفة في «حركة التاريخ».

هل من نخبة مثقفة في مجتمعات المشرق العربي تصنع التحوّل؟

ثمة نخبة ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كانت وراء النهضة الفكرية والثقافية العربية، بعد قرون طويلة مما عرف بـ«عصر الانحطاط»، ضمّت الكثير من الوجوه الفكرية والأدبية واللغوية والفنية، من بينها البساتنة واليازجيون والشدايقة، وروّاد الأدب المهجري والمقيم، وروّاد التعليم، وروّاد فن الرسم، ورواد الترجمة والصحافة وسواهم. ومع أنَّ تلك النخبة لعبت دوراً بارزاً في نشر الأفكار والمفاهيم والقيم والجماليات الجديدة، وفي الانتقال من الحالة العثمانية إلى الحالة العربية، فهي لم تستطع التسرّب عميقاً إلى مجتمعات المشرق ووضعها على طريق التطور والتحول والحداثة.

واليوم، أمام يقظة الجماعات المتنافرة في أرجاء المنطقة، بين المسلحة منها وغير المسلحة، والتناقضات والتحديات الكبرى التي تواجهها، هل من نخبة ثقافية تغييرية ترسم طريق النهوض وتقود إليه؟ ليس في الواقع الراهن، ولا في الأفق المنظور، ما يشير إلى ذلك. فنخبة المثقفين الكبار، منارة الشعوب ودليلها إلى مستقبلها، غير موجودة.

ومع أنَّ نصفَ القرن الأخير شهد اتساعاً كبيراً في أعداد المتعلمين والمتخصصين في مختلف المجالات، فالأمر لم ينعكس على الثقافة ونوعيتها وهدفيتها الأخلاقية والمجتمعية. فالفارق عميق بين المتخصص الساعي بكل الوسائل إلى الترقي الاجتماعي والاقتصادي الشخصي، والمثقف الملتزم بقوة وتجرد مسألةَ تطوير مجتمعه وشعبه. والفارق عميق أيضاً بين المثقف والمثقف الكبير الذي تتشكّل من أمثاله النخبة الرائية المفقودة.

***

أنطوان الدويهي - أستاذ جامعي لبناني

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:الأحد - 25 ذو القِعدة 1445 هـ - 2 يونيو 2024 م

 

كان الشعور والخيال عنده مفهومين مترابطين

في مثل هذه الأيام رحل ريتشارد رورتي؛ أحد أعظم الفلاسفة الأميركيين في القرن العشرين، ولعل هذه المناسبة تكون فرصة للتعرف على إنجازه الفلسفي، خصوصاً حين نعلم أنه يمثل براغماتية غير التي نعرفها من تاريخ الفلسفة؛ «براغماتية جديدة» ينبو عنها الذهن. فعندما تذكر البراغماتية لا يخطر على البال سوى روادها الأوائل. وكم هو قليل الانتباه إلى البراغماتية الجديدة التي يمثلها رورتي وعدد ليس بالقليل من مفكري الفترة المعاصرة. التمييز ضروري؛ فالبراغماتية بكل صورها هي ركن ركين في طريقة تفكير معظم البشر اليوم.

في أميركا هناك نوعان من الفلاسفة؛ قسم بقي مخلصاً للتقليد الأنجلو - أميركي، وقسم قاري - أميركي، بمعنى أنه يملك ميولاً تجاه الفلسفة الأوروبية؛ والألمانية بدرجة أقوى. مع رورتي يقف هيوبرت دريفوس وجون كابوتو، وأسماء أخرى. وما يميز رورتي معرفته العميقة بالأدب المقارن ودراساته في هذا المجال، بالإضافة إلى معرفته بالفلسفة التحليلية، وبالبراغماتية التقليدية، وميله نحو نظرية التطور.

ككل مفكر حر بذهن متوقد، مر بمحطات فكرية كثيرة؛ من الأفلاطونية إلى التحليلية، ثم قرر الاشتغال بفلسفة بلاده البراغماتية التي وجد في جون ديوي خير ممثل لها. كان واسع الثقافة إلى حدٍ كبير، لكنه رفض طريقة فلاسفة العلم الذين يريدون للفلسفة أن تكون خادمة للعلم، أو كما يقول ويلارد كواين: «على الفلسفة أن تكون فلسفة للعلم؛ أو لا تكون».

وكما فعل ملهمه هايدغر، انتقل رورتي بالفلسفة إلى آفاق رحبة لم تكن معروفة من قبل، وكان ميالاً إلى أهل الأدب أكثر منه إلى الفيزيائيين والعلماء بعامة.

من العلامات التي تعرفنا على اتجاهه أنه مفكر توفيقي إلى حد كبير، يحاول أن يجمع الفلسفة الأميركية والأوروبية، رغم أن كثيرين لا يرون كيف يمكن أن يجري هذا الجمع، ولسان حالهم يقول: كيف تجتمع المدرسة التحليلية مع المثالية الألمانية؟

في فكر رورتي لا توجد جواهر ولا ماهيات، فقد تجاوز الفلاسفة هذا المسار من قبله، لكن يوجد في فلسفته صدق من دون تطابق مع العالم الخارجي. كما لا توجد في فلسفته الأخلاقية «مبادئ» ولا «أسس»، وهي بهذا تستند على البراغماتية التي تعرّف الحقيقة بأنها «ما ينفع». هذا معناه أنه يرفض التسليم بوجود نظرية في الصدق كما يوجد عند الفلاسفة الآخرين، أي إن براغماتيته لا تشترط الصدق بمعناه الفلسفي.

من قبله، حسمت البراغماتية الأميركية مع روادها الثلاثة الكبار: تشارلز بيرس، وويليام جيمس، وجون ديوي، خلافاً استمر ألفي سنة، أو يزيد، عن الحقيقة، ما الشيء الحقيقي؟ فقال القدماء: الحقيقة هي «تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان»، وقال أصحاب النزعة الرياضية: «ما تناغم فهو حقيقي»، وأتى البراغماتيون بمقولة أصيلة تماماً فقالوا: «الحقيقي هو ما ينفع». ما نفع الفرد والمجتمع يجب التمسك به، وما لم يكن كذلك فهو زيف. فكرة جديدة رغم أنها قد تبدو ساذجة في البداية. لقد أراحت نفسها من كل الفلسفة النقدية التي جعلت العقل هو الذي يرسم تفاصيل وجه العالم.

أهم كتب رورتي فيما يبدو «الفلسفة ومرآة الطبيعة»، وفيه يعلن موقفه الواضح الذي يرفض فيه أن يكون العقل مرآة تعكس الطبيعة، بل يرفض نظرية التمثل بأكملها، فالأمر برمته لا يجاوز الممارسة الاجتماعية وقصة تحكي تطور المجتمع مع مرور الزمن، والفلاسفة أناس يعملون على بناء مستقبل أفضل نظراً إلى إيمانهم بضرورة التقدم نحو حاجات ذلك المجتمع.

لن تجد في فلسفة رورتي براهين. وأجدني أوافقه على هذا المذهب، فالبرهان مفهوم أتى به أرسطو وتابعه المشاؤون، رغم أنه لا يوجد على الحقيقة. كل كتب البرهان ليست سوى كتب سجال وجدل.

لقد دعا رورتي صراحة إلى موت الإبيستمولوجيا (نظرية المعرفة) بناء على نظرية هايدغر وغادامير التي لا تعوّل كثيراً على طريقة «التفكير الحسابي»؛ يقصدان بذلك منهج العلم الحديث. ولا شك في أنه فيلسوف شكوكي لا عقلانياً، فقد أرشد إلى ترك الحديث عن العقل لعله يختفي إذا سكت الناس عن ذكره. ويتميز أسلوبه بأنه يشبه الحكايات الأدبية، والخلو من الرغبة في البرهنة على أي شيء. إنه يرسم ولا يكتشف. ومع كل هذا لا يمكن لنا أن نقول إن رورتي كان مفكراً رومانسياً؛ لأنه لم يكتب الشعر قط. إنه مفكر براغماتي بنكهة أدبية. كان يعتقد أن التقدم الأخلاقي يمكن أن يعتمد على تطور الخيال وتعزيز العاطفة المتبادلة بين الناس، والشعراء يفوقون الفلاسفة في تنمية هذا الخيال وتعزيز تلك المشاعر الإنسانية. الأدب هو الذي يفتح الخيال الأخلاقي، وبه تتحقق إمكانية زيادة الأحاسيس والتعاطف مع معاناة الشعوب الأخرى في العالم، وهذا ما يشير إليه رورتي أحياناً تحت اسم «الأدب العاطفي». ويبدو أن المشاعر بالنسبة إليه مزيج دقيق من الأحاسيس والانطباعات التي تشكل أساساً للحكم والتصرف في براغماتيته الجديدة. وهكذا؛ فإن الشعور والخيال مفهومان مترابطان أدرجهما رورتي في رؤيته للفلسفة الأخلاقية. ثمة خط تطور يبدأ من فتح الخيال الأخلاقي، وينتقل إلى تعزيز التعاطف، والاستمرار في تنمية المشاعر الأخلاقية المناسبة بغرض الوصول إلى نوع من الولاء الإنساني الموسع وتحقيق عدالة أكبر. هذا هو «الأدب الملهم» أو «القراءة الملهمة» التي تندمج بقوة في هذا التطور. ثمة إلهام في هذا الأدب؛ لأنه يحدو الناس إلى الإيمان بأن في هذه الحياة أكثر مما تخيلوه. مع أن هذا التقدم الأخلاقي لا علاقة له بالزيادة في العقلانية، ولا يشمل تطوير الذكاء، بل يهدف إلى تحسين حياة الأفراد في المجتمع.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 3 يونيو 2024 م ـ 26 ذو القِعدة 1445 هـ

صدرت عشرات الكتب والدراسات التي تبحث في مرحلة التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر الميلاديّ، وحاول كل منها القبض على المنظومة الفكريّة التي أنتجته، لكنّ الغالبية الساحقة من تلك الأعمال انتهت إلى أن كرّست، بشكل أو آخر، تلك الأسطورة الشعبيّة العنيدة حول عصر مثالي للعقلانيّة مثّل لحظة مفصليّة استثنائيّة في تاريخ البشريّة ومنارة للتسامح والديمقراطية والعلمانية، وعصراً ذهبياً تُدوولت فيه قيم تقدميّة الطابع من فئة الحريّة، والحقوق الطبيعية، والحكم الدستوريّ، فيما توافق العديد من المؤرخين على اعتبار «التنوير» بمثابة المناخ الفكري الذي يفسّر صعود الحداثة بمنجزاتها وإخفاقاتها معاً، وروادها بمثابة آباء مؤسسين لعالمنا المعاصر.

لكن ليس بالنسبة إلى ريتشارد واتمور، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة سانت أندروز، الذي يقدّم في كتابه الأحدث: «نهاية التنوير: الإمبراطورية، التجارة، الأزمة» إعادة تقييم جذرية لهذه المرحلة، تضعها في مقام الفشل العميق بوصفها مشروعاً فكرياً كانت غايته وضع حد للحروب الدينيّة في القرن السابع عشر، وانتهى إلى استبدال حروب من أنواع أخرى بها لا تقل عنها ضراوة، مستنداً في تقييمه ذاك إلى شهادات عديد من المفكرين الذين نربطهم اليوم بـ«التنوير» ومنهم من رأى أن الثورة الفرنسية وما تلاها خاتمة كابوسيّة لانهيار نظام اجتماعي مستنير دام قرناً من الزّمان، وعود لا حميد إلى مزاج التعصّب والعنف والتطرفات الذي ساد في أوروبا القرن السابع عشر.

يستند الكتاب إلى سلسلة كارلايل للمحاضرات في تاريخ الفكر السياسي التي كان قد ألقاها المؤلف في جامعة أكسفورد البريطانية في عام 2019، ويستدعي في مجادلته نصوص ومواقف ثمانية من مفكري «التنوير» في نظرتهم وتقييمهم لأحوال أزمانهم، ومن ثمّ تقديم قراءة مغايرة للمرحلة متحررة من التصورات المسبقة لمعاصرينا والتي من شأن شديد التصاقها بأوضاع العالم الحالية أن تشوّه كل قراءة متوازنة للتاريخ.

وعلى عكس التفاهم السائد بأن التنوير بدأ أساساً حراكاً فكرياً فرنسياً مكرّساً لتحقيق الديمقراطية والليبرالية وسيادة العقل، فإنه عند واتمور منهج تفكير نتج عن الصراعات الدينية الدموية في القرنين السابع عشر والثامن عشر محاولةً لبناء علاقات مجتمعيّة قائمة على الاعتدال السياسي، والتسامح مع الآخر المختلف، وفتح فضاءات للتجارة الحرة والسلام بين الدول. ويذكر واتمور أسماء مثل الأسكوتلندي ديفيد هيوم «1711 - 1776» والفرنسي شارل لوي دي سيكوندا الشهير بمونتسكيو «1689 - 1755» بوصفهم رواد هذا المنهج الذين كانوا سابقين إلى التبشير بالاعتدال في الدّاخل، وضبط النفس في الخارج.

رأيُ هيوم ومونتسكيو ومَن جاراهم من المفكرين كان ميالاً لتأييد «حكومات القوانين» من جميع الأنواع، بما في ذلك الجمهوريات التقليدية والملكيات الدستورية، وعارضوا بالضرورة «حكومة الفرد»، سواء اتخذت شكل الديمقراطية المضطربة أو الاستبداد غير المقيد، وأملوا في تأسيس نظام عالمي ينظم العلاقات بين الدول حول مبادئ أساسية للقانون، والتجارة، والأخلاق، والسياسة، وبما يكفي لاستيعاب جميع الدول المستقلة على قدم المساواة.

يروى واتمور في «نهاية التنوير» حكايةَ انحدار هذه الرؤية الساذجة عن الاجتماع البشري خلال العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، ويلاحق التصورات المتفاوتة التي صاغها مفكرو التنوير لمحاولة تدارك هذا الانحدار أو إعادة توجيهه.

يقسم واتمور تلك التصورات في إطار مدرستين فكريتين إحداهما سعت إلى إنقاذ التنوير من خلال التنظير لحكم معتدل مستغلق أمام السياسة الشعبوية والتعصب والمشاريع الطوباوية للإصلاح السياسي والاجتماعي، فيما وضعت الثانية ثقتها في إمكانات التحوّل الثوري لإنقاذ التنوير. وحسب واتمور دائماً، فإن المدرسة الأولى ضمَّت إلى هيوم كلاً من ويليام بيتي، وإيرل شلبورن الثاني، وإدوارد جيبون، ولاحقاً إدموند بيرك، فيما ضمَّت الثانية كاثرين ماكولاي، وجاك بيير بريسو، وماري ولستونكرافت، وتوماس باين.

وعلى الرّغم من اختلاف المنطلقات النظرية لهاتين المجموعتين في سعيهما لإنقاذ التنوير من نفسه، فإن النصوص التي تركها الفريقان تشير إلى اتفاقهما على أن النصف الأخير من القرن الثامن عشر شهد انسحاق القيم التي دعوا إليها تحت عجلات الجشع والتنافس على فرص التجارة والثروة. وإذا كان المتطرفون الدينيون قد تناحروا قبل مرحلة «التنوير» فشنوا الحروب وارتكبوا المذابح باسم الربّ والإيمان، فإن الشعوب «المتنورة» أقامت إمبراطوريات وأبادت ملايين البشر واسترقتهم سعياً وراء المال والتجارة.

ولعل بريطانيا العظمى على وجه التحديد كانت النموذج الأكمل عند أغلب مفكري التنوير لهذا التناقض العجائبي بين ادعاء تبني القيم التقدميّة للدولة في الشؤون الداخليّة فيما تنقلب تنيناً متوحشاً ينفث سموماً في الخارج، إذ إن ملكيتها الدستورية المتوازنة تقرأ في تمظهرها الإمبراطوري استبداداً شعبوياً، مسرفاً في عنصريته البغيضة وعدائه للأجانب، ولا يتورع عن ارتكاب المذابح لتأمين مصالحه التجاريّة وتمكين النّهب.

وقد تسبب هذا الانفصام بين الداخل والخارج -الذي لم يقتصر على بريطانيا بالطبع- في انزواء أفكار الاعتدال والسلام على مستوى العلاقات بين الكيانات السياسية الأوروبيّة لمصلحة منطق المنافسة الدّموية على التجارة والموارد الدوليّة، فاستهلكت القارة تدريجياً (بدايةً من الحرب الأنغلو - هولنديّة الأولى «1652 - 1654») في صراعات كان دافعها إدمان التجارة وصلف الإمبراطوريات، الأمر الذي حدا بهيوم وعدد من أنصاره إلى التحذير من أن دول «القارة المتنورة»، بما فيها طرفها البريطاني، تتجه نحو الخراب.

على أن مفكري النهضة اختلفوا مع ذلك على كيفية وقف هذا الانحدار المتسارع نحو الخراب و«إنقاذ» التنوير. البعض اقترح اعتماد منهج إصلاح معتدلاً يبدأ من تعديل قواعد التجارة الدّولية لتقليل فرص اندلاع الحروب على الموارد ونزع أسباب كراهية الأجانب وبالتالي تجنب السقوط مجدداً في قبضة «البربرية والدين». ومن الجليّ أن هذا المنهج لم يكن فيه مكان للإرادة الشعبيّة، إذ إن تجارب بريطانيا –مع وصول ديماغوجيين وشعبويين إلى السلطة- وفرنسا –بعد تجاوزات الثورة الفرنسيّة ونزوعها إلى الدمويّة والإرهاب- أشارت –وفق مفكري التنوير- إلى أن «غمر الرّعاع» قد انتهت بدولها نحو تبني سلوكيات إمبريالية، وخوض حروب متكررة في سياق السعي لبناء إمبراطوريات. وللتعامل مع ذلك فكّر هيوم وآخرون في دعم انقلابات عسكريّة أو أرستقراطيّة لمنع الديمقراطيّة الغوغائيّة من تدمير الحريّات، فيما ذهب بيرك إلى قناعة تامة في سنوات عمره الأخيرة بأن صراعاً وحشياً بين بريطانيا وفرنسا حتى الاستسلام التام يمكنه أن ينقذ التنوير من فرط الديمقراطيّة الشعبويّة، ولا شيء غير ذلك. ولسخرية القدر، فقد تحوّل أعداء التطرفات ودعاة الاعتدال أنفسهم إلى متعصبين حد التطرّف في دفاعهم عن التنوير.

في المقابل فإن ماكولاي وبريسوت وباين مثلاً، اعتقدوا أن الشعب المسلّح وحده يمكنه استعادة الفضيلة وإحياء الحريات التي سحقها صعود المجتمع التجاري، وراهنوا على الثورات الأميركية والفرنسية معتقدين أن فجر التنوير المشع سيتبع الليل المظلم للإمبريالية في أواخر القرن الثامن عشر. لكنّهم عاشوا ليشهدوا تحول الجمهورية الفرنسية إلى ذلك المشروع الإمبراطوري شديد الدموية الذي أُسست الجمهورية أصلاً لمواجهته، وكيف تفاقمت أسوأ اتجاهات بريطانيا بينما كانت تبني إمبراطوريّة لا تغيب عن أملاكها الشمس.

ويخلص القارئ في نهاية هذه الرحلة المذهلة في تاريخ الأفكار -التي يرى كثيرون أنها شكَّلت عالمنا المعاصر- أن «التنوير» لم ينتهِ فحسب، بل فشل فشلاً ذريعاً. ولهذا بالطبع انعكاسات شديدة الأهميّة اليوم، إذ يبدو الغرب بعد فشل التنوير كأنه لم يستوعب درس ذلك الفشل، بل أضاع فرصة أخرى لتأسيس نظام عالمي متسامح جديد بعد فظائع الحرب العالمية الثانية، فسقط سريعاً في حرب باردة بين قوى نووية، واستعاد شهيته إلى التوسع الإمبريالي، واستفاد من تقدمه المادي والتكنولوجي لدعم الطغاة، وتنفيذ انقلابات دموية، وغزوات وحصارات قاتلة تبدو الحروب الدينية في العصور الوسطى مقارنةً بها كأنها ألعاب أطفال. نصيحة واتمور في خاتمة الكتاب هي في ضرورة العمل على تنوير جديد كمشروع اعتدال سياسي نقيض للشعبوية، وضدّ الجاذبية المفرطة للعقل المجرد في السياسة، ويعمل على كفّ هيمنة «الأنظمة» السياسية على الإنسان فرداً ومجموعاً. أما كيف يمكن تحقيق هذه المعادلة المستحيلة، فهذا ما سكت عنه واتمور، ربما لإدراكه أن خبرة الغرب التاريخيّة في هذا المجال لا تبدو كأنّها قادرة بعد، ورغم تعدد المحاولات، على إنتاج التنوير الذي تحتاج إليه البشريّة. فهل حان الوقت للبحث عن «التنوير» من جزء آخر من الكوكب؟

نهاية التنوير: الإمبراطورية، التجارة، الأزمة

The End of Enlightenment: Empire, Commerce, Crisis

المؤلف: ريتشارد واتمور 2023

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 2 يونيو 2024 م ـ 25 ذو القِعدة 1445 هـ

في مثل هذا الشهر قبل أربعين عاماً من الآن (يونيو 1984)، توفي أهم فلاسفة فرنسا المعاصرين، ألا وهو ميشال فوكو، عن عمر لا يتجاوز الـ 58، مخلفاً أعمالا فكرية غيّرت جذرياً مسارَ الحقل الفلسفي العالمي. وكنتُ قد صَحِبتُ فلسفة فوكو مبكراً قبل أن أُصدر أولَ كتاب شامل باللغة العربية عن مختلف جوانب فكره (صدرت طبعتُه الأولى في بداية التسعينيات). ومن المعروف أن الفيلسوف الراحل قدّم أهمَّ قراءة متكاملة للنسق الثقافي الغربي في كتابه الأساسي «الكلمات والأشياء» من منظور مفهومه للنظام المعرفي الذي هو نقطة التقاء تشكيلات خطابية متمايزة حول محددات جامعة. كما بلور في كتابه المكمِّل له «حفريات المعرفة» أدوات منهج جديد لتاريخ الأفكار، ينطلق فيه من مقولات القطيعة والانفصال التي برزت في السياق الإبستمولوجي، وإن اعتبرها البعض داخلة في المنظومة البنيوية التي كانت في أوجها خلال ستينيات القرن الماضي.

وإلى جانب هذه الطرق المنهجية في تاريخ الأفكار، قدّم فوكو أهمَّ قراءة نقدية للعقل السياسي الحديث في جوانبه القانونية والإجرائية في كتابيه «المراقبة والعقاب» و«إرادة المعرفة»، مبرِزاً دورَ سلطة الحقيقة والعلم في نظام الضبط والتحكم الذي تقوم عليه الدولة الحديثة، من خلال استقصاء مفهوم «السلطة الحيوية» الذي طوره مِن بعده الفيلسوفان الإيطاليان توني نغري وجورجيو أغامبن. اهتم فوكو بجوانب جديدة على التفكير الفلسفي، مثل الجنون والسجن والرغبة، محدِثاً ثورةً كبرى في الكتابة التاريخية وفي البحث الاجتماعي والسياسي. في دروسه الأخيرة التي نُشرت مِن بعده، اهتم فوكو بظاهرة النيوليبرالية التي كانت في بدايتها مطلعَ الثمانينيات، ونبّه إلى الآثار التي ستُحدِثها على مستوى النظام الاجتماعي ومهمات الدولة الرعوية، وإن نبَّه في الوقت نفسه إلى الشروخ التي ستتسبب فيها داخل هيكل الدولة القومية الشاملة. ليست هذه الجوانب التي ركز عليها فوكو في السياق الغربي هي التي تهمنا في هذا الحيز، والحال أنه قدّم محاولةً جريئة وشاملة لضبط وتقويم المنظومة المعرفية الأوروبية، حتى لو كان سؤال الخصوصية الثقافية والتاريخية للغرب غير حاضر بوضوح في أعماله (ذكر فوكو لأحد طلبته أن السؤال الوحيد الذي أراد أن يجيب عليه دون أن يتناوله مباشرةً هو: ما هي أوروبا؟).

ما يهمنا هو تأثير فوكو في الفكر العربي، الذي بدأ محدوداً وهشاً، لم يتجاوز في البداية بعض الحضور في الدراسات النقدية واللسانية، خصوصاً في تونس التي درَّس في جامعتها وهو في أوج شهرته الفلسفية. بيد أن التأثير الحقيقي بدأ مع مشروع المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في مطلع الثمانينيات، حين وظَّف عدداً من مفاهيم فوكو وأدواته المنهجية في «نقد العقل العربي». لقد استخدم الجابري عبارات «النظام المعرفي» بدوائره الثلاث (البرهان والبيان والعرفان)، كما تحدث عن القطائع الإبستمولوجية بين لحظات التراث العربي، ووجَّه النظر إلى إشكاليات هذا التراث المرجعية على غرار مسلك فوكو. وفي كتابه «العقل السياسي العربي» رجع إلى فوكو في حديثه عن نموذج الرعي في التدبير السياسي مع توظيفه في ثلاثية القبيلة والعقيدة والغنيمة التي لا تَخفى جذورُها الخلدونية.

ومع أن محاولة الجابري ظلت جزئيةً ومحدودة، إلا أنها من دون شك هي أهم مقاربة استلهمت منهج فوكو في تاريخ الأفكار عربياً، مع العلم بأن بعض المحاولات الأخرى تلتها في النقد السياسي والمؤسسي للدولة الحديثة من منظور عربي نقدي.وعلى الرغم من الحضور القوي المتواصل لأعمال فوكو في الساحة الفلسفية العالمية، فإن الكثير من الأبحاث الراهنة انتقدت بعض استنتاجاته وآرائه المعروفة، مثل قراءته لديكارت وانبثاق سردية الذاتية في الخطاب الفلسفي الغربي الحديث، وتأويله التاريخي لنشأة السجن في ارتباطه بالممارسة القانونية والقضائية الحديثة، ومقاربته السلطوية الصارمة لنظام الحقيقة بصفته أداةَ إقصاء وتحكم. وقد اعتبر بعضُ المفكرين العرب أن فلسفةَ فوكو أدت دوراً سلبياً في الساحة العربية، بنقدها الجذري للنموذج الليبرالي للدولة الوطنية الحديثة، وبخروجها عن عقلانية الأنوار والعلم الوضعي، إلا أن هذا النقد لا يمكن أن يطال جوهرَ مشروعه الفلسفي الذي قدّم عُدةً نظريةً ومنهجية دقيقة ورصينة لا يمكن تجاهلها. لم يكن فوكو يعتبر نفسَه فيلسوفاً بالمعنى النسقي الشمولي، ولا مثقفاً عضوياً ملتزماً، بل كان يفضّل صفةَ مؤرخ الحاضر ومنزلة المثقف الخصوصي الباحث.. وذلك درس آخر للاستلهام عربياً.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 2 يونيو 2024 23:30

 

يبدو العراق اليوم، وفي وقت واحد، هويّة تبحث عن مكان ومكاناً يبحث عن هويّة. لكنّ البحثين في مساريهما المرتبك يوحيان بأمرين: أنّ ذاك البلد يعيش طوراً تأسيسيّاً، بمعنى السعي إلى مطابقة المكان والهويّة وربطهما بجماعة وطنيّة توصف بالعيش المشترك، وأنّ الطور التأسيسيّ المذكور لا ينتهي إلى تأسيس.

فدائمٌ هو مشروع البحث عن «أسطورة مؤسِّسة» للعراق الذي يُفترض أنّه أُسّس قبل قرن، فيما المصاعب والعثرات المتزايدة، لا الإنجازات المتراكمة، هي ما يشوب ذاك المشروع. فالعراقيّون، وكما لو كانوا في مخاض جيولوجيّ لا يهدأ عصفها، ماضون في التساؤل: من نحن؟ وما معنى العراقيّة؟ فيما كلّ طرف يسلّح إجابته بالتاريخ وفق قراءة خاصّة له. وهذا، كما نعلم، سبق أن عاشته النخبة العراقيّة إبّان العهد الملكيّ، وكان أبطالها حينذاك ساطع الحصري وفاضل الجمالي ومحمّد مهدي الجواهري وآخرين.

فقبل أسابيع، احتدم السجال، وليس للمرّة الأولى مؤخّراً، حول تمثال رأس أبي جعفر المنصور المنصوب في إحدى ساحات بغداد. أمّا السبب فاتّهام بعض غلاة الشيعة ذاك الخليفةَ العبّاسيّ بأنّه قتل الإمام جعفر الصادق بالسمّ في العام 148 للهجرة، أو 765 للميلاد.

في الوقت نفسه تقريباً، كان البرلمان العراقيّ يناقش طلب زعيم التيّار الصدريّ، مقتدى الصدر، الذي شاء جعل يوم «الغدير» عطلة رسميّة في العراق. وقد أثار النزول عند طلب الصدر استياء سنّيّاً واسعاً، إذ الروايتان السنّيّة والشيعيّة تختلفان في تأويل ذاك اليوم وفي ما إذا كان النبيّ محمّد قد ولّى الإمام عليّ بن أبي طالب من بعده أم لم يفعل.

بطبيعة الحال فإنّ الولع بالحقيقة أو الولاء لتاريخ موضوعيٍّ هو آخر ما يعني الأطراف المتساجلة. وإذا كان الوعي الأهليّ، الطائفيّ أو الإثنيّ، ما يقود دفّة المهاترة، يبقى أنّ مسؤوليّة الطرف الساعي إلى الهيمنة تفوق كثيراً مسؤوليّة الأطراف التي تحاول صدّها.

وها هي الهيمنة إيّاها تمدّ يدها إلى تاريخ العراق الحديث أيضاً، وتحديداً إلى تأسيس الجمهوريّة العراقيّة. فيوم 14 تموز/ يوليو 1958 اختفى ذكره من قانون العُطل الرسميّة الذي حلّ فيه «عيد الغدير».

وربّما كانت خصوصيّة انقلاب 14 تمّوز أنّه كان، من بين الانقلابات العسكريّة في المشرق العربيّ، الوحيد الذي اهتمّ بأن يمتّن وطنيّةً تجمع بين سكّان بلده وتتلازم مع «أسطورة مؤسّسة». وهذا ما انعكس في عَلَم الجمهوريّة الذي تعدّدت ألوانه الرامزة إلى جماعاته، وفي محاولته مصالحة التاريخ القديم لبلاد ما بين النهرين وتاريخ البلاد الحديث، فضلاً عن جمعه بين العرب ممثّلين بشِعر صفيّ الدين الحلّيّ عنهم، والكرد ممثّلين بالشمس، رمزهم الميثولوجيّ العريق. لكنْ مع انقلاب البعثيّين الأوّل في 1963 توقّف العمل بالعلم هذا.

ونظام عبد الكريم قاسم (1958-1963) كان قد دلّل على حساسيّة فائقة حيال توكيد الوطنيّة العراقيّة التي أُريدَ حمايتها من تغوّل القوميّة العربيّة الناصريّة. والحساسيّة هذه، ومن بين أمور كثيرة أخرى، ظهرت في نُصب الحرّيّة الضخم الذي يتوسّط بغداد، والذي أنجزه في 1961، وبتكليف من قاسم، النحّات والرسّام الشهير جواد سليم. فقد احتفل النُصب هذا بتاريخ الفنّ العراقيّ القديم ممثّلاً بالنقوش الجداريّة البابليّة كما العبّاسيّة، احتفالَه بمواطني العراق فئاتٍ وشرائح تسعى وتكدح وتعاني.

وبهذا المعنى فإنّ محو 14 تمّوز يرقى إلى محو العمل التأسيسيّ الأكثر جدّيّة لوطنيّة عراقيّة جامعة، وهذا ما قصده بيان المثقّفين العراقيّين في استنكار ما يجري في بلدهم. فهم ربطوا الموقف الاستئصاليّ الجديد بـ»العمليّات الممنهجة الجارية منذ عقدين لتجريد الدولة العراقيّة من مقوّمات وجودها، ومنها تعويم وإلغاء رموزها السياديّة، التي نخشى أن تكون مقدّماتٍ لتقويض الدولة المدنيّة، وشرذمتِها بخلق كيانات بديلة ذات هويّات فرعيّة ضيّقة، وولاءات طائفيّة وعِرقيّة وقَبَليّة، روّجت لها بعض القوى المهيمنة على مقاليد الحكم في البلاد منذ سقوط الدكتاتوريّة». وربط المثقّفون تالياً بين هذه الخطوة الأخيرة و»عدم إقرار مشروع قانون علم الدولة العراقيّة، ونشيدها الوطنيّ»، وذلك لإبقاء البلد «بلا علم، وبلا نشيد وطنيّ»، كما حذّر بيانهم من «وجود نوايا مسبقة لتهديم الدولة العراقيّة، ومحاولات مستمرّة لتمزيق نسيج المجتمع العراقيّ بقوانين أخرى قد نتفاجـأ بها في أية لحظة». ولم ينس البيان التنبيه إلى «ما يتردّد عن وجود قانون لتأسيس مجلس للقبائل والعشائر العراقيّة، يمثّل ردّةً تكرّس قِيماً غادرها المجتمع، ويرسّخ التمييز بين أبناء الشعب بما يخالف الدستور والقيم المدنيّة».

فما يحصل اليوم، تحت أعين الرعاية الإيرانيّة وبحضٍّ منها، هو من ثمار الانقلاب الذي يلغي الوطن لصالح الطائفة، والدولةَ لصالح الميليشيا، ومحاولاتِ بناء تاريخ جامع لصالح التوكيد على تاريخ منقسم ومتصارع لا يلد إلاّ الهيمنة الفئويّة والعصبيّات المتحجّرة وكراهيّة الجميع للجميع.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: الأحد - 25 ذو القِعدة 1445 هـ - 2 يونيو 2024 م

 

من الواضح أن التقنية سهّلت حصول الكثيرين على معلومات من دون أي اعتبار للحفر في المتون وبطون الكتب.

لقد ركَن البعض إلى التقنية باعتبارها مصدراً موثوقاً بالأبحاث الأكاديمية والشؤون العلمية. باستثناء مؤسسات مهمة لا تزال حذرة، إذ ظلّت الإنترنت موئلاً طيعاً للبعض من دون لجمٍ أكاديمي ضد هذه الفعلة، إذ المراجع والمتون، وإدمان المطالعة هي أساس النص البحثي والمعرفي.

ويمكن الاستعانة في هذا المجال بسياسي ودبلوماسي مخضرم، بل ومطلع فلسفي نادر، ومنقب بتراث الشعوب، وصائب بنبوءات مستقبلية كثيرة، إنه هنري كيسنجر، بكتابه الموسوعي «النظام العالمي»، الذي فصّل الحديث عن جدلية المعرفة والشبكات والتطبيقات، بفصل صغير في آخر الكتاب.

حكمة الخبير كيسنجر، لا تنحصر بالدبلوماسية وأدواتها، ومعاركها، وإنما بانت آثارها بالكتاب، إنها حكمة عُمر، رسمت السطور كل تجاعيد السنين، وومضاته لتعبر بالقارئ بين القرون.

من عميق قوله إن «التعلم من الكتب يكافئ التفكير المفهومي، وقابلية التعرف على المعطيات والأحداث المتشابهة وإضفاء الأنماط على المستقبل. يقحم الأسلوب القارئ في علاقة مع المؤلف، أو مع الموضوع، عن طريق إذابة الجوهر والجمال في البوتقة».

هذه صيغة لا تمنحها الحالة التقنية التي يستخدمها البعض، ومهمة علمية وتربوية أن نتجاوز النمط المدمن على التقنية، لتوثيق صلة المتعلم، أياً كان بالكتاب.

ثم يقارن بين الحوار الشخصي والحوار التقني، وأحسبه تأويلاً يتحدث عن تطبيق «الواتساب» صياغة قد تنجي الكثير من الناس من وضر الاحتكام إلى الحروف المصفوفة، فيقول: «تقليدياً، تمثلت طريقة أخرى من طرق حيازة المعرفة بالمحادثات الشخصية. فمناقشة الأفكار وتبادلها ظلت عبر آلاف السنين توفر بعداً حقيقياً وسيكولوجياً، إضافة إلى المحتوى الفعلي للمعلومة المتبادلة. تضيف هذه المناقشة تجريدات اليقين والشخصية. والآن تحاول ثقافة التنصيص إنتاج عزوف عجيب عن التفاعل وجهاً لوجه، ولا سيما على أساس شخص لشخص».

إن النقاش الشخصي يكون أكثر ثراءً على مستويات المعرفة، وتلقي النظريات الحديثة، وتداول التفاسير الجديدة بين بعضهم البعض بمحاضرة أو ندوة منها بدردشات التطبيقات الاجتماعية.

كيسنجر يعتبر أن التقنية تميل إلى تقزيم الذاكرة التاريخية، ووصف الظاهرة على النحو التالي: «الناس ينسون أموراً يظنون أنها ستكون متوفرة خارجياً ويتذكرون أموراً يظنون أنها لن تكون متوفرة».

الخلاصة، أن الخطر الأكبر يكمن في استعمال تلك الوسائط لتغذية أمراض، أو استنبات نعرات جديدة مما يعزز فرص الاقتتال المعنوي، وإشعال الحرب الأهلية الرمزية، وإيقاظ الهويّات الاستئصالية، وقد تستغل الحكومات والتنظيمات الإرهابية نفوذ أولئك لتبييض مشاريعها، وتجذير الحالة الميليشياوية.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 28 مايو 2024

 

الحرب على غزة وصمة عار والإسلام هو الحصن الوحيد لمواجهة العنصرية الثقافية

حوار: أمل بوشارب

***

أندريا زوك (1967)، واحدا من بين أبرز فلاسفة إيطاليا المعاصرين. درس بين إيطاليا، والنمسا واليونان، وبريطانيا، ويعمل حاليا أستاذ فلسفة الأخلاق في جامعة ميلانو. صدر له العديد من المؤلفات، من بينها "الواجب واللذة – مقدمة في نقد فلسفة الأخلاق المعاصرة" (2021)، "الهوية والإحساس بالوجود" (2018)، "روح المال وتصفية العالم" (2006)، و "نقد العقل الليبرالي – فلسفة التاريخ المعاصر" (2022) المترجم حديثا إلى الإنجليزية عن منشورات (Mimesis international, 2023).

التقينا زوك بعد شهور طويلة من العدوان الإسرائيلي على غزة، وهو من وقف ضد الحرب الإسرائيلية على غزة منذ أيامها الأولى، وذلك لمناقشة كتابه الأخير على ضوء اللحظة الفلسطينية والتأمل في تداعيات الفكر الليبرالي على ما تعيشه غزة اليوم:

- قُلت إن الحرب على غزة هي دليل إفلاس أخلاقي يعيشه الغرب. هل لك أن تشرح لنا أسباب هذا السقوط الأخلاقي؟ وكيف وصل العالم إلى هنا؟

* هذه الحرب هي وصمة عار لا يمكن لأي شيء أن يمحوها.

والسقوط الأخلاقي للغرب ليس وليد هذه اللحظة، وإنما له جذور تاريخية عديدة، لكن أعمقها هو ذلك الزعم الثقافي الذي ولد وترعرع خلال الثورة الصناعية وما خلفته من تفوق عسكري خلال القرنين الـ19 والـ20 منح للغرب دورا رياديا في العالم بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وهو ما تُرجم بشكل أو بآخر بأنه دليل على التفوق الأخلاقي للغرب.

المفارقة تكمن في أنه لا وجود لأي تأصيل فلسفي لهذا الزعم في تقاليد الفكر الغربي، بل العكس تماما فالمسيحية مثلا تحذر من القوة ولا تعتبرها ضمانة أخلاقية بل ترى فيها خطرا من شأنه أن يقوض الأخلاق.

هذا الدرس المسيحي للأسف ضاع كليا وبدأنا نرى في العقود الـ3 الأخيرة تحديدا توجها غربيا بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لاعتبار سياسة الكيل بمكيالين شكلا طبيعيا من أشكال التقييم يتم اعتماده على نحو منهجي إذا ما اقتضى الأمر أن نحكم بين أي قوة غربية كانت وأي طرف آخر في العالم يقف في وجهها. ما هو محزن أن الأمر يجري على نحو لا شعوري تماما.

نحن أمام عنصرية ثقافية ولا أجد أي مصطلح آخر يمكن أن نصف به هذه الظاهرة. إنها عنصرية ثقافية إذا ما تمت مواجهة الغرب بها شعر بالإهانة لأنها ظاهرة لم يتم تأصيلها على أنها ضرب من ضروب العنصرية والفوقية ولكنها تُدرس على العكس من ذلك ضمن مباحث حقوق الإنسان، مما يجعلنا نعيش هذه العنصرية كأنها أمر طبيعي لا يقبل النقاش. وهذه المسألة بالمناسبة ذات علاقة وطيدة بالفكر الليبرالي والديمقراطية. لكن ربما قد ترغبين في أن نتحدث عن الأمر ضمن محور آخر في هذا اللقاء…

- طبعا، لكن اسمح لي أن نبقى قليلا هنا ونتوسع أكثر في نقطة "العنصرية الثقافية" وكيفية مواجهتها. ذكرت في مطلع هذه السنة ضمن مؤتمر شاركت به في ميلانو بعنوان "فلسطين وخيانة الغرب لقيمه" أن الإسلام يعتبر اليوم الدرع الوحيد الذي يمكن أن يقف ضد الإمبريالية الثقافية الغربية. كيف ذلك؟

* لن أخوض بالطبع في الشق الروحاني أو العقدي للديانة الإسلامية لأنه مبحث لا يدخل في إطار تخصصي، ولكن بالتأكيد الإسلام يشكل اليوم حصنا في وجه الإمبريالية والعنصرية الثقافية. إن حللنا الأمر من الناحية الثقافية نلاحظ أن الرؤية التي يقدمها الإسلام للعالم آخذة في الانتشار على نحو كبير ومطّرد. طبعا هذا لا يشكل بالضرورة دليل صحة من عدمها لأي رؤية لكنه بالتأكيد معطى مثير للاهتمام لأنه مؤشر على الخصوبة.

نحن هنا إزاء ثقافة حيوية تتمتع بسِمة مهمة تتمثل في قدرتها على تجاوز القوميات وعبور الحدود والقارات. صحيح أن الإسلام دين وُلد ضمن جغرافيا معينة ولكن هذه الجغرافيا ليست هي ما يحدد انتماءه. لذا فنحن أمام دين لا ارتباط عرقيا له عكس الكونفوشيوسية مثلا والتي تلعب دورا مماثلا على صعيد التأثير لكنها محدودة في إطارها الصيني. الإسلام من جهة أخرى يبرز دينا مؤثرا وخصبا على نحو لا يمكن تجاهله، فضلا عن أنه يعبّر عن ثقافة تعد في جزء كبير منها "ما قبل ليبرالية" وهذا لا يعني أنها بالضرورة معادية لليبرالية أو لا ليبرالية ولكن ببساطة ما قبل ليبرالية تماما مثلما كانت عليه الديانة المسيحية قبل أن يتم تدجين جزء كبير منها وإدراجها ضمن ديناميكيات سياسية أخرى.

الإسلام، إلى جانب كونه دينا قويا وخصبا كما أسلفت، فهو يُظهر معارضة لروح الهيمنة الغربية (وهي الآن ليبرالية) وهو ما يجعله اليوم محط اختبار بشكل أو بآخر من الخارج. وكل ما أرجوه هنا هو أن يحصل تشابك مثمر بين الطرفين لا يؤدي إلى أي تصادم

الإسلام في المقابل، إلى جانب كونه دينا قويا وخصبا كما أسلفت، فهو يُظهر معارضة لروح الهيمنة الغربية (وهي الآن ليبرالية) وهو ما يجعله اليوم محط اختبار بشكل أو بآخر من الخارج. وكل ما أرجوه هنا هو أن يحصل تشابك مثمر بين الطرفين لا يؤدي إلى أي تصادم.

 آمل بصدق أن يكون التفاعل سلميا بين الإسلام والغرب لأن أي صدام عنيف من شأنه أن يحدث بين الطرفين، بعيدا عن الثمن الإنساني الذي سيخلفه، سيكون من الناحية الثقافية غاية في السوء لأنه سيخلق تصلبا دوغمائيا على الجهتين.3988 اندريا زوك

كتاب "الواجب واللذة-مقدمة في نقد فلسفة الأخلاق المعاصرة" (2021) (الجزيرة)

- هل تعتقد أن الغرب اليوم جاهز للحوار مع الإسلام؟ فمن جهة هناك مكون يميني يتشارك فعلا مع المسلمين القيم ذاتها ولكنه يُظهر توجسا من الإسلام، ومن جهة أخرى هناك يسار على الرغم من تفاعله الذي قد يبدو طيبا مع المسلمين، لكنه لا يُبين عن أي فهم لروح الدين… على أي أرضية يمكن أن يتم هذا الحوار برأيك؟

* الإشكاليات في الغرب موجودة بالفعل على اليمين واليسار. على اليمين قد تبدو الإشكاليات أوضح لأن أي حديث عن الإسلام يثير رأسا تلك النعرة القومية، في حين أن الإسلام على اليسار تتم مقاربته ضمن موضوع الأقليات التي تحتاج إلى حماية: اليساري يشعر دوما أنه بحاجة "للطّبطبة" على الآخر لأنه "هش"! العقل اليساري صنع صورة للآخر في ذهنه تتسم حصرا بالضعف والهشاشة، لذا فهو يشعر أنه لابد من أن يأخذ دوما بيد هذا الآخر إلى الطريق القويم! ولكن ماذا لو كان هذا الآخر قويا وخصبا ويقف أساسا على الصراط المستقيم. نحن هنا أمام انسداد عقلي حقيقي لدى اليساريين. والأمر له علاقة بجذور ثقافية عميقة بدأت في عصر الأنوار وترسخت بعد الحرب العالمية الثانية.

المتدينون لطالما تمكنوا من التوفيق بين العقل والروحانيات، حتى المسيحيين منهم، لكن اليساري الذي يتغنى بحب الآخر هو في الحقيقة لا يرى في الآخر ذي الخلفية الدينية سوى كائن قاصر ذا إدراك عقلي محدود بحاجة إلى عناية خاصة

المتدينون لطالما تمكنوا من التوفيق بين العقل والروحانيات، حتى المسيحيين منهم، لكن اليساري الذي يتغنى بحب الآخر هو في الحقيقة لا يرى في الآخر ذي الخلفية الدينية سوى كائن قاصر ذا إدراك عقلي محدود بحاجة إلى عناية خاصة. إنه يعتبر نفسه الأقوى ثقافيا، لذا فهو يقوم بالتربيت على كتفه وطمأنته بأنه سيقوم بتعليمه وتنويره وحمله لجادة الصواب. يقول له بعطف: "لا تقلق سأشرح لك كل شيء. تعال معي وسأعلمك كيف تستخدم عقلك". أما عندما يجيبه الآخر صراحة أنه مرتاح مع نفسه وليس بحاجة لإرشاداته يصاب هذا اليساري بالاضطراب، يبدأ بالتخبط، ويظهر عاجزا عن أي تفاعل حقيقي.

وهذا هو سبب التشوش والبلبلة الثقافية التي يعيشها الغرب اليوم. إنها تراجيديا حقيقية من أشخاص يجردون العقل من أي بعد روحي ويعتبرون الدين سفاهة وضربا من الجنون لا بأس إن أراد للمرء أن يعيشه في الخفاء، لوحده داخل غرفة مغلقة: "نفّس هنا عن مكنوناتك، لا يهمنا ما تفعله في الداخل، لا تنس فقط أن توصد عليك الأبواب والنوافذ بشكل جيد"، هذا ما يقوله عمليا اليساري للآخر حتى يتأكد أنه لن يكون هناك أي امتداد جماعي للدين. هذا النموذج الذي يفتقد للتناغم الحقيقي مع الجماعة، هو ما يقدمه اليسار في التعاطي مع الآخر ذي الخلفية الدينية، وهو ما لا يمكن اعتباره نموذجا بنّاء بأي شكل، بل هو نموذج عقيم وهدام لذاته ولغيره. لكن هذا لا يعني أن الغرب يعدم في العصر الحديث فلسفات يمكن البناء عليها لم تقم على فكرة العداء بين العقل والدين، وأبلغ مثال على ذلك هيغل…

 - حتى لا نفقد النقطة التي يظهر فيها التوافق بين التام بين الفكر الليبرالي والحركات اليسارية من حيث الاعتقاد الراسخ بالتفوق الثقافي. لا يزال البعض يرى أن الحركات اليسارية الغربية المعاصرة تناهض الفكر الرأسمالي، في حين أنك في كتابك الأخير "نقد العقل الليبرالي" أوضحت كيف أن اليسار اليوم يشكل امتدادا وفيا لأكثر تمثلات الرأسمالية توحشا وربطتَ ذاك بفكر فوكو تحديدا، مؤكدا أن اليسار في وقتنا الحالي لا يشكل البتة أي تهديد على السلطة. هل لك أن توضح لنا هذه الفكرة؟

* هذا سؤال جميل جدا يحتاج إلى تفصيل في الرد عليه، لكنني سأحاول أن أكون موجزا قدر المستطاع. ما حصل لليسار هو طفرة جينية حقيقية بجميع المقاييس. فإلى غاية حقبة السبعينيات كان الإلهام المباشر وغير المباشر لجميع الحركات اليسارية هو الفلسفة الماركسية مع كل ما يتفرع عنها من قراءات، سواء أكانت علمانية صرفة على طريقة جان بول سارتر أم توافقية مع الديانة المسيحية على طريقة إيرنست بلوك. لكن بعد عام 1968 وهو التاريخ الذي يشكل هزيمة تاريخية كبرى لليسار أو ثورة تم إجهاضها، وجد المكون الماركسي نفسه بجميع أطيافه ينسحب كليا من ساحة الحقوق الاجتماعية المعادية للرأسمالية تاركا مكانه لمكون صغير جدا فيه، هو أيضا ماركسي لكنه يركز بشكل كامل على مسألة الحقوق والحريات الفردية، وقد أصبحت هذه الحركات محط تركيز فلسفي خاص لما يعرف بفلسفات بعد الحداثة التي ازدهرت في فرنسا على وجه خاص.

الأمر المثير للاهتمام هو أن هؤلاء يعتبرون أنفسهم معادين للرأسمالية ويقولون إنهم يناضلون ضد البرجوازية لكنهم لا يناقشون مطلقا أي موضوع اقتصادي، بل يقومون فقط بما يخالون أنه "ثورة" من أجل تحصيل الحقوق المدنية على اعتبار أنهم أقليات. الطريف في كل هذا (والحقيقة هو أنه لا يوجد أي شيء طريف هنا) هو أن هؤلاء لا يدركون أن مقاربتهم تتناغم على نحو تام مع الفكر الليبرالي وهو ما وضع هؤلاء الأشخاص في قبضة الفضاءات الليبرالية العامة لاسيما في مجال النشر حيث جرى منحهم مساحة كبيرة جدا للتعبير عن أفكارهم بسبب التوافق التام بين الطرفين في "تسويق الأنا" وهو محور الفكر الليبرالي: الفرد هو مركز العالم… لا مرجعية أخرى في هذا العالم سوى أفكارك أنت… أنت وحدك الثورة. وهكذا تصبح الإرادة الحرة للفرد هي إرادة رجل وامرأة السوق. الأحرار في التسوق والتعبير عن تفردهم كل على طريقته. هذا هو التحرر وهذه هي الحرية.

هذا على الصعيد الفردي، أما على الصعيد الاجتماعي فلم يعد بإمكان هؤلاء اليوم أن يفتحوا فمهم بكلمة واحدة. أنت حر في التعبير عن نفسك فقط وعن فردانيتك أما إن فكرت في عمل سياسي لتغيير موازين القوى الاقتصادية مثلا ستصبح عدوا للنظام، وسيتم عزلك. وهكذا جرى حرفيا تدجين اليساريين وتحويلهم إلى خَدم للمنظومة الليبرالية. والحقيقة أن جزءا كبيرا من اليسار الغربي انتهى بين أحضان الليبرالية التي تمكنت من احتوائهم دون حتى أن يشعروا بذلك، فأصبحوا اليوم يتبنون الخطاب الليبرالي ويتكلمون بلغته دون أدنى إدراك منهم بما آل إليه وضعهم، بل يعيشون هذا الحال وهم على قناعة تامة بكونهم مناضلين وثوارا.

- هل تعتقد أن الأمر يتعلق بطبيعة النظام الليبرالي القادر على احتواء كل شيء وتسليعه وهو الذي حول الفكر الغربي ضمن هذه المنظومة إلى شيء أشبه بسلعة معولمة تتكيف بحسب الثقافة المحلية التي تُسوّق فيها وهكذا أصبحنا نجد مثلا ضمن الفكر النسوي: نسوية إسلامية، ونسوية إلحادية، ونسوية نباتية، وأخرى بطعم الكاتشب، بحسب ذوق الزبونة ومتطلباتها، أم أن الأمر يعود إلى طبيعة فلسفات ما بعد الحداثة نفسها ومطاطيتها، وهي القادرة على أن تقول حرفيا كل شيء وعكسه؟

* الأمر هو فعلا كذلك… لكن يا إلهي لا أريد أن أمارس العنصرية الثقافية على زملائي الفرنسيين (يضحك). المسألة بالتأكيد تعود للطبيعة التعبيرية لفلسفات ما بعد الحداثة نفسها، ويؤسفني فعلا القول إن أغلب الفلاسفة الفرنسيين حتى أفضلهم يميل للوقوع في غرام اللغة، يؤخذون بإيقاع الكلمات، يتتبعون وقعها وشكلها وما توحي به من صور، فيُسحرون بها ويَسحرون الآخر معهم، على نحو تصبح فيه الكلمات قادرة على التكيف مع كل قراءة لأنه ببساطة لا معنى محدد لها.

أغلب النتاج الفكري لما بعد الحداثة يترك القارئ منبهرا باستعاراته الأخاذة، لكن عندما تفكر بما خرجت به منه فعليا فلن تجد حرفيا أي شيء

والحقيقة أن أغلب النتاج الفكري لما بعد الحداثة يترك القارئ منبهرا باستعاراته الأخاذة، لكن عندما تفكر بما خرجت به منه فعليا فلن تجد حرفيا أي شيء. وهنا تحضرني مقولة أب البراغماتية تشارلز برس: "إن كنت تريد فهم جملة اسأل نفسك ما هي النتيجة التي تخلص إليها بعد قراءتها: إن لم تخرج منها بنتيجة فهذا يعني شيئين لا ثالث لهما: إما أنك لم تفهم الجملة وإما أن الجملة لا تعني شيئا". والسبب هنا هو أن منظومة المفاهيم في فلسفات بعد الحداثة تتسم بالضعف والهشاشة وعدم الاتساق، مما يجعلها في النهاية قابلة للتلون.

- دعنا لا نبتعد كثيرا عن هذه الفكرة، بعد أشهر من العدوان على غزة أصدر المفكر الجزائري أحمد دلباني كتابا بعنوان "خطيئة الدفاع عن قايين" يرد فيه على فلاسفة غربيين اختاروا التبرير لإسرائيل جرائمها في غزة على غرار هابرماس. الكتاب صدر ضمن ما يمكن وصفه بموجة ردة من الكثير من المفكرين العرب على فلسفة الحداثة وما بعدها غداة هذا العدوان الإسرائيلي. برأيك لماذا انتظر العالم العربي كل هذا الوقت ليدرك أن هذه الفلسفات تعاديه وعندما دقت ساعة الحقيقة ظهر أنها لا تقيم له أي وزن؟

* اتفقنا أن فسلفات ما بعد الحداثة قادرة على أن تسحر الآخر بجهازها التعبيري المراوغ، لكن فيلسوف كهابرماس هو حالة مختلفة تماما، ولا يفترض أن يشكل موقفه من الحرب على غزة أي مفاجأة لأحد. الرجل فيلسوف ليبرالي كلاسيكي وعلاوة على ذلك هو ألماني صاحب أفكار طالما كانت متسقة مع بعضها. هو ابن حقبة بعد التنوير المؤمن بتفوق الحضارة الغربية وهيمنتها والذي سيكون من الطبيعي أن يعتبر إسرائيل حائط صد للدفاع عن هذه الحضارة وبالتالي اعتبار أي هجوم عليها هجوما على الديمقراطية. ثقافيا نعم يمكن الرد بسهولة على هابرماس ودحض ادعاءاته ولكن المشكلة هي أن الرجل مثال حي عن الانبطاح للسلطة المهيمنة.

الأفكار لا تتحرك وحدها. هذا ما تقوله الحكمة الماركسية. كل فكرة هي بحاجة لبنية من حولها تدعمها أو تتركها تتهاوى. وهذا ما تفعله السلطة مع الكثير من الفلاسفة. هناك مثقفون مهمتهم هي ببساطة تجميل وجه السلطة

السلطة هي التي تدعم هذه النماذج. الأفكار لا تتحرك وحدها. هذا ما تقوله الحكمة الماركسية. كل فكرة هي بحاجة لبنية من حولها تدعمها أو تتركها تتهاوى. وهذا ما تفعله السلطة مع الكثير من الفلاسفة. هناك مثقفون مهمتهم هي ببساطة تجميل وجه السلطة. ولكن هذه طبعا ليست كل تقاليد الفلسفة الغربية اليوم. فقد كان هناك محاولات حقيقية لفيلسوف كهربرت ماركوزه وهو سابق لهابرماس من مدرسة فرانكفورت لانتقاد السلطة. وقد كان ماركوزه صادقا في ذلك كما أن أدواته التحليلية كانت أيضا ممتازة، لكن للأسف حاليا ما نشهده في فلسفات ما بعد الحداثة هو أن أكثرها يقوم على المخادعة، والنقد الزائف للسلطة.

- مؤخرا صرح إيلان بابيه في تعليق على إستراتيجية التفاوض التي تعتمدها أميركا بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي قائلا إنها "جلبت عالم البيزنس إلى الدبلوماسية" وذلك من خلال البدء بالتفاوض دوما من نقطة الحاضر وتجاهل الماضي. "بالنسبة للأميركيين لا وجود للتاريخ". هذا ما يقوله بابيه. وبالتالي لا وجود لحق العودة وكل هذه الأمور التي تنتمي إلى الماضي. في كتابك تحدثت مطولا عن عداء العقل الليبرالي التقدمي للتاريخ والتراث والماضي. ما السبب في ذلك؟

العداء للماضي هو مكون تأسيسي للعقل الليبرالي. يمكن القول إن شهادة ميلاد الليبرالية تم توقيعها عندما تم تحويل السلطة الاقتصادية إلى سلطة سياسية. والسلطة الاقتصادية كما نعلم قائمة على المال. والمال له سمة مميزة هي أن لا ماضي له. المال يمارس سلطته من كونه ببساطة حاضرا. سأعطيك مثالا بسيطا: إن كان معي حقيبة فيها مليون يورو، السلطة التي يمنحني إياها هذا المال تأتي من كوني أملكه في هذه اللحظة، ولا يهم حتى طريقة كسبه سواء أكان ذلك عن طريق النصب، أم لأنني عملت طيلة حياتي بكد، أو ربحته في اليانصيب، أو ورثته عن أبي، أو لأنني اشتغلت في الدعارة، أو بعت أعضائي… هذه كلها أمور لا قيمة لها. القيمة الوحيدة لهذا المال تكمن في قدرته الآنية على الشراء بغض النظر عن ماضيه.

لذلك إن نحن نظرنا إلى الإحداثيات الديكارتية للبيانات الاقتصادية فسنجد فقط محورين: محورا يشير إلى الحاضر وآخر إلى المستقبل. لا وجود للماضي. الماضي مبتور بالضرورة لأن كل شيء يبدأ مع عقد شراء يصبح ساريا بدءا من لحظة توقيعه. هذه الميكانيزمات تدخل بالمناسبة في عالم السياسة لأول مرة في تاريخ البشرية. في الماضي كانت السلطة السياسية تُمنح على أساس محددات شخصية تتعلق بالتاريخ الفردي أو العائلي للشخص: كأن يكون منحدرا من دم نبيل أو لأنه أثبت شجاعته في ساحات القتال. وبالتالي فإن الماضي بشكل أو بآخر هو ما يمنحه السلطة. أما السلطة اليوم فهي ترتبط بلحظة المال لا بلحظة التاريخ.

أعطني قنبلة واحدة لم يفجرها الغرب على رأس أحد في السنوات الأخيرة دون أن يقدم لها دواعي إنسانية

بالحديث عن المال، حذرتَ في كتابك من المنظمات غير الحكومية الممولة غربيا لعدة أسباب أحدها غياب المساءلة بشأن آليات عملها واعتمادها على التلاعب بعواطف الجماهير، ولكن يبقى أخطر ما ذكرته هو تحول هذه المنظمات لأداة في يد القوى الكبرى لتفعيل فلسفة "إرادة القوة". حاليا هناك قلق كبير في العالم العربي من تشجيع عمليات الهجرة الطوعية للفلسطينيين إلى أوروبا من خلال بناء مرفأ يثير كثيرا من الريبة يقال إنه ذو أغراض "إنسانية"…

* "إنسانية"! (يقاطع بحسرة). أعطني قنبلة واحدة لم يفجرها الغرب على رأس أحد في السنوات الأخيرة دون أن يقدم لها دواعي إنسانية…

من خلال متابعتك لما عاشته إيطاليا في السنوات الماضية من تزايد للهجرة غير النظامية بدعم كبير من المنظمات غير الحكومية، مما دفع بالكثير من المفكرين الإيطاليين على غرار الفيلسوف دييغو فوزارو لتشبيه ظاهرة نقل المهاجرين على سفن هذه المنظمات بعمليات الاسترقاق في القرن الـ17 التي كان يجري فيها تحميل الأفارقة في بطون السفن التجارية وتحويلهم لعبيد والفرق الذي نعيشه اليوم هو تغليف العملية بغلاف "الإنسانية"… هل تتفق مع هذا الطرح؟ وما مصلحة الأنظمة النيوليبرالية اليوم من التشجيع على عمليات الهجرة غير النظامية؟

* مبدئيا المنظمات غير الحكومية تأخذ صفتها بكونها ذات مساعٍ خيّرة أم خبيثة بحسب مموليها وأجنداتهم. ليس لدي شك أن هناك منظمات غير حكومية تعمل وهي مدفوعة بأهداف نبيلة تحت إدارة أشخاص فاضلين، لكن يبقى فقط أن نتعرف على مموليها وأجنداتهم. فإشكالية هذه المنظمات تكمن في أنها مؤسسات معتمة يمكن أن يتسلل إليها بسهولة ممولون غامضون، عند تتبعهم نكتشف أننا ببساطة أمام منظمات بالاسم فقط هي غير حكومية لكنها ممولة من طرف حكومات أو جهات متنفذة لها بدورها علاقات بالحكومات. وكما هو معروف بالنسبة لموضوع الهجرة فقد خلق الغرب منظومة ثقافية جعلته يعاني من أزمة كبيرة في التكاثر لذا هو بحاجة من أجل حلها إما لتغيير نسقه الثقافي الخاص بالعائلة أو ببساطة "لاستيراد" البشر مما يُعرف باسم دول العالم الثالث أو تلك الدول التي لها فائض في اليد العاملة لسد ثغرات السوق. النظام الرأسمالي من أجل أن يحافظ على توازنه لابد له من رفع نسب الاستهلاك على نحو مطّرد وهو أمر لا يتأتى في مجتمع ذي ديمغرافية راكدة.

حالة الركود الديمغرافي هذه سببها عدم التشجيع على تأسيس عائلات، ذلك أن العائلة تقع في مرمى سهام الأنظمة الليبرالية لأن الأسرة تشكل منظومة ما قبل ليبرالية وتمثل بشكل أو بآخر بقايا غير حداثية في هذا العالم، كونها لا تخضع لمنطق السوق ولا تتجاوب مع حسابات الفائدة وغيرها

المشكلة أن حالة الركود الديمغرافي هذه سببها عدم التشجيع على تأسيس عائلات، ذلك أن العائلة تقع في مرمى سهام الأنظمة الليبرالية لأن الأسرة تشكل منظومة ما قبل ليبرالية وتمثل بشكل أو بآخر بقايا غير حداثية في هذا العالم، كونها لا تخضع لمنطق السوق ولا تتجاوب مع حسابات الفائدة وغيرها. وهكذا يصبح استجلاب المهاجر الشاب الذي يأتي جاهزا من بلد آخر عنصرا وظيفيا لسد العجز في المهن "الرخيصة" تحديدا وهذا ما يحافظ على ديناميكيات السوق ويحافظ على بقاء الأسعار منخفضة من ناحية، ومن ناحية أخرى يمنح الغرب فرصة لعب دور الحضارة "الإنسانية" التي تستقبل الآخر وتنقذه من أهوال الحرب. تعتقد أوروبا أنها تضرب بهذا عصفورين بحجر واحد، ولكن هذه العملية على المدى الطويل سيكون لها أضرار رهيبة سواء على ثقافة الدول الغربية وهويتها أو ثقافة المهاجرين أنفسهم وهويتهم. ذلك أنه عندما يتم تدمير النسيج الهوياتي لأي مجتمع ستتحطم فيه سلطة القانون والوازع الداخلي للالتزام بالشرائع…3989 اندريا زوك كتاب "نقد العقل الليبرالي – فلسفة التاريخ المعاصر" (2022) لأندريا زوك ترجم حديثا للإنجليزية (الجزيرة)

هل سيأخذنا هذا إلى ما أشرت إليه في كتابك حول ما يعرف بـ"الإرهاب الإسلاموي" في أوروبا والذي أكدت أن لا علاقة له بالفكر التقليدي للمجتمعات الإسلامية بل هو ابن الفكر الليبرالي؟

تماما، والأمر أيضا ينطبق على المهاجرين الإيطاليين والأيرلنديين واليهود وغيرهم ممن صنع في أميركا مافيات وجماعات جريمة منظمة على أساس القوميات وذلك لدعم بعضهم البعض بعيدا عن سلطة الدولة، بعد فشلهم في تحقيق النجاح في إطار القانون. وفي حالة من يندرجون ضمن مسمى "الإرهاب الإسلاموي" نعم هؤلاء هم أيضا من أبناء الغرب الفاشلين -كغيرهم من الإرهابيين الغربيين- وليسوا أبناء الإسلام.

ما نشهده اليوم هو بالفعل بداية نهاية مسار تاريخي بدأ قبل 3 قرون غيّر وجه الكوكب بداية من الثورة الصناعية مرورا بكل ما وصل إليه العالم من تقدم تكنولوجي. الغرب الذي يملك بين يديه التكنولوجيا اليوم يعاني من أزمة داخلية، وهي لا تتعلق بضياع السلطة التكنولوجية أو الاقتصادية منه ولكنه يعاني أزمة روحية

- في الفصل الأخير من كتابك قلت إن النظام الليبرالي يلفظ أنفاسه الأخيرة بالرغم من تغوّله في العالم، وذكرت بأنه قد ينتهي بمجرد ظهور جيل جديد ينتفض على هذه المنظومة. حتى نبقى في فلسطين، قامت قبل أسابيع منظمة "الشبيبة الفلسطينية في إيطاليا" على نحو غير مسبوق وغير متوقع بوصف المنظمات غير الحكومية الإيطالية المتضامنة مع فلسطين بأنها مؤسسات استشراقية تتستر بغطاء إنساني. هل تعتقد أن موقفا مفاجئا وجريئا كهذا بشأن أحد أهم أذرع الأنظمة النيوليبرالية في العالم يعد أحد إرهاصات الانتفاضة التي بشرتَ بها؟ وكيف ترى عامة الاحتجاجات الطلابية؟ وكل ما يحصل اليوم في فلسطين؟ هل هي بداية النهاية؟

* ما نشهده اليوم هو بالفعل بداية نهاية مسار تاريخي بدأ قبل 3 قرون غيّر وجه الكوكب بداية من الثورة الصناعية مرورا بكل ما وصل إليه العالم من تقدم تكنولوجي. الغرب الذي يملك بين يديه التكنولوجيا اليوم يعاني من أزمة داخلية، وهي لا تتعلق بضياع السلطة التكنولوجية أو الاقتصادية منه ولكنه يعاني أزمة روحية.

هذه الأزمة هي بالعمق والشراسة والتأثير بمكان مما سيؤدي إلى سقوط هذا النظام عاجلا أم آجلا. المشكلة هي أن التاريخ يعلمنا بأن الإمبراطوريات التي تدخل هذا النوع من الأزمات تصبح غاية في الخطورة في نهاية أيامها. الإمبراطورية الرومانية لم تبرز وحشيتها إلا وهي في مرحلة السقوط وهذا ما يحصل في الغرب اليوم…

الغرب يتشبث بالسلطة الآن من خلال هذه المنظومة المالية… من يملك السلطة لا يتخلى عنها طواعية. لذا ما أخشاه هو أننا داخلون على نهاية قد يدوم مسارها عقودا وستُفرض خلالها القيود ويتكرس القمع والمنع والرقابة، وكل ما من شأنه أن "يسيطر على الأرواح"

- تقصد تسليحه لحرب الإبادة الجارية ودفاعه المحموم عن الجرائم الإسرائيلية؟

* تماما، وهذه ليست سوى الأعراض الأولى لما يمكن وصفه أنه أزمة عصبية دخلها الغرب. هو فهم أنه خسر معركته الروحية بعد أن خسر هويته، ولكن علينا ألا ننسى أنه لا يزال يسيطر على التكنولوجيا، بالإضافة إلى حفاظه على تفوق عسكري نسبي، أقول نسبيا لأن ثمة قوى أخرى بدأت تظهر على الساحة، لكن التفوق المالي لا يزال بين يديه وبشكل كامل، هذا أمر لا شك فيه.

الغرب يتشبث بالسلطة الآن من خلال هذه المنظومة المالية… من يملك السلطة لا يتخلى عنها طواعية. لذا ما أخشاه هو أننا داخلون على نهاية قد يدوم مسارها عقودا وستُفرض خلالها القيود ويتكرس القمع والمنع والرقابة، وكل ما من شأنه أن "يسيطر على الأرواح". وعليه سأكون عقلانيا: موازين القوى بين من يملك السلطة ومن ينتقدها في الغرب هي كواحد إلى ألف، لذلك لست متفائلا بأن التغيير سيأتي من الداخل على المدى المنظور. الضغط الحقيقي سيأتي من الخارج، من خلال نظام عالمي متعدد القطبية: من كتلة الدول الإسلامية، أو من الصين أو من روسيا ولكن بالتأكيد ليس من داخل المنظومة الليبرالية نفسها.

وهنا لابد من أن أعلق بمرارة على الدور المخيب الذي تلعبه أوروبا اليوم بالرغم من إرثها الثقافي الراسخ قياسا لأميركا المارة على التاريخ… أوروبا التي "تأمركت" في السنوات الـ30 الأخيرة وكان يمكنها أن تقدم للعالم الكثير…

- إذن أنت لا ترى حتى في تنامي الحراك الطلابي في أميركا اليوم مؤشرا على تغيير قد يحدث من الداخل:

* (يهز رأسه بأسف)، لا. لكنني لن أعدم الأمل، وكما أقول دوما: بمشيئة الله يمكن أن يحصل كل شيء.

المصدر : الجزيرة

16/5/2024|آخر تحديث: 16/5/202407:51 م (بتوقيت مكة المكرمة)

.................

فيلسوف والكاتب الإيطالي أندريا زوك andrea zhok - الصورة من صفحته على الفيس بوك

«اندريه فيرسوف» مؤرخ وعالم اجتماع روسي له عدة أعمال هامة، من بينها كتابه الرئيسي الصادر بعنوان «نقطة التحول.. المستقبل الذي وقع بالماضي». وتتعين الإشارة هنا إلى أن فيرسوف ينتمي للمدرسة الاجتماعية الروسية الجديدة، التي تعتبر روسيا ركيزةَ الحضارة الأوروبية الأصيلة، مقابل الغرب «المنحط» و«المتقهقر».

وفي تشخيصه للوضع الدولي المتولد عن الثورة التقنية الراهنة، يرى فيرسوف أن العالم دخل في مرحلة ما بعد الرأسمالية، والتي من سماتها الأساسية انحسار مبدأ السوق الحرة والتبادل الكوني المفتوح، بما يعنيه هذا التحول من انهيار المؤسسات الاندماجية التي قامت عليها الرأسمالية التقليدية، وفي مقدمتها الدولة القومية والمجتمع المدني وأخلاقيات العمل والنظام التربوي الجماهيري. لقد قامت الثورة التقنية الأولى في القرن الثامن عشر على المحرك البخاري والسكك الحديدية، في حين قامت الثورة الثانية على الطاقة الكهربائية والهاتف والتلغراف، بينما قامت الثورة الحالية على الذكاء الاصطناعي والاتصال الرقمي والإلكتروني.

وعلى عكس التصور السائد الذي يرى في حركية العولمة تحققاً لمسار التوسع الرأسمالي، خصوصاً بعد انهيار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، يذهب فيرسوف إلى أن العالم لا يتجه إلى التوحد والاندماج، وإنما إلى قيام إقطاعات كبرى محمية بالتقنيات التحكمية الجديدة التي أنهت عملياً الفوارق بين أنظمة الحكم السياسي، فلم يعد ثمة فرق جوهري بين الحكومات الليبرالية والحكومات التسلطية. لقد انحسر الزخم الذي ولّدته الثورات السياسية والاجتماعية في أوروبا برصيدها الأيديولوجي المتمحور حول النزعات الثلاث المتعارضة: التيار المحافظ، والاتجاه الليبرالي، والنزعة الاشتراكية.

كانت هذه التيارات الثلاثة تصدر عن نفس الأفق الحداثي الإنساني الذي خرجت منه أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وهذه المجتمعات هي اليوم - حسب المؤلف - بدون موجِّهات قيمية. لقد جرفت ديناميكية الحداثة المنظومة المعيارية التقليدية، وقوّضت العولمةُ المقومات المدنية والأيديولوجية التي أفرزتها الحداثة. وبالرجوع إلى أطروحة ماكس فيبر الشهيرة حول علاقة الرأسمالية بالإصلاح الديني وأخلاقيات العمل، يري فيرسوف أن التجربة أثبتت أن المجتمعات غير الغربية طورت آليات مناعة ناجعة لحماية مخزونها الحضاري، كما هو شأن كل من الصين والهند وروسيا. ليس من همنا هنا تقويم أطروحة فيرسوف التي تعبّر عن جانب أساسي مِن جوانب النقاش النظري والسياسي المحتدم بين روسيا والبلدان الغربية، وحسبنا الإشارة إلى ثلاث ملاحظات أساسية في هذا الجدل المتصاعد.

أولاً: إن الفكر الروسي الجديد أعاد في السنوات الأخيرة تأويلَ التجربة السوفييتية التي استمرت سبعة عقود، ومكنت من بناء إمبراطورية قوية ممتدة الأطراف، كما قادت عملية التحديث الاقتصادي والتقني في بلاد كانت في ذيل الأمم الأوروبية. وما يتضح من هذه الكتابات هو أن التجربة السوفييتية لم تكن، كما يُظَن عادةً، استيراداً ميكانيكياً للماركسية التي هي في نهاية المطاف فلسفة أوروبية، بل كانت محاولة متعثرة لبناء حداثة بديلة عن الليبرالية الغربية تراعي الخصوصيات الحضارية للمجتمع الروسي. وإن كانت هذه التجربة قد نجحت في مسلكها التحديثي، إلا أنها أخطأت في نبذ موروثها الثقافي الذي هو اليوم الإطار المرجعي للحركة «التصحيحية» التي يقودها الرئيس بوتين.

ثانياً: إن الانتقال من النموذج الصناعي التقني الحديث إلى الثورة الرقمية الراهنة يغير جذرياً النُّظم المؤسسية للمجتمعات المعاصرة، بما فيها شكل الدولة القومية وهياكلها التمثيلية والتنفيذية. وإذا كانت الدول الغربية تحاول، حسب الفكر الروسي الجديد، دون نجاح، الحفاظَ على مكاسبها الليبرالية، بحيث تتأقلم مع التحولات النوعية التي عرفتها المجتمعات الحالية، فإن القوى العالمية غير الغربية قادرة على بلورة آليات ونظم بديلة تكفل في آن واحد مقتضيات الهوية الحضارية الخصوصية التي هي أساس الاستقلال الفعلي ومكاسب التحديث القانوني والقيمي من حريات فردية وجماعية وحقوق إنسان وعدالة توزيعية.

ثالثاً: لا يمكن اختزال المعادلة الدولية الجديدة في اعتبارات جيوسياسية ضيقة تتركز في رهانات القوة والتنافس الاستراتيجي، بل لا بد من إدراك المعطيات الثقافية والحضارية التي تدخل في صلب الصراعات العالمية الراهنة. لقد انتبهت المدرسة السياسية الأميركية منذ بداية التسعينيات إلى أهمية البراديغم الثقافي في العلاقات الدولية الجديدة (بول كندي وهانتغتون.. إلخ)، ثم انتقل النموذج ذاته إلى الفكر الروسي والآسيوي من منظور مغاير.

وفي حين ركزت المدرسة الأميركية على التحديات الناتجة عن تصادم الهويات والثقافات، ذهب الفكر الروسي الجديد إلى مدى أبعد بطرح تساؤلات جذرية حول مسار التغريب الثقافي والأيديولوجي في علاقته بحركية التحديث الرأسمالي، وما لها من انعكاسات على المجتمعات غير الغربية. إنه الإشكال المحوري الذي يفتح آفاقاً رحبة للفلسفات والأفكار في عالم الجنوب بمفهومه الشامل الواسع.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 26 مايو 2024 22:34

عنوان «تجديد التنوير» ليس لي، بل هو لمحمد المصباحي الذي كتب كثيراً عن ابن رشد. وقد شهدت مع فريق جامعة محمد بن زايد معرض الرباط للكتاب ورأيتُ عناوين مشابهة عدة. والواقع أن مصطلحات النهضة والتنوير انتشرت في العالم العربي في زمانين، وكانت لها معانيها وسياقاتها في كل زمان. في الزمان الأول كان المقصود بها الخروج على التقليد الفقهي والكلامي والصوفي، وإقامة الدولة الحديثة على النمط الأوروبي. أما في الزمان الثاني في الستينيات والسبعينيات وما بعدهما فقد كان لها معنى معاكس لدى المثقفين الحداثيين، إذ أرادوا إحداث قطيعتين: مع الموروث من جهة، ومع تفكير النهضويين على مشارف القرن العشرين. كان النهضويون يقولون بالتواصل المقترن بالتجديد، أما الحداثيون فيقولون بالقطيعة الشاملة، لكنهم مثل النهضويين في التماثل مع الغرب. أما النهضويون فمهتمون بالنهوض الحضاري و«الدولتي» في أوروبا، بينما يتماثل الحداثيون مع الفلاسفة الجدد ومفكري القطيعة الفرنسيين الثائرين على قيم التنوير.

ما معنى تجديد التنوير اليوم؟ لقد عملتُ طويلاً على مفهومين قرآنيين: مفهوم المعروف، ومفهوم الخير.. وكلاهما إنساني وشامل. فالقرآن الكريم الذي يتكرر فيه مفرد الخير ومشتقاته كثيراً يدعو الناس للتسابق في الخيرات تحصيلاً وإنتاجاً. أما المعروف، والذي هو معدن الفضائل كما يقول الغزالي، فيَرِد زهاء خمسين مرةً في القرآن الكريم، ويعني ما تَعارف عليه الناس وتلاقَوا على العيش معاً استناداً إليه، وإلى قيمة الكبرى ومشتركاته العامة. ما المقصود بالذهاب من القطائع والجداليات إلى الخير والمعروف؟ المقصود أننا في زمانٍ ثالث، إذا صحَّ التعبير، تَكثر فيه النقائض والاختلافات، وفي الوقت نفسه تتجدد المحاولات والمشروعات للحفاظ على القيم الكبرى مثل التسامح والتعايش وحفظ تماسك الأسرة والمجتمعات. ولذا فإنّ الانحياز ضروري لما في ذلك من مصالح كبرى لسائر الأمم والثقافات التي تقول بمستقبلٍ آمن للعالم يسودوه السلام والتعاون. وقيمتا الخير والمعروف تدخل تحتهما أخلاقٌ وفضائل متعددة تتجدد مضامينها وتطبيقاتها في مجتمعاتٍ مختلفة،، ومنها مجتمعاتنا. إنّ استقبال الجديد هذا البنّاء والتواصُلي تحوطه مشكلاتٌ كثيرة بسبب الموجات السلبية باسم الحرية وبسبب سوء العلاقات الدولية، والصراعات الاستراتيجية.

ولذا فإنّ أهل الخير والمعروف يحتاجون إلى تحالفات وشراكات في مسعاهم من أجل السلام وصنع الجديد للإنسان. وقد انطلقت مبادراتٌ من عدة جهاتٍ معتبرة للإسهام في إنتاج الجديد، ودعوة الآخرين للانضمام إلى المجتمع المدني العالمي الذي تنتشر مؤسساته الخيرية والإنسانية ويحتاج للالتزام فعلا بهذه القيم المؤسِّسة. ونذكر دائماً في هذا الصدد وثيقة الأخوّة الإنسانية الصادرة في أبوظبي عن البابا وشيخ الأزهر، ونذكر من قبل قوانين وإعلانات أبوظبي ودولة الإمارات ضد التطرف والعنف، وضد ازدراء الأديان، ودعوات العيش معاً.. وكلها داخلة أو منضوية تحت مبادئ الخير والمعروف، وتمثل جزءاً من جهود جبارة بذلتها وتَبذلها دولةُ الإمارات للسير في هذا المشترك الإنساني للعيش معاً، ولصنع الجديد والمتقدم لبني الإنسان. تكثر مشروعات وانتظارات التراحم والوئام، ولها مستقبلٌ معتبرٌ، لأن فيها الخير المشهود للبشرية في هذه الأزمنة الصعبة.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 26 مايو 2024

 

في الساعة الثالثة وثماني عشرة دقيقة من فجر يوم اثنين من عام 2015، رحل لي كوان يو، الأب المؤسِّس لسنغافورة وأول رئيس للوزراء بعد استقلالها وحصولها على الحكم الذاتي من بريطانيا في عام 1959، عن عمر 91 عاماً، ليعلن بذلك ختام حياة واحد من أشهر زعماء القارة الآسيوية والعالم في القرن العشرين.

وتمكن لي كوان ذو الجذور الصينية والمولود عام 1923 من تحويل سنغافورة من جزيرة مليئة بالمستنقعات والبعوض إلى مركز مالي عالمي واستثماري تكتظ فيه ناطحات السحب، وقفز فيه دخل الفرد 3 مرات، ويعد من بين أقل حكومات العالم فساداً.

واشتهرت مقولة لي كوان عن حلمه بتحويله «سنغافورة إلى واحة من العالم الأول في منطقة من العالم الثالث»، وهذا ما تحقق على أرض الواقع وألهم عديداً من الدول بما فيها الصين، التي نَمَت وتعملقت بعد اتِّباعها نهجه الاقتصادي المعتمد على الرأسمالية المقيَّدة بالتدخل الحكومي لضبطها وتنظيمها.

ولكنَّ طريق لي كوان يو لصناعة نجاح سنغافورة لم يكن ممهَّداً. وكانت مصادر الدخل الشحيحة وعدم التجانس السكاني الذي يجمع خليطاً من الملاويين والصينيين والهنود، وتنوع الثقافات واللغات والأديان داخل البلد الصغير، بمثابة عوائق جسيمة أدرك القائد السنغافوري صعوبة اجتيازها منذ اليوم الأول لاستقلالها ومن ثم انفصالها عن ماليزيا عام 1965 التي يسميها «لحظة الكرب». ويقول لي كوان عن هذه الظروف الصعبة: «سنغافورة أمة لم يكن يُفترض أن تولَد. التاريخ وقت طويل، وقد قمت بمغامرتي».

ويُعرف لي كوان بعقليته العملية وشخصيته القوية الواقعية ويقول البعض إنه يجمع بين الخليط الساحر من الجاذبية والخوف. صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية كتبت في يوم رحيله أن سمات شخصيته انعكست على أمة بالكامل، أمة عملية، وغير عاطفية، وطموحة تتطلع للأمام. ولكنَّ كوان جرَّب الفقر وخشنت عواطفه ومشاعره في الواقع الذي لا يرحم. ووصف نفسه في واحد من كتبه بـ«مقاتل الشارع»، وقال: «إذا استطعت أن تنال مني وتؤذيني فافعل. ولكن لا يمكن أن تحكم مجتمعاً صينياً إلا بهذه الطريقة».

هذه الروح المقاتلة والرغبة الفولاذية في النجاح التي جعلته يحصل على مرتبة الشرف في دراسة القانون ليعود بعدها ويبني بلاده من الصفر وينتشلها، متجاوزة حجمها الصغير وعوائق الطبيعة، وتعود تلك الروح المقاتلة في نشأتها إلى أيام الاحتلال الياباني لبلاده الذي ترك ندوباً في روحه ودروساً ليتعلم منها طوال حياته. هذا الاحتلال المُهين الذي كاد يفقد حياته خلاله، جعله يرى كيف تركع الشعوب الضعيفة وكيف يُذَل أهلها الفقراء ويخضعون لأنهم جائعون. وقال كوان عن هذه التجربة المريرة: «رأيت في الاحتلال الياباني لسنغافورة كيف يخضع الناس لأنهم يريدون الحياة والطعام. تعلمت بعد ذلك ماذا تعني القوة».

ظروف نشأته أسهمت في تشكيل شخصيته الكارهة للعواطف المنفعلة الهائجة والمحبة للانضباط واتخاذ القرارات بهدوء بعد أن تبرد المشاعر الغاضبة. في حواره مع الصحافي الأميركي توم بليت، الذي نشره في كتابه «حوار مع لي كوان يو»، يصف الزعيم السنغافوري والده بالشخص الذي لم يكن قادراً على ضبط أعصابه لذا كان يهتاج غضباً على أتفه الأسباب ويضرب الولد الصغير، الأمر الذي ترك جروحاً غائرة داخل أمه الحزينة الحكيمة الهادئة التي آمن من خلالها بقوة المرأة السنغافورية وقدرتها الفاعلة على المشاركة في صنع مستقبل سنغافورة.

وتعرَّض لي كوان يو لانتقادات مستمرة من الصحافة الغربية التي تتأرجح بين الإعجاب بعبقريته وقدرته على النجاح، وبين ما تصفه بالنظام التسلطي الناعم الذي يؤمن بالحكومة المركزية وانخفاض مستوى حرية التعبير الشعبي والصحافي. ورد لي كوان يو على هذه الانتقادات بإجابة واحدة: «لا يهم ما يقوله الآخرون عني، المهم ما يقوله السنغافوريون. يمكن أن تسميني براغماتياً نفعياً. أنا مهتم بماذا يعمل ويتحقق النجاح».

ويفتخر لي كوان يو بأن بلاده خالية من الآيديولوجيا مثل خلو المشروبات الغازية من السكر. «آيديولوجيا سنغافورة الوحيدة»، كما ذكر في حوار مع صحيفة «نيويورك تايمز»، هي «الآلية الناجعة التي تعمل. سنجربها ونرى، إذا عملت سيكون ذلك جيداً وسنستمر، وإذا لم تعمل، سنتخلص منها، ونجرّب غيرها».

بعد حكم لي سنغافورة لأكثر من ثلاثة عقود رئيساً للوزراء من خلال حزب العمل الشعبي الذي اكتسح الحياة السياسية في البلاد لعقود وبعد أن تنازل عن الحكم طوعاً في عام 1990، أصبح «الوزير الأعلى» التي تنعكس ظلاله على ناطحاته وبحيراته. الصحافيون يذهبون إلى سنغافورة لمقابلته أولاً قبل حتى أن يلتقوا رؤساء الوزراء الذين تتلاشى أهميتهم إلى جانبه على الرغم من أنه يعمل من بيته. سأله أحد الصحافيين منتقداً هذه القبضة الحديدية رغم الغياب، فأجابه بشبه اعتراف: «لا يمكن أن نغامر ونسمح لما حققناه بالتراجع».

روَّج لي كوان مراراً لما سماها «القيم الآسيوية»، وهي حملة أخلاقية وسلوكية معارضة للقيم الغربية التي تؤمن بحرية الفرد في الحياة والتعبير على حساب قيم المجتمع. القيم الآسيوية تقلل من أهمية الحرية الفردية إذا كانت على حساب خير المجتمع الذي سيشمل الجميع، كما يقول. كما أنه أحد المخلصين لقيم تطوير الذات التي تحرِّض السنغافوريين على الابتسام، وتعلم اللغة الإنجليزية، وتجنب رمي القمامة من الشرفات، والبصق في الشارع، والتخلص من «العلكة» بعد مضغها. شوارع سنغافورة لامعة وشديدة النظافة بسبب العقوبات المالية على من يبصق لعابه أو علكته. ويسخر بعض المعلقين من هذه القوانين التي يصفونها بالغرابة. وردَّ لي كوان على هذه الضحكات الساخرة بقوله: «دعهم يضحكوا. لو لم نقم بهذه الجهود لأصبحت شوارعنا قذرة وشخصياتنا وقحة».

والآن بعد سنوات من رحيل أيقونة سنغافورة وأبيها المؤسس، آخر ما يفكر السنغافوريون وملايين المعجبين بتجربته هو الضحك على ما قاله أو فعله.

لماذا أكتب عنه اليوم؟ لأن تجربته تعلمنا دروساً مهمة خصوصاً في منطقتنا، وهي أهمية القائد الواقعي العملي المهتم بمصالح شعبه. القائد الذي يؤمن بالإصلاح الحقيقي والتنمية الاقتصادية والحرب على الفساد لأنها هي السبيل الأمثل للاستقرار والازدهار. القائد الذي يفهم طبيعة الشعب ويتعامل معه على هذا الأساس، وكما قال كوان فإنه لا يهتم بما يقوله عنه الآخرون لأنهم لم يفهموا تركيبة مجتمعه. فمجتمعه خليط ديني وعرقي، ويجب فرض قوانين تضبط الأمن فيه وتدعم تعليماً يدعم التطور الثقافي والعلمي لأنه لا يمكن لمجتمع أن يمضي إلى الأمام بثقافة متأخرة وتعليم متراجع ومذاهب وأعراق متناحرة... تجربة لي كوان تُعلمنا الأخذ من المجتمعات المتطورة والانفتاح عليها وأخذ ما يناسبنا منها لأن لكل مجتمع حركة إيقاع مختلفة ولا يمكن فرض نموذج سياسي واقتصادي على الجميع ولكن من الحكمة التعامل بواقعية. تجربة لي كوان يو تستحق التأمل، ومن كان يهاجمه سابقاً أصبح يبجّله الآن، ومن الأكيد أنه لو عاد إلى الحياة الآن سيقول ما كان يقوله سابقاً: «لا يهم المديح أو النقد. المهم ما يقوله السنغافوريون عني. أنا مقاتل من الشارع وبراغماتي ونفعي وآيديولوجيتي الوحيدة هي آيديولوجية النجاح».

***

د. ممدوح المهيني

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: الجمعة - 16 ذو القِعدة 1445 هـ - 24 مايو 2024 م

لطالما استشعر الإنسانُ براعتَه في التغني بألوان الاختلاف التي تطبع حياة بني البشر، في محاولة لإظهار جمال وإيجابيات تلك الاختلافات التي من شأنها أن تعزز أواصر الترابط والتعايش والتسامح بين الأفراد والمجتمعات، استدعاءً لروح الإنسانية التي من شأنها إنقاذ الإنسان من الذوبان في نزعاته التي قد تفصله عن الجمع البشري.

والواقع الإنساني يزهر بالاختلاف، أي التنوع والتباين، باعتباره عماداً رئيسياً للتعارف ولتقريب المسافات وتعظيم نقاط الالتقاء والتشابه، إذ هناك روابط مشتركة يمكن استثمارها في الارتقاء بالعلاقات الإنسانية ولتحقيق ذات الأهداف السامية.

وحين حاول الإنسان بشتى الطرق التنقيب عن أساس الأشياء، وعن أصول بنيتها الدقيقة، سعياً منه لفهم دقيق حول نتاجاتها التي تبدو لاحقاً على أشكال وأنماط مختلفة، التقى مع أميز تلك الأمور التي احتلت مساحة عريقة في الساحة الفلسفية وتداخلت في مختلف في حقولها، أي المحاولات المعنية بفهم المنبع الأساسي والأول لـ «المعرفة».

وبالعودة مرة أخرى للحديث عن التشابه والاختلاف، نجد أنه - وعلى الرغم من تعدد التفسيرات الفلسفية التي يعزى لها مصدر المعرفة - ثمة العديد من الآراء الفلسفية التي ذهبت لتحييد وإقصاء كل من عاملي التجربة والدافع الحسي النابع من داخل الإنسان، لصالح الاعتماد غير المشروط على ملكة العقل وقدراته، باعتباره المادة الخام لمختلف الإفرازات المعرفية، لا سيما أن العقل يمثل خيطاً جامعاً لقوة فطرية يشترك فيها كافة أبناء البشر. وهنا نتوقف عند الرأي الذي يصف العقل باعتباره «أعدل الأشياء قسمةً بين الناس»، كما قال الفيلسوف رينيه ديكارت.. فهل حقاً يتشابه الإنسان في العقل باعتباره «المادة الخام» التي تتشكل منها المعرفة؟ وما الذي قصده ديكارت باعتبار العقل قسمةً عادلةً بين بني البشر؟

إن الرفض هو أول ما يمكن تخيله كردة فعل على التصريح بتشابه عقولنا، حيث يجد كل إنسان في عقله ما يميزه عن الآخر، ولذا قيل في الأمثال الشعبية المتداولة ما مفاده أن كل فرد من بني البشر رضي بعقله ولم يرض برزقه! في إشارة للتناقض الذي يأتي من عدم التهاون بتقييم كل منا لعقله، والتقاء ذلك مع نسبة لا بأس بها من الفردانية الممزوجة بـ «الأنا»، والتي تشير لها العديد من الوقائع المعيشة والممتدة على طول خط التاريخ، و«صراع الجدليات»، واتخاذ الموقف النهائي والحاسم في العديد من القضايا التي لم تنل اكتفاءها من البحث رغم اكتناز ما قدمه الفلاسفة حولها.

وفي ذات السياق، فإن الموثوقية الموجودة لدى كل واحد منا بعقله تعد أحد الأدلة التي استخدمها ديكارت للبرهنة على تشابه عقولنا، حيث إن السعي الإنساني يكون للاستزادة الثقافية والمعرفية والتطور أو الارتقاء بالمهارات والخبرات، لكنا لم نسمع من قبل عن محاولة لتبديل العقل أو رغبة الإنسان في حصوله على عقل مختلف، بل الرغبة هنا تتحدد بمتعلقات العقل من أفكار ومهارات إضافية.

إن بناء قناعة تتلاقى مع ما أشير إليه من اعتبار الإنسان ممتلكاً لمادة عقلية خام متشابهة وطاقة كامنة لا تفاضل فيها، يعيد من تصوراتنا تجاه المعرفة والقدرة على الخروج بتفرعات معرفية غنية بعيدة عن إطلاق تلك المعارف وإلصاق العمومية الفضفاضة بها، بل إن ذلك يمتد ليلقي لنا طرف الخيط الذي يعيننا على دراسة مصادر المعرفة. إن تغذية الأرضية الأساسية يختلف من شخص لآخر، حسب زاده من المعلومات والخبرات. كما أن التعامل مع سلة المواد الأولية المجمّعة من معلومات وخبرات ومواقف وأحداث.. يختلف من شخص لآخر، وبالتالي فإن طبيعة إنتاج المعرفة، وإن تشابه في خطواته العامة لدى الجميع، فإنه لا يمكن أن يتشابه في كيفية معالجة موادها الأولية والأساسية حين تعتمد تلك الخطوات على أسس ومحددات مختلفة.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 22 مايو 2024

يعيش الإنسان المعاصر في صراع نفسي محتدم لقبول ما يدور حوله من مظالم وممارسات جائرة من زاوية، وأن لا يستطيع فعل شيء مؤثر لإيقافها من زاوية أخرى، وفي الغالب لا يجد تفاسير وشروحات تقف خلفها أدلة دامغة في ما يتعلق بالظواهر الخارقة التي بدأت الانتشار في شتى بقاع الأرض، وبالتالي الاضطرار إلى خوض معارك لم يكن هو في الأساس جزءاً من صناعتها، ولا يملك اتخاذ قرار المشاركة فيها من عدمه، وفي الغالب يكون هو ضحيتها الرئيسية في خضم أمواج عاتية وسيول عكسية جارفة تخالف طبيعته الأولى، وما بين شعوب تحسب أنها في طريقها إلى التحكم في نواميس الكون ومعرفة أسراره، وشعوب تلاحق الركب بكل ما أوتيت من قوة، وأقوام تنفرد بالغناء المنفرد على الأطلال، وأخرى تشعر بأنها لا حول لها ولا قوة وهي تأكل وتشرب من أجل البقاء وغير معنية بما يجري في العالم من صراعات.

و نجد أن لوحة الحياة اليوم يراها البعض بألوان زاهية وآخرون لا يرون الألوان، ويعتقدون أن الألوان أسطورة اخترعها الجانب الآخر، وهو ما ينعكس على السياسة والاقتصاد والثقافة وكل مناحي الحياة في وقتنا الحاضر.

في واقع الأمر، فإن العقلانية لدى الكائن البشري مهارة مكتسبة، وفي العموم تتطلب جهوداً استثنائية للوصول إلى درجة التمكن منها والشعور بالراحة في ممارستها على مدار الساعة، لكون العوامل الأخرى المكونة للشخصية البشرية طاغية في تكوينها الاحتياجي الأساسي، وذلك ضمن ثلاثة محاور رئيسية، والتي تندرج في طياتها تفاصيل باقي الاحتياجات، وهذه المحاور الثلاثة هي الاحتياج الفسيولوجي والشعوري والنفسي، والتي تشكل تكتل القدرة على البقاء والمنافسة والتفرد والانتماء لمجموعة، وبالتالي يعتقد أن الآخر أقل منه في القيمة الخارجية وفي جوهره، وهو شعور طبيعي اجتماعياً وإن كان ليس شعوراً في جينات الفرد يولد به، بل يحتاج لمؤثرات لتحفيزه وجعله ينمو ويتحول لقناعات ومنها لمسلمات ثابتة في الذهن والكيان.

لا يزال الإنسان المعاصر يبحث تحت حفريات وأنقاض العقل التاريخي عن أجوبة لأسئلة لا توجد لها أجوبة حتى في مستقبله، وأن الثقافة الوافدة الجديدة الضاغطة والمرنة والجذابة قد تكون هي الثقافة البديلة التي سيختارها الشباب لتحديد هوية جيلهم، ومدى تأثير ذلك على الأحادية الثقافية للإنسان العاقل المعاصر والتي تتكون من خمس معطيات وهي: (1) الإيمان بعدم أهمية نموذجه الثقافي في أسلوب الحياة التي يتبناها حالياً (2) الإيمان بأنه علامة فارقة في التاريخ والتاريخ يبدأ به وما مضى مجرد أساطير تسقط أمام عظمة أبطال الجيل الحالي (3) القدرة على فرض المعايير الأخلاقية لعالم الإنترنت في العالم الواقعي والذي يشكك هو في مدى واقعيته (4) الظهور في صورة وحيدة لشكل ولون وطعم المجتمع ومؤسساته و(5) الحجاب الخفي والذي يجعل الإنسان يعتقد أنه يمثل وجهة نظر وقيم عالمية تتجاوز وتؤثر على جميع الناس التي يجب أن تتكيف ثقافياً معها، وبالتالي الحكم على ثقافة من هم ليسوا جزءاً من قريته في الشبكة العنكبوتية من خلال قيم ومعايير ثقافته السيبرانية.

ويلامس الغزو الثقافي الذكي فعلياً حياة كل أفراد المجتمع ويعيد تشكيلهم من الداخل، وهو ما يعقّد أطروحات التعايش السلمي بينهم والتسامح وقبول الآخر المختلف لكونها قيم تحتاج لعقيدة هي غائبة اليوم، ولا تستطيع وقف عمليات التغريب الإلكتروني للمجتمعات الشرقية والغربية على حد سواء. فهل نستطيع أن نتخيل عالماً مليئاً بالثقافات الرقمية الأحادية المعزولة عن بعضها البعض؟! وعربياً، هل ستتخطى الأجيال المستقبلية عقبة الأحادية الثقافية في ظل غياب استراتيجيات ودراسات مطولة ترصد واقع توجه المجتمع؟ وهل سيزداد الاهتمام بعلماء وباحثي علوم النفس والاجتماع والفلسفة ومجالات الأمن الإنساني مثل الاهتمام بباقي التخصصات التي تراها بعض الحكومات تذكرتها للعالمية دون التخصصات الإنسانية الأخرى؟ وهي إحدى الفجوات المؤثرة في بناء العقل العربي الاستراتيجي والقراءة غير التقليدية للمستقبل.

***

سالم سالمين النعيمي

كاتب وباحث إماراتي في التعايش السلمي وحوار الثقافات، عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 21 مايو 2024

نظم في عَمّان بالأردن الأسبوع الماضي «الحوار الاستراتيجي العربي- الياباني» بالتعاون بين مركز الدراسات الاستراتيجية الذي يشرف عليه المفكر الأردني زيد عيادات ومركز بحوث العلوم المتقدمة بجامعة طوكيو. ومع أن جلسات المؤتمر خُصصت بالأساس لاستعراض موضوعات الساحة مثل القضايا الأمنية والجيوسياسية المشتركة وتحديات التطرف والإرهاب وفرص التعاون الاقتصادي والتقني، بالإضافة إلى حرب غزة الدائرة حالياً، إلا أن الإطار الناظم للحوار ظل كما هو متوقع الدرس الذي يتعين على العالم العربي استخلاصه من تجربة النهوض والتحديث اليابانية. ليس الموضوع بالجديد، وقد كتبت حوله دراسات وأعمال عديدة نذكر في مقدمتها كتابات مسعود ضاهر ومحمد أعفيف، بيد أن جل هذه الأعمال تمحورت حول جدلية التحديث التغريبي والنهوض الذاتي في اليابان التي تم تجاوزها إلى حد بعيد في الأدبيات الاجتماعية والتاريخية الراهنة. ليس من همنا استعراض الكتابات الأخيرة في الموضوع، لكن حسبنا الإشارة إلى أن النموذج الياباني المطروح للاستكناه عربياً هو ما أطلقنا عليه «الحداثة المحافظة».

ما نعنيه بالحداثة المحافظة هو استيعاب شروط التقدم العلمي والتقني وآليات التنظيم السياسي المعاصرة في سياق الاستمرارية الحضارية والمجتمعية المحلية. كتب الكثير حول خصوصية النموذج الياباني الجامع بين الأصالة الثقافية المحلية والتحديث الناجع، بيد أن هذا التوجه تم دوماً في إطار السؤال الملغوم حول الأصالة والمعاصرة، الذي كثيراً ما شغل رواد النهضة العربية. لم يكن هذا هو السؤال المنطلق في التجربة اليابانية الحديثة، التي تمحورت منذ القرن الثامن عشر حول شروط الفاعلية التاريخية في المحيط الآسيوي في سياق العلاقة المتوترة بالغرب التي وصلت مداها في الحرب مع روسيا 1905 وما تلاها من مشاركة يابانية في الحربين العالميتين.

في هذا الباب نذكر أن شعار ثورة الميجي (ومعنى هذه العبارة الحكومة المتنورة)، هو «الجمع بين الروح اليابانية والتقنية الغربية». ومع أن بعض دعاة التنوير الياباني طرحوا منذ نهاية القرن التاسع عشر خيار «الخروج من آسيا» (فوكوزاوا يوكيشي)، إلا أن هذا الخروج كان يعني في الحقيقة القطيعة مع العطالة التاريخية والانعزال الطوعي عن العالم الذي طبع حقبة الأيدو (1600 - 1868). ما نريد أن نبينه هو أن حركة الميجي التي نجحت في تحديث اليابان لم تسع إلى مسح الطاولة وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة غير مسبوقة، على شكل الثورات السياسية والاجتماعية الكبرى في الغرب، بل اعتمدت الخيار المحافظ الذي تمثل في مرتكزات ثلاث هي: إعادة النظام الإمبراطوري باعتباره ضمانة الاستقرار الداخلي ومظهر الرمزية الحضارية للمجتمع، وتحويل عقيدة الشانتو إلى ديانة مدنية للدولة، والحفاظ على السلطة العائلية في الديناميكية الاقتصادية والإدارية وشكل التنظيم السياسي.

ومع ان اليابان اعتمدت منذ دستور 1889 نموذج الملكية الدستورية ببرلمان منتخب وصحافة حرة وقضاء مستقل، إلا أنها استوعبت هذه المقاييس ضمن بنيتها الثقافية الخصوصية المميزة دون الانسياق إلى سمات الفردية والميكانيكية الإجرائية والقوننة الصورية التي تطبع الليبرالية الغربية. ومن هنا ندرك أن تاريخ الديمقراطية اليابانية سيطر عليه تقريباً في كل مراحله حزب واحد هو الحزب المحافظ (الحزب الليبرالي الديمقراطي) الذي يقدم نفسه بأنه حارس للتقاليد اليابانية وان كان يتبنى الليبرالية الاقتصادية المنفتحة. لقد عانت التجربة السياسية العربية الحديثة من الأفكار الثورية الراديكالية التي إما اختزلت الليبرالية في نمط التحديث الغربي الكامل دون مراعاة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية، أو تبنت أطروحات القطيعة الجذرية لإعادة قولبة المجتمع وحمله عنوة على التقدم والتطور التاريخي.

في الحالتين، يتم النظر إلى ثقافة المجتمع بصفتها عائقاً أمام النهوض والتحديث، وينظر إلى الدولة بصفتها الوصية على المجتمع وطليعته القيادية المسؤولة عن تغييره. وفي الوقت الذي نقرأ كتابات عربية ضحلة عن التجربة اليابانية ترى فيها دليلاً على نجاعة مسلك الخصوصية الحضارية المغلقة على نفسها، نرى أن قوة هذه التجربة تكمن في انفتاحها وجرأتها وحيويتها. الأمر هنا يتعلق بتجربة حداثية مكتملة البناء والشروط وفق قواعد النهوض الموضوعية في العصر الحاضر، لكنها تطرح خياراً ليبرالياً محافظاً نرى أنه هو المسلك الملائم للمجتمعات العربية الراهنة. الخيار المحافظ هو الذي يحرص على الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي، ويعمل على حماية الهياكل المجتمعية التي تقوم عليها الهوية الخصوصية، فيقطع الطريق أمام دعاة القطيعة العدمية من متطرفين حاملين لمشروع أدلجة الدين أو تثوير المجتمع بالتحشيد والقوة.

***

د. السيد ولد أباه – أكاديمي موريتاني

19 مايو 2024 23:30

لطالما ظلّ فضاء الفلسفة مولّداً للكثير من الأسئلة الحيوية، وبخاصةٍ ونحن نعيش ضمن حومة من الأحداث المفصلية الكبرى، والتحديات الأخلاقية، والصراعات السياسية. والمعنى الرئيسي للفلسفة هو السؤال، ولا يمكن فصل أي فلسفةٍ عن سؤالها؛ إذ الفلسفة تعمل على أسئلة كاتبها، وعلى وعي متلقيها، هذا هو الترابط المؤسس لأي موضوع فلسفي مطروح.

قلتها مراراً إن الفلسفة كما يرى لويس ألتوسير في كتابه المهم «تأهيل الفلسفة للذين ليسوا بفلاسفة» أن: «أي فلسفة تريد أن تعرف نفسها حقّاً، بصدق، وتعرف المكان الذي تشغله في عالَم الفلسفة، وما يميّزها تخصيصاً عن سواها من الفلسفات، فعلى هذه الفلسفة أن تقوم بالالتفاف الكبير حول تاريخ الفلسفة، وأن تُقدِم على أفعال قريبة وبعيدة، وأكثرها بُعداً عنها؛ كي تتمكّن من الرجوع إلى المنزل محمّلة بالمقارنات، ومن اكتشاف ما يجعل معرفتَها بنفسها أفضل قليلاً. كلّ الفلسفات الكبرى تقوم بهذا الالتفاف الكبير: كانط راح يبحث لدى أفلاطون البعيد ولدى ديكارت القريب، عمّا يتعرّف به إلى نفسه. وماركس راح يبحث في نهاية العالَم لدى أرسطو ولدى الأقرب».

في مقالةٍ مهمةٍ نشرتها مجلة «حكمة» ومؤسسها الراحل الدكتور يوسف الصمعان، بعنوان: «ضرورة الهجوم على الفلسفة» كتبتْها إيرين غوميز أولانو، والحقّ أن فيها الكثير من التأملات المهمة؛ فهي ترى أننا: «إذا تأملنا بالفكر الفلسفي المعاصر فسنجد أن أكثر الذين انتقدوا الفلسفة كانوا ينتمون إلى حقول خارجة عن الفلسفة، ولكن أصبحوا فلاسفة بانتقادهم، فهذا أشهر فيلولوجي في القرن التاسع عشر، فريديريك نيتشه ينتقد بشدة الميتافيزيقا لا لشيء إلا لأن الفلسفة انجرفت كلياً إليها، فسعى إلى إذكاء جذوة الفكر ومعارضة تاريخ الفلسفة».

ماركس انتفض ضد النزوع التأملي للفلسفة (على طريقة نزعة هيغل)؛ إذ يقول إن «الفلسفة لم تفعل شيئاً أكثر من التأمل في العالم وإصدار تأويلات حوله، في حين أنه يجب تغيير العالم»، إضافة إلى أن ماركس قد عرى عن الطابع الآيديولوجي الذي تخفيه الفلسفة».

أما عن الفلسفات الشذرية التي نمت بها أفكار العديد من الفلاسفة، ومنهم نيتشه في بعض كتبه وليس كلها، فتقول عنها: «إذا تأملنا الفكر الفلسفي المعاصر فسنجد أن أكثر الذين انتقدوا الفلسفة كانوا ينتمون إلى حقول خارجة عن الفلسفة، ولكن أصبحوا فلاسفة بانتقادهم، فهذا أشهر فيلولوجي في القرن التاسع عشر، فريديريك نيتشه ينتقد بشدة الميتافيزيقا، لا لشيء إلا لأن الفلسفة انجرفت كلياً إليها، فسعى إلى إذكاء جذوة الفكر ومعارضة تاريخ الفلسفة. وهذا أيضا ماركس انتفض ضد النزوع التأملي للفلسفة؛ إذ يقول: إن «الفلسفة لم تفعل شيئاً أكثر من التأمل في العالم، وإصدار تأويلات حوله، في حين أنه يجب تغيير العالم».

الخلاصة أنَّ الفلسفة نجحت بمهمة «نزع السحر عن العالم»، كما يقول ماكس فيبر. لقد تمكَّنت الفلسفة من طرح الرؤى القديمة على أنَّها أفكار اعتيادية، وفي نظر «هابرماس» فإنَّ هيغل: «أول من طرح مسألة قطيعة الحداثة مع الإلهامات المعيارية للماضي التي هي غريبة عنها في صيغة مُشكل فلسفي». ثم إنَّ مفعول الفلسفة يتطوّر تبعاً لتطوّر منابع الإشكاليات الفلسفية، وذلك بتغيّر العصر، كما أنَّ «أثرها» لا يبدو واضحاً للعيان، وتحتاج إلى عبقرية تشبه عبقرية الفيلسوف الرياضي «فريجه»، الذي لم يحفل علماء عصره بما كتب، فكتب إلى ابنه يتوسل إليه ويطلبه أن يحتفظ بهذه الوريقات، فسيأتي يوم ما من يرى فيها ما يفيد، وهو ما حصل فعلاً مع قراءة بيرتراند راسل لها. إنَّ أثرها سيختلف عن المفاعيل الأخرى كالجهود السياسية، أو الأعمال العادية من ناحية سرعة التأثير، بل التدمير، بل وظيفة الفلسفة مبنيّة على سؤالها؛ إذ لكل فلسفة أسئلتها الخاصة، فالفلسفة فضاء ممتد خالٍ من المضامين، وبطرح السؤال تتكوّن الفلسفات وتتخلّق، وعليه فإنَّ التأهيل الحقيقي لأي مشروعٍ فلسفي كامن في التشجيع على السؤال، والاستفادة من حيوية العقل البشري الجبّار الذي يمكّن الإنسان دوماً من طرح الأسئلة الجديدة التي تشجع من فاعلية المجال الفلسفي، في سبيل تطوّر قوّة الإجابة أو محاولة الإجابة عن السؤال.

***

فهد سليمان الشقيران

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الخميس - 08 ذو القِعدة 1445 هـ - 16 مايو 2024 م

 

لقد هزمت الدول العربية الإرهاب بفضل بطولات وشجاعة رجال أمنها. لقد أظهروا بسالة لا مثيل لها وتعرضوا لعمليات اغتيال وقُتل العديد منهم في مواجهة المجموعات المسلحة. اختلطت دماؤهم بتراب أوطانهم التي يدافعون عنها ولم ينتظروا شكراً من أحد. لقد قاموا بدورهم على أكمل وأنبل وجه، ولكن تضحياتهم لن تكتمل إذا لم يقم المسؤولون في التعليم بواجبهم.

رجال الأمن يستطيعون أن يقضوا على الهجمات الإرهابية، ولكن القضاء على الأفكار الإرهابية من مسؤولية وزراء التعليم. هل قاموا بدورهم؟ لا يمكن الجزم بالجواب ولا يمكن أن نكون قاسين ونلومهم أيضاً على مهمة عسيرة ومعقدة أكبر من قدراتهم والسنوات المعدودة التي يقضونها على كراسيهم. ولكننا إذا تأملنا الأجيال الجديدة وكيف تفكر فمن الصعب علينا أن نكون متفائلين. ومع هذا لا يمكن أن نلقي عليهم اللوم والمواعظ، فإذا لم يتعرضوا للمعارف المفيدة فلن نتوقع منهم الأفضل.

سأقترح في هذا المقال 7 مناهج هدفها خلق شخصيات أكثر واقعية وتسامحاً ومنطقية، وبالتأكيد هناك من هو أكثر تخصصاً مني ولديه اقتراحات أفضل.

أولاً: منهج عن تاريخ الحضارات

ومن بينها الحضارة العربية والإسلامية في عصرها الذهبي التي قامت على العلم والانفتاح والترجمة من حضارات مختلفة سبقتها. وكما هو معروف فإنه في ذلك الوقت كان إتقان اللغة العربية مهماً للاطلاع على المعارف الحديثة (تماماً كما هو الحال الآن مع اللغة الإنجليزية)، وقام ابن رشد بشرح أفكار أرسطو إلى أوروبا وتحديداً المعاهد المسيحية واتبع القديس توما الأكويني نظريته التي تجمع بين الفلسفة والدين.

من هذا المنهج يفهم الطلاب أن الحضارة الإسلامية التي اعتمدت على الفكر المستنير، والتسامح وحرية التفكير، وانصهرت فيها ثقافات وأديان وأعراق وقوميات مختلفة، وبالوقت ذاته يدركون أهمية وقيمة حضارات سابقة ولاحقة مثل الحضارات اليونانية، والرومانية، والصينية، والغربية؛ سيجعلهم هذا أكثر تقديراً للتطور الإنساني الذي شاركت فيه عقول مختلفة من أمم عديدة أسهمت جميعها بما وصلنا له من تقدم.

ثانياً: منهج تاريخ الأديان المقارن

الدين مشكل وعامل أساسي وضروري يشكل هوية الشعوب. الأديان في جوهرها تدعو للأخلاق والخير والروحانية والخوف من الله بالفعل وليس الكلام، ولكن المتعصبين حوّلوها إلى كراهية وتطرف وجعلوا منها، للأسف، أداة للتحريض وربطوها بثقافة الموت. تعليم الدين الذي يدعو للسعادة والعمل والإنتاج والمعرفة سيغير بلا شك عقول الطلاب. إلى جانب ذلك من المهم تدريس الطلاب تاريخ الأديان الأخرى، أو ما يسمى مادة الأديان المقارن وفهمها، نشوؤها وتطورها؛ لأن ذلك سيخفف من الانغلاق والتعصب. نعيش في مجتمعات مختلطة دينياً ومذهبياً وسيزيد هذا التمازج خلال العقود القادمة، ومن المهم أن نفهم الآخرين بطريقة علمية وتاريخيّة وإنسانية وإلا سيقوم غيرنا، من دعاة الكراهية، بملء الفراغ.

ثالثاً: منهج تشكل الدولة

يعيش معظمنا في دول مستقرة، ولكن كيف يمكن أن نحافظ عليها إذا لم نعرف أهميتها. وهناك من يحاول تدريس الوطنية، ولكن الوطنية مجرد مشاعر لا يمكن أن تدرّس وهي تأتي تلقائية ومرتبطة بالأرض والشعور بالانتماء بالمكان والناس. لكن فهم الدولة وتطورها التاريخي وكيف استطاعت أن تلغي كل الانتماءات الأخرى وتفرض القانون وتحقق السلم وخطورة نشوء ميليشيات وجماعات تزاحمها سلطتها. تقدير فكرة الدولة وفهم دورها الحقيقي يقللان كل الدعوات المحرضة على إضعافها وإسقاطها والقفز عليها.

رابعاً: منهج تاريخ الفلسفة والأفكار

من المهم أن يطلع الطالب الصغير على الفلسفة ولا يعني هذا الإيمان والاقتناع بكل ما فيها، ولكنها ستوسع مداركه وتجعله يفكر بطريقة منطقية نسبياً لا يرى العالم باللون الأبيض والأسود. الاطلاع على أفكار كبار الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين وغيرهم من فلاسفة عصر النهضة إلى الحكماء الصينيين، وحتى العقول الكبيرة في عصرنا الحديث، سيزيد من ثقافة ووعي الطالب ويقوي من شخصيته، ولن يجعله فريسة سهلة لكل شخص يقنعه بفكرة مجنونة خرافية.

خامساً: دراسة العلوم وتطور الإنسان والطبيعة البشرية

 ثورة «كوبرنيكوس» التي غيرت فهمنا للمجموعة الشمسية. وصراع «غاليغو» مع الكنيسة. الثورات الطبية والصناعية والتقنية التي غيرت عالمنا. وفهم كيف تشكل الجماعات البشرية من مجتمعات الصيد البدائية ومع تزايد عددها تحولت إلى مجتمعات متحالفة شكلت قبائل ومن ثم اندمجت وشكلت الشعوب التي نعرفها اليوم. فهم الطبيعة البشرية وغرائزها ودوافعها العميقة، وفهم أن الأعراق هي مفاهيم ثقافية أكثر من كونها حقائق راسخة؛ كل هذه الأفكار مهمة وكفيلة بتغيير طريقة تفكير الشخص عن نفسه وجذوره والبشرية والعالم من حوله.

سادساً: منهج طرق التفكير والنقاش

 فكرة التفكير المنطقي مهمة لأنها تعتمد على الحقائق وليست العواطف. كما أن فكرة النقاش المفتوح ترسخ فضيلة الحوار المتحضر مع اختلاف الأفكار، كما أنها تزرع الثقة بالطلاب وتسهم في بناء واستقلالية شخصياتهم. وعن هذا يقول الملياردير المتواضع وارن بافيت إن أهم نصيحة يقدمها للطلاب هي أن يتقنوا مهارة إلقاء الخطاب أمام الجمهور وسيرفع ذلك من فرص نجاحهم بنسبة كبيرة.

سابعاً: تاريخ الاقتصاد

فهم الاقتصاد مهم لفهم عالمنا اليوم القائم بشكل أساسي عليه وكيف مررنا بمراحل اقتصادية مختلفة حتى وصلنا من النظم الإقطاعية في أوروبا إلى الاقتصاد الرأسمالي الذي أسهم بشكل كبير في تغيير الواقع بصورة جذرية، وكيف انطلقت من أوروبا وأسهمت بنشوء طبقة رجال المال وتراكم الثروة، ومن ثم الانطلاق إلى قارات جديدة بحثاً عن الأرباح. وإذا غصنا في التاريخ فسندرك كيف كان الاقتصاد الزراعي في القرون القديمة هو السائد، ولكن الثورة الصناعية غيرت مجرى التاريخ بعد أن كان يسير في حركة دائرية، والآن نحن نعيش في ثورات تقنية متلاحقة.

كل هذه المناهج المقترحة لن تكون لها أي أهمية إذا أتت على طريقة الحفظ والتلقين؛ لأننا كنا طلاباً ونعرف أننا ننفر بشدة من أي شيء يفرض علينا بطريقة الإجبار. ننجح فيه بتفوق وننساه في اللحظة التي نخرج فيها من قاعات الاختبار. هدف هذه المناهج ليس النجاح والرسوب، ولكن بناء الشخصية وهذا هو، إذا لم تخني الذاكرة، الهدف الأساسي من التعليم.

***

د. ممدوح المهيني

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: لخميس - 08 ذو القِعدة 1445 هـ - 16 مايو 2024 م

 

بعد أن أصبحت عرضة لهجمات التقنية الرقمية

سمعنا وسنسمع كثيراً عن موت الرأسمالية مثلما ماتت الاشتراكية السوفياتية قبلها. المسوّغات متعدّدة والخلفيات الفكرية متباينة: هناك مَنْ يبشّرُ بهذا الموت القريب تناغماً مع رؤية رغبوية انتقامية لما حصل مع التجربة الاشتراكية العالمية، وهناك من يعتمد رؤية الحتمية التاريخية (Historical Inevitability) التي جوهرُها أنّ أي نسق فكري لا بد من أن ينتهي إلى زوال لتبدأ من نقطة الزوال انطلاقة جديدة لنسق جديد. إنها نسخة آيديولوجية محدّثة من الديالكتيك الهيغلي الممتد من القرن التاسع عشر.

لنبتعدْ عن الحروب الآيديولوجية الساخنة ولنقصرْ حديثنا على الفضاء الثقافي والمثقفين (Intellectuals). لم يكن المثقفون بعيدين عن الحفر العميق في جوهر الرأسمالية ومتبنياتها الفكرية وإسقاطاتها الحادة على طبيعة المعيش اليومي للبشر، وهم متباينون في رؤاهم تبايناً كبيراً ينعكس في القطبية المتنافرة لما يكتبونه بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وهذا أمرٌ متوقّعٌ من المثقفين. الناسُ في العادة تحاكم الأنساق الفكرية بمقدار انعكاسها المباشر في تحسّن حياتها اليومية؛ لكنّ المثقفين يُظهِرون عنتاً في القبول الميسّر بالأفكار؛ بل يميلون في العادة لمساءلة الأنساق والحفر العميق فيها بعيداً عن السطوح التي تكمن فيها المنافع الميسّرة سريعة المنال.

واجهة لعرض الموقف

الكتبُ هي البضاعة الأهم للمثقفين. هناك المنشورات والأفلام السينمائية والبحوث والدراسات والفن والتشكيل؛ لكن تبقى الكتب المستودعات الأهم والأكثر تداولاً للأنساق الفكرية. تعكس المنشورات الحديثة من الكتب رؤى متباينة نحو الرأسمالية من جانب مثقفين من شتى الألوان الفكرية والفضاءات المعرفية. سأذكر عيّنات فحسب من الكتب التي اطلعتُ على بعض تفاصيلها.

هناك أولاً كتاب «قوة الرأسمالية» (The Power of Capitalism) للمؤرخ والسوسيولوجي الألماني راينر زيتلمان (Rainer Zitelmann). من المثير معاينة العنوان الثانوي في الكتاب: «الرأسمالية هي الحل وليست المشكلة!» ربما سيقودنا العنوان الثانوي إلى توقّع نمط من القناعة المدفوعة بضغط آيديولوجي للرأسمالية في فكر المؤلف ورؤيته، وسيتعزّز هذا الرأي لو علمنا أنّ الكتاب المذكور أعلاه نُشر عام 2024 بعد سنة واحدة فحسب من نشر كتاب سابق له بعنوان «دفاعاً عن الرأسمالية» (In Defense of Capitalism).

هذا في الجانب المناصر للرأسمالية؛ أما في الجانب المناهض لها (والراغب في موتها ربما) فهناك كتاب مثير منشور حديثاً عام 2024 عنوانه «رأسمالية النسور» (Vulture Capitalism) لمؤلفته غريس بلاكلي (Grace Blakeley). تصمُ المؤلفةُ الرأسماليةَ -كما ينبئنا عنوان الكتاب- بسلسلة لا تنتهي من الشرور والجرائم؛ بل حتى نهاية الحرية الحقيقية للإنسان، وهذا ما يلمحه القارئ من العنوان الثانوي للكتاب أيضاً. لعلّ القارئ سيخمّن أنّ الكاتبة ذات توجهات يسارية أصولية عنيفة؛ حدّ أنها تنتمي لسلالة أحد مؤسسي الشيوعية السوفياتية. أبداً؛ ليس الأمر على هذا النحو. بلاكلي خريجة جامعة أكسفورد البريطانية العريقة، وكانت الأولى على دفعتها في التخصص الثلاثي الشهير بجامعة أكسفورد المسمّى «PPE» (الفلسفة، السياسة، الاقتصاد). القضية ليست آيديولوجيا خالصة، أو تصفية حسابات تأخرت وحان أوان تسديد فواتيرها المتراكمة. المثقفون لهم مواقف متباينة تجاه الرأسمالية؛ فهم يحبونها أو يكرهونها وليس ثمة من موقف موحّد لهم إزاءها.

علاقة طويلة ملتبسة

قبل تناول موضوعة علاقة المثقفين بالرأسمالية، من المهم تشخيص أيّ مثقف هو المعني بهذه العلاقة، وما الرأسمالية المقصودة في هذه العلاقة؟

المثقف هو المشتغل في حقل إنتاج الأفكار ومساءلتها ومداولتها والتعليق على مآلاتها ومفاعيلها المجتمعية والفردية. المثيرُ أنّ كثرة من كبار المثقفين أبدوا ميلاً فكرياً تجاه نوعٍ من الرأسمالية المهذّبة (أو الاشتراكية المطعّمة بحس إنساني، لا فرق!). فلاسفة من طراز برتراند راسل مثلاً صرّحوا عن ميولهم المتناغمة مع جهود الجمعية الفابية (Fabian Society) التي سعت لاعتماد حركية هادئة مسالمة نحو نمط من الاقتصاد التشاركي، المدعم بمظلة دولة الرعاية الاجتماعية (Welfare State). هؤلاء الفلاسفة والمثقفون لم يكونوا يساريين مكرّسين، ولا معنى أصلاً في توصيفهم آيديولوجياً بأنهم يساريون؛ لأنهم كتبوا بقسوة وبالضد من التجربة الشيوعية التي رأوا فيها تكريساً للسلطة الشمولية. هم أرادوا موازنة معقلنة -مقبولة من الوجهة الأخلاقية وممكنة من الوجهة العملية- بين الرغائب الفردانية وسلطة الدولة في منع الاستغلال وحماية مصالح الفرد.

الفكرة الجوهرية لدى هؤلاء المثقفين، هي أنّ الرأسمالية ليست آيديولوجيا أنيقة بقدر ما هي منهج عملي، حتى وإن اتسم أحياناً بشيء من القسوة والحزم، ومنع مظاهر التبطّل والتكاسل، والاتكاء على المعونات من جانب الدولة أو المؤسسات غير الحكومية. من جانب آخر، رأى هؤلاء في الماركسية -وهي الضد النوعي للرأسمالية- نسقاً فكرياً أنيقاً؛ لكنه لا يعمل بكفاءة بما يقود لنتائج فاعلة. ربما أرادوا نوعاً من المزاوجة والتعشيق بين الماركسية والرأسمالية، وهذا ما نجد له صدى داخل القلاع الرأسمالية ذاتها (وأهمها أميركا) بدأ يتعاظم بخاصة بعد الأزمة المالية المدمّرة عام 2008.

هذا عن المثقفين؛ أما بشأن الرأسمالية فثمة تباينات كثيرة أيضاً. ما هي الرأسمالية المقصودة بأن تكون هدفاً لحُبّ المثقفين أو كراهيتهم؟ الرأسماليات أنواع شتى. وجدت الرأسمالية الأولى في البروتستانتية جذراً فكرياً وأخلاقياً لأطروحتها الاقتصادية: على الفرد أن يعمل بكلّ قواه العقلية والجسدية لينال مكانته المرغوبة في المجتمع. حصلت الانتقالة الكبرى في الرأسمالية مع مقدم السياسات النيوليبرالية في حقبة الثاتشرية البريطانية والريغانية الأميركية، عندما ارتدّت الرأسمالية عن أساسها الأخلاقي لكي تصبح تغولاً اقتصادياً صارت بموجبه الحكومات مجرّد لاعب مسلوب القوى في تنظيم آليات السوق. السوق صارت هي اللاعب الأعظم، والأصول المالية الحقيقية صارت مشتقات مالية تعبّر عنها مجموعة أرقام فحسب.

حُبٌّ أم كراهية؟

قلت سابقاً إنّ الماركسية لها أناقتها الفكرية وجاذبيتها الأخلاقية؛ لذا من المتوقّع أن تستميل كثيراً من المثقفين؛ غير أنّ عقوداً من التطبيقات العملية أبانت أنّ الرأسمالية كانت أكثر كفاءة في الوفاء بحاجات الناس ورغائبهم. المرء لن يعتاش على الأفكار عندما تكون معدته خاوية وصحته معتلة، وحاجاته الأساسية منقوصة أو غائبة. الوقوف في طوابير من أجل بعض الزبدة أو اللحم ليس بالتجربة الطيبة التي تدعم أي نسق اقتصادي، مهما كانت خلفيته الفكرية أنيقة ومتّسمة بالرفعة الأخلاقية.

لكن في الوقت ذاته، أبدى بعض المثقفين امتعاضاً مبدئياً تجاه الرأسمالية. هم لم ينكروا بعض مزاياها؛ لكنهم رأوا أنّ هذه المزايا جاءت باهظة التكلفة من الناحية الإنسانية، وقد تعاظم هذا الامتعاض لديهم عقب تغوّل السياسات الثاتشرية والريغانية في المد النيوليبرالي الذي حصل في بداية ثمانينات القرن العشرين. لم يستأنس هؤلاء المثقفون أبداً بفكرة السوق الحرّة المحكومة بآليات العرض والطلب والمتفلتة من كلّ تنظيم قانوني، وقبل هذا لم يستأنس هؤلاء أن تكون الرأسمالية سبباً ووسيلة لتركيز الثروة في يد ثلّة من الرأسماليين الذين لم تُعْرَفْ عنهم مناقب ثقافية مشخّصة. صارت مسألة ثنائية «العقل– المال» تحتلُّ في زمننا المعاصر مكانة مركزية شبيهة بمعضلة «العقل- الجسد» في القرون السابقة، وراحت الكتب تترى في كيفية ترويض العقل والنفس لكي يتحوّلا إلى آلة تعرف كيف تقتنص المال من غير أي معوّقات نفسية أو ذهنية.

لنتأملْ مثلاً كم يكسب أستاذ فلسفة أو أدب أو سوسيولوجيا أو علم نفس في جامعة هارفارد سنوياً؟ ولنقارنْ هذا مع ما يكسبه مارك زوكربرغ مثلاً سنوياً؟ لا مجال للمقارنة. هذا المثال يكفي لبيان أحد أسباب كراهية المثقفين للرأسمالية، رغم أنهم يعترفون بأنها وفّرت لهم عيشاً طيباً. يمكن أن نقرأ بكيفية مسهبة عن تفاصيل مثل هذه في كتب كثيرة، منها: «العقل في مقابل المال» (Mind vs. Money) لمؤلفه آلان إس. كاهان (Alan S. Kahan). العنوان الثانوي للكتاب كاشف عن الطبيعة المباشرة لموضوعه: «الحرب بين المثقفين والرأسمالية».

مراوغات جديدة

اختلفت الحال النوعية في علاقة المثقفين بالرأسمالية في القرن الحادي والعشرين. الثقافة الكلاسيكية صارت أقلّ طهرانية، وأقرب لمفهوم خلق الثروة الحقيقية، ومغادرة مفهوم الاشتغال في نطاق العوالم الرمزية. صار معظم المثقفين يسعون لاقتطاع حصتهم التي يرونها مشروعة من الثروة العالمية. الرأسمالية كذلك صارت عُرْضة لهجمات التقنيات الرقمية التي جعلت من الرأسمالية الرقمية مفهوماً يختلف عن الرأسمالية الكلاسيكية، وليس محض امتداد له.

لم يكتف المثقفون في أيامنا هذه بإبداء مظاهر الامتعاض من الرأسمالية أو مناصرتها. أستاذ الفلسفة في «هارفارد» اليوم لم يعُد يكتفي بمرتبه السنوي؛ بل صار يسعى لنشر كتب ذات محتوى مرغوب عالمياً، تحت إشراف دور نشر عالمية تجيد صنعة الترويج والإشهار. لم يكتفِ الأستاذ في الثقافة الكلاسيكية بنشر كتب تلقى رواجاً؛ بل هو في الغالب صاحب «Podcast» ومدوّنة إلكترونية تدعم مسعاه الترويجي وجهده في كسب مزيد من المال. لم يقتصر الأمر على أعالي الثقافة الكلاسيكية (الفلسفة والأدب مثلاً)؛ بل إن كثرة من علماء الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا والأدب انخرطوا في لعبة كسب المال عبر النشر المكثف. قلّما تمرّ سنة دون أن ينشر هؤلاء كتاباً لهم.

إنها لغة المال التي تفرض سطوتها في نهاية الأمر، وليس الحب أو الكراهية إلا تمثلات نفسية لمقدار حصة المثقف من المال. هذه بعض طبيعة البشر، وعلينا القبول بها وترويضها بقدر الممكن للصالح العام والفردي معاً. هذا أقصى ما يمكن فعله.

***

لطفية الدليمي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 15 مايو 2024 م ـ 07 ذو القِعدة 1445

 

لكل إنسان على وجه الأرض قصة هروب، حتى لو لم يتعرف عليها بعد، فهناك مَن يهرب من ماضيه، وهناك من يحاول التملص من حاضره، بل هناك أيضاً من يحاول أن ينجو من مستقبله.. ولذلك معان وتحليلات كثيرة لسنا بصدد نقاشها هنا.

لكن ما يلفتنا في هذا السياق هو الهروب الفلسفي والفكري والثقافي لدى المفكرين والباحثين بشكل عام، وفي هذا المقام المتصل بالقراءة المتأنية للتفكير الفلسفي حول المعرفة، نجد ملامح قصة الهروب لدى الفيلسوف الفرنسي البارز رينيه ديكارت، واضحة ومنطقية، حيث جاءت الفلسفة الديكارتية اللاحقة لمنظومة الفلسفة الأرسطية والأفلاطونية المنسجمة كخطوة نوعية مختلفة عن فلسفة العصور الوسطى التي ربما وضع فيها كلٌّ من أرسطو وأفلاطون أقصى تركيز لديهما مما جعلها تصل لمرحلة يمكن نعتها بالنضج.

وعليه، فإن فلسفة العصور الوسطى (الفلسفة السكولاتية المدرسية) المشبعة بالانطلاقات الكنسية، شكّلت أحد الدوافع التي جعلت من ديكارت يبني قصةَ هروبه من داخل تلك الدائرة غير المتناهية، ليرفض ما كانت عليه تلك الفلسفة، حيث تشكلت أولى ملامح هروب ديكارت من الواقع رافضاً الخضوعَ والتبعية للكنسية، والتي وجد فيها تحدياً لملكة الإبداع الموجودة لدى الإنسان، فاعتبرها بمثابة المركز في الموروث الذي لا بد من كسره، حيث لا يمكن استمرار خط الحياة تحت ضغط مكبح الإمكانيات والابتكارات الإنسانية، فاتجه بخطوة ذكية لنقد الفلسفة القديمة واعتبارها سبباً في استمرار ملامح الهيمنة وتقوية جذورها والإشارة إلى تداعياتها على الحرية الفردية.

ويُذكر أن الإنسان لا يمكنه الإعلان عن هروبه دائماً، بل أن ذلك الهروب ربما يبدو في الكثير من الأحيان ضمنياً وهادئاً في شكله الخارجي، لكنه مبني على العديد من التطورات والتغيرات في حياة الإنسان، حيث نجد أن ديكارت وضع العديدَ من المؤلفات والمقالات التي عبّرت بشكل واضح عن حالة الثوران التي كان يعيشها بداخله. ومن ذلك كتابه «قواعد لهداية العقل» الذي سطر فيه منهجاً جديداً مختصاً بتمحيص الدقة واليقين اللذين نجدهما في العلوم الرياضية. وهذا إضافة إلى مؤلفه «كتاب النور» الذي كان إدانةً لمصير الفيلسوف الإيطالي جاليليو الذي تسببت له اكتشافاته وأفكاره في حرب أعلنتها عليه الكنيسة.. وهذا بالإضافة إلى عدة مقالات مختصة بالفيزياء الرياضية، والتي كانت في مجموعها سبباً في كتابته مقاله الشهير «في المنهج» كخطوة لاحقة. ومن مقالاته «تأملات في الفلسفة الأولى» و«مبادئ الفلسفة».. وغيرها من المقالات والكتب التي عُنيت بعلم النفس، مثل كتاب «في النفس»، والتي شكلت كلها مجتمعةً انعكاساً واضحاً للفكر الديكارتي المترابط والمتعمق والدقيق.

وفي هذا السياق، فإننا مدعوون لوقفة مع السلام الذاتي، نتمعن خلالها «قصة هروبنا»، حتى نستطيع تحديد بوصلتنا القادمة، وليكون ذلك الهروب مختوماً بقصة نجاة مكللة بالإبداع، تعود بالنفع على مجتمعاتنا وأوطاننا، فكل منا فيلسوف في مضمار اختصاصه!

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 15 مايو 2024

 

هل للفلسفة قدرة أو أهلية للولوج إلى أزمات الواقع العربي الراهن؟ ذلك هو السؤال الذي حاولتُ الإجابة عليه خلال الندوة الفكرية المتميزة التي نظمتْها، الأسبوع الماضي، مؤسسةُ الفكر العربي ومعهد تونس للفلسفة في العاصمة التونسية، بحضور عدد هام من المشتغلين بالحقل الفلسفي من بلدان المغرب العربي. لقد بدا لي أن التوجهات الأيديولوجية التي طبعت الفكرَ العربي منذ الأربعينيات وتوطدت إثر قيام الثورات العسكرية القومية في سوريا ومصر والعراق، تمت أساساً خارج حقل التفكير الفلسفي. ومع أن الكثير من المفاهيم المحورية التي انتشرت في الخطاب السياسي العربي المعاصر لها خلفياتها الفلسفية العميقة (مثل النهضة والأمة والحرية والشعور والوعي.. إلخ)، فإن الحضور الفلسفي في تشكل هذا الخطاب كان محدوداً وهامشياً. لقد غاب عن هذا الخطاب السؤالُ المحوري المتعلق بالتنوير العقلاني والحداثة التاريخية، كما تم تغييب موضوع البناء السياسي المدني للدولة.

ومن هنا يمكن القول - دون مماحكة - إن الانفصام تفاقم منذ الأربعينيات والخمسينيات بين الفكر الفلسفي والسياق الأيديولوجي في الساحة العربية. لقد هيمنت على الفلسفة العربية أوانها الإشكالاتُ الميتافيزيقية المتعلقة بالوجود والذات والوعي المتعالي، في إطار التوجهات المدرسية التي عرفتها الساحة الأوروبية وقتَها (الوجودية والشخصانية والظاهراتية.. إلخ)، كما بدأ الاهتمام يتزايد بموضوعات الفكر العلمي مع نفاذ المقاييس الإبستمولوجية النقدية والمقولات الوضعية التحليلية. ومع إخفاق نموذج الثورة القومية الاشتراكية منذ نهاية الستينيات، عادت إشكالاتُ التنوير والحداثة إلى الفكر العربي ودخلت بقوة في الحقل الفلسفي مجدداً. وقد برزت هذه التحولات في ثلاثة أسئلة محورية هي:

- كيف يمكن إعادة بناء المشروع القومي العربي على أسس عقلانية رصينة، تُخرِجه مِن المسلّمات الأيديولوجية الهشة والخطاب الشعاراتي الممجوج، بما يعني إعادة التفكير في موضوعات الوحدة والهوية والمصير التاريخي.. من منطلقات جديدة؟ ومن أجل شق هذا المسلك الجديد، تم الرجوع إلى التقليد الهيغلي في استكشاف العلاقة الإشكالية المعقدة بين الذاتية الجماعية والزمنية التاريخية وبناء الدولة.

- كيف يمكن استيعاب المنظور الديمقراطي الليبرالي في صلب المشروع القومي الذي راهن على قدرة الزعامة الكارزمائية والعنف الثوري في تحقيق حلم الاندماج العربي؟ وما هي آثار هذا الاستيعاب المنشود على طبيعة تصور الدولة الوطنية وعلى نمط البناء الاستراتيجي الإقليمي؟ - كيف تمكن العودة إلى الإشكالات التأسيسية في موضوعات الإصلاح والتنوير والحداثة التي غطت عليها المسائلُ الأيديولوجية لمدة عقود من التجربة الثورية القومية؟ وقد خلُصتُ من خلال تحليل أزمات النظام العربي في أبعاده الداخلية والإقليمية إلى تلمسِ مهامٍ أربعٍ أساسية للفلسفة في السياق العربي مستقبلاً، وهي:

- إن الفلسفة من حيث كونها كما عرّفها هيغل «استبطان العصر بالمفهوم»، لا بد من أن تراعي محددات المرحلة الراهنة التي يعاد فيها تشكيل الوجود العربي في مقوماته السياسية والمجتمعية والتاريخية. وفي مثل هذه اللحظات التأسيسية يكون دور الفلسفة مضاعفاً من حيث هي ممارسة تصورية تستكشف الواقعَ وتسعى لتغييره في الوقت نفسه. - لقد استطاعت الفلسفةُ العربية المعاصرة التخلصَ إلى حد بعيد من إغراء الأيديولوجيات النسقية التي احتكرت المعنى وحددت بوصلة الالتزام السياسي والمجتمعي لمدة عقود طويلة. ولا شك في أن هذا المكسب النقدي قابل لأن يكون بدايةَ ديناميكية مراجعة عميقة وشاملة للنظام الفكري بكامله، وهو الدور الذي يمكن أن تضطلع به الفلسفة على نطاق واسع وجاد.

- إن فكرة العروبة التي شكّلت في النصف الثاني من القرن العشرين مرجعيةَ النظام الإقليمي وحددت مساراتِ العمل السياسي في البلدان العربية، ما تزال حسب اعتقادنا أفقاً صالحاً للاستكناه والممارسة. لقد أدت هذه الفكرة في السابق دورين تاريخيين هامين هما: دفع حركة التحرر الوطني من الاستعمار وبناء المنظومة الاستراتيجية الإقليمية المتناغمة مع المشروع الأفرو آسيوي. ومن الضروري اليوم شحن هذه الفكرة بدماء نظرية جديدة، قد يكون من بينها الأفق الفلسفي الواسع الذي دشنته النظريات ما بعد الكولونيالية التي أصبح لها حضور قوي في العالمين الآسيوي والإفريقي. - إن التفكير الفلسفي، وإن انطلق ضرورةً مِن خصوصيات الوضع العربي في أبعاده السياسية والمجتمعية، لا يمكن أن يتبلور نظرياً ومنهجياً إلا في الإطار العالمي الكوني. ذلك هو الدرس الذي استوعبته النهضةُ العربية الأولى في العصر الوسيط (التنوير العباسي حسب مقولة مروان راشد أو التنوير الكلاسيكي حسب مصطلح ليو شتراوس)، وهو الخيار الذي لا محيد عنه في المستقبل أيضاً.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 12 مايو 2024 23:45

شاهدتُ قبل أيام حلقة تلفزيونية، وفيها ضيف يهاجم الفلسفة وتحديداً تعليمها في المدارس باعتبارها تعمل على تخريب العقائد، وهدم الثوابت، والواقع أنني مللتُ القول في أكثر من مناسبةٍ كغيري من الزملاء أن الفلسفة ليست مهمتها التخريب، مقابل البناء.

الفلسفة لا تشبه العلوم بدفاعها عن حقائق ثابتة وراسخة، إنها مجموع المحاولات البشرية، وحصيلة المتون النظرية، ومحتوى الاستدلالات والمحاججات الحيوية. وما كانت للفلسفة يوماً مهمة متعلقة بالهدم ولا بالبناء، وإنما تهيئة الأجواء لمنح الإنسان قدرةً مضاعفة على مواجهة المستغلق من الأسئلة، ومنازلة الدقيق من الأفكار، وما حملته من نظرياتٍ طوالَ تاريخها.

تحدي تعليم الفلسفة لا يلغي أبداً أهمية التمسك به، التعليم بسياساته لا تقوده موضات العصر، والتحدي لا يخص تعليم الفلسفة وحدها، وإنما مجالات التعليم كلها، ولذلك فإن تدريس الفلسفة يجب إنقاذه عبر تطوير سياساته، والتفكير في استراتيجيات لا تحولها إلى نشاط تسلية وإزجاء للوقت وإنما لمعمل تمرين حقيقي على قراءة النصوص ودرسها، ولذلك لم تشكُ التجربة التونسية الرصينة من مثل ذلك الخلل.

سؤال جدوى الفلسفة أكثر من طرحه الفلاسفة أنفسهم، وثمة فلسفات بنيت لمناهضة موضوعات عريقة في تاريخ الفلسفة مثل الوضعية، والتفكيكية، وفلسفات الاختلاف عموماً وغيرها، فالفلسفة يضطرب بعضها بعضاً.

إن قيمة الفلسفة ليست في نتيجتها، وإنما في طريقها. البحث هو الغاية وليست نتيجته. الفلسفة المقبلة لدى هيدغر «لا تعني التي ستظهر في المستقبل، بل الفلسفة المتجهة نحو المستقبل مهما كان الزمن الذي تظهر فيه»، بحسب تعليق إسماعيل المصدق وشرحه. أما عن إشارة هيدغر التمهيدية لـ«ماهية الفلسفة»، فإنها «لا تتعين إلا من خلال طرح الأسئلة الأساسية»، ويفكر فيها من خلال الرنين الأول للحال الوجداني الأساسي للكائن والكينونة.

يعنون هيدغر فقرة من كتابه «الأسئلة الأساسية للفلسفة»: «الفلسفة بصفتها معرفة بماهية الكائن، غير مفيدة مباشرة، وهي مع ذلك سيادية، على قدر وعمق تاريخ شعبٍ يحضر أو يغيب في بدئه المعين لكل شيء يكون شعر الشاعر، وتفكير المفكر، الفلسفة. إن شعباً تاريخياً بلا فلسفة مثل نسرٍ من غير الامتداد الشامخ للأثير اللامع الذي تبلغ فيه أجنحته الاندفاع الأكثر صفاءً»..

الخلاصة، أن الحديث عن تعليم الفلسفة لايعني أن مقرراتها هي الحل الساحر لكل معضلات العقول، ولكنها تساهم في إيجاد بيئة نقدية عمومية تُغني النقاش والحوار وتؤسس للتسامح ونسبية الحق.

***

فهد سليمان الشقيران

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 30 ابريل 2024

حضور شعر المرأة وإبداعها بعامة لم يكُ يتم إلا عبر وسطاء، إما رواة أو مدونين، في حين يظل صوتها واسمها تحت الظل، على أن الوسطاء، رواة ومدونين، يتحكمون بالمنشور، ثم تدهور الوضع ليصبح الاسم نفسه من الممنوعات، ولا نعرف على اليقين متى أصبح اسمها عورةً، فلم يكُ ذلك في الجاهلية مع شيوع الوأد، ولا في عصور الإسلام المبكرة، وإنما جاء متأخراً، وربما يكون ثقافة مدنية وليست بدوية ولا ريفية في الأصل، وقد أمعنت الثقافة في احتكار الصوت والمعنى الشعريين على الرجل دون المرأة، وتخصص الرجل بمصطلح الفحولة مع حرمان المرأة من هذه الصفة حتى لقد ورد في معنى (الفحلة) أنها تعني سليطة اللسان، بينما الفحل هو فصيح اللسان، ما يعني أن تحريك لسان المرأة بالصوت هو إثم ثقافي تجب المحاذرة منه وتوقيه، وحين عمت الكتابة في العصر العباسي جاء الصوت الفحولي ليمنع المرأة من تعلم الكتابة وجاء كتاب (الإصابة في منع النساء من الكتابة) للفقيه البغدادي نعمان بن أبي الثناء الألوسي، وذلك لمنعها من التحايل على قوانين الحجب الثقافي عبر استخدام الكتابة التي لا تحتاج لصوت، ولكنها تحتاج لاسم، وقد حدث أن اعتبر اسمها عورةً، ومن ثم تضافر منعها من الكتابة مع حجب اسمها ليقمع إبداعها، ولكنها لم تنقطع عن الإبداع قط، وقد روى لي أحد الأفاضل مرةً أن في عائلته الكبيرة أكثر من أربعين شاعرةً، وحين لمته على عدم تدوين هذا التراث العائلي الضخم امتعض وجهه وقال: لا لا، عيب عيب، وتعمد قطع الحديث معي وكسر سيل أسئلتي. وهذه ليست قصةً فرديةً، وإنما هي موروث ثقافي متأصل.

على أن تعلّم المرأة أخيراً للكتابة كشف حذاقة أبي الثناء في حماية إمبراطورية الفحول حين نادى بمنع المرأة من تعلم الكتابة، حيث بمجرد ما تعلمت أصبحت حقاً تنافس الرجل على الإبداع، وأظهرت مهاراتها وقدراتها، أي أن خطة منعها من الكتابة كانت هي القابع الأهم ضد إبداعية المرأة، بما إنها مع الكتابة أظهرت اسمها مثلما أظهرت بوحها، وأظهرت أن استخدام اللسان ليس سلاطةً، وإنما هو سلطة معنوية وتفرد ثقافي، وأتبعت اللسان بالقلم والورقة، ومن ثم ظهرت المبدعة وظهر التأنيث ليكون قوةً معنوية ومعرفية، وبدأ ذلك بالكتابة الوجدانية، كما لدى باحثة البادية، ومي زيادة، ثم الشعرية كما فعلت نازك الملائكة بمبارزة فحول الشعر العمودي، وفتحت آفاق قصيدة التفعيلة، وفي المثالين معاً كشف ثقافي يعصي ثقافة الفحول عبر تعلم سحر الكتابة، وإن كان البحر الشعري فحلاً فالتفعيلة أنثى، وهنا تصل الثقافة إلى التساوي العادل في ميزان القول، كما في ميزان الطبيعة.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 4 مايو 2024 02:07

 

في المثقف اليوم