اخترنا لكم

فيلسوف فرنسي يستعيده بوصفه «عاطفة ثورية»

في كتابه اللافت «فلسفة العار: عاطفة ثورية» الذي صدرت ترجمته للإنجليزية مؤخراً*، يخوض الفيلسوف الفرنسي فريدريك غرو مغامرة فكرية جدّ فريدة: استعادة العار من ظلال التحقير النفسي والمجتمعي، والبحث فيه بوصفه قوة أخلاقية وسياسية وتحررية. فمنذ بدايات الحداثة، ظل العار في الخطاب الفلسفي والنفسي الغربي إما مهمشاً وإما مختزلاً كأحد الأعراض المرضية، بينما يقترح غرو قراءة جديدة له، تستعيد قدرته على إشعال اليقظة، وكشف التناقضات، ودفع الذات والجماعة نحو الاعتراف، والتحول، والتغيير.

ينطلق الكتاب من تأسيس دقيق لفهم العار، عبر التمييز بينه وبين الشعور بالذّنب؛ حيث الشعور بالذنب يرتبط بفعل خاطئ تجاه الآخر، يمكن تبريره أو التكفير عنه، أما العار فهو متعلق بالذات نفسها، بهويتها، بكينونتها كما يراها الآخر. الذّنب يقول: «لقد أخطأت»، أما العار فيهمس: «أنا خطأ». ويرى أن هذا الفرق الجذري هو ما يجعل العار أكثر قسوة، وأكثر استعصاء على العلاج، ولكنه أيضاً أكثر صدقاً؛ لأنه يكشف هشاشة الإنسان أمام نظرة المجتمع والمعايير، وأمام ما يظنه المرء عن نفسه حين يتموضع في عيون الآخرين.

ويرسم الفيلسوف لقرائه خريطة تاريخية لتحولات العار من المجتمعات التقليدية التي كان فيها شعوراً جماعياً مرتبطاً بمفهوم الشرف والكرامة، إلى الحداثة حينما تم تفكيك الجماعة وتحويله إلى شعور خاص يُربط بالفشل الفردي، أو الانحراف عن المعايير التي تشكلها النخبة. ويشير في ذلك إلى أن هذه (الخصخصة) له لم تكن تجربة تحررية، بقدر ما كانت وسيلة جديدة للضبط الاجتماعي؛ خصوصاً في المجتمعات البرجوازية التي أعادت إنتاجه داخل الأسرة، وعبر الدين الرسميّ، والعلاج النفسي، والتعليم، بحيث يصبح النساء والفقراء والمهاجرون مثلاً أكثر عرضة له، لا بسبب أفعال اقترفوها؛ بل بسبب ما هم عليه: هويتهم، ولون بشرتهم، ومظهرهم، وأزياؤهم، وأصواتهم، وميولهم، وما إلى ذلك.

يخصّص غرو في نصّه فصلاً للحديث عن العار في العصر الرقمي، ويرى أن وسائل التواصل الاجتماعي قد أعادت إنتاجه، ولكن بشكل سطحي واستعراضي، من خلال ما صار يعرف بـ«ثقافة الإلغاء» التي هي تعبير عن رغبة في القصاص الأخلاقي، ولكنها غالباً ما تتحول إلى مهرجان جماهيري للسخرية والتشهير، الغاية منه إذلال «الآخر» في الفضاء العام، لا مساءلته بالفعل، ما يجعله أشبه بطقوس تطهر جمعيّ: أداة فاعلة للتنمّر الأخلاقي لنبعد عن ذاتنا خطر الاتهام، عبر توجيهه إلى جانٍ مفترض، فنبقى «نحن» في منأى عن الشّبهة. وهكذا، أصبح العار أداة لتعزيز الهوية الفردية الزائفة، لا لبناء تضامن حقيقي.

في أحد أكثر الفصول إثارة للجدل، يقترح غرو إعادة توجيه هذا العار بدلاً من الفرار منه؛ إذ يمكن أن يكون منبعاً لغضب خلّاق ناتج عن الشعور بعدم العدالة، وعن الإحساس بأن ما يحدث لا يمكن احتماله. ولذلك فهو شعور لا يفتك بنا؛ بل يدفعنا إلى التعبير، وإلى الفعل، وإلى قول «لا». من هذا المنظور هو ليس نهاية للوعي؛ بل لحظة ولادته: عند إدراك أن الصمت لم يعد ممكناً، وأن التحمل لم يعد خياراً، وهكذا، يصبح وكأنّه نقطة انطلاق للتغيير، لا كارثة نفسية.

العلاقة بين العار واللغة محورٌ أساسي في فكر غرو. فهو يعتقد بقدرته على احتراف الصمت وتكميم الأفواه، ولكنه في الوقت نفسه يولّد رغبة في الإفصاح. وبين السكوت والقول تكمن مساحة التحول: فإما أن يغلق الأفواه إلى الأبد، وإما أن يكون دافعاً ثوريّاً للكشف، والبوح، والتصريح.

وفي هذا السياق، يستشهد غرو بتجربة الكاتبة الفرنسية آني إرنو –حائزة نوبل للآداب 2022- التي حوّلته إلى مشروع أدبي وسياسي، بالكتابة عن الفقر، والرغبة، والإجهاض، والعلاقات الطبقية، فصنعت من تجربة الشعور به شهادة ذاتية وجماعية، تعاقر الألم في قلب اللغة.

من الطروحات الأساسية في الكتاب أن العار لا يكون بالضرورة نتيجة لفعل مُرتكب؛ بل يمكن أن يكون شيئاً يولد الإنسان به؛ يرثه الأبناء عن الأمهات، ويحمله الفقراء دون أن يعرفوا بالضرورة أسبابه، وتضعه المجتمعات في عنق أقليات بأكملها. هذا ما سمَّاه غرو بـ«العار الموروث»، وهو عار غير مستحق، ولكنه يلاحق أصحابه كلعنة أبدية. ومن هذا المدخل، يغدو تجربة وجودية لا ظرفية، ونقطة تقاطع للفردي بالجماعي، وللنفسي بالسياسي، وللذاتي بالاجتماعي.

يقول غرو إن العار يُجرَّم في زمن السعادة الشكلية، وثقافة «التنمية الذاتية» المبتسرة؛ لأنه يُفقد الناس شعورهم بالكمال الزائف، ولكنه يعدُّ ذلك خيانة للصوت الداخلي الذي ما يلبث يقول للمرء إن هناك ثمّة ما لا يُحتمل، وما لا يمكن السكوت عنه. وفي هذا المعنى، يكون الشعور به بمثابة رفض للاستسلام، ومناهضة للاعتياد. ولذلك يقترح النصّ تبني أخلاقيات جديدة مقابل تلك القائمة على العقاب أو الثواب، تبدأ من الشعور بالعار، لا بوصفه انكساراً؛ بل بوصفه إحساساً بالمسؤولية، ليس تجاه القانون فحسب؛ بل تجاه الآخرين، وتجاه الذات. وبهذا المنطق، لا يعود شعوراً يجب التخلص منه، ولكن مهلة للتفكير، والتدبر، وإعادة النظر. فمن يشعر به، إنسان لم يمت قلبه بعد، حيّ بما يكفي ليغضب، وليرفض، وليتساءل، وربما ليغيّر ويتغيّر.

لعل أبدع الأفكار تلك التي تتعلق بالصداقة؛ حيث الصديق الحقيقي ليس فقط من لا يخجل المرء أمامه؛ بل من يقدر أن يخجل أمامه، فيبوح له بعاره دون أن يخشى حكماً مطلقاً أو إدانة. ويذهب في ذلك أبعد، ليعيد تعريف الفلسفة نفسها بوصفها «العار الكبير»: الفلسفة -كما مارسها سقراط- ليست تعليماً؛ بل إرباكاً، وليست إجابة؛ بل أسئلة محرجة؛ إذ تجعلنا نخجل من الجهل، ومن الكذب، ومن الشعارات الجوفاء، وتدفعنا إلى قول الحقيقة ولو أمام مرآة ذاتنا. ومن هنا فالشعور بالعار كما بوابة أمل، ووعد خلاص، وأفق لغد أكثر بياضاً.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:30 يوليو 2025 م ـ 05 صفَر 1447 هـ

وجدت أن طريق معاندة الحداثة ومعاداتها مسدود في نهاية المطاف

بدايةً، لنستعرض تاريخ البابوية منذ القرن التاسع عشر حتى القرن العشرين. وهي الفترة التي خاضت فيها الكنيسة الكاثوليكية البابوية أوج الصراع مع ذاتها قبل أن يتمخض ذلك عن حدث سعيد: ألا وهو تصالح المسيحية مع الحداثة بعد طول عراك وصراع. وهكذا انتقلت الكنيسة المسيحية من مرحلة الرفض المطلق للحداثة عام 1864 إلى مرحلة القبول المتصالح معها عام 1965. خلال قرن واحد فقط حصلت أشياء وأشياء و«جرت المياه من تحت الجسور»، كما يقول المثل الفرنسي. لتوضيح كل هذه الأمور دعونا نعود إلى الوراء قليلاً. في عام 1864 أصدر البابا بيوس التاسع رسالته الشهيرة التي أدان فيها العصور الحديثة جملةً وتفصيلاً. لقد أدان أخطاءها المزعومة كالعقلانية، والليبرالية، والاشتراكية، وحرية الضمير والمعتقد، وحرية التدين أو عدم التدين: أي حرية الالتزام بالطقوس والشعائر المسيحية أو عدم الالتزام بها على الإطلاق.

باختصار شديد لقد أدان هذا البابا الأصولي المتشدد الحضارة الحديثة بمجملها واعتبرها كفراً صراحاً ما بعده كفر. ماذا يفعل قادة الأصولية الإسلامية اليوم؟ ماذا تفعل الثورات المضادة السائدة حالياً في العالم العربي؟ عنيت الثورات الرجعية الظلامية التي تمخض عنها ما يُدعى بالربيع العربي؟ ولكن الفاتيكان تخلى الآن عن كل هذه الفتاوى المكفرة للحداثة. لقد تغير وتطور وتجدد. لندخل في التفاصيل أكثر. ينبغي العلم أن الفتوى اللاهوتية الكبرى التي سادت العصور الوسطى في أوروبا كانت تقول ما فحواه: «خارج الكنيسة الكاثوليكية البابوية الرومانية المقدسة لا نجاة في الدار الآخرة ولا مرضاة عند الله». وهذا يعني أنهم كانوا يكفرون جميع الأديان الأخرى، ما عدا المسيحية. بل وحتى داخل المسيحية ذاتها كانوا يكفرون كل المذاهب الأخرى ما عدا المذهب الكاثوليكي البابوي الفاتيكاني الذي يمثل الأغلبية أو الأكثرية العددية. ولذلك كان هذا المذهب يعتبر نفسه بمثابة الفرقة الوحيدة الناجية في المسيحية. بالتالي فكل ما عداهم كفار. وهذا التكفير كان موجهاً ضد المذهب البروتستانتي بالدرجة الأولى.

وقد ظل الأمر على هذا النحو طيلة قرون وقرون حتى انعقد المجمع الكنسي التحريري التنويري المشهور باسم الفاتيكان الثاني بين عامي 1962 - 1965. وهو المجمع اللاهوتي الكبير الذي صالح بين المسيحية والحداثة. لقد شكل ثورة لاهوتية حقيقية داخل المسيحية الكاثوليكية. ولذلك اعتبره البعض أهم حدث تاريخي يحصل في القرن العشرين كله. فقد اعترف الفاتيكان آنذاك بالمذاهب المسيحية الأخرى وتصالح معها بعد طول تكفير وزندقة وتحقير. ووضع بذلك حداً لحروب الطوائف والمذاهب المسيحية في أوروبا. كما وضع حداً لمقولة الفرقة الناجية الوحيدة داخل المسيحية. كل الفرق ناجية بشرط أن تصدق النيات وتحسن الأعمال. الدين حمال أوجه وتفاسيره متعددة ومختلفة بالضرورة. وهناك طرق عديدة تؤدي إلى الله لا طريق واحد. وفي النهاية الدين لله والوطن للجميع. بل وكل الناس الطيبين الفاعلين للخير هم من الفرقة الناجية أياً كانت أديانهم ومذاهبهم، أو حتى لو كانوا خارج نطاق كل الأديان والمذاهب.

هنا يكمن الفرق بين عقلية القرون الوسطى وعقلية العصور الحديثة. هنا تكمن قطيعة الحداثة أو نقلة الحداثة التي لا تزال تستعصي علينا نحن العرب والمسلمين حتى اليوم. بل واعترف مجمع الفاتيكان الثاني بمشروعية الأديان الأخرى غير المسيحية وفي طليعتها الإسلام: العدو التاريخي. وكان ذلك حدثاً جللاً عظيماً. وقال البيان في تصريحه النهائي ما معناه: إننا نحترم المسلمين ونقدر إيمانهم بالله واليوم الآخر، ونريد أن نطوي صفحة الماضي السوداء الأليمة معهم نهائياً، ونفتح صفحة جديدة.. إلخ. من يصدق ذلك؟ وهذا يعني أنه حتى الثوابت اللاهوتية الأكثر رسوخاً وديمومة يمكن تطويرها أو تغييرها إذا لزم الأمر. حتى الفتاوى التكفيرية يمكن تجاوزها، ولكن في العالم المتقدم، وليس عندنا للأسف الشديد. ثم اعترف المجمع التحريري والتنويري الكبير المذكور باليهودية والبوذية والهندوسية. بل وفتح مكتباً للحوار مع «غير المؤمنين» أو غير المتدينين وهم معظم سكان الغرب حالياً. إنهم غير مؤمنين بالعقائد التقليدية ولكنهم مؤمنون بقيم الفلسفة التنويرية العلمانية الحديثة التي أسسها كانط مثلاً.

هناك إيمان واسع سعة الكون وغير منحصر بدين معين أو مذهب محدد. إنه «إيمان بلا حدود»، إذا جاز التعبير. مثلاً ابن عربي كان من هذا النوع. كان مؤمناً بالإسلام ويعتبره أفضل الأديان ولكن قلبه أو عقله كان يتسع للأديان الأخرى أيضاً. ولم يكن يكفرها أو يزدريها على العكس. كان يأخذ من كل دين جوهره أو قيمه الروحية والأخلاقية العليا. والدين بهذا المعنى واحد للبشرية جمعاء. فهناك نواة أخلاقية مشتركة لدى الأديان الكبرى كلها: لا تقتل، لا تسرق، لا تكذب.. إلخ. الوصايا العشر... نحن في العالم العربي أحوج ما نكون حالياً إلى هذه النظرة الواسعة للدين والتدين. وذلك لكي نخرج من انغلاقاتنا التعصبية المكفرة لأتباع الأديان الأخرى. وبهذا الصدد ينبغي أن نشيد كل الإشادة ببناء صرح شامخ للأديان الإبراهيمية الثلاثة في أبوظبي. وهو حدث غير مسبوق في العالم العربي.

وهكذا اعترف المجمع الفاتيكاني الثاني بحرية الضمير والمعتقد لأول مرة في تاريخ المسيحية. بمعنى أنه يحق لك أن تتدين أو لا تتدين، أن تؤدي الطقوس والشعائر المسيحية أو لا تؤديها، ومع ذلك تظل إنساناً كامل الكرامة والحقوق. وهذا متوافق تماماً مع القرآن الكريم. جاء في الذكر الحكيم: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وجاء: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟ وجاء: لا إكراه في الدين. ولكن كل التيار الأصولي السائد عندنا حالياً قائم على الإكراه في الدين! وبالتالي فأين نحن من ذلك الانفتاح الديني للمجمع الكنسي الفاتيكاني الثاني؟ أين نحن من آيات القرآن الكريم؟ هيهات. وهذا الانفتاح هو ما يُدعى بالتسامح أو الحرية الدينية. لماذا فعل كهنة المسيحية وفلاسفتها كل هذه الثورة اللاهوتية عام 1965، أي قبل ستين سنة بالضبط؟ لأنهم وجدوا أن طريق معاندة الحداثة ومعاداتها مسدود في نهاية المطاف. لقد أدركوا أنهم إذا ما استمروا على موقفهم القديم المتشنج من الحداثة التنويرية فإنها سوف تهمشهم وتهمش الدين كله معهم. والواقع أن الشعوب الأوروبية المستنيرة كانت قد ابتدأت تنصرف عن المسيحية أفواجاً أفواجاً بسبب مواقف الكنيسة المتزمتة ومعاداتها للحداثة الفلسفية والعلمية والسياسية. وبالتالي فقد كان ذكاء من رجالات الكنيسة أن يقوموا بهذه الثورة اللاهوتية التجديدية. فقد استعادت المسيحية رونقها وجاذبيتها بعدئذ ولم تعد منفرة بالنسبة للإنسان الأوروبي. وعلى هذا النحو أصبحت صورة بابوات روما والفاتيكان إيجابية ومشرقة جداً بعد أن كانت سلبية طيلة القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. والفضل في ذلك يعود إلى ظهور بابوات كبار منفتحين على روح العصور الحديثة ومكتسباتها التي لا تقدر بثمن. ولكن مع رفض شططها وسلبياتها وانحرافاتها.

وراح هؤلاء البابوات الكبار المتنورون يعتذرون عن ماضي الكنيسة المعادي للفلسفة والكشوفات العلمية. فقد اعتذر البابا يوحنا بولس الثاني عام 1992 عن محاكمة الكنيسة لغاليليو وترويعها الشديد له عام 1633. كما واعتذر عام 1997 عن مجزرة سانت بارتيليمي بحق «إخوتنا» البروتستانتيين. وهي المجزرة الرهيبة التي حصلت في باريس بتاريخ 26 أغسطس (آب) عام 1572. صحيح أن هذا الاعتذار جاء متأخراً جداً: أي بعد أكثر من أربعة قرون! ولكن اعتذار البابا الكاثوليكي على الرغم من تأخره أعطى صورة إيجابية رائعة عن الكنيسة الكاثوليكية وأثلج صدر البروتستانتيين. بل وتراجعت الكنيسة مؤخراً عن إدانة داروين ونظريته الشهيرة في التطور. وعقدت مؤتمراً علمياً ضخماً في الفاتيكان لإجراء المصالحة بين العقيدة المسيحية ونظرية داروين.. إلخ، إلخ.. وهكذا صالحت بين العلم والإيمان، وبين الدين والفلسفة. من قال بأن التطور في مجال الشؤون الدينية مستحيل؟ من قال بأن فتاوى القرون الوسطى التكفيرية تمثل ثوابت الأمة وسوف تظل تتحكم برقابنا إلى أبد الآبدين؟

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 29 يوليو 2025 م ـ 04 صفَر 1447 هـ

في زمنِ الحرية المزعومة، حيث تختفي القيود الظاهرة، يطلُّ على العالم ما يمكن تسميته بعبودية جديدة، ترتدي ثوب التقدم، إنها «القيود الفكرية» التي تستعبد العقول قبل الأجساد، وتسرق إرادة التفكير بحرية، فهذه القيود المعاصرة هي تعبير عن حالة من التبعية العقلية والتوجيه القسري أو الناعم للفكر الإنساني، في تحول من عصرِ الأغلال الحديدية إلى عصرِ السلاسل اللامرئية، حيث تختطف عقولنا بلطف خادع عبر شاشاتٍ صغيرة نحملها في أكفّنا كل يوم، ليطغى علينا الإلهاء والتكرار والخوف كمنابر للاستعباد الحديث، والمثقف الموظف الذي حذّر منه «إدوارد سعيد» صار نموذجاً متجدّداً في عصرِ المنصات الرقمية، يبيع رصيده الفكري في مزاد المشاهير.

الأرقام ترسم خريطة المأساة، 78% من الشباب الغربي يتلقون أفكارهم عبر خوارزميات لا ترحم، و67% من النخبةِ الفكريةِ يعترفون بارتهانهم لضغوط المؤسسات، والجامعات التي كانت معاقل للتنوير صارت وكراً للقيود الأكاديمية، والإعلام الحر تحول إلى ماكينة «بروباغندا» ناعمة، حتى الدين والسياسة لم يسلما من تحويل النصوصِ إلى أقفال للعقل. والنتيجة؟ مجتمعات تشبه قطعان الماشية الفكرية التي تسبح في بحر المعلومات دون بوصلة.

فهناك قوى خفيّة تقنع ضحاياها بأنهم أحرار بينما هم مكبّلون بالقيود، هذا هو جوهر العبودية المعاصرة: أن تحمل سجنك في جيبك، وتقبل يد سجانك ظناً منك أنه محررك. فالخطر الوجودي ليس في الجهل، بل في الوهم بأننا نعرف وبأن الغموض هو بوابة الوضوح.

التحرر يبدأ بسؤال جريء: من تخدم الأفكار التي يعتقد البعض أنها تروق لهم أو تمثلهم؟ الشك الفلسفي ليس ترفاً، بل سلاحاً في معركة الوجود، فالتعليم الجديد يجب أن يصنع متمردين فكريين لا عبيداً ممتنين للأفكار الأكثر تداولاً وانتشاراً لنجوم عالم العلوم والمعارف والتقنيات المختلفة، وبالتالي استحالة مقاومة اقتصاد الانتباه، واقتصاد الانتباه: «هو نظام اقتصادي يعتمد على جذب انتباه المستخدمين لأطول فترة ممكنة، وغالباً ما يتم ذلك من خلال المحتوى الذي يثير المشاعر أو يسبب الإدمان، بهدف تحقيق أرباح من خلال الإعلانات أو بيع البيانات». ومن المهم استرداد ملكية العقول، بدلاً من أن تكتب في سجل عبيد العصرِ الرقمي: الحرية لم تعد حقاً يتم انتظاره، بل مسؤولية تتم صناعتها.

«القيود الفكرية» تسخّر الأوراق العلمية والتكنولوجيا المتقدمة، وتنشر البيانات والإحصائيات والبحوث الأكاديمية ليتنازل الفرد عن حقه في التفكير الحر، ويستسلم لسلطة المعرفة المعلّبة، ولا تتجلى القيود الفكرية فقط في الإعلام الموجه أو التعليم الذي يمجّد السلطة المعرفية التي لا تخطئ، وترسيخ رواية سطوة الذكاء الاصطناعي لإعادة نموذج التلقين، ولكن هذه المرة عبر الآلة، وطوفان من المعلومات يعجز العقل عن تصنيفها، فقد أصبح الإنسان اليوم عرضةً للتلاعب غير المرئي من خلال الخوارزميات الذكية، التي تقدم له ما يشبه الواقع.

فالمدهش أن القيود الفكرية تتم في الغالب برضا الضحية، بل وبشغف، فالأفراد يستسلمون للمحتوى السطحي، ويبحثون عن اليقينيات الجاهزة بدلاً من الخوض في معاناة التفكير، هنا يكمن الخطر الأكبر! لا يتم استعباد العقول بالقوة، بل بالإقناع، وبخلق بيئة تعزل الفكر الحر وتكافئ التبعية، والنتيجة؟ مجتمعات كاملة تدار معرفياً من مراكز قوة فكرية وإعلامية واقتصادية دون وعي من أفرادها، ويعزّز خطورة القيود الفكرية وتحول البحث العلمي والتعليم العالي إلى أدوات خاضعة. نشرت دراسة في مجلة «Nature» العلمية كشفت أن 31% من البحوث الطبية الممولة من الشركات تنطوي على تحيّز منهجي يخدم مصالح الجهات الداعمة، وهذا يعني أن ما نظنه «حقائق علمية» قد يكون تم إنتاجه لخدمة أهداف اقتصادية أو سياسية لا تمت للعلم بصلة.

كما أن بعض المؤسسات الدينية والسياسية تستغل هذا الواقع لتغذية عقل جماهيري مسيطر عليه، حيث تتم إعادة تدوير الخطاب والمفاهيم والمسلّمات لصناعة نوع من«الولاء الرقمي المقدس»، حيث يُمنع السؤال، ويجرم النقد، ويشيطن المخالف. القيود الفكرية بهذا المعنى تقتل القدرة على المقاومة، لأنها تغتال الفكرة في مهدها، فهي لا تريد إنساناً مدركاً، بل تابعاً، إنساناً لا يشك، لا يقارن، لا يبحث، ويمجد ما يستقبل. ولهذا فإن آثارها على الأمن القومي، والتنمية، والهوية الثقافية تعد مدمرةً على المدى البعيد، لأنها تنتج مجتمعاَ هشاً معرفياً يمكن التأثير عليه وتوجيهه بسهولة عن بعد.

***

سالم سالمين النعيمي

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 29 يوليو 2025 02:08

منذ اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية في قلب أوروبا، ظهرت مقالات وكتابات جديدة في العالم الغربي حول أزمة النموذج الغربي، فكرياً واستراتيجياً، من أشهرها كتاب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود الذي صدر بعنوان «هزيمة الغرب». ومِن آخر مَا كُتب في الموضوع مقال المفكر والإعلامي الألماني «توماس أشوير» في صحيفة «دي فيلت» بعنوان «ما هي سمات الغرب؟» (Was den westen aus؟).

وبالنسبة لأشوير، يتعرض مفهوم الغرب في وقتنا الحالي لتحديات نظرية وجيوسياسية نوعية، تجعله في ملتقى الطرق بين الانهيار الكلي والتجدد الممكن. وبالنسبة له، فالغرب ليس مجرد مفهوم استراتيجي تجسده الرابطةُ الأطلسية بين الولايات المتحدة الأميركية ودول غرب أوروبا كما تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية (الوثيقة التي وقعها روزفلت وتشرشل في عام 1941)، بل هو مفهوم تاريخي ومعياري له محدداته وسياقاته المرجعية العميقة.

ومن المنظور التاريخي، تشكل الغربُ في سرديته الناظمة من الحضارة اليونانية التي ترجع لها المكونات التأسيسية للغرب الفكري والمجتمعي: الديمقراطية التشاركية كما وُلدت في أثينا، والعقل النقدي كما بلوره الخطاب الفلسفي لدى أفلاطون وأرسطو، والبحث عن الخير المشترك مقابل الفضيلة الفردية الخصوصية، والارتباط العضوي بين العقل والقانون.

ورغم هذه القراءة المتعسفة والاختزالية للتجربة اليونانية، ورغم الفارق الجوهري بين اللحظة الإغريقية وعصر الحداثة الراهنة التي قامت على مبدأ الوعي الذاتي والنزعة الإنسانية التاريخانية، فإن الفكر اليوناني أسَّس بالفعل المرجعيةَ البعيدة لمفاهيم المواطَنة والحوار النقدي والعقلانية التواصلية، وهي قيم لا تزال مؤثرة وفاعلة في السياق المعاصر. كما أن التقليد المسيحي الوسيط كرّس معايير الحرية الشخصية والكرامة الإنسانية والنزوع الخطي الغائي، وإن كان الغطاء اللاهوتي قد حد من محورية وفاعلية هذه الأفكار عملياً وواقعياً.

ومع أن أشوير قلّص من أهمية مسار التنوير والتحديث في تشكيل الغرب المعاصر، إلا أنه اعتبر أن القيم الغربية الجامعة، من حرية وتقدم وديمقراطية، هي الثوابت المرجعية للعالم الغربي في امتداده التاريخي.

وعلى عكس كتاب آخرين فسروا أزمة الغرب الحالية بالعوامل الخارجية، مثل التنافس الغربي الآسيوي، يرى أشوير أن جوهر هذه الأزمة يتعلق بظواهر داخلية، من قبيل الآثار السلبية للرأسمالية النيوليبرالية التي قوّضت متطلبات العدالة والمساواة، وانتقال الديمقراطية من المرجعية الكونية إلى النزعات الهوياتية الشعبوية المغلقة، ومأزق فكرة الحرية التي تحولت إلى أعراض من قبيل الأنانية والتقشف والانكفاء على النفس.

وخلُص أشوير إلى أن أزمة الغرب الحالية يمكن أن تفضي إلى أحد السيناريوهات الثلاثة التالية: إما التجدد الديمقراطي بالرجوع إلى القيم المدنية والتشاركية التي شكلت أفق المواطنة الحديثة، أو الانهيار الشامل في حال سيطرة التيارات القومية المتطرفة وعجز الاتحاد الأوروبي عن التحول إلى قوة جيوسياسية عالمية مؤثرة، والهيمنة الآسيوية البديلة المتمحورة حول القطب الصيني، بما يعني انسحاب القيم الغربية واستبدالها بقيم النظام والأمن والاستقرار التي تقوم عليها الحالة الصينية الراهنة.

ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن هذا النهج في نقد الغرب، يختلف عن الكتابات التي راجت ما بين الحربين، في ألمانيا بصفة خاصة، وأشهرها من دون شك هو كتاب «انحدار الغرب» لأوسفالد شبينجلر الصادر في عام 1918. لقد كان التركيز في هذه المرحلة على الانهيار الروحي والأخلاقي للغرب في سياق الحروب والفتن الطاحنة التي مر بها خلال النصف الأول من القرن العشرين.

ففي حين ركز الفيلسوف الألماني ليو شتراوس (قبل انتقاله للولايات المتحدة) على مأزق الليبرالية الحديثة، من حيث نكوصها عن قيم الفضيلة المدنية والخير المشترك، حمل مارتن هايدغر بشدة على الثورة التقنية الحسابية التي اعتبر أنها الروح الميتافيزيقية للحداثة، وقد تنتهي بتهديد نمط السكن البشري في العالم. النقد الراهن يتمحور حول النقد السياسي الاجتماعي لتجربة الدولة الليبرالية الديمقراطية التي تعاني من تصدعات داخلية حادة تتجلى في صعود النزعات الشعبوية والقومية المتطرفة، والنقد الاستراتيجي الذي ينطلق من أزمة المنظومة الدولية في مرجعياتها القانونية وفي علاقة الغرب ببقية محاور النظام العالمي.

ما لم يقله أشوير هو أن القيم الفكرية والمعيارية للغرب، من حرية ومساواة ونزعة إنسانية كونية، أصبحت اليوم قيماً كونية، وليست مدار اعتراض في أي جهة من العالم، ولذا فإن الأزمة القائمة تتلخص أساساً في عجز الغرب عن احتكار هذه القيم التي ينتهكها ويتنكر لها، رغم ادعائه نشرها والدفاع عنها.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 27 يوليو 2025 23:45

في كتابه الصادر عام 2023 «العلوم الزائفة.. مقدمة قصيرة جداً» خصّص مؤلفه «مايكل دي جوردين» أستاذ التاريخ في جامعة برينستون الفصل الثالث لما أسماها «العلوم مُفرطة التسييس».

لقد دخلت السياسة في العلوم الطبيعية كما دخلت في معارف عديدة وأفسدتها. وكم كان صادماً أن تتجاوز السياسة العلوم الاجتماعية إلى قلب العلوم الطبيعية للنيل منها وتوجيه نظرياتها، بل وإلغاء بعض فروعها.يتوقف «مايكل دي جوردين» طويلاً أمام النازية في ألمانيا والستالينية في الاتحاد السوفييتي كنموذجين للعلوم فائقة التسييس. وفي الستالينية يتوقف المؤلف أمام عالم الزراعة السوفييتي «ليسينكو»، الذي أسّس «علم الأحياء الزراعي»، وفي النازية توقف عند عالم الفيزياء الشهير «فيليب لينارد» الحائز على جائزة نوبل عام 1905.

ولد العالم السوفييتي «ليسينكو» في أوكرانيا، ودرس علوم الزراعة، ثم اهتم بعلوم الوراثة. وفي عام 1927 نشر مقالاً في صحيفة البرافدا الشهيرة قال فيه إنه قادر على تغيير الخواص الوراثية للنباتات عن طريق الإجهاد البيئي، وأنه نجح في زراعة بازلاء شتوية في مناخ شبه استوائي.

أصبح «ليسينكو» لاحقًا عالماً رسمياً للبلاد، فقد قام ستالين بدعمه، وأيده الحزب الشيوعي، ووصل نفوذه إلى قيام السلطات بتجريم «علم الوراثة» الكلاسيكي لصالح علم الوراثة الجديد أو «علم الأحياء الزراعي» الذي أسسه «ليسينكو».

لم يستمر ذلك المجد طويلاً، فبعد رحيل ستالين بدأ العلماء السوفييت في نقد ليسينكو، وتحدثوا عن كذب تجاربه وزيف نتائجه.

في الغرب كما في الشرق كان هناك من يروجون للعلوم الزائفة. وقبل النازية بكثير ظهرت نظريات تحسين النسل، وصاغ أحد أقارب تشارلز داروين وهو «فرانسيس جالتون» مصطلح «علم تحسين النسل». تحدث جالتون وغيره عن إمكانية تحسين الصفات الوراثية للإنسان، وبناء على ذلك يجب دعم التناسل لدى الأفراد الصالحين، ومنعه لدى الآخرين.

لم تكن هذه الأطروحات صحيحة بأي حال، وبحسب المؤلف.. فقد أصبح «علم تحسين النسل» في أميركا مسيّساً للغاية، وفي عام 1926 تأسّست «الجمعية الأميركية لعلم تحسين النسل».. وكان ذلك نموذجاً آخر للتسييس المفرط للعلم.

يُعدّ التسييس النازي للعلم هو النموذج الأشهر في هذا الصدد، فقد نشر عالم الفيزياء الألماني «فيليب لينارد» كتابًا بعنوان «الفيزياء الألمانية»، وهو كتاب ضخم صدر عام 1935 من أربعة أجزاء، يرى فيه العالم الشهير أن العلم يتحدّد بالعرق والدم، وأن هناك أنواعاً من الفيزياء يتحدد كل نوع فيها حسب نوع البشر!

كان لينارد داعماً للنازية قبل وصول هتلر للسلطة، بل إنه استعجل وصوله وشارك في انقلاب هتلر في ميونيخ عام 1923. هاجم لينارد نظريتي «النسبية» و«الكم»، وقال إنهما سيتم حذفهما من مناهج التعليم الألماني.

في كتاب «الرجل الذي طارد أينشتاين» جرى عرض تطور ثم تدهور العلاقة بين أينشتاين ولينارد. في مرحلة التطور قال أينشتاين إن «لينارد هو الأستاذ العبقري والعظيم»، وأرسل لينارد تحية تقدير لأينشتاين على النظرية النسبية. وقد كان لينارد أسبق إلى نوبل من أينشتاين، فقد حصل عليها لينارد عام 1905، وحصل عليها أينشتاين عام 1921.

في مرحلة التدهور هاجم أينشتاين لينارد وقال: «إن نظرياته عن الأثير طفولية، وبعض أبحاثه مثيرة للضحك، والإعلام هو الذي يروج لأينشتاين». لم يكتف لينارد باستهداف أينشتاين بل استهدف الفيزياء النظرية كلها، فوصفها بالمدرسة التكعيبية، وأن علماءها لا يجيدون الفيزياء كما لا يجيد الفنانون التكعيبيون الرسم.

كان حنق لينارد على أينشتاين كبيراً، وحسب الكتاب فقد سخر لينارد من شهرة نظرية النسبية في العالم، وقال: «إن ولادة ماعز في اسطبل لن يجعل منها حصانًا أصيلاً»! وكان رد أينشتاين: إن لينارد شخص مختل!

في الواقع.. فإن لينارد الذي حوكم بعد هزيمة هتلر، وتم إرساله إلى قرية نائية يعيش بها ما بقى من حياته، كان ناقماً على كثير من العلماء، مثل هايزنبرج ورونتجين وماري كوري.

لقد اعترض «فرنر هايزنبرج» على رؤية لينارد، ورأى أنّ نظريتي النسبية والكم هما نظريتان فيزيائيتان صحيحتان. وقد حرّض عليه لينارد، ولولا أن والدة هايزنبيرج كانت صديقة لزوجة هيريش هيملر المقرب من هتلر، وكانت تلعب معها «البريدج»، لكان مصير هايزنبيرج السجن.

هاجم لينارد أيضاً العالمة الكبيرة ماري كوري، كما قلص من أهمية ويليم رونتيجين مكتشف الأشعة السينية، وقال: «أنا أبو الأشعة السينية وليس رونتجين، لأنني اكتشفتُ الجهاز الذي يستخدم لإنتاجها، ورونتجين أشبه بالقابلة (الداية) التي ساعدت في عملية الولادة، وليس أكثر!

وفي كتابه «رجال عظماء في العالم»، الصادر عام 1933، لم يذكر لينارد أينشتاين ومدام كوري ورونتجين.

من المثير هنا أن عالم الفيزياء الألماني «يوهانسن شتارن» الحائز على جائزة نوبل عام 1919، كان مؤمناً بالفيزياء الألمانية «الآرية»، وقد هاجم بدوره النظرية الكميّة لأسباب سياسية.

كان مؤلف «العلوم الزائفة.. مقدمة قصيرة جداً» موفقاً في وصفه المعركة بين لينارد وأينشتاين بأنها «نموذج للعلم القبيح». ولقد كانت الولايات المتحدة محظوظة للغاية بذلك التسييس المفرط للعلم في ألمانيا، فقد هرب العلماء إلى بريطانيا ثم أميركا، وكان دورهم جوهرياً في النهضة الكبرى التي شهدتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.. مدنياً وعسكرياً.

واليوم.. اختفى ذلك التسييس المفرط للعلم، لكن العلوم الزائفة تتمدد، وقد أعطت وسائل التواصل الاجتماعي مساحة هائلة لانتشار العلوم الزائفة. ثم إن العلماء الزائفين طوروا من أدواتهم وباتوا يسبغون على أفكارهم صبغة علمية، لطالما نجحت في خداع كثيرين.

لقد أتاحت الترجمة العربية لذلك الكتاب والمتاحة مجاناً على شبكة الإنترنت فرصة لمعرفة المزيد في هذا الصدد.. لقد حان الوقت لمواجهة هذا الصعود الكبير لمروجي نظريات المؤامرة والعلوم الزائفة. العلوم الزائفة خطر على ثقافتنا وحضارتنا.. العلم هو الحل.

***

أحمد المسلماني - كاتب مصري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 24 يوليو 2025 23:45

سنة 1440م اخترع يوهان غوتنبرغ آلة الطباعة في ألمانيا. مباشرةً أصدر السلطان العثماني بايزيد الثاني فرماناً يحرّم فيه على المسلمين استخدام المطبعة في كامل الإمبراطورية العثمانية، مبرراً المنع بالخوف من استخدام هذا الاختراع النصراني، في تزوير النصوص الدينية الإسلامية المقدسة. نشط رجال الدين والخطَّاطون والنسَّاخ في دعم الفرمان السلطاني، وهناك عامل آخر كرَّس عداء الباب العالي للاختراع الجديد، وهو الخوف من انتشار المعلومات، ووصولها إلى العامة في أرجاء الإمبراطورية الواسعة.

القرن الخامس عشر كان بداية ارتفاع فنارات التعليم والتنوير في أوروبا. بدأت المواجهة بين رجال العلم والفلسفة، ورجال الدين المسيحي تتحرك بسرعة وبقوة، لمصلحة الأولين وتراجعت سطوة الكنيسة وهيمنتها على العلم والفكر والثقافة والتعليم. بدأت المدارس النظامية والجامعات تنتشر في أوروبا، وتراجعت الأمية، وتنقل المفكرون والأساتذة بين الجامعات الأوروبية، واتسع نشاط الترجمة في جميع المجالات الفكرية والعلمية، واتسعت كتابة الكتب ونشرها في القارة الأوروبية. المطبعة كانت آلة تأسيس الزمن الأوروبي الجديد، بضوئه الذي أشعل الأنوار، وحوَّل المعرفة وجبة يومية للعقل. سنة 1517م أطلق القس الألماني مارتن لوثر ثورته ضد كنيسة الفاتيكان، وترجم الإنجيل إلى اللغة الألمانية. كانت آلة الطباعة سلاحه السحري، الذي قصف به أركان الاستبداد الديني الذي باع صكوك الغفران للفقراء الأميين. لم تعد النصوص الدينية المكتوبة باللغة اللاتينية الطلاسم المقدسة التي يغمض البسطاء في حضرتها عيونهم، ويغلقون عقولهم. مثَّلت حركة مارتن لوثر الاحتجاجية الاندفاعة الأوروبية الثانية، بعد حركة النهضة التي قادتها أسرة آل ميدتشي في فلورنسا الإيطالية.

آلة الطباعة كانت المفتاح العلمي، الذي شرَّع باب العصر الإنساني الجديد. تحرك كل شيء في أوروبا، العقول والحواس وطاقات الناس. صارت الدنيا غير الدنيا بمن فيها وما فيها.

في حين استمر تحريم آلة الطباعة في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية إلى سنة 1725م، حين سُمح باستخدامها في طباعة الكتب الدينية المسيحية واليهودية فقط. على مدى قرون ثلاثة، حُرم المسلمون بمن فيهم العرب من رؤية ضوء الزمن الجديد، الذي أشعلته المطبعة. كانت الإمبراطورية العثمانية، حتى القرن الخامس عشر، القوة العسكرية العالمية الضاربة التي لا تقهر. قوة عسكرية بها مئات الآلاف من المقاتلين الأشداء، ضمت إنكشارية من مختلف الأعراق. البلقانيون والألبان والعرب والأتراك، يستخدمون البنادق والمدافع والخيالة السباهية والمشاة.

سنة كانت المواجهة الفاصلة الحاسمة بين عصرين، عصر السيوف وعصر الحروف. معركة زنتا الكبرى في صربيا سنة 1697م، حيث اصطدم عصران، أحدهما قادم وآخر يغادر. لم تكن الموقعة التاريخية مجرد حرب بين قوتين، بل كانت مخاضاً نارياً عنيفاً في أحشاء زمن يتخلق فيه زمن جديد. معركة شكَّلت بداية تهاوي الإمبراطورية العثمانية عسكرياً وسياسياً وحضارياً. في نهاية القرن السابع عشر، كانت أوروبا تشهد تحولاً عميقاً، لم يقتصر على المجال السياسي والعسكري فحسب، بل شمل العلم والفكر والفلسفة والاقتصاد والبناء المجتمعي. أعادت أوروبا بناء كل شيء على أسس عقلانية، أنتجتها أفكار عصر التنوير المبكر. في حين ظلّت الإمبراطورية العثمانية، حبيسة قفص الموروث التقليدي، وفقدت فاعليتها في الداخل والخارج.

منذ بداية النصف الثاني من القرن السابع عشر، بدأت أعراض الوهن والترهل، تبرز على كامل جسد الإمبراطورية العثمانية. وبدأت تفقد تدريجياً سيطرتها على أطرافها الأوروبية، وانخفضت قدرات الجيش الإنكشاري الذي كان يوماً رمز الرعب في القارة الأوروبية. عمَّ الفساد مفاصل الإمبراطورية، وتحولت المؤسسات حلباتِ صراعٍ على المصالح بين النخب الفاسدة، وتفشت الرشى والمحسوبية، وتحكمت القرابة في سلم الوظائف. في الجهة المقابلة، كانت أوروبا تشهد صعوداً شاملاً بسرعة، شكَّلت قوتها الجديدة بعقل جديد. بدأت أسرة آل الهابسبرغ في النمسا تجني ثمار العصر الأوروبي الحديث. تنظيم عسكري حديث صارم، وإدارة بيروقراطية فاعلة منضبطة، ساعد كل ذلك على بناء تحالف عسكري أوروبي فاعل. الهدف الأوروبي الاستراتيجي، هو تحرير أوروبا من الوجود العثماني.

كانت الدولة العثمانية تتصرف كأنها لا تزال في كامل قوتها العسكرية، ولم تدرك حجم التطور الذي شهدته أوروبا. ففي الوقت الذي كانت فيه المدفعية الأوروبية، تدار بأنظمة دقيقة، مع مناورات يجرى التخطيط التفصيلي لها. في معركة زنتا بين الجيش العثماني والجيش النمساوي، كان السلطان مصطفى الثاني يقود الجيش العثماني المكون من ثمانين ألف مقاتل، والأمير أوجين يقود الجيش النمساوي المكون من ثلاثين ألفاً. جيش عثماني عرمرم بعقل وسلاح أكله الصدأ، يقابله جيش محدود العدد يقاتل بعقل وعلم وتخطيط وليد الحداثة. كانت معركة بين زمنين، هُزم الجيش العثماني وقتل وأُسر وغرق وهرب منه الآلاف.

لقد دفع عقل التحريم الثمن وهو الهزيمة. عندما أصدر السلطان بايزيد الثاني فرمان تحريم استعمال المطبعة، حرم شعب بكامله من الدخول إلى زمن جديد لم تشهده الدنيا من قبل. المطبعة جعلت من الحروف سرباً للعقول الزاجلة، التي تتحرك في فضاءات عالمية مستطرقة، تهب نور العلم والفكر لكل الإنسانية. معركة زنتا كانت الخط الذي فصل بين عصرين، عصر صدئت فيه السيوف، وتوهجت فيه الحروف.

***

عبد الرحمن شلقم

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: السبت - 01 صفَر 1447 هـ - 26 يوليو 2025 م

 

مرّ زمنٌ طويل على اجتراح مفهوم العلمانية، ولكن لم يتمّ درسه وتطويره. فقد نُحت هذا المفهوم وطُبّق بعد العديد من الحروب الأهلية والدينية الأوروبية. لقد كانت العلمانية مفيدة لبعض الدول وفاشلة في دولٍ أخرى.

ومع تصاعد الأحداث في الإقليم والتغيّرات الكبيرة طرح بعض المفكرين، ومنهم الأستاذ أدونيس، تحليلاتٍ عن العلمانية يعتبرها من شروط تأسيس الدولة. ومفهومٌ قول أدونيس هذا ضمن سياق التجربة الغربية، لكن ماذا عن تجربة الدولة العربية؟!

أدونيس أعاد النقاش حول المعنى والتطبيق للعلمانية، نعم لقد بقي مفهوم العلمانية بكل التباسات تبيئته وترجمته إلى العربية مثار نقاشٍ طويل ليس على المستوى الآيديولوجي العقائدي المتعلق بضرورة ربط أي إجراء سياسي بـ«الحكم الإسلامي»، وإنَّما حتى بين التيارات الفكرية العربية المعاصرة، كان النقاش كبيراً بين عدد من المفكرين حول علاقات العلمانية بمفهوم الديمقراطية.

في حوارٍ بين الأستاذين حسن حنفي ومحمد عابد الجابري طبع في كتاب «حوار المشرق والمغرب»:

يرفض حنفي العلمانية لأننا «لا نحتاج إليها وهي واردة من الغرب».

بينما الجابري يرفضها لأن «الإسلام ليس فيه كنيسة حتى ندعو لفصل الدين عن الدولة».

بل طرح الجابري الديمقراطية كبديلٍ للعلمانية، وذلك من قبل بسلسلة مقالاتٍ أعاد إصدارها في كتابه «الدين والدولة وتطبيق الشريعة».

وفي فصلٍ بعنوان: «بدلاً من العلمانية، الديمقراطية والعقلانية»، يكتب: «برأيي أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر القومي العربي، وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية... فمسألة العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنَّها تعبر عن حاجاتٍ بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات». ويحيل الجابري العلمانية بوصفها دعاية من «مسيحيي الشام» الخاضعين للهيمنة العثمانية، ويدلل بأنَّ العلمانية لم تطرح في بلدان المغرب ولا في بلدان الجزيرة، وبالتالي لا تحتاج الديمقراطية إلى الصيغة العلمانية. هذه الأسطر ستستفز طرابيشي.

في الجزء الأول من كتابه «هرطقات - عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية»، يعمد طرابيشي إلى نقد طرح الجابري العشوائي حول مفهوم «العلمانية»، وهو نقد طويل جداً، ولكن يمكن الوقوف على صلب النقد وعصب الاعتراض، يقول: «الحال أنَّ الجابري، عندما يعوزه المزيد من الأسلحة المنطقية لتدعيم مقولته عن عدم لزوم العلمانية، يستعين بمنطق الأصوليين، ولكنَّه لا يأخذ من استدلالهم سوى مقدمته الصغرى، أي تحديداً الضعيفة. هكذا يقول بالحرف الواحد: (أنا مقتنع تماماً بأنَّ الإسلام هو دين ودولة في آن واحد). إن ما يسكت عنه الجابري - علماً بأنه من المختصين الرواد في الساحة الفكرية العربية بعلم المسكوت عنه - هو أن صاحب هذه المقولة هو مؤسس حركة (الإخوان المسلمين) حسن البنا».

الخلاصة أنَّ النقاش حول مفهوم العلمانية بين المفكرين يجب أن يكون مصحوباً بالنقد بغية التطوير والتجديد. إنَّ ما أسميها «الدول الحيوية التنموية الصاعدة» تطوّرت من دون هذا المفهوم، وهذا له نقاش يطول.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط للندنية، يوم: الأربعاء - 21 مُحرَّم 1447 هـ - 16 يوليو 2025 م

 

في زمن فقدت فيه الأشياء معناها، وأصبحت القيم تُقاس بعدد المتابعين، واللغة تُختزل في شعارات سطحية، نخوض حرباً صامتة، ليست على المال ولا على الأرض، بل على أعمق ما يشكّلنا: هويتنا. لم تعد هذه الهوية تُستهدف بوضوح، كما في عصور الاستعمار المباشر، بل تُستنزف تدريجياً تحت غطاء العولمة من جهة، وعبر استيراد نماذج فكرية متصلّبة تُلبّس بلبوس الأصالة من جهة أخرى. وبين هذين القطبين، ينشأ الفراغ الذي تذوب فيه الشعوب وتتحول إلى كتل بشرية بلا ذاكرة ولا ملامح.

إن أخطر أشكال التزييف اليوم لا يتم في الأوراق النقدية، بل في المفاهيم، في اللغة، في الرمز. وكما أن تزوير العملة يُفقد الاقتصاد استقرارَه، فإن تزوير الهوية يُفقد الإنسان قدرته على إدراك نفسه وحدود عالمه. تُلقى في أسواق الفكر رموز جديدة مصنوعة في مختبرات العولمة: لغة هجينة، ذوق مسطح، أخلاق نفعية، ولاء للمظهر بدل الجوهر.. إلخ، ومعها يتسلل استهلاك صامت لقيم لم ننتجها، ولم نعِها، ولكننا نتماهى معها تحت إغواء الحداثة.

تزييف الهوية لا يكون دائماً مفروضاً من الخارج، بل أحياناً نحن مَن نستدرجه بأيدينا، حين نستورد خطاباً دينياً أو أيديولوجياً يُعيد تقسيم المجتمع إلى حق وباطل، إلى نحن وهم، ويزرع في الوعي ثنائياتٍ زائفةً: مَن معنا ومَن ضدنا، مَن يدخل الجنة ومَن يُقصى منها! باسم الدين أو التراث أو النقاء، تُعاد صياغة مجتمعاتنا وفق خرائط لا تراعي تنوعها، ولا تعترف بتاريخها الحقيقي، بل تفرض سرديات تُنتج العنف والإقصاء.بين هذا وذاك، يتحول الإنسان إلى كائن متردد الهوية: يتحدث لغة لا يُتقنها، ويمارس طقوساً لا يفهمها، ويعتنق مفاهيم لا تُشبه بيئتَه. فيعيش اغتراباً مضاعفاً: اغتراب عن العالم الذي يُفرَض عليه، واغتراب عن ذاته التي لم تُمنح فرصةَ التعبير الحقيقي. تتحول هويته إلى بطاقة افتراضية، شعار على الشاشة، صورة مستعارة من إعلان أو ماركة تجارية. وما يُنتجه هذا من هشاشة نفسية وسلوكية يجعل المجتمعات أكثر قابلية للاختراق، وأكثر عجزاً عن مقاومة التذويب.

والأخطر من التزييف هو القبول به.. حين يصبح التضخم في المعاني كما في النقود: كلماتٌ تُستعمل بلا مدلول، شعاراتٌ تُرفع بلا ممارسة، رموزٌ تُقدَّس بلا وعي. هذه الهشاشة الرمزية تُسهم في انهيار البنية الثقافية، كما يسهم التزوير النقدي في إفلاس الدول. والنتيجة واحدة: فقدان الثقة، سواء في الذات أم في المستقبل.

مقاومة هذا الفقد لا تكون بالشعارات، بل بإعادة تأسيس العلاقة بين الفرد ومعناه. لا بد من مشروع ثقافي يعيد للغة قيمتَها، للتاريخ مكانته، وللرمز قدسيتَه.. مشروع لا يكتفي بمواجهة العولمة، بل يعيد بناء الذات من الداخل، عبر تعليم يعمّق الانتماء، وإعلام يصون الذاكرة، ومؤسسات تحمي الهوية كما تحمي العملة الوطنية من التزوير. وكما لا تقبل الدول بعملة مزيفة تتداول في أسواقها، لا ينبغي لها أن تقبل بهوية مزيفة يتداولها أبناؤها.

إن معركة الهوية معركة وجود، لا تقبل الحياد ولا تؤجل إلى الغد. إما أن نكون شعوباً تعرف مَن هي، وإلى أين تمضي، أو نصير سوقاً رمزية مفتوحة لكل بضاعة فكرية أو ثقافية عابرة. ومَن لا يحمي هويته، يُنتزع منه المعنى، ويُصبح رقماً في سردية غيره. هكذا فقط نفهم أن الحرب الصامتة ليست بين دول، بل بين من يعرف معناه، ومن يُصادر منه هذا المعنى كل يوم، بهدوء وبلا ضجيج.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 22 يوليو 2025 23:42

في التجديد الذي تشهده الدراسات الإسلامية الحديثة في أوروبا، يأتي كتاب الباحث الفرنسي مكسيم دلبْيار الصادر حديثاً، إثرَ تراجع الخطاب الذي كان سائداً لفترة طويلة، والذي كان يرى في ابن سينا أحد آخر ورثة التقليد الفكري اليوناني الذي أعلن عن أفول الفلسفة في أرض الإسلام بعد القرن الثاني عشر الميلادي.

ويلقي كتابه "نصير الدين الطوسي، فيلسوف التقدّم، عودة إلى معنى ابن سينا" (منشورات فران، باريس، 2025)، ضوءاً جديداً على عمل من الأعمال الفلسفية الكبرى في الإسلام: شرح عالم الكلام والفلك والطب والفيلسوف نصير الدين الطوسي لكتاب "الإشارات والتنبيهات" للشيخ الرئيس ابن سينا، المعروف باسم "حل مشكلات الإشارات". الطوسي عاش في زمن مضطرب سياسياً، شهد اجتياحات المغول وتدمير مكتبة ألموت الكبرى وسقوط بغداد عام 1258، وهي أحداث هزّت عصره وأثّرت في مسيرته. أما ابن سينا فيعدّ كتابه "الإشارات والتنبيهات" من أهم كتبه. لذا تناوله الكثيرون من علماء المسلمين بالشرح والتحليل، ولعل أهم هذه الشروح إلى جانب شرح الطوسي شرح فخر الدين الرازي وسيف الدين الآمدي وغيرهما.

يدافع الكتاب عن أطروحة مفادها أن الطوسي لا يُؤسّس لتقليدٍ تفسيري لفلسفة ابن سينا فحسب، بل يكرّس صورةً "عرفانية" لهذه الفلسفة، سرّعت في تشكُّل فلسفة "ابن سينيّة فارسية" التقت فيها تيارات فلسفية ولاهوتية وروحية متعددة داخل الإسلام كالشيعة والتصوف، وغيرها. وإذ يعتبر أن الصراع التأويلي الذي خاضه الطوسي مع المتكلم الأشعري فخر الدين الرازي صراع حاسم، فإنّه يرى أن الدفاع عن ابن سينا اقترن بمشروع أوسع لتأسيس لاهوت فلسفي شيعي، سرعان ما كرّس بدوره سلطة الطوسي كمرشد روحي لعصره. ولأن فكرة التقدّم كانت تخترق، كخيط ناظم، حياة الطوسي وأعماله في خضمّ فوضى الغزوات المغولية وسقوط الخلافة العباسية، فذلك لأنه تصوّر الفكرَ أيضاً بوصفه تقدّماً.

ينطلق دلبْيار من مسلمة تؤكد أن شرح الطوسي يُعدّ شرحاً مهماً لأنه غدا برأيه تمريناً مدرسياً لا غنى عنه في تكوين أجيال من الطلبة في القرون الأولى لما بعد ابن سينا؛ ولأنه أصبح معياراً للحقيقة في ما ينبغي أن يُفهَم من فلسفة ابن سينا، بحيث فرض، من ناحية المعنى، تأويلاً قوياً لهذه الفلسفة، ومن ناحية المبنى، منهجاً خاصاً؛ ولأن الفلاسفة الذين ساروا على نهج ابن سينا رأوا في فلسفته الأخيرة، أي "الحكمة المشرقية"، خلاصة فلسفته كلّها. فصار شرح كتاب "الإشارات" النصَّ المرجعيَّ في التعليم الفلسفي، لا بل النصّ الرائج في الأوساط العلمية وبين النخب المثقفة. فشكّل هذا الكتاب لحظة فاصلة في تاريخ الفكر الإسلامي، إذ رسم "صورة جديدة للفكر" تُعرف باسم "العرفان"، وجعل من "العارف" نموذجاً لما يمكن تسمّيته بتحفّظ، "الفيلسوف الجديد".

ينبه الباحث الفرنسي قرّاء كتابه إلى أن شرح الطوسي لـ "الإشارات" ظهر في وقت نشأت فيه تقاليد جديدة في التفسير وصيغت فيه صور مختلفة للأفلاطونية والمشّائية السينية، وأن المعنى الحقيقي الذي بيّنه الطوسي لفلسفة ابن سينا أظهر في الوقت عينه سوء تأويل هذه الفلسفة. إذ رسم إلى جانب تأويله صورة لتأويلات "زائفة" تبدت بحسبه في قراءة فخر الدين الرازي، جازماً أن معنى هذه الفلسفة هو كما قرأها هو، لا كما قرأها الرزاي. وهذا برأي دلبْيار موقف شارحٍ متمكن يدفع كل قارئ إلى اختيار واحد من اثنين لا ثالث لهما.

ويبيّن دلبْيار كيف أن شرح الطوسي أعطى نَفَساً جديداً لفلسفة ابن سينا، وأسهم في نشرها في الأوساط الشيعية، حيث لم تكن تحظى بعدُ بقبول واسع. غير أن إعادة الاعتبار إلى هذه الفلسفة لم تكن أمراً بديهياً. ولهذا نرى الطوسي يبذل جهداً كبيراً في محاولة التوفيق بين مقولات ابن سينا وبعض العقائد الإسماعيلية، حتى ولو كان ذلك على حساب "التواءات" مذهلة محاولاً المواءمة بين الفلسفة السينية والعقيدة الاثني عشرية الناشئة، سعياً لإنقاذ فكرٍ مُهاجَم من خصوم عديدين: الأشاعرة (فخر الدين الرازي)، والصوفيون (صدر الدين القونوي تلميذ ابن عربي)، والإسماعيليون أنفسهم (كما في حالة الشهرستاني)، وهم من أشد الخصوم خطراً لأن علاقتهم بابن سينا لم تكن بالضرورة علاقة رفض، بل كانت ممزوجة أحياناً بشيء من التعاطف. ويجوز القول إن شرح الطوسي قد مكّنه من ضرب عصفورين بحجر واحد: إفشال محاولة الرازي للاستيلاء الأشعري على ابن سينا، والتمهيد لاستيلاء شيعي على فكره. ويبدو أن الطوسي وجد في التربة الشيعية الإسماعيلية أولاً، ثم في الاثني عشرية، البيئة المثلى لزراعة هذا المشروع.

يقارب المؤلف شرح كتاب "الإشارات" من زاوية المنظور التعاقبي التاريخي الذي يضعه ضمن سلسلة التقليد التأويلي الممتد عبر الزمن، مؤكداً أن الاهتمام المتجدد في السنوات الأخيرة بكتاب "الإشارات" يعود بالدرجة الأولى إلى اتباع المنظور التاريخي، الذي أعاد النظر في مكانة "الإشارات" ضمن تاريخ الفلسفة السينية ومكانتها في الفلسفة الإسلامية، مبيناً أن أبرز التيارات الحالية في البحث حول تاريخ فلسفة ابن سينا تتجه إلى دراسة "الإشارات" بوصفها المنبع المؤسِّس لهذا التقليد الفلسفي. لكنه بالتوازي يشير إلى النزعة التنظيرية المنهجية التي حلّت محلّ روح الجدل والخصومة، مغلبةً روح الفهم والاستيعاب والتي استثمرت بدورها في مراجعة دور فخر الدين الرازي في نشأة هذا التقليد التفسيري وفي صياغة إحدى صور الفلسفة السينية نفسها.

يشدد دلبْيار على أن تاريخ الفلسفة وعلم الكلام في الإسلام شهد في القرن الثاني عشر الميلادي تحولاً جوهرياً بدأ مع الغزالي وانتهى مع الرازي. فمن جهة، لدينا "القدماء"، ومن جهة أخرى لدينا "المحدثون". والمحدثون هم أصحاب فكر جديد وُلِد من تفاعل علم الكلام الكلاسيكي وفلسفة ابن سينا التي شكلت أعمال الرازي أولى تحوّلاتها، فأفرزت ما يمكن تسميته "أشعرية ذات نزعة سينية" أو "لاهوتاً فلسفياً"، له من الأهمية في علم الكلام الإسلامي ما لابن سينا في الفلسفة العربية. يتجاوز الكتاب الأحكام المسبقة التي كرّستها دراسات صدرت في القرنين الماضيين، والتي صورت الرازي على أنه "غزالي" جديد جاء ليقضي على ابن سينا، قبل أن يأتي الطوسي، حامي حمى الفلسفة السينية، ليتحدى الأشعري ويتغلب عليه.

صحيح أن الرأي السائد بين المتخصصين كان يعتبر الرازي، الوريث الشرعي للغزالي، ناقداً بلباس المتكلم الأشعري لابن سينا، بينما نُظِرَ إلى الطوسي كمدافعٍ عن شيخه دفاع الجندي الصغير المخلص للفلسفة السينية. وقد سلطت أولى الدراسات المقارنة الضوء على أوجه الخلاف بين الشخصيتين في طبيعة المكان والجسم وقدم العالم وعدد السماوات وطبيعة المعرفة الإلهية والإنسانية ووجود العقل المفارق وإمكانية التوبة وطبيعة العقاب الإلهي وطبيعة الإيمان. لكن هذا الرأي أصبح اليوم أكثر تعقيداً. إذ يبدو أن البحث الحديث في التقليد السيني بدأ يركّز من الناحية المنهجية على الفيلولوجيا وتاريخ النصوص، ومن ناحية الموضوع على الدور التأسيسي لفخر الدين الرازي، وذلك على الأقل لسببين: اختياره "الإشارات" نصاً مرجعياً في الفلسفة السينية، ومحاولته بناء هذه الفلسفة كنظام فكري متكامل.

إلا أن كتاب دلبْيار يسلك اتجاهاً معاكساً للاتجاه الذي تسلكه الدراسات الرازية: فأسطورة "صراع الأبطال" المنتمين إلى معسكرين متقابلين، ليست برأيه وليدة القرنين الماضيين، بل هي بالضبط ما أراد الطوسي تأسيسه وصياغته. لذا اختار هذا الباحث النظر إلى فلسفة ابن سينا من منظور الطوسي، لكي يفهم، ولو جزئياً، منطقه وخلفياته. فإن كان فهم الموقف الحقيقي للرازي يتطلب فصله عن الصورة المشوّهة التي رسمها له الطوسي، فإن فهم الموقف الحقيقي للطوسي، على العكس، يتطلب الاحتفاظ بهذه الصورة. ويتطرق الكتاب كذلك إلى تأويلات المستشرقين وعلماء الإسلاميات الفرنسيين في القرن العشرين الذين منحوا كتاب "الإشارات" وتأويلاته المختلفة مكانة بارزة، ليس فقط داخل المتن السيني، بل في تكوين الفلسفة السينية ذاتها. ويشدد على أن هذه الأبحاث قد أهملت وبشكل كبير القيمة الفلسفية لشرح الطوسي، مكتفيةً باعتباره تابعاً أو مقلداً لامعاً ليس أكثر.

يمثل رأي الباحث الفرنسي نقطة تحول جديدة في الدراسات السينية، حدّدت بعض الاتجاهات الحاسمة في تلقي فكر هذا الفيلسوف في أوروبا عموماً وفرنسا خصوصاً. كان من أبرز مظاهرها صدور الترجمة الفرنسية لكتاب "الإشارات والتنبيهات" سنة 1952 والذي اختارت مترجمته أن تزود نص ابن سينا بجهاز حواشٍ، ركزت فيه بشكل كبير على شروحات الطوسي ووظفتها في خدمة فهم كتاب ابن سينا. وقد كان خيارها برأي دلبْيار موفقاً في كثير من الأحيان. وإيلاء هنري كوربان اهتماماً خاصاً بالحكاية الرؤيوية عن "سلامان وأبسال" التي ترد في بداية الفصل التاسع من كتاب "الإشارات" والتي فُقِد نصّها الأصلي، فدرسها العالَم الفرنسي من خلال نسخة مختصرة نقلها الطوسي، واصفاً إياها بخاتمة القصص الرؤيوية والمعرفة العرفانية لدى ابن سينا، مبيّناً الفرق بين السينية الفارسية والسينية اللاتينية. ولئن اهتم كوربان بشروحات الطوسي لكتاب "الإشارات"، فإنه، برأي دلبْيار، لم يمنحه حقه من التقدير، بل أنصفه إنصافاً جزئياً.

من هذه الزاوية يأتي كتاب دلبْيار ليبيّن قدرات الطوسي الإبداعية في التأويل، انطلاقاً من فرضية أنه إذا كان تعليق الطوسي قد استُخدم مراراً لخدمة قراءة نص ابن سينا، فإنه على الباحث اليوم أن يجرب العكس، أي أن يجعل من نص ابن سينا أداة لقراءة شروحات الطوسي، لا باعتبارها ملحقاً ثانوياً، بل عملاً مستقلاً بذاته. فشروحات الطوسي برأي الباحث لعبت دوراً تأسيسياً في نشوء النزعة الصوفية في قراءة ابن سينا، وهي النزعة التي ستشكّل الأفق الذي لا يمكن تجاوزه لكل قراءة لاحقة كالدراسات والترجمات التي وقعها كريستيان جامبي وروجيه أرنالديز في فرنسا وجواد بداخْشاني في بريطانيا.

***

مارلين كنعان - كاتبة وأكاديمية من لبنان

عن جريدة االعربي الجديد، يوم: 21 يوليو 2025

 

كتاباته لم تقتصر على تشريح البنى الاقتصادية والسياسية

رغم أن ماكس فيبر لم يقدّم نفسه بوصفه فيلسوفاً، فإن إرثه يتضمّن مساهمات فلسفية عميقة في فهم العقلانية الحديثة، وأخلاقيات الفعل، وإشكالية المعنى في عالم متفكك. فقد سبق كثيراً من فلاسفة الوجود في تحليل مأزق الإنسان الحديث، وطرح مفهوم «نزع السحر عن العالم» بوصفه تشخيصاً أنطولوجياً لانهيار المرجعيات العليا. وأسهم فيبر في نقد الحتمية التاريخية، وبيّن أن التاريخ لا تحكمه غايات عقلية بل صراعات قيم لا نهائية، مؤسساً بذلك لرؤية تعددية للحداثة. ومن خلال تأملاته في العلاقة بين الدين والعالم، كشف عن التوتر بين الخلاص الفردي وبناء المؤسسات، رابطاً بين التديّن والعمل كشرط أنطولوجي جديد. كذلك، مهّد لفلسفات القلق الأخلاقي، حيث لا يمكن للفعل أن يكون بريئاً أو يقينياً في عالم تراجيدي.

من يمعن النظر في كتاباته لا بد أن يكتشف خلف هذا الوجه العلمي نظاماً فلسفياً متيناً يتعامل مع أسئلة المعنى والحرية والمصير بوصفها جوهر الوجود الإنساني. ففكر فيبر لا يقتصر على تشريح البنى الاقتصادية والسياسية، وما جرى اعتباره في حقل علم الاجتماع، بل يتوغّل في الطبقات العميقة للحداثة كتحوّل أنطولوجي عاشه الإنسان الغربي، كاشفاً عن الثمن الباهض للعقلنة، وحدود التقدم، ومأساة الفاعل في عالم خالٍ من القداسة. ولعلّ أبرز ما يميز رؤية فيبر وعيُه الحاد بأن العقلانية الحديثة، التي نظّر لها كعملية تنظيم متزايد لحياة البشر وفق معايير الكفاءة والحساب، لا تؤدي بالضرورة إلى حريّة الإنسان، بل قد تكون طريقه إلى نوع جديد من العبودية؛ عبودية لآليات بيروقراطية صمّاء تفرغ الوجود من كل مضمون روحي أو ذاتي.

فالمجتمع الحديث، في سعيه لإخضاع العالم إلى أدوات الضبط والسيطرة، أنشأ ما سمّاه فيبر: القفص الحديدي، حيث يفقد الإنسان علاقته المباشرة بالعالم، ويغدو ترساً داخل آلة لا تكلّف نفسها عناء سؤاله عمّا يشعر به أو يؤمن به. إن هذا التحوّل لا يُختزل في بعده التقني أو الإداري، بل هو تحوّل في ماهية الوجود نفسه؛ إذ لم يعد العالم مكاناً مأهولاً بالأرواح والمعاني، كعالم لايبنتز الكامل بزعمه، بل أصبح شيئاً خارجياً، محايداً، تقنياً، لا يتفاعل مع الإنسان بل يُخضِعه.

من هنا جاء مفهوم «نزع السحر عن العالم»، الذي لا يعني مجرد تراجع الخرافة أو سيادة العلم، بل انهيار النظرة القديمة التي كانت ترى في الكون كياناً مشبعاً بالرموز والمقاصد والمعاني، واستبدال نظرة حسابية بها ترى في الأشياء أدوات، وفي الإنسان وحدة إنتاج أو إدارة. وبهذا، يجد الإنسان الحديث نفسه في عزلة وجودية، محروماً من المعنى، مطالباً باختراع ما يبرر حياته في ظل انهيار المرجعيات العليا، سواء كانت دينية أو ميتافيزيقية. فيبر لا يعرض هذه النتيجة بفرح تقدّمي، بل بشعور تراجيدي، إذ يعتبر أن الإنسان لم يعد قادراً على الإيمان بوحدة قيمية متعالية، وأن الأخلاق نفسها قد انقسمت إلى اتجاهات متضادة، أبرزها أخلاق القناعة وأخلاق المسؤولية. الأولى تلتزم بالمبدأ المجرد دون نظر في نتائجه، أما الثانية فتعترف بتعقيد الواقع، وتتحمل مسؤولية النتائج حتى لو خالفت المبدأ الأصلي.

هذا الانقسام لا يعكس مجرد جدل أخلاقي، بل يكشف عن مأزق وجودي عميق. لم يعد بإمكان الإنسان أن يكون أخلاقياً دون أن يكون مأزوماً بالضرورة، لأن كل خيار أخلاقي أصبح محمّلاً بإمكانات الفشل والتضحية والتناقض. ومن هنا، لا يكون الفعل الأخلاقي عند فيبر سعياً إلى الطمأنينة، بل قبولاً باللايقين، وتحملاً للمخاطرة، واعترافاً بغياب الكمال.

هذه الرؤية تمتد إلى السياسة حيث يُقدّم فيبر شخصية الفاعل السياسي نموذجاً للوعي التراجيدي، الذي يعرف أنه لا يستطيع أن يحقّق الخير المطلق، لكنه يواصل فعله بوصفه مسؤولية لا يمكن التخلّي عنها. كما يكشف فيبر في كتاباته عن توتر بنيوي داخل الحداثة، يتجلّى في الثنائية بين الشخصية الكاريزمية الملهِمة التي تُحدث قطعاً مع المألوف وتؤسس قيماً جديدة، وبين الشخصية التنظيمية المحايدة التي تحافظ على النظام. فالشخصية الكاريزمية الملهِمة عند فيبر هي الفاعل الخارج عن القاعدة، التي تتلقى رؤيتها من قوة عليا، وتتكلم من موقع الإلهام لا من موقع التخصّص، وهي في ذلك تشكّل بداية جديدة، لكن هذا لا يستمر بعد موتها. ما إن تغيب، حتى تبدأ حركتها بالتقنين، وتتحوّل الكاريزما إلى نظام، أي إلى بيروقراطية.

هذا التحوّل الحتمي من الرؤية إلى الإدارة هو ما يجعل التاريخ الحديث دائرة مأساوية من الإلهام إلى الخمود، ومن الثورة إلى التقنين، وتكوّن نظام إداري وتشريعي يضمن الاستمرارية، لكنه لا يستبقي الروح الأولى. وفيبر، إذ يصف هذا التحوّل، لا يراه فساداً طارئاً، بل ضرورة تاريخية تُظهر أن العالم لا يُدار بالكاريزما، بل بالبيروقراطية، وأن الحداثة لا تحتمل الأنبياء، بل تحتاج إلى موظفين. لكن هذا الانضباط، رغم ما يمنحه من استقرار، لا يمنح الإنسان المعنى، ولا يروي ظمأه الوجودي. ولهذا فإن الحداثة، من وجهة نظر فيبر، تفتقر إلى البطل، وتنتج إنساناً فاقداً للروح، يعمل بلا شغف، ويعيش بلا رؤية. غير أن فيبر لا يسقط في اليأس، بل يرى أن ما تبقّى للإنسان هو أن يتحمّل مسؤوليته في خلق المعنى، لا عبر العودة إلى الوهم، ولا عبر التسليم للتشاؤم، بل عبر تأكيد فعله الحر، رغم إدراكه لانعدام الضمان. هو موقف أقرب إلى التراجيديا منه إلى العبث، أقرب إلى كانط منه إلى نيتشه، رغم تأثره العميق بكليهما. فلا المعنى يُعطى، ولا القيم تُفرض، بل كل شيء يُبنى من الداخل، عبر فعل حرّ، قلق، لا يضمن شيئاً إلا صدقه مع ذاته.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:  21 يوليو 2025 م ـ 26 مُحرَّم 1447 هـ

في مقال هام مؤخراً لأستاذَيْ العلوم السياسية الروسيين، ارتيوم لوكين وارترير كورول، في مجلة «روسيا في الشؤون العالمية» (تصدر بالروسية والإنجليزية) حول ما بعد الحداثة في علاقتها بالسياسة ما بعد الليبرالية، نقرأ معالجةً طريفةً لتوجهات النظام الدولي الحالي من منظور ما اعتبره الكاتبان نهايةَ السيطرة الفكرية الغربية على رؤية العالم وبروز قوى حضارية جديدة ستحقق التوازن المنشود في العلاقات الدولية.

 مقولة «ما بعد الحداثة» postmodernism ظهرت، كما هو معروف، في نهاية السبعينيات، على يد الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار، وقد عرّفها بأنها «نهاية السرديات الكبرى للحداثة»، وهو يعني هنا الوعي الذاتي، والعقل التجريبي، والتاريخ الغائي والدولة العضوية.

 ما يبينه الكاتبان الروسيان هو أن هذه الفكرة عُرفت على نطاق واسع بأنها يسارية تتعلق بنقد العقلانية الأداتية وكشف مظاهر التداخل بين المعرفة والسلطة ومحاربة الأيديولوجيات التاريخانية والوضعية، كما هو جلي في أعمال ميشال فوكو وجاك دريدا وريتشارد رورتي.. بيد أنها في الحقيقة تعود للسياق المحافظ وليس للوسط اليساري الذي افتكها لاحقاً. لقد ظهرت موجة نقد التنوير والحداثة مع كانط وهيغل في مجهودهما للجم حركية العقلنة المناوئة للدين والتقليد، وبلغت أوجها لدى نيتشه وهايدغر وفيتغنشتاين.

ما يخلص إليه الكاتبان هو أن التركة الأساسية لحركية ما بعد الحداثة، هي النقد الجذري للمركزية الثقافية الغربية وللتصور الأحادي للتاريخ والتأكيد على الأبعاد غير العقلانية في الوجود والتفكير، وعلى عرضية واحتمالية الواقع بدل خضوعه لمبادئ وقواعد حتمية يحددها العلم التجريبي.

إن هذه الأفكار، وإن تبناها اليسار، هي في حقيقتها أفكار قومية محافظة، وقد عادت اليوم بقوة عبر الموجة ما بعد الليبرالية التي تجتاح العالمَ راهناً، في ما يشبه نشوء ثورة محافظة شاملة.

بيد أن ما يهم الكاتبين هو ما يتعلق بنهاية السردية المركزية الغربية ونشوء أقطاب ثقافية استراتيجية بديلة، تتمحور حول الصين والهند وروسيا.

في الصين تدور تجربة التحديث الاقتصادي والتقني حول هدف خَلقِ «شكلٍ جديد من الحضارة الإنسانية» يتجاوز نموذج الحداثة الرأسمالية. ومع أن للنموذج الصيني خصوصياته المحلية، إلا أنه يطمح ليكون بديلا عالمياً، كما يظهر من مقولة «المجموعة العالمية ذات المصير المشترك».

وإذا كان النموذج الصيني هو مزيج من الاشتراكية الماوية والتقانة الرأسمالية في سياق حضاري كونفوشيوسي دون حريات ليبرالية، فإن التجربة الروسية حسب الكاتبين قادرة بصفة أقوى على مواجهة الغرب النيوليبرالي بوصفه «عدوانياً» و«غير متسامح»، متناغمةً مع الديناميكية المحافظة العارمة التي تجتاح العالَم الغربي حالياً. النظام المحافظ التقليدي في روسيا يغدو عندئذ بديلاً جذاباً عن الفوضى الغربية، وخياراً ناجعاً يتلاءم مع القيم الحضارية الأصلية للغرب.

أما الهند فهي حسب الكاتبين «أفضل نظام أيديولوجي ممكن» باعتبارها دولة ديمقراطية وإن كانت غير ليبرالية، كما أنها دينية وإن كان نمط إيمانها يختلف عن الديانات ذات البعد الثنائي، وقد يصبح نموذجها الروحي الأيديولوجي مسلكاً مغرياً للجنوب الشامل.

والخلاصة التي يصل إليها الكاتبان هي أن التعددية الروحية والأيديولوجية أصبحت اليوم سمة العالَم الراهن، ولم يعد بإمكان أي قوة دولية أن تتحكم في مصيره، بما يفرض نمطاً جديداً من المنظومة الجيوسياسية المتوازنة الضابطة للعلاقات الدولية. هذه التعددية القيمية والروحية هي المضمون الفعلي لفكرة ما بعد الحداثة، بما يعزز مكانةَ ودورَ روسيا من حيث هي القوة ما بعد الحداثية الأولى في العالَم. تفرض علينا هذه الأطروحة التي لخصناها، في سماتها الأساسية، ثلاثَ ملاحظات كبرى:

أولاً: رغم أن الحداثة كمفهوم وتجربة نشأت في العالم الغربي، إلا أنها تميزت بكونها قامت منذ ظهورها على ادعاء الطابع الكوني الإنساني، بدل أن تعبر عن هوية ثقافية أو تاريخية خصوصية. ولا شك أن محددات العقلانية والموضوعية والحرية غدت اليوم ميراثاً بشرياً عالمياً مهْما كان الخلاف حول انعكاساتها الفعلية العملية.

ثانياً: من غير الدقيق إرجاع حركية ما بعد الحداثة إلى فلسفة نيتشه وهايدغر، رغم كونهما اضطلعا بدور أساسي في نقد الذاتية والعقلانية الأداتية، لكون هذه الحركية نشأت أساساً في إطار الابستمولوجيات ما بعد الوضعية وأزمة الأيديولوجيات التاريخانية وبصفة خاصة الماركسية، وبالتالي فهي بمنأى عن الجدل اليساري المحافظ الذي يتحدث عنه الكاتبان.

ثالثاً: لا شك في أن الثقافة الليبرالية الغربية لا تزال جاذبةً ومغريةً على الصعيد الكوني، ومن الصعب اليوم منافستها ببدائل حضارية أخرى من منظور حقوق التنوع الثقافي والحضاري الذي هو في نهاية المطاف مفهوم حداثي غربي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 21 يوليو 2025 00:26

الجماعة مصطلحٌ عريقٌ يعود حتى إلى حقبة ما قبل الإسلام، وتعني ما يجتمع حوله الناس في مجتمعٍ معيَّنٍ ويلتفون حوله من الأعراف والعادات والتقاليد الدينية والثقافية. وفي العصر الإسلامي الأول صارت الجماعة مرادفةً للسلطة الشرعية، فيقال دولة الجماعة، وفي العام 41 للهجرة سمّى العلماءُ ذلك العام عام الجماعة لأنّ العرب اجتمعوا على سلطةٍ واحدة.

لماذا يجري أحياناً التقابل بين الجماعة والدولة وكأن أحد المفهومين مناقضٌ أو مُضادٌّ للآخر؟ فالدولة تقوم في المجتمع الذي تتعدد فئاته، لكنّ الجماعة بالمعنيين العربي والإسلامي هي الجامع للمشتركات الوطنية التي تقوم عليها الدولة أو هي المعنى المتضمن للشرعية التي تتبادل الاعتراف مع السلطة السائدة، وهما يتبادلان الإحاطة والحياطة والحماية. لقد جاء التشكيك من جانب بعض الإسلامويين في الدولة الوطنية بادعاء أنها لا تمثّل الجماعة، أي إجماع المجتمع! ولو لم تكن ممثلةً للمجتمع لما قامت أصلاً، فالمجتمع لا يتوحد ولا يستقر من دون الدولة التي تمثّل إجماعاته، وهو يعرِّفُ نفسَه من خلالها، فيقال حتى في التحديد الدولي: دولة فرنسا أو بريطانيا أو مصر، كما يقال شعب مصر أو شعب فرنسا أو بريطانيا.. إلى آخره. ولذا فالدولة لا تتغير بل تتغير الحكومات، وإذا حدث اختلالٌ تنشب الفوضى ويختل الانتساب لذهاب الجماعة (وحدة المجتمع) بذهاب الانتظام في دولة.

لقد كان هذا المعنى واضحاً لدى المسلمين الأوائل، فقد سمَّوا الاختلالات التي يُحدثها المتمردون على الدولة: فتنة تجب مكافحتها، وفسّر عبد الله بن المبارك (-161ه) «حبل الله» في الآية القرآنية «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا» بأنه الاجتماع على الإمام (= الجماعة) بمصطلح ذلك العصر للدولة.     وهكذا ليس من الحكمة أن تضلّلنا ادعاءاتُ المتطرفين واغتصابهم للمفاهيم العميقة، فننصرف عنها وندعها لهم لاستغلالها في دعاواهم وحزبياتهم وخداعهم لعامة الناس. بل المطلوب الإصرار على تصحيح المفاهيم باستمرار وعدم السير في سلسلة الأهواء والأَوهام التي تُصطنع من أجل الفتنة والنزاعات الداخلية. لا يستطيع «الإخوان» الاحتجاج بالجماعة لأنهم هم أنفسهم انشقاقٌ عن الجماعة وفي الدين.

لقد اعتدنا على تشبيه المتطرفين وأهل العنف بالخوارج القُدامى الذين تمردوا على سلطات الدولة وعبثوا بأمن الناس. لكنّ القرآن يسمّي أمثال هؤلاء في عشرات المواضع: المفسدون في الأرض، وهم بحسب مفسّري القرآن ثلاثة أنواع: المتمردون على دعوات الأنبياء للإصلاح، والذين يخرجون على الإمام العادل، وقطاع الطرق والعصابات المسلحة. فلو كان التنكر لمفهوم الجماعة مفيداً أو يصبح منسياً، فالأمر محتمل. لكنّ الواقع أنه يصبح عرضةً للتحريف وسوء التأويل والاستعمال لمواجهة دولنا الوطنية. والشأن في ذلك مثل الشأن في مفهوم أو مفاهيم الهوية. فقد اعتبر البعض أنّ المواطنة تشكل بديلاً عن الهوية. واعتبر المضلِّلون أنّ هذا التنكر للهوية سببه أنها تشمل الدِّينَ إلى جانب العادات والأعراف والثقافة.

والواقع أنّ الهوية عمادٌ من أعمدة المواطنة، لأنّ المواطنين ليسوا أغفالاً أو أفراداً قانونيين في الدولة وحسب، وإنما هم يدخلون في المواطَنة تحت ظل الدولة الحديثة بهوياتهم وخصوصياتهم التي تتجدد وتتطور وتضيف معاني جديدة، لكنّ أصولها العرفية والثقافية لا تُلغى ولا تُتجاوَز. فالدولة الوطنية لديها مجتمع مواطنين، والمواطنون ذوو ثقافةٍ وعاداتٍ وأعراف وأصول دينية وجغرافية ونَسَبية.. لأنهم بشرٌ لهم لونٌ وطعمٌ وأخلاقٌ، وهذا هو شأن كل المجتمعات.

إنّ الخوف من الجماعة (= المجتمع) والهوية يجعل من الدولة الوطنية كائناً فضائياً لا علاقة له بالأرض والموروث واللغة وإنسانية الإنسان. ولأنّ مواطني الدولة الحديثة يعيشون على أرضهم وفي وطنهم، بموروثهم وحاضرهم وسلطاتهم، فإنّ الدولة الوطنية الناجحة هي التي تصنع التكامل وتنتج ثقافة العيش معاً، مؤلِّفةً بين الثوابت والمتغيرات من دون انتقاصٍ ولا تزيُّد

***

د. رضوان السيد

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 20 يوليو 2025 01:56

في خضم التحولات المتسارعة التي تعرفها المجتمعات الإسلامية المعاصرة، لم يعُد ممكناً أن يبقى الخطاب الديني حبيس زوايا التنظيمات، ولا أن تُختزل الشريعة إلى أداة استقطاب سياسي، أو واجهة دعوية تخدم مشاريع أيديولوجية مغلقة. فقد تجاوز الواقع أسئلة الماضي، ولم تُعد التحديات الراهنة تُجابَه بشعارات «التمكين» أو «المحنة»، بل باجتهاد فقهي تأسيسي، يعيد قراءة النصوص في ضوء نسق وطني جامع، يُفعّل مقاصد الشريعة في خدمة بناء الدولة لا في فلك الجماعة أو الحزب

. لقد نشأ ما يُعرف بـ«فقه الجماعة» في كنف جماعات التوظيف الأيديولوجي للإسلام بجعله فقهاً تعبوياً، يقوم على منطق الغلبة لا البناء، ويشتغل على التحشيد لا الترشيد.. لإسناد مشروع تنظيمي مغلق، قائم على الولاء الحركي لا على الانتماء الوطني، همه ضبط الأتباع لا توجيه المجتمعات، وتفصيل الطاعة على مقاس القيادة، لا تحرير الإنسان من الجهل والخرافة والارتهان. وفي سياق كهذا، تحول الفقيه من مرشد للأمة إلى ناطق باسم الجماعة، ومن خبير في فقه الواقع إلى مروّج لخطاب وظيفي يخدم غاية حزبية ظرفية. وعلى النقيض من ذلك، يقوم فقه الدولة، أو ما يمكن تسميته فقه البناء المؤسسي، على رؤية شاملة تجعل من الشريعة إطاراً تشريعياً عقلانياً لبناء العمران البشري، حيث تعد الدولة الوطنية الأفق الطبيعي لتحقيق مقاصد الإسلام الكبرى.

فالدولة الوطنية ليست عائقاً أمام الشريعة كما تُوهم بعض أدبيات التنظيمات، بل هي الحاضنة الأوسع لتحقيق كليات الشريعة: حفظ النفس والدين والعقل والمال والكرامة.. وهي بذلك تتجاوز المنطقَ الفئوي في النظر إلى الدين، كي تعيده إلى مداره الأصيل: مرجعية توجيهية للمجتمع بأسره لا لشريحة منه. ولا يعني الانتقال من فقه الجماعة إلى فقه الدولة تخلياً عن المرجعية الإسلامية، بل العكس تماماً، إنه تحرير لها من الارتهان الحزبي، وتخليصٌ لوظيفة الدين من التوظيف الدعوي المغشوش. فالدين ليس ملكاً تنظيمياً، ولا بوقاً دعائياً، بل هو رأسمال حضاري مشترك، لا يجوز اختطافه لصالح جماعة مهما ادّعت.

ومما أثبتته التجربة أن تديّن الجماعات لم يؤسّس مشروعاً حضارياً جامعاً، بل أنتج الانقسام، وكرّس الشحن الأيديولوجي، وأسّس لمنطق إقصائي يُكفّر المخالف ويصادر التعدد، ويعطّل إمكانات الإصلاح من داخل الدولة. وعليه، فما نحتاج إليه اليوم ليس اجترارَ اجتهادات متقادمة نشأت في زمن الاستضعاف، بل فقهاً وطنياً جديداً يستجيب لمتطلبات الدولة الحديثة، ويُعيد للفتوى اعتبارَها بوصفها توجيهاً عاماً لا توظيفاً مؤقتاً. ففقه الدولة لا يُجيب فقط عن الأسئلة، بل يصوغها من جديد: ما غاية التشريع؟ ما موقع المواطنة في البناء الفقهي؟ كيف نفعّل العدالة الاقتصادية؟ وكيف نوازن بين النظام والحرية، بين المصلحة الخاصة والصالح العام؟ وهي أسئلة تُجاب بمنهج السياسات الشرعية، والعقود الاجتماعية، والفقه المؤسسي الرصين.

إن زمن الاستعانة بالفقه لتبرير الانغلاق الذهني، أو لتغذية مشاعر الرفض والقطيعة مع الدولة والمجتمع، قد ولى. فالمواطنة اليوم هي قاعدة العقد السياسي، والمصلحة العامة هي مقصد الشرع في هذا العصر، والدولة الوطنية تظل الإطار الوحيد الممكن لتفعيل الشريعة، وتحقيق التنمية، وضمان السلم الأهلي. وكل فكر يرفض هذه الحقيقة، أو يصرّ على تجاهلها، إنما يعيد إنتاج العجز، ويكرّس فقهاً مؤجَّلاً لا يخدم حاجات الناس ولا يواجه تعقيدات العصر. لقد آن أوان استعادة الفقه من قبضة التنظيم، وتحريره من الارتباط الحزبي، وتأهيله ليكون علماً للعمران، لا أداة للتجييش.

نحتاج إلى تكوين فقيه جديد، يُدرك تعقيدات الواقع، ويشتغل بعقل المجتمع لا بعقل التنظيم، كما نحتاج إلى إصلاح المؤسسات الدينية لتفكر بمنطق الأمة لا بمنطق الجماعة، وإلى اجتهاد مؤسسي لا يكتفي بشرعية النص، بل يُراكم شرعية النظام العام، ويُؤسس لفقه الاستقرار والسلم والكرامة. لا الجماعة هي الأمة، ولا التنظيم هو الوطن، ولا البيعة تُغني عن الدستور.. ومن لا يرى في الدولة الوطنية إلا خصماً لعقيدته، فليعلم أن معركته ليست مع الواقع فقط، بل مع روح الشريعة نفسها.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 15 يوليو 2025 23:42

 

رسالة نقدية من الماضي جديرة بأن نتذكرها اليوم

كان الناقد والأكاديمي الإنجليزي الأشهر ف. ر. ليفيز يؤمن أن الأدب لا يجب أن يقف بمعزل عن الحياة، وإنما يجب أن يغذيها بقيمها الحضارية والأخلاقية، وأن دراسة الأدب ينبغي أن يكون لها تأثير نافذ على الإحساس والفكر ومعايير الحياة، ومن ثم على القوى التي تحكم العالم أجمع، وإلا كانت بلا طائل.

ولد ليفيز F.R.Leavis (1895 - 1978) في كمبريدج وتلقى تعليمه بجامعتها العريقة إلى أن صار أستاذاً فيها وقضى عمره المديد يبث أفكاره ويؤسس مدرسته النقدية من موقع الأستاذية وحتى تقاعده في سنة 1962. وفي سنة 1932 أصدر مجلته النقدية الشهيرة وأطلق عليها اسم «Scrutiny» أو «تمحيصات» واتخذ منها منبراً لنشر أفكاره النقدية وتقويماته الأدبية هو وأتباعه وتلامذته. استمرت المجلة تصدر لمدة واحد وعشرين عاماً إلى أن توقفت عام 1953، واليوم تعد مجلداتها صرحاً شامخاً من صروح النقد الأدبي الحديث في العالم الغربي.

كان ليفيز فارساً من فرسان الزمان القديم وكانت نقمته على مظاهر الحياة في القرن العشرين عظيمة. ومن هنا صبّ جام غضبه على عصر الصناعة والتكنولوجيا وعلى ضروب الثقافة السلعية التي تسعى لتملق جهل الجماهير. اعتقد ليفيز أن هذا العصر بسماته الصناعية الفاسدة قضى على الحياة الاجتماعية العضوية في إنجلترا (وهو ما نستطيع بلا شك تعميمه على مجتمعاتنا العربية). ونراه يتحسر في كتاباته على خصائص تلك الحياة التي مضت إلى غير عودة من قبيل الأغاني والرقص الشعبي والعيش في الأكواخ الرعوية ومنتجات الحرف اليدوية إلى غير هذا من مظاهر الحياة في عصر ما قبل الثورة الصناعية، التي اختفت لتحل محلها الأفلام والصحف ووسائل الإعلام والإذاعة والتلفزة إلى آخر هذه القائمة التي أنحى عليها ليفيز باللائمة لإشاعة الابتذال في الحياة العصرية. ولنذكر أن هذا كله كان قبل عصر الحاسوب والإنترنت والهاتف الذكي والذكاء الاصطناعي إلى آخر القائمة التي استجدت منذ وفاة ليفيز قبل أربعين سنة ونيف. أتصوره لو عاد إلى الحياة اليوم لسارع يطلب رحمة الموت من جديد.

درج النقاد على إلحاق ليفيز بمدرسة معلم كبير من معلمي الإنجليز في القرن التاسع عشر، ذلك هو الشاعر الناقد توماس آرنولد (1795 - 1842). يظهر تأثير آرنولد على ليفيز في إصراره الدائم على أهمية الأدب والنقد في تنمية الوجدان والذوق الأخلاقيين في نفوس الناس. فآرنولد هو رسول القرن التاسع عشر الذي نادى بأن الشعر ينبغي أن يكون «نقداً للحياة»، وأن النقد يجب أن يكون له دور تربوي. كان آرنولد يعتقد أن الثقافة هي القوة التي بوسعها أن تنقذ العالم من التردي في مهاوي المادية، وكان هو أول من سعى في مقالاته النقدية إلى التأكيد على أهمية الشاعر في المجتمع وليس فقط في إطار حرفته الفنية. ووصل آرنولد إلى حد الربط بين وظيفة الدين ووظيفة الشعر في تقويم الوجدان البشري. هذه الأهمية التي يضفيها آرنولد على دور الشعر في المجتمع هي الأرضية التي يلتقي فيها مع ليفيز.

يقول ليفيز إن وظيفة الناقد هي أن يحاول أن يرى شعر الزمن الحاضر باعتباره استمراراً ونمواً للماضي. بمعنى أن القصيدة التي يكتبها شاعر ما اليوم لا تنشأ في فراغ ولا تنقطع صلتها بجذور التقاليد الأدبية الراسخة في الزمان، وإنما تُعتبر صورةً من صور الحياة العصرية التي تكتسبها تلك التقاليد. أما حين ينظر الناقد إلى شعر الزمن الماضي فمهمته تتحول إلى إرساء الماضي في صلب الحاضر بمعنى أن شعر الأجيال الماضية يستمر في إنارة وجداننا المعاصر ويواصل إضفاء المعنى على حياة البشر عبر الأجيال، فلا حياة للماضي إلا في الحاضر. وبذلك فإن الناقد عن طريق إقامة جسر بين الماضي والحاضر يوفر للبشرية نوعاً من الذاكرة الحية اللاشخصية، التي تتطلع نحو المثل الأعلى وتمثل معياراً أخلاقياً صالحاً.

ما هو السبيل إذن الذي يسلكه الناقد للوفاء بهذه المهمة؟ إن أداة الناقد عند ليفيز هي التحليل الدقيق أو «التمحيص» إذا شئنا استخدام كلمته الأثيرة، التي أطلقها عنواناً لمجلته النقدية المذكورة. حين يتناول الناقد شاعراً ما بالدراسة ينبغي أن يكون أسلوبه في البحث هو النظر التحليلي الدقيق في نص القصائد بحيث لا يصدر أحكاماً نظرية أو تعميمات إلا إذا كان يمكن تحقيقها بالرجوع إلى النص والاستشهاد به. ولا سبيل للناقد إلى ذلك إلا بالحد من حريته الشخصية وإنكار ذاته إنكاراً بيّناً بمعنى أن تحليلاته واستنتاجاته لا بد أن تكون قائمة على أسس موضوعية صرفٍ وتكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنص. بذلك يبتعد النقد عن مزالق الذاتية ويتطلع إلى مراتب العلم الموضوعي.

غنيٌّ عن القول إن مهمة الناقد تكون ناقصة إذا انحصرت في دراسة الشاعر الفرد باعتباره فرداً فحسب. إنما تتمثل رسالة الناقد في إقامة الصلة بين الشاعر الفرد والتقليد الأدبي الذي ينتمي إليه والممتد عبر العصور. ذلك أن الشاعر الفرد لا يعيش خارج التقليد وإنما هو جزء عضوي منه. بعبارة أخرى هو يعيش في التقليد والتقليد يعيش فيه. وإذا كان سبيل الناقد إلى دراسة شاعر معين هو أن يلجأ إلى اختيار مقتطفات من أعماله تدل عليه وتمثل خواص أسلوبه ورؤياه، فإن سبيله إلى دراسة تقليد أو عصر أدبي بعينه هو اختيار بضعة من شعرائه تبرز في قصائدهم السمات المشتركة لذلك العصر أو التقليد. ويعتقد ليفيز أن تبعة الناقد تنحصر في أن يكتشف لنفسه الحقائق البينة في موضوع بحثه وأن يفصح عنها بوضوح وإحساس بالمسؤولية.

غير أن ليفيز كان ناقداً لا يعرف في الحق – أو فيما يعتقد أنه الحق – لومة لائم. وكانت معاييره النقدية معايير مثالية متعالية لا تقنع إلا بجلائل الأعمال الأدبية ولا تلتفت سوى إلى خلاصة الخلاصة وما يتدنى عن ذلك قيد أنملة فهو من سقط المتاع ولغو المقال ولا نجاة له بحال من هراوة ليفيز النقدية الغليظة التي لا تعرف شفقة ولا رحمة. ومن أمثلة شطط ليفيز وتطرفه في أحكامه النقدية القاطعة أنه أدان الروائي الإنجليزي الأشهر تشارلز ديكنز باعتبار رواياته، باستثناء «زمن عصيب» (Hard Times)، خلواً من أي قيمة اللهم إلا تسلية جمهور القراء. وأصدر حكمه على الروائية المحدثة فرجينيا وولف، التي أسهمت في ابتداع الأسلوب السردي المعروف بتيار الشعور، قائلاً إن اهتماماتها لا تتجاوز تفاهات الاستجابة الانطباعية لتجربة الحياة. حتى جون ميلتون فخر الشعر الإنجليزي الذي صاغ قصة الخلق في الملحمة الكبرى المعروفة بـ«الفردوس المفقود» لم ينجُ من حكم قاسٍ يدين شعره بالآلية ويقرن صياغته للشعر بعمل البنّاء الذي يضع قالباً من الطوب فوق آخر.

هكذا تنهال ضربات ليفيز القاصمة ذات اليمين وذات اليسار. وإذا كان أساطين القص والشعر التاريخيون لا ينجون من نقده الباطش ولا شفيع لهم بين يديه، فلا عجب أن صرعاه من معاصريه كانوا أسوأ حظاً. ولنطالع نموذجاً من أسلوبه الجارح الذي يتجاوز الموضوعية إلى ضرب من السب والإهانة الشخصية، إذ يقول في نقده للروائي البارز المعاصر له سي. بي. سنو (C. P. Snow): «يظن سنو أنه روائي لكني أقول إنه لا وجود له بصفته روائياً، ولن يكون له وجود. بل لا يمكن القول إنه على دراية بماهية الرواية. إن كل صفحة من قصصه تنضح بالتفاهة التي تتكشف لنا على الدوام في كل زاوية من زوايا قصصه. إني أحاول أن أتذكر أين سمعت (أم أني حلمت؟) أن رواياته إنما يكتبها له عقل إلكتروني يُزود بالتعليمات في هيئة عناوين فصول. إن الحكم الذي توصلت إليه هو أن سنو يخلو تماماً من أي شيء يميزه عقلياً».

كان ليفيز ناقداً عظيماً، ومثل كل العظماء اختلف الناس فيه وانقسموا ما بين مؤيد ومعارض. ولعل أفضل كلمة تلخص ما صار في عالم الأدب والنقد في عصر ما بعد ليفيز هو ما تنبأ به الناقد الإنجليزي جون كاري والأستاذ الفخري في جامعة أكسفورد في تأبين ليفيز وقت وفاته: «إنما هو احتمال بعيد أن نشهد ناقداً بحجم ليفيز مرة أخرى، ذلك أننا لم نعد نملك إيمانه بقدرة الأدب في التأثير على القوى التي تحكم العالم. إن العالم الذي نعيش فيه اليوم هو مصداقٌ لقول الشاعر أودن (W. H. Auden) إن «رجال الشرطة السرية وليس الشعراء هم سلطة التشريع غير المعلنة في هذا العالم» كانت نبوءة تخلو من التفاؤل، لكن للأسف لم تكذّبها الأيام، ما يدعونا اليوم للتشبث أكثر بمثالية ليفيز وإيمانه بقدرة الأدب على تغيير المجتمع والعالم والضمير البشري. كان ليفيز يصر دائماً على أهمية الأدب والنقد في تنمية الوجدان والذوق الأخلاقيين في نفوس الناس

***

د. رشيد العناني

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 12 يوليو 2025 م ـ 17 مُحرَّم 1447 هـ

الحب! ليس بيننا على الأغلب من لم يعِشْه فيما مضى، أو يعيشه اليوم. نراه في كل مكان يُحتفى به على أساس أنه «التجربة الأكثر أهمية في الحياة الإنسانية». أتساءل: هل يوجد ثمة من يجادل بالضد من الحب؟ وسواءٌ منَحَنا الحبُّ متعة عظمى أم تسبّب لنا بمعاناة رهيبة، فإنّ قليلين وحسبُ هم الذين ينكرون أنّ الحب هو ما يمنح الحياة معنى وهدفاً جديريْن بالاحترام، وإنّ غياب الحب يحيل الحياة صحراء موحشة. هناك كثير من الشكوك السائدة عن الإرباكات والتناقضات التي يحتويها مفهوم الحب، وغالباً ما نتساءل: كيف يمكن لهذه الخصلة الإنسانية العظيمة أن تكون لها نتائج غير مرغوب فيها وعصية على الفهم البشري؟ وإذا كان «الحب هو كل ما تحتاجهAll You Need is Love » كما تخبرنا كلمات أغنية فرقة البيتلز، فلماذا يبدو أحياناً أن الحبّ ينساب في مسارات خاطئة تقود إلى آلام ومعاناة مؤذية؟ وكيف يمكن لشيء مثل الحب، يبدو في غاية الوضوح، أن يتسبّب في آلام وتناقضات على قدر عظيم من الإيذاء؟ يبدو أن السببَ يكمن في أنّنا لا نفهم الحب على قدر وافٍ من الكفاية والتمعّن والاستبصار الفلسفي.

يبدو الحب نوعاً من دفقة «تسونامي» تضرب كيان الفرد، وتدفعه للإتيان بأنماط سلوكية ربما ما كان سيفعلها لو كان في حالة أخرى توصف بالهادئة والمعقلنة. شاعت هذه القناعة لدى كثير من الفلاسفة منذ عصر الإغريق حتى اليوم، ممّن يرون في الحب عرضاً من أعراض الهوس العقلي المندفع بغير لجام. من المثير في هذا المقام، قراءة المقطع التالي الوارد في كتاب «الحب: مقدّمة موجزة» المنشور عن جامعة أكسفورد للفيلسوف رونالد دي سوسا Ronald De Soussa:

«ثمة صِدامٌ من نوعٍ ما بين المثال الصحي للتوازن المرتجى للحب مع المثال السائد عن الحبّ، لأنّ الحب ليس ممّا يمكن تعديله وتخفيف حدته بسهولة. الحب البالغ حد التولّه يدفعنا إلى الحافات الموغلة في التطرف على صعيدَيْ الشعور والسلوك. ثمة ملحوظة تعني - ربما - أنّ الحب بطبيعته حالة من اللاتوازن التخريبي، وربما حتى غير الصحي، ويمكن ملاحظة أن عدداً ليس بقليل من الكُتّاب في أدب العصور المتأخرة، قد شجبوا الحب، ورأوا فيه حالة مرضية (باثولوجية)».

طرح الفلاسفة، ابتداءً من أفلاطون في حواراته المعروفة وحتى عصرنا هذا، نظرياتٍ كثيرة حول الحبّ، من شأنها أن تُثير فينا كثيرًا من التساؤلات. إذا كنا نحبّ الناس لصفاتهم، على سبيل المثال، فهل من المقبول أن نحبّ أي شخصٍ له الصفات نفسها، أو أن نُمسِكَ عن حب شخصٍ ما إذا تغيرت صفاته؟ وإذا كنا نُقدّر، بدلاً من ذلك، صفات من نحبّ فقط لأننا نحبّه، فلماذا لا نُوسّع نظرتنا المُحِبّة إلى مزيد من الناس بدلاً من جعلها مخصوصة بفرد واحد؟

الحبّ شعورٌ يصيبنا بإرباك لا يمكننا التفلّت من تأثيراته أو تغافل التفكير فيه. على سبيل المثال، تشيرُ إحصائية حديثة إلى أنّ الناس في الولايات المتحدة يبحثون عن كلمة «حب» على «غوغل» نحو 1.2 مليون مرة كلّ شهر، وأنّ ما يقربُ من رُبْع هذه العمليات البحثية تسأل «ما هو الحب»، أو تطلب «تعريفاً للحب». يبدو الحب خصيصة ملازمة لحياة كلّ كائن بشري.

يُخبرنا علم الأعصاب بأن الحبّ ناتج عن مواد كيميائية (نواقل عصبية) مُعيّنة في الدماغ. على سبيل المثال، عندما تُقابل شخصاً عزيزاً، فيُمكن حينئذ لهرموني الدوبامين Dopamine والنورإبينفرين Norepinephrene، أن يُحفّزا فيك استجابة مكافأة تجعلك ترغب في رؤيته مرة أخرى. الأمر مشابه تماماً عندما تتذوّقُ الشوكولاته وترغب في مزيد منها لاحقاً.

مشاعرك هي نتيجة هذه التفاعلات الكيميائية. عندما تكون بجانب شخص تُعجَبُ به، أو صديقٍ مُقرّب منك، قد تشعر بشيء من الإثارة والانجذاب والفرح والمودّة. تشعرُ بالسعادة عندما ترى من تحبّ يدخل الغرفة التي تجلس فيها. مع مرور الوقت تشعر بالراحة والثقة. يختلف شعور الحب بين الوالدين والطفل عن حبّ رجل وامرأة بالغيْن، ويختلف شكلا الحب هذان عن حبّ الشوكولاته مثلاً. الفرق هو في طبيعة الناقل الدماغي (بمعنى اختلاف التجربة الكيميائية الحيوية التي تجري وقائعها في الدماغ).

ولكن، هل هذه المشاعر الناتجة عن تفاعلات كيميائية حيوية في أدمغتنا هي كل ما يُمثّله الحب؟ هل الحب محضُ شعور أم تجربة حسّية أم عاطفة منبعثة من أعماقنا؟ أظنُّ أنّ المقاربة الاختزالية التي تردُّ الحبّ إلى ناتج تفاعلات كيميائية دماغية تبدو قاصرة عن فهم الحبّ وتمثّلاته في حياتنا، وهذا تماماً ما جعل الحبّ ميدان دراسة فلسفية خارج أنطقة المختبرات والمشاهدات العيانية الصارمة.

اهتمّ الفلاسفة - بصرف النظر عن تخصصاتهم الفلسفية الدقيقة - بالطرق المختلفة التي فهم بها الناس الحبّ عبر التاريخ، وهم (الفلاسفة) يتشاركون قناعة بأنّ الحب أوسعُ من مجرد شعور مستثار بدافع كيميائي.

اعتقد الفيلسوف اليوناني أفلاطون أنّ الحبّ قد يُولّد مشاعر كالانجذاب والمتعة، وهي مشاعر خارجة عن سيطرتك؛ لكنّ هذه المشاعر - العامّة وغير الموجّهة تجاه فرد بعينه - أقلّ أهمية من علاقات الحب التي تختار تكوينها بسلوك قصدي، وربما تشير هذه الحقيقة إلى خاصية أنانيّة متأصّلة في الحب الحقيقي: لا ترغب في أن يشاركك أحدٌ فيمن تحب.

وبالمثل ولكن بمقاربة محدّثة، ادّعى أرسطو، تلميذُ أفلاطون، أنّه على الرغم من شيوع العلاقات المبنية على مشاعر كالمتعة والانجذاب؛ غير أنّها أقلُّ فائدة للبشرية من العلاقات المبنية على حسن النية والفضائل المشتركة. السبب في ذلك اعتقاد أرسطو أنّ العلاقات المبنية على المشاعر تدوم فقط طالما استمرت المشاعر، ولا تملك خاصية التشارك الأخلاقي الذي يسمو على الزمان ومحدّدات الظروف والتغيّر المتوقّع في الرغبات والأمزجة الذهنية والتوجهات النفسية: تخيلْ مثلاً أنك شرعت في علاقة ثنائية مع شخص لا تجمعك به سوى حقيقة أنكما تستمتعان بلعب ألعاب الفيديو. إذا حصل وتوقّف أيٌّ منكما عن الاستمتاع بالألعاب، فلن يبقى أي شيء يُبقي العلاقة بينكما متماسكة. هذه هي الحقيقة الواضحة: كلُّ علاقة تتأسّسُ على المتعة المجرّدة فإنّها تزول مع زوال العنصر المسبّب للمتعة لدى أحد الأطراف، أو لدى الطرفيْن معاً. قارن علاقة المتعة هذه مع علاقة الحب. الفارق بيّنٌ وشديد الوضوح. يرغب الطرفان اللذان تجمعهما علاقة حبّ بالبقاء معاً؛ ليس بدافع متعة مشتركة بل لإعجابهما بعضهما ببعض كما هما.

يقدّم دليل أكسفورد المرجعي لفلسفة الحب The Oxford Handbook of the Philosophy of Love، الذي نشرته جامعة أكسفورد عام 2024، مجموعة واسعة من المقالات الأصلية حول طبيعة الحب وقيمته. جمع المحرّران كريستوفر غراو Christopher Grau وآرون سموتس Aaron Smuts (وهما فيلسوفان جامعيان لامعان) كتابات نخبة من الفلاسفة من بينهم باحثون بارزون وشباب يشرعون في تشكيل مسارهم الفلسفي. يضمّ الكتاب ثلاثة وثلاثين عنواناً (موزّعة على خمسة أبواب) تتناول قضايا الحب ومعضلاته، بالإضافة إلى فلاسفة بارزين أسهموا في فلسفة الحب، مثل أفلاطون وكيركيغارد وشوبنهاور وآيريس مردوك. تتراوح الموضوعات المتناوَلَة بين القضايا المحورية حول طبيعة الحب وتنوعه، وإمكانية تبريره عقلانياً، وما إذا كان شعوراً، وأهمية الحب في القانون والاقتصاد والأخلاق والإرادة الحرة. كما يتضمن المجلّد مقدمة للموضوع، فضلاً عن مقالات حول علاقة الحب بالغيرة والدين والمعرفة والتكنولوجيا الحيوية، وكثير من الموضوعات الأخرى. اختصّ المحرّران الجزء الأخير من الدليل، وعنوانه تقاطعات Intersections، لبحث العلاقة المشتبكة بين الحب وموضوعات أخرى؛ مثل: الحب والقانون، والحب والمعرفة، والحب والأدب، والحب والدين، والحب والحرية. سيكون هذا الدليل الشامل مرجعاً أساسياً للمتخصّصين في فلسفة الحب، ودليلاً مفيداً لمن يتطلّعون إلى معرفة المزيد عن هذا المجال من غير ضرورة مسبّقة لأن يكونوا فلاسفة متمرّسين.

أرى أنّ جزءاً حيوياً من أهمية هذا الكتاب (وسواه من كتب الدليل المرجعي Handbooks) يكمن في أنّه يوفّرُ للقارئ طيفاً واسعاً من العناوين التي يستطيع انتقاء ما يشاء للاستزادة من قراءتها والتفكّر فيها. تتعاظم هذه الأهمية في عصرنا المتفجّر بفيوض لا تنقطع من المعلومات والمعرفة اليومية، التي بمستطاعها إغراقُنا في سيول من العناوين المفكّكة غير المترابطة التي لا ينتظمها خيطٌ معرفي.

***

لطفية الدليمي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 9 يوليو 2025 م ـ 14 مُحرَّم 1447 هـ

في العدد الأخير من مجلة «فيلسوفي ناو» البريطانية، كتب الفيلسوف السلوفيني «سلافوي جيجك» عن ظاهرة «ما بعد الحقيقة» التي كثر الحديث عنها مؤخراً في سياق موجة الشعبوية الجديدة الصاعدة في العالم. لقد لاحظ جيجك أن ما يطلق عليه «موت الحقيقة» في السياسة ليس ظاهرة جديدة برزت مع الشعبويات الراهنة، فالتلاعب بالحقائق وتصريفها في الرهانات السلطوية والتعبوية من الأمور المألوفة في السابق، وقد شهدت أوجها في عصر صراع الأيديولوجيات التي كانت تفرض بالهيمنة والقوة حقائق رسمية، رغم أنها تتأسس على قواعد ومرجعيات كاذبة.

فالذين يبكون على الحقيقة اليوم، هم في الغالب يندبون مفهوم الحقيقة الأحادية الراسخة التي كانت تضمن حداً معيناً من الاستقرار الاجتماعي، على حساب الحقائق المتعددة المتمايزة التي هي جوهر التعددية الفكرية والقيمية في أي مجتمع حر ومفتوح. وبالاستناد إلى مقولات التحليل النفسي (لدى عالم النفس الفرنسي جاك لاكان خصوصاً) يميز جيجك بين «الكذب الذي هو حقيقة» كما لدى الشخص الهستيري الذي تثبت المعاينة الطبية أن أعراض علته تكشف عن حقائق دفينة مخفية غير واعية، و«الحقيقة التي هي كذب» كما لدى الشخص الذهاني الذي يستخدم الوقائع الحقيقية في التضليل والتنكر للحقائق الموضوعية.

ومن هنا يستنتج لاكان أن الحقيقة لا تكمن في مضمون الخطاب، بل في الممارسة الخطابية نفسها ذات الأوجه والخيارات المتنوعة المتعددة. ومع ذلك لا يمكن الخلط بين الحقائق المستقلة عن الذات وما يسمى الآن بالحقائق البديلة التي هي اختراعات لفظية لا تستند للواقع وإن كانت لها آثار فعلية حقيقية.

إن هذه الحقائق البديلة التي أشار إليها جيجك في مقاله المذكور، هي أقرب لمفهوم «الأسطورة» لدى عالم الاجتماع بيار بورديو، من حيث كونها خرافة تفضي إلى نتائج حقيقية غير وهمية.في السياسة لا يمكن الوصول إلى حقائق يقينية على غرار الأحكام المنطقية أو القوانين الطبيعية، لكونها تتعلق بأمور عرضية احتمالية وملتبسة. ذلك ما بينته الفلسفة منذ أرسطو، وأكدته الفلسفات التأويلية المعاصرة في رصدها للحاجز الدلالي الواسع بين تصورات الوعي والرهانات الحقيقية للممارسة التي تقتضي خطاباً ثالثاً كاشفاً للمعاني الخفية غير الواعية. في التقليد الإسلامي مقاربتان متعارضتان حول مفهوم السياسة، التي هي من جهة تطبيق قيم الفضيلة والعدل في الواقع الاجتماعي، وهي من جهة أخرى تكريس للقوة والتسلط والقهر في المجال المدني.

لقد عرّف الغزالي السياسة بالمعنى الأول بقوله «إنها استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق الصحيح في الدنيا والآخرة»، فالأساس فيها هو الخير والعدل، أو «صناعة الخير العام» بلغة ابن خلدون. لكن الغزالي هو أيضاً مَن يقول إن مدار الإمامة هو «الشوكة، وإنما تقوى الشوكة بالمظاهرة والمناصرة والكثرة في الأتباع والأشياع وتناصر أهل الاتفاق والاجتماع».

وبالنسبة لعلماء الإسلام وفلاسفته في العصور الوسطى فالمثال الأخلاقي للسياسة هو الحقيقة والخير، إلا أن هذا المثال يظل طوبوئياً متعارضاً مع الواقع الفعلي الذي يتطلب تزييف الحقائق لضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي، بما نلمسه في كتابات الأدباء والكتاب في التراث العربي الإسلامي القديم

لقد عالجت الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة ارندت هذه التمييزات في مقال شهير حول «الكذب والعنف»، بينت فيه الفرقَ النوعي بين الحقائق الموضوعية التي تتعلق بالظواهر الطبيعية والآراء والمعتقدات الجماعية التي لا تخضع لمنطق التحقق التجريبي، ومن ثم لا بد من منحها حق التنوع والتعدد الحر انسجاماً مع المنظور الليبرالي الحديث للسياسة.

الفرق هنا واضح بين التصور التكيفي الإجرائي للسياسة الذي يشرع نمطاً من التلاعب بالحقيقة وتزييفها والتصور التأويلي الذي يرفض إمكانية بناء قول يقيني أحادي في السياسة. الشعبويات الحالية تتميز بكونها تتجاوز خط الفصل الابستمولوجي والقيمي بين الصواب والخطأ، مفترضةً أن الحقيقة متوقفة على معيارية التلقي لا مضمون الخطاب نفسه، فما يصدقه الناخب هو الحقيقة ذاتها بمعزل عن تطابق الخطاب مع الواقع.

ولهذه الظاهرة علاقة بديهية بتحولين كبيرين هما: نهاية احتكار المعلومة العمومية نتيجة لوسائل الاتصال الجماعي الجديدة ونضوب الأنساق الأيديولوجية السابقة. وحاصل الأمر أن السياسة، وإن كانت لا تقوم على الحقائق الوثوقية المطلقة، كما أن المعيار فيها هو المصلحة والنجاعة العملية وليس المحددات النظرية المجردة، إلا أنها لا تقوم دون مرجعية الحقيقة التي تتجسد موضوعياً في تعددية الآراء والأفكار والتصورات بغض النظر عن تقويمها المعياري.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 14 يوليو 2025 00:26

إن هذا التعبير الذي جعلناه عنواناً لهذه المقالة هو في أصله تعبير لابن رشد، ذَكَرهُ في كُتيبه «مختصر المستصفى» لأبي حامد. وابن رشد المهموم بالسّنن، والحريص على تماسك المجتمع تلفاه حذراً من كل قول يبث الفرقة، ويؤجج النّزاع، ويبلبل الفكر، ويشوش على النّاس فكرهم ودينهم، وبخاصة ما يسميه بـ«الشريعة الأولى»، أي الشريعة كما تُفصح عنها ظواهر القرآن الكريم والحديث النبوي، كما يفهمها جميع المخاطبين على اختلاف مراتبهم في التصديق. ومن هنا نقده لتأويلات علماء الكلام في الشريعة التي اتسمت بالتخبط في إخراج الخطاب القرآني عن مقاصده العقدية. وعملاً منه على تصحيح ما أحدثه هؤلاء في الشريعة من تمزق، كتب كتابه الهام «مناهج الأدلة».

لكن ابن رشد في «مختصر المستصفى» أكثر التحذير ممّن أسماهم بـ«عوام الفقهاء»، هذه الفئة المنتسبة للفقه بحفظ الفروع والقياس عليها، والذّاهلة عن التغيرات المذهلة التي طرأت على مجتمعاتها، وهي التغيرات التي تقتضي نظراً فقهياً جديداً متمرساً بالاجتهاد، لكن هؤلاء العوام يقولون فيها أقوالاً مجلوبة من عصور مضت، أقوالاً مكرورة في القديم لوقائع مضت وانتهت، أقوالاً إن كانت صالحة لزمان مضى فهي عن الزمان المعيش أبعد وأنأى. ومن هنا حرص ابن رشد على بيان أن هذه الفئة من الفقهاء ليس لها محل معتبر في المدينة الإسلامية لأنها ترهن الحاضر بالماضي، فتضيق على الناس ديناً أصبح الواقع شريكاً في الحكم على قضاياه، كما فصّل في ذلك فيلسوف المعقول والمنقول الشيخ العلامة ابن بية حفظه الله. إن إشراك الواقع في الحكم أمر يذهل عنه عوامُ فقهاء زماننا لفقدهم بوصلة الاجتهاد التي تقتضي تكويناً عميقاً يؤهل لنظر يتردد بين أصول الشريعة وبين الواقع الذي تفك مغاليقه العلوم الإنسانية. وقد شبّه ابن رشد هؤلاء العوام بصانعي الخِفاف الذين عِوض أن يصنعوا لكل قدم خُفًّا مناسباً له، يصنعون، خفافاً كثيرة ويراكمونها في دكاكينهم، وكلما جاءهم طالبٌ خُفٍّ أخرجوا له خُفاً مما صنعوه من قبل دون مراعاة المقاس، وكأن الأقدام كلها على مقاس واحد. وهو مثال استعاره ابن رشد من كتاب السفسطة لأرسطو.

إن الإصلاح الديني المعاصر يقتضي خلق فضاء فكري سليم من التشويش والبلبلة، وقد كان اقتراح ابن رشد ليس فقط «إلجام العوام عن علم الكلام» تأسياً بالغزالي، بل إلجام علماء الكلام أنفسهم عن علم الكلام، مع دعوة إلى إقصاء «عوام الفقهاء» من المدينة الإسلامية. ولله در أبي حامد الغزالي الذي أفرد كتاب العلم، من «إحياء علوم الدين»، لسبر أغوار نفوس هؤلاء العوام، قبل أن ينادي ابن رشد بضرورة تطهير المدينة الإسلامية من آفاتهم العلمية والخلقية.

قد يثير البعض شكوكاً على هذا الموقف فيقول: إن فيما تقوله دعوة إلى إيقاف الحركية الفكرية داخل المجتمع بما هي حركية تتغذى من التّناقضات والمتضادات الفكرية؟ ونسارع فنقول: من بديهيات القول إننا نعاني في حركيتنا الثقافية المعاصرة من وضع يغيب فيه التعامل غير النقدي مع تراثنا وماضينا، وهو ما يجعلنا نستدعي إشكالات الماضي لحاضر لم يعد له من نسب كبير إليها، وأن المطلوب اليوم هو سعي حثيث إلى إقامة علاقة تأويلية جديدة مع القديم، قراءة تتغذى من مكتسبات المناهج الحديثة والعلوم الإنسانية من أجل قراءة تراثنا قراءة تجد في التّجاوز طموحاً إلى تأسيس ذات عربية، بشخصيتها القاعدية، فاعلة في الحقل الفكري المحلي والعالمي، ومستشرفة آفاق الكونية التي كنّا دوماً جزءاً منها قبل أن تنحسر أدوارنا في التاريخ.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 10 يوليو 2025 22:30

 

كثيراً ما يُحتفى بالنصوص، وتُحفظ المتون، وتُستعرض الفتاوى، ثم يُسدل الستار على العقل وكأنّه أدى مهمتَه وانصرف. غير أن التدبر الصادق يُلزمنا أن نتوقف مليّاً: هل يمكن لنصٍ أن يؤدي وظيفتَه إذا قُدِّم له عقلٌ لا يسأل، ولا يتأمل، ولا يزن، بل يكتفي بتكرار ما قيل، ولو تغيّر ما كان يُقال فيه؟

وهل يَثبت الدين في الوجدان والفكر، إذا غاب الوعي الذي يمنحه المعنى، ويُجدّد صلتَه بالواقع والإنسان؟ العقل في المنظور الإسلامي ليس جهازاً حياديّاً، بل هو آلة الفهم، ومناط الخطاب، وشريك أصيل في بناء المعرفة. وليس صدفةً أن يُخاطِب القرآنُ الإنسانَ بنداءات متكررة: «أفلا تعقلون»، «أفلا تتفكرون»، «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون».. إلخ. فالدعوة إلى النظر والتعقل ليست مزيّةً إضافيةً، بل ضرورة تكوينيةً في فهم الدين، وفي إنزاله على الوقائع، وفي تحريره من الجمود والتكرار.

وليس في تاريخ الإسلام شاهد أبلغ من المدارس العلمية الكبرى التي لم تفصل بين النص والعقل، بل جعلت مِن العقل أداةَ تفكيك، ومن النص مادةَ بناء، ومن الواقع ميداناً للتنزيل. لقد كان الغزالي، والجويني، وابن رشد، وابن عاشور، وغيرهم، يمارسون التفكيرَ في النص، لا حوله فقط، ويُحاورون الوحيَ بالعقل، لا ضده، ويعتبرون أن فقه الشريعة لا يستقيم دون نظرٍ في المآلات، وفهمٍ للمقاصد، وإدراكٍ لسياقات الإنسان والمجتمع.

لكنّ ما نلاحظه اليوم هو تنامي ظاهرة تقديم الشكل على المعنى، والحرف على المقصد، والجزئي على الكلّي، وكأن التفكير أصبح عبئاً لا فضيلةً، نقيصةً لا فريضةً! فنرى من يحتدّ في مسائل جزئية –كمسألة في هيئة اللباس أو سُنّة ظاهرية– ويغفل عن قضايا العدالة، وكرامة الإنسان، واستقامة المعاملات، وتحصين الأمة من الانهيار القيمي والمعرفي. وقد يتحوّل هذا الميل إلى الجدل الظاهري عن غير وعي، أي إلى عائق أمام نهضة حقيقية تُنير العقولَ وتفتح أفقاً للاجتهاد الخلاق.

الخلل هنا ليس في النصوص، وإنما في غياب التفكير المؤسّس الذي يُعيد ترتيب القضايا، ويحرّر العقلَ المسلمَ مِن التبعية لنمط تدين مشروط بظاهر التقليد لا بروح المقصد. وهذا لا يعني الاستهانةَ بالظاهر، ولكن رفض تحويله إلى معيار جامع مانع يُفصل به بين الإيمان والنفاق، بين الصلاح والفساد.. في مشهد يهيمن عليه التصنيفُ بدل الفهم، والتكفيرُ بدل التقدير.

إن التحدي الحقيقي ليس في كثرة المسائل، ولكن في ندرة المفكرين القادرين على إعادة بناء العلاقة بين النص والعقل. وما لم نستأنف هذا المشروعَ، فسنظل نستهلك الفقه ولا نجتهد فيه، نردّد الأقوال ولا نحرّر مقاصدها، نحفظ النصوص دون أن نسائلها بمنطق الزمان ومتغيراته.

التفكير ليس خصيصة الفلاسفة ولا النخب فقط، بل مطلباً شرعياً، ومقتضى إيمانياً، وعلامة حياة. وكما قال الحسن البصري: «ما زال أهل العلم يَفكرون حتى نطقوا»، والساكت عن التفكير، هو في أحد الوجوه ساكت عن واجب شرعي، وفاعلٌ في ترسيخ التقليد الذي لا ينتج وعياً ولا يُثمر تغييراً. لهذا، فالدعوة اليوم ليست إلى استيراد أفكار جاهزة، ولا إلى تكرار مصطلحات مقطوعة عن واقعها، بل إلى إعادة بناء الفكر من أساسه: عقلٌ يعقل، ونصٌ يُنار به، وواقعٌ يُراعَى في تنزيل الأحكام.

تلك هي أركان النهضة التي لا تقوم على الحفظ وحده، ولا على الانفعال وحده، بل على النظر الموزون، والاجتهاد المقاصدي، والتجديد المنضبط. وبدون ذلك ليس بعيداً أن يتحول الدين إلى صوت باهت في عالم متغير، إن لم نحسن التفكيرَ فيه، لا للدفاع عنه، بل لإظهاره في صورته الجامعة بين الحق والرحمة، بين النص والتاريخ، بين الله والإنسان.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 9 يوليو 2025 23:38

تشير أحداث صعود عشيرة قصيّ بن كلاب، في قبيلة قريش وسيطرتها على مكة، إلى عناصر للصراع الإسلامي اللاحق كانت حاضرة قبل ولادة النبي بزمن بعيد نسبيا (قصيّ هو الجدّ الرابع للرسول)، فهل تصلح العودة التاريخية إلى تلك الجذور في فهم تعقيدات التاريخ العربي الإسلامي، وهل الأمر كذلك فعلا، أي أنه صراع بين فروع عائلة واحدة على النبوة والملك؟

أسست التجارة لتسامح دينيّ في مكة كان أحد عوامل نجاحها. وفّرت قريش الأسواق واحتضنت تماثيل وأصنام القبائل المختلفة، ورعت احتفالاتها، ولكنها أيضا فرضت الضرائب والعشور عليها مقابل (أمن السكان والقادمين والقوافل (الإيلاف)، وساهم ذلك بنشوء عناصر استقرار، وظهور مؤسسة سياسية (دار الندوة) عملت على إدارة الدولة الصغيرة، وعلى التشاور حول الحرب والسلم.

كانت لقصي بن كلاب، كما يقول ابن كثير، «جميع الرئاسة، من حجابة البيت وسدانته، واللواء (أي الجيش)»، فتجمع لديه المال، والوظائف الرئيسية والدينية والتشريعية. بتسليمه سلطاته إلى ولده البكر عبد الدار قبل وفاته، أسس قصيّ لخلاف بين أولاده، الذين بدأوا يتحالفون مع قبائل أخرى فاجتمع بنو عبد مناف (هاشم وعبد شمس وعبد المطلب)، في «حلف المطيبين»، واجتمع بنو عبد الدار في «حلف الأحلاف»، وانتهى النزاع حينها، بالاصطلاح على تسليم السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف، والحجابة واللواء لبني عبد الدار، و«دار الندوة» بينهم بالاشتراك.

هاشم ثم معاوية في الشام!

ارتفع نفوذ أبناء عبد مناف، وصاروا سفراء قريش في أقاليم التجارة. سافر هاشم إلى الشام (دفن لاحقا في غزة التي صار أحد ألقابها غزة هاشم)، واستقرت ألوية الشرف في يده دون بقية إخوته. يبدأ هنا النزاع بين الهاشميين والأمويين من نقطة صغيرة تمثلها منازعة أمية بن عبد شمس عمّه هاشم على السيادة، كما يمكن عدّ الحادثة مبتدأ للصراع اللاحق بين الأمويين والعباسيين (وضع الرسول ألوية الشرف من سقاية ورفادة في يد العباس بن عبد المطلب بن هاشم). قام كاهن من خزاعة بالتحكيم بين هاشم وابن أخيه أمية فقرر نفي الأخير عشر سنوات إلى الشام (وهو ما يذكّر، ربما، بحادثة التحكيم اللاحقة المعكوسة النتائج بين علي ومعاوية) وجمع فيها رصيدا من إقامته ومصاهرته لأهلها، سيقوم البيت الأموي باستثماره خير استثمار مع تولّي معاوية حكم بلاد الشام لاحقا. سيمثّل هذا الحدث أيضا تكرّس السيادة الأيديولوجية للهاشميين، وترؤس الأمويين للتجارة، وهي معادلة ستكون مؤثرة إثر إعلان النبيّ محمد للدعوة.

هناك في تاريخ هاشم وابنه عبد المطلب أمر آخر سنرى شبيها له في سيرة الرسول لاحقا وهو قضية التحالف مع يثرب، فبعد توثيق هاشم علاقته بيثرب عبر زواجه بامرأة من «رجال الحرب والدم والحلقة» من بني النجار الخزرج، وتركه ولده عبد المطلب يتربى هناك ثم يتزوج هو الآخر من امرأة يثربية، وسيكون لهذا التحالف أثره في استعانته بثمانين مسلحا من أخواله هؤلاء من رجال الحرب اليثربيين في نزاعه مع عمّه نوفل غير الشقيق مما ساعد في استعادته الرئاسة.

الفتنة الكبرى وتشكّل الأحزاب والمذاهب

بعد وفاة الرسول، وخلال فترة الخليفة عثمان بن عفّان (وهو من البيت الأموي)، اشتعل الصراع مجددا بين الأمويين والهاشميين، مع ما سمّي في الأدبيات الإسلامية بـ«الفتنة الكبرى» التي أسهمت في نشوء الأحزاب، وبالتالي المذاهب الإسلامية، بدءا ممن سموا شيعة عليّ، ثم من رفضوا نتائج حادثة التحكيم بين علي ومعاوية، الذين نشأ بين صفوفهم المذهب الأباضي، وبعدها نشأت، خلال العصر الأموي، مع الإمام أبي حنيفة، أول مذهب فقهي سنّي. فجّر موت معاوية وتولية ابنه يزيد الصراع مع الحسين بن علي، وأعطى مصرع الأخير، في القرن السابع الميلادي، في حادثة مأساوية فاصلة في تاريخ الإسلام، دفعة هائلة لتجدد الصراع.

بانتصار العباسيين، الذين رفعوا راية العلويين، بدأت مذابح كبرى للأمويين فقتل قرابة 300 منهم في معركة الزاب، ثم أباح العباسيون مدينة دمشق فأبيد الأمويون فيها، وتوبعوا في مذابح أخرى في فلسطين ومصر، وبعدها نبشت قبور قادتهم الكبار فضربت جثثهم بالسياط وأحرقت. تفرّعت عن الحزبين الكبيرين للسنّة والشيعة أحزاب وظهرت لديها مذاهب ومدارس فقهية وفكرية، وصل اختلاف بعضها أحيانا إلى مناقضة ركائزها الأساسية الأولى، كما يمكن القول عن طائفة الأحمدية، أو الطائفة البهائية، أو جماعة «أمة الإسلام» و»الفرقان» في أمريكا، وكذلك حال طوائف العلويين والموحدين الدروز والإسماعيليين.

يصعب، عموما، على أتباع هذه الطوائف، ضمن هذا التوسّع الجغرافي ـ الفكري الهائل، تخيّل ارتباط هذه العقائد، بعناصر من حقب سابقة على الإسلام، أو تخيّل أن ما جرى هو صراع بين فرعين من عائلة واحدة تحوّل إلى خلاف ميثولوجي وجوديّ لا ينتهي حتى يوم القيامة.

يصحّ التعامل مع حدث عاشوراء، كمثال على التناقضات العميقة التي ضربت رؤية الإسلام والمسلمين لأنفسهم، وعلى الوعي الشقيّ الذي عذّب الأمة، ودفع جزءا منها، لدى بعض مذاهب الشيعة، لتقديس حادثة عاشوراء وجعلها أقنوما للهوية والمعنى. تصلح الحادثة نفسها لدراسة سير مؤسسي المذهب السنّي وأتباعه، الممزقة بين التوق المستمر إلى المقدّس (الذي يمثّله، على مستوى النسب، ارتباط الهاشميين بالرسول؛ وعلى مستوى الأيديولوجيا، فكرة العقيدة القويمة) والحاجة البشرية إلى التعاطي مع شروط الواقع (وحتى شروط النسب فالأمويون هم أبناء عمومة للرسول). تشارك الأمويون مع الهاشميين أحياز التجارة، والقيادة قبل الإسلام، وبعد حقبة كان أهم رؤوسهم الأشد معاداة للرسول، تغيّر الوضع قبيل فتح مكة مع اتفاق النبي مع أبي سفيان، الذي صار من دخل بيته آمنا، ثم دخولهم في الدعوة وقيادة الجيش والولاية، وحتى وصولهم إلى «الحكم العضوض» ودورهم في الفتوحات الإسلامية البرية والبحرية، وتأسيس الإمبراطورية الإسلامية.

استئصال الأمويين وتسنّن الهاشميين!

قام العباسيون (نسبة إلى العباس بن عبد المطلب عمّ الرسول وشقيق أبي طالب والد عليّ) برفع راية الهاشميين، واستأصلوا شأفة الأمويين ومع التزامهم على مستوى الشريعة والفقه، بالمذاهب السنية، فقد ثبّت العباسيون مذهب «أهل السنة والجماعة»، كعقد للمصالحات بين الأيديولوجيا والقبيلة والشريعة.

يلحظ سيد القمني، في كتابه «الحزب الهاشمي»، في حدث وصول عبد المطلب بن هاشم للرئاسة بدايات منطقية لتطلع العرب إلى نبوة محمد وابتداء دين جديد، فهو حسب المرويات التاريخية، من حفر بئر زمزم، ووضع أسس رفض الأصنام والتطلّع لإله واحد وتبرأ من أرجاس الجاهلية، ودعا الى الحنيفية، دين جده إبراهيم، التي تحولت إلى «تيار قوي قبل الإسلام»، وكان عبد المطلب أهم رجالاتها وأساتذتها، وكان من علاماتها الفارقة، حسب جواد علي، الاختتان، وحج مكة، والاغتسال من الجنابة، واعتزال الأوثان، والإيمان بإله واحد، وأن كل ما في الكون محتوم مكتوب.

السؤال الذي سنحاول أن نجيب عليه في مقال لاحق، هو هل يصلح هذا الصراع القديم الذي اشتبكت فيه قضايا القبيلة والعقيدة والسلطان، لتفسير ما حصل لاحقا، أو للمساهمة في قراءة تاريخنا الحالي، أم أنه سيضيف عنصرا ميتافيزيقيا على تاريخ خضعت فيه المجتمعات والأيديولوجيات لتغيرات تاريخية هائلة، توسّعت خلالها الصدوع، وتعددت الأدوار، وتراكبت العناصر القديمة مع عناصر أقدم منها حتى، لتشتبك مع العناصر المستجدة، وتتقلب الأحزاب والجهات المتصارعة في مواقع المظلوميات والمعاني والاتجاهات؟

***

حسام الدين محمد

عن صحيفة القدس العربي اللندنية، يوم 10/7/2025

 

لم يكن ملحداً أبداً وإنما كان مؤمناً عميق الإيمان بالله

عبقرية الأمم، كل الأمم، تتجسَّد عادة في كبار الأدباء والشعراء والفلاسفة. ولهذا السبب نقول إن ديكارت هو فرنسا، وشكسبير هو إنجلترا، وسيرفانتس هو إسبانيا، ودانتي هو إيطاليا، والمتنبي هو الأمة العربية... إلخ. هذا لا يعني أنه لا يوجد عباقرة آخرون غيرهم. أبداً لا. ولكن نقول هذا على سبيل المثال لا الحصر. وفيما يخص ديكارت، فهو بالفعل أشهر فيلسوف في تاريخ فرنسا. ولا يستطيع أحد أن ينافسه على قمة الشهرة والمجد. فمن هو هذا الشخص الذي وصلت شهرته إلى شتى أصقاع الأرض؟ ما من جامعة في العالم إلا وتدرِّس الفلسفة الديكارتية؛ فمن هو هذا «البطل المقدام للفكر»، كما وصفه هيغل يوماً ما؟

قد يستغرب القارئ إذا ما قلنا له إن ديكارت كان مهدداً في حياته باستمرار. ولهذا السبب نصحه أصدقاؤه بعد أن توسموا فيه أمارات العبقرية بأن يغادر فرنسا فوراً. قالوا له بما معناه: أنت وحدك القادر على كشف الحقيقة والمنهج المؤدي إلى تنويرنا وخلاصنا. وبالتالي فأنت لم تعد ملك نفسك وإنما ملك فرنسا كلها بل والبشرية جمعاء. ونحن لسنا سعداء لأن تغادرنا وتتركنا. ولا نطلب منك ذلك عن طيبة خاطر. ولكن إذا ما بقيت في البلاد فسوف تكون رأسك في الدائرة الحمراء للخطر. وعندئذ قد يطيحون بك قبل أن تكتشف الحقيقة وتضع مؤلفاتك الكبرى. وهذه خسارة لا تعوض.

لماذا قالوا له هذا الكلام؟ لأن فرنسا وقتها كانت أصولية ظلامية متعصبة، كبعض عالمنا العربي والإسلامي. كانت كاثوليكية بأبوية في أغلبيتها الكبرى. وكانت تسحق المذاهب الأخرى وتكفرها ولا تدعها تتنفس، مجرد تنفس. كانت الحرية الفكرية معدومة فيها، على عكس إنجلترا وسويسرا وهولندا. ولكن هذه بلدان بروتستانتية تمثل أقلية داخل البحر العرمرم للمسيحية الكاثوليكية البابوية. وبما أن الحق دوماً مع الأكثرية، حتى ولو كانت على خطأ، فإن من مصلحة ديكارت الكاثوليكي أن يعيش عند البروتستانتيين الزنادقة الأكثر عقلانية وتسامحاً في فهم الدين المسيحي. نقول ذلك على الرغم من أنهم كانوا مكفرين من قبل الأغلبية الكاثوليكية التي تستبيح دمهم وتتقرب إلى الله تعالى بذبحهم. على هذا النحو كانت الأمور في ذلك الزمان. لشدّما تغيرت أوروبا. كيف كانت في العصور الخوالي وكيف أصبحت؟!

ينبغي العلم أن ديكارت كان يعيش في عهد الكاردينال الشهير ريشيليو والملك لويس الثالث عشر. وقد اضطر الكاردينال العتيد إلى التعاون مع الأصوليين المسيحيين الذين كانوا يسيطرون على عامة الشعب آنذاك. ينبغي العلم أن الشعب البسيط الجاهل دائماً مع الأصوليين ورجال الدين «بتوع ربنا». انظروا ما يحصل عندنا أو في إيران وتركيا والعالم الإسلامي كله على سبيل المثال... ولكن ديكارت كان يعيش في القرن السابع عشر، ونحن نعيش في عز القرن الحادي والعشرين، أي بعد 400 سنة من ديكارت. ومع ذلك، فلا نزال غارقين في الظلامية الدينية ذاتها. ولا نزال مرعوبين من الأصوليين مثله، وربما أكثر منه...

كان الأصوليون المسيحيون آنذاك يمثلون غلاة المذهب الكاثوليكي، ويضمهم تنظيم خطير يدعى «رابطة القربان المقدس». وكان هذا التنظيم مرتبطاً بالمخابرات العامة، وتكمن مهمته في ملاحقة من يعتبرونهم أعداء الدين أو المنحرفين عن الصراط المستقيم. كانت مهمته تكمن في ملاحقة من يدعونهم «أعداء الله»، أي كل العلماء والمثقفين المتنورين الذين يريدون أن يفكروا خارج إطار الأصولية المسيحية الساحقة، أو الامتثالية الاجتماعية الخانقة.

لم يكن ديكارت ملحداً أبداً، وإنما كان مؤمناً عميق الإيمان بالله. ولكنه كان متحللاً أو متحرراً من أداء الطقوس والشعائر المسيحية. لا يستطيع أن يمضي سحابة يومه في حضور القُداسات والصلوات والعبادات. يُضاف إلى ذلك أنه كان مهووساً بالبحث عن الحقيقة كأي شخص عبقري، هذا في حين أن الحقيقة موجودة، جاهزة، بالنسبة للأصوليين، ولا داعي للبحث عنها. إنها موجودة في الكتب التراثية القديمة، أي الكتب الصفراء التي علاها الغبار، والتي كانت تشكل القاعدة الإيديولوجية والغذاء الروحي للشعب المسيحي وللمجتمع ككل. كان الكهنة يقولون: يا أيها الفيلسوف المتغطرس؛ لماذا تبحث عن الحقيقة والحقيقة موجودة في كتبنا الدينية المقدسة؟ ومن أنت يا سيد ديكارت حتى تتطاول على القدرة الإلهية؟ على هذا النحو كان الأصوليون يرعبون الفلاسفة والعلماء في ذلك الزمان.

يضاف إلى ذلك أن الكاثوليكيين كانوا يعتبرون أنفسهم بمثابة المذهب الوحيد الصحيح في المسيحية. ولذلك كانوا يكفرون الآخرين كالبروتستانتيين وسواهم ويعتبرونهم هراطقة أو زنادقة. وكانت «رابطة القربان المقدس» الكاثوليكية تشكل أخطر جهاز مخابراتي شديد السرية. كانت منبثّة أو متغلغلة في جميع فئات الشعب، ولكن غير مرئية. وكان هدفها الوشاية بأي شخص تبدر عنه أي رغبة في التحرر، حتى ولو كان تحرراً محدوداً جداً. وكان فقهاء السوربون، أو علماء اللاهوت المسيحي، يراقبون جميع الكتب التي تصدر ويحذفون منها كل ما يعتقدون أنه مخالف للدين.

والأنكى من ذلك أن عملاء ريشيليو كانوا يشكلون «مخابرات على المخابرات». فقد كانوا يتجسسون على جميع الناس بمن فيهم البوليس ورابطة القربان المقدس ذاتها! فكيف يمكن لديكارت أن يعيش في مثل هذا الجو الخانق؟ كيف يمكن له أن يكتب، أو يتنفس، أو يبدع الفلسفة الجديدة التي أخذت تختلج في أعماقه؟ لهذا السبب غادر بلاده الكاثوليكية إلى هولندا البروتستانتية حيث عاش معظم عمره ونشر كل كتبه. في الواقع، فإنه غادرها تحت جنح الظلام، بعد أن سمع بأن الكاردينال ريشيليو يخطط لاغتياله عن طريق أحد رجالات القربان المقدس... ولم يعرف أحد وجهته للوهلة الأولى، ولم يعط عنوانه فيما بعد إلا لبعض أصدقائه الخلَّص بعد أن أمرهم بالحفاظ على الكتمان والسرية المطلقة. وكانوا حريصين عليه أكثر من حرصه على نفسه كما ذكرنا، لأنهم كانوا يعرفون بأنه المفكر الوحيد القادر على خلافة الإنجليزي فرانسيس بيكون، واكتشاف الحقيقة المطموسة التي لا تعطي نفسها إلا للعباقرة أو عباقرة العباقرة.

وهكذا، أقسم يميناً بالله أمام أصدقائه الخلص بأنه سيكون حذراً جداً، منذ الآن فصاعداً، وأنه سيحافظ على نفسه وحياته بقدر المستطاع، وسيكرس كل جهوده من أجل كشف الحقيقة العلمية - الفلسفية وخدمة الجنس البشري. ووعدهم بالتوصل إلى المنهج العقلاني والمفتاح الفلسفي الصحيح في أقرب وقت ممكن. وقد توصل إليه وعمره واحد وأربعون عاماً عندما ألف كتابه الشهير «مقال في المنهج». ولكنه نشره من دون توقيع خوفاً من غضب الكنيسة، بعد أن سمع بمحاكمة غاليليو. وهكذا صدر في 8 يونيو (حزيران) 1637 واحد من أعظم النصوص الفلسفية على مدار التاريخ. ثم تلاه نص آخر لا يقل أهمية عنه أن لم يزد هو: «التأملات الميتافيزيقية».

صحيح أنهم وصلوا إلى ديكارت في نهاية المطاف عندما اغتاله الأصولي الكاثوليكي فرنسوا فيوغيه في أقاصي الأرض، في السويد، عن طريق دس السم له غيلة وغدراً في قلب الكنيسة. ولكنه كان قد وضع مؤلفاته الكبرى وحقق كشوفاته العظمى. في الواقع كانوا يخشون من فلسفته العقلانية المستنيرة على مفهومهم الطائفي والتكفيري الظلامي للدين المسيحي. ولهذا السبب اغتالوه ثم اغتالوا فكره عندما وضع «الفاتيكان» مؤلفاته على قائمة الكتب المحرمة. ولكن هيهات... فقد انتشر فكره في كل أنحاء أوروبا انتشار النار في الهشيم.

وفي الختام، دعونا نطرح هذا السؤال: في أي عصر يعيش المثقف العربي حاليا؟ هل يعيش في القرن الحادي والعشرين أم في العصور الوسطى؟ والجواب هو أنه يعيش في عصر الأصولية والأصوليين تماماً مثل ديكارت أيام زمان. نعم، فإنه يعيش في عصر أبو مصعب السوري الذي قال مرة لا فض فوه: «الإرهاب فريضة والاغتيال سنّة». وهو غير ذلك الشخص الشنيع سيئ الذكر أبو مصعب الزرقاوي الذي أدمى العراق يوماً ما، وفرّخ «داعش» في نهاية المطاف. ثم أضاف أبو مصعب السوري قائلاً: اغتيال المثقفين أهم بكثير من اغتيال الرؤساء والزعماء والقادة السياسيين. لماذا؟ لأنهم قادة الفكر في العالم العربي وبالتالي فهم أخطر علينا من القادة السياسيين. إنهم ينافسوننا على قلوب الأجيال الصاعدة وعقولها. إنهم يريدون انتزاع الجماهير الشعبية من أيدينا. وهذا ما لن نسمح به مطلقاً. هذا خط أحمر بالنسبة لنا. ولذلك فاغتيالهم يُعتبر فريضة دينية مطلقة. بهذا المعنى. هكذا نلاحظ أنه ستندلع قريباً معركة فكرية كبرى بين المثقف الأصولي والمثقف التنويري في العالم العربي. وسوف تستخدم فيها كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة. وسوف تكون شديدة الشراسة والضراوة. ولن تنتهي إلا بغالب ومغلوب.

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 6 يوليو 2025 م ـ 11 مُحرَّم 1447 هـ

منذ بداية مشروع الذكاء الاصطناعي، كان الهدف الظاهر هو محاكاة الذكاء البشري، أو على الأقل تقليد بعض مظاهره من استنتاج وتصنيف وتفاعل. لكن ما برز بوضوح مع التقدم العلمي والتقني هو أن شيئاً ما جوهرياً لا يزال مفقوداً. لقد بات بإمكان الكمبيوتر أن يلعب الشطرنج، ويقود السيارات، ويحلّ مسائل رياضية معقدة، بل ويقلد نبرات صوتنا، ويحاكي أساليب كتابتنا... ومع ذلك، فهو لا يفهم.

وهنا يظهر سؤال جوهري: ما الذي ينقص الكمبيوتر لكي يفهم؟ الجواب يكمن في ما يسميه هايدغر «الوجود في العالم».

يرى هايدغر أن الفهم الإنساني ليس فعلاً ذهنياً صرفاً، ولا عملية حسابية قائمة على تمثيلات ذهنية داخلية، بل هو انكشاف للعالم من داخل اندماجنا العملي فيه. نحن لا نلاحظ العالم بوصفنا مراقبين خارجيين، بل نحن دوماً جزء منه، نتحرك فيه، نعيش داخله، ونفهم الكائنات بما لها من صلة بممارساتنا وأهدافنا وماضينا. ولهذا، فإن الفهم لا يمكن فصله عن الخلفية الحية التي ينبثق منها.

هنا تظهر إحدى أعقد مشكلات الذكاء الاصطناعي: مشكلة الإطار (Frame Problem). هذه المشكلة تتعلق بعجز الكمبيوتر عن معرفة ما الذي ينبغي أن يأخذه في الاعتبار، وما الذي يمكنه تجاهله في موقف معين. فعندما يدخل الإنسان إلى غرفة، يعرف فوراً أن عليه ألا يهدم الحائط، وأن الطاولة لا تُؤكل، وأن الباب يُفتح ولا يُكسر. هذه المعرفة ليست نتيجة تفكير، بل هي بديهية ناتجة عن حياة كاملة من الممارسة والانغماس. هذه هي ما يسمى الخلفية. أما الكمبيوتر، فيحتاج إلى تعليم كل احتمال وكل حالة على حدة، ولن يكون قادراً على التنبؤ أو التصرف إلا ضمن ما بُرمج عليه.

هذه الخلفية البديهية هي ما يجعل الإنسان قادراً على رؤية المعنى في الأشياء. فالكائن، أي كائن، لا يظهر لنا في فراغ، بل داخل سياق غني بالعلاقات، والإمكانات، وبما يُتوقَّع منه. نحن لا نرى كرسياً، بل شيئاً للجلوس. ولا نرى باباً، بل مخرجاً ممكناً قد نحتاجه للهرب. وهذه الدلالات لا تُستنتج، بل تُعاش. ولهذا، فإن محاولة برمجة الكمبيوتر ليمتلك كل هذه الشبكة من المعاني تفشل دوماً.

لقد حاول بعض علماء الذكاء الاصطناعي، مثل تيري وينوغر، الالتفاف على هذا الإشكال من خلال تقييد الزمن المتاح للآلة كي تفكر أو تبحث في قاعدة بياناتها، بحيث تستدعي فقط ما يرتبط بما يسمى السياق الجاري. لكن سرعان ما ظهر أن هذا السياق لا يُحدَّد وفقاً لما يمكن التفكير فيه ضمن لحظة زمنية قصيرة، بل يتشكل من مجمل حياة الإنسان، من ماضيه، ومن وجهته التالية؛ أي الامتداد الزمني للوجود.

الإنسان لا يوجد في لحظة معزولة، بل في انسياب دائم من الأوضاع، يسبقها تاريخه وتُنظمها وجهته. إنه يتحرك بفضل الاستعداد الذي بنته سنوات من الممارسة، والذي يحدد له دون تفكير ما هو مناسب، وما هو متاح، وما هو المطلوب. أما الكمبيوتر، فيواجه كل حالة بوصفها جديدة تماماً، ولا يمتلك من ذاته ما يسعفه في فهم ما هو ذو صلة، وما هو ليس كذلك. ولهذا، فإن مشكلة السياق تبقى عائقاً أمام أي ذكاء آلي يدّعي الفهم.

الفهم الحقيقي، كما يبيّنه هايدغر، لا يتم من خلال جمع المعلومات، بل من خلال وجود مسبق في عالم مكشوف، عالم يُمنَح فيه المعنى عبر الممارسة اليومية والاندماج العملي. ولهذا، فإن الفهم ليس تمثيلاً، بل انكشاف. والكمبيوتر، مهما زُوِّد بالمعلومات، يظل عاجزاً عن أن يكون موجوداً في العالم، عاجزاً عن أن يرى العالم كما يُرى من الداخل.

ولعل المفارقة العميقة أن فشل الذكاء الاصطناعي في تجاوز هذه العوائق لم يؤدِّ إلى مراجعة فلسفية شاملة، بل إلى المزيد من المحاولات التقنية، كأن المشكلة في مزيد من التعقيد لا في الخطأ المنهجي. أما الفلاسفة مثل هايدغر، فقد أشاروا منذ وقت مبكر إلى أن أي مقاربة معرفية تفصل الفهم عن الوجود، أو تفترض ذاتاً قائمة بذاتها تمثّل العالم أمامها، هي مقاربة محكومة بالفشل.

من هنا نفهم لماذا لا يستطيع الكمبيوتر أن يفهم حقاً، حتى لو بدا عليه ذلك. إنه لا يملك خلفية حية، لا يمتلك وجوداً في العالم، ولا يحمل همّاً وجودياً يربط الأشياء ببعضها في ضوء ما يُهمّه. ولهذا، فكل ما يفعله هو معالجة رموز، لا الكشف عن معانٍ. إنه يحاكي الفهم، لكنه لا يعيشه. إنه يمثل العالم، لكنه لا يقطنه.

ولهذا، فإن ما ينقص الكمبيوتر ليس الذكاء، بل الوجود. ما ينقصه ليس المعلومات، بل الاندماج. ما ينقصه، ببساطة، هو أن يكون كائناً حيّاً، يعيش، ويهتم، ويتوجّه، ويخاف، ويأمل، ويُخطئ... إن ما يجعل الإنسان قادراً على الفهم ليس قدرته على التفكير فحسب، بل كونه كائناً مهموماً بالعالم، منغمساً فيه، لا يقف خارجه ولا يراقبه من بعيد، بل يعانيه ويعيشه.

إن فشل الذكاء الاصطناعي هنا ليس عيباً تقنياً، بل كشف فلسفي عظيم. لا يمكن اختزال الفهم في التمثيل الذهني المعروف حين تتخيل نفسك ذاتاً تنظر من الخارج إلى موضوع. ولا يمكن تحويل العالم إلى قاعدة بيانات. إننا نفهم لا لأننا نُبرمج، بل لأننا موجودون في عالم لا يكشف نفسه إلا لمن يقطنه ويهتم به.

الذكاء الاصطناعي، مهما تطوّر، سيظل في أزمة فهم ما دام لا يشارك في عالمٍ يُكشف له بوصفه فيه. ما ينقصه ليس المعلومات، بل وجود كوجودنا في هذا العالم. ومن هنا أعود لأكرر أن كل حديث عن الذكاء الاصطناعي هو في حقيقته الحقة، حديث عن الإنسان.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 5 يوليو 2025 م ـ 10 مُحرَّم 1447 هـ

 

تمثّل الرؤية الفلسفية للحدث السياسي جزءاً أصيلاً من تاريخ النظرية بمعناها العميق. وما كانت الفلسفة بعيدةً عن السياسة منذ الإغريق وحتى اليوم. الفلاسفة يزنون الأمور بطريقةٍ تختلف عن اليوميات وعن الصيغ الشعبية. ثمة آثار خالدة للنظرية السياسة تبيّن أن النظرة من زوايا أخرى غير اعتيادية ضرورة لأي حدثٍ كبير.

ولا غرابة فالفلسفة تكمن حيويّتها في إيقاظ السبات، كما يعبّر كانط ممتناً لديفيد هيوم. والفلاسفة يزنون الحدَث بدقةٍ شديدة، وبخاصةٍ مع الأحداث الكثيفة التي مرّت عليهم منذ الحروب الأهلية، وحتى الحروب الدينية وليس انتهاءً بالحربين العالميتين. إنهم لا يتداخلون مع الحدث بوصفهم خبراء سياسيين، وإنما يعثرون على نظرةٍ تصعب على غيرهم.

فلكل حدثٍ كوامنه الاجتماعية والعقائدية والتاريخية، ثم يأتي التسبيب السياسي للحدث بمرحلةٍ تالية. ممن اشتهر بالتدقيق بالحدث السياسي الفيلسوف هيغل، حيث تضمّن نتاجه بعمومه وبخاصة كتابهٍ: «أصول فلسفة الحق» نظرياتٍ سياسية مؤثرة، أثّرت بطريقةٍ أو بأخرى على لاحقيه. وهناك كتاب يلخصّ ذلك للدكتور إمام عبدالفتاح إمام بعنوان: «دراسات في الفلسفة السياسية عند هيجل».

في القسم الثاني من الكتاب يتطرّق المؤلف لكتابات هيغل السياسية المتأخرة، وبخاصةٍ في نضج موقفه من الثورة الفرنسية، التي اندفع معها في البداية، ثم شنّ عليها هجوماً شرساً، لأنها لم تجلب إلا الخراب والدمار، وعلى إثر ذلك شغب عليه بعض مريديه المتحمسين، وما كانوا مدركين أن هيغل نظر إلى الحدث بشكلٍ صارم.

والفلسفة ليست معنيّة بالخبر بقدر ما تعتني بالأثر. الخبر يلقي القصّة على الفيلسوف ثم يبوبها ضمن مجاله النظري، ينسى الجموع الخبر مع التقادم ولكن ما يَخلُد هو النظرة الفلسفية الفاحصة. لنقرأ عن الأحداث الكبرى التي حوّلت البشرية، وكيف قُرئت عند الفلاسفة، وأبرز مثالٍ على ذلك الحربان العالميتان وآثارهما الكارثية. من الضروري سير النظرية الفلسفية للحدَث ضمن مجالاتٍ وزوايا لا تبدو للعيان.

بمعنى آخر، إنتاج نظرياتٍ مقولاتٍ تجتهد نحو درس أثر الحدث على جميع المستويات، ومن بين أولئك المبدعين بهذا المجال صموئيل هنتنغتون في نظرية «صراع الحضارات» أو فرنسيس فوكوياما في «نهاية التاريخ»، والأمر مثله لدى الفرنسي إدغار موران، الذي يتداخل مع الأحداث في الحوارات والنقاشات وورش العمل، ولكن ضمن رؤية فلسفية بعيدة الأمد لا يمكن للتقادم الزمني أن يفقدها حيويتها وراهنيتها.

كذلك الأمر في قراءة حدثٍ كارثي مثل 11 سبتمبر، حيث تهافت الفلاسفة لدرس المآل، الذي يمكن أن يحدث، حيث لم يبقَ فيلسوف عاصر الحدث إلا وكتب عنه كلٌ على طريقته.الخلاصة، أن الحدث من الضروري تلقّفه بتحليلٍ نظري بالتزامن مع التبويب الخبَري، من هنا نكون أكثر قدرةً على درسه وتحليله، والاعتبار منه، ليكون ضمن النظريّة الفلسفية السياسية على المفيدة على المدى البعيد.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة لاتحاد الإماراتية، يوم: 24 يونيو 2025 01:14

رحل عن 96 عاماً مناضلاً ضد العصور المظلمة الحديثة

تعدُّ فلسفة ألسدير ماكنتاير، الذي فارقنا أخيراً في سن الـ96، بمثابة منارة للأمل في زمن يشوبه الارتباك الأخلاقي والتشرذم الاجتماعي. لقد قدم، وهو أحد أبرز فلاسفة الأخلاق في أواخر القرن العشرين، تشخيصاً ثاقباً للحالة الراهنة للأخلاقيات، ورسم في الوقت عينه طريقاً للخروج من «العصور المظلمة الجديدة» التي يرى أنها قد بدأت بالفعل، ليتردد صدى رسالته بقوة لدى أولئك الذين يسعون إلى إيجاد سبيل في خضم ضوضاء الثقافة المعاصرة.

جادل ماكنتاير، في عمله الأساسي الأشهر «بعد الفضيلة»، بأن الأخلاق قد عانت من كارثة مماثلة لما قد تتعرض له المعرفة البشرية في حال حدثت حرب نووية أطاحت بالحضارة، فنحن نؤمن بالحقيقة الأخلاقية الموضوعية والباطل ونستخدم مفاهيم معترف بها تقليدياً مثل «الخير» و«الشر». ومع ذلك، وفي أعقاب عصر التنوير، فقدنا الإطار الكلاسيكي والديني الموروث الذي وفَّر سياقاً لمثل هذه الكلمات. لقد تُركنا بأخلاق العاطفة الشخصية، بلا نقطة مرجعية خارجية، تائهين في بحر من التعددية والفردية بينما نتمسك بقطع من التقاليد المنقطعة عن جذورها.

لقد كانت إجابة ماكنتاير لهذه الفوضى الأخلاقية مختلفة تماماً عن حجج زملائه من نقاد مشروع التنوير، مثل ميشيل فوكو مثلاً. فبدلاً من هدم كل شيء، رفض النظرية المجردة، وأعاد صياغة أرسطو، وتقاليد الفضائل في إطار من التعامل مع البشر ككائنات عقلانية في سياق الممارسات الملموسة والظروف القائمة. وبينما تغرق الفلسفة الأكاديمية الحديثة في حالة يرثى لها، مهووسة بالتفكيك وتنزلق إلى هامش الحياة الثقافية، يواجه عمل ماكنتاير القارئ بخيارات تحدد شكل الحياة اليومية: نيتشه أم أرسطو؟ الفردية الليبرالية والعدمية، أم الخروج من الظلام إلى مجتمع أخلاقي عاقل؟ ولد ماكنتاير في غلاسكو عام 1929 لأبوين يتحدثان الغيلية الأسكوتلنديّة، ودرس الكلاسيكيات في جامعة لندن وحصل على درجة الماجستير من جامعة مانشستر. لم ينل يوماً درجة الدكتوراه، وقد رأى ذات مرة أنه «لن أذهب إلى حد القول بأن لديك عقلاً مشوهاً إذا كان لديك دكتوراه، لكن سيتعين عليك العمل بجهد إضافي مضاعف لتبقى متعلماً».

بعد مناصب مختلفة في مانشستر وليدز وأكسفورد وبرينستون وإسكس، انتقل بشكل دائم إلى الولايات المتحدة للتدريس في جامعة برانديز. تبع ذلك فترات في جامعة بوسطن وجامعة فاندربيلت وجامعة ديوك، قبل أن يستقر في جامعة نوتردام. كان كتابه الأول هو «الماركسية: تفسير- 1953»، وكان آخر كتبه «الأخلاق في صراعات الحداثة - 2016».

بين هذين الكتابين، تضمنت أعماله المهمة «بعد الفضيلة - 1981»، و«عدالة من؟ وأي عقلانية؟ - 1988»، و«حيوانات عقلانية معتمدة – 1999».

اعتمر ماكنتاير قبعات فكرية ودينية مختلفة طوال حياته. في مسيرته المهنية المبكرة، كان ماركسياً وجادل المفكر الماركسي إي بي تومسون، وفي فترات مختلفة أنجليكانياً، وبروتستانتياً، وملحداً. لم تثبت أي من هذه الهويات الفكريّة أنها مُرضية له، فقادته رحلته في نهاية المطاف من الماركسية الثورية وأعماق الفلسفة التحليلية إلى الكنيسة الكاثوليكية، عبر مزيجه الشخصيّ الخاص من أرسطو وتوماس الأكويني، وخلص إلى أن الأخير كان أرسطياً أفضل من أرسطو نفسه.

ومع ذلك، ظل متأثراً بعمق بنقد ماركس للرأسمالية، وكره كلاً من الفردية الليبرالية والمحافظة المعاصرة. لقد رأى المحافظة الحديثة صورة معكوسة لليبرالية الحديثة؛ ففكرتها التأسيسية عن السوق الحرة المطلقة تدمر المجتمع الأخلاقي بطريقة مماثلة للفردية الليبرالية. وكان أيضاً ناقداً للقومية، وقال بسخرية: «إن الموت من أجل الدولة القومية البيروقراطية الحديثة يشبه أن يُطلب منك الموت من أجل شركة الهاتف». وعندما سُئل عن المعتقدات التي احتفظ بها من فترة تمركسه، أجاب ساخراً: «ما زلت أود أن أرى كل شخص غني معلقاً من أقرب عمود إنارة».

لقد أثار تقييمه العميق للفلسفة الأخلاقية التنويرية ومعارضته لليبرالية نقاشاً وجدلاً كبيرين. وهذا ليس مفاجئاً ربما لفيلسوف كان مشروعه، على حد تعبيره، يدور حول «مناهضة النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السائد للحداثة المتقدمة بأقصى قدر من الحكمة والشجاعة والعدل والاعتدال».

لم تجعل نظرة ماكنتاير للعالم منه رجعيّاً ذا حنين إلى العصور الوسطى بكل ما فيها. لقد دافع عن التسامح وحرية التعبير وأشار إلى نقطة مهمة مفادها أن الفلسفات الحديثة المعيبة يمكنها أن تثمر بعض الخيرات الاجتماعية الأخلاقية.

الأرسطية الجديدة التي قدمها تتمحور حول الحياة اليومية. لقد اعتقد أن استعادة الفضائل ستأتي من «الأشخاص العاديين» المشاركين في تكوين العائلات، وتدبير المعيشة، والحفاظ على المدارس، والمشاركة في المجتمع السياسي المحلي. هؤلاء الأشخاص هم من سيعيدون اكتشاف الغائية وتقاليد أرسطو (التي أضيفت إليها المسيحية وغيرها من النظم اللاهوتية ولكن لم تختلط بها) والتي تنتقل بـ«الإنسان كما هو» إلى «الإنسان كما يمكن أن يكون إذا أدرك طبيعته الأساسية».

يعد كثيرون ماكنتاير أحد أهم مصادر الفكر ما بعد الليبرالي الحالي وعلامات الاهتمام المتزايد بالدين التقليدي وسط ارتباك أخلاقي واسع النطاق وثقافة ليبرالية متهتكة، ويمكن العثور على أصداء تأثيره في أعمال النقاد الأميركيين لليبرالية مثل تشارلز تايلور ورود دريهر وباتريك دينين، والفلاسفة واللاهوتيين البريطانيين مثل جون جراي، وجون ميلبانك، ورئيس أساقفة كانتربري السابق، ورون ويليامز، فكما لو أنهم جميعاً يكتبون في ظله.

لا تزال خاتمة كتابه «بعد الفضيلة» صرخة ثاقبة لأولئك الذين يسعون إلى إيجاد سبيل في جرود الثقافة الأخلاقية الحديثة: «ما يهم في هذه المرحلة هو بناء أشكال محلية من المجتمع يمكن من خلالها الحفاظ على المدنية والحياة الفكرية والأخلاقية خلال العصور المظلمة الجديدة التي هي بالفعل هنا. وإذا كانت تقاليد الفضائل قادرة على البقاء على قيد الحياة بعد أهوال العصور المظلمة الماضية، فنحن لسنا منقطعين عن الأمل تماماً».

***

ندى حطيط

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 1 يوليو 2025 م ـ 06 مُحرَّم 1447 هـ

في زمن باتت فيه الحقائق تُنتج أكثر مما تُكتشف، وتُستهلك أكثر مما تُتأمل، يُعيدنا النص القرآني إلى جذر الوعي الإنساني: السير، لا كتنقّل مكاني، بل كرحلة عقلية تُزعزع اليقين الخام، وتستفز الفكر المطمئن إلى مراياه الخاصة. يقول تعالى: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا». ليست هذه دعوة جغرافية، بل ميتافيزيقية، تشق الطريق أمام العقل لينظر لا بما ألف، بل بما لم يعهد، لينقض السكونَ لا ليؤسسه، وليجعل من المسافة بين الذات والعالم فرصةً للاختبار لا للاطمئنان الكاذب.

في قلب هذا النداء الكوني، تكمن إشكالية الإدراك: هل نرى ما هو، أم نرى ما نريد أن نراه؟ سؤال يتداخل فيه المعرفي بالروحي، والسلوكي بالمقدّس. إن أحد أخطر أمراض العقل المعاصر، كما تنبّه إليه علم النفس المعرفي، هو «الانحياز التأكيدي»، حيث يغدو الإنسان سجّاناً لفكره، ينتقي من الواقع ما يُعزز قناعاته، ويستبعد كل ما يُزعزع صورتَه عن نفسه أو عن عالمه. هذا المرض، وإن بدا علمياً في توصيفه، فهو في جوهره «غفلة إيمانية»، لأن الإيمان لا يقوم على الإغلاق، بل على الكشف، على يقظة مستمرة تقاوم الميلَ الغريزي نحو الطمأنينة الذهنية.

وفي هذا السياق، يصبح الحياد – الذي يُشاد به كثيراً– مفهوماً غامضاً يتطلّب تحريراً فلسفياً. فالحياد ليس غياب الرأي، بل قدرة على تعليقه ريثما يُختبر، ليس تسويةً بين المتناقضات، بل شجاعة المقامرة باليقين في سوق الأسئلة. الحياد هو أن تقرأ المخالف لا لتُدينه، بل لتختبر صدقك. هو أن تُصغي للآخر لا لتفكك منطقه، بل لتُعيد بناء منطقك. ولذا فإن العقل القرآني ليس محايداً بمعنى السكون، بل منفتح بمعنى الحركة الدائمة، هو عقل يتعبد بالأسئلة، ولا يكتفي بالإجابات. ومن هنا كانت الأسئلة في القرآن ليست استنكارية فحسب، بل تكوينية: «أَفَلَا تَعْقِلُونَ»، «أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ»، «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ».

الفكر الديني – حين يُفهم بعمقه المقاصدي – لا يخشى الآخر، بل يعتبره ضرورةً للوعي. فاختلاف الآخر ليس شبهة، بل أداةَ امتحان، تضعنا أمام مرآة ذواتنا. وبهذا المعنى، لا يُعد الانفتاح على المختلف خيانةً للهوية، بل ممارسةً عميقةً لها، لأن الهوية لا تُستعاد إلا حين تُختبر. كل تديّن منغلق هو في حقيقته تديّن خائف، يهرب من نفسه بالتحصّن ضد الآخر. أما التدين الواثق، فهو الذي يتحاور، لأن الحوار ليس ضعفاً، بل طمأنينة العقل الذي لا يخشى السؤال.

والرؤية التي يدعو إليها القرآن ليست رؤية حسية فقط، بل رؤية معرفية إيمانية، أي أنها لا تقتصر على ما يُرى بالعين، بل تتسع لما يُدرك بالبصيرة. ولذا لا يكفي أن نسير، بل لا بد أن «ننظر»، ولا يكفي أن نرى، بل يجب أن نتفكر. لأن ما لا يُتأمل يتحول إلى عادة، وما يغيب عنه الوعي يتحول إلى عُرف يزيف الحقيقةَ. والعرف – مهما علا– ليس معياراً للحق، بل غالباً ما يكون مصيدةً للعقل الكسول.

والإيمان نفسه، في القرآن، لا يُمنح لمن سلّم دون وعي، بل لمَن مشى وسأل، تأمل وجادل.. أي خرج من ضيق النفس إلى سَعة الحق. ولذلك ارتبطت البركة بالفعل العقلي والانفتاح: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ». فالبركة لا تأتي مع الجمود، بل مع الحركة، ومع الخروج من بيئة العادة إلى فضاء التأمل. ومن هنا، يُفهم العقل الديني كقوة محركة، لا كأداة تبريرية. هو العقل الذي يقبل بإعادة النظر، لا العقل الذي يحرس التقليد.

وأخيراً، فإن كمال الإنسان لا يتحقق حين يظن أنه وصل، بل حين يدرك أن السير واجب لا ينتهي.. والرؤية الحقيقية لا تتجلى في ثبات المواقف، بل في دينامية الاختبار. وإن أعظم يقين هو الذي لا يخشى أن يُمتحن، وأعظم عقل هو الذي يقف أمام ذاته ناقداً لا مقلداً. هكذا يكون العقل في ضوء الهداية القرآنية: عينٌ ترى ما لم تعتده، وضمير لا يرضى بأقل من الحقيقة، وإن خالفته.. فهل نحن على استعداد لنخلع مرآتنا؟

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 1 يوليو 2025 23:45

 

جوزف ناي مفكر سياسي واستراتيجي أميركي معروف، توفي مؤخراً، بعد عمر حافل في الحياة السياسية والبحثية. آخر ما كتب ناي المقالة المنشورة في العدد الأخير من مجلة «فورين آفيرز» (يوليو - أغسطس 2025)، بمشاركة صديقه روبير كوهان، وهي بعنوان «نهاية القرن الأميركي الطويل». وفي هذا المقال، يطور ناي مقولة «القوة الناعمة» (soft power) التي بلورها سابقاً واشتهر بها على نطاق واسع، من خلال تنزيلها في الواقع السياسي الأميركي الحالي بعد رجوع دونالد ترامب إلى السلطة. في هذا المقال، يكرر ناي وصديقُه نظريةَ الأبعاد الثلاثة للسلطة في سياق دراسة الموازين الاستراتيجية العالمية الحالية. وهذه الأبعاد هي محاور ثلاثة كبرى:

- السلطة الخشنة التي تقوم على القوة والإكراه والتسلح، وتقوم على منطق العقوبة والتهديد والضغط الديبلوماسي.

- السلطة الاقتصادية التي ترتكز على التأثير عن طريق المصالح المالية وسياسة العون الخارجي والتبادل التجاري.

- السلطة الناعمة التي تقوم على الاستقطاب والجاذبية بدل الإكراه والعنف، وتتجسد أساساً في القيم والثقافة والصورة الخارجية والإنتاج الفني والمؤسسات التربوية والعلمية.

تاريخياً، جمعت الإمبراطوريات بين هذه المرتكزات الثلاثة، مع اختلاف واضح في التركيز على عنصر من بينها على حساب العناصر الأخرى. لقد اعتمدت سلطة البابا في العصور الوسطى مثلاً على العامل الديني والروحي، فكان له تأثير قوي على الممالك والدول المسيحية، رغم أنه لا يتمتع بأي سلطة عسكرية. وفي المقابل، اعتمد الاتحاد السوفييتي السابق على القوة والإكراه من أجل الحفاظ على الإمبراطورية الشيوعية، فحرّك الجيوشَ لقمع الانتفاضات والثورات في تشسكلوفاكيا وهنغاريا وأفغانستان، قبل أن تنهار المنظومة الاشتراكية مع نهاية الحرب الباردة. وحدها الإمبراطورية الأميركية جمعت بتوازن وتكامل بين هذه القوى الثلاث: العسكرية ببناء أهم قوة حربية في تاريخ البشرية، والاقتصادية من خلال عملتها المهيمنة عالمياً والمؤسسات المالية الدولية التي تتحكم فيها، والناعمة من خلال نظامها الديمقراطي ومؤسساتها التربوية وإنتاجها السينمائي وبرامجها للعون الخارجي.

 يرى ناي وزميله أن سياسة الرئيس الأميركي ترامب تسعى إلى تقويض هذه القوة الناعمة عبر إضعاف نظام التحالفات الدولية الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية، وتفكيك المنظومة الاقتصادية المالية التي كانت تسيطر عليها الولايات المتحدة، بما من شأنه أن يفتح الباب للقوى المنافِسة، وفي مقدمتها الصين التي تبذل جهوداً واسعة للتمدد عالمياً من خلال حركية التجارة والاستثمار الاقتصادي وتسويق الثقافة الكونفشيوسية.

ويرى ناي أن الاتجاه القومي الانكفائي خطر على استراتيجية القوة الأميركية التي تأسست تاريخياً على الرؤية الليبرالية الكونية وعلى عناصر القوة الناعمة من جاذبية وتحالفات خارجية ونظام مؤسسي دولي.

لا يهمنا كثيراً تقويم ناي، الذي هو أحد رموز الحزب الديمقراطي الأميركي وكان مقرباً من إدارتي كارتر وكلينتون، للسياسة الأميركية الحالية، وإنما أردنا من خلال هذا العرض لأطروحته، تناول جانب محوري من العلاقات الدولية الجديدة، هو المتعلق بالقوة الناعمة.

 ما نريد أن نبينه هنا هو أنما يعتبره ناي تراجعَ القوة الناعمة الأميركية هو في الحقيقة مؤشر على تقلص النفوذ الغربي في العالم الذي أمتد لثلاثة قرون متواصلة.

لقد قام هذا النفوذ في السابق على ثلاث محددات كبرى هي: الإصلاح الديني والثقافي الذي مكّن المجتمعات الأوروبية من النهضة والتنوير عبر النظم الليبرالية والتحرر السياسي والاجتماعي، على عكس الثقافات الأخرى التي لم تتمكن من القيام بهذه المراجعات النقدية الضرورية، والثورة العلمية والتقنية التي قامت على المنظور التجريبي للطبيعة بما له من انعكاسات في المجال الصناعي وما أفضى إليه من تزايد إمكانات السيطرة العسكرية والتجارية على العالم، ثم الصياغة المؤسسية للنظام الدولي التي بلورها فلاسفةُ ومفكرو القرن الثامن عشر في أوروبا وأخذت أشكالاً متتالية من ديبلوماسية النادي الدولي وتقاسم النفوذ بين القوى الغربية الأساسية إلى قيام عصبة الأمم المتحدة وهيئة الأمم المتحدة الوريثة لها.

وغني عن البيان أن هذه المقومات الثلاث خضعت في السنوات الأخيرة لتراجع ملموس، سواء تعلق الأمر بالأفكار الحداثية والتنويرية التي تلاشت في مهدها الأصلي، أو بالثورة العلمية التقنية الجديدة التي لم يعد الغربُ قلبَها أو المحور المتحكم فيها، أو بالمنظومة المؤسسية الدولية التي شهدت في الآونة الأخيرة تحولاتٍ نوعية ليس هنا مجال التعرض لها.

 قبل سنوات، كتب الباحث الفرنسي في الشؤون الدولية برتراند بادي كتاباً بعنوان «لم نعد وحدنا في العالم»، مبيناً أن عصر الهيمنة الغربية على العلاقات الدولية انتهى، وذلك بالضبط هو مضمون تراجع القوة الناعمة الذي ليس خاصاً بالسياق الأميركي الراهن وحده.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

29 يونيو 2025 23:45

روبرت جورج، فيلسوف وقانوني أميركي من التيار المحافظ الذي له تأثير قوي في الإدارة الأميركية الحالية، وقد نشر في الآونة الأخيرة كتاباً هاماً بعنوان «البحث عن الحقيقة وقول الحقيقة» (Seeking truth and speaking truth)، مع عنوان فرعي هو «القانون والأخلاق في لحظتنا الثقافية». وكما يتضح جلياً من العنوان، فالمؤلف يسهم في النقاش الفكري المحتدم راهناً في بلاده حول القيم المدنية في مجتمع تعددي حر، تحكمه النظم الليبرالية، ويعيش توتراً متزايداً حول علاقة الحرية بالخير المشترك.

وقد سبق للمؤلف نفسه أن نشر في عام 1999 كتاباً آخر بعنوان «الدفاع عن القانون الطبيعي»، مقترِحاً فيه العودةَ إلى أفكار الفضيلة والخير الأسمى كما تصورها أرسطو وتوماس الإكويني، من منظور معياري موضوعي يرفض إرجاعَ القيم للذاتية المحضة والاختيار الشخصي الحر. في الكتاب الجديد يعمق روبرت جورج هذه الأطروحة بالرجوع إلى السياق الاجتماعي الراهن في بلاده، والذي يشهد احتدامَ الجدل في ملفات حيوية مثل الكرامة الإنسانية والتمييز الإيجابي والحقوق المدنية ونظام الأسرة والزواج.

منذ البداية، يلاحظ روبرت جورج أن المؤرخين يميزون تمييزاً غير دقيق بين هيمنة الإيمان الديني في العصور الوسطى وتحكيم العقل في عصور التنوير. والواقع أن اللاهوتيين الكبار من المسيحيين واليهود والمسلمين، مثل توماس الإكويني وابن سينا وابن ميمون آمنوا بقوةٍ بانسجامِ الاعتقاد مع العقل، ونظروا بإيجابية للعقل الطبيعي.

أما مفكرو الأنوار فلم يستبدلوا الإيمانَ بالعقل، بل إنهم في غالبهم جمعوا بين الاعتقاد الديني والعقل حتى في المجال اللاهوتي الضيق. وبعد عصر الإيمان وعصر العقل، ها هي المجتمعات المعاصرة تدخل في ما سماه المؤلف حقبةَ «الإحساس» age of feeling، أي بناء الأخلاقيات على محض الشعور الذاتي بمعزل عن الإيمان والعقل.

المشكل الذي يطرحه هذا التصور هو أن هذه النزعة الشعورية الذاتية تحولت في وعي مَن يؤمن بها إلى واقع موضوعي له انطباقاته العملية، التي من أهمها اعتبار هذه الإحساسات حقائق مطلقة دقيقة بما يفضي إلى ما سماه المؤلف حالةً من «الإطلاقية العدوانية» التي تدفع البعض إلى الحد من حرية التعبير، والبعض الآخر إلى ثقافة الإلغاء بما لها من انعكاسات فظيعة على حياة الناس ومساراتهم المهنية. من أجل تجاوز هذه الوضعية، يدعو المؤلف إلى الرجوع للمفهوم التقليدي للحقيقة، خصوصاً في القضايا الأخلاقية والسياسية الكبرى التي تمزق المجتمع حالياً.

والحقيقة تحيل إلى مرجعية موضوعية مستقلة عن مشاعرنا وإحساساتنا، ويتعين البحث عنها بشجاعة وتجرد لحسم الإشكالات المعيارية المحورية المطروحة في الواقع الراهن. إلا أن المؤلف يعترف بضرورة اعتماد ما سماه كانط «الاستخدام العمومي للعقل»، أي البحث عن الحقيقة في إطار جماعي لسد اختلالات الوعي البشري المعرَّض للخطأ والوهم. لا بد من اعتماد أخلاقيات النقاش العام وحرية التفكير والتعبير من أجل المراجعة المستمرة للأفكار والمعتقدات السائدة، وقبول مختلف الآراء وإن كانت شاذة، لأن من طبيعة الجدل البرهاني نفسه أن يقضي عليها ويلغيها.

تلك خلاصة أطروحة روبرت جورج التي تعبر عن اتجاه بارز حالياً في الفلسفة السياسية والأخلاقية الأميركية، يتبنى المفهوم اللاهوتي الوسيط للعقل والحقيقة، من منظور استقلالية الأفكار عن السياقات التأويلية البعدية، لغوياً واجتماعياً وقيمياً. لقد كانت هذه الفكرة، مع ما يرتبط بها من مذهب القانون الطبيعي، أساس الفلسفة الوسيطة (في جانبيها الإسلامي والمسيحي)، إلا أن الحداثة أدخلت بعداً جديداً حاسماً هو بعد الذاتية أي الوعي المفكر والإرادة الحرة.

ومع أن الفلاسفة المحدثين حافظوا على مطلب الحقيقة الموضوعية (سواء من خلال نموذج التحقق الموضوعي أو من خلال نموذج تداخل الذوات)، فإنهم أكدوا الارتباط العضوي بين المفاهيم النظرية والتقويمات الحيوية، بما يعني رفضَ أي انفصال للعقل عن دائرة الفعل الإنساني في أبعادها التاريخية والرمزية والقيمية.

إن الرجوع إلى العقل الوجودي (الذي بلوره أرسطو وابن رشد) بديلا من العقل الذاتي (الديكارتي) خيارٌ عقيم، حتى لو كان من الصحيح أن الخروج من أفق الحقيقة والعقل باسم جمالية الإحساس وحرية الاختيار المعيش انتحار جماعي، لما يؤدي إليه من نزعة نسبية تنسف مقومات الإجماع والتوافق مجتمعياً وكونياً. كان الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو يقول، إن لغز الحقيقة الكبير هو أن كل الناس يؤمنون بها، لكنهم يختلفون في مضمونها الفعلي، لكن من دون شجاعة قول الحق - حتى لو كان معرضاً دوماً للتزييف والتلاعب - لا معنى للحرية ولا الديمقراطية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

22 يونيو 2025 22:25

مؤلفاته الأساسية شكلت خرقاً في تاريخ الفكر العربي

لطالما طُرِح عليّ هذا السؤال: ماذا تبقى من أركون؟ وفي كل مرة كنت أشعر بالضيق والانزعاج الشديد. في كل مرة كنت أشعر بالحاجة لكي أرد فوراً قائلاً: لقد بقي منه كل شيء تقريباً. بقي منه تحقيق المصالحة التاريخية الكبرى بين الإسلام والحداثة. بقي منه تحقيق المصالحة التاريخية الكبرى بين الإسلام والنزعة الإنسانية في زمن الوحشية والهمجية للفصائل المتطرفة التي شوهت سمعة الإسلام عالمياً ونزعت عن الدين الحنيف كل صبغة إنسانية وكل شفقة أو رحمة. بقي منه تحقيق المصالحة التاريخية الكبرى بين الإسلام والأديان الإبراهيمية الأخرى كاليهودية والمسيحية. بقي منه تحقيق المصالحة التاريخية الكبرى بين المذاهب الإسلامية المتصارعة على مدار التاريخ. وكل ذلك حققه على أسس علمية وتاريخية وفلسفية متينة وليس بشكل سطحي على طريقة «تبويس اللحى والذقون». كل هذا بقي من محمد أركون. هل هذا قليل؟ هذا كثير وأكثر من كثير. عندما يطرحون عليك هذا السؤال فإنهم يوحون، صراحة أو ضمناً، بأن فكر أركون قد فُهم وهُضم واستُوعب ولم تعد الثقافة العربية بحاجة إليه. وهذا شيء غير صحيح أبداً. ويا ليته كان صحيحاً. كنا أرحنا واسترحنا. ولذلك أنتهز هذه الفرصة لتوضيح الأمور وتصفية الحسابات. نعم، أجيب فوراً: لقد تبقى منه كل شيء، خصوصاً ذلك التفكيك الناجح والبارع للسياجات اللاهوتية الدوغمائية المغلقة والاعتقادات الطائفية والمذهبية الضيقة. بقي منه تفكيك تلك النواة التكفيرية الصلبة التي تكاد تستعصي على التفكيك من كثرة رسوخها على مدار القرون. هذا ما تبقى من محمد أركون. وهنا تكمن أهميته. هنا تكمن عبقريته. شرح ذلك يتطلب مجلدات. وعلى عكس ما يظن الناس؛ فقد فعل ذلك حباً بالإسلام والمسلمين لا كرهاً لهم، لأنه كان منصهراً فيهم قلباً وقالباً. ولو أنه كان خارجياً عليهم أو معادياً لهم، لو أنه كان مادياً ملحداً مثلاً، لما كانت لأبحاثه كل هذه الضجة والفرقعة والأصداء الكبرى. لقد فعل ما فعله على مدار خمسين سنة متواصلة خدمة للمسلمين وغيرة عليهم وحرصاً على إخراجهم من قوقعتهم وتحجرهم وعصورهم الانحطاطية الطويلة المزمنة.

ثم بقيت مؤلفاته الأساسية التي شكلت خرقاً في تاريخ الفكر العربي وقطيعة مع القرون الوسطى. لقد شكلت فتح الفتوح فيما يخص إضاءة غياهب الأعماق التراثية. انظروا دراساته عن القرآن الكريم. انظروا تحليله الأركيولوجي العميق لسورة «الكهف» مثلاً، حيث استعرض كل عضلاته الفكرية والأكاديمية وأضاءها بشكل غير مسبوق. درس فكري عملاق ولا أروع. انظروا كتابه الضخم الذي أصدرته «دار الساقي» عام 2017، بعنوان: «قراءات في القرآن»... إلخ. هذا غيض من فيض. بعد أركون لن يعود التراث العربي الإسلامي مفهوماً كما كان قبل أركون. لقد قسم التاريخ الإسلامي إلى قسمين: ما قبله وما بعده. كنا ندوخ عندما نسمع دروسه الأسبوعية عن «تاريخ الفكر الإسلامي» في باريس. ثم بعد أن ينتهي الدرس كنا نخرج إلى المقاهي المجاورة للسوربون ونظل نتناقش حولها ساعات وساعات، وأحياناً حتى يتقدم الليل. وكنا نتفق حولها ونختلف ونصرخ وتعلو أصواتنا ونكاد نشتبك بالأيادي:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جَرّاها ويختصمُ

كنا نشعر أننا أمام مفكر عملاق يستعرض تاريخ الفكر الإسلامي كله من أوله إلى آخره في لحظة واحدة ويحرره تحريراً. كنا نشعر بأننا في عرس الفكر، في مهرجان الفكر. ولهذا السبب يبدو مشروع أركون أهم من كل المشاريع الفكرية التي تصدت لدراسة التراث وتجديده على مدار الخمسين سنة الماضية. هناك فرق نوعي بينه وبينها. هو في وادٍ وبقية المفكرين العرب، من أمثال محمد الطالبي وهشام جعيط ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي، في واد آخر. وهؤلاء هم مشاهير الفكر العربي في هذا العصر. ومع ذلك فلم يستطيعوا أن يحلوا لنا المشكل التراثي. ولم يستطيعوا فك الانسداد التاريخي. لم يستطيعوا زحزحة الصخرة التراثية عن موقعها قيد شعرة. وحده أركون استطاع تحقيق ذلك. وهنا يكمن مجده وعظمته. هنا تكمن معجزته الفكرية. ولهذه المسألة سوف أكرس مقالتي هذه كلها.

ينبغي ألا نخطئ في النظر والتقييم؛ فهؤلاء المفكرون العرب مع احترامنا لهم لم يتجرأوا على الخروج من السياج الدوغمائي المغلق للاعتقاد التراثي اللاهوتي القروسطي، هذا على فرض أنهم فكروا في ذلك أصلاً. كان أركون يفرق دائماً بين الفضاء العقلي للقرون الوسطى والفضاء العقلي للعصور الحديثة. كان دائماً يفرق بين سقف القرون الوسطى وسقف الحداثة. ما يسمح به الثاني من حريات فكرية رائعة لا يسمح به الأول على الإطلاق. لماذا خرجت أنا من سوريا إلى باريس؟ ومن جامعة دمشق إلى جامعة السوربون؟ لكي أتنفس الصعداء. كنت أبحث عن حل أو خلاص بعد أن تفاقمت مشكلتي الشخصية والفكرية حتى وصلت بي إلى حافة الهاوية... نحن محكومون حتى الآن بسقف القرون الوسطى لا بسقف الحداثة، خصوصاً فيما يتعلق بالشؤون الدينية الحساسة. كل هذه الأشياء لم تخطر على بال مشاهير الفكر العربي المذكورين آنفاً. وبالتالي فأين هو التحرير الفكري الكبير المنتظَر في الساحة العربية؟ دلوني عليه من فضلكم. وحده أركون فكك هذا السياج اللاهوتي الكهنوتي الراسخ في العقلية الجماعية رسوخ الجبال منذ ألف سنة، وخرج منه كلياً. بل وعلمنا كيف نخرج منه نحن أيضاً. كان يقول لنا دائماً في درسه الأسبوعي الشهير في السوربون: افتحوا النوافذ والأبواب وشموا الهواء الطلق في الخارج. لماذا تنغلقون داخل جدران طوائفكم ومذاهبكم وتحجراتكم؟ انظروا كيف تحررت أوروبا من سجونها اللاهوتية وأقفاصها العقائدية. انظروا كيف تجاوزت انقساماتها المذهبية التكفيرية التي مزقتها إرباً إرباً، ودمرتها سابقاً. هناك مفهوم آخر للدين غير مفهوم القرون الوسطى المؤدي إلى المجازر والمذابح والتفجيرات العشوائية. متى سيفهم العرب ذلك؟ متى سيفهم المسلمون؟ متى سيفهم «الإخوان» والخمينيون الذين ورطونا في صراعات مدمِّرة مع العالم كله؟ وبالتالي فالمشروع الوحيد الذي له معنى في هذا العصر هو «نقد العقل الإسلامي» لا «نقد العقل العربي» على طريقة الجابري أو سواه. أقول ذلك مع احترامي الكامل لمحمد عابد الجابري ولجهوده الفكرية. ولكنه لم يستطع تحرير التراث من التراث، أو من الشحنة التراثية القمعية الرهيبة الموروثة عن العصور الوسطى. ولا أعتقد أنه هو ذاته كان متحرراً منها. أين هو المثقف العربي المتحرر منها أصلاً؟ دلوني عليه لكي أقبِّل يده فوراً وأنحني أمامه. وحده أركون استطاع تحقيق هذه المعجزة الفكرية. وحده أركون استطاع تحقيق هذا الخرق في جدار التاريخ المغلق للفكر العربي. وحده أركون تجرأ على فتح الباب الموصد المسدود المقفول عليه بالرتاج. ولهذا السبب أقول إن كل مشاريع تجديد التراث سقطت أو فشلت وبقي مشروع محمد أركون وحده صامداً في الميدان. مَن منا لا يرى أن المشروع الوحيد الذي له معنى في اللحظة التاريخية التي نعيشها هو نقد العقل الإسلامي: أي نقد العقل اللاهوتي الكهنوتي الموروث عن العصور الوسطى، وليس نقد العقل العربي؟ لا يوجد أصلاً شيء اسمه عقل عربي أو فرنسي أو ألماني أو صيني أو روسي... إلخ. العقل البشري واحد في شتى أنحاء الأرض. ولكنه يمر بمراحل متدرجة على مدار التاريخ حتى ينضج أكثر فأكثر طبقاً لتطور العلوم والفلسفات والظروف. بهذا المعنى فإنه يوجد عقل ديني غيبي غياهبي سيطَرَ على القرون الوسطى الإسلامية كما المسيحية، بل ولا يزال مسيطراً على عالم الإسلام حتى اليوم. وإلا فما معنى هيمنة الموجة الإخوانية - السلفية - الخمينية على العالم العربي والإيراني والتركي؟ أما أوروبا المسيحية، فقد تجاوزت هذه الانغلاقات اللاهوتية التكفيرية، بعد أن كانت غارقة فيها حتى النخاع. ولهذا السبب خلفتنا وراءها بسنوات ضوئية. والدليل على ذلك أننا لا نزال نتخبط في صراعاتنا الطائفية والمذهبية، في حين أنها تجاوزتها كلياً. لقد عزلت ذاتها من ذاتها وتراكماتها قبل أن تستطيع الانطلاق كالصاروخ. لقد انتصرت على ذاتها أولاً. ومَن ينتصر على ذاته ينتصر على العالم كله. ولو لم تتحرر أوروبا من الكابوس التراثي القروسطي التكفيري الرهيب الجاسم على صدرها لما استطاعت أن تنطلق وتحقق كل هذه الحداثة العلمية والفلسفية والتكنولوجية. وبالتالي فالشيء الذي ينبغي نقده وتفكيكه هو هذا العقل اللاهوتي التكفيري المتحجر الذي يتوهم امتلاك الحقيقة الإلهية المطلقة، التي على أساسها يذبح الناس ويفجر العالم. وهو شيء لم يتجرأ عليه محمد عابد الجابري ولا سواه. هذا شيء لا يزال يمثل اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه بالنسبة للفكر العربي كله.

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 22 يونيو 2025 م ـ 26 ذو الحِجّة 1446 هـ

يتمنى الإنسان لو أنه عرف كل شيء من الأزل إلى الأبد، لكنه لا يعرف إلاّ كلمة أو نصف كلمة في موسوعة كبرى.. تمتدّ أجزاؤها بلا نهاية. لطالما كان الإنسان مشغولاً بالغيْب.. غيْب الماضي، وغيْب المستقبل.

وحيث إنّنا لا نعرف من الماضي إلاّ القليل جداً، فإن محاولة معرفة تاريخ العالم، وتاريخ الوجود الإنساني على هذا الكوكب، وتاريخ الكوكب نفسه قبل الوجود الإنساني.. هي محاولة دائمة لسبْر أغوار ذلك المجهول. في عام 1922 صدر في لندن كتاب «ويلز» الشهير «تاريخ موجز للعالم»، وفيه تحدث عن تاريخ الأرض، وتاريخ الحياة، وتاريخ الإنسان.. ليتوقف عند نهاية الحرب العالمية الأولى وتأسيس عصبة الأمم.

وقد جاء الكتاب ممتعاً، وقابلاً للقراءة لا مجرد الاقتناء، حتى إن عالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتاين رشحه للقراءة، لمن يريد فهم تاريخ العالم. بعد الحرب العالمية الثانية سطع فرع جديد في علم التاريخ هو «التاريخ الفكري».. وبعد أن كانت كلمة التاريخ كلمة جامعة من دون تقسيم حادّ أو تمييز واضح بين جانب وآخر، صار لدينا تواريخ لا تاريخ، فهذا هو التاريخ السياسي، وهذا التاريخ العسكري، وهذا الاقتصادي، وهذا الثقافي، وهذا هو التاريخ الاجتماعي، وتاريخ العلوم والفنون. راح المؤرخون العسكريون يدرسون تاريخ الحروب والمعارك، وراح مؤرخو السياسة يدرسون صعود وهبوط الدول، وسطوة أو ضعف النخب السياسية والحكومات والحكام، ثم راح مؤرخو الاقتصاد يدرسون حالة المال ومستوى المعيشة وحجم الفقر والثراء، ودور الاقتصاد في الحرب والسلام، ودوره في بناء المعالم المادية للحضارة. توقف مؤرخو الثقافة عند نمط الحياة من ملبس ومأكل، وعند تجارب الحياة، ووقفَ التاريخ الاجتماعي على دراسة الحياة اليوميّة والناس العادية، فيما بات يسمى دراسة «التاريخ من أسفل».

في عام 2025 صدرت الترجمة العربية لكتاب المؤرخ البريطاني فيليب فرناندز أرميستو، ويعد ذلك الكتاب «الأفكار التي شكلّت العالم» نموذجاً للتأريخ الفكري لعالمنا. تقوم أطروحة الكتاب على أن الفكر هو المبتدأ والتاريخ هو الخبر، أو أن الفكر هو السبب والتاريخ هو النتيجة، فليس العالم إلاّ نتاج تطور وحركة الأفكار، فالفكرة تسبق الحركة، والتاريخ لا يحدث في الواقع ابتداءً، ولكنه يحدث في العقل أولاً.

وقد رأى الكاتب أن يبدأ بدراسة الأفكار منذ بداية الإنسان لا بداية الحضارة، وحيث إن الإنسان - برأيه - موجود قبل (150) ألف سنة، فقد رأى ألا يكتفي بدراسة الخمسة آلاف عام الأخيرة، بل الخمسين ألف عام.. ليرى كيف كانت الأفكار صانعةً للتاريخ. يحظى التاريخ الفكري للعالم ببريق متجدّد، فهو تاريخ يتمدد من تاريخ الأفكار والمفكرين.. ليشمل تاريخ الفلسفة، وتاريخ العقل، والتاريخ الأدبي، وهو ما عبّر عنه الفيلسوف الإنجليزي «كولينجوود» في جملة بليغة..«إن التاريخ كله هو تاريخ الفكر». إذا كان من عظة في خبَر من غبَر.. فإن الإصلاح الفكري هو أهم أشكال الإصلاح وأكثرها جذرية، أو هو الإصلاح الأول الذي يليه كل إصلاح. فكما يبدأ التاريخ في العقل، يبدأ الحق والخير والجمال في العقل، ويبدأ الرخاء والسلام في العقل.

إن عالمنا يعاني حروباً مروعة، وهو مهدد بحروب أكثر ترويعاً، ويتحدث كبار قادة العالم عن احتمالات حرب نووية، أو إمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة. إن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل داخل العقول، ولم يتبق إلاّ أن تنتقل من العقل إلى الميدان، وإذا كان التاريخ يحدث في العقل أولاً، فإن الحرب تحدث في العقل أولاً، ولسوء الحظ أنها حدثت بالفعل.

لا يزال بإمكاننا إنقاذ عالمنا، لا يزال بالإمكان إزاحة الحرب من العقل، ولا يزال بمقدورنا صناعة عالم أفضل. في ظل ثروة علمية لا مثيل لها. سيكون مؤسفاً للغاية أن تكون نقطة الذروة هي نقطة النهاية، وأن تصبح أعلى قمة في جبل الحضارة.. هي الخطوة الأولى نحو الوادي السحيق. العقل هو الحل.

***

أحمد المسلماني - كاتب مصري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 21 يونيو 2025 23:30

لم يكن سيوران إلا شاعراً رأى بالفلسفة ممتطىً لبثّ أحزانه. مهمةٌ سهلة أن تتحدث عن البدء والنهاية، عن الحياة والموت، لكن الأخطر أن تؤسس لنظرية شاملة يمكنها منح البشرية المزيد من الوعي بوجودهم.

في كل كتبه ثمة عبارات نابية، واحتجاج غير ممنهج، وفوقيّة غير مبررة، وتجديف عادي يمكن لأي شاعر عاميّ أن يجاريه. الفيلسوف والكاتب الروماني «إميل سيوران»، ولد يوم 8 أبريل عام 1911 في قرية رازيناري الرومانية، وتوفي في 20 يونيو 1995.

لم يكن «سيوران» جاداً في تناوله الموضوع الفلسفي، ذلك أنه يعد الوجود كله مثيراً للسخرية والشفقة، فهو القائل: «إذا أمكن للإيمان أو السياسة أو الحيوانية النيل من اليأس، لا شيء ينال من الكآبة، لا يمكن أن تتوقف إلا مع آخر قطرة من دمنا».

وفي كتابه: «تاريخ ويوتوبيا» يكتب ضمن فصل: في صنفين من المجتمعات.. رسالة إلى صديق بعيد«أنا إذن متعلق بأرباع أفكار، وبأضغاث أحلام، وقد وقعت على الفكر خطأ، أو بسبب هستيريا لا علاقة لها ألبتة بالحرص على الدقة، أبدو لنفسي دخيلاً على المتمدنين، مثل ساكن كهوف شغوف بكل ما هو لاغ، منغمس في صلوات هدامة، فريسة هلع لا ينبثق عن رؤية للعالم، بقدر ما يعود إلى تشنج اللحم، وظلمات الدم، لقد بت في صمم تام عن نداءات الأنوار، وعن العدوى اللاتينية، حتى إنني أشعر بأسيا تتململ في شراييني».

رؤية سيوران الفلسفية تبث المأساوية في العالم بوصفها أصلاً، وأن أنشطة الناس اليومية ليست إلا هرباً من غلطة وجودهم، وأن الوجود بالنسبة إليه مثل عدم الوجود كله خلل. بل إن سيوران يعد نفسه «فيلسوف عواء»، ولا يعتني بالقارئ بوصفه شريكاً له في معنى النص، بل يبدد معانيه كالشرر، ويوزع بندقية قوله مرتجفاً مثل رامٍ مبتدئ، وإذا قرأناه وجدنا نصه الآتي: «الكتب الوحيدة التي تستحق أن تكتب، هي تلك التي يؤلفها أصحابها من دون أن يفكروا في القراء، ومن دون أن يفكروا بأي جدوى، وبأي مردود». يعد قوله وفلسفته هي عيشه، ولم يكن يحب تقليب الكلمات، بل أنى تهيأ الحرف أطلقه من دون ترتيب أو تشذيب، وهذا ما يلحظه القارئ أكثر في:«المياه كلها بلون الغرق»، ذلك أن الأسلوب كان محتشداً ضمن تكثيف العبارة، أكثر مما هو عليه في «تاريخ ويتوبيا».

لم يكن السطح العميق مغرياً لسيوران الذي يصب جام غضبه على مناهج هيغل وروسو، بل يعد الرديء الجيد، والتفاهة العامة هي الملاذ والملجأ، يكتب:«الشعوب التي لا تحتفل بالتفاهات والطيش، والأمور التقريبية، الشعوب التي لا تعيش مبالغتها الكلامية، هي كارثة بالنسبة إلى نفسها». الخلاصة؛ أن هذه النماذج هي فوّهات تعبير مشحونة بالذخيرة الوجودية، ولكنها في صميمها لم تستطع إضافة أي نظريّة فلسفية، أو محتوى عميق، وعليه فإنها تقترب من الشعر والخواطر والقصص أكثر من قربها من النظريّة الفلسفية العميقة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 2 يونيو 2025 23:15

في الجدارية الشهيرة «مدرسة أثينا» لرسام عصر النهضة الإيطالي رافائيل، جمع الرسام المفكرين الذين أثَّروا في الغرب، وبينهم أفلاطون وأرسطو وسقراط وأبيقور ومايكل أنجيلو. يتوسطهم الفيلسوف العربي المسلم الأندلسي ابن رشد، المعروف باسمه اللاتيني – أفيروس – الذي ساهم بقوة في تكوين العقل الأوروبي النهضوي. تمت ترجمة فلسفة ابن رشد من العربية إلى اللاتينية، ونالت اهتمام الفلاسفة والمفكرين والدارسين الأوروبيين. نقل ابن رشد فلسفة المعلم الأول أرسطو، إلى اللغة العربية وفسرها، ونقلها الإيطاليون عنه إلى اللاتينية، في حين قام الفقهاء المسلمون الأندلسيون، وخدم السلطان، بتشكيل جبهة واسعة وعنيفة معادية له، ووجهوا له عشرات التهم، فغضب عليه السلطان المنصور الموحدي، ونفاه إلى اليُسَانة بمنطقة قرطبة وحُرقت كتبه، بحجة مخالفة ما هو معلوم من الدين بالضرورة. كان ابن رشد فقيهاً وقاضياً وفيلسوفاً. استوعب ابن رشد فلسفة أرسطو المعقدة وفسرها، واهتم بها الأوروبيون، وساهم فكره في النهضة الأوروبية، التي فتحت أبواب النهضة والتقدم. آمن بتكامل العقل والشريعة الإسلامية وألفَّ كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال». قال إن من خلق الشريعة، هو الذي خلق العقل، والهدف هو سعادة الإنسان، ويجب أن يُقدم العقل على النقل. ومن أقواله: كل أمة لها نبيّها، وفلاسفة الإسكندرية تحولوا إلى المسيحية عند ظهورها، كي يتوافقوا مع الجمهور ومعتقدات الأمة، وهذا ما حدث في سوريا والعراق، عند ظهور الإسلام ووصوله إلى أوطانهم.

ما كان لابن رشد في دنيا العرب، وما كان له في أوروبا، لا يغادران ما نعيشه اليوم، ونأمل في ألا يستمر قروناً. جدارية «مدرسة أثينا» الخالدة، هي الشاهد الحي على طول المسافة، بين عبقرية العقل، ووباء الجهل. كم من ابن رشد قدح عقله في منطقتنا، فكان مصيره التكفير والنفي أو القتل أو الهروب، حيث أضاء توهج عقله في أرض بعيدة.

ماذا يعني لنا اليوم، هذا الفيلسوف العربي المسلم، الذي ساهم في إقلاع العقل الأوروبي نحو النهضة، وما حققته بعد ذلك من رقي لم يتوقف؟ هو درس حي يجب أن نتخذ منه عبرة تحرك ما في الرؤوس. المفكر الدكتور مراد وهبة، وهب عمره يكتب ويتحدث في بلاد العرب وخارجها، عن الفيلسوف ابن رشد. أسس المفكر وهبة جمعيات عالمية لدراسة فلسفة ابن رشد، ودعا إلى تضمينها في المناهج الدراسية العربية. لم يهدف المفكر وهبة، إلى تعليم فلسفة ابن رشد للجيل العربي الحديث فحسب، بل قصد أيضاً إلى أخذ العبرة من استضاءة الأوروبيين بفلسفة ابن رشد، واضطهاد المسلمين له ونفيه وحرق كتبه. إلى اليوم نكرر ما كان منذ مئات السنين. محنة ابن رشد تعيش بشهيقها وزفيرها فينا.

محطات كثيرة في الفكر العربي الإسلامي، أشعلت ومضات فكرية منيرة، لكنها خُنقت برياح الظلام الموروث، وغشَّى رماد الفقه العقول، وران على الحروف، وظل المنقول المتآكل هو الحبل الممسك بالرؤوس. يصدق عليه قول طرفة بن العبد:

لكالطِوَلِ المُرخَى وثِنْيَاهُ باليدِ.

أبو حامد الغزالي طاف في فجاج الفكر والفلسفة والدين والتاريخ، لكن حبل الفقه كان يشده إلى رعشات التضارب، ليتدحرج في متاهات التناقض.

الغزالي هو القائل: «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في متاهات العمى». وهناك من قال إن كبار الفلاسفة تأثروا بأبي حامد الغزالي، مثل ديكارت ونيكولا مالبرانش، وديفيد هيوم وإيمانويل كانت، وعدَّه البعض مؤسس مدرسة الشك الفلسفي. عارض المتصوفة المبالغين الذين قالوا بالحلول والمعجزات، وردَّ على الباطنية والقرامطة والإسماعيلية والباطنية.

ألَّف الكثير من الكتب، في مواضيع مختلفة، أهمها «المنقذ من الظلال»، و«إحياء علوم الدين»، و«قواعد المنهج». امتلك أبو حامد الغزالي قدرات فكرية وكتابية، ودخل إلى دائرة الفلسفة باقتدار، لكنه في الوقت ذاته حمل عصاه، وهوى بها على الفلسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة»، في معركة هدفها هدم الفلسفة، ودحر الفلاسفة وفي مقدمتهم الفيلسوف الفارابي، ومن معه من الفلاسفة المشّائين، متسلحاً بالقول، «إن الفلسفة دون العقيدة عاجزة عن الوصول إلى الحقيقة». في الواقع كان أبو حامد الغزالي فيلسوفاً، عندما هاجم الفلسفة والفلاسفة. وكان منهجه في ذلك فلسفياً. وعلق البعض على ذلك بالقول: «إن الغزالي ابتلع الفلسفة ولم يستطع أن يتقيأ ما ابتلع».

ردَّ ابن رشد على كتاب الغزالي بكتاب «تهافت التهافت». تناول فيه الأسس التي أقام عليها الغزالي مرتكزات نقده للفلسفة والفلاسفة، متسلحاً بما أخذه عن معلمه أرسطو وغيره من الفلاسفة الإغريق. سواء فيما يتعلق بالزمان والمكان والمصير والإنسان، أو عن النسبي والمطلق والكون والطبيعة وغيرها.

كان لأوروبا، جداريتها التاريخية الخالدة الباقية، وهي في الحقيقة الرمز والمعنى الشاهد على رافعة العقل الإنساني التي حققت النهوض الأوروبي الكبير. هناك كان وما زال أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد العربي الأندلسي، الذي قذفه الجهل المحنط إلى دنيا أقلعت نحو العصور الجديدة، فكان أيقونة جدارية العبقرية، التي ألقى عليها أبو حامد الغزالي ومن لفَّ لفّه عباءة ظلام التهافت. هناك من قال إن الغزالي ساهم بقوة، في وهن الحضارة العربية الإسلامية.

***

عبد الرحمن شلقم

السبت - 11 ذو الحِجّة 1446 هـ - 7 يونيو 2025 م

 

في مقالة سابقة، نقلتُ رأي غلين ماغي، الذي وصف فلسفة هيغل بأنها مفعمة بالرموز الهرمسية والتأويلات الباطنية، حتى إنه تساءل إن كان هيغل فيلسوفاً حقاً، أم منظّراً من طراز غنوصي عريق. ولقي هذا الطرح تفاعلاً كبيراً، لكنه في الوقت نفسه أثار تساؤلات تستحق التأمل والمراجعة. هل يُنصف هيغل، بوصفه أحد أعظم أنظمة الفلسفة العقلية في التاريخ، أن نردّه إلى مجرد نزعة صوفية درويشية؟ الصورة أكثر تعقيداً. فهيغل، في بداياته، كان بالفعل أقرب إلى التصوف. كان يعيش في بيئة صوفية ألمانية، وتأثر بأفكار يعقوب بوهمه، كما اطلع على تراث المتصوفة المسيحيين في عصرهم الذهبي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. أولئك الذين مزجوا بين الحدس والفكر، وبين الكليّ والجزئيّ، وبين حضور الروح وحركة العقل. في كتاباته المبكرة، مثل «روح المسيحية ومصيرها»، كان مشغولاً بمفاهيم الاتحاد بالكل، والتجاوز الحدسي للحدود، والانخطاف الذي يتجاوز الثنائية بين الذات والموضوع. هذه البدايات لا يمكن إنكارها، ولا ينبغي التهوين منها. فهي تمثّل حجر الزاوية الذي انطلقت منه رحلته العقلية، رحلة الروح الثلاثية.

لكن هذه المرحلة لم تكن النهاية. شيئاً فشيئاً، بدأ هيغل يُخضع تلك الرؤى الحدسية لمنهجية عقلية متينة، ويعيد تأويل التجربة الصوفية في ضوء مسار جدلي متكامل. مثل معظم عظماء الفلاسفة الألمان، لم يرفض التصوف، بل احتواه داخلياً، وأعاد بناءه من الأساس. وكما لاحظ فريدريك كوبلستون في دراسته «هيغل وعقلنة التصوف»، فإن هيغل لم يكن صوفيّاً بالمعنى الساذج، بل فيلسوف عقلاني استخدم التصوف منجماً للمعنى، وأخضعه لبنية جدلية دقيقة.

التصوف، عند هيغل، لا يعني الانفصال عن الفكر أو الطيران في عوالم اللاعقل، بل يشكّل لحظة من لحظات تطور الوعي في سعيه نحو المطلق، وكيف بنى البشر حضاراتهم في أثناء الرحلة.

وقد استلهم من المتصوفة، لا سيما بوهمه ومايستر إيكهارت، فكرة الاتحاد بالكل، لكنّه أصرّ على إعادة تنظيم تلك الرؤى الحدسية ضمن منطق جدلي عقلاني يُفكّر بها دون أن يُفرّغها من قوتها الشعورية. لقد استبقى من التصوف عمقه، وحرّره من غموضه.

وتأكيداً لوجود الاتجاه المبكر، وجدنا هيغل في شبابه يكتب قصيدة رمزية بعنوان «إليوزيس»، مستوحاة من الطقوس الغامضة لمعبد إليوسيس اليوناني، وملأها بالإشارات إلى «الكهنة» و«الحكمة الخفية» و«الرموز المضنون بها». ورغم أن القصيدة لا تُعدُّ عملاً شعرياً عظيماً، فإنها تُظهر تلهف هيغل الشاب لاختراق الحجب، وكشف المستور، وتوقه إلى معرفة تتجاوز المألوف، وتساؤله حول قدرة اللغة على حمل المعنى الباطني. لقد كانت تلك القصيدة بمثابة اعتراف شعري بأزمة الحدس، كأعمى يتحسس طريقه في الظلام، وسعيه إلى بناء فهم أمتن. إنها لمحة نادرة عن عقل يتأرجح بين الخشوع الغامض والرغبة في الفهم، عقل سينتقل لاحقاً من القصيدة إلى النسق، ومن الرمز إلى المفهوم.

أما غلين ماغي، فقد أصاب حين أشار إلى أثر الهرمسية والرمزية في فكر هيغل، لكنه أخطأ حين تعامل مع هذا البُعد بوصفه قطيعة مع العقل، أو خيانة للفكر الفلسفي. فالحقيقة أن التصوف، كما ظهر عند هيغل، لم يكن نقضاً للعقل، بل أحد تجلياته. تجربة الصوفي، في صورتها الهيغلية، ليست رفضاً للتفكير، بل إدراك حدوده، والسعي لتجاوزها من داخله، لا عن طريق النفي، بل عن طريق التصعيد الجدلي. لم يكن العقل عنده سجناً، بل الجسر الذي يفضي إلى الحرية.

لقد بيّنتُ أن غلين ماغي فصل التصوف عن العقل، لكن التصوف، بعمقه وحدسه، هو فعل عقلاني أيضاً. حجة ذلك أننا في تقاليد الهند، نجد آلاف الكتب التي تعلن الحرب الفكرية على العقل، لكن هل كان ممكناً أن يفعلوا هذا بدون العقل؟ لا أحد يهرب من العقل. والخلاص منه وهم، أما الكمال فليس في إسقاطه، بل في إدماجه.

ومن هنا تكتسب عبارة برتراند راسل قيمتها الكبيرة، حين قال «إن الاتحاد الحقيقي بين الصوفي ورجل العلم هو أسمى ما يمكن أن يبلغه الإنسان في عالم الفكر». لقد رأى راسل أن المثالي ليس الانقسام بين الإيمان والعقل، ولا بين الحدس والتجريب، بل لحظة الجمع والانسجام. وهذه اللحظة النادرة هي عرش الفكر الذي سعى هيغل للجلوس عليه.

الكمال لا يتحقق في العقل وحده، ولا في التصوف وحده، بل في لحظة اتحادهما. اللحظة التي لا يُلغى فيها أحدهما لصالح الآخر، بل يُركّبان في هيئة جديدة. هيغل، في هذا المعنى، لم يكن مجرد صوفي عقلاني، ولا عقلانيّاً متصوفاً، بل كان المفكر الذي حاول أن يضمّ في فلسفته تلك الثنائية التي طالما شطرت الروح الإنسانية، فلا تبقى ثنائية.

وإذا شئنا الدقة، فإن مشروع هيغل يعلّمنا فقط كيف نفهم التصوف، ويعلمنا كيف نحفظ له كرامته الفكرية. لقد كان يعي أن لكل حدس روحي مكمناً عقلياً، وأن كل لحظة إشراق لها جذر في التجربة والتأمل. التصوف، حين يُنظر إليه بوصفه اجتهاداً داخلياً لفهم المطلق، لا يقل صرامة عن أي نشاط فلسفي آخر، بل قد يكون أكثر توتراً، لأنه يركض على الحافة القصوى للعقل. وهيغل، حين أعاد تأطير هذه الحركة، لم يكن يروّضها أو يدجّنها، بل منحها ما لم تمنحه لنفسها: وضوح البناء وصرامة المبدأ.

من هنا نفهم كيف يمكن للفلسفة أن تكون روحانية من غير أن تهجر الفكر، وكيف يمكن للحدس أن يستقيم في طريق العقل دون أن يُبتَر. إن فهم هيغل للتصوف لا يكشف عن ميول باطنية ضبابية، بل عن تصميم وجودي على جعل التجربة الداخلية قابلة للفهم، دون أن تُنتَزع منها شرارتها الأولى.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 16 يونيو 2025 م ـ 20 ذو الحِجّة 1446 هـ

 

ليست الشعبوية مجرد خطاب سياسي أو أداة في يد الزعماء الشعبويين، بل يمكنها أن تتسلل أيضاً إلى المجال الفكري، حيث لا يُتوقّع وجودها. فما يسميه بعض علماء الاجتماع «الشعبوية الفكرية» populisme intellectuel يشير إلى موقف يستخدم فيه المثقف هيبتَه الأكاديمية لتبسيط النقاشات المعقدة، وإنتاج ثنائيات جذابة، مع تجاهل الدقة والمساءلة النقدية. هذه الظاهرة، وإن بدت هامشيةً، تُلحق ضرراً بالغاً بجودة الحوار العام وبمسؤولية منتجي المعرفة في مجتمعاتنا.

من منظور فلسفي، ترتكز الشعبوية الفكرية على موقع «العلو المعرفي»، حيث يتقمص المثقف دورَ حارس الحقيقة في مواجهة «منظومة فكرية» مزعومة يصفها بأنها مهيمنة أو منحازة، سواء أكانت أكاديمية أم مؤسساتية أم أيديولوجية. وهنا، يظهر هذا المثقف بوصفه مقاوماً أو مهمشاً، بينما يستخدم قنوات التأثير الأكثر شهرة وانتشاراً لفرض قراءة أحادية للواقع. هذا النمط من الهيمنة الخطابية سبق أن نبّه إليه بيير بورديو في حديثه عن «القول المأذون»، والذي بوسعه فرض أطر تأويلية باسم الموضوعية، في حين أنه يُنتج تأثيرات اجتماعية وسياسية ملموسة.

أما من زاوية سوسيولوجية، كما نجد عند كريغ كالهون ونانسي فرايزر، فإن الشعبوية الفكرية تهدف غالباً إلى كسب «رأسمال من الصدى الشعبي»، من خلال تبسيط التعقيد الفكري. فهي لا تسعى إلى التوضيح بقدر ما تميل إلى التعميم، ولا إلى إثارة الأسئلة بقدر ما تسعى إلى تأكيد المسلّمات. العالم يُقسّم فيها إلى أخيار وأشرار، إلى مستنيرين ومضلّلين، إلى شجعان وخانعين. وتُميَّز هذه الشعبوية بخطاب يقوم على الثنائيات، والتعميمات الجارفة، والشكّ الدائم في البحوث التجريبية أو المناهج الدقيقة، مع النزوع إلى تثبيت الهويات والاختزال الفكري.

غير أن أكسل هونيث يذكّرنا بأن الاعتراف الفكري الحقيقي يتطلّب وساطةً نقدية مع الآخر، لا تصنيفه وشيطنته. فدور المثقف ليس في تأكيد قناعات الجمهور، بل في إدخال الشك حيث تسود اليقينيات، وفي إخضاع الفكر لحدوده الخاصة، وتجنّب إغراء السلطة المعرفية. والمعرفة، إن كان لها دور في المجال العام، فهو أن تُعلّمنا كيف نفكر ضد أنفسنا، كما قال ميشيل فوكو، أي أن نخرج من ردود الأفعال الهوياتية ومن الإغراءات الأخلاقية المريحة.

إن الشعبوية الفكرية تحول المثقفَ من ناقد إلى مؤدلِج، ومن باحث عن المعنى إلى موزّع للأحكام. وعندما يتحول المفكر إلى مهاجم ينقسم معه العالَم إلى «يمين» و«يسار»، أو يجعل من مفاهيم مثل «التقاطع» فزّاعة أيديولوجية.. فإنه يضلل النقاش ويجرّه نحو الابتذال.لكن هذا الانحراف لا ينشأ من العدم. فهو وليد الاستقطاب الاجتماعي، وانعدام الثقة في المؤسسات، والتحوّل في المشهد الإعلامي، حيث يغلب منطق الجاذبية على منطق العمق. المعرفة تصبح أداة تمييز واستعراض، والمثقف يتحول إلى شخصية هجينة تجمع بين الخبير والمحرّض، بين الرغبة في الشهرة وادعاء امتلاك الحقيقة.

لا يعني ذلك رفضَ كل أشكال الالتزام الفكري، فمسار الفكر حافل بمن جمعوا بين النقد والفضيلة. إنما المقصود هو مقاومة إغراء التبسيط، ورفض تحويل الأسئلة المعقدة إلى إجابات سريعة. المطلوب اليوم هو إعادة تأكيد أخلاقيات الفكر القائمة على بطء التحليل، واحترام التعدد، والابتعاد عن البطولة الزائفة.

وفي زمن تعلو فيه الأصوات وتنتشر الاختزالات، يصبح التفكير نفسه فعل مقاومة. إذ لسنا بحاجة إلى خطباء ملهمين بقدر ما نحتاج إلى مفكرين صبورين، يرفضون الانسياق، ويعيدون للمعنى هيبته.

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 يونيو 2025 23:45

 

أعلامه الروّاد استلهموا أعمالهم من تساؤلات فلسفية جوهرية

يكاد يتفق الجميع على أن تطوير الذكاء الاصطناعي أحد أكبر التغييرات في طريقة عيشنا وعملنا منذ اختراع الإنترنت على الأقل، وسوف يُغيّر في مدى قريب الطريقة التي نمضي بها جميعاً أيامنا، وكيف نتعلّم، وكيف نعمل، وهو شرع يغيّر بالفعل منهجيات إدارة الشركات والدول. ونتيجة لذلك، ثمّة دعوات في كل دول العالم الأول تقريباً لوضع أسس تنظّم الصيغة التي تحكم تطوير الأنظمة الأحدث منها، قبل وصولها إلى مرحلة تهديد الوجود البشري برمته، لكن دون نجاح يذكر، بسبب الخلافات الجذرية في وجهات النظر بين القوى الكبرى.

في عام 2011، كتب المستثمر الشهير مارك أندريسن مقالة في «وول ستريت جورنال» لقيت رواجاً بين الناس، بعد إعلانه فيها أن «البرمجيات تلتهم العالم». حينها، كانت البرمجيات تُعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، وتُحدث زلازل في كل الصناعات، من الإعلام إلى النقل، وما بينهما. لكن ما لم يتوقعه أندريسن هو أن البرمجيات نفسها ستُلتهم لاحقاً. وبعد ست سنوات فقط، كان جنسن هوانغ، المؤسس المشارك لشركة «نفيديا» يحدّث ادعاء أندريسن بقوله: «نعم، البرمجيات تلتهم العالم، لكن الذكاء الاصطناعي يلتهم البرمجيات». هذا التحول لم يعد مجرد نقلة في البنية التكنولوجية، بل في مركز الثّقل الفكري الذي يحكم كيفية تطوير التكنولوجيا واستخدامها. واليوم، ومع تغلغل الذكاء الاصطناعي في كل مجال، والسرعة الهائلة التي يتطور بها، والاستثمارات الضخمة التي تخصص لذلك، يطرح سؤال وجودي نفسه: هل سيأتي وقت قريب ويصبح الذكاء الاصطناعي نفسه موضع التهام وتجاوز؟ وما هو الشيء الذي سيمكنه أن يضع الذكاء الاصطناعي في موقع الأداة، تماماً كما فعل بـ«البرمجيات»؟ والإجابة المفاجئة حسبما يعتقد الخبيران في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة ديفيد كيرون ومايكل استراج، وفق ورقة بحثية نشراها مؤخراً: الفلسفة.

غالباً ما يُختزل النقاش حول العلاقة بين الفلسفة والذكاء الاصطناعي في زاوية ضيقة تتعلّق بالأخلاقيات: كيف نتأكد من أن النماذج لا تنتج تحيزاً؟ هل تراعي الخصوصية؟ هل يمكن الوثوق بها؟ ورغم أهمية هذه الأسئلة، فإنها لا تلامس جوهر العلاقة بين المجالين. فالفلسفة ليست مجرد مراقب أخلاقي خارجي، بل مكوّن داخلي يُشكّل طريقة تصميم وتدريب واستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي.

إن كل نظام لتطوير الذكاء الاصطناعي يُبنى على فرضيات ضمنية: ما الذي يُعتبر «معرفة»؟ ما الغاية من النموذج؟ ما هي رؤيته للواقع؟ هذه أسئلة فلسفية في عمقها - غائية، وإبستمولوجيّة (نظريّة المعرفة)، وأنطولوجية (طبيعة الوجود) - وغياب الوعي بها يؤدي إلى نتائج عبثية أو كارثية، كما في حالة نموذج «جيميناي» من «غوغل» في بداياته، الذي أنتج صوراً مشوهة للتاريخ في محاولة غير ناضجة لتحقيق التنوع، ما عرّض الشركة لسخرية واسعة. في «جيميناي»، لم يكن الخطأ في البيانات أو الخوارزميات، بل في الفلسفة التي صاغت الغاية من إنتاج الصور: فهل الهدف هو الدقة التاريخية، أم تمثيل التنوع؟ التناقض بين هاتين الغايتين من دون إطار فلسفي واضح أدى، في المحصلة، إلى فشل ذريع.

ومن الجليّ للخبراء الآن أن الشركات المعنية بتطوير الذكاء الاصطناعي والتي تدمج الفلسفة في صميم عملياتها ستُحقق قيمة أفضل وعوائد أعلى من استثماراتها، ليس لأن الفلسفة «تُزخرف» التقنية، بل لأنها توفّر لها بوصلة وتقلل من الفوضى الغائيّة. ففي تاريخ الذكاء الاصطناعي، نجد أن أعلامه الروّاد أمثال آلان تورنغ وغيورغ هنتن، استلهموا أعمالهم من تساؤلات فلسفية جوهرية، لا من الأكواد والمعادلات الرياضية فقط. ما يعني أن الحاجة ليست تعيين فيلسوف مقيم في شركات الذكاء الاصطناعيّ بقدر ما هي إدماج التفكير النقدي والتأمل الغائي في صلب عمل فرق التطوير واتخاذ القرار؛ لأن الذكاء الاصطناعي من دون تأطير فلسفي أشبه بسيارة سباق بمحرّك جبّار لكنّها بلا مقود: سريعة، لكن المؤكد أنها ستنحرف في أول منعطف.

تقدّم تجربة «أمازون» - المتجر الإلكتروني - مثالاً بليغاً عن العلاقة بين الفلسفة والتقنية. فالشركة لم تكتفِ في صياغتها لمفهوم «ولاء العملاء» بمؤشرات كمّية سطحية، مثل عدد مرات الشراء أو استمارات تقييم الرضا عن الخدمة، بل تجاوزتها نحو غاية فلسفية أعمق: ماذا يعني أن يكون العميل وفيّاً في علاقة تبادلية طويلة المدى، ومن هذا البحث صممت برنامجها الشهير «برايم». وهذا هو الفرق بين تقنية بلا فلسفة، وتقنية ذات وعي غائي.

وبالطبع فإن مستقبل الذكاء الاصطناعي لا يكمن في تحسين النماذج الحالية منه، بل بالانتقال إلى نماذج مفكرة لا تكتفي بتوليد النصوص أو تصنيف الصور، وإنما تمتلك وعياً بالغايات، وتزن الأولويات، وتتخذ قرارات مبنية على سياقات معقدة.

لتحقيق هذا التّحول، لا بد من تدريب هذه الأنظمة على أبعد من تحليل البيانات، من خلال تأهيلها فلسفياً بنظريّة إبستمولوجيّة لتدرك حدود ما تعرفه، وما لا تعرفه، وتسعى إلى سد الفجوة بينهما، وتستوعب دورها ضمن منظومات معقدة، فتفهم العلاقات السببية بين مكوناتها، وكيف تُقرر أخلاقياً في الحالات التي لا تنفع معها القواعد الجاهزة، وكيف تُكيّف نفسها مع غاية كبرى من المهام التي تنفذها، وتوازن بين الأهداف المتعارضة.

وهذه النقلة من «الخوارزمية» إلى «الغائية» وحدها قد تمنح ميزة تنافسيّة لنظام ذكاء اصطناعيّ عن الآخر؛ إذ إن التقنية ستكون متاحة للجميع وستذوب الفروقات التكنولوجية بين الشركات سريعاً، لكن الميزة الحقيقية ستأتي من عناصر لا يمكن تكرارها بسهولة: الإبداع البشري، والرؤية، والجرأة على إعادة التفكير. بمعنى آخر: الذكاء الاصطناعي لن يكون سبباً في التميز، بل المسرح الذي تُختبر عليه قدرات التميز البشري. وهكذا حين تُنتج الشركات أنظمة قادرة على التفكير معنا، لا بالنيابة عنا، تصبح هذه الأنظمة أقرب إلى شركاء معرفيين، وبوابات نحو رؤى أكثر عمقاً، لا مجرد أدوات، ولن يكون دورها أن تلتهم العالم، بل أن تساعدنا في إعادة بنائه.

من هذا المنظور، لم تعد الفلسفة مجالاً أكاديمياً هامشياً أو ترفاً نظريّاً عند التعامل مع الذكاء الاصطناعي، بل أصبحت شرطاً استراتيجياً لتحقيق قيمة مستدامة. وإذا كان لنا أن نحصد الثمار الحقيقية للذكاء الاصطناعي، فلا بد من غرسه في تربة فلسفية، تلك التربة التي تمنحه غاية، وتساعده على فهم العالم، لا فقط على وصفه. وهكذا ستجد الفلسفة أنها مطالبة بالعودة إلى قلب صناعة الحياة بعد قرن من الجلوس على مقاعد المراقبين، وهي في عودتها لن تلتهم الذكاء الاصطناعي، بل ستهذّبه، وتمنحه بُعداً جديداً: بُعد الحكمة.

***

ندى حطيط

عن جريدة الشرق الأوسط للندنية، يوم: 16 يونيو 2025 م ـ 20 ذو الحِجّة 1446 هـ

بعد قرابة خمسين سنة من رحيل الفيلسوف الألماني الكبير مارتن هايدغر، نُشرت مؤخراً الرسائل التي تبادلها مع فيلسوف ألماني آخر هو هانس غورغ غدامير. ومع أن غدامير تلميذ لهايدغر وقد تأثر بفكره التأويلي، إلا أنهما اختلفا في مسألة جوهرية، هي الموقف من التقليد، بما انعكس في مراسلاتهما بعد صدور كتاب غدامير الأساسي «الحقيقة والمنهج» سنة 1960.

لقد اعتبر هايدغر أن سؤال التقليد لدى تلميذه قد حجب الإشكال الفلسفي المحوري الذي هو نسيان الوجود، في حين اعتبر غدامير أن التقليد ليس عبئاً أو فراغاً، بل هو أفق الفهم والمعنى والإطار الأوحد لممارسة التفكير الرصين الجاد. ومع أن كتاب «الحقيقة والمنهج» ترجم إلى اللغة العربية منذ سنوات عديدة، إلا أن محدداته المنهجية الثرية لم يتم توظيفها في مقاربات قراءة وتأويل التراث التي سادت في الفكر العربي المعاصر منذ سبعينيات القرن الماضي. لقد طغى على الفكر العربي في المسألة التراثية منهجان أساسيان: المنهج التاريخي الأيديولوجي الذي ينظر للنص في سياق التحولات المجتمعية والزمنية دون عناية بنظامه النظري المعرفي الخاص، والمنهج الابستمولوجي الذي ركز على مفاهيم القطيعة والانفصال دون اعتبار للسرديات الطويلة والزمنية الممتدة.

وبعد أن شاعت أفكار هايدغر وامتداداتها في تفكيكية جاك دريدا، ألغيت العلاقة التأويلية بالنص، لحساب تأويلية الوجود ولم يعد ينظر إلى الخطاب إلا من حيث هوامشه وفراغاته وآثاره المطمورة. في كل هذا المناحي يغيب التقليد إما كخطاب من الماضي لم يعد له موقع في دائرة الدلالة والمعنى، أو كغطاء حاجب لسؤال الوجود في علاقته بالإنسان التي هي منبع اللغة والتعبير، حسب أعمال هايدغر الأخيرة.

ما يؤكده غدامير هو أنه لا سبيل للخروج من نسق التقليد؛ لأن كل إمكانات التفكير تقتضي استئناف محادثة سابقة على المرء، هو بالضرورة طرف فيها، وإنْ كانت متقدمة عليه وباقية من بعده. فعلى عكس ما تتوهم أفكار الأنوار، لا سبيل للتحرر من التقليد ولا معنى لاختزاله في السلطة المعرفية المقيدة والمعيقة للإبداع والتجديد. التقليد ليس كتلة موروثة جامدة، بل يتسم بالطابع الحواري المتجدد من خلال عملية التأويل التي لا تنحصر في الفهم والتفسير، بل هل إعادة إنتاج للمعنى.

وهكذا يعيد غدامير الاعتبار للأحكام المسبقة من حيث هي موجهات للقراءة والتأويل، لا غنى عنها في استراتيجية التناص والحوار المعرفي، ومن دونها ينغلق الإنسان في أوهام الذاتية الفارغة. لا نلمس هذه الأفكار الرائدة في الكتابات العربية السائدة حول التراث الذي هو مصطلح يفترض مسبقاً علاقة القطيعة مع منابع المعنى والدلالة والانفصال عنها. التراث هو ما خلفه الأقدمون من تركة تحمل بصمات عصرهم واهتمامات زمنهم؛ ولذا فإن العلاقة معها لا تكون إلا على سبيل التملك الاستلابي في حال التقيد بها، أو القطيعة التجاوزية في حال التخلي عنها. لا يختلف في هذا المنهج من يدعو للتماهي مع النص الأصلي مع نبذ التقليد التأويلي، ومن يدعو إلى الانفصال من منطلقات حداثية تنويرية مع هذا التقليد، كلاهما في موقف عدمي من العالم المشترك الذي يشكل الأفق التاريخي للمعنى والفهم. في كتابه «ثقافة الالتباس» a culture of ambiguity، يبين توماس باور أن الإسلام الكلاسيكي كان شديد الانفتاح والتسامح نتيجة لغياب سلطة تأويلية تحتكر المعنى والدلالة، بينما كرست الأيديولوجيات الأصولية المتعصبة الراهنة فكرة حصرية الحقيقة من خلال تصورها الأحادي المغلق لمرامي النصوص.

ومن منطلق هذه الملاحظة، توصل باور في كتاب آخر إلى غياب «عصر وسيط» في الإسلام لكون هذا المفهوم لا يتناسب مع الحركية التاريخية الفعلية للمجتمعات المسلمة التي لم تشهد مشكل الانتقال من المركزية التأويلية إلى العلاقة المفتوحة الحرة مع النص.

كان المفكر الراحل محمد أركون يجمل الديناميكية التأويلية في التراث الإسلامي في ثلاثية ما لا يمكن التفكير فيه، وما تم التفكير فيه، وما أهمل التفكير فيه (بمعنى أنه خيار ممكن، لكنه لم يقع بالفعل)، بيد أن هذه الشبكة المنهجية افترضت خطأ الانفصال بين القارئ المعاصر والنص الذي يخضع لتأويله، في حين أنه يتعرض لأفق ينتمي إليه مهما أعلن الاغتراب عنه، كما توهمت هذه الشبكة انغلاق المعنى في سياق تشكله الأصلي، والحال أن المعنى لا ينفك يتشكل ويتجدد بفعل القراءة نفسها.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني.

15 يونيو 2025 23:45

النقد الفكري لا يعني دحض الأفكار، أو العمل على إبطالها وإزالتها، بل مراجعتها وفحصها. في أوروبا بدأ نقد الفكر التاريخي الموروث مبكراً. الفلسفة كانت أداة العقل، التي حركت مسيرة الإنسان نحو النهوض والتقدم. الفيلسوف فردريك هيغل كان مهمازاً لدفع حيوية التفكير النقدي. كي تؤسس لزمن جديد، عليك أن تراجع أفكارك دون توقف، أي أن تنتقدها. فأنت لا تستطيع أن تفكر مثل إنسان عاش منذ مائة سنة مضت، أو سيأتي بعد مائة سنة، والزمن له تأثير على العلم والفلسفة. ويضيف هيغل: «لا نستطيع أن نضع قانوناً أو تشريعاً أو فلسفة، تلائم كل الأزمان، بل يجب أن نسخر أفكارنا لمعالجة أمور عصرنا، ومع تقدم الزمن، من الممكن لأي فكرة مهما كانت صحيحة، ألا تلائم الأجيال اللاحقة، ما لم تعدل أو تستبدل بها أخرى، والفكرة التي تزوجت هذا الزمن، ستكون أرملة في الزمن المقبل، والفلسفة هي الزمن، كتب في أفكار». في الغرب كان النقد هو الحادي لمسيرة الحياة، في كل المجالات وعلى كل المستويات.

الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت في كتابه، «نقد العقل المحض»، أقام أعمدة مكينة لمنهج العقل النقدي، وكان له أثر في تأسيس منهج فكري نقدي عميق في كل أوروبا.

مدرسة فرنكفورت النقدية، التي تأسست سنة 1923 وضمت أساتذة من تخصصات مختلفة، في علم الاجتماع والفلسفة والأدب  وعلم النفس. اجتمعوا على منهج تفكير عقلاني، يقوم على النقد. حرية الفكر والرأي، وانتشار التعليم، كانا ماء الحياة الذي يروي العقل الغربي المبدع، والنقد المستمر هو السماد الذي يعطيه الخصوبة المتجددة.

في أواخر القرن الماضي، بدأ توجه عربي محاولاً تكريس تيار النقد الفكري في المنطقة العربية. الأستاذ المغربي الدكتور محمد عابد الجابري، قام بعمل كبير لنقد العقل العربي. «العقل العربي المكَوَّن والمكَوِّن» كما وصفه الجابري، كان المحور الذي تحركت حوله اجتهادات الجابري. مشروع الجابري الكبير، لقي اهتماماً من النخبة العربية بمَن فيهم من أكاديميين ومفكرين ومثقفين. لكنه تعرض لعاصفة من النقد. هل يوجد عقل عربي واحد قديماً وحديثاً؟ وهل الغوص في الموروث القديم تاريخياً وأدبياً وفقهياً هو الهادي إلى تكوين هذا العقل وفاعليته التي نعيشها اليوم؟ ولماذا لم يخض الجابري بتوسع في نقد العقل الإسلامي الذي يشكل العامل المركزي في تكوين العقل العربي؟ المفكر السوري جورج طرابيشي، قضى قرابة ربع قرن من حياته، في تفكيك ما أنجزه الجابري في مشروعه الكبير، وأصدر عملاً ضخماً تحت عنوان، «نقد نقد العقل العربي». جورج طرابيشي المفكر والمترجم والمؤرخ، أسهم بقوة في تحريك تيار النقد الفكري بمخالفته المنهجية العميقة لما قدمه الدكتور محمد عابد الجابري. طرابيشي اشتبك مع الواقع الفكري والثقافي والسياسي العربي المعيش، بمحركاته الدينية والسياسية والآيديولوجية. رغم الاختلاف والخلاف بين الجابري وطرابيشي، فقد قدم الاثنان للمكتبة العربية، وللقارئ العربي إنجازَين كبيرين، أسهما بقوة في تحريك الفكر النقدي. هناك تابوهات حارقة في فكرنا العربي، يصعب بل يستحيل أحياناً الاقتراب منها والخوض فيها، خاصة الموروث التاريخي الفقهي، الذي يقود مَن يلامسه إلى التكفير والتهجير وحتى القتل. في ملحمة النقد الغربية والأميركية، ربح المنهج النقدي معاركه، بفضل حرية الفكر والرأي وسيادة القانون التي تكرست منذ انطلاق النهضة الأوروبية. محاولات لا تتوقف، خاضها أساتذة ومفكرون ودارسون عرب ومسلمون، في مخاض نقد العقل العربي والإسلامي. تعددت تلك المحاولات، منها ما اختلف ومنها ما اتفق.

الأستاذ الدكتور محمد أركون، اجترح منهجاً نقدياً للعقل الإسلامي، اعتمد فيه إلى حد كبير، على تجربة المدارس الأوروبية في كتابه، نحو نقد العقل الإسلامي، فهوى يرى، عكس محمد عابد الجابري، أنه لا يوجد عقل عربي أو إيراني أو تركي، بل يوجد عقل إسلامي ديني. ويرى محمد أركون أن كل القضايا التي أثارها الاستشراق، في بداية القرن العشرين، ينبغي أن تستعاد وأن تُدرس من جديد على ضوء العلوم الحديثة، وما توصلت إليه الإنسانية كعلم الألسنيات والسيميائيات وعلم النفس التاريخي والأنثروبولوجيا، أي علم الإنسان. أركون كان يرى أن هناك منهجاً إنسانياً مشتركاً في مدرسة الفكر النقدي. في كتابيه، «التشكيل البشري للإسلام»، و«معارك من أجل الأنسنة»، خاض أركون معارك طويلة، مع الفقهاء والمحافظين، وعمل رغم ذلك دون كلل، على نشر فكره عبر وسائل الإعلام المختلفة، العربية والأجنبية. أركون يرى في كل أعماله، أن تأسيس منهج تعليمي نقدي للموروث الديني، هو الطريق الذي يضمن الوصول إلى العصر الحداثي، الذي دخلته الأمم المتقدمة. قال: «لا يمكن للعالم العربي والإسلامي، أن ينطلق حضارياً إلا إذا انخرط في عملية تفكيكية نقدية شاملة، لأنظمة الفكر الديني القديم المسيطر والراسخ الجذور، وكذلك ينبغي تفكيك كل الآيديولوجيات الغوغائية التي سيطرت علينا بعد الاستقلال».

موضوعات نقد العقل والموروث القديم، خاض فيها كثيرون قديماً وحديثاً، لكن الصوت المحافظ المتشدد، لا يزال هو الأعلى، أما النقد ونقده الموضوعي الفاحص، فيبقى قشرة بيضة الوعي، ولا يصل إلى بياضها وصفارها.

***

عبد الرحمن شلقم

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 19 ذو الحِجّة 1446 هـ - 15 يونيو 2025 م

لم يكن المثقف يوماً كائناً منعزلاً عن أسئلة الوعي والمعنى، بل ظل حارساً يقظاً للقيم وساعياً نحو تأويل العالم في ضوء العقل والتجربة والضمير. لقد صاغت الحداثة صورته كممثل للعقل الكوني ومنظّر للعدالة، وناظم للمعرفة، في سياق كلي شمولي.

غير أنّ هذه الصورة تخلخلت مع تحولات ما بعد الحداثة، التي أعادت مساءلة المفاهيم المؤسسة: الحقيقة، العقل، التقدم، وأخرجت المثقف من موقع الناطق باسم الكل، إلى فاعل ضمن فضاء تعددي يتطلب الحذر والتواضع المعرفي. فالمثقف الحداثي قد تكلّف أحياناً دوراً يتجاوز المعرفي نحو ما يشبه النبوءة الفكرية، متكئاً على يقينيات عقلانية متعالية، ومتحدثاً باسم الإنسان المجرد، غير أنه، كما كشفت القراءات النقدية، كان في كثير من الأحيان يتكلم من داخل منظومة معرفية مشروطة، تستبطن تصورات مخصوصة للكون والإنسان والمعنى.

أما الفكر ما بعد الحداثي، فقد قلب الطاولة على هذه الطموحات، حين أبان أن كل خطاب هو نتاج سياقات، وأن الحقيقة ليست معطى خالصاً بل بناء رمزي، وأن المثقف ليس فوق التاريخ، بل غارق فيه. هذا التحول، رغم عمقه، لم يقد إلى إعادة بناء دور المثقف على نحو إيجابي، بل أدّى إلى انحسار سلطته الرمزية، وتراجع قدرته على إحداث الأثر الجمعي.

لقد تحوّل إلى «خبير» أكثر من كونه حاملاً لمشروع فكري، وابتعد عن الأفق التأويلي لصالح الأدوار الوظيفية. وفي ظل تسارع الزمن الرقمي، وتكاثر المنصات، وتفكك المرجعيات، صار حضوره باهتاً، وصوته عرضة للضياع بين ضجيج الآراء اللحظية. في هذا السياق، يبرز النموذج الذي قدّمه المفكر الإسلامي علي شريعتي، والذي لا يُستقى من مرجعية غربية، بل من فقه الوعي النابع من التجربة الحضارية الإسلامية.

لم يكن شريعتي يسائل موقع المثقف من حيث هو سلطة رمزية، بل كان ينظر إليه بوصفه حاملاً لأمانة فكرية ومعنوية، ينطلق من وجع الإنسان لا من تنظيرات متعالية. فالمثقف عنده ليس فقط من يُحسن التأويل، بل من يحمل همّ التغيير المعرفي، ويصوغ وعياً قادراً على ملامسة الضمائر لا مجرّد العقول. لقد اختار شريعتي أن يكون المثقف شاهداً لا خطيباً، مؤولاً لا مفسراً، سائلاً لا واعظاً. إنه المثقف الذي لا يكتفي بتوصيف الواقع، بل يذهب نحو إعادة فتح الأسئلة الكبرى للوجود والمعنى والكرامة.

ليس بالضرورة أن يقدّم أجوبة نهائية، بل إن يُبقي على جذوة السؤال حيّة، وعلى القلق المعرفي يقظاً، لأن لحظة السؤال هي لحظة التغيير الحقيقي. وهكذا يعود دور المثقف ليُعرّف من زاوية مسؤوليته الأخلاقية في حفظ الذاكرة، واستنطاق المعنى، وتجديد صيغ الفهم بعيداً عن الصخب الإعلامي أو الاستعراض الخطابي. ليس هو من يتصدر المنابر، بل من يقف خلف الكلمة الصادقة، والحكمة المسؤولة، والعقل الحاضر بضمير حي.

في زمن التشتت الرقمي والتسطيح المعرفي، تصبح الحاجة إلى هذا النوع من المثقف أمراً وجودياً، لا خياراً ثقافياً فقط. المثقف الذي لا يُعرّف بمكانته الأكاديمية، بل بأثره المعنوي، لا بسلطته الرمزية، بل بحضوره كضمير تأويلي يعيد ربط الإنسان بذاته، والتاريخ بمقاصده، والمعرفة بسؤالها النبيل: ماذا يعني أن نفكر لنكون أكثر إنسانية؟

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 10 يونيو 2025 23:29

 

في إطار ابستمولوجيات الفضائل التي هي مبحث فلسفي جديد، بلورت الفيلسوفة البريطانية ميراندا فرايكر نموذجَ غياب العدالة الابستمية الذي تعني به أشكالَ الغبن والتفاوت الصادرة عن خلفيات معرفية وإدراكية، غالباً ما تكون غير واعية. وفي هذا السياق، تميز فرايكر بين نموذجين من غياب العدالة المعرفية،، يتعلق أولهما بالشهادة والتزكية ويتعلق ثانيهما بالتأويل والفهم.

النموذج الأول يعود إلى المصادرات القبْلية المسبقة ذات الصلة بالمنزلة الاجتماعية، مثل وضع المجموعات المهمشة والمقصية لأسباب تاريخية أو ظرفية حالية، بما يولد ضرباً من التشكك والتوجس إزاء أقوالها وشهاداتها، بغض النظر عن مضامين الخطابات والأفكار نفسها.

 أما النموذج الثاني، فينبع من المصادر التأويلية المتقاسمة التي تحول دون دمج واستيعاب بعض أنماط الخطاب والقول في دائرة المعقولية والمعنى، لكونها غير قابلة للضم إلى النسق المرجعي القائم.

 ما تؤكد عليه فرايكر هو أن حالات الاستغلال والغبن لا تتعلق دوماً بسياسات التمييز والاستغلال الاقتصادية (كما يرى اليسار التقليدي)، بل قد تنتج عن العوامل الثقافية ومحددات التمثل والتصور، أي صراع التصنيفات الذي كثيراً ما يلتبس بصراع الأصناف (الطبقات والفئات الاجتماعية).

 ومن هنا تبنت فرايكر مقاييس ابستمولوجيا الفضائل التي تعتبر أن نظريات المعرفة بنيت تقليدياً على مرجعية النص أوالخطاب من حيث براهينه الداخلية ومضمونه الموضوعي، دون اعتبار للوضع الأخلاقي لحالة المؤلف أو منتج القول. ووفق هذه الرؤية، لا تقاس صلاحية الخطاب بنسقه الدلالي أو قوته البرهانية، والحال أن المعارف الإنسانية ظنية احتمالية، لا توجد فيها حقائق مطلقة ولا يمكن التأكد علمياً من حقيقتها، ولذا كان من الأجدى التركيز على ظروف إنتاجها ومعايير تشكلها من حيث القيم الثقافية والضوابط المنهجية التي يتبعها ويعتمدها المؤلفون.

 لقد بلور القدماء، منذ أرسطو، منهجيةَ المنطق الصوري الذي اعتبروه ميزاناً لقياس المعارف الصحيحة، ثم تخلى المحدثون عن هذا المقياس محبذين المنهج الرياضي التحققي الذي وضعه ديكارت وطوّره فلاسفة العلم المعاصرون، قبل أن يكتشفوا أنه غير مجد في المعارف الإنسانية التي هي تجارب تأويلية تُنال بالفهم لا بالتفسير، وبالحدس لا بالبرهان الموضوعي.

 بيد أن الفكر الإنساني الحديث ظل متشبثاً بفكرة الكونية المعرفية، أي خضوع كل المجتمعات البشرية لنفس النماذج التفسيرية، على اختلاف سياقاتها التاريخية والاجتماعية.

ومنذ هيغل تكرست هذه الرؤية الخطية للتاريخ الإنساني في سيرورته الأحادية، وقدم فيلسوف الوضعية أوغست كونت قانوناً مرجعياً لهذه السيرورة في محطاته الثلاث المشهورة، قبل أن يدعي ماركس أنه اكتشف قوانين التاريخ البشري.

 إلا أن الأمر هنا لا يتعلق بمجرد خيارات فلسفية، بل باتجاه كامل سيطر على الدراسات الإنسانية، ولم تضعفه الاكتشافات الانتروبولوجية للمجتمعات المغايرة التي أطلق عليها الجيل الأول من علماء الأثنولوجيا عبارة «شعوب متوحشة» أو «بدائية».

 لقد طرح المفكر الأرجنتيني «والتر ميغنولو» خيارَ «العصيان المعرفي» epistemic disobedience في مواجهة ما اعتبره «السردية الغربية» التي قامت على احتكار الكونية وإقصاء الثقافات الأخرى من دائرة المعقولية والحقيقة. والهدف هنا هو بوضوح محاربة الهيمنة المعرفية الغربية وإعادة الاعتبار لابستمولوجيات الهامش (في أفريقيا وأميركا الجنوبية أساساً)، تقويضاً لمسلّمة اختصاص الغرب بالعلم والمعنى. ومن الجلي أن هذا الاتجاه أصبح له تأثير واسع في بلدان الجنوب، لكنه لم يؤد إلى نتاج فكري نوعي، في ما وراء المحاولات الهشة لاكتشاف فلسفة أفريقية شفهية بالاستناد إلى تراث الحكمة المحلي (فلسفة البانتو مثلاً)، أو السعي لاستبدال العلوم التجريبية بالممارسات السحرية والطوطمية في أميركا اللاتينية، وهو الاتجاه الذي بدأ مبكراً في أعمال عالم الأنتربولوجيا الفرنسي المعروف كلود ليفي شتراوس.

 فكرة العصيان المعرفي لتحقيق مطلب العدالة الابستمية الذي تحدثت عنه ميراندا فرايكر لا غبارَ عليه، وليس مدارَ اعتراض، إلا أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن نماذج وأدوات العلوم الإنسانية لا تزال من إبداع وإنتاج علماء غربيين.

 بل إن فكرة العصيان المعرفي ذاتها نشأت من داخل الفكر الغربي نفسه، مع محاولات الفيلسوف الألماني نيتشه في نهاية القرن التاسع عشر إبطالَ التصور الثابت الذي قامت عليه الحداثة الأوروبية، أعني كونية العقل الذاتي وحياديته المعيارية. فمفكرو ما بعد الكولونيالية مضطرون اليوم للرجوع إلى التيارات التفكيكية والنقدية الغربية في الحملة الهجومية على المركزية الثقافية والمعرفية الغربية، وهم بهذا المعنى يعبرون عن أحد وجوه وتجليات الحداثة الغربية التي يتوهمون الخروج عليها!

***

السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 8 يونيو 2025 23:45

نبَّه المفكر الصديق السيد ولد أباه في جريدة «الاتحاد» الزاهرة («وجهات نظر»، في 2 يونيو 2025) إلى وفاة الفيلسوف الأميركي ألسدير ماكنتاير، صاحب الكتاب الشهير «ما بعد الفضيلة». وقد بدأ ماكنتاير كتاباته بين الفلسفة والأخلاق في ثمانينيات القرن العشرين بالنقاش الناقد لأطروحة فيلسوف القانون الأميركي جون راولز في كتابه «نظرية العدالة» (1971).

وتحت ضغوط حرب فيتنام والتفوق الأخلاقي لليسار في أفكاره حول العدل الاجتماعي والسلام، قدّم راولز حلولاً للأنظمة الليبرالية من داخلها، والتي اعتبرها إنقاذاً وتطويراً في الوقت نفسه. لقد بقيت الحقوق الفردية مسيطرةً في النظام السياسي، إنما ينبغي التعويض بشكلٍ ما على أولئك الأدنى حظاً في النظام السياسي والمجتمعي. لقد أنكر راولز أنه بقي أسيراً لنفعوية جون ستيورت ميل، وفي السياق نفسه ظلَّ بعيداً عن الجماعاتية الماركسية.

ألسدير ماكنتاير لم يكن ماركسياً، وقد اعتنق الكاثوليكية كما فهم لاهوتَها توما الأكويني، لكن جماعاتيته لم تبدأ من عند الأكويني بل من عند أرسطو الفيلسوف اليوناني الشهير في أطروحته حول السياسة والأخلاق إلى نيقوماخوس بشأن «العيش معاً» أو العيش المشترك. فالفرد له حقوقه الطبيعية الأساسية، لكنه لا يستطيع تعقلَها أو ممارستَها إلاّ من خلال المجتمع في تشاركيته وقيمه الجمعية. فحتى المبادرات التي تُعتبر فردية لا يمكن ممارستها إلاّ في الجماعة ومعها.

لا يستقل الفرد بإنتاج أساسياته في المأكل والملبس والمسكن، وهو لا يحس حتى بفرديته إلاّ من خلال الاعتماد المتبادل. وما هو ظاهرة طبيعية في المجتمعات صار له معنىً أخلاقي لدى توما الأكويني (المحبة والتضحية، ومن الجماعة الصغيرة إلى مجتمع المدينة أو دولتها). منذ ديكارت والتنوير تطورت تلك العملقة للفرد والفردانية. وتمخضت عنها في الفكر والأنظمة السياسية راديكاليتان: راديكالية الفردانية في الأنظمة الليبرالية، وراديكالية الشمولية في الأنظمة الشيوعية. راولز، واستناداً إلى كانط، قال بالدستورية التي اهتمت بالتقنين لحقوق الأفراد، ولأن تطوراتها جرت خارج الدينين الكاثوليكي والبروتستانتي فقد تجنبت الأخلاقي والقيمي والخيري باعتبار ذلك كلّه خارجاً عن حقوق الأفراد التي يضمنها القانون، ولا علاقة لذلك بالأخلاق والفضائل الإنسانية التي اعتبرتها مستندةً للدين! «أماراتيا صن»، المفكر الاقتصادي الأميركي من أصلٍ هندي، والحاصل على جائزة نوبل، ذكر في كتابه «الهوية والعنف» (2006) أن العدالة في المجتمع تتناول الاقتصادَ ضرورةً، ليبقى المجتمع متوازناً ومستقراً.

أما ألسدير ماكنتاير فرأى أنه لا حاجة إلى هذا الخوف من فكرة الخير العام، وهو ظاهرةٌ اجتماعيةٌ وإنسانية، ولها ظلال دينية، وهي ظاهرة في الفلسفة الإنسانية ما بين أرسطو (القانون الطبيعي للعيش معاً) وتوما الأكويني الذي اعتبر الأصولَ الدينية للخير الإنساني والعام. شكّلت فلسفة ألسدير ماكنتاير (أصول الفضيلة) تياراً بين الجماعاتيين. أما اليساريون من بينهم فأرادوا تجنب نفعوية ستيورت ميل. بينما أراد ماكنتاير، غير اليساري، في كتبه، وبخاصةٍ كتابه «ما بعد الفضيلة»، ثم دراساته عن الأخلاق في أزمنة الحداثة، أن يُماهي بين الأخلاق والفضيلة والخير العام، باعتبار ذلك كلّه خلاصةً للفلسفة الإنسانية المتقدمة في المجتمع المدني والعالمي.

ماكنتاير عميق الإيمان بعصمة الجماعة إذا صحّ التعبير، ولذا لا يرى مانعاً في أن تكون دولة الجماعة هي دولة العدالة والخير معاً، سواء أكان ذلك بالمعنى الإنساني أو بالمعنى التقوي الديني. فالخير (رأس الفضائل) تمارسه المجتمعات بالعطاء بشتى أشكاله وصيغه. وكذلك ينبغي أن يكون شأن الدول التي تطبق قوانين المواطنة والعدالة، أما دوافع سياساتها فهي الخير العام الذي يهب القانون طابعه الإنساني.

***

د. رضوان السيد

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 7 يونيو 2025 23:45

 

تعبّر الفلسفات باستمرار عن زمانيتها، فكل نظريةٍ تحمل معها لحظة انبجاس، منذ الإغريق وحتى اليوم. ونلاحظ أن الفلسفات تزداد مأساويةٍ مع تفاقم العثرات، ومشاهد النهايات. لن نتحدث عن معارك إسبرطة وأثينا، وإنما عن انبعاث الفلسفات الحزينة التي لقيت رواجاً لدى العالم في الثلث الأول من القرن العشرين، ومن ثمّ تلقّفها بعض المثقفين العرب بعد الهزيمة في 1967، حيث راجت الفلسفات الوجودية، والأحزان، والمشاعر الخلاصية، واتجه معظم المثقفين نحو هذه الحالة من النشيج الصاعد، وتحولت القصائد والكتب والأفكار إلى ملاحم من الدموع والنواح بل والبكاء. في مقدّمة تلك النظريات التي لقيت رواجها عربياً الفلسفة الوجودية.

وما كان رواجها نظريّاً فلسفيّاً بقدر ما ذُهب بها نحو الشعر والاحتجاج. اتجه المثقفون نحو كيركغارد وألبير كامو وسيوران، ولهذا الاسم الأخير حيويّته التي تؤثر على جيلٍ من الروائيين والمثقفين حتى اليوم، حيث يشعرون بالعزاء كلما زاد النواح والبكاء. إميل سيوران فيلسوف وكاتب روماني، من مواليد عام 1911، نشر أعماله باللغتين الفرنسية والرومانية، ولد في قرية رازيناري، إحدى قرى ترانسيلفانيا الرومانية، والتي كانت في تلك الفترة تابعة للإمبراطورية النمساوية المجرية. سيوران لم يكن إلا «شاعر الغضب». لم يمسك بناصية النظرية الفلسفية قط. إنه شاعر مشؤوم وحزين، وقصته غاية في التشرذم.

وألفت لتحليل مهم لإبراهيم جركس في بحثه بعنوان: «ماذا يعلمنا سيوران عن الحياة» حين قال: «وجهة نظر سيوران هي أنّك حين تحاول التخلّص من مشاعر الخوف والحزن تجاه الوجود وإنكارها، فإنّ ما تفعله حقاً هو عدم أصالة فكريّة. أنت لا تحبّ عدم الارتياح الذي تولّده فيك هذه المشاعر، لذلك تحاول أن تجد بعض التبريرات العقلانية للحياة التي تسمح لك بالشعور بتفاؤل أكثر. وهو يقول إنّ ما تفعله في الوقت نفسه هو تقييد نفسك بعقيدة الأمل الكاذب بأمور أسمى. الآن، مرّة أخرى، وعلى المستوى السطحي، قد يبدو الأمر محبطاً. وقد يخرج شخص ما من تلك النقطة بموقف مثل، «حسناً، ما الهدف من فعل أي شيء؟».

ولكن على مستوى أعمق، ما يقوله سيوران هنا هو مجرد التفكير في عدد الاحتمالات التي أصبحت مستحيلة بالنسبة لك عندما ربطتَ نفسك بعقيدة التفاؤل والأمل هذه». الخلاصة، أن الفلسفة عنوانها النظريّة القويّة العتيدة، فهي لا تبنى على الأحزان والدموع والشعر، حين تقرأ لفلاسفة كبار مثل كانط أو نيتشه أو هيدغر أو هوسرل أو سارتر وغيرهم الكثير تعرف أن الفلسفة وظيفتُها تكمن في إمداد الإنسان بالقوّة والحيوية والطاقة.

إن الاستسلام لأفكار البدايات والنهايات من دون تفسير اللحظة والزمن هو ضربٌ من الشعر والهذيان العام. الفلسفة أكبر من أن تختصر بمقولاتٍ وشذراتٍ عن البدء والنهاية، إنها تفسّر لحظتك التي بين يديك الآن، وعليه فإن صيغة سيوران الشعرية سببت الكثير من الآثار النفسية الكارثية، وبنظري أن مجاله روائي وشعري أكثر منه نظري فلسفي، بل وتفتقر أفكاره للحيوية الدنيوية، ولهذه الفكرة تتمة في المقالة التالية.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 27 مايو 2025 00:59

حين نتأمل في العلاقة الأولى التي تربط الإنسان بالعالم، نجد أنها لا تنشأ من سيطرة، ولا من حاجة، بل من رؤية: أن يُرى، أن يُلتقط حضوره من قبل عين الآخر. من هنا تبدأ كل قصة للكينونة، ومن هنا أيضاً تبدأ كل أزمة للوجود. فالاعتراف ليس مجرّد اتفاق اجتماعي أو اعتراف قانوني، إنه الشكل الأعمق للقبول بالآخر بوصفه جديراً بالحضور، مشاركاً في المعنى، ومحمولاً على القيمة. ومن هنا تتأسّس كل هوية، لا عبر انفصال الذات عن الآخر، بل عبر انتزاع الذات لمكانتها ضمن أفق أخلاقي مشترك. لكن هل يكفي أن يوجد الإنسان ليُرى؟ أم أن الرؤية مشروطة بمنطق لا يملكه، بقواعد يجهلها، وبسلطة توزيع خفيّة تتحكم في مَن يُعترف به ومَن يُقصى من دفاتر الوجود؟

في هذا السياق، لا يمكن فصل مطلب الاعتراف عن بنية المجتمع الرمزية. فما من ظلم أعمق من أن تكون حاضراً بلا أثر، مرئياً بلا اعتبار، متكلماً بلغة لا تجد أذناً تصغي إليها. إننا لا نُقصى فقط حين تُسلب منا الحقوق، بل حين يُعاد تأطيرنا ضمن تمثيلات تختزلنا أو تشوّه حضورنا أو تلغي تعددنا.

وهذا ما عبّر عنه أكسل هونيث حين قال إن المجتمع الذي لا يتيح لأفراده تحقيق ذواتهم دون المرور من تجربة الاحتقار، ليس مجتمعاً عادلاً بل هو جهاز يُعيد إنتاج الإقصاء ضمن أشكالٍ متقنة من الصمت أو التمويه أو التبرير. لكن، هل الاعتراف مسألة تخصّ فقط الفئات المهمشة أو الأقليات؟ أم أنه بنية كامنة في كل علاقة بشرية، في كل تفاوض ضمني حول القيمة، في كل سياق نُمنح فيه مكانة أو يُنكر علينا الحق في الظهور؟

هنا، تبرز أهمية ما نبّه إليه عالم الاجتماع الفرنسي أوليفي فوارول، حين دعا إلى تجاوز التفسير التبسيطي الذي يحصر الصراع من أجل الاعتراف في رهانات الهويات والاندماج الرمزي، ليؤكد أن الاعتراف هو محرك أعمق للنزاعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل هو مفتاح لفهم التجارب الأخلاقية التي تُنتج الفعل الجماعي ذاته. الاعتراف، إذاً، لا يُختزل في فعل صادر عن طرف قوي لطرف ضعيف، بل هو التقاءٌ بين ذوات تُدرك أن وجودها لا يكتمل إلا حين يُؤخذ على محمل الجد.

وليس في الأمر أي نزعة مثالية: فالكرامة لا تحتاج إلى شروط تبريرية لتُمنح، ولا إلى انتماء وظيفي لتُحتسب. بل إن الخطر كل الخطر أن يُعاد تشكيل العلاقات الإنسانية ضمن مبدأ النفعية أو التمثيل المصلحي، بحيث يُمنح الاعتراف على أساس التكيّف، لا على أساس الأصالة، على أساس التشابه، لا على أساس الفرادة. في لحظة كهذه، يصبح الصراع على الاعتراف ليس مجرد تعبير عن التوترات، بل مرآة تعكس هشاشة البنية الأخلاقية للمجتمع. فما من مجتمع يمكن أن يدّعي الاستقرار، وهو يعيد بشكل دوري إنتاج فئات غير مرئية، غير مذكورة، غير معترف بها. إن الذين لا يُسمح لهم بأن يكونوا ذواتاً، يُعاد إنتاجهم كصدى باهت، أو ككائنات تُرى ولا يُصغى إليها.

وحين لا يجد الفرد مرآةً يرى فيها ذاتَه، فإنه يتيه بين صور الآخرين، أو ينكفئ إلى الداخل، أو ينفجر في وجه مَن تجاهله. هل نملك شجاعة إعادة بناء نظام القيم الذي يوزّع الاعتراف؟ هل يمكن أن نُؤسس لعلاقات يكون فيها الاعتراف غير مشروط، وغير مسوّغ، بل بدهي؟ وهل نمتلك القدرة على تربية أجيال لا تتعلم فقط كيف تطالب بالاعتراف، بل كيف تمنحه دون تردد، دون منّة، ودون ميزان مزدوج؟ قد لا تكون الإجابة قريبة، لكن السؤال ذاته هو علامة الوعي بأن الإنسان لا يُصبح إنساناً كاملاً إلا حين يُرى، ويُسمع، ويُحترم.. فهل نحن مستعدون لأن نرى ما لم نكن نراه؟

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 3 يونيو 2025 23:30

 

في المثقف اليوم