اخترنا لكم

دانيال دينيكولا في محاولة لفهمه

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة. وفي الحكاية، فإن الجهل مثل مجموعة من البشر تقطن في ظلام كهف تحت الأرض، مقيدة من الساقين والرقبة حتى تتعذر عليهم الحركة حتى لإدارة رؤوسهم، ولا تتوفر لديهم ذاكرة أخرى للحياة؛ لأنهم سُجنوا بهذه الطريقة منذ الطفولة. أمامهم، لا يرون سوى الظلال المتحركة التي تُلقيها أشياء غير معروفة لهم، مضاءة بنار متراقصة يخبرنا أفلاطون أنها تقع في مكانٍ ما خلفهم لا يمكنهم رؤيته. هذه المجموعة من البشر التعساء لا تعرف شيئاً عن هذا العالم سوى تلك الظلال، ولا تسمع سوى أصداء من أصوات الحراس، الذين لم يسبق لهم أن رأوهم قط. وعلى هذه الحال يقضون أيامهم.

«الجهل» في هذا التمثيل المروّع ليس مجرد كهف مظلم فحسب، بل مأزق شديد ومحنة تامة عدّها أفلاطون أسوأ من السجن، وأبشع من العبودية، وأقرب إلى الموت، فيقول، مستعيراً من «الأوديسة» لهوميروس عند إشارته إلى الموتى الذين يقطنون في جحيم الآخرة، حيث يظلّ «من الأفضل أن تكون خادماً متواضعاً لسيد فقير، وأن تتحمل أي شيء في هذه الدنيا، بدلاً من أن تعيش وترى ما يرون». وبينما نتأمل هذا المأزق الأفلاطونيّ المحكم، ندرك أن غياب الحريّة - وفي الصورة هنا حجز الحركة الجسديّة - يحصر عالم تجربة البشر في لُجة الجهل العميق، ويمنع عنهم خوض تجارب جديدة تتيح لهم التعلم وتفتح أمامهم آفاقاً مغايرة لما عهدوه، فيعجزون عن فهم الأشياء، أو الانشغال بأمور ذات قيمة، أو تذوق أي قيمة من قيم الجمال. إن الجهل يبدو، وفق أفلاطون، وكأنه نتاج العجز، على أن الجهلة، في حكايته، لا يدركون ولا يمكنهم أن يستوعبوا طبيعة محنتهم التي فيها يرزحون، إذ سيؤمنون في كل وقت بأن الحقيقة ليست سوى تلك الظلال المتراقصة أمامهم على جدار الكهف، وستكون تجارب حياتهم مزيجاً من خيالات مختلطة برجع صدى أصوات حرّاسهم.

كهف أفلاطون بالطبع محض خيال، وسرعان ما يشعر قارئ «الجمهوريّة» بالامتنان، لبُعدنا عن ذلك المكان القاسي والخانق بسجنائه المساكين، لكن بعد ذلك، وبشكل مرتجل تقريباً، يأتي بيان أفلاطون الصارخ والمخيف: «إنهم مثلنا، وتلك صورتنا». ومن هذه النقطة تحديداً ينطلق دانيال دينيكولا، أستاذ الفلسفة في كلية جيتيسبيرغ بولاية بنسلفانيا، في كتابه الصادر عن مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؛ «فهم للجهل: التأثير الصادم لما قد لا نعرفه*»، في رحلة لاكتشاف أبعاد بحر الجهل، والتدليل على أنّه أبعد ما يكون عن مجرّد نقص في المعرفة.

يأتي هذا الكتاب في وقت من تاريخ العالم يُعرَف بعصر المعلومات، حيث لم تعد المعارف نخبوية الطابع بعيدة عن متناول الأكثرية، كما ظلّت عبر آلاف السنين، ومع ذلك يرى دينيكولا أننا قد لا نكون في كثير من الأحايين على دراية كافية، ناهيك عن تفشي المعارف الخاطئة، والاعتقادات الباطلة، والتعامي الاختياريّ، والأخبار المزيفة.

يبدو هدف دينيكولا هنا أبعد من تقديم مطارحة فلسفيّة في الأبستمولوجيا (علم المعرفة)، إذ يصرّ، في غالب الوقت على الأقل، أن يُبقي الجدل قريباً من خبرة القارئ غير المتخصص، فيبدّد من أمامه المفاهيم الخاطئة الشائعة فيما يتعلق بظاهرة الجهل بوصفه أكثر من مجرد نقص أو غياب للمعلومات، بل نتاج تفاعلات ديناميكية ومعقدة مع المعرفة، مستعيداً التمييز - الشهير الآن بفضل خطاب لدونالد رامسفيلد (وزير دفاع الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش) - بين معلوم معلوم، ومجهول معلوم، ومجهول مجهول وكذلك معلوم مجهول، مستعيناً باستعارات مجازية لمقاربة الجهل: بصفته مكاناً، وحدوداً، وسدّاً، وتوجهاً.

يمكن للجهل أن يصوّر أقرب ما يكون إلى مكان/ زمان نسكن فيه: كهف أفلاطون - حيث الجهلة لا يدركون جهلهم ويركنون إلى اعتيادهم إياه ويعادون مَن قد يحاول لفت انتباههم إلى ما سواه فيحسبونه مُهَرطِقاً أو ضحية نظرية مؤامرة عليهم، مقابل فردوس «دانتي» مثلاً، نقيض الجحيم، حيث الجهل حالة سعادة يكتنفها انعدام للوعي.

الجهل ليس مجرد كهف مظلم فحسب، بل مأزق شديد ومحنة تامة عدّها أفلاطون أسوأ من السجن

أيضاً يمكن تصوّر الجهل بوصفه حدوداً فاصلة تُوقف تمدد معرفتنا، سواء الفرديّة أم الجماعيّة، لكن المساحة خارج تلك الحدود هائلة ومليئة بالوعود، والحدود نفسها ليست نهائيّة، ويمكن دائماً تحريكها من خلال التعلّم، لكن المسافة التي يمكن لبشريٍّ قطعها يومياً في استكشاف المعرفة؛ دونها سقوف، إذ لو قرأ المرء كتاباً في كل يوم من حياته فإن ذلك يبقى أقل من مجموع الكتب التي تُنشر سنوياً في الولايات المتحدة وحدها.

يمكن فهم الجهل كذلك بوصفه سداً نُشيّده باختيارنا عندما ننتخب ألا نعرف شيئاً، لاعتقادنا أنّه لا يستحق تكلفة المعرفة، أو لأنه لا يتناسب مع يقينياتنا الأيديولوجيّة، أو دوافعنا السيكولوجيّة العميقة.

وأخيراً، تخلق هذه الأماكن/ الحالات التي نخلد إليها، والحدود التي نقف أمامها، والسدود التي نختار تعليتها ما يمكن عدُّه أفقاً وتوجهاً لمقاربة الإنسان - والمجتمع - أيضاً علاقته بالعالم.

ومع توضيحه أشكال الجهل، يستعرض دينيكولا عدداً من مظاهره في مجتمعاتنا المعاصرة، ويطرح أيضاً تناقضات أخلاقية تتعلق به، إذ بينما يجري التعامل مع تجريد الجهل على أنه شيء مريع ينبغي القضاء عليه، يرى أيضاً أن بناء الثقة يتطلب أحياناً تقبُّل درجة معينة من الجهل، ثم يقترح منهجيات ممكنة لإدارة جهلنا من خلال الفضول، والسعي للمعرفة، وإلزامية التعليم، وتوظيف علوم الإحصاء والاحتمالات، وكذلك تنظيم العلاقات الاجتماعيّة من خلال الوعود، والعقود، والاتفاقيات، والالتزامات المتبادلة.

ولعلَّ أثمن ما ينتهي إليه دينيكولا في محاولته هذه القبض على الجهل هو تحذيره من الهدر على المستويين الفردي والجماعيّ الملازم للثقافة المجتمعية التي يصبح فيها الجهل مكوناً من التوجه الأيديولوجيّ، ومن ثمّ زعمه أن «الاعتراف بإمكانية جهلنا - حيث قد لا ندرك حدود فهمنا - هو باب الحكمة الذي وحده يفضي إلى مجال معرفي يسمح لنا بأن ندَع عنّا المعارف الخاطئة، ونقلل مساحة جهلنا العنيد بطلب المعارف؛ ولو بتعب وألم يرافق عملية التعلم».

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 5 أكتوبر 2024 م ـ 02 ربيع الثاني 1446 هـ

الحقيقة تلك الضالة التي ركضت خلفها العقولُ على مدى وجودِ الإنسان في هذا الكون. العلماء والباحثون والمفكرون والفلاسفة والأدباء، كلٌ قضى عمرَه بين الكتب، والمختبرات والمعامل، من أجل الوصول أو الاقتراب من إجابة عن أسئلة، نمت في عقله، حول أسئلة فكرية أو علمية.

المفكر والروائي والفيلسوف الإيطالي أومبيرتو إيكو، أحد الذين قضوا أعمارهم يجوبون طيات الزمن، وخطوات الإنسان الطويلة، بحثاً عن الحقيقة.

صدر مؤخراً كتاب باللغة الإيطالية بعنوان، «أية حقيقة؟» ضمَّ محاضرات ومقالات ونقاشات وندوات للمفكر الروائي أومبيرتو إيكو. الكتاب في 168 صفحة من الحجم المتوسط، لكنَّه يحتوي على عصارة مركزة، لفكر الرجل الذي يعدّ من رموز القرنين العشرين والحادي والعشرين، في الأدب والفلسفة والتعليم.

وُلد إيكو في مدينة ألكساندريا بشمال إيطاليا سنة 1932، في عائلة كبيرة. درس بكلية الآداب، وتخصص في فكر وفلسفة توما الإكويني، الذي يعدّ من كبار اللاهوتيين والفلاسفة في الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، ورفعته الكنيسة إلى درجة القديس. درس الفلسفة اليونانية، وكذلك الدين والفلسفة الإسلامية عبر فكر ابن رشد. في تلك العصور ربطت الكنيسة الفلسفة بالهرطقة، وتعرّض الإكويني للملاحقة. اهتم أومبيرتو إيكو مبكراً بفلسفة الجمال في العصور الوسطى، على الرغم من أنها لم تحمل هذا العنوان آنذاك، لكنه وجدها في فكر الإكويني، وكانت أطروحته للدكتوراه عن توما الإكويني. انطلق إيكو في رحلته الطويلة وراء الحقيقة. اهتم بالسيميائية ودرسها وعلمها، وأضاف الكثير إلى مفهوم الهيرمونيطيقا، أو ما يمكن أن يطلق عليه التأويل. كتب الكثير عمَّا سمَّاه النص المفتوح، أي أن يكون القارئ شريكاً في النص المكتوب.

كتب إيكو الرواية، ونشر مؤلفات في الفكر والفلسفة، وكتب المقالات الصحافية، وقدم برامجَ في التلفزيون الإيطالي، وخاض الكثير من المعارك السياسية عبر وسائل الإعلام المختلفة.

في كل تلك الأعمال، كان سؤال الحقيقة، هو الحاضر دائماً.

روايته التي عبرت الآفاق، وتُرجمت إلى عشرات اللغات، وباعت ملايين النسخ في مختلف أنحاء العالم «اسم الوردة»، كانت الرحلة الطويلة في كهوف الزمن، وفي تضاريس العقول، والصراع البشري الممتد بلا حدود.

كتب إيكو، كل الأشياء تندثر، ولا يبقى منها إلا الأسماء. تلك الرواية التي جرى تحويلها فيلماً، تحركت في دوائر العصور الوسطى، مكتوبة بلغته. عجّت بالطلاسم والجرائم والغرائب، والحضور البوليسي، ولم تغب عن صفحاتها أنفاس السخرية. تحاور الديني مع الدنيوي في الدير الكاثوليكي الذي يعج بالغموض والصراع. الحقيقة كانت الميدان السري الغامض، الذي تدور فيه وحوله معركة، سلاحها الطمع والطموح.

في روايته التي حملت عنوان «العدد الصفر» اقترب إيكو إلى الأسلوب المباشر إلى حد كبير. العدد الصفر، هو النسخة التجريبية من الصحيفة، قبل صدورها، وعلى صفحاته تنشر أخبار عن أحداث لم تقع، وهنا تغيب الحقيقة، بفعل فاعل ومع سبق الإصرار. رواية أخرى لأومبيرتو إيكو «مقبرة براغ»، أطلق فيها العنان للخيال السياسي، وحشد فيها أحداثاً تاريخية، وبها اصطفاف لا يخلو من العنصرية والأحكام الضبابية. التجسس وبروتوكولات حكماء صهيون والخيانة والسامية. صارت الحقيقة قشة في غرفة مظلمة. بعد ذلك تطرف إيكو في الانحياز لإسرائيل والدفاع عنها بالقلم والصوت. هل كان ذلك تكفيراً عمَّا ساقه في روايته، «مقبرة براغ». زميله في الدراسة، وصديقه جاني إديتمو، كان من أشد المدافعين عن القضية الفلسطينية، وواجه إيكو في أكثر من مناظرة على وسائل الإعلام، ووضعه في موقف شديد الإحراج. قد تكون الحقيقة أحياناً، التي قضى إيكو عمره راكضاً خلفها، عصارة لزجة مراوغة، تفرّ من اليدين واللسان. في روايته «بندول فوكو»، يصب إيكو في الرواية، بأسلوب متحرك، رؤيته الفلسفية في المعرفة، التي تعبّر عن عدم الاكتمال في أي شيء. يتحرك البندول دون أن يصل إلى نهاية ما. إذ لا شيء يكتمل.

في كتاب «أية حقيقة؟» Quale Verita، يتحدث إيكو عن الكذب والتعالي، وفن إخفاء الحقيقة. في بعض وسائل الإعلام، وفي الخطابات التي يلقيها السياسيون، تسيطر الفاشية النفسية، ويصب التخويف والبطولة والحروب، في آنية الكلام والحروف، وتستحضر عقيدة ماني التي تضع النور في مواجهة الظلام، أي الخير في مواجهة الشر. تلعب الآيديولوجيا بالحقيقة، حيث تصبح الكلمات أقوى من الوقائع. استحضر إيكو دراسة الأستاذ الروسي فلاديمير بروب عن البنية الشكلية للحكايات الخرافية، واقترح صياغة بنية شكلية للكذب. وقف عند ما صدر عن بعض الزعماء السياسيين في العالم، مثل الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، في قضية ووترغيت، وما صدر عن رئيس الوزراء الإيطالي السابق بيرلسكوني في كثير من المواقف، وغيرهما. وتحدث عن السرقات الأدبية، وعما سمَّاه حروب الإنترنت على الحقيقة.

حصل أومبيرتو إيكو، على أربعين شهادة دكتوراه فخرية، وباعت روايته «اسم الوردة» أكثر من أربعين مليون نسخة. ضمت مكتبته خمسين ألف كتاب. قال في آخر أيام حياته، لم أقرأ ولم أتعلم شيئاً.

سئل أحد أصدقائه: لماذا لم يحصل إيكو على جائزة نوبل للآداب؟ أجاب: ربما كان يستحق جائزة أعلى منها. هل كان يقصد جائزة «الحقيقة»؟

***

عبد الرحمن شلقم

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: السبت - 02 ربيع الثاني 1446 هـ - 5 أكتوبر 2024 م

 

في كتابه الأخير «المعركة من أجل سياسة مقبولة: الليبرالي من حيث هو صفة»، يقدم الفيلسوف الأميركي مايكل والزر تمييزاً مهماً بين التصورات الفكرية والمجتمعية لقضايا السياسة والتغيير الاجتماعي ونمط الممارسة الليبرالية التي تستوعب أشكالاً عديدة ومتباينة من الرؤى والمواقف الفكرية والأيديولوجية.

أهمية هذا التمييز تكمن في كون الليبرالية قدّمت نفسَها في سياقات عديدة بصفتها مرادفةً للتنوير والتحديث والديمقراطية، مع أن العبارة لم تكتس دلالةً إيجابية إلا بصفة متأخرة وما تزال إلى اليوم تفتقر إلى التدقيق والتمحيص.

وفي كتابه الجديد ينطلق والزر من خلفيتين متمايزتين: النقاش الفلسفي الذي عرفته أميركا الشمالية منذ سبعينيات القرن الماضي حول معايير العدالة التوزيعية في مجتمع تعددي حر، وقد تمحور حول الجدل الليبرالي المجموعاتي بعد صدور نظرية جون رولز في العدالة، والنقاش السياسي الراهن حول علاقة الديمقراطية والليبرالية إثر تنامي الحركات الشعبوية في الغرب، والتي لا يتردد بعض رموزها في اعتماد «الديمقراطية غير الليبرالية».

وفي هذا السياق المزدوج، تغدو إشكالية الليبرالية مطروحة بقوة، مع العلم بأن المقولة تحيل في المعجم الدلالي الأميركي إلى الديمقراطية الاشتراكية بالمعنى الأوروبي، في حين تحيل في النطاق الأوروبي إلى ما هو أقرب للنزعة الرأسمالية الفردية حسب المنظور الأميركي. لا بد هنا من التذكير بأن التعددية السياسية في المجتمعات الديمقراطية الغربية تتجسد في مقاربات متنوعة أهمها: الفردانية الذاتية التي تدعو إلى تقليص سلطة الدولة إلى الحد الأدنى، والنزعة المحافظة التي تحافظ على تركة التقليد والاعتقادات المؤسسية الجماعية، والأطروحة المجموعاتية التي تتأسس على معايير الاعتراف والتعددية الثقافية.

«والزر» يرى أن كل هذه الاتجاهات لا تتعارض مع الليبرالية التي ليست بالنسبة له فلسفة كلية أو رؤية للعالم، بل هي طريقة في ممارسة السياسة تقوم على الانفتاح والتسامح وقبول التعددية ورفض العنف والتسلط والإكراه.

ولا يهم بالنسبة له التباينُ حول التصورات الجوهرية للخير المشترك، ولا يرى -على طريقة رولز- أنه يمكن تجاوزها من خلال مقاربة إجرائية صورية للعدالة، فالاعتبارات الأخلاقية العقدية تظل دوماً حاضرة مهما حاولنا التحرر منها، بل إنها مطلوبة ومفيدة لما تقدمه من دوافع فاعلة لممارسة العدالة وتوجيه سلوكيات الأفراد والمجموعات.إلا أن ما يميز الليبرالي هو ما سماه آخرون «الحياد الأبستمي» في الممارسة السياسية العملية، أي قبول التعددية والتنوع والتسامح مع الآراء المغايرة، وعدم السعي لفرض الرأي الخاص بالقوة والتحكم.

المشكل مع الشعبويات الجديدة ليس إذاً في توجهاتها اليمينية القومية أو المحافظة، بل في ميولها التسلطية الأحادية، وفي زعمها أنها تجسد روح الأمة أو الإجماع الشعبي، والحال أنها تعبر عن خيارات سياسية ظرفية مشروعة لكنها ليست مطلقة ولا نهائية.

وكما أن المشكل في الأيديولوجيات الاشتراكية الراديكالية، التي سيطرت بعد الحرب العالمية الثانية على مناطق واسعة في العالم، ليس توجهها الأيديولوجي في ذاته، والذي هو أحد أوجه التصور والرأي المتولدة عن المعادلة الصناعية الطبقية، بل الممارسة السياسية المغلقة والدوغمائية.. فإن الديناميكية الشعبوية التي أفرزتها تحولات الديمقراطية التعددية تشكل اليوم خطراً جديداً على المنظومة الليبرالية التي هي روح الديمقراطية نفسها.

وفي كثير من الساحات، كما هو شأن بلدان الجنوب بما فيها دول عالمنا العربي الإسلامي، ينظر إلى الديمقراطية كمجرد مسطرة إجرائية انتخابية لحسم الصراع السياسي، بمنأى عن العقل الليبرالي التعددي، بما أفضى في حالات كثيرة إلى نجاح وتحكم قوى سياسية وأيديولوجية متزمتة ومنغلقة رافضة لقيم التعددية والتسامح التي هي جوهر الليبرالية.

وكان فيلسوف الليبرالية الأهم في العصر الحاضر جون رولز قد تحدث، في كتابه «قانون الشعوب»، عن ما سماه «المجتمعات المقبولة» descent society التي وإن كانت تراتبية وغير ليبرالية، إلا أنها تشترك مع المجتمعات الليبرالية في خاصيتين محوريتين: جودة التنظيم والعقلانية، مما يسمح لها بأن تكون مكوناً فاعلا في نظام العلاقات الدولية.

والسؤال المطروح اليوم في بلداننا التي عرف بعضُها في السنوات الأخيرة أزمات حادة في نمط الانتقال السياسي، دون أن تتمكن من العبور الآمن إلى الديمقراطية التعددية، هو: هل نحتاج إلى ليبرالية المؤسسات والنظم أم إلى العقل الليبرالي نفسه بصفته الشرط الذي لا غنى عنه في ممارسة سياسية منفتحة ومتسامحة؟

بدون العقل الليبرالي، تتحول الإجراءات الانتخابية إلى ممارسة شكلية تفضي إلى نمط من الهيمنة «الشرعية» التي تقضي على تعددية الأفكار والآراء وتفرض باسم الإرادة الشعبية الموهومة مقاربةً أيديولوجية تقسِّم المجتمع وتؤدي به إلى العنف والتناحر.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

6 أكتوبر 2024 23:45

هل يعيد التاريخ نفسه؟ قال كار ل ماركس ساخراً: لا يعيد التاريخُ نفسَه، لكنه إن فعل يكون في المرة الأولى مأساة، وفي الثانية ملهاة أو كوميديا! ولستُ أذهب لذلك، فقد جرت من قبل أحداثٌ مشابهة لما يحدث الآن بين إسرائيل والعرب، أو بينها وبين إيران، وكانت مأساوية، وما يحدث منذ عام أش دّ مأساوية من كل المرات السابقة.

لكنّ ماركس كان يسخر، فالتاريخ لا يعيد نفسَه، بل كان يقصد أنّ المنتصر والخائب كليهما يصبح مضحكاً إن لم يتعلم من الدرس الأول، وحاول الإعادة بالطريقة نفسها. لدى الإسرائيليين وهمٌ أو أوهامٌ في هذه الفترة على الأقلّ بأنه يمكن من خلال التفوق العسكري والأمني والدعم الأميركي القضاء على حلم الدولة الفلسطينية.

وتقع القضية الفلسطينية منذ ثمانينيات القرن الماضي بين مأزقين: مأزق عدم القدرة العربية والفلسطينية على بلوغ هدف استعادة الأرض، ومأزق إصرار الإسرائيليين على إلغاء حقوق أكثر من سبعة ملايين فلسطيني من أجل بقاء دولتهم يهودية نقية فيما بين النهر والبحر. وبمقتضى أوسلو (1993) تخلّى كلٌّ من الطرفين عن بعض الحُلُم أو حدوده القصوى. لكنّ بعضهم الآخر غير الموافق من الطرفين تمكن من إنهاء الاتفاق، فانصبّ الجهد من جانب الدولة العبرية العميقة على إبعاد العرب عن فلسطين وعلى قسمة الفلسطينيين.

أما العرب، ومعهم السلطة الفلسطينية الضعيفة (حتى في نظر رعاياها)، فقد ظلُّوا على الإيمان باتفاقيات أوسلو، وضرورة تطويرها كما كان مخطَّطاً باعتبارها الحلَّ الوحيد السلمي والممكن. لكن الفلسطينيين الرافضين للحلّ السلمي استعانوا بإيران لتدعمهم في مواجهة الاحتلال.

ولأنّ الإيرانيين كان لديهم مشروع استراتيجي في المنطقة العربية، فقد رأوا أن حمْل راية فلسطين كان ملائماً. لقد ملأوا الفراغ الذي أحدثه غياب السلام بدعم حركات التحرير المذهبية والدينية، وتصدوا في الوقت نفسه لأميركا التي يساومونها عبر التحرش بإسرائيل من خلال الميليشيات التي نشروها في بعض الدول العربية المجاورة لها.

وما حققوا مكاسب في مواجهة إسرائيل، لكنهم نجحوا في السيطرة على بعض الدول العربية، وفي التنازلات التي منحتهم إياها الولايات المتحدة في فترة الإعراض عن العرب، وشن الحرب العالمية على الإرهاب. تعددت الأهداف الاستراتيجية لإيران، ومن ضمنها النووي، وظلت على الاعتقاد الذي غذاه الجنرال سليماني بأن الميليشيات المنشورة، وبخاصةٍ «حزب الله»، قادرة على أن تظل أداة صالحة لإحقاق الأهداف القديمة والمستجدة.

كان هجوم «طوفان الأقصى»، بعد نداءات «وحدة الساحات» من حسن نصر الله، خطأً مأساوياً في التقدير. فقد ردَّت حكومة نتنياهو، وبدعم أميركي مطلق، بتدمير غزة خلال عام، ثم ارتأت ليس تدمير منطقة الليطاني اللبنانية لإبعاد الحزب، بل تدمير الحزب نفسه، ودائماً بدعم أميركي هائل.

قضية فلسطين وشعبها لن تزول، فقد حضرت قبل «حماس» وستبقى بعدها. والشعب اللبناني ذو الخمسة ملايين نسمة لا يمكنه البقاء دولة ذات سيادة إلا بزوال السلاح والمسلحين من على أرضه، ومعهم الاستخدامات الإيرانية. وثمة حاجة إلى مراجعةٍ جذرية للتقديرات والسياسات التي خالطتها أوهام كثيرة.. فهل يحدث ذلك؟

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 6 أكتوبر 2024 00:24

 

يبدو من اللافت تبدل السياقات والمفاهيم والدلالات في المنظور الإنساني والفلسفي والثقافي، بحيث تبدو أكثر جدوى في استثمارها وطبيعة فهمها، وبخاصة حين تتعلق بالمفاهيم التي لطالما تعرفنا عليها وبنينا في ذهنيتنا الباطنة، الواعية واللاواعية، وصفاً «سلبياً» بحقها.

ومن الأمور التي تدعو للفخر ضِمن التغير الملحوظ في الإدراك الإنساني، فيما يتعلق بمفهوم الخطأ (أي الفشل أو الإخفاق) أنه يقوم بإعادة تدوير ذلك لاستخراج معدن ثمين من قلب المفارقات التي لا تبدو شبيهة به.

ولولا الأخطاء لما وجدت التوبة وفضلها وانعكاسها على تربية النفس وتقويتها، ولما كانت هناك إشارات واسعة في مصادر التشريع، من قرآن كريم وسنّة نبوية شريفة، إلى الخطأ الإنساني وضرورة الانطلاق من تلك الأرضية نحو تغيير الواقع بشكل أكثر إيجابية ونفعاً. ويبدو ذلك جلياً في الحكمة الربانية التي اقتضت أن يكون ما يقارب ثلث القرآن الكريم من القصص الذي يضم سيّر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بالإضافة إلى قصص الأمم والأحداث الغابرة، إلى جانب مختلف القصص التي ضمت صوراً ومواقفَ من السيرة النبوية المطهرة، مما يعزز فكرة التغيير والتشجيع على ذلك استفادةً من التجارب والعبر السابقة.

ومن زاوية موازية، فإن مرور الإنسان بالتجارب السلبية في حياته، بجميع صورها، يعتبر محطة انطلاق جديدة من الارتقاء بمستوى التفكير والانتقال به من الجمود المعتاد والتلقين الرتيب، نحو فسحة واسعة من التفكير والتدبر، بما يفتح المجالات المختلفة للإبحار في أصناف وألوان عديدة من العلوم ومسارات التطور.

وقد بات الصعيد الأخلاقي يمثل الأساس المفقود في كل ملمح من ملامح الواقع الذي نعيشه عالمياً، والذي شهد اضطرابات مختلفة في هذا المجال، جعلت الوجود الإنساني يمر مرغماً بالعديد من التحديات والأزمات التي أعادته للوقوف مرة أخرى أمام المنظومة الأخلاقية كخيار أمثل وأكثر دقة عند اتخاذ قرار الازدهار والاستمرارية والاستدامة الإيجابية بين بني البشر. ففي هذا المستوى نجد أنه لولا مرور الإنسان بمرحلة من التعامل الخاطئ مع الأخلاق، وسوء المواءمة فيما بينها وبين إملاءات المسارات الأخرى، ومعاينته النتائجَ الوخيمة لذلك، لما وصل بعد كل هذا إلى اتفاق ضمني عالمي يعترف بالمشترك الإنساني الأخلاقي وينادي بضرورة الاتحاد في قيم التسامح والتعارف وبناء الخبرة القيمية في المعاملات والمشاريع والاستراتيجيات.

وأخيراً، نجد أن المقولات التي دائماً تشجعنا على النجاح باعتباره طرف الخيط في «سلسلة من النجاحات» اللامتناهية، لا تعتبر خاطئةً وإنما مفتقرةً للوضوح. وبمعنى آخر، فإن إحراز النجاح المخطط له يقود الإنسانَ بطريقة منطقية وسلسة لإعادة التجربة المبنية على الملاحظة والتنظيم والاختبار ليحظى بنجاح آخر. لكن، وفي الوقت ذاته، تجب موازنة هذه الفكرة بفكرة أخرى تفيد بأن عدم تحقيق النجاح المأمول لا يعد فشلاً، بل يعد المفتاح «السحري» للحصول على مخطط ممنهج ومنسق من الأخطاء المتتالية التي يجب الرجوع إليها ومعالجتها واحدةً تلو الأخرى، مما يحقق النجاح في المرة المقبلة ويجعلنا أكثر كفاءةً للحصول على «نجاح متزن وناضج». وكما يقول المفكر والكاتب إبراهيم الفقي فإن «الفشل ضروري للنجاح المتزن، ولولا وجود الفشل لما كان للنجاح قيمة».

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 2 أكتوبر 2024

 

خبراتنا في الحياة لم تعُدْ تُستَحْصلُ إلا بمشقّة مع تعقّد الحياة وتطوّرها

كنتُ أحسبُ أنّ العبارة الأيقونية الشائعة التي سادتْ في عقود سابقة بصيغة تساؤل: هل الفن للفن أم الفن للحياة؟ قد ماتت وتلاشى ذكرُها في لجج هذا العصر الذي تعاظمت فيه الفردانية بدفعٍ مباشر من المنجزات التقنية غير المسبوقة؛ لكنْ يحصل أحياناً أن تقرأ في بعض وسائل التواصل نقاشات قد تستحيلُ معارك سجالية يبدو أطرافها وكأنّهم لم يغادروا بعدُ أجواء الحرب الثقافية الباردة التي كانت جزءاً فاعلاً في الحرب بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. ربما من المهم الإشارةُ إلى أنّ مفردة «الفن» في التساؤل الإشكالي تعني كلّ الضروب الإبداعية المتصوّرة من كتابة (تخييلية أو غير تخييلية) وشعر وفنون تشكيلية. أعتقدُ أنّ التساؤل السابق فاسدٌ في أساسه المفاهيمي لأنّه يُخفي رغبة مضمرة في تأكيد قناعة مسبقة سعى المعسكر الاشتراكي إلى ترسيخها ومفادُها أنّ الشيوعية تتناغم مع تطلعات الإنسان على العكس من الرأسمالية التي تعظّم فردانيته وجشعه ونزوعه الشخصي. علّمتْنا تجاربُ كثيرة أنّ التبنّي الآيديولوجي لأمثولة والترويج لها في سياق مقاسات محدّدة لنتاج أدبي هو وصفة مضمونة للرداءة الأدبية، ولستُ في حاجة إلى إيراد أمثلة عن أعمال كُتِبت في ظلّ «الواقعية الاشتراكية»، وكانت غاية في السخف والرداءة. ما سأسعى إليه في الفقرات التالية هو محاولة تفكيك الأساس الفلسفي الدافع للإبداع في حقل الأدب على وجه التخصيص رغم أنّ المقايسة يمكن تعميمها على جميع ضروب الإبداع الفني.

الحياة مشقّة رغم كلّ اللذّات الممكنة والمتاحة فيها، وخبراتنا في الحياة لم تعُدْ تُستَحْصلُ إلا بمشقّة باتت تتزايد مناسيبها مع تعقّد الحياة وتطوّرها. قارن نفسك مع أفلاطون مثلاً: بوسعك اليوم أن تحوز خبرات تقنية أعظم ممّا عرفها أفلاطون وكلّ فلاسفة الإغريق؛ لكنْ هل بمستطاعنا كتابة «مأدبة» حوارية فلسفية تتناغم مع متطلبات القرن الحادي والعشرين؟ أشكّ في ذلك كثيراً؛ فهذا جهد أقرب إلى الاستحالة لأنّ الإلهاءات (Distractions) في حياتنا باتت كثيرة، وجعلت ملاحقة القضايا الوجودية الأساسية ووضعها في مقايسة فلسفية مناسبة - مثلما فعل أفلاطون - مهمّة مستعصية. ربما سيتساءل سائل: ولماذا لا نكبحُ هذه الإلهاءات من حياتنا ونعيش بعيداً عنها لكي نكون قادرين على امتلاك الإحساس الفلسفي اللازم لكتابة أفلاطونية بثياب معاصرة؟ لا يمكننا هذا لأنّه يعني - بالضرورة - العيش في جزيرة مهجورة. دعونا نتذكّر ما كتبه الشاعر اللاهوتي الإنجليزي جون دَنْ (John Donne): «ما مِنْ إنسانٍ جزيرةٌ لوحده». من غير هذه الإلهاءات تبدو الحياة وكأنّها تفكّرٌ طويل لا ينقطع في موضوعات الموت والشيخوخة والمآلات النهائية للوجود البشري المقترن بحسّ مأساوي. لا حياة بشرية تسودها متعة كاملة. الإلهاءات تتّخذ في العادة شكليْن: شكل اختياري، نحن من يختاره (لعب، مشي، سفر، تجوال ليلي في الشوارع المضاءة...)، وشكل يتخذ صفة المواضعات القانونية (دراسة، عمل...). نفهم من هذا أنّ الإلهاءات مفيدة لأنها تبعدُنا عن الجلوس المستكين والتفكّر في ثنائيات الموت والحياة، والبدايات والنهايات، والطفولة والشيخوخة... إلى جانب تمكيننا من إدامة زخم متطلبات عيشنا اليومي.

الغوص في لجّة الإلهاءات اليومية حدّ الغرق فيها ليس بالأمر الطيب متى ما صار ممارسة روتينية نفعلها من غير تدبّر أو مساءلة. أظنّ أنّ أسباباً كثيرة تدفعنا لخرق هذه الممارسة أحياناً:

أولاً: الغرق في بحر إلهاءات المعيش اليومي يحيلُنا إلى الشعور البديهي بأنّنا كائناتٌ محلية مآلها الفناء، وقتية الوجود، محكومة بقوانين المحدودية الزمانية والمكانية. قد نكون كذلك في التوصيفات الواقعية؛ لكنّ أحد شروط العيش الطيب هو الطَرْقُ على هذه المحدودية بمطرقة ثقيلة بغية تكسير قشرتها السميكة التي تحيط بنا حتى لو تمّ الأمر في النطاق الذهني. أظنّ أنّ المسعى الكلكامشي حاضرٌ في كلّ منّا بقدر صَغُرَ أم كَبُرَ. العيش بغير ملامسة المثال الكلكامشي يبدو عيشاً باعثاً على أعلى أشكال الملل والشعور بخسارة الزمن والعبثية المطلقة لتجربة العيش البشري.

ثانياً: تقترن الإلهاءات اليومية للعيش بمناسيب متصاعدة من الضوضاء حتى بات الكائن البشري يوصف بالكائن الصانع للضوضاء. نتحدثُ اليوم عن بصمة كاربونية لكلّ فرد منّا، وهي مؤشر عن مدى ما يطرحه الواحد منّا في الجو من غازات مؤذية للبيئة. أظنُّ أنّ من المناسب أيضاً الحديث عن بصمة ضوضائية للفرد: كم تعملُ من ضوضاء في محيطك؟

نحنُ كائنات ضوضائية بدافع الحاجة أو التسلية أو الضجر. نصنع الضوضاء بشكل أو بآخر وبمناسيب متفاوتة. ثمة دراسات متخصصة ومعمّقة في علم النفس التطوري تؤكدُ أنّ البصمة الضوضائية يمكنُ أن تكون مقياساً تطورياً للأفراد. كلّما تعاظمت البصمة الضوضائية للفرد كانت قدراته العقلية والتخييلية أدنى من نظرائه ذوي البصمة الضوضائية الأدنى. ربما التسويغ الأقرب لهذه النتيجة أنّ مَنْ يتكلمُ أكثر يفكرُ أقل.

ثالثاً: هذا التسويغ يعتمد مقاربة غريبة توظّفُ ما يسمّى مبرهنة غودل في اللااكتمال (Godel's Incompleteness Theorem)، وهي مبرهنة معروفة في علوم الحاسوب والرياضيات، وأقرب إلى أن تكون رؤية فلسفية قابلة للتعميم، وهو ما سأفعله هنا. جوهرُ هذه المبرهنة أنك لن تستطيع البرهنة على صحة نظام شكلي (Formal System) باللجوء إلى عبارات من داخل نطاق النظام دوماً. لا بدّ أن يحصل خطأ ما في مكان ما. يبدو لي التعميم على نطاق العيش اليومي البشري ممكناً: لن تستطيع عيش حياة طيبة إذا ما اكتفيت بالقوانين السائدة والمعروفة للعيش. لا بدّ من نوافذ إضافية تتيحُ لك الارتقاء بنمط عيشك، وهذه النوافذ هي بالضرورة ميتافيزيقية الطابع تتعالى على الواقع اليومي.

رابعاً: العيش اليومي فعالية شهدت نمواً مضطرداً في مناسيب العقلنة حتى لامست تخوم العقلنة الصارمة المحكومة بخوارزميات حاسوبية. العقلنة مطلوبة في الحياة بالتأكيد؛ لكننا نتوق إلى كبح سطوة قوانين هذه العقلنة والتفكير في نطاقات غير معقلنة. اللاعقلنة هنا تعني عدم التأكّد اليقيني المسبق ممّا سيحصل انتظاراً لمكافأة الدهشة والمفاجأة بدلاً من الحدس الرتيب بالإمكانية الوحيدة للتحقق.

خامساً: العيش اليومي يقترن في العادة مع مناسيب عالية من المأزومية العقلية والنفسية. عندما لا تعيش بحكم الضرورة وحدك فأنت تتفاعل مع آخرين، وهذا التفاعل قد يكون هادئاً أو مشحوناً بقدر من الصراع الوجودي. لا ترياق لهذا النمط الصراعي المحتوم إلّا بكتابته وتحويله إلى مغذيات إبداعية أولية للكاتب. تحدّث كثيرٌ من الكتّاب عن أنّ الكتابة أضحت لهم مثل تناول حبة الضغط اليومية اللازمة لعلاج ارتفاع الضغط الدموي لديهم. إنّهم صادقون تماماً. من غير الكتابة يصبحون أقرب لكائنات شيزوفرينية يكاد يقتلها الألم والعذاب.

***

الأدب الجيّد بكلّ تلاوينه، مثلما كلّ فعالية إبداعية أخرى، ترياقٌ ناجع للتعامل مع الإفرازات السيئة المتلازمة مع وجودنا البشري. يخرجُنا الفن المبدع غير المأسور بمحدّدات الآيديولوجيا من محليتنا الضيقة ومحدّدات الزمان والمكان، ويؤجج جذوة المسعى الكلكامشي فينا طلباً لخلود افتراضي نعرف أنه لن يتحقق، ويكبح سطوة الإلهاءات في حياتنا ولو إلى أمد محدود كلّ يوم، مثلما يكبحُ مفاعيل الضوضاء البشرية فينا ويجعلنا نصغي بشهوة وتلذّذ إلى أصوات أعماقنا التي تقمعها الانشغالات البديهية والروتينية، ويفتح أمامنا نوافذ ميتافيزيقية تتيحُ لنا رؤية عوالم تخييلية ليس بمستطاعنا بلوغها من غير معونة الإبداع الفني. بعد كل هذا يجعلنا الإبداع الفني كائناتٍ تدركُ قيمة الموازنة الدقيقة بين مناسيب العقلنة واللاعقلنة في الحياة.

تترتب على هذه المقايسات نتائج مدهشة أحياناً وغير متوقعة، يمكن أن تجيب عن بعض تساؤلاتنا الممضّة. منها مثلاً: لماذا تمتلك الأعمال الأدبية والفلسفية الإغريقية خاصية الراهنية والاستمرارية في التأثير والتفوق على كثير من نظيراتها المعاصرة؟ يبدو لي أنّ الفلاسفة والأدباء الإغريق كانوا عرضة لتشتت أقلّ من حيث طبيعة وحجم الإلهاءات؛ لذا جاءت مقارباتهم أقرب للتناغم مع تطلعات الإنسان وقلقه الوجودي؛ في حين تغرق الأعمال المعاصرة في التفاصيل الجزئية ذات الطبيعة التقنية، وهي في عمومها تقدّمُ المعرفة التقنية في فرعيات دقيقة عوضاً عن التأكيد على الرؤية الإنسانية الشاملة.

أظنها متعة كبيرة لو دقّقنا في الأعمال الأدبية العظيمة، ورأينا كم تتفق سياقاتها مع معايير الوظيفة الإبداعية كما ذكرتها أعلاه. أظننا سنكتشف أنّ هذه الأعمال لم تكن مستعبدة لنسق آيديولوجي باستثناء إذا أردنا وضع الإنسان في مرتبة الاهتمام الآيديولوجي الأعلى مقاماً من كلّ ما سواه. ثمّ إنها أبعدتنا عن الإلهاءات اليومية الروتينية، وفتحت لنا نافذة في قشرة الوجود البشري الصلبة، وأنقذتنا من تسونامي الصراعات اليومية.

***

الفن للفرد الذي يعرف كيف يجعل الفن وسيلة للارتقاء بمعيشه اليومي، ومن ثمّ تحويله لخبرة جمعية منتجة. ربما قد يكون حاسوبٌ، وكوبُ شاي أو قهوة، وشيءٌ من طعام بسيط في مكان بعيد عن ضوضاء العالم لبعض الوقت الذي نستقطعه من زحمة انشغالاتنا اليومية هو كلّ ما نحتاجه لنصنع أدباً جيداً، وقبل هذا لنعيش حياة طيبة يبدو أنّ كثيرين يغادرون هذه الحياة وهم لم يتذوّقوا ولو القليل من لذّتها الكبرى.

***

لطفية الدليمي

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 30 سبتمبر 2024 م ـ 27 ربيع الأول 1446 هـ

بين جون ستيوارت ميل وهيغل

في خريف عام 1826، عانى الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل، من انهيار عصبي مفاجئ. الذين يعرفون ميل وسيرته ونضاله القانوني وكتبه الفلسفية يعرفون أنه من أبرز الفلاسفة الإنجليز إلى جوار راسل وهيوم وهوبز وبيكون، ولعلّي لا أكون واهماً إن قلتُ إن مساهمته في التأسيس لمذهب «المنفعة» كانت أهم من مساهمة مؤسس المذهب جيريمي بنتام. هذا المذهب الذي ترجع أصوله إلى الإغريق، خصوصاً الفيلسوف المنسيّ أرسطبوس، تلميذ سقراط، وأبيقور، ثم حوّله الإنجليز من كونه مجرد مذهب للَّذة الفردية يدعو لِلعَبِّ من الملذَّات وتحاشي الألم إلى مذهب للمنفعة العامة، على مستوى الدول وتطورها. لقد ساهم ميل في صناعة مذهب يقول إن كل عمل بشري لا بد أن يهدف إلى تعزيز أعظم قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس، وكرَّس قدراً كبيراً من طاقته عبر العقود المتتالية لتقوية هذا المذهب وتحرير مخطوطات بنتام الشاقة. وأدخل في نطاق النفعية الدعوة إلى إصلاحات اجتماعية مختلفة تراوح بين تحسين العلاقات بين الجنسين وأجور العمال وحماية حرية التعبير وتوسيع دائرة الناخبين البريطانيين وحق المرأة في التصويت.

حدث الانهيار العصبي كان شائعاً بالنسبة إلى المشغولين بالفلسفة والفلاسفة ويبدو أنه كان ناجماً عن إرهاق ذهني تراكمي. لكنك حين تقرأ وصف ميل لتلك الحالة وما دار حولها من أيام، قد تصل إلى شيء مختلف. يبدو أنه قد فقد البوصلة وصار يشعر بأنه لم يقل شيئاً ذا بال، وأن كل مطالباته لو تحققت فإنها لن توصله إلى حالة الرضا التي عاش حياته ينشدها. لقد اكتشف فجأة أنْ لا جدوى من تحقيق أحلامه، لأن تحقيق الأحلام وإشباع الرغبات سيؤدي إلى السآمة والملل، كما حذّر آرثر شوبنهاور من قبل، وبالتالي سنبقى مثل البندول نتراقص بين الألم والملل.

في أعقاب هذا الاكتشاف، انزلق الفيلسوف إلى حالة من الاكتئاب استمرت ستة أشهر، ويبدو أن الأزمة كانت نتيجة طبيعية لقلقه بشأن إمكانية السعادة في العالم المثالي الذي سعى إلى تحقيقه؛ عالم بلا صراع.

رغم عظمة ميل فإنه كان حالماً أكثر من اللازم. في تصوري أن الفيلسوف الذي فهم حقاً حقيقة الوجود وسر الحياة هو هيغل من خلال منهجه الجدلي (الديالكتيك). ميزة فكر هيغل هي أنه يرحب دائماً بعالم تجتمع فيه المتناقضات، عالم صراع لا ينفك حتى يبدأ من جديد، عالم الأحزان والأفراح، عالم الفوز والهزيمة. بل عندما يأتي الحديث عن الحرب فإنه يرحب بها، متابعاً أستاذه البعيد هيراقليطس الذي قال «الحرب أُم الجميع». ليس حباً في سفك الدماء وإنما ينطلق هذا الموقف من عقلانيتهما الواقعية الصارمة. أولاً: لأن الحرب لا انفكاك عنها وأنها ستبقى تقع بين البشر على المصالح بغضّ النظر عما نقوله ونفعله، ولو تحول نصف سكان الكوكب إلى البوذية المسالمة لغزاهم النصف الآخر أو هيمنوا عليهم. ثانياً: أن الحرب نافعة وتؤدي إلى التقدم الحضاري.

إذا تصورنا كيف قَبِلَ هيغل الحرب، فلا شك أنه يقبل الحياة بمرّها وحلوها بنفس الطريقة. إنه لمن العقل أن نرحِّب بالتناقض، فالتناقض سر الوجود، وصراع الأضداد هو الحقيقة الأولى. هذا الصراع هو سبب كل تغير يحدث في العالم، وينبغي ألا نخاف من التغير. ثمة غاية سامية تكمن وراء التغير، هي قيادة الوعي المشترك بين كل البشر صوب المعرفة الفلسفية. فالوعي الحقيقي لا يحدث إلا بالخروج من دائرة الوعي الفردي المحبوس في ذاته، المعزول عن العالم، والارتفاع به إلى مستوى الصراعات الفكرية والشراكة العقلية والروحية، من خلال عيش الفلسفة بوصفها خبرة نرى فيها التاريخ كله، وبحيث تبدو الأحداث التاريخية كتحقق للفلسفة ينقلها إلى الواقع.

نحن نبصر التناقض وهو يسري في الطبيعة والفكر والإنسان في كل لحظة، نراه في حركة الكواكب، في تغير الظواهر الطبيعية، في تقلبات الأجواء، مثلما نراه في حياتنا الشخصية، في تناقضاتنا وانقلابنا على ذواتنا. في ذلك يقول هيغل: «إن التناقض مبدأ كل حركة وكل حياة وكل تأثير فعّال في عالم الواقع».

لا يوجد عالَم ساكن كعالم دعاة تطوير الذات وفلاسفة الزن، لأن العالم دائماً في حركة وتطور وتغير، وبالتالي فكل تصور سكوني مرفوض، وكل فصل بين المحسوسات والتصور العقلي مرفوض.

ولو أمعنَّا النظر لوجدنا أن عملية الصراع ليست مجرد نشاط ذهني ترفي، بل هي كل ما يحيط بنا من هذا العالم، من الثلج الذي يُنفى فيصير ماءً، والماء الذي يُنفى فيصير بخاراً، والحيتان التي تموت فيتحول بعض أجزائها عبر الزمن إلى نفط، كل ذلك يسير على نفس الخطة. وعندما ننظر إلى نظامنا الشمسي، سندرك أن هذا الكوكب الذي يوجد الآن في مكان، يُعلن أيضاً أن من طبيعته أن ينتقل إلى مكان آخر، لأنه لا مناص له من الحركة التي ستنقله إلى وجود مغاير. وعندما تنظر في نفسك، في أمسِك، فترى أنك كنت تسير في طريق ما، فتنزع نفسك اليوم إلى معارضة ما كنت عليه بالأمس ومسيرتك تلك، فينشأ صراع شديد بين الأمس واليوم وتُمزَّق، ثم يكون هناك مُركّب يتجلى في الغد. كل هؤلاء شهود عدول على صدق الديالكتيك وأنه واقع نعيشه في كل لحظة؛ في الطبيعة وفي الإنسان وفي الفكر. وكما قال هيغل: الفرح يظهر من خلال الدموع، والحزن الشديد يتجلّى في ابتسامة.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 30 سبتمبر 2024 م ـ 27 ربيع الأول 1446 هـ

في إطار دراساته الهامة حول أزمة المجتمعات الليبرالية المعاصرة، يصدر هذه الأيام المفكر الاجتماعي الفرنسي «بيار روزنفالون» كتاباً جديداً بعنوان «المؤسسات الخفية»، يتجاوز فيه الجدل التقليدي حول الأشكال الإجرائية للديمقراطية التعددية وأثرها العملي على أهداف الحرية والعدالة التي هي المضمون القيمي للنظام الديمقراطي الحقيقي. النقطة المرجعية التي ينطلق منها روزنفالون هي ما أكده الكثيرون من أن الديمقراطية الانتخابية غدت مجرد ممارسة شكلية لا روح لها في المجتمعات الغربية، كما أن محاولات تصديرها إلى الخارج فشلت حيث كانت في غالب الأحيان واجهة صورية للتسلط والاستبداد.

ومن هنا يبين روزنفالون أن الديمقراطية الحقيقية ليست مجرد مسطرة إجرائية أو شكلا تنظيمياً محضاً، بل تقوم على مؤسسات خفية هي: السلطة والمشروعية والثقة، إذا تحققت كان النظام الديمقراطي متحققاً، وإذا غابت لا عبرة بالتنظيمات والإجراءات المستخدمة ولو كانت صارمة ودقيقة. المشكل في هذه المؤسسات الخفية أنها لا يمكن أن تتجسد في نُظم شكلية أو إجرائية، بل هي حصيلة تفاعلات اجتماعية وتجارب عملية ونتاج مشاعر وتقويمات حية. السلطة، على عكس الاعتقاد الرائج، شرط أساسي في الممارسة الديمقراطية الصحيحة التي تقتضي دولة قوية وقوانين فاعلة ونظاماً متماسكاً مطاعاً. منذ الخطيب والقانوني الروماني سيشرون إلى الفيلسوفة المعاصرة حنة ارندت، وضع المفكرون في الشأن السياسي تمييزاً دقيقاً بين الهيمنة والسلطة.

الهيمنة تحيل إلى التسلط والتحكم والاستبداد، والسلطة تحمل معنى الانقياد الطوعي الناجم عن الاحترام والتقدير، ولذا ربطتها ارندت وفق النموذج الروماني بالتقليد ومرجعية الماضي والموروث.ومع أن عالم الاجتماع الشهير ماكس فيبر ربط عضوياً بين السلطة والشرعية، معتبراً أن ما يميز المجتمعات الليبرالية الحديثة هو قيام شرعية السلطة فيها على المقومات القانونية البيروقراطية، فإن المفهومين متمايزين في الواقع، كما أنه من التعسف التفريق نظرياً بين مفهومي الشرعية والمشروعية على غرار نظرية فيبر التي انتقدها كثيرون في مقدمتهم الفيلسوف الألماني كارل شميت.

لقد ذهب الفكر السياسي الحديث إلى أن المشروعية مفهوم أخلاقي لا سبيل لضبطه وقياسه، ومن هنا ضرورة الاكتفاء بمعايير الشرعية التي هي أدوات إجرائية تنظيمية بحتة. ما يبينه روزنفالون هو أن الديمقراطية الحقيقية تقاس بالمشروعية في أبعادها الأخلاقية القصوى التي تمنح السلطةَ الهيبةَ والجلال، أما الشرعية الصورية فلا يتوقف عليها قبول مجتمعي بالضرورة بل قد تكون مجرد أداة للهيمنة.

أما الثقة كما يعرفها روزنفالون فهي التجسيد الحي لفكرة المصلحة المشتركة والإجماع العام، وهي شعور يبرز وينمو في إطار التفاعل الحي بين الحاكم والمحكومين. ولعل المشكل الأساسي الذي تعاني منه المجتمعات الليبرالية الحالية هو انحسار الثقة في السلطات الحاكمة، وإن كانت شرعيةً ومنتخبةً، كما ما يظهر في عزوف قطاع واسع من القاعدة الشعبية عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية وخروج الشارع المتكرر على الأنظمة الحاكمة.

وبتنزيل أطروحة روزنفالون على الواقع العربي، يظهر أن الأزمات الحادة التي مرت بها بلدان عديدة تكمن في العجز عن استيعاب متطلبات السلطة والمشروعية والثقة في أنظمتها السياسية. والأمر هنا يتعلق بالأنظمة العسكرية القائمة على الأحادية الحزبية، وبتجارب الانتقال الديمقراطي المتعثرة التي مرَّت بها دولٌ حاولت استنباتَ أشكال التعددية الليبرالية والآليات التنظيمية الانتخابية المتبعة في الغرب. وفي الجمهوريات الثورية، فشلت إجمالا الأنظمة الحاكمة في تحقيق مقتضيات المشروعية السياسية وفي الحصول على الثقة والقبول لدى القاعدة الاجتماعية العريضة، وأخذت في المقابل شكل التسلطيات الأحادية التي هي النقيض الحقيقي للسلطة بالمفهوم الأخلاقي الحقيقي.

ولقد أدت هذه الثغرات إلى تعريض السلم الأهلي والاستقرار الداخلي إلى الخطر، كما حدث في بلدان عديدة ما زالت تعاني مصاعبَ الانتقال السياسي ومن استشراء العنف والحروب الأهلية. و في بلدان أخرى، حاولت تطبيق مقاييس التعددية الحزبية والديمقراطية الانتخابية، غابت «المؤسسات الخفية» التي تحدث عنها روزنفالون، ولم تفلح الهياكل السياسية القائمة في ضمان التناغم الإيجابي بين السلطة والمجتمع، ذلك التناغم الذي هو مقياس صحة الحالة الديمقراطية في أي بلد.

وخلاصة الأمر، أن البلدان العربية التي نجحت في بناء أواصر الثقة بين الحكام والمحكومين على أساس شرعية الإنجاز وبنت دولا ناجعة بمؤسسات تنفيذية مستقرة، هي التي استطاعت تكريس وتجسيد الحكم الرشيد بدلالاته الثلاث المذكورة، أما أشكال البناء السياسي ذاتها فلا عبرة بها إن لم تفض إلى سلطة مطاعة وموثوقة ينقاد لها الناس بإجلال وإخلاص.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 29 سبتمبر 2024 23:45

 

"عجزت الفلسفات التقليدية عن تقديم منظومات أخلاقية قابلة للتنفيذ؛ فهي لم تقدم توضيحا للوسائل الواقعية والآليات العملية التي يمكن أن توصل لتحقيق الخير، والتي يمكن أن تساعد الإنسان على صناعة مجتمع متقدم.

لقد نجحت الفلسفات التقليدية في بناء أنظمة أخلاقية نظرية متماسكة، لكنها غالبًا ما افتقرت إلى أدوات عملية أو آليات واضحة لتطبيق تلك الأخلاق في الواقع العملي، خاصة في ظل التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

ولعل من أسباب عجزها أنها استغرقت في المفاهيم الأخلاقية المثالية، وغالبًا ما تكون بعيدة عن الواقع العملي. مثلًا، الفلسفات الكلاسيكية لأفلاطون وأرسطو قدّمت رؤية مثالية للأخلاق تقوم على الفضائل الفردية، لكن كيفية تطبيق هذه الفضائل في الحياة اليومية يظل غامضًا وغير ملموس.

ويعتمد كثير من الفلسفات التقليديةعلى النوايا المثالية وحدها كأساس للسلوك الأخلاقي، ولم تقدم أدوات واضحة للتعامل مع التحديات العملية المتجددة في الحياة اليومية. مثلًا، هي تدعو إلى الصدق والإحسان بشكل مثالي وعام، لكنها لا توضح كيفية تحقيق هذه القيم في سياقات معقدة مثل الاقتصاد أو السياسة.

وركزت الفلسفات التقليدية على الأخلاق الخاصة والفردية لكنها لم تبين كيف يمكن بناء أنظمة مجتمعية عامة ومؤسسية تدعم تطبيق تلك الأخلاق في المجتمعات. وهذا يؤدي إلى صعوبة تحقيق العدالة والفضيلة على نطاق واسع من دون دعم مؤسساتي وتنظيمي.

كما أن الفلسفات التقليدية جاءت في سياقات تاريخية وثقافية قديمة، ولم تكن مجهزة لمواجهة التحديات المتجددة سواء على مستوى عصرها أو على مستوى العصور التالية. ولذا كان من الطبيعي أن تبدو عاجزة أمام تحديات العصور الحديثة مثل: تحديات الذكاء الاصطناعي، وحقوق الإنسان، واقتصاد العولمة، والتكنولوجيا الجديدة، والحراك الاجتماعي، وتغير نمط العلاقات الدولية. وترتب على هذا أننا لم نجد في الفلسفات التقليدية إجابات واضحة عن كيفية التعامل مع القضايا الأخلاقية الجديدة التي فرضتها تلك التحديات. لا سيما وأنه توجد فجوة بين المبادئ الأخلاقية التي تدعو إليها الفلسفات التقليدية وبين تطبيقها الفعلي في الحياة اليومية. ويؤدي هذا إلى التناقض بين ما هو مثالي وما هو واقعي، مما يحد من فعالية هذه الفلسفات في توجيه السلوك الإنساني في الواقع.

ولم توضح فلسفات الأخلاق التقليدية حتى الآن الشروط الأولية لأخلاق التقدم، أي الشروط التي لابد من توافرها والتي بدونها لا يمكن ممارسة أخلاقيات التقدم، فمثلما لا يمكن الزراعة الجيدة بدون مناخ وأرض خصبة، فكذلك لا يمكن ممارسة أخلاقيات التقدم بدون الشروط القبلية. فبدون الشروط القبلية لا يمكن أن تكون هناك إمكانية لأن تكون فاضلا، وبدون هذه الشروط لن تكون هناك إمكانية لممارسة أخلاق التقدم.

وفضلا عن هذا فإن فلسفات الأخلاق التقليدية لم تقدم الضمانات الدنيوية التي تكفل تطابق السعادة مع الفضيلة في حياة الناس اليومية، أي أنها لم تقدم أنظمة تجعل الفضلاء سعداء في حياتهم، وتجعل الأشرار تعساء في المقابل. فكثيرا ما ترى الفضلاء - للأسف - تعساء، وترى الأشرار سعداء! فهذه الفلسفات تركت مهمة إحداث التطابق إلى قوى غيبية تحققها في العالم الآخر وليس في العالم المعاش، وبعض تلك الفلسفات لم تعبأ بهذه المسألة أساسا أو لم تتنبه إليها من الأساس.

وإذا كانت الفلسفات القديمة استغرقت في بيان كيفية التمييز بين الخير والشر؛ فهذه مشكلة شكلية أكثر من اللازم من وجهة نظرنا، لأن الخير واضح بذاته والشر واضح بذاته، ويمكن معرفتهما بالعقل المنطقي.

ومن جهة أخرى، انحرف كثير من الفقهاء ورجال اللاهوت عن طبيعة الدين الأخلاقية النقية وغيبوا مقصده الكلى؛ حيث حولوا الدين إلى سلطة ومؤسسة وكهانة، وحولوا الشرائع الأخلاقية للعمران إلى شرائع للنصف الأسفل من الجسد.

وانعكست الأولويات في التعامل مع الدين، مما أدى هذا إلى ما يسميه الفيلسوف الألماني «كانتKant» بالعبادة الزائفة التي تسعى لنوال اللطف الإلهي بطرق لا علاقة لها بالفضيلة الأخلاقية، لأنها تقوم على الالتزام الشكلي الصوري، وعلى مجرد الأداء الجسدي للطقوس والشعائر اعتمادا على أعمال الجوارح وليس أعمال القلوب، التي لا تتجاوز دائرة الحركة الجسمية إلى دائرة ارتقاء الروح، بينما يجب أن تجمع العبادات بين أعمال الجوارح وأعمال القلوب على حد تعبير الإمام الحارث المحاسبي في كتاب له يحمل هذا العنوان «المسائل في أعمال القلوب والجوارح».

ولا شك فى أن الأخلاق تعارض الدين المزيف، لكنها لا تعارض الدين النقي؛ لأن الخلاص في الدين المزيف يتم من خلال الطقوس والشعائر الجسدية وحدها، وليس من خلال الالتزام الخلقي والروحي، حيث يكون سبيل الخلاص في الالتزام الصوري المظهري بالعبادات وحدها دون المعاملات ودون ممارسة الأخلاق والفضيلة.

وفي الخطاب الديني الجديد، تكمن أهمية الدين النقي في أنه يقدم لنا «الأمل» في أن جهودنا النازعة إلى إقامة ملكوت الإنصاف والسعادة لن تضيع عبثاً. وتكمن أهمية العقلانية الروحية بالنسبة إلى الدين في أنها تساهم في تنقية الدين من التفسيرات المشبوهة التي يقدمها له أهل الكهنوت، كما تساهم العقلانية الروحية في إعادة تأكيد الوظيفة الأخلاقية للدين، وأن العبادة الحق تكمن في السلوك الأخلاقي؛ فالدين الحق فى جوهره عمل بالقانون الأخلاقي، والسلوك الأخلاقي النابع من الضمير وأداء الواجب هو العبادة الحقيقة"

***

د. محمد عثمان الخشت

عن صحيفة الاهرام المصرية، يوم: 29/9/2024م

 

أمضى حياته كلها في مكافحة التعصب الديني وتحليله وتفكيكه

أكبر خطيئة نرتكبها نحن المثقفين العرب هي إقامة المقارنة بين مجتمعاتنا العربية الإسلامية الحالية ومجتمعات الغرب المتطورة التي تجاوزت كلياً مشكلة الأصولية الدينية الطائفية. هذا ما يدعوه المؤرخون بالمغالطة التاريخية. ينبغي أن نقارن ما تمكن مقارنته، لا ما تستحيل مقارنته. بمعنى آخر، وبالعربي الفصيح، ينبغي أن نقارن أوضاعنا الحالية بأوضاعهم قبل 300 سنة حتى 400 سنة عندما كانوا لا يزالون يتخبطون في صراعاتهم الطائفية والمذهبية... عندئذ تصبح المقارنة ممكنة ومشروعة. ففي القرن السادس عشر أو السابع عشر، كانوا يعانون مما نعاني منه نحن حالياً؛ أي الحروب الطائفية والأحقاد المذهبية والذبح على الهوية. وأكبر دليل على ذلك سيرة حياة المفكر الفرنسي البروتستانتي بيير بايل الذي عاش في نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر (1647 - 1706). في ذلك الوقت كانت فرنسا كاثوليكية في غالبيتها الكبرى. ولكنها كانت تحتوي على أقلية بروتستانتية لا يستهان بها وتحاذي 20 بالمائة. وقد شاء له الحظ العاثر أن يولد في أحضان الأقلية لا الأكثرية. ولذلك هرب من الاضطهاد الطائفي من بلد إلى بلد حتى استقرت به الأمور في بلاد بروتستانتية مثله، هي هولندا. لقد عانى هذا المفكر الكبير من التعصب الديني إلى درجة أنه أمضى حياته كلها في مكافحته وتحليله وتفكيكه بغية الخلاص منه. فمن هو بيير بايل يا ترى؟ إنه الرائد الأول الذي سبق فلاسفة التنوير الكبار وأرهص بهم. فقد جاء قبلهم بقرن من الزمن. لقد مات عام 1706 في حين أن فولتير ولد عام 1694، أي قبل 10 سنوات من وفاته أو أكثر قليلاً. ومعلوم أنه كان يحبه كثيراً ويستشهد به كمرجعية فكرية كبرى بالنسبة له. ولكن الشهرة ذهبت لفولتير، لا إلى بيير بايل. فمن يعرف اسم بيير بايل في العالم العربي؟ لا أحد تقريباً. لقد كان بيير بايل مع الفيلسوف الإنجليزي جون لوك أحد المفكرين الكبار الذين ساهموا في انبثاق فكرة التسامح الديني وتجاوز الطائفية والمذهبية في أوروبا. وكان ذلك إبان احتدام الصراعات المذهبية بين البروتستانتيين والكاثوليكيين. وكان أول منظر يدعو إلى التسامح مع الجميع، بل كان يدعو إلى التسامح مع غير المتدينين، أي الأشخاص الذين لا يلتزمون بالطقوس والشعائر المسيحية. وبالتالي، فقد كان سابقاً عصره كثيراً. ومعلوم أن الرواد يجيئون قبل الأوان لكي يشقوا للآخرين الطريق. ولكنهم يعانون كثيراً بسبب ذلك ويدفعون الثمن غالياً.

كان بيير بايل ينتمي إلى الأقلية البروتستانتية الفرنسية. بل كان أبوه رجل دين، أي قساً بروتستانتياً. ولكن بايل الشاب غيّر مذهبه عام 1669 عندما أصبح طالباً في المعهد اليسوعي الكاثوليكي بمدينة تولوز. وذلك لكي يلتحم بالأغلبية الكاثوليكية وينجو من الاضطهاد والاحتقار الطائفي الذي تمارسه عادة الأغلبية على الأقلية. ثم اكتشف بعدئذ أنه أخطأ، لأن المذهب البروتستانتي كان أكثر تقدمية واستنارة من المذهب الكاثوليكي آنذاك. فعاد إلى مذهبه الأصلي بعد 18 شهراً فقط من اعتناقه للكاثوليكية البابوية. وهكذا خاطر بنفسه، لأن الملك لويس الرابع عشر كان يرفض أي ارتداد عن الكاثوليكية التي تشكل المذهب الرسمي للبلاد. وبالتالي، فقد أصبح الرجل مرتداً لأنه عاد إلى حضن «الهرطقة والزندقة» من جديد. وويلٌ لمن يفعل ذلك في فرنسا الكاثوليكية. سوف يباح دمه مباشرة.

ينبغي العلم أن صاحب المذهب البروتستانتي كان يعدّ زنديقاً مهرطقاً في ذلك الزمان، على الرغم من إيمانه بالمسيح والإنجيل كالكاثوليك. ولكن كانت هناك بعض الخلافات اللاهوتية التفصيلية الهامة مع الكاثوليك. علاوة على ذلك، فقد كان تفسيره للدين المسيحي أكثر عقلانية واستنارة، كما ذكرنا. ولذلك كانوا يكفرونه ويكفرون أتباعه ويحلّون دمهم. وقد عانوا من المجازر ما عانوه، ثم اضطروا إلى الفرار بمئات الألوف إلى الدول البروتستانتية المجاورة كإنجلترا وألمانيا وهولندا... ينبغي العلم أن جميع ملوك فرنسا كانوا يعتلون العرش، ويتم تنصيبهم الرسمي والشرعي في كاتدرائية مدينة «رانس» الشهيرة، التي طالما مررت أمامها وتأملت بمعانيها وشموخها، عندما كنت أقيم في تلك المدينة الصغيرة الوديعة التي تبعد عن باريس مسافة 45 دقيقة بالقطار. كانوا جميعاً يحلفون القسم التالي أمام الجمهور الكبير المحتشد داخل الكاتدرائية: «أقسم بالله العظيم سوف أستأصل الأقلية البروتستانتية المهرطقة الكافرة عن بكرة أبيها. سوف أنظف أرض المملكة الفرنسية الكاثوليكية الطاهرة من رجسهم وضلالهم». بهذا المعنى. كان آخر من أقسم هذا اليمين هو لويس السادس عشر، الذي أطاحت به الثورة الفرنسية عام 1789. وعندئذ أخذ البروتستانتيون حقوقهم كمواطنين لأول مرة في التاريخ الفرنسي. عندئذ نصّ الإعلان الشهير لحقوق الإنسان والمواطن على ما يلي: ممنوع بعد اليوم منعاً باتاً أي تمييز بين إنسان وآخر على أساس طائفي. ممنوع إقلاق أي شخص أو إرعابه بسبب انتماءاته الدينية أو المذهبية. ممنوع تعييره واحتقاره لأنه لم يولد كاثوليكياً. الجميع أصبحوا مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، بمن فيهم البروتستانتيون، حتى اليهود. هذا ربيع حقيقي، هذا ربيع أنواري وتنويري. هذه ثورات حقيقية تقذف بك إلى الأمام، لا كذلك الربيع العربي القرضاوي التكفيري، الذي أوشك أن يعيدنا قروناً إلى الوراء.

لكن لنعد إلى بيير بايل وقصته. بعد أن تراجع عن المذهب الكاثوليكي وعاد إلى مذهبه الأصلي البروتستانتي عرف أنه أصبح مهدداً بالقتل فهرب إلى هولندا البروتستانتية مثله، واستقر في مدينة روتردام. وهناك وجد وظيفة كمدرس لمادتي الفلسفة والتاريخ. وراح ينشر مجلة أيضاً تحت عنوان «أخبار جمهورية الآداب». ومعلوم أن هولندا كانت في ذلك الزمان أكثر بلدان أوروبا تسامحاً وحرية، بالإضافة إلى إنجلترا. وإليها كان يلجأ الفلاسفة لكي يعبروا عن أفكارهم وينشروا كتبهم، كما فعل ديكارت مثلاً. نقول ذلك على الرغم من أنه كان كاثوليكياً ينتمي إلى مذهب الأغلبية، ولا يعاني في فرنسا من الاضطهاد الطائفي الذي أصاب بيير بايل وبقية أبناء الأقليات. ولكن ما كان يستطيع أن يتنفس بحرية ويبلور فلسفته الجديدة داخل جدران المملكة الفرنسية الكاثوليكية البابوية، التي كانت ظلامية متزمتة جداً في ذلك الزمان.

إن تجربة بيير بايل الشخصية في تغيير مذهبه واعتناق المذهب المعادي ثم العودة إلى مذهبه من جديد برهنت له على عبثية الإكراه في الدين. فالإنسان يعتقد أن دينه أو مذهبه هو وحده الصحيح، ولكنه لو ولد في الدين الآخر أو المذهب الآخر لاعتقد ذات الشيء أيضاً. المسيحي لو ولد في الهند لكان بوذياً أو هندوسياً براهمانياً، ولو ولد في الصين لكان كونفشيوساً... إلخ. ولهذا السبب عدّ بيير بايل أن الأمور نسبية وراح يتبنى مبدأ التعددية وحرية الضمير فيما يخص المعتقد الديني.

لقد ألف بيير بايل عدة كتب، شهرته وجعلته مقروءاً بكثرة طيلة القرن الثامن عشر، أي عصر التنوير الكبير. فقد راح فلاسفة التنوير من أمثال فولتير وديدرو وجان جاك روسو والموسوعيين يستشهدون بها لدعم مواقفهم المضادة للتعصب الديني والأصولية الكاثوليكية البابوية. نذكر من بين مؤلفاته كتاباً بعنوان «ما معنى فرنسا الكاثوليكية المتعصبة في عهد لويس الكبير؟» أي لويس الرابع عشر أعظم ملوك فرنسا وباني قصر فرساي الشهير. وفي هذا الكتاب يشنّ بيير بايل حملة شعواء على هذا الملك الجبار، الذي حاول استئصال البروتستانتيين عن بكرة أبيهم... كما انتقد بعنف التعصب المذهبي الذي كان سائداً في فرنسا آنذاك. وصبّ جام غضبه على الإخوان المسيحيين الكاثوليكيين الذين كانوا يكفرون الآخرين في كل أرجاء المملكة الفرنسية التوتاليتارية الإرهابية، التي تجبر الناس كلهم على اعتناق مذهب واحد غصباً عنهم. ثم نشر كتاباً آخر بعنوان «مرافعة من أجل الدفاع عن حقوق الضمير التائه» أي الضمير الحرّ في الواقع... إلخ. ولا ننسى كتابه الأكبر والأهم «القاموس التاريخي والنقدي» الذي فكّك فيه كل العصبيات الطائفية والفتاوى التكفيرية بشكل فلسفي دقيق ومقنع. وقد مارس هذا الكتاب الضخم تأثيراً كبيراً على جميع فلاسفة الأنوار اللاحقين.

كل هذه الكتب أزعجت الملك الكاثوليكي والسلطات الكنسية أيما إزعاج. فانتقموا منه عن طريق قتل أخيه «يعقوب بايل» في السجن، لأنهم كانوا عاجزين عن الوصول إليه هو شخصياً بسبب التجائه إلى المنفى الهولندي البعيد الخارج عن إرادتهم. والواقع أنهم عرضوا على أخيه اعتناق المذهب الكاثوليكي في آخر لحظة قبل تصفيته لكي ينجو بجلده، ولكنه رفض وعندئذ قتلوه. كانت الحزازات المذهبية على أشدّها آنذاك في فرنسا. ولكنها اختفت الآن نهائياً، ولم يعد لها أي وجود. وكل ذلك تم بفضل جهود الأنوار وفلاسفة الأنوار، وعلى رأسهم بيير بايل الذي سيستلم فولتير الشعلة منه، ويشنّ حرباً ضارية على الأصولية الكاثوليكية والتعصب الطائفي الأعمى كما هو معلوم.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 29 سبتمبر 2024 م ـ 26 ربيع الأول 1446 هـ

مع ازدهار العلوم الاجتماعية وبروز المستعرب شريكاً ثقافياً

أثار المفكر المرموق أنور عبد الملك في حينه (1962) موضوعاً مهماً، وهو يعرض لأزمة الاستشراق. لم يتحدث أنور عبد الملك عن استشراقين، معرفي وسياسي، كما فعلت في كتاب «الاستشراق في الفكر العربي - 1993»، كان معنياً بالأزمة التي رافقت ظهور الحركة بصفتها المعرفية التي سرعان ما اختلطت بمصالح الاستعمار. ونبّه الدارس والعالم الاجتماعي المصري المقيم في باريس في حينه إلى العوائل الفلولوجية التي ساهمت المدارس الاستشراقية في ترسيخها على أساس انقسام العالم إلى آري، وآخر سامي يشتمل العرب، واليهود، والملونين، وغيرهم. كان التوزيع بمثابة تبرير استيطاني يشتغل بوجهين: فإذا أراد نابليون مثلاً الاستحواذ على مصر قبل إنجلترا فعليه ادعاء أمرين: أنه مسلم، وأسلم بحضور علماء مسلمين في القاهرة؛ ولكن أيضاً على أساس أن مصر شرق متوسطية، وبالتالي فهي تعود لفرنسا، لا إلى إنجلترا في التوزيع الاستعماري للمعمورة. ولذا كان فريقه من العلماء والباحثين يكتب «وصف مصر»، المجلد الواسع الذي تصدرته مقدمة تقول إن على مصر أن تتجاوز قروناً من «إسلاميتها» لتعود إلى الحضن المتوسطي - الفرنسي. هكذا تأتي المقدمة التي استدرجت مثقفين عرباً، من بينهم طه حسين. لم يذهب عبد الملك إلى هذه المساحة، ولم يذهب إليها الراحل المرموق المفكر إدوارد سعيد. كان إدوارد سعيد معنياً بالمكونات المعرفية لحركة تمايزية تمييزية تدعي المعرفة بالشرق، أي بالشرق الأوسط، والعرب والمسلمين تحديداً، قبل أن ينتقل مفهوم «الشرق» إلى جنوب شرقي آسيا. الشرق الأوسط التقليدي يصر «الدارس التقليدي» ورحالة الإمبراطوريات الناهضة هو الذي يعنيه سعيد؛ أي أنه مجموعة الانطباعات السطحية العائمة التي تعرض لسكان كتل بشرية عظيمة على أنهم كسالى مخدرون ثابتون على فكرة واحدة، لا أمل في تغييرهم إلا بنابض وحاضر أوروبي يديره الرجل الأبيض. من المفارقات التي لم يذكرها الراحل العظيم أن الدارس الإنجليزي المعروف صاموئيل جونسن، صاحب أول قاموس إنجليزي متكامل، كتب على لسان شخصيته المركزية «عملاق» الشاعر أن «إيثوبيا» الشرقية شأنها شأن مجاوريها تحتاج إلى رعاية «استعمار» أوروبي «شمالي» يتيح لها الخروج من وحدتها وجنوبيتها. إذ العالم منذ القرون الوسطى ينقسم إلى شمال وجنوب، ويسقط التوزيع الجغرافي سطوته على الديانات والأقوام، وكان أن عرض لهم بعض «تنويريّي» القرن الثامن عشر على أنهم يعانون سباتاً لا أمل منه من غير سطوة رجل أوروبا الأبيض. هكذا كان الذهن «التنويري» الأوروبي. علينا ألا ننسى أن «صاموئيل جونسن» هو من المبرزين في الحركة «الإنسانوية» لتمييزها عن غيرها لخصومتها مع دعاة العبودية والاستعباد. وإذا كان جونسن يميل إلى هذا المعتقد، فكيف لنا بغيره؟ علينا ألا ننسى ثانية أن جونسن قرأ ترجمات دارس الاستشراقين المبرز في المشرقيات سير وليم جونز وكتاباته، وهو الذي أطلق عليه تسمية «جونز الشرقي» Oriental Jones، بحكم انهماك الأخير في قراءة أدب العرب والفرس. وترجماته وكتاباته ذائعة ومؤثرة. وهو نفسه - أي جونز - الذي في نهاية حياته وعند مراجعته ورصده لهذا الانهماك يستنتج أن ثقافته الأم أهم من ذلك الذي قضى عمره في دراسته.

لم يتطرق الراحل سعيد إلى هذا الأمر لأنه كان معنياً بمجموعة التهيؤات والتصورات لعدد كبير من الرحّالة والكتّاب لما كان يتصورونه شرقاً رثاً ساكناً شهوانياً لا فكر له ولا مستقبل من دون اللمسة الإمبراطورية. دعني أضيف: إنهم يستكملون ما بدأه بارتياح، بالغ دانيل دفو في روايته الذائعة منذ صدورها 1703 «روبنسون كروسو» التي تعرض إلى الشرق وأفريقيا أرضاً بوراً يسكنها ويعمرها كروسو ليلقن فرايدى الأسود الطريد لغته التي تبتدئ بالرضوخ، أي بمفردة: نعم. والخلاصة: أن أرنست رينان سيقفز على حصيلة هذا التراكم. وسيستعمر هو الآخر نتاج «دي ساسي» ليعيد توظيفه في التوزيع الفلولوجي الفقهي للعالم على أساس آري - سامي، ولم يعنِ رينان بالتوزيع ما بين شمال وجنوب مستعْمِر ومستعْمَر. كان معنياً بالتوزيع المتناقض في رأيه ما بين آري متماسك تركيبي عقلاني حضاري، وآخر سامي راكد ساكن. ولكن نظرية أرنست رينان التي سادت في حينه واجهت مشكلات نهاية القرن التاسع عشر، وحصيلتها النهائية للديمقراطية الانتخابية التي فسحت المجال للهجرات والأقليات، ولا سيما الأقلية اليهودية الناشطة القادمة من ألمانيا، التي استفزتها منذ زمن نظرية العرق الجرماني الذي يسعى للمّ الشمل والتكامل على أساس نقاوة العرق الجرماني. هذه النظرية التي سيسخر منها بصراحة المثقف العراقي المظلوم، ذو النون أيوب، في روايته «الدكتور إبراهيم» هي التي تشكل البذر النازي. وإذا كان يهود أوروبا من الكتّاب ورجال المال يؤثرون إنجلترا وفرنسا هرباً من ألمانيا منذ نهاية القرن التاسع عشر، فإن الأمر الذي تمخض جراء ذلك هو أنه ليس بالإمكان الركون إلى نظرية أرنست رينان وتوزيعها العرقي الديني ما بين: آري وسامي. فكان أن ولد التوزيع: الأوروبي أو الغربي والشرقي!! ومن السخرية أن اللغة النازية العرقية تحولت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص كما يتأكد في خطب المستعمر الاستيطاني اليوم!

وعندما ألقى الراحل العالم ياروسلاف ستيتكيفتش محاضرته المبكرة في كلية سينث أنتوني بجامعة أكسفورد سنة 1967 كان ينبه إلى أمر آخر قد لا يبدو متصلاً بما نحن فيه؛ كان يلوم «نحن المستشرقين» على دراسة الشرق كموضوع من دون الانتماء إليه حباً وتعاطفاً. كان ينحو باللائمة عليهم لأنهم يكتبون ويقرأون باللغات قيد الدرس، لكنهم يعجزون عن استعمالها في التخاطب والعلاقة بالعرب موضوع درسهم. كان يدعو بإصرار إلى محبة حقيقية، وليس دراسية فحسب، لكي يشعروا بالانتماء إلى ما يخصونه بالدرس. ولهذا عجزوا عن العلاقة بموضوعهم، أي العرب. ومن هؤلاء كان المستشرق مرغليوث مثلاً الذي جمع أحاديث التنوخي ورسائل أبي العلاء المعري. لكنه أيضاً رافق البعثة البريطانية التي احتلت العراق. ويذكر الشاعر الدارس محمد مهدي البصير أحد معاصريه آنذاك أنه أي «مرغليوث» قال عند التفاوض مع الوفد الوطني العراقي: «إنه لم يعرف عن العراقيين القدرة على إدارة أنفسهم» بما يعني أنهم بحاجة إلى المستعمر البريطاني أو غيره!!.

اللغة النازية العرقية تحوّلت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص.

هذه هي نهاية المستشرق؛ فهي ليست نهاية معرفية فحسب، ولكنها سياسية أيضاً، لأنها اقترنت بالتمايزات العرقية التي رافقتها، والتي قادتها إلى النهاية. هذا لا يعني التقليل من المنجز المعرفي عند السير وليم جونز ودي ساسي وسير شارلز لايل، وغيرهم. لكن إشارة الراحل ياروسلاف إلى أهمية التخاطب ودوره في توطيد حب حقيقي لموضوع الدرس تعني ضمناً لزوم التباعد عن عقدة المستعمر، أي ادعاء السيادة على الأقوام الأخرى. لهذا انقاد الاستشراق إلى حتفه، مع ازدهار العلوم الاجتماعية، وبروز المستعرب شريكاً ثقافياً. لكنها بداية المستعرب الذي درس العرب من زوايا مختلفة، وجاء بعدة أخرى، قوامها الحب والمودة لموضوع الدرس. المستعرب ليس دارساً للأدب وحده، وقد يكون مؤرخاً وسوسيولوجياً، وفيلسوفاً وغير ذلك، إنه ابن الثقافة التي يعنى بها، إذ لا تمييز بينه وبين أهلها، ولأنهما لا يقلان جهداً وتمعناً. ولنعد إلى السؤال: ما الذي تبقى من الاستشراق؟ لا يغمط السؤال الإرث الترجمي الفلولوجي الواسع الذي قام به المستشرق، لكن التقليديين منهم الذين مضوا على جادة مرغليوث لم يحققوا غير منجز ضئيل، مقارنة بالجهد الذي يقوم به المستعرب والمستعربة، وهما يمتلكان آليات بحث وتنقيب وتحليل مستجدة، لا تغمط الأقوام درايتها ولا تعددية ثقافاتها وتلويناتها المختلفة التي تفترق عن «النمطية» الأوروبية والنظرة الاستنكارية للآخر لمجرد تباينه عما يتصوره «التقليدي» نمطاً وحيداً عقلانياً قادراً على إدارة الآخرين.

***

د. محسن جاسم الموسوي

جامعة كولمبيا، نيويورك.

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: 28 سبتمبر 2024 م ـ 25 ربيع الأول 1446 هـ،

 

التراث هو ما تنتجه البشرية، بمعنى أن كل ما ننتجه هو تراث ينتسب إلينا، بوصفنا فئةً بشريةً لها لغة ولها أرض ولها هوية ثقافية وحضارية، وهذه معانٍ متصلة لا تقف عند حد، وفيما يخص الجانب المعرفي والثقافي فإن الآداب والفنون والفلسفة هي أبرز المعالم التي تصف حال أي أمة من الأمم، على أن الأمم كلها قد انتقلت من الأمية إلى الكتابية في فترات مبكرة من تواريخها، والنقلة تلك خلدت موروثها الفكري والأدبي، وقد ساد مصطلح التراث ليعني ما حفظته اللغة والذاكرة من قيم ثقافية بكافة أنواع الخطابات اللغوية شعراً ونثراً وسرديات، ومن أبرز المورثات الأساطير والحكايات والأمثال، وجرى التعامل معها على أنها مدونات كبرى تمثل ذاكرة الأمة وقيمتها المعنوية، غير أن مصطلح التراث ملتبس من حيث كونه يوحي بالقديم دون الجديد، ومن ثم جاء مصطلح الحداثة وكأنه يعني المواجهة مع القديم، غير أن النظر الواقعي يكشف أن كل قديم كان جديداً في زمنه، وكل حداثي سيكون قديماً لدى الآتين من بعده، بينما مصطلح التراث سيشمل الجانبين معاً، بما في ذلك كلامنا هذا الذي سيدخل في ذاكرة الثقافة بمجرد نشره، ومن هنا فإن الصراع بين الحداثة والتراث هو صراع في (التأويل) وفي التوظيف، وهذا يعني أننا نحن كبشر أحياء نظل نستعيد الأموات عبر قراءتنا لهم، وكل استعادة هي توظيفٌ متجدد لما تم إنجازه من قبل، لأن القراءة تفعل حالة إحياءٍ للمقروء، وأي مكتوب لن يفعل فعله إلا عبر قراءتنا له، ومن ثم فإننا نعيد استيحاء المتنبي كلما ذكرنا اسمه وقرأنا نصوصه، وسيتبع ذلك أننا سنقوم بتفسير نصه حسب مهاراتنا، أي أن النص للمتنبي نسبةً وانتساباً ولكنه لنا توظيفاً وتأويلاً وتفعيلاً، ومن هنا فما نسميه بالتراث هو فعلٌ من أفعال القراءة وفعلٌ من أفعال الإنتاج أو إعادة الإنتاج. والعصور كلها ستتساوى في فعل القراءة بينما ستتنوع القراءات. ومقولة عصر القارئ تقوم على ثنائية المشاكلة والاختلاف، فنحن مع القراءة نقف مع مؤلف النص المقروء على موقع واحد، هو نص قديم بين يدي قارئ حديث أو نص لمؤلف ميت ولكنه نص بين يدي قارئ حي، ومن هنا يتحول النص نفسه من نص قديم إلى نص حديث حسب مهارة القارئ في فعل القراءة، وفرق بين القراءة المجردة وبين قراءة التأويل؛ أي بين قراءة الشرح والفهم وقراءة التفسير والتحليل، وهذه حالة تشاكل واختلاف في آن واحد، وهي حالة موت للمؤلف وحياة للقارئ. والنصوص دوماً تسير مسار اللغة بمعناها العام، وكلما اتسعت حال اللغة اتسعت معها حال النص، أي أننا سنمنح ألفاظ المتنبي مثلاً معاني لم تكن مما خطر له ببال.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 28 سبتمبر 2024 01:06

حين صدر كتاب تشارلز داروين «أصل الأنواع» وذاعت نظريته في النشوء والارتقاء.. صعد منحنى الإلحاد، وقال الفيلسوف الألماني هيجل: «إنها ضربة قاصمة لنظرية الخلق»، وقال برتراند راسل: «إنها ضربة نهائية للدين».

اعتمد «نيتشه» النظرية في دعم إلحاده، وأهدى كارل ماركس كتابه الأشهر «رأس المال» إلى داروين، وتحوّل جوزيف ستالين بعد النظرية من الإيمان إلى الإلحاد. حسب نظريته التطور، فإن جزئ RNA جاء منه كل شيء، فقد أخذ يتطور ويتنوع بشكل ذاتي حتى نتجتّ، ملايين الأنواع من الكائنات!

وحسب هذه النظرية، جاء التطور نتيجة التفاعل العشوائي للجزيئات البسيطة كالكربون والنيتروجين والهيدروجين والأوكسجين، وقد استغرقت هذه العملية عدداً لا نهائي من المحاولات، عبر ملايين السنين.

ويمكن للمرء أن يلاحظ التطور الذاتي في مشاهداته اليومية، فالذباب والبعوض، واليرقات التي تنشأ من العدم على اللحم المتعفن.. تنشأ من كائنات غير حيّة.

خاض العلماء المؤمنون معركة واسعة ضد نظرية التطور، وتم نقد أطروحة الجزئ الأول أو الجرثومة الأولى التي نتجتْ منها تلقائياً كل أشكال الحياة.

قال العلماء باستحالة تولد الحياة ذاتياً نتيجة التصادم العشوائي، فالأمر يشبه إنتاج مركبة فضاء نتيجة الخلط العشوائي المتكرر لعناصر المركبة. والأمر أعقد كثيراً فيما يخصّ المادة الوراثيّة في الخلايا الحيّة.

إن عالم الخليّة وبيولوجيا الإنسان هو عالمٌ بالغ التعقيد، ويستحيل أن يأتي نتاج التجارب العشوائية لعناصر تكوينه، أو تطوّر مادة بدائية إلى هذا التركيب المذهل لمجرد مرور الزمن. كما أن ما يعتبره البعض تولداً ذاتياً ليرقات اللحم المتعفنّة، فليس ذلك بتولدٍ ذاتي، بل إنّ هناك جزيئات موجودة بالفعل في الهواء، أو أن الذباب وضع البيض على اللحم.. فجاءت اليرقات، حسبما أوضحت تجارب باستور فيما قبل.

يعود البعض بجذور نظرية النشوء إلى فلاسفة مسلمين، ويذكر «بول براتمان» في كتابه «الأصل الإسلامي لنظرية التطور» أنّ «ابن مسكويه» قال في كتابه «الفوز الأصغر» بأنّ «مراتب القرود قاربت الإنسان، وليس بينهما إلا القليل الذي إذا تجاوزته، صار إنساناً»، وقال «إخوان الصفا» بإمكانية أن ينتقل الجماد إلى نبات، والنبات إلى حيوان، على نحو ما قال ابن سينا في كتابه «الإشارات والتنبيهات». وهو ما يعبّر عنه قول أبي العلاء المعرّي: «والذي حارتْ فيه البريّة.. حيوانٌ مستحدثٌ من جماد».

ينفي مفكرون مسلمون أن يكون النشوء والارتقاء هو مقصد الفلاسفة المسلمين، بل كان الأمر يتعلق بترتيب درجات الرقيّ بين الموجودات. ويذهب مفكرون آخرون للتوفيق بين الإسلام ونظرية التطور، فكلمة التطور ليست بديلاً عن كلمة الخالق، ثم إن «فيشر» و«هالدين» عالمان في البيولوجيا التطورية.. الأول مؤمن والثاني غير مؤمن وكلاهما يؤمن بالنظرية.

وتقول أستاذة مسلمة تدرِّس البيولوجيا الجزيئية في جامعة أيوا الأميركية لوسائل إعلام: «إنني أرتدي الحجاب.. واستخدم نظرية التطور في تفسير التنوع وتطور السلالات».. وفي القرآن الكريم «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ» أي أن هناك مدىً زمنياً بين الخلق والتصوير، ويقول تعالى: «كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ».. وقد تكون ذرية قوم غير الإنسان.

سيستمر الجدل طويلاً بشأن نظرية النشوء، وقد لا تصمد النظرية في المستقبل. إنّه من الخطأ دفع علم البيولوجيا التطورية نحو دعم الإلحاد، ذلك أن مزيداً من العمق المعرفي يعزّز الإيمان، وما تزال الأغلبية الساحقة من حائزي نوبل في العلوم من المؤمنين.. لا يجب خلق صراع بين العلم والإيمان، أو فتح جبهات للتراشق بين العقل والعقيدة.. أو بين الجين والدين.

***

أحمد المسلماني - كاتب مصري

عن صحيفة لاتحاد الاماراتية، يوم: 26 سبتمبر 2024

 

تشكل كل من الخبرة والملاحظة دوراً أساسياً ومحورياً في رحلة الاستقصاء نحو تشكيل المعرفة المبنية على الكم الوافي من المعلومات والمهارات. ولا يمكن غياب أي مِن الملاحظة والخبرة عند الحديث عن الأدوات الضرورية لتحصيل المعرفة، حيث إنهما تتداخلان في الخطوات والمراحل التي تدفع بالعملية الكلية لبناء وتكوين وبلورة المعرفة حسب طبيعتها، بالإضافة إلى تطوير تلك المعرفة والقدرة على تفسير وتحليل وفهم المجريات التي تحيط بالإنسان وهو يكوّن معارفَه.

أما فيما يتعلق بالخبرة على نحو خاص فمن الواضح أنها تعبّر عن مستوى مختلف من أطوار بناء المعرفة، حيث يبدو أغلب تفاعلاتها في السياق الواقعي العملي، البعيد عن التنظير المجرد، متداخلاً في مضمار التجربة والعمل، وبالتالي فإن الخبرة تعبّر عن مهارة متفوقة على مجرد الملاحظة، وبذلك تكون إحدَى الأدوات التي يمتلكها الإنسان بعد خوضه العديد من التجارب ومروره بالكثير من المراحل التي قد يقع في الكثير منها ذلك التكرار الذي يفسر إنضاج الخبرة نفسه كأساس لبناء المعرفة. كما تعمل الملاحظة على تمكين الإنسان من جمع المعلومات وامتلاك إطار من المعطيات الكافية لفهم الظاهرة التي تقابله، وذلك انطلاقاً من الحالة التفاعلية بين الإنسان كذات مدركة وبين مجال ملاحظته، لا سيما أنها تعتبر الأداة المستخدمة في سبيل الوصول إلى حل المشكلات ومعالجة التحديات وكإطار لجمع المعلومات الدقيقة حول موضوع معين.. وغير ذلك من الأمور والمراحل التي تصب مجتمعةً في تكوين المعرفة العلمية حول موضوع أو تخصص أو مجال معين.

وحين كانت الخبرات تعبّر عن المعارف والمهارات المجموعة التي يحصدها الإنسان على طول مسار حياته المشحون بالتفاعلات والتجارب المختلفة مع بيئته المحيطة، وكانت هذه الخبرات تحمل بين طياتها تنوعاً هائلاً، سواء أكان لجهة أصناف المعلومات أو المجالات المعرفية، فإنها شكلت عماداً رئيسياً في تطوير مهارات الإنسان وقدراته وتمليكه الأدوات التي تجعله قادراً على فهم ما يجري حوله. وبالتركيز على الخبرة في حد ذاتها، فإنها تلعب دوراً بارزاً في تطوير مهارات الإنسان التي تجعل منه عنصراً نافعاً وقابلاً للإنتاج في مجال عمله، كما أن الخبرة تعتبر أحد أبرز النقاط التي ينجذب لها أصحاب الاحتراف في العمل، لا سيما أنها تحدد أكثر المسارات نفعاً وجدوى بحسب مجال الخبرة وطبيعتها.

وحتى تكون الخبرة الإنسانية أكثر صلةً وفائدةً في مختلف المجالات، فلا بد من إشباعها بتغذية مستدامة من أجل تجويدها والارتقاء بها، مثل المهارات العملية التي تعمل بدورها على تعزيز الأداء والارتقاء بالمعلومات الإدارية والفنية للتخصص. وهذا إلى جانب تطوير المهارات الشخصية المتعلقة ببيئة العمل على سبيل المثال، بحيث يكون الإنسان (صاحِبها) قادراً على تطويع مهارات القيادة والتواصل، وبالتالي فإن اللجوء إلى البرامج التدريبية المختلفة التي تسعى لشحذ الخبرة الإنسانية يعد مثالاً متميزاً يؤهل الخبرة للتطور والتجدد والتوسع في نطاق المعرفة الريادية والابتكارية.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 18 سبتمبر 2024 23:54

 

قلت في مقال «الزحيلي والمودودي» إن الفكر الإسلامي الإصلاحي في العالم العربي حين ترجم كتاب «الجهاد في سبيل الله» إلى العربية عام 1950، كان مستقراً على القول بأن الأصل في الجهاد هو الدفاع لا الهجوم والتوسع. المودودي في كتابه هذا نقضَ هذا القول المستقر في الفكر الإسلامي الإصلاحي في الهند وفي العالم العربي.

سيد قطب كانَ أول منظِّر إسلامي في العالم العربي أشاع قول المودودي في الجهاد، ونوّع عليه، وذلك في الطبعة المنقحة من كتابه «في ظلال القرآن» الصادرة عام 1961. وفي كتابه التلخيصي الوجيز «معالم في الطريق» الصادر عام 1964. ثم عشّش هذا القول ثم باض وفرّخ في عقول كثير من الإسلاميين العرب، واستوطن فيها، وتفشّى في بعض كتبهم.

إنَّ مجيد خدوري في كتابه «الحرب والسلام في القانون الإسلامي» لم يتعرض لمفهوم الجهاد عند الإسلاميين الحركيين، ولا يلام على هذا، فالطبعة الأولى من كتابه هذا كانت في عام 1940. وأعاد طبعه عام 1951. والطبعة التي رجع إليها وهبة الزحيلي في كتابه «آثار الحرب في الفقه الإسلامي» كانت طبعة عام 1955.

وهبة الزحيلي مع أنه كتب رسالته للدكتوراه «آثار الحرب في الفقه الإسلامي» في أول الستينات الميلادية إلا أنَّه يلام قليلاً على إغفاله مفهوم الجهاد عند تلك الفئة الإسلامية، لأن كتاب المودودي «الجهاد في سبيل الله» وكتابه الآخر «نظرية الإسلام السياسية» كانا من بين مراجع رسالته.

أما عبد الحميد أبو سليمان، فقد أغفل ذلك عامداً متعمداً، لحاجة في نفسه، ألمعت لها في خاتمة المقال السابق.

استوقفني قوله: «والحياد مقابل التحايد». استوقفني هذا القول، لأن الحياد هو مفهوم قانوني ومفهوم سياسي. أما التحايد في اللغة العربية إلى الآن فليس له إلا المعنى اللغوي. ففعل «تحايد» معناه تجنب، تحاشى، ابتعد. وفي السياق الذي استعملت فيه كلمة «التحايد» يصبح معنى هذه الكلمة هو التظاهر بالحياد أو ادعاءه.

واستوقفني هذا القول؛ لأنَّ الذي يقابل «الحياد» في اللغة العربية وفي اللغة الإنجليزية هو «الانحياز» وليس «التحايد».

كنت قد ذكرت في المقال ما قبل المقال السابق أنَّ عبد الحميد أبو سليمان في رسالته للدكتوراه «النظرية الإسلامية للعلاقات الدولية: اتجاهات جديدة للفكر والمنهجية الإسلامية» التي أنجزها عام 1973، لم يحدد نوع «المؤثرات الثقافية اللاإسلامية» التي كانت -حسب تفسيره- أحد سببين أعاقا مفهوم المساواة في الإسلام. وكنت قد ذكرت أنه حدّد نوعها أول مرة في العام الذي حصل فيه على درجة الدكتوراه من أميركا. وثاني مرة عام 1979، وثالث مرة عام 1986.

الآن سأعرض ما يعنيه بـ«المؤثرات الثقافية اللاإسلامية» التي هي بالنسبة له مقولة تفسيرية حصرية، تمتد من أحداث الفتنة في خلافة عثمان إلى وقتنا الحاضر، وفي المقال المقبل سأوضح أن تفسيره تترتب عليه -منطقياً- شبهة كبرى تمس الجانب الإلهي والجانب النبوي في رسالة الإسلام، هو لم يقصدها. وسأبين كذلك تهافت تفسيره لنهاية الخلافة الراشدة ولبداية الخلافة الأموية.

في اللقاء الثاني للندوة العالمية للشباب الإسلامي، وكان عنوانه «قضايا الفكر الإسلامي المعاصر» المنعقد في الرياض ما بين 17 و27 ديسمبر (كانون الأول) عام 1973، ألقى بحثاً كتبه كان عنوانه «السياسة والحكم في الإسلام».

قال في هذا البحث: «ونستطيع أن نضع أيدينا على بدايات الأزمة وأصولها التاريخية إذا دققنا النظر في الفتنة الكبرى التي ذهب ضحيتها حكم المدينة ونظامها السياسي ودم الخليفة الراشد عثمان بن عفان. فالأمر لم يكن كما يتخيل الكثيرون أنه ثورة أفعال بعينها، وأخطاء بذاتها وقع فيها عثمان أو غير عثمان، وإلا فما كان لعهد معاوية بن أبي سفيان أن ينعم بالاستقرار لأمور هي أنكى من كل ما يمكن أن يتهم به عهد عثمان، فالسبب في جوهره لم يكن إلا بداية طفو مفاهيم وقيم في نفوس القبائل والشعوب التي وصلت إلى جسد الجيوش ومراكز القوى في المجتمع الإسلامي، ولم تكن قد نالت من التربية والتعليم والتجرد مثل ما نال جيل المدينة، الذي ربّاه الرسول عليه الصلاة والسلام».

وفي اللقاء الرابع للندوة العالمية للشباب الإسلامي، وكان عنوانه «الإسلام والحضارة ودور الشباب» المنعقد في الرياض ما بين 18 و25 مارس (آذار) عام 1979، ألقى بحثاً كان عنوانه «الأسباب التاريخية لانحراف المجتمعات الإسلامية والمنطلقات الإسلامية لتصحيح البنية المعاصرة».

قال في هذا البحث: «وتبقى الحقيقة أن تحولاً أساسياً، في ميدان فاعليات الأمة وإمكاناتها المعنوية، قد حلّ بها بزوال عهد الصدر الأول والخلافة الراشدة وعلاقاتها الاجتماعية، رغم امتداد الدفع المادي وطرح ثماره خلال العهود الأولى اللاحقة لعهد الصدر الأول.

ولكن كيف حدث هذا التحول؟

في تصورنا أن ذلك التحوّل بدأ بانضمام أفراد القبائل العربية من غير المهاجرين (من قريش) والأنصار (من الأوس والخزرج) إلى صفوف الجيش الإسلامي في مسيرته نحو الشمال، لمواجهة الخطر الداهم من قبل الإمبراطوريتين العظيمتين في ذلك الوقت؛ الرومانية والفارسية. وجنود الأعراب لم تكن لهم من الرؤية العقائدية والتربية الإسلامية ما كان لجيش بناء دولة المدينة بقيادة الرسول عليه الصلاة والسلام».

في كتابه «أزمة العقل المسلم» الصادر في عام 1986، قال: «والسبب الذي أدَّى إلى الفتنة وسقوط الخلافة الراشدة هو التغيير الذي حدث دون التفات كافٍ إليه، أو قدرة على تلافيه، ألا وهو تغيُّر القاعدة السياسية التي ارتكزت إليها القيادة والخلافة الإسلامية الراشدة، فبعد أن كان الأصحاب و(كوادر) الأصحاب هم قاعدة دولة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقامت على أكتافهم دولة الخلافة الراشدة بكل ما يمثله الأصحاب من نوعية وتوجه وإعداد ونضج وتربية، وفي زحمة الأحداث وتدافعها... فإننا نجد أن المجال قد أفسح واسعاً لتدفق رجال القبائل من الأعراب، وعلى ما كانوا عليه في ذلك الوقت من عصبية وجهالة من مضاربهم في أطراف البوادي للانضمام إلى جيش الفتح، مع تقلُّص دور الأصحاب المتضائل بسبب السن والاستشهاد. لقد مكّن هذا في النهاية للأعراب من جيش الدولة، بكل ما حملوه معهم، إلى جانب معالم الإسلام العامة من المفاهيم القبلية والعصبيات، والذين لم تخضع نفوسهم لما خضع له الأصحاب من تربية وتدريب وتوعية على مدى سني الدعوة والمعاناة، وعبر عقود بناء الدعوة والمجتمع المسلم بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوائل الخلفاء الراشدين». وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الأحد - 19 ربيع الأول 1446 هـ - 22 سبتمبر 2024 م

 

خطر الأيديولوجيا يهدد المجتمع بعيدا عن القراءة النقدية

ملخص: لا مجتمع من دون أيديولوجيا، ومن دون مجموعةٍ من الأفكار والقيَم والمبادئ التي تخصه. لكن هذا لا يعني أن تُنزه الأيديولوجيا، فلا تخضع للنقد الشديد والقاسي حتى لا تتحول إلى أفيونٍ يدمر المجتمع. إذاً، إن الأيديولوجيا أنظومةُ "المبادئ" والقيَم والعقائد والأفكار المترابطة والمتماسكة التي تؤمن بها جماعةٌ معينةٌ من البشر وتبدو لهم أنها الأمْثَل إذا ما أرادوا أن يعيشوا حياةً فُضلى.

يمكن النظر في الأيديولوجيا كما لو كانت برنامجاً سياسياً طويل الأمد، غايتها تعبئة الجماهير وتحفيزها وتحريكها للوصول إلى السلطة وتحقيق الأهداف المرجوة. غاية الأيديولوجيا، إذاً، الفعلُ في الواقع، غايتها تحريكُ الجماهير، وليس المعرفة المنزهة عن الغرض أو البحث عن الحقيقة بغض النظر عن منفعة هذا البحث العملية، كما هي حال الفلسفة. لذلك بإمكاننا القول إنها، في جوهرها، سياسيةٌ بامتياز. من بين وجوه اختلافها أيضاً عن الفلسفة أنها تخص جماعةً معينةً من البشر، في حين أن الفلسفة تتوجه من حيث المبدأ إلى البشرية جمعاء. إنها تناسب السياسيين والمثقفين الذين يدعون امتلاكَ قدراتٍ خارقةٍ بإمكانها تغيير الواقع، لكنها لا تناسب الفلاسفة الذين جل همهم أن يبحثوا عن الحقيقة.

على رغم كل مثالب الأيديولوجيا وسيئاتها، فإنه لا بد منها ولا غنًى عنها، إذ لا بد لكل مجتمعٍ من أنظومةٍ من الأفكار والقيَم والأفاهيم والمبادئ والعقائد المترابطة التي يعمل بهَدْيها. فالأيديولوجيا تحث أصحابها ومُعتنقيها وتدفعهم لكي يعملوا ويغيروا وجه التاريخ. أملنا الوحيد أن يصاحبَ الأيديولوجيا نوعٌ من النقد الفلسفي الحر حتى لا تتحول إلى دينٍ جديد، أو إلى مجموعةٍ من الآراء الجامدة التي لا حياة فيها، فلا تعود تصلح للحياة على الإطلاق. أفضلُ المجتمعات مَن يقبل ضمنياً إخضاعَ أيديولوجيته للنقد الفلسفي المستمر، ومَن يسمح للفلاسفة والمفكرين أن يُمارسوا النقد بكل حرية.

وعليه، تختلف الأيديولوجيا عن الفلسفة. فالفلسفة للجميع، للبشرية جمعاء، للإنسان بما هو إنسانٌ عاقلٌ ينهم بالأسئلة التي يطرحها العقل بطبيعته. إنها تحافظ على حركة الفكر وحركة الأفهوم، فلا تعامل الأفهوم تعاملَها مع رأيٍ نهائي ثابت. كذلك إنها عبارةٌ عن وجهاتِ نظرٍ تمثل بادراتٍ فلسفيةً يقوم بها عباقرةٌ أفذاذٌ نسميهم فلاسفة. وجهات النظر هذه لا تدعي القبض على الحقيقة. لكل وجهة نظرٍ حقيقتُها الخاصة بها. كل بناء فلسفي يحتمل النقد، حتى لو أدى النقد إلى انهياره وتحوله إلى مجرد أنقاضٍ مضيئةٍ، إذ ما يلبث العقل البشري أن يحاول البناء مجدداً.

أما الأيديولوجيا فإنها فكرُ جماعةٍ معينة، تتوجه أصلاً إلى أفراد الجماعة هذه مهما قل عددُها أو كثُر. لا يمكن الأيديولوجيا أن تتوجه إلى البشرية جمعاء؛ لأنها تنطلق من مُسلماتٍ يؤمن بها أتباعها، لكن من الصعب أن يسلم بها كل البشر. هكذا تنشأ أيديولوجياتٌ ويكون لها أتباعٌ، غالباً ما يؤمنون بها من دون نقاشٍ كبير، فتسْلَم الأيديولوجيات من النقد. بناءً عليه، قد تتحول فلسفةٌ ثوريةٌ حتى علميةٌ في وقتٍ من الأوقات إلى مجرد أيديولوجيا، وذلك عندما تتحول إلى مجموعة آراءٍ جامدةٍ نهائيةٍ لا تسمح بأي نقدٍ، كما هي حال "الفلسفة الماركسية" التي تحولت إلى مجرد أيديولوجيا ماركسيةٍ ما لبثت أن انهارت مع انهيار الاتحاد السوفياتي والأنظومة الاشتراكية.

بين العَمارة الفلسفية والكوخ الأيديولوجي

لذلك يُقال إن الأيديولوجيا مقبرة الفلسفة بحسب صديقنا المفكر اللبناني إيلي نجم. نضيف أنها أيضاً خطيئة الفيلسوف. يحاول الأيديولوجي أن يتناسى أن الأيديولوجيا التي يتبناها مجردَ أداةٍ لتعبئة الجماهير وتحريكها، فيتشاطر وينبري لتحويلها من خطابٍ سياسي يسعى إلى تحقيق برنامجٍ سياسي معينٍ إلى قولٍ فلسفي يبحث عن الحقيقة وينطق بها. هكذا يبني الأيديولوجي أنظومتَه الأيديولوجية أو عمارته الجميلة الهشة من دون أن يُخضعها للنقد الفلسفي الدائم. لذلك نراه لا يطيق الحقيقة التي تخالف أيديولوجيته، فيصر على تبني "حقيقته" الهشة التي صنعها بنفسه! لذلك يتمسك أصحاب الأيديولوجيا بها على رغم ظهور عشرات الحقائق التي تكذبها!

إذاً، شتان ما بين العَمارة الفلسفية والكوخ الأيديولوجي. مع ذلك، يبدو أن هناك من لا يهوى العيش إلا في الأكواخ!

أستمعُ إلى بعض الأدالجة المتفلسفين، فأجدهم بمنزلة كارثة أيديولوجية. لا علاقة لهم بالفكر ولا بالفلسفة ولا بالثقافة، وإنْ اختصوا أحياناً بالفلسفة! لكنهم حتى في مجال الأيديولوجيا ما برحوا دونها. إنهم مجرد كارثة أو عاهة أيديولوجية أو حتى أصحاب أيديولوجيا رثة. لذلك أعجب من أحزابهم كيف تدعهم ينطقون باسمها!

الفلسفة والأيديولوجيا لا تجتمعان: فإما الكهف، وإما الخروج منه! من هنا، عندما يتأدلج الفيلسوف، يدخل إلى كهف أفلاطون ثانيةً، فلا يعود يرى سوى ظلال الحقيقة على جدران الكهف! لذلك يجب على الفيلسوف أن يحافظ على حرية الفكر، أن يحافظ على حركة الأفهوم، أن يحافظ على حرية العقل وأن يمنعه من الاستقالة. عليه أن لا يحول الأفهوم إلى رأيٍ نهائي جامد. باختصارٍ، على العقل أن لا يستقيل!

متى تصبح الأيديولوجيا خطراً على المجتمع؟

الأيديولوجيا سلاحٌ فتاكٌ أحياناً لا يقِل خطراً عن الأسلحة النووية، تزين لمعتنقيها فعلَ الإجرام. هكذا يجد الديكتاتور إلى جانبه مَنْ يزين له دائماً أعماله القبيحة، يجد إلى جانبه المثقف البهلوان الذي يحصر عمله في تسويغ أعمال السلطان. لذلك تراه ينتقل من سلطانٍ إلى آخر بحسب المنفعة المادية. من هنا عقمُ العِلم عندما يُحاول منافسة الفلسفة والحلول محلها. فالعلم ليس من وظيفته اكتشاف الأيديولوجيا القاتلة ومحاربتها، كما قد يتضمن هو نفسُه بشكلٍ مبطنٍ أيديولوجيا غير حميدة. ولطالما كان العلماء مجردَ أدواتٍ في خدمة السلطان.

يَقتل الأيديولوجي ويُقتل باسم الأيديولوجيا، حتى لو كانت منافيةً كل المبادئ الإنسانية. ذلك بأنه يظن أن أيديولوجيته مقدسةٌ وفوق النقد، تستحق أن يُناضِل من أجلها حتى لو ارتكبَ المجازرَ ومات في سبيلها. بل إنه يقتل بلذةٍ وسرورٍ معتقداً أن ما يقوم به عملٌ حسنٌ ورائع. هذا ما يُفسر، إضافة إلى المصالح الشخصية والقومية والجَماعية طبعاً، الجرائمَ الفظيعة التي يرتكبها الأدَالجة أو المؤدلجون، أكانوا من التيارات الدينية المتشددة أم كانوا من التيارات الدوغمائية غير المتدينة.

الأيديولوجيا قادرةٌ، إذاً، على تزيين أي شيءٍ مهما كان قبيحاً ورديئاً. لذلك يحيط السلطان المجرمُ نفسَه بالمثقفين ورجال الدين ليبيضوا إجرامه أمام الناس. يكفي السلطة أن تزين إجرامَها وسرقتها أموالَ الشعب ببعضٍ من الأفكار، ببعضٍ من الأيديولوجيا لتكون مرتاحة الضمير، بل لتكون فخورةً جداً بما اقترفته يداها! وعليه، فالتفكير… ذلك الرعب الذي لا يتحمله ولا يُطيقه كثيرون! يكفي أن تفكر من دون وصايةٍ وتخرج من الإطار السائد حتى تُتهم وتصبح خطيراً! إذاً، هناك أشخاص لا يفكرون ولا يريدون لك أن تفكر. فالتفكير، في عرفهم، عملٌ خطيرٌ لا يتحملونه. فإما أن تقول ما يقولون، وإما أن يحسبوك عدوا فيبدؤون بتهجماتهم الشخصية عليك.

بِمَ تختلف الفلسفة عن الدين؟

الدين رؤيةٌ كونية. لكنه ليس بأنظومة فلسفية، ليس بسستام فلسفي، ليس بعمارة فلسفية. إنه مجموعةُ عقائدَ وأخبارٍ تتخذ صفة اليقين لأن القائل بها، في نظر المؤمن، هو الله. أما الفلسفة فأمرٌ آخر مختلفٌ تماماً، وإنْ كانت تنافس الدين أحياناً كثيرة. فالفلسفة لا تقدم لنا عقيدةً مختلفة، ولكنها تسائلنا عن الطريقة التي بها أنشأنا عقائدنا. لا تقدم لنا معلومات، بل تجعلنا نفكر بطريقة مختلفة.

ليس كل ما يتوجه إلى الناس أجمعين فلسفة. فقد يكون أدباً أو فناً أو ديناً. فالرواية الأدبية أو اللوحة الفنية تتوجهان إلى البشر أجمعين، لكن ليس عبر الأفاهيم، بل عبر أدواتها الفنية الخاصة. الفلسفة هي الفلسفة، هي محبة الحكمة. وأفضل تصنيف للفلسفة هو نسبتها إلى اللغة التي كتِبت بها. فنقول فلسفة يونانية نسبةً إلى اللغة اليونانية، ونقول فلسفة عربية نسبةً إلى اللغة العربية التي كُتبت بها. هذا لا يعني أنها تتوجه إلى الإغريق فقط أو العرب فقط، إذ تصبح عندئذٍ أيديولوجيا.

عندما نوقِف حركة الفكر، عندما نُوقِف حركة الأفهوم ليُصبح مجردَ رأيٍ، تَسقط الفلسفة في مستنقع الأيديولوجيا وتتحول إلى أنظومةٍ من الأفكار النهائية الجامدة. من طبيعة الفكر أنه في حركةٍ دائمةٍ لا تهدأ. ومن ثم، علينا أن نعيد النظر في السستام الذي بنيناه على الدوام لأن المشكلات الفلسفية تتغير باستمرار، مما يُحتم علينا إعادة النظر، بشكلٍ دائمٍ، في ما لدينا من فلسفاتٍ وأيديولوجياتٍ وأفكارٍ وأفاهيم.

نقد الفكرة ونقد الممارسة

في المجتمعات العربية يُمنع على المفكر أن ينتقد السلطان الذي يُرفع إلى مستوى القداسة، وأن ينتقد النهج الذي يتعالى على المكان والزمان، وأن ينتقد الفكرة المنزلة من السماء، وأن ينتقد أخيراً الأنظومة التي وضعها مؤسسون كبار. ما هو مسموحٌ له أن ينتقده، هو فقط بعض الممارسات الهامشية، بعض التطبيق وبخجلٍ شديد، شرطَ أن لا يضر نقدُه بالشخص ولا بالمقدس ولا بالنهج ولا بالفكرة. لذلك يكتفي بعضنا بنقد التطبيق أو بنقد الشخص الذي يطبق، متجاهِلاً أن النقد الحق والمنتِج هو النقد الذي يصيب المنهج والفكرة أيضاً!

لا شيء في أفهوم الأيديولوجيا يشي بالعصمة أو يدعي أن الأيديولوجيا مقدسةٌ ونهائية. لذلك لا مانع، من حيث المبدأ، من أن تخضع الأيديولوجيا، بشكلٍ دائمٍ، للنقد الفلسفي حتى لو أدى ذلك إلى تعديلها جذرياً لتصبح، في كل مرةٍ، مناسبةً بقدر الإمكان مقتضياتِ العصر. يكفي أن تمنع الأيديولوجيا النقدَ الفلسفي، يكفي أن تحارب العقلَ الفلسفي، حتى تتحول إلى أيديولوجيا خطِرة وتكف عن كونها أداةً فعالةً للنهضة بالمجتمع. إذاً، الأيديولوجيا الشمولية التي تسعى إلى أدلجة كل شيءٍ ترتكب جريمةً كبرى بحق المجتمع لأن المجتمع لا يقوم إلا بالتعدد والاختلاف.

عندما يتحول الدين إلى مجرد أيديولوجيا ظلاميةٍ قاتلةٍ، يصبح أفيوناً للشعوب. وكل أيديولوجيا تفقد دورها التحفيزي والنهضوي تتحول كذلك إلى أفيونٍ للشعوب، حتى لو كانت أيديولوجيا ملحِدة. أن تكون الأيديولوجيا ضروريةً لتحريك المجتمعات لا يعني أن نتبنى أي أيديولوجيا كيفما كان وكيفما اتفق بعيداً من النقد الفلسفي.

ما زالت الفلسفة ملطخةً بالعار الذي ألحقه بها فيلسوف ألمانيا الكبير مارتن هايدغر عندما أيد النازية أو ما ظنه "الصحوة القومية الجرمانية". كان حرياً به أن يقول "لا"، وأن يستشعر أثر البربرية والظلامية اللتَين سيطرتا على ألمانيا ودمرتا أوروبا. سبق للفيلسوف اللبناني كمال يوسف الحاج (1917-1976) من قبلُ أن أشار إلى أن الفيلسوف يهتم بالسياسة الكبيرة ويترك السياسة الصغيرة لرجال السياسة الذين يلهثون وراء منصبٍ هنا ومنصبٍ هناك، وتتملكهم الكراسي فيصبحون عبيداً لها.

من الصعب أن تناقش صاحب أيديولوجيا، دينيةٍ أو غير دينيةٍ، يدعي امتلاك الحقيقة ويزعم أنه على الحق المبين، مهما بينتَ له من عقم أيديولوجيته ومهما قدمتَ له من بدائلَ أفضل. تجده يحبِس نفسَه داخل أسوار أيديولوجيته الضيقة، فلا يستطيع الخروج منها كما لا يمكنه التفكير خارجها. لكن من السهل أن تُناقش مستنيراً متحرراً من الوصاية الفكرية التي تمارسها الأيديولوجيا على أصحابها لا يدعي امتلاك الحقيقة، وهو يبحث دائماً عما هو بارزٌ ولافتٌ وهام ومثيرٌ للانتباه من أفكارٍ، أنى وجدها، ليجدد بها البناء الفكري.

بين التحليل العلمي والحُكم الأيديولوجي

تختلف الترسانة الأيديولوجية بطبيعتها عن الترسانة الأفهومية الفلسفية. لذلك علينا أن نحذر دائماً من الوقوع في براثن الأيديولوجيا. لقد وقع اللبنانيون على سبيل المثال في قاع الجحيم أو يكادون. ووقوعهم كان غير مسبوقٍ. وتحليل ظاهرة هذا الوقوع أو هذه الكارثة عمليةٌ معقدةٌ جدا في بلدٍ يعاني من أمراضٍ نفسيةٍ مزمنةٍ، ومشكلاتٍ اقتصادية عميقةٍ، وتحالفاتٍ سياسيةٍ غير طبيعية، واضطراباتٍ مجتمعيةٍ طائفيةٍ متنوعةٍ، وموقعٍ جيوسياسي يقع على تقاطع زلازل المنطقة، وطبقةٍ سياسيةٍ نادرة الوجود في طريقة أدائها الفاسد، وقادة-آلهة، وفسادٍ مجتمعي مُستشرٍ، واحتكاراتٍ تجاريةٍ خبيثة.

وعليه، إذا لم نفسح في المجال أمام التحليل العلمي وبقينا في الأحكام الأيديولوجية التي تجمع الحاضر بالماضي والمستقبل والتي تجد أن أسباب ما يحدث تعود إلى أزمنةٍ غابرةٍ وإلى مسؤولية أشخاصٍ ماتوا منذ ألفٍ ونيفٍ من السنين، واستخدمنا العُدة والترسانة الأيديولوجية التي نراها في بطون الكتب القديمة والتي نتوارثها عبر الأجيال، فإنا لن نظفر بالتشخيص العلمي السليم. ومن ثم، لن نستطيع أن نعالج المشكلة التي نتخبط فيها بابتداع الأفاعيل الفلسفية والعلمية المناسبة، وسنبقى ندور في حلقةٍ مفرغةٍ، بل وسنظل نهدر الوقت والجهد والمال عبثاً، وستزداد أمراضنا ومشكلاتنا استعصاءً!

أدلجة الدين

يجري تَدْليج الدين وأَدْلَجته من أجل توظيفه واستثماره بسهولةٍ في المشاريع السياسية الخاصة والزواريب الضيقة. هكذا يتعطل العقل وينقاد المرء بسهولةٍ من أجل خدمة مشاريعَ أيديولوجية مدمرة. عندئذٍ، يُصبح الدين أفيون الشعوب. لذلك من الضروري التمييز بين الدين، وما ينشأ حوله من مذاهب وأيديولوجياتٍ واتجاهاتٍ فقهيةٍ ومدارسَ دينيةٍ وتياراتٍ صوفيةٍ بل وحتى كلاميةٍ فلسفيةٍ؛ لأن ما ينشأ حول الدين لا يمكن أن يستَنْفِده. ليس أي أيديولوجيا أو مذهبٍ أو تيارٍ أو مدرسةٍ إلا أنظومة جامدة نهائية لا تصمد أمام المتغيرات. الأيديولوجيا الدينية فهمٌ حصري للدين يدعي صوابيته ويرفض أي فهمٍ آخرَ مختلف. وعليه، لا بد دائماً من قراءةٍ مختلفةٍ للدين تتماشى مع العصر وأدواته المعرفية وفتوحاته العلمية والفكرية والفلسفية، شرطَ أن لا تدعي هذه القراءة أنها أيضاً الحق بعينه. مشكلة الأيديولوجيا الدينية أنها تدعي القبض على حقيقة الدين، وتدعي النطق باسم الله، فتعطل كل نقاشٍ وكل حوارٍ، مما يؤدي إلى انهيار المجتمع في النهاية.

الأيديولوجيا الدينية

هكذا ينشأ ما يمكن أن نسميه بالأيديولوجيا الدينية التي تنشأ حول الدين. فتبني له أنظومةَ أفكارٍ وعقائدَ وأنماطَ حياةٍ وسلوكاتٍ معينةً خاصةً بجماعةٍ معينة. تنشأ هذه الأنظومة وتكتمل عبر التاريخ وتتم المحافظة عليها من جيلٍ إلى آخر. فلا يتم الاكتراث لما يجري في العالم، عبر قرونٍ، من أحداثٍ سياسيةٍ وعلميةٍ وفتوحاتٍ فكريةٍ قد تطيح بهذه الأنظومة نفسها. فجميع هذه الأحداث تُفسر بشكلٍ لا يتعارض مع الأيديولوجيا المعتمَدة. تتوجه الأيديولوجيا الدينية إلى جماعةٍ معينةٍ أو طائفةٍ تدعي الصواب في ما تقول، كما تدعي القبض على حقيقة الدين بعينها. وما عداها يصبح باطلاً. فأتباعها هم المؤمنون حقا، وغيرهم على ضلال. لذلك لا يمكن أن تتوجه إلى البشرية جمعاء. ولهذه الجماعة سلوكاتٌ معينةٌ وفهمٌ معينٌ للدين. أما الدين فإنه، في رأينا، مفتوحٌ ومتاحٌ للجميع، يخضع لقراءاتٍ وتأويلاتٍ في كل مرة. كما يخضع دائماً للفهم وإعادة الفهم بحسب العصور.

هكذا تتكاثر الأيديولوجيات الدينية حول الدين الواحد نفسه. وكل أيديولوجيا تدعي أنها قبضت على حقيقة هذا الدين بعينها. بل كل أيديولوجيا دينية تنفي الأيديولوجيات الدينية الأُخَر وتنعتها بالضلال، في حين أن الأحداث غالباً ما تُثبت زيف الأيديولوجيات الدينية وغير الدينية. لكن أتباع الأيديولوجيات لا يأبهون لهذه الأحداث ولا يكترثون بها، بل ويصرون على أيديولوجيتهم، كما يدعون الغير إلى اعتناقها، ولا يسمحون بنقدها نقداً جذرياً. هكذا نعاني من الأيديولوجيات الدينية التي تريد أن تُقَوْلِبنا وتُقنعنا بما لديها من أفكارٍ وعقائدَ وأن نطبق ما تقترحه من سلوكات.

حتى للفساد ثقافته وأيديولوجيته

واهِمٌ مَن يفسر الفساد في لبنان مثلاً باسم المنافع والمصالح فقط، فهناك ثقافةٌ للفساد وأيديولوجيا للفساد أيضاً تزين الفساد وتبرره. لذلك لا نرى أثراً لتأنيب الضمير أو الخجل أو الندم في وجوه الفاسدين. تراثنا يُمكن القول عنه إنه تراثٌ غِب الطلب، بمعنى أنه جاهزٌ، في أي وقتٍ، لإمداد الأيديولوجي وصاحب المذهب بما يناسبهما ويدعم الأيديولوجيا والمذهب اللذَين بنَياهما سلفاً.

كثيرٌ من أصحاب الأيديولوجيات يتخذون مواقفهم من أي مسألةٍ مطروحة، ومن ثَم يبحثون عما يدعمها من التراث. إذا لم يجدوا في التراث ما يدعم، بشكلٍ صريحٍ، مواقفهم التي اتخذوها، فإنهم يغرقون في متاهة التأويل ولَيْ عُنُق التراث ليناسب ما هم عليه. وعليه، فبدلاً عن أن يجترحوا طريقةً جديدةً في قراءة التراث ويُخبرونا عما كشفت عنه هذه الطريقة وما توصلوا إليه من نتائجَ مختلِفةٍ لم نتوصل إليها بالطرق الكلاسيكية السائدة، فإنهم يُقبلون على التراث بمواقفَ اتخذوها سلَفاً، ومن ثَم يبحثون عما يدعمها في تراثٍ أقل ما يُقالُ فيه إنه خليطٌ عجيبٌ غريبٌ من الشيء وضده.

انكفاء الفلسفة وتقدم الأصوليات

ينكفئ الفيلسوف إذاً! فيتقدم اللاهوتيون والمشعوذون والسحرة ليملأوا الحقل الذي تركه الفيلسوف. فيَتبين أن هؤلاء أقدرُ من الفيلسوف في تلبية رغبة العامة الجامحة الطامحة في العلمان المطلق. هكذا راح الناس، في العصر الراهن، يصدقون كل ما يُقال لهم، تحقيقاً لطمأنينة العقل. فقد احتل هؤلاء الشاشات والساحات. لكن ما النتيجة؟ لقد انحسر دور العقل واندلعت الصراعات الإلهية على الأرض مرة أخرى، وسار الناس بكل سرورٍ إلى هلاكهم، سعداءَ فرحين بوصفهم يمثلون الإله. وهذا بالتأكيد "سيثيبهم" على أفعالهم، حتى لو كانت إجرامية.

هذا المصير الأسود والقاتم الذي وصلت إليه البشرية يُنذر بعواقبَ وخيمةٍ، قد تؤدي إلى فناء البشرية وزوال الحضارة الإنسانية. فبعد قرونٍ من التنوير، تتراجع الحداثة، حتى في موطنها الأصلي، وتستيقظ البربرية الأوروبية من سباتها بسبب الحرب في أوكرانيا، وينتشر الظلام مجدداً، بل ويحقق انتصاراتٍ هامةً، وينعزل أصحاب العقول النيرة حتى أنهم باتوا غرباء في مجتمعاتهم.

إذاً، إن انكفاء الفلسفة عن ساحة الفكر سمح للأصوليات بملء الفراغ. وإن تعدي العِلم على مجال الفلسفة أنتج ميتافيزيقا هزيلةً وادعاءاتٍ فارغةً لا تلبي رغبة العقل وتعطشه إلى المزيد. لا يمكن الفيلسوف أن يتفلسف بمعزل عن العِلم. هذا صحيح. لكن ليس للعِلم أن يحل محل الفلسفة، وليست لديه القدرة على ذلك. وإنْ فعلها العلماء، فإنهم يصبحون فلاسفةً ولا يعودون مجرد علماء. كما لا يمكن الدين أن يُفهَم فهماً مستنيراً من دون وجهة نظرٍ فلسفية. وحده الفيلسوف المواكب ما يجري في العلوم والمطلع على مغامرات العقل التاريخية الجبارة يستطيع أن يصوغ ميتافيزيقا مقبولةً ومناسبةً للعصر، وأن يستجيب للعقل البشري الذي لا يكف بطبيعته عن طرح أسئلة المعنى.

ما نعاني منه أساساً أزمةٌ في العقل

وعليه، لكي لا يتحول الدين إلى نوعٍ من الخرافة: لا بد من فهمٍ غير ديني للدين، لا بد من فهمٍ فلسفي للدين. بناءً عليه، لا يمكن أن يُترك أمر الدين إلى رجال الدين فقط. ما نعانيه من أزماتٍ منذ عقودٍ يعود، من حيث المبدأ، في ما يعود إليه، إلى أزمةٍ في العقل، إلى أزمةٍ في الفلسفة بوصفها بنتَ العقل. لذلك علينا أن لا نتجاهل أزمة العقل لدينا لو أردنا يوماً أن ننهض نهضةً جديدةً. طبعاً هناك عوامل كثيرةٌ، اقتصادية واجتماعية وسياسية، أفضت إلى الأزمة. لكن بإمكاننا أن نجد أصل الأزمات جميعاً في طريقة تفكيرنا وفي طريقة تعقلنا. من هنا ضرورة الفلسفة التي تطرح الأسئلة الأساسية وتعالجها وتحافظ على حركة الأفهوم، فتمنع الفكر من أن يتحول إلى أيديولوجيا نهائيةٍ جامدة. هكذا بإمكاننا أن نفهم أزمة الدين، أزمة الرأسمالية، أزمة النظام الطائفي اللبناني، أزمة العولمة، إلخ. من دون الفلسفة تنتعش الأصوليات وتسود الحماقة ونعيش في الابتذال. إذا كان لهذه الحياة من معنًى، فلأن هناك إنساناً مفكراً، لأن هناك فيلسوفاً جعل لها معنًى.

***

ا. د. جمال نعيم - أكاديمي لبناني

عن أندبيندت عربي، يوم: الجمعة 20 سبتمبر 2024 16:55

لن يكون نسخة طبق الأصل عن الأوروبي

يعتقد الناس أحياناً أن التنوير مجرد ترف فكري خطر على بال بعض المثقفين الأوروبيين أن يخترعوه ويتسلوا به لكي يخرجوا من الدين على سبيل المشاكسة ليس إلا. بل ويتوهم البعض أنهم اخترعوه لكي يتفاخروا به على الآخرين: أنا تنويري وأنت غير تنويري إلخ... كل هذا شيء زهيد وسخيف. في الواقع إنه ظهر تلبية لحاجة تاريخية ملحة جداً وعاجلة. لقد كان علاجاً ناجعاً لمشاكل طائفية أو مذهبية مزقت المجتمعات الأوروبية على مدار القرون السابقة. ومعلوم أن فرنسا عانت من الحروب المذهبية ما عانته. كما وعانت من التعصب الأعمى الكاثوليكي على وجه الخصوص. فالأغلبية الكاثوليكية دمرت الأقلية البروتستانتية تدميراً بعد أن اتهمتها بالهرطقة والكفر والخروج على «صحيح الدين»، أي على المسيحية الصحيحة التي لا يمكن أن تكون إلا كاثوليكية، حسب وجهة نظرهم. كان الكاثوليك يعدّون أنفسهم آنذاك بمثابة الفرقة الناجية في المسيحية. هم وحدهم في الجنة وباقي الفرق في النار. ولهذا السبب حاولوا استئصال البروتستانتيين. يكفي أن نتذكر هنا مجزرة سانت بارتيليمي التي اندلعت في باريس يوم 24 أغسطس (آب) عام 1572: أي قبل خمسمائة سنة تقريباً. وقد اندلعت في العاصمة أولاً قبل أن تنتقل إلى الأقاليم البعيدة وكبريات المدن كبوردو وتولوز وليون وسواها. (بين قوسين يجمع المؤرخون على أنه ذهب ضحيتها ثلاثون ألف شخص. وهو رقم ضخم بالنسبة لذلك الزمان ويساوي الآن ثلاثمائة ألف شخص على الأقل).

كان الهدف في البداية تصفية قادة الطائفة البروتستانتية وليس الشعب البروتستانتي ككل. وقد أمر الملك الكاثوليكي شارل التاسع بإيقاف المذبحة منذ اليوم الأول. ولكن عامة الشعب الهائجة المشحونة بالتعصب شحناً من قبل الأصوليين ورجال الدين لم تستمع لأوامره فذبحوا البروتستانتيين بشكل أعمى حيثما ثقفوهم أو وجدوهم. وهكذا خرجت الأمور عن حد السيطرة. ومعلوم أنه عندما يُطلق للغرائز الطائفية العنان فلا أحد يعرف أين تتوقف ولا كيف... لن تتوقف قبل أن يشبع الدم من الدم... وهذا أكبر دليل على أن الشعب كان أكثر تعصباً من قائده أو مليكه. إذ حتى الملك الكاثوليكي المبجل جداً عجز عن إيقاف الشعب الهائج!

عندما يتذكر الفرنسيون المعاصرون ذلك لا يكادون يصدقون ما حصل. والسبب هو أنه لم يعد هناك أي أثر للتعصب الطائفي في فرنسا الحداثية العلمانية المعاصرة. فالبروتستانتيون والكاثوليكيون أصبحوا جميعاً مواطنين درجة أولى ومتساوين في الحقوق والواجبات أمام دولة القانون والمؤسسات. لقد حلت العصبية الوطنية أو القومية الفرنسية كلياً محل العصبيات الطائفية الضيقة. وهذا معاكس لما يحصل في المشرق العربي حالياً حيث لا وجود تقريباً للعصبية الوطنية الجامعة، وإنما كل المحبة والتعصب للطائفة. والسبب هو أنه لم يظهر حتى الآن فكر تنويري في العالم العربي، فكر قادر على تفكيك العصبيات الطائفية الراسخة رسوخ الجبال كما فعل فلاسفة التنوير في فرنسا وعموم أوروبا. لم يظهر فولتير عربي ولا سبينوزا عربي ولا كانط عربي... إلخ. وما دام الأمر كذلك فسوف تستمر الطائفية في الهيمنة على عقول الناس، بخاصة عامة الشعب البسيط، بل وحتى قسم كبير من المثقفين أو أشباه المثقفين.

لقد أراد الحزب الكاثوليكي الأصولي الطائفي المتعصب جداً أن يفني البروتستانتيين ويستأصلهم عن بكرة أبيهم. وهي المجزرة التي صفق لها بابا روما آنذاك معتبراً إياها بمثابة الانتصار المبارك الميمون للإيمان الصحيح. قال بالحرف الواحد: الحمد لله اليوم انتصر الإيمان الحقيقي على الزندقة والكفر... وفور سماعه بالنبأ أمر بإقامة صلاة الشكر في جميع كنائس روما حيث قرعت الأجراس في كل مكان احتفالاً بالنصر. راح يرفع آيات الابتهال إلى الله تعالى لأنه أنقذ أرض فرنسا الكاثوليكية الطاهرة من رجس الهراطقة البروتستانتيين لعنهم الله!

لولا هذه المجازر، لولا هذا الجو المشحون بالتعصب الطائفي والمذهبي، لما ظهر فولتير ولا ديدرو ولا جان جاك روسو ولا الموسوعيون ولا كل فلاسفة الأنوار. لقد ظهروا كرد فعل على هذا الفهم الطائفي المتعصب والمرعب للدين المسيحي. وهو فهم أصولي يخلع المشروعية الإلهية على المجازر الطائفية بل ويعدّها تقرباً إلى الله تعالى. وبالتالي فهناك فهم طائفي للدين وفهم غير طائفي. هناك فهم آخر للدين ممكن غير فهم «الإخوان المسلمين» والخمينيين وبقية الظلاميين. هذا شيء لم يُستوعب بعد في العالم العربي بل ولا يخطر على البال. ولا أقصد بال الجماهير الأمية الغفيرة المعذورة، وإنما أقصد بال المثقفين أيضاً إلا من رحم ربك! ولكن المسيحية الأوروبية تجاوزته بسنوات ضوئية بفضل جهود فلاسفة الأنوار.

هذا التطور اللاهوتي الهائل، هذه الثورة الفكرية التنويرية، لم تحصل حتى الآن إلا في أوروبا والمسيحية الأوروبية. ولكن البابا الأسبق بقي أصولياً أحياناً على الرغم من علمه الغزير. والدليل على ذلك أنه كان يعدُّ البروتستانتيين وربما الأرثوذكس مسيحيين بشكل ناقص لا بشكل كامل على عكس الكاثوليكيين. بمعنى آخر، فإنه ظل يعتقد في قرارة نفسه أن الفرقة الناجية الوحيدة في المسيحية هي المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني الذي يمثل الأكثرية أو الأغلبية العددية. هذا لا يعني أنه ظل يكفر المذاهب المسيحية الأخرى غير الكاثوليكية، كما كان يفعل أسلافه في القرون الماضية. لا، أبداً. لكنه يعني أنه لم يتخلص كلياً من رواسب العصور الوسطى ولاهوتها القديم على عكس المفكر الكاثوليكي التحريري الرائع هانز كونغ.

التنوير العربي سيؤدي إلى المصالحة التاريخية بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، بين الإسلام والحداثة

وهل تعتقدون أنه لولا حرب الثلاثين عاماً التي اجتاحت ألمانيا وكل أوروبا كان سيظهر لايبنتز وليسنغ وكانط وفيخته وهيغل وبقية التنويريين الألمان العظام؟ ثلث سكان ألمانيا قتلوا في تلك الحرب الطائفية الرهيبة التي جرت بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين. لهذا السبب قرر فلاسفة التنوير الاشتباك مع الإخوان المسيحيين وتفكيك تفسيرهم الانغلاقي والطائفي المتعصب للدين المسيحي. لهذا السبب قرروا تفكيك فتاواهم الدينية اللاهوتية القاتلة أو التي تخلع المشروعية «الإلهية» على القتل والذبح. وهي الفتاوى ذاتها التي لا تزال تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية حتى اللحظة.

لا يمكن أن نفهم ملحمة الحداثة وصعودها الصاروخي في أوروبا إن لم نأخذ كل هذه الحقائق بعين الاعتبار. أحياناً يقول بعض المثقفين العرب: يا أخي ما علاقتنا بالتنوير؟ ما حاجتنا إليه؟ يا أخي التنوير ظهر في أوروبا إبان القرن الثامن عشر قبل 200 سنة فهل تريدون إعادتنا إلى الوراء مدة قرنين أو أكثر؟ هل نحن بحاجة إلى تيار فكري مضى وانتهى؟ عندما يقولون ذلك فإنهم يرتكبون مغالطة رديئة أو سفسطة مجانية ليس إلا. إنهم يريدون قطع الطريق على التنوير، ومنع حصوله في العالم العربي والإسلامي ككل. وهذا يعني إدامة العصر الطائفي إلى ما لا نهاية. وهم بذلك متواطئون ضمناً مع «الإخوان المسلمين» وبقية الرجعيين ولكنهم لا يتجرأون على التصريح بذلك علناً مخافة أن يقال عنهم إنهم ضد الحداثة والعصر والتطور. ونحن نسألهم: التنوير مضى وانتهى بالنسبة لمن؟ هل مضى وانتهى بالنسبة للشعوب الأفغانية الطالبانية والعربية والتركية والإيرانية والباكستانية، أم مضى بالنسبة للشعب الفرنسي والألماني والإنجليزي وبقية الشعوب الأوروبية المتطورة التي لم تعد تعاني من أي مشكلة طائفية أو مذهبية؟ هذا السؤال كافٍ لإفحامهم وتبيان خطأ موقفهم ومغالطاتهم ومكابراتهم. ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج شيئاً واحداً: وهو أن التنوير لا يزال أمام المثقفين العرب لا خلفهم على عكس المثقفين الأوروبيين. نستنتج أننا لن نستطيع الإفلات من استحقاق التنوير مهما حاولنا أو فعلنا. نستنتج أن هناك تفاوتاً تاريخياً كبيراً بين المجتمعات المسيحية الغربية والمجتمعات الإسلامية عربية كانت أم غير عربية. نستنتج أن التنوير العربي قادم لا ريب فيه. لكنه لن يكون نسخة طبق الأصل عن التنوير الأوروبي وإنما ستكون له فرادته وعبقريته الخاصة. لن يؤدي إلى الإلحاد المطلق، كما حصل في الغرب، وإنما سيؤدي إلى المصالحة التاريخية بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، بين الإسلام والحداثة.

***

هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 18 سبتمبر 2024 م ـ 15 ربيع الأول 1446 هـ

تتداول في بعض المجاميع المعرفية العربية فكرة غريبة، وهي أن الليبرالية لم تنتقد نفسها، وهذا قول مأخوذٌ عليه. وآية ذلك أن جمعاً غفيراً من فلاسفة الليبرالية انتقدوا الليبرالية بغية تعديلها وتصحيح مسارها. لأن النظريات تكبر مثل الناس، وبالتالي تنضج وتقيّم المسار، وتباشر النقد. عدد من الفلاسفة انتقدوا النظرية بالمعنى العلمي لليبرالية ومنهم الفيلسوف جون راولز وهذا مشهور في كتابه: «العدالة كإنصاف»، وهو من أعمق الكتب التي نظّمت مسار القانون والعدالة في الفكر الليبرالي، وقد تطرّق إلى نقاط ضعف وخلل، واستعمل أدواته التقنية الفلسفية لتفكيك الأخطاء ومحاولة الإصلاح، وقد كتبتُ عنه من قبل ويمكن العودة إلى كتابه الأصلي.

لكن هذه المرة، لفتني حوار مهم نشر في كتاب: «حوارات فلسفية - حول الفلسفة الأميركية المعاصرة، حوارات هارفارد» من إعداد: جميلة حنيفي. الحوار كان مع الفيلسوف مايكل ساندل وفيه ينقض المقولات التي تقول إن الليبرالية لم يتم نقدها، يبدأ الحوار في الكتاب من صفحة (143). يقول: «أعتبر نفسي ناقداً لصيغة معينةٍ من الليبرالية، تلك الصيغة تلك التي تجد تغييرها أو حكمها الأكثر تأثيراً لدى إيمانويل كانط، لكن أيضاً لدى فلاسفةٍ آخرين معاصرين مثل جون راولز. إنها الصيغة التي ترى أن الحكومة ينبغي أن تتخذ موقفاً حيادياً إزاء مفاهيم متنافسةٍ عن الحياة الخيّرة. لابد أن نفهم أن كلمة «جماعاتية» عبارة عن تسمية تم إدراجها من قبل آخرين لوصف النقاش الذي تمخض عن بعض الانتقادات التي وجّهت إلى الليبرالية سواءٌ من قبلي أو من قبل آخرين، وما يجعلني منزعجاً وغير مرتاح لتسمية الجماعاتي، هو أن الجماعاتية تقترح أن القيم السائدة في أية جماعة معطاة وفي أي زمنٍ معطى. عندما أصف التقليد المنافس للتقليد الليبرالي في التاريخ السياسي والدستوري أحبّذ التركيز على التقليد المدني الجمهوري».

تعليقي على هذا النص، أن الليبرالية نظرية شاسعة ومتشعبة، بين السياسي، والاقتصادي والاجتماعي، وميزتها الأساسية في نقد نفسها، وفي إنتاج فلاسفة يصححون أخطاءها، ويعالجون أدواءها. صحيح أنها أثبتت نجاحها العالي على المستويين الاقتصادي أولاً ثم الاجتماعي، ولكنها على المستوى السياسي الآن تتعرض لنقد مشروع ولاذع، وهذا طبيعي، ذلك أن النماذج التي طرحتها كانت ضمن سياقها التاريخي، وليس من الضرورة انتهاجها في جميع العالم.

في الاقتصاد ثمة إجماع على أن الاقتصاد الليبرالي هو السبيل الأبرز للنمو في العالم، حتى الصين لم تنجُ على مستوى الاقتصاد من موجة الليبرالية الحيوية رغم احتفاظها بنمط سياسي واجتماعي معين اختارته ويجب احترامه، بل إن فيلسوفاً ألمانياً كبيراً مثل ماكس فيبر قال في كتابه: «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» إن النماذج الغربية لا يمكن تطبيقها على الشرق ولا على الصين، وأفرد صفحاتٍ حول نموذج الصين.

الخلاصة، أن تميّز الليبرالية في نقد فلاسفتها لمنهجها، وتصويبهم لمسارها، والآن نرى النموذج الليبرالية (على المستوى السياسي) تعاني تحديات كبيرة، ولذلك على الدول كلها أن تحترم نماذج الدول الأخرى، وألا تفرض عليها نموذجها الخاص.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 17 سبتمبر 2024

أكسيل هونت، فيلسوف ألماني بارز، وهو دون شك من آخر فلاسفة الغرب المعاصرين الأحياء، وقد أصدر كتاباً هاماً بعنوان «السيد الكادح: نظرية معيارية للشغل» (تُرجم مؤخراً إلى اللغة الفرنسية)، قدّم فيه مساهمةً فكريةً متميزةً في فلسفة العمل التي شغلت منذ أفلاطون إلى ماركس العديدَ من كبار الفلاسفة. في هذا الكتاب يركز هونت على ثنائية السيادة والعمل في الديمقراطيات المعاصرة، معتبِراً أن فكرةَ السيادة المطلقة والحرية الكاملة للمواطن لا تتلاءم عملياً مع طبيعة نظام الشغل في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة.

في هذا العمل، يبين هونت أن مفهوم العمل لم يكن ينظر له بالتقدير قبل النظرية السياسية الحديثة، وقد رُبط في البداية بالاشتغال على الأشياء وحدها، على حساب أنواع العمل الأخرى من زراعة الأرض واقتصاد خدمات وتدبير منزلي. مع لوك ومن بعده هيغل وماركس، أصبح يُنظر للعمل بمفهومه الواسع من حيث هو المسلك إلى الاستقلالية والتحكم في الذات عبر مسار «الموضعة» الذي حلله هيغل بعمق غير مسبوق، مشيراً إليه بوصفه تحققاً للذات من خلال تعلقها بالموضوع وتصرفها فيه بما يفضي في نهاية المطاف إلى وعيها بنفسها.

لقد سيطر هذا التصور الإنتاجي للعمل على الفكر الفلسفي والاجتماعي، وغدا العمل الصناعي هو الوجه الوحيد للشغل، رغم كونه لم يفتأ يتراجع منذ القرن التاسع عشر، كما نظر إلى الطبقة العاملة بوصفها محرك التاريخ والقوة الثورية القادرة على إحداث التغيير الجوهري للمجتمع. ومع ماكس فيبر، بدأ الانتباه للظاهرة البيروقراطية الإدارية في مقابل التركيز على المجتمع الصناعي، وإن كان فيبر ظل مهووساً بالصناعة التحويلية المنتجة.

بيد أن الدراسات الراهنة بيّنت بوضوح أن الثورة التقنية الجديدة قوّضت المفهومَ التقليدي للعمل وأخرجته من نموذجه الصناعي المادي إلى مجالات الذكاء الاصطناعي والشغل غير المادي. وبالاستناد إلى أطروحته التقليدية حول الاعتراف، يدعونا «هونت» إلى النظر إلى العمل في سياق العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، بما يقتضي معالجته من منظور القيم والأخلاقيات العمومية المشتركة وليس من جوانبه الإنتاجية النفعية وحدها.

وهكذا يصبح السؤال المطروح هو: هل يشكل الشغل دعامة فاعلة من دعامات التضامن الاجتماعي؟ يرى هونت أن الديمقراطيات الغربية الحديثة كرّست سيادةَ المواطن باعتباره ذاتاً قانونية تتمتع بحقوق سياسية ثابتة في مقدمتها حق الانتخاب، لكن المواطن هو أيضاً عامل، يتعرض في أحيان كثيرة للاستغلال والتنافس اللذين يحدان من السمة التعاونية للمجتمع. لم يعد مِن المجدي اليوم الرجوعُ لنظرية الاستلاب الماركسية التي أرادت إضفاءَ الطابع الأخلاقي العقلاني على نمط العمل الاجتماعي، ولا نظرية الاستقلالية الليبرالية التي حاولت محاربة التحكم السلطوي في حرية الفرد العامل، بل المطلوب هو ملاءمة طبيعة العمل مع الفكرة الديمقراطية نفسها بما تتأسس عليه من معايير الثقة في النفس والمعرفة والكرامة.

وفي هذا السياق، يحدد هونت خمس قيم مرجعية لإعادة تصور العمل في المجتمعات الليبرالية المعاصرة، هي: الاستقلالية الاقتصادية، وتوفير الفسحة الزمنية للفراغ، والمشاركة في المجال العمومي، وتطوير نظام العمل بما يكفل حقوق المشاركة والتعاون بين العامل ورب العمل، ومنح العمل الطابعَ الفكري الثقافي الذي يخرجه من محض الخضوع والتبعية.

ومن هنا يخلص هونت إلى إعادة تعريف العمل مِن منظور جديد يشمل كل أنماط الفاعلية داخل منظومة اجتماعية حركية ومتعاونة، بما يتعارض مع طغيان النزعة التجارية النفعية التي قضت كليا على الفوارق الضرورية بين المنتجات المادية والخيرات الرمزية والإنسانية.

أطروحة هونت تندرج في سياق النظرية النقدية الاجتماعية، والتي يُعَد هونت نفسه أحد أبرز ممثليها في الوقت الحالي، ولذا فقد تناول إشكاليةَ العمل في إطار النهج الذي دشنته فلسفة هيغل بضبط العلاقة المعقدة بين الشغل والحرية والاعتراف في مجتمع تعددي حر. لقد كان هاجس هيغل، ومن بعده ماركس، هو كيف يمكن الحفاظ على علاقات إنسانية متوازنة وعادلة في المجتمعات الصناعية التي تشكل فيها تجربة العمل مقومَ التركيبة الطبقية والمدنية، بما يحوله في آن واحد إلى دائرة أساسية للاعتراف ومصدر للاستغلال والاغتراب.

بيد أن أهمية نظرية هونت تتمثل في تجاوزها للتصور الإنتاجي المادي للشغل الذي يصدر عن استحقاقات الثورة الصناعية الأولى، وكان يعتبر محرك الصراع الأيديولوجي الذي يتمحور حول مكانة ودور الطبقة العاملة في الهياكل الاقتصادية والسياسية. وما نستنتجه من أطروحة هونت هو أن الخطر الذي يتهدد اليوم الديمقراطيات الليبرالية الغربية ليس تناقضات المجتمع المدني التي توقف عندها هيغل ولا الصراع الطبقي الذي تحدث عنه ماركس، وإنما الانزياح المتزايد بين منطق المواطنة وواقع الشغل في دلالته الجديدة الخارجة عن التقنين الإجرائي والضبط السياسي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 15 سبتمبر 2024 23:45

 

في زيارات البابا فرانسيس لدولٍ في شرق آسيا، تكررت في خطاباته أطروحات الأخوّة والمحبة والأمن والاستقرار. وقد لفتت انتباهي في الأسبوع الماضي خطاباتُه في إندونيسيا، وفي هذا الأسبوع خلال زيارته لسنغافورة يلفت الانتباه اهتمامه بالأخلاق والقانون، واستطراداً علائق الأمرين بالدين. وظائف القانون معروفة، وهي تتلخص بحفظ حقوق المواطنين وواجباتهم في أنفسهم وممتلكاتهم وحرياتهم، وعلى درجات الحفظ أو الإضاعة تترتب آثارٌ تحسم فيها القوانين التي تطبق على المواطنين بالتساوي.

ويرتبط ظهور القوانين وتطورها بظهور الدول وإداراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. هل للقانون وظائف أخلاقية؟ ما طُرح الموضوع هكذا، بل بطريقة معكوسة، أي هل تأسس القانون أو يتأسس على الأديان والأخلاقيات؟ المرجعيات الكبرى للقوانين ثقافة المجتمعات، وفيها الأديان والأعراف والعادات. لكن فيها أيضاً الاختيارات المأخوذة من الخارج أو من الجوار إذا كانت هناك حاجة ملحة أو ضرورات التلاؤم مع السياقات الإقليمية والعالمية.

القوانين الأوروبية الحديثة التي تأثرت بها سائر القوانين، في الغرب والشرق، تهتم بسلطة إنشاء القانون من المجالس التشريعية، وتظل الإدارة السياسية تلعب فيها دوراً رئيسياً لأنها هي التي تقترحها على البرلمانات والهيئات الأخرى، وهي التي تتولّى الإشراف على إنفاذها.

ولا تتوخى السلطة أن تعكس الإرادة العامة للمجتمعات فقط، بل قد تكون لها مقاصد إرشادية أو توجيهية أو إصلاحية أيضاً كما هو معهود في القوانين وتعديلاتها دائماً أو إنتاج قوانين جديدة. إنّ البحث المستجد في الأخلاق والقانون افتتحه جون راولز، فيلسوف القانون الأميركي، في كتابه «نظرية العدالة» (1971). وللعدالة في جذورها البعيدة والقريبة أصول أخلاقية، والمشهور أنها بين الفضائل الأربع التي ذكرها أفلاطون في القوانين أو النواميس، وذكرها أرسطو في كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس».

ومع أرسطو ظهرت نظرية الوسط بين الإسراف والاستهتار في كل القيم التي تتطلب الانضباط الشديد حتى لا تتصدع فتصير ظلماً أو انفلاتاً في هذا الجانب أو ذاك. تصغي القوانين وتستجيب للمصالح والتلاؤمات.

ويريد راولز أن تتدخل الدولة بدوافع أخلاق «الإنصاف»، كما يسميها، لصالح الفئات الضعيفة والأقل حظاً في المجتمع. وهو يرى أن ذلك ممكن ومطلوب بخاصة في الأنظمة الليبرالية الديمقراطية. وطوال خمسين عاماً ظلّت دراسات راولز موضع نقاش كبير وجدي ليس حول اعتبار الأخلاق في اشتراع القوانين فقط، بل وأيضاً في جواز تحول الاعتبارات الأخلاقية إلى قوانين. ليس هنا المجال لدراسة علائق الأديان بالقيم والأخلاق. لكنّ المعروف أنّ الأديان والأخلاق هي قوىً ناعمة، يعتمد تأثيرها على القناعات العميقة للأفراد والجماعات. وهي تؤثر بأشكال مباشرة وغير مباشرة في صناعة القوانين.

لكن ليس من المستحبّ أن تتحول الأديان والاختيارات الأخلاقية إلى قوانين. وذلك لأنها تصبح مفروضةً ويصبح لها معارضون ليسوا من أهل الدين والتدين أو ليسوا من أهل هذا المذهب الأخلاقي أو ذاك. في زيارته لسنغافورة واجه البابا فرنسيس مجتمعاً مختلطاً من الناحية الدينية، ليس إسلامياً ولا مسيحياً. ولذلك استدعى المفاهيم العامة للعدالة والسائدة على مستوى العالم. لكنه ما رأى تحويلها إلى قوانين، بل اكتفى بالنصيحة باعتبار الإنصاف وأخلاقيات إنسانية الإنسان.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، ليوم: 14 سبتمبر 2024 23:47

 

لو صدّقنا كل التهم التي نسمعها ونقرأها عن الآخرين، التي تنفي عنهم صفة العروبة والإسلام، فعلى الأرجح أن الغالبية منا لن يكونوا عرباً أو مسلمين. ستكون القلة الذين يوجّهون الاتهامات يميناً ويساراً، ويقيمون حفلات مستمرة من التخوين، ويطردون الآخرين من جذورهم العربية أو عقيدتهم الدينية هم فقط المسلمين والعرب! أما ملايين في هذه المنطقة فلا. خارجون من العروبة، ومارقون من الإسلام. وبعدها نسأل أنفسنا ونحن إذن مَن؟ عرب ومسلمون أم ماذا؟

الآلية التي يستخدمونها هي آلية التخوين المعروفة، التي لا تعمل إلا باستخدام أهم المعاني والقيم لدى الشعوب، ولكن بعد تفريغها من معناها، وتحويلها إلى سلاح يُوجَّه لصدر الخصوم لأهداف متعددة: اغتيال الشخص معنوياً، الترهيب، الابتزاز! العروبة والإسلام اللذان من المفترض أن يمثلا عاملاً مشتركاً وثقافة جامعة لشعوب المنطقة أصبحا من أدوات الكراهية والتقسيم والانتقام! الاختلاف في الرأي يقذفك خارج دوائر العروبة والإيمان.

الأسئلة المهمة هي: لماذا تنتشر هذه الثقافة؟ وما هدفها؟ وكيف بدأت؟ وكيف نعالجها ونكافحها؟

بدأت قديماً، ولكن نشرتها في عصرنا الحديث التيارات القومية والدينية المتطرفة التي هيمنت في عقود سابقة. أيُّ خلاف مع أنصار هذا التيار القومي المتطرف بفروعه المختلفة يعني تهمة بالعمالة للغرب والإمبريالية والرجعية. وهي مستمدة من الحركات القومية الأوروبية المتطرفة، مثل النازية والفاشية، التي استخدمت الخطاب ذاته. ونعرف في تلك الفترة وحتى الآن كم الشتائم البذيئة والاتهامات بالتخابر والصهيونية لمجرد الاختلاف في رؤية الأشياء. هم فقط حراس القومية، ويدخلون ويخرجون منها مَن يريدون. إذا رضوا عليك جعلوا منك قومياً ووطنياً، وإذا غضبوا منك جعلوا منك خائناً عميلاً. من الجانب الديني، نشرت التيارات المتطرفة، خصوصاً جماعات الإسلام السياسي الشيعية والسنية، ثقافة التخوين والتكفير والإخراج من الملة. وكأن الإسلام ملك لهم وحدهم. إذا كنت معهم أدخلوك في الدين الإسلامي، وإذا اختلفت معهم طردوك منه، وأغلقوا الباب خلفك. يلعبون دور الله تعالى الذي يُدخِل ويُخرِج من رحمته من يشاء. لنشكر الله الرحيم أن مصيرنا ليس بأيديهم.

ما الغرض من آلية التخوين؟ ليست عبثاً، ولكن لأغراض متعددة؛ أولاً: تستخدم لإضفاء الشرعية على هذه التيارات والحكومات التي تعتمدها. ترديد مثل هذه الشعارات من دون عمل أي شيء سيمنحها الشرعية المطلوبة عند شعوب عاطفية تنخدع بها. إنها خدعة قديمة جديدة. ثانياً: بغرض التشتيت عن الفشل الداخلي. ولاحظوا أن الحكومات الفاشلة استخدمت هذه الشعارات حتى تخرج من أزماتها الداخلية. ثالثاً: بحثاً عن السلطة، وهذا مثل ما تفعله الجماعات والتنظيمات المتطرفة التي لا تُخوِّن فقط، ولكن تقتل باسم الدين من أجل الوصول إلى السلطة. رابعاً: من أجل الترهيب والابتزاز والإخضاع، سواء لأفراد أو جهات أو حكومات.

ومن أجل ذلك، تستخدم أعدل القضايا من أجل كل ما ذكرناه، الشرعية والسلطة وتثبيت الحكم والابتزاز، كما يحدث الآن مع غزة. وبينما أهل غزة يُقتلون يومياً بطريقة وحشية، التفت هؤلاء إلى الآخرين يخرجونهم من الدين والعروبة باسم فلسطين، ويوزعون صكوك الغفران والوطنية. وحتى إنهم قاموا بتخوين الفلسطينيين أنفسهم وأهل غزة الذين يدفعون الثمن من دمائهم. ولو لاحظنا أنهم استخدموا هذه القضية بحثاً عن السلطة، ولهذا انصبَّ جهدهم على عدد من الدول العربية والتحريض عليها، مُتَّهِمِينَها بالتواطؤ والعمالة من أجل تقويض شرعيتها.

كيف نعالج هذه الثقافة؟ أولاً بالاعتراف بها ومعرفة مصادرها كما ذكرت. إذا عرف الشخص جذور المشكلة سهل عليه معالجتها. هذه التيارات والجماعات هي مَن روّجها وزرعها في العقول، ولكن التخوين ثقافة المهزومين، والدليل أن الحكومات والتيارات والجماعات التي تبنَّتها فشلت وانهارت، من الناصرية إلى البعثية إلى الخمينية إلى الإخوانية. مكافحتها تبدأ من نشر ثقافة بديلة، تنطلق من فكرة أن المزايدة على الآخرين بالدين والعروبة والوطنية فكرة خاطئة ومضرة بالمجتمع، وتتسبب في تقسيمه وزرع الكراهية داخله. المجتمع ينقسم إلى وطنيين وخونة، ومسلمين وكفار، وهذا لا يخدم أي قضية، ولكن يُحوِّلها إلى ذريعة للانتقام. إنها أيضاً خزان للأحقاد التي تتوارثها الأجيال. إذا تشرَّبت أن الآخرين خانوا وطنك وباعوه فستشعر بشكل طبيعي بالحقد عليهم. التخلُّص منها هو الحل الوحيد، وذلك أيضاً لاستبدال ثقافة التسامح بها، وفهم الدين بصورة رحبة وإنسانية، ومن المعيب استخدامه مسدساً كاتماً للصوت، وكذلك فهم القومية بأنها عنصر جامع لأبناء الوطن الواحد، والقومي الجيد هو الذي يخدم وطنه، ويسهم في ازدهاره، ويحمي مواطنيه من الحروب المدمرة، ويحفظ أرواحهم. نزع ثقافة التخوين واستبدال ثقافة متحضرة بها ليس سهلاً، ولكن ليس صعباً. وبرأيي أننا نعيش اللحظة المناسبة لتغييرها، خصوصاً مع حكومات معتدلة في المنطقة، وخصوصاً في الخليج، مستنيرة تركز على النجاح الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، وليست بحاجة إلى استخدام الشعارات القومية والدينية المتطرفة لإثبات حكمها وبسط شرعيتها. لقد أثبتت نجاحها، وتحولت إلى نموذج لغيرها من دون أن تستخدم الخدعة القديمة المملة. ولهذا تحولت إلى هدف للمخونين؛ لأنها لا تستخدم لغتهم، ولا تخضع لابتزازهم، ولا تزج نفسها بحروبهم العبثية. لقد حافظت على قوة الدولة، ولم تسمح بظهور ميليشيات وجماعات تضعفها وتؤدي إلى تفككها (وهذا هو الهدف)، وركَّزت على الإنسان فقط، من دون أن تخرجه من دينه أو عروبته! لقد حان الوقت لنشر الثقافة الوطنية الإنسانية الأخلاقية العقلانية والدينية الرفيعة، بعيداً عن ثقافة التخوين، وكل ما تحمله من سموم وأحقاد وكراهية.

***

د. ممدوح المهيني

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الجمعة - 10 ربيع الأول 1446 هـ - 13 سبتمبر 2024 م

لطالما تركزت الاهتمامات في نشر المعارف والعلوم، وبناء الثقافات المتنوعة والغنية، على محاولة إخراج الإنسان، أياً كان تموقعه الزماني والمكاني، من ضيق الانعزال إلى سعة التفاعل والتعارف الإنساني، باعتبارها «مفتاح» الارتقاء وإحداث التحول في مختلف مجالات الحياة.

وفي ظل ما تحقق مِن وفرة معلوماتية هائلة، وبخاصة مع التطور التقني والتكنولوجي الرقمي، وبناء قواعد البيانات الضخمة والهائلة التي وصلت إلى تحويل المكتبات الورقية إلى أخرى رقمية، وتحققت إنجازات في مجال الذكاء الاصطناعي لم يتخيل الإنسان أن يصل لها يوماً، فأصبحت الآلة طبيباً ومحاسباً ومهندساً وإعلامياً ومعلماً.. وغيرها الكثير.

وفي ذات السياق، فإن توصيف الوضع المعرفي للمجتمعات انتقل من الحاجة للوجود والاكتساب المعرفي إلى توليد ما يسمى «مجتمعات المعرفة»، أي المجتمع كمصدر لنشر وإنتاج وتوظيف المعرفة في مختلف المجالات والأنشطة الحياتية، وصولاً لتحقيق الرقي الإنساني بإنتاج نمط حياتي اجتماعي متقن، وهو الأمر الذي دعا منظمة اليونسكو لاعتبار المعرفة البنيةَ التحتيةَ التي تمكّن القوى البشرية مِن وضع خريطة طريق للتوجه الفكري بشكل دقيق.

ولأننا ندرك ضرورة حل المشاكل وتجاوز التحديات الموجودة، بالتزامن مع الانخراط في سباق المواكبة العالمي، فإن تحقيق مجتمع المعرفة لا بد أن يحظى باهتمام متوازٍ مع استراتيجية قادرة على قياس معاييره، وموازاة ذلك بتشجيع الاهتمام بالإرث الحضاري في مختلف المجتمعات بحيث لا يحول التطور التقني والتكنولوجي وبناء مجتمع المعرفة دون تقدير الموروث والاستفادة منه، بالإضافة إلى ضرورة العناية بالتحديات الملامِسة لواقع الإنسان، من تدني مستوى المعيشة والمشاكل التعليمية، وارتفاع معدلات البطالة وغياب الوعي الثقافي والتقني والسياسي والاجتماعي وضعف المؤسسات التعليمية والأكاديمية.. مما يدفع بضرورة العمل الجاد على الاستراتيجية المعنية ببناء مجتمع معرفة بحيث تكون متشعبةَ الأهداف، وأقرب إلى الشمولية منها إلى التخصص، لا سيما أن رأسمالها هو الإنسان نفسه وليس شيئاً مادياً يمكن تطويعه قسراً.

وتعتبر أبرز الأفكار اللافتة في هذا السياق، ما يصبح عليه المجتمع من صيغ مستحدثة بشكل مستمر، على هيئة خلاصة مكثفة ونتاج للتحول الحاصل في الواقع البشري، سواء أكان ذلك في السياق الثقافي أم الفكري أم التكنولوجي وغيره، وبالتالي فإنه يعتبر أحد أقوى عوامل التحفيز على الابتكار والتقدم في الطرح المعرفي القائم على الإبداع، والذي يقوم هو أيضاً بإنتاج منظومة فكرية ومعلوماتية ومعرفية لا تتناغم مع الواقع فحسب، بل تضع بين أيدينا الأدوات المناسبة لتطويع كل ما وصل له الإنسان، من أجل خدمة مصلحته والارتقاء بالخدمات المقدمة له.

إن أنظار أصحاب العقول الفطنة تتوجه اليوم نحو إحداث ثورة حقيقية نوعية في مجال تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، بحيث تختلف عن كل الإنجازات المدهشة المتحققة سابقاً، مما يعني أن المجتمعات الإنسانية اليوم تتسابق في مضمار رفع سقف الإمكانيات والتوقعات والمهارات، وذلك من خلال التركيز على توفير البنية التحتية التي تسمح ببناء صرح اتصال فعال يراعي مختلف المعايير العالمية ومدعوم بنخب متخصصة ذات كفاءة عالية في الإنتاج والتدريب، بالإضافة لتوفير قطاعات متخصصة في مجال الابتكار، وتوفير نافذة على نتائج الأبحاث والدراسات الناتجة عن أعرق الجامعات والمراكز حول العالم.

إن قدرة الدول على توفير البيئة الحاضنة المناسبة لمجتمع المعرفة، لا بد لها مِن الأخذ بعين الاعتبار أهميةَ إعطاء المنظومة الإعلامية المساحةَ الكافية التي تحتاجها، من حرية الرأي والتعبير والاستقلالية والتنوع في الوسائط، إلى جانب تثبيت وترسيخ الدعامات الأخلاقية في مجتمع المعلومات من خلال تعزيز القيم المشتركة والرئيسية مثل التسامح والتضامن واحترام كرامة الإنسان والحريات وغيرها، مما يأخذ بيد المجتمعات اليوم نحو حقبة معرفية مختلفة توصل مخيلتنا المتواضعة إلى استشرافات بديعة وخلاقة.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 11 سبتمبر 2024

 

مع اغتيال حسن البنا فى فبراير من عام 1949 أصبح زوج ابنته سعيد رمضان المولود فى عام 1926 هو الخليفة فى نشر الدعوة إلى أسلمة العالم، سواء على الأرض العربية أو شبه القارة الهندية أو أوروبا. وفى مايو من عام 1948 ارتحل إلى القدس مع متطوعين لمساعدة عبدالقادر الحسينى فى نضاله ضد الدولة اليهودية. وفى أغسطس من هذا العام ارتحل إلى باكستان الإسلامية والمعادية للهند. كان له برنامج اذاعى، ولهذا كان يعتبر السفير الثقافى لدولة باكستان لدى الدول العربية. وفى عام 1950 عاد إلى القاهرة رسمياً وأسهم فى تدعيم العلاقة بين الإسلاميين الباكستانيين التابعين للسيد أبو الأعلى المودودى وحركة الاخوان. وفى عام 1962 أسس مع عشرين شخصية العصبة الإسلامية العالمية لمواجهة القومية العربية والشيوعية وكان المودودى أحد هؤلاء.

وفى نهاية الستينيات من القرن العشرين تأسست فى مصر الجماعة الإسلامية الجهادية وكانت فى بدايتها منتمية لحركة الاخوان المسلمين، وفى منتصف السبعينيات من ذات القرن انفصلت عنها عندما استبعدت الحركة العنف وعملت فى الصعيد وفى القاهرة وفى الإسكندرية واقتربت من القاعدة بقيادة الظواهرى، واشترك الاثنان فى اغتيال السادات فى عام 1981. وكان فى حينها الزعيم الروحى للجماعة عمر عبدالرحمن والمتأثر بأفكار كل من ابن تيمية وسيد قطب، وكان هو الملهم لمن حاولوا تدمير مركز التجارة العالمى فى عام 1993. وابتداء من عام 1992 وما بعده شنت الجماعة الإسلامية حرباً جهادية ضد الدولة المصرية، وكان ضحيتها 800 جنديا وعدداً كبيراً من الأقباط، وكان ذلك بمساعدة الحكومات السودانية والإيرانية والقاعدة.

وفى 26 فبراير من عام 1993، أى قبل ثمانى سنوات تقريباً من أحداث 11 سبتمبر احترق جراج فى نفق قريب من مركز التجارة العالمى بمتفجرات تزن 500 كيلو. وإثر ذلك قُبض على إرهابيين من بينهم من الاخوان محمود أبو حليمة ومعه الباكستانى رمزى يوسف من القاعدة، والفلسطينى محمد سلامة مساعد عمر عبدالرحمن الزعيم الروحى للجماعة الإسلامية المنتمية للاخوان وعبدالرحمن ياسين من القاعدة. و فى عام 1997 فى الأقصر قتل 58 . وبعد محاصرة النظام المصرى للجهاديين من قِبل الظواهرى ارتحلوا وكونوا خلايا فى أفغانستان وليبيا وسوريا والسودان والشيشان وأمريكا وأوروبا. هذا بالإضافة إلى حركة سواد مصر ولواء الثورة والمرشد السابق للاخوان مهدى عاكف الذى تبنى الاغتيالات فى العراق وميونخ.

وفى عام 2003 تأسست جماعة تضم السلفيين والجهاديين والإخوان لتدعيم فكرة الجهاد الدفاعى. ومع الانتشار الكوكبى للاسلام السياسى بتنويعاته يلزم إثارة التساؤل عن مصادر التمويل، وقيل فى الإجابة عن هذا التساؤل إنه مردود فى البداية إلى بنك التقوى ومعناه الخوف من الله، وله فروع فى بلدان متعددة (سويسرا، الباهاما، إيطاليا والنمسا). وفرع سويسرا تأسس فى عام 1988 من كبار الرأسماليين التابعين للإخوان وهم يوسف ندا من أصل مصرى وعلى غالب همت من أصل سورى ايطالى. وكان ندا قد اعتقله عبدالناصر من عام 1954 إلى عام 1956. وكانت ليبيا هى ملجأ يوسف ندا فى الستينيات من القرن العشرين. وعندما استولى القذافى على الحكم هرب وظل لاجئاً لمدة طويلة فى أوروبا، ابتداء من اليونان ثم النمسا، وأخيراً سويسرا، وأسس ثروته من التعامل فى الأسمنت ثم فى البنوك. وهو يعتبر من الأوائل الممولين للإسلاميين. وكان بنكه قد تصاعد مالياً فكان هدفه منح هذا التصاعد لإعادة توزيعها على المنظمات الاخوانية الأوروبية، كما أسس بنك التقوى جوامع ومراكز إسلامية مرتبطة بالإخوان وتمارس نشاطها فى ثلاثين دولة. كما أن البنك مارس خدمات إنسانية فى الدول الإسلامية. ومن الغريب أن يوسف ندا فى أفغانستان التقى حكمتيار وهو من الإسلاميين الراديكاليين الذى كان يتاجر فى الهيروين، وله علاقة بالقاعدة وطالبان بعد أن كان رئيساً للوزراء. أما على غالب همت فكان يتردد على كابول فى عام 1993. والمفارقة هنا أن رحلاته كانت تدل على أن الإخوان الذين يدينون الإرهاب رسمياً كانوا على علاقات مذهلة مع الجهاد الاسلامى الدولى. ومن الأعمال التاريخية المنسوبة لبنك التقوى قام بها الشيخ يوسف القرضاوى وأحمد إدريس نصر الدين وجماعة من حماس، وأعضاء من القاعدة، وهدى محمد بن لادن وإيمان بن لادن وهما شقيقتان لرئيس القاعدة السابق. وفى عام 2001 وصفت أمريكا بنك التقوى بأنه منظمة إرهابية لأنه ممول للقاعدة، كما أنه كان ممولاً لأحداث 11 سبتمبر ولحماس وفروع من الجماعة الإسلامية فى مصر والقاعدة فى إيطاليا وفى سويسرا. وفى لوكسمبرج كان البنك الاسلامى الدولى متحكماً فى جميع المؤسسات الإسلامية للإخوان فى أوروبا وكندا وأمريكا، وبذلك يمتد المجال الاسلامى إلى الحد الذى يمكن أن يقال فيه إنه مهيمن على الحضارة الغربية. وفى سبتمبر من عام 2017 زار وفد من حماس بريطانيا، والتقط صوراً مع الدبلوماسى الروسى ميخائيل بوجدانوف، وكان يبدو عليهم القلق لأنه لم يكن يوجد فى بريطانيا سوى فرع واحد مسلح تابع لحماس بقيادة عز الدين القسام ومتهم بأنه منظمة إرهابية. ومنذ بدايات عام 2000 والحركة الإسلامية فى اسبانيا فى حالة تمدد.

***

د. مراد وهبة

عن صحيفة الاهرام المصرية، يوم: الثلاثاء 7 من ربيع الأول 1446 هــ 10 سبتمبر 2024 السنة 149 العدد 50317

تتصارع المفاهيم في تاريخ الأفكار كما قُدِّر للبشر أن يتصارعوا مذ درج البشر على الأرض. من هذه المفاهيم المتصارعة مفهومي «قوة الحق» و«حق القوة»، حيث تبادل هذان المفهومان التأثير والقوة، كما تبادلا الحضور والغياب، والهزيمة والانتصار.

كان حقُّ القوَّة دائما شريعة الغاب، في هذه الشّريعة تتَّسعُ حرية القويّ حتى تصبح حرية مطلقة لا قيود لها من عرف ولا قانون ولا خلق، فالقويُّ هاهنا يصنع ما يشاء، ويفعلُ كلَّ ما تؤزُّه إليه شهواته الجامحة، قُوَّته غير قابلة للرّدع، فلا قُوّةَ فوق قوّته، إلا أن تُبْعثَ الحياةُ في ضميره فيدرك هول ما يصنع، وفداحة ما يقوم به، أو تنبري له مجموعة أقوى تمنع بأسه، وتَصُدُّ جوْره. كانت قوة الحق دائما شريعة المتحضرين، فلا تقوم حضارة إلا على قوانين تحمي وقصاص يردع، وقوة الحق لا ترى في صلف حق القوة مانعا لها عن الحركة الإيجابية في أروقة الحكماء وأهل البصائر تجأر بالدعوة أن تكون للقوانين السّيادة، وأن تكون السّنن المكتوبة وغير المكتوبة الحاكمة في الخصومات والمنازعات التي تكاد الأرض تميد بها وتضطرب.

قوة الحق رغم ضعفها لها صولة رمزية عندما تعجز عن الصّولة المادية، فهي بترسانتها القانونية والتشريعية والحقوقية تراقب الأوضاع وتسجل للعدالة والتاريخ التجاوزات الصارخة لحق القوة انتظار للقصاص العادل الذي لا تقوم الدول المحتضرة إلا به، ولنا في التاريخ أمثلة قوية على ذلك. يعلمنا التاريخ أن الكلمة الأخيرة لم تكن دوما إلا لقوة الحق، لأنها نداء الفطرة وملاك التعايش المشترك وأساس العلاقات الإنسانية التي لا تعمر الأرض إلا بها، وإذا كانت في ضعفها تقتصر على أن تقاسم المظلومين آلامهم ومواجعهم وحسراتهم فإنها في الوقت ذاته لا تني تستحدُّ دساتيرها ومعاييرها لتقيم الميزان في الوقت الأنسب، وللوقت رمزية كبيرة في تاريخ العدالة الإنسانية.

إن المجتمعات المتحضرة ناضلت طويلاً في تاريخها لسيادة القانون، إذ لا تَحَضُّر إذا لم يكن للمرء وعي بما له وما عليه، فيأخذ ما له ويقوم بما عليه من واجبات تجاه وطنه الذي يرعاه ويحدب عليه، ويمنع نفسه عن التعدي على ملكية الغير، حينئذ يسود الأمن والأمان والسّلم والسّلام وتنسج مجادل التعاون وتبسط بسط الأنس والإخاء. عندما يكون القانون شريعة الجميع لا أحد يفكر في انتهاكه خوفاً من يد العدالة الطولى، وطلباً للحياة الفضلى، الحياة في ظل السلام.

لقد علّمنا أصحابُ العقد الاجتماعي أن البشر تنازلوا عن بعض من حرياتهم من أجل الخضوع لقانون واحد يُشبع رغباتهم ويضمن لهم حرياتهم ويُعبِّدُ لهم سُبل التعاون خدمة لأوطانهم وطلبا لحياة تذرعها السّعادة والبهجة والكرامة. فلا تعيش المجتمعات تحت طائلة حق القوة إلا أن تكون حيوانات بشرية لا تراعي في الآخرين إلا ولا ذمة، إنها حالة الطبيعة التي نادى جون لوك بالخروج منها، لهذا السبب تدرك قوة الحق أن حياة مثل هذه لن تكون سوى حياة عارضة ما دام التاريخ يعلمنا أن جوهر الحياة لا يقوم إلا على قوة الحق، وأن المجتمعات تتداعى عندما يضعف فيها التماسك الاجتماعي بقوة السلطة والعرف والقانون. ولعل العربي القديم أدرك هذه الحقيقة عندما تداعى إلى «حلف الفضول» نصرةً لقوة الحق ضدا على حق قوة وإنْ كان من فرد ظالم شارد، وقد وعى العربي المعاصر، من خلال منتدى السلم للمجتمعات المسلمة، رمزية هذه الحقيقة أكثر، عندما جدّد هذا الحلف ودعا إلى تضافر جهود أهل البصائر والحجى من الحريصين على السّلام العالمي من أجل محاصرة حق القوة دفاعاً عن قوة الحق وانتصارا لها.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 8 أغسطس 2024 23:47

 

في مجلة «نيو ستسمان» البريطانية، كتب عالِم السياسة الانجليزي «جوناتان وايت» أن وسائل التواصل الاجتماعي الراهنة قد غيرت نوعياً مؤسسة صنع القرار في العالم الديمقراطي، وقضت على الطابع المؤسسي والرسمي لفن الحكم وقوضت هالته الرمزية. بطبيعة الأمر، ليس استخدام تقنيات الاتصال بالجديد في عالم السياسة، من المطبعة إلى التلغراف انتهاء بالبريد الإلكتروني اليوم. ولذا فإن الهواتف الذكية تندرج في السياق ذاته، ولا يمكن لأحد أن يستغني عنها في الوقت الحاضر.

ولقد أظهرت جائحة كورونا في الأعوام الماضية الحاجة الحيوية إلى هذه التقنيات الإلكترونية من أجل تعميم المعلومة ونشر الإنذارات وتكثيف الرقابة العامة. بيد أن هذه المزايا تصاحبها أحياناً كثيرة سلبيات وتجاوزات عديدة، ناتجة عن طبيعة أدوات الاتصال الجديدة، التي تقوم على سمات الفورية والعفوية، بما يؤدي في بعض الحالات إلى الحد من جديتها وصدقيتها.

من هذه التجاوزات، أن هذه التقنيات تمنح مستخدميها سلطة مطلقة غير محدودة، بحيث يستغني كبار المسؤولين عن أعوانهم ومساعديهم، فينتفي منطق التنسيق والوساطة الضروري في العمل الإداري الرصين. وهكذا يتم إلغاء التمييز الجوهري بين الشخص والوظيفة، ويجري القضاء على الشكليات الرمزية للسلطة التي كانت في السابق تتمحور حول صيغ اللبس ونمط تدبير المكان وما تكفله من إلغاء الطابع الشخصي للوظيفة العمومية ومنحها إطاراً مؤسسياً مجرداً. صحيح أن تقنيات التواصل الراهنة فعالة وسريعة، إلا أنها لا تخلو من مخاطر جسيمة، من أهمها سهولة تتبعها بما يعرض مضامين التراسل للتسرب والوصول إلى عامة الناس، انتهاكاً لمبدأ الاختصاص الوظيفي وسرية المعلومات الحساسة. حسب وايت، يميل السياسيون الغربيون اليوم إلى شرعية الإنجاز السريع بدلاً من شرعية النهج الديمقراطي، غير مدركين أنهم بالاستخدام المفرط لتقنيات الاتصال الجماهيرية يؤثرون سلباً على طبيعة النظام الديمقراطي نفسه.

وهكذا تبدو العلاقة بديهية بين هذه التقنيات وانهيار الأحزاب السياسية والأنساق الأيديولوجية وطغيان ما يدعوه «التقنو شعبوية». يختم وايت أطروحته بالتنبيه إلى فشل كل الخطط والسياسات الرامية إلى مراقبة وتقنين التواصل السريع عن طريق الهواتف الذكية، منتهياً إلى ضرورة مضاعفة مقتضيات الشفافية والمشاركة في القرار العمومي، بالاستخدام السليم والناجع للتقنيات الإلكترونية الراهنة.

ما نريد أن نبينه هو أن إشكالية العلاقة بين الأدوات التقنية والخطاب العمومي ليست بالجديدة، وهي موضوع علم «الميديولوجيا» الذي أسسه الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبريه وأراد من خلاله دراسة الارتباطات الكثيفة والمعقدة بين تقنيات الحفظ والبث والتداول من جهة وأنماط الاعتقاد والفكر والتنظيم من جهة أخرى. ولا شك أن أهم هذه الأدوات التقنية عبر التاريخ هي الكتابة التي ظهرت في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد طرحت إشكالات نظرية مماثلة للأسئلة الراهنة التي تطرحها الثورة الرقمية الجديدة. في محاورة «فيدروس»، يذهب أفلاطون إلى القول إن الكتابة دخيلة على الفكر، لا تفيد شيئاً، بل تضعف الذاكرة وتلغي التفكير وتقضي على المعنى.إلا أن العديد من التحولات الجوهرية التي عرفتها الإنسانية ترتبط مباشرة بالكتابة مثل الدولة المركزية والاقتصاد النقدي (الشكل الأول للعولمة) والديانات الرسالية (الخطاب الإلهي عن طريق الكتاب المنزل).

ولقد ظهرت المطبعة في أوروبا في القرن الخامس عشر، مجسدة أولوية المقروء على الشفهي، ومدشنة آفاقاً جديدة للثقافة وللفكر، في مقدمتها الإصلاح الديني والدولة القومية السيادية والتحديث العلمي والتقني وانبثاق أيديولوجيا التقدم والنزعة الوضعية العلماوية. وكما كان سؤال أفلاطون هو كيف تمكن غربلة وتصفية السيلان اللغوي الكثيف الذي يجعل من الصعب الفصل بين الحقيقة والوهم، وكان سؤال ديكارت ولايبنتز في العصر الحديث كيف يمكن تعويض لغة الخطاب الميتافيزيقي بأدوات صورية دقيقة بحسب نموذج الرياضيات الشاملة، أصبح السؤال اليوم هو كيف يمكن إنقاذ مفهوم الحقيقة الموضوعية وغير المتحيزة في فضاء تواصلي مفتوح لا مرجعية له ولا محددات ضابطة لشبكته التواصلية السريعة. لقد لاحظ جاك أتالي، الكاتب والمنظر الفرنسي، أن التقنيات الرقمية الجديدة ألغت عملياً الكتابة واستبدلتها بعلامات التواصل التواضعية التي لا لغة لها، كما عوضت مناهج السؤال والنظر والنقد والتحليل بالإشارات الانفعالية من إعجاب وسخط ونفور، بما يشكل تحولاً نوعياً في الثقافة البشرية نفسها.

في هذا السياق، ندرك تأثير هذه الظاهرة في الميدان السياسي على مستويين متمايزين: مستوى القرار والحكم حيث يغدو التدوين والتعليق أداة للسلطة وإدارة المجتمعات، ومستوى الرأي العام الذي تتحكم فيه النزعات الشعبوية التي تحركها المشاعر والانفعالات السريعة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 9 سبتمبر 2024 00:05

لقد كان إعلان نهاية التاريخ النابع من مدرسة هيغل رائجاً على نطاق واسع قبل عقود إلا أن التفسير المفهومي لذلك الإعلان لم ينته بعد بل يتداول حتى اليوم على نطاقٍ واسع وآية ذلك الدراسات التي تصدر حولها تباعاً.

لقيتُ أستاذي الراحل الفيلسوف مطاع صفدي آخر مرة في ندوة في دبي، وقد أهداني بحثه حول هيدغر، الصيرورة والزمان. صفدي من أهم الفلاسفة العرب وبخاصةٍ حين برع في كتابه: «نقد الشر المحض»، والمكوّن من جزأين. وهو فيلسوف وجودي، كتب بالسياسة فلم ينجح، ولكنه بالفلسفة أسهم وقدم العديد من الإسهامات.

أسس صفدي وترأس «مركز الإنماء القومي» (عام 1981) الذي نشر عبره مؤلفاته وترجماته، وترأس تحرير مجلتيْ «العرب والفكر العالمي» و«الفكر العربي المعاصر» فاستقطب لهما عدداً كبيراً من المفكرين في المجال الفلسفي العربي، واهتمتا بنشر ملفات تتناول قضايا الفلسفة والفلاسفة.

صفدي حاول أن يتجاوز القراءات العاجلة والناجزة لمفهوم النهاية المتصل بالتاريخ، خاصةً، وأن تلك النهاية تكونت على فترات متقطعة منذ أكثر من قرن، والتي كان آخر من بلورها بنظرية مستقلة فرانسيس فوكوياما.

يتساءل مطاع صفدي ماذا تعني نهاية التاريخ، وأي تاريخ ذلك الذي يواجه نهايته؟

فإذا كان المقصود بالنهاية الحسّ العام فورياً، فإن التاريخ هو ما يمضي. إنه قائم على حس الانتهاء كل ما فيه مكرّس للانقضاء. فليس التاريخ سوى مسرح لزوال ذلك التاريخ الذي يضم كل أحداث الإنسان لكنه عالم الأحداث الزائلة بامتياز.

ومطاع صفدي وسط استغراقه في تفسير التاريخ يلفت إلى فعل الانتهاء. إن ما يجري هو تجديد فاعل لانتهاء عبر كل توثيق أو تدوين أو تسجيل. والتاريخ بذلك المعنى هو إصطلاح في اتجاه تغيير النهاية.

ويمضي صفدي في الشرح مُبيناً مفهوم النهاية في نهاية التاريخ، فالنهاية بحسب قوله:«أن ألا نفهم كالخاتمة والحدث الأخير. بل هي انغلاق التشكيل. هنا يتم الانقطاع بين مفهوم النهاية الزماني إلى مفهوم النهاية الخطابي».

ومطاع يمضي في بلورة الفرق بين النهاية كخاتمة وبين النهاية بوصفها إحدى النهايات المتصلة بانغلاق التشكيل، فيشرح كيف أن المشروع الغربي المنشغل بفكر النهائية منذ حوالي قرن أو أكثر مايزال مصراً على التفكير في النهاية كخاتمة للتاريخ بشكل مطلق والخاتمة عبارة حيادية جرداء إلى حد ما. والنهاية مشبعة بميتافيزيقا تتجاوز اللسانيات، إنها ترجعنا إلى مملكة الصمت. عبارة النهاية تتمتع برنين وتحظى بشغف اللامتناهي نفسه، وهي في خطاب التشكيل الغربي، تريد أن تجيء لامتناهية بما يعادل الذاتية اللامتناهية التي شرعت، هي نفسها في تلفظ نفحة النهاية.

الخلاصة، أن ثمة خطاب لامتناه يتصيد هو كذلك فكر النهاية، بل النهايات.

مطاع وصل إلى أن الخطاب اللامتناهي حول نهائية التاريخ جاء ضمن ظروف جدلية هيجل، ويرى أن الليبرالية تستند إلى ما يعتبرها البعض انتصارها النهائي على تجارب الأيديولوجيات من فاشية وشيوعية، من حيث إنهما محاولتان فاشلتان للخروج على مثال الدولة الشمولية المتجانسة وبالتالي فإن الليبرالية هي نهاية كل شيء، وذروة التجربة الإنسانية بالعالم.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 20 أغسطس 2024

إذا كان بعض فلاسفتنا قد نبّهوا على أهمية مراعاة الفيلسوف قضايا الملة، والبعد عن الإفصاح عمّا قد يوهم التّعارض بين الحكمة والشريعة، فإن بعض الفقهاء لم يفوّتوا الفرصة على الفلاسفة، فأعملوا أقلامهم، كل ما واتتهم الفرصة في تخسيس الفلسفة والفلاسفة في أعين المسلمين، وكان من بين ما أقدموا عليه أنهم أقاموا تمييزاً صارخاً داخل الحقل العلمي، فقسّموه إلى علوم ممدوحة؛ من تفسير وحديث وفقه وعلوم لغة؛ رغّبوا فيها وحذروا من الإعراض عنها، وعلوم مذمومة؛ من موسيقى وميتافيزيقا وغيرها حرّضوا على الابتعاد عنها.

وقد كان الأساس الذي بنى عليه بعض الفقهاء مواقفهم «أن العلم كله في الكتاب الكريم»، وبنوا على ذلك أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى علوم غيرهم وفلسفاته، خاصة أن هذه علوم فلاسفة لا يعرفون الدّين، ولا الدّين يعرفهم.

ورغم أن فلاسفة الإسلام حاولوا أن يبرزوا للفقهاء أن القول السّابق لا يعني أن القرآن الكريم هو كتاب علم شامل، بدليل أننا لا نجد فيه العلوم قائمة بذاتها، وإنما هو كتاب ينبّه على مبادئ العلوم، وهذا التّنبيه من القرآن الكريم يدعو أهل الفكر أن يضربوا إلى كتب العلماء الذين أسسوا هذه العلوم، التي نبه عليها الكتاب، ويقيموا أساسها في عقولهم تصوراً وتصديقاً، فإن هذا العلم الذي نبّه على مبادئه القرآن لا يُصنع من فراغ، فقد سبقت أمم إلى إنشائه، وكتب علماؤها وفلاسفتها فيه كتباً قيمة عبرت العصور لتصل إلى المسلمين، فيكرعون من معينها، ويحافظون عليها ويبنون عليها؛ إذ كان من طبيعة المعرفية التراكم العلمي، وإلا كيف كان للمسلمين أن يتقدموا في مسيرتهم العلمية، التي نفخر بها جميعاً اليوم، لو لم يضربوا إلى كتب اليونان، ويستخرجوا منها نفائس أفادوا منها، قبل أن يفيد منها الغرب بعد أن قدموها له على طبق من مخطوطات نفيسة.

ما صنعه فلاسفة الإسلام وعلماؤهم لم يستوعبه بعض فقهائنا الذين ظلوا يشنّون الحملات على الفلسفة والفلاسفة، حتى اضطروهم إلى أضيق الطّرق، فخسر العالم الإسلامي بذلك فرصة ذهبية أتيحت له ليذهب بالفكر العلمي النظري إلى منتهاه كما فعل الغرب، ولم نوفق نحن، مع الأسف، إلى فعله.

إن العائق الفقهي شوّش كثيراً على الممارسة العلمية الفلسفية، حين لم يمز الفقهاء بين العلم الكلي في كتاب الله، وبين صناعة العلوم التي تتطلب نظراً على سبيل الاستقصاء والتفصيل، وهذا لا يمكن أن يتم أبداً إلا في مختبرات العلم والفلسفة، وقد كان أرسطو وأفلاطون العقلين الكبيرين اللذين وضعا أسس هذه العلوم، فكيف يستقيم هذا الأمر مع قول الشاعر الفقيه الفازازي: فاقذف بأفلاطون أو رسطا ليس ودونهما تسلك طريقاً لاحبا [يقصد أرسطو] ودع الفلاسفة الذميم جميعهم ومقالهم تأتي الأحق الواجبا يا طالب البرهان في أوضاعهم أعزز علي بأن تعمر خائبا كما أن بعض الفقهاء لم يفهموا أن العلوم لا تُبْنى من غير شيء، فلا بد للمعرفة العلمية من مسار تراكمي تقطعه، ولولا أن العلوم قد تمايزت مع أرسطو، واستوت على سوقها معه ومع إقليدس وبطليموس، وغيرهم، ولولا أن المسلمين بادروا واحتضنوا هذه العلوم لتعطلت مسيرة العلم لقرون، ولما تفيأت ظلالها البشرية، كما تتفيأها اليوم.

لا يسعنا القول سوى أن بعض الفقهاء أساؤوا إلى المعرفة العلمية الفلسفية عندما طردوا أرسطو من المجتمع الإسلامي عوضاً أن يحاجّوه محاجة علمية تبرز القصور الكامن في فلسفته، وتسهم في تطور الفكر العلمي والفلسفي للمسلمين، فشكّلوا بذلك عائقاً من عوائق التفلسف عندنا.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 6 سبتمبر 2024

لو تساءل المرء عن الصفة الأخلاقية التي يراد من الإنسان العربي أن يتحلى بها في كافة مراحل عمره، وفي جميع الميادين التي يتعامل معها خلال حياته الخاصة والعامة، لكانت هذه الصفة على الأرجح، هي الطاعة.

إن الطاعة، في ثقافتنا العربية، فضيلة الفضائل، وهي الضمان الأكبر المتماسك والاستقرار في المجتمع، وهي الدعامة الأساسية لاستتباب الهدوء والسلام بين الأفراد بعضهم وبعض، وبين كافة المؤسسات التي ينتمي إليها الإنسان العربي خلال مراحل حياته المختلفة. والطاعة هي الفضيلة الصامدة، التي كان يعتز بها التراث العربي في أقدم عصوره، وما زالت في نظر كتابنا وموجهينا ومعلمينا المعاصرين وساماً على صدر كل من يتحلى بها. إنها في كلمة واحدة، الفضيلة التي تبدو، في نظر الثقافة العربية، صالحة لكل زمان ومكان.

فضيلة أم رذيلة؟

والفضيلة التي أود أن أدافع عنها في هذا المقال تسير في الطريق المضاد لهذا التراث الأخلاقي والاجتماعي الراسخ، المتأصل، القديم العهد. ففي رأيي أنه إذا كانت هناك أسباب معنوية لتخلفنا وتراجعنا واستسلامنا أمام التحديات، فإن الطاعة تأتي على رأس هذه الأسباب، إنها، بغير تحفظ، رذيلتنا الأولى، وفيها تتبلور سائر عيوبنا ونقائصنا.

وأستطيع أن أقول إن تنشئة الإنسان العربي ترتكز، في مراحلها المختلفة، على تثبيت هذه القيمة الخلقية والاجتماعية وغرسها بطريقة راسخة حتى تصبح، في النهاية، جزءاً لا يتجزأ من تركيبه المعنوي. فمنذ سنوات العمر الأولى تعمل الأسرة على أن تكون العلاقة بين الآباء والأبناء علاقة "طاعة"، وتقدم "طاعة الوالدين" على أنها قمة الفضائل العائلية، بل إن الأبناء حين يكبرون، ينسبون نجاحهم إلى "دعاء الوالدين" الذي حلت بركاته عليهم لأنهم كانوا أبناء "مطيعين". ويعمل تراث شعبي كامل على ترسيخ فكرة الطاعة بين الأبناء والآباء، وكأنها هي النموذج الأعلى للسلوك الأسري المثالي، وحين يتكرر هذا النموذج عبر عشرات الأجيال، تكون النتيجة الطبيعية هي جمود المجتمع بأكمله وانعدام التجديد فيه، وتفاخر بشعار رجعي متحجر هو: "وينشأ ناشئ الفتيان فينا .... على ما كان عوده أبوهُ"!!.

أما العلاقة بين الزوجين فإن أساسها الذي تفرضه التقاليد، وتحاصر به المرأة من كافة الجوانب، هو طاعة المرأة لزوجها. إن الزوج هو الآمر، وهو الممسك بالدفة، أما الزوجة فإن سيلاً عارماً من الأدبيات والتراث الشعبي والنصائح الموروثة يؤكد أن فضيلتها الكبرى تكمن في كونها زوجة "مطيعة". فإذا خالفت أوامر "الزوج القائد" أو حاولت الإفلات من قبضته فهناك دائماً بيت الطاعة، أعني سجن التمرد.

فصام:

وحين ينتقل الطفل العربي من خلية المجتمع الصغرى، أعني الأسرة، ليبدأ في الاندماج في مجالات أوسع وأكبر، يجد نظاماً تعليمياً يقوم، من أوله لآخره، على مفهوم "الطاعة". فأسلوب التعليم لا يسمح بالمناقشة المستقلة، وإ،ما يفترض ضمناً أن التلميذ كائن مطيع، جاء ليستمع باحترام وإذعان، ولا يراد منه إلا أن يردد ما تلقاه، ويكرر ما حفظه عن ظهر قلب. وعلى الرغم من تلك التلال الهائلة من البحوث والتقارير والتوصيات، التي تصدر عن أساتذة التربية وأخصائييها في كل عام، والتي تدعو كلها إلى نظام في التربية ينمي الملكات الابتكارية والإبداعية، ويؤكد الشخصية الاستقلالية والقدرة على مواجهة المواقف غير المألوفة، الخ ... فما زال التعليم عندنا نصياً، يحتل فيه "الكتاب المقرر" مكانة قدسية، ولا يقوم المعلم فيه إلا بدور الكاهن الذي يحض سامعيه على الالتزام بكل حرف في "الكتاب". وتعمل المؤسسة التعليمية ذاتها على توطين فيروس "الطاعة"في خلايا الأدمغة الفتية الغضة، فإذا بمعاييرها لتقييم أداء التلاميذ ترتكز كلها على الترديد الحرفي للمعلومات المحفوظة، وتعطي أعلى درجات التفوق "للتلاميذ المجتهدين". وهي في قاموسنا التعليمي لا تعني إلا "الحافظين" وتعاقب كل من يبدي رأياً ناقداً أو مخالفاً فننزله أسفل سافلين. والأدهى من ذلك والأمر، أن أساتذة التربية وأخصائييها، الذين يرون كارثة التعليم المرتكز على "الطاعة" بأم أعينهم في كل لحظة، لا يتوقفون عن التحليق في عالمهم الخيالي، وإصدار الأبحاث والنشرات الداعية إلى تعليم إبداعي مبتكر، ولا يحاول أحد منهم أ، يقترب من السؤال الأساسي والجوهري: ما هي الأسباب الحقيقية لهذا "الفصام" بين كتاباتنا وواقع التعليم؟ وكيف نقيم جسوراً بين ما ندعو إليه، على الورق، وما يحدث في قاعات الدرس؟ وكيف نخطو، ولو خطوة واحدة، في سبيل عبور الهوة بين التعليم الإبداعي الذي نحلم به، والتعليم المذعن المطيع الذي أنشب أظافره في جميع مؤسساتنا التربوية، بدءاً من الروضة حتى الدراسات العليا في الجامعة؟

وحين ينتقل الشاب العربي إلى مرحلة الحياة العملية، يجد علاقات العمل مبنية، في الأساس، على مبدأ الطاعة، فعلاقته بالمسؤول هي علاقة "رئيس بمرؤوس" وهو في ذاته تعبير يحمل دلالات بليغة. فكلمة "الرئيس" مشتقة من "الرأس"، أي أن المسؤول في أي موقع للعمل هو رأس العاملين فيه، وهو أعلاهم مقاماً، كما أنه عقلهم المفكر. وأهم الصفات التي تعبر عن تقدير المجتمع للموظف العربي، والتي تؤهله للارتقاء في منصبه، هي أني كون "موظفاً مطيعاً"، يستجيب للرؤساء (أي يحني رأسه الصغير أمام الرؤوس الكبيرة) ولا يناقشهم. وأسوأ أنواع العاملين، حسبما تذكر معظم "التقارير السرية" التي يتولى فيها المديرون تقويم عمل مرؤوسيهم، هو أن يكون ناقداً متمرداً "غير مطيع".

وفي السياسة والحكم:

ولكن أهم الميادين التي ينخرط فيها الإنسان العربي بعد أن يبلغ مرحلة النضج، هو ميدان السياسة والحكم، وهنا يصبح مبدأ الطاعة، في وطننا العربي، هو السائد والمسيطر بلا منازع.

فالأنظمة الدكتاتورية المتسلطة لا تريد من المواطن إلا أن يكون "مطيعاً" لأوامر الحاكم، وأداة "طيعة" في يده، وقد تتخذ هذه الدعوة إلى الطاعة شكلاً سافراً، فتتولى أجهزة الإعلام المأجورة أو المنافقة تصوير الحاكم بأنه مصدر الحكمة ومتبع القرار السديد، ومن ثم فأنكل ما على المواطنين هو أن يوكلوا أمورهم إليه ويعتمدوا عليه، فهو الذي يفكر بالنيابة عنهم، وهو الذي يعرف مصلحتهم خيراً مما يعرفون، وهو الذي يعفيهم من مشقة اتخاذ أي قرار. وفي مقابل ذلك فإن أي نقد أو اعتراض أو تساؤل يوصف بأنه "عصيان"، هو إثم لا يغتفر. فكبيرة الكبائر هي "شق عصا الطاعة" (لاحظ الارتباط، في التعبير اللغوي التراثي، بين "الطاعة" و"العصا"!)، وجريمة الجرائم – كما كان يؤكد دائماً أحد الحكام العرب – هي "رذالة المثقفين"، أي مما حكتهم وتساؤلاتهم في الأمور التي ينبغي أن يترك زمامها للحاكم.

ولكن دعوة الحكام إلى الطاعة قد تتخذ طابعاً غير مباشر، حين يصبح الشعار الذي يسود المجتمع هو "الاتحاد والنظام"، أو حين يطلب إلى الشعب الاستغناء عن ديمقراطية النقد والمعارضة، والاكتفاء "بديمقراطية الموافقة"، أو حين تخنق كل صيحة احتجاج بحاجة أنه "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". على أ، أشهر هذه المحاولات المستترة لتأكيد مبدأ الأمر والطاعة في علاقة الحاكم والمحكوم هي تحويل هذه العلاقة إلى رابطة عائلية، بحيث يصبح الحاكم "كبير العائلة"، وينظر إلى المجتمع كله على أنه "عائلة واحدة"، أو ما يسمى – في مصطلح العلوم الاجتماعية – باسم "النظام الأبوي أو البطريركي" (وكلمة بطريرك ... الانجليزية مشتقة من اللفظ اللاتيني باتر Pater ويعني "الأب").

ذلك لأن السمة المميزة لعلاقة رب الأسرة بأفرادها هي أن له عليهم حق الطاعة. وهكذا فإن الحاكم، حين يصبح "كبير العائلة" أو "رب الأسرة الواحدة"، يطالب لنفسه بحقوق الأب، الذي لا يخضع لمحاسبة أبنائه، والذي تطاع أوامره، مهما كانت قسوتها، برضاء واختيار، والذي ينبغي أن تقابل صرامته بالحب، لأنها تستهدف دائماً صالح "العائلة"، والأهم من ذلك أن "الأب أو "الكبير" هو الذي جمع الخبرة والمعرفة والرأي السديد، وكل من عداها أقل منه قدرة، ومن ثم ينبغي أن يترك القرار له وحده، وعلى الآخرين أن يسعدوا ببقائهم في الظل. حتى لو بدا أن في قراراته ظلماً أو عدواناً، فإن ذلك يرجع إلى جهلهم بمصالحهم الحقيقية، التي يعرفها "الرجل الكبير" خيراً من أي فرد من أفراد "الأسرة".

انتزاع جذور النقد:

أما في الأنظمة التي تستولي على الحكم بانقلابات عسكرية، وما أكثرها في وطننا العربي، فإن مبدأ الأمر والطاعة يصبح هو المسيطر بلا منازع. ذلك لأن تكوين شخصية الضابط أو الجندي المحارب، في الجيش يعتمد أساساً على تعويده أن يصبح إنساناً مطيعاً، وانتزاع كل جذور النقد والتساؤل من شخصيته. فالجيش مؤسسة تقوم كلها على ترتيب هرمي يسود الرتب المختلفة فيه نظام صارم من الأمر والطاعة. ومن المؤكد أن هذا النظام قد أثبت فعاليته في المهمة الأساسية التي تضطلع بها الجيوش وهي القتال في سبيل الوطن، دفاعاً أو هجوماً، بدليل أن معظم جيوش العالم كانت وما تزال تأخذ به. ولكن المشكلة الحقيقية تبدأ حين ينقل هذا النظام الصارم من ميدانه الأصلي، ويصبح أساساً لحكم مجتمع كامل، بحيث تغدو علاقة الحاكم بالمحكوم مماثلة لعلاقة الضابط الآمر بالجندي المطيع. فمثل هذه العلاقة تؤدي حتماً إلى تخريب عقل المواطن وضياع قدرته على المشاركة في حل مشكلات مجتمعه، وتولد لدى الحاكم إحساساً متضخماً بذاته، حتى ليتوهم أن الوطن قد تجسد في شخصه. وما أكثر ما يمكن أن يقال عن النتائج المأساوية المترتبة على تطبيق الأنظمة العسكرية الصارمة على مستوى المجتمع بأكمله، وتحويل مؤسسات الدولة إلى نماذج مبكرة للثكنات الحربية. ولكن يكفينا، تحقيقاً لأهداف هذا الحديث، أن نشير إلى أن مبدأ الطاعة هو القيمة الأساسية والفضيلة الكبرى لرجل الجيش، وهو الذي يغدو مسيطراً حين يدار المجتمع بأكمله على النسق المطبق في المؤسسة العسكرية.

إن الطاعة وباء لا يفلت منه أحد، وإذا أطلقت لها العنان أصابت عدواها الجميع. ذلك لأن كل ما يفرض الطاعة على من هم دونه، يجد نفسه مضطراً إلى طاعة من يعلونه. فالأب الذي يمارس سلطات دكتاتورية على أبنائه وزوجته، يجد نفسه خاضعاً مطيعاً في عمله، ومقهوراً مكبوت الحرية على يد حاكمه. وفي جميع الأحوال يظل التسلسل مستمراً، فلا أحد يفلت من ذل الطاعة، ولا أحد يتنازل عن أية فرصة تسنح له كيما يمارس متعة فرض أوامره على غيره. حتى الحاكم المطلق يظل حبيس جبروته، لا ينام مطمئناً، ولا يسافر أو يتحرك إلا تحت أعين حراسه، ولا يملك في لحظة واحدة أن يعصى أمراً لمن يتحكمون في شؤون أمنه وسلامته.

التمرد .. قيمة أيضاً:

وهكذا ففي كل مجال من مجالات الحياة يجد الإنسان العربي مبدأ الطاعة مفروضاً عليه، يدفعه إلى المسايرة والخضوع والاستسلام، ويقضي على كل إمكانات التفرد والتمرد في شخصيته. إن الطاعة تحاصرنا من كل جانب، وتلازمنا في جميع مراحل حياتنا، وتفرض نفسها حتى على من يدعون "الثورية" في مجتمعاتنا.

على أنك حين تطيع، لا تكون ذاتك، بل تمحو فرديتك وتستسلم لغيرك. وأكاد أقول إن أعظم إنجازات الإنسان لم تتحقق إلا على أيدي أولئك الذين رفضوا أن يكونوا "مطيعين": فالمصلحون الذين غيروا مجرى التاريخ لم يطيعوا ما تمليه عليهم أوضاع مجتمعاتهم، وأصحاب الكشوف العلمية الكبرى لم يطيعوا الآراء السائدة عن العلم في عصورهم، والفنانون العظام لم يطيعوا القواعد التقليدية التي كان يسير عليها أسلافهم. وهكذا فغن كل شيء عظيم أنجزته البشرية كان مقترناً بقدر من التمرد، ومن الخروج على مبدأ الطاعة. وأكاد أقول إن الإنسان لم يكتسب مكانته في الكون إلا لأنه رفض أن "يطيع" الطبيعية ويستسلم – كما تفعل سائر الكائنات الحية – لقواها الطاغية. وهكذا فإن الإنسان الذي يعرف معنى وجوده هو ذلك الذي يهتف في اللحظات الحاسمة من حياته: أنا متمرد إذاً أنا موجود.

***

د. فؤاد زكريا

خطاب إلى العقل العربي، د/ فؤاد زكريا، مكتبة مصر، القاهرة، 1990. نقلا عن موقع الأنطولوجيا، يوم: Sep 29, 2020

بتاريخ الفلسفة ترتبط فلسفات بأسماء شراحها، بهم تتمدد وتحضر، وإمام عبد الفتاح إمام الذي رحل عن دنيانا يمثل ظاهرة فريدة في الفلسفة العربية، إذ يشكل مع جيلٍ من الشراح الكلاسيكيين نقطة اتصالٍ ضرورية بين العرب والفلسفة الغربية، حال عبد الرحمن بدوي، وخليل رامز سركيس، وفؤاد زكريا، وإدوارد البستاني، وسواهم من الكبار الذين أخذتهم همة نادرة بأن تترجم الفلسفة الغربية للعرب، منطلقين من قناعة راسخة بضرورة الفلسفة لتطور وعي الفرد، وأهمية دورها في استلهام المجتمعات لتجارب الآخرين.

وعند الحديث عن ترجمة الفلسفة، يتميز إمام عبد الفتاح إمام، الأكاديمي والمترجم المصري، الذي تخصص في الفلسفة والعلوم الإنسانية، واشتهر بترجمته لأعمال الفيلسوف الألماني هيغل إلى العربية. ودرس إمام بجامعة عين شمس وعمل في العديد من الجامعات المصرية والعربية ولهُ مؤلفات وترجمات غزيرة.

مثلاً إمام عبد الفتاح إمام، لدينا - نحن العرب - أشبه بجان هيبوليت لدى الفرنسيين، كلاهما رسَّخ جهده لترجمة هيغل وشرحه، هذا مع اختلافهما مع هيغل. فإمام يساري النزعة، وهيبوليت فيلسوف وجودي، بينما هيغل ناحت الجدلية، وراسم منهجه الاستثنائي في فلسفة التاريخ، ومقدم أصول فلسفة الحق، والمغامر في ظاهريات الروح أخذه التحليل الفلسفي للمجتمع لمفازات الانتصار للدولة المدنية المتكونة على تصدعاتٍ شهدها مثل انتصار الثورة الفرنسية (التي يعتبرها أساس تطور الألمان ودخول المدونات القانونية لديهم، بفضل النابليونية) حتى وصفه كارل بوبر بأنه «خادم سيده ملك بروسيا».

أخذ إمام -مثلاً- على عاتقه نقل وشرح فلسفة هيغل، وقدم للمكتبة العربية كنوزاً فريدة، يختلف المترجمون حول المستويات التي تقدم، باعتبار الترجمات التي تطبع لم تصل إلى المستوى الذي قدمه الجيل اللاحق لإمام وسواه من الكلاسيكيين، لكنه وفي «موسوعة العلوم الفلسفية» و«أصول فلسفة الحق» رسخ كل إمكاناته الفلسفية واللغوية، وكل طرق التبسيط لجعل نص هيغل الوعر بمتناول اليد، ليس سهلاً أن تشرح الديالكتيك، أو نظرة هيغل للتاريخ، أو مفهوم هيغل للشخص، أو معنى الدولة، ولكنه أجاد بشهادة مجايليه ومناوئيه بأن سد ثغرة في المكتبة العربية لم تكن لولا جهده هو في عشرات الكتب التي طرحها بكل همّة واقتدار.

بل قدّم لنا إمام كتاباً أراه غاية في الروعة والثراء حين ترجم كتاب «معجم مصطلحات هيغل» لمؤلفه ميخائيل أنوود، وأضاف إلى الترجمة شرحاً مقارناً للمفاهيم التي تضمنتها ورشة هيغل الفلسفية.

الخلاصة، أن هذه الصيغ المعرفية قلما نجد لها أنصارها في المكتبة العربية، وحتى الآن يمكننا تقديم معاجم لمصطلحات حتى مفكرينا وفلاسفتنا. فالفلسفة عدة من المفاهيم مثلما هي خرائط ودروب ومناهج، هذه قيمة ترجمة الترجمة حتى المفهوم الواحد تتنوع قراءته بين شارحٍ وآخر.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الامارتاتية، يوم: 6 أغسطس 2024

إعادة الاعتبار إلى فكره تساعدنا على مواجهة الظلاميين المتزمّتين

أعتقد أن محمد أركون كان يتماهى إلى حد ما مع ابن رشد، كان يجد نفسه فيه، بأي معنى؟ بمعنى أنه كان يجد نفسه مستبعَداً ومنبوذاً من قِبل الجمهور الإسلامي العريض، مثل سلفه الأكبر أيام قرطبة والأندلس ومراكش، ولكن الفارق هو أن أركون أصبح مقبولاً الآن، ويحظى بالإعجاب والتقدير من قِبل الجمهور المثقَّف الذي يتزايد عدده أكثر فأكثر في العالم العربي والإسلامي كله. ومعلوم أن ابن رشد رُفض من قِبل التيار الإسلامي المركزي، وماتت كتبه في أرضها، هذا في حين أن أوروبا تلقَّفَتها بتلهّف، وترجمَتها، وبنَت عليها نهضتها المقبلة، وهنا يكمن الفرق بين الأذكياء والأغبياء، ولا ننسى ابن سينا بطبيعة الحال الذي كان تأثيره عظيماً على أوروبا، بل وسبق تأثير ابن رشد من حيث الزمن.

ولكن قوم ابن رشد من عرب ومسلمين رفضوه، ورفضوا إعجابه بأرسطو، ورفضوا الفلسفة كلها، بل وكفَّروها باعتبار أن «مَن تمنطق فقد تزندق»، كما كانوا يقولون. كانوا يظنون (وربما لا يزالون حتى الآن) أن الفلسفة تُبعِد عن الله والدين، وهذا سبب ازدرائها وتحريمها من قِبل الفقهاء على مدار التاريخ حتى وقت قريب. والسؤال الذي يطرحه أركون هو التالي: لماذا فشل فكر ابن رشد في العالم الإسلامي، ونجح نجاحاً باهراً في العالم المسيحي الأوروبي اللاتيني؟

للجواب عن هذا السؤال يقول لنا ما معناه: لقد سقط فكر ابن رشد في مهاوي النسيان وسط جماعته العربية الإسلامية منذ القرن الثالث عشر الميلادي، أي بعد وفاته عام 1198، هذا في حين أن الفلسفة الرشدية راحت تشهد إشعاعاً كبيراً في كل أنحاء أوروبا المسيحية، وكانت أطروحاته تُدرَّس في جامعات بادوا بإيطاليا، والسوربون في فرنسا، وأكسفورد في إنجلترا... إلخ.

هكذا نلاحظ الوضع؛ فشل كامل من جهة، ونجاح دائم من جهة أخرى. ولهذا السبب يرى أركون أن المسلمين لم يساهموا في تشكيل الحداثة الفكرية والعلمية والفلسفية منذ القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين، فقد تجاهل شيوخ السلطنة العثمانية، وشيوخ الإسلام عموماً، كل فتوحات غاليليو وديكارت وسبينوزا وفولتير وكانط وهيغل... إلخ، بل واحتقروها وازدرَوها وكأنها لم تكن، في حين أنها شكَّلت فتح الفتوح بالنسبة للروح البشرية، هنا يكمن جوهر الحداثة.

ولكن لماذا نلومهم على ذلك إذا كانوا قد تجاهلوا فكر ابن رشد ذاته وهو العربي المسلم؟ لماذا نلومهم إذا كانوا قد تجاهلوا فكر ابن سينا وكفَّروه منذ أيام الغزالي؟ وقُل الأمر ذاته عن الفارابي المعلِّم الثاني بعد أرسطو، وقل الأمر ذاته عن عبقري العباقرة شعراً ونثراً أبي العلاء المعرّي، هو الآخر كفَّروه وزندقوه ولعنوه، شيء مُخجِل ومُرعِب، ولكن هذه هي الحقيقة. هل نحن أمام شرق كسول وعقيم من جهة، وأمام غرب ديناميكي ناشط منفتح على الفلسفة والعلم من جهة أخرى؟ يحق لنا أن نطرح هذا السؤال: لماذا انقرضت الفلسفة في العالم العربي الإسلامي منذ القرن الثالث عشر، وانتعشت في العالم الأوروبي المسيحي؟

إننا دخلنا في عصور الانحطاط الطويلة بدءاً من القرن الثالث عشر وحتى القرن التاسع عشر، أي حتى عصر محمد علي الكبير وانطلاقة النهضة العربية على يد رفاعة رافع الطهطاوي، وكل ذلك الجيل النهضوي العظيم، بل ليس فقط الفلسفة هي التي انقرضت في العالم العربي، وإنما فكر المعتزلة أيضاً، ومعلوم أنهم كانوا يُشكِّلون التيار العقلاني في الإسلام في مواجهة الحنابلة، والأشاعرة، وتيار النقل والتقليد والانغلاق الديني اللاهوتي. هل نعلم أن ابن رشد كان يشتكي في عصره من عدم قدرته على التوصل إلى كتب المعتزلة وهو الأندلسي القرطبي؟ كان يبحث عنها في كل مكان دون أن يجدها، وذلك لأن التيار الظلامي كان يلاحقها ويمزِّقها ويحرقها، بل ويحرق أصحابها! هذه حقيقة. نحن شهدنا محاكم التفتيش قبل الأوروبيين بزمن طويل، وهي تفسِّر لنا سبب انحطاط العالم العربي على مدار القرون.

أركون يطرح هذا السؤال: لماذا دخلنا بدءاً من القرن الثالث عشر في عصور الانحطاط الظلامية الطويلة التي لم نخرج منها حتى الآن، بدليل ازدهار كل هذه الموجة الأصولية العارمة؟ ما هي هذه القوى الاجتماعية الانحطاطية التي جعلت حتى مفكراً كبيراً كابن خلدون يشتم الفلسفة ويغرق في التصوف، بل وحتى الانغلاق اللاهوتي والتعصب؟ نقول ذلك على الرغم من إبداعاته وكشوفاته العبقرية في مجال دراسة الاجتماع والعمران، وسبب نشوء الحضارات وصعودها ثم انهيارها. ثم يقول لنا أركون ما يلي:

لا ريب في أن الفقهاء مارسوا قمعاً آيديولوجياً ولاهوتياً كبيراً على جميع الناس في كل الغرب الإسلامي، أي في بلاد الأندلس والمغرب الكبير، وقد عانى ابن رشد ذاته من إرهابهم اللاهوتي في أواخر حياته كما هو معلوم، لقد عانى من تعصُّبهم وتزمُّتهم، ومحدودية أفُقهم، وعقلياتهم الضيقة، لقد هاجَموه دون حق؛ لأنه هو ذاته كان ينتمي إلى عائلة من كبار الفقهاء، لدرجة أن الناس يتحدَّثون عن ابن رشد الجد وابن رشد الحفيد، فجده كان أيضاً قاضي القضاة في قرطبة، وعالماً كبيراً في الدين، ومع ذلك لم ينجُ من شرِّهم، والمشكلة هي أن المثقفين العرب التجديديِّين لا يزالون يعانون من التزمُّت ذاته حتى في عصرنا الحالي، بل ويتعرَّضون للضرب والقتل والاغتيال، كما حصل لفرج فودة في مصر، أو لنجيب محفوظ، وكما حصل للدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق، وكما حصل للمثقف الأردني التنويري اللامع ناهض حتر... إلخ. القائمة طويلة، وإرهاب الحركات الإخوانية الظلامية يخيِّم على الجميع.

ثم يتحدث أركون عن فضل النزعة الإنسانية والحضارية العربية على الفكر الأوروبي، وهو يقصد بذلك فضل العصر الذهبي ومفكريه الكبار، كابن رشد وابن سينا والفارابي وابن باجه وابن الطفيل، وعشرات آخرين على المثقفين الفرنسيين في العصور الوسطى، فبعد أن ترجموا النصوص العربية الكبرى إلى اللغة اللاتينية انطلقت فعلاً الحركة النهضوية العقلانية الأوروبية. نقول ذلك في حين أن هذه النصوص كانت مجهولة من قِبل أصحابها خاصةً، أي العرب والمسلمين، بل وكانت محتقَرة ومُدانة لاهوتياً من قِبل الفقهاء المزمجِرين أسلاف الإخوان المسلمين الحاليين، ما أشبه الليلة بالبارحة!

لقد شرح لنا المفكر الفرنسي الكبير إيتيان جيلسون كيف استفاد أساتذة السوربون من التراث الفلسفي العربي الخصب والغني جداً، في ذلك الوقت ابتدأت أوروبا تخرج رويداً رويداً من ظلمات العصور الوسطى المسيحية، ولكي تخرج فإنها كانت بحاجة إلى دعم فلاسفة العرب والمسلمين، كنا وقتها أساتذة أوروبا، في حين أن مفكريها أصبحوا اليوم هم أساتذتنا، كان المثقف الفرنسي أو الإيطالي أو الإنجليزي يفتخر آنذاك بأنه يعرف ابن رشد أو ابن سينا أو الفارابي، مثلما نفتخر نحن اليوم بأننا نعرف ديكارت أو كانط أو هيغل، الحضارات دوَّارة، وكذلك العصور الذهبية، مَن سرَّه زمن ساءته أزمان.

أخيراً السؤال الجوهري الذي يطرحه أركون هو التالي: ماذا يفيدنا فكر ابن رشد اليوم؟ هل له راهنية حقاً أم عفّى عليه الزمن؟ وجوابه عن ذلك هو بالإيجاب طبعاً، فإعادة الاعتبار إلى فكر ابن رشد في العالم العربي تساعدنا على مواجهة الظلاميين المتزمِّتين من إخوان مسلمين وخُمينيين وسواهم، فقد خاض فيلسوف قرطبة معركة متواصلة ضد أسلافهم من فقهاء عصره المتزمِّتين، لقد خاض هذه المعركة على صعيد العلوم الدينية التي فسَّرها بشكل مختلف عن تفسيرهم الضيق المتعصب، وقد استخدم كفاءاته الفلسفية في هذا المجال أفضل استخدام، صحيح أنه لم يصل به الأمر إلى حد الخروج من السياج الدوغمائي اللاهوتي العقائدي المغلق على ذاته، وهو السياج أو الإطار العقائدي الذي ينحصر داخله جميع المؤمنين أو جميع المسلمين قاطبةً دون استثناء. لكن هذا الشيء ما كان ممكناً في عصره؛ لأنه كان محكوماً بسقف العصور الوسطى وما هو مستحيل التفكير فيه في تلك العصور، ولكنه عقلَن مفهوم الدين عن طريق دحض أطروحات الغزالي الواردة في كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة». لقد دحضها ليس فقط من خلال كتاب «تهافت التهافت»، وإنما أيضاً من خلال كتاب «مناهج الأدلة». أهم شيء قدَّمه لنا ابن رشد هو النص على مشروعية الفلسفة والفكر العقلاني في العالم العربي الإسلامي، ونفهم من كلامه أن الفلسفة لا تتعارض مع الدين، وإنما فقط مع المفهوم المتزمِّت والخاطئ للدين.

الفلسفة لا تتعارض مع الدين... وإنما فقط مع المفهوم المتزمّت والخاطئ للدين

لكن بعد كل هذا التمجيد لابن رشد فإن أركون يحذِّرنا قائلاً هذا الكلام الخطير: من ناحية أخرى، لقد أصبح فكر ابن رشد ذا قيمة تاريخية فقط، لقد أكل عليه الدهر وشرب، ينبغي ألا ننسى أنه تفصلنا عنه ثمانية قرون. ولكن هذا الكلام لا ينطبق عليه وحده فقط، وإنما ينطبق على كل فكر العصر الذهبي القديم، على الرغم من روعته وعظمته، لماذا؟ لأن كل فكر فلاسفتنا القدماء حصل تحت سقف العصور الوسطى، ونحن نعيش الآن تحت سقف العصور الحديثة، وشتان ما بينهما، ما كان مستحيلاً التفكير فيه في عصر ابن رشد أصبح ممكناً التفكير فيه بعد عصر ديكارت وسبينوزا وبقية فلاسفة الأنوار الذين تحرَّروا من هيمنة اللاهوت الديني كلياً.

يضاف إلى ذلك أن مرجعياتنا الفلسفية أصبحت لايبنتز وكانط وهيغل وماركس ونيتشه وفرويد، وحتى برغسون وهابرماس... إلخ، وبالتالي فلا ينبغي أن نبالغ ونهوِّل في قيمة ابن رشد، إنه لا يستطيع إنقاذنا، يُنقذنا فقط فكر الحداثة العلمية والفلسفية الذي تجاوز ابن رشد وسواه بسنوات ضوئية.

أخيراً يمكن القول بأن المعرِّي تجاوز ابن رشد، وتحرَّر من النطاق الديني اللاهوتي التكفيري المنغلق على ذاته أكثر منه بكثير، وذات الكلام يمكن أن يقال عن ابن سينا والفارابي. المعرّي طرح أسئلة تتجاوز سقف عصره، وترهص بالعصور الحداثية الحالية، ولم يكن ذلك فقط في «اللزوميات»، وإنما أيضاً في «رسالة الغفران» التي تُعدّ جوهرة الجواهر الأدبية والفكرية العربية، بحياته كلها لم يستطع الخيال الإبداعي العربي التوصل إلى هذا المستوى المذهل من الابتكار الخلّاق الذي استعصى على الجميع.

***

د. هاشم صالح

نُشر: 18:11-1 سبتمبر 2024 م ـ 27 صفَر 1446 هـ

في جولته الأخيرة في دول الساحل الأفريقي، اعتبر رئيس الوزراء السنغالي الجديد عثمان صونكو أن نخب القارة ترغب بقوة في القطيعة مع البراديغم الاستعماري الذي لا يزال مسيطراً على العقل الأوروبي رغم مرور أكثر من ستين سنة على استقلال الدول الأفريقية. في البرازيل، كبرى دول أميركا اللاتينية، ذهب الرئيس لولا دا سيلفا في الاتجاه نفسه، مقرراً أن عهد المركزية الغربية انتهى، ولا معنى لتحرر بلدان الجنوب الشامل إلا بفرض استقلالها الثقافي والفكري.

ليست هذه النغمة جديدة، لكنها انتقلت من الكتابات الفكرية إلى قلب العمل السياسي، وأصبحت هي الاتجاه الغالب على النخب الحاكمة في العديد من بلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية. في هذا السياق، يجدر التمييز بين مصطلحين متقاربين هما «نزع الاستعمار» و«ما بعد الاستعمار».

العبارة الأولى ظهرت في أدبيات أميركا اللاتينية منذ بداية القرن العشرين في إطار الإشكالية التي عرفت بصراع الهوية المحلية والاستيطان الأوروبي، ووصلت إلى مداها في نظرية التبعية التي برزت في الأدبيات اليسارية من خلال نقد المركز الرأسمالي في علاقته بالهوامش الجنوبية الخلفية، ثم «لاهوت التحرر» الذي انبثق من داخل التقليد الكاثوليكي موجها النظر إلى المسألة الاجتماعية ومحاربة الفقر والاستغلال الطبقي. أما تيار «ما بعد الاستعمار» فقد ظهر أساساً في الهند في سياق «دراسات التابع» ثم في أفريقيا جنوب الصحراء.

ما يميز هذا التيار هو انتقاله من سؤال الهيمنة السياسية والاقتصادية إلى التركيز على التمثلات الاستعمارية وشكل الخطاب التصنيفي والمعياري الغربي، وآليات وسبل ترويض الجسم المستعبد ثم المستغل والمستعمر من خلال قبضة سلطة حيوية سيادية وقمعية (بما نلمسه بوضوح في أعمال الفيلسوف والمؤرخ الكاميروني أشيل بمبة وبصفة خاصة في كتابيه نقد العقل الزنجي ونزعة ما بعد الاستعمار).

وبغض النظر عن خطاب المقاومة التقليدي في الأدبيات العربية، يمكن أن نشير إلى أن مساهمة المفكرين العرب في بلورة سردية ما بعد الاستعمار كانت أساسية، من خلال كتاب المفكر الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد الشهير «الاستشراق» الصادر سنة 1978، من حيث كونه الوثيقة النظرية الرئيسية لهذا التيار.

في كتاب سعيد توظيف غير مسبوق لأطروحة الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في سلطة الخطاب وثنائية المعرفة والقوة، من أجل نقد راديكالي للاستشراق بصفته نوعاً من إرادة الحقيقة غرضها اختراع شرق خاضع ومقصي ومشوه في ما وراء حجاب العلومية الزائفة. لقد طور مفكرو ما بعد الاستعمار هذه النظرية وطبقوها على سياقات مجتمعية وثقافية عديدة، ووضعوا جهازها الإبستمولوجي الخاص ورؤيتها المتميزة للتاريخ والبنيات الاجتماعية.

في الاتجاه نفسه، حاول المفكر المصري الراحل حسن حنفي تصدير لاهوت التحرر اللاتيني الأميركي إلى التراث الإسلامي من خلال علمه الكلامي الجديد المتمحور حول الثورة، قبل أن يكتب كتابه الجريء «الاستغراب» الذي أراده النقيض المباشر للاستشراق، وسعى من خلاله إلى «تحجيم» الغرب والنظر إليه في زمنيته التاريخية والمفهومية المحدودة (أي تشكل ثم نضوب الوعي الغربي). وعلى عكس كتاب إدوارد سعيد الذي كان تأثيره واسعاً، في ما وراء موضوعه الخاص بالاستشراق في نسخته الأدبية، لم يحظ مشروع حسن حنفي باهتمام كبير، سواء تعلق الأمر بـ«لاهوت الأرض والثورة» أو بعلمه الجديد «الاستغراب».

ظهر في السنوات الأخيرة بعض الاشتغال بأبيات ما بعد الاستعمار، خصوصاً دراسات التابع التي تحولت من الحقل الأكاديمي الضيق إلى الحركية السياسية والأيديولوجية، بما نلمسه بوضوح في ما يسمى في الولايات المتحدة الأميركية بموجة «اليقظة» woke التي تقوم على نقد أشكال المركزية والإقصاء في الأنساق الثقافية والقانونية السائدة، وتتجاوب مع أصناف النضال المدني ضد العنصرية والهيمنة الذكورية والتمييز الاجتماعي. في العالم العربي، لا يزال الاهتمام بهذه الحركية ضعيفاً، في الوقت الذي يستمر فيه نقد الحداثة الأوروبية الذي بدأ في الخطاب الإسلامي المؤدلج والسطحي مبكراً، وتطور راهناً في كتاب الباحث في الفقه الإسلامي وائل حلاق «قصور الاستشراق».

أما في أفريقيا جنوب الصحراء، فقد أصبح تيار ما بعد الاستعمار هو القوة الصاعدة في سياق تَطبعُه القطيعة المتنامية مع القوى الغربية الكبرى، وإنْ كان في عمقه محاولة ملتبسة وغير واعية لتحقيق وعود الحداثة والتنوير، التي فشلت في إنجازها نخب الاستقلال الأولى والأنظمة الديمقراطية المتعثرة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 1 سبتمبر 2024 23:45

الفلاسفة دعوا إلى الاعتناء بالنفس والعمل على ارتقاء الكائن الإنساني

ملخص

ليست الفلسفة طريقة تفكير تتمثل في إبداع المفاهيم وصوغ المسائل ونظم الأنظومات فحسب، بل أسلوب عيش أيضاً. كانت كذلك في بدايتها، قبل أن تصير تفسيراً للعالم وفهماً له أو تغييراً، وعادت اليوم كذلك. كانت حكمة عملية وتدبيراً حصيفاً لأمور الحياة، بما فيها الموت، قبل أن تصير بحثاً عن العلل الأولى والمبادئ الأوائل.

ما نود معالجته هنا هو الفلسفة بما هي إطيقا فن الوجود، بما هي أنماط حياة وأساليب عيش، بما هي سيرورات تذويت وتقنيات ذات، بحسب ميشال فوكو الأخير. فالفلسفة نمط حياة وأسلوب عيش ونحت ذات وانهمام بالنفس وعناية بها، قبل أن تكون بناء عمارات فلسفية شاهقة أو نظم أنظومات فلسفية متماسكة أو بحثاً عن العلة الأولى. وعليه فالفلسفة لم تكن طوال تاريخها مجرد نشاط نظري فحسب، بل كانت دائماً بمنزلة طريق ملكي إلى الحكمة والحقيقة.

إذاً بدأت الفلسفة تاريخها طريقة في فن الحياة، وأسلوباً في تدبير السلوك والملذات، ونهجاً في اختيار أسلوب الحياة ونمط العيش، تبعد الإنسان بقدر الإمكان من الأوهام وتجعله يتدبر حياته وموته، فتدخل في نفسه نوعاً من السلام والطمأنينة.

بين الأخلاق والإطيقا

علينا أن نميز الإطيقا بما هي اشتغال على أنماط الحياة وأساليب العيش وفن الوجود، من الأخلاق بما هي قواعد عامة ملزمة للجميع، فالحديث هنا ليس عما يتوافق مع الأخلاق وعما لا يتوافق معها، ولا عما ينسجم مع قواعد المجتمع وقوانينه وعما لا ينسجم، بل عن أمر مختلف. فسواء أآمن الناس بالأخلاق أم لم يؤمنوا، وسواء أكانت هناك دولة تطبق القوانين أم لا، يبقى المطلوب من الإنسان أن يشتغل على ذاته ويهتم بنفسه ويجترح نمط الحياة الخاص به.

لسنا هنا في حقل الأخلاق، بل في حقل الإطيقا بما هي فن وجود، بما هي أساليب عيش وبما هي أنماط حياة يبتدعها الشخص ويرتضيها لنفسه ويعيشها انطلاقاً من علياء شعوره السامي الراقي النبيل. نحن هنا لا نتفلسف في ميدان الأخلاق، بل في ميدان الإطيقا. فما يمنع الإنسان من بعض التصرفات ليس توافقها أو عدم توافقها مع قواعد الأخلاق ومبادئها، بل تعارضها مع نمط الحياة النبيل الذي رسمه لنفسه، وتعارضها مع ما يقتضيه ذلك الشعور السامي الرفيع الذي يشعر به. مثلاً لو كنت موظفاً في مصرف لبناني لما قبلت أن أسكت عن سرقة أموال الشعب من دون أن أقدم استقالتي وأخرج إلى الإعلام لأفضح ما يحصل. فأنا لا أقبل أن أسرق وأقتل وأغش وأخدع، لا لأن هذا يتعارض مع الأخلاق العامة، ولا لأن هذا يغضب الله، بل لأن هذا كله يتعارض مع نمط الحياة النبيل الذي اخترته، ومع فنية وجمالية اللوحة التي أرسمها لنفسي أولاً ولأولادي وأحفادي ولكل الأجيال من بعدي ثانياً، هؤلاء الذين سيفتخرون يوماً ما، كما آمل، بما فعلته وما رسمته وما نحته.

أعمل كثيراً حتى لو لم أحظ إلا بقليل من النجاح، ليس مهماً أن أصل، فهذا أمر متروك للأقدار، بل المهم أني فعلت كل ما كان بوسعي أن أفعله. بذلك أكون رسمت لوحة أراها أروع وأجمل لوحة رسمتها يد فنان قدير موهوب، لذلك أنا راض عما فعلت. فلا مكان في قلبي للندم، ولو عشت ألف مرة لكنت مشيت في الطريق ذاتها، ولكنت رسمت اللوحة ذاتها. ولو عدت للحياة ألف مرة لكانت لوحة حياتي هي ما يجسد عودي الأبدي في كل عودة، فأنا فخور بحياتي وأرحل عن هذه الدنيا وقد أديت قسطي من العلا.

الحياة بما هي تحفة فنية

هذا ما يمكن أن نسميه بالتفلسف الحياتي العملي، فكما يرسم الرسام لوحة بديعة، وكما يكتب الأديب رواية رائعة، وكما ينحت النحات منحوتة جميلة، فإن بإمكان كل واحد منا أن يصنع من حياته تحفة فنية نادرة، لوحة فنية فريدة يفتخر بها أمام نفسه وأمام الجميع. بعمله هذا يكون سعيداً وراضياً، لذلك فإن نحت الجسد لأمر ذو أبعاد كثيرة، صحية وجمالية وفلسفية، وذلك عندما يندرج في إطار فلسفي أوسع يتعلق بفن الوجود ونمط الحياة. هكذا يكون نحت الذات، جسداً وروحاً، نشاطاً فلسفياً بامتياز! وهكذا يتحول كل إنسان إلى فيلسوف. أوما زال الاهتمام بالذات ممكناً اليوم؟

يأتي الإنسان إلى الحياة من دون إذنه، فيبدأ مسيرته الطويلة والشاقة. لكن أي نمط حياة نريد؟ أي حياة نود أن نحياها؟ أي ذات نروم نحتها؟ الانهمام بالذات كان هماً من هموم الفيلسوف، وسيبقى. لكن هل ما زلنا اليوم قادرين على الاهتمام بذواتنا والعناية بها في ظل ما نعيشه من أزمات مالية وسياسية؟ هل ما زلنا قادرين على نحت ذواتنا اليوم في عصر الذكاء الاصطناعي وعصر الإنسان - الآلة أو الإنسال؟ هل ما زلنا قادرين على رسم لوحة حياتنا الفنية في ظل رأسمالية تأبى إلا أن تسيطر بجشع ومن دون رحمة على ثروات المعمورة؟ أفلم تفسد الرأسمالية المتوحشة كل ما هو جميل وحسن في حياة الإنسان؟ أفلا يجدر بنا التنبه إلى ما يمكن أن يؤدي إليه الذكاء الاصطناعي من تهميش للإنسان وربما من القضاء عليه؟ أفلا يستدعي الاهتمام بالجسد اهتماماً آخر أكبر وأهم بالذات؟ أوليس من الفلسفة أن يرسم كل إنسان لوحته الأجمل وأن ينحت منحوته الأفضل، فيجعل حياته نفسها تحفة فنية رائعة، كما نبهنا إلى ذلك فوكو في كتاباته الأخيرة؟

أنماط الوجود

تكلم فوكو عن أنماط الوجود وسيرورات التذويت وتقنيات الذات ضمن إطار ما سماه إطيقا فن الوجود، إذ سعى إلى أن يجعل المرء نفسه تحفة فنية رائعة لا تختلف عن لوحة رائعة أو منحوتة عظيمة. بذلك نقول إن بإمكان الفرد أو الذات، في المجتمعات المعاصرة، أن يتكون وينتصب ويقاوم في ظل الحصار المضروب عليه من أصناف المعرفة وأنواع السلطات القائمة. رجع فوكو إلى الإغريق فوجد عندهم هذا الشعار: إذا أردت أن تكون مواطناً فاعلاً في المدينة، فعليك أولاً أن تتمكن من السيطرة على نفسك.

ومن ثم، عندما لا تتوجه القوة إلى قوى الخارج، بل إلى ذاتها، أي عندما تتخذ القوة نفسها موضوعاً لفعلها، ينشأ ما يسميه فوكو سيرورات التذويت أو أنماط الوجود أو أساليب الحياة، وهي ما كان يسميها نيتشه إمكانات الحياة. بذلك يمكن المرء أن يقاوم أشكال المعرفة ومراكز السلطة من حوله، فالقوة تتعرض لعملية طي من الذات عندما تتخذ موضوعاً لها السيطرة على الذات نفسها وتقديمها بوصفها تحفة فنية رائعة. هذا ما نجده في سيرورات التذويت عند الإغريق وسيرورات التذويت في العهود المسيحية الأوائل، إذ يشدد فوكو على أن أنماط الوجود تلك إطيقية وجمالية في آن واحد. فإنها لا تبتغي تقديم قواعد عامة إلزامية لكل البشر، بل تعرض نماذج لسيرورات تذويت تتضمن قواعد اختيارية ومتغيرة عبر التاريخ. واليوناني لم يكن يريد أن يرضي الآلهة أو يتنعم بالنعيم في الآخرة، فهذه الأمور لم يكن ليهتم بها، بل كان يريد أن يقدم نموذجاً صالحاً، جمالياً وأخلاقياً في آن واحد، يتركه للأجيال المقبلة. لكن فوكو، بعودته للإغريق أو العصور المسيحية الأوائل، لم يكن يبتغي أن نتخذ منها نماذج صالحة لزماننا الحاضر. فهو يفكر الماضي من أجل الحاضر، ويحاول أن يتتبع أنماط الوجود الراهنة التي تحصل في مجتمعاتنا المعاصرة.

الفلسفة بوصفها جسر عبور بين ثقافات العالم

وعليه لا يحبذ الإنسان أن يرحل عن هذه الدنيا من دون أن يترك أثراً، من دون أن يترك لمسة خاصة به، من دون أن يترك بصمة يعرف بها، بل من دون أن يخلد اسمه بطريقة ما. فهناك من يكتب كتباً، وهناك من ينحت منحوتات، وهناك من يرسم لوحات، وهناك من يغني أغاني عاطفية مؤثرة أو أغاني وطنية، وهناك من يبني دولاً، وهناك من يخترع اختراعات إلخ. والفيلسوف هو من يحول حياته نفسها إلى أثر فني، إلى منحوتة رائعة، إلى لوحة فنية، يفتخر بها ويتركها أثراً فنياً جميلاً لمن يجيء بعده، حتى إذا دنا أجله، كان راضياً عن نفسه وعما فعله في حياته.

هكذا ينشغل الإنسان بنفسه فيرسم حياته بريشته كأجمل لوحة فنية ممكنة، ربما لا يرسم الأجمل والأفضل، لكنه يحاول أن يرسم أفضل الممكن نسبة إلى القدرات والإمكانات التي يمتلكها ونسبة إلى الظروف التي تهيأت له. بذلك يترك لأحبائه وأصدقائه والأجيال أمثولة رائعة يفتخر بها، فيها كثير من النجاحات والانتصارات، كما فيها أيضاً كثير من الهزائم والانكسارات.

على المرء إذاً أن يرسم لوحته الفنية الرائعة، وأن ينحت تحفته الأجمل في علاقته بنفسه أولاً، وفي علاقته بزوجته وأولاده ثانياً، وفي علاقته بمواطنيه في المدينة ثالثاً، وحتى في علاقته بالله أو المطلق رابعاً، من دون أن يعتقد وجود نموذج أو مثال عليه تقليده واتباعه.

وعليه فإن الفلسفة بما هي فن إطيقي، بما هي فن الإطيقا، بما هي أسلوب عيش، بما هي نحت لتحفة فنية حياتية رائعة، من مهمتها أن تجعل الحياة ممكنة وجميلة، بل وأن تجعلها ممتعة أيضاً، فنتقبل مآسيها ونتقبل فكرة الموت ونتعامل معها بما يناسب اللوحة الفنية هذه، فالفلسفة نوع من الفرح الدائم.

***

د. جمال نعيم - أكاديمي لبناني

الاثنين 5 أغسطس 2024 14:25

عن موقع الأندبندت عربي، يوم:  الاثنين 5 أغسطس 2024 14:25

في ذلك اليوم.. قامت الجماهير الغفيرة باقتحام منزل أينشتاين، وبعد تخريب كل ما فيه، سرقوا محتوياته، وكانت آلة الكمان التي يعزف عليها من بين المسروقات التي آلَمتْ العالم الكبير.

ليس هذا فقط.. بل تحوّلت الدعوة لقتله إلى لافتة شهيرة في عشرات الشوارع، حيث وضعوا صورته وكتبوا إلى جوارها: «لم يُشنق بعد»!

لم يقف الأمر عند الغوغاء الذين شكلّوا ثقافة القطيع في تلك الأثناء، بل إن نخبة من علماء ألمانيا وصل عددهم - حسب وثائقي بُث مؤخراً - إلى (100) عالم قاموا بالهجوم على أعمال أينشتاين العلمية، ودحض نظرياته. وقال العلماء: إنه مشروع إعلامي لا مشروع علمي، وأن حجم الدعاية وليس مستوى البحث هو الذي أدّى إلى ذيوعه وشهرته، واستنكروا الترويج لنموذج نظري افتراضي، لا دليل عليه، على هذا النحو الكبير.

بدورها أسقطت الحكومة الألمانية النازية الجنسية عنه، ورصدت مكافأة قدرها (20) ألف مارك لمن يقتل أينشتاين، وقد كان ذلك المبلغ باهظاً، لدرجة أن عالم الفيزياء الكبير قال: هل موتي يستحق كل هذا الرقم؟

إن هذه المشاهد مجتمعة تستحق التوقف طويلاً، كيف لهذا البلد الذي أنتج كل هذا العلم وكل هذه الفلسفة أن يهوي أمام قائدٍ تافه مثل أدولف هتلر؟ كيف لبلدٍ قدّم للعالم فلاسفة بوزن كانط وهيجل ونيتشه وكارل ماركس وانجلز وماكس فيبر، كما قدم جوته وبريخت وشوبنهاور، وبيتهوفن وباخ وشتراوس.. كيف لبلدٍ أبدع إلى هذا الحد في كل شئ تقريباً أن ينهار أمام غوغائي محدود التعليم، محدود المستوى الاجتماعي.. راح يتحدث عن القيادة العرقيّة للعالم.

لقد وصل الحدّ إلى مستوى الهذيان، راحوا يقولون إن أينشتاين قادم من سويسرا، ونسوا أن هتلر قادم من النمسا. ولو أن ذلك الهذيان كان في نطاق السياسة وتعبئة القطيع فحسب لكان الأمر مفهوماً، لكن أن يتصدّى عدد كبير من نخبة علماء الفيزياء الألمان لتسفيه أينشتاين والحطّ من شأنه، والسخرية من نظرية النسبية، واعتبار المكانة التي حازتها مجرد دعاية وعلاقات عامة.. وليس أكثر، فهذا كله يدعو للصدمة والذهول.

إن الظاهرة النازية هى ظاهرة مرعبة، ليس فقط على صعيد التاريخ، بل على صعيد الحاضر والمستقبل. وإذا كان مجتمع قوي، ونخبة رفيعة الشأن، وتاريخ معاصر يكتظ بالعباقرة، قد ركع على ركبتيه أمام سفيهٍ استخدم سفهاء، واحتل الدولة والمجتمع.. ثم قاد الجميع إلى الهاوية.. فما الذي عساه أن يحصّن مجتمعات أقل ثقافة، ونخب أقل كفاءة، وربما أضيفت إليها أزمة ندرة وشحّ الموارد ومشاكل المياه والطاقة.

إن المناعة الألمانية التي سحقتها النازية تدعو للقلق بشأن دول تمتلك مناعات أقل، وإمكانات لا تقارن حتى بإمكانات ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى أو الثانية.

إن مخاطر الديكتاتورية، وسطوة «الأنا الواحدة» على القرار.. هى مخاطر لا حدود لها. مكاسب الديكتاتورية وإن تعاظمت فهى لا محالة ذاهبة إلى الانهيار، ومكاسب الحرية وإن قلت هى قواعد قابلة للعلو في البنيان.

القوة والحرية وجهان لعملة واحدة.

***

أحمد المسلماني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 30 أغسطس 2024

لم أزل أذكر الضجة الكبرى التي رافقت نشر كتاب «موجز تاريخ الزمان» للفيزيائي الراحل ستيفن هوكنغ عام 1987. مثّل هذا الكتاب حينها انعطافة محسوسة وعملية في تاريخ النشر العلمي على النطاق الشعبي الواسع؛ إذ فضلاً عن شخصية كاتبه ذي العقل الحر والجسد المقيّد بعجلات أربع فإنّ طبيعة المادة المعروضة فيه كانت مثالاً متوازناً للمقدرة على المواءمة العملية بين متطلبات الكتابة الفيزيائية الصارمة وشروط المقروئية الواسعة. كانت «دار المأمون» العراقية المختصة بالترجمة أوّل دار نشر عربية سارعت في ترجمة هذا العمل بعد قرابة السنتين من نشره؛ فقد صدر أوائل عام 1990 أو ربما أواخر عام 1989، ولم يكن مترجمه (باسل محمد الحديثي) فيزيائياً بل كان مختصاً بالهندسة الكهربائية وهندسة الحاسوب والسيطرة والنظم الهندسية. الدهشة الفلسفية والمساءلة الفكرية للأسئلة الكبرى في الكون ليست حصرية على فئة دون أخرى من المهنيين أو العامة.

قرأتُ الكتاب حينها بشغف، وكان كتاباً رائعاً بكلّ الاعتبارات، لكنّ ما يلفت النظر أنّ هوكنغ بدا وكأنّه آلة احتسابية لا تستطيبُ أيّ ميل فلسفي، هذا إذا لم نَقُل إنّه يرى الفلسفة اشتغالاً غير منتج. قد يستطيع فيزيائي أن يتملّص أو يناور على المداخلات الفلسفية الضرورية عندما يتناول مادة تقنية خالصة، لكن كيف له ذلك وهو يتناولُ مفهوماً غارقاً في لجج التفكّر الفلسفي العميق: الزمن Time الذي يحسبه فيزيائيو عالمنا المعاصر أسبقية على كلّ ما سواه من مكان أو مادة أو حركة. كلّ مفهوم أو فكرة أو موجود مادي إنما هو مقترن اقتراناً شرطياً بالزمان ودالة له. نحن في النهاية مخلوقات الزمان وغارقون فيه. لم أستطِب هذه النكهة العدائية لهوكنغ تجاه الفلسفة، ثم أفصح الرجل لاحقاً عن موقفه الكاره للفلسفة باعتبارها غير كفؤة في تناول الموضوعات مثلما يفعل العلم. هذا رأي هوكنغ بالتأكيد، وثمة كثيرون من أعاظم الفيزيائيين يخالفونه الرأي، مثلما أنّ هناك قلّة يعاضدونه، ومنهم ريتشارد فاينمان، الذي كتب، في كتابه السيري المترجم إلى العربية «أنت تمزح بالتأكيد سيد فاينمان»، أنّ أسوأ يوم في حياته هو ذلك اليوم الذي صارحه فيه ابنه برغبته في دراسة الفلسفة.

الزمان في سياق الفلسفة العلمية

لم يكن كتاب «موجز تاريخ الزمان» أوّل عهدٍ لي بالفلسفة العلمية أو فلسفة الفيزياء (وفلسفة الزمان والمكان على وجه التخصيص). سبق لي في سبعينات القرن العشرين أن قرأتُ كتاب «نشأة الفلسفة العلمية» لفيلسوف العلم الألماني هانز رايشنباخ، الذي ترجمه الفيلسوف الراحل فؤاد زكريا. لطالما أعجبتُ كثيراً بترجمات وأعمال الدكتور زكريا وجهوده الفلسفية التنويرية وانتخابه لأعمال معروفة بثرائها الفكري والفلسفي. أمضيتُ أياماً رائعة مع كتاب رايشنباخ الذي نقرأ فيه موضوعات على شاكلة: قوانين الطبيعة، هل توجد ذرات؟، التطوّر، المعرفة التنبؤية، هاملت يناجي نفسه، طبيعة علم الأخلاق، مقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة. كتاب رايشنباخ - كما أرى - أكثر إمتاعاً بكثير من كتاب هوكنغ، فضلاً عن النكهة الأدبية والفلسفية الرائقة السائدة فيه. ثمة فصل في الكتاب عنوانه: ما الزمان؟ ومن هنا كانت نقطة الشروع لي في التدقيق بمفهوم الزمان على المستوى الفلسفي. علمتُ في سنوات لاحقة أنّ رايشنباخ ألّف كتاباً كاملاً عنوانه «The Philosophy of Space and Time»، لكنّه لم يترجم إلى العربية للأسف، ولم نكن في القرن الماضي بقادرين على اقتناء كلّ ما نرغب بقراءته من كتب لأسباب عملية معروفة.

الفلسفة وأبعاد الزمن

لو سلّمنا بمقولة الفيلسوف كانْت، عن استحالة تعريف أبعاد الزمان الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، فإننا سنغرق في بحار المقولات الفلسفية ونتبدد ونبدد الزمان في تساؤلاتنا. وضَعَ كانْت أمامنا شرط المستحيل؛ فالماضي هو الذي تبدّد وما عاد موجوداً، والمستقبل هو ما لم يَحِن أوانه بعدُ؛ فلا يتبقى من ممكن خاطف كالبرق الخُلَّب إلا الحاضرُ، وهو ليس الوقت كله، لكنه الزمان الذي تدركه الحواس ويعيه العقل وتعبره أجسادنا الحية في حركتها أو سباتها.

يكتب القديس أوغسطين: الزمان هو أكثر من شيء واحد، فهو بُعْدُ الوعي الذي يتوجه انطلاقاً من الحاضر نحو المستقبل في الانتظار، ونحو الماضي في التذكر، ونحو الحاضر في الانتباه؛ وعلى هذا فالحاضر هو برهة انتباهنا لوجودنا في المكان والزمان، أو كما يقول برغسون: «لا وجود للماضي ولا للمستقبل. ليس الوقت إلا هذا الشعور بالتعاقب لهذه اللحظات الآنية، وإنّ ذكاءنا هو الذي يفهم الوقت انطلاقاً من اللحظة الآنية، يربطه بالمكان لأنّ الآنية ليست من طبيعة الزمان، وإنما من طبيعة المكان. في مقابل هذا الزمان الفيزيائي هناك الزمن النفسي (الديمومة). الديمومة ليست آنية، هي متصلة لأن الشعور في حاضره غير منفصل عن ماضيه وهو مقبل في الوقت نفسه على المستقبل، كما أنها (الديمومة) ليست قابلة للقياس ومتجانسة. هذا هو الزمان قبل أن يتصرف فيه ذكاؤنا ويفككه إلى لحظات متمايزة».

الزمن عند هايدغر هو ما يحقق لنا الوجود؛ فهو يرى أن الزمان يقذف الإنسان باستمرار، وهو ما جعله الوحيد الذي يوصف بأنه موجود. الوجود لا يعني الخضوع للزمان، وإنما أن يقذفك الزمان دوماً نحو المستقبل، ونحو الممكن، ويكون عليك الاختيار وتبريرُ الاختيار. هذا هو القلق الوجودي الملازم للكائن البشري.

لكن ثمة اقتران يبدو حتمياً في حدود خبرتنا البشرية بين الزمان والمكان. استطاع آينشتاين في نظريته النسبية العامة، وبضربة تنمّ عن أستاذية لامعة، ربط الزمان والمكان في مفهوم واحد هو الزمكان Space-time، لكن يبدو أنّ الزمان يتقدّمُ على المكان. هذه العلاقة الشرطية بين الزمان والمكان هي الأساس الفلسفي الذي تنبثق منه كلّ تساؤلاتنا العميقة بشأن وجودنا البشري. نحن في النهاية كينونات مادية توجد في محيط متصل من الزمكان، ومحكومون بشروطه، وليست كل مفاهيمنا عن الكينونة والهوية والعلاقات البشرية سوى تجسيدات لوجودنا في هذا الزمكان.

فلسفة الزمان في كتاب حديث

لم تعد فلسفة الزمان مبحثاً فرعياً في سياق دراسة فلسفة العلم. تأسست مراكز بحثية مستقلة لدراسة فلسفة الزمان في كبريات الجامعات العالمية الرصينة، وصارت كتب كثيرة تنشَرُ بحثاً واستقصاء للتطورات الحثيثة في مفهوم فلسفة الزمان وتأثيراتها المؤكدة في إعادة تشكيل رؤيتنا العلمية للعالم، وربما فلسفة الزمان تتماثل في أهميتها مع فلسفة العقل ونظرية المعرفة في علاقة كل منهما مع التطورات الحاصلة في علم الحاسوب والذكاء الاصطناعي.

من الكتب الحديثة المنشورة في فلسفة الزمان كتابٌ ألّفه البروفيسور غريمي فوربس Graeme A. Forbes ونشرته حديثاً دار نشر «راوتليدج» العالمية، ضمن سلسلتها المعروفة الأساسيات The Basics. الأستاذ فوربس مختص بفلسفة الزمان، عمل لأكثر من عقد في قسم الفلسفة بجامعة كنت البريطانية قبل أن يتقاعد عن التدريس فيها عام 2022.

الكتاب طبق فلسفي بتوابل لذيذة ستثير شهية كلّ من تمرّس بالقراءات الفلسفية الخاصة بالموضوعات التأصيلية الأساسية: أصل الزمان والمكان، أصل الوعي، أصل الكون، أصل الحياة. ولما كان الزمان سابقاً لكلّ هذه الموضوعات وشرطاً لوجودها فسيكون من الضرورة اللازمة إيلاؤه قدراً غير يسير من الاهتمام والمساءلة.

بعد مقدمة تمهيدية يبدأ الكتاب بموضوعة جوهرية لكلّ كتاب يتناول فلسفة الزمان، أقصد بذلك مفهوم التغيّر Change. التغيّر هو حجر الأساس في بناء كلّ فلسفة منتجة للزمان، ومنها يمكن الانطلاق لإثراء الموضوع، وهذا هو ما فعله المؤلف تماماً في فصول لاحقة تناول فيها: اختبار التغيّر، واختبار الذات، ثمّ يتناولُ موضوعات النسبية والآنية، وسهم الزمان، والسفر عبر الزمان، الانحياز الزماني، إعادة كتابة التاريخ، العيش في الحاضر.

عقب مقتبس من مقطع شعري لإليوت، يكتب المؤلف في مقدمته:

«لم أحاولْ أبداً إخفاء شخصيتي أو آرائي عن القارئ. تتبدى آرائي في عدد من الكيفيات، منها: اختيارُ الموضوعات. العديد من المقدمات المكتوبة عن فلسفة الزمان تركّز بؤرتها البحثية على الميتافيزيقا أو فلسفة الفيزياء فحسب. فعلتُ هذا مثلما فعلوا، لكنني لم أكتفِ به، بل اجتهدتُ لتضمين موضوعات أخرى مثل فلسفة التاريخ؛ لأنني أرى أنّ موضوعات التاريخ يجب أن تكون مبعث إثارة وتفكّر لدى كلّ من يشتغلُ في نطاق فلسفة الزمان...».

يبدو الكتاب مُعدّاً عن منهاج دراسي جامعي لأنّ الصبغة البيداغوجية (التعليمية) واضحة فيه. أرى في هذه الخصيصة مصدر قوة للكتاب لأنّه سيفي بمتطلبات التعلّم الذاتي التي صارت سمة شائعة في معظم الكتب المنشورة حديثاً. يبدو أنّ المؤلفين المعاصرين باتوا يتلمّسون روح العصر الحديث حيث التعلّم الذاتي Self-Study سيكون النمط الشائع للتعلّم فيه عمّا قريب، وبخاصة مع انفتاح الفضاء الرقمي على فضاءات لا محدودة من البيانات الكبيرة ومصادر المعلومات.

فلسفة الزمان: الأساسيات

Philosophy of Time: The Basics

المؤلف: غريمي فوربس

Graeme A. Forbes

الناشر: Routledge, Taylor & Francis Group

السلسلة: The Basics

عدد الصفحات: 224

السنة: 2024

***

لطفية الدليمي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 28 أغسطس 2024 م ـ 23 صفَر 1446 هـ

ربما تتضمن الأفكار الكثير من الجنون والسخرية، لنقرأ مذكرات آينشتاين، أو ما قالوه عن داروين، لكن ساباتو- الذي كتبت عن سخريته بالمقالة الماضية - يذهب أبعد من ذلك، يرى إرنستو ساباتو، الأديب الأرجنتيني وأستاذ للرّياضيات والفيزياء، في الأفكار المجنونة أنها انعتاق، بل هي جزء من الجنون النظيف، الذي يمنع الإنسان من تقبل الأيديولوجيا.

إرنستو ساباتو، الذي اتّجه إلى الأدب وعاش هادئاً في الأرجنتين من أجل التّفرّغ للكتابة، يستعيد مقولة لألبير كامو: «إن تفكير أي إنسان هو قبل أي شيء حنينه». كتب ساباتو في الحنين وعنه، ورأى في الأساطير شموخاً، وفي الخرافات كنزاً يمكن استعادته وتركيبه وصهره في الأعمال الفنية والرسومات التي اتجه إليها بعد أن تعب بصره، لم يفصل بين الكتابة والرسم، يتحدث إلى كارلوس كاتانيا في كتاب «بين الحرف والدم»: «لست الكاتب الوحيد الذي يرسم، كان (كولوشكا) كاتباً وانتهى به الأمر إلى أن أصبح رساماً، وكذلك الأمر لدى فيكتور هوغو، وكيبلبلغ، وغوته، وهوفان، وتولستوي، وبودلير، وبلاك، ورامبو». يعتبر الرسم فصيلاً من الكتابة وتنويعاً عليها، كما أن الكتابة والرسم يجمعهما خيط الفنون الذي يرسمهما ويدمجهما ضمن صيغه المتعددة.

انحاز إلى «الإيماء» الذي طمسته إمبريالية اللغة، يتساءل: «من الذي قال إن الكلام أفضل من الإشارات، يرى هنري ميشو أن جل ما يشعر به لا يمكن تفسيره بالكلمات، وتؤكد عباراته أن الكلمات أقل من الإشارات كمالاً. كان البدائيون يعبرون بالأصوات وبالألوان والرسوم والتعاويذ». تأثر كثيراً بالبنيوية وسحرته قيم الريف البدائية، ويشكو: «إن ثقافتنا التي اتخذت الكتب أساساً لها هي ثقافة سمتها المبالغة، وقد احتقرنا ثقافات قديمة لم تقم على الأبجدية، وإنما على أسس أخرى أشد أهمية، أسطورية حكيمة، وتوازن رائع مع الكون، وإلفة مع الموت، وإحساس مقدس باللحظات العظيمة لهذه الحياة البائسة، والمجردة الآن من أسطوريتها: الولادة، والبلوغ، واتصال الجنسين، والأولاد ثم الموت». وهذا يذكر بشغف كلود ليفي شتراوس الذي زار البرازيل والأمازون في ولايات ماتو روسو وبارانا وغوياس، وذلك في ثلاثينيات القرن الماضي، واعتبر تلك الحمولة من الأساطير والمكونات لها أكبر الأثر في حياته.

الخلاصة، أن مشروعه وقلقه وجنونه أثمر عن عشرين كتاباً في الفنون والفكر والأدب والنقد والموسيقى، إضافة إلى ثلاث روايات نال عنها جوائز كثيرة، والكثير من الحوارات، كان مرشحاً أساسياً في جائزة نوبل للآداب، غير أنه رحل من دونها في 30 أبريل (نيسان) 2011. رأى في الأدب حقبة روحية، بالنسبة إليه: «ثمة قرابة بين فرانسيس بيكون وكيركغارد وألبير كامو وسارتر ودوستوفيسكي، وكافكا، فكلهم ينتمون إلى الحقبة الروحية نفسها». وذلك على الرغم من تباعد الأيام ومسافات القرون.

لقد مزج ساباتو بين السخرية والكآبة، بين الكبرياء والضعف، آمن بالمقاهي والفنون، يحزن كثيراً، لكن على طريقة المهاجر القادم من نابولي وهو يلهو برقصة «ترانتيلا»، ويتعجب من مواطن بوينس آيرس الذي يستغرق في التفكير بمعضلات الحياة وهو يرقص «التانغو».

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 27 أغسطس 2024

 

لم تعُدْ مفردة «الرومانتيكية» تُذكَرُ إلّا قليلاً، وحتى عندما تذكّرُ فغالباً ما تكون في سياق استذكار تاريخ التيارات الأدبية التي سادت في بدايات القرن التاسع عشر. من الصعب نسيانُ فرسان الرومانتيكية: شيللي وشيللر وكولردج وكيتس ووردزورث. تراجعت مفاعيل الرومانتيكية كثيراً في عصرنا بفعل مؤثرات العقلنة العلمية وسطوة الثورات التقنية المتوالية التي تتطلب عقلاً منضبطاً يتحرك بخوارزميات صارمة. بالنسبة لي صارت المرات القليلة التي تُعرَضُ لي فيها مفردةُ «الرومانتيكية» أو مشتقاتها اللغوية تذكّرني بكِتاب «رومنطيقيو المشرق العربي» لحازم صاغية الذي اختار مفردة «رومنطيقيو» بدلاً من «رومانتيكيو» في عنوان كتابه. المثيرُ أنّ أغلب أساطين الرومانتيكية العربية على صعيد السياسة والأدب نشأوا في حاضنة «الجامعة الأميركية في بيروت»، ونعلم جميعاً أنّ الفلسفة المعتمدة في الحياة الأميركية هي البراغماتية التي طوّرها وأنضجها ويليام جيمس، وهي أبعد ما تكون عن الرومانتيكية ومفاعيلها المتشعبة على الصعيدين الفردي والجمعي.

تتجوهر المعضلة الرومانتيكية (التي قادت بعض كبار الرومانتيكيين إلى الانتحار) في تغليب الخاص على العام. لكلٍّ منّا منخفضاته السيكولوجية وتحليقاته المتوهّجة. أحد الموضوعات الإشكالية هو تشخيص ومعرفة مناطق الاشتباك بين الخاص والعام: هل ما نعانيه نتاجُ توعّكاتنا الشخصية أم هو ردّة فعل لما يحصل في العالم، ولو حصل الاشتباك بين الخاص والعام (وهو حاصل بالتأكيد حدّ الصراع القاسي المفضي لنتائج مؤلمة) فكم هو حجمُ منطقة الاشتباك؟ هذه التشخيصات ليست يسيرة، وقد يحصل أن يتداخل الخاص والعام بطريقة مؤذية، وربما نكون نحنُ أحد الأطراف الساعية للنفخ في هذا الاشتباك على طريقة رومانتيكيي القرن التاسع عشر الذين تلذّذوا بمعاناتهم كلّما رأوها تتضخّم ككرة نار جهنّمية. ما أتمنّاه أولاً وقبل كل شيء أن لا يغرق أي شخص ذي ضمير حي في لجّة منطقة الاشتباك بين العام والخاص، وسواء حصل هذا الغرق بطريقة قصدية أو مُتوهّمة. لا يمكن فصل الأوهام عن كثير من ألوان معاناتنا النفسية لأنّ سلوكنا اليومي ليس سوى تمثّل ذهني شديد الخصوصية لما نراه في العالم وعن العالم، وهذه الرؤية مطبوعة ببصماتنا الذهنية والنفسية المتفرّدة كفرادة بصمات أصابعنا.

الحياة عملٌ شاق. ليست هذه العبارة محض عنوان يصلح لكتاب - مثل كتاب البروفسورة كيران سيتيا (Kieran Setiya) المنشور عام 2022 - بل هي قناعة تعززها الخبرة اليومية المتواترة. العالم مكان شديد الخطورة للعيش فيه والتعامل معه. هذه ليست تخريجة رومانتيكية أنتجتها حسّاسية أخلاقية مترفّعة. في العادة أتساءل، وكنوعٍ من التجارب الفكرية المثيرة: لو أنّ إنساناً رفيع الأخلاقيات، معروفاً بصرامة اعتباراته السلوكية، تركناه يتعامل مع البشر لساعة من الزمن - ليس أكثر- هل سيعود بعد هذه التجربة بالمواصفات الرفيعة التي كان عليها؟ لا أظنُّ ذلك.

الحياة عمل شاق، والعالمُ مكان يطفحُ بالسيئين أكثر بكثير من نظائرهم المخالفين لهم في الصفات. هذا ليس اكتشافاً جديداً، إنّه حقيقة أزلية. قد تدفعنا هذه الحقيقة إلى الخراب النفسي والظلام العقلي والشعور بالخواء المطبق؛ لكنّ أحد الامتيازات الكبرى التي تُحسَبُ لنا هي معرفتنا بهذه الحقيقة؛ ومع هذا نبقى محافظين على مخزوننا الاستراتيجي من الطاقة الروحية النشيطة والفاعلة والمؤثرة.

ليس من المروءة أو الإنصاف تحميلُ أنفسنا عبء المعضلة الأخلاقية في هذا العالم. من الواجب أن نعرف أفاعيل الشر في العالم؛ لكن من السذاجة - فضلاً عن عدم الجدوى - أن نتعامل مع هذه الأفاعيل بالطريقة الرومانتيكية المعهودة التي قرأنا عنها. يجب وضعُ حدود صارمة قدر الاستطاعة بين الخاص والعام. المعضلات العالمية أو حتى الإقليمية ليست حكاية حب على شاكلة روميو وجولييت. ما هو ألعنُ من العبء الأخلاقي هو التصارع بين العقل - الضمير: هذه الثنائية التصارعية لا تقلّ شأناً في مترتباتها الأخلاقية والفلسفية عن معضلة الثنائية الديكارتية العقل - الجسد التي ظلّت أحد الأعمدة الجوهرية في المقاربات الفلسفية منذ عصر النهضة الأوروبية وحتى اليوم. لماذا نحمّلُ أنفسنا هذا العبء الأخلاقي باهض التكاليف؟ لا أقول هذا من باب تسكين الروح القلقة المحمّلة بالنزوع الإنساني الفائق؛ لكنّ واقع الحال ينبئنا أنّ خسارة أرواحنا لن تضيف شيئاً ولن تصنع فارقاً سوى زيادة مناسيب القباحة في هذا العالم، وليس هذا بالأمر المقبول في سياق المحاججة المنطقية الباردة أو في سياق مواجهة الشر وما تستلزمه من تفكّر وتسبيب للنتائج المتوقّعة. التعامل برومانتيكية فائضة في موضوعات ساخنة عالمية النطاق من حيث المؤثرات والنتائج مَهْلَكَةٌ مؤكدة. ربما سمعنا بمتلازمة القلب الكسير (Broken Heart Syndrome). الحَزَنُ الشديد والمفاجئ قد يدمّرُ قلب المرء ويورده موارد الموت المحتّم. هذا ما حصل لرومانتيكيي القرن التاسع عشر، وهو ما يمكن أن يحصل لأي فرد منّا عندما لا تتوازن الجرعة البراغماتية المطلوبة لديه في التعامل السلوكي اليومي مع حجم ردة الفعل الأخلاقية.

حتى لا أبقى في نطاق الأعالي التنظيرية سأتناول مثالاً مؤثراً على كامل مساحة العالم ولكل البشر بعيداً عن اعتبارات الزمان والمكان والجغرافية المحلية: الأغذية المعدّلة وراثياً (Genetically Modified Crops). لماذا لجأ العالمُ لهذه التقنية الثورية في زيادة غلّة المحاصيل والحفاظ عليها من التلف؟ لكي يستطيع إطعام المليارات المتزايدة من البشر، ولولا هذه التقنية لحلّت بالبشرية مجاعة كارثية رهيبة. صحيحٌ أنّ مذاقات الأطعمة لم تعد مثلما كانت. صارت الطماطم والقرنبيط وسواهما من الفواكه والخضراوات أشكالاً هندسية بديعة لكنها تفتقدُ إلى المذاق الأصيل للثمار غير المعاملة وراثياً. هذا جزء من التضحية التي يجب أن نقبل بها حتى لا يجوع مليارات البشر في العالم. إنها موازنة براغماتية دقيقة بين اللذة الشخصية والمصلحة الجمعية. لا تخلو كل فعالية عالمية النطاق من تحقيق مصالح لبعض الأطراف (شركات، حكومات، أفراداً أثرياء...)؛ لكنّ الحقيقة البيّنة أنّ الأغذية المعدلة وراثياً أنقذت البشر من مجاعة مهلكة. من الأفضل دوماً أن نؤكّد الحقيقة المركزية ولا نتغافل عنها بالتركيز على موضوعات جانبية سلبية مقترنة بكلّ فعالية بشرية. هكذا هي بعض حقائق الحياة التي نعيش. من هذه الموضوعات السلبية - مثلاً - أنّ الأغذية المعدّلة وراثياً قد تتسبب ببعض العلل وأنواع من السرطانات عقب عشرين سنة من تناولها المفرط. لنفترض صحة هذا الرأي. كم هي نسبة الإصابة؟ يقولون إنها لن تتعدى الواحد بالألف. أتساءل: لو امتلكتَ مصباح علي بابا السحري وعرفتَ أنّ «فلاناً» من البشر سيصابُ بالسرطان بعد عشرين سنة، ولو خيّرتَه بين السرطان أو الموت جوعاً، أيهما تظنُّ سيختار؟ أظنّ أنّ موتاً بعد عشرين سنة بمعدة ممتلئة أفضل من موت آني بشع بمعدة جائعة. برغم هذا ثمة فائض من الرفاهية ما زلنا نمتلكها، إذ يمكن لمن يريد أن يتبضّع أغذية عضوية بتكاليف تبلغ في العادة أربعة أضعاف تكاليف الأغذية المعدلة وراثياً. هل بعد كلّ هذه الرفاهية في الخيارات المتاحة نتحسر على عصر كنّا نأكل فيه طعاماً عضوياً؟ إنها رومانتيكية فائضة من مخلفات العصر الرومانتيكي الذي رأى في الآلة تحطيماً لروح الإنسان، وتناسى أنّ الآلة (التقنيات بمعنى أعمّ) هي التي رفعته في مرتقيات أعلى مقاماً على المستويين المادي والرمزي. يبقى على المرء أن يصمّم مقاربته الشخصية لبلوغ حالة التوازن بين العام والخاص.

الحياة الشخصية منحة مباركة وهِبَةُ ثمينة يجب أن نعيشها ولا نفرّط بها تحت أي شعار إنساني أو آيديولوجي، أو تحت ضغط أثقال نفسية وعقلية رهيبة ناجمة عن التصارع بين متطلبات الفضاء الخاص واشتراطات الحياة في الفضاء العام.

لم أكنْ واعياً بوجود الشر لأنني لم أكنْ أغادرُ المنزل

أتمنّى ألا نكتفي بتحويل منخفضاتنا النفسية - المتوقّعة بين حين وآخر - مرتفعاتٍ تسعى للتخوم البعيدة. ما أتمنّاه هو فضّ اشتباك صارم بين الخاص والعام، وأن تستعيد أرواحنا وعقولنا المنهكة من فرط التفكير غير المنتج ألقها وتوهجها بعيداً عن مؤثرات الإجهاد والإنهاك. لن نكسب شيئاً لو خسرنا أنفسنا. سنخسر حينها أنفسنا ومن نحب وما نحب.

تبدو الرومانتيكية الفائضة خصيصة شخصية تستمدّ مغذياتها من نقص المعرفة والخبرة. عندما يصبح المرء تجسيداً للمثال البورخسي (بمعنى المثال الذي حكى عنه بورخيس) حيث المرء يفضّلُ الانكفاء على معرفته السابقة وخبرته القديمة فحينها تتفجر فيه ينابيع الرومانتيكية التي قد تدفع صاحبها للغرق، ومعها تغرق كلّ أحلامه وتطلعاته. لا أظنّ أنّ من الحكمة غضَّ الطرف عن «الشر الذي في العالم» والانكفاء في منزل لا نبارحه، ويطيب لنا فيه رسمُ صورٍ عن العالم كيفما نشاء.

الحياة ميدانُ تسوياتٍ مستديمة، وما لم ننجح في إدامة تلك التسويات بمزيج متوازن من الرغائب الشخصية والإحساس البراغماتي المتناغم مع معادلات الواقع - أو غير المتصادم معها بعنف في أقلّ تقدير- فسننتهي إلى النهاية المفجعة التي انتهى إليها «رومانتيكيو المشرق العربي» وأجاد حازم صاغية في وصف مآلاتها الحزينة.

***

لطفية الدليمي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 21 أغسطس 2024 م ـ 16 صفَر 1446 هـ

انطلاقاً من قراءتنا لنص ابن طفيل الفلسفي «حي بن يقظان»، وجدنا ابن طفيل يرصد أمام فعل التفلسف عائقين أساسيين يقفان دون التمكن لفعل التفلسف في المجتمع الإسلامي، سنقف في هذه المقالة عن العائق الأول والذي يمكن أن نسميه «العائق الملي -الفقهي»، يقول ابن طفيل عن هذا العائق: «والغرض الثاني من الغرضين اللذين قلنا إن سؤالك لن يتعدّى أحدهما، هو أن تبتغي التعريف بهذا الأمر على طريقة أهل النظر. وهذا، أكرمك ﷲ بولايته، شيء يحتمل أن يوضع في الكتب وتتصرف به العبارات، ولكنه أعدم من الكبريت الأحمر، ولاسيما في هذا الصقع الذي نحن فيه [يعني الأندلس]، لأنه من الغرابة في حدّ لا يظفر باليسير منه إلا الفرد بعد الفرد. ومن ظفر منه بشيء لم يكلم الناس به إلا رمزا، فإن الملة الحنفية والشرعة المحمدية قد منعت من الخوض فيه وحذرت عنه».

يكشف هذا النص عن وعي ابن طفيل بحدود الممارسة الفلسفية في المجتمع الإسلامي، وهي حدود تفرضها ملة الإسلام نفسها، وهي الملة التي تشكل قاعدة الوعي الديني وآصرة التماسك الاجتماعي عند المسلمين، وخاصة إذا تناولت هذه الممارسة الموضوعات «الملية» الحساسة، كموضوع المشاهدة، وغيرها من الموضوعات التي تُحرج ما تعوَّد عليه المسلمون في بادئ رأيهم المشهور عن الملّة، كما أكد ابن رشد من أن الكلام في علم الباري سبحانه بذاته مما يحرم أن يطرق في حال المناظرة فضلاً عن أن يثبت في كتاب، وعلل ذلك الموقف أن الخوض في هذه الدقائق يبطل العقيدة المقررة عند النّاس في القرآن الكريم، وله في كتاب «مناهج الأدلة» كلام قوي في هذا المجال.

لقد شعر فلاسفتنا أن هناك منطقة محرمة لا يجب أن يقتحمها فعل التفلسف، لما قد يترتب عن ذلك من أضرار فكرية ونفسية واجتماعية، وقد أبان ابن طفيل بأسلوبه السردي كيف يؤدي ذلك إلى نتائج سلبية، وذلك من خلال وصفه العلاقة المتوترة التي جمعت الفيلسوف «حي بن يقظان» بجمهور «سالامان»، فبمجرد ما شرع «حي» يصرح بحقائقه الفلسفية لجمهور سالامان إلا وقد تفرقوا عنه ونبوا، وأظهروا له العداوة والشقاق، بعد أن كانوا قد اثنوا عليه وأكرموه وأجلّوه، مما اضطرّه إلى مغادرتهم إلى جزيرته، رمزا لفصل الممارسة الفلسفية عن الممارسة الشرعية الجمهورية، ورمزا لما يعرف بـ«فشل الفيلسوف» كما أبان عنه ابن باجة في كتابه الفريد «تدبير المتوحد»، أيضاً.

لكن هل يعني هذا توقف فعل التفلسف؟

لقد عالج ابن طفيل فضوله المعرفي النظري الفلسفي، الذي هو فضول قوي وأساسي لتقدم المعرفة العلمية، وهو الفضول الذي لا يحظى عند الجمهور بكبير عناية، باللجوء إلى الرمز والإيماض وعياً منه من أن أهل الذّكاء والخُلَّص من أهل العلم سيفيدون من كلامه ويبنون عليه ما هو كفيل بتطوير الممارسة العلمية، التي لا تتقدم إلا بالتّراكم المعرفي، وتحقيقاً للكمال الإنساني الذي سيصبح مع ابن طفيل خلاصاً ذاتياً، وأصبح مع ابن باجة خلاصاً للمجتمع العلمي الحقيقي والافتراضي، وهو ما سيجسده العصر الحديث الذي جعل الخلاص خلاصاً علمياً جماعياً في المختبرات العلمية التي ينفصل فيها الباحث عن الجمهور، وينذر كل وقته للبحث العلمي في مجالات العلم المختلفة إنسانية كانت أم علوماً حقة، إسهاماً منه في تنوير مجتمعه ليفهم، مع الزمن وتغيّر البنية الذهنية، أنه بجرأة العلم والعقل فقط تُقتحم غياهب الجهل والتخلف، خاصة عندما تُرى إنتاجات عمله وتُقيَّمُ التقييم الصحيح.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 23 أغسطس 2024

 

عندما يُستخدم سلاحاً سياسياً فإن الأمور تصبح أكثر تعقيداً

ما العلاقة بين كامالا هاريس، وترمب، وبودلير؟ للوهلة الأولى لا شيء، فمرشحا الانتخابات الأميركية شخصيتان سياسيتان، أما بودلير فقد كرّس حياته للكتابة. لكنَّ الشاعر الفرنسي دخل بصفة غير مباشرة الحملة الانتخابية الأميركية، واستطاع أن يفسر لنا بنظريته حول الضحك وباستنتاج منطقي حجم الخطأ الذي ارتكبه ترمب وفريقه حين اختاروا استراتيجية الهجوم على كامالا هاريس مستخدمين سلاح «الضحك».

كامالا هاريس

الباحثة وأستاذة الأدب الفرنسي في جامعة «أكزيتر» البريطانية ماريا سكوت، شرحت في مقال بموقع «ثي كنفرسيشن» يحمل عنوان «الاستهزاء بضحكة كامالا هاريس استراتيجية غير مضمونة وفقاً لبودلير»، أنه كان من المفروض على المرشح الأميركي وفريقه أن يقرأوا أعمال الشاعر الفرنسي تشارلز بودلير، ولو فعلوا لما اختاروا «الضحك» للهجوم. صاحب ديوان «أزهار الشر» يشرح الفكرة في محاولة نثرية عنوانها «جوهر الضحك» نُشرت عام 1855، يميز فيها بين الضحك الذي يهدف إلى السخرية والازدراء من أشخاص نعتقد أننا متفوقون عليهم (ضحك ترمب) والضحك الهزلي البريء الذي يؤدي إلى نشر روح البهجة والتعاطف (ضحك هاريس)، وقد شرح ذلك عبر مفهومَي «المُضحك العادي le comique ordinaire» و«المُضحك الهزلي le comique grotesque»، إذ كتب كأنه يصف شيئاً رآه: «رجل ممدَّد في الشارع، يتعثر على مدرج الطريق ويتسبب في سقوط تاجه. وعلى مرأى هذا الرجل الملقى في الشارع، يبدأ الآخرون في الضحك». يستنتج بودلير أن الضحك هنا شّر وأنه تصرُّف شيطاني وعلامة على الخطيئة الأصلية حتى إنه كتب «الرجل الحكيم لا يضحك إلا وهو يرتجف».

ويواصل الشاعر موضحاً أن الحكماء يخافون من الضحك لأنهم يشعرون بوجود «تناقض سرِّي» بين الحكمة والضحك، وأن المجانين وحدهم هم من يضحكون، لأنهم لا يدركون ضعفهم ويظنون أنهم عظماء. وكان الضحك الذي يسميه بودلير «عادياً» قد نظّر له أيضاً الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز. وهو الضحك الذي يثيره مشهد تعثر شخص ما وسقوطه. وما يجعلنا نضحك، وفقاً لهوبز، هو الاعتراف بـ«تفوقنا» على الشخص الذي نراه يسقط. وقد تبنّى الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون أيضاً هذه النظرة إلى الضحك في كتابه «الضحك» (1990). فبالنسبة إلى برغسون، نحن نضحك على الآخرين عندما يتصرفون مثل الكائنات الميكانيكية، ونفعل ذلك كنوع من التنشئة الاجتماعية: لتشجيعهم على أن يكونوا أكثر إنسانية.

نظرية التفوق تفسر إذن لماذا نضحك على غباء الآخرين أو على المهرّجين، ومع ذلك، عندما يُستخدم الضحك سلاحاً سياسياً فإن الأمور تصبح أكثر تعقيداً، إذ يوجب علينا الأخذ بعين الاعتبار نقطتين أساسيتين: أولاهما العلاقة المركبة بين الفكاهة والتعاطف. فالروائي والكاتب المسرحي ستندال الذي قضى جزءاً من حياته محاولاً كتابة الكوميديا، كان يجد صعوبة في كتابة شخصيات فكاهية لأنها، كما كان يقول، تثير التعاطف وتمنع عموماً مشاعر الازدراء. وهنا المفارقة: فالفكاهة تخلق روابط من التعاطف بين الأشخاص الذين يتشاركون النكتة ويضحكون بينهم لكنّ الأشخاص أنفسهم لا يشعرون بأي تعاطف مع موضوع النكتة. ولكن ماذا يحدث لو أن الشخص موضوع النكتة يضحك بنفسه أيضاً كما هو الحال مع السيدة كامالا هاريس؟ في هذه الحالة قد يحّل التعاطف مع الشخص الضاحك محل الازدراء. وبعبارة أخرى، ترمب يريدنا أن نضحك على كامالا هاريس بغرض الاستهزاء بها ولكن ما يحدث هو أننا نضحك معها بدلاً من الضحك عليها. وهو ما يشرحه بودلير في «جوهر الضحك» حين يكتب: «الممثل الذي يقع على خشبة المسرح هو أول من يضحك، ضحكة بريئة متفوقة، فهو قادر على أن يكون نفسه وشخصاً آخر في أن واحد، هو مدرك لوضعه لكنه لا يخشى أن يصبح مثيراً للضحك: يسقط الرجل في الشارع، فيستقيم وينفجر ضاحكاً، إنه رجل حكيم ساخر...».

تكتب الباحثة ماريا سكوت في موقع «ثي كنفرسيشن»: أليست كامالا هاريس هي هذا «المُضحك الهزلي» الذي يتحدث عنه بودلير؟ تضحك مع الآخرين، لا عليهم، كما يفعل ترمب. صحيفة «سلات» أكدت الفكرة في مقال بعنوان «القصّة وراء نكتة شجرة جوز الهند لكامالا هاريس» جاء فيه ما يلي: «كيف أصبحت نكتة شجرة جوز الهند you think you just fell out of coconut tree متداولة بكثرة في شبكات التواصل؟ لا أحد يعلم فعلاً، لكنَّ الطريقة (شبه المُحرجة) التي تروي بها القصّة والضحكة المدوية التي تختمها بها قد جلبت لها بالتأكيد التعاطف ومزيداً من الأنصار. خصومها حاولوا استغلال القصّة للاستهزاء بها، لكنَّ السخرية الذاتية التي اعتمدها أنصارها قلبت السحر على الساحر»... وإذا كنا نستطيع الضحك مع الآخرين وليس الضحك عليهم فهذا يقودنا إلى النقطة الثانية التي تنتج عن استعمال الضحك سلاحاً سياسياً وهي قوة «الفرحة»، هذه العبارة المتداولة بقوة في التعليقات السياسية والرسائل التي ترد بخصوص ضحك كامالا هاريس، حتى أصبحت بمثابة العمود الفقري لحملتها خلال الأيام الماضية. وإن لم تكن نظرية بودلير حول الضحك كافية، فإن مراقبين كثراً قد لاحظوا أيضاً أن وضع الضحك في قلب الحملة الانتخابية بين رجل وامرأة يحمل في طياته مشاعر الازدراء وكره النساء والغرض منه التمييز بين ضحك الرجال «الجيد»، الذي يفترض أنه محترم، وضحك النساء «السيئ»، غير اللائق وغير المحترم. شخصيات أدبية كثيرة تطرَّقت إلى هذا التمييز، وهو ما شرحته الباحثة المختصة في تاريخ الأدب سابين ملشيور بوني في كتابها «النساء والضحك» (دار نشر بوف) حين قالت إن «الضحك والقدرة على الإضحاك ظلَّا لفترة طويلة حكراً على الرجال، بل إن ضحك المرأة قد يبدو خطيراً وعلامة من علامات الوقاحة، وناقلاً للجنون والهستيريا». المرأة التي تضحك كثيراً هي إذن امرأة «مجنونة»، وقد يكون هذا ما حاول ترمب إقناعنا به حين صرّح في تجمع ميشيغان في العشرين من شهر يوليو (تموز)، حين قال: «أنا أسميها كامالا الضاحكة، هل شاهدتموها وهي تضحك؟ إنها مجنونة. تعلمون أننا نستطيع معرفة الكثير من الضحكة. لا، إنها مجنونة. بالتأكيد إنها مجنونة». هذا المنطق الكاره للنساء حاربه كثير من الشخصيات الأدبية. فمارغريت دوراس، مثلاً، تحدَّت السلطة الذكورية في كثير من أعمالها مستعملةً الضحك والسخرية. ورأت فرجينيا وولف، رغم المآسي التي مرَّت بها، فعل الضحك خاصّية «تحريرية» وقد تحدثت عن ذلك في مقال رائع نشرته في صحيفة «الغارديان» عام 1905 بعنوان «قيمة الضحك» تقول فيه إن الضحك يفتح أعيننا لأنه «يرينا الكائنات كما هي، مجردة من زخارف الثروة والمرتبة الاجتماعية والتعليم».

***

باريس: أنيسة مخالدي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 19 أغسطس 2024 م ـ 14 صفَر 1446 هـ

(الفلسفة كفاح ضد سحر اللغة لذكائنا)

لودفيك فيدجنشتين

***

مقدمة

مجموعة أسئلة تطرح نفسها عند محاولة فهم أطروحة طه عبد الرحمن، ولعل أهمها هل فلسفته فعلا أصيلة ومبتكرة كما يحاول أن يقنعنا بذلك، هو وكل المتحمسين له ومعه؟ وهو سؤال تتفرع عنه أسئلة من قبيل أين تتجلى أصالته إن اتفقنا على وجودها؟ هل في قطيعته مع التراث؟ أم مع الفلسفة الغربية؟ وهل تجاوز المدرسية التي ينعت بها الآخرين؟ أم إن الأمر لا يعدو أن يكون طموحا أو حتى ادعاء يغطي بما فكر فيه من قبل بكلمات تبدو مبتكرة لتدل على أفكار غير ذلك؟ وما هو السرّ المعلن والمضمر خلف ذلك الادعاء والمنحى؟

هذا ما سنحاول توضيحه في هذه العجالة التفكيكية التي لن تهتم إلا بالمحاضرة على أساس البحث في المزالق المنهجية والمتناقض المنطقي والفكري.

وحتى لا نسقط في الارتجال والنقد العفوي، نطرح أوليات غير مغلقة نعتبرها تقود تفكيرنا بالمنهج الحذر وليس بوصفها معيارا نهائيا يرجع إليه خوفا من الضلال.

الأولية الأولى: الفلسفة فلسفة وكفى، وهي ليست بحاجة أن يكون لها دين، أو حتى ثقافة دينية أو وطنا دينيا؛

الأولية الثانية: يمكن التفكير في الدين وبالدين ودون الحاجة إلى فلسفة.

الأولية الثالثة: يجب الفصل المنهجي بين الفلسفة والدين، دون إلغاء مطلق للتماس، مع إمكانية أن يفكر الدين في الفلسفة كدين، وأن تفكر الفلسفة في الدين كفلسفة.

الأولية الرابعة: الفلسفة دوما بصيغة الجمع، والقول عنها وفيها يستوجب التعيين ويستحسن أن يكون معلنا؛

الأولية الخامسة: الفلسفة أصيلة بماهيتها ولا تحتاج إلى تأصيل خارجها؛

الأولية السادسة: اللغة رغم أهميتها فهي ليست الفكر؛

الأولية السابعة: التفكير أوسع من المنطق...

عنوان المحاضرة: كيف ننشئ فلسفة إسلامية أصيلة؟ البحث في الكيف يدل على تمهيد الطريق ووضع معالم لها لمن يريد المسير، بلغة علوم المعرفة هو بحث في المنهج، وهو هنا يروم الإنشاء وربما البناء من الصفر للفيلسوف، لكن باتباع خطوات ربانية حددها قبل ذلك النبي، وهي فكرة تذكرنا بالفارابي في كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة التي يجب أن يحكمها نبي أو فيلسوف، دون أن يذكر صاحب المحاضرة أيًّا من الفلاسفة التراثيين الكبار سواء الفارابي، على الأقل بالنسبة إلى هذه الفكرة المحورية؛ أو ابن سينا؛ أو الغزالي في الانتقال من العقل إلى الحدس، والنور الذي يقذفه الله في القلوب، أو ابن رشد الذي يكاد يكون خطاطة عامة وصورية للمحاضرة كلها، رغم موقف طه عبد لرحمن السلبي من فيلسوف قرطبة.

عندما نفحص لفظ فيلسوف نجده بصيغة المفرد كأنه ليس هناك سوى فلسفة واحدة، وربما يقصد بها فلسفة واحدة تقادمت وهي الوضعية، في حين أن للفلسفة، وخاصة المعاصرة أكثر من تعريف وتعيين.

ماذا يعني طه بالإسلامي؟ هل نسبة إلى الثقافة الإسلامية وهو الأجدر؟ أم بالنسبة إلى الدين، وهو ما مال إليه بتسمية المسلم في المتن.

منذ العنوان نجد أن الأمر جد مرتبك، سواء في تحديد الموضوع في الكيف والمنهج أم بنعت الفيلسوف بصيغة المفرد، والإسلامي بدلالة الدين، ثم يضيف إلى كل ذلك لفظ الأصيل للدلالة على إمكانية أن يكون هناك فيلسوف مسلم غير أصيل، وهو يقصد هنا من تشبع بالفلسفة اليونانية والغربية حتى ولو كان مسلما، وهو يلمز إلى ابن رشد من القدماء، والذي يعتبره يونانيا بلغة عربية، والجابري وغيره من زملائه من المعاصرين.

أخيرا لو أزال الفيلسوف لفظ فلسفة من المحاضرة ليستقيم الخطاب على البحث في نهج النبوة الذي هو في الحقيقة التعريفية والعقدية لا حاجة له إلى الفلسفة، اللهم إذا كانت الفلسفة تعني نوعا من ترتيب الكلام بأبواب ومقدمات تنتج عنها نتائج طوطولوجية تقترب من التمارين اللغوية والمنطقية الصورية، وليس من التفكير والبحث عن الحقيقة.

الغايات من المحاضرة:

الغاية الأولى:

-  يفصح الفيلسوف طه عبد الرحمن ومنذ بداية كلامه على أن الغاية من مبادرته هي الدلالة على "بعض المعالم الأساسية التي يمكن أن يهتدي بها الفيلسوف المسلم" وليس الإسلامي عكس ما في العنوان، لكنه يستطرد قائلا بكونه يتوخى وضعها؛ أي الفلسفة هذه، ضمن التداول الإسلامي، وهو التعيين الذي يشبه الثقافة الإسلامية وليس الدين الإسلامي. هذا التردد بين الثقافة والدين له مدلوله المنهجي والنفسي الذي يتجلى في عدم القدرة على التضحية بالمكونات الشخصية للمسار الفلسفي المنطقي من جهة وتصوره الخاص للعقيدة من جهة ثانية، وهي ازدواجية جد ملازمة لفكره.

الغاية الثانية:

-  أنس المتلقي المسلم، وهو يقصد هنا حتى غير الفيلسوف، وبلغته، حتى لا "يستوحش الفلسفة"، والتي تأتي من هناك الغربي مضمرا. يتعلق الأمر إذن بغاية بيداغوجية أو حتى دعوية في إطار الدفاع وليس محاولة الفهم والتحليل. هي دعوة إلى فلسفة تريد البقاء في الألفة ومنطقة الأمان بعيدًا عن الدهشة والتساؤل والنقد، وهي الوظائف والخاصيات المحايثة للتفلسف، وقد انتبه هو نفسه عندما اعتبر مقالته فقه الفلسفة وليس فلسفة.

الغاية الثالثة:

-  وضع أصول في "فقه الفلسفة"، وهي غاية تبدو دقيقة لكنها تتعارض مع العنوان، والذي كان ينبغي أن يتحول بذلك إلى "كيف ننشئ فقه فلسفة إسلامية أصيلة". أو منهج تفلسف المسلم، وليس الإسلامي.

بعد طرحه للغايات يصل إلى وضع الأصول، فيضطر إلى تحديد تصوره للتصور الفلسفي السائد في العالم، ويحصره في تصورين، العلمي والمعرفي، وهو الحصر الذي سيقود إلى انزلاقات عديدة؛ لأنه يقصي تصورا ثالثا هو التصور الفلسفي نفسه، تصورها لنفسها، وبذلك يقصي مباحث جوهرية وفعالة في الفلسفة عامة والمعاصرة خاصة تضع العلم والمعرفة نفسهما موضع تحليل فلسفي.

عندما يصف الفلسفة بالحكمة لا يجانب الصواب، لكنه سرعان ما يلتفت لحركة واحدة فحسب للفلسفة كحكمة تبحث عن الحقيقة وهي التطورية، غافلا عن الانتشار؛ والركود؛ أو حتى العودة إلى الينابيع الأولى للتفلسف وفق كون الفلسفة لا تاريخ لها كما ينعتها ميشال فوكو.

اعتماده التطورية أوصلته في تصوره إلى محطة نهائية واحدة للفلسفة، وهي البحث عن الحقيقة المستمدة من الواقع وتبعيتها للعلم، وبذلك يغفل عن غنى الفلسفة وكيف أنها تشتغل في الواقعي وغير الواقعي والذي تنتقده أحيانا، وتتخيل بدائل له وأوضاع أخرى أفضل للإنسان كما في الفلسفات السياسية والحقوقية والبيئية، وحتى العلمية.

وكما أوقف قطار الفلسفة عند محطة واحدة هي محطة الانكباب على فهم الواقع وربط الأمر بالعلم "وتحصيل القوانين الموضوعية"، وهو مزلق كان سيتفاداه لو استنجد بعلوم المعرفة والمنهج والابستمولوجيا ليصل إلى تعاريف عديدة للعلم وليس إلى تعريف واحد. واعتماده "العلم الموضوعي" نقص في تعريف الموضوعية نظرا لكون مياه كثيرة جرت تحت قنطرة العلوم سواء النظرية أو الطبيعية أو الإنسانية.

بعد ذلك يحكم على هذا التصور الذي أسماه علميا للفلسفة برياضة لغوية عزيزة عليه بمبادئ تصنيفية تبتسر الواقع والفكر والحقيقة.

ثم يعود ليخضع "الحكمة" للتصور الذي يضيق، حتى يرسو عند القيمة "المستمدة من الذات"، وهذا في رأيه التصور المعرفي للفلسفة بعدما ناقش ما أسماه بالتصور العلمي للفلسفة، وهو اختلاف بين التصورين لا يفسره.

ويخلص الفيلسوف طه عبد الرحمن إلى أن الفيلسوف المسلم يحتاج إلى أن يستشكل بناء على منظور أمته، هكذا، من أجل بيان الطريق الذي يخرج الإنسان المعاصر من "تسفله" مع كون الخلاص لكافة الناس يجب أن يأتي من الأمة المسلمة.

في الأصل الثاني يفرض على الفيلسوف المسلم أن يقرر إرجاع "تسفل الإنسان" إلى "تسييب العلم" و"تجريد المعرفة" وإرجاع التسييب إلى استقلال العلم عن الفلسفة، ليصبح خاضعا "للحسابية" و"الإنتاجية" و"المردودية" و"الفعالية"، وهو تصور مختزل للعلم؛ لأنه ليس كل علم حسابي، كما أنه ليس كله إنتاجيا، هو كأستاذ باحث يعرف أن هناك البحث الأساسي الذي لا يهتم في أن يطبق أو لا، ولا في أن ينتج أولا.

يجب على العلم أن يخضع للحكمة بعدا عن التسييب والاستمتاع، وهو في مظهره نقد رصين لكن في مضمونه، وحتى في لغته يقترب كثيرا من حجاج الحس المشترك وأقاويل المشتغلين في الدفاع عن العقيدة الإسلامية من أمثال أصحاب الاعجاز وغيرهم.

في الفصل الثالث يفرض أيضا "ينبغي" على الفيلسوف المسلم أن يشتغل في كيفية دفع آفتي التسييب والتجريد لتطال عموم الانسان خارج مجاله التداولي مبررا ذلك بدفع التسييب التقني والتجرد القيمي أولا، وثانيا من أجل التوجه نحو الكونية كهوية للفلسفة. أما الثالث، فهو ديني يتجلى في كون الدعوة الإسلامية كونية. ثم يستنتج لزوما كون الأصالة لا تعني الانغلاق على الذات تراثيا بل هناك ضرورة الانفتاح الواعي، ليخلص إلى الكونية في آخر المطاف حسب تعبيره، إنما هي الارتقاء بالخصوصية التداولية حتى تنفتح عن خصوصيات أخرى للعالم، وهو كلام يبدو سليما وربما فهم فيه نوع من التسامح وقبول الاختلاف، وهي المفاهيم الغائبة كلية في المتن، وما أن تفحص عن قرب تصبح متهافتة؛ لأن الخصوصيات المعتمدة لديه دينية، بينما الخصوصيات الكونية تشمل الديني وغيره، لنعود مرة أخرى إلى نقطة الانطلاق كدعوة إلى نشر القيم الخصوصية للأمة على الكون.

مزالق تجاوز المنهجية العلمية:

-  عدم التعريف الدقيق والشمولي لمفاهيم كبرى وحاسمة في بناء الأطروحة مثل الفلسفة؛ والإسلام؛ والمعرفة؛ والعلم؛ والحقيقة، وهو الأمر الذي لو تم لمنع الأطروحة من كثير من التهافت.

- لم يحدد ماذا يقصده بالفلسفة؟ أو بصيغة أدق أي فلسفة؟ حيث تكلم عنها بصيغة المفرد الذي يشبه تعريف الحس المشترك لها أو التعريف الديني المتورط. كما أنه لم يتحدث عن أي إسلام يتحدث، هل هو إسلام الفقهاء والشريعة؟ أم إسلام علماء الكلام؟ أم الفلاسفة؟ أم عموم المسلمين؟ رغم انتصاره كما يقرأ داخل السطور للإسلام الصوفي، والذي هو في عمقه اسلام الفردانية والحدس واقتياد الجماهير بالوجدان والعاطفة.

-  المعيارية...

-  التطورية؛ قوله بالأطوار، كل طور يكون أكثر تضييقا لمدلول الحقية والفلسفة والمعرفة ليس دوما صحيحا، فقد تتوسع المعارف والعلوم وتتوسع الفلسفة بتوسعهما وكذلك مدلول الحقيقة.

-  الحقيقة في الفلسفة المعاصرة لا تستمد من الواقع فحسب، بل ومن النظر وحتى الخيال وما ينبغي أن يكون سياسيا وأخلاقيا.

شغف المحاضر بالتصنيف والتنضيد ووضع الأفكار في الخانات يجبره على الاختزال، حيث يحصر الإدراك في "الاقتناص" الذي غايته "الامتلاك العقلي"، في حين أن الإدراك أعقد لو اطلع على على الفينومينولوجيا كفاية؛ أو على علوم المعرفة لأدرك أن العمليات الذهنية الصرفة لا وجود لها، فهي مرتبطة، بالتحفيز والملهم والماضي من التجارب، ثم يربط الإدراك أيضا بالاستعمال وبذلك يقضي على التحديد الأول للفلسفة، والذي هو البحث في الحقيقة بما هي حقيقة، وليس بما هي استعمال، ثم يقترح "الإتمان" كنقيض للامتلاك، وهي عودة إلى المعتقد الذي لا يؤمن به كل الناس وكل الفلاسفة.

من مزالق هذا المتن أيضا حكمه في الأصل الخامس على كون "الصورة العلمية للفلسفة" تخرج الفلسفة من أصلها، وهو تهافت يرجع لعدم التعريف الدقيق للعلم كما سبق ووضحنا وربطه تضييقا بالآلة وبالوقائع، وهي ليست سوى أجزاء لتطبيقات العلم فحسب.

في الفصل السادس ينزلق الفكر المنفعل نحو نوع من فورة الحس المشترك في الحديث عن المراتب والسعات للأنشطة المعرفية حين يضع الحكمة تسع العلم وتعلو عليه، ولا يستطيع أن يتصور عكس علوم المعرفة اشتغالهما سوية وتظافرا، وأن الاجتماعي هو من يمكن أن يفصل بينها.

في الأصل الثامن يرفض التشبه الإلهي الذي يرى بأنه أسلوب فلسفي ويفضل عليه الاقتداء بالنبي، سواء في المنهج العقلي أو المسلك الخلقي منوّهًا بالصدق الذي عرف به كأسمى القيم العقلية نحو توحيد الربوبية والاتصال بالأفق الإلهي. الصدق يوصل إلى التوحيد والأمانة إلى العدل.

أخيرا يختم طه عبد الرحمن محاضرته بالدعوة الصريحة للحكمة والتخلي الصريح عن العلم، ودفع "التسفل" الذي يسببه "التسييب التقني" و"التسييب القيمي"، ويقترح علاج تهذيب العلم وتسديد المعرفة نحو رتبة "الصديقية" عودة إلى الفطرة التي جاء الدين على وفقها.

وعند الاقتراب من هذه النفحة الدينية نجده رغم ادعائه الاقتداء بالنبي يخرج عن المنطق الديني كما خرج عن المنطقي الفلسفي والعلمي. النبوة وحي ينزل من السماء وليس يصعد من صفات النبي.

خلاصة

هل جاء طه عبد الرحمن بمنهج أصيل يفيد الاستقلال الفلسفي؟

إن تجنب طه عبد الرحمن للمنهج العلمي موقف لا معرفي ولا تاريخي ولا أخلاقي، فهو نوع من المغامرة الفردانية التي تحاول أن تسبح في الفراغ، حيث المزالق والتهافت. إنه تجنب غير علمي وغير معرفي وغير فلسفي، إنما هو تجنب انفعالي، وبذلك يمكن للعمل برمته أن يعود إلى الحس المشترك ليس كفطرة وإنما كفورة.

ومع مثل هذه المشاريع الدعوية، لا نبرح المكان منذ السؤال لماذا تقدموا ولماذا تخلفنا؛ لأنه ببساطة لم نتجاوز منطق الدعوة والانفعال نحو الفعل المثمر المتواضع الذي يعرف. إنه ممكن أن يخطئ في أي حين وأن يصحح، حتى يمتلك ناصية الأفكار والوقائع بفهم منطقها ومحاولة تدبيره بالملاءمة.

***

بن محمد قسطاني - أستاذ التعليم العالي -المغرب

 عن موقع مؤمنون بلا حدود، يوم: 19 أغسطس 2024

قبل عشرين سنة رحل الفيلسوف والأديب التونسي محمود المسعدي الذي كان نموذجاً فريداً في الساحة الثقافية والفكرية العربية من حيث منحى النظر ونوعية الكتابة وطبيعة أسلوب التعبير.

عندما أصدر مسرحيته الشهيرة «السد» في نهاية الخمسينيات، احتفى بها طه حسين، واعتبرها فتحاً جديداً في العمل الإبداعي العربي من حيث اللغة التراثية الرصينة، والأفكار الفلسفية العميقة التي تندرج في نطاق الموجة الوجودية المسيطرة وقتها، إلى حد التقارب مع رائعة البير كومو «أسطورة سيزيف».

وعندما نشر روايته «حدث أبو هريرة قال» في بداية السبعينيات بعد عقود من ضياع هذا النص الفريد، كانت شكلاً متميزاً من الكتابة الإبداعية، غلب عليها العمق الفلسفي، من حيث معالجتها لمواقف الإنسان الوجودية المتقلبة ما بين تجارب الجسد والسياسة والدين.

لم يكن المسعدي بدعاً من الأدباء العرب الذين اشتغلوا بالتأمل الفلسفي، وفي مقدمة هؤلاء الشاعر والكاتب اللبناني جبران خليل جبران الذي أصدر كتاب «النبي» سنة 1923 على غرار رائعة الفيلسوف الألماني نيتشه «هكذا تكلم زرادشت».

ومع أن العديد من كتاب الرواية والشعر سلكوا مسلك التأمل الفلسفي، ومن بينهم عميد الرواية العربية نجيب محفوظ، وشاعر القضية الفلسطينية محمود درويش، إلا أن الكتابات الأدبية الفلسفية ظلت محدودة نادرة في الساحة العربية.

لا بد من التنبيه هنا أن الأدب شكل منذ فجر التفكير الفلسفي طريقة أساسية من طرق هذا التفكير، بدءاً من قصيد برمنيدس الذي يحمل عنوان «في الطبيعة»، ومحاورات أفلاطون الشعرية. ومع أن أفلاطون نفى الشعراء من جمهوريته، واعتبر الشعر نمطاً من التعبير الخرافي المناهض للعقل والبرهان، إلا أنه وظف الاستعارة والأسطورة والمجاز الأدبي في بلورة ونشر أفكاره الفلسفية.وفي التقليد الإسلامي، بلغ الأدب الفلسفي مكانة عالية على يد فلاسفة معروفين، أمثال ابن سينا وابن طفيل، ولدى أدباء متفلسفين من نوع أبي حيان التوحيدي والجاحظ، بالإضافة إلى الأدبيات الصوفية العرفانية والتي جمعت بين النظر الفلسفي والمجاز التعبيري الأدبي.

ومع بداية عصور الحداثة، أصبحت الرياضيات الصورية نموذج الكتابة الفلسفية، بما نلمسه بوضوح في كتابات ديكارت وسبينوزا ولايبنتز، إلا أن حقبة الأنوار الموالية شهدت طغيان الرواية الفلسفية التي ظهرت بقوة لدى فولتير وروسو ومونتسكيو.

لقد اعتبر فلاسفة الأنوار أن الجمهور العريض غير قادر على استيعاب الأفكار الفلسفية المجردة، ومن ثم ضرورة تقريبها للعموم من خلال العمل السردي والأسلوب الأدبي واسع التأثير.

وفي نهاية القرن التاسع عشر، برزت كتابات الفيلسوف الألماني نيتشه التي غيرت مجرى التفكير الفلسفي، بنقده الجينالوجي ومنهجه التفكيكي الجذري ونزعته التهكمية الراديكالية. وبقدر ما كان نيتشه فيلسوفاً كبيراً، كان في الوقت نفسه شاعراً متميزاً، جميل الأسلوب، حلو العبارة.مع نيتشه رجعت الفلسفة للشعر، إلى حد أن هايدغر اعتبر أن الشعر هو أسمى مستويات الفكر، وغالباً ما يتقدم على الكتابة الفلسفية نفسها في الكشف عن معنى الوجود. الشعر حسب عبارة هايدغر هو «المكان الذي تتجلى فيه الحقيقة الأصلية»، وهو الأفق المقدس الذي يرتاده الأديب ويعبر عنه. ومن هنا ندرك شغف هايدغر بشعراء من أمثال هولدرلين ورنيه شار، حيث اعتبرهم المصدر الأعمق للتفكير الفلسفي في إشكالاته الراهنة.

في الاتجاه نفسه، يقف بول ريكور عند تجربة السرد باعتباره أكثر من مجرد إبداع أدبي، بل هو نقل للزمن من بنبته الطبيعية وانغلاقه الوجودي إلى الكينونة الإنسانية الحية. السرد ليس تخيلاً خارج الواقع، بل هو إعادة بناء للمعنى والدلالة، وخلق لمعان مبتكرة، واستكشاف لعوالم معيشة قابلة للسكن والارتياد.

الملاحظة التي لا بد من التنبيه إليها هنا، هي أن جل المشتغلين بالفلسفة من العرب المحدثين، اعتمدوا العلم التجريبي والمنطق التحليلي نموذجاً للكتابة الفلسفية، بدلاً من الأدب الذي نظر إليه إجمالاً باعتباره شكلاً من التعبير البياني الذي لا مكان له في الخطاب الفلسفي.ومع أن عبد الرحمن بدوي بدأ إنتاجه الفلسفي الغزير بكتابه الأدبي الجميل عن «نيتشه»، واهتم كثيراً بالأدب والشعر، إلا أنه خلص إلى التمييز الهيغلي الشهير بين جمالية الأدب الاستعارية، وعقلانية المفهوم الفلسفي كطريق وحيد للوصول إلى الحقيقة المطلقة، في حين ميز محمد عابد الجابري بصرامة بين العقل البياني «الأدبي» والعقل البرهاني «الفلسفي».

السؤال الذي نختم به هو: ماذا لو كان طريق الإبداع الفلسفي العربي يتم ضرورة عن طريق الشعر والأدب كما كان يري محمود المسعدي، لا عن طريق العلم والبرهان المنطقي كما اعتقد آخرون؟

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 18 أغسطس 2024 23:59

في المثقف اليوم