اخترنا لكم

يعد الميل للفردانية والاكتفاء بالذات من أخطر من التطورات التي يعيشها البشر في حقبة ما بعد الحداثة. فقيمة الأسرة تتراجع بشكل كبير مقارنة بالحُقب الماضية حين كان الأفراد يعيشون في منظومات تكافلية تحتّم عليهم المشاركة في توفير ضروريات حياة أفراد المجموعة. فمرحلتا ما قبل الحداثة والحداثة اتسمتا بوضوح تقسيم العمل بين أفراد الأسرة، مما يجعل الطفل والمراهق يؤمنان بحتمية الزواج (أو أشكال المشاركة الأخرى) حيث ثمة احتياجات لا تتم تلبيتها إلا من خلال إيجاد الشريك الذي يبني مع الشخص منظومة مشابهة لتلك التي تخرّج فيها، أي الأسرة.

إذا كانت فترة ما قبل الصناعية (التي رافقتها ما قبل الحداثة) قد اتسمت بالتعامل المباشر مع الطبيعة للحصول على أساسيات الحياة، فإن مرحلة الثورة الصناعية (التي رافقتها الحداثة) قد أعطت للعلاقات البشرية بُعداً آخر يتناغم مع تعقيد تعامل البشر مع الطبيعة من خلال «التصنيع». لقد لعبت الصناعة دوراً في تغيير مسار الاقتصاد الكلي للدول مما فرض فكر الحداثة على المجتمعات. ومن أبرز تلك الآثار تقلّص الحاجة للمنظومة الكبرى (أي الأسرة الممتدة) والاكتفاء بالدائرة الصغرى، حيث يتقاسم الشريكان المسؤوليات المادية والأعباء المنزلية على أساس تناسب المشاركة المادية مع المشاركة المنزلية.

بالوصول لمرحلة ما بعد الصناعية التي واكبتها ما بعد الحداثة، تم التحول من سوق الإنتاج إلى سوق الخدمات. ولتسهيل ذلك تم التوسع في تقديم الخدمات التي كانت يوماً ما جزءاً من التكافل الأسري. لم تعد هناك حاجة ملحة للطبخ وغسل الملابس أو تنظيف المنازل، فكل تلك أمور يمكن توفيرها من خلال مزودي الخدمات. وعليه، وجب على كل فرد أن يقوم بالبحث عن مصدر دخل خاص يجعله قادراً على الحصول على تلك الخدمات بشكل فردي. كل ذلك يصب في صالح الاقتصاد الرأسمالي القائم على ثنائية العمل الدؤوب والاستهلاكية. فالفرد يعمل بشكل دؤوب من أجل كسب المال الذي سينفقه لاحقاً على استهلاك البضائع والخدمات؛ وكلّما ارتفع الدخل توسّعت دائرة الاستهلاك التي تعيد أموال الدخل المرتفع إلى أصحاب رأس المال عن طريق الاستهلاك.

إن التطور في الاستغناء المادي عن الأسرة سهّل عملية الاستغناء المعنوي. فالشعور بالحاجة لتكوين أسرة قد تغيّرت محفزاته بشكل جذري؛ فلا الرجل يبحث عن زوجة تقوم بأعمال المنزل، ولا المرأة تبحث عن زوج يرعى أمورها المادية. بالتالي، فقد تحول تفكير الناس إلى مميزات أخرى للشراكة الزوجية تقوم على نوعية جديدة من المطالب. أصبح الانسجام والتناغم في الرغبات (نوعية الطعام المفضل والموسيقى والأفلام) من الأمور الرئيسية في الشريك الذي لم يعد زوجاً أو زوجة تقليديين. يُضاف لذلك أن مسؤولية تربية الأطفال اختلفت من كونها عملية تنشئة اجتماعية تقوم على غرس العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية، إلى عملية البحث عن التعليم ذي الجودة العالية، والتدريب على هوايات يُرجى أن تعود بالنفع على الطفل سواء في الرياضة أو الفنون.

خلاصة القول: إنه بتوفير ضروريات الحياة عن طريق مزودي الخدمات، وبضرورة الخروج للعمل الدؤوب للجنسين، فإن الرجل والمرأة قد أُجبرا على رفع مستوى الاستحقاق في نوعية الشريك الذي سيعيش كل منهما معه. فهو وهي يريدان شخصاً يضيف لحياة الآخر شيئاً لا يوفره مزودو الخدمات. بالتالي، فإن صعوبة الاختيار تحتاج إلى حيلة نفسية تشرعن هذا النوع من الشعور بالاستحقاق المرتفع؛ وهنا يأتي شعور «الاكتفاء بالذات» عن الآخر.

عبارات مثل: «أنا سعيد بوحدتي ولا أريد أن يعكر عليّ أحد حياتي»، و«أنا أولى بنتاج جهدي وعملي»، و«لا أريد تحمل مسؤولية أحد» وغيرها من العبارات... ليست أكثر من عبارات تحفيزية تشرعن للفرد حالة الإحجام عن الانتقال من حالة الفرد إلى الأسرة. هذه الحالة تجعل من الشخص أسيراً لثنائية العمل والاستهلاك؛ فالعمل تحقيق للذات المُكتفى بها، والاستهلاك للسلع الباهظة عملية مكافأة لتلك الذات التي تستحق وحدها أن نعتني بها.

أخيراً، فإن الواقع يقول إن العجلة لن تعود للوراء، وإن الاقتصاد الرأسمالي يسير بخطى ثابتة نحو «ما بعد بعد الصناعية» التي من أبرز تجلياتها الذكاء الاصطناعي، وهذا ما سيستدعي بالضرورة الدخول في مرحلة «ما بعد بعد الحداثة» التي قد يحلّ فيها الذكاء الاصطناعي محل البشر في إيجاد رفيق على مزاج الفرد. وقتها، سيكون الاستهلاك قد وصل إلى الذروة في تقليص الأسرة، وربما يكون السبيل لتراجع عدد سكان الكوكب.

***

د. عبد الله فيصل آل ربح - أستاذ علم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية بجامعة غراند فال

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:

الثلاثاء - 12 ذو الحِجّة 1445 هـ - 18 يونيو 2024 م.

 

300 سنة على ولادة الفيلسوف الألماني الشهير

تحتفل ألمانيا هذا العام بمرور ثلاثمائة سنة على ولادة مفكرها الأعظم: كانط. ولكن هل هو أعظم من هيغل؟ كلاهما عظيم. وسوف تقام المعارض وتنظم الندوات والمؤتمرات والمحاضرات في شتى أنحاء البلاد بهذه المناسبة. على هذا النحو تحتفل الأمم المتحضرة بعباقرتها وتفتخر بهم. يقول الباحث ميكائيل فوسيل، أستاذ الفلسفة في إحدى الجامعات الفرنسية: «منظوراً إليه من فرنسا، فإن كانط هو الفيلسوف الأكبر للأنوار. لقد نوَّر أوروبا والجنس البشري كله عندما أسهم في انتصار العقل على النقل، والفلسفة المستنيرة على ظلمات الأصولية الدينية والعقلية الخرافية. ولا تزال أفكاره تهمنا حتى اللحظة: كالبحث عن السلام الدائم بين الأمم، وكبلورة قيم أخلاقية كونية تنطبق على جميع شعوب الأرض، وكالدفاع عن العقل والعقلانية دون تقديم أي تنازل للعصبيات المذهبية والهيجانات الطائفية».

كانط هو فيلسوف النقد بامتياز. كان يقول ما معناه: إن عصرنا هو عصر النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء بما فيها العقائد الدينية ذاتها وبخاصة عندما تتحول إلى طائفية مدمرة. لا شيء فوق النقد بمعنى التمييز والتمحيص والغربلة لا بمعنى الشتم والتجريح المجاني. هذه ليست شغلة كانط. كيف يمكن أن نفهم تراثنا المقدس من دون دراسة علمية تاريخية نقدية له، وفي الختام تقييم فلسفي؟ لهذا السبب ألَّف كانط في أواخر حياته كتابه: «الدين مفهوماً ضمن حدود العقل فقط». ولكن هذا الكتاب سبَّب له بعض المشكلات. فقد احمرَّت عليه الأعين بسبب آرائه الجريئة عن الأصولية المسيحية. ووشى به المتزمتون المتحجرون عند الإمبراطور فريدريك غيوم الثاني. معلوم أن كانط كان في أمان طيلة عهد عمه فريدريك الأكبر المدعو بالمستبد المستنير الذي كان يسمح بحرّية كبيرة في مجال نقد الانغلاقات الدينية ورجال الدين. وقد أهدى كتابه الشهير: «نقد العقل الخالص» إلى أحد وزرائه الكبار.

كان يشعر بحرِّية كاملة في التفكير والنشر والتعبير طيلة عهده. ولكن بعد موته خلفه على رأس السلطة ابن أخيه فريدريك غيوم الثاني الذي كان مستبداً ظلامياً مقرباً من الأوساط الأصولية البروتستانتية التي تملأ رحاب القصر. فهدده الإمبراطور وتوعده بعد أن سمع بآرائه الجريئة عن الدين. كان كانط يبلور تفسيراً عقلانياً للدين المسيحي. لم يكن ملحداً ولا كافراً بالقيم الإنجيلية العليا للدين. لم يكن ضد الدين كدين وإنما كان ضد الطائفية التي دمَّرت ألمانيا سابقاً. لهذا السبب اصطدم تفسيره الجديد للدين المسيحي بشكل مباشر بتفسير الأصوليين.

ولذا فالمعركة بين الطرفين كانت إجبارية ومحتومة. ولكن عندما شعر كانط بأن المقصلة قد اقتربت من رأسه تراجع قليلاً إلى الوراء بعد أن كان قد نشر بالمفرق جزءاً من كتابه الشهير. وقال للإمبراطور: «أعدكم يا جلالة الملك، كأحد رعاياكم المطيعين المخلصين، بألا أخوض في الشؤون الدينية بعد اليوم». بالطبع كانط كان يعرف في قرارة نفسه أنه سيكون في حِلٍّ من القرار إذا ما مات الملك قبله. وهذا ما حصل عام 1797 لحسن الحظ. وعندئذ أكمل الفيلسوف بحوثه المضيئة عن الدين ونور ألمانيا وكل أوروبا.

هنا نلمس لمس اليد الفرق بين المستبد المستنير والمستبد الظلامي. إنه فرق كبير جداً على عكس ما نتصور. المأمون كان مستبداً مستنيراً محبذاً للعلم والفلسفة والترجمة، على عكس المتوكل الذي جاء بعده وكان مستبداً ظلامياً يكره المعتزلة والفلاسفة ويضطهدهم. واليوم نتساءل: هل العالم العربي جاهز للديمقراطية؟ والجواب هو قطعاً: لا. العالم العربي بل الإسلامي كله بحاجة إلى مستبد مستنير وحكم رشيد، وبعدئذ تجيء الديمقراطية على مراحل تدريجية. كل شيء بوقته. بعد أن يستنير الشعب ويخرج من عباءة الأصوليين والإخوان المسلمين والخمينيين وبقية الظلاميين، عندئذ تصبح الديمقراطية تحصيل حاصل. لا ديمقراطية من دون فلسفة. لا ديمقراطية من دون استنارة فكرية تشمل شرائح واسعة من الشعب. هذا شيء مفروغ منه. وبالتالي كفانا شعارات ديماغوجية.

لكن لِنَعُد إلى كانط. ماذا فعل هذا الرجل؟ ماذا حقق؟ لقد حقق معجزة تقريباً. لقد أصدر عدة كتب متلاحقة غيَّرت خريطة الفكر البشري: نذكر من بينها: «نقد العقل الخالص» 1781، و«نقد العقل العملي» 1788، و«نقد ملكة الحكم أو التمييز» 1790، ثم توج كل ذلك بكتابه عن «الدين مفهوماً ضمن حدود العقل فقط» عام 1793، وأخيراً لا ينبغي أن ننسى كتابه: «لأجل السلام الدائم بين الأمم» 1795.

كانط سبق عصره بـ150 سنة على الأقل. مَن يعرف ذلك؟ كانط هو أستاذ الرئيس الأميركي الكبير وودرو ويلسون، صاحب المبادئ الشهيرة، وبخاصة حق الشعوب في تقرير مصيرها. كان رئيس أميركا يرى نفسه تلميذاً صغيراً من تلامذته. لم يكن يحلف إلا باسمه. لم يكن يهتدي بعد الله إلا بهديه. الفلاسفة الكبار ليسوا كمثقفي الدرجة الثانية أو الثالثة. الفلاسفة الكبار ليسوا أشباه مثقفين يركبون الموجات الأصولية والشعبوية الغوغائية.

الفلاسفة الكبار هم كالرادارات الكاشفة: منارات العصور. إنهم يسبقون عصرهم، إنهم يرهصون بالعصور القادمة. إنهم يفكرون إلى البعيد أو بعيد البعيد. باختصار شديد: إنهم يرون إلى أبعد من أنفهم! من بين هؤلاء إيمانويل كانط وأستاذه العزيز جداً على قلبه جان جاك روسو. وهو الشخص الوحيد الذي كان يضع صورته على مكتبه لكي يستأنس بها وهو يفكر ويكتب. العباقرة يعرف بعضهم بعضاً.

من المعلوم أن الأفكار الأخلاقية والفلسفية التي بلورها كانط في كتابه «لأجل السلام الدائم بين الأمم» هي التي ألهمت تأسيس عصبة الأمم أولاً، فالأمم المتحدة ثانياً؛ أي قبل قرن ونصف من تأسيسهما. وهذا أكبر دليل على مدى تأثير الفكر في الواقع. ثم يقولون لك بعد كل ذلك: ما معنى الفلسفة؟ ما معنى الثقافة؟ ما معنى المثقفين؟ معناهم عظيم إذا كانوا مثقفين حقيقيين من أمثال كانط، من وزن كانط، من حجم كانط. الأفكار هي التي تقود العالم. نقصد الأفكار الجديدة، الأفكار المتينة، الأفكار المضيئة التي تشق ظلمات العصور.

أخيراً...

يبدو أن كانط لم يعشق ولم يتزوج ولم يعرف أي امرأة في حياته. وهذا من عجائب الأمور. لقد تفرَّغ كلياً لقضية الفكر والفلسفة. وكفاه ذلك فخراً. ماذا كنا سنستفيد لو أنه أنجب عشرة أطفال؟ أمَا كان ذلك سيكون على حساب إبداع مؤلفاته الكبرى؟ أمَا كنا سنخسر كل هذه الكنوز والجواهر والإضاءات؟ نقول ذلك خصوصاً أن أولاد العباقرة نادراً أن يكونوا عباقرة. بل إنهم في معظم الأحيان يكونون أشخاصاً عاديين كبقية البشر، هذا إن لم يكونوا أقل من عاديين. ثم إنهم كانوا قد عاشوا وماتوا ولم يبقَ لهم من أثر. مَن يتذكر أبناء هيغل، أو ماركس، أو فرويد، أو تولستوي، إلخ؟ أما مؤلفاتهم العظمى فخالدة على الدهر. لا تزال كتب كانط تدرَّس في كل جامعات العالم. لا تزال تضيء لنا الطريق. أطفاله الحقيقيون هم كتبه ومؤلفاته. نقطة على السطر. ولكن للحقيقة والتاريخ يقال إنه عشق مرة إحداهن. ولكنه غطس بعدها مباشرةً في الحفر عن بعض نظرياته العويصة المعقدة. وما إن استفاق من غيبوبته الفلسفية وأراد العودة إليها حتى كانت المحروسة قد تزوجت وأنجبت الأطفال. ولكن يبدو أن السبب مادي. لعن الله الفقر. قال مرة للكثيرين الذين يُلحِّون عليه في السؤال ويُقلقونه: لماذا لم تتزوج يا أستاذ كانط؟ فأجابهم على النحو التالي لكي يتخلص من ملاحقاتهم: «عندما كنت راغباً في النساء كنت فقيراً ولا أستطيع الاضطلاع بتكاليف الحياة الزوجية. وعندما أصبحت قادراً على ذلك لم تعد لي رغبة في النساء».

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: نُشر: 16:28-16 يونيو 2024 م ـ 10 ذو الحِجّة 1445 هـ

في منتصف القرن الـ20 راجت بقوة «أحاديث النهايات»، مثل نهاية الفلسفة، ونهاية الجغرافيا، وصولاً إلى أطروحة فوكوياما عن «نهاية التاريخ». لم تكن أطروحة نهاية الفلسفة تعني انتهاء معناها، وإنما كانت تمهيداً لإعلان إعادة تشكّل الفلسفة بأنماطٍ جديدة وطرق فريدة.

أخذت الفلسفة خطوطاً أخرى في تدخلها وفضولها وتجسسها على المجالات الأخرى، وبفضلٍ من طفرات مفهومية فجّرتها البنيوية وما بعدها استطاعت أن تتدخّل في مجالات «أنثروبولوجية» متجاوزة التحديدات الميتافيزيقية التي كادت تحصر بها، ومنهية الموضات والصرعات التي طرأت مثل «الوضعية المنطقية». دخلت الفلسفة في «المطبخ - السينما - الأزياء - الموسيقى - الكليبات»، كان هذا التدخّل الصارخ بمثابة إعلان بدء حقبة جديدة من علاقة الفلسفة بالبشرية. لم تكن فكرة نهاية الفلسفة إلا إعلان بدئها... كسرت الفلسفة جُدُر التقليد، لتجعل من أطرافه شلالاً لها، لم تسلم من مدّها وجزرها الأرجاء.

كان من اللافت دخول الفلسفة على السينما بأسماء فلاسفة كبار...، وعلى رغم عمر السينما القصير، الذي لا يتجاوز 100 عام، ظلت بمنأى عن درس معناها وتمظهراتها وتمدداتها في مجالات التفكير والحياة. وإذا كانت الفلسفة لم تستوعب بعد بشكل عام هذا الفن بالشكل نفسه الذي استوعبت به الفنون الأخرى، كالموسيقى والفن التشكيلي، فإن الفلسفة الحديثة نشطت على مستويات متفاوتة في رصد هذا الفن واللحاق بآثاره درساً وتحليلاً، هذا مع سبق برغسون وجيل دلوز لميشيل فوكو في استيعاب هذا الفن المدهش، ووجود تحليلات سريعة من فاتيمو وجاك دريدا، لكنها لا تصل إلى عمق اشتغال الفرنسي جيل دلوز.

لم يكن الانشغال الفلسفي بالسينما ذا هدف «سينمائي»، وإنما جاء كعمل فلسفي داخل «المفاهيم»، فهو يعمل داخل الصورة التي تنتج مفاهيم جديدة، وهو صلب تنظير جيل دلوز الفلسفي، الذي اعتبر الفلسفة كلها «تشكلات المفاهيم»، كما اعتبر الفيلسوف «صديق المفاهيم»، وتلك المفاهيم التي تنتجها السينما لا توجد بشكل مباشر، وإنما «ينحتها الملاحظ»، إذ يستقل الفيلسوف عن العمل السينمائي ليصبح «شغّيلاً» داخل المفاهيم التي يستخلصها من شريط طويل من المشاهد والصور، ولهذا يقول جيل دلوز: «المفاهيم التي تلحق بخصوصية السينما هي من أمر الفلسفة».

في يونيو (حزيران) 2012، ترجَم إبراهيم العريس كتاب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، الذي عنونه بـ«نجوم السينما»، وفيه مراجعة لمعنى النجم السينمائي ولشرط صناعته، كما يشرح العوامل «السيكولوجية» و«السوسيولوجية» التي تحدد هذه العلاقة، وبذل العريس جهداً واضحاً في ترجمة هذا العمل الذي أصبح كلاسيكياً في هذا المجال، وحين يكتب الفيلسوف عن «النجم السينمائي» إنما يعبّر عن تحوّل دور الفلسفة من جهة، ويعبّر عن اكتساح تاريخي للسينما التي باتت غذاءً يومياً للبشرية.

الخلاصة؛ أننا مع كل حالٍ من الخراب يجترحها الإنسان تعود الأسئلة إلى فضاء الفلسفة بحثاً عن التعليل لكل هذا التوحش وإرادة التخريب. كان نيتشه حاضراً في حروبٍ خاضها بلده ورأى الدماء والأشلاء كما رأى القوة والبطش، من عمق ذلك الحدث صاغ نظريته في إرادة القوة وإدانة الضعف ومحاكمة الأديان المحرّضة على التسامح والصمت، لهذا نجده في كتابه «عدو المسيح» ينتقد المسيحية والبوذية بحدّة، بينما يمتدح الإسلام لما فيه من فضاءٍ للقوة ومن مدح القتال في مواضعه اللازمة. وحين نشبت الحرب الأهلية الإنجليزية، كتب توماس هوبز نظريته في الدولة التي بناها على أصالة الشر في الإنسان.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الخميس - 29 ذو القِعدة 1445 هـ - 6 يونيو 2024 م

 

لم ينجُ منها إلا قلة قليلة من المثقفين النقديين التنويريين الأحرار

اطَّلعتُ باستمتاع كبير على كتاب المفكر العراقي المعروف الدكتور عبد الجبار الرفاعي، بعنوان: «مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث»، وفيه يتحدث عن جملة من مشاهير الفكر العربي والإيراني، من أمثال: علي الوردي، وحسن حنفي، وداريوش شايغان، ومحمد عمارة، وجودت سعيد... إلخ. منذ البداية يعيب علينا المؤلف انشغال الفكر العربي كلياً بالفكر الغربي، وإهماله الفكر الشرقي في الهند واليابان والصين؛ بل وإهماله حتى الفكر الإيراني المعاصر والمجاور، ما عدا في الأربعين سنة الأخيرة. ولذلك يحاول سد النقص، والتحدث عن جملة من المفكرين العرب والإيرانيين على حد سواء.

ولكن الملاحظ هو أن حتى المثقفين الإيرانيين مهووسون بالفكر الغربي الأوروبي الأميركي، تماماً كما المثقفين العرب. والسبب هو أن الغرب سيطر على العالم طيلة القرون الأربعة الأخيرة، وبالتالي فجميع مثقفي الأمم الأخرى أصبحوا مضطرين للتموضع قياساً إلى الفكر الغربي غصباً عنهم. وهذا الكلام لا ينطبق على المثقفين العرب والإيرانيين فقط، وإنما ينطبق على جميع مثقفي العالم، من أتراك وروس وصينيين ويابانيين... إلخ. وذلك لأن الحداثة الغربية أصبحت ظاهرة كونية، وتشكل مرجعية كبرى لجميع مثقفي العالم. فمن لا يعرف ديكارت أو كانط أو هيغل أو نيتشه أو ماركس أو فرويد أو هيدغر، أو حتى هابرماس المعاصر لا يعد مثقفاً. هذه حقيقة ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار، إذا ما أردنا أن نفهم ما يجري حالياً؛ بل وحتى منذ مائتي سنة. وسوف يظل الأمر كذلك حتى يظهر فلاسفة كبار لدى الأمم الأخرى، في حجم من ذكرناهم من فلاسفة الغرب.

هل يوجد فيلسوف عربي أو إيراني أو تركي، أو حتى روسي أو صيني، في حجم ديكارت أو كانط أو هيغل... إلخ؟ هل يوجد هيغل تركي؟ أقصد مفكراً تركياً في حجم هيغل الألماني؟ هل يوجد كانط إيراني أو ديكارت عربي؟

على أي حال، الفصل الذي لفت اهتمامي في كتاب الدكتور عبد الجبار الرفاعي هو ذلك المخصص للدكتور حسن حنفي، وكذلك الفصل المخصص للدكتور محمد عمارة. فلنحاول أن ندخل في التفاصيل قليلاً هنا. الشيء الغريب العجيب في الدكتور حسن حنفي هو أنه كتب عدة مقالات جريئة جداً في نقد الأصولية الظلامية، بعد مقتل الرئيس أنور السادات. ولكنه في الوقت ذاته كثيراً ما أثنى على جماعة «الإخوان المسلمين»؛ بل وحتى على مفكرهم الراديكالي سيد قطب الذي يصفه بالإمام الشهيد! فكيف يستقيم ذلك؟ كيف يعقل هذا التناقض؟ من أخطر الأشياء لدى حسن حنفي هو الجمع بين المتناقضات؛ أي بين الشيء وعكسه، دون أن يشعر بأي مشكلة. وهذا ما عابه عليه أيضاً، وبقسوة، جورج طرابيشي.4042 مفارقات واضداد

يلخص الدكتور عبد الجبار الرفاعي رأيه في حسن حنفي قائلاً: «لا يكترث حنفي كثيراً بالوظيفة المحورية للدين في إثراء الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية، وتكريس صلة الإنسان الوجودية بالله. ولكنه يشدد باستمرار على ضرورة تحويل الدين إلى آيديولوجيا».

ثم يضيف قائلاً هذا الكلام المهم: «من يقرأ حسن حنفي يندهش من الحضور الطاغي لتأويله الآيديولوجي للدين، وإفراطه في تطبيق آيات القرآن الكريم والنصوص الدينية والتراث بمنطق آيديولوجي على الواقع».

ولكن كل حركات الإسلام السياسي -أو المسيس- قامت بأدلجة الدين والتراث. وهذا ما عابه الفيلسوف الإيراني داريوش شايغان على الخميني والثورة الخمينية. وبالتالي فليس غريباً أن يسقط حسن حنفي في الخطأ ذاته. نقول ذلك، وبخاصة أنه كان من جماعة «الإخوان المسلمين» في بداياته. ونحن نعرف مدى ارتباط الثورة الإسلامية الإيرانية بجماعة «الإخوان المسلمين» المصرية. فالمرشد علي خامنئي هو مترجم سيد قطب إلى الفارسية. وبعد اغتيال الرئيس السادات، أصدرت إيران طابعاً لتخليد خالد الإسلامبولي، وعليه صورته المرعبة. وبالتالي فأدلجة التراث ظاهرة ضخمة تشمل جميع أنحاء العالم الإسلامي، ولم ينجُ منها إلا قلة قليلة من المثقفين النقديين التنويريين الأحرار.

إنهم لا يقرأون التراث لكي يفهموه ضمن ظروفه وحيثياته ومشروطياته القديمة، كما يفعل محمد أركون مثلاً، وإنما يقرأونه لكي يسقطوا عليه هموم الحاضر وقضاياه، أو لكي يسقطوه عليها. إنهم يستغلونه آيديولوجياً لكي يخلعوا المشروعية الدينية القداسية على أحزابهم السياسية، ولكي ينسفوا مشروعية الأنظمة القائمة باعتبارها خارجة على الدين والشريعة في رأيهم. وبما أن جماهير الشعب متدينة جداً، وبما أنهم يعرفون ذلك، فإنهم برعوا في أدلجة الدين واستخدامه كسلاح فعال وفتاك لتحقيق مآربهم.

وهنا نلاحظ الشيء الغريب التالي، وهو أن حسن حنفي الذي قدَّم نفسه كمثقف حداثي تنويري، هو في الواقع من أشد المدافعين عن «الإخوان المسلمين». ولكن لا ينبغي أن نظلمه أكثر من اللزوم. فهو يبقى حداثياً وتنويرياً، والدليل على ذلك أنه يعترف صراحة أو ضمناً بأن رؤية «الإخوان» للعالم مغلقة أو منغلقة، ويعيب عليهم النزعة الحادة المتطرفة في تفكيرهم. ويستنكر تصنيفهم الخاطئ للمجتمع المسلم إلى إسلام وجاهلية. وهنا تكمن الخطيئة الكبرى لسيد قطب.

ولكن حسن حنفي -كما يقول عبد الجبار الرفاعي- سرعان ما يعود في كتابات عديدة إلى تبجيلهم، ويفتعل دوراً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً استثنائياً اضطلعوا به في مصر. فكيف يمكن أن نفسر كل هذه التناقضات؟ هل يريد الرجل أن يجمع بين الماء والنار في يد واحدة؟ هل يريد أن يرضي جميع الناس؟ أم هل يريد أن يثبت أنه حداثي وتراثي في الوقت ذاته؟ ربما كان هذا الحل الأخير هو الأمثل لتفسير شخصية حسن حنفي. فهو لا يستطيع أن يقدم نفسه كمثقف حداثي تنويري تخرَّج في «السوربون» إذا ما اكتفى بكونه من مداح «الإخوان المسلمين»، ولا يستطيع أن يرضي الشارع العربي الأصولي إلا إذا أثبت أنه «إخوان مسلمين»! هنا تكمن مشكلة حسن حنفي. ولذلك فإنه راح يلعب على الحبال. وفي نهاية المطاف خسر الدنيا والآخرة. فلا مثقفو الحداثة يعدونه جزءاً أصيلاً منهم، ولا مثقفو القدامة يعدونه متديناً فعلاً.

كان ينبغي على حسن حنفي أن يحسم أمره: إما من معسكر التنوير والتقدم، وإما من معسكر الرجعية والتأخر. ولكنه أراد أن يلعب على كل الحبال، ويربح على كل الجهات. ولكن هذه ليست مشكلته وحده، وإنما مشكلة كثير من المثقفين العرب، بمن فيهم المقيمون في عواصم الغرب الكبرى، كباريس ولندن وبروكسل وواشنطن... إلخ. هم أيضاً يخجلون من كونهم متعاطفين في أعماقهم مع التنظيمات الإخوانية الأصولية، ولذلك يحرصون كل الحرص على أن يظهروا بمظهر المثقفين الحداثيين العصريين.

الشيء ذاته يمكن أن يقال عن محمد عمارة، الذي خصص له عبد الجبار الرفاعي فصلاً كاملاً بعنوان موفق يلخص مسيرته كلها: «محمد عمارة من الماركسية إلى السلفية». منذ بداية الفصل يقول المؤلف هذا الكلام البليغ: «لأننا محكومون بالتراث وقيمه وأحكامه، ترسخت لدينا تقاليد الاحتفاء المبالغ به بالأموات، والإفراط في الثناء على آثارهم، والإعلاء من قيمة منجزهم، وتجاهل ما أنتجته هذه الآثار من تعصبات وكراهيات وأحقاد وجروح نازفة في حياتهم وبعد وفاتهم».

هذا المقطع النقدي العميق مهم جداً؛ لأنه يحذِّرنا من الانبطاح أمام القدماء. فهم ليسوا معصومين لمجرد أنهم من الأسلاف والآباء والأجداد. ينبغي أن ننظر إليهم نظرة تاريخية. ينبغي أن نموضعهم ضمن مشروطيات عصرهم القديم الذي لم تعد له علاقة بعصرنا. فمعارفهم وحاجياتهم لم تعد لها علاقة بمعارفنا وحاجياتنا.

هذا التعلق الأعمى بالأسلاف تخلى عنه اليابانيون كلياً، ولذلك نجحت انطلاقتهم الحضارية، وانتصر تنويرهم، كما ذكرنا في مقال سابق.

أخيراً، يقول عبد الجبار الرفاعي عن محمد عمارة هذا الكلام الصائب والدقيق: «لم ينتبه من كتبوا عن محمد عمارة لتحولاته ورحلته الفكرية الطويلة من الماركسية إلى السلفية، ومحطاته الاعتقادية المتعددة، وكيف أضحت آثاره المتأخرة تنقض كتاباته المبكرة. نقرأ كتابات تصنفه على أنه مفكر تنويري وعقلاني ومجدد، وأحد رواد النهضة، وغير ذلك من توصيفات لا ينطبق أي توصيف منها على محطته الاعتقادية الأخيرة».

لا تعليق. الكلام واضح جداً. فقط نطرح هذا السؤال، وبه نختتم: كيف يمكن لمفكر يحترم نفسه أن يلتحق بالحركات الإخوانية الظلامية ويدافع عنها بشراسة، بعد أن كان قد أمضى جُل عمره الأول في الدفاع عن قيم العقلانية والتقدم والحداثة؟

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: 5 يونيو 2024 م ـ 28 ذو القِعدة 1445 هـ

 

لكل مرحلةٍ تحولية كبرى مثقفوها. فالفكر التغييري لا يمتد ويتَّسع داخلَ المجتمعات والشعوب من تلقائه. صحيح أنَّه وليدُ معطياتٍ وظروف تاريخيةٍ عديدة ومتشعبة، تلتقي فيها العواملُ الداخلية والعوامل الخارجية. لكنْ للنخبة المثقفة دورٌ محوري في إحداثه؛ فهي الطليعة الأولى التي تنعكس عليها وتتجسّد فيها معطيات التحول التاريخي، وتنتقل منها شيئاً فشيئاً إلى فئات المجتمع الكلي. والانتقال يمكن أن يحدث أو لا يحدث. وفي أي حال، هو مسار غالباً ما يكون طويلاً وليس بين ليلة وضحاها.

من اللافت أن تكونَ النهضة الأوروبية الكبرى، نهضة النصف الثاني من القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، التي نقلت أوروبا من القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة، قد بدأت في الفن، فن الرسم والنحت والعمارة، انطلاقاً من فلورنسا، عاصمة توسكانا. كانت شخصية «العلّامة الإنساني» هي الغالبة على النخبة المثقفة التي أطلقت النهضة، وهو العلّامة الملتئمة فيه المعارف الفنية والأدبية والفلسفية والتاريخية، إضافة إلى المعارف الرياضية والهندسية والطبية، والذي يعدّ الإنسان محور التاريخ ومحرّكه. يمكن الإشارة إلى ليوناردو دا فينشي بوصفه نموذجاً «للعلّامة الإنساني»، لكن هناك العشرات من الرسامين والنحاتين والمعماريين والفلاسفة والمفكّرين والأدباء المنضوين، بشكل أو بآخر، ضمن تلك النخبة النهضوية، يضيق المكان بذكرهم، من أيراسم إلى رابليه، ومن مور إلى مونتينيه.

مع ذلك، مضى في حينه أكثر من قرن ونصف قرن على بدء النهضة من دون أن يتسرَّب فكر النخبة المثقفة إلى المجتمع. لا بل في حركة معاكسة، وصل «النظام القديم» بملكيته المطلقة وطبقاته الثلاث (الأكليروس والنبالة والشعب) إلى ذروة نفوذه في القرن السابع عشر، مع الملك لويس الرابع عشر في فرنسا، أقوى دول العالم في حينه. لكن «نخبة النهضة» ما لبثت أن قادت مع الزمن إلى نخبة أخرى أكثر اهتماماً، إضافة إلى الفلسفة الشاملة، بالتحولات المجتمعية والسياسية والعلمية. إنَّها نخبة «فكر التنوير»، خصوصاً في القرن الثامن عشر، التي قادت نهاية القرن إلى الثورة الفرنسية الكبرى، وإلى سقوط «النظام القديم» برمته.

وتضم تلك النخبة التنويرية هي أيضاً عشرات الوجوه التي يضيق المكان بتعدادها، من كانط إلى مونتيسكيو، ومن هيوم إلى روسو. وفكر التنوير لم يتسرّب هو أيضاً إلى المجتمع الكلّي، بل إلى فئة منه، هي الطبقة البورجوازية الأحدث عهداً، الآتية من الشعب، التي حققت ثراءها ونفوذها من ممارسة التجارة والإقامة في المدن، والتي كان لها الدور الأبرز في قلب «النظام القديم».

والنخبة الماركسية الثورية، التي طليعتها لينين وتروتسكي، هي التي قادت إلى ثورة 1917 البولشيفية، منهية أربعة قرون من النظام القيصري في روسيا. وهي لم تراهن على البورجوازية الروسية، بل على تحالف الفلاحين والعمال والجنود في صنع التحوّل.

بضعة أمثلة لا أكثر على دور النخب المثقفة في «حركة التاريخ».

هل من نخبة مثقفة في مجتمعات المشرق العربي تصنع التحوّل؟

ثمة نخبة ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كانت وراء النهضة الفكرية والثقافية العربية، بعد قرون طويلة مما عرف بـ«عصر الانحطاط»، ضمّت الكثير من الوجوه الفكرية والأدبية واللغوية والفنية، من بينها البساتنة واليازجيون والشدايقة، وروّاد الأدب المهجري والمقيم، وروّاد التعليم، وروّاد فن الرسم، ورواد الترجمة والصحافة وسواهم. ومع أنَّ تلك النخبة لعبت دوراً بارزاً في نشر الأفكار والمفاهيم والقيم والجماليات الجديدة، وفي الانتقال من الحالة العثمانية إلى الحالة العربية، فهي لم تستطع التسرّب عميقاً إلى مجتمعات المشرق ووضعها على طريق التطور والتحول والحداثة.

واليوم، أمام يقظة الجماعات المتنافرة في أرجاء المنطقة، بين المسلحة منها وغير المسلحة، والتناقضات والتحديات الكبرى التي تواجهها، هل من نخبة ثقافية تغييرية ترسم طريق النهوض وتقود إليه؟ ليس في الواقع الراهن، ولا في الأفق المنظور، ما يشير إلى ذلك. فنخبة المثقفين الكبار، منارة الشعوب ودليلها إلى مستقبلها، غير موجودة.

ومع أنَّ نصفَ القرن الأخير شهد اتساعاً كبيراً في أعداد المتعلمين والمتخصصين في مختلف المجالات، فالأمر لم ينعكس على الثقافة ونوعيتها وهدفيتها الأخلاقية والمجتمعية. فالفارق عميق بين المتخصص الساعي بكل الوسائل إلى الترقي الاجتماعي والاقتصادي الشخصي، والمثقف الملتزم بقوة وتجرد مسألةَ تطوير مجتمعه وشعبه. والفارق عميق أيضاً بين المثقف والمثقف الكبير الذي تتشكّل من أمثاله النخبة الرائية المفقودة.

***

أنطوان الدويهي - أستاذ جامعي لبناني

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم:الأحد - 25 ذو القِعدة 1445 هـ - 2 يونيو 2024 م

 

كان الشعور والخيال عنده مفهومين مترابطين

في مثل هذه الأيام رحل ريتشارد رورتي؛ أحد أعظم الفلاسفة الأميركيين في القرن العشرين، ولعل هذه المناسبة تكون فرصة للتعرف على إنجازه الفلسفي، خصوصاً حين نعلم أنه يمثل براغماتية غير التي نعرفها من تاريخ الفلسفة؛ «براغماتية جديدة» ينبو عنها الذهن. فعندما تذكر البراغماتية لا يخطر على البال سوى روادها الأوائل. وكم هو قليل الانتباه إلى البراغماتية الجديدة التي يمثلها رورتي وعدد ليس بالقليل من مفكري الفترة المعاصرة. التمييز ضروري؛ فالبراغماتية بكل صورها هي ركن ركين في طريقة تفكير معظم البشر اليوم.

في أميركا هناك نوعان من الفلاسفة؛ قسم بقي مخلصاً للتقليد الأنجلو - أميركي، وقسم قاري - أميركي، بمعنى أنه يملك ميولاً تجاه الفلسفة الأوروبية؛ والألمانية بدرجة أقوى. مع رورتي يقف هيوبرت دريفوس وجون كابوتو، وأسماء أخرى. وما يميز رورتي معرفته العميقة بالأدب المقارن ودراساته في هذا المجال، بالإضافة إلى معرفته بالفلسفة التحليلية، وبالبراغماتية التقليدية، وميله نحو نظرية التطور.

ككل مفكر حر بذهن متوقد، مر بمحطات فكرية كثيرة؛ من الأفلاطونية إلى التحليلية، ثم قرر الاشتغال بفلسفة بلاده البراغماتية التي وجد في جون ديوي خير ممثل لها. كان واسع الثقافة إلى حدٍ كبير، لكنه رفض طريقة فلاسفة العلم الذين يريدون للفلسفة أن تكون خادمة للعلم، أو كما يقول ويلارد كواين: «على الفلسفة أن تكون فلسفة للعلم؛ أو لا تكون».

وكما فعل ملهمه هايدغر، انتقل رورتي بالفلسفة إلى آفاق رحبة لم تكن معروفة من قبل، وكان ميالاً إلى أهل الأدب أكثر منه إلى الفيزيائيين والعلماء بعامة.

من العلامات التي تعرفنا على اتجاهه أنه مفكر توفيقي إلى حد كبير، يحاول أن يجمع الفلسفة الأميركية والأوروبية، رغم أن كثيرين لا يرون كيف يمكن أن يجري هذا الجمع، ولسان حالهم يقول: كيف تجتمع المدرسة التحليلية مع المثالية الألمانية؟

في فكر رورتي لا توجد جواهر ولا ماهيات، فقد تجاوز الفلاسفة هذا المسار من قبله، لكن يوجد في فلسفته صدق من دون تطابق مع العالم الخارجي. كما لا توجد في فلسفته الأخلاقية «مبادئ» ولا «أسس»، وهي بهذا تستند على البراغماتية التي تعرّف الحقيقة بأنها «ما ينفع». هذا معناه أنه يرفض التسليم بوجود نظرية في الصدق كما يوجد عند الفلاسفة الآخرين، أي إن براغماتيته لا تشترط الصدق بمعناه الفلسفي.

من قبله، حسمت البراغماتية الأميركية مع روادها الثلاثة الكبار: تشارلز بيرس، وويليام جيمس، وجون ديوي، خلافاً استمر ألفي سنة، أو يزيد، عن الحقيقة، ما الشيء الحقيقي؟ فقال القدماء: الحقيقة هي «تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان»، وقال أصحاب النزعة الرياضية: «ما تناغم فهو حقيقي»، وأتى البراغماتيون بمقولة أصيلة تماماً فقالوا: «الحقيقي هو ما ينفع». ما نفع الفرد والمجتمع يجب التمسك به، وما لم يكن كذلك فهو زيف. فكرة جديدة رغم أنها قد تبدو ساذجة في البداية. لقد أراحت نفسها من كل الفلسفة النقدية التي جعلت العقل هو الذي يرسم تفاصيل وجه العالم.

أهم كتب رورتي فيما يبدو «الفلسفة ومرآة الطبيعة»، وفيه يعلن موقفه الواضح الذي يرفض فيه أن يكون العقل مرآة تعكس الطبيعة، بل يرفض نظرية التمثل بأكملها، فالأمر برمته لا يجاوز الممارسة الاجتماعية وقصة تحكي تطور المجتمع مع مرور الزمن، والفلاسفة أناس يعملون على بناء مستقبل أفضل نظراً إلى إيمانهم بضرورة التقدم نحو حاجات ذلك المجتمع.

لن تجد في فلسفة رورتي براهين. وأجدني أوافقه على هذا المذهب، فالبرهان مفهوم أتى به أرسطو وتابعه المشاؤون، رغم أنه لا يوجد على الحقيقة. كل كتب البرهان ليست سوى كتب سجال وجدل.

لقد دعا رورتي صراحة إلى موت الإبيستمولوجيا (نظرية المعرفة) بناء على نظرية هايدغر وغادامير التي لا تعوّل كثيراً على طريقة «التفكير الحسابي»؛ يقصدان بذلك منهج العلم الحديث. ولا شك في أنه فيلسوف شكوكي لا عقلانياً، فقد أرشد إلى ترك الحديث عن العقل لعله يختفي إذا سكت الناس عن ذكره. ويتميز أسلوبه بأنه يشبه الحكايات الأدبية، والخلو من الرغبة في البرهنة على أي شيء. إنه يرسم ولا يكتشف. ومع كل هذا لا يمكن لنا أن نقول إن رورتي كان مفكراً رومانسياً؛ لأنه لم يكتب الشعر قط. إنه مفكر براغماتي بنكهة أدبية. كان يعتقد أن التقدم الأخلاقي يمكن أن يعتمد على تطور الخيال وتعزيز العاطفة المتبادلة بين الناس، والشعراء يفوقون الفلاسفة في تنمية هذا الخيال وتعزيز تلك المشاعر الإنسانية. الأدب هو الذي يفتح الخيال الأخلاقي، وبه تتحقق إمكانية زيادة الأحاسيس والتعاطف مع معاناة الشعوب الأخرى في العالم، وهذا ما يشير إليه رورتي أحياناً تحت اسم «الأدب العاطفي». ويبدو أن المشاعر بالنسبة إليه مزيج دقيق من الأحاسيس والانطباعات التي تشكل أساساً للحكم والتصرف في براغماتيته الجديدة. وهكذا؛ فإن الشعور والخيال مفهومان مترابطان أدرجهما رورتي في رؤيته للفلسفة الأخلاقية. ثمة خط تطور يبدأ من فتح الخيال الأخلاقي، وينتقل إلى تعزيز التعاطف، والاستمرار في تنمية المشاعر الأخلاقية المناسبة بغرض الوصول إلى نوع من الولاء الإنساني الموسع وتحقيق عدالة أكبر. هذا هو «الأدب الملهم» أو «القراءة الملهمة» التي تندمج بقوة في هذا التطور. ثمة إلهام في هذا الأدب؛ لأنه يحدو الناس إلى الإيمان بأن في هذه الحياة أكثر مما تخيلوه. مع أن هذا التقدم الأخلاقي لا علاقة له بالزيادة في العقلانية، ولا يشمل تطوير الذكاء، بل يهدف إلى تحسين حياة الأفراد في المجتمع.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 3 يونيو 2024 م ـ 26 ذو القِعدة 1445 هـ

صدرت عشرات الكتب والدراسات التي تبحث في مرحلة التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر الميلاديّ، وحاول كل منها القبض على المنظومة الفكريّة التي أنتجته، لكنّ الغالبية الساحقة من تلك الأعمال انتهت إلى أن كرّست، بشكل أو آخر، تلك الأسطورة الشعبيّة العنيدة حول عصر مثالي للعقلانيّة مثّل لحظة مفصليّة استثنائيّة في تاريخ البشريّة ومنارة للتسامح والديمقراطية والعلمانية، وعصراً ذهبياً تُدوولت فيه قيم تقدميّة الطابع من فئة الحريّة، والحقوق الطبيعية، والحكم الدستوريّ، فيما توافق العديد من المؤرخين على اعتبار «التنوير» بمثابة المناخ الفكري الذي يفسّر صعود الحداثة بمنجزاتها وإخفاقاتها معاً، وروادها بمثابة آباء مؤسسين لعالمنا المعاصر.

لكن ليس بالنسبة إلى ريتشارد واتمور، أستاذ التاريخ الحديث في جامعة سانت أندروز، الذي يقدّم في كتابه الأحدث: «نهاية التنوير: الإمبراطورية، التجارة، الأزمة» إعادة تقييم جذرية لهذه المرحلة، تضعها في مقام الفشل العميق بوصفها مشروعاً فكرياً كانت غايته وضع حد للحروب الدينيّة في القرن السابع عشر، وانتهى إلى استبدال حروب من أنواع أخرى بها لا تقل عنها ضراوة، مستنداً في تقييمه ذاك إلى شهادات عديد من المفكرين الذين نربطهم اليوم بـ«التنوير» ومنهم من رأى أن الثورة الفرنسية وما تلاها خاتمة كابوسيّة لانهيار نظام اجتماعي مستنير دام قرناً من الزّمان، وعود لا حميد إلى مزاج التعصّب والعنف والتطرفات الذي ساد في أوروبا القرن السابع عشر.

يستند الكتاب إلى سلسلة كارلايل للمحاضرات في تاريخ الفكر السياسي التي كان قد ألقاها المؤلف في جامعة أكسفورد البريطانية في عام 2019، ويستدعي في مجادلته نصوص ومواقف ثمانية من مفكري «التنوير» في نظرتهم وتقييمهم لأحوال أزمانهم، ومن ثمّ تقديم قراءة مغايرة للمرحلة متحررة من التصورات المسبقة لمعاصرينا والتي من شأن شديد التصاقها بأوضاع العالم الحالية أن تشوّه كل قراءة متوازنة للتاريخ.

وعلى عكس التفاهم السائد بأن التنوير بدأ أساساً حراكاً فكرياً فرنسياً مكرّساً لتحقيق الديمقراطية والليبرالية وسيادة العقل، فإنه عند واتمور منهج تفكير نتج عن الصراعات الدينية الدموية في القرنين السابع عشر والثامن عشر محاولةً لبناء علاقات مجتمعيّة قائمة على الاعتدال السياسي، والتسامح مع الآخر المختلف، وفتح فضاءات للتجارة الحرة والسلام بين الدول. ويذكر واتمور أسماء مثل الأسكوتلندي ديفيد هيوم «1711 - 1776» والفرنسي شارل لوي دي سيكوندا الشهير بمونتسكيو «1689 - 1755» بوصفهم رواد هذا المنهج الذين كانوا سابقين إلى التبشير بالاعتدال في الدّاخل، وضبط النفس في الخارج.

رأيُ هيوم ومونتسكيو ومَن جاراهم من المفكرين كان ميالاً لتأييد «حكومات القوانين» من جميع الأنواع، بما في ذلك الجمهوريات التقليدية والملكيات الدستورية، وعارضوا بالضرورة «حكومة الفرد»، سواء اتخذت شكل الديمقراطية المضطربة أو الاستبداد غير المقيد، وأملوا في تأسيس نظام عالمي ينظم العلاقات بين الدول حول مبادئ أساسية للقانون، والتجارة، والأخلاق، والسياسة، وبما يكفي لاستيعاب جميع الدول المستقلة على قدم المساواة.

يروى واتمور في «نهاية التنوير» حكايةَ انحدار هذه الرؤية الساذجة عن الاجتماع البشري خلال العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر، ويلاحق التصورات المتفاوتة التي صاغها مفكرو التنوير لمحاولة تدارك هذا الانحدار أو إعادة توجيهه.

يقسم واتمور تلك التصورات في إطار مدرستين فكريتين إحداهما سعت إلى إنقاذ التنوير من خلال التنظير لحكم معتدل مستغلق أمام السياسة الشعبوية والتعصب والمشاريع الطوباوية للإصلاح السياسي والاجتماعي، فيما وضعت الثانية ثقتها في إمكانات التحوّل الثوري لإنقاذ التنوير. وحسب واتمور دائماً، فإن المدرسة الأولى ضمَّت إلى هيوم كلاً من ويليام بيتي، وإيرل شلبورن الثاني، وإدوارد جيبون، ولاحقاً إدموند بيرك، فيما ضمَّت الثانية كاثرين ماكولاي، وجاك بيير بريسو، وماري ولستونكرافت، وتوماس باين.

وعلى الرّغم من اختلاف المنطلقات النظرية لهاتين المجموعتين في سعيهما لإنقاذ التنوير من نفسه، فإن النصوص التي تركها الفريقان تشير إلى اتفاقهما على أن النصف الأخير من القرن الثامن عشر شهد انسحاق القيم التي دعوا إليها تحت عجلات الجشع والتنافس على فرص التجارة والثروة. وإذا كان المتطرفون الدينيون قد تناحروا قبل مرحلة «التنوير» فشنوا الحروب وارتكبوا المذابح باسم الربّ والإيمان، فإن الشعوب «المتنورة» أقامت إمبراطوريات وأبادت ملايين البشر واسترقتهم سعياً وراء المال والتجارة.

ولعل بريطانيا العظمى على وجه التحديد كانت النموذج الأكمل عند أغلب مفكري التنوير لهذا التناقض العجائبي بين ادعاء تبني القيم التقدميّة للدولة في الشؤون الداخليّة فيما تنقلب تنيناً متوحشاً ينفث سموماً في الخارج، إذ إن ملكيتها الدستورية المتوازنة تقرأ في تمظهرها الإمبراطوري استبداداً شعبوياً، مسرفاً في عنصريته البغيضة وعدائه للأجانب، ولا يتورع عن ارتكاب المذابح لتأمين مصالحه التجاريّة وتمكين النّهب.

وقد تسبب هذا الانفصام بين الداخل والخارج -الذي لم يقتصر على بريطانيا بالطبع- في انزواء أفكار الاعتدال والسلام على مستوى العلاقات بين الكيانات السياسية الأوروبيّة لمصلحة منطق المنافسة الدّموية على التجارة والموارد الدوليّة، فاستهلكت القارة تدريجياً (بدايةً من الحرب الأنغلو - هولنديّة الأولى «1652 - 1654») في صراعات كان دافعها إدمان التجارة وصلف الإمبراطوريات، الأمر الذي حدا بهيوم وعدد من أنصاره إلى التحذير من أن دول «القارة المتنورة»، بما فيها طرفها البريطاني، تتجه نحو الخراب.

على أن مفكري النهضة اختلفوا مع ذلك على كيفية وقف هذا الانحدار المتسارع نحو الخراب و«إنقاذ» التنوير. البعض اقترح اعتماد منهج إصلاح معتدلاً يبدأ من تعديل قواعد التجارة الدّولية لتقليل فرص اندلاع الحروب على الموارد ونزع أسباب كراهية الأجانب وبالتالي تجنب السقوط مجدداً في قبضة «البربرية والدين». ومن الجليّ أن هذا المنهج لم يكن فيه مكان للإرادة الشعبيّة، إذ إن تجارب بريطانيا –مع وصول ديماغوجيين وشعبويين إلى السلطة- وفرنسا –بعد تجاوزات الثورة الفرنسيّة ونزوعها إلى الدمويّة والإرهاب- أشارت –وفق مفكري التنوير- إلى أن «غمر الرّعاع» قد انتهت بدولها نحو تبني سلوكيات إمبريالية، وخوض حروب متكررة في سياق السعي لبناء إمبراطوريات. وللتعامل مع ذلك فكّر هيوم وآخرون في دعم انقلابات عسكريّة أو أرستقراطيّة لمنع الديمقراطيّة الغوغائيّة من تدمير الحريّات، فيما ذهب بيرك إلى قناعة تامة في سنوات عمره الأخيرة بأن صراعاً وحشياً بين بريطانيا وفرنسا حتى الاستسلام التام يمكنه أن ينقذ التنوير من فرط الديمقراطيّة الشعبويّة، ولا شيء غير ذلك. ولسخرية القدر، فقد تحوّل أعداء التطرفات ودعاة الاعتدال أنفسهم إلى متعصبين حد التطرّف في دفاعهم عن التنوير.

في المقابل فإن ماكولاي وبريسوت وباين مثلاً، اعتقدوا أن الشعب المسلّح وحده يمكنه استعادة الفضيلة وإحياء الحريات التي سحقها صعود المجتمع التجاري، وراهنوا على الثورات الأميركية والفرنسية معتقدين أن فجر التنوير المشع سيتبع الليل المظلم للإمبريالية في أواخر القرن الثامن عشر. لكنّهم عاشوا ليشهدوا تحول الجمهورية الفرنسية إلى ذلك المشروع الإمبراطوري شديد الدموية الذي أُسست الجمهورية أصلاً لمواجهته، وكيف تفاقمت أسوأ اتجاهات بريطانيا بينما كانت تبني إمبراطوريّة لا تغيب عن أملاكها الشمس.

ويخلص القارئ في نهاية هذه الرحلة المذهلة في تاريخ الأفكار -التي يرى كثيرون أنها شكَّلت عالمنا المعاصر- أن «التنوير» لم ينتهِ فحسب، بل فشل فشلاً ذريعاً. ولهذا بالطبع انعكاسات شديدة الأهميّة اليوم، إذ يبدو الغرب بعد فشل التنوير كأنه لم يستوعب درس ذلك الفشل، بل أضاع فرصة أخرى لتأسيس نظام عالمي متسامح جديد بعد فظائع الحرب العالمية الثانية، فسقط سريعاً في حرب باردة بين قوى نووية، واستعاد شهيته إلى التوسع الإمبريالي، واستفاد من تقدمه المادي والتكنولوجي لدعم الطغاة، وتنفيذ انقلابات دموية، وغزوات وحصارات قاتلة تبدو الحروب الدينية في العصور الوسطى مقارنةً بها كأنها ألعاب أطفال. نصيحة واتمور في خاتمة الكتاب هي في ضرورة العمل على تنوير جديد كمشروع اعتدال سياسي نقيض للشعبوية، وضدّ الجاذبية المفرطة للعقل المجرد في السياسة، ويعمل على كفّ هيمنة «الأنظمة» السياسية على الإنسان فرداً ومجموعاً. أما كيف يمكن تحقيق هذه المعادلة المستحيلة، فهذا ما سكت عنه واتمور، ربما لإدراكه أن خبرة الغرب التاريخيّة في هذا المجال لا تبدو كأنّها قادرة بعد، ورغم تعدد المحاولات، على إنتاج التنوير الذي تحتاج إليه البشريّة. فهل حان الوقت للبحث عن «التنوير» من جزء آخر من الكوكب؟

نهاية التنوير: الإمبراطورية، التجارة، الأزمة

The End of Enlightenment: Empire, Commerce, Crisis

المؤلف: ريتشارد واتمور 2023

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 2 يونيو 2024 م ـ 25 ذو القِعدة 1445 هـ

في مثل هذا الشهر قبل أربعين عاماً من الآن (يونيو 1984)، توفي أهم فلاسفة فرنسا المعاصرين، ألا وهو ميشال فوكو، عن عمر لا يتجاوز الـ 58، مخلفاً أعمالا فكرية غيّرت جذرياً مسارَ الحقل الفلسفي العالمي. وكنتُ قد صَحِبتُ فلسفة فوكو مبكراً قبل أن أُصدر أولَ كتاب شامل باللغة العربية عن مختلف جوانب فكره (صدرت طبعتُه الأولى في بداية التسعينيات). ومن المعروف أن الفيلسوف الراحل قدّم أهمَّ قراءة متكاملة للنسق الثقافي الغربي في كتابه الأساسي «الكلمات والأشياء» من منظور مفهومه للنظام المعرفي الذي هو نقطة التقاء تشكيلات خطابية متمايزة حول محددات جامعة. كما بلور في كتابه المكمِّل له «حفريات المعرفة» أدوات منهج جديد لتاريخ الأفكار، ينطلق فيه من مقولات القطيعة والانفصال التي برزت في السياق الإبستمولوجي، وإن اعتبرها البعض داخلة في المنظومة البنيوية التي كانت في أوجها خلال ستينيات القرن الماضي.

وإلى جانب هذه الطرق المنهجية في تاريخ الأفكار، قدّم فوكو أهمَّ قراءة نقدية للعقل السياسي الحديث في جوانبه القانونية والإجرائية في كتابيه «المراقبة والعقاب» و«إرادة المعرفة»، مبرِزاً دورَ سلطة الحقيقة والعلم في نظام الضبط والتحكم الذي تقوم عليه الدولة الحديثة، من خلال استقصاء مفهوم «السلطة الحيوية» الذي طوره مِن بعده الفيلسوفان الإيطاليان توني نغري وجورجيو أغامبن. اهتم فوكو بجوانب جديدة على التفكير الفلسفي، مثل الجنون والسجن والرغبة، محدِثاً ثورةً كبرى في الكتابة التاريخية وفي البحث الاجتماعي والسياسي. في دروسه الأخيرة التي نُشرت مِن بعده، اهتم فوكو بظاهرة النيوليبرالية التي كانت في بدايتها مطلعَ الثمانينيات، ونبّه إلى الآثار التي ستُحدِثها على مستوى النظام الاجتماعي ومهمات الدولة الرعوية، وإن نبَّه في الوقت نفسه إلى الشروخ التي ستتسبب فيها داخل هيكل الدولة القومية الشاملة. ليست هذه الجوانب التي ركز عليها فوكو في السياق الغربي هي التي تهمنا في هذا الحيز، والحال أنه قدّم محاولةً جريئة وشاملة لضبط وتقويم المنظومة المعرفية الأوروبية، حتى لو كان سؤال الخصوصية الثقافية والتاريخية للغرب غير حاضر بوضوح في أعماله (ذكر فوكو لأحد طلبته أن السؤال الوحيد الذي أراد أن يجيب عليه دون أن يتناوله مباشرةً هو: ما هي أوروبا؟).

ما يهمنا هو تأثير فوكو في الفكر العربي، الذي بدأ محدوداً وهشاً، لم يتجاوز في البداية بعض الحضور في الدراسات النقدية واللسانية، خصوصاً في تونس التي درَّس في جامعتها وهو في أوج شهرته الفلسفية. بيد أن التأثير الحقيقي بدأ مع مشروع المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري في مطلع الثمانينيات، حين وظَّف عدداً من مفاهيم فوكو وأدواته المنهجية في «نقد العقل العربي». لقد استخدم الجابري عبارات «النظام المعرفي» بدوائره الثلاث (البرهان والبيان والعرفان)، كما تحدث عن القطائع الإبستمولوجية بين لحظات التراث العربي، ووجَّه النظر إلى إشكاليات هذا التراث المرجعية على غرار مسلك فوكو. وفي كتابه «العقل السياسي العربي» رجع إلى فوكو في حديثه عن نموذج الرعي في التدبير السياسي مع توظيفه في ثلاثية القبيلة والعقيدة والغنيمة التي لا تَخفى جذورُها الخلدونية.

ومع أن محاولة الجابري ظلت جزئيةً ومحدودة، إلا أنها من دون شك هي أهم مقاربة استلهمت منهج فوكو في تاريخ الأفكار عربياً، مع العلم بأن بعض المحاولات الأخرى تلتها في النقد السياسي والمؤسسي للدولة الحديثة من منظور عربي نقدي.وعلى الرغم من الحضور القوي المتواصل لأعمال فوكو في الساحة الفلسفية العالمية، فإن الكثير من الأبحاث الراهنة انتقدت بعض استنتاجاته وآرائه المعروفة، مثل قراءته لديكارت وانبثاق سردية الذاتية في الخطاب الفلسفي الغربي الحديث، وتأويله التاريخي لنشأة السجن في ارتباطه بالممارسة القانونية والقضائية الحديثة، ومقاربته السلطوية الصارمة لنظام الحقيقة بصفته أداةَ إقصاء وتحكم. وقد اعتبر بعضُ المفكرين العرب أن فلسفةَ فوكو أدت دوراً سلبياً في الساحة العربية، بنقدها الجذري للنموذج الليبرالي للدولة الوطنية الحديثة، وبخروجها عن عقلانية الأنوار والعلم الوضعي، إلا أن هذا النقد لا يمكن أن يطال جوهرَ مشروعه الفلسفي الذي قدّم عُدةً نظريةً ومنهجية دقيقة ورصينة لا يمكن تجاهلها. لم يكن فوكو يعتبر نفسَه فيلسوفاً بالمعنى النسقي الشمولي، ولا مثقفاً عضوياً ملتزماً، بل كان يفضّل صفةَ مؤرخ الحاضر ومنزلة المثقف الخصوصي الباحث.. وذلك درس آخر للاستلهام عربياً.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 2 يونيو 2024 23:30

 

يبدو العراق اليوم، وفي وقت واحد، هويّة تبحث عن مكان ومكاناً يبحث عن هويّة. لكنّ البحثين في مساريهما المرتبك يوحيان بأمرين: أنّ ذاك البلد يعيش طوراً تأسيسيّاً، بمعنى السعي إلى مطابقة المكان والهويّة وربطهما بجماعة وطنيّة توصف بالعيش المشترك، وأنّ الطور التأسيسيّ المذكور لا ينتهي إلى تأسيس.

فدائمٌ هو مشروع البحث عن «أسطورة مؤسِّسة» للعراق الذي يُفترض أنّه أُسّس قبل قرن، فيما المصاعب والعثرات المتزايدة، لا الإنجازات المتراكمة، هي ما يشوب ذاك المشروع. فالعراقيّون، وكما لو كانوا في مخاض جيولوجيّ لا يهدأ عصفها، ماضون في التساؤل: من نحن؟ وما معنى العراقيّة؟ فيما كلّ طرف يسلّح إجابته بالتاريخ وفق قراءة خاصّة له. وهذا، كما نعلم، سبق أن عاشته النخبة العراقيّة إبّان العهد الملكيّ، وكان أبطالها حينذاك ساطع الحصري وفاضل الجمالي ومحمّد مهدي الجواهري وآخرين.

فقبل أسابيع، احتدم السجال، وليس للمرّة الأولى مؤخّراً، حول تمثال رأس أبي جعفر المنصور المنصوب في إحدى ساحات بغداد. أمّا السبب فاتّهام بعض غلاة الشيعة ذاك الخليفةَ العبّاسيّ بأنّه قتل الإمام جعفر الصادق بالسمّ في العام 148 للهجرة، أو 765 للميلاد.

في الوقت نفسه تقريباً، كان البرلمان العراقيّ يناقش طلب زعيم التيّار الصدريّ، مقتدى الصدر، الذي شاء جعل يوم «الغدير» عطلة رسميّة في العراق. وقد أثار النزول عند طلب الصدر استياء سنّيّاً واسعاً، إذ الروايتان السنّيّة والشيعيّة تختلفان في تأويل ذاك اليوم وفي ما إذا كان النبيّ محمّد قد ولّى الإمام عليّ بن أبي طالب من بعده أم لم يفعل.

بطبيعة الحال فإنّ الولع بالحقيقة أو الولاء لتاريخ موضوعيٍّ هو آخر ما يعني الأطراف المتساجلة. وإذا كان الوعي الأهليّ، الطائفيّ أو الإثنيّ، ما يقود دفّة المهاترة، يبقى أنّ مسؤوليّة الطرف الساعي إلى الهيمنة تفوق كثيراً مسؤوليّة الأطراف التي تحاول صدّها.

وها هي الهيمنة إيّاها تمدّ يدها إلى تاريخ العراق الحديث أيضاً، وتحديداً إلى تأسيس الجمهوريّة العراقيّة. فيوم 14 تموز/ يوليو 1958 اختفى ذكره من قانون العُطل الرسميّة الذي حلّ فيه «عيد الغدير».

وربّما كانت خصوصيّة انقلاب 14 تمّوز أنّه كان، من بين الانقلابات العسكريّة في المشرق العربيّ، الوحيد الذي اهتمّ بأن يمتّن وطنيّةً تجمع بين سكّان بلده وتتلازم مع «أسطورة مؤسّسة». وهذا ما انعكس في عَلَم الجمهوريّة الذي تعدّدت ألوانه الرامزة إلى جماعاته، وفي محاولته مصالحة التاريخ القديم لبلاد ما بين النهرين وتاريخ البلاد الحديث، فضلاً عن جمعه بين العرب ممثّلين بشِعر صفيّ الدين الحلّيّ عنهم، والكرد ممثّلين بالشمس، رمزهم الميثولوجيّ العريق. لكنْ مع انقلاب البعثيّين الأوّل في 1963 توقّف العمل بالعلم هذا.

ونظام عبد الكريم قاسم (1958-1963) كان قد دلّل على حساسيّة فائقة حيال توكيد الوطنيّة العراقيّة التي أُريدَ حمايتها من تغوّل القوميّة العربيّة الناصريّة. والحساسيّة هذه، ومن بين أمور كثيرة أخرى، ظهرت في نُصب الحرّيّة الضخم الذي يتوسّط بغداد، والذي أنجزه في 1961، وبتكليف من قاسم، النحّات والرسّام الشهير جواد سليم. فقد احتفل النُصب هذا بتاريخ الفنّ العراقيّ القديم ممثّلاً بالنقوش الجداريّة البابليّة كما العبّاسيّة، احتفالَه بمواطني العراق فئاتٍ وشرائح تسعى وتكدح وتعاني.

وبهذا المعنى فإنّ محو 14 تمّوز يرقى إلى محو العمل التأسيسيّ الأكثر جدّيّة لوطنيّة عراقيّة جامعة، وهذا ما قصده بيان المثقّفين العراقيّين في استنكار ما يجري في بلدهم. فهم ربطوا الموقف الاستئصاليّ الجديد بـ»العمليّات الممنهجة الجارية منذ عقدين لتجريد الدولة العراقيّة من مقوّمات وجودها، ومنها تعويم وإلغاء رموزها السياديّة، التي نخشى أن تكون مقدّماتٍ لتقويض الدولة المدنيّة، وشرذمتِها بخلق كيانات بديلة ذات هويّات فرعيّة ضيّقة، وولاءات طائفيّة وعِرقيّة وقَبَليّة، روّجت لها بعض القوى المهيمنة على مقاليد الحكم في البلاد منذ سقوط الدكتاتوريّة». وربط المثقّفون تالياً بين هذه الخطوة الأخيرة و»عدم إقرار مشروع قانون علم الدولة العراقيّة، ونشيدها الوطنيّ»، وذلك لإبقاء البلد «بلا علم، وبلا نشيد وطنيّ»، كما حذّر بيانهم من «وجود نوايا مسبقة لتهديم الدولة العراقيّة، ومحاولات مستمرّة لتمزيق نسيج المجتمع العراقيّ بقوانين أخرى قد نتفاجـأ بها في أية لحظة». ولم ينس البيان التنبيه إلى «ما يتردّد عن وجود قانون لتأسيس مجلس للقبائل والعشائر العراقيّة، يمثّل ردّةً تكرّس قِيماً غادرها المجتمع، ويرسّخ التمييز بين أبناء الشعب بما يخالف الدستور والقيم المدنيّة».

فما يحصل اليوم، تحت أعين الرعاية الإيرانيّة وبحضٍّ منها، هو من ثمار الانقلاب الذي يلغي الوطن لصالح الطائفة، والدولةَ لصالح الميليشيا، ومحاولاتِ بناء تاريخ جامع لصالح التوكيد على تاريخ منقسم ومتصارع لا يلد إلاّ الهيمنة الفئويّة والعصبيّات المتحجّرة وكراهيّة الجميع للجميع.

***

حازم صاغية

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: الأحد - 25 ذو القِعدة 1445 هـ - 2 يونيو 2024 م

 

من الواضح أن التقنية سهّلت حصول الكثيرين على معلومات من دون أي اعتبار للحفر في المتون وبطون الكتب.

لقد ركَن البعض إلى التقنية باعتبارها مصدراً موثوقاً بالأبحاث الأكاديمية والشؤون العلمية. باستثناء مؤسسات مهمة لا تزال حذرة، إذ ظلّت الإنترنت موئلاً طيعاً للبعض من دون لجمٍ أكاديمي ضد هذه الفعلة، إذ المراجع والمتون، وإدمان المطالعة هي أساس النص البحثي والمعرفي.

ويمكن الاستعانة في هذا المجال بسياسي ودبلوماسي مخضرم، بل ومطلع فلسفي نادر، ومنقب بتراث الشعوب، وصائب بنبوءات مستقبلية كثيرة، إنه هنري كيسنجر، بكتابه الموسوعي «النظام العالمي»، الذي فصّل الحديث عن جدلية المعرفة والشبكات والتطبيقات، بفصل صغير في آخر الكتاب.

حكمة الخبير كيسنجر، لا تنحصر بالدبلوماسية وأدواتها، ومعاركها، وإنما بانت آثارها بالكتاب، إنها حكمة عُمر، رسمت السطور كل تجاعيد السنين، وومضاته لتعبر بالقارئ بين القرون.

من عميق قوله إن «التعلم من الكتب يكافئ التفكير المفهومي، وقابلية التعرف على المعطيات والأحداث المتشابهة وإضفاء الأنماط على المستقبل. يقحم الأسلوب القارئ في علاقة مع المؤلف، أو مع الموضوع، عن طريق إذابة الجوهر والجمال في البوتقة».

هذه صيغة لا تمنحها الحالة التقنية التي يستخدمها البعض، ومهمة علمية وتربوية أن نتجاوز النمط المدمن على التقنية، لتوثيق صلة المتعلم، أياً كان بالكتاب.

ثم يقارن بين الحوار الشخصي والحوار التقني، وأحسبه تأويلاً يتحدث عن تطبيق «الواتساب» صياغة قد تنجي الكثير من الناس من وضر الاحتكام إلى الحروف المصفوفة، فيقول: «تقليدياً، تمثلت طريقة أخرى من طرق حيازة المعرفة بالمحادثات الشخصية. فمناقشة الأفكار وتبادلها ظلت عبر آلاف السنين توفر بعداً حقيقياً وسيكولوجياً، إضافة إلى المحتوى الفعلي للمعلومة المتبادلة. تضيف هذه المناقشة تجريدات اليقين والشخصية. والآن تحاول ثقافة التنصيص إنتاج عزوف عجيب عن التفاعل وجهاً لوجه، ولا سيما على أساس شخص لشخص».

إن النقاش الشخصي يكون أكثر ثراءً على مستويات المعرفة، وتلقي النظريات الحديثة، وتداول التفاسير الجديدة بين بعضهم البعض بمحاضرة أو ندوة منها بدردشات التطبيقات الاجتماعية.

كيسنجر يعتبر أن التقنية تميل إلى تقزيم الذاكرة التاريخية، ووصف الظاهرة على النحو التالي: «الناس ينسون أموراً يظنون أنها ستكون متوفرة خارجياً ويتذكرون أموراً يظنون أنها لن تكون متوفرة».

الخلاصة، أن الخطر الأكبر يكمن في استعمال تلك الوسائط لتغذية أمراض، أو استنبات نعرات جديدة مما يعزز فرص الاقتتال المعنوي، وإشعال الحرب الأهلية الرمزية، وإيقاظ الهويّات الاستئصالية، وقد تستغل الحكومات والتنظيمات الإرهابية نفوذ أولئك لتبييض مشاريعها، وتجذير الحالة الميليشياوية.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 28 مايو 2024

 

الحرب على غزة وصمة عار والإسلام هو الحصن الوحيد لمواجهة العنصرية الثقافية

حوار: أمل بوشارب

***

أندريا زوك (1967)، واحدا من بين أبرز فلاسفة إيطاليا المعاصرين. درس بين إيطاليا، والنمسا واليونان، وبريطانيا، ويعمل حاليا أستاذ فلسفة الأخلاق في جامعة ميلانو. صدر له العديد من المؤلفات، من بينها "الواجب واللذة – مقدمة في نقد فلسفة الأخلاق المعاصرة" (2021)، "الهوية والإحساس بالوجود" (2018)، "روح المال وتصفية العالم" (2006)، و "نقد العقل الليبرالي – فلسفة التاريخ المعاصر" (2022) المترجم حديثا إلى الإنجليزية عن منشورات (Mimesis international, 2023).

التقينا زوك بعد شهور طويلة من العدوان الإسرائيلي على غزة، وهو من وقف ضد الحرب الإسرائيلية على غزة منذ أيامها الأولى، وذلك لمناقشة كتابه الأخير على ضوء اللحظة الفلسطينية والتأمل في تداعيات الفكر الليبرالي على ما تعيشه غزة اليوم:

- قُلت إن الحرب على غزة هي دليل إفلاس أخلاقي يعيشه الغرب. هل لك أن تشرح لنا أسباب هذا السقوط الأخلاقي؟ وكيف وصل العالم إلى هنا؟

* هذه الحرب هي وصمة عار لا يمكن لأي شيء أن يمحوها.

والسقوط الأخلاقي للغرب ليس وليد هذه اللحظة، وإنما له جذور تاريخية عديدة، لكن أعمقها هو ذلك الزعم الثقافي الذي ولد وترعرع خلال الثورة الصناعية وما خلفته من تفوق عسكري خلال القرنين الـ19 والـ20 منح للغرب دورا رياديا في العالم بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وهو ما تُرجم بشكل أو بآخر بأنه دليل على التفوق الأخلاقي للغرب.

المفارقة تكمن في أنه لا وجود لأي تأصيل فلسفي لهذا الزعم في تقاليد الفكر الغربي، بل العكس تماما فالمسيحية مثلا تحذر من القوة ولا تعتبرها ضمانة أخلاقية بل ترى فيها خطرا من شأنه أن يقوض الأخلاق.

هذا الدرس المسيحي للأسف ضاع كليا وبدأنا نرى في العقود الـ3 الأخيرة تحديدا توجها غربيا بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لاعتبار سياسة الكيل بمكيالين شكلا طبيعيا من أشكال التقييم يتم اعتماده على نحو منهجي إذا ما اقتضى الأمر أن نحكم بين أي قوة غربية كانت وأي طرف آخر في العالم يقف في وجهها. ما هو محزن أن الأمر يجري على نحو لا شعوري تماما.

نحن أمام عنصرية ثقافية ولا أجد أي مصطلح آخر يمكن أن نصف به هذه الظاهرة. إنها عنصرية ثقافية إذا ما تمت مواجهة الغرب بها شعر بالإهانة لأنها ظاهرة لم يتم تأصيلها على أنها ضرب من ضروب العنصرية والفوقية ولكنها تُدرس على العكس من ذلك ضمن مباحث حقوق الإنسان، مما يجعلنا نعيش هذه العنصرية كأنها أمر طبيعي لا يقبل النقاش. وهذه المسألة بالمناسبة ذات علاقة وطيدة بالفكر الليبرالي والديمقراطية. لكن ربما قد ترغبين في أن نتحدث عن الأمر ضمن محور آخر في هذا اللقاء…

- طبعا، لكن اسمح لي أن نبقى قليلا هنا ونتوسع أكثر في نقطة "العنصرية الثقافية" وكيفية مواجهتها. ذكرت في مطلع هذه السنة ضمن مؤتمر شاركت به في ميلانو بعنوان "فلسطين وخيانة الغرب لقيمه" أن الإسلام يعتبر اليوم الدرع الوحيد الذي يمكن أن يقف ضد الإمبريالية الثقافية الغربية. كيف ذلك؟

* لن أخوض بالطبع في الشق الروحاني أو العقدي للديانة الإسلامية لأنه مبحث لا يدخل في إطار تخصصي، ولكن بالتأكيد الإسلام يشكل اليوم حصنا في وجه الإمبريالية والعنصرية الثقافية. إن حللنا الأمر من الناحية الثقافية نلاحظ أن الرؤية التي يقدمها الإسلام للعالم آخذة في الانتشار على نحو كبير ومطّرد. طبعا هذا لا يشكل بالضرورة دليل صحة من عدمها لأي رؤية لكنه بالتأكيد معطى مثير للاهتمام لأنه مؤشر على الخصوبة.

نحن هنا إزاء ثقافة حيوية تتمتع بسِمة مهمة تتمثل في قدرتها على تجاوز القوميات وعبور الحدود والقارات. صحيح أن الإسلام دين وُلد ضمن جغرافيا معينة ولكن هذه الجغرافيا ليست هي ما يحدد انتماءه. لذا فنحن أمام دين لا ارتباط عرقيا له عكس الكونفوشيوسية مثلا والتي تلعب دورا مماثلا على صعيد التأثير لكنها محدودة في إطارها الصيني. الإسلام من جهة أخرى يبرز دينا مؤثرا وخصبا على نحو لا يمكن تجاهله، فضلا عن أنه يعبّر عن ثقافة تعد في جزء كبير منها "ما قبل ليبرالية" وهذا لا يعني أنها بالضرورة معادية لليبرالية أو لا ليبرالية ولكن ببساطة ما قبل ليبرالية تماما مثلما كانت عليه الديانة المسيحية قبل أن يتم تدجين جزء كبير منها وإدراجها ضمن ديناميكيات سياسية أخرى.

الإسلام، إلى جانب كونه دينا قويا وخصبا كما أسلفت، فهو يُظهر معارضة لروح الهيمنة الغربية (وهي الآن ليبرالية) وهو ما يجعله اليوم محط اختبار بشكل أو بآخر من الخارج. وكل ما أرجوه هنا هو أن يحصل تشابك مثمر بين الطرفين لا يؤدي إلى أي تصادم

الإسلام في المقابل، إلى جانب كونه دينا قويا وخصبا كما أسلفت، فهو يُظهر معارضة لروح الهيمنة الغربية (وهي الآن ليبرالية) وهو ما يجعله اليوم محط اختبار بشكل أو بآخر من الخارج. وكل ما أرجوه هنا هو أن يحصل تشابك مثمر بين الطرفين لا يؤدي إلى أي تصادم.

 آمل بصدق أن يكون التفاعل سلميا بين الإسلام والغرب لأن أي صدام عنيف من شأنه أن يحدث بين الطرفين، بعيدا عن الثمن الإنساني الذي سيخلفه، سيكون من الناحية الثقافية غاية في السوء لأنه سيخلق تصلبا دوغمائيا على الجهتين.3988 اندريا زوك

كتاب "الواجب واللذة-مقدمة في نقد فلسفة الأخلاق المعاصرة" (2021) (الجزيرة)

- هل تعتقد أن الغرب اليوم جاهز للحوار مع الإسلام؟ فمن جهة هناك مكون يميني يتشارك فعلا مع المسلمين القيم ذاتها ولكنه يُظهر توجسا من الإسلام، ومن جهة أخرى هناك يسار على الرغم من تفاعله الذي قد يبدو طيبا مع المسلمين، لكنه لا يُبين عن أي فهم لروح الدين… على أي أرضية يمكن أن يتم هذا الحوار برأيك؟

* الإشكاليات في الغرب موجودة بالفعل على اليمين واليسار. على اليمين قد تبدو الإشكاليات أوضح لأن أي حديث عن الإسلام يثير رأسا تلك النعرة القومية، في حين أن الإسلام على اليسار تتم مقاربته ضمن موضوع الأقليات التي تحتاج إلى حماية: اليساري يشعر دوما أنه بحاجة "للطّبطبة" على الآخر لأنه "هش"! العقل اليساري صنع صورة للآخر في ذهنه تتسم حصرا بالضعف والهشاشة، لذا فهو يشعر أنه لابد من أن يأخذ دوما بيد هذا الآخر إلى الطريق القويم! ولكن ماذا لو كان هذا الآخر قويا وخصبا ويقف أساسا على الصراط المستقيم. نحن هنا أمام انسداد عقلي حقيقي لدى اليساريين. والأمر له علاقة بجذور ثقافية عميقة بدأت في عصر الأنوار وترسخت بعد الحرب العالمية الثانية.

المتدينون لطالما تمكنوا من التوفيق بين العقل والروحانيات، حتى المسيحيين منهم، لكن اليساري الذي يتغنى بحب الآخر هو في الحقيقة لا يرى في الآخر ذي الخلفية الدينية سوى كائن قاصر ذا إدراك عقلي محدود بحاجة إلى عناية خاصة

المتدينون لطالما تمكنوا من التوفيق بين العقل والروحانيات، حتى المسيحيين منهم، لكن اليساري الذي يتغنى بحب الآخر هو في الحقيقة لا يرى في الآخر ذي الخلفية الدينية سوى كائن قاصر ذا إدراك عقلي محدود بحاجة إلى عناية خاصة. إنه يعتبر نفسه الأقوى ثقافيا، لذا فهو يقوم بالتربيت على كتفه وطمأنته بأنه سيقوم بتعليمه وتنويره وحمله لجادة الصواب. يقول له بعطف: "لا تقلق سأشرح لك كل شيء. تعال معي وسأعلمك كيف تستخدم عقلك". أما عندما يجيبه الآخر صراحة أنه مرتاح مع نفسه وليس بحاجة لإرشاداته يصاب هذا اليساري بالاضطراب، يبدأ بالتخبط، ويظهر عاجزا عن أي تفاعل حقيقي.

وهذا هو سبب التشوش والبلبلة الثقافية التي يعيشها الغرب اليوم. إنها تراجيديا حقيقية من أشخاص يجردون العقل من أي بعد روحي ويعتبرون الدين سفاهة وضربا من الجنون لا بأس إن أراد للمرء أن يعيشه في الخفاء، لوحده داخل غرفة مغلقة: "نفّس هنا عن مكنوناتك، لا يهمنا ما تفعله في الداخل، لا تنس فقط أن توصد عليك الأبواب والنوافذ بشكل جيد"، هذا ما يقوله عمليا اليساري للآخر حتى يتأكد أنه لن يكون هناك أي امتداد جماعي للدين. هذا النموذج الذي يفتقد للتناغم الحقيقي مع الجماعة، هو ما يقدمه اليسار في التعاطي مع الآخر ذي الخلفية الدينية، وهو ما لا يمكن اعتباره نموذجا بنّاء بأي شكل، بل هو نموذج عقيم وهدام لذاته ولغيره. لكن هذا لا يعني أن الغرب يعدم في العصر الحديث فلسفات يمكن البناء عليها لم تقم على فكرة العداء بين العقل والدين، وأبلغ مثال على ذلك هيغل…

 - حتى لا نفقد النقطة التي يظهر فيها التوافق بين التام بين الفكر الليبرالي والحركات اليسارية من حيث الاعتقاد الراسخ بالتفوق الثقافي. لا يزال البعض يرى أن الحركات اليسارية الغربية المعاصرة تناهض الفكر الرأسمالي، في حين أنك في كتابك الأخير "نقد العقل الليبرالي" أوضحت كيف أن اليسار اليوم يشكل امتدادا وفيا لأكثر تمثلات الرأسمالية توحشا وربطتَ ذاك بفكر فوكو تحديدا، مؤكدا أن اليسار في وقتنا الحالي لا يشكل البتة أي تهديد على السلطة. هل لك أن توضح لنا هذه الفكرة؟

* هذا سؤال جميل جدا يحتاج إلى تفصيل في الرد عليه، لكنني سأحاول أن أكون موجزا قدر المستطاع. ما حصل لليسار هو طفرة جينية حقيقية بجميع المقاييس. فإلى غاية حقبة السبعينيات كان الإلهام المباشر وغير المباشر لجميع الحركات اليسارية هو الفلسفة الماركسية مع كل ما يتفرع عنها من قراءات، سواء أكانت علمانية صرفة على طريقة جان بول سارتر أم توافقية مع الديانة المسيحية على طريقة إيرنست بلوك. لكن بعد عام 1968 وهو التاريخ الذي يشكل هزيمة تاريخية كبرى لليسار أو ثورة تم إجهاضها، وجد المكون الماركسي نفسه بجميع أطيافه ينسحب كليا من ساحة الحقوق الاجتماعية المعادية للرأسمالية تاركا مكانه لمكون صغير جدا فيه، هو أيضا ماركسي لكنه يركز بشكل كامل على مسألة الحقوق والحريات الفردية، وقد أصبحت هذه الحركات محط تركيز فلسفي خاص لما يعرف بفلسفات بعد الحداثة التي ازدهرت في فرنسا على وجه خاص.

الأمر المثير للاهتمام هو أن هؤلاء يعتبرون أنفسهم معادين للرأسمالية ويقولون إنهم يناضلون ضد البرجوازية لكنهم لا يناقشون مطلقا أي موضوع اقتصادي، بل يقومون فقط بما يخالون أنه "ثورة" من أجل تحصيل الحقوق المدنية على اعتبار أنهم أقليات. الطريف في كل هذا (والحقيقة هو أنه لا يوجد أي شيء طريف هنا) هو أن هؤلاء لا يدركون أن مقاربتهم تتناغم على نحو تام مع الفكر الليبرالي وهو ما وضع هؤلاء الأشخاص في قبضة الفضاءات الليبرالية العامة لاسيما في مجال النشر حيث جرى منحهم مساحة كبيرة جدا للتعبير عن أفكارهم بسبب التوافق التام بين الطرفين في "تسويق الأنا" وهو محور الفكر الليبرالي: الفرد هو مركز العالم… لا مرجعية أخرى في هذا العالم سوى أفكارك أنت… أنت وحدك الثورة. وهكذا تصبح الإرادة الحرة للفرد هي إرادة رجل وامرأة السوق. الأحرار في التسوق والتعبير عن تفردهم كل على طريقته. هذا هو التحرر وهذه هي الحرية.

هذا على الصعيد الفردي، أما على الصعيد الاجتماعي فلم يعد بإمكان هؤلاء اليوم أن يفتحوا فمهم بكلمة واحدة. أنت حر في التعبير عن نفسك فقط وعن فردانيتك أما إن فكرت في عمل سياسي لتغيير موازين القوى الاقتصادية مثلا ستصبح عدوا للنظام، وسيتم عزلك. وهكذا جرى حرفيا تدجين اليساريين وتحويلهم إلى خَدم للمنظومة الليبرالية. والحقيقة أن جزءا كبيرا من اليسار الغربي انتهى بين أحضان الليبرالية التي تمكنت من احتوائهم دون حتى أن يشعروا بذلك، فأصبحوا اليوم يتبنون الخطاب الليبرالي ويتكلمون بلغته دون أدنى إدراك منهم بما آل إليه وضعهم، بل يعيشون هذا الحال وهم على قناعة تامة بكونهم مناضلين وثوارا.

- هل تعتقد أن الأمر يتعلق بطبيعة النظام الليبرالي القادر على احتواء كل شيء وتسليعه وهو الذي حول الفكر الغربي ضمن هذه المنظومة إلى شيء أشبه بسلعة معولمة تتكيف بحسب الثقافة المحلية التي تُسوّق فيها وهكذا أصبحنا نجد مثلا ضمن الفكر النسوي: نسوية إسلامية، ونسوية إلحادية، ونسوية نباتية، وأخرى بطعم الكاتشب، بحسب ذوق الزبونة ومتطلباتها، أم أن الأمر يعود إلى طبيعة فلسفات ما بعد الحداثة نفسها ومطاطيتها، وهي القادرة على أن تقول حرفيا كل شيء وعكسه؟

* الأمر هو فعلا كذلك… لكن يا إلهي لا أريد أن أمارس العنصرية الثقافية على زملائي الفرنسيين (يضحك). المسألة بالتأكيد تعود للطبيعة التعبيرية لفلسفات ما بعد الحداثة نفسها، ويؤسفني فعلا القول إن أغلب الفلاسفة الفرنسيين حتى أفضلهم يميل للوقوع في غرام اللغة، يؤخذون بإيقاع الكلمات، يتتبعون وقعها وشكلها وما توحي به من صور، فيُسحرون بها ويَسحرون الآخر معهم، على نحو تصبح فيه الكلمات قادرة على التكيف مع كل قراءة لأنه ببساطة لا معنى محدد لها.

أغلب النتاج الفكري لما بعد الحداثة يترك القارئ منبهرا باستعاراته الأخاذة، لكن عندما تفكر بما خرجت به منه فعليا فلن تجد حرفيا أي شيء

والحقيقة أن أغلب النتاج الفكري لما بعد الحداثة يترك القارئ منبهرا باستعاراته الأخاذة، لكن عندما تفكر بما خرجت به منه فعليا فلن تجد حرفيا أي شيء. وهنا تحضرني مقولة أب البراغماتية تشارلز برس: "إن كنت تريد فهم جملة اسأل نفسك ما هي النتيجة التي تخلص إليها بعد قراءتها: إن لم تخرج منها بنتيجة فهذا يعني شيئين لا ثالث لهما: إما أنك لم تفهم الجملة وإما أن الجملة لا تعني شيئا". والسبب هنا هو أن منظومة المفاهيم في فلسفات بعد الحداثة تتسم بالضعف والهشاشة وعدم الاتساق، مما يجعلها في النهاية قابلة للتلون.

- دعنا لا نبتعد كثيرا عن هذه الفكرة، بعد أشهر من العدوان على غزة أصدر المفكر الجزائري أحمد دلباني كتابا بعنوان "خطيئة الدفاع عن قايين" يرد فيه على فلاسفة غربيين اختاروا التبرير لإسرائيل جرائمها في غزة على غرار هابرماس. الكتاب صدر ضمن ما يمكن وصفه بموجة ردة من الكثير من المفكرين العرب على فلسفة الحداثة وما بعدها غداة هذا العدوان الإسرائيلي. برأيك لماذا انتظر العالم العربي كل هذا الوقت ليدرك أن هذه الفلسفات تعاديه وعندما دقت ساعة الحقيقة ظهر أنها لا تقيم له أي وزن؟

* اتفقنا أن فسلفات ما بعد الحداثة قادرة على أن تسحر الآخر بجهازها التعبيري المراوغ، لكن فيلسوف كهابرماس هو حالة مختلفة تماما، ولا يفترض أن يشكل موقفه من الحرب على غزة أي مفاجأة لأحد. الرجل فيلسوف ليبرالي كلاسيكي وعلاوة على ذلك هو ألماني صاحب أفكار طالما كانت متسقة مع بعضها. هو ابن حقبة بعد التنوير المؤمن بتفوق الحضارة الغربية وهيمنتها والذي سيكون من الطبيعي أن يعتبر إسرائيل حائط صد للدفاع عن هذه الحضارة وبالتالي اعتبار أي هجوم عليها هجوما على الديمقراطية. ثقافيا نعم يمكن الرد بسهولة على هابرماس ودحض ادعاءاته ولكن المشكلة هي أن الرجل مثال حي عن الانبطاح للسلطة المهيمنة.

الأفكار لا تتحرك وحدها. هذا ما تقوله الحكمة الماركسية. كل فكرة هي بحاجة لبنية من حولها تدعمها أو تتركها تتهاوى. وهذا ما تفعله السلطة مع الكثير من الفلاسفة. هناك مثقفون مهمتهم هي ببساطة تجميل وجه السلطة

السلطة هي التي تدعم هذه النماذج. الأفكار لا تتحرك وحدها. هذا ما تقوله الحكمة الماركسية. كل فكرة هي بحاجة لبنية من حولها تدعمها أو تتركها تتهاوى. وهذا ما تفعله السلطة مع الكثير من الفلاسفة. هناك مثقفون مهمتهم هي ببساطة تجميل وجه السلطة. ولكن هذه طبعا ليست كل تقاليد الفلسفة الغربية اليوم. فقد كان هناك محاولات حقيقية لفيلسوف كهربرت ماركوزه وهو سابق لهابرماس من مدرسة فرانكفورت لانتقاد السلطة. وقد كان ماركوزه صادقا في ذلك كما أن أدواته التحليلية كانت أيضا ممتازة، لكن للأسف حاليا ما نشهده في فلسفات ما بعد الحداثة هو أن أكثرها يقوم على المخادعة، والنقد الزائف للسلطة.

- مؤخرا صرح إيلان بابيه في تعليق على إستراتيجية التفاوض التي تعتمدها أميركا بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي قائلا إنها "جلبت عالم البيزنس إلى الدبلوماسية" وذلك من خلال البدء بالتفاوض دوما من نقطة الحاضر وتجاهل الماضي. "بالنسبة للأميركيين لا وجود للتاريخ". هذا ما يقوله بابيه. وبالتالي لا وجود لحق العودة وكل هذه الأمور التي تنتمي إلى الماضي. في كتابك تحدثت مطولا عن عداء العقل الليبرالي التقدمي للتاريخ والتراث والماضي. ما السبب في ذلك؟

العداء للماضي هو مكون تأسيسي للعقل الليبرالي. يمكن القول إن شهادة ميلاد الليبرالية تم توقيعها عندما تم تحويل السلطة الاقتصادية إلى سلطة سياسية. والسلطة الاقتصادية كما نعلم قائمة على المال. والمال له سمة مميزة هي أن لا ماضي له. المال يمارس سلطته من كونه ببساطة حاضرا. سأعطيك مثالا بسيطا: إن كان معي حقيبة فيها مليون يورو، السلطة التي يمنحني إياها هذا المال تأتي من كوني أملكه في هذه اللحظة، ولا يهم حتى طريقة كسبه سواء أكان ذلك عن طريق النصب، أم لأنني عملت طيلة حياتي بكد، أو ربحته في اليانصيب، أو ورثته عن أبي، أو لأنني اشتغلت في الدعارة، أو بعت أعضائي… هذه كلها أمور لا قيمة لها. القيمة الوحيدة لهذا المال تكمن في قدرته الآنية على الشراء بغض النظر عن ماضيه.

لذلك إن نحن نظرنا إلى الإحداثيات الديكارتية للبيانات الاقتصادية فسنجد فقط محورين: محورا يشير إلى الحاضر وآخر إلى المستقبل. لا وجود للماضي. الماضي مبتور بالضرورة لأن كل شيء يبدأ مع عقد شراء يصبح ساريا بدءا من لحظة توقيعه. هذه الميكانيزمات تدخل بالمناسبة في عالم السياسة لأول مرة في تاريخ البشرية. في الماضي كانت السلطة السياسية تُمنح على أساس محددات شخصية تتعلق بالتاريخ الفردي أو العائلي للشخص: كأن يكون منحدرا من دم نبيل أو لأنه أثبت شجاعته في ساحات القتال. وبالتالي فإن الماضي بشكل أو بآخر هو ما يمنحه السلطة. أما السلطة اليوم فهي ترتبط بلحظة المال لا بلحظة التاريخ.

أعطني قنبلة واحدة لم يفجرها الغرب على رأس أحد في السنوات الأخيرة دون أن يقدم لها دواعي إنسانية

بالحديث عن المال، حذرتَ في كتابك من المنظمات غير الحكومية الممولة غربيا لعدة أسباب أحدها غياب المساءلة بشأن آليات عملها واعتمادها على التلاعب بعواطف الجماهير، ولكن يبقى أخطر ما ذكرته هو تحول هذه المنظمات لأداة في يد القوى الكبرى لتفعيل فلسفة "إرادة القوة". حاليا هناك قلق كبير في العالم العربي من تشجيع عمليات الهجرة الطوعية للفلسطينيين إلى أوروبا من خلال بناء مرفأ يثير كثيرا من الريبة يقال إنه ذو أغراض "إنسانية"…

* "إنسانية"! (يقاطع بحسرة). أعطني قنبلة واحدة لم يفجرها الغرب على رأس أحد في السنوات الأخيرة دون أن يقدم لها دواعي إنسانية…

من خلال متابعتك لما عاشته إيطاليا في السنوات الماضية من تزايد للهجرة غير النظامية بدعم كبير من المنظمات غير الحكومية، مما دفع بالكثير من المفكرين الإيطاليين على غرار الفيلسوف دييغو فوزارو لتشبيه ظاهرة نقل المهاجرين على سفن هذه المنظمات بعمليات الاسترقاق في القرن الـ17 التي كان يجري فيها تحميل الأفارقة في بطون السفن التجارية وتحويلهم لعبيد والفرق الذي نعيشه اليوم هو تغليف العملية بغلاف "الإنسانية"… هل تتفق مع هذا الطرح؟ وما مصلحة الأنظمة النيوليبرالية اليوم من التشجيع على عمليات الهجرة غير النظامية؟

* مبدئيا المنظمات غير الحكومية تأخذ صفتها بكونها ذات مساعٍ خيّرة أم خبيثة بحسب مموليها وأجنداتهم. ليس لدي شك أن هناك منظمات غير حكومية تعمل وهي مدفوعة بأهداف نبيلة تحت إدارة أشخاص فاضلين، لكن يبقى فقط أن نتعرف على مموليها وأجنداتهم. فإشكالية هذه المنظمات تكمن في أنها مؤسسات معتمة يمكن أن يتسلل إليها بسهولة ممولون غامضون، عند تتبعهم نكتشف أننا ببساطة أمام منظمات بالاسم فقط هي غير حكومية لكنها ممولة من طرف حكومات أو جهات متنفذة لها بدورها علاقات بالحكومات. وكما هو معروف بالنسبة لموضوع الهجرة فقد خلق الغرب منظومة ثقافية جعلته يعاني من أزمة كبيرة في التكاثر لذا هو بحاجة من أجل حلها إما لتغيير نسقه الثقافي الخاص بالعائلة أو ببساطة "لاستيراد" البشر مما يُعرف باسم دول العالم الثالث أو تلك الدول التي لها فائض في اليد العاملة لسد ثغرات السوق. النظام الرأسمالي من أجل أن يحافظ على توازنه لابد له من رفع نسب الاستهلاك على نحو مطّرد وهو أمر لا يتأتى في مجتمع ذي ديمغرافية راكدة.

حالة الركود الديمغرافي هذه سببها عدم التشجيع على تأسيس عائلات، ذلك أن العائلة تقع في مرمى سهام الأنظمة الليبرالية لأن الأسرة تشكل منظومة ما قبل ليبرالية وتمثل بشكل أو بآخر بقايا غير حداثية في هذا العالم، كونها لا تخضع لمنطق السوق ولا تتجاوب مع حسابات الفائدة وغيرها

المشكلة أن حالة الركود الديمغرافي هذه سببها عدم التشجيع على تأسيس عائلات، ذلك أن العائلة تقع في مرمى سهام الأنظمة الليبرالية لأن الأسرة تشكل منظومة ما قبل ليبرالية وتمثل بشكل أو بآخر بقايا غير حداثية في هذا العالم، كونها لا تخضع لمنطق السوق ولا تتجاوب مع حسابات الفائدة وغيرها. وهكذا يصبح استجلاب المهاجر الشاب الذي يأتي جاهزا من بلد آخر عنصرا وظيفيا لسد العجز في المهن "الرخيصة" تحديدا وهذا ما يحافظ على ديناميكيات السوق ويحافظ على بقاء الأسعار منخفضة من ناحية، ومن ناحية أخرى يمنح الغرب فرصة لعب دور الحضارة "الإنسانية" التي تستقبل الآخر وتنقذه من أهوال الحرب. تعتقد أوروبا أنها تضرب بهذا عصفورين بحجر واحد، ولكن هذه العملية على المدى الطويل سيكون لها أضرار رهيبة سواء على ثقافة الدول الغربية وهويتها أو ثقافة المهاجرين أنفسهم وهويتهم. ذلك أنه عندما يتم تدمير النسيج الهوياتي لأي مجتمع ستتحطم فيه سلطة القانون والوازع الداخلي للالتزام بالشرائع…3989 اندريا زوك كتاب "نقد العقل الليبرالي – فلسفة التاريخ المعاصر" (2022) لأندريا زوك ترجم حديثا للإنجليزية (الجزيرة)

هل سيأخذنا هذا إلى ما أشرت إليه في كتابك حول ما يعرف بـ"الإرهاب الإسلاموي" في أوروبا والذي أكدت أن لا علاقة له بالفكر التقليدي للمجتمعات الإسلامية بل هو ابن الفكر الليبرالي؟

تماما، والأمر أيضا ينطبق على المهاجرين الإيطاليين والأيرلنديين واليهود وغيرهم ممن صنع في أميركا مافيات وجماعات جريمة منظمة على أساس القوميات وذلك لدعم بعضهم البعض بعيدا عن سلطة الدولة، بعد فشلهم في تحقيق النجاح في إطار القانون. وفي حالة من يندرجون ضمن مسمى "الإرهاب الإسلاموي" نعم هؤلاء هم أيضا من أبناء الغرب الفاشلين -كغيرهم من الإرهابيين الغربيين- وليسوا أبناء الإسلام.

ما نشهده اليوم هو بالفعل بداية نهاية مسار تاريخي بدأ قبل 3 قرون غيّر وجه الكوكب بداية من الثورة الصناعية مرورا بكل ما وصل إليه العالم من تقدم تكنولوجي. الغرب الذي يملك بين يديه التكنولوجيا اليوم يعاني من أزمة داخلية، وهي لا تتعلق بضياع السلطة التكنولوجية أو الاقتصادية منه ولكنه يعاني أزمة روحية

- في الفصل الأخير من كتابك قلت إن النظام الليبرالي يلفظ أنفاسه الأخيرة بالرغم من تغوّله في العالم، وذكرت بأنه قد ينتهي بمجرد ظهور جيل جديد ينتفض على هذه المنظومة. حتى نبقى في فلسطين، قامت قبل أسابيع منظمة "الشبيبة الفلسطينية في إيطاليا" على نحو غير مسبوق وغير متوقع بوصف المنظمات غير الحكومية الإيطالية المتضامنة مع فلسطين بأنها مؤسسات استشراقية تتستر بغطاء إنساني. هل تعتقد أن موقفا مفاجئا وجريئا كهذا بشأن أحد أهم أذرع الأنظمة النيوليبرالية في العالم يعد أحد إرهاصات الانتفاضة التي بشرتَ بها؟ وكيف ترى عامة الاحتجاجات الطلابية؟ وكل ما يحصل اليوم في فلسطين؟ هل هي بداية النهاية؟

* ما نشهده اليوم هو بالفعل بداية نهاية مسار تاريخي بدأ قبل 3 قرون غيّر وجه الكوكب بداية من الثورة الصناعية مرورا بكل ما وصل إليه العالم من تقدم تكنولوجي. الغرب الذي يملك بين يديه التكنولوجيا اليوم يعاني من أزمة داخلية، وهي لا تتعلق بضياع السلطة التكنولوجية أو الاقتصادية منه ولكنه يعاني أزمة روحية.

هذه الأزمة هي بالعمق والشراسة والتأثير بمكان مما سيؤدي إلى سقوط هذا النظام عاجلا أم آجلا. المشكلة هي أن التاريخ يعلمنا بأن الإمبراطوريات التي تدخل هذا النوع من الأزمات تصبح غاية في الخطورة في نهاية أيامها. الإمبراطورية الرومانية لم تبرز وحشيتها إلا وهي في مرحلة السقوط وهذا ما يحصل في الغرب اليوم…

الغرب يتشبث بالسلطة الآن من خلال هذه المنظومة المالية… من يملك السلطة لا يتخلى عنها طواعية. لذا ما أخشاه هو أننا داخلون على نهاية قد يدوم مسارها عقودا وستُفرض خلالها القيود ويتكرس القمع والمنع والرقابة، وكل ما من شأنه أن "يسيطر على الأرواح"

- تقصد تسليحه لحرب الإبادة الجارية ودفاعه المحموم عن الجرائم الإسرائيلية؟

* تماما، وهذه ليست سوى الأعراض الأولى لما يمكن وصفه أنه أزمة عصبية دخلها الغرب. هو فهم أنه خسر معركته الروحية بعد أن خسر هويته، ولكن علينا ألا ننسى أنه لا يزال يسيطر على التكنولوجيا، بالإضافة إلى حفاظه على تفوق عسكري نسبي، أقول نسبيا لأن ثمة قوى أخرى بدأت تظهر على الساحة، لكن التفوق المالي لا يزال بين يديه وبشكل كامل، هذا أمر لا شك فيه.

الغرب يتشبث بالسلطة الآن من خلال هذه المنظومة المالية… من يملك السلطة لا يتخلى عنها طواعية. لذا ما أخشاه هو أننا داخلون على نهاية قد يدوم مسارها عقودا وستُفرض خلالها القيود ويتكرس القمع والمنع والرقابة، وكل ما من شأنه أن "يسيطر على الأرواح". وعليه سأكون عقلانيا: موازين القوى بين من يملك السلطة ومن ينتقدها في الغرب هي كواحد إلى ألف، لذلك لست متفائلا بأن التغيير سيأتي من الداخل على المدى المنظور. الضغط الحقيقي سيأتي من الخارج، من خلال نظام عالمي متعدد القطبية: من كتلة الدول الإسلامية، أو من الصين أو من روسيا ولكن بالتأكيد ليس من داخل المنظومة الليبرالية نفسها.

وهنا لابد من أن أعلق بمرارة على الدور المخيب الذي تلعبه أوروبا اليوم بالرغم من إرثها الثقافي الراسخ قياسا لأميركا المارة على التاريخ… أوروبا التي "تأمركت" في السنوات الـ30 الأخيرة وكان يمكنها أن تقدم للعالم الكثير…

- إذن أنت لا ترى حتى في تنامي الحراك الطلابي في أميركا اليوم مؤشرا على تغيير قد يحدث من الداخل:

* (يهز رأسه بأسف)، لا. لكنني لن أعدم الأمل، وكما أقول دوما: بمشيئة الله يمكن أن يحصل كل شيء.

المصدر : الجزيرة

16/5/2024|آخر تحديث: 16/5/202407:51 م (بتوقيت مكة المكرمة)

.................

فيلسوف والكاتب الإيطالي أندريا زوك andrea zhok - الصورة من صفحته على الفيس بوك

«اندريه فيرسوف» مؤرخ وعالم اجتماع روسي له عدة أعمال هامة، من بينها كتابه الرئيسي الصادر بعنوان «نقطة التحول.. المستقبل الذي وقع بالماضي». وتتعين الإشارة هنا إلى أن فيرسوف ينتمي للمدرسة الاجتماعية الروسية الجديدة، التي تعتبر روسيا ركيزةَ الحضارة الأوروبية الأصيلة، مقابل الغرب «المنحط» و«المتقهقر».

وفي تشخيصه للوضع الدولي المتولد عن الثورة التقنية الراهنة، يرى فيرسوف أن العالم دخل في مرحلة ما بعد الرأسمالية، والتي من سماتها الأساسية انحسار مبدأ السوق الحرة والتبادل الكوني المفتوح، بما يعنيه هذا التحول من انهيار المؤسسات الاندماجية التي قامت عليها الرأسمالية التقليدية، وفي مقدمتها الدولة القومية والمجتمع المدني وأخلاقيات العمل والنظام التربوي الجماهيري. لقد قامت الثورة التقنية الأولى في القرن الثامن عشر على المحرك البخاري والسكك الحديدية، في حين قامت الثورة الثانية على الطاقة الكهربائية والهاتف والتلغراف، بينما قامت الثورة الحالية على الذكاء الاصطناعي والاتصال الرقمي والإلكتروني.

وعلى عكس التصور السائد الذي يرى في حركية العولمة تحققاً لمسار التوسع الرأسمالي، خصوصاً بعد انهيار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، يذهب فيرسوف إلى أن العالم لا يتجه إلى التوحد والاندماج، وإنما إلى قيام إقطاعات كبرى محمية بالتقنيات التحكمية الجديدة التي أنهت عملياً الفوارق بين أنظمة الحكم السياسي، فلم يعد ثمة فرق جوهري بين الحكومات الليبرالية والحكومات التسلطية. لقد انحسر الزخم الذي ولّدته الثورات السياسية والاجتماعية في أوروبا برصيدها الأيديولوجي المتمحور حول النزعات الثلاث المتعارضة: التيار المحافظ، والاتجاه الليبرالي، والنزعة الاشتراكية.

كانت هذه التيارات الثلاثة تصدر عن نفس الأفق الحداثي الإنساني الذي خرجت منه أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وهذه المجتمعات هي اليوم - حسب المؤلف - بدون موجِّهات قيمية. لقد جرفت ديناميكية الحداثة المنظومة المعيارية التقليدية، وقوّضت العولمةُ المقومات المدنية والأيديولوجية التي أفرزتها الحداثة. وبالرجوع إلى أطروحة ماكس فيبر الشهيرة حول علاقة الرأسمالية بالإصلاح الديني وأخلاقيات العمل، يري فيرسوف أن التجربة أثبتت أن المجتمعات غير الغربية طورت آليات مناعة ناجعة لحماية مخزونها الحضاري، كما هو شأن كل من الصين والهند وروسيا. ليس من همنا هنا تقويم أطروحة فيرسوف التي تعبّر عن جانب أساسي مِن جوانب النقاش النظري والسياسي المحتدم بين روسيا والبلدان الغربية، وحسبنا الإشارة إلى ثلاث ملاحظات أساسية في هذا الجدل المتصاعد.

أولاً: إن الفكر الروسي الجديد أعاد في السنوات الأخيرة تأويلَ التجربة السوفييتية التي استمرت سبعة عقود، ومكنت من بناء إمبراطورية قوية ممتدة الأطراف، كما قادت عملية التحديث الاقتصادي والتقني في بلاد كانت في ذيل الأمم الأوروبية. وما يتضح من هذه الكتابات هو أن التجربة السوفييتية لم تكن، كما يُظَن عادةً، استيراداً ميكانيكياً للماركسية التي هي في نهاية المطاف فلسفة أوروبية، بل كانت محاولة متعثرة لبناء حداثة بديلة عن الليبرالية الغربية تراعي الخصوصيات الحضارية للمجتمع الروسي. وإن كانت هذه التجربة قد نجحت في مسلكها التحديثي، إلا أنها أخطأت في نبذ موروثها الثقافي الذي هو اليوم الإطار المرجعي للحركة «التصحيحية» التي يقودها الرئيس بوتين.

ثانياً: إن الانتقال من النموذج الصناعي التقني الحديث إلى الثورة الرقمية الراهنة يغير جذرياً النُّظم المؤسسية للمجتمعات المعاصرة، بما فيها شكل الدولة القومية وهياكلها التمثيلية والتنفيذية. وإذا كانت الدول الغربية تحاول، حسب الفكر الروسي الجديد، دون نجاح، الحفاظَ على مكاسبها الليبرالية، بحيث تتأقلم مع التحولات النوعية التي عرفتها المجتمعات الحالية، فإن القوى العالمية غير الغربية قادرة على بلورة آليات ونظم بديلة تكفل في آن واحد مقتضيات الهوية الحضارية الخصوصية التي هي أساس الاستقلال الفعلي ومكاسب التحديث القانوني والقيمي من حريات فردية وجماعية وحقوق إنسان وعدالة توزيعية.

ثالثاً: لا يمكن اختزال المعادلة الدولية الجديدة في اعتبارات جيوسياسية ضيقة تتركز في رهانات القوة والتنافس الاستراتيجي، بل لا بد من إدراك المعطيات الثقافية والحضارية التي تدخل في صلب الصراعات العالمية الراهنة. لقد انتبهت المدرسة السياسية الأميركية منذ بداية التسعينيات إلى أهمية البراديغم الثقافي في العلاقات الدولية الجديدة (بول كندي وهانتغتون.. إلخ)، ثم انتقل النموذج ذاته إلى الفكر الروسي والآسيوي من منظور مغاير.

وفي حين ركزت المدرسة الأميركية على التحديات الناتجة عن تصادم الهويات والثقافات، ذهب الفكر الروسي الجديد إلى مدى أبعد بطرح تساؤلات جذرية حول مسار التغريب الثقافي والأيديولوجي في علاقته بحركية التحديث الرأسمالي، وما لها من انعكاسات على المجتمعات غير الغربية. إنه الإشكال المحوري الذي يفتح آفاقاً رحبة للفلسفات والأفكار في عالم الجنوب بمفهومه الشامل الواسع.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 26 مايو 2024 22:34

عنوان «تجديد التنوير» ليس لي، بل هو لمحمد المصباحي الذي كتب كثيراً عن ابن رشد. وقد شهدت مع فريق جامعة محمد بن زايد معرض الرباط للكتاب ورأيتُ عناوين مشابهة عدة. والواقع أن مصطلحات النهضة والتنوير انتشرت في العالم العربي في زمانين، وكانت لها معانيها وسياقاتها في كل زمان. في الزمان الأول كان المقصود بها الخروج على التقليد الفقهي والكلامي والصوفي، وإقامة الدولة الحديثة على النمط الأوروبي. أما في الزمان الثاني في الستينيات والسبعينيات وما بعدهما فقد كان لها معنى معاكس لدى المثقفين الحداثيين، إذ أرادوا إحداث قطيعتين: مع الموروث من جهة، ومع تفكير النهضويين على مشارف القرن العشرين. كان النهضويون يقولون بالتواصل المقترن بالتجديد، أما الحداثيون فيقولون بالقطيعة الشاملة، لكنهم مثل النهضويين في التماثل مع الغرب. أما النهضويون فمهتمون بالنهوض الحضاري و«الدولتي» في أوروبا، بينما يتماثل الحداثيون مع الفلاسفة الجدد ومفكري القطيعة الفرنسيين الثائرين على قيم التنوير.

ما معنى تجديد التنوير اليوم؟ لقد عملتُ طويلاً على مفهومين قرآنيين: مفهوم المعروف، ومفهوم الخير.. وكلاهما إنساني وشامل. فالقرآن الكريم الذي يتكرر فيه مفرد الخير ومشتقاته كثيراً يدعو الناس للتسابق في الخيرات تحصيلاً وإنتاجاً. أما المعروف، والذي هو معدن الفضائل كما يقول الغزالي، فيَرِد زهاء خمسين مرةً في القرآن الكريم، ويعني ما تَعارف عليه الناس وتلاقَوا على العيش معاً استناداً إليه، وإلى قيمة الكبرى ومشتركاته العامة. ما المقصود بالذهاب من القطائع والجداليات إلى الخير والمعروف؟ المقصود أننا في زمانٍ ثالث، إذا صحَّ التعبير، تَكثر فيه النقائض والاختلافات، وفي الوقت نفسه تتجدد المحاولات والمشروعات للحفاظ على القيم الكبرى مثل التسامح والتعايش وحفظ تماسك الأسرة والمجتمعات. ولذا فإنّ الانحياز ضروري لما في ذلك من مصالح كبرى لسائر الأمم والثقافات التي تقول بمستقبلٍ آمن للعالم يسودوه السلام والتعاون. وقيمتا الخير والمعروف تدخل تحتهما أخلاقٌ وفضائل متعددة تتجدد مضامينها وتطبيقاتها في مجتمعاتٍ مختلفة،، ومنها مجتمعاتنا. إنّ استقبال الجديد هذا البنّاء والتواصُلي تحوطه مشكلاتٌ كثيرة بسبب الموجات السلبية باسم الحرية وبسبب سوء العلاقات الدولية، والصراعات الاستراتيجية.

ولذا فإنّ أهل الخير والمعروف يحتاجون إلى تحالفات وشراكات في مسعاهم من أجل السلام وصنع الجديد للإنسان. وقد انطلقت مبادراتٌ من عدة جهاتٍ معتبرة للإسهام في إنتاج الجديد، ودعوة الآخرين للانضمام إلى المجتمع المدني العالمي الذي تنتشر مؤسساته الخيرية والإنسانية ويحتاج للالتزام فعلا بهذه القيم المؤسِّسة. ونذكر دائماً في هذا الصدد وثيقة الأخوّة الإنسانية الصادرة في أبوظبي عن البابا وشيخ الأزهر، ونذكر من قبل قوانين وإعلانات أبوظبي ودولة الإمارات ضد التطرف والعنف، وضد ازدراء الأديان، ودعوات العيش معاً.. وكلها داخلة أو منضوية تحت مبادئ الخير والمعروف، وتمثل جزءاً من جهود جبارة بذلتها وتَبذلها دولةُ الإمارات للسير في هذا المشترك الإنساني للعيش معاً، ولصنع الجديد والمتقدم لبني الإنسان. تكثر مشروعات وانتظارات التراحم والوئام، ولها مستقبلٌ معتبرٌ، لأن فيها الخير المشهود للبشرية في هذه الأزمنة الصعبة.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 26 مايو 2024

 

في الساعة الثالثة وثماني عشرة دقيقة من فجر يوم اثنين من عام 2015، رحل لي كوان يو، الأب المؤسِّس لسنغافورة وأول رئيس للوزراء بعد استقلالها وحصولها على الحكم الذاتي من بريطانيا في عام 1959، عن عمر 91 عاماً، ليعلن بذلك ختام حياة واحد من أشهر زعماء القارة الآسيوية والعالم في القرن العشرين.

وتمكن لي كوان ذو الجذور الصينية والمولود عام 1923 من تحويل سنغافورة من جزيرة مليئة بالمستنقعات والبعوض إلى مركز مالي عالمي واستثماري تكتظ فيه ناطحات السحب، وقفز فيه دخل الفرد 3 مرات، ويعد من بين أقل حكومات العالم فساداً.

واشتهرت مقولة لي كوان عن حلمه بتحويله «سنغافورة إلى واحة من العالم الأول في منطقة من العالم الثالث»، وهذا ما تحقق على أرض الواقع وألهم عديداً من الدول بما فيها الصين، التي نَمَت وتعملقت بعد اتِّباعها نهجه الاقتصادي المعتمد على الرأسمالية المقيَّدة بالتدخل الحكومي لضبطها وتنظيمها.

ولكنَّ طريق لي كوان يو لصناعة نجاح سنغافورة لم يكن ممهَّداً. وكانت مصادر الدخل الشحيحة وعدم التجانس السكاني الذي يجمع خليطاً من الملاويين والصينيين والهنود، وتنوع الثقافات واللغات والأديان داخل البلد الصغير، بمثابة عوائق جسيمة أدرك القائد السنغافوري صعوبة اجتيازها منذ اليوم الأول لاستقلالها ومن ثم انفصالها عن ماليزيا عام 1965 التي يسميها «لحظة الكرب». ويقول لي كوان عن هذه الظروف الصعبة: «سنغافورة أمة لم يكن يُفترض أن تولَد. التاريخ وقت طويل، وقد قمت بمغامرتي».

ويُعرف لي كوان بعقليته العملية وشخصيته القوية الواقعية ويقول البعض إنه يجمع بين الخليط الساحر من الجاذبية والخوف. صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية كتبت في يوم رحيله أن سمات شخصيته انعكست على أمة بالكامل، أمة عملية، وغير عاطفية، وطموحة تتطلع للأمام. ولكنَّ كوان جرَّب الفقر وخشنت عواطفه ومشاعره في الواقع الذي لا يرحم. ووصف نفسه في واحد من كتبه بـ«مقاتل الشارع»، وقال: «إذا استطعت أن تنال مني وتؤذيني فافعل. ولكن لا يمكن أن تحكم مجتمعاً صينياً إلا بهذه الطريقة».

هذه الروح المقاتلة والرغبة الفولاذية في النجاح التي جعلته يحصل على مرتبة الشرف في دراسة القانون ليعود بعدها ويبني بلاده من الصفر وينتشلها، متجاوزة حجمها الصغير وعوائق الطبيعة، وتعود تلك الروح المقاتلة في نشأتها إلى أيام الاحتلال الياباني لبلاده الذي ترك ندوباً في روحه ودروساً ليتعلم منها طوال حياته. هذا الاحتلال المُهين الذي كاد يفقد حياته خلاله، جعله يرى كيف تركع الشعوب الضعيفة وكيف يُذَل أهلها الفقراء ويخضعون لأنهم جائعون. وقال كوان عن هذه التجربة المريرة: «رأيت في الاحتلال الياباني لسنغافورة كيف يخضع الناس لأنهم يريدون الحياة والطعام. تعلمت بعد ذلك ماذا تعني القوة».

ظروف نشأته أسهمت في تشكيل شخصيته الكارهة للعواطف المنفعلة الهائجة والمحبة للانضباط واتخاذ القرارات بهدوء بعد أن تبرد المشاعر الغاضبة. في حواره مع الصحافي الأميركي توم بليت، الذي نشره في كتابه «حوار مع لي كوان يو»، يصف الزعيم السنغافوري والده بالشخص الذي لم يكن قادراً على ضبط أعصابه لذا كان يهتاج غضباً على أتفه الأسباب ويضرب الولد الصغير، الأمر الذي ترك جروحاً غائرة داخل أمه الحزينة الحكيمة الهادئة التي آمن من خلالها بقوة المرأة السنغافورية وقدرتها الفاعلة على المشاركة في صنع مستقبل سنغافورة.

وتعرَّض لي كوان يو لانتقادات مستمرة من الصحافة الغربية التي تتأرجح بين الإعجاب بعبقريته وقدرته على النجاح، وبين ما تصفه بالنظام التسلطي الناعم الذي يؤمن بالحكومة المركزية وانخفاض مستوى حرية التعبير الشعبي والصحافي. ورد لي كوان يو على هذه الانتقادات بإجابة واحدة: «لا يهم ما يقوله الآخرون عني، المهم ما يقوله السنغافوريون. يمكن أن تسميني براغماتياً نفعياً. أنا مهتم بماذا يعمل ويتحقق النجاح».

ويفتخر لي كوان يو بأن بلاده خالية من الآيديولوجيا مثل خلو المشروبات الغازية من السكر. «آيديولوجيا سنغافورة الوحيدة»، كما ذكر في حوار مع صحيفة «نيويورك تايمز»، هي «الآلية الناجعة التي تعمل. سنجربها ونرى، إذا عملت سيكون ذلك جيداً وسنستمر، وإذا لم تعمل، سنتخلص منها، ونجرّب غيرها».

بعد حكم لي سنغافورة لأكثر من ثلاثة عقود رئيساً للوزراء من خلال حزب العمل الشعبي الذي اكتسح الحياة السياسية في البلاد لعقود وبعد أن تنازل عن الحكم طوعاً في عام 1990، أصبح «الوزير الأعلى» التي تنعكس ظلاله على ناطحاته وبحيراته. الصحافيون يذهبون إلى سنغافورة لمقابلته أولاً قبل حتى أن يلتقوا رؤساء الوزراء الذين تتلاشى أهميتهم إلى جانبه على الرغم من أنه يعمل من بيته. سأله أحد الصحافيين منتقداً هذه القبضة الحديدية رغم الغياب، فأجابه بشبه اعتراف: «لا يمكن أن نغامر ونسمح لما حققناه بالتراجع».

روَّج لي كوان مراراً لما سماها «القيم الآسيوية»، وهي حملة أخلاقية وسلوكية معارضة للقيم الغربية التي تؤمن بحرية الفرد في الحياة والتعبير على حساب قيم المجتمع. القيم الآسيوية تقلل من أهمية الحرية الفردية إذا كانت على حساب خير المجتمع الذي سيشمل الجميع، كما يقول. كما أنه أحد المخلصين لقيم تطوير الذات التي تحرِّض السنغافوريين على الابتسام، وتعلم اللغة الإنجليزية، وتجنب رمي القمامة من الشرفات، والبصق في الشارع، والتخلص من «العلكة» بعد مضغها. شوارع سنغافورة لامعة وشديدة النظافة بسبب العقوبات المالية على من يبصق لعابه أو علكته. ويسخر بعض المعلقين من هذه القوانين التي يصفونها بالغرابة. وردَّ لي كوان على هذه الضحكات الساخرة بقوله: «دعهم يضحكوا. لو لم نقم بهذه الجهود لأصبحت شوارعنا قذرة وشخصياتنا وقحة».

والآن بعد سنوات من رحيل أيقونة سنغافورة وأبيها المؤسس، آخر ما يفكر السنغافوريون وملايين المعجبين بتجربته هو الضحك على ما قاله أو فعله.

لماذا أكتب عنه اليوم؟ لأن تجربته تعلمنا دروساً مهمة خصوصاً في منطقتنا، وهي أهمية القائد الواقعي العملي المهتم بمصالح شعبه. القائد الذي يؤمن بالإصلاح الحقيقي والتنمية الاقتصادية والحرب على الفساد لأنها هي السبيل الأمثل للاستقرار والازدهار. القائد الذي يفهم طبيعة الشعب ويتعامل معه على هذا الأساس، وكما قال كوان فإنه لا يهتم بما يقوله عنه الآخرون لأنهم لم يفهموا تركيبة مجتمعه. فمجتمعه خليط ديني وعرقي، ويجب فرض قوانين تضبط الأمن فيه وتدعم تعليماً يدعم التطور الثقافي والعلمي لأنه لا يمكن لمجتمع أن يمضي إلى الأمام بثقافة متأخرة وتعليم متراجع ومذاهب وأعراق متناحرة... تجربة لي كوان تُعلمنا الأخذ من المجتمعات المتطورة والانفتاح عليها وأخذ ما يناسبنا منها لأن لكل مجتمع حركة إيقاع مختلفة ولا يمكن فرض نموذج سياسي واقتصادي على الجميع ولكن من الحكمة التعامل بواقعية. تجربة لي كوان يو تستحق التأمل، ومن كان يهاجمه سابقاً أصبح يبجّله الآن، ومن الأكيد أنه لو عاد إلى الحياة الآن سيقول ما كان يقوله سابقاً: «لا يهم المديح أو النقد. المهم ما يقوله السنغافوريون عني. أنا مقاتل من الشارع وبراغماتي ونفعي وآيديولوجيتي الوحيدة هي آيديولوجية النجاح».

***

د. ممدوح المهيني

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: الجمعة - 16 ذو القِعدة 1445 هـ - 24 مايو 2024 م

لطالما استشعر الإنسانُ براعتَه في التغني بألوان الاختلاف التي تطبع حياة بني البشر، في محاولة لإظهار جمال وإيجابيات تلك الاختلافات التي من شأنها أن تعزز أواصر الترابط والتعايش والتسامح بين الأفراد والمجتمعات، استدعاءً لروح الإنسانية التي من شأنها إنقاذ الإنسان من الذوبان في نزعاته التي قد تفصله عن الجمع البشري.

والواقع الإنساني يزهر بالاختلاف، أي التنوع والتباين، باعتباره عماداً رئيسياً للتعارف ولتقريب المسافات وتعظيم نقاط الالتقاء والتشابه، إذ هناك روابط مشتركة يمكن استثمارها في الارتقاء بالعلاقات الإنسانية ولتحقيق ذات الأهداف السامية.

وحين حاول الإنسان بشتى الطرق التنقيب عن أساس الأشياء، وعن أصول بنيتها الدقيقة، سعياً منه لفهم دقيق حول نتاجاتها التي تبدو لاحقاً على أشكال وأنماط مختلفة، التقى مع أميز تلك الأمور التي احتلت مساحة عريقة في الساحة الفلسفية وتداخلت في مختلف في حقولها، أي المحاولات المعنية بفهم المنبع الأساسي والأول لـ «المعرفة».

وبالعودة مرة أخرى للحديث عن التشابه والاختلاف، نجد أنه - وعلى الرغم من تعدد التفسيرات الفلسفية التي يعزى لها مصدر المعرفة - ثمة العديد من الآراء الفلسفية التي ذهبت لتحييد وإقصاء كل من عاملي التجربة والدافع الحسي النابع من داخل الإنسان، لصالح الاعتماد غير المشروط على ملكة العقل وقدراته، باعتباره المادة الخام لمختلف الإفرازات المعرفية، لا سيما أن العقل يمثل خيطاً جامعاً لقوة فطرية يشترك فيها كافة أبناء البشر. وهنا نتوقف عند الرأي الذي يصف العقل باعتباره «أعدل الأشياء قسمةً بين الناس»، كما قال الفيلسوف رينيه ديكارت.. فهل حقاً يتشابه الإنسان في العقل باعتباره «المادة الخام» التي تتشكل منها المعرفة؟ وما الذي قصده ديكارت باعتبار العقل قسمةً عادلةً بين بني البشر؟

إن الرفض هو أول ما يمكن تخيله كردة فعل على التصريح بتشابه عقولنا، حيث يجد كل إنسان في عقله ما يميزه عن الآخر، ولذا قيل في الأمثال الشعبية المتداولة ما مفاده أن كل فرد من بني البشر رضي بعقله ولم يرض برزقه! في إشارة للتناقض الذي يأتي من عدم التهاون بتقييم كل منا لعقله، والتقاء ذلك مع نسبة لا بأس بها من الفردانية الممزوجة بـ «الأنا»، والتي تشير لها العديد من الوقائع المعيشة والممتدة على طول خط التاريخ، و«صراع الجدليات»، واتخاذ الموقف النهائي والحاسم في العديد من القضايا التي لم تنل اكتفاءها من البحث رغم اكتناز ما قدمه الفلاسفة حولها.

وفي ذات السياق، فإن الموثوقية الموجودة لدى كل واحد منا بعقله تعد أحد الأدلة التي استخدمها ديكارت للبرهنة على تشابه عقولنا، حيث إن السعي الإنساني يكون للاستزادة الثقافية والمعرفية والتطور أو الارتقاء بالمهارات والخبرات، لكنا لم نسمع من قبل عن محاولة لتبديل العقل أو رغبة الإنسان في حصوله على عقل مختلف، بل الرغبة هنا تتحدد بمتعلقات العقل من أفكار ومهارات إضافية.

إن بناء قناعة تتلاقى مع ما أشير إليه من اعتبار الإنسان ممتلكاً لمادة عقلية خام متشابهة وطاقة كامنة لا تفاضل فيها، يعيد من تصوراتنا تجاه المعرفة والقدرة على الخروج بتفرعات معرفية غنية بعيدة عن إطلاق تلك المعارف وإلصاق العمومية الفضفاضة بها، بل إن ذلك يمتد ليلقي لنا طرف الخيط الذي يعيننا على دراسة مصادر المعرفة. إن تغذية الأرضية الأساسية يختلف من شخص لآخر، حسب زاده من المعلومات والخبرات. كما أن التعامل مع سلة المواد الأولية المجمّعة من معلومات وخبرات ومواقف وأحداث.. يختلف من شخص لآخر، وبالتالي فإن طبيعة إنتاج المعرفة، وإن تشابه في خطواته العامة لدى الجميع، فإنه لا يمكن أن يتشابه في كيفية معالجة موادها الأولية والأساسية حين تعتمد تلك الخطوات على أسس ومحددات مختلفة.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 22 مايو 2024

يعيش الإنسان المعاصر في صراع نفسي محتدم لقبول ما يدور حوله من مظالم وممارسات جائرة من زاوية، وأن لا يستطيع فعل شيء مؤثر لإيقافها من زاوية أخرى، وفي الغالب لا يجد تفاسير وشروحات تقف خلفها أدلة دامغة في ما يتعلق بالظواهر الخارقة التي بدأت الانتشار في شتى بقاع الأرض، وبالتالي الاضطرار إلى خوض معارك لم يكن هو في الأساس جزءاً من صناعتها، ولا يملك اتخاذ قرار المشاركة فيها من عدمه، وفي الغالب يكون هو ضحيتها الرئيسية في خضم أمواج عاتية وسيول عكسية جارفة تخالف طبيعته الأولى، وما بين شعوب تحسب أنها في طريقها إلى التحكم في نواميس الكون ومعرفة أسراره، وشعوب تلاحق الركب بكل ما أوتيت من قوة، وأقوام تنفرد بالغناء المنفرد على الأطلال، وأخرى تشعر بأنها لا حول لها ولا قوة وهي تأكل وتشرب من أجل البقاء وغير معنية بما يجري في العالم من صراعات.

و نجد أن لوحة الحياة اليوم يراها البعض بألوان زاهية وآخرون لا يرون الألوان، ويعتقدون أن الألوان أسطورة اخترعها الجانب الآخر، وهو ما ينعكس على السياسة والاقتصاد والثقافة وكل مناحي الحياة في وقتنا الحاضر.

في واقع الأمر، فإن العقلانية لدى الكائن البشري مهارة مكتسبة، وفي العموم تتطلب جهوداً استثنائية للوصول إلى درجة التمكن منها والشعور بالراحة في ممارستها على مدار الساعة، لكون العوامل الأخرى المكونة للشخصية البشرية طاغية في تكوينها الاحتياجي الأساسي، وذلك ضمن ثلاثة محاور رئيسية، والتي تندرج في طياتها تفاصيل باقي الاحتياجات، وهذه المحاور الثلاثة هي الاحتياج الفسيولوجي والشعوري والنفسي، والتي تشكل تكتل القدرة على البقاء والمنافسة والتفرد والانتماء لمجموعة، وبالتالي يعتقد أن الآخر أقل منه في القيمة الخارجية وفي جوهره، وهو شعور طبيعي اجتماعياً وإن كان ليس شعوراً في جينات الفرد يولد به، بل يحتاج لمؤثرات لتحفيزه وجعله ينمو ويتحول لقناعات ومنها لمسلمات ثابتة في الذهن والكيان.

لا يزال الإنسان المعاصر يبحث تحت حفريات وأنقاض العقل التاريخي عن أجوبة لأسئلة لا توجد لها أجوبة حتى في مستقبله، وأن الثقافة الوافدة الجديدة الضاغطة والمرنة والجذابة قد تكون هي الثقافة البديلة التي سيختارها الشباب لتحديد هوية جيلهم، ومدى تأثير ذلك على الأحادية الثقافية للإنسان العاقل المعاصر والتي تتكون من خمس معطيات وهي: (1) الإيمان بعدم أهمية نموذجه الثقافي في أسلوب الحياة التي يتبناها حالياً (2) الإيمان بأنه علامة فارقة في التاريخ والتاريخ يبدأ به وما مضى مجرد أساطير تسقط أمام عظمة أبطال الجيل الحالي (3) القدرة على فرض المعايير الأخلاقية لعالم الإنترنت في العالم الواقعي والذي يشكك هو في مدى واقعيته (4) الظهور في صورة وحيدة لشكل ولون وطعم المجتمع ومؤسساته و(5) الحجاب الخفي والذي يجعل الإنسان يعتقد أنه يمثل وجهة نظر وقيم عالمية تتجاوز وتؤثر على جميع الناس التي يجب أن تتكيف ثقافياً معها، وبالتالي الحكم على ثقافة من هم ليسوا جزءاً من قريته في الشبكة العنكبوتية من خلال قيم ومعايير ثقافته السيبرانية.

ويلامس الغزو الثقافي الذكي فعلياً حياة كل أفراد المجتمع ويعيد تشكيلهم من الداخل، وهو ما يعقّد أطروحات التعايش السلمي بينهم والتسامح وقبول الآخر المختلف لكونها قيم تحتاج لعقيدة هي غائبة اليوم، ولا تستطيع وقف عمليات التغريب الإلكتروني للمجتمعات الشرقية والغربية على حد سواء. فهل نستطيع أن نتخيل عالماً مليئاً بالثقافات الرقمية الأحادية المعزولة عن بعضها البعض؟! وعربياً، هل ستتخطى الأجيال المستقبلية عقبة الأحادية الثقافية في ظل غياب استراتيجيات ودراسات مطولة ترصد واقع توجه المجتمع؟ وهل سيزداد الاهتمام بعلماء وباحثي علوم النفس والاجتماع والفلسفة ومجالات الأمن الإنساني مثل الاهتمام بباقي التخصصات التي تراها بعض الحكومات تذكرتها للعالمية دون التخصصات الإنسانية الأخرى؟ وهي إحدى الفجوات المؤثرة في بناء العقل العربي الاستراتيجي والقراءة غير التقليدية للمستقبل.

***

سالم سالمين النعيمي

كاتب وباحث إماراتي في التعايش السلمي وحوار الثقافات، عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 21 مايو 2024

نظم في عَمّان بالأردن الأسبوع الماضي «الحوار الاستراتيجي العربي- الياباني» بالتعاون بين مركز الدراسات الاستراتيجية الذي يشرف عليه المفكر الأردني زيد عيادات ومركز بحوث العلوم المتقدمة بجامعة طوكيو. ومع أن جلسات المؤتمر خُصصت بالأساس لاستعراض موضوعات الساحة مثل القضايا الأمنية والجيوسياسية المشتركة وتحديات التطرف والإرهاب وفرص التعاون الاقتصادي والتقني، بالإضافة إلى حرب غزة الدائرة حالياً، إلا أن الإطار الناظم للحوار ظل كما هو متوقع الدرس الذي يتعين على العالم العربي استخلاصه من تجربة النهوض والتحديث اليابانية. ليس الموضوع بالجديد، وقد كتبت حوله دراسات وأعمال عديدة نذكر في مقدمتها كتابات مسعود ضاهر ومحمد أعفيف، بيد أن جل هذه الأعمال تمحورت حول جدلية التحديث التغريبي والنهوض الذاتي في اليابان التي تم تجاوزها إلى حد بعيد في الأدبيات الاجتماعية والتاريخية الراهنة. ليس من همنا استعراض الكتابات الأخيرة في الموضوع، لكن حسبنا الإشارة إلى أن النموذج الياباني المطروح للاستكناه عربياً هو ما أطلقنا عليه «الحداثة المحافظة».

ما نعنيه بالحداثة المحافظة هو استيعاب شروط التقدم العلمي والتقني وآليات التنظيم السياسي المعاصرة في سياق الاستمرارية الحضارية والمجتمعية المحلية. كتب الكثير حول خصوصية النموذج الياباني الجامع بين الأصالة الثقافية المحلية والتحديث الناجع، بيد أن هذا التوجه تم دوماً في إطار السؤال الملغوم حول الأصالة والمعاصرة، الذي كثيراً ما شغل رواد النهضة العربية. لم يكن هذا هو السؤال المنطلق في التجربة اليابانية الحديثة، التي تمحورت منذ القرن الثامن عشر حول شروط الفاعلية التاريخية في المحيط الآسيوي في سياق العلاقة المتوترة بالغرب التي وصلت مداها في الحرب مع روسيا 1905 وما تلاها من مشاركة يابانية في الحربين العالميتين.

في هذا الباب نذكر أن شعار ثورة الميجي (ومعنى هذه العبارة الحكومة المتنورة)، هو «الجمع بين الروح اليابانية والتقنية الغربية». ومع أن بعض دعاة التنوير الياباني طرحوا منذ نهاية القرن التاسع عشر خيار «الخروج من آسيا» (فوكوزاوا يوكيشي)، إلا أن هذا الخروج كان يعني في الحقيقة القطيعة مع العطالة التاريخية والانعزال الطوعي عن العالم الذي طبع حقبة الأيدو (1600 - 1868). ما نريد أن نبينه هو أن حركة الميجي التي نجحت في تحديث اليابان لم تسع إلى مسح الطاولة وإعادة بناء الدولة على أسس جديدة غير مسبوقة، على شكل الثورات السياسية والاجتماعية الكبرى في الغرب، بل اعتمدت الخيار المحافظ الذي تمثل في مرتكزات ثلاث هي: إعادة النظام الإمبراطوري باعتباره ضمانة الاستقرار الداخلي ومظهر الرمزية الحضارية للمجتمع، وتحويل عقيدة الشانتو إلى ديانة مدنية للدولة، والحفاظ على السلطة العائلية في الديناميكية الاقتصادية والإدارية وشكل التنظيم السياسي.

ومع ان اليابان اعتمدت منذ دستور 1889 نموذج الملكية الدستورية ببرلمان منتخب وصحافة حرة وقضاء مستقل، إلا أنها استوعبت هذه المقاييس ضمن بنيتها الثقافية الخصوصية المميزة دون الانسياق إلى سمات الفردية والميكانيكية الإجرائية والقوننة الصورية التي تطبع الليبرالية الغربية. ومن هنا ندرك أن تاريخ الديمقراطية اليابانية سيطر عليه تقريباً في كل مراحله حزب واحد هو الحزب المحافظ (الحزب الليبرالي الديمقراطي) الذي يقدم نفسه بأنه حارس للتقاليد اليابانية وان كان يتبنى الليبرالية الاقتصادية المنفتحة. لقد عانت التجربة السياسية العربية الحديثة من الأفكار الثورية الراديكالية التي إما اختزلت الليبرالية في نمط التحديث الغربي الكامل دون مراعاة الخصوصيات الثقافية والاجتماعية، أو تبنت أطروحات القطيعة الجذرية لإعادة قولبة المجتمع وحمله عنوة على التقدم والتطور التاريخي.

في الحالتين، يتم النظر إلى ثقافة المجتمع بصفتها عائقاً أمام النهوض والتحديث، وينظر إلى الدولة بصفتها الوصية على المجتمع وطليعته القيادية المسؤولة عن تغييره. وفي الوقت الذي نقرأ كتابات عربية ضحلة عن التجربة اليابانية ترى فيها دليلاً على نجاعة مسلك الخصوصية الحضارية المغلقة على نفسها، نرى أن قوة هذه التجربة تكمن في انفتاحها وجرأتها وحيويتها. الأمر هنا يتعلق بتجربة حداثية مكتملة البناء والشروط وفق قواعد النهوض الموضوعية في العصر الحاضر، لكنها تطرح خياراً ليبرالياً محافظاً نرى أنه هو المسلك الملائم للمجتمعات العربية الراهنة. الخيار المحافظ هو الذي يحرص على الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي، ويعمل على حماية الهياكل المجتمعية التي تقوم عليها الهوية الخصوصية، فيقطع الطريق أمام دعاة القطيعة العدمية من متطرفين حاملين لمشروع أدلجة الدين أو تثوير المجتمع بالتحشيد والقوة.

***

د. السيد ولد أباه – أكاديمي موريتاني

19 مايو 2024 23:30

لطالما ظلّ فضاء الفلسفة مولّداً للكثير من الأسئلة الحيوية، وبخاصةٍ ونحن نعيش ضمن حومة من الأحداث المفصلية الكبرى، والتحديات الأخلاقية، والصراعات السياسية. والمعنى الرئيسي للفلسفة هو السؤال، ولا يمكن فصل أي فلسفةٍ عن سؤالها؛ إذ الفلسفة تعمل على أسئلة كاتبها، وعلى وعي متلقيها، هذا هو الترابط المؤسس لأي موضوع فلسفي مطروح.

قلتها مراراً إن الفلسفة كما يرى لويس ألتوسير في كتابه المهم «تأهيل الفلسفة للذين ليسوا بفلاسفة» أن: «أي فلسفة تريد أن تعرف نفسها حقّاً، بصدق، وتعرف المكان الذي تشغله في عالَم الفلسفة، وما يميّزها تخصيصاً عن سواها من الفلسفات، فعلى هذه الفلسفة أن تقوم بالالتفاف الكبير حول تاريخ الفلسفة، وأن تُقدِم على أفعال قريبة وبعيدة، وأكثرها بُعداً عنها؛ كي تتمكّن من الرجوع إلى المنزل محمّلة بالمقارنات، ومن اكتشاف ما يجعل معرفتَها بنفسها أفضل قليلاً. كلّ الفلسفات الكبرى تقوم بهذا الالتفاف الكبير: كانط راح يبحث لدى أفلاطون البعيد ولدى ديكارت القريب، عمّا يتعرّف به إلى نفسه. وماركس راح يبحث في نهاية العالَم لدى أرسطو ولدى الأقرب».

في مقالةٍ مهمةٍ نشرتها مجلة «حكمة» ومؤسسها الراحل الدكتور يوسف الصمعان، بعنوان: «ضرورة الهجوم على الفلسفة» كتبتْها إيرين غوميز أولانو، والحقّ أن فيها الكثير من التأملات المهمة؛ فهي ترى أننا: «إذا تأملنا بالفكر الفلسفي المعاصر فسنجد أن أكثر الذين انتقدوا الفلسفة كانوا ينتمون إلى حقول خارجة عن الفلسفة، ولكن أصبحوا فلاسفة بانتقادهم، فهذا أشهر فيلولوجي في القرن التاسع عشر، فريديريك نيتشه ينتقد بشدة الميتافيزيقا لا لشيء إلا لأن الفلسفة انجرفت كلياً إليها، فسعى إلى إذكاء جذوة الفكر ومعارضة تاريخ الفلسفة».

ماركس انتفض ضد النزوع التأملي للفلسفة (على طريقة نزعة هيغل)؛ إذ يقول إن «الفلسفة لم تفعل شيئاً أكثر من التأمل في العالم وإصدار تأويلات حوله، في حين أنه يجب تغيير العالم»، إضافة إلى أن ماركس قد عرى عن الطابع الآيديولوجي الذي تخفيه الفلسفة».

أما عن الفلسفات الشذرية التي نمت بها أفكار العديد من الفلاسفة، ومنهم نيتشه في بعض كتبه وليس كلها، فتقول عنها: «إذا تأملنا الفكر الفلسفي المعاصر فسنجد أن أكثر الذين انتقدوا الفلسفة كانوا ينتمون إلى حقول خارجة عن الفلسفة، ولكن أصبحوا فلاسفة بانتقادهم، فهذا أشهر فيلولوجي في القرن التاسع عشر، فريديريك نيتشه ينتقد بشدة الميتافيزيقا، لا لشيء إلا لأن الفلسفة انجرفت كلياً إليها، فسعى إلى إذكاء جذوة الفكر ومعارضة تاريخ الفلسفة. وهذا أيضا ماركس انتفض ضد النزوع التأملي للفلسفة؛ إذ يقول: إن «الفلسفة لم تفعل شيئاً أكثر من التأمل في العالم، وإصدار تأويلات حوله، في حين أنه يجب تغيير العالم».

الخلاصة أنَّ الفلسفة نجحت بمهمة «نزع السحر عن العالم»، كما يقول ماكس فيبر. لقد تمكَّنت الفلسفة من طرح الرؤى القديمة على أنَّها أفكار اعتيادية، وفي نظر «هابرماس» فإنَّ هيغل: «أول من طرح مسألة قطيعة الحداثة مع الإلهامات المعيارية للماضي التي هي غريبة عنها في صيغة مُشكل فلسفي». ثم إنَّ مفعول الفلسفة يتطوّر تبعاً لتطوّر منابع الإشكاليات الفلسفية، وذلك بتغيّر العصر، كما أنَّ «أثرها» لا يبدو واضحاً للعيان، وتحتاج إلى عبقرية تشبه عبقرية الفيلسوف الرياضي «فريجه»، الذي لم يحفل علماء عصره بما كتب، فكتب إلى ابنه يتوسل إليه ويطلبه أن يحتفظ بهذه الوريقات، فسيأتي يوم ما من يرى فيها ما يفيد، وهو ما حصل فعلاً مع قراءة بيرتراند راسل لها. إنَّ أثرها سيختلف عن المفاعيل الأخرى كالجهود السياسية، أو الأعمال العادية من ناحية سرعة التأثير، بل التدمير، بل وظيفة الفلسفة مبنيّة على سؤالها؛ إذ لكل فلسفة أسئلتها الخاصة، فالفلسفة فضاء ممتد خالٍ من المضامين، وبطرح السؤال تتكوّن الفلسفات وتتخلّق، وعليه فإنَّ التأهيل الحقيقي لأي مشروعٍ فلسفي كامن في التشجيع على السؤال، والاستفادة من حيوية العقل البشري الجبّار الذي يمكّن الإنسان دوماً من طرح الأسئلة الجديدة التي تشجع من فاعلية المجال الفلسفي، في سبيل تطوّر قوّة الإجابة أو محاولة الإجابة عن السؤال.

***

فهد سليمان الشقيران

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الخميس - 08 ذو القِعدة 1445 هـ - 16 مايو 2024 م

 

لقد هزمت الدول العربية الإرهاب بفضل بطولات وشجاعة رجال أمنها. لقد أظهروا بسالة لا مثيل لها وتعرضوا لعمليات اغتيال وقُتل العديد منهم في مواجهة المجموعات المسلحة. اختلطت دماؤهم بتراب أوطانهم التي يدافعون عنها ولم ينتظروا شكراً من أحد. لقد قاموا بدورهم على أكمل وأنبل وجه، ولكن تضحياتهم لن تكتمل إذا لم يقم المسؤولون في التعليم بواجبهم.

رجال الأمن يستطيعون أن يقضوا على الهجمات الإرهابية، ولكن القضاء على الأفكار الإرهابية من مسؤولية وزراء التعليم. هل قاموا بدورهم؟ لا يمكن الجزم بالجواب ولا يمكن أن نكون قاسين ونلومهم أيضاً على مهمة عسيرة ومعقدة أكبر من قدراتهم والسنوات المعدودة التي يقضونها على كراسيهم. ولكننا إذا تأملنا الأجيال الجديدة وكيف تفكر فمن الصعب علينا أن نكون متفائلين. ومع هذا لا يمكن أن نلقي عليهم اللوم والمواعظ، فإذا لم يتعرضوا للمعارف المفيدة فلن نتوقع منهم الأفضل.

سأقترح في هذا المقال 7 مناهج هدفها خلق شخصيات أكثر واقعية وتسامحاً ومنطقية، وبالتأكيد هناك من هو أكثر تخصصاً مني ولديه اقتراحات أفضل.

أولاً: منهج عن تاريخ الحضارات

ومن بينها الحضارة العربية والإسلامية في عصرها الذهبي التي قامت على العلم والانفتاح والترجمة من حضارات مختلفة سبقتها. وكما هو معروف فإنه في ذلك الوقت كان إتقان اللغة العربية مهماً للاطلاع على المعارف الحديثة (تماماً كما هو الحال الآن مع اللغة الإنجليزية)، وقام ابن رشد بشرح أفكار أرسطو إلى أوروبا وتحديداً المعاهد المسيحية واتبع القديس توما الأكويني نظريته التي تجمع بين الفلسفة والدين.

من هذا المنهج يفهم الطلاب أن الحضارة الإسلامية التي اعتمدت على الفكر المستنير، والتسامح وحرية التفكير، وانصهرت فيها ثقافات وأديان وأعراق وقوميات مختلفة، وبالوقت ذاته يدركون أهمية وقيمة حضارات سابقة ولاحقة مثل الحضارات اليونانية، والرومانية، والصينية، والغربية؛ سيجعلهم هذا أكثر تقديراً للتطور الإنساني الذي شاركت فيه عقول مختلفة من أمم عديدة أسهمت جميعها بما وصلنا له من تقدم.

ثانياً: منهج تاريخ الأديان المقارن

الدين مشكل وعامل أساسي وضروري يشكل هوية الشعوب. الأديان في جوهرها تدعو للأخلاق والخير والروحانية والخوف من الله بالفعل وليس الكلام، ولكن المتعصبين حوّلوها إلى كراهية وتطرف وجعلوا منها، للأسف، أداة للتحريض وربطوها بثقافة الموت. تعليم الدين الذي يدعو للسعادة والعمل والإنتاج والمعرفة سيغير بلا شك عقول الطلاب. إلى جانب ذلك من المهم تدريس الطلاب تاريخ الأديان الأخرى، أو ما يسمى مادة الأديان المقارن وفهمها، نشوؤها وتطورها؛ لأن ذلك سيخفف من الانغلاق والتعصب. نعيش في مجتمعات مختلطة دينياً ومذهبياً وسيزيد هذا التمازج خلال العقود القادمة، ومن المهم أن نفهم الآخرين بطريقة علمية وتاريخيّة وإنسانية وإلا سيقوم غيرنا، من دعاة الكراهية، بملء الفراغ.

ثالثاً: منهج تشكل الدولة

يعيش معظمنا في دول مستقرة، ولكن كيف يمكن أن نحافظ عليها إذا لم نعرف أهميتها. وهناك من يحاول تدريس الوطنية، ولكن الوطنية مجرد مشاعر لا يمكن أن تدرّس وهي تأتي تلقائية ومرتبطة بالأرض والشعور بالانتماء بالمكان والناس. لكن فهم الدولة وتطورها التاريخي وكيف استطاعت أن تلغي كل الانتماءات الأخرى وتفرض القانون وتحقق السلم وخطورة نشوء ميليشيات وجماعات تزاحمها سلطتها. تقدير فكرة الدولة وفهم دورها الحقيقي يقللان كل الدعوات المحرضة على إضعافها وإسقاطها والقفز عليها.

رابعاً: منهج تاريخ الفلسفة والأفكار

من المهم أن يطلع الطالب الصغير على الفلسفة ولا يعني هذا الإيمان والاقتناع بكل ما فيها، ولكنها ستوسع مداركه وتجعله يفكر بطريقة منطقية نسبياً لا يرى العالم باللون الأبيض والأسود. الاطلاع على أفكار كبار الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين وغيرهم من فلاسفة عصر النهضة إلى الحكماء الصينيين، وحتى العقول الكبيرة في عصرنا الحديث، سيزيد من ثقافة ووعي الطالب ويقوي من شخصيته، ولن يجعله فريسة سهلة لكل شخص يقنعه بفكرة مجنونة خرافية.

خامساً: دراسة العلوم وتطور الإنسان والطبيعة البشرية

 ثورة «كوبرنيكوس» التي غيرت فهمنا للمجموعة الشمسية. وصراع «غاليغو» مع الكنيسة. الثورات الطبية والصناعية والتقنية التي غيرت عالمنا. وفهم كيف تشكل الجماعات البشرية من مجتمعات الصيد البدائية ومع تزايد عددها تحولت إلى مجتمعات متحالفة شكلت قبائل ومن ثم اندمجت وشكلت الشعوب التي نعرفها اليوم. فهم الطبيعة البشرية وغرائزها ودوافعها العميقة، وفهم أن الأعراق هي مفاهيم ثقافية أكثر من كونها حقائق راسخة؛ كل هذه الأفكار مهمة وكفيلة بتغيير طريقة تفكير الشخص عن نفسه وجذوره والبشرية والعالم من حوله.

سادساً: منهج طرق التفكير والنقاش

 فكرة التفكير المنطقي مهمة لأنها تعتمد على الحقائق وليست العواطف. كما أن فكرة النقاش المفتوح ترسخ فضيلة الحوار المتحضر مع اختلاف الأفكار، كما أنها تزرع الثقة بالطلاب وتسهم في بناء واستقلالية شخصياتهم. وعن هذا يقول الملياردير المتواضع وارن بافيت إن أهم نصيحة يقدمها للطلاب هي أن يتقنوا مهارة إلقاء الخطاب أمام الجمهور وسيرفع ذلك من فرص نجاحهم بنسبة كبيرة.

سابعاً: تاريخ الاقتصاد

فهم الاقتصاد مهم لفهم عالمنا اليوم القائم بشكل أساسي عليه وكيف مررنا بمراحل اقتصادية مختلفة حتى وصلنا من النظم الإقطاعية في أوروبا إلى الاقتصاد الرأسمالي الذي أسهم بشكل كبير في تغيير الواقع بصورة جذرية، وكيف انطلقت من أوروبا وأسهمت بنشوء طبقة رجال المال وتراكم الثروة، ومن ثم الانطلاق إلى قارات جديدة بحثاً عن الأرباح. وإذا غصنا في التاريخ فسندرك كيف كان الاقتصاد الزراعي في القرون القديمة هو السائد، ولكن الثورة الصناعية غيرت مجرى التاريخ بعد أن كان يسير في حركة دائرية، والآن نحن نعيش في ثورات تقنية متلاحقة.

كل هذه المناهج المقترحة لن تكون لها أي أهمية إذا أتت على طريقة الحفظ والتلقين؛ لأننا كنا طلاباً ونعرف أننا ننفر بشدة من أي شيء يفرض علينا بطريقة الإجبار. ننجح فيه بتفوق وننساه في اللحظة التي نخرج فيها من قاعات الاختبار. هدف هذه المناهج ليس النجاح والرسوب، ولكن بناء الشخصية وهذا هو، إذا لم تخني الذاكرة، الهدف الأساسي من التعليم.

***

د. ممدوح المهيني

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: لخميس - 08 ذو القِعدة 1445 هـ - 16 مايو 2024 م

 

بعد أن أصبحت عرضة لهجمات التقنية الرقمية

سمعنا وسنسمع كثيراً عن موت الرأسمالية مثلما ماتت الاشتراكية السوفياتية قبلها. المسوّغات متعدّدة والخلفيات الفكرية متباينة: هناك مَنْ يبشّرُ بهذا الموت القريب تناغماً مع رؤية رغبوية انتقامية لما حصل مع التجربة الاشتراكية العالمية، وهناك من يعتمد رؤية الحتمية التاريخية (Historical Inevitability) التي جوهرُها أنّ أي نسق فكري لا بد من أن ينتهي إلى زوال لتبدأ من نقطة الزوال انطلاقة جديدة لنسق جديد. إنها نسخة آيديولوجية محدّثة من الديالكتيك الهيغلي الممتد من القرن التاسع عشر.

لنبتعدْ عن الحروب الآيديولوجية الساخنة ولنقصرْ حديثنا على الفضاء الثقافي والمثقفين (Intellectuals). لم يكن المثقفون بعيدين عن الحفر العميق في جوهر الرأسمالية ومتبنياتها الفكرية وإسقاطاتها الحادة على طبيعة المعيش اليومي للبشر، وهم متباينون في رؤاهم تبايناً كبيراً ينعكس في القطبية المتنافرة لما يكتبونه بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وهذا أمرٌ متوقّعٌ من المثقفين. الناسُ في العادة تحاكم الأنساق الفكرية بمقدار انعكاسها المباشر في تحسّن حياتها اليومية؛ لكنّ المثقفين يُظهِرون عنتاً في القبول الميسّر بالأفكار؛ بل يميلون في العادة لمساءلة الأنساق والحفر العميق فيها بعيداً عن السطوح التي تكمن فيها المنافع الميسّرة سريعة المنال.

واجهة لعرض الموقف

الكتبُ هي البضاعة الأهم للمثقفين. هناك المنشورات والأفلام السينمائية والبحوث والدراسات والفن والتشكيل؛ لكن تبقى الكتب المستودعات الأهم والأكثر تداولاً للأنساق الفكرية. تعكس المنشورات الحديثة من الكتب رؤى متباينة نحو الرأسمالية من جانب مثقفين من شتى الألوان الفكرية والفضاءات المعرفية. سأذكر عيّنات فحسب من الكتب التي اطلعتُ على بعض تفاصيلها.

هناك أولاً كتاب «قوة الرأسمالية» (The Power of Capitalism) للمؤرخ والسوسيولوجي الألماني راينر زيتلمان (Rainer Zitelmann). من المثير معاينة العنوان الثانوي في الكتاب: «الرأسمالية هي الحل وليست المشكلة!» ربما سيقودنا العنوان الثانوي إلى توقّع نمط من القناعة المدفوعة بضغط آيديولوجي للرأسمالية في فكر المؤلف ورؤيته، وسيتعزّز هذا الرأي لو علمنا أنّ الكتاب المذكور أعلاه نُشر عام 2024 بعد سنة واحدة فحسب من نشر كتاب سابق له بعنوان «دفاعاً عن الرأسمالية» (In Defense of Capitalism).

هذا في الجانب المناصر للرأسمالية؛ أما في الجانب المناهض لها (والراغب في موتها ربما) فهناك كتاب مثير منشور حديثاً عام 2024 عنوانه «رأسمالية النسور» (Vulture Capitalism) لمؤلفته غريس بلاكلي (Grace Blakeley). تصمُ المؤلفةُ الرأسماليةَ -كما ينبئنا عنوان الكتاب- بسلسلة لا تنتهي من الشرور والجرائم؛ بل حتى نهاية الحرية الحقيقية للإنسان، وهذا ما يلمحه القارئ من العنوان الثانوي للكتاب أيضاً. لعلّ القارئ سيخمّن أنّ الكاتبة ذات توجهات يسارية أصولية عنيفة؛ حدّ أنها تنتمي لسلالة أحد مؤسسي الشيوعية السوفياتية. أبداً؛ ليس الأمر على هذا النحو. بلاكلي خريجة جامعة أكسفورد البريطانية العريقة، وكانت الأولى على دفعتها في التخصص الثلاثي الشهير بجامعة أكسفورد المسمّى «PPE» (الفلسفة، السياسة، الاقتصاد). القضية ليست آيديولوجيا خالصة، أو تصفية حسابات تأخرت وحان أوان تسديد فواتيرها المتراكمة. المثقفون لهم مواقف متباينة تجاه الرأسمالية؛ فهم يحبونها أو يكرهونها وليس ثمة من موقف موحّد لهم إزاءها.

علاقة طويلة ملتبسة

قبل تناول موضوعة علاقة المثقفين بالرأسمالية، من المهم تشخيص أيّ مثقف هو المعني بهذه العلاقة، وما الرأسمالية المقصودة في هذه العلاقة؟

المثقف هو المشتغل في حقل إنتاج الأفكار ومساءلتها ومداولتها والتعليق على مآلاتها ومفاعيلها المجتمعية والفردية. المثيرُ أنّ كثرة من كبار المثقفين أبدوا ميلاً فكرياً تجاه نوعٍ من الرأسمالية المهذّبة (أو الاشتراكية المطعّمة بحس إنساني، لا فرق!). فلاسفة من طراز برتراند راسل مثلاً صرّحوا عن ميولهم المتناغمة مع جهود الجمعية الفابية (Fabian Society) التي سعت لاعتماد حركية هادئة مسالمة نحو نمط من الاقتصاد التشاركي، المدعم بمظلة دولة الرعاية الاجتماعية (Welfare State). هؤلاء الفلاسفة والمثقفون لم يكونوا يساريين مكرّسين، ولا معنى أصلاً في توصيفهم آيديولوجياً بأنهم يساريون؛ لأنهم كتبوا بقسوة وبالضد من التجربة الشيوعية التي رأوا فيها تكريساً للسلطة الشمولية. هم أرادوا موازنة معقلنة -مقبولة من الوجهة الأخلاقية وممكنة من الوجهة العملية- بين الرغائب الفردانية وسلطة الدولة في منع الاستغلال وحماية مصالح الفرد.

الفكرة الجوهرية لدى هؤلاء المثقفين، هي أنّ الرأسمالية ليست آيديولوجيا أنيقة بقدر ما هي منهج عملي، حتى وإن اتسم أحياناً بشيء من القسوة والحزم، ومنع مظاهر التبطّل والتكاسل، والاتكاء على المعونات من جانب الدولة أو المؤسسات غير الحكومية. من جانب آخر، رأى هؤلاء في الماركسية -وهي الضد النوعي للرأسمالية- نسقاً فكرياً أنيقاً؛ لكنه لا يعمل بكفاءة بما يقود لنتائج فاعلة. ربما أرادوا نوعاً من المزاوجة والتعشيق بين الماركسية والرأسمالية، وهذا ما نجد له صدى داخل القلاع الرأسمالية ذاتها (وأهمها أميركا) بدأ يتعاظم بخاصة بعد الأزمة المالية المدمّرة عام 2008.

هذا عن المثقفين؛ أما بشأن الرأسمالية فثمة تباينات كثيرة أيضاً. ما هي الرأسمالية المقصودة بأن تكون هدفاً لحُبّ المثقفين أو كراهيتهم؟ الرأسماليات أنواع شتى. وجدت الرأسمالية الأولى في البروتستانتية جذراً فكرياً وأخلاقياً لأطروحتها الاقتصادية: على الفرد أن يعمل بكلّ قواه العقلية والجسدية لينال مكانته المرغوبة في المجتمع. حصلت الانتقالة الكبرى في الرأسمالية مع مقدم السياسات النيوليبرالية في حقبة الثاتشرية البريطانية والريغانية الأميركية، عندما ارتدّت الرأسمالية عن أساسها الأخلاقي لكي تصبح تغولاً اقتصادياً صارت بموجبه الحكومات مجرّد لاعب مسلوب القوى في تنظيم آليات السوق. السوق صارت هي اللاعب الأعظم، والأصول المالية الحقيقية صارت مشتقات مالية تعبّر عنها مجموعة أرقام فحسب.

حُبٌّ أم كراهية؟

قلت سابقاً إنّ الماركسية لها أناقتها الفكرية وجاذبيتها الأخلاقية؛ لذا من المتوقّع أن تستميل كثيراً من المثقفين؛ غير أنّ عقوداً من التطبيقات العملية أبانت أنّ الرأسمالية كانت أكثر كفاءة في الوفاء بحاجات الناس ورغائبهم. المرء لن يعتاش على الأفكار عندما تكون معدته خاوية وصحته معتلة، وحاجاته الأساسية منقوصة أو غائبة. الوقوف في طوابير من أجل بعض الزبدة أو اللحم ليس بالتجربة الطيبة التي تدعم أي نسق اقتصادي، مهما كانت خلفيته الفكرية أنيقة ومتّسمة بالرفعة الأخلاقية.

لكن في الوقت ذاته، أبدى بعض المثقفين امتعاضاً مبدئياً تجاه الرأسمالية. هم لم ينكروا بعض مزاياها؛ لكنهم رأوا أنّ هذه المزايا جاءت باهظة التكلفة من الناحية الإنسانية، وقد تعاظم هذا الامتعاض لديهم عقب تغوّل السياسات الثاتشرية والريغانية في المد النيوليبرالي الذي حصل في بداية ثمانينات القرن العشرين. لم يستأنس هؤلاء المثقفون أبداً بفكرة السوق الحرّة المحكومة بآليات العرض والطلب والمتفلتة من كلّ تنظيم قانوني، وقبل هذا لم يستأنس هؤلاء أن تكون الرأسمالية سبباً ووسيلة لتركيز الثروة في يد ثلّة من الرأسماليين الذين لم تُعْرَفْ عنهم مناقب ثقافية مشخّصة. صارت مسألة ثنائية «العقل– المال» تحتلُّ في زمننا المعاصر مكانة مركزية شبيهة بمعضلة «العقل- الجسد» في القرون السابقة، وراحت الكتب تترى في كيفية ترويض العقل والنفس لكي يتحوّلا إلى آلة تعرف كيف تقتنص المال من غير أي معوّقات نفسية أو ذهنية.

لنتأملْ مثلاً كم يكسب أستاذ فلسفة أو أدب أو سوسيولوجيا أو علم نفس في جامعة هارفارد سنوياً؟ ولنقارنْ هذا مع ما يكسبه مارك زوكربرغ مثلاً سنوياً؟ لا مجال للمقارنة. هذا المثال يكفي لبيان أحد أسباب كراهية المثقفين للرأسمالية، رغم أنهم يعترفون بأنها وفّرت لهم عيشاً طيباً. يمكن أن نقرأ بكيفية مسهبة عن تفاصيل مثل هذه في كتب كثيرة، منها: «العقل في مقابل المال» (Mind vs. Money) لمؤلفه آلان إس. كاهان (Alan S. Kahan). العنوان الثانوي للكتاب كاشف عن الطبيعة المباشرة لموضوعه: «الحرب بين المثقفين والرأسمالية».

مراوغات جديدة

اختلفت الحال النوعية في علاقة المثقفين بالرأسمالية في القرن الحادي والعشرين. الثقافة الكلاسيكية صارت أقلّ طهرانية، وأقرب لمفهوم خلق الثروة الحقيقية، ومغادرة مفهوم الاشتغال في نطاق العوالم الرمزية. صار معظم المثقفين يسعون لاقتطاع حصتهم التي يرونها مشروعة من الثروة العالمية. الرأسمالية كذلك صارت عُرْضة لهجمات التقنيات الرقمية التي جعلت من الرأسمالية الرقمية مفهوماً يختلف عن الرأسمالية الكلاسيكية، وليس محض امتداد له.

لم يكتف المثقفون في أيامنا هذه بإبداء مظاهر الامتعاض من الرأسمالية أو مناصرتها. أستاذ الفلسفة في «هارفارد» اليوم لم يعُد يكتفي بمرتبه السنوي؛ بل صار يسعى لنشر كتب ذات محتوى مرغوب عالمياً، تحت إشراف دور نشر عالمية تجيد صنعة الترويج والإشهار. لم يكتفِ الأستاذ في الثقافة الكلاسيكية بنشر كتب تلقى رواجاً؛ بل هو في الغالب صاحب «Podcast» ومدوّنة إلكترونية تدعم مسعاه الترويجي وجهده في كسب مزيد من المال. لم يقتصر الأمر على أعالي الثقافة الكلاسيكية (الفلسفة والأدب مثلاً)؛ بل إن كثرة من علماء الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا والأدب انخرطوا في لعبة كسب المال عبر النشر المكثف. قلّما تمرّ سنة دون أن ينشر هؤلاء كتاباً لهم.

إنها لغة المال التي تفرض سطوتها في نهاية الأمر، وليس الحب أو الكراهية إلا تمثلات نفسية لمقدار حصة المثقف من المال. هذه بعض طبيعة البشر، وعلينا القبول بها وترويضها بقدر الممكن للصالح العام والفردي معاً. هذا أقصى ما يمكن فعله.

***

لطفية الدليمي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 15 مايو 2024 م ـ 07 ذو القِعدة 1445

 

لكل إنسان على وجه الأرض قصة هروب، حتى لو لم يتعرف عليها بعد، فهناك مَن يهرب من ماضيه، وهناك من يحاول التملص من حاضره، بل هناك أيضاً من يحاول أن ينجو من مستقبله.. ولذلك معان وتحليلات كثيرة لسنا بصدد نقاشها هنا.

لكن ما يلفتنا في هذا السياق هو الهروب الفلسفي والفكري والثقافي لدى المفكرين والباحثين بشكل عام، وفي هذا المقام المتصل بالقراءة المتأنية للتفكير الفلسفي حول المعرفة، نجد ملامح قصة الهروب لدى الفيلسوف الفرنسي البارز رينيه ديكارت، واضحة ومنطقية، حيث جاءت الفلسفة الديكارتية اللاحقة لمنظومة الفلسفة الأرسطية والأفلاطونية المنسجمة كخطوة نوعية مختلفة عن فلسفة العصور الوسطى التي ربما وضع فيها كلٌّ من أرسطو وأفلاطون أقصى تركيز لديهما مما جعلها تصل لمرحلة يمكن نعتها بالنضج.

وعليه، فإن فلسفة العصور الوسطى (الفلسفة السكولاتية المدرسية) المشبعة بالانطلاقات الكنسية، شكّلت أحد الدوافع التي جعلت من ديكارت يبني قصةَ هروبه من داخل تلك الدائرة غير المتناهية، ليرفض ما كانت عليه تلك الفلسفة، حيث تشكلت أولى ملامح هروب ديكارت من الواقع رافضاً الخضوعَ والتبعية للكنسية، والتي وجد فيها تحدياً لملكة الإبداع الموجودة لدى الإنسان، فاعتبرها بمثابة المركز في الموروث الذي لا بد من كسره، حيث لا يمكن استمرار خط الحياة تحت ضغط مكبح الإمكانيات والابتكارات الإنسانية، فاتجه بخطوة ذكية لنقد الفلسفة القديمة واعتبارها سبباً في استمرار ملامح الهيمنة وتقوية جذورها والإشارة إلى تداعياتها على الحرية الفردية.

ويُذكر أن الإنسان لا يمكنه الإعلان عن هروبه دائماً، بل أن ذلك الهروب ربما يبدو في الكثير من الأحيان ضمنياً وهادئاً في شكله الخارجي، لكنه مبني على العديد من التطورات والتغيرات في حياة الإنسان، حيث نجد أن ديكارت وضع العديدَ من المؤلفات والمقالات التي عبّرت بشكل واضح عن حالة الثوران التي كان يعيشها بداخله. ومن ذلك كتابه «قواعد لهداية العقل» الذي سطر فيه منهجاً جديداً مختصاً بتمحيص الدقة واليقين اللذين نجدهما في العلوم الرياضية. وهذا إضافة إلى مؤلفه «كتاب النور» الذي كان إدانةً لمصير الفيلسوف الإيطالي جاليليو الذي تسببت له اكتشافاته وأفكاره في حرب أعلنتها عليه الكنيسة.. وهذا بالإضافة إلى عدة مقالات مختصة بالفيزياء الرياضية، والتي كانت في مجموعها سبباً في كتابته مقاله الشهير «في المنهج» كخطوة لاحقة. ومن مقالاته «تأملات في الفلسفة الأولى» و«مبادئ الفلسفة».. وغيرها من المقالات والكتب التي عُنيت بعلم النفس، مثل كتاب «في النفس»، والتي شكلت كلها مجتمعةً انعكاساً واضحاً للفكر الديكارتي المترابط والمتعمق والدقيق.

وفي هذا السياق، فإننا مدعوون لوقفة مع السلام الذاتي، نتمعن خلالها «قصة هروبنا»، حتى نستطيع تحديد بوصلتنا القادمة، وليكون ذلك الهروب مختوماً بقصة نجاة مكللة بالإبداع، تعود بالنفع على مجتمعاتنا وأوطاننا، فكل منا فيلسوف في مضمار اختصاصه!

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 15 مايو 2024

 

هل للفلسفة قدرة أو أهلية للولوج إلى أزمات الواقع العربي الراهن؟ ذلك هو السؤال الذي حاولتُ الإجابة عليه خلال الندوة الفكرية المتميزة التي نظمتْها، الأسبوع الماضي، مؤسسةُ الفكر العربي ومعهد تونس للفلسفة في العاصمة التونسية، بحضور عدد هام من المشتغلين بالحقل الفلسفي من بلدان المغرب العربي. لقد بدا لي أن التوجهات الأيديولوجية التي طبعت الفكرَ العربي منذ الأربعينيات وتوطدت إثر قيام الثورات العسكرية القومية في سوريا ومصر والعراق، تمت أساساً خارج حقل التفكير الفلسفي. ومع أن الكثير من المفاهيم المحورية التي انتشرت في الخطاب السياسي العربي المعاصر لها خلفياتها الفلسفية العميقة (مثل النهضة والأمة والحرية والشعور والوعي.. إلخ)، فإن الحضور الفلسفي في تشكل هذا الخطاب كان محدوداً وهامشياً. لقد غاب عن هذا الخطاب السؤالُ المحوري المتعلق بالتنوير العقلاني والحداثة التاريخية، كما تم تغييب موضوع البناء السياسي المدني للدولة.

ومن هنا يمكن القول - دون مماحكة - إن الانفصام تفاقم منذ الأربعينيات والخمسينيات بين الفكر الفلسفي والسياق الأيديولوجي في الساحة العربية. لقد هيمنت على الفلسفة العربية أوانها الإشكالاتُ الميتافيزيقية المتعلقة بالوجود والذات والوعي المتعالي، في إطار التوجهات المدرسية التي عرفتها الساحة الأوروبية وقتَها (الوجودية والشخصانية والظاهراتية.. إلخ)، كما بدأ الاهتمام يتزايد بموضوعات الفكر العلمي مع نفاذ المقاييس الإبستمولوجية النقدية والمقولات الوضعية التحليلية. ومع إخفاق نموذج الثورة القومية الاشتراكية منذ نهاية الستينيات، عادت إشكالاتُ التنوير والحداثة إلى الفكر العربي ودخلت بقوة في الحقل الفلسفي مجدداً. وقد برزت هذه التحولات في ثلاثة أسئلة محورية هي:

- كيف يمكن إعادة بناء المشروع القومي العربي على أسس عقلانية رصينة، تُخرِجه مِن المسلّمات الأيديولوجية الهشة والخطاب الشعاراتي الممجوج، بما يعني إعادة التفكير في موضوعات الوحدة والهوية والمصير التاريخي.. من منطلقات جديدة؟ ومن أجل شق هذا المسلك الجديد، تم الرجوع إلى التقليد الهيغلي في استكشاف العلاقة الإشكالية المعقدة بين الذاتية الجماعية والزمنية التاريخية وبناء الدولة.

- كيف يمكن استيعاب المنظور الديمقراطي الليبرالي في صلب المشروع القومي الذي راهن على قدرة الزعامة الكارزمائية والعنف الثوري في تحقيق حلم الاندماج العربي؟ وما هي آثار هذا الاستيعاب المنشود على طبيعة تصور الدولة الوطنية وعلى نمط البناء الاستراتيجي الإقليمي؟ - كيف تمكن العودة إلى الإشكالات التأسيسية في موضوعات الإصلاح والتنوير والحداثة التي غطت عليها المسائلُ الأيديولوجية لمدة عقود من التجربة الثورية القومية؟ وقد خلُصتُ من خلال تحليل أزمات النظام العربي في أبعاده الداخلية والإقليمية إلى تلمسِ مهامٍ أربعٍ أساسية للفلسفة في السياق العربي مستقبلاً، وهي:

- إن الفلسفة من حيث كونها كما عرّفها هيغل «استبطان العصر بالمفهوم»، لا بد من أن تراعي محددات المرحلة الراهنة التي يعاد فيها تشكيل الوجود العربي في مقوماته السياسية والمجتمعية والتاريخية. وفي مثل هذه اللحظات التأسيسية يكون دور الفلسفة مضاعفاً من حيث هي ممارسة تصورية تستكشف الواقعَ وتسعى لتغييره في الوقت نفسه. - لقد استطاعت الفلسفةُ العربية المعاصرة التخلصَ إلى حد بعيد من إغراء الأيديولوجيات النسقية التي احتكرت المعنى وحددت بوصلة الالتزام السياسي والمجتمعي لمدة عقود طويلة. ولا شك في أن هذا المكسب النقدي قابل لأن يكون بدايةَ ديناميكية مراجعة عميقة وشاملة للنظام الفكري بكامله، وهو الدور الذي يمكن أن تضطلع به الفلسفة على نطاق واسع وجاد.

- إن فكرة العروبة التي شكّلت في النصف الثاني من القرن العشرين مرجعيةَ النظام الإقليمي وحددت مساراتِ العمل السياسي في البلدان العربية، ما تزال حسب اعتقادنا أفقاً صالحاً للاستكناه والممارسة. لقد أدت هذه الفكرة في السابق دورين تاريخيين هامين هما: دفع حركة التحرر الوطني من الاستعمار وبناء المنظومة الاستراتيجية الإقليمية المتناغمة مع المشروع الأفرو آسيوي. ومن الضروري اليوم شحن هذه الفكرة بدماء نظرية جديدة، قد يكون من بينها الأفق الفلسفي الواسع الذي دشنته النظريات ما بعد الكولونيالية التي أصبح لها حضور قوي في العالمين الآسيوي والإفريقي. - إن التفكير الفلسفي، وإن انطلق ضرورةً مِن خصوصيات الوضع العربي في أبعاده السياسية والمجتمعية، لا يمكن أن يتبلور نظرياً ومنهجياً إلا في الإطار العالمي الكوني. ذلك هو الدرس الذي استوعبته النهضةُ العربية الأولى في العصر الوسيط (التنوير العباسي حسب مقولة مروان راشد أو التنوير الكلاسيكي حسب مصطلح ليو شتراوس)، وهو الخيار الذي لا محيد عنه في المستقبل أيضاً.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 12 مايو 2024 23:45

شاهدتُ قبل أيام حلقة تلفزيونية، وفيها ضيف يهاجم الفلسفة وتحديداً تعليمها في المدارس باعتبارها تعمل على تخريب العقائد، وهدم الثوابت، والواقع أنني مللتُ القول في أكثر من مناسبةٍ كغيري من الزملاء أن الفلسفة ليست مهمتها التخريب، مقابل البناء.

الفلسفة لا تشبه العلوم بدفاعها عن حقائق ثابتة وراسخة، إنها مجموع المحاولات البشرية، وحصيلة المتون النظرية، ومحتوى الاستدلالات والمحاججات الحيوية. وما كانت للفلسفة يوماً مهمة متعلقة بالهدم ولا بالبناء، وإنما تهيئة الأجواء لمنح الإنسان قدرةً مضاعفة على مواجهة المستغلق من الأسئلة، ومنازلة الدقيق من الأفكار، وما حملته من نظرياتٍ طوالَ تاريخها.

تحدي تعليم الفلسفة لا يلغي أبداً أهمية التمسك به، التعليم بسياساته لا تقوده موضات العصر، والتحدي لا يخص تعليم الفلسفة وحدها، وإنما مجالات التعليم كلها، ولذلك فإن تدريس الفلسفة يجب إنقاذه عبر تطوير سياساته، والتفكير في استراتيجيات لا تحولها إلى نشاط تسلية وإزجاء للوقت وإنما لمعمل تمرين حقيقي على قراءة النصوص ودرسها، ولذلك لم تشكُ التجربة التونسية الرصينة من مثل ذلك الخلل.

سؤال جدوى الفلسفة أكثر من طرحه الفلاسفة أنفسهم، وثمة فلسفات بنيت لمناهضة موضوعات عريقة في تاريخ الفلسفة مثل الوضعية، والتفكيكية، وفلسفات الاختلاف عموماً وغيرها، فالفلسفة يضطرب بعضها بعضاً.

إن قيمة الفلسفة ليست في نتيجتها، وإنما في طريقها. البحث هو الغاية وليست نتيجته. الفلسفة المقبلة لدى هيدغر «لا تعني التي ستظهر في المستقبل، بل الفلسفة المتجهة نحو المستقبل مهما كان الزمن الذي تظهر فيه»، بحسب تعليق إسماعيل المصدق وشرحه. أما عن إشارة هيدغر التمهيدية لـ«ماهية الفلسفة»، فإنها «لا تتعين إلا من خلال طرح الأسئلة الأساسية»، ويفكر فيها من خلال الرنين الأول للحال الوجداني الأساسي للكائن والكينونة.

يعنون هيدغر فقرة من كتابه «الأسئلة الأساسية للفلسفة»: «الفلسفة بصفتها معرفة بماهية الكائن، غير مفيدة مباشرة، وهي مع ذلك سيادية، على قدر وعمق تاريخ شعبٍ يحضر أو يغيب في بدئه المعين لكل شيء يكون شعر الشاعر، وتفكير المفكر، الفلسفة. إن شعباً تاريخياً بلا فلسفة مثل نسرٍ من غير الامتداد الشامخ للأثير اللامع الذي تبلغ فيه أجنحته الاندفاع الأكثر صفاءً»..

الخلاصة، أن الحديث عن تعليم الفلسفة لايعني أن مقرراتها هي الحل الساحر لكل معضلات العقول، ولكنها تساهم في إيجاد بيئة نقدية عمومية تُغني النقاش والحوار وتؤسس للتسامح ونسبية الحق.

***

فهد سليمان الشقيران

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 30 ابريل 2024

حضور شعر المرأة وإبداعها بعامة لم يكُ يتم إلا عبر وسطاء، إما رواة أو مدونين، في حين يظل صوتها واسمها تحت الظل، على أن الوسطاء، رواة ومدونين، يتحكمون بالمنشور، ثم تدهور الوضع ليصبح الاسم نفسه من الممنوعات، ولا نعرف على اليقين متى أصبح اسمها عورةً، فلم يكُ ذلك في الجاهلية مع شيوع الوأد، ولا في عصور الإسلام المبكرة، وإنما جاء متأخراً، وربما يكون ثقافة مدنية وليست بدوية ولا ريفية في الأصل، وقد أمعنت الثقافة في احتكار الصوت والمعنى الشعريين على الرجل دون المرأة، وتخصص الرجل بمصطلح الفحولة مع حرمان المرأة من هذه الصفة حتى لقد ورد في معنى (الفحلة) أنها تعني سليطة اللسان، بينما الفحل هو فصيح اللسان، ما يعني أن تحريك لسان المرأة بالصوت هو إثم ثقافي تجب المحاذرة منه وتوقيه، وحين عمت الكتابة في العصر العباسي جاء الصوت الفحولي ليمنع المرأة من تعلم الكتابة وجاء كتاب (الإصابة في منع النساء من الكتابة) للفقيه البغدادي نعمان بن أبي الثناء الألوسي، وذلك لمنعها من التحايل على قوانين الحجب الثقافي عبر استخدام الكتابة التي لا تحتاج لصوت، ولكنها تحتاج لاسم، وقد حدث أن اعتبر اسمها عورةً، ومن ثم تضافر منعها من الكتابة مع حجب اسمها ليقمع إبداعها، ولكنها لم تنقطع عن الإبداع قط، وقد روى لي أحد الأفاضل مرةً أن في عائلته الكبيرة أكثر من أربعين شاعرةً، وحين لمته على عدم تدوين هذا التراث العائلي الضخم امتعض وجهه وقال: لا لا، عيب عيب، وتعمد قطع الحديث معي وكسر سيل أسئلتي. وهذه ليست قصةً فرديةً، وإنما هي موروث ثقافي متأصل.

على أن تعلّم المرأة أخيراً للكتابة كشف حذاقة أبي الثناء في حماية إمبراطورية الفحول حين نادى بمنع المرأة من تعلم الكتابة، حيث بمجرد ما تعلمت أصبحت حقاً تنافس الرجل على الإبداع، وأظهرت مهاراتها وقدراتها، أي أن خطة منعها من الكتابة كانت هي القابع الأهم ضد إبداعية المرأة، بما إنها مع الكتابة أظهرت اسمها مثلما أظهرت بوحها، وأظهرت أن استخدام اللسان ليس سلاطةً، وإنما هو سلطة معنوية وتفرد ثقافي، وأتبعت اللسان بالقلم والورقة، ومن ثم ظهرت المبدعة وظهر التأنيث ليكون قوةً معنوية ومعرفية، وبدأ ذلك بالكتابة الوجدانية، كما لدى باحثة البادية، ومي زيادة، ثم الشعرية كما فعلت نازك الملائكة بمبارزة فحول الشعر العمودي، وفتحت آفاق قصيدة التفعيلة، وفي المثالين معاً كشف ثقافي يعصي ثقافة الفحول عبر تعلم سحر الكتابة، وإن كان البحر الشعري فحلاً فالتفعيلة أنثى، وهنا تصل الثقافة إلى التساوي العادل في ميزان القول، كما في ميزان الطبيعة.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 4 مايو 2024 02:07

 

انتخب المستشرق الفرنسي البارز كرستيان جامبيه مؤخراً في المجمع العريق «الأكاديمية الفرنسية»، تتويجاً لجهود علمية بارزة خصص جُلها للفلسفة الإسلامية. أغلب دراسات جامبيه تناولت فلاسفة الإشراق الكبار، وهم ابن سينا والسهروردي والملا صدر الدين الشيرازي، جرياً على نهج أستاذه المعروف هنري كوربان. وكما أن كوربان أصدر في الستينيات كتابه الأساسي في تاريخ الفلسفة الإسلامية، فقد ألَّف جامبيه قبل سنوات كتاباً في الموضوع نفسه، وإن اختلف عنه في المقاربة والمنهج. وعلى عكس جل مؤرخي الفلسفة الإسلامية من الغربيين والعرب أيضاً الذين حصروا نصوصَ هذه الفلسفة في أعمال الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد، مع القول بأن التقليد الفلسفي انتهى في التاريخ الإسلامي بعد نهاية القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، فقد ذهب جامبيه إلى أن الكتابة الفلسفية الإسلامية أوسع بكثير من هذه النصوص المرجعية، وقد استمرت عهوداً طويلة بعد اللحظة الرشدية، ويكفي دليلا على ذلك نسق صدر الدين الشيرازي المعاصر لديكارت وسبينوزا في الحقبة الحديثة.

وفي حين أن مؤرخي الفلسفة الإسلامية يهتمون على العادة بالمحور الأنطولوجي الموروث عن العصر اليوناني (نظرية الوجود ومسلك الميتافيزيقا)، نرى أن جامبيه يعتقد أن مفتاح التفكير الفلسفي في الإسلام هو تأويلية الذات من خلال النظر العقلي المفتوح في النص المنزل، بحسب محورية المعاد وما بعد الموت وما يترتب على هذا المنحى النظري من أبعاد روحية وأخلاقية بخصوص علاقة النفس بالجسد ونمط تدبير الرغبات والأهواء والنوازع. ومع أن فلاسفة الإسلام اهتموا كثيراً بالمنطق ونظرية العلم، إلا أنهم اعتبروا أن السؤال الميتافيزيقي مجرد مدخل للفلسفة الحقيقية التي هي التأمل في الذات وصولا إلى أخلاقيات الترقي والسمو التي تؤسس لنظرة كثيفة وقوية للحرية، وإن كانت مخالفة لدلالة هذه المقولة في السياق الغربي الحديث، كما أنها تكرس نمطاً من التجريبية الروحية التي تصل مداها في الأدبيات الصوفية والعرفانية. لقد عرف أفلاطون الفلسفةَ في محاورة «الفيدون» بأنها تهدف إلى أن «تعلِّمنا كيف نموت». وإذا كان فلاسفة الإسلام قد تبنَّوا هذه المقولة فإنهم أعطوها دلالةً مغايرة، تتناسب مع محورية المعاد والآخرة في نسقهم الأخلاقي والروحي.

وهكذا يرى جامبيه أن ما يميز الفلاسفة عن الفقهاء ليس نمط الاهتمام بالنص، بل اعتقادهم أن النشاط العقلي يمارس بحرية وإبداع ضمن تأويلية النص التي هي الوجه الآخر للوعي بالذات. وفي هذه التأويلية الروحية يمارس العقلُ قوتَه الإدراكية والبرهانية، وفق شروط ومحددات معرفية معقدة وطويلة، بحيث يكون الوصول للحقيقة مضنياً وصعباً، وإن كان جل البشر عاجزين عن اختراق الوهم والخيال. إن ميزة أطروحة جامبيه تكمن في أنه تجنَّب الموقفين السائدين في الدراسات الاستشراقية، وهما: إما النظر إلى الفلسفة الإسلامية بصفتها لاهوتاً ملتبساً، أو باعتبارها مجرد نصوص يونانية مكتوبة بحروف عربية. وهكذا يفرق جامبيه بين علم الكلام الذي هو علم جدلي في أمور العقيدة، وإن كانت له جوانبه الفلسفية العميقة، وبين الفلسفة الإسلامية التي تشكلت في تواصل ثري مع السردية اليونانية وإن اختلفت في رؤيتها ومسلكها عن الموروث الإغريقي لكونها تصدر عن إشكالات إسلامية محضة تتمايز كلياً عن الفلسفات اليونانية.

بيد أن جامبيه يبين أن الفلسفة الإسلامية الوسيطة أسست للتقليدين الكبيرين في الفلسفة الحديثة، وهما: أنطولوجيا الشيء (بدل سؤال الوجود الأرسطي) بما هو جلي في نقدية كانط التي نجد جذورَها لدى ديكارت ولايبنتز، وتأويلية الذات التي هي محور الفلسفة الحديثة والمعاصرة في الغرب. ليس من همنا عرض أعمال جامبيه، وهي هامة ومتشعبة، وحسبنا توجيه النظر إليها لكونها ما تزال إلى حد بعيد مجهولةً في الساحة الفكرية العربية.

ولعل سبب هذا الإهمال هو شيوع النظرية التي دافع عنها المرحوم محمد عابد الجابري بخصوص ما سماه غنوصية ابن سينا وفلسفة الإشراق من بعده والتي وسمها بالعرفانية غير العقلانية. إن هذه الرؤية تنجرُّ عنها ضرورةُ نفي الجانب الأساسي في الفلسفة الإسلامية الذي ركز عليه جامبيه كامل اهتمامه، وهو التأويلية الروحية والعرفانية التي اعتبرها ذروةَ العقل الفلسفي في الإسلام، بدل التصورات السياسية والأيديولوجية التي شغلت راهناً حركات التطرف الديني. ما يبينه جامبيه هو أن ابن سينا الذي قدم أهم صياغة فلسفية في العصور الوسطى لميتافيزيقا أرسطو، أدرك أن الحقيقة بمفهومها المطلق تُنال بالتجربة في بعديها الحسي والروحي، أما العقل المنفصل عن الذات والجسد فلا يتجاوز حدود المنطق الصوري المجرد، وهذه الرؤية هي جوهر الموقف الفلسفي لمفكري الإسلام الأقدمين.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 5 مايو 2024 23:30

منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهر تيارٌ من الإصلاحيين المسلمين يدعو لفتح باب الاجتهاد لتجاوز التقليد المذهبي والتلاؤم مع المتغيرات. وكان الرائد في هذا المجال رجل الدولة التونسي خير الدين الذي اعتبَر في كتابه «أقوم المسالك» (1867) أنّ المتغيرات العالمية (النهوض الأوروبي) هي مثل السيل الذي لا يمكن دفعه إلا بالتلاؤم معه أو يجرفنا في طريقه. والتغيير المطلوب للتلاؤم له ركنان: العمل على إقامة الدولة الحديثة، وإصلاح الشأن الدنيوي استناداً إلى فقه المصالح العمومية التي يعتبرها الفقه الإسلامي الكلاسيكي. وبعد خير الدين التونسي تبلور فقهُ الإصلاح المصري مع محمد عبده الذي مضى من فتح باب الاجتهاد إلى التفكير في تجديد أطروحة المدنية.

ومثل خير الدين كان الإصلاحيون المسلمون يضعون التقدمَ الأوروبي مثالاً ونموذجاً، يلتمسون الوصول إليه بالتعرف على كيفيات نهوض الآخرين، والتأصيل من القرآن الكريم لعمليات النهوض والتمدن. وقد تجلّى ذلك في إقبال محمد عبده على إلقاء دروسٍ في تفسير القرآن الكريم جمعت فيما بعد في «تفسير المنار» الذي كانت أطروحة المدنيّة في موقع القلب منه. وعلى نفس المنزع جاء تفسير «التحرير والتنوير» للشيخ الطاهر بن عاشور في تونس خلال أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، والذي دعم رؤيتَه أو فلسفتَه في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية».

إنّ ذلك الجهد التأويلي، وإن سُمّي تأصيلاً، كانت له نتائجه في التحاور مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) وموازاته بالضروريات الخمس الواردة في فقه المقاصد الشرعية: حفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ الدين، وحفظ النسْل، وحفظ المال. وعندما انشقّت الإحيائيات والأصوليات وظهرت الجهاديات، كافحها الإصلاحيون الجدد بشكلين: الإعلانات عن نهج التسامح والسلام، ومساعي التواصل مع العالم من خلال الحوار مع الأديان الأخرى والثقافات، والتماس فقه السلم من خلال مقولات القرآن في ذلك، والاجتهادات الجديدة في التعارف وفي نُصرة الدولة الوطنية. وقد ظهر ذلك في «وثيقة الأخوّة الإنسانية» المعقودة بين بابا الفاتكيان وشيخ الأزهر في أبوظبي عام 2019، وفي نتاجات ومؤتمرات منتدى تعزيز السلم بأبوظبي وإعلان مراكش وميثاق حلف الفضول. وما زالت الأصوليات والانشقاقات، لكنها ضعُفت ضعفاً شديداً، وتأسس ذلك على جهود الدول الوطنية في استتباب الاستقرار والتنمية المستدامة والتعايش، وفي الإقبال على الشراكات مع العالم، سواء لجهة متابعة اجتهادات التأويل وصنع الجديد، أو لجهة الانفتاح على قيم المعروف الإسلامي والعالمي، والمقاربات الأخلاقية للقرآن، تفسيراً أو استلهاماً أو تأويلاً، تقتضيه أحوال العصر وتياراته.

ومن ذلك التأويل كتاب المدينة أو عهدها والذي يتلاقى مع المشترك الإنساني في الأخلاقيات والنظم، وإنجاز المجتمع المتضامن والمنفتح. لقد كان هناك مسوِّغ للجوء إلى التأصيل من أجل المشروعية. لكنّ الجديد الكثير الذي ظهر في فقه الدولة وفي فقه الدين، والذي أفضى إلى رؤيةٍ جديدةٍ للعالم، صار مغنياً عن اللجوء الدائم إلى التأصيل، والاكتفاء بممارسات التأويل الاجتهادي والتجديد على النصوص والمواقع والأحداث. ذلك أنّ التأصيل هو سلاحٌ ذو حدين، يمكن أن يفيد منه المجددون، بيد أنّ المتشددين يستطيعون اللجوء إليه أيضاً. أما القراءة الجديدة للقرآن، فإنّ الحزبيين والمغامرين لا يمكنهم الدخول فيها أو استغلالها. إنّ لدينا اليوم تحدي تجديد الخطاب الديني عن طريق التأويل بغرض التجديد، والذي يحتاج للمتابعة الحثيثة.. والتحدي الآخر هو الذي تقود مبادراتِه الدولُ الوطنيةُ من أجل مواجهة المشكلات في الإقليم وتصحيح العلاقات مع العالم.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 4 مايو 2024 23:45

 

يشتكي المؤرخ المعروف، نيل فيرغسون، من سيطرة الأفكار اليسارية على الجامعات الأميركية، خصوصاً كليات التاريخ وعلوم السياسة والاجتماع. في حوار أُجرِي أخيراً معه قال متحسراً: «كم كنتُ ساذجاً. اعتقدتُ أن الموهبة والمثابرة والكفاءة هي معيار التقدم في العمل الأكاديمي، وفي كل مكان آخر، ولكني كنتُ مخطئاً. اكتشفتُ متأخراً أن الآيديولوجيا الفكرية هي العامل الأهم». مجموعة اليسار الفكري، كما يقول، تساند بعضها وتقصي أصحاب الأفكار المختلفة حتى يتلاشى صوتُهم وتأثيرُهم. فمع خروج كل أكاديمي محافظ من الكلية يتم استبدالُ مؤرخ ذي نزعة يسارية به، وبهذا يزيد نفوذ الآيديولوجيا اليسارية.

وهكذا يمكن أن تسيطر الرؤية اليسارية على عقول الطلاب بشكل حاسم حتى في أعرق الجامعات. ويقول فيرغسون إنه حضر مرة بديلاً لأحد الأساتذة في جامعة بيركلي، وأشار إلى الأسباب الدينية خلف تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول). شعر على الفور بتململ وعدم ارتياح الطلاب من هذه الحقيقة، مفضلين عليها أسباباً أخرى حُقِنت برأسهم، بينها أنها كانت ردةَ فعلٍ على «الإمبريالية» الأميركية.

ولهذا يقول مؤخراً بخيانة الأكاديميين في الجامعات بسبب انحيازاتهم الحزبية والسياسية الواضحة، وأصبحوا عقائديين هدفهم أن يحقنوا الطلاب بأفكارهم ويخلقوا منهم نسخاً مصغرة عنهم بدل أن يعلموهم طرق التفكير النقدي والعلمي من دون أن يفرضوا عليهم أجنداتهم. ولكن صعود اليسار وتحول الجامعات الأميركية بشكل مزداد إلى بؤر لها سينتج بلا شك نتائج مضرة. ولا يتعلق فقط الأمر باليسار، ولكن أيضاً في اليمين، حيث ازدهرت الأطروحات اليمينية بالجامعات الألمانية في الثلاثينات من القرن الماضي، وسيطرت على الجامعات العريقة وأقصت كل الأطروحات الأخرى، وأسهمت بصعود اليمين المتطرف الذي انتهى بصعود النازية وزعيمها. طهرت الجامعات من الأصوات المختلفة وحل مكانها، لأسباب آيديولوجية ومصلحية، أصوات اليمين العنصري البغيض.

وبحسب تجربة شخصية، فقد شهدتُ كيف تغمر أطروحات اليسار عقول الطلاب المبهورة والعاجزة عن المقاومة. ففي الجامعة التي درستُ فيها أخذتُ كثيراً من الدروس في التاريخ ووجدتُ المحاضرة الأميركية معادية بحدة وتطرف لسياسات بلادها، من دون أن تذكر أي حسنات وإيجابيات لها. أخذنا دروساً عديدة عن حرب فيتنام والمآسي التي حدثت بها، وشاهدنا الوثائقي الذي يظهر فيه وزير الدفاع، روبرت مكنمارا، دامع العينين متحسراً على بعض قراراته. وجهة نظر قد تكون صحيحة لكنها تنسى الجانب الآخر من العملية، وهي أن الولايات المتحدة قد شكلت وجه العالم الحديث الذي نعيش فيه بالقوة أحياناً والدبلوماسية أحياناً أخرى، ولعبت دوراً حاسماً بمنع اندلاع حروب عالمية جديدة منذ أكثر من 70 عاماً.

فقد قضتْ على النازية والشيوعية والفاشية والقاعدة، وساندت المسلمين في البوسنة والكويت وقتلت أخطر ثلاثة إرهابيين في العصر الحديث؛ بن لادن وسليماني والبغدادي. كل هذه الأخطار كانت ستغير وجه العالم اليوم لو لم تُكافَح ويتمُّ القضاء عليها بفعل هذه القوة. ولكن من الصعب أن تطرح نقاشاً حراً في كليات تحقن الطلاب بوجهات نظر تحولها إلى حقائق مسلم بها. وبالتأكيد لأميركا جوانبها المظلمة الداخلية من العنصرية المشرعة في القرن الماضي والأخطاء الكارثية في العراق وأفغانستان. ولكن من المهم أن النقاش الموضوعي القائم على الحقائق وليس العواطف يدفع إلى مزيد من الموضوعية في الحكم.

والشيء ذاته يحدث في استهداف العلاقة بين دول الخليج وواشنطن ووصفها بـ«البترودولار»، على الرغم أنها أسهمت في استقرار منطقة ملتهبة سياسياً، ولعبت دوراً محورياً في ازدهار الاقتصاد العالمي بالعقود الأخيرة. ولأول مرة عرفت في محاضرة أن العبودية ما زالت مستمرة في الخليج، ولكن المحاضر كان يقصد العمالة المنزلية! ولكن اختيار مصطلح «العبودية» يداعب المخيلة الأميركية ويرسخ الفكرة المطلوبة بطريقة أسرع.

ولا تتوقع أن تصل ذيول هذه الآيديولوجيا الفكرية إلى تخصصات تقنية عملية، مثل الإنتاج الإعلامي ولكني كنتُ مخطئاً. من بين المناهج التي رغبتُ بدراستها تاريخ الميديا الأميركية، ولكن الإحساس بلذة الاكتشاف والتعرف على ضخامة هذه الميديا تلاشى سريعاً. المحاضرات أصبحت جلسات زرع العقيدة اليسارية أو ما يسمى الآن «اليقظة» (Wokisim) في العقول والأفئدة. فقد تحولت الدروس إلى محاكمات ونبش للأفكار والإيحاءات العنصرية المستترة في ثنايا المقالات والوثائقيات والأفلام والمسلسلات. بعضها صحيح إلا أنها ترتكز أيضاً على قراءات مبالغ بها تحركها البرانويا ومهجوسة بالحس المؤامراتي الشرير أكثر من الحقائق. ومن الغرائب أيضاً ما سمعته في درس لأستاذ شديد اليسارية، يهدف إلى فهم حركات الاحتجاج واتباع أساليبها الصحيحة لها. مادة عن العدالة الاجتماعية تحولت إلى مدخل إلى التثوير!

في كلية الاقتصاد كان الوضع مختلفاً، ولأول مرة نسمع عن مفكرين اقتصاديين كبار، مثل فريدريك حايك، ومليتون فريدمان، وتوماس سويل. السبب لأن الكلية مشهورة بإيمانها بمبدأ السوق الحرة، وكفّ يد الحكومة عن التدخل بالاقتصاد، وضد الحد الأدنى للأجور، وكل هذه الأفكار معارضة للعقيدة اليسارية المتطرفة. ولكن الكلية تعرضت لهجوم عنيف مؤخراً بسبب نهجها الفكري، وتمَّ التشكيك بأموال المتبرعين لها والهدف هو أيضاً إخضاعها لعقيدة فكرية.

وبسبب طغيان مثل هذه الآيديولوجيا المغلقة الحادة تعرض كثير من المفكرين والصحافيين والكتاب إلى الاستهداف والتضييق، وحرموا حرفياً من إقامة محاضرات مفتوحة. ولا تتوقع أن شيئاً مثل هذا يحدث في الولايات المتحدة، ولكن تشهد بين فترة وأخرى أعمال عنف وحرقاً من قبل طلاب بجامعات شهيرة بعد الإعلان عن استضافة شخصيات ذات توجهات فكرية مختلفة عن الآيديولوجيا الفكرية السائدة.

وبالطبع تمتد هذه الأفكار لتصل إلى عالمنا، وهناك من يدعو لها بصراحة، سواء إيمانها بها أو لأهداف شخصية بحثاً عن شهرة أو شعبية، وليس غريباً أن تستغل أكثر القضايا الإنسانية عدالة بحثاً عن المال والنجومية أو المناصب السياسية. وبعد أن يتم استثمارها وتنتهي الحفلة يبدأون بتدخين السيجار الفاخر على جثث الأطفال المطمورة تحت الركام.

***

د. ممدوح المهيني

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الثلاثاء - 21 شوّال 1445 هـ - 30 أبريل 2024 م

 

بسبب طول فترة التظاهر بالجامعات الأميركية من أجل الحرب على غزة، كان هناك من شبّه ظاهرة احتجاج الشباب بما حدث في الستينات من أجل الحقوق المدنية، ثم من أجل الحرب الفيتنامية التي كانت الدولة أميركا غارقةً فيها. وكما هو معروفٌ، فإنه في عام 1971 صدر كتاب: نظرية العدالة لفيلسوف القانون الأميركي جون راولز، والذي لا تزال النقاشات دائرةً حوله بين النُخب القانونية والفلسفية طوال خمسة عقودٍ وأكثر.

كان سؤال جون راولز عن إمكانيات النظام الليبرالي في مواجهة الإغراء الآخر المتمثل في الأنظمة الشمولية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. ولأنّ الاتحاد السوفياتي انهار بعد عقدين؛ فإنّ المعنى الأخلاقي البارز لحركات الشباب آنذاك ومنها ثوران أواخر الستينات للطلاب في أوروبا وأميركا توارى وتراجع. لكن معلّقين عديدين يصرّون اليوم على أنّ ما جرى ويجري كان نعياً على التنوير وقيمه وأخلاقياته والذي بدأ الثوران على مسلَّماته الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أواخر القرن التاسع عشر وإلى زمن الفلاسفة الفرنسيين الجدد في الثلث الأخير من القرن العشرين. في حين يربط آخرون هذا الثوران ذا الطابع الأخلاقي والتطهري بأمرين آخرين: النزاع في الغرب وعليه، والثورات التكنولوجية الهائلة التي تمضي باتجاه تشييء الإنسان والعدميات المرتبطة بنزعاته الجارفة. وفي الوقت نفسه يربط آخرون من فلاسفة العلم والسياسة كل ما يجري بالنزعات الفوضوية التي يكون على الدولة الغربية مقاومتها إبقاءً على قيم التنوير بالذات!

في عام 1977 كما هو معروفٌ أيضاً ظهر كتاب إدوارد سعيد: الاستشراق، الذي يُدين ذلك التخصص أو الاهتمام باعتباره استمراراً لظاهرة الاستعمار وآيديولوجياته ومنها ما يرتبط بالتنوير ومسلَّماته. وتطورت هذه الظاهرة النقدية في بحوث التابع subaltern التي تنعى على الغرب كلّه وعلائقه بإنسانية الإنسان وبمصائر نظام العالم الحديث والمعاصر والذي يُظهر انحيازاتٍ كبرى في الظواهر اليمينية التي تحفل بها اليوم الأنظمة التي كانت تقودها أوروبا وأميركا بعد الحرب الثانية والتي ضعُف الاقتناع بها في أوساط الشباب بالذات. فكتاب جون راولز هو انتصارٌ لإمكانيات النظام الليبرالي غير المحدودة، أما جذريات ما بعد الغرب وما بعد عالم أميركا في تساؤلات الدارسين اليوم فهي إدانةٌ لذلك السواد، ودعواتٌ للتحول على المستوى العالمي.

بعد هذه التأمليات الشاسعة الأبعاد، لنتلفت قليلاً إلى مسألة إسرائيل ومسألة الترتيبات الاستراتيجية التي أنتجتها باعتبارها انتصاراً للغرب الصاعد وقيمه. فمنذ الحرب الأولى ومبدأ ويلسن في حق تقرير المصير للشعوب المظلومة (1920) اعتُبر الانتصار الثاني في الحرب الثانية إحقاقاً لقيم التنوير والعالم الأميركي ومن ضمنه قيام الكيان في عام 1948. وفي حين صار زمن ما بعد الحرب وقيام الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) خروجاً إلى حريات عالمية؛ ما اعتبر الكبار في النظام الدولي ومنهم السوفيات، احتلال فلسطين استعماراً وليس ظلماً لشعبٍ آخر من حقه أيضاً أن يدخل إلى مبدأ ويلسون في حق تقرير المصير. وأقصى ما أمكن بلوغه بعد نضال المائة عام قول الأميركيين اليوم، بحلّ الدولتين.

سيقول أنصار الحق الفلسطيني: لكنّ الأميركيين وقبلهم الأوروبيون ما أظهروا من الاهتمام في زمن انتصارهم لقيم التنوير وحقوق الشعوب في الحرية، ما أظهروه تجاه النضال ضد التمييز العنصري وتحرر جنوب أفريقيا. وهنا تأتي الخصوصية التي تحوط المسألة اليهودية والتي شهدت اهتماماً ومعالجة حتى من جانب كارل ماركس في زمن ظهور القوميات قبل مائتي عام. فقد تعرّض اليهود لظلمٍ فظيعٍ في الزمن النازي بعد تمييزٍ استمر قروناً؛ ولذلك انتصرت قضيتهم في إقامة الدولة على حق الشعب الفلسطيني في أن تكون له أيضاً دولته. ولذلك أيضاً وأيضاً ما شهدت مذابح إسرائيل في غزة من يقول بإدانة «قيام» الكيان، بل هناك إعلانٌ دائمٌ بحق إسرائيل في الوجود، وطلبٌ ملحٌّ من الفلسطينيين والعرب أن يسلّموا بذلك شرطاً لا بد منه للذهاب المتردد باتجاه الدولة للفلسطينيين على رقعةٍ صغيرةٍ من أرض فلسطين تغصُّ بالمستوطنات!

ولنعد إلى القضايا الثلاث الكبرى: الغرب الذي صنع العالم الحديث والذي تتعرض سطوته وحضارته وقيمه لتشكيكٍ كبيرٍ من داخله ومن الأطراف التي ما عادت تقبل سيطرته - والتحولات الكبرى التكنولوجية والقيمية - وراديكاليات التحولات الملحاحة من أجل التغيير. إنّ الواضح اليوم من ظواهر العنف المنتشر بشكلٍ صاعقٍ أنّ التحول المطلوب غير المرغوب من جانب المسيطرين - لا يحمل إمكانيات التصالح أو التوافق على التغيير لصالح المجموع الإنساني. فالذين سيطروا لقرابة الثلاثمائة عام لا يقبلون في العمق تحولاتٍ باتجاه التناصف والإنصاف. إذ أين سيحدث التناصف أو التوافق مع تجنب العنف؟ سيحدث إن أمكن من خلال المؤسسات القائمة، وبنيتها غربية جميعاً، وهي لا تملك المرونة الكافية للتنازل باتجاه قيم جون راولز للعدالة. بيد أن الغربيين حتى الذين ظلوا ليبراليين يقولون إنّ الضغط الهائل الذي يتعرض له النظام العالمي يهدّد بالتصدع والانكسار والمضيّ باتجاه فوضى عارمة وإبادات ومجاعات وعواصف تشبه ما يجري في متغيرات المناخ! ويجيبهم خبراء المناخ بالقول: لكنّ اختلالات المناخ سببها أيضاً النظام الجائر وغير الإنساني الذي صنعه الغرب الليبرالي (!).

وهكذا، فإنّ الحديث بين الليبراليين المتحولين نحو اليمين المتشدد - والراديكاليين الجدد المطالبين بالتغيير– هو حديثٌ يشبه ما يجري بين الصُمّ الذين يرفعون أصواتهم من دون أن يفهم أحدهم ما يقوله الآخر.

وهكذا، فإنّ النضال الفلسطيني من أجل الحرية، يخالطه سوء حظٍ أو سوءٌ حقبي فظيع. فالزمن ليس زمن التحرر من الاستعمار، بل هو زمن المخاض الكبير الناجم عن تصدع الباراديغم الغربي، وظهور الثقوب في سائر أجزائه ومن الداخل. التغيير العالمي هو مثل التنوير صار متنازعاً عليه مفهوماً وإمكانيات ومناهج وسُبُلاً. فبماذا يأمل الطلبة الأميركيون الثائرون بالجامعات الليبرالية العريقة من أجل غزة؟

في العام 1794 كتب إيمانويل كانط رسالته في السلام الدائم. أما البابا فرنسِس فيتحدث اليوم متشائماً عن سلام الحد الأدنى المستند إلى أخلاق الرحمة والضيافة والجوار:

فهيهات هيهات العقيق ومن به

وهيهات خِلٌّ بالعقيق نواصِلُه

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الجمعة - 24 شوّال 1445 هـ - 3 مايو 2024 م

 

فريد زكريا، مفكر سياسي وإعلامي أميركي بارز، صدر له مؤخراً كتاب مهم بعنوان «عصر الثورات.. من التقدم إلى النكوص»، يتناول فيه ما يزيد على أربعة قرون من مسار التحديث الغربي. الأطروحة الأساسية التي يدافع عنها الكتاب هي أن الغرب الحديث مر منذ القرن السادس عشر بثورات سياسية كبرى عديدة، انطلقت من هولندا التي كانت دولة زراعية تجارية صغيرة كرست التسامحَ الديني والانفتاح الاجتماعي خطاً مميزاً لها، مروراً بالثورة الدستورية الإنجليزية ثم الثورتين الفرنسية والأميركية. إلا أن هذه الثورات اتسمت بالازدواجية من حيث كونها ولدت حلماً جارفاً بالتغيير بفضل التقدم التكنولوجي والاقتصادي، في الوقت الذي أججت فيه ردود فعل قوية ضد التطور التاريخي والفردية الليبرالية. زكريا يرى أن القيم الليبرالية تبدو متلائمةً مع الثقافة المحافظة أكثر من تلاؤمها مع الأفكار الراديكالية الجذرية التي تتأسس على الانفصال والتحول الجذري ومسح الطاولة. ففي الوقت الذي كانت فيه الثورة الفرنسية تسلطية وقمعية لكونها صدرت عن عقل فوقي قهري يدّعي الحقيقة والعدالة، اتسمت الثورتان الإنجليزية والأميركية بالاعتدال والواقعية، نتيجةً لمراعاة الثوابت المجتمعية الكبرى المتعلقة بالدين والتقليد والأمة.

ولهذه الأسباب لم تعرف بريطانيا والولايات المتحدة الثورات الفاشية والشيوعية التي عرفتها دول أوروبية عديدة في النصف الأول من القرن العشرين. ومن هنا يمكن أن نستنتج من كلام فريد زكريا أن الليبرالية، وإن كانت نظاماً سياسياً يقوم على معايير الحرية والتقدم، إلا أنها تقتضي في الوقت نفسه ضوابط التعددية والتوافق والتسويات المؤقتة.. وهي محددات أظهر وأبرز في المجتمعات المحافظة التي تستوعب التنوع والاختلاف. وكما كان يقول فوكوياما، يرى زكريا أن الليبرالية هي الأفق الأوحد للتحديث الناجع ولا بديل عنها، وما نلمسه من ثورات غير ليبرالية مضادة (في قلب الديمقراطيات الغربية)، سببه النجاح المذهل للنظام الليبرالي بما انجرّ عنه الشعور بالقلق والخوف من الفراغ المتولد عن تحلل الهويات الجماعية والانتماءات العضوية، وهو ما يفسر انفجار النزعات الشعبوية والتيارات اليمينية المتشددة. لم يتحدث زكريا عن الثورات التحررية في العالم الثالث ولا عن الثورات اليسارية الراديكالية في شرق أوروبا وأميركا اللاتينية، وقد بدا له أن مفهوم «الثورة» في دلالاته الحقيقية هو نتاج ديناميكية التحديث التقني والاقتصادي التي لم تنجح بصفة حقيقية إلا في الغرب. وكما ذهب إلى ذلك مؤرخون كثر، يرى زكريا أن الاكتشافات التقنية، في ملاحة البحار بصفة خاصة، هي التي أتاحت للمجتمعات الأوروبية الخروجَ من الإقطاعية الزراعية وولوجَ عصر الرأسمالية التجارية، قبل أن تتوالى التطورات في مجالات الطاقة والنقل والاتصال.

وقد أدت بالتدريج إلى بناء الأرضية المجتمعية الملائمة للعصر الليبرالي المعولم. وما نعيشه راهناً مع الثورة الصناعية الجديدة هو انفجار الجدل الأيديولوجي التقليدي حول غائية التقدم العلمي والتقني وما يترتب عليها من آثار سياسية وأيديولوجية، تنعكس اليوم في الصدام القائم بين الثورة الليبرالية والثورات المناهضة لها. ما الذي نستنتجه من أطروحة فريد زكريا في سياقنا العربي، الذي شهد في العشرية الماضية عودة قوية لسردية الثورة في إطار الديناميكية التي عرفت بموجة «الربيع العربي»؟ من الواضح أن تلك الحركية لم تقم على دوافع ليبرالية، لا من حيث المطالب ولا من حيث الخطاب السياسي، بل قد تكون أدت على سبيل المفارقة إلى الإضرار بالمطلب الليبرالي الذي حملته قوى مجتمعية ومدنية ظلت خارج دائرة القرار والمسؤولية. ما نستنتجه من مقاربة زكريا هو أن المجتمعات المحافظة المستقرة التي حققت مستويات مقبولة من التقدم التقني والاقتصادي، ومن الإدارة السلمية للتعددية الاجتماعية، هي وحدها المؤهلة لتطبيق الحلول الليبرالية الناجعة.

والثورة هنا ليست بمعنى القطيعة أو القلب الراديكالي، بل هي نتاج عملية إصلاحية متدرجة وفاعلة. في بلدان عربية معروفة، شهدت «الثورات العسكرية» العنيفة، ومن بعدها الفوضى التغييرية الهوجاء التي تمت باسم المطالب الديمقراطية المموهة، لا سبيل لاستنبات التجربة الليبرالية، التي تقتضي وجود مجتمعات متماسكة، ونظام مؤسسي مستقر، ودولة بيروقراطية صلبة. كان الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران يقول إن بلاده لم تخرج يوماً من «عنف المقصلة»، وإن نظامَها السياسي بقيَّ معلَّقاً على حالة استقرار اجتماعي هشة هي سبب الأزمات السياسية المستمرة في فرنسا. ولقد فسر ميتران هذه الظاهرة بغياب تقليد ليبرالي حقيقي في بلاده، بالمقارنة مع بريطانيا وأميركا. خلاصة هذا الكلام هي أن الليبرالية في أحد وجهيها حرية وتقدم، وفي وجهها الآخر استقرار اجتماعي وسلم أهلي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 28 ابريل 2024 23:45

 

شاركتُ قبل أيام في حلقة حوارية ضمن برنامج «ساعة حوار» على قناة «العربية» في حلقة تتعلق بمحاولة إعادة الأصولية للربيع العربي، وفيه فضّلت الدولة التنموية على الدولة الديمقراطية، بل قلت إننا لا نحتاج إلى الديمقراطية أصلاً، وإن الدول المَلكية التنموية مثل السعودية والإمارات وغيرهما، هي الأمثل والأقدر على تلبية احتياجات الإنسان، واختلف معي أحد الدكاترة بحجّة أن تطبيقها هو الحل بوجه الإرهاب والانفلات، ولكن علينا قراءة عيوب مفهوم الديمقراطية التي طُرحت من فلاسفة عاشوا وعرفوا وخبروا هذا المفهوم وجرّبوه سياسياً. وهذا ما كررته أيضاً في ندوة أخيرة عن التجارب السياسية والتنموية، وقلت إن الخلاف مع المفهوم ذو بعد فلسفي متجدد بمستوى تجدد أسئلة الديمقراطية التي تتعرَّض لتعديلات واشتراطات وإبداء وإعادة. حتى في الدول التي بلغت الذروة في تطبيقها.

برتراند راسل يقول: «إن الديمقراطية تكاد تكون مستحيلة التطبيق في شعب جاهل، وهي ترتبط بالتعليم والثقافة». كارل بوبر جاء بعد هيغل، وهو من أشرس نقاد فلسفة هيغل وفي أطروحته «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، ربط بين الديمقراطية ومستوى تحضر الشعب بحيث يصل إلى حال احتياج للنظام الديمقراطي، فالثقافة الديمقراطية لدى بوبر تسبق التطبيق الآلي للديمقراطية. أما الفيلسوف الألماني هيغل فهو نقيض رؤية بوبر وراسل، يكتب: «إن الشعوب ليست قاصرة ولم تكن قاصرة في أي مرحلة من المراحل على الإطلاق». يستمر هيغل: «إن تطبيق الديمقراطية بين شعب تغلب عليه الأمية ستكون عرجاء أو فاسدة أو ناقصة، لكنها ستكون ديمقراطية على أي حال، وسيكون وجودها أفضل بكثير من انعدامها، فالناس تمارس الديمقراطية وتخطئ».

قبل فترة قرأتُ مبحثاً مهماً لفيلسوف فرنسي قدير هو مارسيل غوشيه بعنوان: «الديمقراطية من أزمة لأخرى»، خلص فيه إلى النقد الصريح للمفهوم حين يكتب: «يوجد مستوى ثانٍ لمشكل الديمقراطيات، وهو أشد عمقاً ولا يتعلّق بجهازها الداخلي بل بإطار ممارستها. وهنا يأخذ معنى الديمقراطية ضدّ نفسها أهميته الكاملة. من بعض النواحي فإنَّه مسموح لنا أن تعتقد أننا شهود على مسار من التآكل لأسس اشتغال الديمقراطية، إذ خلف القيود التي تفرضها على نفسها فإنَّ الديمقراطية في قبضة تدمير ذاتي لطيف، يترك مبدأها على ما هو عليه ولكن يتّجه إلى حرمانها من فاعليته. إنَّ الكونية التأسيسية التي تعمل بها الديمقراطية تقودها في الواقع إلى فصل نفسها عن الإطار التاريخي والسياسي الذي تشكّلت فيه باختصار الدولة -الأمة- ولكن في الحقيقة وبصفة عامة عن أي إطار ممارسة يكون مقيداً بحكم التحديد. فهي ترغب في نفسها دون أرض ولا ماضٍ. إن منطق الحق يشجِّعها على رفض الاعتراف بنفسها مرسومةً في الفضاء، حيث تشكل حدودها إهانة لكونية المبادئ التي تعلنها. كما ترفض في السياق نفسه الدخول في التاريخ مما يضعها في حالة اعتماد على خصوصية ليست دون ذلك احتمالاً. بمعنى آخر فإن الديمقراطية تُقَاد إلى عدم تحمّل الشروط التي أنتجتها. على أقصى حد ستلقي كلياً الفكرة التي أنتجتها».

بل يتشاءم، وهو الفيلسوف العريق، حين يقول: «إلى جانب هذه العوامل للتعبئة الذاتية المتعلقة بالتناقضات الداخلية البحتة للعبة الديمقراطية الحالية، يجب أن نضيف التحديات الموضوعية التي تواجهها مجتمعاتنا والتي تُعْنى بإعطاء شحنة ضاغطة على المراقبة المشتركة. يكفيني البحث في الجدار الإيكولوجي الذي يحملنا إليه فعل التسريع للحركة الاقتصادية حتى نشعر بالمراجعات الممزِّقَة التي تَلوح في علاقة بالإيمان السائد في سحر التنظيم الآلي. في الحقيقة إن القيد الإيكولوجي مع ما يشير إليه من شرطية لإنتاج الطبيعة ليس إلا إعلاناً لقيود عامة أوضح، إذ يجب أن يكون مجموع شروط وجودنا التي نأخذها على أنها مُعطى، مطلباً. إنه وضع لا تكون فيه موارد الذكاء والقوة المشتركة لازمة كثيراً. الكثير من الأسباب التي يبدو لي أنها تبرر التشاؤم قصير المدى والتفاؤل بعيد المدى، إنْ سمحتم لي باستعادة معادلةٍ هذا موضع تدقيقها. حسب كل الاحتمالات، في المدى القصير وفي المرحلة التي نحن فيها، فإن الأزمة لا يمكن إلا أن تزداد حدّة. فنحن لسنا على شفا تفكيك التوازنات القديمة وزخم العوامل الجديدة. وفي المقابل في المدى البعيد سيكون ثمة أزمة نمو قابلة لأن نتجاوزها. لا يقتصر الأمر على مثال الماضي في هذا المعنى ولكن توجد علامات عديدة حتى وإن كانت ما زالت في مرحلة جنينية».

الخلاصة؛ إن الغاية من الديمقراطية تحقيق العدالة بكل ما تحمله من معنى، وهذه الغاية قد تتحقق من دون الدخول بالوسائل الديمقراطية الإجرائية السطحية التي بُنيت على ما سمّيناه التعريف المتواضع للمفهوم، إذ تسعى المَلكيات في دول الخليج إلى ثمرة العدالة، وهذا منصوص عليه بالدساتير وأنظمة الحكم، والغاية محل سعي حثيث من خلال مؤسسات ترسيخ العدالة والتحاكم العادل ضد المظالم، وعليه فإن الضخّ بهذا المفهوم بوصف انعدام تحققه هو سبب الإرهاب والفقر والمجاعة وأن تحققه هو الذي يوفّرها، فيه تسرّع معرفي كبير؛ فالدول التي حققت العدالة من دون الديمقراطية ولا صناديق الانتخاب ولا الأحزاب ولا ثقافات التثوير والشعارات والشوارع، عديدة، ولهذا شواهد من الحاضر والماضي كثيرة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الخميس - 23 شوّال 1445 هـ - 2 مايو 2024 م

 

يعتبر التطرق لتعريف كلمة المعرفة بحد ذاته، والانتقال لفهم ما تعنيه المعرفة أو الإبستمولوجيا وغيرها من المفردات والمصطلحات ذات الصلة، من الأساسيات التي يتعين أن يدركها العقل الإنساني بدقة.. ذلك أن فهم ماهية المعرفة وما تنطوي عليه من عمليات وعناصر يعد العمود الفقري للإدراك الإنساني القائم على تطوير المفاهيم من جهة، والقدرة على اكتساب المعرفة الحقيقية الدقيقة من جهة أخرى. وهكذا فإن المعرفة سبيل لبناء مسار واضح تسير فيه الأفكار والمفهومات والدلالات، وتأخذ مكانها الصحيح، ومن ثَم تتكون الاتجاهات العالمية والمجتمعية على حد سواء.

ومن اللافت أن مصطلح الإبستمولوجيا يرادف في اللغة الإنجليزية «نظرية المعرفة»، في حين أنه يتناظر في اللغة الفرنسية مع تركيب آخر، ويرجع السبب في ذلك إلى استخدام الفلاسفة الفرنسيين هذا المصطلح تعبيراً عن «فلسفة العلوم» والتاريخ الفلسفي للنظرة العلمية.

وقد واجهت نظرية المعرفة، مثل غيرها من المفاهيم والدلالات، خلطاً وتشوشاً في الفهم والتعريف، لذلك نجد أن العديد من المفكرين والفلاسفة أشاروا لفروقات بسيطة، لكنها مفصلية وتؤدي لمعانٍ مختلفة، ومن ذلك على - سبيل المثال لا الحصر - ما وضّحه الفيلسوف أندريه لالاند، بتمييزه بين أنواع المعرفة البشرية، لوجود مساحة واسعة تسهل الخلط أو بناء لغط مفاهيمي فيما بين الدراسات التي تناولت أصناف المعرفة البشرية، مفرِّقاً بين الإبستمولوجيا من جهة، والميتودولوجيا من جهة أخرى. وفي ذات السياق نحا العديد من المفكرين للتفريق فيما بين نظرية المعرفة والإبستمولوجيا.

كما أنه من الضروري التثبت من صحة هذه المعلومات من خلال تتبع المدلول الخاص بكلمة «العلم»، حيث إنها اليوم لا تشبه تعريفها القديم متمثلاً في القول بأن «العلم يخص الضروري والخالد» (أرسطو)، أو يعبر عن «أرقى درجات المعرفة» (أفلاطون). كما كانت كلمة «علم» تأتي غالباً في سياق الحديث عن «الحقيقة العظمى» المتصلة بالمنظومة الدينية والوجدانية العقائدية لدى الأفراد، كما يوضح لالاند.

وفي صدد الحديث عن المعرفة يتوارد العديد من الدلالات التي قد تشكل لبساً حول المفهوم، مما يزيده تعقيداً، ولذا فهناك حاجة حقيقية للتفريق بين العديد من المفردات التي تلتقي في المعنى أو في التركيب، وذلك مثل: البيانات، والمعلومات، والعلم، والمعرفة.. إلخ، وبخاصة أنه عند الحديث عن البيانات فإننا نعبر عن أصوات وصور وأرقام ورموز ترتبط واقعياً ومنطقياً بالبيئة التي تحيطنا، وبالتالي فالبيانات تعتبر المادة الأولى الخام التي يمكن من خلالها تشكيل شيء آخر، إذ بعد تناول البيانات ومعالجتها تنتج لدينا مجموعة من المعلومات التي ستتحول في مرحلة لاحقة إلى معرفة جديدة، وهذه بدورها سوف تشكل لبنة أساسية في أي علم تدخل في بنائه وتشكيل ملامحه. ومن هنا يَرد معنى جديد للمعرفة التي ترتبط بتفصيل البُنى الأساسية والمكونات الصغيرة التي تدخل في تركيبها. فالمعرفة مزيج من القواعد والأفكار والمفاهيم والإجراءات التي تفضي للخروج بقرارات وأفعال واضحة، وبالتالي فإنها معلومات متوازية مع التجربة الإنسانية وما تنتجه من قيم وحقائق وأحكام متآلفة تتناغم بطريقة سلسة على نحو يسمح بإحداث تغيير فعلي في الواقع الإنساني.

إن القدرة على تحقيق الدقة في التعريف والتوصيف لكل قضايانا في بنيتها الأساسية، من شأنها أن توفر النجاح المطلوب من كل دلالة في موضعها الصريح، بل إنه مدعم بـ «شهادة ثقة» في ما وصلت إليه تلك الدلالة من تناغم وتمازج منطقي وفطري مع حقيقة الكون الديناميكية، والحركية المستمرة التي يمكن ملاحظتها في طبيعة تشكيل كل ما يحيط بنا، والمعرفة جزء منها، مما يجعلها أكثر تجدداً وتطوراً.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 24 ابريل 2024

 

مرحلة من مراحل الثقافة العربية لا تكترث للأدب ولا للشعر تحديداً

كلنا يسمع سرديات الأدباء والشعراء وكيف كانوا يقرأون قصائدهم في أماكن عامة يحضرها المئات، بل الآلاف من المعجبين، أو الجمهور المتذوق للشعر، ويُروى أن أحد الشعراء العراقيين وهو محمد صالح بحر العلوم كانت الناس تحجز مقاعدها في القاعة التي يقرأ فيها شعراً قبل موعد الجلسة بساعات، وكان الجمهور يتتبع حركة الشعراء ومواعيد أمسياتهم ليرتّبوا جدولهم في الحضور في ذلك اليوم، وقد أدركت بعضاً من تلك الظاهرة أواسط التسعينات، حيث يُقام مهرجان المربد، وكنت شاباً صغيراً أحضر دون أن أُدعى، وكان المئات حاضرين ممن ليس لهم غاية سوى سماع الشعر والاستمتاع به، جمهور لا ينتمي إلى أي اتحاد أو رابطة أو وزارة، إنما جمهور من الطبقة الوسطى يتذوق الشعر ويتفاعل معه، وهذا الجمهور هو نفسه الذي يقرأ الصحف والمجلات، وهو نفسه الذي يستوقفك في مكان ما ليناقشك حول بيت قلته في قصيدة ما قبل سنوات، أو رأي طرحته في حوار لك في مجلة ما، قبل مدة من الزمن، هذا الجمهور الذي يحضر الأمسية الشعرية في شتى الظروف والأحوال، بل وصل الحال أن يمتلئ ملعب من الملاعب في إحدى أمسيات محمود درويش في عمَّان، فضلاً عن الفعاليات التي تنتمي إلى حقل الجامعة وحضور الطلاب فيها بكثافة عالية، أما الآن فالموضوع اختلف تماماً؛ ذلك أن الحضور هم أنفسهم الشعراء، فمنذ أكثر من عشرة أعوام ومن خلال تجربتي الخاصة، وهي تجربة أبناء جيلي في العراق وبقية الدول العربية، حيث اشتركنا بعشرات الأماسي والمهرجانات الشعرية في معظم العواصم العربية وفي بغداد والبصرة، والبعض منها تكررت أكثر من مرة، كان المشترك الوحيد بين تلك المهرجانات هو الجمهور، حيث يتكرر الجمهور نفسه في كل أُمسية وفي كل مهرجان، لا يندهش ولا يتأثر، حتى تحول الجمهور روبوتاً يحضر بشكل روتيني لهذا المكان سداً لفراغ ما، أو تلبية لحاجة قد لا تكون شعرية، إنما اجتماعية في المقام الأول، كلقاء الأصدقاء والأحبة، والأمر الآخر أن هذا الجمهور الذي نبحث عنه قد اختفى، حيث لم يعد لدينا جمهور شعري يسأل ويتابع ويحضر الندوات والأماسي والمهرجانات، إنما الجمهور في المهرجانات الشعرية في الأغلب هم أنفسهم الشعراء، يسمعون لبعضهم، ويتندرون على بعضهم، ويشتمون بعضهم ويصفقون لبعضهم، وهذا الأمر لا يرتبط بالعراق ولا بدولة دون أخرى مع بعض الفروقات والتمايزات، حيث وجدت معظم الجمهور الشعري في عواصم عربية متعددة هو نفسه الجمهور المتواجد في الفندق وهو نفسه الضيوف المدعوون إلا ما ندر.

إن هذه الظاهرة، ظاهرة اختفاء الجمهور الشعري واستبداله بالشعراء أنفسهم، هي محل تساؤل، وهو أمر يكشف عن مرحلة من مراحل الثقافة العربية التي لا تكترث للأدب ولا للشعر على وجه التحديد، إنما سحبت أقدامها طرق أخرى غير الشعر، فهل للسوشال ميديا سبب في هذه الظاهرة؟ حيث انشغل الفرد منا بعالم الموبايل ووصل التوحد أقصاه في هذه الظاهرة؟ ربما...

أم أن ظاهرة الشعراء الكبار اختفت من المشهد؟ فلم يعودوا موجودين بيننا، فلا الجواهري ولا عبد الرزاق ولا البياتي ولا نزار ولا درويش ولا سميح ولا الفيتوري ولا مظفر ولا ولا، أولئك الشعراء الذين كان كل واحد منهم يشكل ظاهرة وحالة شعرية وحده، أولئك الشعراء الذين تغري أسماؤهم الناس ليملأوا أي قاعة مهما كبر حجمها، أم أن شعراء الحداثة أسهموا ببناء ذلك الجدار الكبير بين الشعر وبين الجمهور، حيث وصلوا مراحل من التجريب والانغلاق حد التعمية في الكثير من الحالات وبدأوا يصرحون أن الشاعر كلما كثر جمهوره انخفضت شاعريته، وهذا ما صرح به أدونيس في مرات عدّة، فهل هذا التصريح هو لدرء التهمة عن ضياع الجمهور الشعري وتشتته؟ أم هو إيمان مطلق بالفكرة التي تقول لا أهمية للجمهور؟ وإن كان الجمهور غير مهم لشعراء الحداثة، فعلام يصر رموزه أن يقرأوا في المهرجانات الشعرية والأماسي؟ ويمسرحون نصوصهم على المسرح حد الذوبان؟

أم أن الجمهور تحولت طريقته في التلقي، فبدلاً من الحضور في القاعة وسماع الشاعر واللقاء به دماً ولحماً، سيذهب المتلقي إلى جهازه النقال ويتابع الأمسية على البث المباشر، ولا فرق ممداً في بيته أو في السيارة أو المقهى، وتحول التصفيق «لايك»، والهياج الذي يمارسه الجمهور تعليقاً، والإعجاب الشديد مشاركة المنشور، أم أن الشعر وتلقيه ارتبطا بمرحلة من مراحل صعود الآيدولوجيات في العالم العربي، فجميع الأسماء الشعرية التي ذكرتها أعلاه والتي لكل واحد منهم جمهور عريض، فإن كل شاعر من هؤلاء الشعراء يسحب جمهوره المؤدلج إلى حد ما إلى مساحته التي يدور في فلكها، حيث نجد جمهوراً يسارياً، وآخر قومياً، وآخر مناهضاً للاحتلال، وآخر لشتم الحكومات، وأظن بزوال شمس الآيدولوجيات الساخنة واستبدالها بالعالم الليبرالي واختفاء الجيل المؤسس وما بعده، فإن فكرة الشاعر المؤدلج الآن لن تنفع كثيراً ولن يكون لها جمهور كما كانت في الستينات والسبعينات، والآن لو رجع الجواهري بنفسه وشتم الحكومات فهل سيجد جمهوره الذي كان يلقي عليه في الحيدرخانة لينطلق به في مظاهرة في ساحة الميدان؟

إن هذه الظاهرة تستدعي منا أن نقف لمراجعتها، لماذا اختفى جمهور الشعر؟ وإن وُجد فهو نفسه منذ عشرة أعوام أو أكثر، لا يقلون ولا يكثرون.

وما دعاني لرصد هذه الظاهرة تطوافي في مدن عربية عدّة شاركتُ في مهرجاناتها وأماسيها الشعرية، لم أجد تغييراً واضحاً في وجوه الجمهور الذي رأيتهم قبل عشرة أعوام، فهم نفسهم ثابتون ومقيمون ما أقام عسيب،

وما دعاني أيضاً إلى مناقشة هذا الموضوع، مجموعة صور نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لأحد المهرجانات الشعرية قبل أيام، والتي كُتب عليها «مهرجان عالمي للشعر» في إحدى دول المغرب العربي، حيث تتبعت الصور التي التقطها الشعراء، ومن ثم صورة القاعة التي يقرأون فيها الشعر، فإذا هم انفسهم الجمهور، وهم لا يتجاوزون العشرين شاعراً، ومعظمهم أسماء معروفة وكبيرة، ولكن القاعة خالية إلا من الضيوف فقط، وهذا ما حدث معي أيضاً ففي إحدى الأمسيات كنت أنا وصديق لي شاعر سعودي مدعوَين لأمسية شعرية في إحدى الدول العربية، وقد نشرنا إعلاناً عن مكان وموعد الأمسية، وحين حضرنا لم نجد إلا سبعة أشخاص في القاعة، بحيث تذكرنا لحظتها مجلس العزاء الذي أقامه الفنان حسن حسني في الفيلم الشهير (كركر) بطولة محمد سعد (اللمبي) وحسن حسني، وهذا الموقف أعادني لعام 1997، حيث كنت رئيساً لرابطة الرصافة للشعراء الشباب، وقد أقمنا مهرجاناً شعرياً للشباب، حضر الشعراء وغاب الجمهور تماماً، ما الذي نصنع؟ جاءتني فكرة ساحرة، فقد ذهبت مباشرة إلى إعدادية للبنات قريبة من مقر الرابطة، ودخلت على المديرة وقلت لها بضرورة حضور شعبتين من الطالبات لهذا المهرجان، لم تمانع تلك السيدة ووجهت الشعبتين من ثمانين طالبة مع أستاذتين ترافقان الطالبات، وبالفعل، بعد دقائق توجهنا إلى القاعة وقطعنا الطريق، حيث نقود الطالبات حتى وصلنا القاعة، فامتلأت القاعة وغصت بالحضور، ونفش الشعراء ريشاتهم، لأنهم لم يروا جمهوراً أجمل من هذا الجمهور، فما إن تحرك يدك حتى تسمع التصفيقات الحارة بعد لحظة. ولو تركنا الجمهور الذي يحضر بدمه ولحمه إلى القاعة وانتقلنا إلى الجمهور الآخر، الجمهور غير الشفاهي القارئ، فهل سنجد جمهوراً قارئاً يبحث عن الشعراء ودواوينهم الجديدة ويتتبع تحولاتهم، طبعاً لن نعدم مثل هذه الظاهرة بالتأكيد، ولكن لن تكون ظاهرة واسعة ومؤثرة، بدليل سوق الكتاب الشعري ومنسوب انخفاض مشترياتها، وهروب معظم دور النشر من طباعة الدواوين الشعرية، وحتى وإن طبعت فإن سوقها لن تكون مزدهرة مقارنة بسوق الكتاب الديني أو الفكري أو حتى الرواية.فأين ذهبتم يا أبناء اللغة العربية؟ تلك الأمة الشاعرة التي يجري الشعر بدمهم ويتنفسونه مع كل شهقة، هل تركتم الشعراء يصيحون وحدهم في هذا العالم الموحش؟ والذين منذ اكثر من ألف وستمائة عام كان يصيح ملكهم الضليل:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل

ليدرأ الوحشة عنه

فعلام تركتم الشعراء وحدهم كالأطفال

يلعبون باللغة دون أن يسمعهم أحد، ويبكون وحدهم بصمت، حتى جرحتهم العزلة وأصيبوا بالتوحد.

***

د. عارف الساعدي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 29 أبريل 2024 م ـ 20 شوّال 1445 هـ

جمع بين العشق الجسدي واندفاعة الروح للاتحاد بالآخر

يتعذر الحديث عن الحب دون التوقف ملياً عند «نشيد الأناشيد»، بوصفه أحد أهم النصوص المؤسسة لشعرية العشق والافتتان التي عرفها الكوكب الأرضي على امتداد العصور. ذلك أن في ثنايا هذا النص المدهش من جماليات أسلوبية وفنية، ومن تباريح العشق الروحي والجسدي، ما جعله شديد الأثر على الكثير من قصائد الحب التي كُتبت من بعده، بقدر ما شكّل على الدوام مصدر حيرة الباحثين الذين تناولوه بالنقد والدراسة والتحليل. ولعل أكثر ما يستوقفنا بشأن هذا النشيد، وقبل الولوج إلى جمالياته ودلالاته الفنية والإنسانية، هو وروده كسفْر مستقل من أسفار «العهد القديم»، التي تركز في مجملها على سرديات دينية تتعلق بخلق العالم وتتبُّع أحداثه المفصلية، وبسيَر أنبيائه الكثر وما عانوه، في سياق الصراع الدائم بين الخير والشر، من آلام ومكابدات.

والملاحَظُ أن حرص القرآن الكريم على تنزيه الأنبياء عن ارتكاب المعاصي، لم يقتصر على الملك سليمان وحده، بل طال أباه داود، الذي اقتصرت صورته في القرآن على العبادة والعلم وطاعة الخالق، فيما ينقل عنه «سفر صموئيل الثاني»، بأنه الرجل النزق الذي لم يتوان عن قتل قائد جيشه، لمواقعة زوجته «بثشبع»، وقد شاهدها تغتسل عاريةً، قبل أن تحمل في وقت لاحق بابنه سليمان. ولا تختلف صورة الابن في «العهد القديم» عن صورة الأب. ففي «سفر الملوك الأول» يظهر سليمان بوصفه الذكَر الممتلئ شبقاً، الذي شغف بنساء من جميع الأعراق، وبينهن من نهاه الله عن الزواج منهن، ولكنه «التصق بهن لفرط محبته لهن، فكانت له سبعمائة زوجة وثلاثمائة محظية، انحرفن بقلبه عن الرب».

وسواء تعلق الأمر بالأب أو بالابن، فإن إلحاح الرواية التوراتية على قدرات الملكين الجسدية الفائقة يعكس في عمقه نفياً واضحاً لعصمة الأنبياء، بقدر ما يبدو تباهياً بفحولة الحاكم اليهودي مقابل «تأنيث» الآخرين، أفراداً كانوا أم شعوباً وجماعات. وإذ تركز السردية التوراتية على افتتان بلقيس بجمال سليمان وسعيها الحثيث للظفر به، تذهب السردية القرآنية بالمقابل إلى أن سليمان هو الذي بذل كل جهده للظفر ببلقيس. إلا أن اهتمامه بها لم يكن بدافع شغفه المفرط بجمالها الفاتن، بل بهدف إبعادها عن ديانتها الوثنية، وإعادتها إلى طريق الإيمان القويم. وهو الأمر الذي يؤكده ما جاء على لسان ملكة سبأ في الآية الكريمة «ربِّ إني ظلمتُ نفسي وأسلمتُ مع سليمانَ لله ربِّ العالمين».

وإذ يحرص «النشيد» على إظهار سليمان في صورة الملك الشاعر الذي تيمه العشق، يبدو هذا الحرص بمثابة تصحيح متأخر للصورة النمطية التي رسمتها له أسفار «العهد القديم» الأخرى. ولعل التناقض الواضح بين صورة سليمان في «سفر الملوك» وصورته في «نشيد الأناشيد» هو الذي حدا ببعض الدارسين إلى الاستنتاج بأن سليمان قد يكون نظم «النشيد» في فترة كهولته، أي بعد تراجع تطلُّبه الجسدي، وتقدُّم الروح لكي تحتل مكانها اللائق على ساحة الهيام والوجد. ومن الباحثين من ذهب إلى مسالك ومقاربات أخرى؛ حيث تساءل أنسي الحاج في تقديمه لـ«النشيد» الذي أعاد ترجمته بلغة عالية، عما إذا كان هذا الأثر الاستثنائي من كتابة سليمان نفسه، أم هو «مجموعة أشعار بابلية المصدر في غناء حب عشتار وتموز؟ وهل كتبه كتّابه تحت الروح الهيليني، أم لملموه من الأدب الإسكندراني ونقلوه إلى العبرية؟». كما ذهب البعض إلى قراءات أخرى، فرأوا فيه رمزاً لاتحاد يهوه بإسرائيل أو المسيح بكنيسته.

والواقع أن في النشيد ما يترك الباب موارباً إزاء أي جواب حاسم بشأن مؤلفه أو مؤلفيه الحقيقيين. ومع أن اسم سليمان يتكرر غير مرة في فصوله، مثل «أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كشقق سليمان»، أو «الملك سليمان عمل لنفسه تختاً من خشب لبنان»، أو «كان لسليمان كرْم في بعل هامون»، فإن في ذلك ما يرجح كونه بطل «النشيد»، وليس كاتبه بالضرورة. كما أن الأصوات الثلاثة التي تتعاقب على الكلام، وهي الرجل والمرأة والجوقة، يمكن أن تقودنا إلى الاستنتاج بأن النص أقرب إلى طقس عشقي ذي طبيعة دينية، كتبه شاعر أو أكثر، وتم تقديمه في الهيكل الذي بناه سليمان من خشب الأرز، تمجيداً له وتعظيماً لشأنه.

وقد يكون التداخل الملغز بين صورتي الملك والراعي في فصول «النشيد» المختلفة، واحداً من العناصر الإضافية التي تترك في ذهن القارئ المزيد من البلبلة واللبس حول هوية كاتبه. إذ ثمة ما يشير إلى أن العاشقين كانا راعيين من عامة الشعب، مثل «يا من تحبه نفسي، أين ترعى أين تربض عند الظهيرة؟»، أو «أيتها الجميلة بين النساء، أبرزي في أثر الغنم، وارعي جداءك عند مساكن الرعاة». كما أن حث المرأة حبيبها على الهرب، بقولها في المقطع الختامي «اهرب يا حبيبي وكن كالظبي أو كغفر الأيّلة على جبال الأطياب»، لا يستقيم مع مقام الملك الذي كانت تهابه الشعوب والكائنات كلها، بل يبدو فعل الطلب موجهاً إلى الراعي، الذي قد يكون دخوله على خط العلاقة، تجسيداً لحنين المرأة إلى سليمان نفسه في صورته الرعوية الريفية، بعيداً عن سطوة الحكم وأبهة السلطة المدينية.

وإذا كان من المتعذر فصل النشيد عما سبقه من مؤثرات وروافد مختلفة، بخاصة حوارات «إنانا» و«ديموزي» ذات الطابع الإيروتيكي، التي تقيم تماهياً واضحاً بين طقوس الزراعة والخصب والفعل الجنسي، كما بيّن جيمس فريزر في «الغصن الذهبي»، وصموئيل كريمر في «طقوس الجنس المقدس»، فإن «النشيد» يكتسب أهميته من جمالياته الفنية والدلالية، ومن مناخاته المدهشة التي تجمع بين الشغف المحموم ورغبة الانصهار بالآخر:

اجعلني كخاتم على قلبك

كخاتم على ذراعك

لأن الحب قوي كالموت

والغيرة قاسية كالهاوية

مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ الحب

والأنهار لا تغمره

كما تتضافر في النشيد، الذي يعده زنون كوسيدوفسكي «واحداً من أروع وأندر القصائد الشعرية الشهوانية في الأدب العالمي كله»، الحواس الخمس مجتمعة، لتمنح العلاقة العاطفية ما يلزمها من أسباب النشوة الجسدية والثمل الروحي. فهو يحتشد بشتى الألوان التي يضيء كل منها جانباً خاصاً من جوانب الكرنفال العشقي. فالمرأة في «النشيد» يبدو شَعرها شبيهاً بقطيع ماعز على جبل جلعاد، وشفتاها كسمط من القرمز، وعنقها كبرج من العاج. أما الرجل من جهته، فهو لحبيبته عنقود حناء، وغدائره كسعف النخل حالكة كالغراب، ويداه حلقتان من ذهب، وجسمه مغشّى بالياقوت الأزرق.

وفي هذا العالم البدئي للعناصر والكائنات، لا يتبقى من فاصل يُذكر بين الإنسان والطبيعة، بحيث تصبح النباتات حالة من أحوال الجسد الإنساني، ويصبح البشر بدورهم امتداداً للأشجار والنباتات. وحيث يبدو الخريف والشتاء رديفين رمزيين للشيخوخة والموت، يتقمص الربيع بالمقابل صورة القيامة، متكفلاً بإعادة الحياة إلى نصابها، وبضخ الدماء الحارة في العروق التي جمدها الصقيع. ولعل أكثر ما يجسد هذه التوأمة بين طرفي الخلق هو قول الرجل العاشق منادياً امرأته المعشوقة:

قومي يا خليلتي يا جميلتي وتعالي

فإن الشتاء قد مضى والمطر مرَّ وزال

الزهور ظهرت في الأرض

والتينة أخرجت فجّها

والكروم أزهرتْ وفاح عَرْفُها

ومع عزف النشيد على وتر العلاقة المتداخلة بين الجسد والروح، كما بين الديني والدنيوي، يظهر الاحتفاء بحاسة الشم وكأنه ضربٌ من ضروب اللعب المقصود على وتر الانجذاب الجسدي، وتنسُّمٌ لهبوب الأزمنة المنقضية على حدائق الرغبات. وإذ تتكرر في النص عبارات من مثل «مَن هذه الطالعة من القفر مطيبة بالمرّ واللبان» و«خدّاه كخميلة الطيب» و«حلْقكِ كخمر طيبة»، نلاحظ في الوقت نفسه تركيزاً على التفاح ومذاقاته وروائحه المشتهاة، كما في عبارات «عَرْف أنفكَ كالتفاح» و«تحت شجر التفاح نبهتك» و«قوُّوني بالتفاح فقد أسقمني الحب». وإذا كان من البديهي أن نستعيد مع التفاح شجرة الخطيئة الأصلية وثمار الإغواء الشهواني، فإن الاستدعاء المماثل للرمان والكرمة والنخيل وغيرها، يعكس في عمقه الأخير حنيناً موازياً للعودة إلى الفردوس. فبمثل تلك العودة أمكن للعري أن يكتسي ثوبه الطهور، وللشهوة أن تنبثق عن أكثر المشاعر صلة بالعفة، وللمدنس أن يدخل في عباءة المقدس. وفي ظل ذلك الانصهار الكلي بين العناصر والكلمات، أمكن للعاشقين المدنفين أن يتحولا إلى نسخة ثانية عن آدم وحواء، سابقة على ارتكاب الخطيئة، وأمكن للجوقة الشبيهة بالكورس في المسرح الديني أن تسأل المرأة الوالهة «ما فضل حبيبك على الأحباء، أيتها الجميلة؟»، لتجيب الأخيرة بلا تردد:

حبيبي أحمر ونضر

غدائره كسعف النخل حالكة كالغراب

عيناه كحمامتين على أنهار المياه

وجسمه عاجٌ يغطيه اللازورد

ساقاه عمودا رخام على قاعدتين من إبريز

وطلعته كلبنان.

***

شوقي بزيع

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 23 أبريل 2024 م ـ 14 شوّال 1445 هـ

تحتفل ألمانيا هذه السنة بالذكرى المئوية الثالثة لأهم فلاسفتها وهو أمانويل كانط، الذي غيّر مجرى التفكير الفلسفي الكوني بأعماله التي نشرها في خريف حياته، وما تزال إلى حد اليوم موجِّهةً للسؤال الفلسفي العالمي. تمحورت فلسفة كانط حول ثلاثة أسئلة كبرى هي: ماذا يمكنني أن أعرف؟ وماذا يتوجب عليَّ أن أفعل؟ وما هو المؤمَّل لي أن أرجو؟ وهذه الأسئلة الثلاثة تتمحور حول إشكال جامع: ما هو الإنسان؟ السؤال الأول يتصل بموضوع المعرفة من خلال توجيه النظر لا إلى الحقائق العقلية المطلقة وإنما إلى شروط المعرفة الممكنة وفق محددات التجربة التي بدونها لا يمكن للمفاهيم المجردة أن تصل إلى علم موضوعي بالظواهر الطبيعية.

أما السؤال الثاني فيتعلق بالأخلاق التي هي قوانين العقل العملي التي تتأسس على الحرية واستقلالية الذات الراشدة، وليس على الفضيلة من حيث هي منظور قيمي جوهري للسلوك البشري. وأخيراً يتعلق السؤال الثالث بالدين الذي كتب عنه في حدود «مجرد العقل» باحثاً عن خيط وصل بين الواجب والسعادة، لتحرير الإرادة الإنسانية مِن عقالها وتوجيهها نحو فعل الخير. كل هذه الأسئلة تدور حول منظور انتروبولوجي للإنسان الحديث من منطلق حركية الأنوار التي كان كانط من رموزها الفكرية الكبرى، وقد دافع عن مبدئها الأساس الذي هو الاستخدام العمومي الحر للعقل والخروج من حالة القصور المضروبة على العقل الإنساني، مع الدفاع عن الوحدة الكوسموبولوتية للنوع البشري وفق نظام من السِّلم الأزلي الدائم. هل نحتاج في عالمنا العربي إلى عقلانية ديكارت أو تنويرية كانط؟

من المعروف أن المفكر والأديب المصري الكبير طه حسين دعا منذ عشرينيات القرن الماضي إلى اعتماد مقاييس الشك الديكارتي في كتابة التاريخ الثقافي العربي، مطبقاً هذا المنهج على الشعر الجاهلي، مما أثار ضجةً كبرى في الساحة العربية أوانها. ولقد ظلت مقولة الديكارتية مرادفةً للعقلانية، وكان الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة كثير الاستخدام لها، إلى حد أنه فرض على كل وزرائه وكبار موظفيه حضورَ درس أسبوعي حول العقلانية الديكارتية يقدّمه في الجامعة التونسية الفيلسوف الفرنسي الأشهر ميشال فوكو (حسب ما أخبرني أستاذي البارز فتحي التريكي الذي كان وقتَها من طلبة فوكو في الجامعة).

لم يكن لكانط هذا الحضور الواسع، ولم يتجاوز تأثيره في البداية عمل الشيخ الأزهري محمد عبد الله دراز الذي نشر في الأربعينيات كتاباً حول «دستور الأخلاق في القرآن الكريم»، ذهب فيه إلى قراءة كانطية لأخلاق الواجب في التقليد الإسلامي. ولقد تغيرت الصورة تدريجياً في مطلع الثمانينيات عندما صدر بصفة متزامنة كتاب محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي» وكتاب محمد أركون «نقد العقل الإسلامي»، في استخدام واضح لمقولة نقد العقل الكانطية، وإن من منظور أوسع من مفاهيم ومقولات كانط. ومع أن غالبية أعمال كانط تُرجمت في السنوات الأخيرة إلى العربية، بما فيها كتاباته الثانوية، إلا أن حضور فلسفته وإشكالياته الفكرية ما يزال محدوداً وضئيلا. قد لا يكون من المجدي الرجوع إلى أعمال كانط العلمية المتجاوزة، كما أن أفكاره الفلسفية لا يمكن أن تُقرأ بمعزل عن المقاربات النقدية التي تناولتها منذ هيغل ونيتشه وهايدغر، بيد أن ثلاثةَ مفاهيمَ كانطية أساسية نعتقد أنها تدشن آفاقاً رحبة في الفكر العربي من الضروري الوقوف عندها.

أول هذه المفاهيم هو استقلالية الإنسان ورشده التي اعتبرَ أنها الدلالة الكبرى لعقل الأنوار. ومهما كان الموقف من تركة التنوير فإن هذا المفهوم يبقى صالحاً للعصر الحاضر، وهو الشرط الأساسي للتحديث المعرفي والاجتماعي الذي نحتاج إليه. ثاني المفاهيم هو ترجمة المضامين الميتافيزيقية في لغة العقل العمومي من منظور أخلاقي قيمي قادر على أن يكون مدارَ توافقات كونية شاملة. ولا شك في أن هذا التوجه يدخل في باب عملية الإصلاح الثقافي التي هي من الضرورات العاجلة في ساحتنا الفكرية العربية. وثالث المفاهيم هو الكسموبولوتية الإنسانية السلمية والمتسامحة التي يجب أن تكون الإطار الإيجابي للتعايش السلمي والتضامن الفعال مع الثقافات والمجتمعات البشرية الأخرى، وهو هدف لا خلاف حول أهميته وراهنيته. بعد أكثر من ثلاثة قرون ما تزال فلسفة كانط صالحةً لعصرنا، توجِّه لنا أسئلةً محوريةً حاسمةً، ومن هنا ضرورة إعادة قراءتها بعيون الحاضر وفي ضوء حاجياتنا الحالية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 21 ابريل 2024 23:12

يقع مفهوما الهوية والتعددية في مأزق مفاهيمي تصادمي، وقد تصنّع الصدام من تعاقب السلوك الثقافي للبشر، فالبشر ينتمون لهويات جذرية هي في أصلها أحوالٌ طبيعية، حيث ينتمي الإنسان للأرض وللنظام الذهني لبيئته الجغرافية التي ستكون بالضرورة ذات تشابك لغوي وديني مما يخلق في النهاية لغةً خاصةً وبحد جغرافي مؤطر، وكل أرض تحمل ديناً يستجمع أحوال الإنسان مع مصيره ومع تفسيره أو تفهمه لمعنى رحيل بعض الذين أحبهم وظن أنه لن يفقدهم فإذا فقدهم أسعفه الدين في تقبل الحدث.

في حين تأتي التعددية بوصفها حقيقةً واقعيةً أيضاً، فكل لون وكل لغة وكل دين هي تنويعات لم يخترها أي إنسان بشخصه وقراره، ولكنه ورثها ممن سبقوه، وهذه تعددية حتمية تتقابل مع حتمية الهويات وكلها لا نختارها ولا نشترطها كذلك، بما أنها حقيقة ماثلة وكلنا كبشر متنوعون لغةً وديناً ولوناً ومشاعرَ وعقولاً، ولكن العلة هي في «اللاتعددية»، بمعنى تمييز عرقٍ على عرق ولونٍ على لون وأرضٍ على أرض، وهي تمايزات حدثت منذ قرون وقرون وعلى أقصى امتدادات الذاكرة، وتظل فعالة، وكلما تقوت أمةٌ أو فردٌ مالت الظروف لمصلحة التمييز ولمصلحة القوي، والتنافس مثلاً بوصفه قيمةً معرفيةً واقتصادية عظيمة وذات فوائد لا حصر لها، لكنه مع ذلك يتحول دوماً إلى تصارعٍ بناء على التمييز أولاً، بحيث يذهب الظن إلى أن النجاح هو خاصية جينية أو هبةٌ خاصة يغذي بها المرء خيالاته بأنه موهوبٌ، ومن ثم متميز عن غيره الذين سيكونون عنده أقل منزلةً وأقل عقليةً وأقل قدرات، ويجري توارث هذه المشاعر عبر الثقافة ومدونات الشعر والملاحم والأساطير ثم عبر الإعلام اليوم، فتترسخ صورٌ ذهنية تجعل التعددية خارج الاعتبار رغم وجودها الحقيقي، أي أن الوهمي يهزم الواقعي، لدرجة أننا نقول بالتعددية ونمارس التمييز في الوقت ذاته ومن الشخص ذاته، وهذا ازدواج ذهني ثقافي يكشف دور النسق المضمر في تشكيل الوعي ورسم شروطه وفق معانٍ تبنيها الذهنية المتوارثة أو ما سميته بقانون (تاء تاء)، في كتابي السردية الحرجة. ويعني تعاقب الفكرة وتواترها مما يرسخها في التصورات وكأنما هي قانون طبيعي خارج الخيارات وصناعة الثقافات.

وهنا يقع التعارض بين الهوية والتعددية إذ أثبتت الأحداث البشرية أن البشر يلجؤون إلى الهويات الجذرية كلما عصرتهم عواصف الظروف والوقائع، ويجري هنا تعمد إنكار قيم التعددية، وكلما تقدم الفكر البشري في رفع معاني التعددية وقيمتها الروحية والعقلية، تتكشف الوقائع عن نقيض ذلك، وهنا مأزق الهوية التي هي في أصلها قيمة انتماء وأمان (البئر العميقة)، لكن يثبت دوماً أن الأمان مرتبطٌ بالقوي، وكلما تقوى الإنسان تعززت عنده الهويات التي تميزه عن غيره، ولن يتم التميز إلا بكسر الآخر وجعله تحت تحكم الأقوى، هي قصة الجنس البشري أفراداً وأمماً، وهذه التناقضية تظل هي العنَوان الأخطر في تواريخ الأمم، ولم تفلح الفلسفة ولا الديمقراطية في ترويض الذهنية البشرية ليتقبل البشرُ البشرَ، رغم إدراك الجميع أن التقبل هو أسهل الطرق لصناعة السلام والأمان، ونظام الأمم المتحدة واتفاقيات حقوق الإنسان تظل مواد للتوظيف السلطوي وليس لتأمين مسارات الحياة. وهنا يكون مأزق الهوية مع التعددية، حيث تنقض إحداهما الأخرى مع تجاهل أي تفاوضية بينهما.

***

د. عبدالله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 20 ابريل 2024 01:47

رغم الصلة العميقة التي عرفها قُطبي الشعر والفلسفة عبر التاريخ الثقافي، فإن العلاقة بينهما قد شابها بعض الارتباك خاصة عندما طرد أفلاطون الشّعراء من جمهوريته، وقيّد ابن رشد حضورهم فيها في «جوامع سياسة أفلاطون». إن الشّعر أحد موجودات المدينة، أما الفلسفة فكمال لها. فهل هذا يعني أن هناك انفصاماً بينهما؟

إننا لا نعرف قوماً عدِمُوا الشّعر، وإنْ عدموا الفلسفة بمعناها الصناعي، إذ وجدنا الشعوب تُضمِّنُ الشّعر حكمتها العملية، ووجدناهم يلجأون إلى الشّعر لنفث لواعج قلوبهم وكُلُومِها، وبثّ أشواق أرواحهم وسُمُوّها، والبوح بعذوبة عواطفهم ورقّتها. فلا تخلو أمة من قول شعري. وقد كان أوّل حكمة الشرق شعرية، وملحمة جلجامش شاهد على ذلك، وكانت الإلياذة والأوديسا لهوميروس مَجْمَع الحكمة عند اليونان، وكان للعرب في مجال الشّعر مضمار لا يبارى.

أما الفلسفة فلصيقة بالمدينة، ولم تُعرف فلسفة خارج نطاق الحضارة، بل إن ديكارت اعتبر أن مقياس حضارة أمّة مّا إنّما تقاس بمدى شيوع التّفلسف الصحيح فيها، وذلك أن الفلسفة من الكماليات وليست من الضروريات من قبيل الغذاء والسّكن والأموال بعامة، وهي وإنْ كانت مثل الشعر بهذا المعنى، إلا أنّ الحياة بدونها ممكنة، بدليل أن ليس كل الحضارات عرفت فلسفة بالمعنى الذي نفهمه اليوم، في حين أننا لم نجد قوماً قد تجرّدوا من قول الشعر، هذا الشعر الذي يتحول إلى شدْوٍ وطرب يُتغنّى به.

حقا، إن الفلسفة كمال، لكن ما هو كمال هو أهمّ مما هو ضروري، فالضّروري يغذي الجسد، وبه يقوم العيش، وكل واحد بفطرته وغريزته وطبيعته يسعى إليه، أما الفلسفة فبها يَتقوَّم جوهر الإنسان، وبها تكمُل إنسانيته، وهي بهذا لا يُقبل عليها إلا من تحرّر من هموم المعاش، فالفلسفة ضدّ الطبيعة لأنها تسعى إلى تطهيرها بعبارة أفلاطون، لذلك لم يكن يهتم بالفلسفة عبر تاريخها الطّويل إلا أصحاب الهمم العالية، والنّفوس التوّاقة إلى الكمال الإنساني، والمشرئبة إلى تحقيق إنْسِيتها في أقصى غاياتها.

ولم يكن المسلمون عن هذا الهدف ببعيدين، فقد طمحت همم ملوكهم إلى تعلّم الفلسفة كما هو حال المأمون في المشرق ويوسف بن عبد المؤمن في المغرب، وقد ربح الفكر الفلسفي الكثير من هذه العناية، فكان الكندي أوّل فيلسوف عاش في ظل المأمون، وكان ابن طفيل وابن رشد أكبر فيلسوفين عاشا في ظل أبي يعقوب، لكن هذا الاختلاف بين الشّعر والفلسفة لم يعدم وصلاً بينهما:

أولاً، لأنّ الشّعر يُقدّم الأدوات الضرورية لكل تأمل فلسفي، وهي اللغة، فالذي لم يتمرس باللغة الشّعرية يصعب عليه فهم النصوص الفلسفية وكتابتها، ولذلك نجد الفلاسفة من أكثر النّاس قراءة للشعر، وقد كان ابن رشد يحفظ ديواني المتنبي وأبي تمام، وكان فلاسفة الإسلام يقولون الشعر، ومنهم من جوّد فيه تجويداً بليغاً.

ثانياً، لأنّ حكمة الشعراء كثيراً ما أصبحت أفكاراً ذات نسق محكم في خطاب الفلاسفة، ولنا في علاقة هايدجر بالشّاعر هولدرين دليلاً على ذلك، بل إن البعض يذهب إلى أن نشأة الفلسفة اليونانية قامت على إضفاء الطابع العقلاني على أشعار هوميروس، وهي الأشعار التي كان لها الفضل في نشأة بلاد اليونان لغوياً وتاريخياً.

إن تشجيع القول الشعري هو ضرب من خلق فضاء ثقافي عام تُنشر فيه الحكمة العملية، وإنْ تراكم هذه الحكمة كفيل أن يخلق عقلية منفتحة تتطلع همّتها إلى ما هو أفضل، فضلاً عن ذلك، فإنّ الشّعر يُحرّر الفرد من كثير من الإكراهات التي لا يكون قولٌ فلسفي إلا بها.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 19 ابريل 2024

 

هناك في تقديري 3 مؤامرات تسيطر على أذهاننا. ولكن قبل أن نعددها علينا أن نفهم السحر والجاذبية في فكر المؤامرة. إنها آلية نفسية مريحة لأنها تخلي الفرد - أو الشعوب - من المسؤولية بشكل كامل وتلقي بها على الآخرين. سبب الهزيمة ليس الجيوش المتهالكة، ولكن الخونة في الداخل والأعداء الأشرار في الخارج. هي أيضاً تحقق ما يُسمى بمفهوم «كبش الفداء»؛ فكل عيوبي وعثراتي أضعها على آخَر وأقوم بعد ذلك بإعدامه وإعدامها معه، وأتطهر نفسياً بعدها. وهي أيضاً طريقة مناسبة للهروب من الواقع ومواجهة الحقيقة. ولهذا تُروى بحس استخباراتي وروح قصصية بوليسية لا تتناسب مع الواقع البارد المفتقد لحرارة الدراما وحبكات أفلام الإثارة. كل هذه مغريات تقدمها المؤامرة لمن يُؤْمِن بها. تعزله وتدخله في عالم سحري خرافي، وتنصّبه على عرش المنتصر. لماذا يريد بعدها العودة لواقع بارد لا يعرف المجاملة هو فيه المهزوم؟ وكنا نعتقد أن الأجيال السابقة هي من تؤمن بالمؤامرة وتروِّج لها، ولكنها الآن أكثر انتشاراً ورواجاً بين الأجيال الجديدة الصاعدة التي تتشرب، للأسف، هذه القناعات بعمر مبكر.

في تقديري هذه أخطر 3 مؤامرات تواجهنا:

المؤامرة السياسية: هذه المؤامرة تقول باختصار إن الدول الغربية، وأهمها الولايات المتحدة الأميركية، تنوي تمزيقنا واستغلال ثرواتنا وإخضاعنا لسلطتها في نهاية المطاف. وبسبب هذا التفكير انتشرت مصطلحات، مثل الاستعمار الجديد والتبعية والخنوع، ومؤخراً التأمرك والتصهين، إلى آخر هذه التوصيفات. ولكن القليل من التأمل في الواقع والتاريخ يكشف لنا أنها مجرد خدعة تلعب على غرائز الكرامة والأنفة وشيطنة الآخرين. الشعوب العربية لم تتعرض للتمزق والانهيار ولم تُنهب ثرواتها بسبب الغرب، بل بسبب حكام فاسدين وحكومات ثورية وأنظمة متطرفة. والحكومات التي تخلصت من هذا الوهم هي الأكثر نجاحاً؛ ليس فقط في السعودية ودول الخليج، بل في كوريا الجنوبية، واليابان، وسنغافورة، وتشيلي. كل هذه الدول عملت الشيء ذاته تقريباً ونجحت. تخلَّت عن أوهام المؤامرات وركزت على التنمية والاقتصاد وأخرجت الآيديولوجيات المتطرفة الدينية والقومية من النافذة وأدخلت الاستثمارات من الباب. تنطلق هذه المؤامرة من النظرة القديمة للاستعمار الأوروبي، ولكنها مرحلة تاريخية انقضت ولا يمكن أن تعود. العالم تغير وتبدَّل، والنظام الدولي اختلف عن مرحلة نهب الثروات أو ما يُسمى نظرية التبعية. مناصرو محور الممانعة وجماعات الإسلام السياسي الشيعي والسنّي هم أكثر مَن يبثون فكر المؤامرة السياسية ويروِّجون لفكرة الحرب القادمة مع الغرب «الكافر»، ونعرف كل الدمار الذي تسببوا به. المؤامرة السياسية لم تصبح فقط وسيلة للهروب من معالجة الأسباب الحقيقية للفشل، ولكنها تحولت لشعار عاطفي تُرتكَب تحته أكبر المآسي. الميليشيات تقتل الأطفال السوريين ويرددون بعدها شعار الموت لأميركا وإسرائيل!

المؤامرة الدينية: تختصر هذه المؤامرة المقولة الرائجة بأن هناك حرباً على الإسلام والمسلمين. ولكن إذا تأملنا الواقع قليلاً فإننا نرى أن المسلمين يزدهرون وينجحون في الدول الغربية أكثر في أحيان كثيرة من دولهم الأصلية. إذا كانوا محارَبين فعلياً لماذا إذن يُسمَح لهم بالعيش هناك؟ ولماذا تُمنَح لهم الفرصة للنجاح؟ مَن قام بتشويه صورة الإسلام ليسوا الغربيين، ولكن الزرقاوي والبغدادي وسليماني. وفي الوقت الذي تختار لندن عمدة مسلماً، يقوم الإرهابيون بتفجير الأسواق والقطارات والمطارات وقتل الأبرياء. وهناك مِن المتطرفين مَن يقول إن المؤامرة أخبث، وهي تهدف إلى تذويب الإسلام و«أمركته»؛ بنشر تعاليم، مثل التسامح والتعايش بين الطوائف. ولكن هذه أفكار ليست غريبة علينا، والمسلمون شهدوا فترات طويلة من تاريخهم متسامحين مزدهرين قبل أن يسود منطق المتطرفين، ويعلّم الأطفال كيف يكرهون المختلفين معهم في الدين والمذهب. أفكار التسامح والتعايش لا علاقة لها بالتآمر، بل هي آليات مهمة لتخفيف الاحتقان والبغضاء داخل المجتمعات. وبدل أن تتطاحن الطوائف وتتمزق المجتمعات يتم توجيهها نحو أهداف وطنية وإنسانية أسمى. المتآمر مَن يمنعها، وليس من يدعو لها. من الصعب علينا أن نقول إن الحرب الطائفية بين المسلمين في بلدان عدة حدثت لأن شياطين خارجية وسوست في عقولهم. ويجب ألا ننسى أن الحرب الطائفية قديمة قبل أن نعرف الغرب بالشكل الحديث، ولن يختفي «داعش» و«حزب الله» و«القاعدة» لو تلاشت بريطانيا وفرنسا غداً. المؤامرة الدينية مجرد خديعة صُمِّمت لطرد الأفكار الإنسانية من التأثير على ثقافتنا وعقلنتها. حتى تلك المُثل القيمة النبيلة من تراثنا وتاريخنا الإسلامي والعربي يتم الاشتباه بها من أجل حماية العقلية المنغلقة، حتى يُصد أي سؤال وشكّ يتسبب بهزها ومن ثم انهيارها.

المؤامرة الاجتماعية: تزعم هذه المؤامرة أن هناك خططاً لتغيير قيم المجتمعات تهدف لطمس هويتها وقيّمها. منبع هذه الفكرة العزلة القديمة للشعوب، حيث يصبح الغريب الآخر الذي سيجلب معه الشرور والأمراض الثقافية. ولكن هذه فكرة انهار منطقها مع تلاشي الحدود التي تخترقها الطائرات والاتصالات. اكتشفنا أن لا أحد يتربَّص بنا ويصحو من النوم لتقويض مجتمعاتنا. بل بِتْنا نرسل أبناءنا للدراسة في الخارج. فكرة الهوية لم تعد جامدة، بل متطورة ومتغيرة باستمرار. الهوية الصحية هي المتجددة والمنفتحة على لغات وثقافات مختلفة، عكس الهوية الثابتة التي تعيش في الماضي، لكن الماضي لا يعود. باتت تسكن الأفراد هويات متعددة وحتى جنسيات مختلفة من دون أي تناقض. التآمر على المجتمع يحدث بعزله وتقييده، وليس العكس. المحذرون يقولون إن المرأة هي هدف المؤامرة الاجتماعية التي تهدف إلى خلعها من قيمها. ولكن التجربة أثبتت أن هذا مجرد وهم، ومزيد من الحقوق للمرأة مفيد؛ ليس لها فقط، ولكن للمجتمع الذي تساعد في نهضته وهي تشعر بالاحترام الكامل.

كل ما سبق أفكار بديهية للبعض، ولكنها، مع ذلك، تستمر وتنتقل من جيل إلى آخر. ومن المهم أن تُنتقد وتُكشف عيوبها حتى تُحاصَر عند فئة قليلة. فكر المؤامرة لن يموت وموجود في كل المجتمعات حتى المتطورة منها، ولكنه محصور بقطاعات محدودة من المرتابين والمهووسين، ويجب ألا يكون بين المعلمين والدعاة والصحافيين وأساتذة الجامعات. إنها مثل الأقراص المخدرة، وأسوأ شيء يمكن أن نفعله لأطفالنا أن ندسَّها يومياً في أفواههم ونجبرهم على ابتلاعها.

***

د. ممدوح المهيني

عن صحيفة الشرق الأوسط للندنية، يوم الجمعة - 10 شوّال 1445 هـ - 19 أبريل 2024 م

جوزفين كوين تكتب تاريخاً جديداً للعالم القديم

ثمّة نموذج (غربيّ) راسخ في النظر إلى التاريخ بوصفه قراءة لحضارات منفصلة متمايزة، ويجعل من الحضارة الغربيّة المعاصرة نتاج مرحلة النهضة واستعادة للقيم الحضارية في الفضاء الجغرافي الأوروبي، أي تراث الإغريق والرومان، بعد فترة من الظلام المديد خلال العصور الوسطى. وإذا كان ثمة من ذِكر لحضارات أخرى قديمة في سياق التأريخ للغرب، فيقتصر الأمر عندئذ على مجرد تطعيم لمنجزات أثينا وروما من الفلسفة والعمارة إلى المسرح والديمقراطيّة بمزيج غامض من الحكايا والأساطير التوراتية.

هذا النموذج الذي يشكل منطق الكتابة التاريخيّة المعاصرة يعترف حتماً بوجود حضارات قديمة قد تثير بعض منجزاتها وتركتها الماديّة الإعجاب، كما في العراق القديم، أو مصر الفرعونية، والهند والصين، مثلاً. لكنّه يتعامل معها بوصفها حضارات الآخرين، خارج الغرب، صعد كل منها على حدة ليسود في فضاء جغرافي وبيئي وزمني محدد قبل أن يهوِي، كما لو أنها كانت مجموعة من الأشجار الأكزوتيكيّة المتباعدة التي كبر كل منها في وقت ما فأزهرت قبل أن تبيد تاركة كومة من الآثار الغريبة لتشهد عليها. وهذه الأخيرة، أي اللقى الأثرية، أصبحت تجارة رابحة وموضوعاً للنهب الرسمي، لينتهي جزء كبير منها في خزائن عرض لإرضاء فضول رواد المتاحف على جانبي الأطلسي.

من هذه الأرضيّة في النّظر إلى التاريخ نشأ خطاب الإمبرياليّة المعاصرة كما تجسد في سجال عالم السياسة الأميركي المعروف صمويل هانتنغتون حول صراع الحضارات - كما في مقالته الشهيرة من عام (1996) بعد انحسار الحرب الباردة بين الشرق والغرب. عند هانتنغتون فإن ما يفرّق البشر عوامل ثقافيّة ودينية أكثر منها سياسية أو اقتصاديّة، ونظّر لحضارات معاصرة متناقضة ومتمايزة على أسس من الدّين والجغرافيا من بينها الغرب اليهودي المسيحي الممتد من أقصى الغرب الأميركي حتى حدود الستار الحديدي الفاصل بين الأوروبيتين الشرقية والغربيّة، في مقابل الحضارات الأخرى: الأرثوذكسية الشرقية، والإسلامية، والكونفوشيوسية وغيرها، زاعماً بأن «تاريخ البشر ليس سوى تاريخ حضارات، بحيث يستحيل النّظر في تطور تجربة النوع الإنساني عبر الأيام بأي صيغة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنه وخلال الحقب الأطول من التاريخ البشري فإن التّواصل بين الحضارات المختلفة كان معدوماً أو عابراً في أفضل الأحوال».

جوزفين كوين، أستاذة التاريخ القديم بجامعة أكسفورد (المملكة المتحدة)، تطيح بجذريّة واثقة بكل هذا الهراء الفكري المتراكم، وتقدّم في كتابها الأحدث «كيف صنع العالمُ الغرب: تاريخ أربعة آلاف عام»، مقاربة مغايرة تذهب إلى جعْل النموذج التأريخي القائم على ربط ما يعرف بالغرب المعاصر حصراً بجذور كلاسيكية إغريقية ورومانية نظرة قاصرة وفقيرة ومحدودة، نشأت في العصر الفيكتوري ضمن المزاج الثقافي للإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، فأضاعت الكثير من التاريخ الإنساني المشترك، وأعمت أجيالاً متتابعة عن الحكاية الحقيقية لنشوء (الغرب)، والتي تراها كوين أقدم وأعقد وأكثر ثراءً بكثير من فكرة (الحضارات) المتمايزة.

تبدأ كوين كتابها بمقدمة تنقض فيها منطق النموذج التأريخي القائم من ثلاثة أوجه: أولها بالإشارة إلى أن الحضارتين الإغريقية والرومانية ذاتهما كانتا بشكل أو آخر نتاج تبادل كثيف مع شعوب أقدم؛ إذ استلهمتا أفكارهما وتقنياتهما من الجوار: القوانين والشرائع والآداب من بلاد ما بين النهرين، وفنون النحت والمعمار من مصر القديمة، والأبجدية من بلاد الشام، وهندسة الريّ من الآشوريين. ومن الجليّ، وفق النصوص الكلاسيكيّة، أن الإغريق والرومان أقرّا بذلك، واحتفيا به، وثمة إشارات صريحة إلى أن الإغريق كانوا واعين إلى تشاطئهم المتوسط بالشراكة مع شعوب أخرى: كالقرطاجيين، والأتروسكان، والأيبيريين، والفينيقيين، ناهيك عن الإمبراطوريات القوية في الشرق، وهم لم يتورعوا عن استلهام ثقافات هذه الشعوب في صياغتهم لتصورهم الذاتي عن العالم بما في ذلك آلهتها وأساطيرها الدينية، فيما تجعل الأسطورة المؤسسة لروما من المدينة العظيمة ملاذاً للاجئين، ويتغنى شاعرهم غايوس فاليريوس كتولوس برحلات متخيلة مع أصدقاء ورفاق من الهند، وبلاد العرب، وفارس، ومصر، وحتى من «أولئك البريطانيين المقيمين على أطراف العالم».الوجه الآخر الذي ترى منه كوين فساد منطق النموذج التأريخي القائم متأتٍ من حقيقة تباين القيم الغربيّة الحالية عمّا كانت عليه قيم المجتمعات الإغريقية والرومانية. فـ«الديمقراطيّة» كانت في أثينا امتيازاً مقتصراً على صنف الرجال، ضمن ثقافة تمجّد إغواء الغلمان، فيما كانت نساؤهم مغيبة وخارج الحياة العامة تماماً، أما في روما فقد كانت الإعدامات العلنية تسلية شعبية في مجتمع يقوم اقتصاده بشكل كليّ على العبوديّة واسترقاق البشر.

أما ثالث أوجه النقض فمتأتٍّ من واقع تؤكده الآثار المادية والوثائق عن انعدام وجود صلة مباشرة بين الغرب المعاصر وحضارات الإغريق والرومان؛ إذ انتقلت عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى (الشرق) - القسطنطينية - منذ منتصف القرن الأول الميلادي، وظلت هناك لأكثر من ألف عام، فيما تولى العرب مزج المعارف الإغريقية بالعلوم والتقنيات الفارسية والهندية والأفريقية، وعبرهم انتقل المنجز الحضاري المتراكم إلى أوروبا، توازياً مع حركة فرسان السهوب الآسيوية الذين حملوا بضائع الصين وأفكارها إلى أوروبا - حتى آيرلندا - وأيضاً غزوات شعوب بحر الشمال تجاه البر الأوروبي والجزيرة البريطانية. لقد كانت أمم أوروبا الصاعدة منذ القرن الخامس عشر بالمحصلة هبة تقاطع ثريّ مع عالم عريق وهجين ممتد من المحيط الباسيفيكي إلى المحيط الأطلسي استمر لألف عام، ولم يقتصر بأي حال على صلة مزعومة مباشرة أعيد إحياؤها بالإغريق والرّومان.

تجادل كوين بأن وراء هذا النموذج التأريخي المتهافت خطاب انطلق بداية من فرنسا نحو عام 1750، يتحدث عن الحضارة بوصفها صيغة تجريد لوصف شعب متقدم، ليستعير التعبير منهم فلاسفة أسكوتلنديون عدّوا الحضارة بمثابة سلسلة متراكمة من التطور باتجاه تعظيم سيطرة الإنسان على عالمه من الصيادين إلى الرّعاة، فالمزارعين، والتجار، والصناعيين، قبل أن يدّعي جون ستيورات ميل - الذي عمل لثلاثة عقود لدى شركة الهند الشرقية، أداة الاستعمار البريطاني - بأن المجتمعات الغربية لا سيما بريطانيا اكتسبت بفضل تمتعها بأعلى درجات التحضر الحق بالسيادة والتحرر في مقابل الشعوب الأخرى المتخلفة، مبرراً في ذلك التوسعات الاستعمارية كمهمات لنشر التحضر والتنوير. على أن الفرنسيين كانوا وراء نقل مفهوم (الحضارة) من نتاج بشري عام إلى حضارات كثيرة متمايزة، وشرعوا في البحث عن مصادر لحضارة أوروبا الغربية: الجرمان وروما والكنيسة الغربيّة وما لبثوا تحت تأثير حرب الاستقلال اليونانية عن الدولة العثمانية (1821 – 1830) أن ألحقوا الإغريق بها، ليتكرس بعدها تدريجياً بين المثقفين الأوروبيين نموذج التأريخ القائم على تمايز حضارات ذات خصائص ثقافية مرتبطة بفضاء جغرافي محدد، في ذات الوقت الذي انتشرت فيه خرافة أخرى لا تقل فساداً: خرافة الأعراق.

ولا يبدو أننا الآن، مع مرور أكثر من عقدين على بداية القرن الحادي والعشرين وتكاثر الدلائل من الدراسات الآثارية والوثائق المكتشفة كما التقدم الثوري في الدراسات الجينية، بقادرين بعد على إزاحة المفهوم الناتج من تلاقح فلسفة التأريخ للغرب كحضارة متمايزة جذورها مستقلة عن بقية الحضارات مع النظرة الاستعلائية لعرق أبيض متفوق عن عرش الهيمنة على الخطاب العام، بحكم أن هذا الخليط يخدم بالضرورة أغراض هيمنة (الغرب) بقيادة الولايات المتحدة في مواجهة (الشرق)، مع أن حدود الشرق/غرب هذه متحركة لتعكس الظروف السياسية السائدة - فهي وقفت عند أطراف الستار الحديدي في أثناء الحرب الباردة، لتتسع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فتنضم أوروبا الشرقية إلى الغرب، فيما تسببت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بإعادة رسم للحدود مجدداً ليمكن استيعاب الأوكرانيين ضمن نسيج هذا الغرب الأبيض.

كتاب كوين مرافعة عقلانية ضرورية لبناء نموذج معرفي تأريخي جديد - بديل للنموذج الحالي الشوفينيّ المتهافت - وذلك استناداً إلى الحقائق المؤسسة كما الاكتشافات الأحدث عن أربعة آلاف عام من التقاطعات الحضارية التي بمجموعها تقدم منظوراً محدّثاً للعالم: حيث الاتصال والصلات - سلميّة كانت أو مواجهات عنفيّة - هي التي تدفع عجلة التغيير التاريخي، لا حضارات أمم بعينها. إن لدينا من الدلائل الآن ما يكفي لكي ندرك أن الشعوب منفردة لا تصنع التاريخ. فالتاريخ كما دائماً، تصنعه الإنسانية.

................

كيف صنع العالمُ الغرب: تاريخ أربعة آلاف عام

How the World Made the West: A 4، 000 - Year His¬tory، Blooms¬bury، 2024.

المؤلفة: جوزفين كوين

by Josephine Quinn

الناشر: بلومز بيري

2024

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 17 أبريل 2024 م ـ 08 شوّال 1445 هـ

جديرون بأن نميّز بعضهم عن بعض ليتضح دور كل واحد على حدة

لو كان الحديث عن الأزمنة القديمة لأضفت الساحر والكاهن لأضفت إلى العنوان، غير أن حديثنا عن الأزمنة المتأخرة نسبياً. ولربما كان حقيقاً أن نذكر الفقيه، لكنه سيجعل العنوان مزدحماً فوق ازدحامه. والغرض هنا هو تحديد عمل كل واحد من هؤلاء الأربعة، فهم مَن يصنعون الفكر والحضارات. هؤلاء الفرسان الأربعة جديرون بأن نميّز بعضهم عن بعض ليتضح دور كل واحد على حدة.

كان ابن رشيد فيلسوفاً وفقيهاً، لكنني أستطيع أن أمسك بابن رشد الفيلسوف وهو يتسلل إلى منطقة ابن رشد الفقيه عندما أنظر في كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وهو في الفقه المقارن، فأجده يذكر الآراء المختلفة في مسألة، ثم يقول: «وسبب اختلافهم هو كذا وكذا». الفقيه لا يسأل أبداً عن السبب، بل جُلّ همّه أن ينصر القول الراجح عنده، أو يلوذ بالمذهب. الفيلسوف هو المشغول بـ«لماذا؟» وهذا ميدان عمله.

علامة أخرى على الفيلسوف أنه ذلك الشخص الذي يقول قولاً أصيلاً. عندما تنظر في كل أعمال فولتير، فلن تجد قولاً أصيلاً واحداً. هو مقلّد لفيلسوفين إنجليزيين جون لوك وإسحاق نيوتن ويتابعهما في تجربتيهما التي أصبحت علامة على الفلسفة الإنجليزية، ولم يكن يميل إلى الفلسفة العقلية لابن بلده ديكارت. هو نظير توماس هوبز الإنجليزي العازف عن تجريبية قومه، الميّال إلى عقلانية ديكارت.

لا أرى فولتير فيلسوفاً، وكم له من الأحكام المتهورة، كاتهامه أفلاطون وأرسطو بأنهما كانا لاهوتيين! لكن أين سنصنّف هذا الرجل الذي خصّه ويل ديورانت بمجلد في قصة الحضارة، سماه «عصر فولتير»؟ إنه أقرب إلى شخصية المثقف التي هي دون منزلة الفيلسوف، وشهرته بسبب نشاطه الاجتماعي ومعاركه الشجاعة ضد اللاهوتيين المتعصبين، وقد كان أحد المؤثرين في الثورة الفرنسية. هذه من وظائف المثقف، لا الفيلسوف، أنه قائد الجماهير وصاحب المعارك الفكرية التي لا تنتهي. الفيلسوف لا يفعل شيئاً من هذا ولا يملك هذه الحرارة، ولا الحماسة للقتال.

من جهة أخرى، العالم هو ذلك الباحث المشغول بالجزئي، معنيّ بدراسة الطبيعة، وقد يحفظ قوانين الحركة عند نيوتن والنظرية النسبية عند أينشتاين، لكنه لا يملك رؤية شمولية عن العالم. المفهوم الكلّي عنده مفهوم ميتافيزيقي لا يمكن التأكد من صحته بيقين، ولذلك لا ينبغي الانشغال به، لأن مثل هذه القضايا غير قابلة للتحقق وغير قابلة للتكذيب. من هنا سعى العلماء الفلاسفة، أعني الوضعيين والبراغماتيين وفلاسفة اللغة في القرن العشرين، إلى تقليص مساحة الفلسفة بهدم مصطلحاتها الميتافيزيقية، وجعلوها مجرد خادمة للعلم الحديث، ومنهم من دعا صراحةً إلى قتلها، أي قتل الميتافيزيقا، رغم أنه قد اتضح أن الجميع ميتافيزيقيون، ومن ضمنهم ألبرت أينشتاين.

قد يقال إن نيوتن لم يكن كالعلماء في عصرنا، فما كتبه في فلسفة الدين أكثر بكثير مما كتبه في الفيزياء، حسب شهادة ديورانت. تفسير هذا هو أن نيوتن كان عالماً وفيلسوفاً أيضاً (بالمعنى الكلاسيكي) وينبغي أن نتذكر أن عنوان كتابه الأشهر هو «الأصول الرياضية لفلسفة الطبيعة» وهناك أعلن عن المنهج الجديد الذي يستخدم الرياضيات لدراسة الطبيعة ويُسقط فلسفة الطبيعة الأرسطية.

كل عالم يتجاوز الجزئي هو في حقيقة أمره يعلن أنه فيلسوف بالإضافة إلى كونه عالماً، وكل الثورة العلمية التي أسقطت العلم القديم كانت تنطلق من موقف فلسفي واضح. لكننا نستطيع أن نميّز العالم المشغول بالمحسوس والفيلسوف الذي يدرس الرياضيات لكي تدفع بالعقل ليتسامى عن العالم المحسوس فيرتقي إلى عالم المُثل والمعقولات.

وثمة فرق مهم يذكره أفلاطون حين يصف الفلاسفة بأنهم من يعشقون الحقيقة، يعشقونها من كل اتجاه وليس عشقاً في اتجاه واحد، على خلاف الشاعر الذي طرده أفلاطون من جمهوريته لأنه يُبعد الناس عن الحقيقة، وهذا تضليل من وجهة نظر الحكيم، والفلسفة عنده أسمى من كل فاعلية فكرية، فلا يقارنها بالدراسات التجريبية أو الأدب أو التاريخ أو الشعر.

هناك فلاسفة استخدموا النظم لتقييد أفكار فلسفية مثل قصيدة «في الطبيعة» لبارمنيدس، حيث يذكر ما يعتقد أنها حقيقة الوجود المطلقة على نحو دوغمائي يقيني. هذا ليس بشعر، وبارمنيدس ليس بشاعر. ولكي نتصور الشاعر تصوراً واضحاً سنقارنه بالفيلسوف، فهو يزعم أنه صاحب فكر، وهذا ليس موضع نزاع، لكن غاية الفيلسوف تختلف عن غاية الشاعر. فالأول مشغول بتمييز الحقيقة عن الزيف، ولا توجد لديه غايات أخرى. بينما الشاعر، مهما حاول المحاكاة، لا تشغله الحقيقة، بل ما وراء الحقيقة. إنه تلك النفس التواقة للعذاب الذي يأتي بالإبداع:

فشبّ بنو ليلى وشبّ بنو ابنها

وأعلاق ليلى في فؤادي كما هي

صورة مؤلمة للغاية يُبكينا بها ويستميل تعاطفنا، لكنّ ظاهرها غير باطنها. فالشاعر بحاجة أبديّة إلى قصة حب تعذبه أو قضية أكبر تشغل باله لكي يبدع، ولو أعطته المعشوقة ما يريد لوقع في ورطة ولجفّ الإبداع. الشعراء يشبهون الفراشات الراقصة حول النار، تتلذذ بالاحتراق. كل الأربعة يستخدم الخيال، بمن فيهم العالم، لكنّ خيال الشاعر جامح أشد الجموح ولا يمكن قياس مدى إبداعه إلا بالشعور وحده، أعني الشعور المتغير من شخص لآخر، مهما حاولت كتب الأدب أن تعرّف الشعر والإبداع فإنها لن تحقق نجاحاً كبيراً، لأنه كالتصوف يُحسّ ولا يوصَف.

هكذا نشأت العداوة بين الشاعر والفيلسوف، فطردهم أفلاطون من جمهوريته الموعودة. تصوير شعراء الملاحم للآلهة بشكل حسّي شهوانيّ أغضب أفلاطون التقيّ، وبقيت الخصومة حتى أعادهم هايدغر من جديد وخلق نوعاً من الحوار البنّاء بين الاثنين، وحين جعل الشاعر كالفيلسوف كاشفاً عن الوجود، كشفاً لا يعني أنهم سيوصلوننا إلى حقيقة واحدة، بل إلى حقائق بعدد المتأملين.

***

خالد الغنامي – كاتب سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 15 أبريل 2024 م ـ 06 شوّال 1445 هـ

يقول بعض الذين تعرفوا عليه شخصياً في تلك الفترة بأنه كان يلبس ثياباً نظيفة عموماً، ولكن قديمة شبه بالية، ومنظره الخارجي كان يوحي بالإهمال والهجران. (وهذا ما توحي به صوره أصلاً). كان بودلير يبدو وكأنه يشبه بيتاً متصدعاً لم يُسكن منذ زمن طويل. كان يبدو عليه وكأنه مُدمَّر من الداخل. وهو بالفعل مُدمّر. لقد استسلم بودلير لتقادير الحياة وألقى سلاحه منذ البداية. كانت الصدمة أكبر منه. لماذا تزوجت أمه بعد وفاة والده؟ لماذا لم تبق له وحده؟ لطالما عاتبها بكل حرقة، بكل مرارة: من كان لها ابن مثلي لا تتزوج! بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم مشبوهاً في نظر شارل بودلير. أصبح العالم ملغوماً، أو شبه ملغوم. بدءاً من تلك اللحظة عرف أن الشر موجود في أحشاء العالم كالدودة في قلب الثمرة.

لكن هذه التجربة المريرة مع الحياة، هذه الضربة الساحقة الماحقة، كانت مفيدة جداً وذات مردود هائل من الناحية الشعرية. وبالتالي، فرب ضارة نافعة. فإذا لم يكن يستطيع أن يرضي أمه بأن يصبح موظفاً كبيراً في سلك الديبلوماسية الفرنسية أو سلك القضاء أو سوى ذلك، فإنه على الأقل استطاع أن يرضي آلهة الشعر وربات الجمال... يضاف إلى ذلك أن الانحطاط في مهاوي الحياة إلى الدرك الأسفل يتيح لك أن تتعرف على الوجه الآخر للوجود: قفا الوجود. إنه يتيح لك أن تعانق الوجه السلبي، الوجه المظلم للأشياء. كان النزول إلى الطبقات السفلية والدهاليز المعتمة شيئاً ضرورياً جداً لكي يصبح بودلير أكبر شاعر في عصره وربما في كل العصور. ويقال بأن أمه لم تعرف قيمته إلا بعد موته وانفجار شهرته الأسطورية. عندئذ بكت وتحسرت، حيث لم يعد ينفع التحسر والندم... صحيح أن بودلير حاول بكل الوسائل أن ينجح ويحقق الرفاهية المادية والوجاهات الاجتماعية كبقية البشر. ولكنه في كل مرة كان ينتكس ويفشل. إنه كسيزيف الذي يرفع الصخرة من أسفل الوادي لكي يضعها على قمة الجبل. ولكن ما أن يصل بها إلى القمة تقريباً حتى تتدحرج وتسقط، وهكذا دواليك... عندئذ عرف بودلير أنه فاشل لا محالة، وراح يتحمل مسؤوليته لأول مرة كشخص فاشل، متسكع، يعيش على هامش المجتمع. بدءاً من تلك اللحظة راح بودلير يصبح الشاعر الأساسي للحداثة الفرنسية وربما العالمية. راح يصبح شاعر التمزقات والتناقضات الحادة التي لا حل لها (على الأقل مؤقتاً!) إلا بقصيدة جديدة. وقد جرّب الانتحار أكثر من مرة ولكنه لم ينجح. حتى في الانتحار فشل! راح يصبح شاعر الخطيئة الأصلية التي تلاحق الإنسان المسيحي من المهد إلى اللحد. ولكن في حالته خطيئة بلا خلاص ولا غفران. كل ديوانه «أزهار الشر» ما هو إلا مرآة لروحه، أو سيرة ذاتية مقنَّعة لشخصه. حياة بودلير كلها كانت تمزقاً أو تذبذباً بين السماء/ والأرض، بين المثال الأعلى/ والحضيض، بين الله/ والشيطان... هذا التوتر الذي لا يهدأ بين المتناقضات القاتلة، هذا النزول إلى المهاوي السحيقة، هو الذي جعل من بودلير أعمق شاعر في تاريخ الآداب الفرنسية. يمكنك أن تتهم بودلير بكل شيء ما عدا أنه شاعر سطحي مثلاً! الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي لم يعرف تقريباً إلا الجانب الفرح والمبتسم من الحياة. الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب. الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي لم يعش تجارب مزلزلة في معمعة الوجود: أقصد تجارب قصوى تصل به إلى حافة الهاوية. ولكن نحن في حضرة أشخاص من نوع آخر. نحن في حضرة المتنبي أو المعري أو دانتي أو شكسبير، إلخ... الشاعر السطحي شخص سعيد جداً ومرتاح جداً وناجح اجتماعياً جداً جداً. هنيئاً له. مبروك وألف مبروك. ولكن نحن في حضرة الشاعر غير السطحي: أي في حضرة أشخاص من نوعية إدغار آلان بو أو دوستوفيسكي أو ريلكه أو بعض المجانين الآخرين... الشاعر غير السطحي (لماذا لا نقول الشاعر العميق؟) هو ذلك الشخص الذي عاش إلى جانب الحنين والأنين لسنوات طويلة، هناك حيث الأعماق السفلية، هناك حيث الدهاليز والعتمات والمطبات. وحيث الوحدة والهجران أيضاً. الشاعر الذي نقصده هنا شخص مهجور أبدياً، سرمدياً، أنطولوجياً. بعدئذ ينفجر الشعر، يتدفق الشعر. كل شيء له ثمن. ينبغي أن تموت ألف موتة لكي تكتب قصيدة واحدة لها معنى. الشاعر السعيد، الناجح، المتفوق، ليس شاعراً بالمعنى البودليري للكلمة: إنه فقط يطرب الناس أو يدغدغ المشاعر والحواس السطحية، ويحظى بشعبية هائلة. وتحبه الفتيات والمراهقون والسيدات الأرستقراطيات... هذا لا يعني بالطبع أنه عديم القيمة، أبداً لا. ولكن لا يهمنا أمره هنا. هذا كل ما في الأمر، لا أكثر ولا أقل. نحن لا نشتم أحداً. نحن لا نهتم هنا إلا بالشعراء السيزيفيين: شعراء الأعماق والمهاوي السحيقة. نحن نريد أن نقيم علاقة بين «الشعر والعمق» كما يقول الناقد الفرنسي جان بيير ريشار في كتاب مشهور. كل ما نريد قوله هو التالي: الشاعر الذي لا ينزل إلى الأعماق السفلية، ويخاطر، ويغامر، ويقذف بنفسه في فوهة المجهول ليس شاعراً بالمعنى الذي نقصده. كان بودلير يشعر بالضجر والفشل وسأم باريس. كان يشعر بفراغ العالم وعبثية الأشياء. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح شاعراً. بدءاً من اللحظة التي يحصل فيها تناقض حاد بينك وبين العالم، بدءاً من اللحظة التي يصبح فيها العالم إشكالياً في نظرك، فإن ذلك يعني أنك قد تصبح شاعراً، أو فناناً، أو فيلسوفاً، أو مجنوناً... أول شرط من شروط الإبداع هو اختلال الثقة بينك وبين العالم، هو حصول شرخ عميق بينك وبين نظام الأشياء. لماذا يوجد الشر في العالم؟ لماذا تزوجت أمه؟ لماذا لا يوجد إلا الخير والصفاء والنقاء والشفافية في هذا العالم؟ لماذا نُفجع بأنفسنا، بأحبتنا الذين غابوا؟ لماذا؟ لماذا؟ ربما لهذا السبب لا يوجد شاعر كبير واحد في التاريخ كان متصالحاً مع نفسه أو مجتمعه أو زمنه:

أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرّهم وأتيناه على الهرم

ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن الفلاسفة والمفكرين الكبار. بالطبع يوجد في كل العصور عشرات الشعراء والكتاب الذين ينعمون بالحياة والثروات والوجاهات ولا يشعرون بأي مشكلة مع أي شيء كان. عن هؤلاء لا نتحدث هنا، ولا يهمنا أمرهم في قليل أو كثير. نحن نتحدث هنا فقط عن الشعراء الإشكاليين: أي الشعراء الذين فُجعوا بأنفسهم، الذين أصيبوا في الصميم منذ طفولتهم الأولى. نحن نتحدث عن كتّاب من نوعية بودلير، أو رامبو، أو فرلين، أو نيتشه، أو هولدرلين، إلخ... ذلك أن الصراع الداخلي مع الذات لا يقل خطراً عن الحروب العالمية أو الخارجية. حرب الداخل أخطر من حرب الخارج لأن العدو يصبح منك وفيك. وبودلير عاش هذا الصراع المحتدم ومشى به إلى نهاياته. هل كان بودلير شيزوفرينياً يعاني من انفصام الشخصية؟ بالطبع، كمعظم الكتَّاب الكبار. كل عقد الأرض، كل أوجاع الأرض، كانت موجودة فيه. ومن ذلك نتجت القصائد العبقرية! يكفي أن نفتح ديوانه على أي صفحة لكي نجد آثار هذه المعركة أو أشلاءها بادية للعيان:

أنا الطعنة والسكين

أنا الصفعة والخدان

أنا العجلة والعضوان

أنا الضحية والجلاد

أنا لَقلبي مصّاص الدم!

بودلير جلاد نفسه وليس في حاجة إلى شخص آخر لكي يجلده. لنقل بأنه استبطن العدوان الخارجي (القدر، الطفولة، زوج الأم، ضربات الغدر...) إلى درجة أنه أصبح قضية داخلية. لم يعد بودلير في حاجة إلى عدو خارجي لكي يعذبه. أصبح هو يعذب نفسه بنفسه. زوج الأم، هذا العدو المطلق، تحول وحشاً أخطبوطياً لا خلاص منه حتى ولو مات!

لكي يتخلَّص من نفسه، من مرضه الداخلي الذي يقضّ مضجعه، كان دوستويفسكي يتمنى أحياناً لو أن الأرض انشقَّت وابتلعته. وأما نيتشه فكان يتمنى لو يحصل زلزال هائل يدمّر الأرض ويخسفه معها. فيما يخص بودلير، نلاحظ أن شهوته كانت تتمثل في حصول إعصار كاسح يجرفه مع السيول:

أيها السيل لماذا لا تجرفني في انهياراتك؟ الشاعر السطحي شخص سعيد جداً ومرتاح جداً وناجح اجتماعياً جداً جداً.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 15 أبريل 2024 م ـ 06 شوّال 1445 هـ

في المثقف اليوم