اخترنا لكم

كل الفلاسفة مؤسسين ومتأخرين «نسوا» الوجود

ما معنى أن يكون الإنسان إنساناً؟

لكي نفهم بقدر كافٍ ما يُمكن أن تعنيه هذه الجملة الخالدة، لا بد من الرجوع إلى خلفية هذا السؤال الوجودي. فقد اعتادت الفلسفة التقليدية، من أفلاطون إلى ديكارت إلى كانط، أن تتعامل مع الإنسان من زوايا متعدّدة: مرة، بوصفه كائناً عاقلاً، ومرة بوصفه حيواناً ناطقاً، ومرة ذاتاً معرفية تدرك العالم من خارجه. لكن الألمعي العبقري هايدغر رأى أن كل هذه الرؤى تفصل الإنسان عن عالمه، وتختزله في وظيفة أو خاصية، بينما تتجاهل السؤال الأكثر جذرية: ما معنى أن يكون الإنسان موجوداً في العالم؟ هنا يطرح هايدغر مشروعه البديل، ويجيب عن هذا السؤال من خلال تحليل كينونة الإنسان ككل، لا بوصفه نوعاً بيولوجياً أو ذهناً مفكراً.

كل الفلاسفة «نسوا» الوجود وهذا ينطبق على المؤسسين من أمثال أفلاطون وأرسطو، وعلى عظماء المتأخرين من أمثال ديكارت وكانط وهيغل، ونيتشه نسي الوجود بدوره، رغم أنه كان قاب قوسين أو أدنى من لمسه. المقصود بنسيان الوجود عند هايدغر هو أن الفلسفة الغربية، منذ أفلاطون وحتى نيتشه، انشغلت بالكائنات (الأشياء) لا بالكينونة، أي أنها ركزت على «ما هو موجود» الأشياء، الأجسام، الأفكار، الله، النفس، الطبيعة، لكنها لم تسأل عن معنى أن يكون الشيء موجوداً أصلاً.

الفلاسفة كانوا يسألون: ما هو الحق؟ ما هو الخير؟ ما هو الجسد؟ ما هي النفس؟ لكنهم لم يسألوا السؤال الأسبق: ما هو «أن يكون»؟ أو ما معنى الكينونة التي تسمح لتلك الأشياء بالظهور والوجود؟ بهذا المعنى، الوجود لم يُنفَ أو يُنكَر، بل تم افتراضه ضمنياً دون أن يُسأل عنه. وهذا هو «نسيانه»: الوجود ظلّ الخلفية الصامتة التي تقف عليها كل أسئلة الفلسفة، دون أن تصبح هي نفسها موضوعاً للسؤال.

هايدغر يرى أن هذا النسيان ليس مجرد سهو تاريخي، بل هو طريقة في الوجود نفسه، أي أن الكينونة تُخفي نفسها، وتدع الموجودات تتصدر المشهد، ولهذا ظنّ الإنسان أن فهم الأشياء يغنيه عن مساءلة الوجود. لكن نتيجة هذا النسيان هي أننا أصبحنا نتحرك داخل عالم من المعاني الجاهزة، والأنظمة التقنية، والمفاهيم الثابتة، دون أي انفتاح حقيقي على الكينونة بوصفها إمكاناً لا يُختزل.

هايدغر لا يريد أن يردّنا إلى ماضٍ ميتافيزيقي، بل يريد أن نستيقظ من نسياننا الطويل، ونطرح من جديد السؤال الذي نسيه التاريخ: ما معنى أن يكون هناك وجود؟ لماذا لم يكن عدماً بدلاً من الوجود؟ وكيف يكون الإنسان هو الكائن الذي يستطيع أن ينفتح على هذا السؤال؟

«الإنسان المهموم بوجوده»، هو الوحيد القادر على الانفتاح على الكينونة، وأن يطرح سؤال: ما معنى أن يكون هناك كائن أصلاً؟ هذا الإنسان لديه مزايا تختلف عن بقية الكائنات، فهو راعي الوجود، وهو من يسكن العالم بطريقة فريدة.

الإنسان لا يوجد «إلى جانب» العالم كما يوجد الحجر أو الحيوان، بل يعيش في العالم كعالم له. ألقي به من دون رغبته في عالم مليء بالأشياء والآخرين واللغة. يتفاعل مع العالم بما يسميه هايدغر: «الاهتمام»، وهذا «الاهتمام» هو ليس مجرد علاقة عقلية، بل علاقة وجودية: العالم ليس أمامي فقط، بل أنا منخرط فيه، منشغل به، معنيٌ به. هذا الإنسان يعيش الإمكان لا الثبات. من صفة هذا المهموم بوجوده ألا يكون هو/ هو في لحظة معينة، بل هو دائماً مشروع مفتوح على المستقبل. في فكر هايدغر، الإنسان ليس ما هو، بل ما يمكن أن يكونه. يسير نحو ذاته الممكنة، نحو ما يستطيع أن يكونه. إنه ليس كتلة موجودة، بل سيرورة وجودية نحو الإمكان. هذا المهموم بوجوده، عليه أن يكون ذاته دائماً. ما الذي يكشف معنى الإنسان؟ إنه الموت.

في مركز تحليل هايدغر للوجود، يقف الموت لا كحادثة في نهاية حكاية الحياة، بل كإمكان دائم يرافق الإنسان منذ لحظة وجوده. الإنسان يعرف أنه سيموت، وهذه المعرفة تفرده عن كل الكائنات. عليه أن يعترف بموته كأفق لحريته. ألا يهرب من القلق، بل يجعله طريقاً للمعنى. هذه المعرفة ليست نظرية فقط، بل تفتح أمامه الأبواب مشرعة ليظهر عمق حريته. الوعي بالموت يجعله مسؤولاً عن اختياراته، عن أن يكون ذاته بصدق.

هذا الإنسان يمكن أن يوجد بطريقتين: وجود أصيل، عندما يواجه موته، ويعيش إمكاناته بصدق، ويتخذ موقفاً من وجوده. ووجود مزيف «سقوط» عندما يذوب في الناس، ويعيش حياتهم، ويهرب من قلق الموت والمسؤولية. هذا هو «الانغماس في القطيع». هل رأيت ثيران الساقية يوماً؟ يدور الواحد منها ويدور، ثم في النهاية يموت، لم يرَ من الدنيا الشاسعة إلا قفا أخيه، لم يذهب لحظة ليرى ما وراء الأفق، لم يغامر قط باستكشاف ما وراء تلك التلال، ولم يسر يوماً صوب الشمس.

الإنسان هو الكائن الذي يستطيع أن يسأل عن معنى الوجود في النهاية، خصوصية الإنسان تكمن في أنه الكائن الذي، لا يكتفي بأن يوجد، بل يتساءل عن وجوده. يحمل الهمّ الوجودي، ويعيش القلق. ينفتح على الكينونة ولا يكتفي بالكائنات. وكلما انفتح على معنى الكينونة، أصبح أكثر إنسانية.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 2 يونيو 2025 م ـ 06 ذو الحِجّة 1446 هـ

منذ سنوات، ربما تعود لعام 2016، اعتبرت أنّ لدينا، مثقفين وإعلاميين، ثلاث مهمات أو أولويات: دعم تجديد تجربة الدولة الوطنية، واستعادة السكينة في الدين، وإقامة علاقات حسنة مع العالم.

وفي العقد الماضي وقبله بُذلت جهود كبيرة من الدول ومن جهات المجتمعات المدنية، وإنْ على تفاوت، في العمل لإحقاق هذه الأولويات. وأريد في هذه العجالة مراجعة الأولوية الثانية، وأعني بها استعادة السكينة في الدين. فقد تنبهتُ إلى أنّ نزعات التطرف والجموح باسم الدين عادت إلى الظهور والسواد بسبب حرب غزة، وبسبب المتغيرات في المجتمعات الغربية التي كانت تحتضن جماعات الإسلامويين. إنّ هذا التنبه استند أخيراً إلى ندوة أُقيمت بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية حول «الإخوان» وأفكارهم ونشاطاتهم في السنتين الأخيرتين. فهم يستعيدون من جهة أفكاراً وممارسات قديمة عُرفوا بها منذ عدة عقود، ومن جهة أُخرى يرفعون ألويةً «جهاديةً» التقوا على أساسها مع «داعش» و«القاعدة» من جهة، ومع اليسار المتطرف في الغرب من جهةٍ ثانية.

لقد أدركتُ، من خلال الدراسة والمتابعة منذ مطالع سبعينيات القرن العشرين، أنّ «الإخوان» في فكرهم وسلوكهم على مدى عقود هم بمثابة انشقاقٍ في الإسلام، وأن أولوياتهم إحداث تمرد على الحداثة والدولة الحديثة باسم الدين. ولذا مضوا بعيداً في مواجهة الدول الحديثة في مجالنا باعتبارها «غزواً» ثقافياً وسياسياً. بيد أنّ المسألة مع الدولة الوطنية على خطورتها ما كانت الأبرز، وبخاصةٍ أنّ الدول واجهتها بقوة، بل الأكثر خطورةً كان وما يزال دعوة هؤلاء المتطرفين الانشقاقيين إلى استعادة الشرعية من خلال الدولة الدينية التي تطبّق «الشريعة»! ويستند ذلك إلى اعتبارهم أنفسَهم ممتلكين للشرعية الدينية وليس المؤسسات الدينية القائمة.

والطريف أنّ هؤلاء اعتبروا دعوتهم التي كانت لكسب الجمهور، اعتبروها إصلاحاً في الدين! ونحن نعرف أنّ التفكير الديني السني القديم ما كان يعتبر الإمامة أو النظام السياسي من أصول الدين، بل اجتهاداً ومصلحةً يحددها كل قومٍ لأنفسهم. أما «الإخوان» فمنذ حسن البنّا يعتبرون النظام السياسي من أصول الدين، وجماعة «الإخوان» هي المكلفة بتطبيقه! وما دام قد صار جزءاً من الإيمان فلا عجب أن يشيع التكفير أو التفسيق ضد الذين لا يقولون بالإمامة أو الخلافة باعتبار أنها مُلزمة حتى في الأزمنة المعاصرة!

ما معنى استعادة السكينة في الدين؟

الدين قوةٌ ناعمة، وإلى العبادات والأخلاق، هناك قيم السلام والقسط والبر التي يدعو إليها القرآن بالدواخل ومع العالم. ولذا فالظروف المعاصرة، ومن أجل إمكانية العيش في العالم برحابة، والمشاركة في أمنه وتقدمه، لا ينبغي ولا يصح تحويل الإسلام إلى أيديولوجيا لمواجهة العالم، كما حاولت «داعش» و«القاعدة» ومعها كثيرون من كُتاّب «الإخوان» وإعلامييهم.

إنّ استخدام الدين في تسويغ التطرف والإرهاب يحوّل الدين إلى قوة خشنة، سواء باسم المفاصلة أو باسم الجهاد. وقد شهدنا على انتشار الإسلاموفوبيا في الغرب بسبب هذه الدعوى، والانقسام في الدواخل حول فهم الإسلام ورسالته. لذا لا بد من استعادة السكينة التي تعني ثقة المسلم بدينه وشريعته، واللذين لا يمتلك المتطرفون الكلامَ باسمهما.

***

د. رضوان السيد

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 1 يونيو 2025 02:07

القرن الرابع الهجري، كان حلقة تاريخية شهدت حيوية فكرية، غير مسبوقة في التاريخ الإسلامي. الدولة العباسية في شبابها امتلكت مقومات القوة المادية والعسكرية والفكرية. انفتحت على الفكر الإنساني، وهفا إلى عاصمتها الفقهاء والمفكرون وعلماء اللغة. كانت قصور الحكام منتدياتٍ للحوار، يلتقي فيها المفكرون والشعراء والسياسيون بمن فيهم الخلفاء والوزراء. عصر عقل وإبداع واجتهاد في الفقه، والأدب، والفلسفة والسياسة. زمن له حمولة ضوء إنسانية فريدة، تفاعلت فيه المذاهب الفقهية الإسلامية المختلفة. كان ذلك القرن زمن انطلاق النهضة في أوروبا، التي وُلدت في إيطاليا واتسعت في أطراف القارة القديمة، منها الفن، والأدب، والفكر والفلسفة. خاض معارك طويلة مع سطوة الكنيسة المسيحية الجامدة، في حين بدأ الوهن يضرب كيان الدولة العباسية. الصراع على السلطة في داخل الأسر الحاكمة، وتراجع مساحة الحوار والحرية الفكرية، وقمع تيار المعتزلة وغيرها. الهيمنة على عاصمة الخلافة تعددت أطرافهم، من البويهيين إلى القرامطة، ثم طوفان الغزو التتري.

اتسعت مساحة الضوء في العقل الأوروبي، وبدأت تضيق في دنيا العرب والمسلمين. في القرن السابع عشر، أقلعت أوروبا بقوة العقل العلمي، والفلسفة، والأدب والصناعة الحديثة، في حين هوى العرب والمسلمون، في وحل الظلام البهيم. بدأ في العالم عصر جديد بعقل إنسان جديد.

أدرك المسلمون أن العقل، هو القوة القادرة على دفعهم للالتحاق بالزمن الإنساني الجديد، بعدما عاشوا محنة الاستبداد التركي والاستعمار الأوروبي.

لقد خاض العقل الأوروبي، معارك عدّة وطويلة، ضد هيمنة الكنيسة على العقل، وعنفها الدموي في وجه العلماء والمفكرين، لكن هؤلاء حققوا النصر، وهدموا أسوار الظلام الكنسِية وأشعلوا أضواء الزمن الجديد.

اجتهد مفكرون عرب ومسلمون، على امتداد أوطانهم في مقاربات مختلفة، من أجل اجتراح بُنى فكرية تقود إلى النهوض، والولوج إلى الزمن الإنساني الجديد. لكن حالة مزمنة لم تغب عن تلك الاجتهادات، وهي ثقل الماضي الموروث. التراث التاريخي والفقهي، كان ولم يزل اليد الثقيلة، التي تلامس العقول وتحرك الأقلام. في معركة تحرير العقل الأوروبي، كان الاشتباك الفكري والفلسفي والعلمي الكبير، مع الموروث الديني الكنسي الظلامي المعادي للعقل. رجل الدين المسيحي الألماني مارتن لوثر، قاد ثورة احتجاجية على الكنيسة الكاثوليكية في روما، من داخل مذهبه في مطلع القرن السادس عشر، وترجم الإنجيل من اللغة اللاتينية إلى اللغة الألمانية، وكتب خمساً وتسعين رسالة نشرها في ألمانيا، سقت حدائق العقل الأوروبي اليافعة، بماء قيمة الإنسان المفكر العالم المبدع. المذهب البروتستانتي، الذي انتشر في شمال أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، قاد شعوبها إلى دنيا الابتكار والصناعة والإبداع والتقدم والحرية.

في عالمنا العربي تزاحمت الاجتهادات الفكرية على الطريق نحو النهوض، والالتحاق بالدنيا الجديدة التي أبدعها العقل. المفارقة التي لم تغب، كانت وما زالت هي إشعال ضوء زمن جديد بحطب رميم.

ما كتبه أو قاله فقهاء أو مؤرخو عصور ردمها تراب الماضي، هو ما يستضيء به أغلب من حاولوا إطلاق العقل العربي من قيد الظلام الثقيل. جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده وشكيب أرسلان، ومعهم ثلة من الذين شخَّصوا مرض الأمة، لكنهم لم ينجحوا في كتابة وصفة الترياق، القادر على الشفاء من الوهن المزمن. طه حسين المصري وخير الدين التونسي، شخصان عرفا خطوط الطول والعرض، لخريطة عقل الدنيا الجديدة التي يحلم العرب بالإقلاع نحو سمائها. طه حسين كتب الكثير في الأدب والتاريخ واللغة وغيرها، لكن الكتاب الذي أراه ومضة كانت يمكن أن تكون ناقوس يقظة، هو كتاب «مستقبل الثقافة في مصر». نشر طه حسين هذا الكتاب في العهد الملكي المصري سنة 1937 قبل ثورة يوليو (تموز). قدم في هذا الكتاب، مفهوماً موضوعياً للهوية بكل مكوناتها الجغرافية، والتاريخية، والثقافية والدينية. ماذا نأخذ من العقل الأوروبي الآن؟ أجاب طه حسين عن هذا السؤال، بطرح حزمة من الحقائق التي لا يُختلف حولها، وهي أن العلم مُكتسب إنساني مشاع. وقد أخذ العرب من الفلسفة اليونانية، ومن الفرس والرومان، وأخذ الأوروبيون الكثير من العلم والفلسفة والفكر العربي. قدم طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» خطة عملية واسعة للتعليم في مصر، تتضمن توحيد التعليم بعيداً عن المذاهب الدينية، والتدريب بما يؤهل الشباب للدخول في معترك الصناعات. لو تبنت مصر هذا الكتاب، لحققت نهضة تأسيسية شاملة. السياسي والمفكر خير الدين التونسي، في كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، وضع معالم تضيء نحو المسالك التي تقود إلى النهوض، اقتداءً بما سلكته أوروبا. في السنوات الأخيرة، تلاطمت بحار التفكير العربي، بموجات من الأفكار التي تتحرك نحو نقد العقل الموروث. من محمد عابد الجابري، وجورج طرابيشي، ومحمد أركون، وفؤاد زكريا، وعبد الله العروي ومراد وهبة وغيرهم. المأساة أن تلك الأفكار لم يكن لها فعل يغير ما راكمته عصور الظلام، في حين تندفع أعاصير التطرف والإرهاب الذي يلبس غلالة الجهل المقدس الموروث. وتستمر المعارك من أجل عقل ينير، ويحقق النهوض.

***

عبد الرحمن شلقم

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: السبت - 04 ذو الحِجّة 1446 هـ - 31 مايو 2025 م

 

لم يكن المنهج مرتبطاً بالفلسفة وحدها، فقط كان المنهج صديق المعارف كلها، لكنه أصبح لصيقاً بالفلسفة والعلم للآثار الكبرى، التي خلّفها التّعويل عليه والاعتماد عليه عبر تاريخ الفلسفة.

تعود كلمة منهج إلى méthodos في الإغريقية، فهي مشتقة من odós وتعني الطريق، وmetá وتعني صوب ونحو، فالمنهج يدل على الطريق الذي يسير في اتجاه معين، فهو مسار وطريقة، له هدف وغاية. ومن هنا اعتبر المنهج «مجموعة من الخطوات المنطقية والعقلانية، التي تجعل من الممكن الوصول إلى هدف ما». ومن هنا أصبحت للمنهج أبعاد عملية ونظرية، وقد بات المنهج في الفلسفة والفكر أداة حاسمة، إذ بدونه لا يمكن للنّشاط الفكري أن يسير ويحقق نتائجه المرجوة، فبدونه لا يمكن التفكير وفق خطة مدروسة ومحددة مسبقاً، وإلا كان مصير التفكير العاري من المنهج الفشل الذريع.

عندما صرح الغزالي أن العاطل من المنطق لا يوثق بعلمه، فهو كان يشير إلى هذه الحقيقة النّاصعة، وهي أنه من دون منهج، يرسم المسلك الذي يتبناه العقل في تحليل وفهم مجموع قضايا، فإن العقل يتيه ويضيع، مذكراً بالصنيع الأكبر لأرسطو، والذي أصبح به المعلم الأول، وهو وضع قواعد للعقل ومنهجاً للتفكير، وهي القواعد التي سار عليها فلاسفة الإسلام بتبينهم للمنطق الأرسطي والذّوذ عنه، وإن كان لبعضهم تحفظات عليه وخروج إلى مناهج فرعية تطعمه وتعضده.

فقد ظلّ المنهج الأرسطي يتربع على رؤوس الفلاسفة حتى وضع ديكارت كتابه الشهير «خطاب في المنهج»، والذي كشف به المنهج الأرسطي، وفتح الباب بقواعده الأربع لطريقة جديدة في اشتغال العقل العلمي والفلسفي، بعد أن كتب قبله فرنسيس بيكون كتابه «الأورغانون الجديد» الذي كان يقصد من ورائه تقديم منهج جديد مخالف للمنهج الأرسطي تأكيداً منه على المنهج الاستقرائي، على خلاف ديكارت الذي ركّز على المنهج الاستنباطي. وكلا المنهجين حركا العقلين العلمي والفلسفي وكان لهما أكبر الأثر في تحريك عجلة التّقدم للسيطرة على الطبيعة.

منذ أن تحرك العقل الفلسفي والمنهجُ رفيقُه، فمن المنهج التوليدي مع سقراط، في صيغته الكاملة في محاورات أفلاطون، إلى المنهج الجدلي الصاعد والنازل مع أفلاطون، إلى الأورغانون مع أرسطو، إلى المنهج التجريبي مع بيكون، والمنهج الرياضي مع ديكارت، إلى المنهج النقدي مع كانط، إلى المنهج الجدلي بأطروحته ونقضيها وتركيبها مع هيغل، إلى المنهج المادي التاريخي مع ماركس، إلى المنهج الفينومينولوجي مع هوسرل، إلى المنهج الهيرمينوطيقي مع شلايمخر، إلى المنهج الجنيالوجي مع نيتشه، إلى المنهج التفكيكي مع ديريدا، وغيرها من المناهج التي وسمت العصر الحديث حتى أصبح يسمى عصر المناهج، حيث نجد كل تيار فلسفي إلا ويتأسس على منهج متبع.

الفيلسوف هو مفكر- كاتب يلتزم طريقة في التفكير حتى وهو يتمرد ويرفض طرق فلاسفة آخرين. ومن هنا أهمية الاعتناء بالمناهج في الدراسات الأكاديمية، حيث إن الوعي ومعرفة هذه المناهج يساعد الباحثين على تتبع اختلاف طرق استدلال وتأمل الفلسفة لمواضيعها الأثيرة التي تنطوي تحت المواضيع الثلاثة الكبرى: الحق والخير والجمال، ويُزوّدُهم بطرق واضحة في الكتابة والتفكير، ويختصر عليهم كثيراً من الطرق الموحشة، التي قد يتعثرون فيها إذا خاضوها دون منهج واضح وقوي.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 29 مايو 2025 23:45

 

نحن نشهد ولادة مرحلة اقتصادية جديدة ستعاد فيها صياغة ماهية القيمة، والعمل، والملكية والعملة، ولربما نستيقظ ذات يوم ونحن نتعامل مع الخدمة كعملة، وأن تكون لتعاملات الأفراد اليومية عملات، وللتعاملات التجارية بين المؤسسات الحكومية عملات أخرى وجميعها رقمية ومشفّرة، حيث إن الأزمة القادمة ليست كسابقاتها لأنها ليست مجرد انهيار أسواق، بل انهيار مفاهيم وهو الأهم هنا، لكونه لا يدرّس في كليات الاقتصاد ولا في الأطروحات التقليدية للاقتصاد ومكوناته الرئيسية.

وفي تقرير أصدرته شركات «بلاك روك» و«غولدمان ساكس» في 2024 تشير الحقائق إلى أن 37% من الأصول المالية العالمية أصبحت تعتمد على تقييمات مبالغ فيها، لا تستند إلى أي إنتاج مادي حقيقي، وفي الوقت نفسه ذكرت شركة «ماكينزي الاستشارية العالمية» أن الاقتصاد العالمي قد خلق ديوناً تتجاوز 315 تريليون دولار، أي ما يعادل 336% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (IMF، 2024)، ولكن الأخطر ليس الأرقام، بل إن النظام بأكمله، يستند إلى فرضية خاطئة، وهي أن النمو غير المحدود ممكن على نطاق محدود.

إذاً الزيف الكبير أنه اقتصاد بلا قيمة، والاقتصاد الحالي قائم على ما يُسمى بـ«القيمة الافتراضية»، وهي قيمة لا تنتج من عمل أو مادة، بل من توقعات متبادلة بين أطراف في أسواق معقدة تحكمها خوارزميات، وتشير بيانات «وورلد إكونوميك فوروم» (2024) إلى أن 80% من تداولات الأسهم تتم اليوم عبر أنظمة ذكاء اصطناعي تتخذ قرارات في أجزاء من الثانية، مما يجعل الإنسان خارج دائرة القرار، فهل يمكن لمنظومة لا يفهمها أحد أن تستمر؟ هل يمكن للذكاء الاصطناعي الذي لا يملك وعياً أخلاقياً أن يحافظ على عدالة السوق؟!

ومن زاوية مختلفة، يشير علم البيانات ويتنبأ بالانهيار الكبير، وذلك من خلال تحليل بيانات 74 مليون معاملة مالية باستخدام خوارزميات التعلم العميق قام بها مركز MIT للأنظمة المعقدة (2025)، والذي كشف عن أن نمط التكرار الزمني المتسارع للتقلبات المالية العالمية يشبه النمط ذاته الذي سبق الانهيار الكبير في 1929، وانهيار 2008، ولكن مع تردد أعلى وزمن تفاعل أقصر بنسبة 700%، والنتيجة: الانهيار القادم سيكون أسرع وأعمق وأطول مدىً، وذلك ما تظهره كذلك بيانات «ستاندرد آند بورز» (2025)، وهي تشير إلى أن 62% من شركات المؤشر تمول أنشطتها بالدين لا بالإيرادات، مما يجعلها عرضةً للسقوط بمجرد ارتفاع الفائدة،  وأيضاً بسبب وصول الدين الأميركي العام إلى 36 تريليون دولار، وارتفاع نسبة الفائدة إلى 6.5% وفق الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في الربع الأول لعام 2025 ونحن أمام قنبلة زمنية مالية إذا ما دمجنا ذلك بمفارقة الذكاء الاصطناعي ونهاية الوظيفة كبنية اجتماعية وفق تقرير PwC Global AI Impact(2025)، والاستغناء عن 300 مليون وظيفة بحلول 2030، ومعظمها وظائف متوسطة الكفاءة، فما يحدث ليس إعادة توزيع للثروة، بل تحوّل جذري في تعريف الإنسان الاقتصادي.

 وفي الحقيقة، العمل البشري لم يعد ضرورياً لإنتاج القيمة، فالرأسمالية نظام يخلق قيمته من التوسع لكن في عالم محدود، هذا التوسع يصبح انتحاراً، فالاحتباس الحراري، وندرة المياه، وتصحر الأراضي الزراعية، كلها ليست«مشاكل بيئية»، بل نتائج مباشرة لاقتصاد يستهلك أكثر مما ينتج!

وأكد تقرير الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (2024) أن الموارد الطبيعية يتم استهلاكها اليوم بمعدل 1.75 ضعف قدرة الأرض على التجدد، إذاً، نحن نأكل من مستقبل لم يعد موجوداً! ولا تكمن الأزمة في الأرقام وحدها، بل في الفلسفة التي بني عليها الاقتصاد العالمي: الفردية، والربح الأقصى، والاستهلاك، والمِلْكية المطلقة.

 لقد أكل النظام أبناءه، وبالتالي نحن نحتاج إلى ولادة فلسفة اقتصادية جديدة يكون فيها الإنسان منتجاً للقيمة المعنوية لا المادية، ويكون الذكاء الاصطناعي أداةً لا حاكماً، وتعاد فيها صياغة مفاهيم مثل العمل، والغنى، والنجاح، وتباعاً ستتغير كل المفاهيم والأطر المتعلقة بتجهيز موظف من الروضة إلى الجامعة، وهو ما أراه شهادة وفاة لنظام انتهى، فهل يكون التفوق للأقوى، أم للأكثر وعياً؟!

***

سالم سالمين النعيمي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 27 مايو 2025 00:56

في ندوة باريس التي نظمتْها، الأسبوع الماضي، مؤسسةُ الفكر العربي مع معهد العالم العربي، سُئلتُ: ما هي خصوصية الفكر المغاربي داخل السياق الثقافي العربي الأوسع؟

 لا مندوحة من الإقرار بوحدة الثقافة العربية من حيث الاهتمامات والرؤى والمواقف، ومع ذلك لا يمكن إنكار خصوصية الفكر المغاربي ضمن هذا النسق الثقافي الشامل.

لقد بدا لي أن أحد مظاهر هذه الخصوصية يكمن في حجم الاهتمام الفلسفي الكبير لدى الكتاب والمثقفين المغاربة، بما فيهم غير المتخصصين في الدراسات الفلسفية.

كثير من الناس لا يعرفون أن عبد الله العروي، الذي كتب سلسلة المفاهيم النظرية حول الحرية والدولة والأيديولوجيا والعقل والتاريخ، ليس فيلسوفاً، بل مؤرخاً وعالِم سياسة، لكن حضور نصوص روسو وسبينوزا ومونتسكيو وهيغل.. كان لافتاً في جل أعماله. وفي كتابه الصادر قبل سنوات حول «الفلسفة والتاريخ»، يتبرّأ العروي من صفة الفيلسوف التي أُلصقت به، لكنه يعترف بميله العميق للتفكير الفلسفي وتوظيفه للمفاهيم والمصطلحات الفلسفية في كتاباته التاريخية والسياسية.

 نفس الحكم يصلح على مؤرخ بارز آخر هو التونسي هشام جعيط، الذي كتب دراساتٍ شديدةَ الأهمية حول الفكر العربي الإسلامي الوسيط، وموضوعات التنوير والتحديث في الخطاب العربي المعاصر، وكان له حضور لافت في الحقل الفلسفي التونسي، لكنه لم يكن متخصصاً في الفلسفة ولا مشتغلا بها.

كثيرون أيضاً لا يعرفون أن محمد أركون ليس فيلسوفاً، بل دخل إلى حقل التفكير الفلسفي من باب الدراسات الإسلامية والآداب، لكنه وظف مقولات التأويليات والابستمولوجيا ومناهج تاريخ الفكر في المنحى الذي عني عنه، وهو ما أطلق عليه مقولة «الإسلاميات المطبقة» (على غرار العقلانية التطبيقية لدى غاستون باشلار).

بعض الأدباء أيضاً سلك المسلكَ نفسَه، مثل الروائي التونسي الفذ محمود المسعدي الذي كتب عدة أعمال إبداعية لا تقل عمقاً وأهميةً عن نصوص نيتشه التي غيرت مجرى الفكر الفلسفي المعاصر.

وفي الورقة التي قدمتُها لندوة باريس عن «مسارات الفلسفة المغاربية الراهنة»، ميزتُ بين نهجين أساسيين في هذه الفلسفة، أطلقتُ على أحدهما: النهج التأويلي الابستمولوجي، وعلى الآخر النهج الديكولونيالي التحديثي.

في المستوى الأول، تبرز المحاولات التي سعت لتقديم قراءة جديدة للتراث العربي الإسلامي بتوظيف آليات النقد الابستمولوجي وأدوات تحليل الخطاب وتفكيك النص. ومع أن هذا النهج بدأ في السبعينيات مع الطيب تزيني في سوريا وحسين مروة في لبنان، إلا أنما ميز الكتابات الفلسفية المغاربية هو الخروج من المدونة الماركسية الكلاسيكية إلى تاريخ الأفكار والمفاهيم وحفريات المعرفة وتأويلية الخطاب، بما هو ظاهر في أعمال محمد عابد الجابري ومحمد أركون ومَن تلاهما تواطؤاً ونقداً في الساحة الفلسفية المغاربية. ومن المهم أن نلاحظ هنا أن هذا المنحى قد تطور فلسفياً في السنوات الأخيرة في اتجاه بناء تأويلية نظرية تطبيقية مركّبة تستلهم أفكار ومناهج الهرمنوطيقا الفلسفية المعاصرة، كما هو واضح بقوة في أعمال الفيلسوف التونسي محمد محجوب.

 وفي المستوى الثاني، نلاحظ أن مسلك نقد الدراسات الاستشراقية والتمثلات الاستعمارية بدأ مبكراً في الفكر المغاربي من خلال كتابات المفكر الجزائري مالك بن نبي في أربعينيات القرن الماضي، قبل مقالة الباحث المصري أنور عبد الملك حول أزمة الاستشراق المنشورة في مجلة «ديوجين» الفرنسية سنة 1963.

وقد شكل كتاب هشام جعيط «أوروبا والإسلام»، الصادر سنة 1978، محطة حاسمة في هذا النقد الديكولونيالي، قبل انتشار عمل أدوارد سعيد الشهير حول «الاستشراق» الذي يعتبره الكثيرون الوثيقة المرجعية للديكولونيالية.

 إلا أنما ميز الفكر المغاربي هو الخروج من سردية محاربة الغزو الثقافي الغربي، والنظر إلى الخطاب الاستعماري في سياق العلاقة المعقدة بمسار التحديث الفكري والمجتمعي، بما هو بارز في كتابات جيل كامل من فلاسفة المغرب العربي، مثل علي أومليل وفتحي التريكي وفتحي المسكيني.. إلخ.

 لكن ما هي الحصيلة الإجمالية لكل هذه التجربة الفلسفية الغنية؟

 لقد لاحظتْ متدخلةٌ في لقاء باريس أن الإسهام الأول لمفكري المنطقة المغاربية يتمثل في كونهم أدخلوا إلى النسق الدلالي العربي الكثيرَ من المفاهيم والمصطلحات الجديدة التي غيّرت نوعياً طبيعة الحقل الثقافي العربي في عمومه. ولا شك في أن هذه الملاحظة صائبة، فلا أحد ينكر أن الفكر العربي المعاصر غدا يتكلم بلغة جابرية ويستخدم مفاهيم وإشكالات عروية، وينزع إلى السؤال الفلسفي في ما وراء ضيق التخصص والاهتمام.

***

د. السيد ولد أباه - *أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 26 مايو 2025 00:13

«لقاء الحضارات» هو عنوان كتاب مشتركٍ للكتاب الفرنسي إيمانويل تود وزميله اللبناني الأصل خليل كرباج، وقد صدر قبل خمسة عشر عاماً، وعنوانه الفرعي «تحولات المجتمعات المسلمة حول العالم». وقتها كانت وجهة نظر الكاتبين أن الضغوط الهائلة المستمرة على الشرق الأوسط بعد غزو العراق سوف تفجّره نهائياً، لأن المشكل الرئيس في فلسطين لم يجد حلاًّ، وقد أُضيف لذلك الآن العراق بعد غزوة عام 2003.

لقد اعتقد إيمانويل تود، الناقد الحادّ للسلوك السياسي والثقافي الأوروبي، أنّ الولايات المتحدة بهجوم 11 سبتمبر 2001 فقدت القدرةَ على ممارسة الانضباط، وما عاد مصطلح «القوة الناعمة» الذي أطلقه جوزف ناي عام 1990 (توفي قبل شهر) ينطبق عليها. ولذا صار الاعتماد على أوروبا في تبادلٍ تاريخي كبير. وكانت أوروبا قد عجزت عن مكافحة انطلاقات الوحشية النازية، فتدخلت الولايات المتحدة لإنقاذ الحضارة الإنسانية، والآن أتت اللحظة التي تكررت عبر التاريخ، حيث يكون على أوروبا أن تتخذ موقفاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

لماذا قال تود وزميله ذلك؟ لأنّ المجتمعات الإنسانية، والمسلمة منها على وجه الخصوص، شديدة الشوق والتطلع إلى عهودٍ للسلام والتعاون. هناك مسلمون عنيفون من الشبان، وهؤلاء يأباهم المسلمون أكثر من غيرهم، وهم يضرون مجتمعاتهم أكثر مما يضرون غيرهم، وهم قلةٌ متفلتة بين جماهير المسلمين في العالم والذين يزيدون على المليار. عندما نشر هنتنغتون كتابه «صِدام الحضارات» (1993) واعتبر فيه أنّ الإسلام يمتلك حدوداً دموية، ردَّ عليه مئاتٌ من المسلمين مستنكرين ومذهولين.

لا يريد المسلمون مخاصمةَ العالم ولا إخافتَه، ومفكّروهم يعتبرون العلاقات بين الحضارات لقاءات وفُرص تفاهم وتعايُش، وأنه ينبغي التوقف عن الضغط العسكري والفكري والثقافي، كي لا يحصل المزيد من الانفجارات التي تهدّد سلام العالم المهدَّد أصلاً.

ما أُعجب تود (الذي توفي قبل شهرين) بتطورات ما بعد عام 2010 في العالم العربي واعتبرها انفجارات لا تبشر بخير. لكنّ وجهة اهتمامه تركّزت حول مظاهر «الانهيار» الأوروبي. ما عجزت أوروبا عن كبح جماح الولايات المتحدة فقط، بل سارت في ركابها. إنما الأفظع أنه من الناحية الداخلية فإنّ أوروبا فقدت المناعة وتوشك أن تسيطر فيها تياراتٌ لا تريد السلام ولا العلاقات الحسنة مع العالم.

إنّ هذه النزعات الثأرية غير المبرَّرة تتصاعد ولن يوقفها التقدم التكنولوجي المتسارع، بل يشجّع عليها، والطريف أنّ هذا المدَّ الاتصالي والذكاء الاصطناعي يصاحبه جزرٌ لجهة صعود القيم الأخلاقية الإنسانية وتفاهمات العيش المشترك.     وفي كتابه «انهيار الغرب»، قبل وفاته بسنتين، ذكّر إيمانويل تود بما سبق له ذكره في «لقاء الحضارات».

هناك صوتٌ جديدٌ فقط وهو صوت سلامٍ عالمي: صوت البابا فرنسِس الذي يقول لا سلام في العالم إلاّ بالسلام مع الإسلام. إنما المهمة الآن (2022، عام صدور الكتاب) إنقاذ الغرب الأميركي والأوروبي من نفسه، وقد ينفع فيه المسعى الصيني والآخر الهندي للنهوض والتغيير.

لكنّ تود ليس عظيم الأمل لهذه الناحية بسبب النزعة القومية القوية لدى الأمتين الكبيرتين: فأين هم دعاة لقاء الحضارات وسط هذا العالم الذي يغصّ بمشكلات الغذاء وفساد البيئة والاندفاع باتجاه الحروب غير الضرورية وغير المبررة؟!

***

د. رضوان السيد

عن جريدة الاتحاد الاماراتية، يوم: 24 مايو 2025 23:45

في ملاحظة طريفة، يذهب الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبريه إلى القول بأن الصراع الدائر راهنا في أغلب المجتمعات العالمية يتركز في خط الحدود الفاصلة ما بين الهويات الثقافية العضوية والهويات السياسية المصطنعة. والهويات الثقافية هي ما تعبّر عنه مقولة «القبيلة» إذا فهمت بالمعنى الأوسع الذي هو الانتماء القائم على التشابه في الأصل والمحددات الطبيعية الثابتة، والهويات السياسية هي بالأساس الدولة المدنية القائمة على معايير المواطنة والحرية والمساواة.

دوبريه يعبّر عن هذه الثنائية بعبارتَي «القرابة» و«الأخوة»: أولاهما شعور تلقائي فطري يبدو عادياً ويطفو في ساعات التأزم والفتنة والتفكك، وثانيتهما اختيار توافقي وصيغة مؤسسية مخترعة هشة بالضرورة ومعرّضة دوماً للتحلل والضياع.

لا شك في أن ابن خلدون قد انتبه إلى هذه المعادلة في نظريته الشهيرة حول العصبية، عندما أجلى الفرق بين القرابة النسبية والرابطة التلاحمية التي هي وحدها شرط البناء السياسي المنظم.

وما يلاحظ دوبريه هو أن العالَم يعيش راهناً عودةَ القبيلة التي اعتقد الكثيرون أنهم تجاوزوها من خلال شكل الدولة الحديثة القائمة على التعاقد الاجتماعي والشرعية القانونية المدنية. ومن هنا يجزم أن الحالة القبلية ليست ظاهرة قديمة من الماضي السحيق، بل هي من سمات المجتمعات ما بعد الحديثة، بقدر ما ترجع في الآن نفسه إلى ما قبل الحداثة. وبالنسبة لدوبريه لم ينجح سوى العالم الغربي في تجاوز القبيلة من خلال مفهوم الأخوّة الذي هو العنصر الهام من ثلاثية «الحرية والمساواة والأخوة» التي بلورتها الثورات الدستورية والسياسية الأوروبية منذ نهاية القرن الثامن عشر.

في البلدان العربية والأفريقية، يرى دوبريه أن حالة الأخوة المدنية كانت طوبائية وهشة، ولذا سرعان ما انهارت عند الهزات الاجتماعية الكبرى التي عرفتها هذه البلدان، فرجعت البنيات القبلية العضوية إلى الواجهة وعوضت الأشكال السياسية للدولة. والواقع أن مفهوم الأخوة نادراً ما يحظى باهتمام نظري دقيق في الفكر العربي المعاصر، في مقابل مفهوم المساواة الذي له جذور تراثية قوية ومفهوم الحرية الذي شكّل محور اهتمام الخطاب العربي الحديث. ولطالما اختُزل هذا المفهوم في اعتبارات القرابة النسَبية أو القومية أو الانتماء الديني والطائفي، دون أن يؤسَّس على محددات نظرية رصينة.

وفي التراث الوسيط، نجد كتابات غزيرة حول الصداقة والصحبة والألفة، لكن نادراً ما نلمس ما يقابلها حول الأخوّة. وفي الفكر العربي الحديث نلاحظ تركيزاً قوياً على معايير المواطنة المدنية، بمنأى عن أرضيتها الأنتربولوجية، أي الرابطة الإنسانية القائمة على التعاطف والتضامن خارج وشائج النسب والقرابة. وما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن أحد الأسباب العميقة لقصور المواطنة في السياق العربي هو هذا الاختزال القانوني الإجرائي الذي يفتقد جدياً إلى مرجعيات نظرية ومعيارية تؤسسه على فكرة الأخوّة. ولا شك في أن وثيقة «الأخوّة الإنسانية» الصادرة في أبوظبي عن البابا السابق فرنسيس وشيخ الأزهر الإمام الدكتور أحمد الطيب شكّلت نقطة تحول أساسية في مقاربة البناء النظري المحكم لمفهوم الأخوة في دوائره الثلاث: المواطنة والدائرة الدينية والرابطة الإنسانية المشتركة.

وبعد ذلك نشر البابا فرنسيس رسالةً بعنوان «كلنا إخوة» (fratelli tutti) ركّز فيها على معاني السلم والتعايش الجماعي والصداقة، معتبراً أن مقولةَ الأخوة هي القاعدة المرجعية لمدونة حقوق الإنسان المعاصرة. ما حذّر منه البابا هو صعود النزعة الشعبوية الجديدة في الغرب، والتي أفضت إلى تضييق مجال الأخوة الإنسانية إلى النطاق الوطني المحدود، بما انجرّ عنه إقصاء ومحاربة المهاجرين واللاجئين والأغراب. لكن هذه النزعة انعكست داخل الحقل الوطني نفسه الذي أصبح مدار التناقضات والصراعات الهوياتية المدمرة. والأمر هنا يتعلق بما أشار إليه دوبريه من تجدد النزعة القبلية بمعناها القرابي النسبي المغلق (لا العصبية التلاحمية المفتوحة)، وهو الوجه الآخر لما سماه الفيلسوف التشيكي جان باتوشكا «تضامن القلقين» (solidarity of the shaken)، أي المجموعات التي تعرضت للاضطهاد والعنف والتنكيل الجماعي فانغلقت على نفسها ووجدت في الانكفاء والعزلة طريقاً للأمن ومسلكاً للحماية.

خلاصة الأمر، أن الفكر العربي بحاجة اليوم إلى معالجة واستيعاب مفهوم الأخوة، بإخراجه من محددات الهوية الضيقة، والنظر إليه في أفقه الأخلاقي والإنساني المتسع، شرطاً لا محيد عنه من أجل استنبات القيم المدنية والسياسية الحديثة التي هي أساس المواطنة في ما وراء دلالاتها القانونية الإجرائية المحدودة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 18 مايو 2025 23:45

الفلسفة هى علم ابتكار المفاهيم. هذا هو تعريف الفلسفة الذى قدمه الفيلسوف الفرنسى جيل ديلوز. والمفهوم هو لفظ مكثف الدلالة يشير إلى ظاهرة معقدة ومتشابكة الابعاد. فأنت حين تستخدم كلمة العولمة تشير إلى تطور الرأسمالية وثورة الاتصالات وسهولة حركة الأشخاص ورءوس الأموال والسلع والأفكار، وإلى تزايد الاتفاقيات الدولية. وجاءت فلسفة ديلوز زاخرة بالمفاهيم المتدفقة التى تزيح بعضها بعضا فتكون خير تعبير عن الصيرورة بوصفها جوهر الوجود.

الوجود فى نظر ديلوز عبارة عن سطح بلا أعماق ملىء بالتجاعيد التى تخفى الكثير. عمليات الفكر هى تعامل مع طيات السطح فالتضمين implication والشرح explication والتعقيد complication كلها مشتقة من الجذر pli أى الطية.نحن أمام صفحة تخترقها مسارات لتدفقات رأس المال أو تدفقات الرغبة، ثم تتقابل فى نقطة التقاء لتنتشر من جديد فى اتجاهات أخرى وقد تغير حالها. يصوغ النظام العام هذه التدفقات فى إطار معيارى، أو يختارالمتمرد الخطوط التى يهرب بها من هذا النظام العام. إنه يرفض التوطين terrétorialisation ويقوم بعملية ترحيل déterrétorialisation. هذا التصور جعل ديلوز يحتفى بمفهوم الرحّال الذى ما أن يستقر على أرض حتى يحمل عتاده ويرحل. وحركة الرَحّال هذه فى الفكر أو فى الفن هى التى تسمح بالتجديد والإبداع الذى يواكب الصيرورة فى مقابل فكرة الثبات التى ليست إلا وهما من أوهام العقل.

فى كتاب، ضد أوديب، يعترض جيل ديلوز وفيليكس جوتارى على مفهوم فرويد عن الرغبة التى يصورها على أنها عبء ملقى على عاتق الإنسان وتصيبه بالمرض والتوتر ولا سبيل لاستعادة التوازن إلا بالتخلص منها، إما عن طريق التسامى أو طريق الإشباع. الرغبة عند ديلوز ليست فقداً وليست اندفاعا داخليا يريد أن يتخارج، وإنما تبدأ من الخارج وتولد من خلال لقاء. الرغبة ليست حاجة تتطلب الإشباع ولكنها إنتاج وإبداع. الفرحة التى تسببها الرغبة هى فرحة اكتشاف وليست فرحة إشباع.

المفهوم الشائع والخاطئ عن الرغبة ظهر لأن فرويد قصر الرغبة على الجنس، فى حين أن الرغبة تتجاوز ذلك. ويجدر بالإنسان أن يعمل على تأجيجها بدلا من إخمادها، ومن هنا يكون سعى الإنسان للتدخل فى العالم ليس نابعا من تصورات فكرية أو معايير أخلاقية ولكن من اندفاعات عاطفية. حملة ديلوز ضد التحليل النفسى جعلته ينظر إلى المحلل النفسى على أنه بمثابة القسيس الذى يتلقى الاعترافات ولكن فى مجتمع حديث، ويعتبر التحليل النفسى وسيلة لتحويل الأفراد إلى هاربين من رغباتهم، قائلا إن أريكة المحلل النفسى هى المكان الوحيد لمواجهة الواقع، هى الأرض الأخيرة للإنسان الأوروبى فى عالم اليوم.

وفى فلسفته للتاريخ يميز بين السياسات الكبرى والسياسات الصغرى. الأولى هى تغيرات تتم على مستوى الكتلة. والثانية تتم على مستوى الجزيئات. وهو مجاز يستعيره من الفيزياء، فأنت حينما تشطر صخرة يظل تركيب الحجر كما هو. أما حينما تتدخل فى إحداث تغيير فى الجزيئات الدقيقة على نحو ما يحدث فى علم النانو تكنولوجى فإن التغيير يكون جذريا. كذلك يكون الحال فى السياسة، فأنت حين تغير النظام من ملكى إلى نظام جمهورى، سوف يكون هذا تغييرا مبهرا مثل الألعاب النارية ولكن تظل الحياة اليومية للفلاحين والعمال كما هى. فى حين أنه عندما تمد خط سكة حديد إلى قرية معزولة أو تنشئ فيها مدرسة للبنات تكون قد أحدثت تغييرا أكثر جذرية. مثل هذه التغيرات البسيطة هى وحدها الحاملة لوعد تغيير حقيقى ملحوظ للعالم. ومن هذه النظرة جاء تأييده المتواصل الذى لا يلين لكفاح الشعب الفلسطينى، فهو الكفاح الذى من شأنه أن يغيّر بصورة جذرية الإطار المعيارى الظالم للعلاقات الدولية.

الجذمور rhizome هو جزء يقطع من ساق بعض النباتات ويستخدم فى إعادة إنباتها. ويستخدم ديلوز هذا المجاز ليشير إلى ضرورة التخلص من نزعة البحث عن الجذور أو الرجوع إلى لحظة الميلاد الأولى، وكذلك أيضا التخلص من التعلق بالوصول إلى النهايات وتحقيق الغايات، من هنا نقده لولع هيدجر ببواكير الفكر اليونانى، ونقده للانشغال بأطروحة نهاية الفلسفة. عبارات ديلوز: كونوا جذامير ولا تكونوا جذورا، وفلنبدأ بالوسط، تحولت إلى شعارات ملهمة للكثير من الحركات الطليعية الفكرية والفنية.

لم ينسب ديلوز نفسه إلى أفكار مابعد الحداثة ولكن انتاجه الفكرى اقترن بها. فخلال عقد السبعينيات كان ديلوز هو مرشد هذه الجماعة من اليساريين التى تتمسك بالرغبة وبنزعة الترحال وبالفرحة والاحتفال، وبالتدفق الحر والكلام والإذاعات الحرة. إنه الاعتراض الذرى المفتون بمواجهة الإرادات القوية للمسيطرين.

***

د. أنور مغيث

عن جريدة الأهرام القاهرية، يوم: الثلاثاء 15 من ذي القعدة 1446 هــ 13 مايو 2025 السنة 149 العدد 50562

 

من الطبيعي أن تكون حركة التاريخ مرتبطة بشبكةٍ من النزاعات والمفاجآت والكوارث والانهيارات. فالتاريخ بحالةِ حركةٍ مستمرة، ولكن القوّة تكمن في استيعاب هذه التحديات التي تتصاعد أو لجمها.

على سبيل المثال شكّل مثال «الحروب الصليبية» نقطة انطلاق كثير من الباحثين والدارسين للعلاقة بين الإسلام وأوروبا. لم تكن العلاقة ثابتة، بل إن تلك الحروب الدامية تستمد قيمتها من مآلاتها المرعبة والتي دوّنها التاريخ.

ومع بلوغ العولمة ذروتها حتى الآن في المجالات الاقتصادية والتقنية، دأبت الماكينات الإعلامية على وصف العالم بالقرية الصغيرة، وذلك إغراقاً في التفاؤل والاغتباط بما وصلت إليه المجتمعات من تعارف، بسبب ازدياد التبادلات الاقتصادية الحرة، وغرق الفضاء بالأقمار الصناعية، وانفجار ثورة الإنترنت، وصولاً إلى انكسار الحدود بين الأمم، وتحدّي الذكاء الاصطناعي.

لقد عدنا إلى ما تنبّأ به هنتنغتون وبوضوح أن صغر العالم قد يسبب ضربة للتعايش بين الحضارات، باعتبار التقارب محفزاً لإدراك الفروقات، ومن ثم البحث عن الهويّة الخاصة، وخصائص الذات، ونقائص الحضارات الأخرى.

وبمناسبة كل هذا التغيّر ربما يكون النقاش ضرورياً مع دراسة رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية، فيتالي نعومكين، تحت عنوان: «شبح هنتنغتون يطوف العالم».

يقول: «منذ البداية، بدا لي أن نظرية هنتنغتون هي ابتداع لا علاقة له بالواقع. بدا كأنه لم يبق سوى القليل وسينتصر فيه التسامح والتعاون والتقارب والإثراء المتبادل للحضارات، والميل إلى التسوية السلمية لجميع النزاعات بين الأعراق والأديان. من المناسب أن أذكّر كيف اختلفتُ بالرأي، في مقالتي التي نُشرت في روسيا عام 2007 ولاقت رواجاً على نطاق واسع تحت عنوان (مبارزة الحضارات)، مع برنارد لويس الذي ادّعى في محاضرته (الهجوم الأخير للإسلام) أن الحملات الصليبية للغرب كانت رداً غربياً (شبه جهادي) على (التوسع الجهادي للشرق العربي الإسلامي)».

لم يكن برنارد لويس وحده في ذلك التوصيف، بل لنعد لكتاب ألبرت حوراني «تاريخ الشعوب العربية».

حوراني في الصفحة 293 يقول: «كانت العلاقة على هذا الصعيد بين الجانبين (الإسلام - أوروبا) تتخذ شكل حرب صليبية من جهة، وشكل جهادٍ من جهة أخرى، إلا أنه كانت هناك أنماط أخرى من العلاقات، فقد كانت هناك التجارة، وبوجهٍ أخص تلك التي تتم على أيدي تجار أوروبيين من البندقية وجنوة في القرون العثمانية الأولى، ومن البريطانيين والفرنسيين في القرن الثامن عشر».

الخلاصة، أن السؤال الرئيسي الحالي يتمثّل في إمكانية تجاوز نظرية «صراع الحضارات» إلى «نقاش الأفكار». لأن النظرية التداولية والنقاشية أكثر غنىً وإفادةً من الأولى المتصارعة، ذلك أن التمادي في الصراع الحضاري يثبّت نزعات الهيمنة، وربما أعطى غنىً وقوةً للأصوليات الصاعدة، هنا مربط الفرس، أظنّ أن خيار النقاش أهمّ من نظريات الصراع والتصادم.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

12 مايو 2025 23:45

 

هذا موضوع يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقضية العولمة التي أصبحت موضوعًا تقليديًّا في الفكر الراهن؛ ولكنه يرتبط بذلك الجانب الثقافي من تأثير العولمة الذي يبقى دائمًا متجددًا ومثيرًا للتأمل والجدال. والحقيقة أن حالة «الهيمنة الثقافية» ليست مقترنة بحالة العولمة الراهنة وحدها، وإنما هي حالة عامة طالما اقترنت بالاستعمار عبر العصور، خاصةً عندما يكون المستعمر صاحب حضارة، ويبقى زمنًا طويلًا في البلاد التي يستعمرها.

وربما يكون الاستعمار الفرنسي هو المثال البارز هنا؛ لأن هذا الاستعمار كان مهتمًّا دائمًا بالتأثير في الجانب الثقافي لدى مستعمراته (وهو ما يُعرَف بعملية «الفرنسة»)؛ وهو التأثير الذي نجده ملحوظًا في الثقافة المغاربية، ليس فقط من حيث اللسان وإتقان اللغة الفرنسية، وإنما أيضًا من حيث التوجهات الغالبة في المجال المعرفي والأكاديمي (وربما لهذا السبب نفسه؛ فإن المفكرين والمبدعين الحقيقيين في دول المغرب العربي -من الكبار والشباب- لا تهيمن عليهم تلك التوجهات، ويبدعون مشاريعهم الفكرية والأدبية الخاصة التي تمتد في عمق وجودهم العربي).

ومع ذلك، يتبدى لنا بوضوح أن الهيمنة الثقافية في عالمنا المعاصر، ومنذ عقود طويلة، قد اتخذت صورة جديدة مختلفة عن صورتها المقترنة بالاستعمار التقليدي: فالاستعمار التقليدي كان يسعى إلى الهيمنة الثقافية بفضل هيمنته بقوة السلاح، وكان يستخدم عادةً أدوات محدودة في هذه الهيمنة تتمثل في اللغة والتعليم بوجه خاص.

أما الصورة المعاصرة من الهيمنة الثقافية، فهي نتاج لما يُسمى «الاستعمار الناعم»، وهو شكل جديد من الاستعمار أو الهيمنة من دون حاجة لاستخدام القوة العسكرية في الغزو والاحتلال (وهو ما يتكلف كثيرًا من ناحية، ويخالف القوانين الدولية من جهة أخرى). ولا شك في أن الهيمنة الثقافية هي نتاج للهيمنة الاقتصادية والسياسية لبعض الدول الكبرى، ولكنها بدورها تدعم الهيمنة الاقتصادية والسياسية لهذه الدول.

ومن هنا بدأنا منذ عقود عديدة نسمع ونرى ظواهر عديدة للهيمنة الثقافية، منها -على سبيل المثال- ما يُسمى «الأمركة»، وهي ظاهرة تعبّر صراحةً عن تأثير أمريكي يريد الهيمنة في مجال الثقافة بمعناها الواسع الذي يشمل اللغة والفن والقيم، بل الملبس والمأكل أيضًا، أي يشمل أساليب العيش ومجمل رؤية الناس للعالم.

ولهذا فإن اللغة الإنجليزية قد ترسخت مكانتها في العالم باعتبارها اللغة الأولى في الاستخدام، وهي مكانة قد نشأت في الأصل بفعل هيمنة الإمبراطورية البريطانية التي ورثت نفوذها الولايات المتحدة الأمريكية منذ عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية. وحتى هذه اللغة لم تسلم من ظاهرة «الأمركة»؛ فلقد حرص الأمريكان على شيوع مصطلح «الإنجليزية الأمريكية» American English، أي اللغة الإنجليزية على الطريقة الأمريكية من حيث النطق والتعبير بأساليب مخصوصة، وهي اللغة التي يستخدمها كل من يتعلم اللغة أو يدرس في مراكز ومدارس وجامعات أمريكية.

وبوجه عام يمكن القول إن اللغة الإنجليزية في حد ذاتها هي أداة رئيسة للهيمنة الثقافية، بجانب أدوات الفن والقيم الأخلاقية والجمالية وأساليب العيش. ومن هنا بدأنا نرى مظاهر هذا التأثير في شتى بقاع الأرض، بما في ذلك عالمنا العربي بطبيعة الحال.

ونحن جميعًا نرى مظاهر هذا التأثير في أساليب بعض الشباب في الملبس والمأكل والسلوك، وفي اللغة الأمريكية التي يتباهون باستخدامها على حساب اللغة العربية التي هي عندهم لغة الطبقة الأدنى التي يتعلم أبناؤها في مدارس وجامعات حكومية. ناهيك عن استخدام اللغة الإنجليزية في أسماء المحلات التجارية والمشروعات والمؤسسات الكبرى، وذلك على سبيل الدعاية وإظهار التميز.

ماذا تفعل الدول إزاء الهيمنة الثقافية؟ ما دور الهوية هنا؟ حينما نسعى إلى الإجابة عن هذا السؤال العويص، لا بد أن نستبعد ابتداءً بعض التصورات المغلوطة عن الهوية، ومنها أن الهوية تبقى ثابتة جامدة: ذلك أن الهوية ليست شيئًا ثابتًا يكمن في لحظة معينة من الماضي أو التراث، وإنما هي تكمن في شخصية شعب أو أمة، كما تشكلت هذه الشخصية عبر التاريخ من خلال إبداعها في مجال الثقافة بمعناها الواسع، وإبداعها في مجالات العلم والمعرفة عمومًا هكذا تتأسس الهوية وتترسخ باعتباره الذات الكلية لشعب أو أمة ما. هذه الهوية قد تتعرض لحالة من الخفوت والتواري أو الطمس بفعل هيمنة ثقافة الآخر.

ولكننا لا بد أن نلاحظ في الوقت نفسه أن هذه الحالة لا يمكن أن تحدث بفعل تأثير يأتي من خارج الذات، اللهم إلا إذا كانت الذات نفسها في حالة ثبات يجعلها غير قادرة على الإبداع. وبعبارة أخرى أكثر وضوحًا نقول إن هذه الحالة تحدث حينما تصبح الأمة نفسها غير قادرة على الحفاظ على هويتها من خلال إبداعها الخاص، وعلى رأسه الإبداع في مجال الثقافة بمعناها الواسع.

وهكذا، فإن الهوية لا يهددها تأثير يأتي من الخارج، وإنما هو يأتي من الداخل حينما لا يسهم هذا الداخل في تشكيل الهوية والحفاظ عليها. وعلى هذا فإن الهوية لا تعني انغلاق الذات على نفسها وعدم انفتاحها على الآخر؛ لأن هذا الانفتاح نفسه يكون ضروريًّا لإثراء تكوين الذات نفسها، ولكن من دون هيمنة لثقافة الآخر على ثقافة الذات.

خلاصة القول إنه لا يمكن مواجهة الهيمنة الثقافية التي تهدد الهوية إلا من خلال إنتاج الثقافة وتمكينها، بدءًا من إعلاء شأن اللغة وتمكينها في العلم والمعرفة والدراسة، وحتى إعلاء شأن الفنون والآدب وتمكينها في ثقافتنا؛ فضلًا عن الانفتاح على ثقافة الآخر، لا باستيرادها وترويجها، وإنما بإخضاعها للفحص والنقد

***

د. سعيد توفيق

عن جريدة عمان العمانية، يوم: 06 مايو 2025

 

كتاب الفيلسوف الإيطالي جاليمبرتي في ترجمة عربية

يطرح «كتاب الانفعالات» للفيلسوف والأكاديمي الإيطالي أومبرتو جاليمبرتي الانفعالات بوصفها تعديلاً في كياننا النفسي، وفي علاقتنا بالعالم، مؤسِساً طرحه وتأملاته في ظلال التاريخ، والفلسفة، وعلم النفس، والتكنولوجيا.

صدرت الترجمة العربية للكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة بتوقيع المترجمة المصرية الدكتورة نجلاء والي، ويقع الكتاب في خمسة أجزاء يتنقل فيها الكاتب بين مختلف النظريات التي تشرح الآليات الكامنة وراء الانفعالات، وصولاً لتأثير التقنية الرقمية عليها.

ورغم الجهود العلمية المبذولة عبر التاريخ لرصد الانفعالات، فإن جاليمبرتي يعتبر أنها ما زالت عملية معقدة، ويرجع ذلك إلى أنها تقبع في مناطق مجهولة داخلنا، وتضرب بجذور ثابتة في الجزء الأقدم من عقولنا، وتظهر آثارها في الجزء الأكثر نبلاً في وجداننا، وفي مشاعرنا وحياتنا الاجتماعية، وتوقف الكاتب عند طبيعة الانفعالات التي تتفرق بين علوم ومجالات متعددة، ما بين علم الأعصاب وعلم النفس وعلم التربية والاجتماع، والفلسفة، وحتى بوصفها مسألة «ثقافية».

حالة طوارئ

تتجه بنية الكتاب إلى محاورة النماذج الفلسفية المؤسِسة حول الانفعالات، ومجاورتها مع نماذج أكثر معاصرة، فيعود لأصل الأشياء ورصد رحلة تطوّر المشاعر لدى «إنسان الكهف» الذي يقول الكاتب إنه لولا المشاعر التي كانت تقوده لكان الجنس البشري قد انقرض، حيث يمثل شعوره بالخطر أقدم الانفعالات التي حافظت على حياته، فطوّر استجابة «لحظية» لمواجهة الخطر، حيث الوقت يجب أن يكون وجيزاً بين إدراك العامِل المُحفز للانفعال والاستجابة لها، سواء للامساك بالفريسة قبل هروبها، أو أن يهرب هو نفسه من حيوان مفترس.

ولعل هذا المشهد «البدائي» هو ما طوّر تكريس الانفعال بوصفه «رد فعل عاطفياً عميقاً»، يظهر بصورة حادة ولمدة وجيزة نتيجة محفز بيئي مثل خطر، أو محفز عقلي كذكرى، أو حتى من وحي الخيال، فالانفعال في علم اللغة يعني التحرك فيما وراء الشيء أو ما بعده، كما يشير المؤلف.

يضع الكتاب هذا النموذج الأولي في مُقاربة مع التحليل النفسي لدى فرويد الذي يُفرّق بين الخوف الذي يتطلب وجود شيء معين نخشاه، والقلق الذي يمكن تعريفه بعملية انتظار حدوث خطر، أو الاستعداد له، وقد يكون الخطر نفسه مجهولاً، والرعب المرتقب للخطر دون استعداد مسبق له، وهنا تلعب المفاجأة دورها.

ومن ثم، يتتبع جاليمبرتي حالة التفكيك الفلسفي الطويلة لتعقيدات الانفعالات مثل الغضب، والغيرة، والقلق، حتى الضحك والبكاء، ويستخدم تعبير «فقد النظام» باعتبار الانفعالات صورة من إعادة ضبط هذا النظام المُختل، فالفيلسوف الألماني كارل ياسبرز يرى الضحك والبكاء «آفتين من آفات الجسد، الذي لا يجد لهما طريقاً للخروج»، فيفقد نظامه عند نقطة معينة، ويقول الكاتب: «فقد النظام رمز، كما أن هناك رمزية في كل تعبير وإشارة، ولكنها ليست شفافة في الضحك والبكاء؛ لأن كلاً منهما استجابة متأخرة؛ استجابة على الحافة، يقتصر الضحك والبكاء على الإنسان، فهما ظاهرتان بشريتان فحسب».

كسر العدم

يُحاوِر المؤلِف النموذج الأفلاطوني حول المشاعر ما بين ثنائية الجسد والروح، ويسعى لربطها بأفكار داروين، وكارل يونغ، مروراً بجان بول سارتر الذي يتوقف عن تأمله لدلالة الانفعالات، فعلى سبيل المثال إذا كانت التغيرات الفسيولوجية الناشئة عن الغضب لا تختلف من حيث القوة عن تلك الناجمة عن الفرح، بما في ذلك زيادة في نبضات القلب وزيادة في صلابة العضلات، فهذا التشابه في الظاهر لا يعني أن الغضب شعور قوي بالفرح، وذلك ببساطة لأن دلالة الفرح تختلف عن دلالة الغضب، وإذا لم نفهم الدلالة فلن نفهم الفرح والغضب، وإن حددنا ورصدنا الأسباب والعلامات التي تصاحبهما.

ويؤكد أنه لا يمكن إدراك الانفعالات بمعزل عن سياقها الوجودي الأشمل، فإذا كان وجودنا نفسه انفتاحاً على العالم، فالانفعال إذا هو خبرة هشاشة الوجود في اللحظة التي يبدو لنا فيها هذا الوجود أو العالم مختلفاً وغير مألوف، فيترتب على ذلك فقد السيطرة، والشعور بالخطر الوشيك وتهديد خفي بالعدم يجتاحه، وربما يمكن هنا استعارة صوت هيدغر الذي اعتبر القلق هو «استشعار العدم»، وفي تيه القلق نحاول غالباً أن نكسر الصمت المطبق ببعض الكلمات التي ننطق بها بشكل عشوائي، وهو دليل على حضور العدم؛ فالقلق يكسر العدم.

تسليع المشاعر

تبدو الخبرة الانفعالية إذًا أكثر التجارب التي تظهر لنا هشاشة انفتاح الإنسان على العالم، ويشير الكاتب إلى أنه يظل هناك دائماً قدر من عدم الاتساق بين موضوعية الموقف والشحنة العاطفية التي تصاحبها، أو ما يصفه بـ«الشلل» الذي نشعر به دائماً بما لا يتناسب مع المناسبة التي سببته.

ويتوقف الكاتب عند تسخير «الانفعالات» في العصر الحديث بغرض التسليع، حيث تصبح «تسليع المشاعر» سلعة لترويج سلع أخرى، لا على أساس ما تثيره من انفعالات وليس على أسس عقلانية، بما في ذلك استغلال الساسة للعواطف في الخطابات الشعبوية، علاوة على مخاطر «تبدد الواقع» والعزلة التي يخلقها التواصل الاجتماعي الافتراضي، مُفصِلاً في الجزء الأخير من الكتاب تحديات ما يصفه بـ«النمو الانفعالي» للجيل الجديد، الذي يفتقر للتجاوب العاطفي، والذي يسمح لهم بالشعور اللحظي وقبل التفكير العقلاني، فهو يرى أن شبكة الإنترنت تسببت في «تراجع القدرات العقلية، واختزال عالم الانفعالات والمشاعر الذي لا يمكن التحقق عبر قنواتها»، ويتتبع الكاتب مسارات التعبير الإنساني بدايةً من مراحل ما قبل التاريخ حيث التعبير عن المشاعر بالنحت والرسم على الحجارة، وصولاً للتخلي عن تلك الرموز المرئية مع اختراع الكتابة، وصولاً لأجيال الديجيتال، حيث لم تصل إليهم المعارف من خلال «الكتاب» ولكن من خلال «المشاهدة»، ويؤكد الكاتب في النهاية أنه لا يُدين الإنترنت الذي فتح آفاقاً من الفُرص، ولكن في الوقت نفسه لا يعفيه من دوره في إبعادنا عن الانفعالات واستبدالها بأخرى زائفة تشبه الأوهام والهلاوس: «من يهجر الواقع ويذهب إلى عالم افتراضي، والأكثر من ذلك أن هذا يحدث دون دراية من جانبنا ودون عِلمنا».

تبدو الانفعالات كما يصفها المؤلف طريقة لفهم العالم والتعامل معه، ووسيلة للاستمرار في الوجود، ويدعو لإدراكها ليس بوصفه خللاً فسيولوجياً، ولكن بوصفها «سلوكاً منظماً» يسمح للهروب مما لا يمكن أن يتحمله الإنسان؛ الدموع والعواطف الجياشة التي تجتاح شخصاً عندما يذكّره حديث بحب كبير ضائع لا يمكن استرجاعه، وهي مشاعر يصفها أومبرتو جاليمبرتي بأنها ليست «فوضى تعبيرية، ولكنها سلوك مناسب لوجود غير قادر على مواجهة ما حدث، ولا يستطيع التسليم بالفقد».

يُفصّل المؤلف غاية الانفعال هنا بوصه سلوكاً تعويضياً له القدرة على إثارة حضور آخر قادر على تخفيف المعاناة الناتجة عن وحدة لا يمكن درؤها عند التعبير عن هذه العواطف، لتكون تلك الدموع حلاً مفاجئاً ومباغتاً للصراع.

ويتوقف الكتاب عند محطة الانفعال الجمالي، بوصفها تلك الانفعالات التي تقودنا خارج الواقع وخارج عالمنا، كتلك التي تنتابنا ونحن مشدوهون بالموسيقى، والشِعر والفنون، حيث يستدعي القريب البعيد، لنبلغ نقطة أسمى، أو ما وراء الأشياء، يستدعي الكاتب هنا «هوميروس» الذي كان يستدعي وهو أعمى، ربّات الشعر ليحكين له ما حدث في طروادة، فالانفعال بالفنون يقودنا خارج سطوة العقلانية، ما دعا هايدغر لأن يقول إن الفنانين أكثر عرضة للجنون.

***

القاهرة: منى أبو النصر

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية يوم: 12 مايو 2025 م ـ 15 ذو القِعدة 1446 هـ

 

في معرض أبوظبي الدولي للكتاب، الذي التأم مؤخراً، حضرتُ عدداً من الندوات الفكرية المهمة التي استعرضت التجربةَ الإماراتية الناجحة في الحوار الثقافي والانفتاح الفكري والتسامح الكوني. لقد كانت حصيلة هذه التجربة مجموعة من الوثائق المرجعية المهمة التي أصبحت لها أصداء عالمية نوعية.

ولسنا هنا بصدد التعرض لهذه الوثائق المهمة، من إعلان المواطنة الشاملة، وحلف الفضول الجديد، ووثيقة الأخوَّة الإنسانية، ولكن وجدنا من الضروري الوقوفَ عند خلفياتها النظرية والمنهجية المتميزة.

وبالرجوع إلى المصطلحات الفلسفية الأساسية التي بلورها جون رولز في نظريته الشهيرة حول العدالة، نرى أن المقاربة المذكورة هنا قد استندت إلى ثنائية التعددية المعقولة والإجماع التركيبي.

وتختلف التعددية المعقولة عن فكرة الحقيقة العقلانية المغلقة التي وضعتها الابستمولوجيات التجريبية الأولى في تصورها للقانون الطبيعي من حيث هو التعبير الموضوعي عن العلاقات الواقعية الثابتة بين الظواهر، كما تختلف عن الأطروحات التاريخانية الغائية التي تحدد اتجاهاً واحداً لحركية العقل والمعنى بما نلمسه في أفكار التنوير الأوربي الكلاسيكي والمقاييس الهيغلية الماركسية اللاحقة. ما تعنيه مقولة التعددية المعقولة، هو أن العقلانية ليست محصورة في نسق معرفي بعينه ولا منظومة علمية معينة، وإلا غدا الحوار ممتنعاً والنقاش مستحيلاً. ومن هنا أمكن لمختلف الثقافات والأنساق العقدية أن تساهم في جدلية الحوار المفتوح حول القيم الإنسانية والمعايير الكونية من منطلقاتها المرجعية الذاتية، شرط اعتماد اللغة البرهانية والتفكير العقلاني الرصين.

 أما الإجماع التركيبي فهو البديل عن نمطين آخرين من التوافق الجماعي، أحدهما يصدر عن ما سماه كانط «سلطة المؤسسة الحاكمة» (المعرفية أو السياسية أو العقدية)، وثانيهما يصدر عن الوثوقية الفكرية التي كثيراً ما تتغطى بواجهة علمية زائفة. والإجماع التركيبي لا يفترض سقفاً مسبقاً للحقيقة، ولا يبطل أو يفند الآراء المخالفة باعتبارها خالية من المعنى، وإنما يبحث عن قواسم مشتركة وحدوداً دنيا توافقية.

 هذا المنهج يختلف عن أفكار الخصوصية الحضارية والأصالة الذاتية، باعتباره يراعي مقتضيات الكونية الإنسانية التي لا محيدَ عنها في إدارة وتدبير أوضاع البشرية الحالية.

ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن الخطاب العربي المعاصر هيمنت عليه في العقود الماضية ثلاث مواقف نظرية جذابة، لكنها خطيرة ومضللة:

الموقف الأول هو «حق الاختلاف الثقافي» الذي كرسته الأدبيات المعيارية العالمية، وبصفة خاصة اتفاقيات اليونسكو. الخلفية التي صدر عنها هذا الموقف هي الخلفية الحقوقية الشاملة التي تصون تميز الشخصية الحضارية للأفراد من حيث هي محدد هويتهم وإطار التعبير عن ذاتيتهم. بيد أن هذا الحق لا يمكن أن يصطدم بمدونة حقوق الإنسان الكبرى، ولذا يختزل عادة في الاعتبارات اللغوية والطقوس الدينية والعادات السلوكية.

الموقف الثاني هو ما نلمسه في أدبيات ما بعد الكولونيالية التي بدأت في الفكر العربي بصفة مبكرة، من خلال أعمال مالك بن نبي الذي ربما يكون قد تأثر بكتابات فرانز فانون الذي هو مؤسس هذا الاتجاه قبل أن يكتمل في كتاب أدوارد سعيد الشهير «الاستشراق». وفي الآونة الأخيرة، تزايد الاهتمام بالنقد ما بعد الكولونيالي ووصل إلى حد المطالبة بالقطيعة الحاسمة مع التراث الفلسفي والاجتماعي الغربي بصفته مظهراً للهيمنة والتسلط والإقصاء.

 الموقف الثالث هو ما تبلور في سياق نقد المركزية الثقافية الغربية والتحيز المعرفي في المعارف الاجتماعية، وهو ما ظهر بقوة في أعمال عبد الوهاب المسيري وتلاه آخرون كثُرٌ رفضوا السمةَ الموضوعية الإجرائية في براديغمات ونماذج العلوم الإنسانية.

إن هذه التوجهات النظرية تقطع الطريق أمام مسؤولية بناء جسور اتصال وحوار غني مع الثقافات الأخرى، مع التنويه إلى أن هذا الحوار لا معنى له إذا كان مجرد استنساخ لتجارب ومنطلقات الآخرين. لقد كان الفيلسوف الفرنسي الراحل بول ريكور يقول إن مَن لا يمتلك حضناً خاصاً به وأرضيةً ينتمي إليها، لا يمكن أن يتحاور مع الآخرين أو يستقبلهم في مأواه الذاتي. كما كان يقول إن نموذج الحوار الثقافي المطلوب هو الترجمة التي تسمح بنقل المعاني والأفكار رغم اختلاف اللغات والألسن.

ما تؤكده نظرية التعددية المعقولة والإجماع التركيبي هو أن الحوار المفضي إلى توافقات كونية ملزمة ممكن ومتاح، مع الإبقاء على التنوع والاختلاف والتباين، فلا نقاش إلا مع المغايرة والتعارض. أما الاحتماء بالخصوصية والذاتية فهو مسلك إلى الجمود والتقوقع؛ يمنح أمناً زائفاً وطمأنينةً خادعةً، فضلاً عن كونه خياراً انتحارياً في عالم مفتوح لا حدود له ولا فواصل فيه.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 11 مايو 2025 23:45

 

برتراند راسل في سيرته الذاتية المكتملة

يشيعُ في الأوساط المهتمّة بتاريخ الفلسفة أنّ لودفيغ فيتغنشتاين Ludwig Wittgenstein هو الشخصية الفلسفية الأهمّ في القرن العشرين رغم قلّة مؤلّفاته. يسوّغون الأمر لا بكثرة تصانيف الفيلسوف بل بثوريتها، ويرون أنّ كتابَيْ فيتغنشتاين (رسالة منطقية - فلسفية) و(أبحاث فلسفية) هما المثابتان الشاخصتان في فلسفة القرن العشرين. ربما تكون شخصية فيتغنشتاين الإشكالية وما انطوت عليه حياتُهُ من أنماط سلوكية غير سائدة أو متعارف عليها هما ما ساهما في إعلاء شأنه الفلسفي. لا أظنُّ أنّ معظم الفلاسفة مهما بلغت خواصهم الرواقية من مرتبة عليا سيرتضون أن يتخلّوا طواعيّة عن ميراثهم المالي الضخم من إمبراطورية آبائهم، ثمَ يكتفون بالعمل معلّمين في مدرسة ابتدائية على تخوم جبال الألب النمساوية، أو العمل بوّابين في عمارة كما فعل فتغنشتاين.

لو شئتُ الإدلاء بصوتي في تصويت حرّ لصالح مَنْ هي الشخصية الفلسفية الأكثر تأثيراً في القرن العشرين فسأختارُ برتراند راسل Bertrand Russell من غير مُنازع. ليس الأمرُ محض ذائقة شخصية أو انجذاباً فردانياً لسلوك محدّد بقدر ما هو نتيجة منطقية لخصائص انطوت عليها حياة رسل وشخصيته وآراؤه الفلسفية. عاش راسل ما يقاربُ قرناً كاملاً (1872 - 1970)، وتلك مساحة زمنية حفلت بضروب الثورات العلمية والتقنية والفلسفية والاجتماعية، ومن الواضح أنّ مَنْ يعيش طويلاً يرى كثيراً، ولن يكون بالتأكيد كمن عاش قليلاً. تخيّلوا معي بدايات راسل حيث كانت وسيلة النقل السائدة في المشهد اليومي هي حصانٌ يجرّ عربة متثاقلة، ثم مع نهايات حياة راسل وقبل وفاته بسنة يشهد بعينيه كيف وطأت قدم الإنسان تربة القمر لأوّل مرّة. من جانب آخر عمل راسل على أنسنة الاشتغال الفلسفي عبر الانغماس في حياة حسية كاملة جعلته أبعد ما يكون عن الشخوص الفلسفية المتعالية التي تلامس مثال الآلهة الإغريقية. تزوّج راسل غير مرّة، وساهم في التظاهرات التي دفع أثمانها سجناً وإبعاداً من وظيفته الجامعية، كما لم يكتفِ بوظيفة الأستاذ الجامعي المختال في أروقة جامعة كامبريدج الأرستقراطية بل (دسّ أنفه) في كلّ المعضلات العالمية: من الحروب العالمية والأسلحة النووية ومعضلة المجاعة وشبح الشيوعية والنظم السياسية الشمولية. خصيصة أخرى تميّز راسل: لم يكتفِ بالكتابة عن المعضلات الفلسفية التقليدية الممتدّة والمتوارثة منذ العصر الإغريقي حيث صُنِعت الفلسفة؛ بل تناول قضايا كثيرة ومتعدّدة حتى ليصعب على المرء أن يذكر مبحثاً أو اشتغالاً إنسانياً لم يتناوله راسل في كتاباته. أظنّ أنّ هذه الأسباب الثلاثة تكفي للتصويت على أحقّيته في أن يكون الشخصية الفلسفية الأكثر أهمية في القرن العشرين.

لقائي الفكري الأوّل مع برتراند راسل حصل عندما قرأتُ قبل عقود كتاب (صُوَرٌ من الذاكرة ومقالات أخرى Portraits from Memory and Other Essays) الذي نشره الفيلسوف الراحل في بواكير خمسينات القرن الماضي ليكون واحداً من سلسلة كتب تتناول سيرته الذاتية، وبلغت هذه السلسلة خاتمتها بنشر السيرة الذاتية للفيلسوف في كتب ثلاثة (نُشِرت لاحقاً في كتاب واحد عام 1975) تتناول حياته موزّعة على أطوار زمنية ثلاثة. ربما من المفيد أن أذكّر بأنّ القسم الأوّل من هذه السيرة الذاتية قد تُرجِم إلى العربية، وظلّ القسمان الآخران غير مترجمين لوقت طويل رغم أنّ معظم مؤلفات راسل الأخرى قد تُرجِمت إلى العربية.

كتابُ «صورٌ من الذاكرة» واحدٌ من أكثر الكتب التي قرأتها إمتاعاً، وهو ليس كتاباً فلسفياً بالمعنى الدقيق بقدر ما هو مقاربة لهوامش حياتية تمثل التقاطاتٍ ذكية لعقل فلسفي متمرّس في توصيف علاقته بالأفكار والناس والبيئة التي يتفاعل معها، وما شدّني أكثر من سواه لهذا الكتاب ذلك الفصلُ الذي يحكي فيه راسل عن بواكير علاقته بالفيلسوف ألفرد نورث وايتهد Alfred North Whitehead الذي صار أستاذاً لراسل في جامعة كامبريدج ومن ثمّ صار زميله وشاركه كتابة العمل الأشهر (أصول الرياضيات Principia Mathematica) الذي صدر في ثلاثة أجزاء خلال السنوات 1910 - 1913. يروي راسل في هذا الفصل أنه كان في طفولته مهجوساً بإثبات كروية الأرض، ولطالما سعى للحصول على شاهدة تجريبية تؤكّد هذه الحقيقة؛ لذا راح يحفر الأرض على أمل الخروج من الطرف الثاني المقابل لها، ولمّا أخبر والدا راسل طفلهما الصغير أنّ عمله هذا غير ذي جدوى لم يقتنع وظلّ يواظب على مسعاه؛ فلم يكن بوسع والديه سوى الاستعانة بقسّيس البلدة لكي يهدّئ من روعه، ولم يكن هذا القسّيس سوى والد ألفرد نورث وايتهد. يعلّمنا راسل من هذه الأمثولة الخطأ الفادح الذي يقترفه الأهل عندما يعملون على كبح جذوة التفكّر المفارق للأنماط الفكرية السائدة، فضلاً عن تعويق الدهشة الفلسفية التي تدفع الأطفال لمقاربة ذلك النمط من الأسئلة الوجودية الموصوفة بِـ(الأسئلة الكبرى The Big Questions) التي تتناول موضوعات الكون والوعي ومعنى الحياة وغائيتها.

تتناثر نتفٌ من سيرة راسل في كتاباته العامّة؛ غير أنّ القارئ المتفحّص سيكتشف بعد طول مراسٍ في قراءة رسل أنّ سيرته الذاتية يمكن مقاربتها في مؤلفاته الثلاثة: صورٌ من الذاكرة، تطوّري الفلسفي My Philosophical Development، تطوّري العقلي My Mental Development. المشترك الأوّل بينها هو شهادة راسل لطبيعة علاقته في أطوار مختلفة من حياته بعدد من الشخصيات الثقافية اللامعة في الساحة البريطانية؛ أمّا المؤلّفان الآخران فهما أقرب إلى اللغة الفلسفية الصارمة. لن تكون هذه المؤلفات الثلاثة بديلاً بأيّ شكل من الأشكال لسيرة راسل الذاتية التي ارتضى لها أن تحمل توصيفاً صريحاً متمثّلاً في عنوان (سيرتي الذاتية)؛ لذا سيكون من قبيل البديهة العامة أن تحرص الأوساط الثقافية العربية على ترجمة هذه السيرة الذاتية جنباً إلى جنب مع ترجمة كتبه الأخرى التي تُرجِمت ترجمات عديدة وبطبعات كثيرة. الغريب أنّ الجزء الأوّل فقط من سيرة راسل (وهو الجزء الممتد من ولادته عام 1872 حتى انفجار الحرب العالمية الأولى عام 1914) تُرجِم منذ سبعينات القرن الماضي بترجمة تكفّل بها أربعةٌ من أساتذة جامعة القاهرة. لا أعرف السبب الذي جعل أربعة من أساتذة الفلسفة يتشاركون جهد ترجمة عمل سِيريّ ذاتي غير متطلّب لجهد استثنائي ولا يتجاوز بالكاد حاجز الأربعمائة صفحة. أظنّ أنّ الترجمة جهدٌ لا يتناغم مع التشارك ويميلُ بطبيعته الإبداعية إلى الفردانية، وربما كان تعدّد المترجمين سبباً في عدم رواج الجزء الأوّل من سيرة راسل الذاتية. كان الأمر مثلبة بوجهيْن: الاكتفاء بترجمة عربية غير مشجّعة للجزء الأوّل من السيرة، ثمّ غضّ النظر عن ترجمة الجزأين الآخرين منها. ربّما تقدّمُ جهات النشر تسويغاً بثقل المادة الفلسفية في السيرة الذاتية وعدم تناغمها مع أذواق القارئين وتطلعاتهم القرائية، وهنا أقول: سيرة راسل الذاتية أقلّ في صرامتها الفلسفية بكثير من مؤلفات مترجمة لراسل لقيت قراءات موسّعة، ثمّ إنّ الخصيصة النخبوية في مؤلفات راسل معروفة ومشخّصة منذ زمن بعيد، ولن ينغمس أيّ قارئ في قراءة راسل إلّا وهو يعرف مسبقاً طبيعة التضاريس المعرفية التي ستواجهه. نخبويته ليست متقاطعة مع حجم قراءته أبداً مثلما أثبتت مؤلفاته الكثيرة.

جهدٌ طيّبٌ يستحقّ كلّ التقدير ذاك الذي نهضت به دار (الرافدين) العراقية عندما نشرت مؤخّراً ترجمة عربية كاملة لسيرة راسل الذاتية في أجزاء ثلاثة، تناول كلّ جزء منها مقطعاً زمنياً ممتداً لبضعة عقود من حياته. أهمّ ما يمكن قولُهُ عن هذه السيرة أنّ من الخطأ أن يستبق القارئ الحقيقة فيظنّ أنّ السيرة هي محض سيرة فكرية أو فلسفية خالصة. الأصحّ وصفُها بأنّها سيرة حياتية مطعّمة بنكهة فلسفية أو فكرية لا يمكن التنصّل من مؤثراتها بعيدة الغور في تشكيل صورة حياة أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين.

تناول راسل في الجزء الأوّل موضوعات طفولته وشبابه ودخوله جامعة كامبريدج وخطوبته وزواجه الأوّل وكتابته المؤلف الأشهر (مبادئ الرياضيات) ثم عودته لجامعة كامبريدج ثانية. في الجزء الثاني من السيرة (الممتد بين سنوات 1914- 1944) تناول راسل الحرب العالمية الأولى وتجربته مع روسيا والصين وزواجه الثاني ثم إقامته في أميركا، في حين تناول في الجزء الثالث (الممتد بين سنوات 1944-1967) عودته إلى بريطانيا وانشغالاته السياسية والثقافية (من قبيل تأسيسه مدرسة خاصة عمل مديراً لها). من المفيد الإشارةُ هنا إلى أنّ راسل حاز جائزة نوبل في الأدب عام 1950؛ لذا فإنّ كل قراءة له تعني قراءة نصّ أدبي رفيع فضلاً عن قيمته الفلسفية الدسمة.

***

لطفية الدليمي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 7 مايو 2025 م ـ 10 ذو القِعدة 1446 هـ

مرّ زمنٌ طويل من التلاقي بين الدراسات الإسلاميّة والغربية بشكلٍ خاص. وما كانت تلك الدراسات اعتباطية، وإنما لها شررها السياسي، وهدفها الاجتماعي، أو جذوتها الدينية.

وآية ذلك أن الاستشراق الألماني كان متمايزاً عن الاستشراق الفرنسي على النحو الذي يشرحه الأستاذ الدكتور رضوان السيد في كتابه عن «الاستشراق الألماني». إن النقاش حول موت الاستشراق تصاعد الآن وبخاصةٍ مع التغيير في أسلوب العلوم والمناهج البحثية. والسياسات الجامعية الأوروبية المستجدّة هي أكبر مثال على ذلك.

ما عادت الهيمنة السياسية أو العسكرية هي أسّ الدرس، وإنما تطورت العقول نحو الدراسات في الإسلام بطرقٍ مغايرة. هذا التجدد يعني أننا أمام مجالاتٍ علمية وبحثية وأكاديمية غير التي كانت عليها من قبل.

قبل أيام صدر كتابٌ مهم عن مركز المسبار للدراسات والبحوث بعنوان: «الجامعات الأوروبية: المساقات - الفرص - الثغرات». الكتاب يتناول الإسلام في عدد من الجامعات الأوروبية والأميركية، فيركز على برامج تدريسه في جامعات ألمانيا والنمسا والدنمارك والسويد والنرويج وبلجيكا وبريطانيا وفرنسا والأميركتين.

وبحسب مقدمة رئيس تحرير المركز الأستاذ عمر البشير الترابي، فإن الكتاب يهدف إلى: «بناء قاعدة معرفية حول الدراسات الإسلامية المعاصرة وبناء مناهجها في الأكاديميات والمعاهد الأوروبية والأميركية، ويضيء على مسارات وبرامج تدريس الإسلام ومساقات التعايش والتفاهم والأديان المقارنة، والتحديات التي تواجهها، والنقاشات الدائرة حولها، وتأثير الدوافع والأهداف في خلق الاختلافات المنهجية والمخرجات التربوية المتباينة».

 يركز الكتاب المهم على أن فرضيات التأريخ لولادة الدراسات الإسلامية في المجالين الأوروبي والأميركي، استعجل أغلبها تعميم نظريات، مثل «موت الاستشراق»، الذي استمر لمدة قرنين وانقضى في السبعينيات من القرن العشرين، مما أدى إلى استقلال الدراسات الإسلامية، وهي نظريّة لا تفارق «نظريات التفسير السياسي» التي ربطتها بتفاقم ظاهرة العنف الديني، وإرهاب ما بعد ثورة الخميني 1979، والتحولات في السياسة الدولية بعد هجمات 2001 الإرهابية، مما ساهم في ولادة مسارات بناء خطاب الإسلام المحلي المتعايش مع قيم مجتمعه وحدوده الوطنية، والذي يؤهّل منهجه الأئمة الأوروبيين والأميركيين لحماية الأمن الروحي لمسلمي بلادهم. وكلها نظريّات وجيهة، ولكنّ تعميمها يحتاج إلى نظر، لذا اختار الكتاب دراسة كل سياق على حدة، متتبعاً مساراته، ومساقات جامعاته، وتحقيبه التاريخي، مع استحضار شهاداتٍ لأبرز الباحثين.

تعليقي: إن هذه الدراسات المتجاورة بين الإسلام والغرب حيويّة، إنها ليست استشراقاً كما ساد في القرون الماضية، ولا استغراباً على ثقافة الغرب كما هو عنوان الأستاذ حسن حنفي «مقدمة في علم الاستغراب». بل مع هذه الموجة من الدرس والتحليل يجب الخروج من هذه القوقعة وتنويع الدرس والاطلاع.

الخلاصة: ما نشهده من كثافة بحثية أوروبية تجاه الإسلام ومعارفه وعلومه وتاريخه مفيدة بل وضروريه.

هذا التلاقي بين الثقافة الغربية الصاعدة وبخاصةٍ في مجالات التاريخ، مع دراسات العلوم الدينية، والانثربولوجيا يمكنه أن يؤسس لنقاشٍ مختلف عن التضاد الذي ساد بين النخب الإسلامية والغربية في السابق. لكن هل انتهى الاستشراق؟! البعض يقول انتهى، ولكن الأكيد أنه بات من المهام الدراسية القديمة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

5 مايو 2025 23:45

في مقالة منشورة مؤخراً بمجلة «فورين آفيرز» الأميركية، كتبت جنيفر هاريس، الباحثة المرموقة في الشؤون الاقتصادية الدولية، عن ما سمته «المنعرج ما بعد النيوليبرالي» في التوجهات الرسمية للإدارة الأميركية الجديدة.

وحسب الباحثة، فما تشهده الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة هو القطيعة مع السياسات النيوليبرالية التي اعتمدها الرئيس الأسبق رونالد ريغان في إيمانه بفاعلية الأسواق ونجاعتها العملية الصادرة عن النظام الطبيعي للأشياء. لقد ساد في أيامنا انطباع قوي بأن العولمة الليبرالية قد أدت إلى تكريس البطالة والغبن وتقويض الهياكل الصناعية وأصبحت في مصلحة خصوم أميركا المنافسين.

لم تتغير كثيراً السياسات الحمائية والجمركية التي بدأها الرئيس ترامب في عهده الأول، طيلة حقبة خلفه «الديمقراطي» بايدن. وهكذا نرى أن النخب السياسية الأميركية تلتقي عموماً في نمط جديد من «الرأسمالية الديمقراطية» على أنقاض الأيديولوجيا النيوليبرالية التي عرفتها الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي.

 وبالنسبة لهذه النخب لا بد من تصحيح أخطاء الأسواق التي تعاني من عدة اختلالات خطيرة، من بينها تركز الثروة في يد فئة قليلة ضيقة وتكريس سلطة أقلية سياسية محترفة مقطوعة الصلة عن عامة الشعب.

لا فرق بين «الجمهوريين» و«الديمقراطيين» في هذه النزعة الوسطية الجديدة التي تغذيها دراسات عدد من علماء الاقتصاد البارزين. وهكذا ترى هاريس أن «الإجماع ما بعد النيوليبرالي» يقوم على فكرتين تتعلقان بمقتضيات التوازن والبناء. التوازن حاجة ضرورية للحد من ميل الأسواق إلى التفاوت وانعدام المساواة بحيث لم يعد لأغلب الناس قدرة على التحكم في الحياة الاقتصادية، بما ينتج عنه كبح الإبداع والنمو وتأجيج الكساد والأزمات الاجتماعية. أما البناء فيتجلى في ضرورة استخدام سلطة الدولة ومواردها من أجل تنشيط الحقول الاقتصادية الحيوية والاستثمار في التقنيات الجديدة ذات الأثر الاجتماعي الملموس على حياة الناس.

 وتخلص الباحثة إلى أن قرارات ترامب الأخيرة لا تخرج عن نطاق هذا الإجماع ما بعد النيوليبرالي الذي له انعكاسات واضحة في مجال السياسة الخارجية للدولة العظمى، تبرز في الضغوط القوية التي تفرضها الإدارة الجديدة على شركائها الدوليين من أجل الانسجام مع رؤيتها الاقتصادية التي هي محور فلسفتها الديبلوماسية والاستراتيجية.

وفي هذا السياق، تلاحظ هاريس أن الرئيس السابق بايدن اعتمد المنظور ما بعد النيوليبرالي، مع الحرص على حصره في المجال الاقتصادي المادي دون معالجة مقتضياته السياسية والمجتمعية. وهكذا غاب الجدل الفلسفي الفكري الهام حول مفهوم الحرية في المشروع الحداثي الأميركي الذي عرف منذ تشكله حواراً معقداً ومتجدداً بين المفهوم الليبرالي الفردي التقليدي للحرية والمنظور الاندماجي لهذه القيمة الكبرى التي تعني أيضاً الاستقلالية والمشاركة المدنية النشطة. وما نشهده حالياً مع الظاهرة الترامبية، في ما وراء جوانبها الاستعراضية المثيرة، هو انفجار هذا الجدل النظري الأيديولوجي المعلق.

ما نستخلصه من مقالة جنيفر هاريس هو أن المجتمع الأميركي يشهد راهناً نقلةً نوعية داخلية، تنهي في آن واحد تراث الكينزية التي برزت بعد الأزمة الاقتصادية العالمية الأولى وحروب النصف الأول من القرن العشرين، والسياسات النيوليبرالية التي انطلقت مع الرئيس الجمهوري الأسبق رونالد ريغان وأدت في مراحلها الأولى إلى مكاسب سياسية واقتصادية ملموسة.

وعلى الرغم من الصلات الجلية بين التقليد «الليبرتاري» الذي يركز على المعايير الفلسفية للحرية كقيمة إنسانية عليا مطلقة والتقليد «النيوليبرالي» في تصوره للسياسات الاقتصادية من منظور منطق السوق الذاتي والحد من تدخل الدولة، إلا أن الأمر يتعلق في الحقيقة بخلفيتين نظريتين متمايزتين، وإن صدرتا عن نفس الرؤية الليبرالية الكبرى التي تأسست عليها الثورة الأميركية الحديثة.

ما بعد النيوليبرالية هي من جهة تكريس لنهج الإصلاحات الاجتماعية لتصحيح اختلالات السوق، لكنها تختلف مع الكينزية في نزعتها القومية الانكفائية وفي تدخلها الانتقائي في الحقول التقنية والصناعية المؤهلة للدعم والحماية. كما أنها تلتقي مع النيوليبرالية في السياسات الضريبية والخصخصة الواسعة، لكنها تختلف عنها في الدور السياسي الضبطي والتوجيهي للسلطات العمومية.

ويمكن القول إن الإجماع ما بعد النيوليبرالي له صيغتان: شعبوية محافظة هي التي نلمسها اليوم مع الرئيس ترامب، ويسارية راديكالية تظهر بقوة لدى الجناح الهوياتي الحقوقي في الحزب الديمقراطي. وما تلتقي فيه النزعتان على اختلافهما هو الوعي بضرورة الحفاظ على الريادة الأميركية من خلال التحكم في عناصر القوة الاقتصادية والتقنية التي هي أدوات الديبلوماسية العالمية الجديدة.

***

 د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

4 مايو 2025 23:45

الفلسفة مغامرة العقل البشري في بناء الحقيقة، ومنذ أن ظهرت الفلسفة، وهي موضوع شكّ، وما يزال البعض اليوم يُشكّك فيها على أساس تغوّل العقل البشري. وتبدأ مشكلة الفلسفة في معارضتها للدّوكسا باعتبارها مجموعة المعتقدات التي تؤكد نفسها بقوة الدليل دون الحاجة إلى دعمها بالحجج، والدّوكسا بعيدة عن العلم، فهي أداة معرفية غير مشبعة، لكنها تعطي معرفة هي شرط لسعادة العمل في مجال ما، حسب بورديو.

إن الفلسفة هي إدراج العقل في العالم، فهي طريقة خاصة في التّفكير، وقد لا يكون لها أثر مباشر على الواقع، ولهذا السبب اعتبرت الفلسفة لا معنى لها عند بعض فقهائنا، حتى قال شاعرهم الفقيه: فاقذف بأفلاطون ورسطالس وذويهما تسلك طريقاً لاحبا ودع الفلاسفةَ الذّميمَ جميعَهم ومقالَهم تحت الأحق الواجبا يا طالب البرهان في أوضاعهم أعزز علي بأن تعمر خائباً.

إن الفلسفة وإن لم تكن ضرورة من ضرورات الحياة، بدليل أن أهل البادية لم يعرفوها، فإن الحياة الإنسانية لا تكمُل إلا بها، فالفلسفة بهذا المعنى هي ضرورية في الكمال الإنساني لارتباطها بالصّنائع والعلوم، وما يكون من جهة الأفضل والكمال هو أهم مما يكون من جهة الضرورة، فلكي يحافظ الإنسان على بقائه الدّنيوي يكفيه أن يستعمل قوّته الغاذية والمولدة، أكلا وتناسلا، لكن إذا رام البقاء الأزلي، فلا مندوحة له من استخدام قواه العقلية وتفعيل قيمه الإنسانية العليا، فبهذه تحصل له أولى مراتبه، ثم مع الاعتناء بالعلم والمعرفة والفنون يتدرّج الإنسان في مراتب الكمال الإنساني، ومن هنا أهمية الفلسفة عموماً.

فإن من حاجات النّاس إلى عمرانهم البشري، الصّنائع والعلوم، وإنّ واقع النّاس المرتبط بمعيشهم لا يفرز إلا مشكلات عملية، ومن هنا فهو بعيد عن الفلسفة مهتم بالأمور العملية. إنّ العلم، الّذي هو المحرّك الأول للتّقدّم الإنساني، لا يقوم إلا على النّظر، وللذّات الفلسفية دور أكبر في تشكيل الواقع وبنائه، والغريب أنّ هذا الدّرس الذي تعلّمناه من كانط أشار إليه الجاحظ بعبارات قوية ورائقة، يقول الجاحظ: «ولولا ما أبدعت لنا الأوائل من كتبها، وخلّدت من عجيب حكمتها، ودوّنت من أنواع سيرها، حتى شاهدنا بهم ما غاب عنا، وفتحنا بهم كل مستغلق علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد خسئ حظنا من الحكمة، ولضعف سببنا إلى المعرفة»، مشيراً إلى ما يستفيده العقل الدّارس للفلسفة من قدرة على الاكتشاف والإبداع المعرفي وحلّ المشكلات التي يعجز عن حلها عقل غير متمرس بالفلسفة.

والنّاظر في تاريخ الثّقافة الإسلامية يجد أن العلماء الذين شفُّوا على أقرانهم، وكانت لهم إبداعات جليلة، أكثرُهم تمرَّس بالفلسفة درساً وفهماً، وهناك أمثلة كثيرة في هذا المجال. وتظهر قيمة الفلسفة، بشكل جلي، في عصر الذّكاء الاصطناعي الذي يشكل تحدّياً كبيراً للعقل البشري، وبالفلسفة يستطيع هذا العقل أن يحافظ على ذاته من الانهيار والسّقوط. إنّ أعظم ما في الإنسان فكرُه، والفلسفة ضرورية لكمال الفرد، إذ كلما كانت الذّات قادرة على التّفكير بنفسها تفكيراً عقلانياً ونقدياً، كلما كانت ذاتاً حُرّة ومسؤولة، تتمتّع بالفاعلية والرّشد، وتساهم في تنوير مجتمعاتها.

إنّ الفلسفة باعتبارها نظر في الإشكالات، بما تحويه من غموض وصعوبات وإحراجات ومفارقات، كفيلة بأن تحفظ للعقل وجوده أولاً، ثم كماله المعرفي ثانياً، وأن تحفظ للإنسان إنسانيته الأصيلة ثالثاً. فمجال الفلسفة هو مجال الاكتشاف واليقظة الفكرية الدائمة، ومن هنا أهمية الاعتناء بالمناهج الفلسفية التي تمخّض عنها تاريخ الفكر النظري.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 1 مايو 2025 23:36

من الطبيعي أن يتخاطر العلم مع الفلسفة، وهذا مشهود عبر التاريخ. والفلاسفة مثل أشباح الليل في الأساطير سرعان مايعودون فجأةً بمعاولهم ومفاهيمهم ولو بعد مئات من السنين. وأكبر أمثلة العود الفلسفي بعث الفيلسوف هيراقليطس على يد نيتشه في القرن العشرين، مع أن هيراقليطس من فلاسفة القرن الخامس قبل الميلاد. ميّزة العلم أن عالم منفتح على المجالات الأخرى، على سبيل المثال استفاد الفيزيائيون من نظرياتٍ موسيقية، ونظرية «الأوتار الفائقة» أكبر مثال على ذلك. لنقرأ ماكتبه أينشتاين عن تأثره العلمي المفهومي المستلهم من الأفكار الموسيقية.

في هذه الأيام يعتبر موضوع الذكاء الاصطناعي أساسياً في مجالات العلم والفلسفة والقانون والسياسية والنظريات الأخلاقية، بيد أن الذي لفتني عدا عن النظريات الحديثة حول هذا الفتح العلمي تلك الدراسات غير التقليدية عن مفهوم الذكاء الاصطناعي بحيث تتجاوز الطرح النظري المحدّث يومياً في المجلات والدراسات والندوات وعالم الأكاديميا.

إن دراسة مثل التي كتبتْها الباحثة فاطمة فرهود بعنوان:«ما الذي يمكن للفيلسوف ابن سينا أن يعلمنا عن الذكاء الاصطناعي» أعتبرها مغامرة ممتعة.

في هذه الدراسة ركّزت على نقاطٍ أختصر منها الآتي: *«في عام 2022، طور بليك ليمون المهندس في جوجل علاقة جيدة بمحاورة رائعة، فقد كانت ذكية، ثاقبة البصيرة وفضولية، وكانت حواراتهما تجري بانسيابية تامة حول مواضيع تتنقل بين الفلسفة والتلفزيون وأحلام المستقبل.

ولكن كانت هناك مشكلة واحدة: وهي أن تلك المحاورة عبارة عن روبوت ذكي للدردشة».

*«السؤال الذي يطرح نفسه: هل نعرف حقاً شخصاً عندما نتحدث معه؟ تشير كلمة «شخصية» عادة إلى الوضع الأخلاقي، ففي معظم الأطر الأخلاقية، تظهر اعتبارات معينة».

*«عاش ابن سينا قبل اختراع المطبعة، فضلاً على الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، كان مهتماً بالكثير من الأسئلة نفسها الذي يفكر بها أخصائيو أخلاقيات الذكاء الاصطناعي اليوم، أسئلة مثل: ما الذي يجعل الشخص شخصاً، على خلاف الحيوان؟!».

*«كان ابن سينا معنياً أيضاً بمقارنة العمليات الداخلية التي قد يخضع لها البشر والحيوانات للوصول إلى نواتج سلوكية متماثلة. وكان عدّ أن القدرة المميزة للإنسان كشخص هي قدرته على إدراك «الكليات»، فبينما لا تمتلك الحيوانات سوى القدرة على التفكير في الأشياء الجزئية».

*«إن التمييز الذي قام به ابن سينا بين علم النفس البشرى والحيواني يشبه إلى حد بعيد التمييز الذي يبحثه علماء الكمبيوتر المعاصرون فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي».

الخلاصة، أن المفاهيم الفنيّة والفلسفية والعلمية آخذ بعضها برقاب بعض، فهي تتداخل على المستويين المنهجي والتحليلي، وعليه فإن هذه النقاط التي وردت في الدراسة حول ابن سينا والذكاء الاصطناعي أعتبرها متقدّمة في التحليل وتستحق النقاش، فالعلم نهرٌ، والمجالات هي الجداول والسقيا النهائية من مصلحة البشر.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 28 ابريل 2025 23:45

كان يرى أن العالم الإسلامي سائر على طريق التقدم والاستنارة

لماذا ننعته بـ«الطيب»؟ لأنه جعل من الانفتاح على الإسلام والمسلمين أحد المحاور الأساسية لعهدته البابوية. وقد لقيتْ مبادراته أصداء واسعة في كلا العالمَين العربي والإسلامي. وربما كانت أجمل صورة سيحتفظ بها التاريخ عنه هي عندما رأيناه يوقِّع في أبوظبي على وثيقة «الأخوة الإنسانية» مع شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، بتاريخ 4 فبراير (شباط) عام 2019. عندئذٍ تَعانق الإسلام والمسيحية لأول مرة على الأرض العربية من خلال هاتين الشخصيَّتين الدينيَّتين الكبيرتين. وهي الوثيقة التي تدعو إلى السلام العالمي والعيش المشترك بين الأمم. إنها تدعو إلى الحوار والتعاون والتفاهم بين مختلف الأديان والأقوام والشعوب. وهذا يمثل تطبيقاً حرفياً أو شبه حرفي للآية الكريمة التي تقول: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا...» (الحجرات الآية 13).

ولكن المصيبة هي أن التيار الآخر المتشدد الذي يجتاح العالمَين العربي والإسلامي حالياً يرفض هذا الانفتاح والحوار والتعايش. إنه يراهن على الانغلاق والتعصب وإثارة النعرات الدينية والمذهبية وتهييجها إلى أقصى حدٍّ ممكن. فأي التيارين سوف ينتصر يا ترى؟ هل التيار الظلامي هو الذي سينتصر أم التيار الأنواري؟ هل المسلمون الحقيقيون هم الذين سينتصرون أم المتأسلمون المتاجرون بالدين كما يقول ممدوح المهيني في مقالة رائعة هنا في «الشرق الأوسط»؟ بناء على انتصار هذا التيار أو ذاك سوف يُحسم مصير العرب والمسلمين ككل. ليس لدينا أدنى شك في أن تيار الانفتاح والتقدم هو الذي سوف ينتصر في نهاية المطاف؛ لأنه يتماشى مع حركة التاريخ؛ ولأن العرب صناع حضارات كما برهنوا على ذلك في الماضي إبان العصور الذهبية. وليس لدينا أدنى شك في أن تيار التعصب والانغلاق سوف ينهزم؛ لأنه مضاد لحركة التاريخ. ولكن متى سيتحقق ذلك؟ المعركة لن تكون سهلة ميسورة، وإنما صعبة وضارية. هذا أقل ما يمكن أن يقال. قوى الماضي التي تشد إلى الخلف لا تزال حتى الآن أقوى من قوى المستقبل التي تشد إلى الأمام. القوى الظلامية الشعبوية الراسخة طيلة عصور الانحطاط لا تزال أقوى من القوى النهضوية التنويرية التي تبزغ أنوارها حالياً في شتى ربوع العالم العربي.

لتوضيح هذه النقطة أكثر، دعونا نَعُدْ إلى البابا ذاته وإلى تاريخ الأديان المقارنة. فعن طريق المقارنة تتوضح الأشياء. و«من لا يقارن لا يعرف» كما يقول المثل الصيني. لقد عبَّر البابا يوماً ما عن خطورة الحزازات المذهبية داخل المسيحية، عندما قال ما فحواه: «عندما كنت طفلاً صغيراً في بلادي، الأرجنتين، كانوا يقولون لنا إن البروتستانتيين جميعاً كفرة، سوف يذهبون إلى الجحيم. جميعهم عن بكرة أبيهم». كان ذلك في أربعينات القرن الماضي عندما كان البابا في التاسعة أو العاشرة من عمره. عندما يقول البابا هذا الكلام بعد أن كبر وبلغ من العلم والنضج مبلغه فإنه يكاد ينفجر بالضحك. ثم يضيف: كنا نعتقد اعتقاداً جازماً بأنه لا يمكن أن يدخل الجنة إلا الكاثوليك؛ لأنهم الفرقة الناجية الوحيدة في المسيحية.

وقد استطاعوا فرض هذه الفكرة لأنهم الأقوى والأكثر عدداً. نقول ذلك على الرغم من أن البروتستانتيين هم جماعة الإصلاح الديني. وبالتالي فهم الأكثر عقلانية وتطوراً في فهم الدين المسيحي، وهم الأكثر تحرراً من قوالب العصور الوسطى البالية والعقائد الدوغمائية المتحجرة. ولكنهم كانوا مغلوبين على أمرهم لأنهم أقلية، والحق دائماً مع الأكثرية. والأكثرية كانت تعدّهم زنادقة وكفاراً، بل ومرتدين عن الدين. ولذلك كانت تذبحهم وتُعمل المجازر فيهم على أساس طائفي محض. ولهذا السبب فروا من فرنسا بمئات الألوف هائمين على وجوههم. أما الآن فقد انتهت الحزازات المذهبية في أوروبا المستنيرة المتحضرة، وأصبحت من مخلفات التاريخ. ولم يعد الكاثوليكيون يكفِّرون البروتستانتيين أو يحرمونهم من نعمة الله ودخول الجنة. فلماذا لا يتحقق ذلك يوماً ما بين المسلمين عندما يستنيرون ويتحضِّرون؟ لا شيء مستحيلاً في التاريخ. حركة التقدم والتطور سوف تفعل فعلها يوماً ما بعد أن يتثقف الشعب ويتعلم. ثم يضيف هذا البابا الطيب قائلاً: «نحن جميعاً ننتمي إلى الجنس البشري. نحن جميعاً من مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين إلى آخره من مخلوقات الله، أو من عيال الله، كما يقول المفكر التونسي محمد الطالبي». فلماذا لا نؤمن بالوحدة من خلال التنوع والتعدد؟ لماذا لا نعدّ أنفسنا جميعاً إخوة في البشرية والإنسانية والآدمية؟ وهذا هو مضمون الوثيقة التاريخية الموقَّعة في أبوظبي. الناس الطيبون الأخيار موجودون في كل الأديان والمذاهب. ولكن المشكلة هي أن الأصوليين الانغلاقيين يرفضون ذلك رفضاً قاطعاً. إنهم لا يقيمون وزناً لأي شخص إن لم يكن ينتمي إلى طائفتهم أو مذهبهم، أو حتى تنظيمهم الحزبي ومرشدهم الأعلى. نقول ذلك على الرغم من أن القرآن الكريم يقرُّ صراحةً بالتنوع والتعددية. ألم يقل: «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة»؟ ولكنه لم يشأ. هل الله عاجز عن جعل الناس كلهم على دين واحد؟ مستحيل. معاذ الله. الله قادر على كل شيء. ولكنه شاء التنوع والتعددية لحكمة تعلو على عقولنا وأفهامنا. وهذا يعني أن الفرقة الناجية كما يفهمها البابا هي تلك الفرقة التي تجمع كل الناس الطيبين الفاعلين للخير أياً كانت أديانهم ومذاهبهم. نقطة على السطر.

ثم يذكِّرنا البابا فرنسيس بهذه الحكمة الجوهرية: ينبغي أن نتحاشى المغالطات التاريخية. بمعنى لا ينبغي أن نسقط مفاهيم الحاضر على الماضي. بمعنى آخر لا ينبغي أن نحاكم أناس الماضي المساكين المحدودين عقلياً على ضوء مقاييس الزمن الحاضر. في الماضي كنا متعصبين وطائفيين لأن عقلية ذلك الزمان ما كانت تستطيع أن تتصور وجود دين آخر صحيح غير الدين المسيحي، أو وجود مذهب واحد صحيح غير المذهب الكاثوليكي البابوي. لم يكن يخطر على بالهم إطلاقاً إمكانية التعايش مع الآخر المختلف ديناً ومذهباً. كيف يمكن أن تتعايش مع كافر؟ أعوذ بالله، معاذ الله. ولكن أوروبا تطورت وتقدمت وتجاوزت كل هذه الانغلاقات المذهبية والطائفية. لقد خلفتها وراء ظهرها بسنوات ضوئية. ثم يردف البابا قائلاً: «إن العالم الإسلامي، الذي لا يزال غاطساً جزئياً في ظلمات العصور الوسطى، سائر على طريق التقدم والاستنارة لا محالة. ولكن ينبغي أن نكون صبورين معه. فهذه الطفرة المعرفية والإيمانية ليس من السهل تحقيقها بين عشية وضحاها». وهذا ما يقوله ريجيس دوبريه أيضاً وكل عقلاء الغرب. الأصولية المتطرفة لن تنتصر في نهاية المطاف في العالم العربي، ولكنَّ هزيمتها ليست بالأمر السهل، فالثورات العلمية والفلسفية والسياسية، بل وحتى الدينية، التي هضمتها الشعوب الأوروبية على مدار ثلاثة قرون، لا يمكن للشعوب العربية أن تهضمها على مدار ثلاثة عقود. يلزمنا وقت أطول. ثم إننا لا نهدف إلى استئصال الدين كما يزعم بعضهم، وإنما فقط إلى استئصال المفهوم الطائفي والظلامي والتكفيري للدين. فرق كبير.

(نحن جميعاً ننتمي إلى الجنس البشري).. البابا

ثم يرى البابا أنه لكي يتمكَّن العالم العربي من تجاوز الأصولية القروسطية المظلمة فإن عليه أن يقبل بتطبيق المناهج التاريخية والفلسفية الحديثة على نصوصه التراثية الكبرى مثلما فعلنا نحن مع الإنجيل والتوراة. فهذه هي الخطوة الأولى التي لا بد منها لتجاوز العقلية الانغلاقية والتفسيرات القديمة للدين. وهذا ما فعلناه نحن في أوروبا. ولولا ذلك لبقينا نذبح بعضنا بعضاً على أساس طائفي أو مذهبي حتى الآن. لا يمكن تجاوز الطائفية إلا عن طريق ثورة عقلية وفكرية حقيقية، خصوصاً فيما يتعلق بفهم الدين وتفسيره. هذا شيء مؤكد. وبالتالي فأمام المسلمين مهمة ضخمة ينبغي أن يحققوها في السنوات المقبلة. كان الله في عونهم.

هذا، وقد صرَّح البابا في أثناء زيارته التاريخية الناجحة جداً للعراق عام 2021 قائلاً: «شيئان متضادان لا يجتمعان بأي حال من الأحوال: الإيمان بالله من جهة، وارتكاب العنف والتفجيرات العشوائية من جهة أخرى. من يؤمن بالله لا يمكن أن يستبيح دماء الناس الآمنين. ولا يمكن أن يمارِس أعمال التفجير والتكفير والترويع. كفانا عنفاً، كفانا تطرفاً، كفانا تعصباً. الرسالة موجهة للدواعش وكل الجماعات المتطرفة بطبيعة الحال».

أخيراً لقد كشف لنا البابا في مذكراته الأخيرة سراً دفيناً مهماً، وهو أنه تعرَّض لعملية اغتيال حقيقية في أثناء وجوده على أرض العراق. ولكن الله نجاه منها بمعونة المخابرات البريطانية. وهي من أقوى المخابرات وأكثرها دقةً وفاعليةً في العالم. ففي أحد لقاءاته العامة خلال تلك الزيارة، كان هناك شخصان داعشيان مدججان بالقنابل ومستعدان لتفجير المكان كله بمَن فيه البابا وغير البابا. مجزرة حقيقية. ولكن المعلومة البريطانية الحاسمة وصلت قبل آخر لحظة لحسن الحظ، فتمكنت السلطات العراقية من القبض عليهما وتحييدهما. انظر بهذا الصدد مذكرات البابا الصادرة في الترجمة الفرنسية عن دار نشر «ألبان ميشال» قبل بضعة أسابيع، في 400 صفحة بعنوان: «البابا فرنسيس مفعم بالأمل». السيرة الذاتية التي شكلت حدثاً تاريخياً في مجال النشر. ظهرت بشكل متزامن في أكثر من 100 بلد.

***

د. هاشم صالح

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 26 أبريل 2025 م ـ 28 شوّال 1446 هـ

توفي البابا فرنسيس عن عُمرٍ عالٍ لكنه لم يقض منه في المنصب السامي غير اثني عشر عاماً (2013-2025)، قضى منها ثلاث سنوات مترحلاً في أنحاء العالم، وثلاث سنوات على سرير المرض. ولعلَّ أفضل ما يمكن قوله عنه وما نقدّر أنه كان يحبه أنّ قضيته الكبرى كانت أنسنة العمل الديني، بل والتفكير الديني. عندما انتُخب للبابوية عام 2013 شغلته في خطاب التتويج إذا صحَّ التعبير قضيتان: قضية السلام وقد صار العالم عالم حروبٍ وقلاقل- والقضية الثانية: العلاقة بالإسلام. لقد قال وكرر ذلك مراراً في خطاباته ورسائله السنوية: لا سلام في العالم إلا بالسلام مع الإسلام! وإذا حسبنا رحلاته العالمية وأسفاره فسنجد أكثر من ثلثها إلى الديار الإسلامية: زار مصر وزار المغرب وتركيا وزار إندونيسيا، وذهب إلى بنغلادش من أجل زيارة مخيمات اللاجئين الروهينغا الفارين من ميانمار؛ وكانت رحلته الكبرى إلى أبوظبي حيث أصدر مع شيخ الأزهر أحمد الطيب وبرعاية ومتابعة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وثيقة الأخوة الإنسانية يوم 4 فبراير 2019، والتي صارت ذكراها يوماً عالمياً للحوار.

الخصوصيات التي تميز بها البابا فرنسيس كثيرة، بيد أنّ أهمَّها أنه ليس أوروبياً بل هو من الأرجنتين بأميركا اللاتينية، وهو يمتلك نزعةً إنسانيةً غلابة في زمن القسوة والحروب.

جاء فرنسيس إلى البابوية بشكلٍ شبه مفاجئ وبعد بابوين كبيرين: يوحنا بولس وبنديكتوس السادس عشر كما سمى نفسه، وهو ألماني محافظ ما لبث أن استقال عام 2013 بحجة العجز الجسدي. عانى البابا بنديكتوس من جموح الشباب وثوريتهم، وعانى البابا فرنسيس من جمود المحافظين، وعدم ميلهم لكشف عيوب الإدارة الكنسية سبيلاً لإصلاحها، وتغليب القداسة على الإنسانية في العمل الديني.

في علاقات الكنيسة الداخلية التفت البابا فرنسيس للشباب، والتفت لإصلاح الكهنوت، وفكّر كثيراً بتكهين النساء. أما خارج الكنيسة فقد كانت أكبر إنجازاته في ثلاثة مجالات: الحوار بين الأديان- والحوار مع الإسلام- والعمل من أجل السلام. آخر كلماته قبل الوفاة كانت عن ضرورة وقف الحرب الروسية - الأوكرانية، والحرب على غزة.

منذ العام 2004 (رسالة عمّان) بدأ المسلمون يوجّهون رسائل للعالم في التبرؤ من الإرهاب، وفي التماس المصالحة والمسالمة، وفي بذل جهودٍ لاستعادة العلاقات مع الأديان والثقافات بعد هجمات «القاعدة» عام 2001 على الولايات المتحدة، ثم في سائر البلدان الأوروبية والبلدان العربية والإسلامية، وصولاً إلى القاعدة و«داعش» بسوريا والعراق.

ظلَّ البابا منذ العام 2013 يوجِّه نداءات للسلام مع المسلمين، ثم صار يزور الدول العربية والإسلامية، ويدعو لنبذ التطرف وصنع الانفتاح والسلام. وفي العام 2018 بدأ العمل على وثيقة الأخوة الإنسانية بين البابا وشيخ الأزهر بعد أن تزاورا وتوثقت العلاقة بينهما. وشجع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان العلاقة والوثيقة ووجدها فرصة لتقديم مبادرة كبيرة للتواصل والحوار الغني. وساعدت في ذلك سوابق البابا فرنسيس في ضرورات التواصل الوثيق مع الإسلام. وأخيراً جرت الدعوة إلى مؤتمر السلام والأخوة في أبوظبي، وكانت الوثيقة الفريدة مفاجأة مدهشة بالفعل. فقد مهَّدت بمقدمة إنسانية عامة احتضنت البشر جميعاً مؤمنهم وغير المؤمن، وقالت: إنّ العالم الإنساني ينبغي أن يكون عالم محبةٍ وأخوة ما دام البشر مخلوقين لخالق واحد، وبينهم مساواة في القيمة الإنسانية. وبعدها كانت هناك سطور في التقدم الذي حققته الإنسانية في النواحي التكنولوجية. لكنّ الملاحظ التراجع والتحدي في رؤية العالم المعنوية والمادية، حيث تسود الحروب وتنتشر المجاعات، ويُظلم الناس ويُهانون ويُهجَّرون ويُقتلون.

أولى الرسائل في الوثيقة رسالة السلام إلى العالم المضطرب، ثم الذهاب إلى جدولة مشكلات العالم واقتراح حلولٍ لها موجهة لقيادات العالم، في نوعٍ من اللوم على بعضها لأن السلام ما عاد أولويةً عندها. وتختتم الوثيقة بالدعوة للعمل الحثيث من جانب الجميع: رجال الدين، والسياسيين والمثقفين، وأولي النوايا الطيبة، من أجل استنقاذ العالم من مشكلاته. والأمل بالإيمان بالله، والثقة برحمته وفضله.

بوفاة البابا فرنسس خسرت عوالم الفقراء والجائعين والمهجرين وذوي الحاجة والضائعين في متاهات الحروب ومطامع الأقوياء، هؤلاء جميعاً خسروا بوفاة البابا صوتاً صارخاً في البرية لصالحهم.

ترك البابا فرنسيس الكنيسة الكاثوليكية قويةً وموحدة، لأنها تحتاج إلى زعيم كارزماتي مثل فرنسِس، وإلى الشجاعة التي تُعطي الزعيم والقائد الفرصة للتجديد والتقدم، دونما خشيةٍ من الانقسام. فلنتوقف عند وفاة هذا الحبر الجليل للاعتبار والاستذكار. وقد كان يقول: إنسانية الإنسان لا تظهر إلا بالسلام؛ فأين هي اليوم وسط الحروب التي قضى البابا وهو يريدها أن تتوقف في كل مكان وبخاصة في أوكرانيا وفلسطين؟!

***

د. رضوان السيد

21 ابريل 2025 23:15

جيلان متصارعان تشكلا بعد 1958 في العراق... الأول سياسي والثاني ثقافي

كان هناك جيلان متزامنان في العراق الحديث، تشكلا بعد عام 1958، الأول سياسي، جاء في سياق بواكير تشكيل الدولة الهجين، أحزاباً وزمراً عسكريةً، وتوّج أخيراً بأعتى ديكتاتورية في المنطقة، والثاني ثقافي وأدبي قصصي، خاض صراعاً تقنياً وفنياً في النفق الديكتاتوري نفسه، وجاء ضمن تدرّج وتطور الريادة القصصية في سبيل ترسيخ النوع الأدبي، وكلاهما في الغالب يشتركان معاً في قاعدة الحلم الثوري، وينطلقان منها في التعبير عن سلوكهما السياسي والأدبي.

من المفارقات شديدة اللبس والتعقيد أن النزاعات الشرسة للأحزاب والتنظيمات السياسية وألويتها الأدبية في ما بينها التي أعقبت العهد الجمهوري من 1958 وحتى عام 2003، ارتبطت عضوياً بصيغة الحلم الثوري الزائف بوصفه منهجاً آيديولوجياً صارماً، يمزج بين السعي إلى تسلم إدارة الحكم وتطبيق التصورات القومية والوطنية وإغواء حركة التحرر الدولية والأممية وما سمّي بالمعسكر الاشتراكي آنذاك، الحلم الذي يفرض على الأدباء أو نصوصهم، ولا يأبه من الجانب السياسي بالعنف أبداً مهما بلغ من تنكيل وقتل وإبادات ما دام الوصول للهدف وسدة الحكم هو الأول.

بعد عقود من خوض التجربة المرّة، وصل العنف إلى ذراه في الصراع داخل الحلم الثوري نفسه في الغالب بين الأحزاب الثورية على وجه التحديد، سواء كانت في السلطة والمعارضة، أو قريبة منهما إلى الحد الذي شطر الأحلام الثورية في معادلة متوازنة ومتضادة ومنعكسة من العنف بينهما، بين سدة الحكم وأبواب السجون، فالاثنان الجلاد والضحية، ثوريان، يشتركان في تقمص الحلم نفسه وتبني فراديسه المنشودة وتبادل الأدوار بين السلطة والسجن، وكلاهما صادق في التعبير والسلوك، وربما كلاهما متواطئ مع الآخر في لعب الأدوار حتى أن السلوك العنفي والميليشياوي الذي تمارسه السلطة من وقت لآخر في تصفية خصومها الثوريين المعارضين على شاكلتها هو نفسه ما تمارسه الفئات المهيمنة للسجناء أنفسهم ضد بعضهم داخل أسوار السجن.

والواقع كان للجلاد أسماؤه الأدبية والثقافية المنظمّة معه مثلما كان للضحية أسماؤها التي لا تخفى، ومنهم من غادر دور الضحية وأصبح جلاداً، والعكس صحيح، وتظل قاعدة الحلم الثوري مشتركة بينهما.

في ظل هذه المفارقة الشرسة، ولد هذان الجيلان المتزامنان في الستينيات من القرن الماضي، أحدهما تمثل في ارتقاء الديكتاتورية، وثانيهما أدبي وثقافي لم يخرج عن الإجهاز الكلي على الأدب والثقافة من قبل السلطة قبل وأثناء ارتقاء الديكتاتورية، الأول، لم يتخط مخاضات القتل والتنكيل فقط إنما أوصلها إلى ذراها في الحروب والهجرة والحصارات الاقتصادية، والثاني، الجيل الأدبي الذي نشأ بين السلطة والمعارضة والسجن والمهجر وما بينهم، وشهد اصطفافاً واستقطاباً ضمنياً هنا وهناك.

في غضون ذلك، استطاع الجيل الستيني الأدبي أن يحيا ربيع النشر والانتشار في بداية السبعينات إذ كان عدد يسير من الأحزاب الثورية متحالفة بهشاشة مع السلطة، وتيسر لها عن طريق دور النشر الخاصة بها أن تصدر عدداً من المجاميع القصصية لأدباء يحسبون منها وسط احتراز ومراقبة السلطة.

وفي ظل هذه المعادلة السياسية للأدب، استفحلت أزمة هذا الجيل الأدبي والقصصي بالتعبير عن نفسه داخل المنظومة الحزبية، سواء في السلطة أو المعارضة، وشعر البعض من القاصين بأنهم سوف يفقدون النسق الإنساني كلياً في قصصهم طالما كان التعبير جارياً ومتعسفاً على وفق الحلم الثوري المنشود الذي هو مجرد تلقين لفكرة استشراف مستقبلي للناس والمجتمع، وشرعة أمل زائفة، وكان العمال والكادحون والفقراء هم إشارات سياسية ملقّنة أكثر منها مصائر واقعية في ظل مجتمع شبه تحولي بين الريف والمدينة.

وللخروج من هذا المأزق، طفق القاصون والروائيون محمود جنداري وجمعة اللامي ومحمد خضير وجهاد مجيد وعبد الإله عبد الرزاق وآخرون، يستخدمون التشفير والتجريد والترميز والأسطرة والمكابدة الصوفية ومحاولة استيقاف الحاضر والمستقبل الزائفين والعودة إلى الماضي بوصفه منطقة تقنية آمنة لبناء قصصهم ورواياتهم.

وعبر تلك المناورة الأسلوبية البارعة، تمكن القاصون والروائيون من التسامي والتعالي على أزمتهم السياسية والفنية، واستطاعوا على نحو معين من تضليل الرقيب المؤسساتي ونشر نتاجهم وتلقيه على مستوى عام ومقبول داخل النفق الديكتاتوري نفسه.

ولعل هذه المناورة الأسلوبية، لم تكن نابعة عبر شكلها الطبيعي ضمن سياقات نشأة ونمو القص والروي في البلاد، وحسب قدر ما كانت تخفي خلفها كواليس وندوب تعرض هؤلاء الأدباء للتنكيل والاحتواء السياسي التي كانت تمارسه المؤسسات المتسلطة بمعنى أن التقنية التي نشرت فيها مجاميع مثل «المملكة السوداء» و«لأوفيليا جسد الأرض» و«الثلاثيات» و«حكايات دومة الجندل» وغيرها كثير، تتضمن مضمراً مستتراً من حجم صراعها الفني مع الرقيب السلطوي، وبحاجة إلى الكشف والتحليل بعد سقوط الرقيب، ولا يعني ذلك الاعتراف بل وضع المعادلة الأدبية في مواقعها الصحيحة بين المجتمع والثقافة وليس قاعدة الحلم الثوري واحتكار السلطة للأدب.

بعد عام 2003 الذي يمثل نهاية الجيل الستيني السياسي، وخروج الجيل الستيني الأدبي من نفقه المعتم، لم يستعد أحد من الأدباء الستينيين إلا في حدود ضئيلة المعادلة الواقعية للأدب الحقيقي بين المجتمع والسلطة، لم يلق أحد منهم أردية النفق الآيديولوجي الخانق ويعيد وصفها على نحو جديد، يتصل بالمرجع والمحيط الأدبي الاجتماعي والإنساني حين كانت السلطات تصادره باسم الحلم الثوري السائر في رسم هزيل للانعطافات المجتمعية الموهومة المقبلة، وما كانت المرحلة التي أسدلت الستار على هذا الجيل مجرد طور زمني عابر، يمكّن الأدباء الستينيين من التواصل والإنتاج بنفس القدرة السابقة.

وإذا كان الجيل السياسي على نحو عام قد تمخض عن دنس التجربة، فإن مخاض الطهر الأدبي لدى الأدباء على نحو عام أيضاً، يساويه في نتائج الخيبة والفشل العميقين لكل التجربة اليسارية عربياً ومحلياً طالما أصيب الحلم الثوري بالإخفاق المريع، وهذا ما جعل القاص والروائي إبراهيم أحمد «وبالرغم من أنه يحسب على جيل ما بعد الستينيين»، ينظر بنفور إلى سنين الدنس، ويصب جام غضبه على الفاعلين السياسيين، فيما كشف جمعة اللامي الكبير في كتابه «مذكرات السومري» التمزقات السياسية وممارسة العنف والتنكيل داخل السجون من قبل السجناء أنفسهم.

إنها دعوة إذن لكتابة المذكرات على نحو يزيح العتمات عن الغامض وراء قصة الستينيات العراقية. بعد 2003 لم يستعد أحد من الأدباء الستينيين إلا في حدود ضئيلة المعادلة الواقعية للأدب الحقيقي بين المجتمع والسلطة.

***

محمد خضير سلطان

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، ويوم: 19 أبريل 2025 م ـ 21 شوّال 1446 هـ

كتاب غريب يتبنى رأياً صادماً

لم يحيّر عالمَ الفكر أحدٌ مثلما فعل هيغل. ما زلت ترى في أي معرض كتاب في العالم وبكل لغات الدنيا كتباً جديدةً عن هيغل بعد مائتي سنة من موته. كل التيارات الفكرية بعده تأثرت به وأخذت منه ما تريد، خصوصاً منهجه الديالكتيكي. كل فلسفات القرن العشرين حاولت التحرر من قبضته، حسب ميشيل فوكو، في قراءات متعددة من الماركسية إلى الوجودية، ومن الموالين إلى المخاصمين.

وقع في يدي مؤخراً كتاب غريب ولافت للنظر اسمه «هيغل والتقليد الهرمسي» لأستاذ أكاديمي يُدعى غلين أليكساندر ماغي ذهب بهيغل إلى تفسير صادم ومختلف. من وجهة نظر ماغي، هيغل هرمسي وليس فيلسوفاً.

لا يشكك في أن تأثير كانط وفيخته وشيلينغ على هيغل كان مهماً، لكنه لم يكن التأثير الوحيد. هيغل ليس باحثاً عقلانياً عن الحقيقة، ففي كتاب «ظاهريات الروح» زعم هيغل أنه وصل إلى المعرفة المطلقة. وهذا يخالف نهج الفلاسفة في تعريفها بحب الحكمة، ويتوافق تماماً مع طموحات الهرمسية، وقد كان هيغل مشغولاً بالفلسفة الهرمسية، وكان متأثراً بممثليها منذ صباه، ومتحالفاً مع الهرامسة طوال حياته. تقسيم حياته إلى مراحل مضلل. عادة ما يردّ أمر الهرمسية إلى فترة شباب هيغل فقط، وهذا أمر خاطئ، بل هم معه طوال حياته.

هناك اشتراك في مبدأ العلاقات الداخلية بالنسبة لهرمس وهيغل. الكون ليس مجموعةً من التفاصيل المترابطة بصلات خارجية، ولا يمكن تفسير الطبيعة تفسيراً آلياً ميكانيكياً. بل إن كل شيء في الكون مترابط داخلياً، ومرتبط بكل شيء آخر. هذه القوى، مثل الطاقة أو النور تنتشر في كل مكان. يتجلى هذا المبدأ بوضوح فيما يسمى باللوح الزمردي لهرمس، الذي يبدأ بالسطور الشهيرة «كما في الأعلى، كذلك في الأسفل». لقد أصبحت هذه القاعدة المبدأ، لأنها وضعت الأساس لفكرة وحدة الوجود من خلال التعاطف والتوافق بين مستوياته المختلفة. وأهم ما تتضمنه هو فكرة أن الإنسان هو العالم الأصغر، الذي ينعكس فيه العالم الأكبر، كما في قصيدة ابن سينا، وأن معرفة الذات تؤدي بالضرورة إلى معرفة الكل. باختصار، يمكن حصر أفكار هرمس في أن المطلق يحتاج إلى الجزئي والفردي لكي يكون مطلقاً، بتأمل الإنسان فيه. ويستطيع الإنسان أن يكمل نفسه من خلال المعرفة، بحيث يعرف جوانب أو لحظات من المطلق. ويعتقد هيغل بالمفهوم الدائري للمطلق وللكون، وهذا يتضمن عودة المطلق إلى ذاته من خلال الإنسان الذي يرتفع فوق الطبيعة ويصبح سيدها من خلال المعرفة العميقة.

بالنسبة لماغي، فإن هرمسية هيغل تَثبت بسبب اهتماماته التي تتوافق مع المزيج الغريب من اهتمامات الهرامسة، وتشمل الخيمياء وتعاليم القبالة والتنويم المغناطيسي والروحانية وعلم الآخرة ولاهوت بريسكا وتصوف إيكهارت وبوهمه، والأنظمة السرية الرمزية. إنه يأخذ منهم حتى الرموز الهندسية، المثلثات والدوائر. وتعتبر قضية بوهمه بائع الأحذية الصوفي هي القضية الأكثر إثارة للدهشة، إذ يمنحه هيغل في محاضراته عن «تاريخ الفلسفة» مساحة أكبر من مساحة أكابر الفلاسفة.

مع البحث، اتضح أن ما قرره ماغي ليس جديداً تماماً، فغالباً ما يتم وصف هيغل بأنه صوفي، واتهمه شيلينغ بأنه نقل الكثير عن بوهمه. وهيغل لا ينكر أنه صوفي. وقد سبق الباحث فوغلين ماغي بالقول إن فكر هيغل ينتمي إلى التاريخ المستمر للهرمسية الحديثة منذ القرن الخامس عشر، وذلك في كتابه «حول هيغل: دراسة في السحر»، مشيراً إلى «ظاهريات الروح» باعتباره كتاباً سحرياً يجب الاعتراف به كعمل سحري.

من الخطأ أن نتعامل مع الهرمسية باعتبارها فكرية بحتة، إذ لا يحدث التنوير الهرمسي بمجرد تعلم مجموعة من العقائد. لا تكفي معرفة الأفكار فحسب، بل يجب أن يكون للفرد خبرة حياتية حقيقية بحقيقة الفكرة. ينبغي أن يوجه الإنسان إلى الاستنارة بعناية. يجب علينا استكشاف الأزقة العمياء التي تعد بالتنوير ولكنها لا تفي بوعدها. بهذه الطريقة فقط سيكون للفكرة المطلقة معنى. إنها طريقة ملتوية للغاية، للتخلي عما اعتاد عليه المرء وصار يتملكه الآن، والعودة نحو الأشياء البدائية القديمة. هيغل يحافظ على كل من اللحظات الفكرية والعاطفية لهذا المفهوم الهرمسي للبدء.

التنوير، بالنسبة للهرامسة ولهيغل، ليس مجرد حدث فكري نتوقع أن يغير حياة المستنير، فالفلسفة، بالنسبة إلى هيغل، تتعلق بالعيش السعيد. باختصار، الرجل الذي يحقق الثقة بنفسه لم يعد إنساناً عادياً. إنه لا يحتاج إلى الهروب من العالم لإنقاذ نفسه، بل يريد اكتساب معرفة العالم لتوسيع ذاته على حساب الطبيعة، واستخدام هذه المعرفة لكي يرتقي إلى المطلق. ومعرفة كل شيء تعني بمعنى ما السيطرة على كل شيء. وختم ماغي كتابه قائلاً إن «فكرة استقلال العقل وتطوره التدريجي ذات جذور غير عقلانية عميقة».

ستكون نتائج ماجي معقولة للقراء الذين يفترضون أن «التصوف» بشكل عام غير عقلاني، وهذا ما لا نوافق عليه وسنناقشه في مقالة قادمة. ماجي لم يقدم أي حجة لهذه الفرضية مع ما يرد عليه من أن الفلسفة الهرمسية وغيرها من الاتجاهات الصوفية قد أثرت على المفكرين العقلانيين من مثل بيكون وديكارت وسبينوزا ولايبنتز ونيوتن، ولعبت دوراً غير مقدّر حتى الآن في تشكيل الأفكار والطموحات المركزية للفلسفة والعلوم الحديثة. ومن المعروف أن هيغل كان مهتماً بشدة بأفلاطون وأرسطو وبلوتينوس وبروقلس، وكل منهم يمكن تفسيره، وقد تم تفسيره بالفعل، على أنه صوفي في جوانب مهمة. لكن هؤلاء الكتاب معروفون أيضاً، بالتزامهم بالعقل، لذا فإن مجرد تذكرهم من شأنه أن يثير الشك حول فرضية ماجي بأن التصوف في حد ذاته غير عقلاني، وهذا باختصار غير صحيح، فالتصوف الألماني - خصوصاً مع المايستر إيكهارت - هو أول شكل تجلت فيه المثالية الألمانية في تاريخ الفكر.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 19 أبريل 2025 م ـ 21 شوّال 1446 هـ

يتمخّض التّاريخ الفلسفي، المحمّل بالسّيرورات القانونية والوقائع الاجتماعية والأحداث السياسية، في كل مرة، عن مفاهيم أساسية، يقوم بنحتها عقل نقدي ذو شقين، شق نظري ينوء بأعباء العقل النظري في معالجته للمفارقات والإشكالات، التي ما يفتأ النظر يثيرها للكشف عن خبايا المجهولات النظرية، وشق عملي يحمل أعباء العقل العملي في مكابدته للواقع السّياسي والأخلاقي وهو يُنَزِّلُ مخرجات العقل النظري ليكشف بها خبايا الواقع العملي في تعقيداته وتشابكاته السّياسية والقيمية. ومن هذا المفاهيم التي يصدق عليها هذا القول مفهوم المواطنة.

إن مفهوم المواطنة، مثل غيره من المفاهيم السياسية الحديثة، خرج، من رحم هذا المخاض الطويل في القرن الثامن عشر، ليؤسس لذات حقوقية مستقلة يتمتع بها الأفراد داخل الوطن، الذي ارتضوه سُكنى لهم، وارتضوا أن يخضعوا لقوانينه في إطار من التّعاقد الواضح بين الحاكم والمحكومين. وبهذه الدّلالات التي تشبّع بها هذا المفهوم تميّز تميزاً واضحاً عن كل الدّلالات العتيقة، التي كان يحملها، والتي كانت تجعل منه مفهوماً هلامياً لا يستقر له حال من أساس نظري وعملي متين.

لقد تميّز تصور الإنسان القديم للمواطنة بكثير من القصور لعدم إيمانه بالمساواة الحقيقية بين الناس، فكانت المواطنة عنده لا تتعدّى «الإنسان الحر»، بل حتّى النّساء استُبْعِدن عنها، فضلاً عن العبيد والأطفال والأجانب، ورغم أن اليونان كانوا سبّاقين إلى الاهتمام بالمجال السياسي، أي بمشاركه الفرد في الحوار والقرار السياسي، فإن الاستبعاد والاقصاء كان جزءاً من تفكيرهم السياسي، بل إن ما سمي بـ«المواطنة المستقلة» في إيطاليا لم تكن سوى مواطنة ضيقة جداً يمنحها الإقطاعي للتّجار لحركتهم الاقتصادية والاجتماعية، لكنها، مع ذلك، أثَّثَتْ لفضاء حر كان له أثر اقتصادي كبير وحركة تنويرية بارزة في المجتمع. إلا أن القرن الثّامن عشر كان العصر الذهبي للمواطنة، خاصة مع تشكّل نظرية العقد الاجتماعي، وتشكل الدولة القومية، رغم أن هذا المفهوم لم يُنصف المرأة في حينها. لكن مفهوم المواطنة أصبح أداة نظرية وعملية قوية في يد «المواطن الإيجابي»، يناهض بها العبودية في أشكالها المختلفة.

وقد أسهم ارتباط مفهوم «المواطنة» بمفهوم «الحق» في تسريع نضج مفهوم المواطنة واتساع دلالاته النظرية والعملية، وأصبح حاضناً للاختلاف، باعتبار أن الاختلاف بين الناس، بمختلف جنسياتهم وأعراقهم وقيمهم وعاداتهم، يجب أن يكون اختلاف تنوع وليس اختلاف شقاق وتضاد، كما أصبح حاضناً للمساواة، ومُحرِّضاً على تحمل المسؤولية الاجتماعية والقانونية الكاملة للفرد داخل البقعة الجغرافية، وتحت ظل السلطة السياسية التي ارتضى العيش تحت ظلالها.

لا يزال مفهوم المواطنة، مثل غيره من المفاهيم، يحمل في داخله الكثير من المفارقات، ففضلاً عن مفارقاته المحمّلة بأثقال التاريخ النظري والعملي، ظهرت مفارقات جديدة خاصة مع تعدد صور المواطنة المختلفة واتساع أفقها مع «المواطنة الرقمية» و«المواطنة العالمية»، وخاصة أيضاً مع ما تعانيه مجتمعاتنا من ضيق في فهم هوياتها، إذ إن فهم الهوية في أبعادها المتعددة وانفتاحها على الأفاق الممكنة، التي يفتحها العصر لها لا يزال يحتاج إلى جهد تربوي كبير.

إن مفهوم المواطنة اليوم، بفضل حيويته الكبرى والإجماع المنعقد عليه، أصبح يتمتع بسلطة مركزية كبرى تؤهله لتحقيق الأمن والتعايش الاجتماعي وتلاقي الهويات المختلفة يداً واحدة في بناء أوطانها وإعمارها. وإن الذي يشجع على هذا القول أن مفهوم المواطنة هو بناء نظري وعملي، وإن بناء نظرياً قوياً لمفهوم «المواطنة الإجرائية» أنفع لمصالح الدول في تبيئة مفهوم يُلْحمُ أعضاء المجتمع على اختلاف مشاربهم، ويسدّد الولاء للحق والقانون والعُرف، ويحفظ للمجتمع تماسكه واستقراره الاجتماعي وأمنه السياسي والاقتصادي.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 17 ابريل 2025 23:45

 

الفلاسفة أشهر من الفلسفة، والقراءة عن الفلاسفة أمتع كثيراً من القراءة في الفلسفة. وعلى الرغم من أنّه يصعب الفصل بينهما، فالفلسفة هي نتاج الفلاسفة، لكن طبائع الفلاسفة، وعمقهم ورصانتهم، وجنوحهم وجنونهم.. ومعاركهم وحروبهم.. كلها أمور أكثر تشويقاً من أطروحاتهم نفسها. ولذا فإني لم أندهش حين قال لي أحد الناشرين الكبار: إن الكتب التي جرى تأليفها عن الفلاسفة أكثر توزيعاً من الكتب التي ألفها الفلاسفة أنفسهم.

وبطبيعة الحال، فإن صعوبة وتعقيدات النصوص الفلسفية تقف وراء ذلك، فكتاب «رأس المال» الضخم والصعب يمكن اقتناؤه بسهولة، لكن إذا أراد أحدهم أن يطالع حقاً ما في الكتاب، فإنه سيبحث عن الشروح والمختصرات، وسيذهب إلى شراء كتب عمّا قاله كارل ماركس في «رأس المال»، وليس ما قاله هو شخصياً.

إن الفيلسوف الألماني الكبير «هيجل» لا يمكن فهمه بسهولة، وقد تندّر أحدهم قائلاً: إن هيجل لا يمكنه فهم كل ما كتبه هيجل. ومع ذلك فإن اسم «هيجل» ملء السمع والبصر، ولا يخلو حديث فكري جادّ في الشرق أو الغرب من إشارة للفيلسوف الكبير، لكن قراءته الحقيقية من المؤلفات الصادرة بقلمه محدودة للغاية.

لقد أدرك بعض الفلاسفة تلك المفارقة، وراحوا يحاولون جذب الأضواء لأنفسهم كلما انحسرت الأضواء عن الفلسفة، وربما كان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر نموذجاً لذلك، فالفيلسوف الذي روّج «الفلسفة الوجودية» حول العالم، وجعل منها «ترند فلسفي» لعقدين أو يزيد من الزمان، اختار السياسة طريقاً للإضاءة على الفلسفة، فنزل إلى الشوارع متظاهراً، وخاض صراعاتٍ سياسيةً وأيديولوجيةً حادّة، وزار دولاً في مختلف أنحاء العالم، واختار مواقف سياسية تقدميّة عززت من شعبيته وحضوره.

أصبح الفيلسوف الوجودي أشهر من الفلسفة الوجودية، وصارت أخبار سارتر أهم كثيراً من طبعات كتابه «الوجود والعدم».

وفي مصر كان الفيلسوف عبدالرحمن بدوي نموذجاً قريباً من ذلك، فمقالات بدوي السياسية في الشأن المصري، وإقامته لمدة طويلة في فرنسا، وأداؤه القاسي مع تلامذته ومريديه.. كل ذلك جعل منه مادةً إعلامية فلسفية جذابةً أكثر من نصوصه الفلسفية ذاتها.

 وقبل سنوات قال لي الدكتور فؤاد زكريا: كان عبدالرحمن بدوي شخصاً صعباً للغاية، ولم أعرف مشتغلاً بالفلسفة امتلك كل هذه الصفات غير الودودة كما امتلكها بدوي. وقبل شهور روى لي الإعلامي والناقد السعودي محمد رضا نصر الله قصة لقائه مع عبدالرحمن بدوي في باريس، وهو اللقاء التليفزيوني الوحيد الذي تم إجراؤه مع الفيلسوف الكبير، وكان من بين ما روى.. صعوبة الحوار، بل وصعوبة التعامل مع الدكتور بدوي، وقد كان اللقاء مهدداً بالإلغاء طيلة الوقت.

وربما كان الدكتور زكي نجيب محمود استثناءً من ذلك، وهو ليس الاستثناء الوحيد عربياً أو عالمياً، ولكنه استثناء متكرر، حيث كان زكي نجيب سهل العبارة، مباشراً في الإصلاح الفكري، واضحاً في أسلوبه وغاياته، جذاباً في العرض والنقد. وهو ما يجعله - في تقديري - صاحب أهم مشروع فكري عربي، ذلك أنه المشروع الأكثر ثراءً وانضباطاً، وكذلك الأكثر وصولاً وتأثيراً.

 لقد عانى الفكر العربي من كون «الفلاسفة أهم من الفلسفة»، فمن محمد جابر الأنصاري إلى جورج طرابيشي إلى حسن حنفي وعبدالله العروي ومحمد عابد الجابري وطه عبدالرحمن وبينهم وغيرهم كثير.. أصبحت أخبارهم وإشاراتهم ومقتطفاتهم.. هي ما بقي من مشروعاتهم، أمّا مشروعاتهم الفكرية نفسها، فقد غابت نصوصها الأصلية عن الحياة العامة، وبقيت محدودة داخل أسوار الباحثين والمتخصصين.

ثمّة ما يجب عمله إزاء ذلك كله، إذْ يجب دعم وتطوير «الإعلام الفلسفي» في العالم العربي، والسعي لمساندة مشروعات للشروح والمواجيز والخلاصات، بطريقة احترافية غير مخلة، والإفادة من ثورة الاتصالات في استقطاب الشباب لتلك المضامين الكليّة والأفكار الجادة والتصورات الوجودية.. للعالم وللحياة.

لقد بدأتُ في الهيئة الوطنية للإعلام في مصر بإطلاق أول برنامج تليفزيوني فلسفي بعنوان «الفلسفة الآن»، آملاً أن تجد الفلسفة طريقاً لها.. من النخبة إلى المجتمع، ومن فصول الدراسة ومدرجات الجامعة.. إلى أزقة القرى وشوارع المدن.

***

أحمد المسلماني - كاتب مصري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 16 ابريل 2025 23:57

يعاد في هذه الأيام النقاش حول الحداثة وعلاقاتها بالدين والمجتمع، وبخاصةٍ في ظلّ الأسئلة التي يفرضها التطوّر العلمي والتقني وبلغ ذروته مع الذكاء الاصطناعي.

والحقّ أن الحداثة لم تكن منذ انعكاسها الأول خارج الهواجس والتهم العميقة، وذلك باعتبارها معادية للدين بالنسبة للبعض، هذه الفكرة رسمت الموقف البسيط مع المنتج الحداثي، الفني، والفلسفي، والمعرفي، والتقني. وضعت الحداثة بإزاء الدين، باعتبارها ستحلّ محله، أو ستقوّض بنيانه، أو ستهدم قيمه. انتقل العداء للحداثة من العامي الوعظي ليحولها بعض دارسي الفلسفة إلى منهاجٍ مفهومي، باسم الدهرانية، أو العلمانية الشاملة، أو الداروينية الاجتماعية. بينما الحداثة لم تبثّ يوماً لظاهرتها تعريفاً يتفق عليه الجميع، فهي تشمل كل الرحلة الأوروبية الطويلة منذ القرن السادس عشر، وحتى عصور الأنوار، وزلازل كوبرنيكوس وغاليليو والثورة الفرنسية، وصولاً إلى فتوحات الفلاسفة في نظرية المعرفة، فالحداثة بمعناها العام هي قصة تحولات الإنسان نحو اكتشاف ذاته وعلاقاته بالعالم. واكتشاف موقعه من الأشياء لا يعني العدوان عليها، ومن ذلك فهم الدين، ولا يمكن اعتبار تلك الرحلة مقتصرة فقط على جانبٍ محدد يتعلق بالحرية، أو الانشقاق عن هيمنة الكنيسة، بل الرحلة أشمل وأعم.

ومن المفارقات أن الحداثة بتحولاتها وصرعاتها المتصلة بتطور العلوم الإنسانية، ومن ثم توسع المشروع البعدي منها ضمن انتقالاتٍ من الكليات إلى الجزئيات، ومن المتن إلى الهامش، ومن الصرح إلى الزاوية ومن الإنسان إلى ظلّه، اتهمت بكونها حالة مسيحية، وذلك من قبل منتقدي الحداثة في القرن العشرين منذ نيتشه وهيدغر وحتى ليوتار وباديو وفوكو وبارت ودلوز. واعتبرت نظريات كانط وهيغل مجموعة تنويعات عقلانية على المسيحية كما يكتب نيتشه، ويعتبر فوكو أن مهمة الفلسفة «الإفلات من قبضة هيغل».

مثلاً يتساءل هشام جعيط عن مفهوم الحداثة: «هل هي كلٌ وبنيان مرصوص، أم هي شذرات وبؤر، علم، اقتصاد رأسمالي، صناعة، تنظيم سياسي، فيما أن الواقع الإنساني في الحقيقة بحر لا ساحل له، يضم ألف عنصر من العناصر، وفيما أن الزمان متراكب؟! لكنه يخلص بمفهوم أشمل: وخلاصته: «أن الحداثة أسسها في الأول العلم الطبيعي بوصفه الأمر الأكثر تجدداً وله الأهمية القصوى... فالعلم جد وليس بالهزل، وهو الطريقة النموذجية التي أوصلت الإنسانية لمعرفة كل شيء في العالم تقريباً بعد قرونٍ من المجهودات المضنية».

الخلاصة، أن الحداثة ليست أيديولوجيا بديلة، ولا تحمل معها لاهوتاً للبشرية، وإنما هي رحلة مستمرة بدأها الإنسان لتجويد طريقة رؤيته للأشياء، مع الإصرار على التعلم والاكتشاف اليومي لمفاهيم جديدة، مع قابلية أبدية لتغيير الرؤى النموذجية، تلك أنجح الوسائل لتأقلم الإنسان مع هذا الكون، ولا داعي للتوجّس من منتجات الحداثة على كافة المستويات، بل إن من الحكمة الانتقاء منها والبناء على نتائجها وفتوحاتها المعرفية، وأن ندرس كل جديدها بقوّة وشجاعة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

14 ابريل 2025 23:45

السيرة الذاتية تتيحُ للكاتب أن يبوح بتفاصيل أو جزئيات ما كان متاحاً له البوحُ بها

كتبتُ غير مرّة أنّني أعشق كتب السيرة الذاتية التي يكتبها شخوصٌ نعرف حجم تأثيرهم في العالم. السببُ واضحٌ وليس في إعادته ضيرٌ: السيرة الذاتية تتيحُ للكاتب أن يبوح بتفاصيل أو جزئيات ما كان متاحاً له البوحُ بها في غير سيرته الذاتية، وهذه التفاصيل أبعدُ من محض حياته العاطفية أو علاقاته مع الجنس الآخر أو مغامراته أو طيشه أو عنفوانه أو حتى جنونه.

أحْدَثُ كتابٍ في السيرة الذاتية قرأتُهُ كتبه الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مل الذي يُنسبُ إليه ابتداعُ مفاهيم الليبرالية والحرية والنظم السياسية الحديثة، كما عضّد مفهوم المنفعة الذي ابتدعه جيريمي بنثام. هذه كلها ثورات هائلة في التفكير البشري، لكنّ المثير في السيرة الذاتية هو الإسهاب في عرض تفاصيل مسيرته التعليمية، وتلك خصيصة يتشارك بها معه كلّ من كتبوا سِيَرَهم الذاتية وهم أعلامٌ فلسفية أو علمية أو تقنية. ثمّة الكثيرُ من الخواص المشتركة بين هؤلاء، منها مثلاً: أنهم ذاتيو التعليم Self-Educated، والكثير منهم لم ينالوا تعليماً مدرسياً تقليدياً على الشاكلة التي نعرف، كما أنّهم نشأوا في بيئات أسرية تعلي شأن الانضباط والصرامة والجدية المفرطة والحساسية تجاه الزمن إلى الحدّ الذي جعل هؤلاء في أعمارهم المتقدّمة يرون أنّهم لم يعيشوا أطوار طفولتهم الأولى بطريقة طبيعية. هل ندموا على تلك الطفولة؟ ربما. يجب ألا ننسى أنّ كلّ شيء بثمن، وليس مِنْ منحة مجانية في هذه الحياة. هل كانوا سيصبحون سعداء لو عاشوا في كنف عائلات أقلّ انضباطاً؟ ربما. نحن في النهاية نميل لتقدير الحياة التي لم نَعِشْها أكثر من تلك التي عشناها، وتلك حكاية أخرى غير حكايتنا هذه.

تخبرُنا السير الذاتية لتلك الأسماء الذائعة أنّها تشاركت هوساً غير طبيعي في التفكّر بالأسئلة الوجودية الأولى، وأنّها سعت إلى بلوغ إجابات لها عن طريق التفكّر الذاتي وليس كجعبة معرفية جاهزة مثلما تفعل المدارس والجامعات. أولى تلك الأسئلة هي أسئلة البدايات: كيف بدأ الكون؟ وكيف بدأ الوعي؟ وكيف بدأت الحياة؟ هذه الأسئلة تستمرّ مع الحياة، ويعمل المرء المتفكّر حثيثاً لتعديلها تبعاً للمستحدثات المعرفية التي تحصل في حياته، لكنّه لن يقبل أبداً بالمعرفة الجاهزة. إنّه كمن يسعى للتنقيب في الأعماق سعياً لبلوغ نمط تفكير واضعي النظريات أو مبتدعي الفرضيات أو راسمي المقاربات التطوّرية. يبدو المرء من هؤلاء وكأنّه يتشارك تجربة من يقرأ له ولا يكتفي بالإمساك بالإجابات الناجزة.

في الفلسفة مثلاً يشرع المرء من هؤلاء منذ بواكير طفولته الأولى يتساءل: كيف لي أن أتيقّن من أنّ ما أراه أمامي وأحسّه بأعضاء حسّي هو ذاته ما يراه ويحسّه سواي من الذين يختبرون ذات الظروف التي أخضع لها؟ هذا التفكّر بشأن معضلة اليقين الوجودي هو بوّابة الولوج إلى التفكّر الفلسفي الحقيقي، ومن البديهي أنّ من يقرأ المصنّفات الفلسفية ابتداءً من أفلاطون وأرسطو وسائر الفلاسفة وهو مهجوس بهذا النمط من الأسئلة هو كائن يختلف جوهرياً عمّن يبتغي المعرفة المجرّدة. إنّه فرق جوهري بلا شك أن تكتفي بمعرفة التواريخ والشخوص والأمكنة والأزمنة. رجلٌ على شاكلة جون ستيوارت مل لن يقبل بهذا الدور غير الفعّال. يريد أن يكون جزءاً فاعلاً في صناعة تاريخه المعرفي.

خذ معضلة الوعي. هي الأخرى معضلة شديدة التعقيد لا تنفع معها مقاربةُ القراءة غير المهجوسة بدافعية الأسئلة الأولى. تبدأ معضلة الوعي بالاختمار في العقل الشغوف عندما يتساءل: من أين ينشأ الوعي؟ من الدماغ. وما هو الدماغ؟ أليس كتلة عضوية تتكوّن من الكاربون والفسفور و...؟ ما الذي يدعو تشكيلاً عضوياً متشكّلاً من ذرّات مشخّصة إلى امتلاك خاصية الوعي؟ عندما سيقرأ من يفكّرُ بمثل هذه الأسئلة لاحقاً في كتابات فلاسفة العقل والباحثين في العلوم العصبية ستكون قراءته مدفوعة ومحفّزة بشغف أسئلة الطفولة الأولى والأطوار الزمنية اللاحقة لها وليست محض واجب أكاديمي أو قراءة عابرة أو استزادة للخزين المعرفي.

ليست الأسئلة الأولى قرينة - بالضرورة - بالطفولة، بل هي في الغالب خصيصة عقلية ونفسية تتقدّم وتتطوّر مع ارتقاء صاحبها معرفياً وخبرةً في المعيش اليومي، كما أنّها لا تقتصر على أسئلة البدايات كما يحصل مع الطفولة. مسألة الدولار الأميركي مثلاً تصلح مثالاً ممتازاً. هل تساءلت يوماً: لماذا صار الدولار الأميركي عملة عالمية عقب اتفاقية (بريتون وودز) بعد الحرب العالمية الثانية؟ أو كيف نشأت فكرة النقود والعناصر المرتبطة بها من بنوك وقروض وتأمين ممّا يُشكّلُ التاريخ المالي للعالم؟ أؤكّدُ أنّ مَنْ يشرعُ في دراسة الاقتصاد بادئاً بأسئلة من هذا النوع سيتحصّلُ على معرفة بآليات عمل الاقتصاد العالمي أفضل بكثير ممّن يكتفي بقراءة الكلاسيكيات الاقتصادية العالمية. من يكتفي بهذه الكلاسيكيات ستجابهه معضلاتٌ سيعجز عن تفسيرها أو تسويغها بالرجوع إلى خزين قراءاته.

الأمثلة في العلم الحديث كثيرة، غير أنّني سأختارُ مثالاً متفرّداً هو ديفيد دويتش David Deutsch. يعرفُ عن هذا الفيزيائي الأكسفوردي أنّه من أوائل من تفكّروا في موضوع الحوسبة الكمومية Quantum Computing ووضع خوارزميات صالحة لها. يبدو الأمر عادياً؛ إذ إنّ كثيراً من العلماء والمهندسين يعملون اليوم في حقل الحوسبة الكمومية لكونها قرينة الذكاء الاصطناعي لجهة ثوريتها المفاهيمية ومفاعيلها التطبيقية. الأمر سيختلف تماماً لو قرأنا كتابيْن نشرهما دويتش: الأوّل عنوانه «نسيج الواقع» والثاني عنوانه «بداية اللانهاية»، والكتابان مترجمان إلى العربية. يرى دويتش أبعد من مشهد المفاهيم والتطبيقات المجرّدة. هو يطمحُ لبلوغ نظرية كلّ شيء في المعرفة، وكتب كثيراً كيف أنّ طموحه الخارق هذا ظلّ مدفوعاً بشغف الأسئلة الأولى التي تشكّلت في طفولته وشبابه. في كتابه الأوّل «نسيج الواقع» - الذي ارتأى المترجم العربي عبارة «نسيج الحقيقة» عنواناً له - يطمح دويتش إلى تأسيس نظرية في المعرفة تقوم على أربعة أعمدة: تفسير العوالم المتعدّدة المستمدّة من نظرية الكم، نظرية كارل بوبر في المعرفة، النظرية الاحتسابية الخاصة بِآلان تورنغ، نظرية التطوّر الدارويني الحديثة. في كتابه الثاني «بداية اللانهاية»، يتناولُ دويتش موضوع التنوير Enlightenment ابتداءً من القرن الثامن عشر، ويعلنُ عن رؤية مبشّرة بقرب بداية تفاعل تسلسلي لا نهائي محتمل من المعرفة الخلاقة. الكتاب بأكمله ذو نكهة فلسفية رائعة ويسعى لمقاربة سؤال جوهري: كيف ولماذا تطوّر الإبداع في البشر؟ أهمّ ما نتعلّمه من دويتش ونظرائه هو: الجرأة الفكرية في مقاربة الموضوعات وعدم الركون إلى المواضعات الجاهزة أو الشعور بالتثاقل من وعورة المسعى الفكري غير المطروق من قبلُ، أمّا الدرس الثاني فهو أنّ القيمة الفلسفية للموضوعات المطروقة تبدو نتاجاً لسنوات طويلة من التفكّر الذي بدأ منذ سنوات الطفولة الأولى ولم يكن محض تطوّر تقني أو رغبة في الارتقاء الأكاديمي.

معظمُ البشر لا يريدون إقلاق عقولهم بشيطان الأسئلة الجوهرية أو المسكوت عنها سواء كان هذا في بواكير حياتهم أو في أطوارها اللاحقة. هم يريدون معرفةً على قدر ما يخدمهم ويوفّرُ لهم عملاً يعتاشون منه ويقضون بقية حياتهم في سكينة الهدوء ومنطقة الراحة Comfort Zone. ليس على هؤلاء مثلبة؛ فَهُمْ يعيشون بالكيفية التي يرتاحون لها. في مقابلهم هناك من لا يستطيع العيش سوى بإدامة التفكّر الحثيث في أسئلة تلحّ عليه بشأن موضوعات جوهرية وجودية أزلية أو مستجدّة. إنّها مسألة تكوين ذهني وأنماط نفسية تختلف كثيراً بين البشر.

أفكّرُ أحياناً لو أنّ بشراً من طراز جون ستيوارت مل وُجِدوا في عصرنا هذا حيث التفجّر المعلوماتي والبيانات الكبيرة ووسائل المعرفة متاحةٌ مجاناً لمن يشاء، ما الذي كانوا سيفعلونه؟ هل كان شغفهم سيتعاظم بطريقة لا نهائية أم كان سيخفت لأنّ ما يصبح سهل المنال يفقدُ خاصية الجذب السحرية الكامنة في كلّ أمر نادر وغير متاح بالمجان. لستُ أعرف على وجه الدقّة جواباً لهذا السؤال؛ لكنّ أمراً واحداً أجدُني متيقّنة غاية التيقُّن منه: الأسئلة الذاتية المستديمة تقود إلى معرفة جوهرية حقيقية متى ما تابعها سائلُها ولم يكتفِ بالوقوع في فخّ المعرفة (أو الإجابات) الجاهزة.

***

لطفية الدليمي

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 9 أبريل 2025 م ـ 11 شوّال 1446 هـ

كان الأوسع أدباً بين جميع الكتّاب الذين عرفتهم، ليس فحسب لأنه قرأ كثيراً وكان يعرف كل ما تمكن معرفته عن الحياة والموت وضروب الآداب وأهلها، بل لأنه هندم حياته كما نهندم الأعمال الأدبية، بمثل أناقة شخصيات الروايات الإنجليزية وحركاتها وظرفها اللمّاح وغرائب أطوارها.

تعود معرفتي به إلى عام 1968 عندما كان يسكن قريته المطلّة على شواطئ جزيرة مايوركا، في دار قديمة تشرف على دير للرهبان، وكان لقاؤنا الأول محاطاً بجوٍّ مسرحيّ لن أنساه أبداً. كنت قد وصلت إلى الجزيرة برفقة زوجتي ووالدتي واثنين من أولادي، ودعانا دونوسو جميعاً إلى الغداء بواسطة زوجته الرائعة ماريا دل بيلار، وقبلت الدعوة بمسرّة كبيرة. في اليوم التالي عاودت ماريا دل بيلار الاتصال لتقول لي إن خوسيه، بعد تفكير طويل، يفضّل استثناء والدتي من الدعوة لأن وجودها من شأنه أن يعكّر أجواء لقائنا الأول. تجاوبت مع طلبه، على فضول شديد لمعرفة السبب. لكن عشية يوم الوليمة المشهود عادت زوجته لتتصل بي وتقول إنه، بعد التشاور مع المرآة، قرر إلغاء الغداء. وتساءلتُ: أي مرآة هذه التي استشارها؟ هي تلك التي كان خوسيه يلجأ إليها عندما كانت تحيط به الهواجس وتحاصره الكوابيس حتى آخر أنفاسه. قلت لزوجته إني، بغداء أو من دونه، بمرآة أو من دونها، ذاهب لكي أتعرّف شخصياً على ذلك المجنون.

وهكذا كان، ذهبت إليه، وكانت النتيجة أنه استحوذ على إعجاب جميع أفراد العائلة بسطوع ذكائه، وظرفه، وهواجسه التي كان يتباهى بها كما لو كانت مجموعة من اللوحات أو القطع الفنية. نشأت بيننا صداقة في تلك الفترة لم تنقطع قط ولم يعكّر شيء صفاءها، وذلك رغم أننا لم نتفق يوماً في الذائقة الأدبية، وأنني كنت دائماً أثير غضبه وأخرجه عن هدوئه كلما قلت له إنه كان يمتدح «كلاريسا ميدلمارش» وغيرها من الأعمال الأدبية السيئة لأن أساتذته في «برينستون» أجبروه على قراءتها. كان لون بشرته يميل إلى الشحوب، وتجحظ عيناه، لكنه لم يبادر أبداً إلى الانتقام مني جسدياً، لأن ذلك ليس مستحباً في الروايات الجيدة.

يومها كان منكبّاً على كتابة روايته الأشهر «عصفور الليل الفاحش »، ويقاسي وساوس وهواجس وهذيان شخصياتها. وفي إحدى السهرات، بضيافة بوب فلاكول وغابرييل آلغريّا، أبهر الحضور بقصص غريبة كان يرويها لنا عن جدة له اجتازت جبال الإنديز على متن بغلة، ناقلة مجموعة من المومسات إلى بيوت الدعارة، وأخرى كانت تحفظ أظافرها وشعرها وبقايا طعامها في علب صغيرة وزَّعتها على خزائن وزوايا منزلها. كان يتحدث بشغف كبير، ويتحرك كما لو أنه على خشبة مسرح، وكنا جميعاً مأخوذين بأدائه، إلى أن شعرنا بحزن عميق عندما أسدل الستار على تلك الرحلة المتخيَّلة وأعادنا إلى الواقع الرتيب. أقول جميعاً، لكن في الواقع كان بيننا شخص، هو صهر كلاريبل، لم يتأثر بما سمعه لأنه نرويجي لم يكن يفهم شيئاً من اللغة الإسبانية. وقد اعترف لنا لاحقاً بأنه خطر له عندما كان يستمع إلى ما يدور في تلك السهرة من أحاديث غريبة أنه لن يرى طلوع الفجر بعدها.

كل ما في دونوسو كان أدباً، لكن من الأدب المصفّى والعالي الذي لا يساوم على شيء. كان يبني شخصياته بنفس الدقة والعناية التي يستخدمها كبار الرسامين أو النحاتين، وكان يتماهى معها ويقلّد تصرفاتها كما لو أنه يتقمصها. لذلك، أستغرب أنَّ أشهر شخصياته الروائية كانت ذلك العجوز المسكين في رواية «مكان بلا حدود »، الذي يتخفّى في شكل امرأة ترقص الفلامنكو وتُغوي قطَّاع الطرق وسائقي الشاحنات في المقاهي. ورغم أنه كتب الكثير من الروايات الجميلة، فإن هذه هي التي تعكس أفضل من غيرها العالم المعقد الذي كان يعيش فيه، والأكثر إحكاماً من حيث الهندسة الأدبية، بعيداً كل البعد عن ذلك الأسلوب الطبيعي والواقعي الذي يميّز الأدب الأميركي اللاتيني.

من بين الشخصيات الكثيرة التي جسّدها خوسيه دونوسو، والتي أُتيح لي أن أتعرف على بعضها وأتمتع برفقتها، إميل ذلك الأرستقراطي على غرار جيوزيبي تومازي دي لامبيدوزا، الذي أمضى سنوات مديدة في أرياف ترويل، حيث بنى له منزلاً حجرياً جميلاً، وحيث ألهمت مغامرات أولادي وابنته بيلار روايته «البيت الريفي». كانت تلك القرية تعجّ بالأرامل المسنّات، الأمر الذي استحوذ على إعجابه؛ إذ كانت الشيخوخة، إلى جانب الأمراض، من المواضيع التي يهوى الكتابة عنها ويتألق في وصفها. وكان في القرية طبيب واحد ينافس دونوسو في التذمر كلما جاء إليه يشكو من ألم أو معاناة، فيبادره بالقول: «أنا أيضاً أعاني من صداع، وآلام مبرحة في الظهر والمعدة والعضلات، أكثر منك»، وكانا بالطبع على وئام.

عندما ذهبت للمرة الأولى لتمضية بضعة أيام برفقته في القرية، أخبرني بأنه اشترى ضريحاً في المقبرة القريبة من منزله، لأن طبيعة الأرض وتضاريسها هي الأنسب ليرقد فيها رفاته. وفي المرة الثانية تبيّن لي أن في حوزته مفاتيح جميع كنائس المنطقة التي كان يمارس عليها ما يشبه السلطة الإقطاعية؛ إذ لم يكن بوسع أحد أن يدخل إليها ويصلّي فيها من غير إذنه. أما في المرة الثالثة فقد شاهدت بأُم العين كيف كان يقوم مقام المبشّر والقاضي الذي يفصل في القضايا التي يطرحها أمامه سكان القرية وهو جالس عند عتبة منزله.

في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي التقيته كثيراً في برشلونة عندما تحولت تلك المدينة المتوسطية إلى عاصمة الأدب الأميركي اللاتيني. وفي كتابه «التاريخ الشخصي لطفرة الأدب الأميركي اللاتيني» يصف أحد اللقاءات في منزل لويس غويتيسولو عندما كنا نرى أن الأدب على جانبٍ من الأهمية يفتح أبواب تغيير حياة الناس، ويوم كنا نعتقد أن أواصر الصداقة أبدية في متانتها. أذكر جيداً ذلك اللقاء الذي دام حتى ما بعد منتصف الليل، لأنني عشته أكثر من مرة كلما كنت أعود إلى قراءة كتابه.

المرة الأخيرة التي التقيته كانت في سانتياغو، كان نحيلاً ويكاد يكون عاجزاً عن النطق. وعندما حدَّثني عن المغرب أدركت أنه كان يعتقد أنه أمام خوان غويتيسولو الذي كان قد قرأ له كتاباً أثار إعجابه. وعندما ودَّعته، همست في أذنه: «هنري جيمس عنوان للرداءة»، فشدّ على يدي وقال باسماً: «فلوبير أكثر رداءة».

***

ماريو فارغاس يوسا

روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».

الأربعاء - 11 شوّال 1446 هـ - 9 أبريل 2025 م

لطالما تذبذبت علاقات الفلاسفة بين بعضهم البعض، فهم بشرٌ لديهم نزعاتهم التنافسية. القصة الكبرى كانت في صراع كل من شبنهور وهيغل. في عصرنا نشب صراع طويل بين هابرماس وجاك دريدا حتى تصالحا في أوائل الألفية، حين جمعتهما الصحافية جيوفانا بورادوري بكتابها: «الفلسفة في زمن الإرهاب». لكن العداوة الأكثر حيويّةً على المستوى الفلسفي كانت بين جيل دلوز وآلان باديو، ولكنه صراع علمي أكثر منه شخصي. وآية ذلك أن ثمرة كل ذلك السجال سبب فتوحاتٍ بل وتحدياتٍ معرفية.

لم يكن آلان باديو على وفاقٍ مع جيل دلوز، والسبب ألخصّه من روايته. لقد شهدت فترة الستينات انتشار «المراهقة السارترية» ولاكان والمنطق الرياضي.

جيل دولوزهو فيلسوف فرنسي كتب في الفلسفة والأدب والأفلام والفنون الجميلة من أوائل الخمسينيات، حتى وفاته في عام 1995 انشغل بأفلاطون، وهيوم، ونيتشه، وبرغسون. بينما ألان باديو ‏ هو فيلسوف فرنسي لديه مراجعه المتمثلة في أفلاطون، وهيغل، وهوسرل. بالنسبة لباديو فإن دلوز كان ذوقه أميل إلى حساب التفاضل، إلى فضاءات ريمانن، كان ينهل منها الاستعارات، ودلوز الملهم الفلسفي لظاهرة «الفوضويين» هو العدو اللدود، ثم يفصح عن تأسيسه لعصابة هجوم على درسه الأشهر في المنابر الجامعية آنذاك. قصّة خلاف منهجي طويلة، انتهت أوائل التسعينات من القرن العشرين، حين تواصل باديو مع دلوز، وذلك بعد وفاة زميله غيتاري، طالباً منه البدء بتراسلٍ مستمر.

ثم بدأ باديو بتدوين كتابٍ حول فلسفة دلوز، التي عاد إليها بعد مقاومة لها امتدّت لثلاثة عقود، لقد جاء إليه متأخراً، إذ داهمته حينها حالة مَرضية، ومزاجه ليس على ما يرام، وبعد عددٍ من الرسائل بينهما مزّق الورق كله وبشكلٍ فظ، وأرسل بغضب: «لا أريد نشر هذه الأوراق».. عاد باديو إلى مقرّه ليدوّن كتابه «دلوز صخب الكينونة»، وضمّن مقدمة الكتاب هذه القصة المختصرة.

لقد جاء الكتاب كما يروي باديو «نتيجة صداقة صراعيّة بقيت، بمعنى معين، من قبيل الممتنع أن يحدث».

والكتاب يشبه دلوز أكثر من باديو، متجاوزاً المنهج التسلسلي، كل فصلٍ منه هو قصيدة أو لوحة أو رسمة لمفهوم يتخيّله، يتناول بشاعرية فلسفية «مفهوم الواحد، تواطؤ الكينونة، الجدلية المضادة، مسار الحدس، في أساسٍ يعاود تفكّره، العَود الأبديّ والاتفاق، الخارج والطيّة، ومفهوم الطيّة»، المفهوم الذي سبّب عودة باديو لفلسفة دلوز.

بالنسبة لباديو فإن:«دلوز هو ابن القرن على الإطلاق. التفكير فرقٌ وتعرّفٌ إلى الفروق. الأنطولوجيا تتطابق مع تواطؤ الكينونة. الأثر الذي لا يقوم على تراتبية هو تكثّف تكيانات، وتآينُ أحداث. منهج دلوز يرفض الاستناد إلى التوسيطات، منهج مضاد للجدلية».

الخلاصة، أن صراعات الفلاسفة معظمها حيويّ ومثمر، وبالتالي ننعم بنتائج علمية متميزة. والفكرة الأساسية أننا لولا الخصومات العلمية والفلسفية التي تحدث في عوالم الأكاديميات والمختبرات لما تطوّرت المعرفة، فكل ذلك الجدل يغذّي التحدي. إن النبرات المتصاعدة بين الفلاسفة في مذكراتهم هي جزء أساسي من الفلسفة حتى وإن تمكّنت من بعضهم النزعات الحادة، أو التهم والأقوال الجارحة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم:

7 ابريل 2025 23:45

«الأنوار المظلمة» (Dark Enlightenment)، عنوان كتاب للفيلسوف البريطاني نك لاند، صدر في المواقع الإلكترونية عام 2013، لكنه أصبح محور حركية سياسية وأيديولوجية صاعدة في الولايات المتحدة، وفي العديد من البلدان الغربية الأخرى. ومن أهم رموز هذه الحركة في أميركا، كورتيس يرفين وبيتر تيل، وهما مقربان من نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس، ومن رجل الأعمال النافذ في الإدارة الحالية إيلون ماسك. كما أن لهما ارتباطاً بالتيار المحافظ الروسي الذي يقوده ألكسندر دوغين.

والفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الاتجاه هي ما عبّر عنه «تيل» بالقطيعة الضرورية بين الحرية والديمقراطية، واعتبار الأنظمة الديمقراطية المنتخبة ضعيفة وفاسدة ومتعارضة مع مفهوم «الخير المشترك»، كما يرى يرفين الذي يدعو إلى تمديد منطق تسيير الشركات إلى الدول ومنح سلطة القرار للفنيين المؤهلين لإدارة المجتمعات لا السياسيين المثاليين.

وفي هذا السياق، يميز يرفين بين الحرية والسلطة، معتبراً أن المجال الحقيقي للحرية هو الوعي والتعبير، وليس الانتخاب الذي هو نوع غير مبرر من السلطة، يولِّد لدى المواطن شعوراً وهمياً بالمشاركة في صنع القرار. السياسة في دلالتها العميقة لا تكون من هذا المنظور سوى تفويض مطلق باتخاذ القرارات المصيرية التي تتعلق بالمجموعة السياسية دون قيود مؤسسية أو قانونية.

وفي عام 2007، نشر بيتر تيل دراسةً مهمةً بعنوان «اللحظة الشتراوسية»، دشّن فيها هذا الخط المناوئ للتنوير، بالرجوع إلى الفيلسوف الألماني المهاجر إلى الولايات المتحدة «ليو شتراوس»، باعتباره انفرد في عصره بالنقد الجذري لحركة الأنوار الأوروبية. لقد ميز شتراوس بوضوح بين تنوير راديكالي حديث بدأه سبينوزا وهوبز، يتأسس على العقلانية المادية، والنزعة الوضعية الإنسانية، وإقصاء الدين والمقدس من الشأن العمومي، وتنوير وسيط «عربي يهودي» يمثله الفارابي وابن ميمون يحافظ على ثنائية الإيمان والعقل، ويربط المسألة السياسية بالفضيلة المدنية، ومشروعية السلطة الحاكمة.

 وهكذا استند تيار «الأنوار المظلمة» على هذا النقد من أجل المطالبة بالفصل الجذري بين مقتضيات الحرية التي هي قيمة حداثية إيجابية، وبين طبيعة نظام الحكم الليبرالي الذي يتعارض في منطقه الأعمق مع السلطة التنفيذية السيادية التي تحتاجها المجتمعات الصناعية الراهنة. والخيار المطروح هنا هو ما أدركه هوبز من وحدة وإطلاقية سلطة القرار في دولة تأخذ شكل جهاز تقني يديره فنيون مؤهلون، وإن كان هوبز قد تأثّر سلباً بالأفكار الليبرالية حول التمثيل والمشاركة المدنية.

لا بد هنا أن نبين الفرقَ بين ثلاثة مفاهيم متزامنة من حيث الظهور ومتداخلة في بنائها النظري، وهي الحداثة والليبرالية والتنوير. الحداثة هي نتاج الوعي التاريخي وأساسها التصوري هو الذاتية الحرة التي هي الخلفية الفلسفية للنزعات الإنسانية المعاصرة، ولا يمكن اختزالها في مشروع سياسي محدود أو منظومة أيديولوجية معينة. أما الليبرالية فهي نمط اقتصادي وسياسي، يقوم على منطق التعددية المتعقِّلة وتنظيم المصالح الفردية في إطار مجتمع مدني حر. بينما يحيل مفهوم التنوير إلى خيارات فلسفية ومجتمعية أساسية تتمحور حول فكرة التقدم الإنساني وما يترتب عليها من توجيه السياسة نحو «تربية الجنس البشري» (عبارة ليسنج)، أي صياغة وعي جمعي يتلاءم مع معايير الاستقلالية الفردية والمشاركة المدنية ومنظومة حقوق الإنسان.

لم يكن فلاسفة التنوير الأساسيين ليبراليين في التوجه السياسي والفكري، كما هو شأن روسو أو كانط، بل رفضوا بشدة حيادية الدول ومنح الأولوية للحريات الفردية، واعتبروا أن السلطة العمومية مسؤولة عن وضع سياسات مجتمعية تكفل التقدم العقلي والفكري للفرد المواطن. ومن هنا ذهب الليبراليون الكلاسيكيون إلى أن مفكري الأنوار يخضعون الحرية للقانون والفرد للدولة، ويحولون السياسة إلى سلطة عليا متعالية على المجتمع.

والواقع أن الثورات السياسية الكبرى في الغرب كانت من نتاج حركية التنوير لا الاتجاهات الليبرالية، خصوصاً الثورة الفرنسية والثورة الأميركية بما قامتا عليه من مشروع فلسفي قبلي قننته مؤسسات عمومية تصنع الرأي العام وتوجهه.

 في الولايات المتحدة، يذهب تيار «الأنوار المظلمة» إلى أن سنوات حكم الحزب الديمقراطي، قضت تدريجياً على الحرية، كما هو الشأن في كل الأنظمة الليبرالية الغربية، بتشكل قوى أيديولوجية مهيمنة غير شرعية فرضت نماذج مجتمعية (كالسياسات الجندرية والتمييزية)، تتعارض مع منطق الديمقراطية الحقيقي الذي هو ديناميكية الاختيار غير الموجه وغير المقيد، وحصر السلطة في نظام الحكم التقني القادر على حماية المصالح الفردية وضمان الأمن الجماعي. ومن هنا، ضرورة تخليص المثال الحداثي من المضامين التنويرية التي لا تنتمي إليه أصلاً.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 6 ابريل 2025 23:45

تتبعتُ أثر عنوان كتاب محمد أسد (الإسلام على مفترق الطرق) في عناوين مقالات الإسلاميين بعد استعمال سيد قطب لعبارة «مفترق الطرق» في عنوان المقال الأخير من مقالات كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) الصادر عام 1949، فعثرت عليها في هذه العناوين:

«العالم على مفترق الطرق» وهي خطبة مرتجلة، كما يقول عنها صاحبها أبو الحسن الندوي، ألقاها في «دار الشبان المسلمين» بالقاهرة، في أثناء زيارته لمصر عام 1951.

ما من شك في أن أبا الحسن الندوي يعرف عبارة «مفترق الطرق» من اللغة الإنجليزية مباشرة التي يتقن القراءة بها، ولكنه استعملها لمكانة كتاب محمد أسد العالية في نفسه، وتأثيره الكبير في فكره الإسلامي الأصولي.

ففي كتاب من كتبه المتأخرة، وهو كتاب (شخصيات وكتب)، تحدث عن وقع قراءة كتاب (الإسلام على مفترق الطرق) في نفسه؛ إذ نزلت –كما قال– إلى القرار، ومسَّت شغاف القلب. فمن خلال هذا الكتاب –كما أكمل قوله– اطَّلع على نقائص الغرب الحقيقية، وأدرك طبيعة الثقافة الغربية، واستحالة انسجامها مع الثقافة الإسلامية، وعرف التناقص الجذري المبدئي بين هاتين الثقافتين بصورة واضحة وضَّاءة، وبعمق وإمعان.

وفي موضع آخر من كتابه، قال عن صلته بكتاب محمد أسد: «وظل يطالع كتب المعاصرين وكتاباتهم، فوجد هذا اللون يغلب عليه الطابع العلمي في كتابات مسلم جديد هو الأستاذ محمد أسد، ومسلم قديم هو الأستاذ أبو الأعلى المودودي، قرأت للأول في الإنجليزية كتابه المشهور (الإسلام على مفترق الطرق)، وقرأت للثاني مقالاته في مجلة (ترجمان القرآن) في نقد الحضارة الغربية وأسسها، ثم جمعت في كتاب سمَّاه (تنقيحات) فرأيتهما يتناولان الحضارة كقضية علمية تصلح للنقاش والبحث، أو كجثة تُعرض للتشريح في كلية الطب والجراحة، في القضايا العلمية والاجتماعية والحضارية، وفي الدراسات المقارنة بين الحضارات والديانات والنظريات والفلسفات عن ثقة واعتماد، وبقوة واعتزاز».

قبل أن يتحدث أبو الحسن الندوي عن هذا الأثر الأسدي، كان أحمد أمين ناشر كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) في «لجنة التأليف والترجمة والنشر» قد انتبه لهذا الأمر في المقدمة القصيرة التي كتبها لهذا الكتاب. وهي المقدمة التي حذفها أبو الحسن الندوي ابتداءً من الطبعة الثانية لكتابه، بحجة أنها مقدمة باردة، أضعفت من قيمة الكتاب!

قال أحمد أمين في مقدمته القصيرة لهذا الكتاب التي أرَّخ لكتابتها بـ27 أغسطس (آب) سنة 1950: «والكتاب يدور حول فكرة جليلة، وهي محاربة ما في نفوس المسلمين من مركب النقص، بإحساسهم بضعفهم وانحطاط نفوسهم، وإعزازهم للمدينة الغربية وإعلاء شأنها أكثر مما تستحق؛ فقاوم المؤلف الفاضل هذه الفكرة وأفهمهم أنهم يجب أن يعتزوا بدينهم؛ وأفهم الغربيين أنهم ينقصهم روح الإسلام ليسودهم الهدوء والطمأنينة والسلام؛ وهي فكرة جليلة تستحق كل الإعجاب.

وقد أذكرني هذا الكتاب ومعالجته لهذه الفكرة بكتاب آخر لمستشرق نمساوي مسلم، سماه (الإسلام في مفترق الطرق)، وهو –أيضاً– يدق على هذا الوتر، فعسى أن تتابع الكتب من هذا القبيل...».

عنوان كتاب محمد أسد –كما تعرفون– (الإسلام على مفترق الطرق)، وليس (الإسلام في مفترق الطرق). وهذا الخطأ من أحمد أمين كان سبق قلم. كما أن محمد أسد في هذا الكتاب لا يعد نفسه مستشرقاً، وقد هاجم فيه الاستشراق والمستشرقين عن بكرة أبيهم في كل زمان وفي كل مكان.

«إنجلترا والعالم الإسلامي: مفترق الطرق». وهو عنوان مقال لمحمد ضياء الدين الريس، نشر في مجلة (المسلمون) الإخوانية بالقاهرة، بتاريخ 30 يوليو (تموز) 1952.

محمد ضياء الدين الريس هو المؤرخ البارز في مجال التاريخ الإسلامي.

«العالم الإسلامي على مفترق الطرق». وهو مقال لمحمد الحسني بن عبد العلي الحسني، نشر في تلك المجلة بتاريخ 9 أبريل (نيسان) 1954. هذا الكاتب الإسلامي ابن أخي أبي الحسن الندوي وتلميذ له. في منتصف السبعينات الميلادية جمع مقالات كتبها ما بين عامي 1954 و1975 في كتاب كان عنوانه (الإسلام الممتحن)، وكان أول مقال فيه المقال المشار إليه وآخر مقال فيه، كان عنوانه «حسن البنا في محراب التاريخ الإسلامي».

«الإسلام في مفترق الطرق». هذا عنوان كتاب للطبيب والأديب والمناضل الجزائري أحمد عروة، صدر باللغة الفرنسية عام 1969، وترجمه إلى اللغة العربية فيلسوف «الجوَّانية» عثمان أمين، في منتصف السبعينات الميلادية.

أحمد عروة صاحب توجه إسلامي، له مجموعة من الكتب توزعت ما بين الطب والبيئة والأدب والفكر الإسلامي. وعدد من الأبحاث العلمية المختصة.

ومع أنه صاحب توجه إسلامي فإنه ليس لاسمه وكتبه وأبحاثه حضور في كتب الإسلاميين.

لم يسبق لي أن اطلعت على عمل من أعماله سوى هذا الكتاب، والذي اطلعت عليه لغرض شكلي، وهو تتبع ورود عبارة «مفترق الطرق» في عناوين مقالات الإسلاميين ومحاضراتهم.

من اطلاعي على كتابه هذا، رأيت أن خطابه الإسلامي مختلف عن المعهود في خطاب الإسلاميين بمختلف تياراتهم واتجاهاتهم.

ولاحظت أن دعوته في هذا الكتاب لإحياء الإسلام (أو النهضة الإسلامية) ومجادلته لقضايا في الفكر الغربي -مثل العلمانية والماركسية وغيرهما- ينطبق عليهما ما يمكن أن يسمى «علم كلام معاصر» رصيناً وهادئاً ومستوعباً ومنفتحاً.

وهذا سبب من الأسباب، أو لعله السبب الرئيس الذي جعل كتبه وأبحاثه يغيب ذكرها في كتب الإسلاميين.

الكاتب الجزائري ناصر جابي في مقال له عنوانه «مسيرة أحمد عروة التي لخصت تاريخ الجزائر»، منشور في جريدة «القدس العربي» قدم أسباباً أخرى، مدارها الحالة الأصولية والحالة الفرنكفونية في الجزائر. ومن أراد أن يعرف الأسباب التي قدمها، فليرجع إلى مقاله.

كتاب أحمد عروة لا يتشابه مع كتاب محمد أسد إلا في العنوان. فأفكار أحمد عروة الإسلامية المنفتحة مختلفة جداً عن أفكار محمد أسد الإسلامية الأصولية.

لم يبقَ من الملحوظات التي سقتها في مقالات سابقة، إنشاءً على ملحوظتَي يوسف الشويري وشريف يونس الخاصتين بنقد سيد قطب للحضارة الغربية سوى القليل، وسأوجز تقديمها قدر المستطاع!

في أول شهر من عام 1948 صدرت ترجمة كتاب (الإسلام والنظام العالمي الجديد) تأليف مولانا محمد علي، من الإنجليزية إلى العربية. هذا الكتاب ترجمه إلى العربية أحمد جودة السحار، وترجمَتُه إلى العربية صدرت عن «لجنة النشر للجامعيين».

الكتاب أصلاً رسالة كتبها مولانا محمد علي باللغة الأردية عام 1942، وكان عنوانها (نظام عالمي جديد)، ثم ترجمها هو بالعنوان نفسه إلى الإنجليزية عام 1944. ومولانا محمد علي هو مترجم القرآن الشهير إلى اللغة الإنجليزية.

بتاريخ 4 مارس (آذار) 1946، نشرت مجلة (الرسالة) مقالاً لعباس محمود العقاد، يحتفي فيه بهذا الكتاب، وكان عنوان مقاله (الإسلام والنظام العالمي الجديد).

استهل العقاد تعريفه بموضوع الكتاب بتعريفٍ بالدعوة القاديانية وبالدعوة الأحمدية اللاهورية، وإن لم يسمِّ في هذا المقال الدعوة الأخيرة باسمها الحقيقي.

مناسبة كتابته لهذا الاستهلال، أن مؤلف كتاب (نظام عالمي جديد) مولانا محمد علي بيَّن في مقدمته أن الكتاب من منشورات الدعوة الأحمدية لإشاعة الإسلام.

الدعوة الأحمدية اللاهورية –بتعريف مختصر– هي تحوير ملطَّف ومخاتل للدعوة القاديانية.

ظني أن الذي لفت نظر مشروع «لجنة النشر للجامعيين»، وتحديداً عبد الحميد جودة السحار إلى اختيار كتاب مولانا محمد علي (نظام عالمي جديد) لترجمته إلى اللغة العربية، هو مقال العقاد عنه. الذي قادني إلى هذا الظن أن كلمة «الإسلام» غير موجودة في عنوان الكتاب؛ لا باللغة الإنجليزية ولا باللغة الأردية، فهي موجودة –فقط– في عنوان مقال العقاد.

وغير بعيد أن الذي أشار على عبد الحميد باختياره للترجمة فكلَّف أخاه أحمد بذلك، هو سيد قطب الذي في التاريخ الذي نُشر فيه مقال العقاد، كان يعمل على إعداد كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام).

صلة سيد قطب بمشروع «لجنة النشر للجامعيين»، هي صلة منافع متبادلة بينه وبين بعض أعضاء هذا المشروع، وعلى رأسهم مدير المشروع والمسؤول عنه عبد الحميد جودة السحار.

هذا المشروع أسسه عبد الحميد جودة السحار عام 1943، بدعم من أخيه سعيد صاحب «مكتبة مصر». فـ«مكتبة مصر» كانت هي الناشر لسلسلة كتب هذا المشروع.

من أبرز أعضاء هذا المشروع: نجيب محفوظ، وعادل كامل، وعلي أحمد باكثير، وأمين يوسف غراب، ومحمد عبد الحليم عبد الله.

كتاب مولانا محمد علي –حسب ترجمة عنوانه إلى اللغة العربية– (الإسلام والنظام العالمي الجديد) هو ثاني مصدر تلقف سيد قطب من خلاله فكر «الأصولية الإسلامية»، وكان مصدره الأول فيها كتاب محمد أسد (الإسلام على مفترق الطرق). ومن مفردات الخطاب الإسلامي الأصولي، نقد الحضارة الغربية. وهو نقد يقوم على لاهوت جدلي. وبما أنه يمكن تصنيفه على هذا النحو المنهجي، فهو يتسم بما يتسم به هذا النوع من الجدل من سمات، كالتحامل والمغالطة والحدَّة والعنف والعدوانية.

نقد الحضارة الغربية في الخطاب الإسلامي الأصولي يقترن بنقد الديانة المسيحية، وكتابا محمد أسد ومولانا محمد علي مملوآن بنقد الغرب العلماني وبنقد الدين المسيحي.

منطلقات مولانا محمد علي في نقد الديانة المسيحية تختلف عن منطلقات محمد أسد في نقده لها، فهي –في الأساس– عند مولانا محمد علي منطلقات «قاديانية» أكثر من كونها منطلقات «إسلامية»، كما هي عند محمد أسد.

سيد قطب استفاد في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) أيما استفادة من كتابيهما في نقد هذين الشأنين.

كثرة من الباحثين يهملون أثر هذين الكتابين في نشأة فكر «الأصولية الإسلامية» عند سيد قطب، ويركزون على أثر أبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي، مع أن هذين الرجلين يمثلان المرحلة التالية والأخيرة في بناء هذا الصنف من الفكر عنده، بناءً كاملاً وتاماً. وللحديث بقية.

***

علي العميم

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الأحد - 23 رَمضان 1446 هـ - 23 مارس 2025 م

هنالك تأثير عميق لـ«الطائفية» في وجدان شرائح واسعة من المواطنين في الشرق الأوسط، ما يجعلهم عرضة للسلوك العنيف لفظياً وعملياً، أو انخراط بعضهم في ممارسات تضطهد المختلف من خلال التمييز الطائفي.

ليس لـ«الطائفية» من سبب محدد، إنما هنالك عوامل متداخلة جعلت المشكلة مركبة، لعل واحداً من أهمها أن «غالبية الدول الإسلامية تعاني مما يمكن وصفها بأزمة هوية»، بحسب الدكتور توفيق السيف، الذي يعتقد في مقال له بعنوان «لماذا نجح الغربيون وفشلنا؟»، أن هذه الأزمة ليست «عند الأقليات فقط، بل بالقدر ذاته عند الأكثريات أيضاً»، حيث «الأقليات تظن أن الأكثرية تظلمها حقها، والأكثرية تظن أن الأقلية تخونها».

هذه «الأزمة» أعتقد أحد مناشئها أن «الهوية» في هذه المجتمعات فاقدة لحيويتها، ويُنظرُ لها وكأنها ناجزة تامة، لا يصح إجراء تغييرات فيها؛ بل إن أي مساعٍ لتطويرها بما يتواكب مع مستجدات الحياة، هي محاولات ستواجه بصلابة!

أمرٌ آخر، «الهوية» دخلت في صراع الثنائيات المتضادة، ولذا بات على الناس أن تختار ما بين هوياتها الدينية أو العرقية أو الوطنية أو الثقافية، وهو ما صيرها في نزاعٍ ثقافي - اجتماعي، وجعلها مرتبة ومشوهة.

العلاقات والمصالح بين الناس، هي أيضاً تتعالق مع الهوية، ما يجعل السؤال ملحاً: هل ترتبط هذه العلاقات بـ«الهويات الفرعية» وبالتالي سيحضر الدين واللغة والقبيلة والعرق، لتكون محدداتٍ تبني النظام الاجتماعي بين المواطنين، أم أن هذا الانتظام سيكون متجاوزاً لكل هذه التفاصيل ومنحازاً لمحددات أخرى مدنية ومرنة؟!

المجتمعات الإسلامية ما لم تعالج النقاط الثلاث أعلاه، سوف تستمر هذه «الأزمة الهوياتية» التي أشار لها توفيق السيف، وهي المعالجة التي تحتاج للبدء عبر مراجعات نقدية حقيقية وعلمية وصريحة للخطابات الثقافية والاجتماعية والدينية السائدة، فضلاً عن المعالجة القانونية التي هي بمثابة «صمام الأمان»، كون القانون هو الإطار التنظيمي الذي من خلاله يتم بناء هوية حديثة جامعة، غير أحادية، يجد فيها مختلف المواطنين ذواتهم، ويمارسون حريتهم، ويعبرون عن سردياتهم المتنوعة، من دون أن يؤدي ذلك للصدامِ أو الإلغاء!

إن الهوية كائنٌ حي، وبالتالي معرضة للهرم والضعف، وليست منتجاً مصمتاً لا ينقص أو يزيد. من هنا تبرز ضرورة تحديث الهوية وتطويرها، وجعلها مرنة ومتفاعلة مع الحياة، وقادرة على أن تتشارك مع الهويات الأخرى وتأخذ منها، من دون قلق أو ريبة.

تفاعل الهويات المتعددة سيجعلها قادرة على احترام بعضها البعض، وعلى ذات المستوى من المساواة والندية، فتلتغي ثنائية الأكثرية والأقلية، والأعلى والأدنى، وتكون هنالك نظرة أساسها كرامة الذات الإنسانية، والمواطنة الشاملة؛ لأن الدولة الحديثة لا يتم فيها فرز الناس وفقَ النسب المئوية أو التفضيلات الثقافية، بل الجميع سواسية من دون ميزاتٍ لمكونٍ على آخر.

بناء على ما سبق، فإنَّ الهوية ليست محكومة بصراع الثنائيات الكلاسيكية، بل هي مركبة من عناصر عدة، لكل واحدٍ منها درجة تأثير معينة تختلف من مجتمع لآخر ومن فردٍ لآخر.

إن الدين واللغة والعرق والثقافة والتأريخ والجغرافيا، كلها محددات هوياتية متعاضدة، ترسم الهوية الأكبر للفرد والمجتمع، وبقدرِ ما يكون للإنسان من هوية فردانية، لديه أخرى جمعية - وطنية، ولديه هوية ثقافية وسياسية، أي مجموعة من الدوائر المتداخلة. ذلك لن يقود كما يتصور البعض إلى وجود خلل هوياتي، بل سيراكم خبرات ومعارف تنضج يوماً بعد آخر.

إن العلاقات بين الناس في حقيقتها التاريخية - إلا إذا استثنينا مراحل الصراع الدموية - سنجد أنها مبينة على تجاور وتفاعل وتعارف الهويات، وتداخل المصالح الاقتصادية؛ وانتظامهم في الوقت الحالي سيكون عبر «الهوية الوطنية» التي تصنعها الدولة ونخبها عبر البرامج والمشاريع الفكرية والعملية، لا عبر الفرضِ والإكراه وتهميش الهويات الصغيرة، وإنما بوصف «الدولة» كياناً له شرعيته النابعة من شرعية التعاقد الاجتماعي بين المواطنين والسلطة.

قد تكون هذه المحصلة بنظر البعض مثالية وغير واقعية ضمن الظروف الحالية في الشرق الأوسط، التي تشهد صراعات عنيفة طائفية ودينية في أكثر من دولة. إلا أن هذه النزاعات المزمنة كي يتم الحد منها ومواجهتها، لا بد من تصحيح الخلل المعرفي - السياسي، وهنالك نماذج عدة لمجتمعات ودول عربية وإسلامية بدأت في ذلك، واستطاعت أن تصوغ هويتها الأكثر حداثة والأرحب أفقاً والقابلة للحياة.

يبقى القانون العادل، هو السياج الحامي، خصوصاً أن المجتمعات العربية تمرُّ بمرحلة انتقالية، حتى تكون فيها «المواطنة» حجر الزاوية، وليس أي انتماءات فرعية أخرى!

***

حسن المصطفى

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: السبت - 07 شوّال 1446 هـ - 5 أبريل 2025 م

 

شغف المسلمون كثيراً بثنائية العقل والنقل، فلم يكن للمسلمين أن يُردّدوا عبارة أوغسطين «آمن، ثم تعقّل»، بل كانوا يرون أن «أول الواجبات النظر»، وقد أسعفهم كتابهم الكريم بهذه الرؤية التي تجعل العقل دعامة للإيمان. عندما وقف العامري في كتابه «الإعلام بمناقب الإسلام»، على مواقف تزعم بُعْد العلوم الملية عن العقل، قام بتفصيل القول فيما ترجع إليه العلوم الملية من معتقدات وعبادات ومعاملات وزواجر، فأكّد أن ماهيات العلوم الملّية هي عقلية، وأن العقل الصريح لا يستنكف عن عبادة، ولا يحيل معاملة النّاس بعضهم بعضاً بالحسنى، ولا يجيز ترك الأشرار دون زجرهم عن السوء، وهي كلّها من مشمولات الملّة، غير أن عقول الأفراد لما يلحقها من قصور في إدراك الكيفيات والكمّيات في العبادات والمعاملات والزّواجر، كان من الضّروري اللّجوء إلى علم الباري لتقديرها. مؤكداً أنّ كل ما أوجبه العقل يجب قبوله والالتزام به، وما لم يوجبه العقل لا يقبل أبداً.

وما جوّزه العقل فحكمه موقوف في انتظار أن يَردَ أمرٌ ما، ومن هنا أهمية الملّة، وأهمية حاجة العقل الغريزي إلى المسموع الخبري، خاصة أن الملة أكدت حجّة العقل بالسمع في كثير من آيات القرآن الكريم. بل إن عناية المسلمين بتقديم المقدمات العقلية لاستخراج النتائج النظرية فاقت كل التّصورات والتّوقعات، كما يظهر ذلك في كتب المتكلمين على الأقل. مما يظهر المكانة التي احتلها العقل في فضاء أهل الإسلام كما أكد ذلك العامري.

وعندما وقف الكندي، قبله، على الفلسفة اليونانية، وقد كان متشبعاً بعلومه الملية، وجد أنّ علم الرسل الذي هو مصدره الوحي والإلهام، موافق لعلوم الفلسفة التي مصدرها البحث العقلي والفحص النظري، وقد أصبحت هذه الفكرة تخترق المتن الفلسفي الإسلامي، وقد عبّر عنها كل فيلسوف بطريقته الخاصة:

أثبت الكِنْدي هذه الفكرة من خلال نظر فلسفي في أواخر سورة يس بآياتها المعَبِّرة عن قضايا فلسفية بِلُغَة وجيزة للقول الفلسفي فيها بسط واستقصاء، أو بلغة العامري «معانٍ لو بسطت لاستغرقت الأخلاد والطوامير». وقد وظّف الكندي كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو لتأسيس فكرة التّوحيد ضدا على الثّنوية والتّثليت. ووجدنا الفارابي في كتابيه «الملّة» و«الحروف» يبرز أن كلّيات الملة منطوية تحت كلّيات الفلسفة النظرية والعملية، في إطار علم مدني يجعل الفيلسوف جزءاً من مدينته وليس غريباً عنها.

بل إن الغزالي، وبالرغم ممّا يقال عن عداوته للفلسفة، فإنه في كتابه «مشكاة الأنوار» كان أقرب إلى الفلاسفة، بل فيلسوفاً حتى النّخاع. يُقرِّب بين منظومتين من خلال آية المشكاة.

ولعل أجلى مثال على التّبنّي المطلق لهذه الازدواجية بين العقل والنّقل هو ابن رشد الذي يُصرّح بقوّة في كتابه «فصل المقال» أنّ ما أقرّه العقل لا يمكن للشرع أن يخالفه، وإلا تمّ اللجوء إلى التّأويل للجمع لاستحالة مخالفة الشرع للعقل.

وقد جسّد معاصر ابن رشد وصديقه ابن طفيل، هذه الفكرة بجلاء في قصة حي بن يقظان التي هي في عمقها خيوطٌ رفيعةٌ نُسجت لتصل الشرع بالعقل والوجدان.

إن ديناً يقوم كتابه كلّه على الدُّعاء إلى النّظر والاعتبار، وإن حضارة قامت في كثير من دعائمها على التّوفيق بين العقل الصريح والخبر الصحيح، لا يمكن لأهلها إلا أن يحتفوا بالعقل، ليس العقل الأداتي فقط، الذي هو عقل تقني جارف من دون قيم في كثير من الأحيان، بل العقل المتعدّد بشِقَّيه النّظري والعملي، فهو الطريق اللاّحب إلى الاستثمار، والسّبيل الأوحد إلى الاكتشاف، والجسر الواصل بالأخلاق البانية الدّاعمة للإعمار.

***

د. إبراهيم بورشاشن

نقلا عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 3 ابريل 2025 23:45

 

عيد يتقصّى جذورها في «عمائم وطرابيش وكلمات»

دلالة العلامة من «طربوش» العقاد إلى «طاقية» الشعراوي

دأبت الدراسات الفكرية عامة، والنقدية خاصة، على أن تخاطب قارئاً متخصصاً، مستخدمة لغة ممعنة في التجريد والانغلاق، ومتكئة على جهاز اصطلاحي يصعب على القارئ العام فهمه أو التواصل معه وفك شفراته، وهذا ما يجعلها محدودة المقروئية، ومن ثم التأثير في قطاع واسع من المتلقين، وربما هذا ما كان يعيه تماماً الباحث المصري الدكتور محمد عبد الباسط عيد، وهو يؤلف كتابه «عمائم وطرابيش وكلمات: قراءات في العلامة»؛ فقد حرص على أن يتفادى هذا الانغلاق، ويُخرِج كتابه إلى آفاق أكثر اتساعاً، ليكون صالحاً للقارئ العام. ورغم أن الكتاب يمثل ممارسة قرائية تنتمي إلى علم السيموطيقا، بما له من ترسانة اصطلاحية قد تُثقِل كاهل القارئ، فقد تمكن المؤلف من «تقديم مقاربة للعلامات تنزل بها من فضاء التجريد الأكاديمي إلى فضاء المعرفة الحية».

صدر الكتاب حديثاً عن «دار العين» بالقاهرة. ومنذ عنوانه الذي لا يسير على نمط العنونة الأكاديمي، إنما اتخذ لنفسه مساراً تداولياً، بداية من هذا العنوان التبسيطي الجذاب، مروراً باللغة الخالية من أي تقعُّر أو اصطلاحات صعبة، التي كان واضحاً فيها نهج مخاطبة القارئ دائماً، بصيغة المخاطب، بما يجعله أقرب إلى حوار بين المؤلف والقارئ، أو يقترب به من الطابع الشفاهي، وكأن الكتاب محض «دردشة» بين شخصين، عبر صفحاته (176 صفحة)، لكنها دردشة مسكونة بكثير من الحمولات الفكرية والسياسية والآيديولوجية، التي يحاول القارئ فيها أن يخفي مواقفه وانحيازاته قدر الإمكان، لكنها تنسرب منه إلى القارئ على مهل، وبعيداً عن أي خطاب فوقي، فهي محض دردشة، وكثيراً ما يخاطب القارئ في تفصيلة هنا أو هناك قائلاً: «كما تعلم»، وكأنه يضع الأرضية المشتركة التي يقف فيها مع القارئ، بوصفها أساساً للحوار الذي ينطلقان فيه.

إلى جوار هذه اللغة التداولية، هناك مستوى آخر يمنح هذا الكتاب جاذبيته، وهو أنه يناقش حزمة من العلامات شديدة الحضور في الواقع المعيش؛ فهو ينقسم إلى فصلين كبيرين، يناقش كل منهما نمطاً من العلامات، محاولاً تفسير دلالاتها ومرجعياتها والسياق الذي أنتجها. وبدا أن الكتاب مجموعة مقالات كُتِبَت بشكل متفرِّق، وهو ما يدل عليه قصر هذه المقالات ولغتها الأقرب إلى اللغة الصحافية التي يمكن للجميع فهمها، لكن كان ثمة خيط يجمعها في عقل المؤلف وهو يكتبها منجَّمة، فبدت غير متنافرة، كحبات عقد كل منها له استقلاله، لكنها تنتظم معاً في هذا الخيط مكونة عقداً مهماً من قراءة الواقع وعلاماته وحركيتها، سواء في السياق الاجتماعي والسياسي الذي أنتجها، أو في عمقها التاريخي وبُعدها التراثي الذي يبدو مطموراً تحت هذه العلامة الراهنة، محاولاً تفكيك العلامة وفهم كيفية تشكلها وطرائق عملها واشتغالها، ومن ثم تأثيرها في الواقع المعيش وتأثرها به.

في الفصل الأول: «تقشر الكلام»، يناقش مجموعة من العلامات التي تصادف المرء يومياً، مثل «الزينة، الباب، العين، الأصول، الرقبة، البلاغة البيضاء، أسماء وألقاب»، مقلباً بين كل الحمولات الممكنة لكل علامة، وما تحمله من تقاطعات مع علامات أخرى، فعند قراءة علامة الزينة مثلاً، يناقش زينة البيوت، معرجاً على فنون العمارة، والزينة بمعناها الديني (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، والفروقات الدينية بين زينة الرجال وزينة النساء، فضلاً عن مرور على زينة الكلام في المحسنات البديعية، وتمثيلاتها الشعرية لدى أبي تمام وغيره من الشعراء، بما يجعل ظلال المفردة أكبر وأعمق كثيراً مما تبدو في سطحها المخادع.

في الفصل الثاني: «الأزياء... الأشكال والدلالات»، وهو الأصغر حجماً، لكنه ربما الأكثر جاذبية، منطلقاً من حقيقة أن «ملابسنا أكبر من مجرد أغطية للجسد؛ إنها رسائلنا لأنفسنا وللآخرين، هي كذلك حتى حين نرتديها ببساطة ودون تفكير واعٍ». ومن ثم، فإنه يحاول قراءة الملابس ليس بما تبدو عليه من بساطة على السطح، ولكن بوصفها «نتيجة تفاعل أنساق أعمق»، متوقفاً عند حمولاتها السياسية أحياناً، والطبقية والجندرية أحياناً أخرى، مؤكداً أن «الجانب الديني فيها لا يدل على التقوى، بقدر ما يشير إلى حضور هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع في الفضاء العام».

يتوقف المؤلف أولاً عند طربوش المفكر الراحل عباس محمود العقاد، مختزلاً ركاماً من الكتابات الفكرية والرطانة الأكاديمية عن ثنائيات «الحداثة والتراث» أو «الأصالة والمعاصرة»، فيحاول مقاربة نمط الأزياء التي كانت سائدة مطلع القرن الماضي، بوصفها علامات على الموقف من الحضارة الغربية، بين أصحاب القبعة المنتمين كلياً للثقافة القادمة لنا من شمال البحر المتوسط، وأصحاب «العمامة» الذين يتخذون موقفاً رافضاً لكل ما ينتمي للحضارة الغربية معتصمين بكل ما هو ديني وتراثي للزود عن الذات، وأخيراً أصحاب «الطربوش»، الذين يحاولون التوسّط بين تراث الذات العربية والثقافة الغربية الحديثة، لصناعة مزيج معتدل لا يرفض الآخر وثقافته، وفي الوقت نفسه لا يسمح بأن يستلبه هذا الآخر تماماً، ولا أن تذوب ذاته بجذورها العميقة في ثقافته، فيرى المؤلف أن الطربوش أصبح «علامة على خطاب ثقافي يسعى للتوسط بين القبعة والعمامة، وتمثل الأخيرتان علامتين على خطابين آخرين متناقضين». في حين أن هذا الطربوش ذاته يمثل لنا، نحن الآن، في عشرينات القرن الحادي والعشرين «علامة على مرحلة زمنية ماضية، وما يرتبط بها من أنساق ثقافية تضم القيم والمعتقدات والقضايا السياسية والاجتماعية التي ترتبط بعصر الطربوش والمطربشين».

وينتقل الكاتب من طربوش العقاد إلى طاقية الشيخ محمد متولي الشعراوي وجلبابه؛ فقد أصبح الشيخ الراحل بزيه الشهير وملامحه المميزة رمزاً كبيراً يمارس حضوره اليومي في الشارع المصري، رغم رحيله منذ نحو ربع قرن، لكن حضور صورته بكل حمولاتها الرمزية يبدو واضحاً «فحين يضع أحدنا صورة الشيخ على جدار صفحته على (فيسبوك)، فهو لا يضع مجرد صورة، وإنما يعلن عن انتماء فكري وثقافي لمنظومة محددة من القيم والأفكار».

ويسعى المؤلف إلى قراءة صورة الشيخ الراحل، بوصف هذه الصورة علامة ثقافية، وكيفية صناعة هذه العلامة وأبعادها، سواء ما يتعلق منها بالمظهر الخارجي، متجسداً في التماثل بين الطاقية البيضاء و«الجلابية» الريفية، واللغة العامية البسيطة التي يستخدمها في تفسير الآيات القرآنية، فكلتاهما - الملابس واللغة - تحرص على الاقتراب من عموم الناس والفقراء، فهذا كله يمثل خطاباً ورسالة بأن الشيخ واحد من البسطاء، وفي الوقت نفسه يتوقف المؤلف عند أهمية السياق الثقافي والسياسي في تعميق العلامة في الوعي العام؛ فقد تزامن هذا مع تحولات السياق الاجتماعي السياسي، بانتهاء المد الاشتراكي مع مطلع السبعينات وتولي الرئيس المصري الأسبق أنور السادات؛ فالعلامة لا تنمو وتصبح رمزاً متجذراً إلا في بيئة مواتية وسياق يسمح لها بالنمو والازدهار؛ فهي بنت سياقها السياسي والاجتماعي، فخطاب الإنتاج يحتاج لحظة تلقي مواتية، وهذه اللحظة جاءت مع هيمنة العلمانية ومركزية العلم في الغرب، في مقابل إزاحة الدين إلى داخل جدران الكنائس، وهو ما جعل المواطن العربي المسلم يخشى تكرار هذا النموذج الغربي، وصار أكثر رغبة في الاعتصام بكل ما هو ديني، فكان الشعراوي بصورته وطاقيته وجلبابه رمزاً لهذا الاعتصام بالدين في مواجهة العلمانية الغربية التي بدت للبعض متطرفة.

رغم ما يبدو عليه الكتاب من بساطة خادعة، في لغته وموضوعاته، فإن ثقافة المؤلف الموسوعية تعلن عن نفسها، وتطل برأسها بين السطور، فتتبدى معرفته العميقة بالشعر العربي القديم والبلاغة التي تبدو واضحة في استشهاداته المتعددة، وكذا ثقافته الدينية والفقهية في استشهاداته بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وصولاً إلى وعيه بالواقع وما يمور به من تيارات سياسية وتحولات آيديولوجية، وما تحمله العولمة من هيمنة نمط استهلاكي، فنجده يراوح بين الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا وعالم اللغة السويسري دي سوسير، والجاحظ وامرئ القيس ومقولات فقهاء قدامى، كل هذه المعارف وغيرها يوظفها الكاتب في قراءة علامة تبدو شديدة البساطة، مثل «طربوش العقاد» أو «طاقية الشيخ الشعراوي».

***

عمر شهريار

عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 9 مارس 2025 م ـ 09 رَمضان 1446 هـ

المعرفة ليست سلعة ولا أداةً فحسب، بل هي صورة الكائن العاقل عن ذاته، ووسيلته لفهم العالم وتحديد موقعه فيه. منذ أن طرح الإنسان سؤاله الأول عن الحقيقة، دخلت المعرفة دائرة التجاذب بين العقل والحس، بين التأمل والتجريب، بين الوحي والفلسفة. لقد كان تاريخ الفكر، منذ الإغريق حتى اليوم، محاولة دؤوبة لتحديد ماهية المعرفة ومصدرها وحدودها، وهل هي مطلقة أم نسبية، محايدة أم مؤدلجة، شاملة أم مشروطة بسياقها الثقافي والتاريخي؟

في المدرسة المثالية التي عبّر عنها أفلاطون، نجد المعرفة تنتمي إلى عالم المُثُل، حيث الكائنات الخالدة والصور النقية. فالحقيقة ليست فيما يُرى، بل فيما يُعقل. وعلى النقيض، جاء أرسطو ليُخضع المعرفة للتجربة، وجعل الحواس مدخلاً للعلم، والاستقراء منهجاً للتيقن. وهنا نشأت ثنائية لا تزال تُملي على الفكر الفلسفي مواقفه: المثالية في مقابل التجريبية.

في السياق الإسلامي، لم يكن سؤال المعرفة أقل مركزية، بل ازداد عمقاً، حين اقترن بالوحي والنبوة. المعتزلة بالغوا في تعظيم العقل حتى جعلوه حاكماً على النقل، في حين شدد الأشاعرة على أن العقل خادم للنص لا سيده. أما فلاسفة الإسلام، من الفارابي إلى ابن سينا، فقد سعوا إلى التوفيق بين العقل والوحي، فجعلوا للمعرفة مراتب: تبدأ من الحسي، وتمر بالخيالي، وتنتهي إلى العقلي والاتحاد بالعقل الفعّال. على أن التيار العرفاني، كما في فكر ابن عربي، اعتبر أن أعظم المعارف لا تُنال بالبرهان، بل بالذوق والكشف، فالمعرفة الحقّة «علم لدني» يُلقى في القلب.

 ثم جاء الغرب الحديث بقطيعته الشهيرة مع الموروث، فأسس ديكارت العقلانية الحديثة على الشك واليقين الذاتي، وردّ كل معرفة إلى العقل المفكر. ثم جاء من بعده من أعاد الاعتبار للتجربة، كجون لوك وهيوم، حيث صار العقل صفحة بيضاء تمتلئ بالانطباعات الحسية. وكان لا بد من مفكر ككانط ليحاول الجمع بين الطرفين، فجعل المعرفة نتيجة تفاعل بين الحواس ومقولات العقل القبلية.

عربياً، واجهت النخب المثقفة سؤالاً مزدوجاً: كيف ننهل من المعارف الحديثة دون أن نقطع مع تراثنا؟ هنا تباينت المواقف: فزكي نجيب محمود آمن بوجوب القطع مع العقل البياني والعرفاني، ودعا إلى تأسيس فكر عربي علمي على شاكلة الوضعية المنطقية. في المقابل، رأى محمد عابد الجابري أن التجديد لا يكون بالقطيعة بل بإعادة قراءة التراث بعقل برهاني نقدي يفرّق بين أنماط التفكير السائدة. أما المهدي المنجرة، فقد تجاوز الإطار الفلسفي البحت، ليضع المعرفة في سياقها التحرري، معتبراً أن التبعية المعرفية هي الشكل الأخطر من أشكال الاستعمار.

المعرفة، في بعدها الحضاري، ليست فقط سؤالاً نظرياً عن الحقيقة، بل هي مشروع نهضوي في جوهره. والتحدي الذي يواجهنا اليوم هو: كيف نبني عقلاً نقدياً حراً، منفتحاً على المعاصرة دون أن يفقد صلته بالجذور؟ كيف نُنتج معرفة نابعة من أسئلتنا نحن، لا من أجوبة الآخرين؟

***

د. محمد البشاري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 31 مارس 2025

في شهر نوفمبر الماضي، ألغت المحكمة الدستورية في رومانيا الانتخابات الرئاسية، معتبرةً أنها عانت من التدخل التقني الروسي الذي أفقدها صدقيتَها وشرعيتَها.

ليست الحالة الرومانية استثناءً، فقد اعتادت البلدان الغربية اتهام موسكو بالتدخل في مرات عديدة للتأثير على الانتخابات العامة، من استفتاء «البريكست» في بريطانيا إلى الاقتراع الرئاسي الأميركي، وليس انتهاءً بالانتخابات التشريعية الأخيرة في ألمانيا.

ليس من السهل الوصول إلى حقيقة موضوعية في هذا الجدل الروسي الغربي المتصاعد، لكن مما لا شك فيه أنه يعكس أزمةً عميقةً ومعقدةً تعرفها حالياً الديمقراطيات الانتخابية في معظم الدول الليبرالية الغربية.

 ما لا يعرفه الكثيرون هو أن آلية الانتخاب لم ينظر إليها بعين إيجابية لدى دعاة الديمقراطية الليبرالية الأوائل، بل إن فكرة التمثيل اعتبرت متعارضة مع مبدأ سيادة الشعب، سواء تعلق الأمر بتوماس هوبز الذي رأى أن مفهوم التمثيل الأوحد المقبول هو تجسيد الدولة للجسم المدني المشترك، أو تعلق بجان جاك روسو الذي كان يرى في فكرة التمثيل تناقضاً صريحاً مع معيار الإرادة المشتركة الذي هو أساس العقد الاجتماعي.

 وهكذا كتب السياسي الفرنسي فرانسوا غيزو في بداية القرن التاسع عشر: «إن هدف الانتخاب كما هو بديهي هو نقل الأشخاص أكثر تأهيلاً وقدرة إلى مركز الدولة، وتلك طريقة لاكتشاف وتشكيل الشرعية الأرستقراطية الحقيقية». أما اليسار الثوري، فقد نظر إلى الانتخاب على أنها لا تفضي إلا إلى حرية صورية تغطي على التفاوت الاجتماعي القائم.

ومع نهاية القرن التاسع عشر، اعتمدت الديمقراطيات الليبرالية الغربية نظامَ الانتخاب لقياس الشرعية الديمقراطية، في مرحلة اتسمت بحدة الصراع الاجتماعي الأيديولوجي الذي انعكس في كتل انتخابية متمايزة طبقياً وسياسياً تعكسها قوى حزبية منظمة، بما منح فكرة التمثيل مضموناً موضوعياً ملموساً ودقيقاً.

  بيد أن الصورة تغيرت نوعياً في السنوات الأخيرة التي شهدت ظواهرَ متزايدةً حدت من فاعلية ونجاعة الماكينة الانتخابية، من بينها: انحسار الصراع الاجتماعي الطبقي الأصلي المرتبط بالحضارة التقنية الصناعية الحديثة، واستفحال حركية التجزؤ الفردي التي ألغت الهويات الجماعية الممتدة، وانهيار المنظومة الحزبية التي كانت في السابق متمحورة حول اليمين الليبرالي والاشتراكية الاجتماعية...

في جل الديمقراطيات الغربية، لم تعد الاستحقاقات الانتخابية تتناسب مع الزمنية السياسية، أو تحسم صراعاً سياسياً قائماً، بما ينعكس في غياب أو ضعف الأغلبيات البرلمانية، بما يفرض أنماطاً متنوعة من التحالفات الظرفية التي تشل في بعض الأحيان مؤسسات الدولة، كما ينعكس في عجز الحقل السياسي عن ضبط حركية الاحتجاج المدني والمطلبي في الشارع، فضلاً عن عزوف قطاعات واسعة من المواطنين عن الانتخاب وصعود التيارات الشعبوية غير الليبرالية.

لقد طالب العديد من المفكرين السياسيين في السنوات الأخيرة بإعادة طرح ومعالجة سؤال الشرعية الديمقراطية بعد أن ظهر عجز آلية الانتخاب عن حله بالطريقة الملائمة المرضية.

فإذا كانت الديمقراطية الحديثة تقوم على ثلاثة مرتكزات هي: المشاركة والتداول العمومي والتمثيل، فإن أدواتها المسطرية قابلة لأن تتكيف مع الواقع المجتمعي الجديد، وليس من المعقول أن تختزل في آلية الانتخاب التي تقوم على مسلمة تماهي الأغلبية المنتخبة مع الإرادة الجماعية المشتركة. وإذا كانت الثورة الرقمية الجديدة قد وفّرت فرصاً هائلة غير مسبوقة للنقاش العمومي وللمشاركة المدنية، إلا أنها في الوقت نفسه ولدت تحديات خطيرة تتمثل في مخاطر التلاعب بالوعي والعقل من خلال سياسات الانطباع السريع وتوجيه الأذواق والميول وطمس الحقائق والوقائع الموضوعية، بما أدى إلى إبطال القاعدة الذهبية للسياسة العادلة كما تصورها أفلاطون، أي القدرة على التمييز العقلاني الدقيق بين الحقيقة والوهم من خلال تصفية السيلان الخطابي العام. كما أن التقنيات الرقمية الجديدة بقدر ما وفرت أدوات صارمة ودقيقة لضمان الشفافية الانتخابية، حولت في الآن نفسه الآلية الانتخابية من خلال برامج الذكاء الاصطناعي والقرصنة السبرنتيقية إلى مجرد ماكينة تقنية قابلة للتوجيه والتحكم من بعد. لقد أطلق الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن على هذه الظاهرة «ليبرالية المراقبة» التي قضت تدريجياً على أهم شرط في الديمقراطية الحديثة، وهو حرية الوعي والإرادة.

قد لا يكون من الواقعي التخلي عن آلية الانتخاب في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة، لكن لا بد من التنويه أن هذه الآلية لا تستوعب كل دلالات التمثيل الذي يمكن أن يَعتمد صيغاً أخرى أكثر فاعلية، كما أن زمنية الانتخاب يمكن أن تتغير جذرياً لكي تتلاءم مع حركية الفعل السياسي الراهن. والأهم من هذا كله أن موضوع الشرعية السياسية أصبح اليوم مفتوحاً من أجل الحفاظ على المكسب الحقيقي للديمقراطيات الليبرالية، وهو تأمين السلم الأهلي من خلال مؤسسات إجماعية توافقية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الإماراتية، يوم: 31 مارس 2025 00:46

هل وصل الدماغ البشري إلى منتهاه؟

أثارت نتائج مسح دولي أجرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لمهارات القراءة والكتابة والحساب وحل المشكلات، في 31 دولة واقتصاداً مختلفاً، جدلاً واسعاً في الصحافة والأوساط الثقافيّة والتعليميّة الغربيّة بعد أن أظهرت تراجعاً ملحوظاً من المستويات التي كانت عليها في عقد سابق. كتب وتحدث كثيرون حول وصول الدماغ البشري إلى منتهاه بعدما بلغت قدرة الإنسان العادي على التفكير وحل المشكلات الجديدة ذروتها في أوائل عام 2010 لتتراجع بشكل مطرد منذ ذلك الحين، في حين أنذر آخرون من عواقب سيطرة التكنولوجيا التي تزداد ذكاءً بمرور اللحظات بينما يفقد البشر أهم القدرات التي مكّنت لازدهار وجود نوعهم على هذا الكوكب.
وبحسب الأرقام التي أعلنتها المنظمة عن عينة شملت 160 ألفاً من البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و65 عاماً، فإن كفاءة القراءة والكتابة تحسنت في بلدين فقط – فنلندا والدنمارك -، في حين انخفضت بشكل كبير في 13 بلداً وبشكل حاد في كوريا الجنوبيّة ونيوزيلندا وليتوانيا، وتراجعت في جميع البلدان تقريباً لمجموعة البالغين الحاصلين على تعليم دون المستوى الثانوي. وقادت الولايات المتحدة وسنغافورة التباين بين الحاصلين على تعليم عالٍ مقارنة بالحاصلين على تعليم دون المستوى الثانوي؛ إذ إن واحداً من كل ثلاثة أميركيين مثلاً يقرأ بمستوى تتوقعه من طفل يبلغ العاشرة من العمر.
وتقاطعت نتائج هذا المسح مع اتجاهات مقلقة عن القراءة في الولايات المتحدة، حيث انخفضت نسبة الأميركيين الذين قرأوا كتاباً العام الماضي إلى أقل من خمسين في المائة، وكذلك في المملكة المتحدة، حيث أشار استطلاع أجرته هيئة حكوميّة إلى أن خمس البريطانيين لم يقرأوا كتاباً واحداً في العام الماضي، ووجد الصندوق الوطني البريطاني لمحو الأمية أن 35 في المائة فقط من أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و18 عاماً كانوا على استعداد للقول إنهم يستمتعون بالقراءة - وهو أدنى مستوى منذ بدء الاستطلاع قبل 19 عاماً -، بينما اعترف خريجو جامعات نخبوية بأنهم حصلوا على شهاداتهم دون أن يقرأوا كتاباً واحداً من الغلاف إلى الغلاف في وقت تراجعت مبيعات الكتب المطبوعة الجادة في معظم دول العالم وفق أرقام كُشف عنها خلال الدورة الأحدث لمعرض لندن للكتاب - وإن كان ذلك يتم تعويضه بالنسبة للناشرين من خلال نمو الطلب على الروايات الرومانسيّة، وأدب الجريمة، والخيال العلمي.
واللافت، أنه في غضون ذلك أصبح البودكاست أكثر شيوعاً من أي وقت مضى؛ إذ يستمع إلى بودكاست واحد على الأقل في الأسبوع ثلث البريطانيين، في حين استمع نصف الأميركيين الذين تزيد أعمارهم على 12 عاماً إلى بودكاست واحد على الأقل خلال الشهر الماضي، ويقضي هؤلاء ما معدله خمس ساعات ونصف الساعة تقريباً في الاستماع.
إن كل ذلك يدفع إلى الاعتقاد بأننا أصبحنا وبشكل مطرد «مجتمعات ما بعد القراءة والكتابة»، حيث تفقد الكلمة المكتوبة تدريجياً مكانتها التقليديّة المركزيّة في تشكيل ثقافة الشعوب وتفكيرها وسياساتها لمصلحة الكليشيهات والصور النمطيّة المتداولة ومقاطع الفيديو القصيرة، ويحل الصخب والاستعراض الفردي والآراء المسلوقة والتعبير عن المشاعر العابرة والشتائم مكان التحليل الدقيق، والتفكير المعمق، في حين يميل صانعو المحتوى الشفوي إلى عدم تصحيح أنفسهم، حيث يبدو تقييم تناقضات الماضي مرتبطاً حصراً بالنصوص المكتوبة. ويفسّر البعض هذه الاتجاهات بعوامل جزئيّة متعلقة ببعض المجتمعات، مثل ارتفاع نسب شيخوخة السكان وتزايد مستويات هجرة الشباب، لكن التفسير الأكثر وضوحاً والأكثر قابلية للتعميم وراء هذا التحوّل يرتبط بتفشي استعمال الهواتف الذكيّة خلال الفترة الزمنية ذاتها، والتي نشأت من حولها صناعة هائلة تستند تحديداً إلى تعميم عدم القراءة والتغوّل على الوقت الذي قد يخصص لها. فهناك الآن ملايين البشر الذين يعملون على مدار الساعة لإنتاج محتوى - سطحي في غالبه – لملء كل لحظة فراغ قد تتوفر لدى مستخدمي تلك الهواتف والشاشات الذكيّة، وهو محتوى قريب جذاب يسهل استهلاكه والإدمان عليه في كل الأوقات مقابل نشاط القراءة – والكتابة – الذي يستدعي شيئاً من العزلة وتركيزاً وهدوءاً.
لقد غيّرت التكنولوجيا وخلال أقل من عقدين الطريقة التي يحصل بها الكثير من البشر على المعلومات، فأخذتهم بعيداً عن الأشكال الأكثر تعقيداً من الكتابة، مثل الكتب والمقالات المطولة، إلى فضاء المنشورات القصيرة ومقاطع الفيديو على منصات التواصل الاجتماعي والملخصات والمقالات القصيرة جداً على الإنترنت، حيث الاستهلاك السلبي والتبديل المستمر للسياق. وهذا أمر يتسبب بكارثة معرفيّة للأجيال الجديدة من المتلقين بحكم بنية منصات التواصل التي تجعل من المرجح أن يطلّع المرء على أشياء تؤكد وجهة نظره؛ ما يضعف القدرات على التمييز بين الآراء المرسلة والحقائق، والبحث وراء الظاهر، والتعامل مع التعقيد، وهي قدرات لازمة للعبور إلى مستويات أعلى من التعليم وتبنى تدريجياً من خلال التعرّض لوجهات نظر متنوعة ومتناقضة والتعامل معها نقديّاً.
بالطبع لن يمكن يوماً إعادة تصميم الكتب بحيث تكون أكثر جاذبيّة من الهواتف الذكيّة – أقله بالنسبة للأعمار الأصغر سناً –، ولن يكون متاحاً في أي وقت إيجاد طريقة لاختصار الوقت الذي يحتاج إليه الدّماغ البشري كي يتعمق في الأفكار من خلال القراءة، فهل «مجتمعات ما بعد القراءة والكتابة» عادت لتبقى، وهل هذه الاتجاهات السلبية الحالية قدر البشرية المحتّم؟
تتباين آراء الخبراء في ذلك رغم غلبة التصورات المتشائمة. إذ يقول بعضهم إن تجربة فنلندا مثلاً تشير إلى أهميّة التعليم عالي الجودة والأعراف الاجتماعية القوية للحفاظ على مهارات القراءة والكتابة لدى أكثرية السكان؛ إذ إن التكنولوجيا المتقدمة في ذلك البلد الإسكندنافي عززت من كفاءة معرفة القراءة والكتابة لدى الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و24 عاماً أفضل بكثير مما كانت عليه قبل عقد من الزمان، ويشير آخرون إلى فرص الانفتاح التي تتيحها منصات الثقافة الشفوية للعبور نحو أفق أوسع لفهم النص المكتوب بأبعد من مطلق النص، بحيث يتاح للمتلقي الآن قراءة نص ما والاستماع إلى نقاش مطول بشأنه على بودكاست مثلاً، أو مشاهدة فيلم وثائقي عن مضمونه أو حلقة نقاشية مع مؤلفه؛ ما يضاعف من فرص تعميق فهمنا للأفكار المطروحة، كما أن هنالك إشارات أولية عن إمكانات هائلة تتيحها أدوات الذكاء الاصطناعي لتحقيق تحسن نوعي في إنتاجيّة العمالة المعتمدة على المعلومات والمعرفة لإنجاز مهماتها.
على أن كل تلك الإيجابيات المحتملة ستظل دائماً رهن تأسيس قاعدة متينة من مهارات القراءة والكتابة في سن مبكرة؛ لأن من يفتقدون تلك المهارات سينتهون دائماً إلى مجرّد مستهلكين ساذجين للمحتوى الجاهز، سواء بصرياً أو شفهيّاً أو حتى من «إبداعات» الذكاء الاصطناعي. إن تلك المهارات - التي يحتاج تعميمها إلى جهد مجتمعي منظم لضمان جودة التعليم وتعزيز سلوكيات اكتساب المعرفة اجتماعياً - وحدها ستفصل في صفحة تاريخ البشرية التالية بين من سيوظّفون التكنولوجيا، وأولئك الذين سيكونون خاضعين لها.
***
ندى حطيط
عن جريدة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 26 مارس 2025 م ـ 26 رَمضان 1446 هـ

عندما نقول بأهمية التنوير الديني فإن هناك إشكالية أزلية، وهي أن الدين المتمثل في كتاب الله لا يخضع للتجربة العلمية والنقد العقلي ومعاملته كنص قابل للجرح والتعديل، وهو أمر غير وارد البتة، ولكن أن يعامل ما سواه بقدسية كبيرة وينسب كجزء لا يتجزأ من الدين الإسلامي من حيث الصحة وعدم وجود الخطأ بحجة أن العلماء أجمعوا عليه وهو ممنوع من التشكيك، ذلك هو الأمر الجلل ومنطق له دلالات خطيرة قادتنا لوجوب قتل المرتد فكيف نوفق بين كتاب الله الذي حرم إجبار الناس على الدين وعدم إكراههم على اتباع الإسلام وحرية الاختيار وإلى الله عاقبة الأمور، وبين المراجع التي تقول بقتل المرتد؟ ولذلك التنوير يجب أن يكون روحياً وليس دينياً، وخاصة أن الدين أصبحت له نسخ مختلفة، والتكفير تدرس جذوره الفكرية من خلال الكتب المتوفرة في كل مكان وحتى في المراكز والمنابر التي تأسست لنشر التسامح والتعايش في العالم بأسره، وفي واقع الأمر لا يخلو بيت أو مكتبة أو موقع إلكتروني من الأطروحات التكفيرية وخطابات الكراهية، والتي لا تنفع ولا تجدي معها عمليات التجميل التبريرية كونها بشرية ولم يكن الإسلام يوماً للعرب فقط، ولم يكن القرآن يوماً لقريش حصرياً والعيش به كأسلوب حياة ليس حكراً على من يفهم اللغة العربية فلماذا نكرس فصل القاعدة عن قمة الهرم في فهم الدين؟ فالحراك في العقل المسلم يقابله اتهام فوري بالزندقة والجهل والدخول في عصر الجماعات التكفيرية أو جماعات الإسلام السياسي العنيفة، أو اتباع رأي الأكثرية دون عناء التفكير وركن هذه الجزئية لغيره لكي يفكروا ويقرروا عنه بالوكالة وكأنهم سيحاسبون عنه يوم القيامة، كما انتشر الإلحاد أو التمرد على الدين في الأقطار الإسلامية كالنار في الهشيم من كثرة التناقضات والأمور التي دست في الدين وشوهت روح الإسلام، ولا يوجد خيار وسط بين ذلك، والإسلام في أزمة عصيبة ولا يبدو أن المؤشرات تسير نحو تحرير الدين من خزعبلات وهرطقة البشر ما دام الأمر مؤسسياً ويدعم من بعض الحكومات لسبب أو لآخر. والتنوير الديني أخذ أبعاداً عالمية في نهاية القرن الثامن عشر وبالتحديد في العالم الغربي بين أنصار الديانة المسيحية الرافضين للإسهاب في التقليدية والماضوية والمتأثرين بحركة التنوير في إنجلترا في البداية ومن ثم في فرنسا، وبالتالي الركون إلى العقل التجريبي والمعرفة العلمية والنقد العقلي والحرية الدينية ونقد النص الديني، ومهاجمة ما يوصف بالظلام والجهل والخرافة، والخلاص من التبعية للآخرين، واتخاذ أي قرار من دون الحاجة لوصاية على عقل الإنسان. فالتنوير الديني لا يمكن أن يطبق في العالم الإسلامي الذي يغرق في ثقافة الحفظ والنقل والتلقين والطبقية الدينية، وقد يخالف مسلمات دينية تمس جوهر الهوية الإسلامية، ولكن علينا أن نبدأ بنشر ثقافة التنوير الذي لا يتعدى على ثوابت القرآن الكريم وما وافقه ولا يخرج على أطره العامة من السنة النبوية، والبدء بمراجعات منهجية وشاملة على المستوى الأعلى ومستوى المؤسسات والنخب الدينية والفكرية نزولاً إلى القاع، والتناول الشعبي للطرح بالتدرج وبعيداً عن الروتين، وتكليف أصل الإشكالية ليقود جهود التنوير وجعله من يضع الحلول مع عقول لا تختلف عنه ومبرمجة على الموافقة والإقرار وسرعة الإنجاز والبهرجة الإعلامية واختزال المصلحة العامة في الرضا الشخصي. فلا بد من صحوة تعزز قيمة التحولات الخاصة بالوعي الإنساني وتمكين كل إنسان من اكتشاف محركات الوعي الخاصة به، ومعرفة مكامن السكينة التي تناولها القرآن الكريم بالتفصيل، وصولاً إلى حالة سلام ووحدة مع البيئة المحيطة بالإنسان، واهتمام القيادات السياسية والسياسات العامة في الدول بالتطور الروحي وتشجيع ودعم مسار التنوير الروحي. فالتنوير الروحي عموماً، هو بوابة التنوير الديني الإيجابي والمقنن الأشمل، والذي يرمز لمفهوم باطني، أي أنه يحتوي على أمل وحلم للوصول إلى وضوح روحي يكمن وراء الوصف اللفظي والوجود المادي واكتساب الوعي بالطبيعة الوهمية للواقع، وتبني مبادئ روحانيه ربانية يصدقها عمل المخلوق وصدقه مع خالقه، وهذا لا يحتاج وساطة إذا ما علمنا أن طاقة وهالة الإيجابية في الكون وبمشيئة الله تتجاوز حياتنا الفردية والوجود الفردي، وهي متوفرة لنا متى ما قررنا أن تكون المعرفة الروحية والحكمة والسلام الداخلي طرق مباشرة إلى الله، ولهذا أقول إن الإسلام لا يحتاج إلى إصلاح بقدر ما يحتاجه المسلمون أنفسهم.
***
سالم سالمين النعيمي
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 3 ابريل 2017

من الضروري فهم أسئلة هوسرل قبل قراءة أجوبته، فهو يقتحم العقول باستفهامات مزلزلة. يسأل هوسرل –مثلاً- عن مدى استقلال «السيكولوجيا» عن المنطق، ووضع أسئلة ضرورية سماها أسئلة النزاع التقليدية المتعالقة مع تحديد المنطق، وهي: هل المنطق فنّ نظري، أم فن عملي بمعنى أنه صناعة؟ وهل هو علم مستقل عن غيره من العلوم وبخاصة عن السيكولوجيا أو الميتافيزيقا؟
وهل هو فن صوري أي يشتغل كما يفهم عادة بمجرد صورة المعرفة؟ أم عليه أن يهتم بمادتها أيضاً؟ وهل له سمة فن قبلي وبرهاني؟ أم فن أمبريقي استقرائي؟ وعلى أهمية تلك الأسئلة بترتيب التسلسل للمنطق الذي سيكون مختبر الحقيقة، فإن هوسرل وبحذق يحذّر من الانحياز لهذه النزاعات التقليدية، بل بالأحرى القيام بتوضيح الفروق المبدئية التي تلعب فيها، والطريق للمنطق المحض بتحديد تعريف للمنطق يكون مقبولاً بشكل «شبه كلي».
والارتباط بين ظاهراتية هوسرل والميتافيزيقا يمكن اختصاره بتحليل فتحي إنقزو الشارح والمتخصص بهوسرل حيث يعتبر: «أن الفينومينولوجيا وإنْ بدت في غير حاجةٍ إلى النظر في الجوهر الميتافيزيقي لموقفها الأصلي، فإنها تفضي إلى تعيين هذا الموقف تعييناً ميتافيزيقياً صريحاً بتحديد مضمون الفلسفة ومقاصدها بحسب أقسام الميتافيزيقا التقليدية، وبحسب أنموذجها الأنطولوجي أساساً من حيث هي أصلاً تجديد لهذه المقاصد بحسب الوضع الذي أفضت إليه (البحوث المنطقية) وحدوده، ومهدت له الأعمال العينية في الظاهراتية المتعالية». ثم يشير إلى إشكالية في ظاهراتية هوسرل: «حيث تبين حاجة الفلسفة إلى تأوّل ذاتها تأوّلاً ميتافيزيقياً في مقامها وفي بنيتها، وفي حاجة الأشياء التي تختص بالنظر فيها إلى قاعدة أنطولوجية قصوى، تشتق منها مبررات التشريع النظري للعمل الفلسفي ولنسق الفلسفة عموماً».
«الظاهراتية» أو الفينومينولوجيا، هي مدرسة فلسفة تعتمد على دراسة الموضوعية أو الواقع كما يُعاش ويُختبر بشكل ذاتي. وهي أيضاً الخبرة الحدسية للظواهر كنقطة بداية، ثم تنطلق من هذه الخبرة لتحليل الظاهرة وأساس معرفتنا بها.
لم يكن طريقاً سهلاً ذلك الذي اختطّه هوسرل في منهجه الفينومينولوجي، فقد أعاد في الجزء الأول من مباحثه المنطقية قراءة المنطق الذي استندت إليه فلسفات ديكارت وكانط ولايبنتز، محارباً الميدان النظري القبْلي المغلق على نفسه، معتبراً النزاع على التعريفات هو في حقيقته نزاع على العلم نفسه. أثرت فينومينولوجيا هوسرل على الفلسفة في القرن العشرين، وأيقظت أسئلةً خلقت فلسفاتٍ خاصةٍ كما حدث مع مارتن هيدغر، والذي أهدى إلى أستاذه كتابه الرئيس: «الكينونة والزمان» قائلاً: «مُهدى إلى أدموند هوسرل، إجلالاً وصداقةً».
خاض هوسرل عشرات المعارك ضد النزعات السيكولوجية والحيوية والتاريخانية وسواها، لقد حارب من أجل منهجه للعودة إلى الأشياء نفسها، إلى الماهية إلى ما قبل التأسيس القبلي لنقض كلاسيكيات المنطق المحض، ومطالباً بتعليق الحكم على المعطيات الأولى لظاهرات الوعي، ولذلك كتب: «إنه من البين أن طفولة فينومينولوجية طويلة لن يبخل بها علي إن شئت أن أكتسب معرفةً عميقة يمكن التعويل عليها فيما بعد بشأن النظرية».
الخلاصة، أن المعنى الظاهراتي لدى هوسرل مختلف عنه لدى الآخرين مثل موريس ميرلو بونتي، لأن هوسرل جدد في كل الفضاء الفلسفي، وجعله أكثر تحرراً من التقليد القديم الموروث عن اليونان، ولم ينفكّ عنه الفلاسفة، لقد ضرب هوسرل الطاولة، وأعطى البشرية نظريّة أظنّ أنها من أكثر النظريات الفعّالة والشغّالة حتى الآن.
***
فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 25 مارس 2025 01:01

في مقالة مهمة نُشرت مؤخراً في مجلة «فورين آفيرز» الأميركية، تتساءل «مونيكا دوفتي تفت»، أستاذة السياسات الدولية البارزة: هل نعيش راهناً عودةَ العالم إلى جيبولوتيكا دوائر النفوذ والتحكم التي طبعت الخارطة الجيوسياسية في القرن التاسع عشر، وكانت أساس التوافقات الشهيرة التي توصل إليها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية في مؤتمر يالتا عام 1945؟
يبدو السؤال وجيهاً في الوقت الحاضر، مع ما ظهر من تقارب أميركي روسي في الملف الأوكراني يمهد لسيطرة موسكو النهائية على الأقاليم التي استحوذت عليها بالقوة، في الوقت الذي لا تخفي فيه إدارة ترامب ميولَها للتحكم في محيطها المباشر في أميركا الشمالية وفي المحيط الهادئ، كما بدت بوادر ملموسة على عزم الصين توطيد نفوذها في مجالها الحيوي بما يعني استعادة تايوان وبناء قوة بحرية تكفل لها الهيمنة في محيطها المباشر.
ما تبينه الباحثة الأميركية هو أن مفهوم دوائر النفوذ يعود إلى الحروب النابوليونية في بداية القرن التاسع عشر وإلى الحقبة الاستعمارية، في مرحلة كان الصراع فيها محتدماً بين إمبراطوريات تنزع إلى فرض سيادتها خارج حدودها المتقلبة. وفي هذا الأفق، كان صراع النفوذ بين القوى الدولية وقوداً لحروب دائمة متجددة، كما كان الشأن في النزاعات المسلحة العنيفة في شرق أوروبا ووسط آسيا بين الإمبراطوريات القائمة أوانها. وكانت عقيدة مونورو في سنة 1823 التعبير عن فرض الولايات المتحدة سيطرتها على أميركا اللاتينية من حيث هي مجالها الحيوي الخاص بها، على غرار سيطرة روسيا في عهد ألكسندر الأول على شمال غرب الباسفيك.
إلا أن مذهب ولسون الشهير قضى على حروب النفوذ الاستعمارية، ومهد الطريق تدريجياً لمنظومة القانون الدولي التعددي، بما انعكس على مفهوم القوة العسكرية والاقتصادية وولد معادلة جديدة للقوة تقوم على جاذبية التأثير والاستقطاب عن طريق القيم والأفكار والعون الخارجي.
وبعد نهاية الحرب الباردة، وانبثاق سردية العولمة، ظهر أن مفهوم دوائر النفوذ قد انحسر كلياً، رغم أن بعض الأحداث التي جرت منذ نهاية التسعينيات، مثل تدخل «الناتو» في كوسوفو والحرب الأميركية في العراق، يمكن النظر إليها من زاوية السياسات الإمبراطورية القديمة التي تتنكر لأدوات الشرعية الدولية.
وهكذا ظهر أن روسيا والصين اعتبرتا أن نهاية الحرب الباردة لم تكن في الحقيقة بدايةَ تشكّل نظام دولي تحكمه قيم السلم والأمن الجماعي والتضامن، بل هي تعبير عن هيمنة غربية متزايدة وتوسع جيوسياسي على حساب مصالح هاتين الدولتين اللتين استثمرتا خلال السنوات الماضية في استراتيجيات القوة العسكرية والاقتصادية لتأمين مصالحهما الحيوية في المحيط الاستراتيجي المباشر. وما حدث مع رجوع ترامب إلى السلطة في واشنطن هو ما يَظهر أنه قبولٌ لقواعد اللعبة الدولية في استنادها إلى منطق دوائر النفوذ السابق.
بيد أن الباحثة الأميركية تبين أن تقاسم مراكز النفوذ بين القوى الدولية الأساسية أصبح اليوم عسيراً وإشكالياً، بالنظر إلى الروابط الكثيفة التي فرضتها حركية العولمة الاقتصادية والتقنية بين مختلف أنحاء العالم. ومن تجليات هذا الارتباط الحاجة الحيوية إلى المعادن النادرة والرقائق الإلكترونية التي تتنافس حولها الدول الكبرى، وتشابك حلقات الصناعات الجديدة، ووحدة الفضاء المالي والنقدي العالمي.
كما تبين الباحثة أن سياسة الرجوع إلى القوة الخشنة لن تؤدي إلى ضبط السلم الدولي، بل ستزيد من الإنفاق على السلاح، وتؤجج سباق التسلح النووي، فضلاً عن ما تؤدي إليه من تغيرات استراتيجية واسعة ناتجة عن سياسات القوى الإقليمية الصاعدة الرافضة لمنطق تقاسم النفوذ في العالم بين قوى إمبراطورية محدودة.
والخلاصة التي تصل إليها الباحثة هي أن سياسة دوائر النفوذ نادراً ما تكون ثابتة ومستقرة، بل هي عرضة دوماً للتحدي والرفض، ولذا فإن خيار الرجوع لنظام التعددية الدولية القائمة على قواعد القانون والشرعية هو الخيار الأمثل لضبط السلم العالمي.
المقالة تعكس وجهاً أساسياً من أوجه الحوار الدائر راهناً في الدوائر الاستراتيجية العالمية، بما يتجسد في مسارين منفصلين: مسار النزعة السيادية القومية المتنامية في الغرب الليبرالي من حيث تغليبها منطق المصالح الوطنية على اعتبارات النظام الدولي، ومسار القوى الاحتجاجية الصاعدة (روسيا والصين) التي تعتبر أن التعددية القطبية بالمعنى الحقيقي للعبارة تعني نهاية الهيمنة الغربية على العالم والاعتراف بشرعية قواعد مغايرة لضبط الدول والمجتمعات والمصالح الجيوسياسية الدولية.
***
د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني
عن جريدة الاتحاد الإماراتية: 24 مارس 2025

المنطق القدريّ ما زال غالبا على نسق التفكير في المنطقة العربيّة ما يؤدّي آليّا إلى تجريد التاريخ من صفته الماديّة.

تتصاعد وتيرة الأحداث في المنطقة العربيّة بين الفترة والأخرى لتؤكّد لنا في الأثناء أنّ العمل على قطع الحبل السرّي الرابط بين الشخصيّة العربيّة وتراثها وخلق مسافة أمان بينهما دون الوقوع في فخّ الانبتات عن الهويّة أصبح يمثّل اليوم ضرورة وأمرا مستعجلا أكثر من أيّ وقت مضى. فهذه الأحداث لا تني تتجدّد لتضعنا في كلّ مرّة في مواجهة التراث بكلّ ثقله لا باعتباره سندا وعامل تفوّق، بل طرفا من أطراف النزاع وخصما صعب المراس ناهيك عن أنّه جزء منّا وفيه الشيء الكثير من ذواتنا، وهو ما يمكننا معاينته من خلال ما يشهده الواقع السوريّ من مستجدّات منذ موفّى السنة المنقضية.
من العجيب الدالّ تداول جزء من روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ مفهوم “السفيانيّ” واعتماده مدخلا لتفسير حيثيّات السقوط “الفجائيّ” لحكم بشّار الأسد. وليس من الصعوبة بمكان التثبّت من ذلك، فيكفي أن يدخل أحدنا كلمة “السفيانيّ” في محرّكات البحث على الإنترنت حتّى تعترضه العشرات من المنشورات ومقاطع الفيديو المتعلّقة بهذا الخصوص وعلى منصّات إلكترونيّة مختلفة.
مفهوم "السفياني"
حتّى نفسّر وجه الغرابة في هذا المستوى علينا الإشارة إلى اقتران مفهوم “السفيانيّ” بمعاني التنبّؤ بقرب خروج رجل في زمن وظروف معيّنين، فيخلّص البلاد والعباد من الظلم ويضع حدّا لغطرسة السلطة وقهرها محكوميها. وينتمي مفهوم “السفياني” في هذه الحالة إلى أدبيّات الملاحم والنبوءات وسرديّات آخر الزمان، ويُعَدُّ رديفا لمفهوم “المهديّ” في نُسْخَتَيْهِ الشيعيّة والسنيّة من المجال الحضاريّ الإسلاميّ، بل ولفكرة “المخلّص” الّتي لا يكاد يخلو منها تراث ثقافيّ إنسانيّ. ولئن خَفَتَ صوت هذه الفكرة لدى الشعوب الّتي عاشت خاصّة طفرة الحداثة، وشرعت تتحسّس خطاها نحو مرحلة تليها، فإنّها لا تزال حاضرة بقوّة لدى الشعوب العربيّة والإسلاميّة.
لقد عَنَّ لعدد من روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ استدعاء فكرة “المخلّص” ممثّلة في مفهوم “السفيانيّ” واعتمادها مدخلا لتفسير نجاح السوريّين في الإطاحة بحكم بشّار الأسد في ظروف معيّنة ولحظة تاريخيّة معلومة للجميع، وذلك عبر وضعهم علامات استفهام حول هويّة أحمد الشرع والتساؤل عمّا إذا كان هو “السفيانيّ” العائد “لإحلال العدل” و”إنهاء” مرحلة قوامها الظلم والاستبداد. بل إنّ منهم من تجاوز مرحلة الشكّ إلى أخرى ملؤها اليقين بأنّه هو فعلا “السفيانيّ” باعتبار نجاحه حيث فشل غيره وتمكّنه من الإطاحة بعائلة الأسد بعد محاولات استمرّت على مدى ما يزيد عن العقد من الزمن. بينما جزم حزب ثالث بأنّ تولّيه زمام السلطة ما هو إلّا تمهيد وعلامة منذرة بقرب ظهور “السفيانيّ” الحقيقيّ.
وأيّا تكن المواقف والاحتمالات المقدّمة في هذا الخصوص، فالواقع أنّه لا يمكننا إنكار مقدار الراحة النفسيّة الّذي توفّره أفكار ومفاهيم من جنس ما ذكرنا لشعوب عايشت تاريخا طويلا من الانكسارات والهزائم، وما انفكّت تتعطّش لإنصافها وإنْ بصيغة “ميتافيزيقيّة” تقطع تماما مع المنطق المادّيّ لحدوث الأشياء.
ولنكن صريحين مع أنفسنا ونتعامل مع الأمر بشيء من الرصانة والموضوعيّة إذ نعترف بما تنطوي عليه محافظة شعوبنا على هكذا نمط فكريّ من معقوليّة وتناسق. فمن الخطل انتظار عكس ذلك ممّن لم يعتد تغيير حكّامه عبر آليّات مدنيّة وعمليّة سياسيّة واضحة المعالم، فيجد في الميتافيزيقا بديلا يستمدّ منه غطاء شرعيّة الانتقال من مرحلة سياسيّة وتاريخيّة إلى أخرى، لاسيّما وأن المنطق القدريّ مازال هو الغالب على نسق التفكير في المنطقة العربيّة الأمر الّذي سيؤدّي آليّا إلى تجريد التاريخ من صفته الماديّة وعدم الاعتراف بالسببيّة قانونا يسيّر نظام الكون وأشيائه.
وتبقى القدرة على إدخال الشعوب في نفق استكانة قد لا يُرى أفق لنهايته إحدى أشدّ نتائج هكذا نمط فكريّ خطورة، فترى هذه المجموعات البشريّة تتنكّر جرّاء ذلك لإرادتها الحرّة وقدرتها الذاتيّة على الفعل بما يمكّنها من المسك بزمام مصيرها وتغيير مجرى التاريخ لصالحها.
والحقّ أنّه لا طائل من الاسترسال في تعداد أعراض الداء ما لم يتمّ تشخيصه وتحديد أسباب ظهوره خطوة أولى في سبيل علاجه، كذلك الشأن بالنسبة إلى الظاهرة الّتي نحن بصدد تحليلها في هذا المقال. فنحن إذ نستنكر محافظة شعوبنا على التفكير وفق نسق يتعارض مع متطلّبات واقعها، ولا يَعِدُ بتحقيق رهانات حاضرها، فإنّنا ننبّه إلى ضرورة الوعي بالأصل الّذي انبثقت عنه هذه الإشكاليّة ومثيلاتها. ولا يعدو هذا الأصل أن يكون في تقديرنا وعي الشخصيّة العربيّة المَرَضِيِّ بتراثها.
ومن شأن العودة إلى كتب التاريخ الإسلاميّ أن تقدّم لنا حقيقة مغايرة تماما لتلك التي وصلتنا عن مفهوم “السفيانيّ” وتبنّتها الذهنيّات دون نقد أو تمحيص. ذلك أنّنا نعثر على إجماع قلّ شيوعه بين قدامى المؤرّخين على ذكر تفاصيل ظروف تشكّل مفهوم “السفيانيّ” ومنزلته من التاريخ الإسلاميّ. حيث تفيدنا المعطيات بظهوره أوّل مرة في سنة 132 للهجرة باعتباره مُسَمّى لحركة معارضة سياسيّة شاركت فيها عدّة عناصر بهدف الإطاحة بدولة بني العبّاس الناشئة حديثا واستعادة المجد الأمويّ. وتبعا لهذه الأسباب وسمت الحركة المذكورة بـ”السفياني” نسبة إلى أبي سفيان والد معاوية مؤسّس دولة الأمويّين في دمشق، وتأكيدا لصبغتها السياسيّة واستهدافها مركز الخلافة القائمة آنذاك رفع أصحابها البَيَاضَ شعارا لهم وخلافا للسواد شعار الدولة العبّاسيّة.
ووفق هذا المنحى الأيديولوجيّ تواتر نشاطها، فظلّت تعاود الظهور بين الفترة والأخرى من تاريخ الدولة العبّاسيّة، مثال ذلك ظهورها فترة حكم الخليفة المأمون. أمّا عن حقيقة تقمّص شخصيّات بعينها صفة “السفيانيّ” فعائدة إلى اعتياد المتداولين على قيادة هذا الحراك اتّخاذها لقبا مميّزا لهم في كلّ مرّة يجدّدون فيها خروجهم على السلطة، تعبيرا عن تواصل ثورتهم وتأكيدا على وحدة مضامينها وثباتهم على ذات مبادئها، فيضمنوا مساندة من يوافقونهم.

امتلاك التراث
لقد بدا مفهوم “السفيانيّ” بهذا المعنى ترجمة لوقائع سياسيّة ورجع صدى لصراعات حدثت فعلا في زمن مخصوص وظروف مغايرة تماما لظروفنا. وإذ نأمل أن يخفّف هذا الاستنتاج من وطأة تأثير هذا المفهوم على الذهنيّة العربيّة، فإنّه لا يقلّل أبدا من خطورته على وضعنا الراهن، ذلك أنّه ما انفكّ يكشف عن استجابة للنفس الطائفيّ من منطلق امتلاكه قدرة دعم الموقف ومقابله.
وبالعودة مرّة أخرى إلى ردود أفعال روّاد مواقع التواصل الاجتماعيّ حول الأحداث في سوريا نعثر على موقف آخر من فكرة ظهور “السفيانيّ” لكنّه يَقْرِنُها هذه المرّة بمعاني الإنذار بحلول الخراب في المنطقة. وله على ذلك حجّتين؛ الحجّة الأولى مستندها الواقع السوريّ، وتتمثّل في حجم العنف والفوضى المستعرة هناك خلال الفترة الحاليّة ما يوهم بمصداقيّة ما ذهب إليه أصحاب هذا الموقف. أمّا الحجّة الثانية فمستمدّة هي الأخرى من التراث الدينيّ، وتتمثّل في أحاديث منسوبة إلى النبيّ من قبيل الحديث “يخرج رجل يقال له السفيانيّ في عمق دمشق، وعامّة من يتبعه من كلب، فيقتل حتّى يبقر بطون النساء أو يقتل الصبيان، فتجمع لهم قيس فيقتلها (…) ويخرج رجل من أهل بيتي في الحرّة، فيبلغ السفيانيّ، فيبعث إليه جندا من جنده فيهزمهم.”
لا جدال في ما تحظى به النصوص الدينيّة، القرآن والسنّة، من احترام وتقديس في الوسط الإسلاميّ، ولأجل الحفاظ على هذه المكانة تحديدا وجب على المسلمين الحذر في التعامل مع ما يبلغهم من نصوص ينسب قولها إلى النبيّ على غرار الحديث الّذي أوردناه آنفا، إذ تبدو جليّة ترجمته للصراع الأمويّ – العبّاسيّ الّذي اتّخذ في جزء منه طابعا ثقافيّا، وتبعا لذلك لا نستبعد وضعه من طرف أصحاب الدولة العبّاسيّة.
لقد تطوّر مفهوم “السفيانيّ” في مرحلة موالية ليتّخذ دلالات “المخلّص”، ويتحوّل إلى رمز من رموز ميثولوجيا الإمامة، وهو ما سيمثّل تهديدا حقيقيّا لمركز الخلافة العبّاسيّة باعتبار قابليّته للانتشار بين البسطاء والعامّة واستغلاله لتجييشهم ضدّ السلطة القائمة. ولأجل هذه الأسباب سنجد بقيّة اللاعبين السياسيّين يوظّفون ذات الآليّة في سباقهم على السلطة.
ولهذا سنجد الشيعة يَعِدُونَ برجعة مهديّهم، فيُعيدُ الأمور إلى نصابها كما يتصوّرونها هم. بينما لن تبقى السلطة العبّاسيّة مكتوفة الأيدي بل ستنخرط بدورها في هذه اللعبة وتشيع بين الناس أنّ المهديّ منهم وليس من أبناء عمّهم الطالبيّين، وفي هذا السياق يأتي تخيّر الخليفة المنصور المهديّ لقبا لابنه ووليّ عهده الّذي سيتولّى من بعده الخلافة، وهو ما يمكننا إقامته دليلا على أنّ التراث منتج ثقافيّ سمته التاريخيّة فإذا أردنا فهمه وجبت علينا قراءته ضمن الواقع الّذي نشأ فيه على الحقيقة، ولا يذهبنّ في الظنّ أن هذه دعوة للقطع مع التراث، بل لامتلاكه سبيلا لاستعادة توازننا وتحوّلنا إلى الانخراط الإيجابيّ في الحضارة الإنسانيّة.
***
نسرين بوزازي - باحثة تونسية في الحضارة الإسلامية
عن صحيفة العرب اللندنية، يوم: الأحد 2025/03/23

في المثقف اليوم