قراءات نقدية

قراءات نقدية

كان البروفيسور أشرف إبريق قد شدّ انتباهي واهتمامي بكتابه الأول "نوتات الكيميائي" (مكتبة كل شيء حيفا2020)، بجمال لغته وسلاسة مفرداته وجُمَله التي صاغها بأناقة الصّانع الفنّان وبسعة ثقافته الأدبية.

وجاء إصدارُه الثاني "للحديث نظير"(مكتبة كل شيء2024 حيفا) وحدّدَ الأهدافَ التي أراد تحقيقها منه بقوله: "أنْ أقوم بتشجيع الناس كي تخرج من الأماكن التي تتواجد فيها، وتكتب، وترينا عالمَها. أحبّ أنْ أرى عالمَ الأطباء من خلال عيونهم، المُزارع، الطبّاخ، الفيزيائي وسائق التاكسي، كلهم لديهم ما يقصّونه علينا، خسارة أنْ يحرمونا من كل هذه العوالم الجميلة. يجب علينا ألّا نخاف من أنْ نتشابك بين مختلف مَجالات المهن والإبداع. لا توجد هنالك مجتمعات ليست مبدعة، الكل يستطيع أنْ يكون في الطليعة، يجب علينا أنْ نخلق هذه البيئة لأنفسنا لنستطيع أنْ نستمر. وأنا فعلا أرى بوادر لتحرّكات علمية وثقافية وإبداعية على كافّة المَجالات، وهذا واحد من أهداف الكتاب، بأنْ أكون جزءًا من هذا الحِراك. نحن بحاجة لأنْ نقرعَ البيوت والمنصّات، القرى والمدن العربية، وأنْ نصنع هالة حول الثقافة من أجل التّحفيز والإبداع عند كل شخص في مجاله، سواء على صعيد أدبي أو علمي. وواجب علينا أنْ نحبَّ إبداع بعضنا، ونشجّع بعضنا، هذا شيء جدا مهم." ("ورشة الحوار الصحافي" التي نظّمها موقع "عرب 48" بالتّعاون مع جمعية الثقافة العربية)

واستهلّ "للحديث نظير" باقتباس من كتاب "الإمتاع والمُؤانسة" لأبي حيّان التوحيدي "إنّ في المُحادثة تلقيحا للعقول، وترويحا للقلب، وتسريحا للهمّ، وتنقيحا للأدب" وكأنّه بهذا الاقتباس أراد، من حيث لا يقصدُ، أنْ يُحدّد لنا هويّة مؤلّفه الجديد والمَنْحى الذي اختاره والحدود التي ألزم نفسَه بها. غير منتبه للتَّعْريف المُتسرّع الذي قدّم به نصّه الجديد على أنّه رواية.

ثم يهدي كتابه لوالدته الغالية ولوالده الحبيب المرحوم "اللذَين شكّلا لي ولأخوتي الثلاثة وأخواتي الستّ مصدرَ طاقة لا ينتهي، استمدّت منهما أجسادُنا ونفوسُنا ذرّاتها وجُزَيْئاتها، الصّحة والقوّة والنّور والمَحبّة "(ص7).

ومن السّطور الأولى لبداية السّرد نجد الراوي يعود بذاكرته إلى ذلك اليوم الذي استقلّ فيه سيارة أجرة للوصول إلى المشفى ليزور والدَه الذي تدهورت صحّتُه وأنهكه المرض، ويستعيد حالة القلق والخوف من أنْ تكون أيام والده الباقية في الحياة قليلة. ولاحظ عندما اقترب منه أنه ليس على ما يُرام فجسمُه كان يرتجف. فسارع واستدعى الطبيب الذي جاء وفحصه، ثم شرح له أنّ والده "يُعاني من مرض نادر، يؤدّي إلى تآكل الخلايا العَصبيّة، وأنّ وضعه يزداد سوءا يوما بعد يوم، وإذا استمرّ الوضع على ما هو عليه، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى وفاته خلال فترة قصيرة" (ص14) ونصحه بالحديث معه قَدْر المستطاع لتقوية جهازه العصبيّ، ويُعزّز الحالة العامّة للجسم.

وكانت كلمات الطبيب الحافز لتلك الجلسات المُتتالية والطويلة التي قضاها الراوي مع والده. وقد استبق هذه الجلسات بتعريفنا على والده أنه "كان أستاذا جامعيّا في موضوع الكيمياء الحيويّة، ودرس خصائص البروتينات في سياق أمراض مختلفة كالسرطان والباركنسون. كذلك أبدى اهتماما كبيرا في تاريخ العلوم الكيميائيّة والطبيّة، والاكتشافات التي غيّرت مجرى التاريخ، وأثّرت وما زالت تؤثّر على حياتنا في شتّى جوانبها. وكان يؤمن بأنّ المثقف الحقيقي يجب أنْ يكون ذا معرفة علميّة، ومعرفة الخلفيّة التي تكمن وراء الاكتشافات العظيمة التي جعلت حياتنا أفضل، حتى لو كانت معرفة متواضعة، وإنّ ثقافة الفرد السياسيّة والاقتصاديّة والفلسفيّة والتاريخيّة وغيرها من المواضيع الإنسانيّة وما شابهها، تبقى ناقصة، ما لم تكمّلها المعرفة العلميّة" (ص16)

وهكذا أخذ الراوي يُهيئ نفسَه، ويستحضر شهرزاد في "ألف ليلة وليلة" وإشغالها للملك شهريار وصَرْفها له عن التفكير بالقَتل بقصصها الجميلة التي كانت تقصُّها عليه. واجتهد بانتقاء المواضيع التي سيُثيرها مع والده باختياره العلمية منها والقريبة من الكيمياء مَجال تخصّص وبَحْث والده.

وكانت الجلسة الأولى بسؤاله لوالده حول تركيبة الأشياء وصفاتها وتشابهها واختلافاتها وعن أهم مكوّنات هذا الكون؟ (ص18)

وحدث الذي لم يكن مُتوقَعا، فقد "اتّسعت عينا والده، وازداد بريقها، شدّ جسدَه وحرّك رأسَه وأخذ نفسا عميقا وبدا وكأنّ السؤال قد أثاره" (ص19) وشرع في جوابه وشَرْحه وتحليله، وكأنّ المرضَ زال عنه، والألمَ فارقه، وذكرَ كبارَ العلماء والمفكرين والمُخترعين.

وتوالت الأسئلة وطُرحَت المواضيع المختلفة والوالد في قمّة تألقه واندفاعه وتناوله لمختلف القضايا العلمية المُعَقّدة والاختراعات الكبيرة التي غيّرت حياة الناس.

وظلّت هذه الجلساتُ تتوالى إلى أنْ كانت الأخيرة عندما "سمع تنهيدةَ والده وشعوره بالضّيق وازدياد تنفّسه ثم اختفائه فجأة والظلام يحيط بالمكان ولا يرى شيئا، يبحث عن والده ولا يجدُه. فقد فارق الحياة.

هذا النصّ الجميل

هو استمرار لنصوصه الجميلة التي قدّمها في كتابه السابق "نوتات الكيميائي"، لكنّه يختلف عنه بأنّه كتبه وهو على يقين ممّا يكتب، وبقصد مُسبَق، وهدف نبيل يبغي نَقْل ما عنده من معرفة وعلم لقارئه ليزوّده بكلّ ما يُمكّنه من مواجهة الغرائب والمجاهيل والمتغيّرات التي قد يُصادفُها في مسيرة حياته مُبتدئا بالسّؤال الأول الذي يطرحه الإنسان عند مواجهته الأولى للكون الذي يجد نفسَه فيه مُستَغْربا من تركيبة الأشياء وصفاتها وتشابهها واختلافاتها، مُعترفا بعدَم إدراكه ما وراء كلّ ذلك:

- ما هي أهمّ مُكوّنات هذا الكون؟

وهكذا من خلال الحوار الممتدّ على العديد من الجلسات بين الراوي ووالده العالم في علم الكيمياء تتفتّح الكُوّات والنّوافذ والأبواب لينكشفَ لنا هذا العالم الغريب الذي نوجدُ فيه فنتآلف معه، ونحسّ بأنّنا جزء منه فنتصالح معه، ونُصبح من مُكوّناته وعناصره المُتجانسة.

كان بإمكان الكاتب أنْ يُقدّمَ هذه المعلومات والمَعارف في كتاب علميّ يكون مساعدا لطلاب فرع الكيمياء في المرحلة الثانوية، ومفيدا لكل قارئ له، ولكنه اختار هذا الأسلوب الحواري مُطعِّما إيّاه بالاقتباسات من القصص والطُرَف والشعر والسّيَر الذاتيّة للعديد من العلماء والنوابغ الذين اشتهروا بما قدّموه من إنجازات واختراعات كان لها، ولا يزال، أثرها على حياة البشرية، وحتى استعان بالآيات القرآنية ممّا يُحبّبه للقارئ ويُسَهّل عليه فَهْمَ المادة وقبولها. أضف إلى ذلك أنّه كان يطرح بعض الآراء والمواقف في العديد من المواضيع مثل المرأة ومَكانتها مُتّخذا من أمّه المثال الأسمى، والحرّيات الاجتماعية، والمَظالم الطبقيّة والسلطويّة، ويُطعِّمها بمواقفَ عاطفية وإشارات لافتة، وإنْ كانت سريعة عابرة غير مُكَرّرة كما رأينا في اهتمامه بالممرّضة التي انجذب إليها. كما اهتمّ بالمريض الذي كان في الغرفة مع والده وابنه الذي اعتنى به، والحديث مع الأطباء.

ويظلّ نصّا جميلا

وأقربَ إلى النصّ العلميّ الذي يُقدّم المعلومات ويشرحها ويُحلّلها ويُبسّطها ويُبيّن أهميتَها وتأثيرَها مُعَرِّفا بأسماء العلماء الذين يعود لهم الفضل في الاختراعات والاكتشافات التي عرّفتنا على هذا الكون وموجوداته. ولكنّه يظلُّ بعيدا عن النصّ الأدبي والروائي بشكل خاص، رغم تَعريف الكاتب له برواية، فالكاتب نفسه من حيث قصد أو لم يقصد أشار إلى النموذج الذي اتّبعه وقلّده في نصّه هذا وهو أسلوب ونَهج أبي حيّان التّوحيدي في كتابه "الامتاع والمؤانسة" الذي اعتمد فيه الحوار مع الوزير الذي كان يُقدّم له اقتراحَه في الموضوع الذي يُريدُه أنْ يتكلّم فيه، وأبو حيان يستجيب ويتوسّع في كلامه مُضمّنا الكثير من الشعر والقصص والأمثال والمعلومات والأفكار وطرح قضايا مختلفة تهمّ الوزير وتُفيد الناس.

ووجود بعض العناصر التي تكون في الرواية مثل "السّرد والحوار والشخصيّات" لا تُعطي للنصّ صفة الرواية، ففي كلّ نص قد نجد هذه العناصر أو بعضها. وحتى يكون العمل الروائي ناجحا ومتكاملا يجب أنْ تتآلف فيه الأفكار مع الخيال ليتعالى هذا النص الروائي على النص السّردي العاديّ. والنصّ الروائي كما يقول الروائي واسيني الأعرج "هو إعادة صياغة لعالم ماديّ مُتحوّل إلى سلسلة من الافتراضات التي لا وجود لها عمَلياً في الواقع الموضوعي، إلا داخل النص."(القدس العربي 5.3.2024).

ومن كَوْن الرواية جنسا إبداعيا يُمكن أنْ تحتوي معظم الأنواع الأدبية أخذتنا الصفحات الأولى من النصّ مُتقبّلين تعريفَ الكاتب لنصّه بالرواية حتى ابتدأت الجلسات بين الراوي ووالده وانقطاعهما الكلّي عمّا يحيط بهما، وحتى عن الزمان والمكان فتقطّعت أواصرُ العلاقة بين النصّ والفن الروائي، وانحصر في كونه مادّة علمية تعليميّة تُقَدّم الكثيرَ من المعلومات لكل راغب في المعرفة، وخاصّة لطلاب موضوع الكيمياء. وحتى لو تجاهلنا هذا التحوّل في مجرى الأحداث وخروج النص عن مساره الروائي، وبقينا راضين عن تعريف الكاتب لنصّه بالرواية لواجهتنا الكثير من المُعوّقات التي تحول دون ذلك. وكان على الكاتب، حتى لا يُفقِدَ نصَّه صفتَه الروائيّة، أنْ يُخرجَه من جموده باندماج الشخصيّات بالعالم التّخييلي الذي كان عليه استحضاره.

وتجدر الإشارة أنّ الكثير من الروايات التي طرَحَت مواضيعَ علميّة أو تاريخيّة أو دينيّة وفلسفيّة، وكانت هذه المواضيع محور الرواية وبؤرتها، استطاع الكاتب الروائي انهاء جمودها وتحجّرها بانغماس الشخصيّات فيها بالعالم التّخييلي الذي خلقَه الروائي، وأنْ يُقدّم عملا روائيّا متميّزا. ومن الروايات الرائعة التي قرأتها وشاهدتها في فيلم سينمائي "ذهب مع الريح" لمرغريت ميتشل عن الحرب الأهلية في أميركا و "الحرب والسلام" لتولستوي عن غزو نابليون بونابرت لروسيا، و "الطاعون" لألبير كامو وأخيرا رواية "لا تزال أليس still Alice" للكاتبة الأميركية ليزا جينوفا وترجمة أفنان سعد الدين التي دارت حول إصابة البطلة بمرض ألزهايمر. وغيرها الكثير.

المكان والزمان والشخصيّات

الحالة الصّحيّة الصّعبة للوالد فرضت عليه نوعا من الحَجْر القَسْري في غرفة داخل المشفى حيث لا يستطيع تَرْك سريره، وهذا استدعى ملازمة الابن الراوي لوالده طوال الأيام التي قضاها في المَشفى، فأخذت حركة الزمن الأفقية تضغط بثقلها مع محدوديّة المكان وضيقه على تصرّف الشخصيات فيبدو وكأنّ كلّ شيء تَعطّلَ وتحدّد في ما يدور بين الابن الراوي الذي يطرح الأسئلة والوالد المريض الذي يُجيب عليها بحماس ورغبة وإسهاب دون الالتفات لحالته الصحيّة الصّعبة التي لا تتحمّل هذا الجهدَ الكبير.

هذه الجلسات الطويلة والمُرهقة بما تُقدّم من معلومات، وتُحدّد حركة الشخصيّات المُتواجدة كانت السبب الرئيسي وراء الجمود والتحجّر الذي سيطر على الشخصيّات وأوقفَ الزمن وجمّد المكان وعَطّل الأحداث، حيث كان الرّاوي والوالد مُنهمكين في طرْح مختلف المعلومات العلمية الدّقيقة غير مُلتفتين لمَن بقربهما ومدى الضّيق أو الازعاج الذي قد يُسبّبانه للآخرين. بينما المريض الثاني وابنه في الغرفة مُضطرين على متابعة ما يجري أمامهما، يستمعان بصمت، وضيق وغضب مكتوم. وأيضا المُمرضة التي كان من الممكن أنْ تكون نقطة انطلاق في خلق قصّة حبّ أو توافق واستلطاف مع الراوي ممّا قد يدفع بالأحداث والشخصيّات وحتى اللغة للحركة والحيويّة والتّنامي.

وقد تكون رغبة الراوي في نَقْل كلّ المعلومات التي يعرفها في علم الكيمياء للقارئ ولكلّ الناس هي التي كانت توجِّهُه، فألبَس والدَه قناعَ العالم الكيميائي بينما اكتفى هو بدور الوسيط الذي يطرح الأسئلة لتتدفّق المعلومات كلّها بأجوبة الوالد على الأسئلة، فجاء النّص على شكل حوارات بين الراوي الذي يطرح السؤال ووالده الذي يعطي الجواب. فلا خيال ولا قصص جانبيّة ولا شخصيّات أخرى تُخرج النص من محدوديّته العلمية فانسحب الجميع من المشهد: المريض وابنه والطبيب والممرّضة، وتوقف الزمن، وانحصر المكان وضاق، ولم يبق غير الراوي ووالده في حوارهما الطويل إلى أن بدأ صوت الوالد المريض المُتعَب في التّراجع والخُفوت حتى كان الصّمت الثقيل الطويل.

النهاية والمُلحَق

كانت النهاية متوقعة بموت الوالد، حيث كان الطبيب قد أخبر الابن الراوي بحالة والده الخطيرة، وأنّه قد يُفارق الحياة خلال أيام. فهو يُعاني من مرض نادر، يؤدّي إلى تآكل الخلايا العصبيّة. ورغم حالته الصعبة أرهقته الأجوبة الطويلة التي نطق بها جوابا على أسئلة ابنه الراوي، والتي لا شكّ ساهمت في تَسْريع موته.

وقد أراد الكاتب أنْ يُفاجئ القارئ في الصفحات الأخيرة المُلحَقَة بأنّ كلّ ما رواه كان تسجيلا لجلسة تجريبية قام بها صديقُه وزميله العالِم في علم الدّماغ من أيام الدراسة في الولايات المتحدة، الذي زاره في بيته وشارك في تشييع جثمان والده واستمع لرثائه له وتأثر جدا، ومن ثمّ دعاه لزيارته في بيته في مدينة جنيف في  سويسرا، وهناك أخبره باكتشافه جهاز يقوم بحَثِّ الدّماغ ليمنحنا شعورا مُطوّلا نعيش في أعقابه لحظات كنّا نتمنّاها، وأقنعه بدخول التجربة ليستحضر والدَه، ويقضي معه فترة سعيدة يتمنّاها ولو في المُخيّلة . وهكذا كان.

أخيرا

كل التحيات للصديق الكاتب البروفيسور أشرف إبريق على نصّه الجميل والمميّز الذي سيكون له الأثر الكبير على كل مَن يقرأه، ومساعدا لطلاب فرع الكيمياء في المرحلة الثانوية وكل طالب معرفة علمية جاد.

***

د. نبيه القاسم - الرامة فلسطين

إنَّ من الملاحظ أن بعض الملامح المسرحية في التاريخ العربي الإسلامي لم تولد في أماكن مغلقة، بل هي وجدت منذ البداية في الأماكن المفتوحة، وبما أن المرحلة الإسلامية التي كانت تحكم البلاد العربية وغير العربية لم تعط للمجال المسرحي استقراره وتطوره الملحوظ، فكانت أغلب هذه الممارسات تقام في الساحات العامة،أو الأسواق، أو أمام البيوت وغيرها من الأماكن المفتوحة التي تعرض فيها هذه الممارسات المسرحية.

وبغض النظر عن المجادلة في قضية هل أن العرب كان لديهم مسرح؟، أو ممارسات وملامح مسرحية؟، فأننا سنركز في هذا الفصل الخاص بالمجال الإسلامي والعربي عن كل ما يدلل على التجربة المسرحية القريبة من مسرح الشارع، والتي تعدّ من المرجعيات المهمة لنشوء هذا الفن في الساحة العربية، والمقصود هنا هو الظاهرة الفنية التي كانت تقام في الساحات والأسواق والطرق العامة، دون أن تتخذ لها أماكن وقاعات محددة كما هو معمول في المسرح التقليدي الغربي.

أنَّ من أهم المتقابلات الفنية ذات الملمح الديني بين المسيحية والإسلام هو الطقوس الدينية ذات النشاط الفني المسرحي الذي أقيم في الساحات العامة والطرقات على الرغم من الإختلاف بين الوعي بالظاهرة الفنية المسرحية في المسيحية عن غيرها في الإسلام. ومن ثم فإن الطقس المسيحي عمل على الأستفادة من المسرح بوعي كونه قد حارب هذه الظاهرة في البدء ومن ثم عمل على توظيفها في بعض المقاطع المسرحية في داخل الكنيسة،ثم وسّع هذا النشاط ليقدم حلقات طقسية درامية لموضوعات من الكتاب المقدس خارج الكنسية، وقد أصبحت هذه الظاهرة مكملة لتاريخ العروض المسرحية التي تنتمي لمفهوم مسرح الشارع. أما في الإسلام فقد نشأت هذه الظاهرة الطقسية ذات الملامح درامية من خلال بعد شعبي بحت دون التزام المؤسسات الدينية لها في بادئ الأمر، وبعدها أصبحت جزءاً مهماً من مراسيم تقدم في أيامنا هذه في عدد من البلدان العربية والإسلامية، ومن ثم توجد عدة أراء في ماهية الظاهرة الخاصة بالطقس الإسلامي المعروف بالتعازي المرتبطة بواقعة كربلاء ونشأتها في المنطقة العربية الإسلامية. في هذا السياق يرى  "أدونيس:(ليس الحسين أول من قتل في تاريخنا بهذا الشكل المأساوي. إنَّ قتل الإنسان – كما يقتل أي حيوان – ظاهرة مألوفة، عادية في تاريخنا كله، قديماً وحديثاً، لكن لقتل الحسين خصوصية تتمثل في صيرورته ذكرى، أي في تحوله الى احتفال، وهو احتفال – محاكاة تمثيلية قولاً وعملاً، وألفاظاً وحركات، للحدث الفاجع " (1). إذن، فإن صيرورة هذه الذكرى هي التي جعلت من هذه الواقعة وهذه الشخصية الإسلامية الكبيرة تتحول ذكراها إلى احتفال عند محبيها،،أي لولا هذا الاحتفال لما أستمرت هذه الذكرى، على الرغم من اختلاف هذا الرأي مع الرأي الديني الذي يعدّه من الشخصيات الدينية المهمة لما له من قرابة من الرسول محمد (ص)، وكونه من الرموز الإنسانية والإسلامية المهمة التي ميزت الفترة الأولى من الإسلام. ومن ثم فإن هذا الاحتفال الذي أنطلق في بداياته الأولى في المناطق التي تكثر فيها الشيعة في المناطق الإسلامية وخاصة في الشرق الإسلامي. كما يرى المنظر لهذه التعازي الباحث (أندريه فيرث) في نشأتها بإن التعزية نشأت " كشكل مسرحي احتفالي، من امتزاج نوعين من الطقوس الدينية والشعبية، التي تصاحب إحياء ذكرى استشهاد الحسين في العاشر من المحرم عام (61ه، 680م):

1. أما النوع الأول، فهو المواكب ومسيرات الندب والرثاء، التي كانت تجوب شوارع المدن والعواصم الشيعية، والتي بدأت منذ القرن السابع الميلادي.

2. وأما النوع الثاني من الاحتفالات، فقد بدأ في القرن السادس عشر ويتمثل في رواية سيرة الحسين وأهله في محافل شعبية، ويجلس فيها الراوي على منصة عالية، ليقرأ على السامعين أجزاء من كتاب روضة الشهداء.

وفي منتصف القرن الثامن عشر، أمتزج هذان النوعان من الأحتفالات الدينية، وظهرت التعزية كشكل مسرحي" (2). في رأي (فيرث) ؛أن هذين النوعين اللذين شكلا الصورة الدرامية للتعازي بشكلها الفني المسرحي يبين فيهما ملامح فنية ترتبط بمسرح الشارع، وهي:

1. الأمكنة التي تقام فيها هذه التعزية هي أمكنة مفتوحة وغير مغلقة.

2. الاحتفال هو احتفال ارتجالي تشترك فيه أعداد كبيرة من المشاركين، وأعداد أخرى من الجمهور،

3. العفوية في المشاركة من القائمين على هذه المظاهر الاحتفالية، وكذلك من الجمهور في تكوين الصورة الطقسية الدرامية للتعزية.

وفي هذا المجال يرى الباحث الدكتور (محمد سيف) أن التعزية تعبر " في جوهرها عن فكرة المسرح الجوال الذي يمكن إقامته في أي مكان لاحتوائه على اكسسوارات بسيطة يمكن نقلها والترحال بها في أي أتجاه في احتفال شكله ومضمونه قريب كل القرب من مسرح الشارع " (3). واعتقد أن القرب بين التعازي ومسرح الشارع حسب الرأي السابق، يقصد به مسرح الشارع بصيغته الحالية، أو كما يقدم في أيامنا.

في الشرق الإسلامي والعربي تتميز التعازي في كونها تمتلك ملامح مسرح الشارع من حيث الأمكنة المفتوحة والارتجال المرافق للفعل الدرامي المرافق لهذه الظاهرة، كما أن هذه الظاهرة الدرامية تمتلك من العناصر الأخرى القريبة من عناصر العرض المسرحي من إكسسوارات وأزياء تعبر عن الفترة التي وقعت بها واقعة كربلاء للمجسدين وغيرها من العناصر التي يمكن أن تستخدم بشكل مطابق في أي عرض لمسرح الشارع، مع أعتبار أن هذه التعازي تقدم الى يومنا هذا بشكل واسع وبأعداد كبيرة من المشاركين، وتقدم في أكثر من مكان في المدينة الواحدة، مع استمرار المظاهر الأخرى التي أشار لها (فيرث)، أي تصبح ظاهرة التعزي تضم ثلاثة أنواع قريبة من مسرح الشارع تدخل فيها المظاهر الدرامية في الأماكن المفتوحة، وهي:-

1. (التعازي) أو ما يطلق عليها في المصطلح الشعبي (تشابيه)، وهي تقوم على تمثيل قصة مقتل الحسين (ع) كاملة من صباح العاشر من محرم حتى لحظة مقتله وشهادته هو أهل بيته وأصحابه.

2. المواكب ومسيرات الندب والرثاء، وهي التي تقام من الأول من شهر محرم لغاية العاشر من الشهر نفسه.

3. الراوي الذي يروي قصة الحسين (ع) واستشهاده، وهذا الراوي، أو ما يسمى بالمصطلح الشعبي (القارئ) الذي يستمر بسرد قصص مسير الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه لغاية استشهادهم جميعاً، ويرويها لمدة عشرة أيام، ولكل يوم قصة عن حدث في الواقعة، بعض هذه المظاهر السردية تكون في الساحات العامة والأسواق، وبعضها الآخر تتم في البيوت، أو المراكز الدينية، وما يهمنا المظاهر التي تقام في الأماكن المفتوحة.

أما في مصر والمغرب العربي فإن المظاهر الدرامية التي تمثل مسرح الشارع، أو ما يقارب هذه الظاهرة الفنية فهي عديدة ومتنوعة. في مصر يتناول الدكتور علي الراعي في كتابه (المسرح في الوطن العربي) ما يرويه الرحالّة الذين زاروا مصر وقدموا شهادات عن المجال المسرحي فيها، واقتبسنا بشكل غير مباشر أهم هذه المرويات عن بعض الرحالّة وما يخص موضوع المظاهر الدرامية التي تتطابق مع مسرح الشارع في مصر في الفقرة التي أطلق عليها (علي الراعي) بالمسرح الشعبي البشري، إذ ينقل الراعي وصف الرحالّة (كارستين نيبور) في زياراته لمصر في عام (1761 م) عروض الشوارع المقدمة في مصر بأكثر من نوع،  وهي:

1. الغوازي أو ما يسمى بفن الغوازي هذا الفن المصاحب للموسيقى والغناء وكان يقدم أمام منازل الرحالّة الغربيين، أي في الشوارع المقابلة للبيوت.

2. عرض الشارع الذي يقدمه الحاوي أمام جمهور من المصريين في الساحات العامة وهم يعتمدون على تقديم أعمال تخدع أعين المتفرجين، وهم يستهدفون منها كسب المال الذي يعطى لهم طواعية من قبل الجمهور.

3. عروض لبعض اللاعبين الذين يقدمون عروض يعتمدون بها على القردة وطريقة تقديم هذه العروض من خلال ارتداء القرد للملابس وهي عادة ما تكون ملابس غربية للسخرية من الغربيين في بلاد المسلمين.

4. ينقل (نيبور) صورة درامية أخرى عن ممثل فرد يقدم نفسه للناس في شوارع القاهرة سائل الناس العطاء، بعد أن يسرد لهم قصة أسر النصارى في مالطة مع أستخدام سلسلة من الحديد يجسد بها صور من هذه القصة.

5. ينقل (نيبور) صورة خامسة عن مشاهدات عروض الشوارع عن مجموعة من الممثلين من مسلمين ومسيحيين ويهود وهم يقدمون بعض المسرحيات باللغة العربية تقدم في العراء – في فناء المنازل ويصبح آنذاك مسرحهم - وهي مشاهد كوميدية ومنها:عن قصة إمرأة تستدرج المسافرين لتسرق نقودهم وتطردهم، وكان يؤدي هذا الدور النسائي رجل من الممثلين. (4)

وفي حوالي 1815 يروي رحالة آخر وهو (لين) عن مشاهداته لمجموعة من المؤدين يطلقون عليهم أسم (المحبظين)،إذ يقول (لين) في هذا المجال: إنَّ هؤلاء المحبظين يقدّمون عروضهم في حفلات الزواج والختان في بيوت العظماء، كما أنهم يجذبون اليهم حلقات من المتفرجين حين يلعبون في الأماكن العامة، وأضاف أنهم يعتمدون على النكات والحركات الخارجة، وأن الممثلين كلهم من الذكور، ما بين رجال وصبيان، يقدمون الأدوار جميعاً الرجالية منها والنسائية " (5).

وفي الانتقال إلى شكل آخر من الدراما التي تقدم في الأماكن المفتوحة، فكان للعربة التي يقودها الفنان في الطرقات والساحات العامة وما يقدم من خلال الصندوق الذي تحمله العربة من حكايات وقصص عن أماكن مختلفة يجتمع حولها من يريد أن يشاهدها ،إذ يرى عبد الكريم برشيد في هذا النوع من المظاهر الدرامية التي تعتمد على المشاهدة التي من الممكن أن يصاحبها التعليق من الفنان الذي يقود العربة، أو يحمله على ظهره، إذ يرى برشيد في هذه الممارسة أن صندوق الدنيا قريب "من خيال الظل، عرف المجتمع العربي صندوق الدنيا أو صندوق العجب، وفي هذا الصندوق يقول المخرج المسرحي خالد الطريفي: والكون يدور والحياة تسير كأننا أمام صندوق عجب، وصندوق العجب، هو صندوق الفناء ندخل ونخرج منه بالتعاقب " (6). إنَّ هذه الظاهرة الفنية التي تحمل في طياتها الفعل الدرامي من خلال مجموعة الصور التي تختزل الدنيا هي ليست ظاهرة مسرح الشارع، لكن فيها ما هو قريب لهذه الظاهرة الدرامية من حيث أن حدوثها واشتغال الأحداث فيها تتم من خلال صندوق الفرجة الذي يتجول فيه الفنان خارج البيوتات والأماكن المغلقة، فمسرح العلبة هو المكان الذي يحوي بداخله المتفرج والعرض،أما هذه العلبة الصغيرة فالمتفرج يكون خارجها ويرتبط بعلاقة معها من خلال الأماكن المحددة في داخل الصندوق لمشاهدة صور من العالم " تختبئ كل العوالم الممكنة، والتي هي عوالم تَسَعُ كل الناس وتَسَعُ كل الأحداث، وتسع كل الأشياء، وتختزل كل الدنيا، وتسع الحياة، وذلك في رسومات فقط، رسومات ورقية مقصوصة وملونة بألوان الوجود وبألوان الطبيعة وبألوان الحياة "(7)، هذه العوالم والصور والألوان كلها تروي أحداثاً عن مواقع قد تكون حقيقة بالأسم لكنها مصوّرة بشكل مصوّر من قبل الفنان الذي رتبها وأعدّها في هذا الصندوق.

وفي غرب الوطن العربي، أي في دول المغرب العربي تنوعت الظاهرة الدرامية التي تحوي صوراً من مسرح الشارع، المسرح الذي يقدم في الساحات العامة والأسواق فيها، فمن المواسم إلى الحلقات إلى البساط إلى بعض من مظاهر سلطان الطلبة، وغيرها من الاحتفالات التي ركزت عليها الاحتفالية في اشتغالها الدرامي، كلها تشير إلى أن عروض الشارع كانت وما تزال موجودة وتستمر بعض ملامحها إلى اليوم في هذه المنطقة من العالم. في مجال الموسم في المغرب يرى برشيد بإن "الموسم،كما يعرف في المغرب، هو احتفال شعبي اجتماعي، ديني، اقتصادي، إبداعي، ويقابله في مصر المولد. وهذا الموسم –المولد، هو بالأساس فضاء احتفالي بأمتياز، وهو لحظة للتلاقي الإنساني، وهو أحتفاء بالحياة، وبالزواج، وبالولادة، وهو درجة حيوية يلتقي عندها الطبيعي والثقافي، ويتحاور فيها عطاء الأرض وعطاء الإنسان، وتجسد مسرحية (عرس الأطلس) هذا الموسم الأطلسي، وتجعله مسرحاً مفتوحاً على مستويين ؛ أفقياً ورأسياً وبهذا يلتقي – الديني والدنيوي " (8). وهذا المزج بينهما هو ما يقوم عليه هذا الاحتفال، على عكس ما يقام في الشرق الإسلامي في التعزية الذي يرتبط بما هو ديني بحت، بينما في الغرب العربي يرتبط الاحتفال لديهم بما هو ديني ودنيوي يجعل من الظاهرة الدرامية التي تقام في الأماكن المفتوحة تمزج بين الفرح والإبتسامة بسبب المناسبات التي تقام بها هذه المظاهر الاحتفالية ذات الصبغة الدرامية، وبين المجال الديني المرافق لهذه المراسيم الاحتفالية بجانبها المفرح، وليس في جانب الحزن. ويقدم في مراكش العديد من صور الاحتفال في الفضاءات العامة ذات الارتباطات الدينية، ويرى (د. علي الراعي) في من يزور " سوق جامع الفناء بمراكش يجد هذه الصورة التي نتخيلها حقيقة واقعة. يجد مسرح الحلقة في أشكال متعددة، ويجد مسرح الممثل الفرد الذي يقوم وحدة بجميع الأدوار، ويجد تمثيلاً عادياً يتعدد فيه المؤدي، ويشبه من قريب تمثيل المحبظين،كما يجد ألعاباً مختلفة للحواة والمشعوذين يشركون فيها الجمهور،ورقصاً شعبياً مخلوطاً بالأداء التمثيلي الفكاهي " (9). إنَّ ما يقام في داخل سوق جامع الفناء يشير إلى طبيعة العمل الدرامي في هذا المجال، إذ تتميز أعمال السوق ببعدها الدرامي المنتمي لمسرح الشارع، فبين مسرح الحلقة، والممثل المنفرد الذي يشبه في طريقة تقديمه أداء المحبظين في مصر، مع ما يقدم من أعمال مختلفة بين أعمال الحاوي والمشعوذ المصاحب للأداء الفكاهي الذي يجلب المشاهدين من مرتادي السوق، وكل هذه الأعمال ذات البعد الدرامي فيها صور من مسرح الشارع تقدم في الأماكن العامة المفتوحة.

إنَّ ما يميز التقديم الدرامي في أسواق المغرب العربي تعددية الأشكال المقدمة، وهذه التعددية تتطابق من حيث التنوع مع ما يقدم في مصر، لكنها تختلف عن الشرق العربي الذي ينقل أغلب الكتّاب عن ظاهرة واحدة فقط تقدم في الفضاءات المفتوحة وهي التعزية. إنَّ هذه التعددية الدرامية في المغرب العربي أتت وكما يرى الدكتور (علي الراعي) من تعدد فنون الحكاية والإيماءة والألعاب وغيرها مما ساعدت على التنوع في المجال الفني الدرامي، ويرى الراعي أن " في المغرب توجد ثلاثة أشكال تقدم في الشارع وهي: (مسرح الحلقة) و(مسرح البساط) و كرنفال (سلطان الطلبة): وفي هذا المجال يرى الدكتور حسن المنيعي في (مسرح الحلقة) الذي يهمنا في هذا المجال، والذي يضم فنون الحكاية والإيماءة والألعاب البهلوانية والتهريجية، ويقدم هذا التمثيل في الأسواق والساحات العامة، وهذه الحلقة تتكون من متابعين حول الفنانين من الممثلين والموسيقيين والبهلوانيين الذين يقدمون عروضاً يشركون في بعضها الجمهور الملتف حولهم في بعض فقرات العرض المقدم (10). إنَّ عرض مسرح الحلقة هو العرض الأبلغ في مضمونه لمسرح الشارع، كون أن هذه الممارسة الدرامية تقع في بيئة خاصة بالطبيعة التي يحكي عنها اليوم مسرح الشارع من حيث العلاقة بين الجمهور والممثل، والفضاء غير المغلق، والمشاركة مع الحضور في رسم ملامح الحكاية ، أي أن "الحلقة هي تجمع دائري في أحدى الساحات العمومية، يقف وسطه (الراوي) والمساعد، اللذان يقصان بالتناوب قصص البطولات، والأساطير، والحكايات الخرافية، بطريقة تمثيلية صرفة، تجمع بين التشخيص والمباشرة والايماءة. ويوجد حتى الآن سوق كامل لهذا النوع من الاحتفال بمدينة مراكش " (11). إذن هذه العروض التي تستمر لغاية الآن هي من المحفزات الحقيقية في داخل المجتمع في مراكش، كونها تعد من الركائز المهمة في الثقافة في هذا البلد، الذي لم يتجاوزها الناس ويجعلها من التراث، بل هي حية في فعلها ونشاطها التوعوي والفني والثقافي.وهذه الاحتفالات في المغرب العربي عامة هي من جعلت (عبد الكريم برشيد) يتساءل عن مسرح الحلقة وغيرها من الصور الدرامية التي تقع خارج إطار المسرح الغربي التقليدي، التي يرى بأنها أقرب ما تكون للمسرح عن غيره من الفنون الأخرى التي يلتقي فيها " اللعب والجد، وتلتقي الحياة والفن، ويمكن للباحث أن يتساءل إن من تعود على الاحتفال، داخل السوق الأسبوعي، أو في الموسم السنوي، هل يمكن أن يكون غريباً عن روح وجوهر المسرح ؟ "  (12) ، ومن هذا التساؤل يبدأ عبد الكريم برشيد وغيره من العاملين في البحث عن أشتغالات جدية توجد مسرح بديل للمسرح الغربي، هذا المسرح البديل لا يتخلى عن كل هذه المظاهر العربية والإسلامية في تاريخ المغرب العربي التي يمكن توظيفها في ما سمي بالمسرح الاحتفالي، هذا المسرح الذي هو بالضد من أشكال المسرح الغربي الذي يعد دخيلاً على الثقافة العربية بصورة عامة والمغاربية بصورة خاصة، ويقول عبد الكريم برشيد " لقد غاب عن رواد الحركة المسرحية أن المسرح ليس بناية، وليس أسواراً وخشبة، وليس ستارات وكراسي من خشب، أنه موعد بين جمع من الناس، ثم يقول: المسرح حفل واحتفال، وهكذا عرفناه من قبل، إنه مهرجان يلتقي فيه الناس بالناس، إنه عيد جماعي، لذلك أرتبط بالساحات والأسواق والمواسم " (13)، والارتباط بالساحات والأسواق والمواسم والفضاءات المفتوحة هو عينه مسرح الشارع الذي يبحث عن هذه الفضاءات وعن الارتجال وعن الذهاب إلى الجمهور، والبحث في موضوعات تغادر سَلب الجمهور إرادته، وتغادر سلب الجمهور بيئته الحقيقية في المشاهدة، فمسرح الشارع يبحث عن البيئة الحقيقية للجمهور، وليس عن البيئة المصطنعة التي بحث فيها من يشتغل في المسرح من أمثال المسرح الملحمي وغيره عن كسر الإيهام والإندماج والبحث عن علاقة جديدة مع المتفرج،لهذا السبب بحث المسرح الاحتفالي في بناء علاقة جديدة مع الجمهور قائمة على ركن أساسي وهو البدء في البحث عن الجمهور على وفق العلاقة التي أوجدتها المظاهر الدرامية في التراث العربي والإسلامي،قام المشتغلون في المسرح الاحتفالي بالبحث في هذه المظاهر التراثية على أعتبار أن في المغرب العربي " كانت الساحات العمومية والأسواق الكبرى مسارح للرواة المداحين الذين يجمعون حولهم حلقات جماهيرية ملتهبة لسماع نوادر جحا وملاحم عنترة وسيف بن ذي يزن..الخ، وكان الرواة والمدحون يستخدمون جميع الحيل الفنية من أثارة وتشويق لشد المشاهدين اليها وإحداث انسجام تام بين المؤدي وجمهوره، وقد جاء استلهام ذلك في بناء النظرية الفنية والجمالية للمسرح الاحتفالي الذي (لا يحاكي ولا يحكي، أنه يحيي حدثاً – حفلاً ويقيم لقاء تظاهرة – هنا والآن -  هذا اللقاء / الاحتفال هو جزء منا نحن المحتفلين، أنه نحن وهو لا يمكن أن يكون الا كما نريده ونحياه " (14). وهذه الرؤية في التفكير وفي تحديد مهمة المسرح هي بالبحث عن روح التلاقي بين المسرح وجمهوره، وليس بين هذه الظاهرة وأفكار غريبة عنها.

إنَّ الاحتفالية قد ارتكزت على ركائز مهمة استلهمتها من التراث الفني تتلاقى مع الركائز الجمالية في مسرح الشارع، فالاحتفالية ركزت على الذاتية النابعة من اللقاء ذاته بين المسرح والجمهور، لذا " فالمسرح الاحتفالي لا يحيل على الماضي كما هو شأن الدرامية، ولا يحيل على الآخر الغائب البعيد – كالمسرح الملحمي – وإنما يحيل على ذاته، فهو وحده المرجع والمصدر، لأنه لقائنا نحن – الآن – هنا، فالاحتفال المسرحي إذن لا يحيى زمناً كان ثم مضى، كما أنه لا يحكي عن زمن كان أو يكون، ولكنه يخلق زمناً جديداً" (15). هذا الزمن الجديد قائم على العلاقة الحية الرابطة بين العرض وتلقيه، أي أن المسرح يحي هذا العرض في فضاء التلقي الآني من خلال اختراق هذا الفضاء وإقامة الصلة معه بشكل مباشر ودون أي واسطة يبحث عنها كما هو الحال في المسارح الغربية. وهذه أول المرتكزات الفنية التي تلتقي فيها الاحتفالية مع مسرح الشارع.

أما المرتكز الثاني الذي يلتقي فيه المسرح الاحتفالي مع مسرح الشارع هو الفضاء المفتوح من خلال الساحات العامة والأسواق، وهذا ما وجده المخرج (الطيب الصديقي) الذي بحث في مجال تأسيس فكرة العرض المسرحي الاحتفالي،إذ يختار " الأماكن المفتوحة والساحات العامة والشوارع لتقديم عروضه، رافضاً معمار المسرح التقليدي، لأنه يخنق فن التمثيل، ولا يمكن من خلاله تحقيق نظام المشاركة العقلية والوجدانية بين المحتفلين" (16). من ثم فأن المعمار المسرحي التقليدي من حيث الأبنية الخاصة بالعرض المسرحي تحد من قيمة ومشروعية التلقي من خلال تحديد هذه الفضاء بالمعمار الذي من الممكن أن يؤثر بطبيعة التلقي من جهة، ويحد من العدد كون أن العدد في المسارح التقليدية محدود، على العكس من الأماكن المفتوحة التي من الممكن أن يكون فيها العدد أكبر مما هو في مسرح العلبة، ومن جهة ثالثة جعل الفضاء المفتوح حرية أكثر من حيث المتابعة للعرض المقدم أو رفضه دون عوائق تؤثر على المتلقين الأخرين.

أما المرتكز الثالث الذي يشتغل عليه المسرح الاحتفالي، هو الارتجال وهو من المرتكزات الثابتة في مسرح الشارع، والارتجال في المسرح الاحتفالي يعمل عليه المشتغل في هذا المسرح كون أن صانعه لا يستند " إلى نص مكتوب أو دور جاهز ولا يقبل التغيير. بل إنَّ الفرجة تعتمد بالأساس على التأقلم مع متطلبات اللحظة وطبيعة المتلقي. ولهذا، فهي تبقى قابلة للحذف أو الإضافة، حسب تغير الظروف وحيثيات التواصل، وعليه فالارتجال هو الصيغة المفضلة لدى صانع الفرجة، لأنها تتيح له إمكانية هائلة للتعبير وتبتعد عن التصلب والجمود الفني " (17). هذه هي طبيعة الارتجال في ما وجده الباحثون عن حقيقة الفرجة وتلقيها، وطبيعة الأداء المقدم من قبل المؤدي في المظاهر الدرامية المختلفة في التراث العربي والإسلامي.

يعد الارتجال في الاحتفالية من الأسس التي يقوم عليها الاحتفال ذاته بين المؤدي والجمهور في كون أنه يتيح " قيام حوار مكشوف بين صانع الفرجة ومتلقيها الذي يبتعد عن الموقف السلبي، ويتحقق هذا الحوار خاصة في لحظات تتوقف فيها الفرجة ليخاطب صانعها الناس مباشرة " (18)، من أجل تحفيز هذا الفضاء المتداخل بين المؤدي والجمهور المتلقي لخطاباته القائمة على مبدأ العفوية والمشاركة الجامعة للموضوع المقدم في الاحتفالية.

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

.......................

الهوامش

1. عبد الكريم برشيد: الصدمة المزدوجة، المسرح والحداثة، الشارقة:إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، 2014، ص149.

2. بيتر يروك، تيري إيجلتون، سو. إلين وآخرون: التفسير والتفكيك والأيديولوجية ودراسات أخرى، أختيار وتقديم: نهاد صليحة، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، ص 268،ص269.

3. د. محمد سيف: المسرح والأفكار والتطبيقات التي تعارض التقاليد، بغداد: من إصدارات مهرجان بغداد لمسرح الشباب العربي، 2012، ص239.

4. ينظر: د. علي الراعي: المسرح في الوطن العربي، الكويت: سلسلة عالم المعرفة يصدرها المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، 1999، ص50، ص52.

5. المصدر نفسه، ص53.

6. عبد الكريم برشيد: المصدر نفسه،ص140.

7. المصدر نفسه،ص140.

8. المصدر نفسه، ص152.

9. د. علي الراعي: المصدر السابق، ص 57.

10. ينظر: المصدر نفسه،  ص 58.

11. محمد أديب السلاوي: الاحتفالية والبديل الممكن، بغداد: منشورات دائرة الشؤون الثقافية والنشر، 1983، ص52.

12. عبد الكريم برشيد: المصدر السابق، ص153.

13. د. سعيد الناجي: البهلوان الأخير، أي مسرح لعالم اليوم ؟، الشارقة: إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة،2011، ص 107.

14. د يحيى البشتاوي: توظيف التراث في المسرح العربي، الشارقة: إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، 2011، ص 203.

15. المصدر نفسه، ص 203.

16. د يحيى البشتاوي: المصدر نفسه، ص211.

17. سعيد الناجي: التجريب في المسرح، الشارقة: إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، 2009، ص123.

18. سعيد الناجي: التجريب في المسرح، المصدر السابق، ص123.

 

رواية "نزيف المسافات" للقاصّ العراقي صالح البياتي، المقيم في استراليا، والصادرة عام 2021 عن دار الورشة للطباعة والنشر/ بغداد/ شارع المتنبي.

تتناول الرواية فتراتٍ من تاريخ العراق في النصف الثاني من القرن العشرين: العهد الملكي، ثورة 14 تموز 1958، انقلاب 8 شباط 1963، انقلاب 17 – 30 تموز 1968 يوم تسلّم حزب البعث السلطة، وما أعقبتها من أحداث حتى الحرب العراقية الإيرانية 1980 وما بعدها، كما مرّت الرواية على الثورة الكردية ومعاركها في العراق واستشهاد والد البطل غير البيولوجي، العسكري المشارك في القتال ضد الحركة الكردية، والذي يكتشف الشخصية الرئيسة مؤخراً وهو في أواسط عمره أنه ليس أباه الحقيقي، بل زوج خالته التي ربته، وهو لا يعرف أيضاً أنها ليست والدته الحقيقية .

ركّز الروائي على تلك الحرب (العراقية الإيرانية) وما صاحبها من أحداث سياسية ثقيلة الوطأ شديدة العنف، راح في أتونها مئات الآلاف من الشباب العراقي المتفتح للحياة والبناء والمستقبل، إضافة الى ما رافقها من معارك ونكبات ونوائح ونوائب داخلية اجتماعية. ومن بين تلك الحوادث والتداعيات حملة التهجير الكبرى التي تعرّض لها الكرد الفيليون؛ بسبب ما سمي بتبعيتهم الإيرانية. وهو من مخلّفات صدور قانون الجنسية العراقية عام 1924 حيث قُسّم العراقيون الى تبعية عثمانية، وتبعية ايرانية. وهو ما جرّ معه تمييزاً عرقياً طائفياً سياسياً اجتماعياً ضد الفئة الثانية، من خلال التهميش والتمييز في الحياة العامة، وفي الوظائف العليا والدنيا.3647 صالح البياتي

يسرد القاصّ صالح البياتي، من خلال شخصيات عاشت في محافظة ميسان (العمارة)، تأثيرَ تلك الفترات، وأحداثها التاريخية على حياتها الاجتماعية ومصائرها، باعتبارها نموذجاً للكثير من مثيلاتها، ومن خلالها سجّل ووثّق روائياً ما عاشه العراق والعراقيون في تلك الحِقَب، والظروف والمتغيرات التي امتازت بها، وما عانته وناءت تحت حِمله في ظلّ تلك الأنظمة المتعاقبة، التي اختلفت جذرياً في توجهاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فكلُّ نظام جاء في أعقاب آخر عن طريق انقلاب دمويّ، راح ضحيته الكثير من رجالات السلطة ومن مناصريهم من العامة، ومن الأبرياء غير المناصرين. ففي انقلاب 8 شباط مثلاً قُتل واعتُقلَ وعُذّب آلافٌ مؤلفة من الشباب العراقي المنتمي للتيار اليساري، ومن غير المنتمين، لكنْ بالشُبهة تعرضوا الى ما لاقوه من قتل واعتقال وتعذيب وتشريد. وكيف تفاعل الناس مع تلك الأنظمة، وعاشوا، وتحمّلوا، وعانوا، كلٌّ حسب طبقته الاجتماعية، وموقفه السياسي الأيديولوجي. وكذلك يعرضُ لنا حركة الناس المتضادة في مواقفها، ومعاناتها، بين مؤيد ومعارض، وانتهازيٍّ، ومصلحي. وكذا علاقات هذه الطبقات فيما بينها، سلباً وإيجاباً، محبةً وتعاضداً، أو كراهيةً ومحاربةً وإيذاءً. وكلُّ ذلك وبطل الرواية/الراوي (نوح المدعو "إجباري" قبل تغيير اسمه) يروي للمتلقي موقفه الشخصيّ منها كلّها، منْ خلال السرد أو الحوارات الكثيرة - الطويلة بعضها - والتي ترد على لسانه وألسنة الشخصيات، لغرض عرض مواقف العراقيين السياسية المختلفة. فمثلاً في مروره على ثورة الرابع عشر من تموز 1958 نقرأ إنتقاده الشديد واستنكاره واشمئزازه لما صاحبها من أحداث دموية راح ضحيتها أعضاء العائلة المالكة، وبعض من كبار رجالات الحكم قبل الثورة، حين سُحل بعضهم في العاصمة بغداد بشكل وحشي مشمئزٍّ، تقشعرّ له الأبدان، حيث وصفَ أول يوم منها، وما شاهده من سحل وتمثيل، وموقفه المعارض الشديد لما تلاها من أحداث بشعة مروعة، بعد أن جاء الى بغداد مع صديقه الشيوعي سعيد من العمارة (ميسان) لعملٍ فوقعت الثورة في اليوم التالي لمجيئهما، إذ يروي (ص 117 – 118):

"لن أنسى ابداً ذلك اليوم الذي كان نقطة تحول سياسي للعراق، ولكن بالنسبة لي غاص في تلافيف العقل الباطن، يبدأ دائما بهذا السؤال المحيّر: لماذا تنقلب صفحات التاريخ في مثل هذه الأحداث، بأيدي ملطخة بالدم، لماذا تكون العقوبة قاسية، عنيفة الى درجة الجريمة.. كان الاضطراب يعمّ شوارع المدينة"

ثمّ يقول:

"كتبت في دفتر مذكراتي أخاطب نفسي: نوح.. كم مرة في عمرك، سترى فيه جثة عارية، بلا رأس ولا أطراف، لرجل ذي نسب رفيع، ومقام عال، مسحول بحبل، في يوم مقدود من غضب، بين أناس مُسخوا وحوشا.. سيطالهم الموت يوماً، وبصورة أبشع."

ويروي لنا بطل الرواية (ص121- 122) ما رأى من حادث قتل انسان بريء مرّ صدفة بقصر الشيخة فتنة (زوجة الشيخ محمد العريبي):

"رأيت فلاحاً يتطاير الشرر من عينيه، يستظل واقفاً بسور القصر، ويتربص برجل قادم، وعندما اقترب الرجل، أنقضّ عليه فجأة، ودوت طلقتان في الهواء، خرّ على إثرها صريعاً، على حافة الرصيف، اختلج جسده المنتفض برهة ثم خمدت أنفاسه الأخيرة"

وفي صفحات أخرى نقرأ موقفه الآخر من الثورة وحلمه بالحرية، وخيبة أمله بما شاهده وعاشه في اليومين الأولين للثورة (ص 122):

"عدت للبيت مختنقاً بهواء الثورة، الذي فسد للتو، وتلوّث بسموم الكراهية والحقد والانتقام، تمنيته هواء نظيفاً، يعبق بنسائم الحرية"

لقد استلهم الروائيّ شخصياته وسِيَرها من نماذج واقعية، عايشها وعرفها، وعايشناها نحن أيضاً وعرفناها عن قرب، وعن تفاعل وعلاقات شخصية بينها، فهي تعيش في منطقة وبيئة واحدة، مما يدفعنا الى أنْ نرى بأنّ في بطل الرواية شيئاً من سيرة الكاتب الذاتية، وما عاشه وعاناه في تلك الحقب. وعليه يمكن لنا فنيّاً أنْ نضع الرواية في خانة (الواقعية التاريخية النقدية)، إذ تعرض لنا فترة من تاريخ العراق في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو ما تحتاج الرواية العراقية أنْ تتعرض له؛ لما لها من أهمية في تعريف الأجيال القادمة على ما جرى في العراق في تلك الفترات، وما قامت به الأنظمة المتعاقبة وما جرى خلال حكمها، والأثر البالغ والتدميري والتمزيقي اجتماعياً، ناهيك عن الجانب السياسي والاقتصادي، والثقافي والحضاري. كما أنها مزج فنّي سردي (روائي) بين السيرة والتاريخ، والأحداث، والاضطرابات، والمتغيرات الدراماتيكية التراجيدية التي عاشها العراق وشعبه، فأوصلته الى ما هو عليه.

لقد اشتغل الأديب صالح البياتي بحرص وتفصيل دقيق ومتابعة تاريخية وميدانية شخصية على تسجيل، وبيان الأثر العظيم والخطير، والعميق لهذا التاريخ ووقائعه على الناس بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم جماعاتٍ وأفراداً. فالحكاية التي بين أيدينا، وقصص شخصياتها المتعددة المشارب والمختلفة الطبقات والاتجاهات، وعلى ضوء مجهر قراءتنا هي واقعٌ عاشه الروائي وسط بيئة مضطربة، وبلد مرّت به أحداث جسام صنعت تاريخه المتلاطم الأمواج، وبحر الصدامات الكارثية، التي جاءت بقادة، وحروب داخلية وخارجية، ألقتْ بظلالها السُود، ونتائجها التراجيدية المأساوية المدمِّرة، على عاتق الشعب الذي لم تكن له ناقة ولا جمل في كلِّ ما جرى. فما هي إلا صراعاتٌ بين أطماع، واستراتيجيات ومصالح خارجية، وصراع داخلي على الكرسي بين قوىً متضاربة متصارعة، لا يهمها إلا السلطة والمناصب، والوجاهة والإمارة ولو على الحجارة، وما يجلبه ذلك من منافع وامتيازات، ونفخة كذّابة زائلة، لعيون جائعة متعطشة للسلطة، ونفوس جاهلة متخلفة.  لقد اشتغل الكاتب عليها منْ خلال سيرة بطل الرواية وسِيَر الشخصيات الأخرى – كما ذكرنا - ، والأثر البالغ العظيم لتلك الأحداث والوقائع التي ضربت البلاد طولاً وعرضاً، شمالاً وجنوباً،  ومنْ أقصاه الى أقصاه. هذه السيرة والسيَر الأخرى نماذج ضمن الكثير الكثير منَ الذين وقعوا ضحايا بريئة، كالمرأة الجنوبية الطيبة المضحية الأرملة (الدهلة) نموذجاً، والتي قُتلت على يد ضابط الأمن، وهي إحدى شخصيات الرواية.

ومن الذين اختاروا طريق المعارضة والمواجهة بإرادتهم (الشيوعي سعيد مثالاً) حيث تحمّلوا متوقعين، بسبب انتمائهم واختيارهم المواجهة عن قناعة، تحمّلوا ما تعرّضوا له من ملاحقة واضطهاد، وسجن وقتل وتعذيب، حيث (راحوا بالرِجلين) كما يقول شعبنا.

هذه النماذج من الشخصيات الواقعية (البريئة والمُواجِهَة عن سبق إصرار) هي وجبة الرواية الفنية، ومضمونها، والهدف الذي يروم الوصول اليه الكاتب، والذي دفعه الى صياغتها، بالتعب المرّ اللذيذ، والجهد الاستثنائي، والاشتغال على شدّ القارئ وإثارة فضوله وربطه بالأحداث للوصول الى نهايتها المرجوة التي كانت الدافع والرغبة لكتابة الرواية؛ فقد أراد أنْ يضعها أمام عيون ووعي المتلقين، وخاصة المتلقي الذي لم يعشْ أحداث تلك الحِقَب، أو كان صغيراً لا يدرك ما يجري حوله، إضافة الى خوف الأهل من الكلام خشية انزلاق أطفالهم خارج البيت في ذكر ما يجري خلف جدران منازلهم من أحاديث سياسية وأسماء قادة، وبحديث معارض سلبي أو شتيمة، وبذلك تقع العائلة كلها في مهلكة، إن لم تكن مثرمة بشرية، كما حصل للبعض في حقبة السلطة الدكتاتورية الدموية السابقة للغزو في عام 2003.

وكذلك يهدف الكاتب الى أرخنة تلك الفترات التاريخية المهمة والخطيرة للأجيال القادمة روائياً؛ لما للرواية من تأثير أكبر من التوثيق السياسي والمنهج التاريخي المدرسي. وكذلك مثالاً للشعوب التي لم تعشْ ما عاشه العراقيون يومياً تحت ظلال ما كان يجري مما ذكرنا وما سردته الرواية، فوقعوا أسرى التضليل والعمى الإعلامي التزويري، أو الانحياز الأعمى أو المصلحة الشخصية. وكذلك كي لا تقع هذه الحوادث والكوارث في غياهب النسيان التاريخي عن ذاكرة الأجيال القادمة، أو في مطابخ التزوير المُضلِّل والمتعمَّد.

***

بقلم: عبد الستار نورعلي

آذار 2024

تقديم عام: يُعَدّ موضوع حضور المرأة في الشعر مسألةً متعاوِدةً ومع ذلك تظلّ متجدِّدةً وغيرَ متكرِّرةٍ تناولها نقاد وباحثون كُثُرٌ منذ القديم.. سلّطوا الضوء على الأبعاد الوجدانية والوجودية والاجتماعية والنفسية والقيمة لصورة المرأة ومنزلتها في القصيد العربي منذ عصر المعلّقات حتى عصر قصيدة النثر.. خاصة وقد اتسم هذا الحضور المحوريّ للمرأة في مدوّنتنا بالثراء والتنوع إلى حدٍّ يصعب ان نجد شاعرا تخلو نصوصه من ذكر المرأة متغزلا بها واصفا لمفاتنها في سكونها وفي حركتها وفي حلاوة حديثها.. او متودّدا إليها او معاتبا إياها او شاكيا جبروت هجرها او مشتاقا توّاقا إلى وصلها... كلّ ذلك مثّل مادّة دسمة للباحثين في هذا الموضوع إلى أن نقف عند شعراء القضايا والمواقف في العصر الحديث.. أولئك الذين استقطبتهم الإيديولوجيات والمدارس الأدبية المنضوية تحتها ومنها بالذات الواقعية الاشتراكية التي نهضت عليها عدة تجارب أدبية هامة في بلادنا العربية وفي تونس.. وأيضا أولئك الذين هزتهم سلسلة الهزائم والخيبات الذاتية والموضوعية في واقعنا المازوم بين الحصار الاستعماري المباشر وغير المباشر وبين منظومات الحكم الاستبدادي وما ألحقتْ به الفئاتِ الاجتماعيةَ الهشّةَ من تفقير وتهميش .. في ظل هذه الملابسات والمتناقضات تغيّر وعي المرأة ووضعها في المجتمع الشرقي فتغيرت النظرة اإليها تبعا لذلك خاصة مِن قِبَلِ المثقفين والأدباء.. فمنذ القباني والبياتي والسّيّاب لم تبق المرأة في الشعر العربي مصدرا للمتعة والسعادة إن تدانت وبحسنها تبدّت ومصدرا للكبَد والشقاء إن تناءت وبهجرها تصدّت.. إنما تعامل معها شعراء عصر الحداثة ادبيا برؤيا منسجمة مع وضعها الإنساني الجديد بمختلف ملابساته الحضارية والنفسية.. بل إنّ مِن الشّعراء تجاوزوا المواضيع الغزلية في استحضار المرأة في تجاربهم الشعرية.. وهنا تكمن جدّة التوظيف والتّطريف في التعاطي مع هذه المسألة التي يعتبر البحث فيها من خلال كتابات المجددين شيّقا بقدر ما هو عسير خاصة منهم الذين انتهجوا الالتزام في كتاباتهم بمواقفهم الثورية وبرؤاهم التحرّرية المتمرّدة ابدا على السائد.. ويعد الشاعر التونسي أحمد اللغماني (1952- 1976) سليل جماعة الطليعة (أو مَن كانوا يصنفون أنفسهم بجماعة "غير العمودي والحر") من أبرز الشعراء الذين اعتنقوا الالتزام نهجا في الكتابة كان فيه شديد الانحياز الي مشاكل الكادحين والمضطهدين ومشاغلهم وخاصّة إلى القضايا الوطنية والقومية إلى درجة أنّنا سجّلنا في شعره حضورا مُقِلّا وباهِتًا للمرأة خلافا لأكثر شعراء جيله بمن جماعة الطليعة.. وكانّنا بمشغل المرأة عنده لا يمثّل أولوية مقارنة بغالبية الشعراء.. فرغم قلّة القصائد التي نجد فيها المرإة مقوّما شعريا جليّ المعالم فإنّ لها في مدوّنة هذا الشاعر الملتزم تجلّيين أساسيين: - المرأة أبجديّة كتابة - المرأة موضوع كتابة

فكيف صاغ اللغماني جوهر المرأة في شعره وبأيّة رؤيا تمثْلها ؟؟

- المرأة أبجدية كتابة:

عرفنا في شعر العصر العباسي وبشكل خاص في أشعار الاندلسيين توظيفات طريفة لأجزاء من جسد المرأة في وصف الطبيعة سواء عبر التشبيه او الاستعارة او المجاز فكانت المرأة في هذا النوع من القصائد مرجعية للصورة الشعرية على درجة عالية من الطرافة والجودة الأدبية وقد يقفز إلينا من الذاكرة في هذا السياق قول ابن زيدون: في قصيدة الزهراء:

و للنسيم اعتلال في أصائله

كأنه رقّ لي فاعتلّ اِشفاقا

*

و الرّوض عن مائه الفضّيّ مبتسِم

كما شققت عن اللبّات أطواقا

ثمّ تبلور هذا التوظيف المعجم الانثوي والغزلي مع الرومنسيين مع جبران والشابي حين يغازلان الحياة المثلى مغازلة الحبيبة في صوفية رامزة مغرقة في التجريد.. إلا شعراء الالتزام ومنهم مختار اللغماني خرجوا عن هذه الدائرة وحوافّها إلى حدّ كبير فجعلوا من المعجم الانثوي وملامح المرأة والذوبان في عشقها لغة رمزية وأساليب بلاغية عبّرت بشكل جمالي مراوغ بالدلالة عن عشقم للوطن وعن شوقهم إلي الثورة والحرية من أجل تغيير الواقع وبناء مستقبل أفضل للإنسان والأوطان.. وهاهو شاعرنا اللغماني في أوج غضبه تجاه أشكال العمالة والتبعية وفقدان السيادة الوطنية يستخدم معجما أنثويا جريئا لا صلة لمقاصده بالمرأة وفتنتها بالمرّة يقول في قصيدة: "الموت مساء أمام رفات مهرة الريح ":

يا مدينة سلّمت مفاتيحها للمشترين

و فتحت فخذيها لبائعها

يا مومسا حزينة مصابة بالشذوذ

و بكلّ أمراض النساء

يا أمّا قاسية ولدتني ذات صباح..

(هذه القصيدة فيها إحالات كثيرة على قصيدة المومس العمياء لبدر شاكر السياب: وكأنّ عارية الصدور / أوصال جنديّ قتيل / كلّلوها بالزهور / وكأنّها درب إلى الشهوات تزحمه الثغور / حتى تهدّم أو يكاد / سوى بقايا مِن صخور..)

هذا وتلتبس الأنثى الأبجدية بواقعية الأوضاع في هوامش العاصمة التونسية يتوسّل بها الشاعر في تجسيد تذمره من انتشار مظاهر البؤس وما تنكشف عنه المدينة من حيف وفوارق اجتماعية .. يقول في قصيدة:" حبيبتي والأمل "

على الطريق الممتدّة بين المنزه والجبل الأحمر

تترعرع حبيبتي. تكبر وتكبر

تقتات من جوع الفقراء في الجبل

تشرب من خمر جباههم

و تعيش مثلهم على الأمل..

و من أكثر توظيفات المعجم الانثوي والضمير الأنثوي حدّة في التلويح بالثورة المشوقة في قصيدته الملحمية " حفريات في جسد عربي" في المقطع الحادي عشر منها:

آه يا معشوقة هذا الزمن المرّ.. خذي بيدي مازلت صغيرا

أحبو في دربك لكن يملأني الإيمان

زادي جوعي للافراح وحبي للأطفال ولقبي إنسان

آه يا منقذة النفط من السرّاق ومنقذة الصحراء

آه يا منقذة الفقراء

أشهد أنّك آتية ذات ربيع أو ذات شتاء

أشهد أنّك آتية ذات صباح أو ذات مساء

و سيكنس نورك وجه الأرض الشرقية

و تكونين لنا.. مِنّا والجنسية عربية..

و كثيرا ما تراءت القيم النضالية والوطنية عند شاعرنا في صورة امرأة معشوقة بعيدة المنال او امّا مفقودة... وكثيرا ما تجلت القصيدة والكتابة كما يراها اللغماني ويعتنقها من خلال الحبيبة الأبجدية..

فهذه ليلى التي تغنّى بها وبعشقها كثير من الشعراء العرب عبر التاريخ منذ جميل بن معمر تختزل موروثا شعريا كاملا نهل الشاعر من كنوزه ورفض البقاء رهين أسواره في ثلاثية مترافقة متفارقة: "الحب والموت " و"الحب والحياة " و" ليلى والليل وأتعاب أخري" عبّر الشاعر خلالها عن جدلية الثابت والمتحوّل في نظرته الي الموروث الشعري وطريقته الخاصة في التعامل معه حفظا لبقاء القصيدة على قيد الحياة .. يقول في قصيدة الحب والحياة:

حبك يا ليلي حلمي

عندما أحلم أني أحيا

و ألحّ على أن أحيا

حبك بعْثُ الروح في روحي

و إحساس يمنحني حريتي في ان أفرح

حبك ملح على جرح

لمّا أجرَح ألحّ على أن أحيا

و ألحّ على ان لا أِقتل..

فأنا ومعي عيناك اتحدى الليل الأليل..

فإذا بليلي في رؤيا الشاعر صالحة لكل زمان ومكان.. دوما باعثة لتجربة غير التي كانت..

و في قصيدة "حب الكلمة" نجد مناجاة كاملة بمقومات غزلية غاية في التأثير العاطفي موضوع الغزل فيها ليس المرأة إنما الكلمة:

عانقيني.. عانقيني

و اطفئي او أشعلي فيّ حنيني

إذ انا لم أستطع خلقك فأتي ....

لا تكوني في هواي ملزمة

لا ولا ملتزمة

و اخلقيني يا حياتي الكلمة..

و ها هي معشوقة أخرى تدبج لها بلغة الغزل وبتقنية المخاتلة اللغوية ترنيمة تمجيد:

زرقاء.. زرقاء

تحملينني بحرا

تتسكعين في بصري سماء..

في الحُجرة كنتِ

و كنتُ أنا

و الحجرة في البيت

و بيتي في حي الفقراء....

زرقاء... زرقاء

ألبسها وأدخل خصب موت الأحياء

فأقرا في كتاب الإخصاب

أليف... باء

إقرأ باسم الجاكيت الزرقاء

إقرأ باسم.. لا..

و مثل هذه المخاتلات اللغوية اعتمدها الشاعر في صياغة كثير من قصائدة خاصّة منها تلك التي قامت علي السخرية..

فكان بهذا الاستثمار للمرجعيات الغزلية مسايرا ومغايرا في ذات الآن بما يجعلها مكوّنا فنّيّا من مكوّنات القصيدة تتداخل مع سائر بُنى اللغة التركيبة والأسلوبية فيها .. وذاك كان أيضا شأنه في التعامل مع:

- المرأة كمضمون كتابة:

لم ينزّل اللغماني المرأة في مضامين شعره مصدرا للفتنة والجمال وموضعا للحبّ والأشواق فقط.. إنّما حضرت برؤيا متأثّرة بمبادئ المثقف الإنسان والمناضل الملتزم وبروح ابن الجنوب الحسّاسة والشّفافة .. فمن البداهات الأدبية ان نجده وإن في عدد قليل من القصائد كغيره من الشعراء يكتب عن الحبيبة والحبّ ويدمج تبعا لعصره الأدبيّ وخياراته هذا الموضوع مع موضوعات أخرى متشابكة أخرجت صورة المرأة بالمواصفات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تجعلنا ندرك انّ الشاعر أراد لها ان تكون المفاعل الكيميائي المنشئ لأسرار الحياة وجوديا واجتماعيا..

فهذه لطيفة تلك السمراء بمواصفات ابنة الجنوب التونسي يشدو الشاعر بتأثير حبها الحلم في أكثر من قصيدة منها "طيفها" حيث يقول:

لطيفة..

و وجدتك يا قلبي المضني الحزين

قد زدت شوقا وحنين

رحماك يا طيفها

زرني قليلا كل ليلة.....

و امنحني خضر القبل

و لا تكن على عجل..

ثمّ في قصيدة "قلبي سيغامر":

عيناك يا لطيفة

يطاردان قلبي

بنظرة مخيفة

في الليل والنهار

أرى بها البحار..

و في قصيدة "بكاء" نجده يخاطب لطيفة قائلا:

يا معاتبتي لِحبي / من قريب أو بعيد

ما عرفتِ سرّ قلبي / مخنوقة من لهيبي

قد كواه حبّ وجه / أسمر كالعندليب

في الصباح بي اشتياق / وبكاء بالمغيب

فلطيفة احاطها الشاعر بجملة من المعاني الوجدانية برومنسية حالمة دون وصف جسدي تشفّ عن انتصار الشاعر لذاك الحبّ اللّامادي الخالد الذي لا يقف عند سطحية المتعة الجسدية المؤقتة.. وفلسفة الشاعر في الحب هذه تتجلّى أكثر وضوحا في قصائد أخرى نابضة بالعاطفة العميقة في بعدها الثابت حتى بعد الموت وبالحبِّ القائم على التّعلّقِ الروحيّ سعيا إلى الارتقاء بالإحساس بدلا عن الالتقاء بالحسّ.. منها قصيدة "إلى روحها" التي تشيد بقيمة الوفاء حبّا حتى بعد الموت وقد ورد فيها قوله :

لم أفقد منك شيئا كي أبكيك

و ما كان جسدك عزيزا كي أرثيه

وجهك مازال يُطِلّ عليّ في ليلي

بسمته عريضة كالأمل

عيناه تزرعان نورا حولي...

و أنا لا أطلب أكثر

فإن تكوني صعدت فوق

فما الذي تغير

في قلبي زاد الشوق وصار حبي أكبر..

كما نجد هذا النوع من الحب في قصيدة " رسالة حب واقعيةٌ" مبعثا للارتقاء بالوعي أيضا يرى من خلاله حقيقة الأشياء والظواهر والوجود وحقيقة الواقع المختلّ حيث يقول:

صديقتي العزيزة

تحية وبعد

فإنني أحبّك

لا تطلبي التفسير

لا تكثري التفكير

فالحب شيء عادي

و إن يكن يُجهل في بلادي

كالأكل هو كالشرب

يعرفه الصغير كالكبير

يعرفه الغني كالفقير

لأنه لا يعرف التفريق والتعصّب..

و من خلال هذه الرؤيا تبرز صورة المرأة الملاذ التي يلتجئ الشاعر إاليها محتميا بدفء حبّها من مأساته الذاتية والموضوعي.. حبيبة لا يستعرض الشاعر ملامحها الجسدية بقدر ما يتمثلها إحساسا وكيانا وجوهرا وأحيانا أمًّا يُلقي إليها بوزر همومه حين تلفه ظلمات الواقع الذاتي والموضوعي ومثل ذلك ما ورد خاصة في "قصيدة عشق إلى هاني جوهرية" صديق الشاعر وشهيد النضال السينمائي الفلسطيني (1936 -1976) التي يتقاطع فيها التّنويه بإنسانية العشق الذاتي مع قدسية العشق الوطني والقومي.. فإذا بعشق الحبيبة لا يكاد ينفصل عن عشق أرض الوطن والشعب والانسانية ككل وإذا الشعراء هم أصدق العشاق والمناضلين إذ يقول:

و كذا الفنان العاشق

يرسم إذ يصعد جبل العشق

بخطواته أحلى الأطيار

و أحلى الأشجار

و أحلى الأشعار.....

لكن الفنان العاشق

طفل يكبر في العشق

كما يكبر في العش العصفور

نتعلم منك الآن

نتعلم أن الفنان العاشق إنسان..

و في قصائد أخرى نجد الشاعر يصرّح بغضبه على المرأة فيشكو خيبة أمله في حبيبة جفت اوجحدت ويعبر عن نقمته عليها التي لا تقلّ عن نقمته على حيف المجتمع وظلاله.. فتتجلي المرأة في هذا المستوى قضية إجتماعية.. ومن ذلك قصيدة "الحب والفقر" التي ورد فيها:

فقيرا كنت كما ترين

و جئتك أطلب الغنى

سعيت إليك على عيوني

فقطْعتِ جفوني

رفستِني على الارض

و رجمتِني من السماء

و علّمتني ان الحب

ليس حقّا للفقراء..

و مع ذلك تبقى المرأة بكل ابعادها جوهر المعنى وقيمة الوجود تَبِين في صورتها نظرة الشاعر إلى ذاته وإلى علاقتها بما حولها وهذا قد نجده خاصّة في قصيدة" ثلاث ركعات لعينين راحلتين":

عيناك عميقتان عمق البحر

أردت أن أعبّ منهما

فابتلعني البحر........

وبدت حقيقتان سوداوان كالويل

بيديهما الأمر

شقيقتان في السواد: الحزن والليل

يستعصراني عصر

ليقطرا من قلبي.. دمعات الشعر..

فكانت المرأة بذلك مضمون كتابة متنوع الأبعاد  متعدد المستويات يعكس بدوره وجها من وجوه الالتزام في الكتابة. التزاما في الحبّ وفي تلك النظرة الانسانية الراقية للمرأة التي اسّس لها في الفكر قاسم أمين وشبلي الشّميل والطاهر الحداد وتبناها في الأدب الشابي والسياب و نزار قباني مِمّن لم يخل شعر اللغماني من أصداء تأثيرهم..

- خاتمة:

هكذا حضرت المرأة في شعر المختار اللغماني صورة ومرجعية لغوية برموز وعلامات وجوهرا قيميا بأبعاد ودلالات حمّلها رسالة المثقّف العضوى والمناضل التقدّميّ في نظرة إالي الواقع و الوجود مترعة بكثير من الانسانية.. ممتطيا إياها أداة أدبية ووجهة نظر فكرية في التعبير عن نظرته الي الشعر والكتابة: من خلا عصره الأدبي ومن خلال ذاته.. ألم يكتب في قصيدة "هواية"

أحب الخيال لأن الجمال يشده الواقع المؤلم

و أهوى السخافات والعفوات لأنسى الشقاء عند ما أحلم

و دنياي غم وحزن وهم

فكيف أعاني ولا أسأم..

كما جاء له قوله في قصيدة " عباراتي شعبية" قوله:

عباراتي شعبية

تحارب العملاء

و لها سوابق عدلية

تجوع كالفلاحين

تعطش كالعمال

تحسّ كالثوريين

لكنها تبقى مثلهم حية...

***

بقلم: الأديبة كوثر بلعابي

 

توطئة: قسّمنا ورقتنا النقدية هذه إلى محورين: واحد متعلق بمفهوم المنقبة المرتبطة بالكرامة في سياق إشكالي يخلّص المفهوم من احتمال الجدل الفكري العقيم، ويوضّحه عبر التظهير له داخل مساقات رواية "خط الزناتي" ... والمحور الثاني متعلق بمفهوم الخط داخل الرواية باعتباره مفهوما صورياً محمّلا بصبغة ثقافية شعبية ندرِجها داخل مفهوم عالِمٍ هو الكتابة باعتبارها أكثر شساعة، وقادرة على إخراج مقولة الخط من الوجود البصري إلى الوجود اللغوي، وتحويل مجرى التخريج الدلالي من الدائرة الشعبية إلى الدائرة العالمة، في توجّه منهجي يقوم على التأويل المشروط والمستند إلى قرائن نصية من داخل المتن الروائي.

ونحن نقرأ رواية "التحول" للكاتب الفرنسي "فرانز كافكا" يطالعنا بطلها "غريغور سامسا" وقد تحوّل إلى حشرة الصرصار. في وضعٍ سردي خاص هو أن البطل المتحوّل أو الممسوخ، يمتلك حقيقة وجوده فقط داخل النص، أي داخل الرواية. بمعنى أن حقيقته تزول عند الانتهاء من فعل القراءة وإغلاق دفّتي الكتاب. فحياة هذه الشخصية أو القوة الفاعلة مرهونة بأسوار النص، ولا حقيقة له خارجها.

في حين أننا في قراءة رواية "خط الزناتي" لمؤلفها المغربي المبدع "شعيب حليفي"1 نجد أن شخوصها أو قواها الفاعلة سواء ما تعلق بالإنسان أو الحيوان أو الأشياء، نجدها تمتلك بعدها الكياني المرتبط بوجودها المحدد والمعروف والثابت والتاريخي. وما يعضد هذا التخريج الأولي شهادةُ المؤلّف في قوله (الأحداث بكل تفاصيلها.. حقائق وقعت بالفعل. ويشهد المؤلف أنه نقل كل ما جرى بأقصى ما يمكن من الأمانة والمسؤولية، وحينما أطلع كائنات هذه الرواية على ما كتبه.. أذهلهم لمعانُ التطابق، فقرروا الخروج من الواقع، بشكل جماعي، والهروب إلى الرواية لمواصلة العيش فيها)2.

و تفسير ذلك أن إمكان نفي الحقيقة عن أبطال رواية "خط الزناتي" هو نفيٌ وإلغاءٌ وإبطالٌ لِمناقِبها أو لكراماتِها. وعلى الأقل فيما يتعلّق بشخصية موسى الزناتي، المبَأّر منقبياً في سياق كل الرواية. وبالتالي فنحن أمام رواية تقع على الحافة بين ما هو تاريخي3 وما هو أدبي وما هو مقدّس. إنها نص لغوي سردي بثلاث صبغات:

- الصبغة الأدبية

- الصبغة العقدية والدينية

- الصبغة التاريخية المؤرّخة للسير الاجتماعية

هكذا تجاوزت رواية" خط الزناتي" شرط الباحث الفرنسي "تودرورف" الذي يرى أن (مشكلة الشخصية هي قبل كل شيء مشكلة لسانية والشخصية لا وجود لها خارج الكلمات، إنها كائنات من ورق)4، والذي يقف عند حدود الداخل لضمان حقيقة الشخوص، وعلى الأقل فيما يتعلق بشخصية موسى الزناتي الذي ينتصب أمامنا في الرواية بسيرته المنقبية العامرة والقوية والجديرة بالانوجاد البؤري داخل وخارج النص، بحيث ونحن نغلق دفّتي رواية خط الزناتي، لا تنغلق سيرة موسى بقدر ما تبقى مستمرة وفارضة إدهاشها عبر حقيقتها التاريخية المستمرة في صيرورتين: فنية تخييلية وواقعية اجتماعية. 3563 شعيب حليفي

أولا: محور المناقب

تطرح رواية "خط الزناتي" كثيرا من المسائل والقضايا، نختار منها في هذه العجالة مسألة الكرامات. وهي التي أثارتْ جدلاً كبيرا في تاريخ الفكر الإسلامي نتجاوزه لاعتبارٍ منهجي يحاصرنا داخل الاشتغال النقدي الروائي الذي لن يخرج بطائلٍ من الجدل الفكري والإشكالي حول الموضوع. إن مفهوم الكرامات ارتبط في أدبياته بمبدأيْن هما: مبدأ النبوة ومبدأ القدرة الإلهية. وقد اخترنا تسمية المناقب عوض الكرامات تجنباً لأدنى انزلاق عقدي يدخلنا في حيص بيصِ المجادلة التي نتجنب احتدامها في سياقنا القاضي بالبحث عن إركامٍ خاص بالمناقب لدي شخصة موسى الزناتي في رواية "خط الزناتي".

ومن جهة ثانية، فإن تسمة المناقب تُجنّبنا السقوط في مبدأ المعجزة التي انتهت بنهاية الرسل والرسالات، والتي ارتبطت بالإنبياء داخل وظائف متعددة نذكر منها إتمام المعاني وتثبيت القلوب. وهي الوظائف التي لا يمكن ضبطها في سياق المناقب الحاصلة لبعض الناس خارج تصنيف الأنبياء، مما يزيد في حذرنا من الاستعمال، لأن تراكم المناقب عند هؤلاء إذا زاد من شرعيتهم ومصداقيتهم فإنه يزيد أيضا من خوفهم وحذرهم من مطباتِ "الاستدراج الخفيّ".

- في المفهوم:

جاء في لسان العرب عن مادة نقب: النقب هو الثقب في أيّ شيء، والمنقب هو الطريق، والمنقبة هي الطريق الضيق بين دارين لا يستطاع سلوكه، والنقيبة هي الطبيعة، وقيل هي الخليقة، وفي فلان مناقب جميلة أي أخلاق5.

و نخلص من ذلك إلى المناقب في معناها المعجمي هي اسم جامع لكل ما حسن من أقوال وأفعال وخصال في ترادف مع المآثر والفضائل والمفاخر.

و في الاصطلاح فالمناقب مفهوم يمثل مجموعة من السياقات والوقائع والأحداث المرتبطة بسيرة شخص عُرف بصدق الطوية وصلاح السلوك... وقد سجل شارل بيلا (أن كلمة مناقب تطورت مـن الدلالـة علـى الفضائل والأعمال المحمودة التي يمكن أن تتجسد في سيرة شخص من الأشخاص إلى الدلالة على الخوارق والكرامات التي تنسب إلى الأولياء وذلك بحكم ازدهار التصوف والاهتمام بالمظاهر العجيبة)6.

- رصد المناقب:

في تمثيلية لا في حصر. فالسياق لا يسمح بجرد كلي لهذه المناقب على طول الرواية وسنكتفي بأبرزها في توجّه منهجي يختزل دون أن يسئ إلى التجانس بين مدخلات البحث ومخرجاته:

1 – منقبة استلهام الشرعية:

و يتعلق الأمر بتناص ديني واضح ومفعم بالدلالة . نقرأ في الرواية في سياق حديث موسى الزناتي عن الطفل الذي كانه ما يلي (قام. نظر إليهم ثم عاد ينظر إلى المربع الذي رسمه فوق التراب)7.

عن ابن مسعود قال:(خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا، وخط خطا في الوسط خارجا منه، وخط خططاً صِغارا إلى هذا الذي من جانبه... فقال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيطاً به أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ منه أملُه، وهذه الخطط الصِّغار الأعراضُ فإن أخطأه هذا نهشه هذا)8. إن هذا التجانس بين المشهدين: البشري والنبوي هو تجانس دلالي يبحث فيه السارد عن مصداقية الفعل المنقبي، وفيه يتجلى التراب لا مساحةً مسطّحة لتوضيح الرؤية المنقبية من جهة موسى بطل الرواية، ولتوضيح الرؤية النبوية في المنهج الحياتي من جهة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بقدر ما التراب قدرٌ سيميائي غائريستوعب صيرورة الإنسان في شقّين: شقّ الوجود وشقّ الرواية.

إن التعاطي لمثل هذه الطقوسية في محراب هذا العلم هو تعاطٍ متجذر وعريقٌ يمتد إلى النبي إدريس عليه السلام.بما يفيد أن المناقب ليست غريبة عن هذه السلالة الزناتية التي أُلْهِمت في صباها قبل أن تتجذر فيها في شبابها وفي كهولتها، مانحةً إياها لقب المشيخة.

2 – منقبة الرؤية المختلفة:

و يتعلق الأمر بتصور موسى الزناتي للذات وللماحول وللعلاقة بينهما من منظور مختلف يؤسسه شرطان: شرط الصمت كمقولة مركزية تتكلم فيها الذات بالإشارة بدل العبارة. ثم شرط الكلام باعتباره خلاصات قناعية للذات المتكلمة وهي تتفاعل في صيرورتها الوجودية مع ذاتها ومع محيطها وتاريخها منتجة مجموعة من المقولات هي أقرب إلى الحكمة والفلسفة منها إلى الخطاب اليومي. ومن خصائص هذه الرؤية نذكر:

- تكسير البداهات:

قال السارد في حديث بين موسى الزناتي وعيسى السمايري (النجوم الحقيقية في حياتنا ليست تلك التي تطوف في السماء بلا إحرام، وإنما هي الكائنات التي نحيا معها)9. المتكلم هنا يُسند الضوء للكائن البشري كما يُسند له صفة العلوية والسمو، داخل شرط وجودي واحد هو أن يمتلك المعني بالأمر قدرا عاليا من الصفاء الذي أعتبره في سياق الرواية مقولة مركزية في سيرة المناقب. وهو الصفاء الذي قاد موسى الزناتي إلى اختيار طريقة جدّه الشيخ الزناتي، وهو الصفاء ذاته الذي يكسّر به البطل الروائي مرايا نفسه المركبة من الشك.10

- تأويل الزمن:

يتكرر في الرواية حرص موسى الزناتي على أن الزمن يومٌ واحد في كثيرٍ من محطات الرواية السردية والوصفية. فموسى يرى الزمن من منظور مختلف يُشاكس علم الفيزياء. وعندما يحس السارد بالعجز في متابعة دقّة العلم يُقحم الذات في انبثاقها الكشفي لتفسّر الظاهرة الزمنية في كثيرٍ من الانزياح العرفاني. قال: (كان الزمن كتلة هلامية بلا شكل، فنحتَ شكلاً ربطه بالشمس والنجوم وباقي الكواكب والأجرام والأحجار، ثم سعى باحثا عن نقطة نهاية ونسي نفسه، ورمانا فيه فتعوَّدْنا)11.

هذا الطرح ماكرٌ، يمكر بالقارئ في لطف ويستدرجه للبحث عن المفهوم خارج التأويل الذاتي الزناتي الذي تبنيه الرؤية الكشفية أكثر مما تبنيه الرؤية العلمية. ورُبّ باحث عن المفاهيم في هذه الرواية أو في غيرها من روايات المبدع شعيب حليفي لن يجد ضالّته لأن منظور المؤلّف يرفض أن يُختزل العمل الروائي التخييلي في خانة الوثيقة العلمية أو التاريخية.

3 – منقبة التفسير:

قال السارد على لسان موسى الزناتي: (النقطة هي الخروج من العدم إلى الوجود، هي الأم الولود في نقط متتالية تتفرق وتجتمع وتتحول من اللاشكل إلى الشكل والهيئة، تتفرد وتتماثل مع الهيئات العليا في نظامها وبيوتها ومعانيها)12.

هكذا فكّر موسى وهكذا تكلم موسى. والنقطة هنا لا تُؤخذ في معناها الشكلي المورفولوجي المرتبط بمقولة الخط أو الكتابة في توجّههما البصري العَلامِي، فهذا حاضر باعتباره آلة من آلات الرسم على الرمل أو الضرب على التراب. وإنما هي حاضرة في هذا المقطع باعتبارها بداية للكون يقدم السارد من خلاله تصوره للوجود والعدم. فالأصل كان نقطة، وفي البدء كانت النقطة... ثم تناسلت في انزياح لامتناهٍ رفده السارد بمقولة الأم الولود دلالة على الإخصاب المستمر.

و النقطة في تناسلها لا تكتفي بوجودها الفيزيائي المفرد بل تتحول في صيروة وسيرورة كونية شاملة على مستوى التحول والمسار. وفيها تتماثل الهيئات الفلكية العليا في نظامها وترسل إشعاعاتها السديمية. من هنا نفهم الحضور المؤنسن للحيوانات والأشياء والحشرات والأحجار في الرواية. كما نفهم قدرتها على التفكير والكلام وعلى صناعة القرار.

الحيوانات في الرواية تفسيرٌ ذكيّ لهذا التماهي المتخيّل بينها وبين الهيئات الفلكية العليا. ومن منّا يقدر على إنكار هذا التخريج ضد مبدع الخيال الذي يجرنا إلى حلبته المخيالية والتي لا يسعنا فيها إلا أن نحاوره بأدواته لا بأدواتنا العاقلة. ومن هنا أيضا نفهم قدرة سوسو على المحاورة وأشياء أخرى ونفهم أيضا تقييم القنفد للحياة والجمال ونفهم كذلك اكتئاب البغل وسيرةَ الڭرطيط وغيره... هي إذن هيولى فلكية انتسختْ في بُؤر جسدانية قريبة من الحس البشري القارئ للرواية وهو الحس الذي لا يقدر في اغلبه على التجريد، فتنفعه الرواية بهذا التقريب وعبر هذا التقريب.

4 – منقبة الحكمة:

الرواية طافحة بمحطات الحكمة التي تُنسج على ألسنة الشخوص والقوى الفاعلة إنسها وحيوانها وأشياؤها... والسارد في هذه المنقبة يرسل الكلام الحكيم مشروطاً بسياقاتها المولّدة لضرورة الحكمة لا في قصدية تلوي أعناق المتن من باب الزخرفة لتأثيت الفضاءات المحكية بجلال الحكمة. السياق العام المرتبط بسيَر الكائنات الزناتية فرض حضور الحكمة بتلقائية وظيفية تنساب في اطّراد مُحكم ودلالي.

نذكر من هذه المحطات بعضاً منها ونستحضرغيضاً من فيض ، تمثيلاً لا حصرا:

- النهار أصمّ والليل أعمى

- ماذا لو نسي الليل نفسه ونام

- الزمن مأوى الأسرار الهاربة

- الزمن يتغدّى من أعمارنا

- النظر إلى الوراء يضعف قوة القلب

- الصمت من الرجال قوة ومن النساء شك

- الحقيقة عدوٌّ لنا جميعا

و الأساس في استحضار الحكمة هو التسطير على أن التجربة أو الخبرة المُراكمة لحصاد هذا النوع من الكلام، غير واردٍ في سياق الرواية، لأن الموصوف أساساً بالحكمة والممارس لها هو موسى الزناتي، وبالنظر إلى عمر الشباب فيه تنتفي فكرة تركيم الخبرة والتجربة كأساس لبناء المنظومة الحكيمة في شخصه. يبقى أن التفسير الأولى هو أن المعني بالأمر موهوب هبةً ربّانية تسعفه في الكلام وفي السلوك وفي تقدير الأمور وفي استثمار الحدس واستعمال الحس... هكذا رأينا الحكمة في هذه القوة الفاعلة في الرواية بما هي حكمة يجريها الله على لسانها ويسمها بميسم الأصالة القوة واليقينية.

5 – منقبة التوحيد:

و لا نقصد بذلك مقولة التوحيد في بعدها العقدي أو العقيدي المرتبط بتنزيه الله عن الشريك. ونقصد بذلك منقبة قدرة الكائن الزناتي على التوحيد بين المتناقضات في تصورٍ يتميز بالانزياح الفكري عن الشبه والتكرار.

في حوار بين موسى الزناتي وعيسى السمايري:

قال عيسى: الشر فينا أعمق تجذرا واستثنائية. وهو مرآة الخير.

ردّ موسى: الشرّ بما تنعته، خطأ في التوصيف. الأصحّ القول..هو اختبار المواجهة مع الشر، وليس بالضرورة أن يكون شرّاً وإن كان من جنسه13.

يتماهى هذا التصور مع رؤية الشاعر القديم (أبو العلاء المعري) للمتناقضات التي وضعها كلها في سلّة واحدة هي الشبه والمثل. فقد جعل المعري النوح في مقام الترنم، والباكي في مرتبة الشادي، والبشير في درجة النعيّ... ورأى لاجدوى بناء الكون على قياس هذا الثنائيات. والأمر نفسه يكاد يتكرر مع رؤية موسى الزناتي مع إضاء زناتية تختلف عن المعري وتطبع الطرح الروائي بالأصالة، ويتعلق الأمر بإيمان موسى الزناتي بوحدة المتناقضات مع وضعها في خيار التدافع. قال (الأصحّ القول.. اختبار مواجهة الشر) في غير توحيد كلي وفي غير إقصاء كليّ أيضا.

6 – منقبة الحدس:

يسأل الراعي الحيْمر صديقه موسى الزناتي قائلا: هل فعلا تعلم الغيب آسّي موسى كما يقولون؟ ردّ موسى: ... الغيب يعلمه الله وحده. أنا أحدس فقط بما أرى وأحس14.

هذا البعد الحدسي المرتبط بالهبة اللدنية، سيجد مصداقيته في واقعة روائية داخل المتن الحكائي في الصفحات 95 و96 و97. وملخصّها أن الحاج المدني صديق والد موسى الزناتي ألمح برغبة ابنيْهِ في السفر إلى إسباينا مع بعض الرفقاء... أدرك موسى بحدسه أن هذا الإقدام على الرحلة لا ينبئ بخير. لم يسرّها في قلبه بل أخبر الحاج المدني بما يراوده، فانقبض قلب الحاج... فاتفقا على ادّعاء مرض والدة الابنيْن الراغبين في السفر ثم أحجما عن ذلك... بعد ذلك بيوم واحد جاء خبر حادثة سير أودت بحياة الرفقاء.

و فكرة الحدس عند موسى الزناتي لا تأتي من فراغ ولا تؤسس ذاتها على الخارق العائم في الغلو والمغالاة... إنها مبنية داخل تصور يُقرّب مفهوم الحدس عبر وسائط الإدراك الممكنة والمتأتية. فموسى يربط حدسه بالرؤية والإحساس، يستثمرهما داخل الصفاء النوعي الذي يمتلكه عبر مجاهدة نفسية تتخذ عدة آليات لتجليتها، منها النزول إلى قاع البئر والجلوس هناك ساعات مطوّلة للتأمل خارج التفكير، برأسٍ مفرغة من كل شيء.

7 – كبرى المناقب:

سألتْ سوسوموسى الزناتي: لماذا أنت وحدك تريد تغيير الناموس؟ ردّ موسى: أنا الناموس... أريد تغيير نفسي15.

و نقرأ هذا المقطع داخل التراث القائل:

تحسب أنك جرمٌ صغير \\ وفيك انطوى العالم الأكبر16.

ذاك أن تغيير الناموس الأعظم يبدأ بتغيير الناموس الأصغر، الذاتي المرتبط بحقيقة وجود موسى الزناتي لا باعتباره شخصا عاديا يعيش في منظومة مجتمعية تمارس وجودها داخل الشبه، ولكن باعتباره استثناءً حاملا لبعض الرسالة الربانية القاضية بتوريط الكائن المرصود داخل لعبة النقاء والصفاء. إن همسة موسى بإسناد مقولة الناموس إلى ذاته فيها من المعاناة أكثر مما فيها من الأنا الفرحة بمنزلتها المصطفاة. فالناموس ليس اختياراً بقدر ما هو إنزال سماوي فيه من القهر ما فيه. ولعل تجربة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تفيدنا في ذلك وهو المرصود دون أن يعلم، لهذا القرار الإلهي الذي عبّر عنه ورقة بن نوفل وهو يخبر خديجة رضي الله عنها بما رآه في النبي...

(فَرَجَعَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَانْطَلَقَتْ به إلى ورَقَةَ بنِ نَوْفَلٍ، وكانَ رَجُلًا تَنَصَّرَ، يَقْرَأُ الإنْجِيلَ بالعَرَبِيَّةِ، فَقالَ ورَقَةُ: مَاذَا تَرَى؟ فأخْبَرَهُ، فَقالَ ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي أَنْزَلَ اللَّهُ علَى مُوسَى، وإنْ أَدْرَكَنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.)17.

السارد موسى الزناتي يعرف حجم ذاته ولا يتجاوزها إلى خطل الاستدراج الخفي الذي يلقي بالمريدين في أتون المغالاة والغلو والشطحات الصوفية التي لا مخرج منها. لهذا استدرك على كلامه دون تردد وهو يصحح لسوسو أنه ناموس ذاتيّ وقراره في التغيير لا يتجاوز هذه الذات الصغرى. وتأتي التأويلات بعدها لربط الذات بالكون في تصوّر معتدل ومشروع لا يلوي للنصوص أعناقا.

ثانيا: محور الخط والكتابة:

- في اللغة يكون الخط هو الطريقة المستطيلة في الشيء، والجمع خطوط، وقد جمعه العجّاج على أخطاط فقال: وشمن في الغبار كالأخطاط. والخط هو الطريق. يقال: الزم ذلك الخط ولا تظلم... قال أبو صخر الهذلي:

صدود القلاص الأُدْمِ في ليلة الدّجى \\ عنِ الخطّ لمْ يسرُب لها الخطّ سارِبُ 18.

- و في الاصطلاح، يقترن الخط اقترانا شديدا بمفهوم الكتابة في المعنى وفي الاستعمال، حتى بدا المفهومان وكأنهما شيء واحد لما بينهما أصلا من علاقة معنوية، خاصة وقوية، تستند إلى كون أحدهما من معاني الآخر في العرف اللغوي الذي نصّت عليه المعاجم كلها، مع وجود بعض التباين الدلالي بينهما، بين عمومية الكتابة كتمثيل لغوي وبين خصوصية الخط كتمثيل بصري.

الخط ظاهرة إنسانية اجتماعية عامة استخدمها الإنسان منذ أقدم العصور لتسجيل خواطره رغبة منه في تذكرها أو إيصالها إلى غيره عبر الزمان والمكان، فأفادته في مختلف شؤونه الاجتماعية حتى أصبحت تُعدّ أهم أسباب التقدم الحضاري.

و الخط مرّ بأطوار منها الصوري ثم الرمزي ثم المقطعي ثم الصوتي وأخيرا الهجائي الصرف حيث تمّ استبدال الصور الرامزة بالحروف.

- أما الخط الزناتي فهو علم الرمل، وهو علم صحيح وشريف وقديم جدا يعزوه الكثيرون إلى نبي الله ادريس عليه السلام. وأساسه هو علم النقطة الممثلة في الاسطقسات الأربعة: النار والهواء والماء والتراب. وهو علم يتمّ بطريقة سحرية من خلال الضرب على الرمل أو التراب لاستقراء الغيب. وارتبط هذا العلم باسم (الزناتي) الذي طوّره ووضع له أسساً وقواعد ضمّنها كتابه الشهير(كتاب الفصل في أصول علم الرمل).

- فعل الكتابة في الرواية:

رصدتُ حضور فعل الكتابة في رواية خط الزناتي، فوجدتها ملفتة للنظر ومستفزة للوقوف والقراءة والاستقراء. وهي تتجاوز الحضور المورفولوجي إلى تشكيل نسغ الرواية تشكيلاً مركزيا لا يمكن أن نتجاوزه. والكتابة\ الخط أو الخط\ الكتابة مقولة تفرض على القارئ استجلاءها في قيمها وأبعادها ودلالاتها.

و قد وردت علامات الخط والكتابة داخل متن الرواية بصيغ مباشرة وبأخرى غير مباشرة.

1- ورقة الزمن:

يحاول السارد أن يعكس لنا مفاهيمه الخاصة داخل قوالب الاستعارات المجنّحة والانزياحات الأكثر تجنيحا، لتأكيد المقولات في بعديها الواقعي والتخييلي. نذكر من ذلك عرضه لمفهوم الزمن عبر الكتابة المتوسلة بعلامة " الورق"... قال السارد (الزمن أشبه بأسطوانة من ورقتين بالأبيض والأسود، يراهما موسى الزناتي في حجم الكف الواحدة)19. وفكرة الورقتين تفيد فيما تفيد النسخ والنقل والتحبير وغيرها من متعلقات هذا الصفيح العذري المنتظر لفعل اجتراح البياض. لكن العلامة الفارقة هنا هي تحويل المفهوم من الورق الطباعي إلى ورق الأسطونة، وفيها يتجلى عمق الزمن في مشترك الدوران وأشياء أخرى. فمن أشدّ خصائص الأسطوانة: الدورانُ والحكي. والزمن في عمق الاستعارة وآخر المطاف يدور ويحكي هذه الكائنات. إلا أن المفارقة الموسوية الزناتية هي تأطير هذا الامتداد الزمني القاهر داخل الكف الواحدة في تصوّر يبدع فكرة إمكان امتلاك الزمن بدل امتلاكنا.

2 – طقوس الكتابة:

ترصد الرواية عبر مخيالها السردي طقوس الزناتية الموسومة بالعلم اللدني المشروط بحضور مجموعة من الممارسات يؤطرها فعل الكتابة والمحو، من قبيل بركة اليد وتمرير الراحة بتؤدة بالغة وإغماض العينين والخشوع والتركيز ورفع السبابة وخاصة اليمنى الموصولة بالاستجابة وكذا العناية بعمليتي الكتابة والمحو واستعمال اللعاب أو الريق فيما يسمّى بالنفث الموسوم بالبركة... خارج هذه الطقوسية لا يكون الأمر إلا شعوذة في فراغٍ ظاهر ولعبة تحايلية أظهر. (يمرّر على تلك المساحة راحته بحذر شديد، ثم يرفع سبّابته اليمنى بعد أن يبللها بطرف لسانه وهو مغمض العينين. بلا ارتباك، يشرع في خط خطوط ونقط بعناية وخشوع)20.

3 – سيميائية التراب:

الجميل في رواية خط الزناتي اهتمامها بالتفاصيل التي تبدو لناظرٍ أنها متجاوزة. فيما الأمر شديد الحساسية لأن التفاصيل تستبطن العمق أكثر من الأساسيات أحيانا. من أمثلة ذلك في الرواية عناية السارد بمقولة التراب أو الرمل باعتبارهما علامة مركزية في العلم الزناتي الذي لا تقوم له قائمة خارج مساحة التراب وخارج تأويل التراب. ولِمَ التركيز على التراب رغم علمنا بسرعة زوال ما يُرسم على سطحه بفعل أول ريح وأول هبة نسيم؟ التراب في الرواية أولا وفي علم الرمل ثانيا لا يؤخذ في حقيقته المتشيئة، بل يُستثمر في معناه أو في فائض معناه إن شئنا التعبير. التراب هنا يوظف باعتباره أصلا لا مساحة، وباعتباره تاريخا لا حضورا متشيئاً، وباعتباره رمزا للوجود وبداية الوجود لا ركحا لممارسة طقس الكتابة أو الخط. والتراب في الرواية مرتبط بالغيب ويجسد في حضوره عبر الممارسة الطقسيةِ فكرة الغياب. الشيء الذي يسلمنا إلى القول إن تأويل التراب لا يتم خارج النفس واستيهاماتها وهي التي تقرؤه حضورا وغيابا وآنيا وانتظارا... إن مما يؤكد قوة هذه العلامة الترابية أو الرملية هو تفضيل الرسم عليه لا بالقلم أو العود وإنما بالأصبع بدلالة الانسجام بين الأصل والفرع وبدلالة العود الأبدي على اعتبار أن المجاز المرسل هنا يتدخل لتفسير الدلالة، فالأصبع جزءٌ يُطلق في التعبير الروائي للدلالة على الكل وهو الإنسان. النتيجة هي أن الرسم يتم بالإنسان على الإنسان.(شاع بين الناس أن الشيخ الزناتي يراود الغيوب ويفتش في ثناياها الحارقة فوق الورق والجلد والتراب والرمل بأصبعه لذي كان معقوفا يختلف عن باقي أصابعه الأخرى، يخطّ ما يشتبك داخل نفسه التي هي أشبه بثقب دودي، يكتب أرقاما وحروفا ويحسب حسابا ثم يقرأ النتيجة)21.

4 – من الطقس إلى الوجود:

تهتم الرواية في مسرودها المتنوع بالانتقال من الطقس في محدوديته إلى الوجود في شساعته. بمعنى أن السارد يضمّن حكيه لبعض محطات العمر معاني أكبر من الحكي والتأريخ للحظة هاربة في الزمن. ومثال ذلك خروج السرد من منطقة سوس إلى منظقة الوجود. من بدايات التعلم إلى ملامسة نهايات الكينونة. قال السارد: (حينما أنهيتُ دراستي في التعليم العتيق بسوس، كنت قد دنوتُ من أسرار الحروف والخطوط، وستستكمل المصادفات ربط مصيري بالأقدار الرابضة في خزائن الزمن لما اشتغلتُ وفهمتُ من أكون وكيف أكون.)22

إن كينونة البطل لم تجد معناها إلا بعد معانقتها للحروف والخطوط، من ثمّة أمكنها الخروج من الوجود الفيزيائي إلى الوجود الممكن والاحتمالي القابع في خزائن الزمن. كما اتضحت له الرؤية بمعنى الكينونة سواء على مستوى الماهية (من أكون) أو على مستوى الاختيار (كيف أكون)

5 – في التفاصيل يرقد التأويل:

قال السارد (شغفتُ بتدوين التفاصيل التي تهم اليوم الواحد، لأنها تفيدني في تحبيك الكلام الموارب الذي يسير بحذر واثق على حافات المعلوم. أهوى التفاصيل التي تتيه في شقوق الزمن)23 .

6 – اختزال:

قال السارد (رغبتُ في تسجيل ما يجري، لأن يوما واحدا يكفي)24 ومصداق ذلك أن الرواية تغطي أحداث يوم واحد بنهاره وليلته فقط، فيما السرد ينساب خارج هذا الحيز حتى إنه ينقل القارئ إلى القرن الثاني عشر الميلادي حيث جذور موسى الزناتي.

7 – واقعية الرواية:

في حديث بين دويدو وموسى الزناتي ترقد الواقعية. لأن دويدو في سؤاله الغرّ والساذج يضفي على الرواية بعدها الواقعي حتى لا تنجرّ بالقارئ في استيهامات تخييلية متسيبة... (عاد إلى الحقل، دون أن يتوقف دويدو عن استعطاف موسى بأن يضرب الرمل ويجمع الأشكال والهيئات والأزمنة ليرفع الحجاب والطلاسم عن الخزائن التي دفنها العبد عاشور الضرواي قبل مقتله)25... فالشخصية الروائية دويدو جزء مهم من صيرورة الحكاية، فهو وغيره من الشخوص يمارسون دورا أساسيا في الحفاظ على توازن العمل الروائي وهو يربط في تمثل ذهني شعبي العلمَ الزناتي بالقدرة على استخراج الكنوز.

8 – انسجام:

و يتعلق الأمر بانسجام الممارسة الطقوسية مع التصور في هذا العلم الزناتي. قال السارد (جاء على لسان الشيخ الزناتي: الخط الزناتي هو منطق الخروج من ظلمة الكهف إلى وضوح الضمير السابح. ضرب الرمل، شكل الطريق، والطريق مجرد أربع نقط: نار وهواء وماء وتراب) 26 .

9 – نفسٌ صوفي:

يتجاوز العلم الزناتي الممارسة الطقوسية الشعبية المرتبطة بالبحث عن الطالع واستقراء الغيب وتفسير المنامات واستخراج الكنوز وغيرها ... إلى التعبير عن رؤية خاصة للعالم عبر بوابات الكشف والتجاوز. قال السارد (ترك الشيخ الزناتي عاشور وسبح يبحث في الحرف والكلمة وأن النقطة بدون أخرى هي عجمةٌ وتأتأة. والحرف جسد، والعدد روح الجسد وأن كل البحثالذي يجريه هو خطّ من نقطة واحدة، وأن الغاية هي رؤية العالم في نظرة واحدة ورؤية الزمان في هيئاته وأحواله في لحظة واحدة)27... وهنا نكتشف عمق الرؤية الزناتية للوجود، إنها رؤية متقدمة تروم الوصول إلى لحظة الإشراق.

خاتمة مفتوحة:

كان هذا فيضاً من غيضٍ في درس الرواية (خط الزناتي) منعني من التوغل فيها عاملٌ أساسي هو حضور كثير من المداخل لقراءتها حضوراً دوّخني، فتمثلتُ في هذا التراكمِ المسكوكةَ الفرنسية القائلة "la présence des biens nuit " فما كان منّي إلا أن أستهدف بعض هذا التراكم القوي والمفعم، واخترتُ وتحمّلتُ في اختياري كل المسؤولية...

***

بقلم: نورالدين حنيف

.......................

إحالات:

1 - شعيب حليفي، خط الزناتي، رواية، منشورات السرديات، الطبعة الأولى، 2023

2 - رواية خط الزناتي، ص6

6 - التاريخي في سياق الرواية لا يتعلق بمفهوم التاريخ المسجِّل للماضي البشري عبر التوثيق، وإنما المقصودُ سيرة القوى الفاعلة الاجتماعية.

4 - تيزفيطان تودوروف، مفاهيم سردية، ترجمة: عبد الرحمان مزيان، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط،1 ،2005، ص 7

5 – ابن منظور، لسان العرب، تحقيق عامر أحمد حيدر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2003، الجزء الأول، ص 768

6 - Pellat(Charles)E.I(n.e)TomeVI- Mamàkib- p333.

7 – رواية خط الزناتي، ص 53

8 – الحديث رواه البخاري

9 – رواية خط الزناتي، ص 14

10 – أنظر صفحة 22 من الرواية

11 – رواية خط الزناتي، ص 21و22

12 – رواية خط الزناتي، ص 29

13 – رواية خط الزناتي، ص 66

14 – رواية خط الزناتي، ص 46

15 – رواية خط الزناتي، ص 54

16 – هذا البيت يُنسب إلى على بن أبي طالب

17 – الحديث أخرجه البخاري

18 – ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، الجزء الخامس، ص 102

19 – رواية خط الزناتي، ص 8

20 – رواية خط الزناتي، ص 9

21 – رواية خط الزناتي، ص 23

22 – رواية خط الزناتي، ص 24

23 – رواية خط الزناتي، ص 25

24 – رواية خط الزناتي، ص 25

25 – رواية خط الزناتي، ص 41

26– رواية خط الزناتي، ص 51

27 – رواية خط الزناتي، ص 54

 

عرّف الأديب والعالم اللغوي المصري شوقي ضيف فنّ التوقيعات على أنها "ا عبارات موجزة بليغة تعوّد ملوك الفرس ووزراءهم أن يوقعوا بها على ما يقدم إليهم من تظلمات الأفراد في الرعية وشكاواهم، وحاكاهم خلفاء بني عباس ووزراؤهم في هذا الصنيع، وكانت تشيع في الناس ويكتبها الكتاب ويتحفظونها وظلامته، وقد سموا الشكاوى والظلامات بالقصص لما يحكي من قصة الشاكي وظلامته، وسموها بالرقاع تشبيها لها برقاع الثياب. " *

وهي من الفنون السرديّة المنسيّة في الأدب العربي المعاصر. فقد ازدهر فنّ التوقيعات في العصر العباسي الأول. شأنه في ذلك شأن فن المقامة، الذي عرف شيوعا وازدهارا في العصر العباسي الذهبي، على يد بديع الزمان الهمذاني، والذي كان – بحق – فنّا سرديّا راقيّا، احتوى على فنيّات القصة القرآنيّة، وفنيّات القصة القصيرة الغربيّة (جي. دي.موباسان، وتشيخوف، إدغار آلان بو). دون أن ننسى الذهبيّات السرديّة أبي عُثْمان عمَرُو بن بَحر المعروف بالجاحظ في مصنّفه الفريد " البخلاء ".

كان العرب قبيل الإسلام (العصر الجاهلي)، يعيشون في نظامهم القبلي والعشائري، وكان الشعر هو ديوانهم الأول، بلا منازع. أمّا النثر فقد حظّه كحظ الشعر في حياة الإنسان الجاهلي. ولم يتجاوز فنون الخطابة والوصيّة والأمثال والحكم، وهو أقصى ما كانوا يحتاجونه في إدارة حياتهم اليوميّة.

وعندما نزل الوحي على رسول الله، سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسمع عرب الجاهليّة، الذين أسلموا أو الذين لم يسلموا، آيات القرآن الكريم، بُهتوا من عظمة أسلوبه، وإعجاز ألفاظه ومعانيه. فانفتحت عقولهم على بحر من الإيجاز والغنى اللفظي والعمق الدلالي والفكري، وازدادت لغة العرب العاربة والمستعربة قوّة وعمقا وشيوعا.

وقد اندرج فنّ التوقيعات ضمن فنّ التراسل. وهو فنّ عريق في الأدب العربي، وهو ضربان: رسائل ديوانيّة، تتناول شؤون حكم الرعيّة وسياستها، ورسائل إخوانيّة متبادلة بين الأدباء والشعراء والمؤرخين وعموم كتاب السرد، حول المسائل الذاتيّة والفكريّة والعاطفيّة والفقهيّة وغيرها ممّا يشغل الفكر الإنساني. حتى قيل: بدأت الكتابة بعبد الحميد الكاتب وانتهت بابن العميد. ولكن الحقيقة أنّ فن التراسل بين الأدباء والشعراء والساسة لم يتوقف وإنّما ضعف أسلوبه ولفظه وقلّ شأنه بين الأدباء أنفسهم، ولم يعد يشغل الكتاب والمبدعين لا النقاد المعاصرين...

جاء في إحدى التوقيعات، ما يلي: (كثر شاكوك، وقلّ شاكروك، فإمّا اعتدلت، وإمّا اعتزلت).

وهي كما يبدو توقيعة موجّهة إلى حاكم أو وزير أو خليفة أو الوالي، لوحظ انحرافه عن سياسة العدل في رعيّته. ومتضمّنة النصيحة والموعظة الحسنة والحكمة بأسلوب ليّن وهادئ ورزين، بعيدا عن أسلوب التهديد والوعيد..

في هذه التوقيعة، يظهر لنا سحر اللغة العربيّة وأسلوبها الموجز. وجمال بيانها وبديعها. فقليل لفظها يغني عن كثيره، ومعانيها واضحة القصد. فهي تحرّك العقل قبل القلب، والفكر قبل العاطفة. كما تبرز للقارئ عبقريّة كاتبها، الذي أبدع في الإيجاز غير المخلّ بالمعنى والهدف، وصبّ فيه بحرا من المعاني والأفكار والعواطف، واختصر زمن الكتابة والقراءة، وجنّب المرسل إليه، مغبّة المجاز والتأويل.

إنّ الأدب العربي زاخر بكنوز من الفنون الأدبيّة في جميع أصناف السرد والشعر. فلم نكن في حاجة إلى استبدال المقامة بالقصة الغربيّة. والقول أنّ العرب لم يعرفوا فنّ القصّة إلا بعد اتّصالهم بالغرب، وتأثرهم بآدابه. هو ترّهة فجّة وادّعاء باطل، أملاه علينا منطق المغلوب يتبع الغالب، كما قال ابن خلدون. إنّ العرب عرفوا فن القصّة قبل الغرب بقرون، ومن هنا وجب علينا، الاعتراف بالخطأ، دون خجل، وتصويبه..

وبالعودة إلى فنّ التوقيعات، الذي ازدهر في العصر العباسي، سأورد نماذج من تلك التوقيعات:

وقّع الخليفة أبو العباس السفاح على كتاب عددٍ من أفراد بطانته الذين اشتكوا حبس أرزاقهم "من صبر في الشدة شارك في النعمة ".

وقّع الخليفة أبو جعفر المنصور لواليه في مصر عندما شكى له نقص مياه نهر النيل "طهر عسكرك من الفساد، يعطك النيل القياد".

وقّع الخليفة هارون الرشيد في حادثة البرامكة "أنبتته الطاعة، وحصدته المعصية".

ووقع إلى والي خراسان "داوِ جرحك لا يتسع".

وهي توقيعات، اتّسمت بعديد من الخصائص الفنيّة، اهمها:

تعددت سمات التوقيعات وخصائصها، ويمكن اختصارها بالعناصرالتالية:

تتميّز التوقيعات من حيث الأساليب بمتانة التركيب والصياغة الدقيقة، والجمع بين الخبر والإنشاء والإيجاز. أما معانيها، فهي قويّة الدلالة، مباشرة. نافذة التأثير.، متضمّنة بعض الاقتباسات المأخوذة من القرآن الكريم، أو الأحاديث النبوية الشريفة، بالإضافة إلى الأمثال، والحكم، وأبيات من الشعر.

إنّ فنّ التوقيعات يدل على ذكاء مؤلّفه، وعلى قدرته في توظيف الصور البلاغيّة، كالاستعارات والتشبيهات والكنايات والمجازات المرسلة. وهي (التوقيعات)، وإن كانت موجزة اللفظ، لكنّها غزيرة المعاني، قويّة التأثير في النفس، جامعة بين إصابة الهدف أو الغرض، وقلّة المؤونة اللفظيّة. إنّها مثال دال على عبقريّة الذائقة الإبداعيّة العربيّة، وعلى عشق العرب للإيجاز اللفظي والمجاز اللغوي. وقد قالت العرب قديما " خير الكلام ما قلّ ودلّ ". كما ذمّ العرب الرجل المهذار، وأعابوا على الرجل، إذا كثر كلامه في غير فائدة. وأطلقوا على من قلّ لفظه وأنزله موضعه، صفة الحكيم.

إنّنا في حاجة ماسة إلى إعادة قراءة تراثنا العربي والإسلامي الأصيل، من جديد، قراءة علميّة متأنيّة، هادفة، خاليّة من الانتقاء المذهبي والميل العاطفي، عقليّة، ذكيّة، وخالية من ترّهات الاستشراق الغربي. وأن نتلافى دراسات المستشرقين الشرقيين والغربيين وقراءاتهم، إلا النادر منها.

***

بقلم: الناقد والروائي علي فضيل العربي – الجزائر

........................

هامش:

* رفيع أحمد، " قراءة في فن التوقيعات العربية وإيجازه. قراءة أنموذجية للعصور المختلفة "، مجلة أقلام الهند، بتصرّف.

 

الأنوية الفاعلة ودلالاتها في انعكاسات المرايا المتكسرة في مجموعة (النهر أنت يا حبيبي وأنا الأفعوان..)

منذ العتبة الأولى والتي هي عنوان لاحدى قصائد الشاعرة أمان السيد تجد نفسك أمام صورتين تجعلك في دوامة التساؤل وانت تفكر وتقول ما الذي يجمع بين النهر والافعوان الذي هو ذكر الأفعى وتنسبه لنفسها وهي الأنثى ... في إطار السياق النصي لهذه العتبة، تظهر طبيعة التعالق القائمة بينها وبين نصوص مجموعتها من جانب ومدى التعالق والترابط العضوي القائم بينها وبين مصير شعبها المجهول من جانب آخر  بحيث أصبح العنوان في هذه التجربة يشكل نواة بنية دلالية تدل على مضمون نصوصها . فعتبتها هي التي سترشد القارئ وتدلّه على ممارسات فعاليات النص الشعري والذي هو  بحد ذاته الداّل الكاشف، في توضيح دلالات النص، واستكشاف في معانيه، ومن ثم، فالعنوان هو المفتاح الضروري لسبر أغوار النص، والتعمق في شعابه التائهة، والسفر في دهاليزه الممتدة .3554 النهر انت يا حبيي امان السيد

تقول النهر أنت ياحبيبي ومن ثم تعود لتقول في قصيدتها (النهر أنت يا حبيبي وأنا الأفعوان):

ذلك النهر هو حبيبي تتريّى فروعُه،

وصدرُه، وعنقـُه بالشهوات والحكمة،

هو أنا

حين يكشف عن شَبقه الأزرق،

وجنون جسده الضاجّ بالغوايات

فقط كي ينعش الضباب،

هو أنا.

حين أستدعي العالم المثالي إلى بساتيني

لا أجد مكانا لي

إلا في أحلام البائسين.

من هنا يتبين مدى التصاق أناها بالآخر  وكأنهما وجهان لصورة واحدة لذا تقمطت أناها الأنا الكلية لتتحول نصوصها من الغنائية الأنوية الى النص المفتوح وتتمرد حتى على الشعرية لتقدم لنا نصاً يتقمط الحكاية والتساؤل وهو قادراً على التأويل الى حيث يصب نهرها ويتوقف أفعوانها عن الجريان . نصاً يجرف معه ما يتلقاه من صور مبعثرة صنعتها مخيلتها النشطة وتعكسها لها مراياها المهشمة وكما نهرها الهادر والمارّ بالنّفايات والطحالب والأوبئة يجرفها بالبراكين (كما تقول) هكذا هي نصوصها تفجر ما في دواخلنا كي تتمرد حتى على ذواتنا فتتكسر قيودها لتنطلق نحو فضاءً جميلاً ملؤه المحبة فتقول في نفس قصيدتها .

هل على خطو وقع العسكر:

حبلت القرى والمدن بعشق التمرد والحرية؟!

هل على وقع خطو العسكر:

رموش العيون صارت أحذية وأجسادا

ملقاة على المزابل،

وفي حُمّى الفراغات؟!

من العنوان نستكشف العلاقة بين أنا وأنت ومن خلال مرآتها المتكسرة والمتعددة السمات والصفات رسمت لنا مجموعة صور تجسد لنا انعكاسات أناها فيما يخص الوطن والبحث عن الذات الجريحة كما في قصيدتها (ومن الأبيض تندلع الحياة):

في مكان ما

قفز أطفال فوق الطفولة،

في سورية.

أيها الوطن:

كيف يداك تستطيعان

أن تغسلا وجهك كل صباح

وأبناؤك صاروا أوراق حَور في المسافات؟

فجاءت صورها الشعرية المبعثرة بكل ما فيها من رموز أنعكست فيها صورة الأنا في ذاتها لترى فيها الآخر الذي أصبح صوتا داخليا يجسد مدى معاناتها الى حد فقدت بريقها بسبب التهشم  فحملتها بدلالة القسوة وجعلتها صامتة.

تكشف الشاعرة في تكرار صورها في النص الواحد انشغالها بالعلاقة الجدلية بين الأنا (الأفعوان) والآخر (النهر) عبر بوح يكاد يكون متقطعا في إصغائها الى نداءات أناها، فحملت نصها معالجة نصوص عديدة تكاد تتقابل في خطوطها الصور، وتتفرع في وحدات نصية، تمثل معادلة التقابل والتضاد والتماثل والافتراق، اي ان بنية النص لدى الشاعرة أمان السيد يقوم على استنبات قطبين متنافرين وتشكل مستوياتهما الدلالية واقعاً مؤلماً ينفتح على صورة كلية هي الوطن وكما في قصيدتها (ويبحثون عن الخرافة):

وجدوا القمر مصلوبا

هناك في زواياه الأربع

الذئب يعوي

وفوق البحر تتكدس الجماجم

البحر يودع الجماجم

يكسوها بالخزف..

يحدق الأطفال بلا وجل

 في الجماجم يحدّقون

جماجم الأطفال ينبت فيها الجمان..

مراياها المتهشمة تعكس لنا مجموعة صور  هي بحد ذاتها أوجه للصورة الواحدة (القمر  مصلوبا ، الذئب يعوي ، البحر والجماجم ، الأطفال ، الجمان ، ...) إنها صورة شعبها وهو يغامر ويمتطي البحار الى حيث المجهول . فمن خلال أنويتها الفاعلة ومراياها المتهشمة تكشف لنا في نصوصها عن ما خزنته ذاكرتها الشعرية من تلك الصور التي يفوح منها الألم والأنكسار والحزن وهي تتأرجح في أعماق بؤرتها الشعرية والتي تحاول دوما التحرر من قيودها لتخرج وتعبر عن إرهاصات ذاتها الشاعرة في أقسى حالات الشعور والوجدان الشخصي وهي تنظر وتتحسر كي ترى صورة الحب لتكون الصورة المغايرة لما تراه الان من صور مآسي الحرب . وكما في  قصيدتها (لو أن هذا الحرف يسقط):

حبّ، حرب

حرفُ الراء سكين،

خنجر،

شهقة مِقصلة.

لو أن هذا الحرف يسقط

لعادت الشرفاتُ تسكب الياسمين.

ولكن كيف لهذا الحرف أن يسقط ويتحول الى حب إن كانت الآشباح تلاحقها من كل صوب ليتقاسمان ما بقي من ظل وطنها:

يناديكَ شبح

تُصبحان اثنين بينكما ظلّ امرأة تتقاسمانِه.

الغُرف كأسرار الجريمة،

ووحدكَ المتكاثرُ،

الطازجُ كأعشاب الخريف.

القلق الذي ينتابها من انعكاسات مراياها المتهشمة لمشاهد صور الأغتراب والأندثار للوجود تتكشف في نصوصها من خلال تقمط نهرها وأفعوانها لماهية الأحساس الوجودي الذي تسعى لتوظيف فعالياته داخل حركة نصوصها وعلى كافة المستويات الدلالية والجمالية .

من خلال الغوص في نصوص مجموعتها هذه تراءت لي تدفق صورها الشعرية على شكل الامواج التي تعلوا عل ظهر نهرها في عنفوانه الشتائي أو تموجات حركة أفعوانها وهي تتسارع لتلتقي أناها بالآخر مُشَكلة لنا عنصراً مهماً من عناصر توليد الشعرية وتكثيف الأيحاء والشعور عبر دفق إيقاعي ينسجم والبعد النفسي والوجداني للذات الشاعرة مما يدفعها دوما أن تتقيئ صورها لما في داخلها من إحساسات نصوص تحمل ما في باطنها من شحنات انفعالية لتكون ترجماناً أميناً عما تحسه، وتتأمله، وتشعر به، تجاه مدينتها اللاذقية والتي هي صورة مصغرها لوطنها ، ومن هذا المنطلق، فإن للكلمة، أو الجملة الشعرية ناموسها الخاص وكما تقول في قصيدتها (اللاذقيّــــــة):

المدينة الآن ترتع بالدخان.

 نسوة شفافـــات في تلك المدينة المحاصرة بالدخان

كالكريستـالِ شفافـات،

يشبهن المراكب الشراعية، في النهر يسبحن

ويسرن عاريات يتفرسن في حزن.

إن تجربتها السردية  منحتها بداهة الحركة الشعرية وصيرورتها، إذ أن نموذج النص المفتوح فرض مآثره على امتداد صورها الشعرية ففرز لنا سياقاً جمالياً متكاملاً

استلهمت الاديبة أمان السيد معطيات كلا منهما في الصورة والمشهد واللقطات

السردية، فنجم عنها مزيج تشعيري مدهش في النماذج النثرية .

فقصائدها تقمطت الغنائية الكلية مما جعلت أناها تتقمط الأنا الكلية لتتجه نحو محاكات الاخر بصورة مباشرة بعيداً عن التوظيفات المعقدة لتقدم الى القارئ صورا جميلة سهلة الهضم تدغدغ مشاعرنا .. نصوص مفتوحة تسير الى حيث يسير النهر والافعوان تلبس المكان والزمان الذي تعانقه وكما في قصيدتها (سنجري حديثا مطولا):

أعرف أنّ كلينا

يدعو الآخر إلى التأمل.

أعطني ذكورا

أعطني قدمين

أُعطكَ بحرًا من السخرية والجنون.

وفي مكان آخر تقول:

سنجري حديثا مطولا

أعطني موجا،

أعطك الأراجيح

أعطني الغضب،

ألقنك دروسا في الحب والرحمة.

أعطني اليقظة،

أعطك عينين أوسعَ من شطآنك.

أعطني الحكمة،

أمنحك جسدا أشهى

من شعابك المـرجانية.

حاولت من خلال نصوصها النفاذ إلى ما هو باطني وجوهري في الوجود والحياة؛ لذا وظفت إمكانياتها الشعرية والسردية لاقتحام الحدث ومناوشته بقوة من خلال تعريته ، ومن أجل ذلك اسنخدمت التعدد في صورها والتجاوز في مدلولاتها مما دفع نصها أن يتقمط الصيرورة وهو في طريقه للبحث عن إمكانات إيقاعاتها كي تنسجم مع الموقف الوجداني الذي تعيشه كما تقول في قصيدتها (من الذي يقرع نافذتي):

في هذا الليل البعيد:

ندف، أم مطر يقرع نافذتي

لا فرق،

الاثنان معا صديقان

يؤنسان غربتي

نصوصها تجمع الخيال والحقيقة في إطار يتحدى القواعد الثابتة من اجل تقديم تشكيلة من المشاهد تعبر عن معاناتها وحلمها . تحاول في نصوصها الكشف عن الجوانب الغامضة للحواس مما يراه في الاخر من خلال تصويرها للجوانب اللاواعية والأحلام والرغبات المكبوتة في دواخلنا نحن الذين أجبرنا على ترك أوطاننا والركوب جدائل موجات البحر والتي صارت سمة مميزة في حياتنا،.كما تقول في قصيدتها (نزيف الغابـــــــات):

هنا حيث الغابات أكثر كثافة من سواد الليل

هنا حيث المنفيون

يكثرون من المجيء أعدادا هائلة.

من علّم الحروب في هذا العصر

أنّ هذي الغابات قد كانت منافي

من قبل للمسجونين وللمنبوذين

وأنّ المدن المفتوحة

يفرح بها المنتصرون

وترقص قلوبهم

في نزيف أصحابها

وفي الختام أقول:

لقد أبدعت الشاعرة أمان السيد في تقديم نصوص جميلة عابرة للقارات مثل الصواريخ كونها أفعال حدسية تعكس نظرتها إلى العالم وهي تقف على مرتفَع وإلى جوارها مشاهد لبعض الفارين وهم يعانون من وجع مبرّح في أناهم المهشمة وهم يصرخون كلٌّ منهم في الآخر. لقد أبدعت في مزج مكونات الواقع المتنافرة في نصوصها، وهكذا لا يعود الفردوس والجحيم مكانين منفصلين في نصها الواحد بل المكان الواحد ذاته وكما الحال في الانا والاخر وحيث يمعن الأفعوان والنهر كلٌّ في عيني الآخر بينما تحترق مدنها أو تغرق السفن التي تحمل ابناء شعبها الفارين في عرض البحر. أليس هذا هو العالم الذي نعيش فيه؟ ننهض في الصباح والطيور تشدو والشمس تشرق لكي نشاهد في التلفاز مدنا تزول عن بكر أبيها بسبب تعطشنا للكرسي والمال .

ولا بد لي أن أتساءل:

هل كان النهر صورة مصغرة في تدوين رحلة العذاب والألم لشعبها وهم يرحلون حتى دون وداع الأمهات وبلا توقف قاصدين أرجاء المعمورة عساهم أن يسقوا الأراضي المزروعة في تلك البلدان في حين كان أفعوانها متقمطا الحكومات وحراس الحدود الذين يعملون جاهدين للدغ شعبها المتشرد كي يتوقف عن العطاء؟ تساؤل مشروع يسأله القارئ .

***

نزار حنا الديراني

 

نص سردي غير تقليدي عتبته الاولى، وصف لسارد عليم لليوم الأخير لصحفي عراقي احيل على التقاعد من مؤسسة حكومية، الاسم (سعيد) ذو دلالة رمزية متناقضة مع طبيعة هذه الشخصية الناقمة على الوضع الحالي والسابق، التي تعيش في دوامة الحزن والعزلة، بعد هذه النهاية المبكرة جدا لرحلة بطل رواية احمد خلف (في الطريق اليك) والصادرة سنة 2023  تبدء رحلة اخرى اكثر تعقيدا وتشعبا، اجتهد الكاتب في تأثيث سينوغرافيا عنصر المكان المركزي للنص، والذي تمثل بغرفة صغيرة في بيت البطل احتوت على مكتبته ودفاتر مذكراته، في هذه البؤرة المكانية الصغيرة  يتوقف الزمن الاَني وينطلق النص نحو مديات اوسع خارج حدود المكان والزمان، باستخدام ما يعرف اصطلاحا (الكرونوتوب الباختيني) اي تعالق مكان النص مع امكنة اوسع اثناء السرد. من خلال حركة البطل داخل غرفته والانعكاسات النفسية السلبية عليه نتيجة الحوارات المقتضبة التي كانت تدور بينه وبين زوجته المريضة، انطلق النص عبر تقنيات الاسترجاع والقفز والاستذكار، الى الماضي في محاولة سيزيفية غير مجدية، لتقبل الواقع الصعب الذي يعيشه، او ربما تكون عملية تبريرية لتتعايش مع ازمته والتشبث بواقعه الحالي، عَبر استحضار الماضي القريب، كقول جورج اوريل (من يتكلم بالماضي يمسك بالحاضر) . فقد اجاد احمد خلف في رسم معالم شخصية هذا البطل الذي منحه وعيا قائما استطاع من خلاله فهم الحياة بطريقة اكثر نضجا، عبر متوالية (الحياة والسرد) اي توظيف السرد لخدمة قضايا انسانية وثقافية. هذا الوعي الاستثنائي الذي تمتع به البطل جعله قادرا على تشخيص السلبيات والمشاكل التي تعصف بمحيطه الاجتماعي، وامتلاكه رؤية واضحة عما حصل وما يحصل. فقد وضع احمد خلف الجزء الاكبر من تجربته الانسانية والادبية في هذا النص، فكان نصا خارجا عن المألوف زج فيه الكثير من المعلومات التاريخية والثقافية واستخدم تقنيات (الاسترجاع، الاستذكار، القفز، الاستباق، الميتاسرد، التضمين، الترميز) جعل من بطله سعيد شماعة علق عليها بعض من آرائه وتصوراته السياسية والاجتماعية، وربما وضع جزءا منه في شخصية سعيد.. هذه الخلطة السردية المتقنة خلقت نوع من التوازن في الشخصيات القصصية داخل النص، واحدثت تناغما بين الصورة والحدث والكلمة تكررت في مفاصل عديدة منه، كما في عملية التناص الرائعة هذه التي تحمل ابعاد انسانية ونفسية كبيرة، السارد العليم يخبرنا بهذا الحدث المفصلي في حياة بطله سعيد، حين طلبت زوجته المريضة منه، ان ينام في سرير اَخر،  لأنها لم  تعد تتحمل رائحة جسده، في هذه  اللحظة المؤثرة تقع عين البطل على قصاصة دون فيها تاريخ اعدام صديقة الشاعر ادم من قبل النظام السابق، لهروبه من الخدمة العسكرية اِبان الحرب العراقية الايرانية (قالت له انها لم تعد تحتمل انفاسه ورائحة جسده حين يتقلب في منامه، كان مقترحها هي ان يستقل كل واحد منهما عن الاَخر وأن يكون له سرير نومه الشخصي.... تلك اللحظة سقطت نظرته على قصاصة ورق التقطها، قلبها بأصابعه واندهش من محتواها، فقد سجل تاريخ اعدام اَدم رميا بالرصاص). عملية الربط بين هاتين الحادثتين اوجدت نصا ذا قيمة انتاجية تركيبية تواصلية، واعطت صورا اخرى لمفهوم الهزيمة والانكسار.3533 احمد خلف

كان التضمين سمة ميزت رواية (في الطريق اليك) فقد استغل الكاتب مكتبة البطل ليفتح نوافذ عدة على الماضي عبر استحضار قصص وحكايات عضدت قصدية النص وجعلته اكثر اثراءً وتأثيرا في المتلقي، فقد تأرجح الزمن وانتقل بين الماضي والحاضر، وتنوعت محاور النص بين (الخيانة ، الرغبة، الطموح، الدكتاتورية، والثورية) فنراه ينتقل من قصة الملكة زبرجد وخيانتها لزوجها الملك مع احد العبيد، وموتها بشكل غامض،  الى قصة رسام الكاريكاتير ابراهيم زايد ومال اليه مصيره حين مات منتحرا في بيروت.. اضافة الى استخدام الكاتب لما يمكن تعريفه اصطلاحا (التضمين المركب) تضمين داخل تضمين ، فقد زج قصة الشاعر العربي امرؤ القيس داخل قصة الملك والملكة زبرجد (يعلم تماما ما من ملك او سلطان الا وله من الخصوم المتربصين به ينتظرون ان تصدر منه اي زلة تنزل من مقامه وتواردت الى ذهنه عشرات القصص التي دفع عدد من الملوك حياتهم ثمنا لخصومهم ساعة غفلة . تذكر حياة الملك الضليل الذي جعلته الخمرة يدفع حياته ثمنا لها ولتعلقه بها ، كيف اطلق صيحته المضحكة اذ قال : اليوم خمر وغدا امر). بعد هذا التشظي المتقن للنص عبر الازمنة والامكنة والبيئات المختلفة والبعيدة عن زمان ومكان وبيئة النص المركزي.. يتوقف السرد فجأة، وتبدأ عتبة سردية جديدة، حادثة افتراضية اَنية (طرق على الباب) عملية ترقب وخوف من قبل سعيد، بعدها ينطلق النص الى مديات اكثر تعقيدا عَبر سؤال مثير (ترى من قال ان مؤلفي القصص يقلدون الله في خلقه للبشر وهم يصنعون لنا شخوصا على الورق  ؟) كانت الاجابة على هذا السؤال الجدلي باستحضار حياة بعض الكتاب العالميين الذين انتهت حياتهم بالانتحار (بعض الاشخاص كأنهم من لحم ودم، وبحكم ولعه المعروف في مطالعة القصص والحكايات الكثيرة، التي قراها من قبل، تذكر موت عدد من مؤلفيها الذين قضوا نحبهم كما تذكر العشرات منهم الذين ماتوا ولم يعلم بهم احد ....).

عنوان الرواية (في الطريق اليك) شكل بمفرده لغزا وعتبة سردية بحاجة الى التوقف عندها، لماذا اختار  احمد خلف هكذا عنوان لنصه الغني بالقصص والحكايات والآراء السياسية والفلسفية والاطروحات الفكرية والمفارقات الحياتية، العنوان كان عبارة عن جملة اعتراضية وفي نفس الوقت افتراضية تأتي من المجهول صوب مسامع بطله سعيد (دائما يسمع موسيقى تباغته حين غرة، يصغي الى نغمات عطوفة تنداح بعيدا في الفلا، يسمع صوتا متناغما رخيا يقول له هامسا: في الطريق اليك، ها انا في الطريق اليك لا تتعجل في اصدار الحكم علي . كان الصوت الناعم المنبعث من المجهول يرغمه على السؤال: من هو في الطريق الي انا المنسي الذي يحاول ان يذكر الاخرين بنفسه انه حي يرزق).. ربما كان استخدام الضمير (هو) بدلا من (هي) اشارة غيرت دلالة المعنى الذي سيذهب اليه القارئ لفك رمزية العنوان.

باستثناء البطل سعيد، كانت شخصيات الرواية الاخرى متباينة في تركيبها النفسي والثقافي، استعان بها الكاتب لبناء هرمية نصه، حيث تحركت داخل اطار حكائي توزع بين الماضي والحاضر، استطاع القارئ من معرفة حياة البطل وميوله واحلامه ومواقفه، من خلال مسيرته معها وطبيعة العلائق التي ربطته بهذه الشخصيات، فقد كانت محطات مهمة في حياته، لم تسطيع ذاكرته تجاوزها او القفز عليها. في رواية (في الطريق اليك) استعان احمد خلف بأسلوب حداثي من خلال ترك نصه مفتوح على نهايات متعددة، واضافة ملحق خارج نصه الروائي، لإشراك القارئ في وضع نهايات لمجموعة الحكايات التي تضمنتها روايته، وعلى الرغم من ان هذا الاسلوب ليس بغريب على الكاتب، فقد عمد على ترك بعض نهايات رواياته مفتوحة عائمة، لاِستفزاز القارئ ومداعبة مخيلته في محاولة لإيجاد نهايات منطقية لها، غير انه في هذا النص افرد ملحق خاصا ناقش فيه بعض النهايات المحتملة وطالب القارئ ان يكون شريكا فعالا في اختيار هذه النهايات.

***

احمد عواد الخزاعي

 

لقد كانت مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي موضوعًا متكررًا عبر التاريخ، حيث استخدم المؤلفون والشعراء مواهبهم الإبداعية لتسليط الضوء على النضالات التي يواجهها الأفراد والأمم في ظل الأنظمة القمعية. منذ الحضارات القديمة وحتى العصر الحديث، كان مفهوم المقاومة ضد الاحتلال مصدر إلهام لعدد لا يحصى من الأعمال الأدبية، حيث سلط الضوء على صمود وشجاعة أولئك الذين يرفضون الصمت.

السياق التاريخي:

يمكن إرجاع موضوع مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي إلى النصوص القديمة مثل الإلياذة والإنيادة، التي تصور نضال الأفراد والأمم ضد الغزاة الأجانب. وفي التاريخ الحديث، سلطت أعمال مؤلفين مثل ألكسندر سولجينتسين، الذي وثق الحياة في معسكرات العمل السوفيتية في أعمال مثل "يوم واحد في حياة إيفان دينيسوفيتش"، حيث يلقي فيه الضوء على الحقائق القاسية التي يواجهها أولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال.

خلال أوقات الحرب والصراع، كان الأدب بمثابة أداة قوية للمقاومة، حيث يستخدم المؤلفون كلماتهم لتحدي الأنظمة القمعية وإلهام الآخرين لاتخاذ موقف ضد الظلم. على سبيل المثال، أنتجت الهولوكوست ثروة من الأدبيات القوية التي توثق تجارب أولئك الذين قاوموا الاحتلال النازي، مثل "ليلة" لإيلي فيزل و"مذكرات فتاة صغيرة" لآن فرانك.

الشخصيات الرئيسية التي قاومت الاحتلال:

إن أحد أكثر الشخصيات تأثيرا في مجال مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي هو الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي تحدى عمله المبدع "الاستشراق" التصورات الغربية للشرق الأوسط ودعا إلى فهم أكثر دقة للمنطقة. ألهمت كتابات سعيد عن النضال الفلسطيني من أجل الحرية وإقامة الدولة أجيالا من الكتاب والناشطين للتحدث علنا ضد الاحتلال والظلم.

ثمة شخصية رئيسية أخرى في مجال مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي هي الشاعرة والكاتبة الجنوب أفريقية نادين جورديمر، التي يستكشف عملها "شعب يوليو" ديناميكيات القوة والمقاومة في سياق الفصل العنصري. تجسد كتابات جورديمر تعقيدات العيش في ظل الاحتلال والطرق التي يتنقل بها الأفراد في علاقات القوة والسيطرة.

التأثير:

إن تأثير مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي بعيد المدى، حيث تعمل أعمال مثل "1984" لجورج أورويل و"عالم جديد شجاع" لألدوس هكسلي بمثابة حكايات تحذيرية ضد الشمولية والمراقبة الحكومية. لقد ألهمت هذه الروايات الديستوبية عددا لا يحصى من الأفراد للتشكيك في السلطة والنضال من أجل حقوقهم في مواجهة القمع.

ويلعب أدب المقاومة أيضا دورا حاسما في الحفاظ على أصوات وتجارب أولئك الذين تم تهميشهم وإسكاتهم بسبب الاحتلال. أعمال مثل "وزارة السعادة القصوى" لأرونداتي روي و"نصف شمس صفراء" لتشيماماندا نجوزي أديتشي تلتقط الحقائق المعيشية للأفراد الذين يعيشون تحت الاحتلال وتكون بمثابة شهادة على مرونتهم وإنسانيتهم.

الأفراد المؤثرون:

بالإضافة إلى إدوارد سعيد ونادين جورديمر، هناك عدد من الشخصيات المؤثرة الأخرى التي قدمت مساهمات كبيرة في مجال مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي. على سبيل المثال، يشتهر الشاعر الفلسطيني محمود درويش بقصائده القوية التي تجسد الشوق إلى الحرية والعدالة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والمنفى.

وتشمل الشخصيات المؤثرة الأخرى الكاتب النيجيري تشينوا أتشيبي، الذي تستكشف روايته "الأشياء تتداعى" تأثير الاستعمار على المجتمعات الأفريقية التقليدية، والمؤلف الفيتنامي نجوين هوي ثيب، الذي تصور قصصه كفاح الأفراد الذين يعيشون تحت الاحتلال الأجنبي خلال حرب فيتنام. لقد استخدم هؤلاء الكتاب، والعديد من أمثالهم، إبداعاتهم ومواهبهم لتسليط الضوء على مظالم الاحتلال وإلهام الآخرين للمقاومة.

توقعات عالمية  - ووجهات نظر:

هناك مجموعة متنوعة من وجهات النظر حول موضوع مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي، حيث يرى بعض النقاد أن الأدب لديه القدرة على تحدي الأنظمة القمعية وإلهام التغيير، بينما يعتقد البعض الآخر أن تأثير المقاومة الأدبية محدود في مواجهة جيوسياسية أكبر. القوات. وبغض النظر عن وجهة نظر المرء، فمن الواضح أن الأدب لعب دورا حاسما في توثيق نضالات الأفراد والأمم تحت الاحتلال والحفاظ على أصوات أولئك الذين تم إسكاتهم.

الجوانب الإيجابية:

ومن الجوانب الإيجابية لمقاومة الاحتلال في الأدب العالمي قدرتها على توفير منصة للأصوات المهمشة وتسليط الضوء على تجارب من يعيشون في ظل أنظمة قمعية. من خلال سرد قصص الأفراد الذين يقاومون الاحتلال، يمكن للأدب أن يلهم الآخرين لاتخاذ الإجراءات اللازمة والمطالبة بالعدالة لأنفسهم ومجتمعاتهم.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للأدب أن يكون بمثابة شكل من أشكال المقاومة في حد ذاته، حيث يستخدم الكتاب مواهبهم الإبداعية لتحدي الروايات السائدة وتقديم وجهات نظر بديلة حول قضايا الاحتلال والقمع. ومن خلال إنشاء أعمال تتحدى الوضع الراهن، يمكن للمؤلفين المساعدة في تشكيل الخطاب العام وتشجيع التفكير النقدي حول تأثير الاحتلال على الأفراد والمجتمعات.

الجوانب السلبية:

وعلى الرغم من جوانبه الإيجابية الكثيرة، إلا أن هناك جوانب سلبية أيضًا لموضوع مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي. يرى بعض النقاد أن الأدب لا يمكن أن يذهب أبعد من ذلك في إحداث التغيير، وأن العمل السياسي الحقيقي ضروري لتحقيق مقاومة ذات معنى ضد الاحتلال. ويعتقد آخرون أن الأدب يمكن أن يستغله من هم في السلطة لتبرير الاحتلال والقمع، بدلا من تحديه.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن في بعض الأحيان استخدام موضوع مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي لإضفاء طابع جوهري وغريب على تجارب أولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال، مما يقلل من الصراعات السياسية المعقدة إلى روايات مبسطة عن البطولة والضحية. من المهم للكتاب والقراء على حد سواء أن يتعاملوا بشكل نقدي مع تصوير المقاومة في الأدب وأن يأخذوا بعين الاعتبار الآثار الأوسع لهذه الروايات.

التطورات المستقبلية:

وبالنظر إلى المستقبل، من المرجح أن يستمر موضوع مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي في التطور استجابة للمشهد السياسي المتغير والأحداث العالمية. ومع ظهور أشكال جديدة من الاحتلال والقمع، سيستمر الكتاب في إيجاد طرق مبتكرة لتوثيق ومقاومة هذه المظالم، باستخدام كلماتهم لإلهام التغيير وتحدي الروايات السائدة.

إن أحد التطورات المستقبلية المحتملة المتعلقة بمقاومة الاحتلال في الأدب العالمي هو ظهور أصوات ووجهات نظر جديدة من المناطق التي تم تهميشها تقليديًا في المشهد الأدبي العالمي. وبينما يروي كتاب من خلفيات متنوعة قصصهم عن المقاومة والصمود، سيصبح مجال الأدب أكثر شمولا وتمثيلا للعديد من التجارب والنضالات التي يواجهها الأفراد الذين يعيشون تحت الاحتلال.

في الختام، فإن مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي هي موضوع معقد ومتعدد الأوجه ألهم عددا لا يحصى من الأفراد للتحدث علنًا ضد الظلم والقمع. من النصوص القديمة لهوميروس إلى روايات أرونداتي روي الحديثة، كان الأدب بمثابة أداة قوية للمقاومة، حيث قام بتوثيق نضالات الأفراد والأمم تحت الاحتلال وإلهام الآخرين لاتخاذ موقف ضد الظلم. من خلال الاعتراف بالسياق التاريخي، والشخصيات الرئيسية، والتأثير، والأفراد المؤثرين، ووجهات النظر المختلفة، والنظر في الجوانب الإيجابية والسلبية، يمكننا أن نقدر أهمية مقاومة الاحتلال في الأدب العالمي وإمكاناتها للتطورات المستقبلية في الكفاح المستمر من أجل العدالة والتحرير.

***

محمد عبد الكريم يوسف

.........................

المراجع:

Aleksandr Solzhenitsyn "One Day in the Life of Ivan Denisovich"

Elie Wiesel's "Night"

Anne Frank's "The Diary of a Young Girl"

Edward Said, "Orientalism"

Nadine Gordimer, "July's People"

George Orwell', "1984"

Aldous Huxley, "Brave New World"

Arundhati Roy, "The Ministry of Utmost Happiness"

Chimamanda Ngozi Adichie, "Half of a Yellow Sun"

Chinua Achebe, "Things Fall Apart"

 

دراسة ترتكز على مقاربات حول شخصية المسيح في ضوء فلسفات دينية وتاريخية مختلفة.

عن دار اروقة للدراسات والترجمة والنشر في القاهرة مطبوع جديد للدكتور شادي سعد ويحمل العنوان نغحات المسيح الالهية - اليقظة الروحية والصفاء الذهني واكتشاف اسرار مملكة السماء الابدية.

ويتضمن الكتاب خمسين فصلا بعناوين مختلفة حاول خلالها المؤلف د. سعد أن يغوص في تلابيب مفهوم المسيح من خلال دراسة ثيولوجية تعتمد على المقاربات والمقارنات وبعض الاساليب الاجرائية التي وظف خلالها اراء اتباع العقيدة المسيحية من القساوسة وغيرهم لاستجلاء معنى المسيح وتجنب الباحث تطويع بحثه لمضمار الاراء الدينية النابعة من تعاليم الشرائع الدينية واحكامها فيما يتعلق برؤيتها الشرعية لشخصية المسيح عيسى بن مريم عليه السلام الذي ننظر له بوصفه رسول الله ونبيه وهو من اولي العزم حيث ركز على ما هو مشاع عن شخصية المسيح بوصفه ايقونة التسامح والسلام ونافذة روحية لملكوت السماء وقد عمد الكاتب عبر فصوله الخمسين الى تناول وجهات نظر لعقائد دينية غير سماوية كالهندوسية والبوذية محاولا ربط فلسفاتها او ما ترتكز عليه من شخصية محورية بشخصية تناظر شخصية المسيح. ومن خلال لغة الباحث و مضيه في اثبات عناصر الربط بين الشرائع الدينية والاديان برزت تجليات رغبته في اظهار تشابه تلك العقائد الدينية مستشهدا ببعض الامثلة والشخصيات التي تمثل ايقونات دينية لدى الجماعات المؤمنة بها. ولاشك أن شخصية المسيح عيسى بن مريم عليه السلام تحظى بمكانة رفيعة لدى المسلمين وبقية اتباع الشرائع الدينية الكتابية من خلال النصوص الدينية الواردة في القرآن او الكتب الدينية الاخرى.ولكن ما يثير التساؤل في هذه الدراسة أن خطوة الولوج في مقاربات لمفاهيم دينية ضمن فضاء متشعب العقائد والتوجهات والشرائع يعد امرا صعبا ومعقد وذلك لان المرء لا يمكنه تحقيق قناعة راسخة حول شخصية او ظاهرة او حدث تاريخي لدى جميع اتباع الديانات والمعتقدات ولاسيما لدى معتنقي العقائد الدينية غير السماوية لان الطيف الاكبر لا يؤمن بما جاء في الرسالات السماوية. فكيف يمكن ربط مفاهيم لديهم او مقاربتها مع مضامين تلك العقائد السماوية ؟ وبغض النظر عن رغبة المؤلف في اثبات زعمه بأن كافة أبناء المجتمع الانساني يؤمنون بإله واحد ولكن السؤال الاهم كيف يعبر هؤلاء عن فكرة عبادة هذا الاله. وفق اي منهاج او شريعة وهل ثمة تقبل من تلك المجتمعات الانسانية لبعضها البعض؟ واعتقد أن هذه الدراسة المعمقة والتي تناولت كل ما يتعلق بالمسيح ورسالته ومقاربات اخرى مع اديان الى جانب تناوله مفاهيم كالملكوت.الخلاص. التأمل. اليقين. الوجود. وغيرها من تفاصيل دقيقة شكلت مادة لفصول الكتاب ومضمونا لمتنه. ويمكن القول أن السواد الاعظم من اتباع الشرائع والديانات عرفوا المسيح والمسيحية من خلال نصوص كتبهم المقدسة وتأتي هذه الدراسة بوصفها خطوة لكشف التقاب عن فكرة تشابه وجود شخصية المسيح في العقائد الدينية الاخرى واعتقد أن ثمة إقحام لهذه الفكرة. لان كل عقيدة تستند الى مفاهيم وقواعد. وقد لا يعترف اتباع عقائد معينة بفكرة المسيح ورسالته ورسائل انيياء اخرين ولكن ماورد في هذا الكتاب ثمة محاولة لاقناع الناس بأن ما يعتقدونه له اساس واحد. وهي رسالة غير مباشرة من الباحث د. سعد للمجتمع الانساني مفادها انكم جميعا تعبدون الها واحدا وتتنوع مفاهيمكم حيال الممارسات  الدينية .3520 نفحات المسيح

نفحات المسيح الالهية

وحري بنا القول أن الباحث د. سعد تجنب اخضاع طرحه الفكري حيال شخصية المسيح لمنهج فقهي او وجهة نظر شرعية دينية كي لا يصطدم بما هو وارد حيال المسيح في النصوص الدينية وفضل تناوله من وجهة النظر الفلسفية والتاريخية لذلك تنتمي هذه الدراسات الى خانة الدراسات الثيولوجية المعنية بالمعتقد والله والانسان الى جانب اهتمامها بالفلسفات المرتبطة بها دون التركيز على الاحكام الدينية الشرعية لكل ديانة حيال مفاهيم المسيح ورسالته وغيرها من الطروحات. وتجدر الاشارة أن الباحث د. شادي سعد الذي عبر عن شغفه خلال الاحتفاء بصدور الكتاب عبر في البحث بين ثنايا المفاهيم الدينية وتاريخها وقوانينها واثرها في المجتمع البشري ضمن سياقها الزمني الذي ظهرت خلاله لاسيما انه يتبنى فكرة مفادها أن ثمة قاسم مشترك لدى جميع البشر الا وهي فكرة الاله الواحد. وبإعتقادي أن الفكرة جذابة ولكنها تصطدم بقناعات متباينة وجدل متشعب وآراء مختلفة. يذكر انه سبق للمؤلف الباحث د.شادي سعد قد اصدر كتابين ضمن ذات السلسلة من الدراسات المعنية بالمعتقد والله والانسان. والاديان والثقافات الخاصة بالمجتمعات. وما يحسب للدكتور سعد هو توقه النييل في تقليص الهوة بين بني البشر ومحاولة ربطهم بخيوط روحية قائمة على التسامح والسلام والمحبة.

***

استبرق عزاوي - ديترويت

 

قصيدة 'أوراق من سيرة تأبَّطَ منْفى' تنبض بعمق المشاعر الإنسانية، معبرةً عن رحلة الشاعر الداخلية وكفاحه مع الاغتراب والبحث عن الذات. في طياتها، تكشف القصيدة عن تجارب شخصية مليئة بالأحاسيس المعقدة التي تلامس جوهر الوجود الإنساني، معكسةً تساؤلات الشاعر حول الهوية والانتماء. الشاعر، في هذه القصيدة، لا يعيش الغربة في معناها المادي فحسب، بل يخوض غمار الاغتراب الوجودي، متأملاً ومتجولاً بين الأمكنة والأفكار بحثاً عن معنى أعمق للحياة ومكانته فيها. حتى وسط الزحام، يشعر بوحدة مؤثرة تدفعه للتفكير بعمق حول ماهية الذات والهوية الشخصية. يستخدم الشعر كأداة لاستكشاف أغوار نفسه، محاولاً فهم وتفسير أسئلته الوجودية من خلال قوة الكلمات والإيقاعات. وبهذه الرحلة، يتقاسم الشاعر معنا شعوره بالاغتراب، ليس فقط كمنفى جغرافي، بل كحالة ذاتية تتجسد في تجربته الشخصية. القصيدة تطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول الوجود، الحب، الموت والفقد، داعية القارئ للتأمل في هذه المواضيع الجوهرية. استخدام الرموز والصور البيانية يضفي على النص غنى وتعقيداً، مانحاً القارئ فرصة لاستكشاف وتأويل العديد من الطبقات المعنوية. النهود في القصيدة تعدو أكثر من مجرد رمز للحياة والخصوبة؛ إنها تمثل الشوق للعيش والأمان. وبالمثل، ترمز الكتب إلى البحث عن المعرفة والحقيقة، معبرةً عن رغبة الشاعر في تعميق فهمه للعالم من حوله. في جوهرها، تعد هذه القصيدة دعوة للقراء للانخراط في رحلة تأملية حول معنى الحياة والوجود الإنساني، مشاركةً إياهم في استكشاف الأسئلة التي تراود النفس البشرية وتمس جوهرها.

في قلب قصيدة 'أوراق من سيرة تأبَّطَ منْفى'، تنبض شوارع الحياة بكل تقلباتها وتعرجاتها، راسمة خارطة لرحلة الشاعر الشخصية في محاولة لفهم ذاته والعالم من حوله. هذه الشوارع ليست مجرد ممرات مادية، بل هي مسارات روحية تقود الشاعر في استكشافه الدائم لمعنى الوجود وهدفه في هذه الحياة. عبر الأبيات، ينسج الشاعر حكاية استكشافه للذات والعالم، مستخدمًا الرموز البليغة من نهود تمثل الحياة والكتب التي تعبر عن البحث عن المعرفة، إلى الشوارع التي تجسد رحلته المعقدة والمليئة بالتحديات. هذه الرموز تعكس صراع الشاعر الداخلي بين رغبته في الاستقرار وشغفه بالتجوال والاكتشاف، مقدمةً للقارئ تجربة غنية تثري الروح وتحرك العقل. في قلب القصيدة، يبرز الاحتجاج والتمرد كموضوعات رئيسية، حيث يعكسان التزام الشاعر بالتعبير عن رفضه للوضع الاجتماعي والسياسي الحالي. يتضح هذا الالتزام في دفاعه عن الطبقات المهمشة وتضامنه مع قضاياهم، مستنكرًا الفوارق الطبقية الصارخة التي تشق المجتمع. الشاعر لا يكتفي بمجرد عرض اعتراضاته، بل يدعو إلى الوعي والتفكير النقدي حول العدالة والمساواة، موجهًا انتقاداته للأنظمة التي تعزز الفجوات وتدعم الاستغلال. من خلال قصيدته، يرسم الشاعر مسارًا للتغيير، مؤكدًا على دور الشعر كوسيلة للتعبير عن الرفض والمقاومة، ومشددًا على أهمية النضال من أجل مستقبل أفضل. في النهاية، تتجاوز القصيدة مجرد كونها عملاً أدبيًا لتصبح منبرًا للشاعر يعبر فيه عن رؤيته وأحلامه لعالم يسوده العدل والإنصاف، مقدمةً لنا جميعًا تأملات عميقة حول الإنسانية وتحدياتها.

في هذه القصيدة، تتجلى مشاعر التضامن العميق مع المستضعفين، حيث يستخدم الشاعر رمزية "قذف الجوارب إلى السماء" ليعبر عن ارتباطه الروحي، والعاطفي بآلام، وآمال الفقراء، والمهمشين. هذه الخطوة تكشف عن نزعة إنسانية راسخة في قلب الشاعر، مظهرةً رغبته في الوقوف إلى جانب من هم أقل حظًا، ومشاركتهم في معاناتهم وتطلعاتهم. الرمزية هنا ليست مجرد تعبير فني، بل هي دعوة لكسر الحواجز بين الطبقات والتواصل الحقيقي مع الأرواح التي تعاني في صمت. من خلال هذا الفعل، ينتقد الشاعر الفجوات الاقتصادية والاجتماعية الصارخة، مؤكدًا على دور الفن والشعر كأدوات للتغيير والتأثير الاجتماعي والسياسي. الشاعر يضع التضامن في قلب القصيدة، مشددًا على أهمية إعطاء صوت للفقراء والمهمشين، ومستخدمًا الفن كجسر يربط بين مختلف أطياف المجتمع، ويحفز الجميع على العمل معًا من أجل العدالة والمساواة. في جوهر هذه القصيدة، يبرز الصراع ضد الاستغلال كموضوع رئيسي، حيث يقدم الشاعر تجربته الشخصية وتأملاته في مواجهة القمع والعدوان. يستخدم الكلمات كأداة لرسم صورة حية لمعاناة الأفراد تحت وطأة الأنظمة المستبدة، معربًا عن أهمية الوقوف معًا في وجه الاستغلال والدفاع عن حقوق الإنسان. ينير الشاعر مسارًا نحو التغيير الإيجابي، مظهرًا كيف يمكن للمقاومة والتضامن أن تحدث فرقًا حقيقيًا وتقود نحو مستقبل يعمه العدل والإنصاف. هذا النص يعيد تأكيد القوة العظيمة للشعر في التعبير عن النضال والأمل والتأثير في الواقع الاجتماعي والسياسي، مقدمًا للقراء رؤية شعرية تجمع بين الجمال والالتزام بالقيم الإنسانية.

في هذه القصيدة، نرى كيف تتحول الكلمات إلى صدى يدعو إلى العمل والتفكير، محولةً الشعر إلى منبر حي يلهم الناس للنظر إلى العالم من حولهم بعين نقدية وبقلب حالم بالتغيير. يستعمل الشاعر لغته الشعرية بمهارة ليس فقط ليمتع الأذن، بل ليحرك الضمير ويحفز العقل على التفكير في الواقع الذي نعيشه، مشددًا على ضرورة البحث عن العدالة والمساواة. يدعو النص كل قارئ لأن يكون عينًا مفتوحة على العالم، قلبًا يحس بمعاناة الآخرين، وعقلًا يسعى لفهم الأسباب الجذرية للظلم والقهر. الشاعر يحثنا على عدم الرضوخ للظلم وعلى التساؤل والبحث عن طرق لإحداث تغيير حقيقي ينهض بالمجتمع والإنسان. يشجع النص على التمرد ضد القبول السلبي للظلم والاستبداد، داعيًا إلى الكشف عن الحقائق ومقاومة الأفكار المضللة التي تبرر الظلم. يحفز الشاعر القراء على المشاركة الفعالة في الحركات الاجتماعية والسياسية التي تعمل على تحسين الواقع والدفاع عن حقوق الإنسان. على الرغم من كل التحديات، تظل القصيدة مفعمة بالأمل، مؤكدةً أنه يمكننا بناء مستقبل أفضل إذا تحدنا الصعاب معًا وتعاونا لتحقيق العدالة والمساواة. تصبح القصيدة بهذا أداة تحفيزية قوية تدعو إلى الفكر النقدي والعمل الجماعي نحو التغيير، مؤكدة على دور الشعر كوسيلة للتعبير عن المعارضة وبث الأمل في قلوب الناس. هذه القصيدة تعكس كيف يمكن للأدب أن يكون محركًا للتغيير، ملهمًا للناس للتأمل في قضاياهم والعمل من أجل مستقبل يعمه الفهم والإنصاف. تبرز الأهمية العظيمة للشعر في بناء جسور التواصل بين الأفراد والمجتمعات، مقدمة لنا فرصة للتأمل في أنفسنا والعالم من حولنا. في هذه القصيدة، نلمس كيف يتجلى الشعر كمرآة للروح، حيث يستعمل الشاعر فنه لاستكشاف ذاته ومشاركة رحلته الروحية والإنسانية بحساسية وعمق. هذه الرحلة الإبداعية تمنح الشاعر القوة لنقل تجاربه الشخصية ومشاعره الداخلية - من الألم والحزن إلى الفرح واليأس - إلى تعبيرات فنية تتحدث إلى كل من العقل والقلب. يُتاح للقارئ، من خلال هذه الأعمال، فرصة الغوص في تجليات الشعر التي تضيء جوانب من النفس البشرية، مظهرة كيف يمكن للفن أن يكون ملاذًا وترياقًا في أوقات الشدة. عندما نقرأ القصيدة في ضوء خلفيتها التاريخية والثقافية، يصبح تقديرنا لها أكثر غنى وعمقًا. النص، متأثرًا بالسياق الذي يعيش فيه الشاعر، يكتسب أبعادًا جديدة من الفهم، حيث تسهم الأحداث التاريخية والتحولات الثقافية في تشكيل مضمونه وغايته. القارئ، عبر استكشاف هذا السياق، يمكنه فهم الدوافع وراء القصيدة بشكل أكثر وضوحًا وإدراك كيف تعكس الأعمال الشعرية العالم الذي يحيط بالشاعر. هذا التفاعل بين الشخصي والعام في الشعر يُبرز قدرته الفريدة على التواصل والتعبير، محولًا القصيدة إلى مساحة حيث يمكن للفرد والمجتمع التقاء والتفاعل. تقدم القصيدة بذلك إحساسًا أعمق بالوجود الإنساني وتدعو إلى التفكير في معنى الحياة وجوهرها. في النهاية، تصبح القصيدة تجربة شعرية شاملة تعكس غنى الشاعر الفكري والعاطفي، مقدمةً للقارئ فرصة لاستكشاف أعماق الحياة والهوية والإبداع بأسلوب يثري الروح ويحفز العقل.

***

زكية خيرهم

باطن المعنى يؤول الى استبدالية ظاهر المعنى.. الفصل الخامس/ المحور (2)

توطئة: لعلنا تحدثنا في محاور سابقة، عن مجالات عديدة في منتج ومنظومة الشاعر العراقي الكبير حسين عبد اللطيف، وفي مستوى بدا من خلاله البحث النظري والتطبيقي، مجالا في ممارسة في الكيفيات التعليلية والتأويلية، خلوصا منا الى إستدراك سبيل الاهتداء الى ذلك الممكن القصدي الكامن في بواطن فحوى شعرية عوالم ورؤية وصورية وحالات الخطاب الشعري في مواطن قصيدة الشاعر. ولعلنا سوف نضيف من محورنا البحثوي هذا علامات جديدة وجادة، تزيد من ثريا قصيدة هذا الشاعر الفذ، إضافات فاعلة في مجال الفضاءات والمراكز والعلاقات والتراتيبية الاكثر تدرجا في ماهية القول الشعري الذي هو في حدود المعنى والتمعن لدى قصيدة عبداللطيف، إذ يشكل بذاته ذلك المزيج والتلاقح من الرؤية والتأمل والتمسك بتعالقات ذلك المعنى المتسربل في تجليات انظمة مخصوصة وخاصة من حيز متعلقات من الوسائل والوسائط الاكثر عضوية في متن النص (الصورة- الإحالة- العلامة - المرآة) توطيدا جاذبا مع حجم جملة مستويات القصيدة، كفكرة مرسلة في حيثيات الأحوال الاكثر تصعيدا للمحايثة ولبلوغ معرفية الاجزاء التي سوف تكون اكثر تمريرا لحسية الاستجابات لدلالات عدمية موقعة بحسن التصور والأداء، لذلك المعنى في فهم الاشياء وحالاتها عبر الضمير المستتر للحس المرآوي وهويته المسنونة كخاصية، معتمدا في فهمها ما يبدو مرشحا ومعلقا في مجال متحكمات الذات الشعرية ومرادات شكوكها القاهرة على صعيد الخروج من المعنى الظاهر، بالدخول بما يخالفه في الجوهر والحرفية والمسكوتية.

- تقاطعات التعيين المقطعي: أستثنائية الواصلة الربطية

ان الغريب في أمر تجربة حسين عبد اللطيف، كونها علاقات وروابط لأشكال وتلوينات متعددة في الهدف الدلالي كمحورية خاصة في المركز والهامش، اي أن قصيدة الشاعر تقدم لنا في شكلها التلفظي، جملة مكثفة من الحالات التعيينية في الإنشاء والتصور، منها ما تعوزه الوصلات الدلالية والتلفظية أحيانا، ومنها ما بدا كأنه إشارات وعلامات وشيفرات، تستدعي لمن يقرؤها البحث عن واصلات تمد واسطات الجمل بما يناسب القول والحال: فهل معنى ذلك إننا نواجه غياب حقيقة الروابط مثالا ؟ فهي عند المعنى المتني في سياق الدوال، لا تعد بالوظائف الكاملة في خطاب النص؟ ولكننا عندما نتأملها في حدود قصوى من جهة العلاقة الصوغية لعلنا نصادف دوالا مقرونة بوسائط الموضوعة الخاصة من باطن وخصوصية الشاعر، لذا ترانا نصطدم بما يخفيه المحفوف من باطن الدلالة، إنعكاسا بأداة التلفظ التي تتيح لذاتها مسرحة سياقية بالمخصوص والمراد من وراء التلفظ.

1- تفارقية المواضع وفرضية المرسلات القولية:

يتطلب أمر تأويل القصيدة، منا حالات أكثر اندغاما ووعي توطين وظائف ووسائط وخلفيات مؤولة لذلك المحسوس القرائي الذي هو النص في مستووية (الظاهر- الباطن) اي إننا ونحن نسعى لفهم قابليات النصوص الظاهرة، علينا التحلي بذائقة قرائية ما، أما إذا إردنا تأويل باطن النص فعلينا فهم مسميات الأشياء، دون استثناء ما ينافيها من جهة القبول والرفض، سوى الاقتناع بأن للمسمى الوطيد، هنالك مخالفات مرورية له أكثر قبولا منه إذا شئنا الدخول في المعنى التفارقي. ببساطة أن الاشياء المشار إليها في موجهات الدلالات، غالبا ما لا تعكس سوى ما يخالفها في السنن والحدوث الاقراري، فمثلا لو قصد الشاعر معنى ما، لا يمكننا قبوله كما هو عليه حاله، ولا من جهة ما الشاعر يعني حرفيا في ممسرحات دواله، سوى التوافد على المسميات في حدود قرائن مرسومة بشرائط العلامة أو الإحالة أو الترويع في المتشابهة والمخالف في جملة التلفظ، ومعنى هذا فالقارئ النخبوي لايذهب للقصيدة كي يعاين حالات تثير الشبق عنده ولا من ناحية كونها ممارسة لتزجية الوقت ابدا، فكلنا نتناول خطاب القصيدة وكل طموحنا الكتابة عنها بطريقة تبتعد عن ذاتية التشغيل الحسي، اقترابا من ناحية أخرى من اجزاء متعبة من المعنى الأكثر شرودا. فإذا كانت حياة الإشارات في النص الشعري، حالة حيوية في أستيعاب أداء الروابط، فمن الخليق بهذه الإشارات البلوغ بالمعنى في حدود علاقة تصورية مغرقة في الافاق النوعية من المقاصد المستترة. أن القصيدة حقيقة تأويلية تستند في مداليلها وحواملها في مساحة مخصوصة تشغلها حالات لاجتراح في التقاط ما يفوق مواضع الملموس والمعروف والمرئي، فلا يمكننا وضعها اي -القصيدة- في أقرب حافظة للنفايات، لو أكتشفنا مدى ما صنعته بنا من سخافة ومهزلة وتيه في التقزز. قلنا أن حيوية القصيدة الشعرية تكمن في أواصر مؤشراتها وإشاراتها وموحياتها وعلاماتها وتفارقاتها الفنية، فلا يمكننا أن نعد مشروع قصيدة ذاتية مفرطة في إيعازاتها الانفعالية، مكسبا شعريا ما تم حصوله من مغامرة قولية في رسم الخواطر وشرود بها. أقول تتمحور بعض من تجارب الشاعر العراقي الكبير حسين عبد اللطيف تفاعلاوتصالحا، مع مستويات القصيدة المتمظهره بأجدى قابلية التثوير الشعري في الوظيفة والموضوعة والأداء، لذا فإننا نعلم بأن للشاعر في نصه مساحة خارجية في التموين والمقترح الخارجي حالا، وبالموضوعة اطروحة لسبيلا، ولو تعاملنا في حدود الداخل وفقا لعلاقته التفاعلية بالوسائل والفواعل ، لوجدنا مقادير ثقل النصوص في مأخذ وصولاتها الداخلية، ذلك لأن الداخل هو مبعث علاقات التلفظ وجنوحها الافاقي. وقد نحسب لأنفسنا أن بعض قصائد مجموعة (وحيدا على الساحل تركتني المراكب)هي المكمن الصوري في معتمدات الداخل القادمة من إحاسيس لا تشي المفردات على حمل دلالاتها الخاصية، ذلك لأنها مقرورة بوسائط لا يحيط بلفظها ومبلغها سوى الشاعر نفسه، ...انها قصائد تتجاوز مواطن التلفظ بكيفياتها التبليغية، لتتعدى مراسم نزعة الموضوعة وحدودها التقريرية أوالوصفية، انها معرفة شعرية لا تتمسك بجغرافيا التسمية والعنونة النمطية، بل انها صرخة تلوينية جعلت تشحذ لذاتها محنة كيفية التلفظ عن مواطن من الاصطدام في طريق التقاطع الأحوالي. نطالع ما جاءت به جوامح قصيدة (أزرق منتصف الليل) إذ كونها القصيدة التي آثرت لدوالها أن ترتفع عن مستوى مسميات الأشياء، دخولا لها في الاعمق من رسومها اللحظية المستفزة، اي انها تأخذ صفاتها التلفظية من مكامن لوعتها العدمية، لتتحرك نحو غمار دهشة الاستنطاقي في حدود المعنى التشذيري للأشياء:

العتمة

تبحث عن النجوم

والغصون

تبحث عن الوردة

أما الحب

فينتظر الرفقة.

منتصف الليل أزرق./ص357

ترتفع درجات المقابلة الشعرية في بناء علاقة حسية، جعلت تحرض المقاصد تثويرا للمعنى في حدود ترسيمة تعنى ببؤرة التشكيل وغواية التقابل المتمخض عن الرغبة، وما تنطوي عليها بذلك المعطى الاولي من فعالية الفقدان. ولا وجود لأي مشكلة في تراتب النسق الموضعي في ديمومة النوع التلفظي، سوى ان استيعاب جملة (منتصف الليل أزرق) قد حلت في حدود وقفة تعطيلية غريبة، بخاصة وان افعال القصيدة قد أعلنت نهايتها:فما معنى هذا الوضع الإضافي في قيمة النقطة التوزيعية التي وقعت فيها هذه الجملة انفرادا؟ فهل هي ذلك النوع من إعادة التصور بتصديرات المركز الدال؟ أم انها حالة مقحمة للمدى الختتامي من النص؟ . لعل قدوم هذه الجملة من ناحية احوالية وكعنونة للنص، لا تؤشر بذاتها لأي حالة استحالية في روابط وجودها العضوي، سوى المزيد من عملية الارتكان في كينونة جملة تحقيق قوامها التقاطع اللفظي والدلالي إزاء باقي جمل القصيدة تحقيقا. أما من ناحية كونها تشغل لذاتها كمحددا زمنيا، فلا وجود في مجالها إلا التعاقد على وحدة إقترانية ظرفية تلاقيا. أقول أن بالإمكان التدليل على ان بروز الجملة في مركز العنونة وفي ختام النص تتم بطريقة قطعية في مساحة البياض أو الاستفهام، ولكن الجملة حلت في مستوى حالة نادرة من خاصية النوع الدلالي المجتزء، وربما تكون هذه الجملة هي من الاسلوب التبوبي في الاستعداد التحفيزي للدلالة المضمرة، ذلك عندما تكون الأشياء ذاتها وبذاتها تشكل حالة الموحى إليه، اي انها ربما تشغل لذاتها مسرحة سياقية في صعيد المداخلة مع جهة الاخر: (العتمة: استعارة-صفة/ تبحث عن نجوم = قصدية التبليغ في المراد إليها من احوال) وعلى هذا تتبين فحوى عواملية جملة (أزرق منتصف الليل) كونها اعتمادا على خاصية ضرورة التلميح والمجاورة، ولكن ضمن مفهوم معطل في الإطار كخصوصية دلالية لها محمولها وغرضها وقصدها المنيع. وتبعا لهذا النحو وجدنا كيفية حصول (تفارقية المواضع، والاوضاع القولية؟) إذ انها تبدأ في تحقيق وشائجية الارتباط في أوجه من مسلمات الخطابية التقابلية بين سياق الجمل، ثم بالتالي تظهر عدم توافقيتها مع غاية الاوضاع القولية وعناصرها الدالة كمتمحورات البنى التقابلية للنص والنصوص إجمالا.

2- بنية العلامة أم ملمحات علاقات المكبوت الدلالي؟:

ان للقصيدة في مجموعة (وحيدا على الساحل تركتني المراكب) جوها كثيرة من التأويل والمعنى المتقلب..اشكالا متعددة، فهي كحاضنة تجمع مختلف ألوان وروائح ونكهات أساليب تجارب الشاعر المنجزة إجمالا، ولكنها لا تعد بمثابة الانموذج الشعري في كل تجاربه الفريدة والمستقرة في النوعية والتركيز جماليا ودلاليا، لتكون هي اللحظة الساقطة من حالات توافقية شديدة التجريب في تجارب اخرى للشاعر نفسه، وليس كل نصوص الشاعر هي جيدة في جل وظائفها ومتحولاتها الدلالية التي نتوقعها بالصورة القصوى. وتبعا لما قلنا سلفا في مباحث سابقة، اي توقفاتنا مع تجارب الشاعر وعلى صعيد مجوعته موضع بحثنا، إذ توافينا منها هالات شائقة من الإحالات والممكنات والادوات الأكثر رؤية في وظائف الرمز والعلامة والاستعارة المسكوكة والسنن، فالبعض من القصائد في هذه المجموعة تعاملات مستفيدة من حدود وخلفية (العلامة- الموضوعة المركبة- الإطر) تماثلا مع كيفيات وتمظهرات ذات العلاقة (الذات- معادلة لموضوعة) بلوغا مأهولا في نطاق حساسية مجردة في الإستجابة الإجرائية في وازعات التمثيل والتجسيد للوظيفة السيموطيقيا.نقرأ هنا قصيدة (الغرور) لنكتشف أن مهام العنونة الايقونية تعاكس محتوى ما جاءت به المقاطع الشعرية:

أثناء ما كنت أسير

عثرت في طريقي

على جناح

ألقت به الريح

بين الحجارة والأوراق الذابلة./ص363

أتذكر جيدا في هذا الصدد، ما تحدث عنه بول ريكور في كتابه القيم (إشكالية ثنائية المعنى) الذي اراد منه في إحدى فصوله، ذلك القول بأن هناك فوارق بين (السميسوطيقا) والتأويلية (الهرمينوطيقا) فراى أنه في الوقت الذي تبقى فيه الأولى منغلقة ضمن علامات، وما يحدث بينها من تبادل للدلالات، بما في ذلك إمكانية حصول التغير المتبادل بين الدلائل، فإن الهرمينوطيقا تبقى ضمن نسق خاص من تفتح العلامات، ولعل القارئ اللبيب يفهم من على هذا النحو ما جاءت به (ثنائية المعنى) على حد تعبير اطروحة ريكور. فالقصيدة تتوحد من خلالها سمات إمكانية في حصول العلامة.بخاصة في قول الشاعر (على جناح.. ألقت الريح) فالمحمول هنا (جناح) كوسيلة دوالية لها من السنن ما يطول كل الجمل التلفظية الإنشائية، لذا مادام مستهل النص يبدأ ب (أثناء ماكنت أسير) فالوازع الإحالي هنا يعود الى أداة المشار إليه بدءا، وليس الى أختزالية دال (الجناح) ولعله هو من الإضافة السياقية، وليس من صيغة المخصوص دليلا، أو هو لربما ايضا الارتياد في التلفظ -إستكمالا- لماهية الموصوف اللغوي في الموضع المشار إليه انموذجا. ولكن ليس ممكنا ان يكون بعد جملة (عثرت في طريقي) مجرد وسيلة في متباينات الوصول التشبيهي او المشبه به، بخاصة وأن الجملة اللاحقة على ورود دال (الجناح) قد جاءت محملة بالتدليل على ان أداة (الجناح) كعلامة مقابلة ل (الغرور) وهذا الافتراض هو من السعة والوضوح على ورود جملة (بين الحجارة والأوراق الذابلة) إذ راحت تعكس لنا هذه الجملة مستوى وحجم العلامة الدالة، على وجود مقامية معنى تفاعلي اخر يحمل وجوها تتوزع وتتعدد في مرجحات طاقتها السيميائية، وتتعادل في مواضع إنتاجها، وليحيل وظائفها الى جملة معادلات موازية لصورة وعلامة الانا العاملية (قلت: هذا صلف الغرور) إذا ان حصولية العلامة تتمظهر لنا محملة بالدلالات الإحالية بطريقة تأبى ان تكون طريقا ملموسا وسهلا، يعاكس علاقتي ( ظاهر المعنى- استبدالية المعنى)خصوصا وإن تحقق العلامات في رحاب الوقائع ليس دائما صياغة شرطية في الإشتراك اللفظي المتاح في محمول المتون النصية، بقدر ما يكون الهوية المتتالية من انحراف ثوابت الأوضاع الى هيئات أوضاعية تكتسي وتكتسب غاياتها من المفعول المفرط للاشياء والذوات كمكونات تأشيرية في مجال وقوعها.

- تعليق القراءة:

لعلنا لا نطمح من وراء دراسة مبحثنا المحوري هذا، سوى بالاقرار بأن ظواهر المعنى بإمكانها من أن تتحول الى ملازمات عديدة من أوجه تعدد الاشكال والانساق والمتون والهوامش، وهذا الامر لايحدث من ناحية قراءة إسقاطية ما، بل تحدث من خلال رؤئ ومعايير قيمية في مواطن تأويلات النصوص الى حصيلة مشروعات في مستوى الثمين من التلقي... أن المقاربة التحليلية في مواجهة الاحتمالات الممكنة والاخرى المنفية في وقائع النصوص، لا تتحقق دون حدوث واقع من إجرائية (المؤول الممكن) وبهذا المؤول نكتشف خفايا وإمكانيات مخبوءة عن أذهان هموم التلقي العابر. لهذا وذاك أقمنا مبررات الاسباب في حصيلة استيعاب جملة محتملات التدليل، امتدادا نحو استبدال مجالات الإنتاج في مستويات المعنى الشعري الممتد الى سلطة معرفية تحكمها الموحيات ومسافة المقاصد المشيدة في خلق متاريس ومستودعات ذوقية من تعدد المعنى في ظواهر المقروء المؤول للمعنى الظاهر والباطن دلاليا.

***

حيدر عبد الرضا – ناقد عراقي

 

تظل الكتابة عموما ومنها الكتابة الأدبية ذلك الفعل النبيل تجاه الذات والعالم وفق الوعي والرغبة في القول والافصاح عن الدواخل حيث الفكرة المشيرة الى الجمال الذي يكتب الكائنات والأشياء والعناصر والتفاصيل في تنوع أحوالها وتلوينات عوالمها وأمزجتها وتحولاتها..انها الكتابة الحالمة والمتقصدة في واقعها رغبة وافصاحا وتشوفا...

والكتابة الأدبية والتي نخص منها وهنا الكتابة الابداعية وتحديدا الرواية هي في هذه المناخات المعلومة زائد توقها الى ابداعية مخصوصة تتطلبها استحقاقاتها الجمالية كجنس له ما يميزه كثيرا من شحنات السردية العالية والتي يتقبلها المتلقي على اختلاف درجات وعيه وثقافته باعتبار ما توفره له من سحر وبهاء في التناول والتعاطي سواء كان ذلك في لباسها الواقعي أوالوثائقي أو الكلاسيكي أو السيرذاتي أو الخيال علمي.. أو الفانتاستيكي.. وهكذا.

ولعل الرواية العربية التي هي حديثة كجنس أدبي فاق القرن على انبعاثه كأدب له فنياته قد مرت بمراحل متعددة لنشهد والى الآن تنوعا وتطورا في هذا النشاط الروائي نشرا وترجمة وبروزا للجوائز المهمة التي زادت من  نسب نشرها وانتشارها حتى خيل للبعض بأنها حلت محل ديوان العرب الشعر في ترتيب أدبي متداول منذ القدم وهو أن الشعر ديوان العرب...

الا أن هذا الفن الروائي شهد خاصة في السنوات الأخيرة ومع تصاعد وتيرة النشر بفعل الجوائز العربية والدولية تراجعا من حيث الجانب العميق والأصيل في الأسلوب وفي صياغة الأحداث وابتكار التيمات وما يسمى بفكرة الرواية ومسارات سردها وغلبت على عديد الروايات المنجزة حالات من التسرع والافتعال واللعب على اتجاهات واشتراطات الجوائز والمؤسسات المانحة لها وعلى غرار السينما تماما صارت الرواية بعيدة بل انحرفت عن بيئتها فكأننا أمام نصوص مبتورة وغريبة عن ذاتها ولا تمنحنا ونحن نعالجها بالقراءة غير هذه النزعات المنبتة بدعوى العالمية وما الى ذلك ولم يبق من تسميتها الروائية غير السرد..انها افتعالات وانفعالات متسرعة فقط..صحيح ان الكتابة تطلب الانفعال ولكن لا بد لهذا الانفعال من أسس وتركيز جمالي في النص ومتعة شاملة تماما كالشعر.. ان الرواية الحق هي التي تسرد أحوالها من شخصيات وأزمنة وأمكنة وتعقيدات وانتظارات وفق سحر بين جمال...و ما الى ذلك في عمق ووعي سردي جمالي فائق وبهاء كامن في عناصرها المذكورة بعيدا عن الافتعال المكشوف... وكل ذلك جميل أن يتوفر أيضا في شعرية هي صميم وجوهر العمل الروائي..3507 الهادي جاء بالله

هذا كله.. وغيره ولا نروم هنا التفصيل أكثر..يقودنا الى محاولات البعض من الكتاب في مجال الرواية الى تمثل طبيعتها كفن سردي والسعي للمضي في أرضها ضربا وتخييلا وكتابة ولكن بنوايا مختلفة مهمة للخروج عن المألوف والمعتاد من تعاطي بعض كتاب الرواية معه وذلك قولا بأن الابداع في الكتابة الروائية هو شأن خاص ويكون خارج القطيع باعتبار روح المغامرة المعنية بها الكتابة الأدبية بصفة عامة ومنها الرواية.

من ضمن هذه المحاولات الجادة التي أخذتنا طوعا وكرها الى ما لمسناه فيها من سعي ورغبة في الخروج ونزوع نحو المبتكر وفق الواقعي والمربك فيه والمشير الى ممكنات متخيلة بحسب الكاتب عبر استقرائه للأحوال في التاريخ والأحداث والأرقام ليكون كل هذا في سياق من شعرية النظر وغرائبية في التعاطي وذهاب في اتجاهات شتى يمتزج فيها الواقعي بالسياسي بالاجتماعي في تلوينات من الخيال والعلم والفنتازيا.. وهكذا...

و نعني هنا رواية الشاعر والكاتب الهادي جابالله الصادرة مؤخرا عن دار عليسة للنشر والتوزيع وعنوانها "رواية "2160 "..

في هذه الرواية يمضي الكاتب تجاه قارئه المهموم بأسئلة العالم في عقوده الأخيرة في تشوف نحو ممكنات حافة هي من قبيل القراءة التاريخية والعلمية لما حدث من تحولات وأحداث كبرى ليقول من خلالها بطبيعة الما يحدث ووحشيته لدى الكائن والطبيعة في سياق من ادانة بينة للانسان..هذا الانسان..انسان هذه الأزمنة ومخاطر والممارسات التي تنسبها هذه الرواية اليه في مجالات الحياة بين السياسي والاجتماعي والحضاري عموما حيث الا|برز هما هذه الجناية على ما هو جميل وطبيعي ونعني الطبيعة بشكل عام..

يذهب الكاتب الهادي جاب الله هنا في روايته ووفق رمزية تخيرها الى مسافات زمنية لحوالي قرن ونصفه ليقول وفق العنوان الدال ودون تفصيل أو تفسير "2160" تاركا هذه العتبة بدلالاتها الى القارئ الذي يعيش زمنه هذا ويتوغل في تفاصيل الرواية وشخصياتها وأحداثها المجال شاسعا ليوائم بين الواقعي والخيالي وقد عايش جانبا مهما من تفاصيل واردة في هذا العمل السردي الذي يرمي من ورائه الهادي الى محاولة الخلخلة فيمستوى الثيمة والنوع الكتابي بعيدا عن الاجترار والمسايرة لما يكتب فقد كانت رغبته بينة في الخروج عن المكتوب الروائي بروح فيها من مغامرات الكتابة الشعرية الكثير والموضوع المتعاطى معه من ذلك بساطة الحكاية المتخيلة والمبتكرة وشخصياتها واطار حواراتها وحكاياتها وأحلامها وذاكراتها لتشمل تنوعا في الشكل  والخطاب وهنا نشير الى ما وقفت عنده الكاتبة والناقدة نور الهدى باديس تجاه الرواية قائلة بأنها "مختلفة عن السائد يحتار قارئها في تصنيفها من حيث توارد الأشكال والأجناس الخطابية...."

كم من المعلومات والمعطيات والاحصائيات العلمية تزخر بها الرواية ويحسن مؤلفها استثمارها في كل مرة حيث يقدم لشخصياته وحكاياتهم المراوحة بين الواقعية والعجائبية وما هو علمي وانساني فالعالم يقبل على متغيرات رهيبة وبحسب الكاتب جاب الله وتبدلات عميقة هي من جوهر تعاطي انسانه (انسان هذا العالم) مع واقعه وأحواله يذهب به كل ذلك نحو الآلة بعيدا عن الحالة تجاه واقع الروبوت والبرمجيات بمختلف تفاصيلها وأدواتها وتمظهراتها..والكاتب هنا وهو يسرد صفحاته ال 138 انطلاقا من كلمات هي " ماذا تعني لي عصارات الأسئلة ومعانيها والاجابات حول كل ما يدور برأسي ورؤوس الآخرين أشباهي الذين ينتسبون الى الكائنات البشرية..." انتهاء الى وبهذه الكلمات بالصفحة 138 "...غير أنهم صنفوها ضمن الوثيقة (انها مدرجة  في الخانة العجائبية التي تطرأ على كوكب الأرض) وسماها آخرون (انها نزر قليل من رائحة الأبدية زارت الأرض في لحظة خاطفة وفارقة قبل أن تعود أدراجها الى مناخاتها الأصلية).. فانه يفصح عن شواسع الحيرة والأسئلة والقلق الناجم عن هذا الذي يدور بخلد الانسان المتجه الى أزمنة 2160 كما أرادت الرواية في نهجها السردي الذي تضمنته وهو يعايش كما من الأحداث الدالة والأرقام المفزعة حيث الانطلاق من عوالم البيئة والمتغيرات المناخية في كل صلة بالإنسان المعاصر ف"خالد" من شخصيات الرواية وهو رجل 170 سنة يأحذنا الى كون الأسئلة في رواية 2160 ومنها  مثلا : ماذا تعني الحقيقة بالنسبة إلي، مقارنة بهذا الرصيد الضخم للبشرية وأفعالها التي تأسست منذ أول ظهور للإنسان المفكر قبل ملايين السنين أسئلة تفضي الى أسئلة أخرى تعري شيئا من حقيقة الواقع لتدين بعضه وتتنوع بتنوع شخصيات الرواية في أسلوب من المزج بين الخيال العلمي  والواقعي والطريف  في نسيج درامي قدام زمن "2160" الذي يشهد تغيرا في الحياة وتفاصيلها كغيرها من أحداث قديمة عبر العصور وفق ما ذكره الكاتب بناء على تحولات شتى وتداعيات مربكة ومنها حدوث "الكارثة الكبرى" بمدينة "رودة" ويأخذنا جاب الله  وبحسب سرديته هذه الى ما يقوله مثلا :  …) لقد أكدت مخابر العلوم الطبية منذ النصف الأول للقرن التالي للحادثة أن إفرازات الحادثة الكبرى الانفجارية في أجزاء مهمة من شمال الكرة الأرضية تمثلت في مادة نتجت من جراء التفاعل الكبير الذي تداخل وفقه الفضاء الخارجي وجزء من باطن الأرض وعمق البحار. هذا التداخل العجيب أنتج مناخا هوائيا جديدا احتوى على مادة جديدة توسطت "الإيدروجان والأكسيجان" وهي المادة التي استنشقتها الكائنات التي بقيت على قيد الحياة والتي كانت مادة وراء تغيير كلي لجسم الإنسان وغرائزه ومذاقاته وجسر حياته المفترض...).

هي فكرة الكاتب ضمن لعبة السرد والأزمنة الغابرة والراهنة والمقبلة ليقول بهذا الانسان المأزوم  الذي يعيش حال ووضع الضحية ولما نجم عنه وعن سابقيه من تعد على الطبيعة ليعايش بالتالي وبالنتيجة مآلات الصنيع والسلوك ولكل ذلك ارتداداته ومنها الأمراض والمآسي والأوبئة والكوارث...انه العجز حيث يقف الانسان حائرا أمام الكوارث والأرقام والتقنية...لينعدم المعنى والاحساس وما هو رمزي وقيمي...

وامام كل حالات التدهور والفراغ لم تعد تنفع المكتشفات ومنها دواء السال سال ففي هذه السردية ورمزيتها العالية يأخذنا الى الفكرة وهي الانسان في أزمنته بين الحالة والآلة..بين الوردة والسكين...

أسئلة حافة بسردية ممتعة تذهب الى الجوهر والكنه وما في أعماق الانسان خوفا عليه ومنه ومن أن يناله الانقراض والاندثار لفعله المشين المنكل بالطبيعة في احالة الى الانقراضات بكوكب الأرض: انقراض العصر الأردوفيسي وانقراض الديفوني المتأخر وانقراض العصر البرمي المتوسط والمتأخر وانقراض العصر الترياسي المتأخر..الروائي والشاعر الهادي جاب الله في هذا العمل السردي لم يعنه حجم الرواية ليكتفي بحوالي 140 صفحة ايمانا منه بكون الكتابة ليست بالكم بل بالفكرة والجوهر وذلك قطعا مع الموضة الوافدة من حيث الروايات ذات مئات الصفحات أيضا هو كتب رواية بقلق مخصوص هو قلق الشعر والشعراء ليضع كل ذلك في اطار جامع لشخصيات وأسماء تبدو غير نمطية على غرار روايات أخرى دارجة وهذه من لعب الشعر والكتابة الشعرية التي تذهب في ثنايا البحث والسعي للابتكار والخروج عن الطرقات الآمنة والمطمئنة..مناطق الرعب على عبارة الدكتور محمد لطفي اليوسفي..

كذلك التعاطي الذي انتهجه الكاتب في هذهالرواية مع ما هو من الأحداث السياسية والاجتماعية حيث ابتعد عن المباشراتية ليرصدفقط ما تناغم مع نهجه الروائي وبذكاء السارد والكاتب.. وجملة عناصر لم نأت عليها جعلت من رواية "2160" للكاتب الهادي جاب الله محاولة نحو الخصوصية والجدية في النظر والوعي والتخييل ضمن الكتابة الروائية الراهنة في تونس فغنم الكاتب عموما والمسكون بهاجس الابداع خصوصا هو السير في هج فني أدبي مختلف ترنو فيه الذات الكاتبة الحالمة القلقة الى الامتاع والاشباع وهي تواجه قارئها..قارئها الشغوف بالجديد.. وما هو متجدد مستفز ومربك ومحير ولكن في غير تكلف وافتعال..

ان الكتابة حية تتطلب النظر بعين القلب لا بعين الوجه حيث الحواس والعناصر والأشياء في تمام يقظتها ووعيها بالعالم وبالانسان وبما هو بينهما من أحوال.و الكتابة هنا وفي رواية الحال التي نحن بصددها أبانت عن تزاحم أسئلة عند السارد في متن"2160" وهي أسئلة باعثة على القلق ودالة علية حيث الاشارة الى صعوبة الامساك بهذا الواقع المتحرك عند الانسان للنأيبه عن عواقبه الوخيمة ولكن قدر الانسان هو السيطرة على ذلك حفاظا على طبعته وطبيعة الأشياء والحياة قتلا للتوحش وما به ومعه وفيه ينتهي الانسان الى رقم..الى مجرد أرقام بلا روح وهوية وذات..رواية "2160" للكاتب الهادي جاب الله هي سفر سردي يروم الاختلاف قولا بالانسان وهو ينتصر للحالة...لا للآلة.

***

شمس الدين العوني

سعدي عبد الكريم الفنان والكاتب المسرحي الذي عُرضِت مسرحياته في العديد من المهرجانات العربية، والتي نالت الاهتمام والجوائز، هو أيضاً الفنان التشكيلي، والناقد الأدبي الكبير، والشاعر الذي خرج عن عباءة مناهج البلاغة الكلاسيكية التقليدية وبيانها وبديعها، البلاغة التي اثقلت كاهل القصيدة العربية قروناً طويلة، ممّا دفع الكثير من الشعراء المعاصرين إلى التسلل من تحت ظلال تلك البلاغة إلى فضاءات أوسع؛ للتخلص من ثقلها الخانق لحرية الشاعر في تأسيس صوته الخاصّ الحرّ المنطلق في عالم اللغة الواسعة الغنية بما تمتلك مفرداتها ومعانيها كنوزاً زاخرة بالصور التركيبية ، والثراء المعنوي والاشتقاقي الصرفي الدلالي، وتعبيرها الدقيق عن الأشياء والأحياء والأحاسيس والأفكار، مما يمنح الكاتب والناطق مساحةً واسعة في القولِ والتعبير عمّا يختمر في نفسه وفكره وأحاسيسه وعواطفه، وبذا تفجّر طاقة الشاعر الكامنة لاستخراج هذه الكنوز وصياغة جواهرها قلائد تزيِّن جِيد الشِعر، وبأبسط الوسائل اللغوية المتاحة لصانع الكلام البديع، وبأسهل الطرق الموصلة إلى ذائقة المتلقي، وبجمالية وبريق يأخذ بالألباب والعقول، ويهزّ الأحاسيس. ثم يستقرّ في نفس المتلقي جوهرةً مُشعَّة، يصونها في حافظته خزيناً جمالياً يهذّب اختياراته، ويقوّم ذائقته، وينقّي روحه ولغته.

ومن خلال ما ذكرتُ أعلاه، حين نقرأ نصوص سعدي عبد الكريم الشعرية، نلتقي بهذه الظواهر والإشارات والصياغات، والقصيدة قيد القراءة مثال.

فأول ما نعثر عليه ونحن نقرأها هي التورية الحاذقة:

الوطن – العراق - هو الأمّ الرؤوم، بمحبتها وغلاوتها، وحضنها الدافئ الحصين، وحنانها وعطفها، وحرصها الشديد وخوفها على أبنائها الى حدّ التضحية بالنفس والنفيس من أجلهم ولخيرهم وسعادتهم وسلامتهم ومستقبلهم المأمول. وحين يكون الوطن مُمثَّلاً بالأم نجد ما يحثُّ الوطنيّ الغيور على أن يهبّ للدفاع عنه الى حدّ التضحية بالغالي  والنفيس، عندما يشعر أنّ الوطن كالأم يحتضنه بحنان ودفء وحرص.

أمّا العباءة السوداء فهي رمزٌ (تورية) عن الأحزان، وإشارة الى الموت بالذات، الموت الذي جرّه تاريخ مليء بالحروب والاحتراب، والأحداث الجسام، وظلم الحكام، والموت الزؤام، وراء القضبان أو بالإعدام، وبانتشار الجريمة المنظمة وغير المنظمة – كما اليوم - إضافة الى الغزوات بسبب الأطماع وغير الأطماع من صراعات المصالح المتضاربة، ممّا راح ضحية كلّ ذلك أرواحٌ كثيرة، وسالت دماء غزيرة، بريئة وغير بريئة، وما زالت. مثلما خلّفتْ خراباً في العمران والأرض هائلاً متعمَّداً ومخطّطاً.

هذه التورية البلاغية هي مركز الدهشة وجمالية النصّ، وإشارة المخيال الفنيّ الثريّ الواسع، والعابر للمتداوَل التقليدى إلى الالتقاط غير العادي، بمعنى ما خلف المنظور الجاهز في اللغة، بتاريخها الشعري المتوارث والمتراكم الصوري والتركيبي فيما تناوله الشعر عبر عصوره المختلفة ببيانه وبديعه المنهجي، وبصياغاته اللغوية المنهجية الصارمة، والقاموسية المُعقّدة، كما وصلنا. لكنّ التجديد، الذي هو سمة المعاصرة بكلّ فنونها وأجناسها، هو في خلق غير المعتاد والمألوف من الميتاخيالية، وصياغة صور تعبيرية صادمة بلاغياً وشعرياً وحسّياً وخيالاً، وذلك بنسج لوحة جمالية تجذب التفاتَ واهتمام ذوقِ المتلقي الباحث عن الجمال، وما يهزّ مشاعره وأحاسيسه ورغائبه، ويُثري خياله، ويُخرجه من دائرة قضبان الماضي المعتقِلة لوعيه ومداركه ومخياله من الولوج إلى فضاء الانفتاح البصري والوعي البصيري، دون الالتفات إلى المغالق والمقالع اللغوية والصياغات الأكسپاير، التي أكل الدهر عليها وشرب حتى ثمالة التخمة الذوقية.

قصيدة الشاعر سعدي عبد الكريم (الخارطة) - قيد القراءة هذه - قصيدة مكثَّفة مُركّزة، يقول فيها الشاعر ويرسم ويصوغ الكثير من قلائد المعاني والصور، وهو ما نكتشفه خلف ألفاظها وتركيباتها اللغوية، وسردها الشعري (فهي قصة شعرية) من غزارة المضمون، وعمق الكلام الذي يلتقطه النظر الاستكشافي، دون أنْ يُدخلنا عبد الكريم في دهاليز التفاصيل المُملّة المترهلة، التي تُفقِد القصيدةَ بهاءها ورونقها، وشعريتها، وحلاوة مذاقها، ودهشتها، ومفاجأتها الفنية، وهي الضربة البلاغية المُحدَثة الناجحة بامتياز في خاتمتها: (رسمتُ أمي...)، وهو ما يُبقيها محفورةً في ذاكرة وحافظة المتلقي الجمالية، والواعية التمثيلية، مثلما تعارف على تسمية مثيلاتها قديماً ببيت القصيد.

***

عبد الستار نورعلي

آذار 2024

....................

(الخارطة)

سعدي عبد الكريم

أذكر حينما كنتُ صغيراً

بعمر عيون جارتنا اللامعة

كنت حينها في الصف الرابع

قال لنا معلم الرسم:

ارسموا.. خارطة العراق

ودون تخيّل مسبق

رسمت امي..

وهي ملتحفة بعباءتها السوداء

***

هناك الكثير ممّن يقتنصون الأشياء، ولكن مع اقتناص الأشياء، علينا أن نعرف كيفية توظيفها ضمن المفاهيم الشيئية، فالعمل الاقترابي بين التوظيف الشيئي في النسق المنظور، وبين الاحتفاظ بالمعاني، تظهر هناك حقيقة الاختلافات، وكذلك حقيقة الاختلاف اللغوي، والاختلاف الدلالي، حيث أنّ الكلمات المتحوّلة لا تحتفظ بالمعنى المباشر، بل ستحتفظ بالمعاني النسقية التي ستكون مناطق عديدة، ومنها منطقة التجريد، ومنطقة الاختلاف، ومنطقة مساحة المعنى المباشر، وفي هذه المساحة تكون المفردات الشعرية قد انحنت أمام الأشياء ومعانيها الحسّية. (أصبح واضحاً أنّنا نفهم كلمة الشيء في دلالة ضيقة وأخرى واسعة. الشيء بالمعنى الضيق يدلّ على ما هو ملموس، مرئي... إلخ، على ما هو قائم أمامنا. أمّا الشيء بالمعنى الواسع فيدلّ على كلّ شأن، كلّ ما يكون على هذه الحال أو تلك، الأشياء التي تحدث في العالم، الوقائع، الأحداث.  السؤال عن الشيء – ص 37 – مارتن هايدغر – ترجمة: د. إسماعيل المصدق).

أشياء بلا ذاكرة: هي العنونة التي رسمتها الشاعرة السورية سهى سلوم، لتقود المتلقي إلى الأشياء بمعانيها المنظورة، وحسب التركيبات السياقية وما أعطته من خصوصيات دلالية، ومنها الدلالة الضيّقة، المحصورة، والتي تحيلنا إلى استقراء يومي بقراءة الشيء أوّلا، وقراءة ما حول الأشياء ثانياً؛ ومن خلال تقييم الموضوع السياقي، تنتمي الشاعرة إلى إيجاد مبادئ التأثر والتأثير بين عناصر تركيب الجمل من جهة، وتركيب النصّ المصغر من جهة أخرى.

بعض الأشياء الجميلة

لا ندرك معناها

ثم نكتشف مدى غبائنا.

حين تعشقني تذكّر

جملة لم تقلها؛

عطراً أضعته بين مزدوجين

قبلة أجّلتها لحين كأس

أنّك لم تغلق أسراري

عليك.

من قصيدة: أشياء بلا ذاكرة – سهى سلوم

من خلال الحياة التي نعرفها، لا نشير إليها من خلال منظور قصصي، بقدر ما تكون حاضنة للحظة التي تُظهر أثر الحدث المار بين العيني، كأشياء خاطفة، أو ذلك الحدث الذي تعلّق بالذات الحقيقية بمتواصل تخييلي. ومن هنا نلاحظ أنّ الشاعرة السورية سهى سلوم قد نسجت حدثها التخييلي من خلال منظور تصويري كان يدور أمام العينين، خرج من ذات تعالقية مع الأحداث العائمة.

بعض الأشياء الجميلة + لا ندرك معناها + ثم نكتشف مدى غبائنا. + حين تعشقني تذكّر + جملة لم تقلها؛ + عطراً أضعته بين مزدوجين + قبلة أجّلتها لحين كأس + أنّك لم تغلق أسراري + عليك.

النصّ عبارة عن جمل امتدادية، تعطف بعضها على بعض، ومن خلال هذه السلسلة النسيجية جلّ ما نلاحظه أن الاستنتاجات النصّية والشيئية هما خلاصة النصّ، لذلك تعتمد الشاعرة سهى سلوم على الأبعاد الشيئية وتقريبها، وهي تبدأ من الدلالة الضيقة وتتسع وتتوسع هذه المساحة من خلال العلاقات الاتصالية، مثلا علاقات الاتصال النحوي، واللغوي، وكذلك المعنى، وهنا يكمن الثقل الاتصالي؛ مثلا جملة:

بعض الأشياء الجميلة = أجابت الشاعرة بصيغة الجمع - لا ندرك معناها... وأحيانا الغباء يخدم المعنى، المعنى المحمول أقصد، وقد جمّلت ذلك من خلال: حين تعشقني تذكّر + جملة لم تقلها... إذن تبتعد الصديقة سهى عن التكرار، وهي توظف الأشياء الحسّية، لكي نتواصل مع الدلالة الحسّية في المنظور النصّي، وهو الاستدلال الوحيد أمامنا.

حين تعشقني تذكّر

تلك الرغبة على حافة المنضدة،

حذائي الذي تشتهي

أحمر لونه

طلائي الفضي

لشاهد الزور.

من قصيدة: أشياء بلا ذاكرة – سهى سلوم

من خلال اكتساب المفردات وتجميعها بلغة توضيحية، نستطيع أن ندخل بكلّ أريحية إلى المنظور النصّي، حيث اعتمدت الشاعرة على مفهوم تعاقب المعاني، وتمركزت جميع النوايا والقصدية في الأشياء التي استهدفتها في النصّ المكتوب.

حين تعشقني تذكّر + تلك الرغبة على حافة المنضدة، + حذائي الذي تشتهي + أحمر لونه + طلائي الفضي + لشاهد الزور.

تميل الشاعرة سهى من خلال (الحبّ الدراماتيكي) إلى عدة مناطق طالما أنّها تذكّرنا بمفردة (تذكّر) لتفيض مشاعرها الداخلية نحو الآخر:

المحسوس الداخلي: وهو لإثارة المخاطَب من جهة، وزرع الحماس والاندفاع والانتباه من جهة أخرى.

التحديات المحيطة: إثارة الدلالة الحسية أكثر وأكثر وهي تتحدّى كلّ ما يحيط بها، أي أنها تنسف البيئة التي حولها.

الالتقاء: ربما هناك فراق ما، واستطاعت أن تغطي هذا الفراغ من خلال لقاءات متقطعة أو تواصلية، وهذا ما يشير إليه النصّ وخصوصاً أن الشاعرة تزرع في كلّ مرّة مفردة (تذكّر).

الرومانسية المثيرة: من الممكن أن تظهر من خلال فعل الإثارة، وهي لحظات العاطفة الجارفة والتصاعد المثير بينها وبين المخاطَب.

كم مرّة متّ على ساعديّ

وبعثتك بالسؤال حياً

لأنّك المرسل إلى العباد الضالين

والعاشقين التائهين.

تذكّر أنّك خيط في ثقب إبرة

لتقطب ثرثرة الكلام،

وقطعة حلوى

تحلق في مرار الحلق.

من قصيدة: أشياء بلا ذاكرة – سهى سلوم

عندما نعدّد أشياء الغرفة، نبدأ بالشيء الكبير الحاضن للأشياء وهو الغرفة، وفيما بعد نحاول أن نتذكر هذه الأشياء الضيقة، الصغيرة منها والكبيرة، ولكن في كلّ شيء، شكلا هندسيا معدّلا يؤدي إلى حقيقة الشيء، ومن هنا لم تعد الدلالة تراوغ بتضيقها، بل تأخذ بالاتساع، لأنّ المساحة المعرفية للغة لا تنحصر بمساحة ضيّقة، لذلك فالأشياء تكون خاضعة للتركيب، ومن خلال التعدّدية الشيئية، تتعدّد الأنساق أيضاً، لذلك تتوسّع رقعة الكتابة وتتحوّل من ثقافة الشاعر إلى ثقافة المتلقي.

كم مرّة متّ على ساعديّ + وبعثتك بالسؤال حياً + لأنّك المرسل إلى العباد الضالين + والعاشقين التائهين. + تذكّر أنّك خيط في ثقب إبرة + لتقطب ثرثرة الكلام، + وقطعة حلوى + تحلق في مرار الحلق.

الكثير من الأشياء ملحوظة في منظور الشاعرة النصّي، وقد شكّلت الحركة الشمولية للنصّ، وعندما أطلقت الأشياء بلا ذاكرة، هذا يعني أنّ هناك شيئاً من التلقائية لازمت النصّ، فالإغفاءة اللحظوية تتوالد بلحظات، وعندها تظهر الكتابة وهي تتواصل بعفويتها، ولكن الذات الحقيقية التي تحتفظ بالأشياء وتخمّرها من الطبيعي من الطبيعي أنّها ستحظر في الأنساق الممنهجة؛ المضمرة منها لغرض التأويل، والتوضيحية لغرض استمرار الدلالات التي توضّح المعاني.

وظفت الشاعرة سهى سلوم بعض البراهين مثلاً: كم مرّة متّ على ساعديّ... ومن هنا جعلتنا على علاقة بين ساعدها والضمير الغائب (هو)، إذن النسق الذي وظفته هو نسق زمنيٌ، وهي تنسج سؤالاً غائباً لشخص غائب أيضاً، لذلك نقول أن فعل القول حاضر، وهو يصيب المرمى الغائب، وحضوره من خلال البراهين التي وظفتها صديقتي سهى، وذلك من خلال بعض الأنساق الزمنية واللغوية.

النصّ بشكل عام، يحمل ذاكرة، ولكنّها أرادت أن تراوغ اللغة فجعلت العنونة من خلال استقلالها، وكأنها تنقلنا إلى الذات (الكانطية) التي تثير الالتباس والغموض.

***

علاء حمد... عراقي مقيم في الدنمارك...

........................

أشياء بلا ذاكرة

سهى سلوم – سورية

بعض الأشياء الجميلة

لا ندرك معناها

ثم نكتشف مدى غبائنا.

حين تعشقني تذكر

جملة لم تقلها؛

عطراً أضعته بين مزدوجين

قبلة أجّلتها لحين كأس

أنّك لم تغلق أسراري

عليك.

حين تعشقني تذكر

تلك الرغبة على حافة المنضدة،

حذائي الذي تشتهي

أحمر لونه

طلائي الفضي

لشاهد الزور.

تذكر

أطراف الكلام

اشتريته مرتين

وحروفاً صقلتها

على لساني ...

تذكر

حلاوة النعاس

على لوح كتفي

وحاصل جمعنا معاً

على وسادة خالية.

تذكر كحل العين

حين أسدل الليل

على حكايتنا.

تذكر فرارنا من الكذب

وجنته،

ونار الحقيقة

التي أشعلت بها

رقصي.

تذكر

كم مرّة متّ على ساعديّ

وبعثتك بالسؤال حياً

لأنك المرسل إلى العباد الضالين

والعاشقين التائهين.

تذكر أنك خيط في ثقب إبرة

لتقطب ثرثرة الكلام،

وقطعة حلوى

تحلق في مرار الحلق.

تذكر

وأنا لك

أنت أجمل الخلق.

***

 

ثمة رحلة سياحية شيقة للعام 2020 إلى باريس مدينة الأحلام أم الدنيا وزمردة المدائن الأوربية وأيقونة الرومانسية والجمال الغافية على ضفاف نهر السين الخالد، وكانت المكتبة المركزية الباريسية أولى محطاتي في جدول برنامجي السياحي، مكتبة مذهلة مثيرة للدهشة كم هائل من الكتب والمخطوطات ولجميع ثقافات العالم وكذا المجلات والصحف وبكل لغات العالم، حيث وقع نظري على: مجلة العربي " التي تصدر في باريس وراقت لي مواضيعها الأدبية والتراثية التأريخية للعالم العربي منها نقدا أدبياً جميلا يرقى لنصٍ سردي مبهر بحق شاعر التصدي والمعارضة " أحمد مطر ":

{... شاعرَلا يقف في طابور، ولم يفتح سوبرماركت، ولا يتقن بيع البضاعة، ولا يدعوك إلى قصيدة غزل ماجنة في جلسة خمر وخضراء وقمر ولا إلى قصيدة مدح في باب السلطان، ولا قصيدة فخرٍ في باب الرئيس الأوحد، ولا قصيدة رثاء يتقمص فيها دور النائحة لأستدرار الدموع، ولا يملك صفراً في البنوك بيد إنهُ من أصحاب الملايين في بورصة: الكلمة الحرة في قصائد التصدي " لرموز(أنا) ربكم الأعلى للنظم الشمولية الدكتاتورية} .

يعتبرويبقى الشعر من أرقى أشكال التعبير اللغوي لأنهُ من أوائل الفنون المحلية والأقليمية والعالمية الجميلة التي تستجيب للطموحات البشرية السوية لعمري هي الرافعة الأساسية في البناء المجتمعي ومآلات أمنياته المشروعة وحضور النهج الثقافي الملتزم والمثقف الواعي والمدرك لمتطلبات شعبه في رغيف الخبزوالحرية الهادفة ولا يخفى أن يرقى إلى (كود) المشفر للتغيير ووضع الجمهور على طريق الألف ميل والتماهي مع خطاب ميرابو الثورات (جيفارا) وهو يحدد سمات المثقف المطلوب للتغيير: (المثقف الذي يلوذ بالصمت أكثر خراباً من النظم المتعسفة)، ونحن بحاجة لفسحة من الأمل بتطلع أنساني مشروع للوصول إلى اليوتوبيا (المدينة الفاضلة) المترعة بالفرد الثوري المصلح الذي سلاحه التصدي والذي سوف يكون حديثنا عن أحد شعراء التحدي والتصدي الشاعر البصري العراقي " أحمد مطر " الذي يعتبر من رواد التحديث والتقارب والتماهي مع الشعراء الكبار، وللبحث عن التكامل الجمالي في أشعاره الأقتحامية المعارضة جعلتهُ يتألق في البحث عن أيحاءات أستلابات الوعي المأزوم بالقهر وآلام أيام الحروب العبثية للطاغية والحصار الآقتصادي الظالم وغياب مفهوم ثقافة أستلابات الحرب التي لا تورث سوى الويلات والدمار والجنائز والمعوقين فشرب منها شاعرنا حتى الثمالة حيث أملى عليه (جني) أشعارهِ قصائد ثرة وثرية من التصدي لطغات أصحاب القرار السياسي .

أحمد مطر شاعر عراقي تولد 1954 قرية التنومة أحدى نواحي شط العرب البصرة، كتب أحمد مطر عن حبه للوطن:

انا

لستُ سعيداً

لأنّي بعيد عن صدى آهات المعذبين،

لأني أحمل آهاتهم في دمي،

فالوطن الذي أخرجني منهُ

لم يستطع أن يخرج مني،

 ولا أحبُ أن أخرجهُ ولن أخرجهُ).

وأرى إن الشاعر يبدو لي متابعاً وقارئاً نهماً للنصوص الأدبية والشعرية بمساحة واسعة مطلا من نافذة العراق أولا ثُمّ الأدب الخليجي فالعربي والعالمي، وبالتأكيد أطلع بشكلٍ جيد على الروايات العالمية والمصرية والسينما الصامتة والمتحركة وموهبتهُ في الرسم الكاريكاتيري كل تلك ظهرت آثارها وبصماتها خلال نصوصه الشعرية، لذا أن دراسة تجربة " مطر " جعلتني واثقاً ومتأكداً أن الشاعر أتقن مفهوم الحرية لذا أني أمام شاعرٌ كبير صنع شخصنتهُ المطرية بمقاسات الكبار المحدثين .

تميّز بتعدد الترحال بعقوبة المنفى القسري، فهو مهجرٌ داخل خيمة وطنهِ وخارجها إلى الكويت الجارة! ثم إلى أرض الضباب لندن الذي أستقر فيها ليكتب أسباب ترحاله:

سبعون طعنة هنا موصولة النزفِ

تبدي ولا تخفي

تغتال خوف الموت بالخوفِ

وأحمد مطر من شعراء المهجر الذين تركوا الوطن دفاعاً عن الوطن، ورضوا بالغربة خشية الأغتراب داخلهِ، متفهما لما عاناهُ الجواهري من كأس المنافي المرْ، ويعبر الجواهري العظيم عن هذه المظلومية: بكيتُ وما على نفسي.. ولكن على وطنٍ مضامٍ مستهانِ .

شاعرنا أعطى للكلمة الشعرية معنى، وشكل مع رفاقه شعراء المهجر هاجس التصدي الذي أقلق الأنظمة الشمولية، فحين أمتزجتْ ظواهر الحياة مع عالمهِ الشعري رسمها في أبهى صورها بنكهة وجمالية خاصة، وبأعتقادي: تلك هي غاية الأدب في الحياة وبدونها تصبح كالماء عديم اللون والطعم والرائحة وهوالقائل:

قصيدة ثارات

قطعوا الزهرة

قالت !

من ورائي برعم سوف يثور

قطعوا البرعم !

قالت:

غيرهُ ينبض في رحم الجذور

قطعوا الجذور من التربة

قالت:

إنني من أجل هذا اليوم

خبأتُ البذور

كامن ثأري بأعماق الثرى

وغداً سوف يرى كل الورى

تبرد الشمس

ولا تبرد ثارات الزهور!؟

أحمد مطر أنسان حرْ متمرد على واقعهِ المذلْ والمهان من جلاديه سواءاً كان في وطنهِ أوالوطن العربي بحكامٍ مدمنين القهر وكم الأفواه وأغتيال الكلمة الحرّة بسياط القوّة والترصد، ولعل "مطر " عبّر ببساطة ولكن بأقتحامية سردية وبنصٍ جريئ يقتحم سور الشمولية المذل وأن يكسرْ حاجز الخوف ببراعة شاعر أعلن حرباً على الرتابة المملة، لذا وصفه نقاد عصرنا المعولم بالحداثوية: أن أحمد مطر " ملك الشعراء" لروائع ما كتب في الشعر المعبر، ويقول: في قصيدة أحتمالات

ربما الماء يروب

ربما الزيت يذوب

ربما يحملُ ماءَ في ثقوب

ربما تطلع شمس الضحى من صوب الغروب

إنما لا يبرأ الحكام في كل بلاد العرب

 من ذنب الشعوب !!!

السخرية السياسية في شعر أحمد مطر، أن السخرية الشعرية فن راقي يحتاج إلى الذكاء والفكر وحركتهِ الديناميكية، فهي سلاح خطير بيد الكبار في النقد والفلسفة مثل المناضل عبدالجباروهبي (أبو سعيد) والأستاذ البصري " جاسم المطير " صاحب المسامير، فأضطر شاعرنا سلوك هذا الطريق الشائك والخطير للنضال ضد جلادي الكلمة الحرة في وطنه الحبيب وعموم الوطن العربي، ولأن الشعر في نظر الشاعر مطر: إنهُ نوع من أنواع الفنون من مهماتهِ التحريض والكشف والشهادة على الواقع، والنظر إلى الأبعد، وهو بذلك يسبق العقل ويواكبهُ ويضيء لهُ الطريق ويحرسهُ من غوائل التضليل، والتفكير بواقع المواطن المؤلم وأزماته اليومية إلى جانب صعوبة التغيير الشامل ألا بالشعر وأقول أنه شاعر أنتحاري ذاهب إلى الحرب بدون أسلحة تقليدية ولكن بسلاح صنعه لنفسه يصعب فك شفرته ألا أحمد مطر، بأعتقادي هذا اللون من الشعر يعني أشعار الثورة والمقاومة . ويقول:

أنا لستُ أهجو الحاكمين: وإنما

أهجو بذكر الحاكمين هجائي

ويقول في قصيدتهِ المشهورة " قهر "

فإذا لم أكتب الشعر أنا

كيف يعيش المخبرون؟

وإذا لم أشتم الحكام

من يعتقلون؟

وإذا لم يسجنوني

لمن تفتح أبواب السجون!

كلهم بأسمي يشتغلون

كلهم من خير شعري يأكلون

وفي أخرى يقول:

كل أبناء السمو والمعالي

تحت نعالي

فقيل لي عيباً فكررتُ مقالي

فأنتبهتُ إلى سوء مقالي

فقدمتُ أعتذاري لنعالي

وهو من مؤيدي التجديد في النقلة النوعية من الشعر المقفى إلى الشعر الحر، القائل:

أعلمُ أن القافية

لا تستطيع وحدها أسقاط عرش الطاغية

لكني أدبغُ جلدهُ بها

دبغ جلود الماشية

حتى إذا ما حانت الساعة

وأنقضت عليه القاضية

يكون جلداً جاهزاً

يصنعُ منهُ الأحذية

وكان رفضهِ للخنوع والذل باللجوء إلى الكويت وأشتغالهِ بجريدة القبس الكويتية التي أعتبرتْ نافذة لهُ يطلُ بها على الجمهور، ولكن المحرر ورقيب الجريدة أستعملا معهُ الفوقية وسياسة لي الأذرع وأستثما ر أمكانياته الأدبية في الأعلام الموجه، ولكنهُ رفض بشدة ولم يستكين،مستمراً على نهجه الرافض للعبودية والتصدي بنشر قصيدته المشهورة:

لفت نظر

السلطان

لايمكن أن يفهم طوعاً

إنك مجروح الوجدان

بل لايفهم ما الوجدان؟

السلطان مصاب دوما

بالنسيان وبالنسوان

مشغولا حتى فخذيه

لا فرصة للفهم لديه

ولكن يفهم

لابد ببعض الأ حيان

أن تسعفهُ بالتبيان

أن تقرصهُ من أذنيه

وتعلقهُ من رجليه

وتمد أصابعك العشرة في عينيه

وتقول لهُ حان الآن

أن تفهم أني أنسان

يا ..... حيوان !

ويعود ثم يعود إلى سلاح التصدي والتحدي والأستخفاف بالحكام العرب المستبدين وأستلابات المنفى يقول في قصيدة (مقيم في الهجرة):

قلمي يجري

ودمي يجري

وأنا بينهما أجري

أوطاني شغلي – والغربة أجري

يا شعري

يا قاسم ظهري

كلمة تقييم: لقد تم يوم 10-2-2024 أفتتاح مهرجان المربد الشعري (35) البصرة دورة " شاعرأحمد مطر" لك المجد والظفروالحسنى يا شاعر المقاومة والمعارضة الوطنية حين يسجل حضورك أهلك البصريون هنيئا وأنت الحاضر الغائب في عكاضك البصري .

***

عبد الجبار نوري - كاتب وباحث عراقي مغترب

آذار 2024

 

(إنني أخرج من العبث بثلاث نتائج

هي تمردي، حريتي وشغفي)

"ألبير كامو"

النص// (كلُّنا سيزيف)

كلُّنا سيزيفُ

رغمَ أنَّنا لم نكبِّل مثلَهُ، إلهَ موتٍ

لم نسعَ مثلَهُ، لحياةٍ أبديَّةٍ

نحن فقط، آثرنا الظلمةَ على النّورِ...

*

آثارُ الأقدام الملوّثة

بروثِ عهرِ التّسلّطِ والطُّغيانِ،

قادتنا في سرنمةٍ،

وعلى الظهور حمّلتنا

صخورَ التّبعيّةِ .

أطبقنا على البصائر

مع صخور نزاعات لا تنتهي...

تدحرجنا

والقاع سحيق..

*

كلنا سيزيف

تكدست أمامنا الهفوات،

كل هفوةٍ كانت أشبه بذرةِ طينٍ

تجمّعت الذّرّاتُ في صخورٍ ...

مع كل سيزيف

هناك مشهدٌ مختلفٌ يتكرَّرُ

هنا وهناك، تنتشرُ الصُّخورُ،

ويستمرُّ العقابُ.

*

هنا سيزيفُ تتمرَّدُ عليهِ صخرةُ الغربةِ،

يضجُّ في صدرهِ الحنينُ للوطنِ

يلاصقُ صخرتَهُ .

عقابُهُ أنَّهُ نسيَ يومًا وطنَهُ

هجره...

وهل يُنسى الوطنُ؟

*

هنا سيزيفُ آخرُ، يحملُ صخرةَ الفقرِ

وفي أحشاء بلاده، كنوز الخيراتِ.

عليك أن تسدد ديونك لإلهِ الجشعِ الذي لا يشبعُ...

لكنْ منْ صنعَ هذا الإلهَ؟

*

هنا سيزيف الممتلئُ أحلامًا ورديَّةً

باعَ أحلامَه بمئةِ دولارِ

في انتخاباتٍ وهميّةٍ!

من يمثِّلكَ يا حالمًا بالجنانِ

سيتركُكَ غارقًا في الأوهامِ.

كم عقابك عسير

في أوطانٍ ماتَ فيها الضَّميرُ!

يا حالمًا عقابُكَ الأبديُّ

حمل صخرةِ الأوهامِ،

ستموت جنونًا،

أو هذيانًا، أو قهرا.

سيّان....

قدْ فاتَ الأوانُ

من يبيع الوطن

تسلب منه الأحلام.

***

القراءة

تعتبر الأسطورة من أهم نتاجات حركة الحداثة، ومن أبرز مظاهر التجديد في الشعر العربي المعاصر ومصدر إلهام للكثير من الشعراء الحداثيين أمثال بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل ونازك الملائكة وغيرهم، الذين وظفوا الرمز الأسطوري في نصوصهم فكان سمة مشتركة بين غالبية الشعراء الذين غرفوا من معينه صوراً فنية أغنت نصوصهم الشعرية وعمقتها فكرياً وجمالياً، لأجل أعطاء منحى تجريبياً في بناء نصوصهم الشعرية، وإثرائها بالدلالات وشحنها بالمعاني الرمزية وإضفاء عليها لمسة فنية وجمالية، حتى أصبحت سمة أسلوبية بارزة في الشعر العربي المعاصر، وأداة من أدواته التعبيرية والجمالية والفنية، فلا يكاد تخلو مجموعة شعرية من الإشارات الأسطورية، كنوع من المحسنات الإبداعية، ومصدر قوة للغة الشعرية، من خلال الصور الشعرية التي تميزها فنياً وجمالياً.

لقد أولت الفلسفة الحديثة اهتماماً بالأسطورة، فهناك تعالق بين الأسطورة والفلسفة، لأن الأسطورة بناء فلسفي وجدت من أجل أحداث مقاربة بين الواقع والخيال. وفي الفلسفة المعاصرة (تقرأ الأسطورة على وجهين، وجه عبثي، ووجه قيمي)، فجاء الأهتمام الفلسفي بالأساطير نتيجة طرح تساؤلات في صيغة إشكالات فلسفية. كذلك هناك تعالق بين الأسطورة والشعر، كلاهما يشكل خطاباً شعرياً على مستوى اللغة والدلالة، مما يجعل من الأسطورة تحظى بمكانة مهمة في الأدب والفلسفة.

لقد عدت الأسطورة فرع من فروع المعرفة يُعنى بدراسة الأساطير وتفسيرها، ووضع لها علم سمي علم الأساطير أو ما أصطلح عليه (ميثولوجيا)، وقد تعددت تعريفات الأسطورة كمصطلح، ومنها التعريف القائل بأن (الأسطورة هي حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان)، "فراس السواح، الأسطورة والمعنى، دراسات في الميثولوجيا والديانات الشرقية، ص14". حتى عدت الأسطورة من أحدث المناهج النقدية، فهي غنية بالقيم الجمالية والدلالية، وممثلة لتراث الحضارات القديمة، التي تحمل تجارب الشعوب ورؤيتهم للحياة، وتتمتع بقداسة في الثقافة التي أنتجتها تلك الحضارات.

لقد قدمت الأسطورة في الشعر العربي المعاصر الكثير من الرؤى والمعاني والدلالات النقدية. فهي بلا شك أن توظيفها في الشعر العربي المعاصر من أهم الآليات التعبيرية والجمالية التي اهتدى إليها الشاعر. وهذا التوظيف للأسطورة جاء تعبيراً عن الواقع، وإعادة قراءة التأريخ من منظور هذا الواقع، أضافة إلى أن (توظيف الشّاعر المعاصر للتّراث يضفي على عمله الإبداعي عراقة وأصالة)، "فريدة سويزف، توظيف التراث في شعر عبد الصبور".

استحضرت الشاعرة "سامية خليفة" أسطورة سيزيف، كثيمة محورية في النص، الذي يعد شخصية أسطورية، فهو أكثر الشخصيات الأسطورية مكراً في الميثولوجيا الإغريقية، وصفه الشاعر الإغريقي الأسطوري "هوميروس" بأنه أمكر أهل الأرض وأكثرهم لؤماً، يُقال عنه كان لئيماً شريراً متمرداً، عوقب لدهائه، وكانت عقوبته مثيرة للجنون، لأنه خدع إله الموت وكشف فضائح ونزوات كبير الآلهة "زيوس" فأغضبه وحكم عليه، فعقوبة أن يحمل صخرة ضخمة من أسفل الجبل إلى أعلى قمته، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، ليعود مرة أخرى يرفعها ويبدأ من جديد، ويظل هكذا إلى الأبد، فأصبح بذلك سيزيف رمزاً للعذاب الأبدي في الأساطير الإغريقية، حتى وصفت هذه العقوبة بأنها (عبثية وحيرة أبدية). يصف "ألبير كامو" هذه العقوبة : (ليس هناك عقاب أفظع من عمل متعب لا أمل فيه ولا طائل منه - فهو يجسد - الهراء والسخف واللا منطقية واللا عقلانية الحياة الإنسانية).

يعتبر العنوان من أهم عناصر النص، فهو يلخص المحتوى ويعطي فكرة عامة عما يتناوله النص. فشكل عنوان النص (كلُّنا سيزيف) عنواناً رمزياً مواكباً للنص وبوابة له. فهو العتبة النصية الأولى و(خلاصة دلالية لما يظنّ الشاعر أنَّه فحوى قصيدته أو الهاجس الذي تحوم حوله)، "عبد الله الغذامي، ثقافة الأسئلة، مقالات في النقد الادبي".

فجاء العنوان مشحوناً بدلالات تكثف المحتوى وتعمق فكرة النص ومضمونه. ومن هذا المنطلق يمكن أن نشخص وجود علاقة جدلية وترابط دلالي وثيق بين النص وعنوانه (كلُّنا سيزيف) بصفته بنية إشارية ونصاً موازياً، يمكن الولوج من خلاله إلى عوالم النص. والعنوان في نص الشاعرة "سامية خليفة" يوجه القارئ مباشرة إلى دلالة العنوان كجملة خطابية تتكرر مرتين، في أول النص وفي منتصفه، فتتعالق مع متن النص الشعري لغوياً ودلالياً. فكان أسلوب التكرار لجملة (كلُّنا سيزيف) مرتين، زيادة في كثافة المعنى وشد انتباه المتلقي إلى دلالاته الأسطورية. لقد أعطت الشاعرة "سامية خليفة" (سيزيف) موقعاً مميزاً في بناء النص وأغنت هذا الرمز، فصار أكثر تكثيفاً، وأكثر إيحاءً. فكان توظيف هذا الرمز، دلالة على عمق ثقافة وسعة اطلاع الشاعرة.

إن قراءة النص تجعلنا نبحث في أجابات لجملة من التساؤلات، نشرها "ألبير كامو" عام 1942 في مقالة له بعنوان (أسطورة سيزيف) ودلالاتها الرمزية والفلسفية، تساءل فيها (هل يمكن أن تحل بالإنسان حياة عبثية أكثر، من حياة عبثية كهذه؟ أوليست حيواتنا التي نحياها في هذا العالم تشبه إلى حد كبير هذا الشقاء الذي حُكم على سيزيف به؟). ونحن كذلك بدورنا نتساءل مع "ألبير كامو"، هل سيزيف وحده الذي يعاني من ذلك العذاب الأبدي؟ وهل سيزيف رمزاً للإنسان المقهور في كل زمان ومكان؟ وهل سيزيف وحده الذي يحمل صخرته دون غيره؟ وما الفرق بيننا وبين سيزيف؟.

النص الذي أمامنا يتشكل من (ست) مقاطع، استحضرت فيه الشاعرة "سامية خليفة" أسطورة سيزيف. تجوب في عوالم أسطورة "سيزيف" من اجل اكتساب دلالات جديدة، توصيل المعنى بشكل أعمق فنياً ودلالياً، وبعث الروح فيه من جديد.

(يقوم الرمز على مبدأ اكتشاف نوع من التشابه الجوهري بين شيئين اكتشافا ذاتياً)، "رماني ابراهيم، الرمز في الشعر العربي الحديث". و"سيزيف" في النص رمزاً لا خلاف حول أسطورته، أرادت الشاعرة أن تضفي على نصها بعداً أسطورياً فهي ترى في توظيف أسطورة سيزيف معادلاً موضوعياً لمعاناة الإنسان، فكـانت تبحث في المشتركات بين رمزية الأسطورة ومكونات الواقع واتجاهاته، فتضفي على الواقع سمة أسطورية حتى يبدو شبيهاً بالعالم الأسطوري.

يرصد النص وبأسلوب رمزي، الواقع ودلالاته وايحاءاته وفق رؤية فنية وجمالية ودلالية تكشف عن تناقضات هذا الواقع. فقد جسدت الشاعرة في النص الآلام الروحية والنفسية التي يكابدها الإنسان وما تحس به الذات من معاناة، وإثبات أن هذه المعاناة لا نهاية لها، فحال الإنسان في هذا الواقع كحال سيزيف وهو يحمل صخرته. لفظ (الصخرة) تكرر (ثمان مرات) في النص (صخور التبعية/صخرة الأوهام/صخرة الفقر/صخرة الغربة/صخور نزاعات)، فمثلت معاناة الانسان وثقل (التبعية/الأوهام/الفقر/الغربة/النزاعات).

سيزيف ظل يحاول أن يوصل الصخرة للقمة، مع أدراكه أن مهمته أبدية، إلا أنه استمر في المحاولة، رغم السقوط، فهو لا يكل ولا يمل من المحاولة. أما سيزيف (الإنسان المعاصر) يعاني من المعوقات التي تعيق وصوله الى الهدف، فهو يعاني من أعباء حمل (صخور التبعية)، وسيزيفُ آخر (تتمرَّدُ عليهِ صخرةُ الغربةِ/ يضجُّ في صدرهِ الحنينُ للوطنِ)، وآخر أطبقت عليه (صخور نزاعات لا تنتهي)، ثم (سيزيفُ آخرُ، يحملُ صخرةَ الفقرِ/ وفي أحشاء بلاده، كنوز الخيراتِ). و(سيزيف الممتلئُ أحلامًا ورديَّةً/باعَ أحلامَه بمئةِ دولارِ/ في انتخاباتٍ وهميّةٍ!)، وسيزيف أخر (حمل صخرةِ الأوهامِ) الذي سيموت (جنونًا، أو هذيانًا، أو قهرا).

فالصخرة لم يعد يحملها "سيزيف" وحده بل يحملها كما يقول الشاعر المصري "أمل دنقل"؛ (سيزيف لم تعد على أكتافه الصخرة، يحملها الذين يولدون في مخادع الرقيق)، فهو عنده رمزاً لإستعباد الإنسان وقهره. أما "ادونيس" في قصيدته (رسالة إلى سيزيف)، أقسم أن يحمل الصخرة كما حملها "سيزيف"؛

(أقسمتُ أن أحمل مع سيزيفْ

صخرتَه الصمّاءْ

أقسمتُ أن أظلّ مع سيزيفْ)

أعتمدت الشاعرة "سامية خليفة" تقنية التداخل بين مكونات النص، حين أفرغت تمظهرات الأسطورة وسكبتها في جميع أركان النص (سيزيف/إله موت/الصخرة/العقاب/تدحرج/ القاع)، لأنها رأت في أسطورة سيزيف مثلاً يحتذى به، في تشخيص الواقع، فاستطاعت أن تفجر دلالات النص التي استوحتها من الأسطورة.

حاولت الشاعرة "سامية خليفة" أن تجعل من الأسطورة أداة جمالية تخدم الـنص الشعري، وتساعد على إثراء‌ الدلالات لتعميق المعنى الشعري، لان البناء الفني للنص اعتمد البناء الأسطوري وفق رؤية الشاعرة وقدرتها على استيعاب الانزياحات الأسطورية واسقاطها على الواقع.

إن للنص صياغاته الجمالية والدلالية، من خلال الصور الشعرية واللغة الإيحائية، التي أعتمدت الخيال، وتوظف اللغة.

عند التدقيق في النص نلاحظ أن (سيزيف وصخرته) يشكلان نقطة ارتكاز في أحداث النص التي تتموضع في حيز واحد يتجلى في تساؤلات "ألبير كامو" الوجودية ربما يكون هذا التجلي تجسيداً حياً لعالم عبثي، فوضوي بلا جدوى ولا معنى، (إن العبث لا يأتي من كون العالم عبثي، بل في عدم خضوعه لمعايير العقل والعقلانية).

الشاعرة "سامية خليفة" لا تكتفي بسرد الأسطورة أو ذكر أسمها، بل تعيد قراءتها وفق معطيات وجودية معاصرة بمساعدة أدوات (التشبيه والأستعارة والکنایة).

إن تأثير النص يكمن في اللغة التي تثير القارئ الذي وجد نفسه أمام شحنة دلالية وإنفعالية من خلال تفكيك الأسطورة وتقديمها إليه، مع بساطة اللغة وعمقها وسهولة الوصول إلى مضامين النص، لتجسيد المأساة والإحساس بالتذمر والمرارة أمام ما يحدث من فوضى عارمة وإحباطات وانكسارات الواقع.

هناك توافق في الدلالة الرمزية والمعنى في محتوى النص مع ما ذهبت إليه اسطورة سيزيف، لقد استثمرت الشاعرة أسطورة سيزيف بحمولتها الدلالية، الشيء الذي ميز النص في مستواه الفني والجمالي، وعمق معانيه على المستوى الدلالي ومنحه قوة التأثير عند المتلقي. ألسنا في الوقت الحاضر (كلنا سيزيف)، فما أشبهنا بسيزيف!! وما اشبه همومنا بصخرة سيزيف، بكل ما تعنيه من عذابات رمزية. فنحن نحمل كل يوم صخرة ثقيلة إلى القمة، رغم علمنا أن مصير تلك الصخرة هو السقوط، التي تأبى الاستقرار في قمة الجبل.

تتكئ الشاعرة "سامية خليفة" في كتابة النص على قوة خيال الأسطورة في التشبيه والأستعارة، والتراكيب اللغوية في النص، والبحث في معاني الأسطورة ودلالاتها. لقد لامست في نصها ذات الشكل السردي الانزياح الأسطوري والإشارات الحسية المجازية لامست الواقع والإحساس بمأساة الإنسان، والتوغل في اعماق النفس، والأخذ بالقارئ إلى دلالات النص، لأن بطلها غارق في الحزن والبؤس.

يبقى النص غني بمادته الشعرية ذات الآفاق والإيحاءات المتعددة (النفسية والوجدانية)، وذات الرؤية الفنية التي تتناغم مع مكونات النص، وامتزاج الواقع مع الخيال، من أجل نقل المتلقي إلى عالم شعري غير مألوف في إطار رمزي تتكشف فيه صورة الإنسان المعاصر المقهور الذي يعاني حالة التمزق.

***

بقلم: حسين عجيل الساعدي

المكان هو الأساس وكلّ ما عَداه ظلال له

ما بين عبد الرحمن منيف وواسيني الأعرج

يُذكّرني واسيني الأعرج، بعد قراءتي لبعض رواياته، وخاصّة روايتيه "مَيْ، ليالي إيزيس كوبيا، ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية" (الدار الأهلية 2018) و "عازفة البيكاديللي" (دار الآداب2023) بعبد الرحمن منيف صاحبِ المشروع الروائي الضخم وخماسية "مدن الملح". عندما قال في حواره مع الروائية سلوى نعيمي إنّه "اختار في بداية طريقه العمل السياسي مؤمنا بالمؤسسة السياسية وقَناعاتها ومَقولاتها السياسيّة حتى اكتشف أنّ الواقعَ غيرُ ذلك وأنّه خُدع، فبدأ البحثَ عن أشكال جديدة لمُواجهة العالم ومحاولة تغييره، سواء أكان ذلك في العمل السياسي أو العمل الفنّي حتى وصل إلى اختيار الرواية لأنّها تستطيع مُلامسة القضايا الأساسيّة التي يحتاج الكثيرون إلى التّعرّف والتفاعلِ معها، لكي يرَوْا أنفسَهم وما حولهم بشكل أفضل، وربما أعمق ممّا تبدو للوهلة الأولى. (في حوار منيف مع الكاتبة سلوى النعيمي مجلة الكرمل 1983 وكتاب "الكاتب والمنفى" 1992 ص163)

ويقول واسيني الأعرج "لا نستطيع أنْ نركض بنفس القوّة في مَجالين. إمّا أنْ تأخذَ مَسارَ الرواية أو تأخذَ مَسار البحث الأكاديمي. ما يعتمل داخلي هو أقربُ إلى الحرية أو إلى جنون الرواية، لأنّ الرواية هي فعلٌ حُرٌّ بشكل مُطلق بينما العمل الأكاديمي هو عملٌ مُسَطَّرٌ مَنهجياً ثقافياً ولغوياً بحيث يصبحُ من الصّعب أنْ تجمع بين ما هو مُنضبطٌ أكاديمياً وبين ما هو حرٌّ إبداعياً. من هذا المُنطلق، كان عليّ الاختيارُ في لحظة من اللحظات وأنا اخترتُ الرواية. " (في حواره مع الكاتبة سلام ناصر الدين محرّرة مجلة "كل الأسرة" 8يونيو 2023).

* وواسيني الأعرج في روايته "عازفة البيكاديللي" يُتابع رصْدَ الأحداث والشخصيّات ليُسجّل تاريخها ويُعيدها للذاكرة الجماهيرية لما في ذلك من أهميّة لحفظ الذاكرة وتحفيزها لصيانة الأمّة وتاريخها. هكذا فعل في روايته عن مي زيادة وفي عازفة البيكاديللي وأخيرا مع "حيزية" العاشقة البدوية الجزائريّة التي أثارت قصّتُها ولا تزال خيال الشعراء.

رواية "عازفة البيكاديللي" تسير في خطّين مُتداخلَين.

* الخطّ الواقعي الذي فيه نُرافق ماسيني الصحفيّ الجزائري الذي يقوم بإعداد كتاب عن حرق مسرح البيكاديللي في بيروت يوم 19 آب 2000

* والخطّ التَّخييلي الذي فيه تروي لينا عازفة البيكاديللي قصة حياتها ونبوغها وحبّها ليونس الشاب المسلم رغم معارضة أهلهما. الذي اتفقت وإيّاه تحَدّيا للأهل والعادات على الاحتفال بفَضّ بكارتها، لكن يونس لم يحضر للقاء لموته في حادث طرق. وإنما كان ماسي الصحفي الجزائري الذي التقته صدفة مَن قام بفضّ بكارتها.

واسيني بنى خطَّه الدرامي على صدفة اللقاء بين ماسي ولينا والليلة الليلاء التي قضياها معا، واعتبر الشخصيتين محورَ النّصّ، حيث تقوم لينا بكتابة مذكراتها، بينما ماسي يُعدّ كتابه عن حريق البيكاديللي..

في قصته وبحثه عن مسرح البيكاديللي يصوّر ماسي المصاعبَ والعقبات التي صادفته في عمله. بينما في قصة لينا تُواجهُنا بمختلف القضايا الاجتماعية التي يعاني منها مجتمعنا العربي:

الزواجُ المختلط.

فضُّ بكارة الفتاة قبل الزواج.

تصرّفُ بعض رجال الدين الفاسدين المُرْتَشين.

عملُ الفتاة وخروجها من البيت وعلاقتها بالشباب.

النزاعات المَذهبية والدينية والفكرية.

الموقفُ من القضية الفلسطينية.

وبينما كان ماسي يكتب تاريخ بيروت ومسرح البيكاديللي. كانت لينا تمنح الحياة لكلّ مَن حولَها.

ماسي يحكي قصة بيروت والبيكاديللي والطريق الصّعب لتحقيق انجاز كتابه، ومعه نتعرف على سيرتا وبعض الناس الذين التقاهم، وعن حالة البيكاديللي وبيروت قبل وبعد الحريق والتّفجير.

لينا تتجه نحو العالم الافتراضي الخيالي بحياتها الفنية وسيرة حياتها، ومعها نلتقي بابنتها إيما وزوجها أنطوني وحبيبها يونس.

لينا تعيش في استرجاع أحداث ليلتها مع ماسي، وتكون لها اللازمة التي تُلاحقها في كل تحركاتها.

المكان والزّمان والإنسان ركيزة الرواية

حتى تتحقّقَ الحياة وينبني المجتمعُ ويَعْمُرَ الكونُ لا بدّ من تلاحم ثلاثةِ عناصرَ أساسيّةٍ هي: المكانُ والزَّمان والإنسان.

فإذا نقص أحدُها اختلّ التّلاحمُ وتعطّل المجتمعُ وتدَمَّر الكون.

لكنّ المكانَ يظلّ الأساسَ والعامودَ الفقري في هذا البناء، لأنّه الباقي الحيُّ ولو دُمِّر وأُزيلَت أثارُه، فيظلّ في الذاكرة خالدا، وفي المشاعر راسخا ينتقل مع الأبناء والأحفاد من جيل إلى جيل، يُثير الحنينَ ويبعثُ الشوقَ ويشحنُ العواطف.. بينما الزمنُ دائمُ التّغير، لا يثبتُ على حال، ومع تغيرّه يجلبُ الكوارثَ والمصائب، ويُبدّلُ حالَ الناس من حال إلى حال فتتقَطّعُ الأواصرُ، ونظلّ في خوف ممّا سيكون، كما ويُبعثرُ المكانَ، وقد يدمّرُه، وقد يؤدي إلى محو كلّ أثر له.. أمّا الإنسانُ فهو الأضعفُ في هذا البناء لأنه يكون أسيرَ المكان وعبدَ الزمان، فالمكانُ يُقيّدُه والزمانُ يتلاعبُ به ويرميه من حالة إلى أخرى. لكنه رغم ذلك فهو الذي يُعطي للمكان دِفأه وقيمتَه وقُدسيتَه وللزمان نكهتَه وشذاه، ويجعلُه المِشْجَبَ الذي يُعلِّقُ عليه آمالَه.

وكاتبُنا واسيني الأعرج أدرك قيمةَ هذه العناصر الثلاثة في تَشكيل وبناء روايته "عازفة البيكاديللي" وأبدع في الدَّور الذي رسمه لكلٍّ من هذه العناصر ِالثلاثة: المكان والزمان والإنسان.

ورغم أنَّ مسرحَ البيكاديللي، مَنْ دمّره الحريقُ الذي أُشْعِلَ فيه عام 2000 كان الدّافعَ لكتابة الرواية، وظلّ محورَ توالي الأحداث، ومركزَ الاهتمام، إلّا أنَّ الكاتب جعله يأتي في المرتبة الثانية من عنوان الرواية وسلَّط اهتمامَ القُرّاء والمُهتمين إلى الفتاة الجميلة التي تعزف على البيانو انطلاقا من إحساسه بأنّ هذه الفتاةَ الجميلةَ المُتفجّرةَ أنوثة وجَمالا هي مَنْ تشُدّ الناسَ وتجذبُهم وتأسرُهم وتأخذُ بهم لحَفْلِ إحياء مسرح البيكاديللي الذي أحرقته اليدُ الآثمة.

لمسرح البيكاديللي المكانةُ الخاصّة عند واسيني الأعرج سنوات كان يدرس في دمشق يوم شدّه إعلانٌ في جريدة عن عَرْض مسرحية "بترا" لفيروز على مسرح البيكاديللي في بيروت، وكيف خاطر يومها، وكانت الحربُ الأهليةُ مُستعرةً في لبنان وفي بيروت خاصّة، حيث سافر مع صديق فلسطيني وحضر العَرض، ويصف سحر مسرح البيكاديللي وجمالَه وأناقةَ الرجال وخاصّة النساء الجميلات وعطرَهن الأخّاذ.  وقصّتَه مع الفتاة السّاحرة التي ظهرت له فجأة ففجّرت فيه كلَّ مشاعرِ الحبّ والمُغامرة، وأخذته إلى غرفة الفندق الذي يقيم فيه، وقضى معها ليلةَ عشق وحبّ وجنس لا تُنسى.

والبيكاديللي هو اسم مستوحى من أحد مسارح لندن الشهيرة، "بيكاديللي سكوير" وكان أول صرح فني ثقافي في شارع الحمراء، وأحد أهم المسارح البيروتية وأضخمها، وارتبط اسمه لاحقا بفيروز والأخَوَين الرحباني، الذين قَدَّموا أعمالَهم على خشبته.

وفي العام 2000 شبّ حريق داخله وأتى على معظم محتوياته النفيسة، ما أدّى لإغلاقه.

وبإغلاق هذا المكان، أُغلقَت جميع المقاهي الثقافية من حوله، والتي كانت تضم المثقفين العرب من كافة البلدان العربية، وذهابُه جعل كلَّ شيء يندثر من حوله، فالخساراتُ كبيرة في هذا السياق، وفقا للكاتب لواسيني الأعرج.

في روايته "عازفة البيكاديللي" أراد واسيني الأعرج الوصولَ إلى حقيقة الأسباب وهويّةِ الفاعلين الذين أقدَموا على إشعال النار في مسرح البيكاديللي. فهو لم يستوعبْ موتَه أبدا، لأنّ البيكاديللي رمزيّةُ بيروت التي تقوم في كلّ مرّة من رمادها كطائر الفينيق. (ص9).

ويشرح واسيني الأعرج سببَ اهتمامه بإحياء ذكرى مسرح البيكاديللي لأنّه كان يجمع كلّ القِوى المُتناحرة في الحرب الأهلية، جمع أناسا من اتجاهات مختلفة في زمن كانت فيه بيروت عاصمةً كوزموبوليتية وعربيةً وديمقراطيةً وحاضنةً جميلة. ويرى أنّ مَحْوَ معالمِ المكان تدميرٌ لذاكرةٍ لبنانية وعربيّة وإنسانيّة، ويقول مؤكّدا: أنا واحدٌ من جيلٍ لا يُريد لذلك العالم أنْ ينتهيَ، وعملي حفظُ الذاكرة من التّلف.

يروي واسيني كيف عاد ليفكر بمسرح البيكاديللي رغم أنّ عودتَه إلى بلده في الجزائر وانخراطَه في العمل الأكاديمي والإبداعي أنساه سنواتِ دراسته في دمشق وجمالَ بيروت ومقاهيها وسحرَ نسائها وشذى عطْرِهن. لكنّ إعادةَ ترميم قاعة "الماجستيك" التي أقيمت سنة 1930 في الجزائر، وكانت تتَّسع لعشرة آلاف شخص، فيها تُعرض الأفلامُ السينمائية والمسرحياتُ والعروضُ الفنيّة، وما رافق ترميمَها من ضجّة حول تغيير اسمِها لـ "أتلاس" شدّ انتباهَ واسيني وتابع الأخبار، وبدأ يبحث في تاريخ هذا المسرح، لكنّ أخبار احتراق مسرح البيكاديللي في بيروت يوم 19 آب 2000 وما كان له من صدى وتأثير في كل عواصم العالم العربي وحتى الغربي أثار في واسيني حنينَ الماضي، وعاد به إلى سنوات السبعين وتلك الفتاة السّاحرة التي كانت تعزف على البيانو، والتي، كما ردّدت الصحفُ، هي نفسها التي كانت تعزف وظلّت تعزف ليلة الاحتفال بإحياء ذكرى حريق البيكاديللي مساء 4.8.2020 رغم صوت الانفجارات التي دمّرت ميناءَ بيروت ومعظمَ البنايات في الأحياء القريبة منه. فاستصغر ما يُشغلُ الناس في بلده الجزائر حول تغيير اسم مسرح الماجستيك باسم أتلاس مُقارنة بما يُمثّله احتراقُ مسرح البيكاديللي في بيروت، وما يعنيه ذلك من تدمير وحَرقِ حضارةِ أمّة وتراثِها وحاضرِها. فشدّ الرحيلَ، وسافر إلى بيروت وبدأ عملية بَحْث سيزيفيّة ليكتبَ قصة البيكاديللي.

وهكذا يعود المكانُ مُمثَّلا بمسرح البيكاديللي ليحتلَ مركزَ الصّدارة وبؤرةَ الاهتمام عند ماسي الصّحفي الذي جاء ليكتبَ قصة البيكاديللي ويُعيدَه إلى ذاكرة الناس ومُحبي الفن والأدب والموسيقى والجمال. فيصف لنا مشاويرَ العذاب التي سارها مُتنقلا من مكان إلى آخر ليُلملم كلَّ خبر أو معلومة عن البيكاديللي، وكيف استعان بالعديد من الشخصيات رجالا ونساء، ووَظَّفَ كلَّ ذكائه ونشاطه ليَدخلَ المسرح، ودائما كان يُصَدُّ من قبل الحارس السّوداني حتى كانت الفرصةُ ونجح في دخول البيكاديللي وصوّرَ كلّ ما أراد تصويرَه ليكونَ شهادتَه ووثيقتَه في روايته لقصة مسرح البيكاديللي.

  المكان والزمان هي أسس مهمة في الروايات فنرى أنّ واسيني منح المكانَ الحياة والروحَ، وجعل بيروت ومسرح البيكاديلي ليست مجرّد مكان من حجر وأسمنت، فمدينة بيروت بتاريخها وحضارتها وواقعها، ومسرح البيكاديللي الذي مثَّل حالةً ثقافية ومَعلَما مهما يُؤرِّخ لمرحلة في غاية الأهمية لبيروت ولبنان والعرب عامّة.

وكانت بيروت الجَرح الدّامي

ماسي الشخصية الرئيسة في الرواية وراويها، والذي عاد إلى بيروت من أجل كتابة كتابه عن البيكاديللي "بدت له بيروت غريبة، ليست تلك التي دخلها أول مرة بجنون عام 1978"، وهدّأته كلمات صديقته سيرتا “أنتَ عُدتَ تبحث عن بقاياك في بيروت التي لم تعد بيروت التي عرَفتَ، وعن مسرح البيكاديللي الذي يَدٌ جهنميّة مَحَته من الذاكرة” وهذا الكلام ينطبق على بيروت المدينة، فمَن يعرف بيروت في السابق ويراها الآن يشعر كم حجم الخراب الذي يسودها، وخاصة بعد تفجير الميناء وتحوّل حركة البواخر إلى مدينة حيفا ، وهذا ما تُؤكده سيرتا بقولها: “قبل أن يحرق كل شيء بضربة قاتلة لم تستهدف فقط المكان، ولكن البلاد بأسرها”.

ويقول ماسي: "من ساعة ما وصلت وأنا أدوّر في بيروت عن أمكنتنا القديمة، ما وجدت إلّا الفراغات القاسية، كل معالم بيروت انسحبت مُخَلِّفةً وراءها ظلالا باردة، وأمكنة لم تعُد معروفةً، أو تغيرت هويتُها"، ويتحدث عن الأمكنة التي تغيّرت في بيروت عبر تاريخها، وعبر الحرب الأهلية التي قسمَت بيروت على الهوية وأضاعت الكثيرَ من الأمكنة والمقاهي التي ضمَّت المثقفين والمُبدعين وغيرهم، ويتجلّى ذلك حين طلب افطارا لبنانيا فقالت سيرتا: "خَلّيني اسألهم إنْ بقي شيء لبناني في لبنان" وفي هذه العبارة لخَّص الكاتب مشكلةَ لبنان الذي عملت أطرافٌ كثيرة على تغيير ملامحه وشطب هويته وخاصة في بيروت، "بيروت النائمة على البارود، يمكن أنْ تصبح في ثانية واحدة مدينةً متوحشة تقتل بجنون، وببرودة مُحيِّرة، ويُمكنها أن تتحوَّل إلى حفنة رماد في لمح البَصر، لا شيء في هذه المدينة مضمون، ربما تلك أهم صفة فيها، وبيروت مدينة تنام في الفراغ، امرأة ميّتة، لا تنتظر إلّا الدَّفْن".

"بيروت تقسو أحيانا بلا رحمة على عشاقها، شيء ما في هذه المدينة يشبه الغرابة، ينتصر دوما، بيروت في حرب دائمة مع نفسها، أرض ينبت فيها كل شيء، الورد والشوك معا”، فهي بيروت التي تجاوزت تفجيرَ الميناء هذه الكارثة التي "كادت أن تمسح مدينةً بكاملها عن الخريطة"، وهي كما تقول سيرتا: "بيروت ليست مظلمة إلى هذا الحدّ"، ومع ذلك فهي "مدينة تمنحك كلَّ يوم مئات الأشكال من الموت المنتظر"، وتقول أيضا مستغربة من عشق ماسي لها: "لا أفهم بيروت! كلما ظننتُ أني فهمتها بعمق، وجدتني على الحافة أتسوَّل إجابة ممَّن عرفوا المدينة قبلي".

امّا وقد حسَم الكاتب واسيني الأعرج موقفَه من العلاقة التّرابطية المُتداخلة بين المكان والزمان والإنسان، وقدّم العنصرَ َالإنسانيّ على المكانيّ، مع ادراكة لقيمة المكان وتفوّقه، وجعل العنصرَ الزّماني مُراوحا بينهما، يرمي بسهامه فيُدمي ويُحزن ويُشتْتِتُ ويُدمّر، وأحيانا يُغري ويخدع ويوقع ويسحر، إلّا أنّه كان واضحا وصريحا في المَزْج الرائع ما بين التّخييلي والواقعي في سَرْده للأحداث ووصفه للشخصيّات وبنائه المُحْكَم للرواية ولغتِه المميّزة التي تنساب رقراقةً ناعمةً تأخذُ بعقل ومَشاعرِ  القارئ، فإذا ما ملّ الوصفَ التّفصيليّ والمُكَرّر أحيانا، ولم يحتملْ سماعَ كلام بعض الشخصيّات في بعض المشاهد، ينتقلُ به ليستعيدَ ويعيشَ أحلى لحظات الحبِّ وهيَجانِ العاطفة وانتفاضة الجسد وسحرِ الكلمات وإيقاعِ الحروف وعَزْفِ الموسيقى في تلك الليلة الليلاء، فتدبُّ الحياةُ فيه ويُعلن مُعترفا أنّ على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة.

رواية "عازفة البيكاديللي" كما ذكرتُ سابقا، ارتكزت على ثنائيّة بطليها ماسي الصحفي الجزائري الذي اهتمّ بما حدث لمسرح البيكاديللي من حريق أدّى إلى إغلاقه فقرّر أنْ يكتب كتابا عنه، ولينا الفنانة التي كانت تعزف على البيانو في مسرح البيكاديللي منذ كانت في العاشرة من عمرها. رواية بُنيت على الحقيقي حيث تبدو كتابا سرديّا يُسجل تاريخ المسرح منذ بنائه وافتتاحه عام 1966 في شارع الحمراء في بيروت حتى إحراقه عام 1978، والتّخييلي منذ نتعرّف على لينا ساعة عزفت على البيانو وهي في العاشرة من عمرها، ونقرأ قصةَ حبّها لماسي، وتلك الليلة السّاحرة الصّاخبة التي قضَتها معه وهي في الثامنةِ عشرةَ من عمرها، ونُرافقُها حتى اللحظات الأخيرة من حياتها عام 2023، لينا التي ارتبطت حياتُها بالبيكاديللي وبمسارحَ بيروت.

شخصيات الرواية

اهتم واسيني الأعرج من الصفحات الأولى لروايته أن يذكر ويشكر كلّ الذين ساعدوه في جَمْع المعلومات والوثائق عن مسرح البيكاديلي، والذين سهّلوا له الطريقَ للوصول إليه ودخولِه. حتى الحارس السوداني الذي مَنَعه من التَّسلل للمسرح لم يغضب منه، بل على العكس جعلنا نتعاطفُ معه ونحزنُ عليه بعدما أُصيبَ بشظيّة أودت بحياته. كذلك مع شخصية أنطوني زوج لينا ووالد إيما رغم أنّه الذي كما تؤكّد لينا مَن أحرق مسرح البيكاديللي إلّا أنّها تُخفّفُ من اتّهامها بعَرْضها الأسبابَ التي دَعَته لذلك مثل قَتْل شقيقه بعد تعذيبه على يد أفراد من الميليشيا المُعادية، فقام وقتل أناسا لم يكن يعرفهم انتقاما لأخيه، وأنّه كان مُصابا بعَمى الأحقاد. يكره المسيحي الذي لا يُشبهه. يكره المسلم. يكره اليمين واليسار على حدّ سواء. يكره السوري، والفلسطيني، واللبناني السّني، والشيعي، والمسيحي. يكره العربَ الذين جعلوا من مدينة فينيقيّة اصطبلا لحروبهم وخلافاتهم، ومن حين لآخر كان يصرخ:

-اطلعوا برّا من أرضنا وتقاتلوا، اذبحوا أنفسكم، بس ابتعدوا عنّا. (ص254).

وفرح باحتلال الجيش الإسرائيلي لبيروت والجنوب اللبناني وخاطب زوجته لينا:

-ما بفهَم. ليش أنتِ زَعْلانة. شو يا اللي مْزَعْلك حبيبتي؟ أنا ما قلت شيء إلّا صَّحْ. عدوّ عدوّنا صديقنا. اتركيهم يقتلوا بعض. نسيتِ أنّوا السوريين والفلسطينيين هم مَن قتلوا أهلي وعذّبوهم في البوريفاج؟ (ص258).

وأيضا غضبُه وحقدُه على زوجته لينا لأنها أحبّت رجلا قبلَه ووهبته عذريّتَها وأخفت عنه سرّها وتجاهلت سؤالَه لها مرتين:

- لمَنْ أعطيتِ عذريّتَك؟

وكان يترك البيت ويعود مع الفجر مخمورا في حالة يُرثى لها.

وغضبُه على الذين يأتون إلى البيكاديللي من الطبقة الغنيّة المُتعالية غير المُراعية لحالة الناس الفقراء والمُحتاجين، وكيف يجب عقابُهم بحرمانهم من هذا المكان الرائع، يقول للينا:

- اعترفي أنت وعصابة البيكاديللي لم تعودوا قادرين على الإقناع. الناس تموت تحت القصف الإسرائيلي وأنتم تغنون؟

وتتذكر لينا كيف في الليلة الأخيرة، ليلةِ حَرْق البيكاديللي، وكان زوجُها قد رافقها إلى المسرح، وبينما كانت هي في قمّة سعادتها والبيانو يرتفع ليستقرّ أمامها لتبدأ العزف، جلس زوجها أنطوني حزينا في الزاوية ينظر إليها، ثم وَسْط تصفيق الجمهور الحادّ لم تعُد تراه وتأكّدت أنَّه غادر المكان. وفي الليلة نفسها تمَّ إشعالُ النّار في البيكاديللي.

وكانت الشخصيّة المثالية التي اتفق عليها الجميع هي شخصية جوزيف ناصيف والد لينا، عازف البيانو الذي رافق كلّ عروض فيروز والرحبانية وكان عازف البيكاديللي المميّز، وقد أخذ بيد ابنته لينا لتحلّ مَحلّه فيما بعد. وانتهت حياتُه برصاصة قنّاص غادر.

الشخصيّات النسائية

كانت هي المُميّزة والمركزيّةَ في كلّ الأحداث التي جرت.

لينا: ابنة عازف البيانو جوزيف ناصيف ووريثته في العَزْف على مسرح البيكاديللي. بدأت عزفها وهي في العاشرة من عمرها وتألّقت في كل العروض التي شاركت فيها.

أحبت لينا شابا مسلما باسم يونس، وقد عارض والدُها هذا الزواج (ص221)، كذلك عارض أهل يونس. ولكنّ لينا ويونس أصرّا على الزواج واتّفقا على لقاء يحتفلان فيه بفُقدان العذرية تحدّيا للمجتمع وأهلهما، لكنَّ الذي حدث أنّ يونس لم يأت نتيجة لحادث طرق تعرّض له وأفقدَه حياتَه. وتحت تأثير الحَبّة التي أخذتها لينا ولانقطاع أملِها بمجيء يونس وغضبها عليه انتبهت لوجود شاب ساحر يُشبه يونس فشدّها إليه وشدّته إليها وكانت ليلةَ حُبٍّ وجنس دافئةً حميمةً في غرفة الشاب في الفندق.

وافترقت لينا عن الشاب الذي لم تعرف اسمَه، وغادرت الفندق ولم تعُد تراه، والشاب ترك لبنان وعاد إلى بلاده في الجزائر ونسي الفتاة الجميلةَ الساحرة. وظلّت ذكرى تلك الليلة الرائعة وفقدان العذرية تشدّ بلينا وتُراودها، وظلالُ الشاب وصوتُه الهامسُ السّاحرُ يرنُّ في أذنيها طوال السنوات حتى كانت والتقت به بعد أربعين سنة في نهاية القصة بعد حفل أمسية الاحتفاء بإحياء ذكرى حريق البيكاديللي.

إيما: هي ابنة لينا تعمل في الصحافة وتهتم بالكشف عن جريمة حرق البيكاديللي وتتعرّض بسبب ذلك للكثير من المضايقات حتى السجن. إيما أحبّت شابا مسلما اسمُه انكيدو وقرّرا الزواج المَدَني في قبرص.  تشعر بالحزن والغضب والذهول عندما تُخبرها أمُّها لينا بقصّتها مع الشاب الذي التقته وقضت معه ليلة ليلاء وفقدتْ عذريتَها. وأن والدَها أنطوني هو الذي أحرق البيكاديللي.

سيرتا: فتاة جزائرية جاءت من باريس، عشقت موسيقيّا لبنانيّا، عازفَ كمان، من أم فرنسية وأب لبناني. بقيت معه عشر َسنوات ثم مات في الفاكهاني أيام الاجتياح الإسرائيلي. وتعرّفت على رجل آخر مات أيضا فقرّرت أنْ تعيش وحيدة. كانت على معرفة بلينا وعلى تواصل مع ماسي الصحفي الجزائري الذي حضر إلى بيروت ليكتبَ قصة البيكاديللي. كانت مرافقتَهُ خلال كلّ فترة وجوده في بيروت ومَنْ ساعدَتْه في لقائه بلينا

دلالات الأسماء

البيكاديللي اسمٌ مستوحى من أحد مسارح لندن الشهيرة "بيكاديللي سكوير" وكان أول صرح فني في شارح الحمراء. وأهميّتُه كمكان له رمزيته، إذ كان البيكاديللي مكانا يجمع كلّ القوى، ولم يُقصَف طوال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاما.

أستلّ الكاتبُ أسماءَ أبطال روايته من التاريخ، أو من موروث البلاد، إن كانت المشرق أو المغرب العربي، ف”سيرتا”، صديقته الفيسبوكية، التي اخبرها بمَجيئه إلى بيروت ليُعدَ كتابَه عن حريق المسرح. كانت جزائرية مثله، وكانت صديقة لينا، وكان اسمُها سيرتا، أي قسنطينة المدينة التي تقع في الشرق الجزائري، وكانت عاصمة مملكة نوميديا التي جمَعَت ليبيا وتونس والجزائر، أمّا ماسي فهو تصغير اسم ماسينيسا، ملك ماسيسيل الشرق الذي هزَم سيفاكس ملك ماسيسيل الغرب ليوحدَ مملكةَ نوميديا، كذلك استل اسمَ انكيدو حبيبَ أيما ابنة لينا من ميثولوجيا العراق. أمّا أيما فهو اسم مُسْتَلّ من تراث المنطقة، وهو يُمكنه أنْ يُحيلَ إلى إيمان، أو إلى الغرب المسيحي “إيمي” الألماني تحديدا، الذي يعني المَحبوبة، وربما يُحيل إلى العبرية والذي يعني فيها ذات الشخصية القويّة. وقد كانت أيما ابنة لينا قوية ومحبوبة في الرواية.

اعتمد الكاتبُ في هذه الرواية لغةً سهلةً ومُتداوَلةً، تُعبِّر عن كَوْن بطلها ماسي يُعِدُّ كتابا صحفيا، وقد احتوت لغةُ الرواية على جمل ومصطلحات من اللهجة اللبنانية حيث كان يدور الحوارُ بين بعضِ الشخصيات، التي كانت بالطبع معظمُها لبنانيّة، باستثناء ماسي الجزائري، وحارس البيكاديللي السوداني أوّلا ومن ثم المصري تاليا.

 ندَمُ واسيني على نهاية الرواية

يعترف واسيني الأعرج أنّه ندم على النهاية التي قرّرها لبطلي روايته ماسي ولينا وهي قتلهما تحت المطر، وكان عليه أنْ يجعل لقاءَهما في المشهد الأخير تحت المطر مُثيرا وسعيدا واستمرارا لقصة حبّهما ولقائهما قبل أكثر من أربعين عاما وهما في العشرينات من عمرهما.

ولكنّني أخالفه في ذلك، وأرى أنّ النهاية كانت موفّقة جدا، وتركت القارئ في حالة تعاطف مع ماسي ولينا وحُزْن بسبب النهاية التي كانت من نصيبهما بعد هذا الانقطاع الطويل من السنوات.

واسيني الأعرج الروائي الملتزم بقضايا شعبه

كما قال واسيني في حواره مح الكاتبة سلام ناصر الدين "إنّه اختار الرواية لأنها توفّر له الحريّة في تناول قضايا بلده وأمّته والعالم أجمع، ويستطيع بما يكتب أنْ يُنبِّه ويوقظ ويحرّك ويثير ويدفع للتغيير في فكر القارئ وتوجهاته ودَفْعه للرّفض والتمرّد والمُواجهة والعمل لتوعية الناس والعمل على بناء مجتمع أفضل تسوده الحريّة والديمقراطية والمساواة والأمان، ويتعايش بسعادة وتعاون ومَحبّة.

ويقول: "نعم نكتب لأننا نريد من الجرح أن يظل حياً ومفتوحاً...نكتب لأن الكائن الذي نحب تركَ العتبة وخرج ونحن لم نقل له بعد ما كنا نشتهي قوله.."

ويقول "قوّة الفن تتجاوز كلّ شيْ، والفن يُعطي طاقة للحياة، للاستمرار. وهذا ما دفعني للذهاب لرواية عازفة البيكاديللي". واعتبر تدمير البيكاديللي تدمير لبيروت لأنّها المدينة الثقافيّة التي تجمع كلّ المثقفين والمبدعين العرب. لهذا عملوا على شلّها ومحاولة تدميرها"، لكنه على ثقة "أنّ بيروت ستعود لأنّها ابنة الحياة. لا يُريدون أن تكون بيروت مدينة حرّة مستقلة، ففعلوا بها كما فعلوا ببغداد". و "مأساة البيكاديللي هي مأساة بيروت ومأساة أمّة، فكلّ ما كان حضاريّا في عالمنا العربي انتهى ولم يعُد موجودا. فهذا التّشقّق والانقسام في العالم العربي وكأنّه دُمّر ومُزّق كما البيكاديللي". ولهذا يؤمن بأنّ "الذاكرة تُساعدُنا على الإيمان أنّ البناء يمكن أن يتجدّد كما كان" لأنّ الإنسان هو مَنْ يصنع المعنى في مثل هذه الظروف القاسية ". ويُحذّر من هروب البعض من البلاد طلَبا للعيش الآمن بعيدا في المنافي والغربة بقوله " الهروب من البلاد إلى المنفي لم يحلّ المشكلة فلا مَهرب ممّا نعيشُه. فنحن أبناء هذا الزمن فإمّا أن نعيشَه أو نعيشَه كما قال مؤلف دون كيخوت.

وهذا يلتقي مع موقف إيما عندما طلبت من والدتها لينا أن تخرج ولا تَبقى معتكفة في البيت فقالت: "إلى أين أذهب، بيروت كلها خراب". فأجابتها إيما: لكن الناس مثلنا يُقاومون من أجل حياة خارج هذا الرماد".

وأخيرا

يضعنا واسيني الأعرج أمام أنفسنا  كعرب لنتساءل، هل سيتكرّرُ حَرْقُ الثقافة مرّة أخرى؟ وهل سينتهي التّنوير في عالمنا العربي مرة أخرى؟ 

سؤال مهم مُثير علينا التفكيرُ به.

***

د. نبيه القاسم

تقديم: اختلف الدارسون لقصيدة النثرحول مفهومها وخصائصها وتاريخ نشأتها في الأدب العربي. فبينما ارجع البعض ظهورها الى مطلع القرن العشرين 20 مع جماعة مجلّة أبولو (جبران وزكي أبو شادي وابو القاسم الشابي) الذين تأثّروا بالمدرسة الرّومتطيقية الغربية وحملوا لواء تجديد الشعر العربي والنهوض به وإعادة البريق إليه؛ فقد ربط البعض الآخر ظهورها رسميّا وبشكل جليّ وواضح بتأسيس ما سُمّي ب"حركة قصيدة النثر" التي تأثّر روادها  بأفكار " سوزان برنارد" في أطروحتها (قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا le poème en prose de beaudelere jusqu'à nos jours) وتزامن تأسيسها مع ظهور أديبات روادها من أمثال:

-  توفيق الصايغ الذي أصدر ديوانه من القصائد النثرية (ثلاثون قصيدة) سنة 1954

-  علي أحمد سعيد (أدونيس) الذي نشر مقاله الشهير " قصيدة النثر" في مجلّة " شعر " اللبنانية سنة 1960

-  أُنسي الحاج الذي أصدر في نفس السنة ديوانه " لن" وهو بدوره قصائد نثرية..

-  دون أن نُغفِل هنا ذكر محمد الماغوط الذي عرف بلونه المميّز في قصيدة النثر..

وبينما عرّفها البعض بكونها (شكلا فنّيّا يسعى الى التّحرر من قيود النّظام العروضي والبناء العمودي في نصّ هجين يتقاطع فيه السّرد والشّعر والحجاج والتّرسّل وغيرها من فنون الكتابة) فحدّدوا بذلك هويتها في البنية اللغوية ؛ عرّفها آخرون بكونها تجربة فكرية وجدانية تنقلها اللغة نقلا خاصّا وهو ما ذهب إليه الدكتور مصطفى الكيلاني في كتابه: " الأدب التونسي في هذه الأعوام" من أنّ قصيدة النثر هي: (مخاض اللغة يُعِيد كتابةَ مخاضِ الحياة) موضّحا أنّ هذا الضّرب من الكتابة لا يتعلّق بشكل القصيدة او بنية الخطاب إنّما هو رؤيا متكاملة فيها ينسجم تَمثُّلٌ مخصوص للغة مع تَمثُّلٍ مخصوص للحياة في حركتها المستمرّة وفي تبدّل أحوالها.. وهو بهذا المعنى يبدو متجاوزا لما سبق من محاولات النّقّاد والدّارسين في تحديد مقوّمات قصيدة النّثر..

 ورغم هذا الاختلاف ورغم زئبقية تحديد ضوابط للكتابة في هذا اللّون فإن ما تبلور في الاذهان حول هوية قصيدة النثر هو حدّ أدنى من خصائص الكتابة يمكن إجماله في النقاط التالية:

-  عدم اعتماد البيت الشعري واعتماد الجملة الشعرية

-  الخلوّ من نُظُم الوزن والقافية

-  اعتماد إيقاع داخلي يتوزّع وفق علامات لغوية تسخّر بُنى اللغة لإظهار الإحساس والفكرة.

-  عدم وضوح التعبير والنزوع بالمعنى  إلى التورية بحيث يتوجّب على المتلقّي التفكير والتأمّل في التعامل مع النّصّ.

-  عدم الوقوف بالأساليب البلاغية عند تجميل العبارة او توضيحها والذهاب بها نحو تحرير الفكرة من قيود اللغة والتّحليق بها في آفاق التّعبير..

-  الكتابة بحرّية بعيدا عن الأنماط الفكرية المرتبطة بقوانين وأحكام والتقيّد فقط بفكر الشّاعر ووجدانه..

هنا يحقّ لنا ان نطرح السؤال: هل أنّ نصوص أبي القاسم الشّابّي التي لم تصدر مع قصائده العموديّة في ديوان " أغاني الحياة " تخضع لهذه النقاط وتبعا لذلك هل كتب الشابي فعلا قصيدةَ النّثر كما اتُّفِق عليها؟

القصائد النثريّة  للشّابّي:

نقترح بداية هذا  المقطع من قصيدة:" بقايا الشّفق "(ابو القاسم الشابي ص 111 صفحات من كتاب الوجود)

(أيّها القلبُ المُنسحِقُ تحت سنابِكِ الأيّامِ

النّابِضُ بأنّاتِ الأسَى

النّاقِمُ على مَوجةِ الدّهرِ الغَضوبِ

المُتراكِضَةِ فِي لُجّةِ الحياةِ

إن كان في استِطاعتِكَ أن تقِفَ جبّارًا قويًّا

أمامَ تَيّارِ الزّمنِ

دُونَ أن يجرِفَكَ إلى الهاوِيةِ

 وأن تُلقِي بِتلك المَوجةِ العاتِيةِ

في أحشاءِ الأبَدِ

فافعَلْ..

أمّا إن كنتَ عاجزًا

فلَيس بِمُجدِيكَ العويلُ...

أيّتها الحياةُ الهاجِعَةُ في كَفِّ الأسَى

حتّامَ تَنوحين؟

 وقد صُمَّ مَسمَعُ الأيّامِ

 وأضحت الحياةُ قاسيةً كالمَوتِ

صمّاءَ كآذانِ القُبورِ

أيّها الموتُ الأصمُّ الأخرَسُ..

أيّتها الشّعلةُ المُظلِمَةُ المُلتهِبَةُ في صدرِ الحياةِ

ألا تخمُدِين حتى تُرتِّلَ الحياةُ أنشودَةَ الخُلودِ العذبَةً

مُكلَّلَةً بِإكليلِ الأبَدِ الرّائعِ)

ورد في حاشية الرّسالة الثالثة من رسائل الشابي إلى صديقه "محمد الحليوي" بتاريخ غرة أوت سنة 1929 (صفحات من كتاب الوجود ص 25 قوله: ((سألتني عن مجلّة سعيد أبي بكر وهل أنّ الدّاعي إليها مادّيّ ام فنّيّ وأنا لا أدري على التّحقيق كيف أجيبُك وبماذا أجيب إذ كلّ مبلغ العلم عندي أنّه تولّى إدارتها الفنّية أعني إدارة التّحرير وأنّه تسلّم منّي قطعة من الشعر المنثور عنوانها " الشّاعر" تحت عنوان أكبرَ أودّ أن أكتب تحته مواضيع مختلفة إن ساعد الدّهر وأشفق الله وهذا العنوان هو -  صفحات من كتاب الوجود -  واعلم أنّني رأيته يصحّح ما طُبِع من المجلّة ومن بين ذلك قطعتي))

نتبين في هذه الحاشية أنّ الشاعر كان واعيا بما كتبه ومحدِّدا لهويته الأدبية بوضوح ؛ وأنّ في نيته إصدار ديوانه الثاني تحت العنوان الذي ذكره..

ترك الشابي خمسة عشر نصّا لم يلتزم فيها بنظام البيت الشعري ولا بالعروض الخليلي كُتِبت بين سنتي 1925 و1930 في فترة جموحه وراء خيار التجديد الذي نظّر له في محاضرة "الخيال الشعري عند العرب" وهي قصائد دافقة من مَعين وجدانه الحالم حينا والنّاقم حينا آخر في خضمّ ما شهدته فترة أواخر ثلاثينيات ألقرن العشرين 20 من تقلّبات وما تجشّمه مثقّفوها من تحدّيات.. فكانت مواكبة هذا السّياق التاريخي لا مفرّ منها بخوض غمار التجديد في الكتابة سواء عن طريق العبور بالقصيدة العمودية نحو الأبعاد الرومنطيقية (قصيدة تونس النادبة وما بعدها واعتماد تقنية تنويع القافية ثم قصيدة تونس الجميلة 1925).. أو عن طريق كسر طوق العمودي والخروج عنه بجرأة الاندفاع نحو مغامرة جديدة ..

 ومن أبرز ملامح هذه القصائد غَناؤها الإيقاعي رغم عدم خضوعها للوزن والقافية وذلك بواسطة ضروب التّرجيع والتّناسب التّركيبي مثال ذلك: (ص 150 صفحات

 ولنقدّسْ.. يا أيّها الغاب المنتحِب

 ويا أيها الوادي الكئيب

 ويا أيها الكهف الأخرس....

 ويا أيها القلب المُلتحف بالغَصّات والدّموعِ

لنقدّسْ كلُّنا ذاك الألمَ

الذي يجعل من الشّاعر قيثارة غريبة

صادحة منطرحة في وادي الحياة)

ثمّ إنّ التّناسب على مستوى الصّورة الشعرية كان من مقوّمات الإيقاع الدّاخلي لعدد من هذه القصائد التي أُقيمت حول تيمة معيّنة تنفرط عنها مكوّنات النصّ لتعود إليها (مثل قصيدة الأحزان الثلاثة ص 119 التي قامت علي تيمة الكهف الذي جعله الشاعر صدى لنفسه الكئيبة في تنويعة من المشاهد الحياتية والوجودية عبّر من خلالها عن غربته ومأساته وهو الحامل لهموم بني الإنسان مع همّه الشخصيّ وجدانيّا ووجوديّا: أنا والكهف كئيبان...)

كما تفنّن الشّابّي في توظيف الأساليب البلاغية على غير ما وُضِعت له مُحقّقا إطلاق الفكرة في آفاق التّعبير سواء بواسطة التشبيه أو المجاز او المقابلة او غير ذلك مثل قوله في: (صفحات ص 117

رأيتكِ يا نفسي بحرا عميقًا كالحياة

غامضا كالموت .. هادئا كالابتسام

باسما كأحلام الطفولة

تلمع في أعماقه الأشعّة الفاتنة من وراء السّديم)

ملبسا الكائنات أصداء نفسه الحسّاسة في تقلب أحوالها مع حركة الوجود..

هذا وقد اتّسم الخطاب في هذه القصائد بنزعة صوفية عميقة حققها اعتماد الرّموز التاريخية والأسطورية في عدّة مواطن من جهة.. مثل ما ورد في: (صفحات ص 169:

يودّون من الشّاعر الذي أحنى رأسَه إكليلُ المنيّةِ

 وأطبق جفنه ظلامُ المنون

أن يُرتّل لهم أغاني الحُبِّ في فجر الشّباب

مشبّبا بسرب من عذارى أفروديت

ساحرات الاجفان فاتنات المراشف..)

 وحقّقها من جهة ثانية الاعتماد المكثف للرّمز الديني والعبارات القرآنية وخاصّة المعجم الصوفي من قبيل -  الوجود -  الخلود الحب -  الجمال -  النور -  الخمرة... مثل قوله في: (صفحات ص 200:

باركيني يا ابنة النّور والحبّ

فلقد صلّيت لك في أعماق قلبي قبل أن تبدأ الأكوانُ

 وعبدتُك بين الكواكب وأنا شعاع طائر في الأفق البعيد..

 ولقد تغنّيتُ باسمك وأنا خمرة سكرى بين الينابيع الخالدة

 وعبير يتطاير في سماء الله)

هذا الخطاب الصّوفي كان بمثابة السمة الجمالية الأساسية في هذه القصائد ذات الإشراقات التّأملية الحالمة بالقيم المطلقة (الحب .. الجمال.. الحرّية) وذات الأحاسيس الموغلة في الحزن  بسبب ذاك التعارض الرّومنسي بين ذات الشاعر الحالمة وبين العالم الآثم المليء بالشّر والظلم والجرائم والحروب ..

فالمتأمل لقصائد الشابي النثرية يلاحظ تأكيدها على أنّ الإبداع الحقيقيّ أكبر من القوالب وأوسع من الأشكال.. وأنّ القصيدة الجيّدة هي التي تؤسّس كيانها وتعلن قانونها قياسا إلى ما تتوهّج به من ألق وقوّة تأثير وإقناع..

 ولعل هذا المقطع من قصيدة: الشاعر (ص 162 صفحات من كتاب الوجود) لا يخلو من ذلك

(أشفقتُ عليك يا رفيقَ الحياةِ

لِأنّ القِمّةَ الجميلةَ يُؤدّي إليها مَسلكُكَ

 وأنتَ ناقِمٌ

 والهاوِيةُ المُريعةُ تَقِفُ عند سُبلِهِم

 وهم يهزِجونَ

 وسَمِعتُكَ في مساءِ الحُلْمِ

شادِيًا بِأنّاتِ قلبِكَ

مُترنِّمًا بِأوجاعِ البشرِ

 والنّاسُ مِن حولِك هازِئُونَ

فلم أخشَ عليك مِن تلك الكتلةِ الملتهِبةِ

التي ضَرّمَتْها في قلبِك الأيّامُ

لِأنّ اللّهِيبَ لا يلتهِمُ إلّا الأنصابَ والهَشِيمَ)

 ومنه ومن بقيّة النّصوص تتضح ملامح قصيدة النثر المنتسبة إلى أبي القاسم الشابي..

 وهنا لا يسعنا إلّا أن نتوجّه بالامتنان للأديب سوف عبيد الذي لم يقف عند النّبش عن هذه الوثيقة وغيرها من مخلّفات الشّابّى شأن سابقيه وبادر  بنفض الغبار عنها وإخراجها إلى النّور مسخّرا لذلك سنوات من الجهد والوقت  لكي يحقّق رغبة الشّاعر الذي لم يسعفه العمر  ولم  يشفق عليه الدهر ولكي يصدر كتابه في مئويته:

"صفحات من كتاب الوجود" ابو القاسم الشابي..

فجمعه وحقّقه ونشرته مؤسسة  بيت الحكمة في 2009 .. اشتمل على قصائد الشاعر التونسي ابي القاسم الشابي النثرية ((بقايا الشّفق -  أيّتها النّفس -  الأحزان الثلاثة - أمام كهف الوادي - الدّمعة الهاوية -  اللّيلِ - كفّ يا قلبي - الخريف -  أغنية الألم -  النّفس التّائهة -  الشّاعر -  صفحات دامية من حياة شاعر - أيّها القلب -  الذكريات الباكية -  الذكرى)) التي لم تنشر في ديوان اغاني الحياة  مهّد الأديب سوف عبيد لإصدارها في كتاب أصدره سنة 2008 عنوانه: "حركات الشعر الجديد بتونس" في فصل خاص كتب فيه عن هذه القصائد وعن مصادرها وخصائصها الأدبية..

 وهنا نؤكّد على انّ كتاب "الصفحات " لم يستند إلى عملية جمع وتحقيق عادية بقدر ما كان بحثا تاريخيا واستقصائيا ونقديا متكاملا لتجربة الشابي الشعرية  برمتها..

فقد استهلّه الأديب سوف عبيد بفصل مدخل سلّط الضوء على هذه التجربة بالنظر إليها من زاوية تطورها ونضج تَمثّلها لمحاولة المغايرة والتجديد قبل الشروع في كتابة قصيدة النثر  مما اقتضي إرجاعها إلى مراحل ثلاث هي:

-  مرحلة البدايات التي أرخ لها بسنة 1923 استنادا إلى رواية شقيق الشٍاعر "محمد الأمين الشابي" الواردة في مقدمة ديوان أغاني الحياة والتي نظم الشابي خلالها.. كتب (ص 9: مقطوعات وقصائد ذات سمات تقليدية واضحة تبد ومنذ الوهلة الأولى في أغراضها ومعانيها كما تبد وفي المعجم اللغوي والصور.. وهي محافظة إلى حد كبير على الصياغة العروضية للبحور الخليلية) واستعرض في الاثناء أمثلة من أغراض شعرية متنوعة متفحصا لها ومحيلا اياها على المؤثرات الثقافية لعائلة الشابي وطبيعة تعليمه ومطالعاته ومقيّما لمميّزاتها  الأدبية بعين الناقد الحصيف.. كتب (ص 13: الشابي إذن في قصائده الأولى شاعر تقليدي بأتم معنى الكلمة)

و توخى الناقد الطريقة الدقيقة  ذاتها في الإحاطة بالمرحلتين:

- الثانية التي اعتبرها: مرحلة التجريب وأرخ لها ابتداء من 3 فيفري 1925 حيث نشر الشابي قصيدة *تونس النادبة* وهي قصيدة ممتدة على ستة وخمسين بيتا خرج الشابي فيها عن القافية الموحدة والأغراض المتعارفة  وعن الأساليب البلاغية التقليدية في التعبير إلى (ص 14: التصوير والرمز والحكي لتعبر عن الوطنية في معاني الأمومة والمحبة والولاء والألم والأمل) وفي تقييم الناقد لقصائد هذه المرحلة نجده اعتبرها

وصلة الانتقال (ص 17: من مرحلة التقليد الصارم للنماذج القديمة إلى البحث عن الآفاق الأرحب لنحت اسلوبه الخاص) وكذلك بالنسبة إلى المرحلة الثالثة:

-  مرحلة التحول حسب تسمية الناقد.. وقد أرخ لها ابتداء من  2 جوان 1925  تاريخ صدور قصيدة تونس الجميلة التي اعتبرها (ص 17: القصيدة المفصل نقرأ فيها علامات التطور الفكري والفني لدي الشابي بحيث يعلن القطيعة مع السّابق قائلا في مطلع القصيدة:

لست أبكي لعسف ليل طويل

أ ولرَبع غدا العفاء مراحه

*

إنّما عبرتي لخَطب ثقيل

قد عرانا ولم نجد مَن أزاحه)

و قد ربط الباحث هذه المرحلة بالتقاء الشابي بالنخبة المثقفة لمّا أصبح يتردد على المكتبة الخلدونية وكذلك بتبلور الحركة النضالية ضد الاستعمار الفرنسي والحركة النقابية وظهور فكر "الطّاهر الحدّاد" مما كان له عميق الأثر في فكر الشاعر ومواقفه بشكل دفعه إلى البحث عن طرق جديدة في التعبير وكذلك عن معاني شعرية تناسب أحلامه ورؤاه .. إلا أن تجربته الجديدة التي قوبلت بالرفض لعقود على ما يبد وتسببت في إهمال قصائد النثر التي لم تحظ بالإهتمام حتى من قبل عائلته والمقربين منه  .. ولم ينفض عنها غبار الإهمال إلا عندما دفع  شغف ناقدنا بابداعات الشابي رائدا للشعر التونسي المعاصر والتعمق في دراستها وتقصيها إلى البحث عنها في بعض المصادر  والرسائل والمخطوطات  تحصل عليها بعد لأي من المكتبة الوطنية ا وحتى بشكل شخصي من عائلة الشابي رغم إحالة الناقد " توفيق بكّار" عليها في أكثر من مناسبة ودعوته عائلة الشابي والجهات الرسمية إلى جمعها ونشرها.. وأحالة الشاعر  " أب وزيان السعدي" في كتابه (في الأدب التونسي المعاصر: 1974) عليها.. إلّا أن الفضل الفعليّ في إخراج هذه القصائد إلى النّور كان للأديب سوف عبيد الذي احاطها بما يكفي من الوثائق والدعائم والتحليل بما يثبت انتماءها إلى الشابي والى الكتابة الشعريّة رغم انه كان قد دونها بشكل مسترسل شبيه بكتابة النثر.. إلا أن الباحث أعاد كتابتها بطريقة الأسطر الشعرية على غرار قصائد النّثر الراهنة بعد أن وضعها في سياقها من تاريخ الشعر المعاصر في تونس والبلاد العربية ووصلها بالظروف التاريخية التي حالت دون صدورها قبل  2009 ضمن  فصل:

-  عودة الدّرّ إلى معدنه: وفيه قراءة نقدية وتاريخية دقيقة ومعمّقة لهذه القصائد التي تعُدّ خمس عشرة  قصيدة  واحدة واحدة  اوردها مرتبة حسب تاريخ كتابتها بعد التحقق منه والتثبت في صحته من أكثر من مصدر مردفا تحليله  بتقييمات واستنتاجات نقدية قيمة ونافذة من صنف:(ص 39  إنّ تعبير الشابي بالقصيد النثري يندرج ضمن بحثه عن التجديد في مجالات التجريب تلك التي مارسها في قصائده السابقة دون أن يخرج فيها عن الضوابط العروضية الأساسية اما في هذه القصائد فكأنه يمرح في جنان الشعر بلا رقيب وبلا قيد ولا حدّ فراح على سجيّته مرفرفا ومبحرا فإذا القصيد ينثال بالمعاني لوحات وصورا..) ولا يفوتنا هنا أن نحيل على دقّته  وه ويتدرج مع هذه  القصائد متقصّيا تعرجاتها الأسلوبية والدّلالية مقارنا بينها باحثا في ما يربطها إلى بعضها من قرائن ووشائج  زمنية وفنية ودلالية مقارنًا بينها باحثا ايضا في ما يربطها من وشائج مع قصائده الخاضعة إلى نظام البيت الشعري المتقيّد بالعروض .. مثال ذلك ما ورد في قراءته للقصيدة السادسة: (الليل ص 60: لقد سبق للشّابّي في قصائده النثرية السابقة ان ذكر الليل بالإشارة إلى الظلام في أوّل قصيدة وهي" بقايا الشفق " ثمّ صرّح به في صيغة الجمع عند آخرها... أمّا في القصيدة الثالثة " الأحزان الثلاثة" فإنّ الليل يتصدّرها بقوله - انا والليل كئيبان -  فيجعل من الليل صنوًا له وشبيها.... أما في هذه القصيدة فاللّيل يبدأ مع لوحة الغروب التي تبسط الوانها على الكون فيغيب النّاس في الأحلام؛ عندئذ ينفرد الشّاعر بذاته في مُكاشفات وتأمّلات فإذا الإنسانيّة تبد ورازحة تحت الحروب) هذا كان دأبه مع مختلف قصائد " الصفحات " التي ختم دراسته لها بالتأكيد على تناسقها وإن تنوّعت موضّحا ما بينها من مظاهر الائتلاف في اختلافها وتنوّعها مقارنا مع العديد من قصائد ديوان" أغاني الحياة ؛" خاصة التي تزامن نشرها مع مرحلة كتابة الشّابّى لقصائده المنثورة (بين 1925 و1930) مفسّرا ذلك بالاشتراك في المرجعية التاريخية والذات الشعرية..  هذا وقد أثرِيَ الكتاب في آخره بفصل:

-  الأفق (كما سمّاه الباحث): قدّم فيه بسطة تاريخية عن قصيدة النثر العربية والتّونسيّة وأبرز أعلامها ومراحل تطوّرها بدءً باتّشاحها بالرّومتطيقية مع مطلع القرن العشرين 20 مرورا بنهلها من مقولات الأدب الواقعي وتصويرها للحياة في تفاصيلها وهوامشها وصولا إلى ما افضت إليه المرحلة الرّاهنة من ظهور ما سمّاه قصيدة اللّمحة الخاطفة المكتنزة بالأبعاد وظهور المُطوّلات الملحميّة بما فيها من استرسال وتنوّع في مستويات التوظيف للغة وفق النّفس الشعري..

ليستنتج في الأخير (ص101: أ ليس الشعر رحلة في الزّمان والمكان ورحلة بين مختلف الأجناس الأدبية وحتّى الفنّية أيضا؟)

خاتمة:

هكذا كشف مشوار طويل من البحث والدّراسة عن ديوان شعري ثاني لأبي القاسم الشابي لم يكن له ذكر.. وبدلا من أن يثير هذا المنجَز مزيدا من الاهتمام بمدونتها البحث في كنوزها المغمورة فقد أثار حفيظة بعض المتنكّرين لأهمّية هذه المدوّنة وأعلامها بدعوى الموضوعيّة وعدم التعصّب في التعامل مع موروثنا دون انغلاق أو نكران لفضل التّثاقف والتأثّر بآداب  الحضارات الأخرى على أدبنا..

و هنا أورد على سبيل المثال ما كتبه أحد الباحثين في مقال بعنوان:" قصيدة النثر التونسية - أسطرة الشابي ووهم الحداثة" (إنّ هذا التضخيم والأسطرة - على مشروعيته إلى حدّ ما -  رغم المبالغة المفرطة لا يجعلنا نعتبر الشّابّي شاعر القديم والحديث والمستقبل... وأنّ القول بكون الشّابّى كتب قصيدة النثر منذ ثلاثينيات القرن الماضيي هو موقف شاذ... ومجرّد محاولة إيديولوجية سافرة الغرض منها الالتفاف على منجزات الحداثة والتّمسّك بهوية مصطنعة ومؤدلجة أتاح سهولة رواجها تربّع الشّابّي على مملكة الشعر التونسي في ساحة ثقافية فارغة من الأصوات الشعرية... كلّ ذلك حتى لا نُتّهم بالاقتداء بالغالب على رأي " ابن خلدون") معتبرا ان الإحاطة بقصائد الشّابّى المنثورة وإخراج ديوانه الثاني فيها تضخيم غير موضوعي لقيمته الأدبيّة على حساب شعراء آخرين من جيله ومن الأجيال اللّاحقة له؛ وفيها تجنّ على قصيدة النثر العربية وروادها الحقيقيين حسب رأيه..

فمتى يجرّد نقّادنا الكبار والباحثون الأكاديميون في المجال الأدبي أقلامهم لمواجهة هذا التيّار المستهدف لهوية الكتابة في ثقافتنا والمستنقص لقيمة أعلامنا وإنجازاتهم الجادّة؟؟

***

كوثر بلعابي

تونس في: 24 فيفري 2024

 

النقد الأدبي عِلم، أو يحاول أن يكون عِلمًا، ولم يَعُد اليوم انطباعًا أو تقريظًا. والنقد في العالم أجمع يفيد بعضه من بعض؛ فالحكمة تظلُّ ضالَّة الباحث، أنَّى وجدها التقطها، فهو أحقُّ بها وأهلها. ويجب أن يضيف الباحث ممَّا لدى الآخر إلى ما لديه؛ فليست هنالك أُمَّة مكتفية بذاتها، مستغنية عن الاقتراض والتعلُّم من غيرها. والأدب بدَوره يتطوَّر ككلِّ شيء، كما أنَّ العِلم والخبرة الإنسانيَّة يتطوَّران في كلِّ شيء، ولا تثريب على مَن يسعى لتطوير أدواته، بل التثريب على القابع عجزًا القانع بما لديه.

إن النقد الأدبي، إذن، دراسةٌ في مادة النصِّ، وجنسه، وسياقاته، وَفق معايير عِلميَّة. من حيث هو عِلمٌ كسائر العلوم، وحقلٌ تخصصي كسائر التخصُّصات، له قضاياه، ومشاغله، ومصطلحاته، وليس ميدانًا مشاعًا لعامَّة الشُّداة، والهُواة، والمتأدِّبين، والمثقَّفين. ومع هذا فثَمَّة اليوم من لا يحترم هذا الميدان، بل يخوض فيه بيديه ورجليه. وأضرب على هذا مثالًا نموذجيًّا على الارتجال والاستخفاف باسم الممارسة النقديَّة. فلقد نَبَتَ فيمن يشتغلون بالنقد من المعاصرين مَن لا يفرِّق، مثلًا، بين (القصيدة العموديَّة) وغير العموديَّة؛ فكُلُّ موزون لديه «عمود»؛ لأن صاحبنا يرى بأُمِّ عينية عموديَن لا عمودًا واحدًا، ماثلين في شطري البيت الشِّعري العَرَبي، وهو يظن هذا الشكل البَصَري سبب المصطلح! وكذا تسمع آخَر لا يفرِّق بين أشكال غير الموزون على البحور الخليليَّة، فكلُّ ذلك لديه «شِعرٌ حُرٌّ»، والسلام! وترى هذا يُنشَر في وسائل الإعلام، وربما في الكتب! وبهذا فالمفاهيم ضائعة والمصطلحات عائمة! والصحيح أن ليس الشِّعر العمودي ما كان موزونًا على البحور الخليليَّة فقط، بل يجب إلى ذلك أن تتبع القصيدة سنن القصيدة الجاهليَّة، كما أوضح هذا (أبو علي المرزوقي، -421هـ= 1030م) قبل ما يناهز ألف سنة، في مقدمة كتابه «شرح ديوان الحماسة». فأبان أن المصطلح يشمل احتذاء تقاليد القصيدة الجاهليَّة عمومًا، ممَّا حدَّده في سبعة أبواب: شَرف المعنى وصحَّته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه، والتحام النَّظْم على وزنٍ ملائم، والتناسب في الاستعارة، ومشاكلة اللفظ للمعنى واقتضاؤهما للقافية. ولم يكن من معايير القصيدة العموديَّة الالتزام بالوزن والقافية أصلًا؛ من حيث كان ذلك مسلَّمًا، لا محلَّ خلافٍ بين المقلِّدين والمجدِّدين. ولقد كان هذا العمود التقليدي قد انكسر منذ (أبي تمام). أمَّا تسمية ما ليس موزونًا «شِعرًا حُرًّا»، فجهلٌ محض. ذلك أن مصطلح الشِّعر الحُر كان مصطلحًا عتيقًا، استُعمل ترجمةً لكلمة Free verse، خلال الأربعينيَّات والخمسينيَّات من القرن الماضي، ثمَّ عُدِل عنه إلى مصطلح شِعر التفعيلة؛ لأن الحُريَّة الموسيقيَّة في القصيدة العَرَبيَّة غير تامَّة، كما نبَّهت إلى هذا (نازك الملائكة)، منذ وقتٍ مبكر. إلَّا أنَّ ما يمكن أن يسمَّى الشِّعرَ الحُرَّ حقًّا هو ما أُسمِّيه (شِعر التفعيلات). وأعني بشِعر التفعيلات تلك القصيدة التي لا يُتقيَّد فيها بالتفعيلة الواحدة، بل ينداح الشاعر في موسيقى الشِّعر، ليبتدع أشكالًا تُمليها التجربةُ المتجدِّدةُ من نصٍّ إلى آخَر، فيمزج نظامًا تفعيليًّا بنظام. وأمَّا أن يأتي من يسمِّي (قصيدة النثر) شِعرًا حُرًّا، كما يُلحَظ في بعض المسابقات المعاصرة، التي يحكِّمها من ليسوا في عير النقد ولا في نفيره، فسَلَطَة اصطلاحيَّة طريفة، لا تستحقُّ التعليق! وقِس على هذا كثيرًا مما يُنشَر اليوم باسم النقد الأدبي.

غير أنَّ السؤال المتكرِّر: أليس للنقد دورٌ في تقييم النتاجات الإبداعيَّة الصادرة حديثا؟ والإجابة تتمثَّل في ضرورة التفريق بين «النقد العِلمي» و«النقد الصحفي». فالأوَّل ليس معنيًّا بمتابعة كلِّ جديدٍ من الإصدارات بالضرورة، إلَّا إذا كان لافتًا، ومضيفًا، ويستحقُّ التوقُّف. وإذا توقَّف أمام الجديد، توقَّف أمام الظواهر، لا أمام الأفراد، والعناوين. فكما أنَّ عِلم الطِّب، على سبيل النموذج، يدرس الظواهر المتعلِّقة بصحَّة الإنسان، لا فلانًا المريض أو فلانًا السليم، كذلك النقد الأدبي. وكذا في الدرس التطبيقي، لا يُعالج هذا العِلم أو ذاك الإشكالات الفرديَّة، إلَّا بوصفها شواهد على ظواهر. فيبقى الترويج للإصدارات الأدبيَّة، والكتابة عنها، بصفة عامَّة، دور الصحافة الأدبيَّة، بنقَّادها المعنيِّين بالتعريف بالجديد، وطرح بعض التقييم اليسير. أجل، النقد الأدبي هو مختبرٌ عِلميٌّ ومعرفيٌّ، لا شأن له بالترويج للكُتَّاب، ولا بالتعريف بالأسماء، اللَّهم إلَّا حين يُحقِّق أحدهم إنجازًا نوعيًّا، تضيف دراسته جديدًا في التبصُّر بمسائل النقد الأدبي.

صحيح أنَّ جماهير الناس لن يتقبَّلوا النقد الأكاديمي، ولن يستوعبوه، حتى لو أُتيحت له مساحات في وسائل الإعلام، فالإعلام العامُّ يتوجَّه غالبًا إلى شرائح وُسطى من المتلقِّين، لا للعلماء والأكاديميين. ومع هذا، حبَّذا لو عُنيت وسائل الإعلام الثقافي الجادِّ ببثِّ بعض المؤتمرات العِلميَّة، ونشر بعض النتاجات النقديَّة المتخصِّصة، للإسهام العِلمي المفيد لشريحة محدَّدة من ذوي الاختصاص والشغف بهذا التخصُّص، وتنوير غيرهم من المهتمِّين. غير أنَّ من المثاليَّة تصوُّر أن هذا سيكون باب جذبٍ واهتمامٍ للجماهير العريضة.

قد يتبادر التساؤل هنا : ما السبيل، إذن، إلى جعل النقد العِلمي مواكبًا للمتلقِّي العام، بحيث لا يفقد عِلميَّته ولا يخسر حضوره الجماهيري؟ وكي لا يقال إن النقَّاد قد فشلوا في الانفتاح على التجارب الإبداعيَّة الشابَّة، وابتعدوا عن قراءة المشهد الثقافي؟ ومع أن هذا حلمٌ جميلٌ، فإنه يلزم التفريق بين ثلاث وظائف: وظيفة العِلم، ووظيفة التعليم، ووظيفة الإعلام. فالعِلم، من حيث هو، ليست وظيفته التعليم المباشر، ولا الانفتاح على التجارب الشبابيَّة الإبداعيَّة، بل هذا دور التربية والتعليم. أمَّا قراءة المشهد الثقافي والإبداعي، فليست بوظيفة النقد الأكاديمي بالضرورة، لكنه دور الإعلام الثقافي. نعم، ينبغي للنقد الأكاديمي أن يتفاعل مع قضايا العصر والجماهير، وأن يلتفت إلى تجارب الشباب الإبداعيَّة الناضجة والمبشِّرة بمستقبل، وأن يرصد تحوُّلات المشهد الثقافي والإبداعي، فلا ينعزل عن الحراك من حوله، لكنه لا يصحَّ- في الآن نفسه- أن نحمِّل الناقد الأكاديمي وظائف قطاعات اجتماعيَّة وتعليميَّة وإعلاميَّة وثقافيَّة أخرى، وإلَّا كنا نخلط الأوراق، ونُماهي بين الاختصاصات.

وعلى الرغم مما يُفترَض في العِلم من حياد، ومن رصدٍ معرفيٍّ نزيهٍ عن الهوى والميل والأيديولوجيَّات، فأنت ترى أنَّ الناقد العَرَبيَّ كثيرًا ما ينتصر لفريقٍ أو توجُّه، ويصنِّف نفسه أو يُصنَّف إلى حساب نادٍ أو تيَّار، تمامًا كما يقع بين مشجعي كرة القدم، بضجيجهم وتدافعهم وفوضاهم. ويبدو أنَّه قد رسَّخ هذه الانحيازيَّة في مقاربة الأدب تحوُّل الطابع العشائري في المجتمع- مع الطابع «الشللي» أو «الثللي» في الساحة الأدبيَّة- إلى المجال النقدي، فأصبح لكلِّ تيَّارٍ نقَّادُه المحبُّون، المصفِّقون والمشجِّعون، ولكلِّ اتجاهٍ «كادره» المقرَّبون، من كَتَبَةٍ، وصحفيِّين، ودارسين، ونقَّاد. وهكذا، فإنَّ ما يمكن أن يُسمَّى النقد الأدبي العَرَبي قد لا يعدو في بعض نشاطه مبادراتٍ فرديَّةٍ مضطربة، أو مباريات كلاميَّة، يردُّ بعضها على بعض، تظهر نتاجاتها كنباتات موسميَّة بين حينٍ وآخر، في غير تنظيم، ولا تضافر، ولا مواكبة، ولا اطِّراد. ولا غرو، فإنَّ النقد الأدبيَّ هنا يبدو صورةً عن المجتمع نفسه، عبر موروثه وتحوُّلاته وتعثُّراته، كما يتجلَّى لنا خلال القرن الماضي وهذا القرن. ولعلَّه، كما أزعم، لمَّا يتبوَّأ بعد مكانةً ناضجة- بما تعنيه الكلمة من معنى- لا في تعامله مع المحلِّي ولا في تعامله مع الخارجي، ولا في تناوله للتراث، أو الراهن.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

دي إتش لورانس، روائي وشاعر وناقد أدبي إنجليزي مشهور، مشهور بأعماله التي تستكشف تعقيدات العلاقات الإنسانية وتتعمق في الجوانب الأعمق للطبيعة البشرية. تحمل إحدى رواياته الأقل شهرة، "الباحث الغجري"، رسالة عميقة يتردد صداها لدى القراء حتى يومنا هذا. نُشرت هذه الرواية عام 1927، وتحكي قصة عالم شاب يتخلى عن حياته التقليدية للبحث عن الحرية والحكمة والتنوير كعالم غجري، مما يجسد إيمان لورانس بأهمية استكشاف الطريق الخاص واحتضان حرية الروح. في "الباحث الغجري"، ينقل لورانس رسالته من خلال أوصاف غنية وحيوية، وشخصيات استبطانية، وصور مثيرة للتفكير. من خلال قرار بطل الرواية بترك حدود الحياة العادية، يتحدى لورانس الأعراف المجتمعية ويلتقط جوهر التمرد ضد الامتثال. من خلال هذه الشخصية، فهو يشجع القراء على التشكيك في مساراتهم الخاصة والتفكير فيما إذا كانت المساعي الفردية للمعرفة والحرية والوفاء أكثر قيمة من التوقعات المجتمعية. إن رواية لورانس المقنعة تجبر القراء على التفكير في مفاهيم التضحية، واكتشاف الذات، والسعي وراء الدعوة الحقيقية للفرد، مما يجعل "الباحث الغجري" قطعة أدبية خالدة تستمر في إلهام وإثارة التأمل.

مقدمة:

دي إتش لورانس، كاتب إنجليزي بارز في القرن العشرين، مشهور على نطاق واسع برواياته المثيرة للفكر والمثيرة للجدل في كثير من الأحيان. أحد أعماله الأقل شهرة، "الباحث الغجري"، يحتل مكانة مهمة في تراث لورانس الأدبي. على خلفية الثورة الصناعية والتغيرات المجتمعية السريعة التي جلبتها، تجسد رواية "الباحث الغجري" استكشاف لورانس للتوتر الأبدي بين الامتثال والحرية. نُشرت رواية "الباحث الغجري" عام 1928 كجزء من مجموعته الشعرية بعنوان "زهرة الزنابق"، وهي تحكي قصة عالم شاب ترك دراسته الجامعية لينضم إلى مجموعة من الرحالة الغجر. مستوحاة من قصة حقيقية عثر عليها لورانس، تستكشف هذه الرواية موضوع الهروب من قيود المجتمع القمعي والمادي. أصبح "الباحث الغجري" بمثابة تكريم لورنس الشعري لثقافة الروما، حيث صورها كرمز لتوق الفرد إلى التواصل الحقيقي مع الطبيعة والحياة النقية. في هذا المقال، سوف نتعمق في الرسالة التي ينقلها دي إتش لورانس في "الباحث الغجري". من خلال تحليل استخدام لورانس للرمزية والموضوعات والشخصيات، سنكشف عن النقد الأساسي للرواية للتصنيع، والتأثير اللاإنساني للحداثة، والبحث عن الذات الأصيلة. بالإضافة إلى ذلك، سوف نستكشف تأثير " الباحث الغجري " على التطور الفني للورانس، بالإضافة إلى صدى ذلك مع مجموعة أعماله الأوسع. إن فهم لورنس العميق للطبيعة البشرية وقدرته على التعبير عن المشاعر والرغبات المعقدة يجعل من " الباحث الغجري " عملا مثيرا للاهتمام للاستكشاف. تعد الرواية بمثابة تذكير مؤثر بأنه على الرغم من التوقعات المجتمعية، فإن الأفراد لديهم رغبة فطرية في التحرر من رتابة المادية والامتثال، والسعي بدلاً من ذلك إلى وجود أكثر حيوية وانسجامًا مع العالم الطبيعي. من خلال منظور "الباحث الغجري"، يدعو لورانس القراء إلى التشكيك في قيمة الأعراف المجتمعية ويشجعهم على الشروع في رحلة نحو اكتشاف الذات والتحرر الشخصي. والآن، دعونا نبدأ رحلة عبر صفحات "الباحث الغجري"، لنفك رموز معانيها العميقة، ونكشف عن الرسالة العميقة التي سعى دي إتش لورانس إلى إيصالها من خلال نثره الشعري.

دي إتش لورانس المعروف بأعماله المثيرة للجدل والمثيرة للفكر:

لورانس، روائي وشاعر مشهور، يشتهر بأعماله الأدبية المثيرة للجدل والمثيرة للفكر. ولد لورانس في إيستوود، نوتنغهامشاير، إنجلترا عام 1885، وكان كاتبا غزير الإنتاج تناول مجموعة واسعة من المواضيع في رواياته وقصصه وقصائده. أثناء استكشافه لمواضيع مختلفة، كان استكشافه للجنس والعلاقات الإنسانية ونضال الفرد ضد الأعراف المجتمعية هو ما أثار الإعجاب والنقد من معاصريه وما زال يأسر القراء حتى يومنا هذا. غالبا ما يُنظر إلى أعمال لورانس، بما في ذلك روايته "الباحث الغجري"، على أنها صعبة وغير تقليدية، مما يعكس فهمه العميق لعلم النفس البشري وتعقيدات الطبيعة البشرية. ولم يكن يخشى تحدي الأعراف المجتمعية والتعمق في أعماق التجربة الإنسانية من خلال شخصياته وعلاقاتهم. يشتهر أسلوب لورنس الفريد في الكتابة، المعروف بأوصافه الحية والحسية، بخيال القارئ فحسب، بل يعالج أيضا القضايا الاجتماعية والفكرية في ذلك الوقت. غالبا ما يستكشف أدبه موضوعات مثل تأثير التصنيع، والطبيعة المدمرة للحداثة، والشوق إلى أسلوب حياة أكثر طبيعية وأصالة. من خلال كتاباته، كان لورانس يهدف إلى تحدي وجهات النظر التقليدية وتشجيع القراء على التشكيك في الأعراف والأعراف المجتمعية. في "الباحث الغجري"، يقدم لورانس نقدًا قويًا للنظام التعليمي الصارم وتأثيره على الفردية والنمو الشخصي. تتبع الرواية قصة عالم يتمرد ضد قيود الأوساط الأكاديمية ويجد العزاء والتنوير من خلال لقاءاته مع عالم متجول، "الباحث الغجري". بينما يسعى بطل رواية لورانس إلى الحرية والمعرفة خارج حدود التعليم التقليدي، يدعو لورانس القراء إلى التفكير في فكرة التعلم الحقيقي والسعي وراء الحكمة خارج حدود التوقعات المجتمعية. طوال حياته المهنية، تحدى لورانس باستمرار الأيديولوجيات السائدة في عصره، بما في ذلك الأعراف المجتمعية والقمع الجنسي. كان استكشافه للحياة الجنسية البشرية ثوريا، وغالبا ما كان يصور العلاقات الحميمة والمثيرة للجدل التي كانت جريئة في ذلك العصر. ومن خلال القيام بذلك، سعى إلى فضح القيود التي يفرضها المجتمع وتسليط الضوء على الجوانب المكبوتة في كثير من الأحيان في النفس البشرية. بصفته كاتبًا مشهورًا، تجاوز دي إتش لورانس حدود الأدب التقليدي وترك أثرا دائما على عالم الأدب. تستمر أعماله المثيرة للتفكير في الدراسة والتحليل والاحتفاء برسائلها القوية واستكشافها الدؤوب للحالة الإنسانية. إن قدرة لورانس على تحدي التفكير التقليدي والتزامه بتصوير حقائق المجتمع المكبوتة تؤكد أهميته ككاتب لا يزال صدى صوته يتردد بقوة في العصر الحديث.

"الباحث الغجري" مستوحاة من قصيدة لماثيو أرنولد:

نتذكر "الباحث الغجري" كإحدى روايات لورانس الأقل شهرة التي صدرت عام 1928، وهي مستوحاة من قصيدة لماثيو أرنولد. غالبا ما تطغى أعمال لورنس "الباحث الغجري" على أعماله الأكثر شهرة مثل "عشيق السيدة تشاترلي" و"بنون وعشاق". ومع ذلك، فإن هذه الرواية الرائعة، التي نُشرت عام 1928، تستحق الاهتمام لموضوعاتها الفريدة وسردها القصصي المتقن. مستوحى من القصيدة الشهيرة لماثيو أرنولد، صاغ لورانس قصة تعكس العلاقة المعقدة بين المجتمع والفرد. تستكشف رواية " الباحث الغجري " التوترات بين الامتثال والحرية، والتقاليد والتمرد، والسعي وراء المعرفة وجاذبية العالم الطبيعي. تدور أحداث الرواية حول حياة عالم شاب يدعى بول، الذي يجد نفسه محبطًا من بيئة الحياة الأكاديمية المنظمة والخانقة. يشعر بول بأنه محاصر وغير محقق، ويبدأ في التشكيك في الغرض من دراسته والتوقعات المجتمعية الموضوعة عليه. في بحثه عن الإلهام والمعنى، ينبهر بول بقصة "الباحث الغجري"، وهو شخصية مراوغة من الماضي تخلت عن التعليم التقليدي لصالح حياة الحرية والمغامرة. يمثل الباحث الغجري المثل الأعلى للشخص الذي رفض الأعراف المجتمعية واعتنق نوعا مختلفا من المعرفة - معرفة لا يمكن اكتسابها إلا من خلال الخبرة والاستكشاف الشخصي. بينما يتعمق بول في أسطورة الباحث الغجري، يبدأ في التشكيك في قيمة تعليمه والقيود التي يفرضها المجتمع. يصبح مضطربا ويتوق إلى حياة عفوية وأصالة بعيدا عن حدود العالم الأكاديمي. يصور لورانس بمهارة الصراع بين شوق بولس للحرية وخوفه من الرفض المجتمعي. من خلال الأوصاف الحية والنثر الاستبطاني، يغمر لورنس القارئ في صراع بولس الداخلي، ويدعونا إلى التفكير في رغباتنا وتطلعاتنا. علاوة على ذلك، يؤكد "الباحث الغجري" على أهمية التواصل مع الطبيعة كوسيلة للعثور على الذات الحقيقية. يصور لورانس مشهد الريف بشكل جميل، ويستخدمه كخلفية للتحول الشخصي لبول. يصبح العالم الطبيعي ملاذا يستطيع فيه بولس الهروب من ضغوط المجتمع وإعادة اكتشاف عواطفه ورغباته. في الختام، قد تكون رواية "الباحث الغجري" إحدى روايات دي إتش لورانس الأقل شهرة، ولكن لا ينبغي إغفال أهميتها. مستوحى من قصيدة ماثيو أرنولد، يتعمق هذا العمل المثير للتفكير في موضوعات عالمية لاكتشاف الذات، والسعي وراء الأصالة، والصراع بين المطابقة والحرية الشخصية. من خلال سرده المقنع وتصويره القوي لتأثير الطبيعة، يشجع كتاب لورنس "الباحث الغجري" القراء على التشكيك في الأعراف المجتمعية واحتضان مسارهم الفريد في الحياة.

خلفية "الباحث الغجري":

تعتبر روايته "الباحث الغجري" الصادرة عام 1928 أقل شهرة مقارنة ببعض أعماله الأخرى مثل "الأبناء والعشاق" و"عشيقة السيدة تشاتيرلي". ومن الجدير بالذكر أن "الباحث الغجري" ليست رواية تقليدية بل هي مجموعة من القصص تتمحور حول موضوع مركزي. عنوان الرواية يشيد بقصيدة "الباحث الغجري" لماثيو أرنولد. تحكي القصيدة قصة عالم ترك دراسته لينضم إلى مجموعة من الغجر المتجولين المعروفين بحكمتهم الفطرية. يتخذ لورانس في روايته هذه القصيدة نقطة انطلاق لاستكشاف موضوع الهروب والبحث عن المعنى في الحياة. إنه يتعمق في رغبة الإنسان في الحرية والوفاء، ويعطي صوتًا للشخصيات التي تتوق إلى حياة خارج حدود الأعراف المجتمعية. تدور أحداث الرواية في الريف الإنجليزي المثالي، وهو ما يمثل تناقضًا صارخًا مع قيود الحياة الحضرية. يصبح الموقع تمثيلاً مجازيًا للروح البشرية، التي غالبًا ما تكون محاصرة ومختنقة بمتطلبات المجتمع. من خلال الأوصاف المؤثرة والحيوية، يؤكد لورانس على جمال الطبيعة، ويسلط الضوء على قدرتها على إلهام وإيقاظ الحواس. يصبح المكان نفسه شخصية في الرواية، يحمل أهميته الخاصة في السرد. تتنقل الشخصيات في "الباحث الغجري" عبر تعقيدات ذواتهم الداخلية بينما يتصارعون مع أدوارهم في المجتمع. يقدم لورانس مجموعة متنوعة من الأفراد، ولكل منهم صراعاته ورغباته المميزة. من الفنان المحبط الذي يبحث عن الإلهام الإبداعي إلى ربة المنزل المضطهدة التي تتوق إلى التحرر، ينسج لورانس قصصهم معًا ليشكل نسيجًا للوجود الإنساني. بالإضافة إلى استكشافه للمشاعر الإنسانية، يعكس " الباحث الغجري " أيضا اهتمام لورانس بالفلسفة والروحانية. إنه يتعمق في الجوانب الغامضة والباطنية للوجود الإنساني، متحديا المعتقدات الدينية والمجتمعية الراسخة. تشجع الرواية القارئ على التشكيك في قيمة وهدف الهياكل والأعراف التقليدية، وتحثه على تمهيد مساراته الخاصة في الحياة. من خلال سرده المتقن للقصص وأسلوبه المميز في الكتابة، يثير لورانس إحساسا قويا بالتعاطف لدى القارئ، ويغمره في العوالم الداخلية لشخصياته. إنه يتجاوز الروايات التقليدية، ويقدم لمحة عن تعقيدات وتناقضات التجربة الإنسانية. في الختام، "الباحث الغجري" هو عمل عميق ومثير للتفكير من تأليف دي إتش لورانس الذي يستكشف موضوعات الهروب واكتشاف الذات والبحث عن المعنى في الحياة. من خلال أوصافه الحية وشخصياته المتعددة الأوجه، يتحدى لورانس الأعراف المجتمعية ويدعو القراء إلى التفكير في تطلعاتهم ورغباتهم. تقف هذه الرواية بمثابة شهادة على قدرة لورانس الفريدة على الخوض في أعماق المشاعر الإنسانية والتقاط تعقيدات النفس البشرية.

حبكة الرواية ومكانتها، والتي تدور أحداثها حول مجموعة من طلاب الجامعات في إنجلترا خلال أوائل القرن العشرين.

في رواية دي إتش لورانس "الباحث الغجري"، تدور أحداث القصة في إنجلترا خلال أوائل القرن العشرين وتدور حول مجموعة من طلاب الجامعة. تتبع القصة رحلتهم عبر الأوساط الأكاديمية، واستكشاف موضوعات الشباب والمعرفة والسعي وراء نوع مختلف من التعليم. تدور أحداث الرواية في مدينة بروتون الخيالية، التي تقع بالقرب من الحرم الجامعي. الشخصيات الرئيسية، ريتشارد تيمبيست وأصدقاؤه، هم طلاب جامعيون يدرسون مواضيع مختلفة مثل الأدب والفلسفة والتاريخ. يصور لورانس بيئة الجامعة بوضوح، ويصور جو الخطاب الفكري، وحماس الشباب، والسعي وراء المعرفة. مع تطور القصة، يصاب ريتشارد، بطل الرواية، بخيبة أمل من الدراسات الأكاديمية التقليدية. يبدأ في التشكيك في غرض التعليم وصلته بنموه الشخصي وسعادته. يقوده هذا الصراع الداخلي إلى الشروع في البحث عن نوع مختلف من الحكمة، حكمة تتجاوز حدود الفصل الدراسي. في خضم بحثه عن نفسه، يواجه ريتشارد الشخصية الفخرية، "الباحث الغجري". إن الباحث الغجري هو شخصية أسطورية، نشأت من أغنية إنجليزية قديمة، ويقال إنها تخلت عن الحياة الأكاديمية التقليدية من أجل حياة الحرية والتنوير. مستوحاة من هذا الرقم، يشعر ريتشارد وأصدقاؤه برغبة جديدة في التحرر من القيود الأكاديمية والتوقعات المجتمعية. مع تطور الحبكة، تتصارع الشخصيات مع رغباتهم وطموحاتهم الخاصة، وتواجه صراعات بين النمو الشخصي والأعراف المجتمعية. يرسم لورانس صورة حية للنضالات التي يواجهها الشباب في عالم متغير، ممزق بين التقاليد والأفكار الجديدة. من خلال استكشافه للمؤامرة والمكان، ينقل لورانس بمهارة رسالة أساسية حول قيمة التعليم وأهمية النمو الشخصي. تشجع الرواية القراء على التشكيك في الحكمة التقليدية، والبحث عن المعرفة خارج المؤسسات الرسمية، واحتضان حرية الفكر والاستكشاف. بشكل عام، "الباحث الغجري" رواية مثيرة للفكر تتعمق في تعقيدات الشباب والبحث عن المعرفة. من خلال غمر القراء في بيئة الجامعة في إنجلترا في أوائل القرن العشرين، يخلق لورانس عالما غنيا وحيويا يعمل كخلفية للصراعات الداخلية للشخصيات وينقل في النهاية رسالة قوية حول السعي وراء الحكمة واكتشاف الذات.

وفي الختام، تسلط رواية "الباحث الغجري" للكاتب دي.إتش. لورانس الضوء على عدة رسائل وموضوعات مهمة. من استكشاف التوقعات المجتمعية وقمع الرغبات الفردية، إلى استكشاف تأثير الطبيعة العميق على الروح الإنسانية، يقدم عمل لورانس للقراء منظورا مثيرا للتفكير ودقيقا حول الحالة الإنسانية. من خلال شخصية الباحث الغجري، يدعونا لورانس إلى التشكيك في المسار التقليدي المرسوم لنا والنظر في العواقب المحتملة لتجاهل أصواتنا الداخلية. علاوة على ذلك، تؤكد الرواية على قوة الطبيعة كمصدر للإلهام والحكمة والعزاء. إن رسالة لورانس واضحة: من خلال إعادة الاتصال بأنفسنا الحقيقية وغمر أنفسنا في عجائب العالم الطبيعي يمكننا أن نجد الرضا الحقيقي والوفاء. ومن خلال التعامل مع هذه الرسائل الأساسية، يتم تشجيع القراء على التفكير في حياتهم وخياراتهم، مما يلهم في النهاية فهما أعمق لتعقيدات الوجود الإنساني.

***

محمد عبد الكريم يوسف

فاعلية المهرجان ومقومات فن الحكاية - قراءة في وقائع مهرجان شهاب الدولي الأول لفن الحكاية

تقديم: تعد الحكاية أقدم الأنواع الأدبية التي عرفتها الشعوب ويتم تداولها شفهيا، الحكاية نوع أدبي قوامه سرد الأحداث ووصف الشخصيات، وتتطلب وجود شخصية السارد/ الراوي، وتتضمن بعض الأنواع الأدبية (حكاية) وخير مثال (المسرحية).

أما فن الحكاية بمعناه الدرامي فهو من أشكال الفرجة يقدم فيه (الحكواتي) - بالصوت والإلقاء - حكاية متسلسلة الأحداث ويوضح أفعال وأقوال الشخصيات، وذلك يتطلب وجود مكان للحكواتي يجعله محط نظر وتركيز المتفرجين. وعرف العرب (الحكواتي) وسمته بعض الشعوب بــ (القصخون) وكان يستقي حكاياته من التراث والتاريخ، يستقيها من بعض الكتب مثل (ألف ليلة وليلة)

هل بقي فن الحكواتي (القصخون) على النسق القديم أم ثمة تجديد وإضافات خاضت العروض تجربتها؟ لا يوجد فن يبقى على صورةٍ ثابتة لزمن طويل، لان ذائقة المتلقي متحركة ومتغيرة بحسب معطيات العصر وتطورات التكنولوجيا، ذائقة المتلقي وتوجهاته في مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين تختلف عن ذائقة وتوجهات المتلقي قبل عشرسنوات أو أكثر، فقد:

* كان فن الحكاية مقتصرا على الرجال واليوم دخلت المرأة هذا المجال.

* كان يقدم في المقاهي والدواوين، ويقدم اليوم على خشبة المسرح.

* كان الحكواتي مكتفيا بأداءه الصوتي، واليوم يستعين الحكواتي بأدوات واكسسوارات ودمى.

لقد أضيفت لفن الحكواتي عناصر درامية وجمالية جعلته أكثر قبولا لدى المتلقي المعاصر طفلا كان أم راشدا.3463 المهرجان

وقائع المهرجان:

أقامت مؤسسة الهدى لثقافة الأطفال والناشئين بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح مهرجان شهاب الدولي الأول لفن الحكاية من 20 - 22/ شباط- 2024 على قاعة مسرح الرشيد في بغداد، بأدارة وتنظيم الاستاذ حسين علي صالح والشاعر جليل خزعل. ثمة التفاتة رائعة في حفل افتتاح المهرجان وهي تكريم أحد رواد الحركة الفنية في العراق، وهو الفنان (عزيز كريم) الذي أسهم بأعمال درامية مهمة في المسرح والتلفزيون والإذاعة، وقدم برنامج حكايات في التلفزيون.

استمر المهرجان ثلاثة أيام، وهو المهرجان الأول من نوعه في العراق، اجتمع الحكواتيين من تسع دول: فرنسا: نعيمة محايلية - عُمان: ميثاء المنذرية - تونس: رائدة قرمازي - السعودية: فاطمة عبدالله الحاجي - الجزائر: ماحي صديق - ايران: بتول كيميائي - لبنان: سارة قصير - فلسطين: حمزة العقرباوي - ومن العراق: حسين علي هارف ولقاء الجبوري و علي جابر الطائي وإستبرق محمد.

عينة من العروض (ستة نماذج)

قدم (ماحي صديق) حكايته باللهجة الجزائرية مع الاستعانة ببعض المفردات باللهجة العراقية بقصد إفهام المتلقي الصغير وتيسير التواصل معه، محور الحكاية الصياد (المانع) ووقوفه مع (غزة) وحمايتها من براثن الاحتلال، اختلط في الحكاية شيء من الخيال وشيء من الحقيقة، امتزج مع الإلقاء شيء من الغناء، مع الحرص على مشاركة الجمهور بترديد بعض الحوارات (مثل الصلاة على الرسول).

قدمت (بتول كيمائي) الحكاية باللغة العربية وليست بالفارسية، تدور احداث حكايتها حول الفيل الكبير الطاغي يسحق البيض والعصافير الصغار، وفشلت محاولات إقناع الفيل بتغيير مساره، تعاون العصافير والاصدقاء وتمكنوا من اسقاط الفيل في حفرة كبيرة، وهؤلاء العصافير واصدقائهم يشبهون اطفال غزة ويجب ان يتعاون الجميع معهم ليتخلصوا من الفيل المحتل، لم تستعن الحكواتية بغير تعبير الصوت وتنوع الإلقاء في إيصال مغزى حكايتها.3464 المهرجان

ذهبت الحكواتية العمانية (ميثاء المنذرية) إلى اللغة العربية الفصحى المبسطة في مخاطبة المتلقي الصغير. خلاصة حكايتها: وجد نحات فانوسا سحريا وحالما فركه خرج منه مارد يعمل على تحقيق الامنيات، طلب منه النحات ان يكون اقوى شيء في العالم مثل الشمس حارقة، ثم سحابة تسقط مطرا غزيرا، وحينها غنت الحكواتية بمشاركة الأطفال أغنية من التراث العماني عن المطر، وبعدها تحول إلى هواء فطغى وصار اعصار، وأخيرا تحول النحات إلى جبل لانه الاقوى ولكنه وجد ان انسان ينحت فيه ويفتت صخوره، فطلب من المارد إرجاعه إلى صورته الأولى وهي الإنسان لأنه الاقوى، في نهاية الحكاية خاطبت الأطفال: أيها الناس اقنعوا بما لديكم، انتم الاقوى، لا تعتمدوا على الفوانيس، ادعوا ربكم.

استهلت الحكواتية (نعيمة محايلية) دخولها إلى المسرح بأغنية باللهجة المحلية (حاملين حكايات لحبايب قلبي) ترتدي زيا شعبيا بألوان زاهية مع شال فرشته على الارض، وبدأت حكايتها بالمستهل التقليدي للحكواتي (كان يا ما كان…) وروت حكاية خالتها (يرما) الحطابة وابنها بهلول الثرثار، في احد ايام الاحتطاب في الغابة، وجد بهلول صندوقا ونادى على امه لترى الصندوق وتفتحه - بحركة إيمائية - لتجد كنزا ثمينا يخلصها من الفقر، ولكن قانون القرية يمنعها من التمتع بالكنز، لأن كل شيء يوجد في أي مكان يكون ملك رجال القرية، فكرت (يرما) وقررت اخذ الكنز، وقبل أن تنقل الكنز إلى بيتها أعدت ارغفة مغمسة بالعسل، حملت الصندوق ووضعته تحت الحطب لكي لا يراه أحد، أوصت ابنها بهلول بعدم قول شيء عن الكنز لأي أحد، وفي الطريق إلى الكوخ كانت ترمي الارغفة على بهلول، وتخبره ان السماء امطرت ارغفة خبز بالعسل، وبمجرد وصولهم افشى بهلول سر الكنز في القرية، حضر رجال القرية إلى كوخ (يرما) وطلبوا الكنز، نادت يرما على بهلول وسألته: ماذا أخبرت الناس يا بهلول؟ اجابها: وجدنا كنزا وكانت السماء تمطر أرغفة بالعسل. قالت (يرما) للرجال: أتصدقون أن السماء تمطر أرغفة بالعسل، قالوا كلا، إجابتهم: إذن كيف تصدقون أننا وجدنا كنزا؟ يا رجال، ان ابني ثرثار، رجع الرجال خائبين، اما (يرما) فأخذت الكنز وولدها فجرا، ورحلت عن القرية إلى مدينة جميلة مثل بغداد وعاشت بسعادة. عملت (نعيمة محايلية) على محاكاة أصوات شخصيات حكايتها، وصورت الوصف بإلقائها المعبر.3465 المهرجان

ربط (علي جابر الطائي) بين العراق وفلسطين عبر حكاية تاريخية، استقدم خلالها شخصية (البطل كلكامش) ملك اوروك - شارك جمهور الأطفال مع الحكواتي منذ بداية الحكاية بهتاف (الملك الملك يعيش الملك) فقد استنجد الناس في بلاد الشام لانقاذهم من الوحش (خمبابا) وفعلا قتل البطل كلكامش الوحش ووجد بالقرب منه طفلا، غرس غصن زيتون بجانب الطفل وأوصاه: (تمسك بأرضك كما تتمسك أشجار الزيتون في الأرض) وبعد آلاف السنين، عاد احفاد خمبابا إلى أرض فلسطين وتفاجئوا بأن الطفل الصغير أصبح امة وان شجرة الزيتون أصبحت حقولا، وختمت الحكاية بهتاف (تعيش تعيش فلسطين) رفعه الاطفال مع الحكواتي بصوت قوي.

خاتمة المهرجان كانت من نصيب الحكواتي (حسين علي هارف) وعلى رأسه الـ (سداره) البغدادية وعلى كتفيه العباءة العراقية، والى جانبه ظهرت (دميتان) في إطار بيت الدمى صنعها وحركها (علي جواد الركابي) و(خلدون كشكول) عرض حكاية (سلوان الفنان) الذي يهوى الفنون الرسم والخط والتمثيل العزف والنحت وأهم هواياته قراءة الكتب، وكل هواية لها فوائد على المستوى الفكري والجمالي، وذلك بأداء مشوق أثار جمهور الأطفال وحفزهم على المشاركة، وتحول العرض إلى متعة كبيرة عندما تجول الحكواتي بين الجمهور، استمر الحكواتي بطرح أسئلة على الأطفال وتنافسوا للإجابة عنها بصورة احتفالية.3468 المهرجان

 مؤشرات

قدمت بعض العروض باللغة العربية الفصحى المبسطة وبعضها باللهجة المحلية، وتنوعت عروض المهرجان، بحسب تنوع موضوعات الحكايات وبحسب تركيز الحكواتي على عدد من عناصر هذا الفن الدرامي دون غيرها، مع الأخذ بالاعتبار أن العنصر الأساسي لكل ما يقدم هو الحكاية، ومن البديهي أن الحكاية تقوم على السرد، لذا يصح تعريف فن الحكاية بأنه فن السرد الدرامي، مع إنشاء مقاربة تقول: كلما زادت العناصر الدرامية في فن الحكاية من حيث البنية (بداية - حدث صاعد - صراع - حدث نازل - نهاية) مع استخدام الازياء الخاصة والاكسسوار والإضاءة اقترب هذا الفن من عروض المونودراما.

1. تراوح زمن العروض بين عشر إلى عشرين دقيقة تقريبا.

2. جميع الحكايات التي قدمت كانت مشوقة مع التباين في قدرة الحكواتي على صناعة التوترات بالتعبير الجسدي والإلقاء من خلال تغيير الأصوات بحسب الشخصيات، التلوين الصوتي والتعبير المتنوع واستخدام التنغيم والغناء.

3. استخدم الحكواتيون منطقة وسط وسط الخشبة وأسفل وسط الخشبة غالبا، مع التحرك يمينا ويسارا، والعودة إلى الاستقرار في أسفل الوسط.

4. ضعف حضور عنصر الكوميديا وحس الفكاهة في معظم الحكايات.

5. استخدام بعض الحكواتيين اكسسوارات والعمل على تغييرات المظهر.

6. عمل الحكواتيون على إنشاء خطوط التواصل مع المتلقي وحثه على المشاركة بترديد جمل محددة، وإدامة تركيز المتلقي الطفل مع الأداء من خلال الحركة والايماءة، وقد استثمر الحكواتيين عنصر التكرار لبعض الجمل والحوارات والاشارة إلى الجمهور لإعادتها معهم لتحقيق غايتين:

الاولى: الإبقاء على خط التواصل بين الحكواتي والجمهور.

الثانية: تأكيد الجمل والحوارات وتثبيتها في ذاكرة المتلقي الصغير.

حقق المهرجان ثلاثة أهداف:

1. إحياء فن الحكواتي وتعريف الجمهور العراقي به لا سيما الأطفال.

2. اطلاع الطفل العراقي - وعموم الجمهور الحاضر- على حكايات متنوعة من ثقافات من الدول المشاركة.

3. الموضوعة المحورية للمهرجان هي نصرة الشعب الفلسطيني في غزة ودعمهم من خلال فن الحكواتي وبالنتيجة ترسيخ هذه الفكرة في مدركات الأطفال.

***

د. حبيب ظاهر حبيب

"في أحد الأيام تفاجأ الجميع بوافد جديد، أقام له خيمة من الصوف على سفح الجبل قريبا من الشجرة.. لم تحملهم ظنونهم بعيدا، وغضوا الطرف عن تواجده قريبا من شجرتهم ومقامهم، لكنهم أصبحوا في حذر إزاء أي تصرف جديد بهذا القادم الغامض" ص١

كان هذا المشهد من رواية الصائل بمثابة المحور الذي ستدور حوله أحداث العمل.

الصائل هي مرافعة تاريخية تقوم على تتبع أحداث تاريخية مهمة منذ بدايات الاستيطان على أرض فلسطين وحتى بدايات الانتداب البريطاني وما بين هذين الحدثين من مفاصل دقيقة، اعتمد سرسك في توثيقها على العديد من المراجع كما أخبرني وكما يخبر بها العمل. ومن هنا فقد نهض الصائل على أساس مادة تاريخية اعتمدها الكاتب وقدمها وفقا للخطاب الروائي القائم على البعد التخييلي .

ومن الطبيعي أن كُتب التاريخ منهجية وموضوعية وقد تجعل التاريخ صارماً جامداً يبتعد عن الهزات النفسية والمحن الإنسانية، فيترك الفراغات التي يأتي الروائي ليملأها ويستنطق سطورها. فالتاريخ لا غنى عنه لكاتب الرواية التاريخية، غير أنّ الرواية تحرك هذا التاريخ وتعيد قراءته. والروائي يؤسس عالما من عالَم، محللا ومؤولا لعلاقات اجتماعية وإنسانية بحوارات داخلية وخارجية يستنطق من خلالها الحدث التاريخي وفضاءاته.

ومن المعروف أنّ الرواية التاريخية تجمع بين التاريخي والفني. وقد طغى التاريخي على الفني في رواية الصائل لذلك جاء قسم كبير منها على شكل الكتابة التقريرية وخاصة الحوارات التي أجراها على لسان الشخصيات الصهيونية، فهذه الحوارات لم يكن بالإمكان أن ترد على لسان غيرهم، فكان لا بد من نقلها على تلك الطريقة بهدف المصداقية والأمانة في نقل الحدث كما هو التوثيق التاريخي.

رواية الصائل عمل سردي تداخل فيه شخصيات متخيلة وأخرى تاريخية.

بالنسبة للشخصيات المتخيلة التي أسهمت في تسيير الأحداث نستطيع أن نجد الرئيسية والثانوية. أما الرئيسية فمنها برزت:

_شخصية "أبو إسحاق" تلك الشخصية اليهودية التي حلّت في القرية الفلسطينية. والتي جذبت النساء عن طريق ما يجلبه صاحبها من أقمشة وزينة وعطور. أما ما كانت الشخصية تشكله بالنسبة للرجال فقد كانت المتنفس الذي يهربون إليه من الزوجات والأطفال. شخصية تجيد فن الحديث كما وصفها الكاتب.

_"المختار" الذي لم يدرك حقيقة أبي إسحاق بالرغم من تحذير الأستاذ "عماد"

_"عطية" رجل القرية المسكين الذي احتواه المختار ذات يوم طفلا تائها لا أهل له. والذي سيصبح فيما بعد اليد التي يضرب بها أبو إسحاق أهل القرية. عطية الذي لفتت نظره بندقية أبي إسحاق فتعلق بها وكانت مدخل الأخير لاحتوائه والسيطرة عليه ففي ص٤ عن عطية على لسان السارد" ما جذبه كثيرا في متاع أبي إسحاق هو تلك البندقية".

_الأستاذ "عماد" يمثل الوعي حيث يتنبه منذ البداية لخطر أبي إسحاق، ويتجلى هذا ص٦ عن عماد على لسان السارد"ما لفت انتباهه هو أن أبا إسحاق قد كسب ثقة الرجال وعطفهم عليه دون تكبدهم عناء السؤال عنه، من هو؟ وماذا يريد؟

ويحذر سرسك من بساطة التفكير وحسن الظن من طرف المختار وأهل القرية وتصدي هذه البساطة لوعي عماد، ففي نفس الصفحة وعلى لسان السارد "لم يكن المختار قلقا ولم تفلح تساؤلات عماد في إثارة مخاوفه، أجابه بأن الرجل لا بد أنه راحل، إنه تاجر فلا داعي للتفكير كثيرا في هذه الأمور". لكن هذا الغريب "الصائل" الذي أوحت خيمته التي نصبها بالقرب من شجرتهم ومقامهم أنه راحل، أصبح مقيم بعد أن أغرى أهل القرية بالتراكتور الذي اشتراه وأوهمهم بأنه سيساعدهم في زيادة إنتاجهم عن طريق تأجيره لهم. وبزيادة الديون استطاع الحصول على قطعة أرض فأصبح ملاكا. هذه عواقب البساطة في التفكير وانعدام الوعي وقصر النظر التي حذر منها الكاتب، فما حصل حصل لكنه يحذر من القادم.

أما الشخصيات الثانوية فهي كثيرة مثل علي ابن المختار وزوجته وغيرهم.

أما الشخصيات التاريخية الواردة في الرواية فقد وظفها الكاتب لنقل الأحداث التاريخية المهمة التي تتعلق بالدسائس والمخططات التي هدفت إلى الاستيلاء على فلسطين. فكانت هذه الشخصيات تجتمع في مبنى صوره العمل أنه ناء ذي طلاء أحمر يحيط به الحراس من كل جانب ويقع في القدس. وكان عدد هؤلاء إثني عشر صهيونيا، ففي ص٢٨ على لسان السارد "كانوا قد قدموا من مختلف أنحاء العالم، كل واحد يرتدي بدلة أوروبية فاخرة، بعضهم يدخن الغليون أو السيجار وبعضهم يحتسي المشروب" وكما ذكر الكاتب كان هؤلاء يقومون بتلاوة مقتطفات من نصوصهم الدينية التي تبيح لهم أرض فلسطين وتعطيهم الأحقية في الاستيلاء عليها كونها أرض الأجداد. ومن خلال الحوارات الطويلة التي تدور بينهم نستنتج التناقض في التفكير الذي قامت عليه الصهيونية من حيث أنها حركة علمانية تتمرد على الدين لكنها تضطر إلى اللجوءإلى الدين واستغلاله لتحقيق غاياتها في فلسطين. كل هذا يلمح إليه الكاتب ويترك للمتلقي فرصة الوصول إليه.

ويتنقل الكاتب من خلال الشخصيات من القرية إلى مدينة فرانكفورت إلى تل أبيب ويافا ثم إلى اسطنبول ثم يعود إلى القرية وقد تم ما خطط له أبو إسحاق من الاستيلاء على المقام لأنه يرجع إلى أحد ملوك اليهود فيصبح مزارا لهم، ويتضح هذا ص٩٩ فيتحدث الكاتب عن زيارة اليهود في شهر آب للمقام حيث أصبح سوقا يعرضون فيه منتجاتهم ويقومون بعد ذلك بأداء طقوس غريبة عند المقام. وقد عمد الكاتب إلى هذه الرمزية حيث ينقل لنا سرسك محاولات اليهود إثبات جذورهم في فلسطين من خلال الحفريات التي يقومون بها في عرض البلاد أملا في إيجاد جذر واحد .. لكن هيهات فهم لا يمتلكون سوى جذور اصطنعوها هم، مصيرها الاقتلاع السهل، فشتان ما بين الأصلي والمزيف.

ويكمل الكاتب عملية التنقل بالمتلقي من مكان إلى آخر، يختارها بعناية حيث يركز كاميرته على أماكن الصفيح الساخن منها والذي كان أرضية خصبة لأحداث وتفاصيل مهمة جدا لا يسعنا حصرها في هذا المقال، ليكشف الكثير من الملابسات والحقائق والأسباب والمسببات التي أدت في النهاية إلى ضياع فلسطين كل هذا من خلال حوارات كان أكثرها حوارات خارجية أجراها على شخصياته التاريخية.

ثم في الصفحات الأخيرة من الرواية يتناول ما حصل بعد دخول اللنبي البريطاني فلسطين وانتدابها الذي مهد لوطن يهودي وردة فعل أهل فلسطين إزاء هذا الاستعمار الذي جاء تحت ستار الانتداب.

وأخيرا تعتبر رواية الصائل من الأعمال الشاقة التي تطلبت من الكاتب الكثير من البحث والتمحيص ومطابقة المعلومات، تم توظيفها في النص بتقنيات سردية.

***

بديعة النعيمي

إذا تجاوزنا الجذور الإغريقيّة لــ(المونودراما)، وما قدّمه "ثيسبيس"، يكون الألمانيّ "جوهان كريستيان براندز"  هو أوّل من دَشّن العمل المونودراميّ مع التّباين في تقييم ما قدّم، حيث أنّه أعاد بعض الحياة لــ"ثيسبيس"، إلّا أنّ الشّاعر الإنكليزي "ألفريد تينيسون"، كان له قدم السّبق في إطلاق اسم (المونودراما) على نصوصه، بالتّزامن مع أعمال المُفكّر الفرنسيّ "جان جاك روسو"، وكان لنصّه (بجماليون) أثراً لافتاً. بعدها توالت الأعمال المونودراميّة وأخذت بالتّطوّر والتّقنين، لاسيّما على يد الإيرلنديّ "صموئيل بيكيت"، الذي حرص على هذا اللّون من المسرح، وتقديمه بوصفه الأقرب إلى التّعبير والمشاكسة لكلّ إشكالات الحياة والمجتمع.

وعربيّاً، يُمكننا القول: إنّ "إبن المغازليّ"، هو أوّل من جَسّد الحكايات بشكلها (المونودراميّ)، وقد ذكره المؤرّخ الكبير "أبي الحسن بن عليّ المسعوديّ" في كتابه الشّهير (مروج الذّهب ومعادن الجوهر)، ووصفه بأنّه (كان حَكّاءً في غاية الحذق، يضحك الثّكلى)، وكان "المغازليّ" يقصّ الحكايات في الطُّرقات وبين النّاس.

وعلى المستوى الأكاديميّ، كانت الرّيادة العربيّة لفنّ (المونودراما) عراقيّة وبإمتياز، وعلى يد المسرحيّ الكبير "يوسف العانيّ"، من خلال عمله الموسوم (مجنون يتحدّى العالم)، والذي كَتَبَه عام 1949 وقام بتأدية دوره عام 1950.

وعلى الرّغم من الموقف السّلبيّ للكثيرين ضدّ (المونودراما)، وبالأخصّ الإنكليزيّ "بيتر بروك"، الذي يعتبر أنّ (المونودراما تفقد المسرح الكثير من ألقه ووهجه الخاصّ، لأنّها تعتمد المُمثّل الواحد الذي ينبني عليه العرض بأكمله، فلا تفاعل بين مُمثّل أوّل ومُمثّل ثان ضمن ثنائيّة الأخذ والرّدّ، التي تؤسّس لفعلٍ دراميّ حقّيقيّ على الخشبة)، إلّا أنّها في السّنوات الأخيرة، أخذت بالاتّساع والاستحواذ على اهتمام المشتغلين بالشّأن المسرحيّ.

"سبايكر" مونودراميّاً!

(النّاجي)، هو عنوان العمل المسرحيّ المونودراميّ، الذي تحدّث عن الفاجعة الإنسانيّة الكُبرى، التي تمّ ارتكابها في قاعدة "سبايكر"، وهو من إبداعات أبطال (الرّصيف المعرفيّ) في محافظة ميسان، وقد تمّ عرضه في أكثر من محافظةٍ ومنها العاصمة بغداد.

كَتَبَ النّصّ لهذا العمل الرّائع، الكاتب الشّاب رعد الغرّاويّ، والذي أبدع سابقاً في كتابة أكثر من نصٍّ مسرحيّ، وفي كتابته لــ(النّاجي)، لم يتجاوز الخصائص الاشتراطيّة الرّئيسة للنّصّ المونودراميّ، حيث البُعد المأساويّ/ الملحميّ للموضوعة المطروحة والمُتجسّدة في شخصٍ عاش التّجربة المريرة للحدث، لينفتح من خلال ذلك إلى أبعد مديات الاستفهام، وهو يسأل عن القضايا الإشكاليّة الكبيرة:

(يشعر في التّعب:

هذا شعور عزرائيل في مجزرة سبايكر

منقولٌ من صفحته الشّخصيّة على موقع "الفيس بوك").

وكذلك، أبدع الغرّوايّ في تأكيده على زمكانيّة المأساة وتعدّد مستوياتها وتداخلاتها، لمحاكاة الواقع، تارةً من خلال محاكمته للمآلات التي انتهى إليها، وتارةً أخرى من خلال طرح أسئلة الجدوى التي ما زالت تبحث عن مرافئ الإجابة.

كما أنّ اللّغة في (النّاجي)، مستوفية لاشتراطات عمل (المونودراما)، فهي جاءت سرديّة وسلسة وأقرب إلى المقطوعة النّثريّة وأبعد ما تكون عن التّرهُّل والاستعارات غير المُناسبة، بل اشتغلت على الحدث في صيغته الماضية بتداعٍ جميلٍ للأفكار، كما أنّ النّصّ ضاجّ بالدّلالات، بدءاً من عنوانه الذي ينفتح على احتمالات النّجاة التي أرادها الكاتب:

(أيّها الموت.. أيّها القُبطان القديم:

أما آن الأوان، أن ترفع المرساة ونبحر إلى اللامكان؟!

لا الموت ينتهي، ولا العراق).

(النّاجي) عليّ الغاليّ:

جَسّد شخصيّة (النّاجي)، الحقوقيّ والإعلاميّ والمُمثّل "عليّ الغالي"، الذي أبدع في تأدية الدّور، وكان بارعاً في توظيف طاقاته الجسديّة التي تتشكّل منها دلالات التّعبير عن فكرة وجماليّة النّصّ.

كما أبدع (النّاجي) عليّ الغالي في نقل المتن المأساويّ لفاجعة "سبايكر"، بطريقةٍ أكثر من رائعة، معتمداً على قابليّاته التّمثيليّة والتّماهي المُطلق مع النّصّ وفكرته، لذا كانت آليّات التّعبير والإيصال عنده في أعلى مستوياتها. بالإضافة إلى إيمانه بأهمّيّة ومحوريّة الفكرة التي تناولها النّصّ، كونها تتعلّق بواحدةٍ من أبشع الجرائم الإنسانيّة في العصر الحديث.

تمكَّن (النّاجي) "عليّ الغالي" مونودراميّاً، أن يحمل كُلّ السّياقات الدّلاليّة التي اكتنزها النّصّ ويوصل رسالته من خلال قدراته العالية في الأداء.3449 عبد القدوس قاسم

العَرّاب عبد القدّوس قاسم

(النّاجي) من إخراج الفنّان الرّائع القريب حدّ النّبض الشّهيد "عبد القدّوس قاسم"، الذي أخرج العديد من الأفلام السّينمائيّة القصيرة والأعمال المسرحيّة الجميلة، التي شاركت في مهرجاناتٍ عراقيّة وعربيّة، وحصلت على جوائزها المُتقدّمة.

يمتلك عبد القدّوس قاسم، قدراته الخاصّة والواعية للإخراج، وهذا ما مكّنه من خوض غمار تجربة (المونودراما)، حيث أبدع في التّعاطي مع طبيعة النّصّ المونودراميّ المختلف، وتوجيه المُمثّل حسب إيقاعاته، بالإضافة إلى امتلاكه الأدوات النّاجحة لترجمة الرّؤية الإخراجيّة، بما يُحقّق الدّهشة والجمال لدى المتلقّي.

 (النّاجي): عمل مسرحيّ/ مونودراميّ، يضجُّ بالرّوعة والجمال والإبداع والإنسانيّة والوَجَع، مع التّأكيد على قِلّة الإمكانات المادّيّة لتنجيزه، ولو قُدّر له ما يُقدّر للأعمال الهزيلة والهابطة التي تُقدّمها المؤسّسات الرّسميّة، لكان له شأن آخر.

آخر ما قاله (النّاجي) عن رفاقه المغدورين في "سبايكر":

(لقد تركتهم جثثاً طافية على النّهر، ويسوق تلك الجثث، صوت لأمٍّ جنوبيّةٍ مفجوعة، وهي تُردّد وتقول: يمّه إذكريني، من تُمرّ زفّة شباب).

***

علاء البغدادي

كاتبٌ وباحثٌ من العراق

...................................

اشارات:

1- عبد القدّوس قاسم: فَنّان مسرحيّ وناشط، وأحد أبرز قادة الحِراك الجماهيريّ في محافظة ميسان، تَمّ اغتياله مع أحد أصدقائه.

2- ما كَتَبتَه ليست رؤية نقديّة إطلاقاً، فلست من المختصّين بالشأن المسرحيّ، لكنّي دوّنت انطباعي عن العمل كمتلقٍ ومتذوّقٍ للجمال والألم.

 

أنا وغائب طعمه فرمان، من ذكرياتي الشخصية عنه!

بالنسبة لرواية "الصخب والعنف" للأميركي وليم فوكنر، فقد استعرتها من غائب ط. فرمان، وتحدثت معه بعد قراءتها، فإنه أكّد عدم إعجابه بأعماله لكنه لم ينكر رغبتَه في الاطلاع على أسلوبه، وتأثرَه (ليس بالضرورة المباشر) بتكنيكه كما يبدو ذلك واضحًا من الشكل البوليفوني الذي حاولَ اعتمادَه لبناء روايته الثانية “خمسه أصوات”. ويُعد الروائي المصري فتحي غانم (في حدود معلوماتنا القديمة   المنتشرة في صحافة الثمانينات) أول من استخدم هذا الشكل في روايته “الرجل الذي فقد ظله”(1)، ثم حذا حذوه فرمان، ومن بعدهما ظهرت رواية “شرق المتوسط”(2) لعبد الرحمن منيف، و”البحث عن وليد مسعود” و”السفينه”(3) لجبرا إبراهيم جبرا، و”أصوات”(4) سليمان فياض، و”الرجع البعيد” لفؤاد التكرلي. ولا يعني هذا أن كل هذه الروايات متشابهة في بنيتها وشكلها الروائي مع “الصخب والعنف”(5) تشابهًا كبيرًا أو متأثرة بها  تأثرًا مباشرًا، علمًا أن هذه الفكرة كانت متداولةً في صحافة السبعينات الأدبية العربية قبل ان يقولها اي ناقد عراقي بحد اته.

أما من ناحية "الأجواء" والأسلوب فنلاحظ أن روايات جبرا إبراهيم جبرا و(فؤاد التكرلي إلى حدما) أكثر "التقاءًا" مع عالم فوكنر بسبب توجهاتهما الأدبية واهتماماتهما باللغة والعالم الداخلي للإنسان.

إنّ كلَّ ما يقرأه المبدع يبقى في عقله الباطني وإدراكه الداخلي ويمكن أن يستوحيه في أعماله بدون وعيه. وإني أعرف أن غائبًا لم يكن يميل إلى هذا النوع من الروايات المعقدة، أما قراءتها بالإنجليزية فلا بد أنها ستكون أصعب. وأعلم أيضاً أنه كان يبحث عن مضامينَ عراقية جديدة "لنضوب" ذاكرته بعد إصداره أربع روايات مكرسة لتجاربه الشخصية، وسمعتُ أنه اعتمد في ذلك على بعض أصدقائه المقربين، وسألته عن هذا الأمر، فأجابني مبتسمًا كعادته بأنه يستمع، لكنه يدقق كل شيء.

"ظلال على النافذة" مكرّسة لموضوعة اجتماعية: مشكلة عائلة عراقية صغيرة بأسلوب واقعي ممزوج بأليغوريا "بسيطة" وعظية كما يبدو من أسماء أبطالها التي تدل على حالها وطبيعتها ومكانها في المنظومة الروائية، أما "الصخب والعنف" فإنها لا تصور تفكك أسرة عادية فحسب، بل انهيار سلالة عريقة تمثل شرف الجنوب، أضطر الكاتب فيما بعد  إلى شرحها بالتفصيل لصعوبتها، في ملحق خاص مهم لطبعة جديدة للرواية.

وهذا وحده كافٍ لتوضيح الفرق الكبير بين الروايتين! ولنفترض أنه يمكن ملاحظة بعض التشابه الطفيف بين شخصيات هاتين الروايتين مثل كوينتن وبنجي وجاسون وكادي وماجد وفاضل وشامل وأختهم فضيلة وحسيبة زوجة فاضل، التي هربت من العائلة بسبب سوء معاملة أفرادها لها باعتبارها بلا حسب (لاحظ أن اسمها حسيبه)، فهي لا تشبه كادي، التي فقدت بكارتها بدون زواج وتهرب من عائلتها(6).

يتميز فوكنر بغموض سرده عن شخصياته وتقديمها من خلال لغاتها المتعددة المستويات وبتكنيك معقد يصعب فهمه، ولغة مثقلة بجمل وعبارات تصور انتقالات الزمان والمكان والهرونوتوب يجعلها عصية الفهم، ولهذا يصعب تقبل فكرة  مقارنتها بروايات غائب فرمان الواقعية والصريحة والبعيدة عن التعقيدات. إنهما من مدرستين مختلفتين تمامًا. يكفي أن نذكر أن فوكنر شُهر بكتابة أطول جمله روائيه 1200 كلمة!

لنأخذ مثلاً بنجي المتخلف عقليًا، فهو غريب الأطوار يتواصل مع الآخرين من خلال الشكوى، يقدّمه فوكنر في فصله الأول المكرّس له بلغةٍ تعكس مستوى عائقِه الكبير، حيث لا يستطيع تمييز الحاضر عن الماضي، فهو يروي كلَّ أحداث الماضي قبل 30 سنة كما لو أنها تحدث حاليًا، بحيث يحصل الانتقال الزمني دومًا، فيبدو ذلك واضحًا حتى في الجملة الواحدة.

إنه معتوه غير قادر على أي شيء، لذلك لا يمكن مقارنته بفاضل الشاب النجار الطيب لمجرد أنه بسيط وأن زوجته تركته لسوء معاملة أهله لها، ولم يحدث مثل هذا التعامل مع الزمان في "ظلال على النافذة".

والأب عبد الواحد ليس بمستوى كومبسن فكريًا وثقافيًا واجتماعيًا ولا حتى مجتمعيًا، ولا يائسا أومدمنًا، بل هو إنسان يعاني من الناستولجيا يبحث عن حبه القديم وكنّته حسيبة (المجهولة الحسب عكس كادي العريقة)، والتي لم تهرب لتبيع الهوى مثل كادي.

كونتن أراد أن "يسترَ" أخته كادي لفقدها عذريتها بلا زواج، ولهذا يدّعي أنه هو من قام بذلك ليحفظ شرف العائلة كلها قبل أن ينتحر، وطبعًا لم يصدقه والدُه. كونتن رمز أليغوري يجسد أصالةَ العائلةِ وسلالتَها العريقة، لهذا تسمي اختُه كادي طفلتَها (اللقيطة) التي تحملها خارج العلاقة الزوجية، باسمه (كونتن) الذي يتكرر في العائلة.

فالجنس هنا ليس رمزًا عاديًا فحسب، بل أليغوريا عميقة للغاية تُجسّدُ صراعَ الشمال والجنوب، تم تصويره بلغة لا يمكن مقارنتها ب "ظلال على النافذة" لعدم وجود هذه الفكرة رغم بعض الإيحاءات.

أما ماجد فإنه اسم على مسمى، بطل إيجابي (وعظي إلى حد ما) عكس أخيه شامل، غير محبط ولم يفكر بالانتحار مثل كونتن ولم يمارس "سفاح المحارم" ولم يقل ذلك ولم يطرح هذه الفكرة او حتى الرمز العادي، بل تعاطفَ مع زوجة أخيه حسيبه رغم تلميحاته عنها في مونولوجاته متذكرًا صديقته القديمة زهره.

إنه الأخ الثاني، شامل (اسمه يدل على سلوكه الوصولي) هو الذي حاول أن يختلق علاقةً جنسيةً بين الأخ الكبير ماجد وزوجة أخيهما الأصغر فاضل في مسرحيته الفاشلة ويعيد فلسفة العلاقة العائلية.

وهناك من رأى أن شخصية شامل مفتعلة أو دخيلة وأن الروائي أدخلها بإيحاء من أحد المقربين منه، أو مُستوحى من شخصيةِ كاتب. وبالتأكيد لو طُرحتْ هذه الفكرة أو المعلومة على غائب، لاكتفى بابتسامته المعهودة، أو لأنكرها قائلاً: "لا تصدق"، ولهذا لا أتذكر أني استفسرتُ منه عن هذا الأمر، ولأنه أيضًا غير مهم.

أما جاسِن الذي يعكس التغيرات الاقتصادية والرأسمالية والمجتمعية الهائلة في الشمال والجنوب، فلم يصل شامل إلى مستواه من الانحطاط رغم سلبيته، إذ إن المجتمع العراقي لم يُوصف وهو ينحدر إلى مثل هذه الهاوية في "ظلال على النافذة" كما هو الحال في "الصخب والعنف"، وأن غائبًا لم يستطع تصويره على هذه الشاكله لأسبابه الخاصة ولكونه أسيرَ الحنين والناستولجيا، ولهذا نلاحظ أن بطل الرواية ماجد إيجابي رفض كلمة "إحباط" التي يكررها أخوه الصغير شامل.

وقد رددَّ بعض معارف غائب ط. فرمان وقرائه فكرةَ أنه لم يحالفه الحظ في انتقاد المجتمع العراقي و"فضح" قوى الشرّ فيه، ونقل لي الكاتب نفسُه هذا الرأي به منزعجًا، كذلك تضايق من وصف جبرا إبراهيم جبرا لأسلوبه "بالأسود والأبيض".

وليست فضيله مثل دلزي الخادمة الزنجية المؤمنة القوية الشكيمة، والأم كارولينا المعتدّة بنسبها وعِرقها والمؤمنة القدرية، رغم مرضها وإحباطها، لكنها حاضرة، فهي أيضًا لا يمكن مقارنتها بوالدة ماجد الغائبة.

لهذا السبب، أنا قلتُ عنها: إنها تشابهات طفيفة ولم أتعمق بالفكره ولم آخذ بها أصلاً على عكس ما أساء بعضُهم الفهم، وشخصنَ الأمر مع الأسف الشديد. أما إذا أردنا المقارنة من أجل المقارنة بأي ثمن فيمكن تناول العديد من الروايات من هذا المنطلق، بخاصة تلك المكرّسة للعائلات.  أنظر: كتابي: غائب طعمه فرمان. دراسة نقدية مقارنه، دار الكنوز الأدبية 1996 بيروت ص 268

يمكن مثلا، ومن هذا المنطلق التبسيطي "مقارنة" شخصيات "ظلال على النافذه" ب"مذلّون مهانون1861" لدوستوييفسكي1821-1881 بطريقة قد تبدو "ساذجة": ماجد بالراوي الكاتب الطيب إيفان بتروفيتش (فانيا)، شامل الوصولي بالأمير المحتال الأب فولكوفسكي، فاضل بأليوشا، حسيبه بناتاشا، وعبدالواحد بوالد ناتاشا نيكولاي أخمينيف، أم ناتاشا بزوجة عبدالواحد، وفضيله بالخادمه مارفا!

ويمكن أيضًا عمل الأمر نفسه مع "الصخب والعنف" بطريقة معقولة أكثر، لا سيما وأن فوكنر أعجب بدوستوييفسكي كثيرًا: كونتِن بالراوي إيفان رغم أن الثاني غير محبط، والمصرفي سيدني هربرت هيد وجاسِن بالأمير الوالد فولكوفسكي، عشيق كادي الأول دالتون أميس الذي فقدت معه عذريتها بالأمير ألكسييه (أليوشا)، وكادي بناتاشا وببنت سميث (أم نيللي) التي هربت إلى باريس مع فولكوفسكي سارق أموال والدها، ونيللي المتسولة، حفيدة سميث بالبنت الإيطالية الفقيرة المتسيبه في الطرق التي يلاقيها كونتن صدفةً في الشارع ويساعدها فيتصورونه يتحرش بها، وكوبسن الأب بوالد ناتاشا رغم الفارق الشاسع بينهما، والسيده كارولينا بوالدة ناتاشا والخادمه الزنجية دلسي بنظيرتها الروسية مارفه.

كذلك، يمكن مقارنة "مذلّون مهانون" ب"بائعة الخبز"  1889 للفرنسي كزافييه دي مونتابين 1823-1902  إذ إنهما تنتهيان بحبكة متشابهة حيث تنجلي الحقيقة صدفةً: في (مذلون مهانون) من خلال رسالة لدى حفيدة سميث (نيللي) تتضمن اعتراف والدتها بأبيها الحقيقي الأمير فولكوفسكي، الذي ينكر أبوّتَه لها، وفي (بائعة الخبز) الرسالة مخبأة في لعبة  طفلها القديمه.

ونلمس تشابهًا بسيطًا في شخصية ويلي لومان عند آرثر ميلر وعبد الواحد من حيث رغبتهما في حماية البيت والحفاظ على وحدة العائلة وتماسكها، بل إن “النخلة والجيران” يتجسد فيها أيضا هذا المضمون، لكنها أوضح بكثير في "المخاض" وتصل إلى درجة تأثّر حقيقيٍّ لم ينكره غائب ط. فرمان، كما أشرتُ في كتابي عنه.

أخيراً، نشير هنا إلى أن الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني أقرَّ بإعجابه برواية "الصخب والعنف" وتأثيرها الإيجابي في أدبه. كان ذلك في نهاية الستينات، قبل اغتياله. وأشارت الدكتورة رضوى عاشور إلى هذا الأمر في الصحافة قبل إصدار كتابها عن الراحل غسان كنفاني. أنظر:

- د. رضوى عاشور. الطريق إلى الخيمة الأخرى. دراسة في أعمال غسان كنفاني. بيروت، دار الآداب 1981، ص85-86

- الدكتور حبيب بولس. نقاط الالتقاء والابتعاد/ التشابه والاختلاف بين رواية: "الصخب والعنف" لفوكنر ورواية "ما تبقى لكم" لكنفاني. الحوار المتمدن. وهناك دراسات أكاديمية باللغة الروسية للباحثين ن. يو. مُرادوف و أ. ل. سافتشينكو مكرسة لهذه المقارنة سنتوقف عندها في مقال آخر.

***

د. زهير ياسين شليبه

.................................

(1)- فتحي غانم. الرجل الذي فقد ظله. القاهرة. 1961. أربعة أجزاء.

(2)- عبد الرحمن منيف. شرق المتوسط. بيروت. 1979.

(3)- جبرا إبراهيم جبرا. البحث عن وليد مسعود. بيروت. 1978، وانظر السفينة. بيروت. 1979. ط2 الطبعة الأول 1970.

(4)- سليمان فياض. أصوات. بيروت (تاريخ الإصدار غير موجود لدينا).

(5)- وليم فوكنر. الصخب والعنف. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. بغداد 1961.

(6)- غائب طعمه فرمان. ظلال على النافذة. بيروت. 1979.

 

قراءة نقديّة في رواية "البصّاصُون" – عباس خلف علي

صدرت رواية "البصّاصون" للأديب والروائي العراقي عباس خلف علي، في طبعتها الأولى سنة 2023 م، عن مؤسسة الأمة للطباعة والنشر والتوزيع، في صفحاتها 184. تضمنت الرواية مجموعة من الأسفار (الأجزاء) هي:

سفر الرحلة / شلّة المماليك

سفر التاريخ " ابن إياس"

سفر التجلّي ما يقطفه الحلم من النافذة

سفر التدوين قنوط وترقُّب يشارفان أن يحكما قبضتهما

حسن الوزان 2005

سفر الرمل

شلة الأصدقاء

تقدر وتضحك منك االأقدار 2007.

سفر الهروب

كاسرة الوهم

سفر جنَّة عدن

معنى كلمة (البصّاصون) لغة واصطلاحا:

اتفق النقاد، أن العنوان في العمل الأدبي يجري مجرى العتبة إلى المعمار السردي أو الشعري. لم تعد العناوين مجرّد كلمات تشبه علامات إشارات المرور على الطرقات الأسفلتيّة، يهتدي بها المرء إلى هدفه وغايته. بل أخذ العنوان مكانته في النص الإبداعي، كعنصر رئيسيّ من المتن الأدبي، بل هو تجسير للهوّة بين المرسل والمرسل إليه، أو بين النص والمتلقّي. إنّ القيمة الفنيّة للعنوان الأدبي لها مفعولها الإيجابي أو السلبي، فكثير من عناوين الأعمال القصصيّة والروائيّة تكتسب سحرها اللغوي والدلالي وسرديتها الأدبيّة من جماليات كثافتها اللغويّة والدلالية، فتجذب القاريء وتستفزّ الناقد .

ولعل رواية الروائي عباس خلف علي " البصّاصون " تثير في نفسيّة القاريء نوعا من الإغراء والجذب، وتدفع الناقد إلى التنقيب عن دلالة عنوانها ورمزيّته وتداعياته على سيرورة أحداثها، ونفسيّات شخوصها وملامح بيئتها (الزمكانيّة) .

فقد جاء في معجم المعاني، أنّ " بصّاص " اسم وصيغة مبالغة من الفعل " بصّ"، والبصّاصة، العين الناظرة بتحديق وتدقيق. وبصّصت الأرض، ظهر أول نبتها،و بصّص الجرو، إذا فتح عينيه، وتبصّص الرجل، إذا تملّق. وقد أطلق لقب " البصاصة " في الذاكرة الشعبيّة على المرأة المشعوذة التي تقرأ الكف (القزانة)، كما أطلق على المخبرين في لغة السياسة. ومهما يكن، فقد اكتسبت كلمة " بصّاص " (الجاسوس) معنى خسيسا في الذاكرة الشعبيّة، تضاهي معنى التجسس وو التخابر والسعي إلى تعريّة أسرار الآخرين وفضحهم أمام الملأ. ومهما يكن، فقد جاء لفظ " البصّاصّون " بصيغة الجمع، للدلالة على ظاهرة اجتماعيّة وسياسيّة شائعة، منذ القدم، في ثنايا المجتمعات الإنسانيّة جمعاء، دون أن نستثني المجتمع العربي والإسلامي المتعدّد الأعراق والمذاهب وو الثقافات والأنساق الفكريّة . وهي ظاهرة موحشة وحربائيّة، متخفيّة وراء كثبان الرمل وتحتها، لا صفاء ولا نقاء فيها، حبلى بالشك والتقزز والنفور، كما جاء على لسان الكاتب في الملخّص.

جاءت الرواية لتعكس البنيّة الفكريّة والنظرة الفلسفيّة للمجتمع العربي المعاصر، من خلال توظيف تقنيّة الإسقاط. وهي منصّة فنيّة وفلسفيّة وسيكولوجيّة، هدفها استحضار التاريخ واستثمار التراث، كأداة لتفكيك (تيمات) معاصرة، وذلك باعتماد الرمز اللغوي والدلالي.

يقدّم لنا الروائي شخصية بطل روايته، الموسوم بالضمير المتكلّم (أنا)، في الجزء الأول (سفر الرحلة / شلّة المماليك) مفصحا عن هويّته قائلا: " ربّما أنا المنسيّ الوحيد يرى كل شيء ولا يقوى على القول إلاّ لماما، أقتصد بالكلام قدر الإمكان، بعض الأحيان أكتفي بالإيماءة، لي لسان وشفتان ولكن غير متحررين، وعليّ أن أبقى هكذا حتى يُؤذن لي.. متى ؟ لا أعلم... ربما إلى ما شاء الله، وعليّ أن أحتمل... " ص 6.

ثم يقول عن نفسه قبل أن يتحوّل إلى بصّاص: " وقبل أن يتغيّر نمط وظيفتي، لا أخفي على أحد، أيضا أخذت جرعة من ذلك التوجيه الصارم، كل ثانية ودقيقة وساعة نبضاتها تسري في الأعماق، فهي كأنّها مكتوبة على شكل وصايا وتوجيهات، ومعلّقة على جدران هذا القصر المنيف، تحذيرات تلاحقك أنّى تكون، حتى وإن لم بها أحد، إيعازها يفرض عليك أن تنتبه لنفسك كالمرآة " ص 7.

يبدو بطل الرواية (الأنا) فاقدا للحريّة والإرادة والمسؤوليّة. فقد تحوّل إلى مجرّد أداة روبوتيّة (آليّة) أو رهينة في يد رجل القصر الأكبر، الذي أحاط نفسه بمجموعة من البصّاصين (المخبرين السريين) من ذوي الأشكال المستفزة . " حاسرو ؛ الرؤوس والشباب يتدفق بحيوية في أجسام راوية ومفتونة، لا تميّز فيها الأعمار كلّهم يتمتّعون بلياقة بدنيّة سرّها لا يعلمها غير الله، لا يتكلّمون مع أحد ولا يسمحون بالتحدّث معهم، الكتمان هو عمل هذا الصنف من البشر، ومع ذلك تراهم ملوكا أكثر من الملك نفسه " ص 7.

ظاهرة " البصاصة " أو ما نسميّه بلغة السياسيين " الجوسسة " قديمة في المجتمعات البشريّة، خاصة تلك التي يحكمها الاستبداد وتديرها المكائد البينيّة. وهي ظاهرة لا أخلاقيّة هدفها الإيقاع بالخصوم، وخدمة السلطان المستبدّ وإبداء آيات الولاء له . وهذا ما اتصف به بطل هذه الرواية، حين سخّر عقله وقلبه لخدمة " رجل القصر الأكبر " عندما استفسره عن واجبه. يجيب البطل (البصّاص): " افتح الشفرات عن الاتّصالات الغامضة " ص 7. فطلب منه قائلا: " أريدك أن تفتح لنا شفرات من هم فوق الشبهات لا نريد الالتباس... والشكّ آجلا أم عاجلا سيظهر هنا أو هناك " ص 7.

يحاول الروائي عباس خلف علي أن يستحضر فترات من التاريخ العربي الإسلامي المليء بالغموض والتشويه والتزييف، من خلال سفراته المتعدّدة، فهاهو ينزل بمصر ويقابل رجلا بمقهى "الفيشاوي " " بحي الأزهر " معتقدا أنّه " ابن إياس " الذي عاصر فترتين ؛ { العهد المملوكي والعهد العثماني }. وهنا يتحوّل التاريخ إلى معضلة حقيقية في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، تحتاج إلى إعادة غربلته وتطهيره من النحل والانتحال (على غرار موقف طه حسين من الشعر الجاهلي)، لأنّ الذين دوّنوا الأحداث التاريخيّة، سواء الشهود بالعين المجرّدة أو بوساطة السماع والرواية، لم يلتزموا الحياد والموضوعيّة والاعتدال والحقيقة . قال ذلك المٍؤرخ الصبور: " إنّ معشر الكتاب لا سيطرة عليهم في تناول الموضوعات، لديهم خيال لا يتوقف، خصب، يفوق ما يحدث في الواقع، فالتاريخ الذي نعرفه غير ما يتبنّاه المؤلفون، فهم يرون ما يناسبهم لمحاكاة شخصياتهم " ص 9.

و في سفر التاريخ (ابن إياس)، يتوغّل الروائي عباس خلف علي في حلكة التاريخ المملوكي والعثماني. فقد تحوّلت الرعيّة (الشعب) في فترتهما إلى رهينة في أيدي الحكم المؤلّه. لكن ابن إياس، لم يكن بصاصا وعميلا وانتهازيا، رغم أنّه من سلالة المماليك وأسلافهم، وعانى من وطأة الرقّ وآلامه، وأبى " أن يطلب التعويض عن ذلك لأنّه يريد أن يعيش مثل أبناء الآخرين الذين ينحدرون من العلم والفقه والمؤرخ والجندي والحرفي والتاجر " ص 20. لأنّه أدرك، بفضل حكمته ووعيه وصدقه أن " المجتمع لا يُبنى بالامتيازات بل بالمساواة واحترام حقوق الغير، فلم يكن في كتابه منحازا بل واضحا كنور الشمس في كشف ألاعيب الحكام التي تفوق أساليب الشيطان، أوهام هذه اللعبة، الحكم ثلثه أله، لم ينته، بل يوغل في الاستخفاف بالرعية وتشويه مصائرها ورغباتها " ص 20.

حين يجيد الروائي الغوص في الذاكرة، يتبوأ رتبة الفنّان المطبوع، ويكتسب الملكة والقدرة على تأديب (من الأدب) التاريخ وإخضاعه إلى فلسفة المخيال الاجتماعي والسياسي. ويقوم – بذكائه وفطنته ووعيه وحيلته الفنيّة - بتفكيك العقد التاريخيّة الماضيّة، وصبّها في قوالب الحاضر والواقع المعيش. التاريخ بالنسبة للروائي، وسيلة وليس غاية، جسر عبور لمساءلة الذات واستفزاز الثابت الممنوع والمحرّم (الطابو) السياسي والإيديولوجي . هذا الإسقاط، الذي مارسه الروائي من خلال شخصيّة المؤرخ الصبور (ابن إياس)، ومن خلال حكم المماليك والعثمانيين، يظهر حجم المأساة الفكريّة والعقائديّة والمذهبيّة التي يعاني منها العالم العربي اليوم . وهي مأساة ناجمة عن غياب تأصيل مفهومي العدل والمساواة وشيوع الظلم والاستبداد والمحاباة، وتغليب منطق القوّة على منطق الحقّ. فصار البقاء للأقوى، لا للأصلح.

في سفر التجلّي (ما يقطفه الحلم من النافذة)، تتجلّى لنا شخصيّة البطل (الأنا)، عندما ينخرط في عالم البصّاصين والعملاء والجواسيس لخدمة رجل القصر الأكبر. " دخلت ورشة اسمها غريب بعض الشيء " الصيانة النفسيّة "... كنت وأنا أتلقّى تلك الدروس ألعن في سرّي ذلك اليوم الذي قادني إلى هذا القصر " . " ص 21.

نعم، أنا في حالة سيئة، ولكن ما الفائدة ؟ هم يقولون: " هذا كلّه من أجل بلدك. وعليك أن تضحي بالغالي والنفيس "... طيب، ومتى أخدم نفسي، إذا أفنيت العمر كلّه من أجله، ماذا تبقى لدي ؟ صراع ومجازفة.... ولا تعلم أنّك منخرط بالتوجيهات حد النخاع ؛ وعليك أن تتصرّف بما لا يرضيك، وقد يكون ضدّ قناعاتك... " ص 21 / 22. هكذا تنكشف لنا صورة البطل، وتتجلّى مهمّته، التي فُرضت عليه، أو سُخّر لها، تحت عنوان {خدمة الوطن} والمصلحة العامة. وهي سياسة المستبد والديكتاتور، حين يريد استغلال عاطفة الوطنيّة، شعور الانتماء، ويحرّف معاني التضحيّة عن معناها الحقيقي. إنّ المستبّد ثعلب ماكر، يستعمل جميع الوسائل (الغاية تبرّر الوسيلة) من أجل الاستيلاء على كرسي السلطة، والبقاء على عرش السلطان مدى الحياة، بل ويسعى إلى توريث الحكم، باسم الوطنيّة والروح الثوريّة، لأبنائه أو حاشيته. وهذا حال الواقع المعيش في البلاد العربيّة، إلاّ ما شذّ، عنه، وهو نادر عموما.

الاستبداد صناعة (بصاصيّة) مخابراتية، جاسوسيّة، لا خير من ورائه، للفرد ولا الجماعة. ويحمل هذا الإسقاط – دائما – رفضا صريحا، وإدانة شديدة لما آلت إليه البلاد العربيّة، التي تحرّرت من الاحتلال الأجنبي، ووقعت فريسة في شرك الاستبداد. " الدنيا في القصر لا تشبه الحياة في مكان آخر، عندما تتعرّض إلى شيء لا تفقد توازنك، وتسأل ماذا يجري، كل شخص تابع لخليّة وكل خليّة مثل " مشبك الورق " عتد النازيّة لا تعرف م يدور حولها فقط ما يهمّها، الإنسان هنا كائن مسيّر بامتياز وليس مخيّرا " ص 28.

في مثل هذه البيئة يفقد الإنسان إرادته وتوازنه. مثلما فقد بطل الرواية عند انضمامه إلى القصر الأكبر. صار البطل (الأنا) في الرواية كائنا " بصّاصا " ومسيّرو مسخّرا ومجبرا (النظريّة الجبريّة) لا خيار له، فاقدا للإرادة والتمييز والاختيار، ( فقدان الحريّة). يعيش في جوّ أشبه بالعبوديّة الفكريّة والسلوكيّة. يعيش صراعا روحيّا بين قناعاته قبل " وظيفته الجديدة "، وما يملى عليه من أوامر بعد انخراطه في عالم " البصّاصين ".

في ثنايا رواية " البصّاصون "، انتهج الروائي عباس خلف علي، أسلوب الفلاش باك أو الاسترجاع، وغرف من معين التاريخ الإنساني القديم بكل ما فيه مآس وخدع وحيل وشرور وبطولات وهزائم وانتصارات. (تاريخ العرب والمسلمين، تاريخ الروم، تاريخ الفرس). وسكب المادة التاريخيّة في قالب سردي، معتمدا في ذلك على العناصر المختزنة في أعماق الذاكرة الفرديّة والجمعيّة (الذوات المتكلّمة والغائبة ) والمخيال التاريخي، المستمد من عنصر التراكم الحضاري، بالإضافة إلى الرؤى الفنيّة المستخلصة من الخبرات والتجارب الشعوريّة والمدركات المتنوّعة، ممّا أظهر لدى الروائي عباس خلف قدرة فائقة على خرق التسلسل الزمني في أحداث الرواية، وتحكّما في (العبث الإيجابي) بتواتر الأحداث وسيرورتها، ومراوغة بالمعاني وتلاعبا مفيدا بذائقة المتلقي. إنّ الرواية عند عباس خلف علي ليست تأريخا سرديا لأحداث روتينيّة، معتادة، في قالب فنيّ متخيّل، تعقبها نهاية (حل ما، أو لحظة تنوير ما) تسعد القاريء أو تؤلمه، أو تنتهي أحداثها بنهاية مفتوحة، لتوضع في رفّ النصوص المقروءة والمفروغ منها، بل نهايتها بداية أخرى لفكّ معضلة الوجوديّة، كما رآها كل من كيركجارد، جبرييل مارسيل. والملاحظ أن بطل الرواية، قد أدرك حقيقة وجوده من عدمه، فقد لقّنته التجارب دروسا في فقه الحياة، ولولا شبكة الإنترنت، ما استطاع الحصول على الإجابة لممارسة فنّ الكتابة المثيرة وغوايتها . لقد " انهارت أمامها كل الحواجز، لم يعد هناك ضوء خافت وضوء ساطع، الكل تحت المجهر، والشاطر يعرف من أين تؤكل الكتف " ص 55.

يقول البطل في معرض حديثه عن الإنترنت: " أصبح هو العالم الداخلي للإنسان أسمّيه " عش الدبابير " إن لم تحذر يلسعك، ولكن الأغلب لا يهمّه اللسع، مجنون من يعتقد أنّه في منأى عن الاستهزاء والسخرية " ص 55.

لقد سمعهم يقولون (و الأغلب أنّهم البصّاصون) أنّ الدنيا قد تغيّرت، وانقلبت، و" الزمن الذي كانت فيه المقولة السائدة " حدّثهم على قدر عقولهم " انتهى وولّى إلى غير رجعة، الوسيلة الوحيدة للعيش إما أن تفكّر، وإلاّ تنقرض " ص 56.

كما قال جان بول سارتر: " أنا موجود فأنا أفكر"، أو على غرار مقولة ديكارت: " أنا أفكر فأنا موجود ". وهذا يعني أنّ البطل (الأنا)، صيّرته وظيفة " البصاصة " إنسانا وجوديّا في تفكيره وسلوكه الاجتماعي. لكن وجوديّة سلبيّة، لأنّ ممارسة الفرد للتفكير في بيئة " البصاصة " تعني الاتصّاف بالأنانيّة والساديّة والإضرار بالآخر من أجل إرضاء (رجل القصر الأكبر) وإشباع رغبة نفسيّة مرضيّة ذاتيّة.

ومن الشخصيات، التي كان لها حضور قويّ (شخصيّات ثانوية حاسمة)، شخصيّة الأب والأم والخال وابن إياس.)

شخصيّة الخال:

تاجر الأحجار الكريمة، مهذار، يكسب مالا كثيرا من تجارته تلك، لكنّه يبدو مفلسا، لا يملك شيئا منه، غير نشوة الحكي " تأخذه النشوة بالحكي دون أن يلتفت إلى من ينصت إليه، لا يهم، هو لا يبالي لهمس الأبناء ويستمرّ في الحديث، لا شيء يعكّر مزاجه، عندما تطيب نفسه لا يكترث لأحد، هذه طبيعته " ص 62. ضائع القصد . لا مأوى له. كثير الغياب، طويله، وبحجج واهيّة. بخيل، يصفه الأب بقوله: " يا لك من ثريّ بخيل، حتى الصعاليك في العصور البائدة تضحك من تصرّفك " ص 64. يعاني من انفصام الشخصيّة يكره الموت وتذكّر الأموات. وصفه البطل قائلا: " خالي كان يكره ذكر الأموات ويحاول نسيانهم، عندما تتذكّر أمي شيئا ذلك يهرب إلى مرقد الشيخ " السيد صروط " ؛ يطلب منه أن يشفي صدره بالذكر الحكيم، ومع ذلك كان البعض يراه آخر الليل في بار " شمعون " يحتسي الخمر ويبكي ". متناقض في سلوكه وأقواله، لا يرسو على حديث أو فعل " لا قبلة له بالحديث، ومن كثرة تناقضاته يقول عنه أبي، " جنت على أهلها براقش " ص 59. وقال عنه البطل أيضا ما يلي: " خالي ؛ كل الدهر كان يستلف من أمي مصروفه، لا أفهم معادلة الثراء والإفلاس لديه، آخر تقرير يحتفظ به في جيبه، عقابيل شدّة على رأسه، هذا ليس سببا لتدهور وضعه المادي والذي لا يريد أن يفصح عنه ويكذب ما نقوله أنه تعرّض للنصب والاحتيال مرات ومرات " ص 62. " يغيب حتى تنقطع أخباره، أمّي لا يخيب ظنّها، حين تقول: إنّه سوف يظهر بعذر جديد، استهلكت كل الأعذار ولم يبق أمامه سوى المرض، أبي دائما ما كان يزدريه ويخفي ذلك عنّا " ص 62. وتقول عنه الأم (أخته) : " عاش حياته عبثا في عبث " ص 65. ورغم هذه الهنّات، فإن صبر الخال، كان يثير إعجاب الأبناء والأطفال " والأجمل ما في هذا الخال ؛ أنّه يصبر على شقاوتنا الساذجة ونزقنا الطفولي " ص 64.

و لو قمنا بعمليّة الإسقاط لشخصيّة الخال على واقعنا الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. لتوصّلنا إلى قناعة، مفادها، أنّ سمات شخصيّة الخال تعكس ما وصل إليه العالمين العربي والإسلامي، بعد سنة 656 هـ (1258 م)، سنة السقوط المروّع للخلافة الإسلاميّة، وبداية عصر الضعف والانحطاط (عصر المماليك والأتراك العثمانيين) في حواضر الشام والعراق ومصر وجزيرة العرب. ثم أعقب ذلك السقوط المدوّي سقوط غرناطة ثم استيلاء الغرب الصليبي على معظم بلاد العرب في المشرق والمغرب، ثم سقوط القدس بين مخالب الصهاينة، ثم استسلام العرب لفضيحة تقسيم فلسطين، ثم جاءت النكبة فالنكسة فمعاهدات الاستسلام، ليصل قطارها إلى محطة التطبيع، تحت مسميات برّاقة، ويحوّل (الربيع العربيّ) المزعوم إلى (فوضي خلاّقة) برعاية أمريكيّة وصهيونيّة، ومازال (الحبل على الجرار) . إنّ الأمة التي لا تستقريء تاريخها بنظرة ثاقبة وعقل نافذ، وضمير واع، ولا تعتبر من أحداثه ولا تستشرف المستقبل، مآلها الزوال، ولو بعد حين من الدهر.

شخصيّة الأب:

أما شخصيّة الأب، فتبدو عكس شخصيّة الخال المحبّ للمال والتجارة وزخرف الدنيا . فهو رجل حكيم في تصرفاته وحديثه. تختزن ذاكرته الكثير من أخبار روايات السلف، في مجال العلم والتصوّف، رجل معجب بقصصهم، متيّم بما صنعه العلماء المسلمون في سالف العصور الذهبيّة. كان يحدّث أبناءه عن الطبيب (ابن سينا) " تذكّرت في الحال أبي وهو يحدّثنا عن ابن سينا الجرّاح " ص 60

شخصيّة الأم: امرأة شجاعة، مجاهدة، مقاتلة، وطنيّة الفعل، وهبت روحها للثورة والحريّة، حاربت الإنجليز دون هوادة. " كانت تتنكّر بلباس الرجال، وتقتحم مع المتطوّعين معاقل الإنجليز من أجل الظفر بعدد من الأسرى والاستيلاء على بعض أنواع من الأسلحة النادرة، فيكون ردّ الأعداء طائشا في أغلب الأحيان " ص 58 / ص 59 .

هي خولة بنت الأزورعصرها، هي شجرة الدر، هي صورة المرأة العربيّة الحرّة، الأبيّة، التي أنجبت الأبطال والفاتحين والشهداء، وانزرعت في كل بقعة من البلاد العربيّة. هي الخنساء في صدر الإسلام، وخولة بنت الأزور، وزنوبيا، وفاطمة لالة نسومر وجميلة بوحيرد وجميلة بوباشا في الجزائر ودلال المغربي في فلسطين الحبيبة. هي المرأة العربيّة التي أنجبت الرجال الأشاوس، الذين قهروا المحتل الأجنبي، فكانت - على قول شاعر النيل، حافظ إبراهيم – مدرسة تحرّج الأبطال والعظماء.

في الجزء المعنون بـ (سفر الهروب.. كاسرة الوهم)، استهلّ الروائي عباس خلف علي بعتبة، جاء فيها: " قاسيّة.... هي...شهوة الأمنيّات.. تخطو نحو السراب...لتقطف من موجه ؛ موطنا للأثر ". ص 159.

لم يسلم الإنسان العربي ؛ في مشرقه ومغربه، من عورات التخلّف ومظاهره القاسيّة ؛ الجهل المميت والأمراض الفتّاكة والفقر المادي والمعنوي. ومازال هذا المخلوق العربيّ الضمآن يجري وراء السراب وهو يحسبه ماء. غايته القصوى، رغيف خبز لسدّ الرمق، وتأجيل موته الحتمي. ومنذ سقوط بغداد، وضياع غرناطة، وتقسيمات سايكس – بيكو وعد بلفور، ما فتئء المواطن العربي يدفع ثمن الخيانة . ومازالت رحى الاستبداد تطحن جسده وروحه.. " غرفة الصفيح هي المأوى، وبساط بال ؛ تنطرح عليه الصبيّة " ص 163.

هذا المواطن الذي شغلته يوميّات البحث عن المأوى الآمن، ويفتش عن حبل ينجيه من أنياب الفقر والمتربة. ويدفع - بكل قواه الضعيفة - عن نفسه وحش العوز. هذا المواطن الذي انعتق من أغلال المحتل الأجنبي، ليقع فريسة ولقمة سائغة في قبضة الاستبداد (القطري)، تحت مسميّات برّاقة ومتعدّدة ؛ تارة باسم الوطنية، وتارة باسم القوميّة، وتارة باسم الصمود والتصدّي والممانعة، وتارة باسم الثورة وووو... أجل لم هذا المواطن (المهروس)، سوى صورة اللحم والدم، أمّا الروح فقد غيّبتها رحى الحاجة . وهاهو الرجل الملثّم يبيع ابنته، عندما اشتدّ به الفقر والعزو، مقابل ثمن بخس. " ولمّا اشتدّ به الفقر والعوز ورأى نفسه بدأت العجلة تهرس ما تبقّى منه.. قبل بأقلّ الخسائر، قبض ثمنا بخسا لقاء بيعها " ص 163. ثم ولّى هاربا إلى وجهة مجهولة. " ولّى هاربا، هروبا مجهولا، لا يعلمه غير الله، والراسخين في العلم " ص 164.

و هذه المشهد الأسود، يعكس لنا عمق المأساة . " تصوّر أيّ فقر هذا يدفعك إلى عصر الجواري، ذلك الجرح التاريخي في جبين الإنسانية، يفتح أبوابه من جديد أمام صراصير الفقر، فهل هناك من هو أشقى وأقبح منه ؟ " ص 163.

شخصيّة ابن إياس:

لقد كان (ابن أياس) ثائر عصره ضدّ أساليب الظلم والقهر، ورمزا للمعارض والمصلح. كان " لا يتحدّث عن ازدهار الأقليّات من العوائل المملوكيّة التي عاثت في الأرض فسادا، ولكنّه أشار إلى الظلم الذي تمارسه لا يدوم طويلا وأنّه سوف ينقلب على هذه الطبقة إن أجلا أم عاجلا، المجتمع المصري مثل أي مجتمع عربي آخر يكره الظلم والطبقيّة والطغيان والمحتل ويحب وطنه خاليا من العملاء والجواسيس وينادي بالحرية والعدل والمساواة." ص 19 / ص 20. " ابن إياس يا أولادي يرى في الظلم والفساد هلاكا للشعب أمام أطماع العثمانيين من جهة، والفرس الصفويين من جهة أخرى " ص 20.

" فهو كان يجد مكانه في الأسواق والمقاهي والدكاكين، ولا يجالس الأمراء والسلاطين ولا يدخل قصورهم ولا يقتدي بمشيتهم أو لبسهم، لا أريد أن أقول زاهدا أوعفيفا، ولكنه كان لا يحب هذه المظاهر ولا يطمع بالترف " ص 20.

وظّف الروائي عباس خلف علي، عنصر الإسقاط في رسم ملامح شخصية " ابن إياس ". وهو أسلوب فنّي فلسفي وسيكولوجي، استغلّه المبدعون للتملّص من مقص الرقيب، والتستّر وراءه، مستعنين في ذلك بالرمز والتلميح والانزياح الاستبدالي. تمثّل شخصيّة ابن إياس المحامي عن المجتمع العميق، القائم على الطبقة المسحوقة تحت نعال المستبدّين ؛ طبقة الفقراء والمساكين والمحرومين والمضطهدين والمستعبَدين. فهو بمثابة ضوء المنارة الذي تهتدي به السفن والبواخر إلى مراسيها. ومن خلالها يبرز لنا دور العلم ومكانته في حياة الأمم الحرّة. إنّ ثورات الشعوب المقهورة تندلع شراراتها من البيئة الدنيا في المجتمع، وقادتها وأبطالها هم أولئك الموسومين بـ " الصعاليك والمتسوّلين وأرباب الحرف " ص 20.

جاءت ملامح شخصيات الرواية (أسوف، نرجس، الأب، الخال، الأم، أبن إياس، لمى، مشعل..)، تعكس النسيج الاجتماعي العراقي والعربي. شخصيات مهزوزة اجتماعيّا، مأزومة نفسيّا، تبحث عن تعويض النقص الاجتماعي والاقتصادي في بيئة مزقتها الأهواء السياسيّة والإيديولوجيّة والثقافات القبليّة.

شخصيات تعيش – بكل جوارحها - المآسي التي أفرزتها الحروب البينيّة والنزاعات الإقليميّة والإرهاب القاعدي والداعشي والأزمات السياسيّة القاسيّة. شخصيات تبحث عن جرعات الأمن ورغيف الخبز ونسائم الحريّة والكرامة، في بيئة موبوءة، استولت عليها مظاهر الفساد والاستبداد والساديّة والأنانيّة. وهي شخصيات جسّدت " مرحلة السقوط والانهيار " في حياة الأمّة العربيّة والاسلاميّة. لقد انهزم - للأسف – المثقفون في معاركهم مع السباسيين. واستسلم سلطان العلم لسلطان السياسة. مّما أدّى إلى أفول شمس العرب، التي أشرقت على مدى قرون على الغرب.

وهي – أيضا - شخصيات متباينة الملامح والتوجّهات والأمنيات، إلى درجة التناقض. فالأب والخال ومشعل، شخصيات عاشت على النقيض، وكذلك الأم ونرجس. بينما عاشا كل من لمى وأسوف حياة ملؤها الحب والتآلف. وهما يرمزان إلى الجيل الجديد، جيل ما بعد الحروب الداميّة والأزمات الخانقة. وهي رؤية من رؤى الروائي، وحلما من أحلامه المعسولة.

خلاصة:

لجأ الروائي عباس خلف علي إلى استغلال التراث العربي والإسلامي، من بوابة الإسقاط والرمز. وكانت غايته من ذلك المسعى، زلزلة الواقع العراقي المرّ، من جراء الحرب العراقيّة / الإيرانيّة، والناجم – أيضا - عن الحصار السياسي والاقتصادي والعلمي الذي فرضه الغرب الصليبي بإيعاز من الولايات المتحدة الأمريكيّة والكيان الصهيوني والعملاء من أبناء العمومة. ثم الغزو الغربي للعراق في مطلع القرن الواحد والعشرين ؛ هذا الأخير، الذي سبّب دمارا وانهيارا هائلين في البنيّة النفسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والأمنيّة العراقيّة. ثم تلته الأزمات الاجتماعيّة والسياسيّة (الصراع الحزبي والعشائري والحرب ضد إرهاب القاعدة وداعش) . وهي أزمات أنهكت الإنسان العراقي، وأعادته سنينا إلى الوراء. " الحصار الخانق دمّر الحرث والنسل " ص 163

يمكن أن ندرج رواية " البصّاصون " ضمن تيار السرديّات الواقعية السحريّة، وهو تيار تزّعمه في أمريكا اللاتينيّة الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، من خلال رواياته: ألف عام من الحنين، والحب في زمن الكوليرى.

وما يلفت نظر القاريء – حقّا – هو الأسلوب المتميّز للروائي عباس خلف علي. فقد أضاءت لنا لغته السرديّة والحواريّة نقاط وزوايا التحوّل في حياة شخصيات الرواية، كما غاصت لغة الرواية في أعماق تلك الشخصيات، سوااء ذات السلوكات الإيجابيّة السلبيّة، أو ذات السلوكات السلبيّة. فدور اللغة في سيرورة الفنّ الروائي والقصصي - على السواء – ونموّهما دور أساسيّ ومركزي، كما هو الشأن في رواية " البصَّاصُون " للروائي عباس خلف علي.

لقد أبانت رواية " البصّاصون " للروائي عباس خلف علي، عن قدرة صاحبها على استغلال مناجم التاريخ العربي والإسلامي، واستنطاق التراث الزاخر بالأحداث والوقائع والأخبار والرموز.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

 

رواية "حسناء إيمزورن" للأديب مصطفى لغتيري

مسرح أحداث الرواية هي مدينة إيمزورن الواقعة في جبال الريف شمال المغرب، حيث تسود التقاليد الاجتماعية والأعراف التقليدية، والسلطة الذكورية شديدة القيادة الأحادية الجانب في البيت، والانضباط والولاء والطاعة العمياء في تطبيق تلك الأعراف والعادات، وغياب دور المرأة الكلي، وتجاهلها المطلق، الى حدّ تحريم خروجها من البيت، فهي من المهد الى اللحد أسيرة المنزل. هذه التقاليد بصرامتها وحدّة تطبيقاتها وقسوتها على الواقع، والتفاف قيودها حول أعناق الجميع، وخاصة النساء، وهو ما يعيق حركة المجتمع وتطوره، مع وجود المرأة (النصف الآخر) وتغييب دورها.

تدور الرواية حول قصة حبٍّ بين فتاة من عائلة موسرة ذات مكانة وصيت، وهيبة واحترام داخل بيئتها، وبين فتىً من الطبقة الفقيرة، حيث الاختلاف في المستويين الاجتماعي والاقتصادي، مما يفضي الى الصراع الطبقي الصارم ذي اليد الطولى في العلاقات العامة بين الأفراد والعائلات، وحتى الأقارب، وهو الحَكَم، في مدى الاقتراب والابتعاد فيما بينها،  وفي الموقف التقليدي في تحريم وتجريم هكذا علاقة إنسانية (الحبّ) قبل الزواج ؛ إنطلاقاً من تفسير معنى الشرف، وقيمته العظيمة لدى المجتمعات المذكورة. بحيث تؤدي هذه الظروف القاسية، والأعراف الى كوارث ونهايات مأساوية، التي تقع أحياناً بسبب خطأ حاصل، مثل إشاعة كاذبة خبيثة الغاية، أو تأويل غير صحيح أعمى لا يقبل النقاش، وسط هكذا بيئة منغلقة أحاديّة النظرة والموقف المتشنّج الصلب. مع أنّ هذه العلاقة الإنسانية قد أقرّتها الأديان، والمجتمعات البشرية، والقوانين الوضعية. ففي قصة أبينا آدم وأمنا حواء وعلاقتهما خير دليل على هذا. فقد قال سبحانه وتعالى أنه خلق منْ أنفسنا أزواجاً لنسكن اليها:

"وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" (الروم 21)

إذن خلق الله الأزواج لنسكن اليها، ولتكون بيننا وبينهن مودةً ورحمةً. فقد خلق سبحانه وتعالى المرأة من ضلع آدم. وفي الحالة هذه هما من نفس واحدة، يكمل الواحد الآخر، ليواصل النوعُ الإنسانيُّ مسيرته الحياتية في هذا الكون، وبمشيئة إلهية، قال تعالى:

"يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَاحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا" (النساء 1 )

وهذا الخلق من آياته العظيمة، فقد خلق الذكر والأنثى من نفس واحدة، لذا جاء الأمر باتقاء الله في صلة الأرحام. وفي هذا الباب جاء الحديث الشريف:

"مَنْ كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر ِفلا يؤذِ جارَهُ، واستوصوا بالنساءِ خيراً، فإنهنَّ خُلقْنَ مِنْ ضلعٍ... وإنْ أعوَّجَ شيءٌ في الضلعِ أعلاه ، فإنْ ذهبْتَ تُقيمُه كسرْتَهُ ، وإنْ تركتَهُ لم يزلْ أعوجَ ، فاستوصوا بالنساءِ خيراً "

وقد وردّ أيضاً في التوراة (العهد القديم) أنّ حواء خُلِقت من ضلع آدم، وقد جاء هذا في الإصحاح الثاني من كتاب التكوين الآيات 21/22 :

"21 فأوقعَ الربُّ الإلهُ آدمَ في نومٍ عميقٍ ، ثُمَّ تناولَ ضِلعاً مِنْ أضلاعِهِ وسَدَّ مكانَها باللَّحمِ ، 22 وعمِلَ مِنْ هَذِهِ الضِّلعِ امرأةً أحضرَها إلى آدمَ."

لكنَّ هذا لا يعني التغاضي عن الانحراف والعِوَج والخطيئةِ والتمرُّدِ الأهوج، بل في محاولة التقويم بالحسنى ، وبالخير والعدل ، وحلّه حلّاً إنسانياً لا يغمط الحقوق، لا بالذهاب الى اقصى غايات القسوة والظلم. وقد كرّرَ الرسولُ الأعظم وصيته بالنساء، وهو مِنْ بابِ التأكيد.

المنهجية الفنيّة في الرواية:

لقد اختار الروائيُّ مصطفى لغتيري قصة الرواية هذه من تجارب الواقع الاجتماعي السائد والمعاش، في البيئة التي يسيطر عليها قانون التقاليد العشائرية المتوارثة الشديدة الانغلاق؛ بفعل الظروف التي تخلقها هذه البيئة، وتفرضها عُرفاً لا يُحاد عنه، ليصبح مِنْ صميم العلاقات الفردية والمجتمعية قانوناً تُضفى عليه الشرعية والقدسية، بحيث يكون الخروج عنه، أو المساس به، كفراً وذنباً لا يُغتفَر إلا بالدم. وهنا نتحدّث – كما الرواية – عن عاطفة الحبّ خارج لوحة التلوّث والانزلاق عن السواء، والعراقيل التي تقف دون تحقيق غايته في الجمع الطبيعي بين المُحبَّينِ، وإيصال العلاقة الى برّ الزواج. لكنْ حين تقف التقاليد التي مررْنا عليها حائلاً وسوراً حصيناً مانعاً، عندها ربما تقع العلاقة الإنسانية هذه بعاطفتها السامية النبيلة في منزلق الخطيئة، وهو ما نراه في هذه الرواية، والذي أوصلنا اليه السارد الروائيّ كنتيجة حاصلة لكلّ تلك الموانع؛ ليقول أنَّ هذه هي النتيجة منَ الجدار الحديدي الفاصل في جمع المحبين، عُرفاً كان أم صراعاً طبقياً. مع أنَّ الراوي أبرز لحظة الخطيئة على صورة العواطف المتأججة والرغبة الجنسية الطاغية التي تفلتُ كثيراً عن منطق التعقُّل والتحكُّم، وكأنّ لسان حاله يريد أن يقول: هي لحظة أوصلت اليه كلّ تلك العراقيل التي وقفت مخيفةً ثابتة متصلبة مانعة من جمع الرأسين بالحلال. فكلُّ هذه الموانع والأشواك والسكاكين الحادّة الصارمة الجاهزة للذبح هي الجانية الحقيقية والأكبر في خطيئة آدم وحواء إذا وقعت.

البطلة (شامة) ابنة العائلة ذات المقام الكبير في المدينة، صاحبة السمعة والشرف الرفيع، وقعت أسيرة حبّ الشاب الفقير (يوسف) السائق صاحب سيارة الحِمل القديمة، والمكافح منْ اجل لقمة العيش، المحبوب والمحترم لرفعة أخلاقه وسمعته وسيرته الحسنة، وثقة المحيطين به، وصديق أخيها عُمَر المقرّب، وهو الذي كانت العائلة تستعين به وبسيارته في أداء أعمال لها. والنقطة الوحيدة التي تؤخذ عليه هي أنه لم يكنْ من أبناء المدينة الأصلاء، إذ كان غريباً، جاء والده ليقيم فيها بين ظهراني أهلها، الذين أكرموهم، وعاملوهم بالحسنى، وباللطف والاحترام والمحبة، وهو مِنْ أثر ما كان يوسف وأهله يمتازون به من صفاتٍ كريمة.

إضافة الى هذه الحكاية عن الأسباب الاجتماعية من أعراف وتقاليد والمكانة، والتي كانت وراء تهيُّب يوسف من التقدم للزواج من شامة، يأخذنا الروائي لغتيري الى عنصر مانع آخر، لا يقلّ أهميةً وقسوةً في المنع والتحريم، وهي حالته الاقتصادية، والفارق الطبقي بينه وبينها، لذا لعبَ به حلمُ التفكير بالهجرة الى الغرب؛ لتغيير مستواه الاقتصادي الى الأفضل، من خلال العمل ليل نهار ليجمع مالاً ؛ كي يتمكّن من التقدّم لخطبتها، فلا يُرفَض منْ اهلها، مثلما هو حلم آلاف مؤلفة من شباب شمال أفريقيا. وهذا الفارق الطبقي الاقتصادي ولعبه دوراً  كبيراً  بارزاً مهماً أولياً في تقييم الأفراد والعائلات في هذه المجتمعات (مجتمعاتنا)، وعندما أراد الروائي أنْ يوصلَ الينا هذه الفكرة والحالة، برزت شخصية أحد أبطال القصة الآخرين وهو (حسن): صاحب المال والجاه والسلطة، عضو المجلس البلدي ثم رئيسه، وهو سليل أغنى عوائل المدينة، والتي جمعت أموالها الطائلة من التجارة بالممنوعات قانوناً (التهريب والكيف) ، وهو الصديق الأقرب الى عمر شقيق شامة. حين تقدم للزواج منها قُبل دون تردد بل بفرح وابتهاج وفخر، وهو ما قاد الأحداث الى نهايتها المأساوية المروعة.

تمرّ الأحداث في الرواية متسارعةً، تشدُّ أنفاس القارئ شدّاً مُحكَماً الى نهايتها المرسومة، التي يريد الروائيّ بها أنْ يقول الكثيرَ مما أسلفنا. وقد استعان بكلِّ ما يمتلك مِنْ تقنية الفنّ الروائي، والإمكانية اللغوية الغنية، والتحكّم بخيوط الحكاية وأحداثها وشخصياتها، وتشابكها جميعاً في سلسلة متواصلة بإحكام، بحيث لا يفلت منها خيطً خارج لعبة القصة، ووحدة عناصر الرواية، وحبكتها المُتقنة، وتسلسل الأحداث المترابطة موضوعياً بسلسلة واحدة، مصاغة بمهارة الفنان المتقدر، الواعي لما يكتب ، وما يهدف إليه، وما خطّط له مسبقاً. فكلُّ حدث متعلق بما قبله مرتبط بوشيجة غير مفككة، وناتج عنه، ومُسبّب لما بعده، دون تفكّك أو نشاز، أو علّة غير منطقية لا رابط بينها وبين ما قبلها وما بعدها. الأحداث قلادة حكائية، خِرزُها تشكيلً معقودً بحذاقة ومهارةٍ وإحكام وتحكُّم، متساوية في الحجم والشكل والبريق، بحيث تخطفُ أبصار الناظرين وتثير دهشتهم وإعجابهم.

أحداث الرواية واقعية منطقية في تركيبها، وتعاقبها سبباً ونتيجةً، ليوصلها الروائي الى نهايتها المتوقّعة الطبيعية في هكذا بيئة دارت فيها، خارج ما يتمناه أو يتوقعه المتلقي. بمعنى النهاية المفاجئة والصدمة؛ لبيان بشاعة ما جرى، ويجري في هذه الواقع الذي نعيشه ونحياه.

لم يعمل لغتيري في روايته على مماطلة وتطويل وفضفضة وتشتيت الأحداث والشخصيات، من خلال متابعة شخصيات لا علاقة موضوعية منطقية لها مع الحدث الرئيس وقصته، وإضافة فصول أخرى، بحيث تكون الحوادث والمواقف لا رابط بينها، فلا تعتمد القصة على تسلسل الحوادث، وهذا ما نسميه في الفنَ القصصي (القصة ذات الحبكة/ العقدة المُفككة)، لكنّه اتجه في كتابته الى (الحبكة المتماسكة) وهي القصة التي تكون حوادثها مترابطة، يأخذ بعضها برباط بعض، وتمضي في نسق واحد، وخط مستقيم حتى تبلغ نهايتها. وهو ما نلقاه في روايتنا المقروءة هذه (حسناء ايمزورن) لأديبنا المبدع مصطفى لغتيري.

وبما أنّ الكاتب سلك في روايته هذه سبيلَ القصة ذات الحبكة المتماسكة، ورمى أنْ تكون الأحداث مترابطة متلاحمة تدور في بيئة واحدة موحَّدة الظروف الاجتماعية والتقاليد والأعراف السائدة والماسكة بخناق الجميع، لا محيد عنها ولا مهرب، خطّط أن تكون رواية قصيرة متماسكة (100 صفحة)، تدور في بيئة واحدة، وقصة واحدة، واحداث تدور حولها وحول شخصياتها التي لها علاقة وطيدة فيما بينها، وبأحداثها وحيثياتها، وأسبابها ونتائجها. وهو ما اقتضى منه التركيز على ذلك، والتكثيف في سرد الوقائع، لا التطويل المُهَلهَل الفضفاض غير المعقول وغير المُقنِع، وعدم الانشطار فيها والتقسيم، والخروج عن سيرها وتسلسلها المنطقي المترابط سبباً ونتيجةً، فكان أنْ قادها الكاتبُ بوعيّ وفنٍّ ومنطقٍ الى خاتمتها.

وكما هو المعهود والمطلوب والمفروض في مثل هذه القصص والحكايات المستوحاة من الواقع، أنْ يعمد الكاتب الى الإثارة والشدّ في الأحداث، والارتقاء بها الى قمة الحدث وعقدته، لشدّ أعصاب المتلقي ولهفته وتفاعله لمواصلة متابعة القصة حتى نهايتها، من خلال ذلك، ومن خلال تلاحم البداية/ العرض، والوسط/العقدة، والنهاية/الخاتمة، وهو ما يربط بين العناصر هذه ثلاثتها في خطٍّ مستقيم متواصل في سير القصة (الحكاية) حتى خاتمتها. وهو ما أجاد فيه مصطفى لغتيري في روايته، مستنداً الى تاريخه الإبداعي الزاخر بالعطاء الأدبي، وتجربته الثرية في فنّ القصة بأجناسها المتعددة.

***

عبد الستار نورعلي

فبراير 2024

"Language is power,life and the instrument of culture,the instrument of domination and liberation”AngelaCarter.

"اللّغة قوّة حياة ووسيلة ثقافيّة، وأداة هيمنة وتحرير"

أنجيلا كارتر.

***

القصيدة:"معشوقتي العربيّة"

لم تحظ لغة بمكانة عاطفيّة في قلوب متكلّميها كلغة الضّاد، منهم من جعلها معشوقته كشاعرنا هنا، ومنهم من جعلها قهوته كنزارومنهم من جعلها خمرته كأبي النّواس وهنا يطلب من القارئ مراجعة أشعارهم. ولاحقا سنقف عند تأثيرها النّفسي في حاملها وكيف رصفه بأجمل صياغة وأطرب جرس شاعرنا القدير.

لماذا إنصات؟

برع شاعرنا في غزل قارب العبادة للغة الضّاد، فجاءت بوحته قلادة شعريّة متلألئة على صدر الإبداع الوجداني الرّاقي جمعت ثنائيّة آسرة من بريق الألحان العذبة وزبرجد البساط اللّفظي السّاحر فكانت من أجمل ما طربت له في الشّعر عن اللّغة، لغتي العربيّة.

شاء شاعرنا أن يجعل من العربيّة عروس أحلامه ومعشوقته فكانت عنده كائنا حيّا يتنفّسه في حرفه، ويتّحد روحانيّا فيه فلا تفرقة بينهما هو صار صوتها وهي صوته، ليحيا القصيد بروحين روح الشّاعر وروح اللّغة، وليختال القصيد بوحدة وجوديّة تجدّدت فيها روح الشّعر كيف لا وقد امتلأ القصيد من أنفاس الشّاعر وأنفاس الحرف مرفودين بفرات جداول الماضي التّليد، يجريان في بعد الزّمن قدما نحو سماوات الشّعر المجيد.استنطق عبق الماضي فزخمت معانيه وتضاعفت طاقاته، فلا يخفى عن القارى الحاذق أنّ "اللّغة قوّة "كما ذكرنا أعلاه"على لسان الشّاعرة الكبيرة أنجيلا كارتر، والقوّة حركة والحركة سيطرة، وإذا عدنا للقافية فهي سينيّة، وحسب اعتقادي لقداختارها شاعرنا ليكون للسّين وهو حرف التّنفيس وقع محبّب على الحسّ خاصّة في الشّعر.

هذا، وبنظرتي الخاصّة عدا عن كونه أي حرف السّين ختام كلمة "الشّمس "، ويا لوهج الشّمس !! كم ينير وكم يدفَئ!!للشّمس بعد معنويّ مشحون بمعاني عميقة تهدف إلى ترسيخ أهميّة اللّغة في ذهن القارئ.

سينٌ سلس رنّان فهو

حرف مهموس من حروف الصّفير

رخم يتّصف كما قالوا بالهمس وهو من الوسوسة، والوسوسة من وسواس وهو صوت الحلي، وسنأتي لاحقا على ذكر الوسواس في القصيدة كما نزل معناه في القرآن وهو الشّيطان .

لقد أوردنا أعلاه مقولة تتحدّث عن صفات اللّغة عامّة، فهي قوّة ونفوذ، حياة، أداة ثقافيّة هيمنة وتحرير، وسوف نورد تجلّي هذه المفاهيم في القصيدة وكيف طبّقها شاعرنا المتمكّن من أدواته شعرا بالبرهان والتّعبير.

قبل الشّروع في ذلك، أودّ التّوضيح هنا بأنّ القصيدة مركبّة مبنويا ومعنويا بما يأتي:

الجزء الأوّل من البيت الأوّل حتّى السادس يتمحور الحديث عن روحانيّة اللّغة أو اللّغة كاداة منها نستمد الحياة.

الجزء الثّاني من البيت السّابع حتّى الحادي عشر ويتمحور حول اللّغة كإداة هيمنة نظرا لدورها التّاريخي والثقافي، بل وكأداة تحرير كونها منبرا لنشر رايات الفكر ومبادئه.

الجزء الثالث يتمحور حول نفوذها الدّيني في القلوب والفكر،

والجزء الأخير وهو بيت عظيم (وهو خير ما فعله شاعرنا في رسالته )يتمحور حول الدّعوة لاحتضان الضّاد بقوّة ومحبّة لعظمة جوهرها وقيمتها دون سائر اللّغات.

هيا نقرأهم معا:

لغةٌ إِذَا تُــتْلَىٰ عــلى الــجُلّاسِ

تَــشْفي الــعليلَ بــلحظةٍ كالآسي

*

هـي رُقــيةٌ للمشـتكـينَ تـلـعثمـاً

وتميمــةٌ كُتِـَبتْ على القِـرْطاسِ

*

تسمو بها الأرواحُ عِند سَمَاعها

فـتزولُ عنها لـَوثَـةُ الـوسـواسِ

*

وكــأنَّ في نُطقِ الحروفِ طلاوةً

كالطّيبِ إنْ خَرَجَتْ مع الأنفاسِ

*

فهي الــفريدةُ في المحاسنِ كلِّها

بــجمالِها سَـحَرَتْ قــلوبَ النّاسِ

لابدّ هنا من إيراد ما قالوا:

إنّ الذي ملأ اللّغات محاسنا

جعل الجمال وسرّه في الضّاد

ومرّة أخرى نرجع لرنّة السّين فهو حرف التّنفيس الرّقيق فشتّان ما بين تنفيس شعاريّ وتنفيس عن غضب، وأكثر فقد جاءت السّين في الإقتباس في موقع المحاسن والأسرار وعند شاعرنا في السّحر وكم هو جميل

-هذا التّوحيد للسّحر والسّر والحسن!!نعم هذا هو التّشويق والتّرغيب في البحث عن السّر.

قــد أبــهرتْ أهلَ البلاغةِ والنُّهَى

بــطــرائـفٍ ونـــوادرٍ ونِــفــاسِ

*

فـإذْا سـمعتَ لـوَقْعِـها ولـرَجْعِـها

نــالــتْ مــن الآذانِ والإحــساسِ

جليّ واضح تركيز شاعرنا إعلاه على روحانيّة اللّغة، وكونها تدبّ في الحسّ نبض الحياة، فهي الأداة السّامية التي بها تحلّق و"تسمو الأرواح"هي راح الحسّ ومثمله .

بها يزول لون الشّيطان أو كما أسماه شاعرنا "لوثة الوسواس"

كيف يزول؟ من تعبئة الرّوح وشحنها ومدّها "بطلاوة" وعذوبة ألفاظها عند نطقها وسماع جرسها، جرسّ ينبّه الوسواس ومن الوسواس، تماما كما ينبّه الآذان في الفجر قلوب النّاس، ويا للعروة الوثقى ما بين الضّاد القرآن والإيمان، ما لا يوجد في سائر الثّقافات والأديان.

لغتنا بجمال محاسنها سحرتالنّاس كما قال شاعرنا

بسحر طيّب يزيل سحرا خبيثا، أكلّ هذا ولا يزول الوسواس؟

حقّا صدق شاعرنا حين قال أنّ نوادر وطرائف لغتنا النّفيسة تبهر "أهل البلاغة" وأهل البيان، ألم يقل الرّسول عليه السّلام :"إنّ من البيان لسحرا"؟

وكم حريّ بنا التّنويه هنا إلى كون العربيّة لغة مختارة للقرآن كاملة الجمال شكلا وجوهرا، وهي سمة من سمات الإعجاز القرآني، ومن جهة أخرى الإقرار بأنّه لم يسبق أن تطرّق نبيّ لجمال وسحر لغته قبل الأمين محمّد!

وهذا يشهد على قوّة وسموّ الضّاد، بل وقدسيّتها وكرامتها.

ينتقل شاعرنا فيشعرنا بلسان مبين ورنين مسكر عن قوّة لغتنا كأداة تاريخيّة وأدبيّة، تصنع وتخمّر وتورث وتورّث الفكر للأجيال.

أداة ثقافيّة!طبعا، ومن بشعر إبي نوّاس وعنترة والمتنبّي ؟تاريخيّة

نعم فمن حفظهم من خلّدهم سوى دنانها السّخيّة البيّة العنقاء!

فها هو يقول:

يمنيّة بــنتُ الــملوكِ تَــرَعْرَتْ

كــأميرةٍ فــي حــجرِ ذي نــوَّاسِ

*

حــطَّ الــمطافُ بــها بِبُرقَةِ ثَـهمَدِ

فــغـدتْ لــكلِّ الــعُرْبِ كالنّبـراسِ

*

فــتهافتَ الــشّعراءُ نحو حياضِها

كــتبوا الــقصيدَ بــقدِّها الــميَّاسِ

*

واسـتعرضَ الفرسانُ كلَّ فنونِهم

مــن قــدرةٍ و بـطولةٍ و مِــرَاسِ

*

فتَــسَلَّقَ الــضّليلُ خِــدرَ عُــنيزةٍ

ومــهلهلٌ يــغزو عــلى جــسّاسِ

تنضح قصيدتنا بأخبار الماضي الجميل، وتجدّد فينا بحرف منزاح نحو الإعجاب وصدق النّقل والإنبهار

ما كان منها خالدا للأجيال تذكره بلذّة واعتبار.

وكم على أخبار عنترة سهرت عيون وابتهجت قلوب.

هيمنة اللّغة وسيطرتها أتت من دين نشرها

ونشرته فهي تتمتّع بنفوذ وتأثير

ديني لا يستهان به كيف لا:

وبها الــشرائعُ أُكمِلَتْ وتَكَمَّلَتْ

فـي مُـحْكَمِ التنـزيـلِ كالقِسـطاسِ

*

وبها المآذنُ خاطبتْ سمْعَ الورى

وبسحرِها استغْنتْ عن الأجراس

انظروا جمال المقارنة بين لغة الآذان ولغة الأجراس، وهذ مشروع وجائز ما دام في دائرة التّسامح الدّيني والتّعصب للحقيقة، فلا أرى أصدق قولا من كون الكلمة الحيّة الخاشعة في محراب الصّلاة أكثر قوّة جمالا وقيمة لإيقاظ النّفوس من رنّة جرسٍ ميّت جامد، وكم بالحريّ لو كانت كلمة القرآن وتحيّة الفلاح!

كــالأمِّ تَـحفظُـنا وتــجمعُ شَــمْلَنا

مِــنْ نـينوى حــتى رُبَـى مَكْناسِ

تحرير هي وظيفة اللّغة فشاعرنا يشبّهها "بالأمّ"

مصدر الحياة نبع العطاء وطن النّماء ومنها نتحرّر للحياة والبقاء.

ليتنا نصغي لها ونشنّف إحساسنا ونسرّي عن نفوسنا حين نقرأ هذه الخاتمة الأخلاقيّة الوطنيّة والأدبيّة:

أســفي عـلى من يستسيغُ رَطَانةً

يــســتبدلُ الصـلصـال بالألـماسِ

يرفع شاعرنا شعار الأسف على ما لحق لغتنا من إهمال ونسيان وتقهقر، وهو ما نتج عن "من استساغ الرّطانة "أو ركاكة اللّغة فإضعافها،

وهنا أقول، كان من الأفضل أن يستعمل شاعرنا فعلا غير "استساغ"نظرا لأبعاده الإيجابيّة في التّذوّق اللّفظي، مثلا لو استبدله بفعل "قبل" ومرادفاته، فللشّعر قيمة تستوجب التّدقيق في المعنى قبل المغنى.

دعوة شاعرنا مجيدة في رفع شعار المجد للغة الألماس حتى إشعار آخر وفناء النّاس.

وهل الصّلصال رمز الموت والغرق في وحل الكدر كالماس رمز الجمال والصفاء والجوهر المتلألئ ببريق

الحياة.

تُرفع القبّعات تقديرا لما صاغ شاعرنا من وصف وحبّ ولحنّ دفق في جداول الشّعر الإصيل

عن لغة ستبقى تشرق

ما أطلّ أصيل!.

***

الناقدة: نافلة مرزوق العامر

 

قرأت رواية "عازفة البكادلّي" مرّتين، فشدّتني وأثارت أفكاري حول العديد من القضايا. ودفعتني لكتابة دراسة نقدية مطوّلة عنها، ضمّنتها في كتابي القادم "شذرات نقدية" الذي سيصدر قريبا عن دار الشّامل للنشر والتوزيع.

سأعرض عليكم بعض المقتطفات مما كتبته عن هذه الرّواية، التي تقع في (373) صفحة، تدور أحداثها حول ما خفي من أسرار حريق مسرح البيكاديلّي عام (2000) والأسباب الّتي أدّت إليه.

بواقعية مطعّمة بالخيال، تنسج هذه الرّواية خيوطها، لترسم لوحة أدبيّة تثير شغف القارئ.

لقد نجح الكاتب في إيجاد التوازن بين الواقع والخيال، من خلال أسلوبِه السرديّ المُتقن، وحواراته المُثيرة.

تحدّث عن الوقائع التاريخيّة وتقاطعاتها وتأثيراتِها، باحثًا في الماضي لحماية الذّاكرة اللّبنانيّة من الضياع. تطرّق إلى قمع الحريات والفساد، في بلادٍ سكنتها الخيبة، والصراعات والحرائق والوجع، معبّرًا عنْ ألمه جرّاء ذلك.

مسير السّارد نحو البيكادلّي:

يُصرّح د. واسيني أنّه قدم زائرًا إلى بيروت، محاولا دخول المسرح ومشاهدة آثار الحريق من الدّاخل؛ لاستكمال كتابة روايته، لكنّه لم يحصل على إذنٍ بالدّخول إِلّا بعد جهد جهيد، ومساعدة بعض الأصدقاء، وأصحاب دور النّشر.

ويبدو أنّ بيروت قد ألهمته بعد أن خاض تجربة روائيّة سابقة في حياة الأديبة الرّاحلة مي زيادة، فانطلق مجدّدًا إِليها محمّلا بذكرياتِه، يحلّل أعماقها، ويحاول استقصاء حكاياتها الخفيّة، وفي ظلّ نورها أشعل شمعة الإبداع؛ ليعِدّ للكتابة ما استطاع من صدق القلب وزهر النّشيد. فكتب (ص7):

"رأيتهُ أوّلَ وآخرَ مرَّةٍ قادما من الشّام، في عزِّ الحربِ الأهليّةِ فِي شتاء (1978م)، عندما رأيتهُ سحرتُ بجماله، وعطرِ نسائِهِ، وأناقَةِ مرتاديهِ، هذهِ الصّورةُ ترسّخت في ذهني إلى الأبد".

كتب أيضا: "هو رمزيّة بيروت، الَّتي تقوم من رمادها في كلّ مرّةٍ؛ كطائر الفينيق" (ص8).

يجوبُ واسيني شارع الحمراء، الَّذي أضحى جزءا من الذَّاكرة البيروتيّة، يغوص في أفكاره ويسترجع ذكرياته، مستعينا بأدوات ساردٍ زار المكان وأحبّه، جاعلا من تلك الأوقات الماضويّة لحظاتٍ باقيّة، تجتمع فيها الحقائق أمام وعي القارئ، وحين وصل إلى بيروت اجتمعت أبعاد الصّورة وملامحها في وجدانه، واختلطت الأصوات والألوان، فباشر بجمع خيوط الرُّؤى لتكتمل الصّورة، صورة المسرح الّذي استوحى اسمه من أَحد المسارح الشَّهيرة في لندن، لِيكون الصّرح الثّقافيّ الأوّل والأضخم في لبنان.

شُيّد بعد أن اقتُبِسَت هندسته عن قصر برتغالِيّ، وافتتح عام (1965م)، ليعكّس دور العاصمة الفنّيّ والثّقافيّ آنذاك، وليكون مقصدا لعشّاق الفنّ ومحبّي الثّقافة.

نقرأ عن تأسيسه وافتتاحه بحضورٍ مهيبٍ للنّخبة الثّقافيّة والسّياسيّة اللّبنانيّة، وعن استقباله للنّجوم الفنّيّة كالفنّان عمر الشَّريف والأخوين الرّحبانيّ والسّيّدة فيروز، والفنّانة سلوى القطريب، سمير غانم وعادل إمام وغيرهم.

نقرأ أيضا عن عراقته وأناقته، بدءًا من ستائره الحمراء المتماثلة مع لون الكراسي الوثيرة، مرورًا بـجدرانه المزيّنة بصور كبار الفنانين الذين استضافهم على خشبته، وصولًا إلى الأفلام العربيّة والعالميّة التي عرضت على شاشته.

وكأنّ المجد في شارع الحمراء قد انحصر بهذا المسرح، ومقاهيه التي أقيمت من حوله لاستيعاب روّادهِ

كان يخفّف من وطأة الحرب إلى أن احترق وغاب، وبسبب الإهمال أصبح مجرّد أطلالٍ وآثارٍ لزمنٍ بائد، تخلَّت عنهُ الذّاكرة الجمعيّة، وتركته حطاما مهملا محروقا دون أيّ اكتراث، أمّا الذّاكرة الفرديّة فكانت الرّواية الأساسيّة، التي عبّرت عن ذات الأبطالِ ودواخلِهم.

الفكرة والمضامين:

تصوّر الرّواية حالة المجتمع اللّبنانيّ في فترةٍ حرجة، شهدت العديد من التحوّلات السّياسيّة والاقتصادية والاجتماعيّة.

هناك دلالات ومضامين، رفدت هذا العمل وأضفت إليه قوةً وعمقًا، منها المضمون السّياسيّ والتّاريخيّ والفلسفيّ، وكذلك المضمون العاطفيّ والنّفسيّ والوجوديّ، لتتجلّى براعة السرد في استثمار هذه المضامين التي حملت رموزَها، وفتحت للقارئ آفاق التأمّل والتّفكير، وعبّرت عن واقع المجتمع وتأثيرِه على حياة أفراده، وكشفت تركيبة السلطة، وتأثير الأحداث السّياسيّة على حياة النّاس.

كما أبحر د. واسيني في رحلةٍ فلسفيّةٍ عميقةٍ، غاص خلالها في عمق النَّفس والوجود.

ترجم هذه الرّحلة شخوص متباينة، خاضت غمار صراعاتها الدّاخليّة والنّفسيَّة، مجسّدةً بذلك تناقضات الحياة وتحدّياتها، في نصٍ مفعمٍ بالحياة، اسْتمدَّ إِلهامه من الواقع والفلسفة، ومن المشاهد الدّراميّة التي صوّرت رحلةً عميقةً لأبطالها، غاصت في دواخلهم وذكرياتهم، مشاعرهم وتوجّهاتهم وتناقضاتهم، فأثارت في النّفس مشاعر متضاربة وقدّمت خليطا من الواقع والخيال، وما يثير التّساؤلات حول الوجود والهويّة والحياة والموت، ومأساة الإنسان وارتباكه في هذا العالم.

عازفة البيكاديلّي كشخصية مركزية:

وصفت السطور حالةً عاطفيّةً وجدانيّة؛ لامرأةٍ تعيش تجربة عشقٍ للموسيقى، دفعتها للتّفوّق على ذاتها، بما يليق بامرأةٍ تنتمي إلى الموهبة، تفِيض بالمحبّة والحنين إلى الزّمن الجميل الَّذي غاب، وتستخدم الموسيقى كوسيلة للتعّبير عن نفسها، ومشاعرها وأحاسيسها. وتحوّلاتها العاطفيّة والفكريّة.

تتّخذُ لينا "عازفة البيكاديلّي" منْ الألحان ما يمحو حزنها، تجد في الموسيقى ملاذًا من قسوة الواقع، ونافذةً تطلّ من خلالها على ذاتها.

حاولت أن تعيد المسرح إلى نشاطه بشكلٍ مؤقّت، فطرحت الفكرة على قسم الفنون والعلوم في الجامعة الأمريكيّة، وحصلت على موافقة الوزارة، وبدأت بتنظيم الحفل الفنّيّ فيه وهو على حاله. باشرت بتدريب طلّاب قسم الموسيقى والفنون لتثبت أنّ الصّعوبات لا تقف حائلا أمام العزم والإرادة.

يستمر السارد في وصف حياةِ هذه العازفة، التي كَبُرَت على وقع صوت الرّصاص ورائحة الدّم بسبب الحرب، هي ابنة عازف المسرح الأوّل "المعلّم جوزيف"، الذي قضى نحبه مغتالًا بيدٍ آثمةٍ لقاتلٍ مجهول، وهو الرّجل المبدع الذي عزف مع السّيدة فيروز وداليدا، والرّحابنة وشريهان وغيرهم. وهو من ورّطها بالعزف في عمرٍ صغيرٍ، يوم انقطعت الكهرباء وانطفأَ النّور، وكانت ذراعه مكسورة، فدفع بها لتقديم وصلةٍ موسيقيّةٍ بدلا عنه، فانبهر بها عاصي الرّحباني والجمهور، وأصبحت عازفة البيكادلِّي دون منازع.

وبعد أن حلّت الكارثة بحرق المسرح، اغتيلت كلّ ذكرياتها وأحلامها الفتيّة.

تتمتّع هذه العازفة بالعديد من الصّفات الإيجابيّة، وبعمقٍ نفسيٍّ وعاطفيّ، فهي موهوبة ولا تستسلم بسهولةٍ، وعليه فهي شخصيّة مركّبة، تمرّ برحلة النّضج والتطوّر الشخصيّ، وتتغلّب على التّحديات والصعوبات، ما يجعلها تظهر بشكلٍ مميّز.

يكشف النّصّ بعض أَسرارها، زواجها من "أنطوني" الذي انفصلت عنه، بسبب انصرافه إلى العمل الإجراميّ. تزوّجته بعد مغامرةٍ مجنونةٍ مع المصوّر "ماسي"، الذي تعرّفت عليه بالصّدفة، وأحبّته قبل ثلاثين سنة، ثمّ انفصلا.

تستمرّ الأحداث بشكوكها بتورّط زوجها في حرق البيكاديلّي، انتقاما لمقتل أخيه تحت التّعذيب، ولمشاعر القهر التي سكنته، فظلّ حاقدًا يُفكّر في الانتقام.

كان رجلا قاسيا لا ترقُّ له قناةٌ أمام دموعها، حين كانت تلتقط الأمل من أشلاء الذّكريات الجميلة.

شخوص وأحداث:

بينما يعصف العنف في المدينة، ينكبّ "ماسي" على إنجاز كتابٍ مصوّرٍ عن البيكاديلّي. يسعى لإتمام الكتاب قبل حلول الذّكرى العشرين على تدمير المسرح، فيحاول الدّخول إليهِ والتقاط الصّور، لكنّ البيروقراطيّة الخانقة التي تسيطر على وزارة الثّقافة، تعيق مساعيه، وتحول دون حصوله على الموافقة.

الشخصيّة الثّانيّة في هذا العمل هي "إيما"، وهي ابنة العازفة، تعمل في "جورنال المحقّق" وتسعى نحو فكّ غموض الحريق. كانت تنبذ الطّائفيّة، وتحمل روحا متحرّرةً متسامحة.

تبدأ الأحداث وهي تخرج من سجن النّساء بعد شهرٍ من الإعتقالِ بتهمة قذف وإهانة مؤسّسات الدّولة، وذلك بعد سعيها الحثيث في تقفّي أسرار الجريمة، ومحاولة العثور على اليدِ الفاعلة. كانت تؤمنُ أنّ الحريق جريمة مقصودة، ارتُكِبت بفعلِ فاعل.

يحذّرها الضابط سليم قائلا(ص20): "تشكّكينَ في تقريرِ رجالِ الأمن! يفترض أن تتوقّفي عند هذا الحدّ، لأنّ تخطّيهِ سيقودُكِ إلى السّجنِ كما تعرفين".

يسترسل الكاتب في وصف مشاعر شخوصه الوجدانيّة، وتجلّياتهم الإنسانيّة؛ ليقدّم بناءً روائيّا زاخرا بالمشاعر، والوقائع التي التقت بالخطوط الفنيّة والفكريّة والسّياسية، والمحظور الاجتماعيّ.

كشف عن التّأثير الآيديولوجيّ بكلّ أبعاده الثّقافيّة على العلاقات الإنسانيّة، متحدّيًا التّابوات الاجتماعيّة والفكرية المتجذّرة، طارحاً فكرة الزّواج المختلط، مُثيراً للأسئلة، مُستدعياً أجواء التّآلف والتّنافر وأسبابها في المجتمع اللّبنانيّ، وما ساد في تلك الفترة من أحداث. فصنع بذلك حياةً كاملةً للعازفة، منتصرًا لها ولأفكارها وللحبِّ في النهاية.

يكتب (ص53): "من نَصّبَكُم آلهةً صغيرةً تحكُمُ على النَّاس؟ لا دينَ للقلوبِ إلّا دينُ الحبِ، لو حلَّلنا فصيلَةَ دَمِكُم، لوجدناها خليطا من الأتراكِ والأكرادِ والشّركسِ والمسلمينَ والمسيحيّين، وكلِّ الَّذينَ مرّوا على هذهِ الأرض".

سيرة المكان والزّمان:

الأمكنة هي ذاكرة الإنسان، ومرآةٌ تعكس ماضيه وهويته، في كلّ زاويةٍ منها تنمو الذّكريات، هي ليست مجرّد مواقع جغرافيّة، بل هي مساحات محمّلة بالحكايات التي خطّها الزّمن وخلّدتها الذّاكرة.

عن سيرة المكان والزّمان، فقد كانا مصدر إلهامٍ للكاتب، استعادهما لترميم الذّاكرة الثّقافيّة، ولإعادة المجد لمعلمٍ بيروتيٍّ بتاريخه ونشاطه، ذهب بهما بعيدا، جاعلاً منهما حدثًا وأداةً وساحةً للصِّراع وخلِيفَّةً لروايته.

استحضر آنِفَ بيروت، مستطلعًا غموض أحداثها، مطلّا على حاضرها، معيدا تشكيل الزّمن بفلسفته، فصاغ نسيجًا حيّا متجانسًا من الأماكن والأحداث والمشاعر والتوقعات والإرهاصات، فغدت المدينة مادةً طيّعًة بين يديه، وفضاءً روائيًّا رحبًا، بزواياها التي تنوّعت وانقسمت بين المكان المفتوح والمكان المغلق، فبين شوارعها الصَّاخبة وأزقّتها الضَّيِّقة، تعانقت الأبنية الحديثة مع البيوت القديمة، وتداخلت الضّحكات مع الأحزان، كأنّها سمفونيّةٌ مؤلّفةٌ من أحرف الحياة.

وُصِفَت الفنادق والمقاهي والمؤسّسات، مسرح البِيكاديلِّي، وشارع الحمراء، ومركز الشرطة والبيوت، وذُكرَت أماكن أخرى حملت القارئ بعيدًا في رحلةٍ قصيّةٍ، مثل باريس وتِلِمْسان.

إذن، هي سيرةٌ للمكان بصورته الباقية في الأذهان، وما حلّ بالمدينة من خراب، وما نزل بها من كربٍ وضيقٍ حتى غدت مختلفة، بعد أن احتفت بمظاهر الرّقيّ والجمال، وبعد أن عانقت في حاضرها الماضي والحاضر.

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وقَبِل الشعب اللّبناني بواقعه، لم ترحمه قادة الميليشيات والسياسيين، الذين فشلوا في إدارة بلادهم، وتجنّبوا مسؤولية الإنفجار الذي وقع في مرفأ بيروت عام (2020م).

تلك الفاجعة المأساويّة والكارثة الَّتي هزَّت العاصمة، أدّت إلى تفاقم الكوارث الاجتماعيَّة والاقتصاديّة، ونتج عنها حريق ضخم، بسبب انفجار كمّيّةٍ كبيرةٍ من نترات الأمونيوم، مما أحدث أضرارا شديدةً في المرفأ والمدينة، وأسفر عن وفاة عددٍ كبيرٍ من النّاسِ، حتّى غدت ذكريات الحرب والانفجار جزءًا لا يتجزّأ من الوضع المتدهور الحاليّ، الذي يعيشه الشعب اللّبنانيّ، فغابت مظاهر التّحضّر، وتحوّلت الأماكن التي عُرِفَت بملامحها القديمة الرّاقيّة إلى أماكن غريبة، أو اختلّت هويتها بشكلٍ لم يعد معروفًا.

أعود إلى البكاديلّي، ذلك المكان الذي نشط خلال حرب عام (1982م) مقاومًا الحزن والموت بالفنّ، رافضًا التشرذم والتحزّب.

كان مكانًا رمزيّا للتّآخي، يتخلّى روّاده عن فكرة الطَّائفيّة ورواسبها الإجتماعيّة العقيمة أثناء زيارته.

لم يعرف الفاعل؛ فتكاثرت الأقوال والتّخمينات، بعد أن كان المسرح واحةً حقيقيّةً، في ظلّ الموت اليوميّ الذي عاناه لبنان. فهل كان الحريق سهوا عابرا أم بفعل فاعل؟ وهل أُحرِقَ بسبب إهمال أحد عمّال الدّيكور كما جاء في التّحقيق؟

أشارت أصابع الاتّهام إلى المنزعجين من المسرحِ، وأشارت شكوك العازفة إلى زوجها أنطوني، حيث قالت (ص260): "رجلٌ بهذا الإرتباك، يمكنُ أن يقومَ بأيّ جريمةٍ شنيعة".

وتساءلت ابنتهُ إيما: "كيفَ يمكنُ لرجلٍ أن يكونَ جميلا مع ابنتهِ، وفي أشدِّ الانحطاطِ معَ زوجتهِ وأهلهِ ووَطَنه؟".

الحوار وسماتٌ فنيّة أخرى:

يُجسّد هذا العمل روايةً بوليفونيّةً، اعتمدت على تعدّد الأصوات الرّاوية للأحداث. فبدلًا من صوتٍ واحدٍ، تتوزّع الرّواية على عدّة أصوات، يروي كلٌّ منها الأحداث من منظوره الخاصّ ووجهة نظره.

بحسب النّاقد الرّوسيّ "ميخائيل باختين"، تُعرف هذه التقنيّة السرديّة، بتعدّد الأصوات والرّؤى، واللّغات والشّخوص ووجهات النّظر وأنماط الوعي، وهي تُمثّل تصوّرًا للمعاناة البشريّة، من خلال التّضارب بين الأصوات الراويَّة وتصويرها المُتعدّد للوقائع.

بهذا التعدّد، تبقى الأسئلة مفتوحة، ممّا يُعزّز من تفاعل القارئ، ويدفعه إلى تكوين آرائه الخاصّة. وهكذا، تحرّر هذا العمل من سلطة الرّاوي المطلق، ومن أحاديّة المنظور واللّغة، توزّع فيه السّرد على الأبطال الرّوائيّة لكشفِ علاقتها بالمكان والحدث.

بفضل هذا التّوزيع، أمسك الحوار بخطوطٍ عدّة، وتداخلت بين الصفحات لغةٌ فصيحةٌ، ولغةٌ صحفيةٌ، ولّهجةٌ لبنانيةٌ، في نصٍّ تشكّل من حكاياتٍ كثيرة، تفرَّعت من حكاية البيكادلّي وعادت إِليها كلَّ مرّة؛ لتترابط، داخل إطار السّرد ومكانهِ

كما تمّ إِثراء العمل بالقصص والأساطير، جلجامش وعشتار وغيرها؛ لتندمج في مدلولها الرّمزيّ، وصولًا إِلى المدى الفلسفيّ المطروح.

من خلال هذه القصص، نستخلص أن اختلاف الفلسفات والعقائد والأنظمة والحدود الفكرية، هي السبب في حروبنا التي يذهب ضحيتها الملايين، نرى أنّ الإنسان متى تجرّأ على الوقوف في وجه قيوده الفكريّة، فلن يبالي بها بعد ذلك، بل سرعان ما يحطّمها، وينطلق حرًّا كريما، آخذاً النّظر بعين النّقد لكلّ شيء، وهذا ما يؤكد على أهميّة الحرّية والتّفكير النّقديّ، في بناء مجتمع أفضل، خال من الطّائفيّة والحروب والصّراعات، والعنصريّة والبغضاء.

كما حمل النّصّ دعوةً للتمرّد على القيود، فقد استنطق الكاتب المسكوت عنه، واستثار مشاعر القارئ، لم يتناول الأحداث بشكل سياسيّ مباشر، بل قام بعمليّة التّوثيق عبر الشّخوص الحيويّة، التي تحرّكت في ظروف معينة، بأبعادها ومنظومتها المتناقضة، وفروقاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة الحادّة التي سادت وما زالت تخيّم على لبنان.

وهنا تَطرَح الأسئلة نفسها بإلحاح، فلماذا لم يُعَد إعمار المسرح؟ ألم يكن بإمكان الجهات الفاعلة المساعدة بالوفاء لهذا المعلم؟ لماذا لم يطالب أو يتبرّع أو يسهم بترميمه أحدٌ من الفنّانين الكبار ممن منحهم البيكادلّي الكثير؟ راسما جزءًا مهمّا من مسيرتهم الفنيّة؛ كالسّيدة فيروز مثلًا وعائلة الرّحباني، وغيرهم من الفنّانين الأثرياء؟

ألا يستحقّ ذلك المكان الاهتمام به، بعد أن قدّم خدماته لهم؟ وهل يقتصر الانتماء وحب الوطن على الشّعارات الرّنانة، والأغاني الوطنيّة والقصائد الشّعريّة فقط؟

أليس للمدينة حقٌّ على أثريائها؟ خاصّة وأنّ الدّولة تعاني من أزمةٍ اقتصاديةٍ خانقة تعصف بها بسبب الفساد والطّائفيّة وسوء الإدارة.

الرّواية والموسيقى:

بما يتعلّق بالجزء الموسيقيّ من الرّواية، فتظهر علاقةٌ فريدةٌ وعميقةٌ بينها وبين الموسيقى، تجلّت في تجسيد الأصوات والنّغمات بأسلوبٍ أدبيٍّ متقنٍ، فقد استُخدِمت الموسيقى كعنصرٍ مكمّلٍ لهويّة العمل، حملت إلى القارئ حالةً من الانسجام الدّراماتيكيّ، ومثّلت لغة تعبيرٍ برمزيةٍ متوازنة بين النّصّ واللّحن، عزّزت الأحداث وعبّرت عن الوقائع التي استمدّت منها الحيويّة في العنوان والخطاب.

وعلى لسان البطلة حضرت هذه العبارة (237 ص): "الموسيقى لا تُنقذ النّاس من الموت، لكنّها تحرسنا، وتمنعنا من التحوّل إلى ضباع".

وكأنّي بالكاتب يقول: الموسيقى هي من توحّدُ الأرواح، هي لغة القلوب المتّصلة والعقول المنفتحة، وهي الوسيلة التي تجمع البشر بغضّ النّظر عن خلافاتهم واختلافاتهم وألوانهم وعقائدهم.

وبعد.. لقد أبدع الكاتب في استخدامه للموسيقى كأداةٍ فنيّة، تُؤكّد على قدرتها على التأثير في النفس البشريّة ونقلها من حالةٍ إلى حالة، ومن موضعٍ إلى فُسحةٍ، من الحزن إلى الفرح ومن اليأس إلى الأمل؛ لتغدو هذه الرّواية بمثابة لوحةٍ تجسّد تناقضات الحياة وتحدّياتها، وتؤكّد على قدرة الفنّ على الإلهام والتّعبير عن مكنونات النفس البشريّة، فبالموسيقى تنتشي الأرواح ويعلو فيها صهيل الحياة.

***

صباح بشير

........................

* ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثّقافيّ.

 

قد تتداعى إلى ذهن بعض القراء أحداث رواية "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل، وهم يمضون مع رواية أمجد توفيق "الحيوان وأنا" الصادرة مؤخراً عن دار الشؤون الثقافيَّة العامة، مع أنه لا رابط جوهرياً بين الروايتين، ولا تشابه بينهما باستثناء أنَّ الحيوانات فيهما تتكلم أو لها مشاعر وأحاسيس بشريَّة.

وبخلاف حيوانات أورويل الغاضبة المتمردة المتآمرة التي تقوم في النهاية بثورة على صاحب المزرعة، فإنَّ حيوانات توفيق وبالأخص الكلب "ليل" والحصان "ظلام" حيوانات مسالمة، عدا الحيوان الثالث المضطرب الكامن داخل شخصيَّة دانيال المعتكف في المزرعة، وهو الحيوان الذي "يعاني بصمت عندما يجرجر خطواته".

هذا الحيوان هو دانيال نفسه!. اعترفُ بأنَّ أول وآخر ما قرأت لأمجد توفيق – قبل روايته القصيرة هذه – يعود إلى منتصف السبعينيات، وأقصد بذلك مجموعتيه القصصيتين "الثلج .. الثلج" 1974، و"الجبل الأبيض" 1977، يومها كانت القصة القصيرة على نمط انفعالات الروائيَّة الفرنسيَّة ناتالي ساروت هي الموضة الأدبيَّة السائدة عند جيل القصاصين الشباب، وكان أمجد مختلفاً عنهم بصوره وعوالمه ولغته الثلجيَّة الجبليَّة البيضاء، الأمر الذي يترك في ذهن قارئه انطباعاً لا يمكن أنْ يزول بسهولة، مثل ذلك الانطباع الذي بقي عالقاً في ذهني كلما ذُكر اسمه، قبل أنْ يغيبَ عن المشهد الأدبي لمدة تزيد على العشرين عاماً، حتى صدور مجموعته "قلعة تارا" عام 2000 ليعود بعدها نشيطاً منتجاً لأكثر من سبع روايات ومجموعتين قصصيتين، آخرها "الحيوان وأنا" التي لولا مصادفة لقائي به لما قرأتها، فقد كنت أفضل بقائي على دهشة الثلج الأولى، والانطباع الأول عن ذلك الأديب الشاب المهذب الأنيق الذي بدأ يشقّ طريقه وسط أدباء بغداد المُعتَّقين على أريكة مقهى حسن عجمي وقد أكل عليها وعليهم الزمان وشرب، والمنشغلين وقتذاك بقصة "سيدنا الخليفة" لعبد الستار ناصر وعواقبها الوخيمة.

أمجد توفيق ببساطة هو رسامُ الطبيعة على ورق القصة والرواية، إنَّه يجيدُ الوصفَ لكل ما فيها من أنهارٍ وأحجارٍ وأشجارٍ وشجيراتٍ وزهورٍ ونباتاتٍ وغاباتٍ وجبالٍ وثلوجٍ وغيومٍ بيضٍ، وبشرٍ وحيوانات، مثل حيوانات مزرعته، وفيها الكلب والحصان والقطط والدجاج، ودانيال الذي اكتشف أيضاً أنَّه حيوان مثل بقيَّة الحيوانات بعد هروبه من المدينة بحثاً عن الصفاء الروحي، وهو سعيدٌ مع حيواناته، حتى أنَّه يرفضُ اقتراحَ أصدقائه بترك المزرعة والعودة إلى المدينة "تعرفون أيها الأصدقاء أنَّ الحمير لا يكذبون، فالكذب نتاجٌ إنسانيٌّ صنعته اللغة، والحمير لا يخلفون وعداً لأنهم بالأساس لا يمنحونه"، هنا يحضر أيضاً مدني صالح في لائحة حقوق الحمار "الذي لا يزني ولا يسرق ولا يخون ولا يكذب ولا يغش ولا ينافق". لكنْ لا يمكن لحياة العزلة في المزرعة أنْ تستمرَّ ما دامت المدينة قريبة، وما دام الأصدقاء يترددون على المزرعة، وابن يدرس في لندن. وفي النهاية لا بُدَّ من جريمة يذهبُ ضحيتها الحصان، ولا بُدَّ من فتاة مثل موج هاربة من الاختطاف، ولا بُدَّ من امرأة مثل ذكرى تزيل الرماد عن جمرة الجنس. وتلك حكايات مثيرة عن دانيال الحيوان، لم يفسدها غير تلك السطور المُقحَمة حول الدستور والسياسة والسياسيين، التي لولاها لكانت الرواية خالصة لقضيَّة الحيوان الكامن في الإنسان.

***

د. طه جزاع

بقلم: نورا هيميلينين

ترجمة: صالح الرزوق

***

تحدد آيريس مردوك في كتابها "سيادة الخير" شرطين اثنين تقوم عليهما فلسفة الأخلاق. أولا. على التحليل أن يكون واقعيا. فالطبيعة البشرية، بعكس طبيعة الكائنات الروحية الافتراضية الأخرى، لها معايير يمكن اكتشافها، وهذه يجب أن تعالج على نحو ملائم في أي مقاربة للأخلاق. ثانيا. باعتبار أنه لا يمكن النظام الأخلاقي إلا أن يكون مثاليا، يجب أن يفرض مثاليات عالية 1. ويمكن اعتبار ذلك أنه حذر شخصي من مورداك لمواجهة فلسفة الأخلاق التي توضع كما لو أنها لملائكة، ولذلك هي لا ترى محدودية ونقصان حياة الإنسان الواقعية. فالأخلاق المفيدة هي الحياة التي يمكن لنا 'أن نعيشها'، ولكن تشكيلاتها تؤكد أيضا وجود ثنائية أساسية هي الواجب الوصفي والواجب المعياري 2.  ويجب على فلسفة الأخلاق أن تصف بدقة كيف هي حياة الإنسان وأخلاق الإنسان، وأن تقدم نصائح ثمينة ومسؤولة عن الطريقة التي يتوجب علينا أن نحيا بها. ويجب النظر إلى النقطة الأخيرة، التأكيد على المعايير القيمة، لنقابل بها فكرة مردوك حول عدم وجود فلسفة أخلاق محايدة ومثالية، على سبيل المثال ميتا أخلاق صافية، لأن كل الفلسفات الأخلاقية تكشف انتماءات أخلاقية أساسية تتجلى في اختيار الأسئلة المطروحة للنقاش، وفي اختياراتها للكلمات ووجهات النظر التي ترتكز على الطبيعة البشرية والواقع الإنساني.

يعتمد كل موقف أخلاقي (وكل أخلاق معيارية) على صورة الواقع الإنساني، والتي يجب أن تستجيب بشكل أفضل لحياتنا الفعلية  إلا إذا كنا سننتهي بمجموعة منطلقات مضطربة وغير عملية. ويفضل قراء مردوك التركيز على المعايير التي تقدمها: القيم الأخلاقية التي تقدمت بها من خلال رؤيتها للأخلاق وصور صعودها الأفلاطوني.  ولكن إذا قرأتها بدون مؤشرات معايير الفلسفات الأخلاقية سيصدم المرء تركيز فلسفتها بكل وضوح على الوصف -  وهي تحاول رؤية وفهم العالم المحيط بنا، وعصرنا ومجتمعنا والأساليب التي نقدر بها الأشياء ونصنع منها معنى 3. ويمكن فهم هذا الجانب الوصفي من الفلسفة الاخلاقية، والتي سوف تحتل هنا موضعا أساسيا، والتي فهمتها أيضا بعدة طرق من آليات الفلسفة الأخلاقية. فتفسير مردوك لها مختلف تماما عن ذلك الذي جاء من قرائها الأنغلوفونيين في النصف الثاني من القرن العشرين. وفي الأخلاق الأنغلو أمريكية المعاصرة، يقال عن نسبة كبيرة من الواجب الوصفي إنه ميتا أخلاق، وهو التزام تجريدي يتوقف على طبيعة المفاهيم السلوكية واللفظية، والحال الميتافيزيقي لبصيرة الأخلاق، مع أمور أخرى. وتم استثمار طاقة أقل بكثير للاهتمام بالآليات والأنظمة والميول الأخلاقية الفعلية، والتصورات الثقافية التي لها علاقة بالجانب الأخلاقي من الحياة.  وربما هذا لأن المساءلة الوصفية تميل للسقوط خارج مجال ما نرى أنه فلسفة أخلاق متكاملة، أو لأنها تحيلنا إلى الأخلاق الفعلية، وتؤدي دورها التمثيلي أو التوضيحي، وتعمل به على تقديم نظريات المحافظين والعمال المعيارية أو الميتا أخلاقية.

في أخلاق التيار الأساسي المعاصر تؤكد مردوك على الجانب الوصفي لفلسفة الأخلاق وهو ما يمكن غض النظر عنه بسهولة لأن الفلاسفة تلقوا ثقافتهم بالسياق المعاصر لنظرية الاخلاق، وتتبنى الميتا أخلاق في النصوص الفلسفية مباشرة نظرية معيارية أو ميتا أخلاق، وذلك حينما نرغب بمعرفة ماذا يجب أن نقول، سواء كان هو أو هي.

استبعاد نظرية الميتا أخلاق أو الأخلاق المعيارية من عمل الفيلسوف أبسط طريقة لإشهار عمل الإنسان وإعطائه أهمية في سياق فلسفة الأخلاق الأنغلوفونية المعاصرة 4. وقد أنتجت الجهود المبذولة بهذا الاتجاه عملا مهما تراه في جانب من جوانب فنية مردوك، ولكن التأكيد على الاهتمامات المعيارية والميتا أخلاقية  أدى لتشويش القارئ عن ضرورة العمل الوصفي، وعلاقاته، وأخر فرض فلسفة  أخلاقية شاملة.

وعموما إن الأخلاق الأنثوية المعاصرة والمزيد من السياق العملياتي، يوفر لإصرار مردوك على الجانب الوصفي آلية عمل مسموعة وأكثر معاصرة. وفي مقدمتها لمختارات بعنوان "تطبيع البيو أخلاق"* يمكن قراءة النزعة الطبيعية على أنها "ذاتية الانعكاس، وتزودنا بنقد اجتماعي وسياسي، وتتحرك ضمنيا نحو أخلاق إمبريقية متطورة، ولكنها أيضا تعلم جيدا أن نظرية الأخلاق هي التطبيقات التي يقوم بها بعض الناس في أوقات وأماكن وثقافات محددة وفي بيئات احترافية بعينها" 5.  وتؤكد على "شراكة العمل بين المباحث الفلسفية والإمبريقية في مجال الأخلاق، وقيمة الأخلاق في واقع الآليات الفعلية وعلاقات الناس المختلفة مع هذه الآليات وفيما بينها ضمنا". والعديد من المشاركات في الكتاب تشير لحالات بيو أخلاقية، حيث أن الجدل الفلسفي يبتعد عن مساره بسبب المعرفة غير الكافية فيما يتعلق بالأوضاع والأسباب وأفكار العالم عن الناس أصحاب العلاقة، وحيث يكون البحث المعقد هو أفضل مكان لتحقيق أفكار نظرية ومعيارية. 

وعوضا عن تصوير مردوك وكأنها نصف مغتربة عن أخلاق أواخر القرن العشرين، علينا أن ننظر إليها كممهدة للإصرار المعاصر على فهم أفضل لوصف الظروف الأخلاقية على كافة الصعد: الفردية، المحلية، الاجتماعية والتاريخية. بالنسبة لأوربان ووكير وزملائه، وضمنا مردوك، الفهم الوصفي للحالات الإنسانية ليس شيئا أنت تحتاجه لتطبيق النظريات الأخلاقية على حياتنا في الواقع. وعوضا عن ذلك هو شيء آخر من قلب الفلسفة الاخلاقية. وكل الانعكاسات الفلسفية على الأشياء الأخلاقية تقوم على وصف واضح للعيان أو غير ظاهر للموجود البشري، والحياة الإنسانية. ولتكون الفلسفة فعالة، يجب على هذا الوصف أن يكون مناسبا ونشطا بحيث يستجيب للتصحيحات.  علاوة على ذلك يمكن متابعة العمل الوصفي المقصود، متعدد الأوجه، بعدة أساليب، ومن ضمنها: الاتكال على التحليل الثقافي، وإقامة حوار مع البحث الإمبريقي، وبالأساليب السردية، وبصيغة نقد للسرديات الطقوسية، وبواسطة إعادة وصف أشياء تتحقق في عمل الفلاسفة الآخرين دون مساءلة.  وقد لجأت مردوك من بين ما سبق ذكره لعدة أساليب ذات أهداف متكاملة. وحذا حذوها أوربان ووكير وكتاب تطبيع البيو أخلاق 6.

وقد كان هذا التأكيد على الوفرة والدقة في الوصف حاسما لحلقة النساء الفلاسفة التي تنتمي لها مردوك والتي تخرجت من أوكسفورد في الأربعينات، ومن بينهن إليزابيث إنسوكومبي، فيليبا فوت  ماري ميجلي، ولكن كان عمل أنسكومبي وفوت أقل شهرة وأكثر تنظيرا مع أن سيرتهما الأكاديمية  أهم وأكبر. وقاد هذا التأكيد كلا من مردوك وميجلي للخروج على الأخلاق المركزية، على الأقل مؤقتا: وانتقلت مردوك إلى العمل الأدبي ولاحقا إلى كتابها الهام "الميتافيزيقا دليل إلى الأخلاق"، وانشغلت ميجلي بقراءات مكثفة في البيولوجيا بالإضافة لاهتمامات أخرى 7.   

ويمكن أيضا القول، مع أنني غير جاهزة للتفصيل هنا، إن الإصرار على المزيد من وصف حياة الأخلاق الإنسانية، وعلى نحو مناسب، كان ملحوظا في نطاق امتد حتى شمل نشاط النساء المربيات في أواخر القرن العشرين، وهذا يتضمن كارول كوليغان وأنيت باير. والهدف هنا متواضع، ولا يتضمن إشها  دور النساء الفيلسوفات في التاريخ الراهن لفلسفة الأخلاق 8. وببساطة أستطيع رؤية أثر حضور التأكيد على الأساليب الوصفية في أجزاء متفرقة من عمل مردوك. ويجب أن يثير ذلك اهتمام من يتساءل عن طبيعة فلسفة مردوك. ولكنني أيضا أعتقد أن هذا الجانب من مردوك يساعد على تداخل النصوص ويوفر أداة لفهم المنعطف الوصفي في نتاج الأخلاق النسوية المعاصرة.

تضع الطبيعة الإنسانية نفسها، في أعمال مردوك، أمام خلفيات الظرف الاجتماعي والمادي والتاريخي، وكأن التنقيب في طبيعة البشر هو بالضرورة تنقيب في ظرف الناس الحقيقيين المجاورين. وبكلمات مردوك علينا نحن أن نحكم على قيمة النظام الأخلاقي، ولكننا لسنا كائنات إنسانية فقط ونحن مصنفون تاريخيا في مجالات اجتماعية تشكل وتخنق خيالنا. وتقول مردوك عن شروط معاصرتها: نحن نعيش في عصر علمي مضاد للميتافيزيقا، وفيه فقدت الدوغمائية وشروط الدين القدر الأكبر من سلطتها. وحتى الآن لم نتعاف من حربين ومن محنة هتلر. ونحن أيضا ورثة التنوير والرومنسية والتقاليد الليبرالية. وهذه هي عناصر مشكلتنا، وأهم مواصفاتها، برأيي، أنه بقيا لدينا فكرة سطحية جدا وخرقاء عن الشخصية الإنسانية 9. وصف الطبيعة الإنسانية  والسعي وراء قيم نقية شيء يعقده الأساليب المحدودة التي نعقل بها ظرفنا - كيف هو وكيف يصبح مختلفا. وهذه الحدود هي بنيوية وضرورية بنطاق ما، ولا يمكننا رؤية أنفسنا كما هي من الخارج. ولكن مردوك تؤمن أنه بالبحث عن طبيعتنا - التاريخية والاجتماعية والعاطفية والميتافيزيقية - يمكننا أن نصل لفهم أفضل لظرفنا.

أنجزت مردوك هذا النوع الوصفي والتحليلي في معظم نصوصها الفلسفية، وهي تتكئ باستمرار على  الحدود الأخلاقية والثقافة، وأشكال العجز وفضائل الحداثة وعلى عصرها وسياقه. وفعلت ذلك أيضا في رواياتها، وهدفت لتحقيق رؤية صادقة عن الشعب والمجتمع، ووجودهم الفعلي. "فوعينا يتبدل، والتبدل يظهر في الفن قبل أن يستقبل ما ينجم عنه ويستوعبه نظريا، وكذلك يمكن أن تؤثر النظرية  على الفن" 10. ومن المفيد أن تفكر بجزء كبير من فلسفة مردوك الأخلاقية على أنها أنتولوجيا فلسفية، تبني على قراءة مستمرة في شؤون عصرها 11. وهي تخاطب الموضوعات الأكاديمية الصرف، مثل أولويات وميول فلسفة ما بعد الحرب - الوجودية، الفلسفة الألسنية، والبنيوية المتأخرة - ولكن يمكن رؤية ذلك دائما وبطرق مختلفة أمام آلية  عمل المجتمع البشري حيث تكون الاتجاهات الثقافية ممكنة ولها معنى وفي الظاهر أيضا لا بد منها. وبأفلاطونيتها الجديدة كانت تتابع حدود فينومينولوجيا الأخلاق التاريخية - صور  المباشرة الإنسانية بمعايير القيمة، امام فكرة الخير. ولكن بوضع هذه الصورة أيضا وباستمرار في إطار حياة أخلاقية مشروطة تاريخيا. والرجل الليبرالي وهو  يتقدم الى الصدارة في بواكير كتابات مردوك هو الكائن البشري كما تخيلناه في الفلسفة التحليلية التي انتشرت في أواسط القرن العشرين. فهو عقلاني وحر تماما باستثناء الاختلاف المحتمل مع درجة وعيه الذاتي، إذا قدرنا ذلك بالإحساس المشترك وقوانين المحاكم العادية. وبلغة أخلاقية هو الأهم في كل شيء يتقصاه ومسؤول عن أفعاله. ولا شيء يضمن تساميه. ولغته الأخلاقية مؤشر عملي، وأداة اختياراته، ودليل على أفضلياته. وتنتهي حياته الداخلية إلى أفعاله واختياراته  ومعتقداته، وهي أيضا فاعلة، لأن المعتقد يعرف من تعبيره. وجدله الأخلاقي مرجع يقود إلى حقائق إمبريقية يدعمها القرار. والكلمة الأخلاقية الوحيدة التي يتطلبها هي "الخير" (أو الصواب)، كلمة تعبر عن قرار. وعقلانيته تعبر عن نفسها بوعي وإدراك الحقائق، سواء كانت عن العالم أو عن نفسه. والفضيلة الأساسية عنده هي الإخلاص 12. وإذا لم يتقبل فلاسفة الأخلاق في عصرها الوجه الواحد لهذا الشخص 'الليبرالي'، وإنسانية هذا الاختيار، والفعل، والوسيط العقلاني، الحر، والذي من المفترض أنه دون محتويات عميقة،   ودون جماعة، أو تاربخ، فهذا لأن الخيال الأخلاقي الحديث قد اتخذ هذه الصورة رهينة لديه.  وترى مردوك أن هذا الشخص هو أيضا بطل أساسي في أدب القرن العشرين، وهو بطل وجودية سارتر (ويمكننا أن نضيف الآن بطل الليبرالية الجديدة).

ومن المؤكد ان هذه ليست الطريقة الوحيدة لتصوير الكائن البشري في مجتمع  حديث، ولكن تعتقد مردوك (وهذا يعود لعام 1961) إن الفلسفة بالنسبة للعالم الليبرالي هي غير مؤهلة في الحقيقة في الوقت الحاضر لتوفر لنا أي صورة أخرى تامة وقوية للروح' 13.

هذا ليس مجرد موضوع بين الفلاسفة. إن حضور الإنسان الليبرالي، وتبسيط الواقع الإنساني الذي ينتجه  هدفان مركزيان لنقدها، وطبيعة النوع الفني الذي يتجاوز نقدها، شيء ضروري وليس صدفة ولا أداة في تفكيرها.  هذا لأن الصور الثقافية القوية والمهيمنة لا تحترم حدود الرقابة - وهي معنا على طاولة قرب السرير وكذلك في غرفة الاجتماعات، وفي البرلمان مثلما هي أيضا في الحضانة.  في مقابلة مع برايان ماغي، تجدها في مقدمة لكتاب "الوجوديون والصوفيون" تعمد مردوك عن عمد لوصف دور الفلسفة والأدب على التوالي، وتلح على صيغة الجمع غير القابلة للاختزال في دور ووظائف الأدب 14. ولكن للأدب واجب واحد متميز جدا، ويستأثر باهتمام فلسفتها كما سبق أن ذكرت، فالفلسفة تقوم بواجب واحد، غير أن الأدب يقوم بعدة مهام ويتضمن عدة حوافز مختلفة يشترك بها المبدع والقارئ.

الفن هو المحاكاة، والفن الجيد، إذا استعملنا اصطلاحا أفلاطونيا آخر، هو الأعراض، 'الذاكرة' أو ما لا نعلم أننا عرفناه. الفن 'يحمل المرآة ويضعها أمام الطبيعة'. وطبعا هذا الانعكاس أو 'التقليد' لا يعني الانتشال أو النسخ الفوتوغرافي. ولكن من المهم أن تلتزم بفكرة أن الفن هو حول العالم،  وهو موجود من أجلنا ويقف أمام خلفية معرفتنا العادية 15. 'أن يكون عن العالم'، 'أعراض سريرية'، 'يحمل المرآة ويضعها أمام الطبيعة' - هذه مواصفات دائمة وليس محاولة لتفسير الفن. ومع ذلك تقدم لنا استعارة المرآة مصدرا مركزيا وغامضا لرؤية تفكير مردوك عن دور الفلسفة في الأدب.

ولنفهم معنى فكرة استعمال المرآة  هنا يمكن القول إن غاية تحويل الأدب إلى مرآة هو إعطاء القارئ فرصة للنجاة من سوء الفهم، ومساعدة المرآة على توليد رؤية دقيقة. ويمكننا تسمية ذلك الفهم التوليدي في استعارة المرآة. وبصيغته الأولية التقريبية نفهم أنه من المحتمل أن يقبل القراء عدة وجهات نظر مختلفة. ولكن يمكن تفسير هذه الصورة بعدة أساليب متباينة. إحداها فكرة تؤكد وجود رؤيا أخلاقية/فلسفية يمكن أن تولد من القراءة، وسبق للكاتب أن رآها. ولذلك يستعمل المؤلف صيغة تواصل غير مباشر (يخبرنا بها عن قصة عوضا عن أن يناقشها) كي يضع في عقل القارئ الحقيقة التي سبق للمؤلف أن اكتشفها.  وبهذا التفسير، يكون النص الأدبي نوعا من استراتيجية بلاغية توظف إما لأنها أدوات تواصل أكثر إقناعا، أو لأن المحتويات هي من نوع لا يمكن التعبير عنه بطريقة أخرى. وتقريبا هذه هي أيضا طريقة اختارها المهتمون بمردوك لقراءتها، وهم متنوعون: مثل بران نيكول (2001)، مارثا نوسباوم (2004)، مايلز ليسون (2010) وسابينا لوفيبوند (2011) 16.

تفسير ثان رأى أن هنالك رؤيا أخلاق /فلسفية حقيقية يمكن أن تولد من القراءة، حتى لو أن المؤلف لم يتعمد ذلك. وهذا الخط في التفسير يساعدنا على التعامل مع تلك الحالات التي هي (ليست غير عادية) حيث يبدو أن استنباط رؤية محددة من قراءة عمل أدبي يذهب بعكس قصد المؤلف. ويساعدنا أيضا الأخذ بعين الاعتبار كل تلك الحالات حيث أن المؤلف لا يكون فيلسوفا أو أخلاقيا ولا يمكنه أن يخفض اهتمامه بالجوانب الأخلاقية أوالفلسفية في عمله. على سبيل المثال يهتم واين بوث باحتمالات فهم وجهات نظر أخلاقية معاكسة أثناء قراءة الرواية الشعبية "الفكوك المفترسة" أو "أحدهم طار فوق عش الوقواق"، وقد تعامل مع الكتب وكأنها طرف في حوار أخلاقي وليس مصادر جاهزة للرؤية 17.

وبالنسبة لمردوك هذا الخط بالتفسير غير عادي لأن المناقشات تؤكد أن لدى روايات مردوك قصدا أخلاقيا وفلسفيا، ودون جدال لديها سيطرة كافية على نصها وبمقدورها تمرير هذا القصد من خلال النص.

يقوم التفسيران هذان على فرضية أن الواجب المركزي للأخلاق والفلسفة في الأدب هو توصيل رسالة أخلاقية محددة: أهمية التعاطف (وكيف أن نقصانه ينجم عن عجز في الذكاء)، وجماعية الأوضاع البشرية (وكيف أنه يجب على المبادئ الأخلاقية أن تكون مرنة)، واعتبار الخير هدفا لا يمكن تحقيقه (الخير تمثله الشمس). وبالتأكيد يوصل الأدب رسائل من هذا النوع، وقد لجأ إليها كتاب الأدب والقراء والنقاد، على حد سواء،  بأسلوب توليدي. ومع ذلك يمكن على استعمال مردوك لاستعارة المرآة، كما أعتقد، ويتوجب عليه أن يوفر قراءة مباشرة، وأقل ارتباطا بالمثاليات والتوليد، وأكثر اهتماما بالملاحظة الدقيقة للواقع الاجتماعي الذي نحيا فيه. وهذا التفسير المباشر للواقع أصدق مع روح صور المرآة المجازية كما قدمها شكسبير في تعليمات هاملت ليتبعها حلقة الممثلين والذين سيمثلون أمام زوج أمه: ليكن التمثيل مطابقا للكلام / والكلام مطابقا للتمثيل، مع العناية / الخاصة، ألا تتجاوزوا حدود الاعتدال / الطبيعي، لأن أي نوع من الغلو / خروج على أغراض / التمثيل، الذي يهدف دائما سواء في زمنه الأول أو في عصرنا هذا/ أن يكون مرآة تنعكس عليها الطبيعة، ترى الفضيلة فيها قسماتها، والخسة صورتها / ويشاهد فيها عصرنا وجيلنا خصائصه 18**. يستعمل هاملت استعارة المرآة حرفيا - ما تعكسه ليس حقائق أو دروسا أو رؤيا مجردة او عامة، ولا أخلاقية أو فلسفية، ولكن أي شيء فيها وتصادف وجوده في العالم.

في أدب مردوك نحن نرى انعكاس عالم معقد من الناس، والأفكار، والكلمات، والعلاقات، والعواطف، والبلوزات الصوفية، والأحذية البالية  وأبنية لندن، وأكواخ على الشاطئ، والحلي، والكتب، والسجاجيد المبقعة، والآمال التي لا تتحقق، والكلاب، والقطط، والفلاسفة، وسوء الفهم وأحواض السباحة. وبهذه القراءة لم تكتب مردوك الأدب لتعكس لمحات من نظام مثالي، أو بحث مثالي عن الخير، والتصعيد الأفلاطوني، أو ما شاكل ذلك. ولم تهدف لتدافع عن المثل الفلسفية في رواياتها (مع أن بعض شخصياتها توصف أنها بارادايم للخير الغير أناني). ولم تهدف أيضا، على وجه الخصوص، وبانتظام لتولدنا من أغلاط فلسفية أو أخلاقية أو وجودية. مثلا  بتوظيف شخصيات غير جذابة أخلاقيا، والتي نفترض أننا نرى من خلالها.  وبتنشيط هذه الوظائف الأخلاقية الممكنة المتوفرة في سرديات مردوك، إنما هم يتبعون هدفا أكبر يقدم صورة واقعية حية عن واقعنا وحياتنا الأخلاقية. لم تتأثر مردوك بـ "أدب الأفكار" وكانت تقدم الفكرة بشكل سردي. وقد ذكرت أن "روايات فولتير وروسو هي بالتأكيد حالات واضحة تمثل "روايات الأفكار" وكانت روايات شديدة التأثير في عصرها. ولكنها تبدو الآن بليدة وميتة، وهذا هو جزاء عقابي من الشكل" 19. 

وضمنت لـ  "غثيان" سارتر وضعا متفردا ورأت أنها رواية فلسفية، وهي فن وفلسفة. وكانت حساسيتها عالية تجاه مصاعب الكتابة التي تجمع الأدب مع الفلسفة في عمل واحد، وحذرت من مغبة قراءتها بمصطلحات من هذا النوع، وأكدت أنها لا تهدف إلى ذلك. وبالنسبة لها كانت تعزو لكل طرف شخصية منفردة وواجبا مختلفا. وفي صور مرآة مردوك المعقدة، يمكن أن نحصل على لمحات "من ما لا نعلم أننا عرفناه"، وهي حقائق عادية أو جوانب من عالمنا الذي أصبح فجأة أكثر وضوحا كلما تعمقنا في أدواته الأدبية. فالفضول والتصور يتوجهان نحو عالم نعيشه، بجماعاته، وليس نحو خير يتسامى أو أخلاق مثالية. وبضوء هذا الفهم يوفر لنا الأدب طريقة تمهد لوظيفة الفلسفة الوصفية، وليس الوظيفة الطبيعية. وهي أساسا لا تعلمنا كيف نقيم، ولكنها تحض على الملاحظة والوصف. 

استطرادات حول فلسفة الاخلاق

لنرى ما وراء نص مردوك الفلسفي، علينا أن نفهم موضوع مردوك. ليس اهتمامها المباشر، التوجهات الأخلاقية الثابتة للحداثة المتأخرة والفلسفة الأنغلو فرنسية في القرن العشرين التي أطلقت سهام النقد عليها، أو النظرية الأفلاطونية الجديدة عن الخير. ولكن علينا النظر لمجمل الموضوع: بانوراما الأخلاق والقيم والثقافة المتغيرة والتبدل الذي يأخذ مكانه في حياتنا وفي جهودنا الأخلاقية والروحية. وبالتأكيد بعض تحليلات مردوك (مثل نقد 'الرجل الليبرالي' الطاغي) كانت لها صلاحية دائمة. وعموما لا يمكننا الانتفاع من رؤيتها الجوهرية في الفلسفة، إذا التزمنا بتشخيصها الثقافي والذي يبدو نافعا. وعوضا عن توفير قالب للتشخيص، قدمت لنا نمطا من النشاط التشخيصي وهو عمومي وفضولي وفعال باستمرار وحساس للاستمرارية وكذلك للانقطاع في بيئة أخلاقنا. يجب إضفاء طابع تاريخي على فلسفة الأخلاق وأن تتناص، وأن تكون ذات اهتمامات واضحة وأن تعنى بالخصوصيات العشوائية والتاريخية لشرط وجودنا. وإذا كان لفلسفة الأخلاق تفضيلات سيكون ذلك فضولها المحدود عن الحياة والأخلاق البشرية،  وقناعتها أنها تعرف ما هي حقائق الأخلاق وكيف تبدو حياة البشر. لم تكن مردوك وحدها في هذا الاتجاه الذي يحلل فلسفة  أواخر القرن العشرين الأنغلوفونية. وقد شهد المنعطف العريض باتجاه الأدب في هذا السياق اهتماما عاما 20. وكما ذكرت يمكن أن تجد حليفا آخر في آنيت باير، فيلسوفة  ألهمها كل من هيوم وفتغنشتاين وتتبع البحث الإمبريقي الوصفي للتنقيب في الحياة الأخلاقية. وفي أوائل كتبها "أحوال العقل" تحث باير فلاسفة الأخلاق ليأخذوا اهتماما واسعا بظاهرة الأخلاق المعاشة: يمكننا أن نحاول التفكير بالظاهرة الفعلية للأخلاق، وكي نرى ما هي، وكيف تبث، وما هو الفرق الذي تصنعه. وبنتيجة وعينا لماهية الأخلاق يمكننا أن نعتقد أنه يمكننا تحسينها، ومع ذلك لا يتأتى هذا من احتمالات بالمتابعة،  ولكن من التوصل لطريقة وحركة ممكنة بها تحسن نفسها، حتى تعمل بشكل أفضل، وأن تصحح أخطاءها. وفقط حينما نعتقد أننا نعرف ما هي، وكيف تعمل الآن، وماذا تفعل، سنكون في وضع يساعدنا على رؤية ما تبدل حقا، ناهيك ما إذا كان ذلك التبدل للأفضل 21.

وهذا يبدو شبيها بكلام مردوك. لأنه يبلور فكرة مفادها أن الفهم الدقيق لكل شيء أخلاقي، وتحديد موضعه في المجتمع والضمير الإنساني،  مطلب مسبق من أجل إنتاج فلسفة أخلاقية مفيدة. وفلسفة الأخلاق ليست حقل خبرات ضيقة. ولو توجب علينا استنباط درس مفرد ووحيد من مردوك سيكون درسا مقننا: إذا أردت أن تفهم الأخلاق، انظر إلى الحياة، انظر لكل الأشياء التي تقدرها كل المخلوقات البشرية، وكيف يقومون بتقديرها وتثمينها. ابحث فيها بكل الوسائل المتوفرة، واستمع للأدباء والمؤرخين. ولا تنضوي العديد من الأشياء الضرورية في فهم ظاهرة الأخلاق تحت عنوان محدد أو لصاقة تصنيف، لتؤكد أنها تتبع الأخلاق. ولو أن مردوك غامرت وقدمت فلسفة وصفية تتابع بها ظروف حياتنا الفلسفية العابرة بطريقة مجردة ومختزلة، وعامة ويغلب عليها الشعاراتية، فإنه من الأفضل للأخلاقيين المعاصرين الذين يعملون في عدة مناطق تتقاطع فيها الفلسفة والمبحث الإمبريقي،  وضعهم بمكان يسمح لهم بمتابعة خط رؤيتها. واحترام تماسك نشاط هذا البحث الوصفي فيما يتعلق بالعمل الطبيعاني، سيضعه، كما أعتقد، في مسار متجدد ومتواصل.

***

...............................

ملاحظات ختامية:

1- آيريس مردوك، سيادة الخير  على المفهومات الأخرى. 1970. لندن. روتليدج. 2001. ص76.

2 - انظر ماريا أنتوناشيو. فلسفة تعيش بها. أوكسفورد. منشورات جامعة أوكسفورد. 2010.

3 - انظر أيضا نيكلاس فورسبيرغ. لغة فقدناها واستعدناها. عن آيريس مردوك وحدود الخطاب الفلسفي. نيويورك. بلومزبري. 2013. نقلا عن "ل ف ا" LLF ودافيد روجبانت. الواقعية الأرضية في ميتافيزيقا أفلاطون أ: ماذا يجب أن نفعل بآيريس مردوك؟. البحوث الفلسفية 35:1. 2011. ص43-67 ونورا هيميلينيز. ماذا يعني الأفلاطوني الجديد فيتغنشتاين؟. أوراق فلسفية. 43:2. 2014. ص191-225. حول موضوع وصف الأخلاق بعد مردوك انظر نورا هيميلينين. الأخلاق الوصفية: ماذا تعرف الأخلاق الوصفية عن الاخلاق؟. نيويورك. بيلغرايف ماكميلان.2016.

4 - من أجل تأملات عن مصاعب تمثيل فيلسوفة مثل مردوك في فلسفة الأخلاق التحليلية المعاصرة انظر نيكلاس فورسبيرغ. آيريس مردوك عن الحب. في دليل أوكسفورد لفلسفة الحب. كريستوفر غرو وأرون سموتس (محرر) أوكسفورد: منشورات جامعة أوكسفورد. 2017.

5 - مارغريت أوربان واكير. مقدمة غرونيغن: المذهب الطبيعي في البيو أخلاق. في تطبيع البيو أخلاق. هيلدي ليندمان. ماريان فيركيك ومارغريت أوربان واكير (محرر). كامبريدج: منشورات جامعة كامبريدج. 2009. ص5.

6  - انظر أيضا مارغريت أوربان واكير. التفاهمات الأخلاقية: دراسة أنوثية في الأخلاق. نيويورك. روتليدج. 1988.

7 - انظر بينجامين ج. ب. ليبسكومب. الانزلاق من فوق الجدار: ميجلي وانسكومبي وفوت ومردوك. في العلوم والذات. الحيوان والتطور والأخلاق: مقالات تكريم ماري ميجلي. إيان جيمس كيد وليز ماكنيل (محرر). لندن: روتليدج 2017.

8 - اهتمام مردوك الفلسفي بالحب أدى للفت انتباه النساء وفلاسفة أخلاق الأنوثة في التسعينات والألفينات.  ولكن وضعها كأيقونة في فلسفة الأنوثة عارضه قلة اهتمامها بالفكر الأنوثي، ورغبتها بالهرب من دور 'المرأة الفيلسوفة'، والذي يظهر في مقابلات جمعتها جيليان دولب بعنوان من زاوية ضيق في بيت السرد. كولومبيا  س ك: منشورات جامعة ساوث كارولينا 2003). مثلا ص 82. وكما لاحظت كارولين غويرنز في كتاب آيريس مردوك - لاهوت تصحيحي؟ دراسة مقارنة لرواية آيريس مردوك راهبات وجنود، وسارة ميتلاند في أرض العذراء. مجلة الأدب واللاهوت. 6:2. 1992. ص153-170. مردوك 'لم تكتب من وعي أنوثي خاص'. والنقاش الحالي حول هذا الموضوع يدور حول قدرة مردوك على الارتباط بالنقد الاجتماعي البنيوي. انظر سابينا لوفبوند. آيريس مردوك والجندر والفلسفة. لندن. روتليدج 2011. بريجت كلارك. آيريس مردوك واحتمالات الإدراك الأخلاقي النقدي. في آيريس مردوك الفيلسوفة. جوستين بروكيس (تحرير). أوكسفورد: منشورات جامعة أوكسفورد. 2012. ص 227-254.  ونورا هاميلينين. اختصار أنفسنا إلى الصفر: سابينا لوفبوند. آيريس مردوك والأنوثية. هيباتيا: مجلة النظرية الأنوثية. 30:4. 2015.  ص 743-759.

9 - آيريس مردوك. ضد الجفاف. في بيتر كونرادي (محرر). الوجوديون والصوفيون. لندن. شاتو  وويندوس. 1997. ص287. بعد و ص.

10 - مردوك. و ص. الأدب والفلسفة. ص22.

11 - تسميه مردوك 'السيكلوجيا الأخلاقية'، ولكن لهذا الاسم اليوم إيحاءات مضللة، لأن السيكلوجيا الأخلاقية هي باضطراد نشاط لعلماء النفس والفلاسفة العاملين على قرب من السيكلوجية الإمبريقية.

12 - مردوك. و ص. ضد الجفاف. ص288-289.

13 - مرجع سابق ص289.

14 - حول هذا الموضوع توجد مناقشة عميقة عن مردوك ونقادها انظر فورسبيرغ. ل ف ا LLF. الفصل 1.

15 - مردوك. و م. الأدب والفلسفة. ص12.

16 - انظر بران نيكول. تلميذ الفلسفة الخطير: مردوك ودريدا. MFS دراسات السرد الحديث.47:3. خريف 2001.  ص 580-601. مارتا نوسباوم. ذاهل بالمعرفة السرية: الحب والرؤيا في  الأسود لمردوك. السياسة اليوم: 25:4. 2004. ص 689-710. مايلز ليسون. آيريس مردوك: الروائية الفيلسوفة. لندن. كونتينوم.2010. ولوفبوند.

17 - واين بوث. الشراكة المستمرة. بيركلي. منشورات جامعة كاليفورنيا.1989.

18 - وليام شكسبير. هامليت. الفصل 3. المشهد 2. 17-24. في شكسبير أوكسفورد: الأعمال الكاملة. أوكسفورد. منشورات جامعة أوكسفورد. 2005. (**تم التدقيق مع ترجمة دار المعارف بمصر. الطبعة الثالثة).

19 - مردوك. و م. الأدب والفلسفة. ص20.

21 - انظر مثلا. مارثا نوسباوم. معرفة الحب. كامبريدج. منشورات جامعة كامبريدج. 1990. وروبيرت بوبين. هنري جيمس وحياة الأخلاق الحديثة. كامبريدج. منشورات جامعة كامبريدج. 2001. عن هنري جيمس. وأليس كراري. و ج سيبالد وأخلاق السرد. في اللغة والأخلاق وحياة الحيوان - فتغنشتاين وما بعد. نيكلاس فورسبيرغ. ميكيل بيرلي ونورا هيميلينين (تحرير). نيويورك. بلومزبوري. 2012. ص 195-212. عن سيبالد. لمناقشة عن الأخلاق والأدب مع تأمل حول موضعة سوسيو تاريخية للشخصيات الأدبية وعلاقتها بالفكر الأخلاقي للشخصيات وكذلك استخدام مثل هذه الروايات لأغراض الفلسفة الأخلاقية. 

21 أنيت باير. أحوال العقل - مقالات عن العقل والأخلاق. لندن. ميثوين. 1985.ص224.

* المقصود بذلك أساليب ثورية في تطبيق أخلاق الرعاية الصحية. وتحض على التخلي عن الشمولية وبقية المثاليات القديمة والاعتماد على طرق تنبع من الذات وتستجيب للتفكير الشخصي بقضايا المجتمع. انظر كتاب هيلد ليدمان وآخرون. منشورات جامعة كامبريدج. 2009.

* نورا هيميلينين Nora Hämäläinen أكاديمية تعمل في جامعة هلسنكي الفنلندية. من أهم أعمالها: الأخلاق الوصفية، الأدب ونظرية الأخلاق وسوى ذلك.

عند الحديث عن القصة القصيرة في الأردن، لا أعرف حقيقة مدى الإضافة التي يمكن أن أُسهم بها في هذا المقام، خصوصاً وأنَّ الإشكالية التي يمكن أن أواجهها على مستوى المنهج، أو على مستوى الوقت المتاح، المرتبط بالغاية أو الأداء، على مستوى هذه القراءة، قد لا تعطي الموضوع حقَّه، غير أنَّني سأفيدُ من روح هذا العصر، الذي يتميَّز بالتوثيق، فلن أتحدَّث كثيراً عن تاريخ القصة من حيث النشأة، ويمكن هنا أن أُحيل إلى كتابين مُهمَّين اهتما بتوثيق القصة في الأردن هما:

- كتاب فهرس القصة القصيرة في الأردن بين عامي 1920 و1967 الذي أعدَّه الدكتور خلف خازر الخريشة، وأصدره مركز الدراسات الأردنية في جامعة اليرموك.

- وكتاب الناقد عبدالله رضوان: النموذج، الذي يغطي الفترة الواقعة بين 1970_1980.

ثم وثق محمد المشايخ الفترة الواقعة بين 1990 إلى نهاية العقد الأول 1990 -2005.

وهنا لا بدَّ أن أُشير احترازاً على المستوى التاريخي أنه يصعب الفصل بين الأردن وفلسطين، فهما كيان واحد بحكم الجغرافيا والتاريخ، والمجتمع، خصوصاً حين نشير إلى الإصدارات الريادية بين عامي 1948 و1967.

وتكشف القراءة التاريخية أن عقد الخمسينات من القرن المنقضي هو البداية الحقيقية لتكوين ملامح القصة القصيرة في الأردن ؛ لما شهدته هذه الفترة من تغيرات كبيرة، على المستويات السياسية والفكرية والاجتماعية، وهو أمرٌ مرتبط على نحو واضح بنكبة 1948، التي أحدثت تغيرات جذرية في البنى الاجتماعية، والبنى المكانية.

وتتفق الدراسات التاريخية إلى أنَّ الريادة في كتابة القصة القصيرة في الأردن وفلسطين مرتبطة على نحو وثيق بخليل بيدس، ثم محمود سيف الدين الإيراني، ونجاتي صدقي، وأحمد الدباغ، وعبدالحميد ياسين، الذي ظهرت أول قصصه عام 1946. وبعضهم يشير إلى محمد صبحي أبو غنيمة الذي نشر قصصاً في العشرينات.

وأما البدايات المنشورة حسب تاريخ الإصدار، فيمكن أن نشير إلى ما يلي:

وحي الواقع - لأمين فارس ملحس

عطف أمٍّ (وقصص أخرى) - عبدالحميد الأنفاسي

شعاع النور - لمحمد أديب العامري

الأخوات الحزينات - لنجاتي صدقي

وطنية خالدة وأزاهير الصحراء - لروكس العزيزي

طريق الشوك - لعيسى الناعوري

مع الناس - لمحمود سيف الدين الإيراني

لعلَّ الأمر اللافت للانتباه أنَّ ثمَّة قصص كانت مجهولة النسب، أن عدد القصص الأردنية القصيرة التي تم نشرها في الصحف والمجلات المحلية والعربية خلال السنوات التي يغطيها كتاب خلف الخريشة في الفترة الواقعة بين 1920-1967، (1481) قصة قصيرة، منها (1186) قصة معروفة المؤلف، و(96) قصة لم يكتب مؤلفوها أسماءهم الحقيقية، بل كتبوا رموزاً وأسماء مستعارة بدلاً منها، و(209) قصص قصيرة تمَّت الاشارة إلى أنَّها لكُتَّاب مجهولين. كما أنَّ الأردن قد شهد خلال السنوات المذكورة نبوغ (579) قاصاً وقاصة، تمَّت معرفة أسماء (342) منهم، وبقي (237) قاصَّاً وقاصَّة غير معروفي الأسماء.

ولقد أحدثت التحولات السياسية والتاريخية، التي شهدها الأردن حالة من التطور الفني على مستوى البناء والمضمون، فاستجاب القاصُّ الأردني لها، خصوصاً نكسة 1967، وفي السبعينات ظهرت رابطة الكتاب الأردنيين التي أسهمت في تطور القصة القصيرة في الأردن ؛ إذ فتحت آفاق النشر للمبدعين، فضلاً عن رعايتها لهم، وإثرائها لهم بالمحاضرات والقراءات النقدية، مما أدى إلى إحداث نقلة نوعية في اتجاهات القصة القصيرة وأنماطها البنائية، وتساميها الفني، وشرعت تأخذ مكانتها الحقيقية وهويتها الفنية، وازداد كُتَّاب هذه المرحلة ثقة بأدائهم وتجربتهم، وبدأت حالة التجريب والتحديث تطرأ بوضوح على نماذجهم القصصية، وطفقوا يوظفون مخرجات النظرية النقدية: المخرجات المعرفية والمخرجات التقنية، فتحللوا من السرد التقليدي، والإيغال في التفاصيل، وصاروا يميلون إلى الإيجاز والإيحاء والتداعي، وترك مساحات من الفجوات والفراغات البنائية، لإشراك المتلقي ودمج وعيه في بنية القصة.

والواقع أنَّ هذه التقنيات قد استجابت للشروط التاريخية والاجتماعية، تلك الشروط التي نشأت نتيجة أحداث 1967، وأحداث 1970، واجتياح لبنان سنة 1982، والحرب العراقية الإيرانية.

إنَّ هذه التطورات التاريخية قد أحدثت تحولات كبرى في بنية المجتمع الأردني نتيجة الهجرات المتسارعة، واعتبار الأردن ملاذاً آمناً للعرب، كما شكَّلت مرحلة غزو الكويت والربيع العربي انقلاباً جذرياً في اتجاهات الأدب عموماً، والقصة خصوصاً، فتجلَّت أكثر الواقعية السياسية، علماً أنَّ القاصَّ الأردني قد تأثر كثيراً بالاتجاه الواقعي الاجتماعي، وقد تجلى هذا الاتجاه عند خليل السواحري وفخري قعوار ويحيى خلف، كما ظهر أيضاً اتجاه واقعي ملتزم بالعروبة تحديداً وبالقضية الفلسطينية، ويمكننا أن نلمحه عند ماجد أبو شرار، محمد أبو شلبايه، صبحي شحروري، نمر سرحان، كما ظهر الاتجاه الرمزي في قصص بدر عبدالحق، وجمال أبو حمدان.

ولعلَّ الجيل الحديث من الكُتَّاب قد أثرى القصة الأردنية، وأسهم في بلورة صورتها الفنية، ويمكن أن نشير في هذا السياق إلى إبراهيم جابر، وأحمد الزعبي، وابراهيم العجلوني والدكتور أمين عودة، كما يمكن أن نشير إلى بعض الكاتبات من مثل: أميمة الناصر، أمينة الحجوج، أنصاف قلعجي، أسماء فتحي، هند أبو الشعر، بسمة النمري، تغريد قنديل، جواهر رفايعة، سحر ملص، سميحة المدني، صباح المدني، صفية البكري. كما يمكن أن نشير إلى بعض الكُتاب الذين ركزوا على الجانب التقني مثل الدكتور سليمان الأزرعي، وطلعت شناعة، الدكتور غسان عبدالخالق، ومحمد طملية، والدكتورة مريم جبر.

ولعلَّه من المناسب أن أشير هنا إلى تأثر القاص الأردني بالحداثة، على مستوى الرؤى والأفكار، والحداثة كما هو معروف مرتبطة بشبكة من المفاهيم التقنية والفكرية، فظهرت في قصصهم إعادة إنتاج مفهوم الزمن، والتنبؤ، وممارسة ثنائية الهدم والبناء، وإعادة الإنتاج، والتركيز على المدهش والمفاجئ والغريب، فضلاً عن خلخلة بنى المجتمع، وإعادة إنتاج التاريخ، وتوظيف ما هو مغيِّر، ومن أبرز الكُتَّاب الذين انعكست السمات الايجابية للحداثة في قصصهم: سميحة خريس في مجموعتها: أوركسترا الصادرة عام 1998، وجواهر رفايعة في مجموعتيها القصصيتين: الغجر والصبية 1993 أكثر مما أحتمل 1996، وجميلة عمايرة في مجموعتيها: صرخة البياض 1993 سيدة الخريف 1999، ومحمد سناجلة في مجموعته وجوه العروس السبعة 1995، ورمضان رواشدة في مجموعتيه: انتفاضة وقصص أخرى 1989 وتلك الليلة 1995، وانصاف قلعجي في مجموعتيها: للحزن بقايا فرح 1987 ورعش المدينة 1990، ومحمد خروب في مجموعته: في زمن الفصل 1991.

وكنموذج على استيعاب كتاب القصة لبعض السمات الايجابية للحداثة في قصصهم، نقدم جزءاً من مقطع من قصة (اسق العطاش) للقاصة انصاف قلعجي المنشورة في مجموعتها القصصية (رعش المدينة) والتي قسمتها الى 4 مقاطع: (الزمن يتحرك، قوى خفية تحرك الزمن، ينبثق الكون. خلايا مجهولة تتوالد «لعلها التاريخ» من تقاطع خط الزمن السائر من غير منبع الى غير مصب. وخط الكون المنبثق الى أعلى في زاوية قائمة سرعان ما تزول. الخلايا تتفشى وتترك شيئاً كالجماجم على حافتي نهر الزمان. يبقى الزمن رغم كل الشوائب صافياً. يسير الزمن ويزيل عن كاهله كل الحمولات التي خلفها التاريخ القذر. خلايا مجهولة تنبض بالنشيد. قوى تحارب ولكن ليست كمرض الايدز. هم فاغرو الأشواق ضد الزمن الجائع اللائب. خلايا تهجم على القبور. موكب الحريق يقترب. يدخل من سياج الحديقة. فوق الشوك. فوق الدم. الحريق يسحبهم. لكنهم رافعو الهامات والقامات. ترى رؤوسهم كأنها السحب الداكنة السائرة مع قمم الجبال البعيدة).

ومن المناسب أن أُشير هنا إلى أنَّ ظهور المجلات الثقافية من مثل: مجلة الأفق الجديد، ومجلة الفجر الأسبوعية، ومجلة أفكار، ومجلة القلم الجديد، قد أسهمت على نحو واضح في تطوير القصة الأردنية، كما أسهم إطلاع الكاتب الأردني على القصص الغربية والتجارب العالمية في تطوير أدواته الفنية على مستوى السرد، مما أسهم في إخراج القصة الأردنية من طورها التقليدي.

ويمكنني أن أُشير في هذا السياق أيضاً إلى القاص الدكتور أمين عودة الذي أحدث تطوراً مدهشاً في بنية القصة على مستوى السرد والرمز والإيحاء.

***

د. عاطف الدرابسة - الأردن

 

"الى نادرة عمران"

ثمة ثقوب في هيكلية وأنظمة المجتمعات تتسلل من خلالها الثقافات والهويات، غير المتآلفة مع المجتمع الواسع، الى خارج أسوار تلك الهيكليات الاجتماعية، مما يُنشأ ذلك الإحساس المرير المُسمّى بالاغتراب الثقافي Cultural Alienation. الاغتراب شعور يتلبس معظم الناس بصور مختلفة، وبدرجات مختلفة، ويمس أيّاً من أفراد المجتمع، فقيراً كان أم غنياً، مثقفاً واعيا ومدركاً، أم بخلاف ذلك، ولكن بأعماق متغايرة في إدراك ذلك الاحساس. وعليه، فإن الاغتراب ينسحب من حالة الاحساس والشعور الإنساني الى مدارك الوعي والتفكّر، أي الى حالة المفهوم الذي يستوجب التوقف عنده، وفهم أسبابه، وإدراك نتائجه. فالاغتراب، في نهاية الامر، مفهوم فلسفي شائك تمّ تناوله، من أوجه عدّة، عبر تاريخ الفلسفة. وبقيَ هذا المفهوم يثير الأسئلة الجوهرية حول طبيعة الوجود الإنساني وحرية تحقيق الذات والهوية الثقافية. أما في سياق المسرح فإن العلاقة بينه وبين الاغتراب الثقافي تحمل دلالات وسمات ديناميكية متعددة ودقيقة، حيث إن المسرح يُجسّد بشكل حيّ لحظات زمنية من الحياة العامة، للأفراد والمجتمعات، تعكس مشاعر الاقصاء والمرارة والانسلاخ عن المحيط الإنساني. غير ان المسرح بحيويته، وبليونته، وبقوته على تجسير الفجوات قادر على أن يستجيب الى هكذا مشاعر وأحاسيس وأفكار، فضلا عن إمكانية أن يعرض خيارات من أساليب وحلول تمكّن من تفهم مسببات الاغتراب الثقافي والتعمق بمدلولاتها، من أجل تضييق الفجوة بين أحاسيس الاغتراب التي يعاني منها الفرد أو الجماعات وبين المجتمع الواسع المُنتج لهذا الاغتراب.

يتضح من ذلك بأن المسرح، عبر تجسيده لسرديات تراجيدية أو كوميدية مختلفة، يبرز كمنصة مثالية لطرح القضايا المتنوعة في مسار الاغتراب الثقافي، وإثارة التفكير النقدي حول مجمل القضايا الاجتماعية والثقافية المسببة له، والمفجّرة للوعي. فالمسرح يوفر الفضاء المحرّض لنقد، واستكشاف، وطرح الأسئلة حول ما هو قائم من معايير وقيم ثقافية، واجتماعية وأعراف، سواء في تفاصيل الحياة الاجتماعية اليومية، أم في أنظمة العمل، أم في هياكل السلطة والسياسة، أو في فضاءات الطموح والأمل والخيبات المتكررة. وسأستعرض لاحقاً، بشكل سريع، مفهوم وتنوع الاغتراب من خلال عشرة نصوص مسرحية عالمية.

الخلفيات الفكرية لأشكال الاغتراب

الاغتراب في الفلسفة العربية، مثلاً، يشكل موضوعاً هاماً، لأنه يلتصق بالمسافات وبالبعد، والانقطاع عن الوطن، أي الهجرة التامة عن بلد المنشأ، والبيئة الحياتية المنتجة للذكريات والحنين. حيث يرى الفيلسوف ابن رشد أن الاغتراب يمكن ان يكون سبباً في التيه، والتشتت والضياع الفكري. لأنه يرى أن الانتماء للوطن هو أحد مكونات الهوية الفردية، ولأن الاغتراب يصبح عنصراً فاعلا بالإحساس بفقدان الانتماء، فهو سيكون فاعلا في تشويه أو فقدان الهوية. من جانب آخر ينظر الفيلسوف أبو نصر الفارابي الى الاغتراب من حيث كونه سبباً لتوسيع المعارف، وتعميق المدارك، كما هو محرّك للتطور والتقدم الفكري والثقافي. لذا فإن الفارابي لا يعتبر الاغتراب حالة سلبية تُضعف من قدرات الفرد، بقدر ما هو حالة إيجابية، وفرصة للتعرف على ثقافات وأفكار أخرى، أي أنه وضع مفهوم آخر، غير ما هو شائع في مجتمعه، مفهوم يرى الاغتراب كإمكانية لتوسيع وتطوير آفاق الفرد المغترب وإثراء هويته. وفي مفهوم آخر للاغتراب قال العالم اللغوي الجليل عبد القاهر الجرجاني وقد أتعَسَه عقلُه، وأجاعَه عِلمُه: العقل النبيه يُشعِر صاحبَه بالاغتراب وإن كان بين جموع الناس، وهذا النوع من الاغتراب هو وجه من وجوه الاكتئاب.

فضلاً عن أن الاغتراب يشكل مفهومًا مركزيًا في الفلسفة عموماً، ولا سيما الفلسفة الغربية، فهو يشير إلى حالة من الإقصاء الذاتي، وتفتت هوية الفرد، وانحسار حريته، وإختياراته، وقمع ثقافته. والاغتراب يمكن أن ينتج عن حالات مختلفة، سواء كانت ثقافية، أو اجتماعية أو نفسية، أو حتى اقتصادية، او سياسية. ففي الفكر والفلسفة اليونانية القديمة، فإن الاغتراب متعلق أساساً بالشرط والوجود الإنساني. ولذلك فإن فلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو كانوا يؤمنون بأن التأمل في الأفكار الثابتة والابدية تساعد الانسان على تفهم وجوده الأرضي كفرد، كما تساعد على تفهم الوجود بمفهومه الكوني، مما يقود الانسان الى إدراك وجوده في هذا الكون. هذا التفّهم والوضوح، والذي بدوره يخفض مناسيب القلق والخوف عند الفرد، يؤدي الى تحقيق الإدراك الذاتي المطلوب للابتعاد عن طبيعة الفرد الحقيقية - المنتجة لاحاسيس الاغتراب - والتي تتمثل بوجوده الأرضي من جهة، ومن أحاسيس وعواطف وغرائز تمثل رغباته المادية من جهة ثانية.

أما في الفلسفات الحديثة، فقد اتخذ الاغتراب مفاهيم فلسفية وفكرية متنوعة. فقد رأى كارل ماركس بأن عدم المساواة، وفقدان العدالة الاجتماعية، كانتا دائما نتيجة لفرز الفرص الاقتصادية بشكل غير متساوي وغير عادل فيما يخص أفراد المجتمع المنتج. هذا التفاوت في الفرص داخل المجتمع ولّد حالة من الإقصاء الاجتماعي لأفراد ولجماعات داخل المجتمع الواسع والواحد. كما إن هذه الحالة هي بالتحديد ما وصفها ماركس "بالإغتراب الاقتصادي" Economic Alienation التي شكلت مفهوما ذو أبعاد اقتصادية ونفسية ناتجة عن الطبيعة التي تتحرك بموجبها عجلة ودورة الاقتصاد. أوضح كارل ماركس مفهوم الإغتراب الاقتصادي عبر بيع العامل لقوة عمله مقابل أجر، ولكن هذا الأجر لا يوفر له الرفاه الاجتماعي أو التمتع والإبداع في صلب عمله، وذلك لإن قوانين العمل كانت سبباً في إحساس العمال بالإغتراب تحت نظام من الجشع المادي والاستغلال الرأسمالي. أي أن حجم قوة العمل، والزمن اليومي اللازم لتنفيذه، إضافة الى الروتين الذي تفرضه طبيعة العمل، والذي يحدّ، غالباً، من الطاقات الإبداعية الفردية للعامل، جعل كل ذلك، لا يتناسب مع الثمار الناتجة عن هذا الجهد، مما يُولّد حالة من الانسلاخ عن التركيبة العامة للمجتمع. أي الإحساس بالاغتراب الاقتصادي.

أما حالة التوافق، التي يتظاهر بها الفرد، مع القيم والأخلاق الاجتماعية السائدة، بالضد مما يؤمن به، أي بالضد من أخلاقه، ورغباته، وسلوكه وغرائزه فهي، أي حالة التوافق الوهمية، تُنشأ ما سمي "بالإغتراب الذاتي" Self Alienation وفق الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه. أي أن يُجبَر الفرد على أن يحيا حياة مزدوجة، ومنفصمه عن طبيعته، وعن ذاته الأصيلة، ويمارس حياة تتناقض مع ما يؤمن به. بمعنى آخر أن يُجبَر الفرد على أن يحيا حياة على هامش حياته الطبيعية. وللخروج من مأزق الإغتراب هذا، يؤكد نيتشه بأن تحقيق الذات لا يتم الاّ بالعودة الى الأصالة الفردية والتوافق التام مع الذات. غير أن ذلك يستوجب توفر الإرادة التامة والقوية لمواجهة الواقع المجتمعي عبر سلسلة من سلوكيات التمرد، ورفض قيم وأخلاق وسلوكيات وأعراف المجتمع السائدة، ومحاولة تجسير الفجوة الشائكة بين ما يؤمن به الفرد، وما يؤمن به المجتمع، دون التنازل عن قيم الفرد الاصيلة.

ومن حالة التمرد ضد ما يؤطره المجتمع من معتقدات، وسلوكيات، وأخلاق، كما وصفها نيتشه، أنتقل الى عالم الفرد وأصالته مقابل الوجود برمته. فحالة الفرد الذي يعاني من صعوبة التجانس مع الحياة، لافتقادها للمعنى والجوهر، تدعو الى تلمس هذا الفرد عبث وجوده، لافتقاده لمنطق يتناغم مع ما هو مألوف وسائد. هذا هو " الإغتراب الوجودي" Aliénation Existentielle الذي بحث فيه كل من الفيلسوفين جان بول سارتر والبير كامو. يرتبط هذا الإغتراب بشكل وثيق بكينونة وصيرورته الإنسان، حيث إن الوجود الخالص للإنسان محاط بالغموض، وعدم الفهم وغياب المعنى، وفقدان الجوهر الذي يُنتج عبثية الحياة. كذلك فإن تموضع الانسان في مواجهة الحرية كمبدأ حياة، إضافة الى تحميله المسؤولية في مواجهة تسرب تلك الحرية، وضياع الاختيار من صلب وجوده الإنساني، هما عاملين يدفعان الى نشوء الاغتراب الوجودي إنطلاقاً من حياة الانسان الجافة، ووجوده الفاقد تماماً للمعنى وللجوهر.

أما فيلسوف الحداثة ميشيل فوكو، وعبر تحليلاته النقدية للسلطة والمجتمع، فقد تناول، في مجمل أعماله، موضوع الإغتراب بأشكال مختلفة مع التركيز، بشكل أساسي، على الاغتراب الاجتماعي Aliénation Sociale واغتراب الجسد Aliénation du Corps. فهو يري بأن الإغتراب الاجتماعي يحدث عند خضوع الفرد لقواعد وأُطر ومؤسسات تتحكم به وتحدّ من مساحة حريته. هذه القواعد تتجلّى من خلال هياكل السلطة المختلفة مثل الدولة وتفرّعاتها، والأنظمة التعليمية، والمؤسسات الدينية، وغيرها. إن وظيفة هذه الهياكل هي أن تخلق حالة من الهيمنة، وكذلك حالة من الخضوع. والحالتين لهما تأثير فاعل ومباشر في تهميش الافراد وقمع حرياتهم والحد من التعبير عن رغباتهم.

يُشير الاغتراب الجسدي الى الوسائل التي يُجبر بها الفرد على الامتثال لمعايير جسدية معينة ومحددة يفرضها المجتمع. ولهذا فقد أهتم فوكو كثيرا بمفهوم " السياسة الحيوية " Biopolitics، وهو مفهوم يُشير الي السيطرة التي تمارسها الدولة على حركة وأجساد الأفراد من خلال المراقبة عبر الكاميرات المثبتة في مختلف شوارع المدن، وسن القوانين التي تضمن حالات إنضباط الافراد، وتطبيع حياتهم مع مجمل الهياكل السلطوية والمجتمعية القائمة. غير أن فوكو شدد أيضاً على أهمية التمرد ضد هذا الإغتراب ومقاومته من أجل تحرير الافراد لأنفسهم، وذلك عبر التشكيك في معايير السلطة المضطهِدَة وهياكلها. ويمكن لهذا التمرد أو المقاومة أن يتخذ أساليب متنوعة تبدأ بالعصيان المدني وتنتهي بخلق ثقافات مبتكرة وجديدة ومضادة لما هو سائد، وإنشاء حركات إجتماعية فاعلة وقادرة على التغيير الاجتماعي.

من جانب آخر، ينظر فيلسوف ما بعد الحداثة جان فرانسوا ليوتار الى الاغتراب بإعتباره مفهوماً متطوراً ومتحركاً، ولذلك فقد شغل هذا المفهوم حيزاً مركزياً في فلسفته وأفكاره. فالاغتراب كما يراه ليوتار هو حالة يفقد، من خلالها، الافراد استقلاليتهم وقدرتهم على تحقيق وجودهم الإنساني الكامل نتيجة لضغوط إجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وثقافية، ودينية مختلفة تعيق من تحقيق حرية الفرد وتحد من تنمية وازدهار وجوده الذاتي. لذلك فإن ليوتار يجادل بأن الإغتراب الأكثر شيوعاً في المجتمعات الحديثة، هو الإغتراب الاقتصادي، لإنه عند إحساس الافراد بالإجبار على العمل، من أجل العيش، دون التحفيز على الإبداع والمتعة في العمل، يؤدي ذلك الشعور بهم الى الإنسلاخ عن ذواتهم، وبالتالي الاغتراب عن جوهر كينونتهم، حيث أن هذا الشعور يقودهم الى إعتبار أنفسهم مجرد أدوات آلية، وروتينية للإنتاج، محرومة من الابداع والمتعة، في مجتمع استهلاكي رأسمالي ضاغط.

كذلك يرى ليوتار الاغتراب، بإعتباره مفهومآً سياسيا Aliénation Politique. ويبرز هذا المفهوم بشكل واضح في الأنظمة الشمولية والمجتمعات الاستبدادية التي تُخضع الافراد الى سلسة من القيود القمعية التي تحدّ من حرية التعبير، ومجمل الحريات الفردية، كما تعيق إمكانياتهم على الاشتراك في القرار السياسي. هذا الانسلاخ عن الحياة السياسية يقود الافراد الى الشعور بالعجز وباليأس، حيث إنهم مسيّرين وغير قادرين على المشاركة أو التأثير في السياسات التي لها نفوذ مباشر على حياتهم. كما يشير ليوتار الي المجتمعات التي يتم فيها تعريف الثقافة، غالباً، وفق معايير وقيم محددة مسبقاً تُلزم الافراد على التمسك بها، مما يفضي الى الإحساس بفقدان الهوية والاغتراب عن ذواتهم، أي الى الشعور بالإغتراب الثقافي بالتحديد. ويناقش ليوتار، ضرورة التصدي الى الإغتراب عامة، بإعتباره مشكلة أساسية في المجتمعات الحديثة، بضرورة ان يكون الاهتمام الاساسي، في وضع أولويات لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحرير الذات، وذلك بتبني أساليب وأشكال متنوعة من التمرد على أنظمة السلطة، ومختلف الأطر الاجتماعية التي تُنتج عناصر الإغتراب، بهدف إنشاء مجتمع متجانس وعادل يرتكز الى مبادئ المساواة ويعزز الكرامة الإنسانية.

الاستلاب الثقافي والأصالة في المسرح

إن ما تقدم من مفاهيم فكرية وفلسفية واجتماعية وذاتية لوصف الإغتراب الثقافي، وإشكاليات الهوية، والاصالة، كانت دائما من الموضوعات الرئيسية التي نوقشت بكثافة في عالم المسرح، وعلى مدى قرون من الزمان. وفي منطقتنا العربية، ظلّت هذه المواضيع تشغل العاملين في المسرح على امتداد العقود الماضية، بشكل صريح وواضح، أو بتضمين وتلميح داخل ثنايا العرض المسرحي. إنما يحدث أن يتحول الإغتراب الثقافي في بعض العروض المسرحية الى استلاب ثقافي أو الى استيلاء ثقافي، وفي الحالتين يتم اختطاف الأصالة وتشويه الهوية، مما يترتب عليه دراسة الآثار الفكرية، والسلوكية، والأخلاقية لهاتين الحالتين وضرورة التمسك بالأصالة الثقافية التي تنتج خصائص الهوية.

فالاستلاب الثقافي Cultural Appropriation هو الصورة القاتمة للاغتراب الثقافي، لأنه يقود الفرد أو الجماعة الى الشعور بالعزلة والانفصال ثم الاستبعاد القسري عن الثقافة السائدة. يحدث ذلك حين يتبين للفرد أو للجماعة بأن ثقافتهم، وقيمهم، وسلوكياتهم، وممارساتهم، غير محترمة من المجتمع بشكله الواسع. ينجم ذلك عن عوامل مختلفة مثل التهميش المجتمعي، والتمييز بين الافراد والجماعات، أو حتى الحالات المعنيّة بالاندماج القسري ثقافيا، ومجتمعيا. اما الإستيلاء الثقافي فهو يشير الى تبني أو تقليد عناصر من ثقافة أخرى دون فهم أو احترام أهميتها الثقافية، أو قدرتها على الانصهار ضمن ثقافة المجتمع السائدة، مثل استيراد القيم الأخلاقية والموجات الفكرية التي يصعب تضمينها في أفكار وقيم المجتمع، كالأفكار التي تختص "بالحق في التحول الجنسي" عند الافراد، أو قيم مشابهة تناقض تماما القيم والاخلاقيات والسلوكيات السائدة، كذلك حالات تتبع ونقل أزياء الموضة من المجتمعات الأخرى، أو تبني موضات تسريحات الشعر، أو تتبع ونقل موجات الموسيقى والأغاني والرموز والطقوس، كتلك المتعلقة في الهالوين وما شابه من طقوس، وحقنها في مجتمع غريب عن قيمها.

أما الاستيلاء الثقافي في سياق المسرح فيمكن أن يتضح من خلال تشكيل الشخصيات على المسرح، أو من خلال استخدام الأزياء التقليدية أو التاريخية أو من خلال تصوير الطقوس والممارسات الثقافية لمجتمعات أخرى دون دراسة وفهم عناصر التاريخ والثقافة اللذان أنتجا هذه الشخصيات أو هذه الطقوس والممارسات. هذا الانحراف في فهم ثقافة المجتمعات التي تدور أحداث المسرحية حولها تعزز الصور النمطية، وتهمّش عناصر الإصالة الثقافية، وتخلّ بالتوازن الثقافي والمجتمعي القائم، مما يؤدي الى تحريف وتهميش أو محو الثقافات التي يتم الاستيلاء عليها. مثال ذلك، الأزياء التي تستخدم في المسرح لتعبر عن حقبة تاريخية معينة، من مجتمع معين، دون فهم رمزية النقوش والألوان لتلك المجتمعات في تلك الحقب، بل وتُفسّر من منظور الأزمنة الحديثة. كذلك نرى المسرحيات التي كانت تتضمن شخصيات إفريقية سوداء، حيث كانت تقدم من قبل ممثلين تصبغ بشرتهم البيضاء لمحاكاة شخصية الافريقي الأسود، بما في ذلك شخصية عُطيل في مسرحية شكسبير، أو كما في المجتمعات المغلقة حيث نرى تشخيص الأدوار النسائية من قبل ممثلين ذكور مع المكياج الملائم للشخصية. وهكذا تتحول الشخصية الدرامية بخلفية كاريكاتورية ونمطية لا تحترم ثقافة الشخصية الافريقية السوداء، أو شخصية المرأة، فالأصالة هنا تتطلب أن يلعب هذا الدور ممثل من هذه الثقافة، أي ممثل أفريقي أسود، كما تلعب امرأة دور الشخصية المناسبة لها، لتعميق المصداقية الدرامية، ولإعطاء صوت للثقافات الممثلة بشكل مهمّش أو ناقص.

من المهم أيضاً الاعتراف بان الاصالة لا تعني التجانس في الثقافة الواحدة، بل العكس فهي تعني ثراء التنوع من مجموع عناصر كل ثقافة. أما الأصالة في المسرح فهي تعزيز أصوات المجتمعات المهمشة في العروض التي تشتمل درامياً على سرديات من هذا النوع، حيث إنه يمكن إبراز وجهات نظر متنوعة، من خلال هذه السرديات، متجنباً الغرق في الرمزية بهدف عرض الثقافات المغايرة والمختلفة على المسرح، بشكل واضح ودقيق ويحترم كل ما تشتمل عليه من عناصر. أما بخلاف ذلك فإن الإستيلاء الثقافي يُلغي أهمية المجتمعات المهمشة وتجاربها، ويعزز الاشكال النمطية الضارة بوجود الثقافات الأخرى. فالمسرح فضاء خطير، وقوي، وفاعل في مجال التفاهم الإنساني وتبادل الثقافات وتحدي ديناميكيات السلطة القائمة، لذلك فإن عمل المسرح يعكس دائماً آثاراً أخلاقية، خاصةً، حين يتصدى المسرح لمختلف القضايا من منظور ثقافي واسع الشمولية والأصالة.

ولكن كيف يُجسّد الإغتراب الثقافي في العمل المسرحي؟ المسرح يملك قوة فذّة لتشخيص النماذج الدرامية العالقة بين ثقافتين، أو لكـشف تلك النماذج التي تناضل من أجل تحقيق وجودهم ضمن سياقهم الثقافي الخاص في المجتمع الواسع. لإن من قدرات المسرح أن يوفر، للجمهور، منصة كاشفة لتصارع هذه النماذج مع هوياتها المتناقضة، ومع ما تفرضه الأعراف المجتمعية من قيم لا تتوافق وثقافة هذه النماذج، أو الإحساس بالخيبة من عدم تحقيق آمالهم الثقافية. كما يوفر المسرح منصة للأشخاص، ضمن الجمهور، الذي يعانون من الإغتراب الثقافي لكشف تجارب مختلفة من هذا الإغتراب ومدياته وأحيانا نتائجه. فالدراما المسرحية قادرة على معالجة الإغتراب الثقافي من خلال تسريب مشاعر التحريض على التمرد ضدّ الثقافة السائدة، والقيم والأعراف المجتمعية المتسلطة، أي من خلال تعزيز الفرص لمنح الثقافات المهمشة صوتاً مسموعاً، أي تعطيل مبررات الوضع المجتمعي الراهن بمعارضة وبنقد قدرات هياكل السلطة التي تتبنى وجود وممارسة الإغتراب الثقافي عبر تعزيز الممارسات العنصرية والتمييز الطبقي أو الأثني أو الجنسي.

هناك تطبيقات درامية كثيرة، في المسرح، يُمكن الإشارة اليها، تتراوح بين التراجيديا والكوميديا من مختلف المدارس المسرحية وعلى مدى العصور. مثال الأساليب الملحمية البريختية التي أستنبطها الكاتب المسرحي برتولت بريشت، والتي تستند أساساً على تقنيات التغريب، ومؤثرات الاغتراب للحدّ من مشاعر وعواطف الجمهور، ولتشجيع الإنغماس في بؤر التفكير النقدي من خلال كشف الطبيعة الدرامية المستترة والمبنية على أداء الممثلين، يمكن لهذه التقنيات أن تدفع الجمهور إلى التشكيك في المعايير الثقافية والسرديات السائدة التي تساهم في الاغتراب. سأشير هنا، بإيجاز، الى عشرة نصوص مسرحية كنماذج مختلفة من المسرحيات العالمية والتي تبرز كأمثلة عامة لأشكال غير متماثلة، بل متنوعة من الإغتراب الثقافي، وتفرعاته المختلفة، كالاغتراب النفسي، والوجودي، والمجتمعي، والاقتصادي، والسياسي، مع ملاحظة أن هذه الأمثلة هي فقط عيّنة بسيطة مأخوذة من ثروة هائلة من النصوص والسرديات الدرامية، ولا تمثل إطاراً نهائياً لفهم قضايا الاغتراب الثقافي.

أولاً- "بيت الدمية" لهنريك إبسن A Doll’s House:

تدور سرديات المسرحية حول حياة نورا، وهي امرأة أدركت أن حياتها، وأحلامها، وطموحاتها، كإنسانة، خاضعة لأعراف والتزامات وتوقعات مجتمعية سائدة، إضافة الى إحساسها بالمعاناة من هيمنة وسيطرة زوجها، وفقدان حريتها الشخصية واستقلالها مما يُلغي هويتها الإنسانية كإمرأة. هذا الشعور من الإغتراب الثقافي والمجتمعي يقودها الى التمرد على الوضع القائم، حيث شرعت نورا في السعي لتحقيق هويتها الخاصة والحصول على استقلاليتها الذاتية بقرارات حاسمة بدأت بالانفصال عن زوجها وهجر البيت، بغية استعادة هويتها كإمرأة. هذه المسرحية ذات أهمية كبيرة، لكشف عمق الإغتراب الثقافي في العلاقات الأسرية، وخاصة ما تشعر به المرأة، إضافة الى أنها تثير أسئلة جوهرية وصريحة حول طبيعة العلاقات الإنسانية وتشكيل هوياتها داخل الاسرة الواحدة، ودور المرأة كفاعل في المجتمع.

ثانيا- حديقة الحيوانات الزجاجية The Glass Menagerie لتينيسي ويليامز:

تدور أحداث المسرحية حول عائلة في أمريكا، في فترة الكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن المنصرم. تعيش العائلة التي تتألف من الإبن توم، وهو بطل المسرحية، ومن والدته أماندا وشقيقته لورا، في شقة صغيرة. الام أماندا مهووسة بتذكر الماضي، وبالبحث عن خطيب لابنتها لورا، وهي شابة حسناء، وخجولة ولكنها منطوية على نفسها بسبب إعاقة جسدية، ولهذا تقضي لورا معظم وقتها باللعب بتماثيل حديقتها المصغّرة من الحيوانات الزجاجية. ينشأ الصراع المركزي في المسرحية عندما تضغط الأم أماندا علي إبنها توم للعثور على رجل نبيل كخطيب لأخته لورا. يدعو توم صديقه على العشاء للتعرف على أخته، لكن الأمور لم تجري كما مخطط لها، مما دفع لورا الى مزيد من الاعتكاف والانطواء والعودة للانهماك مع تماثيلها من الحيوانات الزجاجية. تنتهي المسرحية بقرار توم بترك البيت والسعي لتحقيق أحلامه الخاصة. تستكشف هذه المسرحية الاغتراب الثقافي عبر هشاشة العلاقات الإنسانية، والصراع بين الآمال والطموحات والرغبات الشخصية والالتزامات العائلية (أو المجتمعية)، إضافة الى استعادة الماضي والاحداث القديمة عبر ذاكرة حية ومتكررة وواهمة.

ثالثاً- "موت بائع متجول" لآرثر ميلر: Death of a Salesman

تكشف هذه المسرحية حياة "ويلي لومان" وهو بائع متجول في الستينيات من عمره، يعمل بجد ويكافح من أجل تحقيق ما يُسمى بالحلم الأمريكي. يفشل ويلي بتحقيق ما يأمله في الحلم الأمريكي من حياة مرفهة وتوفير الأسباب لحياة سعيدة لأسرته. ثم، بمرور الوقت، تبدأ ذاكرة وعقل ويلي بالتدهور، ويزداد إحساسه بالانفصال عن المجتمع والواقع الذي يعيشه، كما يزداد إغترابه الثقافي داخل المجتمع الكبير، و فيما بينه وبين أسرته. لم يعد هناك آمال وطموحات في آفاق ويلي، وتعلّم من تجاربه المتعددة بأن لا شيء في مقدوره أن يفعله لاستعادة حياة كان يأملها، وحارب جلّ حياته من أجلها. ولهذا يستسلم ويلي ويقرّ بفشله التام. كل ذلك يقود ويلي الى إنهاء حياته بالانتحار بشكل مأساوي، من أجل أن يحقق بعض الأمان لأسرته، من خلال الحصول على تعويضات التأمين على الحياة. عمل مسرحي تراجيدي معتم، تزيد أجوبته السلبية على أسئلة الإغتراب الثقافي ارتباكا وحيرة. أجوبة لا تحقق الحرية المنشودة ولا الاستقلال الذاتي ولا تحقيق الهوية.

رابعاً - "بستان الكرز" لأنطون تشيخوف The Cherry Orchard:

تدور أحداث هذه المسرحية في أوائل القرن العشرين في روسيا، وتتناول موضوعات أساسية مثل التغيير الاجتماعي، والخسارات المادية والحالة الإنسانية، كما تستكشف تراجع الطبقة الارستقراطية وقدرة الإنسان على الانكار ومقاومة التغيير الذي يُحدث الإغتراب الثقافي الذي تعيشه شخصيات المسرحية. وتتمحور سردية المسرحية حول مصير عائلة أرستقراطية شغوفة بما تملك من بيتٍ واسع يتضمن بستاناً للكرز. تتصارع الشخصيات فيما بينها لتلافي خسارة ملكية بستان الكرز بحوارات شيقة من الكوميديا الممزوجة بمأساة تنتهي بخسارة البستان وفقدان الترف الارستقراطي. تُمثل المسرحية شكلاً آخر من أشكال الاغتراب الثقافي، وهو هنا ليس فقط خسارة ملكية البستان، بل الانزلاق من طبقة أرستقراطية الى طبقة أدنى لا تتوالف فيها الأعراف الثقافية والسلوكية والترف الحياتي، مما يزيد حالات الانفصال من المجتمع والاغتراب التام في التوافق مع هيكلية ونسق المجتمع الواسع.

خامساً- حفلة اللصوص الراقصة" (أو مرقص اللصوص) لجان أنويّ - Le Bal des Voleurs:

تستكشف هذه المسرحية الاغتراب الثقافي من خلال حضور مجموعة من اللصوص الذين يشعرون بالغربة عن المجتمع ويسعون للهروب من حالتهم. تدور أحداث المسرحية في ثلاثينيات القرن العشرين في باريس، وفي أمسية رقص مقنعة، تلتقي مجموعة من اللصوص ذوي المصائر والمصالح المتقاطعة. هؤلاء اللصوص يشعرون بالاغتراب في التواصل والتآلف مع المجتمع، وبالمقابل ينظر المجتمع اليهم كأفراد غير أسوياء، باعتبارهم لصوص ومجرمين، فيتم إستبعادهم ورفضهم، مما يدفع اللصوص الى ارتكاب أفعال متمردة ضد النظام الاجتماعي القائم. في هذه المسرحية، يتجلى الاغتراب في طبيعة وشكل العلاقات بين الشخصيات، ثم أيضا في علاقتهم بالمجتمع، والأكثر من ذلك علاقاتهم بأنفسهم. تسلط المسرحية أيضاً الضوء على طبيعة وسلوك وحدود المجتمع وتناقضاته، وعما يفرزه الإغتراب الثقافي من شعور باليأس والعزلة مقرون بالتمرد على الأعراف والسلوك والأخلاق القائمة والسائدة في المجتمع.

سادساً- سوء تفاهم، Le Malentendu:

مسرحية كتبها البير كامو، تلقي الضوء على حالة الاغتراب الذاتي من خلال الغوص في عبثية الحالة الإنسانية وإنقطاع التواصل بين الشخصيات مما يقود الى حدوث عواقب مأساوية بسبب حالة سوء التفاهم التي تلف شخصيات المسرحية. تدور أحداث المسرحية في فندق صغير منعزل تديره الأم واختها. ثم تحضر الى الفندق شخصية جان، وهو الإبن الذي غادر المنزل منذ فترة بعيدة وكان متعود على السفر، ومجيئه الى الفندق كان بمحض الصدفة، ولم يتعرف هو على أمه وخالته اللتان تديران الفندق الصغير، كما لم تتعرف أمه وخالته به. وبسبب عدم تعرفهم جميعا على بعضهم البعض، وبسبب الغياب الطويل، إضافة الى عدم قدرتهم على التواصل المتبادل والإنساني الفعال، حدثت سلسلة من حالات سوء التفاهم التي انتهت الى نتائج مأساوية تصل ذروتها في قتل الابن من قبل امه وخالته. سوء تفاهم، مسرحية قاتمة، واستبطانيه تستكشف موضوعات الاغتراب الإنساني والاجتماعي، وحالات العبث والعزلة. كذلك فإن "سوء تفاهم" تفضح التناقضات والمفارقات، المتعلقة بالحالة الإنسانية، مثل الرغبة العارمة في الانتقام والجشع والتسابق نحو الثروة المحرمة، وتبرز العواقب المأساوية للتواصل السلبي الخاطئ الذي يفضي الى حالة من عدم الفهم شديدة الخطورة.

سابعاً: "الأيدي القذرة" لجان بول سارتر، Les Mains Sales

تدور أحداث هذه المسرحية حول سياسي يشعر بالغربة عن مبادئه ومُثُله الثورية واستعداده لخيانة قناعاته للوصول إلى السلطة. تدور أحداث المسرحية في بلد خيالي يُدعى إليريا، خلال فترة الحرب والثورة. يدور الموضوع حول سياسي يدعى هوغو، وهو عضو في حزب ثوري سري. هوغو مثقف مثالي يؤمن بالنضال من أجل العدالة والمساواة، تم تكليفه باغتيال الزعيم السياسي الفاسد هوديرر الذي أصبح عقبة أمام الثورة. ومع ذلك، يواجه هوغو معضلة أخلاقية عندما يدرك أن هوديرر هو في الواقع رجل نزيه ومكرس حياته لمصلحة البلاد، وبينما تتكشف القصة، يتمزق هوغو بين معتقداته الأيديولوجية وضميره. كما أنه يواجه منافسات سياسية داخل حزبه، ولا سيما مع أولغا، وهي عضوة أخرى في الحزب. في النهاية، قرر هوغو عدم قتل هوديرر لكنه تعرض للخيانة من قبل عضو آخر في الحزب وقتل هوديرر، مما جعل هوغو يواجه واقع السياسة والبدء بالتنازل عن مُثُله العليا. تستكشف المسرحية موضوعات المسؤولية الفردية والخيانة والصراع على السلطة. يسلط سارتر الضوء على المعضلات الأخلاقية التي يواجهها الثوار ويتساءل عن حدود العمل السياسي. الايدي القذرة هي مسرحية معقدة وفلسفية تشكك في مفاهيم الحرية والمسؤولية والتسوية. فهي تسلط الضوء على الإغتراب من منطلق التناقضات والتسويات المتأصلة في السياسة ويسلط الضوء على العواقب المأساوية لهذه الاختيارات، وهي في النهاية صورة قاتمة عن الاغتراب العقائدي والأخلاقي بمقابل المصالح الفردية الآنية.

ثامناً: "وحيد القرن" أو الخرتيت ليوجين أونيسكو، Rhinocéros:

تستكشف هذه المسرحية الاغتراب الثقافي عبر تحوّل سكان المدينة الى خراتيت، أي حيوانات وحيد القرن، إشارة الى فقدان سكان المدينة لفرديتهم وغياب توافقهم مع المجتمع. والمسرحية تركز على عبثية الحياة، واللاعقلانية في المنطق وفي العلاقات الإنسانية، وإنعدام المعنى للوجود الإنساني. تبدأ المسرحية بصديقين، بيرانجيه وجان، خلال محادثة بينهما في المقهى، لاحظا وجود حيوان وحيد القرن يجري في شوارع المدينة مشيعاً الفوضى والدمار. شعر كل منهما بان هذا حدث نادر ومرفوض، إنما سرعان مابدأ المزيد من الناس في التحول الى وحيد القرن. ثم يستسلم سكان المدينة واحدا تلو الآخر لمغريات أن يتحولوا الى وحيد القرن. يرمز وحيد القرن الى القوة التدميرية للحركات الجماهيرية والتجرّد من الإنسانية الذي يحدث عندما يتخلى الافراد عن تفكيرهم النقدي ويتبعون الحشد بشكل أعمى. يصبح رفض بيرانجية بمثابة نضال من أجل الحفاظ على فرديته واستقلاله، إن التمرد ومقاومة تيار التحول الى وحيد القرن هو عبارة عن استعارة لنضال الانسان ضد الفكر الجمعي في التطابق وفقدان قيم الفرد ومعتقداته. المسرحية تكشف عن الاغتراب المجتمعي عبر فقدان الهوية، وتعميم الشمولية ومخاطر الامتثال لها. يبقى بيرنجيه مصّراً في رفضه الامتثال للتيار الاجتماعي في التحول الى وحيد القرن، غير أنه يبدأ في التساؤل في نهاية الامر إن كان عليه ترك النضال والانخراط بتيار المجتمع في التحول الحيواني. المسرحية مثيرة للتفكير، وتتحدى الأعراف المجتمعية وتستكشف تعقيدات الطبيعة البشرية، الاّ أنها تثير شعورا بعدم الارتياح، لإنها تبرر التشكيك في مخاطر الامتثال الساذج للتعميم والشمولية الجمعية المعادية لفردية الانسان.

تاسعاً - "في انتظار جودو" لصامويل بيكيت En attendant Godot:

مسرحية من فصلين دراميين، وشخصيتين، فلاديمير وإستراجون، ومسرح خال من المناظر، باستثناء شجرة جرداء واحدة. تلتقي الشخصيتان بالقرب من الشجرة ويتفاعلان بمحادثات مختلفة لتمضية الوقت، يتحدثان عن بعض عناصر حياتهما، ويفكران في الانتحار وبذات الوقت، تقودهما أحاديثهما الي مزاح وهزال مضحك ومفكك. الواضح من أحاديثهما أنهما يشعران بحالة عميقة من عدم التواصل، والسوداوية وعدم قدرتهما على تلمّس جوهر ومعنى حقيقي للحياة. لذلك فهما يجلسان قرب الشجرة الجرداء ويتحدثان، وكلهم أمل أن يأتي جودو ليعطي لحياتهما الامل والمعنى الذي ينشداه. تستمر سردية المسرحية بذات الرتابة في الفصل الثاني على الرغم من دخول شخصيتين إضافيتين مختلفتين. لكن الامل في وصول جودو يتلاشى في نهاية المسرحية، فهو لن يأتي، ويتساءل كل من فلاديمير وإستراجون فيما إذا كان عليهما الانتظار ثانية أم الرحيل. تستكشف هذه المسرحية الإغتراب الثقافي القاحل الذي تعيشه الشخصيتين الرئيسيتين، وتفضح عبث الوجود الإنساني، وتهمل المسرحية العديد من الأسئلة دون إجابة، كذلك فإن الهوية الحقيقية لجودو وأهميتها الملتبسة تبقى غامضة، فالمسرحية تصور إنعكاس الحالة الإنسانية المحاصرة في دائرة الانتظار والبحث عن المعنى في الزمن والحياة، فالاغتراب هنا يشدّد على أهمية التواصل الإنساني والرفقة المجتمعية.

عاشراً - "من الرماد إلى الرماد" Ashes to Ashes لهارولد بينتر. (أو من التراب الي التراب):

 تقع أحداث المسرحية في غرفة معيشة عادية، وأحاديث بين الشخصيتين الرئيسيتين ربيكا وديفلن، يتضح من مسار الأحداث أن التجارب الحميمية السابقة لربيكا تخييم على واقعها الحالي، مما يصبح واضحاً أن العلاقة التي بينهما باتت بعيدة عن الودّ، بل ومتوترة. تتعرض المسرحية الي موضوعات الماضي، والذاكرة، والحنين المبطّن، والصدمات، والحالات التي يتنكر فيها الافراد عن ماضيهم ومن بعضهم البعض. يصور هارولد بينتر موضوعات الاغتراب والانسلاخ عن التواصل الإنساني بين الشخصيات ببراعة كبيرة، فالمسرحية تستكشف الديناميكيات المعقدة والشائكة للعلاقات الإنسانية عبر الطبيعة المتنافرة، والمجزأة، والمفككة للحوار. حيث صور بينتر الاغتراب الإنساني بقساوة من خلال عدم تسلسل الحوار، وبالصمت وبالتوقف لفترات تبدو أحيانا طويلة، وتجادل المشاهد بمشاعر من عدم الارتياح والانفصال. كذلك تستكشف المسرحية موضوع الاغتراب على مستوى مجتمعي أوسع. فذكريات ربيكا عن الحرب والعنف تنعكس على الآثار اللاإنسانية للصراع الدامي. إن الفظائع المرتكبة أثناء الحرب يمكن أن تؤدي إلى شعور عميق بالغربة، سواء بالنسبة للمشاركين بشكل مباشر أو بالنسبة للمجتمع ككل. إن تصوير بينتر لهذا الاغتراب هو بمثابة نقد للطبيعة المدمرة للحرب وتأثيرها الدائم على الأفراد والمجتمعات.

النتائج

يتضح من موجزات النصوص أعلاه التي تُبرز المسرح بإعتباره كيانًا غير متجانسًا، بل هجيناً في مناهجه في التعامل مع الاغتراب الثقافي، والتي تختلف بشكل كبير اعتمادًا على النص المحدد للمسرحية، والسياق الثقافي للمجتمع، والاساليب الفنية المستخدمة. ولعل في ذلك، بالتحديد، تكمن قوة المسرح في أن يلعب دورًا جوهرياً في تعزيز التفاهم، وتحدي الأحكام المسبقة، وتجسير الفجوات التي خلّفتها الانقسامات الثقافية وغيرها عبر بوابة الاغتراب، من خلال التجرؤ في طرح هذه المواضيع المعقدة والأفكار والمشاعر التي تنتقص من الوجود الإنساني، ومن حريته ومن اختياراته.

يشير الاغتراب الثقافي، كما تكشّف درامياً في النصوص المسرحية المذكورة آنفاً، إلى تجربة الأفراد أو المجموعات التي لا تتوافق مع ما هو قائم من معايير وأعراف سواء كانت ثقافية، أو إجتماعية، أو سياسية، أو حتى روحية، لذلك فإن هذه المجموعات تشعر بالانسلاخ التام عن القيم والممارسات والأعراف الثقافية لمجتمعهم، أو بتعميم أوسع، كل ما يمكن وصفه بالثقافة السائدة. فالاغتراب الثقافي هو أيضاً، حالة من الإدراك العميق والوعي بحقائق جديدة تقود الفرد الى القناعة بأنه غريب في ممارسة ثنايا ثقافته الخاصة، أي شعوره بأن هويته الثقافية تتعرض للانتهاك أو للتجاهل والتسخيف من قبل الثقافة السائدة والمهيمنة. ولذلك فإن إحساسه يتزايد بالابتعاد، بل والانسلاخ عن القيم والمعتقدات والتقاليد التي أطّرت شخصيته ذات يوم. هنا يبرز الدور الأساسي للمسرح في تسليط الضوء على ما يتشكل جراء ذلك من شعور مرير، وعميق بالوحدة داخل بيئة الفرد ومجتمعه، هذا الإحساس لا يمكن تجاهله أو علاجه إلا من خلال العودة الى حميمية احتضان الفرد لثقافته وما أنتجته من إرث يعتزّ به. فالمسرح هنا يسلط الضوء بشكل فعّال على الآثار الضارة والمدمرة للاغتراب الثقافي على الصحة العقلية والحياة السوية، سواء للأفراد أم الجماعات.

 ولأنّ المسرح، ومن خلال عرض السرديات وحكايا الافراد أو الجماعات التي تعاني من الاغتراب والانسلاخ الثقافي، يزيد من عمق ومناسيب الوعي لدى الجمهور بهذه القضايا، فهو يؤكد على التعاطف معها ومع معايير التفاهم المتبادل. ومن جهة أخرى، فإن المسرح يمكّن أفراد الجمهور من تلمّس ذواتهم من خلال كشف معاناة الشخصيات الدرامية التي تمثل الاغتراب الثقافي، وهو بذلك يحثهم على التفكّر والتمعن في انتماءاتهم بثقافتهم الخاصة، وبالتوافق والتفاعل مع الثقافات المختلفة. وللمسرح دور أكثر أهمية من ذلك، فهو إضافة الى ما يشيعه من وعي وإدراك لمخاطر الاغتراب الثقافي، فإنه يحرّض على التمرد عليه ومقاومته عبر منح الشخصيات الدرامية المغتربة، وخاصة المهمشة منها، صوتاً قوياً يساهم في دمجها ضمن المسار الثقافي العام، دون فقدان هويتهم الثقافية، وتعزيز احترام الذات. فالمسرح بالتأكيد هو أحد أفضل المنابر الثقافية والفنية التي تمكّن وتشجع الجمهور من الحوار الودي والإنساني بين الثقافات، فالمسرح يمنح الثقافات المختلفة الفضاء الرحيب والواسع للتعايش الحضاري وللإثراء المتبادل.

وأخيراً، فإن الاغتراب الثقافي يُنشأ تصدعات في أسوار زمن الفرد والجماعة، تصدعات يستعصي شفاؤها. لذلك فإن للمسرح دوراً جوهرياً في تشخيص وتبسيط مفهوم الاغتراب الثقافي، وإثارة التفكير النقدي لدى الجمهور حول معايير القضايا الاجتماعية والثقافية الناشئة عنه. ففي المسرح يتحول الاغتراب من مفهوم فكري وفلسفي مجرد، الى واقع مادي ملموس من أشخاص بوجوه إنسانية واضحة الملامح، وإسماء بشرية مألوفة، وأحداث من دوائر الحياة العادية، أي الى أنسنة المفهوم المجرد وإدخاله الى حضيرة ما هو اعتيادي في مجرى الحياة اليومية. فالمسرح هو عالم افتراضي ساحر، ولكنه عالم أليف وملموس. هذا هو جوهر الفن: إنه السحر السرّي، والغامض، والملتبس، ولكن المدرك، والواعي، والمتيقظ، والمحرّض.

***

علي ماجد شبو

 

دراسة في رواية (حياة الكاتب السرية) لغيوم ميسو

الفصل الأول- المبحث (1)

***

توطئة: لاشك في أن طبيعة التقديم لرواية هي من الأنموذج ذات الطابع السيرذاتي، تعد من المهام الأكثر استغراقا في التواصل والتتابع بين قطب الأصل النصي -السياقي، وحدود النص المنجز، اقترانا محاكاتيا مع حيثيات الارتباط النسقي في التداخل والانفتاح والسيرة الذاتانية لأصل حكاية الروائي الفرنسي (ناثان فاولز) الذي أختار أن يكون النقطة الفاصلة بين حياة الكاتب الذي شغل الناس برواياته وبين نقطة زمنية معزولة في أحدى الجزر الفرنسية المغمورة.لعل التعامل والبحث في وظائف وأشكال وأساليب رواية (حياة الكاتب السرية) للفرنسي غيوم ميسو، لا تحددها (علاقة = محاكاة = سياق) بقدر ما نتعرف عليها كرواية ذات تدفق بين (الماقبل = المابعد) ولا من جهة غاية في الأهمية أن يغوينا الحديث حول حقيقة المصدر المرجعي للحكاية ذاتها، لا أبدا لا يسعنا سوى أن نقول أن (غيوم ميسو) قد تتبع سيرة الروائي ناثان فاولز، فإعادة منسوب المنظور السردي عبر كيفية خاصة من مظاهر المشهد السردي الأكثر تدفقا في الصياغة والمعالجة في تزاحم الرؤية وممارسة ذكاء التجسيد بالتمثيل المراوغ والتمويهي.يقدم لنا غيوم ميسو رواية سيرذاتية ضمن مواصفات درامية حقيقية لا تنبثقب من حافزية السياق دليلا، إنما شغلتها دلالات إعادة المصاغ صوغا نادرا ومعادلا على صعيد الأمثل والأصل من حكاية ناثان فاولز.لربما يتبين لنا من خلال رواية (حياة الكاتب السرية) مدى إمكانية الكاتب غيوم ميسو، وذلك من خلال إعادة الأحداث ملغيا وجود الأثر، مكتفيا القارىء بوجود مكونات المؤثر الذي غطى على حدود الأصل عبر تمثيلات أكثر تشويقا وتفاعلا وتجاوزا جماليا مصيبا.

- السيرذاتي بين ضروب المتخيل وخصائص الأدوار

في الحقيقة أنا شخصيا قد لا أعول على حجم العلاقة الترادية بين حياة ناثان فاولز وشخوص رواية (حياة الكاتب السرية) خصوصا وأن العملية النقدية لا يجذبها مثل هكذا تصديرات أبدا، حتى وإن كانت من ضمن الحالة التبويبية في عتبات الرواية التي قام بكتابتها غيوم ميسو، لذا سوف يذهب شاغلنا الوحيد في مقاربة فضاءات السرد الروائي، مدام أن النص الروائي جاءنا مسكونا بالإحساس على أن زمن الرواية، هو تلاعبا متراصا من حياة الكاتب ناثان فاولز.ولكن في الآن نفسه لا أعلم حجم ما وضعه غيوم لروايته من مصير محكوم بالتقابل مع القطب الآخر ــ ناثان فاولز ــ كان بإمكان غيوم إنشاء نصه بعيدا عن هذه الجذبة التي أشاع عنها كونها اللعب الفنية ــ السردية، في كتابة رواية سيرذاتية، وربما كان بالإمكان جعل نصه أكثر تحررا من المعاودة في إعادة الإنتاج لسيرة حياة ناثان فاولز.صحيح أن للروائي غيوم خلفيته الإجرائية على نحو خاص في نسج روايته، ولكن أمكنة السيرذاتي تؤشر دائما على كاتبها الحقيقة التي توحي بأن ليس للكاتب ونصه، القدرة القصوى من التخييل والحكي باستغراق اسلوبي متشبع بالكفاءة والامتلاء.ولكننا لو تعاملنا مع النص بعيدا عن هذه المزاوجه الثنائية، والهوية الاقترانية، لوجدنا بأن آليات رواية غيوم ميسو، هي استعادة شكلا جديدا من رداء السياق الأصلي، ما جعل صياغتها المتمحورة أكثر من مجال أبجدية (الاقتران؟!) أو المحاكاة أو كتابة رواية سيرذاتية.ولعلنا بالأخير نتفق ونباشر عملنا المبحثي كون رواية (حياة الكاتب السرية) انفتاحا وتفاعلا حاملا بصمات محاكاة السيرة ولكنها ليست السيرة ذاتها، باستثناء الاستفادة من الأسماء وبعض الأدوار العاملية.

1ــ العتبات النصية ومخطوطة الكاتب الشخوصي:

تظهر لنا في الأطوار (الميتانصية) أشكالا مأثورة في مراسم حقيقتها الاعتبارية، وقد جرى لمثلها في غالبية المدونات الروائية في العقد الرومانسي من الآداب وأيضا في خصائص المدرسة الواقعية، لذا وجدنا آليات وموجهات البنية العتباتية موغلة في اصطحابات المآثر القولية المنتقاة من الأجزاء والوحدات الخاصة ببعض الأعمال الروائية، وهذه المناصات بدورها تختلط وتنفرد عن بعضها البعض في الإنتاج الجزئي والكلي من السياق الروائي المبثوث تحت مسمى (حياة الكاتب السرية) وقد يختلف الفعل المرسل في المنصوص، إذا قوبل بالاكتفاء والاندراج في وقائع ومعطيات غير متباينة في سارية الارتكاز التأشيري، لذا وجدنا ضبط المحدد العاملي يوظف ويشغل لذاته هوية (الحالم؟) أو (المغامرة؟) أن صح هنا منا التعبير والإشارة حول شخصية (رفاييل) السارد المشارك حدثا وعنصرا شاهدا في نسيج مسار الرواية.ومن الجدير بنا القول بأن وظيفة (السارد المشارك؟) عبر الأحداث السردية، غدا شكلا مشتملا على تحديد مدارات الشخصية ناثان فاولز، مما جعله الأمر يترأى في بعض تشكيلات اللقطات والمشاهد وكأنه الماثول الذي يوحي عن طبيعة حياة ناثان فاولز، بذلك الاحساس المتضخم بالأنا والتضخيم الذي يضفي على شخصية ذلك الكاتب السري.في الواقع هناك حالات مفتعلة تشوبها مشاعر الإسراف والمكابرة بإظهار شخصية ناثان على النحو الذي لا يخلو من الجعجعة تحديدا:فما كل هذه الفوضى والإسراف في الإعلان عن حكاية ووصف ناثان فاولز، وكأنه آلهة إغريقية ممجدة دون جدوى؟لعل غيوم ميسوم أسرف وأفرط في مزج ملامح شخصيته في الرواية بذلك الأصل السياقي الذي هو ناثان فاولز الحقيقي، ما جعل شخصيته في الروائية ــ ناثان فاولز ــ تبدو تابعا بملامح غرائبية وفنتازية محدثة؟إلى جانب ذلك ما الرابط الدلالي بين شخصية الرواية ناثان الشاهد على جريمة كبرى من القتل، بذلك الأصل الكاتب الفرنسي ناثان فاولز؟من هنا نعلم ونقدر ما كتبه غيوم ميسو في روايته، خصوصا وأن المواجيد الأدوارية في (ناثان الأصل / ناثان الشخصية) يفصلهما العديد من الاختلاف والصورة والهوية والموقع.لذا هنا أردت أن أعزز ما كتبه غيوم، في النظر على أنه ليس في حدود (الحافر على الحافر؟) لا أبدا فالرواية ضمن تحولاتها وموضوعاتها راحت تعكس الاختلاف الملحوظ بالتصديق الموضوعي، كذلك الأمر يخص ما أعرب عنه غيوم ميسو نفسه في خاتمته للرواية، هو ما يعكس محتوى وشكل الثيمة الروائية الباحثة في وقائع جريمة قتل عائلة فيرنوي وحياة الشخصية ماتيلد موني الباحثة والمتعقبة إلى خطوات وحياة الكاتب ناثان فاولز.تنفتح المساحة الفضائية للرواية على محاولة الشخصية رافاييل وهو يتوجه نحو جزيرة بومون: (كنت أعمل في وظائف صغيرة عدة لدفع الإيجار، لكنني كرست طاقاتي الإبداعية كلها لتأليف رواية بعنوان ــ خجل القمم ـــ وقد رفضت من حوالي عشر دور نشر ./ص24 الرواية) .

2ــ الشخصية السيكلوجية والأفق والمغزى والأداة:

إن الفقرة السابقة من الوحدات تتضمن إقرارا صريحا وضمنيا في الآن نفسه، بأن رافاييل يبدو شخصية محبطة، منكسرة القلب، وهي مفعمة بذلك الإحساس النفسي بالانهزامية.ولكن غاياته بدا عليها وكأنها فريدة من ناحية كونها تتعلق حتى النخاع بآمال الذات الروائية التي تكافح لأجل الوصول إلى غاية ما تتأمله من النجاح الأدبي.هناك حيث يصادف أن يلتقي الكاتب الشهير ناثان فاولز، بعد أن قام بقراءة روايته (المحطمون) ورواية (لوريلاي ستراينج) ورواية (بلدة أمريكية صغيرة) .إن الواقع المتبدي في الأحداث الروائية جميعها تجسيدا لإداة وتخطيط الشخصية رافاييل في كيفية الوصول إلى منزل ناثان فاولز، حيث تستدعي ذلك الوصول أن يكون حرفيا عند المكتبي الشخصية غريغوار أوديبير: (ما إن وطأت قدماي اليابسة حتى جررت حقيبتي على أرصفة المرسى.لم تكن المارينا شاسعة، ولكنها كانت مجهزة جيدا - رصدت أوديبير وقد عرفته من ملامحه القاسية./ص30 الرواية) لعلنا في طي هذه الوحدات سوف نؤجل الحديث عن جملة (ملامحه القاسية) لكونها نقطة وصفية تتصف بصفات لها سياقها التبئيري الخاص.قلنا أن السمة الأداتية في مواصفات الشخصية رافاييل، كونها خائبة في مواقفها من الواقع الاجتماعي على صعيد العائلة، والأهم من ذلك، تعد نقطة الانطلاق في فهم المغزى المحاط بواقع شخصية الكاتب ناثان فاولز.

3ــ صورة ناثان فاولز وغياب القارىء الحقيقي:

قد نتوقف قليلا مع الوحدات السردية التي تتعلق بحياة المكتبي أوديبير وعلامات سأمه من تزايد دفعات الأرباح التي يجنيها بدوره من مبيعات الكتب في متجر المكتبة، كذلك يكشف لنا الحوار الذي دار بينه بين رافاييل عن حقائق غريبة تخص تقلص مستوى القراء في فرنسا ضمن معادلات إحصائية مفترضة، ولكنها من ناحية تقديرية بدت وكأنها تغطي كل مجالات الحقيقة الخاصة بمستوى انحسار القراءة والقراء إجمالا.لعلنا نتعرف من خلال توظيف رافاييل كموظفا داخل هذه المكتبة على روايات بارزة، فكان من بين أهمها هي روايات وصور ناثان فاولز: (اشرت إلى صورة فاولز في الألبوم: ــ ناثان فاولز، هل تعرفه؟تجهم أوديبير وبات وجهه عبوسا حذرا: ــ قليلا حسنا، ما هذا إن كان يمكن معرفة ناثان فاولز؟./ ص34. ص35) .

ــ تعليق القراءة:

أن الطبيعة الحوارية الدائرة بين (رافاييل ــ أوديبير) تتجسد بمحمولات الغرض وإبراز الملمح الاستباقي، ولأجل الحقيقة ومراحل تعرفها، علينا الاكتفاء تجسيدا بالأهم التدرجي من أطروحة مبحثنا هذا، في الكشف عن مواقف الشذوذ والعداء في المواقف التي تخص الكاتب ناثان فاولز، لذا فهي تجرى على لسان الشخصية أوديبير ضمن حدود مسكونة بهواجس الاحتراس والتحفظ من الخوف في التوسع في الكلام حول ناثان فاولز الذي اقتربت حكاية اعتزاله في الجزيرة مرمى كل الأوساط الثقافية والمحافل الأدبية في فرنسا، ولكن يبقى السؤال مطروحا منا : هل أراد غيوم ميسو أن تكون فكرته عن اعتزال حياة فاولز الحقيقي للكاتبة طابعا رمزيا لأفعال شخصيته فاولز في الرواية أم إنه أراد خلق صورة متطورة منطلقة من الأسباب التي جعلت فاولز الحقيقي يعتزل فعل الكتابة ويختفي داخل منزله الكبير الفاره المطل على أمواج البحر في حدود ملغومة بالتكتم والسرية؟لذا نحن نقول هنا هل إن عملية الاعتزال تلك مقرونة بحقائق مشتركة بين فاولز الحقيقي والمفترض في الرواية ، ولربما هناك حقيقة مرة وأكثر كابوسية من فكرة انسحاب الكاتب من مغامرة المكتوب؟ .

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

(الوعي الشعري بين عضوية الاستعادة وكينونة الموصوف الملكوتي)

توطئة:

لعل الشاعر المتشح في شعره بالاستعادات الفيوضية المبثوثة من خلال رؤية واجدة وحقيقية إلى مدركات غيبية وملكوتية، فلربما تبدو محصلات نصه النواتية، هي من الاستعدادات الخاصة في وظائف كينونة نصه الشعري الذي هو في الحصيلة الدلالية بمثابة المقادير المصاغة في حالات نوعية من أسلبة طبيعة الاشياء ضمن فتوحات دوالية ومسميات لها من قدرة التحليق بالدلالات نحو نقاط متماهية ومتطابقة في العرض الصوري والاستكمال التلفظي. إذا ان حالات أدلة الموضوعة الشعرية ومحتواها الامتثالي، هي من موصولات نقاط واوضاع تحاورية، تستكمل مشروعها من خلال (الذات- الموضوع) وصولا إلى تكوين بعض حالات الوظيفة الشعرية، بما يمكننا القول عنه بذلك الطابع المتمحور من اوليات الوظائف النواتية من النص نفسه، ومساحة فيضه من الاشتغالات النوعية للقصيدة ومرسلاتها المصدرة الإحاطة والتمكين بذلك القصد المحسوس من اللغة والفة فضاءات النوع الشعري اعتمادا. من هنا تواجهنا بهذا الميسم والطابع الإضماري، جملة خاصة من موصوفات مشروع قصيدة مجموعة (ملح انوثتي) خلاصا وخلوصا محكوما في تقديم حالات الملفوظ الشعري في المجموعة، ضمن حدود إمكانية بلاغية مبهرة، متكونة من إحساس ورؤية وأسلوب صناعة الملائمة بين عضوية اسعادات النص وإصداء فيوضاته الطوافة في اعتاب فواصل (الفضاء: البياض - - السواد) فيما يبقى هذان الحدان، من التأسيس والوظيفة الشعرية وشعابها المتحولة والمتقلبة في مسارات حيوات  المعنى.

- الممكن والإمكان في مرايا الذات الشعرية

لعل من السمات الاخاذة في بنية قصيدة الشاعرة السورية القديرة أحلام غانم، ما تتركز به شواغل الدوال المنجزة ضمن المحاور الأكثر توغلا بالهوية التلفظية وجملة مصاحباتها الصرفة التي تختص بأدوراها أنتقائية العوامل الموضوعية الاكثر تداخلا وحيازات ترابط (الدال- المدلول) وصولا متواصلا نحو خلق اشد المظاهر القصدية إقترانا بالعلامات المرسلة بين حيزي (الواصف- الصفة) إدماجا لهما بذلك النسيج المكنون من اللغة الفضائية وحدودها التي هي من تجميل الوحدات المنطوقة والكيفيات التصديرية للدلالات ومشتركاتها وقواسمها المنجدلة ب(معلنة _ إظهارية). وفي أماكن عديدة من ممارسات القول الشعري، لاحظنا ذلك التأطير الدائر بين قطبي (الصورة - - الحال) امتدادا في التنوع والتعدد في مجال الاهم والاجدر في حيز التوافقات الإيقاعية عبر خصيصة الاصوات والتأسيس في السلم النغمي من قابلية النص ومحاورة العروضية، لذا وجدنا جميع نصوص المجموعة تتعاضد مع بعضها البعض ضمن حالات محايثة تصل العناصر الدوالية وأطوارها في تعاملات وظيفية - عضوية، عادة ما تكون هي المصدر المؤسس في منتج النص واحواله، اي كحالات مجبولة في رواسم البنية التحتية والخارجية من مساحة التأشير الحسي للمقروء ليس إلا. نطالع ما جاءت به قصيدة (قمر...) من معالم تاثيرية خاصة، وانا شخصيا رحت اعول في بحثي حول هذه القصيدة، لكونها تمتلك قدرات شعرية لها مقاصدها التي لا يمكن الإحاطة بها منذ الوهلة الأولى، كذلك فلهذه القصيدة مرجحات نوعية من اوصاف الحال والأحوال، الامر الذي جعل منها تقع بين حدين (الممكن - الإمكان) وعند التعرف على تفاصيلها الدوالية، نعاين المدى الممنوح في علاقاتها النواتية والافعالية والصفاتية:

مازلت أسأل عني مذ

وقفت على...

أسمائه ذات ليل سال

من قمر...

هنا يمكننا القول بأن النموذج الإمكاني في أحوال الاتصال، وهو ذاته الذي وطن الشروع في جعل أوجه المرسل كحالة ممكنة في الحصول على ابغ صفة من صفات الدال المشرئب تمحورا في جملة العتبة المطلعية (مازلت أسأل عني) والعلاقة هنا إطلاقا من فعل الديمومة والتوكيد الاحوالي بالزمن والذات الآنوية (مذ وقفت على.....) فهنا تكمن زمنية الذات الممكنة، دخولا في بحثها عن ذاتها الثانية، والتي اصبحت تؤشر لها بعلامات وهيئات من الزمن البياضي (......) اي ذلك الزمن الفراغي الذي تعنى في حدوده الاشياء ب(حلول اللاثبات؟) او هو الأداة في اللاتحديد، ولا يمكننا تقديره بغير مسمى (وساطة الإمكان؟) ذلك لأن وجوده في نهايات القصيدة لا يشكل حضورا ممكنا من ناحية فهمه، اللهم إلا من ناحية كونه اداة طيعة للمحذوف، ولكننا في الآن نفسه وضمن سياق بحثنا هنا، قد يجوز لنا تسميته ب(الإمكان) ذلك لكونه يدخل ضمن بواعث محتملة من وجود الامر ذاته او غيره، فالحالات التنقيطية في نهايات الجمل، هي بمثابة قابلية خاصة في قراءة تعدد المعنى، ولكن هل ياترى هو المعنى التخميني للقارئ، اي هو ذاته ما تترابط معه مقاصد الشاعر بالحرفية القولية والبنائية، طبعا لا والف لا؟. تعددية المعنى لا ترممها البياضات، ولا تنكسها احوال الدوال السائبة، بل تعدمها كيفية عدم توظيفها في الشكل المناسب والتوافقي. استخدمت الشاعرة في وظائف خواتيم جملها الشعرية تلك النقاط من اللامنتهي من اواصر الخطاب، إذا على هذا الامر تتبين لنا حضورية وغياب الدوال في المواضع المخصوص لها، وقد تتضح لنا غالبا واصلات متحولة في مساحة البياض الإمكاني، اي من ذات الوجه من الدال المبثوث بادئا، ليشكل حالة تواصلية مع ذلك المعدوم في اللامنتهي في توالف الجملة(وقفت على....) ووضوح هذا القصد يتركز في معلومية الجزء الاولي من الشطر، ما يشكل بذاته حالة تعقبية تتلمس الوصول إلى اللامحدد في زمن الفراغ البياضي من المبذول كمعنى مضمر في أداة حذفه، او هو ذلك الترهين بالقيمة الدوالية بالمحذوف الإمكاني والذي يمكن فهمه، إذا توفرت إشاراته وعلامته من ذي قبل. ولو تعاملنا مع المعنى المشرئب في صلب القصد اللامنتهي، لوجدنا ثمة ازمنة وفضاءات خارج السياقات المعمول بها، ولكننا عندما نمعن في تعالقاتها المضمرة نكتشف بان المعنى يمارس ذلك القصد القائم بين الممكن والإمكان.

1- واصلات المعنى وإعادة تشكيل المعنى:

تستفيد اوضاع المركب اللفظي في حيز محمولات القصيدة لدى الشاعرة، من خلال هوية الطاقة اللغوية الكامنة في مقاصد إشارات وعلامات المعنى الوظائفي، لذا فالقصيدة لديها ملغومة بدلالات متكونة من فئة واصلات المعنى او إعادة تشكيل المعنى عبر نقاط من المقصود الآنوي، وعلى مثل هذا الاعتبار تظل ملكية بنية النص او الوجه الآخر من تشكيل القصد للمعنى، بمثابة جلب الاغراض والوسائط إلى النص، كحالات علاقة خاصة هي من التكييف والمنح في ثنائية (المطابقة- التماهي) ولعل القترئ لسطورنا هذه، قد لا تتضح إليه مرادات قولنا تحديدا وتشخيصا، وذلك إلا في حدود ممارسة إجرائية، في التفكيك والتجميع للشكل النصي، ولكننا حاولنا هنا إبراز ما تعنيه الاواصر اولا في علاقات محتوى الدوال وشواغلها مع الذات وملفوظها المحمول كملكة خاصة في تحالف وتخالف في الوسيلة والمحصلة المنتجة للنص. أقول مجددا حاولت الشاعرة في منتج قصيدتها (قمر...) خلق حالة توليف بين طاقة اللغة في الوحدات، وبين ذلك الإتصال بالمصير البياضي الوافد من زمن اللاتحديد، فمن خلال هذه الوسائل المتاحة في النص، إدركنا زمن الوصل والفصل، و منها علمنا بوجود حالات التداخل عبر محاور معدلة ومليئة بالإشارات والإيحاءات بالطاقة المكنونة باقصى تجليات الدلالات المتماهية عبر مقداري (الظاهر- المضمر) كما عليه الحال في مرسوم هذه الجمل(أسمائك ذات ليل سال من قمر_ في شاطئين.. ولا هناك.. بدا.. - يقول: هذا التجلي أول السحر - كانت أساريرة في كل دائرة.... ترمي خيوطا وانوارا على الشجر) ويتعمق الخطاب بحالات ابعادية واستعادية، نستخلص من وراءها، اوجه تبادلات صيغ التلفظ بمسميات التدليل التصوفي في مناجاة الاقداس وغيوب الاحدية عن الاعيان التصورية في محتملات صنيع العلامات الاكثر غورا في طاقة التدليل والدلالة. فالشاعرة من جهة ما ترسم لذاتها مسارات مخصوصة في لغتها، لدرجة طرح الغواية في ماوراء مقصودها، وربما هي من جهة ما تسعى إلى تقريب مواطن الصفات والوجودية من ناحية كونها محاكاة لا تعني الانسحاق في مجامر التخييل عبر المواطن الكونية، بقدر ما تحاول بعث ملفوظها بضمير حالات هي من الركون إلى لغة متعالية في الياتها الاستعارية والمجازية، وقد تبدو لنا آليات هذه البلاغة هي الاقدر على جعلنا نهم بالمرور والعبور عير طبقات ميتافوقية، ميتافيزيقيا، والركون إلى ذلك المعنى الصوري والروحي (ليل سال من قمر) لذا فهي تعني بدورها حالات يسودها التدبر في الوصف والميثاق لهذا الوصف، إيمانا بمطلقية الذات العلوية وحصيلة اسمائها في وحدة الَجود، وعلى هذا النحو تبقى دلالة القمر منتهية في الان وفي آن آخر تستمد هويتها من جملة بياضات متصلة وحدود إمكانية وممكنة في الان ذاته،. وعند تجاوز حدود القول (في شاطئين.. ولاليل هناك.. بدا..) نتبين أوجه التعليل والتحويل والإيحاء في غاية الوصول الى مقاصد غيب الغيوب، كما ويغدو التماثل بين هذا وذاك من التوصيف الاكثر إقتدارا في مسوغات المواضع الصاعدة من القول (يقول: هذا التجلي اول السحر - كانت اساريرة  في كل دائرة....) ربما من الناحية الدلالية تختار الشاعرة اشكالا من الدلالات تذكرنا بشعراء المتصوفة وقصائدهم الكشوفية والشهودية التي تختص بها مجمل الواردات والمشاهدات القلبية، لذا نجد الشاعرة في لغتها تنساق بالمحاكاة الحسية وليس بالمحاكات القالبية، وعند التعرف قليلا بشعر التصوف، نعاين بان اغلب شعرهم ما غدا يتحدد به من ظواهر الفيوضات وشهودية الرؤيا القلبية تحديدا.

- سلطة اللغة في فواعل الطبقات الدلالية

ان عملية تناول شعر احلام غانم، ماهي إلا تلك الجهود المتواضعة في البحث المقارب في منعطفات جواهر المعنى الشعري لدى الشاعرة، ناهيك عن اهمية وظائف القصيدة المصاحبة الأخرى، وخصوصا في ما يتعلق بالناحية الإمكانية في تحصيلات الوظيفة البلاغية ومسار إيقاعاتها الحاصلة حصولا فريدا ومتفردا.

إليك..

ربيعا

وليس خريفا

يسير إلى غيمة تمتدد صيفا

ورائي.. وأنحائي الشوق

في نبعة السلسبيل يعيد

مدارج روحي

وماء قصيدي.

فعندما نقرأ حالات مختلفة من شعر الشاعرة، كقصيدة (وحده يروي..) وقصيدة (ياسورية) وقصيدة (بسملة القوافي) لا شك إننا نشعر بمداد الافعال التفاعلية في خطاب القصائد، وذلك تحقيقا لشروط الشعرية التي تمتلك أهليتها الفعلية في محاور تماثلاتها في الاداة والتأشير والجدارة البالغة في تقديم النموذج الشعري في مساحات متداخلة ومتناوبة من جماليات الخصائص الشعرية الواثقة والموثقة في شرعية كونها الفضاء الشعري الجاد والأكثر تأثيرا وذيوعا في الذائقة الحسية للتلقي والمتلقي.

***

حيدر عبد الرضا

الفصل الأول – المبحث (4): مستحدثات النص الروائي وتفارقية منطقة التأريخ

توطئة: يتبنى الكاتب والمفكر الأستاذ أمين معلوف في استراتيجية الحكي (المحكاتي - المرواتي) في مجمل الأجزاء الفصولية من مصاحبات (كتاب فاس) ذلك النوع من وظيفة وموقع (الشخصية المركزية) التي لا شك منهاوهي تواجه جملة تفصيلات (السارد الحيادية) إزاء علاقات مباشرة بالمحور العاملي أو بذلك الانموذج الافعالي من خطية وجهات (ذاتية المسرود - - مرويات السارد) إذ نلاحظ أن رؤية السرد، قد بدت أكثر حيادية أحيانا، ولدرجة أن السارد المشارك، غدا خلالها لايحقق استقلالا نوعيا في مهام وهوية ومقاربة المواقف الفعلية من مسار الأحداث المنقولة تارة والمعالجة تارة ٱخرى، اللهم إلا في حدود - تواترا حركيا - عبر مشخصات السياق المنظور إليه من خلال (العالم - الأشياء) وبما أن خطوط انتاج المعرفة في مستوى زمن الاحداث مؤولا في مرجحات الاكتساب الصنعي لمادة الرواية, لذا ظلت أزمنة الحكي تحددها إتصالية غواية السياق والتواتر في مرويات نوعية الحدث السردي للزمن وللضمائر والإشارات المتعددة في مجالات قدم أو حداثة المسرود بالسرد التناقلي، لذا نرى أن أغلب الاحداث خلت تتمحور في حدود (مفكرة السارد) اي بمعنى ان القارئ للمسرود ذاته وبذاته، راح يشبع الظن بأن الحكي في أوليات حميمة مع المرابع السياقية، ثم بالتالي يدفعنا نحو تجاوز نمطية الظن بأوليات ذلك المحكي السياقي، ليدخلنا في الاعتقاد النوعي من تقانة الأداة والعدة الروائية الأخاذة في حقيقة أن من يكتب سيرة الرواية، هو المؤلف عبر لسان حاله بضمير السرد المجمل والمنفرد، اي بما يقصده المؤلف في أن يكون سارده كاتبا لمذكرات الرواية. ولعل ابلغ حدود هذه الفرضيات والوضعيات الروائية والأسلوبية للمصدر المرجعي الموثق، هو قيام الروائي في تحسين وتحويل الافعال والشخوص إلى دالات عضوية نابعة من تمفصلات جهات وعوامل زمنية وأحوالية كـ (التحول الزمني - علاق سببية الأحوال - مواضع جهات السارد) كذلك تسود وحدات الفصول الصاعدة من حكايا كتاب فاس، حالة تحديثية من حقائق أطروحة السياق وأبعاد مسبوغاته في مجال الأداة والبناء.إما في ما يتعلق ومستوى الاختلافات في نمو الزمن وغايات الفعل السردي إجمالا، فقد بدت الأسانيد التحفيزية لتلك المهام في غاية الأهمية المتعدية في خطابها الإنتاجي شكلا وتفصيلا.

 - أوضاع الراوي المشارك: سيرة مظاهر المفرد فاعلا

قلنا سابقا في عدة أوجه متعددة من مباحث متفرقة لدراستنا حول رواية (ليون الإفريقي) بأن الحكاية الروائية في محلات النص نفسه موضع بحثنا تقع ضمن منجز الافعال والاحداث الخاصة في محاور (السياق = وثيقة - النص الروائي) منصوصة في عدة مجالات من التحديث التخييلي والأداتي، لذا وجدنا أغلب مرويات السارد العليم وصوته وتحولاته وآفاق رؤيته تبقى ضمن قيمة التعضيد المروي ليس إلا، إما حالات التجلي التخييلي في الصناعة الروائية، فيبدو في مايحدث بصيغة الجمع والتفرقة، اي بين أوليات علاقة ماثول نواتي، تستحدثه مستجدات التشكيل ووحدات الزمن والمكان ومساحات الوصف التي تخترق أوليات جمود المادة المؤرخة فعلا روائيا، فيما تبقى حدود التخييل أنشقاقية غالبا وخروجاتها على الحدود السياقية، قد تعد بمثابة تحرير الحجر من كونه مادة جامدة، فرض عليها نسقا من جهة الطبيعة الواجدة، فلعل عملية إضفاء المسمى للحجر ذاته، لا تشغلنا بمقدار ما يشغلنا ذلك الأمر في جعل لهذا الحجر موضعية مواتية مخصوصة في مكونات شريحة عاقلة، أعتقد من جهتي أن المثال يشكل وضوحا تماما على من لم يدرك لحد الآن كيفية صنع الرواية التأريخية. قد لا يتوسع الروائي كثيرا في ملاعبات التخييل في تكوين الرواية التايخية، إلا من جهة كيفية إعادة الروح في جسد الوثيقة، اي لا يمكننا تجاوز المحاور والركائز في أوليات المادة السياقية، اللهم إلا من حدود خواصية المعالجة وإعادة الهيكلة الإدارية في مشارب الأدوار والصفات والسمات والتلوين في مؤثثات المادة المرجعية التي تحولت إلى قيمة مشتركة في التمثيلات والتوصيفات المحتملة بروح تفاصيل الأكثر توقعا أو اللامتوقع . أو ما يمكننا تقديره هو مستويات الاختلاف في وجهات التمثيل والأمتثال لهويات ذات صياغات أكثر حضورا وتشويقا من صورة وثائقية مهملة في تركات الماضوي الغابر. ولكن من اللافت أن طبيعة المتخيلات في معالجة الأعمال التاريخية لاتحدثنا عن حقائق بعين حدوثها، بقدر ما تسهم في نزوع التخييل في تكوين مقادير من الدلالات والمضامين الشيقة، على النحو الذي يكسب المادة المرجعية هالات فيضية من قيمتي (المرجع - توالدات النص) ألى جانب مكائد المتخيل وأحابيله التي هي علامات الحدوث والوقائعي في مستوى مكين من الحبكة وطرائقها الاسلوبية في أستنطاق اللحظة والزمن والذوات كمكونات تجعل لمادة المرجعية، كحالة أكثر بلوغا وإتصالا في خيوط ونقاط عملية الاستقراء للموضوعة الروائية.

1 - صيغة الحكي عبر محاور المتخيل الزمني:

ان آليات الابعاد الزمنية في الاجزاء المتواردة زمنيا وسرديا، تواجهنا كصيغة حكي ممتدة وعابرة من خلال زمنية فاصلة وواصلة، اي من خلال منظومة تتابعية في دليل وحدات الأزمنة، كوحدة صورية تارة وأخرى أكثر احاطة بجل المتغيرات والتحولات إسهابا في تقاطعات السرد المروى..يقدم لنا الجزء الفاعل من فصل (عام الاسدين الهائجين/ 1500م) ذلك القسط الخاص من التحقق بملاحقة اللامحدود من الزمن (كانت أختي مريم قد كبرت في غفلة مني..وكان انفصلان طويلان قد جعلا منها غريبة عني..فلم يكن يظلنا السقف نفسه./ ص163 الرواية) يمكن القول هاهنا أن ماتم الإشارة إليه هو من اساليب (المخاتلة = التضليل) بالزمن كحالة تواصلية بالاحداث المتباعدة عن مساحة التبئير المفصل، ذلك لأن التحاور مع المصدر للحادثة عبر السياق كحقيقة لايمكنها توفير علاقة من قبل الكشف اليقيني في أوجه معادلات الزمن المتخيل، لذا فمن مستلازمات التخييل رسم الحدود اللاتعاقبية أو اللامحددة في بنيات خاصة من المتواليات للشيفرات الزمنية، لذا قدنلاحظ بأن علامة اللاتحديد لدى السارد المشارك هي المتمثلة ب (ليون ساردا سيرذاتيا) حيث تتركز في محور وحدة (في غفلة مني) وهذا الأمر بدوره ما صار يشكل ويؤشر على أن هناك (زمن في التناقص) أو هو الحكي في مجالات اللاتعاقب، انتقالا بالزمن والتلفظ الى مجال أسبابي، يظهر حسية الوقائع ضمن ترتيبية (الزمن يتوارى = في الاختلاف) أو هو شكلا في نواة الكمون أو اللاحدوث، بأعتبار أن هذا النوع من الزمن هو خارج دائرة المعاش بالنسبة الى السارد المشارك، اي بمعنى أنه ذلك الزمن الاستعادي المتاح في حدود التعالق أو بالأحرى في تجليات الوعي العضوي للمروى إليه ساردا. فهو بصيغة أو بأخرى، لم يتوفرعلى أدنى درجات الاحتساب تتابعيا في خطوط المسرود النابع من يقين السارد ذاته عبر زمنه الشهودي، اللهم إلا من جهة الخطاب كمرحلة زمنية كلية بالتفاصيل الخارجة والداخلة في شرنقة المؤشرات الوظائفية من قبل وحدة التأليف ومرسلات السارد.

2 - دليل الحاضر الزمني وإطار الفاعل الغالب:

أن عملية تقادم المراحل والعقود العمرية، بالنسبة الى حياة الشخصية المحورية - السارد المشارك، تتداخل بين رواية الزمن، بأعتبارها ذلك الفضاء الأخذ في التعدد والتنوع، وبين التشييد في إطار من التمظهر الشواهدي من ناحية كون البناء السرد حالا في حدود المبنى، لذا تواجهنا من عبر هذا الكل حقيقة وسمات من التركيز على مظاهر نمو وتطور الشخصية الغالبة - ليون - على أبرز مؤشرات التمكين الوقائعي، كدلالات معاودة في صيغ الحكي زمنا (كنت أركب في هذه المرحلة جوادا كما كان يركب.. وأما المرأتان فكانت لهما بغلتان./ ص1360الرواية) هكذا نعاين ثمة علاقة ما في حدود مواقع الزمن والتلفظ، إذ تظهر لنا الشخصية كهيئة متقدمة في صيغة ما من التعقيب الزمني بالنسبة للأرض الموقعي والادواري الجديد، وهذا الامر بدوره يأتي كشاهدا، على مسرى الاحداث الصاعدة من مرويات السرد تلفظا مرسلا. لعلنا من المفيد أن نتذكر في هذا اللون من المقام بأن خطاب ودلالات المسرود الناتجة عن بواعث مرجعية، هي من أشد الخطابات النوعية السردية في تثبت الصورة وملامحها السماتية والدورية، تعلقا بالملامح المنقولة في موارد الوثيقة التأريخانية، فمن جهة الحكاية الروائية بدت لها هذه السمات غاية في حرية اللعب بالسرد وصنع الادوار بطرائق أكثر فنية من الجهة المرجعية، كما وتشكل هذه الملامح تلك الأهمية في فواصل زمن (الحكواتي بطلا) وعندما نقول هنا بالحكواتي، فإنما نقصد الصورة المحسوسة في الصورة الحماسية التي تقع ضمن خصوصيتها وأدواتها وانماطها الأكثر تجديفا نحو تحولات النص من الملامح المرجعية إلى سمات وتحريات الحكي الروائي نوعاً وكما.وعلى هذا النحو فإننا عندما ننظر إلى الوحدات الإستباقية من سلوكيات مريم إزاء ليون، فإننا حتما سوف ندرك حجم زمن الخطاب في المنظور الحكائي للشخصية، وما يترتب عليها من ذلك الإتفاق الاختزالي والذي ينوه بدوره بالاقرار بأن الشخصية الاخت مريم سوف تتزوج أو انها مقبلة لحد الآن نحو مرحلة تمهيدية من الزواج اللامتوافق، وهذه الأمر ما يشكل بدوره حدوث مثل ذلك الحزن الكبير في نفس ليون، كما تظهره هذه الوحدات الديالوجية من هذا القبيل: (ولكن لماذا لاتكلمني قط! لماذا لاتأتي فتسألني إذا كنت ابكي في أثناء الليل! إن واجبي هو أن أخاف الرجال جميعا: اليوم أبي، وغدا زوجي، وجميع من ليسوا أقاربي./ ص156الرواية) .تتوالد القابلية الحوارية في حدود من الكشف والتبيين، حتى تتضح للشخصية ليون ما كان مستورا تحت جنح الغياب الزمني والمكاني، كي تتبين له أن شقيقته تستدعيه لامرا يخص مصيرها، وما يخص كونها أجبرت على زيجة تترتب عليها منافع كيدية مقيته. وتنفتح مستويات السرد على مكامن تعتمد ذلك النوع من الاستدعاء للتصرف من قبل الإرادة الرجولية الكامنة في ليون، مع الأخذ بعين الاعتبار أن سلطة الأب محمد الوزان كان لها السبق في وصول أشياء كثيرة إلى غير مواضعها السليمة اي في ما يخص العائلة، وهو اليوم يفاخر بزيجة ضحيتها فتاته مريم دون أي اعتبار لما يؤول إليه مصير هذه المسكينة بالزواج من ذلك الرجل ذي الصيت السيء.

 - عام ختم القران: الزروالي والمخابئ الرومانية.

1 - التشكل ومساحة التبئير تحولا:

قلنا سابقا أن الفضاء السردي عبر منظوره المخصوص - تعددا توظيفيا - هو بمثابة الحالة التأطيرية للمعالم النصية في تمفصلات الأجزاء الروائية الأكثر تعقيبا، كحال رواية (ليون الإفريقي) .ومع بداية كل ثنائية (متكلم/ مبئر = الشخصية السارد) توافينا عدة دورات حكرا بمنظور هذا السارد المشارك، لذا من الضروري الكشف عن الواصلات والفاصلات التي منها تبدأ حركية (الفاعل الذاتي - ليون) ومنها تنفصل توظيفا وليس - تحكما وتقييدا - لنتعرف من خلال فصل (عام ختم القرآن) على عدة مكونات مبئرة في التخريج والتوزيع وبث القابلية الادوارية إلى مجال ثمياتي متطورا في الافاق الشخوصية، مما يتيح لنا المجال التعرفي على سمات شخصية الزروالي: (كان عمر خطيب مريم أربعة أضعاف عمرها/ وكان ذا ثروة جمعت بشكل رديء/ معروفا في فاس بالزروالي، وكان كثيرون يحسدونه، لأنه هذا الراعي سابقآ ابتنى اضخم قصر في الحاضرة، / ص1690الرواية) فكما هو معتاد في شكل مبئرات الوحدات السردية في الرواية، تبدأ بصوتي (الرواي -  المرسل إليه راويا) ندرك مجال التعدد في شخصية الزروالي ومدى صيغة الهيمنة النفوذية في أوضاعه الشؤونية والمالية.ولكن لو دققنا قليلا في منحى المصادر والأسباب التي جعلت من هذا الرعوي بهذه المكانة، لوجدناه لصا محترفا في نيل اسنح الفرص والمأخذ الآثمة.عبر إطار آليات الحكي وعناصره (المتكلم -  المبأر - = السارد المشارك) تتسلط الاضواء على حقيقة ومغزى: (هناك آبار سرية كان الرومان قد خبأوا فيها كنوزهم قبل أن يغادروا إفريقيا، / ص170 الرواية) قد لا يعنينا من حوادث الحكاية إلا ما تقع عليه فواعل مبحثنا هذا وآلياته، اي حركتي (السرد = التبئير) من ثم إلى ما تقتضيه الأدوار الشخوصية من مسار الأحداث وافضيتها عوامل وعناصر التشكل دورا في تفعيل معالم (التبئير تحولا) وسنأخذ النقاط الحدودية التي يمكننا من خلالها التعرف على رؤية المنظور السردي في مجمل الأحداث المتعلقة بهذا الفرع المبحثي. تواجهنا في صدد هذا الفصل بادئ ذي بدء ثمة عملية من الإنتقال لأسرة محمد الوزان في جولة ما داخل البلاد. وقد سمحت للسارد المشارك عبر هذه الجولة، أن يزور تلك المنطقة التي لاحظ فيها ظواهر عجيبة ك (المغارة يخرج منها لهب عظيم!) أو ذلك المشهد الذي شد الكثير من الغرباء إلى النظر إليه: (مستنقع داكن اللون يحتوي على سائل لزج ذي رائحة نفاذة) ويقال عن حال لسان السارد، تلك المخابئ التي هي بوصفها آبارا رومانية قد عثر عليها هذا الراعي الزروالي في أحد الأيام.وكما نلاحظ في شواهد هذه الكنية من الأخبار حول الزروالي ولكن تقال عنه في أماكن أخرى العديد من التقولات حوله أيضا، كلها تصب في حدود عامة وخاصة وسرية، لكن ما صب في الحدود الخاصة، اي في الشأن الخاص للسارد المشارك، هو تعرف محمد الوزان على هذا الزروالي عن طريق (نازح أندلسي غني./ ص171) وعلى ما يبدو عليه الحال أن هذا النازح قد عرض على الوزان مشروعا تجاريا يخص مجال تربية دودة القز: (أهتم الزروالي جدا للأمر فقد طرح الف سؤال عن الخادرة والشرنقة واللعاب وخيوط الحرير، طالبا من أحد مستشاريه حفظ كل التفاصيل، وأبدى أنه سعيد بالتعاون مع رجل في مثل أهلية محمد الوزان./ ص171الرواية) في خصوصية مستوى آخر من التبئير السرد تحولا، نعاين بأن السارد تحول إلى ذلك (الناظم الخارجي) إذ بدا يبئر من منظور العلاقة الخارجية القائمة بين طرفي محمد الوزان والزروالي، وصولا الى تفاصيل قضيت بطريقة - صيغة المعروض غير المباشر - كحالات اتفاق الزروالي مع السلطان حول هذا المشروع، وقد لاقى سروراً وحبورا من السلطان نفسه، بقدر ما كان محمد الوزان مقدرا بالإرادة والوعي لمقدار وحجم هذا النجاح والتزكية من قبل السلطان. ولكن معالم معاملات القيام بهذا المشروع، لعلها كانت تتطلب في ذاتها جملة قرابين ما، خصوصا وإنها كانت من النوع الذي يتطلبه عنصرا بشريا، وليس أضاحي أو مجموعة دواب عجفاء.ننتقل في منزع الوحدات اللاحقة من نطاق أفعال التنصيص: (الناظم الخارجي = الفاعل المنفذ - المتكلم محورا وساردا) الذي راح يصف الاجواء التي كانت ترسم مشهدا اثيرا لاحوال الأب الوزان، وهو يحيا ويستنشق مبادرات تزويج ابنته مريم الى الزروالي، مقابلا سخيا، وردا منه على مكارم هذا الرجل الفاحش، وفضائله على العديد من الرجال في فاس واختياره له هو بذاته، فإمام هكذا صورة تتبدل الأحوال لدى آمال الوزان، حتى وإن اقتضى الامر غض الطرف عن شساعة الفوارق والحجب الزمنية والعمرية الحائلة بين مريم والزروالي نفسه، وقد تكون أكثرها ندره هو أن هذا الزروالي سارقا ومتقدما في الفجور إلى مدى مراحل حرجة من الكشف والافصاح عنها، ناهيك عن كونه من الرجال اللذين يتمتعون بسوء الصيت، كونه لصا محترفا في نشر مخادع الكنوز الرومانية على حد ما جاءت به الاخبار في الوحدات الروائية.

الحرب على الزروالي: الزمن حقيقية أم فتنة التصوير

ان الزمن في ضروب بعض المتغيرات، لا يعد زمنا فيزيائيا، كما تخبرنا ملابسات العلوم التجريبية، بل أنه يتحول إلى ذلك التجرد في معادلات التسمية وإعادة فحص الأشياء بمنظور التواجد في كيفيات القول المستحدث تأويلا. لذا واجهتنا مجموعة من أوجه المتواليات السردية ما راحت تشكل بدورها ذلك المعنى التراسلي في مداليل حجاجية الطابع والتطلع في الآن نفسه، ولو تعاملنا مع منطلقي (المبنى - المتن) من ناحية التنافر والتوظيف، لوجدنا أن الأحداث سارية في الزمن الخطابي ضمن مؤشرات تعتمد في. اغلبها جملة موجهات في مجال الاستدلالات الكامنة من جهة منطقة المؤلف ونوازع مشروعيته في التعامل المتوازن بين (الوثيقة - - المعالجة السردية) شكلا تنافذيا تحكم مستحدثاته حيوية (الحقيقة - المفترض) اي بمعنى ما بدت الأشياء في مجال وقوعها تتم ضمن حدود معالم مشخصة ومفترضة ايضا، ذلك رغم أن وجودها في المواضع الأحوالية وجودا ذا مرجعية وخصوصية ما، ولكن منطقة التخييل تضفي على الحقائق ثمة معالجات تفكيكية من النوع الذي يجعل الحقيقة، وكأنها خليقة بهذا الطور وليس في رحلتها المرجعية.من هنا لعلنا لو نظرنا في مكنون الوحدات المشهدية في الاجزاء الروائية، لما خفي علينا وجود ذلك الزمن من الوقوع عن عدم وجوده، كما الحال هاهنا في هذه المحاور: (تعيش نساء هذا الزروالي قابعات في جناح الحريم الخاص بهن، وسواء كن صبايا أو عجائز، حرائر أو إماء، بيضاوات أو سودوات، فإنهن لسن أقل من مئة امرأة يديرن المكائد على الدوام للحظوة بليلة مع السيد./ ص174االرواية) هذا النوع من التمفصل في تجليات السرد الناتج عن تقانتي (المتكلم - المبأر) هو ليس من الحقيقة الواقعة في الحادثة والحديث المرجعي، اللهم إلاّ من ناحية معادلة واحدة يعود مقامها في الآداب والمقامات الشفاهية إلى ما يسمى (فتنة التصوير?!) .من جهتنا التحليلية فحسب، قد نفترض في المسميات ما هي أكثر تعويلا من ناحية التأويل، وليس من ناحية الاصحاح المفاهيمي، ذلك لأن المفهوم هو وليد ظروف مصطلحية وحجاجية نسبية، أنا شخصيا لا اعول عليها في الكثير من مداولاتي في الاستخدام لها، خصوصا وإن هناك حالات مفهومية لا تتناسب وحدود ناصية الإجراء المقاربة للنصوص، كحال المناهج الاكاديمية فالغالب الاعم منها لا تقدم للنصوص المدروسة، سوى حالات فوضوية من توظيف المصطلحات التي هي بالمحصلة المبحثية بعيدة عن مجالات النص ودلالاته.أردت أن أقول ان الفاعل السارد، هو ذاته ما يشكل بذاته حصيلة (الناظم: الخارجي - الداخلي / الحقيقة - المفترض) وإذا شئنا فيمكننا تسميته ب (الراوي المفصلي) فهذا السارد يمكنه في بعض الأوضاع، أستخدام - (تحولا دراميا) من وجهة كونه يشكل دلالات المنحى التبئيري، على أسس من خواصية (رؤية المتكلم - زاوية المنظور إليه) حيث إذا كان رافضا للأمر كموقفه من الزروالي، يجعل من حادثته مقرونه ب (فتنة التصوير?!) وإذا كان منه العكس، فيمكنه الإحاطة به في غواية التجميل المجمل: (ألاترين من العار أن تقدم صبية في الثالثة عشرة هدية لتاجر عجوز لقاء عقد صفقة?!./ ص1740الرواية)

1 - هارون المنقب: تبئير الحادثة المفبركة

لقد أتخذ أمين معلوف من دلالات شخصية هارون المنقب بمثابة المسند في إدخال الإكتفاء ببواعث ردود الأفعال التصحيحية، وأطالة الفحص بصيانة الأسباب - عدولا - نحو صحيح الحضور من المواقف التي يمر بها ليون ساردا مشاركا: فهل كان هارونا كعلاقة عابرة في مغايرات السياق المرجعي?! أم أنه نقطة الاستحداث الربطي في حدود معادلات النص المتخيل وحساباته?! . لا يمكننا في الواقع توفير الإجابة الآنية عن مثل هكذا تساؤلات، خصوصا وإن البنيات الروائية لاتكشف عن مدى مهام أفرادها إلاّ في مواقع ضرورية في التوظيف ومساحة التخصيص، ذلك لأن أغلب شخوص الرواية مجملا، ليسوا من ضمن مؤشرات الواقعة المرجعية بالمعنى الذي قد نتوخاه في الدقة والتمحيص، فبعد مراجعاتنا للوثائق القديمة للواقائع، لاحظنا أن هناك العديد من الخيوط والمحاور الشخوصية، هي من عدم البروز والظاهرة، ولكن على ما يبدو أن مجال اللعبة التخييلية لمخطوطة الرواية جعلت من ظهور الشخوص والمواقع والخيوط التبئيرية، أكثر تجديفا في أواصر العلاقات وسماتها الدرامية، وحتى ولو توفروا فيها توثيقا ميثولوجيا، فليسوا على هذه الدرجات والمقادير من اللهفة التكوينية في تشكلات الأدوار والعوامل الفاعلة من السرد الروائي وعضويته التي يقتضيها الدليل المركزي في محاور الصناعة الروائية. وتأكيدا لهذا ودحضا لذلك، أقول أن طبيعة الرواية التأريخية ذات الطابع والسياق المنتهي، كقناعة وثائقية، لاتحمل بالضرورة كل ما يشكل وسيلة جمالية في الفعل والصفة والموصوف، ذلك لأن الحقيقة المرجعية للتواريخ، تقدم دلائل متحققة بفعل التأرخة والتدوين، وليس إلى تأمل الانفعالات والإحاسيس الباحثة عن تنوع مؤهلات العناصر والعوامل الإنشائية في بنيات ومتون الأشكال التخييلية، بالاضافة إلى مستوى فوارق المداليل وجماليات الانواع المصاغة في عين شواهد الأشياء والحالات بروح الوسائل والبدائل الفنية والقيمة. إذن فهارون المنقب شخصية وسائلية لها دليلها الثانوي في أهليات الصنيع الروائي، وما حال وجوده في النسيج الاحداثي، إلا كحلقة وصل بين الفاعل المحور ومفعوله المتحقق في خيوط الوسائل الشخوصية الثانية في الدرجة والقيمة والمحمول الدوالي الاجزائي.

 - تعليق القراءة والمراجعة:

ما من شأن يتعدى البنيات الكبرى، إلا وله الموثوقية العضوية في إطلاقية البنيات الصغرى في النسيج الروائي، اي بمعنى أن مباحثنا في دراسة الرواية، قد تنطلق من البنيات الصغرى أولا، ثم بالتالي لها الموافقة الخاصة في تناول البنيات الكبرى للرواية، كحصيلة ناتجة من تناولنا الاجزاء الصغرى ومحال مواطنها التواصلية في الأوليات والوسائط المعنية من الجسد الروائي كوحدة كلية. ويمكننا اعتبار ثنائية (السياق - النص الروائي) بمثابة علاقة التخريج والتحاور والتنافس بين الذاكرة الذاتية للمرجع النصي (النواة الجنيني) ومهام أشكال وفواعل قصديات التأليف المنطلقة من النمط المرجعي إلى تجليات الروح الإنشائية للمحاور والمرتكزات الأكثر إنجذابا وتوقا لتخصيصات المعالجة وإعادة بناء حكاية المنطقة التأريخية في بواعث فنية مشذبة من شوائب التأرخة والتدوين، خلوصا نحو ماهيات شكلية وثنائية من جماليات اللغة وصناعة العوالم الجوهرية من الخلفيات الأكثر عمقا وغورا ودليلا... وزيادة على هذا، نقول أن المبدع الكبير أمين معلوف منحنا في فيوضات روايته موضع بحثنا، تلك المعادلات في التعدد والتنوع الأكثر دينامية وعناصر الصنعة الروائية المتدفقة بمزايا ومخصوصيات حيادية الرؤية المتعالقة بين قصدية التاليف الروائي وممكنات المتخيل في أشد أوجه صعوده وعبوره من الخلفية المرجعية وصولا إلى عمليات الخلق الفني المنتخب بالامتداد السردي والحكائي المتشعب روائيا.

***

حيدر عبد الرضا – ناقد عراقي

 

الحدث السردي يتناول بكل دقة وتفهم موضوعي تفاصيل، القضايا السياسية الحساسة والمهمة، في تاريخ السياسي العراقي العاصف باحداثه الدراماتيكية، بالضبط في فترة سقوط الملكية، وفي العهد الجمهوري، الذي تميز بالتخبط السياسي والفوضى والتناحر السياسي والحزبي، نتيجة غياب الرؤية السياسية الواضحة، والذي انتهى الى العنف السياسي الدموي، في انقلاب شباط عام 1963. الذي وضع العراق في حافة الخطر الجسيم، بأن أصبحت لغة السلاح تعلو على كل شيء في مصير العراق. هذا التوثيق التاريخي / السياسي، تناوله الحدث الروائي، وبكل تأكيد يحمل سمات المعايشة والتجربة، والتفاعل في الأحداث العاصفة كشاهد عيان، تلوع من نيران تلك التجربة العاصفة، في الزمن الجمهوري وسقوطه والأحداث اللاحقة بعد ذلك، مما يؤكد هذه الفوضى والتخبط ذات اليمين وذات الشمال، وعندما يأخذ شكل التعامل في الصراع السياسي  ، وينتقل الى العنف الدموي، وكسر العظم الخصم والمنافس والخصم، مما ولد من رحمه انقلاب دموي شرس لا يرحم، ليدخل العراق في عين العاصفة الهوجاء، في نهج التنكيل والبطش والإرهاب. منذ اليوم الأول للانقلاب ظهرت فرق الموت في الشوارع والطرقات، التي امتلأت بنقاط التفتيش، ووقوف السيارات في طوابير الانتظار الطويل، بحثاً عن خصومهم السياسيين، وفتحت السجون والمعتقلات وكثرة حفلات الإعدامات، وجريان الدماء حتى في الشوارع ، وأصبحت البيوت غير آمنة من زوار الفجر، ووضع البلاد في عدسة كبيرة من الأمن والمراقبة والتصيد والرصد، هذا جانب من السرد الروائي، ومن الجانب الآخر يتناول معضلة اليسار العراقي وأخطاؤه القاتلة والفداحة ، الذي تميزت بالتخبط وانعدام الرؤية السياسية الناضجة، والتخاذل في المجابهة وعدم تحصين الأعضاء والأنصار من المخاطر الجسيمة في الحياة والواقع اليومي، باختصار العبارة ، تركهم غنائم سهلة للذئاب الوحشية المتعطشة للدماء. هذا التناول الروائي في الجانبين ، وتسليط الضوء الكاشف على تلك المرحلة الحالكة من تاريخ العراق السياسي الدموي، التي انتهجت العنف المفرط ووحشي ، عبر تتبع أو تناول السيرة الحياتية للشخصية الروائية، السياسي المخضرم (محمد الخلف) الذي عانى معاناة قاسية وشديدة الخطورة، بسبب اعتناقه الفكر السياسي اليساري ومنتمياً حزبياً، فقد فصل من الوظيفة وزج في السجن، وعانى من المطاردة والتشريد، وينتقل من مكان الى آخر، ويتجول بزي قروي للتمويه من العيون الامنية، وحكم عليه غيابياً بخمس سنوات، فقد أدين بالافتراء والمكيدة، واصبحت حياته عبارة عن مطاردة مستمرة، ولا يستقر في مكان واحد، يتجول بين القرى والأرياف بهوية مزورة باسم (محمد العطراني) وترك عائلته وأولاده في شظف الحياة القاسية والفقر الشديد، ودفع الثمن الباهظ بسبب اعتناقه الفكر السياسي اليساري، أعدم ابنه (خالد) وتشرد ابنه الآخر (ضياء) في الغربة، وكذلك قتل شقيقه (خيون) بدم بارد، فقد نخرت جسمه رصاصات الموت، بسبب اشتراكه في انتفاضة الاهوار المسلحة، التي قادها الثائر (خالد أحمد زكي) والتي اجهضت بالدم، ان حياة (محمد الخلف) تؤكد عليه دوماً في النهار والليل، بأن البرابرة على الأبواب، لذلك يتحصن بالحيطة والحذر في تنقلاته، التشرد في النهار وتداهمه كوابيس مرعبة في الليل، وهو يدفع ضريبة الوطن في التحرر من القبضة الحديدية من السلطة الطاغية، التي جاءت في انقلاب دموي عام 1963، عندها اصبح الوطن يقبع في دهاليز السجن الكبير، تديره الذئاب البشرية المتعطشة لسفك الدماء، واصبحت لعلعة الرصاص في النهار والليل من الظواهر العادية جداً في الحياة اليومية ، ويفهم (محمد الخلف) انه بالمرصاد والمراقبة، ولهذا لايستقر في مكان واحد، بل يتنقل بين المدن والقرى، التي تطوقها فرق الموت، وبهذا يتحرك بحذر شديد وبهوية مزورة (احذر أن تصدر عنك اية كلمة تكشف هويتك، أنت بلا هوية تعريف، أياك الكلام، في الصمت النجاة، انه لغة التفاهم ومملكة الانسان السرية في هذا البلد يقتل الصمت، ينتزعونه منك بالتعذيب، تقلع العيون والاظفار أو بالاغتصاب) رغم ثقل المحنة التي لا تطاق، ورغم معاناة التشرد القاسية، فأنه مصر على مواصلة الطريق بثبات وتحدي ، ويحدوه الامل بالخروج العراق من هذا النفق المظلم، لم يستسلم للعنف الدموي، ويظل متمسك باصرار عنيد، يبحث عن الخلاص، يبحث عن الحياة المخطوفة، ويحاول ان يبعد هواجس الخوف واليأس والقلق، انه الباحث عن الحياة دون ظلم وطغيان، كالكلكامش الباحث عن عشبة الحياة، ويواسي نفسه المفجوعة، باغاني اليسار (نحن نحب الحياة، لكننا نعتبر السجن (سعادة) والموت شهادة) ص11، وفي ليالي التشرد والمطاردة، يتذكر زوجته (زهرة) بحنان وشوق متلهف ، حيث ارتبط معها بحب صادق تكلل بالزوج، وكان يمني نفسه آنذاك، بايام جميلة وحياة حلوة في بيت فسيح الارجاء، تحيط به حديقة، مفتوحة للشمس والعصافير تتسع لابنائه، ويرفل في مسار الحياة الزوجية المستقرة، لكن تعصف الرياح بما لا تشتهي السفن، ويتذكر حينما يناله التعب والارهاق، يجد زوجته بجانبه تشد أزره وتقوي عزيمته، وتخفف من وطئة معاناته، وتطلب منه ان يتجلد بالصبر والقوة والعزيمة، وهي تذكره بعنفوان شبابه أنذاك ، يواجه نفسه وجهاً لوجه  (- الخطايا تتطلب أثمانها يا زهرة، أنتِ لا ترين مجد (النضال) ! نساء (المناضلين) يرين اللعنة يعيشنها، يتركن لرجالهن أن يتحدثوا عن (أمجادهم) وحدهم !، لابد من كبش للمحرقة) ص 48. ويحاور زوجته بصمت و بشفقة (- في سنوات تلت كان لنا حب في كل خفقة قلب، عبرناها مثل لمح البصر، كنتِ طوال العمر تتحدين القسوة وشظف العيش، صبرتِ على صعاب الأيام، في انفاسكِ عتب دائم لا تعلنين عنه) ص 46. وقد اصبحت حياته مثل حياة العراق كالشاة التي يطاردها ذئب متوحش متعطش للدماء (العمر يمر يا محمد، خسرت حلماً جميلاً يا وطني) ص89. ويتحسر بأنفاس القهر ويحاور نفسه، اين المسار؟ ومتى تزول غشاوة الظلام عن وجه العراق ؟ ويمني روحه، لابد ان تشرق الشمس ويصمت رصاص الطغاة، ويسقط عرش الطغاة ، ويبتسم وجه العراق من جديد ، ولكن الأحداث تثبت العكس، لم يتهنى الشعب باسترداد انفاسه الثقيلة، حتى صعق في صبيحة تموز الساخن عام 1968، يقطع البث الإذاعي تلاوة القرآن الصباحي، ويعزف اناشيد عسكرية يعلوها نشيد (الله أكبر) ويعود من جديد صوت (الله اكبر) و لاحت رؤوس الحرابي، ليعودون من جديد، ولكن بقناع مخادع، حتى ثبتت اقدامهم في اركان الحكم، حتى كشفوا عن وجههم الحقيقي كما كانوا في انقلاب شباط عام 1963، ويتاجرون بالشعارات البراقة بالحرية والاشتراكية كذباً ونفاقاً (هل تخلت عنا السماء، الى اين يذهبون بالبلاد ؟ يرفعون شعارات الحرية والاشتراكية على صعيد الخطاب، لكنهم في الممارسة يتعاملون مع المختلف بلغة القتل والعنف والإقصاء ضد حق الاختلاف وحرية الرأي) ص97. في النهج الإرهابي والاسلوب الدموي لكل من يقف أمامهم، ويبقى العراق بدون امل وحلم، سوى أنه يبقى، الوريث الشرعي الاحزان وتوابيت الموتى في السلم والحرب، لا فرق بينهما طالما الجلاد هو من يملك الحرث والنسل.

***

جمعة عبد الله

 

لا شك أن مفهوم البلاغة، شأنه شأن عدة مفاهيم، قد تشبّك وتدرج صوب اكتمال دلالته عبر عدة محطات. فعلى وفرة التعاريف وتنوع مشاربها، بين من ربطها بوظيفة الإفصاح والبيان، ومن حصرها في الأسلوب، ومن ركز فيها على المقاصد العقائدية والجدلية متأثرا بالخطابة اليونانية، إلا أنها والحال تلك قد افتقرت إلى تعريف يستعرض تمام خصائصها ويتصدى لمجمل غاياتها. غير أن ما يستدعي الاهتمام هنا هو مبعث هذا التباين المتمثل في تنوع البيئات -فلسفية ولغوية وكلامية- التي نشأت فيها البلاغة العربية وتبلورت، وما وفرته من غنى وزخم على مستوى الروافد الفكرية والأدبية.

وعليه، فإن مقصد تتبع أطوار التفكير البلاغي عند العرب، والوقوف على أهم محطات تطوره، يستدعي تنقيبا في القضايا الكبرى التي شغلت المجتمع العربي طيلة ستة قرون الأولى، ومحاولة رصد العوامل الثقافية والحضارية التي حكمته، لذلك يأتي كتاب "التفكير البلاغي عند العرب" للأستاذ حمادي صمود، محاولة يُشهد لها تمكنا وتفصيلا في هذا السياق، وهو المورد الذي سنعتمده أساسا ومنطلقا لهذه الورقة. فما هي المحطات الكبرى لتاريخ الفكر البلاغي العربي خلال قرونه الستة الأولى؟ كيف يطارح صمود مميزات كل مرحلة؟ إلى أي حد تبلورت الأفكار، استغلقت وانفتحت، نمت وتشذبت، لتخصب وتزهر فكرا بلاغيا مكتملا؟

يعد الجاحظ نقطة فارقة، بصمت واقع التأريخ للبلاغة العربية، فمؤلفاته حول ضوابط الكلام البليغ هي أقدم ما وجد، لهذا قُسّمت أطوار البلاغة إلى: طور ما قبل الجاحظ، وطور الجاحظ، ثم طور ما بعد الجاحظ. ما يؤاخذ على الطور الأول هو أن الاشتغال البلاغي فيه  ظل -على أهميته - جزئيا ومتناثرا غير مطّرد، أقرب منه إلى مادة خام، تبوأ الشعر في مستهله مركز الاهتمام، فكان على حد قول ابن خلدون "ديوان علوم العرب وأخبارهم"1، وكان الشعراءُ كما قال الخليل "أمراء الكلام"2، التفتوا إلى تجويد القصائد وتحسينها والمفاضلة فيما بينهم انطلاقا منها، ناهيك عن إسهام كل من اللغويين والنحاة في الاتجاهين معا النقدي واللغوي. ولعل هذه -إن شئنا- أولى بوادر النظر في خصائص الشعر اللغوية، والوعي بضرورة انطلاق الأحكام من داخله.

غير أن مركزية الشعر سرعان ما ستتراجع ليحتلها حدث مجيء القرآن، متحديا فصاحة البيئة العربية، ليصير محور المجهود الفكري والعقائدي، موجها التفكير إلى قضايا اللغة وأحوالها، باعثا على الجدل والنقاش بين الفرق الكلامية، ومجتمع المسلمين كافة. إذ يقول المعتزلة بمبدأ الصِّرفة، وبفكرة الإعجاز في القرآن، ويخوضون دروب التأويل اتجاه الآيات التي يخالف الظاهر فيها الباطن، وتتجذر وتتفرع المحاولات في اتجاه إغناء الجهود وتعميق البحوث واتخاذ المجاز والتأويل منهجا تنضبط له إشكالات القرآن.

فارتباط البلاغة بغاية فهم النص القرآني، جعل منها كما يقول العسكري:" أحق العلوم بالتعلم، وأولاها بالتحفظ -بعد المعرفة بالله جل ثناؤه-"3. هذا الاهتمام بالبلاغة، سواء من خلال النص القرآني أو الشعري، أسفر عن الحاجة إلى تقعيد اللغة وضبط خصائصها البنيوية والفنية. فتطابق نواميس اللغة ومقولاتها مع مقولات المنطق، يصب قطعا في صالح القضايا العقدية. أضف إلى ذلك حدث انفتاح الثقافة العربية على الفلسفة اليونانية. وما خلفه ذلك من تأثير مباشر على مبحث البلاغة، سواء على صعيد النظر في غاياتها ووظائفها، أو على صعيد حركة التأليف، فبعد نشاط حركة الترجمة، واتصال العرب بكتب أرسطو، خاصة كتابي: "الشعر" و"الخطابة" خلال منتصف القرن الثاني، ظهرت مجموع محاولات لربط التفكير اليوناني بالتفكير العربي في فنون القول وخصائص الشعر، سواء من طرف اللغويين أو الفلاسفة في اتجاه شرح نصوص أرسطو أو تلخيصها كمحاولات ابن رشد والفارابي وابن سينا وغيرهم، إنما على خلاف الخطابة لدى اليونان، اتجهت البلاغة العربية صوب دراسة خصائص الكلام عوض الإقناع.

ثم يُفتتح الطور الثاني مع الجاحظ، كأول من أرسى القواعد البلاغية الأساسية، على حد قول المهتمين بمجال البلاغة والنقد العربيين، ويأتي في هذا الباب كتابه "البيان والتبيين"، المؤلف الأدبي الأهم في مجال التفكير البلاغي. يقول الحسن بن رشيق: "وقد استفرغ أبو عثمان الجاحظ –وهو علامة وقته- الجهدَ وصنع كتاباً لا يُبلغ جودة وفضلاً"4.  تقصّى فيه تصاريف اللغة وضروبها. ومن بين المسائل التي استأثرت باهتمامه، هي دراسته الصمت والنطق، فيشيد ببصيرة نافذة بمحاسن النطق وأضرار الصمت، ويقيس في ذلك الأمور بمعيار براعته قائلا: "والرواة لم ترو سكوت الصامتين كما روت كلام الناطقين"5، أو قوله: "الرسالة السماوية جاءت كلاما ولم تأت صمتا"6. وغيرها كثير. لقد تمكن بذكاء وحس فلسفي من وصل حياة اللغة بحياة الفكر، وضخ الحياة في المعاني بإخراجها للوجود، غير مدخر القول للتحذير من الإسهاب المتكلف كإشارته: "ليس الصمت كله أفضل من الكلام كله، ولا الكلام كله أفضل من السكوت كله"7. لقد أولى الجاحظ في تأليفه البلاغي-عظيم الاهتمام لظاهرة الكلام من حيث هي الوجود العملي للغة، ولا مرية في ذلك "فالبلاغة، أية بلاغة، لا تعدو أن تكون "كلاما على الكلام" عنه تصدر وإليه ترجع"8 كما عبر عن ذلك حمادي صمود. غير أن الجاحظ تناول الخطاب اللغوي من زاوية كونه عملية تواصلية، قناتها المشافهة وأقطابها: المتكلم، والسامع والكلام. لهذا، فبالإضافة إلى اشتراطه مجموعة شروط في المتكلم بوصفه طرفا هاما في العملية اللغوية كرباطة الجأش وحسن الطلعة وما إليه، اهتم أيضا بوظائف اللغة وجعل على رأسها وظيفة البيان والتبيين أو الفهم والإفهام. مشيِّدا بذلك مجمل مادته البلاغية على قاعدة متينة هي وصل المقال بالمقام، وضرورة ملاءمته لمقتضى الحال. فالبلاغة هي ضبط ميزان القول مع غايته، أي الاهتمام بظاهرة الملفوظ التي تمثل بنية النص وخصائصه، وظاهرة التلفظ بوصفه فعلا يرتبط بمتكلم معلوم ضمن زمان ومكان معينين.

استأثر الجاحظ بحقبة التأسيس، التي انتهت تقريبا في النصف الثاني من القرن الثالث، متمخضة عن إرث كبير، ومادة بلاغية هامة. أي نعم، افتقرت إلى الحس المنهجي بالشكل الذي تتواضع عليه العلوم اليوم، إذ جاءت متفرقة، متناثرة، غير مخصصة في مؤلف بعينه، إنما لكل مرحلة خصوصيتها ولا يحق بأي حال محاكمتها بمنطق مراحل أخرى.

أما الطور الثالث فيؤرخ له ابتداء من أواخر القرن الثالث وبداية القرن الرابع، ولأن التأليف كان محدودا في الفترة السابقة فقد صار علامة فارقة بهذه المرحلة. فابن قتيبة على سبيل المثال من العلماء الذين عرفوا بموسوعيتهم ووفرة مؤلفاتهم، ألف كتاب "تأويل مشكل القرآن"، الذي اشتمل على تحليل متسق ورؤية واضحة ومادة بلاغية غزيرة.  ومؤلف "الشعر والشعراء"، وهو من معالم النقد الأدبي رغم محدودية المادة البلاغية فيه، وليس هذا إلا إشارة على أن التفكير البلاغي لم يشتد عوده بعد،  سار الكتاب على نحو ما سبق مع الجاحظ فتناول فكرة ثنائية اللفظ والمعنى. فابن قتيبة وإن استفاد من مجهودات اللغويين والأدباء قبله، فان البلاغة لم تتطور على يديه، إذ لم يشذ في طرحه عن الطروح السابقة لأبي عبيدة والفراء والجاحظ، إنما تحسب له إثارته بعض القضايا كدفاعه عن المجاز واعتباره مسلكا في التعبير.  أما المبرد، فهو أول من أدرج لفظ البلاغة في عنوان رسالة من رسائله، ولو أنها لا تتناول علم البلاغة درسا وتبويبا، وإنما هي مجموع آراء في جودة الشعر والنثر في موضع مقارنة بينهما، ولقد اهتم بشكل كبير بأسلوب التشبيه وأفرد له بابا خاصا، لاقتناعه بأنه الممارسة الأكثر انتشارا عند العرب.  وقد مهدت مؤلفات كل من ابن قتيبة والمبرد وآخرون لنقطة تحول في مسار الدراسات البلاغية والنظرية الأدبية عند العرب، من خلال كتاب "البديع" لابن معتز، والذي يعد أول مؤلَّف اقتُصِر فيه على استعراض نماذج من الأساليب البلاغية، والمحسنات اللفظية، فجاءت غايته واضحة وهي محاولة إرساء البلاغة على أسس عربية صريحة، لذلك صُنِّف إلى جانب "البيان والتبيين" نواة لعلم البلاغة العربية.  ورغم أن كل القضايا التي عالجها الكتاب تطرق إليها سابقوه، غير أن هذا لا يرفع عنه قيمته المتمثلة في الرؤية الواضحة في التأليف، وغايته البلاغية الصرفة، فقد جاء مختصرا، مشذبا، خاليا من كل حشو واستطراد.

يتسارع سبق التأليف ويتشابه، عبر توالي المؤلّفات إلى أن يأتي الجرجاني في القرن الخامس بمؤلفيه "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" فيبث في البحث البلاغي نفسا جديدا، وروحا متفردة. فبعدما تشبع بما أبدعه السابقون عنه، أعاد فيه النظر بحس عقلي وذوق أدبي رفيع  فقال بفكرة "معنى المعنى." ولأن النزعة العقلية هي ما يميز مؤلفات الجرجاني،فإن العلاقة بين المعنيين تتطلب النظر الدقيق، فانفصل بذلك عن السابقين، ووصل المجاز بمعنى اللفظ لا باللفظ ذاته. فالألفاظ حسب الجرجاني لها وجود مستقل عن المعاني، مدللاً على ذلك بإشارته إلى التعالق الحاصل بين النص وتأويله، فاللّفظ واحد في حين أن التأويل متعدد. فإن كان اهتمام الجاحظ قد توجه أساسا إلى علاقة المتكلم بالسامع، ومطمح تحقيق الفهم والإفهام، فإن الأمر الملح مع الجرجاني صار حول الرسالة ذاتها وعلاقة الشكل بمضمونه.

وكما لا يخفى، فالجرجاني هو صاحب نظرية النظم، أي نعم جذورها عميقة في التراث العربي، إنما إليه  يعود أمر بنائها بمتانة على أسس لغوية متطورة، تتقصد وصف عملية الكلام البليغ  ودواعي بلاغته، ميز فيها بإحكام ودقة وبعد بصيرة بين اللغة والكلام، تمييزا يقارب ما وصل إليه علم اللسانيات الحديث.  منطلقا في هذا التمييز من فكرة مرجعية المفاضلة بين كلام وآخر ضمن نفس اللغة، فيقول الجرجاني: "ليس الغرض من نظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل"9. إذ أن غاية الكلام لديه تتجاوز ما ضمته اللغة من معاني ثم قوله: "واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعا من الذهب والفضة فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة"10. يشي هذا بتبصر عميق وفهم للتحول الحاصل في الظاهرة اللغوية، فبعدما كانت قيمة النص تتحدد في مقدار تفنن الكاتب في تضمينه صور المجاز وضروب البديع، وكانت نجاعة النص ترتبط بمدى تأثيره المباشر في المتلقي لوضوح اللفظ وجلائه، صار العقل هو وسيلة إدراك المعاني وتدبرها وتصويب الفهم.

رغم تعدد الروافد الفاعلة في بلورة التفكير البلاغي العربي على مر ستة قرون، سواء تأثيرا مباشرا أو غير مباشر، داخليا مرتبطا بالمجتمع العربي الإسلامي وبيئته الثقافية والفكرية والعقائدية والسياسية والأدبية، أو خارجيا من خلال تلاقح الثقافات عبر الترجمة والحركة الفكرية، إلا أن التفكير في جمالية اللغة وأغراضها الفنية الصرفة لم يحظ بحظ وافر في الأطوار الأولى حيث احتكمت اللغة إلى الوازع الديني، وصارت وسيلة إلى فهمه، فأنتجت هذه المرحلة مادة بلاغية متهافتة ومتفاوتة الأهمية. ليأتي الجاحظ بعدها بعمق في الرؤية ومقدرة تجريدية مستبقة، ويضع أهم القواعد التي سيقوم عليها التفكير البلاغي لاحقا، وهي وظيفة البيان والتبيين.  لينضج الوعي رويدا بعدها عبر محاولات عديدة لبلاغيين ولغوين ونحاة تمخضت عن نظرية النظم للجرجاني كبصمة بارزة وراسخة  في التراث البلاغي العربي.  هذا حال البلاغة وقد دارت في فلك الشعر والقرآن، فأي حال كان سيكون لها لولاهما؟

***

حنان أوراق - المغرب

...................

[1]  حمادي صمود، التفكير البلاغي عند العرب، أسسه وتطوره إلى القرن السادس، المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، السلسلة السادسة، المجلد 21، 1981، ص24.

2 نفسه، ص31.

3 نفسه، ص44.

4 نفسه، 153.

5 نفسه، 180.

6 نفسه، 180.

7 نفسه، 182.

8 نفسه، 251.

9 نفسه، 507.

10 نفسه، 504.

 

عندما يهدم الصائل جدران الوطن ليشيد بها وطنا له،  فلا بدّ أن يقف الوعي له بالمرصاد، يجوب أرض الوطن بحثا عن حلّ لغز هذا الصائل الهدام الذي حلّ ضيفا على أرض الأهل البسطاء.

عماد هو الوعي المرجو الذي سعى محمد سرسك إلى استعادته من الماضي وإسقاطه على الحاضر لأن هذا الحاضر يجرنا نحو المستقبل. وسرسك أراده حاضرا مدركا لما حصل ولا زال يحصل فكأنه أراد أن يجنب المستقبل ويحصنه من هذا الصائل عن طريق تقويم الأوضاع الراهنة اعتمادا على نقد تجارب الماضي. وقد بدا واضحا منذ الصفحات الأولى للصائل القلق والرغبة عند محمد سرسك في توجيه جديد لمسار التاريخ ربما رغبة منه في نقضه وإعادة نسج خيوطه من جديد ليتحاشى المصيبة التي وقعت بضياع فلسطين كما ذكرنا.

الصائل عمل سردي لحقبة من تاريخ فلسطين تمتد من نهاية القرن التاسع عشر أي نهايات الحكم العثماني وحتى بداية العقد الثالث من القرن العشرين اي بدايات الانتداب البريطاني بطريقة تداخلت فيها شخصيات حقيقية وأخرى متخيلة سعى الكاتب من خلالها أن يكون أمينا في توثيق الأحداث التاريخية ولأن سرسك التزم بالأمانة العلمية والدقة في استخدام التاريخ فقد غلب على روايته أسلوب التقرير.

 وقد أسس عالمه محللا ومؤولا لعلاقات اجتماعية وإنسانية بحواراته الداخلية والخارجية بهدف استنطاق التاريخي وفضاءاته نابعا من رؤيته التي نقلت التاريخ إلى وجود متحرك فقدم وصفا دقيقا للحياة الفلسطينية في هذه الحقبة بكل ما تعتريها من هزات نفسية ومحن إنسانية من حيث شظف العيش وهم تأمين لقمة العيش. وحيث أن سرد أحداثا معينة ووقائع من التاريخ يعد نوعا من التوثيق لزمن ما فالصائل تعد رواية توثيقية.

ولأن كتابة التاريخ روائيا تشترط ثقافة واسعة بالاحداث التاريخية وتحكم في آليات تفاعل النصوص، اي أن المطلوب في المؤدى جانب موسوعي وجانب إبداعي ليولد نوعا جميلا بشكله ذكيا في تمرده كانت رواية الصائل بحلتها التي بين أيدينا تاريخية بين التوثيق والخيال.

***

بديعة النعيمي

 

الرجل الأبيض المكتئب وتعاسته الذكورية

إذا كان هناك شيء ما، لم يتغير طوال العقود الثلاثة الماضية في عالمنا الذي يتطور بسرعة مذهلة فهو روايات ميشيل ويلبيك، الذي يعد اليوم أحد أشهر الروائيين الفرنسيين المعاصرين، إن لم يكن أشهرهم جميعاً. ويكاد القارئ الذي يتابع أعماله يعرف سلفاً ما يتوقع منه. سيظهر بطل مكتئب في منتصف العمر احتفظ بمثله العليا، رغم تدهورها نتيجة صيرورة الحياة، مدركا تماما لمشكلاته الشخصية وأزمة الحضارة الغربية. سينظر إلى العصور القديمة الفرنسية بإعجاب حزين عندما كانت الحياة أكثر طبيعية وملاءمة للإنسان، من العيش الآن وسط الأبراج الزجاجية في باريس. تأملات البطل ستقوده إما إلى الاستسلام، أو إلى التمرد المحكوم عليه بالفشل مسبقا، وستكون نهايته غير سعيدة. لكن التشابه بين روايات ويلبيك لا يبدو للقارئ تكراراً مملاً، يبدو الأمر كما لو أن الكاتب يحاول المرة تلو الأخرى اختيار الشكل الأكثر دقة واستيعابا لرؤيته للعالم. ويبدو أنه قد نجح أخيراً في تحقيق ذلك في روايته الجديدة التي تحمل عنوان «إبادة».

الموضوع الرئيسي لويلبيك في جميع رواياته هو الخواء الروحي والفكري والسياسي للحياة في المجتمعات الغربية الحديثة. والكشف عن العبثية التي غالبا ما تكمن وراء المألوف. يفهم المرء جوهر إبداعه منذ البداية لكن تنويعاته حول الموضوع وملاحظاته اللاذعة الدقيقة تستحق القراءة دائما. يراقب ويلبيك عن كثب الاتجاهات الاجتماعية والسياسية في فرنسا والدول الأوروبية الأخرى، حتى انه يبدو في بعض الأحيان كاتباً تنبؤياً: فقد تنبأ بالهجوم الإرهابي الذي وقع في جزيرة بالي، وظهور حركة السترات الصفراء في فرنسا. لقد رأى منذ فترة طويلة، إن تهديد الإسلام الأصولي للغرب لا يأتي من الإسلام، بقدر ما يأتي من الشك والجبن والفساد وعجز المجتمع الغربي وهشاشة ردة فعله، التي هي في حد ذاتها نتيجة للخواء الروحي، الذي يعاني منه الغرب والذي يصفه ويلبيك بشكل جيد، دون أن يقدم حلاً بالطبع، لأن ذلك ليس مهمة الروائي، إلا بمعنى أن النقد هو المرحلة الأولى من التفكير في التغيير.

«إبادة «- رواية ويلبيك الثامنة والطويلة جداً التي قال عنها إنها الأخيرة، صدرت عام 2022 وتقع في 736صفحة. وهي بلا شك أكثر مما يبرره المحتوى ومع ذلك، فهو ليس أقل قابلية للقراءة من رواياته السابقة، وكالعادة سرعان ما ترجمت إلى العديد من أهم لغات العالم. وهو أمر إيجابي بالنسبة لعمل روائي يتناول موضوعات جادة مثيرة للاهتمام، ويشير إلى أن المؤلف أصبح الآن ظاهرة أدبية في الأدب الفرنسي. ويبدو أنه في روايته الجديدة سيطر إلى حد ما، وإن لم يكن تماما، على ميله إلى الأوصاف الإباحية وتخيلاته الجنسية، ربما بسبب تقدمه في العمر فهو اليوم في منتصف عقده السابع.

حبكة مفككة

المرء لا يقرأ روايات ويلبيك من أجل حبكاتها، ولا من أجل شخصياتها المتشابهة: كهول فرنسيون أذكياء ومتعلمون جيدا، ولا يعانون من القلق الدنيء بسبب نقص المال. مشكلتهم الوحيدة هي أنهم لا يعرفون كيف يعيشون، أو من أجل ماذا يعيشون. إنهم لا يشعرون بخيبة أمل، لأنه لم يكن لديهم أي أوهام. إنهم بلا دين، ولا معتقد سياسي، وحتى بلا ثقافة، على الأقل بمعنى كونها قوة روحية لحياتهم، وليست زخرفة أو هواية. علاقاتهم الإنسانية والعائلية والجنسية ضحلة، مبنية على مشاعر اللحظة، دون أي التزام أو سيطرة على القيم التقليدية. بمعنى ما، فهي حرة، وعشوائية. إن الوحدة هي مصيرهم، ويمكن للمرء أن يستشف أنها النتيجة الطبيعية لذلك النوع من الحرية، الذي روج له ثوار مايو/أيار 1968. لقد زرع الثوار الريح فحصدوا العدمية؛ ومع ذلك فإن هناك عنصرا قويا من الحنين للماضي يسري في أعمال ويلبيك. وهو يشير إلى أنه لم يحدث من قبل في التاريخ أن كنا في مثل هذا الرخاء، ولم يحدث من قبل أن بلغنا هذا القدر من العجز في مسألة معرفة كيف نعيش.

«إبادة» رواية متعددة الأصوات، تتشابك فيها عدة موضوعات، وتدور أحداثها خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2027. ويقرر الرئيس الحالي – الذي يسهل التعرف عليه وهو إيمانويل ماكرون – استخدام حيلة بوتين مع ميدفيديف، أي السماح لشخص آخر من حزبه بالترشح لولاية واحدة، حتى يتمكن من الترشح مرة أخرى من بعده. ويحدد القانون فترات الرئاسة بفترتين متتاليتين، لكنه لا يحدد عدد الفترات. بطل الرواية، بول ريزون موظف كبير ومقرب من رئيسه وزير الاقتصاد والمال التكنوقراطي الناجح برونو، الذي يعيد الاقتصاد الفرنسي إلى النمو. برونو رجل مقتدر للغاية، مرشح محتمل للرئاسة، ما يمنح ويلبيك الفرصة لوصف الطبيعة الساخرة للسياسة الحديثة، حيث التواصل هو كل شيء والجوهر يكاد يكون لا شيء. كل أولئك الذين يدربون المرشحين في فن الاتصال هم من النساء الشابات، لأن العالم أصبح نسويا ورجوليا في آن واحد، نسويا بمعنى توليهن، المزيد والمزيد من الأدوار القيادية ورجوليا بمعنى أن هؤلاء النساء قد اتخذن أدواراً ذكورية نموذجية. من حيث الطموحات والمواقف تجاه العمل.

تتشابك مع هذا الموضوع السياسي قصة غامضة، تظهر على الإنترنت في جميع أنحاء العالم؛ سلسلة من الرسائل الغريبة، بما في ذلك الفيلم الرقمي لإعدام الوزير برونو بالمقصلة؛ وتفجير سفن الحاويات. وحرق أكبر بنك للحيوانات المنوية في العالم في الدنمارك. تحاول الأجهزة السرية اكتشاف من يقف وراء هذا النشاط لكنها تفشل، وبحلول نهاية الكتاب ما زلنا لا نعرف ذلك. وهذا أمر غير مُرضٍ: فهو مثل قراءة رواية بوليسية، من دون اكتشاف الجريمة على الإطلاق. فهو يمنح المؤلف فرصة للتجول بحرية في مخيلته، من دون الحاجة إلى المصداقية.

القتل الرحيم

موضوع آخر تتناوله «إبادة» هو التعامل مع كبار السن. أصيب والد بول، الذي كان ضابطا كبيراً في المخابرات الفرنسية، بسكتة دماغية مدمرة، وتم قبوله في وحدة خاصة في المستشفى للأشخاص في الحالة الحرجة، ولكن لأسباب إدارية تم إغلاق هذه الوحدة بعد ذلك بوقت قصير، وتم نقل والد بول عن غير قصد إلى منزل مخصص لكبار السن العاجزين عن الاهتمام بأنفسهم. وهو منزل يرى بول أنه في الأساس منشأة للقتل الرحيم. بموجب القانون الفرنسي في حالة عدم قدرة المريض على التواصل يحق للطبيب المعالج، ومن واجبه تحديد ما هو في مصلحة المريض، لذلك يتصل بول وبقية أفراد عائلته بمجموعة، من المفترض أنها مرتبطة باليمين المتطرف، والتي تنقذ كبار السن من براثن المؤسسات البيروقراطية والقسوة التي ستقتلهم بحكم الأمر الواقع. موضوع القتل الرحيم غير حاضر بشكل مباشر في رواية «إبادة». صحيح أن بلجيكا لا تزال في طليعة هذه الممارسة، حيث تقوم فرق طبية سراً بإخراج بعض المرضى من المستشفيات، لكن الأشهر والأيام التي تسبق نهاية الحياة هي التي تجعل هذه الرواية مؤثرة. الغرب يشيخ ويتحرك بلا هوادة نحو الموت. فهل هذا سبب لتسريع الأمر؟

من المعروف أن ويلبيك كان معارضاً شرساً وثابتا للحملة الرامية إلى تشريع القتل الرحيم في فرنسا، الأمر الذي وضعه مرة أخرى على خلاف مع المثقفين في بلاده. وكتب قبل عامين في صحيفة «لوفيغارو»: «عندما يصل بلد أو مجتمع أو حضارة ما إلى نقطة تشريع القتل الرحيم، فإنه يفقد في نظري كل حق في الاحترام. من الآن فصاعدا، لم يعد تدميرها مشروعا فحسب، بل مرغوبا فيه؛ بحيث تكون ثمة فرصة – لشيء آخر أو بلد آخر، أو مجتمع آخر، أو حضارة أخرى للظهور». الأفراد في روايات ويلبيك لديهم الرغبة في تدمير أنفسهم بما لا يقل عن الحضارة الحديثة: فهم يبحثون عن المعاناة عندما لا يكون هناك سبب خارجي أو «موضوعي» لذلك. في نهاية الكتاب، يعاني بول البالغ من العمر خمسين عاما من سرطان اللسان، الذي سيقتله قريبا – ومن هنا عنوان الكتاب. وفي الوقت نفسه، أعاد هو وزوجته إحياء حبهما بعد سنوات من الفتور. استمرا في العيش معا، على الرغم من عدم وجود اتصال حقيقي بينهما. يبدو أن اغترابهما هو نتيجة لتدمير الذات، حيث لم يتغير أي منهما بشكل ملحوظ عندما يعيدان اكتشاف حبهما لبعضهما. الحب جوهر الحياة ويعطيها معنى، هذا ما يمكن أن نستنتجه من هذه الرواية، لكن لسوء الحظ، من الصعب العثور على الحب بشكل خاص في العالم الغربي المعاصر، حيث يتم تقدير المال والسلطة والنجاح والحرية العشوائية أكثر بكثير من الحب، الذي يتطلب الالتزام وتقييد الذات.

الذكورية السامة

تحتل الحياة الخاصة للشخصيات معظم الكتاب، وهي، كما هو متوقع من ويلبيك، غير مرضية، على أقل تقدير. على سبيل المثال، شقيق بول الأصغر الضعيف وغير الفعال، أوريليان، الذي كان اهتمامه الوحيد في الحياة هو ترميم مفروشات العصور الوسطى، متزوج من صحافية مغمورة ذات شخصية شريرة، أنجبت طفلاً عن طريق التلقيح الاصطناعي، على الرغم من أن أوريليان نفسه ليس عقيما. لقد اختارت متبرعا أسود بالحيوانات المنوية لتعظيم إذلال زوجها، وأظهرت علنا أن الابن ليس ابنه، وفي الوقت نفسه تدعي الفضيلة الليبرالية لنفسها، وكان ابنها دليلا حيا على أنها ليست متحيزة عنصريا. يشير ويلبيك هنا إلى أن ما يعتبر في العالم الحديث فضيلة سياسية غالبا ما يكون نتاج شخصية كريهة. تصف رواية «إبادة» أيضا نهاية حقبة ظلت فيها السلطة الاجتماعية والسياسية للذكور، من دون منازع، وكان للرجال فيها امتياز لا يمكن إنكاره في تحديد مبادئ وجود المجتمع الحديث. الرجال في أعمال ويلبيك، خصوصاً في «إبادة» يعتبرون المرأة عدوا، والزواج سجنا، والأطفال عبئا، والسود أدنى مرتبة. باختصار، الرجال الذين ما زالوا يتحسرون على تحرر المرأة والأشخاص الملونين، والذين يسارعون إلى شرب الكحول عندما يتحرك شعور ما في داخلهم.

الشخصيات الذكورية البيضاء التي تدور حولها كتب ويلبيك في نهاية المطاف هي دائما بائسة. الكاتب لا يجنبهم الإذلال ولا الضعف. ولا يسمح بأي أوهام شخصية.

على من يقع اللوم في تعاسة الرجال؟

يحدث هذا أيضا مع الشخصية الرئيسية في الرواية، بول ريزون: في اللحظة التي اكتشف فيها أخيرا حبه لزوجته برودينس، شخّص الأطباء مرضه بسرطان اللسان، وفرضوا عليه شرطا: الجراحة أو الموت. ليس من المستغرب أنه يختار أن يفقد حياته وليس لسانه. وبطبيعة الحال، فهو لا يخبر زوجته أنه كان من الممكن أن تكون لديه فرصة أفضل للبقاء على قيد الحياة، إذا وافق على العملية. مهمتها الآن هي رعاية زوجها بتفان حتى وفاته.

تجدر الإشارة إلى أن الكاتب الفرنسي إدوارد لويس والكاتبة الفرنسية المغربية ليلى سليماني يصفان أيضا رجالا مشابهين لأبطال ميشيل ويلبيك. لكن على عكس ويلبيك، يدرك لويس وسليماني أن الرجال يعانون من مشاكل المجتمع، مثل الفقر والعنصرية والاستعمار وعدم المساواة الاجتماعية. يعتقد ويلبيك أن مصائب شخصياته تكمن في طبيعتها: فالرجال مهووسون بالجنس، ويشعرون بأنهم مستعبدون ظلما (على الرغم من أنهم يتمتعون بأكبر قوة مالية وسياسية)، وإن على النساء البقاء في المنزل، وتربية أطفالهن. ورعاية أفراد الأسرة المرضى والتضحية من أجلهم. ويلبيك لا يريد حتى التفكير في خيارات أخرى للنساء.

تمثل روايات ويلبيك ما يحتاجه المحافظون اليمينيون في فرنسا بشدة، لأن البلاد، مثل الديمقراطيات الأوروبية الأخرى، وجدت نفسها منذ فترة طويلة في حاضر جديد يطالب فيه النساء والأشخاص الملونون أيضا بالسلطة السياسية.. ويريد أفراد من كلا الجنسين أن يعاملوا على قدم المساواة، وهذا يخيف بعض الناس. ولعل سبب شهرة أعمال ويلبيك – مهما كانت استفزازية – هو ما يقدمه للقراء: قصصه تسمح لنا بالدخول إلى عقل رجل يخشى المساواة في الحقوق في المجتمع ويفضل أن يكون وحيدا، بدلا من الانفتاح على الآخرين. الذين هم على قدم المساواة معه.

وأخيرا لا بد من الإشارة إلى أن روايات ويلبيك ومنها «إبادة» لا تتميز بعمق الرؤية الفنية وبراعة البناء السردي، ولا يجد القارئ فيها ثراء نفسيا ولا متعة جمالية. فهو لا يغوص في أعماق الشخصيات، بل يكتفي بتحليل الأحداث الجارية. وروايته الأخيرة مليئة بالقصص التي لا تؤدي إلى أي مكان، ومع ذلك هناك من ينسب إليه القدرة على التنبؤ.

***

د. جودت هوشيار

في المثقف اليوم