قراءات نقدية

قراءات نقدية

بقلم: رولان بارت

ترجمة: حسني التهامي

***

ترفض الزن أية مناورة لاستباق المعنى. نحن نعلم أن البوذية تمثل حائط صد لأي تأكيد (أو نفي) وذلك من خلال الدعوة إلى عدم الانشغال بالافتراضات الأربعة التالية: هذا (أ) - هذا ليس (أ) - هذا كلٌ من (أ) وليس (أ) - هذا ليس كلا من (أ) ولا غير(أ). الآن تتوافق تلك الاحتمالات الأربعة مع النموذج المثالي كما يؤطره علم اللغة البنيوي (أ ليس أ – ليس أ ولا ليس أ (الدرجة صفر) أ وليس أ (الدرجة المركبة)؛ بعبارة أخرى، إن الطريقة البوذية على وجه التحديد هي طريقة "المعنى المنغلق": غموض الدلالة ذاتها، واستحالة النموذج. عندما أوصى البطريرك السادس تلاميذه بالإجابة على بعض الأسئلة المتعلقة بالوجود، كانت غاية وصيته خلخلة النموذج بشكل كامل، فبمجرد أن يُطرح مصطلحٌ ما، لابد أن يجنح ذهنك إلى نقيضه. (" عندما تُسأل عن العدم، ليكن جوابك بالوجود)، وإذا سُئلت عن الرجل العادي، ليكن حديثك عن السيد إلخ..")، وذلك كنوع من التهكم على النموذج اللغوي وجعل المعنى التلقائي جليا واضحا. إن المراد (بالتقنية الذهنية التي تظهر دقتها والحاجة إلى صقلها والمثابرة في تعلمها مدى تعثر الفكر الشرقي في استباق المعنى)، هو تأسيس العلامة، أي التصنيف المرتبط بالطبقات المائزة للغة.  يهدف الهايكو على أقل تقدير إلى استخدام لغة بسيطة لا تتكئ (وهذا محرم في لغتنا) على طبقات المعني المتراكبة، أو ما نطلق عليه "تصفيح" الرموز. حين يقال لنا إن صوت الضفدع هو الذي بصَّر باشو بحقيقة الزن، يمكننا إدراك (أعتقد أن هذه الطريقة في الحديث لا تزال غربية خالصة) أن باشو لم يكتشف وسط هذا الضجيج فكرة "الاستنارة"؛ فرط الحساسية الرمزية، لكنه توصَّل إلى نهاية اللغة: هناك لحظة تتعطل فيها اللغة (تلك اللحظة هي نتاج عديد من التدريبات)، إنها حالة خرق تتكشف من خلالها حقيقة الزن ويتشكل السمت الموجز والفارغ للهايكو.

إن إنكار "النماء اللغوي" أساسي هنا، لأنه ليس مسألة إيقاف للغة في لحظة ممتدة من الصمت والتأمل الصوفي العميق، أو لحظة الفراغ الذي يسكن الروح ويؤدي إلى التواصل الإلهي (الزن ليس لها إله). ما نحن بصدده من استخدام الرمز لا بد أن يتوقف: لأنه غامض، وكل ما يمكن للمرء القيام به هو تمحيص الخطاب؛ وهذا ما كان يُنصح به متدرب الكوان (أو يقترح عليه سيده حكاية طريفة): ليس لسبر أغوارها كما لو كان لها معنى، أو حتى لفهم مغزى عبثيتها (التي لا تزال تحمل معنى). فكل ماهو زن ينظر إلى الهايكو على أنه مجرد فرع أدبي من فروعه، و(تطبيق عملي هائل من شأنه تعطيل اللغة، وإرباك هذا النوع من الإشعاع الداخلي الذي يتولد داخلنا، حتى أثناء نومنا (ربما كان هذا هو السبب وراء حرمان المتدربين أحيانًا من النوم)، كي نتخلص من ثرثرة الروح اللانهائية، ومما يطلق عليه الزن بـ "الساتوري" التي قام الغرب بترجمتها إلى كلمات مسيحية غامضة كـ الاستنارة ... الإيحاءة ... الحدس)، والتي هي بمثابة تعطيل مفزع للغة وفراغ يمحو سلطة الرمز، وخرق لذلك السرد الداخلي الذي  يشكل ذاتنا؛ وإذا كانت تلك الحالة للغة  تحررًا، فذلك لأنها، بالنسبة للتجربة البوذية، توالد للأفكار الثانوية (فكر الفكر)، أو ما يمكن تسميته بالمكمل اللانهائي لدائرة الدلالة التي تعتبر لغتها ذاتها المستودع والنموذج – وتبدو كأنها عائق: بيد أنها تضحض1 الفكر الثانوي الذي يبطل اللامحدودية الفجة للغة. في كل هذه التجارب، يبدو أن الأمر لا يتعلق بسحق اللغة تحت طيات الصمت الغامض تجاه ما لا يوصف، لكنه يرتبط بقياسها وبالتخلص من فكرة الشغف باللفظ التي تمحق هوس اللعب بالبدائل الرمزية. باختصار، ما نحن بصدده من إعلاء قيمة الرمز هو عملية دلالية ستظل محل انتقاد.

إن وضع اللغة في نطاق ضيق، في الهايكو، لهو مصدر قلق لا يمكننا تصوره، لأن الأمر ليس متعلقا بمسألة الاختزال (أي تقصير الدال دون الحد من تكثيف المدلول)، لكن بصرف اهتمامنا عن أصل المعنى، كي لا يذوب هذا المعنى، أو يتلاشى، أو يصبح غامضا أو ضمنيًا أو ينفصل أو ينقسم إلى مجموعة من الاستعارات اللانهائية أو إلى مجالات الرمز. ليس اختزال الهايكو مسألة شكلية؛ فهو أبعد ما يكون عن فكرة مكتنزة تم إيجازها، لكنه حدث مختصر قادر على بلورة شكله المناسب بصورة فورية. إن العقلية الغربية غير مؤهلة، إلى حد بعيد، لاستيعاب مسألة القياس اللغوي: ليس المقصود هنا هو مدى طول أو قصر الخطاب، ولكن تأثير هذا الخطاب الذي يؤدي إلى عدم التجانس بين الدال والمدلول، إما عبر "تخفيف" الثاني بفعل هدير الأمواج المتلاحقة للأول، أو عبر "تعميق" الشكل باتجاه المناطق الضمنية للمحتوى. من الواضح أن دقة الهايكو - التي لا تُعد تصويرًا أمينا للواقع على الإطلاق، ولكنها تجانس الدال بالمدلول، والتخلص من الهوامش والأشياء الغامضة والفجوات التي عادة ما تتجاوز أو تثقب العلاقة الدلالية للألفاظ - تحتوي بداخلها على شئ موسيقي (موسيقى المعاني وليس بالضرورة موسيقى الأصوات): فالهايكو يتسم بالصفاء، حيث يسكنه فراغ يشبه فراغ نوتة موسيقية؛ ولعل هذا هو سبب قراءته مرتين من أجل إحداث صدى. إن قراءة هذه اللغة المذهلة لمرة واحدة سيكون بمثابة إضفاء معنى للدهشة والتأثير والكمال المفاجئ؛ وعند قراءتها مرات عديدة سيُكتشف المعنى الداخلي ويُحاكي العمق؛ وبين هذين الشيئين، لا يتحقق العمق ولا التفرد، لكنْ يكشف الصدى بطلان المعنى.

***

......................

هذه ترجمة الجزء الثاني من أربعة مقالات عن الهايكو من كتاب امبراطورية العلامات للمفكر والناقد الفرنسي رولان بارت. وقد نشر المقال في مجلة البيان الكويتية أيضا، العدد 643 فبراير 2024

1-   تُرَقْرِقُ أو تُبَيِّنُ

مدخل: كتاب رداء النسيان، من صنف الرواية، مؤلفا للممثل والمخرج السينمائي إدريس الروخ. عندما تتبع مسارات إدريس الروخ العملية فإنك تجده بالطبع شخصية مركبة بامتياز التكوين الاهتمامات والانشغالات.

من تم  فرواية (رداء النسيان) كُتبت انطلاقاُ مما يعيشه الفنان في الذات والزمن والفضاء. تم إبداعها بروافد من  مؤثرات التمثيل والمسرح والإخراج والإنتاج السينمائي، هذا التعدد والتنوع الغني هو الذي قادني بطلاقة نحو متابعة قراءة نص رواية ادريس الروخ بنهم وإقبال، وكنت مرات عديدة أنتقل بخيالي من عالم الكتابة ومثيراتها المحددة في عالم تناص الخطاب اللغوي والأحداث، إلى عوالم الصورة (المبركة) بالخيال، والإبحار مع فناننا في تشكيلات تنوع الأفلام والمسلسلات التي اشتغل عليها، أو مثل أدوارا كبيرة من خلالها.

تقول الكاتبة المصرية ناهد صلاح في تقديمها للرواية: (إدريس الروخ كَتب الرواية قابضاً بأصابعه على روحها... أجواء غريبة غير تقليدية (في منهجية كتابة الرواية) نقلت حكاية معقدة تتأرجح بين "الفانتازيا" والتراث الشعبي وبين الدراما النفسية) إنها بحق العلاقة الاجتماعية التقليدية التي تربط الكاتب بوسطه الأسري وفضاء النشأة والولادة والتطور العمري الاجتماعي.

 أجواء مثيرة تشبه إلى حد ما (رداء النسيان) من حيث الغوص في نقطة عميقة للنفس البشرية (الخيانة والألم والوجع). (تجد أن هنالك)  حالة روائية خالصة ونشطة... تحتضن التفاصيل العاطفية المعقدة بالتكثيف والحس والسلس في آن واحد، ما جنبها الوقوع في رُهاب التطويل...).

نعم من البدء أُقر بالمناصفة والاعتراف الضمني مع الأديبة  ناهد صلاح بأن إدريس الروخ (فنان يتمتع بخيال هائل، صادق، مفرط الحساسية بشكل مؤلم في تفاصيل مذهلة الإتقان والشاعرية) والمواقف الإجتماعية التي يمكن أن نقول بأننا ضيعناها منذ زمن (الحجر الصحي/ العلاقة الأسرية الداخلية).

عتبات مدينة مكناس المكانية من خلال النص الروائي (رداء النسيان)

حقيقة أدبية لا مناص من التنصيص عليها، أن دراسات المكان والفضاء في الروايات ما تزال شحيحة المورد، ورغم هنالك مجموعة من الإصدارات (الغربية) والتي قد لا توازي نهب الباحثين  فى هذا السياق، وما نسعى من خلال (رواية : رداء النسيان) هو وضع بعض من عتبات لتقاسيم المكان الروائي والتركيز على مدينة مكناس .

 فلم يكن المكان بالغريب عند الكاتب إدريس الروخ، لم يكن المكان بالمتخيل بل هو مكان معلوم بالتسميات والمسميات والحركة الانتقالية. مكان  يُكسب الرواية أهمية فنية كبيرة، إنه الخط الزمني المتموج للأمكنة بالحضور والغياب. أمكنة باتت تشكل لوحة رسم على قماش وتعلن صراحة هوية بطل الرواية.

حقيقة أن المكان ليس ترفا أو عنصرا عابرا في الرواية، بل هو مكان معلوم الزوايا الجغرافية بالتحديد والذكر، ويتخذ معاني ومواقع عديدة (وأنت تجوب شارع محمد الخامس بالمدينة الجديدة ، أو كما يسميها المكناسيون (حمرية/24). فلم يكن المكان (مكناس) يحضر في الرواية للتباهي، بل جاء لأجل التنبيه والتغيير (تمر بجانب النافورة التي لم تشتغل منذ أمد طويل.../24).

ما أثارني واقعية الحديث وفضح مميزات المكان، وليس المكان الذي قد تصنعه لغة المتخيل في الدلالية للرواية. فمنذ بداية الرواية تجد أنها اقتحمت تفكيرك بالتحفيز، ولما لا التطويح بك في عالم البحث بين الواقع والخيال عن الفضاء وعلاقته بالحكي والسرد، فعندما صرح الكاتب بوصف المكان (باب منصور / روامزين ...) إنه بحق نوع من التسويق لفضاءات وعوالم المدينة السياحية.

وقد وقفت على نوع من الإقحام اللين لفضاءات بالمدينة، نشترك فيها جميعا بمجموعة من الذكريات التي تبق عالقة بالذاكرة (سينما أبولو والمونديال والأطلس...أن تشاهد أفلام الحركة والهندية/ ص25). بالطبع هي ذاكرة سينمائي في (رداء التذكر) أتى بها إدريس الروخ ليستمد منها عشقه للسينما.

قد يكون الفضاء في متن رواية (رداء النسيان) متحركا، حيث وظف إدريس الروخ الأمكنة مرات بالتماهي، ومرات بالنقد والوصف، فوضع ذاته ومواقفه تتحرك بين الأمكنة وتترجل الوصف والحكي والمشي، ومرات عديدة تعطي أحكاما نوعية وذات قيمة اجتماعية.

 نوع ثان من الأمكنة المتحركة (الحافلة) يقول: (لم تكن من هواة ركاب الحافلات البئيسة أو الازدحام مع الأجساد الذابلة وسط سيارات طاكسي المليئة بالجراح والهموم وكثرة الآهات... / ص24)

نعم، بين الكاتب والأمكنة علاقة تبادلية التأثير والتأثر، وفي كلتا الحالتين يبقى المكان نوعا من الإيقاع المنظم لرواية (رداء النسيان). فالكاتب عمل على  تركيب صور للفضاءات يُماثل تصوير الأمكنة الخارجية  كمشاهد سينمائية.

فالوضع المكاني ما بين نافورة (شارع محمد الخامس بمكناس) حمرية وديور الجداد بحي بني امحمد تصبح المساحات الهندسية مادة للحكي الروائي، ولتلاحق الأحداث بالتفاعل بعضها ببعض الآخر. فالكاتب عمل على نسج الخيوط المتشابكة، لتخلق بحق شبكة العلاقات والتنافرات التي تصنع الحدث بالتوافق والاختلاف.

فقد كان فضاء رواية (رداء النسيان) أوسع شمولا من حدود المكان ومتغيراته المتعددة، فالزمن العمري بمحدداته بين الماضي الذي ما انفك يمضي، وحاضر المدينة الذي ما فتئ يأتي هو زاوية الرواية الحادة التي صنعت (تاريخ المدينة الأنيق في الماضي، والمكره بنقصان التمكين التنموي في الحاضر/ 24). إنه المكان الذي ينكشف بالفضح على مجموعة من الخلفيات اللاتنموية التي تتحرك بالمدينة، وأمامها الشخصيات أو تقع فيها الحوادث والمشاهد (وسط حمام الدرب عندما تسكب على جسدك دلو ماء ساخن/ ص24).

اختراق البطل للأمكنة ، حين أدخلنا سليمان الأحمدي إلي بيت الأسرة، حين نسيت القراءة والقراءة النقدية، واقتحمت معه عتبة الدار باستقبال الأم و مكونات الأسرة . حين تخيلت كيف هي الدار وألوان الزليج.

نعم سحبني الكاتب برفق وعشق وعشت معه (كونك كنت فقيرا ويتيما/ ص25)، ألم الفقد والوجع (أن أمك التي فقدتها حديثا... / ص25)، (كم تمنيت أن تكون بروسلي وتهجم على الزمن الذي جعل أمك أرملة/ص25) و (هكذا كانت أمه تمشي ساعات من أجل لقمة العيش)... إنها مشاهد عديدة من الألم والوجع، مرات  بالتصريح و أخرى بالاستضمار، على اعتبار أن الأمكنة تحمل تجربة المعاناة والوجع والألم لدى المؤلف.

مما أثار فضولي حين اكتشفت وصول الكاتب إلى أنسنة الأمكنة على اعتبارات التفاعل والعيش (لتفاجئهم مرة في الأسبوع بطبق من السردين المقلي مع صحن بيصارة ساخن/ ص27)

هنا باتت الدار والعيش الأسري، سندا متكاملا للبناء الروائي النسقي عند إدريس الروخ.  فلم تعد هنالك مفارقة بين تسمية الأمكنة (الحقيقية) حيث باتت الرواية تحيل القارئ لزاما على الاسم نفسه في الواقع والمتخيل، لذلك كانت حتمية الوصف والسرد في الرواية قد فرضت ذاكرتها الحاضرة لا المنسية(سلك طريقا آخر...عرج على شارع الجيش الملكي،...باتجاه شارع محمد السادس...عقبة دار السمن ...ساحة الهديم...بني امحمد ...الديور الجداد...صهريج سواني ...القصر الملكي...(المحنشة) / ص50).

فلا مناص لي من الاعتراف أن الوصف في رواية (رداء النسيان)، شكل وظائف تماثل التصوير الفني، والتدقيق في التفاصيل الصغيرة الحاملة للدلالة الكلية، حتى أنك تترجل المشي مع إدريس الروخ ذهابا وإيابا من وإلى حمرية والديور الجداد بحي بني امحمد(هكذا كان القدر يجمعه بوجعه وألمه الذي انتصرت فيه إرادة الحياة وأمل العودة إلى نور / ص38).

حين ولجت من خلال وصف الكاتب لدار الأسرة بحي الديور الجداد، اكتشفت أن الأمكنة ليست بالمغلقة في الرواية، بل المفتوحة للحكي والبرهان الصادق بتزكية الماضي بذهبيته رغم آهاته (فتحدث عن مكان أليف، وهو البيت الذي يوجد فيه الإنسان (أنسة المكان)، ثم تحدث عن المكان المتناهى فى الصغر والمكان المتناهى فى الكبر/ (سيزا).  وكما عثرت عليه فإن: (مصطلح الفضاء الروائى يتسع ليشمل العلاقات المكانية أو العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث، ويعلو فوقها كلها ليصبح نوعاً من الإيقاع المنظم لها/ موير).

فحين قرأت النص الروائي لإدريس الروخ عن فضاء الدار (بالديور الجداد)، وجدت أنني أعاود تذكر بيت الطفولة، حتى أن عيني أدمعت وقلت كذلك (أحبك أمي وجعي)، فهذا الإحساس يوجد في دواخلنا وليس بالضرورة بشيء مفارق في الخارج !!حقيقة لا مناص من التركز عليها أن إدريس الروخ خلق آفاقا خصبة غنية واسعة في الوصف والسرد الروائي، وقد وجدت متعة قراءة  فى التعامل مع المكان الروائى بمدينة مكناس.(هكذا علمته أمه أن يزهد في الحياة وان يمشي جنب الحيط...أو جنب نفسه في الحقيقة/ ص27)

(أزقة (المدينة) التي عشقها حد النخاخ...علمته كيف يقابل الجمال بين أسوارها  الإسماعيلية...وبين أبوابها...نجمة تضيء تاريخ المغرب المجيد/ص28). أو قوله: (محطة الأمير عبد القادر... واجهة بئيسة وباب حقير وجدران عفنة...محطة مهملة في قرية منسية... / ص 108)3993 محسن الاكرمين

الشخصيات الرئيسة في رواية (رداء النسيان)"

1/ سليمان الأحمدي:

 في الرواية (يود أن ينتهي بدون نهاية) يرغب في عيش (الظلام ويبقى نائما ولا يدري هل يستيقظ أم لا...فقط يريد عيش رداء النسيان/ 190ص) و(إغلاق باب الذكريات نهائيا (سليمان) عندما خانته زوجته، لبس رداء النسيان/ ص39).... (لقد عطل زر "إحياء" الذكريات/ص 38)

سليمان الأحمدي: يعيش ازدواجية الشخصية التي تصنع التوافق بين التربية والنشأة التقليدية (موقع الأسرة في قلبه وخاصة أمه/ مكناس)، وترف حياة البذخ (الحفلات/ المنشطات الروحية/ الفنادق الفاخرة/ السكن.../ الرباط ومدن العالم التي زارها لعرض لوحاته).

سليمان الأحمدي:(اغتصب في رجولته/ حينها أنه كان غبي مورد الثقة) عندما خانته زوجته (سلمى) مع صديقه (عادل). عاش أزمة نفسية، وبات غياب حلم أمل التغيير من باب (رداء النسيان).

عاش بين الماضي والحاضر، ولم يقدر على اختيار طريق النجاة. عاش مستويات من التغرير به في زواج مفبرك كما صرحت به خادمته (زينب). عاش في صراع طبقي بين مرجعية عادل الأسرية (الحداثة/ البورجوازية)، ومورد أسرته التقليدية والتي هي (على قد الحال).

سليمان الأحمدي: (يفتح باب ذاكرته ليسد طريق النسيان ويمنعه من التسلل ليلا إلى فراشه/ ص 29)، أراد معرفة حقيقة الخيانة من زوجته (سلمى) ليتخلص من كراهة الماضي، وفي هذه المغامرة قد  لا يرجع تماما من الرباط (كما حدثه شيخ مقهى القرب من محطة الأمير عبد القادر).

سليمان طيلة الرواية لم أجده تناول المنشطات الروحية بمدينة مكناس وخاصة بمرسمه (175 حديقة كونيط)، بل كان مدمنا على القهوة السوداء والتدخين، خارج المدينة كان سلوكه من الحداثة (البعدية).

سليمان، عاش مرارة الخيانة، فلم يقدر حتى على المغامرة مع فتاة فندق الرباط، حين سترت عورته، وآوت الى فراشها، وناولته منشطات روحية، لكنه هرب بشرف وأدب...

سليمان، عمره ما ركب الطاكسي حتى الصفحة (62)،  (لم تكن من هواة ركاب الحافلات البئيسة أو الازدحام مع الأجساد الذابلة وسط سيارات طاكسي المليئة بالجراح والهموم وكثرة الآهات... / ص24)

2/ سلمى زوجة سليمان:

 فنانة بامتياز وتفرد، في عيش مُتع الحياة (الجنس الترف...البذخ)، فنانة في التمثيل والإغواء وإسقاط سليمان بتحفيز من صديقها (عادل) في شباك زواج صوري (مكيدة العمر).

لم تتكلم طيلة الرواية، وحتى في النهاية، عندما ساء وضعها الصحي والمادي، وفي مواجهة لسليمان (فيلا غير أنيقة بالرباط) لم تحرك شفتيها حتى للتبرير عمَّا حدث، بل كانت ثملة تقاسي مكر الزمان والعمر، وسوء الاختيارات (لو أنها تكلمت وقالت أي شيء...أن تنطق بحرف واحد...قد تعلني أرى حياتي المقبلة بشكل مختلف/ ص189). لكن سلمى تكلمت اللوحة المرسومة بديلا عنها أكثر مما حضرت سلمى في الأماكن والأحداث طيلة الرواية.

3/ عادل صديق سليمان:

 يقول سليمان: (هل عادل صديق عمري طعنني في ظهري؟ /ص 189). عادل (الفاسي الأصل والولادة) مارس نزق الطبقات الاجتماعية، واستغل سليمان في تزويجه بسلمى عبر مكيدة مدبرة، استغل طيبوبة سليمان، ومارس الجنس مع سلمى لما يربو عن ثلاث سنوات. استغل الثقة ورؤية ولد لبلاد (مشاركين الملحة اصعيب تخونو).

عادل شيطان الرواية، بقي يعيش حياة مزدوجة بين الكذب على زوجته (ابتسام) وعلاقته بسلمى، وحتى ليلة سقوط سليمان مغمى عليه عند شاهد عيان على الخيانة (على فراش الزوجية) ، فانه كان يمارس النفاق الاجتماعي ولم يصارح ابتسام بأنه كان هو الخائن لصديقه.

4/ زينب الخادمة:

 العلبة السوداء (لَبْوَاتْ انْوَارْ) في تلك العلاقة غير الشرعية بين عادل وسلمى وفي فراش الزوجية.

صحوة الضمير أفاقها، وأرجعت سليمان من أوربا (توقيع عقد عمل) ليقف على الخيانة الكبرى، كانت ترغب في أن تنتهي أزمتها النفسية والعودة إلى مبدأ الحياة السليم.

5/ أسرة سليمان الأحمدي:

 أسرة تقليدية من مكناس (الديور الجداد) ، تعيش أزمات حياتية (المستوى المعيشي/ الهشاشة المرتبطة بالفقر لا الأخلاق)، وأزمة الفقد (اليتم /الأب 1975)، وحديثا موت الأم، باعتبار مركزية التضامن الأسري.

أسرة تعيش بالكد والسعي، وكذا بقيم الترابط الأسري، أسرة لم يقدر الكاتب على تسمية أي أحد من أفرادها، بل ترك الجميع يتحرك بالصفات (الأم الإخوة الأخوات).

الأم كانت محور الرواية الأساسي ، والتي داوم النص السردي حكي حكاية الأسرة من خلالها وبالتفصيل الصحي، وتجدها تسكن الرواية وقلب الكاتب من البداية إلى النهاية، حتى ما بعد فقدها (أمك التي فقدتها حديثا بسبب وعكة صحية ألمت بها/ص 26).

خاتمة:

من حس الوجع (والفجع) والذي مرات عديدة كان كبيراً ولا طاقة للكاتب على رده (الخيانة بين عادل وسلمى)، (كان لا بد من التعبير عنه بدرجة ما من درجات الخصوصية، والكشف القاسي ...) فقد يكون العنوان منبها أوليا لكل قارئ(رداء النسيان وأن ينعم بدفئه/ ص103)، لكن عنوان (رداء النسيان) بات عندي عند نهاية الرواية يوازي عنوان (رداء ذاكرة نشطة). رواية نشطة من ذكريات مصادر ومراجع (الفيد الباك) للفنانين والفلسفة العالمية، إنه بحق (تناص التعامد) النوعي لا التراكمي.

***

محسن الأكرمين

.......................

* نص مداخلتي في حفل توقيع رواية (رداء النسيان) للكاتب إدريس الروخ بالمركز الثقافي (الفقيه المنوني) يوم السبت مساء 25 ماي 2024.

تُطلّ علينا الشّاعرة هيام مُصطفى قبلان في مجموعتها القصصيّة "بعدَ أن كَبُرَ الموج" وتأتينا فيها كاتبة مبدعة عميقة، مُتمكّنة من أدواتها الإبداعيّة، قابضة على ناصية اللّغة. ولستُ أقول هذا محاباة أو مجاملة، بل أقوله بكلّ صدق وبكلّ موضوعيّة ومنذ بداية المداخلة. ذلك لأنّ قصص المجموعة، بصفة عامّة، أعادتْني إلى القصّة القصيرة التي نريد. إلى فنيّة القصّة التي نفتقدها وأصبحنا نشتاق إليها ونتوق لقراءتها. فكثيرة هي المجموعات التي تصدر، والتي يريد كاتبُها أن يرى فيها مجموعة قصصيّة، إلّا أنّنا نجد أنفُسَنا أَمام، إمّا لوحات أدبيّة أو مقالات صحفيّة أو خواطر أو تأمّلات، لا نسمح لأنفسنا بتسميتها قصصًا قصيرة!

 حُكْمنا هذا على مجموعة هيام قبلان القصصيّة، جاء بعد الوقوف على أطراف العمليّة الإبداعيّة ذاتها، ممثّلة في الكاتب والنّصّ والقارئ، والعلاقة التّكامليّة بين هذه الأطراف والتي من شأنها أن تُشكّل الذّائقة الأدبيّة وترتقي بها. فالكاتبة في عملها الأدبيّ هذا، تحرص على شحن عواطف المتلقّي وانفعالاته عبر اكتمال عناصر هذا العمل وتغليفها بجماليّات تترك أثرًا لديه. إذ تُقدّم لنا قصصًا اعتمدت في نسيجها على مقوّمات السّرد القصصيّ مثل: حضور الرّاوي، الشّخصيات، الزّمان والمكان، إلّا أنّها افترضت شكلًا آخر من التّعامل مع هذه العناصر، بحيث نراها لا تُعير المكان والزّمان اهتمامًا كبيرًا، ويبقى تركيزها الأكبر على الشّخصيّة. كما أنّها تُظهر قدرة في تعاملها مع الحبكة القصصيّة، إذ تبني قصتها بناء محكمًا، وتتعامل مع اللّغة بشكل مكثّف وبإصرار على الطّاقة الفعليّة للمفردة وللجملة. فلغتها قويّة متميّزة استطاعت أن تقول الكثير، وأن تحمل العديد من الرّؤى والدّلالات المباشرة المفتوحة على دلالات أكثر عمقًا واتّساعًا.

والمعروف أنّ الشّاعرة والأديبة هيام قبلان تتعامل مع مختلف الأنواع الأدبيّة، فكتبت الشّعر والقصّة والرّواية، وإن كان الشّعر يبقى أهمّها وأقربها إليها وهو الذي يستهويها. فقد صدر لها خمس مجموعات شعريّة، وهذا ما يؤكّده حضور "هيام الشّاعرة" بشكل واضح في قصص هذه المجموعة، سواء في توظيفها للّغة الشّعريّة في السّرد أو تضمينها عدّة قصص أبياتًا شعريّة. فامتداد وشيجة الشّعر إلى هذه المجموعة القصصيّة، يؤكّد أنّ الكاتبة لم تتحرّر من طبيعة الشّعر ولا من مجازاته، وأنّ توجّهها لكتابة أجناس أدبيّة أخرى لم يكن مبتوت الصّلة عن الشّعر الذي ظلّ موصولًا بعالم هذه الأجناس، الأمر الذي أكّده الكاتب الفرنسيّ ميشال بوتور حين قال: "انقطعتُ عن كتابة الشّعر منذ اليوم الذي بدأتُ فيه كتابة روايتي الأولى، لأحتفظ لها بكلّ طاقتي الشّعريّة".

في مجموعتها هذه، لا تلتزم هيام قبلان نمطًا معيّنا في بنائها للقصّة، وإنّما نراها تغيّر في الحبكة بين قصّة وأخرى. فمثلًا في قصص: "أفقد نفسي" و "العار" و "جمرٌ وأمرٌ" تلتزم البناء الهرميّ: بداية، ذروة ونهاية. بينما في قصّة "أشتهيك يا موت" مثلًا، نراها تبدأ من النّهاية ومن ثمّ تعود بنا إلى بداية الحكاية عبر أسلوب الاسترجاع، في حين نجدها في قصّة "منفضة" تتخلّى تمامًا عن هذا البناء، وتوظّف لغة شعريّة مكثّفة جعلت القصّةَ قصيدة.

تقول الشّاعرة البحرانيّة حمدة خميس إنّ كتابة المرأة: "تنبعث من الصّراع الدّاخليّ بين المكبوت- والمُعلن، بين الرّغبة في التّحقّق- والغياب المقنّن، بين التّوق للتبدّل والتّغيير- والسّكون القسريّ. وهذا الصّراع هو الواقع الذي تعيشه كلّ النّساء بوعي أو بدونه".

وهيام قبلان في هذه المجموعة القصصيّة، تُعبّر عن حقّها، كامرأة، في القول والكتابة والحياة، عبر إبراز دور الأنثى وجعلها المستحوذة على دور البطولة والسّرد في غالبيّة القصص. وحتى القصص التي يكون فيها السّارد رجلًا، تبقى المرأة حاضرة وبقوّة، وهي الشّخصيّة التي يراقبها القارئ ويتابعها بكثافة واهتمام كبيرين، وهي التي تستدعي عطفه وانحيازه. وبناء على هذا، تطرح الكاتبة في المجموعة قضايا تخصّ المرأة، وتُصوّر حالات وتجارب وتحدّيات تعيشها المرأة وتعكس واقعها المرير، بهدف انتقاد هذا الواقع ورفضه ومحاربته. والمقصود هنا، الواقع الذي تحكمه وتتحكّم به العقليّة الذكوريّة. ويبدو أنّ استغراق نصوص هيام قبلان في قضايا المرأة وهمومها ومحاولتها الكشف عن دواخل الذّات الأنثويّة، جعلها تجد في ضمير المتكلّم أسلوبًا "يتيح تفجير طاقات الأنا النسائيّة المُثقلة بهمومها وعذاباتها ومشاعرها وأوجاعها النفسيّة". (حفيظة أحمد- بنية الخطاب في الرواية النسائيّة الفلسطينيّة) فيدعونا للتّعاطف معها والدّعوة إلى تغيير واقعها عبر طرح صُوَر مُتعدّدة للمرأة، تُمرِّر الكاتبة من خلالها فكرة أو موقفًا.

في قصّة "أفقد نفسي" مثلًا، يتعاطف القارئ مع "رحيل" التي توفّت أمّها واضطرّت للخروج للعمل ومعاركة الحياة منذ كانت طفلة صغيرة. ومن ثمّ مواجهتها "رحمة"- زوجة والدها، المرأة اللّعوب والمتسلّطة والخائنة. وهذه الصّورة للمرأة المتسلّطة نجدها كذلك في قصّة "جمر وأمر" في شخصيّة "فوز"- الزّوجة والأمّ التي تعمل في الشّعوذة وقراءة الفنجان لنساء القرية، ممّا دعاها إلى حرمان ابنتها "فاتن" من إكمال تعليمها العالي لتساعدها في أعمال البيت، ثمّ التّخطيط لتزويجها من رجل غنيّ يكبرها في السنّ. إلّا أنّ فاتن، تُفاجئُنا وتُثير إعجابنا بجرأتها وشجاعتها حين تُقرّر الهروب من البيت قبل أن تُنفّذ والدتها مُخطّطها. ولكن، هذا الإعجاب سرعان ما يخبو ويتحوّل إلى خيبة أمل حين قرّرت فاتن أن تبقى في دير الراهبات الذي لجأت إليه وتعيش فيه بقيّة حياتها. وكم كنتُ أودّ لو ذهبت الكاتبة بهذه الشّخصيّة إلى مكان آخر نراها فيه تتمسّك بحلمها بمتابعة دراستها الجامعيّة وتقاتل وترفض وتتمرّد وتُصرّ على تحقيق هذا الحلم. فلا يُمكن أن نقنع بالنّهاية التي رسمتها الكاتبة لهذه الفتاة ولا بالمكان الذي حدّدته لها لمجرّد ارتباطه بالدّين! فهذه النّهاية تعني الضّعف والتّراجع والاستسلام والتّخلّي عن الحلم، بل قَتْل الحلم الذي طالما تمسّكت به وأصرّت على تحقيقه.

 في قصّة "العار" تطرح الكاتبة، من خلال شخصيّة "سماح"- المرأة الضحيّة، حقيقة أنّ المجتمع العربيّ، للأسف، لا يزال يحصر قضيّة الشّرف بالمرأة دون الرّجل. فسماح دُمّرت حياتها عقب تخلّي خطيبها سالم عنها بعد علمه بحملها منه، وقيام والدتها بدفن المولود لغسل عارها. وتصوّر الكاتبة "سماح" في نهاية القصّة، في مشهد قاس ومؤلم، تسير هائمة على وجهها في الشّارع، تُلاعب دمية صغيرة في حضنها، تلفّها بثوب من السّواد، وتنتحب على مناديل الذّاكرة (ص 40).

أمّا القهر الجسديّ والعنف والاغتصاب الذي يقع على المرأة من قِبل الرّجل ويتركها جريحة الرّوح والجسد، فيظهر في قصّة "هناء" وهو اسم البطلة- الأرملة التي اغتُصبت من قِبل سيّد البيت الذي تعمل فيه مُستغلّا غياب زوجته: "لم يمهلها أبو سالم، حاصرها بيديه القويّتين... وهي تقاوم وتقاوم، لكنّه باغتها بجسده وقامته الطويلة، ولم يكترث بتوسّلها وصراخها ونشيجها وتركها كالذبيحة تلملم ثوبها وتغطّي عُريها" (ص 115).

هذه النّظرة الضّيّقة إلى جسد المرأة، نجدها كذلك في قصّة "أشتهيك يا موت" حيث نشهد حادثة اغتصاب الفتاة على يد صاحب مزرعة القرية مُستغلًّا حاجتها إلى مكان تلجأ إليه بعد أن قُصف بيتها الذي تسكن فيه بمفردها بعد رحيل والديها. فتصف لنا الكاتبة حالتها النّفسيّة المحطّمة وهي تغسل آثار الجريمة: "عدّت قطرات النّدى المتساقطة على حوافّ الوجع، وأغلقت أسارير القلب. تفقّدت أصابعها، وجهها، شفتيها، شعرها ليليّ الملامح، وخاصرتها التي لعقت نزف الشّوارع. لم تنتحب، ولم تجعر كذبيحة العيد على عتبة البيت. وقفت عارية كما في البدء، حافية كما النهر حين يفقد خريره. كانت فقاعات الصّابون تتناثر على الحيطان، وبرغوة طفوليّة يصرخ الجريح في أحشائها، تتأوّه، وترمي بقايا من قطع القماش الملوّثة بدم بتوليّتها إلى سلّة المهملات" (ص 30).

تقول النّاقدة نازك الأعرجيّ في كتابها "صوت الأنثى": " إنّ الخطاب السّرديّ النّسائيّ يُقدّم عدّة نماذج تصف الآخر بسلبيّة وتكون أشبه بمقاومة طبيعيّة للأيديولوجيّة الرجوليّة التي عانت منها المرأة". وهيام قبلان في مجموعتها هذه تصف تجربة المرأة المريرة مع الرّجال. فالرّجل: هو الكاذب والمخادع والجبان والحقير في قصّة "العار"، وهو الأحمق والوحش المفترس في قصّة "أشتهيك يا موت"، وهو الخائن في قصّة "خطيئة"، والضّعيف والمهزوم في قصّتي: "أفقد نفسي" و "جمر وأمر". ونراها في قصّة "ثرثرة"، تُعلن موقفها من الرّجل بشكل واضح في قولها: "النّساء هنّ النّساء، يُحببن الرّجال، يحلمن ببيت وأطفال، والرجل يحلم بامرأة تشاركه فراشه، تضاجعه بطريقته التي يحبّ، تروي ظمأه، يشتهيها قبل إفراغ شهوته، يتأبّط رجولته، ولا يفكّر إلّا بما بين فخذيه" (ص 28).

أمّا القصص الأجمل في المجموعة، برأينا، هي تلك التي كُتبت بأسلوب السّرد الذّاتيّ الذي يُمثّل البوح الشّخصيّ للكاتبة، وحيرتها وضعفها وقوّتها وإخفاقاتها وخيباتها وتطلّعاتها. ونستبعد هنا أن تُنكر الكاتبة الصّلة بينها وبين هذه النّصوص، وأن تدّعي أنّها تدخل في لعبة التّأليف القصصيّ لا غير. فهذه القصص يصعب فيها فصل الرّاوي عن الكاتب، إذ يبدو واضحًا أنّ الكاتبة وجدت فيها متنفّسًا لاسترجاع ذكرياتها وللتّعبير عن همومها ومشاعرها وألمها ووجعها. فنراها تكاشفنا بلحظات ضعفها، وتفجّر عبر الكتابة ما في أعماقها من أسرار وألم وغضب وأسئلة واحتجاج وخيبات ولوم وعتاب. ولا سيّما تلك القصص التي تتناول فيها مسألة المرض وفقدان الابن. الأمر الذي يؤكّد ما نؤمن به: أنّ الكتابة أوّلًا وأخيرًا حالة إبداعيّة إنسانيّة، ولا يُمكن سلخ الكاتب عن نصّه. كما أنّ توظيف الضّمير الأوّل في هذه القصص يُعزّز شعور القارئ بمصداقيّتها وذلك لارتباط هذا الضّمير بقول الحقيقة. فالقصّة، بصفة عامّة، تستمدّ مصداقيّتها من ارتباطها بحياة كاتبها وتجاربه، وهذا ما نشهده في قصص: "سرب ضجيج" و "دون خيار" و "فوق سرير أبيض" حيث تطرح الكاتبة تجربة الرّاوية القاسية مع المرض وكم تمنّت الوحدة بعد إصابتها به، وكأنّ مصيبة فقدانها لابنها لا تكفي، حتى يداهمها هذا المرض ويفتك بجسدها ويُضعف عزيمتها ويؤثّر سلبًا على نفسيّتها التي بدت محطّمة ويائسة على الرّغم من نصيحة الأطبّاء بأن لا تحزن وأن تحاول النّسيان وأن تتشبّث بالأمل، إلّا أنّها "تركت كلّ شيء دون خيار.. هي الحياة بمرارتها أو الموت بعلقمه، لا فرق عندها في الخيار" (دون خيار، ص 91). بالمقابل، نجدها في قصّة "سرب ضجيج" تُصرّح أنّ ألمها الأشدّ والأعمق، والذي ولن يفهمه أحد سواها، هو حؤول هذا المرض دون قُدرتها على الكتابة: "أمّي لا يُمكنها أن تعلم أنّ القصيدة لا تزورني. أعتصر بقايا فتيل لقنديل خافت، تعتقلني الكلمات، تحاصرني بالأنين، وتتهافت عليّ الهلوسات.." (ص 56). ونراها تُعيد حساباتها في فكرة الخضوع للمرض وللموت، وتتنبّه إلى أنّه ما يزال في جعبتها الكثير لتعطيه وتُقدّمه وتقوله وتكتبه: أفكار وأحلام وقصائد وإبداع. تقول: "انتعلتُ المساء، التحفتُ بالألم، باحثة عن وجهي العابث في المرايا المتكسّرة أتساءل: إن كنتُ لا شيء يا قدري، وإن كانت نهاية الغيث قد اقتربت، فمَن سيوقف هذا النّزف؟ مَن يقبض مرّة على الرّيح، أمنحه قلمي ومداد الرّوح، أمنحه ذاكرتي.. فأيّة مواجهة تدفنين أيّتها النّفس، في ظلّ المطاردة؟ وأيّ المدافن باستطاعتها محوَ ثورة الرّيح المحتومة؟" (ص 57).

إنّ حادثة فقدان الابن هدَّتها وتركت شرخًا كبيرًا في روحها وحزنًا مزروعًا في قلبها. فقد فارقها وأهداها الحزن، ومناديل الرّحيل، وذاكرةً من أشلاء صُوَر ٍمعلّقة على الحائط (فوق سرير أبيض، ص 94). هذه المأساة تأخذ حيّزًا بارزًا في هذه المجموعة حيث تُصوّر الكاتبة كيف ترك رحيله جرحًا عميقًا نازفًا وصمتًا قاتلًا وصرخة مخنوقة وغصّة موجعة ومؤلمة تُعبّر عنها بكلمات مشحونة بالألم والغضب والّلوم والتّساؤلات والقهر والخيبة، تُقطّع الفؤاد وتُدمع العين. فبرحيله تَرَك أمًّا مكلومة فقدت كلّ أمل في الحياة. فالموت أخذه بسرعة خاطفة حتى أنّها "لم تعلم كيف سبقها إليه مُحتفلًا بالأسوَد، ولم تعلم كيف تدلّى عنق النّجم، ولم تُسعفها خطواتها لتحتضن وجهه" (هودج الأحزان، ص 107). تقول: "لم يمهلني الموت كي أُسرع وأحتضن جسدك المسجّى فوق الأرض، والعيون الجاحظة التي لا ترحم تبتعد دون مبالاة.. لم تمتدّ يداي لتلامسك، ولم أهمس لك بما كنت أريد قوله قبل الوداع الأخير.." (لوم، ص 64). وتلوم نفسها وتنتقد تخاذل المجتمع الذي يتغاضى عن جرائم القتل التي تحصل: "ألومني، إذ لم أملك القدرة على انتزاع الحقّ، أو إطلاق صرختي ضدّ الباطل. طال صمتي وخيّم الليل على قلمي واختنق، كي لا أكسر عصا الطّاعة.. في مجتمع مزيّف، انعدمت فيه العدالة الاجتماعيّة والإنسانيّة.." (لوم، ص 65). وهي تعتبر أنّ الدنيا فانية، وما حدث لابنها يُثبتُ أنّ لا وجه حقّ فيها ولا عدل ولا ميزان (هودج الأحزان: ص 106). ولكن، سرعان ما تتنبّه إلى ضرورة أن تُلملم حزنها وخطورة أن تسمح للغضب أن يقودها إلى حيث لا تريد ولا ترغب. فنراها تُحكّم عقلها وتُصفّي قلبها وتنظر إلى الحياة بعين التّفاؤل والاستمرار، ليس تراجعًا أو ضعفًا أو استسلامًا، بل من موضع قوة وتحدًّ وإصرار وبوعيٍ بدورها كأمّ وشاعرة وكاتبة ومثقّفة تحمل على عاتقها واجبًا اجتماعيًّا يقضي بالإصلاح والتّوعية والتّثقيف. تقول: "هذه الأصابع العشر المجبولة بدمك، ستُضيئ من أجلك قناديل َالأمل والمدى الطويل. سأستمرُّ ولو سرت وحدى فَرْدى. إنّه زماني الخطأ" (لوم، ص 67). تشعر أنّها خُلقت في زمان لا يناسبها ولا يتوافق مع مبادئها وقناعاتها، وفي مجتمع يضيق على أفكارها وتطلّعاتها وطموحاتها وقدراتها وأحلامها. ولكنّها، ومن أجل ابنها، ستستجمع قواها وستُضيئ قناديل الأمل وستستمرّ على الطّريق التي تؤمن بها وستتحدّى وتُواجه، وستعمل على أن تكون الحياة أفضل، وأن تسود المجتمعَ قِيَمُ الحقّ والعدل والإنسانيّة. 

أمّا قصّة "شغف" فهي سيرة ذاتيّة، تُعيدنا فيها الكاتبة إلى بدايات شغفها بالقراءة والكتابة. فتُحدّثنا بسرد جميل شائق عن شدّة تأثير قراءاتها لمؤلّفات جبران خليل جبران على مسيرتها الأدبيّة. حيث كانت تقرأ داخل شجرة الرمّان في كرمهم، وقد أخفت عشقها هذا للقراءة خوفًا من ردّة فعل أهلها وأمّها بالذّات. تقول: "سترتُ السّرّ وعراء فكري، داخل شجرة الرمّان التي علق لونها بذهني، وطعمها بحلقي، كالفرح المغرّد النّابت داخل العتمة، يتفتّح على شكل حبيبات من الرمّان المتورّد. خشيتُ من إفشاء عشقي لجبران السّماويّ الذي أهداني أوّل وردة محبّة، وبعث بي روحًا متمرّدة، وعرائس مروج، ودمعة، وابتسامة، وعواصف، وموسيقى، ورملًا وزبدًا.." (ص 21). وتتذكّر حين ابتاع لها والدها ما اختارته من كتب، وكيف أدمنت في ريعان صباها مكانًا تُفرغ فيه شهوتها ومتعتها المجنونة في القراءة، وراء صخرة قرب البحر في حيفا حيث كانت تتحايل على جارتهم لتقلّها معها وتحلّفها أن لا تخبر أمّها وإخوتها، وكيف ازداد خوفها وصراعها الدّاخليّ حين تحوّل شغفها بالقراءة إلى عشق الكتابة. هذه الصّخرة التي شهدت قراءات الكاتبة الأولى، والتي تذكرها الكاتبة في أكثر من قصّة، تؤكّد قول غاستون باشلار في كتابه "جماليّات المكان": "إنّ المكان لا ينطوي على البيوت والأثاث فحسب، بل يحمل ذاكرتنا وأرواحنا وأحزاننا". أمّا الأم والأهل هنا، فيُمثّلون التحدّيات والعوائق الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة، والاعتراضات الحادّة التي تُواجهها المرأة الكاتبة وتعرّضها لحيّز ضيّق من الحريّة الإبداعيّة حين تصطدم مباشرة بتقليديّة المجتمع العربيّ التي تصبح عائقًا أمام حريّة الفكر والإبداع. هذه التحدّيات وصعوبة مواجهتها تُعبّر عنها بقولها: "كسرتُ عصا الطّاعة، فلم تسكن العاصفة وتمهلني، بل صفعتني بقسوتها. لامست قدماي الأرض، ولم يُحلّق النّسر الذي أوهمني بالتّحليق معه، فالتّحليق لا يليق بالأرض، بل مكانه السماء.. رفعت عنقي قليلًا، ووجدتني بين سوط وجلاد.. ابتلعتني اللّعنات، صفّق الجبناء حولي، بينما شظايا الانكسارات اخترقت جسدي، والنسر هوى!" (ص 25).

في قصّة "بعد أن كبر الموج" توظّف الكاتبة تقنيّة "الميتا كتابة" أو "الميتا قصّ". ففي الوقت الذي يُتخيّل للقارئ أنّ الرّاوية تتحدّث إلى الرّجل الذي تُحبّ وتصف شدّة تأثيره عليها وما يُثيره فيها من أحاسيس ومشاعر، وكيف يُحاصرها ويُطوّقها ويصلب ظلّه فوق صدرها، سرعان ما يكتشف، بعد أربع صفحات، أنّها تخاطب الشّعر والكتابة وتتحدّث عنهما. فحبّ الكتابة فاض بها وتملّك أحاسيسها، ولم يعد بإمكانها التخلّص منه ومنعه عن التّدفّق والانسياب: "تلهث أنفاسي، وأدري أنّني أستسلم لسحرك العارم. حين دسستُ رائحتك بين خصلات شعري لأوّل مرّة، تجوّلتُ، تابعتَ خطواتي المهرولة، تجوّلتَ معي في شوارع المدينة ]...[ حاولتُ رميك في البحر، كما أرمي حاجيّاتي القديمة، فتصطادني أفكارك، وتحتال كصيّاد ماهر على سمكة البحر. أُقاوم الطُّعم، أرنو من صخرة شهدتْ قراءاتي الأولى، وامتصّت نهدَ الرّمال، وأُقرّر.. أقرّر أن لا أتبعك.. أقرّر أن أدخل غرفتي الصّغيرة المتعمشقة على جدرانها أحلامي الورديّة، ويسكنني ليلي لوحدي.. فلماذا تصلب ظلّك فوق صدري؟ لماذا تحاصر خاصرتي بيديك القويّتين؟ لماذا تُطوّق عنقي بسلسلة النّهايات، وأنا أمقت القيد؟". "راحتُك تتسلّق أعلى الجبين، تحضن رعشتي، تنقبض بين أصابعك، أشمّ رائحة عطرك المميّز وأُجنّ.. يا من عشقته روحي، وتراخى الانتظار لصهيل حوافره.. يا صاحب العشق المجنون، والسّفر المجنون، والليل المجنون، طيفك يتمطّى في سريري اليتيم.. تهطل فوق مساحة جسدي رغبتك المستفزّة، وماء جنونك، وتُفرغ في كأس مناي عصارةَ لقاحك" (ص 60). وعندما وقعت هذه الأوراق التي دوّنت عليها الكاتبة ما امتلكته الرّوح من متعة وما احتضنتْه من حلم، في يدي أمّها، نهرتْها: "تعالي يا بنت، بدّك تفضحينا في البلد؟ بعد ناقص تحبّي من ورانا". ولمّا أرادت الدّفاع عن نفسها، صاحت بها: "اصحي بيّك يسمعك. يا خسارة تربيتي فيك". وبكلمات تفيض بالعاطفة والصّدق تقول لأمّها: "حبّي للكتابة والقراءة ليس بيدي يا أمّي. كيف باستطاعتي أن أترك قطعة منّي، بعد أن كبُر الموجُ بداخلي؟ بعد أن بنت العصافيرُ أعشاشها بين ضلوعي، لتعيش بأمان؟ كيف؟ هل تفهمينني يا أمّي؟" (ص 63).

عن الجانب الجماليّ في هذه المجموعة، كنتُ قد تحدّثتُ في بداية المداخلة، ولكنّي أعود وأُشدّد على أنّ الكاتبة اهتمّت أن تبتعد عن السّرد الجافّ وأن تكتب بلغة شعريّة تتميّز بالكثافة والإيحاء، عبر توظيف تقنيّات مختلفة كالاستعارة والمجاز والاسترجاع والتي من شأنها أن تُضيئ أعماق الشّخصيّة ودواخلها، إذ تتّسم غالبيّة جملها بالتّساؤلات التي تعبّر عن أزمة البطلة، وبخطاب يوحي برفض واقع الأنثى المسحوقة. وتجدر الإشارة في هذا السّياق، إلى أنّ هذه اللّغة المكثّفة، والتي حقيقة أبدعت فيها هيام قبلان، لفّت بعض القصص بالغموض واستدعت قراءتها أكثر من مرّة والوقوف عند كلّ معطى وروابطه مع المعطيات الأخرى للوصول إلى فهم القصّة.

أمثلة مُختَصَرة تُبيّن جمال اللّغة: "تُحملق بجسدها المتكوّر الرّاجف، ترتطم بجسد آخر، تحسّه، يتصاعد شهيقه، تفكّ أزرار خوفها، وتلفّ ثوبها حول جرحه النّازف" (أشتهيك يا موت)، "يلتفّ الحزن حول عنق البحر، يُطوّق الرمال وهمس الموج.. ساكنة هي مدينة الحلم... منذ فجر صارخ، لم يقذف البحر أحشاءه، لا بسمكة ولا بمحارة. كلّ شيء يتخدّر، وصخور تخبّئ سرًّا، ونقشًا، وذكريات". (ص 68). "ولم ينته الحزن. قد نشلحه على جدار حديقة، تنبت من ضلعه زهرة. قد يورق في نيسان، ويرتدي زرقة البحر وربيع الغيث. قد يسافر بنا إلى حيث كان الوقت يزحف مستجديًا عيون السماء، أن ترفق بنا ولا تنسانا". (ذاكرة العسل المرّ، ص 70).

ميزة أخرى نجدها في لغتها هي ارتباطها بالجسد. وحول هذه القضيّة في أدب المرأة الكاتبة كُتب ونُظّر الكثير، من مُنطلق أنّ المرأة لا تكتب كما يكتب الرّجل، وإنّما تملك لغة خاصّة مرتبطة بالجسد ومأخوذة من عالمها (تأنيث اللّغة): "لامست عنقها الملتوي، شعرت بوخز ألم بين فخذيها، زحفت إلى الحمام، لتزيل قاذورات لعابه اللّزج فوق حقلها المصفرّ.." (أشتهيك يا موت، ص 30)، "يفرد اللّيل فخذيه متراخيًا على سرير يئنّ..."، "نهداها الهَرَمان المكوّران بلون الكرز يستفزّان شبقه، ساقاها النّاعمتان كعمودَي رخام ثلجيّين و.. كلّ ما فيها يثير ذكورته الذّئبيّة" (خطيئة، ص 110).

وأخيرًا،

إنّ جوهر الإبداع الأدبيّ الفنيّ، هو التّجربة الشّعوريّة التي تدفع الأديب إلى محاولة التّعبير عنها تعبيرًا محسوسًا. وهيام قبلان في مجموعتها هذه نجحت في قدرتها الفائقة على الإحساس بأبطالها والتّعبير عنهم بصدق وبراعة، كما نجحت في استقطاب المتلقّي وشدّه وفي اختراق قلبه وعقله، وجعله متعاطفًا وشريكًا معها في مشاعرها وأفكارها ومواقفها، عبر جماليّات النصّ وملامسته للوجدان. ولعلّ الجماليّة الأبرز والأقوى أثرًا تمثّلت في توظيفها للغة شعريّة مكثّفة، مشحونة بالعاطفيّة، تتميّز بالقوّة والعمق وبغنى الدّلالات وبقدرتها على النّفاذ إلى عمق الوجدان واستهداف البعد الإنسانيّ في الإنسان. وعليه، تبقى اللّغة، في رأينا، سيّدة هذه المجموعة وهي التي خَلَقَت قيمتها الجماليّة الفنيّة. أمّا هيام قبلان، فتبقى الشّاعرة والأديبة المبدعة المتميّزة والمتمكّنة من أدواتها الإبداعيّة. ورغم ما مرّت به من ظروف صعبة وخيبات وتحدّيات شاركَتْنا بها في هذه المجموعة، إلّا أنّها، كما نراها أمامَنا، ظلّت قويّة ومبتسمة ومُصرّة على أن تلمح الجانب المشرق للحياة، وبقيت متفائلة آملة بغد أفضل سيأتي، ومتمسّكة بحريّتها في القول والكتابة والحياة لأنّها امرأة تمقتُ القيد، كما قالت، وتأبى أن تعرف أحلامُها الحصار.

***

د. رباب سرحان

......................

* (نصّ المداخلة التي أُلقيت في أمسية إشهار الكتاب، في نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ 16.5.2024)

 

سردية أعترافية – التحدي الوجودي للذات

بما أن الرواية اليوم أصبحت الشغل الشاغل لجمهور عريض من الكتاب من حيث التأثير وسرد المزيد من الحكايات وجمهورها صار أكبر وأعمق وأوسع، بعد أن بلغ الإنتاج الروائي مستوى فاق حجم التوقعات بكثير، لما تنطوي على  ذلك بعد تنويري في أكثر من مجال،  الرواية اليوم تنطوي على سردية متطورة  أدواتها وعناصر تشكيلها السردي من الداخل.. الهم الذاتي الوجودي..، بما يحقق تقدما ميدانيا في فعاليات الحراك الجمالي والفني للرواية  وتفتح سبل التواصل مع المرجعيات المتاحة داخل بنية تفاعلية تنتخب منها ما يشحن الكيانات السردية المؤلفة للرواية بمزيد من القوة والتجلي، ويدفعها في اتجاه ما يتيسر لها من جرأة وبسالة في تجاوز الأطر المعتادة، والثوابت السائدة في إمكانات ثرية وخصبة تجعل من الرواية وسيلة طليعية للتنوير والتحديث.

الكاتب عبد الجبار الحمدي كتب روايته -عوالم السبع- بشغفٍ، ليخوض غمار التسريد، مستفيدا من إرثه الحكائي من القصة والرواية الغني والمتنوع، ومحاولا تأصيل هذا الشكل الأدبي، وعمد إلى تبني الرواية كنمط تعبيري يتفاعل من خلالها مع واقعه ورؤية العالم، والعالم الغرائبية متخذا من السرد آلية لإيصال صوته؛ انخراطا في قضايا مجتمعه وأمّته، مستفيدا في ذلك من مختلف المنهاج الفنية والمعرفية في رفد مشروعه السردي وقد استلهم العرفان في تجاربه  للنّهَل منها، وقد ارتهنت سردياته بطبيعة السياق التاريخي والثقافي لمرحلة التسريد في تلازم جدليٍّ مع الأسئلة الفنية المثارة في كل سياق على حدة..

وتأتي هذه الرواية حسب سياقاتها التاريخية، إلى استحضار المكوِّن العرفاني في تفسير جملة من الاسئلة في سياقنا الراهن، نزوعاً يكاد يتشكل بوصفه ظاهرة.

ويبدو لي أن الرواية الحديثة ستكون من أكثر الأجناس الثقافية والأدبية استجابة لمثل هذا الجدل والتحول باتجاه ولادة رواية جديدة تنبثق من رحم التراجيديا الإنسانية، ومن قلب الفاجعة التي عشناها ونعيشها كل يوم.

لا سيما وان البشرية اليوم، تمر بأزمة خطيرة، ومنعطف تاريخي كبير (سياسي ثقافي اجتماعي)، ربما يعاد فيه تشكيل العالم وفق أسسٍ جديدة. فقد اهتز العالم، واهتزت معه المجتمعات الإنسانية، أمام الرعب الذي فرضته العولمة على الناس في كل مكان، ووجدت فيه جميع الدول والمجتمعات، غنيها وفقيرها، شمالها وجنوبها، نفسها في حالة استسلام فجائعي أمام سلطة  فكرية نفسية -داخلية غير متوقعة –ظاهرة الاغتراب -.3976 عبد الجبار الحمدي

ومن هنا، ندرك أن العالم سيشهد تغيراً كبيراً في المفاهيم والقيم، وربما تلزمنا الحاجة لإعادة تشكيل الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد أشعرنا هذا التمزق والاستلاب  بأننا حقاً متساوون في كل شي، تماماً مثلما نشعر بأننا، بصفتنا بشراً، متساوون أمام سلطة هذا الخوف الجديد، وأن العالم الذي كنا نقول إنه قرية صغيرة قد أصبح اليوم أسرة واحدة، وأننا جميعاً -أفراداً وحكومات ومؤسسات- نتحمل مسؤولية مشتركة لحماية الكائن الإنساني، والحفاظ على  انسانيته التي تتعرض كل يوم إلى خطر التدمير بسبب السلطات العالمية والقاهرة.. الفكرية والاجتماعية والدينية -  غير العقلانية وغير الإنسانية التي تمارسها الأنظمة المحكمة دوليا في مصائر الشعوب.

ومن اجل الخلاص من هذا الشرور ارى ان نمارس التطهير من كثير من نوازع الكراهية والتعصب والانغلاق وسيكون هو الحل..

أما هذا التباعد الاجتماعي الذي لم تألفه مجتمعاتنا بعد. وأعتقد أن ثيمات جديدة ستتكرس في المتون السردية، اقرأ منها ثيمة التباعد الاجتماعي التي بدأنا نمارسها على الرغم عنا،

وثيمة العزلة التي سبق للرواية أن تناولتها، لكنها هنا عزلة من نوع جديد عاشها البشر في كل مكان..

وقد ترتبط بثيمة العزلة ثيمة قريبة منها، وهي ثيمة الخوف بأبعادها المختلفة، وهو خوف من المجهول والموت والخرافة. وقد يضرب الخوف البنية الاجتماعية من خلال الخوف من الآخر الذي عبر عنه مرة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بمقولته الوجودية الشهيرة «الآخرون هم الجحيم»، أو مقولة هوبز بذئبية الإنسان. لكني أعتقد أن نزعة إنسانية هيومانية تقوم على مبادئ الغيرية والإيثار ستتكرس لمواجهة أي انزلاق نحو الاستذئاب البشري، والخوف المتطرف من الآخر، وهو ما نجده اليوم من إحساس مشترك بمصائر الآخرين، المتمثل بالدور الشجاع الذي تنهض به الامم، ويخيل لي أن هذا المناخ سيعطي ضوءاً أخضر للرواية السيرية، ورواية المذكرات واليوميات، بما توفره حالة العزلة من فرصة للانتباه إلى مركزية الذات المتأملة، فلسفياً ووجودياً، في المصير البشري، وثنائية الحياة والموت، ووضع الإنسان داخل هذا الكون الغامض. وربما سيعود التركيز على توظيفات تيار الوعي والسرد السيكولوجي والمونولوج الداخلي والرواية الاعترافية. وسيكون هناك موقع متميز لعالم الطفولة والصبا والأسرة، ربما للتعويض عن غياب التواصل الإنساني.

اهمية الرواية  أنها تقارب قضية بالغة الأهمية في موضوع الهجرة والنزوح والهوية والانتماء والوطن والحرب وتفكيك الدولة والمصير، ولكل وحدة موضوعية من هذه الوحدات كيانها الإنساني الكبير، المتعلق بجملة هائلة من المفاهيم والرؤى والأفكار والقيم، وهي بحاجة إلى وعي وخبرة وتجربة ومعرفة كي تبلغ مستواها المطلوب.

عنوان الرواية العوالم السبع للروائي عبد الجبار الحمدي والمرتبطة فنيا بالرواية الحديثة من حيث كونها تسبر غور المفاهيم الوجودية والعرفانية وباطن الشخصيات،

فقد جاء في المقدمة:

(البشر خلق موسوم بعاهة التمرد وعدم الايمان بالخالق الواحد انهم كتلة من التناقضات فحتى الذي يعبدونه ربا خوفا وطمعا فمن يعرف الحقيقة في عالم تتمركز الاصفاد بين رجالات يمثلون السلطة يحكمون بأيدي من حديد على كل من يهدد ملكهم ونفوذ امتدادهم في بقائهم على راس السلطة سواء ملوك او رؤساء ولاة او خلفاء مرجعيات او قساوسة .فعالمنا سادي سحاقي مثلي الديوث فيه هو من يتسيد التعاليم...)

تتحدى الرواية كثيرا من التصورات والمعتقدات والقناعات في شكل أدبي، يحتكم للإبداع وحرية الكاتب، والحديث في تفصيلاتها وما يجري فيها محدود جدا، ولذا؛ يحق للكاتب أن يحاول ملء هذه الفراغات حسب تصوراته وخياله الجامح، حيث تناقش المسكوت عنه من الثوابت الدينية، وهي في النهاية نص أدبي إبداعي يخضع للمعايير الأدبية لا غير.

 نجح الكاتب  في إيصال المطلوب للقارئ بالمختصر المفيد دون إطالة أو إسهاب.

تميزت لغة الرواية بجمالها وشاعريتها، وجاءت عنصرا فاعلا يحسب للرواية، وعامل جذب للقارئ، بالإضافة إلى السرد السلس الممتع، ونقل القارئ إلى عوالم غيبية بما فيها من إثارة ومتعة وروعة. تهيمن على الرواية الحوارات الداخلية،فقد لجأ الكاتب إلى تقنية الميتا – نصية حيث يتعاقد مع القارئ على كتابة حكاية يروي سرديتها شخصياتها ذاتهم، وهي تأتي كرد فعل في زمن بدأ يشهد حراكا ووعيا

تضمنت الرواية مجموعة من الفصول المتعددة، واعتمدت على الراوي العليم الذي تسلم زمام الحكي على مدار الرواية، وأتاح الفرصة لبعض الأصوات أن تتحدث فقط، لتعرض تجربتها أو معلوماتها أو اهتماماتها مع الحياة

(اني اقف اليوم على اعتاب بوابات عالم واسع لقيط بالتأكيد الحرام فيه سدادة قنينة لزجاجة رميت في بحر ركبه وولج باطنه زبد السنين التي كانت بداية الخليقة بعد ان محيت ذاكرته لكثرة ما ابتلع من قصص وروايات وامصار عصور ...قد رمى بي على اعتاب ملجا لا ادري لم، لكني اعلم جيدا من اكون فانا لست ذلك المخلوق الذي جاء من العتمة الى النور المزيف لكني جئت من العدم والطلمة حاملا النور شعلة دليل لنفسي لا اخجل ابدا منها او ما يطلق عليها من الذين يعرفون خلفيتي)

في رواية الحمدي يستطيع المتلقي أن يجد ذاته المتعبة أو النافذة إلى عوالم الروح بسلاسة لغوية فيها من جدل يقيتي ما يتوق له القارئ. وأن يضيء كثيرا من الزوايا –الملجا-المعتم وأن يخترقَ جدران الألم ليصل إلى الإنسانية الحالمة والروح النقية..

لقد أتت الرواية بعنوان "عوالم سبعة" والقارئ المتمعنُ في هذا العنوان لا يفوته أن ينتبه إلى أنَّ الكاتب يسهبُ كثيرا في البحثِ عن دلالاتها العرفانية، فهو يختصرُ المسافة نحو المعنى بما يكفي لترسيخه. ثم إن هذا العنوان يصلُ بالقارئ إلى أنَّ الكاتب يترك روايته مفتوحة فهو لا يؤمن بالنهاياتِ المطلقة بل يجنحُ إلى النهاية النسبية غير المنتمية إلى سياقٍ بعينه.

الكاتب في هذا النص  امتلك رؤيةُ وقدرة على ترسيخ اللغة وصياغتها في قالبٍ يصل به إلى النافذةِ التي تطل على القلوب والعقول معا، وحاول ان يتجردُ من الواقعِ ليستعمل مفردات تخرجُ عن صمتها المعتاد ليتكلم كل جزء فيها ويخلق ما يريده هو أن يكون، أما رؤية فهي تتجاوز الزمن وحدود الجغرافيا لتنهضَ بالقارئ إلى تعميقِ فكرة العرفان بين البشرية لينصب نفسه  سفيرا- الأمل والحياة والروح.

وهذا هو التطرفُ الأجمل والفكرةُ الأكثرُ انصياعا للقلب ويطمح إلى التوفيق بين الديانات جميعها والكشف عن معناها العميق بواسطة معرفة باطنية وكاملة .

وما يلفت في هذه الإشارات الصوفية أنها جاءت في كثير من الأحيان غير مباشرة بل بالإيحاء وهذا بما لا يترك مجالا للشك بأن الكاتب يبثُّ روح السلام والمحبة في نصه الروائي ومن خلال شخصيته المركزية –حنظل عسل -.

أما الوطن في الرواية  فيتعدى حدود الأرض والمكان ليصبح روحا تتنقلُ في أرجاء الوجعِ الذي ينتمي له البطل في الأصل فيصطاده حزنا خلف حزن ووجعا خلف وجع ولا يفوته أن يصل إلى عمقٍ آخر من أعماق الوطن- وهذا ما أسميه متلازمة الوطن-.

(خرج محظوظ مصدوما كيف تعقدت الامور لم لم تسير حسب ما أراد لها كيف ظهرت هذه العجوز في حياتي فجأة والتي قلبت موازين حساباتي،،، ياللجحيم كيف للقدر ان يسير بغير المتوقع، كيف لي ان انسى اني تحت مجهر لا يمكن ان يغفلون عن مراقبتي وانا على قطعة زجاجة اختبار منظورة حذرني حنظل الاسود من قبل عن الغرور لكني لم اخذ بنصيحته ...اللعنة علبيك فشلت في ان اكون سيدك وسيد كل من حسبته صديق لي ...اللعنة)

الكاتب استطاع ان يعمق من الرؤية المكانية في هذه الرواية، مشيرا إلى أن المكان –مدينة مليلية وسبته التي تسيطر عليها اسبانيا وتعد جزء من المغرب -يشكل البعد الرؤيوي لشبكة العلاقات التي تتظافر لتشييد المكان، الذي تجري فيه الأحداث بفعل الشخصيات، فالمكان ليس مجرد تشكيل للمادة والأشياء في صورة تدرك لذاتها، إنما هي تظهر في النص من خلال زوايا نظم رؤى لتعبر عن انبثاق عالم كامل له حركته ومجاله الانفعالي. وقد قسّم السعدون بحثه إلى رؤية تشكيلية ورؤية سينمائية.

(في تفس الليلة التي غادر فيها اصدقائه جلس يفكر كثيرا في سؤال كان يلح عليه ونسي ان فتنة تنتظره وذاك ما اخبره البرنس حين همس له في اذنه ...ترى ماهي مقاييس العقيدة التي يمكنها ان تسيطر على عقل الانسان وتجعل حياته تسير ضمن منهج ثابت ...اهو عقل ام الفطرة ....)

واخيرا ان رواية «العوالم السبع» سردية مكتنزة بالواقعية -الفنتازيا، التي رسم معالمها الكاتب بمهارة عالية، فمنحنا مشاهد متشابكة ومتداخلة حد الغموض، لكن معالمها واضحة وخيوطها ممدودة بمهارة وحرفية باذخة.

وقد توقف الكاتب طويلا عند الشخصية الروائية –حنظل العسل- في هذه الرواية «  الشخصية المحورية» والتي تحظى بعناية الراوي كلي العلم أولا، ثم الراوي الذاتي في ما بعد بوصفها مركز الفعل السردي في الرواية، فهي فعلا مركز الحدث الروائي وجوهر الحبكة السردية.

كما يشير الكاتب الحمدي إلى أن الرواية لم تتوقف عند حدث مركزي، خاصة أن العنوان لربما يوحي بذلك، بل هناك امتدادات سردية تفضي إلى تفرعات كثيرة، داخلية وخارجية تتلاحم مع بعضها في إطار حبكة تشكلت أبعادها من رؤية العالم المستقبلية.

***

عقيل هاشم

(مسامير من طين) مجموعة شعرية للأديب حميد الحريزي، والصادرة عن دار رؤى للطباعة والنشر /الطبعة الأولى 2024 .

حميد الحريزي أحد أبرز الأسماء الأدبية العراقية، يكتب في مختلف الأجناس الأدبية: النقد الأدبي، الرواية طويلها وقصيرها جداً، القصة القصيرة، الشعر، إضافة الى الدراسات السياسية والفكرية. فهو بهذا مثقف موسوعي بارز، له بصمته وحضوره النشط والمثابر الغزير، في المشهد الثقافي والأدبي العراقي والعربي.

في النظر الى مجمل نتاجه الأدبي، نراه يتجه الى الكتابات الخارجة عن المشهد العام السائد في عالم الإبداع المتنوع الأجناس شكلاً  ومضموناً؛ إذ يتجه صوب الغرائبية الحكائية الشبيهة بالأساطير في رواياته القصيرة الصادمة، حيث يختار حكاياتٍ تاريخية المضامين، ممزوجة بالخيال والخلق، والأسطورة، كأنه يعيدنا الى حكايات ألف لية وليلة الخيالية المليئة بالأحداث الغريبة والشخصيات غير المألوفة. فمن رواياته القصيرة جداً (مذكرات كلب)، (أرض الزعفران) وغيرهما، ومنْ خلال حكاياتها يعرض لنا ما يعيشه الناس في بلادنا اليوم من واقع ووقائع اجتماعية وسياسية وقيمية، ناقداً وفاضحاً ورافضاً، بدل الاتجاه لتناول الأحداث والشخصيات الواقعية اليومية الحية التي تتحرك على أرضنا وبيننا ضمن ظروف سياسية واجتماعية تديرها وتتلاعب بها وتؤثر فيها سلباً، نجده يتجه هذا الاتجاه؛ ليضفي غرائبيةً، وإثارةً وتشوقاً للمتلقي، فينحت تأثيره المطلوب في نفسه. ومن منطلق اختياره الجديد للانطلاق في عالم الأدب الواسع، نجده يتجه أيضاً في شعره، صوب الصادم من القصائد، مختاراً قصيدة النثر شكلاً، وهذا بسبب موقفه الفنيّ تجاه البناء الكلاسيكي العمودي، وشعر التفعيلة، للقصيدة العربية، فهي في رأيه من القيود التي تحدّ من حرية الشاعر في التعبير، ومن الإنسيابية في ولادة القصيدة وما يريد الشاعر أن يقوله ويقدمه من افكار ومشاعر وأحاسيس منطلقة في فضاء رحب وما تحمله وتخلقه مخيلته من رؤى وصور، دون عوائق وعقبات من وزن وقافية وتفعيلات.

بعيداً عن الكتابة، التي عُرف واشتُهر بها، يكون سؤالنا:

من هو حميد الحريزي الإنسان؟

يجيب هو من خلال شعره قائلاً في نصّ (أبي "هايكو عراقي") ص ١٩:

والدُنا

تركَ لنا

بيادرَ منْ فقرٍ

فشيّدنا لهُ

ضريحاً منْ حسراتٍ

ترِكتُهُ

كرامةٌ وعِفةٌ وعزةُ نفسٍ

تعذّرَ على أبنائهِ توزيعُ الميراثِ

لأنّهُ لا يقبلُ القسمةَ

إذن هو من عائلة فقيرة، لم يرثْ عن أبيهِ مالاً، ولا أحمالاً، غيرَ بيادر من فقرٍ، فما كان منه ومن أخوته إلّا أنْ بنوا له ضريحاً من حسرات، هنا استعارة إذ شبّه كثرة وحجم حزنهم على أبيهم بضريحٍ، وهذه دلالةٌ على كمّ التأثر والأسى الذي أصابهم برحيله، وعمق الحزن الذي تركه خلفه إرثاً لهم. لكنّ الإرث الأعظم من كنوز قارون هي: الكرامة، والعفّة، والشرف، وعزة النفس، والاستقامة، ونظافة اليد، والكفاح الذي أوصل أديبنا الى ما هو عليه اليوم من مكانةٍ ثقافية عليا، لقد خلّف للأمة ولداً صالحاً ذا علمٍ، يدعو له بالخير، مثلما يدعو له الآخرون. هذا التركة الغنية ليست بمالٍ، ولا ضياع، ولا قصور كي يتقاسمها الورثة، إنّما ترك إرثاً غنياً بالقِيَم والمبادئ، والأخلاق النبيلة المُشرِّفة، التي تبقى خالدةً مع الزمن، عصيةً على التقسيم؛ لأنها وحدة صُلبة لا تتجزّأ، ولا تنقسم.

والسؤال الثاني المطروح على مائدة البحث والاستقصاء والتحليل:

من هو حميد الحريزي شاعراً؟

يجيب بنفسه أيضا شعراً قائلاً في قصيدته الموسومة بـ(قصائدي لا تصلح أنْ تكون هدايا)  ص 17 / 18:

أرسمُها

حروفاً بشرايين العين

لصوصَ شعرٍ تخرجُ من معطفي

*

فيختالُ معطفي فرحاً

أنّه أولُ مَنْ حطّمَ أمامها كلَّ

أصنام التفعيلات

*

حروفي تحملُ سحرَ

الثلجِ

وتلبسُ فستانَ

الجمرِ

قلْ ماشئتَ، فأنا لا أشبهُ غيري

قلْ ما شئتَ فأنا أقدّسُ

شِعري

فالشعرُ عنده ليس هديةً أو هبّةً، إنه شيءٌ مقدّس، سحرٌ، سحرُ ثلجٍ، ويرتدي فستاناً منَ الجَمْر. وبناءً على اعترافه هذا، فالشعر عنده محرابٌ يُصلّي فيه، ويتبتلُ مثل عابد، وينقلُ لنا ما ينزلُ عليه مِنْ وحيٍّ، وولادةٍ بعد مخاض التبتُّل والانتظار، وهو غائبٌ ذائبٌ في الذات الشعرية، لتتكوَّن وتكتملَ خَلقاً وبناءً لغويّاً بلاغياً، وكياناً منْ قصيدة، فتنطلق نافذةً منْ روحِهِ ومنْ أحاسيسهِ مثل نيزكٍ مُشعٍّ وجمرةٍ حارقةٍ؛ لتكونَ قصيدةً تكتنز بالمتضادات (الطباق بلاغياً): فهي مِنْ جمرٍ، وثلجٍ، وسحرٍ، بحيث لا تشبه غيرها من قصائد الشعراء: مَنْ كائنٌ الآن، ومَنْ كان في ما مضى من الزمان، عبر عصور الشعر المختلفة. فهو ساحر النقيضين الثلج والجمر، السحر والحقيقة الواقعية.

هو حميد الحريزي الذي لا يُشبِهُ في الشعر غيرَه. لقد خرج عنْ عباءتهم الكاتمة للنور، ومعابدهم الحجرية، وسطوة قيود الوزن والقافية؛ لينطلقَ في فضاءات شعرية جديدة، ويؤسِّس لنفسه عالمه الشعريَّ الخاصّ، بعيداً حتى عن شكل قصيدة النثر بقوانينها الموضوعة، والمتطورة، تصاعدياً فنيّاً، مع التطورات والتغيّرات الحضارية، زمنياً خارج أُطُر الكلاسيكية الشكلية السلفية المقدّسة الثابتة غير المتحوّلة، والغافية في حضن القياس الصارم، لا الانطلاق والتحرّر الحاسم. وهو ما نلقاه في دواوينه الأربعة. كلُّ ديوان له سماته شكلاً، ومضموناً، بإرادةٍ وتصميمٍ فنيٍّ خطّهُ في مسيرته الشعرية:

قلْ ماشئتَ، فأنا لا أشبهُ غيري

قلْ ما شئتَ فأنا أقدّسُ

شِعري

الشعرُ في مفهومه فنٌّ مقدسٌ، وبما أنه يقدس هذا الفنَّ الإبداعي في داخله فهو يتجه صوب البناء والمضمون الذي يراه أهلاً لهذا المقدّس، وينطلق من نفسه بما يوحى اليه، وما يؤشّر ويدلُّ عليه؛ ليكونّ عِقداً فريداً منْ صياغته لا من تقليدٍ لغيرهِ من الصيّاغ. لكنْ في الوقتِ نفسه الى جانب ثورته على الشكل وقيود التفعيلات وأوزان الشعر المنهجية الكلاسيكية في قصائده، إلّا أنه تجمعها وحدة المضمون السياسي والاجتماعي، والرؤى الفكرية والفلسفية والعقيدة السياسية الاجتماعية؛ وذلك لالتزامه الأيديولوجي اليساري، المؤمن بالعدل والمساواة والحرية والحياة الكريمة، والدفاع عن الفقراء والمضطهدين في العالم، ودعوة الجياع الى الثورة، ومهاجمة الأغنياء والمترفين، والرأسماليين المتوحشين، وعبدة الدولار الأمريكي؛ وهذا بتأثير من الفكر الاشتراكي العلمي الذي آمن به، وناضل وتحمّل منْ أجل موقفه هذا الكثير، وهو الموقف الذي ما زال متمسكاً بعروته الأيديولوجية، دون فكاك، ولا انقلاب نحو الصوب الآخر أو الصوب النشاز، أو الانزواء، ولا تراجع، ولا تغيير، ولا خيانة فكرية،  ولا تنازل، أو مساومة، أو صمت:

تساقطتْ دموعٌ

مِنْ عيونِ طفلٍ جائع

منْ عيونِ طفلةٍ يتيمة

حفرتْ أُخدوداً

في جبهةِ الأرضِ

أوقدَها

لهيبُ حسرةٍ أمٍّ موجوعةٍ

فالتهبتْ ناراً

تحلَّقَ حولَها الجياعُ

فارَ التَّنورُ

فإلى أينَ المَفرُّ

أيُّها الرغيفُ المسروق؟؟

تحوَّلْ ناراً حاميةً

في الكَرْشِ المدلوقِ

تبَّاً لكُمُ

مُلّاكَ التِّبرِ

مُلّاكَ الدولارِ

فبئسَ المالُ الفُسوقُ

(من قصيدة "الرغيف الهارب")

الرومانسية في الديوان:

في خضم الموجة المبدأية الفكرية والسياسية والاجتماعية، والالتزام بها، تناول الشاعر أغراضاً شعرية أخرى، منها الغزل الرقيق رومانسياً، وأسلوباً عذباً، ولغةً تناسب المقال والمقام، لنقرأْ ما يقول في قصيدة "قبلة شقائق النعمان" ص 88:

ما بكِ

أيَّتُها الأميرةُ الساحرةُ

أهملتِ شَعرَكِ الذهبيَّ

لتذروهُ الرياحُ

فسرقتْهُ الشمسُ

المتربصةُ

خلفَ دياجيرِ الغيومِ الهاطلةِ

أهملتِ شمَّ زهورِ الياسمين

فاستعمرَتْها العناكبُ السَّوداء

مِشطُكِ الذَّهبيُّ

أصابَهُ الضجرُ

*

النهرُ العاشقُ

يتأوَّهُ شوقاً

الى عطرِ جسدِكِ الذي

أسكرَ مويجاتِهِ الراقصةَ

*

إخلعي ثيابَ الحزنِ

حبيبتي

لتخلعَ الشَّمسُ ثيابَ الحِدادِ

ابتسمي حبيبتي

لتعانقَ

شفتيك

شقائقُ النُّعمانِ

يستمر في وجدانياته ورومانسيته الرقيقة الحارة حرارة العاطفة المتوهجة، ليثبت أنّ الأدبَ الملتزم كمفهوم فني لا يعني الجمود عند الثوابت الفكرية والسياسية إنّما يتجاوزها أيضاً الى الأحاسيس الذاتية المرتبطة بالعواطف الإنسانية كالحبّ، والحزن، والفرح، والغضب، والرضا، وغيرها، وهي حالات فردية تصيب الإنسان في كلّ زمانٍ ومكان، فإذا سدّد كيوبيد سهمه الى قلبٍ يخرّ هذا القلبُ صريع الهوى، كائناً مَنْ كان المجروح، قديساً أم من عامة الناس، ذا سطوةٍ أم صعلوكاً، مثقفاً أم أميّاً، عالماً أم جاهلاًأ؛ فالكلُّ في الهوى سوا، كما يقولون. ولْنقرأْ معاً ما يبوح به في قصيدة (وحام الزهور) ص 118:

توحَّمَتْ

وردةُ الجُوريِّ

بقطرةٍ مِنْ رضابِ

حبيبتي

توسَّلتْها أسرابُ العنادلِ

بالقُبولِ

فاشْتعلَ غَيرَةً

ندى الصَّباحِ

ولْنتزوّدْ بهذا الزاد الرومانسي في قصائد الحريزي، ولنرفعْ كؤؤسَ ذائقاتنا لِنرتشفَ رحيقَ الحبِّ في كلماته واهتزازاته القلبية العذبة، ولغته الرقيقة، التي تختلف عمّا نلقاه في صرامة النقد، وفضح القبح في الواقع السياسي والاجتماعي،  ولغته المتجاسة والمناسبة للحال والمقام والمقال، وهذا ما يمتاز به اسلوب شاعرنا الفنّي، على مقولة "لكلِّ مقامٍ مقال"، فلكلِّ ولادة قصيدة مقالها الخاصّ المتوافق مع مضمونها وولادتها. فكما أسلفتُ: فلنتزوّدْ، ولْنحتسِ كؤوسَ رحيقِ الغزلِ منْ شعره، فنثملُ وتتراقص قلوبُنا، ومن قصيدة (ورد الياسمين)  ص119

يا ملهمتي

يا مَنْ أنسيتني طولَ سنيني

يا ندى الصُّبحِ

يا بلسمَ الجُرحِ

يا وردَ

الياسمين

يا شِفاهَ الكرز

يا قُبلةَ الروحِ

يا طعمَ الشَّهدِ

هائمٌ أنا.. أحبُّكِ

نعم، أحبُّكِ

حبَّ المجانين

لكِ منّي معَ الريحِ

على ثغرِ النَّسيمِ

قُبُلاتي الملايين

كفاكِ وعوداً

روحي تكرهُ الوعودَ

كما يكرهُ القيدَ المساجين

عنوان الديوان:

اختار الشاعر عنوان الديوان من اسم احدى قصائده (مسامير طين "نصّ سائل") ص 103.

وبما أنّ عنوان أيّ كتابٍ أو نصّ هو البوابة الرئيسة والمهمة، والعتبة التي يعبر عليها المتلقي للولوج داخل المؤلَّف وما يحتويه، لذا فإنّ الدقة والصواب في اختياره عملية ليست سهلة على الكاتب، قد تكون أصعب من المضمون. لهذا جهد الحريزي أنْ يكون اسم المجموعة عتبة نصية حاذقة ومصباحاً منيراً للقارئ، يضيء زواياها كشفاً أولياً أمام عينيه ووعيه وإدراكه، وقد أجاد وأصاب برميةٍ منْ رامٍ خبير، وهو  الخبير في الأدب وفنّ الكتابة بمختلف أجناسها الأدبية، وكما أسلفنا في قراءتنا عمَّا تدور حوله قصائدُ المجموعة. فاختيار العنوان كان (مسامير) منْ (طين). فالكتابة المسمارية على ألواح الطين مربوطة بالتاريخ الحضاري العراقي القديم في الكتابة السومرية والأكدية، حيث الكتابة على الطين بما يُسمى بالخط المسماري، وهي إشارة حاذقة من الشاعر لربط قصائد المجموعة بالتاريخ العراقي السومري والأكدي. وفي العنوان تورية هي ضربة معلّم حصيف يعرفُ ما يقول وما يريد: فهو باختيار المسمار، ترابطاً مع القول العراقي (ضُرَبَهْ بِسْمار) بمعنى ضربه بمسمار أي توجيه انتقاد حادّ موجع غير مباشر الى شخص مُخاطَب ليحدث وجعاً مثل وجع المسمار إذا دُقّ في جسد من لحم. لكنّ شاعرنا وجّه المسامير الى أناس وأحداث ووقائع مرّ العراق بها ويمرّ. وهنا عتبة أولية إشارية ودلالية للمتلقي قبل تقليبه صفحات المجموعة، بحيث يمهّد الطريقَ لوعيه وادراكه وقراءته ما تتضمن قصائدُها من موضوعات ومعانٍ وغاية يتوخاها الشاعر، فهي نقدية حادّة، ولمَنْ؟ هذا ما سيكتشفه القارئ المتصفِّح المهتم، والناقد الباحث المُستكشِف، والدارس المتخصّص. وبما أنّ الأديب حميد الحريزي معروف باتجاهاته الأدبية والفكرية، يردُ مباشرةً على ذهن العارف به والمتابع له شعرياً ونثرياً، أنّ المضمونَ سياسيٌّ اجتماعيٌّ نقديٌّ حادّ.

***

عبد الستار نورعلي

للشاعر سعد ياسين يوسف نموذجاً

جدل العنونة والإهداء:

تعمل العتبات النصية عادة على تمثيل الرؤية الشعرية العامة لدى الشاعر، وهو يحاول إيجاد ما أمكن من الصلات بين العنوان الذي يرغب بوضعه لديوانه الشعري بوصفه العنونة الكبرى، أو العناوين التي يضعها لقصائده بعد ذلك بما يمكن وصفة بالعنونة الصغرى، وحين يرغب بوضع إهداء فإنه لا يضعه بعيداً عن جوهر العنونة وما تفرزه من معطيات دلالية وسيميائية ورمزية لها علاقة وثيقة حتماً بطبيعة التجربة.

ديوان "أشجار خريف موحش" للشاعر سعد ياسين يوسف يتكون من فضاء خبري تحمله مفردة "أشجار" وقد جاءت على شكل جمع نكرة، بحيث تحيل على كل ما يوجد في الطبيعة من أشجار بكل ألوانها وأصنافها ونماذجها وأشكالها، من دون تعيين أو تحديد، وهذه المفردة على مستوى التشكيل النحوي هي خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هذه" أو "هي"، وفي الحالتين كلتيهما ثمة تركيز على الخبر بوصفه المقصد الشعري الأساس من الإشارة الخبرية، بكل ما تتمخض عنه المفردة من دلالات مفتوحة على معانٍ لا حصر لها تتصل بصورة الأشجار وطبيعتها وتاريخها وحضورها في عالم الطبيعة، ومن ثم تأتي إضافتها إلى نكرة مفردة "خريف" كي تشكّل بهذا التضايف صورة أكثر انتماء إلى الطبيعة، إذ إن "خريف" هو أحد الفصول الأربعة الرئيسة في الطبيعة؛ وله خصائص وصفات ومزايا شديدة الخصوصية، طالما استثمرها الشعراء في قصائدهم بتوجيهات رمزية وسيميائية عديدة.

من الواضح أن التعبير التضايفي "أشجار خريف" بهذه الصورة يحتاج إلى إضافات تشكيلية أخرى كي يتجلّى المعنى بشكل أوضح، لأن هذا التعبير يبقى ناقصا بانتظار حلقة لغوية تسهم في إكمال الصورة والمعنى معاً، لذا فإن النعت "موحش" يجعل المنعوت "خريف" ماثلاً في دائرة مهمة إكمال المعنى العنواني، وهنا تكتمل الصورة العنوانية كي تدلّ على أن المقصود الأصل في تشكيل العنونة هو "خريف" بعد أن يحمل صفته "موحش" من جهة، ويعود إلى حمل اللفظة الخبرية الجمعية "أشجار" من جهة أخرى.

تتجه الصورة العنوانية في تشكيلها نحو فضاء يركّز عدسة كاميرا التصوير على "خريف" موصوف بـ "موحش"، وتتجلى صفة الوحشة في الـ "أشجار" التي تنتظم مع "خريف" ومع "موحش" في تشكيل تنكيري متجانس، لا يحصل على فرصة التعريف إلا من خلال احتشاد الألفاظ الثلاثة كلها مع بعض، في سياق تركيبي لغوي واحد ينتج الصورة المأسوية التي أراد الشاعر فرضها على مساحة العنونة الكبرى، كي تلقي بظلالها بطريقة أو أخرى على عناوين الديوان الصغرى وهي ترتفع على رأس قصائد الديوان.

 تحمل هذه الكلمات في صفحة الإهداء كثيرا من القيم الدلالية التي تتفاعل مع دلالات عتبة العنونة، إذ تعدّ عتبة الإهداء موازية إلى حد ما تتوسّط العتبات النصية الأخرى، وتستخدم هنا همسات الحروف المعبرة عن عمق الإحساس بالأشياء، لتخلق مقدمة خاصة لشرح الفلسفة التي يقوم عليها الديوان وذلك من أجل إنشاء جسر يصله بالقارئ/المتلقي، ونص عتبة الإهداء المشتبك مع عتبة العنونة هو:

(إلى الذينَ أشرعوا صدورَهم /للرصاصِ... ...

أملاً بربيعٍ مبهج ٍ

ولمْ يَكُنْ سوى/خريفٍ موحشٍ)

يشكل الإهداء الجسر الذي يصل خطاب الآخر بخطاب الذات ليحمل رؤية كاملة ومتكاملة عن جوهر التجربة، وهو ما يسعى الشاعر إلى تكريسه ضمن عتبة عنوان ديوانه "أشجار خريف موحش"، من أجل تمثلات وتجليات لنموذجه الشعري الخاص، الذي يعبر عن هويته في إعلان الفضاء النصي بطريقة معينة في هذا السياق وداخل هذا المضمار، لنكتشف وعيه في عملية الاستثمار النصي الجمالي في مساحة العناصر التشكيلية. ومن خلالها يعبر في آليات السرد الشعري عن روح التجربة ووحدتها السيميائية والرمزية والأسطورية، من أجل أن يعبر عن مقولته الشعرية في نهاية المطاف.3968 سعد ياسين

ويشير -أعني العنوان "أشجار خريف موحش"- إلى حالة من الوحدة والضياع والغموض مرتبطة بمظاهر الاكتمال وتغير الألوان. وهذا مؤشر على نهاية الدورة الحيوية للطبيعة، فضلاً عن كونه رمزاً للآخر مع اندماج وانصهار حالة العزلة أو الحزن أو الخسارة. كما تهدف الصورة العنوانية على هذا النحو إلى نقل التجربة الشعرية الشخصية نحو فضاء شعري سردي درامي، لتقديم... الموضوع أمام الذات، العام على الخاص، البعيد على القريب، الشامل على الجزئي، في استراتيجية شعرية يتجلى فيها المفهوم الجديد للشعر، ويعمل وفقه على أكثر من مستوى فني وأكثر من صعيد جمالي.

ولا سيما حين يستخدم الشاعر لغة شعرية محددة جداً في طريقة استخدامها النوعية على مستوى حركة الدال والمدلول وتفاعلهما معاً، وعلى مستوى التعبير والتشكيل في اختيار نوع البناء وطريقته ومنهجه وأسلوبه، تماشياً مع طبيعة الزخم الشعري الذي يتمتع به ديوان "أشجار خريف موحش" من نواحٍ عديدة ومجالات متنوعة، لا تقف عند حدّ التنويع العنواني للقصائد وأثرها في التشكيل العام للقصيدة، ولا عند حدّ الحكاية ولا الرؤية ولا الصورة ولا أي معطى فني أو جمالي آخر في فضاء التشكيل المكاني الشعري.

اخترنا قصيدة "قيامة بابل" كعالم مصغر يمثل الحياة بأسرها فهي ذات حركة ثابتة ومستمرة في أن واحد، تشبه حركة ديناميكية الحياة في كثير من معالمها وقضاياها وحكاياتها ورؤاها وتمثيلاتها الكثيرة والمتنوعة في فضاءاتها وإحالاتها.

إن فضاء العنونة الخاص بالقصيدة "قيامة بابل" يستدعي طبقات كثيرة ذات طبيعة أسطورية وتاريخية وزمنية ومكانية، من أجل تحقيق الحدث الخبري الذي يحيل على مرجعية متنوعة في المعنى والدلالة "قيامة"، وحين تضف إلى "بابل" فإن صورة بابل بوصفها من أقدم مدن العالم وأكبر عواصم بلاد الرافدين عاصمة الإمبراطورية البابلية، ومعنى الاسم بالأكدية هو "بوابة الآلهة" الذي يتلاءم في تشكيله العنواني مع دلالة "قيامة"، وما ينفتح عليه المعنى من قيم دلالية لا حصر لها يتجلى كثير منها في طبقات القصيدة، وتعمل الطبقات بطريقة عالية التداخل والاشتباك للتعبير عن جوهر الأطروحة الشعرية التي تتبناها القصيدة، وهي أطروحة تقرأ الماضي والحاضر وتستشرف المستقبل.

طبقات القصيدة وإمكاناتها الجمالية:

شئنا في قراءتنا أن نقترب من القصيدة في سياق يتضمن وينطوي على رؤى في فضاء نقدي يحمل تفسير وتأويل معطياتها، والكشف عن خصوصياتها الجمالية، من خلال محاور نقدية عديدة، فهي قصيدة عميقة ومنفتحة إلى آفاق شعرية متنوعة، وهذا ليس بجديد على نص الدكتور سعد ياسين يوسف؛ إلا أن الشاعر في هذه القصيدة ومن خلال مقاطعها التي تتكون من سبعين مقطعاً تمكّن من طرح فضاء شعري حاوٍ لإمكانات شعرية خاصة، ولا سيما أنها تحتوي على أطول نصوص ديوان (أشجار خريف موحش).

 سعى الشاعر إلى إضافة شيء جديد للعلاقة بين درامية الفضاء المكاني والشعر. وفي كل مقطع من القصيدة توجد ثيمة ويوجد نشاط درامي خاص، يتميز باستمراره مع ما سبقه وما تلاه من جهة، إضافة إلى تميزه بنوع من الاستقلال البنيوي الذي يجعل من المرور مشهداً شعرياً درامياً متكاملاً من زاوية أخرى.

إذ قسمنا مقاطع القصيدة "قيامة بابل" على مشاهد؛ لأننا نعتقد أن الفعالية المشهدية بطابعها الدرامي هي الصورة المثلى التي عملت في المجال الشعري الدرامي داخل عموم القصيدة، ، بما يمتاز به من حساسية تصويرية / مشهدية تتجلى في عناصر التشكيل التكويني كالشخصية، والمكان، والزمان، والحدث، والصراع، وغيرها، فضلا عن وجود العناصر الشعرية الأساسية كالخيال والرمز والرؤية الشعرية وغيرها من العناصر. بما يجعل من كل مشهد من القصيدة علامة درامية تؤكد وعي الشاعر الاستثنائي الذي يدفعه نحو بناء فضاء تشكيلي شعري ودرامي في آن واحد يكشف عن قدر كبير من التماسك والتلاحم والتفاعل.

وقد حرصنا في قراءتنا على أن تكون المنهجية القرائية حرة تستجيب للرؤية والشخصية والذوق النقدي الخاص، مستفيدة من كل المناهج الحديثة التي تمكننا من مساعدة أدواتنا النقدية في العمل التحليلي والتأويلي، بما يمنح الشخصية الناقدة الفرصة الأكبر للظهور والنشوء. وهي تكشف عن المزاج النقدي الخاص، مما يجعل القراءة مجالاً ميدانا جمالياً يسهل مشاركة القارئ/ المتلقي ليكون شريكاً قادراً على التفاعل مع القصيدة مرة، ومع القراءة النقدية مرة أخرى، بعد أن أصبح المتلقي جزءاً لا يتجزأ من الفضاء الإبداعي للشاعر في خلق النصوص الأدبية أو إعادة إنتاجها من جديد.

يوصف المكان النصي بأنه أداة فنية لا يستغني عنها المبدع ليضفي نكهة خاصة على حركة إبداعه. وفي الواقع، يهيمن المكان على بطولة العمل الأدبي في بعض الأحيان، عندما يكون المكان هو هدف النص وغايته، وعلى الرغم من أن المكان يمثل الإطار الذي لا يفقد أبعاده الهندسية تماما. ويقدم التفاصيل في هذا الصدد، لكن خيال الفنان المبدع وذاته ينعكس بالضرورة في أجواء المكان وفضاءاته. ويظهر بظلال وألوان مضافة تثري العمل الأدبي وتجعله أكثر حركة ديناميكية وتأثيرا وحيوية وانفتاحا على بقية العناصر.

إن عنصر المكان يعمل شكلا تكوينيا في مساحة الفضاء النصي بصورة ذات زخم فني وجمالي عالٍ، ليكَون قدرة فاعلة تتجاوز الجماد المنفعل بذاته، وتنتقل إلى مشهد مسرحي على مستوى الفعل والتأثيرات والتأثر. ويشكل ويضيف ويعدل ويلغي ويبدع، وهذا يحدث على المستوى العاطفي والنفسي أو على المستوى الواقعي للحدث، ويأخذ شكله النصي من خلال هذه القدرة المؤثرة الفائقة ضمن المراحل والطبقات للعمل الأدبي من بداية النص حتى نهايته، ولعله في مجال الفضاء النصي الشعري هو أكثر حيوية ونشاطا عند الشعراء الذين يدركون خطورة المكان وأهميته في صياغة جماليات النص.

قصيدة "قيامة بابل" لها عنوان مكاني متحرك يوحي بأنها آتية مكانيا من فضاء الأسطورة نحو الفضاء النصي، وذلك لتصوير طبيعة الحركة الحيوية للشخصية الأسطورية "يا ابنة مردوخ" التي جاءت صورتها ممثلة في الراهن الشعري.

يرصد الشاعر بعدسة كاميرا تركز على البنية المكانية من وجهة نظر الرؤية الذاتية. ويسعى فيه إلى تصوير الفضاء النصي المكاني المتخيل الذي يرتفع فوق المكان الأرضي الطبيعي (بابل)، لارتباطه ببنية مكانية أسطورية تعيد إنتاج حدث مكاني أسطوري في أفق الحدث الشعري الملحمي المستدعى إلى فضاء المكان في القصيدة.

 وما يصاحبها من خصائص متعلقة بالجذر المكاني وحركته الدائرية في أعماق الحدث الشعري "السماء والأرض والبشر، النبات والحيوان، البحار والأنهار، الشمس والقمر"، وبالحساسية الشعرية التي يتصف بها نص الشاعر. وبالرؤية المكانية التي تنتج وتحمل كثيرا من الرؤى والأفكار والتصورات والأحلام، وتعمق صورة الحدث الشعري في المشهد بشكل لا تتوقف فيه الحركة السردية.

يأخذ الحدث الشعري المكاني في هذه الصور بعدا جدليا يشارك في صياغته وإنتاجه وسرده الدرامي، فضلا عن حركة الأفعال المضارعة في النص. وهي تحيط المكان الشعري بإنتاج شعري ذي طابع تكويني محيطي تنويري؛ في سياق رصد الصورة نحو أحد مسارات التشكيل السردي وآفاقه للإسهام في تشكيل الفضاء النصي. وقد يكون الموقع موقعا جانبيا أو أماميا أو رأسيا في القصيدة من خلال عدسة كاميرا التصوير الشعري، وذلك حسب حساسية طبيعة الفضاء النصي في القصيدة وهو يتحرك عبر الزمن والمكان، في صيغ شعرية تستدعي التاريخ والأسطورة والماضي إلى فضاء الراهن كي تتشكل الصورة المطلوبة.

الطبقة الشعريّة الأولى: فضاء النداء المكاني

تبدأ قصيدة "قيامةُ بابل" في طبقتها الشعرية الأولى ببناء مكاني يطلق إشاراته نحو فضاء مكاني ضارب في عمق التاريخ والزمن والأسطورة، وهذه الإشارة المنطلقة من عتبة الطبقة الشعرية الأولى ذات الطبيعة الاستهلالية هي طبقة ندائية؛ يستخدم فيها الشاعر أداة النداء "يا" بصورة استدعائية لأمكنة وأزمنة وشخصيات وحالات ورؤى وأفكار وقيم ونماذج وصور متعددة ومتنوعة في تشكيلاتها.

 بهذا التشكيل المنفتح على آفاق تكاد تحتوي الحياة بأسرها والتاريخ بأسره في تفعيل عميق لعلاقة الذات الشاعرة بالموضوع الشعري:

"بابلُ

يا صخرةَ الإلهِ، يا متَّكأَ العرشِ

 يا لهفةَ الطينِ إلى السَّماءِ

يا هسْهَسْةَ الجذورِ في التّرابِ

يا أصابعَ الخلودِ..

 يا صرخةَ الرّيحِ

يا شهقةَ المعابدِ

يا كلَّ الجهاتِ

يا مُختصرَ العصورِ

يا خبزَ هذهِ الأرضِ، دورتَها 

يا مُختلفَ الملائكة. 

يا بنتَ (مردوخَ)...

يا خالقَ السَّماءِ والأرضِ والبشرِ

يا خالقَ النَّبات ِوالحيوان ِ

يا قاتلَ (ثيامةِ الشّرِ) وسابغَ الخيرِ

على الحقولِ والبراري الخضراء.

يا سيدَ البحارِ والأنهارِ"

تقوم أداة النداء "يا" بدور محوري تشكيلي دائري في بناء بؤرة شعرية مركزية تدور حولها أحداث هذه الطبقة من القصيدة، وتبدأ من مركزية المكان الشعري في القصيدة "بابلُ" كي تبدأ من هذا المكان بكل ما ينطوي عليه من حساسية شعرية حفلة النداء، وتكون البداية من أعلى حلقة في تشكيل المرجعية الشعرية "يا صخرةَ الإلهِ"، مصحوبة بالمكان الخاص والمعبّر عن الحلم الدائم "يا متَّكأَ العرشِ" لرسم الصورة الفوقية العليا لمشهد الفضاء الندائي المكاني، وبماء خط شروع صالح لاستمرارية النداء وصولاً إلى المقصد والهدف.

ثم تبادر ياء النداء للاتجاه نحو الجذر المادي للمكان بكل قيمه الأسطورية من خلال العلاقة بين طبقته العليا وطبقته الدنيا "يا لهفةَ الطينِ إلى السَّماءِ"، والرغبة في العودة إلى مكان الانبعاث الأصلي التكويني، والهبوط في لقطة أخرى إلى حساسية الرؤية المكانية في نموذجها التاريخي المكاني المرتهن بالأسباب الأولى للحياة "يا هسْهَسْةَ الجذورِ في التّرابِ"، والانفتاح على رغبة حلمية أزلية لدى البشر للحصول على فكرة الدوام والاستمرار في الحياة "يا أصابعَ الخلودِ.."، والالتفات إلى الطبيعة في أوج تجليها الإيقاعي العارم "يا صرخةَ الرّيحِ"، لاستكمال الصورة المستدعاة نحو تحقيق خلاص ما في فضاء القصيدة.

تتحول الحالة الندائية بعد ذلك نحو الأمكنة القديمة في تشكيلاتها الدينية الأولى "يا شهقةَ المعابدِ"، مقترنة بالحدود التي ترسم شكل حركية الحياة فيي الوجود "يا كلَّ الجهاتِ"، في سبيل البحث عن معنى ومغزى يختزل الزمن ويختصره في مقولة واحدة ورؤية واحدة "يا مُختصرَ العصورِ"، واللجوء في مستوى ندائي آخر إلى المرجع المكاني الأصيل الذي لا مكان غيره للحياة الفعلية "يا خبزَ هذهِ الأرضِ، دورتَها"، على النحو الذي يسمح للمنادي بتوجيه ندائه نحو أدوات إلهية بوسعها أن تحقق مثل هذا الخلاص المنتظَر "يا مُختلفَ الملائكة"، ومنه نحو ابنة كبير آلهة قدماء البابليين "يا بنتَ (مردوخَ)..." من أجل الاستعانة بها لتحقيق هذا الحلم الشعري الذي لم يعد قابلا للتحقق.

من هنا تنطلق الحساسية الندائية في الطبقة الأولى الاستهلالية من القصيدة نحو لفظ "الخالق" بوصفه المدبّر الأعلى لكلّ شيء "يا خالقَ السَّماءِ والأرضِ والبشرِ /يا خالقَ النَّبات ِوالحيوان ِ/يا قاتلَ (ثيامةِ الشّرِ) وسابغَ الخيرِ/على الحقولِ والبراري الخضراء/يا سيدَ البحارِ والأنهارِ"، في صورته الكلية والشاملة وهو يهيمن على كل شيء ويسيّر كل شيء لكي يأخذ بيد صاحب النداء، ويستعيد بها صورة التاريخ في قلب الراهن والحاضر.

الطبقة الشعرية الثانية: صورة المنقِذ والمخلّص

تنجح الطبقة الأولى من القصيدة في إرساء دعائم التشكيل الشعري الحكائي في سرديته المكانية، وبناء الفضاء المكاني المطلوب بكليته الشاملة العابرة للأزمان والدهور والحالات والحكايات والقصص التي تمتد عبر الزمان والمكان، إذ إن لحظة اللجوء إلى الخالق هي لحظة استثنائية لا تخلو من رؤية صوفية غاطسة في الأعماق:

"إن غبتَ عنها ساعة ًهبتْ عواصُف

السَّماء

واجتاحَ طوفانُ التراتيلِ العيونَ 

حتى استفاقت في المَدى 

نبوءةٌ كانت:

 "أن ائتزر لهم"

في لُجةِ القيظِ في تمّوز

يا أيها المُختارُ من ذريتِها،

يا حاملَ سيفِها متشفعاً بأنليل"

تتحرك الأدوات الفاعلة في التشكيل الشعري للطبعة الثانية من القصيدة داخل رؤية شعرية، تقوم على بناء حوار بين الراوي الشعري وبين شخصية الخالق تتحرّى فيه شخصية الراوي الحصول على الحلّ المطلوب "إن غبتَ عنها ساعة ًهبتْ عواصُف السَّماء/واجتاحَ طوفانُ التراتيلِ العيونَ"، ولا شك في أن مفردة "عواصف" مقترنة بمفردة "طوفان" تشكلان علامة شعرية تستعيد جملة من ملامح الأساطير، القادرة على تثمير الصورة الشعرية في هذه الطبقة من خلال سمات ومزايا وحكايات تتجلى من وحي هاتين المفردتين، ضمن سياق مرجعي يتصل بما تحمله كل مفردة من محكي شعري في أعماقها. 

ما يلبث الراوي الشعري أن يستدعي في خضم هذا الاشتباك الشعري عالمه الخاص هنا؛ بين فضاء المكان وفضاء الزمان وفضاء الرؤية، ويتحرك هذا العالم الخاص في الإلماح إلى نبوءة سابقة "حتى استفاقت في المَدى/نبوءةٌ كانت:/"أن ائتزر لهم"/في لُجةِ القيظِ في تمّوز"، والإحالة على منطقة تاريخية ودينية خاصة يمكن أن تدفع باتجاه حلّ لغز الحكاية الشعرية، من حلال حضور الفضاء المكاني المشحون بحضور الفضاء الزمني.

يعيد الراوي الشعري الذاتي إطلاق آلة النداء في سياق شعري جديد ومنتخَب بعناية شعرية لافتة، عبر استعادة الإله السومري القديم وهو إله الرياح والهواء والأرض والعواصف كي يقوم بدوره في الشفاعة "يا أيها المُختارُ من ذريتِها،/يا حاملَ سيفِها متشفعاً بأنليل"، إذ يستيقظ الإله "أنليل" من رقاده الطويل القديم ليكون هو المنقذ والمخلّص، داخل هذه الدائرة الشعرية التي تتعالى فيها صيحات النداء في الاتجاهات كلها أملا في مصير جديد.

الطبقة الشعرية الثالثة: الاستدعاء المكاني وتخليق الرؤية

تنتقل الطبقة الثالثة من القصيدة نحو فضاء الاستدعاء المكاني الأسطوري من أجل رسم خريطة جديدة للمحتوى الشعري في القصيدة، ويتضمن هذا الاستدعاء المثول بين يدي التاريخ والأسطورة والماضي الزمني الموغل في القدم من أجل تكبير حجم الصورة الشعرية، فهي صورة كلية ومطلقة تتحرك في الاتجاهات كلها على طريق الاستجابة للعتبة العنوانية المثيرة "قيامة بابل"، نحو مسار جديد تحصل فيه الرؤية الشعرية العامة للقصيدة على بغيتها في حراك تمثيلي لا يتوقف عند حد أبداً:

"(الدّيرُ) ... مُنطلقُ النبوءةِ

والنصرُ في عرباتِكَ التي

تسابقُ الرِّياحَ ...

يا بابل،

الكرخةُ نهرُ دم ٍ

وعيلامُ انثنتْ.. تبكي نوائِحَها..

أطفأتْ نيرانَها

اكتوتْ ببابلَ ... حدَّ الفجيعة ِ

وانزوتْ.

البِشْرُ يصدحُ في الدروبِ 

(مردوخُ) عادَ

 يا راقصاتِ المعبدِ المقَّدسِ

يا كاهناتِ (اي ساكيلا)

يا شارعَ المواكب ِ

يا كلَّ أنوارِ المدينةِ هللّي

(مردوخُ) عادَ شامخاً

رايتُهُ للشّامِ... للخليج.

رايتُهُ.. بابلُ الجنائن ِ

اشتعالُ الكوكبِ... قبضةُ هذا الكونِ

لن يسرقَ مسلتَها الغزاة.

اللعنةُ، اللعنةُ حلّتْ."

إن الاشتغال على تخليق الرؤية الشعرية يعدّ من أبرز آليات الاشتغال الشعري داخل فضاء المكان بحمولته الأسطورية والتاريخية، بما ينطوي عليه من حكايات وقصص ومرويات ذات طابع شعبي يعبر من فوق الواقع "(الدّيرُ) ... مُنطلقُ النبوءةِ /والنصرُ في عرباتِكَ التي /تسابقُ الرِّياحَ..."، على النحو يسهّل انتقال النداء إلى مركز العمليات الشعرية المكاني "يا بابل"، حيث يستعيد المحكي الشعري في خضم تواصله مع الذاكرة والماضي التاريخي والأسطوري كثيرا من صور المكان وحيثياته على هذا الصعيد "الكرخةُ نهرُ دم ٍ/وعيلامُ انثنتْ.. تبكي نوائِحَها../أطفأتْ نيرانَها /اكتوتْ ببابلَ ... حدَّ الفجيعة ِ/وانزوتْ"، فتتجلى دائرة فعلية تضم الحراك الشعري بأجمعه في ظلّ فضاء يعمل على حصر الحكاية الشعرية في مسار مشترك واحد.

تتكشف الصورة الشعرية في هذه الطبقة عن رصد الحالة البشرية العامة في إيقاعها الكلي المطلق عبر المكان "البِشْرُ يصدحُ في الدروبِ"، في ظل عودة مردوخ التي تفسح المجال واسعا من جديد لإعادة حفل النداء والبحث عن الآخر "(مردوخُ) عادَ/يا راقصاتِ المعبدِ المقَّدسِ /يا كاهناتِ (اي ساكيلا)/يا شارعَ المواكب ِ/يا كلَّ أنوارِ المدينةِ هللّي"، فثمة دعوة مفتوحة للفرح والاحتفال والبهجة كي يتحول فضاء المكان إلى فضاء المطلق الشعري، لأن عودة كبير آلهة قدماء البابليين له حظوته وسطوته الكبيرة "(مردوخُ) عادَ شامخاً/رايتُهُ للشّامِ... للخليج./رايتُهُ.. بابلُ الجنائن ِ/اشتعالُ الكوكبِ... قبضةُ هذا الكونِ/لن يسرقَ مسلتَها الغزاة"، فتبرز معالم الفضاء المكاني المتعدد تاريخيا وأسطوريا "الشام/الخليج/الجنائن/الكون".

وهنا تحصل الكارثة التي يعلن عنها الراوي الشعري في ختام هذه الطبقة بما يجعل من الصورة الشعرية صورةً مأساوية "اللعنةُ، اللعنةُ حلّتْ"، وحلول اللعنة بهذا الشكل المرعب والمروّع يسهم في تخليق الرؤية على نحو من الأنحاء، ومن ثم تطوير الأداء الشعري باتجاه الانتقال إلى طبقة أخرى ترى من جديد حلم الأسطورة أو أسطورة الحلم، في سياق تمثيلي يحمل بين طياته شكل هذه العودة وفضاءاتها بين الاستدعاء المكاني من جهة، وبين التخليق الشعري للحكاية من جهة أخرى اعتماداً على هوية الشخصية والزمن والمكان والحادثة الشعرية.

تتفاعل الصورة الشعرية على يد الراوي من منطقة الإيجاب إلى منطقة السلب، ومن منطقة البعد إلى منطقة القرب، ومن منطقة الأعلى إلى منطقة الأدنى، ومن منطقة الصوت إلى منطقة الصمت، ومن منطقة الثبات إلى منطقة الحركة، في استراتيجية شعرية تقوم على منطق تشكيلي وتعبيري عابر للمشهدية التقليدية، وهي تفضي إلى حراك شعري لا يتوقف عند صورة وحيدة أو حالة وحيدة أو رؤية وحيدة، بل تنفتح على فضاء مكاني وزمني ورؤيوي

الطبقة الشعرية الرابعة: الاستباق الشعري

تتضمن الطبقة الرابعة من القصيدة نوعا من الاستباق الشعري في تشكيل سردية المحكي الشعري في القصيدة، حيث تتمكن اللعبة الشعرية من العبور إلى منطقة السرد في تفعيل آليّات السرد الزمني المعروفة، في سياق تمثيلي يسلّط فيه الراوي عدسة كاميرا التصوير الشعرية على الحادثة الشعرية بهذه الصورة الحاوية:

"غداً تستوقفُ الريحُ

(أرضَ البحرِ)،

تعيدُ أشرعةَ المراكبِ...

تستجدي عطاياكِ

البحرُ بحرُّكِ والشراعُ شراعُكِ.

بابلُ يا زمجرةَ العواصف

يا صحوَ الرخاء

يا أيقونةَ الإله

غداً ستُبعَثينَ من الترابِ

من طينه ِالفرات ِ

ترتقينَ سفحَ جنّاتِكِ العجابِ

بلا حجاب ِ

تفتحينَ للسماءِ السابعة ِ

قبضتَك.

يبدأ الاستباق الزمني الصوري في "غداً تستوقفُ الريحُ/(أرضَ البحرِ)،/تعيدُ أشرعةَ المراكبِ.../تستجدي عطاياكِ"، أي أن الفعل الاستباقي الذي ستستوقف فيه الريح أرض البحر وتعيد أشرعة المراكب هو فعل شعري درامي "تستوقف/تعيد/تستجدي"، كي تحضر الطبيعة بقوة في هذا المسار الشعري الدرامي "الريح/أرض البحر"، مع فضاء الحراك البحري "أشرعة المراكب" في صورة انزياحية واسعة.

يتعامد بعد ذلك دال البحر في صورة موازية مع الشراع "البحرُ بحرُّكِ والشراعُ شراعُكِ"، من أجل اللجوء من جديد إلى أيقونة القصيدة "بابلُ" من أجل أن يتجدد النداء في مجموعة أوصاف وحالات جديدة لفضاء المكان المركزي في القصيدة "يا زمجرةَ العواصف/يا صحوَ الرخاء/يا أيقونةَ الإله"، وما بين هذه الحالات الثلاث تتردد صورة المكان ابتداءً من الصورة العنيفة التضايفية الأولى "زمجرة العواصف" في مرجعيتها الأسطورية، ثم الصورة الهادئة والمثمرة التضايفية ايضاً "صحو الرخاء" في مجالها الفضائي الرحب، وأخيراً في الصورة التضايفية التي ترتفع إلى أعلى مقامات التشكيل "أيقونة الإله"، بكل ما تنطوي عليه هذه الصور التضايفية من إيحاءات وتمثّلات وإحالات تشتبك فيما بينها للتعبير عن جوهر التشكيل.

ويتبع هذا التعريف نوع من اللوم على رحلته الشخصية في بحثه داخل عتبات المكان والزمان: "غداً ستُبعَثينَ من الترابِ /من طينه ِالفرات" بشكل يجعل الطريق إليه هو الطريق الوحيد الذي يضمن وصولاً آمناً ومريحاً وثرياً ومنتجاً، كما توحي صورة "بلا حجاب" عبر دلالات رمزية يمكن الرجوع بها إلى مراجع أخرى، وهي تحمل مساحة درامية عميقة تنبع من صورة الدهشة الحاضرة في هذا المسار.

وينتهي السؤال الدرامي المنبثق من الآخر المؤنث نحو فضاء الراوي الذاتي الشعري بجملة "تفتحينَ للسماءِ السابعة ِ/قبضتَك/؟" كناية عن عدم القدرة على التمييز بين المسار القريب الذي يمثله المؤنث الآخر؛ ليحمل المسار البعيد المجهول في داخله مزيداً من الغموض الذي لا يمكن معرفته بسهولة، ويأتي الفعل المضارع "تفتحين" على هذا المستوى مشحوناً بطاقة درامية عميقة تكشف الصور الغامضة التي تعيشها الشخصية.

يبقى فضاء المكان بصورته الشعرية التي تحيل على التاريخ والأسطورة والمثال والحكاية والحادثة هو الفضاء الأكثر حضورا وتجليا وتأثيرا في حيوية المجال الشعري، إذ يتمكن الشاعر من بناء الصورة الكلية ومجموعة الصور الصغرى في هذه الطبقة اعتماداً على حيوية اللغة الشعرية ونشاطها الخلاق، واستثمار طاقات الدوال واللقطات والأفعال في البحث عن أرض شعرية صالحة لحركية اللغة، من أجل بلوغ هذه الطبقة مع الطبقات الأخرى في القصيدة مرحلة تكون فيها الأشياء قد أثمرت، في سياق تمثيلي رؤيوي تتلاقى فيه المرجعيات مع الأحلام في عملية اشتباك فلسفي ترفع من شأن الحكاية وتعمّق مساراتها.

الطبقة الشعرية الأخيرة: الاكتمال وصيرورة المكان

تنتهي الطبقة الشعرية الأخيرة من قصيدة "قيامة بابل" إلى صورة معينة من صور الاكتمال الشعري، من خلال فعاليات شعرية تحاول جمع كل تجليات المكان البابلي لإحياء الصورة التاريخية والأسطورية لبعث مكاني جديد، تكون فيه الصيرورة المكانية الشعرية أملا خفياً لصيرورة حياتية تنبعث من قيامة المكان:

"تمنحُكِ كتابَ أسرارِ هذا الكونِ 

من جديدٍ، نبوءةَ الإله ِ

بابلُ ستُبعَثينَ

شاءوا أَبَوا... ستُبعَثينَ.

النجومُ تشرقُ فوقَ جدرانِك.

والشمسُ والقمرُ

لجلالِ هيبتِك

كما النبوءةِ ... ساجدين."

تحظى خاتمة النص في الفضاء الدرامي بأهمية استثنائية لأنها تجيب على الأسئلة وتحسمها، وتعلن عن موضوع النص وفلسفته منذ البداية، إذ تتمتع افتتاحيات النص واستنتاجاته بمكانة حدودية استراتيجية. لأنها تمثل مرحلة العبور؛ إذ يحمل النص طاقات درامية تسدل الستار على الحكاية الشعرية، وتحمل أدواتها لتكوين الصور وتأليف اللقطات والمشاهد داخل حساسية جمالية ترى وتلمس وتشعر وتحسّ وتكّون نموذجها بقوّة اللغة، فحين تكون اللغة الشعرية قادرة على أن ترى أبعد من أهدافها الدلالية القريبة، فإنّها تتسلح بقوة سيميائية عالية تمكّنها من العبور إلى فضاء المكان الشعري بأعلى وأبلغ ما يكون من تشكيل.

يمتلئ المشهد الأخير بحساسية درامية مكثفة ومثيرة تروي حصيلة أحداث النص في طبقاته المتعددة من البداية إلى النهاية، إذ يشهد حوارا حاسما لا رجعة فيه بين شخصيتي النص الراوي الذاتي والآخر، إذ الراوي يتولى زمام المبادرة الشعرية الدرامية ويرسم نهاية إنتاج الحدث الشعري بما يحمل من خزين حكائي قادر على التأثير، ولعل من ملامح الضغط الدرامي في هذا المشهد الأخير من القصيدة بروز البنية الحوارية وتأثيرها في رسم خريطة الأحداث، وما قد تؤول إليه من نتائج تحسم البيان الشعري في فضائه المكاني، على ما يحمله هذا المكان من كنز أسطوري كثيف متعدد الأوجه والمجالات والمحاور.

يندلع صوت الآخر وينبثق بحضور لافت يوجه خطابه نحو الراوي الذاتي الشعري بقصدية عالية، وتبرز فعالية أداة النداء "يا" المستفزة لتعلن جوهر الصوت وقوة حضوره في المشهد شعرياً ودرامياً، تليها الإشارة التعريفية الأكثر وضوحاً للعناية المباشرة، "بابل". بمعنى أن الراوي يشير إلى الذات والمكان والزمان في الصورة الحاسمة والنهائية؛ وكأن شخصية الراوي الشعري تبحث عنها في الطبقات كلها والمسارات كلها.

وما أن ينتهي خطاب الأنثى المتغيرة للراوي الذاتي الشعري من تقديم رؤيته الخاصة المتعلقة بالراوي، حتى يبرز صوت الراوي الذاتي الشعري رداً على ذلك، مما يشير إلى أن الحوار قد وصل إلى مرحلة درامية يزداد فيها الإيقاع "تمنحُكِ كتابَ أسرارِ هذا الكونِ /من جديدٍ، نبوءةَ الإله"، ولا شك في أن "كتاب أسرار هذا الكون" زائداً "نبوءة الإله" يحيلان على عنوان القصيدة "قيامة بابل" بوصفه الحامل الأكبر لأسرار القصيدة.

إن هذا الحوار الاعترافي يكشف البعد الدرامي في تشكيل الفضاء المكاني بكل مقترباته وأشكاله وتحولاته وشخصياته. وما يلبث ما ينتج هذا الحوار كرد فعل مناسب على خطاب اللوم الذي أطلقته الأنثى، لتتحدى ذلك الخطاب وتصوغ رد فعل معاكساً لاقتراح العودة إلى بابل "بابلُ ستُبعَثينَ/شاءوا، أَبَوا... ستُبعَثينَ/النجومُ تشرقُ فوقَ جدرانِك/والشمسُ والقمرُ/لجلالِ هيبتِك/ كما النبوءةِ...  ساجدين."، في حراك شعري ذي زخم هائل يستحضر كل شيء تقريباً للارتفاع بمستوى التعبير إلى هذه الدرجة، إذ ترك الشاعر الطريق الطويلة في فضاء المكان الشعري العام ليقول: "ستبعثين شاءوا، أَبَوا "، أي الاستمرار على نفس الطريق ولو كان الدرب بعيدا، بقصد درامي واضح في هذا التشكيل اللغوي المتعدد الصيغ والتعبيرات والقيم التشكيلية. ويظهر هنا من خلال معنيين متناسبين لغويا، "شاءوا، أَبَوا"، بطريقة درامية عميقة.

تمثل الصفة الزمانية المكانية "قيامة بابل" النقطة التي يصل فيها الشاعر إلى مرحلة تحقيق التوازن التفاضلي بين المشاهد المتناقضة المتضادة، إنها تتحرك في سياق نشاط ديناميكي ينقل تجربة الواقع بكل آلياته. ولا شك أن هذا التصور يجعل من عنوان قصيدة "قيامة بابل" وضعا شعريا مركزيا وليس محايدا كما يبدو للوهلة الأولى.

والجملة العنوانية تبدو جملة عابرة ومكثفة ولا تنتمي إلى حال محددة وضيقة في حد ذاتها. وهو ما يعكس في سياق عنوانه المنفصل عن الجسم الشعري صورة وصفية. بشكل عام، يمكن تكراره مرات عديدة، لكن منذ لحظة دخوله لأول مرة مجال النص الشعري، يتبين أن العنوان مقصود بالتأكيد على نحو يحيل على التاريخ والأسطورة بدلالة الحاضر والراهن، وهذا القصد يتضمن في تضاعيفه العديد من الفعالية الحركية الديناميكية الدرامية على مستوى عناصر التشكيل الفضاء الشعري بتمثيلات المكان والزمان والحدث والشخصيات وغيرها.

يتمتع ديوان الشاعر سعد ياسين يوسف انطلاقا من هذه القصية المركزية والقصائد الأخرى بخصوصية وتفرد يجعله يستحق حقا هذه المكانة، على كل ما تنطوي عليه من مكنونات ومكبوتات النص، وذلك بنظرة معمقة إلى طبقات هذه التجربة وزواياها الفنية والجمالية؛ إذ ما نلبث أن نكتشف طبيعة الزخم الجمالي والموضوعي الوفير في هذه التجربة الشعرية، وهي تتوزع بين التاريخ والأسطورة والرؤية والزمن والمكان على وفق حساسية شعرية مرهفة وعارفة ومستوعبة للحال الشعرية الذاتية والموضوعية.

***

أ.د. رائدة العامري/ العراق

للشاعرة الدكتورة أ. دورين نصر بعنوان: أنثى الحلم

من العنوان نبدأ، وكلمة نحت وتعني فن وعمق وإظهار، ولكن هذا النحت هو على الهواء، ربما أرادت أن تقول غداً لن يبق منا سوى ذكرى وبضع كلمات، ولكننا نعلم علم اليقين أن الحياة ذاتها مجرد كلمة وإن كلمةٌ تحيي، وكلمةٌ تميتُ، ومن أجل هذا تهدي شاعرتنا كتابها إلى أمها باعتبارها أول الكلمات وتهديه إلى أبيها ذلك الحنين المعتق ولهفة الخريف. والمرأة في المحصلة كلمات من لهفة وحنين وترنيمة حياة.

تغازل دورين في قصائدها مثل بوح النسيم ورقة البراعم الغضة فتقول:

"فأنا حين أحببتك

رميت أحزاني

وصارت الشمس تشرق

من عيون القصيدة."

ولأننا جميعا نحتفظ في أعماقنا بطفلٍ أبدا لا يكبر، نكبر ولا يهرم، طفل يقودنا بكل يسرٍ إلى البَدء إلى سويعات الفجر، يستيقظ في لحظات الفرح ليدغدغ أمانينا، تقول في قصيدتها:

"وأنت تهمس في قلبي

فتنضج الحروف على شرفة الحياة.

وأعود طفلة صغيرة."

وما نلبث أن نكتشف فيها تلك المرأة الأنثى التي تحرص على ألا تبوح بالمكنونات كي لا تُبَكِّتُها التفاسير الفجَّة، فهي لا تصرِّحُ له بالحب علانية وتترك له جلاء كلِّ الألغاز:

"لعلي أخاف من لحظة تأتي

 أعرف فيها ما أقول."

هذه هي دورين، عطرٌ من كُلِّ الألوان، وغيرةٌ وغزلٌ وعشق وبحارٌ من هُيامٍ، ولكن حين يصير الواقع مُعتماً، وحين تتوه ابنة الحكاية، لا تجد بُداً من السَّفر عبر حلمٍ إلى وجه الابنة إنانا تستعير منها تفاصيل الحلم، وشروط اللعبة المدهشة، ومن أَولى من ملكة السماء كي تحقق لها الحُلم المستحيل لا فرق كبير في الاسم إنانا أو عشتار فالمهم هو الوصول إلى محطة الحب والجمال والصفاء والنقاء بسلام.

ولكن الويل كل الويل إن يصيب المرأة مللٌ أو يعتريها سأمٌ حينها ستصرِّحُ:

"سئمت التراتيل والغناء والضوضاء

مللت من المرآة ومن العبور."

تستمد دورين من عبق الماضي لهفةً مختبئةً بين السطور، تمشطها بخيوط الروح، تهياها للسفر في رحلة الأمل، هي تعلم أن المرء مجرد عجينة من لون الحزن تتناثر فوقها بضعة حبيبات من فرحٍ ومن سكرٍ.

تبدو مرتبكة خَجْلى، هل تبوح له بحبها علانيةً وتصرح بعشقها وحبها، وتستجمع كل شجاعتها لتهمس له

أحبك، فقط حينها تنفتح كل الزنازين ويخرج المارد من القمقم، وتتغير فصول الحكاية فتقول:

"عندما همست أحبك

صرخ المدى

واهتز صمت الليل

نام الصَّدى فأدركت حينها

أنها تبتسم"

في كلٍ منَّا جراحات لا تندمل فالوطن جرحٌ والشوق جرحٌ والهجر جرحٌ وجراح الروح أقسى الجروح

والحياة في كل معانيها صليبٌ محمولٌ على أكتافنا الممزقة، لا تنتهي عذاباتها إلا في يوم الرحيل البعيد.

ولا أطن أنها كانت مصادفة أن تقع قصيدتها "لن يكون هذا الخريف رومانسياً" إلا إشارةً ضمنيةً إلى انزياح الضوء لصالح العَتمة.

ورغم الوداعة والرِّقة التي غلَّفت معظم قصائد المجموعة لكنها حينما يتعلق الأمر بحقوق المرأة لا تجد غضاضةً في أن تكون قويةً متمردةً وحتى عنيفةً فتطلب من أمها قائلةً لها:

"لا تكوني امرأةً مطيعةً

أجمل مافي الريح

أن تكون عاتيةً

 لن أكون مثلك طائعةً."

تتأرجح عواطفها بين الشَّوق واليأس، فهي مازالت تحن إليه وتتوق إلى لقياه، ولكنها تعلم أن ذلك صار أقرب إلى المستحيل فتقول:

"عندما يهرب اللقاء من موعده

ويغرد الرَّحيل بين شظايا الفراق

وعندما يتعثر العمر بخطوته

وتبقى قوافل الشعر عالقة في زحمة الانتظار

قد ألقاك."

ورغم هذا يعتمل الشَّكُ في داخلها فيحتل اليأس أعماقها فتقول:

"غرابٌ فوق السطور يحومُ

يصغي إلى خريرِ الضوء

ويقتاتُ من دمي."

ذلك الأنا القابع في دواخلنا، توأم روحنا، والذي نتكئ عليه كلما ارتكبنا هفوةً، مثل طفلٍ في مدرسة، نلقي الَّلومَ عليه ونتحجج به كي نواري عثراتنا وزلاتنا وحتى أحزاننا، ربما ننساه في فترة فرحنا القصيرة لكنَّه لا يتركنا ولا يهجرنا، بل يبقى دوما هناك قابعاً في انتظار أوامرنا وحتى قصاصنا وتحمل كلّ خيباتنا وهزائمنا وانكساراتنا تقول دورين:

"تلك المرأة التي تراقبني لا تشبهني

 مع أن ملامحي مرتسمة على جبينها

 قد يكون وجهها حزيناً كوجهي

 لكنها تكتفي بمراقبتي."

تتكرر بضع كلمات في القصائد كأنها تحكي عن أسرارٍ ما عادت بالأسرار، فعندما يُباحُ بالسرِّ تموت كل الألغاز وتفنى، فتتكرر مراراً كلمات: المطر والوطن والحلم والقبلة والضوء والورد والشمس والليل والعتمة، فإذا أردنا أن نسقطَ ذلك على الجوهر والمضمون، نستخلص رغبةً في الوضوح والتقهقر مُكرهة نحو العتمة حينما يتوارى لون الضياء، إنه توق للفرح والمتعة والحياة، في ظل هجوم لا ينكفئ لجحافل من الأحزان. تقول دورين مرةً جديدةً:

"أدركت أني نسيت حلمي

منشوراً على حبل الغسيل

فيما كنت أنام بعينين مفتوحتين

وكل المعابر إلى أعماقي مغلقة."

يشكل الحلم مهرباً وحلاً سهلاً لنا أمام تعقيدات الحياة وانكسارات الأمل، فنلجأ للحلم لعلَّه يحقق لنا بعضاً من الامتيازات حتى ولو على شكل حُلمٍ يتبخر ويتسرب من نافذتنا عند فتح الجفون عند الصباح.

أو يكون مثل النحت على الهواء كما هو عنوان المجموعة ويخامرنا سؤال ملح على الدوام : هل الحلم عند دورين دواءٌ وشفاءٌ أم هو مجرد جُرعة مورفين؟

بالطبع يموت المرء حينما يتوقف عن الحلم، يموت المرء حينما يموت الضوء في أخر النفق، وحينما ينتحر الأمل، وتُرجم بالحجارة كُل أمنياتنا.

ربما هي دعوة لكي نبقى نحلم، لكي نبقى نحب ونعشق، ولكي نبقى نحيا ونحيا، رغم كل عصور الخيبات.

أختم بسطورٍ من قصيدة الدكتورة الأستاذة دورين نبيل سعد:

"على ضوء الحلم كنت أشعلُ أخر شمعة

فوق باقة زهور

أنا أهوى الأحلام

التي تقيم في رحم الحياة."

***

بقلم جورج مسعود عازار

 ستوكهولم السويد

توطئة: يضم الديوان أربعة وأربعين قصيدة، صاغها الشاعر منصور الفلاحي داخل نسق شعري لا يكترث لإشكاليات التجنيس في مجال النوع الأدبي والهوية الشعرية. وذلك لأن صاحبنا منصور حسم في الأمر بتسييج المقول الشعريّ داخل الموسيقى، بأدلّة هي:

- تبنّي الموسيقى في وحدة الأروية وتجانس القوافي على امتداد الديوان

- تبنّي الموسيقى الداخلية في غضون المصوغ الشعري عبر مجموعة من الآليات الإيقاعية التي لا تمتح من عروض الخليل بقدر ما تمتح من طبيعة النصوص التي تُغنِّي ذاتَها وتترنّمُ بذاتِها.

- تسمية الديوان بالترانيم، وفي الترانيم ما فيها من زخم موسيقي في جميع الثقافات.

داخل هذا النسق يتحرّك ديوان الشاعر منصور حركةً لا تتنكّر بتاتاً لمفعول الإيقاع في تربيب المعنى وفائض المعنى لنقلِ المتلقي من حالات البداهة في تلقي الخطاب اليومي، إلى حالات الاندهاش في تلقي النصوص الجميلة التي تتجاوز دغدغة العاطفة ومداعبة الوجدان إلى مساءلة الذات في علاقاتها المتشعبة بذاتها وبمحيطها وبقضاياها وقضايا الآخر القابع في مختلف النزوعات النفسية والاجتماعية والسياسية وغيرها. بمعنى أن الديوان حَمّال أوجه في صيغة الموسيقى الأخّاذة والباعثة على فكرة التشنيف ثانيا وعلى فكرة المساءلة أولاً... وعلى أفكار أخرى سيعرّيها سياق البحث ثالثا.

العتبة:

ونقصد بها قراءة عتبة الديوان، أي عنوانه الموسوم في وعيِ الشاعر بعبارة غير بريئة، وهي (ترانيم الصدى). ونقول بأنها غير بريئة لأن الشاعر هنا لا يتحدث من مساحة الإمتاع والمؤانسة الشعرية المُدغدغة لعواطف المتلقي. إنه كائن ورّطَ ذاتَه في مفهوم الجمال السائل والمتسائل والواضع لكثيرٍ من البداهات موضع السؤال. من هنا نقول بلا براءةِ صوغِ العنوان، لأن المسألة لا تتعلق بعرض الترانيم للاستمتاع، وإنما بوضعِها رهن إشارة المتلقي لمساءلتها في توجّهاتها الكاشفة عن أسرار هذا الصدى الذي اُسْنِدتْ إليه الترانيم. فكيف نستوعب الصدى وهو مجرد رجعٍ للصوت؟ وكيف يتحول الصدى من حالة فيزيائية إلى حالة كاشفة في عمق الدلالة الوجودية عن تجليات هذه الذات المتكلمة وهذه الذات المخاطبة في نفس الآن؟

والترانيم جمعُ ترنيمة، وترنّمَ المغنِّي يعني رجّعَ صوتَهُ وتغنّى به في تطرِيبٍ وتَحْنان. وأمّا الصدى فله معْنيانِ: الأول يرتبط بالعطش الشديد، والثاني، وهو ما يصبو إليه الشاعر،  ويتعلق برجعِ الصوتِ يردّه جسمٌ عاكسٌ كالجبل أو المغارة أو الفضاء الواسع... وحتّى الصدى بمفهوم العطش قد يجد مصداقيتَه في الديوان بحكم عطش الشاعر لقيم الجمال التي باتت منعدمة أو تكاد، في سياق حياة وجودية عارية من القيم. وأما الصدى بمفهوم رجع الصوت فأولى وأجدر، بحكم ارتباطه في تركيب العنوان بالترنيمة. ويكون التجانس التركيبي والدلالي في العتبة أجدر وأولى بالتأويل من أي تخريجٍ آخر، فكلاهما خارجٌ من حقل واحد هو حقل الصوتيات.

فلِمَ أسندَ الشاعر الترانيم للصدى ولم يُسنِدْها للواقع؟ ومساقُ طرح السؤال هو حقّنا كقرّاء في الاستفهام، لأن الصدى ليس حقيقة بقدر ما هو وهمُ حقيقة والدليل تبخُّر الصوت في الفضاء. وهو تبخّرٌ لا يتركُ لنا إلا فسحةً من الاستمتاع برجعه وهو يسير في قدرِ التلاشي. فنكون في وضعِ المستمتعِ بوهمِ الصوتِ لا بالصوت في وجوده الفيزيائي والحقيقي. ولا يكون الأمر حينَها إلّا لعباً يفسح أمامنا مزيدا من تكرار الصراخ ليرجع إلينا في تردد جميل يدغدغُ أسماعَنا ثم يتبخّر.

من هنا مكرُ الشاعر منصور الفلاحي، على اعتبار أن عنوانه ليس بريئاً كما أسلفنا... إنه يدين الترانيم كما يشجب الأغنيات، أي القصائد التي لا يتجاوز أثرها حدود الرجع والتردد الجميل الحامل لدلالة الاستمتاع فقط. وكأنه يدعونا إلى تجاوز القصائد التي يقف أثرُها عند حدود الجمال القشوري إلى معانقة القصائد التي لا تكون ترانيمَ في الفضاء الواهم بقدر ما يريدها قصائدَ في الواقع، ترجع إلينا لا في صداها الخاوي بل في مداها المؤثّر والفاعل والقوي والمغيّر أو على أقل تقدير، الحامل لكيمياء فكرة التغيير.

هكذا فالعنوان فاضحٌ في أول التحبير لغائية الديوان، ولرسالة الديوان، ولهدفيته البعيدة المتجاوزة لفعل الشبه والتكرار في ساحات الإبداع. ومن هنا أيضا يحقّ لنا طرح السؤال التالي: لِمَ قال الشاعر (ترانيم الصدى) ولم يقل (صدى التّرانيم) ؟ قد يبدو الأمر متشابها لا يعدو أن يكون تقديماً لمتأخر أو تأخيراً لمتقدم في التركيب. لكن العربَ علّمتْنا أن التقديم والتأخير تركيب جماليٌّ واسع الدلالات. ولا أجمل من دليلٍ، قوله الحكيم الخبير (إنّما يخشى اللهَ من عِبادِه العلماءُ) سورة فاطر، الآية 28.

إن جمالية العبارة (ترانيم الصدى) المبتدئة بمقولة الترانيم هي أشد وقعاً بلاغياً على المتلقي من تقديم الصدى، لأن الإدانَة في منظور الشاعر لا تنصبُّ على الطبيعة (الصّدى) فهي بريئة من كل مأخذ أو مآخذ. الموضوعُ في قفص الاتّهامِ هو فعل الإنسان، هو ترانيمه التي صنعها خارج الواقع، هو أغنياتهُ وقصائدهُ التي لم تكن في الموعِد كي تمارِس أدوارها في عمليات التغيير. من ثمّةَ كان تقديمُ الترانيم أقوى من تقديم الصدى، وبالتالي فالمتلقي سيدرك عمق التقديم وخلفياتِ صاحب العنوان والديوان التي تؤسس فعله الشعري الناقد والمنقود.

الديوان:

الديوانُ كتلةٌ من الهمس في أذن الوعيِ الذاتي والإنساني. خطابٌ جماليٌّ لمعانقة  فنِّ القيمة قبل اندحارِها وهزيمتها في مجالَيِ الإبداع والوجود. ينتقل فيه الشاعر من إدانَة الآخر في تخلّيه عن عشق الجمال إلى التفاؤل بالآخر في هذا العشق، يلومُ في غير عتاب ويُشرِّح في غير إيلام، وينتقد في غير تجريح. يمسك بالقضية داخل ترنيمة من ترانيمه الهادفة ويقدّمها أغنيةً جريئةً في الكشف والعراء.

و ينتقل الشاعرُ بالمتلقي في جوقةٍ عارِمة من الترانيم، مدركاً بأن الصراخَ في وجه المخاطَبِ لم يعدْ يجدي نفعاً، وأن الجمهور حالياً يحتاج إلى همس الترنيمة أكثر من حاجته إلى قرعِ الطبول بالنصيحة المفضوحة والفاضحة، أو بالتعننيف والزعيق والخطاب المباشر. وهنا مكمن الجمال في اختيار الشاعر أربعة وأربعين ترنيمة يشنّفُ بها مسامع من له قلب وألقى السمع وهو شفيف الروح  وجميل الوجدان.

فمن ترنيمة العتاب للأحباب في رقّة، إلى ترنيمة التفاؤلِ بالغد، إلى ترنيمة النوستالجيا القابعة في التاريخ الشخصيّ للذات، إلى ترنيمة الحنين للأهل والأصدقاء، إلى ترنيمة التغني بالطبيعة في تجلّيها المفعم والإيجابي، إلى ترنيمة الوطن والزمن والبحث عن النقاء في صيرورة الإنسان بعيدا عن أزمنة التعفن والعفن إلى ترانيم أخرى تتعدد بتعدد آفاق الرؤيا الشعرية لدى شاعرٍ في حجم الفاضل منصور الفلاحي. وهي رؤية تتبنّى شمولية الطّرح لقضايا الإنسان في عميق التعبير الشعري المكتوي بلظى الجرح الفردي في تغنّي الشاعر بنار العشق إلى الجرح الجمعي، وفيه همس الشاعر في أذن الزمان بقبح الجائحة وغلوائها وأثرها العبثي في صميم الأنام...

و في هذا المسار الفنّيّ، يعجّلُ الشاعر بقرار الترانيم، في إعادةِ صوغِ الإنسان من حالات التخلّي عن عشق الجمال إلى حالات معانقة الجمال. والمدخل لاقتراف هذا الإبداع هو الترنيمة لا غير. ففيها أودعَ الشاعر أسْرارَ الحب والمحبّة والعناق الأبدي للإنسان في تجلّيهِ العامر، لا في تناقضاته الهدّامة. وكأنّ الترانيم رسائل محلّقة في سماء القيم تُعلّمنا كيف نكون ومع من نكون وإلى أين ينبغي أن نصير في كينونتنا الإنسانية الممتازة.

 مكر الانزياح:

يصوغ الشاعر منصور عباراته الشعرية داخل قوالب مموسقة أخّاذة، يسعِفُها توظيفٌ ذكيٌّ لمجال الانزياح، في أفق تثوير العبارة والتركيب وإخراجهما من سطحية البداهة إلى عمق الإدهاش. فتكون البلاغة في الديوان خادمةً للمعنى ولفائض المعنى، ويكون الانزياحُ سيّد الموقف وهو يجترحُ الجمال في جلالِ المقامات الفنية والوجودية لهذه الكينونة المتأرجحة تأرجحاً سديمياً بين الذات المتكلمة والذات المخاطبة.

ينفر الشاعر من التبسيط البلاغي الذي تبدو فيه العبارة سهلة المأخذ وقريبة المنال. وبالعكس من ذلك فالشاعر يرفع الانزياح لا إلى مقام الغموض وإنما إلى مقام المكر الأدبي الذي يحترم ذكاء المتلقي. فقوله مثلا (قولوا لهم صُبحًا كنا فَأَمْسَيْنا ..) إشارة ذكية إلى حالة الغياب دون التصريح بمفرداتها البائنة بينونة كبرى. ذاك أن الشاعر يؤمن بجمالية الصوغ الشعري، وقبل إيمانه بهذا فهو يؤمن بجمالية التلقي التي لا تقف عند حدود إمتاع المستقبِل ببلاغة الرسالة، وإنما يتجاوزها إلى احترام ذكائه في مكرٍ أدبي يترك للمتلقي هامشا من الاجتهاد في اجتناء المعنى والدلالة. من هنا انزياح المقول من حالة التشبيه التقليدية المضمرة في تخريج العبارة كالتالي (نحن نشبه الصبح في الحضور ونشبه المساء في الغياب) إلى تخريجٍ ذكيٍّ يختزل الكلام في لمحِ الإشارة بدل امتداد العبارة.

ومن مكر الانزياح عبر التجاوز لبلاغات التقليد إلى مكر الانزياح عبر امتطاء صهوة المسافة بين طرفي الصورة البيانية... فلننظر إلى قول الشاعر:

وتلك الأحلام طواها الزمـن

مجهضة بلا سَترٍ بلا كفَن

يصنع الشاعر في وعيٍ فنّي مسافة توتّر – على حدّ تعبير الناقد كمال أبوديب – بين مقولة الأحلام او بين مقولة الطي. فهذه الأخيرة تستدعي مفعولاً متشيئِّاً قابلاً لفعل الطيّ، فكيف تُطوى الأحلامُ، بل كيف يمارس الزمن هذا الفعل المادّيّ والحسّي على غيرِ ممكنٍ يتّسمُ بالتجريد والزئبقية ؟ فالأحلام المصنوعة من خيال، والطيُّ فعل حسّيٌّ، فكيف يلتقيان؟ من هنا عبقرية الشعر حين يفتح المجال أمام اللاممكنات لتتحول إلى ممكنات لأن سياق الورود يتغير. فقولنا بالطيّ الواقع على الأحلام مستحيل في عالم الحقيقة، وهو ممكن جدّاً في عالم الخيال، والشعر هو الباب الواسع لاستقبال العبارة في جنوحها المحلّق كيفما كان التحليق ومهما شطّ بعيداً في سماوات الهيولى.

و قِسْ على ذلك مسافةَ التوتّر بين الأحلام والإجهاض. أي بين المجرّد والحسّي. وهذا المبحث الانزياحي الجميل متواترٌ في الديوان وفيه تتفجر شاعرية الشاعر وتنبثق قويةً وحاملة لممكنات الإدهاش الجماليّ.

و من مسافة التوتّر في تشكيل الانزياح  ينتقل الشاعر منصور إلى خلق أنساق الانسجام في تركيب الانزياح، بحيث يحرص على استثمار الحقول الدلالية في تناغم مكوناتها. والأمثلة كثيرة في الديوان وغزيرة نمثل لها بقوله:

وكل أحرفي سكارى

وقوافي ثملة حيارى!

و لا شك أن مقولة السكر ومقولة الثمالة تنسجمان أشدّ الانسجام وتحكيان معاً نسق هذا الانزياح الذاهب في البيان مذاهب التناغم اللطيف والمستميل لذائقة المتلقي كي يتفاعل أشدّ التفاعل مع الصورة في ذكاء تركيبها، وبهاءِ  ترابطها ومتين انشدادها بعضاً لبعض في علاقة بنيوية حريرية الصوغ... أنظر كيف خلق الشاعر انزياحيْنِ في واحد داخل بؤرة التناغم :

- تناغم مقولة السكر والثمالة

- تناغم مقولة الحروف والقوافي

الختم:

كانت هذه ورقة تعريفية تقدّم الديوان في عجالة لا تتغيّى مقاربة المتون في مستويات بنائها، بقدر ما هي تقديمٌ يقرّب المتلقي من محاريبه. وحسبي في ذلك أنني قرأت (ترانيم الصدى) فوجدتُني أترنّم وأغني مع الشاعر منصور همّه الذاتي وهمّه الجمعي في قصائد ارتأت أن تتقدم إلى القارئ في عباءات خضراء مموسقة تُخلِص لنسغ الرويِّ والقافية في تجانسهما ووحدتهما في كل قصيدة على حدة دون استثناء أو إغفال... ناهيك عن الإيقاعات الداخلية التي تتناسل من طبيعة التوازيات الرنّانة والتكرارات الوظيفية والجناسات العميقة والطباقات الفاضحة، وغيرها مما يضفي على كل المتون الشعرية طابع الشاعرية المتقدّمة والراقية والمصوغة في أطباق بيانية أقلّ ما يقال في حقّها أنها متون تُعانق الشعر القوي في تشكيله الممتنع على القبض إلا في حالة تسلّح القارئ بنصيبٍ من المباضع النقدية القادرة على فك شفرات المقول الشعري الـ (فلاحي) وهي الشفرات التي تتلبّسُ بلبوس السهل الممتنع.

***

نورالدين حنيف أبوشامة

البيضاء في 20 أبريل 2024

 

الأبداع الأدبي مرتبط إرتبلطا وثيقا بحياة الأنسان ومنذ أقدم العصور، كحاجة روحية تعيد للانسان توازنه، وحتى قبل أن يعرف الكتابة، كان يرسم ويقرأ مدلولات صوره على الأحجار وفي داخل الكهوف وعلى جذوع الأشجار، حيث يبدو في طفولة البشرية الفن كوسيلة سحرية لتلبية حاجات مادية وروحية أنسانية، ترتبط بالطبيعة وفيما ورائها، وقد كان الشعر أي الكلام الممغنط والمموسق المتلائم مع ما تفرزه الطبيعة من أصوات المطر والرياح والشلالات وخرير المياه، وتلاطم أمواج البحر، وحفيف أوراق الأشجار بالأضافة الى أصوات الطيور والحيوانات ...

تطور الآداب مرتبط مع تطور حياة الناس من حياة القطيع والصيد والألتقاط الى الزراعة وأكتشاف النار، الى صناعة الأدوات الحجرية البدائية، وأكتشاف المعادن كالحديد والنحاس... التطور من مرحلة المشاعية الى مرحلة الأقطاع وتشكيلاته الى عصر النهضة وهيمنة البرجوازية من خلال الثورة الصناعية في عصر النهضة، وهيمنة البرجوازية على السلطة والثقافة، فقد تطورت الفنون كافة من حال الى حال الرسم من الأنطباعية الى التجريد والسريالية والدادائية، والشعر من الوزن والقافية الى التفعلية فالنص النثري والومضة والهايكو ..، والسرد من الملحمة الى الرواية وهي مقصدنا هنا وهي شكل متطور من التفاهم البشري مع ذاته ومع الأنسان الآخر ومع الآلهة معبرا عن هذه الرغبة للتواصل مرة بالحركة والايماءة والرقص، ومرة بالصورة، وفي مرحلة متأخرة ومتطورة باللغة والكتابة، ففي البدء كانت الرواية الخيالية وحكايا الجن والآلهة الى الرومانسية ثم الرواية الواقعية بمختلف أهدافها، وكل هذا يرافق ظروف الحياة الأنسانية المعيشة في كل مرحلة وكل أسلوب أنتاج وعلاقات الأنتاج،وحسب متطلبات وحاجات وثقافة كل طبقة أجتماعية...3960 حمد الحريزي

فالرواية كما هو معلوم هي ملحمة البرجوازية بأمتياز، هي الطبقة التي عاشت في بحبوحة من الرفاهية والكسل والتمتع بوقت فائض، حيث تعتاش وتعتصر جهد وفكر ووقت الطبقات الكادحة من العمال والمهندسين المهرة، فهذا الوقت الفائض بحاجة الى مايشغله فكانت الرواية أحدى هذه الوسائل وقد تمت كتابتها باسهاب كبير بحيث كانت بعشرات الالاف من الكلمات والمئات من الصفحات عنها فمثلا رواية البحث عن الزمن المفقود 1200000 كلمة لمارسيل بروست، زمن انعزال الشعوب عن بعضها البعض، مما أدى الى عدم معرفة تفاصيل حياة وثقافة كل منها، و أختلاف المعمار بين مختلف القوميات والشعوب والطبقات الاجتماعية، مما يستدعي من الروائي الإسهاب في ذكر أدق التفاصيل حول الشخصية الروائية كالبطل والشخصيات الثانوية من حيث الشكل العام للجسم ولون البشرة والعيون والطول والقصر وقوة أو هزال البنية العضلية، طبيعة الحركات والسكنات للشخصية وما يميزها عن غيرها، شكل الملابس وموديلاتها لكل طبقة وفئة اجتماعية ومايميزكل طبقة عن غيرها وكل قومية عن سواها .

هذا كان في بداية نهوض البرجوازية وعدم تطور وسائل الأنتاج ووسائل النقل والمواصلات بين القارات وبين الشعوب، وصعوبة التواصل حتى بين مناطق ومقاطعات البلد الواحد .

وما أن اشتد ساعد البرجوازية وتمكنت من انتاج المزيد من المنتجات الجديدة والمتطورة حتى أخذت تبحث عن الأسواق الخارجية لتصريف الفائض وللحصول على المواد الأولية بأسعار رخيصة، فكان الأستعمار وأحتلال البلدان، مما تطلب تطور وسائل النقل والتواصل كالبواخر والقطارات والسيارات فوفر للشخص في هذه البلدان مزيدا من المعلومات عن الآخر في قارة أخرى وشعب آخر وبلد آخر غير بلده وقومية غير قوميته، مثلا تعرف معلومات عن الشرقي العربي والمسلم والزنجي الأفريقي والهندي الأحمر والصيني والياباني وووالخ، كما أطلع على شكل معمار السكن والعمران والطرق وما اليه من عادات وتقاليد ... وبذلك انتفت الحاجة بالنسية للروائي للأسهاب في ذكر هذه التفاصيل كما وصفها أول من شاهدها وكتب عنها، من التعريف والتوصيف للأشخاص والأماكن، فالقاريء والمتلقي قد استبطنها مسبقا وبذلك تطلب الواقع أختزال الكثير من حجم الرواية حيث تطور وسائل النقل والمزيد من وسائل التواصل بين القارات والشعوب، وضع الأديب والفنان أمام خيار لابد منه الا وهو الأبتعاد عن الأسهاب الزائد فكانت الرواية القصيرة هي المعبر عن مثل هذا العصر حيث تترواح صفحاتها بين اقل من 100 صفحة الى 200 صفحة وعدد كلمات قد لاتزيد عن 20000كلمة.حيث توفرت وسائل النقل متوسطة السرعة وانتشار التلفزيونات والسينما والسفن البخارية والسيارات، وإمكانيات السفر التي تستغرق أياما أو أسابيع أحيانا ... رافق كل هذا أفرزت الحياة متطلبات حياتية متواضعة نسبياً لاتشغل أعظم وقت الأنسان الأعتيادي، وعدم هيمنة ثقافة الأستهلاك والتسليع كما سيكون لاحقاً، مما أتاح للمثقف والأنسان من الطبقة المتوسطة وبعض طبقة العمال المهرة الوقت قد يمتد لساعات للأهتمام بالغذاء الروحي متوسط الجم والكلفة كالرواية مثلا ن فاتت بحجم يتلائم تماما مع وقته المتاح .

أما في عصرنا الحالي حيث الآلاف من الفضائيت التي تبث عن طريق الأقمار الصناعية التي تغطي كل الكرة الأرضية، والتوصيف والتعريف بأدق تفاصيل عادات الشعوب والقوميات وتقاليدها وشكل معمارها وحتى نوعية المأكل والملبس لكل منها، وحتى لشكل غرف الضيافة وغرف النوم والحدائق والمتنزهات والشوارع والساحات، والثورة الهائلة التي أحدثها الانترنيت وسهل التواصل بين شرق الأرض وغربها خلال ثوان معدودة، وبث الملايين من اليوتيربات التي تتناول أشكال وعادات وطرق حياة كل شعب من شعوب العالم من الاسكيمو الى اقصى غابات أفريقيا .

كذلك تميز عصرنا الحالي عصر العولمة الرأسمالية بهيمنة ثقافة الاستهلاك وتسليع كل شيء، مما خلق حاجات متزايدة في حياة الانسان اليومية، توفرها كنار تلنهم وقت الانسان المعاصر من أجل توفر الحد الأدنى منها.

هذا الواقع يتطلب المزيد من ضغط الوقت لكل فعالية إنسانية، في عالم لاهث راكض، خاطف السرعة في كل شيء في العمل والأكل والحديث والتمتع بما هو كمالي ومن ضمنه الغذاء الروحي للأنسان كالافلام القصيرة والكتب المختصرة ومنها الرواية لتكون بحجم يناسب وقت وجيب المتلقي للأنسان الراكض دوما، وهنا كما نرى يطرح الواقع نوعا شديد الاختزال من الرواية وما اسميناه ب الرواية القصيرة جدا ...

حيث وفر الواقع العلمي والثقافي للروائي المزيد من أمكانية الحذف والاختزال لما اصبح شائعا ومعروفا ومتداولا بين الناس من شكل الملابس وتوصيف المساكن وأثاثها، وتوصيف شخصية البطل بأقل الكلمات، وعدم وجود حاجة الى الأسهاب في سرد الحوار المضمر الداخلي للفرد التي تعبر عن مشاعره وهواجسه وتطلعاته حيث أصبح الانسان في العالم الرأسمالي معلوم الهواجس للمثقف وللعامل والرأسمالي والطالب والرجل والمرأة، وكذلك في العالم الثالث أو مايسمى بعالم الأطراف، فاختزال هذا الكم الهائل من الأشكال والمشاعر والتصورات التي إستبطنها القاريء المتلقي من خلال وسائل التواصل الأجتماعي والفضائيات واسعة الأنتشار فلا داعي أن يعرضها الروائي أمام انظار القاريء، نعم لاحاجة لي بما تعرضه لي بما يشرب ويلبس ويسكن ويفكر أنا الأسيوي صديقي من فرنسا الذي ألتقيه كل يوم عبر الصورة والصوت بواسطة الأنترنيت وربما أعرف أدق التفاصيل حول حياته الشخصية وحتى حياة عائلته .

فحينما يذكر الروائي برج ايفل أو الساحة الحمراء أو نصب الحرية في العراق أو ناطحات السحاب أو مسرح البولشوي، سرعان ما تظهر بكل وضوح كل تفاصيلها في مخيلة المتلقي لأنَّه تعرفها أما من خلال سفره الذي اصبح ميسرا لأغلبية الناس أو من خلال الفضائيات، وكذلك عند ذكر اسم أحد الأعلام في السياسةأو الأدب أو الفلسفة في العالم مثل جيفارا او ماركس او جورج واشنطن أو بوتين أو ماكرون أو بايدن أو نيرودا واراغون وكذلك مشاهير الرياضين تحضر كل تفاصيل وتاريخ هذه الشخصية في مخيلة القاريء والمتلقي لأنه شاهدها ربما آلاف المرات في التلفاز وفي وسائل التواصل الأجتماعي حيث أصبح كل بيت في العالم لايخلو من جهاز التلفاز وتوفر شيكة الانترنيت وأمتلاكه لجهاز نقال ينقل له كل شيء ...

فعندما يتحث الروائي في عصرنا الراهن حول عمارة سكنية مثلا ليس بحاجة الى توصيف وعرض محتوياتها وتأثيثها ولكنه يكتفي بعضر (الماكيت) أي النموذج المصغر للعمارة دون الدخول في تفاصيل محتوياتها من حيث السلالم والتأثيث ووسائل الإنارة والتبريد والستائر ... الخ كما كان يسرده بأدق التفاصيل الروائي في العصور السابقة على العولمة، حيث أن المتلقي قد استبطنها مسبقا من وسائل التواصل الحديثة أو عن طريق السفر المتيسر .. فلاحاجة الى توصيف الشخصية سوى ذكر علاماتها الفارقة ...

وبذلك فالرواية القصيرة جدا بحجمها المختزل كثيرا الى كتيب أو كراس جيب صغير لاتحتاج أكثر من وقت الجلوس في قطار سريع متنقل بين المدن أو زمن سفرة تمتد لساعة أو اكثر من بلد الى أخر أو سيارة على خط سريع، هذا الوقت المتاح للأنسان في عصر العولمة الحاضر، هذه الرواية التي لاتزيد كلماتها على 5000 كلمة ولاتزيد صفحاتها كما نرى على 50 صفحة وقد تكون اقل من ذلك بكثير، فالأنسان في عصرنا الحالي مشغول دوما بالعمل من أجل توفير متطلبات الحياة المادية اليومية، لاتترك له المشاغل اليومية ألا حيزاً محدودا جدا من أجل تأمين احتياجاته الروحية ومنها الرواية والفنون عموما ً.مما جعل الرواية القصيرة جدًا من متطلبات الحياة الواقعية الحالية لتوفير مايمكن من الغذاء الروحي للانسان، وحمايته من الوحدة والتوحد وجفاف الروح وتصحر المشاعر وغلاضة السلوك ..

فالرواية القصيرة جدا هي رواية وامضة وليست قابضة يكون السائد فيها التلميح وليس الأسهاب والتصريح، شخصياتها الثانوية خفيفة الظل مختزلة الكلام ومؤقتة المقام أثناء تواجدها في متن الرواية، تقول ما عندها بما قل ودل وترحل مسرعة حتى لايفوتها قطار السرد فائق السرعة ولايتضايق منها القاريء المتلقي . وهي لاتمسك بالقاريء لوقت طويل لساعات طويلة وربما لأيام كما في الرواية الطويلة والرواية القصيرة ..

وهنا بالضبط تكمن الصعوبة بالنسبة لكاتب الرواية القصيرة جداً تفوق صعوبة كتابة القصة القصيرة جدا بكثير، حيث بجب أن يمتلك الروائي الحنكة والتجربة وقوة المفردة الموحية الجذابة حتى لايسهب مراعياً شروط الرواية المعروفة كتعدد الشخصيات، وتحولات الأحداث ـ وتغيرات الزمان والمكان على الرغم من الألتزام بالاختزال الشديد والتكثيف، مع عدم التفريط بالمضمون العام للرواية، أي أن يتمكن الروائي من تقديم وجبة غذاء روحية غنية بالمضمون وبالشعرية اللغوية بأقل عدد مكن من الصحون والمقبلات.

وبذلك فنوع الرواية القصيرة جدا رشاقة لاتعني الهزال،ومضمون يستدعي سعة الخيال وحبكة لاتفرط باشتراطات جنس الرواية .

في الختام أو أن أنوه الى مايلي:

- أنا لا أدعي إني أول من كتب هذا النوع من الرواية فبالتأكيد قد كتب بعض الأدباء في العراق وخارجه الرواية ضمن الأشتراطات التي ذكرتها في هذا المنشور أو ماسبقه، ولكن حسب علمي ليس هناك من عنون روايته بالرواية القصيرة جدا وطبعها في مطبوع كما فعلت أنا منذ 2019 حيث طبعة مجموعة روايات قصيرة جدا كما ارفقها مع مقالتي هذه، سأكون ممتنا لمن يمتلك معلومة تفيدني في هذا الشأن استجابة للامانة الأدبية حول سبق الريادة .

- يسعدني كثيرا أن تحفز مقالتي هذه الزملاء النقاد وكتاب الرواية لطرح آرائهم وتصوراتهم حول هذا النوع من جنس الرواية سواء اتفقوا أو اختلفوا معي الى ماذهبت اليه، كلي أمل في أمكانية شرعنة هذا النوع الروائي وتقعيده ونشره والجمال والأبداع من وراء القصد .

***

الأديب حميد الحريزي – العراق

 

تداخل الزمكانية وإحالات الميتاحكي

توطئة: قد يصح القول في صدد دراسة نصوص القاص والروائي القدير وارد بدر السالم عبر فحوى نصوص مجموعته القصصية (المعدان) ذلك التوافر التخييلي بالأداة ومعطيات العناصر والعوامل الوسائلية المبثوثة في جملة اوجه متباينة من انتقاءات الموضوعة الحكائية المكرسة في محمل مكتسبات خاصة من احوالية الواقع الجنوبي في الاهوار والاطراف المقصية من احياز هوامش المكان المركزي -اي المدينة- وعندما نطالع طبيعة التركيبة الموضوعاتية -الحكائية،، في أنساق هذه المختارات القصصية الرائعة، تواجهنا مستويات تخييلية عابقة بمعانقة تمثيلات الاحوال والوقائع التي وكأنها من الإمكان وقوعها في مجمل إشارات الزمن والبيئة الطبيعية لتلك الأمكنة والذوات العالقة في محفل تشعباتها العبقة بروائح القصب والبردي وهسيس قامات الاعشاب المتبرعمة عند حواف ضفاف المواقع التي تقع فيها المسطحات وجداول الانهار، ناهيك عن مغزى الأسرار  التي تنبعث مع تناقلات الزوارق -المشاحيف- وما تحمله من روائح رطوبة الاجساد التي اخذت سواعدها بالتجديف لتنكشف عضلات أيديهم المتعصبة والساعية بفعل الحركة التجديفية نحو أماكن أكثر غورا بالصورة والدلالة والمنظور الايقوني المحفوف بالمحتمل الممكن سرا وجهرا، والذي لا يمكننا توكيد وحداته، سوى بالاتكاء على حقيقة تفاصيل المرادات المدلولية والسياقية المدعمة من خلال معطيات حقائق الأمكنة والازمنة في جغرافيا المواقع الأهوارية في جنوب البلاد، اي أن من اعتاد معايشة تلك الطبيعة البيئية من منظور معايشة زمنية قصيرة، لربما سوف يجد في نصوص وارد بدر السالم القصصية موضع بحثنا، اثرا ومؤثرا فاعلا ومحققا في مجموعة (المعدان) خصوصا وإن جذور هذا القاص السيرذاتية تعود الى الجنوب نفسه، فلا عجب من أن يستثمر هذا القاص المبدع من الطبيعة المكوناتية للهور بهذا  الشكل الخصيب من الأسطرة في مستوى قد بدا للقارئ منه بعيدا عن ملائمة الصحة الموضوعية في النص، وأفتقادا الى دليل المعطى الدلالي المبرهن والمعقلن في مرسلات القص. ولكننا مع قصص وارد السالم كلها في نطاق احوال هذه الدالات من موضوعة القص، بخاصة وأن للطبيعة الموقعية والموقفية لمثل هذه الاجواء من الهيئات البيئية، مراحلا أكثر صدقية من الانظمة التوظيفية في النصوص الاخرى، صحيح من جانب ما أن القاص السالم يؤثر في محمولات نصه ظروفا أكثر قربا من الايهامات من حقيقة الوقائع، ولكنها ذاتها الاختلافات تأكيدا على حجم صحة المفترضات الواقعية ذاتها وبذاتها، إذ تتماشى هذه الفرضيات الى جانب حدود اسطورة الاهوار وعوامها القريبة من الغرائبية والأكثر بروزا بمثل تلك النوعيات من معالجة تنصيصات الموضوعة في قصص (المعدان) سردا وتوصيفا ودليلا . فلو قرأنا وقائع قصة (قصة الغياب) المنصوصة في لائحة قصص المجموعة، لوجدنا أن القاص راح يتعامل مع الانظمة الأدائية في محاور النص، من خلال نقطة شواغل حكائيه إمكانية مفترضة بالواقع المعاش، اي بمعنى اصح ان موضوعة الاهوار تتطلب من الكاتب نفسه، كل هذا المدى من القابلية التصويرية بالايحاء الوصفي، ذلك بحكم كون حيوات الشخوص في وسط هذا القلب من الواقع المستنقعي، كان ويكون بمثابة الافتراض على وجود مثل هكذا حساسية فنتازية وعجائبية و معادلات رمزية، تكشف لنا عن مغزى الصور الداخلية والخارجية من ذوات الطبيعة الشخوصية لسكان هذه الاحياز من القرى المستنقعية، وما يصاحبها من خيالات تتخذ لذاتها في الغالب ذلك النمط الصياغي المؤسطر من مجال مكونات الحياة في تلك الامكنة الغارقة في اللامكان في اللاواقع في اللاوثوقية من موارد ومقادير الحقيقة المبررة، ذلك لأن وجهة نظر الكتابة تدخل الحقائق في شكلها المادي الى مجالات مفترضة من تحليقات المخيلة في الانحاء الصورية الاكثر تأويلا في مبررات العليات والاستدلالات الفرضية البحتة.

- الرؤية الاستهلالية بين علاقة السارد ومحكيات المسرود

1- كينونة التمثل في ملامح زاوية الفعل والافعال:

لربما ونحن نطالع مستهل النص القصصي -قصة الغياب- تواجهنا جملة كثيفة من العلاقات والعوامل والأدوار الشخوصية في تدبر ومتابعة دلالات غرائبية لها جانبا من الايهام برؤية تستدع معاينة الاطوار الحوادثية بمنظور (اللامرئي: تصوير - تداخل - شواهد امتداد-ارتداد عكسي)وهذه الطبيعة من المحاور هي الاساس المؤسس لأطوار موضوعة حكاية النص، ناهيك عن ما يسودها من تداعيات استعارية ووصفية تتخذ لذاتها من تقانة التداخل بين الظروف والمتقابلات المشهدية، تفعيلا في أطروحة الحبكة القصصية التي أخذت من عقول وأفئدة الناس، ردحا ملحميا في الانزواء والبطولة والغياب بعدا يتماهى مع حقيقة التفاصيل في حكاية النص الايهامية: (ما من احد يريد تصديق الحاج، إذ انه لا يمكن أن تحدث معجزة، وما من احد بمقدوره أن يصدق أية أقوال أخرى -فقريتنا ما تعودت على مثل ما أشيع ليلة البارحة، برغم أن الحاج رجل طيب وشهم، ومن الصعب عليه وعلى رجالنا أن يكون -حاشاه كاذبا- ولو أن الأمر ظل مقتصرا على ما رواه الحاج لكان بإمكاننا نسيان ما سمعناه وأعتبرنا المسألة مجرد وهم أو ليس وقع فيه الرجل شأنه بقية عباد الله / ص 45، النص القصصي) تتوزع تواترات المناوشة في مجالات التخييل السردي، في حدود ملازمات السؤال والاستفسار وتداعيات مدارية التجاذب والتقاطع، وهذا الامر ما بدا يتعامل وجذوة فعالية خلق التوتر الاستهلالي، كحالات فرعية -عتباتية- تنطلق منها الوحدات في اتون صور ومظاهر الطريق الى الحبكة التي يحاول السارد تحفيزها في قواسم وأطر تحيينية لمعانقة العلل والاسباب التي جعلت من تلاقي أحابيل الدعوة في المقاصد الوحداتية، دليلا على البدء بحكي تفصيلات تتعلق بذلك الشخصية الحاج والاخر عبدالله البلام: (عبدالله البلام كان حائرا مثل الحاج، يقسم باليمين أن عينيه لا تكذبان..فالوقت كان فجرا وباستطاعة المرء أن يرى الاشياء بوضوح .. كان علي متعبا جدا.. لم اشأ أن أتعبه بالكلام، بدا قادما من سفر ./ ص45 ص46 النص القصصي) بين شخصية (الحاج) وشخصية (عبدالله البلام) تتمحور خصال التشابه في البرهان والمشاهدة، فكلاهما قد شاهد ذلك الرجل الذي لا نعلم عنه سوى ان له في الغفير الحاشد من أهل القرية، فمن ياترى هو علي؟هل هو من ذوي الشأن الاجتماعي الرفيع؟ أم تراه كان من كبار صيادي الاسماك ربما في الهور ويمتلك العديد من ملكيات المشاحيف و مئات من شباك الصيد ربما؟ إن لم يكن عليا هذا بهذه الصفات التي يقدرها ويقيم لها أهل القرية ك هذه الفرائض الخاصة، فما يعني هو تحديدا؟ هل هو يمثل سلطة دينية أو حكومية أو عرفانية أو صوفية مثالا؟ . في الحق أن السارد لم يعرف هوية هذه الشخصية في الوحدات الاستهلالية، ولا من ناحية الوحدات الاولى من الجزء الاولي من  الحكاية، بل أنه وضعنا من خلفه القاص في خضم استيهامات مسكوكة تعجز قابلية القارئ عن فك حجب أسلوبها المسرود خطابا وحكيا.

2- الاستيهامات المؤسطرة والحلم الشخوصي بقدوم الغائب:

لو سنحت لنا الفرصة في الاسهاب بصدد الحديث المتسائل حول سرانية أهل القرية واهتمامهم الخرافي بهذا الرجل المدعو ب(عليا) لكان لنا كل الحق في سبر أسرار هذه الهيمنة العجيبة لهذا الرجل، وعندما نتقدم في قراءة النص وحوادثه سردا وحكيا، تتحقق لنا النتيجة القصوى بأن هذا الرجل هو من خارج الزمان أو هو من الخوارق: (لولا أن رجلا من قرية المعدان قال انه شاهد بعيينه الاثنتين عليا يمرق في سوق القرية مصفرا بالتراب، يجري وراءه سحابة من رائحته المعروفة، وتطير خلفه اسراب من الزنابق البرية والشقائق الملونة./ص46 النص القصصي) بهذا النحو جعل السالم شخصيته القصصية تتعدى الٱفاق العلوية من وعي وسذاجة أهل اقرية، ولكن هل كل من شاهد عليا ملء عينيه أن يواجه حلمه في بث المزيد من استطردات الحكايا التي راحت تكشف عن أن هذا الرجل يتصل في حدود قداسية خاصة تتجاوز مواقع وكيفيات كيانية وشخصانية، وتبعا لهذا راحت تتوالد حكايا عمومية وخصوصية، منها ما جعله السارد تراتيبيا في التفاصيل الخطية، ومنها ماراح يتلبس لبوس جلبابا من هيئة الاستيهامات والعجائبي: (علي غاب كما تغيب الشمس في يوم بارد، بحثنا عنه في كل القرى والبزايز، غاب منا ألف رجل في بطون الاهوار الفسيحة أياما طويلة، سوى رائحته المعروفة التي تملأ كل الامكنة  أينما حلت -رجالا ونساء واطفالا واشجارا وبيوتا و انهارا وطيور ونخلا واحلاما، القرى كل القرى، مثل قريتنا، تمارس الانتظار المجهول وتناغي طيف علي وتجمع ما تبقى من رائحته الأليفة المطهرة./ص47 النص القصصي) إن الخطاب المسرود والمروى هنا عبر وحدات القص، هو في أفضل احواله  يشكل حالات  تداخلية في المسافة والرؤية في المنظور المرجعي المرمز، فمثل هكذا تفاصيل لا تستقم إلا والقاص يماثل درجة رمزية تتعلق بأحد من الشواهد المرجعية الخاصة بالمسمى الديني والعرفاني، أعني وضوحا أن القاص راح يختزل لبوس علامة لها شأنها في المعجم السياقي وقد تم بثها في جملة صفات إعادة التوليف لها في مفترضات خاصة تتتاسب طرديا مع حيثيات حكاية أهل القرية، لذا فهي تدخلا خارقا، ولكن في حدود سياق حكايةقصصية لها تمفصلاتها المتباينة والمضمرة مع علاقة تماثلية قصدا. لذلك فالقاص يدخلنا في وحدات نصه الصاعدة الى وقائع ترددية -مونولوجية، نستشف منها ومن وراءها بأن الحدود الزمكانية للافعال السردية راحت تدمج ذاتها في دائرة حوارية استيهاية تقع خارج الزمن للحكاية:(في كل مجلس في قريتنا، في كل القرى، لا بد أن يكون علي في صحراء على فرسه البيضاء، وهو يطوي موج الرمال بصدره المدرع- يطارد الحراب ويفتح اظافرة لجداول الماء، لابد أن يكون في وحشة أدغال الهور المنعزل خلف القرى /ص50) بهذا التعامل الشفراتي راح السالم يؤثث المجال المؤسطر في حياة الشخصية المحورية لديه، انعكاسا واختزالا لذلك الأثر المرجعي الصفات، ولكنه ادخله -اي القاص- في مجال إطار رؤية تتحدث عن محور شخوصي له من الوقائع ما يخوله ان يكون مسرودا في علاقة تتم في حدود خلق عجائبي يتجاوز منظومة الاحداث المتتالية في البناء القصصي، دخولا الى عوالم داخلية من النص، تعيدنا الى وظيفة المونولوج الدائري في مثل طي هذه المحاورة: (من أنت ايتها الصبية ؟ وجدت نفسي هنا .. أحدهم سرق قلائدي وخلاخلي وأقراطي .. وتركني هنا أذرع الرمال وحيدة./ص50)

- تداخل الزمن في كيفية استرجاعية انعكاسية

أن غائية تداخل الزمن أو عكس المنظورين في منظورا صفريا، لربما هي من تقانة التقاطب الكياني بين الطرفين، أو هو التمثيل في تقنية استرجاعية انعكاسية، ولعل جميع الصلات في عملية الاستقطاب الوقائعية للصوتين هي فعلا إيحائيا في الامتزاج بين الازمنة، والاحساس بها يكون متلازما في التضمين والاستحالة في محفوظية التنوع والانشطار، كما الحال في الاجزاء المونتاجية من الوسط الجزئي للتص، فهي عملية تتصادى فيها الابعاد الزمنية وتلتحم عبر مكون تركيبي يجمع ما بين (المونولوج- المونتاج) تماثلا مع تداخل الازمنة في تفاصيل تمدد الى ما قبل زمن الحكاية: (أمي... السنوات حفرت ٱثارها في عينيك - لقد حفرت في قلبي كثيرا ياعلي-- مازلت أمي التي لا أنام إلا في حضنها - وانت ولدي السبع ياعلي -ما حكاية سنواتك ياوالدة؟)

تعليق القراءة:

لعل سياق مقتبسات هذه الحوارية، هي أعلى الاجزاء في النص القصصي (قصة  الغياب) فمنها نستشف تداخل البرزخ الزمكاني في مضمرات مدلولية لها مشخصات وتماثلات عكسية وانعكاسية في الإيحاء الماقبلي لزمن الصفر في بنية الحكاية، ولها جمالية وحدات (الميتاحكي) ضمن مستويات توالدية مرٱوية بالافعال والفعل الشخوصي المتداخل في منظورية الواقع ووسائل فضاءات البناء النصي.

***

حيدر عبد الرضا

بقلم: رولان بارت

ترجمة: حسني التهامي

***

(1) خرق المعنى

دائما ما نتصور كتابة الهايكو بالأمر اليسير؛ وهذا ضرب من الخيال، يعزز هذا التوهم بساطة النص التالي ليوسا بوسن:

إنه المساء الخريفي

كل ما يشغلني

والداي

يفتح الهايكو شهية كثير من القراء في الغرب، فنراهم يحلمون بالتجوال في مجاهل هذه العالم، وهم يحملون مفكرات صغيرة يسجلون فيها "انطباعات" ينبثق الكمالُ من شكلها الموجز، والعمقُ من رحم بساطتها (يرجع الفضل في هذا إلى أسطورة ذات طابعين: أحدهما كلاسيكي يرى أن الفن يكمن في الإيجاز، والآخر رومانسي يعزو جوهر الحقيقة إلى العفوية)  وعلى الرغم من أن الهايكو يتسم بالوضوح والبساطة؛ إلا أنه لا يعني شيئا، وبتلك الاشتراطية المزدوجة يبدو أكثر انفتاحا على المعنى، وأقرب إلى الذائقة، على طريقة مُضيّف مهذب يتيح لك حرية اختيار ما تشاء من قيمٍ ورموزٍ.

 "غياب" الهايكو (نقول ذلك عن مالك عقار يذهب في رحلة مشتت الذهن) يوحي بإحداث خروقات وانتهاكات لاغتنام المعنى الذي نعتبره نفيسا وجوهريا. عندما نقوم بـ (ترجمة الهايكو)، يتحرر من قيد الأوزان، فيمنحنا الكثير مما نصبو إليه. في الهايكو، يمكننا القول بأن: الرمز، والاستعارة، والمعنى الأخلاقي على الأغلب أشياء لا قيمة لها: فذلك النوع من الكتابة ما هو إلا بضع كلمات ومشهدا حسيا وعاطفة: في حين أن أدبنا عادة ما يتطلب قصيدة أو حدثا متشابكا، أو فكرة منمقة (في الأنماط الموجزة)، وباختصار عملا بلاغيا مُطولا. يبدو أن الهايكو يمنح الأدب الغربي أشياء غير مقبولة لديه؛ كتناول ما نعتبره تافها وعاديا، بطريقة مختزلة، عبر التقاط ما نراه وما نحسه لإحداث نوع من الدهشة؛ بينما تعزز كتاباتنا فكرة الذات: فقط ذاتك جديرة بصنع وجاهتك، مهما يكن أسلوبك في الكتابة، فإنه سينم عن معنى ويتضمن رمزا ويحمل عمقًا: وعلى أقل تقدير ممكن، ستكتنز كتاباتك.

 يبلل الغرب كل شيء بالمعنى، مثل دين استبدادي يفرض معموديته على العالم بأسره، متبعا طريقتين لكي يُجنّبَ الخطاب فراغ المعنى: الرمز/ الاستعارة والمنطق / القياس، وانطلاقا من هاتين العلامتين، يتم إخضاع اللغة بشكل منهجي (في محاولة يائسة لملء زائف قد يكشف خواء اللغة) لـ (أي من هاتين الدلالتين) أو لتلفيقات العلامات النشطة. إن الهايكو القائم على فرضيتي: البساطة والمألوف، - إذا جاز لنا التعبير في علم اللغة – لا تستهويه تلك العلامات المتعلقة بالمعنى. في حين أننا نرفقه بهذا النوع من المشاعر العامة والتي نطلق عليه "الأحاسيس الشعرية "، انطلاقا من رؤيتنا له كقصيدة شعرية، (بالنسبة لنا، عادة ما يكون الشعر دلالة على" الإطناب " و" المشاعر " و" البعد عن تجسيد الصور الحسية "، "إنها مجموعة انطباعات غير قابلة للتصنيف)؛ نحن هنا بصدد " أحاسيس مكثفة " و" رصد أمين للحظة نادرا ما تتكرر، "وفوق كل شيء لـ " الفراغ" الذي يُعدُّ لدينا (دلالة على المنجز اللغوي). في النص التالي لـ "جوكو" (Joko) ، أحد شعرائهم، سندرك مفهوم اللحظة العابرة:

كم من العابرين

جسر سيتا

تحت أمطار الخريف!

 لنتأمل نصا آخر لـ (باشو):

أعبر الطريق الجبلي.

آه! يالبهاء

الأرجوان!

هنا سرعان ما سيُقدم القارئ الغربي على تفسيرالمعنى وتوظيف الرمز موضحا أن باشو قد التقى بناسك بوذي، أثناء عبوره الطريق الجبلي؛ وعلى هذا الأساس يشير الأقحوان إلى "زهرة الفضيلة ". يظل تفسير المعنى غاية كبرى في نص ذي ثلاثة أبيات (مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا 5-7-5)، يحتوي على مكونات ثلاث: (مفتتح/ دهشة / قفلة):

بركة عتيقة:

ضفدع يقفز …

طرطشة الماء

في هذا النص؛ يفرض البعض القياس والاستعارة عنوة، ظنا بأن استبعاد هاتين الخاصيتين سيجعل تناول القصيدة مستحيلًا: تلك الطريقة في تناول الهايكو، هي مجرد تكرار للنص، وهذا ما فعله أحد الشُرَاح لباشو، بطريقة ساذجة وسطحية:

تمام الرابعة ...

 استيقظت تسع مرات

أتأمل القمر.

"إن القمر غاية في الجمال"، يستطرد شارح النص قائلا " لدرجة أن الشاعر يصحو من نومه مرة بعد أخرى كي يتأمله من النافذة". هكذا يسعى الغرب إلى فك شفرة النص، وتفسيره للنفاذ إلى المعنى، والولوج إليه فقط لمجرد الولوج إليه - وليس لخلخلته، تلك الحالة أشبه بمتدرب زن – حيث لا يشفع له اجتيازه الـ"كوان"1، إخفاقه في كتابة الهايكو؛ لأن فعل القراءة لديه تعطيل للّغة، وليس استفزازا لها: إنها مغامرة أدرك باشو نفسه، وهو سيد الهايكو، مدى صعوبتها وضرورتها:

فواعجبا

لمن لا يرى "الحياة عابرة"

حين يومض البرق !

***

.........................

* نشر المقال في مجلة البيان الكويتية عدد شهر يناير 2024، وهو ضمن أربعة مقالات مجتزأة من كتاب رولان بارت الشهير " امبراطورية العلامات.

* "رولان بارت" (Roland Barthes 1915-1980) فيلسوف فرنسي وناقد أدبي ومنظر اجتماعي وسميولوجي . نال شهادة في الدراسات الكلاسيكية من جامعة السوريون عام 1939. كان لفكره بالغ الأثر في تطور مدارس أدبية عدة كالبنيوية والماركسية وما بعد البنيوية والوجودية، كما كان لآرائه الفكرية تأثير كبير في تطور علم الدلالة. يعد بارت واحدا من كبار الفلاسفة الذين أرسوا تيار ما بعد الحداثة. من مؤلفاته : لذة النص، الأدب والواقع، موت المؤلف، من البنيوية إلى الشعرية، الغرفة المضيئة، هسهسة اللغة، مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص وامبراطورية العلامات وغيرها.

  الكوان公案  .هو تدريب ذهني على موضوع ما للتأمل يلقيه المعلم البوذي على المتدرب (المريد)، ويطلب منه الإجابة بعد تأمل، وينصحه بالابتعاد عن طرق التفكير المعتادة مثل: المنطق، والمقارنة ،ومحاولة إيجاد طرق أخرى للوصول إلى صلب الموضوع وهو غالباً ما يكون الهدف الأساسي للبوذية ويطلق عليه "الاستنارة".

"بعد أن كبر الموج" مجموعة قصصيّة، صدرت عن دار الوسط للإعلام والنّشر في مئة وعشرين صفحة، وفي اثنتين وعشرين قصّة مختلفة تلامس أوتار القلوب، وتثير شغف القارئ بلغتها المتدفّقة بالمشاعر.

سيميائيّة العنوان ودلالاته العميقة المكثّفة:

هذا العنوان "بعد أن كبر الموج" مليء بالدّلالات التي تضفي على المجموعة ثراء معنويّا وبعدا أدبيّا خاصّا. هو عنوان رمزيّ مثير للفضول يمكن تفسيره بطرق شتّى، فهو يطلق العنان لخيال القارئ ويغريه بالتعمّق في هذه المجموعة لسبر أغوارها.

كما تبدو الكاتبة وكأنّها تضع نفسها في هذا العنوان الذي يشير إلى نضج اختيارها، فالموج رمز للحياة يموج بالأحداث والمشاعر، ينهمر ويتلاطم ويكبر؛ كتجاربها التي كبرت ونضجت مع مرور الوقت وحملت معها عبق الماضي وحكمة الحاضر. والموج يصوّر القوّة والصّلابة في مواجهة التّحدّيات والصّعاب، وهو أيضا رمز للحلم والرّغبة المتوقّدة في التحرّر من القيود.

يمكن ربط عبارة "كبر الموج" بشكلٍ مباشر بنموّ شخصيات القصص مع مرور الزّمن، فكما يتنامى الموج، تصبح شخصيات القصص أكثر نضجا وعمقا، تمرّ بتحدّيات تغيّرها وتطوّرها، وبالتّالي، فأحداث القصص تصبح أكثر تعقيدا. ولا تقتصر رمزيّة العنوان على ذلك فقط، بل تتّسع لتشمل طيفا من الإمكانيّات، تبعا لفهم القارئ وخيال الكاتبة ورؤيتها، وبناء سياقها السّرديّ.

إذن.. هو اختيار موفّق لمجموعة قصصيّة تعنى بموضوعات إنسانيّة متنوّعة، تشكّل فيها المرأة لوحة فنيّة حيّة بكلّ تناقضاتها، بقوّتها وضعفها، بفرحها وحزنها، بأحلامها وآلامها. ولم تغفل المجموعة أيضا، عن تصوير الرّجل بكل حالاته، مشاركا في أفراح الحياة وأتراحها، وشاهدا على متقلّباتها وتغيّراتها، متأثّرا بما حوله ومؤثّرا به.

قصص من أعماق الروح:

تطرح كلّ قصّة من القصص واقعا مختلفا، بينما تشكّل الرّسالة الكليّة للمجموعة دعوة لاستكشاف أعماق النّفس الإنسانيّة. ولعلّ التّركيز على بحث المرأة عن ذاتها، من أبرز علامات السرد النّسويّ في هذه المجموعة، فالمرأة تقاوم وتتحدّى وتواجه الصّعاب بقوّة وعزيمة.

تفتتح الكاتبة بقصّة "أفقد نفسي" (ص5)، فتجسّد صراعا داخليّا يواجهه الإنسان في خضمّ الخيانة وتأثيرها على علاقاته الاجتماعيّة والعاطفيّة.

في القصّة الثّانية "شغف" (ص20)، تغوص بنا في رحلة فلسفيّة داخل هذا الزّمن المتخبّط سعيّا لفهم طبيعته، فتمهّد للنّص بكلمات الشّاعر أدونيس الرّنانة، التي جاءت مدخلا ملهما ومثيرا للخيال، توضّح مشاعر الإنسان المتضاربة بين اليأس والأمل والفرح والحزن، وتعبّر عن نظرتها الفلسفيّة حول وجود الإنسان ومكانته في هذا الكوّن. ولا شكّ أنّها كتبت هذا النصّ متأثّرة بكتابات جبران الفلسفيّة، وما فيها من قيم إنسانيّة رفيعة، ومن تدفّق في الأسلوب ووضوح في الومضات، ومخاطبة رمزيّة وروحيّة، والتحام بالوعيّ الكونيّ.

لا نجد تسلسلا زمنيّا للأحداث في هذه القصّة، بل نجد رموزا تحتاج تحليلا عميقا، وهي لا تقاس بمعيار الأحداث الحقيقيّة، بل تفهم من خلال تعبيرها الرّمزيّ؛ فقد انبثق النصّ في ثوب نثريٍ مزخرف بالصّور البيانيّة التي تضفي عليه سحرا وجاذبيّة، تتدفّق كلماته كشلّال عذب، تاركة وراءها أثرا عميقا في نفس كلّ قارئ متذوّق للحرف. وممّا كتبته في الصّفحات (20-21-22):

تأبّطت كتاب الأجنحة المتكسرة لجبران خليل جبران، أخفيته تحت طيّات فستاني الذي كنس الطّريق الترابيّ المؤدّي إلى الكرم. أنا سلمى بحبّها العارم، وبأجنحتها المحلّقة خارج الزّمان والمكان، دعاني الوجد، وكنت ألمح طيف السيّد المسيح يمشي على الماء كالظّل، يقطع بحيّرة طبريّا هاربا من الأعداء، وقد عميت أبصارهم. لمحوه كطيف وكظل يسير حافيا فوق الماء. وبين النّبيّ والمجنون والأجنحة المتكسّرة ورمل وزبد، تتنازعني الأطياف والأفكار.

خشيت من إفشاء عشقي لجبران السّماويّ، الذي أهداني أوّل وردة محبّة، وبعث بي روحا متمرّدة، وعرائس ومروج، ودمعة وابتسامة، وعواصف وموسيقى، ورملا وزبدا.

استدعاني البحر إليه كما استدعى جبران، ووقفت على ربوع جبال الكرمل المحيطة بالكرم، وأدركت أنّني سأعطي للطّبيعة من نفسي، ومن الجمال كما أعطتني.

فهمت جبران بطريقتي، فبعضي حبر وبعضي ورق، وأنا كلاهما، وما أنبل القلب الذي بإمكانه إنشاد الفرح وهو حزين.

هكذا، ارتقيت بنفسي لوحدي، وحفظت قاموس الحياة منذ طفولتي وأنا أردد:

الحياة مثلما تتغنّى بجمالها، نستطيع أن نغنّيها بصمت، والبقيّة ستأتي.

من خلال هذا النصّ النّثريّ الصّوفيّ الرّومانسيّ، الذي قَدّمتُهُ هنا بشكل مختصر، تقدّم لنا الكاتبة وصفا غنيّا بتفاصيل رمزيّة ومشاعر جيّاشة؛ لحالتها النفسيّة والوجدانيّة، بعد قراءتها لكتاب الأجنحة المتكسّرة، فتُظهر تأثّرها الواضح بأعمال جبران الفلسفيّة، التي ذكرتها في النصّ لتجسّد رحلتها الفكريّة، معبّرة عن شعورها بالاندماج مع الكون أثناء رحلتها في البحث عن معنى الحياة.

يرمز الطّريق الترابيّ الذي وصفته إلى مسيرتها الداخليّة نحو الاكتشاف الذاتيّ، فكلمات جبران ألهمتها وأثّرت في مسارها الإبداعيّ، فشعرت وكأنّها سلمى في سيمفونيّة حبّ، ووحدة روحيّة مع جبران. وتشير عبارة "المسيح يمشي على الماء"، إلى الأمل والخلاص من المعاناة، ويمثّل البحر اللانهاية والحريّة.

أمّا جبال الكرمل فتشير إلى المكان الذي تعيش فيه الكاتبة التي نحاول استلهام أفكارها، فنجد أنّ ذكر كتاب النبيّ يجسّد شعلة التّوجيه الرّوحيّ المنير لدربها، بينما يدلّ كتاب المجنون على تفكيرها الداخليّ، ونضالاتها في سبيل التحرّر من قيود الواقع.

أما كتاب الأجنحة المتكسّرة، فيعبّر عن أحلامها وطموحاتها التي لم تُحقّق بعد، بينما نستدلّ من كتاب رمل وزبد على فناء الحياة وهشاشتها.

في هذا النصّ أيضا إشارة إلى أهميّة القراءة، إذ تؤكّد قبّلان على أهميّتها في تنمية العقل والرّوح، ودورها في صقل موهبتها ومهاراتها الكتابيّة والإبداعيّة التي تتخلّلها العاطفة والإلهام والتّعبير.

استخدمت أيضا أسلوب السّرد الذاتيّ، وركّزت على مشاعرها وأفكارها، وكذلك أسلوب التكرار، مثل: "الحياة مثلما تتغنّى بجمالها، نستطيع أن نغنّيها بصمت" و " استدعاني البحر إليه كما استدعى جبران".

كما خلقَت من اللّغة المجازيّة الغنيّة بالصّور والأسلوب السرديّ عالما من المعنى والجمال، مثل: "استدعاني البحر" و "حفظتُ قاموس الحياة".

أمّا عبارة "البقيّة ستأتي" فتركتها مفتوحة للتأويل؛ لتضيف الغموض إلى النصّ وتدعو القرّاء إلى الانخراط في تأمّلاتهم وتفسيراتهم المختلفة.

توضّح هذه العبارة أيضا، ترقّب الكاتبة لما يخبّئه لها المستقبل، فهي ترى الحياة رحلة متجدّدة ومستمرّة من التّجارب التي تلوح في الأفق، وهذا ما يتوافق مع صور البحر والطّبيعة في النصّ التي ترتبط بدورات التجدّد الدّائم.

في سياق قصّة أخرى تحمل عنوان "ثرثرة" (ص26)، تشاركنا تجربتها الشّخصيّة أثناء رحلتها من الأردن إلى البلاد، فتصف الشّعور بالتّرقب والقلق الذي ينتاب المسافرين بين المعبرين، وتسلّط الضّوء على المشاعر والأفكار التي انتابتها خلالها.

وفي سياق قصّة "اشتهيك يا موت"(ص30)، تقدّم لنا حكاية امرأة تهرب من رجل استباح جسدها، تصوّر حالة الخوف التي تسيطر عليها أثناء هروبها من معتديها، ورعبها وحالتها النفسيّة، واضطرابها بين الرّغبة في النّجاة والخوف من المجهول.

في القصّة التي تليها "العار" (ص34) تقدّم حكاية مؤثّرة وفكرة مشابهة، عن فتاة تصبح ضحيّة لخيانة خطيبها بعد أن استباحها وتركها محبطة وحيدة وحزينة، تتحمّل مسؤوليّة حملها، فتصوِّر مشاعرها المتضاربة بين الحبّ والألم والخوف.

تشكّلان هاتان القصّتان لوحتين مؤلمتين مظلمتين عن واقع العنف ضد المرأة، وتثيران أسئلة مهمّة حول مسؤوليّة الأسرة والمجتمع في حماية النّساء من الاعتداء.

تثيران أيضا فكرة ما يسمّى بالشّرف في المجتمعات الأبويّة الذكوريّة، المهووسة بتأثيم المرأة على خلفيّة هذا المفهوم الخاطئ، الذي يستخدم لتبرير العنف ضدها، حيث تعتبر رمزا لشرف العائلة وأيّ سلوك مخالف للأعراف والتّقاليد، يفسّر على أنه يلحق العار بالأسرة، فتقتل كوسيلة لاستعادة الشّرف المزعوم، الأمر الذي يمثّل ظاهرة خطيرة تهدّد حياة النّساء.

يحضرني هنا ما جاء في شعر عنترة بن شدّاد:

ولَقَد ذَكَرتُكِ والرّماحُ نَواحِلٌ مِنّي.. وَبيضُ الهِندِ تَقطرُ من دَمي

فَوَدَدتُ تَقبيلَ السّيوفِ لأَنّها..  لَمَعَت كَبارِقِ ثغركِ المُتَبَسّمِ

من رحم الزّمن العربيّ العريق، يرتسم هذان البيتان كلوحة فنيّة تُجسّد معنى الرّجولة الحقيقية. فيهما تتراقص كلمات الشّهامة والشّجاعة والشّرف، كسيف يصدّ العدوان، وتترقّرق مشاعر الإنسانيّة، لتلامس أرواحنا. فكيف إذن انحدرت هذه المعاني الساميّة لتُقيّد بأفكار رجعيّة؟

إنّ الرّجولة، إن هي إلاّ قيم إنسانيّة نبيلة، تُعلي من شأن المرأة وتُكرمها. فكيف استغلّت بعض المجتمعات هذه القيَم النبيلة، لفرض هيمنتها على المرأة، مُقحمة إيّاها في قفص من العادات والتقاليد الباليّة؟

أليست الرّجولة الحقيقيّة تكمن في تحرير المرأة من قيود الظّلم والقهر، وتمكينها من تحقيق ذاتها ومساهمتها في بناء المجتمع؟ إنها رحلة طويلة، تبدأ بخطوات صغيرة، تُكسّر قيود الجهل، وتنير دروب المستقبل.

فهل نعيد للرّجولة بريقها الأصيل ونحرّر المرأة من قيودها، لنسير معا نحو مجتمع ينعم بالعدل والمساواة؟

هذه الأسئلة وغيرها تشعل جذوة القصّتين السابقتين، وتثير التفكير حول مفهوم الشّرف والرّجولة في المجتمعات الذكوريّة.

نسير نحو قصّة "جمر وأمر" (ص41) نقرأ عن فتاة تدعى فاتن، ومعاناتها من تصرّفات والدتها المتسلّطة التي تؤثّر سلبا بأنانيتها على جميع أفراد الأسرة.

تلجأ الفتاة إلى أبيها، لكنّ شخصيّته ضعيفة، ويعجز عن المواجهة.

يفضّل الصّمت والسّكوت عن زوجته، تجنّبا لكلام النّاس وحفاظا على سمعة العائلة، فتقرّر الفتاة الهروب إلى الدّير كملاذ أخير يمنحها السّكينة والأمل والقوّة، وتكرّس حياتها للعبادة بعيدا عن قسوة الأمّ.

تسلّط هذه القصّة الضّوء على إشكاليّة وجود شخص نرجسيّ داخل المنزل، وتجسّد تأثير ذلك وتداعياته المترتبة على جميع أفراد الأسرة، كما تقدّم دعوة للتأمّل في دور الدّين في حياتنا، فهل هو ملاذ من متاعب الدّنيا، أم أداة للهروب من الواقع؟

أمّا الـقصّة المعنونة بسرب ضجيج (ص53) فتروي حكاية شابّة تعاني من التّشتّت النّفسيّ وتركّز على أهميّة الحبّ.

تستخدم الكاتبة في هذه القصّة أسلوبا سرديّا متدفّقا، يجمع بين الواقعيّة والخيال، وذلك بلغة شعريّة أنيقة، مليئة بالصّور الرّمزيّة والاستعارات. كما تعتمد على السّرد الدّاخليّ في كشف أفكار البطلة ومشاعرها للقارئ.

القصّة التّاسعة "بعد أن كَبُرَ الموج"، تحمل عنوان المجموعة بذكاء، وتصوّر صراعا داخليّا لفتاة عاشقة للقراءة والكتابة، وتحت الفراش بعيدا عن الأعين، تخبّئ ما خطّته من أفكار وخيالات وشغف، على أوراق تمثّل ملاذها الوحيد من قسوة الواقع.

لكنّ السرّ لا يطول، إذ تنكشف خباياه أمام والدتها التي تحاول قمعها؛ لتغدو الفتاة أسيرة حبّها للقراءة والكتابة، مجسّدة بذلك صراع الأجيال والقمع في بيئة لا تقدّر قيمة الإبداع، ولا تتيح مساحة للتّعبير عن الذّات، ولا تتفهّم طموحات الأفراد ولا تشجّعهم على التقدّم.

هذه القصّة ثريّة بالمعنى، تمكّن القارئ من التّماهي مع مشاعر البطلة وأفكارها، وتثير نقاشا حول حريّة التّعبير واحترام الخصوصيّة.

النّصّ العاشر بعنوان "لوّم" (ص64) وهو ليس قصّة بالمعنى التقليديّ، بقدر ما هو نصّ نثريّ مؤثّر، يظهر الألم الَّذي تعيشه أمّ جرّاء فقدان ابنها، فتعبّر الكاتبة عن مشاعر الأمومة الصّادقة والفقد والحزن، وتصف الظّلم والقهر والعنف وفقدان الأحبّة،  وتدعو إِلى التّضامن مع الأمّهات الثَّكلى في كلّ مكان.

تتميّز لغة النصّ بجمالها وصورها الشّعريّة وتعابيرها الحزينة، كما يضفي الاقتباس من أشعار سميح القاسم في نهاية السّطور عمقا ومسحة من التراجيديّا.

في قصّة "ذاكرة العسل المرّ" (ص68)، تخلق الكاتبة أجواء حالمة تثير الأحاسيس، حين تجسّد حكاية ستيفانوس وكارمن، في ظلّ مأساة إنسانيّة، ليجد كلّ منهما في الآخر ملجأ من آلامه وأحزانه، بعد أن عانيا من ويلات الحرب وفقدان الأحبّة.

أمّا قصّة "نقرات الكعب العالي" (72ص)، فتصف حالة الحزن التي تخيّم على شاب يرى في الخيال مهربا من واقعه القاتم.  تحلّق خيالاته وهو يتأمّل بشغف جمال شابّة يراها فتاة أحلامه، لكنّ القدر يتدخّل وتأخذ الأحداث منعطفا مأساويّا مفاجئا، حيث تصاب الشابّة بحادث مروّع، يطفئ شمعة حبّه وآماله وأحلامه.

وعند الحديث عن النّصّ المعنوّن بمنفضة (ص77)، فهو صورة قلميّة قصيرة ومكثّفة، تغوص بالقارئ في رحلة سرياليّة عبر دهاليز الذّاكرة والصّور المبهمة التي تثير الغموض وتحفّز على التأمّل.

يعتمد هذا النّصّ على الإِيحاء برموزه المنبثقة من العبارات الحسّيّة، التي تترك للمتلقّي مجالا للتصوّر والتخيّل لإكمال الدّلالات الرمزيّة كما يوحي بها، حيث تصبح المنفضة رمزا للأحلام والذّكريات التي تضمحلّ مع الوقت.

قصّة "رهان" (ص78) هي حكاية امرأة تنجذب إلى رجل غريب الأطوار يثير فضولها، وفي النّهاية يتحوّل هذا الانجذاب إلى ريبة وشكّ، ما يدفعها إلى الهرب.

لا يقدّم هذا النصّ تفسيرا واضحا لتصرّفات الرّجل أو لمشاعر المرأة، ما يترك الأمر مفتوحا للتأويل.

في نصّ طائر النّفايات (ص 83)، تحيك الكاتبة من الكلمات طائرا نادرا، مستهلّة سردها بكلمات الأديب حيدر حيدرِ، الَّتي تحمل معنى رمزيّا مجازيّا يتجاوز المعنى الظّاهريّ.

تتابع في نقد الواقع القاتم، فتشير إِلى عدم إيمانها بإمكانيّة التغيير أو الأمل، وتترك المعنى مفتوحا.

تتحدّث عن هذا الطّائر الغامض وتعرّف بأنواعه المختلفة، موظّفة لغة بيّنة مليئة بالرّمزيّة والصور الحيّة، لتضفِي على النّصّ تأثيرا عاطفيّا قويّا زاخرا بالإيحاءات والاشارات المُلَمّعة بالغموض، فتدفع إلى التّساؤل:

من هو طائر النّفايات هذا؟ هل هو ظاهرة متفشيّة؟ أم سلوك اجتماعيّ سلبيّ؟ أم رسم لواقع ديستوبيّ؟

في قصّة "دون خيار" (ص88)، تضعنا الكاتبة في مشهد يثير ألوانا من الحزن واللّوعة. تكتب عن صراعها مع المرض، وعن مشاعرها جرّاء الفقد؛ لتغدو الكلمات رثاء ووجدا، وتضيف إلى النصّ عمقا من خلال دمج بعض أَبيات الشّعر، الَّتي تعزّز من مشاعر الألم. وممّا كتبت:

تَلَوَّنَت الأقاحِي بِالشَّحُوبِ .. فَنُوحِي يَا مَدَامِعَ أو فَتُوبِي

أَيَغفُو العُمرُ بَعدَ فِرَاقِ نَهرٍ .. وَتَلتَئِمُ الثَّوَانِي مِن نَدُوبِي

وكأنّ الشّاعرة هنا، تعكس المشاعر المجروحة التي لم تلتئم، فالوقت برأيها لن يداوي الجراح، ولن يوقف الدّموع بعد الفقد.

تتساءل عن إمكانيّة الحياة بعد رحيل من وصفته بنهر الوجود ومصدر الحياة، تقوم بتوظيف الصّور الطبيعيّة المعبّرة، وتشير بالأقاحي إلى الزّهور التي أصابها الشحوب والذبول؛ لِتُرمِّز بذلك إلى شدّة الحزن بعد الفقد.

ثمّ تجمع شتات روحها فوق سرير أبيض داخل جدران المستشفى (ص94)، فتبوح عن مشاعرها المتضاربة بين الألم، والأمل بالشّفاء، ليغدو السّرير الأبيض مسرحا لصراع مؤلم مع المرض ومشاعر الفقد، وتغدو اللّحظات حينها اختبارا لصبرها وقوّتها.

نقرأ بعد ذلك قصّة "وفاء" (ص98) حيث تنقش البطلة ثوب ذكرياتها بخيوط الوفاء لزوجها الغائب تاركة قلبها رهينة لقيد الحنين، لكنّ شعلة الوفاء تنطفئ تدريجيّا مع مرور الزّمن، وتصبح الذّكريات عبئا ثقيلا.

تنتقل الكاتبة بعد ذلك إلى نصّ آخر بعنوان "مغفرة" (ص104) تختمه بعبارة "يسقط الحلم من حنين الذّاكرة"، وتلحقه بنصّ "هودج الأحزان" (ص106) الذي تنهيه بعبارة "الأمّ المكلومة"، وتصطحبنا إلى نصّ آخر بعنوان "خطيئة" (ص109)، ثمّ تختتم بقصّة "هناء" (ص112).

ملامح أسلوبيّة:

تتميّز هذه المجموعة بالدّمج المبدع بين السّرد والنّثر والشّعر والصّور القلميّة، هذا المزج الفريد يجعلها أكثر تشويقا وجذبا، فالسّرد يحاكي الواقع ويدخل المتلقّي في أجواء القصّص، ويسبغها النّثر بالسّلاسة والوضوح، أمّا الصّور القلميّة فتثير المشاعر وتحفّز الخيال، واللّغة الشّعريّة تكسوها بالجمال والرّومانسيّة.

تمتاز هذه المجموعة أيضا بقدرتها على خلق وحدة الأثر أو الانطباع، تماما كما وصفه "إِدغار آلان بو" الّذي عرّف الانطباع، أنّه كل ما يجب أن تخلّفه القصّة في ذهن القارئ، مؤكّدا على ضرورة أن يكون هذا الأثر واحدا ومباشرا وقويّا، ومشدّدا على أهميّة اختيار العناصر الفنيّة بعناية وتوظيفها بمهارة مع لغة قويّة، ذات إيحاءات معبّرة.

تتوفّر أكثر تلك الشّروط في قصص هذه المجموعة وأحداثها التي تركّز على جوانب الحياة اليوميّة، ببساطتها وتعقيداتها، ليغدو السرد متماشيا مع طبيعة الأفكار المتناولة، بكلّ ما فيها من ثراء.

كما نستشعر الأسلوب الأنثويّ النّاعم من خلال اللّغة العذبة، الزّاخرة بالكلمات ذات الدّلالات العاطفيّة؛ كالحبّ والأمل والحزن والفرح، التي أضافت إلى النّصوص لمسة خاصّة. ووفقا لعدسة نظريّة الاستقبال والتلقّي للمفكّر الألمانيّ "هانس روبرت ياوس" نجد أنّ عناوين القصص وضعت كبوابات، تفضي إلى عوالم مظلمة ونورانيّة في آن واحد، تشير إلى قضايا تؤرّق الكاتبة؛ فتبثّها في قصصها لتحفّز القرّاء على التّفكير في مغزى الوجود، وذلك من خلال تصوير العبثيّة والوجوديّة، والكشف عن تناقضات الحياة وصراعاتها.

كما يتجلّى تأثّر الكاتبة بكافكا، بوضوح في عناوين قصصها وأسلوبها الرّمزيّ، الذي يضيف طبقات من المعاني إلى القصص.

جاء ذلك في صور نثريّة غنيّة مقرونة بحوار تفاعليّ عاطفيّ، وسرد واقعيّ أحيانا، ورومانسيّ أحيانا أخرى، وغموض وسرياليّة مرّات ومرات، وكلّها تنصهر في بوتقة الخيال الأدبيّ، وتجتمع بشفافيّة اللّغة وانسيابها، وبفنيّة الصّور البيانيّة من وصف واستعارة وتشبيه وكناية ومجاز لغويّ، وثراء في المفردات ودقّة في التراكيب.

هذا من ناحية؛ لكن.. من ناحية أخرى فقد استهدف هذا العمل نخبة القرّاء، وذلك لغوصه العميق في الرّمزيّة.

يضفي هذا الاستغراق في الرّمزيّة على العمل بعدا من الرّقيّ والإلهام، بيدَ أنّ هذا الاستغراق صعب على القارئ العاديّ البسيط، ما يؤدّي إلى صعوبة فهمه للأفكار الواردة وتحليلها، وبالتّالي إلى عزوفه عن القراءة، وهذا الأمر يعيق وصول العمل إلى جمهور أوسع.

وبعد.. تبقى قراءة هذه المجموعة تجربة مثيرة للاهتمام؛ فكلّ جملة محكمة بعنايّة، وكلّ كلمة مختارة بدقّة، وكلّ مشهد يهدي إلى النّصّ جمالا وتأثيرا خاصّا.

***

صباح بشير

..........................

- ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثقافيّ.

16.05.2024

للشاعر "أبوفراس جابر الصنهاجي"

1 - أقدّمُ الديوانَ بمفرداته:

يحرقُ الشاعر أبوفراس جابر الصنهاجي مراكبَهُ في أربعٍ وعشرينَ ساحلاً انزياحياً يبدأ بالربيعِ ينقشُ أحلامَهُ على جدار معتقلٍ، وينتهي بمكر الوشمِ ينرسمُ على خدّ راقصة. وبين النقشِ والرقص تنثالُ القصائدُ تباعاً، تغْرِفُ من نونِ الكتابةِ حروفَ الطينِ، مُزْوَرَّةً عنِ سراب الْمِياه، مبْتَهِلَةً في عبير وردة، منشّفَةً شموعَها في صمت الجراحِ، موقِّعةً على سوادِ الليلِ نغماتها الحزينة، ترجو فيها عطف القمر، خشية الضياعِ في أزمنةِ التّيه.

2 - أختارُ تيمةً واحدة:

هي واحدةٌ في صيغة المتعدد. وأقصد بذلك ثلاثية الماء والكتابة والألوان. وفي لغةٍ إجرائية بعيدة عن التناول العائم أقول:

قد مارستُ على الديوان قراءة إحصائية لا تتغيّى شيئاً سوى رصد المفردات في صورتها المورفولوجية. وبعد ذلك صنّفتُها في خانة الدلالة، فوجدتُ القصائد تتحرّك في كثيرٍ من التيمات أو الموضوعات. ولكن اللافِتَ فيها بقوة سيميائية ثلاثةٌ هي:

- دلالة الماء: 81 تردّداً

- دلالة الكتابة: 70 تردّداً

- دلالة اللون: 51 تردّداً

و لم نحص في هذه الحقول الدلالية مفرداتها داخل الجذر اللغوي الصافي فقط، بل حرصنا أيضاً على تتبع الكلمة في اصلها وفي اشتقاقاتها وفي ظلالها. ونمثّل لذلك بكلمة (الكتابة) التي أحصينا فيها مايلي: فعل كتب ومشتقاته، وسجلنا أيضا متعلقات الكتابة مثل القلم والخط والشعر والخطاب والحبر وكل ما يتعلق بهذا الحقل من قريب أو من بعيد دون ليِّ أعناق المفردة كي نراكمَ حصيلتها في فراغٍ دلاليّ. والأمر ينطبق على كل الحقول مثل الماء استدعينا فيه مفردات البحر والموج والسحاب والعطش وغيرها ... وفي حقل اللون استدعينا الأبيض والأحمر والأخضر ومتعلقات اللون مثل الثلج والغراب والليل  والدم و...

هكذا اشتغلنا حتى نوسّع من أفق تداولنا لمعاني الديوان ولفائض معانيه ولظلال معانيه. في تصورٍ نقدي يتبنّى الحقّ في التأويل المشروط بالقرائن المعجمية والسياقية والثقافية.

3 - أبحث عن أولِ تجلٍّ:

و أوّل التجلي لعنصر الماء واللون والكتابة يتبدّى في العتبة (أحرقتُ مراكبي):

- الكتابة - صوغُ العنوان مارسه شاعرٌ يكتب

- الماء - المراكب تحيلُ منطقياً على الماء الذي تمخُرُ عُبابه

- اللون - الإحراق يشي بلون السواد

وحالما ينفتح القارئ على الديوان تواجهه أول قصيدة بعنوان (ربيعٌ على جدار المعتقل) وهو تجلٍّ واضحٌ لطقس الكتابة والماء واللون، بادرتْ به القصيدة وهي تمسك بالعتبة في قبضة التأويل واحتمال التأويل. فالربيع لا يكون إلّا نتيجة الماء، والمعتقلُ هو في الأصل اعتقالٌ لفكرة الماء قبل اعتقاله للإنسان، والربيع لون أخضر، لا يُقحمُ ذاتَه قسراً وتعسّفا، بقدر ما ينساب في نسغ العتبة متخفيّاً في التلميح، رافضاً سطحيةَ التصريح.

4 -  أفكِّرُ في اطِّراحِ الشاعر لمقولة الكتابة:

و الكتابة تفيد في الديوان أكثر من معاني التسطير والتدبيج والتحبير والتعبير... إلى الدلالة على الوجود الذاتي والموضوعي للمقولات المتعددة منها مقولة الإنسان (الذات مثلا) ومقولة التاريخ (الأندلس مثلا) وغيرهما من المقولات التي تستحق وحدها وقفة قِرائية كاشفة.

و في مثالٍ نستخلصه من القصيدة الثانية وتحديداً في عنوانها (نون الكتابة) نشيرُ إلى أن الشاعر أسند فعل الكتابة إلى مفردة النون، وهو إسناد يبحث عن شرعية الكتابة الشعرية ويبحث عن مصداقية الجمالية الصوغية من مرجعية علوية. قال تعالي (نون والقلم وما يسطرون)1.

من هنا استيعابنا لربط الشاعر فعل الكتابة بمفردة النون، باعتبارها حرفاً مقدساً يتمتّع بخاصية صواتية تتميز عن غيرها داخل الصواتة العربية. فهو يتميز بأنه حرفٌ نوعيّ في الأبجدية العربية، لأنه يعبّر عن ذاته كصوت مستقل وقائم بخصائصه، ويعبّر عن ذاته أيضا كصوت يختم ثمانيةً وعشرين حرفا . هكذا يخترق صوت النون الصواتة العربية بسعة دخوله في الألفاظ وبكثرة استعماله في صورة لافِتة، لأداء الوظائف والدلالات المختلفة . (وقد حدّد القدماء مخرج النون المتحركة من طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا . أمّا مخرج النون الساكنة فمن الخياشيم وهي التي سماها العرب بالخفيّة أو الخفيفة . ومن صفات صوت النون: الجهرُ والغُنّةُ والذّلاقةُ والتوسّط بين الشدّة والرخاوة والانفتاح والانخفاض.)2. ناهيكَ عن شكله المعبّر عن نسقٍ دائريٍّ تتوسّطه نقطة، تدفع بالصورة إلى دلالة الاحتواء والضم وفعل الاحتضان والتسوير الجليل.

وينزل الشاعر من سموق المرجعية إلى مخيال الذاتية، ليشخصِنَ في هذا النزول مفهوم الكتابة، داخل منظور يبتعد عن التنظير والتفكير لأن المقام مقام شعر، ولأن الشاعر بصدد الهيولى لا العلم، وبصدد الزئبقية المنفلتة لا الدقة المحددة في صرامة التعريفات. إنه يحاول أن ينكتب، وداخل انكتابه نظفر نحن معشر القراء بشيءٍ من وجهة نظر خاصة حول مقولة الكتابة.

5 - أمارس التأويل على الثلاثية:

- الشعرُ ليس وثيقة:

ولا يفوتُنا تسجيل فكرة التبئير لمقولة الماء والكتابة واللون داخل عتبة العنوان الّتي تجاوزتْ محطّة التأشير على الديوان إلى التعبير عن الديوان في أبعاديتِه الدلالية. وهنا بالتحديد بدا الشاعر ماكراً مكراً أدبياً يتبنّى فكرة التاريخ داخل المتخيّل، لا فكرة المتخيّل داخل التاريخ. الشاعر ليس مؤرّخاً كي نطلب منه الحديث عن المراكب، وعن إحراقِها، وعن تماهيها بلحظة زمانية أسّسها علَمٌ بارزٌ في تاريخ هذه الأمة الإسلامية هو طارق بن زياد، أو أن ننتظر من الشاعر تغطية هذه اللحظة بدقّة العالِمِ المتخصّص ... الشاعر يدركُ دور الفنّان في حدود لا يشطُّ فيها بمخياله فوق الحدث ولا ينزل بمخياله أسفل الحدث. والأمر غير متعلّقٍ البتّةَ بوثيقة تاريخية محضة، بقدر ما الأمر متعلّق بتصوّر فنّيٍّ متأتٍّ من ذاتٍ مبدعة في مجال القول، همّها الأول تقديمُ متنٍ شعرِيٍّ متعالٍ عن الواقعِ ومحتضنٌ له في آن، لكنْ بطريقةٍ يتحولُ فيها الكاتب لهذه الإضمامة إلى هيولى إنسانية مسكونة بالخيال، بعيْنيْنِ: واحدةٌ تمكر بالإبداع الشعري في أبعادٍ ثلاثيةٍ تستحضر الماء (البحر) واللون (الدم والجهاد) والكتابة (التخييل لا التسجيل). وأما الثانية فعينٌ تمكرُ بالصياغة الشعرية القادمة من برزخ البيانِ والانزياح وتقدّمُ متناً شعرياً يقول كلمته في الذات والموضوع والتاريخ دون أن يكون هذا المتن متواطئاً مع الحيادية الانهزامية التي تلخصها مقولة (قل كلمتك وامْضِ).

- الكمُّ لا يعني:

عندما تحدّث الشاعر في العتبة عن المراكب وعملية الإحراق، ظننَّا من زاوية القارئ السّاذج أن الشاعر سيُغْرِقُ الديوانَ بمفردات المراكب. فإذا بالعكس تجلّى صحيحاً. فلم يتعدّ منسوب ملفوظ المراكب عدد أصابع اليد، ومن ثمّة فقد كسّر الشاعر مفهوم الهيمنة وحوّلهُ من ثراء التردد المعجمي إلى ثراء الحضور الرمزي الدالّ. وهذا نوعٌ جديدٌ من الصوغِ الشعري في قصيدة النثر الحداثية. وفي هذا التوجّه إدراكٌ طيّبٌ من الذاتِ المتكلمة أن يحظى المتلقي لديها بقدرٍ من الحضور الجمالي الذي يبدو فيه مشارِكاً ذكيّاً لا يستدعي من المبدعِ أن يُراكِمَ لديهِ مفهومَ الكمّ، ويقصّ من أجنحة تحليقه في التخيّل بتوجيهه اللامباشر بوضعِ كثيرٍ من المحطّات المعجمية، وكأنها علامات التشوير في الطريق... يتركُ الشاعر للمتلقي مساحة واسعة من حقّ التخييل لممارسة حقّ التأويل. ولأن المبدعَ مؤمنٌ بتناسل النص وتوالده خارج ذاتِهِ. فقد جنح إلى جمالية التلقي التي ترحّب بفكرة التفاعل المُهرّب للقراءة من سلطة النصّ و" فيتيشية " المؤلّف إلى الانفتاح على تعددية القراءات والتأويلات واحتمالات المعنى. ذلك أن (الإبدالَ لجديد الذي تقترحه جمالية التلقي هو الاهتمام بأثر النص في القارئ، لا بالأدب في حد ذاته أو في حد مرجعيته وحمولته الفكرية وتاريخيته، ولا من حيث ماديته الشكلية واللغوية. الإبدالُ هو ما وقعُ النص في القارئ؟)3.

- بلاغة الماضي:

تسكنُ الأندلس في العنوان عبر تحويل الإسناد من معترك الذاتِ (أحرقتُ مراكبي) حيثُ التاء المرفوعةُ على الفاعلية وحيث النسبة المتكلمة في ياءِ المراكب، إلى معترك الموضوع، أو التاريخ إن شئنا التعبير المباشر. وفيه يستدعي الشاعر المتلقي في بوّابتَيْ بيانِ التصريح ومخيال التلميح. فالمراكب كانت على الساحل في اتجاه الآخر حيث الأندلس تنتظر المنقد. وهذا لم يتكلم عنه الشاعر من باب أنه ليس مؤرخا، ولكن المتلقي قارئٌ ومنتج جديد يقوم بالتأويل. وحتّى التصريح بمفردات الأندلس كان شاعرياً بامتياز ومنه دلف الشاعر وأدلفَ معه المتلقي لاجتناء القطاف الشعري في هذا المقطع:

رائعةٌ حينَ تكتُبِين

و في بوحك جنونٌ كسّر القيود

في نبضك ربيعٌ وتغريد

شلال شوقٍ وحنين

بستان عشق بأندلس

يحكي لوعة ابن زيدون

واشتياق ولّادة

وبسمتك عابرة للأقفال

همسات تغرّد في كياني4

و تسكن الأندلس في الديوان دون أن تثير غبار المعجم، لأن الشاعر يؤمن بأنّ كثيرا من الحقائق تدخل في مقولة الآمدي (إن من الأشياء ما تدركها المعرفة ولا تحيط بها الصفة). والمعرفة هنا غير متحيّزة في المكان، بقدر ما تنسرب في عموم المكان، ونقصد بذلك المكان العربي الذي تبدو فيه ذاتُ الشاعر لا تفرّق بين أندلس وعراق ومصر ومغرب... قال الشاعر في ديوانه:

هل جفّ النيل في صعيدنا

وأغرق الفرات مراكبه

وبلع النمل المياه قبل الحصاد

ما بال دجلة سقط مغشياً عليه5

شعرية الزمان تلتقي مع شعرية المكان معجونتيْنِ في تجربة الماضي الّذي تستثمرهُ ذائقة الشاعر في مخيال هادفٍ لا يشطُّ في رومنسية الخطاب الحالم، بقدر ما يندفع سائلاً ومتسائلاً في نسق الاعتبار، محقّقاً بذلك انسجاماً جمالياً داخل تشعّبٍ أكثر جمالية.

6 - سيمياء اللون في الثلاثية الدلالية:

تقوم شعرية اللون أو الألوان في ديوان (أحرقتُ مراكبي) على تشكيل اللغة لتعيد تشكيل عالمٍ بديلٍ عن العالم الواقعي، داخل منظور تخييلي لا يكسر الرابط المعنوي والدلالي القائم بين الأشياء في وجودها المرئي وبين الأشياء كعلامات تلج مخيال الشاعر لتخرج منه  كائناتٍ زئبقية طافحة بالأبعاد.

و في ذلك المسار يلعب الشاعر لعبة الألوان:

و نقصد به توظيف دلالات الألوان في تناغم بين الصورة الذهنية للون وبين الصورة البيانية الكاشفة لهذا اللون أو ذاك . والصورة هنا تستنجد بالانزياحات الغائرة كي تلقيَ باللون الفيزيائي خارج التمثل الحسّيّ لتنقل المتلقي إلى اللعبة الشعرية المتوسلة سيمياء التأويل المشروط.

ومنها تجانس اللون في ماهية اللون (أبيض) مع الماهية في جسدٍ يحمل دلالة هذا اللون (الثلج)، أي أن الشاعر يمارس لعبة التجانس بين المحمول، أي البياض، والحامل، أي الثلج... أنظر الصفحة 10 من الديوان مثلا. وفيه يخرجُ الشاعربالتعبير من بداهات المعجم إلى معانقة الأشياء في تجليّاتها السيميائية الخازنة لمجموعة من الدلالات. فالبياضُ هنا لا يستثمره الشاعر باعتباره لوناً فيزيائياً بليدا تقف معانيه عند حدود الأصباغ، بقدر ما هو إشارة علاماتية تفضح في سمتٍ بلاغيٍّ ساخر هوية الموصوف. ونجد مصداقاً لذلك  في مثالٍ من القصيدة الأولى حيث يصف الشاعر الأحلام التي ماتت بقوله (يحرسها غرابٌ أبيضُ كالثّلج) أنظر الديوان ص 10.

و إذا استمدت العلاقة بين البياض والثلج مصداقيتها من مقولة المشابهة البائنة من خلال كاف التشبيه، فإنها في سياق آخر استمدت علاقتها من تجانس النقيضين (البياض والغراب). وحيث إن الأحلام ماتت فهي تنتظر درسَ الدفن التاريخي النازح من القصص القرآني، فيكون الغرابُ معادلاً موضوعيا يقتحم الصورة ليؤثّت بنياتِها البيانية بمزيدٍ من الضوء. اللون الأسود الدال على الموت نقيض اللون الأبيض الدال على الحياة،و في هذا التجانس يرقد عمق الانزياح، إذ الشاعر يكشف لنا في غير تكرار للتاريخ أن الغراب هنا غير حاضر ليعلّمنا طقوس الدفنِ وإن كانت الفكرةُ واردةً في بعض التأويل، ولكنه فضلاً عن ذلك هو حاضر لا ككائن حيواني بجناحيْنِ ومنقار، ولا كصورة مكرّرة لفعل الدفن، ولكنه حاضر كسوادٍ دلاليٍّ وبؤَرِيٍّ يقصّ من تحليق أحلامنا بسواده الغريب. قال الشاعر في نفس سياق حديثه عن الأحلام (حين تطل أحلامنا من القبور – يصعقها صوت الغراب ص 10). وإمعاناً في النكاية بهذه الأحلام يضيف الشاعر إلى كينونة الغراب وإلى سوادِه مكوّناً آخر هو صوتُ الغراب المرتبط بالصعاق. وفيه ما فيه من دلالة السلب والخواء والنفي والخراب...

و منها تجانس المحمول والحامل في مفردتيِ الحمرة والدم، وهذه الثنائية حاضرة في الديوان بشكل ملفت، نستدل على حضورها بالتمثيل لا بالحصر ونقف هنيهة عند القصيدة السادسة (سيد الشهداء) حيث اللون الأحمر حاضرٌ في صيغٍ متعددة منها (الدماء – بالدماء مدرجة أيدينا – الدماء الزكية - في عروقنا – نصلي بدون  نزيف – نصلي والدماء جارية - ...  ص 31 – ص 36) وسياق القصيدة يعضد مذهبنا في التخريج. الحمرة في هذا السياق متوارية تترك لتداعياتها ومتعلقاتها شرف البيان. قال الشاعر (نصلّي بدون نزيف  ص 36) معتمداً ظلال الإشارة بدل أجساد العبارة، في علاقة (تقوم على المجاورة فتكون العلاقة هنا سببية منطقية)*6 بين المحمول، أي الحمرة والحامل أي النزيف. ومثل ذلك التركيب كثيرٌ في الديوان بفصح عن دراية شعرية من لدن الشاعر الذي تأبى ذائقته الإمساك بالمعاني داخل شرنقات التقليد البلاغي، وتفضل التحليق في مخيال الانزياحات الذكية القابضة على المعنى لتتجاوزه إلى فائض المعنى ... وهكذا الشعر.

إن عبارة (نصلي بدون نزيف) عبارة ممتدة في عالم البلاغة الجديدة المبنية على اختيارات دقيقة لمنسوب التخييل، ذلك أن الصلاة تستدعي وضوءا وماء، والدمُ هنا معادل بلاغي غائب يستحضر الشاعر بعض تداعياته ألا وهو النزيف، لترتسم الصورة أمامنا بالغة في الوخز، حيث الدم سيد الموقف في سياق القصيدة الماتحة ألوانها من تيمة الشهادة، وهي تيمة تعجّ بالحمرة والدم، فيأتي قرار الشاعر بإيقاف هذا المشهد الأحمر توصيفاً للحياة البديلة عن قهر التيمم بقنافد الحظيرة... هكذا تتمازج في عرف الثلاثية صبغةُ الماءِ في مقولة الوضوء المتخفية، بصبغة اللون في الحمرة المتوارية بصبغةِ الكتابة الواعية بلحظة المفارقة والخلاص. قال الشاعر في محور الكتابة (العريس في مرقده يتلو الكتاب ص 34) والتلاوةُ هنا قرار ربّاني يعشق نهاية الشهادة في حرير الجنة وزعفرانها ومسكها كما لمّح إلى ذلك الشاعر (ص 35)

7 -  أكتشف لعبةَ الكتابة في الديوان:

أعتبر الانزياح اسلوباً بليغاً وماكراً في بلاغته وهو ينقل إلينا دلالات الثلاثية (الماء واللون والكتابة) نقلاً أيقونياً وإشارياً وزمزياً، في انتقالٍ بديعٍ  بالعلاقة بين الدال والمدلول، من مقبرة المعنى إلى حدائق اللامعنى، وأقصد بذلك فائض المعنى في أبعاده الدلالية وفي دلالاته البعيدة والمحلقة في عوالم التخييل المحترمة لجمالية التقلي كنسق إبداعي، ولحضور المتلقي كطاقة قارئة ومؤوّلة. وفي هذا الصدد سنختار بعض المقاطع من بين كثير، وهي كلها تميط اللثام عن منظورات الشاعر لفعل الكتابة باعتبارها آلية لا تقف عند حدود الصوغ الشعري وإنما تتجاوزه إلى آفاق الصوغ الوجودي لمختلف الماهيات المتناثرة هنا وهناك في غضون الديوان:

القصيدة الشاهد الصفحة

1 - على جدار المعتقل كتبنا- صفحة  12

2  - اكتبيني رواية - ص 14

4  - وحروف فقد لغتها - ص 24

4  - أشعاري تحررت من القافية - ص 30

6 -  العريس في مرقده يتلو الكتاب - ص 34

7 - ولا القراءات المتواترة  - ص38

9 - نكتب الأسماء كلها من جديد - ص 46

14 - قلمي كان واعياً بكلمات - ص 63

17  - تعطلت لغة الخطاب  - ص74

22 -  يغازل القرطاس والمحبرة  - ص 94

23 -  يراجع الفرزدق قصائده  - ص 98

24 - ركبنا صهوة الحرف  - ص 100

اخترنا هذا الغيض من ذاك الفيض تقريباً للقراءة من الأفهام،  وليس إحاطة شاملة. فذاك أمر موكولٌ إلى أفق آخر يدرس الديوان في كلياته الممكنة.

الكتابة جزءٌ من موضوعةٍ كبيرةٍ في الديوان، هي ثلاثية الماء والكتابة والألوان. ومن منظوري الخاص، هي تداخل ذكيٌّ من الشاعر يبني به فلسفته في الفنّ والحياة.

و حديثنا عن كل طرف في هذه التيمة على حدة هو مجرد إجراء تفكيكي لتقريب المسافة بين الديوان والقارئ. أما حقيقة الأمر فلا إمكان للفصل في تصور الشاعر بين الماء والكتابة والألوان. فهي أشكالٌ متداخلة ومنسجمة أشدّ الانسجام في إطار النسق الثقافي لهذا المبدع، على الرغم من تشعّباتها الماهياتية، إذ الماءُ مفارقٌ للكتابة وللون، ولكنّ هذيْنِ الأخيريْنِ متعلقان بالأول في ثقافتنا الإسلامية من باب المرجعية والمصدرية (وجعلنا من الماء كل شيء حيّ). ومما يعزّز طرحنا أن حقل الماء مهيمنٌ درجاتٍ قصوى في الحضور مقارنةً بالكتابة والألوان.

الشاعر لا يكتب إلّا من زاوية الوعي بفن الشعر:

أفتّش في قشّ أدواتي عن أثر لك

عن أوراق سقطت منّي ذات خريف

قلمي كان واعياً بكلماتي حتّى النّخاع

قبل أن يخطّها على الورق يسائلني

يعتذر عن بعضها ... ويأبى التدوين.    ص 63

و هو في وعيه بمادّة الشعر لا يسقط في صرامة الحدّ العلمي، بقدر ما يحرص على العومِ في كيمياء التخييل، حتى لا يسقط في شعر الفكرة الّتي لا يتبنّاها الديوان ولا يغازلها حتى مغازلة. والكتابة الشعريةُ في آخر المطاف ماءٌ يجري في نسغِ الإنسان، وعوضَ أن ينساب رقراقاً بعذبِ الزلال، نجده ينساب رقراقاً ببليغ الألوان. فيضمّخ وجودنا بالأبيض والأحمر والخضرة واللون الفضي والذهبي وغيره من الألوان ليقول لنا في صمتِ الشعر:

أنا الشاعر أبوفراس جابر لا أدقّ مسامير الواقع في تسجيلية الحرف البليدة، وإنما أصنع من المعتقل أفقاً مفتوحا على البياض الجميل، وأشقّ جداراته بعنف الخضرة الآتية من قلب الشهيد، وأحوّل الحمرة في تاريخ الأندلس إلى رؤية فضية تلهج بالضوء، وأصبغ مياه دجلة والفرات والنيل بعبق الانسياب الرقراق الحامل للشعور بالمكان والتاريخ في امتدادهما خارج شرنقات التحقيب، وأدلفُ بمعية عشقي الخاص إلى بساتين الماء واللون لأكتب أجمل قصيدة أحبّ فيها إنسانٌ إنساناً يستحق أن يكونَ نجمةً في سماء العاشق.

8 -  ختمٌ:

لا أقول إنني قرأت الديوانَ في شموليته وفي مستوياتِ تعبيره، وفي بنياته التركيبية والبلاغية والدلالية وغيرها... فهذا ضربٌ من الادّعاء. كل ما فعلتُهُ أنني شاكستُ بعضاً منه في أفق واحد تلتقي فيه عينُ الشاعر وعيني على مفترق ثلاثية الماء واللون والكتابة بهما وعنهما، في احتشامٍ شديدٍ لأن الديوان مفتوحٌ جدّاً على شساعةِ التأويل وقوة الاحتمال، فيما أناختْ قراءتي القاصرة عند عتبةِ جزءٍ من هذا الاحتمال الّذي أقول فيه: اجتهدتُ وفي نفسي كثيرٌ من " لوْ " ...

***

بقلم: نورالدين حنيف أبوشامة

...........................

إحالات:

1 – الآية 1، سورة القلم

2 - محمد سعيد الغامدي، بحث بعنوان، لغة الضاد أم لغة النون، مجلة الدراسات اللغوية، العدد الثاني، 2005، المملكة العربية السعودية، ص 40

3 – هانس روبيرت ياوس، جمالية التلقي من أجل تأويل جديد... ترجمة رشيد بنحدو، منشورات ضفاف، الرباط، ط 1، 216، ص 109

4 – أبوفراس جابر الصنهاجي، أحرقتُ مراكبي، مطبعة وراقة بلال، فاس، ط 1، 2022، ص 18

5 – نفس المرجع، ص 31 و32

6 – جميل حمداوي، السيميوطيقا والعنونة، مجلة عالم الفكر، العدد الثالث، مجلد 52، يناير- مارس 1997، ص 86

 

رؤية نقدية في عروض مسرح الشارع (5)

دخلت عروض مسرح الشارع وأفكاره المتعددة وأساليبه المتغيرة مع كل ظاهرة فنية وتظاهرة جديدة قائمة على الاستعراضات بجانبيها المادي والثقافي للشعوب في ساحات عالمية لاستعراض هذا التراث العالمي، لذا فقد عملت القوى الكولونيالية على إقامت الأحتفالات لتقديم هذا التراث العالمي في ساحاتها من خلال العمل على جلب هذه العروض كونها القوى المسيطرة على المشهد الثقافي العالمي والقادرة على إطلاق المجال في نقل التراث الثقافي للدول والشعوب التي وقعت تحت سيطرت الإستعمار، إذ أقامت ما يعرف بالمعارض الكولونيالية وذلك عن طريق عرض تراث الشعوب على أرض المستعمر، مثال على ذلك ما حدث في فرنسا،إذ أقامت عدد من المعارض الاستعمارية في (مرسيليا) وغيرها من المدن الفرنسية ما بين (1889 – 1931)، وكان يحضرها الرؤساء فرنسا الاستعمارية وكان المسؤول عن هذا المشروع المارشال (ليوتيه) . والهدف من هذه المعرض هو ترسيخ الواقع الاستعماري والتمجيد بالقوى الاستعمارية ومكانتها العالمية بين شعوب العالم . (1) إذ قدمت هذه العروض والرقصات من التراث الشرقي لفرق من آسيا، تمثل البعد الطقسي للثقافات والمعتقدات الشرقية التي كان يحضرها عدد من المهتمين بالمجال المسرحي ومن بينهم المخرج المسرحي (أنتونان آرتو) والذي شاهد في تموز من عام 1922 فرقة من المؤدين الكمبوديين وهم يقدمون عملاً فنياً في مشهد مطابق لما يحدث في إحدى المعابد الكمبودية . كان ذلك العرض للفرقة الكمبودية مقدم في مدينة (مارسيليا ) .(2) ومن بين المخرجين (أنطونين آرتو) الذي كان شاهداً على هذه العروض وتأثر بها في استخلاص مسرح القسوة منه، كون هذه العروض الكولونيالية كانت تقام في شوارع وساحات مدينة مرسيليا الفرنسية وهو ما أتاح للمخرج المسرحي والمفكر الفرنسي (آرتو) الإطلاع عليها ومعرفة ما تحتويه العروض الكولونيالية ، " فالعرض البالينيزي الذي شهده آرتو كان داخل إطار سياق ( الاستعراض الكولونيالي ) الذي كان يقدم في فرنسا . كذلك الحال بالنسبة للأقنعة النيجيرية أو المنقوشات البولينيزية والتي تتغير دلالتها تلقائياً حالما يتم عرضها كمعروضات فنية في أي دار عرض أو متحف غربي " (3)، هذا التغير يقع في دلالتها والمكانة التي عليها في مكانها الأصيل والمتحولة في وعي المتلقي الغربي عن طبيعتها الأصيلة، وهذا ما يجعل السياق الكولونيالي فعّال في إيجاد تفسير جديد يقدمه إلى جمهوره الغربي بما في ذلك المفكرين والفنانين من المسرحيين، ومن بينهم (آرتو)،إذ تعد نظرته "للدراما الراقصة البالينيزية نظرة كولونيالية بشكل ما وذلك في رؤيتها لهذه الدراما باعتبارها غريبة ومستطرفة، بل وباعتبارها آخر مغاير ؛ فمثل هذا العرض يجسد قيم تختلف تمام الأختلاف عن قيم المجتمع الغربي " (4)وتدخل هذه القيم المختلفة في مجال التوظيف الفني المستلب من مجالها الحقيقي في داخل الشكل الجديد وفي الأفكار الفنية التي تستمد صيرورتها وتغيرها من خلال دخول أفكار هذه العروض الكولونيالية فيها، أي في إنتاج الأعمال الفنية الجديدة ذات الثوب الغربي من جهة والفكر الشرقي من جهة أخرى، وهو أشبه بنوع من الاستغلال الثقافي أتاحته القوى الغربية لمثقفيها ومبدعيها من أجل تطوير المنظومة الثقافية الغربية بعد سيطرة الجمود في الأطر الاشتغالية التي أنتجتها المدارس الغربية من الطبيعية والواقعية وغيرها، ومن ثم جعلت المبدع الغربي يبحث في مثل هذه الاستعراضات عما يطوره من أفكاره وخياله وأعماله الفنية .

أما على مستوى الجمهور الغربي عامة والفرنسي خاصة فإن هذه العروض التي تقدم في الساحات العامة تعدّ فرصة مهمة للتفاعل مع التراث العالمي لكن على وفق النظرة المتعالية، أي أن " العامل الفعّال بالنسبة لهذه الطقوس داخل سياقها الأصلي هي الألفة الشديدة معها، وهي ألفة ترسخت منذ زمن بعيد، أما بالنسبة الى جمهور باريس(...) فالقوة والفعالية التخيلية لهذه الطقوس ترتبط أكثر بغرابتها وعدم تقليديتها " (5)، وهذا ما فرض متغيرات أخرى تدخل في تشكيل الوعي البصري على المشاهدين لهذه العروض التي تقدم أمامهم في الشوارع الفرنسية كاستعراضات تحمل في طياتها التباين المعرفي بين الأصل داخل السياق ذاته، وبين غرابتها في واقعها الكولونيالي الجديد.

إنَّ هذه التجربة لم تقتصر على (آرتو) فقط في هذا السياق الكولونيالي والاستعراضات التي صاحب الشارع الغربي والمقدمة فيه من خلال بعدها الكولونيالي، بل أن الأمر أستدعى بعض من المخرجين الغربيين أن يسافر إلى مسقط رأس هذه الطقوس الشرقية من أجل المقايضة، وهذا ما قامت به فرقة (أودين) والمخرج المسرحي (يوجين باربا) التي أعتمدت على تقديم " عروض فرقة (أودين) تياتريت في مراحلها الأولى وفي رحلاتها الخارجية في تقديم الرقصات ؛ وقد تطورت هذه الرقصات فيما بعد لتأخذ شكل العروض الاحتفالية التي تضم أشكالاً فنية تم تجميعها من مناطق محلية مثل الأشكال والرسومات التي تعبر عن الموت في جزيرة بالي . لقد كان الهدف من وراء مسرح الشارع هذا من وراء تجميع متفرجين من كافة فئات الجماعة البشرية التي يعرض داخلها ( والذين سيقومون هم أيضاً بدورهم بأداء عرض ما ) "(6). عملت فرقة (أودين) ومخرجها (باربا) على استثمار ما تحصلوا عليه من خبرات في مجال عروض مسرح الشارع الشرقية وغيرها من الهوامش التي زاروها في رحلاتهم، التي شاهدوها في أمكنتها الأصلية، أي استلهام هذه الصور الطقسية المؤداة في موطنها الأصلي في عرض مسرحية المليون التي قدمت عام " 1978: مستقاة من الكاثاكالي والرقصات المكسيكية ورقصات أخرى واعتمدت المسرحية على بقية الثقافات وقدمت على مساحة مستطيلة يحيط بها الجمهور من جانبين واستخدمت الموسيقى بشكل كثير وكذلك الأقنعة التي تمثل شخصيات راقصي البالينييز" (7)، هذا الخليط غير المتجانس حاول (باربا) تقديمه لإثارة الدهشة عند الجمهور الغربي على الرغم من أن بعض هذه الطقوس الموظفة في العرض لا تتلاءم مع بعضها الآخر، لكن الجمهور الجديد لا يعي هذا، وهو يركز فقط على غرابتها المتأتية من شكل الرقصات الطقسية المصاحبة للصورة الجديدة الموظفّة فيها، وهذا النوع من العروض المسرحية هي من جعلت توظيف هذه الطقوس البعيدة عن دلالاتها عامل مؤثر في الجمهور الجديد .

إنَّ العروض المقدمة في بُعدها الكولونيالي شكلّت غايات معينة قدمت في عروض مسرح الشارع من قبل المخرجين الغربيين والتي تلقاها الجمهور الغربي بشكل مغاير عن العروض التقليدية في المسارح وصالات العرض الغربية، وهذه الغايات هي:

1. العروض المقدمة في بُعدها الكولونيالي من خلال الاحتفالات الكولونيالية الغاية منها هو تجميع أكبر تراث ثقافي عالمي في الشوارع الغربية لإثبات السيطرة الثقافية على هذا التراث وجلبه في أي وقت ممكن من أجل المشاهدة والاستمتاع من قبل الجمهور الغربي .

2. إنّ هذه العروض المُقدّمة في سياق عروض الشارع على الرغم من أنها مأخوذة في سياق آخر غير سياقها الأصلي، إلا أن تأثيرها كان له غايات مهمة وأدوار في إيجاد متغيرات فنية جديدة داخل المنظومة المسرحية الغربية .

3. إعادة تقديم هذه الطقوس في سياق مسرح شارع على وفق النظرة الغربية ومنظومتها من أجل أن يكون لحضورها دور محفز في خلق الغرابة لدى الجمهور الغربي المتابع لهذه الطقوس الموظفة في داخل الدراما الغربية ذاتها .

***

أ.د محمد كريم الساعدي

..................

الهوامش

1. ينظر: باسكاله جوتشيل، وايمانويل لواييه: تاريخ فرنسا الثقافي، ترجمة: مصطفى ماهر، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2011، ص 169.

2. ينظر: مارتن أيسلن: انتونان أرتو، الرجل وأعماله، ترجمة: سعيد أحمد الحكيم، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 2001، ص 241، 247.

3. كريستوفر أينز: المسرح الطليعي، ترجمة: سامح فكري، القاهرة: مطابع المجلس الأعلى للآثار، ب، ت . ص35.

4. المصدر نفسه، ص34.

5. المصدر نفسه، ص 36.

6. المصدر نفسه، ص 327.

7. د سامي عبد الحميد: قديم المسرح جديده وجديد المسرح قديمه، بغداد: إصدارات مهرجان بغداد لمسرح الشباب / الدورة الأولى، 2012، ص108.

للشاعر عبدالكريم الياسري

قصائد تؤكد بوضوح تام ارتباطها العميق للمكان (الوطن. المدينة. الاهل) في هالة الهيام والحب، تجسد حالة الأحاسيس العميقة، لهذه العلاقة والارتباط، في المشاعر الملتهبة التي تضع الوطن في اعلى قمة من الفخر والاعتزاز، في قصائد تغلب عليها لغة شعرية راقية في اللغة والبلاغة الشعرية، وليس لغة الشعارات الرنانة، التي تخل في القيمة اللغوية والبلاغية،، وإنما بقصائد ترفل برشاقة فخمة في اللغة الشعرية الخالصة، وجاءت كأنها معزوفات نغمية في إيقاعها الإنشادي، التي تعزف على أوتار، المحبة والصدق والوفاء، بحرارة الانتماء الواضح الذي ألهب المشاعر، شعرياً بلغة الحواس، لتلبية نداء الوطن، وتدل على قدرة الشاعر المتمكنة في صياغة القصيدة، في شكلها، قصيدة الشطرين أو قصيدة الشعر الحر (التفعيلة) تملك افكار وتصورات ورؤى تعبيرية وخيال فني في قدرته لخلق التعبير الشعري، وتكوينه برؤية فكرية ناضجة. في مشاعره ملتهبة، والتفهم العميق الذي يعزف على الحلم والأمل ان يصل من وجع القصب، الى حالة الاحتفال (حين يحتفل القصب). هذه رمزية الحب العميق في دلالتها ومدلولها في الإيحاء والمغزى في القصائد الشعرية، لتؤكد الالتزام الأخلاقي لمناصرة الوطن وهموم الناس، في الامل ان يخرج الوطن من محنته المتشظية، ليقف منتصب القامة، حتى لو كان في أسوأ حالاته المأساوية.. ولابد ان نبدأ من اصل المكان، البصرة : مدينة الحب والولادة، مدينة الشوق والحنين، مدينة نهر العشار وشط العرب والكورنيش والاسواق منها سوق المغازي. مدينة اسرار العشاق والمواويل والاغاني (البلم والمشحوف). البصرة مدينة الحسرة والأمل، مدينة المعالم الشاخصة في روعتها، مدينة الحب والحرب، ولكنها رغم كل شيء تبقى قندلاً مضيئاً.

الْبَصْرَةُ سِرُّ الْأَسْرَارِ

وَرَحِيقُ زُهُورِ الْأَفْكَارِ

وَسِلَالٌ تَحْمِلُهَا امْرَأَةٌ

لِلْجَارِ بِتَمْرِ الْقِنْطَارِ

**

رَاحَتْ تُغَنّي "عَلَى شَطِّ الْعَرَبْ تِحْله"

فَصَاحَ صَبٌّ "أغانينا، وعلى البصرةْ"

تَقَاذَفَ الْمَوْجُ صَوْتَيْ عَاشِقَيْنِ هَوَىً

في بَصْرَةِ الْـخَيْرِ:

لِلْعِشَّاقِ لَا حَسْرَةْ

×× إن فعل المناجاة وخاصة (وقفة على قبر أبي) تجسد لوحة الحزن والوفاء، الساكن في الأعماق، وخاصة أن الأب الراحل كان ايقونة من الوطنية والانسانية بقلبه الطيب والوفي، وروحه المتشبثة بالوطن، لأنه شرب من ماء دجلة والفرات، وعرف قيمة الوفاء والعهد، وبرع في خصائل التربية الوطنية الزاهية زرعها بكل نقاوة صافية إلى أولاده. مرثية ليس للنحيب والدموع، وإنما تؤكد وفاءها وولائها للعهد الذي رسمه الأب الراحل.

أَبَتَاهُ مَاتَ بِمَوْتِكِ النَّبَأُ الَّذي

أَفْتَى بِأَنَّ الْعِشْقَ فَوْقَ الْمِلَّةْ

**

لَا دَلْوَ يَقْتَرِحُ الْبَرَاعِمَ صِبْيَةً،

تَرْنُو لِكَفِّ فَتًى يُمَوْسِقُ حَقْلَهْ

**

لَا وَحْيَ يَنحَتُ بَيْدَراً،

لَا نَهْرَ، لَا..

وَفَسِيلَةٌ تَجْتَرُّ دَاءَ الْعُزْلَةْ

**

أَبَتَاهُ مَاتَ بِمَوْتِكِ النَّبَأُ الَّذي

أَفْتَى بِأَنَّ الْعِشْقَ فَوْقَ الْمِلَّةْ

**

لَا دَلْوَ يَقْتَرِحُ الْبَرَاعِمَ صِبْيَةً،

تَرْنُو لِكَفِّ فَتًى يُمَوْسِقُ حَقْلَهْ

**

لَا وَحْيَ يَنحَتُ بَيْدَراً،

لَا نَهْرَ، لَا..

وَفَسِيلَةٌ تَجْتَرُّ دَاءَ الْعُزْلَةْ

× × مجزرة سبايكر، الجرح العراقي الذي لا يشفى إلا بالقصاص من القتلة، فقد راح ضحية الحقد والإرهاب وسموم الطائفية البغيضة، اكثر من 1700 شهيد بعمر الزهور، عندما يوغل الإرهاب الدموي بالابرياء والمدافعين عن الوطن (كان الشباب في مرحلة التدريب والتجنيد) هذه الجريمة الكبرى هدفها شق اللحمة الوطنية بين مكونات الشعب، والقصيدة هي محاججة حوارية بين الضحية والقاتل، بالسؤال الكبير : بأي ذنب قتلت ؟؟ وكيف سيكون الحساب العسير للقتلة أمام رب العالمين.

أَبَتَاهُ مَاتَ بِمَوْتِكِ النَّبَأُ الَّذي

أَفْتَى بِأَنَّ الْعِشْقَ فَوْقَ الْمِلَّةْ

**

لَا دَلْوَ يَقْتَرِحُ الْبَرَاعِمَ صِبْيَةً،

تَرْنُو لِكَفِّ فَتًى يُمَوْسِقُ حَقْلَهْ

**

لَا وَحْيَ يَنحَتُ بَيْدَراً،

لَا نَهْرَ، لَا..

وَفَسِيلَةٌ تَجْتَرُّ دَاءَ الْعُزْلَةْ

×× العمر مثل كتاب يتجول في المحطات ليكتب صفحاته، وكل محطة له شكوى وانتظار وشوق وحنين، وذاكرة تتجوال في خواطر الروح، لهذا الجنوبي المعفر بالحب البصراوي، والأرغفة التنور والنخيل والحلوى، تزهو روحه مع الطقوس الجميلة ويداعبها مع أحلامه، بين كل سطر شكوى وصورة امرأة سمراء، وكل خطوة يسير يلاحقه ظل البصرة، يخلق الفرحة من العدم

في دَفْتَرِ الْعُمْرِ أَعْوَامٌ تـَجوبُ دَمي،

وَيَسْتَبيحُ صَدَى ضَوْضَائِهَا قَلَمي

*

أَشْكُو،

وَيَنْزفُ أَوْرَاقاً، تُـهَدْهِدُهَا

في كُلِّ حَرْفٍ "كَذَا" شَكْوَى مِنَ الْأَلَـمِ

*

أُوَرِّقُ الطِّفْلَ هَيْمَاناً،

فَتَخْطَفُهُ يَدُ الْفَتَى اللَّا فَتَى الْمَكْلومِ بِالْـهَرَمِ

*

حَتَّى إذَا عَسُرَتْ كَفُّ الرَّبيعِ

صَحَا

يُسْرُ الْـخَريفِ عَلَى أَشْوَاطِ مُنْتَقِمِ

*

في أَوَّلِ السَّطْرِ

أَحْلَامٌ مُبَعْثَرَةٌ

أَشْوَاقُهَا مُنْذُ فَجْرِ الْآهِ لَـمْ تَنَمِ

*

وَفي الزَّوَايَا انْتِظَارٌ،

بَوْحُهُ قَلَقٌ مِنَ النَّجَاوَى،

يَصُوغُ الْوَيْلَ مِنْ عَدَمِ

×× حينما يتذكر أمه كأنه يتذكر العراق، وحين يعلق عبائتها، كأنما يعلق خارطة العراق، للزهو والافتحار. فالام موجودة في كل همسة روح، فهي عالقة في وجدانه كالعراق، فكل فجر وصوت الاذان يتذكر سجادة الصلاة الام، فهي الام الكادحة التي تقهر الصعاب مثل مطرقة الكادحين. هذه هالة امهاتنا العراقيات، هيبة وجلال.

لَا،

فَالْعَبَاءَةُ مَا تَزَالُ مُعَلَّقَةْ،

هذي،

وَتَبْدو كُلَّ فَرْضٍ مُشْرِقَةْ

*

في كُلِّ فَجْرٍ تَقْتَفي صَوْتَ الْأَذَانِ

تَظــلُّ في صَـادِ الصَّـلَاةِ مُـحَـدِّقَـةْ

*

تَرْنُو لَـهَا سَجَّادَةٌ،

أَوْ تُرْبَةٌ

كَــانَتْ تَـمَـــسُّ جَبينَهَا كَـــيْ تَعْتِقَهْ

*

أُمِّــي تُــرَدِّدُهَـا الْــمَنَــاجِلُ كُــلَّمَـــا

رَفَّتْ بِكَـــفِّ الْكَــادِحينَ الْمِطْـرَقَةْ

***

جمعة عبد الله

في هذا العمل الروائي الجديد، المعنون" قطط إسطنبول" الواقع في 294صفحة من القطع المتوسط، طبعة أولى2023، منشورات نون4 للنشر والطباعة والتوزيع، يخوض المبدع السوري زياد كمال حمّامي، غمار تجربة روائية جديدة، تكلل مشواره الإبداعي القيم والمنذور للفرادة والاستثناء.

تتآلف ضمن عوالم هذه السردية جملة من المواضيع، في تناغم تام، وبلغة سلسة صافية تترجم نبض الواقع بوعي ومسؤولية.

الدعارة، تبعات اللجوء الاضطراري، خطاب العنصرية وإكراهاته، وهلم جرا، من أزمات حياتية وهوياتية، تختبرها كائنات هذه الرواية، وتكابد مرارتها شخصيات هذه المسْرحة الحكائية، بأسلوب لبق مراوغ أخاذ.

يقول:

{في هذه الليلة الشاردة من ليالي البؤس، التقى الصبية "شام" عند مدخل الحديقة، رآها تمشي متعرجة تغني، راعه بياض وجهها وطول عنقها الذي تتدلى منه قلادة تقليدية زائفة، وثوبها الملون شديد اللمعان، حيث كان يتبعها رجل عجوز سكير، فاقد رشده، حتى أنه لم ينتبه أنها تشعل سيجارا وتترنح، وحين قادتها قدمها إلى الدخول، كأنها معتادة على زيارة الحدائق بعد منتصف الليل، وقف الرجل السكير الذي يتبعها قليلا، ثم غب من عبوة في يده، سعل سعالا شديدا، ومضى في طريق آخر وهو يشتم الدنيا وما فيها، وظل الرجل يمشي مترنحا أيضا، بينما وقعت العصفورة على الأرض، قرب الشجرة، وبدأت تصيح بهستيريا وجنون:

ـــ أنا شام.. أنا لست داعرة.. أنا.. شام.

اقترب منها " اللولو" بهمة ورفق، أسند ظهرها إلى جذع الشجرة، فاحت منها رائحة الخمر والتبغ والعطر الأنثوي، حاولت أن تبعده عنها، هتفت بصوت خفيض:

ــ أتركني في حالي، أنا لا أعرفك، وأنت لا تعرفني، أتركني.}(1).

من هنا لم تجد الذات الساردة ضيرا في تبنيّ التفشي التعبيري الطقوسي، ومسايرة دهاليزه، سواء من حيث بث ثقافة الانتصار لقيمة مثلى ومركزية اسمها الحب، أو الاحتماء بأقنعة الانتماء إلى هوية المشترك الإنساني، على الرغم من إكراهات واقع رفض هذا المعطى من قبل الحزب المعارض في بلد اللجوء، خاصة في اتخاذ مثل هذا الحزب من الوردة شعارا له، ونحن نعلم دال هذا وما يعكسه من معاني لصيقة بالتيمة الأساس التي ستتمحور عليها السردية في سياقها العام، لاحقا، أي تيمة الحب، كعلاج للعديد من الأوبئة المجتمعية والسياسية والنفسية وحتى الاقتصادية.

لذا فقصة الحب الذي سيجمع بطل الرواية الرئيسي " اللولو" بالصبية السورية" شام" ليست من قبيل العبث أو الاعتباطبة والمجانية، في صيرورة الحكي هنا، بل استحضار ذلك مقصود ويسجل حضوره بكل وعي ودراية فنية وتعبيرية تلهب الأحداث، كما تمنح المنجز توازيا فيما يرتبط ببعدي عرفانية وجمالية هذا العمل السردي القيم.

إن شخصيات الرواية هنا، سواء أكانت تتمتع داخل حدود نظير هذه السردية، بالأدوار الطلائعية البطولية، أوالثانوية الضرورية المكمّلة، إنما تمّ توجيهها لتخدم معطى الحب الذي يصون للأنثى عفتها ورمزيتها ونموذجيتها ومثاليتها، فضلا عن أغراض التوعية بضرورة التعايش وقبول الآخر تحت مظلة الدين الواحد، بدرجة أولى، الإسلام بحنيفيته واعتداله، كما بصدد بلد من قيمة تركيا، ومدينة عالمية كإسطنبول، هنا، وبما يجمع ما بين الانتساب للعالم الإسلامي والحضارة الغربية على حد سواء.

لذلك جاء نضال" اللولو" بهذا الدافع العاطفي والوجودي الكبير، بما قد يحدث ثورة في وطن اللجوء، مفادها أن الكائن بحضوره الديني المتعايش والمتسامح والمنفتح والأكثر قابلية لاستيعاب مظاهر الاختلاف والتعدد، لا الغلو العقدي والتقوقع والعصبية والعنصرية والاضطهاد السياسي، أو قد يرج الراكد، في أقل تقدير.

ويقول كذلك:

{نظر اللولو بأسى إلى جسد القط المسكين، واتجه نحوه بهدوء، وحين وقف أمامه، جلس القرفصاء كي يحمله، الغريب في الأمر أنه عندما نظر إلى وجه، كانت المفاجأة غريبة إلى جد الجنون، إن وجه القط الحنطي هو وجهه نفسه.' القط هو اللولو نفسه، يا للعجب.'

ماذا حدث؟.' وبسرعة توجه إلى المرآة، وحين نظر فيها، استغرب.' تلمس جسده، رأى رجلا في وجه قط.' فصاح من الخوف، صاح.. صاح.. صاح، وحين فتح عينيه، استيقظ مذهولا من هذا الكابوس، حيث كانت الشمس، قد أشرقت في يوم غائم.

في تلك اللحظة من أيام اللجوء، لم تكن الحرب في بلده قد توقفت، فلم يستطع أن يتخلّى عن نفسه، وأن يكون مجرد شبه قط من قطط إسطنبول الساحرة، نظر إلى السقف المتشقق وصرخ بألم:

ــ أنا لست قطا.'

تلقفت الجدران الصماء صدى كلماته النازفة، ولكن يا للأسف لم يسمعه أحد غيرها، حتى النافذة المكسورة ابت أن تقذف هذه الأصوات إلى الخارج والعالم والكون كله، ذلك لأنها كانت مغطاة أيضا ببطانية كاتمة للصوت بإحكام شديد.}(2).

لذا تلكم الحاجة، أو العوز الإبداعي للبوس الغرائبي المسعف بتقنيات التحكم بالشخوص وتطويع الأحداث والمناخ السردي، ليكيفه مع إملاءات مثل هذه الظاهرة، أو الاستشكال الهوياتي الكبير.

آلية أقرب إلى المسخ منها إلى شكل تعبيري آخر.

فصيلة القطط أو ما ينجم عن راهنيتها من إسقاطات قد تعلل الحضور الغير المرغوب فيه لنخبة من اللاجئين، الأكثر وعيا بقصصهم، بل الأصدق انتماء وحنينا إلى المنبت والجذر الذي حرّقته الحرب المجنونة الجائرة.

برزخية أو إكلينيكية نفسانية تبارك أصوات اللجوء هذه، والتي تود أن تضيف إلى أرض اللجوء، على زخم القواسم المشتركة ما بين الطرفين، لا أن تنقص منها أو تتبوأ من حيّزها، كراسي العطالة والشغب والاتكالية والفوضوية والهدم.

فالمهاجر هنا ليس فيروسا مرعبا، بقدر ما هو إنسان عاقل وكامل ومضطر، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ذو شخصية متحضرة وأكثر قابلية للتعايش والتسامح، بحيث أن كل ما أهّلها لذلك، هو الانرسام العفوي لملامح قصة حب حقيقة وصادقة، قادرة على تصحيح أخطاء التاريخ، وقلب المعادلات صوب ما يتيح انخراطا واعيا ومسؤولا في فصول التصالحات على موسوعيتها وفي صميم شموليتها.

تصالح مع الذات، بعيش صفحات الحب الصادق والعادلة بحذافيرها، وبعد ذلك، التصالح مع الآخر، وفق قواعد التمرد على الصورة السلبية والناقصة لأسراب اللاجئين، في عقل ووعي هذا الآخر العنصري الحاقد، أي هذا الذي يمثل المعارضة في حزب سياسي غير عابئ بما هو إنساني، ما تنفك تنخر رهاناته النفعيات الضيقة والأنانيات وخطاب العنصرية والكراهية.

بذلك نلفي المبدع زياد كمال حمّامي رصّع سرديته، مختزلا أنساقها في أصوات اللجوء، مانحا إيها القوة والرمزية، اتكالا على البعد القيمي للعلاقة العاطفية الصافية والنقية، رفضا لسائر أنماط الاتجار بإنسانية الكائن، بصرف النظر عن عرقه أو لغته أو معتقده أو ثقافته.

إنها البطولة النموذجية لأشباه" اللولو" في شرف المحاولة.. محاولة الجهر بصوته كلاجئ، تطلّعا لكونية حاضنة، ترتب ما يمكن ترتيبه، وتجوّد اللملمة، قبل فوات الأوان.

***

أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد من المغرب

.......................

هامش:

(1) مقتطف من فصل الرواية الأول، صفحة7/8.

(2) مقتطف من الفصل25من الرواية، صفحة160/161.

انظر رواية" قطط إسطنبول" لزياد حمامي، طبعة2023، منشورات نون4 للنشر والطباعة والتوزيع، حلب ــ سورية.

(أيها المحتمي بالأرق) لشلال عنوز

مما يميّز الموضوع في القصيدة الكبيرة، أنها تقترحه انطلاقاً منها، وتتخيّله مثولاً بين يدي أساليبها، ولهذا يتعذّر الفصل بين الشكل، بوصفه كيفية إبداع المعنى الشعري وبين المضمون كونه باعثاً على القول، أو مؤثراً في إبداعه، أو ما يقوله من معنى له حضور ما قبل الشكل، فهو ملحوظ، من لدن المتلقين قبل القصيدة. وقد قام الشعر العربي القديم والشعر التقليدي الذي جرى على نهجه إلى اليوم، على الموضوع قبل الشكل، وعلى الغرض قبل الفن، وعلى الفكرة الموضوعية قبل كيفية قولها، حتى لكأنّ الشاعر يترجم الموضوع إلى كلام شعري مستجيباً لمتطلبات الشكل، أو ينقل معاني الغرض المقصود قبل الكتابة إلى صياغات اجتهد ناظمها في تطبيق مكونات الإنتاج الشعري لأجل قولها في صورةٍ من قالب القصيدة. ومن ثمة فقد عمل العلماء في علوم كثيرة وحقول معرفية أكثر على ترجمة متبنياتهم وأفكارهم ورؤاهم وطروحاتهم إلى ممكنات الخلق الشعري في صورتها العقلية الصناعية الظاهرة، وظهرت على إثر ذلك منظومات في النحو والصرف والعروض والفقه والجغرافيا وعلوم كثيرة مما عرف تحت مصطلح (الشعر التعليمي).

ويظن أكثر المتلقين وكثير من الشعراء، أن مجرد الانتقال من اللغة المباشرة في الفكرة الجاهزة التي كانت في الشعر التعليمي أو المؤدلج إلى اللغة المجازية أو ذات الثراء التخيلي، ينتقل الكلام - إثر ذلك كله - إلى الشعر العالي، وهو تصوّر صحيح جزئياً؛ من جهة أن القول يصبح شعراً، ولكنه شعر تقليدي، لأن الارتفاع بعد ذلك يستدعي اكتناز رؤية ما، وإقامة النص على فلسفة خلقٍ أسلوبي من جهة المنشئ، وخلقٍ رؤيوي من جهة التخيّل، ونهج في إبداع معجم جامع لكلام القصيدة يوظف كلّ ما يدخل في التدوين الخطي عند الكتابة، أو في الأداء الإلقائي عند الإنشاد، لأن معجم القصيدة، هو الأشياء كلها، فالشعراء الاستثنائيون يجعلون موجودات العالم وأشياءه ومعانيها جزء معجمهم الجامع الذي يصدرون عنه، والذين هم فيه يضيفون إلى المألوف جديداً، وإلى درجة الصفر في الكتابة أرقاماً، وإلى الممكن من الأشياء محالاً متخيلاً واسعاً، ذلك أن المعجم يصل الشعر بالحياة، لا من جهة التوظيف، إنما القدرة على الخلق، ولما اعتاد الناس على الكلام اليومي المألوف فقد عدّوا الكلام الشعري العالي غامضاً، لأنه خلق شعري جديد، فهم يتذوقونه انطلاقاً من التناول اليومي القريب من درجة الصفر، وكأنهم يبحثون عمَّن يتوافقون معه، في مألوف ألفاظه، وشائع معانيه، وراسخ تقاليده، وهو بحث لا يستجيب له الشعر العالي، ولا الشاعر الاستثنائي.

وفي قصيدة الشطرين، لا يتحقق لشاعرٍ الإدهاش بمعزل عن فائض مجاز، وثري انزياح، ورؤية فردية، ونهج ذي حضور يكون الشاعر فيه (أمةً وحده) بين يدي تجربته التي يقدمها لعالم التلقي، وأحسب أن هذا السقف من (الأماني النقدية) مرتفع على جدران الشعر الشائع المألوف في المشهد الراهن، لذا فهو سقف محلق في الهواء على مبعدة أمانٍ من التجارب الشعرية التي تملأ الأوراق والمنابر والمهرجانات. حتى إذا بحث المتلقي النوعي الناقد عن الشعر الاستثنائي المدهش الذي يغذي اللغة بالماء، والوعي بالأسماء لم يجده إلّا نادراً، ولا سيما بعد (إعصار) قصيدة النثر التي غلب على الشعر الحر (التفعيلة) والشعر العمودي (الشطرين) غلبة المنظومات التعليمية على القصيدة في (ألفيات الشعر) التعليمي، لأن السقف التصق بالأرض فصارت مساحات العشب الأصفر الذابل، شبه اليابس، تلتحق ظنّاً بالمروج الخضراء، ولم تعد تقاليد الإبداع الخالص منظوراً إليها، بل صار مجرد القول المتخيّل القريب من الذاكرة اليومية محسوباً على (قصيدة النثر) المحسوبة على (قصيدة الشعر)، وصار قول الشعر بالرغبة لا بالإبداع، وبمجرد الرصف لا بالابتكار الذي يضئ الخيال، صار الشعر كتابة من يحسن الخطَّ، وموهبة من يتخيّل المرأة الجميلة ورداً، والرجل أسداً، والسراب ماءً. ويعرّفه بأنه (الموزون المقفى الدال على معنى أو الكلام المحتفل بالأخيلة أساليب تعبير، ومذاهب تخيّل أولية).

الشعر إحساس خالق باللغة، إحساس باللغة يتفوّق على إحساسك بنفسك معاني، وبجسدك حواسَّ، وبمشاعرك عواطف، وبرؤاك فائض أخيلة، الشعر إحساس هائل باللغة تكون أنت فيه نبياً، ذا نبوءات، ونبوّات، تكون فيه مجدداً ذات أبناء وأحفاد وقبائل وشعوباً تعارف بالإبداع لا الاتباع، وبمعزل عن أن يكون إحساسك باللغة إحساسك بمسلمات جسدك وبرغبات أناك، وأحلامك وطموحاتك، وأطفالك وحبيباتك، وعواطفك - بمعزل عن ذلك - لن تكتب إلّا شعراً منظوماً وإلّا شعراً تعليمياً مصنوعاً وإلّا كلاماً بارداً. وقد قال - قبل ألف وأربعمائة سنة - الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ انطلاقاً من هذا: (الشعراء أمراء الكلام، يصرفونه أنى شاءوا، ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم، من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللفظ وتعقيده... واستخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقربون البعيد، ويبعدون القريب، ويحتج بهم، ولا يحتج عليهم، ويصورون الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل( (منهاج البلغاء/١٤٣)، وإنما هم أمراء الإحساس باللغة ويصرفونها فرط ذلك الإحساس، ولدقتهم فيه فيجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم، ولفرط إنسانيتهم فيه، فهم يطلقون المعنى حيناً، ويقيدونه حيناً، ولصفاء ذلك الطبع من الإحساس أيضاً فهم يصرفون اللفظ عند إبداع المعنى؛ لحاجة الإبداع لذلك، ويقيدونه لمقتضيات الإبداع لذلك. ويبعدون القريب متى رأوا في تبعيده دقة في الرؤية الشعرية ببصيرة الإحساس، ويعقّدون اللفظ بطفولة ذلك الإحساس حتى ينضج ويتحرر عند ذلك، ويؤول عنهم ما تكل عنه الألسن، ويصدر عنهم ما تكل عن وصفه الأذهان، لأن الإحساس به من لدنهم يؤدي إلى الفهم والإيضاح، فلا شعر ولا شاعر إلّا هواء الإحساس باللغة.

ولا يكون الشاعر شاعراً حقيقياً محترفاً، يعلو ولا يعلى عليه، إلّا بذلك الإحساس الهائل باللغة التي تكون فيه القصيدة كلامه الشخصي الشعري. والشعراء المدارس إنما كانوا مدارس بإحساسهم الذي يخلق اللغة، ويرتفع بها من درجة الصفر التي تنزل إليها في الكلام العلمي الخالص في الرياضيات والقانون والشريعة وتلك العلوم التي تستدعي أن نستخدمها ملتزمين (بدرجة الصفر) منها عند الكتابة، وإنما غادرَ بعض الشعراء العرب المعاصرين الشعر العربي في صورتيه: الشطرية في العمود والسطرية في الحر إلى (قصيدة النثر)، لأنّ إحساسهم بالعالم والمعنى وأنفسهم لم ينْبع من إحساسهم باللغة نفسها، بوسيلة تعبيرهم، إنما نبع من انتباههم إلى الفكرة، وإحساسهم بالمعنى لهذا تقدمت الفكرة على الرؤيا الشعرية، والعقل الفلسفي الحر على الخيال الرؤيوي الخالق، صاروا يجتهدون إحساساً منهم بالأفكار لا الألفاظ حتى صارت اللغة في المرتبة الثانية، صارت وسيلة مصطنعة باردة، ولم تعد تخلق الفكرة التي بها يعيد خلق العالم لغوياً؛ لأنه تأخر عن اللغة وتقدّم في الفكرة.

وإنما صار النقاد العرب والشعراء كذلك إلى القول بعدِّ قصيدة النثر شكلاً شعرياً ثالثاً مضافاً لـ (شكل الشطرين) و(شكل التفعيلة) (وشكل اللاوزن)، لأنهم مكثوا بعيداً عن الإحساس باللغة، بما فقدوا الإحساس بخصوصيتها بوصفها لغة إيقاعية، كمية لا نبرية، وذات نظام صرفي نحوي دلالي هائل، وإنّ الإحساس بوسيلة التعبير يحيي التعبير نفسه، ويتصل بالخلود غير بعيد منه، لأن الحاس شاعر بما يحسّ، حتى إذا انتقل إلى القول جاء الشعور بالمعنى صادراً عن الإحساس بوسيلة التعبير عنه، وعلى إثر ذلك يأتي المعطى الشعري مؤثراً صافياً ذا حضور وتأثير، وذا إنتاجية عالية. وبمعزل عن الشعور بالشيء شعوراً متصلاً بالإحساس بوسيلة التعبير عنه فإن الكلام الحامل لكل ذلك لا يكون حيوياً، ولا يجيء مؤثراً، إنما يأتي  مفتعلا مصنوعا. وإن الشعراء الأوائل ذوي الفطرة اللغوية الصافية كان إحساسهم باللغة هائلاً، وكذلك الأجيال الأخرى من المتنبي حتى محمود درويش وصولاً إلى محمد عبد الباري وجاسم الصحيح وأجود مجبل وقليل من الآخرين، ومن ذلك فإنني أعرّف الشعر وأتعرّف إليه على أنه: إحساس بكر متجدد باللغة تصير على إثره كلاماً شعرياً منسوباً لأسلوب قائله، وشعور بالأشياء والمعاني؛ الموجودة والممكنة والمحالة شعوراً يظهر للمتلقين بين يدي ذلك الإحساس البكر. فإذا ضعف الإحساس ضعف الشعور وجاء الشعر مصنوعاً بارداً، لا روح فيه، ولا إدهاش، وإذا دَقَّ الإحساس وشَفَّ اتقد الشعور وتجلّى، وتبدّى الشعرُ إبداعاً هائلاً، حيوياً، لافتاً؛ يؤثّر في الآخرين، ويتأثّر به آخرون، وقد يصل شاعره إلى أن يكون مدرسة، أو يكون ظاهرة. وهو ما يؤدي إلى أن يتعدد الشاعر الواحد في قصائد كثيرة، وعلى إثر ذلك يتطوّر ويجدد في تجربته، ولا يسكن إلى صورة واحدة. وهذا النهج في الكتابة، يجدد في مناهج النقد أيضاً، لأنه يمكث غير بعيد من الحاجة إلى جديد منهجي لقراءة الجديد الشعري. وحين نلتفت اليوم إلى أشكال كتابة القصيدة العربية المعاصرة نجدها متعددة كثيراً، متجددة قليلاً. على أنها لا تغادر الشكلين الرئيسين؛ أعني: (الشطرين والتفعيلة)، لأن قصيدة النثر جنس أدبي مستقل، وليست شكلاً شعرياً وإن اتصفت بالشعرية.

وفي الأداء بالعمود ذي الشطرين أشكال خلق للمعنى الشعري كثيرة جداً، كما في الأداء بالتفعيلة في الشعر الحر أشكال خلق للمعنى الشعري كثيرة جداً. ذلك أن الشكل في صورته الجزئية الأسلوبية كيفية في الخلق الشعري، كيفية في تفعيل كيميائه الإبداعية، وهي نهج يتباين فيه الشعراء كثيراً، (فقصيدة القناع) شكل قد يكون في الشطرين، وقد يكون في التفعيلة، وكذلك القصيدة (السير ذاتية)، وكذلك (قصيدة العائلة)، وهكذا في (القصيدة القصصية)، حتى تجد التجارب تنفتح على أشكال أخرى كثيرة جداً، تتعدد بحسب متغيرات الحياة، وتتطور بحسب ثراء التجارب، وتتجدد بحسب متغيرات الأسلوب، ونزعة التجديد في الزمكان الثقافي.

وفي قصيدة العمود عني شعراء الألفية الثالثة في الربع الأول من قرنها الأول باجتراح أشكال جديدة لافتة، وقفت عندها في دراسات خاصة منها قصيدة القناع عند محمد عبد الباري في (حدوس في استشراف الحجازي المقدس/ دار تموز دمشق، ط١، ٢٠٢١)، وقصيدة النبوءة في(قصيدة النبوءة/دار تموز، دمشق، ط ١، ٢٠٢٠م)، وقصيدة العائلة في (قصيدة العائلة/ مفهومها، مكوناتها، أنواعها)، وهي من منشورات اتحاد الكتاب والأدباء العراقيين، ط١، ٢٠٢٢م).

وقد وقفت في سلسلة (نقد الشعر الآن) في إصداراتها العشرين من سنة (٢٠٢١م) إلى سنة (٢٠٢٣م) - وهي ما زالت مستمرة - على أشكال هائلة لكتابة القصيدة العربية الحديثة في شكلي أدائها الرئيسين.

وهنا - بين يدي هذه المجموعة الشعرية للصديق الشاعر: شلال عنوز - أقف على شكل تقليدي في كتابة قصيدة الشطرين ينتمي لاتجاه (قصيدة الأداء الموضوعي) الذي هو اتجاه في التعامل مع الشكل، ومن ثمة فهو شكل في قصيدة الشطرين يقوم على: أن يلتفت الشاعر إلى موضوع ما، يعيشه، مباشرة أو تخيلاً، إلتفاتاً يقصد الإحاطة به من خلال ممكنات الخلق الشعري التي يستطيعها، أو متبنيات فن الشعر التي يقدر عليها، فهو ينجز المعنى شعرياً بحسب رؤيته المتصلة برؤى خلت وتجارب كانت، فهو يستعيدها معبراً عن نفسه، ويترجمها كاشفاً عن رأيه ورؤاه، يقدم المألوف بممكنات المجاز الشعري التي يستطيعها، ويجتهد في الانزياح مستعيداً ما كان من انزياحات الشعراء المدارس أو الشعراء الظواهر، فلا يخلو من الصدور عنهم والانتماء لكثير من مؤثراتهم وأساليبهم. يجد كثيراً في تقديم ما يعيشه تقدمة لغوية بيانية فنية، في معطيات إيقاعية مستقرة، وتصويرية مألوفة، ودلالية ذات شيوع.

في هذه المجموعة التي عنوانها: (أيها المحتمي بالأرق) بدءاً من عتبتي: العنوان والإهداء، ثم استمراراً في القصائد والنصوص الستين التي تضمنتها المجموعة، وقد أقيمت على ثنائية رئيسة تصدر عنها عتباتها، وبقية مكوناتها، وهي: (الوصول - الإبعاد)، وفي الوصول نزعة للمكوث فيما ينفع الناس، ويخضرَّ في الأرض، وفي الإبعاد زبد هائل يحمل سفينة الوصول ليلقي بها في متناول غيابٍ ما. وفي كلام القصائد تصوير لذلك الوصول يتخذ أساليب فيها البياني التقليدي والفني الحديث من ترميز وأسطرة وتوظيف استعاري لممكنات راهن ما، يرسم الخيال المعاني الشعرية بالأساليب البيانية والفنية بطرائق مألوفة شائعة، وعلى وفق تقاليد ألفتها القصيد العربية، وشاعت في خطابها. غير أن هذه الثنائية: (الوصول - الإبعاد) أضمرت (الوصول) نزعةً يعيشها الشاعر، يقصدها بكل حضورها، أما (الإبعاد) فمفروض من الآخر السلبي أو الآخر العدو، الآخر: الزبد، ومن ثمة فهو (إبعاد)، وليس (بعاداً) هو مصنوع مفتعل، وليس فطرةً في الحياة، هو غريب عليها، وليس أليفاً، وهو ما جعل الآخر السلبي هو ما يمثّل الفاعل في (الإبعاد)، والآخر الإيجابي هو عالم الوصول الذي يسكن إليه الشاعر.

ويمكن الكشف عن متبنيات هذه الثنائية في المجموعة كلها، على النحو الذي أوجزه فيما يأتي:

- في عتبة العنوان (أيها المحتمي بالأرق) قاصد وصول هو (المحتمي) المنادى فرط بعادهِ بـ (أيها) فهو قاصد وصول، وليس قريباً منه بدلالة النداء (أيَّها)، وهناك (إبعاد) هو (شبه الجملة: بالأرق) هو يقصد الوصول، ولكنه احتمى بالإبعاد، فالأرق دال على ذلك موحٍ به، فالطمأنينة والسكينة مضمرتان في جملة النداء والإبعاد هو الظاهر المكشوف في (الأرق) بما يجعل عتبة العنوان ترسم الشاعر وهو يتوق للوصول إلى الطمأنينة، ولكنه فرط إبعاده عنها (يحتمي بالأرق)، فهو عالم محتلٌّ بالغياب، ماكث في تمنّي ما يحب، تحت غلبة ما يكره. ولهذا يضمر الأرق سبيلاً لفائض الكلام الشعري الذي دعاه إلى عدّ هذه التجربة (ديوان شعر) كما يحددها، وهي ليست بديوان شعر، إنما هي مجموعة شعرية، لأنها لم تنبنِ على تجربة ذات نظام متكامل، إنما هي مجموعة قصائد تتعدد حتى في أبعاد تجاربها أحياناً، ومن ثمة فهي مجموعة شعرية، وليست ديواناً، وأجد التصنيف الشكلي للتجربة يضعها تحت مصطلح (مجموعة)،بسبب هذا، و بسبب من غلبة هذه الثنائية التي تستدعي فائض الكلام في المصطلحات كما في المجازات والانزياحات استدعاءً يعوّض عن انحسار الوصول، وغلبة الإبعاد. وهو نهج يقصده الكلام الشعري في هذه التجربة بعناية.

- في عتبة الإهداء جاء: (إلى الوطن الذي يستنزفه الضجيج، وهو يتلمس الحلم)، حيث يتماهى الكلام - هنا - بما أوحت به عتبة العنوان، لأن (ما يستنزفه الضجيج) إبعاد، والذي (يتلمس الحلم) ينزع إلى الوصول؛ وقد انتقل الشاعر من المعنوي في الأرق عند عتبة العنوان، إلى الحسي: سمعاً عند الضجيج، واللمسي عند تلمس الحلم، في لغة من بناءٍ استعاري تشخصن الصوت، تؤنسن الحلم. والشاعر في (العنوان) كما في (الإهداء) يصف الأسى حيث (الاحتماء بالأرق) وحيث (الذي يستنزفه الضجيج)، ولكنه وصف لا يخلص إلى الحلِّ، لا يحيل المتلقي إلى الوصول الذي يتوق إليه، بقي يرثي الحال التي هو فيها بين يدي (الإبعاد)؛ وبلغة البيان فإن الشاعر فيهما معاً يكني عن الإبعاد، مرةً عبر الاحتماء بالأرق، وأخرى عبر تحمل الضجيج الذي يستنزفه، وعبر الحلم الذي ينزع إليه، في تلمس أخيلته، لا في الإحاطة واقعاً، فهو بين يدي تجربة واحدة، يكمل بعضها بعضاً.

- في عنوانات القصائد غير القصيرة إيحاء بالثنائية التي أوضحتها وإنما أقصد (غير القصيرة)، لأن الصلة بين العنوان والنص تنتمي للتجربة الكلية انتماءً عضوياً؛ هكذا أفترض، وذلك لا يتحقق بالقوة الدلالية نفسها في النصوص القصيرة غالباً. وهنا أذكر عنوانات القصائد الطوال وهي: (هي النجفُ، أنشودة ثورة التغيير، دع السرابا، ألق السماء، عفواً عراق المجد، أيها المحتمي بالأرق، غناء في المحنة)، وعند قراءة هذه القصائد التي  تلحظ  عنواناتها وهي تحتفي  بمتبنياتها المباشرة احتفاء الخطاب الآني بالمعنى،  في معجم يجمع بين الذاتية الحزينة المنكسرة عاطفيا والاخرى الحماسية الخطابية، وهو نهج يماهي فيه الشاعر بين المعجم وثنائية: الإبعاد – الوصول، وهو ما يلحظه المتلقي في: تركيب الجملة  وفي بناء الصورة أيضا:

- في قصيدة (هي النجف) يتأمّل النجف على النحو الحقيقي المباشر على أنها نهج في الوصول، وطريق فيه، لكنه يلتفت بعد ذلك إلى ما يؤدي إلى (إبعادها) عن حضورها هذا، فكأن الجملة الاسمية (هي النجف) وصول دائم، أما ما يلمح إليه الشاعر في مجازات القصيدة فهو (إبعادها) عن أن تكون كذلك، وبحسب ما خلص إليه فيها حيث قال: (1)

إني حزين ومدمى في محادثتي

بالسارقين، ومَنْ، من نهرها اغترفوا

بالخائنين دم الأحرار مذ قدموا

والنافثين سموم الحقد مذ وقفوا

يداهنون على أحلامنا عنتا

ويرقصون على أوجاع من رعفوا

تصدر القصيدة بدءاً من إيحاءات (عتبة العنوان) عن هذه الثنائية: (الوصول - الإبعاد)، فأخذ الأبيات الخمسة الختامية، لأنه مسكون بمعاني الوصول، ناءٍ عن دلائل الإبعاد فهي مؤقتة، وجاءت في لغة ذات بثٍّ بيانيِّ، مألوف متوقّع، لا تثير فيه اللغة أخيلة مستجدة، ولا ترتفع إلى الإضافة، ولكنها تسكن إلى (الوصول) سكناً شعرياً بيانياً. أما العنوان الثاني (أنشودة ثورة التغيير) فقد جعل المبتدأ (أنشودة ثورة التغيير) بكل هذا التعريف الإضافي المضاعف صوتاً في الوصول، أما القصيدة فقد أقيمت على وصف معاني (الوصول) بوصفها خبراً لعتبة العنوان التي جاءت مبتدأ، ليخلص كما في القصيدة الأولى في الأبيات الختامية إلى (الإبعاد) على أنه نهج تغييب مؤقت في: (2 )

هم راحلون وأنت وحدك شامخ

فاصدحْ فديتك، سيَّدَ البلدانِ

هيّا تمرَّدْ، لا تَهبْ، لرصاصهم

واخلعْ ثياب البؤس والخذلان

بلغة ذات خطاب مباشر، وأساليب طلب بياني تقدّم المعنى موضوعياً أكثر منها شعرياً، وهو نهج في قصيدة (الأداء الموضوعي) لم تعد تحفل به القصيدة الحديثة في شكلها العمودي الجديد، ولاسيما على مستوى إبداع المعنى الشعري.

أما العنوان الثالث (دَعِ السرابا) فقد رسم بدلالة الرفض معنى الوصول، وبدلالة لفظ السراب معنى (الإبعاد)، ثم جاءت القصيدة ليكون صوت الشاعر فيها معنياً بالوصول منتمياً إليه، ولتكون أساليب: النهي والنفي والأمر التي هيمنت على أبيات القصيدة معبرةً عن معاني الإبعاد، حيث تكررت ست عشرة مرّة على نحو مباشر أو غير مباشر في خلال أساليب التمني والشرط والترجي. فهناك تقابل بين صوتي: الشاعر وصوت الواقع الذي تضمره الأساليب المباشرة لبث المعاني الموضوعية على نحو مباشر. فالشاعر نزعة وصول، أمنيات وصول، ولكن الواقع الذي يظهر هو أسيره: صوت إبعاد، وتتبدّى الخطابية والمباشرة في القصيدة دافعاً ذاتياً مضمراً لِأن يرد الصوتان في كلام القصيدة موارد خطابية مقالية موضوعية مباشرة، فقد استهلها هكذا: (3 )

تمهَّلْ... واستفقْ ودعِ السرابا

فإن العمر قد بلغ النصابا

ولا تطربْ لأمنية تصابت

فهذا الدهر من أزلٍ تصابى

ولا تحزن على ما فات طرّا

فقلبك أعصرٌ رحلَتْ يبابا

فالشاعر في القصيدة كلها يخاطب نفسه، منتمياً للوصول، ومأخوذاً بأسبابه في كثير من الخطاب المباشر الذي يستدعي فيه بعض روح (بائية أحمد شوقي الشهيرة) حيناً، ويتناص معها أحياناً أخرى؛ نفساً وإيقاعاً وتضميناً، فأما النفس فيمثله أن كل واحد من الشاعرين يخاطب نفسه، وأما الإيقاع ففي الأسلوب حيناً وفي الوزن والتقفية أحياناً أخرى، وأما التضمين فأوضحه في قوله: (4)

وليس المجد يؤخذ بالتمني

ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

الذي هو تضمين لقول شوقي الشهير: (5)

وما نيل المطالب بالتمني

ولكنْ تؤخذ الدنيا غلابا

وفي هذا النهج من التناص مع شوقي نزوع إبعادٍ أكثر منه إمكان وصول، لأن الشاعر استدعى الآخر المؤثر ليكون مسافة وصول للمعنى الشعري أسلوباً، وللمعنى الموضوعي رؤيةً وأفكاراً. وأما غلبة أساليب: الأمر والنهي والنفي فتسحب جهة الكلام للإيحاء بالامتناع الذي يسكن إليه الواقع، أو تسكن إليه الحياة المجتمعية التي يصدر عنها هنا، لأن المخاطب بهذه الأساليب ينزع إلى الوصول ولو على جهة الطلب، وهو مغلوب بأشكال الامتناع التي يقع بين ظهرانيها؛ إنساناً وشاعراً ومجتمعاً.

والعنوان الرابع (ألق السماء) مأخوذ بالوصول في تمني ذلك الألق، ومحتل بالامتناع عن أن يكون ذلك الألق عالم حضور في الحياة، ويمثل الدال الاستعاري: (ألق السماء) توق الوصول ولو بالخيال، أما مضمرات الخطاب في عتبة العنوان، ثم في القصيدة كلها فتتمثّل (الوطن) الذي هو ماكث (ظلام الأرض) و(ألق السماء) عالم وصول و(ظلام الأرض) عالم امتناع، ويلحظ المتلقي ذلك في أول القصيدة الذي يقول: (6 )

تغفو العصورُ... وتستفيقُ... تغادرُ

إلّا سناك فمنْذُ ألفٍ ساهرُ

إلّا سناك يبثَّ في هذا المدى

دفق الشعور فتشرئبُ منائرُ

إلّا سناك يزقُّ في رئة الدنى

ألق السماءِ فتستنيرُ حواضرُ

في القصيدة تقابل ثنائية: (الوطن - الزمن) بوصفها الكيفية التي تشكلت بها، ثنائية بنائية أخرى هي ما تشكّل نهج المجموعة كلها، أعني: (الوصول – الامتناع)، حيث جاء الزمان في القصيدة مسافة وصول مائية سابقة، أما الوطن في مكينه الذي يؤلف (ممكناته) فجاء امتناعاً حتى بلغ الامتناع أن قال مستوحياً ذلك (المكين) (7)

ذبحوا العراقَ، وشيعوه جنازةً

وتقاسموا ميراثه، وتنافروا

وتجري النصوص الستون التي تؤلف هذه المجموعة على هذا النهج الذي تتحكم بمعطياته التعبيرية هذه الثنائية (الوصول - الامتناع)، وإنما (أقدّم الوصول) على غيره، لأنه خلق مقصود، وإبداع دائم مراد، وهو النشأة الأولى، والدوام المتوقع، أما (غيره) فمؤقت إلى زوال. ثم أن الشاعر - هنا – يقدم الوصول (خريطة طريق)، ونهج حياة، وإنما يعنى بالامتناع، وتهيمن دواله على خطابه على نحو لافت، لأنه جعل نفسه في (موضع دفاع)، فهو جزء من وصول دائم، والآخر: الخصم أو الضد أو العدو شكل امتناع رئيس، وقد غلب عليه (هجاء ذلك الامتناع) في صوره الكثيرة، حتى ليجد المتلقي أن صور (الوصول) واضحة، متقاربة، ممكنة الرصد، أما صور (الامتناع) فكثيرة، لا لأنها كثيرة، ولكن لأنه مأخوذ بتجليتها وكشفها، بما يستدعي منه هذه المباشرة في الخطاب، وهذا الوضوح في الرسم هذه (السيرة الأدائية) في الارتجالية المنبرية، التي لم تعد تأخذ بها التجارب الشعرية المسكونة بالتجديد.

وبناء التجربة على الخيال اللغوي في أبعاده المجازية وانزياحاته البيانية والفنية فقط، بمعزل عن رؤية فلسفية أو رؤية معرفية تستدعي الإضافة وتنفعل بها، وتضمر أسلوباً منفعلاً بشيء من التفرّد الذي يلمسه (المتلقي العابر) قبل (المتلقي الفائق) لا يكون الشعر فاعلاً حقيقياً مؤثراً ذا ممكنات هائلة، سيظلّ في متناول العاطفة فقط، وبين يدي ظهراني الخيال فقط، وهذا في عصرنا اليوم، وعند تأمّل التجارب الشعرية الهائلة الفاعلة ذات المكوث الجمالي في الأرض، يصعب الإشارة إلى فاعلية فن شعري ما، أو تجربة، تقرؤها موجودة، ولا تعدّها مؤثرة. وهنا في قصيدة (أيها المحتمي بالأرق) التي استمدت منها المجموعة عنوانها خطاب شعري حافل بالعاطفة، يمتثل لحنوِّ البيان التصويري، ويوظف الانزياحات الشعرية في أشكال حضورها المألوفة في الشعرية العربية، ولكنه خطاب لا ينافس اللافت، ولا يتجاوز المؤثر النوعي، ويجري بين ضفتي هذا النهر الشعري المألوف الشائع، وهو - هنا – مأخوذ بثنائية (الوصول – الإبعاد) بدءاً من العنوان الذي أشرتُ إليه ثم جرياناً في مطلع القصيدة الذي يقول: (8)

طبولَّ مآذنُ هذا المدقْ

على أي كفٍّ ينامُ القلَقْ

وفي أي ركن تلوذ النفوس

فراراً إذا ما الملاذُ احتَرقْ

وفي أيِّ جنْبٍ أخبِّي المنى

يقوم  ويجثو، ولم ينطلقْ

حيث المشابهة بين (طبول ومآذن) تؤدي معنى (غيابة البيان) تقع في سجن الصمت والغياب، مع أن المآذن معنى في الوصول لكن الطبول بديلاً عنها معنى في الإبعاد، وقد جعل الصورة التشبيهية في الشطر الأوّل تبلغ انحسار الوصول عند جملة السؤال في: (على أي كفٍّ ينام القلق؟)، حتى استمر السؤال في البيتين الثاني والثالث اللذين يؤولان السؤال بصورة في الشطر الثاني تنزع منزعاً (درامياً) في تمثيل حال الإبعاد، بأسلوب تقريري مباشر في جملتي: (إذا ما الملاذ احتَرقْ) و(يقوم ويجثو، ولم ينطلق)، وهما صورتان مباشرتان في متناول الذاكرة اليومية، أقرّهما الخيال الشعري، ولم يجترحهما، ويجري كلام القصيدة كله على هذا النحو من الأسلوب والنهج من الأداء حتى غلبت صيغ الإيحاء بنزعة الوصول ثم انحسارها، بسبب من هيمنة أشكال الإبعاد، حتى لتبدو القصيدة كلها في (رثاء معاني الوصول)!!

وفي حال تعدد الأصوات في القصيدة الحوارية فإن أي صوتين رئيسين مهيمنين سيمثلان هذه الثنائية التي أشرت إليها أعني: (الوصول – الإبعاد)، لأنها البنية الدلالية الباعثة للمعنى الشعري التي صدر الشاعر عنها، بما يبدو، أنه يعيشها، من ذلك قصيدة: (قالوا... فقلنا) التي جاءت في صياغة خطابية مباشرة: (9)

قالوا: هجمنا، فقلنا: إننا القدَرُ

من أيِّما جئتم... سجيلنا مطَرُ

من أيما جئتم... ضجّتٍ بنادقنا

من أيما جئتم... لواحة سَقرُ

كلُّ الدروب حرامٌ: قال مدفعنا

لا تدخلوها... حرام: قالها الشجَرُ

وتجري القصيدة على هذا النهج الذي يظهر فيه صوتا: (الوصول) في خلال ضمير (الشاعر المتكلم) بلسان جماعي. وهناك صوت (الإبعاد) الذي يمثله الآخر الموصوف على أنه الخصم، وهنا لا يرثي (الوصول) إنما ينتصر له، ولا يهجو (الإبعاد) إنما يصف انحساره، لأن ضمير (الأنا الجمعي) يستدعي هذا النهج ويتطلبه معطى خطابياً؛ واضحاً مباشراً. حتى تؤول القصيدة في ختامها إلى صور غزلية، عني الشاعر بها انتصاراً لوصوله العاطفي أو الوجداني، وبضمير المتكلم المفرد.

وتذهب هذه الثنائية في مجرى الصور الشعرية مذاهب متعددة يجمعها إحساس الشاعر بالعالم والإنسان بخاصة، متخذاً من مخاطبة ذاته بُعْداً ينتمي إليه الصوت، وقد بدأ من العنوان مخاطباً نفسه في جملة طلبية مبنية على فعل الأمر: (كفْكفْ دموعك) ليكون المحيط السلبي الغالب هو ما يشكل حال (الإبعاد)، وليكون (الشاعر) في حضوره الرمزي هو ما يمثل (نزعة الوصول)، ويبدأ القصيدة هكذا: ( 10)

كفْكفْ دموعك أيها الحيرانَ

وانثرْ أساكَ فهذه ميسانُ

وامسك جراحك؛ مستباحاً مذعنا

وانْدُبْ، فقد أكل الخطى الميدانَ

فعلام تبكي، تستشيط بحسرة

فالعيش يتْمٌ ها هنا وهوانُ

بناء القصيدة بدءاً من العنوان الذي يتنفّسه كلامها في أول جملة من بيتها الأوّل بناءً يقارب فيه بين الوصول انكساراً، والذكرى على أنها عالم إبعاد، لأن إحساسه بالزمن - هنا – رثائي سلبي في معطياته التي كانت حيث: (أكلها الميدان من قبل، وصودر إنسانها، وانحسر صباحها عن وضوح عاقر...)، حتى ليقف المتلقي على الصور الشعرية مرسومة بأسلوبين رئيسين؛ بعضهما من بعض هما: (التشبيه والاستعارة) اللذان تقوم بنيتهما على التقابل الثنائي بين (المشبه والمشبه به) أو (المستعار والمستعار منه)، وقد رسماً في ثنائية (الوصول – الإبعاد) رسماً شعرياً.

الشاعر المحتمي بالأرق: شلال عنوز، مسكون بالواقع المباشر سكناً وجدانياً، ومنفعل بالتعبير عن ذلك انفعالاً خطابياً بيانياً يقدّم المعنى الشعري على ثنائية: الإحساس – العاطفة تقدمة يتفوق المجاز المألوف فيها على المجاز المتخيّل، والانزياحات المنتجة للمعنى الخطابي على تلك التي تبعث على التأمّل في عميق ترميز، وتقارب المعنى المتخيّل بالمباني اللغوية المكشوفة أسلوبياً بأن يقع مراد الخطاب بين يدي ظاهر اللفظ. وهو نهج شاع في القصيدة العربية من عصورها الأولى حتى عهودها الأخيرة من عصرنا الراهن بما استدعى أن يلتفت الشعراء إلى مذاهب أخرى، وأن ينهجوا سبلاً شعرية، ويجترحوا ممكنات أداء لم تكن مألوفة حتى وهم يوظفون الأساليب نفسها التي بالغ القدماء في توظيفها، لأنهم يعدون الطريق واحداً أحياناً، ولكن السائرين فيه متعددون.

وأحسب أن شلال عنوز يشتغل في منطقة أليفة مألوفة، وبخطاب متوقع ممكن يدهش العاطفة إحساساً، ولا يدهش مجسات الخلق الشعري بجديد لافت، لأن القصيدة عنده حاسة إنسانية وجدانية يتلمس بها الواقع ومعانيه، ويستدعي الخيال وممكناته التي تصل أسلوب الشاعر بخيال المتلقي، والقصد من المعنى بالفهم من القراءة، بما يقترب فيه من الطين كله في زراعة الشعر، ولا يمكث عند ضفة واحدة، ذلك أن الشاعر المأخوذ بالخطاب المألوف والخلق الشعري المتوقع شاعر جماهيري، وليس شاعر نوع شعري خالص.

وهنا سيقرأ المتلقي الكريم خطاباً شعرياً مباشراً، وتتبدّى له أساليب خلق المعاني الشعرية، وهي تأخذ بتلابيب القارئ إلى واضح المعنى، وظاهر الدلالة، لأنّ فاعلية الإحساس بالأشياء عنده تقصد الظاهر، ولا تذهب إلى الغموض، وتعني المباشرة، ولا تلتفت إلى (غيابة المجاز)، هو شاعر منتمٍ لساحل القصيدة، لأنه مأخوذ بالوصول، منتمٍ إليه؛ شاعراً وإنساناً.

***

الدكتور رحمن غركان

.....................

الهوامش

1 – أيها المحتمي بالأرق، (مجموعة شعرية)، شلال عنوز، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، بغداد، 2023 م،  ص 9.

2 – نفسه، ص 58.

3 – نفسه، ص 58.

4 – نفسه، ص 59.

5 – الشوقيات، أحمد شوقي، 1 / 211.

6 – أيها المحتمي بالارق، ص 62.

8 – نفسه، ص 88.

9 – نفسه، ص 93.

10 – نفسه، ص 99.

عندما ندخل مرحلة التقويل النصّي، فهذا يعني أنّ أمامنا بعض النصوص التي تعلن عن نفسها بشكلها التلقائي، ومن هنا نستطيع أن نقدّر حالة الخلق النصّي، المواجهة النصّية والعلاقات التي تشكّل إطاراً حركياً في القول الآني والقول المتقدّم. وفي هذه الحالة فسوف نكون مع الدلالات الحركية والتي تكون عادة من اختصاص الأفعال بجميع تموضعها؛ الماضوي والحاضر والتموضعي والفعل المتقدم، ويعتبر الأخير مقدّما من خلال وضعه المستقبلي كفعل، ومتقدّماً من ناحية وحدات المعاني الدالة عليه.

ننطلق من خلال المنطلق اللغوي، والبنية ووظيفتها، والكشف عن شيفرات النصّ والمعاني العليا التي يشترك بها النصّ، وهي الحالات والاتجاهات النصّية التي تظهر كعلاقات تكوينية من جهة، وعلاقات دلالية تحدث عادة في داخل النصّ من جهة أخرى، وكلّ اتجاه من اتجاهات النصّ يعني أنّ هناك مخاتلات تنبيهية تقودنا إلى الوجود النصّي، وهذه التنبيهات لا تظهر بشكل عفوي، بل من خلال الذات الحقيقية التي تخزّن الأشياء، وتعمل على إيجاد عالم غير مطروق والالتجاء له، ومن هنا نقول إنّ الفعل المتقدّم حالة إبداعية تنوب عن القول الذي تمّت ترجمته إلى فعل مكتوب.

نقترب من نصوص الشاعرة السورية وفاء مخلوف، وهي تقرّب الرمز إلى الرمز من خلال البنية الاستثمارية؛ فإنّ أية تجربة تتصل بمعانيها من خلال القول اللامكتوب، أي أنّ المقروء الشفوي قد سيطر قبيل الكتابة، وهي المحطة الأولى لدى الشاعرة عندما تكون في المنحى الدلالي قبل كلّ شيء، والمنحى النصّي؛ وهي تزوّدنا بعناوين ومطالع لغوية تؤدي إلى وحدة النصّ.

عصف ريح بالطور الأخير

جلبة تهزّ سارية العمر

ارتحال قارب الوجه البشوش

مدينة.. تئنّ تحت أزيز الموت

وشاعر يرسم قصيدته.. أنثى

تغرق بالهزيع الأوّل

لشطر الشعر

سكون.. شحوب

مأساة بلد تغفو

على وقع

أقدام أطفالها الحفاة

من قصيدة: بلا عنوان

تغطي البنية الرمزية وانسجامها النصّي المقاطع النصّية والتي تتآلف مع منظور القصيدة، مثلا: تعتبر البنية النصّية وليدة عدة سياقات، ومنها التأويل الرمزي، كبنية فعّالة في النصّ المكتوب، وفاعلية النصّ من فاعلية التعدّدية السياقية ومفاهيمها والتي يلجأ بعضها إلى الرمزية أو الفعل التخييلي، والذي يلتقي مع التراكيب ودلالاتها.

عصف ريح بالطور الأخير + جلبة تهزّ سارية العمر + ارتحال قارب الوجه البشوش + مدينة.. تئنّ تحت أزيز الموت + وشاعر يرسم قصيدته.. أنثى + تغرق بالهزيع الأوّل + لشطر الشعر + سكون.. شحوب + مأساة بلد تغفو + على وقع + أقدام أطفالها الحفاة

عندما نتكلم عن البنية الرمزية، نتكلم عن الصورة الشعرية أيضاً، وكذلك لغة الاختلاف واللتين ترافقان النصّ مع كلّ جملة اعتمدت فعل التخييل من جهة، وحركة المعاني من جهة أخرى، حيث أنّ الوقوف يكون أمام الرمزية ككائن حركيّ.

نتوجّه نحو قوّة المعنى والتأويل والإيحاء، وجلّ ما نلاحظه؛ التواصل القولي وامتداد الجمل الشعرية، بحيث أنّ الواحدة يكون مكملة للأخرى، ومن هنا يكون تعدّدية المعاني منسجمة مع منظور اللغة العام.

يرتبط النصّ كبنية منغلقة على معانيه، ومن خلال هذا المنظور نلاحظ أنّ الشاعرة وفاء مخلوف قد جعلت المقاربات مفتوحة، وهي تلك المقاربات السياقية والتي تقودنا إلى الكلمات المركّبة في كلّ سياق تواصلي؛ مثلا: عصف ريح بالطور الأخير = جلبة تهزّ سارية العمر... ارتحال قارب الوجه البشوش = مدينة.. تئنّ تحت أزيز الموت...

كلّ جملة شعريّة من هذه الجمل، تساوي لنا، اختلافا مشروطاً، وهو اختلاف المعنى من جهة واختلاف اللغة من جهة أخرى، فالذي نلاحظه أنّ المعاني ليست مستقرّة في زاوية النصّ، بل تخرج بأنساق تراتبية وعلاقات لغوية متعدّدة مع الخارج النصّي.

بقايا علم يرفرف

ممزق الأطراف

تئنّ ساريته

بصدأ الحديد

صدى نشيد الأرض

غال في زاوية الجدار

من قصيدة: بلا عنوان

هناك أسلوب تواصلي للمقاربة البنيوية؛ ومن خلال اللغة نلاحظ هذه الأبنية التي اعتمدتها الشاعرة وفاء مخلوف، وتعد هذه الأبنية مفاهيم وصيغاً تركيبية غير محدودة، أي أنّ اللامحدود يتدخّل في البناء النصّي وذلك من خلال المكون الدلالي Semantic component والمكون اللغوي Linguistic component.

بقايا علم يرفرف + ممزق الأطراف + تئنّ ساريته + بصدأ الحديد + صدى نشيد الأرض + غال في زاوية الجدار

هناك المقاربة التأمّلية، وهناك الاقتراب بلا أمل، والأولى تعتمد قوّة الدلالة اللغوية، بينما الثانية فتعتمد قوّة دلالة المعنى، أي أنّ المكون الدلالي يوزّع طاقة العودة ويحصد طاقة اليأس في الثانية، حيث أنّ دلالة النصّ، من دلالة اليومي والأحداث المتوالية في الكثير من الشؤون المحيطة بالشاعرة.

بقايا علم يرفرف ممزق الأطراف؛ ندمج الجملتين لكي توصلنا إلى دلالة تكميلية وهي الأنين (تئنّ ساريته) حيث شبّهت الشاعرة وفاء البيئة بالبحر، وهي والذين من حولها على ظهرها ينتظرون.

بعض بقايا أصوات فرح

يقتلها الدوي

الوطن إشارة مرور

صوب الجحيم

نعق غراب فوق دم

الشهيد

من قصيدة: بلا عنوان

تعتبر بعض الأحداث مضمرة الدراية، فيبحث عنها الشاعر ليظهرها، وبعضها عدم التفات الناس عليها، ومن خلال منظور الحدث الآني غير الظاهر، فإنّ بناء المشهدية يكون بين ظهور الحدث من عدمه، لذلك فالمشهد الظاهري هو الذي يحرّك الفعل الحركي ويخرجه من النقطة العمياء.

بعض بقايا أصوات فرح + يقتلها الدوي + الوطن إشارة مرور + صوب الجحيم + نعق غراب فوق دم + الشهيد

التجاذب والقلق؛ التقابل والتنافر، المعقول واللامعقول...إلخ، ومن خلال الرؤية المقطعية نعتبرها وسائل مولّدة لتنمية النصّ وديناميته في المنظور الكتابي؛ لذلك نلاحظ أن الشاعرة وفاء مخلوف، تميل إلى الدلالة الإشارية وهي تشير بقلق إلى الفرح مثلا، وتشير إلى الوطن من خلال التشبيه، وكذلك استقرار التشبيه من خلال المعنى (صوب الجحيم)، هذه الوسائل تقودنا إلى التنافر بين الواقع الظاهري، والواقع الأوّلي، أي أنّ وجه المقارنة قائم بين مرحلتين من الزمنية.

حركة النص من خلال المكون الدلالي Semantic component

نأخذ المساحة الصالحة للعنوان وما تقدّمه الأنساق التواصلية بين الواقع الدلالي في النصّ، والعلاقة الدلالية مع خارج النصّ، أي أنّ المنظورين ومن خلال الجذب الدلالي يقوداننا إلى تناقضات في الحدث اليومي من جهة، وإلى النظرة الثاقبة للأشياء من جهة أخرى، فعوامل المعالجة وعدمها تؤدّي إلى تأثيرات في الحسّية الداخلية، لذلك نلاحظ ظهور اليومي على العامة، ومن هنا يكون النقل الحيّ من خلال التوظيف الشعري، هو الدلالة التي نبحث عنها في المعتقد الكتابي.

أعلن قلقي على البلاد

وعلى الإنسان في بلادي

بلادي التي انزوت كأرملة

في سواد

لتجهض في عدّتها حملا

من زيف التاريخ

ومستنقع الحاضر

فأحمل أنا عبء ماض وحاضر

ينزف حقيقة لن تقال ...

من قصيدة: إعلان

عندما نقول حركة النصّ، إذن نتجاوز الجمود النصّي، والحركة هي دلالة غير مستقرة بوتيرة المعنى، بل تتعدّى إلى اللغة وإلى الأفعال الحركية والتي تلازم النصّ وأي نصّ يمرّ أمامنا؛ ولكن موضوعنا يختلف قليلا بخصوصية الحركة، فالفعل الحركي الدال، هو مركز الانطلاقة، والذي يعتبر الدالة النصّية في النصّ أو في الجمل الشعرية التي تتعاقب الواحدة مع الأخرى.

أعلن قلقي على البلاد + وعلى الإنسان في بلادي + بلادي التي انزوت كأرملة + في سواد + لتجهض في عدّتها حملا + من زيف التاريخ + ومستنقع الحاضر + فأحمل أنا عبء ماض وحاضر + ينزف حقيقة لن تقال ...

لقد أكّد الباحث المصري الدكتور أحمد مختار بأنّه (هناك تحويل للدلالة من المعنى الكلّي إلى المعنى الجزئي)، وهنا يتطلب اللعب بالألفاظ والمراوغة، لذلك نلاحظ من خلال الرؤية المقطعية أنّ الشاعرة تبنّت هذا التغيير من خلال مفردة القلق، ولهذه المفردة خاصّية نفسية كما يؤكد ابن سينا: إنّ ما يميز التحليل الدلالي عند ابن سينا هو وقوفه على البعد النفسي والذهني اللذين يصاحبان العملية الدلالية.

فقد وزّعت الشاعرة السورية وفاء مخلوف قلقها بين البلاد والإنسان، وهذا يعني أنّ القلق الداخلي لديها أخرجته في التكوين النصّي، وهو المكون الدلالي الراقد في النفس الداخلية.

لم تكتف الشاعرة بالقلق، بل ذهبت إلى حالة التشبيه من خلال الاستعارة، فقد شبّهت البلاد كأرملة، وهو ليس بوصف، بقدر ما أخذت تميل إلى تعدّدية المسمّيات من خلال الذات الحقيقية، واعتبرت كلّ مسمّى حقيقة تواصلية للحدث اليومي.

لذا لن أقلق على الحقيقة

أو هو ليس بقلق

هو حزن من نوع مفجع

أو خوف من نوع مربك

لذا أعلن فجيعتي على بلادي

من قصيدة: إعلان

من المدلول الضيّق إلى المدلول الواسع يخرج النصّ، وتكون السببية هي النافذة في المنظور الكتابي، لذلك عندما تتبدّل المعاني، تتبدّل الدلالة، أي أنّ التغييرات مستمرّة بين نصّ ونصّ. ومن هنا يكون تعدّد المقاربات بين المعنى النصّي الداخلي، والمعاني الخارجية، أي أنّ الاستعارة تكون قد أخذت مساحة في النصّ، وخصوصاً تلك الاستعارة التصوّرية التي لا يستغني عنها شاعر.

لذا لن أقلق على الحقيقة + أو هو ليس بقلق + هو حزن من نوع مفجع + أو خوف من نوع مربك + لذا أعلن فجيعتي على بلادي

من خلال القلق العائم في النصّ، نلاحظ أنّ الخيبات والنكسات هي المقصودة في النصّ المكتوب، ومن هنا تحضر الدلالة القلقة أيضاً. فهناك علاقة مباشرة بين النصّ الشعري (النصّ الحتمي Imperative text)، وبين الحسّية الداخلية؛ ونلاحظ كذلك ما ذكره ابن سينا، حيث يميل إلى الوجود الذهني للعلامات اللغوية وارتسامها في النفس والخيال، عندما يكون راصداً للعملية الدلالية.

وعندما تؤكّد الشاعرة على القلق بخصوص الحقيقة، فإنّها تنتقل إلى أيقونة ثانية، أي أنّ القلق وليده الحزن، والحزن الصامت أقوى أنواع الحزن، فالموت هو المنتظر، إذن نستطيع أن نرسم عنونة أخرى للنصّ الدال للشاعرة السورية وفاء مخلوف وهو: القلق، والحزن، والموت في المنظور النصّي.

ويقودنا النصّ إلى الحسّ المأساوي، وهو الشعر المأساوي الذي يجعلنا معه في مساحة من المعرفة، تلك الدراية التي يعاني منها الآخر أيضاً، أي أنّ التحوّلات والولادات التي اعتمدتها الشاعرة، كانت على صيغة خطوط متوالية، فالقلق + الحزن + الفجيعة + الخوف = فجيعة البلاد. وفجيعة البلاد من فجيعة الفرد الذي يعاني بشكل يومي.

***

كتابة: علاء حمد – العراق

............................

بلا عنوان

عصف ريح بالطور الأخير

جلبة تهزّ سارية العمر

ارتحال قارب الوجه البشوش

مدينة.. تئنّ تحت أزيز الموت

وشاعر يرسم قصيدته.. أنثى

تغرق بالهزيع الأوّل

لشطر الشعر

سكون.. شحوب

مأساة بلد تغفو

على وقع

أقدام أطفالها الحفاة

*

بقايا علم يرفرف

ممزق الأطراف

تئن ساريته

بصدأ الحديد

صدى نشيد الأرض

غال في زاوية الجدار

بعض بقايا أصوات فرح

يقتلها الدوي

الوطن إشارة مرور

صوب الجحيم

نعق غراب فوق دم

الشهيد

**

إعلان

أعلن قلقي على البلاد

وعلى الإنسان في بلادي

بلادي التي انزوت كأرملة

في سواد

لتجهض في عدّتها حملا

من زيف التاريخ

ومستنقع الحاضر

فأحمل أنا عبء ماض وحاضر

ينزف حقيقة لن تقال ...

لذا لن أقلق على الحقيقة

أو هو ليس بقلق

هو حزن من نوع مفجع

أو خوف من نوع مربك

لذا أعلن فجيعتي على بلادي

***

وفاء مخلوف - سورية

تمتلئ أعمال شكسبير بشخصيات معقدة ومثيرة للاهتمام، كل منها يجلب منظورًا فريدًا لموضوعات الحب والسلطة والمجتمع. إحدى الشخصيات التي تبرز بين بقية الشخصيات هي السيدة السوداء، رمز الغموض والمكائد الذي يظهر في العديد من مسرحيات شكسبير وسونيتاته.

السيدة السوداء في مسرحيات شكسبير:

السيدة السوداء شخصية تتحدى الأعراف الجنسية والعنصرية التقليدية في المجتمع الإليزابيثي. غالبا ما يتم تصويرها على أنها امرأة قوية ومستقلة، تتحدى التوقعات المفروضة عليها بسبب عرقها وجنسها. يظهر هذا التحدي في شخصيات مثل كليوباترا في "أنتوني وكليوباترا" وتامورا في "تيتوس أندرونيكوس"، الذين يستخدمون حياتهم الجنسية وذكائهم للتلاعب بالرجال من حولهم.

ومع ذلك، فإن السيدة السوداء هي أيضا رمز للآخر والغرابة في أعمال شكسبير. كثيرا ما يتم تصويرها على أنها أجنبية أو دخيلة، حيث يميزها لون بشرتها على أنها مختلفة عن الشخصيات البيضاء المحيطة بها. يمكن رؤية هذا الآخر في شخصيات مثل شخصية عطيل في "عطيل"، الذي يميزه سواده عن بقية سكان البندقية ويؤدي في النهاية إلى سقوطه.

على الرغم من التحديات التي تواجهها، فإن السيدات السوداوات في مسرحيات شكسبير غالبا ما يمتلكن قدرا كبيرا من القوة والفاعلية. إنهم ليسوا ضحايا سلبيين للمجتمع الأبوي الذي يعيشون فيه، بل مشاركين نشطين في قصصهم الخاصة. شخصيات مثل الليدي ماكبث في "ماكبث" وبياتريس في "جعجعة بلا طحين" هن نساء قويات الإرادة ولا يخشين التعبير عن آرائهن وتحدي الوضع الراهن.

كما تعتبر السيدة السوداء رمزا للرغبة والإغراء في أعمال شكسبير. غالبا ما يتم تصويرها على أنها كائن جنسي، تستخدم سحرها لإغواء الرجال من حولها واكتساب القوة والنفوذ. يظهر أن شخصيات مثل كليوباترا والليدي ماكبث تدرك هوياتها الجنسية وتستخدمها لصالحها، وتتلاعب بالرجال في حياتهم لتحقيق أهدافهم الخاصة.

ومع ذلك، لا يتم تصوير السيدة السوداء دائما في ضوء إيجابي في أعمال شكسبير. ويمكن أيضا أن يُنظر إليها على أنها قوة خطيرة ومدمرة، تقود الرجال من حولها إلى الخراب من خلال قواها المغرية. شخصيات مثل تامورا وريجان في "الملك لير" هي أمثلة للسيدات السود اللاتي يستخدمن حياتهن الجنسية للتلاعب وإيذاء من حولهن، مما يؤدي في النهاية إلى سقوطهن.

على الرغم من تعقيدات شخصية السيدة السوداء، إلا أنها تظل شخصية ثابتة في أعمال شكسبير، حيث تتحدى وتخرب الأدوار التقليدية للنساء والأشخاص الملونين في المجتمع الإليزابيثي. من خلال أفعالها وكلماتها، تجبر السيدة السوداء الجمهور على مواجهة تحيزاتهم وافتراضاتهم حول العرق والجنس والسلطة.

إن السيدة السوداء في أدب شكسبير شخصية معقدة ومتعددة الأوجه تتحدى الأعراف الجنسية والعنصرية التقليدية في المجتمع الإليزابيثي. من خلال أفعالها وكلماتها، تجبر الجمهور على إعادة النظر في تحيزاتهم وافتراضاتهم حول العرق والجنس والسلطة. في حين أنها يمكن أن تكون قوة قوية ومغرية، فهي في النهاية رمز للقوة والاستقلال في عالم يسعى إلى تقييدها. تستمر سيدات شكسبير السود في أسر الجماهير وإلهامهم اليوم، لتذكيرنا بقوة النساء والأشخاص الملونين عبر التاريخ.

السيدة السوداء في سوناتات شكسبير

كانت السيدة السوداء في سوناتات شكسبير موضوعا لكثير من الجدل والتكهنات بين العلماء والقراء على حد سواء. تم تصوير الشخصية الغامضة، التي يشار إليها غالبا باسم السيدة السوداء، في السوناتات 127-154 على أنها امرأة جميلة ولكنها غير شرعية تأسر المتحدث وتسيطر على عواطفه. من خلال هذه السوناتات، يستكشف المتحدث الديناميكيات المعقدة للرغبة والحب والخيانة في علاقته مع السيدة السوداء.

أحد الجوانب الأكثر لفتا للانتباه في شخصية السيدة السوداء في سوناتات شكسبير هو مظهرها الجسدي. على عكس معايير الجمال التقليدية في إنجلترا الإليزابيثية، توصف السيدة السوداء بأنها ذات شعر داكن وعينين وبشرة داكنة. يتحدى هذا التصوير الأعراف والأعراف المجتمعية، مما يوحي بجمال أكثر غرابة وجاذبية، وهو أمر مقنع وخطير في نفس الوقت. تنجذب المتحدثة إلى مظهرها الخارجي، ولكنها تعترف أيضا بالظلام والغموض الذي يحيط بها.

كما تتميز السيدة السوداء بسلوكها الاستفزازي والمغري. في السوناتة 128، يعترف المتحدث أن جمال السيدة السوداء وسحرها لهما سيطرة قوية عليه، مما يجعله يفقد السيطرة على نفسه ويستسلم لرغباته. يعكس هذا التصوير للسيدة السوداء على أنها امرأة قاتلة مشاعر المتحدث المتضاربة بالانجذاب وعدم الثقة تجاهها، مما يؤدي إلى الشعور بالاضطراب العاطفي والارتباك.

طوال السوناتات، يتصارع المتحدث مع مشاعر الحب والخيانة تجاه السيدة السوداء. في السوناتة 138، يعترف بأن علاقتهما مبنية على الأكاذيب والخداع، ومع ذلك فهو لا يزال ينجذب إلى جاذبيتها التي لا تقاوم. يسلط هذا الصراع الداخلي الضوء على الطبيعة المعقدة للرغبة والعاطفة، والطرق التي يمكن أن تؤدي بها إلى النشوة وانكسار القلب.

يثير دور السيدة السوداء في سوناتات شكسبير أيضا تساؤلات حول الجنس والسلطة والقوة. في مجتمع كان أبويا للغاية ويقيد حريات المرأة، تمثل السيدة السوداء شخصية تتحدى الأدوار والتوقعات التقليدية للجنسين. تم تصويرها على أنها امرأة حازمة ومستقلة جنسيا تتحدى مفاهيم المتحدث عن السيطرة والهيمنة. يضيف هذا التخريب للمعايير الجنسانية عمقا وتعقيدا إلى تصوير السيدة السوداء، ويسلط الضوء على التوترات بين الرغبة والسلطة في علاقتهما.

جانب آخر مهم للسيدة السوداء في سوناتات شكسبير هو تمثيلها كمصدر إلهام أو مصدر إلهام لشعر المتحدث. في السوناتة 130، يصف المتحدث السيدة السوداء بعبارات غير جذابة، ويقارنها بالمثل التقليدية للجمال. يتحدى هذا التصوير الساخر المفاهيم التقليدية للإلهام الشعري والجمال، مما يشير إلى أن الفن الحقيقي يكمن في التقاط تعقيدات وتناقضات المشاعر الإنسانية.

إن وجود السيدة السوداء في سوناتات شكسبير هو أيضا بمثابة مرآة للصراعات والرغبات الداخلية للمتحدث. في السوناتة 144، يتأمل المتحدث ازدواجية مشاعره تجاه السيدة السوداء، المتأرجحة بين الحب والكراهية، واللذة والألم. يعكس هذا الصراع الداخلي تعقيدات العلاقات الإنسانية والطرق التي يمكن من خلالها إثارة مجموعة من المشاعر والاستجابات.

تضيف طبيعة السيدة السوداء الغامضة والغامضة جوا من الغموض والمكائد إلى سوناتات شكسبير. تظل هويتها بعيدة المنال ومفتوحة للتفسير، مما يؤدي إلى العديد من النظريات والتكهنات حول أصولها وأهميتها. اقترح بعض النقاد أن السيدة السوداء قد تكون تمثيلا لشياطين أو مخاوف المتحدث الداخلية، بينما ينظر إليها آخرون على أنها رمز للجوانب المظلمة للطبيعة البشرية.

بشكل عام، تجسد السيدة السوداء في سوناتات شكسبير شخصية معقدة ومتعددة الأوجه تتحدى المفاهيم التقليدية للجمال والحب والقوة. إن وجودها بمثابة حافز لاستكشاف المتحدث للرغبة والخيانة والاضطراب الداخلي، مما يؤدي إلى تصوير غني ودقيق للمشاعر والعلاقات الإنسانية. من خلال شخصيتها الغامضة والاستفزازية، تضيف السيدة السوداء العمق والتعقيد إلى سوناتات شكسبير، وتدعو القراء إلى إعادة النظر في مفاهيمهم المسبقة عن الحب والعاطفة وحدود التجربة الإنسانية.

والسيدة السوداء لغز من ألغاز الأدب والفكر والسياسة والدين ، إذ يفيض حضور المصطلح  عند الصوفيين و رجال الدين الأتقياء ورجال الفكر والأدب والسياسة للدلالة على مفاهيم بعينها .

*** 

محمد عبد الكريم يوسف

الأديب أ. عامر موسى الشيخ يطفئ الورق بقلمه.. والسارد أ. ماجد وروار يشعله !!

قراءة تحليلية تنظيرية في رواية (الخامس والعشرون من ايلول) للكاتبين الأديب أ. عامر موسى الشيخ والأديب الفنان أ. ماجد وروار

***

"هناك تعبير أبشع من الدموع التي نبكيها، إنها الدموع المكتوبة" باشلار

(في الحزن تكمن بواعث تهالكات تتبارى متهافتة في مسارب ذات الناص، فيعمد بعد محاولات لا تنتهي لإخفائها وإضمار كل ما يمت للكمد بصلة إلى البوح بها، استعانة باللغة التي تجسد فضاء الألم وجغرافية الحزن وعظم الجراح التي تتشعب فتأخذ لها حيزآ وسيعآ من ذاكرة المبيح، وأفقآ كبيرآ من نتاجه المباح..

إنها دفائن الجروح المتراكمة تتعالى دفقآ فتضيق عليه ما يضطره إلى سكبها ليست كشكوى يعرضها بل طلبآ لارتياح يبغيه:

أرق على أرق ومثلي يأرقُ

وجوى يزيد وعبرة تترقرقُ / المتنبي

 *

ينسل في داخل الأديب ا. عامر موسى الهاجس المتشح باللوعة والمرارة عبر مشاهدة إحزان السارد للقصة الذي هو الأستاذ ماجد وروار لرواية " الخامس والعشرون من ايلول "، فيغترفها لتكون منهلآ في التفاعل معها، وبوحآ للتدليل على أننا لا يجب أن ننظر لأحزاننا بإحساس أنها لا تخص الغير ؛ ولا لأحزان الغير على أنها ليست ذات صلة بمشاعرنا..

الأديب أ. عامر موسى كان هو الأكثر تشخيصآ لمشاعر صديقه أ. ماجد وروار والأدرك في تعامله مع القاص والتحاور معه وفق سياق البعد الإنساني للخروج بما يُضئل من غاثلة الأحزان:

(هل أقوى على رؤية حزن الآخر.

ولا أكون حزينآ كذلك.

هل أقوى على رؤية أسى الآخر

ولا أبحث عما يؤسيه

هل أقوى على رؤية دمعة تهل.

ولا أحس نصيبي من الأحزان)**

السماوة مدينة تكره الأيجاز في كل شيء. إنها تفرد ما عندها دائمآ، تمامآ كما تلبس كل ما تملك، وتقول كل ما تعرف. لهذا كان الحزن وليمة هذه المدينة لما مر منها من أحداث أليمة وما رافقها من ظلم على أبنائها أبان فترة الحكم البعثي المقبور..

(أترين تلك القلعة الحجرية الجدران؟

لي فيها صراخ شاسع..R

ودمٌ 

وأضلاع مهشمةٌ..

ودمع أبٍ تجرأ بالسؤالِ

عن ابنه المحكوم بالعشق المؤبد والتغرب

والهيامْ***

أ. عامر موسى جمع الأوراق المبعثرة امامه في قصة الأخ ماجد وروار، بعضها مسودات قديمة، واخرى أوراق بيضاء تنتظر منذ سنين بعض الكلمات فقط.. كي تدب الحياة فيها، وتتحول من ورق إلى أيام.

كلمات فقط، أجتاز بها الكاتب صمت السارد وروار إلى الكلام، والذاكرة إلى النسيان، يترك في كل مرة الرماد على الورق وكأنها سيجارة الحنين الأخيرة، وبقايا الخيبة الأخيرة..

فالكاتب عامر يطفىء والسارد ماجد يشعل!

الكاتب عامر لا يدري.. يحس أنه لم يكتب شيئآ يستحق الذكر مع السارد ماجد قبل هذه الرواية.. اليوم معه فقط سوف يبدأ بالكتابة. ولا بد على عامر ان يعثر أخيرآ على الكلمات التي سيكتب بها، فمن حقه أن يختار اليوم الذي يكتب، ولكنه لا يعلم أنه بعد الأنتهاء من كتابتها مباشرة سيكون هناك حدث كبير !! حيث أستشهد احد أبطال الرواية.. واصبح عامر هو الشاعل للورقة بعد ان كان قلمه مطفأة لها..

(لماذا ياعلي هكذا؟ لماذا جعلتهم يتمكنون منك)؟

 كبرت معي اللماذا، وكبرت الأسئلة، أمام تصاغر كل شيء وصولآ إلى التفاهة، ما أفعله الآن هل أبصق على الحياة؟ أم أن بصقتي ستعود علي ستعود علي مثل الذي يبصق بإتجاه السماء، درت في غرفتي راقصآ رقصة حزن مع بكاء مستمر، مستمر دون توقف، دوراني يستمر ودموعي تستمر، أدور مثل رحى تطحن دقيق الأيام والحسرات لتصنع خبزآ لمائدة الموت اليومي الذي يلهث خلفنا.

هل حقآ مات علي؟، ماذا ستقول أمه؟ علي مات! كيف سيكون حال ماجد؟  مات علي !! وأنا أكرر هذه الأسئلة، عدت إلى هاتفي طالبآ رقمه..

- الو ماجد، أنا عامر، أين أنت...؟

- عامر، لقد استشهد علي في أبي غريب، أنا ذاهب لجلبه، مع السلامة ! السارد للقصة في الرواية أ. ماجد وروار ذاكرته ثقيلة لا يشفى منها أبدآ.. تجد في سرده للقصة أنه غادرته الحروف كما غادرته قبلها الألوان، وتحول العالم فيه إلى جهاز تلفزيون عتيق، يبث الصور بالأسود والأبيض فقط، ويعرض شريطآ قديمآ للذاكرة، كما تعرض أفلام السينما الصامتة .

قصة كان يمكن أن تكون قصتنا جميعآ، لو لم يضعنا القدر كل مرة مصادفة، عند منعطفات فصولها.

ماجد أثناء سرده للقصة وكأنه يأتيه صوت عتيق غائب، وكأنه يطرح السؤال على شخص غيره، معتذرآ دون اعتذار، على وجه للحزن لم يخلعه منذ سنين، يشعل سيجارة عصبيته، فيذهب يطارد دخان الكلمات التي احرقته منذ سنوات، دون أن يطفئ حرائقها مرة فوق ورقته.

اليوم ماجد يكتب عن حياته وهو لم يشفَ منها بعد، ويلمس جراحه القديمة بقلم يؤلمه مرة أخرى.. قلمه اليوم أكثر بوحآ والأكثر جرحآ.القلم الذي لا يتقن المراوغة، ولا يعرف كيف توضع الظلال على الأشياء، ولا كيف ترش الألوان على الجرح المعروض للفرجة. يدون كلماته التي حرم منها، عارية كما أرادها، موجعة كما أرادها، وكأنه يستبدل بقلمه سكينآ، فالكتابة إلى من فقدهم قاتلة.. كحبه لهم.

تمطر ذاكرته فجأة ويسرد احداثا ومواجعَ ما زالت تشبهه، وأصبح يشبهها، وأصبح هو جسرآ معلقآ لها، وما زالت وجوه الاحبة التي فارقها تعبر الجسر على عجل..

ماجد يسرد قصته ويبعثها كرسائل وبطاقات خارج مناسباته المعلنة.. ليعلن عن نشرته النفسية، لمن يهمهم أمره.

ماجد في سرده في الرواية تجد أن الموت كان يمشي إلى جواره، وينام ويأخذ كسرته معه على عجل، تمامآ مثل الشوق والصبر والإيمان.. والسعادة المبهمة التي لا تفارقه. كان الموت يمشي ويتنفس معه.. وكانت الأيام قاسية دائمآ، لا تختلف عما سبقتها سوى بعدد شهدائها، الذين لم يكن يتوقع موتهم على الغالب.. فهو لم يكن يتصور لسبب أو لآخر، أن تكون نهايتهم، هم بالذات قريبة إلى ذلك الحد.. ومفجعة إلى ذلك الحد.

ما زال ماجد يتذكر اخوانه الشهداء، أولئك الذين تعودنا أن نتحدث عنهم بالجملة ! وكأن الجمع في هذه الحالة بالذات، ليس اختصارآ لذاكرتهم، بل لحقهم علينا.

تجد ماجد لم يتحدث عنهم كونهم شهداء.. بل كان كل واحد منهم شهيدآ على حدة. كان هناك من استشهد في كوكبة الشهداء البكر، وكأنه جاء للحياة خصيصآ للشهادة، والثاني من كان يحلم أن يعود يومآ لكي يتزوج.. ولم يعد.

والشهيد الثالث سقط في أرض المعركة قبل زيارته المسروقة إلى أهله بيوم واحد، بعدما قضى عدة أسابيع في دراسة تفاصيلها، والإعداد لها..

ذهبوا وتركوا خلفهم قبرا طريا لأم ماتت مرضآ وقهرآ، وأب مات كمدآ وهو كان مشغولا بمطالب أبنه للعرس..

(خداه، عيناه، طوله، اناقته، كله كان حلاوة، نعم انه شقيقي وصفي الذي خلف الباب..

فرحتي بتواجده بيوم زواج محمد كانت قد اعطتني همة بأن اخرج كل الصحون من الغرفة كي يبقى على رسله في الغرفة..

وبما انه وصفي لم استغرب هذا الدخول المفاجئ فقد كان على قدر كافٍ من الذكاء من أجل انهاء اية مهمة، نعم هذا وصفي مؤرق رجال الأمن والبعث، حضنته قبلته، شممته قلت له كيف، ماذا، قال لي: وهل تريدني أن لا أحظر حفل زفاف محمد.. !

:

:

بعد اتمام مراسم الزفاف، لم ينم وصفي، قال لي: رافقني إلى كراج سيارات بغداد، كان هذا عند الساعة الرابعة فجرآ، قلت له:

لم نشبع منك يا أخي، تأخر قليلآ، قال بهدوء وابتسامة تخبئ خلفها حدسآ غريبآ: لا، فعناصر الأمن سيأتون عند الساعة الخامسة ليلقوا القبض علي، دعني اذهب، رافقته حيث اراد، ودعته... وبالفعل ما ان جاء فجر ذلك اليوم، واذا برجال الامن يملؤون الشارع طارقين الباب بعنف " وين وصفي؟

الكتاب: رواية الخامس والعشرون من أيلول

المؤلف: عامر موسى الشيخ - ماجد وروار

الطبعة الأولى ٢٠١٦ / دمشق - مطبعة تموز

***

قصي إيدام

.........................

(*) نص ادبي للكاتب الكبير أ. زيد الشهيد / كتاب مملكة الأبداع

(**) نص ادبي للكاتب وليم بليك / حزن الآخر

(***) نص للشاعر الكبير أ. يحيى السماوي / ديوان جرح أكبر من الجسد

بقلم: مونيكا زغوستوفا

ترجمة: صالح الرزوق

***

حينما كنت أبحث عن مادة لروايتي "مسدس تحمله معك في الليل A Revolver to Carry at Night"، انغمست في مراسلات وسيرة وأعمال كل من فيرا وفلاديمير نابوكوف، وعلى وجه الخصوص وقائع حياتهما. واكتشفت من مذكرات نابوكوف الشعرية "تكلمي أيتها الذاكرة Speak, Memory" الحكاية التي استلهم منها رواية "لوليتا"، وبدأت أفهم علاقة نابوكوف مع روايته وموضوعها.

اعتاد والدا فلاديمير نابوكوف إنفاق عطلاتهما الصيفية في فيرا، والإقامة في فندق له حديقة فسيحة على مشارف سانت بطرسبورغ. وبعد واحد من وجبات الغداء العاطفية والطويلة والمتأخرة على عادة أغنياء روسيا قبل الثورة، خرج المضيفون والضيوف إلى الشرفة لشرب القهوة. وكان فلاديمير، البالغ يومذاك من ربيع عام 1907 ثماني سنوات، برعاية خاله الدبلوماسي فاسيلي روكافشنيكوف.

كان ركافشنبكوف معروفا أيضا باسم روكا، ويعني بالروسية "يد".  وكان الخال روكا أنيقا ويضع على الدوام تاجا بنفسجيا على ياقة معطفه اللؤلؤي الرمادي ويهوى إلقاء الشعر بصوت جهوري. وحينما خرج الحضور إلى الشرفة، اقترح الخال على الصبي أن ينتظر معه في غرفة الطعام المضاءة بنور الشمس. أجلس الصبي في حضنه وعانقه بلطف، وهو يهمس في أذنه بكلمات عابثة وبذيئة، فشعر فلاديمير الصغير بالارتباك. وارتاح واطمأن حينما عاد أبوه من الشرفة إلى غرفة الطعام. وأدرك فلاديمير أن الأب لم يكن ينظر بعين الرضا لإلحاح  شقيق زوجته كي يرافق الآخرين إلى الشرفة. وحالا أرسل الصبي إلى غرفته. في نفس الأمسية عاد الخال إلى غرفة الصغير فلاديمير. وطلب منه أن يعرض عليه مجموعة الفراشات التي أسرها، وبينما هما يتأملانها معا، دغدغ الخال وجهه بشاربه الناعم، وتابع حضنه وزاد على ذلك لمسات جريئة. وكانت هذه اللقاءات سارة ومحزنة أيضا، مثيرة ومقرفة في وقت واحد. واستمر على هذا المنوال لعدة سنوات. ومنذ نشر "لوليتا" يتساءل الناس في أرجاء العالم من هي تلك البنت الغامضة، وعلى أي تجربة أو علاقة اعتمد نابوكوف في رسم شخصيتها. وحينما كنت أبحث عن مادة لروايتي وجدت الدليل. ما لم يلاحظه أحد من قبل أن نابوكوف في هذه الرواية كان يسرف بوصف الاعتداء الجنسي مع أنه كان ضحية له في طفولته. في الفقرة 3 من الفصل الثالث من كتابه "تكلمي أيتها الذاكرة" قال نابوكوف: كان الخال روكا يأتيني في طفولتي مع عالم من الدمى والكتب المصورة المضحكة وأيكة من أشجار الكرز ذات ثمار سود براقة [...]، وكنت حينها في الثامنة أو التاسعة، وكان دائما يضعني على ركبتيه بعد تناول الغداء (وحولنا رجلان ينظفان الطاولة الموجودة في غرفة طعام تخلو من البشر)، ويداعبني بأصوات صفير وبعبارات غزل، وكنت أشعر بالارتباك من تصرفاته بحضور الخادمين، وأرتاح حالما يناديه والدي من الشرفة قائلا: "تعال يا فاسيلي".

وكما ألح نابوكوف في مذكراته بشكل غير مباشر، لكن جازم، استمرت هذه الألعاب الماجنة ثلاث أو أربع سنوات. وحينما بلغ فلاديمير الحادية أو الثانية عشرة، اعترف، أنه في أحد الأيام ذهب لملاقاة خاله في محطة القطار. كان خاله قادما من رحلة خارجية بعد أن استجم خلال الصيف في مزرعته في فيرا، المجاورة لمكان إقامة والدي نابوكوف. قال روكا للصبي حالما رآه "كم أصبحت خبيثا ومرهقا jaune  et laid  أيها الولد المسكين". وفي عيد ميلاد نابوكوف الخامس عشر أعلن خاله الواسع الثراء، بلغة فرنسية قديمة الطراز، أنه سماه وريثا له. ثم صرفه قائلا:"والآن بمقدورك أن تذهب. انتهت الجلسة ولا يوجد ما أضيفه.

l’audience est finie. Je n’ai plus rien à vous dire

***  

وحدث شيء مماثل في "لوليتا": في نهاية الرواية، وبعد بحث يائس، وجد الخاطف همبرت همبرت لوليتا اليافعة، وهي بعمر سبعة عشر عاما حاملا ومتزوجة. وشاهدها الذي غرر بها شاحبة، ومنهارة ومتعبة فقدم لها مبلغا كبيرا من النقود لزفافها. ولكن لم تتمكن لوليتا من الاستمتاع بثروتها المفاجئة لأنها ماتت أثناء الوضع.  وبطريقة مماثلة لم يكن نابوكوف قادرا على الاستفادة من ميراثه (والذي كان حسب أقواله "يبلغ بتقديرات هذه الأيام مليوني دولار "يضاف لها مزرعة روجديستيفنو المجاورة لفيرا، والتي كسبها من خاله).  فقد كان في الثامنة عشرة حين قامت الثورة الروسية للروبل وتسببت للروبل بفقدان سعره، ثم ذهب إلى المنفى، وفقد كل شيء. وهذه الحلقة من حياة نابوكوف أثارت اهتمامي لأنني شخصيا من المهاجرين. بحث والدا فلاديمير عن منفاهما في غرب أوروبا بعد ثورة أكتوبر وكان عمره لا يزيد على عشرين عاما. وكذلك والداي هربا من الشيوعيين إلى الولايات المتحدة حينما كنت في السادسة عشرة. ولذلك أشعر بقرابة متينة مع نابوكوف. وقد استحوذت على نابوكوف فكرة التحرش بالأطفال. وكتب عنها أولا في "الساحر"، وهي رواية قال عنها في وقت لاحق "إنها أول مسودة عن "لوليتا""، ولكنه لم يكن راضيا عنها تماما. وبعد "لوليتا" عاد إلى موضوعة التحرش والمضايقة الجنسية في "نار شاحبة". وفي التجارب الثلاث عبر عن عدم رضاه ورفضه للعنف الذي يستهدف الأطفال. وربما لم يعرف هذا السر غير عدد محدود من الأشخاص، وربما فقط زوجته فيرا،  فقد كتب عنه نابوكوف في سيرته "تكلمي أيتها الذاكرة" بطريقة مواربة. وكانت فيرا تعلم جيدا أن زوجها يحب النساء بمقدار غرامه للفراشات. وتقول كاثرين ريس بيبلز، وكانت على علاقة غرامية قصيرة مع نابوكوف حينما شغل منصب أستاذ في جامعة كورنيل الأمريكية، أنه كان يهوى النساء وبالتحديد الشابات، ولكن ليس المراهقات أو البنات الصغيرات مثلما فعل همبرت همبرت مع لوليتا. واستفاد نابوكوف من اختطاف البنت الصغيرة سالي هورنير، التي هزت قضيتها المجتمع في أواخر الأربعينات. كان يبحث يوميا في الصحف الأمريكية عن أخبار سالي الجديدة وأحوالها المرعبة وهي في قبضة مختطفها وذلك ليبني عليها روايته. وقد نشرت مؤخرا سارة وينمان كتابها بعنوان "لوليتا الحقيقية" وتناولت فيه تفاصيل اختطاف سالي هورنير.

وعلى امتداد عقود كنا نسمع النقد الموجه إلى لوليتا من زاوية أنصار الأنوثة. ولكن بعض هؤلاء النقاد لا يبدو أنهم فهموا كل اللغط الذي دار في الرواية. لكن "لوليتا" عمل فني مهم لأنها مكتوبة بحرية مطلقة ولأنها حرصت على أن تعكس تعقيدات نمط محدد من السلوك البشري.

وبداية كل فصل -"سيداتي وسادتي المحلفين" - تعني بوضوح أن قراءه هم القضاة المكلفون بمحاسبة المختطف موضوع المحاكمة. لم يقصد نابوكوف أن يكتب مرافعة، ولكنه أوضح بين السطور، لمن يعرف كيف يقرأ، أنه رفض مغوي القاصرات السقيم  وأن لوليتا ضحية مثله.

***

......................

* مونيكا زغوستوفا Monika Zgustova ولدت في براغ. وكبرت في الولايات المتحدة حيث درست الادب المقارن. انتقلت الى برشلونة وعملت بالكتابة لجريدة "البايس" و"نايشين" و"كاونتر بانش". ترجمت اعمال الادباء التشيك والروس الى الاسبانية. من اهم مؤلفاتها "متأنقة للرقص في الثلج: أصوات نساء من الغولاغ" 2020.

* الترجمة عن ليتراري هب، أيار 2024.

احتلَّ الشِّعر مكانة عظيمة عند العرب، عبَّر عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين قال: «كان الشِّعر عِلم قومٍ لم يكن لهم عِلم أصح منه»، فقد اختصَّ الله العرب بالفصاحة والبيان، وتجلَّى ذلك في أشعارهم وآدابهم، وكان الشعر هو المقدَّم عندهم؛ لِما يمتاز به من حضورٍ دائمٍ في شؤون حياتهم على اختلافها وتعدُّدِها؛ فالشِّعر هو المعبِّر عنها في كل حين، وهو المؤرِّخ لها، فكانوا يعدُّون الشعر من عوامل القوة التي تساعدهم في النصر على عدوِّهم، ومما رُوِيَ في ذلك أنه «أمسك على النابغة الجعدي أربعين يومًا فلم ينطق بالشعر، ثم إن بني جعدة غزوا قومًا فظفروا، فاستخفَّه الطرب والفرح، فرام الشعر، فذلَّ له ما استصعب عليه، فقال له قومه: والله لنحن بإطلاق لسان شاعرنا أسَرُّ منَّا بالظفر بعدوِّنا».

والله تعالى حين نفى الشِّعر عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لم ينْفِه لِعَيبٍ في الشِّعر؛ وإنما نفاه عنه لأنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- يحمل رسالة من عند الله سبحانه، وكانت العرب أمَّةً شاعرة، فلو كان النَّبيُّ شاعرًا؛ لظنَّ المشركون أن ما يأتي به ما هو إلا من خيالات الشاعر، أو أنه جنسٌ أدبيٌّ جديد ابتكره؛ فمِن أجلِ قطعِ السَّبيل إلى هذه الظنون؛ نفى الله عنه الشعر، فقال تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [يس: 69]؛ ونلاحظ هنا أن الله تعالى نسب تعليم الشعر إلى نفسه؛ لأن الشعر موهبة منه.

وكان الشعراء حين يتنافسون على الصَّدارة في هذا العِلم الفريد؛ كانوا يتنافسون بأسلوبٍ منهجي صحيح؛ فكانوا يتبارون في قول أجود ما يمكن أن يقال، وليس في الدعاية الإعلامية الكاذبة كما يحدث الآن في عصر التكنولوجيا والانفتاح، وكانوا يحتكمون إلى أهل الخبرة من ذوي الفحولة الشعرية والبصارة النقدية، وليس كما يحدث الآن من سباقٍ همجيٍّ إلى حشد أصوات مشجِّعين لا يعرفون ما هو الشعر ولا من هو الشاعر، يزاحمون بها الشعراء المبدعين من أجل التقدم عليهم بلا حياء.

لم يكن بين أسلافنا أمثال هؤلاء الذين يتطفلون الآن على الشعر، ممن لا يكادون يقيمون وزن قصيدةٍ أو يُتْقنون نظْمها، أو يفرِّقون بين البحور المختلفة أو بين الصور المتعددة للبحر الواحد، أو يعرفون علل القوافي وعيوبها التي يجب اجتنابها في أثناء النظم، ثم لا يكتفون بادِّعاء الشِّعر؛ بل يَنْحلون أنفسهم ألقابًا لا قِبَل لهم بها، ثم يجدون بعض وسائل الإعلام التي يقوم عليها أمثالهم فيروِّجون لهم ويجعلونهم في الصدارة، ثم نجدهم يمثِّلون بلادهم في المحافل الشعرية العربية والعالمية، وبرُفْقَتِهم أمثالهم من مدَّعي النقد ومحترفي التزييف والتدليس، بينما الشعراء والنقاد المبدعون الحقيقيون لا يستطيعون الخروج من العزلة التي صنعها لهم أعداء الأصالة بأحقادهم التي لا تنتهي.

وهؤلاء لا يدركون أن الشعر له مكانته السامية، الضاربة بجذورها في عمق الزمان، تلك المكانة التي لا تقبل التطفل؛ لأنها قائمة على ثوابت ومقوِّمات راسخة، وما يفعله هؤلاء لن يرقى بهم إلى مكانة الشعراء المبدعين؛ وفي هذا الصدد نَستذكر قول أبي عمرو بن العلاء: «كان الشاعر في الجاهلية يُقدَّم على الخطيب؛ لِفَرط حاجتهم إلى الشِّعر؛ الذي يقيِّد عليهم مآثرهم، ويفخِّم شأنهم، ويهوِّل على عدوِّهم ومَن غزاهم، ويهيب مِن فرسانهم، ويخوِّف مِن كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم؛ فلمَّا كثر الشِّعر والشعراء، واتخذوا الشِّعر مكسبة، ورحلوا إلى السُّوقة، وتسرَّعوا إلى أعراض الناس؛ صار الخطيب عندهم فوق الشاعر»، وكلام أبي عمرٍو يقصد به من كان شاعرًا فانحرف بأغراض شعره وسلك بها مسالك دنيئة لا تليق، فما بالك بمن هم يتطفلون على الشعر من أجل تلك المسالك، ومن يساعدونهم في ذلك؟!!.

وجودة الشعر ترتبط بدرجة الموهبة ومدى تمكُّنِ الشاعر من أدواته، ولا فرق بين الصغير والكبير في إتقان أي علمٍ من العلوم، ومنها الشِّعر، وكان لبيد بن ربيعة الشاعر الفحل -وهو أحد المعمِّرين- كان في نهاية عمره حين قدَّم على نفسه طرفة بن العبد الذي قُتِل وهو ابن ستٍّ وعشرين سنة؛ وفي هذا المقام «أتى فتى من أهل الكوفة حمادًا الرَّاوية، فعرض عليه شعرًا قاله، فقال: ليس هذا بشِعرك؛ إنما اجتلبتَه؛ قال: لا -والله- إنه لَشِعري؛ قال: فإن كان شعرك فاهجني؛ وكان حماد ضخم البطن، فتنحَّى الفتى ناحية، ثم رجع إليه، فقال: قد قلت؛ فقال: هاتِ؛ فأنشأ يقول [الطويل]:

سَيعلَمُ حمَّادٌ إذا ما هجوتُهُ

أكنتُ اجتلبتُ الشِّعرَ أمْ أنا شاعرُ

*

ألَمْ ترَ حمَّادًا تقدَّمَ بَطْنُهُ

فجاوَزَ منه ما تُجِنُّ المآزرُ

*

فليسَ بِراءٍ خُصْيَتَيْهِ ولو جَثا

لِرُكْبَتِهِ ما دامَ للزَّيتِ عاصرُ

فقال حماد: أشهد أنه شعرك».

وقديمًا لم يكن الشعراء يَعنِيهم الإعلام -الذي كان يمثِّله سوق عكاظ وغيره- بِقدر ما كانت تَعنِيهم قناعتهم الشخصية بما يقدِّمون من أشعار؛ لأن الجودة هي الحَكَم الحقيقي على امتداد الأجيال، فكانوا ينقِّحون أشعارهم ولا يعرضون منها إلا أجْودَها، و«كان زهير بن أبي سلمى يقول: خير الشعر الحولي النَّقِح المحكَّك»، ورُوِيَ في «الأغاني» أنه «تحرَّك كعب بن زهير وهو يتكلَّم بالشعر، فكان زهير ينهاه؛ مخافة أن يكون لم يستحكم شعره، فيُروَى له ما لا خير فيه، فكان يضربه في ذلك، فطال عليه الأمر، فحبسه، فمكث عدَّة أيام، ثم أُخبِرَ أنه يتكلَّم به، فضربه ضربًا شديدًا، ثم أطلقه وسرَّحه في بهمِهِ، فسمعه يرتجز، فخرج إليه زهير وهو غصبان، فدعا بناقته، حتى انتهى إليه، فأخذ بيده فأردفه خلفه، وهو يريد أن يبعث ابنه كعبًا ويعلم ما عنده من الشعر، فقال زهير [الطويل]:

وإنِّي لَتعْدِيني علَى الحيِّ جَسْرَةٌ = وإنِّي لَتعْدِيني علَى الحيِّ جَسْرَةٌ

ثم ضرب كعبًا، وقال له: أجِزْ؛ فقال كعب:

كبُنْيانةِ القَرْئِيِّ مَوضِعُ رَحْلِها

 وآثارُ نِسْعَيْها مِنَ الدَّفِّ أبلَقُ

*

وبعد أبياتٍ؛ تحوَّل زهير إلى نعت النَّعام، وترك الإبل، وغيَّر حركة الرَّويِّ فقال:

وظلَّ بِوَعساءِ الكثيبِ كأنَّهُ

 خِباءٌ على صَقْبَيْ بُوانٍ مُرَوَّقِ

فقال كعب:

تَراخَى به حَبُّ الضَّحاءِ وقَدْ رأى

 سَماوَةَ قَشْراءِ الوَظِيفَيْنِ عَوْهَقِ

ومَضَيَا على ذلك في أبياتٍ، فلمَّا رأى زهير أن كعبًا قادر على مجاراته؛ أخذ بيده ثم قال له: قد أذنتُ لك في الشِّعر يا بنيَّ»؛ فلم يدَع ابنه يقول الشعر إلا بعد أن اطمأنَّ على فحولة شعره؛ حيث كانوا يجعلون اهتمامهم بالشعر الجيد الذي يُعرَفون به، وليس بالشهرة من حيث هي شهرة كما يفعلون الآن؛ فقد نال الأقدمون جودة الإبداع وصحَّة الفكر، ولهذا بقيت إبداعاتهم شاهدة لهم بعد مرور تلك القرون الطويلة بما فيها من أحداث وتقلُّبات.

أما الآن في ظلِّ الغزو الثقافي والفكري، والتوسع الكبير في وسائل التكنولوجيا والانفتاح، وحب الشهرة الذي سيطر على كثيرٍ من العامَّة، الذين سارعوا بانتحال الشعر وادِّعاء الفكر والعلم، وصنعوا ثقافة خاصَّةً بهم، بزَعمِ التطور ومواكبة العصر، وسعوا جاهدين إلى فرضِها وتعميمها، ووجدوا أجهزة إعلامية تروِّج لأفكارهم التخريبية، تحت مسميَّاتٍ شعرية وأدبية وفكرية لا تربطهم بها علاقة من قريب أو بعيد، على مرأى ومسمع من وزراء ثقافةٍ معظمهم ضعفاء علميًّا وفكريًّا وغير مؤهلين للعمل في الميدان الثقافي والمعرفي، لا يَعنِيهم الإبداع، ولا يدركون ضرورة الحفاظ عليه.. في ظل ذلك كله اختلفت مكانة الشاعر وتدهورت كثيرًا، وأصبح الشاعر المبدع يبدو كأنه جاء في زمان غير زمانه، وما أكثر الشعراء المبدعين والشعر الجيد في هذا العصر!!، لكن طغت على ذلك أجهزة منظَّمة جاءت من أجل القضاء على الشعر، ضمن خطَّتها للقضاء على هويَّتنا العربية والإسلامية العريقة.

***

حسن الحضري

شاعر وكاتب مصري

قصائد تزدهر بوهج الابداع، ملتهبة بالاحاسيس الوجدانية العميقة، التي انطلقت من عقالها الكامن لتغرد بشفافية بليغة بالمعنى والمغزى، في وضوح المراد والغاية في الصور التعبيرية، التي لامست شأن العشق الحياتي، وسهام الحنين والشوق، من خلال السيرة الذاتية الطويلة في سفرها وتنقلها في محطات سنوات العمر المتنوعة، وجدت الفرصة السانحة لهذا البوح بصدق نوايا القلب، في العزم في مواصلة طريق الكفاح، مهما بلغت الجروح والمحن والمعاناة، مهما كثرت العثرات والمطبات،  في الاشتياق العارم الذي يلعب داخل القلب، ويدفعه عنوة إلى المواصلة و العناد بالتشبث بالحياة، في هذه الذكريات الدسمة من حصاد العمر التي سطرتها القصائد الشعرية، تلألأت بهذا الإنشاد المترنم في ابتهالات الروح، ترنمت بنغمات مختلفة من الإيقاعات والتقاسم الشعرية في مفاصلها الدالة، بهذا الشريط الحياتي الطويل المنقوشة في وشمها على صدر السنين الطويلة، وتدل ايضاً على السمة الزاهية في الارتباط الحياتي المفعم بالحركة والفعل، الذي يملك الإدراك والفهم لمعاني الحياة في أزمنتها المختلفة والمتقلبة، تراوحت بين الشوق والحنين والغربة، في عالم مليء بالزيف والغدر وسؤ النوايا، عالم يتجه بكل عنفوانه الى الحصار والحروب والخراب ودمار الإنسان، لكن العناد الحياتي بالشوق والاشتياق يدفعه إلى مواصلة الدرب مهما بلغ الثمن الباهظ.. نجد في ثنايا قصائد الديوان الشعري الذي يضم 34 قصيدة متعددة الصياغة الابداعية والاغراض التعبيرية، في عذوبة الصوت الشعري، في حلو الكلام وفي المخاطبة والجدل في داخل الروح والقلب (وأنا كل الكلام) صوتان منصهران في صوت واحد، الشاعر وكل الكلام، كأنه يغرد بزقزقة العصافير في ابتهالات الحب، رغم الأهوال والعويل، لكنه يدرك رسالة القلب مرسومة بنشوة الوئام والسلام في داخل مشاعره، انهالت بمطر ذكريات العمر بهذا الشريط الشعري. نقتبس من فيضه هذه المقاطع الشعرية الدالة في مدلولاتها البليغة.

1 - ماذا سيحمل العام الجديد؟ لا شيء سوى انه سيكون نسخة من سلفه، ألم يكون أسوأ، في الاضطراب والارتباك والتيه والخراب، وطعن الامال بسكاكين قاتلة، لقد خلق هذا الواقع المزيف، آلهة أو ارباب، أو الاصنام مزيفة تتاجر بالدجل والمكر، تخدر المواطنين بعلكة الأدعية والتعاويذ والحجاب والرجاء الذليل للركوع تحت اقدامهم، لن يكون هذا العام الجديد أقل خراباً وكارثة، أقل جنوناً وظلاماً، اقل تناحر الثيران الهائجة على الاستحواذ والاستيلاء، وهي تصعد على أكتاف الخائبين، لن يكون اقل حروباً وحصاراً وظلماً، كل الدلائل تؤكد انهم سائرون على نهج الخراب والحروب بنكهة المجانين.

قد دَخَلنا..

مشجَبًا تَرقدُ فيهِ جُثّةُ العامَ الجديد

وفيوضٌ مِنْ صِياغاتِ التواريخِ اللّئيمةْ

وذيول من خيول الغابرين

قد نَسيْنا قَبْضَةَ الدّرْعِ وصَدّقنا الرَّخاءْ

وحَلَلنا رَبْطَةَ الصّدقِ وأبدَلنا القِناعْ

كالأميراتِ السّبايا

نَسْتَرِّقُ السّمعَ من جُحْرِ العدوِ

علّهُم يَرضونَ عَنّا.. عاهِراتْ

 من قصيدة: متاهات العام الجديد.

2 - هذا حال العراق التعيس مع تموز المتقلب بين النار الساخن والملتهب، انه على خط الاستواء بين الجحيم والمعاناة. والخراب يتعمق أكثر فأكثر، سواء كان تموز حياً أو ميتاً، لا فرق بين الاثنين. على سعير النار يحترق الأخضر واليابس، فكل مجيء لتموز لنا مأتم وحداد، وتبقى تنتظر النوارس، تتجول في سماء الغربة وقلق المنفى. فمتى تدق ساعة العمل؟ ونقول: حي على خير العمل.

تموز مات

حَيِّ على الحياة

تموز قام

حَيّ على خَيرِ العمل

لم يبق في العراق من اَمل

المِلحُ في النصال

والخَسفُ في الرجال

والموتُ في مُغتسل العورة في العراء

والماء في مِعصِرَةِ الهواء

وهدهدُ التاريخ في اسرة القصب

يُعيرُ رحلة الجهاد مرةً لرِيبة الجسد

ومرة لعِمَّة الرَّمَد

ونحن في بوصلةِ المغيب

لقالق الهجرةِ للأبد

حي على خير العمل.

من قصيدة: فريضة العمل

3- يتناغم الواقع المر على معزوفة الحلال والمباح شرعاً بناموس الشيطان، كأن من امتلك صولجان السلطة والنفوذ، حل محل رب العالمين، يلعب ويخرب بما يحلو له المذاق والمزاج، في المتعة الجنة الفردوسية، يتقمصون كل الأدوار من الكذب والرياء والنفاق، فطالما لبسوا جبة الدين، أذن امتلكوا الارض والسماء، على نحيب الثكالى والمحرومين. يغتسلون في شفاعات الفتاوى، التي تبيح لهم كل شيء حلال.

وإذا لامستمُ السلطةَ يوماَ فاستحموا

من زلالِ الهاوية

او تضمخْ بالعماءِ

فهوَ حَدُّ الزانية

فالوضوء باختزالات الحلال

سيكون بالحلال

كل شيء بالحلال

فالزواج في شفاعات الفتاوى

بالحلال

والدجاجُ بالحلال

والخياناتُ نذور في مضافات التملك

بالحلال

وليالي الرقص حتى مطلع الفجر المعنى

بالحلال

من قصيدة: المال الحرام

4 - التوغل في مفاصل الحياة والوجود، بوعي وادراك وفهم ناضج، تزدهر القيمة الحياتية والانسانية، وتثمر في براعمها وفاكهتها الناضجة، فهي تنهل في الارتواء من الماء العذب، لذلك تعطي قيمة للشاعر ان يكون مرآة حقيقية للواقع، بدون تساوم وتهاون، لان ضميره حياً يحب الجمال ويكره القبح، ويترنم باحلى الكلام.

حينَما الحِكْمةُ باتَتْ

في فِراشي ذاتَ لَيلَةْ

اَهرَقَتْ خُصلةَ ضَوءٍ

من يَواقيتِ الكَلامِ

فوقَ قلبي ولِساني

فَتَغَطّيتُ بِشَمسٍ

ظِلُّها أَحْلى الكَلامِ

من قصيدة: وانا كل الكلام.

5 - اللهفة المرهفة الى وميض الحب وصداه يتناغم مع شغاف القلب، في أعماق الحواس الداخلية، حتى بحبها وطيشها المتبعثر والخائب، فتظل الروح تتطلع الى عناقيد العنب الدالية، فالحياة لا تسمو إلا مع الحب، والحياة لا يكمل قمرها إلا بالشوق والاشتياق، ولا تدع القلب يهدأ إلا بهما، بغواية الحب، يفيض بالقلب نغماً وطرباً.

قُلتُ يَومًا للذي لَوّعَني داخَل صَدري:

دَعْ شَفاعاتِ الغوايةْ

دَعْ مِنَ اللّوعَةِ روحي والضَّياعْ

دَعْك من قولِ النساءِ

والوَميضِ الغضِّ

ما خبَّئن سرًا

تحت ياقوتِ صَداريهُنَّ يومًا

من ينابيع الكلام

دعك منّي

فَلِماذا...؟؟

كُلّما رَفَّ جَناحٌ

رفرفت روحك بالبهجة وامتد حبورك

ولِماذا لا تَدعْني أهدأ الليلَ

لماذا لا تَدعني

***

جمعة عبدالله

 

مزرعة الحيوان رواية (ديستوبية) تقع في 120 صفحة نُشرتْ عام 1945، الرواية (مجازية) بالتشبه بالحيوان دون المساس باحاسيس ومشاعر الأنسان ربما تبدو فنتازية ساخرة وتارة سوداوية مؤلمة ومعيبة، وجه الأنتقاد اللاذع لموجة الأشتراكيات السائدة في دول العالم الثالث وربما الآول، وإن العدل لابد أن يسود \ص2، إن الثورات يصنعها الشجعان ويسرقها ويبيعها الجبناء، وضمن مغزى الرواية أيضاً تتعرض الثورات إلى أنتكاسات وحروب نفسية وغسيل الأدمغة وهو درس لعالم السياسة، وفي حيثيات رواية الكاتب الأسطورة جورج أورويل " مزرعة الحيوان " خطط لأنتفاضة الحيوانات أو ثورتهم ضد مالك المزرعة المتعسف الظالم المهمل والسكير المخمور دوماً، وبعبقرية هذا الروائي البريطاني قام بتسمية أبطال روايته في أدارة حكومة الثورة الحيوانية الجديدة بين (الخنزير والقرد والحمار) أعطى للآول المهام السياسية وأدارة الحكومة والدولة ولكنها لا تؤمن بنظرية المؤامرة السائدة في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط العربي بانقلابات العسكرتارية العبثية ولكن الخنزير لا يصدق ويصرخ أين هي؟ والثاني القرد لُه دور (لوكي بلا حدود) أومن ضمن جماعة وعاظ السلاطين الآنتهازية وصيد المواقف النفعية طالما هناك وفرة من الموزفي الغابة، والأخير الحمار كلفته حكومة الخنزيربجميع الأعمال الشاقة لآنهُ صبور يفضل الصمت دوماً ولا يعترض ويصدق الحكومة بتطبيق الديمقراطية .

إن الروائي جورج أورويل صحافي وروائي بريطاني وناشط سياسي مهتم بالتأريخ والقانون الجنائي (الجزائي) وهو معارض للحكم الدكتاتوري الشمولي ويحذر دوماً لعدم حجب حرية الرأي والتغاضي عن العدالة الأجتماعية وأيمانهُ بالأشتراكية الديمقراطية (اللبرالية الحديثة) كتب أورويل في النقد الأدبي والشعر الخيالي والصحافة الحديثة، وأشتهر بأنجازهِ الديستوبي (رواية 1984)التي تنبأ بحلول التعسف والظلم وحكومات الشمولية الدكتاتورية وأحتلال الجارة الكويت والحصار الأقتصادي الظالم وعدد من الأنقلابات العسكرية في دول أمريكا اللاتينية، وأزمة الأقتصاد العالمي وأستحواذ الأمبراطورية الأمريكية على منابع الطاقة في الشرق الوسط لذا سمي (أورويل) على الصعيد الثقافي والأدبي (بمتنبي الغرب)، وأخيرا هذا مقتبس بحق جورج أورويل من كتاب (شخصيات لها تأريخ) للكاتب السوري جلال أمين {... إن صانعي القرن العشرين كثيرون منهم ستالين وهتلر وأنشتاين وبيكاسو: بيد أن قليلين هم من عبروا عن ضمير القرن العشرين ومنهم وعلى رأسهم الكاتب والمفكر الروائي والاعلامي " جورج أورويل "

ملخص الرواية: إن حيوانات المزرعة قررت ثورة ضد مالك المزرعة الذي يسومهم سوء العذاب حيث التجويع والعمل المضني والضرب والتعسف فاجتمعوا تحت قيادة كبير الخنازيرالمهيب (أولد ميجور) هكذا أسمهُ دعى الحيوانات إلى الثورة على صاحب المزرعة الفض والمتوحش والسكير المخمور دوماً وهو ديكتاتورومهمل ومستبد فنجحت الثورة، وبذلك صرح رئيس الحكومة الخنزير (أولد ميجور) فقد محونا الجوع والأستبداد، وشكل حينها كبير الخنازير الحكومة من عائلته ومقربيه من الخنازير فقط، وقسم الأعمال والواجبات بين باقي الحيوانات يعني تكريس المحاصصة بشكلٍ مميز، وأصدر لائحة قوانين وتعليمات للثورة:

1- كل من يمشي على رجلين هو عدونا.

2- كل من يدب على أربعة وله جناحان إنما هو من الأصدقاء .

3- على الحيوان أن لا يقتل حيواناً آخر .

4- وقت العمل نهارا ولمدة 12 ساعة .

5- عدم تشغيل الأطفال من الحيوانات الصغار.

6- كل الحيوانات سواسية .

7- الآدارة السياسية من حصة الخنازير وباقي الحيوانات عليها العمل ومن لا يعمل لا يُعلفْ .

8- يشطب أسم مزرعة الحيوان لآنهُ لا يعنينا .

9- الأعمال الشاقة صارت من حصة الحمار.

10- إن جميع الحيوانات متساوية بالحقوق والواجبات ما عدا بعض الحيوانات المميزة بالشراسة والجريمة كالأفعى والذئب أو حيوانات ذات تكتلات حزبية فئوية شعبوية، وترميزة أورويل هنا أغلب حكومات العالم الثالث الأنقلابية لبست جلباب ما قبلها من الحكومات الشمولية مثل مابعد سقوط ثورة تموزعام 58 في العراق وثورة يوليو 52 في مصر العربية، وسوف لن أشرح مغزى فقرات الرواية إلا للضرورة، أطلب من المتلقي اللبيب أن يقرأ ما بين السطور ويكتشف (رمزية) وترميز الروائي البريطاني الحاذق، وماذا يقصد بكل عبارة في روايتهِ " مزرعة الحيوان " والذي أبدع في تقسيم الأدوار بين أبطال الرواية والذي حذر حكومة المزرعة ونبهها من خطر الأعلام لأنهُ أساس المخرجات السيئة للعولمة الحداثوية وهم ضد السامية في أغلب الأوقات الذي يقلق الحكومات ويفقدها التوازن إذن يكون الآعلام في معسكر الخصم، وإن تشكيلة أورويل لحكومة المزرعة من الخنزير والقرد والحمار وهي تشبه سفينة نوح فيها من كل زوجين أثنين ذكر وأنثى عدا بني البشر.

أبدع أورويل في شخصية الحمار الذي بقى طول الرواية يعمل بجد وهو ساكت دون المشاركة بأي نشاط أو نقاش أو أبداء رأي أو وجهة نظر، وهو يصدق الحكومة في تطبيق الديمقراطية، إن من يقرأ الرواية يعتقد بأن الحمار أغبى شخصيات الرواية حتى يتبين في نهاية المطاف إن الحمار كان مستوعباً لكل شيءٍ حولهُ، كان قد فهم أكثر من غيرهِ كيف تجري الأمور لذلك فضل (الصمت) لأنهُ فهم أيضاً لا جدوى للكلام، والمغزى الترميزي لدى المفكر أورويل:... وتظل الوحدة أجمل والصمت أرقى والكتمان يحفظ السر، ويقول غابريل ماركيز في الصمت: ليس كل صامت غير قادر على الرد هناك من يصمت حتى لا يجرح وهناك من يصمت لآنهُ يتألم والكلام يزيدهُ ألماً، وهناك من يعلم أن الكلام لن يفيدهُ إن رد .

لقد دب الخلاف لاحقا بين الخنازير المتنفذة وأنقسموا إلى تكتلات شعبوية متصارعة بالتسقيط السياسي وآلت الحكومة إلى الأضمحلال بسبب التمرد وفي آخر اللحظات الحرجة ظهر خنزير بري متوحش وقوي جداً أستولى على الحكم سمي بالملك المنتصر الذي أستعمل مبدأ الحديد والناربالتصفية الجسدية للمتمردين وأقنع رعيته بأن أستعمال العنف السياسي ضروري لأدامة الملك، والمغزى المشفر عند الروائي الفذ أورويل: إن أغلب الثورات في العالم الثالث قد مرَتْ بهذه الأرهاصات السياسية والفكرية

***

عبد الجبار نوري

كاتب وناقد أدب عراقي مغترب

مايس 2024

يلعب الأب أوبو دورا هاما في مسرحيات أوبو ملكا؛ أوبو زوجا مخدوعا؛ أوبو مقيدا للكاتب الفرنسي ألفريد جاري

إن مسرحيات ألفريد جاري مسرحيات أوبو عبارة عن سلسلة من الأعمال الدرامية العبثية التي عُرضت لأول مرة في باريس في نهاية القرن التاسع عشر.

تتكون الثلاثية من أوبو ملكا أوبو زوجا مخدوعا وأوبو مقيدا، وتتبع مآثر الشخصية البشعة والاستبدادية، الأب أوبو. تشتهر مسرحيات جاري بتخريبها للأعراف المسرحية التقليدية ودفعها لحدود التوقعات، وتحدي الجماهير لمواجهة عبثية ديناميكيات السلطة، والأخلاق، والأعراف المجتمعية. خلال مسرحيات أوبو، يستخدم جاري الفكاهة السوداء والشخصيات المبالغ فيها للسخرية من الفساد السياسي والجشع وإساءة استخدام السلطة.

 يستكشف هذا المقال المواضيع والتقنيات التي استخدمها جاري في هذه الأعمال المميزة، مع التركيز على كيفية استمرار صداه في منهجه غير التقليدي للمسرح مع الجماهير المعاصرة. من خلال الخوض في عالم الأب أوبو السخيف وتحليل التعليقات المجتمعية المضمنة في مسرحيات جاري، يمكننا الحصول على فهم أعمق للأهمية الدائمة لمسرحيات  أوبو في سياق المشهد الاجتماعي والسياسي المتغير باستمرار في يومنا هذا.

مسرحيات أوبو

إن مسرحيات ألفريد جاري "مسرحيات أوبو" عبارة عن سلسلة من الأعمال الدرامية الساخرة والسخيفة التي تسخر من السلطة والسلطة والأعراف المجتمعية. تصور المسرحية الأولى في السلسلة، "أوبو ملكا"، صعود وسقوط الشخصية البشعة والمتعطشة للسلطة، الأب أوبو. على الرغم من افتقاره إلى الذكاء والبوصلة الأخلاقية، تمكن أوبو من التلاعب والمناورة في طريقه ليصبح ملك بولندا. ومع ذلك، فإن فترة حكمه لم تدم طويلاً لأن أفعاله الاستبدادية والأنانية أدت إلى سقوطه.

في "أوبو زوجا مخدوعا"، المسرحية الثانية في السلسلة، يواصل جاري السخرية من ديناميكيات السلطة والحماقة البشرية. تتبع المسرحية محاولات أوبو للحفاظ على مكانته وسيطرته على من حوله، لكنه يفشل مرارًا وتكرارًا بطرق كوميدية وغريبة. من خلال تصرفات أوبو السخيفة والسخيفة، يكشف جاري عبثية السلطة ونقاط ضعف الطبيعة البشرية.

 أخيرا، يستكشف فيلم "أوبو مقيدا" رحلة أوبو وهو يواجه عواقب أفعاله ومحاولاته الهروب من القيود التي صنعها بنفسه. من خلال الفكاهة السوداء والصور السريالية، يتعمق جاري في مواضيع السلطة والفساد والطبيعة المدمرة للغطرسة.

بشكل عام، تعد مسرحيات أوبو بمثابة نقد لاذع للهياكل المجتمعية والسلوك البشري، وذلك باستخدام السخافة والسخرية لتسليط الضوء على عيوب وإخفاقات من هم في السلطة. لا يزال نهج جاري الفريد والمبتكر في المسرح يتردد صداها مع الجماهير اليوم، مما يذكرنا بمخاطر السلطة غير المقيدة وأهمية التشكيك في الوضع الراهن.

أوبو ملكا:

مسرحية ألفريد جاري "أوبو ملكا" هي استكشاف فوضوي وسخيف للقوة والجشع والوحشية. إن شخصية أوبو، الشخصية البشعة والمستبدة، تجسد أسوأ جوانب الطبيعة البشرية. يعد صعود "أوبو" إلى السلطة من خلال القتل والتلاعب بمثابة تعليق لاذع على المدى الذي سيذهب إليه الناس من أجل إشباع رغباتهم الخاصة. المسرحية مليئة بالفكاهة السوداء والهجاء، حيث يشوه جاري نفاق وفساد من هم في مناصب السلطة. تصرفات أوبو مدفوعة بالجشع المطلق والتجاهل التام لرفاهية الآخرين، مما يجعله شخصية حقيرة حقا. على الرغم من سلوك أوبو المستهجن، إلا أن هناك شيئًا مقنعا بشكل غريب في شخصيته. إن طموحه الجامح وتجاهله المخزي للأعراف المجتمعية يجعله بطلا رائعا، مما يجذب الجمهور إلى عالمه الملتوي. من خلال "أوبو ملكا"، يجبرنا جاري على مواجهة الظلام داخل أنفسنا والمجتمع ككل. تعد المسرحية بمثابة تذكير صارخ بالقوة التدميرية للطموح الجامح والتهديد الدائم للاستبداد. وبهذه الطريقة، تظل "أوبو ملكا" عملا خالدا ومثيرا للتفكير ولا يزال يتردد صداه لدى الجماهير اليوم.

أوبو زوجا مخدوعا:

في مسرحية ألفريد جاري "أوبو زوجا مخدوعا"، نرى استمرارا للتصرفات الغريبة السخيفة والغريبة للشخصية الفخرية، الأب أوبو. هذه المرة، يجد أوبو نفسه وسط مؤامرة تنطوي على الخيانة والتلاعب والانتقام. تتعمق المسرحية في موضوعات الخيانة الزوجية، وديناميكيات السلطة، وعواقب الجشع والطموح الجامح. كما يوحي العنوان، يتم خداع الأب أوبو من قبل زوجته، الأم أوبو، مما يؤدي إلى سلسلة من الأحداث التي تكشف المزيد عن وجوده الفوضوي بالفعل. لا تمثل الخيانة بمثابة ضربة لغرور أوبو فحسب، بل تكشف أيضا عن هشاشة هيمنته وسيطرته المتصورة. من خلال هذا الفعل من الخيانة الزوجية، نشهد هشاشة ذكورة أوبو وانعدام الأمن المتأصل الذي يدفع أفعاله. علاوة على ذلك، يستكشف فيلم "أوبو زوجا مخدوعا" عواقب سعي أوبو القاسي للحصول على السلطة والثروة. إن هوسه بالمكاسب المادية وتجاهل النزاهة الأخلاقية يؤدي في النهاية إلى سقوطه، حيث تعود أفعاله لتطارده بطرق غير متوقعة. تعتبر المسرحية بمثابة حكاية تحذيرية حول مخاطر الطموح الجامح والطبيعة المدمرة للرغبات الأنانية. بشكل عام، تقدم أوبو زوجا مخدوعا تعليقا كوميديا قاتما ومثيرا للتفكير حول الطبيعة البشرية وعواقب أفعالنا. إنه يتحدانا للتفكير في تأثير خياراتنا وتكلفة التضحية بقيمنا من أجل مكاسب شخصية.

يتألق ذكاء ألفريد جاري الذكي وتعليقاته الاجتماعية اللاذعة في هذا الاستكشاف السخيف والمؤثر للحماقة البشرية.

أوبو مقيدا

في مسرحية ألفريد جاري الأخيرة لأوبو، "أوبو مقيدا"، نرى الشخصية المميزة، الأب أوبو، يواجه عواقب حكمه الاستبدادي وأفعاله العنيفة. مع بدء المسرحية، يجد أوبو نفسه مسجونا ومقيدا بالسلاسل، ومجردا من سلطته وسلطته. يمثل هذا خروجا كبيرا عن مسرحيات أوبو السابقة، حيث كان أوبو قادرا على التصرف دون عقاب وإحداث الفوضى دون خوف من الانتقام. طوال المسرحية، يتصارع أوبو مع ضعفه المكتشف حديثا وفقدان السيطرة. إنه مجبر على مواجهة عواقب أفعاله والأذى الذي ألحقه بالآخرين. بينما يكافح من أجل التصالح مع سقوطه من السلطة، يواجه أوبو حقيقة موته والطبيعة العابرة لحكمه الاستبدادي. يستخدم جاري مأزق أوبو لاستكشاف موضوعات السلطة والفساد وقدرة الإنسان على القسوة. من خلال تقييد أوبو، يسلط جاري الضوء على الطرق التي يمكن أن تكون بها السلطة جاذبة ومدمرة في نهاية المطاف. تعتبر سلاسل أوبو بمثابة استعارة للقيود التي تربطنا جميعًا، سواء كانت جسدية أو اجتماعية أو نفسية. وبينما يتصارع "أوبو" مع قيوده، فإنه يضطر إلى مواجهة حقيقة أفعاله وتأثيرها على من حوله. من خلال عملية التأمل والمحاسبة الذاتية هذه، يبدأ أوبو في تجربة تحول، وإن كان مترددا.

 يقترح جاري أنه حتى أكثر الحكام استبدادا ليسوا بعيدين عن الخلاص، وأن هناك دائما إمكانية التغيير والنمو. في "أوبو مقيدا"، يجبرنا جاري على مواجهة عواقب أفعالنا والطرق التي يمكن أن تفسدنا بها السلطة وتدمرنا في النهاية. من خلال تقييد أوبو، يتحدانا جاري للتفكير في قدرتنا على القسوة والطرق التي يمكننا من خلالها التحرر من القيود التي تقيدنا.

في الختام، تعتبر مسرحيات ألفريد جاري وتحديدا "مسرحيات أوبو" بمثابة نقد مؤثر للسلطة والجشع والعبثية في المجتمع. من خلال شخصية أوبو الغريبة والمتنافرة والمتناقضة، يدعو جاري القراء إلى التفكير في العواقب المدمرة للطموح والطغيان الجامحين. ولا تزال المسرحيات ذات أهمية اليوم كما كانت قبل أكثر من قرن من الزمان، لتذكرنا بأهمية تحدي السلطة والوقوف في وجه الظلم. يستمر عمل جاري الرائد في إلهام الجماهير وإثارة التفكير النقدي حول حالة العالم من حولنا.

والحياة مليئة بأمثال أوبو، ومصيرهم لن يكون بأحسن من مسرحيات ألفرد جاري... والسجلات التاريخية خير دليل على ذلك.

***

محمد عبد الكريم يوسف

الأديب حسن مروّح يكتب بصمت، ويعيش بصمت أيضا، ولكنّ حروفه تنزف وجعا من حدة التجارب المختلفة التي عاشها ولامسها عن كَثَب، فأنتج مجموعات قصصية ومجموعة من الروايات التي مازالت مجرد مخطوطات بسبب ضيق ذات اليد، ولعل هذه الرواية الوحيدة التي استطاع طباعتها من خلال مطبعة (أور للطباعة والنشر) والتي تتناول مسحا لجزء من حرب الثمان سنوات بين العراق وإيران.

تلك الحرب التي غيّرت من طبيعة النسيج الاجتماعي العراقي، وساهمت في تجميد الزمن، وجعله مجرد عَتَبة لانتظار عقيم. الرواية لا تتناول الحرب بشكل مباشر، ولا تصف أحداثها من انتصارات أو هزائم أو كرّ وفر، فلا نسمع فيها صرير الدبابات ولا صراخ المدافع ولا ضجيج الطائرات ولا انفجار الألغام، لا نسمعه ونستشعره، فهو يحيط بنا، لأنه يصف هامش الحرب التي تبدو بأنها أكثر رعبا، باعتبارها تمثل هواجس الجنود المرابطين عند خطوط النار، واضطراب مشاعرهم الإنسانية، واجتثاث أحلامهم، وشلّ عواطفهم، والانغماس الكلي في محو الرمق الأخير من مشاعر الرقة والعواطف والمحبة ومشاعر الأخوّة بينهم، وكأن هناك حربين؛حرب مع الأعداء في الجانب الآخر، والذي لا يُسمع منه سوى أصوات الأذان أو صليل المدافع المتقطعة، أما الحرب الثانية، فهي التي تتمثل في الخوف والتوجس وعدم الثقة بين عسكر السرايا أنفسهم، وطبيعة التعامل اليومي بينهم في ظل قسوة الظروف المحيطة، والذي تتمثل في غياب أو بروز صفات الأخوّة والنبل والرجولة والشهامة والصدق. لقد أخفت الحرب هذه الصفات واحلت محلها صفات هجينة تتميز بالأنانية والحقد والكراهية، إنها الحرب التي تتسرب إلى أعماق من يكتوون بها، وتجعلهم لا يفكرون إلا بالنجاة بأنفسهم دون سواهم.3867 حسن مروح جبير

سامي عبد المجيد بطل الرواية الذي وجد نفسه في أحد المواقع العسكرية المواجهة للجيش الإيراني. وهو يقوم بسرد الوقائع اليومية، وكأن يقوم بكتابة ريبورتاج صحفي يخلو من الأحداث التي تشدّ بعضها في نسيج روائي ينمو ويتصاعد، فليس ثمة محاور سردية، مما جعلها بدون حكاية محورية تضبط الإيقاع، لذلك جاءت الأحداث مبعثرة على الثلاثة والعشرين فصلا، دونما تلتصق بخيط روائي يربطها مع بعضها، ويوفر للقارئ متعة سردها. فهي أقرب إلى اليوميات التي تصوّر أيام الحرب وانعكاساتها . ورغم ذلك فالكاتب قدم لنا لوحات فنية، عبّر فيها عن عمق المكان، من خلال القدرة على تصوير بؤس جبهات القتال والذي يتجلى في عفونة الملاجئ وبشاعتها، وروائح الدم الذي يلتصق بأسمال الموتى، وتفسخ الأغذية التي توزع على الجند، وتسرب بعض الوحوش الضارية الى الملاجئ للبحث عن طعام لها. كما حفلت الرواية بلمحات فنية عبرتيارات اللاوعي التي تجعل البطل يعيش في زمنين متجاورين؛ الواقع المُعاش بكل قسوته وخشونته، وغياب الإنسانية فيه، وبين الحلم ووهم الذكريات بكل رحابتها وإنسانيتها وقدرتها على انتشال المرء من أغلال اللحظة.

الزمن ينشطر في السرد حتى يمتزج ويتغلغل في الأمكنة بنسق حكائي يرافق رواية الأحداث من بدايتها إلى نهايتها، ويتشكل على هيئة حوارات داخلية بين سامي عبد المجيد وعوالمه المتخيلة، والتي تحف به كلما تعرض للانكسار، فيصبح الهروب من بؤس اللحظة سبيلا للتغلغل بين ثنايا الذكريات والتعلق بالأمومة، والحنين إلى حياة المدينة والبيت والشارع، والتعلق بخيال امراة، أو النزوح إلى الطفولة وذكرياتها الجميلة. كل ذلك نجده في الرواية حتى تشتبك الوقائع بالأخيلة، ويتحد الحاضر بالماضي. ورغم أن هذا الأسلوب ينأى عن المباشرة والتسطيح في السرد، ولكنّه من زاوية أخرى يغرق ذلك السرد بالابهام، ويعرقل السيولة في ترتيب الأحداث.

ورغم انهماك الرواية بهموم سامي عبد المجيد كشخصية محورية حيث يُجَنّد في القتال من أجل الوطن كبقية أبناء جيله، ولكنه يشخّص فداحة الحرب، ويصف أهوالها المدمرة على نفسية المقاتل ولاسيما حينما يشعر بأنها حرب عبثية ولا يمكن القبول باستمرارها، وحينما يجد نفسه في الجبهة وضمن إحدى السرايا المقاتلة. ومن هناك نُطل على حافة عوالم بائسة وظروف تفتقر إلى مقوّمات الحياة البشرية، فالخنادق الآسنة، هي التي تطمر أرواحهم في التراب، وتقي أجسادهم من الموت. والملاجئ المتعفنة، وسواتر الحجر والتراب، وأمامهم الأرض الحرام التي تزدحم بالألغام وبفوهات الموت المصوّبة باتجاههم، يُضاف إلى ذلك طبيعة ضباط ومراتب السرية الذين يمارسون القسوة والكراهية والحقد على بعضهم البعض، ولكنهم في نفس الوقت ينافقون بعضهم، بروز الأنانية في أسوأ تجلياتها، وظهور حالات من الشذوذ الجنسي بين بعض العاملين هناك، لقد رسم الكاتب عوالم تعيش في مستنقعات الذات البشرية الهشة، حيث الفضاء الملوّث بغبار الحرب والحقد والخوف والتمايز المقيت، لا ضوابط للعلاقة سوى أمزجة لنفوس تعاني من أمراض الكبرياء والتفوق، حيث يصف لنا سامي بأن آمر السرية يمقته، ويُكثر عليه الواجبات الخطرة مثل وضع الكمائن عبر حقول الألغام، أو الحراسات أو الأعمال الشاقة، وفي نفس الوقت يعامل البعض بمعاملة أخرى. ومثلما رسم عالم القسوة متمثلا ببعض الأسماء من أفراد السرية، فقد رسم صورا لبعض زملائه، ضحايا الإرهاق والتعسف والموت، فقد استشهد البعض منهم في معارك لم يصفها الكاتب، بل اكتفى بوصف ما تركه الشهيد من ملابس ملوثة بالدم.

ولكي لا يستغرق الكاتب في روايته في وصف البؤس فقد وصف لنا بعض المشاهد والدعابات والمفارقات التي تحدث في خضمّ القسوة، ولم يتورع في دندنة لبعض الأغاني الشائعة، مما يوحي بأن ثمة مسامات لقشرة البؤس، يستطيع الإنسان أن يستنشق بعض حريته منها.

لقد كانت الأحلام رفيقة لسامي عبد المجيد بطل الرواية في هذا الخواء المطلق، حيث لا روح ولا أمل، بينما الموت يترصد الجميع في كل لحظة، وليس ثمة ما يعزيه سوى اختراق هذا الواقع والسفر بعيدا عبر الذاكرة ومحاولة ترطيبها بحكايات الطفولة والمدرسة، وجدران البيت وحنوّ الجيران ووداعتهم، والمرأة التي تشكل عشقا مستحيلا، فهو يستحضرها في أخيلته ويناجيها ويقاسمها همومه، ولكنه حينما ينعتق ذاهبا في إجازته الدورية، وحالما يصل إلى بيته حتى يستسلم لنوم عميق بفعل الإرهاق والخوف وسوء المعاملة، تطارده في إجازته أيام المعسكر وأسماء الذين مارسوا قسوتهم ضده، كما تطارده أصوات المدافع وعجلات سيارة الايفا وهي تحمل المؤنة التي تعفنت بفعل العوامل الخارجية، يطل عليه( اليربوع والأحيمر وعامر جبل وشوكت) وغيرهم من الأسماء التي جعلها القدر تقتحم حياته وتؤثر فيها.بينما لا يجد في بيته أثناء الإجازة إلا ضغط العيش على أهله وجيرانه. وحتى الحبيبة التي حلم بملاقاتها كي تمنحه بعض الدفء، لم يجدها ولم يجد يدا حنونة تزيح بعض أوجاعه. فيعود إلى المعسكر مثقلا بهموم مضاعفة، ولكنه يجد أن ضابطا كبيرا رأى اللوحة التي خطها في مقدمة المعسكر، فأُعجب بها، وأمر بنقله إلى معسكر آخر.

(الطريق الذاهب شرقا) عمل روائي يتأمل فاجعةَ الحرب وتأثيراتها الكارثية على الإنسان، حيث تحوّله إلى حطام بشري، وقد اكتنز بحشد من التناقضات التي أفرزتها تلك المرحلة، كما استخدم الروائي حسن مروّح كل إمكاناته الأدبية في تطويع اللغة لتعبر عن فاجعة الحرب وعن معاناة الجنود الذين اكتووا بجحيمها، وكان بالإمكان أن يكون العمل أجمل لو تخلص من الإعادة والتكرار لبعض المواقف والمشاهد غير الضرورية. ولكنّه في كل ذلك كان صادقا مع نفسه في التعامل مع الحدث، مستخدما صياغات فنية تدل على احترافية عالية في كتابة الرواية.

***

رحمن خضير عباس – ناقد

كندا

عرفنا الرواية الفلسطينيّة على مَدار النّصف الثاني من القرن الماضي، القرن العشرين، رافعةً مشعلَ المعرفة، ومُنبّهةً الذاكرة، ومُستنهضةً الهمم، وباعثة الأمل، وراسمة دربَ المستقبل الواضحَ الطّريق. ولم تكن صرخةُ سائق الشاحنة في رواية "رجال تحت الشمس": لماذا لم تدقّوا الخزّان!؟ إلّا الصّرخةَ المدوّية التي أرادها غسان كنفاني: أنْ كفانا اتّكاليّةٌ على الغير، وانتظارُ رحمةِ الرّب، وأنّ علينا أنْ نأخذَ أمورَنا بأيدينا لتحقيقِ أهدافِنا التي نعمل لأجلها.

بهذا الاتّجاه الذي رسمه غسان كنفاني انطلقت معظمُ الرواياتِ الفلسطينيّة ترسمُ خطى الحاضرِ لتنطلقَ نحو المستقبل، عازفةً عن العودة للماضي الموجعِ للقلوب لتكونَ الاندفاعةَ لمستقبلٍ أقوى وأجْدى.

وكان اتّفاقُ أوسلو، وسقط الحلمُ على أرض الواقع، وتعثّرت خطواتُ المقاتل على أرض المعركة، وتراجعت الآمالُ لتتَقزّمَ في واقع لا يرحم. وكانت الصّرخاتُ المتألّمةُ التي أطلقتها شخصيّاتٌ صدمها تكسيرُ الحلم الكبير على أرض الواقع في الوطن الغريب كصرخة بطل رواية "نهر يستحمّ في بحيرة" ليحيى يخلف "أنا العائدُ أقفُ ضائعا في شارع من شوارع وطني، أشعر بالغربة والوحدة، أشعرُ بالرّغبة في البكاء" (ص26).

وصوّرت الروايةُ الفلسطينيّة نكسةَ الفلسطيني واختزالَ حلمه الكبيرِ في وطن يتكوّنُ من بَلداتٍ مُتقَطّعة تحرسُها حرابُ جندِ الاحتلال، وليس للفلسطيني إلّا أنْ يقبلَ بالواقع ويرضى بما يمُنُّ عليه المحتلُّ الغريب.

فراح الفلسطينيّ يهربُ من واقعه ليعودَ ليبحثَ في الذّاكرة، ويسردَ سيرَ الآباء والأجدادِ لعلّ في استحضارهم تعزيةً للحاضرين، وتعويضا لكلّ ما فقده من حلم ٍكبيرٍ أمِلَ أن يكونَ الذي يُجَسّده على أرض الوطن. مثل: ("فرَس العائلة" و "مديح لنساء العائلة" لمحمود شقير، و"ترانيم الغواية" لليلى الأطرش، و "سيرة بني بلوط" لمحمد علي طه، و"زمن وضحة" لجميل السحلوت.)

يحيى يخلف خلال حياته اليوميّة والأدبيّة عاش هذه المراحلَ المتغيّرةَ، عايش حلمَ الشابّ العربي المتوقّدِ ثورةً وعطاء وتضحية في "نجران تحت الصّفر" ورافق الفدائيّ المندفع نحو تنفيذ المهمّاتِ الكبيرة دون وَجَل في "تفّاح المجانين" وشارك المقاتلين الواثقين بانتصار قضيّتهم وتحقيقِ أهدافهم في "نشيد الحياة". ولكنّه عاد وعايشَ صدمةَ انكسار الحلم الكبير وتقزيمه في "نهر يستحمُّ في بحيرة" وبكى وخافَ فقدانَ البطلِ الأب في "تلك الليلة الطويلة" وظلّ يرصدُ التّحوّلاتِ والتّقلبّاتِ، ويكتبُ ويستفيد من الأحداث وتراكماتها، ويتمزّقُ لحالة العرب التي وصلوا إليها بعد تمزّقِ ما اعتقدوه ربيعا عربيّا فكان خريفا قاتلا.

يحيى يخلف ليس الكاتبَ والمفكّرَ الذي يتجمّد أمام النّظريّات والمقولاتِ والمواقف. بل هو صاحبُ الفكر الثوري النيّر الذي يستوعبُ ويستفيدُ ويتعلّمُ ويخرجُ بنتائجَ قَيّمةٍ. يحيى يخلف عرف أنّ الواقعَ المعيشَ لا أملَ لنا فيه، وأنْ نبني مستقبَلَنا على ما هو قائم من ضروب المستحيلات. لهذا وجد أنّ البناءَ يجب أن يكونَ من الأساس، من البدايات، طوبة فوق طوبة كما نقول. وأنّ الحياةَ والصّراعاتِ والانكساراتِ والنّكَساتِ والأحلامَ الكبيرةَ المتكسّرةَ عَلّمَتْنا كيف نُعمِلُ العقلَ ونُهدّئُ الطاقةَ المشتعلةَ فينا لنعرفَ كيف نرى طريقَنا وكيف نتعاملُ مع مَنْ حولنا لنبنيَ لنا الحياةَ الجديدةَ التي قد تكونُ التي نريدُ أو قريبةً منها.

وكانت رواية يحيى يخلف الجديدة "راكبُ الرّيح". واعتقدتُ لأوّلِ وَهْلةٍ أنني سأقرأ روايةً بطلُها مَسْحوبٌ من عالمِ ألفِ ليلةٍ وليلة وأساطيرَ بعيدةٍ في الأزمنة، أو من أجواءِ دون كيخوت أو حتى رامبو زماننا.

ووجدتُني أنسابُ مع اللغة الجميلة الموقّعة، وأقلّبُ الصفحاتِ الواحدةَ تلو الأخرى، وأختار رِفْقةَ يوسفَ في قَفْزه  فوق السّور والغَوْص العميق في البحر، وفي مواجهةِ الحوت وملاحقةِ الفتياتِ واللهو مَعَهن، واسْتراقِ القُبَلِ من أجملهِنَّ حتى وجدتُ نفسي ويوسف تأخذنا سِنَةٌ من النوم، ولم نستقيظْ إلّا وطابورٌ من الجواري الحسانِ تُحِطْنَ بنا.

يوسف الشخصيّة التي رسمها الكاتب بدقّة

يوسف هو الشخصيةُ الرئيسيّةُ ومركزُ أحداث الرواية. شخصيّةٌ اختارها الكاتب بدقّة وحساسيّةٍ لتكونَ كاملةَ الأوصاف. فمولده كان في مدينة يافا يومَ احتلّها القائدُ المصري محمد بك أبو الذهب من يد ظاهر العمر وأعادَها لحظيرة الخليفة العثماني(ص5). ويومها كانت مدينة يافا تمتاز بالحركة النشطة في مختلف مجالات الحياة، وكانت معروفة بتنوّع أهلها، ففيها تجد العربي والتركي والألباني والشّركسي والأوروبي، المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي، وتسمع تخالطَ اللغات وتَداخلها، وتلمس بسهولة مَحبّة الناس وتعاونهم، ولكن تشهد أيضا تعدّيات جند الأنكشارية على السكان ومحاولة فرض رغباتهم وأوامرهم، وضعف حكم الوالي العثماني أمام جبروتهم.

والدُ يوسف عمل في التجارة، وأمُّه بهنانة اعتنت بولدها وربّته أحسنَ تربية. تعلّم في حلقات الدّراسة في الجامعِ الكبير على يد كبار العلماء والفقهاء ورواة الحديث، فتعلّم الفقهَ واللغةَ والعلوم. وأرسله والده أيضا إلى مدرسة الراهبات فتعلّم اللغةَ الفرنسية. عشق الخطَّ العربي فتعلمَ خطَّ الثلث وخطَّ النّسخ وباقي الخطوط العربية، وتعلّم الرسمَ وأتقنَ الرسم بالفحم وبألوان الشّمع وألوانِ الزّيت، واشتهرت رسوماته، وزار مرسمَه أبناء الطبقات الغنيّة ومحبو الفنون. كما أحبَّ يوسف البحرَ وأحبّ القفزَ من الأعالي إلى البحر.

كان يوسف وسيما، جميلَ الطلعة، يمتلك عيني صقر، وحاجبين مرسومين كأنهما خُطّا بقلم، وجبينا كالفضّة، وشعرا كستنائيّا، وأنفا مستقيما. وفَمًا دقيقَ الشّفتين. ويبدو بقفطانه الأبيض والطّاقيّةِ الحمراء المشغولة بصِنّارة بهنانة، والشّالِ الأخضر الذي يُزنّر وسطه، مثلَ أمير من أمراء الأستانة، بل إنّ النساءَ من أحباب بهنانة كنّ يُشبّهنَ جمالَ خلقته بجمال النبي يوسف، الذي عشقته النساءُ حتى الذّهول(ص7). وما أنْ وصل إلى مرحلة الشباب المبكّر، حتى اكتسبَ لياقة وجسما مفتولَ العضلات، وبنيةً متينة، وجرأةً تفوّق فيها على أقرانه، خصوصا في رياضة القَفز من أعلى أسوار يافا إلى المياه العميقة. (ص8) وبهر الجميعَ بقَفزه ، وذات مرّة وجد نفسَه بعد أنْ أتمّ قفزتَه وغطس، وسبح نحو عُمق البحر وجها لوجه أمام حوت انشقّت الأمواج عنه وصعد إلى السطح ، ظهر رأسُه الرماديّ وزعانفُ ظهره المنقطة وكان يفتح فكيه. داهم يوسفَ خوفٌ ورعبٌ، وارتبك. وبعد مواجهة صامتة بين يوسف والحوت، أغلق الحوتُ فكيه وتوقّفَ عن نَفْث الماء وسَكنتْ حركتُه ثم انسحبَ واختفى كأنّه لم يكن. انتشرت قصةُ الحوت في المدينة وردّدتها المجالسُ في كلّ مكان.

إضافة إلى كلّ ما ذُكر سكنَ جسمُ يوسف القَرينُ الذي أعطاه القوّةَ الخارقةَ التي كانت تظهر في حالات الحبّ أو الحرب الشديدة. وقد بهرَ بهذه القوّةِ كلَّ مَن عرَفه، وجذبت إليه كلَّ الناس، خاصّة الفتيات وجواري وسيّدات القصور.

يوسف اتّسم بمسحة إلهية، فهو شبيهٌ بالنبي يوسف بجماله وفتنته وعِشْقِ الفتياتِ له، وهو كالنبي يونس قابَلَ الحوتَ، لكنّ الحوتَ بُهِتَ وصمت وتراجعَ ولم يحاولْ إيذاءَ يوسف. وهو البطلُ المغوار حامي المدينة وأهلِها، مَنْ قتلَ جندَ الانكشارية عندما اعتدَوْا على السكان، وقتلَ جُنْدَ نابليون الذين عملوا على تدمير يافا وقَتْلِ أهلها، وانتقم للغزال بقتل الفَهد الذي تعرّضَ له.

وهنا يدخلنا الكاتب في عالم الخيال السّحري اللامعقول وعالم رامبو حيث نرى يوسف في مواجهته لجند الانكشاريّة، يجمع نفسه وطار في الهواء وسقط فوق رؤوسهم، وتحوّلت أذرعه إلى سيوف، وأرجله إلى خناجر. وأعمل فيهم، أوسعهم ضربا حتى طحنهم كما يطحن حجر الرّحى حبّات القمح، ومَن ابتعدَ ولّى هاربا، ونجا تاركا طبنجتَه وسلاحَه الأبيض."(ص131) كذلك قصّة قتل يوسف للفَهد الذي أراد قتلَ الغزال، كيف التقط السوطَ الذي يحمله سائقُ العربة وقفز إلى الأرض العشبية التي تجاور النّبع . وإذا شعر بقرب الفهد من الغزال وأنّ الخطر داهم، داهمت السخونة جسد يوسف، اشتعلت نيران بداخله، داهمته عاصفة وأثارت حوله زوبعة، نشطت حوله الريح، فقفز عاليا واعتلى الريح، وطار في الهواء عاليا، وحطّ على الأرض على بُعد خطوة من الفهد الذي كان قد قبض على الغزال وأوشك أنْ ينشبَ أنيابَه في حنجرته. رفع السّوطَ الذي داخله شواظٌ من نار عاليا، وبيد من حديد، ضرب الفهدَ الذي يوشك على الفَتك بالفريسة. ضربة على رأسه وطرَحَه أرضا وصار يتفعفل بدمائه. (ص230).

وقصّة يوسف مع جند نابليون حيث وصل بقَفزة واحدة، وتحكّم في طاقته، وتحوّلت أصابعه إلى صلابة الحديد، وأعمل فيهم ضربا بحركات خاطفة، فشَلّ قدراتهم، وأفقدهم توازنهم، وضغط على نقاط ضعفهم. وبسماع يوسف لطلقات المدفعيّة في النّطاق العالي من المعسكر اندفع يوسف. ركّز وشحن جسده بطاقة مغناطيسيّة تُعادل القوّة المغناطيسيّة للأرض، فانفلت من الجاذبيّة، وبقفزة واحدة كان في أعلى الجبل، وأعمل بأصابع يده الحديديّة توجيه الطعنات إلى الجنود الذين يتهيَأون لتلقيم المدفع، وبقفزة أخرى، أجهز على آخرين، وولّى مِنْ تبقّى الأدبار. (ص293).

وهو الإنسانُ النبيلُ الطاهرُ الذي رفض إيذاءَ الفتيات اللاتي أحبّهن وعرفَهن تماما كفعل النبي يوسف الطاهر الأمين الذي رفض ملاحقة الفتيات وحتى زوجة فرعون مصر له: فماري التي أظهرتْ عشقَها له ساعةَ جاءت لوداعه اكتفى بتمَنّي النجاح والتوفيق لها. وفيديا اكتفى بالإعجاب والفرحِ برؤيتها ولم يتعدَ ذلك. حتى العيطموس التي كانتْ أمنيةَ حياته وحُلمِه الكبيرِ وسعادتَه، اكتفى بتَقْبيل شفتيها في الصورة ليُظهرَ طهارةَ حبّه لها رغم أنّها كانت على استعداد لتُعطيه خدَّها ليُقبّلَه. حتى ذات السنّ الذهبيةِ التي عمِلتْ على إذلاله لم يقُمْ بالانتقامِ منها واجبارِها على ممارسةِ الحبّ معه، وانّما اكتفى بالحُلم ليُحقّقَ ذلك.

ويوسف كان رجل العلم والثقافة، فقد اهتم من صغره بإتقان لغات عديدة، وبرّز في الرسم وكذلك في السّباحة والغَوص، كذلك لم يكتف بما اكتسب من علم، واستغل مدّة الحكم التي صدرت ضده بإبعاده عن يافا، عقابا له على قتله لجند الانكشاريّة، بالتوجّه نحو مدينة دمشق حيث التحق بمدارسها وتابع دراسته. كما أنه استغل تنقّلاته للاطّلاع على الفلسفات المختلفة وخاصّة الهندية منها، وتعرّف على الحكيم الهندي وتلقى العلوم عنه التي أفادته في فَهم نفسه والتّحكّم بقُدراته وتصرّفاته.

مركزيّة المرأة في الرواية

تستحوذُ المرأةُ على القسم الأكبر من الرواية، وما يجمعُ بين كل النساء اللاتي كنّ في قلب الأحداث: الجمالُ والفتنةُ وحلوُ الكلام وجرأةُ الفعل وعُلُوُّ المكانة وغنى المال واستقلاليةُ التصرّف. وينقلنا الكاتب إلى هذا الجوّ الجميل لمجالس النساء الذي يُبعدنا عن هموم الحياة اليومية، ويطلعنا على حياة القصور وأصحابها وأبناء الطبقات الغنيّة والحاكمة التي لا علاقة لها بما يجري في واقع الحياة للناس العاديين.

ويُدخلُنا عوالمَ ألفِ ليلة وليلة ومخادعَ حريمِ السّلطان العثماني وهو يصوّرُ مشهدَ اللهو في المتنزه الطبيعي بين المياه والينابيع وحدائقِ الورد، حيث كان يوسف يلهو مع الفتيات ويمسك بأيديهن، ويمسّدُ شعورَهنّ، ويُداعبُ خدودَهنّ، وتلك الفتاةُ الحسناء بعينيها الواسعتين ونظراتِها التي تشبهُ المخالبَ، التي أغوته فرافقَها بالدخول إلى الغابة وانتهى اللقاءُ بينهما بقبلته الحارقة لأسفلِ رقبتها عند نحرها بجَمر شفتيه. ويصفُ كيف وجد يوسف نفسَه عندما استيقظ بعد تقبيل الفتاة ومُداعبتها محاطا بكوكبة من جواري القصر، ينظرن إليه بشغَف وانبهار، وقد أماطت كلٌّ منهن الخمارَ، فظهرت له وجوهٌ تركية وشركسيّة وقوقازية وألبانية. ألقت إحداهن عليه غصنا من شجرة ليمون تفتّحتْ عليه زهورٌ بيضاء. وألقت أخرى بعِرْق من الريحان، وثالثة بباقة من النّرجس البريّ(ص 13-14).

ورغم كثرة المعجبات بيوسف والمطاردات له من الحسان إلّا أنّه اهتمّ، وبدرجات متفاوتة بـــــ:

ماري: الفتاة الشقراء، بيضاء البشرة ذاتُ العينين الزّرقاوين. هي ابنةُ قنصل الدولة العليّة العثمانية في مدينة باردو بفرنسا، أمّها طبيبة فرنسية، وعائلتها تقضي عطلتَها الصيفيّة في منزلها الفاخر في البيوت المتدرّجة على التلّة. زارته ماري في مرسَمه مَع أمّها ثلاث مرات. في المرّة الأخيرة جاءت وحدَها. طرقت البابَ ودخلت بوجهها الطفولي، وعينيها الزرقاوين، وشعرها الأصفر، وأنفها الدّقيق، وفمها رقيق الشّفتين، وثوبها الفضفاض. وقالت إنّها جاءت لتودّعه لأنّها عائدة مع العائلة إلى فرنسا، واغرورقت عيناها وألقت بنفسها على صدره، فربّت يوسف على كتفها ومسح دمعَها وتمنّى لها رحلة سعيدة.(24)

العَيطموس: هي المرأة الأولى التي دخلت حياة يوسف، وقد عرفها عندما زارته مع ماري وأمّها فشدّت اهتمامه وشغلت تفكيره. امرأة كاملة الأنوثة(ص27)، كاملة الأوصاف، مانحة ومانعة، مقبلة ومدبرة معا. محافظة ومتحرّرة، ذاتُ عزّة وذاتُ بساطة معا. عينان يرفرفُ فيهما طائرُ عناق وطائرُ فراق. ملامحُ مظلّلةٌ بالقداسة ومظلّلة بالغواية. (ص65) مليحةٌ مثلُ تمايل غصن، مهفهفةُ الخصر، مصقولةُ الترائب، ضحكتُها مجلجلةٌ. إطلالتُها مُفْعمةٌ بنسيم الصبا. خفيفةٌ، رشيقةٌ. تسحرك ببسمة ثغرها، وتَلويحة ٍمن يدها، ورنّة من خلخالها، وهفهفةٍ من ردائها، وتأوّدٍ وتثنّ من قامتها. (ص67)

قالوا إنها يهوديّة، وقالوا إنها مسيحيّة، وقالوا إنها تعتنقُ البوذيّة. ولكنها شوهدت تمارسُ العبادةَ في مصلّى النساء الملحق بالمسجد الكبير في حيّ العجمي، وأسست تكيةً بجانب مسجد حسن بيك في المنشيّة.

ولا يعرفُ أحدٌ إنْ كانت تركيةً أم شركسيّة أم من أصول إغريقيّة. وهي ثريّةٌ تملكُ عقارات وأموالا وأسطولا من السّفن التّجاريّة، تحظى بحماية أمير البحر جركس باشا. (ص26)

أحبَّها الناسُ الفقراء والبسطاءُ لتواضعِها، كانت تتصدّق على المحتاجين، وتزورُ المرضى في البيمارستان، وتوزّعُ لحمَ الأضاحي في الأعياد. (ص28).

أعجبت برسومات يوسف، وطلبت منه أنْ يرسمها مقابل قبلة تمنحه إيّاها. استقبلته في قصرها، وجالسته العديد من المرّات، شجّعته على الصّبر وتحمّل صعوبة الابتعاد عن يافا وأهلها بعد صدور حكم الإبعاد ضده. أحبّت يوسف بصدق، ولكنها رفضت أيّة علاقة جسديّة معه.

المرأة ذات السّنّ الذهبيّة: وهي الجارة في دمشق: التي عاكسَته وتحدّته ودَعَتْه: اعتلِ السورَ وتعال إلى مخدعي عندما ينتصف الليل.(178).وبالفعل غامر وجاءها منتصفَ الليل فاكتشفَ خديعتَها له، ووقع في أيدي الحرس فسلّموه للجند ووُضع في المخفر.

لكنها عادت للتّحرّش به وطلبت منه أنْ يتبعها فتبعها دون تلكؤ. (ص189) ووصل معها إلى بيتها الفَخم، وإذ طلبت منه الجلوس سألها: مَنْ أنت، أنسيّة أم جنيّة؟ فأجابته: الاثنان معا، في النهار إنسيّة، وفي الليل جنيّة. وتابعت وهي تُنْشبُ مخالبَ عينيها في عينيه: أنا قاتلةُ الرجال، لا أذبحهُم بالسّكين، إنّما أذبحهُم بسلاح المتعة واللذة وطاقةِ الجماع. أذبحهم بناري وشبَقي. أمتصّ كلّ الطاقة الكامنة في أجسادهم. أنهكهم، فأنا بقوّة عَشر نساء. فهل أنتَ مستعدّ للموت اللذيذ؟ إنّني مزيجٌ من الإنس والجان. أنا مِنَ اختلاط نار البراكين بسواد الدخان. أنا في النهار (أندروميدا)، وفي الليل (ميدوسا). أندروميدا التي تَسقيك من عينيها خمرا، وفي الليل، ميدوسا التي تحوّلك إلى حجر. أنا ساحرةٌ ومشعوذة أعلمُ ما في الغيب وأكون قبيحةً وشريرة أحيانا، وفي أحيان أخرى، أكون مثلَ قطعة نقود ذهبية، سَكّها الحاكمُ الإغريقي سكاريوس الذي حكم بلدَكم يافا. أمّا أنتَ، فإنّك في مَنزلة بين منزلتين، من جهة جميلٌ ومُذهل، ومن جهة ثانية قبيحٌ وكاذب. يتعيّنُ أنْ تكونَ غامضا ومختلفا مثلي، نهارُك أسود، ومساؤُك أبيض."

وبعد الجلسة الحواريّة السّاحرة صدّته بعيدا، وطلبت منه أن يغادرَ بيتَها دون إبطاء، ودفعته بعصبيّة إلى الخارج. (ص194-196) لم يستطع التّسليم بهزيمته، فحلم بها، وأنّه قام باغتصابها بقوّة أفقدتها وعيَها وتوازنها. وعوّضَ بحلمه ما فاته في الواقع.

فيديا التي كانت في خدمة الحكيم الهنديّ، لفتت اهتمامَ يوسف بجمالها ولطفها، وأحسّ بحنين قويّ لها وهي تمسك بيده وتُعلّمه الرّقص، أحسّ وهو ممسك بكفّها والدّماء الحارّة تسري في عروقها، كأنّه يمسك عصفورا ينبض في يده. أحسّ بها. أحسّ برسائلِ الودّ التي تُرسلها إليه، باللمساتِ الرقيقة، والنّظراتِ العميقة. كان يخشى من هذه المغامرة. كان عليه أنْ يفكّرَ أكثر، وأنْ يتصرّفَ بحكمة، فلماذا تُلاحقُه نزوةُ المغامرة أينما ذهب، وحيثما حَلّ. (ص266)

المُميّز في رواية "راكب الرّيح"

"راكبُ الريح" روايةٌ تبدأ مرحلةً جديدة في إبْداع يحيى يخلف، وتختلفُ عن رواياته السّابقة بالكثير، وتتفرّدُ بــــ:

اللغة الممَيّزة، الجديدة، السّلسة المنسابة بإيقاعيّةِ الحروف والمقاطعِ ومَخارجها "غابتْ عنك. غابَ عطر. وغابت هالةُ غواية. وغاب سوادُ كُحْل، وكَرَزُ شَفَةٍ، وعقيقُ قرط، ولؤلؤٌ يُحيط بجيدِها النّبيل."(ص67). و"تدور وتدور معها عيناه، تدور لهفتُه. تتوقّفُ فجأة. تتوقّف عيناه على انفعالات وجهها، طائرُ الشباب يرفرفُ في عينيها، هالة سرور تُكَلّلُ قامتَها، فجأة، تُطلق هتافَ فرح وتكادُ تقفز وتطير، تهتف مثلَ صَهيلِ فرس، مثلَ حنينِ ناقة، مثلَ سَليلِ غزالة، مثلَ تغريدِ بُلبُلة"(ص98)، وباللغةِ الجميلة المتداوَلةِ المطعّمةِ بالتعابيرِ الشعبية (فَرْكة كعب)(ص52)

وبالتّعابير القديمة التي تزيدُ العبارة جمالا والمعاني عُمقا (مانحةٌ ومانعةٌ هي، مُقبِلةٌ مُدبرةٌ معا. محافظةٌ ومُتحرّرةٌ معا. ذاتُ عزّة وذاتُ بساط معا. عينان يرفرفُ فيهما طائر عناق وطائر فراق) (ص65).

ومزيّنةٍ باقتباسات (مشت أمامه خطوةً خطوة، كمَشْي قَطاة إلى غدير)(ص66) " ولعلّها بعيدةُ مَهوى القِرط"(ص175) " كأنّما الموتُ طحنَ المدينة بكَلْكله" "وعلى ليلٍ شديدِ السّواد يُرخي سُدولَه على خَوْف  ، ويُغْلقُ رتاجَه على فَزَع"(ص304)

وببعضِ التّعابير التي تجعل القارئ يعيشُ لحظةَ ذهول وسُكْرٍ وتَجَلّ. "بينهما كان يمتدّ حبلُ شوق ورذاذ أحاسيسَ ومشاعرَ"(ص97) "همسَتْ ووصلته أنفاسُها، رائحةَ سِواك وأراك ومسك، لأنفاسِها رائحةُ حديقة"(ص84)

وبألفاظٍ ترسمُ الحركاتِ والمشاهدَ وتبعثُ الحركةَ في كلّ شيء، "سَحرَها كلامُه، وسَحَرتها إطلالتُه، وحرّكَ شهوةً في أعماقها، وأذْهلتْها جرأةُ عينيه اللتين تطلّ منهما مخالبُ."(ص106). "فصرختْ وهي جذلى: هيّا نأكلُ، نأكلُ بأصابعنا وبأَكفّنا وبأيدينا وبرموشنا، إلى الجحيم ذلك الإتيكيت. لا نريد وساطةً بين الزّادِ وأفواهنا"(ص89). وأخيرا، اكتملَ استواءُ السّيّدةِ على أريكتها، وبدتْ كأنّها خارجةٌ من وراء المجرّاتِ ونجومِها وأقمارِها، من وراء الرّياح والبرق والرّعد والمطر"(ص93).

وتألّقت اللغة في رثاء يوسف لأمّه: "اغفري لي إنْ كنتُ نسيتُ أو أخطأت. لا ظلّ إلّا ظلّك يا أمّاه. انهضي يا سيّدةَ الرّوح. انهضي يا سيّدةَ الدّفء والطيبة. انهضي يا مَنْ قلبُك مَعبدٌ للمحبّة. انهضي يا سيّدةَ الأيائل وحوريّات النجوم. انهضي لتنهض يافا من جديد."(ص317)

وفي كلمات العيطموس ليوسف في اللقاء الأخير قبل الوداع:"أمّا أنتَ يا يوسف، فإنّك حصان، بل مهر من أمهار البراري، مهر غير مُدَجّن يرمح ويعدو على طريق البّحث عن الحقيقة والمعرفة من خلال الرّقش والتّزيين والتّوريق والتّوشيح والتذهيب والتّرصيع والتّزجيج والتّشجير والتّزهير، وفي طريقه البكر، يتعرّفُ على لذّة المغامرة، وحسن الغواية، ويركب الريحَ، ويعلو.. ويعلو".

"أنتَ خُلقتَ من ضلع هذه المدينة، وأنتَ عنوانُ جمالها وأساطيرها ومخزونُ ذاكرتها وتراثها، ولا عشقَ لك بعد الآن سوى عشقِ بحرِها، ومآذنها، ومعمارها، ومنارتها، وأسواقها، وأسوارها، وأبراجها، وأروقةِ مساجدها".

"عِشْ كمهر غير مُدَجّن، فأنا أيضا أرغبُ في أنْ أكونَ مهرةً متحرّرةً من العبوديّة، مهرةً خارجة إلى الأبدِ من أسواق الرّقيق، ومن عبوديّة الحَرَملك، ومن أقفاص القصور." (ص341).

الزّمن

اعتدنا في قراءتنا لرواياتِ يحيى يخلف أنْ يُعيّشَنا الزّمنَ المعيشَ في رواياته، ويصرُّ على مُرافقة الأحداثِ وتسجيلِ نَبَضاتِ الزّمن والنّاس والمواقعِ التي تطؤها الأقدامُ، لكنّنا نجده في روايته هذه "راكب الرّيح" يسرقنا ويسحبُ بنا على صَهوة الرّيح إلى زمن بعيد في التاريخ، يعود إلى القرن الثامن عشر، فترةِ الحكم العثماني وغزوِ نابليون بونابرت للبلاد. وقد يكون الكاتبُ أراد أنْ يؤكدَ حقيقةً تاريخيةً أنّ البلادَ التي تشهدُ احتلالَ الغرباءِ لها قد عرفت الكثيرَ من الغازين والمحتلين، ولكنهم هُزموا ورَحلوا، وهذا هو مصيرُ كلِّ محتلّ ظالم غريب. وكما حدث في الماضي، هكذا سيكونُ في أيامنا، وفي كلّ زمان، مصيرُ المعتدي إلى الهزيمة، والمحتلِ إلى الرّحيل.

المكانُ بطل الرّواية

تساءل الشاعرُ أدونيس: هل المكانُ يموت هو أيضا؟ هل تموتُ الأمكنةُ حقّا، كما يموتُ البشر؟ علما أنّ المكانَ ليس مجرّدَ مساحةٍ جغرافيّةٍ. إنّه بالأَحْرى مساحةٌ إنسانيّةٌ – حضاريّةٌ. أنْ يموتَ المكانُ يعني أنّ البشرَ الذين يُقيمون في هذا المكان يموتون هم أيضا أو يُميتُهم بشرٌ آخرون. ربّما يستمرُ المكانُ ظاهريّا: سطحيّا ماديّا. لكنّه يستمرُ كمِثْلِ هيْكلٍ خاوٍ، لا جوهرَ له. المكانُ مسكونٌ بموته مثل الإنسان. مسكونٌ ببُعْدٍ استئصالي يُفْرغُه ممّا هو، ويملؤه بشيء آخر. إماتَةُ المكان تعني خَلقَه من جديد، على صورة الذين أماتوه. يُخرجونه من صورته القديمة، ويمنحونه صورةً جديدةً. مُحاكاةً لانبعاث الإنسان بعد الموت."(القدس العربي 18.8.2016)

وصدمةُ المكان هذه عاشَها يحيى يخلف يوم زارَ أطلالَ بلدته سمخ بعد اتّفاقِ أوسلو وعودتِهِ للوطن. "سمخ وردة كالدّهان، سدوم أكلتها الأمواج.. بل أكلتها أسنانُ الجرّافات، سمخ بلدةٌ غيرُ مَرئيّةٍ، وهذا الذي أراه على أنقاضها تلالٌ من بيوتِ الإسمنت، تلالٌ من الأسوار التي تحجبُ البحيرة، مدينةٌ على النّمط الأوروبي. مكانُ سمخ صارتْ مدينةٌ يهوديّةٌ جديدةٌ فوق ترابها، على أنقاض بيوتها. سمخ مدينةٌ تمّ ترويضُها وتهويدُها "(نهر يستحم في بحيرة ص77/80)

وكما الأزمنةُ هكذا الأمكنةُ، تُبَدّلُ شكلَها الخارجيَ وتتآلفُ مع مُغتصبها الجديد، وتتعايشُ معه، ولكنّها تُخفي حنينا قويّا إلى صاحبها الأوّل ولا تنساه أبدا.

وإذ يرى يحيى يخلف كيف تُنتَهكُ الأمكنةَ يوميّا على طول وعرض الأراضي المحتلة، ويعملُ المحتَلُّ على مَحو واقتلاع كلّ أثر للمكان الذي كان، ويعملُ بكلّ جدّ لتغييرِ شَكلِ وصورةِ الأمكنةِ وتَبْديلِ أسمائها لتُصبحَ غريبةً على أهلها الأصليين، فتنتهي العلاقاتُ وتتقطّعُ الوشائجُ. يركبُ الريحَ ويأخذُنا إلى يافا التي عرفَتْ جريمةَ الغزو الفرنسي لها وفضيحةَ نابليون بونابرت الذي أمرَ بقتل الآلافِ من أهل يافا وتدميرِ المدينة. أخَذَنا يحيى يخلف إلى يافا ليقولَ لنا: قد ينجحُ الغزاةُ الأقوياءُ في انتهاك الأرضِ وتدميرِها وقَتلِ الناسِ وتشريدِهم. لكنّ نهايةَ كلّ محتَلٍّ مهما عظمتْ قوّتُه وسَطْوتُه إلى الزّوالِ ومَزْبلةِ التاريخ، هكذا كان في الماضي، وهكذا يكون في الحاضر وفي المستقبل، فلا يأسَ مع الحياة ومع الثّقةِ بالنّفس.

المكانُ في "راكب الريح" هو البطلُ الوحيدُ المستحوذُ على كلّ جوانبِ الأحداثِ والشّخصيّاتِ، فالتّوقّفُ عند العديدِ من الأماكن يتكرّرُ ويكونُ الوصفُ الرّائعُ للمشاهدِ المختلفةِ مثل:" أطَلّ السّهلُ من وراء دَغلِ الأشجار، سهلٌ تكسوه الخضرةُ والعشبُ وزهورٌ تطرّز المشهدَ كلّه، وصخورٌ وأحجار ٌكبيرةٌ نحتَتْها الرياحُ وشذّبتها، فامتلأ السهلُ بمزيدٍ من السّحر. مشت ومشى إلى جانبها، وكلما تقدّما، ينفتحُ المشهدُ على مَزيد من بساتينِ الألوان: هذا أقحوانٌ، وهذا الزعمطوط أو عصاةُ الراعي، وهذه خزامى، وتلك سَوْسنةٌ، ومن بين الأشواك، تتفتّحُ زهرةُ الخرفيش بلون زهري ساحر، وإلى جانبها زهرةُ التّرمس تُشكّلُ زهورَها تدرّجا، وتبدو مثلَ مَنارة البحر. وراء الحجارةِ زهرةُ زعفران، وخلفَ نبات الخرفيش زنبقة بريّة. وزهور الحمّيض والخبيزى والمصيص والمرّار والسنّاريّة وأوراق السرخس. زهور وألوان وشموخ، فلسيقان بعضِ الأزهار عنقُ زرافة، وعرفُ ديك، وعَيْنُ غزالة، تشرئبُّ تيجانُه ومَيْسمُها وأوراقُها، كأنها تُطلُّ من شرفة. وتزهو بجمالها مثلَ صبيّة تستغرقُ في أحلامِها. وتضربُ جذورَها الطريّةَ في التربة. وتحيطُ بها الأعشابُ النديّة"(ص57).

"القَرين" حيلة لبَلوَرة شخصيّة الفلسطيني الجديد

آمن العربي منذ الجاهلية أنّ لكلّ شاعر شيطانا يوحي له بما يقول من شعر. وفي الإسلام آمن المسلم بوجود الشيطان وأنّه عدوه المبين، كما ورد في سورة يوسف آية (5)"إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين"، وآمن بملازمة القَرين له، وقد يكون قرين خير أو قرين شرّ. وفي سورة الصافات، الآية (51) ورد ذكر القَرين "قال قائل منهم إنّي كان لي قرين". وورد في حديث للرسول قوله: "ما من أحد إلّا وُكّل به قرينُه من الجنّ وقرينُه من الملائكة".

ويوسف يعترف بملازمة قرينه له بقوله: هناك قرين يسكنني. سألتُ شيخَ المسجد الكبير، فقال إنّ لكل مسلم عفريتا من الجن يُصاحبُه، ويحلّ في بدنه، ويغويه، والجنُ الذي يسكن جسدي لا يستيقظُ إلّا في وقت الحبّ ووقتِ الحرب. والشيخُ يقول إنّ ذلك ذُكرَ في القرآن والسنّة، وإنّ القرينَ يمكنُ أنْ يكونَ من الملائكة فيدفع صاحبَه لفعل الخير فيتجنّبَ أفعالَ الشرّ، ويمكن أنْ يكونَ من الشياطين فيدفعه لعمل الشرّ" (ص163-164)

والقَرين هو الصاحبُ أو الرّفيق بل هو الذي يتطابق في الصّفات مع قرينه. وكان دوستويفسكي (1821-1881) في روايته "القرين" قد رسم هذه الشخصيةَ الملازمةَ لغوليادكين بطلِ الروايةِ، والدّافعةَ لها للقيام بأعمالٍ مختلفة.

ويحيى يخلف استخدم هذا الإيمان بوجود القرين ليكون مُنْطلقَه في خلخَلة المسلّمات التي آمنّا بها وكبّلتنا عشرات السنين، وأبعدتنا عن إمكانية الشكّ بمصداقيّة ما نحن عليه، أو لنُعْطي أنفسَنا إمكانيّة التجريب لسُبُل جديدة لتحقيق أهدافنا وبناء مستقبلنا. يحيى يخلف يريد أنْ يقول إنّنا تصرّفنا وعملنا في الماضي منقادين بإرادتنا المشلولة وعقلنا المعطّل ورؤيتنا المحدودة، وكان قرين يقودنا ويُحدّد لنا مَسيرَنا. وآن لنا الآن، بعد كلّ ما أصابنا أنْ نتخلّص من قريننا ونملك مصيرَنا وقدرتَنا ونعملَ بإرادتنا الحرّة.

وكما رأينا في الرّواية لازَم القَرينُ يوسف، وكان مَصْدرَ القوّةِ الهائلة التي عُرف بها، وسببَ تميّزهِ وتفوّقه على كلّ زملائه في القفز للماء وغير ذلك. كذلك كان القرينُ وراء انتصارِ يوسفَ على جند الانكشاريّة بقَتلهم جميعا. وكذلك كان وراء القُبلةِ الحارقةِ خدّ الجارية الجميلة، ومن ثم مُلاحقةِ الفَهد وصَرعه، ومقارعةِ جندِ نابليون والتّنكيلِ بهم.

لكنّ استعمالَ القوّةِ المفرطة بغير تَفكير وتقديرِ العواقبِ أدّى إلى الحُكمِ على يوسفَ بمغادرة يافا والابتعادِ عن بلدته وأهله وأحبّائه. ممّا جعله يقف على خطإ تصرّفه واستخدامه القوّة، فقرّر التّخلصَ من هذا القرينِ الذي في داخله ليكونَ الإنسانَ العاديَّ البسيطَ الذي يفكّر برويّة، ويتّخذ قراره بعيدا عن تأثيرات غير محسوبة وقد تعود عليه بالضّرر. وبالفعل اهتمّ بالوصول إلى الحكيم الهندي الذي ساعده في ذلك، وجعله يفكرُ أنّ طريقَ استعمالِ القوةِ غير المحدودة المتهوّرةِ توصلُ للدمار، ولا خيرَ من طريق اتّباع السلام ونشرِ المحبّة وروحِ التّعاون بين الجميع. وقد أسهب الحكيم ساعة لقائه بيوسف في شرح رسالتَه في "دفاعه عن الشرق وحكمتِه وقيَمِه وعلومِه وثقافته في مواجهة التوحّش الغربي"(ص234) قائلا "نحن لدينا رسالةٌ، رسالةُ محبّة ومساواة وسلام. نحن نُبشّرُ بالأخوّة والمحبّة بين بني البشر، فالناس في دينِكم هم عيالُ الله. وهذه الأرضُ التي يتقاتلون عليها هي أرضُ الله، والبلادُ في الشرق والغرب هي ملكُ الخالق، وهو الذي يرثُ الأرض وما عليها يوم القيامة. رسالتنا للغرب الذي يغزو الشرقَ ويأتي إلينا ليستعبدَنا وينهبَ خيراتنا ويذلَّ حضارتنا وأدياننا ومعتقداتنا، رسالتنا بمثابة اليد الممدودةِ له للسلام والأخوّةِ من موقع الندّ والتّكافؤ"(ص241)

صعُبَ على يوسف بعد أن رأى ما فعل جندُ نابليون بيافا وأهلِها وباقي البلاد أنْ يتسامحَ مع عدوه، ورفضَ دعوةَ الحكيم للمصالحة قائلا:

- لا كلامَ ولا صلح مع مَن ذبحوا والدي وأهلَ مدينتي.

فجاء جوابُ الحكيم هادئا مقنعا: هذه البلاد تدفعُ ثمنَ موقعها في قَلبِ العالم. وتدفع ثمنَ قداستِها، فمنها انطلقت الرّسالاتُ السّماويّة، ولقد عبَرها حكماءُ وحاملو قناديلَ معرفة، وعبرتها رماحٌ وسيوفٌ ومنجنيقات. لكنّ غُزاتها مضَوْا وعبرُوا تاركينَ عمائرهم أطلالا. وهذه المدينةُ يافا تعرّضت لغزوات على مدى القرون، ومذابحَ لا تُحصى، وستتعرّض لغزوات أخرى في القرون القادمة، طالما أنّ الظلمَ قائمٌ، والقلوبَ سوداء" وختم كلامَه متوجّها إلى يوسف: "يا بنيّ، علينا أنْ نُخاطبَهم ونتحاورَ معهم بلغة الحكمة، لعلّنا نلتقي معهم عند منتصف الطريٌق" (ص331-332).

التّناغم التّاريخي بين الحاضر والماضي

مَن مثلُ يحيى يخلف يعرفُ مأساويّة الرّاهن العربي الذي نعيشُه؟

ومَن مثله يُدرك أثرَ هذا الواقع على إفْقاد الفلسطينيّ كلّ أمل له في تحقيق حلمه وأمله بدَحْر الاحتلال وقيامِ الدولة الفلسطينيّة العَتيدة التي قاتل لأجلها؟

لكنّ جذوةَ المبدع، ورُؤيا الثوريّ، وثقةَ المقاتل بعَدالة قضيّته، وقدرتَه على تحقيق الهدف، تدفع ُكلّها بيحيى يخلف نحو التّفكير الهادئ الرّزين، والتّبصّرِ بواقع الحالِ وصيرورةِ المستقبل، ومِن ثم الاندفاع نحو الماضي البعيد والقريب لاستخلاصِ التّجارب والعبر.

"التاريخُ يُعيد نفسَه" جملةٌ يتيمةٌ تتكرّرُ وتُستعادُ كبدهيّة مقبولة. ومثلها: "لا ظالمَ باقٍ" و "لا دولةً خالدة" و "الزمن دوّار يوم إلك ويوم عليك".

تعابير نُكرّرها ونستشهدُ بها، وكثيرا ما نسخرُ منها. ولكنّها في المحصّلة بنتَ تجاربِ الشعوب، استخلصتها وصاغتها بالكلمات الموجزة الرّصينة.

ويحيى يخلف وصل إلى القناعة الثّوريّة الواعية: أنّ الحقَّ لا يموت، لكنْ حتى تصلَ إليه وتنالَه عليك أنْ تكونَ حكيما، وإن لم تحصلْ على الكلّ فاقبل بالقليل، وإن واجهتَ المستحيلَ فلا تيأسْ، وغيّر من أسلوب فكرِك وعملك، واسْعَ لشقّ الصّعاب، وإذا وجدتَ في استعمال القوة تهوّرا يوصلُ للدمار، ففكرْ بإعمالِ فكرك في اتّباع الحكمة والتّروي.

هكذا ركبَ يحيى يخلف الريحَ، وحلّقَ بعيدا في الزّمان والمكان، يرصدُ أرضَ الوطن ويتابعُ حركاتِ الجيوش الزّاحفة والأخرى المنهزمة، وقَتْلَ وتشريدَ الناس، وتدميرَ بيوتهم وبلادِهم. فنزل في مدينة يافا، وكانت ككلّ البلاد يومها، أواخر القرن الثامن عشر، تدينُ للحكم العثماني وتخضعُ لظُلم جُندِ الانكشاريّة. وشهد الجريمةَ التي اقترفها نابليون بونابرت بحقّ أهلها حيث قتل الآلافَ ودمّرَ البيوتَ وحرق الزّرع .

وعاد راكب الريح بعد طوافه لواقع الحاضر، ووجدَ أنّ الامبراطوريةَ العثمانية انهزمت، و جُندَ الانكشاريّةِ اختفَوْا منَ الوجود، وغيّبتِ الأيامُ والسّنونُ والتاريخُ نابليون، وظلّت يافا قائمةً، وعادت لتكونَ عروسَ حوضِ البحر الأبيض المتوسط ودرّةَ فلسطين، وعاد أهلُ يافا ليزاولوا حياتَهم ويُقيموا الأفراحَ ويرقصوا ويغنّوا ويحلموا بمستقبلٍ أجمل.

"لا ظالمَ باق" و "التاريخُ يكرّر نفسَه" ولا دولةً خالدة". والتاريخُ عِبرٌ ودروس.

ويحيى المبدع الثوري المتفائل يستخلصُ العبرَ، يركبُ الريحَ ويعودُ من الزمن البّعيد ليحطّ في رام الله وهو أكثرُ ثقةٍ بالآتي.

الاستفادة من الآداب العالميّة والأساطير

الجوُّ السّحريُّ الخيالي المأخوذُ من أجواء "ألف ليلة وليلة"، واللغةُ السّلسةُ الجميلةُ المشحونةُ بالعواطف والحنين والحبّ، والحسانُ اللاتي التقينا بهنّ كالعيطموس الفاتنةِ الجمال المُستعارةِ من حوريّات الجنّة التي تقودنا إلى "أندروميدا" الجميلة ابنة كيفاوس ملك مدينة يافا وكاسيوبيا. وكيف أدّى تكبّر كاسيوبيا إلى أن تتباهى بأنّ ابنتها أندروميدا أجمل بكثير من حوريات البحر، أرسل بوسيدون إله البحر وحشَ البحار لتدمير المدينة كنوع من العقاب الإلهي. وفي محاولة لاستلطاف الوحش، قيّدَ الملك كيفاوس ابنتَه أندروميدا على الصخور كقربان، وقبيل أن يتمكن الوحش من اختطاف الأميرة، نزل البطل بيرسيوس من السماء على حصانه المجنّح وأنقذها من الموت وتزوّجها. (ويكيبيديا) وذات السنّ الذّهبيّة المتحديّةُ الرجالِ وقاتلتهم، تأخذنا مباشرة إلى أسطورة "ميدوسا" الجميلة التي مارست الجنس في معبد اثينا فأغضبتها وحولتها إلى امرأة بشعة المظهر كما حوّلت شعرَها إلى ثعابين، وكلّ مَن ينظر إلى عينيها يتحوّل إلى حجر. (ويكيبيديا).

وبتلك الجلسات العاطفيّة التي أقامتها العيطموس بحضور يوسف حيث تختار في كل جلسة مَن تروي حكاية رجل عشقَ امرأةً، وكاد يفقدُ حياته بسبب هذا العشق. (ص103-115) تأخذنا إلى قصص "الديكاميرون" المشهورة.

كما أنه اعتمد على الفلسفة القديمة والهنديّة خاصة كما وردت على لسان العيطموس حول القبلة التي تعتبر عند الهندوس مَدخلا إلى اللقاء الحميم الذي يمثّل نقاء للروح، وصفاء للذهن. وتعني السموّ الروحي ولها أنواع مختلفة. (ص165) وفي حديث الحكيم الهندي الذي علّمَ يوسف كيف يتخلّصُ من قرينه، الذي هو الطاقةُ الكامنة في الإنسان، باعتماده على الحكمة والعقل والتّمارين (ص269-271).

ورغم كلّ ما قلنا يظلّ الكثير

رواية "راكب الريح" جاءت بأسلوبها الجديد، وبنائها، رغم كلاسيكيّته، يوهمُنا بجديد لم يُطرَق بخَلط الأجواء والتّلاعب باللغة والزّمان والمكان وتقابل الشخصيّات. وفي "راكب الريح" نُحلّق بعيدا في الأعالي لنراقب كلّ ما كان وقائم ونفكّر بكل ما يجب أن يكون. نستذكر الماضي ونستشرف الآتي.

***

د. نبيه القاسم - الرامة - فلسطين

مستحدثات فنتازيا الموضوعة ونوعية الأسطرة المتعدية

توطئة: لعل الكتابة القصصية في عوالم تجربة الكاتب الأمريكي إدغار ألن بو، يمكننا وصفها بكونها مجموعة معادلات نفسانية معبئة في شحنة حوافز مركبة من صنيع لغة الذات الفردية ونزوعاتها السلوكية والاجتماعية والعاطفية التي راحت تغالب قهرية معايير (العقل- الممكن- التخييل) إذ أن المتحكم الرئيسي لدوافعية تلك النصوص التي قام بو في كتابها، لا تتخلى عن سيرورة طابعية (النشأة- الممارسة-الذئقة) وصولا الى دقائق ثمينة من عاملية التخييل وحنكة تصيير المكونات نحو ذلك المنحى المخصوص من ناحية العلامات وزمن ومكان الذات التي تفاعلت فيه لتقدم لنا صورية الأشياء بفطرة السارد العليم أم المشارك في عملية تمثيلات دلالات الحكاية ونواة خطابها المتقهقر بثوابت أصول كتابة الفن القصصي القصيرة، لتتاح لنا إستجابات القراءة والتلقي لتلك الهيئات الفنية، ضمن ذائقة تستشعر ذلك الوجود الحكائي في حدود مواضع معقولة أو غير معقولة في جملة ممارساتها الموضوعية:فهل ياترى أن حكايا هذا القاص الرائد تصب في وجودها ضمن حقائق صورية لها إستجابة وانعكاس خطابها وحكيها في زمنه تحديدا؟أم انها تواجدات لمتواليات خلقت فينا جملة التفاتات تتعلق بهوية هذا النص ومؤولاته الفرضية الخاصة؟ لذا نقول ليس غريبا أن يكتب القاص نصوصه القصصية في هيئة لحالات معادلة في الثيمة والموضوعة والمعالجة وفداحة التجريب، ولكن من الصعب ان نتلقى هذه الحكايات ضمن قواسم ذوقية عشوائية، تواجه صعوبات ما في عملية الاستقصاء والتمحور في محمولات تلك النصوص ومواضعها الكيفية من ناحيتي البناء والأسلوب.في الواقع ماجعلني التفت ألتفاتة معمقة لمشروع بو القصصي الكبير، وإختياري لعوالمه نموذجا للدراسة المستقلة في شكلها العضوي والمقدماتي والمدخلي، ليس لما كان تسجيلا من عدة انطباعات وفراسات لبعض من النقاد والأدباء، ممن زامنوا عصره وأعتاشوا مع طبيعة نصوصه، لا طبعا فالأمر ليس بهذه الصورة إطلاقا، فقط أقول أن سلسلة قراءاتي المبكرة لهذا الكاتب، هي من جعلت لدي ولع التقديم لهذه النصوص، حقيقة تقويمها من جهتي المنظورية الخاصة، وليس تقيدا بما اضفى عليه بعض من النقاد من توصيفات في أغلبها الأعم لا تتناسب مدلوليلا ولو للحظة مع شكل وبنية قصص عوالم بو.إذن الرغبة لدي كما قلت سابقا منذ قراءتي لأول قصة في مختارات كانت تجتمع فيه ثريا نصوص بو الساحرة. لذا فأقول في كل مرة من كتابتي عن قصة جديدة لهذا الفذ، أن كل ما كتبه النقاد في زمنه وحتى يومنا هذا، لا تتعدى حساسية القراءة المحاكاتية السائلة في وجهة نظرها، في حين كان بعضها لا يتجاوز كتابة السيرذاتية للمؤلف نفسه، أما ما الشكل النقدي الذي آثاره النقاد في بعض وقفاتهم شبه الجادة، فلا يتعدى هو الأخر حدود وصف عرضي يتلخص في كون قصص بو عبارة عن لوحات تثير الرعب والسخرية والعدمية لدى البعض منهم. بهذا وذاك تم وسم أدب بو القصصي ضمن عضوية آداب الناشئة قسرا وقهرا، ولو كان هناك فعلا علاقة نقدية وبحثوية ناضجة في مقارية أدب بو القصصي، لما استطاعت كل مناهج النقد التوقف عن مقاربة كل قصة من قصص الكاتب بموجب مواضعة وممارسة منهجية فعالة وجادة. في الواقع كنت لا أحبذ لنفسي مثل هذه الاطالة المدخلية من القراءة، خصوصا وإن ما ذكرته قد تحدثت عنه في قراءات سابقة لقصص بو، ولكن من الممكن أن تكون طبيعة دراستي القصيرة لقصة (الحيوان الغريب) هي ما أثارني في طرح هذه المدخلية الخارجة عن نوعية المقاربة للقصة موضع بحثنا.

- الحيوان الغريب: المبنى القصصي وفرضية الاستيهام بالوقائعي.

1- الحكاية الفنتازية ووسائط السارد العليم وصوته وتحولاته:

ان العناية بخلفيات زمن الحكاية القصصية في المفهوم السردي، ماهي إلا من الفواعل والاواصر البالغة في أهميتها وتأثيراتها عبر ممارسة الافعال المحكية من ناحية كون منظورها السردي هو السبيل في تنام متبايناتها الرابطة والمتحولة في هيئة حالات خاصة من الديمومة والاستقراء والتدليل، لذا وجدنا بدايات قصة (الحيوان الغريب) تعكس لنا ذلك المستوى التأشيري من عوامل وعناصر وأسباب حقبة زمنية غاطسة في وباء الكوليرا في نيويورك، ذلك قبل أن تتم دعوة السارد المشارك من قبل احد أصدقائه في منزله المطل على ضفاف الهدسن. وبو في هذا الإجراء والتحديد الزمني لاعراض ذلك الوباء، يمهد للقراءة تجلبات حدوثات زمن حكايته بنظام العلامة الخطية التتابعية والاستطرادية في نمو الوحدات الخاصة بالمكان المنظور من حيز التجاوز والممارسة في وسائطية مادة الحكي: ( كان لدينا هناك مختلف وسائل التسلية العادية التي يمارسها المصطافون، وكم كانت أيامنا تغدو جميلة وممتعة بنزهاتنا في الغابات أو الرسم ورياضة التجديف والصيد والسباحة والموسيقى والكتب، لو أننا لم نكن نتلقى كل يوم الأنباء المرعبة عما كان يجري في المدينة الآهلة ./ص145 النص اقصصي) من عبر هذه المواطن العرضية- المحكية، تتشكل تتابعية الزمن القصصي من ناحية كونه (الماقبل نصي) وفي هذه الزمن الصفري تواجهنا أدوارا للشخصية كإمكانية محورية دالة على بث المسرود له-كمساهمة مفصلية- تربط المسرود بين زمنين (خارج الحكاية- داخل الحكاية- ساردا ومحورا) وتتوازى العلاقة المكانية بالشخصية ورفيقها الذي يحل في المسرود والسرد عاملا، أو كعنصرا جهاتيا أو هو بمثابة المسند إليه -اي للشخصية المحور- حيث لا نلمس منه سوى حضوره كمادة جانبية في صلة متممة للمحور الفاعل.

2- الزمن الماقبلي تصورا:

تجدر الإشارة الى أن هناك جملة نوازع خاصة لدى متعلقات المحور العاملي، جعل السارد يوظفها وينسبها الى علاقة تصاهرية بين (السارد- الشخصية) على اساس من كونها مجموعة الحدوس التي تسبق عملية وقوع الاحداث، فتتجلى هذه القابلية من الحدوس لدى مركبي (السارد+الشخصية) ذلك تبعا لمواثيق وراثية على حد قول السارد في حال لسان الشخصية ( وهو أعتقاد كنت في هذه المرحلة من حياتي مستعدا للدفاع عنه ./ص145, النص القصصي) الشخصية الساردة هنا تحيل معتقداتها بصورة تعتمد على مؤثرات من ظواهر ما قد حدثت في حيز من حاضرها المعيشي المفترض، وعلى هذا فهي ترسم وفقا لذلك جملة من تتاليات من النوع الذي يشبه أن يكون ضمن حقيقة كاملة في صلب تلك الاحداث السابقة والمنصرمة، اي انها إذا مرت بظروف قاهرة في مرحلة سابقة، فإنها تتخيل بروح تنبؤية بأن شأن القادم حتما سوف يكون جديدا لتلك الخصائص من الاحداث المنصرمة، وعلى هذا النحو رأينا ان الشخصية يعثر في منزل صديقه على مجموعة من الكتب التي تولد عند المرء حالات ذهنية تشيع لمن يقرؤها إحاسيس غرائبية في التعامل والاعتقاد بوجود تلك الميول في حقيقة الظواهر الخرافية التي غدت بدورها تفصيلا في مشاهدات تتم للشخصية نفسه من منطلق فرضية حقيقية قادمة من عين الواقع الاستيهامي: (كانت أفكاري تشرد منذ وقت غير قليل بين الكتاب الذي أقرؤه وحزن المدينة المجاورة وخرابها .. وحين رفعت عيني رأيت سفح الرابية العاري ولمحت شيئا - مسخا غريب الخلقة يهبط سرعة كبيرة من الذروة الى الأسفل ثم يغيب أخيرا في الغابة الكثيفة./ص164 النص القصصي) من الواضح أن الواقع الفعلي للمشاهدة لم يكن ملتبسا على الشخصية، خصوصا وأن شريط الوصف التفصيلي لذلك المسخ كان في وضح النهار: ولكن بأي حقيقة يمكننا تلخيص هوية ذلك الكائن !,أهو محض تصورات تركتها انطباعات القراءة لمادة ذلك الكتاب خصوصا وان الشخصية أصبح يمارس طقسا سريا في قراءة ذلك الكتاب دون علم ومراءى من صديقه به! أم أنها اشباح ميكروبات الكوليرا التي تجسدت للرائي بتلك الهيئات الأليغورية حيث بدت الاحداث القصصية وكأنها شجرة في غابة الحقبة الرومانسية، حبكتها مختزلة من رحيق شرارات المدرسة الطبيعية، ولكن مضمونها حمالا لمغزى حكاية طافحة بدلالات الوصف والتأمل في الافاق الأليغورية المتوجة بملامح حكايا الاسطرة وتمثيلات الفاعل المؤسطر من احياز الفضاءات القصصية المعادلة في الموضوعة والثيمة والدليل.

تعليق القراءة:

لعل آليات الكتابة القصصية لدى بو تتعامل مع ثيمات الواقع في حدود منظومة رمزية حسية تخييلية تتعدى هيئات الاوضاع النمطية من وظيفة الرموز وزمن العلامات، لتمنحنا ظواهر نصية تقترب من الفنتازيا، ولكنها ليست كفنتازيا كافكا أبدا، ذلك لكونها تنطلق من حقيقة مشخصة ومفترضة في الان نفسه، لذا فإن بو لا يغرق نصه داخل حدود من ذلك المعنى المضلل، بل هو يستأثر ممارسة تشترط تواجد الطرفين (الواقع-المفترض) في أوضاع تشغلها المرموزات وليس الفعل الرمزي بذاته الكمولية والمنجزه في حدود وظيفة محالة .لعل بو يصور حقيقة التوالدات للمادة الحكائية داخل وسائط وملمحات أكثر توغلا في حاصيلات المتعدي والمتعدد من المعنى الظاهر في متن ومبنى النص القصصي.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

 

غابرييل غارسيا ماركيز يعود ليشغل القراء من جديد بعد عشرة اعوام على وفاته – رحل عن عالمنا في السابع عشر من نيسان عام 2014 - في روايته الأخيرة والتي اوصى بعدم نشرها " موعدنا في آب " – صدرت ترجمتها العربية قبل ايام ترجمة وضاح محمود -، يتناول غابرييل غارسيا ماركيز في روايته التي تبلغ ما يقارب المئة صفحة، حكاية " آنا مجدلينا باخ "، وهي امرأة في السادسة والاربعين من عمرها، عاشت حياة زوجيّة سعيدة طوال سبعة وعشرين عاما وليس لديها أيّ سبب للهروب من عالمها الذي بنته بيديها. مع ذلك، فإنها تسافر في السادس عشر من آب كل عام لزيارة قبر أمّها المدفونة في إحدى الجزر، لتتحول هناك الى امرأة مختلفة تماما لليلة واحدة فقط. :" كان شهر آب شهر الحر والعواصف المطرية المجنونة، المباغتة، لكنها اعتبرت زيارة قبر أمها كفّارة إضافية من الكفّارات التي يتعين عليها أن تؤديها في موعدها حتما " – موعدنا في شهر آب –.

 في معظم رواياته كان للنساء دور مهم،، إلّا أنّهن لا يؤدّين دور البطولة مثل آنا مجدلينا باخ، وهي امرأة قرّرت في لحظة ما من عمرها استكشاف حياتها الجنسيّة من جديد والبحث عن حريتها الفردية. وهذا الامر سيسبب لها صراعات في أعماق نفسها، لكنها تستمرّ في هذا الطريق، على الرغم من أنها كانت سعيدة في زواجها وليس لديها أسباب للقيام بما تقوم به. وصف روديغو الابن الكيبر لماركيز رواية " موعدنا في شهر آب " بأنها رواية نسوية بامتياز " واضاف في حديث لمحطة بي بي سي :" أعتقد أنّ هذه الرواية تعيد ترتيب جميع أعمال غارسيّا ماركيز وبخاصّة دور المرأة فيها، والذي يجب إعادة النظر فيه بعد هذه الرواية. ولهذا السبب بالذات أعتقد بأهميّتها البالغة ".

الرواية الأخيرة تفضح تعب الروائي الذي كان يبلغ " 72 " عاما عندما قرر كتابتها، بدأ التخطيط لكتابتها عام 1999 وانتهى منها عام 2002، لكنه تركها جانبا وانشغل بكتابة روايتة " ذاكرة غانياتي الحزينات " والتي كان تآخر عمل ادبي ينشره ماركيز في حياته، وفيها نتابع حياة رجل عجوز قرر أن يجعل من الحب المستحيل فرصته الاخيرة قبل الموت . يخبرنا محرر الكتاب " كريستوبال بيرا " والذي عمل مع ماركيز لسنوات وكان محررا لسيرته الذاتية " عشت لاروي " ان ماركيز فاجأ القراء قي آذار من عام 1999 بأنه يعمل على رواية جديدة من خمسة فصول وهي تعالج " موضوعة الحب لمن تقدم بهم العمر قليلا " . سينشر ماركيز الفصل الاول من الرواية عام 2003 في احدى المجلات الاسبانية وتشير سكرتيرته ان ماركيز استأنف العمل من جديد على الرواية في شهر تموز من عام 2003، وبنهاية عام 2004 كانت لديه خمس مسودات من رواية " موعدنا في شهر آب " . يخبرنا وفي المقدمة التي كتبها للرواية يخبرنا كريستوبال بيرا ان وكيلة اعمال ماركيز " كارمن بالثلس " اتصلت به عام 2010 لتخبرنه ان ماركيز " لديه رواية غير منشورة، لم يتمكن بعد من إيجاد خاتمة لها، فطلبت إليّ أن أحفزه على إنهائها "،وسيقوم بيرا بسؤال عن ماركيز عن الرواية وهل صحيح أنها تحتاج إلى خاتمة :" طلب من مونيكا النسخة الأخيرة منها، ثم قرأ عليَّ الفقرة الأخيرة التي يختتم بها القصة ختاما مدهشاً..كان شديد التكتم على عمله، لكنه سمح لي بعد بضعة أشهر أن اقرأ ثلاثة فصول منها، والآن أتذكر ذلك الانطباع الذي خلفه في نفسي ببراعته المطلقة في معالجة موضوع مبتكر " – موعدنا في شهر آب - . من اخلال تتبع حكاية رواية " موعدنا في شهر آب" يتضح أنه كانت هناك لحظة شعر خلالها ماركيز بأن لروايته الاخيرة هذه يستحق النشر، حيث قرأ منها نهاية عام 1999 مقتطفات خلال ندوة مع صديقه الروائي خوسيه ساراماغو في مدريد. بعدها نشر مقتطفات منها في الصحيفة الإسبانية إلباييس"،. إلا أنه نحى مشروع الرواية جانباً، لكنه عام 2004 سيرسل مخطوطة إلى وكيلته كارمن بالثاس مع توصية بان ترتاح الرواية عندها .

كان فقدان الذاكرة الذي عانى منه ماركيز في سنواته الأخيرة سبب رئيسي في امتناعه عن نشر الرواية حتى أنه قال لزوجته :" هذا الكتاب لا نفع منه أبداً، ولابد من تمزيقه " .لكن العائلة لم تمزق الرواية تركته ضمن ارشيف ماركيز االذي انتقل الى جامعة تكساس بعد ان اشترته للحفاظ عليه .يقول الابن غونثالوا ماركيز، مبررا نشر الرواية :"لم يكن والدي في وضع يسمح له بالحكم على عمله لأنه كان يرى فقط العيوب وليس الأشياء المثيرة للاهتمام".، ويضيف :" بعد قراءة النص مرة أخرى مؤخرا، لم يجده كارثيا كما حكم عليه غابو" وقال رودريغو ماركيز في المقدمة التي كتبها للرواية " لقد قررنا بفعل يقارب افعال الخيانة أن ننشره مراهنين على مسرّة القراء قبل أي اعتبار آخر . فإن هم احتفوا بالكتاب وسُروا به، فعسى ان يغفر لنا غابو فعلتنا ويعفوا عنا " . وفي هذا العام كان ماركيز قد أدلى بتصريحات صحافية قال فيها إنه " راضٍ كل الرضى" عن مقاربته للأزمة التي كانت تعاني منها بطلة الرواية، لكن ناشره صرّح بعد عام على وفاته بأنه لم يكن مقتنعاً بالنتيجة النهائية التي آلت إليها الرواية على رغم السنوات التي أمضاها في كتابتها. والمعروف عن ماركيز أنه كان يعدّ كتابة رواياته ما لا يقلّ عن عشر مرات قبل أن يستقرّ على الصيغة التي يريدها، وهذا ما لم يحصل له مع " موعدنا في شهر آب " التي قرّر تنحية مخطوطها بين محفوظاته.

الذي يجعلنا نطارد كل ما كتبه ماركيز، سألت نفسي وانا استعد بالذهاب الى شارع المتنبي يوم امس الجمعة – الثالث من آيار 2024 – كان الجو ممطرا، وكنت انوي الذهاب مع صديق اعتذر في اللحظة الاخيرة مبررا :" ان الجو لا يشجع الذهاب الى المتنبي "، لكني منذ ان وضعت دار نابو قبل ايام قليلة اعلانا عن توفر رواية ماركيز، كنت استعجل الزمن لكي احصل على نسخة من الرواية .. واخذت اسأل نفسي هل شهرة ماركيز كانت وراء تلهفي على قراءة ىخر اعماله؟ يعتمد الحكم على الكتاب احيانا، على ما يكتب عنه من نقد او مراجعات في الصحف، واحيانا اخرى على رأي القراء .. ولكن علينا الإنتباه إلى ان الاعجاب بكتاب ما يعتمد على وجهة نظرنا فيه، فبعض الكتب نقول عنها عظيمة لانها حازت على هذه السمعة عبر العصور..كان برنادشو يقول اننا نقرأ احيانا بعض الأعمال الأدبية التي حازت على شهرة كبيرة بالطريقة التي نأكل بها الاطعمة الغريبة، فأنت لا تحبها تمامًا ولكن الجميع يقول عنها إنها أطعمة خارقة. .ولعل روايات ماركيز مثل الاطعمة الغريبة التي تحوي اشياء لم تخطر على بالنا.. ولهذا سواء كنت قرأت، او لم تقرأ كلمة من روايات غابريل غارسيا ماركيز، فانت بالتاكيد تجد نفسك مدمناً على الحديث عنها .. فالواقعية السحرية التي برع بها هي الوحيدة التي تجعل أغرب أحلامنا متاحة ويمكن تصديقها بشدة. فماركيز برع في ان يدمج عناصر خيالية في بيئة "واقعية"، نساء تطير في سماء طبيعية، جد يعيش على مدى قرون، ولكن لا أحد يلاحظ أن شيء تغير فيه، خلطة روائية غريبة فيها الشخصيات التي نحبها والتي نكرهها، القضايا الفاشلة في الحياة، الحب، والجنس، العنف، والخلافات التي لا نهاية لها، المأساة، والمؤامرات، الميلودراما، والواقعية، فقد قرر ماركيز أن تصل اعماله إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ليحقق المتعة والتسلية.. وعلى حد تعبير الناقد الادبي الشهير هارولد بلوم، فان مثل هذه الروايات يمكنك قراءتها اكثر من مرة لأنها لا تستنفذ اغراضها :" كل صفحة مليئة بالحياة تفوق قدرة أي قارئ واحد على استيعابها، لا توجد جمل ضائعة او زائدة، ولا مجرد انتقالات، في هذه الروايات، ويجب أن تلاحظ كل شيء في الوقت الذي تقرأ فيه." قال بابلو نيرودا عن ماركيز بانه افضل من كتب بالاسبانية منذ ان كتب ثيرفانتس ملحمته دون كيشوت .  

في معظم رواياته سيحاول ماركيز ان يخدع القارئ لكي يصدقه، وهو يستخدم مهارته الصحفية التي تعلم منها كيف يستخدام تفاصيل محددة للغاية عند وصف الأحداث الرائعة. وجد أن القراء كانوا أكثر ميلًا إلى تصديقه عندما وصف الاشياء الغريبة والخارقة، أصر على أنه كان يقدم الحقيقة ببساطة كما يراها:" الحقيقة ليست مجرد الطريق التي تحت قدميك. إنها أيضًا خرافات عامة الناس".

 قال يلينيو أبوليو مندوزا في حوار مطول نشر بعنوان " رائحة الجوافة :"   الحياة في حد ذاتها أكبر مصدر للإلهام، والأحلام ليست سوى جزء صغير جدا من هذا السيل الذي يمثل الحياة، أرى أن الأحلام جزء من الحياة بشكل عام، لكن الواقع أغنى بكثير".

في كلمتها امام لجنة جائزة نوبل قالت الكاتبة الجنوب أفريقية نادين جورديمر ان واجب الكاتب، هو أن يكتب بشكل جيد"

في مواجهة معركته مع المرض فعل ماركيز ذلك ايضا عندما قرر كتابة " موعدنا في شهر آب " فهذا العمل ثمرة صراعه مع المرض وفقدان الذاكرة، وهو شهادة على شكل حب ماركيز والتزامه بالأدب.

صحيحٌ أن الرواية ليست مصقولة مثل أعماله الأخرى كما يقول ابناه في المقدمة، لكنّ محرر الكتاب كريستوبال بيرا يؤمد انها رواية : " مكتملة وناجزة وسوف يرى القراء اكتمالها بأعينهم. لم أجدْ نفسي مضطرًّا ولا مرّة بالطبع لإضافة أيّ كلمة على النصّ، بل إنّني لا أجد ضرورة لذكر ذلك.

يقول غونزالو في حديث الى صحيفة الشرق الاوسط اجراه شوقي الريّس :" هذه الرواية هي ثمرة الجهد الأخير الذي بذله والدي للاستمرار في الكتابة رغم الظروف الصحية التي كان بدأ يعاني منها. ولدى قراءتها مرة أخرى بعد عشر سنوات تقريباً على وفاته، اكتشفنا أن النص يزخر بالعديد من المزايا التي تستدرج القارئ إلى التمتع بأبرز ما في أعمال غابو: قدرته على الإبداع، ولغته الشعرية، وسرديته الأخّاذة، ومعرفته العميقة بمكامن النفس البشرية، ومدى التصاقه الحميم بما عاشه من التجارب، وبخاصة في الحب الذي ربما هو المحور الأساس والمحرك الأول لكل أعماله " .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

قصيدة "أقنعة الرّهبة والصّمت" للشّاعر صالح أحمد كناعنة، من الأعمال الشّعريّة التي تعبّر عن معاناة الإنسان في زمن قاتم قاس وشعوره بالضّياع وفقدان الهويّة، والوحدة والاغتراب، تتميّز بلغتها الرّمزيّة وصورها الغامضة. تشير إلى الموت كحاضر دائم يهدّد كلّ شيء، ويلقي بظلاله على كلّ جوانب الحياة؛ ليصبح بمثابة دافع لصرخة مدوّية في وجه الظّلم والقهر، ولكنّ هذه الصّرخة لا تقف عند حدود التّعبير عن الألم، بل تصبح دعوة للكفاح من أجل عالم أفضل، ينتصر فيه النّور على الظّلمة، والأمل على اليأس، فيشعل الشّاعر جذوة التمرّد في قلوب قرّائه، تاركا إيّاهم في حالة من التأمّل والتّساؤل: هل يستطيع الإنسان التّغلّب على قوى الظّلام؟ أم سيظلّ أسيرا لقوى الشرّ؟. ومن وراء العتمة، ينادي صوته المقاوم للصّمت، يبحّر في عتمة الوجود باحثا عن بصيص أمل في هذا العالم القاتم.

صراع واضح يتجلّى بين الواقع المرّ، والخيال الذي يلجأ إليه، إذ يمثّل الحلم ملاذا بالنّسبة له من قسوة الواقع، فيحلّق بأجنحة خياله، لكن سرعان ما ينهار هذا الحلم، وتعوده قسوة الواقع، وعلى الرّغم من أجواء اليأس التي تسيطر عليه، إلا أنّه لا يفقد الأمل تماما، فيشير إلى فجر باحث عن نشوة جديدة، ففي داخله شعلة لا تزال تضيء، شعلة تؤمن بصبح جديد يبدّد العتمة، ويحيي في قلوب البشر الأمل والحبّ والحياة.

الأسلوب والتّأثير:

يتميّز أسلوب الشّاعر بالتّعبيريّة، فهو يعبّر عن مشاعره الدّاخليّة بشكل مباشر وصادق، فتترك قصيدته انطباعا عميقا لدى القارئ، وتجعله يفكّر في قسوة الحياة، تسلّط الضّوء على المعاناة البشريّة جرّاء العنف والصّراعات والحروب، فتثير مشاعر الحزن والتّعاطف مع المكلومين والضّحايا، وتذكّرنا بضرورة البحث عن الأمل وسط الأنقاض والرّكام.

تمّ توظيف تقنيّة التّقابل والتّضاد بين الكلمات، مثل تقابل الموت والحياة، الخير والشّر، الظّلم والعدالة، اللّيل والفجر والصّبح، ممّا يخلق تأثيرات دراميّة قويّة. كما استخدمت الجمل المتوازيّة في بعض الأبيات؛ وذلك لخلق شعور بالانسجام والتّوازن. ووظّفت تقنيّة التّكثيف؛ للتّعبير عن الكثير من المعاني في كلمات قليلة، الأمر الذي يخلق إيحاءات عميقة ودلالات متعدّدة، ويثير مشاعر القارئ بشكل مباشر وفعّال، ويحفّز خياله ويشركه في عمليّة التّأويل.

تكشف تقنيّة التّكثيف المستخدمة عن مهارة الشّاعر وبراعته في اختيار الكلمات، واستخدامه للصّور المجازية بحرفيّة.

الرمزيّة، ورحلة في أعماق المعنى:

للرّمزيّة دور هامّ في هذه القصيدة، فهي تزيدها عمقا ودلالة، تتيح للقارئ تفسيرها بطرق مختلفة، وتساعد على إثراء المعنى، وتعمل على إيصال أحاسيس الشّاعر المتناقضة كالخوف والقهر واليأس والرّجاء والأمل، تثير التّساؤلات حول القضايا الإنسانيّة المختلفة، مثل الحريّة والعدالة والظّلم؛ لتزداد السّطور جمالا ورونقا، وتغدو أكثر جاذبيّة.

إليكم بعض الأمثلة التي وردت فيها الرّمزيّة:

"أقنعة الرّهبَةِ والصّمتِ": ترمز إلى القمع والخوف الذي يُفرَض على النّاس.

"الدّربُ ثُقوبٌ تتعرّى": ترمز إلى الطّريق الصّعب، المليء بالعقبات.

"الموتُ يُحايِلُ لَونَ المَوت": ترمز إلى تكرار عمليّات القتل والموت.

"العالم أنقاضٌ تعوي": ترمز إلى الدّمار والفوضى التي تسيطر على العالم.

"الغيم، لا يُرسِلُ إلا رَشحَةَ عُقم": ترمز إلى الأمل المتلاشي.

"الخَيمَةُ أوتادٌ في جُرح": ترمز إلى الشّعور بالوحدة، وتجسّد حالة اللّجوء والتشرّد نتيجة للظّلم.

"بَصَماتٍ لِنَهارٍ مات": ترمز إلى آثار الحرب والعنف والدّمار.

"النّاسِكُ لمّا صارَ المَوتُ هُناكَ هِوايَة، وضعَ النّظّاراتِ الأغمَق": ترمز إلى استسلام المثقّف لليأس والإحباط وفقدان للأمل، والتّجاهل واللّامبالاة، خوفا من ملاحقة الأيديولوجيّة الرسميّة في بلاده، وبالتّالي يختار الصّمت.

"تَتثاءَبُ أحلامُ النّهرين": ترمز إلى موت الحضارة العربيّة.

"سَيفُ المُتَنَبي": ترمز إلى قوّة الشّعر وقدرته على التّغيير؛ كأداة لمقاومة الظّلم والقهر.

"اللّيلُ يلوكُ اللُّقمَةَ، يَرميها في نَعشِ المَوتى": ترمز إلى قسوة اللّيل وظلمه.

"الفجرُ الباحِثُ عن نَشوة": تجسّد تطلّعا نحو غد أفضل، وتعبّر عن رغبة جامحة في التّغيير والتّجديد، وعن شوق لفجر متحرّر من قيود الظّلام، يبشّرنا بنهاية اللّيل وبدء نهار جديد.

كما تلعب الذّاكرة دورا في هذه القصيدة فتثير اللّوعة والأسى، ويدلّ الحبّ إلى التّوق إلى التّواصل والانتماء، لكنّه يظل بعيد المنال، كما يمثّل الزّمن قوّة قاهرة تسحق آمال الشّاعر وتفقده إيمانه بالحياة، فيثقل الهمّ صدره ويشعره بغصّة تعتصر دواخله، وبالضّيق والاختناق الذي يهدّد كينونته.

الفلسفة، بين عبثيّة الحياة والأمل:

تحمل هذه القصيدة فلسفة عميقة، تعبّر عن مشاعر مبدعها تجاه العالم، وتطرح التّساؤلات حول عبثيّة الحياة والموت ومعناهما، والحريّة والقمع والانتماء، وتُؤكّد على أهميّة الحلم والذّاكرة في الحفاظ على الهويّة. ولا تعدّ العبثيّة موضوعا رئيسيّا فيها، لكنّها تظهر كأحد الأفكار التي يناقشها الشّاعر، ويمكن تفسير العبثيّة في القصيدة بطرق مختلفة، وذلك حسب وجهة نظر القارئ، فهي مليئة بالرّمزيّة، ما يجعلها مفتوحة للتّأويل والتّفسيرات المختلفة، وإثارة ما يستحقّ النّقاش والطّرح.

كما تغلّف القصيدة أيضا، أجواء سياسيّة تجسّد صرخة الشّاعر ضدّ منع الحريّات وفرض الرّقابة على الأفكار في ظلّ الأنظمة القمعيّة، فالصّمت الأعمى يخيّم على المشهد، وهو رمز لقمع حريّة التّعبير وخنق الأصوات، أمّا "الدّربُ ثُقوبٌ تتعرّى" فرمز إلى الفوضى والانهيار الذي يصيب المجتمع تحت وطأة القمع.

"يتمرّغُ منفيًّا زمني"، تعبّر عن الشّعور بالوحدة والاغتراب في المنفى، بعيدا عن الوطن والأهل.

"هَجَرَتني صَحوةُ أَسمائي": ترمز هذه العبارة إلى فقدان الهويّة بسبب النّفيّ والاقتلاع من الجذور.

"الصّحوةُ لا تُسبى": تعبّر عن إيمان الشّاعر بإمكانيّة التّغيير من خلال الثّورات التي تقوم بها الشّعوب.

"تردي لَيلَ الصَّمتِ الأعمى": تشير إلى انتصار الثّورة على القمع، وإسكات صوت الرّعب.

"نخاسٌ... إنّي نخاسٌ": تشير إلى الاستغلال والفساد.

الصّمت: يمكن تفسيره كرمز للقمع السياسيّ، فالأنظمة الدّيكتاتوريّة تقمع حريّة التّعبير، وتجبر النّاس على الصّمت.

الموت: يمكن تفسيره كرمز للقتل والقمع الذي تمارسه الأنظمة.

المنفى: يمكن تفسيره كرمز للتّشريد القسريّ نتيجة القمع السياسيّ.

النّاسِكُ: يمكن تفسيره كرمز للمثقّف أو المفكّر الذي يسجن أو ينفى بسبب أفكاره المعارضة.

النّخاسُ: يمكن تفسيره كرمز للنّظام الذي يتاجر بحياة النّاس ويستغلّهم.

اللّيلُ: يمكن تفسيره كرمز للظّلم والقهر الذي تفرضه السلطات على شعوبها.

الموسيقى وأدواتها:

تتميّز القصيدة بإيقاع منتظم يساعد على إيصال المشاعر بوضوح، أمّا الموسيقى الشّعريّة مثل التّكرار والجناس والطّباق، فتساعد على جذب اهتمام القارئ.

أضفت الموسيقى حزنا على أجواء القصيدة، تكرّرت بعض الكلمات والعبارات مثل "الصّمت" و"الموت" و"المنفى" مما عزّز من معانيها، وساهم في خلق شعور بالثّقل والضّيق.

كما تتّبع القصيدة نظام القافيّة الداخليّ، الذي يضفي عليها موسيقى هادئة تناسب موضوعها الحزين، ويربط أبياتها ببعضها البعض.

تتواجد القافية الدّاخليّة في نهاية كلّ بيتين أو أكثر من أبيات القصيدة، نجد أنواع مختلفة من القافية مثل القافية التّامّة: "يُمارِسُ سَكرَتَهُ" و "تَتعرّى"، والقافية النّاقصة: "يَسعى بيدينِ مُضرّجَتَين" و"تعوي"، والقافية المتشابهة: "يَستَجدي أنّاتِ مَخاضٍ" و "رَشحَةَ عُقم"، والقافية المتضادّة: "يَعرِفُ حالاتٍ وفُصول" و "ماضٍ مُغرِق".

بشكل عام، تتوزّع القافية بشكل عشوائيّ، مما يضفي على القصيدة إيقاعا متنوّعا، ويمنحها وحدة وتماسكا، ويسهّل على القارئ فهمها، ويساهم في جعلها عملا شعريّا منسجما ومؤثرا.

الاستعارة في القصيدة:

تضفي الاستعارة على القصيدة جمالا ودلالة، وقد استخدمت بشكل متكرّر، مما أشار إلى أهميتها في إيصال المعنى، وإثارة اهتمام القارئ وجذبه. هذه بعض الأمثلة:

"أقنعة الرّهبَةِ والصّمتِ": استعارة مركّبة تشبّه الخوف والقمع بأقنعة تغطّي الوجوه.

"الدّربُ ثُقوبٌ تتعرّى": استعارة تشبّه الطّريق بالجروح المفتوحة.

"الموتُ يُحايِلُ لَونَ المَوت": استعارة تشبّه الموت بالشّخص الذي يغيّر ملابسه.

"العالم أنقاضٌ تعوي": استعارة تشبّه العالم بحيوان مصاب يصدر أصواتا مؤلمة.

"الغيم.. لا يُرسِلُ إلا رَشحَةَ عُقم": استعارة تشبّه الغيم بالعاجز الذي لا يقدّم أيّ مساعدة.

"الخَيمَةُ أوتادٌ في جُرح": استعارة تشبّه الخيمة بالجروح التي تسبّبها الوحدة والألم.

"بَصَماتٍ لِنَهارٍ مات": استعارة تشبّه آثار النّهار بالأثار المدمّرة والجروح التي تخلّفها الحرب.

"النّاسِكُ لمّا صارَ المَوتُ هُناكَ هِوايَة، وضعَ النّظّاراتِ الأغمَق": استعارة تشبّه الموت بالهواية التي يمارسها النّاس، وتشبّه النّظارات الأغمق باللامبالاة التي يظهرونها تجاه الحدث.

"تَتثاءَبُ أحلامُ النّهرين": استعارة تشبّه الأحلام بالنّوم والتّكاسل.

"سَيفُ المُتَنَبي": استعارة تشبّه الشّعر بالسّيف الذي يقاتل الظّلم.

"اللّيلُ يلوكُ اللُّقمَةَ، يَرميها في نَعشِ المَوتى": استعارة تشبّه اللّيل بالوحش الذي يأكل الموتى.

"الفجرُ الباحِثُ عن نَشوة": استعارة تشبّه الفجر بالشّخص الذي يبحث عن السّعادة.

الصّور واللّغة الشّاعريّة الأنيقة:

استخدمت اللّغة والبلاغة والصّور المجازيّة ببراعة؛ للتّعبير عن المشاعر والأفكار، واستخدمت الاستعارة والتّشبيه والكنايّة؛ لإيصال المعنى بشكل أكثر عمقا وجمالا.

يشبّه الشّاعر نفسه بأفعى في قيظ الصّحراء تتلوّى من شدّة الألم، وذلك لخلق شعور بالرّهبة والعناء، كما يشبّه أحلامه بنهر يتثاءب على شفتيه، ويستخدم التّكرار لخلق شعور بالضّغط والتأكيد على الأفكار الرئيسيّة للقصيدة، فيكرّر كلمات الصّمت والموت واللّيل، لإبراز أهميتها في إيصال المعنى.

من وحي المتنبّي:

تشير عبارة "سَيفُ المُتَنَبي" إلى شجاعة الشّاعر وإصراره على التّعبير عن آرائه ومشاعره، حتّى في ظلّ الظّروف القاسية، فكما استخدم المتنبّي سيفه للدّفاع عن نفسه ومبادئه، يستخدم الشّاعر كلماته كسلاح لمقاومة الصّمت والخوف والقهر، وعلى الرّغم من أنّ العالم من حوله قد تحوّل إلى "أنقاض تعوي" و "غيم لا يُرسِلُ إلا رَشحَةَ عُقم"، إلا أنّه لا يزال يملك "سيف المتنبّي" الذي يمكّنه من إيصال صوته معلنا إيمانه بالأمل، مؤكّدا على أنّ "الصّحوة لا تُسبى" وأنّ "الفجر الباحث عن نَشوة" سيأتي ويبدّد الظّلمة.

"اللّيلُ يلوكُ اللُّقمَةَ يَرميها في نَعشِ المَوتى": تشير هذه الأبيات إلى أنّ الشّاعر يدرك أنّ قوى الظّلام قوية، لكنّه لا يستسلم لها، بل يواصل مقاومتها بكلماته.

"يصحو... الصّحوةُ لا تُسبى الفجرُ الباحِثُ عن نَشوة يبعثُ أُغنيةً مُرتَجَلة تُردي لَيلَ الصَّمتِ الأعمى": تشير هذه الأبيات إلى أنّ الشّاعر يتمسّك بالأمل، ويؤكّد على أنّ "الفجر" سيأتي.

ختاما.. أبدع الشّاعر صالح أحمد كناعنة في هذه القصيدة لوحة فائقة، غَزَلَ خيوطها بمهاراته الشّعريّة العالية، ونسجها بلغة آسرة غنيّة بالصّور البيانيّة والمعاني العميقة، فاستخدم مفردات مختارة بعناية، تداعب مشاعر القارئ وتثير خياله، وظّف موسيقى شعريّة منسجمة تضفي على القصيدة سحرا خاصّا، ولم يكتفِ بذلك، بل أضاف إليها تقنيّات ذكيّة ودلالات رمزيّة غزيرة، تعمّق من معانيها وتضفي عليها أبعادا جديدة. ونتيجة لهذا التّكامل المتقن بين العناصر الشّعريّة المختلفة، برزت هذه القصيدة كتحفة فنّيّة، تثير الدّهشة وتحفّز على التأمّل. وإليكم القصيدة.

***

صباح بشير

............................

أقنِعَةُ الرّهبَةِ والصّمت

للشّاعر صالح أحمد كناعنة

كم يَقتُلُني زَمَنُ الصّمتِ الأعمى

في عمرٍ يَعشَقُ غُربَتَهُ..

يَتعمَّدُ عُذرًا بالبَرق..

والصّبحُ يُمارِسُ سَكرَتَهُ

فالدّربُ ثُقوبٌ تتعرّى ..

تتوارى من عُريِ الخُطُواتِ مسافةُ رأي

وتلوذ بنارٍ تُذكيها سَكَراتُ الصّمت

والموتُ يُحايِلُ لَونَ المَوت

يسعى بيدينِ مُضرّجَتَين

والعالم أنقاضٌ تعوي

تَستَجدي أنّاتِ مَخاضٍ

والغيم...

لا يُرسِلُ إلا رَشحَةَ عُقم

لا تنبِتُ إلا عُشبًا مَسكونًا بالوَحل

لا يَعرِفُ حالاتٍ وفُصول

يتلوّى في ماضٍ مُغرِق

ماضٍ راحت عَنهُ الغيمَة

تَرَكَتهُ لأرياحٍ تتناوَح

تأبى أن تصرُخَ "واجرحاه"

وتلوذُ بأنقاضٍ تَعوي..

بَصَماتٍ لِنَهارٍ ماتْ

والمَنفى...يَجتاحُ المَنفى..

والخَيمَةُ أوتادٌ في جُرح

الجرحُ بلا ألمٍ لكن..

أَنساني أن أسمَعَ صَوتي

وأنا أتَحسّسُ أقنِعَةَ الرّهبَةِ والصّمت

وكأفعى في قيظِ الصّحراء

يتلوى الطّقسُ بذاكرتي

والطّقسُ شُرود..

النّاسِكُ لمّا صارَ المَوتُ هُناكَ هِوايَة..

وضعَ النّظّاراتِ الأغمَقْ..

وأسرّ لليلٍ يسكُنُهُ:

نخاسٌ.. إنّي نخاسٌ!

يتمرّغُ منفيًّا زمني..

وعلى شفَتَيْ..

تتثاءَبُ أحلامُ النّهرين..

لا يَسبي.. لا يُسبى الحُلُمُ!

هَجَرَتني صَحوةُ أَسمائي

يا عُنوانَ الفَجرِ الغائبِ عن لُغَتي..

سَكِروا...

تَرَكوا أُمنِيَتي للرّيح...

يسكُنُها سَيفُ المُتَنَبي

يُنزِلُها من قُرصِ الشّمس

يُعطيها رهنًا للّيل

لِحُروفٍ خَلَعت أضلُعَها

لِتُلائِمَ أَصواتَ اللّيل..

واللّيلُ يلوكُ اللُّقمَةَ..

يَرميها في نَعشِ المَوتى..

يصحو...

الصّحوةُ لا تُسبى..

الفجرُ الباحِثُ عن نَشوة..

يبعثُ أُغنيةً مُرتَجَلة

تُردي لَيلَ الصَّمتِ الأعمى.

"جنين مريمنا البتول" لعصري فيّاض، أنموذجًا

يشكل عنوان العمل الأدبي فضاء لغويًّا ينبغي أن يتسع للإشراقات الدلالية التي تضيء حنايا النصوص كلها، فالعنوان وفق المنظور النقدي هو العتبة التي يستشرف منها القارئ آفاق النص، وهو النافذة التي تتيح للقارئ أن يرى المدى الدلالي الذي يتشكل وفق تأملات القارئ وثقافته.

ويأتي عنوان "جنين مريمنا البتول"؛ ليجيب عن تساؤلات عتبة العنوان التي تعد في النقد السيميائي باكورة الإبداع الكتابي. المبتدأ المكاني في الجملة الاسمية يؤنسن بالإخبار عنه بمريمنا المقدسة، وليس (مريم)، ف(نا) تستدعي تفاعل الوعي الجمعي، وإضافة صفة القدسية والطهر لهذا التآلف (البتول)، فالقارئ المتأمل يجد أن لفظ (الطاهرة) معادلًا موضوعيًّا لكلمة "البتول" وفق المفاصل الدلالية للنصوص. ولكن المبدع يختار العنوان وفق رؤية شمولية، وإحساس مكثف في وقت تتداعى فيه عصارة الفكرة وعبق العاطفة، فيولد العنوان من هذا المزيج؛ ليشكل لوحة متمايزة تتعدد فيها تأويلات القراء، وفي التعدد والاختلاف جماليات التأويل، ومن المفيد التأكيد إن لفظة "مريمنا" في العنوان الرئيس تتجاوز دلالة (سيدتنا مريم) المألوفة إلى دلالات رحبة تشمل الوفاء والإيمان والإخلاص للخطاب الثقافي، الذي يشكل تحديًا للكاتب. وتغادر لفظة "مريمنا في العنوان المستوى المعجمي إلى مستوى تأويلي، يمتد إلى العصب النابض في جسد النصوص، وتختزل طهرها في رؤية ثقافية تتجلى في البنية العميقة لها.

واستئناسًا بدلالة العنوان فإن عصري فياض يبتكر أسلوبًا لافتًا في صياغة العنوان الرئيس، بعيدًا عن مضامين العناوين المجردة المألوفة، وكأنه ينقل الأفق الدلالي المتوقع من العنوان إلى مضامين النصوص، وفي هذا التحول الأسلوبي يكمن التجديد والابتكار والتفرد.

أما العتبة الثانية فهي الإهداء الذي اختزل الخلايا الدلالية للنصوص بوساطة ست علامات سيميائية موزعة على "روح، الشهيد، زياد، جنين، المخيم، ثرى". وتجسد العلامات الستة العصب الدلالي والتوهج الوجداني في الكتاب كله، فالنصوص لا تغادر دلالات العلامات الستة.3854 جنين مريمنا البتول

وأما العتبة الثالثة فهي العناوين الفرعية للنصوص التي جاءت في مسارات متعددة، منها ما هو قريب للقصة، ومنها ما هو خاطرة، ومنها ما هو قريب للشعر، وهي من حيث الدلالة جاءت في مسارين، منها ما هو مباشر تتجلى فيه العلاقة بين العنوان الفرعي ودلالة النص، ومسار إيحائي رمزي يقتضي تأملًا في العلاقة بين المعلن والمضمر، ويتعالق كلا المسارين مع الفضاء الدلالي للعنوان الرئيس، والآفاق الدلالية المبثوثة في خلايا النصوص.

ويغلب على عناوين النصوص التشكيل الاستعاري الظاهر في نسق العنوان، والذي يتوزع على التشخيص/الأنسنة/التجسيد/التجسيم، وفي غير موضع تتضاعف يقظة القارئ للمعنى حينما يتأمل الصورة الاستعارية التي تنقل المعنى من المألوف إلى الدهشة (طعم الصباح ص5، جنين مريمنا ص7، يا حيفا ماذا فعلت؟ ص12، لا تئدوا الزلزال ص23، هلّ الخريف ص71، طهر أحذيتكم ص91، رفيقي الرخ ص136، المخيم يحبس أنفاسه ص145، شمسنا محمد ص150)، ولا يخفى أن القدرة على التصوير تكشف عن قدرة المبدع في التحليق بخياله؛ لتشكيل دلالة غير مألوفة في الغالب، ورغبته في إعادة صياغة مفردات الحياة وفق رغباته غير المعلنة، ورؤيته التي تضمرها البنية الاستعارية، كما يحدد التصوير مدى تفاعل المتلقي مع مكونات الصورة، وإذا استطاع القارئ تفكيك مكنونات الصور الاستعارية يستطيع أن يرى جماليات المضمر، أو قبحه، وأسراره الذي حرص الكاتب على إخفائه من خلال ذلك البناء الاستعاري.

هناك عناوين فرعية أخرى ترتبط بالصور الاستعارية من خلال متنها (يزوره الضحى في فراشه ص10، يزرعون الحياة ويقتلعون الموت ص115، طوّق جيد نابلس سبحة حباتها من قرنفل وشقائق وإكليل الغار ص13، من يستطيع أن يقود القمر إلى كبد السماء؟ ص36، يقتلع الثلج الخيام ص42، كل طقوس الفرح مبتورة ص44، عناق الحلم ص56، من أغرق العيون ببحر الاحزان؟ ص60، المخيمات لسان الحق الصارخ في وجه البشرية ص16، أحاول كسر ليلي الثقيل ص26، القبلات مفاتيح النفاق والسلامات الحارة سموم الأفاعي ص29، ولدت ثورتنا من رح النكبة ص116). نلحظ أن الصور السابقة مؤسسة على الأفعال الحركية المتلاحقة والمتتابعة التي ترسم أطيافا نفسية ذات إيقاع صاعد أيحانا ثم ينحدر أحيانا أخرى، تكشف تلك الصور عن الأفق النفسي للنص، وتوجه المتلقي نحو المعنى المضمر الذي يحرص الكاتب على تجسيده وتكثيفه، نحو نص (يزرعون الحياة ويقتلعون الموت) الذي تتسارع فيه الدفقات الدلالية والإيقاع الصاخب بوساطة أفعال حركية ذات كثافة دلالية ونفسية، فالحياة والموت التي حصرها في العنوان وفي كافة متون النصوص تحصر الممارسات التي تحاول سلب الحياة من فلسطين، وما يحدث في جنين ونابلس وغيرها من المدن، التي تناولها الكاتب، لشاهد على ذلك، ولذلك سعى الكاتب إلى مخالفة هذه الأفعال الإحلالية بزرع الحياة واقتلاع الموت.

كما تصل بعض الصور الحركية إلى (التحريض) على التغيير الذي يعد رسالة سامية يتكفل بها الأدب عامة "تولد الثورة من رحم النكبة" التي ترسم فيها الأفعال المتتابعة فضاء دلاليًّا تحريضيًّا مقترنا بإيقاع وجداني صاخب يتجلى في فعل الولادة، المعادل الموضوعي لزراعة الحياة، واقتلاع الموت، ومن هنا تنهض هذه الأفعال بوظيفتها الدلالية الوجدانية.

يبدو واضحًا، إن المشارب الثقافية التي أفاد منها الكاتب في نصوصه، هي مشارب ثقافية تمنح الفضاء الدلالي للنصوص خاصية التناسل والتكاثر الدلالي التي اصطلح النقاد على تسميتها بـ"التناص"، الذي تشكل بفعل التلاقح الفكري والثقافي للأديب، فالتناص دلالة واضحة على مساحة اتساع الأفق لديه، وحجم ثقافته.

يتناص فياض أدبيًّا في قوله: "جنين، يا مريمنا البتول، قد جاوزت قدري بتوصيفك يا طهر الزمان والمكان… ص9"، مع الشاعر أحمد شوقي، في مدحه رسولنا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- في قصيدة "سلوا قلبي": أبا الزهراء قد جاوزت قدري ... بمدحك بيد أن لي انتسابا.

ونجده يتناص في عنوان النص "تلك المرأة الحمراء" ص128، من عنوان قصة قصيرة "تلك المرأة الوردة" للروائي يحيى يخلف. كما قد يستعير الأديب بعض أدوات مادية أو غيرية، وينسبها إلى أبطاله، تقديرًا لهم، واعتزازًا بهم، يقول: "نحن سيف علي، وصفحات في كتاب الله الجليّ، وروايات في سنة المصطفى، وهديه القويّ، نحن عصا موسى، وسفينة نوح، وصبر إسماعيل، ولسان عيسى، وطهر مريم، وبشرى زكريا، نحن قدر الله".

وقد ظهر التناص الديني؛ ليعمّق الدلالات التي تضمنتها رسالة الكاتب، فتعلق العنوان الرئيس (الذي تكرر في عنوان فرعي "جنين مريمنا البتول") بمعنى بالطهر والقدسية والنقاء، وظهر كذلك في اقتباسات من ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام، وحالة أمه مريم النفسية عند الولادة: "تلكم المدينة التي انتبذت لنفسها… مكانًا شرقيًا"، " كذلك قال ربك هو علي هيّن… هزّي إليك بجذع المجد، يتساقط عليك أنوارًا بهيّة" ص8، وفي قوله: "قالت بانبهار: أو حاصل هذا سيدي؟ قلت: أو لم تؤمني بما سمعت؟ قالت: بلى، ولكن ليطمئن قلبي" ص62.

وأما الغلاف يعدّ العتبة الأهم التي تقابل بصر المتلقي، ويمكن من خلاله أن نفهم متن العمل قبل الولوج فيه، ومن شروط الغلاف القوي الفعال أن يكون قادرًا على جذب انتباه القارئ وإثارة اهتمامه، فهو يساعد القارئ على المضي في قراءة العمل، هو بمثابة بوابة عبور للجمهور، وهذا ما كان عليه غلاف "جنين مريمنا البتول"، حيث عرض صورة لبوابة مدخل مخيم جنين، تعبره سيدة وجهها ضبابي، لكن جسدها مغطى بلباس نساء الدين المسيحي، في إشارة إلى سيدتنا مريم، وعبور كل من هو طاهر، مخلص لقضية وطنه التي تمثلها أكبر شريحة هجّرت من أرضها وبيوتها وسكنت المخيم، فضلًا عن اللون الأحمر الذي سيطر على الغلاف، إشارة إلى حجم التضحيات التي قدمها المخيم من دماء وأرواح شهدائه. والملاحظ حجم العنوان الذي يكتسح ثلث لوحة الغلاف وبخط أبيض عريض، في حين ينزوي اسم المؤلف في الزاوية السفلية يسار الغلاف، وفي ذلك إشارة إلى تصغير الأشخاص إذا ما قورنوا بحجم الوطن، القضية الكبرى التي يفتديها كل إنسان فلسطيني بروحه ودمه، رخيصًا في سبيل نيل حريته.

في الخاتمة أجد الكاتب عصري فياض قد وُفّق في هذا العمل الذي يعدّ شاهدًا إبداعيًّا وموضوعيًّا، يوازي قضية كبرى بحجم وطن، كان وما زال يواجه صلف الاحتلال الإحلالي.

***

سماح خليفة - فلسطين

.....................

* الكتاب صادر عن دار الجنان للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1 سنة 2023م.

مرح شعري بين الأشياء والتفاصيل بالحنين والذكرى حيث الطفل بوجه الحيرة والضجيج... والقلق.

الشعر هذا الآخذ بناصية الأشياء والعناصر والتفاصيل حيث الذات (في حلها وترحالها) تلك الاقامة التامة بنبضها تشوفا ونشدانا وحلما... وقلقا تجاه الآخر.. العالم.. هذا القلق المولد بما يحدثه وينتجه من تجارب ونصوص وابداع اذا رمنا الخوض في هذا الجانب المتصل خاصة بحالات القلق قبل وأثناء وبعد الكتابة الشعرية بالنظر لطبيعتها المتصلة بالمبتكر والمختلف والجديد وهو الأمر المتطلب لعدم الطمأنينة والبحث الدائم والاجهاد.. انها لعبة الكتابة الشعرية في تجليات عناصرها ولحظاتها بل أزمنتها باعتبار معايشات الشاعر الممتدة والمفتوحة والتي منها تنطلق الخلاصات الباعثة على الكتابة وحتى التفكير فيها وملابسات كل ذلك.. وهكذا..

يقول سيجموند فرويد " لست في حاجة إلى تقديم القلق لكم، فكل منا قد ابتلي بهذا الشعور، والحق أقول لكم إنه حالة وجدانية نشعر بها بأنفسنا وتعاودنا مرة تلو الأخرى".

لقد تعددت الرؤى والأفكار بشأن القلق تعاطيا وبحثا وفق الأبعاد العلمية والطبية والنفسية والسوسيولوجية باعتبار التعقيدات المتصلة وبخصوص القلق قي صلته بالشعر فقد رأى الباحثون والنقاد في دراساتهم لنماذج من هذا الشعر أن القلق عادة ما يمثل المحرك الأبرز للكتابة الشعرية فهو الباعث على الاتيان بالجميل والمبتكر وما هو خصوصي وبالتالي فان القلق المبثوث في قصائد الشعراء منذ العصور القديمة ومنها العهد الجاهلي والى اليوم هو قلق عضوي في الذات القلقة وفي القصيائد الناجمة عن الحالة فالقلق وعدم القرار والحيرة وما الى ذلك هي من الطواهر التي برزت وشهدها الشعر العربي قديمه وحديثه وهي نتاج توق وحلم بين الخيالي والواقعي نشدانا للأجمل ولما هو بديعي.. وهنا نذكر بيت المتنبي الشهير (على قلق كأن الريح تحتي أوجهها جنوبا أو شمالا) انه يعيش قلقه يمتطيه يجعل له رياحا لا قرار لها... والشابي الذي ذهبت به حيرته وقلقه الى آفاق من الشعورالقاتم ليجعل من وجدانه وغربته حالة شعرية مخصوصة من عناوينها الأسى ويبرز ذلك في شعره وفي مذكراته حيث يقول “أشعر الآن أنني غريب في هذا الوجود، وأنني ما أزداد يوما في هذا العالم إلا وأزداد غربة بين أبناء الحياة وشعورا بمعاني هذه الغربة الأليمة”.. انه الألم القادم من قلق الشاعر لفرط حساسيته.. وهذا القلق نجده عند بدر شاكر السياب الذي يعيش حيرة وغربة الواقع والمنشود والحلم والمثال..

هذا هو القلق الذي تخيره الشاعر الذي نحن بصدد ديوانه الشعري بل جعل منه قلقا مخصوصا عايشه ومضى به الى حالات من الكتابة لديه مشيرا الى حموضته فهو ليس بالقلق العادي والمألوف انه " قلق حامض " وهو العنوان.. عنوان هذه المجموعة الشعرية للشاعر جلال باباي التي تنوعت مناخات قصائدها بين اليومي والحنين وذاكرة الأشياء والتفاصيل فضلا عن حميمية التعاطي تجاه الأصدقاء لتتعدد الاهداءات وهو ما يحيل الى رؤية الشاعر بشأن الكتابة باعتبارها حاضنة شجن بحميمة فارقة ومن ذلك ما يرد في قصيدة " بعيد مطر البارحة " ص21:

على سطح بيتنا العتيق

صمت يراودنا

و مشهد أترتحنا وأفراحنا يلملم باقيات الذاكرة

ألمح الصديق يقتات من وقفته على طلل لذيذ

عنب الدالية... سفرا بلا بوابات

و فتات قصائدي المجلجلة

حل الخريف بغتة

وانتبذ الرفيق

مساءه اليتيم خرائط خلجاته

وصدى الخطاطيف في الأروقة

يقتفي وجهه في الغمام... ".

ثمة شجن في القصائد يفصح عنه الشاعر عبر تعدد الاهداءات في هذه المجموعة لشخصيات ثقافية وأسماء وشعراء وأصدقاء وما الى ذلك من مكونات المحيط الثقافي للشاعر الذي يرى في القصائد حالات وجد يغذيها القلق المقيم في الذات الشاعرة وفي النصوص ومن ذلك نقرأ مما يرد في قصيدة " قلق حامض... ومواسم غائرة بالسحب " ص71:

ما أكثر الظمأ

ينهمر واقفا في دمي

ما أمر شفتي عمياء فوق مراتيج من صخب

بددتني عاريا كثرة الخسارات ورأيت الأم ثكلى في الطريق

تحت مطر هشة ترثي كبدها

لذت من فقر الصباح

بفجر يشتعل بالشهب

أتوكأ بحبوب منع الأرق والاحتراق

و خطوط صوتي الى هبوط

تلك حماقاتي المتشنجة شردتني زهاء حبل غسيل... "

مجموعة " قلق حامض " كون قصائد متعددة يجمع بينها وجدان الشاعر القلق المتقلب والمسكون بجميمية العناصر والأشياء كل ذلك في بوح شعري تقول عنه الشاعرة أمال موسى في تقديمها لهذا الديوان في نص بعنوان " شعرية القلق الحامض " ولعل هذا البوح والقدرة على تعرية الوجدان بصور شعرية بسيطة غير متمنعة هو نتاج تراكم تجربة جلال باباي الشعرية وتقدمها النوعي حفرا في مكاشفات جديدة وراهنة تتفاعل مع الحاضر وحها لوجه فينحت الشاعر معناه الخاص ومعه السياق المنتج لقلقه والمحدد لطعم هذا القلق... ".

في قصيدة " تستند الى البحر ضاحكة... أو.. فوق تفاحة قلبي الجريح " ص 25 يقول الشاعر:

" مثل كمان الليل تغرد فتنتي

خارج سرب النائمين

تلقي بفوضاها اللذيذة على مياه متحركة

و تنبس في آذاننا...

سأتنحى بلا ضوضاء

من سماء ناعمة بالماء... ".

هكذا هي هذه المجموعة فسحة للشاعر مع الشعر بقصائد طافحة بما يشبهه من قلق حيث اللغة تدعو عباراتها قي كثير من الانتباه والانكسار والحلم أيضا ففي طيات قلق الشاعر أمل هو عين القصيدة وترجمانها..

"قلق حامض" قصائد يمرح فيها الشاعر بين الأشياء وتفاصيل الحياة متأنقا بالحنين وبالذكرى يعلي من شأن الطفل الكامن فيه بوجه الحيرة والضجيج... والقلق.

***

شمس الدين العوني

 

قراءة في زجلية للزجال المغربي يوسف أسكور

- تمهيد:

وجدتُ في هذه الزجلية المحلّقة شيئاً غريباً غرابةَ إدهاشٍ في عالم الشعر الباني أنساقَهُ داخلَ الإبداعِ اللّهجيّ باللسان اللّهْجِي. ويتعلّقُ الأمر بقصيدة الزجال المسفيوي (يوسف أسكور) النازح من جِدّة وجودةِ الكلام، الحامل لرسائل فنية إلى أهل الكلام، أنِ اقترِفوا الجمال في محاريب الجلالِ ولا تُهينوا الحرف العاميَّ بالزَّجِّ بهِ في لغطِ الكلام.

و الأمرُ هنا بائنٌ أن الزجال يوسف يدركُ عمقَ أن يكونَ المرءُ زجّالاً، كما يدركُ عقْمَ أن يتحاملَ المرءُ على الزجلِ في وهمِ تسطير جملتينِ أو ثلاثة تعيش سرابَ الشعرِ فيما الشعرُ منها براء...

القصيدةُ الزجلية اختارتْ لذاتِها عنواناً حاملاً للاعتراف الإبداعي والوجودي في جملة قويّة الرنين( أنا لي خنتْ لغْرامْ).

- مشاكسةُ العتبة:

و عادةً ما يكون فعل الخيانة مُسنداً إلى كائن بشرِيّ تتم خيانته أو تصدر منه الخيانة، لكن صياغة العنوان هنا انزاحتْ إلى تركيب عامر بالدلالة. (خنتْ لغرام) حيث وقع الفعل على مجرّدٍ هوالغرام. والمسألة أكبر من تصوّرنا المُعتقلِ داخل البداهَة التي ترى في الخيانة فعلاً مذموما وقبيحا ومرفوضاً من جهة الدين والقانون والقيم... وربّ قائل إن العبارةَ ( خنتْ لغرام) عبارة عادية ومستهلكة، أقول: إنها عبارة انزياحية غائرة في فنِّ الدلالة. فالخيانة المسندة إلى مخونٍ بشريّ قابلة أن تتحول إلى صلحٍ عبر تجاوزِ المخون زلّةَ الخائن، ولكن العبارة هنا ألحّتْ على إلصاق الفعل بالغرام. فأنتَ إن تمّتْ خيانتُك فلك أن تُعاقب أو تغفر. ولكن الشاعر الزجال يوسف ألقى بالأمر بين يدي الغرام الذي لا يغفر، ولا يتجاوز، لا لأنه بعيدٌ عن قيمِ الغفران والتغاضي والتجاوز وطيّ صفحة الماضي، ولكنْ لأنه كائنٌ مجرّدٌ يدخل في إطار القيمة، والقيمةُ تسجِّلُ الفعل في خاناتِ الذّاكرة وخاناتِ الزمان، ومن ثمّة فلا قِبلَ لنا بمحو ما تمّ فعلهُ واقترافهُ في حق الإنسان وفي حقّ القيمة. الأمر أكبرُ من سلوكٍ يمسّ طرفاً صدق في ظنّه وآخر خانَ الظن، الأمر تجريدي يلقي بظلاله الوارفة على كينونة تدركُ كم هو جليلٌ هذا الغرام، وكم هو صفيقٌ ظلمُ هذا الغرام.

- اشتغالُ الفضاء:

الزجل عالمٌ من الإبداعِ لا يقترفه إلا متمكّنٌ من المعنى ومن فائضِ المعنى، ومتمكنٌ من مغازلة اللهجةِ في تحليقها بعيداً عن لغة الخطاب اليومي. والقصيدة هنا حمّالةُ أوجه، ومن محمولاتها البديعة أن الشاعر الزجال يوسف لعب لعبة الفضاءات في تمرّدها عن المألوف. فقوله ( سدْ الخوفْ) استعارة تستحضرُ مكوّنَ البابِ في غيرِ ذكرٍ للباب. وهذا من مشوِّقات البناء اللهجي العامر بالجمال. فالخوفُ في منظور ومن منظور الزجال يوسف باب مفتوح على مصراعيْهِ، لا ينغلق أبداً إلا بقرارٍ شجاع. لأن الخوف ظاهرةٌ نفسيةٌ ولّادة، تستدعي الخوف المنتاسلَ في انثيالٍ مستمر إذا ما وجدتْ خائفاً ضعيفاً جدّا. والخوف هنا في سياق الزجلية أمرٌ عميقٌ لأسباب: منها أن المخاطب بإغلاق باب الخوف هو العشقُ لا المعشوق، وفي هذا التركيب نزوعٌ بديعٌ نحو رفض المتشيِّئِ في رسم دلالات الخطاب الزجلي اللهجي المسافرِ في غرابة الجمال.و هنا يحدثُ انسجامُ الفضاء (الباب) مع المخاطب ( العشق) مع الظاهرة (الخوف)... فتنتفي في العبارة أبعادُها المتشيِّئة لتحلّ محلّها الأبعادُ المجرّدة القابضة على فائضِ المعنى. فنكون أمام التأويل التالي:

لا وجود للخوف إذا حلّ العشق

و الدليلُ على افتراضنا هذا هو انسيابُ الكلام في السطر الثاني الذي يعضد البعد الفضائي في قول الشاعر (شْراجمْ السمعْ فِيَّ)... فالبابُ يستدعي النوافذ وهما يستدعيانِ معاً الفضاءَ المُختزلَ تعسُّفاً في تصورنا داخل غرفة أو ما شابه ذلك. لكنّ الأمر أبعد من هذا الاختزال، وأبعد من تسييجٍ بديهيٍّ للمعنى في إطار ضيق. وبالتالي فالذاتُ هي الفضاءُ لا الفضاء في مفهوم الحيّز والمكان. وهكذا الزجلُ عندما يلقي بظلالهِ الجمالية على الأجسادِ ويحولُها إلى فائضِ المعنى وإلى أبعد من فائضه. فالأصل في الكلام هو الكنايةُ لا العبارةُ المفضوحةُ في تلابيت المعنى.

- لعبة الأزمنة:

تشيرُ الزجلية فيما تشيرُ، إلى وجود الآخر مجسَّداً في الأنثى (رَبِّيتكْ في قفز الخاطر ابْنِيَةْ - وهَمْ فراقك مازال فيَّ حاتل) متعيِّنَةٍ في مفردتيْ (ابنية وكاف المخاطبة في كلمة فْراقك). وهذا مدخلٌ دلاليٌّ يتحول من المكان (قفْزْ) إلى الزمان (مازالْ).و هذه إشارة قوية الحضور الإبداعي من الزجال يوسف، الذي يداعبُ فكرة الزمان في تشعّبِها الجميل الماضِي في تشعبه إلى نحوٍ منسجم أشدّ الانسجام، في اتّجاهِ التصريح بالمقولة في عموميتها الأبعادية (بعتك لحر الزمان بالنِيَّةْ) حيث تقرر الذات تفويضَ أمر هذه الأنثى إلى سلطان الزمان، طلباً للإنصاف والعدل.

و في هذه المحطة الدلالية وفي غيرها لا تهمّنا تيمات الحكي الزجلي بقدر ما تهمّنا طريقة صوغ الزجال يوسف لهذه التيمات. فالزمان هنا لا يحضر كبعد فيزيائي قابل للتحيز داخل فعل التحقيب، إنه انزياحٌ نفسيٌّ يتدرّجُ من حالة عائمة (مازالْ) إلى حالةٍ مقولية (الزمان) إلى حالةٍ جزئية (الليل) إلى حالة الديمومة الواخزة (ليّامْ)... هذه الأخيرة صرّح فيها الشاعرُ وبطريقة سيميائية قاهرة عن أوج الاعتمال الضارب في نفسه مضرب الأثر الباقي بقاءً وجوديا يكادُ يتاخم الأزل، وعبارة الوشم أشدّ تدليلاً وبرهنة. قال الشاعر (‏ديك ليام الواشمة فيها شوفتنا - ‏مازال كتزورني في كل حلمة).

- في الصوغ الزجلي:

اختار الزجالُ يوسف أسكور الإبداعَ على صهوةِ اللهجة المحليّة، على اعتبار أنها صهوةٌ قادرة على استيعاب الذاتِ والموضوعِ في تجلّياتهما المفارِقة. وهي اللهجةُ الماتِحَةُ أصولَها من قلبِ (المرڭد العبْدي) في توجّهٍ إرْساليٍّ لا يُغرِقُ في المحليةِ ولا يجرى خلفَ المفرداتِ الغابرة في ترابِ الحزام الجغرافي الضيق. إنه شاعر يدركُ بعمقٍ رسالة الزجل، لهذا وجدناهُ ينتقي من اللهجةِ ما يتسمُ ببعض الشمولية في الخطاب، حيثُ يكادُ الوجديُّ والحسّاني وابن الشاوية وأهل الشمال والجنوب التفاعلَ مع منطوق الزجلية التي تمثل الشجرة وهي تُخفي غابة زجله قاطبةً...

من هنا عبقرية الزجل حين يُطوّعُ اللغةَ لا حين يأسرُ ذاتَه في اللغة. ومثال صاحبنا يوسف ينطق واضحاً ببعض رسالات الزجل في توجّهٍ يوسّع من رقعة التفاعل والانتشار.

و ربّ قائلٍ إن الزجال هنا يبسّطُ البناء اللهجي، ويُخشَى عليهِ من السقوط في الابتذال. نقول: إن الصوغَ هنا أبعد ما يكون عن السهل المتناول والذي يُبيحُ ذاتَه للقارئِ في مجانية خاوية. الزجالُ يوسف من الشعراء القلائل الذين يمتلكون القدرة على بناء القصيدة داخل السهل الممتنع، امتناعاً طافحاً بالشاعرية أو بالشِّعرية، أي عامراً بأدبية النص وأيضا باستيطيقا النص. من هنا نسلتْ انزياحات القصيدة الزجلية هادئةً وعميقةً وناطقةً خارج البداهة والرتابة والمألوف.

و الأمثلة وافرة هنا بحيث لا يخلو سطرٌ زجليٌّ من انزياحٍ ذكي يمكر بأذنِ المتلقي في احترامٍ جليٍّ لأبعاد العبارة ودلالاتها الماسكة بالمعنى وفائض المعنى على حدٍّ سواء.

خذ مثلاً قوله: سد الخوف – شْراجم السمع – قفز الخاطر – الهمّْ الحاتلْ – بعْتكْ – خنجر الشمتة... ولو تتبعنا هذه الانزياحات لوصلنا إلى حقيقةٍ أدبية هي أن الزجليةَ في كلّها وجلّها انزياحٌ كبير، حمّالٌ لكثير من الجمال:

- قفز الخاطر: انزياحٌ دالٌّ على ضيق الخاطر عبر اختيار فضاء استيعابٍ هو (القفز\القفص) الذي لا يتسع لطائر في حجم قبضة اليد. والشاعر هنا قد حوّل الفونيتيك الثاوي في صوت الصاد إلى فونيتيك الزايْ، في اختيارٍ ذكي للعلامة الصوتية القابعة في الوجدان الشعبي المغربي وهي التي تعبّر بشكل قويّ وواضح عن المعنى أكثر من الصاد، وتمارس تأثيرها المناسب الزجلي على المتلقي.

- خنجر الشمتة: وتبدو في العبارة آثارُ الطعنة من خلال ربط المسند (الخنجر) إلى المسند إليه (الشمتة) في توجّهٍ انزياحي بياني يستفيد من مسافةِ التوتّر الحاصلة بين محسوس هو (الخنجر) ومجرد هو (الشمتة) حيث يلتقيان في برزخ التصور الفنيّ للشاعر. فالزجالُ يوسف ردمَ المسافة بين المسند والمسند إليه في وعيٍ فنيّ يقتضي المضيَّ بالقارئ والمتلقي إلى أبعد حدود الإحساس بحالة الغبن أو (الشمتة) فاختار هذا الانزياح الماكر بآذاننا وهو يهدم المسافة الماهياتية بين مختلفين ويلقي بهما في إطارِ تجانسٍ أدبي موسوم بالبناء الزجلي الجميل. فكانت العبارة أشدّ تعبيراً عن إحساسنا ب(الشمتة).

- ‏وخيالك يمشطها بريق الكلمة: يُظهرهذا الانزياحُ كم هو ماكرٌ هذا الزجالُ يوسف بذائقتِنا مكراً أدبياً مشروعاً يمضي بالإدهاش الصوغيّ الزجليّ أيما مذهب. فمفردة (خيالك) تعوّضُ مفردة (وجودك) وهنا لعبةُ الاستبدال الدلالي على محور الاختيار في استنطاقٍ سيميائي غير مقصود من الشاعر ومقصود من جهتنا داخل الحق الأدبيّ في التأويل. فحضور المعشوقة جسداً هو أمر مألوف في التعبير الشعري، ولكن حضورها خيالاً فأمرٌ طريفٌ لا من باب الاستعمال المشترك الذي طبخه الشعراء طبخاً، ولكن من باب قوة الخيال في ممارسة الضغط على الذات المتكلمة. والخيال هنا حاضر في الفعل وفي القوة (يمشطها) والهاء تعود على الحلمة أو الأحلام في السطر الزجلي السابق. وبماذا يمشط الخيال أحلامَ الذات؟ إنه يمشطها بمادة زئبقية التجلي في المعنى. وإذا طرح الزجال يوسف العبارة في مفردة (بريق) المكونة من حرف جر هو (ب) واسم مجرور هو (ريق) أي الرضاب واللعاب النازح من ثغر المعشوقة، فلنا نحن القراء تأويلات أخرى في مضمار الانزياح المتعدد، بدلالتيْن أو أكثر، منها دلالة اللفظة على البرق في جهة التصغير (بْرَيّقْ) فيكون المعنى أو فائضه دالاًّ على لمعان الكلمة من ثغر المعشوقة. ومنها دلالة اللفظة على الإناء في حالة التصغير (إبريق – بْريّقْ) فيكون المعنى أن ثغر الحبيبة سائلٌ بإدهاش الكلمات مثل إبريق حليب... 

و لو تتبعنا تراكم هذه الانزياحات في جماليتها الدالّة لما أسعفنا مقام هذه الصفحات، وحسبنا من ذلك التمثيلُ لبلاغة الزجلية المسافرة في الجمال، لا حصر مظاهره المتعددة والمتنوعة.

و مما يضفي هالاتِ الجمالِ على القصيدة انسيابُها داخل إطار صوتيٍّ مُمَوسقٍ مثيرٍ وأخّاذ. ومن مظاهر هذا المستوى الصوتي نذكر وحدة الأروية في مثال: (باطل – حاتل – قاتل) ومثال (ابنيّة – النيّة) ومثال (دْموعْ – رْجوعْ – الطّوعْ) ... مما يضفي على الزجلية إيقاعاً آسراً لأذن المتلقي أسراً جليلاً يستدعي فيه تشنيفاً، وفوق التشنيف إدراكاً للمقصود في المعنى والدلالة.

- ختمٌ:

الشاعر الزجال يوسف أسكور أكبر من أن نختزل إبداعه في عبور قِرائيٍّ يقارب جانباً من عالمه الإبداعيّ، وقد نكون جانبْنا صواباً في إغفالِنا بغير قصدٍ جزءاً مما يمكن أن يكونَ أساساً في القصيدة، وشفيعُنا في هذا وذاك أننا ناوشْنا الزجلية وشاكسناها في انتظار قراءة أخرى أشدّ إحاطة بعالمٍ هيولانيٍّ وجميلٍ في حجم إبداع هذا الزجال المختلف.

***

بقلم نورالدين حنيف أبوشامة

................................

المتن الزجلي:

انا لي خنت لغرام

...

سد الخوف ياعشقي

شراجم السمع فيَّ

وخلا السكات يشهد باطل

رَبِّيتكْ في قفز الخاطر ابْنِيَةْ

وهَمْ فراقك مازال فيَّ حاتل

بعتك لحر الزمان بالنِيَّةْ

وخنجر الشمتة سَمُّو كان قاتل

ياعمري

ياعمري

قلة عقلي دَوْبَتْ عنايتي

في تالي الليل ادموع

تهت في ادبال دروبو

ونسيت طريق الرجوع

عشقت لهبال وحروفو

عاندني ما اعطاني الطوع

 ياعمري

 ‏ديك ليام الواشمة فيها شوفتنا

 ‏مازال كتزورني في كل حلمة

 ‏انا نگول غير زغبة من لحلام

 ‏وخيالك يمشطها بريق الكلمة

 ‏ضفيرة وطوالت لحد لحزام

ؤ مقص لفياق من جناب مضمة ..

قطعها واقطع انعاسي .

خلاني وحدي نقاسي

نبكي ونگول

انا لي خنت لغرام

انا لي خنت  لغرام

يوسف أسكور

***

بقلم: ميغان أغويار(1)

ترجمة صالح الرزوق

***

عسكر، قصي (2)، مؤلف دانمركي - عراقي نشيط، تمكن بإسهاماته في الأدب أن يأسر القراء من عدة بلدان وعدة أجيال. ولد قصي في العراق عام 1951، تأثرت رحلته مع الكتابة بعاطفة عميقة  عبرت عن نفسها من خلال رواية الحكايات  لهدف متكرر وهو اكتشاف التجربة الإنسانية المعقدة.

نشر قصي خلال مهنته الطويلة أكثر من 20 رواية، في كل منها رؤية ثاقبة للنفس البشرية وإتقان لا يبارى لفن الكلمة المكتوبة.

وبالإضافة إلى رواياته، قصي شاعر متمكن وباحث، خلفت أعماله علامة واضحة على المشهد الأدبي.

بدأت رحلة قصي مع الأدب بالحصول على بكالوريوس في الأدب العربي من جامعة البصرة. وهناك انغمس بتفاصيل اللغة والثقافة العربية العريقة. ثم دعم موهبته بدرجة ماجستير في الأدب العربي، حصل عليها من جامعة دمشق، قبل أن يتوجها بدرجة دكتوراة فلسفة من الكلية الإسلامية بجامعة لندن عام 2004.

تجاوز عمل قصي في الدانمارك الكتابة، فأسس اتحاد الكتاب العرب في إسكندنافيا، وترأسه، ليعلي من شأن صوت الكتاب العرب في المنطقة. وأخلص لرعاية العلاقات الأدبية، وساعد ذلك على تشكيل المشهد الأدبي في إسكندنافيا.

ربحت مساعي قصي الأدبية ثناء واسعا، ومنحته اهتماما جاء من نقاد وباحثين  معروفين في الحقل الأدبي. في عام 2017 اختار الناقد العراقي نجم كاظم ثلاثا من رواياته، وأضافها إلى قائمة أهم 100 رواية عراقية في القرن العشرين، الأمر الذي ضمن له مكانة أدبية مرموقة.

حالما ندخل في عالم العسكر، قصي، نقوم برحلة اكتشاف، وتنوير، وتراحم، ودليلنا خلالها إتقانه لمهارات السرد، فلكلماته قدرات تتجاوز الحدود وتوحد القراء، وتمنحهم وعيا مشتركا بجمال وتعقيد الوضع البشري.3836 مكتبة نوتنكهام

أرحب بكم في مقدمة هذه المجموعة من قصار القصص، حيث نكتشف تعقيدات الحياة الإنسانية بموضوعات وسرديات مفصلة. فكل قصة تدخل في أعماق النفس البشرية،  وتقدم لنا لمحات عن ملايين العواطف والتحديات والانتصارات التي تعرفنا بجوانب حياتنا.

وفي هذه الصفحات ستلاقون مجموعة غنية من الموضوعات، تتراوح بين القبول بالموت وحتى التماس روابط العائلة ومسؤولياتها. موضوعات الخداع والأسف وعواقب اختيار الإنسان تربط حكائياته بخيوطها، وتطالب الشخصيات بمجابهة شياطين الداخل وتجاوز آثار أفعالهم. وعبر هذه القصص، ستشاهد قوة الاتحاد والتراحم التي تساعد على تخطي الصعاب، كلما تجمعت الشخصيات معا بوجه المحن، وشكلت روابط تتعالى على المكان والزمان. ويضيف تفهم الخلود والحدود السائلة بين الواقع والوهم طبقات عميقة للسرد، فتدعو القراء للتفكير بطبيعة الوجود وألغاز الكون المبهم. وخلال رحلتنا عبر الحكايات وما نكتشفه فيها، من مغامرات، وصداقات، نواجه ثنائية الأسطورة والواقع والتضحيات المبذولة في سبيل تحقيق الأحلام الشخصية. تباشر الشخصيات رحلات اكتشاف مستمر، وتتغلب على المخاطر وتبحث عن شيء واضح وسط فوضى الحياة. وبين القيم الاجتماعية المتبدلة وامتلاك السلطة، تبرز موضوعات التفرد والتردد والتعامل مع الشذوذ في المجتمع، ويتطلب ذلك من القارئ أن يتقبل التنوع وأن يحتفل بتميز كل إنسان على حدة. علاوة على ذلك، نواجه ضمن موزاييك الخبرة الإنسانية، أحلك جوانب المجتمع، ابتداء من سيادة الاتهامات الخاطئة وحتى الأثر النفسي للفساد واستغلال السلطة.  هذه القصص تأتي بمثابة إنذار يحذرنا من خطر القفز إلى خواتيم ويذكرنا بالحاجة للوضوح والانتباه أثناء التواصل كي نتجنب العواقب غير المقصودة. وفوق ذلك تحتفي هذه القصص بقوة الفن في إيقاظ العواطف والتأثير بحياة الإنسان، وتهيب بالقراء أن يكتشفوا أعماق إنسانيتهم ويمتحنوا تعقيدات العالم المحيط بنا. وأنا أدعوكم للدخول إلى أعماق  هذه الحكايات ومباشرة رحلة اكتشاف، وتنوير، ووعي الذات.

***

.......................

* المقالة مقدمة لترجمة منتخبات من قصص قصي الشيخ عسكر، إلى اللغة الإنكليزية، وهي قيد الطباعة.

1- ميغان أوغويار Meghan Aguiar أمريكية مقيمة في بريطانيا. تعمل مديرة مكتبة نوتنغهام. تحمل إجازة في علوم المكتبات من جامعة سان خوسيه الحكومية.

2 - قصي الشيخ عسكر كاتب عراقي، مقيم في إنكلترا. يحمل الجنسية الدانماركية. له أكثر  من 25 كتابا مطبوعا، من آخرها رواية "علاء الدين" الصادرة عن دار أمل الجديدة في دمشق.

ترجمة صالح الرزوق / حلب. سوريا

ثمة أسس معمارية هندسية متقنة بنى عليها الكاتب الروسي الشهير" ديستوفيسكي" افكارهِ الفلسفية في مجمل أنجازاته الأدبية والعلمية الأخوة كارمازوف، والآبله، الجريمة والعقاب، المقامر، المراهق، ورواية الشياطين ووو، أثرى المكتبة الروسية والعالمية ب43منجزا أدبيا وعلميا، هوعالم نفس محترف ومتفهم عميق للذات البشرية والكاتب العبقري والروائي الواقعي بحيثيات مدونته السوسيولوجية الأجتماعية " حياة لها معنى "، يقول في مقدمة الفصل الأول من الكتاب: علينا نحن البشر أن نتساعد ونحبُ بعضنا بمسك أيدي بعضنا بعضاً فإما الوصول إلى المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) وإما نهلك معاً في جحيم أتون مدينة الأشرار (الديستوبيا)، ويستعرض بعض من آراءهِ الثاقبة والحكيمة لتعبيد طريق الألف ميل أمام البشرية بالنضال والكفاح والتضحية بشجاعة فرسان لنيل قصب السبق في نيل (الحرية) لأن الجبناء لن يصنعوا الحرية .لا للحروب نعم للسلام، الحب والأنسنة لا تتغيران وإذا تغيرتا حصلت الكارثة ، وديستوفيسكي في عقيدته الوجودية يقول: عبثية الحياة بدون الله وبدون الخلود، وهو رجل دين لاهوتي من أرائهِ ان نهب محبتنا للرب  احراراً لا عبيداً، فهو يمثل جيل الواقعية السحرية للأدب الروسي، فهو مفكرليس واعظاً، يقول في روايته (الأبله): خيرٌللأنسان أن يكون تعيساً خيرُمن أن يكون سعيداً ومخدوعاً، ويقول في روايته (الجريمة والعقاب) ربما أبدوا للبعض عجيبا وغريباً " أيكون جريمة قتل قملة قذرة ضارة وقتل عجوز لا يحتاج أليها أحد مرابية تمتصُ دم الفقراء إلا أن قتلهم يمحو أربعين خطيئة، لا أظن إن هذا الفعل جريمة ولا أريد أن أتطهر منها وأكفر عنها !.

هوكاتب قدير، وفيلسوف متفهم عمق النفس البشرية وزواياها المظلمة، وقدم في كتابه (حياة لها معنى) وصفا ثاقبا وصادقا للحالة السياسية والسوسيولوجية للمجتمع الروسي آن ذاك والذي أصبح مصدر ألهام للفكر والأدب المعاصر، أضافة إنهُ مخابراتي بوليسي كما ظهر في روايته (الجريمة والعقاب)، وهو أحد أعضاء جماعة الفكر المتحرر(جماعة بيتراشيفيسكي)، يقول فيه فرويد: تعلمتُ سلوك النفس البشرية من روايات ديستوفيسكي، وقال فيه الفيبسوف الألماني هيغل: يمكن أن يكون في موقع النبي المصلح، وأمتدحهُ الفيلسوف الوجودي مارتن هيتجروعالم الرياضيات الحديثة لودويك وعالم الفيزياء أنشتاين، إذاً هو أستاذ كل الأزمنة، ففي عالم ديستوفيسكي تتصارع الأ ضداد الخير مع الشرالحقيقة مع الزيف الرحمن مع الشيطان الموت والخلود والعاقل والأهبل، وهو عليم بميتافيزيقيا الكينونة البشرية وبنهايات ممزوجة بالبراكماتية المطابقة للواقع، لا يهتم بالقاتل أكثر مما يهتم بالأسباب والدوافع، يقول في روايته المقامر:{الرذيلة لها مقياس واحد بالنسبة للجميع وحتى إن أختلفت بالدرجات لأن لطخة السوء تبقى} تمكن من فك شفرة الأنسان بالغوص في أعماقه يكتشف إن الذات البشرية ممزوجة بالخير والشر والنسبة تضطرب بينهما ربما غريزيا تعلو نسبة الشراكثر، وأثني على رأي الكاتب لأن الصراع بين الخير والشر أزلي وتأريخي وما حصل بين الأخوة قابيل وهابيل، فكان هابيل الضحية وقابيل القاتل الجلاد، الناس يميلون إلى قابيل القاتل ويسمون أبناءهم قابيل ولا يقتربوت من هابيل!؟، ويوثق هذه النزعة الشريرة والبائسة الدكتور علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري) .

ويلخص الكاتب الروسي الفذ الحالة البشرية بأكملها ضمن صفحة واحدة فقط، فهو في القمة الهرمية للأدب العالمي 1821-1881 .

مقاربات فكرية تأريخية في تلاقح الحضارات!؟

- وجدتُ التشابه والمقاربة بين رؤى ديستوفيسكي في مغزى روايته (حياة لها معنى) الوصول إلى المدينة الفاضلة وبين حيثيات سفر التكوين وملحمة كلكامش، حيثُ تظهر الحكاية الفنتازية السحرية أن Nintiآلهة الحب  والجمال السومرية التي خُلقت ْمن ضلع (أنكي) لتشفيهِ بعد أن أكل الزهورالسحرية المحرمة من الشجرة الممنوعة التي ظهرت كأساس لقصة أدم وحواء في سفر التكوين، وإن فكرة خلود الآلهة التي ظهرت في ملحمة كلكامش والتي دفع بطلها بهوس وجنون وركوب المخاطر والمغامرات المرعبة لأكتشاف سرموت صديقهُ الحمبم (أنكيدو) وهو سرالحياة والموت أنتهت بأستسلام البطل كلكامش بعد مقتل (أنكيدو) وسرقة الأفعى عشبة سر الخلود، ونصائح الكاهن (أتونابشتم) مندوب الآلهة في سماع القرار السماوي أن الخلود للألهة فقط والموت من نصيب البشرية وقرر البطل كلكامش الرجوع لموطنه وبناء مدينة أوروك لآعتقاده الأنساني { بأن سر الخلود للبشريكمن في العمل الخير والصالح والذكر الحسن في خدمة البشرية} أي تحقيق حلم البشرية في المدينة الفاضلة .

- توضحت رؤى فلسفة ديستوفيسكي تلك الحقيقة المطلقة في فهم قيمة الأنسان (كأثمن رأسمال) لكون هذا الأنسان قادر على تطوير ذاتهُ ليحصل على السعادة الحقيقية عبر ألتزامه بالفضيلة وترسيخ السلام العالمي ونبذ الحروب والبحث عن القيمية المعرفية وليس السعي وراء المتعة الفانية تلك هي الفكرة الفلسفية الأخلاقية، وهنا قراتُ دراسة لزميلي الكاتب الأكاديمي "علي القاسمي" في كتابه الموسوم (عودة كلكامش): إن الملحمة السومرية تصدت لثلاث قضايا مهمة (الحياة والحب والموت) بدأ من النهاية حسب أعتقادهِ ليست اٌقل شأناً من البداية، فأذاً الفكرة فلسفية أخلاقية صيغتْ بهيئة  (ملحمة شعرية مطولة) شرقية ظهرت في عراق وادي الرافدين، وليس غريبا أن تظهرالفكرة الفلسفية الأخلاقية في الألياذة الأغريقية لهوميروس في حروب طروادة في أزدراء وأحتقار (باريس) لخطفه (هيلين) زوجة الملك  مينالاوس)ملك أسبارطة أعتبرت خطيئة والتجاوز على قانون قواعد لعبة الحروب في الملحمة الطروادية، إن كلا الملحمتين الشرقية والأغريقية مكتوبتين بنص شعري مطول في نصه السردي وكلاهما يتقاربان بالفكرة الفلسفية: إن الأنسان يخلد بأعماله الصالحة للفوزبالتغيير ويذكرنا التأريخ بأنجازات عظمائه في نقلة نوعية في تحديثها وعصرنتها في زمن العولمة الرقمية نجد الكثير من الرموزالعلمية أضاءوا زمن العتمة أمثال أديسون مخترع الكهرباء، أنيشتاين صاحب النظرية النسبية في الفيزياء الكونية، ونلسون مانديلا صاحب الثورة البيضاء والقس لوثر صاحيب الأصلاح الديني، ووليم مورتون طبيب أسنان مكتشف (البنج) 1846، والزعيم الشهيد عبدالكريم قاسم صاحب ثورة الخبز والسلام  .

***

عبد الجبار نوري

كاتب وناقد أدب عراقي مغترب

مايس 2024

...........................

المصادر والهوامش

-عودة كلكامش – الدكتور علي القاسمي

- ملحمة كلكامش – الدكتور طه باقر

- ديستوفيسكي – ميخائيل ياختين

 

المَدخل المُثير

يضعنا الكاتب من البداية، في مُواجهة مع المشهد الذي اختاره ليكون عنوان روايته "مشاة لا يَعبرون الطريق"(الأهلية للنشر والتوزيع طبعة أولى. عمّان 2019) حيث يرتسم في مخيّلتنا مشهدٌ للعَشرات أو المئات أو الآلاف من الناس الذين يُقيمون داخل بلدة، قد تكون مدينة غزة حيث عاش الكاتب، محاطة بطريق طويلة، تشدّ بأهلها للمُخاطرة والسّعيّ لعبورها كي ينطلقوا نحو عالم جديد أكثر اتّساعا وأوفر حظا، لكنّهم إذا ما حاولوا، يجدون أنفسَهم عاجزين عن تحقيق رغبتهم، فيعودون، وقد أيقنوا أنّهم يعيشون داخل سجن كبير لا يُمكنهم الخروج منه، ليتابعوا حياتَهم بروتانيّتها المملّة وطموحاتها المحدودة.

وهذا الارتداد وافتقاد الأمل، وحتى الحلم بالأفضل، يأخذنا إلى النهاية الحَتْميّة التي هي الموت الذي "تنثر ضرَباتُ حوافره على الإسفلت دويّا صارخا يُقلق مضاجعَنا، وفي مرّات كثيرة يمرّ مرور البرق لا نكاد نتيقّن من وقوعه إلّا بعد أنْ يرحل مَن نحبّ"(ص7)، حيث لا يبقى لنا ما نتلهى به غيرُ نَدْبِ حاضرنا واستعادة أرواح موتانا الذين رحلوا، وترقّب الآتي، حيث لا بدّ وأنّه قادم، إن لم يكن في الغد، فبعد الغد.

بداية ليست من عالم السينما

اعتدنا في القصص والأفلام السينمائيّة البولسيّة على البدايات المثيرة، حيث تقع الجريمة، وتبدأ تحرّياتُ الشرطة في السّعي للوصول إلى مُرتكب الجريمة، فتأخذ بنا الأحداثُ إلى كلّ الاتّجاهات، وتتداخلُ الأزمنة والأمكنة وتتقاطعُ، وتتوالى الشخصيّات، تؤدّي دورَها المناط بها وتختفي.

لكنّ الكاتب عاطف أبو سيف لم تشده بداياتُ الأفلام والقصص البوليسية، وإنّما استمدّ بدايةَ قصّته، كما كشف في أمسية أدبية أقيمَتْ له في مدينة رام الله، من حادثة حقيقيّة حدثت معه حين أقَلّ على وجه السّرعة مُسنّا سقط أرضا دون مَعرفة السّبب من أزقّة المخيم إلى المستشفى، وهناك أصرّ الشرطي على اتّهامه بالمسؤوليّة، لولا أنّه، وبعد حين، ثبتت براءتُه حين استفاق المسنّ وقال الوقائعَ كما حدثت".

هذه الحادثة تركت أبو سيف في حالة ذهول لم يستوعبها في البداية.

فماذا كان سيحدث له لو لم يستفق الرجل المسن، ومات؟

كيف كان سيُثبت براءتَه وأنّه قام بعمل خير فقط؟

 وكيف كان سيقضي السّنوات الطويلة في السجن أو يُحكَم عليه بالإعدام بتهمة قتل الرّجل المسن.

وتساءل أبو سيف: كم من بريء تَرمي به الصّدفةُ في واقعة تكون المدمّرةَ لحياته.

وأخذت خيوطُ القصّة تتشابك، وترسم المشاهد، وتستحضر الشخصيّات، وتبني واقعا مُتَخيّلا، يضيق بكثرة الناس الذين رمَت بهم نكبةٌ هجّرتهم من بلداتهم المختلفة وجمَعتهم في مخيّم ينتظرون فيه يوم عودتهم. يعيشون حياتهم البسيطة العاديّة، يسعون لتأمين الطعام والشراب لأفراد أسرهم، يخافون أنْ يفقدوا عملَهم فيما لو أغضبوا المتحكّمين بهم، السّارقين قوت أطفالهم باسم الوطنيّة والنّضال والاستعداد لليوم الموعود.

حقيقة لا لبس فيها، أنّ حياة الواحد منّا، طالت أم قصُرَت، تتوزّع على عالمين لا ثالث لهما: عالم الواقع المعيش الذي نحياه بحواسّنا الخمس. والعالم المتخيّل الذي نحلم به طمَعا في حياة أفضل، أو نخافه لأنّه يُهاجمُنا على شكل كوابيس مُرعبة تشلّ إرادتَنا، وتوقعنا في مَطبّات مجهولة ومُعاناة وعذابات. 

ويقيني أيضا، أنّ كلّ عالَم مُتَخَيّل ينطلق من الواقع المعيش الذي نعملُ على تَغييره، فنعيش ساعات البُعد والحريّة والانطلاق لنعودَ بعدها إلى حيث كنّا، نتفقّدُ أحوالنا، ونراودُ أحلامَنا، وننطلق بخيالنا.

هكذا انطلق عاطف أبو سيف من الواقعة التي حدثت له مع الرجل المسنّ الذي سقط أمامه، وقام بنَقله إلى المستشفى، ليُواجَهَ هناك بتهمة التّسبّب في سقوط المسن. ليبني عالما متكاملا يرويها في قصّته "مُشاة لا يَعبرون الطريق".

"مرّت الشّاحنة سريعة عند المنعطف. كان يجرّ درّاجتَه الهوائيّة القديمة، يكاد يعبرُ الشارع حين صدَمته الشاحنة. وقعَ أرضا. ندّت عنه صرخة خفيفة. عجلاتُ الدّراجة الهوائيّة ظلّت تدور بوَهن بعد أن ارتمت على وجه الإسفلت. لم تتوقّف الشاحنة أكثر من عشرين ثانية ثم واصل السائق اندفاعَه في الشارع، كأنّ شيئا لم يحدث. ثم كأنّه انعطف عند نهاية الشارع شرقا إلى الضواحي المجاورة. مشهد بسيط لكنّه حدَث بتَعقيد كبير."(ص9)

هذا المشهد الكامل الذي حدث، افتتح به الكاتب روايتَه ليتابعَ في عالمه المتخيّل رسمَ المشاهد وبناءَ قصّته المتكاملة.

وطبيعي أنْ يثيرَ هذا المشهدُ مَن تَواجد صدفة في المكان. وبالفعل سارع صاحبُ دكّان الفاكهة القريب لمساعدة المسن، ومثله فعل السائق الذي مرّ، والفتاة الجامعيّة التي نزلت لتوّها من الباص، حيث قاموا بإدخال الرجل المسن إلى السيارة التي نقلته إلى المستشفى.

لم يستغرق الحدَثُ وقتا طويلا. ولم يُثر اهتماما كبيرا. فالحياة مستمرّة والناس يُتابعون حياتَهم الاعتياديّة:

 "طفل صغير، يمرّ صدفة، استغل عدمَ وجود الفاكهاني في دكّانه فتناول حبّة خوخ وأكلها غير عابئ بكلمات التأنيب التي يقذفه بها بائعُ الترمس والفول. شابّ يجلس على شرفة يُدخّن نرجيلة بطعم التّفاح، رأى المشهد كاملا ولم يُحرّك ساكنا. بائع في الثلاثينات من عمره يجرّ عربة ترمس وفول نابت. امرأة خمسينيّة تجرّ طفلها متأفّفة من الحرّ. تلاميذ مدارسَ يخرجون من الشارع الذي تقع فيه مدارسُهم. باص يتوقّف في المحطة لتنزلَ منه طالبة جامعيّة. ثلاث صبايا يدخلن محلَّ الموبايلات الذي افتتح حديثا. رائحة الدّجاج المشوي تفوح من داخل المطبخ الكبير على مَدخل أحد الأزقّة. من فوق سطح يقف طفل لم يتجاوز العاشرة يُطلق العنان لطائرته الورقيّة تحمل أحلاما كثيرة لتسافر بها إلى فضاء آخر. صوت الأم يحذر ابنَها من السقوط. تطير الطائرة الورقيّة سارحة في السّماء الواسعة شمالا. الأعينُ الكثيرة تشخص نحوها محلّقة في مساحات لا مُتناهية. الطائرة الورقية تبدو وكأنها تستقرّ فوق المستشفى الذي تمّ بناؤه حديثا على التلّة شمالي المخيم حيث ستَنقل السيّارة الرجلَ العجوز الذي دهسته الشاحنة"(ص10-12).

هذه المشاهدُ العاديّة لحياة الناس اليوميّة غير المبالية لوقوع هذا الحدَث أو ذاك، فكلٌّ مَشغول بهمومه الخاصّة. والأحداثُ العارضة تمرّ سريعا، لا تترك أثرا لها.

كان من الممكن أنْ تنتهي القصة بإدخال المسن إلى المستشفى، ونُتابع مشاهدَ الحياة الروتانيّة للناس. الدّالّة على استمرارية الحياة العاديّة.

لكنّ الكاتب عاطف أبو سيف عاد لتجربته الخاصّة، واتّهام الشرطي له بالتّسبّب في سقوط الرجل الذي نقَله إلى المستشفى لينطلق في عالمه المتَخَيّل، ويتغلغل في دواخل الشخصيّات التي استحضرها، ليكتشف سرّها وطُرقَ تفكيرها وعوالمها السريّة التي لا يعرف حقيقتَها غيرُها.

"أمام باب قسم الطوارئ في المستشفى التَمَّ المارّةُ والزوّار حول السيّارة ليساعدوا في نَقل الرجل إلى الدّاخل. الجميعُ يهتم لمعرفة ما حدَث: ما الذي حدث؟ ما له؟ حادث؟ شجار؟ هل اعتدى عليه أحد؟ أين عائلته؟ مَن قريبُه؟ معقول لا أقارب له؟ هل من قريب هنا لهذا الرجل؟ معقول أنّ الرجل نزل من الفضاء؟ مَن اللعين الذي حاول قَتْل الرجل؟  لكن أين أهله؟ لا بُدّ أنّ له ابنا أو بنتا أو زوجة أو أخا أو أختا. مقطوع من شجرة؟ لا بُدّ أنّ سائق السيارة الذي أحضره يعرف؟ أين سائق السيارة؟"(ص13-14).

الجلبة التي حدثت عند وصول الرجل المسن إلى المستشفى، واهتمام كلّ مَن صدَف وجوده بالحدَث، انتهت بمجرّد أن أُدْخِل الرجلُ إلى المستشفى، فتفرّق الناس، كلّ إلى همومه، وانحصر الاهتمامُ بالرّجل بين الذين أحضروه والصّحفى الذي يريد كتابة تقريره عن الحادث، والممرّضات والطبيب. ثم سرعان ما أصبح الرجلُ حالة طبيعيّة بالنسبة للممرّضات والطبيب. وظلّ الاهتمامُ به ينحصر في السائق وبائع الفاكهة والطالبة الجامعيّة والشرطي الموكل على الأمن والصحفي.

فَنيّة الكاتب الذّكيّة

استمرار الرجل المسن في غيبوبته أخرجَه من مركز الأحداث، وحوّله لينحصر في كونه نقطة الارتكاز الحياديّة التي يلتقي الجميع حولها. ممّا أتاح للكاتب أن ْينطلق في غَوْر ذاتيّة كلّ شخصيّة على حدَة ليكتشف المشترك بينها ويقفَ على الخاصّ بكلّ منها.

الصفة المشتركة البارزة التي جمعت بينهم، وحتى مع باقي الناس المّارّة والمتجمّعة في الشارع، حيث سقط الرجل المسن، والناس المتواجدين أمام المستشفى والممرضات والطبيب، كانت الناحية الإنسانيّة الدّافعة بالواحد ليكون إلى جانب الضّعيف والمريض والمصاب ليمُدّ له يدَ المساعدة المطلوبة. لكنّها حالة عابرة، سرعان ما يرتدّ الواحدُ عنها ليعتني بمشاغله ومتطلّبات حياته. وأيضا هذا الارتداد هو حالة إنسانيّة تفرضها رغبةُ كلّ واحد في استمرار حياته وتجاوز الصّعاب فيها. وهذا ما حدث بالفعل حيث عاد الفاكهاني إلى دكّانه، والسائق إلى عمله، والطالبة إلى جامعتها، والشرطي لمزاولة عمله المناط به، والصّحفي ليكتب التقريرَ المطلوب منه للجريدة. رغم أنّ حالة الرجل المسن لم تغب عن أيّ منهم، وظلّت تدفعهم لزيارته والاطمئنان عليه.

الصّفة المشتركة الثانية التي جمعت بين الجميع هي الشّك. فسَعْيُ كلّ منهم لمعرفة ما حدث للرجل، وكيف أصيب وسقط، أدْخَلت كلا منهم في دوّامة مُقلقة مخيفة، جعلت الواحدَ يشكّ في الثاني، والجميع يشكّون ببعضهم البعض، ويُطلقون الاتّهامات في كثير من الحالات بصوت عال وواضح. كما حدث بين السائق والشرطي "انفجر السائق في وجه الشرطي: أنت تشكّ؟ ونحن نشكّ فيك أيضا. نعم نحن نشكّ فيك. أنت تشك في كلّ شخص، تريد أن تحرف الحقيقة لأنّك تعرفها، أو لأنك فعلا جزء منها. لماذا تكون بريئا ونحن كلّنا متهمون؟ تعتقد أنّنا لا نعرف الحقيقة. الحقيقة أنّنا كلّنا متّهمون، وأنت متّهم أيضا. لماذا أنت وحدك بريء؟"(ص145).

والشكّ صفة إنسانيّة أيضا، فيها الجوانبُ الإيجابيّة التي تجعل الواحدَ لا يقتنع بما هو عليه، ولا يقبَلُ بالمسلّمات، ويريد تَغيير كلّ شيْء للأفضل، ويدفع الواحد للبحث والتّنقيب والعمل. وفيها السلبيّة التي توتّر العلاقات بين أقرب الناس، وقد تُدمّرُ حيوات الكثيرين، فتمزق الأسرَ والمجتمعات، وقد تؤدّي إلى الفوضى والعِداء.

وهذا ما حدث لجميع الشخصيّات التي التقت عند الرجل المسن الغائب في غيبوبته الطويلة، فكل واحد يشكّ في الثاني بأنّه وراء الجريمة التي حدثت، وكلّ واحد يعتقد أنّ الثاني يريد التّستّر على ما قام به، مُلقيا التّهمة على الآخر. ومع كل رواية جديدة تغيب الحقيقة أكثر، ويظلّ الرّجل في غيبوبته.

لم يشأ الكاتب أنْ يقفَ بنا عند شكّ الواحد في الثاني، وينهي الحكاية بهذه الحالة المرفوضة، وإنّما انطلق من فكرة أنّ حياة الواحد موزّعة، كما قلت سابقا، بين عالمين: عالم الواقع والعالم المتخيّل. وهما مُتداخلان في حياة كلّ إنسان. وانطلاقُنا من واقعنا لنُحلّق بالمتخيّل قد يُخلّصنا من جمودنا وافتقار إبداعنا لننطلقَ بالمتخيّل الذي يفتح أمامنا عوالمَ لا نهاية لها، وآفاقا تدفعُ بنا أكثر وأكثر.

وإذا كان الشرطي يُمثّل الغَباء برغبته في إرضاء المسؤول عنه الذي لا يقلّ عنه غباء، وهمّه فقط إثبات التّهمة وإلصاقها بأيّ واحد ليبرز موهبته وقُدُراته أمام المسؤولين عنه. فإنّ السائقَ والفتاة وحتى الفاكهاني يريدون التخلّصَ من شكّ الشرطي بهم باتّهام الغير. والحقيقة التي يعرفها، ورصدَها الشاب الذي كان يجلس في الشرفة بأنّ الشاحنة لم تصدم الرّجل المسن، وأنّه سقط وحده، ظلّت مَخفيّة، لأنّ أنانيّتَه، وقد يكون تخوّفُه من التّورّط في التّحقيق معه، دفعاه لالتزام الصمت، وعدم الإدلاء بمعلوماته لأحد.

هذه الحقائقُ الواقعيّة التي أبقت أصحابَها في دوّامة من الضّياع، كانت بحاجة لمَن يتحرّر منها ليخرجَ الجميع من دوّامتهم. وكان صوتُ المحرّر صاحب الصحيفة الدّافع لهذا التّحرّك. "القصّة الحقيقيّة ليست فيمَن حضر، بل فيمَن غاب. الغائبون هم الذين يصنعون الحكايات الحقيقيّة. فالقاتل غائب، كما أنّ أهل الرجل غائبون" (ص76).

والتقط الصحفيّ الإشارة الذكية من المحرّر، وفكّر: "عالم الغائبين، هو العالم الذي عليه أنْ يقومَ بصياغته، وخَلق حكاياته. من المؤكّد أنّ عالَمَ الحاضرين حول السّرير مليء بالقصص، أمّا البطل الحقيقيّ للتّقرير، الذي عليه أنْ يُبرزه، أيّ الرجل العجوز، فهو الغائبُ الأكبر في الحكاية. الحكاية والبطل توأمان عادة، لكن في هذه الحالة فثمّة حكاية بطلُها غائب. ومهمّته الكبرى يجب أنْ تكون خَلق عالم خاصّ بالرّجل العجوز. تخيّلُ حكايته الخاصّة، وافتراضُ وجود هذا العالم وتلك الحكاية، وتأسيسهما وفْق منظومة علاقات من الأشياء التي تتوفّر في مَتْن الحكاية، وتأثيثهما بكلّ ما تمّ العثور عليه على قارعة الحكاية."(ص77). 

هكذا أخذت القصّة المتَخيّلة تنبني انطلاقا من "صورة بالأسود والأبيض لشابّة جميلة وُجِدَتْ في محفظة بنيّة اللون، احتفظ بها الرجل. ودرّاجة هوائيّة قديمة. ثلاثة أشياء لا بُدّ أنْ تصلحَ لكتابة قصّة حياة الرّجل العجوز.". (ص 77)

القصّة المتَخَيّلَة

صورة الشّابّة الجميلة التي وُجِدَت في المحفظة كانت بدايةَ الانطلاق في بناء القصّة الكاملة. فلا بدّ أن تكون صاحبةُ الصورة عشيقةَ الرّجل، حيث احتفظ بها كلّ هذه السّنوات الطويلة. هكذا افترض الصّحفي في قصّته المتخيّلة. "فالحبّ هو الشيء الوحيد الذي لا يذوي في حياتنا. نشيبُ، وتوهن أجسادنا، ويفتك الزمن برغباتنا، وتدوس عرباتُه أحلامَنا، لكنّ الحبّ يظلّ فتيّا في القلب. له نفسُ إيقاع النّبضة الأولى، دهشةُ الرّوح ذاتها، وارتعاشةُ الجسد نفسها حين يخطر على بالنا مَن نُحبّ. فأجملُ ما في الحبّ هو إصراره على البقاء، على عبور الزمن، على التّعبير عن نفسه في أشدّ اللحظات قسوة، مقدرتُه على مَدّنا بأكسجين الأمل. لذلك فمَن نُحبّ يظلّ شابّا، فالعشّاق لا يشيخون، لا تدوس أرواحَهم عربةُ الزّمن". (ص78)

واختار اسمَ "سلوى" للفتاة لتتجسّدَ حقيقةً ملموسة. كلاهما من مدينة يافا. التقيا صدفة في أحد نهارات نيسان من العام 1946، كانت عائدة من مدرسة "حسن عرَفة" الثانوية فيما كان هو عائدا من مدرسة "العامريّة". وقف مثل مَن صَعَقته الكهرباء أكثر من دقيقتين دون أنْ يرمش. ظل يُحَملق إليها وهي تخطو مثل طاووس بين صديقاتها. وتطوّرت العلاقة بينهما، وتقاربت الأسرتان، وانتهزا فرصةَ التقاء العائلتين في سهرة من ليالي يافا الرّائقة ليختليا معا، ويخطفا قبلة سريعة، لا يُفارقُه مذاقُها طوالَ العمر. أمِلا بالزّواج بعد انتهاء دراسته في الكلية العربية في القدس والحصول على شهادة "المَتْرك". وكانت سلوى في وداعه ساعة سفَره إلى القدس، وظلّت تلوّح له بيديها والدّموع تُغطّي وجنتيها حتى اختفت الحافلة.

وحدث ما لم يكن مُتوقّعا. وقعت النّكبة. واحتلّ اليهود مدينة يافا وطرَدوا أهلَها العرب، فتشتّتت العائلاتُ. وحملت النّكبةُ عائلتَه إلى مدينة غزّة فيما كان هو في القدس. وفقط بعد ستة أشهر نجح في الوصول إليهم. لم ير محبوبتَه سلوى منذ لقائهما الأخير، ولم ينجح في العثور عليها أو معرفة أيّة معلومة عنها. ظلّ عمره كلّه ينتظرها. رفض كلّ العروض التي قُدّمت له للعمل، وفضّل أن يعمل ساعيا للبريد عَلّ رسالة منها تصله. مرّت السنوات وقارَبَ الثمانين من عمره وهو ينتظر، حتى جاءه خبرٌ من صديقه حبيب بأنّ أخبارا جديدة ومُفرحة من سلوى سيُفاجئه بها. وغمَره الفرحُ مرّة واحدة، استعدّ للقاء سلوى، صفّف شعره ، رتّب هندامَه نزلت دمعة ساخنة على خده، رشّ العطرَ على جسده، فكّر باستئجار سيارة توصله إلى بيت صديقه حبيب، لكنّ نظرته الخاطفة إلى درّاجته أعادته إلى صوابه. فهي رفيقة عمره في انتظاره لسلوى والبحث عنها. احتضن الدرّاجة الهوائيّة، شعر أنّه يستعيدُ شبابَه، اعتلاها وقادها شاقّا زقاقات المخيّم صَوْبَ بيت صديقه حبيب، حيث تنتظره، كما كان متأكدا، محبوبتُه سلوى. ، لكنّه وقد اقترب من الشارع الرئيس، نزل عن درّاجته من شدّة الازدحام، وتقدّم يجرّ درّاجته نحو الشارع، وإذا بالشّاحنة اللعينة تصدُمه، فسقط ودخل في غيبوبة طال أمدُها، وحرمته من الوصول إلى بيت صديقه حبيب واللقاء بمحبوبته سلوى. وكانت النهاية بأنْ عادت سلوى إليه، كما أمِلَ طوال سنوات عمره، حضرت إلى المستشفى "فتحت البابَ ودخلت. كانت عتمة تسحب عباءتَها عن الغرفة. وضعت يدَها على رأسه فأفاق من الغيبوبة على اللمسة التي ظلّ ينتظرها عقودا وعقودا. ترَجّل ونهضَ عن السرير مثل شمس تُشرقُ من بين تلال الغيوم. كأنّه كان ينتظرها، فتح عينيه وملأهما بحضورها في قلبه الثمانيني. وعاد طفلا يلهو في أزقّة يافا". (ص203)

مُواجهة المستسلمين الخانعين

كنتُ على ثقة، ولا أزال، أنّه لا وجودَ لإبداع حقيقيّ إذا لم يرتكز إلى واقع قائم، نتعايشُ معه بكل علّاته وفَضائله، ويتطلّع إلى واقع افتراضيّ يرسمُه له الخيال، يعمل على تَحريره من قيود الواقع المعيش المقَيِّد، ويأتي بالأفضل.

ومن هذا المنطلَق، كما أعتقد، أدخلَنا الكاتبُ في روايته إلى هذين العالمين ليوقفنا على الأخطار التي تتهدّدُ الناسَ الذين عاشوا وناضلوا وضحّوا لتحقيق أمل، حرصوا عليه عقودا وعقود، وبدأ يتوارى ويُغلّفُه الإهمال، وحتى النسيان، أمام هموم الناس اليوميّة، ولا مَعْقوليّة، ولا مُبالاة العالَم القريب والبَعيد، وتَحميل كلّ واحد لغيره مسؤوليّة الذي يحدث.

فالرجل المسن المقتربُ من الثمانين عاش عمره كلّه، رافضا أيّ عمل يُبعده أو يلهيه عن هدفه الوحيد في البحث عن محبوبته والوصول إليها والتّوحد معها. وفضّل العملَ ساعيا للبريد، يُوزّعُ الرّسائلَ إلى أصحابها وهو يقود عربتَه الهوائيّة. بينما باقي الناس أخذتهم المشاغلُ اليوميّة. منهم مَن أغرتهم المناصبُ والسّلطة فاتّخذوها وسيلةً للوصول إلى الغِنى والتّحكّم برقاب الناس ومَصائرهم. ومنهم مَن انشغل بهمومه العائلية الضيّقة البائسة، فلم يفكّر بغيرها. ومنهم مَنْ زاول حياته العادية اليومية فارتاح إليها، واختار هَدْأةَ البال على مُواجهة الصّعاب ومخاوف الموت والإبْعاد والسّجون. فتركوا أحلامَهم الكبيرة وعزَفوا عن العمل لتَجسيدها.

ووحده مَن عانى من تضاؤل تَعاطفِ الناس معه، والاكتفاء بالكلام المعسول المخادع، وشهد انحدارَ الجميع في خوضهم صراعات البقاء فيما بينهم، كلّ يشكّ بغيره ويُباعِده ويُعاديه ويعمل على إضعافه، وحتى مَحوه من الوجود. والرجل تُرهقُه السنواتُ الطويلة وهو يرفض الاستسلامَ، ويتشبث بالأمل والإيمان بأنّ محبوبتَه ستعرفُ الطريقَ إليه وستأتيه ليبدآ حياة جديدة سعيدة. 

قصص جانبيّة ولَسَعات قد تُنبّه 

كما في كلّ رواية، انطلق الكاتبُ ليتابعَ قصصَ الشخصيّات الأخرى التي تُحيط بالشخصيّة المركزيّة، لدورها المهم في بناء الجسم الكامل للرواية التي تُصوّرُ عالما مُتكاملا تنبضُ فيه الحياة، وتتفاعلُ الشخصيّات، وتتهادى الأمكنة، وتتزاحمُ الأزمنة.

لكنّ المثيرَ أنّ كلّ الشخصيّات مشغولةٌ بأمورها الخاصّة وحاجيّاتها اليوميّة غير مُنتبهة أو مُهْتمّة بالشّأن العام أو واضعة أمامَها هدَفا تسعى للوصول إليه. فالناس العاديون أمثال السّائق وبائع الفاكهة يهمّهم تأمينَ لقمة العيش لأفراد أسَرِهم. والشرطي الذي شارك في الانتفاضة واعتُقل خمسَ سنوات، وفرح يوم التقى الرئيس ياسر عرفات الذي كان يُخبّئ صورتَه في السجن ويرسمُه على الورق، أصبح العبدَ المطيعَ المنافقَ الساعي لنَيل رضا الضابط المسؤول عنه، ولا يفكّرُ بغير رضاه ليضمنَ لنفسه استمراريّة الوظيفة وتأمين مستقبل الأسرة. والطالبة الجامعيّة رغم لفتتها الإنسانيّة ومساعدتها للرجل المسن إلّا أنّ شغلَها الشّاغل في التفكير بحبيبها الذي تركها، وتعملُ جاهدةً لاستعادته ونَيْل رضاه، بينما هذا الحبيب تركها لأنّه غير راض عن تصرّفاتها. وهو شاب أنانيّ غير مهتم بكل ما يدور حوله، ويجري أمامه، فهو جَبانٌ لا يُواجِهُ، ويُؤْثرُ السّلامةَ على تَعْريض نفسه للخطر. والصّحفيُّ يُسايرُ رئيسَ التّحرير ويقبل بنصائحه ويجتهد ليكتب التّقرير الأفضل. ومنهم مَن انقلبَ على ماضيه النّضالي، وتسلّق سلالمَ السلطة الدينيّة والدّنْيَويّة، فتحكّم َبرقاب الناس، وظلمَهم، واستغنى على حسابهم باسم الوطن والنّضال.

عالم افتراضيّ هو أقربُ إلى الواقع المَعيش

في روايته "مُشاة لا يعبرون الطّريق" اهتمّ الكاتبُ عاطف أبو سيف أنْ ينقلَ لنا الصورةَ الحقيقيّةَ للواقعِ المأساويّ اليوميّ الذي يعيشُه الشّعبُ الفلسطيني في الأراضي المحتلّة. وقد اجتهد أن يُقدّم، بهدوء وبعيدا عن الصراخ والشعارات المعتادة، صورة بانوراميّة لمعاناة الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة نتيجة لثقل نير الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينيّة وحرمان أبناء غزّة من المَخارج الجويّة والبحريّة والبريّة، إضافة إلى ثقل وظلم حكم المتسلّطين على الحكم في غزّة وانفلات الفئات الاستغلاليّة الانتهازية التي تلتهم أموال الناس، وتغنى على حساب الفقراء باسم النضال ومحاربة المحتل. فالشعب الفلسطيني يعيشُ حياةً باهتة، فارغة، عبثيّة، حالمة، غافلة عمّا يحدُث ويُنَفّذُ يوميّا. ويشهدُ انحسارَ الوطن، وافتقاده، وضياعَه، ولا يملك القُدرةَ على التّصدّي والمواجهة. يعيشُ حياة يتهدّدُها الخَرابُ، كما قال النّاقد فيصل درّاج "الممتدّة من متزعّم تآلف مع "الأنْفاق والمولات"، إلى مواطن بسيط هاجسُه "تأمين الأولاد" ومناضل قديم يوغل في التنازل يُفاخرُ بأنّه لا يتنازل، وصولا إلى فتاةٍ يقهرُها إخوتُها وأبٍ ينتظرُ زيارة ابْنٍ بَعيد، ومعلّم شبه أميّ غدا مسؤولا تربَويّا عالي المقام، وإنسان فاسد حافظ على امتيازاته في أزمنة غزة جميعا".(مجلة الكلمة.عدد 151 نوفمبر 2019)

نهاية الكلام

"مشاة لا يَعبرُون الشّارع" ليست مُجرّد رواية تُضاف إلى عدَد الروايات التي صدرت قبلها، وإنّما هي صَرخةٌ عالية، يوقفُنا بها الكاتبُ على الهُوَّةِ السّحيقة التي تنتظرُ الشعبَ الفلسطيني فيما لو ظلّ على حالِه مِنَ الاتّكاليّة والأنانيّة والانشغال بالصّراعات والعَداوات والهموم اليوميّة التي تُثقل كاهلَه.

في مجتمع يعيشُ حالةَ اغتراب، فقَدَ بوصلتَه، وضَيّع هدفَه. ومع شعب يُعاني تحت الاحتلال، يبحث عن طريق خَلاصِه، تصدرُ روايةُ عاطف أبو سيف "مُشاة لا يعبرون الطريق" لتصرخَ مُنبّهةً ومُثوّرةً ومُحذّرةً أنّ الاستمرارَ في المشي البطيء مرفوضٌ في زمن السّرعة الفَوْق ضَوئيّة اللامَعْقولة. والقُبولُ بالطّريق المسْدودة الملتفّة حول الأعناق، لم تَعُدْ بالقَدر المحتوم المرضي عنه. والعبورُ لم يَعد اختيارا، وإنّما هو فَرْضٌ حَتْميّ لحياة كريمة حرّة.

ولحرص الكاتب على تَثْبيت إيمان أبناء شعبه بمستقبلهم يرسمُ، من البداية، المشهدَ الذي يبعث الأملَ، ويُطمْئنُ على المستقبل الآتي مهما بعُد، "مَشهدَ طفل لم يتجاوز العاشرة، يقف فوق سطح البيت، يُطلقُ العنان لطائرته الوَرَقيّة، تحمل أحلاما كثيرةً لتُسافرَ بها إلى فَضاء آخر. تطيرُ الطائرةُ الورقيّةُ سارحةً في السّماءِ الواسعة شمالا، تَشْخَصُ نحوَها الأعْينُ مُحَلّقة في مساحات لا مُتناهية، لتستقرَّ أخيرا فوق المستشفى الذي تَمّ بناؤه حديثا على التّلّة شماليّ المخيّم، حيث ستقلُّ سيّارةُ الأجرة الرّجلَ العجوزَ الذي دهسته الشّاحنة". (ص12) 

***

د. نبيه القاسم - الرامة - فلسطين

* تأطير: هذه ورقة تعرف بمؤلف "النادل والصحف" للراحل الأستاذ عبد الرحمان الفايز، المربي والأستاذ المفتش قيد حياته، والذي أصدر كتابه سنة2019، وقد عرف الراحل بروح المرح والدعابة والطيبوبة الكبيرة والتطوع لخدمة الآخرين ومساعدتهم، وهي بعض الأصداء التي تعكسها فصول هذا الكتاب الغني بالمواقف والأحداث والمفارقات والطرائف . وهذه الورقة هي تقديم لعمل مفصل نستكمله قريبا إن شاء الله. فتحية إلى روح الراحل الأستاذ عبدالرحمان الفايز، وإليكم الورقة:

* سؤال التجنيس في "النادل والصحف":

أول ملاحظة تصادف القارئ لكتاب "النادل والصحف " هي غياب أية  إشارة لجنس هذا العمل سواء في الصفحة الأولى من الغلاف، أو في الصفحات الداخلية(1-2-3) الواردة قبل الإهداء (ص5). وهو غياب يجعل القارئ يتساءل عن هوية الكتاب الموجود بين يديه.

وليستطيع القارئ بناء افتراض معقول بهدف تصنيف الكتاب عليه أن يتوقف عند الصفحتين: 5 و7، إذ يرد في ملاحظة الكاتب بالصفحة الخامسة ما يلي:"تمت بداية تسجيل هذا العمل خلال سنة 2010، وما بعدها على وجه التقريب". هذه الملاحظة تقدم لنا معلومتين: اولاهما أن الكتاب في بدايته كان  تسجيلا والتسجيل هنا يحتمل: تسجيل شفهي بواسطة آلة تسجيل، ثم تأتي عملية تفريغ العمل كتابة. أو تسجيل كتابي بمعنى تدوين وكتابة وهو أمر آخر. فهل كان الكتاب شفهيا في البداية أم كتابة؟

ما الفرق بين الأمرين؟ لعل ذلك ينعكس على أسلوب الحكي، فالتلقائية والتداعي الحر يختلفان عن القصدية والانتقاء.

والمعلومة الثانية تحيل على زمن الكتابة/التسجيل(٢٠١٠ على وجه التقريب أي قبل ٩ سنوات من النشر).

و في نفس الصفحة يشير الكاتب إلى أن:" هذا العمل المتواضع". ولفظة التواضع سنحتاجها لاحقا لتساعدنا على تحديد هوية العمل.

أما في الصفحة السابعة فقد تم إثبات تقديم من ثلاثة أسطر وردت فيه المفاهيم التالية: عمل سردي/السيري والقصصي/ الواقع/ تخضيب الواقع بالخيال.

وبهذا يتضح أن الكاتب اختار هوية محددة لكتابته وأطرها في خانة السرد الحكائي.

وبالعودة إلى الهوية السردية للنص نستحضر التصنيفات النقدية المتداولة الآن فنقف عند الأنواع السردية المهمة الآتية:

السرد الروائي-القصصي، السرد السير/ذاتي (السيرة الذاتية)، والتخييل الذاتي. دون أن ننسى باقي الأنواع: السيرة الغيرية، الخاطرة،و الأشكال السردية التراثية....

ومع غياب أية إشارة إلى الهوية الروائية/القصصية لعمل "النادل والصحف"، وكذا غياب وسمه بالسيرة الذاتية الصريحة، يتبقى لنا افتراض قوي هو أن كتاب "النادل والصحف " عبارة عن تخييل ذاتي.

فما التخييل الذاتي؟

بالتوقف عند هذا المفهوم نعرف أن "سيرج دوبروفسكي"حدده من خلال أربع سمات:

سمة شكلية (مغامرة لغوية)، سمة أجناسية (الكاتب يصبح شخصية خيالية)، وسمة التخييل (الإهتمام بحياة الناس العاديين التي أشار إليها الكاتب بالتواضع)، وسمة الموضوعية (سرد الحياة الحقيقية مع انزياح عن المرجع/الواقع).

ورغم الانزياح عن الواقع فإن القصة تحرص على الإيهام بالواقع، مع توظيف أسماء مستعارة أو كنى وألقاب، ويسعى الكاتب إلى إضفاء التخييل على الذات ويبعدها عن الواقع/المرجع (كما يقول كولونا).

فهل يرقى هذا "التخييل الذاتي" إلى أن يكون جنسا أدبيا مستقلا أم هو مجرد سجل خطابي؟ أو وضعية خطابية تعتمد في الكتابة السردية؟ وهل هو جنس كامل؟ أم غير معروف؟ أم خفي؟

بالعودة إلى مقولة:" بمجرد أن يحرف اسم العلم يبدأ التخييل "(سيلين ومالرو)، نستطيع القول مع محمد الداهي بأن نص "النادل والصحف" يندرج ضمن التخييل الذاتي، وذلك لأسباب نذكر منها:

- انه يحكي حياة البسطاء(متقاعدون، الجيران،التلاميذ، القرويون،...)،أو حياة بسيطة: حياة رجل تعليم متقاعد وتفاعلاته مع الحياة ورصده لظواهرها السلبية: سرقة جرائد المقهى، ظاهرة المشردين، العنف الرياضي، سوء الجوار،العلاقة مع السلطة، مشاكل التعليم...). وقد عبر الكاتب بلفظة "المتواضع" مبعدا نفسه عن حياة العظماء التي هي موضوع السيرة الذاتية الصريحة كما يرى دوبروفسكي.فالكتابة هنا سيرة ذاتية لعموم الناس (وليس للمهمين فقط).

- ان الكتاب يقدم لنا "حقائق مزيفة"، أي ينطلق من مرجعية واقعية (حياة المتقاعد وباقي الشخصيات التي يذكرها وهي حياة اجتماعية ونفسية) ويلونها بالخيال (تزييف فني)، أي اضفاء التخييلي على الواقعي.

- ان الكاتب يقدم نفسه بصيغة:"هذا أنا وليس أنا" حسب تعبير جيرار حنيت، أو كما قال داربوسك ماأقوله:" حقيقي يجب عدم تصديقه".

- ان العلاقة بين الكاتب والشخصية والسارد تكون مبنية على التطابق الجزئي(على عكس السيرة الذاتية الصريحة التي تقوم على التطابق التام). فالكاتب  في "النادل والصحف" لا يصرح باسمه الحقيقي،وإنما صادفنا ثلاثة أسماء في الكتاب: أحمد (ص10)، عبد الله (ص134) ومحمد(ص167). وقد ورد اسم كل من عبد الله ومحمد مقرونا بصيغة السارد الشخصية المستعمل لضمير المتكلم(يظهر هنا التطابق بين الشخصية والسارد مع الاختلاف مع الكاتب). وأما اسم محمد فقد ورد بصيغة الغائب (تمايز الكاتب عن الشخصية/ تمايز الشخصية عن السارد/تمايز الكاتب عن السارد).

وهنا يطرح اشكال وحدة الشخصية/ البطل. هل هو نفس الشخصية في جميع الفصول؟ أم هو أكثر من شخصية؟

يبدو أن الفصول الاثنى عشر تتحدث عن نفس الشخصية التي يختفي خلفها الكاتب، وهذه الشخصية هي الخيط الرابط والناظم بين جميع الفصول. أما اختلاف الأسماء فقد يعود إلى "مكر التخفي" الذي يمارسه الكاتب. فاختلاف اسم البطل عن اسم الكاتب في التخييل الذاتي يفسر ب"المكر"الفني عبر تحريف أسماء الشخصيات(يشار إليها من وراء حجاب!) لأن المهم ليس الإسم في حد ذاته وإنما الدور الذي تقوم به الشخصية.

وهكذا نستخلص فيما يخص الهوية الأجناسية لنص "النادل والصحف " الآتي:

التخييل كتابة حكائية تخترق الخصائص الفنية للكتابات السردية: القصصية والروائية والسيرية. وهي تقوم على:" إضفاء التخييل على التجربة الذاتية المعيشة"حسب فانسون كولونا. وعلى المستوى الشكلي يتخذ التخييل الذاتي شكل طبقة من النصوص المتواجدة في السرد (حكايات الفصول الاثنى عشر وقد ترد أكثر من حكاية داخل الفصل الواحد). ويتوفر على بعض شروط ومواصفات الجنس الأدبي(تقنيات السرد: الاحداث، الحبكة، الشخصيات والصراع واللغة كوصف أو سرد أو حوار، المكان والرؤية السردية والزمن).

هذا الشكل الحكائي لم يرق بعد إلى مستوى أن يكون جنسا أدبيا معترفا به مؤسساتيا، ويبقى عبارة عن: وضعية تلفظية تعبر عنها عبارة (لنتخيل بأنني) حسب كولونا.وربما بحسب البعض هو" جنس غير مكتمل" أو في طور التشكل والاكتمال (منذ 1977-الابن لدوبروفسكي)، وربما له علاقة بالخانة الفارغة التي تركها فيليب لجون وهو ينظر للجنس السير-ذاتي.

وهذا كله لا يقلل من القيمة الأدبية للتخييل الذاتي فقد انتسبت إليه نصوص رائعة ك: مثل صيف لن يتكرر ودليل العنفوان وغيرهما كثير وضمنه نص "النادل والصحف "للراحل الأستاذ عبد الرحمن الفايز رحمه الله.

***

عبد الجليل لعميري

 

عند توقّد شرارة ما، جراء تماس ثقافي بين كيانين ثقافيين مستقلين ومتباعدين، سينتج عن ذلك كيان ثقافي جديد، هو ما يسُسمى اليوم "بالثقافة الهجينة" Cultural Hybridity، وهي حالة تزيد ثراء الثقافات، وتضاعف أهميتها وتأثيرها، عند إتصالها وإرتباطها بثقافات أخرى تؤثر وتتأثر بها. أي أن الثقافة المتأثرة بغيرها والتي تحمل الصفات الهجينية، لم تعد تحمل هوية عناصرها الأساسية فقط، على الرغم من مظاهر الخصوصية الذي تحمله، وذلك لإدماجها عناصر من ثقافة أو ثقافات أخرى، بفعل ما يمر به العالم من إنكماش في المسافات المكانية والزمانية عبر مختلف وسائل الانترنيت والاتصال وباقي وسائط العولمة. "فالتهجين الثقافي لا يعني محو أو تمييع الهوية الثقافية للفرد، بل يعني احتضان تنوع الثقافات والاحتفاء به." – كما تؤكد الباحثة والاكاديمية الامريكية غلوريا أنزالدوا. Gloria Anzaldúa  أي بعبارة أخرى، ان هذه الثقافة، التي تُدمج وتُصهر عناصر من ثقافة أخرى في صلب محتواها، لا يجعلها تُلغي أو تُذوّب هويتها الأساسية، بل تزيد تأثيرها في المحيط المُنتج والمستهلك لها على السواء. فالتهجين الثقافي مفهوم يستبطن إدماج عناصر وأفكار وممارسات ثقافية متنوعة بثقافة أخرى، فضلاً عن ان هذه الثقافة المُدمجة تُنتج أشكالاً تعبيرية جديدة، وإبداعات تجريبية خلاّقة، وثقافة جديدة تنبثق عنها هويات ثقافية بالوان جديدة.

وقد كان للمسرح دورٌ أساسيّ في مزج الثقافات، وفي إبتداع ملامح ثقافية جديدة، ونقل تجارب هذا الانصهار الثقافي عبر العروض الدرامية التي تتجاوز الموانع الجغرافية والثقافية والحضارية. حيث ان المسرح المعاصر يُمارس قوة تغييرية فعّالة في تعزيز التفاهم وإحترام ثقافات الآخر عبر توطيد التعاون والتبادل الثقافي. فمن ضمن الإمكانات الإبداعية للمسرح، تذويب الحواجز الثقافية التقليدية، ونبذ الاشكال النمطية، وتسهيل ازدهار الفكر والابداع التجريبي، والتحريض على التطوير والنماء الاجتماعي، وذلك بدعم ومساندة المجتمعات المهمشة، من خلال إستكشاف مساحات جديدة ومختلفة للحوار والتفاهم. فضلاً عن تقوية مشاعر التضامن والتعاطف الإنساني، وتعزيز الوعي بمعايير المساواة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. وعلى هذا الأساس فإن التهجين الثقافي يُمثل بيئة فريدة من الابتهاج والاحتفال المشترك بحالات ومفرزات التنوع والاختلاف.  ينتج عن هذا الابتهاج تنشيط وتعميق للقدرات الإبداعية، وخاصة التجريبية، كما يفضي الى دعم وتعزيز جهود التجانس والاندماج للمجاميع الاجتماعية، الأقل حظاً، ضمن نسيج المجتمع الواسع، وفي إطار ديناميكية عالمنا الذي لا يكف عن تحديث ذاته، فهو عالم شديد التغيّر، ومتواصل بشكل متزايد. وللمسرح تحدياته، وامتداداته في هذه الثقافة الهجينة، عبر التبادل المشترك للرؤى الفنية والأفكار، والقيم، والمعتقدات المختلفة، العابرة للثقافة الوطنية وجغرافية الحدود والقيود.

الثقافة الهجينة والقوة التغييرية للمسرح

من الواضح ان الثقافة الهجينة هي المولود المتميز لتيار العولمة. فالعولمة هي حالة من زيادة الترابط والاعتماد المتبادل بين مختلف الثقافات والمجتمعات التي أدّت الى تبلور حالة مبتكرة من التبادل الثقافي، عبر تشارك وتعلم الأفكار والقيم والممارسات. فالتهجين الثقافي، كما يصفه الاكاديمي وأحد أبرز المنظرين لهذا المفهوم، هومي ك. بهآبها، Homi K. Bhabha  "ليس كياناً منفرداً، بل هو عملية تفاوض وإعادة التعريف بشكل مستمر". وقد إنعكس ذلك بشكل مباشر وواضح على المسرح المعاصر بإعتباره حالة فريدة في ديناميكية التغيير والتطوير المستمر، فالمسرح لايعرف التوقف عند حدّ أو الاستكانة بثبات، لأنه في حركة تجريبية، دينامية، مستمرة ومتطورة من افراز الأفكار الجديدة، ومن الابداع في الرؤى المختلفة، ومن إبتكار وسائل جديدة للإدهاش، في إطار المشهدية الجمالية الإبداعية للمسرح وتطوير وتجديد عناصر ومرتكزات الشكل النهائي ومخرجات محتوى المضمون في العرض المسرحي. وكذلك فإن المسرح يعكس حالة العالم الراهنة، هذا العالم المتنوع والمترابط الذي نعيش فيه اليوم. من الثابت أن العولمة والتبادل الثقافي قد ساهما في تشكيل الملامح الجديدة في المسرح المعاصر، من خلال إثرائه بالتنوع والشمولية، وتعزيز التعاون بين الثقافات، وتعزيز العروض متعددة اللغات والعابرة لأسوار المجتمعات الثقافية.

غير ان التهجين الثقافي يستدعي التوقف، ببصيرة ثاقبة، عند عدد من التحديات الهامة والتي يستوجب الالتفات اليها بكثير من الحذر والانتقائية.  فالتبادل الثقافي في المسرح، مثلاً، يجب أن يتم التعامل معه بحساسية شديدة وإنتقائية. حيث إن الانخراط في مسارات التبادل والتعاون الثقافي يجب أن تتم على مستوى واحد من الاحترام والتقدير، خاصة في تبادل الأفكار والحوارات ووجهات النظر. كما يؤكد ذلك المنظر الادبي والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد بأن "لكل ثقافة إنسانية الحق في العيش في سلام والتطور وفقا لقيمها واحتياجاتها الخاصة، ولكن الشيء الأكثر أهمية هو توفير وسيلة يمكن من خلالها لجميع هذه الثقافات أن تتواصل مع بعضها البعض وتتعرف على بعضها البعض". حيث ان هيمنة ثقافة على أخرى ستؤدي بالضرورة الى الاستيلاء الثقافي، مما يُقوّض جوهر ما يرمي اليه التبادل الثقافي، وذلك بإدامة الصور النمطية البعيدة عن الابداع. أدناه، سأستعرض بعض أهم هذه التحديات.

أولاً. الاستيلاء الثقافي: يمكن أن يفرز التهجين الثقافي، أحياناً، عناصر قد تؤدي إلى الاستيلاء الثقافي، حيث يتم تبنّي عناصر من ثقافة هشة، أو غير مهيمنة، من قبل ثقافة واسعة الهيمنة دون إستيعاب مناسب لمفاهيم ومدلولات تلك العناصر، مما يؤدي الى تحريف هذه العناصر ضمن سلطة الثقافة المهيمنة وتحويلها الى سلعة للمتاجرة، أي إنهاء معناها ومدلولاتها الاصيلة. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي تهجين المسرح أيضًا إلى تسليع الثقافة. ففي عالم يتسم بالعولمة بشكل متزايد، غالبًا ما يتم استهلاك المنتجات الثقافية وتسويقها بسبب جاذبيتها واهتمام الناس بها. وهكذا بدأت بعض العروض المسرحية تتضمن عناصر من ثقافات مختلفة، ربما، ضمن منظور أنها ستكون أكثر قابلية للتسويق والنجاح التجاري.  وهذا يمكن أن يؤدي إلى استغلال التقاليد الثقافية لتحقيق الربح، دون إيلاء الاحترام الواجب للأهمية الثقافية والمعنى الكامن وراءها. بمعنى آخر، إنه يختزل الثقافة إلى سلعة، ويقلل من قيمتها الجوهرية، ويقوم بتسطيحها وتحويلها إلى مشهدية مُمسرحة لأغراض الترفيه.

ثانياً. غياب العدالة الاجتماعية: عند إستيلاء واستغلال الثقافة المهيمنة على عناصر من ثقافة هشة او مهمشة فإن ذلك يُضاعف من تهميش هذه المجتمعات، واضعافها ويخلّ بالتوازن القائم بين شرائح المجتمع، أي إدامة الهيمنة الثقافية والمساهمة بتغييب مبدأي المساواة والعدالة الاجتماعية، وبعبارة أخرى، المساهمة بتعميق الفوارق الطبقية عند الشرائح المهمشة من المجتمع.

ثالثاً. فقدان الأصالة الثقافية: إن التبادل الثقافي، او التمازج الثقافي قد يُعّرض الاصالة الثقافية والتقاليد الجمعية والفردية الى التشوية والتحريف، لذلك يُمكن ان يؤدي التهجين الثقافي الى تشويه الممارسات الثقافية الاصيلة وتمييعها لكي تنصهر ضمن عناصر فضفاضة تُفقدها معانيها ومدلولاتها الاصيلة. فالتهجين الثقافي يفترض التكيّف بهدف إستيلاد سياق ثقافي جديد، وقد يقود ذلك الى تمييع مميزات التنوع الثقافي وبالتالي ضياع اصالة التراث المجتمعي الثقافي.

رابعاً. تشويه الهوية الثقافية الاصيلة: ان التأثيرات العميقة التي تتركها الثقافات المختلفة على ثقافة الافراد، وخاصة أولائك الذين ينتمون الى شرائح ثقافية من أقليات مجتمعية، قد تُعّرض الافراد المعنيين الى الشعور بالانفصال عن المجتمع، أو الى الاغتراب الثقافي والانسلاخ من كلا الثقافتين، أي الثقافة الاصيلة وتلك المدمجة عبر التهجين. فالتهجين الثقافي "يتحدى فكرة الهويات الثابتة والنقية، وبدلاً من ذلك يعترف بالطبيعة السائلة والديناميكية للتفاعلات الثقافية."، يحاجج بذلك الاكاديمي وعالم الاجتماع البريطاني بول جيلروي،  Paul Gilroy، لذلك فإن الانفتاح على ثقافة الآخر يجب ان يتوازن دائماً مع مشاعر الانتماء والمواطنة. فالحاجة الى الثقافة الهجينة تزداد،  كحاجة الى الانفتاح والتنوع، ولكني أعتقد بانها أيضا حاجة لتأكيد خصوصية الهوية الثقافية التي تسعى الى مثل هذا الانفتاح والتنوع. فخصوصية الهوية الثقافية هي الاطار العام الذي يحتوي على الهوية الوطنية ويصونها.

تأثير المسرح في الثقافة الهجينة

بتزايد إستخدامات الانترنيت وما تتيحه من تنوع واسع في المعلومات والاتصالات بين مختلف الاجناس والثقافات أصبح من النادر، بل والشاذ، أن تجد ثقافة وطنية مجردة من أي تأثير ثقافي خارجي. أي أن الثقافة الهجينة هي المولود الواثق والمتميز للعولمة، في عالم يرفض الإستكانة لخصائص تجعله أسيراً وراء أسوار ونوافذ الحضارة العالمية الراهنة. فأهمية التهجين الثقافي هي إستكشاف ومزج عناصر وممارسات من مختلف الهويات الثقافية، بهدف تعزيز التنوع والابداع والابتكار والتجريب، وقد انعكس ذلك في سياقات المسرح المختلفة. أما التبادل الثقافي فهو أحد وسائل المسرح التي تتأكد عبر التعاون الدولي والإنتاج المشترك، مما يُفضي، غالباً، الى عروض مسرحية آسرة ومثيرة للتفكير والتأمل، علاوة على أنها تُوفر منصة للمسرحيين للتعلم من بعضهم البعض وتبادل الأفكار، بل وتجاوز آفاق إمكانياتهم الفنية.

ولا شك أن المهرجانات المسرحية تشكّل اهم وسائل التبادل المسرحي والثقافي، فهي معنية بفتح ثغرات في الحدود التقليدية للثقافة الوطنية ولفضاءات المسرح الإبداعية من أجل تمرير عناصر حداثية من ثقافة او ثقافات أخرى. فالمهرجانات تشكّل منصة تجمع بين المسرحيين والجماهير من مختلف البلدان والثقافات لعرض الأساليب والتقاليد المسرحية المتنوعة، والاندماج بالحوارات والمناقشات التي تخص الموضاعات الإنسانية ذات الصفات العالمية، وترتبط بهموم الانسان بعيدا عن الحدود الجغرافية والاسوار المحلّية للثقافة. هذه الحوارات تعزز خصوصية الهوية الوطنية، وتوسّع مدارك المواطنة العالمية. كما توفر المهرجانات المسرحية الفرصة للفنانين والمتفرجين باكتشاف التجارب الجديدة، والابتكارات، والابداعات في الأشكال المسرحية المتنوعة وتثمينها والتمتع بها. أدناه بعض أهم انعكاسات الثقافة الهجينة على السياقات المسرحية، وتأثير المسرح في هذه الثقافة:

التنوع والشمولية: إن للتنوع والشمولية تأثير عميق على مسارات المسرح الديناميكية والتغييرية، من خلال إستقطاب المسرح لمجموعة واسعة من الثقافات والخلفيات الفكرية، ووجهات النظر، والابداعات، والابتكارات. ولم يؤد هذا التأثر إلى إثراء التجربة المسرحية فحسب، بل عزز أيضًا إستيلاد نماذج من أشكال فنية أكثر جاذبية، وأوسع شمولاً وتمثيلاً. علاوة على ذلك، فقد أدى التنوع والشمول إلى تحفيز الإبداع والابتكار والتجريب في حرفية المسرح. فمن خلال احتضان مواهب واصوات جديدة، يتم تشجيع المسرحيين على استكشاف أنماط وتقنيات وأساليب جديدة لتشكيل السرديات الدرامية. وقد أدى ذلك إلى تطوير إنتاجات فريدة ورائدة تدفع حدود المسرح التقليدي الى ماوراء ماهو متعارف عليه.

التبادل والتعاون الثقافي: لا شك أن للتبادل والتعاون الثقافي في المسرح دورٌ أساسيّ في صياغة إنتاجات مبتكرة، تمزج بين التقاليد الفنية المتنوعة والتقنيات السردية الدرامية الابداعية. حيث انها تجمع فنانين من خلفيات ثقافية مختلفة، والمشاركة بآرائهم ووجهات نظرهم وخبراتهم وممارساتهم الفنية الفريدة. " يمكن أن يكون التهجين الثقافي مصدرًا للتمكين، حيث يتنقل الأفراد والمجتمعات ويتفاوضون بشأن هويات ثقافية متعددة."، (غلوريا أنزالدوا)، والنتيجة هي نسيج غني من الإبداع الذي يتخطى حدود المسرح التقليدي، ويخلق أشكالاً جديدة ومثيرة لسرديات وعروض مسرحية متميزة.

تعدد وتنوع اللغات: في عالم اليوم، حيث أصبح فيه التواصل والتفاعل بين الثقافات واللغات المختلفة أمرًا عادياً بشكل متزايد، تقدم لنا العروض المسرحية متعددة اللغات منصة لسماع الأصوات المتنوعة من خلال دمج لغات مختلفة في الأداء المسرحي، مما يُعرّض الجمهور لتعابير لغوية مختلفة وفروق ثقافية دقيقة. يعزز، هذا التعرض، الإحساس بفهم وتقدير كبيرين للنسيج الغني من اللغات والثقافات الموجودة في مجتمعنا الواسع والمعولم. فقد لعبت العروض متعددة اللغات دورًا مهمًا في تحدي إستكانة الجماهير وحثّهم على القبول والاشتراك في الانفتاح والتنوع اللغوي لمجتمعات حضارة اليوم. تتضمن هذه العروض استخدام وسائل مسرحية وفنية مختلفة، ولغات متعددة، مما يسمح بتجربة أكثر ثراءً وشمولاً وتمثيلاً للمشاهدين.

تطبيقات مسرحية في الثقافة الهجينة

ومن الأمثلة العالمية الموثقة حول تأثير المسرح في الثقافة الهجينة نذكرتجربة، تعتبر واحدة من أبرز وأهم هذه التجارب وأعني بها مسرحية "المهابهاراتا" وهي من إخراج بيتر بروك. نص المسرحية مقتبس من الملحمة الهندية القديمة والتي تحمل نفس الاسم، وتعتبر واحدة من أطول الأعمال الأدبية وأكثرها تأثيرًا في العالم. يضم الإنتاج ممثلين من بلدان وثقافات مختلفة، مثل الهند واليابان وفرنسا وإنجلترا وعدد من بلدان أفريقيا، ويستخدم مزيجًا من اللغات والموسيقى والرقص وعروض الدمى لسرد قصة حرب وآثارها الأخلاقية والروحية. تم عرض المسرحية للمرة الاولى في عام 1985 في باريس، ومنذ ذلك الحين تم عرضها في العديد من الأماكن والمهرجانات حول العالم، بالإضافة إلى تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني، وفيلم سينمائي. يُنظر إلى تجربة المهابهاراتا المسرحية، وعلى نطاق واسع، على أنها تحفة فنية لمسرح متعدد الثقافات، لأنها توضح كيف يمكن للتقاليد ووجهات النظر الفنية المختلفة أن تثري وتضيء الدراما الإنسانية على الصعيد العالمي.

وللتذكير، فإن المخرج بيتر بروك (بريطاني يعمل في المسرح الفرنسي) صاحب رؤية شمولية، سعى إلى إنشاء مسرح عالمي يتجاوز الحدود الثقافية، ويجذب جماهير واسعة ومتنوعة. لقد تعامل مع المسرح متعدد الثقافات من خلال العمل على استكشاف التقاليد المسرحية المختلفة من جميع أنحاء العالم، مثل الآسيوية والأفريقية والأوروبية، ودمجها في أعماله. لذلك فقد عمل بروك وتعاون مع ممثلين وموسيقيين وفنانين من بلدان وخلفيات مختلفة، وشجعهم على نقل وتقديم إبداعاتهم، وتعبيراتهم، ومايتمتعون به من رؤى فنية وثقافية إلى المسرح. يؤمن بيتر بروك أن المسرح العابر للثقافات يمكن أن يثري وينير الحالة الإنسانية، فضلا عن تحدي وعي، ووجدان المشاهدين والقيم الثابتة عندهم، والحث على إشراكهم في التجربة المسرحية.

المثال الثاني، والأقرب زمنياً، هو مسرحية "جزيرة الذهب” للمخرجة أريان منوشكين، والتي كانت شغوفة جدا باليابان والثقافة الآسيوية، حيث سافرت الشابة منوشكين، وهي تحمل على ظهرها حقيبة سفر صغيرة، بباخرة منطلقة من ميناء مرسيليا في فرنسا الى ميناء يوكوهاما في اليابان. كان ذلك في عام 1963 ومنذ ذلك الوقت، وهي في شغف تام بالثقافة الشرقية عامة والمسرح الياباني، وخاصة مسرح "النو" و "الكابوكي". وفي اليابان توجد جزيرة صغيرة لها تاريخ خاص ومؤثر جداً، وهي جزيرة "سادو" حيث تم نفي المثقفين والفنانين، بما في ذلك ممثل مسرح "النو" الشهير، آنذاك، زيمي موتوكيو في أعوام 1363-1443. هذه الجزيرة هي المُستعارة في مسرحية منوشكين الأخيرة والمسمّاة "الجزيرة الذهبية"، أي جزيرة الاحلام والفنتازيا والواقع الآخر، عُرضت هذه المسرحية في عام 2022 على مسرح الشمس، في باريس، الذي قامت بتأسيسه منوشكين بمشاركة عدد من الفنانيين منذ ستين عاماً. هذا التمهيد سيكون مهم ومفيد لفهم العرض المسرحي.

الكاتبة هيلين سيكسوس تقول في مستهل مقدمتها لهذه المسرحية " كم كنا مرضى من ماحولنا من رداءة، ومن إنحطاط، وكم كنا، جميعاً، مرضى في كلّ أنحاء العالم، من (الخوف) والجبن، ومن تسميم الحقيقة، ومن المُهربين المتاجرين بالضمائر والعلوم، المثيرون للشفقة، ومن تواطؤ السلطات مع جميع قوى الدمار، ومن الإنهيار المتعمد للغة التواصل، ومن السقوط الهائل للأنوار في قمع الظلام!". من هذا الواقع المعتم والخانق ينبثق، إذن، الحلم في جزيرة نائية خالية من أمراض الخوف والجبن والانحطاط والتواطؤ الوضيع. حلمٌ بجزيرة يتعايش الإنسان فيها بلغة لا لبس فيها، وبآمال تعبّد طريق الآخرين نحو حياة أفضل. حلمٌ "بجزيرة ذهبية" بعيدة عن الجوار.  ( للمزيد حول هذه المسرحية يمكن مراجعة مقالي المعنون "أريان منوشكين ومسرحية الجزيرة الذهبية” المنشور في "الحوار المتمدن" في 13 كانون الأول/ديسمبر 2022). اما إطار السرديات اللغوي في المسرحية فقد شمل اللغات الفرنسية، والانجليزية، واليابانية، والعربية والعبرية مع ممثلين وفنيين يمثلون ثقافة هذه اللغات.

الثقافة الهجينة والمجتمع العربي

لم يتوقف التهجين الثقافي عند عتبة بعينها، فقد تجاوز الحدود والمغلقات وإجتاز جدران سميكة من تقاليد وقيم ثابتة، وقد إنعكس ذلك على المجتمعات العربية من مشرقها الى مغربها، عبر تأثّرها المباشر والفعّال بمجتمعات وثقافات أخرى، في مجالات الفكر والفلسفة والعلوم والفنون في حين كان تأثير هذه المجتمعات -العربية- خارج أسوارها محدود للغاية. ويعود ذلك، كما أعتقد، لسببين، الأول، هو أن المجتمعات العربية لم تنجح في تنظيم وتحديث وتأمين إنسياب وتسلسل التراكم الفكري والتنظير الفلسفي، والبحوث العلمية التي أنتجها الاسلاف. والثاني، هو عدم تمكن هذه المجتمعات من الاستفادة من تجاربها التاريخية الهامة، وتصنيفها لها، بعيدا عن التعمق الفكري، والتأمل العلمي، والتحليل الواقعي عبر إستسهال العودة الى هذه التجارب ضمن مخزونات واسعة من مشاعر وعواطف الحنين والنوستالجيا لماضي الزمان، مما يُلحق ضررا بالغاً بنمو وتقدم وإزدهار هذه المجتمعات وثقافاتها. يذكر الباحث والناقد الادبي والاكاديمي هومي ك. بهابها،  Homi K. Bhabha في كتابه الهام (الموقع الجغرافي للثقافة)،  Location of Culture  "إن التهجين الثقافي ليس مجرد حقيقة من حقائق الحياة في العالم الحديث، بل هو ضرورة لبقاء الثقافات ونموها."

أما فيما يخص التهجين الثقافي، الواضح تأثيره أو تأثّره بالثقافة والمجتمع العربي، فهو يتمثل في مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية المتنوعة، والمختلفة. من أبرز هذه التأثيرات وضوحاً نجدها في الثقافة عامة، ومناهج البحث العلمي والفلسفي ومختلف مجالات الفن ولا سيما المسرح، ثم تأثيرات أخرى أساسية تمس مباشرة اللغة، والغذاء، والموسيقى، ووسائل الاعلام، وسأورد بعض الأمثلة على ذلك:

المسرح:

من التجارب العربية، ضمن مفهوم إمتدادات المسرح في الثقافة الهجينة، عدد من الاعمال المسرحية لمخرجين عرب بارزين، سأشير هنا الى ثلاثة أمثلة، كان لها أثر وتأثير مباشر وفعّال في مجمل سرديات وأطر العمل الفني والمشهدي في المسرح في المنطقة العربية. فالمثال الأول، قدم المخرج التونسي الكبير المنصف السويسي عملا مسرحيا قائمآً على دمج مختلف الأفكار والثقافات والتيارات التقليدية في عرض مسرحي متكامل ومبهر لنص مسرحية "واقدساه" للكاتب والمسرحي المصري الدكتور يسري الجندي، وقد إستعان المخرج بممثلين من عدد من الدول العربية ومن خلفيات مجتمعية متنوعة لتوحيد الرسائل السياسية التي يرمي اليها العرض المسرحي.  أما المثال الثاني فهو مجموعة أعمال وأفكار المخرج المسرحي المغربي الطيب الصديقي، فقد كان له الريادة في الاستثمار بالتراث العربي لإنارة حياة أكثر حداثة وانفتاح للمجتمعات العربية المعاصرة، وإجتذاب أوسع شرائح الجمهور لحضور العروض المسرحية. وبذات السياق فإن المثال الثالث البارز فهو للمخرج العراقي الرائد قاسم محمد الذي تعامل مع التراث العربي بإعتباره نوافذ يطلّ منها على عناصر الحداثة المعاصرة، بدمج حقب زمنية متباعدة، وقوالب ثقافية تبدو جامدة وساكنة ومركونة على رفوف التاريخ، غير انه نفض عنها الغبار وألبسها ضياء حداثي معاصر من خلال كتابته وإخراجه لمسرحية " بغداد الازل بين الجد والهزل". والجدير بالإشارة هنا بإن الارتكان للتراث، والثقافات غير السائدة، وقيم ومبادئ الاسلاف، شكّل اسلوباً ينفذ من خلاله المخرج من سلطة الرقابة. علاوة على ذلك فإن جدارة واهمية هذه الاعمال المسرحية تكمن بما سعت اليه من الخروج من أُطر الثقافة الوطنية والاحتباس المناطقي الجغرافي. ومما يعزز أهمية هذه الاعمال المسرحية هي انها كانت تسعى الى وضع أسس حقيقية لتشكيل عناصر هوية مبتكرة، وحداثية وخاصة لمسرح يُمكن تسميته "بالمسرح العربي". هذه الهوية لم تتشكل الى الآن، بل ازدادت ارتباكا وتشويهاً بسبب الإيغال بإنتاج أعمال مسرحية ذات طابع ثقافي مناطقي.

اللغة:

اللغة العربية لم تعد كافية في المحادثات العامة والنقاشات الفكرية عند بعض شرائح المجتمعات العربية، فبدت لهم بأنها عاجزة عن إشباع التعبير والافصاح عن المعنى، فظهرت قوالب لغوية جديدة مثل الفرانكوأرب، وغير ذلك. ويتضح هذا بجلاء في بعض المجتمعات العربية، مثلاً في دول المغرب العربي التي تستخدم لغة مدمجة بين الفرنسية والعربية، والامر نفسه يحدث بتزايد في دول المشرق العربي بالجمع بين اللغتين الإنجليزية والعربية في المحادثات العامة. ولاشك أن الانترنيت وسّعت مسألة إهمال اللغة العربية أو تشويهها بدمجها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية وتبني أفعال وصفات وأسماء من هذه اللغات وتوطينها ضمن النحو والصرف الخاصة باللغة العربية.

الغذاء:

- المطبخ المختلط في المنطقة العربية، يجمع بين عناصر من تقاليد الطهي المختلفة، وبتأثيرات من المطبخ التركي والإيراني والهندي وبعض الدول الغربية. وبذات الوقت فإن تأثيرات المطبخ العربي قد أُدمجت الى حد التبني في مطابخ أوربية وغيرها. ربما أشهر منتجات الاغذية في الدول العربية التي سافرت بعيدا عن موطنها الأصلي وعن مجتمعاتنا العربية هي الفلافل والحمص والتبّولة، تلى ذلك الكس كسي المغاربي والكباب ..الخ)

الموسيقى:

مزج آلات غربية وأجنبية مع آلات عربية في الموسيقى العربية المعاصرة مثل دمج السانتور والبيانو والفلوت والأبوا والكونترباس والأوكورديون وغير ذلك في الموسيقى والاغاني الحديثة ضمن تراث التخت الموسيقي الشرقي. هناك أيضا حالات لدمج وتوطين بعض تيارات ومناهج موسيقية عالمية في مجرى الغناء والموسيقى العربية، كما جرى مع موسيقى ورقصة الرومبا، والسالسا، والسامبا، والمامبو، وموسيقى ورقصة التانجو وأخيرا مع موسيقى وأغاني الجاز.

وسائل الإعلام:

في التلفزيون نلاحظ تحول الصور النمطية والجامدة لبرامج وأشكال تقديم الاخبار والحوارات، في معظم محطات التلفزيون العربية، الى الاشكال العالمية الأكثر تأثيرا في الاعلام متمثلة بشبكة تلفزيون السي أن أن CNN وما شابهها مما يعزز الايهام بوجود وممارسة الديموقراطية. أما في السينما فقد نسجت صناعة السينما المصرية، وهي اكبر صناعة سينمائية في المنطقة العربية، ويعتبر المجتمع العربي برمته المستهلك الأكبر، ويكاد ان يكون الوحيد لهذه السينما، نسجت سرديات وتقنيات مبنية على العنف المفرط والعصابات المتنوعة المهجّنة من عناصر مختلفة من السينما الهوليودية والبوليودية، ثم ادخلتها على الفيلم العربي الذي يبتعد فيها، نسبيا أو كليا، عن قيم وسلوكيات المجتمع المصري وكذلك بقية المجتمعات العربية.

توضح هذه الأمثلة كيف يمكن أن يحدث التهجين الثقافي في مختلف جوانب الحياة والمجتمع، مما يؤدي إلى خلق أشكال تعبير ثقافية فريدة ومتنوعة.

في الختام

مع تجذر ثورة الاتصالات، والتوسع في إستخدامات الانترنيت ووسائل الاتصال المختلفة، وتنامي الهجرات الخارجية، لم يعد التبادل الثقافي أو تجاوز أسوار المجتمع بحدث إختياري، وكذا الحال بالنسبة للثقافة الهجينة. فقد غيّرت العولمة ديناميات وآليات مدارك المجتمع وسلوكياته، ورفعت من مناسيب معاييره فيما يخص النظر الى القيم والتقاليد والسلوكيات عامة. ومن هذا المنظور فإن المسرح يُعدّ أداة سحرية قوية للمحافظة على الثقافة الوطنية وصيانتها ولكن بإنفتاح واعٍ وحذر لتبني ودمج عناصر من ثقافات أخرى بهدف إثراء المخزون الثقافي والاجتماعي على الصعيد الوطني، و لتعزيز التفاهم بين الثقافات والمجتمعات المختلفة. أهم الوسائل للوصول الى تلك النتائج تتمثل بتحدي الصور النمطية التي تفرزها الثقافات المغلقة والمجتمع الراكد والساكن، ثم تعزيز وتعميق التغيير في شتى مجالات الثقافة والمساهمة في تجذير الوعي الاجتماعي الحداثي، والتمسك بخصوصية الهوية الثقافية، وتعزيز الإحساس بالانتماء الوطني. ضمن هذا المفهوم، فإن قدرات المسرح التغييرية تعتمد بشكل جوهري على آليات التبادل الفني، والتعاون الدولي، وتنظيم وإستضافة المهرجانات والجلسات الحوارية، فالمسرح يتمتع بالقدرة على تجاوز الحدود الثقافية المناطقية وعبور اسوار المجتمع الثابتة والجامدة بهدف إنشاء مساحة مشتركة حيث يمكن سماع الأصوات المتنوعة لمختلف شرائح المجتمع والدفع بالهموم الجمعية والفردية في المجتمع الى مقدمة أولويات التنمية البشرية على الصعيدين الوطني والإقليمي. فالتهجين الثقافي  "يسمح بخلق أشكال جديدة ومبتكرة من التعبير، حيث تتجمع الثقافات المختلفة وتؤثر على بعضها البعض."، كما يؤكد ذلك هومي ك. بهابها.

ففي حين تتلمس مجتمعاتنا صعوبات التكيّف مع الثقافات الجديدة والوافدة، وتعقيدات ما يجري في عالم اليوم، هذا العالم المنكمش في مسافاته، كما هو منكمش في أزمانه، ينبثق المسرح بأنواره ليضئ الجوانب الخافية من الأجوبة المستحيلة والاحتفاء بها، تأكيدا وتعميقا لروابط إنسانيتنا المشتركة كأفراد وكمجتمع.

***

علي ماجد شبو

حين أسس عزرا باوند مدرسته التصويرية على أساس مشتق عن الهايكو ... كان ذكيا جدا إلا أن ضبابية الهايكو في وقتها وعدم سماح اللغة الإنكليزية اضطره أن يؤسس مذهبا جديدا في الشعرية العالمية من مرتكزات المشهد...

نحن وبعد عقد من كتابة الهايكو وتوظيفه والعمل على التنظير والنقد ليس من الممكن أن نعيد بناء النص بشكل مغاير عن تلك المرتكزات إلا أننا عملنا على الواقع العربي وكيف نوجد أرضية خصبة لهذا الوافد.

التصويرة أيضا مشتقة عن الهايكو بكل أجناسه في بلاغته المشهدية وبذات الأسلوب النقدي المتبع خارج اليابان من بنية وتقطيع وباقي الخصائص بتسميات عربية فلغتنا قادرة على تعريب كل شيء. وأكيد في كتاب الهايكو من مترو باريس إلى البيان الشعري في بغداد نشرنا تعريب لكل تقنيات الهايكو ومصطلحاته إلا أن كانت العقبة الوحيدة هي اسم النص...

أنا على يقين أن هناك من يعارض التسمية وهذا حقه إلا أننا اصطدمنا بمعنى العنوان ودلالاته في اللغة العربية... وللتجنيس لا ننظر إلى رفاهية الاسم المستورد بقدر إيجاد مرادف يحقق الغاية المرجوة من النص العربي وان أخذ مساحة عالمية.

كلمة هايكو لم ولن يعطينا أي كاتب معنى له خارج اليابان ما لم يعد إلى أصل التسمية داخل اليابان بالتالي أن أردنا العمل تحت التسمية يجب أن تكون نصوصنا ضمن خصائص تلك التسمية التي لم نصل إلى مستواها كما الشعر العمودي أمام اللغات الأخرى.

لذا؛ أن طالبنا ترجمة الشعر العمودي إلى اللغات الأخرى أيضا لن يكون بخصائص اللغة الأم بل سيكون النص ترجمة تفاعلية إن لم يكن ترجمة حرفية لذا؛ لن يقال عنه نص عامودي بالتأكيد.

التصويرة اسم بديل للهايكو

آن الأوان أن يكون للعرب تسميتهم الخاصة للهايكو ليس بعيدا عن الهايكو لكن من أصل اللغة العربية.

وقد بحثت كثيرا عن اسم يسع هذا الفن النبيل لم أجد أفضل من "التصويرة" ومن المؤكد لن نكون خارج الخصائص فنحن نعمل بها منذ سنوات.

وبما أننا نستحدث فنا جديدا على الذائقة العربية لا بد من أن نكون ضمن هذه الذائقة فنا وكتابة ولعل أبلغ ما اشتققت منه اسم التصويرة مرادفا للهايكو الذي بالتأكيد كتبناه بلغتنا بعيدا عن الكثير من أصل النص الياباني وأهمها الإيقاع والاكتفاء بالبلاغة المشهدية صار إلزاما أن نعطيه اسما يليق بإبداعنا وتراثنا من السهل ان تعرف معناه.

وقد حاول كيرواك أن يطلق عليه البوب الذي يعني الأدب الشعبي لذا سنطلق على النص اسم التصويرية الذي وجدته في تعريف للجاحظ عن الشعر حيث يقول

"فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير" فالشعر عند الجاحظ هو ذلك الكلام الذي يصنع وينسج ويصور، والشاعر عنده صانع ونساج ومصور، ويعلق إحسان عباس على هذا القول قائلا: "لو تخطى الجاحظ حدود التعريف لوجد نفسه في مجال المقارنة بين فنين: الشعر والرسم."

أن التصويرة هي مشتقة من الهايكو إلا أنها تمثل العرب فقط في التعاطي مع النص واعتبر هذا انفرادا وانعطافا مهما للتقبل من الشارع الثقافي والمتلقي على حد سواء

نحن نساج المشاهد أولى بهذا الاسم فنحن نرسم بالكلمات نصا وكي نخرج من بوتقة الاتهام خصوصا أن اسم الهايكو مربك في تعريفه ضمن ثقافتنا العربية من طفل الرماد أو النص الهزلي أجد هذه الأسماء مجحفة لما نكتب فنحن أهل التصويرية وهي أساس ثقافتنا ولغتنا

وكي لا يختار لنا أحد اسم كما حدث في شعراء الطبيعة الأولى بنا أن نشتق اسما خاصا بنا فنحن لا نكتب عن الطبيعة فقط إنما في كل شيء

وهذا ما حدث مع الهايكو لذا؛ كانت التصويرة هي الحل برأي ورأي أغلب النقاد في العراق ليس أمام الهايكو فقط بل في جميع الأجناس المستوردة كالشعر الحر أو النثر والشذرة ووو.

***

علي محمد القيسي

 

قدم مركز بغداد الثقافي للفنون عرض مسرحية (كرستال) يوم الجمعة ١٩/ ٤/ ٢٠٢٤ تأليف جبار القريشي، اخراج كريم خنجر.

إن الخروج من مسرح العلبة إلى الفضاء المفتوح لتقديم العروض المسرحية يتطلب مضامين على قدر من الجرأة والوضوح، وتتجلى في خطابه المواجهة المباشرة بين المؤدي والمتلقي، إذ لا حدود تفصل بين مساحة الأداء ومكان المتفرجين، ولا ضوء على المؤدين ولا عتمة تحجب المتفرجين الذين يعتمد مدى متابعتهم وتركيز انتباههم على توفر وسائل الجذب في العرض، وتيسير المشاهدة لذا " تعتبر الدائرة أنسب الأشكال لمشاهدة اي عرض مسرحي في الهواء الطلق، والقيام بالتمثيل للجماهير في كل الجوانب امراً محتملا لكنه ليس بالشيء اليسير، حيث يستلزم ذلك القيام بعملية دوران مستمر لكي يشاهد كل المتفرجين ما تقوم به، ولذلك يستخدم الممثلون ثلاثة أرباع دائرة مع وجود الأدوات والمعدات خلف الممثل "(1) وهذا ما عمل عليه فريق عرض مسرحية (كريستال) وهم مجموعة من المتحمسين الفاعلين في مسرح الشارع، عندما قدموا رسالة درامية توعية المجتمع، محورها مخاطر المخدرات، ومحاربة شيوعها في أوساط بعض الشرائح الاجتماعية، وبلا شك هي رسالة مهمة ويفترض تناولها وتداولها والتأكيد عليها عبر مختلف الفنون والآداب والوسائط الإعلامية، وقد تناولها المؤلف القريشي سابقا وأخرجها المخرج (كريم خنجر) نفسه، يمكن تصنيف العرض على أنه رسالة تهدف إلى استنارة الوعي الجمعي بآفة المخدرات والتبعات التي تلحق متعاطيها. وهو رسالة تأكيد أكثر مما يتضمن شكلا فنيا مغايرا لما سبق تقديمه في عرض مسرحية (كوكايين) للمخرج نفسه، ونوع من التواصل مع موضوعة ذات تأثير اجتماعي واسع.3801 مسرحية

تستلزم طبيعة الدراما -عادة- وجود طرفي صراع، ودرجة من التعقيد والتأزم، في عرض مسرحية كريستال غاب طرف الصراع المضاد من الحضور العياني / الملموس، واكتفى المؤلف / المخرج بالإيحاء بوجود المعاناة والقهر والخيبات التي يتعرض لها  المدمنين على المخدرات قبل إدمانهم مما يدفعهم إلى التعاطي كنوع من الهروب من الواقع، وفي الوقت نفسه في لحظات الوعي يحرض احدهم الآخر على مواجهة الواقع والتصدي لسلبياته بدلا من الاستسلام والخنوع.

لقد حضر طرف صراع واحد في العرض، أما الطرف الآخر فقد كان غائبا عن العين، ماثلا في الوجدان، من خلال علامات وإشارات وضعها المؤلف واعتمدها المخرج، وكلها تدل على تدهور المستوى المعيشي -ظهر المؤدون بملابس رثة ووجوه متعبة حتى ان احدهم لم تفارق يده قطعة الخبز الكبيرة - يعد غياب أحد طرفي العرض خروجا البنية التقليدية للنص/ للعرض، وبذات الوقت عمل الاخراج على اثارة مخيلة المتفرج ليتصور هذا الطرف السلبي/ الشرير الغائب.

قدم العرض رسالته عبر سرد خطابي ذي اتجاهين: الأول موجه للجمهور المحيط بالمؤدين مباشرة (من المؤدي إلى المتلقي)، أما الثاني: من المؤدي الى المؤدي، وبدء ذلك من محاورة بين الشخصيات حول العقل وأهمية الحفاظ على الوعي. 3802 مسرحية

تضمن العرض:

1. موضوعة المخدرات، ويفترض ان لا محور غيرها وهذا يتضح من عنوان العرض (كريستال)

2. التذمر من أوضاع الخدمات المقدمة للمواطن (مثل: الكهرباء، والماء …)

3. الابتزاز بأنواعه (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والاليكتروني )

إن طرح ثلاث (ثيمات) لها ثقلها في مسرحية لا يتجاوز زمن عرضها أكثر من ثلاثين دقيقة يصعب إشباعها من الناحيتين الموضوعية والفنية، لاسيما ان عروض الشارع لا تحتمل تفرعات قد تشتت انتباه المتلقي وتبعد تركيزه عن القضية المحورية للعرض وهي (كريستال) وهنا تبرز الحاجة إلى الحضور الدراماتورجي كضرورة لمشاركة فريق العرض بالإمساك في دفة العرض وتوجيهها.3803 مسرحية

ينتهج مسرح الشارع سبلا عدة لجعل المتلقي مشاركا فاعلا في مجريات العرض المسرحي، وذلك من خلال جمع فنون متعددة في هذا النوع، منها الغناء والموسيقى والحركات الإيقاعية والتعبير الجسدي فضلا عن عماده الأساسي (الدراما المسرحية الحوارية)  لقد عمد هذا العرض إلى الموسيقى والغناء المسجل بصورة مختزلة مما جعله يفقد شيئا من خطوط المشاركة، إلا أن الموضوع المحوري الحيوي وأسلوب الأداء بات معادلا فنيا تعويضا لحالة التوتر والترقب لما سيؤول إليه مصير الشخصيات.

لقد تم حساب توزيع حركة الممثلين بالصيغة الدائرة بدقة وعدم انحياز الحركة على كتلة الأمامية من الجمهور التي غالبا ما يقع فيها الإخراج الحركي في مسرح الشارع، حين يتعامل مع الحركة على وفق الاعتبار في المسارح التقليدية وهذا ناتج عن خبرة د.كريم خنجر الواسعة في تقديم عروض مسرح الشارع.

المشهد المفصلي في عرض (كريستال) والذي ختم به العرض مشهد المرأة التي تتعرض لابتزاز بتهديدها بنشر صورها، رغم عن وجود الصلة المباشرة بموضوعة العرض الأساسية (المواد المخدرة) إلا أن مشهد ابتزاز المرأة حاز على التركيز الأعلى لعدة أسباب:3804 مسرحية

* رمزية قطع شيء من جسد المرأة من قبل مجموعة الرجال (عمد المخرج إلى ذهاب المرأة إلى رجل تتوسل اليه واذا به ينزع عنها شيء من القماش الذي يغطي جسدها وهكذا تذهب إلى رجل ثان وثالث ورابع … ) لكنهم يستدركون فيما بعد وينزعون عنهم قمصانهم ليغطوا جسد المرأة بها

* الأغنية ذات البعد الديني - رغم قصرها - عقدت صلة بين العرض والمتلقي ودفعته للمتابعة، بسبب من روحانيتها وتوفيرها لحالة من التنوع الصوتي، وكسر حالة الإلقاء الخطابي / السردي.

شكل المخرج كريم خنجر والمؤلف ثنائي متناغم في طروحات مسرح الشارع وسجلوا حضورا متميزا باضطراد العروض بفعل هاجس تقديم ما يعتمل في الشارع عبر مسرح الشارع.

مبارك لفريق العرض جميعا: وأخص بالذكر المؤدين الهواة بحماسهم واندفاعهم، والممثلة (شوق) التي وضعت بصمة جميلة في هذا العرض.

*** 

د. حبيب ظاهر حبيب 

.....................

بيم بيسون: مسرح الشارع والمسارح المفتوحة، تر: حسين البدري، القاهرة، ١٩٩٧، ص١٢٨.

 

في المثقف اليوم