قراءات نقدية

قراءات نقدية

رحلة الأمكنة في اللازمن

توطئة: يقيم الشاعر الإنكليزي (ت. س. اليوت) كما يتضح من أبنية قصيدة (رحلة المجوس) موضع بحثنا، تلك الحالة التمييزية بين الشعر كونه احساسا وبين وسائلية الأغراض والوسائط التي تجعل من الخطاب الشعري صورة تماثلية في موصوف (ملحمة الأوضاع الفعلية) خصوصا وأن جل مؤديات الأدوات الوظائفية في حاﻻت قصيدة الشاعر، حلت في حدود إتصالية وشريط تأملات تلك الرحلة المجوسية في حراكها وزمكانها وفضاءاتها، وتوصيفاتها المشتملة على صوت (الرائي الشعري؟) امتدادا نحو حلقات وحيثيات التوليف بين (سياق النص - زاوية الرؤية). نقول لعل الشاعر اليوت في موضوعة نصه كان ينظر إلى حاﻻت وإيحاءات نصه عبر منظوري (العين العارفة - البوصلة الشاهدة) ذلك لأن جميع أحوال النص جاءت في مسار لغة مسرودة ومحاطة بجميع مرايا الأحوال المصحوبة بشرائط فعلية الحوادث ومعرضها التعويلي على إنتاج دﻻﻻت تبقى متصلة ومشدودة الى فحوى المد العنواني في عتبة المركز النصي:

في البرد القارس جئناها،

في شر وقت من العام

لأن تزمع فيه رحلة، ومثل هذه الرحلة الطويلة،

الدروب عميقة، والطقس حديد. ص19

ان السارد الشعري هنا يسعى إلى مد مكونات الحال إلى حالة تفقدية من الإحصاء الاطاري للملفوظ، في حين يباشر على استعادة مواقع اللفظ الدوالي - صورا - من داخل التأشير الفعلي للوصف المحكي (في البرد القارس جئناها، في شر وقت من العام) لا شك أن وحدات الحكي ﻻ تستأثر بأي وسيلة تحديدية ما، خصوصا وأن مستوى وحدات القول كانت احوالية وظرفية عبر خطابها المتصير بصوته الآنوي وبمستواه الخفي في الاوضاع الصوتية للمنطوق الملفوظي (الدروب عميقة، والطقس حديد) يبدو لنا أن الوحدات الدوالية بصورتها الاقرارية، تضعنا إزاء دﻻﻻت وضعية التشير في الشكل والعلاقة والبناء والمسافة بين الدال ومدلوله، فقد ﻻحظنا في الآن نفسه، بأن موجهات (الوصف الخارجي) تغطي أغلب مساحة العلاقة الشعرية، خصوصا وأن الراوي الشعري غدا حضوره تداخلا وتشابكا ومزجا بين (الرائي - الشاعر) وهذا بدوره ما وجدناه من خلال المقاطع اللاحقة والأولى من النص.

ملامح المستعاد وتقلبات هوية الاحوال

لعل من أهم دﻻﻻت قصيدة (رحلة المجوس) في كونها تشكل في ذاتها، عدة حاﻻت مستعادة، من شأنها ان تعيدنا إلى ذاكرة الأزمنة وتعاقباتها في مواضع الاستذكار:

كان الشتاء في منتهاه

و الجمال نال منها الجرب،

في ذائب الثلج باركات.

كانت تمر بنا أوقات نتحسر فيها

على قصور الصيف في السفوح، والشرفات

و الصبايا الناعمات.

إن لحظة مثول المحدد الزمني (الشتاء في منتهاه) يدلي بحقيقة مرارة دﻻلة التشبث بفصل الشتاء، ذلك لكون زحف الموسم الصيفي على قافلة الرحلة قد جعلت الإبل (الجمال نال منها الجرب) لذا فهي من شدة لوعتها كانت تستلق بأجسادها فوق (في ذائب الثلج باركات) وهذه الوجوه الاحوالية المريرة جعلت من حاﻻت الذوات متحسرة على اثارات من ذاكراتها في ديارها التي لم تحدد وجهتها في النص قصدا وعلامة (تمر بنا اوقات نتحسر فيها، على قصور الصيف في السفوح) ولهذا فأن المستويين (السردي - الشعري) يذهبان مذهبا بليغا في مرسل الأداء القصدي في أغراض القصيدة، لذا أغلب الجانب الوصفي والتصويري بتلقائية على جميع افعال استعادة الذاكرة وتكريس أثر الغربة على الذوات كيانا حماﻻ لتقاويم عادات مفردة وجماعية من كيفيات القول (وهناك حداة الجمال وسواقها يلعنون، ويدمدمون بالشكاة ويولولون هاربين) وتتعدد وظائف الدوال في التأثير والحضور - مصدرا للاحزان - إلى جملة  (الحداة = السائقون) فهؤلاء هم أكثر ضررا في الرحلة المجوسية اليبابية، بخاصة وأن شبح الجوع والظمأ وفقدان الأنس بات ظاهرا عليهم في السلوك والأقوال: (ويصرخون في طلب الخمر والنساء.. ونيران الليل تخبو، وليس لنا مأوى) تحفظ الذاكرة للسارد ما كان يفتقده القوم الرحل من غرائز الشرب والمأكل والجسد، فهم في أوج تلاوين شحوب المقام وقصور الوصول إلى ما يخص رغباتهم، وذلك بعد زحف عواصف الليل على ركبهم في اعماق البراري والخوف والقلق من الموت جوعا عطشا.

1- جمالية الأوضاع الحسية وتمفصلات محكيات السرد:

ﻻ شك أن القارئ إلى قصيدة (رحلة المجوس) يعاين مستوى صعود المكان على الوحدة الزمنية، وطغيان السرد على الشعر جملة وتفصيلا، وذلك للارتباط النواتي حيال تداعيات عنصر المكان وحاﻻته القائمة بين (السارد = الكيان المكاني) خلوصا نحو مواجهة ذلك النوع من المنتج الحسي في الأوضاع والمخاطبات والوصف والأخبار:

ثم هبطنا، في السحر، واديا دفيئا

نديا، تحت خط الجليد، يتسم برائحة الخضرة.

و قد يتبين أن العلاقة القائمة بين (الأوضاع الحسية) و (محكيات السارد الشعري) بوصفهما كيفية خاصة تتناسل من خلال مرتكزاتها المحورية، بذلك التناظر العواملي الذي غدا محددا ب (العامل الذي يصف الحال = العامل المتلقي لذلك الحال) وهذه المنظومة العواملية تبرز في موضوعة النص، كحالة علائقية مهيمنة يسودها - الاتصال ممكنا - والانفصال واقعا في مرجحات ثنائية علاقة (النفي - الاثبات) فعلى سبيل المثال تواجهنا غالبا في مقاطع المتن النصي، ذلك التركيز حول ثوابت عواملية في ظهورات محسوس الاشياء، ولكن المعوق الكبير في حوارية النتائج، تبقى رهينة مجاﻻت النفي والفناء في محل النص ومضمونه كحال هذه الجملة السابقة من النص (الاصوات تغني في مسامعنا - وهي تقول إن هذا كله كان حمقا) لهذه العارضة (كان حمقا) نستخلص حقيقة ثبات (الحس الداخلي) وكيفية رفضه من خلال تحققاته كعلاقة واقعية مستشعرة في الوعي المدرك للخارج الوجودي. لذا فأن خطوط (الحلم - اللاحلم) تتجاوز دليل واقعة (الرحلة المجوسية) ذلك لأنها ثيمة سياقية تتوطد في حدود المعلوم السببي، ولكنها من ناحية المحقق بالواقع الحسي، فبدت وكأنها مأوى الحجم الفاعل.

2- العلاقة المكانية ومؤشرات الحركة البرانية:

تسود في جملة مقاطع النص تلك الاوصاف للحال والاحوال الفعلية من علاقة (الرحلة المجوسية) نحو مقتربات تداول تفاصيل وصفية مشفوعة بالوصول بالدﻻلة إلى (تفعيل = تفاعل) الواقع بالتخييلي المستأثر بأشد عوامل التوصيف السردي:

وكان جواد عجوز يعدو خببا في مرعاه

ثم أتينا حانا تكلل مداخله أوراق الكروم

وست أيد تلعب - الزهر -

بقطع من فضة مقامرات،

لدى باب مفتوح.

و أقدام ركل الزقاق الفارغات./ص20

على هذا النحو واجهتنا رؤية معادﻻت الزمكانية موضوعا وشكلا داﻻ للوجود المكاني، حيث الايقاعات الصوتية للمنطوق اللفظوي بدت كحقيقة مدركة بسياقات متزامنة في صيغ (صوت السارد - محاور صفات - شعرية التأثيث المشهدي) وعلى هذا النحو توافينا الاجزاء المقطعية في قصيدة الشاعر ضمن عناصر محكية متصاعدة بزخم دﻻلي عميق في احاسيس الشاعر وأفكاره ورؤاه.

- تعليق القراءة:

لا شك أن القيمة التشكيلية في محصلات قصيدة (الرحلة المجوسية) كانت عنصرا فعالا في البؤرة الدﻻلية المكانية ذات الادوات الموصوفة سردا محكوما بمشارف صوت السارد الشعري، لذا فإن الزمن في النص غدا سلالة غابرة، مركزة على دﻻﻻت التجوال والتحول عبر (الزمان = المكان) ناهيك عن تحقيق العمق الأدائي في لغة حوادثية تقارب القوالب النثرية وصوﻻ إلى لغة سردية تواصلية قائمة على أوصاف (طقوس المكان ؟) و الفضاءات الاغترابية الموحشة القادمة من معطيات (صوت الأنا - احوال الأشياء) وصوﻻ منهما إلى طاقة حافزية متكونة واصفة الواقع الجوال في قعر بؤس غياب يقين الأمنيات:

و لكننا لم نعد نحس راحة هنا

في الناموس القديم

بين أقوام أغراب، بآلهتهم متشبثين

و أني لأكون سيعدا بموت آخر./ص26

و في ضوء هذه المعطيات نرى أن دور السياق المؤول للسارد الشعري، صار يشكل الحالة التمثيلية لجل ممكنات الرحلة الحلمية، فلربما هي خصب دﻻلة ترميزية في مقصدية المخاطب والرائي أو لربما هي صيغة ما تكشف عن حال موت السارد منذ أزل حكاية النص أو ٱنها مخطوطة في رحلة حلم المكان في اللازمن واللاوجود، سوى كونها وصايا ذاكراتية تتحدث في تخييلات الأمكنة الأليفة والموحشة عن رحلة أسفار مجوسية قاهرة.

***

حيدر عبد الرضا

رسالة دكتوراه عن الشاعر الليبي الراحل أحمد رفيق المهدوى، أعمال الكاتب الليبي على المصراتي في أطروحه استشراقيه

***

“الحكم والأمثال الشعبية الليبية”

هذا هو عنوان أول أطروحة في الاستعراب السوفييتي عن الثقافة الليبية دافع عنها المستعرب السوفييتي المسلم عبد الوهاب زاكروفيتش ناليبايف في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية في جمهورية اوزبكستان.

يؤكد عبد الوهاب زاكروفيتش في مقدمته للأطروحة على كونها أول أطروحة عن الفولكلور، بل والثقافة العربية في ليبيا، وأنه اختار هذا الموضوع بالذات للبحث لأهميته العلمية والتطبيقية وحداثته في الاستعراب السوفيتي والأجنبي.

مصادر البحث:

تكمن أهمية هذه الأطروحة في استيعابها لكل الدراسات العربية الليبية والأجنبية في مجال الفولكلور العربي الليبي، بدءًا من أول دراسة عن الفولكلور الليبي للمستشرق الإيطالي أ. بانيتا المنشوره عام 1941 في روما ومقالات جريفيني وفانتولي وغيرهما، مرورا ببعض الكتابات البسيطة في الاستعراب انتهاءا بأعمال الكتاب الليبيين مثل: "المجتمع الليبي من خلال أمثاله الشعبية"، "غومه فارس الصحراء"، "جحا في ليبيا" للمصراتي، ونصوص من الأمثال الشعبية، و"اغنيات من بلادى" لعبد السلام إبراهيم قادربو وغيرهم من الباحثين الليبيين.

وقد أشار الكاتب إلى تطور الدراسات العربيه الفولكلوريه ليس في ليبيا فحسب، بل في كل العالم العربي، حيث انعكس الاهتمام بالفولكلور العربي على صفحات مجلات اختصاصيه مثل “التراث الشعبي” في العراق، و”الفصول الأربعة” في ليبيا، و”مجلة الفنون الشعبية” في القاهرة وغيرها من الدوريات العربية الكثيرة.

وتحدث الباحث بالتفصيل حول أصل الحكم والأمثال الليبيه، ويتفق مع الباحثين الليبيين مثل المصراتي والقشاط وقادربو، الذين أكدوا على أن الغالبيه العظمى من الأمثال الليبيه تعود إلى الأصول العربية القديمة، إلا أنه أكد وجود أشكال أخرى لنفس الحكمة العربية القديمة، أقرب إلى الواقع الليبي ولهذا أثرت اللهجة المحلية على لفظ الكلمات. فمثلا أن المثل العربي المعروف “من كثرة الملاحين غرقت السفينة” ظهر بأشكال ليبيه أخرى مثل: “المركب أن كان كثروا فيها الرياس تغرق” أو “المركب ما تمشيش بزوز(بزوج) رياس” إلخ.

تناول الباحث بالتحليل اللغوي والفني والفكري (أساليب ظهور هذه الحكمة أو تلك) ألفي مثلا وحكمة مأخوذة من مختلف مناطق ليبيا، وجمعها بمختلف الطرق العلمية المعروفة بما فيها الاتصال بسكان المناطق الريفية الليبية الذين سجلوا باصواتهم الأمثال والعبارات الشعبية.

قسم الدكتور عبد الوهاب زاكروفيتش الأمثال الليبية إلى عدة مجموعات مثل: الأمثال التاريخية التي تنتمي إلى الأحداث الكبيرة مثل “التريس ماتوا نهار الاثنين”، أى أن الرجال الشجعان ماتوا في معركة الاثنين 23 أكتوبر 1911 مع الإيطاليين، وأصبح هذا المثل يقال عن الرجال الحقيقيين.

ويقول الليبيون أيضا: “التريس ماتوا نهار السبت”، والمقصود هنا معركة السبت بتاريخ 4 فبراير 1911، أو “الضرب لمحمد والثنا لغومه” والمقصود هنا هو البطل العربي الليبي الكبير غومه المحمودى (1858-1795)، الذي قاتل الاتراك قتالا ضاريا كذلك هناك حكم وأمثال عن معارك بني هلال ورئيسهم أبو زبد الهلالي في ليبيا، مثل: “بو زيد صفا إرفاقته” أي ضيع أبو زيد رفاقه في القتال، أو: “لو كان بو زيد عمار، عمر سواني بلاده”، ويضرب هذا المثل في الحديث عن الأدعياء الذين يتحدثون أكثر مما يعملون.

وتنتمي المجموعة الثانية من الأمثال الليبية إلى الوضع الاجتماعي مثل: “حوت ياكل حوت” أي سمكة تاكل سمكه، ومغزى هذا المثل واضح للقارئ العربي ويمكن تلخيصه بعبارة “القوى ياكل الضعيف”، أو يقال: “اللي عنده حنة يحنى بعبوص حماره”، أي الذي يملك حنة كثيرة يحني حتى ذيل حماره، ويشار به إلى بطر الأغنياء وتبذيرهم، و”ماعين طالعه على حاجبها” و”الشمس ما تتغطاش بالغربال” وغيرها من الأمثال ذات الطابع الاجتماعي المعروفه لكل العرب في كل بقاع الوطن العربي الكبير.

وهناك أمثال تتحدث عن العمل وأهميته بالنسبة للإنسان مما يدل على تطور خاص في حضارة الشعب العربي الليبي، فيقول الليبيون عن العمل النافع المثال التالي: “الحي يموت واللي يدير ما يموت” أي الإنسان لا بد وأن يموت بقدرة الله سبحانه وتعالى، أما العمل الطيب الذي يقوم به فيبقى خالدا أبد الدهر، أو يقال: “البطال عدو الله والناس” وغيرها من الأمثال الكثيرة.

وهكذا فإن الدكتور عبد الوهاب زاكروفيتش حلل الأمثال الليبية إلى مجاميع كثيرة أخرى كأمثال تجسد فيها العلاقات القبليه والعائلية والزواج ومختلف جوانب التقاليد الاجتماعية، ومجموعة أمثال تتناول المسائل الأخلاقية مثل “العار أطول من العمر” أو “الصاحب عالصاحب يبيع عباته” (الإخلاص للصديق)، وأمثال فلسفية مثل: “البر كلها مالحه” أو “ما حلوه بلا مرة”، أو “السيل له شره” وإلخ.

وقد حلل الباحث مختلف الجوانب الفنية واللغوية لهذه الأمثال وأهم ما أكد عليه وحدة الأمثال والحكم العربية في كل مكان مع بعض الفوارق المرتبطة بالموقع الجغرافي والطبيعى والاجتماعي وإلخ من الظروف الموضوعية التي تحيط بهذا الشعب العربي أو ذاك.

ولا بد لنا من الإشارة إلى أن هذه الأطروحة تتميز عن الدراسات العربية التي أطلعنا عليها في هذا المجال بالشمولية والسعه والموضوعية العلمية فالباحث مسلم أوزبيكي مرتبط بتقاليد إسلامية لا تختلف كثيرا عن التقاليد العربية إلا ببعض الخصائص القومية، وهو إضافة إلى هذا مطلع على تقاليد شعوب إسلامية كثيرة في الاتحاد السوفيتي وفي خارجه. هذا من الناحية التطبيقية والخبرة الحياتية، أما من الناحية النظرية فإنه يجيد إضافة إلى لغته الأم واللغات الشرقية القريبة منها، اللغة الروسية والإيطالية وطبعا اللغة العربية التي درسها في معاهد الاستعراب، وكل هذا ساعده بالتالي على الإحاطة إحاطه تامة بمختلف جوانب البحث الذي نال بعد دفاعه عنه شهادة الدكتوراه في الفولكلور. 

رسالة دكتوراه عن الشاعر الليبي الراحل أحمد رفيق المهدوى

أما المستعرب المسلم السوفيتي فريد أسد الله فقد دافع عن أطروحته “حياة وأعمال الشاعر الليبي أحمد رفيق المهدوى” في الكلية الشرقية التابعة لجامعة لينينغراد، وقد أشرفت عليها المستعربه السوفييتية المعروفة البروفيسورة دولينينا. ومن الجدير بالذكر أن المكتبه العربية لم تحظ بكتاب تحليلي قيم وموسع عن شاعر الوطن الليبي أحمد المهدي، إذا ما استثنينا كتابي محمد صادق عفيفي “رفيق شاعر الوطنية الليبيه - 1959”، وخليفه التليسى “رفيق شاعر الوطن - 1965”، وكما يلاحظ القارئ العربي أن الكتاب الأخير مضى عليه فترة زمنية طويلة ظهرت فيها العديد من المعلومات والوثائق عن حياة المهدوى وأعماله مما يبرر فعلا الكتابة من جديد عنه للخروج باستنتاجات جديدة.

ولهذا فإن أهم ما يميز هذه الرسالة عن الدراستين العربيتين السابقتين حداثتها واعتمادها على مصادر عربيه وأجنبية كثيرة، ولكونها اعتمدت على طرق التحليل المقارن والدراسه العلمية الموضوعيه لكل الظواهر الأدبية في ليبيا انئذ ومكانة المهدى الأدبية والمؤثرات الموضوعية والذاتية التي انعكست في شعره وأفكاره الجمالية.

قدم الدكتور فريد في الفصل الأول نبذة مختصرة عن تاريخ الشعر الليبي ومكانة المهدي فيه وقسم سيرة حياة الشاعر إلى ثلاثة مراحل: المرحلة الأولى وتشمل القصائد الأولى حتى عام 1924، والمرحلة الثانية، أو فترة الغربة التي تمتد من عام 1924 حيث اضطر الشاعر إلى السفر إلى تركيا والبقاء فيها حتى 1946. تناول الدكتور فريد أسد الله هاتين الفترتين العصيبتين من حياة الشاعر في الفصل الثاني، وأكد على أن أشعار الغربه تختلف تماما عن قصائده الأولى فهي مليئة بالذكريات العاطفية تجاه الوطن والأصدقاء.

أما الفترة الثالثة والأخيرة من حياة الشاعر (1961-1946)، أي منذ رجوعه إلى وطنه ليبيا حتى أخر يوم لفظ فيه أنفاسه الأخيرة. ركز الدكتور فريد أسد الله في هذه الفصول الثلاثة على الموضوع الرئيسي الذي تناوله الشاعر في كل قصائدة، ألا وهو النضال العادل الذي خاضه الشعب العربي الليبي البطل من أجل الحريه والاستقلال. وقد عالج الباحث الجوانب الجماليه في شعر المهدي وعالمه الفني الشعري، وتناول أهم خصائص شعره التقليديه والتجديديه، ويرى أنه قال الشعر في المدح والوصف والرثاء والهجاء والغزل، إلا أن النضال القومي للشعب الليبي طغى على الموضوعات الأخرى في شعر المهدوي، فهو نادرا ما اهتم بالغزل بسبب التصاقه بالوضع السياسي الحاد. 

أعمال الكاتب الليبي على المصراتي في أطروحه استشراقيه*

دافعت المستشرقة السوفيتية ناتاليا سيرغيفنا فيتيسيفا عن أطروحتها الموسومه “أعمال الكاتب الليبي على مصطفى المصراتي” في نهاية مارس 1984 في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية/ موسكو.

وقد أشرفت المستعربه السوفيتيه المعروفة ف. ن. كيربيتشينكو على هذه الأطروحة وعينت كل من أ. أ. دوليننا (البروفيسوره في الكلية الشرقية/ لينينغراد) و”أ. ناميتوكوفا كمحكّمتين ومناقشتين علميتين للأطروحة”. لا بدّ  للقارىء من أن يشيد بجهود ناتاليا فيتيسيفا ونحن نتفق معها في تحديدها أسباب اختيار المصراتي بالذات، إذ تعتبره واحدًا من رواد الأدب الليبي الفني المعاصر وتحدد بداية نشاطه الإبداعي (من 1955 حتى وقتنا الحاضر) وهذه فترة ليست قصيرة بل غنية ومليئة بالأحداث والنشاطات الأدبية الكثيرة في ليبيا وفي العالم العربي. ولهذا بالذات فإن دراسة أكاديمية متكاملة عن المصراتي تستطيع أن تقدم صورة عن الأدب الليبي المعاصر كله. إضافة إلى ذلك فإن المصراتي كاتب محترف قدم ما يقرب الـ20 عملا من مختلف الأنواع الأدبية بدءاً من القصة وأنواع الكتابات الاجتماعية (الريبورتاج، أدب المذكرات) انتهاءً بالبحوث التاريخية والأدبية وهو ما يزال يمارس النشاط الأدبي حتى الوقت الحالي. كذلك يجب أن لا ننسى الموقف الوطني الذي اتخذه الكاتب منذ بداية حياته الأدبية والاجتماعية. وهكذا فإن الباحثه موفقه في اختيار أعمال المصراتي الأدبية كموضوع لأطروحتها وهي دقيقة في تحديد أهداف الدراسة التي يمكن تلخيصها كما يلي:

1- تحديد المصدر الذي استمد منه الكاتب أفكاره وتوضيح المؤثرات التي انعكست في أعماله.

2- دراسة أعماله التاريخية والنقدية الأدبية.

3- معالجة المضامين والأشكال الفنية التي طرحتها قصص الكاتب.

4- تحديد مكانة الكاتب في الأدب الليبي المعاصر.

واستخدمت الباحثه المنهج العلمي الموضوعي واسترشدت بمبادئ المذهب التاريخي في تحديدها مكانة الكاتب علي المصراتي في الأدب الليبي المعاصر، ولهذا نلاحظ أنها اتجهت إلى دراسة الخصائص التاريخية لتكوّن الأدب الليبي وتطوره، وحددت أهم مراحله وقارنت الظواهر الأدبية في ليبيا وفي الدول العربية الأخرى. ولقد أولت الباحثه أهمية كبيرة لمسائل مثل: ترسخ الفكر التنويري في ليبيا وتكون الخط الفكري لحركة التحررالوطني في ليبيا ودور المصراتي فيها باعتباره من المشاركين النشطين فيها. وبما أن الكاتب لعب دورا كبيرا في ترسخ نوع القصة القصيرة فلهذا درست الباحثه أصل هذا النوع ومراحل تطوره في الأدب الليبي المعاصر. وتعتبر الباحثه أن أعمال المصراتي لم تدرس بعد بما فيه الكفاية (باستثناء كتاب أحمد محمد عطيه) في ليبيا والاتحاد السوفييتي على حد سواء. وقد استفادت من كتاب أحمد محمد عطيه إضافة إلى كتاب الباحث الليبي نجم الدين الكيب، وخاصة من تلك المعلومات التي تخص سيرة حياة الكاتب. واستندت الباحثه أيضًا على آراء الكاتب التي أدلى بها في الأحاديث الشخصية مع الباحثه نفسها في فترة زيارتها لليبيا عدة مرات.

إن القيمة العلمية لهذه الأطروحة تكمن في كونها تطرح ولأول مرة في النقد الأدبي السوفيتي والأجنبي بل العربي، تاريخ الأدب الليبي منذ القرن السابع حتى وقتنا الحاضر. ومن الطبيعي أن تركز الباحثه على الأدب الليبي المعاصر وعلى ظواهره الفكرية والاجتماعية. ووضحت الباحثه بعض أوجه الشبه بين الأدب العربي في ليبيا وفي البلدان العربية الأخرى مثل تسييس الأدب والطابع التنويري في الإبداع الأدبي وتطور بعض الأنواع الأدبية بالذات (القصة القصيرة). ويلاحظ قارئ الأطروحة أن الباحثة استفادت من ضوابط الأدب المقارن في استنباط خصائص تطور الأدب الليبي بالذات في المرحلة الانتقالية مثل غياب المضامين الإكليريكية  وكثرة المضامين المعادية لأوروبا أو ما يسمى بالنزعة المعادية للأوربيين.

وهكذا ولأجل أن نقدم صورة متكاملة عن الأطروحة نرى من الضروري أن نتطرق بإيجاز إلى محتوى الدراسة حسب فصولها. تتألف الأطروحة من المقدمة وأربعة فصول:

1- الفصل الأول: “المراحل الأساسية لتطور الأدب الليبي العربي – تكون الفكر التنويري والأدب التنويري وترسخهما في ليبيا”.

2- العوامل الاجتماعية والثقافية التي أثرت على تكوين الأفكار الجمالية والسياسية عند على المصراتي.

3- نشاط الكاتب الأدبي والتنويري.

4- قصص الكاتب القصيرة. هذا وقد احتوت الأطروحة على خاتمه وفهرست بالمصادر الكثيرة وبمختلف اللغات.

كما سبق وأن قلنا بأن الباحثه كرست الفصل الأول لتاريخ الأدب الليبي ولا نريد هنا أن نتطرق بالتفصيل إلى محتواه بقدر ما نود أن نورد مراحل الأدب الليبي التي اقترحتها الباحثه وهي:

1- مرحلة الفتح العربي لليبيا حتى احتلالها من قبل العثمانيين (من القرن السابع حتى السادس عشر).

2- مرحلة الاحتلال التركي من القرن السادس عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر.

3- عصر اليقظة من نهاية القرن التاسع عشر حتى عام 1911.

4- مرحلة الاحتلال الإيطالي (1943-1911) والاحتلال الإنجليزي الفرنسي (1951-1943).

5- عصر النهضة (بعد حصول ليبيا على الاستقلال في عام 1951).

نعتقد أن أسماء المراحل تكفي بحد ذاتها لبيان مدى دقة هذا التقسيم التاريخي الذي يعتمد على الأحداث الكبيرة التي لعبت دورا كبيرا في حياة المجتمع الليبي والتي مارست حضورها المستمر فيه. ونرى أن الباحثة صوبت اهتمامها إلى عصر النهضة بالذات باعتباره يشكل الفترة التاريخية التي بدأ بها الكاتب علي المصراتي نشاطه الأدبي والتنويري. وتقسم ناتاليا فيتيسيفا هذه المرحلة (عصر النهضة) إلى قسمين: الأول يبدأ من الاستقلال الوطني عام 1651 حتى الستينات، أما الثاني فيبدأ من الستينات. ترى الباحثة أن القصة القصيرة ترسخت في هذه الفترة بتأثير من الكتابات الليبية التقليدية الشعبية والأدب العربي في مصر وفي الدول العربية الأخرى. وتبين ناتاليا فيتيسيفا أيضا السمه المميزة للأدب الليبي عن أداب المغرب العربي كلها، التي تجسد التمسك باللغة العربية والاعتداد بها فلم تُكتب القصة مثلا باللغة الإيطالية أوالفرنسية بل باللغة العربية الأم واستمرت النزعات المعادية للأوربيين (الاستعماريين) في ممارسة تأثيرها على الأدب الليبي المعاصر. وتَعتبرُ الباحثةُ فيتيسيفا أحمد الشارف وأحمد رفيق المهدوي وإبراهيم الأسطه عماره أهمَّ أدباء هذه الفترة.

تكرس الباحثة الفصل الثالث لحياة الكاتب ومنابعه الفكرية فتلاحظ أنه أحب الأدب والفولكلور والتاريخ منذ نعومة أظفاره إلا أنه نمي هذه الموهبه في “الغربة” إن جاز التعبير حيث درس في الأزهر ورجع من هناك عام 1948 وبدأ يمارس نشاطه ضمن حركة التحرر الوطني الليبية. وتحدد ناتاليا فيتيسيفا في هذا الفصل السمات التي تميز إبداع علي المصراتي ونلخصها هنا لأهميتها ولكونها تغني القارئ:

1- ساعد نشاط الكاتب التنويري على تعزيز النزعات الوحدوية العربية في الفكر الاجتماعي والسياسي الليبي.

2- حددت الحماسة الوطنية في المرحلة التنويرية اتجاه البحث الروحي ونوع الإبداع الذي كان مكرسا لموضوعه رئيسيه واحده وهي موضوعة الوطن، حيث يهتم الكاتب في أهم أعماله وبحوثه، بتاريخ الشعب الليبي وحضارته وعاداته وتقاليده ونضاله.

3- بدأ علي المصراتي حياته الأدبية ونشاطه التنويري بدراسة تاريخ الشعب الليبي وكرس ما يقارب 10 أعمال كبيرة لهذا الموضوع لكنه لم يكتب روايات تاريخية كما فعل جرجى زيدان في الشقيقة مصر بل عمل على كتابة أعماله بأسلوب مبسط.

4- تميز نشاط الكاتب بالاهتمام بالفولكلورالليبي. وخير مثال على الأعمال الفولكلورية يمكن أن نذكر: “جحا في ليبيا” و”المجتمع الليبي من خلال أمثاله وحكمه” وقسم من كتابه “غومه فارس الصحراء”.

5- اهتمامه بالنقد الأدبي. إن المحاولات الأولى في النقد الأدبي الليبي المعاصر مرتبطة باسم علي المصراتي. ويكفي القارئ أن يتذكر بحوث الكاتب عن الشعراء إبراهيم الاسطه عمر وأحمد الشارف ومصطفى بن ذكرى وغيرهم ليحكم بنفسه عن الدور الكبير الذي لعبه وما زال يلعبه الكاتب علي مصطفى المصراتي.

أما القسم الرابع فتكرسه ناتاليا فيتيسيفا لتحليل مجاميع الكاتب القصصية الأربعة: “المرسال” 1962 “الشراع الممزق” 1963 “حفنة رماد” 1964 “الشمس والغربال” 1977.

لقد استخدم الكاتب مختلف الأشكال لطرح مضامين قصصه، فقد اتسمت بعضها باهتمامها بالحبكة فقط بينما أخذت القصص الأخرى طابع الاهجية السياسية أو السكيتش (حوارات) مما يقربها إلى الدراما المسرحية. وتوجد مجموعة أخرى من القصص تنتمي إلى القصة النفسية. وتشير الباحثة إلى تأثير الأدب المصري على أعمال علي المصراتي، وخاصة طه حسين والأخوين تيمور وتوفيق الحكيم، ولهذا فليس من الغريب أن نجد في أعمال الكاتب نفس الموضوعات المطروقة سابقًا من قبل الكتاب المصريين وهذه سمة يتسم بها أكثر الكتاب العرب. وحللت الباحثة بالتفصيل كل القصص من مختلف الجوانب ولا نرى ضرورة في عرضها بقدر ما نقترح ترجمتها إلى العربية. أخيرا لا يسعنا في نهاية المقال إلا ونقدم شكرنا للباحثة على اهتمامها بأدبنا العربي في ليبيا ونرجو من الاختصاصيين أن يولوا اهتماما كبيرا بمثل هذه الدراسات لما لها أهمية في ثقافتنا العربية المعاصرة.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

.........................

*نُشر المقال في مجلة الفصول الأربعة، العدد 27، ربيع الأول 1394، ديسمبر 1984

 

مدخل: لا شك أن التحولات العميقة التي أصابت المجتمعات في أوربا بعد قيام الثورة الصناعيّة، التي عوّل عليها الأوربيون خلاصهم من جهلهم وفقرهم واستعبادهم، قد خيبت آمالهم بعد وصول الطبقة البرجوازيّة إلى السلطة، وهي الطبقة التي رحبت بها الطبقة العاملة وعموم الكادحين، ووجدت فيها الشريك الحقيقي لخلاصهم من سيطرة الاقطاع والكنيسة والملك. بيد أن الطبقة البرجوازيّة راحت تتخلى عن كل الشعارات التي رفعتها بوجه هذه الأنظمة المستبدة من حريّة وعدالة ومساواة، و بدأت هي ذاتها تمارس قهرها وقمعها واستلابها اقتصاديّا ضد الطبقة العاملة، وغربتها اجتماعيّاً، وشيئتها في المصنع، حيث تحول العامل إلى ترس في آلة الطبقة الرأسماليّة. بل حتى أفكار فلاسفة عصر التنوير المشبعة بالحريّة والعدالة والمساواة ودولة القانون والعلمانيّة والديمقراطيّة، أخذت تختفي لتظهر بدلاً عنها فلسفات جديدة تقول بموت الإله والقيم (نتشه)، وتلاشي البنيّة الاجتماعيّة وسردياتها الكبرى، لتظهر مسألة التركيز على الفرد وحريته الشخصيّة، وضرورة تفكيره من داخله بما  يراه مناسباً له دون النظر إلى مصلحة الآخرين. وعلى هذا الأساس تم تذرير المجتمع، وإفقاده للحمته الاجتماعيّة والأخلاقيّة، وإقصائه عن دوره في الحياة السياسيّة التي بشرت بها الثورة الفرنسيّة، وإيصاله إلى مرحلة الشك (السلبي) بكل شيء يحيط به. وبالتالي عندما يسود تيار الشك الاجتماعي في عمليّة الخلاص المادي من استلاب وتشيئ أولا، والفكري أو الفلسفي ثانياً، وينتفي المركز الثابت للوجود الاجتماعي، وتتحول (اللغة) إلى علامات لا نهائيّة الدلالة، وجد فيها المفكرون الما بعد حداثيين بديلاً عن المشاريع الفكريّة أو السرديات الكبرى التي اشتغلت على الهم الإنساني، وأصبحت عندهم وسيلة لا يقتصر دورها على التواصل والتفاهم فحسب، بل وسيلة لتفسير حركة المجتمع والفكر عموما  كما هو الحال في قضية (اللعب الحر على اللغة)، كما هو الحال عند "جاك دريدا" وكل الداعين للتفكيك. وتأتي هنا مسألة النقد الأدبي ومناهجه وسائل لتعميق تذرير المجتمع وإفقاد الذات لهويتها، من خلال الاشتغال على (اللغة) فلسفيّاً وأدبيّا، كما اشتغلت البنيويّىة أو ما تسمى بـ (البنوية)، وكذلك التفكيكيّة والشكلانيّة الروسيّة والسيميائيّة ونظريّة اللسانيات، ومنها منهج أو نظريّة التلقي موضوع بحثنا.

إن هذا التركيز على اللغة في هذه المناهج الما بعد حداثيّة ساهمت في (تفاقم مشكلة القراءة، وخاصة بعد التأكيد على موت المؤلف الذي يعني رفض التسليم بوجود معنى قصده الكاتب في نصه، فمع الإعلان عن موت المؤلف، ننفتح على تعدد القراءات وتصبح كل قراءة إساءة قراءة لما قبلها، وهذا ما تدعو إليه «نظريّة التلقي"، التي لا تقول بتعدد قراءات النص الواحد فحسب، بل بلا نهائيتها، وباستحالة المعرفة اليقينيّة) لدلالات النص، أي الدخول في متاهات العبث واللامعقول. (1).

في المفهوم:

التلقي لغة:

جاء في معجم لسان العرب (ل-ق-ا) على الاستقبال: «تلقَّاه، أي استقبله، والتلقي هو الاستقبال - كما حكاه الأزهري- وفلان يتلقَّى فلانا أي يستقبله»(2).

ومن آيات القرآن الكريم التي ورد فيها لفظ التلقي نجد قوله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}. (3).

أما في اللغة الإنجليزية فكلمة: تلق reception تدل أيضاً على الاستقبال أو «طريقة رد فعل شخص أو جماعة اتجاه شيء ما. كقولنا :المسرحيّة (لقيت) قبولاً حماسيًّا من طرف المشاهدين» ومما يسجل هنا، أن (التلقي) في معجم أوكسفورد والموسوعة البريطانية والمعجم الأمريكي ويبستر، بل وحتى في بعض معاجم المصطلحات النقديّة، يرد معناه اللغوي بعيداً عن أية دلالة نظريّة أو جماليّة. (4). كما نجد في المعجم الإنجليزي أوكسفورد أن كلمة reader تدل على «الشخص الذي يقرأ، خاصة الشخص المولع بالمطالعة».

التلقي اصطلاحاً:

"نظريّة التّلقّي" اصطلاحًا عرّفها بعض النقاد العرب ومنهم "محمود عباس عبد الواحد" بأنّها: ("عمليّة التفاعل النّفسي والذّهني مع النّص القرائي". وعرّفها "سيد حسين محمد حسين" بأنّها “النّظريّة التي تقوم على عمليّة التفاعل النّفسي والذّهني مع النّص القرائي من خلال المعنى الذي يكمن في السياق العقلي للقارئ". ويرى "محمد حمود": بأنّها "المشاركة الذّهنيّة والوجدانيّة للحياة الخاصة بالنّص مع القارئ".). (5). إننا نجد أن المفهوم اصطلاحاً اقتصر هنا في دلالاته على المفاهيم الجماليّة والنقديّة، حيث ولجت هذه المفاهيم ساحة النقد الفرنسي عام 1979 بمناسبة المؤتمر الذي عقد في "أنسبريك" (مدينة في فرنسة) من قبل الجمعيّة الدوليّة للأدب المقارن تحت عنوان: "التواصل الأدبي والتلقي" بحضور المنظر الألماني "هانس روبرت ياوس"، وهو مؤسس نظرية التلقي الجمالي.. (6).

وتقول الأكاديميّة الأمريكيّة "جين. ب. تومبكنز". عن نقد استجابة القارئ أو تلقيه: إنه «ليس نظريّة نقديّة موحدة تصوريًّا، إنما هو مصطلح ارتبط بأعمال النقاد الذين يستخدمون كلمات من قبيل: القارئ، وعمليّة القراءة، والاستجابة، ليميزوا حقلاً من حقول المعرفة».(7).

إن جل النقاد المهتمين بالقارئ، أو المتجهين إلى القارئ، اتصلت أسماؤهم بمدارس نقديّة متعددة، نذكر مثلاً: الشكليّة الروسيّة، التفكيكيّة، التأويليّة... وقد عرفت حركيّة هذا الاتجاه النقدي أوجهاً في الفترة المتراوحة بين نهاية الستينات وأوائل الثمانينات، كحركات نقديّة مناهضة آنئذٍ للنقد المتمحور على النص، وتركيزه بشكل الصارم على القارئ، وبهذا التوجه النقدي نحو القارئ، أوجد هذا النقد مجموعة ثريّة من أنواع القراء: كالقراء العالمون، والقراء المثاليون، والقراء المتضمنون، والقراء الحقيقيون، والقراء المحتملون، والقراء الفائقون (السوبر)، ولأدبيون. والقراءة في الحقيقة  ليست مجرد البحث عن المعاني في النصوص، بل هي أيضا ما تتركه النّصوص فينا من التأثير، كأن تُغضبنا مثالاً أو تخيفنا أو تفرحنا أو تعزّينا؛ لأنّ تأثير الكتابة فينا يتجاوز مجرد فهمنا لها ليبلغ القدرة على جعلنا نقوم بأشياء بنفس القدرة التي تجعلنا نفهم من خلالها المعنى الكامن فيها. (8).

ويقسم "فنسنت ليتش" الناقد الأمريكي، انشغالات هذا النقد إلى مرحلتين : (المرحلة الأولى، وفيها يصور نقد "استجابة نشاط القارئ"، على أنه أداة فعالة في فهم النص الأدبي دون أن ينكر أن الموضوع النهائي للاهتمام النقدي هو النص. وفي المرحلة الثانية، يصور نشاط القارئ على أنه والنص سواء، بحيث يصبح هذا النشاط مصدر الاهتمام والقيمة.) (9).

السيرة التاريخيّة لظهور نظريّة التلقي:

يعتبر "أرسطو" في تاريخ الارهاصات الأوليّة للحركة النقديّة، من أبرز رواد الفكر اليوناني اهتماما بـ (فلسـفة التلقي)، أو مفهوم الجمال في استقبال النص، ففي رصيده الفكري والنقدي يتمثل لنا اهتمامه، بهذه المسألة، وكأنهـا محور هام يستقطب تفكيره ويستجمع فلسفته في الحديث عن أجناس الأدب" إذ يعد كتابه "فن الشعر" باشتماله على فكرة (التطهير)، بوصفها مقولة أساسيّة من مقولات التجربة الجماليّة، والتي تقوم وتنهض على استجابة المتلقين وردود أفعالهم تجاه الأثر الأدبي، وهنا نجد أقدم تصوير لنظريّة تقوم فيها استجابة الجمهور المتلقي بدور أساس. بمعنى أن تاريخ نظريّة التلقي والتأويل يعود إلى (نظريّة المحاكاة) عند "أرسطو". وفي حقيقة الأمر، أن الإنسان كان يمارس التلقي ويؤول ما يسمع منذ بداية حياته، ولكن كان ذلك بشكل مبسط وسهل وعفوي، ثم أخذ يتدرج شيئا فشيئا، إلى أن أصبح (لنظريّة التلقي والتأويل) القواعد والنظريات التي تخصها. فكل قراءة للنص الأدبي هي إعادة تأويل له في ضوء معطيات تاريخيّة أو آنيّة، إذ يخضع النص في تشكيلته المتميزة إلى عمليّة تفاعل بين خصائص داخليّة وخصائص خارجيّة، تمثل تحولات السياق الْمُنْتَجِ في ظلاله العمل الأدبي، لذلك ظهرت عدة مناهج امتثلت لتلك المعطيات وحاولت مقاربة النص مقاربة موضوعيّة، والكشف عن مكمن الجماليّة وكيفيّة تشكيلها على أساس أن العمليّة الإبداعيّة هي عمليّة معقدة. فهي تسعى في مجمل أهدافها إلى إشراك واسع وفعلي للمتلقي بغية تطوير ذوقه الجمالي من خلال التواصل الحثيث مع النصوص الفنيّة، حيث أن حضوره أضحى نافذاً منذ وضع اللبنات الأولى لكتابة الرواية، فانتقل من دور المستهلك إلى مرتبة الشريك المحاور الذي يملأ الفراغات، أو البياضات التي أهملها الكاتب في نصه بقصد أو بدون قصد، كما استطاع أن يرغم الكاتب يوما بعد يوم على إسقاط الأقنعة اللغويّة والبلاغيّة التي طالما تدثر بها النص.(10).

أما في تاريخنا الحديث فقد توافرت الأسباب الموضوعيّة والذاتيّة التي هيأت التربة الخصبة لتشكل نظريّة أو منهج "التلقي" برؤية ممنهجة لها آليّة عملها وأدواتها المعرفيّة، وقد توج كل تلك الأسباب السياق التاريخي الذي تشكّلت وتبلورت فيه هذه النظريّة، إذ انبثقت من وسط مجتمع نخرت عظمه سوسة الحرب العالميّة الثانية التي خرج منها مهزوماً. وبسبب هذه الهزيمة تغيرت الكثير من الرؤى الفكريّة والفلسفيّة ومنها الأدبيّة في أوربا، وعليه  نشأت وتبلورت نظريّة "التلقي" في سياق «إبدال» معرفي جديد لا عهد للبشرية به خلفته ظروف تلك الحرب العالميّة. إنها كما يسميها أحد النقاد (نظريّة المنهزم) الذي يحلم بالنهوض وتفادي العوائق التي أودت به إلى الحضيض لتحقيق الذات.

على العموم لقد ظهرت نظرية (التلقي) في أواسط الستينيّات مع مدرسة "كونستانس الألمانيّة" في أعقاب "البنيويّة"، أي عام (1966)، إذ تأسست مع الناقدّين الألمانيَّين "هانس روبرت ياوس" و"فولفغانغ إيزر"،وكانت إرهاصاتها الأوليّة، قد بدأت في البروز نظرياً من خلال الدرس الافتتاحي الذي ألقاه "هانس روبرت ياوس" بجامعة "كونستانس" عام (1968)، والذي (شكّل منعطفاً هامًّا في مسار الدراسة الأدبيّة. حيث رسم الخطوط العريضة لبديل نظري ومنهجي يطمح بالأساس إلى إعادة الاعتبار لتاريخ الأدب الذي فقد مكانته المتميزة وأصبح يعيش على هامش الحركة الثقافيّة لهذا العصر. ولاقتراح المهمة الجديدة للتاريخ الأدبي، ارتأى "ياوس" تأسيس تصور جديد يقوم على اعتبار تاريخ الأدب سيرورة تلق وإنتاج جماليين تتم في تفعيل النصوص الأدبيّة من لدن القارئ الذي يقرأ، والناقد الذي يتأمل، والكاتب نفسه... مدفوع إلى أن ينتج بدوره). (11).

إن الدعوة التجديديّة في منهج التأريخ الأدبي التي رفع لواءها "روبرت ياوس" (هي نتاج سلسلة من احتجاجات جيل مسه اليأس من طبيعة الدراسات الأدبيّة التقليدية كما يقول "ياوس"، حيث ظهرت مجموعة من المقالات التي كانت تحمل شعارات «ثوريّة» كمقال «رؤى الدراسات الألمانيّة في المستقبل» (1973)، لتتوالى بعد ذلك كتب وأبحاث تهدف بدايةً إلى «تحذير الطلبة المبتدئين من مزالق المناهج السابقة، أو ما يسمى (المناهج السياقيّة) وهي مناهج تؤكد بأن (المعنى) هو المعوّل عليه في تحديد المقصود من فحوى التراكيب وتوجيه دلالاتها، وهذا يستدعي الوقوف على مراعاة غرض المتكلم، وأحوال المخاطبين، ومقامات الحديث المختلفة، وكذا المعايير الفنيّة الواردة في النص. ثم اقتراح بدائل عن تلك التقاليد، وغالباً ما كان يتم هذا الاقتراح بطريقة خفيّة إلىً حدِ ما، حتى مُهِدَ الطريق أمام "نظريّة التلقي" بوصفها بديلاً منهجيًّا يكسر الأصنام المنهجية السائدة.).(12).

إذن لقد توافرت الأسباب التي هيأت التربة الخصبة لنظريّة جديدة هي نظريّة (التلقي)، وقد توج كل تلك الأسباب، السياق التاريخي الذي تشكّلت فيه هذه النظريّة، إذ انبثقت من وسط مجتمع دمرته الحرب العالمية الثانية، حيث خرج منها منهزماً كما أشرنا قبل قليل. إن نظريّة التلقي تشكّلت «في سياق يمقت التاريخ وويلاته بعد تلك الحرب، ونشأت في سياق «إبدال» معرفي جديد لا عهد للبشرية به ارتبط بالضرورة بنشأة إطار منافسات وصراعات إقليميّة ودوليّة. سماها الأديب والناقد  "محمد مفتاح" نظريّة المنهزم الذي يحلم بالنهوض وتفادي نتائج حرب أودت به إلى الحضيض وعليه أن يسعى لتحقيق الذات.(13).

أهداف نظرية التلقي:

تسعى نظريّة التلقي، إلى تجديد وتعميق التواصل الأدبي بين النّص والقارئ والاهتمام بهما معا، فأصبحت النظريّة تتداول مفاهيم خاصّة عديدة، مثل: الإنتاج والاستهلاك، ودراسة كيفيّات التّلقّي، و انتقال التأثير من النّص إلى خيال القارئ. فالقراءة عند أصحاب نظرية التلقي هي التي تستدعي ذّاكرة القارئ، وتنفض عنها ما يعتليها من غبار النسيان، مظهرة ما يغطّيه من معارف وتجارب، كما أنّها تجعل المتلقّي يعيش النّص كواقع حياتي، يتأثّر عاطفيًّا بتفاعلاته. ومن هنا جاء الاهتمام بسلطة القارئ كردّة فعلٍ على المناهج النّقديّة السياقيّة السابقة – لا سيّما البنيويّة منها - التي أغفلت في دراستها جانب المتلقّي، واكتفت بمدى فكّه لشفرات النّص، ووضع معايير للكشف عن النظام اللساني فيه، كونها ترى النص مجموعة من العلامات اللغويّة التي تغنينا عن النظر إلى السياقات التي جاء في إطارها، وذلك عبر التفكيك وإعادة التركيب. في حين أن جماليّة "منهج او نظريّة التلقّي" جعلت هذا الفهم للعلامات اللغويّة بنية من بنيات العمل الأدبي، المساهمة في بناء المعنى، ولم تكتف بمجرد كشفه له، فجاءت هذه النظريّة لتثور على المناهج السابقة التي اتخذت من السياقات التاريخيّة والنفسيّة والاجتماعيّة ركائز لها لولوج النصّ وفك رموزه،.(14).

أهم النظريات الفلسفية والأدبيّة التي تأثرت بها نظرية التلقي:

1- الشكلانيون الروس:

إنّ (نظريّة التطور الأدبي الشكلًانيّة) تعتبر بحق أحد أهم عوامل التجديد بالنسبة لتاريخ الأدب، لأنّ التركيز على إدراك (الأدبيّة) في النّص هو الذي أدى بالشكلاًنيين إلى ملاًمسة الطابع الجمالي فيه، ورسّخ مفهوم الشكل، بحيث يندرج في أليّات الاستقبال الجمالي للعمل، وهنا يؤكّد "ياوس" : (إنّ ما يجعل العمل الأدبي عملاً فنّيًّا، هو اختلاًفه النّوعي وليس ارتباطه الوظيفي بالسلسلة غير الأدبيّة، ويقصد هنا التركيز على الشكل فقط وعدم  ارتباطه بالظرف الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. هذا وإن تأثُّر "ياوس" بالشكلانيين  في مسألة إقحام الإدراك الجمالي للمتلقّي مع قضية التفسير الأدبي للشكل، لم يغيّر رأيه في أنّ الشكلًانيين الرّوس لم يستطيعوا بناء نظريّة للتلقي بمفاهيم تهتم بالقارئ قبل النّص، وبآليّات الاستجابة قبل السعي نحو التفسير. فالمدرسة الشكلاًنيّة - برأيه – لا تحتاج إلى القارئ إلّا باعتباره ذاتاً للإدراك ليس إلّا، ويتعيّن عليها أن تتبين الشكل تباعا لحوافز شكل النّص ذاته، أو تكشف عن التقنية الفنيّة المستعملة في هذا الشكل.).(15).

2- الظاهراتيّة:

تأثرت "نظريّة جماليّة التلقي" بـ (ظاهريّة ) الفيلسوف البولندي "رومان انغاردن" تأثّراً مباشراً كتأثرها بالشكلاًنيّة الروسيّة. فالعمل الأدبي في هذا المفهوم ليس شيئا مستقلاً عن تجربة القارئ. والنقد هو عمليّة وصف لحركة القارئ داخل المستويات النّصيّة، ومحاولة التوقّع وسدِّ الثغرات، ومعرفة المسكوت عنه والمضمر. وفي كتابه (النظريّة الأدبيّة) يعدّ الكاتب والناقد وعالم النظريّة الأدبيّة  "جونثان كالر"( نظرية التلقّي) جزءاً من الظاهراتيّة، حيث يقول:  (إنّ العمل الأدبي ليس شيئاً موضوعيًّا يوجد مستقلاً عن أي تجربة، بل إنّه تجربة القارئ، وعليه فإنّ (النقد) يتخذ شكل وصف حركة القارئ عبر النّص، محللاً كيفيّة إنتاجه للمعنى من خلال طريق الارتباطات، وسد ثغرات المسكوت عنه، والتوقّع والحدس، ومن ثمّ التأكيد على هذه التوقّعات أو إحباطها.). (16).

إن جماليّات التلقّي عند "ياوس" هي إحدى طبقات الظاهراتيّة، لأنّ العمل الأدبي عنده يمثّل إجابة عن أفق التوقّعات، ولذا يلزم سيرورة القراءة التاريخيّة برأيه مجموعة من المتلقين، مع النظر إلى تغيّر المعايير الجماليّة تاريخيًّا، كونها لا تعتمد على تجربة قرائيّة واحدة فقط.

3- المنهج السوسيولوجي في النقد الأدبي:

يقترب المنهج السوسيولوجي في النقد من "نظرية التلقي" من حيث (اهتمامه بالمتلقي وثقافته واستعداده لمواجهة النّص الأدبي، وتركيزه على الطبقة الاجتماعيّة التي ينتمي إليها إلى الحدّ الذي يجعل من هذه المدرسة أساساً من الأسس التي قامت عليها نظريّة التلقي. فالنقد السوسيولوجي يرى أنّ الأدب رسالة اجتماعيّة تهدف إلى تحليل المجتمع، وتعمل على تغييره، وهذا المجتمع بدوره هو الذي يعطي (القارئ) أدوات القراءة الصحيحة، لأنّه هو المعنيّ بهذه الرسالة، والقارئ المتلقّي للأدب هو البنية الأولى التي يتكوّن منها المجتمع.).(17). إن المنهج السوسيولوجي بالنسبة لنظريّة التلقي هنا، لا يؤكد برأيي على بنية العلاقات الاجتماعيّة ودورها وتأثيره على المجتمع بشكل عام، وإنما اقتصر دورها على تأثير هذا المجتمع في علاقاته وتناقضاته وصراعاته على القارئ (المتلقي الفرد) وقدرته على تحليل النص لا غير،

المنهج الهيرمينوطيقي:

تتعلق الهيرمينوطيقا كمنهجية للتأويل بالمشاكل التي تنشأ عند التعامل مع الأفعال البشريّة الحاملة لمعنى ونواتج هذه الأفعال، وبالأخص النصوص. وهي بوصفها معرفة منهجيّة، توفر مجموعة أدوات لمعالجة هذه المشاكل. ويرتبط التأويل كتقليد قديم بمجموعة من الإشكالات السائدة والمتكررة  في حياة الإنسان،  فالتأويل نشاط انساني حاضر في كل وقت، ويتطلع البشر إلى فهم ما يرونه مهماً في نظرهم. ونظراً لتاريخ الهيرمينوطيقا الطويل، فمن الطبيعي أن تكون قضاياها، وأدواتها، قد  شهدت تحولاً كبيراً مع مرور الوقت، و لحق هذا التحول مبحث أو مضمون التأويل نفسه. وعلى هذا الأساس تأثرت نظريّة التلقي بالمنهج الهيرمنيوطيقي، على اعتبار القارئ هو من يقوم بتفسير وتأويل  النص، وهو ذاته من يتأثر به من خلال تفسيره وتأويله.

مرتكزات نظريّة التّلقّي:

تمثّل نظريّة التلقي محورا من محاور نظريّة القراءة  وتدور حول ثلاثة محاور تشكل دعامتها الأساسيّة، وهي:

1. القارئ المتلقّي:

وقد أولته نظريّة التلقي أهمّية كبرى، حيث جعلته المحور الذي تدور حوله العمليّة الأدبيّة في تلقي النّصوص، وإنتاج المعنى.

2. بناء المعنى:

لتحديد المعنى عند أصحاب هذه النظريّة لابد من التعريج على مفهوم "الفجوات" أو "البياضات" داخل النصّ، وكيف يسهم القارئ في ملئها لبناء المعنى، يقول "أمبرتو إيكو" ( إن النص هنا ما هو إلا نسيج فضاءات، وفرجات يتركها النص بيضاء كونه يمثل  آلة كسولة أو مقتصدة، تحيا من قيمة المعنى الزائدة التي يكون المتلقي قد أدخلها إلى النص.).(18).

3. أفق التوقعات) أو أفق الانتظار:

بين الدكتور "عبد العزيز حمودة" أن محور نظريّة التلقي الذي يجمع عليه روادها هو (أفق توقع القارئ في تعامله مع النصّ. ومهما اختلفت المسميّات فإنّها تشير إلى شيء واحد وهو: ماذا يتوقع القارئ أن يقر أ في النصّ؟ وهذا التوقع يتوقّف على ثقافة القارئ، وتعليمه، وقراءاته السابقة، أو تربيته الأدبيّة والفنيّة. ). (19).

مبادئ وأسس نظريّة التلقي:

انطلاقاً من العلاقة بين النص وقارئه التي تعتبر جوهر نظريّة التلقي، وهي علاقة محكومة بمجموعة من العمليات النفسيّة والذهنيّة، يشترك فيها قراء الأدب على اختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم، وعصورهم الزمنيّة، جاء الاهتمام بنظريّة التلقي، وهي نظريّة تفسر تلك العمليات، وتضع منظومة من القواعد والمفاهيم والمبادئ النظريّة التي تساعد على فهم عمليات التذوق والاستجابة والوعي، أي محاولة إدراك ومعرفة الحدث الذي ينشأ من خلال القراءة. وهذا ما سوف نشير إليه في تحديدنا لأهم مبادئ وأسس نظريّة التلقي وهي:

1- إنّ أهم ما يمكن أن يميّز نظريّة التلقي هو وجود اتجاهين كبيرين متباينين تعاملا معها هما: اتجاه "جماعة برلين" و"جماعة كونستانس"، حيث قامت الأولى على مهاد نظري فلسفي يستمد تراثه من النظريّة الماركسيّة معتقدة أنّ التواصل الفني يقوم على أربعة عناصر هي: المؤلف والنص والمتلقي والمجتمع؛ ولذلك أخذت هذه الجماعة مآخذ عديدة على جماليات التلقي التي دعت لها مدرسة (كونستانس)، ولعلّ أهمّها هي الطريقة التي تَفْصِلْ فيها بين العلاقة الجدليّة القائمة بين الإنتاج والاستهلاك/ التلقي، حيث سيؤدي الفصل بين الإنتاج والتلقي بنظر أصحاب نظريّة "برلين" إلى فقدان كلّ قيمة وكل طموح من أجل بناء نمط استبدالي جديد. أما جماعة (كونستانس) فيعود لها الفضل في وضع الأسس النظريّة لما يعرف بـ (جماليات التلقي) التي أعادت للقارئ قيمته الحقيقيّة وجعلته قطباً تقوم عليه نظريتها الفلسفيّة والأدبيّة، بل زادت في هذا التوجه إذ جعلته داخلاً في العمليّة الإبداعيّة ذاتها، ولم تول هذه الجماعة شأناً للمجتمع كما فعلت جماعة برلين، لأنها ترى أنّ المجتمع موجود في النص وفي القارئ ومتضمّن فيهما.(20).

2- التركيز على القارئ أو المتلقي: لقد حاولت نظريات الأدب في مسار تطورها التاريخي، أن تُعالج النص الأدبي، وقد توقفت كل نظريّة في إطار جانب أو أكثر من جوانب النص مؤكدة أهميته على حساب الجوانب الأخرى، فكانت المناهج السياقيّة (التي تهتم بالمضمون) تركز على المبدع (الكاتب) وتجعله في قمة الهرم، وعنصراً فاعلاً، واعتبار (معاييره الخاصة) أساساً في فهم العمل الأدبي، على حساب المتلقي الذي أُهمل، ولم يكن له دور يُذكر. لتأتي بعدها مناهج الشكلانيّة الروسيّة والبنيويّة والتفكيكيّة التي أعطت الدور الرئيس للنص، بوصفه بنية محايثة، لا علاقة لها بشيء يقع خارج النص، ولا يجب على القارئ أن يبحث عن دلالات العمل الأدبي خارج إطاره اللغوي، فمهمة القارئ تحليل النص بتشكلاته اللغوّية وفق دلالاتها ، مهملة بذلك المبدع والمتلقي.

بيد أن المناهج الحديثة ومنها "منهج التلقي" قد خطا  خطوة جديدة، تغيرت بها تقاليد النظام السائدة في قراءة النص، إذ تحوّل الدور الرئيس للقارئ، الذي يجب عليه أن يتفاعل مع بنيات النص، فإذا ما حصلت عمليّة الفهم، وجب عليه أن يستحضر ما سبق أن كونته له قراءاته السابقة من ذخيرة معرفيّة لردم فراغات النص، حتى يتمكن من الكشف عن قصديّة المؤلف والنص. فمهمة (القارئ) يجب أن تقوم على مدى قدرته في طرح تقاليد جديدة يُغيِّر بها نظام التقاليد السائدة، وذلك بإجاد أدوات إجرائيّة، يوظفها للتحليل والمقارنة في نصِه الذي يتناوله بالدراسة.(21).

ونستنتج مما سبق بالنسبة للقارئ، يفترض أن يكون ملمّا بمعرفة النصوص والآليات التي تشتغل وفقا لها تلك النصوص، وهذا لا يتأتى إلاّ من المعاشرة الطويلة التي تمنح القدرة على فرز ما يتراكم من هذه النصوص، مثلما تكتسب تلك المعاشرة خبرة في رصد تعاقبها الزمني، وما يحدث من خروقات وتغيير وتشويش على نظم تلك النصوص والتقاليد الفنيّة التي لازمتها، وهي تصل إلى القارئ الحصيف عبر الأزمنة، وهذا يتطلب من القارئ أيضاً ضرورة تركيزه على مفاهيم مثل الظاهراتيّة وعلم النفس واللسانيّات والأنثروبولوجيا، لما لها من أهميّة في كشف خفايا النص، واستثماره وتأويله، واستكشاف الأبعاد المجهولة من الأعمال الأدبيّة والنصوص بمختلف أنواعها، والغوص بأغوار طبقات دلاليّة لا يراها غير القارئ الخبير الفطن، وهي دلالات ليس من الضرورة أن يكون الكاتب قصد إليها بالمرّة. وهذا ما أعطى لهذه النظريّة ميزتها وتفرّدها.

3- القارئ الضمني: إن العمل الأدبي وفق نظريّة التلقي يمثل تفاعلاً حيويّاً بين خصائص النص من جهة وأفق انتظار القارئ من جهة أخرى. أهم ما في نظريّة التلقي أنها تخلق محاورة بين الموضوع والقارئ ، ولا يمكن وصف مثل هذه العمليّة إلاّ بوجود القارئ الضمني، بوصفه وسيطاً بين النص وفعل القراءة ، وهو قارئ يفترضه المبدع لا وجود حقيقي له.(22).

4- العمل الأدبي نتاج العلاقة التفاعليّة بين الَّنص والقارئ:  وبذلك يكون العمل الأدبي في ضوء نظريّة التلقي نتاج العلاقة التفاعليّة بين الَّنص والقارئ، تعينه على ذلك ذخيرته المعرفيّة التي اكتسبها من قراءاته المختلفة، التي تعينه يدرها على فهم النصوص وتأويلها، بالإضافة إلى الاستراتيجيات ذات الوظيفة الازدواجيّة بصفتيها الاستدعائيّة والتوجيهيّة، إذ تستدعي القارئ إلى توظيف مخزونه المعرفي ، ثم  توجهه إلى هدف النص، ومن ثَّم بناء معنى ً للنص، فهي باختصار شديد تعين على إضاءة المناطق الغامضة في النص. هذا التفاعل يتحول الى هيمنة "نظرية التلقي" على كثير من مفاهيم النظريات المتفاعلة معها، من دون الاندماج الذي يفقدها هويتها. فلم تقف نظريّة التلقي ضد منهج معين، إَّنما جاءت لتصعد للقارئ مكانته بعد أن أُهمل في الدارسات الحديثة وتخلصه من سطوة المؤلف كما بينا في أكثر من موقع.

إنّ نظريّة جماليّة التلقي حرّرت النّص – عموما – من سلطة المؤلّف، وأتاحت الفرصة للقارئ لإنتاج المعنى، وفتحت آفاق أوسع أمام النّص، كما حرّرت القراءة من هيمنة المعنى النّهائي القصدي وجعلتها تعانق آفاقاً مفتوحة  تسمح بالانتقال من الوحدة إلى التعدد ومن الفعل إلى التفاعل. (23).

5- إن العمل الأدبي مكيّفاً بالغيريّة: إن الأثر الفنّي لا يمكن أن يكون معزولا بصورة كاملة عن كل ما يمكننا أن ننتظره منه، فالعمل الأدبي يظلّ مكيّفا بالغيريّة أي بالعلاقة بالآخر بوصفه ذاتا مدركة، وحتى في الحالة التي يكون فيها العمل إبداعاً لغويّاً صرفاً، فإنّه يفترض معلومات مسبّقة.

أنّ علاقة النص الفردي بسلسلة النصوص الأخرى المنتمية لجنسه تظهر وكأنّها مسلك إبداع وتحرير متواصل لأفق ما، أي أن النص الجديد يستدعي إلى ذهن القارئ أفق انتظار ونظام يعرف من خلال النصوص السابقة وهو نظام يتعرّض دائما لتغييرات وخروقات وإضافات عديدة أو قد يعاد إنتاجه كما هو. أي أنّ العمل مهما بلغت درجة إغراقه في الجانب الشكلي فإنّه ينطوي على كمً من المعلومات المسبّقة التي توجّهه نحو الانتظار والتوقّع، وهذه المعلومات تقاس بها درجة الجدّة والطرافة، ومن ثمّ فإنّ أفق الانتظار والتوقّع هو ذاك الذي يتكوّن لدى القارئ بواسطة تراث أو سلسلة من الأعمال المعروفة لديه والمطلع عليها قبلا. (24).

6- القطب الفني والجمالي في العمل الفني: إن العمل الأدبي وفق نظريّة التلقي له قطبان: قطب فنّي وقطب جمالي، وإنّ قطبه الفنّي يكمن في النص المتحقق عبر النسيج اللغوي، وما يضمّنه المؤلف من (أشكال تعبيريّة) بغية تبليغ القارئ بحمولات فنيّة. وبالتالي فإنّ هذا القطب مشتمل على دلالة ومعنى وبناء شكليّ.

أما قطبه الجمالي فهو التحقّق الذي ينجزه القارئ عبر عمليّة القراءة المتأمِّلة القادرة على تأويل النص وإخراجه من حيّزه المجرّد إلى حيّزه الملموس. وبذلك يكتسب التأويل بوصفه منهجاً نقديّاً، قيمةً مضاعفةً في إدراك صورة المعنى المتخيّل في النص واستكناه أغواره البعيدة الغور والكشف عن أبعاده المتوارية. وينتج عن هذه القطبيّة الثنائيّة أيضا أنّ العمل الأدبي يمكن أن يتطابق مع النص تماما أو مع إدراك النص، بينما هو في الحقيقة يشغل منزلة وسطا بين المنزلتين. ويمكننا التأكيد هنا أيضاً على أن تذوق العمل الأدبي يمثل المرحلة الأولى في تلقيه وهي الدهشة. بيد أن مرحلة الدهشة تغيب معها السلطة المعرفيّة للعقل، بقياساته ومنطقه وأحكامه الصارمة، فالذوق يساير ما يشعر به المتلقي أمام الاحتمالات الجماليّة الموجودة في العمل الأدبي، وكلما تطابق الموقف العاطفي والوجداني في العمل مع ما يقابلها عند المتلقي، تثار عواطفه وذكرياته وانتباهه، وهو ما يؤدي إلى محاكاة الأبعاد الجماليّة التي تمثل أمامه. بينما الوعي يظل يبحث عن المعنى، الذي يمثل الغاية المعرفيّة، في عملية الإيصال، والمعنى يُنْتَجُ من تركيب الصور في عمليّة واعية قوامها التأمل والتخيل، ثم المقارنة والقياس مع ما يختزنه العقل من تجارب ومعارف سابقة. (25).

نظرية التلقي في الأدب العربي الحديث:

لا شك أن منهج نظريّة "التلقي" كان لها نصيبها في الدراسات النقديّة العربيّة شأنها شأن الكثير من نظريات النقد الأدبي في الغرب، وتأتي أهميّة اهتمام النقاد العرب في هذه النظريّة من كونها تمتلك جذورها المعرفيّة في تاريخ النقد العربي قديماً، وخاصة في القرن الرابع للهجرة كما أشار الناقد "د. مراد فطوم" في كتابه "التلقي في النقد العربي في القرن الرابع الهجري". وعلى هذا الأساس نقول: إن النقد العربي الحديث وطأ تخوم نظريّة التلقي بجدارة. ويظهر هذا من خلال دراسات نقديّة عدّة، تناولت هذه النظريّة محاولة فك رموزها من لدن بعض الباحثين والنقاد العرب. وهذه الخطوة تجعلنا نطل على ما تدخره هذه النظريّة من عناصر إيجابي.

لقد استفادت من هذه النظريّة الكثير من الدراسات، منها على سبيل المثال الا الحصر، دراسة ( التلقي والتأويل مقاربة نسقيّة،  لـ (لدكتور محمد مفتاح). ودراسة "نظريّة الاستقبال، مقدمة نقديّة"، لـ (روبرت هولب، ترجمة الدكتور عز الدين اسماعيل. كما ترجمها أيضا الأستاذ "رعد عبد الجليل".). ودراسة "نظريّة التلقي بالأدب الحديث"، للدكتور "يوسف نور عوض". ودراسة "فعل القراءة نظريّة جماليّة التجاوب"،" لفولفكانك إيزر، ترجمة الدكتور حميد الحمداني، والدكتور الجاللي". ونظريّة "التلقي أصول وتطبيقات"، لـ "بشرى موسى أبو صالح"، ط،1 المركز الثقافي العربي، المغرب، 2004م. و"استقبال النص عند العرب" "دراسات أدبية": لـ "محمد المبارك"، ط،1المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان، 1999م. و"نظرية المعنى عند حازم القرطاجني" "فاطمة الوهيبي"،ط،1، المركز الثقافي العربي، المغرب2002،م. و"الشاعر والنص والمتلقي عند حازم القرطاجني". "نصيرة مخربش"، رسالة ماجستير "غير منشورة"، جامعة العقيد الحاج لخضر- باتنة،الجزائر2005،م. و"التلقي في النقد العربي في القرن الرابع الهجري" – "د. مراد فطوم" - 2013، الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة. و "ﺟﻣﺎﻟﯾـﺎت اﻟﺗﻟﻘﻲ ﻋﻧد ﻋﺑد اﻟﻘﺎھر اﻟﺟرﺟﺎﻧﻲ" – "أ.د محمد بيع سعيد الغامدي". و "ﻧَظَرِﯾﺔِ اﻟﺗﻠﻘّﻲ ،اﻟﺗّﻔْﻛِﯾرُ اﻟﺟَﻣَﺎﻟِﻲﱡ" ﻋِﻧْدَ اﺑْن طَﺑَﺎطَﺑَﺎ اﻟﻌَﻠَوِي. وما هذا في الحقيقة إلا غيض من فيض.ﱢ

نقد نظريّة التلقي:

إن مناهج النقد ومدارس الفكر تظل نتاج شروط ثقافيّة خاصة، لا يمكن استنباتها في شروط مغايرة إلا بافتعال لن يؤدي أبداً إلى ثمار ذات قيمة، وهذا حال الظروف التي أنتجت منهج أو نظريّة "التلقي" كما بينا في عرض دراستنا هذه، إن كان في مدخل الدراسة، أو عند تطرقنا للظروف التاريخيّة بعد الحرب العالميّة الثانية في ألمانيا التي ساهمت في إنتاج هذه النظريّة بالذات. ونظريّة التلقي شأنها شأن النظريات السابقة أو اللاحقة كثيراً ما تعتورها إشكالات ومآزق ينبغي الإشارة إلى أهمها ويأتي في مقدمتها (طبيعة المتلقي) أو القارئ الذي يعتبر جوهر هذه النظريّة ومحور اشتغالها. حيث يُفرض علينا هنا السؤال التالي الذي يطرحه "الطيب بوعزة" :

من هو هذا القارئ الذي تدعونا نظريّة التلقي إلى الاهتمام به؟. وهذا السؤال من الوجهة المنطقيّة برأيي لن يجد بين منظّري ونقاد “نظرية التلقي” اتفاقاً على ماهيّة هذا القارئ، وهذا إشكال بحد ذاته يضع كل ما نُظر له في هذه النظريّة حول القارئ مجرد تكهنات أو تخيلات لقارئ (مفترض)، بل قارئ بدأ يتلاشى عمليّاً مع إفرازات النظام العالمي الجديد وأساطير ما بعد الحداثة التي ذررت وسلعة كل شيء ومنه القارئ. وهناك ثمة إشكال آخر  ظهر داخل  مدرسة "كونسنتانس أنجزه "آيزر" الذي لم يترك “علم جمال التلقي” كمقاربة منهجية للتاريخ، بل حوله إلى دراسة للنص الأدبي من حيث هو علاقة تواصلية مع القارئ (الفرد) الذي حصره بالقارئ (الضمني). منتهياً إلى أن كل نص يطرح نمط قراءة خاص، لذا يجب على الناقد أن يدرس ويستخلص نظام القراءة الذي “يقترحه” النص لتحقيق الاستجابات المنتظرة من القارئ الفرد، وفي السياق نفسه، يمكن أن ندرج موقف "أمبرتو إيكو"، في كتابه المعنون بـ “القارئ داخل النص”. فالكاتب يحس عند صياغته لنصه بعوائق لسانيّة وثقافيّة ومجتمعيّة تعوق انطلاقه في التعبير، لذا فالنص حسب "إيكو" لا يقول كل شيء، ومن ثم فهو يحتاج إلى القارئ. وعلى الناقد أن يحدد نمط “القارئ النموذجي”، أو “القارئ المثالي” الخاص بالنص الذي يدرسه، وهو النموذج الذي يتوقعه المؤلف ويتمناه، ليس ليقرأ ملفوظات نصه بل أيضا مسكوتاته ومظمراته وما بين سطوره. وعلى هذا الأساس أصبح التوجه في هذه النظريّة نحو القارئ النخبوي أو المتخيل أو الوهمي أو الضمني، وليس القارئ بشكل عام أو القارئ الفعلي الذي له كينونة وجوديّة في الواقع.

وهذه التوجه نحو (الفرد) من الناحية الفكريّة والفلسفيّة والتطبيقيّة، لا يخرج في الحقيقة عن توجهات تحطيم الكتلة الاجتماعيّة وقيمها التي تريدها قيم ما بعد الحداثة. كمشروع لنقد مركزيّة الذات الإنسانيّة. ففلسفة نيتشه هي نقد لهذه المركزيّة ولنمطها العقلاني، وسيكولوجيّة فرويد هي كذلك نقد لمركزيّة العقل والإرادة لمصلحة مقولة اللاشعور والغريزية، وفلسفة البنيويّة هي إقصاء الإنسان لمصلحة البنية واللغة، ومناداة "رولان بارت" (بموت المؤلف) يندرج ضمن السياق ذاته المناهض لفلسفة الحداثة. ونظرية التلقي عندما استبعدت المؤلف تندرج هي أيضا في سياق زحزحة مركزيّة الذات. .(26).

***

د. عدنان عويّد

........................

الهوامش:

1- (عبد العزيز حمودة «المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك»، مرجع سابق، ص: 105.).

2- ). (معجم لسان العرب لابن منظور، بيروت، دار صادر، الطبعة الثالثة 1994، مادة «لقا».

3- (سورة النمل، الآية6. وقوله كذلك: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (4)، (سورة البقرة، الآية:36.

4- (نظرية التلقي .. النشأة وإشكالات المصطلح -الدكتور فؤاد عفاني - كاتب وباحث من المغرب. مجلة الكلمة - العدد ( 79 ) السنة العشرون ، ربيع 2013م / 1434هـ). بتصرف.

5- المرجع نفسه.

6- المرجع نفسه. بتصرف.

7- (جبن. ب. تومبكنز «مدخل إلى نقد استجابة القارئ» ضمن كتاب: «نقد استجابة القارئ من الشكلانية الروسية إلى ما بعد البنيوية»، تحرير: جبن. ب. تومبكنز. ترجمة: حسن ناظم وعلي حاكم. مراجعة وتقديم: محمد جواد حسن الموسوي، المجلس الأعلى للثقافة/ المشروع القومي للترجمة 1999. ص:17).

8- ( النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات»، ترجمة محمد يحيى، مراجعة وتقديم: ماهر شفيق فريد. المشروع القومي للترجمة/ المجلس الأعلى للثقافة: 2000، ص: 225. بتصرف.

9- ( فنسنت. ليتش «النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات» -  ص:227.

10- (موقع

 - https://philarchive.org/rec/OCGKPG - مجلة وادي درعة -  -2017الصديق الصادقي العماري. بتصرف.

11- (هانس روبرت ياوس «نحو جمالية للتلقي: تاريخ الأدب تحد لنظرية الأدب»، ترجمة وتقديم محمد مساعدي، مراجعة عز العرب لحكيم بناني، منشورات الكلية المتعددة التخصصات بتازة التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله، العدد الثاني، ص: 4و61 و13.).

12- (نظرية التلقي .. النشأة وإشكالات المصطلح -الدكتور فؤاد عفاني - كاتب وباحث من المغرب. مجلة الكلمة - العدد ( 79 ) السنة العشرون ، ربيع 2013م / 1434هـ).

13- (محمد مفتاح «من أجل تلق نسقي»، ضمن أعمال ندوة «نظرية التلقي إشكالات وتطبيقات»، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة ندوات ومناظرات، رقم: 24، ص: 43-44.بتصرف.

14- (نظريّة التلقّي - الباحثة / فاطمة عبد الرّزا ق كرمستجي -  دكتوراه فلسفة في اللغة العربية وآدابها/ جامعة محمّد بن  زايد للعلوم الإنسانيّة – و الأستاذ الدكتور/ بلقاسم الجطاري - استاذ النقد الحديث جامعة محمد بن  زايد للعلوم الإنسانية - إصدار يوليو لسنة 20.). بتصرف.

15- (هانس روبيرت ياوس - جماليّة التلقّي من أجل تأويل جديد للنّص، ترجمة - رشيد بنحدو- المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة – مصر، ط 1 ، 2004 ، ص 34 - 37.).

16- (جونثان كالر: النظرية الأدبية، ترجمة: رشاد عبد القادر، منشو ا رت و ا زرة الثقافة – دمشق – الجمهورية العربية السورية، 2004 ، 147 - 148 . وفضل، صلًح: نظرية البنائية في النقد الأدبي، ص 320 - 321 .).

17- (نظرية جماليّة التلقي .. النشأة وإشكالات المصطلح - الدكتور فؤاد عفاني -  كاتب وباحث من المغرب. مجلة الكلمة - العدد ( 79 ) السنة العشرون ، ربيع 2013م / 1434هـ. (ويرجع أيضا حول أهم النظريات الفلسفية والأدبيّة التي تأثرت بها نظرية التلقي كتاب : "التلقي في النقد العربي في القرن الرابع للهجرة" – مراد حسن فطوم – وزارة الثقافة - سورية – الهيئة العامة للكتاب).

18- ( إيكو إمبرتو: القارئ في الحكاية، ترجمة: أنطوان أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء –

المغرب، ط 1 ، 1996 . ص 63).

19- (عبد العزيز حمودة،: المرايا  المحدّبة من البنيوية إلى التفكيك، مجلة عالم العرفة، العدد 232 ، الكويت، 1978 ، ص 323.

20 - ( موقع جامعة كربلاء – كلية العلوم الإسلاميّة - نظرية التلقي، وإطلاق سلطة القارئ – د. علي محمد ياسين – جامعة كربلاء – كلية العلوم الإسلاميّة - ). بتصرف.

21- (مفهومات نظرية القراءة والتلقي – مجلة ديالي للبحوث الإنسانية - أ.د خالد علي مصطفى الجامعة المستنصرية/كلية الآداب. و م. ربى عبد الرضا عبد الرزاق - جامعة ديالى / كلية التربية للعلوم الانسانية. ) بتصرف.

22- (مفهومات نظرية القراءة والتلقي – مجلة ديالي للبحوث الإنسانية - أ.د خالد علي مصطفى - الجامعة المستنصرية/كلية الآداب. و م. ربى عبد الرضا عبد الرزاق - جامعة ديالى / كلية التربية للعلوم الانسانية. ) بتصرف.

23- (– جامعة كربلاء – كلية العلوم الاسلامية - نظرية التلقي، وإطلاق سلطة القارئ - بقلم الدكتور علي محمد ياسين.) بتصرف.

24- ( المرجع نفسه بتصرف).

25- (المرجع نفسه. بتصرف).

26- (موقع الملتقى الفكر للابداع - ملاحظات في نقد "تلقي" نظرية التلقي - الطيب بوعزة. بتصرف).

الرواية التاريخية هي نوع من أنواع الأدب الروائي الذي يعتمد على أحداث تاريخية حقيقية أو متخيلة، حيث يتم دمج الحقائق التاريخية مع العناصر الأدبية والتخيلية، ويهدف هذا النوع من الروايات إلى إعادة إحياء فترات معينة من التاريخ من خلال سرد قصص شخصيات تفاعلوا مع تلك الأحداث أو عاشوا في تلك الأزمنة، وتتيح الرواية التاريخية للقراء فرصة استكشاف الماضي من منظور إنساني، حيث تُبرز المشاعر والتجارب الفردية وسط الأحداث الضخمة.

ويستند الكتاب في كتابتهم إلى أبحاث دقيقة حول تلك الحقبات، مما يضفي مصداقية على السرد، في الوقت نفسه يحرص الكتاب على الاستفادة من الخيال الأدبي لخلق تقلبات درامية وحبكات مثيرة، تُضفي حيوية على الشخصيات وتجعلها أكثر قربًا للقارئ

ان الرواية التاريخية ليست مجرد سرد للأحداث، بل هي وسيلة للاحتفاء بالتراث، ورفع الوعي الثقافي.

اهمية الرواية التاريخية

عند الحديث عن الرواية التاريخية يجب ان نمر على ذكر الفوائد والأهمية من هذا النوع الأدبي من الكتابة، حيث تسهم الرواية التاريخية في (المحافظة على الذاكرة التاريخية)، تساعد الروايات التاريخية في الحفاظ على الأحداث والشخصيات التاريخية، مما يسهم في توعية الأجيال الجديدة بتاريخهم وثقافاتهم.

وتسهم كذلك في (فهم السياقات الاجتماعية والسياسية)، حيث تقدم الروايات سياقًا غنيًا حول العصور الماضية، مما يساعد القراء على فهم القضايا الاجتماعية والسياسية التي كانت قائمة، وكيف أثرت على حياة الأفراد والمجتمعات.

وكذلك تهتم في (تزكية الخيال والوعي الثقافي) تساعد الروايات التاريخية في تنمية الخيال الأدبي وسعة الأفق، حيث يتم مزج الحقائق التاريخية بالخيال، مما يجعل القصة أكثر جذبًا وإثارة.

واحد اهم فوائد الرواية التاريخية هو (تطوير التفكير النقدي)، ان قراءة الروايات التاريخية تشجع القراء على تحليل الأحداث والشخصيات بتفكير نقدي، مما يعزز الفهم الأعمق للقضايا المعقدة.

وايضا يساهم هذا النوع من الكتابة في (تعزيز الهوية الثقافية)، تساهم الروايات التاريخية في تعزيز الهوية الوطنية والقومية، إذ تعكس التقاليد والقيم والأحداث التي شكلت المجتمعات.

وأيضا أهميتها تكون في (تسليط الضوء على التجارب الإنسانية)، فتقدم الروايات لمحات عن التجارب الإنسانية الفردية والجماعية في أوقات الأزمات والحروب، مما يمكن القراء من التعاطف مع الشخصيات وفهم مشاعرهم.

واخير من اهم منافعها هو تسهم في (مواجهة التحديات المعاصرة)، من خلال دراسة الأحداث التاريخية، يمكن استخلاص دروس قيمة في التعامل مع التحديات المعاصرة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية.

باختصار، الرواية التاريخية تُعتبر وسيلة قوية للتعلم والترفيه، وتساعد على تعزيز الفهم والتقدير لتاريخ البشرية وثقافاتها.

تتميز الرواية التاريخية بعدة عناصر:

العنصر الاول هو السياق التاريخي: تضع الرواية الأحداث ضمن سياق زمني ومكاني محدد، مما يساعد على فهم الحقائق التاريخية والبيئة الاجتماعية والسياسية في تلك الفترة، والعنصر الثاني هو شخصيات معقدة: غالبًا ما تتضمن الروايات التاريخية شخصيات مستلهمة من شخصيات تاريخية حقيقية، أو شخصيات خيالية ذات خلفيات معقدة، والعنصر الثالث هو التوازن بين الخيال والواقع: تحاول الرواية التاريخية تقديم صورة واقعية عن الأحداث مع إضافة عناصر خيالية أو درامية لجعل القصة أكثر جذبًا وإثارة، والعنصر الرابع هو التوثيق الدقيق: تتطلب الكتابة في هذا النوع من الروايات بحثًا دقيقًا في المصادر التاريخية لضمان دقة الأحداث والبيانات.

معوقات كتابة الرواية التاريخية

كتابة الرواية التاريخية يمكن أن تكون مهمة صعبة وتواجه العديد من المعوقات، ونذكر هنا اهم المعوقات التي يمكن ان تواجه الكاتب... وهي:

1. البحث والتحقيق: تتطلب الروايات التاريخية بحثًا دقيقًا حول الأحداث والشخصيات التاريخية. قد يكون من الصعب العثور على مصادر موثوقة، خاصة في الفترات الزمنية الغامضة أو التي لم يتم توثيقها بشكل جيد

2. التوازن بين الخيال والواقع: يجب على الكاتب أن يجد توازنًا بين الجوانب التاريخية الصحيحة والخيال الأدبي. قد يؤدي التركيز الزائد على الجانب التاريخي إلى رواية جافة، بينما تجاهل الحقائق التاريخية يمكن أن يُضعف مصداقية الرواية.

3. التعقيدات السياسية والاجتماعية: التعامل مع الأحداث التاريخية المعقدة، مثل الحروب، والصراعات السياسية، والصراعات الاجتماعية، يتطلب فهمًا عميقًا للسياق و الأبعاد المختلفة لهذه الأحداث.

4. التاريخ المتنازع عليه: كثير من الأماكن والأحداث التاريخية تخضع لتفسيرات متعددة. الكتابة عن أحداث أو شخصيات تعتبر حساسة أو متنازع عليها قد تسبب جدلًا أو انتقادات.

5. اللغة والأسلوب: اختيار اللغة والأسلوب المناسبين لجعل الرواية مقروءة وجذابة مع الحفاظ على إحساس الفترة الزمنية قد يكون تحديًا. يحتاج الكاتب إلى تطوير أسلوب يتناسب مع الحقبة التاريخية دون أن يكون شديد التعقيد أو بعيدًا عن القارئ.

تلك المعوقات تجعل من كتابة الرواية التاريخية تحديًا يتطلب جهدًا كبيرًا ودراسة دقيقة. ومع ذلك، فإن التغلب على هذه المعوقات يمكن أن يؤدي إلى إنتاج عمل أدبي ممتاز وذو قيمة.

اهم الروايات العراقية التاريخية

تعتبر الرواية العراقية التاريخية من أهم الأشكال الأدبية التي تعكس التاريخ والثقافة العراقية. وإليك أيها القارئ الكريم بعض الروايات العراقية التاريخية التي حققت شهرة واسعة:

1. "النخلة والجيران" للكاتب غائب طعمة فرمان: بُنيتْ أحداث رواية على خلفية آثار الحرب العالمية الثانية في العراق، إذ صيغ نظام الحياة اليومية لشخصياتها في ضوء تداعيات تلك الحرب في بغداد، فظهرت منزوعة الإرادة، ومجرّدة عن أي فعل إيجابي، وما لبثت أن مضت في حال يكتنفها اليأس إلى نهايات مقفلة أدّت بها إما إلى الموت أو القتل أو الغياب، وبذلك تكون الرواية قد طرحت قضية التاريخ الراكد للأمة حيث يتلاشى الأمل بالتغيير. 

2. "الرجع البعيد" للكاتب فؤاد التكرلي: تعتبر هذه الرواية إحدى أهم الروايات العراقية، وهي بحق تمثل النضوج الفكري والتقني لدى كاتب، وتتحدث عن مرحلة حرجة في تاريخ العراق السياسي وظهور الحرس القومي، وتتناول الرواية حقبة مهمة ودموية من تاريخ العراق السياسي تُوّجت بانقلاب 8 شباط العسكري.

3. "صخب ونساء وكاتب مغمور" للكاتب علي بدر: تستعرض الرواية زمن الحصار في شوارع بغداد، وكيف كان شكل الحياة والصعوبات التي واجهت المجتمع بسبب سياسات النظام الحاكم ضمن حبكة روائية رائعة.

4. "وحدها شجرة الرمان" للكاتب سنان أنطون: سردية حكائية بسيطة عن فترتين تاريخيتين ما قبل حرب 2003 وما بعدها والتغييرات التي حصلت، وتصور مشاهد الموت الذي يلتهم قلب بغداد، والذي يظل ماثلاً امام ناظري جواد الذي يمتهن غسل الأموات وتكفينهم، واتخذ شكل الموت ضروباً مروعة من التمثيل بالجثث والتنكيل بها، طعناً وخنقاً وحرقاً وبقراً وتقطيعاً. وقد وصل الأمر بجواد انه تبلبل واحتار بكيفية غسل رأس مقطوع بلا جثة.

5. "تمر الاصابع" للكاتب محسن الرملي: تدور أحداثها بين العراق وإسبانيا وتتناول جوانباً من طبيعة التحول في المجتمع العراقي على مدى ثلاثة أجيال، تتطرق إلى ثنائيات ومواضيع شتى كالحب والحرب والدكتاتورية والحرية والهجرة والتقاليد والحداثة والشرق والغرب.

 تتناول هذه الروايات موضوعات تاريخية واجتماعية متنوعة، مما يجعلها مصادر قيمة لفهم تاريخ العراق وتجارب شعبه، وكذلك تساهم هذه الروايات في تصوير تجارب العراقيين ومعاناتهم عبر العصور.

صدام والرواية التاريخية

سؤال مهم: هل حاول الطاغية صدام حسين كتابة رواية تاريخية؟ الجواب: نعم، الطاغية صدام حسين حاول كتابة رواية تاريخية كتب رواية بعنوان "زبيبة والملك" والتي تم نشرها في أواخر التسعينيات، والمؤكد كانت بعون بعض ادباء السلطة، والرواية تدور حول قصة حب بين شخصية تدعى زبيبة وملك، وتتناول مواضيع مثل الشجاعة والولاء، وتحمل الرواية أيضًا رموزًا واضحة تعكس أفكار صدام حسين السياسية ونظرته للأحداث التاريخية.

فقد استخدم الكاتب شخصيات وأحداث لإبراز مفهوم السلطة والحكم من منظور نظامه السياسي. هذا الجانب جعل الرواية تُقرأ بشكل مختلف، حيث اعتبرها البعض وسيلة لترويج الأفكار السياسية لنظام صدام

الحقيقة ان الرواية لاقت بعض الانتقادات، ولكنها بالنهاية تعكس جزءًا من تفكير صدام ككاتب وأيضًا كزعيم مريض بمرض جنون العظمة.

 ***

 الكاتب: اسعد عبدالله عبدعلي

العراق – بغداد

قراءة في: ماذا لو هبت ريح.. للشاعرة: سنيا فرجاني[1]

كيف يشتغل الخيال؟ سؤال لطالما ظل معلقا بالنسبة لمن يحاول فك شيفرة الإبداع الأدبي. فالإبداع مرتبط بالخيال الذي تجتهد اللغة، حينما تسعف مستعملها، باعتباطيتها لنقله لنا، وغالبا وهي متحدية المنطق النحوي، الذي يقننها، لكن ليس على المستوى النسقي (إلا نادرا حفاظا على شيفرة التواصل)، وإنما على المستوى الاستبدالي. لهذا تلجأ إلى كل الصيغ الأسلوبية والبلاغية والفنية والجمالية الممكنة لتقريبه من المتلقي. وعلى هذا المستوى يمكن تقييم براعة كل شاعر. لكن يظل هذا التقييم خاضعا لنزوات العلوم الإنسانية المعروف عنها بأنها كثيرة المناهج، لكنها بالمقابل، قليلة النتائج مادامت مناهجها غير دقيقة، وغير خاضعة للتجريب. فحاولت كل المدارس المعروفة وكل النقاد عرب وعجم، كل من معجمه الثقافي، تفسير هذه الظاهرة عن طريق تحليل الصور الشعرية [2]. لهذا في نظري يستحسن المغامرة، التي هي نفسها عنصر من عناصر الإبداع، اللجوء أيضا إلى العلوم الحقة، لمحاولة فهم عملية التخييل التي تنتج لنا صورا تمتع القراء، خاصة متلقي الشعر منهم، كالرياضيات والفيزياء الكمومية، والبيولوجيا الكمومية وعلم الأعصاب، مادامت هي أيضا تتقاسم مع الإبداع الأدبي بعض العناصر، كالتجريدية التي نجدها في الرياضيات وفي الفنون التشكيلية والشعر. بل وحتى على مستوى الخيال نفسه، فالفيزياء أو العلوم بصفة عامة تنطلق هي نفسها منه، فتتصور ما قد يحدث أو ما قد ينتج وهو ما تسميه نظريات، في انتظار التطبيق التجريبي. كما حدث مثلا مع علماء الأعصاب[3] قبل أن يتمكنوا منذ زمن غير بعيد، حسب بعض التجارب، من ضبط بعض الطرق لمراقبة تأثير أنواع المثيرات المختلفة على الدماغ البشري. فلاحظوا أن الدماغ، عندما يستقبل إحساسًا جديدًا، سواء عن طريق اللمس أو البصر أو السمع، فإن الخلايا العصبية تطلق نبضات كهربائية عن طريقها يتم تبادل رسائل بالغة الصغر فيما بينها. الشيء الذي قد يحدث أيضا أثناء الكتابة وإنتاج الصور الشعرية. ثم لا ننسى كذلك الإشارة إلى ما سمي بالسيميائية الحيوية[4] التي تدخل في مجال علم الإشارات والأحياء، وهو مجال مفيد جدا في نظري لأنه يهتم بدراسة كيفية صنع المعنى ما قبل المعنى اللغوي، وقد يُستفاد منها حتى ونحن نشتغل من داخل اللغة، لأن هذه اللغة شعرية، وهي في علاقة مع ما يحدث على الصعيد البيولوجي، كما هي أيضا في تفاعل مع ما يحدث على الصعيد النفسي والاجتماعي. من جهة أخرى كذلك، نشير أيضا إلى الأبحاث المتواصلة حول ظاهرة الوعي لدى الإنسان وكيفية تشكله، وهو البحث الذي يقربنا أيضا من عملية تشكل الخيال ما دام فضاؤه أيضا هو المخ. وفي هذا الصدد هناك نظرية اتفق حولها عالمان، تسمى نظرية: [5]"Orch-OR". الأول هو الباحث "ستيووارت هامروف" Stuart Hameroff، مختص في التخدير ومهتم بدراسة تشكل الوعي البيولوجي، والثاني هو الفيزيائي "روجي بنروز" Roger Penrose، عالم رياضيات وفيزيائي ودارس للكون، والحائز على جائزة نوبل للفيزياء، والذي اشتغل كثيرا مع الفيزيائي Stephen Hawking، يساهم في نفس الموضوع بمقاربة كمومية. وأخيرا وليس آخرا، لايفوتني أن أذكر بالنظرية التي تعتمد على انقسام المخ إلى نصفين مختلفين، لعالم النفس والحائز على جائزة نوبل روجر دبليو سبيري[6]، والتي تقول بأن الإنسان المتسم بالتحليل المنطقي وبالمنهجية في تفكيره، يساري الدماغ، أما من له دماغ يميني، فهو أكثر اهتمام بما له علاقة بالفن والابداع بشكل عام. وهكذا تكون قد تحددت المنطقة الدماغية التي ينتج عنها الخيال، او بمصطلح أدق تنتج عنها الصور الشعرية.

هذا الزخم من الأبحاث العلمية، يفسر في اعتقادي وإيماني بأن القبض على كيفية تشكل الخيال، ليس إلا مسألة وقت. وهكذا سوف يتضح بأن المخ كمادة رمادية، وهو، في أوج عملية الخيال، لا ينطلق من فراغ وبشكل هلامي ما دامت فكرة الفراغ مدحوضة علميا حسب الفيزياء[7] الكمومية. ومن جهة أخرى فإن الخيال ليس موجودا لأجله فقط، وبدون وظيفة موضوعية سواء عن وعي أم لا. والدليل وهو أن بعضا مما تصوره الخيال منذ فطنة الإنسان، تحقق عمليا، وهو ما تؤكده الأمثلة المتعددة فيما يسمى بالأدب التخييلي العلمي[8]. وأنا أتحدث عن الخيال وكيفية اشتغاله، في علاقته بالعلم، استحضر الشاعر الفرنسي أبولينير[9] الذي مهد لما سمي بالسريالية فيما بعد، ردا على بعض منتقديه حول انزياحاته (خياله) التي لم تكن تخضع للمعاييرالمتداولة حينها، مجسدا فكرته لتقريبها ممن أسميهم بآكلي المعاني (sensivores) بقوله: "حينما أراد الإنسان تقليد المشي، خلق العجلة التي لا تشبه الرِّجل. وهكذا كان سرياليا من غير أن يعي ذلك". إن هذه الجملة التي تبدو بسيطة، تدخل فيما تحدث عنه إيتيين كلاين Etienne [10]Klein، أحد مناصري "علم الجسور" بين العلوم والفكر والفلسفة وبطبيعة الحال لا يمكن استثناء الإبداع الأدبي والفني من هذه العملية التي تسعى إلى تكسير الفكرة المتداولة التي أدخلت كل معرفة داخل دائرة اختصاصها، مانعة هكذا التفاعل الإيجابي بين المعارف. هكذا إذن، يمكن استيعاب الخيال الجامح الذي يتميز به بعض "الشعراء" (بين مزدوجتين في انتظار مصطلح أقوى، وأعني هنا كتاب ما يسمى بقصيدة النثر)، بالحديث عنه مستحضرين الترابط بين المعارف.

هذه التوطئة، أردتها فسحة نظرية وتحفيزية لتجاوز ما هو متداول حول الخيال سواء لدى الأدباء والفلاسفة كما سبق الذكر، أو لدى المتصوفة، من أمثال ابن عربي الذي حدثنا عن الخيال المنفصل والخيال المتصل[11]، قبل مقاربة قصيدة سونيا الفرجاني التالية، المنشورة على صفحتها في الفيسبوك:

ماذا لو هبّت ريح من الجنوب على عيوب الشعر الغزليّ ونثرته؟

أو شردته

أو شتته؟

سيتطاير في العالم وفي الهباءات

داخل مخابر مكتظة بالمرضى

سيُقْضَى

وقت طويل أمام نهود مرمية على الأرصفة

وحول سيقان وربلات وأعضاء عارية تحوم حولها أسراب من الكواسرْ.

ستغامر النسوة الباكيات بجمع القطع الساقطة،

حلمات دامية

شعور منتوفة وجماجم كانت عليها عيون كسرها الوصف الذليل

فساحت.

يصرخ الباحث العليل أمام أنبوب ومجهر:

هذه حفنة من نحر أنثى

كيف أَوَتْ نجمة محترقة

إلى يرقة ؟

رفعَ الستار

واستدار:

ثمّة تابوت في الريح

ثمة شفاه ترتعش بشدة

تزيح نظراتي وتصفعني.

ثمة شيء غامض يمنعني.

المدن تغلي بالنساء الممزقات.

لحم منتوف يكسو أطراف المباني

طيور تهبط على قطع من الأرجوان

نهد يسقط داخل بوق الصومعة

يرفع المؤذن صوته فيطلع ثدي ويرتطم بالآذان.

تغير لون المنازل و المباني

شبعت الكلاب وشبع الذباب

وشبع الشعر

لكنّ الأرض شيّعت نساءها

وارتطمت في حادث سير أبويّ؟

الفكرة الرئيسية التي انبنت حولها القصيدة هي : استهزاء من الشعر الغزلي ومقت للذكر المهووس بأنوثة المرأة. كيف استعانت بالخيال لتركب صهوته وتقدم فكرتها في طبق مصمم بلغة ماورائية، يشتهيها المتلقي؟ بماذا استعانت كي تجعل من الخيال لغة تفوق لغة الحروف؟ لم تبتعد عن محاكاة الطبيعة. لكنها محاكاة تخرج عن المتداول حسب المنطق الأرسطي.

النص في بنائه، يشبه كتابة سيناريو. وأعتقد أن هذا التشبيه يفي بالغرض لأن الشاعرة تنطلق من فرضية معبر عنها بوضوح: "ماذا لو هبّت ريح من الجنوب". ولعلها الجملة الوحيدة التي لا تخرج عن منطق اللغة المتداول. أما ما تبقى، فيدخل فيما أسميه بمنطق المتعة. فالنص كله متعة، وكل صورة تزيد في نهم المتلقي. لهذا يمكن الحديث عن سيناريو وهو نفسه يدخل في التخيل، فيسمح لها بالتداعي الحر. يتشكل إذن هذا السيناريو من مقدمة جامعة، بقولها:

" سيتطاير في العالم وفي الهباءات

داخل مخابر مكتظة بالمرضى"،

لتهيئنا بشكل مرتب لما قد يحدث بعد هذه الفرضية بكل دقة. وهو ما ستتكلف بوصفه هي نفسها أو على لسان الشخصية الوحيدة التي ركزت عليها في نصها هذا الذي يجمع بين الاستهزاء كما قلنا، والاشمئزاز بفضل الصور الجنونية التي خصت بها المرأة موضوع الشعر الغزلي. وللوقوف على كل ما ذكرنا سوف نخصص لكل فكرة فقرة معنونة.

الفرضية:

"ماذا لو هبّت ريح من الجنوب على عيوب الشعر الغزليّ ونثرته؟

أو شردته

أو شتته؟"

ونحن نتساءل عن كيفية اشتغال الخيال لدى الشاعرة، نلاحظ أنها في هذه الفرضية، انطلقت من الطبيعة باستحضار "الريح الجنوبية". فلا بد لنا في غياب ملاقيط تشد على نوروناتها لتقيس لنا اشتغال الخيال لديها، أن نقوم باستقراءات قد تساعدنا على فهم كيف حضرت صورة "الريح". هل هناك جسيمات أو ذبذبات كهرومغناطيسية، هي التي تشكل هذا الخيال؟ إذا كان الأمر كذلك، كيف تم إفراز هذه الجسيمات في حالة وجودها؟ هل هناك حافز وراء هذا الإفراز ومن ثمة حضور الصورة؟ هل الحافز نفسي، مرتبط بالحالة النفسية للشاعرة في تلك اللحظة بالذات، أم هي ردة فعل اتجاه حدث واقعي أحيته الذاكرة؟ فلنكتفِ بهذه التساؤلات التي تعبر عن جهلنا العلمي حيال عملية لا مناص لنا عنها في عالم الإبداع، لكنها تزرع فينا حدة الاهتمام بهذه العملية الرهيبة عبر ما هو بين يدينا، أي نحاول التعامل مع اللغة التي تتحمل مسؤولية إيصال هذا الخيال، وهي مقاربة لسانية تتفادى الإسقاطات المجانية، معتمدة على اللسان، ككلام محدد بهذا النص، خاضع لمنطق نحوي وآخر معنوي بفضل المرجعيات، وكمنطوق تنسجم أو تتنافر حروفه فيما بينها، وهو ما يساعدنا على فك شيفرات الصور.

فكلمة "الريح"، تجبرنا حسب الثنائيات اللسانية، على استحضار كلمة "الرياح". فمنطقي أن نتساءل لماذا اختيار الكلمة الأولى؟ فالجواب هو أنها ذات وظيفة تدميرية، مناسبة للموضوع، خلافا لكلمة "الرياح". أما كونها "جنوبية" وليست شمالية ولا بحرية (مستحضرين دائما الثنائيات اللسانية) ، فلأنها، كما تُعرفها الأرصاد الجوية، قوية وتهب من الصحراء الكبرى صيفا محولة الجو الخارجي إلى جحيم. وهكذا تصبح الوظيفة التدميرية أكثر فاعلية. لكن الشاعرة ليست متيقنة من وقوع الحدث، وهو ما نستشفه من خلال تساؤلها "ماذا لو" الذي يعبر عن فرضية تضمر في نفس الوقت تمنٍّ صريح وصارخ. فتواصل نورونات الخيال اشتغالها من خلال هذا التمني لتجعل الريح "تهب على عيوب الشعر الغزلي". وهنا نلتقط بملقطنا اللغوي الصورة (في انتظار أن يتم التقاطها عمليا في المختبر العلمي)، التي تبدو أكثر لمعانا وإدهاشا، لأن الريح أُلصقت بما ليس من طبيعتها، وهو مأ اعطى للشعر الغزلي صفة ملموسة كنبتة أو كحنطة، ما نجد له تفسيرا كذلك فيما بعد، حيث تبدو الشاعرة مترددة في فرضيتها أو أمنيتها، وهي تنتقل من: "تنثره" إلى "تشرده" وفي النهاية تستقر أمنيتها على "تشتته". ومن خلال وقفة سريعة، على ما يبدو إطنابا، وهو تراكم أفعال تصورِها لما قد يحدث، ندرك على أن هناك تصاعد خيالي ناتج عن ترددها هذا. ما يتيح لنا تعددا في التأويل. فإذا وقفت عند "تنثره" فمعناه أن لها شك في هذه العملية، مخافة ألا تكون الريح الجنوبية تدميرية، أو ربما تتحول إلى رياح، فاستحضرت عملية فلاحية قد تهدف إلى زرعه كي ينبت مجددا، وهنا فكرة الحنطة التي ذكرناها، وهو ما لا تريده، بل ما لا تتمناه. ثم حينما استدركت الموقف استعانت ب" تشرده". وهذه العملية أيضا لا تعني القضاء عليه، وإنما تفريق محتواه وتبقى فكرة الحفاظ عليه ولو في حالة تشرد، ما ينطبق أيضا على  المتغزل لكي يصبح مهمشا فقط، مادامت عملية التشرد تحمل مدلول الأنسنة. وقد يثير هذا الفعل شهيتنا في التأويل، ونضيف "به" للتشرد، فيصبح لدينا فعل "تشرد به"، وهو ما يعني فضح الشعر الغزلي وذيوع عيوبه بين الناس، وهو بطبيعة الحال  ما قد ينطبق كذلك على شاعر الغزل. لكنها غير مقتنعة بهذه العملية أيضا، يأتي الاستدراك الثالث وكأنها تضغط على زر النورونات لكي تفرز لها صورة أخرى وهي عبارة عن "دعاء" مضمر، مستوحى من ثقافتنا الدينية الشعبية :"اللهم شتته"، لتستقر على هذه العملية /التمني. فتشتيت الشيء، يعني عدم القدرة على تجميعه مجددا، نظرا لبعثرته، ومن ثمة اندثاره النهائي. صورة تذكرني بما قاله الشاعر السوداني إدريس جمّاع، حيث استعمل "النثر" كمرادف "للتشتيت":

"إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه // ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه".

وتواصل توليد الصور انطلاقا من هذا الضغط على زر النورونات، "فيتطاير بعد الشتات كهباءات" أو غبار لا نراه إلا إذا كانت هناك أشعة الشمس (وليس غبار الطلع لأن الشاعرة لا تنتظر تلقيحا). من هنا تهيئنا لتتبع خيالها خلال مرحلتين:

المرحلة الأولى:

"سيتطاير في العالم وفي الهباءات".

العالم هنا ممثل بالرصيف، أي بالشارع العمومي في أي مدينة أو بلد، مازالت فيه المرأة "ضحية" الشعر الغزلي.

"سيُقْضَى

وقت طويل أمام نهود مرمية على الأرصفة

وحول سيقان وربلات وأعضاء عارية تحوم حولها أسراب من الكواسرْ.

ستغامر النسوة الباكيات بجمع القطع الساقطة،

حلمات دامية

شعور منتوفة وجماجم كانت عليها عيون كسرها الوصف الذليل

فساحت."

صور خيالية تتقن الحديث عنها عن طريق لقطات السيناريو السينمائي. وكأننا أمام فيلم رعب، تاركة لنا في بداية المقطع تصور الشخصيات أو الكومبارس، باستعمالها فعلا مبنيا للمجهول، مركزة فقط على الحدث بقولها: "سيُقضى..". ولنا أن نتخيل أشخاصا عاديين، ككومبارس، وهم ينظرون بتقزز، ومن غير ملل أيضا، إلى النهود المرمية على الأرصفة، وإلى السيقان والربلات وأعضاء عارية. ولإعطاء الصورة إحساس تقزز ورعب، جعلت هذه الأعضاء كلها ضحية أسراب من الكواسر. ولأنها تمقت الشعر الغزلي كثير العيوب، جعلت من أولئك المدمنين عليه ككومبارس، يتفرجون طويلا في هذه الأعضاء المرمية على الرصيف، ويتفرجون على أسراب الكواسر، وهم شعراء الغزل الكثر، يحومون حولها، لتصبح إذن المرأة هنا ضحية لذلك، وكأنها لا تساوي شيئا ولا آدمية لها ما دامت الشاعرة فصلتها تفصيلا، كأعضاء مرمية على الرصيف. إلا أن السيناريو الذي اختارته الشاعرة، فرض عليها إيجاد بطلة أو بطلات، تغامرن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهن "النسوة الباكيات". فتقوم بجمع القطع الساقطة من حلمات، وشعور منتوفة وجماجم فقدت عيونها، التي كسرها الوصف الذليل. وبعد أن استوفينا تقريبا المرحلة الثانية من هذا السيناريو، نمر إلى المرحلة الثالثة.

المرحلة الثالثة:

يصرخ الباحث العليل أمام أنبوب ومجهر:

هذه حفنة من نحر أنثى

كيف أَوَتْ نجمة محترقة

إلى يرقة ؟

رفعَ الستار

واستدار:

ثمّة تابوت في الريح

ثمة شفاه ترتعش بشدة

تزيح نظراتي وتصفعني.

ثمة شيء غامض يمنعني.

المدن تغلي بالنساء الممزقات.

لحم منتوف يكسو أطراف المباني

طيور تهبط على قطع من الأرجوان

نهد يسقط داخل بوق الصومعة

يرفع المؤذن صوته فيطلع ثدي ويرتطم بالآذان.

تغير لون المنازل و المباني

شبعت الكلاب وشبع الذباب

وشبع الشعر

لكنّ الأرض شيّعت نساءها

وارتطمت في حادث سير أبويّ؟

كسيناريست، تختار الشاعرة شخصية الباحث لتواصل صورها المفزعة. فالباحث "عليل" ما دامت "المخابر مكتظة بالمرضى"، كما سبق وأن أشارت إلى ذلك الشاعرة في بداية الأمر. ثم لا يجب أن ننسى بأننا أمام نص شعري بامتياز، يمتح من السيناريو، لهذا يكون الاهتمام بجمالية اللغة، إما عفويا أو تنقيحا، وهو ما نجد أثره في استعمال الشاعرة نوعا من التوازي بين "الوصف الذليل" في الشعر الغزلي، حسب الشاعرة، و "الباحث العليل"، الشخصية التي سوف تنقل لنا ما تراه، جراء حدث الشعر الغزلي وأثره على جسد المتغزل بها. فالمرور بفضل عملية السجع العفوية، من "الذليل" إلى "العليل"، هدفه تأكيد الشاعرة على أن الشعر الغزلي، وهو متصل بأنبوب، وتحت مجهر الباحث، (الذي بيده مشرط، كما نتخيله)، داخل المختبر النقدي، لن يحصد إلا ما زرعه المتغزل. فرائحة الموت، والصور البشعة، هي التي تتبخر أمامنا ونحن نواصل قراءة النص. فالباحث يصرخ بملء فيه أمام فداحة الشعر الغزلي. فهناك حفنة نحر، وتابوت في الريح وشفاه ترتجف، ونساء ممزقات ونهد داخل بوق الصومعة إلخ....فتكتمل الصورة البشعة، بوجود كلاب شبعت بعد نهش الجثث، وذباب يغطيها. ثم المفاجأة مع "الشعر" الذي شبع بدوره من هذه الجثث، لتعيدنا إلى الموضوع، وهو مقت الشعر الغزلي، الذي ما هو إلا نتيجة "للسير الأبوي"، أو التحكم الذكوري في الحياة، واعتبار جسد المرأة بضاعة.

هكذا تتصور الشاعرة تأثير الشعر الغزلي على كل مناحي الحياة. فتقحمنا بخيالها الجامح داخل عالم المختبرات حيث التشريح والدماء وتناثر أعضاء أنثوية لتعم الصورة المدينة بأكملها. فيكون سببا في تأزيم "مرضى المخابر، وترتطم الأثداء بالآذان، ويتغير لون المنازل والمباني إلخ...".

ماذا نستنتج كآكلي المعنى؟ الشاعرة ترفض الغزل أو التغزل بالمرأة لأن ذلك في نظرها يحط من إنسانيتها كروح قبل أن تكون جسدا كباقي الأجساد. وبهذه القصيدة ترفض تسليع المرأة وكأنها تتخيلها تحت سيطرة ما يسمى ببورصة المال أو بسوق يعرض السلع، بالدلال، وهم شعراء الغزل، كل واحد يزايد شعريا على الآخر ليظفر بفريسته. هي نظرة نسوية بامتياز وليست نسوانية. تدافع عن كرامة المرأة كما تراها هي الشاعرة أيضا. وكأنها تقول: هل رأيتم شاعرة تقول الغزل فتسلع الرجل؟

أتوقف عند هذه القراءة التي أعتبرها محاولة لفهم اشتغال الخيال، تاركا المجال مفتوحا للمتلقين المهتمين بكيفية اشتغاله. هكذا تشتغل، في نظري، نورونات الشاعرة لتتميز بصورها المتولدة بدقة إحساس عال يرفع من دهشة المتلقي نحو ماورائيات لغوية قد تنال منها الفيزياء الكمومية، وبيولوجيا النورونات والأعصاب، في وقت لاحق، لندرك كيف يشتغل الخيال بدقة، كما نالت من إشكالية وجود كل الجسيمات والقوى الأساسية للطبيعة وشرحتها على أساس أنها عبارة عن اهتزازات لها عشرة أبعاد (علما أن الأبعاد المعروفة هي ثلاثة بالنسبة للمكان، وبعد للزمان) بفضل نظرية الأوتار الفائقة. هذه النظرية التي وحدت الفيزياء الكمومية بالفيزياء النسبية، توحد كان يعتبر مستحيلا، قد تفتح الباب لمعرفة إن كان خيالنا هو نفسه وليد أوتار فائقة تشبعنا صورا شعرية، مادمنا كتلا مشكلة من جسيمات لها نفس الخصائص كتلك التي تهتم بها الفيزياء الكمومية.

***

محمد العرجوني

..................

[1] نشر على صفحتها بالفيس بوك

[2] https://dr-almahmoodi.com/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D8%A9/#:~:text=%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D8%B1%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D8%A9%20%D9%81%D9%8A%20%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85%D9%87%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D9%88%D9%8A&text=%D8%AA%D9%82%D9%88%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9%20%D8%B9%D9%84%D9%89%20%D8%AA%D8%B6%D9%85%D9%8A%D9%86%20%D9%84%D9%81%D8%B8,%D9%85%D8%AF%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7%20%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%87%D9%86%D9%8A%D8%A9%20%D8%BA%D9%8A%D8%B1%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D8%B1%D9%83%D8%A9%20%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B3.

[3] https://www.medicoverhospitals.in/ar/articles/complexity-of-the-human-nervous-system#:~:text=%D8%B9%D9%84%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B9%D8%B5%D8%A7%D8%A8%20%D9%87%D9%88%20%D9%81%D8%B1%D8%B9%20%D9%85%D8%AB%D9%8A%D8%B1,%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A7%D9%85%D8%B6%D8%A9%20%D8%A8%D9%8A%D9%86%20%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%85%D8%A7%D8%BA%20%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%88%D9%83.

[4] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B3%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9_%D8%AD%D9%8A%D9%88%D9%8A%D8%A9#:~:text=%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D9%88%D9%8A%D8%A9%20(%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%AC%D9%84%D9%8A%D8%B2%D9%8A%D8%A9%3A%20Biosemiotics),%D9%88%D8%B9%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA%20%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D9%84%20%D9%81%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%A7%D9%84%20%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A.

[5] Francia | The Daily Digest |

[6] Wikipedia

[7] Courts-circuits, Etienne Klein, Gallimard 2023.

[8]  على سبيل الذكرJules Vernes روايات الكاتب الفرنسي جيل فيرن

[9] https://www.bozar.be/fr/regardez-lisez-ecoutez/la-naissance-du-surrealisme#:~:text=Le%20terme%20%C2%AB%20surr%C3%A9alisme%20%C2%BB%20fit%20son,ressemble%20pas%20%C3%A0%20une%20jambe.

[10] Ibid, Etienne Klein.

[11]https://www.alaraby.co.uk/culture/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D9%86%D8%B8%D8%B1-%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%B3%D8%B1%D9%91-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D9%88%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%AA%D9%87

 

رواية أحمد فال الدين الخيالية عن مُفكّر القرن الثاني عشر تدعو إلى إعادة تفسير عصرنا

بقلم: أسلم فاروق علي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

بعد أكثر من شهرين من العمل الشاق، يقف أخيرًا رجل في منتصف العمر بملابس ممزقة وأقدام تنزف أمام أبواب المدينة القديمة. مظهره المنهك يكذب الهدوء الذي يشعر به في الداخل، ويصل إلى أعماق روحه. "كم من الوقت يجب على المرء أن يسافر ليجد نفسه؟" ويتساءل: لماذا كان من الضروري القيام بهذه الرحلة لمجرد الانتقال من جانب من القلب إلى الجانب الآخر؟ يحدق الباحث برهبة في أسوار دمشق المهيبة، التي تحظى بالتبجيل لإبعاد جحافل الغزاة التي وقفت أمامها في حصار لمدة 20 عامًا طويلة. ولكن للأسف، أدرك أنه "لا يوجد جدران أكثر مناعة للاختراق من جدران القلب!" وهل سيذكر التاريخ شخصًا جاهد لمدة عشرين عامًا حتى ينفتح قلبه أخيرًا للنور؟

مع هذا المشهد الافتتاحي المغري، تأخذ رواية أحمد فال الدين الأخيرة القارئ في رحلة إلى العالم الداخلي لواحدة من أكثر الشخصيات شهرة في التاريخ الإسلامي: الفيلسوف والعالم الروحي في القرن الثاني عشر، أبو حامد الغزالي. فال الدين هو مراسل مخضرم لقناة الجزيرة، لكن اهتمامات الكاتب الموريتاني تمتد إلى ما هو أبعد من غرفة الأخبار وتتعمق في الأرشيف، حيث تربط بين الحاضر والماضي. "دانيشماند" ("السيد الحكيم") هو كتابه الخامس؛ كان كتابه الأول – الذي نُشر في عام 2012 – عبارة عن سيرة ذاتية عن سجنه في زنازين سجن معمر القذافي خلال الربيع العربي. (الترجمة الإنجليزية، "في براثن القذافي، تم نشرها للتو من قبل دار عرب في المملكة المتحدة). أعقب مذكرات عام 2012 روايتين في تتابع سريع، نُشرتا في عامي 2018 و2019. وفي عام 2021، عاد فال الدين إلى جذوره الصحفية ونشر مقالًا بطول كتاب عن صعود وسقوط حركة طالبان في أفغانستان.

لطالما اعتبر الشعر مستودعاً للذاكرة التاريخية العربية. إنه "ديوان العرب". لا يزال الشعر يحظى بتقدير كبير بين الناطقين باللغة العربية، إلا أنه لم يعد الشكل السائد للتعبير الأدبي. إن مواجهة العالم العربي مع الحداثة لم تقدم أشكالًا جديدة للحياة فحسب، بل أيضًا أشكالًا جديدة للتعبير الأدبي، وقد اكتسبت الرواية التاريخية مكانة بارزة بسرعة في الأدب العربي الحديث. لقد تبنى الكتاب العرب المعاصرون بشكل متزايد هذا النوع من الأدب لإعادة النظر في الماضي، لكنها تجد أفضل تعبير لها عندما يتم استخدام إعادة التصور الإبداعي للماضي بشكل فعال لتحفيز التفكير وإلقاء الضوء على  الحاضر.

مع "دانيشماند"، يعود فال الدين مرة أخرى إلى هذا النوع من الخيال التاريخي ويعيد تصور فصل مضطرب من الماضي الإسلامي بطريقة تجعلنا نفكر في مأزقنا الحالي. في غزوته الأولى – “الحدقي” (2018) – استكشف فال الدين حياة وعصر العالم الموسوعي العراقي أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ الذي عاش وكتب في العصر الذهبي العباسي في القرن التاسع.. لا يزال الجاحظ يحظى بالاحترام والقراءة على نطاق واسع في العالم العربي اليوم، لكنه يظل شخصية غامضة في الأوساط الأدبية الناطقة باللغة الإنجليزية، ولا يحظى إلا باهتمام مجموعة صغيرة من الأكاديميين والباحثين في الأدب العربي.

في المقابل، يمكن القول إن الغزالي هو أحد أكثر الشخصيات التي تم التدقيق فيها في التراث الفكري الإسلامي ويحظى بشهرة مماثلة في الغرب. تُرجمت أعماله ودُرست في العالم المسيحي اللاتيني، ورغم أنه لحسن الحظ ليس واحداً من المسلمين الخمسة المحتجزين في الجحيم في "الجحيم" لدانتي، فقد تم ذكره في "Convivio"، وهو تأمل الشاعر الفلورنسي حول مختلف مجالات المعرفة السائدة في عصره. يُعتقد أن ديكارت رينيه، أبو نظرية المعرفة الحديثة في القرن السابع عشر كان يمتلك ترجمة لاتينية لسيرة الغزالي الذاتية، “الخلاص من الخطأ” ("المنقذ من الضلال")، والتي تم شرحها بخط يده.وعلى هذا الأساس، اقترح مؤرخو الفلسفة أن الفكر الإسلامي أثر على الفلسفة الأوروبية إلى ما هو أبعد من العصور الوسطى وعصر النهضة. ولا تزال كتب الغزالي تحظى بانتشار واسع، وقد كتبت دراسات لا حصر لها عن حياته وفكره، بما في ذلك الروايات (باللغتين العربية والفارسية). ويضيف فال الدين الآن إلى هذا الإرث المحترم عملاً آخر من الخيال التاريخي، تم تأليفه بعناية في نثر عربي بارع.

بصرف النظر عن المقدمة الأولية التي تدور أحداثها في منتصف القصة، على حافة المهمة الوشيكة، فإن الكتاب يتكشف بتسلسل زمني، متتبعًا مسار حياة الشاب اليتيم محمد، من الشوارع المتربة لبلدة طبران الصغيرة. في منطقة طوس، في خراسان في القرن الثاني عشر، إلى المراكز الرئيسية في نيسابور وأصفهان بغداد ودمشق والقدس. يتبع السرد المتكشف في النهاية طريق العودة إلى المثوى الأخير للسيد الحكيم في مسقط رأسه في شمال شرق إيران، وليس بعيدًا جدًا عن مشهد الحالية.

يبدأ الجزء الأول من الرواية – “اليتيم” – بصبيين صغيرين، محمد وأخيه أحمد، اللذين يكافحان من أجل البقاء مع والدتهما التي ترملت مؤخراً. ترك والدهما ميراثًا صغيرًا لتعليم الأولاد لصديق مخلص، لكن هذه الأموال استنفدت واستدعاهما  الرجل المحتضر لمناقشة مستقبلهما. يأسف صديق العائلة لأنه لا يستطيع إعالتهما بنفسه بسبب حالة الفقر المدقع وتدهور صحته. ومع ذلك، فقد وجد طريقة لتلقي الولدين تعليمًا دينيًا، وهو التعليم الذي سيوفر لهما ماديًا ويحقق رغبة والدهما المتوفى في أن يصبح أبناؤه علماء. يقوم بترتيب تسجيلهما في مدرسة دينية توفر الطعام والسكن والملبس لطلابها. وفي عطلات نهاية الأسبوع، يتمكن الولدان من زيارة والدتهما، التي أصبحت الآن مرتاحة من عبء إعالة ولديها. إن الذكاء المذهل الذي يتمتع به الشاب محمد يميزه على الفور عن أقرانه، ويتنبأ معلموه بمستقبل مشرق له. وبمرور الوقت، تمكن محمد من الحصول على منحة دراسية للدراسة في المدرسة النظامية الكبرى في نيسابور، على يد أحد أبرز علماء العصر، أبو المعالي الجويني.

في الجزء الثاني من الرواية - "الدانشماند" ("المعلم الحكيم") - كبر الطالب المبتدأ ليصبح عالمًا عظيمًا بدأت سمعته تنافس سمعة أستاذه الجويني الذي توفي مؤخرًا. وقد لفت نجاحه انتباه الوزير السلجوقي الكبير أبو علي حسن بن علي الطوسي، المعروف باسم نظام الملك ("منظم العالم")، مؤسس وراعي المدارس النظامية التي تحمل اسمه. وهكذا ينجذب الغزالي إلى عالم السياسة ومكائد البلاط. الخليفة في بغداد ليس أكثر من شخصية اسمية: فالسلطة الحقيقية تكمن في يد السلطان السلجوقي مالك شاه، ابن العظيم ألب أرسلان. خدم نظام الملك ألب أرسلان وتعهد بالولاء والخدمة لوريث السلطان المقتول البالغ من العمر 19 عامًا. والآن، بعد مرور ما يقرب من عقدين من الزمن، أصبح العالم السلجوقي آمنًا نسبيًا وأصبح نظام الملك في ذروة نفوذه. ومع ذلك، هناك دائمًا متظاهرون بالعرش، وطائفة القتلة الباطنية القوية بقيادة حسن الصباح الغامض - رجل الجبل العجوز - مصممة على اغتصاب السلطة من السلاجقة. القتلة هم من الإسماعيليين الشيعة – الموالين للخليفة الفاطمي في القاهرة – وعاثوا فساداً في الشرق الإسلامي من خلال حملة منسقة من القتل، استهدفت القادة والعلماء.

حتى الآن، انضم الدانشماند إلى حاشية الوزير الأعظم، وكتب كتاباً يفند عقيدة الإسماعيليين وعمل كمبعوث للبلاط في مناسبات عديدة. يعين نظام الملك  الغزالي للتدريس في المدرسة النظامية في بغداد – أهم مدارسه – الواقعة في العاصمة الثقافية والفكري للعالم الإسلامي وعلى مقربة من بلاط الخليفة السني. دخلت الإمبراطورية السلجوقية في حالة من الفوضى بعد ذلك بوقت قصير، عندما اغتيل نظام الملك في شهر رمضان عام 1092. وأعقب مقتله الوفاة المفاجئة للسلطان مالك شاه بعد شهر. يتم جر أبناء مالك شاه على الفور إلى معركة ضروس على العرش، وينجذب الغزالي عن غير قصد إلى صراعهم على السلطة، حيث يعمل كمبعوث بين الورثة المتنافسين وأمهاتهم والخليفة.

وعندما توفي الخليفة بعد ذلك بعامين، تخلى الغزالي فجأة عن منصبه التدريسي وهرب إلى المنفى الاختياري. وهكذا يبدأ الجزء الثالث من رواية «الهارب» باستبدال العالم الشهير ثياب البلاط الفاخرة بالملابس الخشنة للمسافر الزاهد، منطلقًا على طريق دمشق وفي الوقت نفسه متخذا الخطوات الأولى نحو اكتشاف الذات. وهكذا ينطلق الجزء الثالث من حيث بدأت الرواية، وأصبح لدينا الآن فكرة أوضح عن سبب إشارة المؤلف إلى المقدمة على أنها ولادة جديدة ("الميلاد الثاني").

وفي الجزء الرابع – "الناسك" – نرافق الباحث وهو يتنقل في دروب روحه المكتشفة حديثاً. وفي الجزء الختامي من الرواية – "بقلب سليم" – نعود إلى طبران، المثوى الأخير للدانشمند. لم يجد المعلم الحكيم الرضا فحسب، بل الأهم من ذلك أنه ترك وراءه ميراثًا فريدًا، وهو دليل على الطريق الذي يؤدي إلى السعادة. وقد ساعدته إقامته الروحية على إنتاج أعظم ما أبدع، وهو عمل عبقري طموح بعنوان:("إحياء علوم الدين").

إن رواية فال الدين عمل ضخم يمنح المرء وقفة كبيرة للتفكير. إلى جانب النثر العربي الغنائي، يتميز الكتاب أيضًا بالوصف الكثيف الشائع في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، حيث يستكشف معنى أحداث الحبكة بالنسبة لشخصياتها. إن روايته الإبداعية لقصة حياة الغزالي هي أيضًا وفية جدًا للتاريخ الموثق لحياة العالم العظيم وزمنه.لا يحتاج المرء إلا أن يلجأ إلى دراسة فرانك جريفيل الممتازة "لاهوت الغزالي الفلسفي" ليتعرف عليها. يقدم لنا الفصلان الأولان من كتاب جريفيل الوصف الأكثر تفصيلاً للشخصية التاريخية، بالاعتماد على مجموعة متنوعة من المصادر باللغتين العربية والفارسية، وهي اللغتان التي كتب الغزالي وتحدث بها.

يقوم فال الدين بتزيين السرد التاريخي من خلال الاهتمام الرائع بالتفاصيل، وتصويره للملابس والأعراف الاجتماعية وثقافة الكتاب وممارسات الطهي يعتمد على المصادر التاريخية وقصص الرحلات المكتوبة في الفترة التي تدور أحداث الرواية فيها. على سبيل المثال، تظهر السمبوسة في مأدبة رمضان التي أقامها نظام الملك قبل وقت قصير من اغتياله. ظهرت هذه المعجنات المثلثة المحشوة باللحم المفروم، والتي ترتبط شعبيًا الآن بالمطبخ الهندي، لأول مرة في التاريخ الفارسي "تاريخ البيهقي" ("قصة البيهقي") للمؤرخ الخراساني أبو الفضل البيهقي في القرن الحادي عشر.

وفي حين أن الرواية تنير بالتأكيد فهمها للتاريخ الاجتماعي، فإنها تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، وتقدم منظورًا تنويريًا لفلسفة التاريخ أيضًا. يتعارض فال الدين مع الفكرة الشائعة للتاريخ باعتباره يتكشف على طول سلسلة متصلة واحدة تؤدي إلى نظام اجتماعي مثالي.في حين أن فكرة "نهاية التاريخ" هذه قد دافع عنها ونشرها فرانسيس فوكوياما في الآونة الأخيرة، فإن التقليد يمتد إلى الفيلسوف الألماني في أوائل القرن التاسع عشر جورج فيلهلم فريدريش هيجل وروايته ذات الأسس الفلسفية للتاريخ الخطي، والذي ينتهي عند  النقطة التي يصل فيها المجتمع إلى ذروته وتكتمل الحضارة.

بدلاً من ذلك، يؤكد التوجه السردي للرواية بقوة على المفهوم الدوري للتاريخ، وهي نظرية عبر عنها بوضوح عبد الرحمن بن خلدون، مؤرخ القرن الرابع عشر والمنظر الاجتماعي. وقد ذكر ابن خلدون بشكل مؤثر أن "الحضارة تضر بالتنمية المجتمعية". انبثقت هذه الرؤية الفريدة من إدراك أن الثراء المادي المطلوب لتعزيز السعي لتحقيق التقدم وتطور الحضارة سيكون دائمًا حكرًا حصريًا على النخب القوية. إن تكديس الثروات الكبيرة من قبل هذه النخب يصاحبه حتماً الرغبة في الحفاظ على الحقوق الحصرية لهذه الثروات،وعلى هذا النحو ستظل الجماهير دائمًا مهملة في البرد. وبناء على هذه الرؤية، يرى ابن خلدون أن مسار التاريخ دوري. تصل الحضارات القوية إلى ذروتها ولكنها تنهار في النهاية لأن الكثير منها قد تخلف عن الركب في طريقها إلى السلطة.

في زمن الغزالي، كانت الحضارة الإسلامية لا تزال في صعود، والتناقض بين سياق الرواية وسياقنا يقدم نسخة مقنعة من الدورة الحضارية. إن حقيقة قدرة فال الدين على إعادة تصور الماضي بطريقة إبداعية بطريقة تحفزنا على التفكير في الحاضر ليست فقط مؤشرا قويا على نضوج نوع الرواية التاريخية في الأدب العربي المعاصر، ولكن أيضًا اعتراف بإتقان المؤلف لمهنته. وليس على فال داين أن يعرب علناً عن أسفه لسقوط الحضارة الإسلامية من الرقي؛ بل إنه يقدم صورة مقنعة لما كانت عليه الحال في عصر الغزالي.

في الرواية، تتربع النخب العربية والفارسية على قمة التسلسل الهرمي الاجتماعي، مع اندماج الطبقات العسكرية التركية بسرعة في هذه الرتب. تتكون الطبقات التابعة من الجواري البيزنطيات اللاتي يتم تقديرهن لجمالهن وإعدادهن للخدمة، على غرار خصيان البلاط الذين تم إخصاؤهم في الأراضي المسيحية وبيعهم كعبيد ليتم تدريبهم كبيروقراطيين وحارمين لحريم الرجال الأقوياء. وعلى نحو مماثل، فإن جحافل العنف التي تهدد المملكة هم البرابرة البيض في أوروبا الذين حشدهم البابا أوربان الثاني وجماعته من المتعصبين الدينيين، وانطلقوا لاستعادة القدس من أجل عقيدتهم. هذا التصوير لجحافل البرابرة الأوروبيين - المشهورين بإراقتهم للدماء ونفورهم من الاستحمام - وهم يسيرون نحو القدس عبر القسطنطينية، حيث كان المسيحيون أكثر تحضراً بكثير، يشكل خيطاً سردياً مقنعاً يينظم المجتمع في تسلسل هرمي حضاري محدد بوضوح.

لقد شعر الغزالي بمساوئ الحضارة العالية، خاصة فيما يتعلق بأقرانه من العلماء الذين يتنافسون على الاهتمام ومكانة البلاط. وتسبب انغماسهم في الملذات والأنشطة المادية في اضطراب روحي. لقد تم اختزال "الشريعة" أو القانون الإسلامي المقدس إلى ما لا يزيد عن القانون الوضعي "الفقه"، وهو فقه نفعي تحدده الحيل القانونية والمرونة التأويلية.وبتعبير بلغة عصرنا، فإن الإسلام الذي يرى الغزالي أن أقرانه يمارسونه قد أصبح علمانيًا فعليًا.

لقد زعم الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور بشكل مقنع أن الحداثة يتم تعريفها من خلال إطار جوهري، أي رفض معالجة مسائل تتجاوز العالم الحسي، وهذا يعني أننا نعيش في عصر خال إلى حد كبير من أي أساس متعال. وبعبارة أخرى، فإن وجودنا يهيمن عليه الزمن العلماني. ولذلك يرى تايلور أن المجتمع الحديث يتم تعريفه من خلال الأفقية الجذرية، حيث لا توجد نقاط عالية وحيث لم نعد متجذرين في "شيء آخر".

كما طور الغزالي وعيًا شديدًا بأن العالم من حوله كان يتسطح، وبالتالي سعى إلى الخلاص من خلال محاولة إعادة الاتصال بالإله. ومن وجهة النظر هذه، تمثل رحلته عبور حدود الزمن العلماني والعودة إلى عالم الزمن المقدس الأعلى، ولهذا السبب يشير بشكل ملائم إلى النظام الإسلامي الجديد الذي صيغ في تحفته باسم علم الطريق إلى الآخرة" ("علم الطريق الآخرة").

لم يكتب فال الدين مجرد عمل من الخيال التاريخي. من خلال التوثيق الخيالي لقصة حياة أحد أبرز حكماء التراث الفكري الإسلامي، فقد أخذنا بشكل فعّال مع الغزالي في سعيه الروحي. خلال هذه الرحلة، نتعلم أنه حتى العمل الخيالي قادر على عبور حدود الدنيوي المدنّس ويوصلنا إلى عالم المقدس.

(تمت)

***

..................................

أسلم فاروق علي/ Aslam Farouk-Alli: أسلم فاروق علي، دبلوماسي ومترجم، يقوم بإلقاء محاضرات في الدين والدراسات التاريخية واللغة والأدب.حاصل على درجة الماجستير في جامعة كيب تاون كما حصل على درجة الماجستير في الترجمة العربية من جامعة جنوب أفريقيا. ترك العمل الأكاديمي للقيام بوظيفته كدبلوماسي في الخدمة المدنية في جنوب إفريقيا. وهو مؤلف العديد من المقالات وترجم ثلاثة كتب من العربية إلى الإنجليزية.

 

دِراسةٌ نَقديَّةٌ لِمدوَّنةِ عَلي عُبَيد القِصصيَّةِ (لُغةٌ الأَرضِ)

مِهَادٌ تنظيريّ:

لا شكَّ أنَّ لكلِّ دراسةٍ ثقافيةٍ جادةٍ، مَفاهيمَها الخاصَّة والعامَّة في حركة التشغيل النقدي، ومن مفاهيم مركزيَّة التشغيل الثقافي الحداثوي بهذه الدراسة النقديَّة الخاصَّة مفهومانِ رئيسان ومهمَّانِ، الأوَّل، مفهوم (الأنساق) بقسميها الظاهر المتجلِّي، والمضمر الخَفي القريب والبعيد، والثاني، مفهوم (الثقافةُ) بشقيها العام والخاصّ الأدبي الواسع شعراً وسرداً. والَّلذانِ يُشكِّلان خزيناً معرفياً ثرَّاً، ومرجعاً ثقافياً واعداً يرفدان به شخصية الكاتب الإبداعية المنتجة في شتَّى ضروب ثقافة المعرفة.

ولِتقريبِ معنى هذين المفهومين المتلازمين، لا بُدَّ من التمييز المعرفي الابستمولوجي والكشف عن هُويَّة الآخر من هذه الأنساق الثقافية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفقه لُغة اللِّسانيات عند رائدها دي سوسير، وبالمناهج النقديَّة الحديثة بنيويَّاً وسيميائيَّاً وأُسلوبياً وتفكيكياً على أساس نقدي ثقافي حداثوي، وليس على أساس تواتر النقد الأدبي التقليدي المعروف. هذا النقد الثقافي النسقي الجديد الذي أثَّثَ له ووضع مفاهيم أسسه في عالمنا العربي الناقد والمفكِّر الدِّكتور عبد الله الغذَّامي.

ومفهوم (النسقُ) في المناهج النقديَّة النسقية الحداثوية التي تهتمُّ بتمظهرات البنية الشكليَّة للنص، التركيب اللُّغوي يأتي في حدِّه مُقابلاً لمفهوم كلمة (النظامُ) العربيَّة، أو كلمة (سِستِمٌ) أو السِّستِمُ باللُّغة الإنكَليزية. ويُشير معناه إلى أنَّه نظام استقلالي قائم بذاته الوجودية، ويُشكِّل في تأسيسه الحدِّي كُلاً ذاتياً مُوحَّداً. ويشير في المعاجم الفلسفية كما يُعرِّفه أُستاذ الفلسفة مراد وهبة جبران صفحة (734) في كتابه الموسوم (المُعجم الفَلسفيّ)، النسق، بأنَّهُ "عبارة عن عناصر تترابط فيما بينها وتُحدِث فعلاً ما. هذه العناصر تتأثَّر بوجودها في النسق، وتتغيَّر بخروجها منه". فالترابط شرطها الأساس.

ثُمَّ يُضيف وهبة موضِّحاً بداية تكوين النسق من خلال تحديد الغاية منه وتحديد حدوده، ثُمَّ يتبعه التفكير في الأنسقة الفرعية الأخرى. وفي الوقت ذاته يُشير عبد الله الغذامي صفحة (80) في كتابه (النقدُ الثقافيُّ) إلى استخدام كلمة (النسقُ) مُجملاً في الخطاب العام والخاصِّ، ويشيع استخدامها في الكتابات كثيراً إلى درجة قد تُشوَّهُ دلالتها القصديَّة في هذه الكتابة التي انتشرت فيها. أي أنْ الغذامي بقدر ما هو فَرِحٌ بشيوعها وانتشارها السريع فإنَّه ينبِّه إلى سوء استخدامها غير الصحيح.

أمَّا مفهوم (الثقافةُ) التي يقصدها النُّقاد الحداثيون، ويتوخَّاها ما بعدهم في خطِّ الحداثة، فهي في نظرهم تقانةٌ فنيَّة من تقانات الممارسات الفعلية والفاعلية الدالة والمُعبِّرة التي تقوم على إجراء تطبيقٍ لمفاهيم التحليل النفسي والسلوكي المُختلفة . وعلى وفق ذلك فإنَّ عبد الله الغذامي قد اتَّخذ من مفهوم (النسق) مفتاحاً أساسيَّاً مركزيَّاً مهمَّاً لمشروعه الثقافي ولمصطلحاته النقديَّة الجديدة.

ويعدَّه في الوقت ذاته منتميَّاً أو ينتسب لمفهوم (الثقافة)، وهذا يشي بأنَّ النسق الثقافي هو المصطلح الجوهري البؤري الذي أقام عليه الغذامي أُسَ مشروعه التشغيلي النقدي الثقافي؛لذلك كان حريَّاً بنا من تحديد مفهوم حدِّ (الثقافة) ومعرفة دلالاتها وأبعادها القريبة والبعيدة؛ ليتسنى لنا معرفة المفهوم الكلِّي المُوَحْدَن لجملة مصطلح (النسقُ الثَّقافيُّ) الذي وضع أُسسه البنائية الغذامي في نقده الثقافي.

فهذه المفاهيم التعريفة لحدِّ مفهوم (النسق الثقافي) تُحيلُنا في هذه التوطئة المِهاديَّة التَّظيبرية إلى مفهوم (النقد الثقافي) عند الغذامي المُوئِل المؤسِّس الذي يسعى فيه كثيراًبقصدياته الثقافية وتنظيرات كتبه إلى الكشف عن مُضمرات النصّ الأدبيّ وبيان مُعمياته الغيبية الخفية، والقبض في حفريَّاته على لُقى جمراته الخفية خلفَ تَمظهرات الخطاب الأدبي الظاهر والعمل فعلياً على إبطال الخطاب المؤسساتي المُخدِّر لوعي القارئ وفكره. ومن ثُّمَّ الدعوة إلى الاهتمام بكل ما هو مستور ومهمَّش مُغيبٌ ومجهولٌ عن الأنظار، وكشف التعبير في سلوكيات الثقافة النسقية التي هي محطُّ أنظار واهتمام النقد الثقافي الحداثوي التي لم يلتفت إليها النقد الأدبي التقليدي المشهور في الإرث الأدبي.

مَنهجُ المُدوَّنةِ النَّقديةِ الثَّقافيّ

ومثلما أنَّ النقد الأدبي في رأي رولان بارت النقدي يُشبِهُ الثقافةَ، بل قد يكون مثابةً مضيئةً من مثابات الثقافة الساطعة، فإنَّ كلاً من الشعر والسرد يُمثِّلان جنساً من الأجناس الأدبية المتاحة، ونوعاً مميَّزاً من أنواعها الفريدة المتعدِّدة. ويمكن اعتبارهما مُعادلاً مُوضوعياً مُهمَّاً وراكزاً لمفهوم الثقافة العام ؛ لكونهما يمكن أنْ يَحُلَّا محلَّ الثقافة ويعملان عملهما المحوري في الخطاب الأدبي.

ومن خلال هذا التعالق الفكري المتَّحد بين مفهومي فضاء (الأدب والثقافة)، أي بين مِهماز الأنساق الثقافيَّة الشِّعريَّة، ومِهماز الأنساق الثقافية النصوصية الأدبية السردية نستطيع أنْ ننفذَ إلى مركزيَّة التشغيل السردي بتؤدةٍ وإلى محورها الثقافي في دراستنا النقدية التأمليَّة لِعِلي حُسين عُبيد القصصية الموسومة بلافتتها العنوانية (لُغةُ الأرضِ)، ونتقفَّى بوعيٍ آثار أنساق سردياتها الثقافية الخفية والمتجلِّية، ونجوس خِلالَ الدِّيارِفيها استقصاءً وتردُّداً وحراثة فكريةً وعمليةً بتقانة مسبار الحقيقة المستترة، وسونار غواص البحث عن الصدفات الباطنية الثمينة والعميقة الماكثة في النصِّ.

فغاياتنا النقديَّة عبر أثير مجسَّاتنا النقديَّة الكشف عن جذوة جمرات النصوص القصصيَّة الملتهبة، وتحديد تمظهرات المناطق العَيبيَّة المُستقبَحَة التي تقف بمثاباتها الشامخة القَصِيَّةِ البعيدة، وربَّما القريبة خلفَ جماليات النصِّ السردي بأقنعتها الرمزية المُزيَّفة الظاهرة التي تُعطيك بموحياتها المتجلِّية من طَرف السواتر النصيَّة حَلاوةً وجمالاً نسقياً أدبياً آسراً لذائقة المتلقِّي العادي غيرالناقد.

ومن الخَطلِ جدَّاً أنْ ننظرَ إلى ظواهر النصِّ على أنَّها جواهر، مُستبدلينَ الجيمَ هاءً، والهاءَ جِيماً، وأن نكتفي بها دون أن نتعمَّقَ في مكنونات بواطنها الداخلية المغيَّبة الحقيقية؛ لأن العلاقة الخطية بين الظواهر والجواهر النصيَّة عَلاقة تضليليةٌ مُخدِّرةٌ لا تنمُّ عن صدق حقائق المكنونات وجواهرها النفسية المؤثِّرة الأصيلة؛ بل قد تُعطيك مؤشِّراً حقيقياً سلبيَّاً راسخاً في وجوديته الثابتة. هكذا تبدو مظاهر القصِّ السردي، لم تكنْ دائماً مرآة صدقٍ عاكسةً لحقيقة راهن عقابيل الواقع الجوهرية.قد تكون الظواهر النصيَّة الشكليَّة جميلةً للقارئ؛ لكنْ في بواطنها الخفيَّة المستترةِ فَاسدةً.

هَندسةُ مِعماريَّةِ المُدوَّنةِ القِصصيَّةِ

 (لُغةُ الأرضِ)، هذه المُدوَّنة القصصية الطويلة الدالة على بسالة عتبتها العنوانية الفنيَّة الانزياحيَّة المؤنسنة غير المألوفة في تركيب بنيتها اللُّغويَّة للقارئ، والتي أنتجها القاصُّ والروائيّ الكاتب العراقي المثابر عليّ حُسين عُبيد. وهي المجموعة القصصيَّة الفائزة بجائزة الطيِّب صالح العالميَّة للقصَّة، الدورة التاسعة (2018)، والصادرة بطبعتها الأولى عام (2021م) عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع بمصرَ، وبحجم نوعي وكمي من القطع الورقي المتوسِّط والذي بلغ نحو (148) صفحةً.

وقد احتوت طياتها القصصية على أربعة عشر نصَّاً قصصياً طويلاً في سمت تسريده الحكائي الفنِّي، وجاء خطابها التسريدي النصِّي متنوِّعاً في وحداته الموضوعية، ومتجدِّداً في أفكاره القصصية الماتعة. وقد مازج الكاتب فيها بين العنوانات الفنيَّة الآسرة، والكاسرة لأفق توقُّ القارئ والمتلقي، وبين العنوانات التقريرية الحِسيَّة المُباشرة في التلقي دونَ عناء أو نَصَبٍ في فهمها وعُسرٍ في تفسيرها وتأويلها. وقد أنصف القاصُّ والرائيّ علي حُسين عُبيد بعدالةٍ موضوعيةٍ وحيادية ثابتة بين جماليات عنواناتها الانزياحية الفنيِّة والتلقائية المباشرة، فكانت الحصيلة الإنتاجية لكلتا الفئتين سبعة عنواناتٍ لكلِّ صنفٍ من قصص الفئتين المتعادلتين في التناظر العددي والنوعي.

والقارئ النابه المُتتبع بخطىً نقديةٍ وفكريةٍ واعيةٍ لمحتويات نصوص هذه المجموعة القصصية الموضوعية المتعدِّدة تميُّزاً بثراء فكرها، وإيقاع أسلوبها التعبيري الفني المتوهّج إشراقاً وإضاءة، سيلتفتْ إلى نقطةٍ ضوئيةٍ جوهريَّةٍ محوريَّةٍ مُهمَّةٍ، وهي أنَّ المعادل الموضوعي والقاسم الفنِّي المشترك بين أفكار أو موضوعات المدوَّنة الأربع عشرة قصةً هو في جميع الحالات نسقٌ غيابي سحيقٌ بعيدٌ جداً واحدٌ، هو النسق (الإنساني) المضمر أو الخفي المستور خلف الحقيقة البعيدة. والذي يمكن أنْ نسمِّيه بشكل آخر نسق (الجامعة الإنسانية) الثقافي الذي هو نسق ثنائية (الحَربُ والسِّلمُ) .

وأنَّ أغلب ما يطرحه القاصُّ في سرديَّاته من حكاياتٍ قصصيَّة حقيقيةٍ أمْ مخياليةٍ ذي صبغةٍ عجائبيةٍ أُسطوريةٍ من رحم مُتبنَّيات وإسقاطات الواقع المعيش، هي تُمثِّل في بنيتها الشكلية النسق الثقافي القريب الظاهر الذي يتلقاه القارئ وجهاً لوجهٍ، ويفهمه بوضوح مباشر من مثابات واقعة النص الحدثية الموضوعية، وليس هو الخفي العميق المستتر الغائر البُعد في مكامنه القصديَّة.

أمَّا الذي يتوَّخَّاه الكاتب في مراميه الشريفة ومقصدياته الفكرية البعيدة المُضمرة، فهو السرُّ النسقي المنشود والغاية الذاتية العظمى لموحيات النسق الثقافي المضمر في فضح وقع وأسرار جماليات النصِّ المَعيبَة الشائنة، والرجعية المُستقبحة الباطنة التي يتخفَّى وراءها القاصُّ الرائيّ ويتقنَّع خلفها بقناع النصِّ الخفي بعيداً عن فلسفة مظاهرها الصوريَّة وأشكالها اللغويَّة المُباشرة.

ولعلَّ اللَّافت والمهمَّ في آليات النصِّ الحكائي لمجموعة (لُغةُ الأرضِ) الإنتاجية لا تظهر سماتها النسقية الإنسانية محصورةً بمفهومها الصريح الواضح (الجامعة الإنسانيَّة)، لقد تجاوزها إلى أوسع من ذلك إلى المعاني والدِّلالات في الألفاظ الأُخرى المجاورة التي تُشير مُوحيات رصها الرمزية المضمرة بتكثيفاتها اللُّغوية الملتقطة إلى المهمَّشين من الناس والمجهولين والمغيَّبين وقد يصحب ذلك التقطير المقموعونَ والمَسكوت عنهم بقصد أو غير قصدٍ في اليوتوبيا المثالية لمدينة القصِّ السردية الفاضلة، أو في ضدها عالم الديستوبيا لكل أشكال الرفض والاحتجاج والمناهضة والكفاح الثوري ضد طوارق الاستبداد والألم والمعاناة والظلم التي يستمدَّه الكاتب في فلسفته الإبداعية من الطوباوية المخياليَّة القصصية لمثابات واقع الراهن المعيش الذي لا يخلو من فضاء سحر الواقعية.

فكلُّ قصص هذه النتاجات السرديَّة ذات الأنساق الثقافية الإنسانية هي في الحقيقة أشكال ثقافةٍ ما مُعبِّرةٌ، ودالة على وقع مضانها الفكرية المتراتبة مثلما هي في المقابل الدلالي أشكال معانٍ إنسانيةٍ هادفةِ ما.ويصحب شكل ذلك التقطير اللِّساني الثقافي القريب تقطيرٌ إنسانيٌّ بعيدٌ، والَّذي من ماهيته الأُسلوبية الفنيَّة (التكثثيف والرمز والإيحاء والإيهام والإبهام والإضمار والاستتار) . وربَّما يكون الغموض المُبهم المقصود من صفاته الفنيَّة ورؤاه الفلسفية الفكرية والعقائدية الثوريَّة المُلحَّة.

عَتبَاتُ المدوَّنةِ القِصصيَّةِ

لقد دَرَجَتْ كُلُّ المدوَّنات الأدبيَّة والنصوص القصصيَّة بكلِّ ضروبها الإنشائية قاطبةً أنْ يكون لها في واقع الحال الإنتاجي عتبةٌ عنوانيَّةٌ ماثلةٌ هي بمثابة بوابة الدخول الأولى، أو نافذة المرور الضوئية الرشيدة والراشدة إلى مدينة الشعر أو السرد الفاضلة. وهي في الوقت نفسه تُعدُّ هالة النص الفناريَّة الرئيسة المُوازية لمرافئ النصِّ الضوئية الداخلية الفرعية الأخرى ولمحطاته، وبها يَستدِلُ القارئ على فكرة الخطاب النصِّي ويَستنطق منها دلالته المعرفيَّة المُضمرة والظاهرية.

ذلك كون العنونة تُشكِّلُ عنصراً وظيفياً مهمَّاً من عناصر الإدهاش وآليات التلقِّي القرائي. حيثُ ترصد العلاقة الخطيَّة المباشرة بين موضوعة الحدث ونهايته من طرف،وتجلِّياته منه طرف آخر. ولتأكيد ضرورة هذه المُتبنيَّات المعرفية والآراء النقديَّة، فإنَّ العنونة أو العتبات العنوانية قد تضيف بُعداً جمالياً ودلالياً جديداً إلى النصوص القصصية. وقد تكون هذه العنونة علامةً سيميائيةً وأيقونيةً وخلاصةً تفرديةً إيحائيةً تكثيفيةً كاشفةً لمسار القص وتوجُّهاته السردية المتفاوتة في المتن؛ لذا فإنَّ العنونة تكون علامة دالةً على جنس المحتوى القصصي القصير أو العمل الرِّوائيِّ الواسع الكبير.

لقد أخذنا بتأمُّلٍ من المفكِّر والناقد الفرنسي الكبير جيرار جينيت، بأنَّ لكلِّ نصٍّ أدبيٍّ له عتباته النصيَّة الأخرى، وله وظائفه العنوانية النوعية المتعدِّدة التي تميِّزه عن سواه من العنوانات أو العتبات الإنتاجية المتناظرة له. وحين نمعن النظر جليَّاً في طيَّات مجموعة الكاتب والقاص والرِّوائي العراقيّ علي حسين عُبيد القصصية (لُغة الأرض) المتعدِّدة لُغاتها السردية الأرضية بدوالِ كل عنونةٍ أرضيةٍ منها، لا نجد لها عتباتٍ (جينتية) أخرى تتصدَّرها غير ما هو ظاهر من فيها عتبة النصِّ العنوانية الرئيسة،وعتبات نظائرها النصوص القصصية الفرعية الداخلية للمدوَّنه.

وحتَّى صفحة (الإهداء) التي تتصدَّر المجموعة جاءت فارغةً بنقاطٍ بيانيَّةٍ بياضيَّةٍ خاليةً من بيانات المُهدَى إليه، وليس هناك من بياناتٍ أُخرى تُذكر، ولا حتَّى من أيِّ تصديراتٍ أو تناصَّاتٍ قوليَّةٍ نصيَّةٍ أُخرى تعضد فكرة المدوَّنة. وربَّما كانت فكرةً ذكيةً إلماحيةً من إبداع ووعي الكاتب أحال تتمتها إلى المتلقِّي أو القارئ ليضعَ اِسماً مُعيَّناً ما لرمزيَّة المُهدَى إليه الذي ربَّما هو الإنسان الرمز أو بنو آدم النسق الخفي المضمر في لغات أرض هذه المجموعة القصصية الذي كرَّمه الله عن بقية مخلوقاته الكونية المتعدِّدة بالعقل الراجح والفكر الواعي الثاقب واللِّسان اللَّفظي الحافظ.

ولكنَّ اللَّافت للنظر جدَّاً في هذه المدوَّنة الإنسانية الشائقة الفكر ومحتوى الموضوع (لُغةُ الأرض)، هو أنَّها تزيَّنت أو وُشِمَتْ بعبارةٍ تَذكِرةٍ خطيَّةٍ تُخبِرُ متلقيها بأنها (المجموعة القصصية الفائزة بجائزة الطيِّب صالح[الدَّولية]،الدورة التاسعة (2018) ) ؛لكي تكونَ هي الأيقونة التصديريَّة المُتفرِّدة لعتبات النصِّ السردي الأخرى، والتي تؤدِّي وظائفها الإنتاجية الدالة على أنساقها الثقافية المتعدِّدة.

وحين نستقصي البحث والتحليل والتعليل والتفسير في الكشف عن مُضمرات المعنى الدلالي والنسقي الثقافي القريب والبعيد لعبارة (لغةُ الأرض) العنوانية الرئيسة الماثلة على صفحة لوحة الغلاف الأول من المجموعة القِصصية ذاتها،؛ فسنجدُ لمعناها الانزياحي المؤنسن تفسيرينِ كاشفينِ لشفرتها اللُّغوية لا ثالث وسيط بينهما إلَّا القارئ النابه (الناقد) لممحتوياتها البيانية الثرة والمُبهرة.

فالأوَّل، يكمن في المعنى الدلالي القريب لكلمة (لُغة) الدالة على الرموز الصوتية، والتي وضع لها ابن جني من قُدَامى اللُّغويين تعريفاً يقترب من تعريفات نقَّادنا المحدثينَ، فقال: "أمَّا حدُّها فإنَّها أصواتٌ يُعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضِهم". إذن هي أصوات لُغوية مُعبِّرة أُسندت إلى المضاف أليه كلمة (الأرض) الثابتة من الجوامد غير الناطقة، فَاُستُنطِقَتْ وَأُنْسِنَتْ وأصبحت إنساناً كائناً حيوياً، له لُغته التُّرجمانيَّة المُعبِّرة عن أغراضه الحياتية، وأيُّ لُغةٍ مثل هذه اللُّغة الجامعة.

وأمَّا التفسير الثاني فهو المعنى الدلالي الخفي البعيد والذي هو مَناط التفسير والتحليل النقدي المُتعدِّد للنسق الثقافي المُغلق بحجاب الحقيقة النسقية هو (لغةُ الأرضِ)، لغةُ ثنائية المتضاداتِ (الحربُ والسَّلامُ)، (الحبُّ والفصامُ)، (الخيرُ والانتقام)، والرفضُ والقبولُ)،و (القاتل والمُقتولُ) .هي لغة الإنسان الفاعلة ابن هذه الأرض البار، ووليدها المعمِّر الإيجابي الغالب وعدوِّها المُدمِّر السِّلبي الضارب، والباني لعرش دولتها الكونية ورمزيتها الثقافية في هذا الوجود الإنساني الواسع الفضاء.

والأرض هي الأُمُّ، وهي الوطنُ الأسمى، وحبُّ الحبيب المألوف الأول الأوفى، ومنبت العشق الإنساني الرافض لديستوبيا كلَّ أشكال الظُّلم والفوضى والخراب والدمار والفساد الذي يُهدِّد بالموت والزوال والتلاشي. فلولا الإنسان صنيعها لِمَا ازدهرت الأرضُ، ولولا الأرض لما تكلَّم الإنسان معرباً بها عن مقصدياته؛ فهي امتناع حقيقي لوجود، ووجود لامتناع لا يحدث إلَّا بها.

فالعلاقة الخطيَّة النسقيَّة المغشيَّة بينهما علاقة عشقٍ إنسانية، وصرخةٌ مُتوحدنةٌ ترفض لغة الذُّل والتحقير والتصغير والامتهان؛ وتعشق لُغة الحُبِّ والتكريم والتبجيل والإباء والإحسان؛لذلك أحسن القاصُّ علي حسين عُبيد مُهمَّة تشييد مِعمارها البنائي التركيبي واختيار صرحها العنواني الرئيسِ.

وفي واقع الأمر أنَّ لافتة (لغةُ الأرضِ)، هي إحدى عتبات النصِّ الموازي وهالته السحريَّة الوامضة، وقصةٌ فرعيَّة من قصصه النصيَّة الداخليَّة؛ بيدَ أنَّ الكاتب علي حسين عُبيد قد اتَّخذها عتبةً عنوانيةً أوليَّةً رئيسة لهذه المجموعة القصصيَّة. وذلك من باب نافلة التغليب والتميُّز والفرادة والتَّحبيب بإطلاقِ اسمِ الجزء الفرعي الثانوي على الكُلِّي القصصي العنواني الرئيسِ التصديري.

ومن موحيات هذه العنونة الكليَّة المُتفرِّدة في جمالية استنطاق نسغها الروحي واللُّغوي الألسني الإنساني، أنَّ القاصّ عُبيد قد أراد من هذه العتبة العنوانية أنْ تكون مثابةً نسقيةً واعدةً، ودالةً سيمائية إشاريةً مضيئةً لامعةً من مثابات النقد الثقافي تَصلحُ أنْ تكون هي المعادل الموضوعي الإنساني الناطق بصوت الحقِّ المدوِّي بالإنابة عن كلِّ حكايات القصصِّ وأفكارها الموضوعية التي زخرت بها محتويات هذه المدونة القصصية التي يمكن أنْ نطلق عليها مدوَّنَةَ (حَربٍ وسَلامٍ) .

تطبيقاتٌ قصصيَّةٌ لأنساق المدوَّنةِ الثقافيَّةِ

1- (لُغةُ الارضِ):

من أواخر نصوص هذه المدوَّنة القصصيَّة نصُّ قصَّةِ (لغةُ الأرض)، والتي هي رسالة خيرٍ ومحبةٍ وسلام من الأجداد والآباء الأولينَ إلى الأبناء والأحفاد الآخرينَ، وهي أيضاً رسالة أمانٌ وتحذيٌ لهم وللإنسانية. وقد كتبها القاصُّ الفذ علي حسين عُبيد بأُسلوبٍ تعبيري سرديّ فنتازي وعجائبي غرائبيٍّ مخياليٍّ لا يخلو من تأثيرات الواقع وتهويماته السحريَّة التي فيه الكثير من الرهان الواقعي المرير الذي يُعاني منه الأبناء من بني الإنسان في ترميم وصيانة حياتهم الشخصية وعُمارة أرضهم الدنيوية من دنس شرِّ العوارض الظاهريَّة وطوارئ المخاطر الخفيَّة المُحدِقَة.

ولنقرأ بعضاً من أحداث هذه القصّة الشائقة التي جسَّد فيها الرائي وحدة حضورية الزمكان والشخصيات الفاعلية المتصارعة والأحداث الفعلية القائمة من عناصر الفنِّ القصصي، وعقدة حركة الصراع الدائر بين قطبي الخير والشرِّمن أنساق ثقافة الظاهر والمضمر تجسيداً سرديَّاً حيَّاً:

"عَمَلَ سَلُام بِنصيحةِ أُمِّهِ وسَافرَ إِلى الرِّيفِ وَعَادَ بِالفلَّاحِ مِنْ قَريةِ أَجدادِهِ، قَريةٌ اسمُها (أُمُّ الرُّمانِ)، لَمْ يُمانعْ (خِنيابُ) فِي المَجِيءِ مَعَ سَلَامٍ بِمجردِ عَرِفَ أنَّهُ اِبنَ صَديقهِ (جَميلُ)، غَيَّرَ مَلابسَهُ عَلَى الفَورِ وَصَحبَهُ إلى المَدينةِ، لَمْ يَندهشْ الفلَّاحُ عِندَمَا لَاحظَ بَقايَا الأمراضِ وَهيَ تَعيثُ فَسَاداً بِالتُّرابِ وَتَكسوهُ بِاللَّونِ الأحمرِ، كَانَ يَعرِفَ بِفُطرتهِ وَحِكمتِهِ أنَّ هذهِ الأرضَ تُعانِي مِنْ عِلَلٍ مُتراكمَةٍ، وَمَعَ أنَّهُ يَتمَتَّعُ بِثقةٍ عَاليةٍ بِنفسهِ وقُدرتهُ عَلَى تَطبيبِها، إلَّا أنَّ هَذَا وَحدَهُ لَا يَكفِي، لِأنَّ الحَلَّ المُكَمِّلَ لِجهودِهِ عِندَ أهلَ الأرضِ وَحدَهُم وَقدْ أَخبرَهُم بِذَلِكَ". (لُغةُ الأرضِ، ص 122، 123) .

أراد القاصُّ أنْ يوجِّه رسالةً ظاهريةً إلى المتلقِّي مَفادُها أنَّ هذه الأرض التي أصابها المرض المفاجئ بفعل فاعلٍ مؤثِّرٍ، هي الوطن الأصل أو دولة الإنسان التي يحيا بها، ويعتاش عليها نسباً. وأنَّ هذا لفلاَّح الملَّقب بـ (طبيب الأرضِ) هو المُصلح والفاعل الظاهر الذي شخَّصَ لها الدواء من الداء الذي أضمره الإنسان لأخيه الإنسان قصداً عبر عقود متواليةٍ من الزمن، وإنَّ الحلَّ السحري يكمن بيده إنْ أراد التخلُّص والتحرُّر من ذلك الوباءِ القذر المُهلك الذي يكمن تحت جلود باطن الأرض.وليس من وسيلةٍ سوى التخلُّص منه واجتثاثه وقطعه نهائياً؛ للحصول على راحةٍ وأمانٍ:

"اِرمِ هَذَا المَرَضَ الخَبيثَ بَعيداً عَنْ بَيتِكَ وَأرضِكَ.أنهَى الفَلَّاحُ عَمَلَهُ وَغَادرَ إِلى قَريتِهِ، وَمُنذُ ذَلكَ اليَومِ بَدَأَ لَون ُالطِّينِ يَتغيَّرُ فِي حَديقةِ البَيتِ والحَدائقِ المُجاورةِ لها، وَشَرَعَ الاِحمرارُ الَّذِي أصابَ التُّربةَ يَضمحلُّ بِالتدريجِ، وبَدأتْ بَعضُ الأشجارِ تَنمُو بِإصرارٍ غَريبٍ. وَثمَّةَ نَخلَاتٌ جَميلاتٌ بدأْنَ يُحلقْنَ بِضفائرِهُنُّ في فَناءِ الدَّارِ الأَمامِي، وَأشجارٌ أُخرَى مِنَ الرُّمَّانِ والأعنابِ أَخذَتْ جُذورُهَا تَشقُّ طَريقَهَا فِي التُّربَةِ الجَديدةِ، لَوَّنَ بَعضُ الزُّهورِ والوَرودُ أَرضَ الحَديقةِ". (لُغةُ الأرضِ، ص 125) .

هكذا يمضي الكاتب في وضع أنساق الداء الظاهر والدواء الخفي الساتر من خلال تلافيف هذه الأرض الأمِّ التي تحكي وتنطق وتشكو ما أصابها من خراب وفسادٍ ودمارٍ عاث بها ردحاً طويلاً من توالي عتبات الزمن. إنَّها دولة الإنسان الحاكم مع رعيته من الإنسان المحكوم، وأثر قمع الظالم للمظلوم. فلا بدَّ أن يستجيب القدر للسواد الأعظم المظلوم من ظلم هذا القاهر المضمر المُستتر.

ولعلَّ الرسالة الختامية التي قدَّمها الكاتب في خواتيم قصته الكونية هذه، كانت رسالةً سلمٍ لا حربٍ طلبيةٍ صريحةٍ ومؤثِّرةٍ للباقين منهم. فهي في حقيقة الأمر رسالة تحذير ظاهر للإنسان الحاضر من عدوِّه الخفي المستتر المقنّع القاهر الذي عانى منه الراحلون من بني جنسه البشر:

"تَجَنبُوا الحُرُوبَ الَّتِي عَانَى مِنهَا الرَّاحِلُونَ". (لغة الأرض، ص 126) في مسيرة حياتهم دون حسابٍ لها نتيجة غفلة عدم يقظتهم. وهذه العبارة الختامية هي إحدى الأوراق الدفينة التي تركها الراحلون من السلف الأول إلى أخلافهم الشباب من الباقين؛ لتكون وثقةَ عهدٍ ووصيةَ سلامٍ وتنبيهٍ لهم من رسائل تاريخ الآباء التي حفظتها بواطن الأرض في رحمها الدافئ الدفين، ونقلتها إليهم ظاهراً من آبائهم السابقين؛ لكيلا يقعوا في الأخطاء التي وقعوا فيها ودفعوا ثمنها باهضاً عبر تساير الزمن.

ونفهم من شفرات هذه الرسائل التي رفعها الكاتب القاصُّ إلى قارئه النابه الفهيمِ أنَّ الأنساق الأرضية القديمة على الرغم من كون ظاهرها التراسلي جميلاً،؛ فإنَّ مُضمرها المخفي المستور فاسدٌ وقميءٌ قبيح. لذلك كانت بلاغة الأرض جمالياتُ لغتَها البيانية الناطقة بالحقِّ في محاربة نوايا الفاسدين الآمرين به سلوكاً ومنهجاً فعلياً لا يَرضي الخيِّرينَ من أبناء هذه الأرض الخيِّرة المعطاء.

2- (رَجلٌ يَعِدُ نَفسَهُ لِلرَحيلِ):

ومن بين القصص المهمَّة ذات الطابع الإنساني والاجتماعي الأُسري الجيِّد قصة (رجلٌ يعدُّ نفسَه لِلرحيلِ) . وتتلخص حكايتها الموضوعية بقصة شابٍ عنيدٍ أراد أنْ يذهبَ مساءً إلى مزرعةٍ في أعماق الصحراء المُقفرة المترامية الأطراف؛ لجلب الماء والخضرة وزيارة صديقه البدوي الذي يسكن في أطراف هذه الصحراء الموحشة، بيدَ أنَّه ذهب ولم يعدْ؛ نتيجة عناده وفشله الفكري وسوء تدبيره العقلي، وتدليله الأُسري المبالغ فيه كثيراً عن اللَّازم. فضلاً عن عدم الشعور بالمسؤولية؛ بسبب إهمال الأهل في تشديد الرقابة الأوليَّة عليه.ومثل هذا السلوك الفعلي الطائش قد رافقَ مسيرة حياته اليوميَّة؛ نتيجة سوء تصرفاته المراهقية القلقة التي أودت به إلى التهلكة الذاتية والخسران:

"فِي دَقائقَ اِختفَى أمجدُ فِي رِحابِ الصَّحراءِ، كَانَ الوَقتُ عَصرَاً، نَادَى خَلفَهُ أبوهُ:- يُوجدُ لَدينَا مَا يَكفينَا مِنَ الغِذاءِ والمَاءِ، لَا تَقتُلُ نَفسَكَ وَتَقتُلُنِي. ثُمَّ رَكضَ أبوهُ خَلفَهُ صَارِخاً مُتوعِّداً مِنْ دُونِ جَدوَى، غَابَ أمجدُ بَينَ كُثبانِ الرِّمالِ، بَعدَ حِينٍ عَادَ الأبُّ وَحدَهُ خَافِضَاً رَأسَهُ نَحوَ الأرض يَهُزُّ يَدَهُ فِي الهَواءِ آسفَاً مَقهُوراً، سَأَلَهُ أحدُهُم : -هَلْ حَقَّاً رَافقَ اِبنِكَ بَعضُ أَصدقائِهِ؟ - لَمْ أرَ أحَدَاً سِوَى الصَحراءِ الوَاسعةِ، كَأنَّ الأرضَ اِنشقتْ وَبَلعَتهُ". (لُغةُ الأرضِ، ص 40) .

إنَّ بيانات الحكاية القصصية تخبر ظاهرياً عن نسق فكرتها الإنسانية الخيَّرة التي من أجلها دفع الشاب العنيد أمجد حياته ثمناً للحصول على مبتغاه وهدفة المنشود الذي شدَّ الرحال إليه غير مبالٍ أو مكترثٍ لما يحدث له من مهالك أو مخاطر وحوش خارجية تواجهه في سير رحلته الصحراويَّة.

غير أنَّ النسق الخفي المستتر الذي يكمن وراء سير هذه الرحلة الصحراويَّة هو إهمال الآباء وتقصيرهم في التربية حيال الأبناء، وفشلهم في الحدِّ من فعل تصرفاتهم وسلوكياتهم النفسية غير الصحيحة المندفعة كثيراً وراء رغباتهم المضطربة؛ نتيجة تلبية كلِّ طلباتهم السلبية والإيجابية دون حسابٍ أو تخَطيطٍ أو فهم مَدروسٍ لحصيلة النتائج الكارثية الوخيمة التي تحصل لهم بسبب عنادهم الكبير؛ كونهم ينعمون صِغاراً منذ نعومة أظفارهم بحياة فائضة عن حاجاتهم اليومية المتزايدة.

الأمر السلبي الذي دفع أحد الرجال من أصحاب والد أمجد الرجل المسن الكبير عن سبب هذا العناد والفوضى غير النظامية التي رافقت حياة ابنه أمجد نسقاً يوميَّاً وحياتياً خفيَّاً غير معروف للآخرين إلَّا من قبل أُمِّه وأبيه الرجل الكبير العجوز.وهذا ما صرَّح به أبوه لأصدقائه مُخبِرَاً عنه:

"- مُنذ مَتَى تُلازمهُ نَوباتُ العَنَادِ؟ - مُنذُ أنْ وَلدتُهُ أُمُّهُ.- كَانَ عَليكَ أَنْ تُرَبِّيهُ عَلَى مَصاعبِ الحَياةِ وَلَا تُبالغُ فِي تَدليلهِ. - لَمْ يَكُنْ الأَمرُ بِيدِي أُمُّهُ عَلَّمتهُ عَلَى الدَّلالِ وَكَبُرَ العَنادُ مَعَهُ. كُنتُ أُفكِرُ بِطريقةٍ مَا كَي أُخبرُهُ بِرحيلِ اِبنِهِ، خَاصَّةً إنَّنَا نَقتربُ مِنْ زِريبتِنَا، قُلتُ لَهُ: - فِي كُلِّ الأحوَالِ هَذَا لَا يُعفيكَ مِنْ مَسؤوليَّة التَّربيةِ، عَلينَا أَنْ نُصحِّحَ أَخطَاءَ أَولادِنَا". (لُغةُ الأرضِ، ص 48) .

إذن الإهمال والتهميش واللَّامبالاة في تلقي التربية الصحيحة واللَّا التزام بالمسؤولية التي تحدُّ من الأنساق الخفيَّة المؤدِّية إلى الفشل الذريع الذي هو سبب هذا النكوص والانكسار والوجع والألم الذي يفتك بالإنسانية. فإذ كان الطموح وتحقيق الآمال والرغائب الذاتية هو النسق الثقافي الجميل الظاهر لبطل هذه القصة السادر في غَيِّهِ، فإنَّ عاقبة النسق الآخر الغائر المسكوت عنه،هو السقوط الحتمي والموت البطيء القاهر للذات الإنسانية المعذّبة. فكانت خاتمة الواقعة الحدثية الفجائية خيرَ جواب مُعبِّرٍ عن تساؤل الأبِّ الرجل الكبير المُسنِّ الآثر،"هَلْ مَاتَ اِبنِي؟". (لُغةُ الأرضِ، ص 48).

ومثل هذا السلوك الفردي السادر في الغَيِّ والجهل والعناد يدفع ثمنه الباهض الآباء؛ نتيجة كثرة أخطائهم أكثر مما يقع فعله المشين على الأبناء أنفسهم. فالغفلة والتراخي واللَّا جدوى من صفات هذا النسق الغادر؛ لذلك كانت رسائل القاصِّ عُبيد الظاهرة المُتجلِّية والباطنة المُتخفية علامةً فارقةً ومضيئةً من علامات تحطيم هذا النسق الثقافي السائد والمُتهالك، واستبدال عَطَبِهِ بأنساقٍ إنسانيَّةٍ جديدةٍ تُناسب واقعة الحدث الموضوعية وتَصبُّ في خُطى وحدتها الكُليَّة التي تجعلها تعيش بسلام.

3- (مَنحوتَةُ العِشقِ):

قصةُ (منحوتةُ العشقِ) الدالة لافتة عتبتها العنوانية اللَّفظية على مضان واقعة الحدث الموضوعية

القصصية. هذه القصَّة ذات المغزى العاطفي الإنساني والجمالي العشقي الروحي ينقلنا علي حسين عُبيد في تسريداته الحكائية وأنساقه القصصية الطويلة الظاهريَّة المتجلَّية إلى جماليات مثابات الريف العراقي الأصيل، وإلى طبيعة أجوائه البهيَّة النقيَّة الساحرة تكويناً طبيعياً ثابتاً ومتحرِّكاً.

وليس بواقعة هذا الحدث الإنساني الاجتماعي المتواتر يكتفي الكاتب فحسب، بل يسرد لنا بلغته الفنية التعبيرية الشفيفة والماتعة اللَّطيفة حكايةَ فتاةٍ قرويَّةٍ فُراتيةٍ تدعى (زَكِيَّةُ)، إحدى شخصيات هذه القصة مناصفةً مع مثيلها الشاب البطل. هذه الفتاة الجميلة التي تُشبهُ المنحوتة الفرعونية للملكة (نِفر تيتي) في روعة جمالها وقوامها وهيأتها الشكليَّة، فضلاً عن سلوكياتها الآسرة. ويعدُها الكاتب علي حسين عُبيد مثالاً حيَّاً واعداً وأُنموذجاً رائعاً للمرأة الحقيقية المثقَّفة الواعية،والقارئة والرَّسَّامة المُبهرة، والفنانة المُبدعة المُثابرة في عملها الفنِّي والاجتماعي اللَّافت لأنظار الآخرين من الوِعاة:

"يَا لَهَاَ مِنْ مَلكةٍ! عَينَاها حَضارتَانِ، أوْ تَجمعُ بَينَ حَضارتَينِ، حَضارةُ الفَراعنةِ، وَحَضارةُ الرَّافدينِ". (لغة الأرضِ)، ص 65) . إنها نِفَر تيتي العراقية الريفية الحديثة العهد والقديمة الأثر تأصيلاً.

اِلتقتْ هذه الفتاة النموذجية في قعر مزرعتها القرويَّة الهادئة والخاصَّة بعائلتها بأحد الشاب يُماثلها في تلاقي الأفكار والميول والثقافات وتطابقاً في السلوك والاهتمامات الفكرية والجمالية التي يبحث عنها في أمانيه الحُلُمية وتطلعاته الشخصية الذاتية التي قلما نجدها في امرأةٍ من المدينة. فكيفَ إذا كان هذا النسق الفنِّي الجمالي الظاهر اللَّافت موجوداً في فضاءات مثابات الريف المكانية الجميلة:

"يَتهَادَى أَمامَ بَاصِرَتِي جَسَدٌ أَهيفُ، فَتاةٌ تَضعُ عَلَى كَتفِهَا قِربَةَ مَاءٍ مِنَ المَعدَنِ، وَتَمضِي بِغَنَجٍ عَفويٍّ صَوبَ ضِفةِ النَّهرِ، لِتَجلُبَ المَاءَ وَحدَهَا، تَتَهَادَى بَينَ ظِلالِ الأشجَارِ، تَشُدُّ وَسَطَهَا بِحزَامٍ أسودَ مُزركشٍ، قدُّهَا يَتمايلُ كَغُصنِ رُمَّانٍ، وَجهُهَا دَائريٌّ مُشرقٌ، نَاصعُ البَياضِ، أَجلسُ عَلَى جَانبِي الطَّريقِ، أوْ الأصَحُّ أتَّخفَّى خَلفَ شَجَرَةٍ كَثيفَةٍ، أَنتظرُ عَودةَ زَكيَّةَ مِنَ النَّهرِ، أُريدُ فَقَطْ أَنْ أَرَى تَقاطيعَ جَسدِهَا، وَهَلْ يُشبِهُ رُوحَهَا الَّتي رأَيتُها مَرسومَةً فِي عَينِي أُمِّي، عَادَتْ زَكيةُ كَأنَّها تَمشِي عَلَى مَاءِ بُحيرةٍ سَاكِنٍ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 62) . حقَّاً إنَّها الملكة الفرعونية التي فُتِنَ بِها سابقاً.

هذه هي المواصفات الحقيقية التي رسمها القاصُّ الحاذق في فنيِّة التعبير القصصية لفتاة بطل قصته الشاب القروي المثابر الذي فُتن بهذا الهدوء والجمال القمحي الفرعوني الآسر الذي يُشابه جمال وفتنة ملكة مصر الفرعونية. فيعجب بها أيما إعجاب ويُقرِّر الزواج منها فوراً بعد فرصة هذا اللِّقاء التعريفي العاطفي العشقي الروحي المُميز المُنتظر، والمُثمر بالرخاء والجمال والعطاء:

"شَعَرتُ بِالهدوءِ وَالتَّوازنِ، وَدَخلتُ الكُوخَ، وَجَدتُهُ نَظيفَاً مَفروشَاً بِصورةٍ غَيرِ مُتوقِّعَةٍ، قِمةٌ مِنْ قِمَمِ الجَمالِ، تَناسقُ أَلوانِ الفِراشِ، الوَسادةُ الزَّرقاءُ النَاعمَةُ، وَثَمَّةَ بَعضُ لَوحاتٍ لِلرسمِ تَتَوزَّعُ الجُدرانَ، مَناظرٌ طَبيعيةٌ، وَوُجوهٌ (بُورتَرَيه) مُشرقةٌ وَمَنحوتاتٌ صَغيرةٌ فِي غَايةِ التَّعبير الجَمَالِي [...] فَأيقنتُ عَلَى نَحوٍ لَا يَقبلُ الشَكَّ إِنَّني بِإزَاءِ ذَوقٍ مُتميِّزٍ". (لُغةُ الأرضِ، ص 64) .

هكذا بهذا التوصيف المخيالي التصويري الإيماجي المحبَّب للنفس تبدو شخصية (زكيَّة) الفتاة الحالمة العاشقة والمعشوقة في عيون حبيبها الشاب البطل الهُمام العاشق، امرأةٌ فوق العادة وفوق تصورات العقل وما يرسمه من خيال جامح لمواصفات الزوجة المثالية الرائعة التكوين والتدوين.

لكنَّ الذي لفت انتباهي في السياقات النسقية الظاهرة لهذه الفتاة السابقة لزمانها ومكانها من خلال هذا اللِّقاء العشقي الظامئ، والتي لا يمكن أنْ تخطر على بالِ أحدٍ من القرَّاء والمُتلقين في مثل هكذا، الثقافة والوعي المُتَّقد وحسن النباهة والإبداع والجمال الظاهر المُتجلِّي الذي تنماز به المرأة الريفية (زكَّية) عن مثيلاتها المرأة الحضرية الأخرى في المدينة. ولنستمع بتأمُّلٍ إلى نصوص هذا الحوار الذي أثَّثه الكاتب لشخصية بطلة قصَّته القرويَّة،كأنه إزاء حوار مثقفين لا إزاء امرأة فلَّاحة:

"- مَا رَأيُكُ بِالرسمِ؟ وَمَا الأقربُ إِليكَ هُوَ أمْ النَّحتُ؟[فَكانَ الجَوابُ مُفحماَ]-بَينَ الاثنينِ يُوجدُ فَارِقٌ أَراهُ وَاسعَاً، الرَّسمُ يَمنحُكَ صُورةً تَبحَثُ فِيهَا عَنِ الرُّوحِ، أمَّا المَنحوتةُ فَتمنحك رُوحَاً تَبحثُ فِيهَا عَنِ الصُورةِ.- فِعلَاً هُوَ فَارق ٌكَبيرٌ.- ولأنَّني أَحببتُ الرَّسمَ أوّلاً، تَجدنِي مُتلهفَةً لِلبحثِ عَنْ جَمَالِ الأروَاحِ فِي الصُّور.-وهلْ تَجدينَ مَا تَبحثينَ عَنهُ؟-لَيسَ دَائِمَاً؛لَكنَّنِي أَحثُّ نَفسِي كَي تَكشفَ الجَمالَ المَخبُوءَ فِي أَعماقِ الصُّورِ.- مَاذَا تَعنِي لَكَ الصُورُ؟-الصُّور هِيَ حَياتُنا نَفسَهَا". (لُغةُ الأرضِ، ص65) .

فمثل هذا الطرح الذي تبحث فيه البطلة زكية عن جمال الأرواح الخبيئة في صور الرسم الفنيَّة؛ فإنَّ الكاتب علي عُبيد يبحث عن جمال الأنساق الخفيَّة في الحدث القصصي وفكرة حكايته التي تهم المتلقِّي. لذلك فإنَّ هذا الطرح الثقافي الفني الذي دار بين شخصيتي الحبيبينِ العاشقينِ، هو طرح جميل ماتع ونافع للرَّائينَ والمتلقينَ في ظاهره الخارجي المُعلن، إمَّا في خبايا باطنه الداخلي المُستتر المضمر فيوحي بإبطال وتحطيم نسق النظرة الدونية القاصرة عن أبناء الريف وبناتها بأنهم متخلِّفون ولا يُولُونَ الثقافةَ والجمالَ والفنَّ أيَّةَ أهميةٍ بالغةٍ وإدراكٍ فنِّي خاصٍّ لتراثهم الثقافي.

هذه النظرة تشي بأنَّ أبناء الريف همُ صُنَّاع الأدب ودُعاةُ الفنِّ والجمال والإبداع والثقافة.وحتَّى في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد، إنَّهم موئلُ الفكر الثقافي ومرجعياته في ريف العراق، وفي صعيد مصر، وريف سوريا وبلاد الشام. هم إبداع خفيٌّ وظاهر ناتج عن عمق حضاراتهم الكونية الراسخة، وتاريخهم العربيّ الأصيل الزاخر المتوهج بأفانين العلم والمعرفة والحضارة والتقدُّم:

"إنَّها اِمرَأة ٌمِنْ طِرازِ النِّساءِ الفَريداتِ،تَسحرُهَا الخَفايَا، وَلَا تَستَمتِعُ بِالظاهرِ السَّهلِ،أوْ مَا يَتواجدُ فِي السَّطحِ، فَهوَ مَنظورٌ مِنَ الجَميعِ، أمَّا الأعمَاقُ فَلَا يَصلُ إليهَا غَيرُ القَادرينَ عَلَى الغَوصِ بِعُدَّةٍ كَاملةِ تَقَيهُم الغَرقَ، فَيغوصُونَ وَيَعوُدُنَ إِلى السَّطحِ مُحمَّلِينَ بِاللؤلؤِ وَالمِرجانِ وبِالجَمالِ العَمِيقِ" . (لغة الأرض، ص 67) . وهذا يعني أن لغة الأرض تبحث جليَّاً في عمق الجواهر لا في سطح المظاهر.

وتكلَّلت بشائر هذا العشق الإنساني الروحي المتهافت بالزواج المقترن أساسه الروحي بالثقافة والوعي ومظاهر الحبِّ والجمال. فالثقافة المكتسبة هي التي تصنع الوعي الذاتي وتُشذِّبُ العقل من الشوائب واللّمم الفكري وتهذِّبهُ. والإبداع الفنِّي هو الذي ينتج الجمال الروحي والحسِّي، والموهبة الفذَّة هي التي تخلق الوعي والإدراك وإنتاج ما لا يمكن تصوره في واقع الحياة الثقافية والفنيّة.

ولأوِّل مرَّةٍ أرى جماليات النسق الثقافي الظاهر المُبين تلتقي بجماليات النسق الثقافي الخفي المستور العميق في تخليق واعية الإبداع الفني الذي تعضده تبنياته فكرة (الجامعة الإنسانية) التي أوصلت شخصية بطلي القصة إلى التلاقي والوحدانية في الفكرة والعمل والرأي والاقتران الجمعي الذي تبوح به خواتيم هذه القصة الإنسانية المبهرة في صناعة موضوعتها الإبداعية والفكرية:

"بَعدَ شُهورٍ مِنْ زِيارتِي لَهَا فِي المِزرعةِ، اِنتقلنَا مِنْ قَريةِ (أُمِّ البطِّ) إِلَى مَركزِ المَدينةِ، وَمَعَنَا المَنحوتةُ الفِرعونيةُ الَّتي أَصبَحَتْ الآنَ زَوجَتِي رَسمِيَّاً". (لُغةُ الأرضِ، ص 68) . والمساءلة التي تطرح نفسها، هل تبقى وشائج النسقينِ الثقافيينِ (الظاهر والخفي) كمدينةٍ فاضلةٍ متوحدٍنةٍ الثقافة في مركز المدينة كما هي في أعماق الريف دون انحلال أو تغيُّر على مسيرتهما الخطيَّة المتناظرة ؟

4- (مُدُنُ البَارُودِ):

الكاتب المِقدامُ والهُمامُ الذي يأخذك بأُسلوبه الماتع بغتةً على جناح السرد المتصاعد الشفيف من أجواء الحبِّ والثقافة والفنِّ والجمال ولغة الإمتاع والمؤانسة إلى وقائع الحرب المُدمِّرة الضروس بلغة الرصاص والبارود والقتل العشوائي المخيف الرخيص بهُوية الفوضى؛ نتيجة سقوط المدن بفوضى الإرهاب وسيطرة المجاميع المسلحة الثائرة ضد أنظمة الحكم الدكتاتوري المُستبِد الظالم.

والقاصُ أو الكاتب الذي ينتقل من فكرةٍ إلى فكرةٍ أُخرى بنفس التكثيف اللُّغوي وقوَّة الإيحاء والترميز والإضمار والإظهار والمفارقة الصادمة، وفجائية الانبهار؛ لهوَ كاتبٌ واعٍ وقاصٌّ حاذق يعي ما عليه من التزام وحقوق ثابتات، وما لهُ من واجباتٍ ومُتغيِّراتٍ تُجاه عناصر الفنِّ القصصي التي تمكِّنه أدواته التعبيرية من السيطرة على وقائع السردية وفاعلياتها الحكائية في بنية التركيب القصصي لواقعة الحدث الموضوعية التي أقام عليها مشاهد حركية النص القصصي الُمتسارع.

فهذه الإضمامة المهمَّة بأُسلوبية الكاتب التنوِّعيَّة وانتقالاته السردية السريعة المتجدِّدة، تُحيلنا الدراسة النقدية التتبعية الكاشفة فيها نسقياً وثقافياً إلى نموذج آخر من نماذج سرديات قصصه ذات الطابع الحربي العسكري الاجتماعي الإنساني المرتبط ببعضه في حيثيات وقائعه وأحداثه الدراميَّة التي تجسَّدت فيها واقعة الحدث التراجيدي المؤسف الحزين في قصته (مُدنُ البارودِ) الناطقة بالموت والخراب والدمار والفساد الذي لا إصلاح له إلَّا الحكمة ورجاحة العقل ونبذ لُغة العنف.

وبإيجاز تحكي مدونة (مُدنُ البارودِ) قصةَ رَجلينِ أخوينِ عراقيينِ كان يعملان ضابطين في سلك الجيش العراقيّ السابق إبَّانَ انهيار نظام الحكم القائم وسقوط المدن العراقية الواحدة تلو الأخرى، وهيمنة الأحزاب والمجاميع الثورية المُسلحة على زمام الأمور وإدارتها بشكل فوضوي وعفوي غير منظمٍ ولا يخضع لنظام أو لقانون عادل يكفل الحقَّ للآخرين من الناس الذين هم السواد الأعظم من الشعب. رغم أن الكاتب لم يصرح بتلكَ الأمور لأسبابٍ فنيَّةٍ وإبداعيةٍ يحتفظ بها لنفسه.

آثرَ هذانِ الأَخوانِ الضابطان العودة إلى مدينتهما الأُمِّ بعد انهيار المنظومة العسكرية المُنتظمة؛ لكنَّهما ونتيجة لتلك الظروف الطارئة والمداهمات وغياب حكم القانون على البلاد فقد واجها الكثير من الصعوبات والمخاطر الجمَّة حيال عودتهما لعائلتيهما سالمين دون خسائر ألمَّت بهما قسراً.

"سَمِعنَا أَصواتَ رَصاصٍ مُتَقطَعٍ وَمستمِّرٍ، فَعرفنَا أَنَّ المَدينةَ تَعيشُ حَالةً مِنَ الفُوضَى، فَكَّرِتُ بِالمخاطرِ الَّتِي قَدْ تُودِي بِحياتِنَا، خَطَرَ فِي بَالِي العَودةُ أنَا وَأخِي الأصغرُ وَعَدمُ الدخولِ فِي المَجهولِ؛ لَكنْ وُجودُ أُّمِّي وَطفلِي وإخوانِي فِي دَاخلِ أَحياءِ المَدينةِ أجبَرَنِي عَلَى دُخولِهَا، فَلَا مَجالٌ لِتركِهُم فِي هَذهِ الأوضاعِ المُرتبكةِ، وَحِينَ اِستشرتُ أخِي الأصغرَ يُوسُفَ بِالعودةِ إِلَى المَكَانِ الَّذي أَتينَا مِنهُ رَفَضَ ذَلِكَ البِتَةً. لَمْ تَصلْ بِنَا السَّيَّارةُ إِلى البَوابَةِ، أَنزلَ الرُّكَّابَ عَلَى بُعدٍ مِائةِ مِترٍ عَنهَا، تَقدَّمنَا بِخُطواتٍ مُتعثِّرَةٍ نَحوَ المَدخلِ القَريبِ، تَحسَّسَ أخِي يُوسفُ المُسَدَّسَ المُثَبَّتَ فِي حِزَامِهِ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 15) .

هذا هو الطابع الحربيّ الظاهر لنسق المدينة المعبَّأ بالانفلات الأمني وشيوع لغة الرصاص والتحشيد المليشياتي الخارجي غير المقنَّن الذي يقود زمام الأمور الحالية ويحكم الإنسان عند غياب لغة القانون، وتفشي استمراء ألم المعاناة والمواجهة التي مرَّ بها بطلا القصة الضابطان في مسيرة عودتهما إلى المدينة المهجورة إلَّا من مجاميع عسكرة الثائرين على نظام الدولة الحاكمة:

"دَخَلنَا مَركزَ المَدينةِ عَلَى مَضَضٍ وَالذهُولُ يَتَلبَّسُ كِلَينَا، شَارِعَانِ مُعبَّدَانِ مُتوازيَانِ تَفصلهُمَا جَزرَةٌ وَسطيَّةٌ خَرسانيَّةٌ، لَمْ تَتوقَّفْ لَعلَعَةُ الرَّصاصِ وَقَذائفُ الهَاونِ وَأسلحةٌ أُخرَى لَا يُعرَفُ نَوعُهَا أو حَجمُهَا تَسقطُ فِي أماكنَ مُتفرِقةً، المِحَالُ كُلُّهَا مُغلقةٌ، وَالشوارِعُ مَهجورةٌ، خَطونَا بِضعُ خُطواتٍ عَلَى وَجَلٍ، فَدخلنَا بِأَرجُلِنا فِي الفَخِ، تَقدَّمَ إلينَا شَخصٌ مِنْ بَينَ مَجموعةِ أَشخاصٍ يَشهرُونَ السَّلاحَ بِقَلقٍ وَرُعبٍ، كَانَ يَحمِلُ فِي يِدهِ (رَشاشَ كَلاشنكوف) وَيَرتَدِي حِزَامَاً مِنَ الرَّصاصِ، عَينَاهُ يَنبثقُ مِنهَمَا غَضبٌ مُستَعَرٌّ، تِختلطُ فِيهِ مَشاعرٌ شَتَّى". (لُغةُ الأرضِ، ص 15، 16) .

على وفق هذه الكيفية المحتشدة بظلال الحرب المحليَّة المتخبُّطة كانت تُدارُ شؤون المدينة، بل البلد كله، ويُتركُ رعاياه من المواطنين يتخبَّط بعضهم بعضاً دون رقيب أو حسيب بينهم. فهذا هو المنظور من المشهد الظاهري لثقافة الحرب والاقتتال الطائفي وما يخلفه من ويلاتٍ ودمار وخراب مُستشر. أمَّا المستفيد من هذه الأمور في النسق الخفي المغيَّب غير الظاهر هم أعداء الإنسانيةٍ، ودعاة الخراب وتُجَّار الحروب من مناهضي الحُريَّة والدِعةِ والسَّلام الذي يحقِّقُ للناس حقَّ تقرير مصيرهم الراهن وبناء مستقبلهم. فلا سلام خفي يحدث ويمكث قاراً في الأرض إلَّا بتقويض غائلة الحرب النسق الجائر الذي يقضي على الحرث والنسل والأمل كي يحدث السلام.

5- (مَشاهِدُ مِنْ سِيرةِ الأَلَمِ):

من يتتبع الفضاء القصصي التسريدي لِعَليّ حسين عُبيد سيجد أنَّه فضاء ليس ثابتاً مُعيَّناً، بل يكاد أن يكون فضاءً مُتحوِّلاً ومُتحركاً أو مُتغيراً ومتنوعاً وثريَّاً بموضوعاته الإنسانية والاجتماعية، وتعدُّد رغباته وطموحاته وأحلامه الذاتية الشخصية التي ينفتح فيها على هُوية الآخر الشريك الجمعي من خلال الخروج من نافذة الذاتية الضيقة إلى الذاتية الجمعية المشتركة التي لا تقف رحى عجلتها المحورية عند حدٍّ معرفيٍّ معيَّنٍ ما، بل تكون عابرةً لكلِّ الحدود والمسافات الزمكانية.

فهذه الخطوات الضوئية الإجرائية التي تنماز بها أسلوبية القاصِّ الثقافية التعبيرية لها دلائلها ومرجعياتها الثقافية وخصائصها التطبيقية المتحقِّقة على سطح الواقع الفضائي النصَّي السردي. ويمكن أن نستدل على تلك التلقائية الإثرائية في مقصديات النص الحكائي لِعَلي حسين عُبيد في نصِّ مصفوفته القصصية (مَشاهدٌ مِنْ سِيرةِ الأَلمِ) الدالة على وقائع موضوعيتها السيرية الحدثية.

فكل مشهد من مشاهد هذه السيرة الألميَّة العشرة يمثِّلُ لافتةً عنوانيةً موضوعيةً سيريًّةً قصيرةً فاعلةً ومستقلةً من لافتات وقائع وأحداث مصادرالألم التي وظَّفها القاص في طيَّات هذه المصفوفة العُشريَّة. حتَّى ترى الرائي عُبيد مُتنقِّلاً في موضوعاتها الفعلية الحيوية وفضاءات مثاباتها المكانية وحركة صراع شخوصها الفاعلية. فتراهُ تارةً يتحدث فيها عن شابٍ يعشق الحَمَامِ، وتارةً أخرى إيثار صبيتينِ، وتارةً ثالثةً عن رجلٍ صَديقٍ للأشجار، وتارةً رابعةً عن حُلُمِ عاشقينِ مُحبَّينِ، وتارةً خامسةً عن سلوك حياة (قِطٍ وجروٍّ)، وتارةً سادسةً عن مشهد من مشاهد الفقر والفاقة، وتارة سابعةً عن الدعة والشعور بالسعادة في غرف فنادق الدرجة الأولى المكيَّفة، وتارةً ثامنةً عن الذات القصصية العليمة في التعامل مع ضرورات الحياة وفهم جمالياتها، وتارةً تاسعةً عن مشهد من مشاهد العمل في المحيط الخارجي للحياة اليومية، وتارةً أخيرة عاشرةً عن هواجس فتاةٍ عاشقةٍ شقراء ساحرة الجمال بشكلها.وللتدليل على خريطة ذلك التنوِّع سنقرأ بعضاً من نصوص قصصها.

وحين نجيل النظر في مشاهد هذه المصفوفة القصصية القصيرة العشرة ونكشف عن أثر شفراته الموضوعية اللغُّوية نرى أنَّ وقائع كلَّ مشهدٍ يمثِّل في تصويرها الظاهري المرئي الحسِّي للقارئ نسقاً ثقافياً وقيمياً مشرقاً من أنساق يوتوبيا حياة المدينة القصصية الفاضلة لهذا القاصِّ الفاعل.

في حين نلحظ أنَّ الجانب الآخر غير المُتجلِّي أو المُستتر بحجابٍ خفي عميق غائر، والملموس معنىً وتصوِّراً عقلياً راسخاً، يمثِّل نسقاً سِيريَّاً مؤلماً من أنساق ديستوبيا الواقع المثالي المخيالي الاقصائي والتهميشي الرفضي لحياة الإنسان، فضلاً عن تأثيرات الفوضى العامة ومشاهد القمع والتجهيل والنكوص والانكسار الروحي الرجعي الذي يسيطر على عالمه الجمعي الذاتي المشترك.

وهذه المشاهد السيريَّة العشرة على مستوى الفكر التنظيري، أمَّا على خطِّ المستوى الإجرائي التطبيقي، فلنا في المشهد الأول ذي الرقم (1) من مشاهد هذه السيرة المحتشدة بالألم والأوجاع والخسارات.تلك هي قصة الشاب رياض الذي يعشق تربية الحَمَامَ،ولكنَّه لفرط حبِّه لا يجني الكثير منه إلَّا القليلَ، وفي صنفٍ ما من حَمَامِ (الأورفلِّي) الذي يطرد الشرَّ ويجلب الرزق على حدِّ قول رياض لنفسه الذي يرعى تلك الحمامات الأليفة ويهمس لها بأحلامه اليقظة ونهاراته الضَّاجَّة بها:

"عِندَمَا وَصَلتْ سَيَّارةُ الأُجرةِ وَعَلَى سَطحِهَا نَعشُ رِياضٍ، كَانتْ حَمامَاتُهُ تُراقبُ المَشهدَ مِنْ فَوقِ سِتَارةِ البَيتِ، كَأنَّها عَرِفَتْ بِرحِيلهِ، لَقَدْ أخذتهُ الحَربُ بِأحضانِهَا...". (لُغةُ الأرضِ، ص 102) . هكذا يصف القاص الرائي نهاية سيرة الشاب رياض الذي أحبَّ الحَمَامَ وعشق تربيته، وكيف كان وفاء الحَمَامِ المؤنسن لروحه الطاهرة المُحلِّقة في سماء عِلِييِّ الشهادة. ولنلتفت إلى نسق الإضمار في شعور الرائي تجاه رياض الشهيد الراحل، وكيف وضع نهايةً ختامية للحّمِامِ الذي أحبَّ جانيه الشاب (رياض) ؟وكيف أوفى له بصدق غرائبي عجيب بعدأن أحسَّ بفراغ موته المفاجئ وانقطاعه:

"الحَمَامُ لَمْ يَعُدْ يَشربُ وَلَا يَأكُلُ، أَيامٌ مَرَّتْ وَالحَمَامُ لَمْ يَخرُجْ مِنَ القِنِّ، عِزلَةُ الحَمَامِ كَانتْ قَاتِلَةً، اِنقطعَ الهَديلُ تَمَامَاً، السَّوادُ مَلَأ السَّطحَ وَالبيتَ والقُلُوبَ...كَثيرونَ قَالُوا.. سَمِعنَا الحَمَامَ وَهوَ يّبكِي..". (لُغةُ الأرضِ، ص 102) . وهل هناك أصدق وأنبل من مشاعر سيرة الألم والنواح الهديلي التي دبَّجتها مسرودات القاصِّ في صفة الوفاء والإخلاص لروح هذا الرفيق الصاحب والأنيس الراحل.

وفي جانب آخر من جوانب سيرة الألم التي حفلت بها قصص هذه المصفوفة الفرعية الثانوية من المدوَّنة الرئيسة، ذلك هو المشهد الثامن من مشاهد الألم والوجع العراقي الكبير المستديم الذي لا ينتهي؛ نتيجة تطاول يد الزمن على شخصية الإنسان وفرض خيباته ونكوصاته المُهينةَ على ذاته الروحية والنفسية تحت غائلة عادياته المثيرة، وكان الفقر والفاقة من أبرز علاماته الظاهرة.

وحين نتأمَّل سطوراً من مشاهد سيرة الألم في واقعة هذا الحدث الثامن تأمُّلاً نقدياً للعين البصرية الثالثة يتداعى إليكَ شعور من اليقين القلبي الثابت، لا شعورَ الشكِّ الظنِّي المتحوِّل غير الثابت بأنَّ القاصَّ الرائي علي حسين عُبيد يتحدَّث بكلِّ ثقةٍ وكياسةٍ عن مشهد من مشاهد سيرته الذاتية الخاصَّة، وعن أناه الذاتية الجمعية الحقيقية، لا يروي عن حال لسان شخوصه وأبطاله المفترضين تخيلُّاً في واقعة الحدث الموضوعية، إنَّه يتماهى معهم ويتناهى عنهم كليَّاً. حتى تظنَّ كلَّ الظنِّ بأنَّ الراوي العليم لمشاهد سيرة الألم هو القاصُّ نفسه في التعبير عن حال ذاته السيريَّة.

وسترى علاقته الوضعية مع شخصيات قصته المهمشين الذين يشعرون بعطب الحياة المستهلكة. وهذا التوافق وارد في توحدُن سيرة القاصِّ مع فعليات فواعل شخوصه المُلتقطة التقاطاً صورياً دقيقاً من صور الواقعة السحرية الحافلة بتوالي صراعات الألم والوجع والمُضمَّخة بالفقر والمعاناة المستمرة المريرة التي أفرزتها آثار الحرب الداخلية المُدمِّرة والانهزامات الدولية المتكرِّرة عليه.

ولنقف في هذا الميدان الواسع الرحب الذي يجمع بين مناطق الواقعية والأسطورية المخيالية في منطقة سيريَّة ثرةٍ ومُحتشدةٍ بثقافة جدلية (الألم والأمل) من مناطق تَشكُّلات فضائه القصصي النصِّي وخطابه السردي الذي يُؤرخن تدويناً لعصرنة الحدث الموضوعي الفعلي بكل تمظهراته الحدثوية والفنيَّة والجماليَّة والشخصيَّة التي أظهرتها التقاطات عين عدسته الصورية الزاخرة في تجلّيات النصِّ الزمكانية والحَدَثِّيَّة وحركة الصراع الدائر بين مساعي الخير الحميدة وردود الشر البغيضة.  "فِي عَصرٍ رَبيعيٍّ قِادتنِي خُطايَ إِلَى[قِسمِ] الَفلسفةِ[ بِكليَّة ِالآدابِ] فِي جَامعةِ بَغدادَ بِمنطقةِ بَابِ المُعظَّمِ، كُنتُ عَلَى مُوعدٍ مَعَ صَديقينِ يَدرُسانِ الفَلسفةَ؛ كِي نَقضيَ بَعضَ الوَقتِ في نادِي الجَامعةِ، وَنَخرجَ نَتسكعَ فِي بَابِ المُعظَّمِ وَالميدانِ وَشَارعِ الرَّشيدِ؛ لِننتهيَ أخيراً في اتَّحادِ الأُدباءِ، قَبلَ أنْ أصلَ بَابَ الجَامعةِ بِقليلٍ فَاجَأتنِي لَوحةٌ مِنَ الخَزفِ أوْ النُّورةِ لَا أَتذكَّرُهَا بِالضبطِ، كَان نِصفُها الأعلَى مُهشَّمَاً، أمَّا النِّصفُ الأسفلُ فَكانَ سَليماً، وَبدَتْ لِيْ لَوحةً جًميلةً وَأنيقةً[..] كَمْ ثَمنُ اللَّوحةِ؟ -قَالَ: سَبعةَ آلافٍ، إلَى جَانِبِهَا يَقفُ طِفلٌ أَبيضُ جَميلٌ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 110) .

فحين نُعيد النظر جليَّاً مرةً أخرى بقراءة المشهد القصصي للحكاية ونتفحَّصه جيداً، فسترى أنَّ المثابات المكانية لفضاء النصِّ السردي هي نفسها الواقعية الماثلة في وقتنا الحالي أو الحاضر، وأنَّ الشخوص الفاعلين هم أنفسهم من طلَّاب هذه المؤسسة التعليمية (جامعة بغداد) وخريجيها، وأنَّ

فضاء مشهد العرض المكاني (شارع الرشيد) هو نفسه الماثل لنا في المشهد الفني الجمالي الإبداعي.

فهذا هو النسق القيمي الثقافي الإيماجي الصوري الظاهر، في حين يكمن النسق الثقافي الآخر المُغيَب والمسكوت عنه قصدياً في صورة الطفل المُهمَّش بائع اللوحة الذي يُعاني الفقر المدقع والحرمان والفاقة وألم الانكسار والصمت القاتل الرهيب؛ بدليل أنَّ القاص وضع لنفسه سؤالاً عن شخصية هذا الطفل المعذَّب المتهالكة فقال: "لِمَاذَا لَمْ أَتحِ لَهُ فُرصةً كَافيةً كَيْ يُفصحَ عَنْ رَغبتِهِ فِي الكَلَامِ؟". (لُغةُ الأرضِ، ص 111) .وكأنَّه يدعو المتلقِّي لمشاركته بالتساؤل الإنساني لمعرفة الجواب.

ويمضي الكاتب أو الرائي أو القاصُّ أو السارد العليمُ بتساؤله في خاتمة هذه القصة لمعرفة ما يخبئه هذا الطفل الشقي من هموم طافيةٍ وعذابات وتحسُّرات تسوِّرُ بواطن شخصيته الإنسانية البريئة التي تخفي هموم وجع الحياة وصعوبات آلامها الجمة الكاسرة التي ألقت بظلالهاعلى نفسه:

"خَرَجنَا مِنَ الجَامعةِ، ثَلاثَتُنَا، أنَا أَحملُ كِيسَ اللَّوحةِ المُهشَّمَةِ، وَهُمَا يَحملانِ حَافظتَيِنِ لِلكُتبِ، عُدنَا من الطَّريقِ نَفسِهِ، رَأيتُ الطِّفلَ يَجلسُ وَحِيدَاً دُونَمَا لَوحَةٍ أو صَديقٍ، كُنَّا نَسيرُ فِي الجَانبِ الآخِر لِلشارِعِ، لَمْ يِتِنِبَّهْ الطِّفلُ لِي، كَانتْ تَقاسيمُ وَجهِهِ المُعبَّأِ بِالتساؤلِ وَاضحةً لِي، كَانَ بَصرهُ يَتدفقُ نَحوَ بَابِ الجَامعةِ،كَأنَّهُ بِانتظارِ شَخصٍ مَا،لَمْ أعرفْ مِنْ هُوَ إِلَى الآنَ...". (لُغةُ الأرضِ،ص 111) .

من المؤكَّد أنَّ هذه التأمُّلات الصوريَّة الحادَّة في وجه الطفل والاحتمالات التي قرأ فيها الكاتب صور تفسيرات مظهر شخصيته وما يحمله من أنساق قيمية معيشيةٍ عن أثر الواقع المزري على حياته تركها القاصُّ علي عبيد إلى فكر القارئ ودرجة وعيه الناضج في اختيار ووضع جواب عن تساؤله لإتمام واقعة الحدث الختامية المفتوحة بقراءات احتمالية تأخذ أكثر من جواب أو تفسير له.

6- (حبٌّ جامعيٌّ):

ونذهب في تصفحنا البصري والفكري لفِهرستِ هذه المجموعة القصصية إلى قراءة نصِّه القصصي العاطفي (حُبٌّ جامعيٌّ) الدال على محتوى عتبة عنوانه في تقييم حركة العلاقات العاطفية في الحياة الجامعية وعلاقاتها النصيَّة الدقيقة تحديداً بالجانب الاجتماعي الأسري والإنساني الذي تَتحرَّك الإنسان فيه وفق منظومة القيم والعلاقات الاجتماعية الثابتة والمتحركة حيال ما يُميَّزُ به شخصٌ لافت للنظر عن آخر مَغمورٍ أو فقيرٍ مُعدَمٍ مَقهورٍ غيرِلافتٍ للآخرين في فضائه الزَّمكاني.

والمُلاحظ أنَّ قصة (حُبٌّ جامعيٌّ) تبدأ بحكاية حبٍّ بسيطةٍ وتنتهي بفكرةٍ قَيِّمَةٍ تتكاثر فيها الأفكار والرؤى والأحلام بمخاضاتٍ سرديةٍ عديدةٍ؛ لِتُعلِنَ عن علاقة أحد طلبة الدراسات الأوليَّة (الجامعة) بفتاةٍ ثرَّيةٍ ميسورة الحال تُدعى (سميرة) زميلة له في القسم والذي يدرس فيه والكليَّة. كانت تماثله في التفوُّق والميول والطموحات وتحقيق الأماني المستقبلية؛ لتثمرَ عن إعلان هذا الحب الجامعي في بداياته الشائقة العذبة. حيث تنطلق شرارة شآبيب هذا الحبِّ من موقف إنساني شهمٍ وتنتهي العلاقة العاطفية بموقف إنساني آخر غادر لمبادئ الحب الحقيقي وصيانة كيانه الإنساني الخاصّ:

"بَعدَ أنْ اِنتهَى الدَّوامُ لمْ يَأتِهَا أبوهَا فِي الوَقتِ المُحَدَّدِ، تَأخَّرتِ السيَّارةُ عَلَيهَا، فَتقدَّمتُ مِنهَا بِثقةٍ وَقُلت لها: أنَا سَأقومُ بِهمَّةِ إِيصالكِ إِلَى البَيتِ فِي أحدِ أحياءِ (بغدادَ)، لَمْ تَقبلْ فِي البِدايةِ، لَكنْ سُخونةُ الجّوِّ وَيَأسَها مِنْ مَجِيء أبيهَا وخَوفاً مِنْ سَائقِي سَيَّاراتِ الأُجرةِ، دَفعهَا لِلقبولِ،فَتَحتُ لَهَا البَابَ الأمامَ، تَرددتْ قَليلاً ثُمَّ رَكِبتْ صَدرَ السَيَّارةِ، كَانتْ قَلقةً، تَشعرُ بِالحرجِ، وَكُنتُ أُحاولُ اِنتهازَ الفُرصةِ كَي أُفَاتُحهَا بِعَلاقةٍ عَاطفيةٍ دَائمةٍ؛ لَكنَّني فَكَّرَتُ أنَّ التَّوقيتَ خَاطِئٌ لِمِثلِ هَذهِ العَلاقةِ، وَسَأبدُو سَخيفَاً وَمُستغِلَاً لَهَا؛لِأنَّهَا الآنَ تَصعدُ فِي سَيَّارتِي؛لِذلكَ أجَّلتُ مُفاتحتَها إِلى فُرصةٍ أَفضل، وَبدأنَا َتَناولُ أحاديثَ عَنِ الدُّروسِ والمَحاضرِ والأساتذةِ وَعَن المُستقبلِ...". (لُغةُ الأرضِ، ص115) .

من تجلِّيات هذا الموقف النسقي الإنساني الظاهر أخذت أواصر العلاقة الإنسانية الجميلة تنمو وتزدهر لما تبقَّى من سنينَ الدراسة المتوالية سنةً تلو الأخرى؛ لتكشف عن علاقة وثيقة من آخر بينهما كما يصف هذا النسق السردي الرائي لتمظهراته ويؤكِّد أنَّ عُرى الحبِّ بدأت تكبر مع انقضاء الزمن حتى وصلت نتائجه إلى نهاياته الصادمة التي وضعت حداً فاصلاً لمفترق طرق:

"السَّنةُ الرابعةُ كَانتْ تَختلفُ عَنْ جَميعِ السَّنواتَ الثلاثِ المَاضيَةِ، فَهيَ سَنَةُ المُفاجآتِ كَمَا أَسميتًهَا أَنَا، كُنتُ أَظنُّ أنَّ الحُبَّ مِثلُ شَجرةٍ تَنمُو بِتصاعدٍ وَتَزدادُ خُضرةً وَأغصَانَاً وَثِماراً[...] وفِي الشُّهور الأُولى بَدَأتْ سَميرةُ تَبتَعِدُ شَيئاً فَشَيئَاً، وَكَانتْ تَختَلِقُ الأعذارَ، حَتَّى حِينَ تَأخَّر عَليهَا أبُوهَا رَفضتِ الصُعودَ مَعِي، وَأخذتنِي الشُّكوكُ بِصديقِي، يَا لِي مِنْ أحمق، تَأخَّرَ أبوهَا كَثيرَاً فَاستأجرتْ سَيَّارةَ أُجرةٍ تَكسِي وَلَمْ تَركبْ مَعِي، مَشيتُ وَراءَ سَيَّارةِ الأُجرةِ تَابعتُها حَتَّى أوصلتُها البيتَ، نَزلتْ مِنْ السَّيَّارةِ، وَقَبلَ أنْ تَدخُلَ بَيتَها رَأتنِي بِوضوحٍ، نَظرتُ إليهَا بِشوقٍ وَحُبٍّ نِبراتُهُ تَلهبُ كِيانِي كُلَّهُ،لَكنَّها أغلقتِ البَابَ وَلَمْ تُوجِّهُ دَعوةً بِالدخولِ وَلَو كَذِبَاً". (لُغةُ الأرضِ، ص 117، 118) .

إنَّ سَيرَ هذهِ الأحداث المتوتِّرة، يشي بأنَّ النسق الثقافي الخارجي لموضوعة الحب الجميل قد وئدت في رحمها الأصلي الأُمِ وَدُفِنَتْ وماتت ولم يعد لها أثر مزهر لحياته الباقية. ويُعزَى سبب ذلك التجافي والشتات بين العاشقينِ المُحبَّينِ إلى اتساعِ هُوةِ مسافة الفارق المادي بينهما، فهو طالب علمٍ من أُسرةٍ فقيرة ٍمعدومةٍ الحال، وهي ابنة ذوات ميسورة الحال ثرية ناعمة رغيدة ترفة العيش.

فعلى الرغم من أنَّ المال والثراء لم يكن سبباً كافياً في عدم اقتران الحبيبينِ تحت سقف عائلي واحدٍ؛ بيدَ أنّ رأي الأهل وتصرفهم في النظر إلى الحياة بنظرة استعلاء دنيوي مادي كانت القشِّةُ التي قصمت ظهر الحبِّ وسبباً كافياً في الكشف عن القيم السلبية الخفيَّة للنسق الثقافي الجائر. وهذا ما تشي به انثيلات الخاتمة القصصية التي أوجزت بلاغة الفرق بينهما في نهاية هذا الحبِّ الغادر:

"لَقَدْ رَأيتُ الرَّجلَ الَّذِي سَرَقَ مِنِّي حَبيبتِي فِي أخرَ يَومٍ لِلسنَةِ الأخيرةِ، وَهوَ يَصطحبُها بِسيَّارةٍ فَارهةٍ، وَتَبدُو عَلَيهِ عَلاماتُ الغِنَى وَالتَّرفِ، وَحِينَ مَرَّتِ السَيَّارةُ مِنْ جَانبِي،لَمْ تَلتَفِتْ سَميرةُ إِليَّ، لَكنَّنِي تَأكدتُ تَمَامَاً أنَّها فَقدتْ عُذوبتَها وَتِلقائيتَهَا وَإنسانيتَها إِلَى الأَبدِ"؟ (لغة الأرضِ، ص 118) .

فكل الدلائل والعلامات السردية السيميائية لخطاب القصص القصيرة تُشير باهتمامٍ إلى أنَّ القيمة النسقية الثقافية الأولى لديمومة هذا الحبِّ كانت إنسانيةً إيحائيةً بحتةً، وتؤكِّد في الوقت ذاته أنَّ سبب فشل الثيمة النسقية الثقافية الداخلية المضمرة كانت قيمةً اجتماعيةً إنسانيةً قَبيحة بحتة تحكمها العلاقات المادية الصرفة وتُحرِّكُها، وليست العلاقات الروحية الإنسانية الثابتة الحقَّة، وهو النسق العَيبِي الخفي الذي يستتر وراءه الكاتب في مثاقفاته النسقية المتوخاة في مقاصدها الثقافية الجديدة.

7- (فِصَـامٌ):

وفي موضوع مغاير آخر من موضوعات علم نفس الشخصية الإنسانية الحديث، نلجُ الى الدخول إلى مضان قصَّة النصِّ السردي المدوَّن (فِصَامٌ) الدالُ على موضوعة الأمراض النفسيَّة الحديثة التي تصيب الإنسان المعاصر كثيراً.فهذا الهوس النفسي المتضاد في الازدواجية الشخصية العقلية، هو ما حصل فعلاً وأصاب البطل الرئيس لشخصية قصة (فصامٌ) .القصَّة المتمايزة فنيَّاً في ضبط إيقاعها الأُسلوبي السردي والجمالي الفنِّي، والتي كتبها المُبدع عَلِي عُبيد بتماهي روح الطبيب المشخِّص، وتقمص المريض الشاكي من ازدواجية الداء واستفحال آثاره النفسية القريبة والبعيدة.

لقد كتب القاصُّ حكاية هذا النصِّ وفكرته الموضوعية الدقيقة بأسلوبٍ فنِّي غرائبي وعجائبي مخيالي لا يخلو من اسقاطات الواقع النفسي الإنساني وتمظهراته، وكأنك حقيقةً أمامَ طبيبٍ ماهرٍ يعرف الداء الواقع ويشخِّص الدواء الناجع، وبمعيته مريض يستعرض حالات المرض ونوبات الألم التي تنهتك نفسيته بالخراب، وتُدمِّرُ شخصيته بازدواجية تهويماته العقلية الممتلئة بالسراب.

إنَّ هذا القاصَّ العليم الرائي يعيش تجلِّيات النسق النفسي الإنساني الظاهر للشخصية ويتحسَّس بموحياته النفسية مضمرات واقعة الحدث الموضوعية التي بُنيتْ عليها فكرة القصَّة واجترحتها نسقاً ذا قيمةٍ اجتماعيةٍ ونفسيةٍ عُليا لا بُدَّ من عرضها كضرورةٍ من ضرورات العصر وإسقاطاته.

وباختصار موجز نستعرض الآنَ في نصَّ قصةِ (فِصَامٌ) شخصية رَجلٍ أو زوجٍ من خلال عَلاقته الأسرية الحميمية مع زوجته التي يحبَّها كثيراً، وفي الوقت نفسه أو ذاته يمقتها نفسياً ويتمنَّى أنْ يتخلَّص منها بسبب هوسه وتخبُّطه النفسي المتوتر ذي المؤشِّر الصاعد والهابط مع نوبات المرض التي شغلته كثيراً وسيطرت كليَّاً على هواجسه العقلية واِتِّزانِ أفكاره الشخصية :

"فَمَا أَمدُّ رُوحِي عَلَى سَريرِ النَّومِ إِلَى جَانبِ زَوجتِي حَتَّى أَشعرَ بِالاحتقَانِ يَفورُ فِي خَلايَا جَسَدِي يَطعنُنِي وَيُحيلنِي إِلَى جَمرَةِ دِمَاءٍ مُشتعلةٍ وَتَوتِرٍ يَصلُ حَدَّ الفَزَعِ، يَجتاحُنِي، مَشاعرِي تَصلُ دَرَجةَ الغَليانِ، وَخَوفٌ دَائِمٌ يَركضُ فِي شَرايينِ دَمِي، إِنَّها تَنَامُ إِلَى جَانِبي أوْ أنَا الَّذِي أَلتحقُ بِهَا فَأجدُهَا بِانتظارِي عَلَى السَّريرِ، أَخافُ أَنْ تَمُدَّ يَدَهَا وَتَمُسَّ جَسَدِي، يَفزعُنِي حَدَثٌ كَهَذَا، وَإذِا مَدَّتْ يَدَهَا سَأترك السَّريرَ، ضَجِرَاً مُصَابَاً بِقَرَفٍ مُقزِّزٍ، أَبتعدُ عَنْ السَّريرِ حَتَّى تَغفوَ ثُمَّ أعودُ، وِفِي هَذهِ اللَّيلةِ، سَيحدَثُ الشَّيءُ نَفسُهُ؛ لَكنَّنِي قَرَّرتُ أَنْ أضعَ حَدَّاً لِهَذَا العَذابِ، فَأوقفُ حَياةَ زَوجتِي كَي تَتَهاوَى الأسوارُ الَّتي غَالِبَاً مَا تَلتَفُّ حَولَ رُوحِي وَجَسدِي فِي كَابوسٍ أَخشَى أنْ يَظلَّ قَائِمَاً فِي حَيَاتِي إِلَى الأبدِ، خُطَّتِي مُتقَنَةٌ تَمَامَاً، لَا يَمكنُ أنْ يَطولَهَا الفَشَلُ إِلَّا إِذَا عَدَلتُ عَنْ قَرَارِي". (لغةُ الأرضِ، ص 70) .

إنَّ سرديات مجريات واقعة الحدث النصيَّة تخبرُ بوجعٍ مؤسفٍ مثيرٍ عن نسقها الجلي الظاهر، وتكشف عن تمظهرات الشخصية غير السويَّة المظهر والنقيَّة الجوهر. إنها مكابدات اختلاق فصام الشخصية السوية التي استحالت إلى كوابيس ومخايل مَرضيةٍ وخُططٍ نَفسيةٍ غيرِ مُجديةٍ لمواجهة واقع الحال المرضي الوسواسي القاهر الصادم نفساً الذي انعكس سلباً على شريكة حياته الزوجية:

"كُنتُ أَتمَنَى أنْ أتخلصَ مِنْهاَ، أَنْ تُغادِرَ الحَياةَ، لَكٍنْ الأمرُ العَجيبُ الَّذِي سَيحدِثُ دَائِمَاً. هُوَ اِفتقادِي لَهَا إذَا اِبتعَدَتْ عَنِّي إِلَى مَكانٍ بَعيدٍ، فَأنَا لَا أَحتملُ ذَلِكَ نَهارَاً وَاحِدَاً، كُنتُ أتمنَّاهَا إِلى جَانِبِي، إذا غَابتْ، أَشعرُ بَأنفاسِهَا، وَأسمَعُ صَوتَ ضِحكتِهَا، العَجيبُ أنَّ ضِحكتَهَا وَهِيَ بَعيدةٌ، تَبدُو سَاحِرَةً مُمتعةً حَدَّ الدَّهشةِ؛ وَلَكنِ حِينَ أَجدهَا بَينَ يَديَّ قَريبَةً مِنْ نَظَرِي سَيخفِتُ كُلُّ شَيْءٍ، وَسَتنقلِبُ ضِحكتُهَا إِلَى عَذَابٍ مَريرٍ[...] ". (لغة الأرض، ص70، 71) .

وقد دعاه هذا السلوك النفسي المتناقض بين ثنائية الخير والشر والحبِّ والكُره لزوجته إلى وضع خطةٍ بسيطةٍ للتخلُّص من زوجته؛ لكن وساوسه وهوسه وتخيُّلاته حالت دون تنفيذ فعله الشائن الذي لم يتمكن في محاولاته الفاشلة من تحقيقه عاجلاً أمْ آجلاً، إنها نقطة الضعف المسيطرة على نفسه والتي لم يتمكن أنْ يتخلَّص منها أبداً، إنها أشبه بالوسواس القهري الذي يَلِحِّ عليه:

"عَجِبُتُ مِنْ نَفسِي لِمَاذَا أُفكِرُ بِالقَضاءِ عَليهَا؟.. بَكيتُ.. وَعَرِفتُ أَنَّ رَأفتِي الَّتِي تَتَكَرَّرُ دَائماً فِي لَحظاتٍ كَهذِهِ سَتقودَنِي إِلَى فَشلٍ آخرَ، لَكنِّي رَأيتُ شَيئَاً مَا يَتحرَكُ إِلَى جَانبِهَا، فَوقَ فِراشِهَا، أنهيَتُ بُكائِي، كَانَ الجِدَارُ قَدْ بَدَأَ يَتأسَّسُ، يُولَدُ لِتَوِّهِ. وَأصبحَ سُورَاً شَاهِقَاً..". (لُغةُ الأرضِ، ص 70) .

لم يفلح البطل الغالب بالفصام من تنفيذ خطته للتخلُّص من شبح زوجته أُمِّ ابنته الوحيدة، فهو على الرغم من العداء السلبي النفسي القاهر المضمر النسق الذي يكنه للزوجة من أجل إبعاد شبحها الوجودي معه، راح يذكر بتأنٍ كلَّ محاسنها وتصرفاتها الإيجابية معه في سرير النوم، وكيف كانت جَلِدةً وصبوراً على تحمل أفعاله الغريبة المتزايدة وسلوكياته المتناقضة سلباً وإيجاباً:

"دَائِمَاً تَفعلُ العَكسَ، مِئاتُ اللَّيالِي الَّتي مَرَّتْ عَلَيهَا وَهيَ تُقرِّبُ سَاقهَا مِنْ جَسدِي، فَأنهضُ كَالملدوغِ، ثُمَّ أَعودُ إِلَى سَريرِهَا فَأسمعُ بُكاءهَا بُوضوحٍ وَأحيانَاً أرَى الدَمعَ يَبرقُ مِنْ سَوادِ عَينيهَا، وَبَعدَ ذَلكَ تَمُدُّ يَدَهَا وَلَا تُقَرِّبُ جَسدَهَا إلَّا بَعدَ مُرورِ سَاعاتٍ طَويلةٍ مِنْ اللَّيلِ، وَمَعَ ذَلكَ فِي غَمرَةِ النَّومِ وَعُمقِهِ حِينمَا يَحدُثُ أنْ تُلامَسنِي، أَفرُّ مَرعُوبَاً مِنْ كَابوسِ الأسوارِ المُتناسِلَةِ وَأتركُ السَّريرَ، مَشهدٌ لَا يَتغيَّرُ قَطٌّ، بِل يَزدادُ رُسُوخَاً...". (لُغةُ الأرضِ، ص 72) .

على وفق هذه الكيفية المتناقضة بين الفعل وردِّ الفعل يقضي الزوج المريض لياليه السودَ مع زوجته في غمرة صراع دائم آسر لا أوَّل له ولا نهاية تجعل منه يستوي على جبل الرحمة وضفاف الأمان من هذا الهوس المرير القاتل للنفس الإنسانية. علَّه يجد علاجاً ناجعاً شافياً لمرضه ويتخلَّص من كوابيس أحلامه المُتكرِّرة بتناسل السور، فهو يرغب بالتعافي والتشافي من أعراض هذا الفصام الشخصي الخطير الذي قَلبَ حياته رأساً على عَقِبٍ؛ لكنَّ رغبته بالشفاء تتلاشى دائماً:

"إنَّ حَالاتِ كَهذهِ الَّتي أفقدتْ حَياتِي يُمكنُ مَعالجتُهَا، لَكنْ لَمْ أكنْ أُصدِقُ ذَلكَ، تَتلَاشَى رَغبتِي بِالشفاءَ، وَلْم أُحاولْ ذَلكَ، مُطلقَاً، حَتَّى مِنْ أَجلِ اِبنتِي الجَميلةِ الَّتِي لَا تُشبهُ أُمَّهَا إلَّا بِصوتِها وَحُزنِ عَينيهَا وَوَجهِهَا المُستديرِ وَشَعرِها الأسودِ اللَّامعِ وَهُزَالِ جَسدِهَا! اِبنتِي الَّتي أحبُّهَا كَثيرَاً لَمْ أجدْ فِيهَا سَببَاً لِتَجاوزَ مِحنَتِي مَعَ الأَسوَارِ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 73) .

ونفهم من تجلِّيات هذه الدفقة الشعورية السرديَّة الدرامية المشهد أنَّ البطل الفصامي السلوك في ازدواجيته النفسية القلقة وغير المتَّزنة بفعل اضطرابه النفسي المؤثِّر يحمل في تناقضه النفسي والشخصي سلوك الإنسان الطبيعي السوي الخيِّر،وهو النسق المُتَّفقُ عليه الظاهر، وسلوك النسق المضاد الآخر غير السوي المضطرب المدمِّر الغائر في النفس الإنسانية، وهو القيمة السلبية لثقافة الشخصية في صراعها المرير مع الخير والحياة. وهذا يشي بأنه يحمل ثقل النسقين في آنٍ واحدٍ، مما جعله نسقاً سلبياً على الدوام. وهنا تظهر مهارات القاصِّ في التقاط زوايا عديدة لشخصياته.

8- (قِيَامَةُ الجُثَّةِ):

 (قِيَامَةُ الجِثَّةِ) آخر قصّة من قصص مدونته (لغةُ الأرضِ)، والتي كتبها القاصّ علي حسين عُبيد بلغةِ فنيَّةٍ مغايرةٍ وأُسلوب غرائبي فجائعي فيه من مهارة الإدهاش والمفارقات الصادمة عن ويلات الحروب والأخطار التي تمرُّ بها البلدان جراء قيام المتطرفين بأفعالٍ وممارساتٍ تمسُّ هيبةَ الدولةِ أولاً، وثانياً، تُعرِّض أمنها ومواطنيها لخطر الموت الرخيص، الأمر الذي يضطرهم إلى تركهم للأرض والزرع والحرث والنسل والديار عندما يشعر الإنسان بأنَّ بقاءه في مدينته وملازمته لأرضه يُعرِّضه للموت المحقَّق والخطر الدائم الذي يسلبه إرادته وحريته وأمانه الحياتي اليومي.

ونصُّ (قِيامةُ الجِثَّةِ) يسرد بتجلٍّ دراماتيكي وتراجيدي فاجع حزين ومؤسفٍ قصَّةَ شَابٍ قُتِلَ في ظروف الإرهاب، وتمَّ إيداعه عند رجل شيخ عجوز مشلول الحركة في قرية تقع على أطراف المدينة، هرب أهله اضطراراً من مثابة المكان الساخن الذي جرت فيه وقائع الأحداث الداخلية :

"هَا هِيَ السَّاحةُ المَكشوفةُ الَّتي قُتِلَ فِيهَا الشَّابُ، لَمْ أَنسَ المَكانَ الَّذِي خَرَّ صَرِيعَاً فِيهِ، تَخَيَّلتُ نَومتَهُ في لَحظاتِ قَتلهِ، وَكَانَ مُنكفِئَاً عَلَى وَجهِهِ كَأنَّهُ يُريدُ مُعانقةَ الأَرضِ، خَطَوتُ فِي السَّاحةِ، وَصَلتُ المَكانَ نَفسَهُ". (لغة الأرضِ، ص 138) . في هذا المشهد الزمكاني تتجلَّى دراما الحدث السردي.

من تفاصيل هذه الحكاية التي وظِّفتْ مرجعياتُها التي تشي بها واقعة الحدث الموضوعية يتبيَّن من فضاء النصِّ العنصر المكاني المرتبط بزمنٍ محدَّدٍ ما، وتعرَفُ إحدى شخصياته بؤرة الحدث الفاعلة (مقتل الشاب)، فيتضح النسق الثقافي لموضوعة الإرهاب والتهجير والنزوح القسري الذي كان من فعليات هذا الحدث الأمني الساخن الذي على إثره، ثمَّ تركهم الديار في المدينة، وإيداعهم الشاب القتيل في القرية عند الشيخ العجوز المشلول، والنزوح منه عندما تفاقمت ظروف الإرهاب.

لكن عندما انطفأت جذوة الإرهاب وخَفَّ لَظى لهيبه القاتل قرَّرَ ذَوو القتيل الشاب العودة للديار وإلى بيت الشيخ العجوز لتسلم جثته المودعة عند هذا الرجل المُسنِّ، ولكنَّ نسيج الحكاية السرديَّة أخذَ اتجاهاً آخر أكثر تعقَّيدًا. فحصلت مفآجات صادمة مؤلمة لم تكن في الحسبان؛ نتيجةَ موت الشيخ العجوز، وإثر تحركات مُخلَّفَات قيام الإرهاب التطرفي الجديد الذي لم يكن مألوفاً من قبل في المجتمع، والذي فرض نفسه حالاً طارئاً على واقع حال عقابيل الراهن الظرفي المعيش.

"قَادَنِي نَحوَ بَيتِ الشَّيخِ المَشلولِ، وَصلتُ الحَدِيقةَ الخَارجيَة الَتي تَتَصدَّرُ البَيتَ، حَيثُ كَانَ يَجلسُ الشَّيخُ المَشلولُ عَلَى كَرسِيٍّ مُتحرِكٍ يَومَ نُزوحِنَا[ ...] فًتِحَ البابُ فِي تَردَّدٍ، خَرَجَ مِنهُ طِفلٌ مُراهقٌ فِي مُنتصفِ العِقدِ الثَّاني مِنْ عُمرهِ أو أقلٍّ، رَحَّبَ بِي بِصوتٍ خَفيضٍ مُرتعِدٍ، وَكَمَا يَفعلُ أولادُنَا الكُرماءُ دَائِمَاً، قَالَ:-تَفضَّل اِدخلْ.شَكرتُهُ ثُمَّ سَألتهُ عَنِ الشَّيخِ المَشلولِ". (لُغةُ الأرضِ)، ص 139، 140) .

هكذا سارت الأمور في البحث، وبعد تسلُّمهم الأوراق من الطفل وقراءة ما دوَّنه الشيخ من توصيات لعائلته بخصوص جثة الشاب القتيل الذي هو الأمانة التي حملها نيابةً عن أهله، وما رافق تلك الأمانة من أحداث جِسامٍ ومفارقاتٍ وخوفٍ رهيب من طارقات الطبيعة وشرِّ رجال الإرهاب والجماعات الإرهابية المسلحة التي واجها الشيخ المشلول للحفاظ على الوديعة البشرية من العبث.

إنَّ قِيامة النسق الإنساني الظاهر تؤِكِّد ما قام به الرجل العجوز من إصرارٍ ثابتٍ عجيبٍ ووفاءٍ خالصٍ عجيب بالعهد لأُمِّ الشاب القتيل إلى آخر لحظةٍ من لحظات التصدِّي لتلك الجماعات المتشدِّدة. وهذا هو النسق الثقافي المعلن الصريح لفعل الخير، أمَّا النسق المُغيَّب المجهول من هذا الحدث، فهو عنصر الشرِّ الذي يستهدف حُرمة الإنسان في بلده ومدينته التي سقطت فيها حقوق البشر واُنتهكت مبادئُهُ وأخلاقه وقيمه دون رعايةٍ للدين والعرف والعادات والتقاليد. وهذا ما تشي به خاتمة القصة المؤثرة في فكِّ شفرة النسق الإنساني المضمر لسرديات واقعة قصة (قِيامةُ الجُثَّةِ) :

"نَزَلَ رَجُلانِ آخرانِ مِنَ السَّيَّارةِ الكَبيرةِ، حَمَلَا الجُثَّةَ بَعدَ أنْ فَكَّاَ عُقدَةَ الحَبلِ مِنَ الذِراعِ، وَضعَاهَا فِي جَوفِ السَيَّارةِ، فِي تِلكَ اللَّحظةِ رَاودنِي هَاجِسٌ مُرعبٌ بَأنَّهم سَوفَ يُصادرونَ الجُثَّةَ مِنِّي، وَأنَّ السَّيَّارةَ سَوفَ تَسرعُ بِهَا إِلى مِكانٍ مِجهولٍ، تِحِرِّكتِ السَّيَّارةُ مُسرعةُ، اِستدارتْ نِحوِ الجهِةَ المُعاكسةَ لِبَيتِي، أَخذُوا الجُثَّةَ مَعَهُم وغَابُوا فِي لُجةِ الظَّلامِ". (لُغةُ الأرضِ، ص 147) .

إنَّ أحداث القصَّة بدأً من مُفتتحها وانثيالات مُستعرضها الحدثي وحتَّى ونهايات خواتيمها توحي جميعها بأنك أمام تسريد أحداث رواية بكامل عناصرها الفنيَّة، وليس إزاء حكاية طويلة متعدِّدة الأفكار ومتجددة الرؤى وكثيرة الأنساق الإنسانية والاجتماعية والوطنية والنفسية لسيمائية الحدث.

9- (النَّافِـذةُ):

ومن أُسلوبية القص الحكائي الطويل الماتع بآفاق تسريداته الفنيَّة والجمالية المترابطة، نتحوَّل إلى نوافذ من القصِّ السردي القصير المكثَّف الذي تعلن عنه لافتة قصَّته العنوانية الموسومة بـ (النافذةُ)، المتوالية القصصية القصيرة المتكاملة التي احتوت في مضانها السردي على ست نوافذ قصصيةٍ قصيرةٍ في وحدة موضوعاتها وارتباطها الوثيق بعنوان المصفوفة السردية الأم (النافذةُ) .

وقد حرص الكاتب عبيد أن تكون هذه النوافذ القصيرة التقاطاتٍ فنيَّة وتسريدية مضيئة من واقع الحال اليومي الاجتماعي الأُسري المألوف وغير المألوف التي هي محطُّ اهتمام القارئ النابه. ومن بين نوافل الاختيار الحكائي أنْ نبتدئ بأول قصَّةٍ تحمل الرقم (1) من غير عنوان كونها جزئيةً ترقيميةً في المصفوفة المتوالية؛ لكونها جاءت مفتتحاً لمسرودات هذه القصة. والتي كتبها الكاتب أو القاص العليم علي عبيد بلغة ضمير الغائب أو الحاضر المتكلِّم الفاعل في خطابه مع الآخر.

وتدور أحداث هذه القصة الواقعية الحلمية عن حكاية رجلٍ مُقاتلٍ زوجُ امرأةٍ مثاليةٍ حالمة تحبُّ زوجها كثيراً، ويستعدُّ زوجها الذهاب إلى ساحات القتال؛ لكنَّ زوجته تحلم بأنه هذه المرَّة سوف لن يعود إليها سالماً كالمرَّات الأخرى السابقة، على الرغم من أنه يؤكِّد عودته الأبديَّة إليها، فتقول:

"أُكابِدُ نُفسِي كَي أبدُوَ مَرِحَةُ مُستقرةً، أَبتسمُ أمامَ عَينيهِ، لَكِنْ لِسَانِي يَتَحَجَّرُ مِنْ فَمِي وَتَخوننِي الكَلماتُ، فِي قَلبِي هَديرٌ مُوَّارٍ، يًمزِّقُ رُوحِي وَجَسدِي، حُلُمٌ خَبيثٌ يَدهمُنِي، لَا أَستطيعُ البَوحَ بِهِ، صَوتٌ وَصَداهُ سَيبقَى يَتردَّدُ فِي رَأسِي إلَى الأبدِ، يَقول ُالصَّوتُ: زَوجُكِ لَنْ يَعودَ هَذهِ المَرَّةِ!". ( لُغةُ الأرضِ، ص51) .

هكذا تبدو الأمور السرديَّة للحكاية وتتضح على ظواهرها النسقية الحاضرة، بأنَّ لامجال لعودة الزوج هذه المرة من جبهات القتال؛ وذلك بحسب ظنون الزوجة ورؤياها الحُلمية. ولكن هل تتحقَّق نبوءتها الحُلُميَّة أو شكَّها الظنِّي الاعتقادي حِيال زوجها. هذا النسق الخفي سنلمسه من خلال خاتمة القصَّة التي أراد لها الكاتب أن تكون خليطاً من الخيال اللَّذيذ والواقع اليومي الزوجي القريب:

"قَفَزتُ مِنْ نَومِي، زَوجِي يَغفُو إلَى جَانبِي بِوجهِهِ الوَديعِ، أنفاسُهُ كَمَا عَهدتُهَا تَنشرُ الأَمانَ فِي رُوحِي وَقَلبِي وَتَجعلَ البَيتَ جَنَّةً مِنْ أمانٍ وَسَلامٍ؛ لَكنَّنِي لَمْ أَستطعْ النَّومَ بَعدَ هَذَا الحَلِّ، فِي الصَباحي ِ تَفاجَأ بِاستيقاظِي وَاِحمرارِ عَينَيَّ، وَرَأى غَمامَةَ حُزنِى تَكسُو مَلامِحِي، لَمْ يَقُلْ شَيئَاً فِي البِدايةِ، لكنَّهُ حِينَ أكملَ اِرتداءَ مَلابسِ الرَّحيلِ، وَتَمنطَقَ بِالرصاصِ، هَمَسَ فِي أُذنيَّ :- سَأبقَى مَعكِ إلَى الأَبَدِ يَا...". (لُغة الأرضِ، ص52) .نهاية فراغية مفتوحة تحتمل أكثر من تحليل وتأويل.

إنَّ موحيات النصِّ الحُلُمية والواقعية على الأرض تؤكَّد بقاء الزوج المقاتل حَّياً مع زوجته الحبيبة؛ لكن هذا الإيحاء قد يحتمل أمراً آخر من خلال النهاية التي تركها لنا القاصُّ مفتوحةً النداء باسم الزوجة، قد يكون بقاءً معنوياً وليس مادياً يعيش بذكراه لزوجته إلى الأبد، لأنَّ الحبَّ الحقيقي لا يموت أصحابه المحبُّون والعاشقون، وهذا هو مكمن مضمرات الحدث القصصي الخفي البعيد.

ومثل ما بدأنا بتفكيك قصَّة الجزء الأول عن المرأة الزوجة الحالمة من قصة (النافذة) الأم المتوالية القصصية، نتحوَّل إلى آخر جزء منها هو السادس ومختتمها القصصي الذي يخبر أيضاً عن أحلامِ امرأةٍ عاشقةٍ تحبُّ زوجها الحاضر الغائب وتحلم به في النظر إلى ملابسه كرمزٍ صُوري من رموز حضوريته معه في بيتها الآمن، الذي هو مثابة هذا النسق الثقافي الحُلمي الظاهر الجَلي:

"فِي البَذلةِ البَيضَاءِ، اِمتلأتْ، فَاضتْ بِالجسدِ الأَليفِ، تَقدَّمتُ صَوبَهَا، إِنَّهَا لَمْ تَزلْ مُمتَلئَةً فَائضةً، تَقَرَّبَتُ مِنَها كَثيرَاً، اِحتويتُهَا بِذراعِي وَألقيتُ بِرأسِي فِي دِفْءِ الصَدر ِالوَاسعِ،غِبتُ عَنْ كُلِّ شَيءٍ، وَأنَا أَستمعُ لِطرقةٍ مُمَيَّزةٍ .. طَرقةٍ.. طَرقةٍ وَبعَدَ بُرهةٍ... طَرقةٍ ثَالثةٍ". (لغة الأرض، ص 58) .

هذا التوكيد اللَّفظي لوقع صوت الطرقات الثلاث المميَّزة يقترن أو يشي بنسق حضورية الزوج المؤكَّدة للبيت وإن كنات الحضوريةُ حُلُميةً. وأنَّ هذه الأنسنة الحضورية للبذلة التي نفخت فيها الزوجة روح زوجها، أو استحضرته مخيلتها في نسغ عالٍ من الحبِّ الروحي يمنح القصَّة بُعداً سرديَّاً وفنيَّاً وجمالياً في أُسلوبية القاصِّ الذي أعطى المرأة في أكثر من نصٍّ قصصي، وفي هذا النسق الثقافي المضمر حضوراً فاعلاً ومميَّزاً سواء أكان بقصة (النافذة)،أو في غيرها من القصص الأخرى التي تؤكِّد بدقةٍ مهارة الكاتب وقدرته في تجسيد وقائع الحدث السرديَّة تجسيداً فنيَّاً مُدهشاً.

10- (أَنينٌ مُتوارَثٌ):

 (أنينٌ مُتوارثٌ)، هي القصَّةُُ الأولى من قصص مدوَّنةِ (لُغةُ الأرضِ)، والدالة على معانيها الموضوعية في أنَّ هذا الأنين المتوارث، هو أنينٌ أو بكاءٌ إنسانيٌّ في أدبيات وأعراف المجتمع العراقي الراسخ تأصيلاً. هو بالحقيقة في هذه القصة الأنين البكائي والحزن السومري المتوارث أُسرياً؛ نتيجة نوبات الطَلَقِ الولادي للمَرأة عند حدوث المخاض المفاجئ أو غير المفاجئ الطبيعي.

وهو النسق الثقافي الإنساني الأول المُعلن للقارئ ظاهرياً في طيَّات هذه القصة الحافلة بالحكايات الفكريَّة التي تفرضها سيميائية الفضاء القصصي وأجواؤه الحدثية. بقي أنْ نخوض التأمُل في قراءة هذه القصة (الإنسانية) المتفرِّدة في خصوصية موضوعها الساخن الطارئ؛ لنتعرَّفَ على النسق المضمر الذي يتخفَّى بترقبٍ وراءه الكاتب في تلافيف تسريداته الففجائية الصادمة الحدث.

وتتلخص مجريات الحدث القصصي وصراع حبكته الدرامية عن قصة امرأة أرملة مع شقيقها يحدث لها مخاضٌ أو طلقٌ ولادي في ظروف حربٍ غير اعتيادية من ظروف طوارئ البلد الذي تتعَّرض فيه بنيته التحتية ومراكزه الصحيَّة إلى الدمار والخراب نتيجة وضع فُرِضَ عليه. هذه المرأة يفاجئها مخاض الولادة العسير في بيئة صحراوية خالية من المستشفيات ومن دُور الولادة، وحتَّى من النساء القابلات من ذوي الخبرة والاختصاص، فكان المخاض عسيراً زمكانياً عليهم:

"خَطونَا مَعَاً فِي أَعمَاقِ الصَّحراءِ المُحاصرَةِ بِالبردِ، لَمْ تَقُلْ صَاحِبَةُ المَزرعة ِإِلَى أيَن تَسيرُ بِنَا، كَانَ صَوتُ الأنينِ يَطرِقُ سَمعِي بِشِدَّةٍ، خِفتُ عَلَى شَقيقتِي مِنَ المَوتِ الَّذِي تَتَمنَّاهُ هِيَ وَأخشاهُ أَنَا، لَا شَكَّ أنَّ الكَلامَ المُجَرَّدَ يَختلفُ عَنْ مُواجهةِ الحَقيقةِ، فَالإنسانُ يُعلِنُ مَواقفَ كَثيرةً بِلسانهِ؛ وَلكنَّهَا عِندَمَا تُصبِحُ حَقيقةً سَوفَ يَتراجَعُ عَمَّا لَفَظهُ لِسانُهُ، شَقيقتِي تَمَنَّتِ المُوتَ فِي النّهَارِ الفَائِتِ، وَهَا هُوَ يُفاجِئُهَا فِي اللَّيلِ وَيُصبِحُ حَقيقةً لَا مَفَرَّ مِنْهَا، قُلتُ لِلمرأةِ الَّتي رَافقتنَا: أَخشَى عَلَى شَقيقتِي مِنَ الخَطَرِ الَّذِي يُحِيقُ بِهَا، مَاذَا سَتفعلينَ؟ -هَدِّئْ مِنْ رَوعِكَ سَوفَ نَجِدُ حَلَّاً". (لُغةُ الأرضِ، ص 9) .

تمثِّلُ هذه الدفقة السردية الإنسانية الطويلة والمتواثبة الخطى بؤرة الحدث القصصي الدرامي الساخن، وهي في الوقت ذاته موجز بيانه النسقي الثقافي البائن للمتلقِّي والقارئ الناقد المعرفي. والمُساءَلةُ التي تُلقي بنفسها الاستفهامي، هل من الممكن أنْ نجد حَلَّاً ناجعاً لهذا المأزق الإنساني الصعب في مثل تلك الظروف المأساوية الحالكة التي فرضت نفسها لحلِّ هذا المشكل الإنساني الكبير وكيف يكون نوع هذا الحلِّ؟ لنعرف المُغيث له من النسق الخفي الآخر لهذه الواقعة الحدثية.

"رُبَّمَا تَحدُثُ هَذهِ المُعجزةُ، فَتُغيِّرُ كُلَّ شَيءٍ رَأسَاً عَلَى عَقِبِ لِدرجةٍ أَنَّ المَوتَ قَدْ يَتحوَّلُ إِلَى حَياةٍ، وَالظلامَ إلَى ضَوءٍ، وَاليَأسَ إلَى أَملٍ، والخَوفَ إلَى قُوَّةٍ، وَهَا هِيَ تَحدُثُ بِالفعلِ، فِي لَحظةٍ فَقدنَا فِيهَا الأملَ بِكُلِّ شِيءٍ، إِلَّا مِنْ ذِلكَ التَشبثِ المُستميتِ بِنَبَضِ الحَياةِ حَتَّى آخرَ الأنفاسِ، فَفِي غَمرةِ حَالةِ التَّرقُّبِ وَالقَلقِ والخَرابِ وَضَياعِ الرَّجاءِ، يَنبثقُ ضَوءٌ ضَئيلٌ لِلأمَل، مَا يَلبثُ أنْ يَشِعَّ... يَنمُو.. يَكبرُ..يَتصاعدُ لِتنَطلقَ صَرخةُ وَليدٍ جَديدٍ،كَانتْ صَرخةَ جَنينٍ أزليٍّ تَراكمتْ مُنذَ بِدءِ الخَليقةِ وَانطلقَتْ اللَّحظةَ، كَي تَتَحدَّى الحَربَ وَكُلَّ أَشكالِ المَوتِ الأُخرَى...". (لُغةُ الأرض، ص 12) .

في لُجةِ هذا المخاض العسير تنكشف تلك الصرخة الأنينيَّة المُتعثِّرة، وبكلِّ تأكيدٍ أنَّها صرخة الأمل والنسق الخفي المفقود، والتي كنات مُغيَّبةً عن الأنظار في وقوعها الحَلِّي المفاجئ التي رسمها القاصُّ عَلي حسين عُبيد بعينه السرديَّة الباصرة وبرؤياه الحُلميَّة المِخياليَّة الماتعة في لوحةٍ هذه القصة الاستثنائية الدرامية المتحركة التي يمكن أن تحصل في ظروف طوارئ غيرِ عاديَّةٍ.

وعلى وفق هذه المتوالية الحركية الواثبة الخطى تبدأ حركة الصراع الدرامي للحكاية القصصية، وتتفاعل دينامياً لتصلَ إلى قمَّةِ الصراع وهرمه العالي، ثُمَّ تنفرج حبكة عقدته الحَلِّيَّة ويتمخَّض عنها تحوِّلاٍت إنسانية وفعليَّةٍ غيرِ مُتوقعةِ الحدوث. ولكن هذا كلُّه في صوبٍ والخاتمة التّخَلُّصِيَّة للقصة في صوب موضوعي جميل آخر. فلنقرأ ما كتبه القاصُّ لها من تخريجٍ فنِّيٍ مؤنسنٍ رائعٍ:

: لَمْ تَجِبْ بِشَيءٍ، تَقَاطرتِ الدُّموعُ مِنْ عَينيهَا، تَنَبَّهتُ إِلَى خَطيئتِي، لَيسَ صَحِيحَاً أَنْ أُذَكِّرَهَا الآنَ بِزوجِهَا الَّذِي خَطفتهُ الحَربُ، حَاولتُ مُعالجةَ الأَمرِ المَوقفِ، لَكنَّنِي فَشلتُ، فَقَدْ كَانَ قَلبُها يَبكِي بِصوتٍ مَسمُوعٍ". (لغة الأرض، ص 14) .

لقد أراد الكاتب أنْ يبعث برسالة يخبر فيها قارئهُ بهذه الخاتمة التراجيدية الحزينة الشفيفة المؤسفة لما آلت إليه صِعابُ الأمورِ، وأراد أنْ يقول أنَّ النسق الظاهر بدأت قيمته الإنسانية العُليا بأنينٍ بكائي قديم مُتوارث مَسموعٍ، وخُتِمَتْ بأنينٍ قلبي مُؤنسنٍ مَسموعٍ يُقطِّعُ نِياطَ القَلبِ، ويؤلِّبُ شغاف القلب وعلائقه بالحزن السومريّ المُتوارث المُستديم الذي لا يمكن انتزاعه أبداً من النفس العراقيَّة.

11- (أَزيزُ الذُّبَابِ):

من بين نصوص هذه المجموعة القصصية قصَّة (أَزيزُ الذُّبابِ) التوثيقية التي يلتقط الكاتب في نسقها الثقافي الظاهر مشاهد الفوضى والألم التي مرَّ بها الشعب العراقي في تاريخه المعاصر والحديث خلال واقعة الاِنتفاضته الشعبانية ضد نظام الحكم البائد في آذار/مارس من عام 1991، والتي لم يكتب لها النجاح لأسبابٍ كثيرةٍ خارجة ٍعن إرادته واستقلالة. والَّتي لم يُصرِّح الكاتب بذكرها في بياناته السردية،وأنَّ موحياتهاالحكائية تفضح المسكوت عنه وتكشف عن أنساقها الخفيَّة.

وها هو القاصُّ علي عُبيد يُتَرجِمُ لهَّذه الانتفاضة الشعبية نسقياً بلغة (أزيزِ الذُبابِ) العشوائية ويصف لما حدث لإنسانية المجتمع من ترهيبٍ وقمعٍ وقتلٍ بطريقةٍ وحشيةٍ، تكشف عن جوعٍ وقهرٍ وإذلال:

"تَقدَّمَ الرَّجلُ بِعصبيةٍ، وَسَحَبَ الغِطاءَ بِقُوَّةٍ عَنْ الجُثَّةِ، فَانكشفَ الوَجهُ مُجدَّدَاً، فِيمَا عَادتْ مَجاميعُ الذُّبابِ تُهاجِمَ الوَجهَ بَأزيزٍ يَقترِبُ مِمَا يَحدثُهُ الرَّصاصُ، رَأيتُ مَجموعةَ رِجالِ تَخطَّو الجُثَّةَ، فِي عُيونِهم تَشتَعِلُ نَارُ الغَضبِ، دَنَا مِنِّي أخِي وَقَالَ: لِنبتعدَ مِنْ هُنَا". (لُغةُ الأرضِ، ص 28) .

مِمَا يُلاحظ أنَّ القاص قد قرنَ في التشابه ما بين أزير مجاميع الذباب وأصوات لعلعة رصاص مجاميع الرجال الآخرين في انتهاك حرمة الإنسان التي كرمها الله في هذ النسق الخفي من فوضى القتل. فهذا القتل المجاني الرخيص لهوية الإنسان يتبعه في النسق المُضمرِ دَمار وتخريب للمباني الحكومية الأمنية وضياع وتحطيم للبنية التحيَّة اللُّوجستيَّة للشعب ونهب مخزونه. وقد أرخن الكاتب لهذا التهافت غير المسبوق لِلاستيلاء على غذاء الشعب من مخازنه الرئيسة بحجَّة أنه مال للشعب المتعطش من حقِّه الحصول عليه إثر معاناة الحصار الاقتصادي وحرمان الشعب من مُتعِ خيراته:

"وَاصلنَا السَّيرَ نَحوَ مَخازنِ الغِذَاءِ، كَانتَ تَمُرُّ مِنْ جَانبِنَا سَيَّاراتُ حِمْلٍ صَغيرةٍ مُعبَّأةٍ بِأنواعِ الأغذية خفي ِ، وَثَمَّةَ عَرباتُ دَفعٍ يَدويَّةٍ مُحمَّلةٍ بَأكياسٍ مِنَ الطَّحينِ والرُّزِ يَدفعُها شَبابٌ نَحوَ الأحياءِ السَّكنيَّة ِالبَعيدةِ، الشَّارعُ فِي حَالةِ هَرجٍ وَمَرَجٍ، لَا شَيءَ يَخضعُ لَلانضبَاطِ القَانونيِّ أو العُرفيِّ أو حَتَّى الذَاتيِّ، لَمْ أرَ مِثلَ هَذَا المَشهدِ مِنْ قَبلُ، أَشخاصٌ يِحملونَ أكياسَاً عَلَى ظُهورِهم وَيغذُّون السيرَ فُرادَى إلَى بُيوتِهم وَجماعاتٌ تَفعلُ الشَّيءَ نَفسَهُ، وَصلنَا بَاحةً وَاسعةً تَتقدَّمُ المَخازنَ، كَانتْ جَمهرةُ النَّاسِ فِيها هَائلةُ[...] رِحتُ أَتأمَّلُ هَذَا المَشهدَ الغَريبَ، قُلتُ لِأخِي: هَلْ كُنتَ تَتَوقَّعُ حُدوثَ شَيءٍ مِنْ هَذَا الَّذِي تَراهُ؟ - نَعمْ هَذَا لَيسَ بِالأمرِ الغَريبِ، بَلْ هُوَ السُّلوكُ المُتوقَّعُ مِنْ أُناسٍ يُحاصرُهم الجُوعُ. -هَلِ الجُوعُ يُبرِّرُ هَذهِ التَجاوزاتِ؟". (لُغةُ الأرضِ، ص 30، 31) .

هكذا يُفصحُ نسق (الفرهود) الخفي عن نفسه الجائعة باعتباره بعضاً من حقوقهم المدنية المسلوبة. وعلى الرغم من ذلك الألم الحسير الذي وظَّفته عدسة الرائي القاصِّ، فإنَّه لا يصح إلَّا الصحيح في كل هذا الخراب الحادث للحياة،كانت الخاتمة مُعِّبرةًعن أمل الكاتب وحبِّه لله (الرَّزاقُ الحَيُّ)،ص37.

12- (بَساتِينٌ مُلَغَّمَةٌ):

ومن النصوص ذات الطابع الإنساني التي تتحدَّث في نسقها الظاهري المعلن عن ويلات الحروب ونتائجها الوخيمة على الإنسان قصَّة (بَساتينٌ ملغَّمةٌ) التي حفلت بها مجموعة (لُغةُ الأرضِ) . حيث تصف حكاية هذا النصِّ السردي قصَّة مجموعة من الرجال والنساء ساقتهم أقدار الحرب السير في بساتين ملغومة بالمخاطر والمهالك من أجل استعادة جثة شابٍ مغدورٍ، لكنَّ الأمورَ تَسيرُ بالمقلوب:

"تَبقَى للأَماكنِ والبُيوتِ نَكهتُهَا الخَاصَّةُ فِي الذَّاكرةِ، نَألفهَا وَتألفَنَا كَمَا يَقولُ غَاستونُ باشلارُ، كَأنَّها كَائناتٌ لَا تَنسَى، مَضتْ سَاعاتٌ عَلَى تَركِنَا الصَّحراءَ، تَوغَّلنَا فِي بَساتينِ النِّخيلِ، أقنعنَا الأبَّ الذي فَقَدَ ابنَهُ بِالمجيءِ مَعَنَا، عَلَى أنْ نَعودَ لِابنهِ المَدفونِ هُنَا بَعدَ الحُصولِ عَلَى وَاسطةِ نَقلٍ نَحملُ رُفاتَهُ مِنَ القَبرِ المُؤقتِ إِلَى المَدينةِ[...] مَعَ الغُروبِ يَجبُ أَنْ نَصِلَ إِلَى البَيتِ البَديلِ لَمْ تَكنْ العَرافةُ مُخطئَةً عِندَمَا حَذرتنِي مِنْ صُعوبةِ وأخطارِ الطَّريقِ المُؤدِّي إِلَى الرِّيفِ". (لُغةُ الأرضِ،ص128) .

هذا هو النسق الثقافي المتجلِّي الَّذي من أجله بدأت رحلة الأشخاص في نفق متاهة عذاب مظلم للوصول إلى الغاية المنشودة لتحقيق المَرام المقصود؛ ولكن بعد مصاعبٍ جمَّة واجهتم وخسارات:

"اِبتعدنَا عَنْ مَكانِ الاِنفجارِ، صِرنَا نَخوضُ فِي حُقولٍ جَديدةٍ، المَطرُ يَتزايدُ، الظَّلامُ يَتكاثَفُ، سَمعنَا جَلبةً ولَغطَاً خَلفَنَا لَا نَعرِفُ لِمَنْ، تَعالتِ الأصواتُ عِندَ مَكانِ الاِنفجارِ، حَثثنَا الخَطوَ عَلَى وَقعِ أَنينِ مَكتومٍ أَخذَ يَخفُّ بِالتدريجِ، لَمْ يَعُدْ هُناكَ أَنينٌ أوْ حَركةٌ فِي الجَسدِ مَبتَورِ السَاق، لَاحَتْ بُيوتُ القَريةِ وَمِنْ بِينهَا البَيتُ المُرامُ، فِيمَا أخذتِ السَّمَاءُ تَمطرُ فُوقَ أَجسادِنَا بِغزارةٍ وَكَرمٍ غَيرِ مَسبُوقِ". (لُغةُ الأرضِ، ص 136) .

من تجليات هذه الخاتمة نفهم ثقافة المضمر النسقي المستور الذي أوصلهم إلى هذه النتيجة التي على إثر بدايتها السببية ومستعرضاتها الفعلية ونهايتها الحقيقية المؤسفة توفي والد الشاب المغدور المُودَعِ قبرُهُ في مكانٍ مَا، والذي كان يأمل أنْ يعود بجثة ابنه إلى الديار سالماً؛ لكنَّ الأقدار التي فرضتها لعبة الحروب على الشعوب المغدورة قسراً كانت سبباً رئيساً خفيَّاً في كل هذه الخسارات الروحية والنفسية والوطنية التي دمرت البلد وأحالته من سلام إلى حربٍ مدمرةٍ لاتُقيمُ للإنسان عِزَّاً ولا كرامةً، والخاسر الأوحد فيها هم الكادحون من المهمشين والمُضحِّينَ الشرفاء من أبنائه الأُباة.

والقاصُّ في موضع تلك الخاتمة الموضوعية يبعث برسالة إيحائية سلبية مفادها أنهم وصلوا لهدفهم (البيتُ المُرامُ) ؛ ولكنْ دون جدوى، فالفشل كان حليفهم؛ لأنَّ فقدوا الأبَّ ولي الأمر. ولم يفلحوا إلَّا بِالمطرِ الغزير الذي غسل أدرانهم المتعفنة من جرِّاء رحلة ويلات الحرب لا السلام.

13- (خَطايَا الآباءِ):

من يتتبع بتأملٍ وتدبُّرٍ فكريٍّ نصَّ (خَطايا الآباءِ)، سيقرأ أنَّها من شاكلة القصص السيمائية ذات الإيحاءات الرمزية الكبيرة في مضان أنساقها الثقافية،والتي تتحدَّث بكل جرأةٍ وانصافٍ عن خطايا الآباء الراحلين الكثيرة التي ورثها عنهم الأبناء الخَلفِ، ولم يتخلَّصوا من فكِّ الاشتباك عنها، كونها تمثِّل تِركةً ثقيلةً استغلها تُجَّار الحروب من أعداء الحرية والسلام، لتبقى أرضاً خِصبَةً لديمومة الخراب واليَباب. والأنكى أن الآباء قد سمحوا لأنساق الفساد أن تصيب أرضهم بشتىَّ الأمراض:

"غَمَامةُ حُزنٍ دَهمَتْ الأَمًّ هَبِطَ الاِبنُ بِرأسِهِ عَلَى يَدِهَا، قَبَّلَ ظَاهرَ كَفِّهَا، لَاحظَ الصَمتَ والسُّكونَ الَّذِي يُخيِّمُ عَلَى الحَديقةِ، تَراءتْ لَهُ الصُورُ الثّلاثُ فِي غُرفةِ الجِلوسِ، جَميعُهم قَتلتهُمُ الحُروبُ الثَلاثُ بِطريقةٍ مُباشرةٍ أوْ غَيرِ مُباشرةٍ، قَالَ: أُمِّي ثَلاثُ حُروبٍ مُدَمِّرةٍ تَكرَّرتْ فَوقَ أرضِنَا فِي زَمنٍ وَجيزٍ، بَينَمَا هُناكَ أراضٍ لَمْ تِمسْهِا الحُروبُ عَشراتُ أوْ مِئاتُ السِّنينِ، مَاذَا نُسمِّي ذَلكَ؟ هَلْ هِيَ لَعنةٌ تَستهدفَنَا أَمْ مَاذَا؟ - بَلْ هِيَ مِنْ أخطاءِ الرَّاحلينَ". (لغة الأرض، ص 79) .

واللَّافت للنظر في موحيات هذه الحكاية الإخبارية أن القاصَّ لم يُسمٍّ تلك الحروب الثلاث المدمِّرة باسمها الصريح بل ترك ذلك لوعي القاري النابه الإيحائي. وواضح أنها الحروب التي مرَّ بها العراق مع جيرانه الإقليميين (حرب إيران)، وأعدائه الخارجيين (حرب الخليج الأولى والثانية) . التي مازالت آثارها البعيد تنكأ فتق الجروح والآلام على وقع قلوب أجيال من العراقيين الشباب.

أما تساؤله المثير هناك أراضٍ لم تمسحها الحروب منذ عقود من الزمن إلا أرضنا! وألقى باللُّوم على الراحلين من الآباء. فهذا يعني أن هناك أنساقاً خفيَّةً من بعض السلف السابقين لا تتمنَّى - في ولائها للأجنبي-الخير والاستقرار للعراق بسبب تبعيتها له وخضوعها وخنوعها لإرادته الدولية، لا بسبب جهلها وغَيِّها في صيانة أرضها وَعِرضِهَا لأنَّهم لم يركنواإلى العلاج الناجع الصحيح للخطأ.

أما الأرض الأخرى التي لم تصِبها الأمراض والأورام الخبيثة؛ في محميَّة من جهات دولية نافذة.

ويمضي القاص بخطى وئيدة في استعراض ويلات الحروب الثلاث القاسية الأليمة التي شُنَّت على العراق وعلى شعبه الصابر المحتسب؛ بسبب أخطاء القائمين على حُكمه وإدارته العابثة. ونكتفي في هذا المضمار السردي لنسق الحرب والخراب بالخاتمة النهائية التي تكشف عن النسق الخفي لهذه الحروب التي خلَّفت الحصار والموت والدمار والعاهات والمآسي التي مازالت شاهداً على العصر، وقد قرن القاص في الجانب الإنساني بين الضحية العسكري وصنوه المدني المسالم:

"هَدَءَ القَصفُ، تَذكَّرنَا المُقدَّمَ (جَميل)، خَرجنَا مِن المَقّرِّ بَاحثينَ عَنهُ، شَاهدنَاهُ عَلَى مَبعدةٍ مِنَّا، جَسدينِ مُتشابكينِ مَعَاً، وَهَرعنَا إليهمَا، رَأينَا الأبَّ مَبتورَ السَّاقينِ، بَدَا كَأنَّهُ يَضمُّ اِبنتَهُ بِقوِّةٍ إِلَى صَدرهِ فِي لَوحةٍ لَنْ نَنسَى مَأساتَهَا مَا حَيِينَا". (لغة الأرض، ص 88) .

و الذي نستوحيه من أنساق هذه الخاتمة المأساوية الظاهرة والخفيَّة إلى أخطاء الآباء التي تمثَّلت بشخصية الضحية الأولى الضابط الطيَّار جميل الذي لم يحسب حساباً لمثل هكذا أخطاءٍ مُروَّعةٍ تقع، والضحيَّة الأخرى هي الشخيصة الثانية ابنته الطالبة الجامعية التي راحت ضحية هذا الخطأ.

14- (أَورامٌ لَيست حَميدَةً):

هي نصُّ من القصص التي توسَّطت بموضعها الحدثي المثير نصوص مصفوفة (لُغةُ الأرضِ) بالحديث عن أوهام الناس وهذياناتهم الكثيرة عن الآخر، حتَّى صارت هذه الأوهام والخرافات الملطَّخة بالخطأ كأنها أورام مريض يهلوس بالإعياء والداء؛ ولكَّنها أوراماً ليست حميدةً، بل هي خبيثة تنوء عن فهم خاطئ للحياة والإنسان. والقصة تسرد حكاية شاب يُدعى حَمودي طالته أوهام الآخرين وتخرُّصاتهم عليه بالتهويم والأخطاء والاتِّهامات غير الصحية التي لا تستند لرأي راجح:

"خَرجَتْ بَدريةُ تَضوعُ مِنهَا رَائحةُ الصِّدقِ وَالورعِ، وَقَفَتْ عَلَى عَتبةِ البَابِ وَقَالتْ لَهُم: مَنْ مِنكُم رَأَى (حَمودِي) يَضربُ الطِفلَ؛ بَلْ هُوَ الَّذي نَزلَ إليهِ وَأخرجَهُ مِنْ فُوِهَةِ المَجاري المَفتوحَةِ وَسَطَ الزُّقاقِ وَأنقذهُ مِنَ المَوتِ؟ وَلولَاهً لِظلَّ الطِّفلُ مَطموراً إلَى الأبدِ فِي مِياهٍ ثَقيلةٍ آسنةٍ؛ لَكنَّهُم لَمْ يُصدِّقُوا وَأهمَلُوا أقوالهَا وَطالبوا بِحَجرِ حِمودي، أو إبعادِهِ عَنِ الحَيِّ ؛ لأنَّهُ بَاتَ يُشكِّلُ خَطرَاً عَلَى أرواحِ أطفالِهُم كَمَا قَالُوا[...] وإنْ لِمحوهٌ مَرَّةً أُخرَى فِي أَزقةِ الحّيِّ فَلهُم أنْ يُسَلِّمُوهُ لِأقربِ مُستشفَى لِلمجانينِ،وَمُنذُ ذَلكَ العَهدِ بَدأتْ حَيَاةٌ جَديدةٌ لِحمودِي يَعيشُها فِي حِجرَةٍ ضَيقةٍ تَنفتحُ فِي جِدارِهاكُوَّةٌ تُساوِي مِساحةَ الوَجهِ،وَأجملُ مَا فِيهَا إطلالتُهاعَلَى الزُّقاقِ مُباشرةً" (لغة الأرض، ص91) .

بهذه الكيفية السردية المُتراتبة كانت اتِّهامات الآخرين تطول شخصية حمودي النسق الثقافي الظاهر لهذه القصة الإنسانية المُمتلئة بأمراض المجتمع وأوهامهم التَّخيُّلية التي تصيب العقلاء.وفي النهاية يجد الكاتب مَخرجاً فنيَّاً مُناسباً لهذا النفق الضيق الذي نال الشخصية من خلال علاقة حمودي ببدرية. ولعلَّ هذا التخريجَ،هو النسق الخفي المضمر لتحقيق الآمال والانتصار للشخصية:

"ثَمَّةَ بَوحٌ بِأصواتٍ شَجيَّةٍ مَشوبةٍ بِحُزنٍ رَقيقٍ .. عَتَبٌ وَلَوعَةٌ وَبَقايَا عِشقٍ كَبيٍر.. يَلتصقُ الجَسدانِ كُتلَةً مِنْ نُورٍ، لِتبدأَ طُقوسُ التَّسامِي.. حُزمةُ ضَوءٍ تَرصدُهَا العُيونُ، تَخرجُ مِنْ كُوةٍ صَغيرةٍ وَتَمضِي بِاتجاهِ السَّماءِ شِهابَاً سَاطعاً يَدورُ فَي الفَضاءِ، ثُمَّ يَعلُو وَيَعلُو صَوبَ النِّهاياتَ الَبعيدةِ وَيَنفُذ إلَى مَا وَراءِ النُّجومٍ". (لُغةُ الأرضِ، ص 100) .

هكذا نطقت خواتيم القصَة بنسق الحقِّ الخفي الذي حلقَّ فيه القاص علي حسين عُبيد بأعالي مخايل فضاءات السرد ليمنح الشخصية الفواعلية الارتكاسيَّة الحزينة المضطهدة حقَّ وفائها الإنساني النبيل الذي لا غضاضة فيه أبداً؛ لتنعم بالأمل الجميل بعد الألم الخليل الذي رافقها وهماً.

ولا بدَّ من التنبيه للقارئ المعرفي النبيه من خلال انتهاء هذا المقام الدراسي النقدي لقصص المدوِّنة السردية الأربعَ عشرة (لُغةُ الأرضِ)، أنِّ هناك أنساقاً ثقافيةً خفيَّةً أخرى كثيره لم يصرح بها الكاتب القاص علي عبيد ولم يسمها باسمها؛ وقد تركها لوعي المتلقي أو إلى القارئ النوعي النموذجي أو (الناقد الفذ الألمعي) ؛ لأسباب كثيرة أراها جديرةً حسب ظنِّي واعتقادي لقراءتي وتحليلي لخطاب المدونة السردية والوقوف على جوانبها الإنسانية وموضوعاتها الفنيَّة العديدة.

إنِّ امتناع الكاتب عن التصريح المباشر كان له ما يُبرره من مسوغات شروط المسابقة الدولية التي فازت بها هذه المجموعة،والتي تنبذ الحديث عن أثر الأنساق الحسَّاسة التي تتعلَّق بالطائفية والحزبية وتابو الدين والقضايا الدَّوْلِية الأخرى التي تقف حائلاً دون الاشتراك بالمسابقة العالميَّة.

ويبدو لي أنها فرصة إلماعية مُهمَّة من الكاتب المبدع علي حسين أنْ يستخدم فيها لُغة التلميح والإضمار والإشارات السيمائية التي تُعَبِّرعن صدق علاماتها الأيقونية الخبيئة خلف السواتر والحُجبُ البعيدة. بقي أن تعرف هكذا تكلَّمت مُدوَّنة الكاتب بلغة الأرض البيانية ونطقت بترجمانها اللُّغوي الناصع. و"رُبَّ لِحظٍ أَبلغُ مِنْ لفظٍ" كما ورد في أمثال تراث الأثر العربي البياني القويم. ورحم الله عمرو بن بحر الجاحظ حينما قال مُبيِّناً أثر الكلام البليغ: " رُبَّ إشارةٍ أبلغُ مِنْ عِبَارِةٍ".

أَنساقُ الفِضاءِ المَكاني السَّرديَّةُ

يعدُّ المكان هو الفضاء النصِّي الذي ينبثق منه فعل الحدث السَّردي وتتفجَّرُ منه فاعلية حكاياته الفكرية المتساوقة بحركة شخوصه الفواعلية الُمنتظمة. والذي يسهم إسهاماً كبيراً في إنتاج وتخليق لُغة الكاتب وتشكيل إيقاعه السردي التعبيري عندما يرتبط أثره ارتباطاً وثيقاً بحدثٍ زماني محدِّدٍ.

وعلى وفق ذلك التوصيف الزمكاني فإنَّ كلَّ الفضاءات المكانية المتعدِّدة تؤدِّي دوراً زمانياً مهمَّاً وفاعلاً في تشكيل ثقافة القاصِّ الكاتب المعرفيَّة، وتؤكِّد تعميق هاجس هُوية ارتباطه الأرضي به وانتمائه الثابت والمتحرِّك له. لذلك فإنَّ المكان يُشكِّل مَصدراً ثرَّاً من مصادر أنساقه ومرجعياته الثقافية المتنوِّعة. فإذا كان المكان يُمثلُ صوت الشاعر الثائر المُدَوِّي، فإنّه يشكِّل نقطة انطلاق السارد التتابعية التي ينتقل من خلالها إلى فضاءات عوالمه النصيَّة الفسيحة عبر تحوِّلات تقنيات الاستباق والتأخير السرديَّة لواقعة الحدث الموضوعيَّة. وقد يكون هذا المكان ماديَّاً حسيَّاً أو معنوياً.

لقد حرص القاصُّ علي عُبيد في مشغله القصصي الوارف على توظيف واستدعاء كلِّ الأمكنة والمثابات السرديَّة المُتاحة التي تناسب أنساق ثقافة الوحدة الموضوعية لواقعة الحدث السرديَّة. فاستحضرَ أشكال المدينة وتمظهراتها الحضرية،وتناول معالم َالريفِ وأجواءه السِّحريَّة، وكتب عن تجلِّيات الصحراء القاحلة وتضاريسها المُناخية المقفرة. وتفاعل مع عناصر الطبيعة الكونية الثابتة والمتحركة بكل تفاصيلها واستنطقها صوتياً وأنسنها حركيَّاً، حتَّى وصفها جماليَّاً بـ (لُغةِ الأرضِ) .

ومثلما أنَّ المكان وطن الشاعر الساكن في قلبه النابض، فإن المكان هو مثابة القاصِّ والرائي السارد الحاضر فكراً ووجوداً. وقد يخلق السارد الحاذق عبر مخياله التصوُّري من المكان الحسِّي الواقعي لا مكاناً افتراضياً بديلاً عن أصالة المكان الحقيقي الأول. وتلك هي مَقدرة فاعلية الإبداع القصصي عند الكاتب عندما يوظف في مسروداته الحكاية على أنَّها فكرة قائمة بذاتها، والفكرة قد تُودِي عبر أحداثها الزمكانية المتوالية إلى مجموعةٍ مُدهشةًمُتناسلة من الأفكار الموضوعية الهادفة.

فأمكنة مثابية مثل، فضاءات الأحياء والبيوت والشوارع والأزقة والحدائق العامَّة والبساتين والمزارع والغابات ومظاهر الطبيعة الكونيّة الساكنة والمتحركة التي وظَّفها القاصُّ في مدوَّنته السردية (لُغةُ الأرضِ) التي تمَّ التعرض إليها وتحليلها وتأويلها نسقياً، تُمثِّل جلِّياً في أنساقها الثقافية الخارجية المكشوفة مظاهرَ حسيَّةَ لمواطن الجمال والإبداع.

ويُقابها في الوقت ذاته في تضادات أنساقها المضمرة البعيدة النظر أنَّها تُمثِّل مِرجعياتٍ رمزيةً لمخابئ القُبح وكامنه؛ كون أنَّ الأنساق الخفيَّة العميقة التي تُحركها هي أنساق رموز دَولة الخَراب والفسادِ والدَّمارِ واليأسِ والاقصاء والتهميشِ القصدي العميق الذي هدفه رفعة الإنسان واستقرار رفاهية المكان في كل زمانٍ ومكانٍ. ولابدَّ من خلال هذا الإلمامة الإشارة إلى تمظهرات التمثُّلات المكانيَّة المهمَّة التي تضمنتها النصوص القصصية الأربعة عشر وحفلت بها هذه المدونة النسقية.

تَمَثُّلاتُ الفِضاءِ المَكاني النَّسقيَّةُ

1- نَسقُ المَدينةِ (المَدِينِي):

من التَّمَثُّلات المكانية الرئيسة والمهمُّة نسق (المَدينة) أو الحاضرة التي وظفَّها القاصُّ كثيراً في مدونته. كون المدينة شغلت حيزاً كبيراً من قبل شخصياته الأساسية والثانوية التي قامت بالحدث. فكانت المدينة إحدى مرجعيات الكتاب الثقافية وموئِل أفكاره ونقطة انطلاق حركة الصراع الدائر.

"الاِرتبَاكُ وَالقلقُ يَعبثُ بِنَا، السَّيَّارة تَنطلق ُبِنَا نَحوَ المَدينةِ، وَثمَّةَ سَيَّاراتٌ قَادمةٌ مِنْ المَدينةِ مُصابةٌ بِالذُّعرِ، أَكفُّ النَّاسِ تُطالبُنَا بِالعودةِ وَعَدمِ مُواصلةِ الطَّريقِ، تَكرَّر هَذَا التَّحذيرُ مِرارَاً، لَكِنْ السَّائقَ أصرَّ عَلَى مُواصلةِ السَّيرِ لِأمرٍ نَجهلَهُ، بَقِي أقلُّ مِنْ أَلفِ مَترٍ وَنَصلُ بَوابةَ المَدينةِ الغَربِيَّة ظَهرتْ خُيوطُ دُخانٍ أسودَ وَرَصاصيٍّ تَتصاعدُ مِنْ أماكنَ وَبِناياتٍ مُتفرقةٍ...". (لغة الأرض، ص 15) .

2- نَسقُ الرِّيفِ (الرِّيفِي):   

لنسق الأرياف والقرى عند الكاتب علي حسين عُبيد مكانةُ كبيرةُ في عرض مسروداته الحكائية المتعدِّدة؛ فضلاً عن أنَّ أجواء الريف وتضاريسه وتخومه من مشاهد العمل القصصي الإدهاشية التي تستهوي الكثير من إمتاع قُرِّائه ومُتلقِّيه.لذلك كان للعمل القصصي في الريف له خصوصياته.

"فِي قِريةِ (أُمِّ البَطِّ) تَسكنُ عَائلتِي وَعَائلةُ زَوجتِي الَّتِي كَانتْ تَمتَلِكُ مَزرعةً صَغيرةً فِي تِلكَ القَريَّةِ، كَانتْ أُمِّي كُلَّمَا اِحتجنَا لِشيءٍ مِنَ المَزرعةِ أَخذتْ كِيسَاً مُتوسِّطَ الحَجمِ، تَلتقِي زَوجتِي (قَبلَ أنْ أَتزوجَ مِنهَا)،تُسلِّمُ عَليهَا وَيَتجاذبانِ أَطرافَ الحَديثِ،وَأكثرَهُ كَانَ يَدورُعَنْ شُؤونِ النِّساءِ، وَكانتْ أُمِّي تَصرُّ عَلَى أَنْ تَسألَهَا عَنِ الفَرقِ بَينَ نِساءِ الأَمسِ وَنِساءِ اليَومِ..." (لُغةُ الأرضِ، ص59) .

3 - نَسقُ الصَّحراءِ (الصَّحراويّ):

شغلت نسقية الصحراء أو الفيافي نسبة كبيرةً وحيزاً سردياً ماتعاً في وقائعه وأحداثه ومفارقاته الطارئة التي تفرضها واقعة الموضوع الحدثية على شخوصها ومكانها وزمانها وحركة صراعها.

"تَفَرقنَا عَنْ بَعضنَا فِي مَسافاتٍ مُتباعدَةٍ، صَحراءُ رَمليَّةٌ لَا يَحدُّهَا شَيءٌ سِوى أُفقِ السَّماءِ، حَرارةُ الشَّمسِ تَتَصَاعدُ، أَشعتُهَا تَصفعُ وَجَه الأرضِ فَتبدُو أَكثرَ شَراسَةً وَصمتَاً وَتَوحُّشَاً، بَدَأنَا نُدقِّقُ فِي الرُّؤيةِ، نَشحذُ البَصرَ بِأقصَى طَاقتِهِ، عَلَّنَا نَعثرُ عَلَى شَيءٍ يِدلُّنَا أوْ يَقودُنَا إِلَى الشَّابِ أَمجدَ الَّذي لَا نَعرفُ أَينَ هُوَ الآن؟ ..." . (لغة الأرض، ص 46) .

4- نَسقُ الأرضِ (الأَرضِي):

لدالة الأرض العتبة العنوانية المهمَّة الأولى المُسندة بالإضافة لدالة اللُّغة في هذه المدونة مكانةٌ خاصَّةُفي تأثيث مدلولات قصديات الخطاب السردي التي استمدَّت منه حكاياتها الجمعية المشتركة. وكان للأرض أنساقها الثقافية القريبة والبعيدة التي وظَّفها الكاتب عُبيد في آثار حفرياته السرديَّة الكاشفة. وكم هو جميل أنْ في النسق الفكري والجمالي أنْ يدافع الإنسان عن أرضه ويضحي من أجلها؛ ولكن الأجمل والأسمى أن يحيا على أديم هذه الأرض ويٌعَمِّرُها تُربَةً..تُربَة، وقَطرَةً..قَطرةً.

"شَمَّرَ (خِنيَابُ) عَنْ سَاعدِيهِ، بَدَتْ عَضلاتُهُ مَفتولةً، وَجسدهُ كُتلةً صُلبةً، دَخلَ إِلَى الحَديقةِ، وَقَفَ فِي مُنتصفِهَا، غَرزَ أَصابعَ كَفِّهِ فِي الأَرضِ وَحَمَلَ حَفنَةً مِنْ تُرابِهَا المِريضِ، نَظَرَ إليهَا وَتَمَعَّنَهَا بِعُمقٍ، رَاحَ يَتأمَّلُهَا وَيُركِزُ فِيهَا، أغمضَ عَينيهِ كَأنَّه يَستذكِرُ سِيرَةً أوْ سِرَّاً مَا، أَخذَ يَشمُّهَا، فَتغيَّرَ وَجهُهُ وَهوَ يَستنشِقُ التُّرابَ الَمائِلَ لِلحُمْرَةِ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 119) .

5- نَسَقُ البَيتِ (البَيتِي):

لقد وظف القاصُّ البيت في مدونته السردية (لُغةُ الأرض) عامةً وفي أكثر من قصة خاصةً، كون البيت أو المنزل هو المثابة المكانية التي يلتصق بها الإنسان في حياته اليومية وعمله باستمرار.

" إِلَى جَانبِ بَيتِ نُوفةَ العَاقرِ، يَقعُ بَيتُ حَبيبتِي الشَقراءِ ذَاتَ العُيُونِ الخُضرِ، بَيتُنَا يَقعُ مَقابلَ بَيتِهَا، كَانَ يُسمِّيهَا الشَّبَابَ وَالمُراهقونَ، (الفَتاةَ الأوربيةَ) لِجمالِها، لَا أنسَى اللِّقاءَ الأَولَ الَّذِي جَمعنِي بِهَا عَلَى قَارِعةِ الطَّريقِ غُروبَاً، حِينَمَا مَسكتْ يَديَ بِيدِهَا الصَغيرةِ وَوَضعتهَا عَلَى قَلبِهَا، فَأحسستُ نَبضَهَا يَتلاحَقُ بِذعرٍ يَتناقَضُ مَعَ سَعادَتِكِ آنذَاكَ...". (لُغةُ الأرضِ، ص 113) .

6- نَسَقُ الحَدائقِ (الحَدَائِقِي):

للحدائق في تَمَثلُّات الكاتب ميزة فنيَّة وجماليَّة خاصة ترتبط بإيقاع الحدث الزمكاني وتمنح مساحة من التأمل والتفكير؛ كون الحديقة تعدُّ عنصراً ترويحياً من عناصر الطبيعة الكونية الثابتة.

"حَانَ وَقتُ العَصرِ، خَرجَ مُجدَّداً إِلَى الحَديقةِ، خُيوطُ الشَّمسِ تَندلِقُ عَليهَا حَانيَةً رَقتيقَةً، نَظرَ إِلَى الأَرضِ، لَاحظَ أنَّ الاِحمرارَ قَدْ بَدَأَ يَخفُّ وَيَقلُّ فِيهِ، أَشجارُ الرُّمانِ تَتعَالَى وَتَنثرُ أَغصانَهَا فِي الأَرجاءِ، النَخلَاتُ تُسَرِّحُ جَدائلَهَا فِي غَنَجٍ، عِطرُ القِداحِ يَملأُ رِئتَيهِ، حَديقةٌ تَتَصدَّرُ بَيتَهُ، وَأرضهُ تَتَعَافَى بِالتدريِجِ، أُمُّهُ أَطلَّتْ عَليهِ مِنْ دَاخلِ البَيتِ...". (لغة الأرض، ص 83) .

7- نَسقُ المُقَهى التَّرفِيهِي، والحيِّ (الأَحْيَائِي):

للأزقة والأحياء السكنية والمقاهي الشعبية أثر بالغ وكبير في حركة الإنسان اليومية؛ لذلك كان حضورهما مهمَّاً في الأنساق الثقافية الخفية والمتجليَّة عند القاص؛ كونها تشكل بؤراً فنَّيةً للحدث المكاني. وقد عبَّرت عن مقصدياتها الموضوعية والجمالية التي من خلالها تكتمل عناصر الحدث.

"أَتَابِعُ فِلمَاً عَربيَّاً فِي مُقهَى (أَبو يَاسين) بِحيِّ رَمضانَ، فِي جَيبِي عَشرَةُ فُلوسٍ فَقَطْ تَكفِي لِتسديدِ الشَّايِّ الَّذِي شَربتُهُ مَقابِلَ الجِلوسِ فِي المُقهَى، الدُّنيَا لَيلٌ وَغدَاً يُومُ عِيدٍ، وَأنَا لَا أَملكُ سِوَى هَذهِ (العَشرةِ فُلُوسٍ)، فَكرتُ أَنَّني لَنْ أَدفعَهَا لَأبِي يَاسين القَهوجِي، حَتَّى أَستطيعَ غَدَاً أَركبُ الأُرجوحَةَ المَنصوبةَ بَينَ نَخلتينِ شَاهقتينِ فِي مَنطقة (الحُرِّ) ...". (لغة الأرض، ص 107) .

هذه الأنساق الثقافية المكانية السبعة التي حفلت بها تمظهرات المجموعة السردية (لُغة الأرضِ) واُستخدمت في مسارات القص الحكائي في المدينة والريف والصحراء والأزقة والأحياء، هي الأكثر شهرةً وبروزاً في المدوَّنة.وكان لتوظيفها الفني أثر بالغ في الكشف عن أنساقها ومرجعياتها الجميلة والمستقبحة للنفس الإنسانية.

وهناك أنساق ثانوية أخرى سيكتشفها القارئ النموذجي النابه بنفسه لإضافتها إلى الأنساق التي تمَّ كشفها وفكِّ شفراتها اللُّغوية والدلالية النسقية في تجلِّيات هذه الدراسة النسقية، وربَّما قد تكون هناك أنساق أخرى مضمرةً وظاهرةً لم يتم الكشف عنها أو التنبيه إليها، فالمدونة تحتمل أكثر من تحليلٍ وتعليلٍ وتفسيرٍ وتأويلٍ. وهذا الفعل هو ما يميِّز سمة الخطاب النصِّي السردي الإبداعي المكين الناجح، سواء أكان إنتاجه قصصياً أم روائياً، ويقابله في النظير الأخر الخطاب الشعري.

أُسلوبيَّةُ القَاصِ السَّرديَّةُ

إنَّ أهمَّ ما يميَّز الكاتبَ والقاصَّ والرِّوائي عليّ حسين عُبيد ويؤشِّر فنيَّاً لسمات مُعجمه القصصي التسريدي أُسلوبيته التعبيرية في اعتماده لمنهج أساليب السردية المعاصرة (الموضوعيَّة والدراميَّة) المُتوحدنة معاً في إنتاج وتخليق حدثٍ سرديٍّ قصصيٍّ سَبكيٍّ وحَبكِيٍّ شائقِ اللُّغةِ. وَاِتباعه لمنهج فنيَّة القصِّ التعبيري الطويل الذي يجد الكاتب نفسه به كثيراً، ويُجيدُ بإتقانٍ لعبته الفكرية والإبداعية بهذا الحسِّ الإنساني الكبير الذي له طعمه الخاصُّ وبصمته اللَّونية المتميِّزة. ومن ثمَّ ابتعاده عن فنيَّة الاختزال والتكثيف والتحشيد السردي التي هي من أهمِّ تقانات القصِّ القصير الذي يعتمد على فنِّ التوقُّع والمفارقة الحدثية والصدمة الإدهاشية المؤثِّرة بصناعة الحدث السردي وتأثيثه الإبداعي.

وكلُّ نصِّ قصصي من قصصه الطويلة يُشعرك أنَّك تقرأ خطاب روايةً (نوفلا) قصيرة كاملةً بتعدُّد أصوات شخوصها (البوليفونية) وأحداثها ووحدات زمانها ومكانها وحركة صراعها وفكّ حبكتها العُقدية، وحسن خواتيمها التي تجمع بين فنيَّة الخاتمة الموضوعية والانفتاحية.فهذا النفس القصصي الطويل يمنح الناقد النابه نافذةً تأمّليَّةً في الكتابةِ عن كلِّ قصَّةٍ من قصص هذه المجموعة التراتبية.

وهذا يشي بأنَّ علي حسين عُبيد، هو ليس الكاتب والرِّوائي والقاصُّ الشاخصة سمات هُويته التعريفية في أدبيات السرد القصصي فَحسب، بل هو مثالٌ للأديب والمثقَّف العضوي المثابر الذي يحمل في كتاباته التعبيرية الهم الجمعي المشترك للجامعة الإنسانية قاطبةً. فلا عجب أنْ تراه واثباً مُتنقلاً، تارةً يكتب عن موضوعات الحرب والسلم، وتارةً عن الموتِ والحياةِ، وتارةً عن الحبِّ والكُرهِ، وتارةً عن الخيرِ والشرِّ، وتارة عن ازدواجية النفس الإنسانية ظاهرياً وباطنياً، وتارةً عن ألم الفقر والشعور بالغنى. إنه إنسان هذه الأرض فلا يخفى عليه خافيها ولا يصعب عليه ظاهرها.

وتكشف مدونة (لُغةُ الأرضِ) عن أنَّ القاصَّ علي عبيد قارئ جيِّد وألمعي فعال يُجيد قواعد لُعبة القص الفنِّي الطويل بهذا النفس الإنساني الكبير الذي يمنحه مِساحةً سَرديةً كبيرةً من حُريَّة التعبير الفكري والمعرفي. وأنَّ أغلب القصص في هذه المجموعة الانطلوجية الواقعية المخيالية والغرائبية المتنوَّعة اعتمدت كتابتها السرديَّة على تأصيل واقعة الحدث السردي وتأثيثه بلغةٍ فنيَّةٍ وجمالية واعدة بالكثير الكثير الناهض على مستوى الفكرة والحكاية وفاعليتها السرديَّة في التعبير الأدبي.

وتمكين الشخصية الفاعلية من أداء دورها الوظيفي المناط بها بحُريَّةٍ في عملية القصِّ السردي وبروزها بصور وأشكال موضوعيةٍ مغايرةٍ، لها طعمها الفنَّي والجمالي الخاصِّ. والَّتي تُدلِّلُ على أنَّهالا يكتبُها غيرُهُ إلَّا كاتبَها الماهر التخصُّصيّ المتفرِّد بجماليات أسلوبيته الإنسانيَّة والموضوعيَّة.

أمَّا ما يُميَّز مُعجمة السردي القصصي الطويل، فهو أنَّ أغلب أو معظم كتاباته القصصية إن لم أقل جميعها كانت لُغتها النسقيَّة مُخصَّصةً للإنسانية في يوتوبيا الأنساق الثقافية الظاهرة في مدينته القصصية الفاضلة. فَكُتِبَتْ عن المُهمشين والمجهولين والمغيبين، وعن رمزية سيمياء المقموعين والمسكوت عنهم قصدياً في ديستوبيا الأنساق الثقافية الخفيَّة والمضمرة الإهماليَّة التي ترفض كلَّ أشكال الظلم وفوضى الخراب والدَّمار والوجع الإنساني المَرير الذي يشلُّ خطَّ حركته التنويرية والمعرفية وينتهك آدَمِيَّته الإنسانية التي هي هويته الذاتية.وكان الكاتب سيرياً يتخفَّى وراء سطوره.

وبعيداً عن لغة التسطيح السردي فقد حظيت المرأةُ بشتَّى ضروبها التعدُّدية الإنسانية المهذّبة، لا سيَّما الزوجةُ والحبيبة والعاشقة والمعشوقة والأخت والأمّ والبنت في محتوى مدوَّنة علي حسين القصصية (لُغةُ الأرضِ) بِمساحةٍ تعبيريةٍ جمعيةٍ واسعةِ الكتابة في فضائه القصصي، ولَقيتْ اهتماماً نفسيَّاً وموضوعيَّاً كبيراً وطيِّباً لافتاً في إنتاجه السَّردي. فكانت مثلما كان الوطنُ الكبيرُ القاسمُ الفنِّيَّ المشتركَ لشخصياته البطولية الفاعلة في تراجيديا الحدث القصصي الطويل والعلاقات الإنسانية.

وفي الوقت ذاته لم يغفل القاصُّ الكتابة عن أثر الشخصية الذكورية سواء أكانت شابةً أو شيخاً عجوزاً أو طفلاً. وقد استمدَّ الكاتب مرجعيات موضوعاته القصصيَّه الحكائيَّة من تمظهرات عقابيل الواقع والتقاط رهاناته أُسسه الطافية على سطح الفضاء المكاني اليومي وأسقاط أنساقها ومصادرها على وقع سردياته الثقافية بلغةٍ فنيَّة تحرريَّةٍ تجمع بين مرايا الواقعية الملتقطة، ومخايل الفكرية العجائبية التي تُحطِم جدار توقُّع عطب المألوف اليومي. على الرغم من أنَّها فيها نسبة كبيرة من هجس الواقع وتهويمات أحلامه النوميَّة. وقد ساعدته هذه الممارسة الاشتغالية على ذلك التخليق الابتداعي لغته الفنيَّة الفخمة وإيقاع أسلوبه الجمالي التعبيري الفنِّي المُغرِي الماتع للقارئ.

وعلى وفق إشارات هذه الأسلوبية النسقية التي امتاز بها القاصُّ عبيد في سرديات أنساقه الثقافية الإنسانية (الخفيَّة والمُتجلِّية) المتنوِّعة، كان بمدونته القصصية الناضجة فنيَّاً (لغةُ الأرض) ضمير الأمة الواعي المشخِّص وترجمانها الأدبي الناطق وليس الخفي المستتر الساكت.وإنْ كان للغموض الفنِّي إثر موحياته السيميائية وعلاماته الأيقونية الإشارية الضاربة سهماًفي صميم الحدث السردي.

وكان علي حسين عبيد بحقٍّ شاخصها الإبداعي الأوحد، وكاتبها النوعي المثابر الذي يمكن أنْ نعدَّ عمله الإبداعي القصصي الطويل هذا في سونار اجتراحات النقديَّة المحايدة إضافة نوعيةً مهمَّةً ومتفرَّدة في الإسهام برفد فهرست مكتبة السرديات القصصية العربية عموماً، والعراقية على وجه الخصوص بكل ما هو جديد حداثوي ماتع رائع تكويناً وتأصيلاً وتلقياً معرفيَّاً لافتاً لنظر القارئ.     م, فيما أخذت السماء تمطر فوها ولا يصعب عليه ظاهرها.ئيساً في كل هذه الخسارات الروحية والنفسية مرام, فيما أخذت السماء تمطر فو     م, فيما أخذت السماء تمطر فوها ولا يصعب عليه ظاهرها.ئيساً في كل هذه الخسارات الروحية والنفسية مرام, فيما أخذت السماء تمطر فو

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ / نَاقدٌ وكَاتبٌ عِراقيّ

م, فيما أخذت السماء تمطر فوها ولا يصعب عليه ظاهرها.ئيساً في كل هذه الخسارات الروحية والنفسية مرام, فيما أخذت السماء تمطر فو

وأنت تقرأ رواية "إلى أن يُزهرالصبّار" للأديبة والشاعرة الفلسطينية ريتّا عودة الصادرة العام 2017 يقفز إلى الذهن السؤال التالي: لو قُيّضَ لشاعرة أن تكتب رواية ما، هل سيكون بمقدورها الفصل ما بين الشاعرة والكاتبة ؟! وهل ستفسح الشاعرة المجال للكاتبة كي تقدّم للقارىء نصّاً روائيّاً مكتمل الأوصاف والأركان؟

وللإجابة على سؤالنا هذا نقول أن الكاتبة نجحت في صنع توليفة متقنة بحيث زاوجت ما بين اللّغة الشعريّة والسرد النثري، وهذا المزج  زاد من رونق الرواية وجماليتها. والتي كتبت بلغة مسبوكة ومطعّمة بمفردات شعريّة، وقد وظّفت الكاتبة مخزونها الثقافيّ والمعرفيّ في هذه الرواية، سيّما وانها تميّزت بكتابة ما يُسمّى شعر الهايكو او شعر الومضة، وحازت على جوائز عالميّة عن هذا النوع من الشعر. وهذا ما يفسّر اعتمادها على الجمل القصيرة  المكثّفة والخالية من أيّ حشو والمؤدّية لكامل المعنى وجوهره باقلّ الكلمات.

كما نلحظ في الرواية لجوء الكاتبة الى ما يعرف بالتناص، وسأكتفي بالإشارة إلى حالتين من هذا التناص الأولى عندما تناغمت الكاتبة مع  أبيات سميح القاسم في قصيدته "منتصب القامة" لتصف "حواء" عندما إلتقت بحياة زوجة آدم فتقول: "منحنية الهامة، مهزومة، أمشي. بينما، تمشي "حياة" منتصبة القامة، مرفوعة الهامَة. في كفـّها قصفة زيتون وفي كفّي أوراقُ ذاكرة مُغتصَبة.

المثال الثاني عن هذا التناص هو قيام الكاتبة بجمع تناصّات ثلاث في جملة واحدة فتقول: ها أنا أمضي إليهِ ممتلئة نعمة، منتصبة  القامةِ، راضية مرْضيةَّ. (عبارة تضمّنت ثلاث تناصّات مسيحيّة  شعريّة وإسلاميّة). كما أن الرواية شهدت الكثير من الإقتباسات والمقولات لأدباء وشعراء عرب وأجانب، وأيضا فقرات من الكتاب المقدّس.

إضافة لما ذكرناه، فقد أبَت الكاتبة، وهي الشاعرة، إلّا ان تجود على القارىء ببعض قصائدها وومضاتها الشعريّة الهادفة، وسأذكر في هذا المجال  قصيدة بعنوان: " صرخة لا محلّ لها منَ الإعراب" فتقول:

" الى متى

يظلُّ الإنسانُ الصادِقُ  ضميراً مُستتَرِا

وتظلُّ الأقَزامُ  المُشَبَهَة بالأفَعالِ

تنصِبُ وترفعُ  مَا تشَاءُ

متى تشَاءُ ..؟!"

قصيدة بالرغم من قلّة كلماتها، إلا انها في مضمونها تشكّل صرخة إعتراضيّة على هذا الركود ودعوةً للتمرّد والإنطلاق. وكما ورد في الرواية مقولة: اللسّانُ الذي لا يستطيعُ  أن يقول: "لااا..ليس لسان إنسان".

وكما أن الكاتبة لم تستطع التحرّرمن شاعريّتها في كتابة الرواية فإنها أيضاً أبت إلا أن تدلوَ بدلوها بصفتها "ريتا عودة"  فاستعارت لسان "حياة" لتدلي بما يشبه المرافعة حول مفهومها للكتابة وموقفها من النقاد وانحيازها للقراء. فتقول: "منذ نعومة حبري، كانت نصوصي مُلفتة للإنتباه، وُلدتُ ووُلدتِ الكتابة معي من ذات الرّحم. والكتابة  تمنحني الشعورَ اليقينيّ أننّي شريكة في عمليّة الخلقِ، لكن من فئةِ الإبداع،  واللّغة تمنحني المزيدَ من المفاجآتِ اللّغويّةّ كالصـور الشِّعريّة والعباراتِ المبتكرة كعبارة: "أحبّك بالثلاثة" أو عبارة: "العاشرة عُشقا"، أو" في الثاّنية عشرة من منتصفِ الحُلم" وغيرها الكثير من العبارات أو الإنزياحاتِ اللّغُويةَّ التي طاب لي أن أسمّيها بيني وبين نفسي: "عباراتٌ حياتيّة " أي أنّها تخُصُّني أنا... "حَياة"، وكثيرا ما كانت انزياحاتي اللّغويةّ تدُهشُ قارئي.

ثم تنتقل الكاتبة ريتا عودة للإفصاح عن قناعاتها  وثوابتها التي تؤمن بها، حيث ترى ان "العديد مِن الأصواتِ تجيدُ فنَّ التنازلاتِ والمُجاملاتِ، وتضمنُ للإنتهازيين فرصةَ الوصولِ إلى المنابرِ التي رفعتهُم إلى أبراج المَجدِ الوَهميِّ الزائفِ الذي لن يسجّله التاريخ، بل سيودي بهم وبما كتبوا إلى الفرَاغ".

نتيجة لتمسّكها بثوابتها تلك، ولكونها كما تقول لم تعتنق المجاملات السخيفة، لم يأتِ تقييمها كأديبة من أيّ ناقد لكنها تعوّل على قرّائها -الذين زاد عددهم عن الألف- فتقول: "تقييمي الحقيقيّ الموضوعيّ يأتي من قارئِي". أمّا النقُاّد فقد خاطبتهم بومضة: "إقرأ ملامح القصيدة لا ملامح وجهي."

وهنا نسأل الكاتبة وأنفسنا عن المبرّرالذي دفعها للزّج بهذه المرافعة أو النبذة الموجزة من سيرتها الذاتية، هل هو نوع من النرجسيّة المفرطة أم  دفاع وإشهار مظلوميّة ما طالتها من بعض النقاد أو معظمهم لتقول ما قالت؟!. ويبدو ان الكاتبة قد تنبّهت لهذا التساؤل، لذا نجدها تقول: "قد يتّهمُني البعضُ بالنرجسيّة، هذه التهمة التي وُصِم بها الأدباءُ على مرِّ العصُورِ. لمَ لا..؟ إن لم يُدهشني النصّ الذي أكتبُ أنا قبلَ قارئي، كيفَ أضمنُ أن يلمسَ قلبه ويصله وهو في كاملِ اللهفة للغوصِ في المحيطاتِ التي أقُدِّمُهَا لهُ.".؟

بالعودة الى الرواية ومفاصلها، فقد بدأت بالإستناد إلى حكاية خالدة متفق عليها وهي حكاية آدم وحواء التي خُلقت من أحد ضلوعه واللذيّن سقطا في فخ الغواية الذي نصبه لهما الشيطان  وأطعمهما من "أرغفةِ الحيرة ومن مياهِ الغيرة، فأصِيبـا بلوثة عاطفيّة انتهت  بقرار التفريق بينهما وهبوطهما إلى زنزانة كبيرة بحجمِ كوكب تسُمَّى "الأرض". ليدخل كلّ منهما في دوامة البحث عن الآخر، في محاولة لإستعادة الحلم  بلقاء يغلّفه العشق الذي "لا يكون عشقاً إلّا حين تكتملُ الدائرة بعودةِ حواء إلى القفص الصدريّ لآدم.. حيثُ الحنان.. حيثُ  الأمان". وقد ارتكزت الكاتبة على هذه الحكاية لتقدّم لنا روايتها بموجب حكايات ثلاث تولّى سردها كلّ من:

آدم: الشاب الفلسطينيّ والمناضل في سبيل قضيّته المحقّة، والذي تزوّج من حياة وأنجبا ابنتان هما أمل وأحلام.

حياة: الفتاة المسيحيّة التي تزوّجت آدم المسلم.

حواء: المرأة -الرمز- التي تبحث عن آدم ولا تلتقي به إلا ساعة اعتقاله.

عدّة محاور أو قضايا تنوّعت ما بين الدينيّ، الإجتماعيّ وحتّى السياسيّ والوطنيّ. أثارتها الرواية وسنحاول الإشارة إلى هذه القضايا أو بعضها قدر المستطاع.

بداية حاولت الكاتبة تقديم رؤيتها وفهمها للدين وللعلاقة الواجب قيامها بين الله والفرد، مشيرة إلى أن

الله برئٌ مِنَ الدَّمِ الذي يُسفكُ في كلِّ مكان باسمِ الدينِ، فالبشَر اقتتلوُا على الرُّسلِ، أيهّم أعظم، لقد اختلفوا عَلى العطِيـّة، وَنَسوا المُعْطِي. وتقاتلوُا عُلى المُرْسَل، وَنسُوا المُرْسِل.  وانطلاقا من هذا تطرّقت الرواية إلى قضيّة إشكاليّة وخلافيّة تتمثّل في زواج المسيحيّة من مسلم. فالفتاة المسيحيّة  ستجلب العار على العائلة، بعدما وقعتْ في عشق ِ شابّ مُسلم! حتّى ولو جمعهما حُبٌّ لذات الإله خارج قمقم التديّن ومظاهر التقوى. وتذكر بأن الله حين خلقَ آدم لم يقلْ له: أنتَ مسيحيّ أو أنتَ مُسلم، إنمّا قالَ له أنا الله فاعبـُدني. وتعزو سبب رفض والدها لهذا الزواج لا يتعلّق بالدين البتّة إنّما ينبثقُ مِن خوفهِ مِن "كلام الناس".

كما تشير الرواية إلى ضرورة أن تخرج المرأة من شرنقة التقاليد والخوف، لذا نجد "حياة" تعلن ولادتها من جديد بعد أن انتصرت على نقاط ضعفها وتعويذة والدها: "إمشي الحيط، الحيط، وقولي يا ربّ السُترة"، وتحذيرات والدتها: "بوسي يدّ الكلب وادعي عليها بالكسْر." فهي لا تريد أن تكون نسخة عن والدتها التي غادرتْ من بيت أبيها لبيتِ زوجها. لمْ تعْصِرْها الحياةُ ولم تنُمِّي أجنحتهَا كي تحلّق معَ النسُّورِ. دجاجةٌ خنوعةٌ كانت، انتقلتْ من قنٍّ لآخر وهي مُشبعةَ وَمُقتنعةَ بفكرةِ أنّ دورَها في الحَياةِ يتلخّصُ بالتفانِي في الطّبخ والمَسْح وإزَالةِ الغبُارِ. لمْ تقرأ يومًا كتاباً، لمْ تشاهدْ يوماً برنامجاً ثقافياً.

كما تدعو الكاتبة بلسان بطلتها حياة أن ترتفع المرأة فوقَ كلِّ خيط قد يشدّها للأسفل. هذا الخيط قد يكون المجتمع القادرعلى تكبيلها.قد يكون الأهل أو الزوج أو أيّ شخص أو عنصر ما من المحتمل أن يشدّها إلى الأسفل، لكنها ستجتهد لترتفع فوق الخيط وتُحلقّ كما النسّور التي تعرف كيف تستغلّ العاصفة.

لم تغب المعاناة التي يعيشها ما يسمى ب عرب 48 ومحاولة تغييبه عن جوهر القضيّة الأساس، تقول حياة: "أنا المُغيّبةُ عمداً عن المشهد السياسيّ، وأنا نتاجُ عائلة تأكلُ خبزَهَا بعَرَقِ جبينها ولا تتحدّث في الأمور السّياسيّة إطلاقا"  ولذا كان خجلها وجهلها بادياً عندما اعترضَ آدم طريقها، وهو يناولها منشورًا حول "يوم الأرض". هذه الأرض التي شَكَّلتْ ولا زالت مركز الصراع، بالرغم من سياسات المصادرة  ومخطّطات طمس الهويّة الوطنيّة. وهنا تذكر حياة مفارقة يجب التوقّف عندها حيث تقول أنها في  إحدى زياراتها لعمّان، احتارت ماذا تكتب في خانة القوميّة على الورقة الواجب تعبئتها. فتركتها فارغة لتقوم موظّفة الإستقبال بتعبئة الفراغ بتعبير "عرب48"  ولكن حدث عكس هذا تماماً عندما زارت طابا حيث تناولَ الضّابطُ المصريّ قلماً وشطبَ التعبير: "عرب 48"، وسجّل على كلّ بطاقة:"إسرائيليّ " مفارقة يجب التوقّف عندها لما لها من دلالات.

وعن محاولات طمس الهويّة الفلسطينيّة من قبل المُحتلّ، تذكرحياة  كيف استنكرَ أحد الأدباء اليهود تعّبير "شاعرة فلسطينيّة" كما جاء في السيرة الذاتيّة في ديوانها الشعريّ الذي قدّمته له، وكانَ انتقادُه كالتالي: "أنتم الأدباء عليكم مسؤوليّة بثّ روح التفاهم والتسامح والسلام في اسرائيل".

وجهٌ آخر من أوجه المعاناة التي تطال فلسطينيّي الداخل والتمييز الواضح في معاملتهم على المعابر كأنّهم "قنابل بشريّة موقوتة مُتحَرّكة". وإضطرارهم للإنتظارساعات للسماح لهم بالدخول بينما اليهود يعبرون عائدين بسيّاراتهم " للوطن" كما تعبرُ العصافيرمن مكان لآخر دونما معوّقات. وبعبارة واحدة تختصر المشهد كله تقول حياة: بدأتُ أعبرُ الشارع الفاَصِل كَحَدِّ السيْفِ بينَ الحيّ العربِيّ المُهمَلِ عبرَ سنواتِ الجفافِ، والحيّ الآخَر المزْروع بالجَنّة.

وفي إشارة لا تخلو من بُعدها السياسيّ، تشير حياة إلى تلك الإعلاناتِ المَصْلوُبّة على أعمدةِ الكهرباءِ الداعية للمحافظة على نظافةِ مدينة حيفا. فتبتسم ابتسامة  شاحبة وساخرة في آن، وتسأل في سرّها  إن كانت المدينة حقّا نظيفة. هذا السؤال برأيي هو أبلغ موقف لما تشهده المدينة من انتهاك وتشويه.

لقد أظهرت الرواية آدم زوج حياة بصورة المناضل الذي اعتقل بسبب نشاطه السياسيّ، بعد  رفضه التعامل مع المُحتل وهنا تصف حياة قرار إعتقاله بأنه "كان مُتوَقّعاً على خلفيّةِ العنصريّة المُتفشيّة في إسرائيل، لكنْ لنْ ننكسر. معنويّاتنا مرتفعة، فالسِجن ليس نهاية القضيـّة. قد يسجنون الجسد، أمّا الأفكار والمبادئ والحقوق الشرعيّة فمستحيل أن يتمّ سجنها أو طمسها". وتُكمل فتقول: "شجرةُ البرتقال تعرف غارسَها. وتبادلهُ حُباًّ بحُبّ. زهرةُ الصبّار، مهما اقتلعَتهَا يدُ الاحتلالِ، تعودُ وتعلنُ عن وجودها. نحن سكَّان البلادِ الأصليّين، ما زلنا شوكة في حلوقهم، وقطعة زجاج في حناجرهم ولن نكون الهنود الحمر".

تُنهي الكاتبة روايتها بعثور حواء على آدم، وهو المعتقل، وكأن الكاتبة أرادت القول أن حواء- الرمز- وقد تكون هنا فلسطين ذاك الضلع الذي انتُزِع من جسد الأمة، ولن يعود إلى الجسد إلا بالتضحية والصمود. ويكتمل المشهد الفلسطيني الذي يشبه مثلّث قاعدتـهُ فلسطينيّو الـدّاخل وأحدُ ضلعيهِ المُتساويـيَـنْ فلسطينيّو الشتات، والثاني فلسطينيّو الضَّفة، والرهان يبقى على التمسّك بالأمل والحلم، وكما جاء في الرواية: "الحلم طُاقةُ بقاء. أمَّا هؤلاء، العاطلون عن الحُلم، فما هم إلا توابيت بصمت تسيرُ إلى المـقابـرِ".

ختاماً مبارك للأديبة ريتّا عودة هذا الإصدار، وكما جاء في إهداء الرواية فإن "حَتمِيّة التاريخ التي عَلّمتـْنَـا أنه مَهْمَا اشْتدَّ الليلُ حُلكَة فإنَّ الفجْرَلا بدُّ آت". فإننا سنبقى نحلم معها بأن يوماً ما لا بدّ وأن يزهر الصبّار.

***

عفيف قاووق – لبنان.

بانوراما المؤول ودليل استقرائية المرمز

توطئة: عادة ما يتصل المؤول بالموضوع الدينامي للدليل، لذا فهو تحول في عملية يدمجها الكاتب ضمن قطبي (المرسل - المرسل إليه) انطلاقا من قضوية العلاقة الدائرة ما بين (نص = قارئ) فالمؤول مؤشر على حمية السياق وتقلبات المعنى فيه ضمن حدود ملاءمة وغير ملاءمة من تمثيلات حاﻻت وأحوال النص، لذا فهو نوعية رابطة بشبكة مؤشرات محتملة بوجود هذه الدلالة أو تلك الخصيصة من أدلة سيرورة المعنى الضمني.

- تأويلية الأدلة المحتملة وتواصلية الوقائع المؤولة:

تتشكل تمثيلات المؤول إلى عدة مقوﻻت منها المباشر والأوﻻنية، وصوﻻ إلى المؤول الدينامي بأعتباره النسيج الحافظ على مكونات السنن والأدلة النسقية في علاقات أدلة المعنى في الأبنية النصية . لعلنا من هذا النوع من المؤولات، تواجهنا خيارات وقابليات الوقائع المنتجة في قصة (خواتيم) للقاص والروائي (حميد المختار) كما أنه من الواضح أن ننوه بأن طبيعة هذا النص القصصي حماﻻ لمقصديات (رمزية - فنتازيا - غرائبية - بانورامية) وليس المقصود منا بأن هذا النص عبارة عن حاﻻت مشبعة بالحضور الرمزي ربطا بالعلاقة المحكومة داخل المعنى السياقي المباشر، بقدر ما هو ذلك السير في مجرى تحيينات إمكانية خاصة بالمرمز التأويلي، مرورا بأوضاع مفعولية من الفنتازيا والغرائبية اللتان هما من ذات النسق الدﻻلي المؤشر في وظيفة نطاق العلامة والإحالة .

١- أسلوبية سردنة الإيهام وتحوﻻت معادلة الصورة:

تجسد الوقائع الاجوائية استهلالا في بنية النص مدخلا نحو تشيد مؤثرات (الصورة السردية) صعوداً بها نحو انعطافات مركبة في التحييل وسماكة المتمثل في السرد محوراً:(بقيت النافذة فارغة بعد أن اختفى الطفل، زمن طويل مر من غير أن تهتز الستارة . / ص١٤٩ النص القصصي) إن حالة التآلف الصوري للعنصر العاملي تمنحنا ذلك التحاور اﻻنقطاعي ما بين (عامل دينامي - خروج زمن -حساسية الصورة) فالجانب التأويلي يعمق الإحساس بالقدرة على اقتران العامل الفاعل بوصفه الأداة السرية للتوظيف الثيماتي الأولي، وعندما تعبر جملة (من غير أن تهتز الستارة) فخلاصة ذلك هو المستوى الغيابي ومدى بلوغه الأحوالي ردحا من التصاعد عن المكان والزمن والذات الواصلة:(لم تكن أمه في البيت كل شيء يغطيه السكون والظلام .. النافذة ظلت على حالها لم تتغير سوى أن الزمن ترك على البيت اثاره القاهرة . / ص١٤٩ النص القصصي)لعل ما يشغلنا ها هنا الصورة الزمنية وزحفها في الإحساس القرائي لتأخذ من المشهد المكاني جزءا متمما من فاعلية السالب الغيابي، ويتغير حالة الإئتلاف إلى حالة اختلاف منزوعة بالفقدان، تتركز عبر استعارية ملفوظ الغياب شكلا مؤولا راح يعتمد ملامح مكانية موحشة (سكون - ظلام -اختفى -الطفل - زمن طويل - اشارة القاهرة) وكثيرا ما نجد في القيمة الاستهلالية للملفوظ، ثمة توزيعية خاصة لجملة من المؤشرات الحاصلة بصيغتي (الصورة - الصمت) . كما ويسمح للمؤثر الزمني والمكاني من أخذ تفاصيل تكوينية بلا جدال كحال (لم تكن امه موجودة ؟) ان حضور مثل هذه المؤشرات من شأنها تقطيع المستوى اللقطاتي والبانورامي إلى وقائع شفراتية صارت ممتزجة بأصداء ذاكرة سحيقة من الأصوات والصور والمونتاج المشهدي .

٢- الصورة الذاكراتية وتزامن حدوث الصوت المحكي:

ان إستخدام الأفعال الماضوية ضمن حدود شواهد حاضرية، ما هي إلا استجابة لنمو الدﻻلة الزمنية على السياق الحكائي الذي يحكي الأحداث ضمن وجهة نظر مضارعة:(سكان البيت غادروه إلى الأبد، العائلة شاخت هي الاخرى والفتيات الصغيرات أصبحن عجائز لهن أحفاد ويلعبون في الباحات - إنه يتذكر كل شيء، يقول: كانت أمي ترش النفط أسفل الجدار محاولة قتل الآرضة التي خرمت الجدران وتسللت إلى الأجساد .. رؤوس كثيرة سقطت ليست بسبب الآرضة إنما بسبب أشياء أخرى أكثر خطورة . /ص ١٤٩) يقوم القاص المختار بترحيل الأفعال الماضوية بذلك الشكل الذي ينم عن (رؤية استباقية) من شأنها وضع زمن الأحداث في حدود مسار من المسرود القصي على المستوى الزمني - توظيفا - للانزياح السردي بوقائع حركية بطيئة: (بقيت النافذة فارغة -غادروه إلى الابد - اصبحن عجائز - أنه يتذكر كل شيء - أمي ترش النفط اسفل الجدار - أشياء أخرى) ﻻ شك أن سمات الخروج من الزمن والمكان تجسد لذاتها استعماﻻ تركيبا ملحوظ، خصوصا وأن اهلية الفاعل الذاتي تتبنى جملة مرسلات خاصة بالعزلة أو النهايات، حتى نكاد أن نكتشف أن الشخصية تمارس أفعاﻻ مونولوجية لها من الازاحة في التدليل ما يخول وحدات الحكي بإضفاء ذلك النوع من السرد الذي يشغل مستويات دﻻلية تتجاوز الخطاب في ذاته: (هل انتهى كل شيء هكذا يسائل نفسه أمام نافذته التي صارت عارية الآن عن ستائرها القديمة عبر الجدار الفاصل وخلف الشجرة العملاقة وضع أذنه ليسمع همسات العصافير وغناء الفتاة الوحيدة في البيت المجاور ./ص١٤٩)

٣- المواقف والمواقع المحكية وزمن تشريح الصور:

لعل الزمن في عناصر ووظائف قصة (الخواتيم) تتنوع احوالها ضمن خطوط تشكيلية بالغة الاحتدام وتعدد الاغراض والاطوار فيها، فهناك في زمن أفعال النص ما يخال لنا كونه فضاءات عائدة إلى موضوعة مجموعة عناصر تشكيلية ترتبط بعالم السارد في حدود حالة خاصة من (تشريح الصور ؟) وعلى حين غرة نلاحظ أن مجموع (المواقف - المواقع) هي متصلة وواصلات محكية في زمن التخييل للاموات، فهناك ثمة (نافذة عارية - الجدار الفاصل - غناء الفتاة الوحيدة) كل هذه المحاور الإيحائية راحت تعكس جميع الأمكنة والأشياء بطابع كونها تداعيات ما ضوية أتلفها الموت وضاعت تفاصيلها على لسان الحاكي المفترض . كما وتنبع الإشكالية من حقيقة مجموعة العلاقات المكانية والذواتية واصطباغها بتلك الالوان الحلمية (الغرائبية) وبعد الزمن في محددات النص موزعا على مجموعة خاصة من اللقطات، وكذلك الأمر بالنسبة إلى هذه الجملة من الوحدات (ثمة بكاء وصياح خارج عالمه السري، هل يعقل ان يسكن البيت أناس آخرون خارج زمانه) فهل يسعى حميد المختار في نصه إلى مقاصد برزخية نوعا ما ؟ أم أنه المدى الزمني لدى سارده الذي راح تستغرقه حاﻻت خاصة من الوقائع والمواقف الخارجية من زمنه البرزخي الانفرادي؟

- الروح السائرة في متخيلها الزمكاني:

الإشارات الاستباقية وتواريخ الشواهد المندثرة:

من الجدير بالذكر ان مجموعة الاسترجاعات تتبين باسترجاع الحوادث الترتيبية، كما وهي شبه انطباعية ما، ﻻ سيما عندما يضفي عليها ذلك الحكي على لسان حال الفاعل بعدا حميما من الافتراق والعودة إليها ضمن حالة حلمية أو غرائبية عبر أحداث خارج الزمن الحاضري . أردت أن أقول أن الفاعل الذاتي يتبين الأشياء ضمن نظرة قبلية، أي أنه خارج غطاء الزمن الفعلي، لذا فهو (قطط وفئران واصوات رجال يحفرون أبارا وفوران لأنابيب مياه تنث على مقربه منه) وهل يتضح من كل هذا أن أحداث النص تجري في زمن داخل زمن أرضي، ومهما يكن من أمر، فتقنية الاسترجاع - الاستباق احتلت لذاتهما أشد اللحظات استغراقا في اللامكان واللازمان . وبتحدد الايقاع التشكيلي الذي تتمحور من خلاله محاور الأشياء ضمن مظاهر دﻻﻻت سيميائية مضاعفة ومركزة، جعلت تستثمر كل من طاقات المجاﻻت الإيحائية والمرمزة أدوارا بانورامية لها، لعلها كادت ان تتقصد طقوسا (اختتامية ؟) في ظل من المحاور و التمظهرات المشهدية للنص:(حين دخل مكتبه الذي هجره بعد ان سافر في رحتله الطويلة لم يجد إلا ركاما من الغبار يغطي كل شيء .. الكتب .. اللوحات .. الحقائب .. البومات الصور الفوتوغرافية. /ص١٥٠النص القصصي) لعل الصورة السردية بدت لنا خاطفة ﻻ يمكن اللحاق بزمنها المهجوري المقترح، لذا فإن إمكانية ساردها جعلتها تبدو ذكريات تحرك السيرذاتي للشخصية حيال جملة منفردة من الصفات العلاماتية:(الملفوظ: - البومات الصور = الأداء المنقطع = فعل المعرفة = تموضع قيمة / الغبار يغطي كل شي:- مرحلة الأداء في مستوى زمن العلاقة = موصوف حالة =وضعية دﻻلة إظهارية)وتبعا لهذا تتواصل الذات الساردة لتنفرد بعالمها القديم باستكمال تجلياته الملتبسة في رؤية الخلاصة السردية: (ساد سكون وظلام وثمة خطوات تسير بتؤده متجهة إلى غرفة المكتبة لتزيل ما تبقى من الغبار على صفحات الكتاب المفتوح./ ص١٥٧ النص القصصي) .

- تعليق القراءة:

من الممكن لنا عد قصة (الخواتيم) بوصفها تلك النوعية من النصوص التي ﻻ يتسع لها مجال أية قراءة عابرة، فهي قصة غارقة بعوالم الأخفاءو الحجب والترميز والاحاﻻت الأخرى التي تسعى إلى توصيف الأشياء ضمن أوجه متوارية، فهي حينا تبدو وكأنها عملية (تشريح صوري - بانورامي برزخي) وحينا بدت وكأنها ميتافيزقيا تتقصى ما وراء الرمز والمرمز والهيئة الانقطاعية عن حيوات شخصية تعود إلى الحياة بعد موتها، لذا فمرمز ذلك (الكتاب المفتوح ؟) ما هو إﻻ جملة حيوات غاطسة بسير وتقاويم ومصائر قدرية ترتبط ومصير ذلك الفاعل المفترض . أما فيما يخص المكان أي ذلك البيت فهو أيضاً يلوح إلى حيوات وزمن حماﻻ لوجهين ورؤيتين في شفرة حجب الترميز والمعادل النصي المتجوهر في تخوم الرؤيا ورؤية الحكائية المؤولة . أردت أن أقول أن قصة (خواتيم) تجربة قصصية تشتغل ضمن نطاق (خارج الزمن المتاح ؟) تؤهلها آليات قص انفرادية ﻻ تعيد الزمن والأشياء إلى مستودع مكونها الكشوفي، بل إنها تنعطف بالمضمون نحو غائية مفتوحة القابلية والخيارات، حفاظا على (بانوراما المؤول ؟) وأسرار حيوات الحكي المشفوع ب (دليل استقرائية المرمز) تحوﻻ نحو رؤيا دينامية تناسب خلفيات القاص وشواغله السردية المتكاثرة في مستويات سردنة الحضور بروح خفايا الصفات الماورائية من التشكيل والتبئير وجزالة الوجه الآخر لمعنى الأشياء .

***

حيدر عبد الرضا

مقدمة: ديوان "ألفية الجزائر" للشاعر الإعلامي إبراهيم قار علي هو عمل شعري يُعبر عن عمق الروح الوطنية والحضارية للجزائر، مستندًا إلى التاريخ والأحداث الواقعية التي شكلت الوجدان الوطني الجزائري. سنقوم في هذه الدراسة بتحليل الديوان من منظور بنائي، سيميائي، أنثروبولوجي، أيديولوجي، وذاكرتي نفسي، مع مقارنته ببعض جوانب "إلياذة الجزائر" للشاعر الكبير مفدي زكرياء.

المنهجية النقدية:

1. الدراسة البنائية (Structural Study):

في التحليل البنائي، يُركز على شكل العمل الأدبي وتركيبه، مع مراعاة العلاقات الداخلية بين عناصره. في "ألفية الجزائر"، يمكن ملاحظة أن الشاعر استند إلى نفس البناء الذي اتبعه مفدي زكرياء في "إلياذة الجزائر"، حيث يتألف الديوان من مائة مقطع، وكل مقطع يحتوي على عشرة أبيات، مما يجعل المجموع ألف بيت.

البناء الشعري هنا ليس مجرد إطار هيكلي، بل يعكس انسجامًا بين الشكل والمحتوى، إذ أن تكرار اللازمة "لك يا جزائر يا تراتيل الصلاة هذه القصائد من أناشيد الحياة" يشير إلى القداسة والوطنية، كما يعكس تعبير الشاعر عن حبه للوطن بطريقة تكرارية تؤكد على الثبات والاستمرارية.

2. الرؤية السيميائية (Semiotic Vision):

السيميائية تركز على دراسة العلامات والرموز في النصوص وتحليل معناها. غلاف "ألفية الجزائر" يحمل دلالات سيميائية قوية، حيث يصور أمواجًا من الدم ترفع مجموعة من الأشخاص العلم الجزائري الكبير نحو الأعلى، مع شعار الذكرى الستين لاستقلال الجزائر. هذه الصورة تعبر عن التضحية والوحدة الوطنية، في ظل اللونين الأخضر والأبيض اللذين يرمزان للأمل والنقاء، بينما يشير اللون الأحمر إلى الدماء التي سالت من أجل حرية الجزائر.

أما العنوان "ألفية الجزائر"، فهو في حد ذاته علامة سيميائية، تربط بين العمل الأدبي والهوية الوطنية الجزائرية، وهو ما يتضح في تناول الشاعر لتاريخ الجزائر ورموزه في الأبيات الشعرية.49 ibraheem gharali

3. الرؤية الأنثروبولوجية (Anthropological Vision):

التحليل الأنثروبولوجي يدرس الثقافة الإنسانية والسياقات التاريخية والاجتماعية. في "ألفية الجزائر"، نجد أن الشاعر يربط بين الحضارات المتعاقبة على الجزائر ويؤكد على الهوية العربية والإسلامية للأمة الجزائرية. يتناول الشاعر قضايا الذاكرة الجماعية وكيف أن أحداث التاريخ تشكل جزءًا من الهوية الثقافية.

المقاربة الأنثروبولوجية تؤكد على أن الفينيقيين، الذين يُعتبرون من العرب القادمين من جنوب لبنان، كانوا من أوائل السكان الذين استقروا في شمال إفريقيا، مما يشير إلى وجود عنصر عربي في المنطقة قبل الإسلام بفترة طويلة. الفينيقيون، الذين أسسوا قرطاج ومدنًا أخرى على ساحل البحر الأبيض المتوسط، لعبوا دورًا كبيرًا في تكوين الهوية الثقافية للمنطقة.

وعندما جاء الفاتحون العرب بقيادة عقبة بن نافع في القرن السابع الميلادي، كانوا يسيرون على خطى أسلافهم الفينيقيين. هذا يعزز الحجة القائلة بأن اللغة العربية والثقافة العربية كانت موجودة في المنطقة قبل الإسلام، وأن الفتح الإسلامي لم يكن إلا عاملًا في تعزيز ونشر هذه الثقافة.

4. الرؤية الأيديولوجية (Ideological Vision):

الدراسة الأيديولوجية تركز على تحليل الأفكار والمعتقدات التي ينقلها النص. "ألفية الجزائر" تحمل رؤية واضحة لصراع الحضارات، حيث يشير الشاعر إلى أن الصراع في الجزائر هو بالأساس صراع حضاري، يعكس التماسك الوطني والقوة الروحية للأمة.

الشاعر ينطلق من موقف أيديولوجي واضح يتبنى الدفاع عن الهوية الوطنية والدينية للجزائر، معتبرًا أن الثقافة العربية والإسلامية هي الأساس الذي بنيت عليه الشخصية الجزائرية.

5. الذاكرة الوطنية والنفسية (National Memory and Psychological Perspective):

تحليل الذاكرة الوطنية والنفسية يركز على كيفية تمثيل الذاكرة الجماعية للأمة ودورها في تشكيل الهوية. في "ألفية الجزائر"، نجد أن الشاعر يحيي ذكرى الشهداء والمجاهدين، ويعزز من فكرة أن الاستقلال والنضال جزء لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية الجزائرية.

اللازمة الشعرية في الديوان تعكس ارتباطًا نفسيًا عميقًا بين الشاعر ووطنه، حيث يتحدث عن الجزائر بصيغة المديح والثناء، مع استدعاء الرموز الوطنية التي ساهمت في تحرير البلاد.

المقارنة بين "ألفية الجزائر" و"إلياذة الجزائر":

من حيث الشكل، لا توجد فروقات كبيرة بين العملين، فكلاهما يعتمد على نفس البناء الشعري المكون من ألف بيت شعري موزعة على مائة مقطع. لكن الفارق الزمني بين الديوانين يُعد عاملًا هامًا، إذ أن "ألفية الجزائر" جاءت بعد خمسين سنة من "إلياذة الجزائر"، مما يجعلها بمثابة استمرارية للأدب الوطني الجزائري.

كلا العملين يشتركان في تمجيد تاريخ الجزائر ورموزها، لكن "ألفية الجزائر" تضيف بعدًا أيديولوجيًا يتعلق بالصراعات الحضارية في العصر الحديث، بالإضافة إلى تناول بعض القضايا المتعلقة بالهوية الوطنية في زمن الحروب السيبرانية.

لفهم الهوية العربية لشمال إفريقيا، من الضروري إعادة النظر في التاريخ من منظور أوسع، يشمل الأنثروبولوجيا وتطور اللغات والثقافات في المنطقة. هذه الدراسة توضح كيف أن اللغة العربية والثقافة العربية كانت موجودة في المنطقة قبل الإسلام، وأن الفتح الإسلامي لم يكن إلا عاملًا في تعزيز ونشر هذه الثقافة.

الختام:

ديوان "ألفية الجزائر" هو عمل شعري ملحمي يعكس الهوية الوطنية الجزائرية ويحتفي بتاريخها العريق. من خلال هذه الدراسة، حاولنا تحليل الديوان من عدة جوانب نقدية، وإبراز العلاقات بينه وبين "إلياذة الجزائر". يبقى "ألفية الجزائر" شهادة حية على استمرار الروح الوطنية الجزائرية، وتأكيدًا على أن الشعر ما يزال يحمل شعلة الهوية والمقاومة في وجه التحديات الحديثة.

***

بقلم الأستاذ رابح بلحمدي

هنريك إبسن، كاتب مسرحي نرويجي مشهور، يتعمق في تعقيدات وسخافات الحياة في أعماله الدرامية. يستكشف إبسن من خلال مسرحياته المعايير والتوقعات المجتمعية التي تشكل حياة الأفراد، وغالبا ما يسلط الضوء على اللاعقلانية وعدم جدوى الوجود الإنساني. في أعمال مثل "بيت الدمية" و"هيدا جابلر"، يتحدى المعتقدات والقيم التقليدية التي تحكم المجتمع، ويقدم بيانًا قويًا حول عبثية الحياة. في "بيت الدمية"، يجسد إبسن شخصية نورا هيلمر، وهي امرأة تضحي بهويتها وسعادتها من أجل التوقعات المجتمعية. بينما تتصارع مع زواجها القمعي والقيود التي فرضها عليها زوجها والمجتمع، تدرك نورا عبثية وضعها. وبالمثل، في "هيدا جابلر"، تكافح الشخصية الرئيسية مع القيود المفروضة عليها من قبل المجتمع، مما يؤدي في النهاية إلى وفاتها المأساوية. من خلال هذه الأمثلة وغيرها الكثير، يجبر إبسن جمهوره على مواجهة الحقائق القاسية وسخافات الحياة، مما يدعو إلى التشكيك في الأساس الذي يقوم عليه المجتمع. عندما نتعمق في أعمال إبسن، نواجه إدراكًا قاتمًا بأن الحياة نفسها غالبًا ما تكون مجرد سلسلة من السخافات.

حقائق أساسية

1. يتم تصوير عبثية الحياة في أعمال هنريك إبسن الدرامية من خلال صراع الشخصيات مع الأعراف والتوقعات المجتمعية. - على سبيل المثال، في "بيت الدمية"، يدفعها إدراك نورا لزواجها الخانق والتوقعات المجتمعية إلى اتخاذ قرار جذري بترك أسرتها، مما يدل على عبثية التوافق مع الأدوار المجتمعية.

2. يستخدم إبسن موضوع أزمة الهوية لتسليط الضوء على عبثية الالتزام بالتقاليد المجتمعية على حساب سعادة الفرد. - في "هيدا جابلر"، يؤدي سعي الشخصية اليائسة للحفاظ على مكانتها وسمعتها إلى التلاعب بحياة من حولها وتدميرها، مما يوضح الآثار الضارة للضغط المجتمعي على الحرية الفردية.

 3. إن مفهوم الحقيقة والخداع فكرة متكررة في مسرحيات إبسن، مما يوضح عبثية الحفاظ على الواجهات من أجل التوافق مع التوقعات المجتمعية. - في "الأشباح"، يجسد كفاح السيدة ألفينج لإخفاء طبيعة زوجها الحقيقية والحفاظ على سمعتها العواقب المدمرة لإنكار الحقيقة من أجل التوافق مع الأعراف المجتمعية.

 4. إن تصوير إبسن لشخصيات معيبة تتصارع مع معضلات وجودية هو بمثابة تعليق على عدم جدوى محاولة العثور على معنى في عالم فوضوي وسخيف. - في "البط البري"، يؤدي تضليل جريجرز في الحقيقة المطلقة إلى عواقب مدمرة على عائلة إيكدال، مما يسلط الضوء على سخافة اتباع مفاهيم مثالية للأخلاق والصلاح والاعتقاد في عالم معيب.

 5. من خلال استكشافه للشخصيات المعقدة والمعضلات الأخلاقية، يتحدى هنريك إبسن الجماهير لمواجهة العبثية المتأصلة في الحياة والتشكيك في صحة الأعراف والتوقعات المجتمعية.

تفاصيل:

1. يتم تصوير عبثية الحياة في أعمال هنريك إبسن الدرامية من خلال صراع الشخصيات مع الأعراف والتوقعات المجتمعية.

في أعمال هنريك إبسن الدرامية، يتم تصوير عبثية الحياة بوضوح من خلال صراع الشخصيات المستمر مع الأعراف والتوقعات المجتمعية. غالبا ما تسلط مسرحيات إبسن الضوء على سخافة محاولة التوافق مع معايير المجتمع الصارمة، ليجد المرء نفسه محاصرا في دائرة من خداع الذات والتعاسة. خذ على سبيل المثال شخصية نورا هيلمر في مسرحية إبسن الشهيرة "بيت الدمية". يتم تقديم نورا على أنها الزوجة الفيكتورية المثالية، التي تؤدي واجباتها كأم شغوفة وزوجة مخلصة. ومع ذلك، مع تقدم المسرحية، يصبح من الواضح أن نورا تعيش حياة تمليها بالكامل التوقعات المجتمعية. يعاملها زوجها كدمية، ألعوبة يمكن التلاعب بها والسيطرة عليها. إن إدراك نورا لهذه العبثية يدفعها إلى اتخاذ قرار جذري بترك زوجها وأطفالها سعياً وراء اكتشاف الذات. وبالمثل، في "هيدا جابلر"، فإن الشخصية الفخرية محاصرة في زواج خانق وبيئة اجتماعية محفزة. تتعارض رغبة هيدا في السلطة والاستقلال مع التوقعات الموضوعة عليها كامرأة في مجتمع القرن التاسع عشر. أدت محاولاتها لتأكيد السيطرة على حياتها إلى سلسلة من الأحداث المأساوية، مما أدى في النهاية إلى وفاتها. من خلال هذه الشخصيات، يكشف إبسن عبثية محاولة التوافق مع المعايير المجتمعية التي تقيد الحرية الفردية والأصالة. إنه يتحدى جمهوره للتشكيك في صحة هذه المعايير والنظر في عواقب اتباع التقاليد بشكل أعمى. في الختام، فإن عبثية الحياة في أعمال هنريك إبسن الدرامية هي انعكاس قوي لنضال الإنسان من أجل التنقل بين التوقعات المجتمعية مع الحفاظ على الشعور بالذات. من خلال تصوير الشخصيات التي تتصارع مع أدوارها في المجتمع، يدعونا إبسن إلى مواجهة الطبيعة القمعية للامتثال والنظر في أهمية الأصالة وتحقيق الذات. من خلال رواياته المقنعة وشخصياته المعقدة، يترك إبسن تأثيرا دائما على الجماهير، مذكرا إيانا بالعبثية المتأصلة في السعي للحصول على موافقة المجتمع.

- على سبيل المثال، في "بيت الدمية"، يدفعها إدراك نورا لزواجها الخانق والتوقعات المجتمعية إلى اتخاذ قرار جذري بترك أسرتها، مما يدل على عبثية التوافق مع الأدوار المجتمعية.

في مسرحية هنريك إبسن الشهيرة "بيت الدمية"، تجسد شخصية نورا هيلمر العبثية المتأصلة في الحياة عندما يلتزم المرء بشكل أعمى بالتوقعات والأعراف المجتمعية. في بداية المسرحية، تبدو نورا مثالًا للزوجة والأم المثالية، حيث تقوم بأدوارها كمربية وربة منزل بإخلاص. ومع ذلك، مع تطور القصة، يصبح من الواضح بشكل صارخ أن مظهر نورا الخارجي هو مجرد واجهة تخفي اضطرابها الداخلي وعدم رضاها عن حياتها. كان إدراك نورا لزواجها الخانق والتوقعات المجتمعية القمعية المفروضة عليها بمثابة حافز لقرارها الجذري بترك عائلتها وراءها. باختيارها ترك زواجها وأطفالها، تحطم نورا وهم المرأة المنزلية المثالية وتؤكد استقلاليتها وفاعليتها كفرد. من خلال تصرفات نورا، يتحدى إبسن الجمهور للتشكيك في عبثية التوافق مع الأدوار المجتمعية التي تنكر الذات الحقيقية وتحفز النمو الشخصي. إن شجاعة نورا في التحرر من حدود زواجها تسلط الضوء على أهمية اكتشاف الذات والعيش بشكل أصيل، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة ردود الفعل المجتمعية والإدانة. بشكل عام، تعد قصة نورا في "بيت الدمية" بمثابة تذكير قوي بسخافة التوافق الأعمى مع التوقعات المجتمعية والحاجة إلى إعطاء الأولوية لتحقيق الذات وتحقيق الذات. إن تصوير إبسن لرحلة نورا هو بمثابة مثال مقنع للتعقيدات والتناقضات الكامنة في التعامل مع متطلبات المجتمع والسعي وراء الحرية الفردية والسعادة.

تفاصيل:

1. يتم تصوير عبثية الحياة في أعمال هنريك إبسن الدرامية من خلال صراع الشخصيات مع الأعراف والتوقعات المجتمعية.

في أعمال هنريك إبسن الدرامية، يتم تصوير عبثية الحياة بوضوح من خلال صراع الشخصيات المستمر مع الأعراف والتوقعات المجتمعية. غالبا ما تسلط مسرحيات إبسن الضوء على سخافة محاولة التوافق مع معايير المجتمع الصارمة، ليجد المرء نفسه محاصرًا في دائرة من خداع الذات والتعاسة. خذ على سبيل المثال شخصية نورا هيلمر في مسرحية إبسن الشهيرة "بيت الدمية". يتم تقديم نورا على أنها الزوجة الفيكتورية المثالية، التي تؤدي واجباتها كأم شغوفة وزوجة مخلصة. ومع ذلك، مع تقدم المسرحية، يصبح من الواضح أن نورا تعيش حياة تمليها بالكامل التوقعات المجتمعية. يعاملها زوجها كدمية، ألعوبة يمكن التلاعب بها والسيطرة عليها. إن إدراك نورا لهذه العبثية يدفعها إلى اتخاذ قرار جذري بترك زوجها وأطفالها سعياً وراء اكتشاف الذات. وبالمثل، في "هيدا جابلر"، فإن الشخصية الفخرية محاصرة في زواج خانق وبيئة اجتماعية محفزة. تتعارض رغبة هيدا في السلطة والاستقلال مع التوقعات الموضوعة عليها كامرأة في مجتمع القرن التاسع عشر. أدت محاولاتها لتأكيد السيطرة على حياتها إلى سلسلة من الأحداث المأساوية، مما أدى في النهاية إلى وفاتها. من خلال هذه الشخصيات، يكشف إبسن عبثية محاولة التوافق مع المعايير المجتمعية التي تقيد الحرية الفردية والأصالة. إنه يتحدى جمهوره للتشكيك في صحة هذه المعايير والنظر في عواقب اتباع التقاليد بشكل أعمى. في الختام، فإن عبثية الحياة في أعمال هنريك إبسن الدرامية هي انعكاس قوي لنضال الإنسان من أجل التنقل بين التوقعات المجتمعية مع الحفاظ على الشعور بالذات. من خلال تصوير الشخصيات التي تتصارع مع أدوارها في المجتمع، يدعونا إبسن إلى مواجهة الطبيعة القمعية للامتثال والنظر في أهمية الأصالة وتحقيق الذات. من خلال رواياته المقنعة وشخصياته المعقدة، يترك إبسن تأثيرا دائما على الجماهير، مذكرا إيانا بالعبثية المتأصلة في السعي للحصول على موافقة المجتمع.

- على سبيل المثال، في "بيت الدمية"، يدفعها إدراك نورا لزواجها الخانق والتوقعات المجتمعية إلى اتخاذ قرار جذري بترك أسرتها، مما يدل على عبثية التوافق مع الأدوار المجتمعية.

في مسرحية هنريك إبسن الشهيرة "بيت الدمية"، تجسد شخصية نورا هيلمر العبثية المتأصلة في الحياة عندما يلتزم المرء بشكل أعمى بالتوقعات والأعراف المجتمعية. في بداية المسرحية، تبدو نورا مثالًا للزوجة والأم المثالية، حيث تقوم بأدوارها كمربية وربة منزل بإخلاص. ومع ذلك، مع تطور القصة، يصبح من الواضح بشكل صارخ أن مظهر نورا الخارجي هو مجرد واجهة تخفي اضطرابها الداخلي وعدم رضاها عن حياتها. كان إدراك نورا لزواجها الخانق والتوقعات المجتمعية القمعية المفروضة عليها بمثابة حافز لقرارها الجذري بترك عائلتها وراءها. باختيارها ترك زواجها وأطفالها، تحطم نورا وهم المرأة المنزلية المثالية وتؤكد استقلاليتها وفاعليتها كفرد. من خلال تصرفات نورا، يتحدى إبسن الجمهور للتشكيك في عبثية التوافق مع الأدوار المجتمعية التي تنكر الذات الحقيقية وتحفز النمو الشخصي. إن شجاعة نورا في التحرر من حدود زواجها تسلط الضوء على أهمية اكتشاف الذات والعيش بشكل أصيل، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة ردود الفعل المجتمعية والإدانة. بشكل عام، تعد قصة نورا في "بيت الدمية" بمثابة تذكير قوي بسخافة التوافق الأعمى مع التوقعات المجتمعية والحاجة إلى إعطاء الأولوية لتحقيق الذات وتحقيق الذات. إن تصوير إبسن لرحلة نورا هو بمثابة مثال مقنع للتعقيدات والتناقضات الكامنة في التعامل مع متطلبات المجتمع والسعي وراء الحرية الفردية والسعادة.

2. يستخدم إبسن موضوع أزمة الهوية لتسليط الضوء على عبثية الالتزام بالتقاليد المجتمعية على حساب سعادة الفرد.

هنريك إبسن، المعروف بمسرحياته الرائدة التي تتحدى الأعراف المجتمعية، غالبًا ما يستكشف موضوع أزمة الهوية لتسليط الضوء على سخافة الالتزام بالتقاليد المجتمعية على حساب سعادة الفرد. في أعماله، تتصارع الشخصيات مع ضغوط التوافق مع التوقعات المجتمعية، مما يؤدي في النهاية إلى الشعور بالاضطراب الشخصي والأزمة الوجودية. على سبيل المثال، في مسرحية إبسن "بيت الدمية"، تكافح بطلة الرواية، نورا هيلمر، مع توقع أن تكون زوجة وأم مطيعة. إنها محاصرة في زواج حيث تُعامل كالدمية، وتسيطر عليها توقعات زوجها والأعراف المجتمعية. إن إدراك نورا لافتقارها إلى القوة والفردية يدفعها إلى اتخاذ قرار جريء بترك زواجها القمعي، حتى في ظل خطر الحكم المجتمعي والنبذ. وبالمثل، في "هيدا جابلر"، تواجه الشخصية الرئيسية أزمة هوية مماثلة، حيث تشعر بالاختناق بسبب التوقعات المجتمعية المفروضة عليها كامرأة في مجتمع أبوي. إن يأس هيدا من أجل السيطرة والوكالة يقودها إلى ارتكاب أفعال شنيعة، مما يسلط الضوء في النهاية على سخافة الامتثال للمعايير المجتمعية على حساب سعادة الفرد. من خلال هذه الأمثلة، يصور إبسن بشكل فعال صراعات الأفراد الممزقين بين التوقعات المجتمعية ورغباتهم الخاصة في الاستقلال والتعبير عن الذات. من خلال عرض عواقب الالتزام الأعمى بالتقاليد المجتمعية، يحث إبسن جمهوره على التشكيك في صحة المعايير المجتمعية التي تقيد النمو الشخصي وتحقيق الذات. إن استكشاف هنريك إبسن لأزمة الهوية في مسرحياته بمثابة تذكير مؤثر بسخافة التضحية بسعادة الفرد من أجل التوقعات المجتمعية. من خلال توصيفاته القوية ورواياته المثيرة للتفكير، يتحدى إبسن جمهوره للتفكير في قيود الاتفاقيات المجتمعية واحتضان القوة المحررة للأصالة واكتشاف الذات.

- في "هيدا جابلر"، يؤدي سعي الشخصية اليائسة للحفاظ على مكانتها وسمعتها إلى التلاعب بحياة من حولها وتدميرها، مما يوضح الآثار الضارة للضغط المجتمعي على الحرية الفردية.

يقدم فيلم "هيدا جابلر" لهنريك إبسن تصويرا صارخا لسخافة الحياة، لا سيما من خلال الشخصية المأساوية لهيدا نفسها. إن محاولات هيدا المحمومة للحفاظ على مكانتها الاجتماعية وسمعتها بمثابة تعليق مؤثر على الآثار الضارة للضغط المجتمعي على الحرية الفردية. طوال المسرحية، كانت هدا على خلاف دائم مع نفسها ومن حولها وهي تتغلب على القيود التي فرضها عليها المجتمع. على الرغم من موقعها المميز، تجد نفسها محاصرة في شبكة خانقة من التوقعات والأعراف التي تدفعها في النهاية إلى اتخاذ تدابير يائسة. في سعيها الدؤوب لتحقيق المكانة والسيطرة، تلجأ "هيدا" إلى التلاعب والتدمير، مما يؤدي دون قصد إلى تحديد مصيرها المأساوي. إن تصرفات هيدا لا تلحق الضرر بمن حولها فحسب، بل إنها تعكس أيضا قضية مجتمعية أكبر - الطبيعة المحفزة للتوقعات المجتمعية والأثر الذي يمكن أن تلحقه بالاستقلالية الفردية. من خلال الاستسلام لضغوط بيئتها، تفقد "هيدا" الاتصال بذاتها الحقيقية وتنفر من نفسها ومن تحب. إن تصوير إبسن لهيدا هو بمثابة تذكير صارخ بمخاطر الامتثال وسخافة السعي من أجل شعور زائف بالأمان. ومن خلال سقوطها المأساوي، نحن مجبرون على مواجهة الحقيقة القاسية المتمثلة في أن السعي وراء المكانة الاجتماعية والسمعة يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تدميرنا. وفي الختام، تعتبر "هيدا جابلر" مثالا قويا على عبثية الحياة في مواجهة الضغوط المجتمعية. إن قصة هدا المأساوية بمثابة حكاية تحذيرية، تذكرنا بأهمية البقاء صادقين مع أنفسنا ومقاومة القيود التي يفرضها علينا المجتمع. لا يزال عمل إبسن الخالد يتردد صداه لدى الجماهير اليوم، وهو بمثابة تذكير صارخ بالآثار الضارة للضغط المجتمعي على الحرية الفردية.

3. إن مفهوم الحقيقة والخداع فكرة متكررة في مسرحيات إبسن، مما يوضح عبثية الحفاظ على الواجهات من أجل التوافق مع التوقعات المجتمعية.

في أعمال هنريك إبسن الدرامية، يعد مفهوم الحقيقة والخداع فكرة متكررة تعمل على تسليط الضوء على سخافة الحفاظ على الواجهات من أجل التوافق مع التوقعات المجتمعية. في جميع أعماله، يتحدى إبسن فكرة أن المطابقة والسطحية هي مكونات ضرورية للمجتمع، وبدلا من ذلك يكشف الآثار الضارة لعيش حياة مبنية على الأكاذيب. في "بيت الدمية"، تجسد شخصية نورا هيلمر عواقب عيش حياة مبنية على الخداع. على الرغم من أنها تبدو وكأنها زوجة سعيدة ومطمئنة، إلا أن وجود نورا بأكمله ينكشف على أنه مجرد واجهة عندما يكتشف زوجها السر الذي كانت تخفيه عنه. يصبح خداع نورا عبئا خانقا، مما يدفعها في النهاية إلى التشكيك في صحة زواجها بالكامل والأعراف المجتمعية التي أملت سلوكها. وبالمثل، في «الأشباح»، يستكشف إبسن تداعيات إخفاء الحقيقة من أجل الحفاظ على المظاهر. تطارد خطايا ماضيهم الشخصيات في المسرحية، غير قادرين على الهروب من عواقب أفعالهم الخادعة. بدأت واجهة الاحترام التي صنعوها بعناية في الانهيار، لتكشف عن العبثية العميقة لعيش حياة مبنية على الأكاذيب. يعد استكشاف إبسن للحقيقة والخداع بمثابة نقد قوي للتوقعات المجتمعية والضغط من أجل التوافق مع المعايير الراسخة. من خلال الكشف عن عواقب الحفاظ على الواجهات، يتحدى إبسن جمهوره للتشكيك في صحة الحياة التي تمليها الأكاذيب. ومن خلال القيام بذلك، فهو يدعو إلى فحص أعمق لسخافة التوافق مع التوقعات المجتمعية على حساب حقيقته وأصالته.

تعرض أعمال هنريك إبسن الدرامية بشكل فعال عبثية الحياة من خلال الشخصيات المعيبة والمواقف المعقدة التي يواجهونها. من خلال الخوض في الجوانب المظلمة للطبيعة البشرية والمجتمع، يتحدى إبسن الجمهور للتشكيك في معتقداتهم وقيمهم. إن الصراعات والصراعات التي تواجهها شخصياته هي بمثابة مرآة لحياتنا، وتحثنا على التفكير في العبث الذي يحيط بنا. من خلال أعمال مثل "بيت الدمية" و"هيدا جابلر"، يوضح إبسن أن الحياة مليئة بالتناقضات والتعقيدات والمظالم التي قد تبدو سخيفة، ولكنها في النهاية تشكل فهمنا للعالم. بينما نواصل صراعنا مع عبثية الحياة، دعونا ننتقل إلى أعمال إبسن الدرامية القوية كتذكير لنا باستمرار التشكيك في الوضع الراهن وتحديه.

***

نور محمد يوسف

........................

Bibliography

1.     Ibsen, Henrik. "A Doll's House." 1879. 2. Ibsen, Henrik. "Hedda Gabler." 1890.

2.     Ibsen, Henrik. A Doll's House. London: Penguin Books, 2003.

3.     Ibsen, Henrik. Hedda Gabler. New York: Dover Publications, 1990.

4.     Ibsen, Henrik. A Doll's House. CreateSpace Independent Publishing Platform, 2018.

5.     Ibsen, Henrik. Ghosts. CreateSpace Independent Publishing Platform, 2018.

6.     Ibsen, Henrik. "Hedda Gabler." Dover Thrift Editions, 2012.

7.     Ibsen, Henrik. "A Doll's House." Hedemann Publishing, 1879.

8.     Ibsen, Henrik. "Hedda Gabler." Gyldendal Norsk Forlag, 1890.

9.     Ibsen, Henrik. "A Doll's House." 1879.

10.   Ibsen, Henrik. "Hedda Gabler." 1890.)

دعوة للتقارب من اجل العراق

مازال الوجع العراقي وما مر بتاريخ العراق الحديث من حروب وحصار، وقيادات كان لها الدور الاول في تدمير الاقتصاد العراقي وحرمان شعبه من العيش بسلام والتمتع بثرواته، مازال هذا الموضوع يقض مضاجع الادباء من كتاب وشعراء عراقيين، فيمطرونه على صفحات الكتب كروايات او قصص.. كُتب العديد من الروايات  التي تصور عمق المحنة واثرها البالغ على نفسية ومسار حياة الشعب العراقي. كل حسب اسلوبه وقدراته ومن وجهة نظره الادبية والسياسية. فالسياسة حين تقتحم الرواية قد تعطيها عمقا وبعدا انسانيا اكبر من اي اثر يتركه سياسي قيادي في العالم. وكما يقول فيليب سولرز : تعطي السياسة الانطباع بانها تسيطر على العالم فتسير دائما بالاتجاه نفسه، اليسار المتصدع او اليمين المفتت.. بينما الادب هو الباقي في كل مكان.

والرواية اكثر انواع الادب تاثيرا بالمجتمع. واكثرها خلودا اذا كتبت بصدق وباسلوب سلس غير معقد، حتى لو اخضعها النقاد الى مدرسة ما، او لتقديم متعة القراءة فقط. في عبارة لارنست همنغواي يقول: تشترك جميع الكتب الجيدة في التاكيد على انها اكثر صدقا من الواقع..فان استطعت ان اقدّم للقاريء السعادة والتعاسة ، الخير والشر..حالة الناس والطقس اكون عندئذ كاتبا حقيقيا".

من الروايات التي قرأتها في الايام الماضية رواية (جاذبية الصفر) للقاص والروائي لؤي عبد الاله. الصادرة عن دار دلمون الجديدة. رواية تشدك منذ دخولك دهاليز الصفحات الاولى باسلوب سلس ومشوق وبلغة ممتعة غير متكلفة.. فتسحبك خيوط رسائلها لتواصل البحث عما ستجده في الرسائل اللاحقة دون الالتفات الى صفحاتها الـ(512) .. فانت ترافق شخصياتها باصرار حتى اخر رسالة. فالكاتب اعتمد اسلوبا مشوقا جعل الرواية عبارة عن رسائل يبعثها البطل الاول للرواية، يوسف الاستاذ الجامعي الى الرسام جليل رفيق دربه منذ الصبا وحتى لحظة عودة الاخير الى العراق. تقع هذه الرسائل او المظاريف بيد شخص مسافر والقدر يلعب دورا في تبادل الحقائب. ربما اراد الكاتب بهذه الطريقة المبتكرة ان يبعد التاويلات التي كثير ماترافق العمل الادبي ..

  القاص والروائي لؤي عبد الاله  يضع بين ايدينا عمل ضخم من ناحية عدد الصفحات وتعدد الشخوص ورؤية الكاتب السياسية والفلسفية وهو يجعلنا نتجول في متاهات افكار  ونفوس الشخصيات المتخيلة والواقعية منها .ابطالها مجموعة من المغتربين يجمعهم فكر سياسي واحد على درجات، ويواجهون اخبار العراق على البعد بمشاعر مختلفة، يجمعهم القلق ذاته والحيره ذاتها. منذ التمهيد يعطينا الكاتب فكرة عن صاحب الرسائل او المظاريف التي ستشكل فصول الرواية واحداثها، بعدما تصل الى يد مترجم بعد تبادل الحقائب الغير مقصود. "قضيت الليل غارقا في قراءة الرسائل الغريبة، كانت مكتوبة بانكليزية متقنة تشير الى ان وراءها عقلا اعتاد على تاليف البحوث الاكاديمية" ص 12. اراد الكاتب هنا ان يشير الى البطل الرئيسي صاحب الرسائل والذي بقي مجهولا في الفصول الاولى لنعرف فيما بعد انه يوسف الاستاذ الجامعي العراقي المغترب المتزوج من انكليزية..

اعترف اني اتجنب قراءة كل مايبث اليأس في روح القاريء..لاتهمني الموازين الشعرية ولا المدارس الادبية ولا حتى انتماء الكاتب لأي منها بقدر مايهمني حب العمل، وما يتركه من أثر في نفس القاريء

.. واؤمن بشدة ان العمل الجيد لابد ان يترك شيء من الامل او المتعة في نفس القاريء لو كان العمل ينتمي الى مدرسة الفن للفن.. المهم ان يكتب باسلوب ولغة ترقى بالعمل وبذائقة القاريء. بعض الروايات تشعر خلال رحلتك مع شخوصها كما لو انت ترافقهم تقترب من نفوسهم، تتعرف عليهم من جديد اذا كانت بعض الاسماء تعرفها سياسيا او تاريخيا. فمن تجربتي مع الكتابة اشعر بالشخوص كما لو هم رفاق درب احاورهم او يحاوروني.. هذا الشعورعشته مع بعض الروايات المهمة التي قراتها، كذلك مع كل الشخوص التي تخيلتها في كل رواياتي، وقبلها مع القصص القصيرة، ذلك قبل ان اقرأ رأي ماركيز حين سأله صحفي عن سبب الكتابة لديه : اكتب لأشعر ان هناك من يرافقني.

بعض الروايات لها الفضل في تطور معارفنا بالمجتمع والتاريخ، بالمدن والحضارات، ومكنونات النفس البشرية اكثر مما تعلمناه من فرويد ويونغ. فيكتور هوغو يقول: اننا نتوغل في فهم روح الشعوب والحياة الداخلية للمجتمعات البشرية عن طريق الحياة الادبية اكثر منها عن طريق الحياة السياسية. بل حتى العلاقات الانسانية والحب نجد ان الاعمال الادبية المميزة لها دور في تطوير مدارك القاريء ازاء الحياة والحب والانسان. وعلى راي كافي لورانس: بماذا يفيدنا الادب ان لم يعلمنا كيف نحب؟

 بل حتى المفردات اللغوية هناك من الكتاب من له الشجاعة في اختلاق مفردة لم يسمع بها القاريء ، او استخدام مفردات من اللغة العامية المحكية كما في مفردة (المجعلكة) عن اللهجة الشامية، التي استخدمها الكاتب في وصف ملابس احد شخصيات رواياته والتي قصد منها الغير مكوية او المجعدة!

كتبتُ عن بعض الروايات، واعترف اني اتحمس اكثر للكتابة عن الرواية التي احب ، وطبعا كتابتي ليست نقدية بالفهوم الاكاديمي للنقد.. بل هي مجرد اضاءة من قاريء.

في حوار جانبي مع الروائي عبد الاله يقول انه يرجو على المدى البعيد ان تساهم الرواية في تقريب العراقيين من بعضهم البعض.. او على الاقل يضحكون على المصير الذي شاركوا بصنعه تلبيه لاوامر آلهات القدر". وفي عصرنا الحالي الهة القدر هي امريكا وتحكمها بمصائر الشعوب التي ابتليت بقيادات غبية او التي همها الاول التسلط واستغلال المنصب على حساب الشعوب التي تعمد تجهيلها.

الجملة الافتتاحية لخص فيها بعض ما اراد من الرواية ان تقوله.. "تلحق الالهة النحس بشعب ما كي يكون هناك شيء تغني الاجيال اللاحقة عنه"!

جاذبية الصفر، رايت العنوان ينطبق على الكثير من الشخوص لاسيما شخصية سَدَم (حسب نطق الاسم بوسائل الاعلام الغربية) او صدام وتعلقه بالوهم الذي ادى به الى العدم! لكن الكاتب يقول: العنوان يلخص الثيمة التي تدور عليها الرسالة (جاذبية الصفر) التي جاءت  لتصف حالة الانسان حين يتحرر من الانا الأعلى كما يسميه فرويد : القيم والضغوط الاجتماعية التي تفرض على الانسان ان يتبع نمطا محددا في حياته.. طبعا المفهوم قابل لان يفسر باشكال اخرى..ممكن ان يعني فقدان الوزن كما هو في العنوان الفرعي weightlessness .. جاذبية الصفر هي حالة فردية بحت.. وفعلا تنطبق على صدام المسكون بالوهم ان هناك اله اخذه من الصفر الى القمة ومن غير الممكن ان يتخلى عنه".

حرص الكاتب على تنوع السرد في الرسائل او الفصول، بعضها كان ايقاعها مختلف عن ايقاع الفصل الاخر فالفصلان الثاني والرابع ايقاعهما سريع يكسران الايقاع البطيء في الفصلين الاول والثالث .. وتحرر من السرد المعروف في الرسائل فكانت اشبه بمذكرات البطل يوسف المبعوثة كرسائل لصديقه الرسام والتي لم تصله، بعد ان وقعت بيد المترجم.. خاصة ونعرف من احداث الرواية ان الرسام يعود الى بغداد.

تأخذنا الرسائل التي جعلها فصول ولكل منها عنوان، الى عوالم المغتربين العراقيين ومواجهتهم للحرب على العراق وكيف واجهها كل منهم عبر الشاشات التلفزيونية ووسائل الاعلام الاخرى، وقد كانت من اصعب الايام التي عانوا فيها القلق والتعذيب اليومي الذي ابدع الاعلام الغربي في التلاعب بالحقائق واختلاق بعضها او تضخيم البعض الاخر. ومع حالة الترقب والخوف على اهلهم في العراق يحاولون ان يخففوا من قلق بعضهم البعض "لاتخافي سيخرج صاحبنا من الكويت قبل انتهاء المهلة بساعات" ص 352

لكن الاعلام الغربي  كان يراعي مشاعر المشاهد الاوربي "ولكسر حالة الملل التي قد يشعرها من نقل حرب استمرت لشهور..هكذا ظل شوارزكوف يسعى لاقناعنا عبر شاشات التلفاز ..اسقاط سبع مقاتلات عراقية..تدمير زورقين حربيين ، تفجير جسور..قصف مصنع للحليب بعد ان ثبت للبنتاغون استخدامه في انتاج اسلحة كيمياوية!... ظلت الفيديوهات الحربية تؤدي الدور بتصويرها قاذفات انيقة لحظة القاءها قنابل على هيئة سكاكر من دون معرفة النقطة المستهدفة..او صواريخ تسبح بمرح كالدلافين في الهواء بعد اطلاقها من ظهر سفينة حربية صوب اهداف مجهولة ..476

للاسطورة حضور قوي وتداخل مع الوقائع والاحداث التي رصدها الكاتب ، الاحداث الواقعية غير المتخيلة خاصة الاساطير الاغريقية. فيرى الكاتب " حسب الاساطير القديمة لم يات تفوق زيوس على الالهة الا لسببين الاول لأنه يقيم في السماء  مما يمنحه اليد الطولى على الاخرين..والثاني سلاح الصاعقة الذي يجعلهم بفضله خاضعين لارادته.. كم يشبه بوش كبير الالهه في جبروته.. فامريكا بثراءها وسعتها تعادل سماء زيوس والتحكم بالالكترون مماثل لتحكمه بالصاعقة" ص447

تداخل بعض الاساطير بما حصل لبغداد اعطى بعدا وثراءا للرواية وهي تروي ماحصل بعيدا عن التقريرية فكلنا نعرف ماحصل، وعاصرنا ما مر ببغداد خلال حرب التسعينا ت والحروب التي تلتها التي شنتها امريكا على العراق وقد وجدت فيها ضالتها في قيادات العراق ، مثل صدام او سُدم كما سماه الكاتب في الرواية، ليمنحوا امريكا فرصة لاختلاق الحروب، فكل رئيس امريكي جديد لابد له من اشعال حرب او اختلاق حرب مباشرة او غير مباشرة تديرها امريكا على البعد! كما لو ان ذلك احد شروط انتخاب الرئيس الجديد لهم!

"هل استحضر نيرون طيف الملكة الاسطورية هكيوبا، لحظة مشاهدة حلمها القديم، المروع، يتحقق على ارض الواقع، شعلة حقيقية اخفى الظلام الدامس حاملها فبدت كانها تتحرك وحدها من بيت الى اخر مخلفة وراءها حرائق متعاقبة؟ هل سلمت ملكة طروادة بما قضاه زيوس ونفذته ايدي البشر.. على العكس من طروادة وروما، اطفأ المطر الذي تساقط ليومين متتالين حرائق بغداد، لكنه لم يتمكن من ازالة تلك الرائحة الغريبة التي ظلت عالقة في هواء المدينة الرطب..."ص455-456

يعتقد البعض ان الروايات المنطوية على مراجعات جذرية حول العقيدة والوجود المفترض ان تكتب في سن مبكرة سن الشباب عمر الشك والتساؤلات. وهذا رأي غريب ولا صلة له بالواقع، فالكاتب كلما تقدم بالعمر كلما زادت معارفه ومداركه وزادت تساؤلاته وزادت فرص تأملاته بالوجود.

فالكتابة سواء كانت قصة او رواية او قصيدة ، تقتحم الفكرة الكاتب وتفرض عليه الاسلوب ونوع العمل. بعيدا عن العمر والحالة. فالكاتب ماريا بارغاس يوسا، يقول في احدى رسائله لكاتب شاب: اعتقد ان الكتابة الادبية رواية كانت ام قصة او قصيدة تاتيك مثل القدر “ . وانت وحظك في مواجهة ذلك القدر. وبالتاكيد لكل كاتب اسلوبه والتحكم في ذلك القدر.

فالكاتب لؤي عبد الاله بدأ حياته الادبية كقاص وله مجاميع قصصية  منها لعبة الاقنعة ورمية زهر، والعبور الى الضفة الاخرى واحلام الفيديو.. وله ترجمات متعددة لدراسات ادبية وفلسفية وسياسية. وقد ابدع في كتابة الرواية في مرحلة الشباب الثانية مثل الكوميديا الالهية وجاذبية الصفر.

كقارئة ابحث عن الرمز في ثنايا الرواية واسقط على بعض الشخصيات رؤياي  التي ربما الكاتب لم يقصدها.. فوجدت في شخصية هاجر الشابة الجذابة الجميلة والمشاكسة، التي تزور لندن وتلتقي بباقي شخوص الرواية في بيت الدكتورة عالية، ليفاجا الجميع ان هاجر ابنة عالية الاولى التي تركتها في العراق لتربيها خالتها اخت الدكتورة.. وتنشأ معتقدة ان الخالة هي امها.. كما لو اراد ان يشير الى تخلي الكثير من العراقيين القياديين من الاحزاب المعارضة، عن العراق واختاروا المنفى !  من ثم يقع الجميع في حب هاجر والاعجاب بها الرسام جليل والاستاذ الجامعي يوسف وماهر المتأنق واسعد السكير الذي ينقلب على الافكار والمباديء التي كان يحملها.  فيحلم يوسف بالارتباط بها، لاسيما وزوجته الانكليزية تنفصل عنه. لكنها تصر على العودة للعراق مع نشوب الحرب الامريكية الاولى بقيادة بوش الاب.  ثم نكتشف من خلال رسالة يوسف الاخيرة ان اسعد وجليل يعودان الى الوطن للبحث عن هاجر او لمساعدتها وقد عرفوا انها تزوجت طبيب يصاب في الحرب. ويتزوج ماهر من الام الطبيبة عالية.. بينما يوسف يبقى من اجل بناته من الام البريطانية التي تبقي علاقته بها متارجحة. نتخيل حاله من خلال وصف المترجم التي يتذكر صاحب الحقيبة التي يلعب القدر في وقوعها بيده " استطيع ان ارى صاحبها الحقيقي يمشي على بعد خطوات امامي في قاعة مطار ستانستيد، ومعه يتردد صرير عجلات حقيبته المتخلخلة.. لعل ذلك الضجيج كان ناجما عن حركته المتسارعة التي جعلت قدميه تبدوان متحررين من الجاذبية الارضية، ولا استبعد انطباعا قويا تشكل في نفسي بانه مسافر دائم، لاتكاد الطائرة تهبط به في مدينة ما حتى ينتابه الضجر.." ص8-9

يتذكر المترجم حواره مع صاحب الحقيبة في الحافلة التي اقلتهم ن المطار الى لندن "...تعمقت الغضون المستقيمة الثلاث على جبهته العريضة وهويقول"حتى الحروب اصبحنا نستمتع بمشاهدتها عبر الشاشة فهي ماعادت كالسابق بشعة بدماء قتلاها وجثثهم المقطعة، كل شيء اصبح نظيفا وانيقا ولاباس ان نتابعها كما نتابع مباراة كرة القدم" ص 10

واخيرا ان الرواية بين طياتها ومن خلالها شخوصها على اختلاف رؤياهم وخلفياتهم الثقافية والاجتماعية هناك تقارب حميمي بينهم ومودة يظللها حب العراق، كما لو هي تدعو او تتأمل ان تنتهي مرحلة التفرقة الطائفية والتناحر القومي، تنتهي مرحلة اللاوطنية. ويعمل الجميع من اجل عراق عامر بالمحبة والرفاه.

***

ابتسام يوسف الطاهر

لندن – تموز 2024 

 

لعلّ ما يحاوله الروائي الجزائري الدكتور وليد خالدي، عبر جديده المعنون: ولادة قيصرية، ليس مجر تجربة حياتية، جرى تنفيذها على فصل من فصول سودها مداد المكنون، وأسست لبناته رواسب الذاكرة، بل إنها الأغراض الأرقى من ذلك بكثير، إنها هواجس الإضافة للمشهد السردي، وفض مثل هذه السكونية التي تطبعه، منذ زمن، على كثرة تواتر الأسماء، التي ما تنفك تشاكس ضمن حدود هذا الجنس الإبداعي الساحر والمنفلت والمستحوذ والعميق.

فعتبة الرواية هنا وبما تحمل عليه من دوال لاستعجال الحياة الحقيقة النقية والخالصة من سائر أوجه الزيف والأقنعة، نجدها أيضا تومئ إلى راهن الجاهلة التي ورثتنا أجيالا من التفاهة والفراغ الروحي كما العقلي، حدا أرخى بظلاله، وأنتج نظير هذه السكرة والدوخة الوجودية التي انقرضت لها أو تكاد، هوية الكائنية العربية، بكل تأكيد.

بذلك، وبكل بساطة، فهو يضعنا إزاء منطق مساءلة ثغرات الهوياتي في وجودنا العربي الذي باتت تنتابه السلبية، ويشوب رهاناته الانتقاص:

إنها دونية مبالغ فيها، راحت تلازم هذا الكائن المنقمع أصلا، وتنغص عليه الكثير من الأمور، ما استدعى مثل هذه الصرخة الجنينية، أي أنها نعومة الصوت السردي المجترح لإيقاعات ثورة باطنية جد هادئة وخفيضة، للشجب والإدانة والاستنكار.

يقول السارد في أحد المواضع:

{ومن وقع الدهشة، بقي طوال الليل، مضغوط القلب، يحمل آلاما مبهمة، يتابع هذا الفيلم أو المسلسل، وقد عمر طويلا، ويمضي بلا نهايات، قاطعا المسافات، يصعب تحديد وجهتها، أو حتى تخيلها، كان ظلام الليل ساعتها، ما يزال سائدا، ثم ما تلبث تستغرقه التخمينات في رتابتها المقيتة، يتهادى صوتها من قاع أحشائه، وبدافع أشعره بالعجز، ارتمى بقوة على السرير مضرّجا بالعرق، فتوقف ذهنه في المحطة المعهودة، ولم يكن في مقدوره فعل أي شيء، فكان على يقين بأن رحلته هذه لن تنتهي، وهي تحتل مساحة كبيرة من روحه، تجعله يتذكر طفولته البريئة، وقد فقدت الكثير من وهجها، وبحركة غير واعية امتلأ "الأستاذ نعيم" بشعور اخفق في حل ألغازه، وفشل في تعليله، وإيجاد أسبابه، ولكن التجارب المختلفة الملتفة بصور الانعتاق، سرعان ما كانت تهمس في أذنيه، بأن حبل الشر قصير، فأيقظت أحلامه مجددا، التي أوشكت على الانسحاب والمغادرة، والرحيل والانطفاء}(1).

وهكذا يتم نسج خيوط هذه الحوارية التي يتوازى ضمن آفاقها، الخطاب الذاكراتي الذي يجسده حضور أبو زيد، بما يحاكي ربما صفحات الأمجاد والملاحم الغابرة، النابضة بها مغامرات السيرة الهلالية، وصوت المعلم نعيم، في رسم أحلام جديدة تليق بجيل تبدل بالكامل، وقد تم مسه في هويته، على النحو المخزي الذي تسممت له الذائقة والوعي، على حدّ سواء.

جيل مهزوز ومضطرب، وإن كان من حقه، أن يشق أبعاد طموحاته، في مراياه، هو فقط، بمعزل عن وصايا وتعاليم الكبار، إلا هذا لا ينفي ضرورة استدعاء الأدوار الطلائعية للمعلم الحقيقي، بغية تقويم المعوج، وتوجيه القافلة إلى القبلة الصحيحة.

يقول في موضع آخر، أيضا:

{وقبل أن تقدم على إخبار زوجها بمجيء أخيه، استغربت عودته السريعة المفاجئة، وما فتئت الاحتمالات تخطر ببالها، وهي التي قد عهدته يطيل السفر، يتجول بين مدرجات الجامعة مع مالك بن نبي، يلقي المحاضرات في بلدان العالم، فخاطبته مستفسرة عن سر قدومه باكرا:

ــ عودة مفاجئة لعلها تخفي أطنانا من الأخبار.'

ــ هذا صحيح، آثرت اتخاذ عطلة مبكرة هذه المرة.

- والله إنها المرة الأولى التي أجدك فيها على هذه الحال...' أتمنى لو تدوم على هذا المنوال.

فتحاشى عبارتها الأخيرة وقال متهجما:

لقد كانت هذه الرحلة مؤلمة بالنسبة إليّ، إنها سابقة في حياتي..'' وحقيقة مرة كالعلقم، وكان من الصعب تقبلها.

ــ أفصح.' فأنا لم أعد أفقه شيئا.

ــ لقد طردتني الوحوش الضارية، والجوارح الكاسرة من الجامعة.

ــ ومالك بن نبي..'

- كذلك هو الآخر جرّ أذيال الهزيمة، لا سامح الله المماطلين.}(2).

إن الدور البطولي الذي أنيط به خالد، كشخصية شكلت الاستثناء والنموذجية بين جميع شخصيات الرواية الأخرى، التي وإن وزّعت في الفضاء السردي، حسب التباين الطبقي والثقافي، إلا أن أبرز ما راح يجمعها ويترجم جملة من القواسم المشتركة في ما بينها، هو الهوية المشروخة والمنكسرة والمتشظية.

خالد بعقليته التقدمية، وفي نضاله الطويل والمرير، يصطدم بالعديد من العقبات والاكراهات، لكنه يكابر ويعاند ويضل يقاوم، داعيا إلى ضرورة إعادة الاعتبار لصوت المعلم، من أجل إنقاذ المتبقي من ذبالة.

هنا يتبين إلى أي حد، الروائي متمكن من شخصيات، وحذق في رسم مسارات لعبها للأدوار الموغلة في الجرح الإنساني العميق الذي تتصادى له الثغرات الهوياتية، تماما، مثلما سبق وأشرنا إلى ذلك.

لأنها، أي هذه الشخصيات، في إثراء المشهد السردي بحضورها، ما بين الأدوار البطولية والثانوية والرمزية، تشهد تنوعا في الطموحات والأحلام والأهداف، ولكن تحت مظلة المصير الواحد، المشوب بالتوجسات والاضطراب والقلق والتشكيك في غالب الأحيان، كون ما يلجم مسببات تجويد هذا المصير المشترك، هو فرط المماطلات السياسية وأوبئة الأيديولوجي التي ما تنفكّ تتناسل كالفطر.

هنا، حلم السارد، من أحلام الطبقة المسحوقة، محاولة إنقاذ الوطن من معرة الجهالة وشتى أضرب الفساد الذي يتخبّط فيه، وبالنهاية لملمة هوية متشظية.

وفي سياق آخر، نطالع للسارد قوله، كذلك:

{ـ ابتسم لي الحظ أخيرا.. وضحك بأعلى صوته متهكما يا لهم من حمقى، يا لهم من أغبياء.. لا يزالون على طغيانهم يعمهون، يرددون على ألسنتهم الماضي، ونحن على تفاهتهم ننعم بما طاب واستلذ، ونذرهم على حكايات مصطفى بن بولعيد ومؤتمر الصومام، يتقلبون على الجمر ويفكرون بما يفكر به الحمار، يدور في مكانه، وهم يدورون في حلقة مفرغة.. ولست بنادم على أيام وهبتها خدمة لمصالحي الشخصية..' وهذا حق مشروع تداولته الأيادي من قبلي، وهي سنة حميدة تركها لنا الأوائل، ولا بد أن لا نحيد عنها، وعلى العهد نبقى جنودا مجندة، نحتسي الشاي على ظهور السفهاء..' وننعم بالرخاء على جيوبهم، ونعتلي المناصب الراقية على أصواتهم الشجية، ثم هرع مهرولا على بيته يمشي مشية آكل النمل}(3).

لقد صور هذا المقطع كل شيء تقريبا، بجلاء، بخاصة الإتيان على مفردة" النمل" وما تتستر عليه من رمزية ودوال تفيد التفاني والبذل والإخلاص في العمل على نحو معجز.

إنها صورة مصغرة، لعالم عربي ممتد لطخته أيادي الساسة الحمقى، وشوهت هوية كائناته المقموعة والمطحونة والمغلوبة على أمرها، نفعيات وأنانيات الأيديولوجيات المريضة، حدا مدمّرا ومتوقفا على الانفجار، في أية لحظة ممكنة.

صورة مخزية ومذلة، حاصرها السارد، ومن ورائه الروائي، بوطنية متوهجة للشخوص، وغربلة الأحداث، وتلوين الإيقاعات وتداخل الأزمنة والأمكنة.

ختاما يمكن القول إن الرواية، سواء من خلال بعدها الرِّسالي المنتصر للعقل التقدمي، عبر تعدد الأصوات المكالبة بعودة الدور الطلائعي للمعلم، أو بنائها الفني البديع الذي دفع بصاحب هذا المنجز القيم، إلى مراعات تحولات الذائقة، عكست العلامة الفارقة في مشهدنا السردي العربي، في حدود تجريبية جريئة، من مبدع متعدد، خبر أدغال القصيدة وعوالم النقد، ففاضت حمولاته، على هذا النحو الواعي، في اتهام السياسة، وإدانة سدنتها، وتحميلهم مسؤولية ما تكابده الهوية العربية من ثغرات وشروخ تتفاقم، حد أوان وقت نقر ناقوس الخطر.

***

شاعر وناقد من المغرب

..........................

هامش:

(1) مقتطف من فصل الرواية الأول، الصفحة التاسعة.

(2) مقتطف من فصل الرواية السابع عشر، الصفحة123.

(3) مقتطف من فصل الرواية 25، صفحة182/183.

بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين لرحيل الكاتب العراقي 17 آب 1990

سنحاول في هذه الدراسة أن نتابع تأثر الروائي العراقي الراحل غائب طعمه فرمان بأدباء أجانب مثل مكسيم غوركي وإينازيو سيلوني وآرثر ميلر وسنسلّط الضوء على "علاقته" بفوكنر، وسنعمل على بيان ذلك بالأمثلة.

وعلى الرغم من تأثر مجموعة كبيرة من قصاصي الخمسينات بأعمال غوركي الواقعية الاشتراكية، وبرواية “الأم” بخاصة، كما ظهر ذلك بوضوح في مجموعات قصصية كثيرة، مثل مجموعة “سعيد أفندي” لعبد الرزاق الشيخ علي، الذي قدم لنا أبطالاً ثوريين تُقال على ألسنتهم خطابات وشعارات حماسية من قبيل: “... نحن الفقراء نكره الحروب”(1) وقدم للقارئ نساء ثوريات متحمسات، إلا أن فرمان حاول أن تبدو شخصياته عفوية في بعض الأحيان، كما هو واضح في شخصية “أم جاسم” بطلة “حصيد الرحى”، التي سنتطرق إلى بعض جوانب تأثرها بأعمال غوركي. ويبدو تأثير “بين الناس” لغوركي واضحًا في قصة “صورة” التي تقدم بطلاً يعاني من الفقر والإفلاس والديون والغربة، إلا أن هذا الطالب الجامعي في القاهرة على قدر كبير من الهموم الثقافية ولديه رغبة كبيرة للقراءة.

ويزداد هذا التأثر عندما يطلع الأديب الشاب على اعمال مكسيم غوركي، الذي أثر في أغلب الكتاب الواقعيين من مختلف الآداب القومية. ونورد هنا مقطعًا من “بين الناس” لغوركي، الذي يشير إلى حب البطل للعلم والقراءة، كما هو الحال عند شخصية الطالب في قصة “صورة”. نقرأ عند غوركي “ما أكثر ما كنت أمضي إلى الصيدلي... وكانت دروس الصيدلي الموجزة توحي لي دائمًا بإجلال متزايد ومحبة فائقة للكتاب”(2) ويهتم غ. ط. فرمان بوصف حقارة المكان ليدل على فقر أهله “... وتناول قميصه وبنطلونه من المسامير المثبتة على الحائط ...وظل ساهما يطوف من غير غاية، سكران في خمرة همومه، تائها في بحار سأمه، حاملا مشاكل الدنيا كلها على كتفيه... ورأى مكتبة تعرض الكتب بشكل مغر وجذاب ... وتمنى ان يدخل الى المكتبة ويتربع على ارضها النظيفة ... يمسك كتابا من تلك الكتب التي احبها من اعماق قلبه وينغمر في اجوائها ... وتذكر أنه جائع وترك المكتبة وقواه منهارة ... ولمح من بعيد محلا للفول المدمس”.  (3)

ونجد أن غوركي كان قد سبقه إلى هذا النوع من الوصف “... كانت شقتها خاليه ونظرت إلى الجدران العارية المشوهة بمسامير معوجه وحفر مسامير...”.(4) وبسبب تصويره لواقع الفقراء، عمل غوركي على وصف المكان وقذارته ليقدم صورة حية لحياة شخصياته، وليقدم ربطًا بين المكان والإنسان، وكثيرًا ما يتكرر عنده وصف الخنافس والفئران والجرذان وهي تتحرك وسط أماكن جلوس الناس، بل على أجسادهم في بعض الأحيان كما سنرى! في “بين الناس” يصف غوركي أحد الأماكن السكنية “قد تخرج فأرة، أحب الفئران فهي أشياء صغيرة، هادئة، سريعة الحركة...”.(5)

ويقول أيضًا: “.... والصراصير تسمع حركتها وهي تسرح على الموقد وبين القدم، واليأس يأخذ بمجامع نفس ويعتريني الإشفاق على هذا الجندي وشقيقته حتى تكاد الدموع تطفر من المآقي.....”.(6)

ويقول غ. ط. فرمان عن بطل قصته “بيت الخنافس” “وسئم الحياة مع خنافسها الكثيرة وجرذانها القليلة الحياء....”. (7)

ونلاحظ أنه، هو ايضاً يعبر عن تعاطفه مع الجرذان من خلال النبرة التي جاءت بها العبارة الأخيرة “القليلة الحياء”، وتتكرر هذه الحالة في قصص أخرى وفي روايته الثالثة “المخاض”، التي كان بطلها يسكن في حي بغدادي قديم.

ويصور غوركي شخصية دافيدوف القذرة “حين قمت وبافل بتغسيل دافيدوف المشرف على الموت، وكانت الاوساخ والحشرات تأكله....”. (8) ويعبر دافيدوف عن ذلك شعرًا:

“وجلست على تختي العالي

في صمت يشبه صمت القبر

*

صرصار ينهش في لحمي

صبحًا ومسًا وأوان الظهر”. (9)

أما بالنسبة لغائب فإنه يلتقي في حياته بسجين إيراني ويكتب عنه “مزرعة الحقد” فيصفه بطريقة غوركي:

“...وخلع قميصه فجأة،...وأخذ يقلب القميص بين يديه...ثم يخرج منها شيئًا ما يهرسه بين أصبعيه، ثم يسحقه بين أظافره بنشوة وتشف وقال:

- ماذا أعمل بها إن جسمي لم ير الماء منذ أكثر من سنة.. وصمت قليلاً وفلتت من يديه حشرة سقطت على الأرض السوداء فطاردتها بلهفة كفه المتوكئه على أصابع هزيلة”. (10)

ولم ينكر الأديب الراحل غائب طعمه فرمان تأثير غوركي عليه، وقال إنه قد قرأ أعماله في بداية شبابه وبرر هذا التأثير بقوله:

“أعتقد أن غوركي أثر تأثيرًا كبيرًا علي لثلاثة أسباب”

أولا: إن الكتب التي يقرأها الإنسان في بداية حياته المبكرة تبقى عالقة في الذاكرة وتصمد الانطباعات المتكونه عنها أمام النسيان، ثانيًا: طرح غوركي عالمًا جديدًا بالنسبة للحياة القديمة التي كنا نألفها. مكسيم غوركي قدم لنا أمثله نموذجية لحياة من نوع آخر. إضافة إلى عظمة غوركي الأسلوبيه، وأسلوبه المليء بالتشابيه وتعابيره التي كانت جديدة بالنسبة لنا. كذلك يجب ألا ننسى ذخيرته العميقة، ومعرفته القوية بالحياة، ولهذا يسحرك غوركي عندما يتحدث عن شخصية معينة، وتحس بحب كبير لها، وتعاطف معها، ذلك لأن شخصياته مستمدة من الواقع، يأخذها من المجتمع الذي عرف كل تفصيلاته. غوركي لا يلفق بأعماله وهذا سر نجاحه. إنه كان يجمع مادة دقيقة وكبيرة عن المجتمع والناس ويبني عليها ما يريد أن يقدمه من الشخصيات الاجتماعية في أعماله الأدبية. أعتقد أن التأثير برز من هذا المنطلق وأعتقد أن مجموعتي الأولى “حصيد الرحى” يتجسد فيها تأثير غوركي، تأثيرات مباشرة من أعمال غوركي... أقصد تأثير غوركي من حيث الشرائح الاجتماعية، والمادة الحياتية. والتأثير واضح من حيث الموضوعات التي تطرقت إليها في قصص هذه المجموعة، حتى أسلوب “حصيد الرحى” في التعبير، والوصف والتشبيهات، فيه الكثير من أسلوب غوركي.. من الممكن ملاحظة تشبيهات ومقارنات وعبارات معينة في “حصيد الرحى” تشبه كثيرًا مقارنات غوركي. مكسيم غوركي يفرط في استخدام التشبيهات، والأسلوب، الذي يحاول فيه أن يرتفع إلى مستوى رفيع جدًا، فهو متمكن من اللغة الأدبية. وأنا الآن انظر إليه بطريقة أخرى، أو بالأحرى من زاوية أخرى، فبعد فترة الشباب أخذت أهتم بصنعة غوركي الأدبية الإبداعية، الصنعة بمعناها الحِرَفي، أقصد بالصنعة الأستاذية، وفيها نوع من التكلف والاهتمام والدقة والجدية والحذاقة اللغوية والتشابية الحياتية، التي استنبطها من تجاربة الشخصية الخاصة به، من تجواله في روسيا ومعايشته لأهلها وطبيعتها”. (11)

وقد صور غائب ط. فرمان صدى غوركي وغيره من الكتاب الأجانب في روايته الثانية “خمسة أصوات” والتي تناولت جانبًا معينًا من حياته أثناء عمله الصحفي في بغداد، حيث يقول شريف لصديقة الصحفي سعيد بأنه نسخة من غوركي. (12) وأشار الكاتب في هذه الرواية إلى النتاجات الروائية الأجنبية التي كان يقرأها هو والأبطال الآخرون.

هذا وقد ظهر تأثير غوركي على فرمان في قصص مجموعته الثانية “مولود آخر” أيضًا، ففي قصة “عمران” يصور بطلها العامل في مصنع الدخان، الذي يسرق علب السجاير من المصنع لكي يبيعها ويدفع أجور الطبيب، مبرراً سرقته لزميله العامل، الذي أمسك به متلبسًا بالجريمة قائلاً له: “... هو الله باليني بَلْوَه ما أخلص منها...دلاّني على دَرب الحكيم (الطبيب) اللي يريد إرغيف من جلد ضعيف”. (13)

أما غوركي فقد تناول موضوعة السرقة في روايته “بين الناس” مصورًا عالم الفقراء، حيث قال أحد أبطالها أوسيب للرواي:

“أسَرَّ في أذني في زاوية بعيدة عن مرمى الأنظار:

- أكبر لص بيننا إذا شئت أن تعلم هو البناء بيوتر، فهو لص شَرِه، ورب أسرة كبيرة العدد، لا تغفل عنه، فكل شيء في نظره مفيد فهو لا يغض النظرعن شيء مهما حقر، سواء كان أوقيه من المسامير، أو عشر قرميدات أو كيسًا من الكلس – كل شيء مفيد!” . (14)

والسرقة تنتهي بالفشل في كلا الحالتين عند غوركي وفرمان، ولنقرأ في “بين الناس” عن هذه السرقة: “...ودفعت المزامير في يد الوكيل، فأخفاها في معطفه وخرج، وسرعان ما رجع أدراجه فسقط كتاب المزامير عند قدمي. وقال وهو يبتعد خارجًا:

- لا أستطيع أن آخذه، لَسَوف يكون سببًا في هلاكي....”. (15)

أما عمران فقد “نسى عتبة الباب الخشبية المنتصبة فتعثرت قدماه بها، وهوى جسمه على الأرض بقوة.. وكان جسمه ممدودًا.. وغير بعيد منه كانت سدارته تتناثر حولها علب السجاير”. (16)

ونلاحظ هنا أيضًا أن فرمان لم “يستعر” من غوركي شخصية ثورية سياسية مثل بافل أو أم بافل في قصته “الأم” لغوركي، بل لجأ إلى تصوير حالة مأساوية يعاني منها الإنسان الصغير مثل العامل عمران الذي لم ينتفض على واقعه، بل كان عفوياً يفكر بكسرة الخبز قبل السياسة، مما أثار حفيظةَ بعض النقاد المتحمسين الذين رأوا في أشخاص هذه المجموعة الإحباط واليأس والسلبية. وبلا شك أن فرمان عمل ذلك بوعي نقدي وبفهم لطبيعة العمل القصصي، الذي يعني بتصوير الحياة بالدرجة الأولى، ولكيلا يسقط في المباشرة وحماسة الشعارات.

ونشير هنا في هذه المناسبة، إلى أن الكاتب لم يقدم شخصية ثورية إيجابيه متحمسه لأفكاره في أغلب رواياته اللاحقة، على الرغم من علاقاته بالسياسيين، لأنه في واقع الأمر كان يجد الإحباط في أوساط المثقفين الذين كانت تربطه وأياهم صداقات. أما بالنسبة للحزبيين فكان يجد صعوبة في فهمهم “وكانوا لا يفتحون قلوبهم ومنغلقين على أنفسهم”(17) على حد تعبيره لنا في لقاءاتنا الشخصية معه. وعلينا أن نتذكر هنا بأن بعض هؤلاء الحزبيين المنغلقين على أنفسهم كانوا يعملون على تصوير الكاتب فرمان وكأنه جزء من سياساتهم، بل تنظيمهم لكنه في حقيقة الأمر لم يكن كذلك.

أما بالنسبة لتأثر غائب ط. فرمان بالروائي الإيطالي إنيازيو سيلوني صاحب رواية “فونتمارا” الشهيرة، التي كتبها عندما كان عضوًا في الحزب الشيوعي الإيطالي، فقد حدث بسبب ترجمته إياها إلى العربية عن الإنجليزية في منتصف الخمسينات لكنها فُقدت ولم تُنشر، فظهرت فيما بعد ترجمتها من قبل الأديب الراحل عيسى الناعوري، وهناك ترجمة أخرى لها من قبل كاتب مصري فقدنا اسمه الكامل. ولم ينكر فرمان تأثره برواية “فونتمارا” لدى إجابته على سؤال وجهناه إليه في إحدى الجلسات الأدبية الشخصية حيث قال: “فعلاً أنا ترجمت رواية “فونتمارا” إلى العربية وكان ذلك في عام 1956 في مصر، وأعطيت النسخة الأولى والوحيدة لدار المكتب الدولي للنشر والتوزيع، الذي نشر الإعلان المذكور، ومن المؤسف حقًا أنني فقدت النسخة المترجمة، ولم احتفظ بأخرى، في الحقيقة لا أذكر كيف فقدتها، وصدرت فيما بعد ترجمة عيسى الناعوري عن الإيطالية، بينما أنا ترجمتها عن الإنجليزية. وكما سبق وأن ذكرت لك بأنني كنت معجبًا بأعمال إينازي سيلوني وتأثرت كثيرًا بروايته “فونتمارا”، بلغة مليئة بالعامية.  لا تختلف أجواء هذه الرواية كثيرًا عن أجواء روايتي “النخلة والجيران”، ما عدا أن الأخيرة كتبت عن أحداث كانت تدور في المدينة وأزقتها، بينما الأولى مأخوذة من الريف الإيطالي، أما أنا فقد كتبت عن أحداث دارت في بغداد...وبالمناسبة أقول إن “فونتمارا” تعتبر من الأعمال الأولى، التي كتبها قبل خروجه من الحزب الشيوعي الإيطالي. ”(18) ولا مجال هنا للحديث بالتفصيل عن أوجه الشبه بين هاتين الروايتين وقد تناولناها في أطروحتنا الأكاديمية عام 1984 وهنا أيضًا لم يتأثر ببطل فونتمارا الذي يدخل السجن بسبب تهمة سرقه ملفقه ضده ويخرج منه ثوريًا متحمسًا، بل صور بطل “النخلة والجيران”، روايته الأولى، بمعزل عن الأحداث السياسية، ويدخل السجن جرّاء اقترافه جريمة قتل مما أثار حفيظة أحد النقاد، لعدم تصوير الروائي للحالة الثورية في العراق في فترة الحرب العالمية الثانية(19). وفونتامارا مترجمة إلى الروسية ولغات أخرى.

وقد توصلنا إلى “فونتمارا” بطريقتين، بفضل مشاهدة فيلم مستوحى من هذه الرواية أولاً، وبسبب قرائتنا الإعلان المنشور على الغلاف الخلفي لمسرحية “موت بائع جوال” للكاتب الامريكي آرثر ميلر عن تعريب غائب ط. فرمان لـ” فونتمارا” وأنها ستنشر قريبًا.

أما كتاب “موت بائع جوال” فقد استعرته من مكتبة غ. ط. فرمان الشخصية وعندما انتهيت من قرائته لاحظت نفسًا إبداعيًا متشابهًا لروايته الثالثة “المخاض” الرائعة، حيث يوجه الروائي اهتمامه نحو مستقبل الإنسان الصغير في شيخوخته وضمانه الاجتماعي وأهمية الإنسان وقدرته على القيام بأعمال كبيرة في شبابه.

فلنتابع معًا الكاتب الأمريكي آرثر ميلر وهو يصور بطله ويلي لومان من خلال حديث زوجته لندا عنه وحوارات أخرى، ومن ثم سنقارن بينه وبين فرمان. تقول لندا عن ويلي لومان: “.... لا أقول إنه رجل عظيم، ولا كسب الكثير من المال في حياته، وما نشرت الصحف اسمه أبدًا، وليس هو أعظم الشخصيات التي عاشت على الأرض، ولكنه إنسان، وثمه شيء فظيع يحدث له الآن، إذن فضريبة العناية والاحترام يجب أن تدفع. ويجب ألا يُسمح له بأن يسقط في قبره ككلب عجوز...أبدًا...أبدًا...العناية والتكريم لا بد أن تقدم لمثل هذا الإنسان، وأنت تصفه بالجنون... والرجل الصغير يضنيه التعب تمامًا كما يضني الرجل العظيم، إنه يعمل لشركة منذ سته وثلاثين عامًا. وفتح لهم مجاهيل الأرض، والآن في شيخوخته يحرمونه من مرتبه”. (20)

أما غائب فرمان فقد قدم في “المخاض” شخصية السائق نوري من خلال الحوار الذي دار بينه والبطل الراوي: “لم أنس حتى لون سيارتك. كانت سيارة شوفرليت جديدة، وأين ذهبت؟ لم تبعها إن شاء الله.

- وهل هي لي لأبيعها؟ هي ملك للشركة، وأنا ملك للشركة. والشركة تخاف أن تعطيني سيارة جديدة في الليل، خوفًا عليها. فإن نظري في الليل ليس قويًا. والشركة تخاف على ملكها. ”(21)

كان ويلي لومان عند ميلر يتحدث عن نفسه عندما كان شابًا، وعن ذكرياته في بدايات عمله فتبرر ذلك لندا: “لقد تعب تمامًا، وليس الكلام عنده الآن إلا بديلاً من المشي الذي يعجز عنه، وإذا سافر سبعمائة ميل ووصل فليس ثمة من يعرفه هناك، ولن يجد من ينتظر قدومه. وما أدراكم ما يدور في عقل رجل قطع سبعمائة ميل دون أن يكسب سنتًا واحدًا، لماذا بحق السماء لا يتحدث إلى نفسه، لماذا؟ وعندما يذهب إلى شارلي ليستدين منه خمسين دولارًا يقدمها لي زاعمًا أنها مرتبه، .. متى يستطيع أن يمضي في هذا، إلى متى؟”. (22)

أما في “المخاض” فإن الراوي يحدث صديقه عن السائق نوري:

“... إنها الشيخوخة يا إسماعيل. مثله في البلدان الأخرى يتقاضون تقاعدًا أما هو فلا أعرف أين ستذهب زوجته إذا توفي... إنه صندوق معبأ بالحكايات هذا كل ما كسبه في عمر طويل قضاه في شق الطرق للناس.... خمسة وثلاثون عامًا قضاها في دروب العراق الترابية الوعرة، الباهته المعالم ينقل الناس، .... ولم يحصل إلا على شيخوخة موحشة تتدفأ بالذكريات”. (23)

ويلي لومان يدفأ عظامه بذكرياته العزيزة عليه، وكان يحدث زوجته لندا.

“... كأنه إله من شباب! كأنه هرقل، تغمره الشمس من كل جانب، أتذكرين؟... أتذكرين كيف لوَّح لي من بعيد، ومن حولي ممثلو الجامعات والزبائن الذين أحضرتهم والتحيات والهتافات المتصاعدة، لومان... لومان... لومان... يا إلهي الجبار، ما زالت لديه فرصه لأن يكون عظيمًا، نجم كهذا...”. (24)

يتحدث نوري السائق عن نفسه برومانتيكيه:

“... البَلاَّم إذا مات على الشط وهو يبحث عن رزقه خير له من أن يموت في فراشه... نعم السيارة خربت، ولكن أنا الذي بقيت سالمًا... ألا يكفيك هذا؟... شوفي هديه! أنت مع الأسف ما مجرّبه... الإنسان يمر بأوقات يتساوى فيها الربح والخسارة، حين تكون حياته نفسها معلقه بشعره. ذاك الوقت ما نفع الربح والخسارة؟ أهلاً بالموت إذا جاء في الوقت المناسب، ولكن الصعب أن يخسر الإنسان حياته في غير الأوان، قبل أن يكمل الشيء الذي يريد أن يكمله، وهو في منتصف الطريق لا هو في بغداد ولا هو في كركوك”. (25)

ونلاحظ أن ويلي لومان يصف نفسه، عندما كان شابًا بهرقل، أما هديه زوجة نوري السائق فتحدث كريم بطل الرواية عن زوجها بمرارة وألم:

“.... نوري يحسب نفسه عنتر بن شداد، عوض بن علق... اللي يسمعه يقول حياته عَدْلَه مثل الميل في العين... بَسْ السُوالِفْ المكَسْرَه ما يحكيها، السوالف اللي جلبت له البليه، وجعلته سائقًا عند الناس، بينما كان من أول أصحاب السيارات في بغداد”. (26)

وكلاهما اعتمدا على الأسطورة والماضي في التشبيه: هرقل – عنتره بن شداد، وكلا البطلين يواجهان نفس المصير بسبب شيخوختهما وعدم مقدرتهما على السياقه ويلي لومان يخاطب هوارد مدير الشركة التي يعمل فيها:

“الله يعلم يا هوارد، عمري ما طلبت من رجل خدمة، ولكن أنا كنت في الشركة منذ كان أبوك يحملك بين ذراعيه....”.  (27) )

إلا أن هوارد ينهي كل شيء ببرود، يدمر البائع الجوال، هرقل زمانه:

“لا أريد أن تكون مندوبنا، منذ زمن طويل وأنا أريد أن أقول لك هذا...

- هوارد أنت تفصلني؟

- اعتقد أنك في حاجة لراحة طويلة كاملة”. (28))

أما نوري، فقد قدم للمحكمة بسبب دهسه لأحد عابري الطريق وأصر القاضي “.... على أن يحمل ضحيته، ويدخل به إلى المحكمة... وحكمت المحكمة بغلق القضية، على أن يبقى الحق العام. وهو يقضي بأن تسحب من السائق نوري حسن إجازته لشيخوخته وضعف بصره”. (29)

وهناك الكثير من التشابه بين شخصية نوري سائق سيارة التاكسي ووالد الكاتب، الذي يعتبر من سائقي السيارات القدامى في بغداد وهناك قصص وحكايات حقيقية في رواية “المخاض” مأخوذة من حياته الشخصية. ولم أدون في ما تبقى من اوراقي غير المفقودة فيما إذا حدثتُه عن تأثره بآرثر ميلر كما فعلنا سابقًا بالنسبة لغوركي وسيلوني وفولكنر أم لا. إلا أنه اطلع على اطروحتي ولا أذكر انه رفض هذه الأفكار. كان معجبًا بهذا الأديب الأمريكي ولا بد أن يكون لهذا الإعجاب تأثيره عليه، لا سيما وأنهما ينتميان إلى نمط متشابه من المعالجة الأدبية للواقع.

بالنسبة لرواية "الصخب والعنف" لوليم فوكنر، فقد استعرتها من غائب ط. فرمان، وتحدثت معه بعد قراءتها، فإنه لا ينكر رغبتَه في الاطلاع على أسلوبه، ولا يرفض تأثرَه بتكنيكه كما يبدو ذلك من الشكل الروائي الذي اعتمده لبناء روايته الثانية “خمسه أصوات”. ويُعد الروائي المصري فتحي غانم (في حدود معلوماتنا) أول من استخدم هذا الشكل في روايته “الرجل الذي فقد ظله.” (30) ثم حذا حذوه فرمان، ومن بعدهما ظهرت رواية “شرق المتوسط”. (31) لعبد الرحمن منيف، و”البحث عن وليد مسعود” و”السفينه” (32) لجبرا إبراهيم جبرا، و”أصوات” (33) سليمان فياض، و”الرجع البعيد” لفؤاد التكرلي. هذه الأراء كانت متداولةً في الصحافة العربية، ولا يعني هذا أن كل هذه الروايات متشابهة في بنيتها وشكلها الروائي مع “الصخب والعنف” (34) تشابهًا كبيرًا. أما من ناحية (الأجواء) والأسلوب، فنلاحظ أن روايات جبرا إ. جبرا وفؤاد التكرلي (إلى حد ما) أكثر التقاءًا مع عالم فوكنر بسبب توجهاتهما الفكرية والأدبية واهتماماتهما باللغة، رغم أنه أكّدَ لي شخصياً بأنه يرفض هذه الآراء ولم يُعجب بأسلوب فوكنر. وأخبرني كذلك غائب ط. فرمان بأنه لم يعجب بها ورفض تأثره بها معتبراً أن روايته عراقية المضمون كتبها بدون التفكير إطلاقاً بها، ولا أقصد هنا أن على الناقد أن يقتنع دوماً بما يقوله الكاتب. كذلك فإن كلَّ ما يقرأه المبدع يبقى في إدراكه الداخلي ويمكن أن يستوحيه في أعماله بدون وعيه، لكنه بالمقابل أعجب بدوسباسوس. وإني أعرف أن غائباً حقاً لا يميل إلى هذا النوع من الروايات المعقدة، أما قراءتها بالإنجليزية فلا بدّ أن صعوبة فهمها ستكون أكثر. وأعلم أيضاً أنه كان يبحث عن مضامين عراقية، وسمعتُ أنه اعتمد في ذلك على بعض أصدقائه المقربين، وسألته عن هذا الأمر، قال: إنه يستمع، لكنه يدقق كل شيء.

"ظلال على النافذة" مكرّسة لموضوعة اجتماعية: مشكلة عائلة عراقية صغيرة بأسلوب واقعي ممزوج بأليغوريا "بسيطة" وعظية كما يبدو من أسماء أبطالها التي تدل على حالها وطبيعتها ومكانها في المنظومة الروائية، أما "الصخب والعنف" فإنها لا تصور تفكك أسرة عادية فحسب، بل انهيار سلالة عريقة تمثل شرف الجنوب، أضطرَّ الكاتب فيما بعد إلى شرحها بالتفصيل لصعوبتها في ملحق خاص مهم لطبعة جديدة للرواية. وهذا وحده كافٍ لتوضيح الفرق الكبير بين الروايتين! وقد يمكن ملاحظة بعض التشابه الطفيف والاختلاف بين شخصيات هاتين الروايتين مثل كونتن وبنجي وجاسون وماجد وفاضل وشامل وأختهم فضيلة وحسيبة زوجة فاضل، التي هربت من العائلة لسوء معاملة أفرادها لها باعتبارها بلا حسب (لاحظ أن اسمها حسيبه)، فهي لا تشبه كادي، التي فقدت بكارتها وتخرج من عائلتها(35).

لم أتناول هذه المقارنة بالتفصيل أولاً لأن الأطروحة لا تتسع لكل الموضوعات وثانياً لعدم قناعتي التامة بها بسبب الفرق الكبير بين أسلوبَي الكاتبين ولغتهما وطريقة تقديم الشخصيات ووصفها، وبناء الحدث، والزمان، والمكان. يتميز فوكنر بغموض سرده عن شخصياته وتقديمها من خلال لغاتها المتعددة المستويات وبتكنيك معقد يصعب فهمه، ولغة مثقلة بجمل وعبارات تصور انتقالات الزمان والمكان والهرونوتوب يجعلها عصية الفهم، ولهذا يصعب مقارنتها بروايات غائب فرمان الواقعية والصريحة والبعيدة عن التعقيدات. إنهما من مدرستين مختلفتين تماماً.

لنأخذ مثلاً بنجي المتخلف عقلياً، غريب الأطوار يتواصل من خلال الشكوى، يقدّمه فوكنر في فصله الأول المكرّس له بلغةٍ تعكس عَائقَه، حيث يختلط فيها الحاضر بالماضي إذ إنه لا يميز بينهما، فهو يروي كل الأحداث الماضية قبل 30 سنة كما لو كانت تحدث حالياً، بحيث يحصل الانتقال الزمني دوماً، فيبدو ذلك حتى في الجملة الواحدة. إنه معتوه غير قادر على أي شيء، لذلك لا يمكن مقارنته تماماً بفاضل الشاب النجار الطيب لمجرد أنه بسيط وأن زوجته تركته.

الأب عبد الواحد ليس بمستوى كومبسن فكرياً وثقافياً ولا اجتماعياً ولا مجتمعياً، ولا يائساً ومدمناً، بل يبحث عن حبه القديم وكنّته حسيبة المجهولة المصير، والتي لم تهرب لتبيع الهوى مثل كادي.

كونتن أراد أن "يسترَ" شرف أخته كادي لفقدها عذريتها بدون زواج، ولهذا يدّعي أنه هو من قام بذلك ليحفظ شرف العائلة كلها قبل أن ينتحر، ولم يصدقه والدُه.

فالجنس هنا أليغوريا عميقة للغاية يدخل ضمن الصراع بين الشمال والجنوب مكتوب بلغة لايمكن مقارنتها ب "ظلال على النافذة" لعدم وجود هذه الفكرة رغم بعض الإيحاءات.

لم يمارس ماجد "سفاح المحارم" ولم يقل ذلك ولم يطرح هذه الفكرة او الرمز، بل تعاطفَ مع زوجة أخيه حسيبه رغم تلميحاته عنها في مونولوجاته متذكراً صديقته القديمة زهره في ذكرياته.

إنه شامل الذي حاول أن يختلق علاقة جنسية بين الأخ الكبير ماجد وزوجة أخيه فاضل ويعيد فلسفة العلاقة العائلية في مسرحيته الفاشلة.

وجاسن فإن تصرفاته اللاإنسانية نتاج التغيرات الاقتصادية والرأسمالية والمجتمعية في الشمال والجنوب، فلم يصل شامل إلى مستواه من الانحطاط رغم سلبيته. وليست فضيلة مثل دلزي الخادمة الزنجية المؤمنة القوية الشكيمة، والأم كارولينا المعتدّة بنسبها وحسبها لكن المريضة المحبطة والمؤمنة القدرية، هي أيضاً لا يمكن مقارنتها بوالدة ماجد الغائبة. وأكرّرُ هنا أن لأبطال "ظلال على النافذة" أسماء وعظية بسيطه تعكس صفاتهم، بينما "الصخب والعنف" تتسم بأليغوريا أعمق كونها تصور التحولات في الجنوب الأميركي وانهيار سلالاته.

لهذا السبب، أنا قلتُ عنها: إنها تشابهات طفيفة ولم أتعمق بالفكره ولم آخذ بها أصلاً على عكس ما أساء بعضُهم الفهم، وشخصنَ الأمرَ بطريقة لا تليق بالأكاديميين. أما إذا أردنا المقارنة من أجل المقارنة بأي ثمن فيمكن تناول العديد من الروايات من هذا المنطلق، بخاصة تلك المكرّسة للعائلات.  أنظر: كتابي: غائب طعمه فرمان. دراسة نقدية مقارنه، دار الكنوز الأدبية 1996 بيروت ص 268

يمكن مثلا، ومن هذا المنطلق التبسيطي "مقارنة" شخصيات "ظلال على النافذه" ب"مذلّون مهانون1861" لدوستوييفسكي1821-1881 بطريقة قد تبدو "ساذجة": ماجد بالراوي الكاتب الطيب إيفان بتروفيتش (فانيا)، شامل الوصولي بالأمير المحتال الأب فولكوفسكي، فاضل بأليوشا، حسيبه بناتاشا، وعبد الواحد بوالد ناتاشا نيكولاي أخمينيف، أم ناتاشا بزوجة عبد الواحد، وفضيلة بالخادمه مارفا!

ويمكن أيضًا عمل الأمر نفسه مع "الصخب والعنف" بطريقة معقولة أكثر، لا سيما وأن فوكنر أعجب بدوستوييفسكي كثيرًا: كونتِن بالراوي إيفان رغم أن الثاني غير محبط، والمصرفي سيدني هربرت هيد وجاسِن بالأمير الوالد فولكوفسكي، عشيق كادي الأول دالتون أميس الذي فقدت معه عذريتها بالأمير ألكسييه (أليوشا)، وكادي بناتاشا وببنت سميث (أم نيللي) التي هربت إلى باريس مع فولكوفسكي سارق أموال والدها، ونيللي المتسولة، حفيدة سميث بالبنت الإيطالية الفقيرة المتسيبه في الطرق التي يلاقيها كونتن صدفةً في الشارع ويساعدها فيتصورونه يتحرش بها، وكوبسن الأب بوالد ناتاشا رغم الفارق الشاسع بينهما، والسيده كارولينا بوالدة ناتاشا والخادمه الزنجية دلسي بنظيرتها الروسية مارفه.

كذلك، يمكن مقارنة "مذلّون مهانون" ب "بائعة الخبز"  1889 للفرنسي كزافييه دي مونتابين 1823-1902  إذ إنهما تنتهيان بحبكة متشابهة حيث تنجلي الحقيقة صدفةً: في (مذلون مهانون) من خلال رسالة لدى حفيدة سميث (نيللي) تتضمن اعتراف والدتها بأبيها الحقيقي الأمير فولكوفسكي، الذي ينكر أبوّتَه لها، وفي (بائعة الخبز) الرسالة مخبأة في لعبة طفلها القديمه.

ونلمس تشابهًا بسيطًا في شخصية ويلي لومان عند آرثر ميلر وعبد الواحد من حيث رغبتهما في حماية البيت والحفاظ على وحدة العائلة وتماسكها، بل إن “النخلة والجيران” يتجسد فيها أيضا هذا المضمون، لكنها أوضح بكثير في "المخاض" وتصل إلى درجة تأثّر حقيقيٍّ لم ينكره غائب ط. فرمان، كما أشرتُ في كتابي عنه.

على العكس من ذلك، نرى أن الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني أقرَّ بإعجابه برواية "الصخب والعنف" وتأثره بها إيجابياً.

***

د. زهير ياسين شليبه

............................

أنظر:

- د. رضوى عاشور. الطريق إلى الخيمة الأخرى. دراسة في أعمال غسان كنفاني. بيروت، دار الآداب 1981، ص85-86

- الدكتور حبيب بولس. نقاط الالتقاء والابتعاد/ التشابه والاختلاف بين رواية: "الصخب والعنف" لفوكنر ورواية "ما تبقى لكم" لكنفاني. الحوار المتمدن.

وهناك دراسات أكاديمية وأطاريح دكتوراه باللغة الروسية منذ الستينات مثل:

ن. خ. سلطانلي. الواقعية الجديدة في القصة العراقية بعد الحرب العالمية الثانية. باكو 1972

م. عماروفا. حياة وأعمال رائد القصة القصيرة العراقية ذنون ايوب، موسكو 1967

وأنظر دراستنا حول بعض هذه الأطاريح الروسية وتأثر الكتّاب العراقيين "السايكولوجيين" بالأدب الغربي في مجلة البديل العراقية:

د. زهير ياسين شليبه. الأدب العراقي في الاستشراق السوفييتي. البديل، العدد 8 يونيو حزيران 1986 بيروت.

وأخرى حديثة مثل:

- ن. يو. مُرادوف و أ. ل. سافتشينكو جامعة فارونيج، سلسلة العلوم الإنسانية، 2004 العدد رقم 1

دراسة أكاديمية باللغة الروسية للباحثين مرادوف وسافتشينكو مكرسة لهذه المقارنة.

هوامش

(1)- عبد الرزاق الشيخ علي. سعيد أفندي. بغداد. 1959. ص61.

(2)- مكسيم غوركي المختارات. المجلد الثاني، دار التقدم. ص 238 بالعربية، ص271 بالروسية.

(3)- غائب طعمه فرمان. نفس المصدر السابق. ص62.

(4)- مكسيم غوركي نفس المصدر. ص251 بالعربية، ص277 بالروسية.

(5)- نفس المصدر. ص208 بالعربية، ص257 بالروسية.

(6)- نفس المصدر. ص210 بالعربية، ص258 بالروسية.

(7)- غائب طعمه فرمان. نفس المصدر. ص36.

(8)- مكسيم غوركي. نفس المصدر. ص401 بالعربية، 375 بالروسية.

(9)- نفس المصدر. ص402 بالعربية، 376 بالروسية.

(10)- غائب طعمة فرمان. نفس المصدر. في 79-78.

(11)- د. زهير ياسين شليبه. حوار أدبي مع غائب طعمه فرمان. الهدف 1985-10-14. دمشق.

(12)- غائب طعمه فرمان. خمسة أصوات. بيروت. 1967. ص27.

(13)- غائب طعمه فرمان. مولود آخر. بغداد. 1959/ ط1. ص101. وانظر مقدمتنا للطبعة الثانية لهذه المجموعة. دار الهمذاني. اليمن. 1984.

(14)- مكسيم غوركي. نفس المصدر. ص 454 بالعربية، ص371 بالروسية.

(15)- مكسيم غوركي. نفس المصدر. ص 411 بالعربية، ص351 بالروسية.

(16)- غائب طعمه فرمان. مولود آخر. ص102.

(17)- من حديث شخصي أجريناه مع غائب طعمه فرمان أثناء إعدادنا أطروحة الدكتوراه.

(18)- د. زهير ياسين شليبه. حوار مع غائب طعمه فرمان. المصدر السابق.

(19)- فاضل ثامر. بين زقاق المدق والنخلة والجيران. الكلمة. العدد 4. آذار 1969، وانظر: اينازيز سيلوني. فونتمارا. ترجمة عيسى الناعوري. دار الطليعة. بيروت. 1963.

(20)- آرثر ميلر. موت بائع جوال. القاهرة. المكتب الدولي للترجمة والنشر. السنة مجهولة.

(21)- غائب طعمه فرمان. المخاض. مكتبة التحرير. بغداد. 1974. ص78.

(22)- آرثر ميلر. نفس المصدر. ص58.

(23)- المخاض. ص218.

(24)- موت بائع جوال. ص68.

(25)- المخاض. ص125.

(26)- المخاض. ص129.

(27)- موت بائع جوال. ص80.

(28)- موت بائع جوال. ص84.

(29)- المخاض. ص361.

(30)- فتحي غانم. الرجل الذي فقد ظله. القاهرة. 1961. أربعة أجزاء.

(31)- عبد الرحمن منيف. شرق المتوسط. بيروت. 1979.

(32)- جبرا إبراهيم جبرا. البحث عن وليد مسعود. بيروت. 1978، وانظر السفينة. بيروت. 1979. ط2 الطبعة الأول 1970.

(33)- سليمان فياض. أصوات. بيروت (تاريخ الإصدار غير موجود لدينا).

(34)- وليم فوكنر. الصخب والعنف. ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. بغداد 1961.

(35)- غائب طعمه فرمان. ظلال على النافذة. بيروت. 1979.

لا ريب ان الشاعر الفحل فواز الحمفيش، طاقة إبداعية مدهشة، وموهبة فطرية متوهجة، تثير الإعجاب حقا، بما وهبه الله تعالى من مؤهلات الفطنة، وسرعة البديهة، التي تجسدت بومضة التفاعل الإبداعي في اللحظة، التي يمكن تلمسها عنده في سياق نظمه قصائده، باعتبارها تعبيرا شاعريا مرهفا، عن وجدانيات ذاته المتوهجة العاطفة، بكل تفاعلاتها الإنسانية، والزمانية، والمكانية، الشجية منها، والسارة.. اذ يلاحظ أن سمة الوجع تطغى على قصائده، باعتبارها انعكاسا صادقا لمعاناته الذاتية، ولتجليات ظروف النشأة، والحنان إلى الديار والأهل، وألربع، حتى إن توالي الأيام قد أصبح عنده سيان، حيث يقول:

يا هـــذهُ الأيْـــامُ حَسْـبُكِ أنَّـني

سَـيَّـانَ عِنْـدُيَ مُـقْـبِـلٌ و مُـوَدِّعُ..

وهكذا إذن بات فواز الحمفيش لامباليا بتوالي تداعيات الليالي.. فلم يعد يهتم بقدوم جديدها.. ولا يأبه لرحيل حاضرها.. غير أسف على ماضيها.. فقد غدت الليالي عنده بحلوها ومرها.. كلها أخوات.. فلله دره من شاعر فحل.. تعجز المفردات عن وصف جمال إبداع قريضه المدهش.. الموغل في بلاغة التوظيف الموجع للمفردة.. ولو قيض لنا ان نمتلك قدرة ذلك الذي عنده علم من الكتاب.. لعدنا به إلى عصر المعلقات.. كي يعيد لنا ترتيب تسلسل أصحابها من جديد..

واذا ما تم غض النظر عن عطائه في ابداعه المتواصل في نظم الشعر، حيث يفاجئ قراءه كل يوم بجديد.. فإن إبداعه في انتقاء المفردة الأكثر دلالة في التعبير عن مراده منها لأوجاعه.. وقدرته على توظيفها ببلاغة مدهشة في قصائده، تجعل منه شاعرا متميزا.. وناظما بليغا، يتجاوز بموهبته وبلاغته وفصاحته، كل المتداول من الألقاب التي قد تخطر على البال، لتعطيه حقه في الوصف، بما يعبر عن مكانته الحقيقية بين الشعراء الكبار.. ولعل أقرب لقب يمكن إطلاقه عليه بما يقترب من وصفه حاله، معاناة وإبداعا واشجانا.. هو (شاعر الوجع والرثاء الموجع).. ليكون بهكذا وصف.. سليلا طبيعيا، وبكل جدارة للخنساء، ايقونة شاعرة الحزن المعروفة. 26 fawaz mustafa

وجاءت مجموعته الشعرية الجديدة (ضجيج الصمت)، بطبعتها الأولى للعام٢٠٢٤ الصادرة عن مطبعة نركال بالموصل، والتي تتكون من (١٣٤) صفحة، وتضم (ستين) قصيدة.. بتقديم تفصيلي رائع، من قبل الكاتب اللبناني القدير، الأستاذ عمر شبلي، الذي قال عنه في خاتمة التقديم بان (الشاعر فواز الحمفيش يمتلك صياغة مقتدرة لصيقة بالتراث والقرآن وهذا صانه وحفظه من الانهيارات الثقافية التي تهيمن على كثير من النتاج الشعري الذي تقرأه اليوم)، لتكون إضافة نوعية لتجربته الشعرية الإبداعية الزاخرة.

واذا ما أبحر القارئ في قراءة قصائده العصماء، فلا شك أنه سيجد نفسه لاشعوريا، منشدا لها بحماس، وإعجاب لا يكاد يوصف، لبلاغة مضامينها، وشاعريتها الجياشة الحس الصادق، في نظمها، حيث يلاحظ ميل الشاعر الى التركيز على استخدام المفردة التوجدية في نظمه، بكل تجلياتها المفعمة بكل معاني الحب، والشوق، والصدق، والتي قد تأتي انعكاسا صادقا لفيض حفظه القرآن الكريم، بكل ما تحمله نصوصه من البلاغة، والفصاحة، والمعاني الروحية، والايمانية العميقة، إضافة إلى تداعيات معاناته الذاتية على نظمه، وبالتالي فليس من الغريب أن نلحظ ان تناغمه الوجداني، مع حسه القرآني، قد تمظهر بوضوح في اغلب نصوص قصائده، حيث نجده على سبيل المثال يقول في مقدمة مجموعته:

ان الصلاة على الحبيب محمد

 فرض عليك مسافرا ومقيما

*

إذ قال جل الله في عليائه

  صلوا عليه و سلموا تسليما

ولعل من الجدير بالذكر، الإشارة الى ان الشاعر الكبير فواز الحمفيش، كان رغم ضغط كل التحديات والمعاناة، قد نجح في أن يجسد ذاته الموجعة، في تجربة شعرية إبداعية متميزة، جديرة بالتناول، والدراسة، والإهتمام.

ومن هنا ندرك كيف جاءت نتاجاته الإبداعية.. نظما وكتابة وتأليفا.. وليدة معاناة مرة.. ليأتي عطاؤه مغمسا بتداعيات تلك التجربة القاسية.. ومعطرا بنفحات الموهبة المتوهجة في نفس الوقت.. ليلامس حس الملتقي، بصدق التعبير، وعفوية العاطفة الجياشة، وليكون بهذا النمط الخاص من النظم، ظاهرة شعرية ابداعية فريدة، تؤهله للاصطفاف بجدارة مع أعلام الصفوة من شعراء العصر.

ولا يفوتني في ختام هذا المقال، من إن أسجل شكري وتقديري وامتناني الخالص، للزميل العزيز الشاعر الكبير فواز الحمفيش، على مبادرته الكريمة، في أهدائي نسخة من مجموعته الشعرية الجديدة ( ضجيج الصمت ) ضحى هذا اليوم الخميس المصادف ٨ / ٨ / ٢٠٢٤، لتبقى بين كتبي، معزوفة صمت، تشدني للتناغم معها بالمطالعة، كلما رنت نغمتها في خاطري.

***

نايف عبوش

في المفهوم:

لغة:

جاء في معجم القاموس المحيط: انفكَّ ينفكّ، انْفَكَّ انفكاكًا، فهو مُنفكّ - وانفكَّ الشَّيءُ أي انفصلت أجزاؤه، كأن نقول انفكّت الآلةُ.

كما تدل كلمة التفكيكيّة معجمياً على الهدم والتقويض والتخريب والتفكيك والتشريح.

اصطلاحاً:

ﻳﺷﻳر ﻣﺻطﻠﺢ "اﻟﺗﻔﻛﻳﻛﻳّﺔ" في النقد الأدبي إﻟﻰ طرﻳﻘﺔ ﻓﻲ ﻗراءة اﻟﻧص ﺗﻘوم ﻋﻠﻰ ﻧﻘض وزعزعة اﻷﺳس اﻟﺗﻲ ارﺗﻛز ﻋﻠﻳﻬﺎ ﻓﻲ ﺑﻧﻳﺗﻪ، ﻟﻠﻛﺷف ﻋن وﺟوﻩ ﻟﻠدﻻﻟﺔ ﻟم ﺗﻛن ﻓﻲ ﺣﺳﺑﺎن ﻛﺎﺗﺑﻪ، وذﻟك ﺑﺎﺳﺗﺣﺿﺎر اﻟدﻻﻟﺔ اﻟﻐﺎﺋﺑﺔ ﻟﻠدواﻝّ اﻟﻠﻐوﻳّﺔ، وﻗﻠب ﻣرﻛزﻳّﺔ اﻟﻧص، دون أن ﺗﺣﺳم دﻻﻟﺗﻪ اﻟﻧﻬﺎﺋﻳّﺔ ﻓﻲ ﺑﻌد واحد. هذا وقد دخل مصطلح التفكيكيّة إلى الخطاب الفلسفي عام 1967، عندما نشر الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي "جاك دريدا" ثلاثة كتب هي: (الكتابية والاختلاف، والغراماتولوجي، والكلام والظواهر). وظهرت التفكيكيّة مع "جاك دريدا" كرد فعل على البنيويّة اللسانيّة، وهيمنة السيمائيّة على الحقل الثقافي الغربي، ويعني هذا أن التفكيكيّة كما يراها " دريدا" هي فلسفة التقويض الهادف، والبناء الإيجابي، لتعيد النظر في فلسفات البنيات والثوابت، كالعقل، واللغة، والهويّة، والأصل، والصوت، ويمكن اعتبار التفكيكيّة بشكل عام مدرسة تقويض الحداثة، والثورة على التقاليد الحداثيّة للنصوص، وتشكك بكل ما تقوم عليه الأفكار، والسرديات الكبرى في تاريخ الفلسفة، بخاصة اللغة والنص، والسياق، والمؤلف، والقارئ، فبهذا الشكل تظهر التفكيكيّة، كأنها هدم لقيم الحداثة وغيرها من المفاهيم التي هيمنت على التفكير الفلسفي الغربي، أي جاءت التفكيكيّة وفق هذا الفهم لتنتقد المقولات المركزيّة التي ورثها الفكر الغربي من عهد أفلاطون إلى الستينيات من القرن العشرين. والتفكيكيّة مع "جاك دريدا" ليست بالمفهوم السلبي للكلمة، حيث ترد كلمة التفكيك في القواميس الفرنسيّة بمعنى الهدم والتخريب، لكن ترد في كتابات "جاك دريدا" بالمعنى الإيجابي للكلمة. أي ترد كلمة التفكيك من أجل إعادة البناء والتركيب، وتصحيح المفاهيم، وتقويض المقولات المركزيّة، وتعرية الفلسفة الغربيّة التي مجدت لقرون طوال مفاهيم مركزيّة، كالعقل، والوعي، والبنية، والمركز، والنظام، والصوت، والانسجام كما أشرنا قبل قليل… في حين، إن الواقع في طبيعته قائم على الاختلاف، والتلاشي، والتقويض، والتفكك، وتشعب المعاني، وتعدد المتناقضات، وكثرة الصراعات التراتبيّة والطبقيّة.(1). ومع ذلك (يبدو مصطلح التفكيكيّة مضلّلاً في دلالته المباشرة، حتى إن "دريدا" نفسه شكا من ترجمته إلى اللغات الأخرى، إلا أنه ثرّ في دلالته الفكريّة، لأنه يدل في مستواه الدلالي العميق على تفكيك الخطابات والنظم الفكريّة، وإعادة قراءتها بحسب عناصرها، والاستغراق فيها وصولاً إلى الإلمام بالبؤر الأساسيّة المطمورة فيها.). (2).

و يعتبر ("جاك دريدا": (1930- 2004م)، من أهم رواد التفكيكيّة، وهو فيلسوف ومفكر فرنسي، من أهم أعلام القرن العشرين، ولد في الجزائر، وقام بنقد فلسفة الحداثة الغربيّة، القائمة على العقل، إذ تركزت كتاباته على مفاهيم مثل: الاختلاف، والمعنى، واللغة، وكان لها تأثير كبير، على باقي مفكري القرن العشرين، والقرن الواحد والعشرين. وهناك "رولان بارت" (1915- 1980م)،  وهو كاتب، ومفكر، وناقد اجتماعي وأدبي فرنسي. كانت معظم كتاباته تدور حول: السيمائيّة، ودراسة الرموز، وعلم الدلالة، وعمل على دراسة نظريّة العالم اللغوي السويسري "دي سوسير،" وكان له دور بارز، في تأسيس البنيويّة، ولكن ظلت التفكيكيّة مرادفا لاسم "جاك دريدا".). (3).

قلنا بأن تفكيكيّة "دريدا" تهدف الى نقد البنى والمفاهيم والمعتقدات السائدة والتي تبدو بديهيّة. أي خروج "ديدرا" على الثوابت أو وجهات النظر في المفاهيم التي تأسس عليها الخطاب الفكري الغربي الذي لا يعدو أن يكون خطاباً ميتافيزيقيّاً برأيه، في الوقت الذي لم يستطع فيه "ديدرا"أن يقدم  بديلاً لما كان سائدا من مناهج فكريّة، وبالتالي ظلت رويته في منهجه التفكيكي مغامرة لا يمكن التنبؤ بنتائجها، ولكن يمكن معرفة غايتها وهي هدم الميتافيزيقيا، ولهذا يقود التّفكيك، هجوماً ضارياً وحرباً شعواء على الميتافيزيقيا بشكل خاص في قراءة النّصوص، فلسفيّةً كانت أو غير فلسفيّة. ويُقصد بالميتافيزيقيا التي يستهدفها التّفكيك في هجومه (كلّ فكرةٍ ثابتةٍ وساكنةٍ مأخوذةٍ من أصولها الموضوعيّة، وشروطها التّاريخيّة). وانطلاقا من خلفيّة "ديريدا" الدينيّة والتي انطلقت منها التفكيكيّة فإن "ديريدا" ذهب إلى القول بوجود خلخلة في المثاليّة الدينيّة المتمثلة في سيطرة الحقيقة المطلقة في الكتاب المقدس، التي يراها هو نسبيّة. (4).

إن النقد التفكيكيّ و في سياقه العام، يهدف الى نبذ الأوهام التي ولدتها المفاهيم والمصطلحات الفلسفيّة والفكريّة الغربيّة السابقة. واستهداف وهم (الحضور - الواقع) كحقيقة، واعتباره معطىً ثابتاً، بينما هو في حقيقة أمره كما يراه "ديريدا" ليس ثابتاً أو حقيقيّاً، وليس بسيطا على الإطلاق، وليس نقيّاً خالصاً، ولا ذاتي التماثل وليس ساكنا أو راكدا. إنه دائما ما يعطى بوصفه شيئا آخر، معقداً، غير نقي، متبايناً، ومتولداً. وعلى الرغم من ذلك فإن التفكيكيّة أكثر من مجرد مسعى نقدي. (5).

التفكيكيّة على المستوى الأدبي:

تعدُّ التفكيكيّة على المستوى الأدبي واحدة من أبرز مناهج التحليل الفلسفي والأدبي التي تنتمي إلى مناهج ما بعد الحداثة. وارتبط ظهورها بالتحولات الفكريّة الكبرى التي طالت بنية النص اللغوي وتحليلاته التقليديّة، لتتبنَّى رؤية مختلفة عمَّا هو سائد، فترفض التحليل الثابت للنص، وتدعو إلى منح النص الأدبي معانٍ جديدة غير ثابتة، أي هي  تطالب بانفتاح النص بالشكل الذي يجعله قابلاً لاستيعاب عدد لا متناه من التأويلات المختلفة، وقد جاء هذا المنهج كرد فعلِ على المنهجيّة البنيويّة المرتبطة إلى حد ما بالحداثة وتقاليدها، ليشكِّك بكلِّ ما تقوم عليه من أفكار، والعمل على هدم كل ما يتعلق بالبنيّة إلى ما نهاية.(6).

إن المنهج التفكيكي يحاول تحليل النص الأدبي بأسلوب يعالج مفاهيم النص، أي هو يستند على (المعنى)، ويلاحظ التناقضات ضمن المعنى نفسه معتمداً على استقلاليّة النص بوصفه بنية لغويّة، ومتجاوزاً الكاتب الذي يفترض أنَّه لم يعد يتصل بالنص المكتوب والذي بات ملكاً للمتلقي الذي بإمكانه أن يستخرج من النص ما لم يخطر على ذهن الكاتب أثناء إنشاء النص. فالنص ليس لغة ثابتة تملك تفسيراً أحاديّاً يحتكره الكاتب وحده، بل تميل التفكيكيّة لجعله أكثر ديناميكيّة وقدرة على استيعاب التفسيرات الجديدة والمتبدِّلة بتبدُّل الفكر وتاريخ المجتمعات. (7).

إن التفكيكيّة في سياقها العام إذن، استراتيجيّة قراءة مميزة للخطاب بمختلف أنواعه، فالخطاب أو النص عندها كتلة غامضة بحاجة إلى سبر أعماقها الداخليّة عبر منهجيّة التفكيك أو التفجير لإعادة بنائه من جديد. يقول "دريدا": (لا أتعامل والنص، أي نص، كمجموع متجانس. ليس هناك نص متجانس، هناك في كلِّ نص، حتى النصوص الميتافيزيقيّة الأكثر تقليديّة قوى عمل هي في الوقت نفسه قوى تفكيك للنص. هناك دائماً إمكانيّة لأن تجد في النص المدروس نفسه ما يساعد على استنطاقه وجعله يتفكَّك بنفسه، سواء تعلق الأمر "بسيغموند فرويد" أو  بـ"أدموند هوسرل"،. أو بـ" مارتن هيدغر" الفيلسوف الألماني أو بأفلاطون، وبديكارت وبكانت"، ما يهمني في القراءات التي أحاول إقامتها ليس النقد من الخارج، وإنَّما الاستقرار أو التموضع في البنية غير المتجانسة للنص، والعثور على توترات، أو تناقضات داخليّة، يُقرأ النص من خلالها نفسه، ويفكِّك نفسه بنفسه.. إنَّ هناك في النص قوى متنافرة تأتي لتقويضه وتجزئته).(8).

العوامل التي ساعدت على ظهور التفكيكيَّة:

لقد شكَّلت الحرب العالميّة الثانية ونتائجها الكارثيّة صدمةً لشعوب العالم بشكل عامٍّ، والشعوب الأوروبيّة بشكل خاصٍّ، وذلك بعد أن تبيَّنت النتائج السلبيّة للعلم والأبحاث العلميّة التي تمَّ استخدامها بشكل لا عقلاني ضد الإنسان، فتحوَّل العلم من أداة سلام وطمأنينة إلى أداة قلق وتوتُّر ومصدر للآلام، لاسيَّما بعد ظهور فشل الأنظمة الاقتصاديّة (الاشتراكيّة، والرأسماليّة)، ممَّا تسبَّب بظهور تيار تشكيكي ساند مجموعة من الفلسفات التي أرادت إحداث تغيير في الواقع الأوروبي، كما أرادت تجاوز الفكر التقليدي السائد، والسماح بحريّة النقد دون أيِّ معوقات كتعريض المقدَّسات ذاتها المسكوت عنها للنقد، فلا إيمان بالحقيقة، ولا شيء يمنع سبر هذه الحقيقة والتشكيك في صحتها. وإذا ما أردنا أن نشير إلى أصول التفكيكيّة، فهي قد قامت على أصول الفلسفات السابقة، وهي النتيجة النهائيّة، لمجموعة من المدارس الفلسفيّة الموجودة بعد الحداثة، ورغم أن التصنيف العام للمشروع التفكيكي، يتسم بالتمرد والثورة على كل شيء، إلا أن هذا التمرد نشأ من تاريخ النقد الأدبي، الذي كان ضمن قوالب تقليديّة منضبطة، وخطابات أدبيّة معينة وهي المناهج السياقيّة كالتاريخية والواقعية التي تهتم بالمضمون الاجتماعي والنفسي والأخلاقي بشكل خاص، فدعت التفكيكيّة إلى التحرر التام منها. تاريخيًّاً. (9).

مقولات أو مبادئ التفكيكيَّة:

لقد بينا في عرضا السابق أهداف التفكيكيّة القائمة على هدم البنى الفكريّة الغربيّة القائمة. أي عملت بشكل رئيس على تقويض لبنات العقلانيّة الغربيّة لمرحلة الحداثة وما قبلها، واعتمدت مقولات تعمل بها خارج الصندوق التقليدي، لتفتح بوابة الاختلاف وتقدِّم دلالات جديدة يتمُّ عبرها التخلُّص من الأحكام المسبقة المهيمنة على التفكير، وللوقوف على سرِّ التفكيك الباحث عن لغز الكينونة.  أما أهم هذه المقولات أو المبادئ فهي:

أولاً: نقد المركزيّة:

تقوم على رفض أيِّ مرجعية فكريّة قد تؤثر في النص أثناء عملية التحليل، وهي متنوعة، فقد تكون ذات مرجعيّة اجتماعيّة أو تاريخيّة أو نفسيّة أو غيرها من الأشكال التي تؤثِّر في التحليل، لذا فقد رفضت التفكيكيّة المناهج النقديّة السابقة لها التي تحوم على مركزيّة ثابتة تعتبر قاعدة تنطلق منها، فالنص يجب أن يتعدَّد ويتنوَّع بتعدُّد القراءات وتنوِّعها، وهنا ظهر مصطلح (موت المؤلِّف)، والذي يعود في أساسه الفلسفي إلى فكرة (موت الإله) عند الفيلسوف الألماني "نيتشه"، وبناء على ذلك فإنَّ القارئ هو الذي يفسِّر النص وفقاً لثقافته أو بيئته أو تعليمه أو توجهاته، فتنتهي مهمة المؤلِّف عندما يقدِّم النص للقارئ.

ويعدُّ "رولان بارت" أوَّل من قال بموت المؤلِّف في مقالة حملت الاسم نفسه، (حيث يقطع بارت الصلة بين النص ومؤلِّفه؛ لأنَّ استمرار العلاقة بين النص ومؤلِّفه تؤدي إلى إيقاف النص وحصره وإعطائه مدلولاً نهائيّاً، وهذا ما يغلق الكتابة، وإن كان يريح النقد والناقد، اللذين يبحثان عن المؤلف، أو عن حوامله ومرجعياته من مجتمع وتاريخ ونفس وحريّة، ولكنَّه لا يفيد النص ولا متلقيه المشاكس، غير المستسلم، الذي يظلُّ دوماً في حالة بحث عن شيء ما داخل النص، وخارج ما أراد المؤلِّف قوله. أي عن المسكوت عنه والمضمر. فمع توقَّف فاعلية المؤلِّف في النص، سيفتح الباب أمام تعدُّد القراءات للنص الواحد، وكلُّ قراءة جديدة تهدم القراءات السابقة لها، ومن هنا جاءت تسمية (قراءة الاساءة). ذلك لأنَّ كلَّ قراءة تهدم وتتنكَّر لما قبلها وتعيد قراءة النص وفقاً لرؤية جديدة مختلفة كليّاً عن سابقتها).(10).

ثانياً، الإرجاء والاختلاف:

إنَّ كلاً من المعرفة المكتسبة، والذات العارفة المدركِة للموضوع كما يقول الفيلسوف الألماني "  مارتن هيدجر"، قابلة للتغيُّر مع سيرورة الزمن، وهذا ما يجعل فهمها عرضة للتغيرُّ. وبذلك تبقى الحقيقة التي يتمُّ الوصول إليها اليوم ويتم التأكيد على صحتها مرجأة إلى حين ظهور حقيقة أحدث وأدق منها، وقد تنفيها بشكل كامل، وهكذا تكون حقيقة النص الذي يتوصل لها القارئ مرجأة لحين وصول قارئ آخر لمعنى آخر جديد، فالإرجاء يجعل الدلالة غير حاضرة، والعنصر يكون موسوماً بشيء من أثر العنصر السابق، وتاركاً نفسه للعنصر القادم يحفر في هذه الحقيقة علامة جديدة، ولهذا كان الإرجاء والاختلاف يقود إلى مقولة لا نهائيّة المعنى.(11).

ثالثاً، لا نهائيّة المعنى:

مع الإقرار بعدد لا نهائي من القراءات، فإنَّه سيترتب على ذلك عدد لا نهائي من المعاني، ممَّا يعني حالة من توالد المعاني المتتالية، وبالتالي حضور معانٍ ثمَّ غيابها بشكل متتالٍ ومستمر. فتعدد القراءات والتلقي يؤدي هنا إلى تعدد التأويلات، واختلاف القراءات نتيجة لاختلاف القرَّاء، واختلاف القراءة زمانيّاً ومكانيّاً، وفي ذلك إشارة إلى نفي أحاديّة معنى النص، والقول بمرونته – أي النص - الذي لم يُعره أيَّاً من النظريات النقديّة السابقة أيَّ اهتمام، فالقراءة ما هي إلا إجابة عن سؤال الكتابة، وهذا الجواب يقدمه كلُّ واحد منَّا، مع ما يحمله من تاريخ ولغة وحريّة، والتاريخ واللغة والحريّة هي تحوُّل لا نهائي، لذلك فإنَّ جواب العالم للكاتب لا نهائي، فلا حدود لقراءات النص ولا حدود لمعاني النص. ولهذا فإنَّ النص لا يكون نصاً كاملاً، فمعنى النص ينتج من تفاعل بين بنيته ومتلقيه.(12).

رابعاً، ثنائية الحضور والغياب:

إنَّ التغيُّر المستمر لـ (معاني) النصوص يجعلنا نعالج ثنائيّة الحضور والغياب، لأنَّنا أمام نصوص متطورة يحضر فيها (أثر) ويغيب (آخر)، وهناك الكثير من النصوص الخالدة عبر التطور التاريخي ما تزال تطرح معانٍ جديدة وتغيب عنها معانٍ قديمة، وبذلك تعتمد التطورات الحضوريّة في التفكيكيّة في بداية الأمر على التناقضات التي تحصل من المؤلف أو في داخل النص، وهو أمر كفيل بتغييب معانٍ لتناقضها مع الحقائق الجديدة أو لتناقضها مع البنية التحليليّة للنص ذاته، فيكون ذلك مبرراً لهدمه، كما أنَّ التفكيكيّة تبحث في النص القديم مستفيدة من النتائج العلميّة والبحثيّة الجديدة فتقدِّم النص بروح جديدة ومعانٍ مغايرة لسابقتها.(13).

خامساً، التناص:

وهو امتداد لمقولة لا نهائيّة المعنى، والتي تعني أنَّ قراءتي للنص تستدعي في ذهني نصاً آخر، ممَّا يفتح النص على تأويلات واستحضار لمعانٍ جديدة مستوحاة من النص الحاضر في ذهن القارئ، وبذلك تكون قد اجتمعت كافة مقولات التفكيكيّة على امتلاك النص لعدد لا نهائي من المعاني، وعلى تجاوز المؤلِّف الذي تنتهي مهمته بطرح النص للتداول بين القرَّاء. (14).

إذن وفقاً لمعطيات أو مبادئ المنهج التفكيكي، فهو منهج له استراتيجيّة التفكيك التي تسعى للنفاذ إلى داخل النص وسبر أعماقه لاكتشاف مواطن الغياب فيه، وماسُكت عنه، ثمَّ إحداث الإبدال فيه بعد تجاوز الإرجاء الذي يتجاوز الحضور ويؤخره ليجعله تحت رحمة أجل غير مسمَّى، فالحضور مرتبط بالوعي، والغياب نتاج للاوعي، أمَّا الإبدال فيلزم عنه الحضور، أي يشير إلى مهمة التعويض الاستبدالي.

تطبيق التفكيكيَّة على النقد الأدبيِّ:

على الرغم من نهوض التفكيكيّة على أسس فلسفيّة، إلا أنَّ تطبيقها كمنهج نقدي يتناول النص الأدبي أكثر ممَّا يتناول النص الفلسفي، لأنَّ هدفها التشكيك بأن يكون للنص الأدبي معنى ثابت، كما حاول "دريدا" أن يؤكِّده، أي إن النص الأدبي بما فيه من عناصر تمنعه من أن يكون نصاً مستقراً، فبرأيه وبرأي التفكيكيين إنَّ النص الأدبي يحوي في طياته على احتمالات كبيرة ولا متناهية من المعاني، لاسيما وأنَّ التفكيكيّة تؤمن بأنَّ الإنسان بشخصيته وسلوكه يتأثَّر بحياة اللاوعي الكامن أو المكبوت – حسب تعبير فرويد- في منطقة الهو (اللاشعور)، وقد يكتب نصاً أدبيّاً أو فنيّاً ليعبِّر عن حالته اللاشعوريّة، كما أنَّ القيم الإنسانيّة متطورة ومتغيرة، فتتغير تبعاً لذلك القراءات ونظرة القراء للنص، كما أنَّ اللغة متطورة وقد تكون لغة النص الأدبي أكثر بلاغة ودلالة من غيرها من النصوص، بالإضافة إلى أنَّ التفكيكيّة قامت كردَّة فعل على البنيويّة كما بينا في موقع سابق، التي تقرُّ بأنَّ النص الأدبي متكامل وثابت، ولا تذهب لتعدد المعاني والقراءات، في حين أنَّ التفكيكيّة غايتها تأسيس ممارسة فلسفيّة نقديّة (تتحدَّى تلك النصوصَ التي تبدو وكأنَّها مرتبطة بمدلول محدد ونهائي وصريح، إنَّها لا تريد تحدِّي معنى النص فحسب، بل تطمح إلى تحدِّي ميتافيزيقا الحضور الوثيقة الصلة بمفهوم التأويل، القائم على وجود مدلول نهائي.). (15).

مع بداية السبعينيات من القرن الماضي تبين لكثير من النقاد أنَّ تفكيك النصوص الأدبيّة يتعاضد مع هدم المؤسسات الاجتماعيّة غير العادلة برأيهم، وأنَّ التفكيك عمل مميز، وبفضل جهد أكاديميي الأدب ومحاولاتهم للتغيير الاجتماعي الجذري، كان من نتاج هذه الجهود أن تأسست مدرسة (بيل) في النقد الأدبي، والتي ضمَّت أسماء كان لها أثرها الأدبي والفلسفي كالناقد الأدبي والصحفي والكاتب الأمريكي "هارولد بلوم"، والكاتب والصحفي الألماني "جيوفري هارتمان"، والناقد والفيلسوف الفرنسي  "جاك دريدا،"، وهذا ما قاد إلى دخول التفكيكيّة إلى الدراسات الأدبيّة. فتحوَّلت التفكيكيّة إلى تيار فلسفي وأدبي واتصفت بأنَّها منهجيّة اسعى لمقاربة الظواهر الفلسفيّة والتاريخيّة والأدبيّة تشريحاً وتفكيكاً وتقويضاً، فكانت تقوم بتشريح اللغة والفلسفة والنصوص الأدبيّة، كما كانت سلاحاً لتقويض المقولات المركزيّة للسانيين، وإعادة النظر في ثنائياتهم المزدوجة كالدال والمدلول، والصوت والكتابة. (16).

إن لتفكيكيّة في الأدب تعني العمل على إخراج المكونات غير الأدبيّة من النص، ممَّا يعني تسليط الضوء على الاختلاف بين القارئ والمؤلِّف الحقيقي للنص، وبالتالي معاينة تناقض الكاتب مع نفسه ومع مقولاته، والوقوف على التباين الزماني والمكاني، وما يقود إلى كثرة تعدد المعاني والدلالات والتناص، بحيث يتَّضح أنَّ كلَّ كتابة هي تأسيس على أنقاض كتابات أخرى وخلاصة لها، ممَّا يعيد إلى فعل القراءة شرعيته ويحفظ للنص قيمته الفنيّة المطلقة ويحوِّل القارئ من مستهلِك للأدب إلى صانع ومنِتج له، وبذلك نعطي القارئ ونعطي النص حقَّهما الكامل نتيجة لكونهما العاملين الوحيدين اللذين التزما بالحضور في التجربة الأدبيّة، وما عداهما فهو غياب يعتمد على وجودهما كي يمكن إحضاره. وإنَّ موت المؤلِّف في التفكيكيّة ليس تقليلاً من القيمة العلميّة لصاحب النص الأصلي، وليس تهرُّباً أخلاقيّاً أو أدبيّاً فيما يخصُّ تراتبية الإبداع، بل إنَّ المؤلف له مرتبة محفوظة؛ وهي تحفيز القارئ لشحذ طاقاته الإبداعيّة الكامنة، والوقوف بوجه سلطة المؤلِّف ومعاينة مفاهيمه برؤية أكثر دقة وأكثر جِدَّة.). (17).

نقد المنهجيَّة التفكيكيَّة:

تتعرَّض المنهجية التفكيكيّة للكثير من الدراسات النقديّة لها ولطبيعتها المنهجيّة والموضوعيّة، والتي يمكن الاشارة إلى أهم التوجهات النقديّة التي نالتها وهي:

أولاً- الافتقار إلى البعد التاريخي:

أكد النقاد أن المدرسة التفكيكيّة مجرد مفاهيم جديدة للتعبير، عن مضامين قديمة، نادى بها العديد من المدارس القديمة؛ لذلك لا تعد مدرسة جديدة. إذ إنَّ روَّاد المنهجيّة التفكيكيّة، يلجؤون إلى إعادة تحليل النصوص القديمة دون أن يأخذوا بحسبانهم بعدها التاريخي وظروف إنتاجها التاريخيّة، فيظهر المفكِّك على أنَّه هادم للنص، في حين أنَّه تجاهل البعد التاريخي للنص تماماً، فنحن على سبيل المثال لا نستطيع أن نأخذ قصيدة عربية من أدب العصر الجاهلي، ثمَّ نقوم بتحميلها مضامين وقيم عصريّة لم يكن يقصدها صاحبها، ولا تناسب الواقع اليوم بظروفه ومكوناته الماديّة والثقافيّة، وهذا ما تتجاهله التفكيكيّة.(18).

ثانياً- تعمُّد استخدام مصطلحات فلسفية جديدة وغير متداولة:

وهنا يظهر المفكِّك بصورة الفاهم للنص والقادر على تفكيكيه بشكل سليم، وإعادة صياغته من جديد، في حين أنَّ أغلب المفاهيم التفكيكيّة مبهمة وغير واضحة، إضافة إلى نحتها بشكل فردي وإعطائها معنى فرديّاً جديداً، كما أنَّ التفكيكيّة تهدف إلى  التدمير، تدمير النص الأدبي بكامله وإعادة بنائه وفق رؤيتها، فتنتقد كافة المناهج وترفضها دون أن تقدِّم بديلاً لها بشكل واضح.(19).

ثالثاً - التَّركيز الكبير والمبالغ فيه على النص وتحييد مؤلِّفه عنه:

وهذا ما قاد إلى سوء فهم الكثير من المصطلحات والتراكيب، بحيث حوَّل المفكِّك النص لساحة حرب بعد أن تسلَّح بكافة الأسلحة التهديميّة للنصوص المختارة، كما أبعد صاحبها الأصلي، ورفض أيَّ تعليق أو استشارة منه، بشكل أشعرنا بأنَّه يتعامل بروح فرديّة بحتة مع نص وضعه على مشرحة دون أيِّ رجوع لكاتبه، وهذا ما قاد إلى الكثير من الشطط في تأويل بعض النصوص بعد إخضاعها لهذا المنهج. (20).

رابعاً- التشكيك بكل شيء:

إنَّ اتباع سياسة التشكيك بكلِّ شيء من قبل حملة المنهج التفكيكي، قادت إلى التشكيك بالكثير من الحقائق العلمية المثبت صحتها، إذ سمح المفككون لأنفسهم بإعادة صياغتها بأسلوبهم، وكأنَّها كانت على خطأ، وبعضها تمَّت إعادتها بشكل مختلف لحقيقتها، ممَّا قاد إلى نزعة عبثيّة، ليصلوا إلى حقيقة أنَّ الحياة لا معنى لها وبلا هدف. فإذا كانت اللغة مثلاً بطبيعتها غير مستقرة كما يراها التفكيكيون، فكيف لنا أن نتصوَّر أنَّ "امرأ القيس" مثلاً عنى هذا الأمر ولم يقصد ذاك الأمر في شعره.؟

كما تناول شكهم النصوص الدينيّة ونقدها، والتالي حملت  التفكيكيّة في طياتها نزعة تهديميّة قوية لأيِّ مقدس بعد تجاوزها لنصوص تاريخيّة مهمة، فهي مشروع لإجراء التحولات وتحديث النصوص، لذلك فقد غيرت أو دمرت المعنى الثابت، لتنتزع صفة القداسة من النصوص الدينيّة سواء بقصدٍ أم بغير قصد، ففتحت الباب أمام تبادل الأدوار والمواقع بين الأنا والآخر، وبين الثابت والمتحول. وإذا كانت التفكيكيّة هي محاولتها القضاء على كل سلطة ويقين ادَّعته النظريات السابقة والفكر السابق، فهي تكون بممارستها لفعل التشكيك في كل أمر، قد وقعت فيما أرادت تحطيمه فعلاً، بذريعة ادَّعائها امتلاكها لسلطة الإلغاء والرفض لباقي النظريات، وهذا ما جعلها تسقط في تناقض كبير مع ما نادت به؟. (21).

خامساً: قدَّم التفكيكيون الكتابة على الكلام:

(متجاهلين ضرورة حضور الذات المفكِّرة عبر الكلام، وليس حصرها عبر الكتابة، وذلك جعل المركز هامشاً، وحوَّل الهامش إلى المركز، بدل أن يخلق حالة من التكامل بين الكلام والكتابة، حيث يرى "دريدا" أنَّ (الكتابة هي أصل اللغة، أمَّا الصوت الذي ينقل الكلمة المنطوقة - اللوغوس - فهو ليس الأصل، ويرى أنَّ الصمت، واللاوعي، وعمليات الكتابة الاختلافيّة، قد تعرَّضت للقمع والرقابة في زمن التمركز؛ ممَّا أخفى أوجه الغياب، والاختلاف، والمسافات الخلاَّقة). (22).

مميزات الايجابيّة لمنهج التفكيك:

1- يُمَكِّن الباحث من التعمق والاندماج في صلب الموضوع .

2- يساعد الباحث على الوصول إلى إجابات عن الأسئلة التي تثار حول النص، وذلك بفضل قدرة التفكيك على التفسير الذي يزيل الغموض.

3- يظهر الغايات المقصودة من النص بوضوح ودون تزيد على صاحبه .

4- إظهار المعاني الدفينة في النص، وإجلاء مضامينه على نحو دقيق .(23).

5- إبراز الاتجاهات المختلفة.

6- الكشف عن نقاط الضعف.

7- تطوير الأداء.

8- الكشف عن اتجاهات الناس وميولهم .(24).

- الخاتمة والنتائج النقدية:

ملاك القول: إن التفكيكيّة هي الموقف الإيجابي من (تيار الشكِّ) الذي ساد في النصف الثاني من القرن العشرين، والذي بني على أساس فلسفي وفكري يدعو للتحرر من كافة القيود الفكريّة والسياسيّة، ويؤسِّس لمنظومة فكريّة حرة تتجاوز النصوص المكتوبة كما تتجاوز مؤلفي هذه النصوص ولغتها ومدلولاتها، وتُعْرِضُهَا لعدد غير محدد من القراءات، وبالتالي لعدد لانهائي من المعاني أيضاً، ممَّا سمح بتجاوز المؤلف وتجاوز هيبة نصوص تاريخيّة مهمة، وإنشاء نسق استفزازي. وعلى هذا الأساس جاء تعرضها للنصوص الدينيّة المقدسة، والقول بلا مركزيّة إلهيّة للكون، الأمر الذي ترفضه المرجعيات والمؤسسات الدينيّة ورموزها، لأنَّها وجدت فيه تهديداً مباشراً للدين ومحاولة لهدمه.

واستندت التفكيكيّة لمبرِّر أخلاقي في نشأتها، حيث أبرزت الجوانب الكارثيّة والسلبيّة لنتائج الحرب العالميّة الثانية، متسائلةً عن مكانة العلم والأبحاث العلميّة التي من المفترض ألا تُستخدم بشكل سلبي في تدمير الشعوب وقتلها، إضافة لما رافق هذه الحروب من فشل الأنظمة الاقتصاديّة (الرأسماليّة والاشتراكيّة) التي أوهمت المجتمعات بالتأسيس لحياة أفضل وأكثر أمناً ورفاهيةً.

هذا وتُمثِّل المقولات التي تستند إليها التفكيكيّة في دراستها وممارستها للأحداث أو النصوص الأدبيّة، منطلقاً لتقويض أسس العقلانيّة الغربيّة، وذلك من خلال آليّة عمل التفكيك والتفكير وفق رؤية جديدة خارج كلِّ الأطر الفكريّة السائدة، بهدف فتح مجال للاختلاف وتقديم دلالات جديدة في رحلة البحث في الكينونة، وما لم يتمّ الحديث عنه ومناقشته من قبل، وهذه المقولات تؤكِّد جميعها على حريّة امتلاك النص وتناوله بالطريقة النقديّة التشريحيّة، دون أن يتوقَّف هذا النص عند عدد معين من القرَّاء أو عند عدد محدد أو نهائي أيضاً من المفاهيم الجديدة.

صحيح أنَّ أساس التفكيكيّة يعود للفلسفات التي سادت قبل ظهورها كما تبين معنا سابقاً، إلا أنَّ تطبيقها كمنهج نقدي راح يركز على النص الأدبي أكثر منه على الفلسفي، لأنَّ هدفه التشكيك في معاني النص الأدبي وتفكيكه، كما يذهب هذا المنهج  إلى أنَّ النص الأدبي يحوي في مضمونه على احتمالات كبيرة وغير متناهية من المعاني كما بينا أعلاه، لا سيما وأنَّ التفكيكيّة تؤمن بأنَّ الإنسان وشخصيته وسلوكه يتأثرون أيضاً بحياة اللاوعي الكامن في حالة اللاشعور المكبوت.

لقد احتوت التفكيكيّة على تناقضات كثيرة في داخلها وفي آليّة عملها، فلم تهتم بالبعد الزمني والمكاني للنص المتناول بالتفكيك، فتعاملت مع كافة النصوص على نسق تفكيكي واحد خارج الزمان والمكان، ممَّا أوجد مشكلة مع النصوص الدينيّة المقدسة التي طالتها سياسة التفكيك كما أشرنا في موقع سابق، لا سيما في ظلِّ استعمال التفكيكيّة لمصطلحات غير متداولة وشبه مبهمة، ممَّا زاد التشويش على النصوص التي تمَّت إعادة قراءتها، خاصة في ظلِّ التشكيك الذي طال الكثير من المسلَّمات المتعارف عليها والتي اعتبرت بمثابة حقائق علميّة، كما ركَّزت جلَّ اهتمامها على النص والكتابة وتجاهلت الكلام بشكل يهمل حضور الذات المفكرة، كما أنَّ التفكيكيّة أخضعت كافة النصوص للنقد وإعادة القراءة وتوليد معانٍ جديدة دون مراعاة النصوص البسيطة والتي لا تحتمل أيَّ تأويل. ومن العيوب أيضاً التي احتوتها التفكيكيّة هو تركها القارئ أن يقوم بتفكيك النص وفق آليات تفكيره. وأن يعتمد على آليات الهدم والبناء من خلال قراءته الخاصة به للنص. أي يقوم بهدم وتقويض المنطق الذي يحكم النص وفق ما فهمه من دلالات النص. هذا في الوقت الذي تطلب فيه التفكيكيّة أن تتوفر عدّة سمات في شخصيّة القارئ مثل، قوة الشخصية، وامتلاك الصبر والاحتمال، وسعة الثقافة التي تمنحه القدرة على الخروج من المعاني المباشرة الواردة في النص إلى مناطق أرحب في المجال في عالم النص، بحيث يستطيع التخلص من التقليد ويكون حياديّاً وموضوعيّاً في قراءاته للنص. ومن خلال التركيز على مبادئ التفكيك ومقولاته يتبين لنا أن هناك فؤاد لهذا المنهج لا يمكن إنكارها، مثل: وصف الظروف والممارسات في المجتمع، وإبراز الاتجاهات المختلفة ونقاط الضعف فيه، وبالتالي الكشف عن اتجاهات الناس وميولهم، وهذا ما يساهم في تطوير الأداء، وإظهار الفروق في الممارسات، وتقويم العلاقات بين الأهداف المرسومة وما يتم تطبيقه.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

..........................

الهوامش:

1- (موقع الأكاديميّة العربيّة الدولية - قسم اللغة العربية وآدابها - منهج “التفكيكية” في النقد الأدبي - أ. د. عبدالله خضر). بتصرف.

2- (عبد الله إبراهيم وآخرون، معرفة الآخر مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة، بيروت، المركز الثقافي، العربي، 1990م، ص114 ).

3- (موقع موضوع - مفهوم التفكيكية: فرح عبد الغني)

4- (مدونة "Thanyan Blog"، مدونة عربية - ما المقصود.. المنهج التفكيكي (التفكيكية) ومن هو مؤسسه؟). بتصرف. (ويراجع أيضاً في هذا الاتجاه: منال بن قسيمة- المناهــــــــج النــقديــــة الأدبيــــة قراءة في كتاب الفكر النقدي الأدبي المعاصر لحميد لحمداني ، صفحة 23-28 . بتصرّف.

5- blogspot.com/2017/05/blog-post_8.html

(أماني أبو رحمة – ثلاث تعريفات للتفكيكيّة). بتصرف.

6- (مجلة الاستغراب - العدد: 27- المنهجية التفكيكية... أسباب ظهورها وعوامل انتشارها - الباحث: حمدان العكله.). بتصرف.

7- (مجلة الاستغراب - العدد: 27- المنهجية التفكيكية... أسباب ظهورها وعوامل انتشارها - الباحث: حمدان العكله.). بتصرف.

8- (مجلة الاستغراب - العدد: 27- المنهجية التفكيكية... أسباب ظهورها وعوامل انتشارها - الباحث: حمدان العكله.).

9- (د عويشات حيزية، نقد التطبيقات العربية للمناهج النقدية الحديثة من خلال المرايا المحدبة ل عبد العزيز حمودة، صفحة 25-30.) بتصرّف.

10- (مجلة الاستغراب - العدد: 27- المنهجية التفكيكية... أسباب ظهورها وعوامل انتشارها - الباحث: حمدان العكله.).

11- (منال بن قسيمة، المناهــــــــج النــقديــــة الأدبيــــة قراءة في كتاب الفكر النقدي الأدبي المعاصر لحميد لحمداني، صفحة 23-28 .) بتصرّف.

12- (منال بن قسيمة، المناهــــــــج النــقديــــة الأدبيــــة قراءة في كتاب الفكر النقدي الأدبي المعاصر لحميد لحمداني، صفحة 23-28) . بتصرّف.

13- (مجلة الاستغراب - العدد: 27- المنهجية التفكيكية... أسباب ظهورها وعوامل انتشارها - الباحث: حمدان العكله.). بتصرف.

14- (مجلة الاستغراب - العدد: 27- المنهجية التفكيكية... أسباب ظهورها وعوامل انتشارها - الباحث: حمدان العكله.). بتصرف.

15- (مجلة الاستغراب - العدد: 27- المنهجية التفكيكية... أسباب ظهورها وعوامل انتشارها - الباحث: حمدان العكله.).

16- (مجلة الاستغراب - العدد: 27- المنهجية التفكيكية... أسباب ظهورها وعوامل انتشارها - الباحث: حمدان العكله.).بتصرف.

17- (عبدالقادر مهداوي، المعنى الثاني مأزق التفكيكية و النص، منشورات مركز الكتاب الأكاديمي، عمان، ط1، 2020م، ص113.).

18- (منال بن قسيمة، المناهــــــــج النــقديــــة الأدبيــــة قراءة في كتاب الفكر النقدي الأدبي المعاصر لحميد لحمداني، صفحة 23-28 .). بتصرّف.

19-  (مجلة الاستغراب - العدد: 27- المنهجية التفكيكية... أسباب ظهورها وعوامل انتشارها - الباحث: حمدان العكله.).بتصرف.

20- (مجلة الاستغراب - العدد: 27- المنهجية التفكيكية... أسباب ظهورها وعوامل انتشارها - الباحث: حمدان العكله.).بتصرف.

21-  (الحوار المتمدن - التفكيكية فى الادب - الكاتب / طارق فايز العجاوى. ) ويراجع أيضاً: (مجلة الاستغراب - العدد: 27- المنهجية التفكيكية... أسباب ظهورها وعوامل انتشارها - الباحث: حمدان العكله.).بتصرف.

22- (عز الدين مناصرة، علم الشعريات، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2007، ص554.). ( لاستزادة في معرفة أسباب تفضيل الكتابة على الكلام عند جاك دريدا يراجع في هذا الاتجاه أيضاً: موقع تباين - استراتيجية التفكيك عند جاك دريدا الهدم والبناء - عمر التاور.).

23- (مدونة "Thanyan Blog"، مدونة عربية - ما المقصود: المنهج التفكيكي (التفكيكية) ومن هو مؤسسه؟).

24- (مدونة "Thanyan Blog"، مدونة عربية - ما المقصود: المنهج التفكيكي (التفكيكية) ومن هو مؤسسه(للاستزادة في هذا الاتجاه، يراجع (  Thanyan Blog). مدونة عربية - ما المقصود بالمنهج التفكيكي (التفكيكية)، ومن هو مؤسسه؟ ؟).

للأستاذ رابح خدوسي رابح

1. دور رابح خدوسي كأديب ومثقف لما بعد الكولونيالية:

رابح خدوسي يمثل نموذجًا للمثقف الجزائري الذي يسعى لإعادة كتابة التاريخ الوطني من منظور محلي ومناهض للاستعمار. يستخدم خدوسي الأدب والتاريخ كوسائل لمواجهة الهيمنة الثقافية الغربية، مقدماً أعماله كأدوات لتعزيز الهوية الوطنية الجزائرية بعد الحقبة الاستعمارية. كتابه "البليدة مدينة الورود والبارود" يعكس هذه الجهود من خلال التركيز على بطولات المقاومة الشعبية الجزائرية.

2. صناعة ثقافة تحمل المناعة ضد الغزو الثقافي الغربي:

خدوسي يسعى لبناء ثقافة وطنية قوية ومحصنة ضد محاولات التغريب الثقافي. في كتابه، يعرض بطولات السكان المحليين ويبرز الدور الحيوي للأمير عبد القادر وجيشه في مقاومة الاستعمار الفرنسي. هذا التركيز على الأمثلة الوطنية يعزز الفخر بالتراث الجزائري ويشجع الأجيال الجديدة على مقاومة التأثيرات الثقافية الغربية.

3. المساهمة في تقوية الروح المعنوية وبناء عقل جزائري لا يرضى بالقابلية للاستعمار:

من خلال استعراض بطولات المقاومة، يعزز خدوسي الروح المعنوية للشعب الجزائري، مشجعاً على الفخر بالتاريخ الوطني. يسعى الكتاب لبناء عقلية جزائرية ترفض الخضوع للاستعمار وتتمسك بقيم الحرية والاستقلال.

التحليل السيميائي لكتاب "البليدة مدينة الورود والبارود":

1. العنوان:

- "البليدة مدينة الورود والبارود": يجمع العنوان بين الجمال (الورود) والقوة (البارود)، مما يرمز إلى التوازن بين الرقة والقوة في شخصية المدينة وسكانها.

- "صفحات من جهاد المقاومة الشعبية وجيش الأمير عبد القادر وبطولات الثورة التحريرية في متيجة (1830-1962)": يحدد العنوان الفترة الزمنية والمحتوى الرئيسي للكتاب، مما يعزز الشعور بالتاريخ والبطولة.

2. الصورة الغلاف:

- الأمير عبد القادر بزيه العربي المعهود ونياشينه: يرمز الأمير عبد القادر إلى البطولة والشرف، مما يعزز الهوية الوطنية.

- صورة للمقاومة الفرنسية بين جريح وقائم يضرب العدو: هذه الصورة تعكس صراع المقاومة وتضحياتها، مما يعزز الروح الثورية.

- صورة للأطلس البليدي مع كتابة "جمعية الذاكرة والتراث الثقافية - ولاية البليدة": تشير إلى الجغرافيا المحلية وتعزز الانتماء المكاني.24 rabeh khandws

الرؤية الأيديولوجية والنفسية:

1. الأيديولوجية:

خدوسي يتبنى رؤية وطنية تعزز الهوية الجزائرية وتعيد تأكيد البطولات التاريخية كوسيلة لمواجهة الهيمنة الثقافية الغربية. يعمل على بناء ذاكرة وطنية تعيد الفخر بالتاريخ وتستخدمه كأداة لتحصين المجتمع ضد أي محاولات لتغريب الثقافة.

2. النفسية:

يهدف الكتاب إلى تعزيز الفخر الوطني والشعور بالانتماء من خلال عرض تضحيات وبطولات الأجيال السابقة. هذا التركيز على التاريخ البطولي يساعد في بناء عقلية ترفض الخضوع وتتمسك بالحرية والاستقلال.

التوصيات للمثقفين:

يعتبر رابح خدوسي قدوة للمثقفين في بناء ثقافة وطنية قوية وواعية بعد الكولونيالية. ينبغي للمثقفين أن يستلهموا من جهوده في تقديم التاريخ الوطني بطريقة تعزز الوعي الوطني وتحصن المجتمع ضد التأثيرات الثقافية السلبية. يجب أن تكون ثقافتنا مبنية على الفخر بالتاريخ والتراث الوطني، وليس على التملق أو التسول الثقافي.

خاتمة:

عمل رابح خدوسي في "البليدة مدينة الورود والبارود" يقدم نموذجًا للكتابة التي تعزز الهوية الوطنية وتحصنها ضد الغزو الثقافي. يعكس الكتاب التزام خدوسي بمهمة ثقافية تهدف إلى بناء عقلية وطنية قوية ومستقلة، ترفض القابلية للاستعمار وتتمسك بقيم الحرية والكرامة.

***

بقلم رابح بلحمدي الحامدي

البليدة الجزائر

في استفتاء اجرته صحيفة نيويورك تايمز عن افضل 10 روايات صدرت منذ بداية هذه الالفية، حازت رواية " صديقتي المذهلة " للكاتبة الايطالية صاحب الاسم المستعار " إلينا فيرانتي " على المركز الاول.  وقد استطلعت الصحيفة  آراء شعراء ونقاد وصجفيين وقراء  وشاعر وقد اجمعوا على ان رواية فيرانتي هي الاجمل. صديقتي المذهلة هي الجزء الاول من " رباعية نابولي" التي صدرت ترجمتها العربية باربعة " " صديقتي المذهلة.. حكاية الاسم الجديد..الهاربون والباقون..حكاية الطفلة الضائعة " ترجمها الى العربية معاوية عبد المجيد

من يقرأ روايات إيلينا فيرانتي المولودة في نابولي عام 1943، يدرك كيف استعارة هذه الروائية اللغز حياة الآخرين والتظاهر بانها لم تكتبها فـ:" الكتب، بمجرد كتابتها، لا تحتاج إلى مؤلفيها"، هكذا تكتب في ردها على أسئلة القراء المتلهفين لمعرفة من هي هذه السيدة التي شغلت الايطاليين منذ ربع قرن.

قبل ان تجرب كتابة الرواية، كانت تملأ دفاترها المدرسية بيومياتها:" وانا فتاة صغيرة. كنت مراهقة خجولة. وكل ما كنت أجيد قوله هو كلمة نعم، ومعظم الأحيان كنت أبقى صامتة.اما في مذكراتي، فقد كان الامر مختلفا، كنت اترك لنفسي العنان وأسرد بالتفصيل ما يحدث لي يوميا، حتى الأشياء الخاصة جدا والغاية في السرية وكل ما كان يخطر ببالي من أفكار جريئة كنت ادونه على الورق". ولانها خجولة كانت تخاف ان تقع هذه الاوراق في ايدي الاخرين:" كنت خائفة جدا مما كنت افعله: فقد كنت أخشى أن تكتشف تلك المذكرات وتقرأ ".

في العشرين من عمرها قررت التوقف عن كتابة المذكرات، وتحولت رغبة الكتابة عندها إلى: " كتابة قصة من بنات خيالي "، ورغم انها لم تجد الوقت الكافي للكتابة كل يوم، الا ان اصرارها على الكتابة جعلها تنهي اول رواياتها، تبدأ رحلة البحث عن ناشر، وستعثر عليه بعد اكثر من 25 عاما حيث قرر احد اصحاب دور النشر ان يجازف وينشر روائية لكاتبة مجهولة، رفضت ان تضع اسمها الحقيقي على غلاف الكتاب واختارت اسم " إيلينا فيرانتي ".

العام 2011 يصبح حاسماً في حياة فيرانتي حيث تصدر روايتها " صديقتي المذهلة "، والتي ستصبح فيما بعد الجزء الاول من رباعية نابولي الشهيرة حيث باعت اكثر من عشرة ملايين نسخة – ترجمها الى العربية معاوية عبد المجيد -.كانت في البداية تريد ان تروي جانبا من حياة مدينتها نابولي من خلال تتبع حادثة اختفاء لينا او ليلا كما تسميها صديقتها المقربة إيلينا، ففي صباح احد ايام عام 2010 تتلقى إيلينا اتصالاً هاتفيا من ابن صديقتها ليلا يخبرها ان والدته البالغة من العمر 60 عاما اختفت منذ اسبوعين، ولا احد يعرف اين ذهبت، وتدرك إيلينا ان اختفاء صديقتها عمل لم يات من فراغ، وان هناك اسباب لايعرفها سوى ليلا المختفية. في تلك الليلة تبدأ إيلينا في وضع كل ما يمكن أن تتذكره حول ليلا على الورق، ابتداء من عام 1950 في نابولي عندما بدأت صداقتهما في اللحظة التي قررتا فيها صعود السلالم المؤدية الى شقة الدون آخيل. بعدها تكبر الرواية لنجد انفسنا في حي فقير من احياء مدينة نابولي نتتبع حكاية الطفلة العبقرية ليلا من خلال صديقتها إيلينا التي تنجح في ان تصبح روائية..لنتعرف على سيرة مدينة خلال فترة زمنية تجاوزت النصف قرن، ونشعر ونحن نتابع بلهفة مصائر الأبطال خلال الاجزاء التتالية من الرواية (الاسم الآخر – الهاربون والباقون – حكاية الطفلة الضائعة) كأن الاحداث في المدينة أبدية لاتنتهي، حيث تقع ليلا وألينا في الحب والزواج والخيانة والبحث عن دور في العالم، والتمييز، والولادة، وتربية الأطفال، وأحيانًا تكون الحياة سعيدة، وأحيانًا غير سعيدة، وتتعرضان لتجربة الخسارة والموت..ووسط حي عمالي بائس تاخذنا فيرانتي في رحلة مشوقة، يمتزج فيها الحب والطموح بظلال ما بعد الفاشية، ومعارك اليمين الإيطالي ضد اليسار واغتيال ألدو مورو والألوية الحمراء في السبعينات من القرن الماضي، لكن الشيء المدهش هو وصف حياة النسوة داخل هذا الحي، مشاعر الغيرة والعلاقات الجنسية والصداقة التي تختلط احيانا بالغيرة، والشجاعة المتعلقة بالامل، حتى تبدو لنا فيرانتي مهمومة بالعالم النسوي اساسا حيث تبدو الرباعية وكانها دفاع عن عالم المراة في مواجهة عالم ذكوري عنيف وعبثي وخلال مقابلة اجريت مع فيرانتي قبل اشهر من خلال بريدها الالكتروني قالت:" أن النساء - أمهات أو عازبات - يعانين الأمرين في الموازنة بين إدارة متطلبات الحياة اليومية وبناء مساحات الإبداع الذاتي، وهن غالبًا ما ينتهين إلى التضحية بطموحاتهن من أجل مشاعرهن نحو الشركاء والأبناء".

على مدى اربع سنوات تواصل فيرانتي اصدار الأجزاء الاخرى من الرباعية لتختمها بالجزء الاخير " حكاية الطفلة الضائعة "، وعند سؤالها عن جزء خامس قالت:" كان من الصعب أن أستيقظ ذات يوم أفكر، لقد انتهت قصة ليلا وأيلينا". صحيح انني انتهيت من ذلك. لكن الامر مثل الولادة فقد ة تملكني شعور فظيع بالفراغ وكانني وسط طريق طويل، لكنني أعرف قصصًا أخرى وأتمنى أن أتمكن من كتابتها".

عندما سألت أين تكتب؟ اجابت:" أنا أكتب في أي مكان. ليس لدي غرفة خاصة بي. أعلم أنني أحب المساحات الخالية، مع جدران بيضاء فارغة. لكن هناك حقيقة مهمة وهي عندما أكتب، سرعان ما أنسى أين أكون.

تكتب فيرانتي:" أن المرء عندما يقرر ان يكتب فليس من المنطقي أن يخفي او يكتم شيئأ، او يفرض رقابة على نفسه، ونتيجة لذلك فان اغلب الاشياء التي كتبت عنها - وربما كانت تلك هي الاشياء الوحيدة التي رغبت في الكتابة عنها – هي تلك الاشياء التي كنت أفضل أن ألتزم الصمت عندما يدور الحديث عنها والجأ من بين أمور أخرى إلى تلك المفردات التي لم اكن اجرؤ على استخدامها في حديثي مع الاخرين "

قالت في واحدة من مقابلاتها الصحفية إن الخجل  هو السبب الذي دفعها إلى عدم الكشف عن هويتها الحقيقية، وأنها تتوجس كثيراً الخروج من العتمة إلى النور.

***

علي حسين – رئيس صحيفة المدى البغدادية

ارسل لي صديق "فيسبوكي" من اهالي مدينة خانقين، وهو محب للادب وعالم السرد، كتب يطلب مني كتابة مقال عن الروايات واهم انواعها، والفروقات بين أنواع الكتابة، وما هي اهم أدواتها، وكيف يمكن ان نكتب رواية يمكن ان تحدث أثرا مهما في الجمهور المثقف الواعي المحب للكتب والكتابة، ويحثني ويشجعني في كتابة مقال، لأن هناك فئة واسعة تريد ان تدخل عالم السرد الروائي لكنها فاقدة للمعرفة، فيكون المقال لفتح الابواب المعرفية أمام من يريد ان يكتب رواية، فقررت ان استجيب لطلب صديقي واكتب مقالا مطولا أوضح فيه مطالب صديقي الفيسبوكي، وابين فيه الاهم لمن يرغب ان يكتب رواية، وقد وضعت اهتمامي حسب ما اجده الأكثر تأثيرا من انواع الروايات.

الروايات يمكن ان تنقسم إلى عدة أنواع، حيث تتنوع بناءً على المواضيع والأساليب والأهداف الأدبية.

ومن أهمها: الرواية الواقعية والرواية التاريخية والرواية النفسية والرواية الرومانسية و الرواية البوليسية، وسنتكلم عن هذه الأنواع الخمسة المهمة حسب وجهة نظري.. نعم هناك انواع مثل، و الرواية الفانتازية، و الرواية السيرة الذاتية، و الرواية العلمية، والرواية الاجتماعية، والرواية الملحمية، لكن توجهت فقط عن الانواع الخمسة الاولى التي اجدها اهم.. وإليك أيها القارئ تفاصيل الأنواع الرئيسية الخمسة للروايات:

اولا: الرواية الواقعية:

وهي تركز على تصوير الحياة اليومية والواقع الاجتماعي والسياسي، وغالبًا ما تستند إلى أحداث حقيقية، والرواية الواقعية تعتمد على مجموعة من الأدوات والتقنيات الفنية التي تساعد في بناء السياق وتقديم الشخصيات والأحداث بشكل واقعي ومعبر. إليك بعض الأدوات الأساسية التي تُستخدم في الرواية الواقعية... وهي:

1- الشخصيات: وهي متعددة الأبعاد؛ أي أن لها صفات، دوافع، وصراعات تجعلها تبدو واقعية، ويجب أن تكون الشخصيات قادرة على التطور والنمو خلال الأحداث.

2- الحوار: الحوار يُستخدم لنقل الأفكار والمشاعر بين الشخصيات، كما يساعد في بناء العلاقات وتقديم الشخصيات بشكل أكثر واقعية، ويجب أن يكون الحوار طبيعيًا ويعكس طريقة كلام الشخصيات في الحياة اليومية.

3- الوصف: استخدام أوصاف دقيقة للأماكن، الأشخاص، والأحداث، وهذه الأوصاف تساعد القارئ في تصور البيئة والشخصيات وتخلق صورة واقعية في ذهنه.

4- الزمان والمكان: تحديد الزمان والمكان الأحداث بشكل دقيق، مما يساعد على وضع القارئ في سياق القصة، ويمكن أن يتضمن ذلك تفاصيل حول الثقافة، العادات، والأحداث التاريخية.

5- وجهات النظر: استخدام وجهات نظر متنوعة (أول شخص، ثالث شخص) لتقديم تجارب الشخصيات بشكل مختلف، مما يعكس واقع الحياة من زوايا متعددة.

6- الاحداث: التركيز على أحداث الحياة اليومية وتجارب الشخصيات، بدلاً من الاعتماد على أحداث خيالية أو خارقة.

7- التفاصيل الحسية: إدراج تفاصيل حسية (رؤية، سمع، لمس، شَم) لإضفاء عمق على التجارب وتقديم أبعاد إضافية للشخصيات والأحداث.

8- المشاعر: التعبير عن المشاعر الداخلية للشخصيات بشكل واقعي، مما يساعد القارئ على التعاطف مع ما يمر به الشخصيات.

9- القضايا الاجتماعية: معالجة قضايا اجتماعية حقيقية مثل الفقر، التمييز، والحقوق الإنسانية، وهذا يساهم في تعزيز الصلة بين القارئ والعالم الخارجي.

10- البنية: الهيكل الزمني للأحداث يجب أن يكون منطقيًا، ويمكن أن يتضمن استخدام الفلاش باك (flashback) لاسترجاع الذكريات التي تساهم في فهم الحاضر.

تساعد هذه الأدوات في تقديم رواية واقعية تعبر عن تجارب الإنسانية بشكل صادق، وتسمح للقارئ بالتفاعل مع القصة بشكل عميق.

ثانيا: الرواية التاريخية:

تدور أحداثها في فترات زمنية سابقة، وغالبًا ما تستند إلى أحداث وشخصيات تاريخية مع إضافة عناصر خيالية..والرواية التاريخية هي نوع من الأدب يدمج بين السرد الخيالي والأحداث التاريخية الحقيقية. هنا بعض الأدوات والمكونات الأساسية التي تساعد في كتابة رواية تاريخية.. وهي:

1- البحث التاريخي: إجراء بحث دقيق عن الفترة الزمنية والمكان الذي تتمحور حوله الرواية. هذا يشمل قراءة الكتب التاريخية، الوثائق، والمقالات، بالإضافة إلى مصادر ثانوية مثل السير الذاتية.

2- شخصيات تاريخية: دمج شخصيات تاريخية حقيقية مع شخصيات خيالية. يمكن أن يلعب الشخصيات التاريخية دورًا في تطور القصة بينما يمثل الأبطال الخياليون الأصوات والآراء الجديدة.

3- الإعداد الجغرافي والتاريخي: وصف الأماكن والأحداث المرتبطة بها بشكل دقيق، مما يساعد القراء في تصور البيئة. يجب مراعاة العادات، الملابس، والفنون المستخدمة في تلك الحقبة.

4- اللهجة واللغة: استخدام اللغة أو الحوار المناسب للفترة الزمنية، مع مراعاة الفروق الثقافية واللغوية. قد يتطلب ذلك تطوير لهجة معينة أو استخدام تعبيرات تاريخية.

5- الأحداث التاريخية: دمج الأحداث التاريخية في سرد الرواية بشكل يساهم في تطوير القصة، مما يجعلها غنية بالمعلومات ومشوقة في الوقت ذاته.

6- النزاعات والصراعات: تسليط الضوء على النزاعات التاريخية المختلفة، سواء كانت سياسية، اجتماعية، أو فكرية، وكيف أثرت على حياة الشخصيات.

7- التفاصيل الحسية: استخدام أوصاف حسية تنقل القراء إلى العصر المحدد، مثل الروائح، الأصوات، والألوان التي كانت موجودة آنذاك.

8- العادات والتقاليد: تضمين العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية التي كانت سائدة في ذلك الوقت لتقديم تصور شامل عن الحياة اليومية.

9- وجهات النظر: استعراض الأحداث من زوايا مختلفة، مما يساعد على تقديم أكثر من تفسير للواقع التاريخي.

10- الرسائل والأفكار: تضمين موضوعات تتجاوز الوقت، مثل الهوية، الحب، الشجاعة، والحرية، مما يجعل القصة تتناغم مع التجارب الإنسانية عبر العصور.

11- الربط بين الماضي والحاضر: يمكن إدراك كيف أن الأحداث التاريخية تؤثر على الحاضر والكيفية التي تتقاطع بها القصص عبر الزمن.

باستخدام هذه الأدوات، يمكن كتابة رواية تاريخية غنية ومؤثرة تأسر القارئ وتنقله إلى عصور ماضية.

ثالثا: الرواية النفسية:

تركز على استكشاف العقل البشري، الدوافع، والصراعات الداخلية للشخصيات، والرواية النفسية تستند إلى استكشاف العواطف والأفكار الداخلية للشخصيات، وتستخدم مجموعة من الأدوات والتقنيات لتعزيز هذا الاستكشاف، وإليك بعض الأدوات الأساسية للرواية النفسية:

1- التدفق الواعي: تقنية تُظهر أفكار الشخصيات ومشاعرهم بشكل مباشر دون ترتيب زمني، مما يعطي القارئ فكرة عن كيفية مواجهة الشخصيات لمواقف معينة.

2- الراوي الداخلي: استخدام صوت الراوي للتعبير عن الأفكار الداخلية والمشاعر المعقدة للشخصيات، مما يعزز فهم القارئ للعمق النفسي للشخصية.

3- الوصف العاطفي: استخدام أوصاف مفصلة للمشاعر والعواطف، مثل القلق، الاكتئاب، أو الفرح. يساعد ذلك القارئ على التواصل مع الشخصيات على مستوى أعمق.

4- الحوار الداخلي: إدخال حوارات داخلية تعكس صراعات الشخصيات، مما يمنح القارئ نظرة ثاقبة على أفكارهم وقراراتهم.

5- الرمزية: استخدام الرموز كأدوات لتعزيز الموضوعات النفسية، مثل الألوان أو الأشياء التي تعكس مشاعر معينة.

6- دور الماضي: تسليط الضوء على تأثير تجارب الشخصيات في الماضي على سلوكياتهم الحالية ومشاعرهم.

7- الأحلام والكوابيس: إدخال عناصر من الأحلام كتعبير عن الصراعات والخوف الداخلي، مما يعكس ما يدور في ذهن الشخصيات.

8- الشخصيات المعقدة: إنشاء شخصيات ذات عمق نفسي، تجعلهم مثيرين للاهتمام وقابلين للتعاطف من قبل القارئ.

9- الأحاسيس: التركيز على الأحاسيس الجسدية كطريقة للتعبير عن الحالة النفسية، مثل توتر القلب أو فرح الصدر.

10- الرؤية المتعددة: عرض الأحداث من وجهات نظر متعددة لخلق طبقات من الفهم والتعاطف مع الشخصيات.

11- التوتر والصراع الداخلي: التركيز على الصراعات الداخلية التي تواجهها الشخصيات، مثل الصراع بين رغباتهم ومسؤولياتهم.

12- التعلق والانفصال: استكشاف علاقات الشخصيات وتأثيرها على نفسيتهم، مما يساعد في تعزيز الصراعات والمشاعر.

باستخدام هذه الأدوات، يمكن للرواية النفسية أن تنقل تجارب عميقة ومعقدة تتعلق بالحياة الداخلية للشخصيات، مما يجعل القارئ يشعر بالاتصال والتعاطف معهم.

رابعا: الرواية الرومانسية:

تتناول قصص الحب والعلاقات العاطفية، وعادةً ما تتضمن عناصر من العاطفة والدراما، والرواية الرومانسية تعتمد على مجموعة من الأدوات والأساليب التي تساعد في بناء الحبكة وتعزيز المشاعر العاطفية... وهي:

1. الشخصيات المعقدة: إنشاء شخصيات ذات عمق نفسي وتاريخ شخصي. الشخصيات القابلة للتعاطف تجعل القارئ يستثمر في قصصهم.

2. العواطف القوية: التعبير عن المشاعر بشكل مكثف، مثل الحب، الشغف، الحزن، والخيانة. يجب أن تكون العواطف نابضة بالحياة ومؤثرة.

3. تطور العلاقة: التركيز على مراحل تطور العلاقة بين الشخصيات، من البداية نحو التعقيد والتوتر، وكيف يمكن للأحداث أن تؤثر على مشاعرهم.

4. العقبات والتحديات: إدخال صراعات أو تحديات تعترض طريق الحب، مثل التقاليد، الفروق الاجتماعية، أو المشاكل الشخصية. هذه العقبات تجذب القارئ وتزيد من التوتر الدرامي.

5. الحوار الرومانسي: كتابة حوارات ذات طابع رومانسي، تتسم بالعاطفية والحميمية. الحوار يعتبر وسيلة هامة للتعبير عن المشاعر.

6. البيئة والمكان: وصف الأماكن الرومانسية التي تلعب دورًا في الأحداث، سواء كانت أماكن جميلة أو غريبة تعزز الأجواء الرومانسية.

7. الرمزية: استخدام الرموز والاستعارات لتمثيل المشاعر، مثل استخدام الألوان أو الطبيعة لتعكس الحب أو الفراق.

8. الذكريات: تضمين الذكريات المشتركة للشخصيات، مما يساعد في بناء عمق العلاقة بينهما ويعزز التعاطف.

9. الحب من النظرة الأولى: استخدام هذا العنصر كوسيلة لجذب القارئ إلى القصة، حيث يسعى الشخصيات لتجاوز الصعوبات لتحقيق الحب.

10. التحولات الشخصية: عرض كيف يمكن للحب أن يؤدي إلى تغييرات إيجابية في شخصية الفرد ونموه.

11. الأفراح والأحزان: تضمين اللحظات السعيدة والحزينة التي تعيشها الشخصيات، مما يعكس تقلبات العلاقة.

12. النهاية السعيدة: في كثير من الروايات الرومانسية، يُفضل أن تنتهي القصة بنهاية سعيدة أو توافق، مما يترك القارئ بمشاعر إيجابية.

13. وجهة نظر الشخص الأول أو الثالث: اختيار السرد بوجهة نظر شخصية محددة يمكن أن يعزز العمق النفسي ويظهر مشاعر الشخصيات بشكل أفضل.

استخدام هذه الأدوات بشكل متكامل يساعد في خلق تجربة قرائية غنية ومؤثرة في الرواية الرومانسية.

خامسا: الرواية البوليسية

الرواية البوليسية هي نوع من الأدب الروائي يركز على التحري والتحقيق في قضايا الجرائم، غالبًا جريمة قتل، وتتميز الرواية البوليسية بوجود محقق أو شخصية رئيسية تسعى لحل اللغز وفك رموز الجريمة، مما ينطوي على استكشاف الأدلة، واستجواب المشتبه بهم، وتحليل المعلومات، والرواية البوليسية تعتمد على مجموعة من الأدوات والعناصر التي تساهم في بناء الحبكة وإثارة التشويق، وهي:

1. الشخصيات: وهي ثلاث .. اولا: "المحقق" الشخصية الرئيسية التي تقوم بحل اللغز، قد تكون شرطيًا أو متعهد خاص، وثانيا: "الضحايا" وهي الشخصيات التي تقع ضحية الجريمة وتكون مركزًا للأحداث، وثالثا: "المشتبه بهم" وهي الشخصيات التي تمثل مجموعة من الخيارات المحتملة التي قد تكون متورطة في الجريمة.

2. الحبكة: او الجريمة ويجب أن تكون هناك جريمة معقدة (مثل القتل) تدفع الأحداث... ثم حل اللغز: حيث الأحداث تتصاعد نحو كشف الجريمة، ويجب أن تكون هناك مفاجآت وتغييرات في مسار الأحداث.

3. الأجواء: وتتكون من البيئة وهي الأماكن التي تحدث فيها الأحداث، مثل المدن، المنازل، أو الأماكن العامة... وايضا تشمل الأجواء النفسية، حيث  يخلق جو من التوتر والقلق الذي يحيط بالشخصيات.

4. الأسلوب السردي: وتشمل "وجهة النظر" ويمكن أن يكون السرد من منظور المحقق أو من وجهات نظر متعددة... وكذلك "التشويق والتوتر" حيث استخدام تقنيات الكتابة مثل الفصول القصيرة والحوارات المشوقة لزيادة التوتر.

5. الأدلة والقرائن: استخدام أدلة معينة تساهم في توجيه القارئ نحو حل اللغز، وذلك من خلال إثارة التساؤلات وخلق الغموض.

6. المفاجآت والتقلبات: إحداث تقلبات غير متوقعة في الأحداث، بحيث تعطي للقارئ خيوط جديدة وتحافظ على اهتمامه.

7. حل القضية: الوصول إلى كشف الجريمة وجعل القارئ يشعر بالرضا عند معرفة التفاصيل وارتباطها مع الأدلة والشخصيات.

باستخدام هذه الأدوات، تتمكن الروايات البوليسية من جذب انتباه القارئ وتقديم تجربة مشوقة تتطلب التفكير والتحليل.

***

الكاتب: اسعد عبدالله عبدعلي

سيمون سترانجر هو كاتب نرويجي مبدع، معروف بتقديمه روايات تلامس قضايا حساسة ومعاصرة، مستخدمًا فيها أسلوبًا سرديًا يجمع بين الواقعية والخيال. أحد أبرز أعماله هو ثلاثية الشباب التي تتناول موضوعات الصراع والهجرة وتأثيرها على الأفراد والمجتمعات. هذه الثلاثية تشمل الروايات: "Barsakh"، "Verdensredderne"، و"De som ikke finnes". في هذا المقال، سنستعرض هذه الروايات الثلاث ونحلل كيفية تناول سترانجر لموضوعات الصراع والهجرة من خلالها.

Barsakh: البداية المأساوية

في روايته "Barsakh" (2009)، يقدم سترانجر قصة إيميلي، الفتاة النرويجية التي تلتقي بسامويل، المهاجر غير الشرعي من غانا، أثناء قضائها عطلتها في جزر الكناري. الرواية تعالج القضايا المتعلقة بالهجرة غير الشرعية وكيفية تأثيرها على الأفراد من كلا الجانبين: المهاجرين الذين يخاطرون بحياتهم بحثًا عن مستقبل أفضل، والمواطنين الذين يواجهون تحديات أخلاقية واجتماعية في التعامل مع هذه الظاهرة.

تظهر الرواية الصراعات الداخلية والخارجية التي يواجهها سامويل، بما في ذلك الخطر المستمر لحياته أثناء الرحلة وظروف الحياة القاسية التي يهرب منها. من ناحية أخرى، تعيش إيميلي تجربة غير متوقعة تؤدي بها إلى إعادة التفكير في حياتها المريحة ومعنى العدالة الإنسانية.

Verdensredderne: الشباب والوعي الاجتماعي

في "Verdensredderne" (2012)، يواصل سترانجر استكشاف قضايا الهجرة والصراع من خلال قصة تتبع إيميلي وصديقتها كارين، اللتين تسعيان للقيام بأعمال تطوعية ومساعدة الآخرين. تتناول الرواية موضوعات الفقر العالمي والظلم الاجتماعي، حيث تنتقل الشخصيات بين الحياة المترفة في النرويج والواقع المرير للمجتمعات الفقيرة.

تتسم الرواية بأنها ليست مجرد قصة مغامرة، بل هي دعوة للتفكير والتأمل في دور الشباب في مواجهة التحديات العالمية. يبرز سترانجر كيف يمكن للأعمال الصغيرة أن تساهم في إحداث تغيير كبير، وكيف أن الوعي الاجتماعي والشعور بالمسؤولية هما مفتاح لتحقيق العدالة.

De som ikke finnes: الأمل والمأساة

الجزء الأخير من الثلاثية، "De som ikke finnes" (2014)، يسلط الضوء على قضية اللاجئين غير المسجلين أو "الذين لا وجود لهم" كما يصفهم العنوان. تتعمق الرواية في حياة الأفراد الذين يعيشون على هامش المجتمع بدون حقوق أو اعتراف قانوني. تروي القصة حكاية سامي، الذي يهرب من الحرب والفقر إلى أوروبا، ليواجه تحديات جديدة تتعلق بالاندماج والحياة في ظل عدم الأمان القانوني. تُظهر الرواية الجوانب الإنسانية لهؤلاء الأشخاص، وتكشف عن الصعوبات اليومية التي يواجهونها، من البحث عن مأوى إلى تجنب السلطات. يطرح سترانجر من خلال هذه القصة سؤالاً عميقًا حول الإنسانية: كيف يمكن للمجتمعات المتقدمة أن تتعامل مع أولئك الذين يبحثون عن الأمان والكرامة؟ من خلال هذه الثلاثية، يقدم سيمون سترانجر رؤية شاملة ومعقدة لقضايا الهجرة والصراع. يستخدم شخصيات شابة لتجسيد البراءة والتفاؤل، ويواجهها بواقع قاسٍ يعكس تعقيدات العالم الحقيقي. تظهر الروايات كيف تؤثر السياسات الدولية والظروف الاقتصادية على الأفراد، وكيف يمكن للتعاطف والوعي أن يكونا أداة للتغيير. يبرز سترانجر في أعماله قدرة الأدب على التأثير في الوعي الاجتماعي وتعزيز فهم أعمق للقضايا الإنسانية. من خلال السرد الجذاب والشخصيات المعبرة، يقدم للقراء فرصة للتفكير في دورهم ومسؤولياتهم تجاه القضايا العالمية. تمثل ثلاثية سيمون سترانجر حول الصراع والهجرة عملاً أدبيًا مؤثرًا يجمع بين الواقعية والتأمل الفلسفي. بفضل أسلوبه السردي الفريد وشخصياته القوية، ينجح سترانجر في إلقاء الضوء على قضايا هامة ومعقدة، داعيًا القراء للتفكير في العدالة والإنسانية في عالمنا المعاصر. تعد هذه الثلاثية دعوة للتعاطف والعمل من أجل مستقبل أفضل وأكثر إنصافًا للجميع.

***

زكية خيرهم

يأخذنا النص الروائي الى محطات عديدة ومتنوعة، ترسم مسيرة الواقع والحياة، في شؤون مصيرة عويصة ومهمة، ويتوغل الحدث الروائي باشكاله المتنوعة، في احدث عاصفة في مسيرة حياة (بابو حبيبي) وهي ترمز الى حياة العراق والعراقيين، قبل الاحتلال الأمريكي وبعده، أي بعد عام 2003، ترسم خارطة العراق والعراقيين في ابعادها السياسي والاجتماعي والاخلاقي. مستلهماً المتن الروائي قصة النبي يوسف وتبعاتها الخطيرة في اطار الاخوة الاعداء، في المعنى والمغزى البليغ والعميق، وهي رمزية لحياة العراقي في الغربة والمهجر أو بعد رجوعهم الى الوطن، في صراع دائم غير مستقر يأخذ أشكال وطرق مختلفة. ربما نجد بعضها غريبة عن واقعنا ومعطيات تراثنا، ولكن قصة اخوة يوسف، لن تغيب عن المشهد العراقي، قديما وحديثا. تظهر باشكال مختلفة تبعاً للزمن والظرف المحدد. ودور الطمع المالي في تخريب أواصر العائلة والمجتمع حتى في تخريب الاوطان، حين تتفجر صفات الخيانة والغدر بشكلها الرهيب تهدد الحياة والوجود. ولكن الحياة تبقى مستمرة في البقاء، أو في المعنى الأدق، تحيى من رمادها من جديد. لذلك اننا أمام نص روائي مزدحم في خضم أحداث ومحطات، تذهب في اتجاهات مختلفة، والنص الروائي يملك الامكانية الهائلة من براعة الصياغة والتعبير، في تنقلاته من الواقعية الى السريالية الى الروحانيات، لكنها تسير في اتجاه، وهرم واحد يتحكم بها. في تداعيات الاحداث والصراعات بين الشخصيات الرئيسية في المتن الروائي، تعطي معنى الصراع بين الخير والشر، ولا يمكن ان يحسم، ربما يتغلب احدهما على الآخر لكن دون حسم ثابت. ومن اجل تسليط الضوء في التحليل النقدي، لابد من فرز الشخصيات ومميزاتها الدالة في المتنن الروائي ورمزيتها المعنونة والدالة.

- شخصية بابو حبيبي:

الطفل الذي ولد معوقاً جسمياً في صعوبة الحركة، ومصاب بالصم والبكم، فقد والديه وتكفلت رعايته خالته (سعاد) وزوجها ( الحاج ناجي) الذي يكن له احتراماً وتبجيلاً الى حد القدسية. واعتبره ابنه الشرعي ويفضله على أولاده (رعد وعماد) وبناته (موجة ورقية)، رغم ان البعض يعتقد الى هذه الإعاقة والمعوقات ستخلق منه شبحاً شريراً وعدونياً، ينتقم من المجتمع الذي خلقه بهذه التشوهات كشخصية (فرانكشتاين) ولكن النص الروائي خلق منه ايقونة أنسانية نبيلة في قلبه وعاطفته كشخصية رواية (احدب نوتردام) التي تملك مميزات خارقة في صالح ومنفعة المجتمع. يكون مدعاة فخر واعتزاز بالحب النقي، يورق عبيره في العائلة والجيران وسكنة الحي والى ابعد من ذلك، بقلب فياض بالحب والعاطفة السامية، وخلق من إعاقته وإصابته بالصم والبكم، سلماً في خلق معجزات، كحاسة الشم وفرز الروائح كالكلب البوليسي. حتى أمه تستخدمه في معرفة روائح الطعام، وكذلك الجيران والحي في استثمار حاسة الشم الخارقة. وقلب فياض بالإنسانية. فعندما فقد بين يدي والديه في التسوق في (المول / سوبر ماركت ) خلق الفزع والقلق وخاصة من أبيه خوفاً من الخطف من قبل تجار أعضاء الجسم وخاصة الأطفال (يا الله أين أنت بابو ؟!! أظهر يا ولدي فديتك با أغلى ما عندي، كنت وسعاد نسابق الزمن لكي لا يبتعد بابو كثيراً، فيصير من المستحيل العثور عليه، وكان هاجس المزعج الذي سيطر علينا،أنا وسعاد ان يقع بيد من لا يخاف الله، ويوهمه أنه سيدله على أبيه وأمه ويقتاده إلى خارج السوق وبيعه الى العصابات المتخصصة بسرقة الأطفال المعاقين) ص 7.وخاصة ان بابو ولد بعينين زهريتين تميل الى الصفرة تفتح شهية هؤلاء المجرمون (وقد حدثت الكثير من حوادث الخطف لهذا النوع من الأطفال، وعثر على جثثهم فيما بعد مرمية في الاماكن البعيدة وعند مزابل الاحياء، وكل شيء كامل في اجسادهم سوى فقدان العينين !! وقد تم اقتلاعهما بحرفية عالية تدل على التمرس في هذا الفعل الإجرامي الشنيع !!) ص36. واخيراً وجدوه يقود فتاة عمياء هي الاخرى فقدت ذويها في السوق.

- كان بابو حبيبي يملك ميزة خارقة في شفاء المرضى ومن فيهم العلل والسقم، بتمرير عود الثقاب على اجسادهم حتى يذهب المرض والعلة، واشتهر بذلك بين الجيران والحي وما هو ابعد من ذلك، بصفة التي عرف بطبيب الامراض والعلل.

- بابو العاشق: كان يقوظ كل صباح ابيه، ليقف على عتبة الباب مسكنهم حتى تمر الفتاة (صفاء) لترشقه في ابتسامة تنور انوار قلبه بالفرح والحب، وحين اصابها المرض، طلبت عائلته من بابو ان يشفيها بتمرير عود الثقاب على جسمها حتى يذهب المرض والعلة، فقبل الدعوة بكل سرور وخاصة وهو يحمل شغاف الحب والهوى الى فتاته (صفاء) وحين طلب خطبتها، استغربت عائلة (صفاء) كيف يتجرأ معوق بخطبة فتاة جامعية ؟، وكانت خيبة الرفض اصابت قلبه بجرح ينزف، وتزوجت من شاب من عائلة غنية وميسورة.

- حاول ابيه ادخاله في مدرسة الصم والبكم، لكن مدير المدرسة رفض لصعوبة حركته، مما اصاب ابيه الحزن والخيبة (- آه ياولدي حبيبي !! ماذا افعل لكي تكون كغيرك من الاطفال الطبيعيين، من اعطاهم الرحمن الصحة والقدرة على العيش الطبيعي ؟!! لكنني كنت احاول أن أعلمه مبدأ أن لا يترك الاعاقة التي يعانيها تهيمن على حياته) ص23.

- احتضنته العائلة بحب كبير، وتحاول ان تعلمه بعض الاشارات لتفاهم معه، رغم الصعوبة في البداية ولكنه اخذ يفهم بعض اشارات التفاهم، وبدأ يتتعلم على تشغيل الكومبيوتر، وبدأ يعرف اسرار الشبكة العنكبوتية كمحترف في التواصل والمراسلة. وحتى امتلك القدرة الى ان يصل الى اكثر المواقع الحساسية والخطيرة، التي حتى المحترفين يعجزون في الايصال اليها مهما كانت قدرتهم في معرفة اسرار الشبكة العنكبوتية، ولكن بابو حبيبي امتلك القدرة ان يصل الى اي موقع ويراسله، ومن خلال هذه المراسلات حصل على شيك من البنوك بمبلغ عشرين مليون دولار، بشكل شرعي وقانوني، وارسل الى رصيده البنكي، وحين تحرى ابيه عن صحة وفحوى هذا الشيك، اخبره البنك، بأنه بالفعل ارسل هذا مبلغ بشكل شرعي وقانوني وادخل في حسابه في البنك. هذا المبلغ المالي الكبير نقلهم من حالة الفقر والبؤس في الغربة، الى خالة الغني وميسورية الحال، فودعوا الغربة ومعاناتها العسيرة ورجعوا الى العراق بعد الاختلال الامريكي عام 2003،واسس بابو في مهاراته الخارقة شركة كبيرة وفتحت عليه العقود والصفقات المالية من الداخل والخارج. وكانت الشركة تحت اشرافه يساعدانه في الاشراف الاداري والمالي وتوقيع العقود شقيقاه (رعدد وعماد).

- غدر أخوة يوسف:

من الربح الوفير واصبحت شركة بابو حبيبي، تملك ارصدة مالية وعقارات واملاك كبيرة ومتنوعة. وتنهال عليها الصفقات المالية الرابحة، فلعبت الخيانة والغدر في عقلية شقيقيه (رعد وعماد) ان يستحوذون على المال والسندات والعقارات واموال الزبائن الشركة، فدبروا فخ في خطف بابو من خلال الشراب المنوم ورميه في الصحراء ليكون طعماً للكلاب السائبة في رمال الصحراء، وفعالاً اخذوه ورموه في رمال الصحراء، ورجعوا الى ابيهم يتباكون ويذرفون دموع التماسيح على فقدان شقيقهم بابو. بحجة تركوه في السيارة لفترة وجيزة لشرى حاجة معينة، وعند رجوعهم لم يجدوا بابو في السيارة، فبحثوا عنه في كل مكان فلم يفحلوا بالعثور عليه، فكانت الصدمة الكبيرة لوالدهم، واصابه الوهن والارتباك والحزن، كأن خنجر غرس في قلبه، فلم يهدأ له بال بفقدان ابنه (بابو حبيبي) فكان يخرج مع زوجته كل صباح، يفتشون عنه ويسألون هذا وذاك، ونشروا اعلان عن فقدان معوق فمن يعثر عليه يكرم بهدية مالية كبيرة، لكن دون جدوى، اما حال الشركة والاموال والعقارت وصلت الى حد الافلاس التام. وتبخرت كلياً واصبحوا مدانيين للزبائن والشركات والدولة ووصل الحال بهم الى السجن، بتهمة الاغتصاب وابتزاز اموال الزبائن والدولة، اما حالة بابو حبيبي حين افاق من مخدر المنوم، وجد نفسه مرمياً وسط رمال الصحراء، فغشي عليه،ولكن الصدفة انقذته من الموت المحتم،، انقذه احد رجال البدو كان ماراً مع كلبه وشاهد جثة مرمية على الرمال، فأخذه الى بيته واعتنى به، حتى شفى تماماً، واستثمر ميزته الطبية في علاج المرضى بعود الثقاب، حتى احتل مقام الاحترام والتبجيل من ناس الصحراء. فهزه الشوق والحنين الى ابيه، فرجع اليه ووجده مريضاً منهكاً فاقد البصر، فاحتظنه بحزن وبكاء وقال (- كنت اعرف أنك لا تزال حياً في مكان ما !! وانني سالتقيك قريباً وقد بشرني الله بالكثير من الرؤى جعلني أطمن عليك وعلى مصيرك !! الحمد لله يا ولدي أنك لا تزال حياً، وقد شفيت من عاهتك، فصرت متكلماً لبقاً، فلا اجد فيك ذلك البابو الصغير، الذي لا يكاد أن ينطق حرفاً، هذا الرجل الحكيم المتكلم حكمة هو أبني بابو !!) ص147.

- البعد الرمزي في الخيانة والغدر:

صحة مقولة: من يأتي المال بالحرام يتبخر في الحرام، وهذه حاالة عامة تنطبق في أي زمان ومكان، وخاصة على حال حياة العراقيين، في الظواهر الغريبة التي ظهرت بعد الاحتلال، ترسيخ مبدأ الخيانة والغدر في كسب المال الحرام، في تدمير الاخلاق والبنية الاجتماعية والوطن، ونعرف طاعون الفساد اهلك العراق والعراقيين، واحرق الاخضر واليابس، في شهية الطمع بسرقة الجمل بما حمل.

***

جمعة عبدالله

 

هذه قراءة مختصرة ولمحة خاطفة عن رواية "دروب العتمة" للكاتب محمد نصّار، الصّادرة عن مكتبة سمير منصور في مئتين وثماني صفحات.

تبحر بنا هذه الرّواية في دهاليز الذّاكرة، تغوص في أعماق النّفس البشريّة؛ لتكشف لنا أسرارها المظلمة وأضواءها الخافتة، وتبرز لنا هشاشة البشر وقوّتهم في آن واحد.

يجسّد الكاتب من خلالها رحلة إنسان يصارع ذكرياته، ويواجه عتمة ماضيه، باحثا عن بصيص أمل ينير دروبه المعتمة، فهل نجح في التغلّب على ظلمة ماضيه، أم أنّ العتمة أحاطت به إلى الأبد؟

تلك الأسئلة الّتي يثيرها هذا العمل، تدعونا إلى قراءة يتداخل فيها الواقع بالخيال، وتتشابك فيها الأسماء والأحداث والأماكن الحقيقيّة، لتزخر بالألوان والحكايات، فكلّ اسم وكلّ مكان وكلّ حدث في هذا العمل، هو بمثابة نافذة تُطلّ على صفحات الماضي، تجسّد صراع الفلسطينيّ مع واقعه المرير، وتصوّر عزيمته وإصراره على الصّمود، وتصف مختلف جوانب الحياة الغزّيّة، وذلك بلغة تلامس القلوب، وسرد مُثقل بالأحزان والمآسي، وعتمة طالت كلّ شيء، حتّى الدّروب.

العتمة، مرآة للرّوح:

تُعدّ العتمة من أبرز الرّموز الأدبيّة الّتي وظّفها الأدباء على مرّ العصور، للتّعبير عن طيف واسع من المعاني والدّلالات. في هذا النّصّ الرّوائيّ، تحمل العتمة في طيّاتها عمقا رمزيّا يتجاوز كونها مجرّد حالة من الظّلام، بل تمتدّ لتشمل جوانب نفسيّة واجتماعيّة وفلسفيّة أعمق، يوظّفها الكاتب ببراعة؛ ليعبّر عن الواقع الّذي يعيشه النّاس.

يشير العنوان "دروب العتمة" إلى دلالات تجسّد مضمون العمل وأفكاره الرّئيسيّة، ومن أهمّ هذه الدّلالات:

- العتمة كواقع معاش: هي سيف ذو حدّين، فهي من جهة تمثّل استسلاما لليأس والقنوط، ومن جهة أخرى، هي رمز للصّمود والتحدّي، تؤكّد على أنّ الأمل ما يزال موجودا في قلوب النّاس؛ لتحقيق مستقبل أفضل.

- العتمة كمسار نحو النّور: وهنا لا تمثّل العتمة في العنوان نهاية مغلقة، بل هي بداية لرحلة جديدة نحو الضّوء والخروج من الظّلام.

- دروب العتمة كمسرح للحياة الواقعيّة: لا تقتصر العتمة على الظّلم والقهر فحسب، بل تمتدّ لتشمل مختلف جوانب الحياة بكلّ ما فيها من تناقضات وتحدّيات وآمال وتجارب، إنّها ليست مجرّد ظلام دامس، بل هي مسرح تنكشف عليه أحداث الحياة بكلّ تعقيداتها وتنوّعها.

- الجهل والغموض: غالبا ما ترتبط العتمة بالجهل وعدم المعرفة، حيث تمثّل صعوبة رؤية الحقيقة. يمكن أن تدلّ على الغموض الّذي يحيط بشخوص العمل أو الأحداث الّتي مرّت عليهم، وأدّت إلى عدم يقينهم بشأن المستقبل.

- الخوف والمخاوف: العتمة تثير في النّفس مشاعر الخوف والقلق، فهي بيئة خصبة لتكاثر المخاوف والظّلال، وهي تمثّل المخاوف الدّاخليّة الّتي يعاني منها شخوص العمل، أو الخطر المحدق بهم من الخارج.

- الحزن والكآبة: غالبا ما ترتبط العتمة بالحزن والكآبة واليأس، فهي شّعور بالفراغ، يعكس حالة نفسيّة سلبيّة متوتّرة.

- الشّر والظّلام: ترتبط العتمة بالقوى الدّاكنة (الآخر)، فهي تمثّل النّقيض للنّور والحياة.

- الموت والفناء: ترتبط العتمة بالموت والفناء، فهي تجسّد نهاية الحياة وغيابها، يمكن أن تكون رمزا للمجهول الّذي يحيط بالموت أو الخوف من الزّوال.

- الضّياع والانعزال: يمكن أن تعبّر أيضا عن الشّعور بالضّياع، ويمكن أن تكون رمزا لفقدان الاتّصال بالآخرين أو بالذّات.

بالإضافة إلى هذه الدّلالات الّتي ذكرتها، يمكن قراءة العنوان على عدّة مستويات أخرى، فكلّ قارئ قد يجد فيه دلالات خاصّة، تثري تجربته القرائيّة.4335 محمد نصار

تقنيّة التّذكّر في الرّواية:

يتميّز أسلوب الكاتب بالبساطة والعفويّة، حيث يكتب دون تكلّف أو مبالغة، مستعيدا بعض الأحداث والمواقف السّابقة الّتي عاشتها الشّخصيّة الرّئيسة، محرّكا مشاعرها المتضاربة، مستخدما الماضي كبوابة للولوج إلى أعماق النّفس البشريّة، مبتعدا عن التّقريريّة والمباشرة؛ ليضفي على السّرد حيويّة وخصوبة.

ساهمت تقنيّة التّذكّر في بناء شخصيّات متكاملة، حيث كشفت عن تاريخها وخبراتها السّابقة، مما ساعد القارئ على فهم دوافعها وسلوكها الحاليّ.

أضافت هذه التقنيّة عمقا وبعدا للأحداث، حيث ربطتها بالأحداث السّابقة وكشفت عن أسبابها وعواقبها، فأثارت التّساؤلات حول ما حدث في الماضي وكيف أثّر على الحاضر.

كما تنوّعت أدوات الكاتب اللّغويّة، استخدم اللّغة الشّعريّة، والمفردات الإيحائيّة، والصوَر السّرديّة، والعبارات المجازيّة؛ ليخلق بذلك نصّه الغنيّ.

يجسّد الرّاوي صراع الإنسان مع ظروفه الحياتيّة اليوميّة، في أعماقه يستعر صراع بين أمل باهت وواقع قاسٍ، فيترنّح بين أنقاض الماضي وحطام الحاضر، حاملا جراحا نازفة تتداخل مع أحلامه، وتعيد إليه ذكريات الأمكنة والأشخاص الّذين تركوا بصماتهم على روحه، تعيده إلى عالم من الأحاسيس المتناقضة، حيث يتداخل الفرح بالحزن والخوف بالأمل، ليشكّل لوحة متشابكة، تعكس عمق تجربته الإنسانيّة، تُعيد إليه المشاعر والتّداعيات، وكلّ ما كان وما هو كائن.

يقول في الصّفحة السّابعة: "صور الماضي ترافقني في كلّ حين، وتأبى إلّا أن تذكّرني بواقعي اللّعين، وأنا أراوغها مكابرا، موهما النّفس أنّ الأشياء كما هي، الخلق هم الخلق، والشّارع هو ذات الشّارع".

هكذا، يطلّ الرّاوي من وراء ستار الزّمن، حاملا على كتفيه عبء الحكاية، يروي حكاية المجتمع، فتتداخل الأزمنة والأحداث بماضيها وحاضرها في ثنايا السّرد، وتتّحد فيها مشاهد الفرد مع مشاهد الجماعة، والذّكريات الشّخصيّة مع الذّكريات المجتمعيّة، تلك الّتي تحاكي قسوة الحياة، وتنطق بما جثم على صدور النّاس؛ لتغدو السّطور مرآة تعكس وجه الواقع بكلّ تناقضاته وآلامه، فتتداعى الصّور والأحداث مع سيل من المشاعر، ما يضفي على النّصّ خصوبة وعمقا.

المكان كشخصيّة:

تحملنا السّطور إلى صور من أيّام الطّفولة الّتي عاشت في ذاكرة السّارد، وإلى صور تلاحقه من المخيم الّذي ولد فيه، وعاد إليه بعد غياب، فيكتب: "شوارع المخيم، لم يتغيّر فيها سوى شكل البناء، أسطح القرميد والزينكو صار معظمه إسمنتا، وبقيت الأزقّة على حالها، حبال الغسيل المواجهة للبيوت، جلسات المسنّين على العتبات، مشاهد ولّدت بداخلي رغبة في البقاء".

تنسج هذه الفقرة خيوطا حميمة تربط بين السّارد ومكانه، فمن خلال ذكرياته الحيّة، يستعيد تفاصيل المكان الّذي أثّر في أعماق نفسه، وكأنّه جزء لا يتجزّأ من هويّته، ما يكشف لنا عن مشاعره وأفكاره، ويخلق صلة عاطفيّة بينه وبين القارئ، ويضفي على العمل لمسة فنّيّة.

بهذا يتحوّل المكان إلى شخصيّة حيّة تتفاعل وتؤثّر بشكل مباشر، فالمخيم والشّوارع والأزقّة ليست مجرّد خلفيّات، بل هي شركاء في الحدث، يشهدون على الصّراعات والمعاناة، ويؤثّرون في مسار الأحداث وتطوّر الشّخصيّات.

التّداعي الحرّ.. نافذة على اللّاوعي:

يوظّف الكاتب تقنيّة التّداعي الحرّ، الّتي تمثّل نافذة على اللّاوعيّ، فيحاكي تدفّق الافكار والمشاعر داخل عقل شخوصه بشكل عفويّ ودون قيود.

يستند هذا المفهوم "التّداعي الحرّ" الى مبدأ نفسيّ وضعه عالم النّفس الشّهير "فرويد"، وهو ما يستعمله المعالجون النّفسيون؛ لمساعدة المرضى على استكشاف أفكارهم ومشاعرهم اللّاواعيّة، حيث يُطلب من المريض أن يعبّر عن أيّ أفكار أو مشاعر تخطر على باله؛ للكشف عمّا هو مكبوت أو مخفيّ في نفسه.

في عالم الأدب، تعدّ تقنيّة التّداعي الحرّ، أداة قويّة يمكن للرّوائيين استخدامها لكشف التّعقيدات النّفسيّة الدّاخليّة العميقة للشّخصيات.

من هنا، استفاد نصّار من هذه التقنيّة؛ ليتيح للقارئ الدّخول الى عقل شخوصه وفهم أفكارهم ونفسيتهم، ومشاعرهم اللّاواعية، فيمكّن المتلقّي من رؤية تطوّرهم، وفهم دوافعهم المتناقضة بشكل أفضل، دون الحاجة إلى شرح أو تحليل مباشر. ومن خلال الانكشاف على أفكارهم الدّاخليّة، يصبح القارئ أكثر قدرة على فهمهم، وأكثر تعاطفا معهم، حتّى لو لم يتّفق مع جميع أفكارهم أو سلوكياتهم.

يخلق هذا الأسلوب تجربة قرائيّة جذّابة، تحمل المتلقّي إلى عوالم الشّخصيّة، ليستشعر تجاربها وأفكارها ومشاعرها، ممّا يكسر قيود التّسلسل الزّمنيّ للأحداث، ويثير الفضول نحو النّصّ لمتابعته حتّى النّهاية.

يتجاوز الرّاوي حدود السّرد التّقليديّ؛ ليغوص في أعماق الوعيّ الجمعيّ، يربط بين ذكرياته الشخصيّة وتاريخ مجتمعه، فتصبح كلّ حادثة فرديّة انعكاسا لحدث تاريخيّ أوسع.

لقد استطاع الكاتب محمد نصّار توظيف الخلفيّة الثّقافيّة في غزّة؛ لخلق رواية عميقة ومؤثّرة، تعكس واقع الحياة بكل تعقيداتها وتناقضاتها، وتنقل للقارئ رسائل قويّة.

ختاما، فهذه الرّواية ليست مجرّد سرد لحكاية، بل هي دعوة للتأمّل والتّفكير، فهي تطرح تساؤلات جوهريّة حول الهوية، والانتماء، والمعنى والواقع، وصراعات الحياة، وما كتبته هنا هو مجرّد قراءة موجزة لبعض الجوانب الفنيّة فيها، ومحاولة لتقاسم بعض التصوّرات الّتي شكّلها النّصّ في نفسي.

***

صباح بشير

 

النص// (مدونة أعرابي)

كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد

وأنا منذ أن ولدتني الهجيرةُ

ما زلتُ حياً

ولدتُ بخاصرةٍ في كهوف اليمن

قبل عشرين عاماً من البعثة النبوية

أذكر أني ولدت

وما زلتُ أذكرُ

كيف نصلّي

ونعبدُ آلهةً من حجر

وكيف نشرُّ النذور على بابهم

ونغسلُ أحلامنا بالمطر

وأذكرُ اني درجتُ على تلكم الأرض

وعتّقتُ أدعيتي في الكهوف البعيدة

ثم احتميتُ بما ظلّ من خيم الآلهة

غفوتُ على بابهم مطمئناً

شكمتُ الرؤى العابثات

وزجرتُ خطىً تائهة

سلامٌ على عدد الآلهة

ثلاثون .. عشرون .. لا أتذكرُ

لكنهم كثرٌ طيبون

ثلاثون رباً ينامون في غرفة واحدة!

ثلاثون رباً على الأمم البائدة

ثلاثون رباً ولكننا أمةٌ واحدة !!

***

إستهلال//

سؤال إشكالي أنطلق من عمق التاريخ يقول "كلكامش":

(أيكون في وسعي ألاّ أرى الموت الذي أخشاه وأرهبه؟).

بعد أكثر من أربعة آلاف سنة يقول الشاعر "عارف الساعدي":

(كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد

وأنا منذ أن ولدتني الهجيرةُ

ما زلتُ حياً)

القراءة//

في البدء يتم مناقشة إشكالية العلاقة بين الشعر والفلسفة، الإشكالية الجدلية التي أثارت الكثير من التساؤلات، هل الوعي الشعري أسبق من الوعي الفلسفي؟ هل يمكن أن تكون الفلسفة شعراً والشعر فلسفةً؟ هل بدأت الفلسفة شعراً؟، متى تصبح القصيدة فلسفية؟.

قد تثير العلاقة بين الفلسفة والشعر قلق البعض، من أن تستحوذ الفلسفة على الشعر، فيصبح (الشعر بلا روح)، أو يخشى البعض الاخر من سيطرت الشعر على الفلسفة فتصبح (الفلسفة كلاماً هجيناً).

أرى أن الشعر ضرورة فلسفية مثل ما الفلسفة ضرورة شعرية، فلابد من وجود فلسفة في القصيدة وإلا سوف يكون الشعر ثرثرة لغوية أو لقلقة لسان. في كتابه (فن الشعر) يقول "ارسطو": (إن الشعر أكثر تفلسفاً) والتراث الأدبي العالمي والعربي فيه الكثير من الشعراء الفلاسفة ومن الفلاسفة شعراء، فتراهم يبحثون عن عمق المعنى في النص، فكانت نصوصهم الشعرية تستند الى رؤية معرفية، فهناك نصوص فلسفية وضعت في قوالب شعرية، مثل ما الشعرية تغلغلت في الكتابات الفلسفية، وليس ببعيد عنا الشاعر الفيلسوف "أبو العلاء المعري" الذي شكل علامة فلسفية كبرى في تاريخ الشعر العربي، في مفهومه الوجودي والفلسفي.

إن جوهر العلاقة بين ما هو شعري وما هو فلسفي، هي رموز لغوية بها يكتمل المعنى، وبها يعاد بناء النص رمزياً، هذه العلاقة لا يدركها الا الفيلسوف الشاعر أو الشاعر الفيلسوف. وعلى هذا الأساس كان الفلاسفة الأوائل يعبرون عن أفكارهم في (شذرات شعرية).

سقنا ثنائية الفلسفة والشعر كمقدمة لثنائية كبرى في نص الشاعر "عارف الساعدي" (مدونة أعرابي)، الثنائية التي استولت على الذهن الإنساني، فكانت مدار بحث وجدل في الكتابات الفلسفية والنصوص الشعرية.

ترصد هذه القراءة التجليات الرمزية في نص الشاعر "عارف الساعدي" من خلال انفتاح النص على دلالات تجعل المتلقي يبحث عن الدلالة الرمزية فيه.

لقد أعطت الحداثة الشعرية للشاعر الحرية أن يخوض في عوالم الشعر، ويواكب مساراته التأويلية ومقارباته، وهذه سمة بارزة من سمات النص الشعري الحداثي، الذي لا ينقل معنى جاهز وأنما يبحث في دلالاته ويستنفر طاقة المتلقي ويجعله شريكاً في إنتاج هذه الدلالات، مما يجعل النص ينفتح على مقاربات تأويلية تعمل على تفكيك النص الذي يمثل رؤيا الشاعر.

في كتابه (الموت والعبقرية) يستهل الاستاذ "عبد الرحمن بدوي" حديثه بأشكلة الموت، حتى يميز بين الإشكالية والمشكلة فيرى (أن الإشكال هو الصفة التي تطلق على شيء يتضمن تناقضاً في بنيته وتركيبته، بينما المشكلة هي محاولة تفسير الإشكالية وحلها بحيث يكون هذا التفسير صادراً عن بنية الشيء الإشكالي وجوهره)،"عبد الرحمن بدوي، الموت والعبقرية، ص3".

وعلى هذا الفهم، هل الموت في النص الشعري إشكالية أم مشكلة؟

الموت لم يمثل في الشعر مشكلة، وأنما إشكالية حين تتعدد الرؤى وتختلف الدلالات وتكثر التساؤلات. ومن أجل فهم وتقبل فكرة الموت، تلك الفكرة التي تطارد الإنسان الذي لا يرى فيها إلا معناها البيولوجي، كونها تشكل اللقطة الأخيرة الحتمية في حياته، فتراه مسكون بهاجس الموت، تلك الفكرة المركزية التي لها جذورها الدينية والميثولوجية في حضارات الأمم القديمة، الذي يعد أهم هواجس الانسان الوجودية ومصدر قلقه.

في حواره مع صاحبة الحانة "سدوري" ورحلة البحث عن الخلود يقول "كلكامش":

(أيكون في وسعي ألا أرى الموت الذي أخشاه وأرهبه؟).

فكان جواب صاحبة الحانة:

(إلى أين تسعى يا كلكامش/ إنَّ الحياة التي تبغي لن تجد/حينما خلقت الآلهة العظام البشر/قدرت الموت على البشرية/ واستأثرت هي بالحياة)،" طه باقر، ملحمة كلكامش وقصص أخرى عن كلكامش والطوفان، ص137".

فالموت حدث كوني وحقيقة وجودية مطلقة. وملحمة كلكامش من أقدم الملاحم في تاريخ الحضارات كلها، التي ناقشت مسألة الوجود البشري، وثنائية الحياة والموت، وحسمت أمر الإنسان المحكوم عليه بالموت، وأبقت الخلود من نصيب الآلهة.

فالموت عند الشعراء من مفردات نصوصهم، يأتي وفق منطلقاتهم الفلسفية والفكرية، وهذا الشاعر "ابو ذؤيب الهذلي" حين يتأمل الحياة من حوله، ولا يقوى على رد غائلة الموت، يقول:

واذا المنية أنشبت اظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

الشاعر "عارف الساعدي" يطرح نصاً تصورياً فلسفياً عن العلاقة الجدلية بين الحياة والموت، في ديباجة نصه (مدونة أعرابي)، تلك الجدلية التي هيمنة على مجمل الخطاب الشعري العربي، فكانت الأكثر شيوعاً في الشعر العربي قديمه وحديثه، وثيمة رئيسية في نصوص معظم الشعراء، التي تباينت رؤاهم، ليس بمفهومها الشعري كرؤية شعرية فحسب، وإنما بمفهومها الفلسفي والاجتماعي والديني، فكانت نظرتهم نابعة من ثقافتهم، حينما نسجوا رؤيتهم الشعرية للموت من خلال الوعي الشعري واللغة الشعرية، فتباينت الأدوات التي اعتمدوها في تشكيل الصورة الفنية للموت، بوصفه ظاهرة انسانية انفعالية، ومحاولة التعبير عنه تأتي كل حسب وجهته. فالموت في نص الشاعر "عارف الساعدي"، ثيمة مهمة ودلالة كبرى، تثير تساؤلات في داخل حركة النص، الذي يبدأ بجملة استفزازية تشتمل على نفي حقيقة حتمية ثابتة هي الموت أو يؤجلها.

إن الذي يبرز في نص الشاعر "عارف الساعدي" محاكاة فلسفية يؤسس منها فلسفة خاصة بالموت وملابساته ويعلن بيانه فيه، الذي يعكس فلسفته الذاتية حول فكرة الموت، وأرى أنها تتناغم مع الرؤية الفلسفية (الأبيقورية)، من خلال (إخفاء قلق داخلي من الموت أو إظهار عدم الشعور بهذا القلق)، فكانت رؤية "أبيقور" عن الموت أراح بها نفسه من مسألة التفلسف بالموت فقال:(إن الموت لا يعنيني البتة، فهو إن وجد، لن أكون موجوداً، وإن وجدت أنا لن يكون موجوداً)، فكانت رؤية الشاعر "عارف الساعدي" تتناغم مع الرؤية (الأبيقورية).

(كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد

وأنا منذ أن ولدتني الهجيرةُ

ما زلتُ حياً).

إذاً رؤية الشاعر في النص عن الموت رؤية فلسفية يسعى بها أن يتحرر من قيود التاريخ وموروثاته، بوصفه إشكالية وجودية اختص بها الشعراء فقط، التي تدعو المتلقي الى التأمل، بعد أن اثارت دهشته، وجعلته يتوقف كي يفهم المعنى، من حالة نفي حقيقية راسخة وفتح مغاليق (جرة أسئلة) الشاعر الوجودية، التي يحتملها النص الذي يمثل وحدة متكاملة تسهم في تكوين الخطاب الدلالي للنص، محملا بتأملات ورؤى غير مؤدلجة، عن الحياة والموت، فضلا عن قيمته الجمالية والفنية والأسلوبة والفلسفية، التي اكتسبت دلالات تعكس موقف الشاعر وفلسفته. نحن أمام نص مزدحم بدلالات تبدو ضبابية للمتلقي تصيبه بالحيرة والاستفهام وتتوقفه للتأمل فيها، قد نجد في المنحى الصوفي طريقا لفك هذه الاشكالية كـ(شذرة صوفية) في النص، تمنحه أبعادا لا نهاية لها، عندما أراد الشاعر أن يؤكد على معنى ذات أبعد فلسفية. إن الربط بين الحياة والموت من خلال كونية كل منهما في نسق فلسفي صوفي، هي رغبة الشاعر في البحث عن اللامرئي، وتجاوز حدود العقل، ومقاييسه المنطقية لأن الدلالة الرمزية للموت في النص سير في اتجاه معاكس للدلالة القصدية، والدلالة اللغوية تتقاطع مع رمزيته، والانطلاق به من دلالة الجملة الى دلالة النص عندما يقول:

(كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد).

نحن أمام نص مزدحم بدلالات تبدو ضبابية للمتلقي، تصيبه بالحيرة، والاستفهام وتتوقفه للتأمل فيها، قد نجد في المنحى الصوفي طريقاً لفك هذه الإشكالية كـ(شذرة صوفية) في النص، تمنحه ابعاداً لا نهاية لها، عندما أراد الشاعر أن يؤكد على معنى ذات أبعاد فلسفية.

إن الربط بين الحياة والموت من خلال كونية كل منهما في نسق فلسفي صوفي، هي رغبة الشاعر في البحث عن اللامرئي، وتجاوز حدود العقل ومقاييسه المنطقية لأن الدلالة الرمزية للموت في النص تسير في اتجاه معاكس للدلالة القصدية، والدلالة اللغوية تتقاطع مع رمزيته، والانطلاق به من دلالة الجملة إلى دلالة النص، عندما يقول:

(كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد)

الشاعر "عارف الساعدي" رؤيته (ميتا شعرية) أن يكون شاعراً وناقداً في الوقت ذاته، باحثاً ما وراء الأفق عن اللامرئي في النص، کاشفاً عن أفق دلالة الموت بمدى اتساع تلك الدلالة، والانتقال به من مستوى تعبيري إلى مستوى إيحائي.

يمكن أن تكون اللمسة الصوفية مدخلاً تفكيكياً لقصدية الشاعر (لأن الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر يُدرس عند كل شاعر منفصلاً من سواه)،" د. إبراهيم محمد منصور، الشعر والتصوف الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر". فهو يعبر عما يختلج بنفسه، ويثير انفعالاته، وكأنه يردد ما قاله "هايدجر" (يجب على الموت ألا يكون هاجساً وجودياً يقض مضاجعنا) ولكن لا يمكن تأجيله.

الشاعر "عارف الساعدي" يريد أن يتجاهل الموت برؤية فلسفية، ألبسها لباس صوفي، يقف في حالة من اللامبالاة إزاءه، فيأخذ موقفاً لاشعورياً وكأنه لا يعنيه أبداً، وهذه اللامبالاة تكون في أعماق اللاشعور أو العقل الباطن. وعلى الرغم من أن الموت يبقى حقيقة كونية مؤلمة كبرى وقضية إشكالية أثارت الكثير من التساؤلات، إلا أن الشاعر أستفز المتلقي وأثار فضوله في الخوض في هذه الإشكالية كمغامرة بحثية تفجر معاني النص وتؤسس لرؤية متفردة وشعور عميق داخل النفس، في صور شعرية تتوغل في أعماق وعي المتلقي وتثير فيه الدهشة وإيقاظ القدرة التأويلية.

*** 

حسين عجيل الساعدي

 

نقد رواية "أموات يحكموننا ل شيماء أبجاو"*

تنميط خطاب المرأة: عندما لا تتحقق الشروط الضرورية، يـخفق العمل الفني في توليد الأثر الذي يريده الكاتب، وعلى رأي "ميلان كونديرا: لا يستطيع الروائي المعاصر الذي يشتاق إلى الحرية المرنة التي كتب بها المؤسسون الأوائل، أن يقفز فوق موروث القرن التاسع عشر، إذ عليه أن يجمع بين متطلبات التأليف القاسية؛ الجمع بين حرية "رابليه" و"ديدرو" في الكتابة والتخطيط المنظم الصارم، الذي يتطلبه التأليف[1].  من شروط الإبداع إذن إحداث الأثر، والأثر بمفهومه النفسي هو التفاعل مع الموضوع، أو المتعة «وهو العنصر السائد في القصة، وهو الطاقة المحركة فيها، [...] ولعل تنوع عقليات القراء، أو تباين تجاربهم في الحياة، أو اختلاف أمزجتهم هي العناصر التي تحدد مصدر المتعة في الأثر الأدبي»[2]، هذا التفاعل ينطلق من توجهات انطباعية محدودة بالحكم على العمل بجدته أو رداءته، أو منهجية، تتعلق برأي نقدي مشفوع بأدلة، وأسمى أنواع الأثر هو الذي يحرك في القارئ شهيته لمساءلة النص ومساجلته، سجالا معرفيا، من هذا المنطلق لا يمكنا إلا نقبل برهان هذا العمل الأدبي، ونقبل بأسئلته الوجودية والثقافية بل والدينية، هذه الأسئلة على لسان شخصيات متنوعة يحدوها التأمل والمعرفة، باعتبار أن اختيار الشخصيات تحكمه خلفية معرفية كذلك، فاسم طارق، وسلوى، وسعيدة، والسيد المصطفى، والهاشمي تستضمر كما هائلا من التأويلات والقراءات يمكن أن تشكل مبحثا خاصا لدلالة الأسماء لأن «الشخصيات من أصعب جوانب الفن الروائي يمكن مناقشتها تبعا لحضورها في النص»[3].

إن موضوع هذه الرواية في نهاية المطاف وبأبسط تعاريفه رسالة فنية من الذات المتشظية  الملتفحة بنيران وقسوة المجتمع، إلى مجتمع آخر يؤمن بأفكار الرواية ويتبناها؛ قد نكون جزءاً منه .«فالمحك الحقيقي لعظمة القصة، أو الخلود أي أثر أدبي، على اختلاف الأساليب والموضوعات، هو مدى اتصاله بالحقائق التي تجعل الحياة الإنسانية أكثر عمقاً»[4]، لكن ما يُلاحظ على العمل فنيا هو طريقة الاشتغال على مفهوم الحبكة، لقد أخلت الكاتبة بقواعد هذه التقنية حينما كسرت وأوقفت الحوار الشيق المعرفي/ الوجودي بين "السيد المصطفى" وابنه "طارق"؛ حوارٌ يتأسس على أسئلة فلسفية أنطولوجية، بنفس سردي لم يكن طويلا وعميقا، لأن الغاية الكبرى لهذا العمل تتجلى في انتقاد منظومة متوارثة ذكورية منطلقاتها القرآن والسنة، وبين الأسئلة والرهان فقَدَ مسار الحكي بوصلته، ليقع في تحنيط وتنميط خطاب المرأة، وتكرار تلك المعزوفة المتمثلة في قهر الرجال للنساء، من منطلق الدين، ولو واصلت الساردة مسارها السردي في السؤال والحوار الفلسفيين كان العمل سيبدو بصورة أخرى. لذلك فالرهان في مواجهة الأنساق الثقافية كان مغامرةً سرديةً، من جهة البناء الفني، ومن جهة تناول الموضوع، لأن الدين في نهاية  المطاف في خدمة المجتمع، والمجتمع في خدمة الفرد، والتربية الدينية هي تحرير العقل من الأفكار المسبقة والأحكام المتوارثة كما يؤكد ذلك جان جاك روسو[5]، ولعل الأديان جميعها تتوحد في رؤيتها وتصورها للإنسان عبر قانون أخلاقي أو ميثاق مؤسساتي منظم للسلوك وموجه له. ولعلنا نتساءل ـــ بقصد إضاءة جوانب النقد الروائي الذي يضع على عاتقه مسؤولية القراءة والتوجيه، علما أن مستويات هذا النقد تخضع بدورها لمقولات مختلفة ـــ، لماذا ننظر  إلى الدين الإسلامي نظرة أحادية، ونتبنى خطابا واحداً ووحيداً من بين خطابات متشعبة ومتنوعة؛ وهو خطاب المرأة وعلاقتها بالرجل؟، ثم نقوم بتحليل هذا الخطاب من زاوية ضيقة مُشبعة بأفكار حداثية موغلة في التشديد والاستلاب؟ لماذا يُنظر إلى هذا الدين بمنظار واحد ضيق، هل خطاب المرأة و علاقتها بالرجل هو محور الدين؟ وهل ظلم المرأة وسلبها للحقوق هو ما يمكن أن نتحدث عنه؟ نتفق مع الكاتبة في كون المجتمعات على اختلافها تعيش هضماً لحقوق الإنسان، ثم إن علاقة الرجل بزوجته أو أبنائه إذا شابها سوء خلقٍ أو إهانةٍ، فهذا السلوك لم يقر به نص، وإنما سلوك فردي أملته دواعي كثيرة منها النفسي المرضي، والسوسيو الثقافي والاجتماعي. وبناء على ذلك كيف لنا أن ننظر إلى صورة المرأة واستهلاك أنوثتها في المشهد البصري، واعتبارها مادة إعلانية ممن يدعون  إلى التحرير والتحرر؟ كيف نقبل بالممارسات العدائية على النساء،؟ كيف نقبل بتشغيل القاصرين في المزارع والحقول؟ كيف نقبل بترك الأمهات في دور العجزة؟ هي أسئلة في صميم معاناة المجتمعات الإسلامية والدينية عموما تكرس لقهر المرأة وظلمها من طرف سياسات بشرية وليس من طرف دين سماوي.

خاتمة

في الأخير مثلت رواية "أموات يحكموننا" سجالا معرفيا وفلسفيا ونقديا مع التراث، والمجتمع، والدين، وشكلت في جزء منها رؤية مغايرة للكتابة النسائية، لأنها لم تقع في اجترار مواضيع الذات الأنثوية، وأبانت عن تصور معرفي فلسفي ميز العمل؛ قبل أن تنزلق الحكاية إلى مسار التنميط، وتقع ضحية تصور ماضوي لا ينتمي لميثاق الأخلاق الذي يدعو إليه الإسلام، وإنما هو فكر متطرف استدعته أوضاعٌ وظروفٌ سياسية، ولا يقبله عقل ولا منطق، وهو منزلق أو هفوة سردية يمكن الاصطلاح عليه  "بالومضة السريعة" ( Eclat rapide  (هذه الومضة السريعة أملاها غياب السياق الذي يعد موجها للخطاب ومؤثرا فيه.

***

د.عبد الـمـُجيب رحمون

.........................

الهوامش:

* نشر الجزء الأول بتاريخ 24/07/2024، عبد الـمـُجيب رحمون: مغامرة السرد النسائي في مواجهة الأنساق الثقافية (1) (almothaqaf.com)

[1] أيمن الغزالي، لذة القراءة في أدب الرواية، دار نينوى، سوريا، الطبعة الأولى 2001، ص: (9ـــ10).

[2]  يوسف نجم، فن القصة، دار بيروت للنشر، لبنان، 1955، ص: (11، 13).

[3]  انظر، ديفيد لودج، مرجع مذكور، ص: (78).

[4] يوسف نجم، مرجع مذكور، ص: (60).

[5] انظر، دين الفطرة، ترجمة عبدالله العروي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2012، ص: (15-16).

 

في المفهوم: البنيويّة التكوينيّة أو التوليديّة: هي فرع من فروع البنيويّة، وتُعد من مناهج ما بعد البنيويّة، حيث جاءت لسد ثغرات المنهج البنيوي, وهي تجمع ما بين البعد الاجتماعي والبعد اللغوي. أي ما بين الشكل والمضمون.

لقد نشأت البنيويّة التكوينيّة استجابة لسعي بعض المفكرين والنقاد الماركسيين وعلى رأسهم  الفرنسي "لوسيان غولدمان" للتوفيق بين أطروحات البنيويّة في صيغتها الشكلانيّة من جهة، وأسس الفكر الماركسي الجدلي من جهة أخرى، والذي يركز على التفسير المادي التاريخي لعموم الفكر والثقافة. فالتفكير الماركسي من هذا المنطلق, يتجاوز مفهوم البنية المغلقة للنص الأدبي، ويحاول في الوقت ذاته ربط النص الأدبي بسياقه الاجتماعي والتاريخي.(1).

أعلام البنيويّة التكوينيّة:

لقد كان للفيلسوف والمفكر المجري "جورج لوكاتش" الأثر الكبير في صياغة الاتجاه البنيوي التكويني إلى جانب عالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو". لقد سعى "لوكاتش" إلى الربط بين التطور الاجتماعي والتطور الأدبي في مضامينه وأشكاله, مما أدى إلى تحقيق نقلة نوعيّة في (علم الاجتماع الأدبي)، اعتمد عليها أبرز منظري المنهج البنيوي التكويني وعلى رأسهم "لوسيان غولدمان".(2). الذي سعى إلى تأسيس منهج عقلاني لدراسة الواقع الإنساني، فاستقى فرضياته ومرتكزاته النظريّة من المنهج الماركسي, مع أطروحات فلسفيّة "لكانط وهيغل" وآراء "بياجيه"، إضافة إلى اعتماده الأساس على آراء "لوكاتش"، وكان هدفه من ذلك كله, هو إيجاد بديل علمي لبنيويّة "ليفي ستراوس"، وفلسفة "ألتوسير".(3). (لقد أطلق "غولدمان" فكرة "رؤية العالم" التي أرسى بها أسس البنيويّة التكوينيّة، حيث يرى أنّ الأدب والفلسفة تعبران عن رؤية العالم، وأنّ هذه الرؤية منعكسة عن واقع اجتماعي لا فردي، "إذ إنّها ليست وجهة نظر الفرد المتغير باستمرار، بل هي وجهة نظر ومنظومة فكر مجموعة بشرية تعيش في ظروف متماثلة).(4). هذا  ويعتمد المنهج التكويني من وجهة نظر "غولدمان" على مبدأين أساسيين، هما:

المبدأ الأول: (إنّ كل تأمل في العلوم الإنسانيّة والفكر لا يحدث من خارج المجتمع، وإنما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بطبيعة الحياة الماديّة والثقافيّة للمجتمع، فالمنهج التكويني يعالج قضايا منظومة الفكر الاجتماعي بكليته، بمعنى أنه لا ينظر إلى بنية النص بمعزل عن عواملها الخارجيّة سواء أكانت اجتماعيّة أو ثقافيّة.).(5).

المبدأ الثاني: (إنّ الأساس الذي يقوم عليه الفكر الجدلي لبنيويّة التكوين، نابع من نشاطات الإنسان (الممارسة)، وأنّ كل فعل إنساني، له خاصيّة دالة ليست دائماً واضحة بالضرورة، ولكن الباحث يجب عليه عن طريق عمله إظهار هذه الخاصيّة الدالة.).(6). وعلى هذا الأساس الذي عبّرت عنه وجهة نظر "غولدمان", فإنّ عمل الباحث أو الناقد في بنية تكوين النص الأدبي أو غيره عند قراءته له, إنما يقوم بتفسير النص من خلال تركيزه على العوامل الخارجيّة, تاريخيّة كانت أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو ثقافيّة أو نفسيّة، فبنية النص الدلاليّة تحمل في طبعها أبعاداً فكريّة أو فلسفيّة نابعة من مخزون ثقافة مجتمع ما, ضمن إطار زمني معين، وبالتالي لابد من استنطاقها داخل النص لمعرفة مولداتها وأسباب تكوينها.

مرتكزات البنيويّة التكوينيّة:

تقوم البنيويّة التكوينيّة على أربعة مرتكزات أساسيّة، حددها "لوسيان غولدمان" تبعًا لنوعيّة وطبيعة العلاقة بين الحياة الاجتماعيّة والإبداع الأدبي، وهي علاقة تقوم على أساس التماثل أو التطابق الوجودي بين النص الأدبي، وعلاقته بالبنيات الذهنيّة لطبقة أو فئة اجتماعيّة، وتمثل هذه المرتكزات مصطلحات إجرائيّة، ومفاتيح يتسلح بها الباحث أو الناقد عند تحليله العمل الأدبي تحليلا سيسيولوجيّاً تكوينيًّا، يمكن حصرها بالتالي:(7).

1- الرؤية الشموليّة للعالم:

تعد رؤية العالم من المرتكزات الأساسيّة التي تُبنى عليها البنيويّة التكوينيّة، فيعرفها "لوسيان غولدمان، بأنّها "مجموعة من التطلعات والإحساسات والأفكار التي توحد أعضاء مجموعة اجتماعيّة أو طبقة اجتماعيّة، وتجعلهم في تعارض مع المجموعات الأخرى، حيث تمتاز الرؤية عند "غلودمان بالشموليّة والانسجام أو التماسك.(8).

2- الفهم والتفسير المادي للنص:

حيث تقوم عمليّة الفهم والتفسير على (مبدأ التكامل) بين بنية النص الداخلي وعواملها الخارجيّة الاجتماعيّة والثقافيّة والتاريخيّة والنفسيّة، فالفكر هنا يرتبط بالواقع وهو انعكاس له على حد تعبير نظريّة الانعكاس عند" لوكش". وهذا يساهم في إنشاء بنيات دالة تنتمي إليها المجموعات أو الطبقات التي يتمثلها سلوك جماعي معين.(9).

3- البنية الدالة:

ويحددها "غولدمان" بأنها الواقع، والمضمون الاجتماعي داخل البنية النصيّة، إلا أنها تتجرد لتشكل مقولات ذهنيّة أو تصورات فلسفيّة تتحكم في مجموع بنيات العمل الأدبي التي تشكل نسيجًاً منسجمًاً شموليًاً تُعبر عنه رؤية المبدع للعالم.(10).

4- الوعي القائم والوعي الممكن:

و(يشتغلان على توضيح الصلة القائمة بين الوعي والحياة الاجتماعيّة. فالوعي القائم: هو إدراك فئة اجتماعيّة ما لوضعها الراهن سواء في علاقتها مع الطبيعة أو في علاقتها مع الجماعات الأخرى. أما الوعي الممكن: فهو أقصى ما يمكن أن يبلغه وعي الجماعة دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى إحداث تغيير في طبيعتها.). (11).

5- العلاقة الجدليّة بين بنية النص ومضمونه الاجتماعي:

وتتجلى هذه العلاقة الجدليّة في إبراز (التأثير المتبادل) القائمة بين العمل الأدبي والبينة الدالة في هذا العمل, فدور الكاتب أن يعمل على تحليل هذه العلاقة وإظهارها, أي بيان الصلة بين بنية العمل الأدبي ومضمونها الاجتماعي، إذ إنّ العلاقة بين الحياة الاجتماعيّة والعمل الأدبي علاقة جوهريّة يقوم التماثل باستظهارها والتوفيق بينهما. (12).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

............................

الهوامش:

1- (بسام قطوس - دليل النظريّة النقديّة المعاصرة، الاردن: فضاءات للنشر والتوزيع - ص 113- 114. بتصرّف.).

2- ("مرتكزات بنيويّة - لوسيان غولدمان - التكوينية"، مجلة آفاق علمية، 2009، العدد 4، المجلد 44، ص 503. بتصرّف.).

3- (موقع موضوع: البنيوية التكوينية في النقد الأدبي -  ليث بني نصر).

4- ("مرتكزات بنيوية لوسيان غولدمان التكوينية"، آفاق علمية، 2019، العدد 4، المجلد 11، صفحة 502.).

5- ).( محمد بنيس (1985)، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب،- مقارنة بنيوية تكوينية - الطبعة 2، بيروت: التنوير للنشر، ص 25.).

6- (المرجع نفسه- ص 25.).

7-  (موقع موضوع: البنيويّة التكوينيّة في النقد الأدبي -  ليث بني نصر ). بتصرف.

8- (المرجع نفسه. بتصرف.

9- ( "مرتكزات بنيوية لوسيان غولدمان التكوينية"، آفاق علمية ، 2019، العدد 4، المجلد 11، ص 509. نقلاً عن موقع موضوع).  بتصرّف.

10- المرجع نفسه. ص509

11- (المرجع نفسه ص. 510.

12- المرجع نفسه. ص512 بتصرف

 

مسائل القلب، من أسطورة آرثر إلى تريستان وإيزولد

بقلم: مارلين يالوم

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كلمة الرومانسية نفسها تأتي من الكلمة الرومانية - أي قصة مكتوبة بإحدى اللغات الرومانسية المشتقة من اللاتينية (الإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية والرومانية). غالبًا ما تتبع هذه الحكايات مغامرات الفارس الذي كان هدفه إثبات نفسه في المعركة وفي غرفة النوم. بمرور الوقت، أصبحت الكلمة الفرنسية "رومان" تمثل النوع الأدبي المعروف باللغة الإنجليزية بالرواية. كان الحب الغرامي، في العصور الوسطى وحتى اليوم، مرتبطًا جدًا بأدب الحب لدرجة أنه من الصعب معرفة ما الذي جاء أولاً: هل خلقت قصص العصور الوسطى الفرنسية (الرومانية) رؤية الحب التي نسميها الآن رومانسية، أم أنها خلقت رؤية رومانسية؟ الحب موجود قبل الرواة؟

من المؤكد أن تاريخ أبيلار وهيلواز، من النصف الأول من القرن الثاني عشر، يشير إلى أن التروبادور لم يكونوا أول الأوروبيين في العصور الوسطى المهووسين بالحب العاطفي. قصة إغواء رجل الدين أبيلارد لتلميذته الموهوبة هيلواز، وحملها، وطفلهما المسمى أسطرلاب، وحفل زفافهما السري، وإخصاء أبيلارد اللاحق على يد عم هيلواز المنتقم، كانت منتشرة بالفعل خلال حياة الزوجين.

كان من الشائع بين المنشدين ورواة القصص في العصور الوسطى أن يمجدوا الرجل أو المرأة الذي أعطى قلبه من النظرة الأولى أو الذي كان محظوظًا بما يكفي لتبادل قلبه مع حبيبته. لنأخذ على سبيل المثال شاعر القرن الثاني عشر كريتيان تروا (1130-1191) عندما كان تحت رعاية ماري دو شامبانيا، ابنة إليانور آكيتاين ولويس السابع ملك فرنسا. في بلاط ماري في مدينة تروا الصغيرة الصاخبة، حيث تم رفع الحب إلى مدونة سلوك مثالية، أصبح كريتيان المتحدث الرسمي باسم ماري عن القلب العاشق.

تستخدم روايات كريتيان الرومانسية الخمس على نطاق واسع كلمة "قلب" (cuer في الفرنسية القديمة). تتكرر الإشارات إلى قلوب أبطاله، سواء كليجيس أو لانسلوت أو إريك أو إيفين أو بيرسيفال، طوال مغامراته العديدة والرائعة. في أغلب الأحيان تكون قلوبهم حزينة، تعاني، نادمة ومتألمّة بسبب بعدهم عن من تحب. دفعت هذه المشاعر السلبية المستقرة في القلب البطل إلى التصرف على أمل أنه من خلال التغلب على عقبة محسوسة، سيجد القلب الفرح أخيرًا.4320 الرومانسية

كان القلب الذي تمجده رواة القصص في القرن الثاني عشر مخلصًا دائمًا لحبه الحقيقي.  كما كتب كريتيان دي ترويس في رائعته "لانسيلوت"، "الحب الذي يحكم / جميع القلوب / لا يسمح لها إلا / بمنزل واحد." وبالمثل، كتب القس أندرياس كابيلانوس، الذي كان أيضًا يتمتع برعاية ماري دي شامبانيا، في رسالته اللاتينية "عن الحب(من الفن الصادق أماندي)  "الحب الحقيقي يربط قلوب شخصين بشعور عظيم من الحب بحيث لا يمكنهما أن يتطلعا لعناق آخرين." في هذا السياق وغيره، كان كابيلانوس يردد بعض الأفكار التي عبر عنها بالفعل الفيلسوف المسلم ابن حزم قبل قرن من الزمان. كان الإخلاص للمحبوب أمرًا مسلَّمًا به في أدب العصور الوسطى، مهما كانت الحقيقة خارج النص في حياة الناس الحقيقيين.

الاعتقاد في الوفاء كان ينطبق سواء كانت المرأة المرغوبة عذراء عذراء أم متزوجة بالفعل. بوضوح، عندما كانت المرأة المرغوبة زوجة لرجل آخر، كانت المشاكل واضحة. تتحدث قصص تريستان وإيزولد، ولانسلوت وغوينيفير، وأزواج آخرين يمارسون الزنا عن جاذبية الثمرة المحرمة. على الرغم من أننا لا نستطيع أبدًا معرفة مدى انتشار الزنا في الحياة الواقعية، يبدو أن المجتمع القروي كان مهووسًا بموضوع الزانية، كما يُظهر ذلك في العديد من الروايات الشعرية العالية والقصص التهكمية الشعبية المعروفة باسم فابلو. بسبب الخوف من أن تنجب النساء أطفالًا نتيجة علاقات محرمة، جعلت الممارسات الإقطاعية من الصعب عليهن أن يبقين وحيدات. كانت النساء ذوات الأصول النبيلة محاطات دائمًا بنساء أخريات - أقارب وخدم يأمرهن رئيس المنزل الذكر بمراقبة زوجته أو بناته بعناية.

"القلب الذي تمجده رواة القصص في القرن الثاني عشر كان دائمًا مخلصًا لحبه الحقيقي الوحيد."

أحد أسباب شعبية قصص الزنا يكمن في الاعتقاد السائد في بلاط ماري دي شامبانيا، بأن الحب الحقيقي لا يمكن أن يزدهر في إطار الزواج. وبالفعل، عندما سُئلت عن رأيها، أجابت بشكل لا لبس فيه: «إننا نعلن ونؤكد بشكل لا لبس فيه أن الحب لا يمكن أن يمتد لسلطته على الزوجين». لقد رأت أن العشاق أحرار في منح حبهم أو حجبه، في حين أن المتزوجين ملزمون بإرضاء بعضهم البعض، مما يجعلهم غير عرضة لانفعالات الأحباء الفجائية. وعلى غرار راعيها، دافع كابيلانوس في البداية عن وجهة نظر تقول بأن الحب لا يجد مكاناً بين الزوجين. ولكن في نهاية كتابه "في الحب"، غير رأيه، وأدرك أن الزواج لا يُعتبر عذراً لعدم التعبير عن الحب. من المحتمل أن كابيلانوس، الكاهن، شعر في النهاية بالاستياء من الموقف السلبي تجاه الحب الزوجي الذي تنادت به ماري دو شامبين وغيرها من الطبقة النبيلة.

على الرغم أن الفرنسيين ابتكروا هذا النوع الأدبي، إلا أن الألمان سرعان ما تبنوه. تعتبر قصة تريستان وإيزولد من القصص المعروفة بفضل النسخة التي كتبها جوتفريد فون شتراسبورغ (حوالي 1180-1210)، والتي أُعيد توضيحها بعد ستة قرون في أوبرا واغنر الشهيرة عالميًا. خلال مغامرات تشبه تلك التي يعيشها الأبطال الخارقون، يظهر تريستان كفارس مثالي، لكن مصيره يُحتضر عندما يُرسل إلى أيرلندا من قبل عمه الملك مارك ليخطب إيزولد له.  في رحلة العودة، شرب تريستان وإيزولد عن طريق الخطأ من جرعة سحرية مخصصة لمارك وإيزولد في ليلة زفافهما. من الآن فصاعدا، لا شيء يمكن أن يضعف العاطفة المتبادلة التي تغزو جسدي تريستان وإيزولد. بعد أن أكملا حبهما على القارب الذي أعادهما إلى كورنوال، يقرران الاحتفاظ بعلاقتهما الجنسية سرا، حتى بعد زواج إيزولد رسميًا من مارك.

أحد أشهر المشاهد في الحكاية يحدث في مغارة داخل الغابة. إنه مكان يسود فيه الحب الجنسي بشكل طبيعي بين النباتات والحيوانات، دون قيود المجتمع والدين المصطنعة. إن ممارسة الحب داخل هذه المغارة يرتقي إلى مستوى من التفاني الذي يوحد الجسد والقلب والروح. وأقتبس فقط بضعة أسطر من هذه الأنشودة عن الحب: “لم يتغذوا في مغارتهم إلا على الحب والرغبة. . . الإخلاص الخالص، الحب يصبح حلوًا كالبلسم الذي يواسي الجسد والإحساس بحنان شديد، ويدعم القلب والروح. . . ولم يفكروا قط في أي طعام إلا ما يشتهيه القلب، وتتلذذ به العيون، ويرتاح له الجسد أيضًا.

يمجد جوتفريد الأيروس ولا يحاول الإجابة على الأسئلة الأخلاقية التي يثيرها الزنا. إنه يضع القلب في مركز الكون ويفترض أنه يجب أن يوجه شؤون الإنسان مهما كانت العقبات التي تواجهه. وخلص أحد النقاد المعاصرين، في تعليقه على تريستان، إلى أن "كل شيء مباح لمن يحبون".

بحلول عام 1200، في كل من الثقافة الفرنسية والألمانية الرفيعة، كان الحب الجنسي ينافس، بل ويتجاوز، القيمة التي كان يتمتع بها في العصور القديمة اليونانية والرومانية. ربما لا يزال يُنظر إلى الحب على أنه جنون، لكنه جنون يستحق العيش والموت من أجله. سيموت تريستان وإيزولد من أجل الحب؛ حتى أن الألمانية لديها كلمة لوصف فعلهم: liebestod (من liebe، وتعني "الحب"، وtod، وتعني "الموت"). بعد قرون، ألهم هذا المصير المأساوي المثير نسخة فاجنر الأوبرالية المجيدة من تريستان وإيزولد.

لقد أعطتنا نصوص وصور العصور الوسطى رجالًا ونساءً لم يكونوا مختلفين كثيرًا في قلوبهم. مثل الرجال، كانت لدى النساء قلوب تتسع لتشمل الحب، وتشعر بالرغبة والشوق، ويمكن أن تصاب بالغيرة واليأس. على الرغم من الاختلافات وعدم المساواة التي كانت موجودة بوضوح بين الرجال والنساء في العصور الوسطى، إلا أن القلب كان يعتبر مجالًا لتكافؤ الفرص.*

***

...........................

* مقتطف من (القلب الغيور: تاريخ غير تقليدي للحب)  تأليف:  مارلين يالوم.2018

المؤلفة: مارلين يالوم/Marilyn Yalom: (10 مارس 1932 - 20 نوفمبر 2019) كانت مارلين يالوم  مؤلفة ومؤرخة نسوية. كانت من كبار الباحثين في معهد كلايمان لأبحاث النوع الاجتماعي في جامعة ستانفورد، وأستاذة اللغة الفرنسية. شغلت منصب مديرة المعهد من عام 1984 إلى عام 1985.ولها كتاب تاريخ الزوجة،

 

تداعيات المكان في سِفر مدينة

توظيف المدينة أو المكان في نصوصٍ رصينة لإيصال معلومة تاريخية ذات دلالات اجتماعية وسياسية الى المتلقي ضرب من السردية الشائعة التي تناولها الأدباء والكتاب عبر أزمان متعاقبة، وبفضل نتاجاتهم الإبداعية اشتهرت مدن كبيرة وكذلك اخرى صغيرة منسية وخاصة في أعمال عبدالرحمن منيف ونجيب محفوظ وبول أوستر وغابريل ماركيز وغيرهم  وألهمت المدن باحثيها وكتابها سمات وأشكال فريدة في الكتابة عنها وبالخاصة تلك التي تجاوزت هيكلية المدينة كمبان ومنازل وشوارع ومحلات، إلى كونها مسرح حياة تحمل كل أنّات وعبرات وطموح وأفراح ونجاحات من يعيش بداخل أحيائها بل إن العديد من هذه النتاجات غيرت القناعات والمسلمات لدى بعض الناس وأسهمت في تغيير طريقة تفكيرهم ونمط حياتهم.

و(كركوك) المدينة التاريخية العريقة التي تعود الى ١٦٠٠ قبل الميلاد الواقعة في شمال العراق والتي تبعد عن العاصمة بغداد حوالي ٣٠٠ كلم كانت مبعث وهج للكثيرمن الشعراء والأدباء الذين تغنوا بها وكتبوا عنها في قصصهم ورواياتهم وقصائدهم، لكنها اكتسبت خصوصيتها كونها تضم إثنيات واقوام وكيانات متنوعة تمازجت وتآلفت عبر مئات السنين وقارعت معاً الخطوب، بل وتمسكت بنسيجها الإجتماعي المتين رغم كل تحديات ومحاولات التمزيق وسياسات التشتيت والفرقة، فاضاف الكاتب كمال بياتلي المولود في كركوك في العام ١٩٥٨م بُعدا سسيولوجياً وواقعياً إليها في كتابه (كركوك وسوق القورية) عبر قصة طويلة محورها مجيد الحمال تلك الشخصية البسيطة والغريبة في آن واحد، بلغة سلسلة، وانسيابية بديعة، بفضل الترجمة المميزة الى العربية التي تولاها أرشد الهرمزي من التركية، والقصة تتناول فترة ثمانينيات القرن الماضي وابان الحرب العراقية الايرانية حيث كانت حافلة بالأحداث المريرة والوقائع المفعمة بالاحزان المغروسة عميقاً في الذاكرة .

ولا شك أن إختيار سوق القورية من قبل المؤلف لم يأت إعتباطاً فهي أقدم أسواق المدينة وأعرقها، وهي معروفة بغالبية سكانها القاطنين في الأحياء المحيطة بها من التركمان، فوظف السوق نموذجاً لما جرى لهم في المدينة برمتها وما تعرضوا له من تعسف وإجحاف خلال تلك الفترة نتيجة فرض سياسة التغيير الديموغرافي على المدينة والتي لا تزال تأثيراتها السلبية قائمة ليومنا هذا.

تبدأ القصة بخروج مجيد الحمال في كل صباح باكر الى السوق وفي تلك الساعات (كان يمكن أن ترى مجيد الحمال دوماً بثوبه القصير المخطط والسترة التي يلبسها ويكون فتق الخياط ظاهراً تحت الإبط دوماً وبحزامه الجلدي الغليظ والطاقية التي يعتمرها وهي الأخرى تعلوها الثقوب.. كانت عيونه تتابع المارة عسى أن يكلمه احد ليحمل مشترياته في سلته المتهالكة القديمة) على أمل أن يعود بمكسب يعينه وأمه على صروف الدهر . فرغم فيض الحركة الدؤوب في السوق فقد كانت هناك لحظات فوضى ورعب وعنف بسبب ممارسات رجال السلطة المدججين بالسلاح بمسمياتهم المختلفة وأغلبهم كانوا من الطارئين على المدينة وقد استخدمتهم السلطة لتغيير واقعها الاثني فساموا أهلها شتى صنوف الاستعلاء والغرور والبطش بحجج مختلفة سواء بزعم البحث عن المتخلفين عن الخدمة العسكرية اوالهاربين من وحداتهم أو حتى الذين لا صلة لهم بالموضوع سوى كونهم مختلفين عنهم بإنتمائهم القومي ومنهم مجيد الحمال الذي تعرض لواحد من اؤلئك حينما صاح عليه غاضبا وسأله عن هويته فوقف مجيد فاغرا فاه وهو لا يعي ما هي الهوية فامتدت يد الشاب ذي الشارب الكث الى قميص مجيد المتهرئ لتهزه بعنف فيتدخل يوسف البقال لإنقاذه :

(يا سادة، هذا الرجل معوّق لا ضرر منه إطلاقا، إنه رجل قست عليه الدنيا، ثم أنه يتيم ووحيد في دنياه. واضح أنه لا يعلم عن ماهية الهوية إطلاقاً...لم يكد يوسف البقال ينهي كلامه حتى مدّ الشاب ذو السترة السوداء يده لتنتزع طاقية مجيد الحمال بقسوة متناهية شاء حظه أن يكون حليق الرأس وإلا فقد كان من المحتم أن ينتزع الشاب خصلة من شعره لو كانت له بقية من شعر، نظر إلى الطاقية المهترئة بقرف واضح ورماها على الأرض) .

ثمن رصاصات الموت

قدرية ام مجيد كانت قد عانت الأمرين أيضا قبل أن تلد ابنها المعاق الوحيد، فقد غاب زوجها حيدر الفخار دون أن يترك وراءه اي إثر في تلك الفترة التي كان أعداد المفقودين المختفية اثارهم تزداد، لقد كان الكثيرون ممن يغادرون منازلهم أو محلات عملهم يختفون دون أن يظهر لهم أي أثر. وهكذا انتهى البحث بها من طوزخورماتو الى أحد أحياء الفقراء في سوق القورية لكنها تلقت بعد سنوات خبرا وصلته من جيرانها هناك مفاده أن سيارة الشرطة توقفت ذات ليلة (أمام بيت حيدر الفخّار، ولما لم يجدوا أحدا في البيت قاموا بتسليم تابوت إلى الجيران وأخذوا توقيعهم بالاستلام وأبلغوهم بضرورة دفن الجثة ليلاً مع عدم تجمع أي أحد، فقام ثلاثة من سكان الحي بحمل التابوت على جرّار وقاموا بدفن الفقيد. وفي صباح اليوم التالي، حضر أفراد الشرطة أنفسهم مع الورقة الموقعة باستلام الجثة إلى جار حيدر الفخّار وطلبوا منه ثمن خمس عشرة رصاصة، وعندما تم سؤالهم عن السبب قال أحدهم: «لقد كان حيدر الفخّار منخرطا في تنظيم تركماني سرّي معاد للدولة. وقد حكمت عليه محكمة الثورة بالإعدام رمياً بالرصاص وثمن الرصاصات اثنان وعشرون دينارا ونصف الدينار وعليكم دفع المبلغ » .

هزة حب

ولكي ينتشل المؤلف قصته من الرتابة والتجريد السياسي فنراه يضع هيفاء تلك الصبية اليافعة والجميلة أمام مجيد فيحدث العابر لقاءه بها هزةً وجدانية عنيفة افقدت مجيد توازنه، وبذلك فقد اسبغ البياتي لمسة رائعة من الرشاقة والرومانسية، وبُعدا إنسانياً مفعماً بالعاطفة الجياشة على قصته عندما إبتدأ قصة العشق المفاجئ والجارف من طرف واحد (فقد نادته سيدة لم يرها لحد اليوم قبلا ليحمل مشترياتها، وقد اصطحب المرأة بما حملها من أكياس إلى دار قريبة من مسكن اسرة عائلة النفطجي، وعندما أدركت أنه قد مسه التعب فقد أدخلته الدار ونادت ابنتها لتعطيه كأسا من اللبن الرائق حصل ما حصل يومها، فقد التقت نظراته مع نظرات الفتاة عندما ناولته الكأس، فتغيّرت ملامح وجهه ولما سمع الفتاة تقول له: «تفضل!» فقد تغيّر العالم من حوله، ولأول مرة في حياته اكتشف أن شفتاه قد خلقتا لرسم ابتسامة، وشعر بشيء ما في داخله كما أحس وكأنما موجة من الدفء تسري في عروقه من رأسه إلى أخمص قدميه) .

ويشرع المؤلف في قسم كبير من القصة بعرض مكابدات مجيد الذي اكتفي بمتابعة هيفاء في تحركاتها خارج البيت . وهيفاء اسم أطلقه مجيد عليها في خياله فيما تبين بأن إسمها الحقيقي سماء وهي وحيدة والدتها وتعيش معها بعد استشهاد شقيقها عبد الهادي في جبهة الشيب على الراتب التقاعدي الذي خصص لهما .. وفي إحدى متابعاته يسقط مجيد مغشيا عليه في ساحة ألعاب العيد وهو يراقب معشوقته تتأرجح في أرجوحة عالية مع صديقاتها ويرقد في المستشفى وكان المختار محمد بجانبه في حين كانت أمه قدرية تتلظى كمداً على إبنها الذي غاب عنها دون أن تعرف مصيره . وحالما اعاده المختار إليها بعد أيام حضنته المسكينة (وهي بين حالتين من الضحك والبكاء، بدأت تشم رائحته وتقبل عينيه وجبينه ورقبته، إلا أن مجيداً بدا وكأن الأمرلا يعنيه. سحب رأسه من حضن والدته وصعد إلى السطح قبل أن تغرب الشمس لينتظر النجوم ).

ويمضي البياتي في إيراد حالات من المآسي الناجمة عن الحرب ومنها حمل التوابيت التي تضم الشهداء إلى البيوت المفجوعة فيما كان بعضها تضم مجرد قطع من اللحم البشري وكان من الصعب (تحمل رؤية هذا المنظر فيما لو كان الفقيد قد تزوج حديثاً أو كان قد قام بخطبة فتاة في الفترة الأخيرة) . وفي ذات الوقت كانت سوق القورية مسرحا لوقائع مؤلمة نتيجة حالات اعتداء يقوم بها أفراد الشرطة السرية على بعض الناس ومنهم احمد تركلاني صاحب أحد المحلات الذي سحبوه امام أنظار أفراد الشرطة بملابسهم الرسمية فانهالوا عليه بالضرب المبرح فيما كان ابنه الصغير يصرخ من الفزع والخوف على والده فاندفع لينقذ والده إلاّ انه تلقى ضربة من أخمص بندقية أحد أفراد الامن الخمسة فيما كانت جمهرة من الرجال والنساء الوافدين من أحياء المدينة المستحدثة بانتظار إشارة منهم للاستيلاء على بضائع المحل انذاك تملك مجيد الحمال الخوف وهو يرى ما يجري وبدأ يرتجف فأمسك به أحدهم واخذه بعيدا عن المنظر المؤلم.

ويختتم البياتي قصته الطويلة بحدث موجع شهدتها سوق القورية في أحد ايام الجمعة بعد ان تحول الى ساحة هرج واضطراب وفزع شديد بسبب قيام قوة أمنية مسلحة بإطلاق النار عشوائياً بين المدنيين في محاولة للقبض على أحد الهاربين من الخدمة العسكرية فيما كان بضعة من الحمالين بينهم مجيد جالسين تحت أحد اعمدة الانارة مدخل فرع الصاغة القديم في السوق فاصابتهم رشقة من الرصاص الطائش فجرح أحدهم ومات اثنان (بعد حين ذهب أحد الحمالين الذين كانوا يجلسون مع مجيد والذي نجا من الإصابة بأية طلقة إلى قدرية قال لها دون سابق انذار «أصيب مجيد برصاصة في صدره وهو ينتظر النجوم).

لقد أفلح البياتي في قصته الطويلة إختزال الحياة لمدينة كركوك في زمن محدد ورقعة جغرافية محصورة بجزء من سوق القورية لكي يؤرخ للقارئ تداعيات الأحداث على أهلها انذاك، ورغم ان مقصد المؤلف كما أورد في المقدمة كان يكمن في نسج قصة حب بريئة ومستحيلة وعلاقات اجتماعية متماسكة ومصيرية تؤطرها تقاليد وقيم إنسانية ملهمة بين أشخاص عاش بينهم ومعهم  لكن سطوة الوقائع هيمنت عليه وأخذت حيزا واسعا بين دفتي الكتاب . وبذلك تحولت القصة إلى شهادة إنسانية وتأريخية نضرة لفترة زمنية عاصرتها كركوك لتبقى حية في ذاكرة الأجيال القادمة.

***

محمد حسين الداغستاني

القدرة على سرد ما قل ودل وليس عجزاً في التعبير

(تجويع اللفظ وإشباع المعنى)، الجرجاني

***

"التكثيف كمصطلح أدبى فهو خصيصة جوهرية من خصائص الشعر، ويكون على المستوين البنائى والدلالى فالتكثيف البنائي هو الاقتصاد اللغوي وعدم تحميل النص بكلمات زائدة عن حاجاته، وتكثيف دلالي وهو تحميل الكلمات وشحنها بالدلالات المتعددة، ويشتبك التكثيف البنائي بالتكثيف الدلالي اشتباكاً لا انفصال فيه بحيث يتحقق الاقتصاد اللغوي القائم على إزالة الحشو والزيادات مع التكثيف الدلالي و تكثير وغزارة المعنى في آن واحد"

"الجدير بالإشارة أن التكثيف والاٍختزال ليسا مصطلحين مترادفين يحل كل منهما محل الآخر، فالاختزال يختلف عن التكثيف في أن الاختزال تكثيف شديد يستخدم في صياغة النصوص القصيرة جدا كالاٍبيجراما أو الومضة الشعرية، وهو بذلك يتناسب مع النص القصير الوامض الخاطف الذي يعبر عن لحظة أو مشهد خاطف وامض يصوغه الشاعر بأقل قدر ممكن من الكلمات وأكبر قدر ممكن من الحمولات الدلاليه" محمدعزب الانطلوجيا 9 شباط 2021 طامي الشمراني

https://makkahnewspaper.com/article/1557855/الرأي/الأدب-الوجيز-طفرة-أم-استجابة-لروح-العصر

أهتم الأدب الوجيز كالقصة والقصة القصيرة جدا وكذلك قصيدة النثر  والهايكو، بالإيجاز والتكثيف في عملية السرد وتخليق النصوص السردية والشعرية، لتستوفي مبررات وجودها كجنس أو أجناس إبداعية تستجيب لروح العصر ومتطلباته للاختصار وعدم الإسهاب  في التوصيف والتعريف والاكتفاء بما قل ودل من الكلمات والجمل، وقد أهتم العرب عبر تراثهم الأدبي والكتابي بهذا الأمر   حيث دعا عبد القادر الجرجاني إلى (تجويع اللفظ وإشباع المعنى)، وهذا التعبير أو هذه التوصية تستبطن الكثير من معنى ودلالة  التكثيف والاختزال  وهذه  الوصية أو النصيحة الجرجانية الثمينة ربما تكون سابقة حتى لعصرها، في حين أصبحت ضرورة ملحة في عصرنا الراهن عصر العولمة، عصر السرعة، واقتصاد الزمن في واقع يستوجب السرعة والإيماء والرمز ولا يحتمل الإطالة والإسهاب، ومن مبررات ذلك انشغال الإنسان حد القهر بالعمل اليومي لتأمين متطلبات الحياة المتزايدة دوماً. الإنسان في عصر الأنترنيت وتطور شبكات التواصل والفضائيات واسعة الانتشار أصبح يستبطن الكثير من المعلومات  التي كانت عصية عليه في القرون الماضية، وبذلك أصبح يفهم ويدرك الكثير من الأمور والصفات والتعريفات بالإشارة ولا داعي للإسهاب والإطالة والإعادة المملة  للكثير مما يعرفه ويضمره المتلقي في ذاكرته وتجربته الحياتية، وكأن المتلقي  يتوسلك: يا أخي لا تعيد علي ما أعرفه اخبرني بالجديد المتفرد للشيء الموصوف من قبلك، فأنا أعرف تفاصيل برج إيفل  وتاريخ  إنشائه ومهندسه، لا داعي أنْ تصف لي  وتعرف  طوله ومساحته  وتفرعاته، اذكر لي أذا استجد  شيء في هذا البرج لم أعرفه، أخي  صاحب المطعم أعطني وجبة غذاء أتناولها وأنا أسير  حتى لا يفوتني القطار أو الطائرة لا وقت لدي للجلوس وتناول الطعام  المتنوع  والمقبلات  وووو في مطعم فاخر ...

وأنت يا أخي الروائي العزيز وقتي محسوب ببعض ساعات  قد أقضيها في قطار أو طائرة أو باص نقل، أو فترة استراحة بين دوريتي عمل في معمل أو مصنع، وأنا بالتأكيد بحاجة إلى وجبة غذاء روحي كالرواية والشعر والقصة. شكرا لكاتب القصة القصيرة جداً وقد اختزل  كثيراً، وقد فهمني  كاتب قصيدة النثر  والهايكو ... أما أنت  أيها الروائي قدر وقتي ولا تحرمني من متعة قراءة الرواية أرجوك كثف كثف أختزل قلل أحذف كل الزوائد والمرادفات  أختار كلمة واحدة ولا تكرر المرادفات، فكر في كتابة كل مفردة لتكون هي أفضل الكلمات  تعبيراً عن المعنى وتخليق المبنى ... واستذكر مقولة الجرجاني: (تجويع اللفظ وإشباع المعنى)، كما أرجوك لا تعيد على ما استبطنه من معرفة عن المدن والبنايات  وعمارة  الدور وحتى التوصيف السائد لشكل وملابس الشخصيات الروائية، اذكر لي فقط العلامات الفارقة، أنا أعفيتك ضمن ما استبطنته من معلومات وفرتها ثقافة العصر الراهن أن لا تطيل وأن لات سهب فحينما تذكر مدينة لندن مثلاً،  تتولد في مخيلتي كل صفات هذه المدينة وساحاتها  وشوارعها  ومتاحفها  ومسارحها  ومتنزهاتها ... فقط أعطني  وصفي  إنْ جد فيها جديد لم أعرفه.

من تجربتي الحياتية  سألت  أحد الأصدقاء حول  صديق  مشترك  بيننا  فقال:- نعم  هو  بخير، رأيته يرتدي بدلة زرقاء من قماش انكليزي، خاطها عند الخياط فلان، دفع له المبلغ الفلاني كأجرة خياطة، زوج أحد أولاده من أحد بنات خالته  المعلمة في  المدينة الفلانية وعمرها .... وظل يشرح ويفصل  بإسهاب ممل  لأمور أنا لا احتاجها  وأخرى أنا اعرفها ... كل ما أردته منه أن يقول إني رايته وهو بخير، وكفى.

وهذا  هو  ما تريد أن تنتهجه الرواية القصيرة جداً  في أسلوب  سردها  وحياكتها  لأحداث الرواية القصيرة جداً لتفي بشروطها في الاختزال والتكثيف مع احتفاظها باشتراطات الرواية، وهذا  يفرض على الروائي التفكير كثيراً قبل أن يكتب المفردة  وصياغة الجملة بدون زوائد وان تعبر أحسن تعبير عن المعنى، مكتنزة المعنى من دون كرش وترهل رشيقة أنيقة معبرة، وهنا يجب أن يمتلك الروائي خزيناً لغوياً وثقافياً كبيراً يضخ له الكلمات والمفردات من مخازن ذاكرته الثرية بهذه المفردات والصور والكلمات، شرطها الأول هو كثرت القراءة والمطالعة وكما ذكر الأستاذ عبد الجبار الرفاعي  ضمن مقال بعنوان (الكتابة بوصفها فن الحذف والاختزال) : (كما الاقتصاد سياسة مكثفة كذلك الكتابة مطالعة مكثفة).

لذلك  ترى المتحدث  أو المحاضر المكتنز للمعرفة يعبر عما يريد بأقل الكلمات وبأقصر الجمل، بينما  نرى آخر قليل الاطلاع  يظل  يلف ويدور ويرغي ويهذر  محاولا توصيل ما يريد إلى المتلقي من دون جدوى.

فالكتابة جزلة المعنى رشيقة القوام أمر في غاية الصعوبة وعلى وجه الخصوص في مجال كتابة الرواية القصيرة جداً، فقد قال أرنست همنغواي لمن يريد أن يصبح كاتباً، وبالتحديد روائياً: (عليه أن يذهب ويشنق نفسه، لأنه سيجد أن الكتابة صعبة إلى درجة الاستحالة. ثم ينزل ويعرض هو على نفسه أن يكتب أفضل ما يستطيع للبقية الباقية من عمره. عندها سيكون لديه قصة شنقه بمثابة بداية).

هذا ما قاله همنغواي  حول صعوبة الابتداء بكتابة رواية  طويلة أو قصيرة وهو لم يكتب رواية قصيرة جداً  تستدعي جهوداً  أضعاف م اتتطلبه كتابة رواية طويلة أو رواية قصيرة  لإيصال هذه الفكرة إلى المتلقي المستعصية  بأسلوب  مختزل مختصر مكثف أكثر صعوبة واستحالة. وكما قال الدكتور حسين المناصرة في مقال حول كتابة القصة القصيرة جداً: (وكان السؤال الأكثر إلحاحًا في مجال الكتابة عمومًا، والقصة القصيرة جدًا خاصة، هو: كيف أصبح قاصًا حقيقيًا؟! وكانت الإجابة الوحيدة : قبل أن نكتب علينا أن نقرأ ، ثم نقرأ ، ثم نقرأ في المدونة التي نريد أن نكون من كتابها؛ فمن وجد أنّ لديه ميولًا في كتابة القصة القصيرة جدًا؛ فعليه إن يقرأ ما لا يقل عن مئة مجموعة قصصية قصيرة جدًا؛ حتى يتمكن من أن يكون كاتبًا جيدًا في مجالها.

اقرأ المزيد على الرابط:

https://iraqpalm.com/ar/a3112

كل هذه الصعوبة يواجهها من يريد أن يكتب قصة قصيرة جداً، وهي محدودة الشخصيات ربما شخصيتين لا أكثر، ومحدودة الحوارات، ومحدودة الزمن، ومحددة الهدف، فما أكبر وأصعب مهمة كاتب الرواية القصيرة جداً، متعددة الشخصيات الرئيسية والثانوية، وتعدد الحوارات، وانتقالات الزمكان، وتحديد الهدف المنشود بأقصر الجمل وأقل الكلمات، وارشق الحوارات، وبلوغ الهدف محافظة على اشتراطات أمها جنس الرواية.

فقد كتبت الرواية الطويلة بأقل قدر من التوتر والحذر من الانزلاق إلى جنس أو نوع أدبي مجاور، بينما كتبت الرواية القصيرة جداً وأنا في غاية التوتر والتركيز والحذر من الإسهاب حتى لا انزلق إلى  الرواية القصيرة، ولا أن أوغل في الاختزال والتكثيف لانزلق صوب القصة القصيرة جداً، أو إلى النص الشعري النثري الحديث،  والخوف الشديد من عدم القدرة على إيصال الفكرة ومضمون الثيمة الروائية إلى المتلقي بأقصر الجمل  وأقل الكلمات، يجب أن  تكون الرواية القصيرة جداً رشيقة القوام حد النحافة، مكتنزة المعنى والمبنى حد النشاط والحيوية وخفة الحركة المشوقة للمتلقي، تتحول الرواية القصيرة جداً إلى نص وامض متعدد الفجوات والفراغات، يتحول إلى دوائر متوالية متسعة دائماً في مخيلة المتلقي لتسد وتشغل كل الفجوات والفراغات التي تركها المؤلف لتكون من حصة المتلقي لسدها بطريقته الخاصة وما يختزنه من  خبرة ومعلومات  حول  الشخص أو المكان أو الحدث  الذي يبدو ناقصاً غير مكتمل المواصفات ضمن المتن الروائي، مما يوفر للمتلقي متعة المشاركة في كتابة النص، كما تتعدد المعاني والمباني للنص بتعدد القراءات بعدد القراء. وهنا تكمن الصعوبة التي يواجهها كاتب الرواية القصيرة فيما  يقدمه للمتلقي  وما يحجزه ليكون من حصته، على أن يكون الروائي متفهماً لبيعة هذا المتلقي وبيئته وما مقدار ما يستبطنه من معلومات متعلقة بثيمة الرواية  حتى يتمكن من بناء نص ثان  بدون فراغات مواز للنص الأول ...

فلذلك نقول لمن  يتهم كاتب الرواية القصيرة جداً بأنه لجأ إلى كتابة هذا النوع الجديد من الرواية لأنه لا يمتلك من الخيال والخزين اللغوي لكتابة  الرواية الطويلة والرواية القصيرة، أي أنَّه لا يمتلك هشاشة الهذر والاستغراق في التوصيف والتعريف  والإكثار من المرادفات والإفراط في التشبيه والتزويق اللفظي  ليقدم عملاً روائياً (مكروشاً) متخماً  بما هو معروف ومعاد ومكرر  يولد الملل والكلل من قبل المتلقي  وهو المحاصر بالزمن  المحدود ضمن  كده الحياتي اليومي.

فكما أكد النقاد وأجمعوا على صعوبة كتابة القصة القصيرة جداً، هنا الجهد مضاعف  والصعوبة كبيرة جداً في كتابة الرواية القصيرة جداً. وكتابتها ليست نزهة، وإنما هي عصارة فكر وجهد ومكابدة للقلم وللعقل. ومن لا يستطيع السباحة عليه أن لا يقترب من الساحل.

***

بقلم: حميد الحريزي

خفايا الساردة المنقسمة وتمثيلات المؤلف ساردا

توطئة: إذا تأملنا الاحوال والاوضاع السردية في رواية (حلم ماكنة الخياطة) للكاتبة الإيطالية الشهيرة بيانكا بيتسورنو، والتي قامت بترجمتها عن الإيطالية إلى العربية المترجمة وفاء عبد الرءوف البية، لوجدنا ذلك النسيج المتماهي بين حياتي (المؤلفة - الساردة المشاركة) ويبدو أن الكاتبة بيانكا لديها ذلك الوعي المهني بحرفة الخياطة اعتمادا ملحوظا، على الخلفية الثرية والمفعمة بممارسة مهنة الخياطة عن حال الأوضاع القائمة بها الشخصية الساردة في تشكلات السرد وما آلت إليه أوضاع هذه الساردة المشاركة على أن تكون الواصلة التكنيكية بينها وعوالم تلك الطبقات الاجتماعية المفارقة حينا والمخيبة والمتوترة في ذاتها حينا.و تومئ عنوانات الفروع الفصولية في الرواية بالبث التفصيلي الممل والتشويقي عن أخبار وحكايا تلك العوائل المأخوذة بالخوف والقلق والتنازع فيما بينها لأجل الحضور بتلك المظاهر اللائقة من الملبس ودﻻﻻته الازدواجية في حضور مطامح ودوافع تلك الشخصيات حول عالم الومضة والازياء وكيفية كسب الرهان بأقل الكلفة، حتى وإن كان رهانا منتحلا في الحقيقة المشروخة . في الواقع أن رواية (حلم ماكنة الخياطة) من الاعمال الروائية المتكاثرة في تشكلات تفاصيلها وشخوصها المشحونة بالشك والقمع والتسلط بأشكاله القيمية البالية، لذا تتواصل انهيارات بطلة الرواية ومنذ نشأتها الأولى في بيت الجدة مع تواترات اللقطات المشهدية الكبرى والوسطى والاخيرة مع رواد تلك العائلات الأرستقراطية تغلغلا فيها لحد الاشباع والتخمة: (أنا أيضا خياطة متواضعة، أحبك الثياب منذ صباي ... هكذا أخابت بيانكا بيتسورنو مؤلفة هذه الرواية، مرات عدة عندما سألت عن شخصية بطلتها الحقيقية . /ص3 عتبة مقدمة الرواية) من هنا سوف نعلم بأن هناك القاسم المشترك بين (الساردة الشخصية - المؤلفة الساردة) لتجسد لنا الرواية تصورا متطورا بأن المؤلفة تكتب ذاتها عبر فواعل رواية السيرذاتي . واللافت في أمر الرواية، كونها جاءت بومضات متناثرة ذاكراتيا، لتصبح من خلال صوت عجلة ماكنة الخياطة للشخصية الحاكية توليفا بين الإسقاط الذاكراتي والإيحاء بحلم الشخصية الخياطة عبر سفرها الطويل بين جنبات منازل العوائل الأرستقراطية. وأحياناً يكشف خط التوازي بين طرفي (مؤلفة=شخصية) ذلك الامعان في البنية السردية المحكية لكل منهما المؤلفة والشخصية في الآن نفسه.

- جماليات الحكي وتشظيات الأبنية الحكائية:

لعل البنية السردية في رواية (حلم ماكنة الخياطة) عبارة عن حاﻻت مشيدة في التجاور والتوازي والرموز والتزامن والتضمين، لذا بدت أواصر المحكي وكأنها في حالتي (تفكيك - تشظي) لكننا صرنا نعتقد مع مستهلات الزمن الأولي من العرض المسرودي الذاتي للساردة والمؤلفة، بأن هناك حاﻻت تضفيرية بين أزمنة الوحدات والمشاهد واللقطات يدعمها النسيج التعويضي في الربط بين مستويات التألق في لغة الحكي والتوصيف، ويلاحظ تعدد الحوارات والجمل المشحونة بالتوتر والتضاد وخطية الاسلوب الزمني في عرض الظاهر والمخفي من الأحداث السردية .

1- بنية السرد و المسرود الذاتي والعرضي:

أشرت ضمنا أن مؤثرات السرد والمحكي تنهض بموجب جملة انحرافات تكرارية واستطرادات وقفز في الاسترسال والمزج بين (السرد - المسرود الذاتي - المسرود العرضي) بلوغا إلى مرحلة إحصائية الأسماء الشخوصية المتباينة والمختلفة في وحدات السرد: (السيدة أنجلينا فالييلا، مظيفتنا خلال الصيف، والخياطة الوحيدة في ستينتينو، والتي كانت تمتلك ماكينة بالمدوس جميلة للغاية - السيدة أرمينجيل ارجارج وني، المرأة الأكثر ذكاء وابداعا بين من عرفت، التي غابت عن حياتنا منذ عامين، والتي ظلت، حتى بعد أن صارت عمياء وإلى عامها السابع والتسعين، تخيط بماكينتها ذات المدوس ./ص8 الرواية) هذا الأمر ما يفسر تماهي الأزمنة وثبات المكان أي (حلم ماكنة الخياطة) عبر موقعها السيرذاتي في الاختيار ككاتبة وخياطة لأكثر الأحداث والأسماء الشخوصية تجسيدا في رؤية شمولية ورؤية أكثر جلبا لدﻻلة التواريخ المتعددة بتلك السيدات اللائي غبن صامتات أو ممن فقدن ابصارهن في عوالم حكايات زمن وموقعية السرد الذاكراتي أو الاسترجاعي .

2- فعل كينونة التكرار ومراوحة الذات الفاعلة:

لعلنا نقول في صدد (فعل كينونة التكرار) كون حياة حكاية الساردة تتنفس في أعماق وبواطن زمن ماكنة الخياطة، لذا بقيت الذاكرة في (مراوحة الذات الفاعلة) إذ ينطبع من خلال سردها التناظر بين المحكيات المحكومة بمعيار التفصيل وخصيصةالانفتاح نحو استجلاب المتخيل بالواقع الطردي ليؤسس نوعا من الترابط والدﻻلة الناظمة: (جدتي بيينا سيستو التي علمتني التوشية بالخيط الأبيض والألوان، والتي كانت تراني استخدم الإبرة دون إرتداء الكشتبان - كما فعلت دوما وﻻ أزال . تشكوني لأمي متنبئة بأنني سأصبح امرأة صعبة المراس . / ص9 الرواية) ولعل أهم خصيصة في جملة هذه الوحدات، ذلك القول (كما فعلت دوما ولازال) يحدث مثل هذا في مجرى تقليب الزمن المعطى الأخذ في التكر وحتى مرحلة ملازمة مبدأ الدخول الكلي في النسيج تمفصلا بالسرد صعودا إلى مشروطية الفقدان: (لم يتبق غيرنا نحن فقط من العائلة بأكملها بعد وباء الكوليرا الذي أطاح في طريقه، دون تمييز للجنس، بوالدي وأشقائي وشقيقاتي، وكل أبناء جدتي الآخرين وأحفادها - كنت في السابعة عندما بدأت جدتي تعهد لي بأبسط لمسات التشطيب على قطع الثياب . / ص١٢ الرواية) ومن خلال الوقائع الجديدة التي أحدثت تغيرا سرديا في منحى الأحداث، نقول إذا كانت الساردة الشخصية إلى الآن وقد تمت عامها السابع، فمن كان يتولى مهام سرد الرواية؟ حتما هي المؤلفة وقد حلت حلولا محل (المؤلف الضمني) أو السارد العليم، مما ترتب على ذلك النظر في كون وجهة نظر المؤلفة ضمن الحدود المماثلة في تواصلات المواقع السردية المتعددة: (الراوي - المروي له - التجميع - الاقتباس - ذات المؤلف =هيأة مواضعة حاكية) امتدادا نحو تفعيل وحدة الفاعل العاملي ضمن صيغة الخطاب من حاضر واقعة (المبأر - جواني الحكي) فالعلاقة بين المبئر والمبأر في مثل هذه الوحدات المعروضة ﻻ تقف عند حدود المشهد الخارجي للزمن، بل يركز المبئر في تبئيره على دواخل المبأر فيقدمه لنا من الداخل: (عندما لم يتبق سوانا، كنت في الخامسة من عمري وجدتي في الثانية والخمسين .. كانت لا اتزال قوية .. اليوم هكذا راهنت نفسها أنها ستنجح في أعالتنا معا معتمدة على عملها في الخياطة فحسب . /ص١٤ الرواية) .

- تعليق القراءة:

إذا تأملنا إجمالا سير عملية الخطاب السردي والمحكي في رواية (حلم ماكنة الخياطة) وصلنا إلى حقيقة مفادها أن الخطاب السردي يحتوي على معادلتين احدهما تشمل الأخرى ضرورة . إذ يبدا السارد المشارك بتأطير فضاءات الزمن بوصفها الأجزاء والمكونات التي يتم الكشف من خلالها عن مجاﻻت الأحداث والأفضية المكانية، الى أن تصل صيغة الخطاب المسرود صوتا مهيمنا على صيغة الخطاب المعروض الممسرح . في رواية (حلم ماكنة الخياطة) ثمة علامات وإشارات بالغة التوظيف لكل مكون من مكونات الصنعة الروائية، لذا تبقى مساحة المنظور السردي محددة من خلال (خفايا السرد) المشاركة بأختلاف (إظهارية تمثيلات المؤلف ساردا؟) لذا تبدا كل شخصية في الرواية بالتكون والتشكل والستقلال، نظرا لما يتيحه مجال وموقع الساردة المشاركة من حافزية ومضاعفة بتأطير جل الفضاءات الشخوصية، بطريقة تذكرنا بعلاقات التركيز الفضائي الحاصل على خشبة العرض المسرحي، ولكن عملية الظهور في مكونات رواية (حلم ماكنة الخياطة) تحكمها آليات البناء الروائي المحتدم ومنظومة الأفضية الذاكراتية والحاضرية من واصلات الفواعل المتحركة ضمن حركتي السرد والتبئير وإحاﻻت صيغة الخطاب المسرود في رسم الأحداث الروائية وفق رؤية حكائية روائية نادرة، تفسح لكل شخصيات بالظهور على سطح السرد، مظهرا متفاعلا مع جوانب تعدد الأصوات ومعالم الأمكنة والأزمنة تحوﻻ وتدليلا في كشف الاسرار والخفايا عن وجوه وحلم ماكنة الخياطة الأخرى من العلاقات الدﻻلية الناظمة والمنظومة للسرد المركز واللامركز .

***

حيدر عبد الرضا

(دِيستُوبيَا) المَقموعِ والمَسكوتِ، و(يُوتُوبيَا) الاِحتجاجِ الثًّوريِّ

مَفاتيحُ العنونةِ:

لكلِّ قصيدةٍ شعريَّةٍ ما، أو مُدوَّنةٍ إنتاجيةٍ إبداعيةٍ تظهر جليَّاً في الأثر الوجودي للفضاء الشعري الزمكاني مفتاحٌ سحريٌّ بازٌّ وقارٌّ للأثر، ولافتٌ للنظر في ضوء هالته العلاماتية. وهو في الوقت ذاته يعدُّ مُثيراً اشتراطيَّاً نفسيَّاً استجابيّاً مُنظَّمٌاً لقارئ نصِّ قصديات الأثر الأدبي. فمن خلاله وبه يصل وعي المتلقِّي والقارئ النوعي أو النموذجي (الناقد) إلى جماليات بغية العمل الأدبي ودلالاته اللُّغوية والرمزية وغاياته، السيميائية المتفرِّدة أيقونياً وصوريَّاً وجماليَّاً وفنيَّاً.

والتي من أجله أخذت هذه العتبة العنوانية سمتها البنائية التركيبية وكينونتها المنتظمة، واختطَّت عنونتها الاستفزازيةّ الَتي أخذت بيان اسمها الصريح العريض، وأعلنت شخصيَّاً عن رسم هُويتها التعريفية الشاخصة في عملية وجودها الوظيفي. واختصَّت وظيفتها العنوانية بمضان قصدياتها التأويلية والإخبارية الرفيعة وبلاغة انحرافاتها وحمولاتها الدلالية والمعنوية القريبة منها والبعيدة.

ولمِهْمَازِ مُدوَّنة جَنان السعديّ الشعريَّة (لا حياءَ للخَنازيرِ) مفتاحان سحريان شاخصان في جملة التركيب النحوي لا ثالث لهما إلَّا الأداة (لا) النافية التي تصدَّرت بقوَّةٍ نفي الجنس القاطع لمستهل الجملة الاسمية (لَا حياءَ للخنازيرِ) والتي هي صرخةُ الشَّاعر السعديّ الثوريَّة المُدوِّية، المُلَغَمَةُ ببارود ديناميت الهزيمة الاستسلاميَّة النكراء المشوِّهة لرمزيَّة العرب وموقفهم القميء المتشضي.

والمفتاح الأوَّل لباب هذه العنونة الاستفزازية الشائنة الشوهاء، والصادمة بتورية مفارقتها التوقُّعية وثيمتها الفكرية المدهشة، هو تلك المفردة الاسمية النكرة دالة (حياءَ) التي هي إحدى طرفي المعادلة العنوانية الموضوعية الضيزى في ثنائية التضاد الحركي بين قطبي فعلي الصراع (الخير والشرِّ).

والحقيقة أنَّ الخير يكمن في (يوتوبيا) معنى الحياء الإنساني الدلالي الفاضل؛ كون (الحياء) يمثِّلُ شعبةً مُثلى وعُليَا من شُعب الإيمان لأركان هذه المدينة الشعرية المثالية الفاضلة التي تجرَّدت عن معنى صفتها وكينونتها الإنسانية الجمعيَّة، وانتزعتْ عنوةً دلالاتها اللِّسانية المُقطَّرة في صرختها العنوانية الباسلة بطعنتها الخيانية النجلاء. أمَّا بوادر نسق (الشرِّ) الذي هو الطرف السلبي من ركني العنونة، فيكمن في رؤيا الشاعر المخيالية الطوباويَّة المثاليَّة القصيَّة المُمَثَّلة بـ (دِيستوبيَا) الفوضى والخنوع اللَّا إنساني المعطوب في دلة (الخنازير)الحيوانية المُبتذلة المَمقوتة بدلالة ذمها التوصيفي.

فَحينَ نتأمَّل بتؤدةٍ المعنى الدلالي القريب لدالة (الخنازير)، فلا نجد لها مدلولاً سويَّاَ غير معناها البوهيمي الحيواني المتوحش الممجوج كراهية وتدليلاً عليها لا حُبَّاً بها. أمَّا توريةُ معناها الدلالي البعيد الذي رامه الشاعر الرائي في قصدياته وحاك نسيج خيوطه وأمسك بتلابيب أذياله الكليَّة المُحكَمَةِ في تركيب مدونته الإقصائية الفكرية والصوتية التصريحية المعلنة (لَا حياءَ للخنازيرِ).

فهو يرمز في صميم علاقته الخطيَّة المباشرة مع صفة الحياء إلى موحياته الحقيقية البشريَّة المقصودة ويستهدف عَيِّنَةَ مدلولاته،وهم رموز السَّاسة من الحكَّام والمهرولين إلى صُناع ما يسمَّى بالسلام المنقوص الذي لا سلام فيه إلَّا العارَ والشنار للموقف العربيّ المتخاذل الجبان. فمن أجل ذلك الفعل التراجعي السلبي وصفهم الشَّاعر بخنازير الخنوع السياسي الذي لا حياء لهم فيه مُطلقاً.

مَقصدياتُ العَتبةِ العُنوانيَّةِ

بهذه الروح الشاعرية الجريئة الهُمامة والواعية الثورية المِقِدَامة وجَّهَ جَنانُ السعديّ سِهام نقده الشعري ولِحاظ نصل قلمه الفكري (البَاشِط)للآخر السَّلبي بنار مصفوفته اللَّاذع (لا حياءَ للخنازير)، وبمنار حبِّه الآسر للحياة. هذه العنونة التي هي بالأساس عتبة ثانويَّة فرعيَّة لقصيدةٍ شعريةٍ ثائرةٍ متميِّزةٍ من نصوص هذه المجموعة الموضوعية المتنوِّعة. ومن باب تغليب إطلاق الجزء الصغير الرافد الفرعي على صورة الكُلِّي الجمعي أخذت المدوَّنة العنوانية اسمها الكتابي اللَّافت من صُلبها.

والتسميةُ الإعلانية للَّافتة الشعريَّة تشي كثيراً بأنَّ العنونة قد تكون بعضاً من عناصر الإدهاش الماتعة، حيث تُجسِّد خطَّ العَلاقة الخطيَّة السيميائية المتعالقة بين واقعة الحدث الموضوعية من جهةٍ والعنونة الرئيسة (هالة النصِّ) الشعرية الموازية للنصِّ (الخطاب)، والتي هي بوابة الشاعر الداخلية المؤدِّية إلى مدينة الشعر الفاضلة من جهة دلالية وفكرية أخرى متناصرة.هذا الاهتمام العنواني هو ماجرت عليه العادة في العتبات النصيَّة الأخرى التي أثَّثها الناقد والمؤلِّف الفرنسي جيرار جينيت.

ولنقراً بعضاً مما يُصرِّحُ به السَّعديِّ في صرخته الشعرية الاستنكارية (لا حياءَ للخنازيرِ) المدوِّية، والتي يستحضر فيها مناجاة الشاعر العربي السوري نزار قباني ويتناصُّ معه كُليِّاً في أحد أبيات قصيدته (المُهرولُون) التي هجا بها موقف الحكام العرب المتخاذلين في دعم عملية السلام المأزوم.

لا يَا نِزارُ

عُذرَاً

خَانَكَ التَّعبيرُ المَجازيُّ القَديمُ

 (سَقطتْ آخرُ جُدرانِ الحَياءِ)

وَهَل لِلخنازيرِ حَياءٌ؟

والعتبة التصديرية الأخرى اللَّافتة هي عتبة (الإهداءُ)التي تكرَّر فيها تمنِّيه لثلاث أُمَمٍ،أمَّةُ القراءة، وأُمَّةُ الاختيار ِالأصلحِ، وأُمَّةُ العيشِ الأفضلِ، والتي أراد بها الخروج من رِحم الذاتية إلى الجمعيَّةِ.

تَأثيثُ المُدوَّنَةِ الشِّعريَّةِ مِعماريَّاً

والقارئ المتتبع النابه الذي يقتفي بحسِّه الثقافي البصري المرئي الواعد الثاقب، ويتوخَّى برؤى عينه النقدية الثالثة آثار حِفريَّاتِ هذه المصفوفة الشعرية المتوحدنة (لا حياءَ للخنازير)، ويجوسُ-على حدٍ سواء- خلال ديارها الشِّعريَّة الرَّخوة والصُلبةِ، سيلحظ باهتمامٍ بالغٍ ذلك التفاوت الكمي المعهود والتحشيد النوعي الموضوعي اللافت المقصود لمعمارية هذه المجموعة التي احتوت أساسات خريطتها الهندسية الأرضية المتماسكة حَبْكاً لغوياً وسَبَكاً دلالياً لسانياً مُحكماً على أربعين نصَّاً شعرياً لبعضٍ من قصائد التفعيلة (الحُرَّة) المموسقة، وقصائد النثر الشعرية الرصينة المتحرِّرة فكرياً وأُسلوبياً بإيقاعها. تلك القصائد الموضوعية المتنوِّعة التي احتلت مِساحاتٍ شعريةً واسعةً من فضاء مثاباتها المكانية الثابتة والمتحرِّرة، والتي ألقت بفيء ظلالها الشعرية الغالبة على أقانيم جغرافيا الفضاء الشعري المتأصل كليَّاً.ويُعزى ذلك لتطابقها إجرائياً مع آليات قصيدة النثر العديدة.

والأكثر إلفاتاً من ناحية الشكل والأسلوب على إنتاجية نماذجها الشعرية المُخَلَّقة في ترافدها النصِّي، أنَّ نصوصها الشعرية المتآلفة تراوحت حركتها الإنتاجية -عمودياً وأفقياً-بين خطِّ القصائد الطويلة، والمَلحميَّة الطويلة جدَّاً، والمتوسِّطة الطول، والقصيرة جدَّاً. وترجعُ رمزية هذا التقسيم الطولي والعرضي اللا إرادي إلى خاصيتي التخاطريَّة (العفوية والتلقائية) معاً التي جُبلت عليها الذات الشاعرية الأنوية لمعجم جَنان السعدي الفكري والثقافي شاعراً وأديباً وكاتباً له بصمته الدالة.

فضلاً عن امتداد طول مقدار الدفقة الشِّعريّة وقصرها التي تُحدِّدها مِساحةُ اللَّحظة الشعورية المتشضية الهاربة من نبع عناصرها الداخلية خلال انبجاسها العيني منها إلى حيز عالمها الفضائي الخارجي الواسع؛ والتي بها تنتهي حركة تلاقي روافد المقاطع الشعرية المُتوحدِنَة بنائياً وعضويَّاً. وبها أيضاً تكتمل وحدة القصيدة وتتشكل فنيَّاً وتخليقياً وإنتاجياً بانتهاء إتمام عناصر الوحدة الموضوعية لواقعة الحدث الشعرية التي هي جوهر القصيدة الثيمي وأُسها الفكري الهادف للقارئ. ولنتأمل المقطع الأول من مفتتح قصيدته (البكاءُ)كيف يُوظُف أسَ الفكرة الموضوعية؟وكيف يُؤنسنُ الألفاظ المجاورة لها ويمنحها حريَّة الحركة الرُّوحيَّة؟ وكيف يظهر حقول الفكرة ووقائعها الحدثية؟

البُكاءُ فَنٌّ لَا يُفقهُهُ إلَّا المُتخمُونَ بِالوجعِ

حِينَمَا تَتَلَوَّى الدَمعةُ كَراقصةٍ عَلَى مَسرَحِ الخَدِّ

تَتَهادَى النُّفوسُ بِرفْقٍ مُعلِنَةً خًسارَاتٍ تَحتضنُ خَسارَاتٍ

خُذْ دُموعَ الخُذلَانِ وَالغَدرِ

وَقَرابِينَ الأوطَانِ

فِي بَلَدِي حَيثُ سبَايكَرُ

تَمظهُراتُ المُدوَّنةِ الشِّعريَّةِ

وحين ندقق النظر قصدياً، ونمعن التأمُل الفكري بجماليات التلقِّي المعرفي وآلياته الفنيَّة القرائية لِطَيَّاتِ هذه المدونة الشعرية، سنقفُ أُسلوبياً على بعض ما حوته ميادين أفكار حقولها الدلالية وتمظهراتها الفنيَّة والجماليَّة الضافية التي زخرت بها معمارية هذه المجموعة واحتفت إثرائياً بتنوِّع محتوياتها الموضوعيَّة والفكريَّة التي هي هَرَمُ الخِطاب الشعري وقاعدته الأساسية العريضة التي أُثثتْ بها قصائد هذه المصفوفة الشعرية تأثيثاً احترافياً مُنظماً خاضعاً لتجربة الشاعر الحياتية وفلسفته الذاتية وموقفه الآيدلوجي والفكري والعقائدي الذي انماز به مُعجمهُ الشِّعري عن سواه.

إنَّ آخر ما تشي به خريطة هذه المجموعة هو جماليات أغراضها الشعرية المتعدِّدة، وفنيَّة تقاناتها المتجدِّدة، وبراعة انزياحاتها اللُّغوية والمجازية المتعاضدة، وحسن اختيار تناصَّاتها الكُلية والتحوليَّة المترابطة، وأفكارها التجدُّدية المتفاعلة، وإشارات موحياتها الرمزية والسيمائية الهادفة.

وعلى الرغم من تسيِّد قصائد الرفض والاحتجاج والمناهضة لفلسفة ديستوبيا الواقع اللَّا إنساني المستهلك والمجرد خُلقياً من صفته البشرية،وتغلُّب قصائد أسطرة حِفريَّات أثر المقموع والمسكوت عنه في فضاء يوتوبيا المدينة الشعرية الفاضلة للشاعر جَنان السعدي والتي بلغت أكثر من خمسةٍ وعشرين قصيدةً. فلا نعدمُ في الحقيقة من انتشار قصائد الترويح النفسي، قصائد الغزل العفيف الروحي الصوفي الشفيف الممزوج برائحة الحسِّي الجمالي المُهذب بتوصيفه،العَذِبُ في لُغة تأليفه.

تلك القصائد المائزة بتكثيفها المعنوي والدلالي التي تكرَّرت تردُّداتها في هذه المدونة بنحو خمس عشرة قصيدةً بين طويلةٍ وقصيرةٍ ومتوَّسِّطةٍ.وهي نسبة كبيرةٌ وعددٌ كمي ونوعي لا يُستهان به إذا ما قُورِنَ بالعدد الكُلي للديوان البالغ أربعين قصيدة كما مرَّ بنا. وهذا يشي بأنَّ جَنان السَّعديَّ تراهُ تارةً شاعراً ساخطاً ثائراً لا تأخذه في الحقِّ لومة لائمٍ،وتَراهُ تارةً أو حيناً آخر شاعراً غزليَّاً عاشقا، مُحبَّاً للجَمال والمَرأة والحَياة. ونقتطف في التدليل على ذلك مقطعاً من قصيدته (سَيِّدةُ الضَوءِ)، لنشاهد هِزَّاته النفسيَّة واندهاشه واستغاثته الجمالية بنداء معشوقته الأسطورية التي جعلته يُردِّد كلَّ ياءات النداء مُتسائلاً مذهولاً،وقد تَوَحدَنَتْ تقاسيم حروف المعنى بتراتيل موسيقى الشعر الخارجية:

يَا هَدِيلَ الحُسِن

يَا صَلاةَ الوَسامَةِ

يَا فِتنَةَ الفِتنَةِ

كُلُّ يَاءاتِ النِّداءِ تَصرَخُ يَا فَريدةَ الصَفَحَاتِ

مِنْ أينَ لَكِ تُفاحةُ الخَّدِّ وَبَسمَةُ الثَّغرِ؟

مِنْ أَيِّ الأَعنَابِ عَناقيدُ الصَّدرِ

وَهَيَافَةُ القَدِّ؟

وليس كل هذا مظاهر شعره، فقد مال الشاعر السَّعديّ كثيراً إلى استخدام وتوظيف تقنية التَّكرَار الذي هو عنصر مهمٌ من عناصر كتابة قصيدة النثر وبالأخصِّ إذا كان تَكرَارَاً فنيَّاً مُتجدًداً كما نجده في خطاب الشعر.لذلك قام بتوظيف أنواعٍ من التَّكرَار (الاسمي والفعلي والحرفي والجُمَلي الكلي والجُمَلِي الجُزئي) في أكثر من خمس عشرة قصيدةً من قصائد هذا الديوان وكان تَكرَاراً مُهندسَاً بإيقاع أُسلوب واقعة الحدث التي تتطلَّب التعددية التكرارية لتعرية المقصود واثباته للقارئ. فلنقرأ ونسمع ترددات الفعل (سَرَقَ)ونكشف سِرَّ ترنُّماته وإيقاعه الحدثي الزمكاني الماضي والآتي:

مُولًايَ

سَرقُوا اللُّقمَةَ

سَرقُوا البَسمَةَ

سَرقُوا الآياتِ العُظمَى

سَرَقُوا بَسمَلَةَ القُرآنَ

سَرَقُوا الأحلَامَ الحُبلَى

سَرَقُوا أَحبابَكَ، أَيتَامَكَ وَالجُوعَى

سَرَقُوا اللهَ

سَرَقُوا القَرنَ الحَاديَ والعِشرِينَ

سَرَقُوا حتَّى الشَيطانَ

اِنهَضْ مَولايَ اَعدِلْ كَفَّةَ المِيزانْ

فمثل هذه السرقات القصديَّة التي تردَّدت تسعَ مرات في هذه الدفقة الشعورية لخاتمة قصيدة (انهضْ مُولاي)التي وصل بها حدِّ تجاوز السُّراق على وجه التَّفَنُّن في الكثرة والمبالغة لسرقة حتَّى الله و الشيطان الذي لا يمكن أن يُسرق.وكان الغرض من هذا التَّكرار التقني التردُّدي لتقوية المعنى الدلالي للفعل الحدثي وتأكيد فاعليته ونزع الشكِّ من نفس المتلقِّي والقاري لمتنِ الخطاب الشعري.

وإذا كانَ التَّكرَار اللَّفظي من الوسائل الفنيَّة المُهمَّة التي اعتمد عليها الشاعر في مدونته لفضح أُولئك اللّصوص السرَّاق العابثين بأمور الناس، فإنَّ (التناصَّ النصِّي) الذي هو إدخال نصٍّ جديدٍ بنصٍّ قديمٍ والتعالق معه بفكرةٍ تَحوليةٍ جديدةٍ، يُعدُّ من التقانات الفنيَّة الحداثوية التي اعتمد عليها السعديّ خمس مراتٍ في ثنايا مدونته الشعرية لأسبابٍ تاريخيَّةٍ وإنسانيَّةٍ تعضد جماليات شعره. فكانت توظيفاته للتناصِّ التاريخي الرمزي مرتين لإيثار حِكَمِي عن الإمام علي بن أبي طالب، ومرتين للتناصِّ الديني الكُلي والتَّحوِّلي، ومرّةً واحدةً للتناصِّ الشعري الأدبي لبيتٍ من نِزار قباني:

نَادِ الحَسنَينِ وَابنَ البَدويَّةِ

اِصرَخْ ثَانيةً

الإِنسانُ هُو الإِنسانُ

 (إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ أَو نَظيرٌ لَكَ فِي الخَلقِ)

في حين عكف السعديّ جَنان على استدعاء وتوظيف الرموز التاريخية والدينية والثقافية القديمة والحديثة المؤثِّرة في شعره ستٍ وعشرين رمزاً فاعلاً في شعره بدأ من البطل الغالب علي بن أبي طلب ومروراً بالحسين شهيد كربلاء وسفير طفِّه مُسلم بن عقيل وقائد جيش عَليٍّ الأشتر وبعضاً من رموز الصحابة والموالين لآل بيت النبوَّة كأبي ذَرٍ وسلمانَ وابنَ اليمانَ حتَّى الثائر جيفارا وابن جرداقَ جورج وغاندي محرِّر الهند وانتهاءً بأمِّ (اللُّول)بلوكر الرقصِّ رمزُ وسائلِ الاتِّصال الهابط.

سَلْ أبَا ذَرٍ وَابنَ اليَمانِ وَسلمانَ

سَلْ اِبنَ جِرداقَ

سَلِ الثَّائرَ جِيفَارَا عَنِ الوَصيّ

سَلْ مُحرِّرَ الهِندِ مِنَ نِيرِ الغُزاةِ

سَلْ المُوالينَ والأعدَاءَ

سَلْ مَنْ تَشاءُ

سَلْ الهَواءَ وَالمَاءَ وَالغَدِيرَ

هَل تَجودُ السَّماءُ بِعَليٍّ جَديدِ؟

إنَّ هذه التساؤلات الأمرية المتراتبة تساوقياً لهذه الرموز التاريخية المؤثِّرة التي تكرَّرت سبعاً بعدد أطباق السموات والأرض السبعة ماهي إلَّا تأكيد لرمزيِّة فذةٍ لا تتكرَّر أبداً مثل شخصيَّة أميرِ المؤمنينِ عليٍّ. ويرافق ذكر هذه الرموز تدوين وأرخنةٌ لكثيرٍ من الوقائع والأحداث التاريخية العربية والعالمية الدولية ذات الأثر الإنساني والديني والسياسي الكبير الذي أخذ مِساحةً من التأثير. فها هو الشاعر السعديّ يتناول هذه الوقائع عشر مَراتٍ بمدونته فذكرَ، (غديرَ خُمٍ وواقعةَ الطَّفِّ، وبدرٍاً وحُنينَاً وصفينَ وخيبرَ والجملَ والنهروانَ، وأحداثَ هيروشيما، وأحداثَ التحرير)المُعاصرة:

بُخٍ بُخ ِ يَا عَلِيُّ

أيُّ هَذَا الَّذي مَلَأَ الخَافقينِ

حَيدرُ لَيثٌ كَرارٌ، لَمْ يُدْبِرْ مِنْ مَعركةٍ

تَشهَدُ لَهُ بَدرٌ، خَيبرٌ وًحُنينُ

وَيَشهدُ لَهُ مَرحبُ وَابنُ وُدٍّ قَائِدا الجَيشينِ

عَليٌّ رَبيبُ أحمدَ تِلميذُ الرِسالةِ النَّجيبُ

إذا كانت الوقائع والأحداث التاريخية والسياسية والدينية قد أخذت أهميتها الشعرية ونصيبها الموضوعي في شعر السعديّ فإنَّ المدن والأمصار الحضارية والثقافية والتاريخية قد وجدت لها حظاً وافراً عند السعدي وقد أرخن ذكرها اثنتي عشرة مَرةً لمدن قديمةٍ وحديثةٍ، فأورد ذكر (سومر وبغداد والكوفة ونينوى وكربلاء وصنعاء ولبنان ورفح وغزة ولبنان واسطنبول وهيروشيما). فانظر للسعديِّ كيف يجسِّد بقصيدته (سفيرُ الطفِّ)لمسلم بن عقيل في سفارته ومقتله بمدينة الكوفة:

هَلْ سَمِعتُمُ عَنْ فَردٍ بِأُمَّةٍ ؟

إِنْ كَانَ لِلشَجاعةِ والإِقدَامِ سِمَةٌ وَتَجسيمٌ

هَيأتُهَا، سِمَتُهَا، كَيانُهَا

بِكُلِّ فِخرٍ كَوكبُ الكُوفةِ البَراقُ

اِبنُ عَقيلٍ [مُسلِمٌ] السَفيرُ الَزَاهدُ

أمَّا الحصة الكبرى والكثرة الكاثرة من وثائق نصوص السعديّ الشعرية التي حفل بها (فِهْرستُ) هذه المصفوفة الشعرية المتطاول عليها الزمن بسيف عَادياته المناهضة الكثيرةِ، وهِزاتهِ التاريخية الواثبة الخطيرة. فقد كُتِبَتْ التقاطاتُ هذه المدونة الصورية الإيماجية المؤثِّرة ورؤاها الفلسفية المخيالية المؤسطَرة في ميادين وحقول عديدة جمَّةٍ، واتّجاهاتٍ موضوعيةٍ قديرةٍ لا حصر لها شتَّى.

فكتب جَنان السعديَّ شعرياته بالدرجة الأولى وعلى وجه الخصوص لوجع الإنسان العراقي الحزين والهمِّ العربي خصوصاً، ولمسرح الحياة المائرة بأحداثها (سياسياً، وثقافياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وعقائدياً). وكتب لحقِّ الإنسان بالعيش الكريم وللحريَّة المفقودة وللجمال الروحي والحسِّي، وللتُراث الديني والتاريخ العربي العراقي القديم والحاضر المعاصر الحديث. وتحدَّث عن رموز الساسة من حكَّام الأُمَّة المتخاذلين الطُغاة والبُغاة. وَوَّثقَ بشكلٍ عينيٍّ خاصٍّ دقيقٍ لصور الواقع ومشاهد عقابيل الراهن السياسي المعيش وبالذات المَقموعُ والمَسكوتُ عنه قصدياً وإرادياً.

ولم يقف السعديّ جنان جانباً دون التصدِّي الحازم في الكتابة عن الواقع الثقافي والإعلامي ذي المستوى الاحتوائي القميء الهابط ومقارنته بواقع فنِّ الإبداع الثقافي الحقيقي المنتج الفريد الرائع:

لِمَ العَجبُ؟ قَدَّمَتْ مَا قَدَّمَتْ

 (أُمُّ اللُّولِ) خَيرُ مَنْ نَفَخَتْ

هَزَّتِ الأَردَافَ وَالقُلُوبَ أسَرَّتْ

بَينَ الثَّنَايَا جَوازَاً دُبلومَاسِيَّاً خَبَّأَتْ

أينَ الغَرابَةُ وَالعَطَب؟

هكذا يتساءل الشَّاعر في مطلع قصيدته (شهاداتٌ خاصةٌ)آسفاً غيرَ مُتعجبٍ، مُستنكراً بألمٍ وحرقةٍ واستخفافٍ مُرتَّلٍ موقَّع الأثر عما آلت إليه مشاهد وصور مرآة الواقع الثقافي والاجتماعي العراقي الجديد، والذي أضحى واجهة للراقصات والغواني المُبتذلات من أمثال النكرة (أُمِّ اللُّول) وتوابعها الرخيصة حتي وصل به الأمر في ختام القصيدة إلى ذمٍ تلك الأمَّة التي تتسيَّدها تلك المظاهر بتناصٍ قرآني وُصفتْ به امرأة أبي لهب في كُفرِها ومُجونها وخُروجها عن واقع الملَّة والعرف:

كَفَاكِ حَسَدْ

أُمَّةٌ تَعلُو (لَولَوَاتُها) المَشهَدَ السَّياسيَّ الرَّسمِيَّ

حَتْمَاً دُونَ شَكٍّ فِي (جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدْ)

ولم تأخذه لومة لائم في مصوراته الشعرية الباذخة، واستنكاراته الذاتية والجمعية اللَّاذعة في الكتابة عن أطفال غزة والعراق واليمن وما يحدث من تدنٍ قصديٍّ لسياسة الراهن العربي المعيش. فكان السعديّ خير الشاعر الراصد المُعين لقضايا أُمته وشعبه؛ كونه مرآة آلامه وضميره الناطق:

أَطفالُنَا فِي غَزَّةَ كُلُّ يَومٍ فِي الجِنَانِ

يَعتمرُونَ يَلعَبُونْ

وأَطفالُ اليَمنِ والعِراقِ

يَنشدونَ المَوتَ لِلطُغَاةْ

يَنشدُونَ لَا لِلظُلمِ لَا لِلغُزاةْ

حَليبُهُم ثَديُ الأُمهاتِ وَغِرينُ الفُراتْ

أُسلوبيَّةُ السَّعديِّ الشَّاعريَّة ومُعجميتُها

إنَّ أهم ما يُميِّز أسلوبية الشَّاعر جَنان السعدي وذاته الشاعرية في مُعجمه الشعري الفارق في مثابات مدونته الشعرية الشاخصة بعنوانها الماثل (لا حياءَ للخنازيرِ)، وفي مرافئ سفن محطَّاته الفكريَّة الرَّاسية بشراعها الحركي على ضفاف الإبداع والابتداع الفكري،هو جماليات لُغته الشعريَّة التي كُتبت مضانها التركيبة بلغة فنيَّةِ (السهلِ المُمتنعِ) الشفيف الماتع بقراءته التواصلية الذهنية.

تلك الخاصيَّة التعبيرية المتمايزة التي لا تعتمد كثيراً بالدرجة الأولى على فَنِّ بلاغة مُدخلات الصور الشعرية المخيالية أو الحسيَّة المؤثِّرة نفسياً بالقارئ بقدر ما تعتمد إبداعياً وفنيَّاً كثيراً على وقع مؤثِّرات عُمق الفكرة المحورية البؤريَّة الساطعة وقوَّة شحنتها التأثيريَّة المُناسبة للواقعة الحدثية، ومن ثمَّتَ مزيَّة الاهتمام بمخرجات ثيمها الموضوعية المتواترة إيقاعياً وأسلوبياً وتمكينيَّاً.

على وفق ذلك فإنَّ النسق الفكري الثقافي الثيمي للشاعر سواء الظاهر أمْ المضمر لواقعة الحدث الشعرية عنده هو، أولاً في المحلِّ، وأمَّا مخايل الصورة البلاغية الفنيَّة فهي ثانياً، أي في المحلِّ الثاني من مُحطات قواعد فنِّ هذه الشعرية التي تسير عند السعديِّ على خطى حقلٍ خطيرٍ مُعبَّأٍ مليَّاّ بموضوعات الألغام الفكرية المدويَّة، وعلى فعلِ سلكٍ رفيعٍ من صيحات المُتفجرات الشعوريَّة الناهضة التي تهتم أُسلوبياً بقضايا وهموم الإنسان الواقعية، وتبني وجع أحلامه وحجم آفاق تطلعاته الذاتية والمستقبلية الاستشرافية التي هي بالأساس هموم ذاتية جمعية كونية مشتركة في التصدِّي لرهانات الواقع الاجتماعي الشعبي المتهالك الآيل للسقوط والانحدار العطبي.هذا يشي بأن السَّعديَّ صاحب مشروع شعري فكري ثقافي لا يحيد عن طريق سكَّتِهِ التي أسس قواعدها الشعرية الثابتة.

هذه اللُّغة الشعريَّة الطواعيَّة الابتكاريَّة الموجعة التي شيَّد بناءها الهرمي المتنامي الشاعر جَنانُ السعديّ، تلك المعيارية المتلازمة لمظاهر الشاعريَّة الحسيَّة المُتقدة، وروافد المخيالية الانزياحية المُتفجِّرة انحرافياً في تخليق صورها ومعانيها ودلالاتها اللِّسانية النصوصية لم تأتِ ثمارُ أُكُلِهَا الإنتاجية صدفةً عابرةً لخطى الشعرية في رياحها الهُبوبية اللَّاهبة لفكر وسمع القارئ عرضياً.

في واقع الأمر هي نتيجةٌ حتميةٌ عن حصيلة تزاحم ثراء تجربته الشعرية الفذَّة وتراكم خزينه الحياتي والثقافي المعرفي المُكتسب، ونتيجةً لاستعداده الفطري التأثُّري لرؤى الشعرية التي تغلبت عناصرها على زمام شخصيته وَحَزَبَتْ أناهُ الشاعريةَ المتفاعلةَ. فكانت الموهبة الشعرية بملكتها الذاتية والجمعية الموحدنة حاضرةً في كل الوقائع والأحداث والمحافل والمناسبات الأرضية التي تتطلبها المواقف الوطنية الحقة في تعضيد بنيان الجامعة الإنسانية وإسناد جدرانها بالإبداع الفنِّي.

إنَّ معيار حقيقة النقدية الشعريَّة لنصوص قصائد النثر والتفعيلة في مجموعة (لا حياءَ للخنازيرِ) يشي بإنصافٍ وعدلٍ وتجريد ونكران ذاتي لغير صفة الحيادية بأنَّ قوةَ شعر الشاعرية لجَنان السعدي لا تكمن في تنامي أثر معجميته الشعرية النسقية الظاهرة فحسب؛ بل تكمن-حقاً- في وثوقية صدقه الذاتي مع نفسه أولاً، ومع علاقته و صدقه بمحيطه الشعبي الخارجي الجمعي ثانياً.

وتكمن أيضاً في تعزيز قوَّة انتمائه الأرضي المبدئي الثابت،فصارَ جَنان السعديُّ وفق عُرَى هذه العَلاقة من المصداقية مجساً ضوئيَّاً شعريَّاً لاقطاً لصور الحقيقة، وهاجساً فكرياً قلقاً يستشعر بحبٍّ وألمٍ عبر إرساليات أثير مجسِّه الشعري وقلمه التواثبي هُمومَ الناسِ ومعاناتهم لأولئك المجهولين والمهمشين والمغيبين من أبناء الشعب. ويتحسَّسُ آهاتهم ووجع جراحاتهم وأنين آلامهم اليومية المتصاعدة، ويستنطق بفم مرآته الشعرية صراخاتهم الإنسانية المثيرة، وصيحاتهم الآدمية الأثيرة التي سرقتها منهم حشود عملاء الدولة الخفيَّة العميقة فغيَّبتها لمصالحها الذاتية والشخصية الخاصَّة.

فما كان من صدقه الواعد إلَّا أنْ يكون تُرجماناً حقيقياً بيانياً فصيحاً مُعبِّراً عن جَام غضبه الثائر وتذمُّره وسخطه النفسي العارم الفائر على أولئك البُغاة الأشرار الفاسدين من الذين عاثوا في أرض الطُهر فساداً وخراباً، وأحالوا كلَّ ألوان الجمال الطبيعي الحقيقي في الحياة إلى بُورٍ يبابٍ. وعلى إثر ذلك الإيثار النفسي الكبير أضحى جَنانُ السعديُّ، الشاعرُ والإنسانُ والمكافح رَجُلاً بِأُمَّةٍ، وَأمَّةً بحاجةٍ لكلِّ أولئك الرجال الحقيقيين المدافعين عن نصرةِ الحقِّ المُبين من أمثاله الواعدين بالصدقِ.

***

تَقديمٌ:

د. جبَّار ماجد البهادليّ / ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

يوليو/ تموز 2024م

 

دِراسةٌ نَقديَّةٌ لِمدوَّنةِ زَيدِ الشَّهيدِ الشِّعريَّةِ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي)

توطئةٌ: من مفاتيح هذه الدراسة النقدية المتقاطعة، أُفقياً(الأرضية)، وعموديَّاً(السطحيَّة) لهذه المدونة الشعرية مفتاحان هما:(الشعريَّةُ والمكانيَّةُ)، ولا وسيط ثالث بين حديهما إلَّا(الشاعريَّةُ). فأمَّا الشعريَّةُ فهي خبرة الشاعر الفذَّة التراكمية ومعرفته الابستمولوجية، وثقافته الذاتية التجدَّديَّة بقواعد وأصول دراسة الفنِّ الشِعري، والتي هي أداة الشاعر الوجودية وهُويةُ مروره المُعجميَّة في فنِّ الشعريَّة. وأمَّا المفتاح الثَّاني، فهو المكانيَّة التي تُظهرها قدرة الشاعرة الاستعداديَّة وموهبته الفُطريَّة (المَلَكَةُ) في توظيف أقانيم جغرافيا الفضاء المكاني وتوزيعها فنيَّاًعلى جسد القصيدة الشعريَّة توزيعاً مؤثِّراً.

لم يعدْ مفهوم الفضاء المكاني الشعري في أوجز تعريف له، ذلك الحيز الحسِّي المرئي أو التكوين الجغرافي المثابي، أو هو مِساحةٌ من الفضاء الأرضي الواسع الذي يحيا عليه الإنسان ويعتاش ويُعَمِّرُ ويفنى ويموتُ ويرتحلُ منه راغباً كان أمْ راهباً مضطراً، بل هو المكان الشعري الذي تنبثق منه مناطق الشعر وتتفجَّر منه عيوناً من الإبداع وتُشكِّل ما يُسمَّى فنيَّاً بـ(الفضاء الشعري) الحقيقي الذي يُسهم إسهاماً تخليقياً وإبداعيَّاً وبنيويَّاً في تجسيد لُغة الشاعر المُثلى، وتشكيل إيقاعه الأُسلوبي الفنِّي التعبيري. ويُسهم أيضاً حتَّى في إبراز صلة الشاعر الوثيقة بانتمائه البيئي المحيطي الخارجي الأرضي، أكان ذلك(المَدِيني أو الريفي أو الصحراوي) الذي يُحدِّد طابع وهُوية معجمه الشعري الخاص بشعريته.

فكلُّ هذه الأمكنة المثابية المتعدِّدة تؤدِّي دوراً مُهمَّاً وفعَّالاً في تشكيل ثقافة الشاعر وتعميق هاجس لغته الشعرية، وتجديد سماتها الكونية بالطبيعة (المتحركة أو الثابتة). فالمكان أيَّاً كان نوعه الوصفي هو صوت الشاعر المهمازي النابض بالحركة، وهو جزء عاكس لراهن هُويته وملامحه الثقافية والحضارية التي بها يُميَّز وتميَّزُ شاعريته عن مُجايليه من الشعراء أمثاله الآخرين.

ومن خلال هذه المثابات المكانية الشَّاخصة يتشكَّل الشعر الذي هو بطبيعة الحال جنسٌ غنائي أو بتعبير أدق هو شكل من أشكال الغناء الأرضي أو الشدو الغنائي الذاتي الرومانسي؛ كونه يمثِّل صوتاً صورياً مُتحرِّكاً، وإيقاعاً(تُونيَّاً)شعرياً عذباً مموسقاً بوحدات نغمية مقطعية تراتبية الضربات.

وبما أنَّ الشاعر يخرج بلغته الشعرية المتمايزة من رَحِمِ هذه المكانية الضاربة أطناباً وتجذُّراً في العمق التاريخي؛ فإنَّ هاجس الشعرية الجمعية أوسع وأجلَّ عمقاً من هاجس اللُّغة البيانية. وذلك كون اللُّغة وسيلة أو واسطة بيانية توظيفية لتلك المثابات الأرضية المكانية الواقعية المتباينة، في حين أنَّ الشعر مِخيال شعوري وانزياح لُغوي وانحراف أسلوبي أسلوبي بلاغي فنِّي شفيف يهبط على الشاعر نسمة كما يهبط الندى من الزرع أو الأشجار على أديم الأرض المخضرة فَتُحيِيها.

فالمكان، هو صومعة الشاعر الأيقونية ومثابة محرابه القدسي الذي ينطلق منه مُحلِّقاً برؤاه في بثِّ رسالته الشعرية الكونية عبر أثير مجسَّاته اللغوية الموقعة صورةً صورةً ودفقةً دفقةً. وبهذه المخايل الشعرية والصور الشعورية يصنع الشاعر من المكان مكاناً حقيقياً خالداً، أو لا مكاناً بديلاً افتراضياً مُتخيَّلاً في ذهن الشاعر وَمُتَصَوِّراً في عقله الفكري الذي فرضته عليه ضرورات الحياة.

فلا عجب أنْ يكون المكان وطنَ الشاعر المتأصِّل به ومنبت عشقه الأرضي الآسر، ومسقط رأسه الآسر، ولا عَجبَ أنْ يكون المكان بيت الشاعر الأوَّل ومكمن حبِّ عشقه الأزلي الذي شتتَ شمله في هواه مُبدَّداً. فمنه تنبعث رائحة الشعر وشآبيبه الماطر، الهاطلة غيومه زخَّاً وتسكاباً على أرض القارئ المُمْحِلة الظمأى ، فتخضرُّ عُشباً وإمتاعاً ومؤانسةً وابتداعاً لا مثيل له في قواعد الشعرية.

فهذا بدر شاكر السيَّاب الذي خلَّد بشعره آثارَ المكانيةِ لُغةً وصَوتاً وإيقاعاً ورَمزاً ومنزلةً. السيَّاب الذي صيَّرَ(بُويبَ)تلك الساقية أو(الشَّاخة)، أو المجرى الصغير إلى نهرٍ عظيم وخالدٍ. وجعل من (شبّاَكَ وفيقة)، تلك (الرازونَةُ) الكوة، أو المشكاة الصغيرة أيقونةً سيمائيةً شعريَّةً وتُحفةً جماليَّةً صارت أشبه بِقِبلةٍ للعُشَّاق والمُحبِّين، وليس هذا فقط، بل جعل من شناشيل ابنة الجلبي مثابات تراتيل شعرية يتغنَّى بها في الموروثات الشعبية كأناشيدَ وتَبتُّلاتٍ غنائيةٍ للأطفال موقَّعة مُوزونةٍ.

السيَّاب الذي خلَّد(جَيكُور) القرية الصغيرة الغافية على أرض الجنوب الشرقيِّ، وجعل منها مدينةً رمزيةً يعشقها القرَّاء ويتلهَّفُ بسماعها المُتلقُّون، ويُمَنُّون أنفسَهم ويُمتِّعونَ أعينهم برؤيتها وزيارة أثرها المكاني الذي مجَّده السيَّاب. في الوقت الذي تُوفِي فيه السيَّاب بعيداً عنها في منفاه الكويت(غريب على الخليج)، حيثُ جعل من المكان الأول اللَّامكان البديل الذي حَملَ رُفاته وموته.

وهذا هو مُحمَّد الجواهري الكبير الذي خَّلدَ(دجلةَ الخيرِ) في أسفاره الشعرية لحناً صوتياً وكتابةً، وأحالها إلى علامةٍ سيمائيةٍ متفرِّدة تتغنَّى بمجدها الأجيال في الوقت الذي توفي الجواهري بسورية في غُربته المهجرية بعيداً عن أرض وطنه العراق ومدينته الأولى النجف الأشرف. ونظيره الشَّاعر عبد الرزاق عبد الواحد الذي مات حسيراً كسيراً ظميَّاً على بلده العراق في مأواه الفرنسي البعيد.

ومثله أيضاً رفيقا الجواهري الشاعر البيَّاتي، والشيخ الدكتور مصطفى جمال الدين الذي خَلَّد مدينة بغداد وتخلَّدت به بقصيدة تتلوها الأجيال نشيداً للحبِّ وسِفراً وطنياً للجمال في الوقت الذي وافته المنيَّة بعيداً عنها ودُفِنَ مع الجواهري في مقبرة الغرباء في الشَّام. وهذا هو نِزار القباني شاعر الحبِّ والغزل الحسِّي والنساء والسياسة الرفض والاحتجاج الذي أكثر من ترديد عواصم العرب الكبرى دمشق وبيروت وبغداد وصنعاء اليمن، وتُوفيَ في وطن اللَّامكان الأصلي. فمات مُتغرِّبَاً في منفاه الأخير بلندن عاصمة الضباب بعيداً عن مسقط رأسه الحقيقي الأول في سوريا.

ولا نعدم من هذه المكانية واللَّامكانية البديلة أثر محمود درويش وأمل دُنقل وغيرهم من شعراء المقاومة العرب وفلسطين الثائرين، وشعراء الحداثة الشعرية الماجدين خلوداً بمكانتهم لهذه الأمكنة.

والحقية أنَّ مثل هذه النماذج الشعرية المكانية تشي بأنَّ الشاعر قد لا يكون له مكان ثابت إلَّا في غربته ومنفاه وهجرانه، مع أنَّ مكانه الأول الأصلي في بلده منبت أرضه ومسقط رأسه ومربع صباه وطنه ومنزله الأول الذي أَلِفَهُ وعاش فيه بمدينته ومنه هاجر وتشتت وتغرَّب وضاع تِيهَاً.

ولا مكان يُذكَرُ لشعراء الصعلكة المحدثَين من العراقيين أمثال، (حسين مضردان، وعبد الأمير الحصيري. ، وجان دمو، وسركون بولص) غيرَ وطنِ الشَّتات والمنافي اللَّامكانية البعيدة والتشرُّد والتِيه والضياع، والحدائق العامَّة التي يُسميها حسين مردان بـ(الفنادق الهوائية)، كونها مثابةً للحريَّة.

والحقُّ أنَّ مثل هذه النماذج المكانية المتعدِّدة تُحيلنا إلى القول بأنَّ خصوصية المكان عند بعض الشعراء، ومنهم شاعرنا صاحب هذه المجموعة الشعرية ذو القصائد النثرية ممن تميَّزت أُسلوبيتهم الشعرية الذاتية بالحسيَّة العالية لوجودية الفضاء المكاني تُعادل أو تساوي من وجهة نظرهم رمزيَّةَ (اللَّامكان)الحقيقية أو الخيالية. ذلك لأنَّ الشعر يُعدُّ مثابة الشاعر الأيقونية الشاخصة ومثواه الأخير.

هندسة معماريةِ المدوَّنةِ الشعريَّةِ

لعلَّ هذا التنويه التصديري المكثَّف في تنظيره الرؤيوي من هذه الدراسة التحليلية لفضاءات الشعر المكانية، والمقترن إجرائيَّاً بفعل الممارسة القرائية المعرفية لمدونة(دولةٌ داخل قلبي) للشاعر والقاصِّ والروائيّ والمُترجم العراقيّ السَّماويّ المُثابر زَيدِ الشهيدِ، والصادرة بطبعتها الأولى عن دار الأمل الجديدة بدمشق-سوريَّة عام 2022م، وبفضاء كمي ونوعي بلغت مساحته الكليَّة(108) صفحة من القطع المتوسِّط.

أقولُ موضِّحاً تُحيلنا هذه التوطئة التقديمية لهذه المصفوفة الشعرية إلى الإجابة عن قواعد فنِّ الشعرية المكانية عند زيد الشهيد شاعراً، وإلى أثر تحولاتها الفنيِّة والجماليَّة، وتداعياتها الروحية والفكرية عبر سلسلة من النصوص الشعرية النثرية التي بلغت نحو (33) نصَّاً أو قصيدةً شعريَّةً.

وَأُعُدَّتْ بفكرة توليفٍ جديدةٍ قسَّمَ فيها الشاعر المجموعة على قسمين متتابعين، القسم الأول من الكتاب الذي وضع له عنواناً لافتاً (حُصنٌ هوَ القَلقُ.. الهُيامُ غَرَقٌ)، والذي احتوى على خمس عشرة قصيدةً من قصائد النثر الشعرية. أمَّا القسم الثاني الذي وضعه تحت عنوان (بالأسئلةِ لُغتِي تُؤسِّسُ مِملكتها)، قد ضمَّ هذا القسم ثماني عشرةَ قصيدةً نثريَّةً أيضاً. وكأني بالشاعر الشهيد يُلمِّحُ لقارئه الذكي ومتلقيه الذوَّاق بأنَّ القسم الأول هو لـ(لشعر.. هذه اللُّغة العاتيةُ)، وأنَّ القسم الثاني هو لشعرية (اللُّغة.. هذا الجبروت الطَّيعُ). وأنَّ الجمع بين المفهومين يعطيك فنَّ الشعرية الإبداعية.

لم يكتفِ الشاعر زيد الشهيد بهذه المُقدِّمة التي خصَّ بها كتابه من عتباته العنوانية، والتي يُصرِّحُ فيها مؤكِّداً أنَّ "الشعر:هُوَ خِفةُ القَلبِ فِي تَرنيمتِهِ، والبُستانُ فِي هُدوئهِ.. تَارةً يَجيءُ طَيفاً غَافيَاً عَلَى سَريرِ نَسمةٍ تَتَهادَى، وَتَارةً يَحضرُ عُصفُوراً نَزِقَاً مَشحُونَاً بَالتهجُّسِ أنْ يَقف َعَلَى غُصنِ الرُّوحِ.. مِنهُ أستقِي نِظامَ البَوحِ، فَأجيدَه؛ وَلَهُ أُقدِّمُ اِعترافاتِي فَأستقبلُ رِضاهُ". (دولةٌ داخلُ قَلبي، ص 9).

وإنَّما في راح الشاعر الشهيد في الوقت ذاته يؤكِّد موقفه الباذخ من مفردات هذه اللُّغة الجامحة فيقول:" اللُّغةُ لَمْ يَكُنْ لَهَا فَضلٌ عَليَّ سِوَى أنَّهَا الوَسيلةُ الَّتي أعانتنِي عَلَى رَسمِ خَبَبِ الحُصانِ الجَامحِ فِي صَدرِي وَهيجَاناً بِمَا يَكفِي لِاعتلاءِ مُوجةِ الهُيامِ؛ وَسِوَى كَتابةِ النُّفورِ الَّذي اِتسمتْ بِهِ غَزالةُ الرُّوحِ، وَجعلتنِي أَهيمُ بِالجماَلِ فَأتأبَّطُ قَصائدِي وَخُطايَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءُ. (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 9).

عَتَبَاتُ المُدوَّنةِ الشِّعريَّةِ

من اللَّافت للنظر جِدَّاً في لافتة مدوَّنة زيد الشهيد(دولةُ داخلُ قلبِي) العناية الشديدة والدِّقَّة باختيار عتبتها العنوانية المكانية المثيرة في دهشتها للقارئ وفي كسر توقع جدار أفق المألوف العنواني الرتائبي الذي اعتاد عليه نظر القارئ شعراً ونثراً. فالعنوان هو(ثُريا النصِّ)الفناريَّة اللّافتة، وهالته الضوئية الشعرية المُشعة الموازية للخطاب النصِّي المُرسل، إيذاناً بخطى الدخول إلى مدينة الشعر الإبداعية القائمة. ومن ثمَّ التعرُّف على عقابيل رهاناته الواقعية الحادثة من خلال ما يُعرَفُ بفلسفة اليوتوبيا لأمكنته المخيالية المثالية والطوباويَّة القصيَّة في أدب الخَيْرِ بمدينته الشعرية الفاضلة.

والشروع بالكشف أيضاً عن تقفي آثار حفريَّات تناقضاته المكانية الساخنة في ديستوبيا الشَّرِّ المضاد والرفض والفوضى والظلم والاستبداد وممارسة قمع الحريَّات الثائرة في هذا العالم المَديني المُجرَّد من وقع إنسانيته إلى مسوخٍ معطوبةٍ مُتناحرةٍ لا ترى إلَّا في ممارسة فعل الشرِّ مَلاذاً آمناً.

وربَّما الأكثر إدهاشاً في لافتة العتبة العنوانية الرئيسة(دَولةٌ داخلُ قَلبِي)، تلك العلامة الأيقونية السيمائية الذاتية السادرة التي تشي موحياتها المضمرة والخفيَّة بالرمزية المكانية لمثابات هذه الدولة العميقة الرابضة في شغاف القلب وجنباته الخافقية الجناحية المُحلِّقة بريش القوادم وما تحت الخوافي الظاهرة منها والخفيَّة. إنها بكلِّ تأكيد تُمثِّل دولة الوجود المكاني للشعر ودولة اللَّا مكان غير الوجودي المؤسَّطر الذي يسعى الشاعر بكلِّ جدَّيَّة في كلٍّ من هذا وذاك الوصول إليه في تراتيل مساحاته الشعرية المتعدِّدة وترانيم لوحاته الروحية المتناغمة في مثل هذه الرمزية العالية.

وحينما يكون العنوان توصيفاً فنيَّاً مُحايثاً لواقعة الحدث الشعرية، وانزياحاً أسلوبياً لُغوياً مُنحرفاً، يكون الشعر مِرآةً ارتداديةً عاكسةً لتجلِّيات ذلك الواقع الآني المتغيِّر، ويكون شاخصاً فنارياً مضيئاً لمرافئ الشعر ومحطَّات سفته الشراعيَّة الراسية. فالقلب بحدِّ ذاته هو دولة الشعر ومركز الشعوريَّة المتحركة والثابتة. فكيف به إذا كان دولةً تربضُ في أعماق داخل دولة أخرى؟

إذا كانت لافتة الخطاب الشعري النصِّي الرئيس هي إحدى العتبات النصيَّة المُهمَّة التي أكَّدها الناقد والمفكر جيرار جينيت في معرض كتابه(العتبات النصية) الَّتي تصدَّرت لوحة غلاف الكتاب الخارجي الأولى المُعتمة الضوء في توحُّدها مع صورة الشاعر الخلفيَّة المُضَمَّخة بشدو تناثر الكلمات، وسحر الشاعرية الصورية لهذا الفتى الواثب قفزاً لإدراك تمنيات المعالي النفسية من غير الممكن والمُستحيل، فإنَّ هذه اللَّافتة العلامة الأيقونية صارت مفتاحاً إجرائياً مُوجِّهاً لعتبة التصدير الشعري الأخرى التي استهلها الرائي الشِّعري زيد الشهيد باستدعاء تناصينِ تصديرين مُتعاقبينِ.

فقد كان التناصَّ الأوَّل للشاعر والكاتب والأديب الناقد البرتغالي(أنطونيو فرناندو بيسوا) الذي يقدِّمُ فيه شَذرةً نثريةً لرؤيته الذاتية عن الحُريَّة والفنِّ وهويَّة الإنسان حينما قال مُطالباً بلغةٍ آمريَّةٍ شفيفةِ الأثرِ النفسي والمعنوي : "مُرْ أيُّها الطَّائرُ، مُرْ.. وَعَلمنِي كَيفَ أمرُّ" ؟! (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 7). أمَّا النصُّ التصديري الثَّاني فهو للشاعر والروائيّ والمُحرِّرِ الفرنسي(لويس أراكون) الذي يدعو فيه إلى تأكيد ثقافة لُغة الإنصات والاِستماع لنداء القلب الذي هو موضع الحبِّ والإيمان والشعور والتقوى ومصدر النقاء الباهي إذ يقول داعياً: "اَصمِتُوا كَي أستَمِعَ إِلى قَلبِي". (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص7).

والمعادل الموضوعي في العلاقة الخطيَّة لهذين التصديرينِ، النثري الأول والشعري الثاني الذي أراد الشاعر منهما الالتفات إلى لُغة الحُريَّة بدلالة(الطائر)، وتعلُّم ثقافة الصمت الشعري بدلالة (فنِّ الإصغاء) والاستماع إلى نداء القلب الكبير مُوئِل الدفقة الشعورية الهاربة لحظة انبجاسها. واللذين يشيران إلى ثقافة الشاعر الفلسفية وهُويته الشِّعريَّة المُتفرِّدة في مَضان هذه المصفوفة الشعرية. وإنَّ استخدام الكاتب أو الشاعر للتناصِّ في نصِّه المُبتدع يُضفي على المدونة مورداً ثرَّاً في التماهي الصوري والفكري لفضاء جماليات المثابات المكانية الشعرية والنثرية المتآلفة.

وقد أعقب الشاعر زيد الشهيد عتبة التصدير هذه بعتبةٍ فرعيةٍ أخرى، تلك هي عتبة (التقديم) الذاتي الذي لم يكن مألوفاً لنظر القارئ في النمط المتبع بطباعة المجاميع الشعرية وسياقاتها التي اعتادَ عليها نظر المتلقِّي النوعي والعادي. وقد قصر هذه المُقدِّمة على صفتين مُهمتين هما:(الشعر واللُّغة). وعنده "الشِّعرُ هذهِ اللُّغةُ العَاتيةُ". (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 9)، ووسيلته هذه " اللُّغةُ.. هذا الجَبروتُ الطَّيِّعُ". (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 9). في إشارةٍ خفيَّةً وذكيَّةٍ إلى فنِّ الشعريَّة التعبيرية، ومعجمية اللُّغة الشعريَّة أداة التوصيل الروحي والحسِّي بينه وبين المتلقِّي لشطآن هذه الشعرية وضفافها.

والعتبة النصية الثالثة التي جعلها الشاعر تصديراً ثانياً لكتابه هي عتبة الشعر في إشارةٍ إيحائية مُضمرة إلى الذات الشاعرية الصُلبة المُتعَبَة التي تَعاركتْ مع نوازع تَطاول الزمن واستمراء دهاليز الأسئلة المُحيِّرة لهذا الفتى الشُّجاع الذي نحتَ في إزميله الشعري من صَلابة الحجر أمانيَ شخصيةً، ومن المستحيل إدراكاً فكريَّاً لتحقيق ذاته وتكوين أناه الشاعريَّة، فَيُخبِرُ بتصديره الثاني:

مَشدودٌ إِلَى الزَمنِ

عَاكفٌ فِي دَواليبِ الأَسئلةِ

حَجَرٌ هَذا الَفتَى الَّذي صَنَعَ الأُمنياتِ

قَفزَاً لإِدراكِ المُستحيلِ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 11)

وحرص الشاعر زيد الشهيد على أنْ يضع لكل قسم من أقسام الكتاب الاثنين عتبةً فرعيةً متمايزةً عن الأخرى بجوهر محتواها ينطلق منها في إنتاجه إلى شطآن الشعرية الخِصبَة.

ومن يتتَّبع العنوانات الفرعية لمدونة(دَولةٌ داخلُ قَلبِي) بقسميه الأول والثاني سينبهر بذلك الكم النوعي والعددي من العتبات الفرعية الداخلية لمتن الخطاب التي تَغلَّبت بنائياً وتركيبياً فيها العنوانات الفنيِّة المُنزاحة على نظائرها الأخرى القليلة من العتبات ذات التوظيف الحسي التقريري المباشر الذي لا يتطلب جهداً وتفسيراً وتحليلاً وفكاً لشفراته اللغوية في التنميطية الإطارية والقياسية المُعجمية المألوفة للقارئ والدارس والناقد في أدبيات القراءة والتلقِّي المعرفي الإبداعي.

ويُعزى كلُّ ذلك إلى بلاغة الانزياح اللغوي الأسلوبي لِمُعجمية الشاعر وثقافته الشعرية المكتسبة ومقدرته الفنيَّة الواثبة على صياغة عنوانات صورية فنيَّةٍ مُتحركةٍ في أنسنتها الروحية وإيقاعها الصوتي الأسلوبي التعبيري عن جماليات واقعة الحدث الشعرية، وتحوِّلات وتيرتها الحركية المتسارعة في تخليق وإنتاج لوحاتٍ شعرية متناميةٍ تجمع في مضانها التكويني بين ثنائية التجريب الشعري الوصفي والتجريد الفنِّي في رسم اللَّوحة الشعرية بهيأتها الكَماليَّة لنظر القارئ.

وعلى وفق ذلك فإنَّ العنونة قد تضيف بُعداً دلالياً وجمالياً جديداً على شعرية النصِّ، وقد تكون في كثير من الأحيان خلاصةً رمزيةً مُكثَّفةً لمسار الشعرية المكانية. وذلك لأنَّ العنونة قد تكون عنصراً مهمَّاً من عناصر روافد الإدهاش والتجلِّي النصيَّة المُتعدِّدة. حيثُ تُكرِّس العَلاقَة الخطيَّة المباشرة والتعالق السيمائي بين واقعة الحدث الموضوعية من جهة، ولافتة العنونة الموازية للنصِّ الشعري من جهة أخرى. فهي علامة أيقونية فارقة دالة على محتوى المجموعة وصورتها الكليَّة.

تَطبيقاتٌ إِجرائيَّةٌ لِفضاءِ المَكانِ التَّشعِيري

ومن أهمِّ النصوص الشعرية المكانية الجيَّدة التي تلفت الانتباه الفكري والموضوعي المُستجد بسمتها العنوانية المُدهشة، النصُّ الشعري القائم بذاته(دَولةٌ داخلُ قلبي)، والذي اتَّخذه الشاعر عتبةً عنوانيةً رئيسةً لمصفوفة هذا الكتاب الشعريَّة. ومن باب تغليب الأفضل تمَّ إطلاق اسم القصيدة الجزء على الكل العنواني؛ إيثاراً للعَلاقة الحَميمَة ما بين العنونةِ وواقعة النصيَّة الشعريَّة الداخلية.

وهي القصيدة التتي استهل مُفتَتَحهَا الشاعر بمجموعة من ضمائر الذات الفردية والجمعية المشتركة، وهي ضمائر( الخطاب والتكلُّم والغياب) بشتى أنواعها الذكورية أم الأنثوية، والفردية أم الجمعية. فضلاً عن الإشارة المباشرة لهذه الضمائر بأدواتها القريبة والبعيدة التي تعاضدت جميعاً وتشاركت في تأثيث وبناء أُس دولة القلب العظمى العميقة مثابةً مكانيةً راسخة لهُويَّةِ الحبِّ والفخر والزهو والخُيلاء في هذا المجد الشعري الخالد. فلنتأمل جماليات هذه الدولة المثالية:

أَنتَ، وَهوَ... أَنَا، وَنَحنُ، وَأَنتُمُ

أنتُمَا، وَأَنتُنَّ

كُلُّ هَؤلاءِ، وَأُولئِكَ

بَنُوا دَولَةً دَاخلَ قَلبِي (دَولةٌ دَاخلُ قلبِي، ص 25)

إذن كل هذه الضمائر الشمولية الداخلية المؤنسنة مشتركة ببناء دولة القلب، وهي تأكيد ذاتي على الخروج من ربقة الذاتية الضيقة والانفتاح على عميم الذات الجمعية الكُليَّة المشتركة؛ لتشمل كل الصفحات المكانية في داخل القلب النابض بالحبِّ وخارجه كدولةٍ حصينة لا يمكن أنْ تتزحزح:

لِكُلِّ الصَّفحاتِ الَتي زَرَعَتْ كَلمَاتٍ

وَحَفَرَتْ صُوَراً.. وَأَنتَجَتْ كِتَابَاً

دَوَلَةٌ حَصينَةٌ هُنَا (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 25)

هذا الشعور الطافح بالانفتاح الشمولي في الخروج من ذاتية الأنا الشعرية الضيَّقة والارتماء بأحضان ذاتية الجمع الكوني الشعبي الآخر، دفع بالشاعر زيد الشهيد إلى تأكيد حصانة تلك الدولة القصية المثالية والقريبة الفاضلة التي شيَّد صرح معمارها الفنِّي الهندسي في ثنايا قلبه النابض من خلال تقنية التَّكرار اللَّفظي الجزئي لكلمة(الدولة) التي تكرَّرت تَكراراً عمودياً في الجُمل الشعرية الأربع الأخيرة بهذه القصيدة؛ وذلك لتأكيد جلالة المعنى النصِّي، ونزع نية الشكِّ لحقيقة البناء في نفس السامع والقارئ. فجاءت ترانيم المقطع الرابع منها لتأكيد المكانية الظرفية لهذه الدولة الماجدة:

دَولَةٌ عَظيمَةٌ هُنَا..

تَمشِي لِمُدنٍ عَارِيَةٍ بِلَيْلٍ بَلِيْلٍ

تَستَحِمُ بِنَسماتِ الِّسِّحرِ

وَتُغنِّي مَا تَشَاءُ مِنَ العِشقِ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 26)

وينتقل الشاعر في المقطع الخامس في تكراره اللَّفظي من دولة(العَظَمَةِ)الماكثة في جذورها العميقة إلى دولة(الجَمَالِ) الشِّعري الشاخصة في بنائها الماثل لجميع أبناء الشعر والجمال. فيقول في تأكيد ظرفيتها المكانية المعمارية بهذا التراتب المعماري الفنِّي من الكلمات الذي يسعى إليه:

دَولَةٌ جَمِيلةٌ هُنَا

صَمَّمَها مَعمَاريونَ مِنْ جَبَلِ الكَلمَاتِ،

مِنْ بُحُورِ الأَلوَانِ..

مِنْ طُوفانِ الفِكرِ الخَارِجِ لِتَبييضِ العُتمَةِ

مِنْ أَخبَارٍ لَمْ تِتِكِيَّن بِغَيرِ مُغامِرِينَ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص26)

وأخذ الشاعر يُكرِّر أيضاً الحرف(مِنْ) التبعيضية أربع مرَّاتٍ متواليةٍ في هندسة بناء الدولة، فقال: (مِنْ جِبلِ الكَلماتِ)، و(مِنْ بُحورِ الألوانِ..)، و(مِنْ طُوفانِ الفِكرِ..)، و(مِنْ أخبارٍ لَمْ تَتَكَيَّنْ..). ويمضي الشهيد في تواتره اللَّفظي التَّكراري لهذه (الدولة) في المقطع السَّادس ليؤكِّد حجم مصداقيتها وعدم اعترافها بأي نقصٍ؛كونها تقوم على الصدق وتأخذ الورد من الخالدين لِتُأكِّد خلودها المكاني:

دَولةٌ مُتكامِلَةٌ هُنَا.. لَا تَعترِفُ بِالنقصِ

وَلَا هِيَ بِحَاجَةٍ لِتَقييمِ الحُسَّادِ، وَالمُتطفِّلينَ، وَالمُتنطِّعِينَ.

دَولةٌ تَقولُ الصِّدقَ، وَتَشترِي الوَردَ مِنْ رِياضِ الخَالدِينَ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، 27)

وجاء الفضاء المكاني للمقطع السابع والأخير في تتابعه التكراري لحجم هذه الدولة المُتخيَّلة أسطورياً؛ لتؤكِّدَ خلودها الحضاري والثقافي من خلال هذه التشبيهات العجائبية والغرائبية لثقافتها:

دَولَةٌ خَالدةٌ هُنَا..

كَبُرجِ بَابلَ، كَشَلالاتِ نِيكَارَا

كَسورِ الصِّينِ، كَبَحرِ المَانشِ

كَأهراماتِ الفَراعنةِ ، كَيُوليسزَ، كَشكسبيرَ

كَبُؤساءِ هُوغُو، وَدراويشَ بَاشلَارَ

كَالمَجَرَةِ السَابحَةِ فِي الهُيولِي الغَامضِ والغَرِيبِ. (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص27)

ويُلاحظَ أنَّ الشاعر الشهيد اعتمد في تأثيث معمارية هذه الدفقة الشعورية الختامية على مجموعة كبيرة من تقانة بلاغة المقاربات التشبيهية العظيمة للرموز الثقافية والشعرية والأيقونات العالمية والدولية، ولمثاباتٍ مكانيةٍ وثقافيةٍ ورمزيةٍ مهمَّة شغلت فكر العالم المترامي بجلالها الساحر وجمال صرحها الحضاري الفضائي المكاني العالمي المائز، فكيف لا تشغل فكر الشاعر والمترجم فكانت بحقٍّ خطاباً نصيّاً يليق بأقانيم معمارية دولة اليوتوبيا الأسطورية الفاضلة وبمكانتها الخالدة.

وفي قصيدة (أحلامٌ تَتَعلَّمٌ الأناقةَ) الدالة عتبتها العنوانية على استدعاء أنسنتها الفنيَّة الرائعة التي أضفى فيها على الدلالة المعنوية غير المرئية لدالة (الأحلام) شيئاً من حسِّيَّات الإنسان البصريَّة، وهو (الأناقة) الذوقية الجمالية الشكلية والجوهرية. حيث ينقلنا فكر الشاعر الصوري من حلم الدولة القلبية المكينة الكبيرة إلى حُلُم(المدينة) المثابة الإفلاطونية التي تنعمُ بِرغيد الفرح والسعادة، وتخلو شوارعها الفسيحة من وجع الهمِّ والحزن والارتكاس والنكوص ومكابدات الذات الماسوشية.

حتى وصل الظنُّ الانزياحي برؤى الشاعر الأنسنية الحُلُميَّة إلى أنَّ السماء فيها تقرأ كُتُبَ الأماني المنشودة، وأنَّ الفراشات الرقيقة تُعطيك رَقَصَاتٍ مُهفهفةً عذبةً جذلى لمن يرسم لها لوحة الحبِّ شعراً ُمبشراً بشآبيب نَثِّ المطر في هذه الانثيالات التدفقية التي تقترب كثيراً من فنِّ السرديَّة:

فِي حُلمِكَ مَدينةٌ تَخلُو مِنْ شَوارعِ الأَحزانِ، تَقتَفِي الأشجَارَ خَطوَ سَعادتِكَ الَّتي تَبتَغِي وتَقرأُ السَّماءُ كِتابَ أَمانيكَ، بَينَمَا الفَراشَاتُ تَغدَقُ هَفهفَاتٍ عِذَاباً عَلَى رُمُوشِ مَنْ يُصاحبُ المَدينةَ صَدِيقاً يَكتُبُ لَهَا الحُبَّ طَيفَاً وَيُرسمُهُ شِعرَاً عَلَى خَدِّ غَيمَةٍ تُبشِّرُ بِالمَطَرِ. (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 53)

ويُلاحظ أنَّ الدولة القلبية التي أسسها الشاعر الشهيد في قصيدته السابقة، وتلك المدينة الطوباوية القصية في القصيدة الحُلُميَّة الثانية ذاتها هي مثابات للمكانية والزمانية التي ينشدها الشاعر في مدينته الخلودية. وليست مجرد أمكنةً تصوّريَّة شاخصة العلامات بمعالمها الأيقونية واضحة الأثر.

وهذا يشي بخيالية الشاعر الحلمية التي يريد أن تنتهي، ولا يريد أن تنتهي بانتهاء اللَّحظة الشعورية الصارمة للقصيدة. وهذا التداعي الشعوري الداخلي لا يمنع الشاعر من استمرار حلمه في المقطع الثاني من القصيدة نفسها، فيستدعي لهذه المدينة الحُلُمية بحيرةً من الأحلام، وأناساً فاعلين يحتفون بها كأنّهم يَستحِمُّون على ساحل بحرِ مثابةٍ مكانيةٍ، في لقطة تخاطر من الانثيال السَّردي:

في حُلُمِكَ بِحيرةٌ يَرخَى لَهَا الرَّملُ سَاحِلاً وَتَنتَصبُ المِظلاتُ، فَالنائِمونَ عَلَى الرَّملِ عِشاقٌ يَقرأُونَ مَا كَتَبتَ لِعروسةِ البَحرِ. هُناكَ.. فِي أعالِي مُحِيطاتِ الرَّغبةِ، وَأدنَى حُدُودِ القَلَقِ تَرى الشَّمسَ تُحاورُها، وَيَأتيهَا القَمَرُ يُبعِدُ الوَحشَةَ رَيثَمَا تَجِيءُ بِعواطفِكَ فَأنتَ المُنْتَظَرُ. (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 53)

وتأخذهُ نشوة الأحلام والتمنِّيات على جناح غيمةٍ حُبلى مَاطرة شوقاً لأناقة بودلير الفرنسي المُعلِّم، وإلى جماليات لوحات مونيه الفنيَّة المرصَّعة بفرادة الألوان والضوء، فيمنحك انطباعاً بالإشراق الفنِّي. وكأنّي بزيد الشهيد يُترجِمُ لهما زمكانياً بطريقة من يَسرد لكَ بلغته النثرية القريبة من الشعر:

فِي حُلمِكَ تُرافقُ بَودليرَ تِلميذَا يُعلمُكَ الأَناقةَ، وَيُشيرُ عَلَى مُونيهَ أَنْ يَسقيكَ كَأسَ الألوانِ والضَوءِ، فَالانطِبَاعُ زَهرةٌ تَكتُبُ العِطرَ شِعراً، وَالشُّعراءُ مِظلَّاتُ وَرَسائلَ.. وَإشراقٌ. (َدَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 54)

بهذا الهجس اللُّغوي والشحن الشعوري الطافح يُصَيِّرُ زيد الشهيد الرؤيا الحُلُمية الشاعرة إلى تراتيل مِساحاتٍ فنيَّةٍ شعوريَّةٍ، وواحاتٍ بصرية جماليةٍ خضراءَ سامقةٍ للطبيعة والفنِّ والحياةِ والمحسوسات الكونية المتحركة التي تُسعد نفس الإنسان السويِّ وتَرتقي به نحوَ الرفاهية والتقدُّم.

فكل هذه الأدوات الشعرية التي وظَّفها الشهيد الشاعر والمترجم والإنسان هي في حقيقة الأمر تعدُّ ميادين فنيَّةً وجماليةً لمثابات عناصر الحياة الكونية (السكونية والمُتحرِّكة) التي أخذت مأخذها الطبيعي المتساوق أسلوبياً في ثنايا هذه القصيدة الصورية. لتعلن عن نفسها لوحةً تصويرةً إيماجية متحركةً لا تقف بدورانها الشعري إلَّا بانتهاء الدفقة الشعورية الهاربة لعالمها الوجودي الأرحب.

ومن بين قصائد هذه المجموعة الشعرية قصيدته الزمكانية الناهضة بصورها الفردية والذاتية الجمعية المتماسة(حَرائقٌ تُعرِّشُ في الجُفُونِ). والتي يستحضر فيها الشاعر عديدَ الأمكنة الإنسانية الثابتة والمُتحوِّلة(الشوارعُ والأرصفةُ والأزقةُ والبيوت) مرتبطةً ارتباطاً فلكياً وثيقاً بقرص حركتها الزمانية المحدَّدة بوقت معيَّن ما، (الفجر، طلوعُ الشمسِ، الظهرُ، الضُحى).

ورُبَّما الأيام المتسارعة وانتهاء الساعات المنقضية، وزفير اللَّحظات الشعورية الانخطافية المُتصارعة من تاريخ بلادي المدوَّن بدفتر مَلاحيظ الأُمَّهات والزوجات الذارفات للدموع أسىً وتأسياً على مجد أعتاب هذا التاريخ المتتالد الدهور. فهذه الدموع الساكبة للعبرات هي لظى الحرائق النارية التي تعرَّشت في جفون العيون لهيباً حارقاً للقلب والروح المستهامة بالحبِّ.

لنتأمَّل بإمعان فكري نابه في المقطع الأول من مفتتح القصيدة حركةَ شعور الشاعر زيد الصباحية المُبّكِّرة، وهو يلفُّ الشوارع الساكنة بحركته التأمُّلية، ويمرُّ سائراً على قارعة الأرصفة النائمة الهامدة في وقت السَّحر في لوحةٍ فنيَّةٍ دراميةٍ مُتناميةٍ تجمع بين هدوء السواكن المُتحرِّكات:

كُلُّ يَومٍ أَنهضُ عِندَ الفَجرِ أَلفُّ الشَّوارعَ

وَأَمُرُّ عَلَى الأَرصِفَةِ

أَجمعُ الدُّموعَ قَبلَ طُلُوعِ الشَّمسِ.

لَا أُريدُ أنْ يَضيعَ دَفترُ الأُمهاتِ وَالزَّوجاتِ

دُمُوعُهُنَّ تَاريخُ بَلَادِي

وَجَعَهُنَّ، تَرتِيلِهُنَّ عَلَى أَيامٍ مَزَّقَتهَا اِنتظارَاتُهُنَّ.

كُلُّ ظَهيرةٍ أَشقُّ الأَزقَةَ وَأخترِقُ الأَشواقَ.

ألحَقُ مَنْ رُحْنْ يُحَدِّقْنَ فِي الوُجُوهِ وَيَتشبَّثْنَ بِأَكُفِّ الَّشَبابِ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 57)

ليس فقط همُّ الشَّاعر مَقصوراً مَقصديَّاً على عناصر هذه الحركة المكانية أو الزمانية المتراتبة إيقاعياً، وفواعلها الشخصية المتحركة فحسب، بل فلننظُرْ إلى إيقاع أسلوب وَحْدَنةِ الأفعال الحالية الزمانية المضارعة، (أنهضُ، ألفُّ، أمُرُّ، أجمعُ، أريدُ، أشقُّ، ألفُ، أتحرَّى)، ونتحسَّسُ بعمقٍ وقعَ مشاركتها الفعلية العملية المنتظمة التي أسهمت إسهاماً فنيَّاً وبنائياً تركيباً ومعجمياً في تحريك صورة الواقعة الشعرية وتفعيلها مكانياً وإيصال دلالاتها الشعورية الحارَّة إلى ذائقة المتلقِّي.

فتلك الأفعال التشاركية هي عرائش الكروم الزمانية التي ترفع الأغصان المكانية عَلِيَّاً وتُهيِّئ إلى قيام المثابات الوجودية في هذه الصورة واللَّوحات الشعرية الإنسانية التي تزدحم بها الوحدة الموضوعية لهذه المدوَّنة الشعرية كعلاماتٍ خطِّيِّةٍ فَارقةٍ في تحقيق مقاصد مَرامي الشاعريةِ.

ويستمرُّ الشاعر زيد الشهيد في نهجه الحركي المكاني الدائر بهذا التَّكرار الكلي(كلُّ) المقترن بالدالة الزمانية(ضُحىً) المُرتبطة بمثابة(البيت) المكانية في جملة إخبارية يتحرَّى فيها الشاعر متأملاً ويبحث عن الوجوه المشرقة الصبوحة التي تغرِّد كالبلابل في معزوفاتها الغنائية الشادية:

كُلُّ ضُحىً أًتركُ البَيتَ

أتحرَّى عَنْ وُجُوهٍ صَبُوحةٍ

كَانتْ كَمَا بَلابِلَ تَقُولُ الزَغاريدَ

أَجمعُهَا فَي أُغنيةٍ

لَا أُريدُ لِتَساؤُلاتِ الصِغارِ أَنْ تَتَبَدَّدَ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 58)

لم تكن المثابات المكانية عند زيد الشهيد على مستوىً واحدٍ نمطي ثابتٍ من تداعي الصور الفنيِّة والدراميَّة والبصريَّة المرئية. فالإيقاع الأسلوبي للحظة الشعورية الدافقة قد يتغيَّر جذرياً وكليَّاً بتغيُّر غرض الفكرة الموضوعية لوحدة القصيدة. فإذا كانت (الشوارع)، أو طرق الحركة الإنسانية المتزاحمة في القصيدة السابقة عنواناً لحركة فضاء الحياة اليومية المكانية، وعلامة أيقونيةً لديمومة استمرار نسغ الروح الحياتية بكل تجلياتها ومهيمناتها الصورية الظاهرة والمضمرة.

فإنَّ الشاعر في قصيدته(رُؤىً تَقتات وَقتَاً) الدالة على فكرتها الموضوعية المتوائمة قد أحال تلك(الشوارع) المكانية الواسعة إلى صُحفٍ ثقافيةٍ انتشرتْ عنواناتها بين الإرجاء وتبعثرتْ علاماتها الناطقة بالمعرفة إعلانياً. وفي الوقت ذاته أحال (الأُقبيَةَ)أو الأماكن الخفية التي تكمن في صدور الفقراء من عامة النِّاس إلى كلماتٍ شفيفةٍ تَنسكبُ منها زفرات العبرات شجناً، وتنحدر منها الآهاتُ دموعاً عصيَّةً، مُعَلِّلاً هاجسَ تلكَ الإحالة النفسية كي يُعيدَ للدمعة كبرياءَها الذاتي الجليل:

كُلُّ نَهارٍ أَرَى الشَّوارِعَ جَرائِدَ تَتَبَعثرُ عَناوينَهَا

وَفِي أَقبِيةِ صُدُورِ الفُقراءِ تَسكِبُ الكَلمَاتُ العَبَرَاتِ

أَعيدُ لِلدَمعَةِ كبرِياءَهَا (دُولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 67)

فمثل هذه النظرة الزمكانية في تناظرها الحركي والفكري قد قادت وعي الشاعر زيد الشهيد إلى الاستمرار في استخدام وتوظيف الدالة الجمعية ا لشمولية التوكيدية(كلّ) المقترنة بزمن كأداةٍ لمُفتتَحاتٍ في مقاطع القصيدة الأخرى(الأول والثاني والرابع والخامس)بحسب ما يتطلَّبه الموقف.

وغائية الشاعر من كل ذلك التشديد الكلي؛ لتأكيد فاعليتها الكية المكانية وأثرها الجمعي الشمولي في كلِّ زمانٍ دالٍ على حركة الشاعر وتنامي انثيالاته الصورية ورؤاه الفكرية الُمتحرِّرة في منظومةٍ شعريةٍ من التحشيدات الجمليَّة الملتقطة. والتي ترسم هواجس الشاعر ونظرته الثقافية عن واقعه الشعري الذي هو واقع مجتمعي. وهذه الاستمراريَّة تشي بأنَّ الشاعر يختلق المكانية ويحدِّدها، سواء أكانت حقيقيةً أم أسطوريةً متخيَّلةً ؛ لينتج لنا صوراً شعريةً تكامليةً تأثيريةً مفعمةً.

الشاعر الشهيد دائما يبحث في تجديده الشعري عن مفرداتٍ تُخلِّد القصيدة وتبعث فيها الروح الشاعرية والأثر التاريخي الناجم عن ثقافة الشاعر المكتسبة واستعداده الفطري في تجسيد الواقعة المكانية بشخوصها الرمزية القديمة والحديثة ذات الأثر التراثي الغائر بأطنابه في عمق التاريخ. وقد دعاه هذا الاستعداد الثقافي المعرفي الابستمولوجي إلى استخدام تقنية التضاد الفعليَّة الأمريَّة المُتوحدنة مع زمكانية الحدث(كُنْ)، (لاتَكُنْ)في إشارة نسقيةٍ إلى مصادر الخير والشرِّ ومنابعه:

كُنْ مَعِي كَهَارونَ لِمُوسَى فَأرسِمُكَ وَفَاءً

وَلَا تَكُنْ برُوتسَ لِقَيصرَ فَأحسبُكَ أَيقونَةً لِلغَدرِ.

كُنٍ نَهرَاً يُحَاوِرُ الأشجارَ عِشقَاً

وَلَا تَكُنْ صُخُوراً تَرشِقُ جَبهَةَ النَاظرِينَ.

اِجعَلنِي أَهفُو إِليكَ كُلَّمَا جَرَحتَ يَدَيَّ

شَوكَةُ بُغضٍ، أوْ وَقَفَ بِوَجهِي غُولُ الحِقدِ (دَولةٌ دَاخل قلبِي، ص 61، 62)

الشاعر في إثبات الوجود الهاملتي(أكون أو لا أكون)، وفي خطابه التحذيري لاستنطاق هُويَّةِ الآخر وديمومة بقاء النص الشعري(أيها الطالع من نهر الذاكرة) يتمنَّى أن يكون هذا الطالع بمنزلة هارون من موسى الأخوية الرساليَّة في صفة الوفاء والإخلاص التاريخي بتمام العهد، لا صفة الغدر والخيانة كمثل بروتس الصديق الغادر لقيصر الروم والضالع بالجريمة الجمعية. ويتكرر تردُّدُ هذا النداء النُّصحي الحَكيم لنظيره الآخر إيجاباً وسلباً فيدعوه بفعل أمرٍ طلبي ناسخٍ (كُنْ) أنْ يكون نهراً عاشقاً في حواره الروحي لأشجار الطبيعة الكونية المكانية، وليس صخراً جارحاً يشجُّ جبين الناظرين بهذا الترديد الأسلوبي الإيقاعي المموسق بينه وبين فكرة القصيدة المكانية.

هكذا يحوِّل الشاعر الشهيد المثابة الفضائية المكانية بهذا الترديد التضادي المتواتر التكراري إلى حلبة صراع بين الخير ونقيضه الشرُّ. وتتابع خُطى الشاعر زيد بهذا الهجس النفسي المتصاعد في مقاطع القصيدة المتتالية حتَّى نهايتها بإيقاع تَدَرَّجٍ أسلوبي تكراري تحدُّدي من الفرادة والإمتاع الروحي في تجسيم واقعة الحدث(المُعَلَّقةُ)وأرخنتها شعرياً لمكانها القديم وزمانها عصر الجاهلية:

كُنْ مُعلَّقَةَ الشِّعرِ يَحفظُهَا كُلُّ ذِي قَلبٍ جَمِيلٍ

وَلَا تَكُن سَيلَ الأوجاعِ الرَعنَاءِ

تَذِرُهَا رُوحِي وَتُسَمِّيكَ عَذَابَاً (دَولةٌ دَاخلُ قلبِي، ص 63)

وعند الالتفات إلى فكرة نصه الشعري المعنون (بالأسئلة لُغتي تُؤسِّس مِملكتها)، يقرُّ الشاعر زيد الشهيد في خواتيم هذه القصيدة الهَميَّة المنسكبة بسيل من الأقدار والهموم والتجلِّيات التلهفية، وبجمل شعرية خبرية واسمية متوالية باعترافه القارِّ عن مرافئ محطَّاته المكانية الخمرية فيقول:

لُغَتِي خَمرِي.. وَأنتِ مَدِينتِي

مِتعَةُ حَديقةِ الكَلِمَاتِ

إنْ اِرتكزَتْ إِلَى الصَّمتٍ تَبَعثًرَتْ (دَولةٌ داخلُ قلبِي، ص 76)

لا شكَّ إنَّ الإخبار عن مرافئ ومحطات الشاعر المكانية التي حولته إلى راءٍ للهموم والمرارات تنمُّ عن أسفٍ وتحسرٍّ وانكسارٍ ونكوص وشعور خيبة بالتذمُّر؛ لكن ما يعوض ذلك التراجع والانكسار الروحي الآسف هو لغته الشعرية التي هي هويته في مدينته الشعرية التي استحالت إلى حديقة هجسد من الكلمات الاستنطاقية التي لا تعرف الصمت والركون الهادئ.

والملاحظ أنَّ الفضاء المكاني في نصِّ هذه المدينة الشعرية الفاضلة لم يأتِ مصطنعاً قصدياً، بل حضرَ عفوياً انسيابياً تلقائياً سلساً غير متكلِّفٍ في معرض انثيالاته التبئيرية؛ لأنَّ الدفقة الشعورية الهاربة من شواطئ الصمت هي من تأتي به طيِّعةً منقادة تجرُّ أذيالها جرَّاً انسكابياً مدراراً كَغيثٍ منهمرٍ. هذا ما نرى استنطاقه العذب وديمومته في خطابه الشعري ومناداته الحُلُميَّة لمدينته الحياتية:

أَيَّتُهَا الحَياةُ يَا مَدِينَتِي

كُونِي شَوارِعَ بَهجَةٍ وَأرصفةَ تَرانيمَ

زَهرةً يَهتَدِي عِطرُهَا لِعُشَّاقٍ نَامُوا

عَلَى حُلُمٍ يَغرِقُ فِي الضِّحكِ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 71)

ويلاحظ أن الشاعر الشهيد كان بمدونته مُلهَمَاً ومهووساً بِحبّه الجمِّ للفعل الماضي الناقص الناسخ (كان) وأثر تقلباته الاشتقاقية(أكنُ، يِكُنُ، تَكنُ، كُنْ، كُونِي، كُنتُ...). والحقيقة أنَّ هذه التردُّدات (الكانيَّة) الفعلية الحدثية المتناغمة التساوق الصوتي والحدثي في طيَّات القصيدة تمنح النصَّ الشعري إيقاعاً أسلوبياً عذباً ناتجاً عن شغاف نياط القلب وعلائقه الروحية بالآخر الذي يتماهى معه الشاعر زمانياً ومكانياً في مِساحاتٍ كبيرةٍ من سعة فضائه الشعري المتواشج علائقياً:

حَيثُ أَكونُ تَكونينَ قَفَصَاً

أيَّتُهَا السَّمَاءُ الَّتِي خَطفَتْ مِنِّي

سُلَّمَاً وَرَمَتنِي فِي المَتَاهَاتِ

صَحراءَ بِلَا وَاحَاتٍ أَنتِ

وَأَنَا الظَّبِيُّ الظَّمآنُ

أَكتُبُكِ شَوقَاً، لَكِنْ أَحصدَكِ نَهَارَاتٍ صَيفِيَّةً (دولة داخل قلبي، ص90)

فحينما يكون النداء التَّكراري خالصاً من ثنايا القلب يقع في القلب، وليس كما يخرج الكلم من اللِّسان فلم يجاوز إلَّا الأُذن، كما يَستدلُّ بذلك الأثر البالغ الجاحظ في بيانه الساحرعن اللَّفظ والمعنى. فلننصت إلى ما يقوله الشاعر في رحيله المكاني الذي هو يقين القلب الثابت الذي لا يتزحزَحُ:

وَتَرَكتُ غُيُومَ التِّيهِ

قِطَارَاتٍ َترحَلُ إِلى مَحطَّاتٍ

لَعلَّهَا اليَقِينُ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 82)

ومن يتتبع الجمل الشعرية المتوالية لقصيدة(اقتفاءُ أثرِ النَّيازكِ)، سيلحظ بعين بصريَّةٍ ونقديَّةٍ ثالثةٍ سَيلاً من الأفكار التساؤلية عن الأمكنة الوجودية التي يبحث فيها الشاعر عن ضالته المفقودة وعن وجوده الكوني في هذا العالم الواسع المليء بالمتاهات السرابية الضيِّقة والغوايات المُهلكة:

إِلَى أيِّ المَرافِئ الغَائمَةِ تَأخذُنَا النَوافذُ المُسرِعَةُ؟

إِلَى أيِّ سَراباتِ المَتاهَاتِ تُسَلِّمُنَا ضِياءُ الغُوايةِ؟

وَإِلا مَا نَنَحَتُ الكَلماتِ كَي تَبقَى زَرعَاً أخضرَ؟ (دَولةٌ دَخل قَلبِي، ص 97، 98)

فالأداتان الاسمان(أيّ)، و(إلاما)، هما أداتا استفهام تساؤليتان بحاجةٍ إلى إجاباتٍ شافيةٍ للوصول إلى شاطئ الحقيقة المكانية عن مدلولاتهما المعنوية الزمكانية التي قدحت فكرتهما إلى وعي الشاعر زيد الشهيد وذخيرته الشعرية إلى الهجس بهما بهذا التساؤل عن ذاته الشاعرية المُتحيِّرة.

حينما تكون العنونة النصيَّة الموازية لتجلِّيات النص الشعري المرسل إلى القارئ علامةً ضوئيةً وفناراً سيميائياً كاشفاً عن محطَّات النصِّ المكانية وفضاءاته الزمانية الحالية والمستقبلية وصولاً لمرافئ الحقيقة الوجودية اليقينية الثابتة والمتحركة المعبِّرة عن هجس الشاعر الفكري وقلقه، تكون العلامة الخطية بين موحيات العنوان والمتن الشعري علامة صدقٍ لـ( الوُصولِ إِلى مَجرَّةِ اليَقينِ).

والتي هي ثيمة النصِّ الفكري التي يخوض غمارها الشاعر صوراً فنيةً سابحةً في فضاءات المكانية وانزياحاتها لعنونة أسلوبية تنعم بها تجليات النصِّ الشعري؛ لتبعث برسالة مفادها أنَّ الرغباتِ آمالٌ واعدةٌ، ، وأن الوصول إلى عين الحقيقة الوجودية للمستقبلية وإنْ كان مُكلِّفاً ومُتعباً شاقَّاً لا يخرج عن حدِّه عن كونه يقيناً روحيَّاً فكريَّاً يبعث عن مكملات الطمأنينة والسلام والدِّعة والاستقرار النفسي ذي المردود الفكري والمكاني التخليقي المنتج لا التافه المُستهلِك لجوامع الكلم:

سَأبحَثُ فِي فَضَائِكَ مُدُنَا تَرتَدِي قُمصَانَاً مِنْ رَغَبَاتٍ

وَتَتَعثَّرُ كَالأطفَالِ وُصُولاً إِلَى مَجَرَّةِ اليَقِينِ

رَاكِضَاً فِي بَرارِيكَ أَحلامَاً تَتَهَايَفُ فِي شَوارِعَ

تَبحثُ عَنْ عِربَةٍ لَا تُقِلُ الظُنُونَ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 101)

إنَّ السباحة في فضاءات المدن، وارتداء قمصان الرغبات النفسية، والتَّعثُّرَ كالطفولة، والركض في براري الأحلام، هي جمل شعرية وصورية فنيَّة ناطقةٌ بجماليات الصوت والحركة الدرامية كَفيلةٌ بتحقيق المنشودات الذاتية الحُلُمية من خلال استدعاء صور هذه الفضاءات المكانيَّة الصادقة.

فالمشتقان اللَّفظيان(سابحاً وراكضاً) اللَّذان افتتح بهما الشاعر مستهل قصيدته وصولاً بها إلى مجرَّة اليقين الدالة على معنى عتبتها، ما هما إلَّا علامة سيمائية دالة موحياتها الدلالية على سعي الشاعر زيد الدؤوب وحركته الشعرية المتوثبة تجريدياً في إمتاع القارئ بهذه الانزياحات الضوئية المؤنسنة القريبة للروح في مؤثِّراتها النفسية وعملها الحدثي الفاعل بالأثر.

وقد زانها جمالاً وفنَّاً حركياً على فنٍّ ساكنٍ حينما قال بأنَّها:(تَتهايفُ في شَوارعَ)، وكأنَّ الأحلام فتاةٌ هيفاءٌ رشيقة القوام عذبة الروح تسرُّ صورتها الكُليَّة الممشوقة نظر الرائين ورضاهم الذاتي؛ كونها (تَبحثُ عنْ عَربةٍ لا تُقِلُّ الظُّنُونَ)، أي الشكَّ، بل تُقلُّ اليقين القلبي الثابت.

ولننظر بتؤدة وإمعان دقيقينِ إلى صورة المقطع الأخير من أواخر قصيدة للشاعر بهذه المصفوفة الشعرية المتصالحة مع نفسها، والتي وضع لها عنواناً خبريَّاً وفنيَّاً طويلاً لا يخلو من فن بلاغة التعبير القولي عن تزاحم همومه النارية المتسكعة بقوله: (أتركُ هُمومِي تَتَسكَّعُ وأرفو جذوتي).

كيف يترك الشاعر الشهيد همومه الذاتية وأناه الشاعرية إنساناً يتسكُّع كخيَّاطٍ رافياً بها جذوته القلبية الملتهبة ناراً لا تنطفئ جذوتها المشتعلة بهذه الصور المُحتشدة بالأماني والفضاءات المكانية الَّتي أكلت عمره وشيَّبتْ، شعر رأسه، وقوَّضت وعي فكره، ومرَّضت العلّة نفسه؟ إنَّها المخايل:

وَأمانٍ كَبَحرٍ يَغرقُ فِي ضَبَابٍ

شَوارِعٌ تَتَعثَّرُ، وَأقبِيَةٌ تَئِنُّ

لَافتَاتٌ تَمرَضُ مِن تَمزُّقِهَا

آخرُ الخُريطةِ يَتمَرَّغُ بِغُيومِ الحَقيقةِ الغَائِبَةِ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص104، 105)

والعجيب أن الشاعر الحقيقي هو من يجمع وقع هاجسه الفكري المحتشد بين مُدخلات اللَّقطة الشعرية الشعورية المُحتدمة الصراع ومخرجاتها الكليَّة الجاهزة. بين عالمها الداخلي الأرضي المكاني الضيِّق ومحيطها الخارجي الكوني الوحدوي الوسيع. وما مفردات، (البحرُ، والضبابُ والغُيومُ) إلا عناصر من عناصر الطبيعة الكونية الخارجية(الصامتة والمتحرِّكة)، وقد تواشجت فنيَّاً وجماليَّاً مع دالات مدلولات فضاءاتها المكانية الداخلية المتشابكة الصور، (شَوارعٌ تتعثرُ)، و(أقبيةٌ تئِّنُ)، و(لافتاتٌ تَمرضُ)، (التَّمرغُ بغُيومِ الحقيقةِ) المكانية المقترحة.

هكذا يرسم زيد الشهيد حمولاته الفكرية الضاجَّة في لوحةٍ شعريَّةٍ واعدةٍ بالفنِّ توصيفاً وتجريداً وتكنيكاً لقواعد الفنِّ الشعري في زمن تكالبت عليه ثعالب الشعر القميء الطارئ، وفي فضاء مكاني نامت نواطير الشعر وحُرَّاسهُ عليه بالشخر والسُّبات الدائم، وباتت فيه قصيدة النثر الشعرية عند الكثير من مُدَّعي الشعر ليس إلَّا إسهالاً لفظيَّاً ناشزاً لا يمكثُ زبده الطَّافي إلا بتجاوز الأذنين.

المُعجمُ الشِّعريّ لِزَيدِ الشَّهيدِ

إن ما يميِّز المعجم الشعري لزيد الشهيد في قصائده النثرية الزاخرة التي احتفت بها مدوَّنته الشعرية الثرَّة، (دُولةُ دَاخلُ قَلبِي)، هو رشاقته لغته الشعرية الباسلة في تماسكها النصِّي حَبكَاً لُغويَّاً مُتجدِّداً وسَبكَاً دلالياً رصيناً مُحكمَاً. وفضلاً عن ذلك تنوِّع وكثافة صوره الشعرية البلاغية والجمالية الزاخرة بالعطاء الفنِّي، وجرأته الانحرافية المِقدَامة في بثِّ انزياحاته التعبيرية المِخياليَّة في تأثيث وصياغة وتركيب جمل شعرية ومجازية إدهاشيةٍ ثرةٍ في دلالتها اللفظية ومعانيها الكليَّة.

وبالتالي قادرةً على كسر توقُّع أفق المألوف الشعري بفنية التعبير الأسلوبي في إنتاج وتخليق منظومات شعرية متكاملة الصور والأثر لا في تركيبها النحوي فحسب، بل في موحيات علاقاتها الخطيَّة الاستدلالية والتضادية والرمزية الاستعارية المهمّة في صناعة الأثر الشعري بعيداً عن المُباشرة والتقريرية والإملال الممقوت.

فهذه المنظومات والنتاجات الشعرية هي بطبيعة الحال تُشكِّل ثقافياً ورمزياً أشكال ثقافةٍ ما مثلما هي أشكال معاني ما. ويعضد هذه الانحرافية البلاغية الجديدة جماليات الشاعر في اختيار عنواناته الفنيَّة الحسيَّة والبصرية التي تُناسب وحدة واقعة الحدث الموضوعية التي هي بؤرة الشعر الفكريَّة، وتخدم النصَّ الرسالي الذي يُلامس ذائقة شغاف القارئ المتلقِّي الذكي النوعي ويُثير وقع اهتمامه.

ويرافق كل هذه الأسلوبية الشعرية بصمة الشاعر المُعجمية في إنتاج قصائد شعرية نثرية خالية من إيقاع الموسيقى الخارجية لبنية النصِّ أو القصيدة الشعرية. فالشعرية الحقَّة لا تتأتى دوماً من إيقاع الوحدات الوزنية العروضية أو القافية الشعرية الموحدة، بل ربَّما قد تأتي من ذلك التنغيم الصوتي والموسيقي المتواشج عشقاً وتعالقاً وتركيباً.

فهذه العلاقة التجاذبية المُوحدنة تظهر نتيجة الانسجام بين وحدة الأفكار الموضوعية والأسلوبية الإيقاعية التي تحصل أو تنشأ على مستوى تقنية التَّكرار الصوتي المُتعدِّد(الحرفي أو الاسمي أو الفعلي أو الجُملي)، أو على مستوى والطباق والجناس والموازاة ورُبَّما المقابلة الناشئة على مستوى التركيب النحوي والصوتي والموسيقى الداخلية والعلاقات المعجمية داخل البنية الشعرية للنصِّ.

وتبقى المفارقة الشعرية والمباغتة الصورية الفنيَّة والرمزيَّة المذهلة السِّمة الأشدَّ بروزاً في عملية التخليق الشعري، والتي تنماز بها فلسفة الشاعر المتفرِّد شعريَّاً وثقافيَّاً عن فلسفة شاعر النصوصية المُتفرِّد بلاغياً في معجمه الشعري الرتائبي.

وأنَّ آخر أقانيم تخوم التميُّز المُعجمي الشِّعري تشي بأنَّ زيدَ الشهيد الشاعر والمُترجِم والرِّوائي والقاصّ والمثقَّف والإنسان يُعدُّ صاحب مشروع شعري ثقافي فكري مُتجدِّد في منهج رؤاه الشعرية وفلسفة تطلعاته الحداثوية في مدائن الشعر الفاضلة وفضاءات السرد الفاعلة وحافاته الفنيَّة الحافلة بالإبداع والابتداع الجمالي التي أسس لها كياناً بدولة الشِّعر القلبيةِ ومدينةِ السَّردِ المثاليَّةِ.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ

عندما تكون المعاني مترسّخة في الذات الحقيقية، تخرج من الذات بتلقائية، تحمل معها كلّ تفكّرات المنظور الشعري، كأن يكون للاختلاف اللغوي الذروة في الأبعاد التأويلية، وكما تتجه التأويلية وتستعمر النصّ المكتوب، نلاحظ أنّ الاتجاه النصّي كجامع للغة من خلال علاقاته اللغوية قبل كلّ شيء؛ وهذا يحدث عندما تكون بؤرة النصّ الشعري، ينفتح فيها النصّ على عدّة اتجاهات تأويلية، لذلك تتعدّد المعاني أيضاً؛ انطلاقاً من تجربة المتلقي الخاصّة، ومدى ثقافته الشعرية من جهةٍ، وثقافته الفردية في القصدية المنظورة من خلال أيّ نصّ يواجهه من جهةٍ أخرى. ومن هنا يكون واقع تفسير النصّ وتقويله، فاللغة ومنها الطبيعية والرمزية والسريالية، تلبس ثياب التأويل وهي تتنشط مع أهداف النصّ الشعري وتكوّن علاقاتها الدلالية بينها وبين الأشياء الخارجية وبينها وبين المنظور الحسّي، فيكون للمحسوس النصيب الجزئي بإطلاق الإشارات، وتدخلات الذات في الحسّية الإدراكية وكذلك تجمع الأفكار المبعثرة والتي تؤدّي إلى تجربة الشاعر ليطرحها بلغة جديدة في المنظور النصّي.

الشاعرة السورية لجينة نبهان ومن خلال بعض نصوصها، نصل إلى ما رسمته من تفكّر شعري بلغة مختلفة، وهي ليست كأيّ لغة يتمّ توظيفها في المنظور النصّي، بل اعتمدت خصوصية الكتابة الفعلية؛ ومنها الخصوصية الإدراكية، وخصوصية فعل المتخيّل، وخصوصية الإبحار في التأويل، وهي تدمج اللغتين، السريالية بالرمزية، لكي تحصل على منطقةٍ من التأويلات وتستقرّ فيها الاتجاهات المتعدّدة.

لقد التهمتَ الكثيرَ من الأسماك

إنّها تسبح في داخلكَ الآن

لا تأكلُ بعضها

بل أحشاءك

سينقلب البحر عليك يوماً

ولن تلقى قشّة!

هكذا قال الصوت

 **

من قصيدة: قيد وملح أو...

توظّف الشاعرة السورية لجينة نبهان، دلالة اللفظ ليس على مسمّاه، وإن اعتنت بالمسمّى فسيسقط النصّ بالمباشرة (المسمّى هنا ما يخص الدَلالة في حدّ ذاتها). فهي تعيش في واقع غير الواقع الطبيعي، أو السائد كما جرى تسميته، بل أنّ هناك واقعا آخر تنحاز له من خلال الذات الحقيقية. إنّ الحركة الذاتية مع الأفعال الحركية تُعتبر تشكّلات لغة عابرة للأشياء المباشرة (كان السرياليون يثمّنون القيمة الكامنة للأشياء، أكثر من محتواها الظاهر. في اللغة السريالية، الفارق بين المحتوى الكامن أو المستتر والمحتوى الجلي هو هام جداً. الكامن مرتبط بحرّية المتخيل بينما الجليّ ينذر بالنتائج المحبطة للمبدأ المنفعي المضاد تماماً لمبدأ المتعة الذي يحكم نشاط المخيلة").

لقد التهمتَ الكثيرَ من الأسماك + إنّها تسبحُ في داخلكَ الآن + لا تأكلُ بعضها + بل أحشاءك + سينقلب البحرُ عليك يوماً + ولن تلقى قشّة! + هكذا قال الصوت

لنضع سؤالاً ضمن النصّ، ماذا قال الصوت؟

قال الصوت = لقد التهمتَ الكثيرَ من الأسماك... تقويل البحر ضمن المنظور الشعري، هو الانتقال إلى عالم آخر، فالذي رسمته الشاعرة لجينة، هو الانتقال بشكل تشبيهي من المنظور الواقعي إلى منظور فعل المتخيل، معتمدة على لغة اعتمدت الرمزية، حيث أنّ المعاني مختبئة خلف ذلك، وعلى ما يبدو وبعيداً عن قبيلة القرش، فقد اعتمدت البحر وما يحويه دون مسمّيات ظاهرة، وهذه هي الشعرية بالذات عندما تكون اللغة الدلالية قد سيطرت بواسطة أفعال الحركة بتأمّل تأويلي.

نستطيع أن نجعل بعض المسمّيات الدلالية من خلال النصّ والنصّية، اتجاه وكلّ اتجاه يحوي على خصوصيّةٍ حركيّةٍ وانتقاليةٍ أو تموضعيةٍ والتي يكون البحر خصوصيتها الأخيرة، بينما انتقال الأسماك (تسبح في داخلك) متعلقة بمسمّى آخر أكثر سيطرة، وفي المنعرج التأويلي دائماً ترمز الأسماك إلى حالة البراءة ودليل ابتلاعها (ضعفها)، حيث تدلّنا على حالة حِجاجية في المنظور النصّي.

في ماراتون الرغيف

حين يسقط الثلجُ من غيم التشريعاتِ الغائمة

على النوافذ التي خلخلتها الحروب المرئية واللا..

سيتكوّر الأطفالُ أجنّة في رحم الجوع

حيث الإجهاض ممنوع

والولادة شبه مستحيلة

والحمل مديد

حينها

حتى القنفذ الذي لم يجد يوما غير الاختباء

 سيشحذ أشواكه

ويلبي نداء الأمعاء الخاوية...

**

من قصيدة: قيد وملح أو...

هي ليست المكرّرات التي نسعى إلى ظهورها، بقدر ما هو الخيط التواصلي الاضطراري، قد يعترض بعضهم وقد يوافق بعض ممّا قرأ أو سمع أو خاض تجربة حياتية مماثلة، وفي جميع الأحوال إن المشهد المندفع نحو الطبقة المعدمة جعلت الشاعرة في المشهد الحياتي من خلال تجربتها الشعرية، وأهم تلك المواقف هي البيئة التي تحيط بالشاعرة السورية لجينة نبهان.

يسعف النصّ بعض المؤشرات التركيبية أو الأشياء المنظورة التي تدخل ضمن دائرة المحسوس، فالبحث عن رغيف الخبز أو الالتفاتة نحوه، يعتبر من المؤشرات النصّية (فالمؤشرات التركيبية تتشكّل جرّاء ربط الملفوظ الخاضع للقراءة بملفوظات أخرى موجودة داخل النصّ ذاته. ولربّما يكون "التناقض" و "التكرار" و "التقطّع" هم أكثر هذه المؤشرات شهرة وانتشاراً. – الرمزية والتأويل – ص 10 – تزفيتان تودوروف – ترجمة وتقديم: د. إسماعيل الكفري).

في ماراتون الرغيف + حين يسقط الثلجُ من غيم التشريعاتِ الغائمة + على النوافذ التي خلخلتها الحروب المرئية واللا.. + سيتكوّر الأطفالُ أجنّة في رحم الجوع + حيث الإجهاض ممنوع + والولادة شبه مستحيلة + والحمل مديد + حينها + حتى القنفذ الذي لم يجد يوما غير الاختباء + سيشحذ أشواكه + ويلبي نداء الأمعاء الخاوية...

تمكين النصّ ليس خطاباً عابراً، بقدر ما هو واقعٌ متعلّقٌ في الذات الحقيقية، ومن خلال اللاوعي الكتابي تخرج هذه المتعلّقات كدروس نصّية تحمل الصيغة الشعرية بين المنظور التأسيسي والمنظور الكتابي، لذلك نؤكد دائماً على ما هو الأبقى، والأبقى هو المنظور الكتابي، ليكون بؤرة تجميعية مع جامع النصّ، ومن هنا فإذا تحدّثت الشاعرة لجينة نبهان عن الخبز، فهو أبسط صيغة للمعنى تنتمي له، طبعاً إنّها الصيغة الحياتية التي تدور بفلك الأمعاء الخاوية، وهناك الكثير قد تحدّث عن الجوع وأسبابه ونتائجه، وخصوصاً في مجتمع كان يزهر بالأقداح والياسمين.

إن تقويل النصّ ليس فقط بما يتعلّق بالذات الحقيقيّة، بل أنّ هناك المنظور التخييلي وتقويله، وهو من الأمور المهمّة في كتابة النصّ الشعري، حيث أن الذهاب إلى الثقل الشعري والاعتناء بوحدات اللغة المختلفة هما من مميزات التخييل، ومن هنا يكون للشاعرة لجينة نبهان عنوانات تسير في البنية المنطقية للعوالم التخييلية (حيث أنّ هذه العوالم يختلف الواحد عن الآخر، وكلّ عالم منطقة توجيهية وتحريضية نحو الكتابة) وكذلك بنية المناطق التي تدور حول الذات الحقيقية وكيفية تجسيدها والعمل على تسخيرها في الواقع النصّي.

للفكرة شهوة الولادة

وأمّا العقل فله خيار المزاج

 بتحديد النسل!

حين تعلن الحرب عن ذاتها، بكل أنواع التوكيد

الثقيلة، والخفيفة

يكون على البلاغة البحث عن مخرج مناسب لشذوذ (الأحرف)

أو ملاذٍ آمن للانتماء

**

من قصيدة: حين أقرأ قلادتكَ

نكون عادة في وسط نصوص من التخييل والتخييل الجزئي؛ فالنصّ التخييلي يقودنا إلى أبعاد مرئية وأخرى غير مرئية، ويكون للحسّية الجمالية مساحتها في الكتابة النصّية، ومن هنا فإنّ قصدية السلطة التأليفية تؤدّي إلى مقاصد تجميعية؛ ومنها فلسفة العقل والدلالة بوجهيها العام والخاص، ويكون المعنى القصدي بدلالته مثيراً للعلامات والرموز النصّية، وهي خصوصية فنّ الإجادة للقول الشعري باتجاهاته الماثلة في النصّ المكتوب.

للفكرة شهوة الولادة + وأمّا العقل فله خيار المزاج + بتحديد النسل! + حين تعلن الحرب عن ذاتها، بكل أنواع التوكيد + الثقيلة، والخفيفة + يكون على البلاغة البحث عن مخرج مناسب لشذوذ (الأحرف) + أو ملاذٍ آمن للانتماء

موضوع الشاعرة السورية لجينة نبهان ليس داخلياً فقط، وإنما ذو ارتباط نصّي توجيهي خارجي، وتنقلنا من الوحدات الصغرى إلى الوحدة النصّية الكبرى، ولكن لو نظرنا إلى الإشارات الدالة فإنّها تربطنا بموضوع الحرب، الثقيلة منها والخفيفة، وهي حالة من التشبيه تستعيره من الواقع المنظور، ومن هنا توضّح الشاعرة الصلة النصّية بالمعنى التفكري الذي شغل الكثير من الناس.

حين تنام أصابعك جائعة

لا تصم أذنيك عن صوت معدتها الخاوية

راجع قلبك قبل عقلك،

ولا تنس أن تربّت على كتف الليل ليهدأ

فكأسك الفارغ منك الآن

ثمل بثمالة شفتيّ جنون الأمس

وأنا الممتلئة بحزني

 كل مرة أعدّ فيها ضحكاتي

**

من قصيدة: حين أقرأ قلادتكَ

إنّ المطلب اللغوي، من ناحية التأويل أو ظهور الرمزية، هو مطلب تركيبي بالدرجة الأولى، ومن هنا يكون لتداخل الأنساق في النصّ المكتوب، وللطبيعة اللغوية المساحة الواسعة؛ إمّا بالتواصل النصّي وتأويله، وإمّا أن تكون اللغة عاملا بنائياً تؤدّي إلى علاقات ذاتية خارجية، وعلاقات نصّية، وهي الأهمّ عندما نكون في منطقة المفاهيم النصّية وتعابيرها المتقنة.

حين تنام أصابعك جائعة + لا تصم أذنيك عن صوت معدتها الخاوية + راجع قلبك قبل عقلك، + ولا تنس أن تربّت على كتف الليل ليهدأ + فكأسك الفارغ منك الآن + ثمل بثمالة شفتيّ جنون الأمس + وأنا الممتلئة بحزني + كل مرة أعدّ فيها ضحكاتي

إنّ من طبيعة النصّ أن يكون محكم المعنى، وذلك لأنّ المعاني القصدية الدالة، قد أفرغها الباث (الشاعرة)، وتكون معاني تأسيسيّة بالدرجة الأولى، في حين تكون تراكيب الجمل مساحة كافية لاستقبال تلك المعاني والمفاهيم التي تشغل الذات الحقيقـيّة والمنظور الكتابي.

نلاحظ من خلال التعبير النصّي لدى الشاعرة السورية لجينة نبهان، بأنّها؛ تارة تنتمي إلى الأفعال الحركيّة وتارة أخرى لتوظيف أفعال الكلام، ومن خلال هذا التنوع تبدأ بجملةٍ وتطلقها عندما تأمر القارئ بتبنّي خطوات فكرية هي بالذات قد فكّرت بذلك.

تبدأ الشاعرة لجينة بجملة: حين تنام أصابعك جائعة.. وتحوي على أحد الأفعال الحركية، ومن ثمّ تنتقل إلى أفعال الكلام، ومن خلال المعنى المرسوم، فإنّها تتغنّى بتوظيف اللغة المختلفة، (الأصابع لا تجوع)، ولكنّها وضمن الترابط اللغوي بين المختلف واللا مختلف، فقد أشارت ضمن الحركة الدلاليّة على معنى الجوع من خلال (الأمعاء). ومن خلال القلب، تشير إلى الحزن، وهما مفردتان ملائمتان وما طرحته الشاعرة من توقيت نصّي وما يجري على الأراضي السورية. بينما عندما يهدأ الليل فإنّها تربّت أكتافه (تطبطب على أكتافه)، فقد جعلت منه كائنا حركيّاً يظهر لساعات معيّنة ومن ثمّ يختفي.

ويبقى البريق المنداح من عينيك

شهوتي للدفء

كلما خلعته على غيري

هطل الصقيع بقلبي

فتهتك ثوب الوجد.

**

من قصيدة: حين أقرأ قلادتكَ

عندما نتكلّم عن السياق، يحضر السياق اللغوي، وهو نفسه سياق النصّ، وعندما يكون الباث في جزئيات نصّية، فهو في السياق المصغر (السياق الجزئي)، ومن هنا نحصل على السياق الأكبر كهيئة منظورة من خلال الانسجام الكتابي، حيث أنّ الأنساق تندمج مع بعضها لتوليد المكتوب النهائي.

ويبقى البريق المنداح من عينيك + شهوتي للدفء + كلما خلعته على غيري + هطل الصقيع بقلبي +

فتهتك ثوب الوجد.

نبقى مع القيمة الموضوعية، كما هي الشاعرة لجينة عندما طرحت بقاء البريق؛ فالتدفق الذي يحدث، تدفق معرفي من خلال النصّ، وذلك لأن البناء النصّي نبعَ من فلسفة العقل، وهذا يقودنا إلى ما جاء به (جان بياجيه) عندما أخذ يبحث عن المعرفة كمفهوم.

من خلال المعرفة والمعرفة الذاتية استطاعت الشاعرة أن تضعنا بين مكتسبات اللغة، فاللغة لديها كتابية معرفيّة – انزياحيّة، معتمدة على السياق التركيبي لكلّ جملة شعريّة، مع توظيفها للأفعال الحركية والانتقالية والتي شكّلت مركزية دلالية في كلّ مقطع نصّي.

***

قيد وملح أو...

لجينة علي نبهان – سورية

لقد التهمت الكثير من الأسماك

إنّها تسبح في داخلك الآن

لا تأكل بعضها

بل أحشاءك

سينقلب البحر عليك يوما

ولن تلقى قشة!

هكذا قال الصوت

*

في ماراتون الرغيف

حين يسقط الثلجُ من غيم التشريعاتِ الغائمة

على النوافذ التي خلخلتها الحروب المرئية واللا..

سيتكوّر الأطفالُ أجنّة في رحم الجوع

حيث الإجهاض ممنوع

والولادة شبه مستحيلة

والحمل مديد

حينها

حتى القنفذ الذي لم يجد يوما غير الاختباء

 سيشحذ أشواكه

ويلبي نداء الأمعاء الخاوية...

***

حين أقرأ قلادتكَ

للفكرة شهوة الولادة

وأمّا العقل فله خيار المزاج

 بتحديد النسل!

حين تعلن الحرب عن ذاتها، بكل أنواع التوكيد

الثقيلة، والخفيفة

يكون على البلاغة البحث عن مخرج مناسب لشذوذ (الأحرف)

أو ملاذٍ آمن للانتماء

حين تدور حول كعبتك

لا تحمل كل خطاياك

فبعض (آثامك) مباركة

لا ترجم كل شياطينك

عد بالقليل لتنجُ من إيمان ضلّ طريقه

ليسقط فيك!

حين تنام أصابعك جائعة

لا تصم أذنيك عن صوت معدتها الخاوية

راجع قلبك قبل عقلك،

ولا تنس أن تربّت على كتف الليل ليهدأ

فكأسك الفارغ منك الآن

ثمل بثمالة شفتيّ جنون الأمس

وأنا الممتلئة بحزني

 كل مرة أعدّ فيها ضحكاتي

تهرب واحدة يأساً

 وتسقط أخرى سهواً من كُمّ السّر

لأعود بكيس يتضاءل

 أحشره في ثقب العمر المتهالك

 قبل أوان الموت بحبّ ضيّع أحرفه.

ويبقى

.

.

ويبقى البريق المنداح من عينيك

شهوتي للدفء

كلما خلعته على غيري

هطل الصقيع بقلبي

فتهتك ثوب الوجد

..

ذاكرة

 

تمنحنا قراءة المجموعة الأخيرة للشاعر اللبناني الراحل محمد علي شمس الدين ( 1942-2022 )" خدوشٌ على التاج" الصادرة في كانون الثاني 2023، عن دار الرافدين، أي بعد بضعة أشهرٍ من رحيله، تمنحنا بعض مفاتيح تجربته الشعرية الكبيرة، التي استهلّها بمجموعته الشعرية الأولى " قصائد مُهرّبة إلى حبيبتي آسيا" الصادرة عام 1974، أي أنّ عمره آنذاك 34 عاماً، التي كان لها أصداءٌ حسنةٌ في الوسط الأدبي اللبناني والعربي، وكرّست شمس الدين كأحد شعراء التيار الجنوبي، الذي كان يضمّ شعراء مثل شوقي بزيع وجودت فخر الدين والياس لحود، كما كرّسته شاعراً غنائياً تراجيدياً، طالعاً من رحم معاناة أهل الجنوب، نتيجة العدوان الصهيوني المستمر على أراضيهم، وما يسبّب ذلك من خسائر في الأرواح والممتلكات، فضلاَ عن النزوح من بلداتهم الحدودية مع هذا الكيان.

شمس الدين الذي يعتبر شاعراً غزير الإنتاج، أصدر من أكثر من عشرين كتاباً، منها ؛"غيم لأحلام الملك المخلوع، أناديك يا ملكي وحبيبي، الشوكة البنفسجية، طيور إلى الشمس المرّة، أما آن للرقص أن ينتهي، أميرال الطيور، ممالك عالية، النازلون على الريح، اليأس من الوردة، كرسي على الزبد"، ظلّ في مشارف نهاية حياته، نتيجة تدهور حالته الصحية، يكتب يومياً، في تحدٍّ كبيرٍ لهذا التدهور، ونلاحظ ذلك في ديوانه الأخير" خدوش على التاج". هو ديوان قصائد نهاياته، كما وُسم على غلاف الديوان، بعد 48 عاماً من الإبداع الشعري المميّز، بوصفه آخر الشعراء المجدّدين في الكتابة على نمط قصيدة التفعيلة، فهو سليل تجارب روّاد هذا النمط، الذي بُشّر به في أرض الريادة الشعرية العربية المعاصرة، العراق، من قبل السيّاب والبيّاتي والملائكة، ومع انطلاق الحداثة الثانية المتمثّلة في ترسيخ قصيدة النثر على يد شعراء مثل أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج، أي من أرض لبنان، بتبنّي مجلّة (شعر) لها. ظلَّ شمس الدين مرسّخاً على مدى سني تجربته الشعرية الكبيرة لقصيدة التفعيلة، وظلّ يدافع عنها، ذلك لأنّ الأوزان والقوافي أسلست له قيادها، بفعل سليقته الشعرية، التي صقلها بالمران والتأمّل والثقافة. في ديوانه ما قبل الأخير" آخر ما تركته البراري" مع عنوانٍ فرعي" سيرة صغيرة"، يذكر هيامه بالإيقاع، فيقول:" أنا مفتونٌ بالإيقاع، مريضٌ بالإيقاع، لأنَّ ما يصبُّ في السّمع من النظر يحرّك أوتار الملكوت، ويجعل كلَّ شيءٍ موسيقى، حتى الكارثة"، فأيُّ إيقاعٍ هذا، يحوّل الكارثة إلى موسيقى. 

 وعلى ذلك فإنَّ شمس الدين نهل من تراث الفجيعة الكربلائي، وكان اعتزازه بانتمائه الجنوبي، ليس من باب التعصّب الجغرافي أو الطائفي، بل أنّ الجنوب، كان كينونته التي تتغلغل جذورها في وجدانه، وحفرتِ الطبيعة الجنوبية مفرداتها في قاموسه الشعري العذب الوهّاج؛ الشجر والماء والطيور والسماء والقمر والحقول والسنابل، مازجاَ إيّاها بما نهل من تجارب أعلام الشعر العالمي بابلو نيرودا ولوكا وناظم حكمت.

يُوسم شمس الدين بأنه شاعر غنائي، تحتلّ" أناه" مركزاً دلالياً فيها، ولكنها لا تعلو إلى شأن النرجسية السلبية، فهي سرعان ما تتوحّد مع الناس والطبيعة.4295 محمد علي شمس الدين

 في نصوص" خدوش على التاج"، ترتسم لنا ذاتٌ فجائعية، متنبئةٌ بالرحيل الوشيك عن هذا العالم. نصوص الديوان المؤرَّخة غالبيتها قبيل أشهرٍ من رحيله عام 2022، تتضمّن مخاطبات رثاءٍ لمن رحلوا. في طريقه إلى الرحيل، تمثل أمام الشاعر صور الموت المتتالي للأحبّة، بما يجعل الدمع المذروف عليهم كالنزيف الذي لا يتوقّف، في إحساسٍ متوهّجٍ بالحزن الجمعي أمام قسوة الموت وأحزان الرحيل. يسري هذا مع تعاظم هاجس معايشة الموت والتكيّف معه من دون رهبة:" كلما سال دمعٌ على الأرض قلنا جرى/ دمعنا/ أو تراءى دمٌ في المغيب على/ عنق الشمس/ صحنا انظروا / إنّه دمنا/ دعِ الآن أهل المقابر/ في صمتهم ينعمون/ وقلْ: إنّهم حين ماتوا/ استراحوا/ أفاقوا على الموت/ ثم استراحوا": الديوان، ص110 . ما يعني أنّ الموت راحةٌ كبرى للبشر المُعذّبين، واللحظات الأخيرة لا تعني سكرة الموت، بل قلْ صحوة الموت. فهل كان شمس الدين يدعو الموت أن يجيء، كي يرتاح من عذاباته؟.

التمهيدات الدلالية لاستقبال الموت، تجعل الشاعر يهجس بأنّهُ حتى مفردات الطبيعة، كالرياح، مثلاً، محمّلةٌ بأشباح الموت حين يقول شمس الدين: لعلَّ للرياح شغفاً / لعلّ فيها روح من تباعدوا/ وأوغلوا/ رأيتها تدور حول منزلي/ كقطّةٍ سوداء/ تقول للأشجار عانقيني/ أنام ليلةً واحدةً وأرحل/ تقول للصغار هيّئوا أريكةً ومقعداً / تقول هيّئوا قبراً صغيراً لي / أبيت ليلةً وأرحل: ص59 .

ومن مفردات الطبيعة إلى كائناتٍ حيّةٍ مثل الطيور، هاجس الموت يجعل شمس الدين مؤنسناً لتغريدها، كأنّما تحاور الشاعر وتسائله عن أزوف وقت الرحيل، وعن أسبابه: يقف البلبل الأصفر المستريب/ ويسألني/ هل رأيت دماً في الغروب / وهل جاء وقت الرحيل؟: ص60.

 في الديوان خزينٌ تراجيدي، صوراً ودلالات، من استدعاء الرحيل أو تمنّيه للخلاص من تداعيات مرضه ووحدته، مع معرفة الشاعر بأنّهُ كمن سيرحل إلى صحراء لا نهاية لها، إنّها الموت حقاً، مع دأب شمس الدين  على ذكر مرموزاتٍ دينية آخروية، مثل "سدرة المنتهى"، حتى الشجر، لعظمة الأمر وأهواله، استعار له، خاصيّةً إنسانيّةً وهي البكاء: خذوني بعيداً عن الأرض/ إنّي لأشعر أنّي مريض/ وأنّي كذئبٍ وحيدٍ وأعمى/ على وجه صحراء لا تنتهي/ على قاب قوسين من" سدرة المنتهى"/ رأيت الشجرْ/ واقفاً / وهو يبكي: ص30 .

مُجمل الحصاد الشعري للراحل محمد علي شمس الدين، في تجربته التي امتدّت إلى ما يقارب أكثر من نصف قرن، تشخص أقانيمهُ أيضاً، في ديوانه الأخير، من ثراء هذه التجربة وغناها الوجداني والعرفاني، إلى التمسك بقصيدة التفعيلة مع احتواء الديوان لقصائد من الشعر العمودي، إلى شعريّة التهجّد إلى الله، واستدعاء الموت بدون خوفٍ أو رهبةٍ منه.

***

باقر صاحب - أديب وكاتب عراقي

شكلت الرواية المثال البارز لكيفية استيعاب الأدب العربي للأشكال والأنماط الأدبية العالمية وإعادة تشكيلها لتعكس الهوية والتجربة العربية. وهذا الاستيعاب يمثل عملية تحويلية عميقة تجاوزت الأشكال لتشمل الأساليب السردية والموضوعات الجوهرية، مما يكشف عن مخاض ثقافي عميق وغني..

لكن هل استطاعت الرواية في مجتمعاتنا العربية أن تتجاوز سطوة التمويه الثقافي والترويض الاجتماعي؟

البارز أن إنساننا العربي منذ طفولته يستقبل جرعات ثقافية من مجتمعه عبر إيحاءات في مسائل العقائد والأخلاق والأعراف من خلال خطاب الفقه المقدس... بحيث يكون موجها توجيها أيديولوجيا فلا يستطيع أن يرى الواقع أو يفكر إلا من خلال ما يراد له أن يتفاعل وفق مسطرته، هكذا عرف المجتمع العربي عدة غزوات ضد الرواية منذ القرن الماضي، وإلى يومنا هذا لا تزال الرواية في نظر الفكر الظلامي مهددا لعقائد الناس وهوياتهم الدينية وأخلاقهم لا لشيء إلا لكونها تنتج خارج صندوقه ...

 لقد عانى نجيب محفوظ ويحي حقي وحيدر حيدر و طاهر وطار، رشيد بوجدرة، أمين الزاوي، وعلاء الأسواني، يوسف زيدان، من سياط وتسقيط وتكفير بوليس المعبد الذي لا يعترف أساسا بشيء اسمه الرواية، فضلا عن أن يبذل جهدا لقراءتها- والعياذ بالله- لكتابتها، الرواية ليست نسخا للحيل الفنية على شاكلة الحيل الشرعية، الرواية الجريئة المؤثرة والمجددة للوعي الثقافي العام هي تعبير عن الاختلالات العميقة في البيئة الاجتماعية، بل هدفها الأول والأخير كشف حقائق الواقع التي تمس حياة الناس بشكل كبير وعميق وجوهري، فالرواية في الأدب العربي تعد بمثابة نافذة عميقة على الذات والمجتمع والجزء المغموس العميق من الواقع، الذي تستمد منه المشاكل والأزمات والصراعات والنكسات والانحرافات قوتها وحيويتها المستدامة في مقابل حلم التنمية المستدامة... لقد سمحت الرواية بتجسيد تجارب شخصية وجماعية معقدة فكانت الرافعة لاستنطاق القضايا الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والثقافية المسكوت عنها أو المتغافل عنها ..

هذا على صعيد راهن الرواية العربية المميزة بواقعيتها وجديتها وجرأتها وصناعتها للوعي المدني والحضاري، وما يرتبط بالأفكار والتصورات في المشهد الثقافي العربي العام، ذلك كله ينسحب على كل شيء تقريباً في يومياتنا من طنجة إلى مسقط، وتحديدا عندما تصبح القراءة بالمشاعر والأحاسيس والعواطف؛ لا يمكن للرواية أن تمتد في جغرافية الثقافة العملية للمجتمع فعلياً، لأن الواقع تحت تأثير خطاب التخوين والتفسيق والتكفير الذي جعله يجهل سبيل الخلاص، فيقرأ وفق مسطرة المعبد وإلا يكون من المغضوب عليهم والضالين...

لا ريب أن رواية (هوارية) للكاتبة إنعام بيوض أصبحت مثار جدل مفتعل وصخب شعبوي لا يجيد سوى التطير والهرج والمرج، بل هي ضحية موجات عمى البصيرة كما عبر الروائي واسيني الأعرج، والجميع حتى من انتقدوا الرواية ومن ركبوا موجة التشهير والتسقيط لم يقرأوا الرواية إما تماما أو بكليتها بل اكتفوا بتوسيع دائرة التشهير والمحاكمة على الطريقة البيزنطية أو بتسليط الأضواء على نقاط سوداء بارعون في انتقائها من كل النتاجات الإبداعية الأدبية والفكرية والثقافية، والعجيب أن غالبيتهم لا علاقة له بالأدب والرواية ومقتضياتها بل همه اليومي الكتب الصفراء والتشنيع والتضليل الإعلامي والتنويم الثقافي، وكما هو متفق عليه العقل الفردي يغيب تماماً في العقل الجمعي ويذوب فيه، في مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً نلاحظ أنه يكفيك أن تطلق شائعة وتزينها بصورة أو فيديو مفبرك، حتى يأتيك سيل جارف من القبح الثقافي والاجتماعي الذي يتحدث عن الأخلاق ولا يحترم حريات الآخرين ويتحدث عن العفة وهو غارق في الرذيلة، وينصب نفسه فارس النقد المغوار و هو لا يتقن أبجديات القراءة والكتابة، بل هناك من هؤولاء القوم من لا يلتفت أو يتغابى باستخدامه لأكثر الأدوات والتعبيرات سذاجةً وقبحاً وظلماً للآخرين. على الأقل إن كنت فعلا ناقدا للرواية ومنصفا لذاتك ومجتمعك ودينك، لابد أن تكون منصفا في حجاجك، إلا أن هنا بالضبط تكمن خطورة الأمر؛ أن سيل الانتقاد لأي عمل أدبي أو فني أو فكري يمكن أن يكون مفيداً فهو كذلك قد يكون مميتاً وقاتلاً للإبداع وأصحابه وللسلام والتنمية والكرامة الإنسانية في نفس الوقت، بحسب أوعية وقنوات تصريف وتوجيه الثقافة في المجتمع..

الطبيعي والموضوعي والأخلاقي أنه من لم يقرأ رواية ما أو كتابا أو قصة أو مقالة أو عن موضوع ما، لا يحشر نفسه فيما لا يعنيه، ولا يركب بحرا عميقا لا يمكنه أن يصمد أمام موجاته الفكرية والثقافية، وصدق واسيني الأعرج حين كتب- كما ورد بموقع العربي الجديد- بحسابه على فيسبوك: اقرؤوا النصوص جيّداً قبل تسليط ساطور عمى البصيرة عليها..

أخيراً..

الأخلاق الحقيقية تبدأ من الصدق مع الذات ومعرفتها حق المعرفة والتحرر من أي ترويض ثقافي يكون الإنسان خاضعاً له في أدق تفاصيل حياته الخاصة والعامة ... والرواية الجريئة هي تحرير الوعي من سجون الاستعباد الثقافي والتجهيل الممنهج وتمويه حقائق الواقع تحت غطاء الوصاية الفكرية والدينية والثقافية الاجتماعية... قبل هذا وبعده الرواية ليست قرآنا، لها ما لها وعليها ما عليها، الأمثل أن تجادل بالتي هي أحسن وليس بخنق الحريات والإبداع...قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

***

بقلم: أ. مراد غريبي

ثرثرة في مقهى إيفانستون للكاتبة المقدسيّة هناء عبيد والمقيمة في شيكاغو، صدرت في طبعتها الأولى العام 2023 عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان- الأردن. كُتبت بلغة سرديّة وبأبعاد فلسفية ونفسيّة، حيث صنعت نسرين في مخيلتها طيفا لشخصية سارة واعتبرتها توأم روحها.ومن خلال هذا الطيف أطلقت الكاتبة العنان لسارة للبوح بكل معاناتها وعذاباتها التي بدأت مع طفولتها ورافقتها في كل أيام حياتها.

إذا أردنا تجنيس هذه الرواية نجد انها تنتمي لعدة اجناس أدبية منها: الأدب السياسي، الأدب الإجتماعي وحتّى أدب الرسائل، إلا أن ما يجمع هذه الأجناس كلها هو أدب الإلتزام الذي يبدو جليًا  من خلال ما تتناوله الكاتبة من قضايا وموضوعات في رواياتها ملتزمة بإثارة القضايا الوطنية والسياسية التي تمس في جوهرها ما يواجهه الفلسطيني سواءً في الأرض المحتلة او في المنافي وبلاد الإغتراب.

امتازت الرواية باعتماد تقنية الإسترجاع في أكثر من موضع، وتماشيًا مع تقنيات العصر وبما ان الرواية تضمنت نفحة من أدب الرسائل فقد اعتمدت الكاتبة على التكنولوجيا فجاءت رسائلها عبارة عن إيميلات عبر البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الإجتماعي الرائج إستخدامها في عصرنا الحالي. وما يُميز هذه الرواية أيضا هو عدم اعتمادها على الراوي الواحد او السارد العليم بل أن الكاتبة أفسحت المجال لأكثر من راوٍ وهو ما يعرف بتعدد الأصوات، بحيث كانت حيادية  ومانحة الفرصة لكل شخص من شخوص روايتها بأن يبوح بكل ما يعتمر بداخله انطلاقًا من وجهة نظره وفهمه لما يمر به دون تدخل أو إيحاء من الكاتبة، وهذا ما يضفي على الرواية الكثير من المصداقية والواقعية.

ولكي لا يقع القارىء في حال من الملل كان ما يشبه تقطيع المشاهد عن طريق الإنتقال إلى الإسترجاع او الفلاش باك مما يدخل عنصر التشويق لدى القارىء ويحفزه لمواصلة القراءة ومعرفة ما ستؤول إليه الأحداث لاحقًا. وإلى جانب تعدد الرواة فقد شهدنا أيضا تعددأ للأماكن بدءًا من الاردن الى اميركا وإيفانستون مرورا بالنرويج  مع الإشارة إلى بعض مدن فلسطين كالخليل وغزّة والقدس.

رواية ثرثرة في مقهى إيفانستون، رواية ذات وجيهن ظاهريّ وباطنيّ، ففي وجهها الظاهريّ يمكننا القول أننا أمام رواية إجتماعية ذات بعد نفسي، تعالج مسألة الإنفصام أو ما يسمى بالإضطراب الوهمي، والذي غالبا ما يصيب الفرد نتيجة تجارب مؤلمة ورغبات مكبوتة يصعب تحقيقها،بحيث يصبح المرء عاجزا عن التفريق بين الحقيقة والوهم. وهذا بالضبط ما قدمته لنا الكاتبة من خلال شخصية سارة المتخيَّلة - والتي هي بالواقع نسرين- حيث تفصح سارة أنها عاشت طفولة بائسة مع زوج أمها ثم تزوجت لتصبح زوجة مهملة من زوجها رمزي الذي يعاملها بفظاظة وخشونة مما حملها للتوهم بأنّها قتلته وجشّت رأسه بحجر، لتختفي بعد ذلك وتضع نسرين في دوامة البحث عنها وعن حقيقة ما إذا كانت فعلا قد قتلت زوجها كما تدعي.لنكتشف في النهاية أن سارة ما هي سوى نسرين المضطربة نفسيًا نتيجة لموت والدها قتلًا على يد الإحتلال في القدس. ولقد أبرزت الرواية الصراع الأزلي داخل النفس البشرية بين الشر والخير، ففي أحد الحوارات تقول نسرين لسارة"أنتِ كثيرًا ما تتذمرين بينما أنا أجد ملاذي في إسعاد الآخرين، تمتلىء نفسك بالغل والحقد ورغبة في الإنتقام"(ص16).كما عبرت عن هذا الصراع الذي يعتمر في النفس البشرية من خلال ما درجت عليه نسرين من عادة في طلب فنجانّي قهوة أحدهما حلو والآخر مُر، فكيف لشخص أن يشرب قهوة تحمل طعم الحلاوة والعلقم في الوقت نفسه؟ إلا إذا كان يعيش صراعا داخليًا وتشتتًا ذهنيًا.

إضافة إلى هذا فقد تناولت الرواية الآلام النفسية التي يعانيها الشباب العربي نتيجة إغترابه وإبتعاده عن جذوره كما عبَّر عن ذلك  ليث بقوله:"صعب أن تترك جذورك وتحاول أن تنبت لك جذورًا جديدة في أرض أخرى (55). ونتيجة للأوضاع المتردية في معظم البلاد العربية بعد ما سُميَ بالربيع العربي أصبح الإغتراب القسري هو ما يتشارك به الشباب العربي من مختلف الأوطان ولكي لا تقع الكاتبة في فخ تسمية هذه الأوطان فقد لجأت للترميز واختارت ان تسميها ببلاد النخيل القادم منها ليث الذي يقول بلسان حال معظم الشباب العربي :  لم أختر الغربة يومًا،لكن أحلامي تلاشت فلم يعد مسقط رأسي وطنًا صالحًا بعد أن امتلأ باللصوص ومدمري الأحلام" (ص56).

لقد إستفاضت الكاتبة على لسان شخوص روايتها في الإشارة إلى ضرورة التمسك بالجذور مهما بعدت المسافات، تقول فاطمة ابنة الخليل: "كيف سينسى الفلسطيني جذوره المتغلغلة في وجدانه؟ (ص80). وفي موضع آخر تفصح عن وصية والدتها لها: " لا تقطعي رحلاتك إلى الأرض، هذه أرضنا وحلمهم أن ننساها" (ص116). وبهذا المعنى وردت عبارة في الرواية لا يجب ان تمر مرور الكرام لما تحمله من موقف سياسي ووطني لافت، وهي ما قالته نسرين من أن الأردن وطن دافىء إلا أنّه لن يكون يومًا وطنًا بديلًا عن فلسطين" (ص111).

هذا بإختصار ما يمكن استخلاصه من الرواية إذا تمّت مقاربتها من هذه الزاوية النفسية والإجتماعية، ولكن جوهر الرواية كما قلنا يكمن في مكان آخر وفي منحى مختلف تماما وأكثر تشعبًا. وهنا لا بد وأن نسجل للكاتبة براعتها في اعتماد ما يشبه التورية فقدمت لنا رواية على أنّها تعالج أزمات نفسية ما نتيجة القهر او الإغتراب، ولكنها في الحقيقة هي رواية ذات بُعدٍ سياسي ووطني وهذا ما نلمسه إذا ما حاولنا فك شيفراتها والقيام ببعض الإسقاطات على الواقع العربي عمومًا والفلسطيني خصوصًا.

بداية ليس مصادفة أن تنتقي الكاتبة شخصياتها بمجملها من العرب والفلسطينيين - بإستثناء السيدة نانسي المرأة الآتية من النرويج لتستقر في أميركا - .وهذا ما يمكنها من الإطلالة على ما يعانية الفلسطيني المغترب والمُبعد عن أرضه.

وبالإنتقال للبعد السياسي والترميز في هذه الرواية، فلو إستمعنا إلى سارة وهي تقول: " كنت صغيرة حين إحتلّ هذا الغريب الدار ورأيته يطلق النار على رأس أبي بعد أن كسّر عظامه بعقب البندقية،هذا الرجل الغريب –زوج أمي الوحش- كان دومًا يلبس بدلة عسكرية كاكية اللون ويحمل على ظهره بندقية، لقد طردني من بيت أبي وأمي وإدعى انّه مالك البيت ولديه حاجيات فيه قبل وجودنا نحن". إذا أردنا التمعن فيما قالته سارة نجد ان قولها هذا بالتأكيد يرمز إلى المحتل العسكري الذي يدعي زورًا أن له الحق في هذه الأرض التي إغتصبها عنوةً.

وفي موضع آخر وتحديدًا  الصفحة 137 تقول سارة ما مضمونه أن زوجها يريد أن يُسكِن صديقه وزوجته معهم في الغرفة الفارغة متساءلة كيف لها ان تعيش بحرية مع أغراب تتقاسم وإياهم المنزل. أليس في هذا القول إشارة إلى حركة الإستيطان التي تمارس في مصادرة البيوت والأملاك؟.

إشارة رمزية قد لا تخلو من البعد السياسي والوطني وهي عندما تفصح سارة عن وصية والدتها لها: " واصلي الرسالة يا سارة، كانت تحمل بيدها حجرًا أخذته منها، حينها قالت لي هذا هو إرثي لك" (ص12).هذه الوصية من الأم لإبنتها تعيدنا بالذاكرة إلى إنتفاضة الحجارة وتعلن بوضوح ان المقاومة ولو بحجر هي السبيل الوحيد لإسترجاع ما خسرناه.

لقد حضرت فلسطين بقوة في هذه الرواية وفي مفاصل كثيرة، وتضمنت إشارة تذكيرية بيوم الأرض الذي لا يمكن إختصاره بتاريخ يوم واحد فكل يوم من ايامنا هو يوم الأرض، وأيضا يأخذنا خالد إلى مدينته غزّة وكيف ان الحياة فيها يغلفها القلق الدائم وهي تنتظر الغارات القاتلة لسكان عزّل لا يحملون غير حقيبة من الأحلام المؤودة. ومشيرًا إلى الغارات التي تستهدف الأماكن المدنية بحجة انها تشكل خطرًا على الإحتلال بينما الحقيقة هو التصميم على قتل هذا الشعب.لكن هذا لا ولن يمنع  غزّة من ان تنجب اطفالاً يرضعون مع الحليب العزّة والكبرياء. وغزّة لن يُقْصم ظهرها يومًا فجذورها عميقة بعمق تاريخها الأصيل أمّا فاطمة تقول ان لها ابنة أسمتها فلسطين وصبّي اسمه خليل متمنية ان تنجب المزيد من الأبناء،لتحضن يافا وجنين وبيسان وصفد وتأخذنا الى الخليل بعين والدتها التي تعتبر الخليل قطعة من جسد الوطن ولا يمكن بترها مهما حاولوا إقتلاعها، لقد إنحفرت الخليل في قلبها كوشم أبدي وهي تستذكر المسجد الإبراهيمي وما حدث فيه من مجزرة أقدم عليها العنصري جولدشتاين العام 1994. والحديث عن فلسطين لم يقتصر على الخليل وحده بل كان للقدس نصيبها التي تستحقه، فالقدس كما تقول نانسي لها نور خاص يدخل السكينة إلى القلوب، والأماكن المقدسّة فيه تتشابك فكنيسة القيامة توجد في الجهة المقابلة للمسجد الأقصى. وللقدس أبواب عريقة كانت تغلق لتحميها من الطامعين أمّا الآن وبعد أن احتلوها فأبوابها أصبحت تغلق في وجه أصحابها بحجة أنهم إرهابيون.

الى جانب ما ذكر فإن التراث الفلسطيني كان حاضرًا أيضا من خلال جمعية إحياء التراث الفلسطيني كالحديث عن ضرورة التمسك بالثوب الفلسطيني حيث يحمل كل ثوب تاريخ مدينة فلسطينية،  كي يتم تناقله بين الأجيال، فالإحتلال يسعى لسرقته كما سرق الأرض والوطن، مع الإشارة الى الأكلات الشّعبيّة الفلسطينيّة التي تعتبر من صميم التراث الفلسطيني والذي يحاول الإحتلال أيضا طمسه ونسب تلك المأكولات إليه.

كما ان الرواية قاربت مسألة الإعلام وأيضا كتابة التاريخ الذي يغلب عليه الكذب، فالتاريخ يكتبه المنتصر أو الظالم في معظم الأحيان. وأيضا تشير إلى الإعلام الموجّه الذي لم يكن صادقًا يومًا.فهو يتبع القوي ويغسل الأدمغة ويعمل على تفريق الشعوب، كما تقول نانسي.(103).

مسألة أخرى بدأت تلوح في الأفق وهي مسألة بداية التغيير في الرأي العام الأميركي وتحديدًا أولئك القادمون من بلاد أخرى كالسيدة النروجية نانسي المتعاطفة مع القضية الفلسطينية  والتي رفضت أثناء زيارتها للقدس أن تستمع لشروحات الدليل السياحي خشية منها ان يسرد التفاصيل التي تتناسب مع تاريخ الإحتلال، وتقول لا مصداقية يمكن أخذها بدقة إلا ممن عاش على هذه الأرض على مر العصور.(106).

قضايا أخرى تناولتها الرواية ولو لمامًا كمسألة الزواج غير المتكافىء كما حدث مع سارة التي تزوجت من شخص لا تعرفه وتسأل كيف لشخصين أن يعيشا في بيت واحد؟ كيف يمكن لها أن تتعامل مع قلب مغلق وكيف للروح أن تتواصل مع عاطفة ميتة؟ (ص37).

لا بد وان نسجل للكاتبة متابعتها لما يدور في الأوساط الثقافية والأدبية من خلال إشارتها إلى رابطة الأدباء العرب حيث تتم مناقشة الأصدارات الأدبية سواء وجاهيا ام عبر تقنيات الزووم كما يحصل حاليا في معظم الملتقيات الأدبية. ولكن ما لفتني هنا شجاعة  نسرين – أو الكاتبة لا فرق-  في طرحها لسؤال إشكالي بعد مناقشة روايتها فتقول: لا أدري إن كانت الآراء تحكي الحقيقة أم أنّها مجاملات؟ كل الآراء متشابهة "قلم جميل واعد، لغة متينة، أفكار عميقة" فهل هذا قالب معدّ حتى يضمن كل كاتب ألا يهجو أحدٌ أعماله"؟

سؤال برأيي يجب التوقف عنده خاصة إذا كانت مناقشة الروايات او الكتب تتم بحضور كاتبها، فإلى أي مدى تكون مساحة الحرية والجرأة والموضوعية متاحة امام من يريد ان يدلي بمداخلته.

ختامًا مبارك للأديبة هناء عبيد هذا الإصدار الهادف وإلى المزيد من التألق والنجاحات.

***

عفيف قاووق – لبنان

1 –مفهوم البنيويّة:

الدلالة اللغويّة:

جاء معنى "بنيوية" في معجم المعاني الجامع – (معجم عربي عربي). بِنيَويّة: اسم مؤنَّث منسوب إلى بِنْيَة. وهي مصدر صناعيّ من بِنْيَة. أتت من بنى يبني بناءً. أي الدلالة عن الشكل والصورة والكيفية التي شيد عليها بناء ما.

وإذا ما عدنا إلى المعجم الوسيط لوجدنا أن الدلالة اللغويّة للفظ "بنية" وجدناها مشتقة من الفعل الثلاثي "بنى"، وهي في "هيئة البناء، ومنه بنية الكلمة: أي صيغتها".

والمنهج البنيوي في (العلوم اللغوية) هو منهج أو نظريّة تهتمّ بالجانب الوصفيّ من اللغة، وقد دخلت إلى علوم اللغة عامة، وراحت تنظر إليها على أنها (وحدات صوتيّة) تتجمّع لتكوِّن "المورفيمات" أو الوحدات الصرفيّة التي تكوِّن الجملة وعلم الأسلوب خاصّة. (1). وتُعرف أحيانًا باسم البنائيّة والتركيبيّة والبنويّة. أو هي كما ترى "يمنى العيد" في كتابها الموسوم بعنوان: (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي): (مفهوم ينظر إلى النص الأدبي في نسق من العلاقات له نظامه". أي أنها التصميم الداخلي للأعمال الأدبيّة بما يشمله من عناصر رئيسة متضمنة الكثير من الرموز والدلالات بحيث يتبع كل عنصر عنصرا آخر.). (2).

البنيويّة اصطلاحاً:

هي منهج فكري لا يقتصر تأثيره على النقد الأدبي، كما هو شائع، لكنه امتد ليشمل عدّة مجالات بحثيّة ومعرفيّة أخرى كالأنثروبولوجيا، وعلم النفس، والاجتماع، واللغويات وغير ذلك من مباحث تحاول أن تضع أسساّ موضوعيّة لما يسمى بـ " العلوم الإنسانيّة" أو الوجدانيّة. وهو في أهدافه وآليّة عمله معارض لكثير من المناهج الفلسفيّة والفكريّة التي سبقته، لا سيما مناهج الفلسفة المثاليّة بعمومها، كالوجوديّة والحدْسيّة واللاأدريّة والرومانسيّة والكلاسيكيّة، وغيرهما من المناهج كالتاريخية والوصفية ولكلاسيكية والرومانسيّة وغيرها.

وبتعبير آخر البنيويّة هي المنهج النقدي في الأدب والفلسفة الناقدة، الذي تشكل على أساس مجموعة من العناصر التي اعتمدت قراءة النصوص أو المباحث المختلفة على أسس ومعايير محددة ومضبوطة دون النظر إلى ذاتيّة الكاتب أو الأديب ومشاعره، أو التفكير في العوامل الخارجيّة المرتبطة به أو توثر فيه.(3). ولقد بدأ تأثيرها الفعال على النقد الأدبي في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، اعتمادًا على النظريات اللغوية "لفرديناند دي سوسير". وتَعْتَبِرُ المدرسة البنيويّة اللغويّة أن اللغة مجموعة من الدلالات والإشارات، يصعُب فهمها إلا من خلال ترتيبها معًا بنظام مُحدّد، ومن خلال المنظور الأدبي. والبنيويّة تعتقد بأنّ كل عمل أدبي يُظهر حقيقة شيء معين، لذا حلّل النقاد البنيويون التفاصيل الأساسيّة في العمل الأدبي من حيث ألفاظه وجمله وتراكيبه ومجازته وصوره الشعريّة لاستخراج المعنى الأساسي منه. وهذا أدّى إلى تطوير الاستنتاجات العامة حول الأعمال الفرديّة والأنظمة الأساسيّة لها. (4).

تاريخ ظهور البنيويّة في النقد الأدبي وأهم روافدها:

يذكر الكثير ممن اشتغل على النقد البنيوي بأن هذا الاتجاه (قد بدأ في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر، متأثرا بكتابات هيجل وماركس وفرويد ودوركايم ولوكاش، على ما بينهم من اختلافات في المنهج والاتجاه. ومن هنا يمكن أن نلمح رسوخ هذه التأثيرات وتراوحها بين الجدل- الديالكتيك- كما عرفه هيجل ومارسه ماركس ولوكاش خاصة في نظريّة الانعكاس، وبين تحليل- أو ديالكتيك- فرويد النفسي، ودوركايم الاجتماعي، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاتجاه- البنيوي - (قد تشكل واستقام أوائل الستينيات من القرن العشرين حين أصدر "كلود ليفي شتراوس " كتابه المهم: " الفكر الهمجي " سنة 1962، وتلاه " فوكو " بكتابه الدال " الكلمات والأشياء" سنة 1966 ثم "لاكان " بكتابه الذي لا يقل أهمية "كتابات"). (5). و(من أعلام النقد البنيوي أيضاً في الغرب نجد بليخانوف ورولان بارث وتزفيتان تودوروف وجيرار جينيت وغيرهم. أما في العالم العربي فنجد كلا من حميداني حميد وصلاح فضل ومحمد مفتاح على سبيل المثال لا الحصر.). (6).

ومما هو جدير بالذكر أن البنيويين يرفضون نعتهم بالفلاسفة، ويذهبون إلى القول بأنهم "منهجيون لا مذهبيون " (وهذا ما قاله " ليفي شتراوس: " بأن البنيويّة: (مجرد منهج أو نسق يمكن تطبيقه على أي نوع من الدراسات، تماما كما هو الحال بالنسبة للتحليل البنيوي المستخدم في العلوم الأخرى"). وكذلك رأي "جان بياجيه " الذي (يؤكد بأن البنية مثلها مثل السببيّة في الفيزياء، وهي صرح نظري وليست معطى تجريبياً بأي حال.)، أو كما يقول "لوسيان سيف ": هي (نظام علاقات داخليّة محددة لا يمكن اختزاله إلى حاصل مجموع عناصره، بحيث لا يبقى أمام البنيويّة المعاصرة سوى محاولة الصياغة الرياضيّة لهذا المفهوم المركب.). (7).

وللتأكيد نقول أيضاً: إن ذيوع صيت اللسانيات الحديث وتقاطعه مع المنهج الشكلاني الروسي، كونه أرسى أسس الاختلاف بين الشكل والمضمون، داعيّاً إلى الاعتناء بالشكل أكثر من المضمون. جاءت البنيويّة لتعمل على دمج الشكل في المضمون، أو الدال في المدلول (المعنى)، وبخصة عند المتلقي أو القارئ، لأن الدال الواحد لا بد أن ينتج مدلولات مختلفة بالنسبة لكل متلقي حسب التجارب الفرديّة وثقافة وعمر كل متلقي. وعليه يصير النص واحداً والقراءات متعددة. تقول الكاتبة والناقدة الأدبيّة " حسناء الكيري الإدريسي": (بأن الشكلانيّة والبنيويّة قد ظهرتا معا كرد فعل ضد التيار الرومانسي/ الانطباعي، وعلى التحليلات والمناهج التي تربط الأدب بمحيطه الاجتماعي وخاصة الماركسيّة بالدرجة الأولى. لذلك اتفق العديد من الدارسين والنقاد على أن الشكلانيّة والبنيويّة قد ظهرتا معًا كردِّ فعلٍ ضدَّ اللاعقلانيّة الرومانسيّة، وعلى التحليلات التي تربط الأدب بمحيطه الاجتماعي، ويُقصد بذلك النزعة الماركسيّة بالدرجة الأولى). (8).

أهداف البنيويّة وخصائصها:

لقد ركزت البنيويّة اهتماماتها على بنية العمل الأدبي بهدف تبيان نظام اشتغاله، وذلك من خلال تحليله تحليلاً داخليّاً، والبحث في نسقه، والكشف عن العلاقات المتحكمة فيه، و"تراتبها، والعناصر المهيمنة على غيرها، وكيفية تولدها ثم كيفية أدائها لوظائفها الجماليّة، واختبار لغة الكتابة الأدبيّة عن طريق رصد مدى تماسكها وتنظيمها المنطقي والرمزي، ومدى قوتها وضعفها، بصرف النظر عن الحقيقة التي تعكسها. وقد رفعوا شعاراً عريضاً يؤكد على (النص ولا شيء غير النص)، أي البحث في داخل النص فقط عما يشكل أدبيته، أي طابعه الأدبي. وقد حاولوا من خلال ذلك التأكيد على حياديّة الأدب. فدراسة الأعمال الأدبيّة عندهم هي عمليّة تتم في ذاتها، بغض النظر عن المحيط الذي أنتجت فيه. فالنص الأدبي منغلق في وجه كل التأويلات غير البريئة التي تعطيه أبعاداً اجتماعيّة أو نفسيّة أو أيديولوجيّة أو تاريخيّة، أو حتى ماديّة، كونه قائم على اللغة، أي الكلمات والجمل. هذا وتنضاف إلى هذه الخصائص مسألة “موت المؤلف” التي نادى بها "رولان بارث"، كي يتولد المعنى برأيهم بعيدا عن كل المؤثرات الخارجيّة قصد تجاوز الأحكام التي قد تشوه هذه الممارسة النقديّة.(9).

إذن إن من أبرز مهام البنيويّة في النقد الأدبي السعي لفهم محاور النص ومرتكزاته بالتحليل اللغوي، والتفكيك النسقي في محاولة لتلمس "الثابت والمتحرك " في ذلك النص، مع استبعاد كل انطباع عام وحكم عام وذاتي أو قيمي، وضد الأحكام العامة والمفاهيم المعياريّة، والقوالب الجاهزة سلفاً. فهي لا تُقَوِم النص- بالمعنى الذي يعرفه أنصار البلاغة التقليديّة- لكنها تحلله وتقيمه بعد أن تَشَكَلَ، واستقام بالفعل.

وبشكل عام يمكن أن نقول: إن البنيويّة قد قامت ضد الأحكام العامة والمفاهيم المعياريّة، والقوالب الجاهزة سلفاً. وأخيرا قامت ضد كل المدارس التي تدور حول النص ولا تدخل فيه أبدا، وكل المدارس التي تكتفي بالأحكام العامة والقيميّة والإنشائّية، والتي تملي حكما جاهزا ومسبقا لكل نص!! وضد كل الاتجاهات التي تحاول أن تعلم الكاتب كيف يكتب، أو تضع مثالاً مسبقاً يتوجب محاكاته والسير في كنفه.

أما أبرز خصاص المنهج البنيوي ومبادئه فهي:

1- النص الأدبي ينبني على نظام داخلي منغلق على نفسه يجعل منه وحدة محددة:

أي إن دراسة الأعمال الأدبية تتم هنا دون النظر إلى العوامل الخارجيّة التي تحيط به. وهذا ما أكد عليه الناقد "عبد الله حمد في كتابه "مناهج النقد الأدبي الحديث" حيث يقول: (إن الأدب نصّ مستقل تام منغلق على نفسه" حيث تتمّ دراسة الأعمال الأدبيّة في ذاتها، بغض النظر عن العوامل والظروف المحيطة بها، فالنص الأدبي قائم على كلماته وجمله، مُنغلق في وجه التأويلات كلها التي تُعطيه أبعادًا تاريخيّة واجتماعيّة.).(10).

ويقول الناقد التونسي الدكتور "حسين الواد" في هذا الاتجاه: (إن هذا النص الأدبي ينبني على نظام داخلي يجعل منه وحدة محددة، ولأن العمل الإبداعي الأدبي منغلق على ذاته فإنه يقوم على نظام داخلي يجعل منه كلا متماسكا، تنشأ بين عناصره (الكلمات) شبكة من العلاقات التي تستمد قيمتها من علاقاتها المتبادلة. فكل خصائص العمل الأدبي مجتمعة في بنائه الداخلي، وبالتالي فلا حاجة بنا للبحث عنها خارجه.). (11).

2- البنية تستطيع تنظيم ذاتها بذاتها لتُحافظ على وحدتها واستمراريتها:

أنّ بنية النص وفق هذه الخاصية تستطيع تنظيم ذاتها بذاتها لتُحافظ على وحدتها واستمراريتها، أيّ إن البنية باستطاعتها ضبط نفسها ضبطًا ذاتيًّا يُؤدي للحفاظ عليها، ويضمن لها نوعًاً من الانغلاق الإيجابي، وهو ما يجعل البنية قادرة أن تحكم ذاتها بذاتها من خلال مكوناتها، بحيث لا تحتاج إلى شيء آخر يلجأ إليه المُتلقي ليستعين به على فهمها ودراستها وتذوقها.(12).

3- اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف:

إن التأكيد على أهمية اللغة في التأثير على المتلقي عبر الكتابات الأدبيّة، يساهم في اختفاء شخصيّة الكاتب من الكلام، ويأتي هنا دور القارئ في فهم الدلالات والمعاني التي يحملها النص. وتقول في هذا الاتجاه "الناقدة فاطمة البريكي": (إن اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف" هذا المبدأ نادى به "رولان بارت" في مقالته (موت المؤلف) من كتابه (نقد وحقيقة)، حيثُ يُلغي شخصيّة الكاتب في النص؛ ليتولّد المعنى بعيدًا عن الظروف الخارجيّة، فيبقى الدور على القارئ في فهم سياقات النصوص والوصول إلى دلالاتها.). (13). وهذا مايؤكده منهج التلقي الذي نتناوله بدراسة خاصة لا حقاً.

4- تتعامل البنيويّة مع الجزء:

أي التعامل مع (الكلمة)، فهي تريد التأكيد على أن هذا الجزء ترس من آلة. أو نقطة تقاطع لحزمة من العلاقات داخل النص، فالكلمة جزء من جملة، وجزء من مفهوم وجزء من بنية اجتماعيّة وإنسانيّة. ومن جهة أخرى في هذه الخاصية، فاللغة شكل لا جوهر كما يقول "دي سوسير"، لذلك على اللغوي أن يركز وصفه على الشكل، مادام عالم الدلالات - المعاني مشتركاً بين سائر اللغات، ومادام وجه الخلاف بين تلك اللغات يكمن في "الصورة "، أي الكلمة. ولأن الكلمة- أو الكلمات- لا تحقق مهامها بالتجاور الكمي، ولأنها - أي الكلمة - دال ومدلول، لذك بدأت البنيويّة بالكلمة كجزء من كل- تطبيقا لاجتهادات اللغويين- اللسانيين- والاجتماعيين الذين يشتغلون على المنهج البنيوي. وبالتالي من العبث أن نقول بأن البنيويّة تقوم على "لعبة لغويّة" تحصي الصفة والموصوف أو الجار والمجرور، أو عدد الأحرف اللبنة أو القاسية في متن النص، أو تقف عند التكراريّة والإشاريّة بحيث يسهل بعد ذلك أن تستعيض عن المعنى بسهم أو دائرة، كما يصعب القول بأنها "موضة" وانتهت. (14).

5- دراسة النص من حيث مستوياته:

(الصوتيّة، والصرفيّة، والمعجميّة، والنحويّة، والدلاليّة، والتداوليّة، والرمزيّة. فالبنيويّة تدرس النص من حيث الاعتماد على هذه المستويات قصد الكشف عن العناصر المختلفة التي يبنى عليها النص، والتي تُظهر وتُجلي دلالته المقصودة.). (15).

المرجعيات الفكرية والوظيفيّة للمنهج البنيوي:

لقد اعتمد المنهج البنيوي على طرقً أو أساليب منهجيّة في نقد النص الأدبي، ويأتي في مقدمتها:

1- "المنهج الشكلاني الروسي": الذي يقوم على الاعتناء بالشكل أكثر من المضمون في أحد مراحل تطوره، فهو لا يُعنى بالظروف والعوامل الخارجيّة، ولا يُسقطها على النص عند تحليله، حيث يدعو هذا المنهج إلى الاكتفاء بتحليل النصوص. ويُؤمن أنصاره بذاتيّة القارئ في فهم النصوص واستنتاج دلالاتها. وقد أشرنا إلى هذه المرجعية المنهجيّة عند تناولنا لموضوع تاريخ ظهور المنهج البنيوي في بداية دراستنا هذه.

2- المنهج "التكويني": الذي يقوم على تحليل النصوص الأدبيّة من منظور اجتماعي إلى حد ما، أي لا ينظر للنص بانعزاليّة تامّة عن الواقع الذي أنتج فيه، بل يرى أنّ الأدب تعبير عن الواقع، فاللغة ذاتها لها بعدها الاجتماعي ولا تفرخ مجردة وقد حاول هذا المنهج الدمج بين الشكل والمضمون، وبذلك يُمكن للدال الواحد إنتاج مدلولات مُختلفة باختلاف المُتَلقّين، ومن خلال الربط بين المنهج البنيوي في صيغته الشكلانيّة مع المنهج التكويني، نشأ عنه المنهج "البنيوي التكويني" - الذي سنبين طبيعته في دراسة لا حقة -. فإذا اقتصرت البنيويّة الشكليّة على تحليل النص وحده دون رجوع المبدع إلى أي مرجعيّة كانت كما بينا في موقع سابق، كالمرجعة النفسيّة أو الأخلاقيّة أو التاريخيّة أو الأيديولوجيّة أو الاجتماعيّة، فهي في هذا التوجه تقوم بإلغاء الفرادة والخصوصيّة الفنيّة للنص الواحد، وتقضي على المبدع وتميزه، وهذا ما ركز عليه المفكر الفرنسي "روجيه غارودي" في كتابه (فلسفة موت الإنسان)، حيث وجدت البنيويّة نفسها أمام باب مسدود بسبب هذه الانغلاقيّة. لقد جاءت (البنيويّة التكوينيّة) لتعيد قيمة المبدع، حيث جمعت بين البعد الاجتماعي للنص الأدبي والبعد اللغوي.

3- الماركسيّة والتفسير المادي الجدلي: وذلك في ظل جهود المفكرين والنقاد الماركسيين، للتوفيق بين أطروحات الشكليين في أولى مراحل طرحها، ومبادئ الفكر الماركسي الجدلي الذي ركز على التفسير المادي والواقعي للفكر والثقافة عموما، كونها "تسمح بنوع من العلاقة بين البنية الفوقيّة – الثقافة والأدب والفنون– والبنية التحتيّة وهي الوجود الاجتماعي بقوى وعلاقات إنتاجه.(16). وهذا التأثير تجلى في "البنيويّة التكوينيّة".

4- ومن المناهج التي اعتمدت عليها البنيوية أيضاً هناك منهج "النقد الجديد": (الذي ظهر في أربعينات وخمسينات القرن العشرين في أمريكا، فقد رأى أعلامُه أن الشعر هو نوع من الرياضيات الفنيّة "عزرا باوند"، وأنه لا حاجة فيه للمضمون وإنما المهم هو القالب الشعري، وأنه لا هدف للشعر سوى الشعر ذاته "جون كرو رانسوم").(17).

5- وهناك مناهج "اللسانيات البنيويّة": حيث يقول الناقد المصري "عبد العزيز حمودة" في كتابه الموسوم ب: "الخروج من التيه": (أما المرجع المشترك في كل هذه الأعمال الأدبيّة، فهو اللسانيات البنيويّة، فكلها تسلم بأن الحكاية تشابه الجملة، بل هي جملة كبيرة يجب توضيح قواعد توليدها، وهي خاضعة لقيود المنطق الإلزاميّة، ويمكننا تقطيع وحدات صغرى في الحكاية كما نقطعها في الجملة، ولو كانت تلك الوحدات أكبر بكثير من الوحدات المكونة للجمل، وتبيان كيف يندمج بعضها في بعض ويتألف ليشكل حكاية، فقوانين تحولاتها هي التي تشكل التركيب السردي) (18). ولعل هذا المصدر هو أهم مصادر البنيويّة، (لا سيما "ألسنية دي سوسير" الذي يُعد رائد الألسنيّة البنيويّة، بسبب محاضراته (دروس في الألسنيّة العامة) التي نشرها تلامذته عام 1916 بعد وفاته. وعلى الرغم من أنه لم يستعمل كلمة (بنية) إلا أن الاتجاهات البنيويّة كلها قد خرجت من ألسنيّته، فيكون هو قد مهّد لاستقلال النص الأدبي بوصفه نظامًاً لغويًاً خاصًّا. وفرّق بين اللغة والكلام: فـ (اللغة) عنده هي نتاج المجتمع. أما (الكلام) فهو حدَث فردي متصل بالأداء وبالقدرة الذاتيّة للمتكلم.). (19).

6- وهناك أيضاً "حلقة براغ" في المنهج الشكلاني الروسي: وهي حلقة دراسية كونها ثلة من علماء اللغة في براغ -عاصمة التشيك-، وهذه الحلقة وإن كان زعيمها "ماتياس" إلا أن المحرّك الرئيس لها هو نفسه مؤسس المدرسة الشكلية الروسيّة "ياكبسون" الذي تنقّل بين روسيا وبراغ والسويد والولايات المتحدة الأمريكية، فكان أينما حلّ بشّر بآرائه، وكان له دَور فعّال في نشر الوعي بالنظريّة الجديدة وترسيخها في أوساط المثقفين. ومن هنا التقط علماء حلقة براغ مشعل الدراسات اللغوية الحديثة الذي صب "سوسير" زيته ونسجتْ الشكليّة الروسيّة خيوطه وأخذوا يتحدّثون بشكل صريح متماسك عن بنائيّة اللغة.(20)..

7- وهناك نظرية (موت المؤلف) في المنهج البنيوي: لقد فضلت البنيويّة الاهتمام بالبنية الدلاليّة التي حملت مضامين العمل الأدبي عند القارئ أو المتلقي، ودعت إلى تهميش المؤلف وإماتته، وهو ما أدّى إلى إلغاء دور التاريخ وعدم الاهتمام به لكونه قد قام على احتكار المعاني في المناهج النقديّة التي أعطته دورًا مهمًا في تحليلاتها، ونظريّة (موت المؤلف) أسهمت جديًا في الاعتماد على دور القارئ في فهم سياقات النصوص والوصول إلى دلالاتها.

فالحق أن منهج البنيويّة هو حاصل جمع وطرح أغلب إن لم يكن كل التيارات السابقة عليه، والمعاصرة له.

مستويات المنهج البنيوي:

يقوم المنهج البنيوي في تحليله النصوص الأدبيّة على مستويات مُتعددة يُمكن عرضها على النحو الآتي:

1- المستوى الصوتي: ويقوم هذا المستوى على دراسة الحروف (أصوات اللغة) وتكويناتها ورمزيتها وموسيقاها من تنغيم، ونبر، وإيقاع.

2- المستوى الدلالي: ويقوم هذا المستوى على دراسة وتحليل المعاني المباشرة وغير المباشرة، والصور المتصلة بالأنظمة الخارجة عند حدود اللغة، المرتبطة بالعلوم النفسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة.

3- المستوى الرمزي: يقوم هذا المستوى على دراسة رمزيّة اللفظ، واستنتاج وتركيب ما تقوم به المستويات السابقة من دور في المعنى الجديد، وإنتاج مدلولات أدبية جديدة.

4- المستوى النحوي: ويقوم هذا المستوى على دراسة تنظيم الكلمات وتركيب الجمل وتأليفها وخصائصها الدلاليّة والجماليّة.

5- المستوى الصرفي: ويقوم هذا المستوى على دراسة الكلمات والبُنى اللفظيّة لها، ووظيفتها في التكوين اللغوي.

6- مستوى القول: لتحليل تراكيب الجمل الكبرى بهدف معرفة خصائصها الأساسيّة والثانويّة. (21).

البنيوية في النقد العربي:

مع بداية القرن العشرين، وبتضافر العديد من جهود الباحثين والنقّاد من أجل السعي قدماّ نحو ولادة فكر جديد وإحداث الكثير من التغيُّرات، وبتتبّع حركت الفكر النّقدي، نجده قد مرّ بعدّة مراحل متباينة متأثّرا بالأفكار والرؤى النّقدية الأدبيّة الغربيّة، ومن محور اهتمام النقاد العرب هو توجههم نحو نقد المدرسة (البنيويّة التكوينيّة) في الخطاب النّقدي الأدبي العربي الحديث، هذا النقد الذّي كان واضحاّ وجلياَ من خلال عدد كبير من أفكار ورؤى نقّاد الوطن العربي، خاصة بعد أن سيطر فكر هذه المدرسة على أفكار نقّادنا، وجعلهم يتّجهون نحو بنائيّة النّص الأدبي، وينظرون إليه نظرة "سوسيوجدلية"، على أساس انغلاقه على مكوّناته النصيّة، مع ضرورة إيجاد بنية تاريخيّة تفسّره.

وخلال السبعينيات من القرن العشرين، انتشرت البنيويّة وهيمنت على النقد العربي حيث تلقفها النقاد العرب المحدثون، الذين استفادوا من بعض الترجمات التي عرفت بها وبمميزاتها وطرائقها في تحليل النصوص الأدبية، فضلا عن بعض الدراسات التي أنجزها بعض النقاد من قبيل: "يمنى العيد" و"كمال أبو ديب" و"محمد برادة" و"محمد بنيس" و"جابر عصفور و"حميد حمداني" و"عبد الفتاح كيليطو" ... وغيرهم من النقاد الذين أغنوا الممارسة النقديّة العربيّة. (22). وهنا أصبحت البنائيّة أو البنيويّة في هذه الفترة من القرن العشرين تتردد في أبحاث الدارسين العرب، ففي البدء تأثر النقد العربي الحديث بالمنهج البنيوي في لبنان وسوريا والمغرب، ولم يلبث أن انتشر هذا المنهج في مصر وبلدان عربيّة أخرى، ولعلنا نستطيع أن نرى النقاد العرب قد أفادوا من هذا المنهج وأنهم أخذوا يحللون أعمالًا أدبية، فعلى الصعيد التطبيقي يلقانا "كمال أبو ديب" في (جدلية الخفاء والتجلي والرؤى المقنعة)، و"خالدة سعيد" في (حركية الإبداع)، أما على صعيد السرديات فيلقانا "سعيد يقطين" في (القراءة والتجربة)، و"يمنى العيد" في (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي). ورغم أن المنهج البنيوي كان من أقصر المناهج عمرًا، إذ لم يستطع الصمود فترة طويلة أمام ما واجهه من عقبات ومناهج ما بعد الحداثة، وبخاصة (المنهج التفكيكي) الذي حافظ على وجوده عند النقاد العرب محاولين توظيفه في التحليل الأدبي والولوج به في التعامل مع النص الديني. هذا ويعتبر "كمال أبو ديب" أبرز رواد المنهج البنيوي في العالم العربي، ذلك أنه أصل له وقام بتطبيقه على الشعر العربي في كتابين: الأول (جدلية الخفاء والتجلي دراسة بنيوية في الشعر" طبعة 1981)، والثاني عنونه بـ (الرؤى المقنعة، نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي – طبعة 1986) .(23).

ويرجع اهتمام أغلب نقاد العقود الأخيرة من القرن العشرين بهذا المنهج إلى إحساسهم بقصور المناهج النقديّة السابقة عن تقديم ذاك التحليل المتكامل للنص الأدبي، فضلا عن الرغبة في الانخراط في التحولات التي يعرفها النقد الأدبي في ظل الاحتكاك مع بعد الحداثة الغربية، والتي شكلت البنيويّة أبرز ملامحها. وهكذا، أسهم المنهج البنيوي في تجديد الخطاب النقدي السائد في العالم العربي، وبلورة رؤية نقديّة جديدة فتحت معالم رحبة للخوض في كثير من النصوص والبحث في أنظمتها الداخليّة.

نهاية "البنيويّة"

يقول الناقد السوري محمد عزام: (إذا كانت (البنيويّة) قد انطلقت في النصف الثاني من القرن العشرين فملأت الدنيا وشغلت الناس، فإنها بدأت بالتراجع منذ إضرابات الطلاب الراديكاليّة في فرنسا عام 1968، مما جعل البنيويين يعيدون النظر في مواقفهم ومنهجهم الذي خرجت من رحمه مناهج نقديّة عديدة كالأسلوبيّة، والسيميائيّة، والتفكيكيّة، بالإضافة إلى الألسنيّة، التي هي عماد هذه المناهج النقدية جميعًا).(24). وبهذا يمكن القول: إن البنيويّة قد بدأت بالانهيار في أوائل السبعينات من القرن العشرين، وظهر مكانها في فرنسا ما اصطلح على تسميته «ما بعد البنيويّة». وكان "رولان بارت" و"جاك ديريدا" أهم فلاسفتها. وكان "رولان بارت" قد تحول عن البنيويّة إلى ما بعد البنيويّة، وبدأ في دراساته النقديّة يتجه إلى التقليل أكثر من أهميّة الكاتب في تركيب النص الأدبي، إلى دور قارئ النص في توليد معانٍ جديدة لا نهاية لها. يؤكد "بارت" في كتابه (متعة النص)، (1975): (أنه في غياب الكاتب تصبح عملية إيجاد تأويلات للنص عملية عبثية لا نهاية لها، لكنها ممتعة، وتأتي المتعة من امتلاك النص لإمكانات «اللعب» بالمعاني. ولكن هذا لا يعني تخلّيّا فوضويّا عن كل القيود، وإنما تفكيكاً وهدمًا منظَّمين لإنتاج معانٍ أخرى، وكأن القارئ يعيد كتابة النص، فيصبح منتِجًا له وليس مستهلِكًا، وهذا أساس المذهب التفكيكي، الذي طوره " جاك ديريدا"، وهو أساس «مابعد البنيويّة»(25). هذا وإن الكثير من المفكرين والفلاسفة لم يتقبلوا البنيويّة أيضاً -على الرغم من انتشارها السريع- (وراحوا يصفونها بالمنهج اللاإنسانيّ، ومن أبرز مَن واجهها ونقد روّادها وساهم في تقويضها: الفيلسوف الفرنسي "لوك فيري"). (26). ومما يدلل على عدم جدوى هذا المنهج وضرورة التخلص منه أن بعض أبرز روّاده قد تحوّلوا عنه وتطوّروا -كما سلَفَ ذِكره.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

...................................

الهوامش:

1- (موقع الألوكة- الوحدة الصرفية (المورفيم): مفهومها وأنواعها - د. عصام فاروق – و(المورفيم) هو عبارةٌ عن أصغر وحدة لُغَوية تَحمِل معنًى والمقصود بـ (المعنى) هنا ما يسمَّى المعنى الوظيفيَّ.).

2- (يمنى العيد -كتابها: (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي- الناشر: دار الفارابي - الطبعة: الثالثة، ص 318).

3- (موقع لحظات نيوز- تعريف المنهج البنيوي في النقد الأدبي - خصائص المنهج الاجتماعي في النقد الأدبي - صورة كيرو البدري.). بتصرف.).

4- (موقع موضوع - تعريف المدرسة البنيوية. لينا سرطاوي.). بتصرف.

5- (مجلة العربي - أدب ونقد العدد 419 - البنيوية: اتجاه في النقد الأدبي الحديث: سمير عبدالفتاح.).

6- (موقع العمق المغربي - البنيوية في النقد الأدبي - حسناء الإدريسي الكيري).

7- (كل الآراء المتعلقة بالبنيويّة التي وردت هنا نقلاً عن مجلة العربي - أدب ونقد العدد 419 - البنيوية: اتجاه في النقد الأدبي الحديث: سمير عبدالفتاح.).

8- (، حسناء الكيري الإدريسي - البنيوية في النقد الأدبي، مدخل تعريفي. بحث منشور في صحيفة "قاب قوسين" الإلكترونية).

9- (موقع العمق المغربي - البنيوية في النقد الأدبي - حسناء الإدريسي الكيري). بتصرف.

10- (عبد الله خضر حمد، مناهج النقد الأدبي الحديث - دار القلم بيروت –دون تاريخ النشر – ص105 وما بعد). بتصرف.

11- (حسين الواد: “قراءات في مناهج الدراسات الأدبية”، سراش للنشر، تونس -1985.).

12- (عبد الله خضر حمد، مناهج النقد الأدبي الحديث - دار القلم بيروت –دون تاريخ النشر – ص107 و108). بتصرف.

13- (فاطمة البريكي، قضية التلقي في النقد العربي القديم- دار الشروق – عمان - 2006 صفحة 29.).

14- (مجلة العربي - أدب ونقد العدد 419 - البنيوية: اتجاه في النقد الأدبي الحديث - سمير عبدالفتاح -). بتصرف.

15- (الحوار المتمدن - العدد: 5453 – 2017- المحور: الادب والفن - مناهج النقد الأدبي الحديثة - المنهج البنيوي أنموذجا - محمد الورداشي -كاتب وباحث مغربي.).

16- (مجلة آفاق علمية – المجلد 11 العدد 4 -2019- مرتكزات بنيوية لوسيان غولدمان التكوينية - . د عادل اسعيدي المركز الجامعي تامنغست)الجزائر- ود. عبد القادر بختي المركز الجامعي تامنغست – الجزائر). بتصرف. (ويراجع حول البنيوية التكوينية أيضا: ("مرتكزات بنيوية لوسيان غولدمان التكوينية"، مجلة آفاق علمية، 2009، العدد 4، المجلد 44، صفحة 503وما بعد).

17- (عزام، محمد: تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحداثية. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، (ص13).

18- (الناقد المصري "عبد العزيز حمودة" في كتابه الموسوم ب: "الخروج من التيه" دراسة في سلطة النص، عالم المعرفة – الكويت - 2003ص 92).

19- (راج موقع موضوع - المنهج البنيوي وخصائصه - خلود المعاويد.).

20- (راج موقع البوابة -المنهج البنيوي في النقد الأدبي -عمر السنوي). بتصرف.

21- (حول مستويات المنهج البنيوي – يراجع موقع موضوع - المنهج البنيوي وخصائصه: خلود المعاويد.)بتصرف.

22- (مجلة التعليميّة - مظاهر النقد البنيوي في النقد العربي المعاصر – العدد 2 - د. عتيقة سعدوني – جامعة الجيلالي عباس - الجزائر). بتصرف.

23- (موقع سطور - المنهج البنيوي في النقد الأدبي - أنس محفوظ -). بتصرف.

24- (24). (عزام، محمد: تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحداثية. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، (ص9).

25- (للاستزادة في هذا الاتجاه - يُراجَع: ستروك، جون: البنيوية وما بعدها، من ليفي شتراوس إلى ديريدا. ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة، الكويت، 1996.).

26- (جاكسون، ليونارد: بؤس البنيوية. ترجمة ثائر ديب، ط2، دار الفرقد، دمشق، 2008، (ص167).

صدرت عن دار "الفينيق" بعمّان رواية "أسبوع العسل" للدكتور حميد الكفائي؛ وهي الرواية الثالثة في رصيده الإبداعي الذي يترسّخ برَويّة ودِقّة وأناة، وقد استغرقتهُ الرواية الأولى "عابر حدود" قرابة عشر سنوات، كما أخذت منه رواية "الغائب الحاضر" زمنًا مماثلًا يعكس اهتمامه الكبير في كتابة النص السردي الذي لا تنقصه البراعة والرصانة والجمال.

مَن يقرأ هذه الرواية سيكتشف من دون لأْي أنها تتمحور حول الخيانة الزوجية والخيانة المهنية لكن القارئ العضوي المتفحِّص سيرى فيها أبعد من هاتين الخيانتين العُظميين، فبطل الرواية سليم صالح هو الشخصية الرئيسة في هذا النص السردي لكنها ليست المهيمنة كليًا على الرغم من حضوره الدائم في الفصول الثمانية والعشرين، إذ يمكن اعتبار هذا النص رواية بوليفونية متعددة الأصوات تشترك فيها من النساء فيونا ولورا وبيانكا وجوليا وسِلفِيا وفاتن، ومن الشخصيات الرجالية سليم ورشيد وألبيرتو ومصعب وحمدان وكونور وكامل وبوهدان وما سواهم من الشخصيات الرجالية والنسائية التي جاوزت الخمسين شخصية بضمنهم الأطفال الذين سنأتي على ذكرهم حينما تتشعّب الأحداث وتتشظّى العوائل التي كانت متضامّة مُتشابكة ذات يوم. كما تقترب هذه الرواية في جانب منها من السيرة الروائية أو السيرة الذاتية، إن شئتم، وذلك لهيمنة الراوي الذي يروي الأحداث بضمير المتكلم الذي يضطر للبوح بكل أسراره الخاصة والحميمة التي قد يهشِّم بعضها صورته الجميلة في أعين المحبّين والناقمين عليه على حد سواء.

ليس بالضرورة أن ينتمي هذا النص السردي إلى جنس الرواية التقليدية المتعارف عليها ولعل تشظّيها إلى أجناس قريبة منها كالسيرة الروائية أو السيرة الذاتية يمنحها أبعادًا إضافية توسّع من مدى الجنس الأدبي الواحد. كما أنّ النسق الحواري الذي ظهرت فيه الرواية سمح لها باحتضان معلومات سياسية واجتماعية وتاريخية وجغرافية وثقافية وفنية ما كان لها أن تظهر بهذه الكثافة وتمدّ الرواية بمضامين ثانوية تعزز ثيمة الرواية القائمة على أزمة الهُوية التي يعاني منها بطل الرواية سليم صالح، المهاجر من العراق الذي استقر في خاتمة المطاف في ضواحي لشبونة بعد أن درس في بريطانيا، وتعيّن في دبلن ثم انتقل إلى البرتغال وعمل في شركة "الرغبة" التي وفّرت له فرصًا ذهبية للقاء العديد من الحسناوات الأوروبيات إلاّ أنَّ "سِلفِيا احتلت منه موقع القلب، بينما سكنت بيانكا في أعماق الضمير" (الرواية،9) ولكي نتتبع الأحداث بشكل دقيق لابد من العودة إلى الزمن الكرونولوجي الذي يسير بخط مستقيم وإن تعمّد الراوي الداخلي أو الراوي المشارك تأجيل البوح ببعض الأسرار المهمة التي قد تقلب حياته رأسًا على عقب. ولهذا بدا النسق السردي دائريًا أو ثمة حلقة مفقودة يمكن أن تُعيد للسياق السردي إيقاعه المنتظم أو نسقه المعتاد. يمكن اعتبار سليم صالح راويًا عليمًا لكنه ليس كلي العلم فثمة تصرفات وسلوكيات لا يمكن أن يتوقعها أو يعرفها على وجه الدقة مثل ردود أفعال النساء الأربع اللواتي ارتبط معهنّ بعلاقات حميمة وهنّ على التوالي فيونا ولورا وبيانكا وسلفيا فقد درس سليم في جامعة لندن وتخرج فيها طبيبًا متخصصًا في علم النفس، ثم تعيّن في مستشفًى بدبلن، وهو المستشفى ذاته الذي تعمل فيه زوجته فيونا كطبيبة أيضًا لكنه في لحظة ضعف أقام علاقة حميمة مع لورا، إحدى مريضاته التي حملت منه طفلاً أسمتهُ راين، فالقانون الآيرلندي لا يسمح بالإجهاض كما أنها تنتمي إلى أسرة كاثوليكية تعتبر الإجهاض حرامًا. وسوف توفر لنا لورا إطلالة على الديانة المسيحية القائمة على المحبة والنبل والتسامح حيث ردد والدها ما قاله السيد المسيح عندما أرادوا رجم مريم المجدلية "فليرمِها بحجر من لم يرتكب ذنبًا" (الرواية، 170) فتوقّف الجميع لأنه لا يوجد بينهم منْ لم يرتكب إثمًا أو خطيئة. كما سيوفر لنا مصعب إطلالة أوسع على الديانة الإسلامية والقرآن الكريم من خلال استشهادات رشيد بآيات من الذِكر الحكيم أبرزها "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"(الرواية، 20) "ولا إكراه في الدين فقد تبيّن الرُشد من الغيّ"(الرواية، 21) وما إلى ذلك من آيات كريمة تحضُّ على حرية الاعتقاد والإيمان والتفكير.

علاقات متعددة وولع مُفرط بالنساء

لابدّ من الإقرار بأنَّ سليم صالح يحب الجمال ويتوه فيه فلاغرابة أن يحب أكثر من امرأة في وقت واحد كما حصل حينما أحبَّ لورا بوجود زوجته الأولى فيونا، وسوف يحب سِلفِيا بوجود بيانكا، كما أنه كان يميل إلى فاتن بوجود الاثنتين على الرغم من أنها سطحية وتفتقر إلى الثقافة والكياسة ولا تمتلك غير الجمال الوراثي الذي يعود إلى جيناتها الفينيقية. ومثلما ارتكب الخطأ الأخلاقي والمهني الأول مع لورا فسوف يدفعه الولع بالنساء إلى تأسيس علاقة حميمة مع بيانكا التي قررت أن تعود إلى جنوا لتكتشف بعد مدة قصيرة أنها حامل وسوف تنجب هذا المولود وتتعلق به جدًا وتُطلق عليه اسم أليساندرو لينضاف إلى قائمة أولاد سليم صالح الذي قرّر أصلًا ألّا ينجب أطفالًا في هذا العالم المكتظ بالمواليد الجُدد. وبعد أن تفكّ سلفيا طلاسم العلاقة التي كانت تربطه ببيانكا وتعزف عن الإنجاب تفاجئنا بأنها حامل بتوأم غير متماثل وسوف يسمّيهما سليم أسماءً مشتركة في الثقافتين العربية والأوروبية حيث تأخذ الطفلة اسم منى بينما يأخذ الطفل اسم كميل ليُصبح عدد أولاده أربعة وهم على التوالي راين وأليساندرو ومنى وكميل ولطالما كان يحلم بجمعهم في بيت واحد لكن صغر سن راين وأليساندرو كان يمنع أمّيهما من التفريط بهما في وقت مبكر خاصة وأنّ بيانكا لم تتخلَ عن حُب سليم وإن كانت تتكتّم وتحبس أوار هذا الحُب في قلبها قبل أن تبوح به بعد الأشهر الأولى من الإنجاب.

لا نريد أن نسهب في الحديث عن حبكة الرواية وقد اكتفينا برسم معالم عمودها الفقري الذي يكشف عن ولع سليم صالح بالنساء الجميلات وهو المهاجر القادم من ثقافة مغايرة، وديانة مختلفة، ومجتمع لم يغادر كليًا قيمه البدوية، وتقاليده الاجتماعية التي دأب عليها منذ قرون طويلة الأمد. ما يهمنا في هذه الرواية أيضًا هي الأفكار والرؤى والمضامين الثانوية التي زخر بها هذا النص السردي الدسم الذي ارتأى مُبدعه حميد الكِفائي أن يقدّمه بطريقة مغايرة لما اعتدنا عليه في الرواية العراقية والعربية فلم أقع شخصيًا على روائي عراقي أو عربي يوظف السياسة والتاريخ والجغرافية والدين والسياحة والآثار والشعر والأغنية العراقية والعربية والعالمية بهذا الشكل المندغم مع نسيج النص الأصلي حتى غدت هذه المعلومات جزءًا من لُحمة النص السردي وسَداته. وحسنًا فعل الكِفائي حينما تحدث بلغة العارف ببواطن الأمور عن استبداد غالبية الحُكّام العرب الذين كانوا السبب الرئيس وراء هجرة المواطنين العرب وغير العرب إلى المنافي الأوروبية والعالمية، بل أنّ حروب صدام حسين الخارجية والداخلية هي التي شرّدت العراقيين من وطنهم الذي يمحضونه حُبًا من نوع خاص ولولا قسوة هذا الطاغية الذي فعل بشبعه ما لم يفعله أي رئيس في العالم باستثناء بول بوت وستالين لما تفرّق العراقيون أيدي سبأ وتناثروا في مشارق الأرض ومغاربها وهذا الأمر ينطبق على غالبية الدول العربية باستثناء دول الخليج العربي التي وفّرت عيشًا كريمًا لمواطنيها وللأجانب الذين وفدوا إليها.

تستطيع الرواية الناجحة أن تتقبّل كل الأجناس الأدبية وتذوّب في بنيتها الداخلية غالبية العلوم والمعارف الإنسانية شرط أن يُلبسها الكاتب لبوسًا أدبيًا ولهذا بدت الأحاديث السياسية والعسكرية والجغرافية جزءًا حيويًا من نسيج النص ومادته الداخلية التي تهدف للتلميح بما هو ممكن الحدوث إن عاجلًا أم آجلًا، فحينما تتحدث كاترين عن جزيرة القرم "كرايميا" تقول إنها أرض أوكرانية وسوف يستعيدونها في يوم من الأيام. وأنّ روسيا اعترفت عام 1954 بأنها جزء من أوكرانيا ولم تطالب بها بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي عام 1991. تعّج رواية "أسبوع العسل" بالمعلومات التاريخية والسياحية والفنية التي لم يُقحِمها الكاتب في نصه السردي وإنما جاءت لتوضيح مجموعة من الآراء والأفكار التي تتعلق بالحوار النوعي الذي دار بين شخصيتين محوريتين في الرواية وهما الدكتور سليم ورشيد هارون، الشخصية الواعية المثقفة التي يفيد منها سليم ويعتبرها قدوة ويهتدي بآرائها العلمية والحضارية المتفتحة حينما يتحدثان عن "قصر الحمراء" في غرناطة، ومدينة الزهراء، ونُصب ولّادة بنت المستكفي وابن زيدون ليؤكد لنا بأنّ الإسبان يحتفون بجميل ماضينا "بينما نحن نهجر الجميل والنافع في تأريخنا، ونجتر أسوأ ما فعلهُ الأسلاف" (الرواية، 73). لا يجد الروائي حرجًا في استعمال بعض المصطلحات العلمية مثل التستوسترون والأستروجين وما سواهما لأن القارئ سيفهم من السياق طبيعة هذه المصطلحات التي يتحدث عنها الراوية في إطار العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، بل أنّ هناك ثيمات مهمة يجترحها الكائن السردي لتنضاف إلى الثيمة الرئيسة للعمل الأدبي وتعمِّقها أكثر من ذي قبل من بينها إشباع الغريزة الجنسية وتحقيق الطمأنينة، وتعزيز الغرور في النفوس حيث يتوصل إلى ما يشبه الحقيقة التي تقول:"لا سعادة إلاّ بالتخلص من التستوسترون الفائض عبر الطرق البيولوجية"(الرواية، 87). تستمر قائمة توظيف المعلومات بأشكالها المتعددة بسلاسة كبيرة وتدفق ملحوظ من دون أن يرتبك النص السردي أو يشذّ عن سياقه المألوف كما هو الحال في الحديث عن أفضل أنواع  الأنبذة التي تصعنها دول عربية وإسلامية وعلى رأسها المغرب والجزائر وتونس وتركيا حيث يقدّم السارد المتماهي مع كاتب النص ومبدعه قائمة طويلة بأسماء أفضل هذه الأنواع المُنتَجة في العالمين العربي والإسلامي.

الهجرة إلى المنافي وصعوبة التأقلم والاندماج

تتمحور هذه الرواية على موضوع الهجرة والمهاجرين من مختلف أرجاء العالم وإن كان التركيز مُنصبًا على العالم العربي والإسلامي، وخاصة أولئك الناس المُقتَلَعين من جذورهم، وقد وجد الكثير من هؤلاء صعوبة في التأقلم والاندماج، وبعضهم ظل على الهامش بحجة عدم التفريط بالهُوية العربية والإسلامية لكنّ البعض الآخر اندمج مع البلدان المُضيِّفة وقِبل بقيم منظومتها الإخلاقية والاجتماعية. فثيوفانيس، على سبيل المثال لا الحصر، يرى أنّ المسلمين في اليونان منسجمون مع المجتمع اليوناني، كما يسمع سليم من أحد الطلاب بأنّ البرتغاليين والأسبان مُطلعين على الثقافة العربية ومُحبّين لها لأنهم قريبون جغرافيًا وثقافيًا كما أنّ العرب بسطوا نفوذهم على تلك المضارب لبضع مئات من السنين.

لا بد من الإشارة إلى ولع الراوي المشارك بالموسيقى والغناء وهذا ما يفسّر لنا توظيف الكاتب لعشرين أغنية تقريبًا في هذا النص غالبيتها أجنبية وبعضها الآخر عربية أو عراقية أهمها "مُبحر أنا" لرود ستيورات، و "أبي لا تعِظني" لمادونا، و "عودك رنّان" لفيروز و "الليلة ليلة هَنانا" لعارف محسن وما إلى ذلك من أغنيات جميلة تُحاكي الغربة، والوجود، والعاطفة الإنسانية في أقصى لحظات توهجها. فهذه الرواية لا تمجِّد الحُب فقط وإنما تزرع حُب الموسيقى والغناء والشعر وتدعو إلى التماهي مع الفنون القولية وغير القولية لأن الحياة من دونهما لا يمكن أن تُطاق وتُصبح مثل "صحراء قاحلة" على حد وصف مؤلف النص السردي نفسه.

تنطوي رواية "أسبوع العسل" على لغة صافية منسابة مريحة للقارئ المحترف الذي يلتهم هذا النمط من الروايات التي تقترب كثيرًا من الأفلام الدرامية الرومانسية التي تنتظم في حبكة قوية جدًا يحرّكها مثقفون وعشّاق من جنسيات متعددة. ويكفي القارئ الحصيف أن يلْمح هذا العنوان المُغاير "أسبوع العسل" ليُدرك أنّ الروائي المبدع حميد الكِفائي قد نأى بنفسه عن العِبارة الشائعة والمُستهلكة "شهر العسل" التي لا تثير شهية القارئ العضوي ربما ولا تُوخز مخيلته الذهنية المُتقدة الأمر الذي دفعه لانتقاء هذا العنوان الجديد الذي يراهن على المفارقة والشدّ والترقب ومحاولة الإمساك بالمعنى المجازي الذي أراده خالق النص وأحالنا إليه قبل أن تتكشّف أسراره المتوارية ومعانيه الدفينة إلى حدٍ ما.

شيئان مُهمّان يميزان هذه الرواية ويعكسان حِرفية كاتبها وهما الجملة الاستهلالية والجملة الختامية فقد أوجزنا في الجملة الاستهلالية حين قالت فيونا بالحرف الواحد:"لا لن أبقى مع رجل أخلّ بأهمّ شرط في عقد القِران، وأهمّ مقوِّم من مقومات الحياة السعيدة، وأول مبدأ من مبادئ الإخلاص". فهذه الجملة على الرغم من طولها واسترسالها تضع المتلقي في قلب الحدث، وتوصل بطلته إلى لحظة الحسم واتخاذ القرار وما ينجم عنه من تداعيات مؤسية تُبعده عن البلد الذي عمل وعاش فيه لمدة خمس سنوات متتالية ثم وجد نفسه عاريًا وعليه أن يبدأ من جديد. أمّا الجملة الختامية التي أشرنا إليها سلفًا فهي التي تضع الأمور في نصابها الصحيح والصريح في آنٍ معًا، وكأنّ الكاتب الذي يرتدي في أحيان كثيرة قناع شخصية سليم أو صديقه رشيد، يريد أن يرسّخ في أذهاننا حقيقتين ثابتتين تؤكدان حيرته الدائمة وانشطاره إلى شخصيتين تُحبّان امرأتين أو أكثر في الوقت ذاته حيث يعترف بالفم الملآن:"لقد عاشت سِلفيا في قلبي، وعاشت بيانكا في ضميري".

على الرغم من أنَّ "أسبوع العسل" هي رواية أحداث، وخيانات زوجية ومهنية، إلاّ أنها رواية أفكار ومفاهيم ورؤى ثقافية واجتماعية وسياسية ودينية وفنية، ولو شئنا الدقة لقلنا إنها رواية "جامعة مانعة" لا يعتورها النقص، ولا يرتقي إليها  القصور، ويستطيع المتلقي أن يجد فيها ضالته المنشودة وأحسب أنّ مؤلفها المبدع حميد الكفائي لم يترك لأقرانه الروائيين موضوعًا إلاّ وتناوله أو لامَسهُ من كثب. وعلى الرغم من حرصي الشديد في أن ألمّ بمختلف ثيمات هذه الرواية إلاّ أنها استعصت عليّ لسعتها وشموليتها الفكرية والثقافية والثقافية والفنية واتساع رقعتها الجغرافية التي تغطي أجزاءً كبيرة من القارة الأوروبية وتمتد إلى روسيا وبعض البلدان العربية المحصورة بين العراق والمغرب.

لابدّ من التنبيه إلى أنّ الروائي حميد الكفائي اقد درس الاقتصاد والترجمة والعلوم السياسية وعمل في الصحافة والإعلام لسنوات طوالا، وسافر كثيرًا فاكتسب خبرات ومعارف جغرافية تراكمت بمرور الزمن فلا غرابة أن يعرف العديد من العواصم والمدن الأوروبية على وجه التحديد، من هنا يمكن القول بأنّ هذه الرواية هي رواية مكانية أيضًا إضافة إلى كونها رواية زمانية لا تقتصر على رصد العقود الثلاثة الأخيرة وإنما تغوص إلى الماضي البعيد وتستنطق التاريخ العربي في عهوده الزاهرة ليس في أسبانيا فقط وإنما في البرتغال وفرنسا وغيرها من البلدان الأوروبية التي تأثرت وتلاقحت بالحضارة العربية. وقبل أن نطوي صفحة هذا المقال لابد من الإشارة أيضًا إلى أنّ الروائي حميد الكفائي قد نجح في إدارة هذا العدد الكبير من الشخصيات التي جاوزت الخمسين شخصية تقريبًا مثلما ينجح المخرج السينمائي البارع في إدارة عدد من الممثلين وتوجيههم إلى المسارات الصحيحة ويضمن في خاتمة المطاف إيقاعًا منتظمًا يقارب المقطوعة السمفونية التي تخلو من التلكؤ والتعثّر والنشاز.

***

عدنان حسين أحمد

أصدر الأديب حميد الحريزي عدداً منَ الأقاصيص، التي أسماها (الروايات القصيرة جداً)؛ بسبب قصرها الشديد، وكثافة وضغط السرد، واعتمادها على حدث وزمان ومكان واحد، وشخصية محورية، وعدم الإفراط والإفاضة في وصف دقائق الأشياء والشخصيات والأماكن من حيث شكلها الخارجي، أو دواخل الشخصيات وصفاتها الذاتية، مثلما اعتادت الروايات الكلاسيكية والمعاصرة الطويلة الضخمة، وذات الأجزاء العديدة لبعضها. فقد أطلَّ علينابهذه الرواياتالقصيرة جداً)، والتي يتراوح عدد صفحاتها مابين 11 و 25 صفحة. وقد يكون أول روائي يكتب أقاصيص بهذا الحجم، ويُنظِّر لها  بتلك التسمية ليكونَ رائداً فيها.

في تاريخ الرواية في العالم، وأجناسها من حيث الحجم، عرفنا الرواية الطويلة والرواية القصيرة. ومن أبرز وأشهر الروايات القصيرة، وأهمها من الناحية التقنية للرواية ومناهجها وقواعدها في السرد والحبكة، هي رواية (رسائل من أعماق الأرض) لديستويفسكي الصادرة عام 1864 والمؤلفة من حوالي 82 صفحة، والتي أسماها أيضاً مترجمها أنيس زكي حسن عام 1959 بـ(الإنسان الصرصار)، ورواية الألماني توماس مان (الموت في البندقية) الصادرة عام 1912، التي ترجمها الى العربية كميل قيصر داغر عام 1979 والمتكوّنة منْ حوالي 101 صفحة، وقد اسماها على الغلاف   بـ(رواية)، وفي متن تقديمه لها أطلق عليها اسم (الأقصوصة والقصة)، ورواية (الشيخ والبحر) لأرنست همنغواي الصادرة عام 1952 والمؤلفة من 105 صفحات.

وبالمقارنة مع صفحات روايات الأستاذ حميد الحريزي هناك فارق عددي في الصفحات، قد يدفع بعض النقدة الى رفض تسميته أقاصيصَه هذه بـ(الرواية القصيرة جداً)، وما هي إلا أقاصيص أو روايات قصيرة. بالاعتماد على المنهج النقدي في القصة القصيرة والأقصوصة. وكما أشار الأستاذ الدكتور أبو المعاطي فخري الرمادي، أستاذ الأدب والنقد الحديث، في بحثه الموسوم بـ(الرواية المصرية القصيرة في الربع الأخير من القرن العشرين) عام 2003 ، إذ أشار الى "أنّ الرواية القصيرة ليست بحجم القصة القصيرة، ولا بحجم الرواية الطويلة، وغير محكومة بعدد الكلمات، كما أشير الى الأقصوصة التي حُدِّدَت بين 10.000 كلمة و20.000 . كما أنها (الرواية القصيرة) تمتاز بسرد مكثّف، وشخصية محورية واحدة، أو شخصيتين، وحدث محوري واحد، ومكان وزمان محدّد، وهي أيضاً من الخصائص الرئيسة للقصة القصيرة والأقصوصة."

لذا فإنْ نظرنا الى طول الروايات القصيرة جداً الحريزية (نسبة الى حميد الحريزي) فإنها تحمل نفس الخصائص، الشخصية المحورية مثل الكلب في مذكرات كلب، وضويّة في (أرض الزعفران)، وحامد في (هذيان محمزم)، إضافة شخصيات أخرى تخدم المضمون وتطور الحدث وسيره حتى النهاية. وهناك حدث محوري واحد، وأحداث متفرعة منه ضمن التصاعُّد في الحبكة القصصية للوصول الى النهاية والمفاجأة  كما في رواية (هذيان محموم)، والتي تؤدي دورها في الهدف الأساس من كتابتها، وفي التوجهات الفكرية والسياسية والاجتماعية النقدية لمؤلفها، والتي دفعته الى تأليفها، ووضع الظواهر السلبية التي تأخذ بخناق البلدان وشعوبها نحو التخلُّف والانحلال والسقوط والظلم والانهيار. وهو الهدف الرئيس الذي جعله الروائي والشاعر والناقد المفكّر حميد الحريزي ضمن أهدافه في المساهمة بالتغيير الحضاري، وهو طريقه الذي اختاره في فنه الأدبي؛ لأنّ الأدب جزء أساس في نشر الوعي والثقافة والتطور والتحوّل الحضاري بين أبناء الأمة، لأهمية الكلمة الحرّة المناضلة، ووقعها بين الناس. فهو من الأدباء الملتزمين بصرامة وثبات بقناعاته الفكرية التقدمية.

ومن خصائص الرواية القصيرة، كما حدّدها البعض من النقاد، أنها تميل الى السخرية والكوميديا والاستفزاز، وهو ما نقرأه في روايات الحريزي كـ(مذكرات كلب)، و(هذيان محموم)، أو تميل الى التراجيديا مثل رواية (أرض الزعفران)، ورواية (مقايضة). وكلُّ هذا يتناوله حميد الحريزي ضمن تعريته للواقع الاجتماعي والسياسي والديني السائد على الساحة العراقية والعربية، بأسلوب النقد الفني الأدبي الجميل، وهو مايمكن لنا اعتباره ضمن أدب الواقعية النقدية. فهو لا يصرَح ، وإنّما يُلمّح ويُرمِّز، ويترك للقارئ التأويل – رواية مذكرات كلب (النقد الاجتماعي)، وروايتي أرض الزعفران ومقايضة (النقد السياسي) - لكنّه في (هذيان محموم) يُصرّح من خلال الحوارات بين الشخصيات المُتخيَّلة، ويوجّه سهام نقده ورفضه الواقعَ السياسيَّ والاجتماعيّ والديني، وانتشار الخرافات والأساطير، والتفسيرات غير العقلانية للدين وشرائعه وسيطرتها على العقول، وكلّ هذا على لسان شخصيات الرواية.

لقد سبق للروائي والشاعر والناقد حميد الحريزي أنْ أصدر رواية طويلة بثلاثة أجزاء (محطات: العربانة، كفاح، البياض الدامي) رواية غطّتْ فترة زمنية طويلة، تاريخية سياسية اجتماعية، تمتد من أربعينيات القرن العشرين إلى يومنا هذا، من خلال تأريخ الحزب الشيوعي العراقي. وهو الذي جعل الرواية طويلة جداً؛ لتغطية هذه الفترة، وذلك لكثرة الأحداث وضخامتها وخطورتها وأثرها الكبير الخطير على العراق والعراقيين، وكذلك لكثرة الشخصيات، وصراع الأفكار والإرادات.

لكننا نجده اليوم يتوجه الى الرواية القصيرة ذات الحبكة المكثفة والمركزة، والشخصية المحورية الواحدة أو أكثر بقليل، والزمن المضغوط، والمكان المحدّد. وهو لم يكتفِ بذلك، بل طلع بجنسٍ روائيٍّ آخر خارج منْ رحم الرواية القصيرة، مع احتفاظه وحرصه على الخصائص الفنية لها - وقد مررنا على بعضها - وأطلق عليها تسمية (الرواية القصيرة جداً). ثمّ نظَّرَ لها بعدد من الدراسات المستندة والمُفسّرة والشارحة للرواية في العالم، وتاريخها وظروف ظهورها وتطورها من الطول والضخامة والأجزاء المتعدّدة الى الرواية القصيرة، والأسباب التي تكمن وراء هذا التطور، المرتبط عضوياً بالتطور البشري والحضاري والاجتماعي والتكنولوجي، حتى وصل العالم الى ما هو عليه الآن من ضغط الحياة وسرعة حركتها، التي أثّرت بشكل عميق جداً وطبيعي على سرعة الملاحقة البشرية لما يجري، وهذا طبيعي بطبيعة الحياة، التي جعلت الإنسان لا يستطيع ملاحقة كلّ شيء، ومنها الآداب والفنون، فلم يعد يمتلك الوقت الفائض الطويل ليقرأ الطوال من الروايات، والدراسات، والمقالات، والقصائد المعلقات، والاستماع الى الأغاني، والمقطوعات الموسيقية الطويلة لساعات، بل يستطيع خلال دقائق معدودة أن يستمتع بعدد منها، فلم يعد بمقدوره إهدار وقته في الاستماع الى أغنية واحدة بطول ساعة أو ساعتين. وهذا التطور فوق إرادة الإنسان واختياراته.

وبما أنّ هذا التقدّم الحياتي الاجتماعي والتكنولوجي والتغيير ينسحب على كلّ نشاط إنساني، ومنها الفنيّ بالضرورة، فإنه يأخذ الرواية وتطورها أيضاً في طريقه. وبهذا ساد في الاتجاه الأدبي القصصي فنُّ القصة القصيرة جداً، والومضة الشعرية. وعليه اتجه حميد الحريزي لخلق لون روائي جديد، بما أنه وعى القفزة النوعية في التقنيات العلمية، وتغيّر الإنسان معها. وهي نظرة مستقبلية لا تختلف عن كلّ التطورات التي جرت في عالم الأدب نثراً وشعراً.

يقول الحريزي ضمن تعليله لأهمية الرواية القصيرة جداً – كما يرى ويدعو - في دراسة تنظيرية لهذا الجنس تحت عنوان (الرواية القصيرة جداً، موجبات الولادة، واشتراطات التجنيس) في صحيفة الحقيقة العدد 2699 /4.7.2024  :

"الإنسان في عصرنا الحالي مشغول دوماً بالعمل من أجل توفير متطلبات الحياة المادية اليومية، لا تترك له المشاغل اليومية إلّا حيزاً محدوداً جداً من أجل تأمين احتياجاته الروحية ومنها الرواية والفنون عموماً، مما جعل الرواية القصيرة جداً من متطلبات الحياة الواقعية الحالية لتوفير ما يمكن من الغذاء الروحي للإنسان ، وحمايته من الوحدة والتوحّد وجفاف الروح وتصحُّر المشاعر وغلاظة السلوك."

كما يشير في موقع آخر من الدراسة، بعد ذكره لتاريخ الرواية عالمياً وظروف وأسباب انتشارها بطولها القديم الضخم، يشير الى متطلبات الواقعية التطورية الحياتية والتقنية للمجتمعات والناس، وربط كلّ ذلك  بالصراع الطبقي، وبالبرجوازية بالذات، وتفاعلات حركة المجتمع مع حركتها والتغييرات الناتجة عنها سياسياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً، وبالضرورة أدبياً وفنياً لأنهما ضمن البنية التحتية للأنظمة الاجتماعية. ومن هذه المتطلبات المتعلقة بالتطور الحاصل في واقع يومنا هذا، برزت الحاجة الماسة لتطور الرواية، ومن رحم الرواية القصيرة كلونٍ روائيّ شائع، مثلما القصة القصيرة جداً، والومضة الشعرية، وكلِّ المتعلقات الفنية الأخرى. فيقول:

"هذا الواقع يتطلب المزيد من ضغط الوقت لكلّ فعالية إنسانية، في عالم لاهث، راكض، خاطف السرعة، في كلّ شيء، في العمل والأكل والحديث والتمتُّع بما هو كمالي ومن ضمنه الغذاء الروحي للإنسان، كالأفلام القصيرة والكتب المختصرة ومنها الرواية، لتكون بحجم يناسب وقت وجيب المتلقي للإنسان الراكض دوماً. وهنا كما نرى يطرح الواقع نوعاً شديد الاختزال من الرواية، وما أسميناه بالرواية القصيرة جداً."

ربما يعترض البعض من الأدباء والنقاد على هذا، مستندين الى الاشتراطات والقواعد والخصائص المنهجية للرواية، وللرواية القصيرة التي تنطبق ايضاً على روايات الحريزي القصيرة (جداً) مع فارق الطول بينها  – كما ذكرنا سابقاً - ، إلّا أنّ الذي مرَّ بالأدب العربي على طول تاريخه الطويل من تطورات وتحديثات وتجديد، شكلاً ومضموناً، وفق التطور الاجتماعي والحضاري والزمني: الشعر الأندلسي، الموشحات، البند، شعر المهجر، الشعر الحر/شعر التفعيلة، قصيدة النثر، الومضة ... إضافة الى التطور الفني في الموسيقى والغناء، والمسرح، والقصة (القصة القصيرة جداً)، والمقالة، فما الغرابة في أنّ تتطوّر الرواية مع الزمن بناءً على ما نشهده من قفزة تطورية حضارية تقنية اجتماعية، كما مرَّ ذكره، لتبرز الرواية القصيرة جداً، مع الاحتفاظ بحقّ النقد، والرأي والرأي الآخر، أي بين حقّ الرفض والقبول والحوار، كلُّ منْ موقفه وقناعاته الفنية. وهو ما يهدف اليه حميد الحريزي رائداً لها.

رواية (هذيان محموم) نموذجاً:

هي آخر رواية قصيرة جداً أصدرها الروائي والشاعر والناقد والباحث حميد الحريزي، بخمسٍ وعشرين صفحةً. تدور حول الشخصية المحورية الرئيسة وهو المؤلف (حامد): فهل هو مشتق من اسم الروائي نفسه (حميد)؟ أظنني لا أحيد عن الصواب؛ فبمقارنة بين شخصية حامد وأفكاره، ومواقفه وتطلعاته، حول الواقع الحياتي سياسياً واجتماعياً ودينياً، وبين ما نعرفه عن الأديب حميد الحريزي، أقول جازماً أنّه هو، لكنْ في إطار قصة فنتازية خيالية، وأراد من خلالها أنْ يكون حاضراً بجزء من شخصيته؛ ليعرض هذه الآراء والأفكار والتطلعات والآمال من خلال النقد الإيجابي لا السلبي، ضمن الإتجاه الأدبي بما يُسمى (الواقعية الاجتماعية النقدية).

يخرج بطل الرواية حامد على دراجته الهوائية ليجلب الثلج بعد انقطاع التيار الكهربائي ودرجة الحرارة أكثر من 55، وعند عودته الى البيت يقع مغشياً عليه، فيدخل في غيبوبة وحمى شديدة، ليبدأ في الهذيان بكلام غريب. وهو ما يدفع أهله الى الاعتقاد بأنه على مشارف الرحيل النهائي، فيأتي شيخ معمم ليقرأ عليه أدعية وصلوات عسى أن يعود الى وعيه، مع أنّ حامد لا يؤمن بهذه الأمور، ولم تنفع الأدعية، وجاؤوا بطبيب، ولم ينفع، فقال الطبيب لعائلته أن يتهيأوا لما هو أسوأ (موته). وأثناء ذلك كله كان حامد يسمعهم ويرد عليهم، ويهذي، إذ تراءى له كيف مات وكيف شيّعوه، وكيف دفنوه، وقرأوا عليه، وما شاهده في القبر، والتقى بموتى قربه. ثم ينتقل الى الآخرة بعد الحساب ليلتقي بفلاسفة ومفكرين وشعراء وكتاب، وحكام وخلفاء، والأنبياء والصالحين، مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين، والبابا، وأناس عاديين، فيتحاور معهم بما كانوا يطرحونه في حياتهم من أفكار وآراء ومواقف دينية وسياسية واجتماعية، وما جرى للبشرية بسببها من خلاف وصراع وحروب وضحايا. وفي النهاية يعترف الجميع بالأخطاء، وأثر ذلك على البشر في تفسيراتهم لما قدّم هؤلاء من معتقدات وتعاليم وشرائع، وكانت جميعها لصالح الإنسان ومنفعته، فيجتمعون معاً في وفاق ووئام وسلام في الآخرة. كما يستشهد خلال هذه الحوارات بأقوالهم واشعارهم. وفي نهاية الرواية (المفاجأة) يرجع حامد الى وعيه ليخبره أهله بما جرى له.

الرواية تمتاز بقصرها الشديد (جداً)، وتكثيف الحدث المحوري، والتركيز على مضمون فكريٍّ مُركّز، من خلال النقد الاجتماعي الفكري، ومحاولة تقويم الواقع السائد في المجتمعات البشرية من خلال تلك الأطروحات، ومنها مجتمعنا، وذلك بالمصالحة التي تمت بين الجميع في الآخرة، واجتماعهم معاً، وهذا أملٌ من الحريزي، يريد من خلاله أن يُبيّن بأنّ كلَّ الأديان والأنبياء والصالحين والفلاسفة والمفكرين على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وتوجهاتهم ظهروا وكافحوا ونشروا أفكارهم، وتحمّلوا منْ أجلها ما تحملوا، كان منْ أجل خير الإنسان في كلّ مكان وزمان، انما العيب والخطأ والذنب يقع على عاتق المفسّرين وشيوخ التأويل وفق مصالحهم ومنافعهم ومواقعهم، وخبث البعض.

الرواية بقصتها الفنتازية الخيالية متأثرة وتسير على نفس النهج – برأيي الشخصي – بـ(رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري 363-449 ه، و(التوابع والزوابع) لابن شهيد الأندلسي 382-426 ه، و(الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي دانتي اليجري 1265-1321 م، والتي جميعها تعتمد على الخيال والرحلة الى العالم الآخر والالتقاء بالشعراء والكتاب وغيرهم، والحوار بينهم والاستشهاد باقوالهم ومناقشتها معهم، مثلما نقرأ في (هذيان محموم)، مع الفارق أنّ تلك الكتب مُسهبة في كتابتها، ضخمة في حجمها، وهي كتب أدبية وليست روايات.

***

عبد الستار نورعلي

تموز 2024

 

نقد رواية "أموات يحكموننا ل شيماء أبجاو"

دهشة الحقيقة وسؤال المعرفة

من الأمور التي تجعل عقل الإنسان في شغل دائم وتفكير مسترسلٍ هو البحث في أسئلة متعددة كالتي تطرحها الفلسفة الوجودية، أو كما يصورها فلاسفة ومفكري علم الكلام مثلا، أو كما ينقلها لنا النقد الثقافي في علاقته بالأنساق المتوارثة، من هذه الأسئلة: ما الحقيقة الكامنة وراء الوجود؟ هل العالم مادي أم طبيعي؟ كيف يوازن الإنسان بين العقل والقلب؟. كل هذه الأسئلة  يمكن أن نجد صداها في النفي الهايدغري المعبر بصيغة   Ne-pas التي تحيل للوجود كاختلاف، وهذا ما يفسر عبارة: الوجود الأنطولوجي[1].

من هذا المنطلق تبحث "شيماء أبـجاو" في روايتها (القصيرة) "أموات يحكموننا"[2] بحيث شيدت خطها السردي بناء على قسمين: قسم يؤطره حوار دقيق بين شخصية طارق وأبيه حول مفهوم الحقيقة، بعدما سلمَّ ابنَه

وصيةً مكتوب فيها عبارة:  وحيدة «وصيتي ألا أدفن»[3] ، إذ شكلت هذه العبارة قلقاً فكرياً ودهشة عارمة لطارق، لم يستوعب أبعادها، خصوصا عندما دعاه إلى البحث عن شريط (الفيديو) الذي يتحدث عن البعث والإحياء وقراءة كتاب «مكة في جغرافية القرآن»[4]، لقد «أصاب طارقَ زلزالٌ رج بعنف تلك السكينة اللذيذة التي ركن إليها، الشعور بالتيه يكتم أنفاسه»[5].

أما القسم الثاني فهو انسلال فني من موضوع البحث عن الحقيقة والوجود إلى  الحديث عن علاقة الرجل بالمرأة في سياقاتها الدينية والتاريخية، انسلال انطلق من المشهد الأول، أو القسم الأول بعد غياب سلوى عن لقاءاتها الافتراضية مع طارق: «عزيزي طارق أعرف أني لم أفعل صوابا بهذا الانقطاع البشع، فما كنت لأقبل منك غياباً دون مبرر أو وداع»[6]. وكان غيابها مرتبطاً بمشاكل أسرية أساسها تسلط وظلم الأب لها ولأمها وأختيها، وهذا في نظري هو رهان هذا العمل، وموضوعه الرئيس الذي راهنت عليه الكاتبة برؤية فنية تطرح الكثير من الأسئلة. لقد شكل هذا القسم، حديثا صريحاً وقوياً عن الأزمة التي خلقتها بعض النصوص الدينية وتأثيرها عن علاقة الرجل بالمرأة، دون أن تبحث في سياقتها وموثوقيتها (Fiabilité). هي نصوص حديثية استهلكت بحثا ومناقشة من طرف الكثير؛ في تبئير مشوش لموضوع الإسلام والمسلمين، دون أن تقدم شيئا ــ هذه المناقشات ــ غير التحليق خارج السرب، فالعقل الأخلاقي الذي ينظم الفكر، ويبحث ويساجل يرفض أن يجعل المرأة دون الرجل مكانةً ومهابةً وقيمةً، وما ورد في الرواية من أحاديث منسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخصوص هي أحاديث شاذة وظفت في سياقات دينية وسياسية وتاريخية مختلفة  تبنتها الكاتبة، وكان عليها أن تنفتح على مختلف النصوص الدينية الأخرى، كما كان عليها أن تتأكد من صحتها؛ إذا كانت الرؤية السردية تتجه نحو نقد الموروث الثقافي والديني «دون أن نسير عميانا على خطوات أموات مازالوا يحكموننا»[7]. فالفكر لا يموت والحضارات استمرار في الوجود؛ منها تنهل الثقافات والإنسان ماهيتها وهويتها، لذلك فزاوية النظر النقدي للأنساق الثقافية في الرواية ضيقة، أرادت المؤلفة أن تخوض في موضوع كبير بنفس سردي قصير، لن يسعفها ذلك في تتبع وتطور علاقة الرجل بالمرأة من خلال فترات زمنية متنوعة؛ يتقاطع فيها الفلسفي بالديني؛ والأخلاقي بالثقافي.

الـمغامرة المعرفية و التحايل على مقولة التجنيس

استهلت الكاتبة موضوعها بذكاء كبير، حيث وهمت القارئ بسؤال المعرفة، وورطته في ثنايا عالمها السردي والغوص في أسئلته الوجودية، أسئلة تدعمها تلك العتبات النصية التي تعلو بداية كل فصل وهي عبارات وأقوال مقتبسة من فلاسفة ومفكرين، جعلت القارئ ينساب وراء أسئلة "طارق" وحيرته الوجودية، كما يتساءل مع "السيد مصطفى" في همومه المعرفية، وهي أسئلة مشروعة ومنسجمة مع ماهية العقل، ولا يمكن للقارئ أو للباحث، أن يرفضها فالتدبر والتفكر في الحقيقة الكونية تطرحه النصوص الدينية، كما تطرحه النصوص الفلسفية، والوصول إلى ماهيته تظل نسبيةً، وتغذيه ثقافة ومرجعيات متنوعة، كما يتحكم فيه إرث إيديولوجي، هذا الإرث تجلى لنا في عتبة العنوان "أموات يحكموننا"؛ حيث قصدت من ورائه ذلك  الرصيد الديني والمعرفي الذي يؤطر حياة الإنسان المسلم، وقد أغفلت المؤلفة أن تاريخ الحضارات والفلسفات القديمة مازال ينير طريق العلم والمعرفة، ومازال سؤال المعرفة يعلن نفسه سيداً على كل الأسئلة. لقد اعتمدت الساردة من خلال صوت شخوصها أحاديثَ وأخباراً مجردةً من سياقها، وعبرت عن ما يسمى ب"تيار الوعي الحداثي"، بحيث أضحى شعار "أنا أفكر أنا موجود" يسم أغلب الأعمال التي تبحث في العقل الديني[8]،  بعدما أصبح الدين الإسلامي مستهدفا في إحدى خطاباته؛ من منطلق كونه يكرس الطبقية بين الرجل والمرأة، ويعلي من سلطة الرجل، عبر هذه المنزلقات المعرفية جردت الأحكام من سياقها، وركزت على متغير في الحياة البشرية، متصل بالسلوك البشري وليس بقوانين، فالغلو في استعمال السلطة أو تعنيف الزوجة وأطفالها، أو ما تقوم به بعض الجماعات المتطرفة باسم الإسلام من قتل وعنف للعامة والخاصة فهي سلوكات بشرية مرضية عنيفة، ينبغي معالجتها، ويجب محاكمة مرتكبيها فهم المسؤولون عنها، وليس الدين.

وعلى وجه القياس فقط هنا لا على وجه المقارنة، نتذكر كتاب الشخصية المحمدية "لمعروف الرصافي" الذي استطرد وأسهب في الحديث عن بلاغة الإعجاز القرآني، مستظهرا جما وافراً من كتب التفسير، لكن حينما وصل إلى انتقاد هذه البلاغة لم يجد ما يشفع له في التفاسير واكتفى بقراءته وتأويلاته للنص الديني، هنا يكمن الرهان أو المغامرة، التي عولت عليها المؤلفة في كتابـها، وتوريط القارئ في متاهة الخطاب دون تحديد مستواه التداولي السياقي، يحدثنا "بروان ويول" عن ضرورة توفر المتلقي على معلومات لتكون حظوظه قوية لفهم الرسالة وتأويلها[9]. والخاصية الأولى للسياق مما يتعين التوكيد عليها هي الديناميكية، فليس السياق مجرد حالة لفظ، وإنما هو على الأقل متوالية من أحوال اللفظ، وفضلا عن ذلك، لا تظل المواقف متماثلة في الزمان، وإنما تتغير وعلى ذلك فكل سياق هو عبارة عن اتجاه مجرى الأحداث.[10]

هكذا لا يمكن لخطاب أن يستقيم دون النظر في مجراه ومصادره وهو السياق، فالنص ينزل منازل كثيرة بحكم ظروفه المتعددة التي تفرضها سياسة الحكم في غالب الأحيان. إن التسرع في تحليل نصوص دينية يفضي بصاحبه إلى منزلق التيه، ويفقده القدرة على التأويل الذي يطلبها النص؛ تأويلا يسائل معانيه ودلالاته ويبحث في مراميه وأبعاده، يذكرنا هذا التسرع من طرف الباحثة؛ في الهجمة التي تلحق الأديان والدين الإسلامي على وجه الخصوص حيث أضحى شعاراً حداثيا وحديثا، تحت يافطة تيار الوعي الحداثي كما تقدم، وقد تجلى هذا التسرع كذلك في التحايل على مقولة التجنيس، إذ نعلم أن  الأدب يطرح إمكاناتٍ فسيحةً للتعبير عن هواجس مختلفة منها الاجتماعي والديني والسياسي، وقد أصبح وضع المرأة الثقافي يفرض عليها التعبير عن صوتها بما يخدم فلسفتها في الحياة وتوجهها الديمقراطي، لأن المرأة تحب وتعشق البوح والاعتراف، وهكذا  يمكننا تصنيف هذا العمل ضمن الكتابة النسائية المنفتحة المتحررة من مقولة النوع الأدبي، هذه المقولة التي تفرض على الكاتب الالتزام بصرامة القواعد الفنية والتقنيات المعتمدة، ولأجل تغليب الموضوع على القاعدة يتم تجاوز النوع "وصارت الرواية أم الأنواع فصار كل شيء رواية و لا شيء غير الرواية[11] ، لأنها تتضمن وتختزل كل الأنواع الأدبية دون أن تفصح عنها، لأن الكاتب يختبئ وراء هذه الفسحة الأجناسية ليمرر خطاباته ويلونها بأي لون شاء، ويصطحب القارئ معه في تحديد النوع الأدبي المقصود، بل يحمله مسؤولية ذلك.

***

د.عبد الـمـُجيب رحمون

...............................

الهوامش:

[1] - انظر محمد هلالي وحسن بيقي، الاختلاف، دفاتر فلسفية، عدد 28، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، ص: (19-20).

[2] - دار نشر الوطن، الرباط، الطبعة الأولى، 2020.

[3] - الرواية ص: (14).

[4] ـ الرواية، ص: (15).

[5] ـ الرواية، (ص: 24).

[6]ـ الرواية، (ص:72).

[7] ـ الرواية، ص: (28).

[8] - انظر، ديفيد لودج، ترجمة ماهر البطوطي، الفن الروائي، المشروع القومي للترجمة، العدد، 288، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، ص: (50).

[9]- محمد خطابي، لسانيات النص، مدخل إلى انسجام النص، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1991، الدار البيضاء، المغرب، ص: (297).

[10] - فان ديك، النص والسياق، استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي، ترجمة عبدالقادر قنيني، أفريقيا الشرق، 2013، الدار البيضاء، المغرب، ص: (339).

[11]- انظر سعيد يقطين، قضايا في الرواية العربية، الوجود والحدود، دار الأمان، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى، 2012، ص: (78-79).

- احداث الرواية جسدت واقعاً ملموساً و صنعت الرؤية البصرية الشاملة لخيال (ماهر)

- اعتماد "ياسين شامل" مفردة (نساء) في عنوانه منحت الرواية أفقاً مفتوحاً لاحدود فيه للتخيل

رواية واقعية مستنبطة من حالة معاشة عكست حال مدينة كبيرة مثل البصرة العراقية بشفافية واضحة تصويراً لما وقع من أحداث، والتي باتت مدينة اشباح مرعبة بعد الاحتلال البريطاني الأخير عام 2003، رسم الكاتب من خلال صفحاته صورة حقيقية لسيطرة المليشيات والخارجين على القانون على زمام الأمور والتمثيل الحكومي الهش فيما بعد، حالة مزرية لم تنتهي، بل لازالت قائمة، أراد منها الكاتب بذكاء يتسم بجمال الأسلوب ومرونة استجابة اللغة للمواقف التي دَاخل(شامل) بعضها البعض في روايته، ليقدم منتجاً روائياً هادفاً أخاله أقرب للرواية السياسية منه إلى عوالم الرواية المتعددة التوصيف. غلفها الفنان (صدام الجميلي) بغلاف جميل مازج فيه ألوان العتمة مع الأحمر الصارخ برداء الإيحاء وتقاسيم ما احتوى المشهد مما يعبر عن تراكمات الحدث وصيرورة التناول الروائي.

العنوان بما حمله من دهشة، والذي جاء به (ياسين شامل) بغرائبية ممتعة أوحى من خلاله إن ما كتب (رواية رومانسية) اعتمد فيها على مخيلة البطل التي شكلت تخيلاته عن علاقات نسائية بحتة أو عن خياله الجامح اتجاه ما يعشق من نساء تتجمع صورهن في مخيلته، دون أن يكون هناك أي ارتباط روحي أو جسدي بينه وتلك النسوة، لكن واقع (نساء ماهر) لم يكن يعتمد على خيالات تتربع على مجمل أحداث الرواية، بل جاءت واقعاً ملموساً شاركت بل صنعت الرؤية البصرية الشاملة لخيال (ماهر)، كما شاركت في الرؤية السياسية والتوصيف الذي يحمل نفس المعنى للحقبة السياسية والذي حاول الكاتب أن يزج ما مر فيه عبر تفاصيل العمل المشترك مع (الدكتور حسون بدر).

العنوان كما ذكرنا جاء على جزئين بنى الأول على المبهم، ثم استدرك في الجزء الثاني منه بالدلالة الوصفية (ماهر) وهو اسم علم يدل على شخص ليس على التعيين، أي شخص يحمل هذا الاسم سيكون هو المقصود بالحدث الروائي، إلا أنه وبفطنة رائعة ودقة متناهية في العمل ذهب الكاتب ليورد بذكاء عملية توظيف الدلالة في الحدث فاحال المبهم إلى صورة ناطقة حين وظف التوصيف الدلالي (الخيالي) كصفة ملحقة بالاسم (ماهر).

اعتمد "ياسين شامل" في عنوانه أفقاً مفتوحاً للتخيل (نساء) لاحدود للتصور فيه، مؤكداً أنها أكثر عن (امرأة)، لذلك قدمهن بصيغة الجمع (نساء)، التصور الذي جسده (شامل) في عنوان روايته يمنح القارئ انطباعاً يوحي بأن هناك علاقات مشوهة أو مشبوهة سيضع القارئ يده عليها في متن الرواية وفصولها، إلا أن كاتب الرواية خيب هذا الظن، إلا من واحدة رسمها بطل الرواية (ماهر) مع احدى النساء اللاتي أتى على ذكرهن في الرواية.

البساطة التي حملتها لغة الرواية من أجمل ما يكون، فلا تعقيد أو تعالي في لغة الخطاب، وكأن ياسين شامل قد جاء بروايته بناء على نقاش مستفيض مع كاتب هذه السطور الذي يرفض تعقيدات ما يكتب به الروائيين والنقاد، ويذهيب (لأسلوب التبسيط) في كل ما يتناوله الفن والأدب، فالأدب للجميع مثلما هو الفن، لاطبقية فيهما.

 هناك الكثير من الروايات السياسية التي تخوض في واقع معاش لشعب أو وطن خلال حقبة معينة، تتناول بالسرد ما يدور من أحداث خلال تلك الفترات من التجبر الذي تمارسه الأنظمة السايسية أو قوات الاحتلال اتجاه شعوب تقع تحت طائلة غلوها وقهرها وتسلطها، لكن تلك الروايات أو معظمها (لانريد التعميم) يكتب بأسلوب يصف مايدور على الساحة من أحداث بشكل درامي فني، وتصوير لمشهد ما يحدث، وقد يخلو أسلوب الكاتب الذي يوظف (الوصفي) كمشهد عام لروايته من العاطفة والتخيل، ليس بمعنى أن تكون الرواية ناقصة التكوين أو التشكيل، لا على العكس ربما تأتي رائعة في تضمين ماحدث عبر الوصف، وكأن من يقرأ يأخذه التصور بأن تلك المشاهد الروائية قد عاشها من قبل، وذلك التفاعل دليل نجاح، لكنه يبقى مقتصراً على التفاعل.

الأدب بشكل عام يجسد الحدث السياسي ويؤرخ لمجرياته، وربما يذهب لما في الأدب من وصفية دلالية على تعريف الحدث السياسي وتقريبه للواقع أكثر من مجريات الحدث نفسه أو تعريف شخوصه لما جرى، فالأدب أقرب للجمهور من السياسة بما فيه من عاطفة وخيال واهتمام بمشاعر الجمهور، وتلك عناصر تخلو منها السياسة بشكل عام.

هذا من جانب، أما الأخر فالأدب السياسي شكل من أشكال الأدب العام، وقد كتبت فيه روايات وقصص، كما كتبت مسرحيات وأفلام عبرت عن مراحل سياسية كانت غاية في الدقة والرصانة وأقرب للمتلقي من قصص الخيال والحب والألم والمعاناة. بل أن الكثير من الروايات والأعمال الأدبية لاتخلو من توصيف أو تناول لفترات سياسية محددة أو مطلقة.

أما في (نساء ماهر الخيالي) فقد عشنا التصور والخيال معاً، ورسمنا من تلك الصور التي أفرد ياسين شامل لكل واحدة من نساءه صورة وحدث، ثم عمل على جمعهن في بوتقة تصور واحد أفضى من خلاله إلى تعدد الروئ النفسية والمكانية والشكلية التي فضحت علاقات تلك النسوة بماهر، و تقلبات الخيال التي عمل ماهر على بنائها تجاه كل واحدة من تلك النساء.

أني أغبط ماهر لسعة تلك التخيلات التي رسمها له (ياسين شامل)، وجمع كل النساء اللاتي أشار إليهن من حوله حتى وإن كن في الخيال، فمن ذاك الذي يحظى بجمهرة من النساء في خياله .

هذا الجمع بين الوصف السياسي المبطن لحالة الشارع حينذاك في الرواية، والخيال الذي لف به شكل الرواية بإبداع وإتقان مازج (شامل) من خلاله مابين التشويق والترقب (الترهيب)، ودفع المتلقي ليقف على حد هاجس الخوف مما سيحدث، (ماذا بعد) سؤال بحجم الوطن لم يجد جواباً عند الجميع. استطاع الكاتب أن يصف مكر من تسلط على المدينة عبر(شخصية شهاب) الشاب المراوغ الفوضوي الذي يسعى لاستغلال الفرصة والوثوب على من سواه عبر اقتناص ما يتاح أمامه من منفذ، وتلك ميزة فيمن ظهر أبان الاحتلال ولازال يسود المشهد بدعم (صورة واقعية) نقلها ياسين شامل دعمت من حظوظ روايته ورفعت من درجات مصداقيتها ورصانة الفكرة والتداخل الذي وظفه شامل بالرواية لينجز صورة حقيقة ناتجة عن خيالات ماهر لكنها واقعية.

(عواطف، منار، بيداء، حنان، أوديت، زليخة، عبير، بسمة، خالته شذا، سماح، جوليا، شارون ستون، آن)، كم من اسماء النساء حشرن في تفاصيل الرواية للتشويق، ولكل منهن قصة، ما يعني أن (ياسين شامل) أفرد للدلالة عبر الاسماء، والأمكنة، والأحداث مساحة شاسعة من الرواية بنى من خلالها علاقته مع القارئ لتخيل الصور الدالة على النساء اللواتي جاء ذكرهن كل حسب توصيفاتها في الرواية ومدى العلاقة التي تربط ماهر بكل منهن، كما فتح المجال لتصور الأماكن التي ذكرها (شارع الجزائر)، (سيطرة للجيش البريطاني) (فندق السلطان) قد تكون استعارات فقط لكنها تستخدم للتوظيف الدلالي على الحدث.

فالدلالة حاضرة عند ياسين شامل وبقوة في البناء الدرامي للرواية، وتلك من ضرورات البناء والتوظيف والسرد، استطاع "شامل" أن يكرسها في متن روايته ليقطف ثمرة ما جنى (ترابط الأحداث الذي شكل عمقاً روائياً هادفاً، ظننته في بادئ الأمر عند قرائتي الأولى أن لايحدث فيفقد الرواية (أقصد الترابط) سيرتها وضرورات التشكيل الروائي والإنسجام ما بين الشخوص والأمكنة، إلا أن الكاتب أبدع وليظهر براعته في ما قدم من ترابط أحال المشهد الروائي من خلاله إلى ما يشبه (سمفونية هادئة شفيفة ناعمة) كنعومة نساء ماهر بما أتاح لنا من خيال نعيشه لنكتشف سحر النساء التي ورد ذكرهن في تفاصيل الرواية.

الطابع الوصفي طغى على تفاصيل الرواية، وهذا ليس بخلل فيها على العكس فهو يمنحها سعة التخيل واطلاق العنان لخيال القارئ لأبعد مدى، فالرواية أساساً تعتمد في جل تفاصيلها على الوصف لتشكيل وبناء الحبكة. أراد لها ياسين شامل أن تكون متكاملة من ناحية المعنى والشكل التكويني المتمثل بعناصر البناء، ناهيك عن أن تناغم المشاهد التي كون منها شكلها العام مع المفردات التي وظفها "شامل" لتظهر فصولها وكأنها لوحة نابعة من الخيال فعلاً، لكنها كانت تعبر عن تجسيد أحداث حقيقة، سجلها الكاتب من خلال الصور الخيالية التي أوردها لتتناسب وحبكة الحدث الذي شكل منه الرواية.

المشهد الأول لرواية "ياسين شامل" (نساء ماهر الخيالي) أظهر فيه بطل الرواية متردد في صفاته، بل قد يذهب القارئ إلى تصور أن البطل مهزوز الشخصية وغير قادر على التصرف أو حتى إتيان فعل مباشر دون أن تكون هناك محاولات أو أن يتلقى المساعدة من الغير، (صورة)، وتلك واضحة لما ظمنه من أفق عبرعنه ب (تضارب أفكاري)

الصورة الثانية في ذلك المشهد، نرى أن ماهر يبحث تراتيب معينة ليبلور أفكاره عبر التضارب الذي عانى منه في التفكير، هذا التناقض يخلق فكرة مشوشة عند المتلقي حول شخصية البطل في الرواية، أحسبها ميزة في الكتابة، فليس كل الروائيين قادرين على خلق ذلك التناقض ثم الخروج منه بصور تخدم التصور القادم للرواية، أو المشهد الذي يلي في تراتيبية متوالية ينشأ عنها المشهد الكلي للحدث فتكون الحبكة.

القدرة على الكتابة بمفهوم الخيال تحتاج ميزات خاصة يستطيع من خلالها الكاتب أن يداخل ما بين إلهام الفكرة والتصورات التي يتطلبها الخيال، للخروج بصورة روائية مقبولة أو ترضي المتلقي على أقل تقدير، إلا أن شامل في روايته استطاع تجاوز تلك الميزة إلى ما هو أبعد منها (الاقناع والتشويق) فعلاً في وصف الخيال الروائي وبناء عقدة الحدث دون أن يدخل النسق الروائي في اشكالية التداخل مابين صورة الخيال وحقيقة الحدث.

ذهب ياسين شامل في روايته (نساء ماهر الخيالي) لتوظيف الخيال من خلال أسلوب مبسط في الطرح ومفردات دالة عميقة المعنى لكنها هادفة، ليقدم للقراء مشاهد سلسة مفهومة لا تعقيد فيها ولا إطالة في المشاهد عبر من خلالها عن الواقع الممزوج بقوة التصور (الخيال).

ذهب لاستخدام الخيال كوسيلة للتعبير عن حقائق عميقة نقلت ماجرى من أحداث حقيقية مازجها الكاتب بقوة الخيال الذي جسده في صفحات الرواية، داعماً عمله بالرمزية التي مثلها الزمان والمكان، كما الشخوص (النساء) اللواتي منحهن أفقاً واسعاً في رمزية الحدث التي استطاع أن يبقي الحقيقة بعيدة شيئا ما عن الواقع الظاهري، ثم ليخرج بها مدوية وليبهر بها قراءه.

كل الخيال الذي رسم به "شامل" مشاهد الرواية قصد من خلاله إثراء ذهنية القارئ وتوسيع مداركه نحو التخيل ونضوج الوعي الفكري عبر ربط الخيال بالحقيقة، وهو ما أراده من فعلياً من خلال تجسيد ماجرى وتصوير الواقع الاجتماعي والفكري الذي نتج بعد ماحدث في المدينة أثر العامل المتغير المتمثل بالاحتلال الذي طرأ على المشهد العام.

إذاً نستطيع القول أن توظيف "المرأة" في المشهد الروائي العام عند ياسين شامل جاء لتوسيع مدارك القارئ، والأخذ بيده نحو استخدام خياله كوسيلة لتوقع الأحداث والتعبير عنها، لما تحمله المرأة من رمزية دلالية في تجسيد الحياة و الواقع المعاش، وهي بما تمثله من مكنون عاطفي وأحاسيس وخصوصية جسدية تغري الجميع على متابعة الحدث دون توقف طالما كان يتعلق بالنساء.

من خلال هذا العمل الرائع الذي قدمه ياسين شامل في روايته بظروفها التي كانت، رسم للرواية بعداً خيالياً بأفق واسع عبر ترك مساحات التَخيل مفتوحة يذهب من خلالها القارئ لتشيكل صوراً عدة لنساء ماهر اللاتي ذكرهن شامل، أو لنساء في مخيلة القارئ نفسه.

لعب ياسين شامل على مساحة العاطفة لدى القارئ، وتلك لعبة صعبة جداً في الأدب من يتمكن منها يمتلك القدرة على سحب المتلقي من يده لاتجاهات ما يريد، وفعلاً استطاع الروائي ياسين شامل أن يأخذني أنا الذي قرأت الرواية بشغف مجبراً بأسلوبه من يدي نحو متاهات الخيال التي أوردها في الرواية، حتى ظننت أن امتلكت من نساء ماهر الكثير فلا شذى غفلت عنها، ولا " آن" روت شغفي، ولا حتى تلك الناعسة الجميلة "سماح" (كما تخيلتها)، وفي زحمة تخيلاتي تلك، عنى لي وجه عواطف وجمالها الذي طغى على الرواية بشكل عارم ثم ضاعت في زحمة الأحداث التي تعاقبت عند شامل، ونسيتها.

قد لاتعني الاسماء شيئاً رغم كثرتها، لكنها تعبر عن حالتين في الرواية، الأولى عدم إتزان تفكير ماهر وتشتت رؤاه، تلك الحالة التي انتجت شروداً في التفكير لديه، وولدت عنده تلك الخيالات.

 الأخرى خوفه من الدخول إلى عالم مختلف يسمع عنه ربما، ولايملك الجرأة لولوجه خوفاً من تبعات ما قد يحدث، سيما وأن ماهر الذي رسم لنا ياسين شامل شخصيته لم يكن ذو تجربة تعينه على ولوج عوالم النساء، وتلك معضلة تضاف وتخلق مساراً للأولى.

جَمِع كل ذلك الخيال الذي وصف به ياسين شامل شخصية البطل في الرواية تعبير عن توظيف الدلالة الرمزية في السرد الروائي، والدلالة بحد ذاتها (توصيف)، فلم يكن القارئ ليعلم من هن نساء ماهر، لو بقيت الحالة التي كتب بها شامل على أنهن (نساء ماهر)، لكن أي نساء هن، لذلك جاء الكاتب بالدلالة الاسمية لتعريفهن دون سواهن.

ذلك التحديد لل (النساء) جعل الرواية أكثر واقعية حتى من خيالات ماهر التي عبرت عنها الرواية بأنها واقع يحكي قصة فترة مريرة مرت على العراق والبصرة خاصة، رغم إنها لم تمر بعد، ما يمنح الرواية صفة الواقعية الدلالية بحق .

امتلك ياسين شامل القدرة الخاصة على تناول الموضوع من زوايا عدة أهمها كان التداخل الروائي السياسي (فترة عصيبة "احتلال")، ثم التاريخي الرمزي (البصرة)، ثم الخيالي الذي جاء بأفضل صوره التي منحت الحياة لاسماء عدة (نساء ماهر) ما جعل القارئ يعيش تلك الأجواء المفعمة المتداخلة فيما بينها، والمنتجة لغرائب الصور الذهنية التي علاها الخيال اللمسي قبل غيره، فقد لمس القراء رقة النساء اللاتي ذكرن في التفاصيل، ويقال (الشيطان يكمن في التفاصيل) التي وظفها شامل باطار درامي رائع.

لم يكرس ياسين شامل الخلط بين الموقف والحالة كصلة تناظر يجسد من خلالها صوره الناطقة بما يحدث، بل لعب على الحركة والخيال المعزز بواقع ما جرى من احداث ليشكل فصوله بروائية رائعة وأسلوب في قمة الجمال فرض علينا شامل بتتابع الأحداث والخيالات أن نكمل الرواية بشغف.. علنا نحضى بخيال من خيالات "ماهر" .

***

سعد الدغمان

في المثقف اليوم