قراءات نقدية

قراءات نقدية

المنجز الشعري لمحمد بلخير بين الاستشراق النقدي وأسئلة المنفى الثقافي

عندما كان الأستاذ بوعلام بسائح بصدد جمع وتقديم بعض أشعار الهوى والوغى لشاعر الملحون الجزائري، محمد بلخير المنحدر من مدينة البيض الجزائرية. لم يغب عن ذهنه أبدا أن يستدعي رؤية المستشرق الفرنسي جاك بيرك المولود بمدينة فرندة بنواحي تيهرت خلال الحقبة الاستعمارية، لكتابة تصدير لنصوص محمد بلخير. لعلمه أن هذا المستشرق على معرفة عميقة بالسياق الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي تشكلت فيه نصوص محمد بلخير، في أفق المقاومة الراديكالية للكولونيالية الفرنسية

لقد كانت العلاقة بين كاتب التصدير وهو جاك بيرك والنصوص الشعرية التي جمعها الأستاذ يوعلام بسائح، هي علاقة سوسيولوجي فرنسي ينتمي إلى ذلك الذي كان يسميه المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي بالسوسيولوجيا الكولونيالية مع نصوص من الشعر الملحون تنأى عن الإنصياع للرؤية الاستشراقية.

بينما هي تشكل مادة للدرس السوسيو نقدي في أفقه التاريخي المشحون بذلك اللقاء التاريخي بين الشرق والغرب وبين المركز والهامش / (الهامش اليقظ ) بمفهوم عبد الكبير الخطيبي الذي أنتج هذه النصوص الشعرية الذاهبة ذهابها العميق، لمحو آثار الإقصاء أو (إقصاء اللاحق) بمفهوم إدوارد سعيد أو الحد منه على الأقل.

وهي نصوص قسمها جامع هذه النصوص الأستاذ بوعلام بسائح إلى قسمين:

القسم الأول:

هو المتعلق بنصوص الهوى

فيما القسم الثاني:

فهو نصوص الوغى

النصوص الذي وضع لها الأستاذ بوعلام بسائح استهلالين:

هما أشبه بالخطاب الموازي أو الخطاب المصاحب الذي يشكل عماد فقه العتبات النصية كما تشكلت في المجهود النقدي العتباتي، الذي كرس له جهده ناقد فرنسي من حجم جيرار جينيت ضمن مشروعه النقدي عن (جامع النص أو جامع النصوص)

الاستهلال الأول:

هو للأمام عبد الحميد بن باديس القائل أن " لغة محمد بلخير عربية وشعره صافيا وكفاحه مثاليا "

أما الاستهلال الثاني:

فهو لمستشرق آخر هو إميل دومننغهام الذي لم يتردد في القول في أنه " لا أحد من شعراء هذه المنطقة من الجنوب الوهراني لديه شهرة سيدي بلخير منشد انتفاضة أولاد سيد الشيخ "

مما يعني في النهاية أن هناك علاقة تاريخية ومفهومية بين الاستشراق الفرنسي والأدب الشعبي الجزائري خاصة الشعر الملحون، تستوجب على طلبة وأساتذة الادب الشعبي البحث في هذه العلاقة التاريخية لتفكيك أسئلة النقد الإستشراقي للأدب الشعبي الجزائري واستنباط ما أمكن استنباطه من نتائح نصية أو (إنتاجية نصية) بمفهوم الناقدة الفرنسية البلغارية الأصل جوليا كريستيفا.

وهو مبحث أعتقد أنه لا زال بكرا وغير مطروق وفي حاجة ماسة لجهود بحثية تتطلب منا الإخلاص لها والسير في دروبها بما يعيد الاعتبار لماضي وراهن الشعر الشعبي الجزائري والتعامل معه، بوصفه نصا قرأ من طرف الآخر في لحظة تاريخية مفصلية هي اللحظة الاستعمارية.

وتحتاج هذه القراءة إلى قراءة أخرى هي قراءة الأنا ضمن مشروع نقدي يجمع بين نقد الاستشراق الشعري ونقد نص الأنا مشروع هو أقرب إلى روح (النقد المزدوج) بمفهوم عبد الكبير الخطيبي.

أقول هذا وفي ذهني صورة الشاعر الشعبي أو الشاعر الملحون التي ما زالت تخضع لبعض النمطية الثقافية النمطية التي ترى في الشاعر الشعبي بوصفه شخصا أميا، لسبب بسيط وهو أن الشعر الشعبي مرتبط بالأمية وأن عددا من شعراء الشعبي وليسوا كلهم لا يحسنون الكتابة باللغة العربية الفصحى.

مع أنه هناك في الواقع وفي المشرق العربي على وجه الخصوص الكثير من الباحثين والأكاديميين الذين يجمعون بين الكتابة الشعرية بنوعيها الفصيح والملحون

وأن كتابتهم للشعر الملحون، لم تؤثر بالضرورة على قيمتهم العلمية ومكانتهم الأكاديمية والتراتبيات الاجتماعية التي يحرصون على التمسك بها.

بينما نحن في الجزائر وسائر بلدان المغرب العربي لا زال لدينا الانطباع السائد بأمية الشاعر الشعبي واعتباره قادما من البوادي والفيافي البعيدة.

ويتم في العادة التعامل معه بدونية وانتقاص أشبه ” بالحقرة ”.

والغريب في الأمر أن هذا التعامل الفوقي الاستعلاء يظهر أيضا بجلاء في علاقات بعض المثقفين النخبويين المنتمين إلى ما يسميه محمد عابد الجابري "الثقافة العالمة " مع نظرائهم من الشعراء الشعبيين على صعيد الاستعراض الأكاديمي والاستعلاء الخطابي الفوقي

لقد كان الراوي الشعبي أو الحكواتي الذي يتخذ من الحارات والأسواق الشعبية فضاء له لتمرير رسائله الرمزية لمن يهمه الأمر يمثل دور "المؤرخ الشعبي" الذي يروي التاريخ المغيب والمنسي أو " المسكوت عنه "، من خلال نص الحكاية الشعبية التي يرويها بمهارة في الأداء الفني مقابل " المؤرخ الرسمي " الذي يتبنى الخطاب السياسي الإيديولوجي الرسمي أي خطاب الدولة ويعبر عنه.

هذا ما جعل بعض الروائيين في السنوات الأخيرة يعودون للحكاية والحكاية الشعبية على وجه الخصوص كأحد المتكآت الفنية لقول ما لم تقله رواية الأطروحة الإيديولوجية التي استنزفت كل طاقتها في التعامل مع الواقع العربي وتحولاته المفصلية كمعطى إبداعي تعاملا ميكانيكيا، فوجدت في الحكاية الشعبية ملاذا لها عبر الراوي الشعبي أو "القوال" بوصفه قناعا أو مكونا من المكونات السردية أو الوظائف السردية التي يختبئ وراءها الراوي الفعلي أو يتبادل الأدوار مع عدد من الرواة والساردين بما في ذلك المؤلف نفسه وهو الروائي صاحب العمل الفني.

مثلما نجد أن بعض تجارب المسرح ومنها تجارب كاتب ياسين وعبد القادر علولة والطيب صديقي ومسرح الحلقة لا تتواني هي الأخرى في توظيف أداء الراوي الشعبي أو "القوال" لمخاطبة الشعب باللغة التي يفهمها.

فهل يمكن اعتبار هذا النوع من الرواة هم على درجة كبيرة من الأمية؟.

مع أن هذا الراوي أو "المؤرخ الشعبي" يؤسس في الواقع من خلال مروياته الشعبية بما تنطوي عليه من متعة فنية وأنماط خطابية وقيم رمزية وسياسية لوعي سياسي وثقافي يكاد يكون معدوما لدى الكثير من ممثلي " الثقافة العالمة "، حتى ولو كان لا يحسن الكتابة باللغة العربية الفصحى ولا يحسن التكلم بلغة أكاديمية ولا يحسن أيضا الاستعراض المشوه لبعض الملفوظات النقدية من دون وعي بها أو تمثل لها على صعيد القراءة والاستقبال على الأقل، واجترار المفاهيم النقدية و الاصطلاحية مفصولة عن سياقاتها التاريخية والمعرفية وعن الفضاء الابستيمي الناشئة عنه.

لقد سقت هذا المثال أيها القراء، لأقول لكم بأن تقييم النقد الاستشراقي ممثلا في ما كتبه المستشرق الفرنسي جاك بيرك لبعض نصوص محمد بلخير الشعرية واعتبار الشعر في نظر جاك بيرك هو ذاته في جوهره من امرئ القيس إلى محمد بلخير ينبني ويترابط على أشكال مختلفة ومتقاربة في آن واحد، على الرغم من بعض التحيز الثقافي المضمر الذي ينحاز فيه جاك بيرك للشعر الممثل للثقافة الرسمية أو الثقافة العالمة بمفهوم الجابري التي حملتها رياح الحداثة الغربية إلى الفضاء الثقافي العربي الفضاء الثقاقي بوصفه " سوقا للثروات الرمزية والثقافية " (01) على ما يرى عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو.

التحيز الذي لم يمنعه من التفريق بين نوعين من أنواع البداوة الشعرية كما تتجلى في المنجز الشعري لمحمد بلخير، واضعا فرقا بين البدوي وليد الاقتصاد الرعوي الذي يقتفي حسبه اثر الغيم الحامل للمطر ولكنه يعني أيضا في نظره رجل الحرب واللعب وصديق الفرس الذي يرق ويعطف على الخرفان الحديثة الولادة.

وهو يضع نصب عينيه تشكل الكثير من جماعات الحضر في إفريقيا الشمالية التي تنتشر فيها أشعار منشديهم السحرية كنماذج حية لثمرة التعددية اللغوية واللهجية التي تغذيها حركة الاستشراق الفرنسي لضرب وحدة اللغة العربية عبر ما يسميه بالانقسام اللهجي.

وهنا لا بد من القول بأن القارئ لجاك بيرك الممثل للدرس الاستشراقي في قراءته للمنجز الشعري لمحمد بلخير لا يعدم في بعض الأحيان بعض النزوع النقدي للخطاب التاريخي الكولونيالي في تعامله مع انتفاضة أولاد سيدي الشيخ التي كانت كما يرى " تثقل كواهل التصرفات الفردية والجماعية " (02).

وهذا المستشرق لا يتجاهل بالطبع أن يذكر القارئ بأن العصر الذي عاش فيه شاعرنا هو العصر نفسه الذي كان فيه الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق يضع الشروح لابن عربي في مؤلفه (المواقف).

وهو نموذج كان جاك بيرك يرى بأنه يبين لنا بوضوح كيف تتآلف وتختلف هذه النماذج في ثنايا التاريخ المضطرب للجنوب الغربي الجزائري، عندما استغل الفرنسيون نفوذ بعض النبلاء وهيبتهم لغزو الصحراء والسيطرة عليها مشيرا إلى ذلك النوع من التواطؤ الذي يثير الاستنزاف والغضب الأمر الذي اثار أحد هؤلاء الأجواد ويعني بهم محمد بلخير.

ورغم عدم تكافؤ القوة بين المستعمر والمستعمر فجاك بيرك لا يتردد في استخلاص بعض العبر من التاريخ الأليم، عندما يعمل على تجديد ذاته عبر جدلية التاريخ التي ينبثق منها بناء الإنسان العربي على أنقاض ماضي بلاده الاستعماري القريب.

في عمل هو أشبه بالنقد مابعد الكولونيالي أو النقد الديكولونيالي الذي يمارسه هذه المرة الآخر على ذاته ضمن أفق خاص هو أفق المثاقفة أو المثاقفة بالقوة بوصفها وجها من أوجه المرجعيات المستعارة المرجعيات التي خصص لها ناقدا ثقافيا هو الدكتور عبد الله إبراهيم كتابا مهما هو كتاب (الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة) ضمن لحظة خاصة هي اللحظة الاستعمارية الماثلة داخل الخطاب وخارجه.

الخطاب الذي لا يقول لنا متى ولد محمد بلخير غير أن بوعلام بسائح يعثر باعترافه الشخصي على بعض القصائد المكتوبة بعد انتفاضة سنة 1864 التي تسخر من عساكر العدو وتسخر من النقيب الفرنسي برين دوبيسون الذي كان حينها قائدا لحامية البيض.

ومن هنا جاء افتراض بوعلام بسائح بأنه في سنة 1864 كان محمد بلخير في الثلاثين من عمره.

وليست هذه المرة الأولى التي يسخر فيها محمد بلخير في نصوصه الشعرية من العدو ومن عساكر العدو وغباء العدو برأي بوعلام بسائح.

فقد سبق له أن فعل ذلك عندما تناهى إلى سمعه بأن القائد العسكري لمدينة البيض طلب من قاضي المنطقة المسمى عطالله اصدار فتوى تهدف الى ضرب مصداقية المقاتلين واعتبارهم مجرد خارجين عن القانون، وما أن علم بلخير بمضمون الفتوى كما جاء في مقدمة بوعلام بسائح حتى رد عليه بقصيدة جاء فيها:

الي بغا الجنة يضاد الكافرين

والي يبغي الهنا ابغي التبزان

قولو لعطالله واش كلفك ياحزين

لا تشمت في الي ما لداهم قران

ويستنتج بوعلام بسائح بأن بلخير رسم صورة كاريكاتورية لشخصية القاضي عطالله فقال بأنه عديم التأثير في صفوف المقاتلين وبأنه لا يساوي شيئا عندما اختار الحياة الزائلة

وينبغي أن يكون واضحا بأن هذا النوع من النقد وهو النقد الثقافي الذي نمارسه ونحن نواجه بعض النماذج من المنجز الشعري لمحمد بلخير لا يستكمل غايته ولا يثمر بعض النتائج النصية او (الإنتاجية النصية) بمفهوم الناقدة الفرنسية من أصل بلغاري جوليا كريستيفا مالم تشمل المعاينة النقدية بعض أسئلة المنفى الشعري أو المنفى الثقافي كما حاول شرح دواعيه وملابساته التاريخية والنصية جامع هذه النصوص الشعرية وهو الأستاذ بوعلام بسائح عندما خصص قسما من المقدمة التي كتبها لأشعار الهوى والوغى لمحمد بلخير.

وهذا القسم اطلق عليه اسم (شعر المنفى).

أسئلة المنفى والمنفى الثقافي في شعر محمد بلخير

لا أعتقد بأن إدوارد سعيد كان مخطئا عند ما حاول الربط بين أسئلة المنفى والنقد في الجزء الأول من كتابه (تأملات حول المنفى)، فوضع لهذا الكتاب المهم مدخلا أعطاه عنوان (النقد والمنفى).

فمن أجل تقويم الأدب لابد من الأخذ بعين الاعتبار بأن النص موضوع النقد هو "عمل فردي لكاتب فرد مشتبك في ظروف يسلم بها المجتمع مثل الإقامة والجنسية واللغة والهوية " (03).

وعلى هذا الأساس يطرح إدوارد سعيد السؤال التالي:

" كيف يقرأ النص الإبداعي في شرطه الدنيوي " (04).

والشرط الدنيوي هو الحجر الأساس الذي ينبني عليه التحليل الثقافي لنصوص محمد بلخير المكتوبة في أفق المنفى الثقافي والجغرافي الذي عاشه عندما أجبره المستعمر الفرنسي على النفي إلى قلعة كالفي بكورسيكا بعد ان أفرج عن شقيقه واستقبل من طرف القائد العسكري الفرنسي لمدينة البيض الذي أحاطه بحسب رواية بوعلام بسائح بتقدير واحترام كبير.

وفي رواية أخرى يرويها بوعلام بسائح يقول أنه استقاها من شيوخ عاصروه في الأيام الأخيرة من حياته تقول بأن الضابط الفرنسي قدم له فنجان قهوة وبادره بالقول بأن فرنسا أمه قوية تقر بشجاعة خصومها.

لقد كنت خصما شجاعا إننا نعرض عليك أن تتعاون معنا وستكون من كبار الأعيان معززا بالتشريفات.

وبالطبع رفض بلخير هذا العرض السخي وبعد قليل سأله الضابط قائلا:

لوتتوفر لك الإمكانيات غدا فهل كنت ستقاتل ضدنا..؟

فكان الرد:

نعم سأقاتل ضدكم.

وهي الجملة التي يرى بوعلام بسائح أنها هي التي أدانته فنفي على إثرها إلى قلعة كالفي بكورسيكا كرد عقابي على طبعه الحاد والعنيف في مواجهة القائد العسكري لحامية البيض ليس هذا فقط، فبوعلام بسائح يرى بأن " المنفى في تراب فرنسي على غرار ما حدث للأمير عبد القادر له فائدة البعد الذي قد يؤدي إلى النسيان بمرور الزمن " (05).

وشخصيا لا أرى بأن لأي استعمار كان أخلاقيات حتى ولو تعلق الأمر بأخلاقيات الإقصاء والمنفى على الجواب الصارم والقاسي لمحمد بلخير على سؤال قائد الحامية العسكرية لمدينة البيض.

وهذا المنفى في تصوري لا يختلف كثيرا عن المنفى الذي عرفه الفيلسوف العربي ابن رشد عندما نفي إلى الأسيانة سنة 1195 بعد حادثة تكفيره من قبل فقهاء الظلام في الأندلس والأسيانة كما يقدمها لنا المفكر التونسي فتحي المسكيني نقلا عن مؤرخ عربي كبير هو الإدريسي "مدينة اليهود أو مدينة الملة، وهو مكان به حدود قاسية بين من هو منا وبين من هو ليس منا " (06).

أسوق هذا النوع من المقايسة وفي ذهني ما يشبه الفرق بين الخطرين الخطر الذي يشكله محمد بلخير على الوجود العسكري الفرنسي ليس فقط الخطر النابع من مشاركته العسكرية في التصدي للعدو بالسلاح، وإنما ايضا الخطر الذي تشكله الكلمة والقصيدة التي يكتبها محمد بلخير كنوع من أنواع المقاومة الثقافية التي نذر لها نفسه محمد بلخير منذ أن كتب أول نص شعري في حياته.

المقاومة الثقافية التي تشكل حافزا مهما من حوافز الكتابة النقدية عند ادوارد سعيد بوصفها "الأسلوب الوحيد لتفكيك الترابطات القسرية بين التمثيلات الذهنية للغربي عن الشرقي أو بتعبير آخر تحرير معرفة الغربي من سطوة القوة الاستعمارية " (07)

ثم الخطر الذي شكله ابن رشد على العقل الأوربي بأكمله بوصفه الشارح الأكبر لأرسطو لكون شخصية ابن رشد كما يراها فتحي المسكيني " أكبر من مجرد شارح كبير لأوربا الخارجة من عصرها الوسيط نحو الأزمنة الحديثة فهو الذي تجرأ على أن يفكر في أفق دولة الملة بواسطة العقل البشري كما قرأه في نصوص أرسطو " (08).

وشخصيا لا أعلم بوجود قصائد أخرى غير ما هو مدون في النصوص التي عثر عليها الأستاذ بوعلام بسائح باستثناء قصيدة أخرى نشرها الروائي مصطفى نطور ضمن مواد الكتاب الذي نشر بعد رحيله عن الدنيا ضمن أعماله الكاملة الكتاب الحامل لعنوان (الأعمال الكاملة) وهذه القصيدة تحمل عنوان (يربح من صلاو عليه) (09) ويبدوا مما يحيل إليها العنوان الدال عليها (يربح من صلاو عليه) ومن مضمونها ايضا أنها قصيدة في مدح خير البرية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ولا صلة لها بحالة المنفى أو المنفى الثقافي.

وهي القصيدة الوحيدة التي اختارها مصطفى نطور كنموذج شعري من نماذح كثيرة لشعراء آخرين من ممثلي ما يسمى بالشعر الملحون على غرار ابن مسايب ولخظر بن خلوف وعبد الله بن كريو ومحمد بن سهلة وبن قيطون ومصطفى بن براهيم وسيدي أسعد المنداسي والشيخ عبد القادر الخالدي ومحمد بن طيبة وغيرهم من الشعراء الّذين نشر لهم مصطفى نطور بعض نصوصهم ضمن القسم الأول من كتابه تحت عنوان (نصوص من الشعر الشعبي).

خلافا لماهو منشور، من نصوص المنفى على وجه الخصوص على غرار قصيدة (ياسيدي عار الله) القصيدة التي يقول بوعلام بسائح بأنها نظمت في المنفى وهذا صحيح فهو يعبر فيها بأنه يخشى من الموت في المنفى عندما يقول:

يا سيدي خايف لا نموت في ذا الحبس النصراني

لا طلبة لا تأذين لاصلاة عندو لا تشهادي.

وقصيدة (في كالفي) وهي قصيدة كما يبدوا من عنوانها بوصف العنوان (عتبة نصية) بمفهوم جيرار جينيت أو (ضرورة كتابة) بتعبير محمد فكري الجزار، أنه كتبها في منفاه بجزيرة كورسيكا وهو الأمر الذي يؤكده أيضا بوعلام بسائح في الهامش الذي يضعه لهذه القصيدة.

بالنظر للمجهود البحثي الذي بذله الأستاذ بوعلام بسائح ليس فقط على صعيد جمع هذه القصائد بل أيضا تحقيقها التحقيق العلمي باستخدام منهجية التحقيق المعمول بها في النقد الفيللوجي في ما يعرف بمنهج مقارعة النصوص والتحقق منها، التحقيق الذي قاده صراحة إلى الاعتراف بأن النصوص التي وصلته عن طريق الرواية الشفوية تطلبت منه جمعها أولا واستغرق ذلك سنة كاملة (1951 / 1952).

ثم أربعة فصول صيف متتالية خصصها لهذا البحث.

وسيقودنا هذا المنحى في الكتابة النقدية والتحليل الثقافي النقدي إلى ضرورة الانتباه إلى ذلك المنظور النقدي الذي يدعوا له ناقد مهم هو الناقد الجزائري الدكتور أحمد يوسف عندما يعتقد بأننا سنكون في أمس الحاجة إلى عمل أنطولوجي دؤوب لرسم التضاريس المختلفة لأدب المنفى الذي كتب في المنافي وفي أقبية السجون على امتداد العالم العربي ثم القيام بتحليل حفري لمضامينه العامة وأشكاله التعبيرية المتنوعة، بعد أن تضطلع الدراسات الأنطولوجية بعمليات التوثيق العلمي.

من منطلق أن " المنفى لا يتعلق بأمزجة أفراد فقط بقدر ما يتعلق بأنساق ثقافية تهاجر من مرابعها إلى حواضر جديدة فتتفاعل معها سلبا وإيجابا، وهذا التفاعل هو إكسير أدب المنفى والأوكسجين الذي يتنفس منه الكاتب المنفي " (10).

وهو المنظور الذي كان سيقدم إضافة مهمة " للنصوص الغائبة " بمفهوم كريستيفا أو الضائعة من المتن الشعري لمحمد بلخيرولغيره من الشعراء والكتاب، فمجهود كاتب واحد على أهميته الكبرى ممثلا في شخص الاستاذ بوعلام بسائح لا يكفي.

لكن لا بأس من القول أن الأستاذ بوعلام بسائح وضع أمام القارئ الباحث اللبنة الأولى في التوثيق الثقافي لنصوص مجمد بلخير، وهو المثقف الملتزم بمهام أخرى في السلك الدبلوماسي الجزائري، وما على الباحثين من الأجيال الجديدة سوى مواصلة السير على منوال ما قدمه بوعلام بسائح وغيره من أساتذتنا الأجلاء ومضاعفة الجهد المعرفي الإستقصائي لهم والله الموفق.

***

قلولي بن ساعد - كاتب وناقد من الجزائر

..........................

مصادر

01) قواعد الفن بياربورديو ترجمة براهيم فتحي ص 200 الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 2013

02) أنطر نص التصدير الذي كتبه المستشرق جك بيرك لكتاب أشعار الهوى والوغى لمحمد بلخير ص 11 جمع وتقديم بوعلام بسائح ترجمة نور الدين خندودي منشورات الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007

03) تأملات حول المنفى الجزء الاول إدوارد سعيد ترجمة ثائر ديب ص 20 دار الآداب بيروت الطبعة الطبعة الثانية 2007

04) نفس المصدر ص 20

05) أنظر مقدمة بوعلام بسائح لكتاب أشعار الهوى والوغى لمحمد بلخير ص 44 جمع وتقديم بوعلام بسائح ترجمة نور الدين خندودي منشورات الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007

06) الهجرة إلى الإنسانية فتحي المسكيني ص 11 منشورات الاختلاف وضفاف الطبعة الاولى 2016

07) الطباقية أسلوب للتواجد والمقاومة في فكر ادوارد سعيد / سامية بن عكوش ضمن كتاب إدوارد سعيد الهجنة السرد والثقافة ص 216 إسماعيل مهنانة وآخرون منشورات القرن 21 / 2016 / الجزائر

الهجرة إلى الإنسانية مرجع مذكور ص 16 08)

09) يمكن العودة إلى هذه القصيدة (يربح من صلاو عليه) للشاعر محمد بلخير إلى كتاب الأعمال الكاملة لمصطفى نطور منشورات دار المدار الثقافية / البليدة الطبعة الأولى 2013

10) علامات فارقة في الفلسفة واللغة والأدب أحمد يوسف ص 154 / 155 منشورات الاختلاف وضفاف ودار الأمان بيروت / الجزائر / الرباط الطبعة الاولى 2013

 

لا ينتمي فيلم "حسن المسعودي" للمخرج العراقي يمام نبيل المقيم بلندن حاليًا إلى شكل الفيلم الوثائقي الكلاسيكي المُعتاد وتقنياته المعروفة وإنما يجمع بين التقنية التلفازية من جهة وبين أسلوب الفيلم الوثائقي الحديث الذي لا يرى ضيرًا في هذا التعالق الذي قد يفضي إلى شيء جديد لم نألفه من قبل أو ربما يُسفِر عن مخاطر جمّة لن يُحمد عُقباها إذا لم يُمسك المخرج بالخيط المُرهف الذي يفصل بين هذين الجنسين البصَريين اللذين يتكئان على خصائص واشتراطات فنية معينة يعرفها جيدًا المختصون بالخطابين السينمائي والتلفازي على حد سواء. جدير ذكره أنّ هذه السلسة الوثائقية تتألف من ستة أفلام تنضوي جميعها تحت عنوان "أنا مُهاجر" وتضم ستة فنانين وهم على التوالي: "عفيفة لعيبي، غني الطائي، حسن المسعودي، فيصل لعيبي، نبيل ياسين، وقتيبة الجنابي".

دعونا نتفق منذ البداية إلى أنّ هذه المادة البصرية التي بين أيدينا هي خلطة مهجنّة يتلاقح فيها الفيلم الوثائقي بالبرنامج التلفازي من دون أن نحكم عليها حُكمًا قاطعًا قبل أن نصل إلى نهايتها التي رسمها المخرج يمام نبيل بعناية فائقة لا تخلو من الدقة والبراعة والجمال.

يستهل المخرج يمام نبيل فيلمه المهجّن الذي ينضوي تحت عنوان "حسن المسعودي" بأربعة أبيات شعرية من قصيدة "يا دجلة الخير" المعروفة للشاعر محمد مهدي الجواهري التي يقول في مطلعها: "حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني      يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البستاتينِ" ويُنهي الاقتباس بالبيت الرابع الذي يقول فيه:"إنِّي وردتُ عُيونَ الماءِ صافيةً نَبْعًا فنبعًا فما كانت لتَرْويني". والغريب أنّ هذا الاستشهاد بالأبيات الأربعة قد جاء مُترجمًا باللغة الإنكليزية وكأنّ الفيلم موجّه للمشاهدين الأجانب وكان بالإمكان وضع النص العربي إلى جانب الترجمة لنتفادى هذا الإشكال الذي سيتكرر أيضًا في النبذة التعريفية الشاملة التي قدّمها المخرج بالإنكليزية أيضًا وكان بالإمكان تحاشيها لو أنّ المخرج استعمل تقنية التعليق الصوتي "الفويس أوفر" التي توفر للمتلقين سهولة سماع الأبيات الشعرية المقتبسة والتوطئة التي قدّمها المخرج عن الفنان حسن المسعودي وخلفيته الثقافية والفنية.

اهتمام مبكر بالرسم التشخيصي

يمكن إيجاز التوطئة الإنكليزية بأنّ حسن المسعودي من مواليد النجف سنة 1944. نشأ في بيئة تقليدية وأظهر اهتمامًا فنيًا كبيرًا في سنواته المبكرة بالرسم التشخيصي، ولأسباب سياسية لم يُقبل بمعهد الفنون الجميلة ببغداد سنة 1961. بدأ العمل كمتدرِّب لدى العديد من الخطّاطين التجاريين ببغداد ثم انتقل إلى باريس سنة 1969 ووجد عملًا كخطاط في مجلة جزائرية عربية عام 1971. سجّل في مدرسة البوزار حيث درس الرسم التشخيصي ومع ذلك بدأ يركز على الخط ومن خلال تعاونه مع العديد من الموسيقيين والراقصين والممثلين الفرنسيين والأجانب خلق أسلوبًا خاصًا به ألهمَ العديد من الفنانين الآخرين. التقى بإيزابيل التي كانت فنانة رسوم توضيحية في مدرسة البوزار وتزوجها  فأنجبت له بنتًا واستمرا بالعيش والعمل بباريس. لم يعد حسن إلى العراق حتى الآن. هذا هو الهيكل المعماري للفيلم برمته إذا جرّدناه من التفاصيل الداخلية لكن ثيمة الفيلم تتجاوز "البورتريه" أو "الصورة القلمية" التي تحصره في حدود ضيّقة لا تُوصل الفكرة الفنية إلى مبتغاها، فالفيلم الوثائقي الرصين وحتى البرنامج التلفازي الجاد يحاول الارتقاء بمادته الفنية والفكرية إلى مستوى الوثيقة التي يمكن الاعتماد عليها كمرجع نستند إليه لا أن يذهب مضمونها إلى مدارج النسيان بسرعة خاطفة.

ينطلق حسن المسعودي في رواية قصته مذ كان عمره 12 سنة حيث زار معرضهم السنوي موظفون من وزارة التربية وأشادوا برسوماته المبكرة ونصحوا بإرساله إلى باريس؛ هذه المدينة التي رغب أن يراها وهو في هذه السن المبكرة. وفي سنة 1969 سافر المسعودي تاركًا العراق إلى أجل غير مسمّى. لا يتأخر المسعودي في الإفصاح عن السبب الذي دفعه لمغادرة العراق، فقد اعتقلته السلطات الأمنية العراقية غير مرة وهو لم يرتكب خطأً أو مخالفة قانونية على حد زعمه فشعرَ أنّ هناك ظُلمًا وعسفًا واضحين، وإذا لم ينتهِ هذا الظلم فلن يعود إلى العراق، وما زال ينتظر منذ 55 عامًا وحتى الآن. فهل هناك متسع من الوقت للعودة إلى مَسقط الرأس ومرتع الطفولة؟

حينما سمع الصديق والفنان مهدي مطشّر برغبة المسعودي بزيارة باريس أخبره بإمكانية السكن في غرفته هناك لأنه يسافر في الصيف إلى الجنوب ويمكث هنالك لمدة شهرين حيث عمل في مجلة جزائرية تصدر للعمال العرب بباريس وتُباع في الجزائر أيضًا واستطاع البقاء خلال السنوات العشر الأولى من إقامته بباريس.

مُعانقة حبّات المطر في فصل الشتاء

التحق المسعودي بمدرسة الفنون الجميلة سنة 1970 التي ستكون جسرًا للعبور إلى متحف اللوفر الذي يقع في الجهة المقابلة للمدرسة وأصبح لديه "كارت" يوفر له تسهيلات كثيرة من بينها تناول وجبة طعام بمبلغ زهيد وكان يقيم في غرفة صغيرة يغطيها سقف مائل تتوسطة نافذة تنزل منها القليل من حبّات المطر في فصل الشتاء.

يقسّم المخرج يمام نبيل فيلمه إلى عشرة أجزاء تبدأ بـ "نجف، بغداد، باريس" والاختلافات الملحوظة بين هذه المدن وتنتهي بجزء أسماه "بعيدًا عن الوطن" وكأنّ هذه العقود الخمسة ونصف العقد حتى الآن غير كافية لهزّ آراء الفنان حسن المسعودي وتغيير قناعاته القديمة بالظُلم الذي تعرّض له والإهانات التي تلقّاها على أيدي أبناء جلدته في أواخر الستينات من القرن الماضي. يوجز المسعودي الفرق بين المدن الثلاث كالآتي: أنّ الناس في النجف ينتمون إلى بيئة اجتماعية واحدة لا تختلف كثيرًا. وحينما انتقل إلى بغداد لاحظ أن المرأة تعمل في العديد من المحلات، كما انتبه إلى وجود الكثير من الأجانب بعد تغيير النظام الملكي إلى جمهوري والتغيرات الكبيرة التي طرأت على الاقتصاد العراقي. فعلى الرغم من انفتاح بغداد على العالم الخارجي إلّا أن باريس أوسع منها بكثير ففيها تزدهر الثقافة والفنون لدرجة أن الإنسان البسيط يمتلك ثقافة واسعة وعميقة هي نتاج حضاري لمئات السنين فلاغرابة أن تتوفر المدارس والمعاهد والجامعات وتزدهر المسارح والمعارض الفنية والأنشطة الموسيقية بمختلف أنواعها حتى أنّ المسعودي يشكو من قلّة الوقت لارتياد هذه المنابر الثقافية والفنية التي تضطره للمفاضلة والانتقاء وقد اختار في نهاية المطاف أن يتعرّف على الموسيقى الهندية والخطّين الياباني والصيني.

التحرّر من التقاليد القديمة

يسترجع المسعودي ذكريات طفولته حينما كان يلعب في فناء مسجد الإمام علي "كرّم الله وجهه" وكان يرى الخطوط والزخارف العملاقة المدوَّنة على الجدران قياسًا بالخطوط الصغيرة المدوَّنة بالدفاتر والكتب المدرسية التي هيمنت على ذهنه في ذلك الوقت وملأت الفراغ الذي في داخله بالحروف والزخارف. يستذكر المسعودي حينما فتح في صباه، مع أخيه رسول، محلّا صغيرًا بجانب المسجد، وكانا يشتريان صورًا مطبوعة بالأسود والأبيض تتألف من خطوط فقط وكان يلونانها ويبيعناها للزوار القادمين إلى النجف، وكانت هذه الصور الملونة تلبّي حاجة الناس قبل ظهور التلفزيون على وجه الخصوص. أفاد المسعودي من عدة خطاطين من بينهم محمد صالح وكريم عبدالرؤوق وسعد الكعبي الذي نظّم لهم دوره الفن التشكيلي لرسم الموديل والحياة الصامتة، وقد منحه هذا الأخير إمكانية التحرر من التقاليد القديمة خاصة وأن قبوله في معهد الفنون الجميلة قد تعثّر وأنّ العناصر الأمنية قد اقتحمت بيتهم لأنه خطّط لافتات إحدى المظاهرات. وعلى الرغم من أنه لم يفعل شيئًا مُخالفًا للقانون إلّا أنّ هذه الدعوى ظلت قائمة لمدة ثماني سنوات يستدعونه في كل مرة ولا يجدون أي انتهاك للقانون فيؤجل الضباط في معسكر الرشيد الدعوى لبعض الوقت حتى شعر باليأس والإحباط وقرر الفرار من البلد الذي يضطهدون فيه الإنسان والإنسانية معًا.

عندما دخل المسعودي إلى بغداد أول مرة تعرّف إلى الخطاط عباس الذي يعمل بجانب الأورزدي باك في شارع الرشيد. ثم تعرّف إلى خطاطين آخرين تعلّم منهم تدريجيا الخطوط الأساسية المستعملة في القضايا التجارية كالثُلث والرقعة والديواني لكنه كان متأكدًا أنّ هذا ليس طريقه، فالخط شيء قديم، وهو يريد أن يُصبح فنانًا على الطريقة الأوروبية، ثم اكتشف بحذقه الفني أنّ هذين الطريقين غير صحيحين وعليه أن يكتشف طريقًا ثالثة. وأكثر من ذلك فقد كان يقول في سرّه أنه يجب ألّا يقلّد حسن المسعودي وعليه أن يتجه صوب المجهول ويكتشف شيئًا جديدًا.

في البداية لم تكن للمسعودي فكرة عمّا سيفعله بالخط العربي الذي كان مُقتصرًا على القضايا الدينية والتجارية من وجهة نظره حينما كان موجودًا في العراق وحينما انتقل إلى فرنسا غيّروا مسارات تفكيره حيث التقى بالممثل المسرحي جي جاكييه Guy Jacquet الذي يعمل في فرقة مسرحية مشهورة. دعاه جاكييه لأن يخطّ على ورقة شفافة وينقلها الجهاز إلى الشاشة التي يراها الجمهور. وقد منحتهُ هذه الطريقة حرية العمل الفني الذي لا تؤطره الحدود الثابتة. وهذه العملية ليست بسيطة ولا تتحقق بسهولة في كل مرة وأحيانا يكتشف عن طريق المصادفة أنّ الشيء الذي عمله يقترب ربما من شيء ما كان يتخيله الشاعر قبل ألف سنة. يمحض المسعودي بعض الشعراء محبة خاصة مثل أبو العتاهية والبحتري اللذين عاشا في القرن الثامن والتاسع على التوالي وكان التصوير ممنوعًا في ذلك الوقت وكان الشعراء هم الذين يصنعون الصور الشعرية وهذا فرق كبير بين الحضارة العربية التي تعتمد على الكلمة بينما تعوّل الحضارة الغربية على الصورة.وهكذا استمر عمل المسعودي مع الفرقة المسرحية لمدة 12 سنة زوّدته بالكثير من المُعطيات الفنية الجديدة.

حيوية الخط العربي

يتوقف المخرج يمام نبيل عند تجربة المسعودي في إدخال الخطوط اليابانية والصينية التي أعطت شيئًا آخر للخط العربي وإن بقي الجوهر متشابهًا. يسترجع المسعودي إمكانات الخط العربي وتجريبه بطريقة حديثة حيث توجّه، هو وزوجته، لمدة ست سنوات إلى مكتبات باريس التي تضم كتبًا عربية وصوّراها، ثم ذهبا إلى أسطنبول وكتبا رسالة إلى متحف "توب كابي" ملتمسين إيّاه أن يفتح لهما القاعة التي تضم خطوط ابن البوّاب الذي عاش ببغداد قبل ألف سنة، ثم ذهبا إلى القاهرة وجمعا كل هذه المواد وانتقيا منها قسمًا صغيرًا ألّفا منه كتابًا يحمل عنوان "حيوية الخط العربي" الذي نفد بسرعة ثم أعادوا طبعة لمرات عديدة.

يختصر المسعودي علاقته بإيزابيل وزواجه منها حيث أنجبت له بنتًا وسوف تُنجب هذه البنت حفيدين يساعدونه في ترسيخ جذوره العائلية في فرنسا التي تشبه إلى حدٍ كبير جذوره في العراق. وسنعرف من خلال حديثه أنّ إيزابيل فنانة تؤلف كتبًا للأطفال وقد نشرت عشرة كتب لكنها قررت أن تتوقف عن مشروعها الخاص وتكرّس وقتها وجهدها إلى عمل المسعودي في الرد على الدعوات والقيام بأعمال المحاسبة والمراسلات. وقد أفادته كثيرًا لأنها متحدرة من المجتمع الأوروبي وتعرف تاريخ الفن جيدًا حيث ساعدتهُ في تصحيح بعض الآراء عن الخط العربي. استعمل المسعودي كلمة الخطاط على موقعه في الإنترنيت لمدة 20 سنة مع أن بعض النقاد والفنانين يقولون له هذا ليس خطًا لأنكَ تقترب كثيرًا من الفن التشكيلي ويجب أن تبحث عن اسم آخر. وهذا رأي جدير بالانتباه لأنّ أعمال المسعودي الخطية هي أعمال فنية بامتياز.

يتوق لرؤية العراق قويًا ومُعافى

لا يريد المسعودي العودة إلى العراق، ويبدو أنّ القناعة التي كوّنها مذ تعثّر قبوله في معهد الفنون الجميلة سنة 1961 وحادثة اللافتات التي خطّها في أواخر الستينات، واستدعاءاته المتكررة للجهات الأمنية قد دفعته إلى إلغاء فكرة العودة إلى العراق. وهو يعتبر العراق شخصًا مثخنًا بالجراح. ويتمنى أن يزوره حينما يكون قويًا ومعافى في أحد الأيام. يتمنى المسعودي أن يتطور الخط في بلد تسوده المحبة ويتضاءل فيه العنف، وتتراجع فيه الحروب إلى أقصى درجة ممكنة. لم يصل المسعودي إلى هذه الدرجة العالية من المصالحة مع الذات إلّا بعد أن تأمل الفنون الأوروبية والعالمية، ففي البداية كان يقلّد فنانين معروفين حينما كان يدرس في البوزار مثل فرنان ليجيه، ثم بدأ يقلد رسومات ماتيس ويحذو حذوه لأنه كان يمثل العنف والجوانب الإنسانية المرهفة التي كانت تشذّبه يوميًا.

ليس هناك ما يشجع المسعودي، من وجهة نظره، على العودة إلى العراق ذلك لأنّ كل أفراد أسرته الكريمة قد هُجروا قسريًا إلى إيران، ولديه أخ تعرض إلى متاعب كثيرة، وواجه مصيره المحتوم على الحدود. فلاغرابة أن يفكر المسعودي بالمستقبل، ولا يستعيد الماضي إلّا عند الضرورة القصوى لأنه مُوقن تمامًا بأنّ هناك أناسًا كثيرين واجهوا صعوبات جمّة، وتعذبوا أكثر منه، وعليه أن يبذل قصارى جهده من أجل إشاعة الجو الإنساني في البلد الذي نشأ وترعرع فيه وغادره مضطرًا ولا يستطيع العودة إليه ما لم ينتهِ الظلم الذي شعر به وهو شاب يافع مُدجج بالأحلام الفنية الكبيرة والإصرار على العيش الكريم.

هذه المادة ليست "صورة قلمية" لأنها مادة واسعة ومتشعبة تبدأ من سن الثانية عشرة حتى مشارف الثمانين، كما أنها تمتد من النجف إلى بغداد ولا تنتهي عند باريس إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار سفرات المسعودي وزوجته إيزابيل إلى إسطنبول والقاهرة واليابان وغيرها من المدن والحواضر التي عرضت فعالياتهم وأنشطتهم الفنية. وفن "البورتريه" السينمائي المستعار من فن التصوير الفوتوغرافي هو لمحات وإيماضات لا تغوص في التفاصيل الصغيرة بينما يقدّم لنا المخرج يمام نبيل بمساعدة الباحث آبي جَيس Abe Chace مادة واسعة ومتشظية تصلح أن تكون موضوعًا لفيلم وثائقي ذي شجون لكنه يحتاج إلى بضعة تعليقات صوتية، وعدد من الوثائق المُصورة أو المكتوبة أو المسموعة، ومشاركة خمسة أو ستة فنانين ونقاد أو مؤرخين للفن التشكيلي على اعتبار أنّ منجز المسعودي ليس خطًا فحسب وإنما هو لوحات فنية بامتياز لتصبح هذه المادة المهجّنة فيلمًا وثائقيًا رصينًا لا يغادر ذاكرة الناس بسهولة.  وفي الختام لا بدّ من الإشادة ببراعة التصوير وجمالية الموسيقى التي رافقت أحداث الفيلم للمطرب وعازف العود الفنان إحسان الإمام، والجهد الذي بذله الباحث آبي جَيس وبقية الفنيين الذين تآزروا جميعًا في إنجاح هذا الفيلم الذي يعزف على وتر حسّاس ويثير الكثير من الشجون الكامنة في أعماق النفس العراقية الجريحة.

***

عدنان حسين أحمد (لندن)

قراءة نقدية تحليلية في قصيدة: أصابع ديسمبر – للشاعر: أنور غني الموسوي – العراق.

 ***

أصابع ديسمبر – للشاعر: أنور غني الموسوي

أنا من هنا؛ من الجنوب حيث كل شيء ناعم وحلو، وأصابع ديسمبر لها لمساتها المذهلة على خدودنا. هنا، تحتضن الشوارع القصة الكاملة لأصابع ديسمبر الباردة؛ حيث تنام الليالي هادئة ويهمس القمر خلف الغيوم. انت لا يمكنك رؤية أي شيء هنا في ديسمبر، غير الأغاني والقصص القديمة. نعم، أصابع ديسمبر هنا باردة، لكن أحلامنا دافئة. نعم، ديسمبر غريب ومتهور، لكننا نحبه لأننا نتمتع بابتسامات مذهلة. ديسمبر شهر حُّر وبارد يملأ رئتي بهواء برّي. إنه مجنون وله عيون شرقية جذابة للغاية. انت قد ترى روح ذلك الغصن، وتلك الورقة، وذلك الطائر الصغير جدًا؛ قد تشعر بهم، لكنك لن تعرف شيئًا عن رغباتهم البرية لأنك لست سمكة تسبح في نهر الفرات. هنا؛ في الجنوب، الأرواح مبتهجة بشكل ساحر، انها مبتسمة ودافئة، لذا فإن ديسمبر هنا لا يصدق، فهو يصنع جنّيات مذهلة من حكاياتنا القديمة.

أصابع ديسمبر: بين برودة اللمسات وحلم الجنوب الساحر

هذا العنوان يجسد التباين بين البرد الحسي والدفء الروحي في القصيدة، مع إبراز الحس الشعري للجنوب ورؤيته الخاصة لشهر ديسمبر. كما يعكس أيضًا تداخل الواقع مع الخيال في القصيدة، ويستحضر جوهر العواطف المتناقضة والمذهلة التي يمر بها الشاعر.

***

القراءة النقدية:

قصيدة (أصابع ديسمبر) للشاعر (العراقي أنور غني الموسوي) ليست مجرد تأمل في شهر ديسمبر أو في الأجواء الشتوية الباردة، بل هي رحلة إلى الذات والروح، حيث تتداخل عناصر الطبيعة مع المشاعر الإنسانية العميقة. القصيدة تتميز بأسلوب سردي تعبيري شعري يعكس رؤية شخصية معبرة عن علاقة الإنسان بالزمان والمكان، كما تتسم بالرمزية العميقة التي تخلق ارتباطًا بين الطقس والمشاعر الداخلية للشاعر.

سنتناول القصيدة بشكل تفصيلي وفقًا للأبعاد اللغوية، الرمزية، والعاطفية التي تحتويها.

1. الجنوب كمكان: رابط بين الذات والطبيعة

القصيدة تبدأ بتأكيد هوية الشاعر الجغرافية والثقافية من خلال قوله:

(أنا من هنا؛ من الجنوب حيث كل شيء ناعم وحلو).

هذا المقطع ليس مجرد تقديم جغرافي، بل هو مدخل إلى عالم الشاعر الداخلي، حيث يصبح الجنوب أكثر من مجرد موقع مادي. الجنوب هنا يتحول إلى حالة شعورية تمزج بين الصفاء والنعومة، فكل شيء فيه (ناعم وحلو). الصورة التي يخلقها الشاعر عن الجنوب ليست فقط طبيعية بل ذات طابع وجداني، فهو يربط المكان بالراحة النفسية والعاطفية، ما يعكس تأثره الشديد بجمال هذه البيئة.

الجنوب في القصيدة يمثل الفضاء الذي يعكس شخصية الشاعر وتجاربه الحياتية، وهو أيضًا المكان الذي يحيا فيه الشاعر بمعزل عن القسوة التي قد تعصف بالمكان. (هنا) في هذه الجملة تكرارٌ يعكس ارتباط الشاعر بالمكان، حيث يشعر أن هذا هو مكانه الأمثل، هذا هو وطنه الروحي. من خلال هذه الصورة الشاعرية البسيطة، يوحي الموسوي بأن الجنوب هو مصدر إلهام شعري، فيه تكمن الحكايات القديمة، والأغاني، والقصص التي تندمج مع الطبيعة لتخلق واقعًا مميزًا.

2. أصابع ديسمبر: بين البرودة واللمسات العاطفية

تتجسد الصورة المركزية في القصيدة في عبارة (أصابع ديسمبر). هذه العبارة تستحضر صورة ليدٍ تمتد لتلامس وجوهنا، ولكن بدلاً من لمسة إنسانية دافئة، تكون هذه الأصابع باردة. الفعل (تلامس) يعكس اتصالًا حسيًا مع الواقع، ولكن هذه اللمسات الباردة تحمل في طياتها معاني أعمق، إذ أن الشاعر يربط بين (البرودة) و(الأحلام الدافئة) في تباين بليغ بين القسوة والعاطفة. في هذا التناقض، يُظهر الشاعر قوة المشاعر الإنسانية في مقاومة الظروف الباردة.

الجملة:

(وأصابع ديسمبر لها لمساتها المذهلة على خدودنا)

هي تعبير مجازي عن تأثير فصل الشتاء على حياة الإنسان، حيث لا يقتصر التأثير على الجسد فقط، بل يتسلل إلى الروح. البرودة التي تحملها أصابع ديسمبر هي مجرد إطار خارجي لما يمكن أن يكون بمثابة استحضار للذكريات والعواطف الدافئة. بهذه الصورة، يخلق الموسوي من فصل الشتاء حالة من الغموض والدهشة التي تتناغم مع حالته النفسية. البرودة تمثل في هذا السياق تحديات الحياة، بينما (الأحلام الدافئة) تشير إلى الأمل والطموحات التي تبقى حية رغم الظروف القاسية.

3. الليل والقمر: صور طبيعية تعكس الحالة النفسية

في جزء آخر من القصيدة، يقول الشاعر:

(هنا، تحتضن الشوارع القصة الكاملة لأصابع ديسمبر الباردة؛ حيث تنام الليالي هادئة ويهمس القمر خلف الغيوم).

الليل في هذه الصورة يعكس حالة من السكون والهدوء، والليالي (الهادئة) التي تتبع (الأصابع الباردة) تنشئ تناقضًا بين الهدوء الظاهر والاضطراب الداخلي. هذه الهدوء الظاهري قد يكون رمزية للشعور بالعزلة أو الوحدة التي يشعر بها الشاعر في مواجهة العالم. القمر، في هذه الحالة، لا يظهر بمفرده بل خلف الغيوم، مما يضيف عنصر الغموض إلى المشهد.

يهمس القمر، وكأن الشاعر يطلب منه أن يكشف أسرار الليل الذي يحيط به، ولكن في نفس الوقت يبقي هذا السر خفيًا خلف الغيوم. غياب وضوح القمر يُعتبر استعارة للضبابية التي قد تحيط بالأفكار والمشاعر الداخلية في حياة الشاعر. الغيوم هنا قد تكون رمزًا للمتاعب أو الغموض الذي يحيط بمواقف الحياة، بينما الهمسات تشير إلى أن هناك دائمًا شيئًا ما غير مرئي، يظل خارج نطاق الفهم الكامل.

4. ديسمبر: شهرٌ غريب ومجنون

في السطور التالية، يصف الشاعر شهر ديسمبر بأنه (غريب ومتهور)، وهو وصف يبدو متناقضًا، حيث أنه يضيف صفات إنسانية لشهر غير حي. هذا التوصيف يعكس حالة من الاضطراب واللااستقرار، وهو ما يتماشى مع تقلبات الحياة، مثل التغيرات التي يجلبها الشتاء. من خلال هذه الصفات المجازية، يربط الشاعر بين (الجنون) و(الحرية)، كما لو أن ديسمبر يعكس كيانًا يحمل في طياته كل الملامح المعقدة التي تجعل منه رمزًا للحياة ذاتها، بتناقضاتها وتقلباتها.

الشاعر يعترف بحبّه لهذا الشهر:

(لكننا نحبه لأننا نتمتع بابتسامات مذهلة).

هذا الاعتراف يوحي بأن الشاعر يتقبل المجنون والمتهور، وأنه يجد الجمال في التحديات التي تجلبها الحياة، حتى لو كانت تلبس ثوبًا من البرودة والاضطراب. الحب في القصيدة ليس ناتجًا عن التكيف مع الظروف فحسب، بل هو أيضًا تقبّل لها، والاعتراف بها كجزء من الكينونة.

5. الرمزية العميقة للطبيعة: الغصن، الورقة، الطائر

في القسم الأخير من القصيدة، يضيف الشاعر بعدًا رمزيًا عبر ذكر (الغصن) و(الورقة) و(الطائر الصغير جدًا). هذه الرموز الطبيعية تعكس بشكل مباشر معانٍ تتجاوز مجرد المظاهر المادية. (الغصن) و(الورقة) يمثلان الحياة في حالتها الهشة والضعيفة، في حين أن (الطائر الصغير) يمثل تلك الكائنات التي تسعى إلى الهروب أو التحرر في عالم صعب.

هذه الرموز لا تمثل فقط الطبيعة المادية، بل هي أيضًا تمثيل لرغبات الحياة (البرية) التي لا يمكن للبشر أن يدركوها بالكامل، مما يخلق حاجزًا بين ما هو مرئي وما هو غامض. وعندما يقول الشاعر:

(قد تشعر بهم، لكنك لن تعرف شيئًا عن رغباتهم البرية لأنك لست سمكة تسبح في نهر الفرات)

فإن هذا يدل على أن الشاعر يرفض أن يظل أسيرًا للتفسيرات السطحية. الشاعر يقدم رؤية حية للطبيعة، حيث لا تكون الرغبات واضحة أو مفهومة إلا لمن هو غارق في (نهر الفرات)، أي لمن يعرف الحياة من منظور عميق.

6. الختام: الجنوب كمرجعية روحية ومكان للأمل

ختام القصيدة يعيد التأكيد على طبيعة الجنوب التي تحتفل بالحياة، حيث يقول:

(هنا؛ في الجنوب، الأرواح مبتهجة بشكل ساحر، انها مبتسمة ودافئة).

هذه العبارة تعيد التأكيد على ما بدأ به الشاعر في البداية: الجنوب ليس فقط مكانًا ماديًا، بل هو فضاء روحي يحمل الأمل والدفء في قلب قساوة الظروف. فبينما تبقى الحياة مليئة بالبرودة والتحديات، يظل الجنوب يمثل ملاذًا نفسيًا حيث الأرواح تحتفل وتبتسم.

القصيدة تنتهي بنظرة شاعرة إلى عالم من السحر والخيال: (ديسمبر هنا لا يصدق، فهو يصنع جنّيات مذهلة من حكاياتنا القديمة).

في هذه النهاية، يُبرز الشاعر قدرة الحكايات والقصص القديمة على تحويل الواقع إلى عالم من الخيال المدهش، حيث يصير ديسمبر أكثر من مجرد فصل، بل هو شعور، وذكرى، ورغبة في التمسك بالأمل.

الخلاصة:

هذه القصيدة السردية التعبيرية النموذجية هي رحلة تأملية معقدة وجميلة في العالم الداخلي للإنسان في مواجهته للطبيعة والمشاعر المتناقضة. من خلال الرمزية الدقيقة والصور الشعرية، يُعبّر الشاعر عن تقبل الحياة بكل تفاصيلها، من البرودة إلى الدفء، من الجنون إلى الجمال. هذه القصيدة هي مزيج من الواقع والخيال، حيث يتداخل الجنوب العراقي مع الزمان والمكان لخلق عالم داخلي لا ينسى.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

في قصائد الشاعر حميد قاسم

يعتبر صديقي الشاعر حميد قاسم أحد الوجوه التي لمعت في الساحة الشعرية العراقية في الثمانينات، ولأن رهافة الحس كان لديه يتقد دوما منذ مجموعته الاولى (قداس الطفولة الهرمة – بغداد 1984، لذا فرض على مسيرته هذا التماهي مع التأزمات فانحازت قصائده إلى ما يشبه الهاجس اليومي والسيرذاتي معبّرة عن ذاته المتلازمة بقلقه وأوجاعه وأسئلته الملحّة لاسيّما على المستوى الوجودي الإنساني.. حيث تحضر الأنا الآخر  (الوطن / الحكومة) في قصائده بوصفها رمزاً وتحضر أنا الشاعر بوصفها إنعكاساً لتصرّفات ذلك الآخر عبر سيل من الصور الشعريّة الجميلة المتحرّكة والمشحونة بالشجن والألم الإنسانيّ.

في مجاميعه الشعرية (ألعب في الحديقة وأفكر - من اصدارات دار الشؤون الثقافية العامة / وزارة الثقافة – 2015 بغداد)،  (ليس ثمة هواء   – دائرة الثقافة والاعلام – الشارقة 2003، (وهذا صحيح ايضا - الصادر من دار الساقي 2008 )

زج الشاعر عدد هائل من الصور الشعرية الجميلة والمتتشظية ما بين لهيب الحلم وصقيعِ الاغتراب من اجل خلق مشهدية شعرية دراماتيكية تجعلك تشتاق وتنزلق الى حيث جدلية العلاقة بين الحلم الانوي والبحث عن مهد الطفولة لتحلق أنت الآخر في فضاءاتهِ المُحلقة في سماء الأنا الجمعية المتكاملة، كي تتواصل مع رحلته سائرا على حبله السري منطلقاً من سرته أو مهده  الى حيث متاهات الازقة في الداخل وكما في الخارج.

ففي قصيدته (يا ماخذلت الولف - من مجموعته وهذا صحيح ايضا) يستلهم الشاعر ارهاصاته وانثيالاته ليكشف من خلالهما الواقع المؤلم الذي عاشه كبقية ابناء شعبه ؛ ليخلق موازنة بين ما قدمه وطنه العراق بدءً من سقوط الملكية من قرابين في الماضي والحاضر، الى درجة أصبح وطنه كله قرباناً؛ يقدم على طبق من ذهب إلى الغرباء فيصف الشاعر حالة شعبه ووطنه وصفا جميلاَ متكئاً على التناص التأريخي (مقتل الملك) من أجل اكساب تجربته الشعرية دلالة تاريخية فجاء نصه هذا مشابهاً لنص الشاعر الامريكي ت س اليوت في قصيدته (الارض اليباب – دفن الموتى) الذي  وصف الجمهور المتدفق على جسر لندن سائرا الى حيث شارع الملك وليم...) ذلك الشعب الذي تدفق من شارع الملك القتيل في بغداد وهم يتدفقون كالقطيع ولا يعرفون ما يخبأه لهم المستقبل. يقول الشاعر حميد:

في هذه المدينة التي تشبه سيارة أجرة قديمة وعاطلة..

خرج الصبية من أبوابها مرة واحدة

واندفعوا في الازقة مغبّري الوجوه..

وميتين من التعب..!

يا لسخرية القدر الذي جمعني بك تحت سقف واحد،

وللسبب ذاته...!

....

لماذا الهروب من الاغاني الجارحة؟

بعد أن أقتيد (شعبي) الى المذبحة

فبقدر ما كانت قصائده الشعريّة مسكونة بالهاجس اليومي الناتج من تصرّفات الآخر تجاه الوطن والإنسان، جاءت مسايرته لمعاناة الغربة السبب في جعل الأنا الحالمة لديه تقفز الى السطح لتجسد لنا ظلم الآخر، فكانت القصيدة لديه بمثابة الوعاء الذي يستجمع فيه شظايا الألم والحنين، ويرسل عبر صوره المتباينة آهات الشجون وغصص الرزايا لذا ففي أحيان كثيرة جعلت من قلمه يترشح بنصوص مفعمة بالترنيمات الأليمة وكما يصفها في قصيدته (حياتي حتى ترتطم بالارض  -  من مجموعته ليس ثمة هواء ):

ان حياتي هي كمنجتي الوحيدة التي تبعث عويلا

طويلا، يفزع أبنائي النائمين على بعد الف كيلو متر...

فوق خارطة الوطن

وهكذا في قصيدته (كما لو) من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر:

لا أحد سواه

يستطيع أن يمسك أمسه الساحر

أمس الحروب والسجون والاغتصاب

أمس الجنون الذي أسس للكراهية

ومشاهدة المسرحيات على حافة النهر

واقفاً يتأرجح بين عكازين

يفكر بأغنية... ويشتم السلطة

ولعل هذه الانفعالية الواضحة، حملت الشاعر على اختيار مفرداته القادرة على استيعاب طاقاته الانفعالية، بما يثير المتلقي لما تحمله من شحنة توترية، يقوم اساسها على محورين: محور الذات الشاعرة، المتأثرة، ومحور الموضوع، والعلاقة القائمة بينهما.

وفي الأخرى يفوح منها رائحة الحنين الممزوج بعطر الطفولة وكما يقول في قصيدته (كلما اراك - من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر):

كلما أراك

أدخل في الزقاق القديم

متواريا خلف البيوت المتهالكة

لأجدني في غرفة النوم..!

وأنت نائمة، تسدلين شعرك المبلل

فأمط شفتي... وأصفر

إن ما يحفز النسق الجمالي في نصوصه هو تحوير الواقع المرير الذي عاشه ليحكي على لسانه واقع تجربته الماضوية ؛ لخلق المفاعلة النصية ضمن النسق الشعري فكان النص لديه بمثابة الشريان الذي يتدفق من خلاله ما يخزنه من شظايا الألم والحنين والحب، ويرسل عبر خيوطه المتباينة والمتشابكة رؤياه بكلمات موحية يعلو وينخفض الإيقاع معها بحسب الحاجة السيكولوجية لكبت الذات وحجم العواطف فتنصهر الفكرة والخيال والكلمة محدثة أشبه ما يكون بسمفونية تترافد فيها آلات كثيرة، فتارة تكون محملة بالآهات والشجون وفي الاخرى برائحة الحلم الجميل.

مجاميعه هذه تحمل بين طياتها كماً هائلاً من الاحلام التي يداهمها الصقيع منذ خطوتها الاولى فمنها ما تعود الى مهدها وتتقمط منتهاها واخرى تتأرجح وتتمرد بقوة وصخب، لتحاكي رحلته وأبناء وطنه  والتي تشبه رحلة جدهم الاول كلكامش، ظانا انه سيجد ما يجعله خالداً في بلدان المهاجر إلا أنه يعود بخفة يديه فيبدأ توتره الانفعالي وهو في أوج التصاعد التراجيدي حين يرى حلمه بالخلود يتكسر فتمتد ايقاعاته لتبلغ ذروتها، كل هذا جعله يبحث دوما عن حلمه المفقود منذ الطفولة بسبب ما آل اليه وطنه جراء الحروب والتبعية لذا نراه يقول في قصيدته (الغريب - من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر:

الغريب الذي مر بنا ذات يوم

ليتنا لم نره

ليتنا لم نصغ اليه، ولم نقع في بئر غوايته..!

ليتنا  لم نغادر خرائبنا التي أولعنا بجمالها الوحشي المريع

نصوصه هذه قادرة على التمدد والتّشظي كونها تستمد حيويتها ووجودها من خلال التّقاطع والتّوازى ما بين حلمه الانوي المفقود والبحث المستمر عن السعادة التي لا يجدها إلا في مهد الطفولة مما يؤهله الاتّصال مع الماضي والحنين إليه والتّشابك مع لحظاته.

ففي قصيدته (طبيعة حقيقية - من مجموعته ليس ثمة هواء) يقول:

كلما أغمضت عيني

رأيت حياتي..

تُعمد

فوق نار قديمة!

تكمن قيمة جمالية قصائد الشاعر حميد قاسم بمقدار انفساح الأفق التأملي وتحفيز إيقاعاتها الجمالية في انتقاء التشكيلات الصورية المثيرة والتحليق بها عبر فضائه الشعوري العميق المتخيل والذي يمثل قيمة عليا في الوظيفة الشعرية، حيث تتحول القصيدة في بنيتها الى طاقة خلاقة يتمثل فيها التراث الشعبي، والعقل الجمعي بصورة عضوية تؤطر موقف وقيم الإنسان تجاه الكون وتجاه تساؤلاته المتعددة.

ولأن العلاقة مع الآخر(إن كان شخصاً أو حكومة أو وطناً)، ناتجة عن رد فعل دفاعي تجاه سطوة واندفاع الآخر، لذا كان من الطبيعي أن تجده يقول في قصيدته (أغنية عزرائيل - من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر):

لست مسؤولاً...

عن أي فِراش بارد لأرملة

لست مسؤولاً ايضا

عن أي مهد يتأرجح فارغاً

ولست مسؤولاً

عن أي شخص يتدلى من حبل في رقبته.

لست سوى أجير

يعمل ليسد رمقه

إن ما يدفع شاعرنا للكتابة هو ذلك الحلم المفقود بسبب ما يتعرض إليه الإنسان في وطنه من هزات مستمرة حفزته كي ينهض ليتمرد على الواقع المرير الذي يعيشه وأبناء وطنه ليقول الحقيقة من أجل الإصلاح ومواجهة الفوضى الناتجة من جراء سيطرة وتجذر الاضطراب والفوضوية على واقعه، فيقول في قصيدته (كمن ينزل جبلا الى داليا الرياض - من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر):

.. أيها الوطن،

.. كلما بعثرتنا المفخخات

في الهواء...

وأمضي،

كمن ينزل جبلا

أقطع الحديقة العامة

محدقا في النساء اللواتي

يخلعن ثيابهن تحت وطأة الرطوبة الهائلة

انه بحاجة للبحث عن طريق يعود به إلى نفسه ليلازم أناه لرؤية الآخر (الوطن).

 ولأن العودة إلى الوراء صعبة التحقق ومحاولة كبت الأنا الداخلي هي فشل.. لذا راحت حيويته تبحث عن مخرج آخر يجعلها تفجر مكبوتاتها كحل لتحقيق اِنتصاراتها، وتفريغ دواخلها نحو العالم الخارجي فيقول في قصيدته (كآبة بغداد - من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر):

أيتها المدينة...

أنا الآن أطل عليك من النافذة

أنا لا أفعل شيئا سوى أن أطل عليك من النافذة

وأنا نكايةً بالاصابع – سأضع جمرة سيجارتي

أدنى من سرتك، أعني بيت عنكبوتك الدؤوب

بيت أثامنا وعقوقنا الأبدي

القصيدة لدى الشاعر هي علاقة الشاعر بذاته وبالعالم من حوله، فهي مخاض رؤيته للماضي والحاضر واستشراف المستقبل من خلال ما يزخر به شعره من إمكانات تخييلية تمكنه من التنبؤ واستكشاف المستقبل.. أن الشعرية لديه عبارة عن كتلة فواعل تحفزية ؛ تبث ألقها الجمالي من خلال حساسية الرؤيا الشعرية في اختيار الصورة، وشاعرية الجملة، وإيقاعاتها المتناغمة إيحاءً، ورؤية، ودلالة؛ واستثارة جمالية خلاقة بمراجعها النصية، وانفساح الرؤية الجمالية كما في قصيدته (روائح - من مجموعته وهذا صحيح أيضا):

قبل أن أعبر الزقاق

متسائلا عن جدوى الانشغال بفكرة الوجود

.....

الرجولة...

أو الندم!

كل شئ مريض هنا

لذا سأضعه أمام الباب لتكنسه الريح

فكما أن النص الشعري المثير هو كتلة مؤثرات جمالية فإن ما يغني النص الشعري جمالياً ليس فقط الصور الشعرية المبتكرة، وإنما المخيلة الإبداعية المتوهجة، وحساسية الشاعر الجمالية في انتقاء التشكيلات المثيرة، وتحفيز إيقاعاتها الجمالية. ففي قصيدته (هذا سيمر ايضا- من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر) يقول:

رائحة المطر مفعمة بالتراب هذه المرة !..

هل كتبت على نفسي أن أحبسها في عمق الظلام

بعد أن بللت حياتي بالكحول

منصتاً لاصوات الرعد

ووقع المطر على النافذة؟

رغم هذا المطر كله

رائحة الهواء مفعمة بالتراب..!

الشاعر حميد في قصائده هذه تراه يبحث في مضمونه الروحي من خلال تصوير ذاتيته أي عالمه الداخلي فجاءت قصائده وكأنها مرآة الذات الفردية فمثلت أناه بوصفها فاعلا شعريا لتنوب عنه في ميدان (الأنا) ليأخذ من التمركز الأنوي وسيلة تفاعل وتواصل مع أنا الآخر الذي لا ينفصل على واقعية الحدث تشكيلات جمالية تسكن وميض العاطفة، وإشراقاتها التشكيلية فالمخيلة الإبداعية لديه تتوهج من شدة حساسيته الجمالية في انتقاء التشكيلات المثيرة، وتحفيز إيقاعاتها الجمالية لذا تراه بين حين وآخر يعيد الماضي ليسأله او لنقل ليحاكمه وكما في قصيدته (لماذا فعلت بنا هذا كله - من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر):

أيعقل، أنك لم تحبنا؟

أو أن قلبك الذي عجناه من الغيم

أصبح أسود لفرط الدخان؟

أنت الذي غسلت رؤوسنا السود بالمطر

كيف أرتضيت لنا أن نسبح بالدم

كل نهار ومساء؟

نتلمّس في مجاميعه هذه ميله الى الاتّكاء على البنية السّرديّة في نصوصه الشّعريّة من خلال استخدامه للصّور ذات العلاقة الوطيدة بسيرته الذّاتيّة، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالحضور المكانيّ للماضي والحاضر الذي لا يزال يلازمه بمفرداته وواقعه وكما في قصيدته (شجرة - من مجموعته ليس ثمة هواء):

طوال ست سنوات

الشجرة التي أجلس تحتها كل مساء

تصدر أنينا جارحاً..

وهي تتمايل بأغصانها الثقيلة

هذا الصباح

فلكون النص الشعري لدى الشاعر حميد قاسم هو كتلة مؤثرات جمالية تستمد قوتها من واقع الطفولة وكتل أخرى من مؤثرات الواقع المؤلم، فمن مزيجها تنسج مخيلته المتوهجة صوراً رقراقة تستفز احساسك حيالها بالألفة، والتناغم، والانسجام، ومن خلال فيضه الشعري يستنفر كل خزّاناته الذهنية والفكرية لتأويل منجزه الشعري وحيث لا يزال يعيش حلم الطفولة وازقته وتتنفس رئته الشعرية جمالها لتنتج لنا نصاً مفعم بالجمال وكما في قصيدته (ادغال - من مجموعته ليس ثمة هواء ):

لماذا يا إلهي

نشتري الغيوم

وندفنها في الحديقة..

فتمتلئ الحشائش بالدموع ؟

يعتمد الحراك التساؤلي ميداناً خصباً لتفعيل الحدث وتحفيزه للبحث والتأمل والاكتشاف لذا تترك قصيدته في ذهن المتلقي تساؤلاً مفتوحاً على تساؤلات لا متناهية، وإجابات لا نهائية. فالسؤال – عند الشاعر- يمثل بؤرة الحراك الشعري، ومكمن تفجير الدلالات؛ وحراكها وتوالدها المستمر والمحمل بشتى أشكال الهزائم والانكسارات والتصدعات الوجودية القلقة إزاء واقعنا المنهار لما تحدثه بنية التساؤل من إضاءات ومدلولات نصية.

لقد سعى الشاعر حميد قاسم إلى تشكيل رؤاه الخاصة، في ظل المستجدات والقضايا التي مر بها وطنه، بآليات فنية وتعبيرية وتساؤلات مشروعة تتناسب وإحساسه الشامل بحضوره في الحدث، كاشفا عن قلقه وصراعه العميق مع الذات والواقع المؤلم على ضوء العلائق الداخلة لبناء عالم جديد متجاوزا على الرؤية، فمن المحسوس يتكون النفسي والفكري، اللذان تنعكسان على الرؤية الحسية، فالعلاقة بينهما ارتباطية وانعكاسية على الإنسان، وعلى لغة الشعر وإيقاعه. لذا تراه يتساءل  في قصيدته (دم - من مجموعته ليس ثمة هواء ):

ماذا سأفعل بكل هذه الأسئلة وحدي؟

ماذا سأفعل بهذه الدماء التي تملأ السهل؟

ماذا سأفعل بهذه الدموع التي تملأ المناديل ؟

....

دائما...هناك دم..

وان لم يكن

فثمة رائحة تدل عليه

وفي الختام نتساءل:

ما الذي دعا الشاعر حميد قاسم ان يضخ كماً هائلاً من صور متشظية لتكون بمثابة مرايا عكست لنا شعريّة عميقة متأتية من المأساة، وهي تشير إلى مدى تعلّقها، باشتغالات إشكاليّة الصّراع اليوميّ حول الوجود الإنسانيّ فهي تحمل دلالة ما أو تضطلع بوظيفة من الوظائف فثمة موازنات سرديّة/ حكائيّة يقيمها الشّاعر داخل نصوصه كي تنفتح على العالم الخارجي فيجيب الشاعر ويقول في قصيدته (قيلولة الشتائم - من مجموعته ليس ثمة هواء):

الوحوش تتناسل وتتقافر في الغرف، نمور، أسود

ذئاب، ضباع، قطط، وخشية، زوجات بليدات

وحاقدات، سوقيون وكلاب سائبة

الضحية الأخيرة، الخطأ الأخير الذي يبدو

كأنه سيتكرر – تستيقظ من نومها،

تهذي بين النوم واليقظة:

كل هذا جعله في علاقة تنافر وخصام مع الآخر، مما جعل الشحنات النفسية التي يحملها، تستخدم في سياق المواجهة، فقد ارتأى أن يقبض بيد الجمال والاستلهام حتى يتساءل ويجيب ولو بسؤال عما يجوب بخاطره والقارئ العربي.

***

نزار حنا الديراني

(محاولة في استجلاء جانب من ملامح الكتابة في رواية الهادي الرقيق)

***

تصدير: (تعال نقيّد قيدنا) هادي الرقيق (أيام زمان ص18)

***

تمهيد: يمثّل تعدد أنماط الكتابة السّردية اليوم ظاهرة لافتة أبرز ما يُحمَد فيها هذا الثراء اللّامتناهي في تحويل التّجارب الحياتيّة الفرديّة والجماعيّة والمكوّنات الثّقافيّة والمعرفيّة إلى تجارب أدبيّة متعدّدة ومتنوّعة ممّا أدّى إلى تناسل أنماط سردية جديدة كلّ حين حتّى باتت أشكال تقاطع أنماط الكتابة في خطاب أدبيّ واحد إبداعات قد تفلت من قبضة الأجناسيّة الأدبية ونجد صعوبة في تصنيفها مثلما سُمّي بالسّرد التّعبيري في الشّعر والجُمل الشّعرية في الخاطرة والرّواية ومثله التقاطع بين الرواية والسّيرة الذي ولّد ما اصطلح على تسميته بالسّيرة الروائيّة وكذلك الرّواية السّيرذاتية التي نسب إليها المؤلّف هادي الرقيق مُنجَزَه " أيّام زمان" .. وحتى نستطيع النّفاذ نحو جانب على الاقل من سمات فنّ الكتابة السّردية في هذا المنجز نحاول تحديد أبرز مقوّمات الكتابة في هذا الصّنف الأدبي.. فإذا كانت السّيرة الذاتيّة حسب ما يستنتج من أديبات " شكري المبخوت " مثلا في " سيرة الغائب سيرة الآتي" تقوم على (سرد الشّخص الذي له قيمة اعتباريّة لوقائع حياته او لجزء منها على سبيل التّثمين والتّرميز أو ربّما على سبيل التّرشيد نمذجة للقدوة والمثل الأعلى..) فإنّ الرّواية هي بشكل عامّ واستنادا إلي ما يمكن استخلاصه من "مقدّمات توفيق بكّار والمساءلات النقديّة لبوراوي عجينة" (سرد لحياة بأسرها سردا فنّيّا يقوم على توظيف الوقائع والشخصيات قياسا إلى رؤيا معيّنة وخلفية ذهنية محورها جملة من الصّراعات والتناقضات متعدّدة الأبعاد تتشكّل حولها تلك الرّؤيا.. لذلك لا مجال في الرواية للوقوف عند نسخ التجربة الحياتية او محاكاتها..)

ومن هنا يجوز التساؤل عن مدى وجاهة هذا الإدغام الذي حصل حديثا بين ما هو روائي وما هو سيرذاتي؟ كما يجوز التساؤل عن ممكنات التّمييز بين السّيرة الرّوائية والرّواية السّيرذاتية؟

فكيف صاغ هادي الرقيق ممكنات التّعالق بين الروائي والسّيرذاتي في" أيّام زمان"؟

التعريف الأوّلي بالرّواية السيرذاتية وصاحبها:

هادي الرقيق: أديب وناقد في مجال السّرديات تونسي من صفاقس أستأذ تعليم ثانوي متحصل على الاستاذية في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب القيروان (1989) والكفاءة في البحث من نفس الكليّة (1991) ثمّ الماجستير من كلية الآداب بصفاقس (2007) وبعدها الدكتوراه حول تطوّر فنّ الأقصوصة في الأدب التونسي (2017).. كأديب يبدو مغرما بالأقصوصة في إبداعه ونقده إذ أصدر مجموعات قصصيّة منها: الوردة التي لا تذبل (2005) وأطبّاء أصحّاء (2011).. وأصدر في نقد الأقصوصة: الأقصوصة: هذا الفنّ المراوغ (2009) وكذلك: صلة الأقصوصة التونسية بالأقصوصة الأوروبية ومسألة النشأة (2019)

أمّا " أيام زمان " فقد أصدرها في 2020 عن دار الاتحاد للنشر والتوزيع.. وهي (كما ذكر المؤلّف على واجهة الغلاف) عبارة عن (رواية سيرذاتيّة) بمعنى ذاك التقاطع بين محوريّة حضور الذات في مقوّمات السّرد داخل منظومة الأحداث مسيّجة بأطرها متداخلة في شبكة العلاقات مع شخصياتها وبين التّوظيف لكلّ ذلك وفق رؤيا فنّية جمالية وذهنيّة في ذات الآن..

حدّد لها المؤلّف منذ واجهة الغلاف وجهة هي التّذكّر عبر العودة إلى الماضي وهو ما أحال عليه العنوان الوارد مركبا إضافيّا يفيد تخصيص محتوى الكتابة بفترة زمنيّة انقضت عبر السّرد المعتمِد على تقنية الاسترجاع أو الاستحضار التي لا ترتّب الأحداث في الكتابة الرّوائيّة عادة ترتيبا تعاقبيّا وإنما تفاضليّا تبعا لرؤيا الكتابة وخلفيّتها.. كما حدّد لها أيضا أديما تونسيّ الجذور والأصالة في علاقة ببطل السيرة وحنينه إلى مرحلة راسخة في حياته هي مرحلة الشباب وبدايات المشوار مع مهنة الشّقاء اللذيذ في بعض القرى وفي علاقة بتونس الوطن وما شهدته القرى والمدن من أحداث ساخنة خاصة في أواخر تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي ولعلّ مشهد سور القيروان التي زاول فيها المؤلّف مرحلة التعليم العالي وبعض أبوابه العتيقة يوحي بذلك فجاءت مكوّنات واجهة الغلاف في تناغم يتكامل مع محتوى الكتاب الذي صدّره صاحبه بمقدّمة موجزة وضّح خلالها دواعي التأليف (الكتابة نفيا للمسافات في ديار الغربة تصبح ضرورة ملحّة) في علاقة بخوضه تجربة التدريس بسلطنة عُمان في إطار التعاون الفنّي بينها وبين تونس.. وكذلك دواعي الإصدار بعد تردّده (قررت عدم نشره لاعتقادي أنّه تقليديّ رهن نفسه للقواعد الأجناسية الكلاسيكية) ثمّ قراره لاحقا النّشر بعد اقتناعه بكون نصّه يقوم على عودة الحكاية حاملة جوانب حديثة في توظيف أدوات الكتابة السرديّة فضلا عن كون (الشروط الموضوعية التي ألهمته المادّة الأوّليّة لمحتوى الرّواية مازالت نتائجها وتداعياتها قائمة).. وبعد التّصدير يمتدّ نصّ هذه الرّواية السّيرذاتية على عشرين فصلا محكومة بما يسمّيه الدكتور مصطفى الكيلاني بالسّرد الرّوائي الشذري الذي (يقوم على تعدّد مسارات حكاية تلتقي في مسار واحد) لذلك جاءت هذه الفصول غير معنونة وغير مسايرة للأحداث في تسلسلها الخطّي كل فصل منها يبدو وكأنّه مشهد حكائيّ مستقلّ بذاته لولا هذا الحضور الشامل لبطل السّيرة بأناه المتّماهية مع الرّاوي الأوّل والمباشر والعليم الذي هو المؤلّف في الأصل.. ولو لا محورية القرية الجنوبية إطارا مكانيا للأحداث بملامحه ورمزيّته فضلا عن ورودها بين عاصفتين: عاصفة في الفصل الأول مثّلت قادحا للأحداث وعاصفة انغلق عليها الفصل العشرون فاتحةً بذلك الاسترجاعَ على الاستشرافِ كذلك .. وبين العاصفتين سيرة الذّات في سياقها العام الثقافي والاجتماعي والسياسيّ الوطنيّ وحتى الحضاريّ .. فكيف صاغ المؤلّف فصول هذه السيرة كخطاب فنّيّ؟ وماذا حمّلها من محتوى وأبعاد ؟؟

أبرز سمات الخطاب:

خطاب سرديّ متنوّع متعدّد المشارب والمرجعيات يدلّ على سعة اطلاع صاحبه الذي أجاد توظيف التّقاطع بين الرّوائي والسّيرذاتي في منجَزه فجاء مستوعبا كما ينبغي لرؤياه الثقافية الإبداعية في تفاعلها مع رؤياه الوجودية الإجتماعية..

قوام هذا الخطاب أساسا لغة منتقاة بعناية كي تلائم بين طرائق السّرد ومحتوياته: فهي تقسو معجما وتراكيب وصورا في الإنشاء الفنّي للمشاهد العنيفة والدامية وتصوير تداعياتها المأساوية (...مجموعة اندسّت في عرش القتيل وهاجمت مقرّ الشرطة وعاثت في الأوراق تمزيقا وفي الزجاج تهشيما والكراسي والمكاتب تحطيما. وبعد أن استلّ رجال الإسعاف العونين من مقرّ الشرطة أغرقت أشلاء الأشياء بالبنزين وأشعلت النّار فتسلّلت ألسنة اللّهب من الأبواب والشّبابيك محتجّة على أنّ أكل الحطام في الوليمة يفتقد إلى دسامة اللّحم البشريّ _ الفصل 2 ص 13) فتكثيف معجم الموت والنّار والتّشظّي وما جاورهما هو الذي أثث المشهد بغلالة مكثفة من القسوة الضامنة لبلوغ بشاعة الأحداث إلى خلجات القارئ بما يلزم من الإثارة ولاستدراج تفاعله معها.. كما أنّ هذه اللغة راوحت بين الواقعية في نقل تفاصيل بعض الأقوال والأفعال والأحوال باللهجة العامّيّة المهذّبة غير المبتذلة (_ يا جماعة توحّشت الخدمة في الحانوت.. والله كأنّي فارقته لسنوات... _ أ ليس الأجدر أن تقول له انت ذلك في بيتكم _ نشوفك انت أكثر منّو... نهايتو.. السّلام _ الفصل 10 ص 70)

و بين الأدبية الفاخرة الممعنة في البلاغة الى حدّ الاكتساء بنزعة شاعرية رائقة تستلهم في كثير من الأحيان من مآثر موروثنا الأدبيّ: (أزورها خائفا وأودّعها خائفا رغم أنّ سواد اللّيل يشفع لي وضوء الصّبحِ لا يغري بي لأنّي أودّعها قبل الفجر _ الفصل 3 ص 21) وكذلك ما ورد في حوار وجوديّ بينه وبين شخصية المنصف: (اليوم خمر وغدا أمر.. لا يهم.. ستعرفني بمرور الأيّام _ الفصل 11 ص 90).. هذا التوظيف الرشيق لعبارات المتنبي وامرئ القيس ومحمود المسعدي أيضا (إنّي منها كالمقرور يلتمس نارا عليه أن يحافظ على مسافة مناسبة منها لأنّه إن اقترب أكثر احترق وإن ابتعد أكثر لا يلحقه لا يلحقه دفؤها ولا يشمله حدبها _ الفصل 16 ص 114) نجد اشباهه مبثوثة في مختلف فصول الرواية إلى جانب الاقتباس في أحيان أخرى من مَعين النّصّ القرآني وابجدياته (في هذه القرية اللّعينة يلبسون أمام النّاس لباس التّقوى على حسابنا ويريدون أن نصوم على كلّ شيء _ الفصل 10 ص 72..... فتخلّوا عن أفكارهم الهدّامة ليمنّ الله عليهم بالوفاق ويهديهم الى الصّراط المستقيم _ الفصل 11 ص 84)

بهذه السّمات ساهمت اللغة الفاخرة في صياغة كتابة روائيّة تحفظ للعربيّة الفصيحة هيبتها وتضيف إلى البعد الفنّي بعدا معرفيّا ثقافيا يثري زاد القارئ ويغنيه بالمعلومات والمفردات والاستعمالات الكثيرة لهذه اللغة التي أصبحت في عصرنا مستهدفة والبعض يشكّك حتى في قدرتها على مواكبة مُجرَيات ما يشهده من تقدّم حضاري وتكنولوجي وتحمّل تمظهرات الحداثة وهذا من قبيل اندغام الرّسالة الإبداعيّة بالرّسالة التّربويّة في تجربة الهادي الرقيق شأنه في ذلك شأن العديد من الأدباء العاملين في قطاع التّعليم وتحديدا في تدريس اللغة العربية وآدابها .. فالجانب السّيرذاتي في روايته يظهر في بُنَى الخطاب فضلا عن توظيف الأحداث وتكوين الشخصيات والعلاقات بينها وفق تنويعة يتكامل فيها العجائبيّ. مع الواقعيّ التّسجيليّ حتّ يتناسل منه في مواضع عديدة مشحونة بالأبعاد الرّمزيّة منها مثلا: (جسم طائر كأجسام البشر يفرقع بعيدا فوق رؤوسهم فرقعة متقطّعة متدرّجة في القوّة. تبدأ ضعيفة ثمّ تقوى الفرقعة إلى أن ينفجر الجسم من الجنبين.. مع كلّ فرقعة يُضاء الفضاء جزئيّا ويُظلم من جديد بين الفرقعة والفرقعة..... أبهج المشهد أهل القرية وانساهم الأحداث الأخيرة ومخلّفاتها.... سارعت تلك الدّول المتحضّرة جدّا إلى تغطية إعلامية ضخمة تليق بهذا الأسلوب النّبيل في الموت ووعدت بمكافأة القرية مكافأة سخيّة على هذا الاكتشاف.. قالت إنها ترجّح ان تنال قريتنا الجائزة.. - الفصل 14 ص 107) وذلك في إحاطة بوقائع حضور مساعدات منظّمات الإغاثة الدّولية للّاجئين الأفارقة المخيّمين على تخوم القرية التونسيّة في الجنوب وما يخبّئه ذلك من محاذير قادمة وعدم فهم سكانها لحقيقة ما يجري وانشغالهم عنه بالأضواء والفرقعات اللّيلية الآتية من الطائرات وهي تلقى بالمؤن والأغطية على اللّاجئين.. تلك الوقائع التي صاغها المؤلف في مشهد عجائبيّ للانتهاك الخارجي لسيادتنا الوطنيّة المغلّف بالإغاثة الدّوليّة فصوّره في السّماء مشتقّا من مشهد واقعي للقرية وأهلها في الأرض .. و تتكامل في هذه التّنويعة أيضا المعالجة الدّراميّة مع طابع السّخرية المرّة في الإحاطة بمشاكل الواقع وقضاياه من خلال معاناة أهل القرية المنفتحة على معاناة الوطن ..

و إذا أقررنا لـ"أيّام زمان" بمواصفات السيرة فإننا لا يمكن أن نجرّدها من مواصفات الرّواية ليس فقط من خلال ما تبيّنّا من مظاهر التقاطع الفنّي بينهما في مستوى البنية السّرديّة وتوظيف أدوات الكتابة الرّوائيّة إنّما أساسا في مستوى التقاطع بين حضور الذات / الأنا الطّاغي وبين انغماس هذه الذات في مشاكل الواقع وقضاياه حتى ذابت فيها من خلال ما عاشه بطل السيرة في سياق ذاته وواقعه المهني والاجتماعي ليس كنموذج مثاليّ وُظّفت المشاهد والوقائع والمواقف في تلميع صورته بتحيّز إنّما ككائن اجتماعي متحرّك في هذا الواقع متأثّر به سلبيّا وإيجابيّا يعيش نزوات الشباب شأن جيله بشكل مخالف للعرف الاجتماعي ويشرب الخمرة المهرّبة في الأماكن غير المرخّصة قانونيّا واضعا ذاته في غمرة مجتمعه يقاسمه ما استشرى من المظاهر السلبيّة الناجمة عن الجهل والفقر والحيف السياسي وهو ينقل الوقائع المجسّدة لذلك بطريقة السّخرية اللّاذعة في أغلب الأحيان مثل: (تفشّت بفضل ذلك هواية جديدة قديمة لا أحد ينكر أنّها تجمع بين المتعة والفائدة تسلّي وتنشّط الاقتصاد وهي شرب الخمرة في الحوانيت.. ولو سِرتَ في أنهُجِ القريةِ بعد العاشرة شتاء ومنتصف الليل صيفا للمست أنّ الحانوت الذي يبيع صاحبه ويشتري أو يصلح أو يصنع نهارا يستحيل إلى مبغى أو حانة او محلّ قمار ليلا وقد يجمع بين الوظائف الثلاث لتعدّد مواهب مديره وتفانيه في العمل غرضه الأسمى والحقِّ يُقال التّرويح عمّن كلّت نفوسهم .. الفصل 15 ص 111) وبطريقة الدراما المؤثّرة في بعض الأحيان حتى يتهيّأ للقارئ وهو يتابع اعتناء الرّاوي بما يحدث في الواقع المحيط ببطل السيرة أكثر من اعتنائه بشخصه وإنجازاته أنّه إزاء رواية واقعية خاصّة وقد ارتكزت طريقة المؤلّف في إنشاء الشخصيات والعلاقات بينها وبين بطل السّيرة على فتح المجال السّردي على مشاكل الواقع وقضاياه في البلاد التونسيّة لا على حركته في الواقع وفعله فيه ممّا اتاح للمؤلّف تسريب مواقفه تجاه واقعه وتقييمه بطريقة أدبيّة فنّية تستفزّ دون أن توجّه.. فعلاقته مثلا بكلّ من رجاء ونجاة كانت نافذة على واقع المرأة في تونس سواء في تحرّرها المُسقط والمنسوخ عن الغرب (رجاء) أو في وقوعها ضحيّة النظرة الدّونيّة للمرأة الناجمة عن سيطرة العقلية الذكورية في القرى والأرياف.. كما كانت علاقته بكلّ من العلويني والمنصف نافذة على المؤسّسة الأمنية وحقيقة علاقتها بالمواطن والسّجن وما فيهما من مشاكل وتجاوزات (بدأت الأحداث بحرق مركز الأمن في القرية إبّان العاصفة) .. فجاءت المشاهد والأحداث وأفعال الشخصيات وأقوالهم متداخلة مع تأمّلات المؤلف لمعايب واقعه وقضاياه بما فيها العداء بين المواطنين والسّلطة التي تجلّت خاصّة في الإحالات على تحرّكات الطّلّاب والنقابيين وتعامل السلطة معها (قبل تغيّر نظام الحكم بتونس في 2011) بل وكذلك تأملاته الوجوديّة: إذ كتب مثلا (هل الحبّ والرّعب غريمان يتعايشان أم يقوى الحبّ بالإيمان... أم هل القلب خؤون متقلّب لا يثبت على حال؟؟ الفصل 3 ص 22) وأيضا (العواصف لا تهاجم الأشجار والنّباتات في الحقول والغابات ولا تحرّك الكثبان في الصّحاري وحسب.. إنّما تترصّد البشر أيضا هناك في الأركان والمنعطفات تنتظر اللحظة الملائمة للانقضاض على سعادتهم).. وقد كان المؤلف / خلال كلّ ذلك حاضرا بذاته حضورا مباشرا كبطل سيرة ذاتيّة بامتياز على صعيد لغويّ أدّاه ضمير المتكلم المحرّك الأساسي لعمليّة السّرد وعلى صعيد بناء شخصيته في تماه مع الرّاوي (الاستاذ الذي تخرج من الكلية وانتُدِب ليباشر مهنة التّدريس في قرية بالجنوب التونسي) وكبطل روائيّ أيضا بامتياز فينفعل ويتفاعل مع جزء من الحياة في البلاد التونسية بدرجة من الوعي والثقافة سمحت له أن يكون من الناحية الفنّية بمثابة الشّخصية النافذة والنّاقدة المثيرة للاشكاليات دون أن يكون الشخصّية الفذّة التي تصلح ان تكون قدوة إيمانا منه بأنّ المرحلة التاريخيّة الرّاهنة تحتاج إلى مواطن يحسن قيادة نفسه دون الاقتداد أو الانقياد لغيره..

خلاصة القول:

هذه الرّواية السّيرذاتية رغم محوريّة حضور المتكلّم في جميع أطوارها وفي مقومات الخطاب السّردي.. فإنّ الهادي الرقيق لم ينتهج فيها نهج التّعاطف الكلّي ولا حتّى النّسبي مع الذّات كما فعل طه حسين في أيامه أو تمييزها كما فعل جبرا ابراهيم جبرا في شارع الأميرات ولا تبييضها كما فعلت بعض الشخصيات السياسيّة والثقافيّة في عصرنا ممّن بلغ إعجابهم بتجاربهم في الحياة إلى درجة اقتناعهم بضرورة تخليدها .. واكتفى بإبراز سمات ذاته كما هي على علّاتها.. لذلك هي تتقاطع كثيرا مع الرواية الحديثة في منحاها الذي يتشابك فيه التسجيلي مع الإشكالي.. ولعل هذه السّمات هي التي جعلت المؤلف ينسبها إلى الرّواية السيرذاتيّة (و لم ينسبها إلى السّيرة الرّوائيّة التي يمكن اعتبارها بإيجاز سيرة الفرد بفنّيّات الرّواية) بما هي سيرة جيل بأسره يشعر بالغربة عن زمانه لمّا تجاوزته وسائل النقل الحديثة وتكنولوجيات التّواصل مع تجاوزها لمعضلة المسافات المكانية مكرّسة لمعضلة أعمق هي المسافات الزمانية والحضاريّة خاصّة في عصر العولمة التي كتب فيها ذات حوار (_ عمّا تنوين القراءة ؟ _عن كل شيء ولنبدأ بالعولمة.. اريد أن أعرف المثالب والمحاسن من الإنجازات على حدّ سواء...

_ليس فيها غير المثالب.. إنها تحيا من لدغ الآخرين وتشيّد مجدها المزعوم على أنقاضهم.. _ الفصل ص 134)

و بما هي سيرة وطن أنهكه جحود أبنائه وعلى رأسهم المتداولون على المناصب والمسؤوليات مُمعنِين في تلويث أجواء الحياة فيه وتهميش أرجائه النّائية (خاصّة الجنوب)..

و هي سيرة جيل من المربّين تجشّم اوجاح الزلزلات الأولى التي أدّت الى انهيار منظومة التعليم العمومي في تونس بعد مرحلة تعتبر مثمرة من مكاسب المدرسة العموميّة العصريّة التي كانت تتسم بمستوى محترم من الجودة علميّا وبيداغوجيّا على مستوى العالم ..

هي أيضا سيرة المواقف أكثر من كونها سيرة الواقع والوقائع في مرحلة من حياة المؤلف ومن تاريخ تونس التي حضرت مُختزَلة في القرية بمن فيها من نسيج اجتماعي ومن مشاغل ومشاكل.. صاغها المؤلف روائيّا وهو يُوكل إلى نفسه الانخراط فيها ليكون شاهد عيان وجزءً من المشكل وركنًا من القضيّة لا يستثنى نفسه من المسؤوليّة مُحاوِلا المحافظة على موقعه الذي حدّده لنفسه كمؤلّف تونسي في مجال السّرد العربي خلال مرحلة التّجريب من أجل التّحديث متّزنا ومتوازنا ودون أن يرتمي تماما في حضن المدارس الغربية بحثا عن الفخامة او العالمية لذلك جاءت روايته متماهية مع تربتها متجذّرة في أصولها التاريخية والثقافيّة باحثة عن ممكن استباقيّ يستمدّ رؤاه من الماضي ويقيسها على الراهن وينقلها تجاه الآتي وتجاه الكتابة السّردية في علاقتها بالتجربة الحياتيّة وبما جاورها وما حاورها من اوساع الوجود وأنماط الإبداع..

 ***  

كوثر بلعابي – أديبة وناقدة /  تونس

.......................

المراجع:

- الهادي الرقيق (أيام زمان)

- د. مصطفى الكيلاني (الأدب التونسي هذه الأعوام)

- أ. جاسم الموسوي (تحوّلات الرّواية العربيّة الحديثة: مجلّة الدراسات العربيّة)

 

صدرت عن دار "الرافدين" ببغداد رواية "زارع الرَيحان" للقاصة والروائية العراقية المٌقيمة بلندن هاجر القحطاني وهي باكورة أعمالها الروائية التي ستحفر اسمها جيدًا في ذاكرة المشهد الروائي العراقي الذي يتعزّز كل عام بأسماء إبداعية نسوية مهمة أمثال حوراء النداوي، شهد الراوي، غادة صدّيق رسول وغيرهنّ الكثير.. ومَنْ يقرأ هذه الرواية بإمعانٍ كبير وحسٍّ نقدي عالٍ سيكتشف من دون عناء أنه يقف في مواجهة نصٍ سردي متين من حيث هيكله المعماري، وبناء شخصياته، وعمق ثيماته الرئيسة والفرعية، بل وذهبت أبعد من ذلك حينما أتقنت الجملتين الاستهلالية والختامية وإن تأخرت الأولى قليلًا لكنها ظهرت في نهاية التمهيد الذي قدّمه الراوية صفاء حينما قال: "كتبتُ هذا فحسب لأنني لم أكن لأنجو إلّا بالكتابة".

تتمحور الثيمة الرئيسة لهذه الرواية على تجربة علمية يقوم بها الدكتور حمزة؛ وهو طبيب نفسي عراقي مُغترب في النمسا بدعم من ابنيّ عمه حامد وواثق اللذين يعيشان في العراق ويوفران له المال وإدارة المشروع.. "يحاول الدكتور حمزة بمساعدة فريق مصغّر من الأطباء والمختصين خلق بيئة قياسية لمعالجة آثار اضطراب ما بعد الصدمات العاطفية الحادة التي تسببها الحروب والعيش في ظل القهر المزمن".. وما أكثر هذه الحالات أو الأمراض القابلة للعلاج خاصة بعد الاحتلال الأنغلو- أمريكي للعراق في 2003 وحتى الوقت الحاضر.. وعلى الرغم من أنّ العدد الإجمالي للأشخاص الموجودين في هذا المنتجع يقارب الخمسين شخصًا إلّا أنّ عدد المرضى أو المشاركين هو 13 شخصًا؛ عشرة ذكور وثلاث إناث تتراوح حالاتهم بين الاكتئاب والقلق المزمن إلى الانفصام.714 hajar alkhahtani

تتألف رواية "زارع الرَيحان" من أربعة فصول مرّقمة عدديًا.. تدور أحداثها زمنيًا خلال ستة أشهر تقريبًا في أثناء الحرب على داعش إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنّ مدة التجربة العلمية ثلاثة أشهر لم يكملوا منها سوى خمسة أسابيع تنضاف إليها مدة العلاج ببغداد، والنقاهة في إسطنبول، وتليها العودة إلى العراق، واللقاء الأخير الذي دبّرته ضُحى بين الراوية صفاء وريحان التي يحبها وتوهّم أنها تبادله الحُب بحبٍ أعنف.. أمّا المكان فهو ينحصر بين محافظة واسط ومدينة الصويرة التي تحمل طابعًا ريفيًا فيما يتعلق بالعادات والتقاليد الاجتماعية في الأقل.. لا تقتصر الأبعاد المكانية على واسط وبغداد وإسطنبول وإنما تتعداها إلى النمسا التي قدِم منها الدكتور حمزة وترك ابنه وطليقته النمساوية هناك، وتصل إلى مصر أيضًا على اعتبار أنّ الدكتور محمد ماهر قد قَدِم من القاهرة وسبق له أن درّس في إحدى الجامعات العراقية ببغداد.

ثنائية الشرق والغرب من جديد

يتبنّى صفاء عملية السرد بضمير المتكلم ويلعب دور الشخصية الرئيسة منذ مستهل الرواية حتى نهايتها، كما يتناصف دور البطولة مع شخصية "ريحان" أو "هي" كما أطلقت عليها الروائية هاجر القحطاني، وسوف تُطلق تسمية "هو" على الدكتور حمزة، الطبيب النفسي المرموق القادم من النمسا لتضعنا من جديد أمام ثنائية الشرق والغرب حتى وإن كان هذا الطبيب عراقي الأصل لكنه أمضى 35 سنة في الغرب تشرّب فيها بالثقافة النمساوية وامتحّ فيها من عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية الشيء الكثير.

لا بدّ من الاعتراف أولًا بأنّ هاجر القحطاني قد نجحت في تشيّيد الهيكل المعماري للرواية، وبرعت في بناء الشخصيات الكثيرة التي قاربت الخمسين شخصية متنوعة تجمع بين الأطباء والمختصين والمرضى والموظفين والحرّاس والطباخين وما إلى ذلك.. وربما تكون شخصية الراوي صفاء هي الأكثر إغراءً لأنه لم يحضر لكي يخضع للتجربة العلمية وإنما ليدوّنها.. لعل من المفيد الإشارة إلى أنّ مدير المشروع حامد آل عايد هو الذي يستهل السرد في الصفحات الأولى من الرواية وحجتهُ في ذلك هو تعريف صفاء بمرافق المنتجع وأجنحته المتعددة التي يسعى طاقمها جميعًا لإنجاح هذه التجربة العلمية التي تبدو غريبة وغير مألوفًة في بلد مثل العراق خرج لتوّه من حربٍ كونية وما يزال يقاتل داعش على قسم كبير من جغرافية بلده.

نتعرّف في الفصل الأول على طبيعة المنتجع المُؤلَف من ثلاث طبقات تضم غرفًا متعددة للمقيمين والمقيمات.. وثمة جناح مخصص للدكتور حمزة ومساعديه الخمسة وهم على التوالي: الدكتور أحمد، المختص بالعلاج النفسي السريري، والدكتور رائد، طبيب نفسي عراقي من النمسا، واستيفان الموصلّي، زميله في الكلية، طبيب عام من بغداد قرّر أن يدرس العلاج الإدراكي السلوكي في ألمانيا، والدكتور محمد ماهر من مصر.. يعتقد الدكتور حمزة بأهمية هذه التجربة العلمية وضرورتها المُلحّة للبلد الذي عانى سنواتٍ طوالًا من العنف والخوف والاضطراب.. وبما أنّ الراوي هو الشخصية الرئيسة فلا غرابة أن نراه يدوّن دائمًا الملحوظات السريعة والكلمات المفتاحية في النهار لكي لا تفوته شاردة أو واردة.. فهو يحب المُراقبة الدقيقة عن بُعد ويهوى التفرّج على العالم وحياة الآخرين.. يمكن ملاحظة أولى أوهام الراوية حينما يتحدث عن "ريحان" ويقول: "ظننتُ أنها ابتسمت لي".. ثم يُضيف بأنه التقط كل إشارة ونأمة صدرت عنها.. وحينما اقترحت عليه أن يطلبا شايًا قرب حوض السباحة اعتبر هذا الطلب "تصريحًا كاملًا بالحُب" مع أنّ وثيقة عقد العمل فيها اشتراطات صعبة تمنع إقامة العلاقات الخاصة أو الحميمة وتحظر إفشاء الأسرار.. على الرغم من التصاريح والأذونات التي حصل عليها حامد من مجلس المحافظة ووزارة الداخلية إلّا أن شيوخ العشائر كانوا مستائين جدًا من هذا المنتجع الذي يبدو بالنسبة لهم مكانًا مشبوهًا لا علاقة له بالأبحاث والتجارب العلمية التي تُطبق على المرضى النفسيين الذين هرست الحروب والمخاوف أعصابهم.. الأمر الذي أحبط البعض منهم وجعلهم يشعرون باليأس لأننا لا نتغيّر ونصبح مثل بقية بلدان العالم المتحضرة.. لا يجد الراوية غضاضة في القول بأنه كان مُراقبًا فاشلًا لأنه سرعان ما صار يتوق لسرد قصته الشخصية بينما يتمحور جوهر عمله على رصد قصص الآخرين وتدوينها بدقة شديدة تقتضيها الأمانة العلمية.

التشبّث بالقوانين المدنية الحديثة

تبلغ الأحداث ذروتها في الفصل الثاني من الرواية، فالمقيمون الثلاثة عشر هم مرضى بشكل من الأشكال كما أشرنا سلفًا وأنّ انفلاتهم أمر متوقع في أية لحظة.. وهذا ما حدث مع عبّاس الذي عرفناه كرسّام ماهر طوّر علاقته العاطفية مع ضُحى التي تُعاني هي الأخرى من قلقٍ عصبيٍ مُزمن.. وبينما كان عبّاس متوترًا كانت الشرطية مها تمشي خلفه وتصرخ بهاتفها النقّال فطلب منها أن تبتعد عنه وتسلك طريقًا آخرَ غير أنها استمرت في الصراخ المُستفز فشتمها وغيّر طريقه لكنها ظلّت تمشي بمحاذاته وتتكلم بصوت حاد، وحينما ضايقتهُ ليفسح لها الطريق دفعها فسقطت على الصخرة ثم سالت الدماء من تحتها وحينما تأخرت سيارة الإسعاف أجهضت الشرطية جنينها ذا الشهور الأربعة.. وبما أنّ عبّاسًا لا عشيرة له فلا بدّ لأصحاب المشروع والقائمين عليه أن يتحملوا مسؤولية الحادث.. لم يقبل حامد بفكرة الفصل العشائري التي اقترحها الشيخ ثابت وأكّد له بأنهم يفضّلون الذهاب إلى المحكمة.. فمن غير المعقول أن يلجأ أصحاب المنتجع العلمي والقائمين عليه إلى الأعراف العشائرية وهم الذين يؤمنون بالعلم والمعرفة ويحملون الشهادات العليا من خيرة الجامعات الأوروبية أن يفكروا بـ "العطوة" أو "الدّكة العشائرية" ويبتعدوا عن القوانين المدنية الحديثة.. الأمر الذي سيعرّضهم إلى إطلاق النار من قِبل عشيرة الشرطية مها ويدفعهم إلى التفكير بإغلاق المنتجع ومغادرته خلال مدة قصيرة.

تتكشف العديد من الشخصيات في هذا الفصل حيث تسلّط الروائية هاجر القحطاني الضوء على شخصية الراوية صفاء الذي عرف خلفية والده الشيوعية، ومحنة خاله الذي سُجن لأسباب سياسية ثم أعدمه رفاقه عندما اشتدت قبضتهم على كرسي الحُكم فانشغلت أمه بعائلة شقيقها القتيل فوضعت أولاده الثلاثة في المتن وتركته في الهامش لا يلوي على شيء.. كما نتعرّف أيضًا على أسرة "ريحان" التي اختفى والدها في سنتها الأولى حيث سُجن لأسباب سياسية مع أمها التي سوف يُفرج عنها بينما يتوارى الأب في مدارج النسيان ولا يعرفون له أثرًا حيث تتطلّق أمها الحسناء غيابيًا وتتزوج من ضابط أمن ظل يلاحقها منذ خروجها من السجن لكن سوف يموت بعد عامين بسبب مرض غريب ألمّ به فتنتقل للعيش، هي وأختها الكبرى، مع جدتها بعد هجرة خالهما الوحيد.. وبعد مدة قصيرة تموت الأم منتحرة بالسُمّ لتترك لنا هذه الضحية مُدججة بالأمراض النفسية التي لا تتحملها صبية صغيرة لم تجتز عامها السادس.

التعالق مع السمفونيات والأغاني واللوحات الفنية

تتكثف المعلومات الطبية فتُطلعنا الروائية بواسطة الدكتور حمزة على "منهجية الخيط الأبيض" وعمل الدماغ البشري الذي يُشبه كأس سوائل ملونة تُحدّد الحالة المزاجية للشخص.. لا يترك الراوية أي إنسان له علاقة حتى وإن كانت عابرة مع "ريحان" فقد نقل هواجسه إلى الدكتور حمزة لأنه لاحظَ أنّ هذا الأخير يقضي وقتًا لافتًا في الحديقة مع ريحان.. ما يميز هذا الفصل أيضًا هو تعالق الروائية هاجر القحطاني مع بعض الأغاني العراقية والعربية مثل أغنية "يا لجمالك سومري ونظرات عينك بابلية" التي غناها فاضل عوّاد، وأغنية "القلب يعشق كل جميل" لأم كلثوم، وأكثر من ذلك فهي تتواشج مع لوحات فنية مشهورة مثل "الصرخة" لأدوارد مونغ التي تحفّز المرضى أو المشاركين على البوح أو الاعتراف ربما.. بينما لا يحتاج المدير حامد إلى أكثر من صوت المطرب العراقي سعدي الحلي لكي يبوح بكل شيء.

يقرّر حامد خروج الدكتور ماهر أولًا فـ "للأغراب الحق في أن يكونوا أول المُغادرين عند الخطر المُحدق".. حيث وصل إلى بغداد من دون أن تعترضه سيطرة رجال الشيخ ثابت.. تتفاقم أزمة عبّاس النفسية حيث أغلق الباب عليه ولم يفتحه حتى كسروه فوجدوه فاقد الوعي لكنه سمع أحدهم يقول بأنّ عباس مات فتكفل الدكتور حمزة بنقله وتشييعه ودفنه بعد إخبار عائلته بما حدث.. أمّا الدكتور ماهر فقد شرح للراوية بأنّ "الناس الذين يعانون من متلازمة القلق الناتج عن الصدمة يصعب عليهم الاندماج في علاقات قريبة".

تستمر الروائية هاجر القحطاني بتقنيتها الميتاسردية حيث تتعالق مع السمفونية الخامسة لغوستاف مالر، ثم تشتبك مع فيلم "موت في البندقية" للمخرج الإيطالي لوتشينو فيسكونتي.. وضمن هذه التنقلات الميتاسردية سنعرف أن عبّاسًا قد نُقل إلى الطب العدلي الذي يُحيطنا علمًا بأن سبب الوفاة هي "جرعات زائدة من حبوب المنوّم مع كحول" علمًا بأنّ الحارس "طاهر" هو الذي أوصلَ له قنينة الشراب.. تتعمّق هواجس الراوية وتساؤلاته الغامضة التي لا يجد لها أجوبة مُقنعة بشأن تعلّق "ريحان" بالدكتور حمزة، ولم يفهم سرّ انشدادها له، وإعجابها الشديد به.. وهو يرى بأنّ "ريحان" قد وهبتهُ الحياة، وها هي تميتهُ مرة أخرى.. ويؤمن بأن العبث بالحياة والموت جريمة.. لا يصدّق العديد من زملائه في العمل بقصة الحُب التي توهمها وحتى الفلاح سعد وصف حالته بأنها "ليست حُبًا، أو هو حُب من النوع الضار " وطالبهُ أن يحمي نفسه منه لا أن يُغرقها فيه.. الغريب أنّ الراوية صفاء يطلب من الدكتور رائد الدخول إلى غرفة الاعتراف أو المشاركة وعلى صوت باخ المُهدّئ والمُحفِّز على الكلام يبوح بما يعتمل في داخله، فنفهم بأنه من مواليد سنة 1980، وكان والده سجينًا سياسيًا في ذلك الوقت.. ثم يُعرّج على ابنة خالته التي ظلت كما هي عليه قبل الزواج وبعده، ولعل هذه الزيجة توهجت لمدة شهر قبل أن تخبو نهائيًا فلاغرابة أن يبحث عن امرأة بديلة يحبها ويتعلّق بها على الدوام.. لقد أحبّ الراوية الدكتور رائد وأدخلهُ إلى أعماقه بسهولة ويسر..

تتفاقم مشكلة المنتجع أكثر حينما يلتقط الراوية خلافًا لمواثيق العمل صورًا للدكتور حمزة وريحان ويبعثها إلى الشيخ ثابت فيجن جنون هذا الأخير ويقرر مع حامد إخلاء المنتجع الذي أصبح مصدرًا للإشاعات والنزاع بين الأهالي بينما أرادوه واحة طمأنينة وشفاء.. أرادت ريحان أن تشتكي على الراوية لكن العم سعد سوف يخبره بأنها كانت تعامله كأخ أو كصديق ليس أكثر ولهذا السبب فهي لم تقدّم الشكوى وفاء للصداقة التي جمعتهما ذات يوم عندها هذا الرجل الطيب.. يبدو أن التجربة العلمية قد فشلت لكنها نجحت مع الراوية فقط لأنه أفاق من سبات طويل وأوهام كثيرة لا حدود لها.. ولمناسبة ختام المشروع قرر حامد أن يدعو زوجته وابنتيه لحفل الغداء الذي أعدّوه لهذه المناسبة.. وعلى الرغم من كل الصعوبات التي سببها الراوية لريحان إلّا أنّ هذه الأخيرة اعتذرت له بكل جوارحها إن كانت قد أوحت له بشيء لا أساس له وختمت اعتذارها بالقول: "نحن جميعًا متعبون ومرتبكون.. يجب ألّا نعوّل على ما فعلناه وقُلناه هنا".

جملة ختامية شديدة الدقة والتعبير

يمكن إيجاز أحداث الفصل الرابع والأخير من الرواية بحادث الاصطدام الذي تسببت فيه عدة سيارات حيث أُصيب صفاء بكسر في أعلى الذراع وعدد من أضلعه، بينما بُترت ساقيّ حسنين، وفقد حامد زوجته، ومات الدكتور حمزة.. يدخل صفاء إلى المستشفى ويخرج منه بعد عدة أسابيع، ويسافر إلى تركيا للعلاج والنقاهة.. وفي إسطنبول تكتشف زوجته أنه على علاقة بامرأة أخرى وأنه يريد الانفصال عنها لكنها تقاتل من أجل زوجها وبيتها ولا تريده أن يتهور من أجل نزوة عابرة.. وعلى الرغم من توتراته الأسرية ينكبّ على مدوناته لمدة عشر ساعات في اليوم وينجزها خلال مدة أسبوعين ويتهيأ لتسليمها إلى حامد الذي أعطاه رواتب سنة كاملة.. يعثر الراوية على صفحة فيسبوك ضحى ويتواصل معها حيث ترتب له لقاءً مع ريحان في مقهىً بالجادرية ويتبادلان أحاديثًا شتى فبعد أن مات غريمه الدكتور حمزة اعتقد أن طريقه قد بات سالكًا إلى قلب ريحان لكنها تفاجئه برغبتها في الزواج من حامد الذي فقد زوجته إلهام في الحادث، وأنها لم توهمه طوال مدة تعارفهما فقد كانا مجرد أصدقاء لا غير حتى أنّ العم سعد قد عرف بهذا الصداقة التي لم تتطور إلى الحُب والتعلّق العاطفي.. وأنّ مشاعره الملتهبة قد تأثرت بأجواء المنتجع.. تنهي الروائية هاجر القحطاني نصها السردي الناجح بجملة ختامية شديدة الدقة والتعبير تأتي على لسان صفاء الذي يريد أن ينام بعد جولة طويلة جدًا حيث يقول: "تسرّب خدرٌ موجع إلى روحي واشتهيت النوم إلى الأبد".

وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هاجر القحطاني هي روائية متمكنة من فنها وقادرة على العطاء السردي المتقن في رواياتها القادمة طالما أنها تتوفر على لغة سردية ناصعة، وقدرة واضحة على اجتراح الثيمات الرئيسة والثانوية، وبناء الشخصيات التي تنتمي إلى خلفيات ثقافية واجتماعية متنوعة.. إنها روائية وساردة تعد بالكثير وأنّ نجاح هذه الرواية سيضعها في الصف الأول من خارطة الروائيين العراقيين الكبار الذين لن يغادروا ذاكرة القرّاء بسهولة..

يا زارع الريحان حول خيامنا

لا تـزرع الريحان لست مقيمُ

نظري الى وجه الحبيب نعيمُ

وفراق من اهـوى عليّ عظيمُ

ما كل من ذاق الهوى عرف الهوى

ولا كل من شرب المُدام نديمُ

ولا كل من طلب السعادة نالها

ولا كـل مـن قــرأ الكتاب فهيمُ

مالي لسان ان اقول ظلمتني

والله يشهد انـــك المـظـلـومُ

انا الذي ما كنت ارحم عاشقاً

حتى عشقت وها انا المرحومُ

***

ابو فراس الحمداني

.................................

بقلم: عدنان حسين أحمد (لندن)

 

ألترسيمات والإيقاعات البصرية للبياض والسواد في قصائد جواد الشلال

من غرائب الكتابة عن ظاهرتي البياض والسواد في شعر شاعر ما هو أن تتماهى مدونات سيرتيه الحياتية والإبداعية مع اللون الأول، بينما تتماهى مدونات منجزه الإبداعي مع اللون الثاني. وهذا التباين اللوني ما بين الأبيض المجهول، والأسود الكثيف والمعلوم يكاد أن يكون المظهر الغريب من سيرتي الشاعر جواد الشلال وكذلك من منجزه، فقد بحثت في ملفات الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الإجتماعي عن ومضة ولو خاطفة أو باهتة للتعريف به إنساناً أو شاعراً فلم أفلح، وكأن الشاعر قد تعمّد غمر السيرتين بطبقة كثيفة من بياض الإبهام. وفي المقابل فأن صفحات منجزه الإبداعي على فضاءات ومواقع التواصل الإجتماعي مغمورة بطبقات كثيفة من النصوص بما يسمح لي أن أستعير لها توصيف السواد.

وقريباً من تلك المقاربة اللونية الإستعارية بنصفيها السيري الخارجي، والإبداعي الداخلي فقد لفت انتباهي انغمار الشاعر بلعبة الإيقاعات البصرية للونين إنغماراً كفل له أن يجمع ما بين صفتي الشاعر والرسام، بالرغم من أنه على خلاف الرسامين يستعين على الصفتين بذات المواد، أي الكلمات، وبذات الأداة، أي الكتابة، مع انزياح جمالي طفيف تتحول لديه الكتابة والكلمات من نصوص إلى لوحات تشكيلية، وذلك بتطويعه اللعب على الورقة بالبياض، وهو الفراغ الكتابي أو الطباعي، وبالسواد الذي يرى البعض أنه الكتابة بحروف غامقة، ومنمازة عن سواها. بينما نراه هنا الإمتلاء الكتابي بسد الفراغات والفجوات بجمل طويلة، أو متصلة ببعضها تملأ فضاء الورقة.

وأن كان البعض قد ارتأى في البياض مقابلاً للصمت، ألا أننا نرى أن ثمة فارق ما بين المفهومين، فأن كان الصمت هو اللاشيء، أو العدم، فأن البياض هو الصمت الدال، أو هو الشيء الموجود، ولكنه محتجب وراء ستارة الفراغ التي تحول دون رؤيته، والدليل على وجوده هو في علاقات المجاورة بما قبله وما بعده والتي تُخفي في طياتها آثار ذلك البياض ودلالاته. وبذلك فأن الفراغ الكتابي هو وجود محتجب من دوال غير لسانية، وأن موقعه المختار بقصدية وعناية ضمن النص يضمن له القدرة على التأثير وإنتاج التأويلات، فهو إذن لم يعد مجرّد دال على الصمت بقدر ما أصبح لصمت البياض معنى تكتبه أبجدية الفراغ. وفي المقابل صار الإمتلاء الكتابي يفترض المعنى في تكدس الدوال وتعاقبها، وبذلك لم يعد السواد دالاً فقط على الضجيج الصامت، بقدر ما أصبح لسواد الضجيج معنى تكتبه أبجدية الإمتلاء. وبمعنى آخر أصبح البياض والسواد موجّهات إيحائية تشير إلى داخل النص للبحث فيه عن الحمولات المتوارية.

أن التواشج الهندسي للحروف الطباعية مع التشكيلات اللونية للبياض والسواد في مفهوم الحداثة الشعرية قد أخرج القصائد من سجنها التقليدي كونها مجرّد نصوص مكتوبة للعين فقط، لتصبح لوحات تشكيلية معدّة للتأمل أيضاً، كما أزال حاجز التعالي التاريخي ما بين الشاعر والقاريء عندما سمح للثاني بالمشاركة في كتابة القصائد من خلال تعديل اتجاهاتها القصدية وترك بصمة التأويل عليها. وليس من التندّر القول بأن كل تلك القفزات الجمالية الثورية لم تكن لتُنجز لولا انتقال الشعر من مرحلة الإلقاء إلى مرحلة الكتابة، ذلك الإنتقال الذي مهد للنص الشعري التحول من صيغته الأولى كونه مجرّد صوت يُتلى للأذن إلى صورة تُستقبل بالعين، وبالنتيجة ساهم هذا الإنتقال في تطويع النص ليكون قابلاً للعرض، كما هو معدّ أصلاً للقراءة. وما هذه القراءة إلا محاولة لاستنطاق جانب من ذلك التحول من خلال الانزياحات الفضائية للبياض والسواد ودلالاتها داخل بعض نصوص جواد الشلال على موقع التواصل الإجتماعي أل Facebook.

إحدى آليات رسم البياض الأثيرة لدى جواد الشلال هي آلية القطع، حيث يُفتت الجمل المتكاملة إلى نثار يخلّف فضاءات بيض، كما في المقطع التالي ألذي يتوفر على أربعة قطوعات خلفت خمسة فراغات بيض:

(ألقاكِ

يا ابنة الحب

الجليل

المتقد على نار

الحرب)

ألقطع الأول:

يعقب جملة الإستهلال الفعلية المتكاملة نحوياً، إلا أنها افتقرت إلى توصيف أكثر تفصيلاً لضمير المخاطب الأنثى. وبالرغم من اكتفاء الحاجة النحوية بالضميرين الفاعل والمفعول به، إلا أن مقاصد الشاعر التي لم تتضح عند هذا القطع تتعدى نحويتها إلى تفصيل يستجيب لمضمون الرسالة التي يريد إبلاغها لمحبوبته. وفي غياب ملامح المحبوبة يبقى البياض مهيئاً لاستقبال تأويلات مرجأة للسطر التالي.

ألقطع الثاني:

تمثل في فصل الموصوف (السطر الثاني) عن صفته (السطر الثالث) فأنتج هذا القطع بياضاً مؤقتاً، تأجّلَ ملؤه إلى السطر الثالث المكون من مفردة الصفة (الجليل) وهي الأولى، وستعقبها الصفة الأخرى في السطر التالي. كما أن تأجيل ملء البياض في مستوى هذا القطع لما بعده وضع القاريء أمام تساؤلات عن أسباب فصل الصفة عن موصوفها داخل الجملة الواحدة، وقد تبيّن أن القصد من ذلك هو التمهيد للصدمة الناجمة عن العلاقة القلقة ما بين المتباعدين (ألحب والحرب).

ألقطع الثالث:

أستُهلّت ألجملة التي أعقبت الصفة الأولى لمفردة الحب بالصفة الثانية لها، أي (المتّقد)، ولكن هذا الإستهلال لم يكد يتصل بشبه الجملة (على نار) حتى انقطع تاركاً فضاء بياض رابع من دون الإجابة عن طبيعة العلاقة بين ما رشح من دلالات الأسطر السابقة، تاركاً للقطع التالي وما يليه إضاءة الإحتمالات التأويلية الممكنة.

ألقطع الرابع:

هو القطع الفاصل ما بين القرينين (النار) و(الحرب) والذي يُفترض أن تُختم به سلسلة البياض، بيد أنه ترك بقعة بياض خامسة لا يمكن تأويل ملئِها إلا بما تُخلفه الحروب من قطع للتواصل ما بين ضمير المتكلم في فعل الإستهلال (ألقاكِ)، وما بين المخاطبة التي أوجب عليها قهر الحروب الصمتَ المطبق لتعقب هذا القطع في السطر الأخير مفردة الختام، وكل ختام (الحرب).

والآن:

- أليس من المعقول أن نبحث في البياض الذي خلفته مفردات (الحب + الجليل + نار + الحرب) عن علاقات التشابك والتفاصل ما بينها وأثر تلك العلاقات على العلاقة ما بين المتكلم والمخاطبة؟

- أليس الحب قرين النار؟

- أليس الحب نقيض الحرب؟

- أليس (جلال الحب) في عبارة (الحب الجليل) نقيض (همجية الحرب) التي تحيل إليها عبارة (المتقد على نار الحرب)؟

- أليس الفاصل ما بين جملة الإستهلال (ألقاكِ) وبين (أبنة الحب) أقرب، بما يوحي للإمكان، من الفاصل ما بين جملة الإستهلال (ألقاكِ) وبين مفردة (الحرب) بما يوحي للاستحالة؟

- أليست الفضاءات الأربعة التي سبقت مفردة الختام (الحرب) هي تمظهرات بصرية للدلالات النوعية التي يحفل بها قاموسي الحب والحرب.

- وأخيراً، وليس آخراً، ألم يُساهم هذا النمط من الإيقاع البصري في تحفيز العين على نقل صورة البياض إلى المخيلة لتترجمها إلى معان ودلالات محتملة؟

في مقابل تساؤلات البياض تلك يتولد التساؤل النقيض، تساؤل السواد الذي يدفع إليه ضمّ أشتات الصورة الواحدة في جملة واحدة طويلة، أو ضم الصور العديدة في أسطر متراصة من السواد التعبيري المكثف، والحالتان تدفعان القراءة للبحث عن مسوغات ذلك السواد، وواحدة من مسوغات ذلك السواد أو الإمتلاء الكتابي سنجدها في الإمتلاء الدلالي الذي تمثله السلسلة المتراصة من الجموع، كما في المقتطعات التالية:

(أنا الشعب الممتليء بالعطش وأخبار الملائكة الصالحين وتقنيات الطائرات صغيرة الحجم جداً)

أو:

(أزداد عدد منشدي المراثي، واختفت كؤوس النبيذ، تغيرت الأصوات وتشابكت الألحان، والموت متعدد الأطراف)

أو:

(نعم وأنت تطحنين وحدتك وتصبغين قلبك بالحناء، وتقرأين أناشيد على عظامك المسكونة بتحية الوجع..

لا بأس بكل هذا الحزن الرحيم وأنت تشرين ثيابك المملوءة ببقايا حزن الأمس)

هذا، وتدعم صيغ الجموع تلك ما تضفيه الجمل التالية من هيمنة صيغ الإمتلاء والكلية والعددية والتشابك على النصوص لتسدّ فراغاتها بسواد دلالي يتماهى مع سوادها الكتابي أو الطباعي:

- ألشعب الممتليء بالعطش: دلالة السواد = الإمتلاء

- أزدياد عدد منشدي المراثي: دلالة السواد = ألزيادة + العدد

- أشتباك اللحان: دلالة السواد = التشابك

- ألموت متعدد الأطراف: دلالة السواد = العدد

- كل هذا الحزن الرحيم: دلالة السواد = الكلية

- ألثياب المملوءة ببقايا حزن الأمس: دلالة السواد = الإمتلاء 

 وكما أوجد الشاعر مساحة البياض بتقطيع الجمل المكتملة، فقد عمد في قصيدة (ألملم بقايا الورد وأنتظر زخة مطر) لذات الآلية ليوسّع حجم البياض الذي أوشك أن يلتهم مقاطعها الثلاثة ممهداً لأسئلة بيض مفتوحة على إجابات بيض أيضاً، وتتمحور تلك الأسئلة في الغالب، والتي يُنهي بها القصيدة في مقطعها الثالث حول دلالة الإنتظار، وعدا ذلك فكل ما تراءى في المقطعين الأول والثاني على أنها تساؤلات فليست سوى وهم نحوي كما سنبين ذلك في:

ألمقطع الأول: يضع الشاعر معاناة الأطفال الجادون في انتظارهم للخبز والحرب معاً، في مقابلة مع تحسّر الكبار على ما آلت إليه مصائر الأطفال وما يقاسونه جراء انتظاراتهم، لأن مهمة الكبار كما يرى هي التحسّر، ولذلك يُراكم الشاعر عبء انتظارات الفريقين فيجده عبئاً ثقيلاً، أو بحسب الإنزياح التوصيفي الذي يرتأي الشاعر أنه أقرب إلى مخيلته المنفلته من المحددات التوصيفية المنطقية، فهو عبءٌ سميكٌ. أو بالأحرى أنه يرى (الإنتظار) سميكاً، واصفاً المجرّد بالملموس:

- كم سَميك كلّ هذا الإنتظار

وما بين الطبيعتين المفارقتين يظل الإخبار عن سمك الإنتظار غائباً، أو متسماً بالبياض، ولكنّ غيابه لا يعني انعدامه، ذلك لآن السطور الأولى من هذا المقطع ربما تعين في البحث عن مخرج للمعنى الغائب أو المتواري من خلال جدية مادتي الحياة والموت، وهما (الحليب والحرب):

(ألأطفال لا يعبثون

أنهم ينتظرون

الخبز

والحرب

لا أحد يسقيهم الحقيقة مع

الحليب)

ربما يُسوّغ المنطق السليم (ألمنطق اللاشعري) أو منطق الجمل السود المكتملة إنتظار الحياة عبر مادتها / الحليب، ولكن انتظار الحد المفارق / الموت يوجب اللجوء إلى منطق الجمل البيض المقطّعة، والتي يُلزم تقطيعها على القاريء تفعيل قدراته التأويلية من أجل إكمالها افتراضياً على الأقل.

ولكن البياض دلالياً لم يتأتَ فحسب من فحوى الإخبار الذي أوهم القاريء بأنه نمط من الإستفهام، ذلك لأننا لا نستطيع افتراض الإجابة عددياً عن (السُمك) في المقطع الأول (كم سميكٍ كلّ هذا الإنتظار)، ولا عن (الصعوبة) كما في المقطع الثاني (كم صعبٍ تكرار الإنتظار) هذا من حيث المنطق على الأقل والذي من حق الشاعر تغييبه أو إنكاره، فللشاعر منطقه الخاص، لكننا في كل الأحوال نفترض أن الإجابة بالأسم (كم) الإستفهامية توجب نصب الإسم بعدها، وهذا ما لم يتوفر في الجملتين. ولعل الشاعر أيضاً قد وقع تحت طائلة هذا الوهم عندما ختك الجملة الأولى، جملة (السُمك) بعلامة الإستفهام، بينما أدرك ذلك في الجملة الثانية، جملة (الصعوبة) فحذف علامة الإستفهام، واستعاض عنها بسلسلة ثلاثية من النقاط.

أقول أن دلالة البياض لم تاتِ من فحواه الإخباري فحسب، بل من النتائج الصفرية البيض لذلك الإخبار عن ثقل أو سُمك انتظار الحليب والموت معاً، ذلك الإنتظار الذي عانى الأطفال مرارته، تضاف إليه ثمة علامة بيضاء صفرية أخرى تمثلها الحقيقة الغائبة التي لا يبسطها أحد للإطفال عن مآل انتظارهم:

(لا أحد يسقيهم الحقيقة مع

الحليب)

أما الكبار فهم لا يبحثون عن حل لإنهاء حالة الإنتظار، أو بالأحرى أنهم لا يبحثون عن حل لهذا البياض الدلالي، لأنهم يكتفون بمعالجة وقع مرارته (أو سُمكه) عليهم بالحسرات والدموع:

(فمهمة الكبار

ألحسرات

وذرف الدموع)

ألمقطع الثاني: يحضر قلق الإنتظار مجدداً، ولكن بصيغتين، الأولى صيغة النفي:

(لا أجيد

الإنتظار)

لكن نفي الإجادة أو تبييض أثرها الدلالي يدفع الشاعر إلى توسيع أثر البياض في تركيب جملتها شكلياً أو تقطيعها، وفي المقابل تأتي حالة (عدم الإجادة) مقرونة بعكسها، أو بإثبات الإجادة في حفظ الأسرار، أو تسويد الأثر الدلالي لتلك الإجادة بتعمد الشاعر توسيع أثر السواد في تركيبها شكلياً، أو عدم تقطيعها (أجيد الأسرار حتى تتجمّد). ومع ذلك فالشاعر يبدو وكأنه يخترق أعماق المفردتين (الإنتظار) و(الأسرار) فيرى فيهما ما لا يراه القاموس عندما يضعهما معاً على مستوى واحد من المقايسة الضدية:

(أنا

عادة

أجيد الأسرار حتى تتجمّد

لا أجيد

الإنتظار)

أما الصيغة الثانية، فهي صيغة موافقة للصيفة السابقة في المقطع الأول، أي صيغة الإخبار:

(كم صعب

تكاثر الإنتظار)

ومن الملاحظ أن الإخبار هنا موافق للإخبار في المقطع الأول من حيث توصيف المجرّد بالمزيد من جهة، ومن جهة أخرى فأن الصيغتين تُكمل وتدعم بعضهما معنوياً، فلولا (السُمك) في الأولى لما (صعُب التكاثر) في الثانية.

ألمقطع الثالث: تكتمل في هذا المقطع هندسة الفراغات البيض مع حضور الدلالات المفرغة للأسئلة المفتوحة على البياض، وهي الأسئلة الموجهة إلى الآخر غير الواعي، ألأرضي (الأشجار)، والسماوي (المطر) بعد أن أضفى على الأول وعي الإنتظار:

(أسأل الأشجار

ماذا تنتظر؟)

وأضفى على الثاني وعي الإرادة:

(ألمطر

ماذا يريد؟)

وكذلك السؤال الموجه للذات الواعية المتكلمة (ألأنا)، وهو سؤال الإنتظار ذاته الذي سبق أن وجهه المتكلم لقرينه في الموقع (الأشجار) وكأن الإنتظار هو ضالة المخلوقات الأرضية:

(أنا ماذا

أنتظر؟)

ومع مراوحة الأسئلة الموجهة لكل طرف من الثلاثة ما بين الإنتظار والإرادة، تظل إجاباتهم عنها مقيدة في حدود الصمت الدال، أو البياض؟

وفي مقابل هذا البياض يهيمن سواد شبه مكثف على كثير من القصائد، ولنختر منها قصيدة (رأيت نبيذاً معتقاً يُشبه أصابعكِ)، حيث تتشكل المقاطع من حزمة من الصور، تتمثل كل حزمة في عتبة تُمهّد السابقة منها للاحقة، ثم تُختتم بالصورة الحسم التي تُغلق بها الحزمة الصورية، مع ملاحظة أن جُمل العتبات والجُمل الحسم هي جميعها من الجمل الفعلية، بغض النظر عن طبيعة الأفعال.

يستهل ضمير الغائب المؤنث ألسطر الأول من المقطع الأول من القصيدة، مكتفياً بأثره هذا (لم تكن تهذي)، إذ يغيب بعد هذا الإستهلال ولا يترك له أثراً ضمن هذا المقطع، والأثر الوحيد المهيمن بعد الإفتتاحية على هذا المقطع هو لضمير المتكلم، لكن ضمير الغائب المؤنث سرعان ما يستبدل موقعه النحوي فيتحول إلى ضمير المخاطب المؤنث تاركاً أثراً طفيفاً كما هو أثر الأنثى في المطع الأول، أثراً لا يتعدى جملة (لم أعترف لك)، والأثر الأوسع منه قليلاً في المقطع الرابع:

(لكني لم أعتد أن أقول لك:

أن وجهك نبيذ فرنسي وبعض من ثمار الجنة الطرية)

وعدا ذلك فهذا الضمير يحضر بكامل سلطته التأثيرية في ثريا العنونة ليضيء له أثراً مغيباً في كامل القصيدة، ويوحي بهيمنته عليها، وعلى ضمير المتكلم أيضاً.

وبتجاوز الإفتتاحية من المقطع الأول تتوالى الجمل العتبات، وكالتالي:

1 - كانت أصوات أزيز رصاصات غاضبة

2 - ورسائل مملوءة بالشتائم

3 - وحروقاً من الدرجة الثالثة للحروف

(مع ملاحظة أن الجملتين الإسميتين الثانية والثالثة معطوفتان على الأولى الفعلية مما يُخضعهما لتاثيراتها الفعلية)

4 – أضحك قليلاً لأعي نصف الحياة

5 – أسمع نصف أغنية

6 – وارمي نصف الكأس المملوءة

ولكن أين جملة الحسم ضمن هذا المقطع الذي شغلته بالكامل جمل العتبات الست والتي يُفترض أن تُختم بها سلسلة العتبات. أن افتراض الختام الموقعي لجملة الحسم قد اختل في هذا المقطع وازاح موقع جملة الحسم الفعلية من نهاية المقطع ليدغمها مع العتبة الرابعة مقرناً فعلها بلام التعليل، أي أنها جملة (لأعي نصف الحياة) التي أزيحت موقعياً فحسب، بينما بقى ثقلها الدلالي مؤثراً على كل العتبات الست.

مع المقطع الثاني تتوالى العتبات الفعلية كالتالي:

1 – اعتلي قمة السلم

2 – أتلو خطاباً مدججاً بالشتائم الخفيفة

3 – ألوّح بيدي لمن يُخالفني

أما الجملة الحسم فهي

- ألجمهور كان خفيف الظل (مع ملاحظة أن ابتداء الجملة بمفردة أسمية (الجمهور) يعقبها مباشرة الفعل الناسخ الناقص (كان) لا يلغي فعليتها إذ أنه من اليسير قراءة الجملة التالية المبدوءة بذات الفعل على أنها معطوفة عليها:

- كان يريد مني أن أبدأ بشتائم ثقيلة حتى يتسنى لهم الضحك بإفراط.

ولكن ما الدلالة المعنوية لانحسار البياض نسبياً عن القصيدة وإحلال السواد بدله؟ ربما تكون الدلالة في حالات الإمتلاء المعبّر عنها بجموع المفردات (أصوات / رصاصات / حروق / شتائم / جمهور / سلالم / ألبيوت / ثمار). وهذا النمط الدلالي للسواد سبق أن أتينا على نظيره، لكن ما يميزه عنه في هذا النص هو في المحددات المتراوحة ما بين الزيادة والنقص دون أن تبلغ العدم:

- فالحروق ليست من الدرجات الطفيفة الأولى، بل هي من الثالثة (وحروقاً من الدرجة الثالثة للحروف)

- والضحك خضع للمقايسة فهو لم يُعدم تماماً، ولم يُكثر بإفراط، بل هو في حدود القلة (أضحك قليلاً)

- والأمر كذلك بالنسبة لوعي الحياة فهو لم يُعدم تماماً، كما أنه لم يكن في أقصى مستوياته، بل اقتُصر على النصف (لأعي نصف الحياة).

- والأمر كذلك لنصف الأغنية (أسمع نصف أغنية).

- وللكأس التي خضعت هي ذاتها لمقياس الإمتلاء، بينما أفرغت محتوياتها إلى النصف (أرمي نصف الكأس المملوءة).

- وللجمهور (ألجمهور كان خفيف الظل) فهو لم يجعله بليداً ثقيل الظل، كما أنه لم يحرمه من ظله تماماً كما فعل الروائي فتحي غانم مع أحد أبطال روايته (الرجل الذي فقد ظله)، بل جعله خفيفاً، والخفة منطقة تتوسط ما بين العدم والثقل.

- والأمر كذلك للشتائم المتراوحة ما بين الخفة والثقل، فهو حيناً يتلو (شتائم خفيفة) أما الجمهور فكان يريد منه (أن يبدأ بشتائم ثقيلة) كل ذلك من أجل (الضحك بإفراط).

- والشيب بدوره لم يتحرر من الحساب (بضع شيبات)

- وكذلك الأمر للحزن (حزنت كثيراً)

- واعتلاء السلم إلى قمتها (أعتلي قمة السلّم)

- والجمهور لم يتكلم كل واحد منهم بصوته منفرداً، بل (قالوا بصوت جماعي)

- أما وجه الحبيبة المفرد فقد جاء تشبيهه بصيغة الجمع، فهو (بعض من ثمار الجنة الطرية)

أن تفعيل هندسة اللونين في تشكيل الرسمة الخارجية للنص الشعري ليس مجرّد لعب شكلي عابث بقدر ما هو محاولة للتوفيق ما بين طرفي الصورة الشعرية الداخلي / الدلالة، والخارجي / الشكل، أو من أجل تمكين الدلالة من التوسع خارجياً، وفي الحالين تتحكم مخيلة جامحة في موازين التوفيق، مخيلة سريالية غير مستقرة تهشّم الواقع لتبني من حطامه عالماً أخر ليس له قرين إلا في مخططات الأحلام والكوابيس:

(كان لي حديث ممتع مع عصفور حكيم

قال: العمر زمن سريع)

أو:

(بعد مفاوضات طويلة نجحت باستدانة نهر، أدخلته غرفتي

كنت أرغب برفع الملوحة من أقدامي، لكني لم أجده عند الصباح

كتب لي رسالة وهرب:

سأعود عندما أجد من يسحب الملوحة من رأسي)

أو:

(حائر

لازلت أعاني من صعوبة فضّ النزاع

بين غيمتين)

***

ليث الصندوق – شاعر وناقد

 

العشق في عيون النار.. رحلة إلى الخلود عبر سراديب الصمت..

قراءة تحليلية فلسفية في قصيدة: ماهية العشق- للشاعرة: سمر الديك سورية / فرنسا.

***

قصيدة ماهية العشق للشاعرة سمر الديك تمثل رحلة فلسفية في أسرار العاطفة الإنسانية، حيث تتداخل مفاهيم الوجود، الزمان والمكان، والتحرر من القيود الاجتماعية والثقافية. الشاعرة لا تقدم العشق فقط كعاطفة أو تجربة إنسانية، بل كقوة مطلقة تتجاوز الحدود المعهودة، وتعبر عن هوية الكائن وتحرره. في هذه القراءة العميقة، سنغوص في طبقات القصيدة لنسبر أغوارها الفلسفية والجمالية.

العشق: بداية الخلق ووجوده المستمر

تبدأ القصيدة بتصوير العشق كقوة خالدة تُولد من /سراديب الصمت/، حيث تتلاقى الأرواح في /حجب/ الظلام. هذه الافتتاحية تصور العشق كنور يولد من عمق العتمة، وكأن الشاعرة تشير إلى العشق كعملية خلقية مستمرة. في هذا السياق، يشير /النور/ الذي /يخترق الحجب/ إلى الحياة الجديدة التي ينبعث منها العشاق، وهو تعبير عن طاقة تتفجر من الظلام والفراغ، تمامًا كما تُنبعث الحياة من الموت أو من الركود.

الشاعرة توظف أيضًا رمز الفينكس — الطائر الأسطوري الذي ينهض من رماده — لتعبر عن قدرة العشق على التجدد والبعث. إنها لا تكتفي بتصوير العشق كمجرد انفعال، بل كـ /طاقة خالدة/ تُعيد خلق نفسها من جديد في كل لحظة، وتُظهر كيف يمكن للعشاق أن ينهضوا مجددًا بعد أي عاصفة عاطفية أو صدمة. الفينكس، الذي ينهض من الرماد، يمثل الإيمان بالقوة التحويلية للعشق، إذ يعكس في جوهره فلسفة عميقة حول العواطف البشرية وقدرتها على الاستمرار والنهوض حتى بعد تدمير الذات أو الخيبة.

التجذر والعمق: العشق كهوية وجودية

تواصل الشاعرة تصوير العشق باعتباره قوة أساسية متجذرة في /أشجار مُتجذرة العمق/. إنها لا تقتصر على تصوير العشق كحالة عاطفية فحسب، بل تضفي عليه طابع الوجود المستمر والمتعمق، حيث يصبح العشق هو المصدر الذي يمد العشاق بالحياة. هذا التصوير يعيدنا إلى الفلسفات الشرقية والغربية التي ترى في الحب والعشق أساسًا للوجود. من خلال هذه الصورة، تُظهر الشاعرة كيف أن العشق ليس مجرد مشاعر، بل هو أداة وجود، غرس ينمو بعمق في الروح.

/أشجار/ العشاق، التي /تستمد غذاءها من نشوة عشقها/، تشير إلى ذلك التفاعل العميق بين الحب والوجود؛ فالعشق في هذا النص ليس شيئًا خارجيًا يُضاف إلى الشخص، بل هو جزء من جوهره، غذاء روحي وأخلاقي. إن العشق هنا ليس مظهرا عابرا، بل هو بنية وجودية تُؤثّر في كل جزء من الكائن العاشق.

العشق في علاقته بالزمن والمكان: تجاور الخلود والمحدودية

/عشقنا هو الوجود المطلق الذي يتجاوز حدود الزمن والمكان/ — هذه العبارة تحمل أبعادًا فلسفية هامة. العشق في هذا السياق يُنظر إليه كحالة لا زمنيّة ولا مكانيّة، وتعدّ دعوة للتحرر من القيود المادية التي تفرضها الحواس والوجود اليومي. هنا نجد توجيهًا إلى الفلسفات الوجودية التي تعارض الفهم التقليدي للزمن والمكان كحقائق ثابتة. في هذا المعنى، العشق يصبح الوجود المطلق الذي لا يتأثر بالمقاييس الظرفية؛ هو عالم موازٍ، دائم وغير قابل للزوال، يحتوي في طياته على حقيقة تفوق التصور البشري.

هذه الرؤية تتلاقى مع أفكار مارتيـن هايدغر حول الوجود (Being) وجان بول سارتر الذي كان يؤكد على الوجود كفعل حر يتجاوز القيود المفروضة من البيئة والزمان. العشق في هذه القصيدة لا يعترف بالحدود المكانية أو الزمنية؛ بل هو نوع من الحقيقة المطلقة التي تعيش في لحظة الكشف.

العشق كنشوة وحالة من الحرية

تمتلئ القصيدة بالصور التي تشير إلى أن العشق ليس فقط تجربة تفاعل بين الأفراد، بل هو حالة نشوة معرفية وحسية معًا. حديث الشاعرة عن /أزهار الحلم/ التي تتفتح في /حدائق نفوسنا/ يعكس مفهوم العشق كطقس تجديدي، يعيد الحياة للجسد والعقل معًا. العشق هنا يقدم نفسه كعلاج للجروح الروحية والنفسية، فالعاشق يغسل /آثار العتمة/ و/خيباتنا/ في /ماء بحر العشق اللامتناهي/.

من هنا، يصبح العشق محررًا، يمنح العاشق القدرة على تطهير ذاته من أحزان الماضي وألم الفقدان. هذه التوصيفات تقودنا إلى التفسير الفلسفي للعشق كـ /نشوة/ أو /لحظة اكتمال/ حيث يتعالى الفرد عن نفسه المذعورة، ليمر عبر حالة من النور والتجدد. العشق في هذه الرؤية هو المنفذ الذي يكشف للمحبين إمكانياتهم غير المحدودة، ويمنحهم القوة للوجود بحرية تامة.

العشق كلغة غير قابلة للتفسير

تذكر الشاعرة أن /قصيدتي مكتوبة بالدماء الملتهبة/ وتشير إلى أن /قافيتها من نورٍ ونار/، مما يخلق تمازجًا بين التوترات العاطفية والفلسفية في سياق العشق. هذا التصوير يؤكد أن العشق ليس تجربة قابلة للفهم عبر العقل المجرد أو التفكير التقليدي. هو لغة معقدة وغير قابلة للترجمة الحرفية، لغة تتجاوز الحدود العقلية التي نستخدمها لتفسير تجاربنا.

هذه الفكرة تلتقي مع مذهب نيتشه في /اللغة المستعصية/ و/اللامعقول/ باعتبار أن الحقيقة العليا لا تُفسّر عبر المعايير المادية أو المنطقية. في قصيدتها، تصوّر الشاعرة العشق كـ /لغة لا تخضع لقوانين الكون/ مما يشير إلى استحالة فهم العشق في إطار المألوف. العشق هنا يتناغم مع الإيمان بأن هناك أبعادًا غير مرئية وغير قابلة للتفسير نعيشها فقط من خلال التجربة الذاتية.

تقرير وجودي: الحرية في العشق

في الخاتمة، نلمح أحد أعمق أبعاد القصيدة: الحرية في العشق. الشاعرة تدمج هذه الحرية في مفهوم الكينونة، حيث يُعبّر العشق عن قدرة الإنسان على أن يكون هو نفسه، في كامل حرية. في قولها /أبحثُ عن ذاتي فيكَ فأرتقي إلى عوالمَ النّور/، تُظهر العاشقة كيف أن العشق لا يقيد الفرد أو يحصره، بل يفتح أمامه آفاقًا جديدة للوجود.

خاتمة: العشق كوجود فلسفي خالٍ من القيود

قصيدة ماهية العشق هي أكثر من مجرد تعبير عن حب عاطفي؛ هي رحلة إلى جوهر الإنسان وطبيعة وجوده في العالم. من خلال رمزية غنية وصور فلسفية عميقة، تفتح الشاعرة أفقًا جديدًا لفهم العشق باعتباره قوة خالدة تتجاوز الحدود الزمنية والمكانية. في هذه القصيدة، العشق هو الفعل الذي يعيد تكوين الوجود ويمنح الإنسان القدرة على أن يتجاوز الواقع المادي والتفسيرات العقلية الجامدة، ليعيش تجربة كونية حرة ولامحدودة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

...........................

ماهية العشق

بقلم: سمر الديك

***

في سراديب الصّمتِ تتلاقى أرواحُ العشّاق يتولّدُ نورٌ يخترقُ الحجبَ على الرّغمِ من أنّ الرّياحَ تعصفُ بنا ننهضُ ونكمّلُ الطّريقَ كما ينهضُ "الفينكس "من رماده نحنُ العشّاق أشجار مُتجذرة العمق نستمدُ غذاءنا من نشوة عشقنا نرسمُ لوحاتِ الأمل على جدران الواقع تختبئ فيها سراديبُ الذكريات تروي حكايات عشقنا وتنسجُ خيوطَ اللقاء في كلّ ابتسامة.

أيّها العاشق اقتربْ أكثر لا تتردد لتشتعلَ النار المقدسة في معبدِ عشقنا وتُضيئ أرواحنا المتعطشة إلى النور تتفتحُ أزهارُ الحلم في حدائق نفوسنا نغسلُ آثارَ العتمة وخيباتنا بماء بحر العشق اللامتناهي الذي يغمرنا بأمواجه العاتية نغوصُ في أعماقه نرتوي بالعسل الممزوج بالحليب من ضرع الحياة نكتشفُ فيه ذواتنا المخفية.

يا أناي اقتربْ لا تخشى قصيدتي المكتوبة بالدماء الملتهبة قافيتها من نورٍ ونار اقترب منها كي تنبضَ بالحياة كل حرف لك يتغلغلُ في أعماقي وينسابُ نوراً يُضيئُ عتمة قلبي ويُبددُ أحزاني التي نسجتْ خيوطاً عنكبوتية على جدران قلبي أحاولُ تمشيطها بفرشاة العمر الحادة التي تزدادُ صلابةً في زمن النفاق فينبعثُ نوركَ قمراً وأتيتني نجماً أضاءَ دربي في سراديبِ الحياة الصامتة أسمعُ موسيقاكَ تعزفها ليلاً على مسامعي بصمتٍ تلامسُ أوتارَ روحي تغني للحياة تارةً وتارةً أخرى لا أستطيع تفسيرها إنّها لغةٌ مستعصيةٌ لا تخضعْ لقوانين الكون مُنبعثة من أعماق النفس عشقنا هو الوجود المطلق الذي يتجاوز حدود الزمن والمكان هو الحقيقة الخالدة في قلب كلّ حبيب أبحثُ عن ذاتي فيكَ فأرتقي إلى عوالمَ النّور ما أحوجنا إلى الحرية إلى هذا العشق كما يراه "سارتر" إلى تلك النشوة التي تمنحنا القوة لنكون مانحنُ عليه ونشعر بالكينونة

***

سمر الديك سورية/فرنسا

 

للشاعر والروائي العراقي حسب الشيخ جعفر

القسم الرابع والأخير: الأبطال

تتميز رواية "نينا بتروفنا" لحسب الشيخ جعفر بِقِلّة عدد شخصياتها، وكلها روسية باستثناء البطل، معظمها من النساء. البطل الرئيس راوي السردية و"مدير" الحوارات والنقاشات والعلاقات، شاب عراقي يعاني من العشق والوجد والولع بالأدب، يعمل مترجماً في موسكو، لم يقدم الكاتب لا اسمه ولا أي وصف خارجي أو داخلي بمونولوجات كلاسيكية إلا قليلا.

فهل الراوي صورة الكاتب، أم شخصية مركبة يمثل مواطني الدول النامية القادمين للدراسة مجانا في الاتحاد السوفييتي، على عكس بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السوداني الطيب صالح، حيث إنه يدرس في الدولة الاستعمارية بريطانيا، ولا يحب البقاء فيها مفضلا العودة إلى قريته السودانية، يأخذ ولا يعطي إذا ما استثنينا الجانب "العاطفي" يأخذ من "مستعمريه العلم والجنس" ويمارس العنف مع النساء. ممكن مقارنته من حيث العنف مع بطل "قلب الظلمات" لجوزيف كونراد، أو حتى "مرتفعات وذرنج" لإميلي برونتي.

أما بطل "نينا بتروفنا" فإنه إنسانٌ "مُأنسَنٌ" بالقيم الرفيعة، مسالمٌ يعطي ولا يأخذ غير الحنين والانتماء والطمأنينة، فالحب أو "الجنس" كان متاحا بدون هذه العطايا الكثيرة، إنه شخص شغوف ومليء، مثقف، مهتم بالتراث الإنساني العربي والأدب العالمي وملم به وبالذات الروسي، وله مواقف من الترجمة مهنته التي يكسب رزقه منها، وسخي بدون مقابل، قد يكون لدرجة السذاجة، هل هو بسبب شعوره برد الجميل، أم ضعف شخصيته وسطحيته أم إحباطه الضمني غير المعلن عنه دائما؟

"كنت أترجم وأترجم طرداً للسأم" ص 59، وهو غني بكل شيء بالنسبة إلى أهل البلد الأصليين، إضافة إلى ثقافته ومشاعره وعاطفته الشرقية يغدق عليهم بالهدايا باستمرار، "اخترت في السوق الحرة ما يليق بهن من هدايا...". ص 136

حتى إن ليوسا رفضت مرةً هداياه الغالية من السوق الحرة، التي تبيع سلعها بالعملة الصعبة، قائلةً ممازحةً "لا تزدني فضائح"ص141، وهو ما يعبر عنه الكاتب في مكان آخر من الرواية، "مذ دخلت ناديا ببدلتها الأجنبية الأنيقة، وفتيات المقهى ينظرن إليها وإليّ بين الحين والآخر وهي ترى. قربت وجهها من أذني هامسةً: إنهن يتشوقن إليّ". ص 228700 Nina Petrova

وهو لا يعاني من النفور وغير مرفوض من قبل أهل البلد، بل يبحث عن الاستقرار عندهم، ويريد الزواج من نسائهن بأي ثمن وبدون استعدادات أو مقدمات كما هو واضح في علاقته مع ليزا صديقة جارته ليوسا " ليزا.. هل يمكنني أن أتزوجك؟" ص 20، وناديا، التي "أجلت" زواجها منه ثلاثة او أربعة أعوام. بيد إنه يصر على الزواج منها خوفاً من ان تكون حاملا منه " لن تجهضي. سنتزوج غداً... غداً نتزوج". ص 286

 لكن علاقته بنينا بتروفنا أمر آخر، إنها أليغوريا العذرية وحنان الأم المفقود في طفولته القاسية، فهي التي تقترح عليه الزواج من ناديا، "لماذا لا تتزوج ناديا؟ ... إنها ربيبتي ليست بنتي" ص 82، وهو في النهاية تبرير غير مقنع اجتماعيا إن أردنا التدقيق في طبيعة بناء "الحدّوته" على الطريقة الكلاسيكية، لكنها رغبة الكاتب في تجسيد هذه الأليغوريا، إضافة إلى العودة إلى الجذور.

نقرأ في الرواية مونولوج غير تقليدي "أنت لا تحب إلاها. إلا نينا بتروفنا أيها الدونجواني الشقي. لماذا اللقاء بناديا وغير ناديا؟ أهو مرض؟ مرض فينوسي؟ أهي الرغبة بتعدد الزوجات؟ ...". ص 180

وتتابع ناديا " تقول جدتي: أنا حائرة بينكما وبينه لماذا لا يتزوج إحدى المرأتين فتستقر الرياح؟ يخيل لي إنه حائر بينكما ... وتقول نينا بتروفنا: إنه في مثل عمر ابني. حرضي ناديا لتتزوجه". ص 181

وأخيرا فإن الراوي يمعن في وصف قوة نينا بتروفنا وحمايتها له كأم " كانت نينا بتروفنا أثبت مني قدماً، ونحن مسرعان إلى المخزن، في مهب من الرياح والثلوج المتسارعة المتشابكة.. فهي عذراء الثلوج الروسية وزوابعها. ولم تترك ذراعي لحظة خوفاً عليّ من أن أقع أو أزلق..." ص207، وهو ما يفسر بقاء المذكرات / مخطوطة الرواية عندها بعد وفاته مع ناديا في حادث سيارة.

ولهذا فإن الراوي يبرر إلحاحه على الزواج من ناديا عندما تماحكه الأخيرة ساخرةً منه بأنه لا يحب نينا بتروفنا "كدتَ تنساها البارحة " ص291، فيبرر "كنتُ خائفا أن تؤذي نفسَكِ" ص291، وأنظر التبريرات الأخرى. ص292

يقول الراوي لصديقته المميزة نينا بتروفنا ومنذ ليلتهما الأولى مكتشفا عذريتها "اسمعي رجاءً.. وأنا جاد. صادق فيما أقول، هل يمكنني أن أتزوجك؟ من فضلك" فتجيبه "ما بك؟ أنت في عمر ابني... أنا زوجتك. ألم تتزوجني الليلة؟ ماذا ستقول أسرتي وصواحبي؟ ... سيقولون إني أوقعت بك اثرةً واحتيالاً" ص 27، فيعلق قائلاً " ما أنا إلا فتى أجنبي لا يملك غير راتبه، فأين الإيقاع هنا؟" ص 27، وكأنه لا يعلم أن الهبات أو "المنح" كما يسميها، التي يوزعها على النساء كانت تكفي كَرِشى لمسؤولين كبار لحل مشاكل كبيرة يواجهها الناس في حياتهم اليومية آنئذ. حتى إن صديقته ناديا بدأت "تستغله"، "شاكستُ رئيسة القسم...ووعدتها بزجاجة ويسكي وسآخذ الزجاجة منك، وسمحت لي بالخروج مبكرا" ص59، على عكس نينا بتروفنا، التي تنصحه بالاقتصاد والتوفير وعدم شراء الهدايا.

زميله الصحفي أندريه، غارق في الإدمان والعشيقات وحياة اللهو دون أن نقرأ سردا عن حياته لكن هذا هو استنتاجنا، نفس الشيء يقال عن زوج جارته ليوسا.

نساء الرواية عاطفيات حنونات ينشدن الاسترخاء والاستمتاع بالحياة كرد فعل لفترة ما بعد الحرب التي عاشتها امهاتهن: ناديا وليوسا وصديقتها ليزا والجارة الجديدة، والبنت المستعربة، والنادلات الشابات الكثيرات اللاتي لم نتعرف لا على أسمائهن ولا أوصافهن الخارجية.

بطلة الرواية نينا بتروفنا، كانت في ريعان شبابها أثناء الحرب الوطنية العظمى كما كانت تسمى في الاتحاد السوفييتي، لكنها لا هي ولا والدتها لم تتحدثا عن تلك الفترة القاسية، مما يدلل على رغبة الكاتب بذلك. وهذا يطرح تساؤلات عليها.

من هو الشخص الذي يقف خلف صاحب المخطوطة او المذكرات؟ إنه الراوي، ولكن من هذا؟ إنه صورة الكاتب وليس الكاتب بحد ذاته. هذا يحتاج الى نقاش معمق آخر قد نعود إليه في مناسبة أخرى.

يقول الراوي "أوقعت نفسي حقاً أو أوقعتني المقادير على منزلق خطير! فتباً وتباً لي... قد أخادع نفسي وأقنعها، أحيانا أنني (متزوج) من امرأتين، لكن أمن السهل عليّ مخادعة امرأة حسناء محبة ووفية لي؟ أأنا مخادع؟ هل أنا غشاش؟ ...ما الحل؟ وأين راحة البال؟ هل (لمست) نينا بتروفنا شيئا ما وغضت الطرف ...". ص70

وهو أمر لم تخفه عنه ناديا عندما قالت له " ستشم نينا بتروفنا رائحتي في فراشك". ص 45، وتعبر عن حالها بشكل أوضح قبل نهاية الرواية "...لماذا لا أنام الليل كله هنا؟ أأنا فتاة شارع؟ أأنا ممن يبعن أجسادهن بقبضة روبلات؟ ... من طوّحَ بي؟ من (عهرني)؟ أين مني خجلي وعفتي؟". ص 314

ويسخر من نفسه قائلاً "التقى الأجنبي الغر سيدةً، وغادةً غضة، فاحتار بينهما، سأل المحير بين العيد والعيد". ص82

وهل يمكن إخفاء مثل هذه الأمور في الحياة السوفييتية بخاصة إذا كان الرجل أجنبيا؟ فالبطل "زير نساء" لا يترك واحدة إلا واصاب منها ما يريد، علاقاته بهن مفتوحة وواضحة في المجتمع حيث الناس يتناقلونها، لا سيما أن حبيبته طبيبة جراحة معروفة، ولهذا تحذره ناديا مبررة ممانعتها تقبيله "قد يمر أحد الجيران، إنهم يعرفون أنك فتى نينا بتروفنا". ص68 وتقول له ايضا " أنا ربيبتها المدللة ... إنها تعرف. هي ذكية جداً ...". ص78

أجل، نينا بتروفنا تجسد أليغوريا السمو والأخلاق العالية والبهاء والجلال والذكاء والجمال والحنان، إنها حبيبته وخليلته وأمه وروحه، التي لا يمكن للراوي التخلي عنها أو الانفصال عنها، إنها تنتقل في مخيلته من شقته الموسكوفيه إلى قريته في جنوب العراق حيث "الديكة تتصايح، ... تصحو (نينا بتروفنا) لتخبز العجين" ص 289، وأنه بالتأكيد سينتحر إن لم يمت في حادث سيارة، إن أجبر على الزواج من ناديا! ------

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

أستاذ جامعي عراقي مقيم في الدنمرك

......................

* حسب الشيخ جعفر. نينا بتروفنا. مَن أيقظ الحسناء النائمة؟ بغداد، دار المدى 2014

* كُتبت هذه الدراسة عن رواية "نينا بتروفنا عام 2016 ونُشر جزء قصير منها عام 2018 في إيلاف.

يقال إن الرواية البوليسية هي الرواية التي تسعى إلى إجابة قارئها عمَّن فعل الحدث الجرمي؟ مثل القتل أو السرقة أو الانتحار والاغتصاب، وغيرها من أفعالٍ جرميةٍ، وكشف أسبابها، حيث تتسارع أحداث الرواية مع تدفّق الكشوفات المتتالية للتحقيق، الذي يتبناه ضابط بوليس، أي أن الرواية البوليسية تقوم على شقّين: الجريمة وملابساتها، والتحقيق وتفاصيله.

وما زالت الصحافة الثقافية العربية تتناول موضوعة عدم وجود أدب بوليسي عربي، أحدث هذه الكتابات مقالة الشاعر والناقد اللبناني عبده وازن الذي أشار في مقالته المنشورة، مؤخراً، إلى عدم وجود رواية بوليسية عربية، ضمن خريطة الأدب البوليسي العالمي، مرجعية كلامه هذا، تعود إلى صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية التي  نشرت مؤخرا عددا خاصا عن الأدب البوليسي، وكان عنوانه الطريف "جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية"، حيث شمل العدد الأدب البوليسي في معظم القارات والبلدان؛ الولايات المتحدة الأميركية (شرق وغرب) وكندا وأميركا اللاتينية وآسيا والشرق الأدنى وأفريقيا، وبلدان أوروبا كافة الغربية والشرقية والجنوبية، وكان الاستثناء الوحيد كلّ دول العالم العربي قاطبةً. ومن التبريرات المُتداولة عن أسباب هذه الظاهرة، إن العالم الغربي تقدّم على الشرق بحدوث الثورة الصناعية فيه قبل قرنين من الزمان، وإنّ المجتمع الآلي الحديث جعل الإنسان الغربي يعيش الاغتراب عن ماضيه وحاضره.

تقاليد غربية بوليسية

تمكّن الغرب من ترسيخ النوع البوليسي في أدبهم خلال 150 عاماً، أي منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا، ويُذكر بأنه بالرغم من هذه الحقبة الزمنية الطويلة، لم يتمّ البت بمعايير ومواصفاتٍ عالميةٍ للأدب البوليسي، وأيضاً هناك من النقاد، من ينزعون صفة الأدبية عن النوع البوليسي، من منطلق أنها انعكاس مقلوب للرواية الواقعية، بداية الحدث في الرواية البوليسية وقوع الجريمة، ونهايتها تتمّ بمعرفة المسبّب للجريمة.

اختطّ الأدب الغربي تقاليد بوليسيةً عريقة، لم يتأسّس نظيرها لدى العرب، مثلاً شخصية شرلوك هولمز، تلك الشخصية البوليسية الخياليّة التي ابتكرها الكاتب الإسكتلندي آرثر كونان دويل، ليساعد رجال الشرطة والمحققين عندما لا يجدون حلولًا للجرائم التي تواجههم، هولمز أفاد من التفكير المنطقي، وامتاز بقدرته على التنكر والتمويه، واستثمار معلوماته الطبية، بوصف أنّ مبتكرها كونان دويل طبيبٌ أيضاً، في حلّ ألغاز الجرائم. وبذا عُدَّ هولمز أشهر شخصيةٍ بوليسيةٍ في العالم على الإطلاق، استثمرها دويل في تأليف أربع روايات، وستة وخمسين قصة قصيرة، جميعها تنتمي إلى الأدب البوليسي.713 ajatha

وهناك أيضاً المحقق البوليسي الشهير هيركيول بوارو، تلك الشخصية التي ابتكرتها مؤلفة الكتب البوليسية أغاثا كريستي. واشتُهر عنه بأنّهُ يُحبّ الغموض والدراما، ولا يميل إلى مشاطرة المعلومات أو كشف الشرير إلا في آخر لحظةٍ ممكنة، وهذا ما جعل كبير المفتشين جاب وآرثر هستنغز، الذي يترافق ظهوره مع هيركيول في جميع بوليسيات كريستي، يتّهمه بتعمّد إخفاء المعلومات عن الآخرين ليبدو أذكى مما هو عليه حقيقة. كريستي جعلت محققها الشهير بوارو يبدو بمواصفات من يمتلك قدراً كبيراً من الذكاء، وهو جذّابٌ جداً بما يجعل الكثيرين يبوحون له بالمعلومات الشخصية، في الوقت الذي لا يبوحون بها إلى آخرين، مما جعل كريستي تتوّجه بطل أربع وثلاثين رواية وأكثر من خمسين قصة قصيرة من تأليفها، فبات محبوباً من قبل الملايين من المعجبين، من قرّاء روايات كريستي ومشاهدي أفلامها حول العالم، وبنشر موته في قصة "الستارة" عام 1975 عُدّ الشخصية الخيالية البوليسية الوحيدة في التاريخ التي نشرت النيويورك تايمز تأبيناً له على صدر صفحاتها.

وإذا كانت هاتان الشخصيتان برزتا في قمّة الأدب البوليسي العالمي خلال القرن العشرين، تضاف إليهما شخصية المفتش غاليمار المشتهر في قصص الجريمة الفرنسية، صحبة اللص المعروف آرسين لوبين، فإن كتّاب الرواية البوليسية الغربية في العقود الأخيرة حققوا شهرةً لا نظير لها، مثل الأميركي ستيفن كنغ الذي فاقت مبيعات كتبه جميع مبيعات أنواع الكتب الأدبية الأخرى، وعدد قرائه، لا يظفر أي روائي آخر بعددٍ قليلٍ منهم.

ويقول الروائي السوداني تاج أمير السر إن المُخيّلة الثرّة للكاتب البوليسي الغربي  مردّها أنّه "نشأ في مجتمعٍ مكتنزٍ بالأدوات الفاعلة، أو التي تنشّط تلك المخيّلة، هو يرى الجرائم المعقّدة التي تُرتكب، يشاهد المتحرين وهم ينشطون من حوله، وربّما يتغلغل في علب الليل وعوالم الجريمة المتعددة، الموجودة بكثرة، من أجل أن ينشط خياله ويكتب".

افتقار عربي

قد يعزى الافتقار العربي للأدب البوليسي إلى المحافظة على الجذور التي ما زالت نزعة سائدة في المجتمعات العربية الحديثة، بالرغم من التحولات الحاصلة في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، التي ربما لا تعين في ترسيخ نزعةٍ بوليسيةٍ في الرواية العربية، فالفرق يبقى شاسعاً بين الغرب والعرب.

ويمكن القول بأنّ رغبة الكتّاب العرب في كتابة الأدب البوليسي تصطدم بالافتقار إلى المحقق البوليسي، على غرار ما أشرنا إليه عالمياً، وتحليل ذلك، ربّما يعود إلى أن المحقّق الجنائي العربي، وفي غالبية بلدان العرب، ليس لديه الصبر والوقت الطويلين في إعمال عقله، وقيادة مسارات التحقيق بهدوءٍ وروية، حيث بوساطة تلك المسارات العميقة يمكن أن تُولد قصص تحقيقٍ شيقة، ربما توفّر السبيل لكتّاب راغبين في خوض غمار السرد البوليسي، أن ينسجوا روايات وقصصاً بوليسية، وبالتراكم الكمي والتميز النوعي، وعبر سنين طوال، ربّما ينبثق لدينا أدبٌ بوليسي. القصد من ذلك أنّ المحقق الجنائي العربي عامة، ينال ما يريده من اعترافاتٍ جرمية، بأقلّ الوقت، وأقصر الطرق، بوساطة اتّباع أساليب التعذيب والتهديد، ذلك ما يقوله الروائي السوري فواز حداد "السببُ في اختفاء الأدب البوليسي في بلادنا أنَّ الجرائم مهما تبدّلت وتنوّعت، فالحل المطروح واحد، ومعرفة المجرم مُيسّرة من دون تعقيدات، فما المثير فيها؟ بينما المحقّق الجنائي في روايات الغرب يجهد في التفكير، الكثير من التفكير، فمثلًا هولمز يصرف الكثير من الأفيون، ويستعين بوارو بالخلايا الرمادية، للتغلّب على ذكاء المجرم".

وإذا أردنا أن نبحث عن سقفٍ أكبر للافتقار العربي للأدب البوليسي، فإنّ عديد الكتّاب والدارسين يرون أنه بسبب غياب الديمقراطية، في غالبية بلدان العرب، ومن ثمّ يترتّب على ذلك غياب العدالة والقانون، وقد قالها الروائي فواز حداد "أمرٌ واحد: القانون. عندئذ تدخل مملكة الرواية" لكن الروائي تاج أمير السر يرى ألاّ غرابة في افتقار الأدب العربي إلى الرواية البوليسية، لماذا؟ "باعتبار أن اختلاف المجتمعات في بنائها وحركة شعوبها وعاداتهم وتراثهم بالضرورة يؤثر على الأدب كثيراً، ولطالما وُصف الأدب بأنّه مرآةٌ للشعوب، يعكسها بألوانها التي عليها". ربّما العلةُ واحدة، لكنّ أساليب صياغتها تعدّدت، فنحن في مجتمعاتٍ عربية، بالرغم من إشهارات منصات التواصل؛ نسرُّ أكثر مما نعلن، ونُكبت أكثر ممّا نفجّر.

***

باقر صاحب - أديب وناقد 

 

تختلف الكتابة التاريخية عن الكتابة الروائية بشكل كبير جدا، الأولي تعتمد على الأحداث والوثائق والمذكرات والشهادات، والثانية وإن كانت  تعتمد على حقائق كما نراه في الروايات البوليسية، لكن يغلب عليها الطابع الخيالي، فتستقطب القارئ إليها خاصة الشباب والفتيات منهم، من خلال إعطاء للرواية طابعا رومانسيا، وقد ربطت زكية علال روايتها الرومانية بصور تاريخية عن أحداث وقعت واسماء لشخصيات ذكرتها كمرجعية، وهذا ما يدعو إلى مراجعة الأحداث ومراجعة التاريخ، تقول الروائية زكية علال في لقاء بيع بالتوقيع عن روايتها "برج شهرزاد" عشت الانكسار في حياتي الإبداعية ولم أجد من يدعمني ولذا أعمل علي دعم الكتاب الشباب لكي لا يعيشوا ما عشته.

فرواية الأديبة والإعلامية الجزائرية زكية علال بعنوان: "برج شهرزان" التي صدرت في سنة 2003 وشاركت بها في معرض الدولي للكتاب (سيلا) هي من الروايات التي تنقل القارئ من حدث لأخر، مع تنوع الأمكنة بسبب الهجرة / العودة، والحنين إلى المكان الأصل والوقوف على الأطلال، وفي هذا تقول الروائية زكية علال التي استضافتها مكتبة الإحسان بباتنة شرق الجزائر بمنتداها التي اعتادت تنظيمه كل يوم سبت تقول أن تكتب عملا روايا له طابعا تاريخيا عملية ليست سهلة وهي تحتاج إلى مراجع لتوظيف المعلومة التاريخية، فالروائية ربطت قصة (شهرزاد وسعيد) بشخصية تاريخية كانت وراء أحداث عاشتها الجزائر أيام الثورة وأسالت كثير من الحبر كونها اتسمت بالاغتيالات والتصفيات الجسدية بسبب التموقع، فالروائية زكية علال ذكرت شخصية تاريخية معروفة في تاريخ الجزائر، ألا وهو عبد الحفيظ بوصوف رئيس وزارة التسليح والاتصالات العامة ministère de largement et des liaisons générales، "المالغ" (M.A.L.G)، طبعا لا أحد يمكنه التنكر لما قام به المالغ بقيادة عبد الحفيظ بوالصوف، رغم أنه حسب (الكتابات التاريخية ومذكرات بعض المجاهدين) له علاقة بمقتل الشهيد عبان رمضان بالمغرب، فيما عرف بقضية الباءات الثلاث وهم: (عبد الحفيظ بوصوف، كريم بلقاسم والأخضر بن طوبال) ولا يسع الحديث هنا عن هذه الأحداث طالما الموضوع يتعلق بعملٍ روائيٍّ في مستوي الإبداع، استطاعت الروائية لفت انتباه القارئ حيث جعلته أسيرا لروايتها التي تروي علاقة فتاة اسمها شهرزاد بسعيد صديق الطفولة، لكن السؤال يكون كالتالي: لماذا اختارت الروائية اسم عبد الحفيظ بوالصوف بالذات ومدينة ميلة أنجبت قادة تاريخيين أيضا وهي ابنة المدينة وتعرفهم جيدا، ونذكر على سبيل المثال بلا الحصر اسم المجاهد "محمد العربي بن رجم" ؟، ففي مداخلتها تقول الروائية زكية علال أن بوالصوف اعتمدته في روايتها كمرجعية تاريخية دفعت الثمن غاليا لما قدمه من أجل الوطن لدرجة أن المعني لم يستطع رؤية أمّه وهي تحتضر، حين قدم إلى مسقط رأسه متخفيا.

قصة عشق بطعم تاريخي

و بالرجوع إلى هذا العمل الروائي تعرض الروائية في روايتها السالفة الذكر (برج شهرزاد) قصة امرأة اسمها حورية وابنتها شهرزاد التي تعلق قلبها بصديق الطفولة سعيد وكيف يموت سعيد وتنتهي الرواية بمأساة، تبدأ الرواية بخروج حورية (الأم) من برج الطهر بمحافظة جيجل (شرق الجزائر)، وتحمل بين يديها رضيعة، كانت معرضة للخطر، فتخفيها حورية في حضنها، لتهرب بها إلى ميلة القديمة، حيث لا يعرفها أحد، وهناك تجد في السور البيزنطي حاميا لها، ويقوم سعيد أحد أبطال الرواية برعاية الطفلة شهرزاد وهي رضيعة، وكان كلما يري شهرزاد تكبر وتزداد جمالا ينبض قلبه تعلقا بها حتى تحول الإعجاب إلى حب ثم إلى عشق، تأثر بها سكان ميلة القديم وسمعت صداها تلك البنايات القديمة المسقفة بالقرميد وأضحت قصة عشق سعيد لشهرزاد حديث العام والخاص من شباب المدينة، تتردد على السنتهم كلما تواجدوا بعين "بلد" وكلما وقفوا على اثار المدينة والسور البيزنطي، فمدينة ميلة العتيقة شهدت أحداثا تاريخية وتعاقبت عليها عدة حضارات، جعلت من الروائية أن تمثلها كصوت يدوي للحقيقة لم يستطع سكانها كشفها، وقد حبكتها الروائية وأعطتها صورة تاريخية لما أقحمت عبد الحفيظ بو الصوف الملقب بـ: سي مبروك في الرواية رغم وجود قادة تاريخيين ينحدرون من هذه المدينة التي لا تزال جدرانها تحكي عن أحداث علقت بأعيان المدينة وتذكر شبابها بالأحداث، وربما قصة سعيد وشهرزاد أيقظت التاريخ، وأعادت الحياة لشخصيات تاريخية تم تغييبها، رغم أن شخصية عبد الحفيظ بوالصوف لم تغيب، ولم تكن يوما مغيبة، بل فرضت نفسها في الساحة كلها وليس في مدينة ميلة وحدها، لأن هذه الشخصية لعبت أدوارا عديدة واشتهرت بالباءات الثلاث،عكس بعض أسماء شخصيات تاريخية وعسكرية التي تنحدر من نفس المدينة وهي اليوم نسيا منسيا.

في لقائنا بها بمكتبة الإحسان بباتنة تنتقد زكية علال الوضع الثقافي في الجزائر وهو من وجهة نظرها مزري جدا ومؤسفٌ، لأن الوساطات تلعب دورا كبيرا جدا، وأن حظ أدباء الداخل قليل جدا وصوتهم لا يصل بسرعة، لكنها كروائية تضيف زكية علال: أنا لا أستعجل، حتي لو طالت مدة كتاباتي ثلاثين سنة أو أكثر، فأنا أؤمن أن وصولي سوف يصل بعد رحيلي، لأن بعض الأفكار لا يستقبلها اجيال الآن لكن تستقبلها اجيال المستقبل، ولذا من الصعب أن تكتب من داخل الحرب، وهي تكتب تقول زكية علال أتمثل نفسي فاطمة داخل غزة، بين النار والحصار وانعدام المساعدات، ولا شك أن صورة فاطمة الغزاوية التصقت بها وقد عادت صورتها في 07 أكتوبر 2023، ويلاحظ أن كتابات زكية علال سواء في بعض قصصها أو في روايتها تأخذ بعدا إنسانيا، تقول: إن حب الوطن يسكننا حتي ونحن فاقدي العقل، فعندما تفقد العقل يبقي فيك الوطن، في ردها على سؤالنا عن سبب اختيارها شخصية عبد الحفيظ بوصوف بالذات بدلا من أسماء أخرى هي تعرفها، خاصة وأن كثير من الكتابات أكدت أن بالصوف هو من قتل عبان رمضان، لكنها وصفته بالإنسان، والإنسان الذي يملك الروح الإنسانية لا يمكنه أن يمارس العنف، بين بني جلدته، تقول زكية علال لو فتحنا الملفات سوف نصطدم كثيرا، وأنا أتفادي الحديث عن أمور مثل هذه، وقد أحالتنا هذه الروائية إلى مشهد من روايتها، أن سعيد بطل الرواية التقي ببوصوف وقد أوصاه هذا الأخير أمضي إلى الأمام، لأن بعض "الحماقات " ارْتُكِبَتْ قد لا يغفرها لنا التاريخ، لذا أوصيكَ بأن تمضي إلي الأمام ولا تلتفت إلي الخلف، هل هي محاولة لطي صفحة الماضي ونسيان ما حدث من أخطاء ؟ وغرس في أذهان الجيل الحالي والذي يأتي بعده ثقافة النسيان؟ الإجابة موجودة عند الروائية، حسبما جاء في الرواية، فإن سعيد كان يشبه إلى حد ما عبد الحفيظ بوصوف، وقد أدرك هذا صاحب محل اسمه عمي حمود (الصفحة 48) لما سأله سعيد من هو سي مبروك، ورد عليه عمي حمود بالقول: إنه صانع تاريخ الجزائر ومهندس ثورتها، وكان رد الطفل سعيد: كل كتبي المدرسية لم أقرأ فيها اسم عبد الحميد بوالصوف ليرد عمي عمود: يا ولدي مازلت صغيرا لتعرف من يصنع التاريخ ومن يكتبه (ص 51)، ومنذ ذلك الحين بدأ سعيد يقرأ عن سيرة بوالصوف وأصبح يقلده في لباسه وطريقة تسريحة شعره...الخ، أرادت الروائية أن ترسم لوحة للزعامة وكيف تظهر علاماتها ومن يستحقها، هذه الزعامة التي غالبا ما تنتهي بالتصفيات الجسدية مثلما حاول ابناء يعقوب قتل أخوهم يوسف (ص 53).

من وجهة نظر الروائية فهي - كما أضافت- تعالج القضية بغض النظر إلى الشخصيات، لأن الشخصيات تموت والقضية لا تموت، طبعا هذه وجهة نظر المتحدثة وقد تكون وجهات نظر مختلفة بين قارئ وأخر، لأن القضية إن ارتدت ثوب الجريمة (الاغتيال) وجب تحديد شخصية صاحبها هل هو إنساني؟ أم مجرد من الإنسانية؟، لأن الأمر يتعلق بالخيانة للرفاق، تستطرد زكية علال بالقول: كل ثورة لها أخطاؤها وأولوياتها، و الرواية هي حياة والكاتب يحتاج إلى أن يعيش حياة الأبطال، وكل شخصية روائية تحتاج إلى دراسة نفسية ومرافقة، وبما أن الكتابة في حد ذاتها قضية، لابد على الكاتب ان يناضل من أجلها، حتي يُخرج عمله الإبداعي في حلّة فنيّة وأن يستخدم أدوات الكتابة بطريقة ذكية يستقطب بها القارئ وبالتالي فكتابة الرواية ليست سهلة، ومن باب الإعتراف تقول زكية علام أن الروائي في الحقيقة لا يكتب التاريخ غير الباحث وغير الأكاديمي وغير المؤرخ، إلا أن الباحث والأكاديمي قد يغفل في كتابته الشخصية التاريخية وهنا يأتي دور الروائي، لأن الرواية عالم مدهش رهيب لا يمكن دخوله بدون سلاح، للإشارة فقط أن اللقاء أخد بعدا كبيرا من خلال تدخلات المشاركين فيه من مثقفين واستاذة جامعيين وأئمة الذي كان لهم تساؤلات وتدخلات مهمة بحضور مسؤول المكتبة الأستاذ محمد بن عبد الله فراح وهو صاحب دار نشر الإحسان بالجزائر، والروائية زكية علال معروفة في الوسط الإبداعي داخل وخارج الجزائر وهي كاتبة مخضرمة وإعلامية بإذاعة ميلة الجهوية، كتاباتها كما قال الدكتور عاشور ترقي إلى من يحمل همّ القضية وهي أيضا كاتبة قصص ولها رسائل، حيث عرجت بالحديث عن تقنيات كتابة الرواية العربية .

***

قراءة علجية عيش بتصرف

 

لا أدري كيف قفزت إلى ذهني رواية "طيران فوق عش الوقواق" لمؤلفها الكاتب الأمريكي كين كيسي، المولود في كولورادو العام 1935، وهي جزء من صيحة الستينيات التي رفعت موجة النقد ضدّ الحرب في الفيتنام، ناهيك عن كونها شهادة حيّة على حركة الرفض للحرب وعلى انطلاق حملة تضامن دولي غير مسبوق، وقد ترجم الرواية إلى العربية الكاتب السوري صبحي حديدي، وكنت قد شاهدتها فيلمًا في النصف الثاني من السبعينيات من إخراج المخرج التشيكي ميلوش فورمان، الذي كان يتحسّس أولى خطواته كلاجئ إلى الولايات المتحدة.

كانت استعادتي للفيلم حوار صحفي أجرته معي إعلامية لبنانية عن أن الكثير من الأبرياء يكونون خلف القضبان، في حين أن المرتكبين والمذنبين ما زالوا يسرحون ويمرحون، لعلّ تلك المقاربة قادتني إلى استحضار ما كان يجري في تلك المصحة العقلية التي جسّدها فيلم " طيران فوق عش الوقواق"، فربما هؤلاء الذين احتجزوا باعتبارهم مرضى عقليين قد يكونوا أكثر عقلًا ممن خارجها. حقًا يشعر القارئ والمشاهد بشكل خاص بالقلق والحيرة على المصير الإنساني، بل بالخوف أيضًا حين يشعر أن حياته تبقى معلقةً كجزء من هذا المجتمع مربوطة بخيط بمستشفى الأمراض العقلية في علاقة مرموزة ومتداخلة بين السلطة والناس، حيث تتحكّم الأولى بالثانية.

***

الفيلم يدور داخل مصحة للأمراض العقلية بالقرب من الحدود الكندية، تُدعى مستشفى أوريغون للأمراض النفسية، وقد اختار المؤلف المكان كجزء من العالم الداخلي الذي يعيش فيه هؤلاء المرضى النفسيين لوصف مأساة العالم الخارجي، والمقصود بذلك المجتمع الأمريكي، خصوصًا في فترة الحرب الأمريكية ضد الفيتنام، وتغوّل السلطة ضدّ مناهضي الحرب ورافضي التجنيد، وبالطبع فالمسألة لا تقتصر على المجتمع الأمريكي وحسب، بل تشمل عددًا من المجتمعات التي تعاني من الاستلاب والقهر.

وتزودنا الرواية بحبكة درامية بدراسة للسلوك السلطوي والعقل الإنساني، بما فيها نقد الطب النفسي، خصوصًا بعض تجريباته. وبقدر فرادة الرواية، ولاسيّما تصويرها لعالم القمع والمقاومة في آن، فإنها تنطلق من سؤال فلسفي هو: كيف تسيطر الحكومات على الشعوب وتصادر أحلامها وتسعى لتدجينها؟ ويتفرّع عنه سؤال آخر: كيف يمكن للشعوب مقاومة الطغيان ومحاولات الاستتباع والإذلال؟

وهكذا يبدأ الفيلم بالحيرة أو ضياع البوصلة ثم بالضجر لكي يعكس عبر الموسيقى طبيعة المجتمع الأمريكي، حيث الصراع بين الرغبة في التغيير وبين محاولة الكبح التي تقوم بها السلطات، وفي هذه اللحظة يمكن التعرّف على من يحاول الطيران فوق عش الوقواق.

***

أتوقّف عند حوار يدور في داخل المصحّة العقلية بين نزلائها، فيخاطب راندل ماكميرفي زملاءه داعيًا إياهم للتمرّد بقوله: إنكم لا تطيقون هذا المكان، لكنكم لا تمتلكون الجرأة للخروج منه، فماذا تحسبون أنفسكم مجانين أو ما شابه ذلك؟ تلك محاكاة لرفض الاستسلام والخنوع للأنظمة التي تحاول تطويع الناس وإخضاعهم بشتّى الأساليب لقبول نهجها.

ولعلّ دعوته إلى التمرّد دائمًا هي تحريض للناس على الاحتجاج والرفض وعدم الخضوع واليأس، علمًا بأن بعض من يقيم في المصحة العقلية مقتنع بذلك، بل أنه قابل بذلك بكامل رغبته لأنه يخشى لدرجة الرعب من الحياة خارجها. وعبر عملية منظمة تحاول السلطة ترويضه لقبول ما تقدمه له، في عملية أقرب إلى غسل الأدمغة تقوم بها لفترة طويلة وبالتراكم والتدرّج، وهذا ما شاهدناه من انقياد الناس في ظلّ الأنظمة الديكتاتورية إلى حكامها.

وحسب قراءاتي المتواضعة ومعلوماتي الشحيحة عن الفن السابع، عرفت أن فيلم "طيران فوق عش الوقواق"، هو أحد أروع الأفلام عبر التاريخ، ويبدو أن العنوان مستوحى من أغنية شعبية للأطفال "أحدهم طار إلى اليسار.. أحدهم طار إلى اليمين.. أحدهم طار فوق عش الوقواق" حسب أيوب واوجا.

أما طير الوقواق فهو فصيل من 26 نوعًا من الطيور الوقواقية، وحسب المنجد أنه طائر غريب الأطوار انتهازي وعدواني، فهو يغزو أعشاش الطيور الأخرى ويُبعثر بيضها، كما يقتل فراخها عبر رميها من الأعشاش مع إيهامها بطريقة مخادعة أنه قريب منها، وهو ما يعكس تلك  العلاقة المركّبة والمعقدة والفوقية بين السلطة التي تحاول استلاب حقوق الناس وسرقة قوتهم، وفي الوقت نفسه تسعى إلى إيهامهم بأنها تعمل لمصلحتهم، ولذلك تدعوهم لدعمها، ويبدو أن بعض المغفلين، وهم كثرة كاثرة يقتنع بذلك عبر الشحن الأيديولوجي وأساليب الدعاية والحرب النفسية والعديد من وسائل القوة الناعمة فيصدق ذلك عن طيب خاطر، في حين تٌمعن السلطة في إذلالهم برضا كامل من طرفهم.

هكذا يدخلون حروبًا ليست في مصلحتهم ولا ناقة لهم فيها ولا جمل، ويتصارعون ويختصمون لحساب أمراء الطوائف وقادة الكتل السياسية، دون إرادتهم أحيانًا فيجدون أنفسهم حطبًا لتلك الصراعات.

وقد لعب جاك نيكلسون (راندل ماكميرفي)، الممثل القدير الذي حصل على 5 جوائز أوسكار وجائزة أفضل ممثّل، دور البطولة وجسّد شخصية المتمرّد المليء بالعقد والجنون والعزلة، حيث يبدأ الصراع بينه وبين الممرضة الأساسية راتشد (لويز فليتشر)، وهي التي تمثّل وجه السلطة القاسي وقلبها الغليظ الذي لا يعرف الرحمة أو الشفقة، وهي تتعامل مع نزلاء المصحّة بلا رأفة أو حلم.

ويضطر راندل (نيكلسون) الذي يعبّر عن تطلّعات الناس إلى إنزال الشتائم بها، كجزء من ردّ الفعل على سلوكها، ويحاول أن يتفلّت من أنظمة المستشفى ويعترض عليها في رمزية إلى التمرّد على السلطة، فضلًا عن محاولة الزوغان عن مساءلتها، وحتى حين يبدأ بكسر النافذة ويفشل في الهروب، يقول عبارته الأثيرة "على الأقل قد جرّبت.. أليس كذلك؟".

المصحّة تمثّل المجتمع الأمريكي بجميع فئاته من عرقيات وأجناس بما فيها الهنود الحُمر (السكان الأصليون) وأصحاب البشرة السمراء، وهم الأكثر اضطهادًا في المجتمع في إشارة إلى الصراع والأحقاد والكراهية بينهم وبين البيض من جهة، وفئات أخرى من جهة ثانية، ويبرز المؤلف أن سبب الكراهية يعود إلى السلطة التي تشيع روح الثأر والانتقام، فضلًا عن عدم إقرار الحقوق المدنية كاملة على الرغم من نجاح الحركة المدنية في إقرارها قانونيًا في العام 1964 بقيادة مارتن لوثر كينغ.

ويصوّر الفيلم شخصيات أخرى مثل الزعيم الهندي الأحمر قليل الكلام لدرجة الصمت، وثمة من هو غير قادر على النقد أو التعبير وما عليه سوى تنفيذ الأوامر التي تصدرها الممرضة ذات القلب القاسي، والتي تجسّد سلطة الاستبداد، وهكذا يتعالى مشهد الصراع والتمرّد من جهة، ومحاولة فرض التسيّد والهيمنة من جهة أخرى، حيث يُظهر المؤلف قدرة هائلة على رسم ملامحها بدقة على نحو حي يتجسّد بصورة دراماتيكية في الفيلم والمقصود بذلك إفقاد الناس القدرة على التعبير، وإجبارهم على الرضوخ، بل  واستسلامهم لما تريده السلطة، خصوصًا في ظل الأنظمة الشمولية التوتاليتارية التي عرفتها دولًا عديدة منها الدولة التي جاء مخرج الفيلم منها، فالصمت هو مقياس النجاة، وحتى حين تعبّر السلطة عن تطلّعات الناس أو تفرض عليهم ذلك دون وجه حق، فإنهم لا يستطيعون أن يحتجّوا عليها.

ويعرض الفيلم مشهدًا تقوم به الممرضة الغليظة في التعبير عن رأي النزلاء في لعبة كرة السلّة دون أن يستطيعوا أن ينبسوا ببنت شفة، فقد ظلوا صامتين وهي من يجيب عنهم، والقصد من ذلك أن السلطة دائمًا ما تسعى للإنابة عن الناس حتى في التعبير عن أنفسهم وتطلعاتهم، وذلك في محاولة لخلق مجتمع يقوم على الرضوخ والتبعية ونمط التفكير السطحي الخانع، خصوصًا وأنها تضع العقبات والتحدّيات أمام الناس، بل تُبالغ فيها لإلقاء اللوم عليهم وتحميلهم مسؤولية ما يحصل.

***

حاول المؤلف، ويبدو بشكل أوضح في الفيلم، كسر شوكة السلطة وذلك بالاحتجاج والتمرّد عليها ومخالفة أنظمتها، حيث أخذ النزلاء سرًا في جولة للبحيرة دون علم المسؤولين عن المصحة العقلية، وذلك كي يُظهر إمكانية تحقق ذلك، وهو ما كان يقوم به ماكميرفي.

وتنطلق الرواية من فكرة أساسها العقاب كملازم للسلطة وداعم لها للاستمرار والتسلّط. وهي ما تقوم به بعض الأنظمة التي تعاقب المذنب والبريء. تقول بعض تجارب العالم الثالث نعدم من هو متهّم، فمن كان بريئًا سيذهب إلى الجنة وإن كان مذنبًا فهو ينال جزاءه العادل، وذلك جزء من تسويغ له طابع ديني، وثمة من يقول نعدم عشرة حتى لو كان بعضهم أبرياء فسوف نخيف الناس انطلاقًا من الزعم بادّعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة، وأن ذلك في مصلحة الثورة حتى وإن ذهب بعض الضحايا.

وهكذا يصبح العقاب غاية وليس وسيلة فحسب، والوسيلة هي التعبير الأكثر وضوحًا عن الغايات، فإذا كانت الغايات شريفة فلا بدّ من أن تكون الوسائل شريفة أيضًا، وتسعى السلطة دائمًا لدعم الاضطهاد السياسي والبوليسي بوسائل أيديولوجية بهدف السيطرة على العقول وعبر أساليب دعائية ونفسية، وحسب مفهوم السلطة، على الناس الانتظام في طوابير مثل مرضى المصحّات العقلية تعلّة أن أي خروج عن النظام يحتاج إلى تأديب وعقاب، مثله مثل التمرّد على السلطة أو الاحتجاج عليها فإنه يتطلّب علاجًا بما فيه القمع أو حتى زجّ هؤلاء بمستشفى الأمراض العقلية لإعادة التأهيل وللانتقام ولإظهار سطوة النظام، وبالتالي إشعار الجميع بالرعب، ذلك ما يعكسه جورج أرويل في روايته الإستشرافية 1984، التي كتبها في العام 1948.

***

ولمعاقبة المتمردين يعرض الفيلم عزل ماكميرفي في غرفة منفردة بعد إجرائه تداخل جراحي في المخ، لينتهي دوره ويُصبح بلا تأثير، وهو ما تسعى السلطة للقيام به دائمًا في علاقتها مع المعارضة، ومع قادة الرأي، ولاسيّما من النشطاء والمؤثرين. وحين يتحوّل المتمرّد إلى مجرّد جسم غير قابل للحركة يقرر زعيم المجموعة، الذي كان يعتبره ملهمًا، خنقه لأنه يعتقد أنه لا يريد أن يعيش مثل جثة هامدة بلا تأثير، وهو صاحب مشروع التغيير. وفي هذا الجو الدرامي المشحون بحبكات متداخلة ومعقّدة تتصاعد الموسيقى التي تتكرر من أول الفيلم إلى آخرة، فيهرب زعيم الهنود الحمر وهو أيضًا أحد المرضى "النفسيين"، ويتردد الكلام "طار فوق عش الوقواق".

الطريف أن مؤلّف الرواية لم يشاهد الفيلم الذي أنتج عنها، على الرغم من أن حلمه كان أن يرى الرواية التي كتبها للسينما في العام 1962 أن تصبح فيلمًا، ولكنه بعد عدّة أسابيع أقام دعوى ضدّ منتجي الفيلم، وبعد بضعة سنوات عثر على الفيلم في إحدى القنوات الفضائية فشاهده مستمتعًا به.

ويبقى فيلم "طيران فوق عش الوقواق" السبعيني من أكثر الأفلام التي تركت تأثيرها على المشاهد، وما يزال تأثيرها إلى اليوم.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكر

أليغوريا العذرية وحنان الأم المفقود في طفولة قاسية!

القسم الثالث: الأسلوب:

تنطبق مقولة "الأسلوب هو الرجل" على حسب الشيخ جعفر، فهو شخصية اصيلة ذات خصائص معينة تميزه عن الكتّاب الآخرين، مثل جذوره الريفية العميقة وانتقاله للدراسة في موسكو دراسة إبداعية وأكاديمية وانشغاله بالأدب وبالذات الشعر وتمعنه في اختيار المفردات، والابتعاد عن السياسة المباشرة.

يختلف هذا العمل عن الروايات العراقية السابقة من حيث التقنية والولع في تناول الفكر فهي "متحررة" من المونولوجات والتقريرية والأيديولوجيا، والبطل الإيجابي وحتى مفهوم الرواية باعتبارها "رحلة إلى العصر" مكرسة لكشف الواقع.

يقول الراوي عن مخطوطته الروائية" عندما تسأله حبيبته البطلة نينا بتروفنا "والناس؟ ألا تتحدث فيها عن الناس؟" فيجيبها "أحيانا أتحدث. ... وأحيانا لا. لا أريد لها نهاية". ص 308 

قد تكون قراءة الراوي لأعمال مثل "الصخب والعنف" لفوكنر و"أوليسيس" لجويس رغم أنه اعتبرها "أقل شأناً من (الحرب والسلم) " ص 294، ونتاجات سارتر وهمنغواي، الذي يوصي بدق الخشب خشية من الحسد وفقدان نعمة الراحة، دلالةً على رغبة الكاتب، وهو الخبير بأنواع الرواية لأوروبية، في خلق نتاجه السردي الخاص به بعيداً عن الأساليب الواقعية القديمة متجها نحو السلوك الوجودي للإنسان.

أعتقد أن الروائي حسب الشيخ جعفر "تأثر" بديالوجيا "المصروع" دوستوييفسكي وأهمل بوليفونيته، مبتعداً في لغته عن "الكونت" تولستوي كما يسميهما الراوي، إلا أنه متأثر بهما فكرياً، لكن لماذا لا تتعدد الأصوات هنا؟ هل لأنها تدور باللغة الروسية مع اناس محدودي العدد، "سوفييت" غير متنوعين في انتماءاتهم الاجتماعية، متعلمين يهتمون بالثقافة والأدب ويتواصلون بلغة روسية بلا لهجات مختلفة ومتنوعة، قد لا يتناسب مع نظيرتها العربية ذات المستويات المتعددة كالعامية والمحكية والفصيحة؟

"كان الحفل مكتملا... بدأ الرقص وكنت وأندريه في حوار (معمق) عن (السر الفني) في اختفاء الطبيعة الروسية الشيقة الحافلة من روايات دوستوييفسكي، بينما هي في المركز من اهتمام تولستوي.". ص 8

ويبدو أن حكمه هذا سيكون له أهمية في مسار الرواية ومغزاها.

يمكن ملاحظة ذلك في الحوارات الكثيرة التي تشكل أغلب صفحات الرواية، لكنها ليست ملاسنات ومناكفات بل ملاطفات ومطارحات و"مفاصحات" ومغازلات وأحاديث جميلة عن الأدب تفوق مستوى الأبطال في بعض المرات رغم تبريرات الراوي، بحيث تبدو وكأنها اصواته يوزعها عليهم على دفعات "بالأقساط".

يقول الراوي لجارته المهندسة ليوسا "لم أدر أنك متتبعة عالمة" بعد أن علقت قائلة عن الشاعر بايرون "لم يتعقل بايرون كما أعلم. بل مات بالحمى غريبا شريدا. ص147

وهو كما يبدو تبرير الكاتب لتناغم الأصوات وعدم تنافرها أو تنوعها وتعددها كما هو عند دوستويفسكي.

قد يبدو للقارئ أن أبطال الرواية لا همَّ لهم غير احتساء كوكتيل "البونش" الذي أعتبره أليغوريا خاصة من نوعها تعبر عن حالة التقاط الأنفاس والاسترخاء بعد الحرب وإعادة البناء والستالينة في الخمسينات والستينات. يقول الراوي "أوصينا على شمبانيا (ومثلجات) وهي أكلة روسية باذخة، قد لا تجد لها نظيرا في العالم كله ...". ص95

وأشير هنا إلى أن كوكتيل البونتشPunch هندي الأصل، خليط من الشمبانيا وعصير الفواكه بالمثلجات وبعض التوابل، انتشر في أوروبا عن طريق بريطانيا، التي اخذتها من مستعمرتها الهند في القرن السابع عشر.

ولا يعني أن البطل لا يعاني من الكاثارسيس Katharsis (تأنيب الضمير أو جلد الذات)، لكنها تأخذ أشكالاً مختلفةً غير شائعةٍ، وما ممارساته السلوكية الغريبة و"تضييع" وقته هنا وهناك وكأنه ينتقم من نفسه إلا تعبيرا عن حالة السأم التي يعاني منها كما أشرنا سابقا.

يعبّر هرونوتوب (زمكان) الرواية هنا عن الحالة الوجودية والنزوع نحو رغبات الإنسان كالتجوال في أماكن العاصمة: مثل سينما بروغريس قرب مترو الجامعة، فندق متروبول ص 164، شارع غوركي ص 174، مكتبة الآداب الأجنبية ص216، التي يقول عنها (ملجأي ومنزواي) ص89، مقهى البونش ص 216، وجنوب العراق نسبيا حيث ولد وترعرع وقرأ كتبه الأولى في المكتبة العامة والمدرسة وشارك في المظاهرات وتعرض للتوقيف.

أما وصف طبيعة العلاقات بين الأجنبي والروسيات في الستينات لها أيضا أهمية خاصة قد تفيد عند مقارنتها بفترة التسعينات وبعدها حيث تكونت صورة نمطية سلبية عن الشرقأوسطيين والمسلمين منهم بالذات. هل الأجنبي آنذاك مرغوب به في موسكو لأنه طالب علم وفكر وثقافة في بلد غير استعماري وليس لاجئا ولا عاملا مغتربا، أو لشكله الأسمر المغري أم بسبب إمكانياته المادية، وبالذات في هذه الحالة حيث يغدق الراوي عليهن بالهدايا الثمينة.

هل هي إدانة للنظام السوفييتي، الذي كان يعاني من ندرة السلع الكمالية؟ أم وصف لتقبل الأوروبيين الشرقيين والغربيين للأجانب في الستينات قبل أن تتكون الصورة النمطية السلبية عنهم؟

وتسلط الرواية أيضاً الضوء على أزمة شخصية الرجل الروسي في السبعينات، الغارق في الإدمان وتمزق العائلة الروسية، ناديا تطلق زوجها، ليوسا في طريقها الى ذلك، صديقتها تخون زوجها مع الراوي. أما البطلة الطبيبة الجميلة الخلوقة نينا بتروفنا فقد حافظت على عذريتها لتكون للراوي المترجم العراقي رغم أنه بعمر ربيبتها ناديا، مفضلة إياه على روسي سكّير!

هل نحن أمام أليغوريا تعبر عن مغزى الرواية؟ هل هو البحث عن رجولة البطل ونضجه، لا سيما وأنها لا تريد الزواج رسمياً منه بل تريده لربيبتها ناديا؟ لكن الرياح تجري بما لا تشتهي الطبيبة الحالمة نينا بتروفنا، فتفقد الاثنين الحبيب وابنتها الربيبة في حادث سير وبهذا تكون النهاية غير سعيدة، ليس كما تعودنا في روايات الحب التقليدية. وتبقى الطبيبة نينا بتروفنا تعيش لوحدها مع آلامها، لا شيء يدفّئ عظامها غير ذكرياتها الحلوة وحنينها إلى الماضي!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

في القصيدة المسافرة ومحاكاة واقعها لدى الشاعر اليمني القدير (محمد ثابت السميعي)

***

بَرْقِيَّـاتْ! 

مِنْ شاعرٍ

ألقى...وزُجَّ بأبعـــدِ:

لمْ أعتدي !

*

مِنْ طالبٍ

شَهِدَ الرصيفُ تَخَرُّجي وتَرَدُّدي:

ما بالْيَدِ !

*

مِنْ مُدَّعٍ

بعمامةٍ وبلحيةٍ وبمعْبَدي:

لا تقتدي !

*

مِنْ مُقْعَدٍ

- رِجْلاهُ تحْلُمُ بالغَدِ -

هاكمْ يدي !

*

مِنْ مُعْدَمٍ

ما نام دون تأَوُّهٍ وتَنَهُّدِ:

هاكُمْ غَدِي !

*

ما شِئْتُ هذا والذي

فَطَرَ النجومَ

لِنَهْتَدي !

***

 التمهيد والرؤية العامة للنص:

يؤسس الناص بإنفراج فكري بمفارقات تقاسيم من واقع مدان. إنها القدرة وقابلية الوعي على الإستيعاب العقلاني للأحداث والوقائع وتحديد موقفه منها.

فلا يكفي أن نعي الأشياء والأحداث المتسلسلة بالوجع زمانياً والمتموضعة مكانياً بل يترتب اتخاذ موقف ما، من ذلك الشيء أو الحدث اللذين وعيناهما ونراهما ونشعرهما بعيداً عن هيمنة المؤسسة السلطوية بكل أحكامها وايدلوجيتها الثقافية على موضوعة الفهم. والذي هو الأساس الأول لنشوء وتكوّن الوعي في عقلية الإنسان.

من هنا اعتمد شاعرنا على مبدأ (قدسية اللغة) الذي أدى إلى ترسيخ خطابه التخارجي الموجه والمحدد والمحكوم تعبيرياً وفق آلية (الدال والمدلول) وقاموسية المعاني في مصرع الحاجة التعبيرية لتواجد المؤثر والمحفز الواقعي المحزن وما تفرضه حتمية الموقف.

وما أضفى أيضاً تلك القدسية على اللغة النصية هو إرتباطها التلازمي مع (الدين) وقناعته من خلاله بحكم حالة التماس والتفاعل الإنساني ومشيئة التأثر القسري، لإخضاع الفعل الكتابي من خلال كل ذلك كما أبدعه الشاعر في نصه 24/9/2024

الإضاءة الكلية:

من منصة العنونة المتنية والتي هي الدلالة الكلية لمضمون النص ومرتكزه بالإنفتاح نمعن بمفردة العنونة

 //برقيات//

فالبرقية معجمياً هي آلية

 الإرسال الشيء من مكان لآخر أو بالأحرى إرسال رسالة مهما كان نوعها من مكان إلى آخر

ولكن الناص كان مهتماً بالإرسال مخاطِباً موجهاً حروفه من خلال البرقيات

لم يقتصد بالفكرة بمفردة برقية مثلاً

بل لجأ إلى صيغة الجمع (برقيات)

وذلك للتوزع الكلي لما رغبه من خلالها

ألا وهو الإنتشار / وتنوع الرسالة أو البرقية

وركز الشاعر على المؤشر الرمزي السيميولوجي

 أو السيميائي إشاراتياً بالنص كبنية كلية حدثية

// مِنْ شاعرٍ

ألقى...وزُجَّ بأبعـــدِ:

لمْ أعتدي !

فذاك الإعتداء الباطل

كان سبباً للزج

فالزج ترميز لتقييد حراك ذاك الشاعر

الذي أنفى التهمة عنه في زمن العفن

لقطة جمالية عالية الفنية

تعطي دلالة تقييد الفكر

فالعلامات السيميائية فعلية هنا دلالة الزج

فهو فعل ماضوي

لم اعتدي يعطي الزمانية الآنية الحاضروية مما يدعنا نرى امتداد الإعتداء بين ماض وحاضر أي استمراريته

فالعلامات السيميائية

ليست متباينة بل جميعها غايتها واحدة بالإرسال برقياً

ضمن كينونة النص

نجد (الناص) رتب اللقطات النصية بمعاني أبعد ماتكون عن الحشو فالقارئ الحصيف يتكيف مع الجمل ونتاج المعنى بعناية لأن عَرْض النص مقنع ومصور بوظيفية تلمح إلى المأساة العامة للخطاب

أي (الناص) رصد شعريته على مبدأ نقاء النوع الذي اعتمده وفرادته ضمن بنائية النص

بتوظيف الشعورية الأنوية إتجاه الآخر

// مِنْ طالبٍ

شَهِدَ الرصيفُ تَخَرُّجي وتَرَدُّدي:

ما بالْيَدِ ! //

على لسان ذلك الطالب يتكلم وهذا يدع المتلقي ينتابه فضول المتابعة الكلية

أشار إلى الحالة العامة تقريباً التي تحصل في مجتمعاتنا عن الطلبة المتخرجين

فالفعلية الماضوية: شهد

ووو

أخذتنا إلى زمكنية مؤكدة للصورة المرادة بهذا التعجب لما يحصل من خلال واقع مر

إذا لاحول ولاقوة أمام كل هذا الأمر

 ماباليد!

فالنص اتسم بالموضوعية وابتعد عن الذاتية المطلقة إلا من جانب الصوت اللفظي الموجه للآخر بثيمة وصفية تحيط الفقرات الشعرية

بالإحالة والانزياح بخروج معني واضح الاشارة والمعيار بإشتغالات تصويرية بكل فقرة

وبإستهجان ونهي على لسان

 مُدَّع

بعمامةٍ وبلحيةٍ وبمعْبَدي:

لا تقتدي !

دعوة لعدم الإقتداء

إعتمد الشاعر على المفردة الدينية للإثراء الحيوي للمعنى

فالمدعي عموماً: هو من يرفع دعوى للوصول إلى حقه قانوناً

 العمامة:

لباس عربي منذ القدم يحيط بالرأس

اللحية:

فرض لا يجوز تركه وأمر الرسول على وجوبه

فمن هنا كانت إشارة الناص لعدم هدم التراث الديني بهذا المد الديني المعكر

فالإفتاء هو صادر عن أهل العلم والفقه والخير وعن أهل المعرفة لا كما نراه حالياً وغالباً من أهل الفقه والمدعين في مستنقع الهدم للدين

الناص أكد على الجانب الصوتي غالباً بعلائق المفردة بكل التقاطة شعرية هذا الصوت خفي لكنه لاذع بالإرسال

 مِنْ مُقْعَدٍ

- رِجْلاهُ تحْلُمُ بالغَدِ -

هاكمْ يدي !

فهو الحلم المؤمل لذاك المقعد إلى قادم مضيء

وكان الإيثار مستفحل بالصورة المعطاءة

// هاكم يدي// التي صورت بكل فنية

فالمقعد:

هو المعاق والقاصر عن الحراك ويشار غالباً لمن فقد أطرافه السفلية

فالمُقعد يؤثر الأمل على ما تبقى لديه

حين يهب يديه إضافة الى إعاقته غاية انفراج قادم

فالمشهدية متمازجة بين ناسج الفكرة مع الآخر برؤيةٍ بل دعم وتبيان

 وهذا ما يسمى بالرسالة الموجهة المضمنة الخفية وهو جزء من أدب الرسائل القصيرة الموجهة والمحددة:

من شاعر... من طالب

من مدعّي...من مقعد

 ...من معدم

أي (من / وإلى)

هي التبادلية فالشاعر يتكلم بلسان الآخر

// مِنْ مُعْدَمٍ

ما نام دون تأَوُّهٍ وتَنَهُّدِ:

هاكُمْ غَدِي !//

إنه الغد المذبوح لذاك المعدم الذي أنهكته التأوهات والحسرة مع كل الألم

من ثم كان ختام النص المحسوم بيقين الناص وتأكيده

ما شئت هنا نفي للرغبة

أي الناص ما أحبّ ذلك

فهو يتخذ من نفسه

القيّم على الآخر ومابه

وكأنه هو المسؤول عن كل تنابذه وعن استنكاره وعن استهجانه وعن آماله

تلك المفارقات لم يكن الناص يرغبها لكنه أوصل ما يجب

 فيقسم "والذي فطر النجوم" بالله أنه لم يكن له يد فيها أي بذاك الخراب فهو يتنحى عن صفة الهدم لكنه أوصل رسالته

ومن بعد القسم يلجأ إلى العبرة والإرشاد إلى الصوابية

// فلنهتدي//

نجد رسالة لها طعم الاستنكار المحزن المبطون

 بالفعل الحاضروي ليعطي للفكرة متسعها الزمني الممتد وأيضاً لتأكيدية الحدثية الزمنية المستمرة

// ماشِئْتُ هذا والذي

فَطَرَ النجومَ

لِنَهْتَدي !//

فالوطنية لدى الشاعر هنا إلتزام اتجاه مايحدث هي مفهوم اخلاقي

ولم تنفصل الوطنية عن الحرية بالنسبة

 //جان جاك روسو// وجادل باستحالتها في مجتمع مستعبد

 فالناص كان التزامه أمام مايراه هو الإستنكار والاشارة

لأن الفرد له حق الحرية والحياة والحق الفردي كما أشار المفكر والفيلسوف الإنجليزي  // جان لوك//

البنية التركيبية استجرها الشاعر بكل مفاصلها إلى  الإلتزام إتجاه مايحدث  بمفهوم أخلاقي

  للمواقف فلقد سلم الشاعر برقياته إلى الآخر يدونها هو لتوسيع الفكرة العامة وللإستطراد بالفضول

فلغة  الناص:

الموجهة تُطلّ على منبر الروح كي نتغامى مع الكلمات 

أقول حَيّ على الجمال

ثم أتلو الصلاة بين تهجداته القيّمة وهذا الإنتماء الشعوري المتفاعل مع محيطه ومطباته بحرية الفكر والإشارة فلم يثنه توجس ابداً بل كان قلمه حراً غنياً ذكرني ناسج الفكرة بمقولة عن #جبران خليل جبران

// التجاهل انتقام راقٍ  وصدقة جارية على فقراء الأدب//

كانت اللغة المقتصدة بتعبيرية مقطعية منحازة لتكثيف الفكرة التي تنظم المفهوم الكلي لوحدته  العضوية

لتعطي إنطباعات اللحظة الشعورية لكل مقطع

لغة ذات صوان راسخ لم تغفل عن جفن الحقيقة لشاعر مبدع له اسقاطاته ومحموله الذي اعتمد بسياقاته على نشر الدالية الذاكراتية لدى الآخر أو المرسل من واقع قابع بالقهر

*

أ. محمد شاعر قدير ملتزم بمصداقية مؤثرة

كل التحية والود

***

إضاءة:

د. مرشدة جاويش - سوريا

 

** في البدء:

الشّاعر المبدع "عمر الغرسلّي" عرفناه إنسانا طيّبا نقيّ القلب كطفل.. هادئا كمتصوّف لا همّ له من الدّنيا غير حكمة المعرفة.. خجولا كشفق الغروب على مُحيّا قمّة الشعانبي.. وعرفناه خاصّة شاعرا متمرّدا هائجا مائجا في فجاج اللغة العربيّة كرياح الشتاء في ثنايا القصرين.. قصائده نابسة به وبزمانها في حداثة مُتشبّعة بمَعينها العريق رغم تنوّع التّجربة الشاملة للشعر العمودي والشعر الحرّ والقصيد النثري وحتى الشعر الغنائي ورغم أنّ الكثيرين دأبوا على خوض غمار الحداثة بواسطة استقدام مناهج الكتابة التي روّجت لها المدارس الغربية الجديدة وفلسفاتها.. إلا أن تجربة عمر الغرسلّي الثريّ رغم أنّه مقلّ تظلّ لصيقة بذاته المنفعلة بحدّة وهو يتفاعل مع ظروفه الخاصة حينا ومع ما يدور حوله في الواقع العام حينا آخر.. هي باختصار قصائد كتبها بأقصى ما في وسعه من حبّ للحياة ومن نقمة على قسوتها معه ومع وطنه وحضارته ..

** أمّا بعدُ:

حين نتأمّل ما ورد في مجموعته ما شعور الرّمح لو طالته أحزاني ؟ نلمس لغة متضرّسة حينا ومترقرقة آخر محكومة بالمفارقات والانزياحات الطّريفة منذ العنوان.. هذا الذي صاغه على هيأة إشكال مستفزّ في تركيب قلب منطق تراتبيّة الوحدات اللغويّة رأسا على عقب ... فلم يكتفي بأن يستفزّك بمعجم السّلاح الفتّاك (الرّمح) أو يستفزك السّؤالِ المثير للفضول (ما شعور...؟) إنما يذهب ليستفزك بهذا القلب لمنطق التّركيب (فالاصل ان يكون: ما شعور أحزاني / فؤادي لو طالها الرّمح؟) فتصبح الأحزان لعمقها وكثرتها أشدّ فتكا كن الرّمح.. ليحقق الانزياح بهذا الشكل التّجسيد المطلوب لهذا الإحساس الثقيل على القلب كما رمت إليه الصّورة الشعرية..

وتمتد

ونلمس أيضا كونا شعريّا قاتما مكفهرّا غارقا في عمق الوجدان تتنازعه شكوى ذاتٍ إنسانيةٍ مستاءة ورفضُ ذاتٍ أدبيّةٍ غاضبة.. وهذا لم يبيّنه العنوان فقط إنما يشفّ عنه ايضا الإهداء والتصدير (الإهداء: إلى أمّي التي أحسنت تربية الحبّ فيّ.. إلى الذين راقصوا الجرح تحت ظلّ الشّمسِ وتفنّنوا في مغازلة الموت كي تحيا القضيّة.. إلى أصدقاء المحنة في هزل الزّمنِ الصّعب.. إلى والدتي العربية..)

(التّصدير: لا تسقني كأس الحياة بذلّة

بل فاسقتي بالعزّ كأس الحنظل

كأس الحياة بذلّة كجهنّم

وجهنّم بالعزّ أطيب منزل عنترة)

الذيْن أعلنا عن تجربة ابداعيّة تتشكّل الذات فيها مُكابِدة: من جهة أولى لأزمة قدريّة مع الظّروف القاهرة التي أجبرته على مغادرة مقاعد الدراسة بموطنه والسّفر للبحث عن فرصة أخرى تتيح له إكمال تعليمه في العراق ثم العودة ثانية إلى تونس في ظروف حرب الخليج وبين الذهاب والإياب خيبات مريرة ومطبّات عسيرة وضياع حبيبة العمر بين صفحات الأمكنة والأيام.. فكان القصيد ملاذا ومتنفّسا.. كتب في ص 69:

(عندما يأتي المساء

يكبر الحزن فأُظهِر

أوراق الآلامِ شِعرًا

حتّى لا أبكي فأُقهَر)

ومُكابِدة من جهة ثانية لأزمة حضاريّة ضربت الامّة العربية في مقتل بضرب العراق بلد مشروع البعث الحضاري وبلد الشّعر ودور النشر وشارع المتنبّي والبحث العلمي والجامعات التي فتحت أبوابها للشّباب العربي قاطبة من طلّاب العلم .. وهذا له حضور مُلحّ واقعًا ورمزا في قصائد شاعرنا الذي كتب ""عراق الأمّة "" في أزمة العراق وقد ألقت بظلالها على سائر المنطقة العربية المستهدَفة بالخيانات داخليّا وبالاعتداءات خارجيّا.. كتب مخاطبا العراق في ص 56:

(قليل من الشوق ما عاد يكفي

لإرواء ظمأى بِحوش هوايا

في سجنك القلب يبقى أسيرا

وحبّك في البال أنقى القضايا...)

وكتب أيضا في ص 75:

(لم يعد لي ما يُجيد الصّدّ

والعمر قد مرّ موجوع الفصول

لم يعد لي ما يزول

بعد أن فرّ الأمان من بلاد العُرب

في هذا الزّمان وانتهى الحلم الجميل..)

لذلك كثيرا ما تداخل في قصائده عشق الحبيبة الضائعة بعشق العراق المغدور ليبدو الشاعر بينهما بمثابة (شهيد بغزوة حبّ)

وتمثّل قصيدة: "" ما شعور الرمح لو طالته أحزاني"" (وهي القصيدة الثانية والعشرون من بين أربع وثلاثين قصيدة) مَعين التّيمات وهي التي وهبت للمجموعة عنوانها كقصيدة جامعة تقاطعت فيها مختلف مقوّمات الكون الشعرى الممتدّ على سائر محتويات القصائد.. تمثّل الشّاهد الأوفى والأجلى على ذلك إذ ورد فيها خاصّة ص 86:

(أيها الحبّ الفريد

هذا وجهي يتغذّى القهر منه

بعدما ضيّعتُ ظلّي

وغزا الظّلمُ ديارا

صار فيها الخوف ربّي...

أيها الحبّ الكبير

لا تلمني.. لا تلم شبلا غريبا

مَوسق الحزنُ خطاه

فسرى كالرّعد مجروح الجمال

يقتفي للمجد آثارا أُبيدت

ربما يحيا قليلا كي يرى

في العُرب يوما تلتقي فيه الجبال...)

وقد أقام شاعرنا هذا الكون الشّعريّ المعبّر عن غربته العميقة بمختلف مستوياتها على خطاب شعري يضجّ بالسؤال المحيّر

والمستفز في عناوين القصائد (كقصيدة: مَن علّم الدّمع سجر العيون؟ ص 23 وقصيدة: متى تأتي؟ ص 114..) كما في متونها كقوله في قصيدة: عندما يصبح الموت امتيازا ص 38 التي بُنِيت بكاملها على تواشج طريف بين السؤال الوجوديّ

والسؤال الحضاري:

(أ في كلّ حين نموت؟؟

ونشعر أنّا انتهَينا

بوجه جديد نعود

ونشعر أنّا اختفينا

لظى الشّوق فينا يزيد؟ ..

أ نمضي..؟

نزوّق وجه الزّمان

برمي الورود..

وقتل الجحود

ورفض السجود؟)

كما تميّز هذا الخطاب الشّعريّ بتنوّع مستويات التّجريب اللّغوي _سواء في مهارة المجاورة بين المعاجم المتباعدة كقوله مثلا في ص 91 ضمن تنويعة من معاجم الرّحيل والهندسة والقيم والجغرافيا والوجدان.. عبّرت أحسن تعبير عن تنوّع مظاهر غربة الذات:

(تعبت من السفر الدّائري

ومن زمن التّيه والجبناء

وصارت لديّ حدود وصارت لديّ قيود..

بعد عينيك.. وصار لديّ قفاء..)

- أو في مستوى توليد المجازات.. ومثل ذلك ما نجده في ص 112 من فنّيّة تحويل مشهد الوصال ليلا إلى وليمة لذيذة لها طعم ورائحة:

(تعالَيْ.. فطعم الليالي بقربك أشهى

وللحبّ رائحة تتهشّم

فوق رصيف البلاد

وتشتاق نوما على شرفات الأصيل..)

أو في مستوى قلب موازين التّركيب وبطرق متنوّعة كما ذكرت سابقا منه ما بدا في العنوان او في القصائد / المتن.. كتب في قصيدة: كي نعود لنا ص 94

(لغة تتجمّل صمتا .. تربك ذاكرتي

تأتي لا ترحم لي صفة.. كي تعبث بي.. كي تبعثرَني

تأتي متجمّرة.. كي تسبح نيرانها في دمي

كي يسهر عند كلينا الهوى....

لغة تتجمهر صمتا

تأتي ممرّضة

تتأمّل أوجاعا لم يقلها الهوى

كي تنهل من تيهي...)

** وفي الأخير:

هذا نزر ممّا استَوقَفني من تجربة شعريّة مميزة تضيف أثرا ذا قيمة وجَودة إلى مدوّنة الشعر التونسي في مرحلة التّحديث اختار صاحبها ان يواكب زمانه برصانة دون مكوث عند مآثر الأصيل ودون احتذاء ببهرج الدّخيل فكتب مكابدته وألمه (ليس بسيف عنترة إنّما بوهجه السّاطع.. وليس بقلب جميل إنّما برقّته وعِفّته.. وليس بقرطاس المتنبّي إنما بعنفوانه وهيبته) فواكب مسيرة كوكبة من جيله الذين لم تناسبهم مخرجات مؤتمر الحمامات الأدبي فكتبوا جراح الذات والوطن بمرارة إحساسهم بسطوة الحياة عليهم وبسطوة غيلان العالم على وطنهم أمثال محمد الهادي الجزيري والمرحوم رضا الجلالي وآخرين. ...

***

كوثر بلعابي - تونس

"نينا بتروفنا كوكب درّي لا يُلمس بل تلتهب الأصابع قبل أن تلمسه.." ص 389

القسم الثاني: اللغة:٢-٤

حسب الشيخ جعفر شاعر عَلَم معروف ومترجم قبل أن يكون روائياً، يتميز بأسلوبه الخاص وطريقته في التعامل مع اللغة واختيار المفردات بحذر مما أثر كثيرا على أسلوب روايته "نينا بتروفنا" التي نحن بصددها في هذا المقال.

واللغة هنا عامل شد مهم بالنسبة للقارئ، لأنها رصينة وغنية بالأفكار ومتقنة ومحكمة وبعيدة عن الإنشاء، والصنعة المفتعلة والانطباعات السطحية، والتقريرية، وهنا شغلتني بمحاولة ترجمة حواراتها الى اللغة الروسية لأنها بالأصل دارت مع مواطنين روس، وتحولت القراءة إلى نوع من التفاعل بيني وبين الراوي.

لغة فيها مفردات مترجمة بشكل حرفي ودقيق من الروسية قد لا تتناسب مع الحوارات العربية المتداولة بين الناس العاديين، مثل "لنمتطِ المركبة" ص 123، "لا تتساخَ يا صاح" ص 128، "لا اتصال ولا انفصال" ص 129، اعتقد بالروسية (ني أتفيتا ني بريفيتا) لا جواب ولا تحية، او لا جواب ولا خطاب، "لا تتفاصح" ص147  "لا تتفكّه" ص 155، " أنا وحيدة... متشوقة وشائقة" ص 121، "تنتظر أضيافاً" ص 223، "منحة سخية" ص 164، "قل متعالمة" ص 183، "أباق بالشذى" ص 218 ، "عكاز عزوبته" ص 188، "لا أريد منك وشلاً" ص323، "اصطراع" ص 96، "جثوم الليل" ص101، "المخدع" ص 113، "لا تكن متخاشناً" ص 123، وأمثلة أخرى كثيرة تعكس رغبة الكاتب في التجريب والبحث عن الدقة وحث القارئ على التفكير بها. ليست اللغة هنا أمراً مفتعلاً أو متكلفاً، بل لها علاقة بموقف البطل من الحياة، وتأكيد على أليغوريته في البحث والتأني.700 Nina Petrova

بل إن الراوي يشير في حواره مع نينا بتروفنا، إلى مشكلة الترجمة من الروسية الى اللغات الأخرى "روسياً أنتم لا تقولون: شيطان يأخذك. كما يترجم عنكم العالم أجمع بل تقولون حرفيا: شيطان خذ أنت..." فتنصحه "فترجمها أنت كما تقولها"، يرد عليها "سأتَّهم بالخراقة اللغوية". ص 181 أو: لتأخذ الشيطان، أو ليأخذك الشيطان، لكنها قد تعني: أيها الشيطان، خذه!

وهذا ما يؤكد اهتمام الروائي باختيار المفردة في مشغله الأدبي بشكل خاص، لاسيما وأنه درس أساليب الكتابة الإبداعية في معهد غوركي، التي يمكن ملاحظتها بسهولة في هذه الرواية. أسوق هنا كمثال على ذلك عدم وجود Taoutology اي تكرار المفردة في الجملة الواحدة إلا ما ندر، والتي تعاني منها الكثير من الروايات العربية. قد يكون هذا بسبب طبيعة اللغة العربية والفرق الشاسع بين المحكية والفصيحة.

وييدو حرصه اللغوي واضحًا في ترجمته لمفردة "سكن عام"، فيستخدم الكاتب عدة مصطلحات مثل "المنزل الطلابي الجماعي" ص 17 أو المنزل الجماعي الطلابي" ص 193، والقسم الداخلي، لكنه ينتهي باستخدام المفردة الروسية كما هي في الأصل "أوبشيجيت". ص279

أما كلمة "داتجا" تُلفظ بالتشيم العراقية (جنينة، بيت ريفي، خارج المدينة، صيفي، ز. ش) فإنه يفضل أن يستخدمها كما هي بالروسية، و"يتحايل سردياً" كي يشرح معناها في حواره مع صديقته نينا بتروفنا. ص 367، ويقول "البريوزكا" ص 173 وهي اسم محلات السوق الحرة المعروفة في الاتحاد السوفييتي السابق، ومعناها شجرة الباتولا.

يبحث البطل هنا عن تحديات لإشباع رغباته الثقافية من خلال الدايالوجيا/ الحوارية عن الأدب الإنساني، لهذا فإن الكاتب يبين أن صديقة الراوي الشابة المهندسة ناديا تتقن الإنجليزية "فقد علمتها نينا بتروفنا هذه اللغة منذ صغرها. وهي تجيدها إجادة تامةً". ص 239

وتقرأ ناديا النتاجات العربية، التي يحب الراوي أن يناقشها معها، مترجَمَةً إلى الإنجليزية إذا لم تكن متوفرة بالروسية. "سأعيرك روايته عودة الروح" تسأله: "مترجمة الى الإنجليزية؟" فيجيبها "لدي ترجمتها الروسية". ص 77 

ثم يقترح عليها قراءة (البخلاء) ص 239، بل إنها تناقشه فيما بعد في أمور أصعب "اسمع. صاحبنا.. صاحب (البخلاء) ما اسمه؟ دعني اتذكر. هو الجاحظ فيما أظن. ما الذي أقعده عن كتابة الرواية أو القصة القصيرة مثلاً؟ لماذا اكتفاؤهم بالحكاية الصغيرة المليحة أو الخبر السار... حكايات إيسوب...ليست قصصا قصيرة...". ص 293

وفي مكان آخر من الرواية فوجئ البطل بأنَ إيرينا صديقةَ لووسا (ليوسا)، التي يتعرف إليها، مُستعربةٌ، بل يمكنها أن تُعينَه في الترجمة من الروسية إلى العربية! ص 382

هل هو تعبير عن الشوق والحنين الثقافي والرغبة في التزود به، لكن ليس مع "رهطه" كما عبرت "أمّه" وخليلته نينا بتروفنا بل مع الآخر!

وقد يتعين على القارئ في بعض الأحيان، أن يبذل المزيد من التركيز لفهم الحوارات بسبب انتقالات الأحداث السريعة، يقول الراوي لجارته لووسا: "وداعا لراحة الكرى كما يقول المغربي"، فترد عليه " بل قال، فيما أظن، وداعاً للألوية والأشرعة. وكما قلتَ أنتَ: أشرعتي، الليلة مرتفعة حتى الضحى". ص 148 ويقول في مكان آخر من الرواية "– قبل أن يستيقظ (المغاربة) ... لا تعكسي الحقائق. أنت (المغربية) البليغة. ص 239 وهي اقتباسات من شكسبير. والأمر نفسه في "اسخَ بمنحة على لحية المشجب البيضاء النحيلة الآن" ص 265، و"... لامتلأت الشقة دخان شك!". ص 136

ولا أعتقد أني ابالغ إذا ما قلت إن رواية " نينا بتروفنا" من الروايات العراقية الأكثر جدية وأهمية من حيث إدارة الحوارات وحماسة أو ما يسمى (Pathos باثَس) السرد المتواصل والديناميكي المكرس لفكرة معينة أراد أن يقدمها لنا الكاتب ليس بأسلوب الروايات الواقعية كما قلت سابقاً، بل على طريقة المزج بين (دايالوجيا) حوارية دوستويفسكي وأساليب فوكنر. ولهذا فإن النقاد المولعين بالطرق البنيوية وتحليل الخطاب الروائي إلى أنواع قد يجدون ضالتهم في البحث هنا عن تداخل نصوص متنوعة أو "تناصات" وميتاسرديات. وتصبح اللغة هجيناً من الرومانسية لتعكس حالة الوجد والهيام والإحباط والانتقالات السريعة تعبيرا عن الكاثارسيس (جلد الذات) ونهاية حالات التشرد، بالذات في الصفحات الأخيرة. " لا اريد أن أتزوج إلا نينا بتروفنا. ولا أحب إلا نينا بتروفنا. ومن المعتوه، كما قلت أنا مراراً، الذي يتخلى عن امرأة مثل نينا بتروفنا؟". ص 387 "...

إلا أن نينا بتروفنا كوكب درّي لا يلمس بل تلتهب الأصابع قبل أن تلمسه..". ص 389

***

د. زهير ياسين شليبه

 

تكمن مهمة الهايكو في إقصاء المعنى عند تشكيل خطاب مقروء (تناقض غير مقبول في الفن الغربي الذي يثابر من أجل ترسيخ المعنى من خلال تقديم خطاب يعتريه اللبس والغموض). لا يشبه الهايكو شيئًا على الإطلاق: هو نص بسيطً، واضح، مفعم بالبهجة والرقة - وفي كلمة واحدة، "شاعري"، إنه يطرح مجموعة متكاملة من الأشكال الجمالية التي لا تحمل معنى، إنه يشاكسنا حين يتخلى عن تلك الميزات التي منحناها له، ويعمد إلى تعطيل المعنى؛ الشيء الذي نعتبره غاية في الغرابة، وبذلك يجعل الهايكو تفسير النص - كممارسة طبيعية للغة - أمرا مستحيلا. لنتأمل النصوص التالية:

(1)

نسيم الربيع:

يمضغ الملاح ساق عشبه.

(2)

اكتمال القمر

على الحصير

ظل شجرة الصنوبر.

(3)

في منزل الصياد

رائحة السمك المجفف

والنار.

وأخيرا (وليس آخرا، فالأمثلة لا حصر لها):

تهب رياح الشتاء،

عينا قط

تومضان

مثل هذه الآشكال (تلك الكلمة الموسومة بالهايكو هي كجرح طفيف محفور على وجه الزمن) تحدد ما يمكننا تسميته بـ "الرؤية من دون تعليق". هذه الرؤية (الكلمة لا تزال غربية خالصة) في الحقيقة غاية في الخصوصية. لا يخدم الهايكو أيًا من الأغراض (فلا طائل مطلقا من ورائه) التي يصبو إليها الأدب، وأهمها (اقتناص المعنى)، فكيف له أن يقوم ببعض المهام كالإرشاد والتصريح والانزياح؟ على هذا النسق، تتصور بعض مدارس الزن التأمل في وضعية الجلوس كتدريب غايته ممارسة الطقوس البوذية، لكن البعض لا يقبل بهذه الرأي (الذي يبدو جوهريا): فغاية المرء من البقاء جالسًا هو " مجرد البقاء جالسا." "أليس الهدف من كتابة الهايكو (مثل كل الإشارات التي لا حصر لها والتي تميز الحياة الاجتماعية الحديثة في اليابان) هو " الكتابة " ذاتها؟

يخلو نص الهايكو من مهمتين أساسيتين في كتابتنا الكلاسيكية (البائدة): أولهما الوصف (ليس هناك وصف لسيقان عشب المراكبي وظل شجرة الصنوبر ورائحة السمك ورياح الشتاء، وقد خلت النصوص أعلاه من الدلالات والمعاني الأخلاقية التي تكشف عن حقيقة أو عاطفة ما : فالواقع لا يقبل المعنى؛ حتى الواقع لم يعد يتطلب معنى له)؛ وثانيا، لا يتحول التصريح إلى تلميح فحسب، عندما يكون مجرد إشارة، بل أيضًا إلى نوع من المظاهر الغريبة وغير الجوهرية للأشياء، كما تصفه إحدى حكايات الزن بطريقة لطيفة، حين يعرض السيد جائزة لمن يستطيع الإجابة على السؤال التالي: (ما المروحة ؟)، بالطبع ليس الفائز من يقوم بشرح إيمائي صامت وواضح لوظيفتها الأساسية (التلويح)، ولكن من يقوم بعديد من الإجراءات غير المألوفة ( كأن يغلق المرء المروحة ويحك بها عنقه، ثم يعيد فتحها، ويضع عليها كعكة صغيرة ويقدمها إلى السيد. ليس الوصف أو الشرح مهمة الهايكو (كما سأقوم، في نهاية المطاف، بتسمية أية صورة غير مترابطة وأي حدث من أحداث الحياة اليابانية بالشكل الذي يقدم نفسه لقراءتي)، يتضاءل الهايكو إلى أن يصبح لا شيء غير مسماه المحض الفريد. "هو ذاك، هو هكذا، هو كذلك، أو هو أفضل من : هكذا،" يقول الهايكو كل ذلك بشكل فوري ومختزل، (دون تردد أو تكرار). ليس المعنى سوى وميض أو شعاع من النور؛ كما يقول شكسبير: "عندما يخبو ضوء المعنى، يتجلى " النور الخاطف الذي يكشف العالم الخفي"؛ بينما يشع وميض الهايكو، لكن دون أن يكشف عن شيء؛ إنه وميض صورة فوتوغرافية يلتقطها المرء بعناية شديدة (بالطريقة اليابانية) دون أدنى اهتمام بتحميل الفيلم داخل الكاميرا. أو مرة أخرى: يعيد الهايكو استنساخ إشارة الطفل باتجاه شيء ما (لا يبدي الهايكو تحيزًا لموضوع)، وهو يقول: ذا! بحركة سريعة ولافتة (مجردة، إلى حد كبير، من أي وساطة: للمعرفة أو البحث عن مسمى للأشياء أو رغبة في تملكها)، إذن لا جدوى في الهايكو من تصنيف الموضوع: "لا شيء يتسم بالخصوصية،" هنا يتفق الهايكو مع روح الزن حين يمضي قائلا: لا يمكن تسمية الحدث وفقًا لأي تصنيف، فبدوائره الصغيرة المائزة: التي تشبه حلقة مزينة، يلتف الهايكو على نفسه، فالعلامة التي يتم رسمها، تُمحى: المحصلةُ لا شيء، يُلقى بحجر الكلمة لا لشيء: لا لإحداث موجات أو تدفقات للمعنى.

***

حسني التهامي - شاعر وناقد

............................

- ملحوظة: نشر المقال في مجلة البيان الكويتية.

للشاعر والروائي العراقي حسب الشيخ جعفر

أسمعُ بيانات ثورة الرابع عشر من تموز... بدأ العنف الدموي الذي لم ينته إلى اليوم بين القوى النيرة والقوى الظلامية

حسب الشيخ جعفر علم من أعلام العراق، درس الأدب ومناهجه في معهد غوركي الروسي، تميز بالتواضع والهدوء بعيدا عن الأضواء والأصوات العالية. من حسن حظه أنه لم ينشغل بالسياسة كثيراً ولم ينقطع عن التعامل مع الكلمة في الأدب شعراً ونثراً والترجمة والصحافة واتجه في السنوات الأخيرة نحو الرواية فبرزت قدرته اللغوية وعرف كيف يتعامل مع المفردة بعناية وتأن.

عرف بديوانه البِكر "نخلة الله" الذي انتظر تسعة أعوام قبل أن يصدره عام 1969، ودواوينه الأخرى مثل: الطائر الخشبي 1972 - زيارة السيدة السومرية وغيرها وترجم الشعر الروسي الى العربيه. وأصدر "رماد الدرويش" وروايته الرائعة "نينا بتروفنا" التي نحن بصددها في مقالنا الحالي.

هذه السردية واقعية لكنها غير تقليدية، تركز بالذات على سلوك الإنسان الخاص غير العادي في حياته اليومية ووجوده، إنه بطل العصر والزمان مغرم ولهان، لكن بدون معاناة "ليرمانتوفية"، يقارن نفسَه بالشاعر بايرون، "ماذا يتبقى من (ساعات فراغ) بايرون لنينا بتروفنا"حسب الشيخ جعفر. نينا بتروفنا. مَن أيقظ الحسناء النائمة؟ بغداد، دار المدى 2014، ص 249

القسم الأول: شغف الرواية

كانت بالنسبة لي متعة شخصية بالذات أن اقرأ رواية "نينا بتروفنا" للشاعر والروائي حسب الشيخ جعفر، (394 صفحة) المكرسة ظاهريا للعلاقات "الغرامية" بين روسيات و"ذكر" عراقي قادم من أعماق الجنوب يعمل مترجماً في موسكو، لكنها تطرح تساؤلات مصيرية كثيرة، وسيكون لها أهمية خاصة في السرد العراقي.

تركز هذه السردية بالذات على سلوك الإنسان الخاص غير العادي في حياته اليومية ووجوده وأزمته العميقة ومشاعره الداخلية في البحث عن الأنا والهوية، إنه بطل العصر والزمان مغرم ولهان، لكن بدون معاناة "ليرمانتوفية" ظاهرة كثيرا في تجلياته، يقارن نفسَه بالشاعر بايرون، "ماذا يتبقى من (ساعات فراغ) بايرون لنينا بتروفنا". حسب الشيخ جعفر. نينا بتروفنا. مَن أيقظ الحسناء النائمة؟ بغداد، دار المدى 2014، ص 249

إنها رواية مفعمة بالشغف   Passionبمتع الحياة العاطفية والثقافية والحماسة Pathos الشديدة لها، فالبطل عاشق لنينا بتروفنا وربيبتها وغيرهما من النساء الجميلات، لكنه منتم ٍللثقافة والتراث الإنسانيين شغوف بهما، ينهل منهما يوميا مستشهداً بالمفكرين الغربيين والشرقيين. ويبرر الكاتب حجم هذه الرواية، "لماذا أكتب هذا، لماذا الإطالة؟ أليس التلخيص هو الأجدى؟ ... سألتْ سيدةٌ الكونتَ تولستوي: ألم يكن بمقدورك تلخيص روايتك؟ إنها طويلة، فلم يمكنني أن أقرأها. قال الكونت: صدقيني يا سيدتي.. هذا أقل تلخيص استطعت التوصل إليه". ص 251

من المعلوم أن ليو تولستوي أعاد صياغة روايته "الحرب والسلام" إحدى عشرة مرة وفي روايات أخرى ست عشرة مرة. 

تدور أحداث رواية "نينا بتروفنا" في عاصمة مهمة، درس فيها آلاف الشباب من كل العالم، بينهم العديد من العراقيين، إلا انهم ليسوا بالضرورة تجولوا فيها وجابوا شوارعها مفتونين بها وبفتياتها كثيرا كما هو الحال عند الراوي، الذي تنقّل في أغلب أماكن موسكو وارتادَ مطاعمها ومقاهيها الشهيرة منذ الستينات. إنها حالة من التشرد والتجوال وحركة دائبة ومتواصلة ومستمرة تكاد أن تكون يومية في مدينة هائلة مثل موسكو، تحتاج الى الوقت والطاقة والإمكانية المادية، فهي إذن ذات أبعاد ودلالات رمزية وأليغوريا Aligori البحث عن شيء مفقود.

لكن عمَّ يبحث البطل في تنقلاته المكوكية الزمكانية المستمرة مكوناً "هرونوتوبات" Chronotope خاصة به؟ هل يبحث عن شغفه وحريته او عالمه الخاص به؟ هل هي تعويض عن ناستولجيا الحضارة السومرية وجنوب العراق الذي قدم أو "هربَ" منه؟ أم هي البحث عن الذات والأصالة ومقاومة شعور التهميش، الآفة التي تفترس المبدعين في الغربة، "لا بد من أنني (أجنبي) عاثر الطالع...في هذه المدينة الهائلة". ص155

وعندما تقول له نينا بتروفنا في نهاية الرواية "إن لك عالمين: الريف والمدينة" يصحح لها مؤكدا "بل القرية وموسكو" ص 367، ويردد "أعيتنا المواعيد، أنا الغريب، وأوكاري المناطيد..." ص 215، أو أنه هروب أو "تهرب" من علاقة متأزمة مع ماض ٍقاس ٍ اجتماعياً وسياسياً. تسأله صديقته الروسية فيما إذا كان هناك سيارات في قريتهم فيجيبها "لا وجود لها في أريافنا الجنوبية، ص 157.. أبي رجل دين.." ص 158، أم أنه مجرد إشباع الغرائز وتعويض عن الحرمان، كما حدثته فيما بعد، صديقتُه الشابةُ ناديا عن أول لقاء لها بالطلبة الأجانب قبل أن تتعرف إليه، "ما أحلى الجلوس معك في المقهى.. بين الأنظار المستغربة!... ملأى بالمتوحدين ... المقهى الصغير في الطابق الأرضي من فندق موسكو.. ما أكثر الطلبة الأجانب الوحيدين هناك! ... أخذوا يفترسوننا بنظراتهم الكاسرة، الجائعة افتراساً. من غير أن يجرؤ أحد منهم على الدنو منا. فانهزمنا لا خوفا منهم بل سخرية. يلوح لي أنني رأيتك جالساً بينهم". ص96  ونقرأ في الرواية" في ريفنا... كنت أرى اللقالق ... أما الطيور المهاجرة الأخرى القادمة من سيبيريا ... لم أرها إلا جثثا مقطوعة الأعناق تباع ..." ص 365، ويقول " كنت أذهب صباحا مرتجفا برداً، في ثوبي الهزيل إلى مدرسة القرية...كتبي ممزقة ...ويوقفني المعلم ...كأول تلميذ فاشل.." ص 166...وفصلت من الثانوية بعد (تزعمي) تظاهرة طلابية ثورية ... لم يبق من أحد يقود التظاهرة غيري وطالب كردي منفي من السليمانية إلى العمارة .... فإذا بي أسمع بيانات ثورة الرابع عشر من تموز... بدأ العنف الدموي الذي لم ينته إلى اليوم بين القوى النيرة والقوى الظلامية". ص 168

قد يكون هذا هو سبب "قطيعته" مع "مواطنيه ورموز" الوطن كما لاحظتْ صديقتُه نينا بتروفنا، التي "تقرعه" كما تقوم الأم بذلك مع طفلها " لماذا أنت (متعال) على (رهطك) و (متناء) عنهم؟" فيجيبها "لا صاحب لي بينهم.. إلا واحد أو اثنين" ص303، لكنه يحب "النخيل والبتولا" قبل الأشجار الأخرى. ص 182، وتعترف نينا بتروفنا في مكان آخر من الرواية بأنه مشرد فتقول له " أنت أصبتني بعدوى التشرد والسكر ...". ص 328

حتى عمله كمترجم ليس بلا متاعب نفسية وإحباطات " و(طفقتُ) أترجمُ. هي رواية من (القصص الروتيني) تصطنع من الإنجازات الصناعية ملهما لها. وما عليّ، أنا أترجم وأنا أعمل كأي (مستأجر).." ص 179 ويتحدث ايضا عن رفض عرض مسرحيات سارتر في موسكو لمجرد أنه انتقد النظام السوفييتي. ص 202

أم إن كل هذه الأسباب نتيجة حتمية لهذا الإحباط والتشرد وكأنه صرخة من أجل طلب المساعدة بحثا عن الانتماء في هذا الزحام!

ورغم إن هناك موقفاً أخلاقياً سلبياً من هؤلاء الأجانب المنشغلين دوما بالعلاقات المتعددة مع النساء، ومع ذلك أعتقد أن القارئ يقرأها بشغف كونها ليست إيروتيكية مبتذلة، ولقدرة الكاتب الكبيرة على إدارة الحوارات وقوة اللغة والأسلوب وتنوّع الشخصيات من خلال وصفها من الداخل كما سنرى في الأقسام الأخرى من مقالنا المكرّس لها. 

أنا بالذات قرأتها مستمتعا محاولا تذكر هذه المدينة العريقة التي عشت فيها مكانا تلو الآخر.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

(فَقَدَ الموت طرافته..

مذ صار خلوا من التواقيع)!!

استهلال مفزع جاء به الحطاب وصورة شعرية بمقاربة غير واقعية جسدها جواد ليقف والقارئ على مقربة من حقيقة شاخصة تتمثل بالموت، ورغم ما يحمله هذا القادم من شؤوم إلا أنه بحاجة فعلية للكثير من التواقيع ليتم تجسيده واقعا في الحياة، ومن غير تلك التواقيع تتغير المعادلة ويكون الموت جريمة وليس الحق المعتاد والمقسوم في الغيبيات على البشر دون راد لتلك القدرة التي يمثلها الموت، الذي إن وقع كان تجسيدا لحالة مفروضة. لكنها بلا تواقيع جريمة.

في الصباح ذاته..

في الساعة ذاتها..

يروح لساحة النصر

.. يجمع أطرافه التعويضية

ويؤدّي التحيّة – بإنفعال - للتمثال

منصتا، بشكل دؤوب

لخطاب جنراله المنتحر..

(.. يراقبه الشحاذون بإرتياب

ويفكّر صبّاغ الأحذية الصغير

: ما شكل الفردة الأخرى ؟!!

.. ولنفسه، يتمتمُ المسرحي:

يصلح – هذا الكاركتر- لتسلية الأطفال..)

صورة تعويضية بتوصيف دقيق، ذهب إليها الحطاب للإشارة إلى أولئك الذين شاركوا وعايشوا الموت ومشوا في دروبه وخبروا طرقاته، لكنهم نجو بتواقيع أخرجتهم من دائرة الحطاب الموصوفة بالموت بلا تواقيع، أفادتهم اصاباتهم وابتعادهم عن تلك الدائرة القاتمة الموحشة التي رسمها جواد لينبذ من خلالها (هيبة الموت) ويوزعه مجاناً بلا تواقيع، وهذه كارثة تنبه الحطاب وأفرد لها خطابا وجدانيا دون رتوش، والقصيدة إشارة ومغزى فهل تفهم من خلالها شفيرة الموت التي أرسلها جواد.

أطراف تعويضية أخرجته من دائرة الموت ولازال مصراً أن يتبع جنراله (المنتحر) وذلك توصيف بدلالة الفعل أراد منه الحطاب الإشارة إلى سلوك القطيع، فعلى الرغم من خروجه من تلك الدائرة المرعبة لازال يتقمص دوره السابق ليتبع، وتلك أيضا إشارة في اللاشعور، وقيل أن العقيدة بكل توصيفاتها هي لا شعور سواء كانت في (الدين، السلاح، العرق، الطائفة، المجتمع).

الصورة التي جاء بها الحطاب تعويضية أيضا مثل أطراف ذلك المقاتل التابع للجنرال المنتحر، وفي التعويض أيضا أكمل الحطاب مشهد الصورة الشعرية بحضور الجنرال على هيئة تمثال، لكنه في اللاشعور حاضر يقينا، هي عملية استدراج القارئ من خلال محاور الصورة التي تعددت عند جواد الحطاب وكانت لاتضيق على دائرته رغم أن المشهد الذي جاء به ليس بالجديد، لكنه أجزم أن يحمله مزيداً من التهويل في المماثلة والتوصيف فقربنا من خلاله إلى مشاهد نعرفها ولمسنا منها الكثير وعايشنا تجارب أصحابها فهي واقعية بالنسبة لنا، لذلك كان تناول الحطاب لها حقيقيا حين جسدها بواقعية رمزية دلالية.

2-

في الليلة ذاتها..

في الفراش ذاته..

يرزم أحلامه، تحت رأسه، بأكياس معتمة

وينام على الجرائد أسفل الجسر

..

يتذكّر بإنكسار

كيف أخفت حبيبته بين سوتيانها

وسامه الحربي، الذي لم يعجب تاجر الانتيكات.

وفي الثانية جاء الحطاب باللاجدوى كتأويل مقرون بالوصف لتبيان الخيبات المتراكمة التي يوصف بها القطيع لكنها مستترة في النص مقارنة بواقع مآل الأمور فلا الأوسمة تقبل ولا تقلبات الحياة مقبولة نظير ما قدموا (كيف أخفت حبيبته وسامه الحربي بين سوتيانها)، (وينام على الجرائد أسفل الجسر).

هناك في اللاشعور خيبات عدة ومفردات تعبر عن إنكسارات يغطيها المكنى بأحلام وصفها الحطاب بالمعتمة حين أخفاها بالأكياس وهي كناية عن عدم الأفصاح عن الحقيقة التي يعرفها صاحب الأطراف لكنه يخفيها بتأويل (تحت رأسه) لأنها أحلام.

ثم يأتي الحطاب بتأويل أخر يجسد الفقد في حياة ذو الأطراف فيقول (وينام على الجرائد أسفل الجسر)، أشارة لشريحة قدمت ثم عانت وبات أصحابها يعانقون الفشل والفقد والحرمان (مشردون)، واقعية مأساوية نقل خلالها الحطاب واقع مزري لكنها صرخة تدوي بصداها في أرجاء الإنسانية التي فقدت حياديتها وما عادت تجسد واقع مسماها، تصوير مدهش لواقع مرير، وتلك الميزة التي يوصف بها جواد الحطاب فهو يكتب بألم وتجسيد لمعاناة واقعية وليس بتوصيف خيالي أو تزويق يشوش على الصورة أو أن ينقلها بغير ما هي عليه.

الموت هو الحقيقة الوحيدة الشاخصة وبإصرار، وحين يكون بلا تواقيع يفقد هيبة طقوسه وقداسته الشكلية، ومنها ذهب الحطاب ليبني نصه المهول في دائرة اللاشعور وداخل السخرية فيه ليخفف من وطأة أو حدة فكرة الموت التي تعبر عن حقيقة متفردة في مشهد الحياة التي أن خلت ساعتها من التفاصيل سيفرغ الحدث من محتواه، وتكرس تفاصيله ماثلة بالأداء الذي لايخلوا من اجراءات وروتين وتواقيع كي يكون شاخصا ملموساً بما فيه من توجس.

كتب الحطاب نصه قاصدا اللاشعور ليعكس من خلاله الحقيقة التي يمثلها (الموت)، لكنه داخل الحقيقة بما يخفف وطأتها حين حول المشهد الجنائزي للموت ب(كاركتر) يضحك منه الأطفال.

لا أدري ربما يتذكر من يقرأ نص الحطاب هذا (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه) التي جسد فيها ماركيز عزلة الجنرال وانتظاره، وهنا جاء الحطاب ليجسد انتظار البطل في النص خطاب جنراله المنتحر، والذي اعتاد الوقوف أمام تمثاله مؤديا التحية متخيلا استمرار خطاباته.

عناصر عدة عمل عليها الحطاب في نصه (تداخل، تشبيه، تأويل، تكرار الصورة، دقة التوصيف، المكان، الزمان، الشخوص، الصفات) وغيرها جسدها جواد الحطاب بدقة ليمنح القارئ صورة رائعة مقترنة بالتأويل الحسي واللفظي يوضح من خلالها أن اللاشعور يخلق أجواءً تضفي من الرمزية الكثير على حياة الأشخاص، وأن الحقيقة قد تتماثل أو تتغير إن لم تكن وفق نمط الاعتياد، أي أن خاصية التعود تأخذ بالإنسان ليكون من ضمن القطيع بتصرفه وذلك ما يعكسه سلوكه وتصرفه.

لذلك عمد الحطاب لتبيان أن الليل (العتمة) تنقل إيقاعات تختلف والتصور الحسي والمنطقي المعتاد عند الإنسان، لكنها الفكرة والتعود واللاشعور ما تجعل الأنماط تختلف.

قصيدة هائلة مهولة بنيت تفاصيلها بواقعية منطقية، نقل من خلالها جواد الحطاب التناقض مابين الواقع والحلم، والأصرار والاعتياد الذي يخلق حالة التعود وفق سلوك القطيع، لكنه فاجئنا كقراء أو دارسين للنصوص بفكرة تحول الموت (وهي حقيقة) إلى جريمة حين يخلوا من التواقيع.

3-

في البلدان، التي تشبه ساحاتها، ساحة نصره

ربما محاربون مثله،

جنرالات منتحرون مثل تمثاله

.....

يتسلّلون من دون موتوسيكلات حراسة

ومن الخراطيش الفارغة..

من أزقّة السبطانات

يتوالدون بذاتهم

ويندلقون، طبولا، نحو سنتر المدينة

فيمتلئ الليل بإيقاعات أطرافهم الخشبية

في هذا الزمن المتخلف عن الإنسان..

***

سعد الدغمان

 

قراءة في قصة "استجمام" للقاصة نضال البدري

قصة *"استجمام"* تقدم دراما إنسانية شديدة العمق والتأثير، حيث تسلط الضوء على هشاشة العلاقات الزوجية أمام الإغراءات الخارجية والخيانة..

تدور القصة حول انهيار الثقة بين زوجين، إذ يعود الزوج من رحلة "استجمام" حاملاً معه مرض الإيدز، الذي يصبح رمزاً لانحلال القيم وتدمير الأساس الأخلاقي للعلاقة الزوجية..

الزوجة، التي بذلت كل جهدها لإحياء العلاقة بروح مليئة بالحب، تواجه خيانة جسدية ونفسية تتركها بين الألم والغضب والحيرة..

النص يُبدع في تقديم صور سردية مفعمة بالرمزية، مثل الكرسي الهزاز الذي يعكس جمود الزوج وتردده، والبريد الإلكتروني الذي يفضح الأسرار المخفية. القصة تتناول ببراعة موضوعات الخيانة، المسؤولية الأخلاقية، وصراع الضمير، مع إبراز التناقض بين الحب والغدر، والتضحية والأنانية..

السردية بين التصوير الواقعي والرمزية

النص يتألق بلغة سردية سلسة، تمزج بين الواقعية المرهفة والرمزية العميقة، مما يمنحه عمقاً وثراءً أدبياً يلامس الوجدان. ففي التفاصيل.. الأحمر الشفاه والعطر الفرنسي تتجاوز كونها مجرد عناصر وصفية لتصبح رموزاً نابضة برغبة الزوجة في إحياء شغفٍ تكهنت انه صائر الى الافول واستعادة ما تبقى من وهج العلاقة.. الكرسي الهزاز، برتابته الموحية، يعكس ركود العلاقة وانعزال الزوج وتقلقل عالمه الداخلي المثقل بالتناقضات. الحوار النفسي المكثف يفتح نوافذ على صراعٍ داخلي يشتعل تحت السطح، بينما تتنامى الأحداث بذكاءٍ درامي يشد القارئ في رحلة تتقاطع فيها التفاصيل الحسية والرمزية مع عمق المشاعر الإنسانية وتصادمها الموجع.

إشكالية الوعي والضمير

يتناول النص إشكالية عميقة تتشابك فيها خيوط الوعي والضمير الإنساني، كاشفاً عن صراع الفرد بين نزواته الأنانية وإحساسه العميق بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الآخر. المرض، الذي يبدو في ظاهره جسدياً، يتحول إلى رمزٍ عميق لتحلل العلاقة الزوجية وتآكل القيم التي كانت تجمع الطرفين. يتجلى سؤال فلسفي مؤرق: من يتحمل عبء الانهيار؟ وهل الغفران بما يحمله من تضحية، أو الانتقام بما ينطوي عليه من تشفٍ، يملك القدرة على تضميد الجراح التي خلفها الخذلان؟ النص يترك القارئ أمام فضاء مفتوح للتأمل، ليعيد تشكيل فهمه لمعاني المسؤولية، والتكفير، واستعادة الذات الممزقة.

الخيانة وآثارها المدمرة

تغوص القصة في عمق أزمة الخيانة الزوجية، كاشفة عن تشظي الروابط الإنسانية في مجتمع يقدس الأسرة كركيزة أساسية للوجود. تجسد الزوجة رمزاً للوفاء والتضحية، وهي تواجه خيانة تقوض أسس كرامتها، لتتحول حياتها إلى مرآة تتصدع تحت وطأة الانكسار. أما الزوج، فيمثل انحرافاً أخلاقياً مأساوياً، إذ يسعى خلف لذة عابرة تُعميه عن التزاماته العميقة ومسؤوليته تجاه شريكة حياته. النص يعكس تراجيديا اجتماعية تصارع فيها القيم الأخلاقية انهياراً صامتاً، ليبرز السؤال الموجع: كيف يمكن للخذلان أن يمس قداسة الحب؟ وهل يمكن أن تولد القوة من ركام الخيانة؟

ضحية النظام القيمي

الزوجة في النص تجسيدٌ حيّ للصراع الإنساني بين قيود النظام القيمي الذي يفرض أدواراً جامدة، وبين نزيف المشاعر الذي يفيض بالحب والخيانة معاً. ليست الضحية مجرد خيانة شريكها، بل هي أسيرة قيمٍ تقيد إرادتها، وتجعلها تتموضع في فضاءٍ متأرجح بين عشقٍ يربطها به وكرامةٍ جريحةٍ تأبى الاستسلام. تتناوب في أعماقها موجات الحيرة والغضب، والرغبة في الانتقام، مما يمنح الشخصية أبعاداً إنسانية عميقة تُلامس الوجدان وتفتح أفقاً لتأويل أوجاعها بعمق وتعاطف مهيب.

القيم وغيبة الضمير

يتجلى البعد الديني في النص عبر استحضار فكرة "غيبة الضمير"، كصرخة مبطنة تدعو إلى يقظة أخلاقية تعيد صياغة السلوك الإنساني في ضوء القيم. يوظف المرض(الإيدز)، في رمزية عميقة، كعقاب دنيوي يحمل رسالة إلهية تُنبه إلى أن الأفعال لا تنفصل عن عواقبها. النص ينسج برهافة تأويلات ترتكز على العدالة الإلهية والجزاء الأخلاقي، ليطرح تساؤلات عن حدود الغفران ومسؤولية الفرد في استعادة التوازن بين الروح والجسد في مسار حياته.

المرض وتحلل العلاقة

في القصة، يتجاوز المرض كونه حالة جسدية ليصبح رمزاً لتحلل العلاقة الزوجية وانهيار القيم التي كانت تشكل أساسها. يُعبر المرض عن الانعكاس الداخلي للفساد الأخلاقي الذي ينهش الروابط الإنسانية، حيث تبرز الزوجة، التي "عفرت شعرها بعطر فرنسي"، كصورة يائسة لرغبةٍ في إحياء جذوة مشاعر تخبو في ظلال الخيانة. أما الزوج، فهو تجسيد للاغتراب والانفصال، مستغرق في مطاردة لذائذ زائلة خارج حرم الأسرة. النص يُحاك برمزية عميقة تكشف عن هشاشة الروابط عندما تغيب القيم، وتطرح تأملاً في جدلية الخلاص بين المحاولة والاستسلام.

العنوان: "استجمام:

العنوان "استجمام" يحمل مفارقة مؤلمة تُبرز التناقض بين دلالته الظاهرية ومعناه العميق في النص. فالاستجمام، الذي يُفترض أن يكون فسحةً لاستعادة الصفاء والعافية، يتحول هنا إلى نقطة انكسار تكشف عن انهيار القيم والروابط. عودة الزوج من رحلته حاملاً المرض والخيانة تجسد مأساة البحث عن الراحة في مسارات خالية من البعد الأخلاقي والروحي، مما يُبرز أن الصفاء الحقيقي لا يتحقق إلا بالتماسك الداخلي والالتزام بقيم سامية. العنوان بذلك يفتح باب التأويل، ليصبح انعكاساً لحالة إنسانية تتقاطع فيها الراحة الظاهرية مع عمق الجراح الباطنية التي لا تُشفى بسهولة.

المراسلات الإلكترونية:

المراسلات الإلكترونية في القصة تُلقي الضوء على ازدواجية شخصية الزوج، كاشفةً عن تناقضه بين قناع اجتماعي مثالي وخطايا خفية تتوارى خلف شاشات الزيف. تلك الرسائل ليست مجرد وسيلة تواصل؛ بل هي مرآة تعكس نفاقاً داخلياً يُحاول إخفاءه بمهارة، لكنها أيضاً تُمثل رمزاً للشفافية القسرية التي تفرض نفسها في عالم لا يحتمل دفن الأسرار طويلاً. البريد الإلكتروني، ببروده التقني، يفضح الحميميات الممزقة، وكأن الحقيقة تجد دائماً طريقها إلى الضوء، مهما سعى صاحبها إلى دفنها في ظلال النسيان.

ازدواجية الزمن

القصة تتنقل بين زمنين متباينين: زمن الزوجة التي تكافح لإصلاح ماضيها المثقل بالألم، وزمن الزوج الذي يظل غارقاً في أوهام لذائذ عابرة، يلهث وراء لحظات زائفة من المتعة. هذه الازدواجية تكشف عن انفصال عميق في الأولويات والرؤى بين الزوجين، حيث تتجسد الفجوة في العلاقة الزوجية التي تتآكل تحت وطأة التناقضات. الزمن في القصة يصبح مرآة لحالة من الضياع الداخلي، حيث لا يتلاقى الماضي والمستقبل إلا في مفترق الألم والخيبة.

الكرسي الهزاز:

الكرسي الهزاز، بما يثيره من حركة مستمرة بلا تقدم، يصبح رمزاً دقيقاً لحالة الجمود والتردد التي يعيشها الزوج. هو يجلس في مكانه، لكن حركته لا تقوده إلى أي قرار حاسم، بل تعكس انعدام القدرة على التغيير، كأنما هو أسير دوامة من الأفكار المتناقضة. الكرسي يصبح تجسيداً لعجزه عن المضي قدماً، ومرارته في مواجهة الحقيقة، حيث يستمر في التذبذب بين الاستقرار والتشتت، دون أن يجرؤ على اتخاذ خطوة جذرية نحو التغيير.

البنية السردية:

القصة تتسم ببنية سردية محكمة تتصاعد بمهارة، حيث يبدأ الإيقاع هادئاً كالماء الساكن، ثم يتسارع تدريجياً مع ظهور المرض كعلامة على بداية التفكك. مع مرور الوقت، يتصاعد الصراع النفسي والأخلاقي ليصل إلى ذروته، مما يعكس بصدق انهيار العلاقة الزوجية الذي يحدث تدريجياً، كأنما كل خطوة هي فصل جديد من الألم والخذلان. هذا التدرج ينسج بنبرة درامية تنبض بالحياة، مما يسمح للقارئ بالغوص في عمق التوتر الداخلي، وتداعياته المدمرة على الشخصيات.

نقاط القوة الإبداعية:

- التصوير الواقعي: استخدام التفاصيل الدقيقة، مثل عطر الزوجة ورسائل البريد الإلكتروني، يجعل القصة محسوسة وقريبة من الواقع.

- الرمزية العميقة: كل عنصر في القصة يحمل دلالة تتجاوز معناه الظاهري، مما يمنح النص عمقاً فكرياً وفنياً.

- الصراع النفسي: التركيز على العوالم الداخلية للشخصيات يجعل القارئ يتورط عاطفياً وفكرياً مع القصة.

رد الخيانة بالخيانة:

الخاتمة، بنهايتها المفتوحة، تنسج تساؤلاً أخلاقياً مؤرقاً يتجاوز حدود القصة ليغوص في أعماق النفس الإنسانية: هل يمكن للخيانة أن تُكفَّر بخيانة مقابلة؟ أم أن الانتقام ليس سوى دوامة تُعمّق الجراح وتُعيد إنتاج الألم بصورته الأكثر قسوة؟ ذلك الصوت الداخلي الذي يهمس للزوجة "افعليها لو استطعت" هو انعكاس لصراع داخلي عنيف بين قيمها الأخلاقية التي تحاول الصمود، ورغبة دفينة في استرداد كرامتها بطريقتها الخاصة. النهاية، برمزيتها، لا تطرح إجابة بقدر ما تفتح للقارئ فضاءً للتأمل في حدود الغفران، جدوى الانتقام، والطريق نحو التوازن بين العدالة والسلام الداخلي.

الخلاصة:

قصة *"استجمام"* تقدم مرآة للواقع الإنساني المعاصر، حيث تُبرز هشاشة العلاقات أمام إغراءات العالم الخارجي، وتأثير السلوك الفردي غير المسؤول على المصير العائلي. من خلال لغة سردية عذبة ورمزية غنية، تنجح القصة في استكشاف موضوعات الخيانة، المسؤولية، الغفران، والعدالة الأخلاقية، مما يجعلها نصاً أدبياً عميقاً وملهماً..

اللغة المكثفة والوصف الدقيق يمنحان النص قوة أدبية، فيما تثير النهاية المفتوحة تساؤلات أخلاقية عميقة حول الغفران والانتقام. من خلال هذه الحكاية، تنجح الكاتبة في طرح قضايا اجتماعية وإنسانية معاصرة، مع تصوير مأساوي لتداعيات الخيانة وانعكاساتها على النفس والأسرة. القصة ليست مجرد سرد لحدث، بل دعوة للتأمل في عواقب الأفعال ودور القيم في بناء العلاقات الإنسانية.

قصة *"استجمام"* تعكس ببراعة مأساة اجتماعية وإنسانية تنبثق من خيانة عاطفية وجسدية تهدد حياة الفرد وتُفكك الروابط الأسرية. النص يقدم دراما مشحونة بالعواطف والتوترات النفسية، في إطار سردي مترابط يحمل مستويات متعددة من التأويلات الرمزية والاجتماعية والفلسفية.

***

طارق الحلفي – شاعر وناقد

.......................

رابط القصة

https://www.almothaqaf.org/nesos/978453

 

بقلم: د. ديشا مادان

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

الملخص:

يركز مسرح العبث على عبثية وحالة عدم اليقين التي تحيط بالحياة والوقت. الصور البصرية التي نراها فعلاً وتلك التي تظهر في الأحلام والذكريات والوعي غير اللفظي للعاطفة الخالصة هي مكونات حيوية لوعينا بذواتنا. ومع ذلك، يجب أن يتحول هذا الوعي إلى وعي باللاوعي. وفي هذه العملية، يكون "الذات" لغزاً – غير قابل للإمساك به، كما يتجلى من خلال عدم استقرار الشخصية البشرية عبر الزمن. التجربة الوحيدة الأصيلة التي يمكن نقلها هي تجربة اللحظة الواحدة بكل ما فيها من شدة عاطفية، وكليتها الوجودية. تركز هذه الورقة على الصور العابر للذات، وتجد الذات تكاملها في العدم. مسرح العبث يجد معنى في العدم يتجاوز الكلمات واللغة. الكلمات التي تظل غير قابلة للإمساك بها ما زالت تتحدث عن معنى يكمن في اللاوعي. يوفر وعي اللاوعي تكاملًا أبديًا للجسد والعقل والروح.

الكلمات الرئيسية: العبث، الميتافيزيقي، الجذور المتعالية، الانتظار، الزمن، العدم، البحث عن الواقع، الجنون الاستعماري، العين الداخلية.

1. المقدمة:

في نوفمبر 1957، كان مجموعة من الممثلين القلقين يستعدون لمواجهة جمهورهم. كان الممثلون أعضاء في فرقة ورشة عمل الممثلين في سان فرانسيسكو. أما الجمهور فكان يتكون من ألف وأربعمائة سجين في سجن كوينتن. المسرحية التي تم اختيارها لهذه المناسبة كانت انتظار جودو لصمويل بيكيت، وهي مسرحية غامضة وفكرية للغاية. كان هيربرت بلاو، المخرج، قلقًا. صعد إلى المسرح وأعد الجمهور من السجناء. قارن المسرحية بمقطوعة موسيقية من الجاز "التي يجب على المرء أن يستمع إليها لاستخراج أي شيء قد يجده فيها". وبالمثل، كان يأمل أن يجد كل فرد في الجمهور معنى ما، أو دلالة شخصية في انتظار جودو.

انشقت الستارة، وعُرضت المسرحية. وما كان قد أدهش الجمهور المثقف في باريس ولندن ونيويورك، تم استيعابه على الفور من قبل جمهور السجناء. تركت المسرحية تأثيرًا عميقًا على الجمهور. فقد ذكر مراسل من سان فرانسيسكو كرونيكل الذي كان حاضراً أن السجناء لم يجدوا صعوبة في فهم المسرحية.قال أحد السجناء:جودو هو المجتمع."وقال آخر: "إنه الخارج" لقد أسرت المسرحية الجمهور حيث واجهتهم بموقف كان من بعض النواحي مماثلاً لواقعهم.

2. اتفاقية جديدة:

إن استقبال انتظار جودو في سجن سان كوينتن، والإشادة الواسعة بالمسرحيات التي كتبها يوجين يونسكو، آرثر آدموف، هارولد بنتر، وآخرون، يثبت أن هذه المسرحيات، التي غالبًا ما تُعتبر هراء أو غموضًا، تحتوي على شيء يجب قوله. المسرحية الجيدة يجب أن تحتوي على موضوع مشروح بالكامل، يكون مكشوفًا في النهاية ويتم حله. لكن هذه المسرحيات غالبًا ما تفتقر إلى بداية أو نهاية. المسرحية الجيدة هي التي تعكس الطبيعة وتصور سلوكيات وعادات العصر من خلال لوحات دقيقة. لكن هذه المسرحيات تبدو وكأنها انعكاسات للأحلام والكوابيس. المسرحية الجيدة تعتمد على الحوار الذكي والمحادثات اللاذعة، لكن هذه المسرحيات غالبًا ما تتكون من خربشات غير مترابطة.

في واحدة من أعظم التأملات الفلسفية لعصرنا، أسطورة سيزيف، حاول ألبرت كامو تشخيص الوضع البشري في عالم محطم المعتقدات. يقول كامو: "لكن في كون يُحرم فجأة من الأوهام والنور، يشعر الإنسان وكأنه غريب. هو في منفى لا علاج له... هذا الطلاق بين الإنسان وحياته، بين الممثل ومحيطه، هو الذي يشكل شعور العبث."

العبث في الأصل يعني "خارج التناغم" في سياق موسيقي. وبالتالي، فإن تعريفه في القاموس هو: "خارج التناغم مع العقل أو المألوف؛ غير متناسق، غير معقول، غير منطقي". في الاستخدام العام، قد يعني "العبث" ببساطة "سخيفًا"، لكن هذا ليس المعنى الذي يستخدمه كامو في هذا السياق، ولا المعنى الذي يستخدمه عندما نتحدث عن "مسرح العبث". في مقال عن كافكا، عرّف يونسكو العبث كالتالي: "العبث هو ما يخلو من الهدف... مقطوع عن جذوره الدينية، الميتافيزيقية، والتعالية، يصبح الإنسان ضائعًا؛ وتصبح كل أفعاله بلا معنى، عبثية، وعديمة الفائدة."

يسعى مسرح العبث إلى التعبير عن الإحساس بالقلق الميتافيزيقي تجاه عبثية الحالة الإنسانية، لكنه يتخلى عن الأدوات العقلانية والتفكير المنطقي في سبيل ذلك. يحاول المسرح أن يحقق وحدة بين افتراضاته الأساسية والأشكال التي يتم التعبير عنها من خلالها. إنها تناقض داخلي يحاول كتاب مسرح العبث التغلب عليه وحله من خلال الغريزة والحدس بدلاً من الجهد الواعي. هم لا يناقشون عبثية الحالة الإنسانية، بل يقدمونها ببساطة كما هي – أي، من خلال صور ملموسة على المسرح. يبرز هذا التباين بين النظرية والتجربة. وهذه السعي لتحقيق التكامل بين الموضوع والشكل الذي يتم التعبير من خلاله هو ما يميز مسرح العبث عن المسرح الوجودي. يعتمد المسرح بشكل أساسي على خيوط قديمة في التقليد الغربي وله مؤيدون في بريطانيا، إسبانيا، إيطاليا، ألمانيا، سويسرا، أوروبا الشرقية، الولايات المتحدة، وفرنسا. وقد أنتج هذا المسرح إطارًا من القيم ذات نتائج محيرة، جالبًا معه تقليدًا جديدًا وثوريًا.

3. انتظار جودو: البحث عن الذات في العدم:

مسرحية "انتظار جودو" لا تروي قصة، بل تستكشف حالة ثابتة. "لا شيء يحدث، لا أحد يأتي، لا أحد يذهب، وهذا فظيع." على طريق ريفي، بجانب شجرة، ينتظر شخصان مسنان، فلاديمير وإستراجون، جودو. عندما سأل آلان شنايدر، الذي كان سيخرج أول عرض أمريكي لمسرحية "انتظار جودو"، صموئيل بيكيت عن هوية جودو أو ما الذي يعنيه، أجابه بيكيت قائلاً: "لو كنت أعرف، كنت سأذكر ذلك في المسرحية." ومع ذلك، سواء كان جودو يشير إلى تدخل قوة خارقة للطبيعة أو كان يمثل كائنًا بشريًا أسطوريًا يُنتظر وصوله لتغيير الوضع، أو كلا الاحتمالين معًا، فإن طبيعته الدقيقة ليست ذات أهمية كبيرة.

موضوع المسرحية ليس جودو، بل الانتظار، فعل الانتظار كجانب أساسي ومميز من الحالة الإنسانية. طوال حياتنا، نحن ننتظر دائمًا شيئًا ما – حدثًا، شيئا، شخصًا، الموت. علاوة على ذلك، فإن فعل الانتظار هو الذي نختبر فيه تدفق الوقت في أنقى وأوضح أشكاله. إذا كنا نشطين، فإننا نميل إلى نسيان مرور الوقت، نمرر الوقت، لكن إذا كنا ننتظر بشكل سلبي فقط، فإننا نواجه فعل الزمن نفسه. كما يشير بيكيت في تحليله لمسرحيته بروست: "لا مفر من الساعات والأيام... الأمس ليس معلمًا تم تجاوزه، بل هو حجر يومي على الطريق الممهد للسنوات، وهو فورًا جزء منا، داخلنا، ثقيلًا وخطيرًا. نحن لسنا مجرد أكثر تعبًا بسبب الأمس؛ نحن آخرون، لم نعد كما كنا قبل كارثة الأمس."

يواجهنا تدفق الوقت مع المشكلة الأساسية للوجود – مشكلة طبيعة الذات. هذه الذات تخضع لتغيير مستمر في الزمن، الذي هو في حالة تدفق مستمر وبالتالي دائمًا خارج متناولنا. في أي لحظة في حياتنا لا يمكننا أن نكون متطابقين مع أنفسنا.

الانتظار هو تجربة فعل الزمن، الذي هو التغيير المستمر. ومع ذلك، بما أن لا شيء حقيقي يحدث، فإن هذا التغيير في حد ذاته هو وهم. النشاط المستمر للوقت هو عملية مدمرة ذاتيًا، بلا هدف، وبالتالي باطل. كلما تغيرت الأشياء، كلما ظلت كما هي. هذه هي الاستقرار الرهيب للعالم. يوم واحد مثل الآخر، وعندما نموت، قد لا نكون قد وُجدنا أبدًا.

في واحدة من الاقتباسات المفضلة لبيكيت، "لا شيء أكثر واقعية من لا شيء." الوقت لا يتوقف أو يتوقف، لكن السلام الإيجابي يأتي عندما يتخلى الإنسان عن الأفكار العابرة ويضيف ببساطة الأشياء إلى العدم. هذا العدم يمكن أن يكون "الواحد والوحيد" أو الاتحاد مع العدم في شكل الموت. حيث تجد الذات المتحللة طريقها للعودة إلى التكامل. الرغبات والاحتياجات المادية، كما يتم السعي لتحقيقها والحصول عليها، فإنها تتراجع. عمل الزمن يغيرنا في عملية الوصول إلى ما نرغب فيه. وأخيرًا يجد التحرر فقط في الاعتراف بذلك العدم الذي هو الحقيقة الوحيدة. كل حركة أخرى هي فوضى. كل شيء آخر هو عبث.

كل الاعترافات الخارجية والقمع، سواء كانت حيوانية أو إنسانية أو إلهية، مخزنة في الإنسان. الهروب من هذه الإدراكات في محاولة للوصول إلى العدم الإيجابي للوجود غير الموجود هو جزء هام من العبث. فالإفراج الحقيقي يكمن في معرفة المرء أنه لم يعد واعيًا. ومع ذلك، مع الموت، يتوقف الوعي وتستطيع تخيل اللحظة الأخيرة من وعي الرجل المحتضر كوعي أبدي باللاوعي.

يقول بيكيت: "أنا مهتم بشكل الأفكار حتى وإن لم أؤمن بها... فالشكل هو ما يهم." يتضح أن بيكيت كان يفتن بالشكل أكثر من المضمون. من بين جميع المجرمين الذين تم إعدامهم عبر التاريخ، كان هناك اثنان فقط، فقط اثنان، حصلا على فرصة للغفران في لحظة موتهما بطريقة فريدة وفعّالة. أحدهما أدلى بتعليق عدائي، فحكم عليه بالهلاك. بينما الآخر عارض هذا التعليق، فتم إنقاذه. كم كانت الأدوار لتتبدل بسهولة؟ فهذه لم تكن أحكامًا مبنية على تفكير عميق، بل كانت مجرد كلمات خرجت بشكل عفوي في لحظة من الألم والضغط النفسي الشديد. كما يقول بوزو عن لاكي: "لاحظ أنه كان من السهل أن أكون في مكانه وهو في مكاني، لو لم يشاء الحظ شيئًا آخر. لكل شخص نصيبه." ومن هنا، قد تتناسب أحذيتنا مع أقدامنا في يوم ما، وفي يوم آخر قد لا تتناسب.

كان حذاء إستراجون يعذبه في الفصل الأول، وفي الفصل الثاني أصبح يناسبه بشكل معجز.

4. فراغ اللغة:

أن تكون حيًا يعني أن تكون مدركًا لذاتك وأن تسمع أفكارك وسيل الكلمات التي لا تنتهي. ككائن بشري، نحن جميعًا نمتلك هذه الهمسة الدائمة. يرفض صمويل بيكيت اللغة، ومع ذلك، هو شاعر لا يستطيع الامتناع عن العمل بها. وهذه مفارقة؛ إذ يظهر أن اللغة بالنسبة له أداة إلهية، وأحيانًا تكون مجرد همسات بلا معنى. في بعض الأحيان، يعبر عن اللغة موازنًا إياها مع الأصوات غير المفهومة للطبيعة. في عالم فقد معناه، تصبح اللغة أيضًا مجرد همسات بلا فائدة. في كون بلا معنى، لا يمكن أن تُقال أي جملة ذات قيمة.

إن المفاهيم البسيطة التي يتم الخلط بينها، والحوارات الأحادية المزدوجة، والتكرار الممل للكليشيهات، وعدم القدرة على العثور على الكلمات المناسبة، والاستخدام الفوضوي للكلمات، والإغفال المتعمد للفواصل، كلها تشير إلى أن اللغة قد فقدت وظيفتها كوسيلة للتواصل، وأن الأسئلة قد تحولت إلى تصريحات لا تتطلب إجابة.

إذا كانت مسرحيات بيكيت تهتم بالتعبير عن صعوبة العثور على المعنى في عالم دائم التغير، فإن استخدامه للغة يبحث في حدود اللغة سواء كوسيلة للتواصل أو كأداة للتعبير عن أفكار صحيحة. في عالم بلا غاية فقد أهدافه النهائية، يصبح الحوار، مثل أي فعل آخر، مجرد لعبة لتمرير الوقت. هو يحاول تقليص الفجوة بين حدود اللغة وحدس الوجود. الكلمات تعجز عن التعبير عن أعمق الأفكار في الإنسان. اللغة تستخدم للتعبير عن التفكك، والانحلال في الفكر والحياة. حيث لا يوجد يقين، لا يمكن أن يكون هناك معنى دقيق. واستحالة الوصول إلى اليقين هي واحدة من المواضيع الرئيسية في مسرح العبث.

من خلال التأكيد المستمر على عدم اليقين من الموعد مع جودو، وعدم موثوقية جودو وعدم منطقيته، والعرض المتكرر لعدمية الآمال المعقودة عليه، يظهر أن فعل الانتظار من أجل جودو هو فعل عبثي في جوهره. جميع الأنشطة في المسرحية هي جوانب من الانشغال العبثي بالأهداف والأحلام الوهمية. كل حركة هي فوضى. قد تكون الأمل في الخلاص مجرد تهرب من المعاناة والكرب الناتج عن مواجهة واقع الحالة الإنسانية. استكشاف بيكيت للإبداع والحدس يتناول عناصر التجربة ويظهر إلى أي مدى يحمل جميع البشر بذور مثل هذا الاكتئاب والانحلال في طبقات أعمق من شخصياتهم. إذا كان السجناء في سان كوينتين قد استجابوا لمسرحية في انتظار جودو، فذلك لأنهم واجهوا تجربتهم الخاصة في الزمن والانتظار والأمل واليأس؛ لأنهم أدركوا الحقيقة عن علاقاتهم الإنسانية الخاصة.

هذه أيضًا هي المفتاح لنجاح مسرحيات بيكيت الواسع: أن يواجه الإنسان تجسيدات ملموسة لأعمق مخاوفه وقلقاته، التي كانت قد تم تجربتها بشكل غامض على مستوى شبه واعٍ، يشكل عملية التطهير والتحرر التي تشبه التأثير العلاجي في التحليل النفسي عند مواجهة محتويات العقل الباطن. هذه هي لحظة التحرر من العادة المميتة، من خلال مواجهة معاناة الوجود. يمكن رؤية مسرح العبث كبحث عن الواقع الذي يكمن وراء التفكير المجرد في المصطلحات المفاهيمية. تُقَلل اللغة من قيمتها كأداة للتواصل مع الحقائق النهائية، لكن هؤلاء الكتاب هم أساتذة كبار في اللغة كوسيلة فنية.

5. الخاتمة:

إن قبول العالم كما هو، ورفض لغته ومبادئه وواقعه، يجعل مسرح العبث يعكس إمكانية أخرى. يمكن أيضًا وصفه بأنه رفض للجنون الاستعماري الداخلي. إن عدم معنى الهوية والوجود ينبع أيضًا من تماثل الكون. فمسألة الوجود أو العدم تبرز حيث أن جميع الأفعال تؤدي إلى اللاشيء. الواقع لا يكمن في الإدراكات البصرية، بل في الإحساس بعمق الواقع في اللاشيء. تكمن الحواس اللاواعية غير المتأثرة في تقييم الذات والفضاء الداخلي. إن البحث عن الحقيقة ليس في السعي وراء الأفعال، بل في أن تكون غير واعٍ بذاتك وأفكارك. في فراغ الصمت تكمن موسيقى الذات والـ "لا شيء الوحيد". إن محاولة التواصل مع ما لا يمكن التواصل معه هي اعتراف بوهمية وعبثية الحلول الجاهزة للحياة ومشاكلها. إن إدراك الأسئلة في حد ذاته هو نقطة انطلاق لوعي جديد. لا يمكن أن ينتهي هذا الوعي في اليأس، بل يبدو أكثر قوة لمواجهة أسرار الحياة.

لا يمكن رسم الحقائق النهائية بالأسود والأبيض، كما أن بعض الصدمات لا يمكن تحديدها أبدًا. أنواع مختلفة من المخاوف والرهبات تحكم العقل البشري. لا يمكن للعقل البشري أن يتجنب هذه الرهبات. إن لغز الذات دائمًا ما يكون هاربًا، والكلمة المادية تتطلب التعبير اللفظي. إن استخدام اللغة يظهر تأثير التأثيرات على الفرد. بمعنى آخر، اللغة أيضًا هي علامة على الاستعمار. ومن ثم، فإن فك استعمار الجسد والعقل والروح من اللغة والثقافة يزيل غشاء الوهم. اللمسة البسيطة من اللاوعي مع الوعي تجعل المرء يرقص مع "العين الداخلية" للاشيء.

***

.........................

المراجع

1.  إسلين، مارتن. مسرح العبث. نيويورك: بلومسبري، 2014. المقدمة، ص 1.

2.  فن المسرح. نيويورك، يوليو 1958.

3.  كامو، ألبر. أسطورة سيزيف. باريس: جاليمار، 1942. ص 18.

4.  يونيسكو، يوجين. "في أحضان المدينة"، دفاتر شركة مادلين رينود-جان لويس بارو، باريس، العدد 20، أكتوبر 1957.

5.  بيكيت، صامويل. انتظار جودو. لندن: فابر وفابر، 1959، ص 41.

6.  شنايدر، آلان. انتظار بيكيت، مراجعة تشيلسي، نيويورك، خريف 1958.

7.  بيكيت، صامويل. بروست. نيويورك: جروف برس، لا تاريخ، ص 2-3.

8.  بيكيت، صامويل. مالون يموت، في مولوي/مالون يموت/اللامسمى. لندن: جون كالدر، 1959، ص 193.

9.  بيكيت، صامويل، اقتباس عن هارولد هوبسون، مسرح العبث، وعند آلان شنايدر، انتظار بيكيت.

10. بيكيت، صامويل. انتظار جودو. لندن: فابر وفابر، 1959، ص 31.

الكاتبة : د. ديشا مادان/  تعمل كأستاذة في قسم الدراسات العليا في اللغة الإنجليزية بكلية نهرو ومركز الدراسات العليا في هوبلي (ولاية كارناتاكا). تمتلك خبرة واسعة في تدريس المستويين الجامعي والعالي. نشرت العديد من المقالات البحثية في مجلات دولية مرموقة، وهي المؤلفة المشاركة لكتاب الازدواجية: نساء ذوات البشرة الملونة (الكاتبات الأمريكيات من أصل أفريقي). كما كتبت الإبيولوج (الخاتمة) للقصائد المترجمة قصائدي الواحدة والخمسون التي تم ترجمتها من قصائد آتال بهاري فاجباي، رئيس وزراء الهند السابق.

قراءة نقدية تحليلية لقصيدة: یا مَنْ تجعلني ازهر الماً – للشاعرة – سلوى حسين – السليمانية – كردستان العراق.

مقدمة:  قصيدة / يا من تجعلني أزهر ألمًا/ هي قصيدة سردية تعبيرية تختزل رحلة الذات في مواجهة الألم والوجد، وهي بمثابة تأمل في العلاقات الداخلية بين الذكريات والجسد، وبين الرغبات والواقع. تتداخل في هذه القصيدة أصوات الذات الشاعرة مع الصور الشعرية الرمزية الموحية التي تفتح المجال لتأويلات متعددة، وتعبّر عن حالة إنسانية معقدة تتراوح بين الغموض والكشف. عبر هذه القصيدة، لا تعرض الشاعرة مجرد مشاعر الحزن والانتظار، بل تقدم لنا معركة روحية، تلتقي فيها التناقضات لتُنتج نصًا شعريًا يوازن بين الوجود والعدم.

التوتر بين الحياة والموت: القصيدة تبدأ بأداة النداء / يا من/، مما يخلق انطباعًا بالحنين أو الاستغاثة لشخص غائب أو لقوة غيبية تُشرف على حال الشاعرة. يتجلى في العبارة الأولى / يا من تجعلني أزهر ألمًا/ تحوّلًا جوهريًا في العلاقة بين الحياة والألم، حيث تُقدّم الشاعرة الألم كعاطفة مزروعة في الذات، ولكنها تُزهَر كما يُزهر الورد، وهو نوع من التحويل العميق في المعنى. هذا التعبير، رغم ما يحمله من حسّ مرير، يفتح بابًا للتفسير المعاكس؛ بمعنى أن الألم قد يكون مُحفزًا للنمو، حتى وإن كان يصاحب الشعور بالتضحية والمعاناة. إذا كانت الحياة والوجود يُفترض أن يكونا مليئين بالأمل والبهجة، فهنا الألم يصبح الوسيلة التي تُزهر بها الذات، وهو ما يفتح حوارًا بين الوجود والمعاناة.

الصور الزمنية والمكانية: القصيدة تمتزج فيها الصور المكانية والزمانية بشكل متداخل، حيث تبدأ بـ / ذات مساء/ ليخلق ذلك توترًا بين الزمن المتغير الذي يحمل معاني خاصة، وبين اللحظة الخاصة التي تتسلل عبرها مشاعر الشاعرة. استخدام كلمة / مساء / يوحي بلحظة النهاية، أو بالتحول إلى الظلام، مما يعزز من فحوى القصيدة الذي يدور حول الوحدة والعزلة. المساء هو دائمًا مزيج من الغموض والفراغ، مما يجعل اللحظة أكثر استثنائية وحزنًا.

تحت الأغصان التي تدندن سمفونية الكون، يصبح الفضاء المادي مفعمًا بالحركة والنغم، حيث تراقص وريقات البنفسج وتبدد /ظلمة الوحشة/. الأغصان هنا ليست مجرد عنصر طبيعي، بل هي ساحة تقاطع بين الكائنات الحية والذكريات التي تتجسد في هذا المشهد الغنائي، الذي يطبع الحنين إلى الماضي ويُقدم أداة للتطهر من الوحشة. يُنزع عن الظلمة تعريفها التقليدي ليتحول إلى ظل لا يوحي بالراحة أو الانتماء، بل يظل كامنا في المكان المحاط بالنقمة.

الذكريات كشرارة للوجع: في القسم الذي يتحدث عن /صهيل الذكريات التي تغرز أنيابها في جسدها الزمهريري/، نجد أن الشاعرة تستخدم صورة رمزية لتمثيل تأثير الذكريات على الذات. الذكريات، هنا، لا تأخذ شكلًا من الراحة أو الحنين؛ بل هي أشبه بكيانات مُؤذية تغرس أنيابها في جسد الشاعرة، ما يشير إلى تأثيرها العميق والمتجذر في الوعي الداخلي. التصوير بـ /الزمهرير/ يربط هذه الذكريات بالجليد والبرد، مما يعزز من إحساس الكآبة والعزلة. تتخيل الشاعرة الذكريات وكأنها قوى مدمرة، أبدية وغير قابلة للهروب منها، بل هي جزء من نسيج الوجود الداخلي، تغذي نفسها من عمق الجسد وتُحفّز الألم بطريقة شبه مستحيلة الفهم.

التناقض بين الحلم والواقع: في النقطة التي تقول فيها الشاعرة / تعتلي أرجوحة التمني نحو اللامكان المكسو بندف الثلج/، تبرز فكرة التمني كأداة للهرب من الواقع المرير. الأرجوحة في هذه الصورة تعبير عن حالة التذبذب المستمر بين الأمل واليأس، حيث تظل الذات عالقة بين الرغبة في شيء غير موجود وبين واقع لا يمكن الهروب منه. / اللامكان/ يشير إلى العدم، إلى المسافة الفاصلة بين الذات وبين هدف بعيد أو مستحيل. الثلج، بجماله وبياضه، يضيف طبقة من السكينة الظاهرة، لكنه في جوهره بارد وميت، مما يعكس معركة الذات مع نفسها ومع عالمها الداخلي.

العتمة واليقين: وفي النهاية، تنطوي القصيدة على السؤال المركزي: هل يمكن للذات أن تجد اليقين وسط هذا الظلام المستمر؟ تساؤل الشاعرة / لكي أكون أو لا أكون / في نهاية النص يُعيد إلى الذهن التباسية الكينونة الإنسانية وصراع الذات مع الوجود. هذا التساؤل عن الهوية يفتح الباب أمام التأملات الفلسفية حول معنى الوجود: هل أنا موجود فعلاً، أم أنني أعيش في حالة من اللاوجود، بين الظلال والأوهام؟

الخاتمة: من خلال هذه القصيدة، تطرح سلوى حسين سؤال الوجود والعدم بأسلوب شعري فني يخلط بين الواقع والمجاز، بين الذكريات والتمني، وبين الألم والبحث عن معنى. يُظهر النص مدى تداخل البُعد النفسي العميق مع الصور الخارجية التي تُبنى حولها تجارب الذات، مما يخلق تفاعلًا دائمًا بين التوترات الداخلية والخارجية في السعي للسلام الداخلي أو للهروب من الحقيقة. القصيدة بذلك لا تعبر عن مجرد لحظات ألم، بل هي مساحة للتأمل في الذات وفي معركة الوجود والتصورات عن العالم.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق.

...........................

یا مَنْ تجعلني ازهر الماً

بقلم: سلوى حسين

***

ذات مساء..

تحت الاغصان وهي تدندن سمفونية الكون، تراقص وريقات البنفسج لتبدد ظلمة الوحشة أمام اتقاد انتظرها فوق ضفاف الوجد. كلما تردد علی مسامعها صهيل الذكريات التي تغرز ٲنیابها في جسدها الزمهریري، تعتلي أرجوحة التمني نحو اللامكان المكسو بندف الثلج بین رعشات مخاضها ونتوءات الخیال الملونة بجمر الاشتياق. تدور سابحة، تردد یا من تجعلني أزهر الماً تحسس یدي بشفاه ابتسامتك لٲتمایل مع همس القلب وعمق المكان بین العتمة والیقین لكي أكون ٲو لا أكون..

اعتدت أن أكتب نوعا من النقد الأدبي، يرى بعضهم أنه لا يمت للمنهج النقدي بصلة، طالما أنه لا ينضوي على تهجم أو مدح. أما أنا فأعتبره صنفا من النقد الأدبي، أطلقت عليه تسمية (نقد الربط الموضوعي)، بالرغم من وجود مصطلح متداول من قبل المتخصصين هو (النقد الموضوعي) الذي يستخدم للإشارة إلى رأي الناقد في عمل إبداعي، سواء كان هذا العمل أدبيا أم أداءً فنيا (تمثيل، غناء، فن تشكيلي) على أن يكون رأيه هذا محايدا، وبعيدا كل البعد عن التهجم والنقد السلبي اللاذع، بل عليه الاستعاضة عن النقد اللاذع بالنصائح والاقتراحات التي ممكن أن يقدمها أو يقترحها لتقويم وتطوير العمل المستهدف. وقد جاءت كتابة هذا الموضوع وفق منهجي النقدي هذا، الذي يربط بين الناقد والعمل المنقود من خلال تجربة حياتية أو حدث مشترك.

لم يكن الموت جميلا في أي مرحلة ومهما كانت أسبابه، طالما أنه ينتزع من قد نكون تعلقنا به، كالأم والأب والأخ، فموت الأب أحد أسوأ خيارات الحياة الذي فُرض علينا دون إرادتنا، ولاسيما إذا ما كان ذلك الأب أنموذجا للإنسان الإنسان بكل قيمه النبيلة ومشاعره الإنسانية، وأولها الحب الكبير لأبنائه، والتضحية من أجلهم بالغالي والنفيس. فالأب هو الخيمة التي تحمي رؤوس الأبناء من المطر والبرد والحر ومكاره الحياة، هو الحصن الذي يدفع عن أبنائه غوائل توحش الأزمان، وعسر عاديات الأيام، والعسل الذي يزيل مرارة الحياة، هو القوة التي يقاتل بها الأبناء مخاطر التوحش والرهبة، ويصارعون بها مكاره العاديات، هو البحر الذي يستخرجون من أعماقه اللآلئ والمرجان، ويحققون الأمنيات الحسان، هو النسمة العذبة التي تُشعرهم بدفِ الكون، هو الوردةُ التي تغدق عليهم عطر الأمل، هو كل شيء بالدنيا، بل هو الدنيا.

تبقى صورة الأب مرسومة في خيال أبنائه بعدما يغادرهم لسنين طويلة، ثم تبدأ للأسف بالتلاشي ببطء كلما تقدم بهم العمر، وأخذتهم مشاغل الدنيا بهمومها ومكارهها، لكنها لا يمكن أن تُمحى إلى الأبد، فسامتها تبقى شاخصة كأجمل الصور التي يبعثها العقل اللاواعي، ليعيد لها الحياة من خلال قولٍ أو فعلٍ أو أمرٍ يحتاج إلى تلك القوة التي كانت تدعما عند كل موقف نحتاج فيه لمن يدعمنا ويشد أزرنا ويقوينا.

علاقتي بوالدي كانت أجمل ما في الدنيا رغم قسوته المفرطة، تلك القسوة التي كنتُ استهجنها أحيانا، واتبرم منها، ويضيق صدري، فأشعر بالغضب. ثم لما كبرتُ ورزقت بأولاد، وجدت أنها الدواء الشافي والفعل المعافي في مواقف بعينها، لا يصلح للتعامل معها إلا ذاك النوع من الشِدة.

إن هذا الوعي؛ وإن جاء متأخراً إلا أنه كان يجددُ ثقتي بوالدي باستمرار، فأوقن أنه كان على صح وحق، وهكذا يعيد هذا اليقين لصورته الحياة في خاطري رطبة ندية عبقة بأطايب الجنة، رغم ان تلك الصورة لم تعد تبدو واضحة الملامح بالشكل الذي يرضيني، بقدر كونها كانت تؤلمني لأنها لا تكشف عن وسامته الغامرة وإشراقه وجهه حينما كان يبتسم، والدي كان حين يبتسم يشرق وجهه نورا أزليا يضيء دياجير عتمة طريقنا، أقمارا في كبد المشاعر تهدينا إذا تاهت بنا الطرق.

وكلما تقدم بي العمر تزداد قتامة الصورة، ويزداد معها حزني وألمي، إلى أن قرأت لشاعر جزائري اسمه "عبد القادر مكاريا" قصيدة كتبها عن أبيه، والأستاذ مكاريا شاعر لا ككل الشعراء، شاعر ينظم كلماته بفم ملآن، ويكتب شعره بيد ثابتة، تتسلح بالتحدي الكبير، لا لأنه يجيد صنعة الشعر فحسب، بل لأنه إنسان طغت مشاعره النقية على ما يسطره القلم. لم أكن أعرفه، ولم أقرأ له من قبل، ربما بسبب القطيعة الأدبية والفكرية بين مشرق الوطن العربي ومغربه، ولذا شعرت برجة فكرية عارمة، كأنها صعقة كهرباء حينما صفعت إحدى قصائده نظري بعنف، لتحدث صدى في القلب، أعاد لي ذكرى أبي؛ الذي فارقته منذ سنين طوال، أعاد صورته البهية النقية المشرقة الأخاذة اللماحة الساحرة الباهرة.

ومع أنه ليس من السهل على عجوز مثلي جاوز السبعين عمراً أن يستمتع بالفرح والحزن في الوقت نفسه، لا لوقار الشيوخ، بل لتهالك قواهم وضعف ذاكرتهم، إلا أن كلمات الشاعر مكاريا بحق والده صعقتني حقا، والهمتني صدقاً استرجاع ذكرى من أعماق اللامكان، صورة كانت ولا زالت تتربع في اللاوعي، بثتْ بها الحياة كلماتٌ موجزةٌ ليست ككل الكلمات حياة جديدة، فالشيوخ أمثالي لا يفرحون بيسر ولا يحزنون إلا للخطب الجسيم، لكن ان تستفز الروح بضعُ كلماتِ منقوعة بعسل، فذلك هو ما يُخرج الروح من طورها المعتاد لتعيشَ لحظات فرحٍ وأسى مزدوج خلافا لكل نظريات العلماء.

وأنا واقعا رغم كثرة تذكري لوالدي في مواقف بعينها، لم يخطر ببالي يوما أن أتذكر ما كان يبدو عليه (رحمه الله) عندما مات، فأنا حينها كنت مشغولا بجبال من الهموم والأسى. والحسرة والألم الذي يأكل قلبي؛ وأنا أرى الإنسان الذي أسعدني ودللني يمتطي صهوة الموت ليغادرني إلى الأبد، وإذا بالشاعر الجزائري المبدع عبد القادر مكاريا يتطوع ليرسم تلك الصورة التي كنت أحتاج إلى رؤيتها بشدة، بل أشتاق لذلك مثل اشتياق ظمآن في صحراء التيه إلى قدح ماء بارد، وهذا يثبت أن الشعراء الحقيقيين هم سحرة طيبون، هم ملائك الكلمات؛ التي يُنهكون أنفسهم كمداً من أجل أن يرسموا من خلالها صوراً تُسعدنا، تُشعرنا بوجودنا، بعبثِ أن نفرط بما نحن فيه، وبوجوب أن نحافظ على هذا الموروث إلى آخر لحظات وجودنا. تلك هي الصورة التي رسمها مكاريا وهو يتذكر لحظات موت والد والابتسامة التي كانت مرسومة على وجهه:

باسما، مات أبي

كجميع الأنبياء

أمسك الغيمة شوقا

هزها

ساحت مياه الله

ثم ضمّتْه السماء.!

نعم هذه هي الصورة التي اتخيل أن والدي مات، وهي مرسومة على وجهه، هكذا كان أبي يبتسم عند الشدائد، وكأن المكاره تحيي بروحه كل عناد الكون، وتترجم رغبته بالصمود مهما عتت الخطوب، فلقد تذكرت أن والدي رقى إلى السماء لتضمه بحنانها العذب الرطيب والابتسامة ترتسم على محياه، وكأنه في حفل عرس، وقد نجح الشاعر في ترميم تلك الصورة وأعاد لها الحياة وكأنها تحدث الآن امام اعيننا، فأجاد وأبدع.

ولكي يوسع مدى تأملنا، ويحول الصورة إلى باناروما، لم يكتف الشاعر برسم مخطط روحي للابتسامة فحسب، بل تجاوز ذلك فغاص في عمق المشاعر، وتماهى مع خفايا الروح البشرية، فترجم لحظات ما كان الراحل يشعر به

مرَّ حقلٌ أخضر في راحتيْه

وعلى فِيهِ جرى جدولُ ماء

نطّ من عينيْه وهجٌ

ملأ الجو بهاءً، وعطوراً، وغناء.

هذه الرؤية الميتافيزيقية لا يمكن لأدق الكاميرات أن تصورها بكل تلك الدقة المدهشة، فقط قلم الشاعر المرهف بالإحساس نجح في نقلها بأمانة، فعانقت الضمير. من هنا نجد سيل الذكريات التي سطر مكاريا حقيقتها لم يتوقف عند هذه اللقطة المشرقة بالتفاؤل والأمل، لأن الراحل حلق مع الفراشات، فلقد أبصر الواقع وما وراء الواقع، وأدرك الحقيقة، حقيقة أن يموت الذي كنتَ تعشقُ بقاءهُ حد الوله، ويترككَ وحيدا كفرخٍ أزغبٍ سقط من عشٍ، وبات في العراء يترقبُ الخطرَ الداهم:

حوله حامتْ فراشاتُ

وحولي زرعَ الخوفُ البكاء

قالت الأرض: تمنّى!

قلتُ: ما الذي يطلب فرخٌ

فجأة، صار وحيداً في العراء

هل سيكفيه الرثاء؟

ولأن مركز الأب الخالد لا يقاس عند العقلاء بمقدار ما يملكُ من مال وضِياع وأطيان ومركز وظيفي وكل متاع الدنيا، فهو الأب، فهو حتى لو كان معدما فقيرا، يكفي أنه يحمل هذه الصفة العظيمة التي أسبغها الله عليه إكراما، فجعله ربا صغيرا، إنْ كان لم يوجب السجود له، فقد جعله سبحانه السبيل إلى رضاه: "رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين"، هذا بالضبط ما أراد مكاريا توضيحه لنا ليشعرنا بالامتنا، وهذا ما أرادنا أن نعرفه:

باسماً، مات أبي

لم يكن طودا، ولكن

في عيوني كانَ كونا من عطاء

لم يكن ربًّا، ولكن

في حياتي

كان بستانَ رجاء

كان كالصيفِ إذا أعطى وغنى

وإذا جفّتْ ليالينا شتاء

كان يحمي مضغةَ القلبِ من البرد

ومن الخوفِ

وإعصار الطريق

كان ماء في براكين الحريق

كان كفّا نحو صيحات الغريق

كان لي كل الذي يعنيه

للعمرِ صديق.

نعم هذا هو الأب، هذا الكائن الأسطوري الذي عشنا حقيقته؛ التي نافت زهوا على جميع الأساطير. وسلمت ذائقة شاعرنا المبجل الذي ترجم مكنونا كان حبيسا في صدورنا التي تنوء بحمله، ترجمه إلى أحاسيس تضوع بُشرى لكل سميع.

وبرأيي أن الشاعر في قوله هذا تألق مرات عديدة، مرة مثل فنان عالمي يعرف كيف يرسم الصور المبهرة، ويبعث الإيحاءات المثمرة؛ التي تفتح أمامك آفاق التساؤل والحيرة. وأخرى مثل عازفٍ يعرف كيف يجعل النوتات تتراقص، وتسحبك برفق لترقص معها. وثالثة أنه لم يقف عند حدود المجد هذه، بل تجاوزها، ليستكن الأب الراحل داخل الروح المعذبة التي يقتلها الوله، وما تشعر به في لحظات الفراق الأبدي، حين تودع ركنا حصينا كانت تلجأ إليه في كل ملمة، وسوف يكشف فقدانه ظهرها لعاديات الزمان، بعد أن كان الأب جوشنا حاميا من كل سوء. وكم كان الشاعر حصيفا وهو يترجم تلك اللحظات التي تمر ثقيلة على الإنسان بقوله:

باسماً، مات أبي

وغفا في الروح مليون جواب

 كيف يمكن أن تشرق شمسٌ

وهو لا يمحو السّحاب؟

كيف يمكن أن يثمرَ قمحٌ

وهو لا يغريِ التراب؟

كيف يمكن أن يثغو خروفٌ

وهو لا يفري الجراب؟

كيف يمكن أن تضحكَ أمي

وهو لا يطرق بابْ؟

كيف يمكن أن يدعو إمامٌ لصلاةٍ

وهو لا يهمسُ للقلب دعاءً؟

ثم يتلو خاشعاً أمّ الكتاب؟

مع حشد الرؤى الذي يستفز مكامن الروح، مع كل تلك الصور البهية النقية المليئة بالآهات والحسرات والوجع اللذيذ، لم يغفل الشاعر حقيقة أن الوجع لا يُتَرجَمُ، ولا يشعرُ بالوجع إلا من كابده، وصدق من قال: "لا يؤلمُ الجرحُ إلا مَن بهِ ألمُ". فأراد شاعرنا المبجل أن يعبر عن هذه الحقيقة، حقيقة أن فراق الأب؛ ومهما تفاعل الناس معه وتعاطفوا، إلا أنه وجع دفين، هناك في أعماق الروح، ينهش كوحش كاسر، لا يعرفه إلا اليتيم، اليتيم وحده يشعر بهذه الحقيقة، لا مثل غيره من الناس، حتى وإن بدت عليهم مظاهر الحزن والتأثر، فشعور اليتم وحده هو الترجمان الحقيقي للخسارة العظمى، خسارة أن تفقد أباك:

باسماً، مات أبي

وتعرّتْ سوءةُ الكونِ أمامي

وقفَ الشعر بعيدا

يتملّى سحنتي السوداء

في مرآة حزني

ويدسُ الصمتَ في ريقي

وبردا في عظامي

لم أجد إلا اليتامى

يتهجون كلامي!

هكذا ختم شاعرنا الكبير عبد القادر مكاريا، شاعر الجزائر الحبيبة لوحته المفجعة، فأغنانا عن قراءة ألف كتاب، وبعث في أرواحنا شحنة ألمٍ أشعرنا كم فعل اليُتمُ بنا، حتى لو تجاوزنا السبعين، فالأب هو الأب ولا يمكن أن يصور مصيبة فراقه إلا الشاعر الساحر الذي فقد أباه واوجعه اليتم.

شكرا صديقي فقد أفرحتني وابكيتني.

***

الدكتور صالح الطائي

قراءة نقدية تحليلية في نصّ: كروان – للشاعرة سونيا عبد اللطيف – تونس.

***

القراءة:

قصيدة (كروان) للشاعرة التونسية: (سونيا عبد اللطيف) هي نصّ مفعم بالرمزية والمفارقات الوجدانية، يتنقل بين مستويات شعرية معقدة تعكس التوتر بين الذات الإنسانية والوطن. القصيدة ليست مجرد تعبير عن حب الوطن أو الحنين إليه، بل هي تجسيد لألم عميق وشعور بالتمزق الداخلي الناتج عن اغتراب الفرد عن وطنه في زمن الصراعات والتحولات.

1. البنية العميقة للنص: التكرار واستخدام الأنماط المتوازية:

النص يعتمد بشكل مكثف على التكرار، وهو أداة شعرية مؤثرة في هذا السياق. الشاعرة تعيد فكرة (الوطن) بشكل مستمر في عدة صور ورؤى: (الوطن الذي أحمله بين ضلوعي) و(الوطن الذي أحمله بين ضلوعي صار كبيرًا). هذا التكرار لا يقتصر فقط على تكرار المعنى بل يعكس التمزق والاحتدام الداخلي بين الذات والوطن. كل مرة يعاد ذكر الوطن، يبدو أنه يتغير أو يتسع أو يتحطم، وكأن هذه العلاقة بين الشاعرة ووطنها هي علاقة تتطور في الزمن، وتتصارع مع التحولات التي تطرأ على الواقع.

2. الوطن بين الحرية والقيود: تجسيد الكائن الأسير:

تبدأ القصيدة بصورة شاعرية قوية وذات دلالة رمزية عميقة: (الوطن الذي أحمله بين ضلوعي / مثل كناري أسير / بين قضبان قفص صغير). هذه الصورة تُسقط معاني كبيرة على الوطن. الشاعرة تبدأ بتصوير الوطن ككائن حي، لكنه أسير، محاصر، مكبل بالقفص. الكنايات هنا تشير إلى فكرة الحرية المفقودة؛ فالكناري يمثل طائرًا معروفًا بجماله وصوته العذب، لكنه لا يستطيع أن يعبّر عن ذاته بحرية في القفص. القفص هنا هو الأنظمة السياسية، القيود الاجتماعية، أو حتى الواقع المأساوي الذي يعيشه الوطن. هكذا، يبدأ الوطن رمزًا للحرية المفقودة، ثم ينتقل إلى تعبيرات أخرى تشير إلى سلب هذه الحرية.

3. التوتر بين الحلم والألم: الحلم بالسلام والانفجار الداخلي:

في الجزء التالي من القصيدة، ينتقل النص من حالة التعايش السلمي مع الوطن إلى الصراع الداخلي الذي يشل الحلم:

(كيف نستقبل السّلام؟

كيف نحلّق الأحلام؟

من أين تأتينا الأنسام؟)

هنا، تطرح الشاعرة أسئلة تفضح التحول المأساوي في العلاقة بين الإنسان ووطنه. فالأسئلة الوجودية حول السلام والأنسام تحيلنا إلى واقع موحل بالصراعات والدمار. الشاعرة ليست في حالة استجداء للأمل بقدر ما هي في حالة احتجاج على واقع أساسي يتسم بالانكسار. السّلام هنا لا يأتي فقط من غياب الحرب، بل من غياب أعمق: غياب الحرية الداخلية للإنسان الذي تم اغتيال أحلامه.

ثم تأتي صورة (الرياح التي كسرت له العظام)، التي تمثل قوى خارجة عن إرادة الإنسان، قوى الاحتلال، القمع، والفقر، التي تنهك الوطن وتكسر ظهره، مما يفضح حالة الانهيار التي يمر بها. الطائر (الكروان) الذي كان يغرّد ينقلب إلى كائن يبكي من الألم، وهو ما يعكس صراع الذات مع واقعها الفج.

4. التدمير الذاتي: صورة الشهداء والجروح الوطنية:

ثم تأتي الصورة الكارثية التالية في القصيدة:

(أحرقت البيادر، أحرقت الأشجار، أحرقت قلوبًا جلّنار).

هذه الصورة تحمل في طياتها معانٍ دموية عن التدمير والخراب. الأشجار تمثل الحياة، والبيادر تمثل الثروة والخصوبة، أما (قلوب جلّنار) فترمز إلى الجمال والإيمان في نفوس الناس، التي كانت تتمنى السعادة والعدالة، لكنها أحرقت في سبيل التسلط والفساد.

إن إحراق هذه الرموز يُظهر الدمار النفسي الذي يطال الإنسان العادي، الذي كان يسعى لبناء وطن أفضل. كما أن (قلوب جلّنار) تشير إلى خيبة الأمل في وجدان الناس الذين (تهشّ) حياتهم ولم يعد لديهم شيء يطاردونه سوى الخراب. لا تقتصر هذه الاحتراقات على الأراضي والأشجار فحسب، بل تمتد لتطال الروح والجمال البشري، لتشكل بؤرة الألم المتراكم على قلب الوطن.

5. من الكينونة إلى الاغتراب: الوطن يتحول إلى وحش:

ثم نصل إلى النقطة الأكثر تراجيدية في النص، حيث تقول الشاعرة:

(صار كبيرًا / وحشا غريبا).

الوطن الذي كان حلمًا أو رمزًا للدفء يتحول الآن إلى وحش ضخم لا يمكن التغلب عليه. هذا التحول هو تعبير عن الاغتراب الداخلي، حيث تشعر الشاعرة بأن الوطن أصبح شيئًا غريبًا عنها، شيء لا يمكن التفاهم معه، وكأنه أصبح كيانًا معاديًا. الوطن لم يعد مكانًا للأمان والراحة، بل أصبح كائنًا ضخمًا يثير الفزع والذعر. صورة الوحش تقابل صورة الطائر في بداية القصيدة، وتظهر بشكل صارخ التناقض بين ما كان عليه الوطن في الذاكرة وما أصبح عليه في الواقع.

6. التسليم بالمأساة: الصراع بين الوعي والوجود:

أخيرًا، يُختتم النص بـ:

(ليت قلبي / ما عرف حنانا / ما عشق أوطانا)

هنا نرى لحظة التسليم بالحزن، حيث تتمنى الشاعرة لو أن قلبها لم يعرف الحب. هذا التمني ليس مجرد تهكم أو سخرية، بل هو تعبير عن اليأس العميق: لو أنني لم أحب هذا الوطن، لكانت معاناتي أقل. لكن الفاجعة تكمن في أن الوطن صار جزءًا من كينونتها، مثل الدم في الشريان والوجدان في الإنسان. وهنا تكمن المفارقة المؤلمة: فالوطن، رغم الخراب والألم، يبقى جزءًا من الذات، لا يمكن الفكاك منه، حتى لو كان مصدرًا للتعذيب الداخلي.

7. الدلالة الفلسفية: وجود الوطن في الذات:

القصيدة تنطوي على تأمل فلسفي عميق حول الكينونة والوجود. تطرح الشاعرة تساؤلات وجودية حول الذات ووطنها، وهو ما يعكس الاغتراب الوجودي بين الوعي الوطني والواقع المرير. الوطن هنا هو فكرة وجودية، يمثل الانتماء والهوية، ولكنه في نفس الوقت يشكل عبئًا داخليًا للإنسان الذي يشعر بالتناقض بين حبه لوطنه وبين ما آل إليه هذا الوطن من خراب.

خلاصة القراءة

قصيدة (كروان) هي نص متشابك رمزيًا وفكريًا، تتراوح فيه الأحاسيس بين الحلم والخيبة، وبين الأمل في وطن حر وبين الألم الناتج عن الفساد والدمار. الشاعرة تُظهر من خلال الصور الشعرية المبدعة التحولات النفسية والوجدانية التي يعاني منها الإنسان تجاه وطنه، بل والوجود ذاته، حيث يُصبح الوطن أكثر من مجرد مساحة جغرافية؛ إنه إحساس داخلي لا يمكن التخلص منه، حتى وإن كان سببًا للألم والاغتراب.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

......................................

كروان

بقلم سونيا عبد اللطيف

***

الوطن الذي أحمله بين ضلوعي…

مثل كناري أسير

بين قضبان قفص

صغير

تراه يغرّد

تراه فرح

تراه…

*

مثل جناح غادره سربه

اطلق لطيره العنان

رفرف مع الغربان

كسرت له الرّياح العظام

أجهش بالبكاء الكروان:

كيف نستقبل السّلام؟

كيف نحلّق الأحلام؟

من أين تأتينا الأنسام؟

*

مثل نبضة

مثل قدحة

مثل  شرارة…

أحرقت البيادر،

أحرقت الأشجار

أحرقت قلوبا جلّنار

كانت تهشّ …

قسما

قيما

كيانا

*

الوطن الذي أحمله بين ضلوعي

صار كبيرا

وحشا غريبا

حطّم الأسوار

تفجْر بركانا

*

ليت قلبي

ما عرف حنانا

ما عشق أوطانا

ما أدمن بلدانا

ما دخل سهولا أو صعد جبالا

*

وليت الوطن …

ما حرّك فيّ ذرّة

وجدان

ما سرى كالدّم

في الشّريان

ما سكن الإنسان

وظلّ يشدو في القلوب

كروان

***

سونيا عبد اللطيف

 

(يبدو النهر هادئا وآمنا هذا المساء، وأزهار الفاوانيا متفتحة، بينما يطفو القمرعلى تيار الماء الجاري، والمد والجزر يحمل النجوم – الشاعر الصيني تشيان تشي – سلالة تانغ 618 – 907 م)

***

تعرف الفاوانيا بعدة أسماء، منها (عود الصليب، ورد الحمر). وهي نباتات عشبية معمرة أو حولية بأوراق خنجرية الشكل. تزرع غالبا في الحدائق الخاصة والعامة منذ القدم لأزهارها الزاهية الأخاذة التي تحمل نفس الاسم (وردية، بيضاء، حمراء في الغالب)، وتعرف الكبيرة منها في اليابان ب (ملكة الزهور) و(شو يو) أي الأجمل بالصينية. وأصلها من شمال غرب الصين (1000 سنة قبل الميلاد)، وقد شجعت على زراعتها الامبراطورة (وو) من أسرة تانغ (684 – 705 م). وكان انتقالها إلى اليابان وأجزاء أخرى من آسيا خلال الفترة الممتدة بين القرن الثامن والقرن الحادي عشر. وقد وردت كثيرا في الأعمال الفنية (الخزف واللوحات والمفروشات والوشوم.. الخ) والشعرية اليابانية، وبخاصة شعر الهايكو، وعلى وجه الخصوص تلك القصائد التي تعود إلى فترة إيدو (1603 – 1868)، وهي أزهار آسرة، تمثل الجمال الأنثوي والغنى ونبل الروح والحظ السعيد والأناقة والمكانة الاجتماعية والاقتصادية، ومنها القصيدة الرائعة التالية للشاعر الياباني (كيتاو):

عندما تتفتح أزهار الفاوانيا

يبدو الأمر كأنه ما من زهور

أخرى من حولها

و بحسب المصادر كان الشاعر الياباني (كوباياشي إيسا) (1763 – 1828 م) في مقدمة هؤلاء الشعراء من حيث عدد قصائد الهايكو التي ألفها حول الفاوانيا، وبلغت (84) قصيدة من أصل (2000) قصيدة تقريبا. ومنها هذه القصيدة:

هنا يقيم إله الغنى

والحظوة

الفاوانيا

(أما يوسا بوسون) (1716 – 1783 م) فقد كتب (28) قصيدة هايكو حول الفاوانيا من أصل (3000) قصيدة تقريبا. ومنها:

وعاء الأرز

مملوء حتى الحافة

زهرة فاوانيا واحدة

*

ضوء الشمس في المساء

يتأرجح ظل الفاوانيا

رويدا رويدا

*

تحمي نفسها من السحب المطيرة

من كل الجوانب

الفاوانيا

*

برعم الفاوانيا

يتفتح

ليطلق قوس قزح

*

فم ملك الجحيم

جاهزة هي بتلات الفاوانيا

لتبصق

(إينما – أو هو ملك الجحيم في البوذية)

*

تطارد صورتها العقل

بعد سقوطها

زهرة الفاوانيا

بالإضافة إلى قصائد هايكو عديدة ل (كييتسو، تان تايغي 1709 – 1771، جيوداي، هوكوشي، ريومين، تشيسوكو، هاكو، تورين، بايشيتسو، وكاكين) وغيرهم كثر. ومنها:

 (1) - ماتسوو باشو (1644 – 1694)

تغادرالنحلة

زهرة الفاوانيا

مترنحة

(2) – فوكودا تشييو – ني (1703 – 1775)

هذا القلب العجوز

يحدق إلى عود الصليب

طوال اليوم

(3) - هوكوشي

تساقطت زهور الفاوانيا،

افترقنا

دون أسف

(4) – كاكين

تلك الفاوانيا !

أريد أن أرش الماء البارد

على وجهها

(5) - تورين

من أجل الفوز برؤية الفاوانيا

من الأفضل ارتداء كيمونو خفيف

و تناول الشاي الصيني

(6) – ماساوكا شيكي (1867 – 1902)

أتناول التفاح الأخضر

بإزاء زهور الفاوانيا

سوف أقضي نحبي

(7) – تايزو (القرن 20)

ظهيرة غائمة –

زهرة الفاوانيا في الجنينة

كم هي بيضاء ؟

(ترجم له هارولد ج. ايزاكسون مجموعة هايكو في 90 صفحة بعنوان - الفاوانيا كانا – المنشورة في عام 1972 وكانت المقدمة بقلم جورج ألين وأونوين)

أما في مجال الرسم فقد كانت الفاوانيا حاضرة أيضا وبقوة. وقد برز رسام المناظر الطبيعية ومبدع أسلوب (المانجا) الفنان الشهير (كاتسوشيكا هوكوساي) (1760 – 1849) الذي رسم لوحة (الفاوانيا والعصفور) في عام 1791 ولوحة (الفاوانيا والفراشة) في عام 1804 وغيرهما. وأيضا الفنان الكبير (أوتاغاوا هيروشيغي) (1797 – 1858) صاحب ال (100) منظر، وأشهرها لوحة (في الحديقة مع الفاوانيا) التي رسمها في عام 1852. وهوكي (1780 – 1850) الذي رسم (زهرة الفاوانيا) و(تانيغامي كونان) الذي رسم أيضا (زهور الفاوانيا) و(كانو سانراكو). والرسام الأشهر في عصر إيدو (أوتاغاوا كونيسادا) (1786 – 1865) الذي رسم لوحة (زهور الفاوانيا في فوكاجاوا) في عام 1864. وجاء بعدهم (كوسون أوهارا) (1877 – 1945) أستاذ الكاتشو إي (صور الطيور والزهور) المشهور بلوحته (السنونو والفاوانيا 1910). وغيرهم كثر.

وهنا لابد من الإشارة إلى الجذور اللغوية لاسم (فاوانيا) الذي يعود به البعض إلى اليونان القديمة. وقد ارتبط بمطبب الآلهة (بايون) الذي عالج (هاديس - هيدز) أخ هيرا وبوسيدون بالسائل الحليبي للزهرة. وب (بايون) تلميذ (أسكليبيوس) إله الطب في الديانة والأساطير اليونانية القديمة الذي ساعده (زيوس) ليتحول إلى زهرة. كما ارتبط الاسم ب (بيونيا) الحورية الجميلة التي حولتها إلهة الجمال والحب والجنس (افروديت) إلى زهرة آسرة بسبب الغيرة بعد أن غازلها إله الشمس، الموسيقى والرماية (أبولو) على نحو واضح. وهكذا أصبحت زهرة الفاوانيا في الغرب رمزا للجمال والخجل الأنثوي والبلوغ والرومانسية والعاطفة. وقد بدأت قصة انتشارها هناك في القرن الثامن عشر ومن حدائق الأغنياء.

- إضمامة من الهايكو العالمي مترجمة عن الإنكليزية:

(1) – بريسيلا ليجنوري / الولايات المتحدة الامريكية

الفاوانيا المزهرة -

أمام النحلة الوحيدة العديد من الأماكن

لتختبىء فيها

(2) – ليليا راشيفا دينشيفا / بلغاريا

موسم الربيع...

رائحة الفاوانيا

تملأ الجو

(3) – شكري نيماني / البانيا

قال انه لا يقدر على تكديس

الفاوانيا في المروج

سوف لن تعيش جيرالدين*

(4) – مارلين تشين / الولايات المتحدة الامريكية

مائة نملة نارية

حمراء

تطوف في زهرة الفاوانيا

(5) – جوران جاتاليكا / كرواتيا

الوقوع في الحب...

الوسيلة التي تجذب بها الفاوانيا

الفراشة

(6) - آني ويلسون / المملكة المتحدة

الفاوانيا البيضاء...

ثقل الفراق

في وقت مبكر جدا

***

بنيامين يوخنا دانيال

............................

* جيرالدين: اسم فتاة.

- المصادر الإنكليزية:

1 – A bee by Matsuo Basho. https: // allpoetry. com

2 – The peony. https: // www. ponterest. com

3 – Japanese Poetry Peony. https: // www. treepeony. com

4 – Twenty Five Haiku، Marilyn Chin – The Poetry Foundation. https: // www. poetryfoundation. org

5 – Poetry Peony. https: // www. nippon. com

6 – Peonies in Evening Light. https: // mrhass.co

10 – Chinese Peony Poems. https: // www. treepoetry. com

11 – Fukuda Chiyo – ni poetry. https: // www. poemofquotes. com

12 – Carpe Diem، Sparking Stars # 3 when the peonies ….. https: // chevrefeuillescarpediem. blogspot. com

13 – Japanese Poetry Flower’s Meaning. https: // poenypaintings. blogspot. com

14 – Art on Tuesday: Canary and Peony. https: // japankaleidoskop. wordpress. com

15 – Shiki – discovery of haiku. https: // wkdhaukutopics. blogspot. com

16 – Masaoka Shiki. https: // terebess. hu

17 – Peony Petal Pushing. https: // katiepickardfawcett. wordpress. com

18 – Between dream and metaphor، haiku of Yosa Buson. https: // www. vianegativiva. us

19 – Modern Japanese Haiku. https: // terebess. hu

20 – Peony Flower Meaning، Symbolism، Color Meaning. https: // hellofearless. com

21 – re: Virals 124 – The Haiku Foundation. https: // thehaikufoundation. org

قصيدة جنان الحسن تحمل في طياتها تعبيرًا عميقًا عن الأنا الشاعرة وعلاقتها بالعالم من حولها. تبرز الأنا ككائن متأمل، يتنقل بين بيئات متعددة (الصحراء، البحر، الغابة، الليل، والخريف) كل منها يعكس جانبًا من مشاعر الفقد، الحنين، والوحدة.

الأنا الشاعرة

تظهر الأنا الشاعرة ككائن هش، مُفكك، يسعى للتعبير عن تجاربه الوجودية. من خلال الصور المختلفة، تُبرز مشاعر العزلة والضياع، حيث تتحول إلى "حبة رمل" أو "صدفة" أو "شجرة" تعبر عن عدم قدرتها على التحكم بمصيرها. في كل مشهد، تُظهر كيف يمكن للوجود أن يكون متعثرًا ومؤلمًا، لكن في الوقت ذاته هناك جمال في هذا الألم.

الأبعاد الرمزية

البيئات المتعددة: تعكس كل بيئة تجربة إنسانية مختلفة. في الصحراء، تجسد الوحدة والفقد، بينما في البحر، يتمثل الأمل والخيانة. وفي الغابة، يُظهر الصراع من أجل البقاء والتكيف مع الظروف.

التفاعل مع العناصر: الأنا تتفاعل مع العناصر المحيطة بها، مما يضفي طابعًا شخصيًا على الطبيعة. كل عنصر يحمل معانٍ خاصة، مثل الرياح التي تعبر عن الأماني، أو الشمس التي تمثل الأمل والضوء.

الحنين والغياب

يتكرر موضوع الحنين والغياب في الأبيات، حيث تؤكد الأنا الشاعرة على مشاعر الفقد والذكريات المؤلمة. فالشعور بالوحدة يتداخل مع الرغبة في التواصل والانتماء، مما يجعل التجربة الشعرية أكثر عمقًا.

النهاية المفتوحة

تختتم القصيدة بسؤال عن المستقبل، مما يضيف بعدًا من الغموض وعدم اليقين. هذه النهاية تعكس عدم القدرة على التنبؤ بمصير الأنا الشاعرة، مما يجعلها تجسد تجربة إنسانية عالمية.

والآن، دعونا لنلق نظرة فلسفية عميقة على مضمون القصيدة:

الأنا الشاعرة ككيان متغير

الهشاشة والوجود: الأنا تُظهر نفسها ككيان هش، تائها في فضاء واسع. تعبير "أنا مجرد حبة رمل" يعكس الفكرة الفلسفية الوجودية، حيث يُعتبر الإنسان جزءًا صغيرًا من كيان أكبر، يتلاعب به الزمن والظروف. يُشبه وجودها بالزخرفة على رمال الشاطئ، التي لا تلبث أن تُمحى.

التحول المستمر: تتجلى الأنا الشاعرة في صور متعددة (حبة رمل، صدفة، شجرة، نجم)، مما يعكس فكرة التحول الدائم، التي تتبناها الفلسفة الهيجلية. هذا التعدد يُظهر تناقضات النفس البشرية، والتجارب المتنوعة التي تشكل الهوية.

الصراع مع الغياب والحنين

الغياب كحقيقة وجودية: الصورة المتكررة للغياب تجسد فقدان الهوية والانتماء. تعبيرات مثل "قصم ظهرها الغياب" تشير إلى أن الفقدان ليس مجرد حدث، بل هو حالة وجودية تتغلغل في الذات. كما يطرح هايدغر مفهوم "الوجود في العالم"، حيث يكون الغياب جزءًا لا يتجزأ من التجربة الإنسانية.

الحنين كحركة داخلية: الحنين يمثل سعيًا نحو الكمال، أو إلى ما فقدته الذات. هذا الشعور يرتبط بمفهوم "النوستالجيا"، حيث يشكل الماضي المفقود إطارًا مرجعيًا للحاضر، مما يجعل الأنا تتساءل عن قيمتها في العالم.

العلاقة مع الطبيعة

التفاعل الديناميكي: الأنا لا تعيش في عزلة، بل تتفاعل مع البيئة المحيطة. في كل صورة، تعكس الطبيعة حالتها النفسية. الأنا كـ "شجرة" تُظهر العلاقة بين الإنسان والطبيعة، حيث تنبعث الحياة من الألم والصراع. هذا التفاعل يعكس فكرة الفيلسوف رومان رولان عن وحدة الإنسان والطبيعة.

الطبيعة كمرآة: تمثل الطبيعة مرآة تُعكس فيها مشاعر الأنا، مما يجعلها ليست مجرد خلفية، بل شخصية حيوية تعيش التجربة. كأن الطبيعة تُحدث الأنا، وتُساعدها على فهم وجودها.

الغموض والإمكانات المستقبلية

السؤال عن الغد: تنتهي القصيدة بسؤال مفتوح عن المستقبل، مما يبرز عدم اليقين في الوجود. هذا العنصر يعكس الفلسفة الوجودية، حيث تُعتبر الحياة مليئة بالأسئلة التي لا يمكن الإجابة عليها بسهولة. مثل سارتر، الذي يؤكد على أن الإنسان محكوم بالحرية والاختيار، فإن الأنا هنا تُسائل نفسها عن مصيرها.

الأمل والتجديد: تتواجد إمكانية التحول والتجديد في كل نهاية. الأنا تُشير إلى احتمال التجدد من خلال "الأماني الجديدة" التي تُخلق من الفوضى. هذه الفكرة تتماشى مع فلسفة نيتشه حول قوة الإرادة.

خلاصة

قصيدة جنان الحسن ليست مجرد تعبير شعري، بل هي رحلة فلسفية تستكشف الأبعاد الوجودية للأنا. وتعكس تجربة إنسانية عميقة تتفاعل مع الألم، الفقد، والطبيعة، مُتناولةً أسئلة عن الهوية، الوجود، والمصير. بهذه الطريقة، يصبح الشعر وسيلة للتأمل في حقيقة الحياة ومعانيها.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق.

.........................................

الذات حين تكون

بقلم: جنان الحسن

***

في الصحراء

أنا مجرد حبة رمل تلاعبت بأمانيها الريح طويلا قبل أن تسقطها سهوا بفعل الحمل الثقيل

أثقلها الحنين وقصم ظهرها الغياب..

في البحر

أنا مجرد صدفة ظنت أن قلبها الأبيض لؤلؤة ثمينة فمنحته لبحار عابر

وضعه قلادة في عنق امرأة أخرى

في الغابة

كنت شجرة أصرخ في وجه الشمس كل صباح

أكسر وهجها عن أحلام سقطت من حقائب الليل حين الرحيل

أخبئ مؤونة السناجب للشتاء

أشارك طائر النقار موسيقاه التي يعزفها على جسدي

حتى باعني الحطاب لدرويش فقير فقد ساقه في الماراثون اليومي للركض خلف الرغيف..

في الليل

أنا مجرد نجم يراني المؤرق رقما

ويراني العاشق ونيسا والضائع يراني دليلا

بينما أنا حجر صغير يقذفني الجميع بالأمنيات

ولا أدري متى أتشظى وأسقط حصى صغيرة تلهو بها أقدام الفصول لتغدو أماني جديدة..

في الخريف

أنا أغنية هاربة من حقول بعيدة حملني الناي في ثقوبه وأعطاني لرياح الشتاء

أحب الطرق على النوافذ المكتظة بالوحدة والخالية من دفء العائلة والصحاب..

وأما في الغد فما زلت لا أعلم ماذا أو أين سأكون؟

‏أحتوى الديوان الجديد للشاعر سعد ياسين يوسف على 30 قصيدة من شعر النثر حيث جاءت تحت عنوان "أشجار بلون الهديل"، وصدرت في كتاب فيه من الصفحات 102 صفحة من الحجم المتوسط حيث قام بنشر الديوان "دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع".

‏ويستمر الشاعر سعد ياسين يوسف في نهجه الشعري الذي يركز فيه على لغة القصيدة والشكل فيها والبنية، قاصدا إحداث الدهشة عند القارئ لقصيدته، حتى الوصول لمرحلة الاستمتاع بالشعر، رغم اختياره لموضوعات جلّها فيها الألم إحساسا، يكاد أن يكون الدال الأعمق على النهج الشعري، ومراد القصيدة عند يوسف.

 وقد تنوعت قصائد ديوان "أشجار بلون الهديل" شكلا ومضمونا، وعدد كلمات. فهناك من القصائد ما أعده قصيرا جدا، وهناك ما يأخذ ثلاث إلى أربع صفحات من الديوان، حتى إذا أختصر القصيدة راح يكثف في لغتها ويزيد في توتر آفعالها، وصولا إلى المفارقة في خاتمتها، لأحداث الدهشة عند قارئ يتطلع إلى الجديد في الموضوع.

 وإذا كان بعض النقاد قد عدوا سعد ياسين يوسف شاعر الأشجار لتركيزه في إصداراته الشعرية السابقة على الشجرة كرمز ومعاني، فإن لأشجار هذا الديوان لونها الخاص الذي إنزاح عن أصله فأصبح كالهديل (صوتا للحمائم)، فكأن الشجرة وهي تغذي بستان الشعر وتتغذى منه، قد أمتدت جذورها عميقا في صخر الأرض لتفتته، وتبني على أغصانها أعشاشا لحمائم لا تكف عن الهديل الذي يكون في أحايين كثيرة (قصائد)..هديلاً نابعا من ألم. 

يقول الشاعر جبران خليل جبران (١٨٨٣-١٩٣١)"ليس الشعر رأيا تعبر الألفاظ عنه، بل أنشودة تتصاعد من جرح دام أو فم باسم".

 ثم إن اللغة الشعرية هي أسلوب تعبير يستخدمه الشاعر ليخلق تجربة جمالية وفنية لابد لها من أن تختلف عن اللغة اليومية، التي يستخدمها الناس في الحوار اليومي مثلا أو في النثر العام.  وعليه فاللغة الشعرية لابد من أن تتميز بالإيقاع، والصورة الشعرية الفريدة، واستخدام الاستعارات، والرموز لتحفيز الذهن.. ذهن المتلقي، بصور تعبر عن معاني عميقة بطريقة غير مباشرة.

 وقد تميل اللغة الشعرية إلى الغموض أحيانا مما يترك المجال واسعا أمام المتلقي للتأويل والتفاعل مع القصيدة.

‏ومن موضوعات الديوان الجديد للشاعر سعد ياسين يوسف، موضوعة الحرب عامة، والحرب على غزة خاصة، والزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا، والشهداء في حريق مستشفى الحسين في ذي قار العراقية في عام 2021.

ثم ان من موضوعات الديوان الأخرى: الأم، والأمكنة (المدن) كمدينة القليبية التونسية، والوباء، والحب الأول، وحضور الشخصيات الكبيرة كالشاعر مظفر النواب..

 ولا بد للشعر عند سعد ياسين يوسف من أن يوظف التراث والموروث الشعبي فتقرأ في ديوانه الجديد أسم الحجاج أبن أرطأة، وتقرأ خمبابا، وجلال الدين الرومي، وتسير مع الشاعر في الرابية وحي التوراة، وتسمع معه المحمداوي، وتشاركه رقصة النوبة.

وفي رصدنا الفني الجمالي لبعض من قصائد الشاعر يوسف في ديوانه "أشجار بلون الهديل" نشير الى قصيدة "ما تطحنه الحرب"..

"الحرب تطل بوجه

من رماد

بضفائر النار التي

تلتف حول البيوت".

‏فكأن الحرب بصورتها الفاجعة هذه تطل قبيحة مؤنسنة. لها وجه ولكنه من بقايا النار، ولها ضفائر من النار نفسها، ولكن هذه الضفائر لا يمكن لها إلا أن تكون شرسة، فتظل تلتف لتطيح بالبيوت.. دلالة على البشر والحجر..والفناء والدمار…وليستمر هذا الألم:

"مهشمة دمى الأطفال

تسقط فوق ما تبقى

من جذوع الشجر القتيل

الحرب رحىً

لا تطحن القمح للفقراء

قد تطحن الشمس

فتنقلب آية النهار".

‏وهكذا يذهب الأطفال كما النساء والشيوخ والأبرياء ضحايا لحرب قبيحة، فتتهشم الدمى.. دمى الأطفال.. لتكن دالة على الضحية التي توسدت جذع الشجر الذي لم يسلم من الحرب.  هذه الحرب التي كالرحى تشبيها، ولكنها رحى تطحن الكون، وتقلب المدار، فتصبح النهارات كالليل، وتختفي الشموس في لجة النيران والألم.

وفي قصيدة " وردة حمراء في يد شاحبة" والتي جاءت في زلزال أرضي، يفاجئ الشاعر القارئ بلفظة الأنين مبتدأً قصيدته:

 " أنقطع الأنين

لا

لا لا

من قال؟

فالأسقف المنهارة

تعلو بالشهيق

ثم تهبط

لا تطلقوا الرصاصة

الأخيرة

أسكتوا المحركات

الهادرة

المطارق الكبيرة

لوذوا بصمت عميق

وأرهفوا السمع

فللسماء

ما يشبه الهديل"..

‏وهنا تتجسد لغة الشعر في قصيدة الشاعر سعد ياسين يوسف فكأن ما يصاعد في السماء يشبه الهديل، في قصيدة بدأت بالأنين (دلالة الألم) والأسقف المنهارة التي تنتظر أجنحة الملائكة:

" يا أجنحة الملائكة

كوني الوسادة

لمن توسدوا كتل الركام"

هو الألم الذي ما أحوجه الى وسادة من جناح ملاك.

ثم إن قدرة التعبير الفنية عن المشاعر الإنسانية تتجلى عند الشاعر يوسف بأوضح صورها في قصيدة "الجمر ورمل البلاد" والمهداة الى مظفر النواب. لنقرأ:

"في وضح المساء

رأيت حزني

وقد تدلى على شجر الغيابِ

غيابك الذي كلما آخيته

أستبق الخطى نافراً"

‏ففي لحظة المساءات التي يعيشها المرهف الإحساس يتجسد له الحزن فيراه.  ولكن الرؤية هنا ليست إلا للحزن وقد تدلى على شجرة نادرة هي شجرة الذين غابوا عن دار الفناء.. فكأنهم لم يغيبوا.!. تقول القصيدة:

"حتما كنتَ وكانوا خلفك

وأنتَ تمّد لهم لسانا مشتعل الكلمات"

مذكّرا المتلقي من خلال عنايته بالعبارة الشعرية بأن القصيدة مهداة الى مظفر النواب.. ومَنْ غيره صاحب الكلمات المشتعلة!..

ويتواصل الألم الذي لا مسّكن له، فيكون عرس النار حول حريق في قاعة زفاف بقضاء الحمدانية في الموصل:

" آه كم تنوراً نحصي

لندرك سرّ النار

الأزلية اللاهثة فينا"..

وهي عودة الشاعر للاسم النار… والسؤال-الحق عن تنانير (جمع تنور) مفتوحة لنار لا يخمد أوارها.. ليستمر الحريق.. وليستمر الألم.

***

د. عامر هشام الصفار

الدﻻﻻت الملتبسة في بواطن الكينونة النباتية

توطئة: ان تعاملات الروائية الكورية الحائزة على جائزتي البوكر ونوبل عن روايتها (النباتية) لربما تنقل لنا الصورة النسبية المبررة في كون موضوعة الرواية تشتمل على حبكة مغايرة ومفارقة وغرائبية في نوعها المختلف، فلعل القارىء الأوربي لها من جهة خاصة يجدها في غاية تحقيق الميتاحداثوية والمغايرة في مركبات بناياتها السردية المجردة، ذلك لكون بعض خصائص موضوعاتها تمتاح في حدود تجاوزية وعدمية لطبيعة العلاقة الواقعية أو التجريبية حتى لو فرضنا كونها من الروايات ذات النمط الأكثر تجريبا في ملامح فكرتها الهادفة إلى محققات نوعية من التخييل السردي. ولكن القارىء العربي والناقد عند قرأتها لربما يواجه مراحل غير ضرورية بالمرة فيما فقدت من جهة ما كل أدلة حدوثاتها الاسبابية جملة وتفصيلا. أنا ﻻ أنكر دور البناء الروائي كحالة تشييدية من الادوات والمسوغات الاسلوبية ولكن عناصر بناء الحبكة ﻻ تتحلى بأية ديمومة تقانية من شأنها كشف وإقناع المتلقي بكيفيات العلاقة الجادة في عبورات موضوعة الرواية والتي ﻻ تتجاوز حكاية فتاة متزوجة اختارت على حين بغتة العزوف عن تناول اللحوم بكافة أنواعها، مما جعل هذا الأمر من حياتها كزوجة تنتهي وكأنها مغامرة في اللاشيء.

السارد الخارجي وتمثلات المسرود المحكي

يتبنى السارد المشارك في رواية (النباتية) والتي قام بترجمتها إلى العربية من اللغة الكورية الاستاذ محمد عبد الغفار ذلك الطابع المتمثل بشخصية الزوج لتلك المرأة النباتية، وقد يتضح من خلال زمن المسرود المحكي الواصل من على لسان الزوج نفسه بمدى حجم الاضطهاد في مسيرة حياته الزوجية، خصوصا وإنه يحيا حياة ذلك الزوج الذي لم تتأكد لديه كل القناعة بخصائص ومواصفات زوجته النباتية: (لم أكن أرى شيئا مميزا في زوجتي قبل أن تصبح نباتية، وأقول بصراحة أنني لم أشعر بانجذاب نحوها حين رأيتها أول مرة.. رأيت إنها متوسطة الطول، شعرها متموج، ﻻ هو بالطويل أو القصير، بشرتها مصفرة كأنها سقيمة، وعظمي وجنتيها ناتئين بعض الشيء. /ص5 الرواية).

1- العناصر الإشكالية وسلبية العامل الذاتي والموضوعي:

يمكننا أن نقول في هذا الفرع المبحثي من قراءتنا بأن تعريف العامل في النص الروائي: هو أنتاج للشروط الكيفية (الداخلية= الخارجية) للنص الروائي. وعلى هذا النحو تتشاطر سبل العلاقة بين الوحدات سببا وشرطا وجزاء وتقديما وتأخيرا ووصلا وفعلا. إذ تواجهنا في مواطن أدلة الرواية - موضع بحثنا - ثمة علاقات في مسار (إنشاء النص ؟) تقابلها في الجزء الآخر علاقة ذات محمولات تشكل بدورها بـ(الدﻻلة المخصوصة) بينما وحدات التراكيب النصية اتخذت لذاتها وجودا محتملا داخل إطار من كفاءة ربط المكونات (استرجاع = استباق = إستعادة) وصوﻻ إلى (جهات الحالة) كظاهرة كيانية بالفعل العاملي الذاتي والموضوعي على السواء. وبناء على مجملية هذا التصور نعاين بأن علاقات الرواية ذات منظورين (علاقة تواصل= علاقة رغبة = ذات الحالة= الحالة إلى ممثل فعل معارض) وعلى هذا النحو يتبين لنا أن علاقة الرغبة هي حالة تواصل تفترض في ذاتها (العامل الذات - العامل الموضوع) فالعامل في المرسل والعامل في المرسل إليه موحدا بطبيعة التواصل المستند إلى فعل ذلك المعارض القائم. وهكذا يبدو أن المرسل المتمثل بوصفه ذلك الزوج عاملا في توليد علاقة تواصل ورغبة فيما يقع عامل التعارض في ذات فعل الزوجة عندما ﻻ تستطيع تحقيق علاقة تواصل بين عالمها النباتي والأدوار التي تقتضيها كيانية ومؤسسة الطبيعة الزوجية: (كانت قليلة الكلام.. فمن النادر أن تطلب مني شيئاً، وﻻ تعترض وتثير المشكلات مهما تأخرت في عودتي إلى المنزل - كانت تقضي وقتا أطول من المعتاد في القراءة التي تعد هوايتها الوحيدة - كانت أيام راحتنا من العمل تتزامن، لم تكن تقترح أن نخرج معا في نزهة - بينما أجلس بعد الظهر أمام التلفاز ممسكا جهاز التحكم عن بعد، تختلي هي بنفسها في حجرتها - كانت القراءة - لسبب غير معلوم - شيئاً تغمس نفسها فيه، تقرأ الكتب التي تبدو مملة إلى درجة أنني ﻻ أستطيع أن أحمل نفسي على مطالعة أكثر من أغلفتها. /ص7 الرواية) ومن هذا المنطلق تحديداً يصير بمقدورنا أن نعلل جربة الشخصية في زمن معراجها النباتي، مرجحا الظن في كونها لربما قد طالعة الفكرة عن طريق إحدى المؤلفات الروحانية مثلا أو تلك الكتب التي تختص بالوثنية البوذية، ذلك لأننا لم نصادف في الأحداث الروائية ما يجعلنا نفرد يقيننا بكون الشخصية استمدت عوالمها النباتية من خلال تواجهات نفسية أو عاطفية أو معتقدية ما، سوى إنها كانت تتحدث حول ذلك الحلم والأحلام التي كانت تلازمها بين الحين والآخر. ولو أردنا من جهتنا النقدية التأويلية معرفة تشكل تلك الأحلام الدموية في حياة الشخصية اما وجدنا سوى كونها كانت تتلقى من والدها ذلك الرجل الذي سلخ أعواماً من عمره في وسط الحرب الفيتنامية، لذا ان هذا الأب بدوره غليظا في سلوكه مع أولاده يوجه لهم المزيد من الصفعات والتوبيخات والمناورات التي تستدعي عقابا نفسيا على تلك الأسرة من النوع الذي يشكل في مركبات النفس للطفل بعض من المشاكل في حياته النفسية السوية. بهذا أو ذاك تطل علينا مجموعة الأحداث الروائية عبر منظورات عديدة منها تحديداً (منظور رؤية الطفل - منظور التحاكي المنونولوجي - منظور الرؤية المنامية) خلوصا نحو حيوات شخوصية تصارع في أعماقها الفردية سلوكاً فنتازيا عبر رؤية ذاتها وكأنها أصبحت كائنا نباتيا تتطلب حياته الغذائية المزيد من الماء واشعاعات خيوط الشمس المتسربلة من النافذة: (كان الجو بارداً بما فيه الكفاية، لكن رؤية زوجتي كانت أكثر برودة، وقد ذهب النعاس الذي سببته الخمرة. كانت تقف أمام الثلاجة بلا حراك وقد غمر الظلام وجهها،فلم اتبين انفعالها، لكن الخيارات المحتملة أخافتني. وشعرها الكثيف الاسود غير المصبوغ منسدل من دون ترتيب - اتجهت نحوها مطقطقا عنقي ومحاوﻻ رؤية وجهها: - لماذا تقفين هنا هكذا؟ ما الأمر ؟. / ص10 الرواية).

2- التحريك التحفيزي وزوايا أفق الإنتظار:

إذا ما تفحصنا منطقة الاشتغال الحكائي للوحدات السردية، ألفيناها خاضعة لمبدئي (التحريك + التحفيز = ترسيمة بلاغة الإنتظار) لذا فالتحريك هنا وهناك يمارسه شخصية حيال آخر بغية تحقيق فعل ما. ويتجسد في مستوى الأحداث الروائية ذلك المستوى من خضوع إرادة الشخوص إلى تدابير خاصة يديرها صوت الشخصية المشاركة المتمثلة بالزوج بدئا، فالزوج غدا هو النظام السببي الذي يقوم بدور التحفيزات التي تتشكل داخل علامات حكائية مؤشرة حينا ومتوارية حينا. أقول هنا أن نظام التحفيزي يطوع من لدن العامل المساعد ومشاكله في المسار الحدثي مع قطب العقدة المتبلورة في مستوى الدال الآخر (الزوجة ؟) لذا فإن الملازمة للعامل المساعد للتحفيز ذاته بدا كحالة تحفظ على شكل وموضع (القطب التبئيري) أي بما لا يشأ المنظور السردي الافصاح عنه من خلال تلاحم حالات القطب الآخر من دال الزوجة، اللهم إلا في حدود خلق تحيينات مناسبة لزمن النص: (لم تجفل على الإطلاق عندما وضعت يدي على كتفها ألم أشك لحظة في أنني بوعيي، وأن كل هذا يحدث فعليا - سألتها عما تفعله وأنا أتجه نحوها، بينما كانت تقف هي هناك من دون أدنى استجابة، كما لو أنها تائهة في عالمها الخاص. / ص١٠ الرواية) لعل مستوى الأهلية الافعالية المشروطة للانجاز التحفيزي إبتداء من سلسلة اللحظات والأيام والشهور من زواج الزوجين وحتى هذه اللحظة المتحفظة سرديا، كلها تتمثل كمقابل في مواضع (مقدمة - عقدة - متن - مناظرة السرد) امتداداً نحو الافعال التحريكية من قبل الزوج - أنا السارد - كحالة راح يتمظهر من خلالها النمو المحكي في بناء الميثاق السردي. فالرواية (النباتية) إذن هي مستويات تشتغل على ثيمة الدال كعلامةو البنية كتصورات معادلة والمدلول كمؤثر انفتاحي نحو المعنى المؤول.

فضاء رؤيا الحلم الدموي: الشخصية صورة نباتية مسرفة

لقد بدت لنا فرضية الرواية كالعلاقة بين المعقول واللامعقول بين الشك واليقين بين الخيال والوهم أو بين الفنتازيا والعلاماتية المسكونة بروح الملموس واللاملموس. أقول من جهتي لا يوجد شيء وهمي في الجوهر والمظهر، خصوصا وأن البنية الأدبية ثورة في الشكل اللاشعوري واللامحدود تخييلا، ولكن هناك حدود مقبولة في تحويرات المتخيل ذي القيمة المسبوكة، وحدوداً مرفوضة إذا تحول النص عبر خصائصه الأداتية والادواتية إلى مجرد بقعة إنشائية خاوية. هناك حقيقة واحدة في نجاح الرواية هو خروجها عن دائرة التكرار والاجترار وإعادة الإنتاج والكتابة بلغة وسلطة وروح النثر الشعري، لذا فعندما يريد الروائي نجاح روايته عليه أولا أن يؤكد لنفسه بأنه في صدد كتابة عمل روائي وليس بناءات قصصية في حلقات هيكلية روائية. من حدود هذا المنطلق نقول بأن رواية (النباتية) وﻻدة حقيقية لرواية جادة وجديدة، بقصد كونها علاقة عناصر بنائية واسلوبية ﻻ تمنح قارئها سوى الاحساس بدخول حياة أخرى له غير مشهودة واقعيا، غير أنها حياة تشكل في ذاتها رشحات تحملنا إلى ما فوق الواقع الروائي تركيزا وتدليلا وتمثيلا. أعود مجددا إلى دراسة روايتنا، لأقول أن تحليلنا الوظائفي للعناصر والوحدات يتخذ اهتمامه من النسق الذي تنصب فيه الشخصيات والأفعال والصفات والأدوار العاملية المصاغة بالمواقف والتفاعلات والتعارضات، لذا فكوننا نقوم بتفكيك النص عبر شخوصه وحالاته ومواقفه، ما يعني أننا في صدد تشريح المنظور السردي للرؤية الروائية، وبقول آخر حتى يمكننا هذا التشريح من فهم الاسباب والانتقاﻻت بين الادوار والعوامل المشخصة في مسار زمني حكاية وخطاب النص الروائي موضع بحثنا. أقول من الظاهر أن الشخصية الزوجة التي تدعى (يونغ هيه) قد قامت مؤخرا برمي جميع أصناف اللحوم المحفوظة داخل الثلاجة وبدا الأمر امام زوجها وهي تعبئها داخل أكياس القمامة السوداء: (وضعت زوجتي على المائدة الخس وصلصة فول الصويا وحساء فول الطحالب، لكن من دون اللحم البقري المعتاد: - ما خطبك ؟ أبسبب حلم سخيف تتخلصين من اللحوم كلها ؟ / ص١٧ الرواية) يمكننا مراجعة أولى علاقات الأحداث في الرواية حيث نعثر على كيفيات سياقية تنصيصية تنم عن رؤيا حلمية تباشر الشخصية يونغ هيه وكأنها وظيفة مونولوجية مدعومة بعوامل تنضيدية ذات الحرف المثخن: (غابة مظلمة ولا أحد هناك.. أوراق الأشجار مدببة حادة، وقدمي مشقوقة، بالكاد تذكرت هذا المكان، لكني تائهة الآن، مرعوبة أحس بالرد وعبر الوادي المتجمد أرى مبنى لامعا يبدو ككوخ، وحصيرة من القش تنسدل مرتخية على الباب. لففتها إلى أعلى ودخلت. في الداخل كانت عصا طويلة من البامبو، ملطخة بدماء غزيرة تقطر منها وتتناثر قطع من اللحم.. أحاول أن اتراجع إلى الوراء، لكن اللحم ﻻ نهاية له. / ص١٦ الرواية) ولو حاولنا أن نقف قليلا حول أبعاد هذا النوع من الكوابيس التي كانت تلازم الشخصية هونغ هيه،لوجدنا أنها قادمة من إيحاءات تؤكد وجود ثمة ضغوطات في حياة الشخصية منذ طفولتها مثلا، ولكن الغريب في الأمر أن الشخصية كانت تمارس حياتها الزوجية بطريقة أكثر سلاسة وحبورا: (لو كان قيل من البداية أن زوجتي تعاني من الشمئزاز بسيط من اللحوم، لتفهمت الأمر، لكن من قبل ان نتزوج وهي تقول إنها تحب الطعام. وكنت معجبا بطريقتها في الطهو، ملقط في يد، ومقص كبير في الثانية، لتقلب ضلعا من اللحم في المقلاة. / ص١٩) ﻻ شك أن خطاب السارد المشارك كان واضحا في وحدات السرد، لذا من الأهمية ملاحظة أن عوامل التحول للزوجة جاءت بعد مراحل مديدة من الحياة الزوجية الهانئة، وصوﻻ إلى كونها لم يقتصر أمرها في عدم تناولها للحوم فقط، بل أنها دخلت في حياة عزلوية أصبحت من خلالها فرداً ينام في غرفة أخرى وزوجها في ناحية ما من سرير الزوجية الذي بات بارداً بعد هجران الزوجة لكافة حقوق الزوج تماما، إذ أنها كانت تتذرع بأسباب أكثر غرائبية من كونها امرأة نباتية بالأثر الرجعي، لذا فإنها قالت لزوجها ذات ليلة: (ما ضايقني أكثر عزوفها عن الجنس - إنها الرائحة ! الرائحة ! رائحة اللحوم.. جسدك تفوح منه رائحة اللحوم وضحكت بصوت عالٍ ساخراً./ ص٢١ الرواية).

1- التكيف والتمثل الذهاني:

تبدو الإشارات والإحاﻻت في مستوى صادرية المكتسبات الذهنية والنفسية والسلوكية في متعلقات شخص (هونغ هيه = الزوجة) منطمسة في متحكمات سيكولوجية محفوظة في مرجحات حالة إتكالية من النوع الذي يمكننا تسميته ضمن فعلية ثنائية معبرة ب (التكيف + التمثل الذهاني = علاقة تداعي متمثلة) وهنا نتعرف على أن عملية الموضوعة في الرواية تسعى إلى خلق علاقة مركبة بين الظن والتجريب أو حدوث التلاؤم الذهاني في مواضع عملية مفترضة من أوجه المعنى المعادل للوضع الامتثالي للشخصية بكافة نوازع الظرف المناور في إنتاج عملية الإحساس لدى الشخصية في كونها أصبحت نظاماً نباتيا كلملا في صورته الكيفية والتمثيلية، لذا فهي مرحلة ذاتية منسجمة في ذاتها العضوية مع مخطط تكيفها وتمثيلها السيكولوجي النباتي والكينوني معا: (لم أجد ما يقال ! كنت على دراية بأن اختيار الحمية النباتية يعد أمراً نادراً كما كان في الماضي، فهناك من الناس من يرغب في التمتع بالصحة والعيش طويلا، أو يريد أن يتغلب على حساسيات معينة. / ص١٨ الرواية) ولعل مستوى الأحداث الرواية بات اشبه ما يكون بالفنتازيا خصوصا بعد تطور حاﻻت الخلاف ما بين الزوجين ووصول الأمر إلى انفصالهما عن بعضهما الآخر، امتداداً نحو نشوب مواقف إرغامية بتناول اللحوم من قبل والد البنت يونغ هيه، مما جعلها رافضة لمطالب ذللك الأب العنيف مما استوجبه الأمر بالاب إلى توجيه صفعة على خد الفتاة يونغ هيه، جعلتها تفتقد كل قواها النفسية المتصبرة على ذلك الارغام بأكل اللحم المدسوس رغما عنها في فمها من قبل يد ذلك الأب، وعند عدم امتثالها لمضغ الطعام وتقبله من يد الأب متحوﻻ إلى مجرد بصاق راح يسقط فوق ثياب البنت وبعض من أجزاء يد الأب، حيث اشتد الغضب لدى ذلك الاب موجها المزيد من الصفعات على خدي الفتاة التي راحت ترتعد كل قواها متوجه إلى مائدة الغداء المقامة في منزل العائلة لتنتشل بيدها سكينا أخذت تذبح بها معصمها مما زاد الموفق سوءا،فيما راح زوج شقيقتها الكبرى يحملها على كتفه مسرعاً بها إلى المشفى.

2- الحلم الكابوسي وآيروسية العلاقة النباتية الحميمية:

بأختصار أن المواجهة التي حدثت في منزل العائلة للفتاة يونغ هيه، قد شهدت عقبها حوادث غريبة وقد تكشفت من خلالها حقائق حاسمة في شأن الشخصية يونغ هيه التي ظلت في المشفى عدة أيام، وبعد خروجها استقلت بذاتها داخل شقة اتخذتها لها ملاذا آمنا لممارسة حياتها النباتية الصرفة. في الواقع ما أود قوله للقارىء أن رواية (النباتية) متتالية فنتازية مشحونة بالتأثر بمرجعيات الأساطير والملاحم الآسيوية التي تمتاح بالاسراف التخييلي لحد حدود بدت غير موثوقة دلاليا وموضوعيا. صحيح أن للرواية شأنها الكبير من أدوات البناء والحكي والوصف الروائي، ولكن كل هذه المسوغات لم تسعف الرواية من تقديم (دﻻﻻت ملتبسة ؟) امتداداً نحو تلك العلاقة التي قامت بينها وبين زوج شقيقتها الكبرى والتي تلخص في فحواها الآيروسي ثمة حدوث تفاعلات بين الجسدين اللذين غطى فوقهما الرسام زوج الشقيقة الكبرى مجموعة رسوم نباتية تؤول إلى حقيقة كون تلك الممارسة كانت بدوافع عضوية تؤكد مزامنة الحيوات النباتية بكافة خوالجها الطبيعية والنمطية الفطرية الآسرة. أما وجهة نظر الشقيقة الكبرى للشخصية هونغ هيه التي حضرت تلك الممارسة بكافة شروطها الاجهارية والسرية، فقد فقدت كل ما تملكه من احتمالات قصوى بحدوث مثل هكذا أمر بين شقيقتها الصغرى والزوج للشقيقة الكبرى ذاتها، فما عليها في ذلك الحال سوى الاتصال بسيارة إسعاف مشفى الأمراض العصبية والعقلية، وقد تمكن رجال المشفى من القبض على الزوج من قبل محاولته إلقاء نفسه من الشرفة منتحرا،وﻻقد أقتيدت يونغ هيه هي الاخرى بكامل عريها الموشوم بهاﻻت براعم الأزهار الليلية والنهارية في مواطن جسد امرأة غدت وكأنها مومياء شجرة آفلة نحو مصيرها النباتي المميت. وختاماً أقول أن رواية (النباتية) للكاتبة الكورية هان كانغ من الأعمال الروائية التي تختلف في الذاكرة القرائية أثرا ودليلاً وإبداعا منفرداً رغم وجود بعض المثالب والهفوات وهشاشة اليقين في مكونات مكامنها الموضوعية الغرائبية الفاعلة والفعلية.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

قراءة نقدية في قصيدة: ما أبهاكَ! يا سيِّدَ الكون – للشاعرة مرام عطية – سوريا.

قصيدة / ما أبهاكَ! يا سيِّدَ الكون/ هي قصيدة (سردية تعبيرية نموذجية مدهشة جداً) تأملية روحية ترتكز على المحور الديني والوجداني، وتمثل نموذجاً للمزج بين الإيمان، الحب الإلهي، والصراع الداخلي. تجسد الشاعرة من خلالها صورة العلاقة بين (الإنسان والرب)، في سياق يشمل الخلاص الروحي، التوبة، والتسليم لمشيئة الله. ولكن القراءة النقدية لا تقتصر على الظاهر العاطفي؛ بل تتعمق في التراكيب البلاغية، الرمزية، والأساليب اللغوية التي تستخدمها الشاعرة.

2. العنوان ودلالاته:

عنوان القصيدة / ما أبهاكَ! يا سيِّدَ الكون/ يتسم بالقوة والعمق، إذ يبدأ بنداء تعظيمي موجه إلى / سيد الكون/، وهو تعبير عن الجمال الإلهي اللامحدود الذي لا يمكن تصوره، بل هو / أبهاك / (أي أجملك) في كل شيء. هذا النداء يعكس توجهاً روحياً عميقاً نحو الخالق، ويعكس الرغبة في التقرب والاتحاد به.

3. الإطار الفكري والروحاني:

القصيدة مفتوحة على فكرة التسليم الكامل لله، حيث تجسد الشاعرة العلاقة بين العبد وربه في صورة شاعرية مثيرة. تنسج الشاعرة في هذا السياق مشاعرها المتناقضة بين الذل الروحي والحاجة إلى الحماية والرغبة في التواصل مع القوة الإلهية. استخدام لفظ / ضمَّني لصدركَ / يعبر عن الحميمية الروحية التي تبحث عنها الشاعرة، وهي في حاجة إلى أن تجد السلام الداخلي والاحتضان الإلهي الذي يخلّصها من صراعاتها.

4. العناصر الرمزية:

توظف الشاعرة العديد من الرموز التي تضفي على النص طابعاً عميقاً ومؤثراً. على سبيل المثال، تقول الشاعرة / كشجرةٍ مثمرةٍ /، وهذا التصوير الرمزي يعكس العطاء المستمر والمتجدد من الرب. كما أن / زنّرْ خصري بذراعيكَ القويتين/ هو رمز للقوة الإلهية التي تمنح الإنسان القدرة على الثبات والمقاومة في وجه الصعاب. هذه العناصر الرمزية تضفي على القصيدة بُعداً شعرياً يمزج بين المعنى الروحي العميق والصور الحسية التي تمنح المتلقي فرصة التفاعل عاطفياً وعقلياً مع النص.

5. التوتر الدرامي والصراع الداخلي:

مهمة الشاعرة في قصيدتها لا تقتصر على التعبير عن مشاعر الحب والإيمان فقط، بل تتجسد في صراع داخلي بين الإنسان والخطايا، وبين الأمان الروحي الذي يقدمه الرب والشرور المحيطة به. / كلُّ معاركي كانت مع عدوٍ لدودٍ يمتلكُ المال والمدائنَ/ تعبير قوي عن الصراع مع القوى المادية التي تزعزع السلام الداخلي. هذه الصورة العميقة تشدّد على التوتر الدرامي بين / العدو/ المادي (الذي يتمثل في المال والحروب) و/ الرب/ الذي يمنح السلام والعطاء.

6. الصياغة البلاغية والتعبيرية:

تستخدم الشاعرة أسلوب التكرار والنداء المتواتر في هذه القصيدة، حيث تتوجه مراراً إلى / سيد الكون/ و/ سيد العطاء/ و/ سيد البهاء/، مما يخلق نوعاً من التوكيد على الجلال والعظمة الإلهية. استخدام الألقاب المختلفة يعزز من المكانة الرفيعة لله في النص ويعكس البُعد المتعدد لرحمة الله وعطاءه. كما أن الجمل الشعرية الطويلة التي تبدأ في صورة توصيفية (ضمَّني لصدركَ كقصيدةٍ سرمديةٍ) تساهم في منح القصيدة طابعاً موسيقياً وانسيابياً يعزز من تأثيرها العاطفي.

7. توظيف الأسلوب الاستفهامي:

الشاعرة تستخدم الاستفهام البلاغي في بعض المقاطع، مثل: / يا سيدي كم تدهشني برحمتكَ!! واتساعِ مداكَ!! /، وهو أسلوب يعكس التفاعل الوجداني مع عظمة الخالق وعطاياه. هذا التفاعل لا يتوقف عند حدود الوصف بل يتجاوزها إلى شعور بالدهشة والتساؤل عن مدى الرحمة والإحسان التي يمنحها الرب.

8. التوجه الفلسفي والروحي:

الشاعرة لا تقتصر على التعبير عن الإيمان الديني البسيط، بل تقدم تأملات فلسفية عميقة في العلاقة بين الإنسان والرب. حيث ترى في / الرب/ ليس فقط الخالق ولكن الحامي، المعين، والموجه. هذه الرؤية تعكس عميقًا مفهومًا روحانيًا متعدد الأبعاد، يتجاوز الحدود الدينية التقليدية ليشمل بعدها الإنساني والوجودي.

9. الخاتمة:

هذه القصيدة عبارة عن نص (ديني/ روحاني) ينسج علاقة حبّية عميقة بين الشاعرة والخالق، لكنّها في الوقت نفسه تحمل صراعاً داخلياً بين الإيمان والشرور المادية التي تواجه الإنسان. الأسلوب البلاغي، الرمزية العميقة، والتكرار، وكل التفاصيل الأخرى تجعل من القصيدة مشهدًا شعريًا يبعث على التأمل الروحي العميق، ويحث القارئ على التفاعل مع القوة الإلهية التي تغمر الكائنات الحية بالرحمة والعطاء، بينما تُظهر الشاعرة بوضوح كيف يمكن للإيمان أن يكون سلاحًا يقاوم الفتن والشرور في هذا العالم.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

.........................

ما أبهاكَ! يا سيِّدَ الكون

يا سيِّدَ الُّلطفِ، ضمَّني لصدركَ كقصيدةٍ سرمديةٍ، زنّرْ خصري بذراعيكَ القويتين كشجرةٍ مثمرةٍ، أبعد عن غزلاني سهام الشرورِ وسيلَ الحروبِ، فإنني قد أقسمتُ أن أبقى في رياضكَ صفصافةً عنيدةً لا تقوى عليها رياحُ الشتاءِ، فسهلْ عليّ طرقكَ، وأنرني بعدلكَ يا سيد البهاءِ.

يا سيد العطاء، إني مذ قرأتكَ في مهجتي أدركتُ أنَّ خالقاً عظيماً أبدعَ الكونَ ويداً حانيةً دائمةَ الاعتناءِ به

عرفتُ أنَّ قلباً أبوياً لا ينامُ. يسهرُ على مخلوقاتهِ، يسرعُ إلى تلبيةِ ندائهم، يصغي إلى همساتِ صدورهم، يبصرُ تضرعاتهم فيعانقهم بحبٍ وحنانٍ

يا سيدي كم تدهشني برحمتكَ!! واتساعِ مداكَ!! وأنا الخاطئ الكافرُ بعطاياك، يامن أعدتني إلى حضنكّ المقدسٍ وافتديتني بدمكّ الطاهر على الصليب.

كلُّ معاركي كانت مع عدوٍ لدودٍ يمتلكُ المال والمدائنَ يشحنُ النفوسَ بالضغينةِ والحسدِ، فينشرُ مصائدهُ وأحابيلهُ. يلبسُ ألوانا زاهية تارةً وتارةً أخرى يلبسُ جلداً ناعماً ليغريني بجماله الكاذب ويفوزَ بي، وما علمَ أنَّكَ زوَّدتني بسلاحِ الإيمانِ الماضي وقوةِ العزيمةِ، وأنَّكَ منحني عقلاً يفتحُ أبوابَ المستحيلِ، ويكشفُ أحابيلَ العداةِ حتى غدا قلبي محراباً للنور ومعبداً للسلام.

***

للدّكتور نبيه القاسم

القصّة هي جنس أدبيّ نثريّ قصير الحجم، يهدف إلى تقديم تجربة قرائيّة مكثّفة ومؤثّرة في وقت وجيز، تتّسم بتركيزها على حدث أو مجموعة من الأحداث المترابطة، وشخصيّات محدودة ومساحة معيّنة، وغالبا ما تركّز على لحظة حاسمة في حياة شخصيّة ما، أو على صراع داخليّ أو خارجيّ تعيشه، وقد تطوّرت القصّة القصيرة عبر التّاريخ، متأثّرة بالثّقافات المختلفة.

لقد ترك العديد من الأدباء العالميين بصمات واضحة عليها، مثل الفرنسيّ "غي دو موباسان" والأمريكيّ "إدغار آلان بو" والرّوسيّ "أنطون تشيخوف"، الّذين يعتبرون روّاد هذا الجنس الأدبيّ، كما أسهم أدباء عرب مثل محمّد حسين هيكل، توفيق الحكيم، يوسف إدريس وغيرهم في إثراء هذا الحقل.

اعتبر "موباسان" أن القصّة القصيرة هي الأقدر على التّعبير عن اللّحظات العابرة والمشاهد السّريعة في الحياة، وهذا الرّأي يتّفق مع رؤية العديد من النّقاد للأدب القصصيّ. لعلّ هذا النوّع الأدبّي هو الأقرب إلى روح عصرنا السّريع، الّذي يتّسم بالسّرعة والتّكثيف.

في مجموعة "لماذا فعلت ذلك يا صديقي؟" للدّكتور نبيه القاسم، تتجلّى هذه الخاصيّة بصورة واضحة، فهل نجحت هذه المجموعة في التقاط جوهر هذه اللّحظات العابرة ونقلها إلى القارئ؟

سأحاول في هذا المقال الإجابة عن هذا السّؤال من خلال التّوقّف عند بنية القصص السّرديّة وأحداثها ولغتها، تحليل شخوصها، دلالاتها الرّمزيّة، علاقتها بالسّياق العامّ، التنوّع الموضوعيّ فيها، والأسلوب والرّؤية الفنّيّة للكاتب.

تقع هذه المجموعة الصّادرة عن مكتبة كلّ شيء، في (178) صفحة من القطع المتوسّط، دَقَّقتها لغويّا كلّ من دلال عتيق وسحر أبو زينة، وتضمّ (22) قصّة، تصوّر لوحات واقعيّة حيّة من حياتنا اليوميّة، وتعكس الواقع السّياسيّ والاجتماعيّ المعاصر، تستعرض شظايا من الواقع المعاش، وتتناول اللّحظات الحاسمة الّتي تكشف عن أعماق نفوس شخوصها، مشاعرهم وأحاسيسهم المتشابكة.

تجدر الإشارة إلى أنّ بعض هذه القصص قد سبق نشرها، وقد تمّ التّنويه إلى ذلك في كلّ قصّة على حدة.

يفتتح الكاتب بقصّة "عودة الفارس من رحلة الضّياع" (ص7)، مستلهما أحداث صبرا وشاتيلا، راسما لوحة حزينة عن مأساة شعبنا ومعاناته، متّخذا من اللّغة الشّعريّة والرّمزيّة أداة لنقل معانيه، مُخَلِّقا بذلك أجواء من الحزن والشّوق والأمل المتداخل، جامعا الماضي بالحاضر، وكاشفا عن واقعنا الاجتماعي المعقّد، وعن الصّراع بين القويّ والضّعيف، وبين الظّالم والمظلوم.

يقدّم لنا سردا مؤثّرا، يثير التأمّل في معنى الحياة والموت والحبّ في ظلّ الظّروف القاسية، مجسّدا بذلك صورة حيّة عن شوق العاشق لحبيبته، وحنينه إلى أيّام مضت.

هذا النّصّ، لا يقدّم حكاية حبّ مأساويّة فقط، بل يتجاوز ذلك ليعبّر عن معاناة شعب بأكمله. تتجلّى هذه الرّمزيّة في صورة "النّوتي الأسمر" الّذي يعبر الأردن، فيبيّن من خلاله حالة الشّوق والحنين الّذي لا ينقطع، نرى كيف أنّ الضّفائر تتحوّل إلى قيد يربط العاشق بحبيبته، كرمز للأسر والحبّ الّذي يتحوّل إلى ألم: "وتتدلّى ضفائرُ شَعركِ لترسم على عنقي مشنقة، وأنا منذ اليوم الّذي أحاطتني فيه ضفائرُكِ أسير قيدِكِ" (ص7).

إنّ اختيار الكاتب لنهر الأردن؛ كحاجز فاصل بين الحبيبين، يحمل دلالات عميقة؛ فالحدود السياسيّة المفروضة، تفصل النّاس عن أحبّائهم وأوطانهم، تماما كما يفصل النّهر الحبيبين في القصّة، وهنا يتمّ ربط الأحداث الشّخصيّة بواقع أوسع وأعمق.

"النّوتيُّ الأسمرُ المُتحدّي تيّارَ الأردن بقاربه السّريع، يعود ليظهر مع كلّ حرف من حروف اسمكِ" (ص7).

على الرّغم من أنّ القصّة لا تُفَصِّل الأحداث التّاريخيّة بشكل صريح، إلّا أنّ القارئ يستشفّها من خلال الرّموز والأحداث الموصوفة، فالنّهر الّذي يفصل الحبيبين يرمز إلى الحدود المفروضة، والضّفائر الّتي تحيط بالرّقبة قد ترمز إلى القيود على الحرّيّات.

استخدم الكاتب تقنيّة التّضاد بين الحبّ والكراهية، بين الحياة والموت، ممّا يزيد من عمق النّصّ الذّي يغوص في أعماق النّفس البشريّة، ويصوّر مشاعر الخوف والحزن والألم والمعاناة، وكيف تتفاعل هذه المشاعر مع مشاعر الحبّ والأمل.

يصوّر أيضا لحظة الذّروة في الانفعال العاطفيّ لشخوص القصّة، ناطقا بمكنونات صراعها النّفسيّ مع الحياة، في مشهديّة تبرز تلك الانفعالات بكلّ عنفوانها، وتجسّد الصّراع الذّاتيّ المُكتمل، مع إبقاء بعض الإشارات مفتوحة، وتوظيف التّناقضات الصّارخة في مشاعر الشخصيّة الرّئيسة، الّتي تعكس الحالة الّتي تعيشها بسبب قسوة الواقع، فمثلا.. هو يحبّ حبيبته ويكرهها في آن واحد، يشعر بالسّعادة والحزن معا، ويضحك ليقاوم آلة القهر والموت: 

"وأنا منذُ عرفتكِ أحسست بالموت، واستشعرت لذّة الحياة، تكبرين وأكبر، وتظلّ السّنون تفصل أكثر" (ص7).

" وأحببتكِ لحظة تملّكني كرهك، وحرموني إيّاكِ ساعة وجدتك" (ص8).

"قد لا يجد الواحد منّا غير الضّحك في حضرةِ الموت، الضّحك يقهرُ الموت، ويُفزع الجبان، ويُدمّر كلّ آلات الحرب" (ص12).

"لم نُعر الدّم النّازف اهتمامنا، لم نتألّم، كنّا نضحك رغم الجراح، ونضحك وسط بقع الدّم!" (ص15).

أيضا، يربط الكاتب بين الحياة والموت بشكل وثيق، فالموت يصبح أجمل من الحياة، والحياة تستمدّ قيمتها من الموت: "الحياة جميلة، لكنّ الموت أحيانا يكون أجمل، فحيث يكون الموت تكون الحياة" (ص8).

هذا التّرابط، يعكس الفلسفة الّتي تتبناها الشخصيّات في ظلّ الحرب والدّمار، فالشّخصيّة الرّئيسيّة ترى أنّ الموت قد يكون أفضل من الحياة بسبب الظّروف الّتي تعيشها.

يستمرّ الكاتب في ربط الحبّ بالموت والحياة؛ ليُظهر الحبّ قوة دافعة للصّمود في وجه الظّلم والقهر، يتمثّل ذلك في تمسّك البطل بالأمل، وبحبيبته رغم كلّ ما يحيط به من معاناة:

"وأنا منذ اللّحظة الّتي فصلني الأردن عنكِ، أدركت أنّني سأحبّكِ حتّى الشّقاء" (ص8). "وتبقين أنتِ بضفائرك المتراقصة على وجنتيك عزائي في الحياة، ودفقة أمل للمستقبل" (ص9).

"أيّ حبّي أنتِ، وحدكِ بقيت لي في هذه السّاعة من الغسق الحزين، حيث أفقد في آن واحد خيط قصيدتي، وخيط حياتي والفرحة والصّوت" (ص9).

ثمّ يبقى التمسّك بالأمل بين ثنايا النّص، رغم الألم: "ووالدي يؤكّد أنّ كرسيّ الرّبّ سيُعلى، وأنّ الرّبّ سيظهر، فيُزهَق باطل ويخلّد حقّ" (ص13).

"إنّها لم تمت، وستعود" (ص14).

" وتبقين التّعويذة الّتي أحتفظ بها، واللّحن المردّد في خاطري، والاسم الّذي أنشر حروفه في كلّ بقعة من الوطن"(ص14).

يستخدم الكاتب رموزا سياسيّة ودينيّة لتعزيز معانيه، يربط بين جبل الحسين وجبل عرفات بالصّراع السّياسيّ الّذي يؤثّر على الحياة اليوميّة للأفراد؛ ليعكس عمق الجرح الفلسطينيّ، مركّزا على معاناة الأطفال كضحايا للصّراع، ناقلا معاناتهم بأسلوب يلامس الشّعور ويبرز الجانب الإنسانيّ للقضيّة.

تظهر المرأة كرمز للمقاومة والصّمود، فهي تواجه الألم والمعاناة بشجاعة، وتقدّم نموذجا يحتذى به: "وتبقين أنتِ بكلّ عنفوانك، تتحدّين الموت والحياة" (ص10).

كما يشبّه الوطن بالحبيبة، وبالحبّ الرّومانسيّ من حيث عمقه وتأثيره على النّفس، فكما يعاني العاشق من أجل حبيبته، يعاني أبناء الوطن من أجله، وكلاهما يتطلّب التّضحيّة والتّفاني.

 يكتب: "الألم يطهّرُنا، الدّموع تغسلنا، والحزن قَدَرُنا، وليسَ من حبٍّ إلّا وغَذّاه الدّمع، ما من حٍبٍّ سعيد، سواء أكانَ حبّكِ أم حبُّ الوطن". (ص11).

إنّ ربط الحبّ بالوطن بهذه الطّريقة يضفي على النّصّ بعدا إنسانيّا وفلسفيّا، فالحبّ في هذا السّياق هو حبّ ممزوج بالنّضال، والمعاناة هي جزء من التّجربة الإنسانيّة، والألم وسيلة تطهير وتنقية للرّوح. الألم هنا ليس مجرّد عاطفة شخصيّة فحسب، بل هو رمز لوجع شعب، أمّا الدّموع فتعبّر عن حجم المأساة.

يستذكر الكاتب أسماء بعض الأماكن؛ كسهل البطّوف ومجد الكروم، مخيّم الوحدات وتلّ الزّعتر وجسر الباشا، وأحياء الشيّاح والرّمّانة، يستحضر شخصيّات بارزة كالشّاعر محمود درويش وأحمد العربيّ الّذي خلّدته قصيدة تلّ الزعتر، وعبد النّاصر وغيرهم، ولتعزيز رسالته يستعين بأسطورة "بروميثيوس" من الميثولوجيا الإغريقيّة (الثّائر الّذي تحدّى سلطة الآلهة، وسرق النّار ليمنح البشر شرارة التّقدّم والتّطوّر).

يستعرض أيضا الدّور الّذي لعبته الأحزاب السياسيّة في تلك الحقبة، وكيف تأثّرت مسارات الأحداث بتوجّهاتهم وآيديولوجيّاتهم.

القصّة الثّانية " لماذا فعلتَ ما فعلتَ يا صديقي؟" (ص23): يختلف عنوانها عن عنوان المجموعة الرّئيسيّة "لماذا فعلت ذلك يا صديقي؟" اختلافا طفيفا في الصّياغة، فعنوان المجموعة يشير إلى سؤال عامّ موجّه إلى شخص ما، ويعكس حالة من الاستغراب والحيّرة العميقة تجاه فعل ما، ويترك المجال للتّخيّل والتّفكير في الأسباب الدّافعة وراء هذا الفعل المجهول.

يُوَجَّه عنوان هذه القصّة إلى شخصيّة محدّدة، فضمير المخاطب يجعل القارئ يشعر بمشاركة أعمق في الأحداث، وكأنّه يتحدّث مباشرة إلى الشّخصيّة، ومن خلال النّصّ نستشفّ أنّ البطل يوجّه السّؤال لصديقه ليعاتبه على غدره بعد أن وثق به، وكأنّه يقول: لماذا خنت العهد ونكثته وأفشيت السّرّ.

إذن، يكمن الاختلاف في درجة التّعميم والتّحديد، فعنوان المجموعة أكثر عموميّة، بينما عنوان القصّة الثّانية أكثر تحديدا وتركيزا على نوع الفعل.

تطرح القصّة سؤالا جوهريّا حول طبيعة الحبّ والخصوصيّة، والحدود الفاصلة بين توثيق الذّكريات والواقع الحياتيّ، تتناول حكاية حبّ سريّة تعيش في الظّلال، تغذّيها اللّقاءات المسروقة والهمسات الخافتة، لكنّ القدر، متخفيّا في ثوب الصّديق الغادر، يكشف هذا السرّ، فتتحطّم العلاقة على صخرة الخيانة، تاركة خلفها رمادا بدلا من جمر الغرام.

كما تقدّم القصّة شخصيّات متباينة ومتشابكة، ظهرت "سمر" كشخصيّة مركّبة تتّسم بالغموض والرّقة، تمثّل الجمال الأنثويّ والحبّ الرومانسيّ، وظهر حبيبها كشخصيّة مأخوذة بالعشق، يحاول توثيق لحظاته معها، لكنّه يقع في فخ التملّك والغيرة، وهو يمثّل صوت العاطفة.

أمّا الصّديقة الشّاعرة فتمثّل صوت العقل والحكمة والتّحذير، واختلاف وجهة النّظر بينهما يكشف عن طبيعة الإنسان الملتبسة والمركّبة، ويظهر الصّديق كشخصيّة مزدوجة، تحوّلت إلى الخيانة والغدر بشكل مفاجئ، ممّا غيّر مجرى الحدث، وكشف عن هشاشة العلاقات الإنسانيّة، وأهميّة الصّدق في بناء العلاقات.

غابت أسماء الحبيب والصّديقة الشّاعرة، والصّديق الخائن، إضافة إلى عدم تحديد الزّمان والمكان، وكلّها عناصر فنّيّة تعمّد الكاتب تغييبها لأهداف دراميّة، وذلك ما أضفى على القصّة صبغة عامّة وجعلها قابلة للتّطبيق على أيّ زمان أو مكان.

كما أنّ غياب التّفاصيل الخارجيّة يجعل التّركيز أكبر على جوهر القصّة وعلى المشاعر الدّاخليّة للشّخوص وصراعها النّفسيّ.

أضاف هذا الغياب طابعا رمزيّا على النّصّ، فالحبيب والصّديقة الشّاعرة رمز للحبّ والصّداقة والوفاء، والخيانة الّتي تعرّض لها الحبيب هي رمز لخيانة القيَم والمبادئ.

أمّا السّرد فهو ذو طابع شخصيّ، حيث يروي الحبيب قصّته بألم وحسرة، ويمثّل التّصوير رغبة الحبيب في تملّك لحظات الحبّ، والاحتفاظ باللّحظة الجميلة وذكراها الطيّب في تلك الصّور، لكنّه في الواقع يدمّر اللّحظة الحيّة، ممّا يؤكّد على أهميّة العيش في اللّحظة الحاضرة واغتنامها والإحساس بها.

يبرز الصّراع واضحا بين العقل والعاطفة، وتظهر الصّداقة كسلاح ذو حدّين، إذ يمكن أن تكون مصدرا للقوّة والدّعم، ويمكن أن تكون مصدرا للألم والخيانة، ممّا يكشف عن جوانب مظلمة من الطّبيعة البشريّة مثل الغيرة والحسد، أمّا النّهاية فتبقى مفتوحة، حيث لا نعرف مصير الحبيب بعد فقدان حبيبته، وهذا يترك للقارئ مجالا للتّفكير في العواقب المحتملة.

في قصّة "ليس لديّ غير الدّموع" (ص34)، نقرأ عن يتيمة الأب الّتي وَجدَت ملجأها في قلب أستاذها الحنون في الجامعة، مع مرور الوقت، تعلّقت به تطوّرت مشاعرها تجاهه من الإعجاب والتّقدير إلى مشاعر أعمق، ممّا زاد من حزنها عند فراقها له بالتّخرّج، حيث شعرت بالفقدان.

هذا الارتباط الّذي تغذّيه الحاجة الإنسانيّة الأساسيّة للحبّ والدّعم، يجد جذوره في فراغ عاطفيّ تعاني منه الطّالبة؛ بسبب غياب الأب، فهي تعيش على المستوى النّفسيّ صراعا داخليّا، أمّا الأستاذ فيشعر بالمسؤوليّة تجاهها ويدرك حدود دوره كمعلّم، وضرورة الحفاظ على حياديّة العلاقة المهنيّة.

هذه العلاقة، تمثّل تداخلا بين الحاجات الإنسانيّة والدّيناميكيّات الاجتماعيّة والنّفسيّة، وتثير أسئلة مهمّة حول حدود العلاقات، وكيفيّة التّعامل مع المشاعر المعقّدة الّتي تنشأ في سياقات غير تقليديّة.

في قصّة "جدّو والهسهسة اللّعينة"(ص37)، يعاني الجدّ من إزعاج النّاموس الّذي يخترق طنينه سكون اللّيل، فيحاربه بكلّ ما أوتيَ من قوّة؛ ليدافع عن لحظات راحته، يشعل الأنوار باحثا عنه، مقلّبا كلّ ركن في المنزل، يرشّ المبيدات الحشريّة، مسبّبا الإزعاج لزوجته وأولاده الّذين يحاولون إخفاء المبيد، فلا يعرف النوّم ويخرج هاربا الى الحديقة.

في الصّباح، يستيقظ الجدّ على صوت حفيدته الصّغيرة التّي تخبّئ علبة المبيد، حين سمعت أنّ العائلة ستتخلّص منها، فيحتضنها ويقبّلها باكيا، مقدّرا براءة قلبها الصّغير.

تتميّز هذه القصّة بسردها البسيط، ما يجعلها قريبة من حياة القارئ، وهي تبرز بعض الجوانب الإنسانيّة كحبّ الجدّ لحفيدته واهتمامها به.

قصّة "موت الأستاذ" (ص43)، تثير فضول القارئ منذ بدايتها بمشهد مؤثّر ينتهي بصدمة مفاجئة، حيث تروي حكاية أستاذ جامعيّ مرموق، يغلق باب غرفة مكتبه في الطّابق الثّالث مستلقيا على الأريكة، وبعد ساعات، يُعثَرُ عليه جثّة هامدة تترك وراءها لغزا محيّرا بهذا الموت المفاجئ.

تساهم سلاسة السّرد وبساطته في سهولة تتبّع أحداث هذه القصّة، أمّا تقديم شهادات مختلفة عن الأستاذ، بعضها مضيء وبعضها مظلم من قبل زملاء الأستاذ وطالباته وزوجته، فيضيف طبقات متعدّدة لشخصيته، ويجعلها أكثر عمقا. نهاية القصّة تُركت مفتوحة؛ لتمنح مساحة للتأمّل والتّفسير، ولتعكس فكرة أنّ الحقيقة قد تكون أكثر تعقيدا ممّا تبدو عليه.

تستكشف قصّة "أمّي" (ص51) معنى الحياة والموت من زوايا متعدّدة، تعرض تأثيراته النّفسيّة والجسديّة على الفرد والمجتمع، وتناقش الرّؤية الدّينيّة للحياة والموت وما بعدهما، تدفعنا إلى التّفكير في ماهيّة الوجود وعبثيّة الحياة، وتركّز على دور الأمّ في حياة الطّفل، وكيف يؤثّر فقدها على تكوينه النّفسيّ وصورته عن العالم.

تتجلّى هذه الفكرة المؤلمة بوضوح في قصّة "أنا لا أحبّ أمّي" (ص58)، الّتي تركّز على عمق تأثير فقدان الأم على الطّفل، الّذي يعاني بصمت، مصارعا مشاعر الحزن والضّياع.

تتبعها قصّة "وأخيرا ماتت أمّي" (ص61)، في سرد مؤثّر عن عالم اليتم، لكن.. هذه المرّة تشرق شمس الأمل بفضل الأخت الكبرى الّتي تحتضن الأسرة بحنان، فتكبر مع إخوتها، تسقيهم من عطفها وتغدق عليهم بحبّها، لكنّ القدر يشرع في كتابة فصل جديد من الألم، لترحل الأخت الكبرى مخلّفة وراءها فراغا هائلا في قلب الرّاوي، الّذي اعتبرها أمّه ومصدر قوّته، فيشعر بقسوة اليتم مرّة أخرى، بعد أن فقد أخته الّتي كانت بمثابة أمّه الثّانية.

في هذا السّياق، تقدّم لنا اللّغة العربيّة بعض المفردات الّتي تصنّف حالات اليتم بدقّة، فاليتيم هو من فقد أباه، بينما يُطلَق على من فقد أمّه "العجيّ"، أمّا من حرم من كلا والديّه فهو "اللّطيم".

نُطلّ مع قصّة "رجل فقد العلاقة بالحياة" (ص68) على واقع معاش يلامس حياة الكثيرين، فهي تصوّر بأسلوب واقعيّ حالة الفراغ الوجوديّ الّتي يعاني منها الرّجل، وانفصاله التّدريجيّ عن العالم من حوله؛ ليصبح كائنا آليّا يتحرّك دون هدف أو شغف، ينسحب إلى دوّامة من الرّوتين المملّ بين جدران البيت ومكتب العمل وواجباته الأسريّة، وفي زحمة الأيّام المتشابهة يتلاشى شغفه بالحياة، يشعر بفقدان كبير في طاقته الحيويّة، وكأنّه يتآكل من الدّاخل، ممّا يؤدّي إلى فقدان اهتمامه بكلّ ما يحيط به، حتّى يصل إلى نقطة يصبح فيها غريبا عن ذاته.

أمّا قصّة "الزّوج العبيط" (ص73)، فتجسّد مأساة كلّ من رضخ إلى قيود المجتمع وتقاليده الّتي تسحق أحلام الفرد، وتجبره على التّضحية بسعادته في سبيل رضا الآخرين وأحكامهم، مقدّما على مذبح ذلك أحلامه وحبّه ومشاعره، في تضحية أبديّة لا تنتهي، تدفعه إلى ارتداء قناع لا يعبّر عن شخصيّته الحقيقيّة، وتمنعه من أن يعيش حياة مليئة بالمعنى. هذه القصّة تثبت أنّ العواقب النّفسيّة لرضوخ الفرد لضغوط المجتمع باهظة جدّا. 

وبطابع واقعيّ تقدّم قصّة "اللّيل المخيف" (ص86)، دراما نفسيّة عن صراع الإنسان وكبار السّن مع الوحدة والفقد بعد فقدان شريك الحياة، من خلال رحلة بطل القصّة "سمير" بعد وفاة زوجته "سميرة".

يوظّف النّصّ الأحلام والكوابيس كرمز لحالته النّفسيّة، حيث تعبّر الأحلام عن ذكرياته السّعيدة مع زوجته، بينما تجسّد الكوابيس مخاوفه ووحدته، أمّا استخدام اسم الزّوج "سمير" والزّوجة "سميرة" فيضفي رمزيّة على العلاقة بين الزّوجين، يشير إلى التّرابط العميق بينهما ويعزّز فكرة الوحدة الّتي يشعر بها الزّوج بعد فقدان زوجته، وكأنّه فقد جزءا من روحه.

قصّة "وحدث أن مات بعد أن نشر خبر انتقاله إلى رحمته تعالى" (ص95)، تثير الأسئلة حول طبيعة الموت، العنوان ذاته يشكّل مفارقة عندما يتحوّل الموت إلى خبر ينشر ويعلن عنه كأيّ حدث عاديّ.

في قراءة سلسة تلامس مشاعر القارئ وتستحضر في ذهنه ذكريات الطّفولة والعلاقات الأسريّة الدّافئة، تقدّم قصّة "حفيدي أشطر دكتور" (ص99) حكاية إنسانيّة مفعمة بالدّفء والطّرافة، حيث يعاني الجدّ من ألم شديد في رجله، فيندفع كلّ من حوله لتقديم النّصائح الطّبيّة المستندة إلى تجاربهم الخاصّة، ممّا يضفي على السّرد نكهة فكاهيّة.

في هذه الأجواء، يظهر الحفيد الصّغير؛ ليقدّم علاجا بسيطا وعفويّا للجدّ، وهو "الموت" الّذي يريح من كلّ الأوجاع، وعلى الرّغم من براءة الحفيد، إلّا أنّ كلامه يحمل في طيّاته حقيقة وجوديّة عميقة، وهي أنّ الموت هو النّهاية الحتميّة لكلّ آلام الحياة.

قصّة "حالة" (ص102)، تمزج بين الواقع والخيال، حيث يقع أستاذ الجامعة في حبّ طالبته "هند"، الّتي تطلب مساعدته؛ ليجد نفسه عاجزا عن مقاومة سحرها وجمالها، فيعيش صراعا بين واجبه كأستاذ، ورغبته بمساندتها في مواجهة ظلم أستاذ آخر.

يوظّف الكاتب رمز "القط الأسود" ليجسّد الظّلم الّذي يهدّد براءة "هند" ومستقبلها، هو رمز للشّر والإغواء؛ كشخصيّة غامضة تحاول استدراجها والتّلاعب بها.

من خلال هذا النّصّ يمكن مناقشة قضايا مهمّة، مثل صورة المرأة النمطيّة في المجتمع، وسوء استخدام السّلطة.

أمّا قصّة " آه يا زمن" (ص111)، فتسافر بنا عبر سرد تاريخيّ لأهم الأحداث الّتي شهدتها المنطقة، تمزج بين الذّكريات الشخصيّة والأحداث السّياسيّة المؤثّرة؛ وبين الوصف والحوار والسّرد الذّاتيّ، تطرح رؤية نقديّة لواقعنا، ويعبّر "العلم" فيها عن الهويّة، ويجسّد الصّراع بين الذّات والآخر والاندماج.

ترسم قصّة "مشاهد كلّ يوم" (ص121)، لوحة واقعيّة نابضة للحياة في بلادنا، من خلال عيون طفل يرافق والده في جولة عبر شوارع مدينة نهاريا، ليشهد على التّفاعلات بين الشخصيّات، والتّناقضات في علاقاتهم وسلوكيّاتهم وتصرّفاتهم في واقع معقّد متشابك.

يشكّل الطّفل نافذة على الواقع المعاش، فهو يلاحظ التّفاصيل الصّغيرة ويطرح أسئلة تكشف عن حقيقة الأمور ببراءة، ليحمل وصفه للمَشاهِد دلالات عميقة، تشير إلى الظّلم والتّمييز وتعبّر عن صراع الهوية. تُختَتَم القصّة بمشهد دالّ على الظّلم وانعدام الأمان.

أمّا قصّة "وتكون لنا راية"(ص126)، فتبرز التّمييز والقمع، تشكّل "الرّاية" رمزا مركزيّا للهويّة، حيث يمرّ بطل القصّة بصراع داخليّ بين رغبته في المواجهة، وبين خوفه على نفسه وأحبّائه.

في قصّة "العمّ فندي التّركيّ" (ص132)، نجد صورة لغربة الإنسان وصراعه مع الهويّة من خلال شخصيّة العمّ فندي، المجاهد الّذي قرّر البقاء في البلاد بعد عام (1948م)، ليعيش غربة مركّبة عن وطنه وأهله وعن المجتمع الّذي يعيش فيه.

تشكّل هذه القصّة وثيقة أدبيّة وشهادة على واقع الحياة بعد النّكبة، وهي تحمل في طيّاتها الكثير من الألم والحنين والأمل، فيها العديد من الرّموز الّتي تضفي على النّصّ بعدا فنّيّا، مثل "الشبّابة" الّتي تعبّر عن الشّوق إلى الجذور والحنين إلى الوطن والأهل والماضي الجميل، و"اليانصيب" الّذي يمثّل الأمل في التّغيير واللّجوء إلى الأوهام هربا من الواقع المرّ. أمّا العمّ فندي فيمثّل البطل الّذي خاض معركة من أجل قضيّة يؤمن بها، لكنّه مُنِيَ بالهزيمة، ممّا أدّى إلى شعوره بالضّياع وفقدان الهدف.

تُسقِط هذه الشّخصيّة ظلالها على الهزيمة الّتي تشعر بها الشّعوب العربيّة، وحالة الضّياع والتّشتّت الّتي تعيشها في ظلّ التّحدّيات السّياسيّة والاجتماعيّة المعاصرة، كما يرمز العمّ فندي إلى جيل كامل عاصر أحلام التّحرّر والوحدة، لكنّه اصطدم بواقع مرير مليء بالإحباطات والانكسارات، هذه الأجيال الّتي شهدت تبدّد الأحلام وتلاشي الآمال، وأصبحت رهينة لليأس والقنوط.

تعرض قصّة "أمّ عوّاد تصفع الضّابط وترميه على الأرض" (ص148) صورة اجتماعيّة حيّة لبلدة الرّامة في فترة ما بعد النّكبة، مستندة إلى ذكريات الكاتب وواقع حياته في بلدته، ليقدّم حكاية منسوجة بخيوط الواقع والخيال، ولا بدّ أنّ شخصيّة "أمّ عوّاد" مستوحاة من شخصيّة حقيقيّة عرفها الكاتب، إلّا أنّه يضيف إليها ملامح خياليّة؛ لتصبح رمزا للمرأة الفلسطينيّة الشّجاعة.

يركّز النّصّ على مجموعة من الشّخوص، كلّ منها يحمل رمزيّة خاصّة، ويظهر أهميّة التّضامن الاجتماعيّ في مواجهة الصّعوبات، كما يضفي استخدام اللّهجة المحلّيّة في السّرد طابعا من الواقعيّة والحميميّة، ويساعد في بناء شخصيّات قريبة من القارئ، تُعبّر عن بيئتها وثقافتها. 

استُخدمت العبارات العاميّة أيضا في القصّة الأخيرة "سيّدنا نمر" (ص159) الّتي تتمحوّر حول صراع الإنسان من أجل البقاء والتمسّك بهويّته، واعتمدت فيها الرّمزيّة للتّعبير عن المعاني العميقة.

يتمثّل ذلك في الصّراع على الأرض، الّتي تعتبر في هذا النّصّ أكثر من مجرّد مكان، فهي رمز للهويّة والوجود والكرامة.

تقدّم القصّة رسالة قويّة عن أهميّة الوحدة والتّضامن في مواجهة الظّلم، وتبرز دور الرّموز في إلهام الشّعوب، وتحفيزها على النّضال من أجل الحرّيّة والكرامة.

الخصائص والأساليب الفنّيّة:

وظّفت في هذه المجموعة تقنيّة تيّار الوعي؛ لكشف تناقضات الشّخصيّات وأفكارها، كما تشكّل الرّمزيّة فيها لغة ثانية، حيث تتجاوز الكلمات دلالتها المباشرة؛ لتغدو إشارات تحمل المعاني، وتخفي بين ثنايا السّرد صرخات مكبوتة وانتقادات لواقع مرير.

أمّا اللّغة فموجزة، سلسة وواضحة، تستعين بصور فنّيّة تعكس رؤية كاتبها، تحمل في طياتها الكثير من المعاني والمشاعر، وهي في الوقت ذاته، لغة اقتصاديّة لا تبذل أيّ كلمة عبثا.

يتمتّع هذا العمل أيضا بوحدة أثر قويّة، كما وصفها "إدغار آلان بو"، حيث تتضافر جميع عناصره لتحقيق تأثير كلّيّ على القارئ، تتمحور مواضيعه حول صراعات الإنسان في الحياة، وتتناول قضايا وجوديّة واجتماعيّة وسياسيّة، مما يخلق ترابطا موضوعيّا واضحا.

يظهر ذلك من خلال شخوصه الّتي تصارع الواقع بحثا عن الهويّة والسّعادة في ظلّ ظروف قاسية، ولا ننسى نهاياته المفتوحة الّتي تترك للقارئ مساحة للتّفسير وإعادة صياغة المعنى، أمّا بنية القصص فتتنوّع بين قصيرة ومتوسطة، مُكَوِّنة تشكيلة سرديّة، تضفي حبكاتها المتنوّعة ديناميكيّة على السّرد.

وبعد.. يجيب هذا العمل الأدبيّ عن سؤالنا المطروح في بداية المقال، يكشف عن عمق القصّة القصيرة وقدرتها على حشد معانٍ عميقة في سطور قليلة، والتقاط اللّحظات الحيّة وتحويلها إلى نصوص أدبيّة مكثّفة، مثيرا تساؤلات جوهريّة تحفّزنا على تأمّل ذواتنا والعالم من حولنا.

نجح أيضا في نقلنا إلى عالم الكاتب الإبداعيّ الخاصّ، ولا شكّ في ذلك، فالدّكتور نبيه القاسم، هو صاحب الإنتاج والرّصيد النّقديّ والأدبيّ الثّريّ، الّذي أسهم في إغناء مشهدنا الثّقافيّ بمشاركاته النّقديّة، وبالكثير من دراساته، ومقالاته الّتي نشرت في العديد من الصّحف والمواقع الإلكترونيّة، على مدى سنوات عطائه الطّويلة.

***

صباح بشير

قراءة تحليلية في نصّ: قبلكَ – للشاعرة نسرين عيسى محمد – سوريا.

هذا العنوان يسلط الضوء على التوتر العاطفي والتجربة الإنسانية التي تعيشها الشاعرة بين العيون (رمز للحب والمصير) والنصوص (رمز للكتابة والتعبير). كما يعكس رحلة التشكيل والتحوّل التي يخوضها الشخص في هذه القصيدة، من حالة التشتت إلى التماسك بفضل الحضور المُلهم للشخص الآخر.

المقدمة:

في قصيدتها /قبلكَ/ تلامس الشاعرة نسرين عيسى محمد عمق التجربة الإنسانية المعقدة، حيث تجمع بين الأبعاد العاطفية والفكرية في إطار من الشِعر الذي يتسم بالصدق والإحساس العميق. القصيدة، كما يظهر من عنوانها، تفتح لنا نافذة على التكوين النفسي والفكري للشاعرة، مبلورةً رحلةً تبدأ من لحظة الفقد والوحدة إلى لحظة التجدّد والتكامل بعد اللقاء بالشخص الآخر، الذي يمثل الفتح والتحول في عالمها الداخلي.

التمهيد الفني والنفسي:

تبدأ القصيدة بتصوير رمزَي القوة والضعف: /حصن/ و/عيون/. الشاعرة تشير إلى /حصنها/ الذي لم يتمكن أحد من اختراقه، حتى /جاءت عيناك/ لتكون /قدراً/ جديداً في حياتها. هذا التحول الجذري في رؤيتها للعالم يوحي بأن اللقاء بالآخر ليس مجرد حدث عابر بل هو نقطة تحول فاصلة في مسار حياتها، حيث أصبح هذا اللقاء بمثابة الاستنارة التي انتشلتها من /جهالتها/.

العينان كمصدر للقدرة والتحول:

من خلال تصوير العيون كمفتاح لتحرر الشاعرة، تقيم الشاعرة علاقة روحية بين العينين التي هي نافذة الروح، وبين الكلمة التي هي تمثيل للفكر والمشاعر. إذ ترى الشاعرة في عيني الحبيب /قدراً/ يسحبها من عزلتها لتتعلم وتعيد تشكيل نفسها في عالمه. / تتلمذ / هنا ليست مجرد تعبير عن الفهم المعرفي، بل أيضاً استعارة لتطور وتغير النفس.

القصيدة والتكوين الفكري:

/ازرعني بين سطورك لأكون نبراسَ قصائدك/ – في هذه الصورة الشعرية، نجد أن الشاعرة لا تقتصر على كونها موضوعاً للحب أو الإلهام، بل تطمح أن تكون جزءاً لا يتجزأ من العمل الفني للآخر. هذا الاندماج الروحي والعقلي بين الشاعرة و/الآخر/ في القصيدة يعكس رغبتها في أن تصبح شريكةً في إبداعه وتكوينه.

/فقبلكَ قصائدٌ ما روتني/ – هنا تعبير عن البحث الذي يسبق اللقاء، عن النصوص التي لم تقدم لها العزاء أو الفهم الكافي لحياتها. وبمجرد أن يظهر الآخر، تصبح الكلمات التي يطلقها دافعاً لتغيير رؤيتها لذاتِها.

الحلم والانتظار:

يتحول /الحلم/ إلى عنصر أساسي في القصيدة، حيث أن الشاعرة تستمر في شرب /الحلم/ على أمل أن يكون الشخص الآخر بجانبها. /كم من الحلم سأحتسي لتكون بجانبي؟!/ سؤال يحمل بين طياته اليأس والأمل معاً، ويكشف عن البعد المتناقض للعلاقة؛ فهناك التوق المستمر لملاقاة الحبيب، وفي الوقت نفسه، تعبير عن حجم المعاناة التي يسببها الانتظار.

الاحتواء والتكامل:

إن اللحظة التي تنتظرها الشاعرة هي لحظة تكامل بين الذات والآخر: /تعال... ضمّدْ وحدتكَ بوحدتي/. في هذه الكلمات، تصبح الوحدة التي كانت تعيشها الشاعرة جزءاً من الكيان المشترك الذي يبني مع الحبيب. اللقاء ليس مجرد شغف أو حب، بل هو حاجة نفسية وجودية للاتحاد والتكامل، لملء الفراغ الداخلي الذي تعيشه الشاعرة.

النهاية: العودة إلى الذات عبر الآخر:

/امنحني بعض الوقت لأستعيد توازني، أرتّب بعضي المتناثر وأحتويك بكل جوارحي/ – تنتهي القصيدة بتعبير عن ضرورة الوقت لإعادة بناء الذات. الشاعرة هنا تضع نفسها أمام الآخر، ليس فقط ككائن ضعيف منتظر، بل ككائن قوي يطلب أن يُمنح الوقت لاستعادة توازنه النفسي والمعنوي. هي في حاجة إلى إعادة ترتيب ذاتها، ولكن هذه العملية لا تكتمل إلا بحضور الآخر، الذي يمنحها القدرة على التماسك مرة أخرى.

الختام:

في قصيدة /قبلكَ/ تلتقط نسرين عيسى محمد اللحظات الفاصلة بين الفقد والوجد، بين الهدم والبناء، في علاقة عميقة وشاملة مع الآخر. القصيدة تتسم بالصدق العاطفي والنضج الفكري، وتعكس تطور الوعي الشخصي عبر العبور من العزلة إلى الاتحاد والتكامل. الشاعرة لا تجد في الحبيب مجرد مصدر للسعادة أو الإلهام، بل هو الرفيق الذي يمنحها الأدوات لإعادة بناء نفسها وتكاملها.

***

بقلم: د. كريم عبد الله – العراق

...................

قبلكَ......

بقلم: نسرين عيسى محمد

***

ما استطاعَ رجلٌ

أن يحتلَّ حُصني..

حتى جاءت عيناكَ

فكانت قدري..

انتشلني من جهالتي

لأتتلمذَ في محرابكَ

ازرعني بين سطوركَ

لأكون نبراسَ قصائدكَ

فقبلكَ قصائدٌ ما روتني..

ومعكَ

بعضُ عباراتٍ أثملتني..

كم من الحلمِ سأحتسي

لتكون بجانبي..!

تعال.......

ضمّدْ وحدتكَ بوحدتي..

فأنت نشأةُ ولادتي..

بدايةُ تكويني..

وامتدادُ حاضري..

امنحني بعضَ الوقتِ

لأستعيدَ توازني..

أرتِّبَ بعضي المتناثرَ

وأحتويكَ

بكلِّ جوارحي...

*** 

إغوائية لميا في مصير طانيوس وليدا، الفصل الثاني - المبحث (2)

***

توطئة: ﻻ تتوقف وظيفة التخييل في عوالم مرويات (أمين معلوف) نحو قيمة ذلك الاشباع السياقي ذي العلاقة التفاعلية النقلية من حدود حصيلة مرجعيات تأريخية ووثائقية مشحونة بما قاله (الرواة؟) بل العين التخييلية راحت تفتح ذهنية التلقي لأجلى مغاليق حكايا الاساطير والملامح والموروث الشعبي الحكائي، لذا يمكننا استشفاف أفق صناعة المتخيل والتخييل في تقديم مجاﻻت وعوامل دﻻلية مركزة في متعينات العلاقة الحبكوية في تضاعيف الحكي السردي، ولأجل أن يبقى السرد الروائي السياقي أثرا في الصورة والمشهد والمتواليات الوحداتية، أثرهُ معلوف ابقاء علاماته الاحتوائية الكثيفة اندراجا مسرودا في الجزيئات والكليات والهوامش والتفاصيل الأكثر جنوحا في الاكمال والهوامش والتقصي لإحساس تجليات وبواعث الواقعة السردية المتعددة في الإمكان والتمكين السياقي وتخييلي.

- العلاقة الإنتاجية بين فعل السارد وحديث مساحة المنقول.

تشكل الصورة السردية في محكيات العلاقة الإنتاجية للحكي تماثلا بين طرفي (فعل السارد مشاركا.... مساحة حديث الوظيفة التدوينية) وتزداد دائرة الوظيفة الصورية اجتيازا نحو ناحية الانفتاح التخييلي الذي راح يتعامل مع حدود العلامات والأسماء والمواقف والشخوص ضمن جملة وتيرة إنتاجية تنص بأن السارد المشارك هو الطرف الذي يستوح قابلية تحريك الصور والأفعال ضمن إشارات مدونة في دفاتر القساوسة والكهنوت وبعض من شواهد الأشخاص السابحين في فضاء الهامش من الوظيفة النقلية ذاتها.

1. الربط الزمكاني في واصلة الزمن الحاضري:

يحظى الفضاء الروائي في تجربة (صخرة طانيوس) بملاذات موروث (الحكاية المرجعية) عبر حياتها وزمنها المشرب ب(المسرود إليه راويا؟) لذا فإن مضمار الأهمية في السرد والمسرود، تتعدى ممارسة (الحاكي النمطي؟) اقترانا بذلك الشكل من وظائفية (السارد العليم = المسرود إليه راويا). لقد عانينا مرارا في مواضع عدة من روايات معلوف، بأن الدور الفعلي للسارد لم يكن في وحدة الفاعل السردي الأكثر استقلالا بسرده، إنما الأمر يمرر عبر تفاصيل (الحكاية المرجعية. المروى إليه ساردا) وهذه الآلية التي اعتمدها معلوف في رواية (ليون الأفريقي) والآن نجد لمثلها مع الاختلاف النسبي في صدد رواية (صخرة طانيوس). أود القول هنا ببساطة متوخاة حدود الدقة والإحاطة أن شكل الممارسة الروائية في عوالم معلوف تتطلب الشاهدية المرجعية في وسائل نقل الرواة أو حتى من خلال ذلك الأثر المدون، حتى تتاح للروائي خلق فاصلة وواصلة تمتدد من مساحة الزمكانية للسياق النصي، وحتى انعطافة ومعالجة صناعة التخييل السردي. لذا فلم يتبق للشيخة زوجة الشيخ الاقطاعي سوى حزم عدتها الى الرحيل من القصر، فيما ظلت لميا تتذرع لزوجها جريس أن يسمح لها بمرافقة الشيخة إلى مكان قصر ذويها: (لم خطر ببالها قط من ذي قبل مرافقة الشيخة، ولكنها استيقظت في ذلك الصباح، وقد راودتها هذه الفكرة بعد ليلة جديدة من السهاد. خطر لها الرحيل، والابتعاد قليلا عن القصر، وعن نميمة النساء، ونظرات الرجال وهواجسها. /ص٣٧ الرواية) من هنا يتضح لنا بأن هناك ما يستدع مخاوف لميا من حقيقة رحيل الشيخة وترك القصر نهبا لشهوات وغرائز زوجها الشيخ في خلواته الحمراء.

2. المنظور السردي والاستبعاد السردي:

لعل الانطباعات التي يتركها السرد الى محصلة تمحيصات القارىء،هو الأمر ذاته الذي تركه معلوف تحت طي وحدات مخاوف وقلق وهواجس لميا من وراء رحيل الشيخة من القصر، لو حاولنا معرفة مساحة الاختلاف ما بين وجود الشيخة وغيابها عن القصر وما الذي يشكله في حقيقة معنى لغز قلق لميا ذاتها. طبعا معلوف يترك فجواة كثيرة لم يداولها في الصورة الواضحة في أحداثه، فهو عرض لنا في وحدات سابقة من الفصول الأولى من الرواية بأن لميا كانت تجاهد في سبيل إرضاء الشيخ، لذا فإنها تقوم بخدمته دون تردد منها قيد أنملة، كما وإنها هي الوحيدة المطلعة على حاﻻت وهن الشيخ في تلك الأمسية التي قضاها الشيخ متوعكا، وفهي بدورها من فرضت طابع المبادرة لأجل تحريك مشاعر الشيخ بمدى اهتمامها به، ولكن الغريب هي الآن ممن تبحث لها عن مأوى يحفظها من مصائد ومكائد الشيخ بعد أعقاب رحيل الشيخة عن القصر في زيارة موسمية إلى قصر ذويها: (كانت لميا تكشف وجها كاملا من كل نهد. لوددت أن أضع رأسي على هاتين الهضبتين كل ليلة: تحنحنت وكيف تعلم كل هذه التفاصيل، ولم تراها قط في حياتك؟. إذا كنت ﻻ تريد أن تصدقني، فلماذا تسألني؟. /ص٣٨ الرواية) في الواقع هذا الحوار كان دائرا بين جبراييل والمروى إليه ساردا. وهذا بدوره مما ذكرته بمنظور السرد واستبعاد السرد، ذلك كون التفاصيل المذكورة عن لميا هي من رؤية النقل المرجعي المدون في أحدى كتب القساوسة التي تحكي عن حكايا الجبل والضيعة معا. أردت القول أيضا إن تفاصيل منظور السرد جاءت في حدود المرويات أيضا، إلا أن هذه المرويات لا تستبعد من أن تكون مرمزا الى مواضع خاصة من الإفصاح بدورها، ذلك لان لميا عند مغادرة الشيخة صارت تعتزم لذاتها عدم خدمة ذلك الشيخ مجددا وخصوصا كونه صار بمفرده الآن، ولو راجعنا بعض الوحدات في المتون الأولى من الرواية لفاجأتنا لميا في كونها كانت تحلم بجس بعض معالم الشيخ الخصوصية، إذن إن حدوث المواقعة كانت من قبل رحيل الشيخة وليس بعد زمن فراقها للقصر: (نهض الشيخ، وانتقى في أجمل عنقود أكبر حبة، ودنا بها من وجه لميا، فشقت شفتيها.. في الخارج، لا بد أن سحابة كثيفة قد حجبت الشمس لأن الغرفة أظلمت. /ص٤٣ الرواية) وعلى هذا النحو اقول أن ملحمات الإشارات ومواطن حجب المرمزات أقرت بقرار تلك العلاقة التخصيبية الحميمية، ولكنها لم تكن بدورها الأول في حدوثها، بل لعل المواقعة الملمح إليها هنا هي الثانية بدورها وزمنها الذي راح يفصح بعد فترة من الوقت عن حمل لميا من ذلك الشيخ.

العبور الزمني وإشكالية دﻻلة التسمية

لعل من أكثر الفقرات الوحداتية في الفصول الاولى من الرواية، يتلخص في ذلك الجانب العلائقي من كيفية حصول الظواهر التي بدت عليها حاﻻت الشخصية لميا بعد إصابتها بنوبات غثيانية، والبحث في الأسباب التي جعلت الزوجان ومنذ قرابة السنتين ام يحصلا على ذلك الوليد المنتظر:(في الأسابيع التالية، شعرت لميا بأولى نوبات الغثيان، كما كان وجهها شاحبا وناحلا بعض الشيء. كانت قد تزوجت منذ قرابة السنتين، وأهلها قلقون لأن بطنها لم يتكور بعد./ص٤٧ الرواية) غير أن لميا في غضون هذه الفترة قد بانت عليها علامات الحمل المفاجئ (ولم تلمح أية نظرة مرتابة، أو تسمع أي تلميح جارح. / ص ٤٧ الرواية) إلا أن ما كان مفاجئاً فعلا، هو بعد عودة الشيخة من رحلة ذويها الطويلة إلى قصرها غدت متقلبة الأطوار متوترة في كافة سلوكها إزاء الخدم من النساء، مما جعلن أغلب الخادمات يتحاشن مواجهتها عن قرب. لعل ما أثار حفيظة الشيخة هو علمها بعد غيبتها بمسألة حمل لميا، وهذا الأمر في تصوراتها لا يعفي الشيخ بدور من تدخلة العضوي في هذا الجنين، خصوصاً وإن علاقة الود صارت شائعة على كل لسان في الضاحية بين لميا وذلك الشيخ الشبق. يدخل زمن الشائعات في رواية الوحدات من خلال اشارات وتلميحات ترتبط بواقع كون ذلك الوليد هو الأبن الأكيد للشيخ، لذا ظلت عملية تسمية الوليد من اختصاصه. اي الشيخ. صحيح أن الأسم الذي اختاره لم يلق قبوﻻ لدى لميا: (لاحظ جريس، اذ جال بنظرة المبتهج على الحاضرين لاستدرار عبارات الاستحسان المعهودة. تلكأت نظرة جريس برهة، وفجأة، أدرك ما يجري، كيف قبل بهذا الأسم، وما الذي يدفع الشيخ لاقتراحه على وجه الخصوص؟. / ص٤٩ الرواية) لعل الغريب في أمر جريس هو امتعاضه من تسمية الشيخ للوليد الذي يعتبره بصفة رسمية ولده المنتظر، وهو لم يبحث في إشكالية تقلب أحوال الشيخة وكلام الناس في الضيعة حول مدى شرعية هذا الوليد من والده الاصل جريس، والذي كان مؤكداً هو الأبن الحقيقي للشيخ بعد مواقعة لميا عدة مرات سرا. أقول من هنا قد ساد الإشكال في الضيعة حول مقترح تسمية الشيخ للمولود باسم (عباس!) ولكن المشكلة الكبيرة تكمن في معتقدات أهل كغريبدا وخصوصا أنهم يطلقون الأسماء على أولادهم تيمنا بأسماء القديسين والأسماء الواردة في الأنجيل والتوراة: (ان لميا أقسمت سرا. ماذا تودين ان تسمي هذا الطفل يا لميا؟. طانيوس. /ص٥٢. ص ٥٣ الرواية) تخبرنا الرواية عبر وحداتها بأن ردود فعل الشيخة كانت كبيرة جدا، لذا أقسمت بأنها ستكون قد رحلت عن هذا القصر المشؤوم، في فجر اليوم التالي، مع أبنها، وقد عزمت في دخيلتها ثأرا بأن ترسل أشقائها إلى قصر زوجها الشيخ بالعنف والسلاح لاسترداد ماء وجهها بعد مقاطعتهم للشيخ الذي أطلق نزوته مع امرأة تعيش تحت سقفهما، فقد أنجب هذا الشيخ طفلا من امرأة تشاركهم المكان والزمان وهي لميا ذاتها.

تعليق القراءة:

ربما من الواضح أن المتخيل الروائي في حدود حقيقة الحكاية المرجعية، يزداد تألقاً ورؤية سردية تتجمل بأقصى مستويات التحبيك المسوغ بالوعي الذاتي للمادة السياقية في الرواية، وعلى كونها رواية ذات ملازمات وعلاقات وأحوال مدهشة إلى أبعد ما تقتضيه مواقف وحالات الأوضاع التراتيبية في متطلبات المتخيل وفردية محكيات توليد المقاصد الارتباطية بلحظات خاصة ومخصوصة من خلفيات وابعاد جناية إغوائية لميا في مصير ولدها طانيوس الذي غدا يشكل في محور الرواية مركبا من الحكي يتجاوز آلة وأداة المتخيل والواقعي.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

 

للشاعرة آمال قزل – فلسطين - منطقة الجليل.

قصيدة: من أنا في لغة الانكسارات؟ للشاعرة آمال قزل تحمل في طياتها الكثير من الأسئلة الوجودية والتأملات الفلسفية. تتناول الشاعرة قضايا الهوية والانتماء، بالإضافة إلى تأثير التاريخ والظروف الاجتماعية على الذات الفردية والجماعية.

1. البحث عن الهوية:

تبدأ القصيدة بسؤال صريح /من أنا/، مما يعكس حالة من الضياع والبحث عن الذات في عالم مليء بالانكسارات. هذا السؤال يُظهر الصراع الداخلي الذي يعيشه الفرد في مواجهة واقعه، والذي يبدو مُعقدًا وصعبًا.

2. الانكسار والخيال:

تتطرق الشاعرة إلى فكرة الكتابة كوسيلة للهروب من الواقع، حيث تعيش الخيال أكثر من الواقع. يُبرز ذلك التوتر بين ما هو حقيقي وما هو مُتخيل، مما يُعبر عن معاناة الشاعرة ككائن شعري يسعى إلى تجاوز الألم من خلال الفن.

3. استحضار التاريخ:

تستحضر الشاعرة شخصيات تاريخية مثل جان دارك، مما يُعكس تأثير التاريخ على الهوية. تطرح تساؤلات حول العدل والظلم عبر الأزمنة، وتسلط الضوء على التناقضات في القيم الإنسانية، مثل تقديس الشخصيات بعد تعذيبها.

4. العبودية والحرية:

تناقش القصيدة مفهوم العبودية، سواء في سياق العلاقات الإنسانية أو في ظل الأنظمة السياسية. تتساءل عن مدى الحرية التي يمتلكها الإنسان، وتعرض صورة قاتمة عن الطبيعة البشرية ووجود الطغيان.

5. البحث عن العدالة:

تختتم القصيدة بنبرة تشاؤمية حول عدم وجود عدالة على الأرض. تُظهر أن الإنسان مُحاصر بين قسوة العالم وطغيان الزمن، مما يُعكس أزمة القيم في المجتمع.

خلاصة

قصيدة آمال قزل تُعد تأملًا عميقًا في قضايا الهوية، التاريخ، والعدالة. من خلال لغتها الشاعرية العميقة، تدعو القارئ للتفكير في المعاني المتعددة للوجود، مُسلطة الضوء على انكسارات الإنسان ومعاناته.

أنّ هذه القصيدة تتجاوز السطح لتقدم دراسة فلسفية عميقة للوجود الإنساني. دعونا نستكشف بعض العناصر الفلسفية والنفسية في هذه القصيدة بشكل أكثر تفصيلًا:

1. الانكسار كحالة وجودية:

تتكرر في القصيدة فكرة /الانكسارات/، والتي تمثل تجارب الفشل والإحباط. هذا المفهوم يشير إلى حالة الوجود الإنساني الذي يتسم بالتناقض، حيث يجد الفرد نفسه بين آماله وطموحاته من جهة، وواقعٍ غالبًا ما يكون قاسيًا من جهة أخرى. الشاعرة تسلط الضوء على كيفية تأثير هذه الانكسارات على الهوية الفردية والجماعية، مما يجعل القارئ يتساءل عن قيمة الذات في ظل هذه الظروف.

2. تداخل الواقع والخيال:

الأسئلة التي تطرحها الشاعرة حول العيش في /الخيال أكثر من الواقع/ تدل على الصراع بين الطموحات والأحلام من جهة، والواقع المحبط من جهة أخرى. هذا التداخل يُظهر كيف أن الخيال يصبح ملاذًا للأفراد، يحاولون من خلاله تجاوز معاناتهم. يمكن أن يُفهم الخيال كأداة للتكيف، حيث يتمكن الشاعر من التعبير عن مشاعره وأفكاره بحرية أكبر مما هو متاح في الواقع الملموس.

3. التاريخ والهوية:

استحضار الشاعرة لشخصيات تاريخية مثل جان دارك يُظهر كيف أن التاريخ يلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الهوية. هذه الشخصيات تمثل الاضطهاد والبطولة، مما يعكس الصراع بين الحق والباطل عبر العصور. كما تُظهر الشاعرة كيف أن هذه الشخصيات تُقدس بعد موتها، مما يثير تساؤلات حول مفهوم العدالة والظلم.

4. أسئلة العبودية والحرية:

تتناول القصيدة مفهوم العبودية بشكل موسع، حيث تطرح تساؤلات حول الحرية الفردية والجماعية. تُظهر الشاعرة أن العبودية ليست فقط في المعنى الجسدي، بل تشمل أيضًا العبودية الفكرية والنفسية. تتجلى هذه الفكرة في وصفها للعبودية كعبودية للزمن والأفكار، مما يُظهر كيف أن الأنظمة الاجتماعية والسياسية تُقيّد الأفراد.

5. التناقضات الإنسانية:

تشير القصيدة إلى التناقضات في الطبيعة البشرية، حيث يُظهر الإنسان في نفس الوقت ميولًا للخير والشر. العبارات التي تتحدث عن /ملك ومملوك/ و/قاضي وسفاح/ تعكس كيف يمكن أن يتداخل الخير والشر في النفس البشرية، مما يخلق حالة من الاضطراب الأخلاقي.

6. نداء للعدالة:

تنتهي القصيدة بنبرة تشاؤمية، تُعبر عن انعدام العدالة في العالم. هذا يُظهر كيف أن الشاعرة لا تكتفي بمجرد الاستغراق في الألم، بل تدعو القارئ للتفكير في السبل الممكنة للتغيير. يُعتبر هذا النداء بمثابة دعوة للوعي الاجتماعي والتفكير النقدي حول قضايا العدالة.

خلاصة أعمق

قصيدة آمال قزل ليست مجرد تعبير شعري، بل هي تأمل فلسفي عميق في طبيعة الوجود الإنساني. تُظهر الصراعات الداخلية والخارجية التي تواجه الفرد، وتطرح تساؤلات حول الهوية، التاريخ، العدالة، والحرية. من خلال استخدام الرموز والشخصيات التاريخية، تخلق الشاعرة عالمًا غنيًا بالمعاني، مما يُعزز من قيمة الشعر كوسيلة لفهم الواقع والتفاعل معه.

***

د. كريم عبد الله

..........................

من أنا في لغة الانكسارات؟!

بقلم: آمال قزل

***

من أنا في لغة الانكسارات؟!

لماذا أكتب بكل هذا الكم!!!

ولماذا أحمل كل هم الشعوب!!!

لماذا أعيش الخيال أكثر

من الواقع!!!

لماذا تسبح روحي الملهمة في ملكوت الله

بكل هذا الشغف!!

من أنا في لغة الانكسارات!!!

من أنا

في لغة الانتصارات

من أنا في لغة الأنوثة!!

من أنا في سر التكوين!!

من يعاقبني على حلمي البعيد من يطوق حرفي الشريد!!!

من يقرأني عبر سطورٍ

تعمقت في الميدوزا

من يفك طلاسمي المعقدة!!!

من يكشف لغتي على جداريات الروح!!!

من يسير طريق الفلاسفة ويهوى وعورة الطريق يتحدى السير

وراء القطيع

من يقيم مدينة

أفلاطونية التفكير

ويسير درب الحرير!!

من يوشوش البحر

ويسأل صدفاته التي

توارت كما تتوارى السفن

عن سر الشواطئ وتسونامي الوقت!!!

من يسألني عن أحدب نوتردام وكيف أحرقوا كنسيته في يومٍ أغبرَ!!

من قيد جان دارك!!

ومن أحرقها!!!

ومن بعد هذا أقر أنها قديسة.!!!

يا لتلك الأضداد!!

يا لتلك الأحكام!!!

يا لعبوديتنا التي نفرضها

على بعضنا

يا لعقول طاغية

عَبرت قرون من الوقت

لكنها عادت بوجهٍ أخر

وانتحلت شخصية

راسبوتين وهولاكو

يا لأطرافنا الباردة

يا لرؤوسنا الجوفاء

يا لعبودية الزمنكان

لا عدالة على الأرض

لا عدالة

من يوم ولد الأنسان

ولد ليتعذب

ولم يزل

ملك ومملوك

وقاضي وسفاح

وأرض لا تعرف غير الطغيان..

وقساوة الأنسان

للإنسان..

***

للشاعر جميل حسين الساعدي

قصيدة "نداء البحر" للشاعر جميل حسين الساعدي تعبر عن تجربة وجدانية تزاوج بين الحب العاطفي والحوار الفلسفي مع عناصر الطبيعة الملهمة. انها تتسم بثراء رمزي ودلالات إنسانية وإبداعية تظهر في تفاعل البحر مع الحضور الأنثوي، ما يجعل البحر فضاءً لبوح الشاعر ووسيطًا لعلاقة أزلية بين الذات والعشق.

هذه القصيدة تنبض بروح رومانسية عذبة، تعكس تمازجاً فريداً بين جمال الصور الشعرية وعذوبة الموسيقى اللغوية. يتجلى فيها إحساس عميق بالحب، حيث تنساب الكلمات كالموج لتخلق عالمًا من السحر والدهشة.

القصيدة تزخر بصور حية مفعمة بالمشاعر، حيث يصبح كل شيء في الكون مرآة للحبيبة. في البيت الأول، نجد الشاعر يرى في كل زهرة عطراً من شذاها، وفي كل درب أثراً لخطاها. هنا، تتجسد فكرة الامتزاج الكلي بين العاشق والمعشوق، حيث تصبح الطبيعة وسيلة تعبير عن الحب.

الصورة التي يرسمها الشاعر للبحر في الأبيات اللاحقة تأسر القلوب؛ فهو يراه مخلصًا يحمل أغنيات الحبيبة وصدى كلماتها. الشاعر يوظف البحر كرمز للامتداد والحنين، وكأنه الوسيط الروحي بينه وبين محبوبته، وهو ما يظهر في البيت:

"إنه البحر يناديني فهل... قد سحرتِ البحر قبلي فالتقاكِ".

هذا التساؤل الممزوج بالدهشة والحنين يبرز جمال الصورة الشعرية، حيث يصبح البحر شخصية فاعلة ومأخوذة بسحر الحبيبة.

إيقاع القصيدة سلس ومتناغم، حيث يتنقل القارئ بين الأبيات دون انقطاع في تدفق المعنى أو الشعور. القافية العذبة، التي تتكرر برقة وانسجام، تضفي على النص إيقاعًا يشبه تلاطم أمواج البحر، مما يعمق الأثر الشعري.

تكرار الكلمات مثل "أنتِ" و"البحر" يعكس شغف الشاعر وافتتانه، ويمنح النص إيقاعًا دائريًا، وكأن الحب يعود دائمًا إلى نقطة البداية. استخدام الكلمات مثل "سناكِ"، "ملاكِ"، و"هواكِ" يشكل موسيقى داخلية، إذ تلتقي الحروف ذات النغم الرقيق لتنسجم مع روح النص.

القصيدة تعبر عن حب مطلق، حب يتخطى الزمان والمكان، حب يجعل الشاعر يرى محبوبته حتى في الغياب، وكأنها جزء من كيانه. فكرة الحضور الدائم للمحبوبة، حتى في غيابها الجسدي، تُعبر عن نوع نادر من الاندماج العاطفي. يقول:

غائبٌ في آخر الدنيا أنا

وبعيدٌ عنكِ لكنني أراكِ

هذه الأبيات تفيض بالحنين وتعبر عن قدرة الحب على إلغاء الحواجز بين القلوب.

القصيدة تنتهي بتصعيد عاطفي مذهل، حيث يتعهد الشاعر بالاحتفاظ بحبه مهما حدث:

ســــوفَ أصطادُكِ يــــا حوريّتي

أنتِ والبحــــر جميعـــاً في شباكـي

كما ويعلن الشاعر أنه هجر الناس والدنيا من أجل هواها ويظهر تفانيه المطلق، ويُبرز الطابع الاستثنائي لهذا الحب الذي بات مركز حياته:

قدْ هجـــرتُ الناسَ والدنيا معـا

لمْ يَعُـــــدْ يشغلني إلّا هـــــــواكِ

باختصار، هذه القصيدة تمثل سيمفونية شعرية تتناغم فيها الصور الرومانسية مع الموسيقى الشعرية الراقصة مع رقصة البحر العاشق، لتخلق عملاً أدبيًا ينبض بالحب والتحدي، فتخلق تجربة قرائية تفتح آفاق التأمل في الحب والعلاقة بين الإنسان والطبيعة، متمثلة في هذا الحوار بين الشاعر والبحر والحبيبة، مما يرفع من قيمتها الأدبية والفنية.

***

سعاد الراعي

.........................

جميل حسين الساعدي: نداء البحر

 

هذه قراءة تفكيكية الى قصيدة سركون بولص قارب الى ألكتراز حيث قمت بتقطيع هذه القصيدة الى ثلاثة مقاطع لتسهيل عملية تفكيكها، فالقصيدة وان بدت نسيجاً واحدا للقارئ لكنّ بالنسبة لعملية التفكيك تكون بحاجة الى عزل المقاطع، لتساعدَ في فهم المستوى القريب والمستوى العميق والذي حاول الشاعر اخفاءه

الجو العام للنص

من الملاحظ أنّ النصوص الشعرية التي يكون لها ارتباط بالمكان وشخصياته، تكون انعكاسا للهوية الثقافية للمكان والسياقات الاجتماعية لأهل المكان، ولا يمكن ان يقدّم المكان،سواءا في النص الشعري او النثري بوصفه مجرد إطار مكاني للشخصيات والأحداث معا، لكن نراه يتحول إلى رمز للمفاهيم الثقافية والأحداث التاريخية التي لعبت دورا أساسيا في تشكيل الهوية الشخصية للمكان وناسه، بل أنّه يتشظى الى رمزيات كثيرة تحمل الخصوصيات الثقافية للزمكان وشخصياته، حيث تتحوّل النصوص الشعرية التي أرتبطت بالمكان، الى رموز للشخصيات التي تنبثق منه، لتصبح ممثلا رمزيا للهوية الجمعية والذاكرة الزمكانية، بل هي حافظة وممثلة للتراث الأنساني بشقيّه الثقافي والتأريخي، وبذلك يتحوّل المكان الى جزءٍ مرتبط أرتباطا تأريخيا وجغرافيا في شخصية النصوص الشعرية، عبر المفاهيم الثقافية والتجارب الشخصية التي تحاكي او تعكس الوضع الأجتماعي والسياسي والأنتمائي لهذا المكان، لتتحوّل هذه التفاعلات بين الزمكان والأشخاص الى دلالات موحية ورموز ثقافية أرتبطت في ذاكرة الأنسان والهوية المكوّنة له من خلال البعدين التأريخي والدلالي اللذان كان لهما دور في تكوين هذه الهوية؛

دلالة العنوان قارب الى ألكتراز

النص يتحدث عن قصة أضطهاد أهل البلد الأصليين في الولايات المتحدة الأمريكية (الهنود الحمر) والذين عرفوا بنوع معين من التقاليد والصلوات من جهة، وأخرى بتلك الحروب التي خاضوها ضد الغزاة من الرجال البيض وكيف صادروا أراضيهم وأضطهدوهم أول الأمر، حيث كانت هذه الجزيرة في خليج سان فرنسسكوا عبارة عن سجن لهم – كما قدم الشاعر لها – حاول زعيمهم دينسي بانكس استرداده كونه ملكا للأمة الهندية وهذه الجزيرة تابعة لهم، لكنّ السلطات الأمريكية طردتهم منها وهذا النص يشير الى الوقت الذي تزامنت كتابته بذات الوقت الذي تزامن وقوع الحادثة به وأقصد 1969 وفي هذا العام وقعت ثلاثة أحداث معا هي (وصول الشاعر الى الولايات المتحدة ووقوع هذا الحدث وكتابة هذه القصيدة)

من خلال أحداث القصيدة نرى انّ الشاعر كان قد تعرف الى فتاة هندية أسمها فالو وكانا بأنتظار قارب ليقودهما الى جزيرة ألكتراز في خليج سان فرنسسكو وقد حدد الشاعر الوقت ب الساعة الثانية ليلا وفي هذا اشارة الى شحة عدد القوارب التي تقل الناس الى هذه الجزيرة والتي لم يبق أمامهم وقت الى آخر قارب، ومن خلال هذه الثيمة اي الوصول الى جزيرة ألكتراز تدور أحداث هذا النص والتي عمد الشاعر الى توظيفها عبر مستويين، الأول هو سرد الأحداث وتفاصيلها وهو الظاهر والثاني هو موقف الشاعر من الرجل الأبيض سليل رعاة البقر الأمريكيين والكيفية التي يتعاملون بها مع السكان الأصليين من الهنود الحمر.

المقطع الأول:

في الساعة الثانية ليلاً أعود مع امرأة هندية من

المدينة الى منطقة الخليج، ننتظر القارب الذاهب الى ألكتراز

وهو آخر القوارب - الهندية التي أسمها فالو

ننتظر آخر قارب

قال البارمان الأبيض بلهجتة

مراهن مُدمن: اراهن أنك لن تلحق بالقارب

وأضاف بأسف كاذب، آمل أن تلحق به، على أية حال - -

جلست فالو في الرمل وجلست في الرمل، مع فالو

و أمامنا الكتراز في الماء

جزيرة كالأبهام

في يد هندية أكلت أصابعها الكلاب

أنها من مرسيليا مجدها الميت:

أراك قريبا مون شير

ترعى على سراويلي وأنا أخرج مع فالو في الرمل مع

فالو

وكيف رسمت لي في الضوء البار الفوسفوري

صورة الزعيم الراكع وخلفه الشمس دائرة

تخرج منها سهام مستقيمة كما يرسمها الأطفال

لأنني قلت لها أنني رسام

وكيف

رسمت فالو جبل قبيلتها الضائع

والشمس المائلة بنصف سهامها على سور المخيّم

يدخل الشاعر نصه عبر عامل الوقت (الساعة الثانية صباحا) ليربط الحدث وهو أنتظارهما الى قارب يقلّهما الى الجزيرة ولأنّ الوقتَ متأخرٌ جدا فيكون وجود قارب نادرا جدا وهذا ما جعل البارمان ينصح ساخرا اُراهن أنّكَ لن تلحق بالقارب وهذا يعكس الروح العنصرية التي تميّز بها البيض عبر تأريخهم نحو اللون الاخر ومنه فالو وصاحبها عبر تقنية السرد التجريدي (الشاعر) ذو الملامح الشرقية ثم يضيف البارمان وهي لفظة مكوّنة من مقطعين

Bar – man

و تعني نادل الحانة او عامل الحانة (آمل ان تلحق به) لكن الشاعر يعمد الى رسم صورة بصرية على نحو أيحائي وخيالي لهذا الرجل الأبيض وهو يرسم علامة السخرية على وجهه بقوله (بأسف كاذب) هذه الجملة تحدث وقعها من حيث الدلالة المضمرة وهو شعور كامن يضمر غير ما يظهر وهذا يحيل الى الدلالة العنصرية وهي المستوى الثاني الذي يحاول الشاعر أخفاءه في أستطراده السردي حيث يستمر في سرده المتلبس بالفكرة فيعمد الى مفهوم التكثيف الصوري وكأنّه يفكر صوريا

(جلًستْ فالو في الرمل وجلستُ في الرمل، مع فالو

و أمامنا الكتراز في الماء)

(ترعى على سراويلي وأنا أخرج مع فالو في الرمل)

(و كيف رسمت لي في الضوء البار الفوسفوري

صورة الزعيم الراكع وخلفه الشمس دائرة)

(تخرج منها سهام مستقيمة كما يرسمها الأطفال)

انّ من يلاحق الصور المتتابعة في هذا المقطع يعرف كيف يفكر الشاعر صوريّاً، هذا التلاحق الصوري يحيلنا الى مفهوم محاكاة الشعر للحياة عبر تقنيات صورية مستغلا كل ما تتيحه اللغة او الميتالغة من أنزياحات دلالية حيث تتميز قوة الشعر بالأيحاء من خلال الأفكار التي تتلبس بالصور والتراكيب المتتابعة والتي تضع القارئ أمام مشهد ميلودرامي او حكاية عبر الشعر سواءا عبر التصريح بالأفكار المجردة او بتلك المختلطة بالأحاسيس عبر المشاعر فالأستعانة بالصور شعريّاً أقرب الى أظهار الحقائق المضمرة او الشعور المخفي تجاه الأشياء، بعبارة أدق، هي ترجمة المشاعر وانعكاساتها،

(تخرج منها سهام مستقيمة كما يرسمها الأطفال

لأنني قلت لها أنني رسام)

(وكيف

رسمت فالو جبل قبيلتها الضائع)

(والشمس المائلة بنصف سهامها على سور المخيّم)

و هكذا وبذات التقنية يستمر الشاعر عن طريق المحاكاة من خلال الربط بين القصيدة والرسم وكأنّه يحاول أنتاج اللغة عبر تراكيب او مفاهيم جديدة من خلال مفهموم المحاكاة عبر آلية الرسم بالكلمات وكأنّ الشاعر قد تميّز بالخلق الصوري عن طريق بث الحركة والحياة بكل ما حوله من مشاهد او بكل ما تقع عينه عليه من خلال عامليّ الخيال واللغة فمن قدرة على أستحضار أشياء ذهنية الى خلق عوالم جديدة عبر المدركات البصرية، ولا يخفى تأثر الشاعر بتقنية او خصائص الشعر الأنكلو-أمريكي من حيث المعالجات في مفهومي الخيال واللغة عبر آلية المدركات التي تقود الى بناء عوالم جديدة تماما تخلق أتساقها ووحدتها داخل البناء الشعري للتحوّل عبر الصور المتتابعة الى تكثيف يقود الى قراءة هذه الأشطر قراءة ذهنية وبصرية في ذات الوقت، والتي تميّز بها الشاعر صياغة تفرد بها عن أبناء جيله

***

المقطع الثاني:

سأقسم هذه المقطع الى جزئين: الجزء الأول

حيث يمرض الأطفال حيث مات طفلها حيث يهذي

جدّها في المطر - يُجنّ الشيوخ يهرب الشبّان

ليتحولوا الى مدمنين ليقتلوا في المدن ليناموا في الشوارع

و ينتهوا في السجون، النساء بغايا - -

و كيف رسمت فالو جبل قبيلتها الضائع

و الشمس الأجنبية تقبع عليه كالسرطان، بمخالب

عمياء،

يستمر الشاعر في رسم صور المأساة التي خلّفها الرجل الأبيض على سكان أمريكا الأصليين حيث يستعين الشاعر بالصورة والأساليب الموارية لتقريب الفكرة والتي يلّفها التعقيد فيلتجأ الشاعر الى الأشارة والرمز وتوظيف الأسطورة وهذا جزء من تأثره بالشعر الغربي ولاسيما الأنكلوأمريكي حيث يعمد الى تقنية التمازج التي تساعده على بناء فكرته عبر ربطها بعلاقة خفية وفي هذا المقطع ربط بين ما آلت اليه ظروف الهنود من: يمرض الأطفال، يَجنُّ الشيوخ- يهرب الشبان ثم يتحولون الى مدمنين ليُقتلوا في المدن، ليناموا في الشوارع، وينتهوا في السجون، النساء بغايا، ثم عمد الى مزجها في المقطع الثاني بتلك العلاقة الخفية التي يخفيها كموقف للشاعر من الرجل الأبيض حيث يستطرد في المقطع الجزء الثاني

شمس أمريكية داجنة روّضتها البنادق

شمس رعادة البقر رجال العصابات

شمس الأدمغة المغسولة، دجاجة في قفص، دجاجة

مذبوحة تبحث عن رأسها في الظلام

فأنّ الشمس الداجنة التي روضها بنادق رعاة البقر وهذا رمز للهمجية الأمريكية وهم رجال عصابات هكذا بدأ التأريخ الأمريكي من رجال عصابات ورعاة بقر، أما قوله الأدمغة المغسولة فدلالة على الأنفلات اللا أخلاقي والتسيب الذي سعت له السياسيات الأمريكية لغسل أدمغة الشعب بالأكاذيب، ثم يستعير صورة جميلة لتقريب فكرته وهي: دجاجة في قفص حيث توحي الدلالة الى مونولوج فلسفي في صياغة الصورة عبر تراكيب مختارة بعناية فائقة موظفا الأسطورة الهندية من جهة عبر رسم صورة الزعيم الهندي وهو راكع دينسي بانكس الى توظيفه للزمكان ثم الحدث وهو محاولة أستعاة جزيرة ألكتراز وهكذا تنوع النص عبر دلالاته التي تشظّت تماما الى أصوات وبُنى اسهمت في توليد المعاني الجمالية لهذه القصيدة

الجزء الثاني من هذا المقطع

و كيف بصقت فالو على شمسها

و أمسكت بالورقة وعليها شمس تنظر

كعين حرّاس المخيم، كعين الدولة الآن وليس كشمس القبيلة

و ليس كأي شمس الآن وليس شمس فالو

الآن

و كيف مزّقتْ بأسنانها

هذه الشمس، وكيف قذفت بها

كالروث في وجه البارمان وفي وجه العالم

اللآمعين كالأحذية

و علا غضبها كنهر من النخاع يضرب جدران جسدها

و غربان مجنونة تنعق بين اسنانها

تطير من عينيها الضيقتين

يعود الشاعر الى صديقته الهندية فالو وكيف سخرتْ من كلّ ما آلت اليه الأحداثُ حتى بصقت على الشمس الأمريكية والتي لم تعد شمس قبيلتها الجميلة التي كانت تختبأ خلف تلال جزيرة ألكتراز التي أحتّلها الأمريكيون البيض، لأنّ شمسهم لا تشبه شمس فالو التي قادها غضبها الى تمزيق الصورة التي تحمل رسم الشمس الأميريكية ولا تحمل رسم شمس قبيلتها حيث لم تجد أمامها ممثلا للأمريكي الأبيض غير نادل الحانة البارمان لتقذف الورقة مثل روث الحصان بوجه الذي يرمز الى عرقه الأبيض الذي كان سببا في مأساة فالو وقبيلتها ثم قادها الحنق الى غضب مثل نهر نخاع يضرب جدران جسدها وأصبحت كغربان مجنونة سوداء تتطاير من عينيها، نستطيع ان نلمح الأنزياح الدلالي في هذه الجمل يؤدي الى خلق المعاني الجمالية عبر التحولات الشعورية في الأستطراد الوصفي لحالة فالو قاد الى رسم صورة حالة صديقته عبر متواليات نفسية تحتوي على طاقة توالدية وبنيّة وصفية محفزّة أخذت بالأرتقاء بالنص من السردي الى الأسطوري وهذا سوف يقود الى أثارة المتلقي عبر آليتي الخيال والتأمل من خلال الأنزياحات الدلالية المتوالية التي لعبت دورا في التكثيف الأستطرادي المتشكل من خلال الأيحاء البصري والمعاني الأشارية ودلالاتها نلاحظ عبر هذا المقطع تشكيل بصري أنتهى بأنتهاء المقطع، وتطير من عينيها الضيقتين

***

المقطع الثالث:

و ذلك

عندما نصحني البارمان لفائدتي

بأنها خطرة حين تغضب

بأنها نصف مجنونة، هندية من قبيلة شايان

هربت من سبعة مخيمات حكومية وتشردت بعيدا

تشردت بعيدا في وطنها الذي أغتصبوه بالآلة

في القفص الذي يحلم الدولار بالمسدس

و المسدس بالدولار

و فالو

التي كانت شيطانية وصغيرة

تحارب البوليس والقوادين في الشوارع

في جزمتها الطويلة المصنوعة من جلد الغزال

ذهبنا في الساعة الثانية ليلا آخر قارب الى ألكترار

أنا والهندية التي أسمها فالو

...........      سان فرانسسكو 1969

يبدأ هذا المقطع من خلال السرد الأستطرادي ليقود الى رسم صورة نهائية للنص عبر آلية اللغة هذه المرة المتمثل بالحوار بين الشاعر وعامل الحانة البارمان من خلال طاقة الفعل، نصحني، حيث أستخدام عامل اللغة الأيهامي عبر سلسلة من الصفات مثل: خطرة، نصف مجنونة، هربت، تشرّدت، حيث قادت هذه الألفاظ المشحونة بدلالات حسيّة مؤطرة بهواجس نفسية ومشاعر عبارة عن مزيج من الألم والحسرة قادت الشاعر الى تكوين موقفه من الحدث الذي قاده الأمريكيون البيض حيث يعود الشاعر الى موقفه السابق منهم متمثلا بقوله:

تشرّدتْ بعيدا في وطنها الذي أغتصبوه بالآلة

في القفص الذي يحلمُ الدولار بالمسدس

و المسدس بالدولار

لا يخفي الشاعر مشاعره من مواقف الرجل الأبيض الذي كان يتعامل بعنصرية تامة مع سكان البلد الأصليين ولا يترك مناسبة في القصيدة ألا وأستغلها ليصب غضبه عليهم عبر هذا الحوار المونولوجي بين الذات والعالم وكأنّه معنيّ برسم صورة بانورامية عبر الكلمات التي أنتقاها بعناية فائقة لتؤدي دورها الوظيفي عبر آليتيّ السرد والخيال وكأنّه يعمد الى تشكيل حوار داخلي نفسي بين الضحية المتمثلة بصديقته فالو الهندية من قبيلة شاشان والجلاد المتثل بالرجل الأبيض وينوب عنه في هذا النص البارمان عامل الحانة الذي أخذ على عاتقه الأساءة الى فالو من خلال نعتها بألفاظ مهينة، حيث تقود هذه الحوارية الى تفجير الصراع المخفي بين الهنود والبيض من خلال شخصيتي أساستين هما الهندية فالو والرجل الأبيض عامل الحانة حيث نجح الشاعر بتوظيف هذه المولودراما الى أرتقاء لغوي حفّز الخيالي والشعري عبر آلية الوصف المشحون بالتراكيب الدلالية والصور المتتالية التي قادت الى فضاء سردي أخّاذ يقود القارئ الى عوالمه دون ملل من القراءة حيث ينهي الشاعر هذه الدراما الشعرية بمقطع رومانسي ساحر ليربطه في بداية هذه القصيدة والتي بدأت عبر الحديث عن الذهاب الى جزيرة ألكتراز

ذهبنا في الساعة الثانية ليلا آخر قارب الى ألكترار

أنا والهندية التي أسمها فالو

و كأنّ الشاعر يريد ان يكتب النهاية الى هذه القصة التي رسمها عبر مفهومي اللغة والخيال حيث قادتا الى عوالم مشحونة بالأنزياحات الدلالية والأحالات الصورية التي جاءت في بعض المقاطع بشكل أستطرادي مدروس بعناية فائقة من قبل الشاعر

الخصائص الفنية للقصيدة

تكوّنت هذه القصيدة من ثلاثة مستويات دلاليّة:

المستوى الأول: عبر مفهوم المكان وهو الجزيرة حيث استهل الشاعر القصيدة بتعريف حول بناء مكاني ذي إشارات مكانية ضاربة في عمق التاريخ والزمن والأسطورة، محاولا أستخدام المدلول الشعري لتوظيفها عبر عامليّ الزمكان والأسطورة والتي تأتي هنا عبر الميثولوجيا الخاصة بالهنود الحمر السكان الأصليين لهذه الجزيرة، ألكتراز، لذلك حشد الشاعر أمكانياته اللغوية والشعرية عبر توظيفٍ سردي تمكن من لجمه عبر الصور الشعرية التي أنسابتْ بشكل تلقائي درامي ممتع في هذه القصيدة، فمن الصعب على القارئ تذوّق الدلالات الأحالية بدون فهم الأسطورة التي قادت الى الموضوع، والتي نجح الشاعر بتوظيفها بدقة فائقة في هذه النص رغم الاستطراد السردي الذي أخذ مداه في النص ودون خيال ولا تكثيف صوري لكن الفكرة قد صمدت في مقاطع النص فحولت السرد الى شعر فارتقى الى مصاف الجمال الشعري

المستوى الثاني: توظيف الدلالة عبر علاقة عابرة مع فتاة هندية فالو لأعطاء بعد درامي للحدث يذكر برؤيا هوليودية ان القصص الناجحة في السينما لا تتولد الا عبر قصة حبٍ تكون بمثابة ثيمة الحدث، والملاحظ هنا ان الشاعر وظّف هذه الثيمة بدربة وعناية فئقة وحقيقية عبر علاقته ب فالو ذات الجذور الهندية والتي تود ان تذهب الى جزيرة أجدادها لتتباهى بتأريخ زعيمها الذي وقف ضد الرجل الأبيض المختصب لحقهم التاريخي في المكان جزيرة ألكتراز

المستوى الثالث:

يستخدم فيها الشاعر حرف العطف "الواو" بصورة ملفتة فمن خلال 58 شطر عدد أبيات القصيدة عمد الشاعر الى أستخدام حرف العطف " الواو " 18 مرة اي أنّه تم توظيفه بثلث القصيدة ومهمة هذا الحرف هو ربط الأمكنة وأزمنة وشخصيات وحالات ورؤى وأفكار وقيم ونماذج وصور متعددة ومتنوعة في تشكيلاتها والذي أدّى بدوه الى ربط نسيج القصيدة بشكل لفظي يؤدي الى وحدة الموضوع، حيث لعب حرف العطف دورا محوريا في المحافظة على النسيج الشعري على مستوى المكان والحدث الدرامي والفكرة من خلال الطاقة الفونيمية العالية التي تجمعت من خلال تكراره مرة18 مما عمل على توليد طاقة موسيقية أرتقت بالنص وحافظت على تماسكه من خلال الربطين الموسيقي والسردي

الدلالتان النصيّتان في القصيدة:

هذه القصيدة تحتوي على دلالتين نصيتين:

الدلالة الأولى وهي الظاهرة: وهو مسرح الحدث الذي يحاول الشاعر ان يأخذنا اليه وهو عالم مرئي عبر مفاهيمه الدلالية من خلال لقائه بصديقة من جذور هندية تحاول ان تأخذه الى جزيرة ألكتراز وهي بعض من تراث قبيلتها الهندية ولم يجدوا قاربا يقلهما الى الجزيرة وهكذا تتوالى أحداث هذه القصيدة

الدلالة الثانية المضمرة : هي ما يحمله الشاعر من فكرة تلبست بموقف خفي أزاء الرجل الأبيض والذي يمثل غالبية السكان الأمريكيين والذي يعني أغتصاب الحقوق الشرعية لسكان البلد الأصليين وبالنزعة الأمبريالية التي تكوّن ذاكرة القتل والأحتلال والسيطرة في عقلية الأمريكي الأبيض والذي لا يخفي الشاعر موقفه الحاد منه سواءا على مستوى هذه القصيدة ام على مستواه الشخصي فكل من يعرف الشاعر يعرف مدى كرهه لأمريكا وللرجل الأمريكي الأبيض وقد كان هذا الحدث مناسبة للشاعر ليصب غضبه على النزعة العنصرية المتمثلة في الرجل الأبيض وهذا هو المستوى الدلالي المخفي في القصيدة

***

رسول عدنان - ناقد وشاعر عراقي

 

تتميز قصص "ستار الحلم" للقاصة المغربية غزلان شرفي بنزعة واقعية سواء على مستوى البناء القصصي المستوفي للعناصر الأساسية للقصة القصيرة من حدث، وحبكة، وحوار، واسترجاع... أو على مستوى الوقائع الوقائع المستمدة، في غالبها من غمرة الواقع، وما يعج به من مفارقات، وصُدَف يتجاذبها فيض من ضروب المعاناة، وأنماط المآسي.

فالحدث الذي طغى على نصوص المجموعة ارتبط بحالات الطلاق بمختلف خلفياتها، وتبعاتها، فضلا عن سمة ظروف العيش المتدني، وما يشوبه من عوز وفاقة تتمرغ في حمأته فئات عريضة من مجتمع تنخره العديد من الآفات ، وتمزقه الكثير من الأزمات، مع حضور تيمات ذات أبعاد واقعية، ووجودية، كما اخترقت نصوص المجموعة انفلاتات وانزياحات أثثتها انبعاثات الصدفة، وجمالية العبارة، وأمام انسداد الآفاق في وجه الكثير من أفراد الطبقات المعوزة يتم التفكير في سلك طرائق ومسلكيات تنقذهم من براثن العطالة كالهجرة التي خاضوا غمارها كمخلص من ربقة الضياع واليأس، ومنقذ من وضع متردي مأزوم.

فقبل الوقوف على الأحداث التي تميزت بالتنوع والغزارة سنذكر ببعض عناصر القص التي وردت في قصص المجموعة كالحوار في قصة " حلم مشروع ": " ـ لم لا تعودين لمقاعد الدراسة يا فاطمة ؟... ـ ليت الأمر بيدي يا أستاذة. " ص 61، أو في قصة " حِمْل مرغوب ": " ـ هل أرهقك الحمل ؟... ـ إنما أرهقني الحلم." ص 88، والاسترجاع في نص " القرار الأخير": " عادت بذاكرتها كثيرا إلى الخلف. " ص38، بينما تضفي الأحداث، بوفرتها وتعددها، على المتن القصصي زخما بحمولات وجودية وحسية ترتهن لراهنية معطوبة لا تفتأ، رغم ما يكتنفها أحيانا من بؤس، تتطلع لاستشراف آفاق تستجيب لكتلة أحلام وأماني ظلت بعيدة ومستعصية عبر هجرة نحو المجهول وإن كان الطريق نحوها محفوفا بالمخاطر والصعوبات.

ويخترق موضوع الطلاق، باعتبار هيمنته على قصص المجموعة، العديد من الأحداث ابتداء من أول نص " جحود ": تلك السعادة التي اختزلتها في صغيرها. الذي هتك ستر وحدتها بقدومه إلى دنياها التي منحتها لقب (مطلقة) وهي في ريعان شبابها. " ص7، وفي قصة " خسارة مزدوجة "، حيث عاشت نفس الحالة، حالة الطلاق، سلمى التي انفصلت عن زوج أنجبت منه ابن وطفلة: " اضطرت سلمى للسماح لطليقها برؤية ابنيه. وقضاء يوم الأحد برمته معهما. " ص12، وفي " القرار الأخير " حيث يتكرر موضوع الطلاق بين مديرة مؤسسة نجحت بفضل كدها واجتهادها على تسلق سلم الترقي إلا أنها فشلت في حياتها الزوجية مع زوج اكتشفت خيانته لها، مما ساهم في توتر علاقتهما، والتي قررت إنهاءها بعد حصول ابنيها التوأم، وبعدهما ابنتها على شهادة الباكلوريا وانتقالهما لدراسة الهندسة المعمارية بالخارج، حيث كلفت المحامي بإتمام إجراءات الطلاق والتحاقها بأبنائها في الخارج. وحضر الطلاق أيضا في قصة " غصة عالقة "، و" أطياف الماضي " كتجسيد لحالة اجتماعية تفرز تداعيات وتبعات تتبخر معها آمال وأحلام أمهات وأبناء بتغيير مجرى حياتهم عبر ما يتخذونه من خطوات ومسارات هي وليدة ظرفية طارئة تفتح أمامهم آفاقا لم يفكروا فيها، ولم يخططوا لها من قبل. ويبرز موضوع الهجرة كذلك ضمن ثنايا نصوص الأضمومة، حيث تتم الإشارة إليه في اول نص (جحود) كاختيار أمام الزوجة المطلقة لبناء حياة جديدة تسعفها على تجاوز نكسة الطلاق إلا أنها رفضت ذلك مؤثرة البقاء رفقة صغيرها بدل الهجرة التي اقترحها عليها أخوها الذي آثر الحياة في الضفة الأخرى، بينما كانت الحالة مختلفة بالنسبة لابن التاجر الحاج عبد الله في قصة " التجارة المربحة " الذي هاجر للدراسة بأمريكا وحاز على أعلى الدرجات العلمية في الاقتصاد والتسيير، إلا أنه اختار البقاء للاشتغال بإحدى الشركات هناك مخيبا رغبة والده المضمرة في عودته إلى أحضان بلده للإشراف على تجارة أبيه. وهجرة الأب إلى بلاد الخليج في قصة " طفولة متشظية " كمهندس في شركة نفط لتوفير ما يكفي من مال يضمن له حياة كريمة ببلاده التي ينوي العودة إليها. وهجرة عبر قوارب الموت في قصة " وحيد " الذي هلك وسط مياه البحر وأمواجه وفي حلقه غصة إنقاذ مستقبله و تعويض والدته عن سنوات البؤس والشقاء، وفي قصة " أجنحة الحلم " حيث اختفى سعيد مخلفا رسالة يخبر فيها والدته بعبارات: " وجدت لي جناحين وطرت بهما إلى بلاد الكفار. الجهاد فيهم سبيلي إلى حياة أفضل بعيدا عن دنيا العذاب التي لم تمنحني من السعادة إلا اسمي فقط. " ص 120، وقد تضمنت المجموعة مظاهر اختلالات داخل مجتمع يعاني من تفاوت طبقي يكشف مدى معاناة وحرمان فئات عريضة من أبناء المجتمع من نيل ما يستحقون من فرص بفضل مستواهم المعرفي والتعليمي المتميز كما يتجسد ذلك في قصة " أحلام... قيد الاعتقال " التي حرمت من ولوج كلية طب الأسنان: " كلية طب الأسنان مكلفة... بينما معهدان آخران يتطلب الالتحاق بهما الانتقال للسكن في مدن أخرى. وما لذلك من تبعات مادية ما حسبت لها حسابا في غمرة فرحتها بنجاحها، وانتشائها بتفوقها. " ص 84، وضع يعكس إحباطا مريرا، وخيبة عارمة اختزلها الأب في قوله: " إذا أحبت إتمام مشوارها الدراسي، فلتنتسب للجامعة، مثلها مثل قريناتها، من أبناء العائلة والجيران، ولتترك المعاهد والكليات لمن أنشأت لأجلهم... فأبناء الشعب البسطاء يجب أن يكون سقف أحلامهم قريبا من هامة رؤوسهم. " ص 84، واقع يتكرر في نص " المباراة النهائية "، والتي لم تشفع شهادة "الماستر" لحاملها من العثور على شغل يدرأ عنه معاناة البطالة: " ها هي شهادة " الماستر " التي كابد للحصول عليها تتوارى عن الأعين في درج مظلم من أدراج مكتبه الخشبي المهترىء... لا أمل في ولوج مسالك الوظيفة العمومية في غياب واسطة (معتبرة) ولا مستقبل مع القطاع الخاص في ظل الركود الاقتصادي الذي سببته جائحة كورونا. " 114، وإلى جانب هذه الموضوعات تضمنت المجموعة عناصر، ساهمت في إثراء حمولاتها الدلالية وتوسيع دائرتها التعبيرية، كالمقارنة في نص " جحود " لتوضيح الفرق بين حالة الطليقة في ماض زاخر بالحيوية، ممتلئ بالأنوثة: " ليطالعها شبح امرأة كانت في الماضي البعيد تنفجر حيوية وأنوثة. " ص 7، وما آلت إليه من خيبة آمال مس كيانها، وأخمد شعلته التي كانت ساطعة متوهجة: " واليوم لم يتبق منها إلا حطام لملمت بعض أجزائه ووضعتها بكيس مغلق وأوصدت عليه خافقها. " ص 7، عبر مونولوغ حميمي ذات خلوة مفعمة بمزيج من مشاعر تنضح هما وغما. ومقارنة الابن بين وضع والدته المعيشي المتواضع، وحالة والده الراقية والميسورة: " وَوُضِع في مقارنة بين حياته مع والدته في حجرتها الخانقة وبين عيشه في كنف والده حيث الرحابة والسعة والحرية. " ص 8، وفي وضع صورة بين أسرة معوزة ورب البيت المأجور حيث يتجلى البون الشاسع، بشكل ملحوظ وملموس: " لقد بدا له صاحب البيت في تلك اللحظة. وحشا آدميا استطال حتى بلغ عنان السماء. وحجب عنه نور الشمس. بينما كانت أمه وإخوته كالأقزام أمامه طولا وشأنا. " ص 69. وعنصر المفارقة في قصة " التجارة المربحة "، وطرفاها التاجر الحاج عبد الله المتشبع بمبادئ الدين الإسلامي في حثه على البر والإحسان: " اعتاد أن يتصدق بواحد من تجهيزات محله الكهربائية... إلى إحدى العائلات المحتاجة في نهاية كل شهر. " ص 9، ابنه المتخرج من أرقى جامعات أمريكا في تخصص الاقتصاد والتسيير الذي عارض فكرة تبرع والده بالتجهيزات الكهربائية للأسر المحتاجة: " فأنكر الاقتصادي اللامع على والده تصرفه. مبينا له بمنطق الربح والخسارة الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي، المبالغ الطائلة التي ضيعها سدى طوال هذه السنوات. " ص 10، بل حذره من إفلاس مشروعه التجاري إن استمر في توزيع الهبات: " حذره من الإفلاس الوشيك إن استمر الوضع على ماهو عليه. " ص 11، وكان رد الأب انطلاقا من قناعة دينية راسخة على البر والإحسان بتقديم الدعم والمساعدة لكل معوز ومحتاج: " إنك فعلا قد حصلت على أعلى الدرجات العلمية في الاقتصاد. وإنك فعلا بارع في العمليات الحسابية ودراسة الجدوى من كل مشروع. لكني أفوقك علما وخبرة وفهما لأن مرجعي كتاب ربي وسنة نبيي... " ص 11، كما انضافت الصدفة إلى باقي العناصر مسهمة في إغناء نسيج السرد، وتوسيع دائرة معانيه ودلالاته، شاءت الصدفة في قصة " حياة جديدة " أن يُحاكَم ابن الزوج، المدلل، من الزوجة الثانية، والذي اقترف جريرة قتل بسيارة والده التي كان يقودها تحت تأثير جرعة مخدر من طرف ابنته من طليقته، والتي صارت، أي الابنة، قاضية كُلِّفت بمحاكمة أخيها من زوجة أبيها الثانية الشيء الذي أذهل الأب، وزج به في دوامة ذهول وحيرة. وكان للصدفة حضور إثر تزامن حدث اعتقال الطالب من طرف الشرطة، ضمن المتهمين بشغب الملاعب، ورسالة الإشعار بقبوله في ولوج المعهد الملكي للشرطة، مما أقحمه وعائلته في قعر أزمة تعالقت بأسئلة عويصة ومعقدة حول الحكم الذي سيصدر في حقه والذي قد يحرمه من حلم الوظيفة الذي ظلت تربطه به خيوط من أمل رفيع، أم أن الحكم سيؤول إلى تبرئته لعدم توفره على سوابق، ومراعاة قبوله في وظيفة ستنقذ مستقبله بالقطع مع معاناة مرحلة العطالة التي أثرت على حياته النفسية والذهنية والعمرية. احتمالات وتوقعات مقلقة ومحيرة، وما تخلقه وتخلفه من آثار في نفسية الطالب الجامعي العاطل وأفراد أسرته. وموضوع الموت الذي ورد بأشكال مختلفة في قصص المجموعة مثل ما ورد في قصة " وحيد " الذي اختطفه الموت، وهو على متن قارب، في اتجاه الضفة الأخرى، رحلة لم تكلل بالنجاح أجهضت معها أحلام إنقاذ حياة وحيد وأسرته وبالخصوص والدته التي غمره إحساس فظيع، وهو يلفظ آخر أنفاسه بخذلانها، وقصة "بائع الشاي " الذي لم يمهله الموت على تدبير مصاريف أدوات ابنته المدرسية، فقضى نحبه، من فرط الجهد والعياء، وهو منشغل ببيع الشاي بأحد الأسواق لتحيق حلم ابنته ورغبتها في الحصول على الأدوات المدرسية.

ورغم سيطرة النزعة الواقعية على أسلوب قصص مجموعة " ستار الحلم "، وأحداثها فإنها لم تخل من تعابير ذات طابع جمالي بمجازية أضفت عليها مسحة جمالية ودلالية درأت عنها مغبة السقوط في إسار النمطية والتقريرية، ويتجلى ذلك في قصة " خسارة مزدوجة " حيث نقرأ: " رفرفت فراشات الحب على العش الجميل، وظللته أجنحة السعادة. " ص 13، في تصوير رومانسي نهل من مكونات محيط طبيعي يطفح نضارة وبهاء (فراشات، العش، ظللته، أجنحة)، وفي نص " حب لا مشروط " نقرأ أيضا: " فهو كان كل عالمها. وهي كانت شمسه وقمره. " ص 32، بذكر الشمس والقمر في سياق مجازي تشبيهي يفتح أفاقا رحبة غنية بأبعادها الرمزية والدلالية. وقصة " بقي فقط ثلاثة أيام " الذي تخلع فيه الكاتبة على بيت، متواضع بسيط، أوصافا نابعة من عشق متجذر في وجدانها وذاكرتها تمنحه دفقا من روعة وجمال: " ودفء بيتها الذي تعشق كل ركن فيه رغم بساطته، ووضاعة أثاثه، بينما يخلع عليه الزمن رداء الشر، ويصبح عروسا حسناء تتمايل بغنج ودلال... " ص66، وصف دال ومعبر للبيت بالعروس الحسناء الغنوج الدلول. وكلها تعابير تكسر نمطية السرد ورتابته، وتمنحه بالتالي إضافات يغدو معها أكثر غنى وتنوعا.

نخلص في الأخير إلى أن قصص " ستار الحلم " منجز قصصي يندرج ضمن جنس القصة القصيرة زاوج بين الطابع الواقعي على مستوى استقاء الحدث، وتشكيله عبر شخصيات تنتمي لشرائح اجتماعية قطباها الفقر والغنى ارتهنت لخلفيات وآفاق واقع في رسم مناحي حياة لم تسلم من هزات وتقلبات أثثتها عوامل كالصدفة والحلم المفارقة.

***

عبد النبي بزاز ـ المغرب

.............................

ــ ستار الحلم (قصص قصيرة) لغزلان شرفي.

ــ مطبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ مصر 2022.

 

قصيدة /سيمفونيَّة/ للشاعرة نازك مسُّوح – سوريا تتميز بجمالية موسيقية واضحة، حيث تبرز الألفاظ والتراكيب بشكل يتناغم مع المعاني العميقة التي تحملها.

الموسيقى في القصيدة:

الإيقاع:

تعتمد الشاعرة على تكرار الكلمات والعبارات، مما يخلق إيقاعاً متدفقاً يشبه الأنغام الموسيقية. مثل تكرار /هلمُّوا/ و/أنتِ/.

الصور البلاغية:

استخدمت الشاعرة استعارات جميلة مثل /فراشة الضياء/ و/أنت رضعتِ حليباً محلَّى بسكَّرِ الشهقة/، مما يضيف عمقاً للمشاعر ويعزز الصوت الشعري.

التوازن والتناغم:

تتنقل بين المشاعر المتناقضة مثل الشغف والهدوء، مما يمنح القصيدة تنوعاً يُشبه التنقل بين مقاطع موسيقية مختلفة.

الألفاظ المختارة:

استخدام ألفاظ حسية مثل /عطر/، /نار/، و/عسل/، يساهم في خلق تجربة حسية غنية، مما يُشعر القارئ بأنه يعيش اللحظة.

الرمزية:

تمثل الرموز مثل /النار/ و/الماء/ العلاقة بين الحب والشغف، مما يعزز من عمق التجربة الشعرية ويُضفي عليها بعداً روحياً.

أنّ هذه القصيدة تُعبر أيضاً عن تجربة عاطفية عميقة وتستكشف موضوعات الحب، الهوية، والبحث عن المعنى. دعونا الان نقرأها بطريقة أعمق:

1. التمثيل الرمزي:

الفراشة: ترمز إلى الهشاشة والجمال، مما يبرز تعقيد العواطف الإنسانية. تعكس الفراشة جمال الروح وتجعل القارئ يتفكر في التحول والتجدد.

النار والماء: تمثل هذه العناصر الثنائيات المتعارضة - الحب والشغف (النار) والهدوء والخصب (الماء). هذا التوازن يعكس الصراع الداخلي بين العواطف والرغبات.

2. اللغة التصويرية:

الشاعرة تستخدم صورًا حية، مثل /تلثمين عنَّابَ البُروق/، التي تجعل المشاعر ملموسة وتجعل القارئ يشعر وكأنه في قلب التجربة. هذه الصور ليست مجرد تعبيرات جمالية بل تمثل تجارب حقيقية وعميقة.

3. الأبعاد النفسية:

الاستبطان: تُظهر الشاعرة الصراع الداخلي، كأنها تنظر في أعماق ذاتها وتستكشف أفكارها ومشاعرها. تطرح أسئلة مثل /مِن أين لكِ هذا/، مما يعكس حالة من الاستفسار والبحث عن الذات.

الدهشة والعجب: تبرز مشاعر الدهشة كجزء من تجربة الحب، حيث يبدو أن الشاعرة تُدرك أن بعض المشاعر لا يمكن تفسيرها بسهولة.

4. الإيقاع والتكرار:

تستخدم الشاعرة التكرار بشكل مُعبر، مما يُعزز الإيقاع ويخلق حالة من التوتر والتشويق. العبارات مثل /هلمُّوا/ تخلق دعوة جماعية للمشاركة في هذه التجربة العاطفية، مما يعكس روح الجماعة.

5. التواصل مع التراث:

إشارة إلى /المَعرِّي/ تعكس التفاعل مع التراث الأدبي العربي، حيث تجسد الشاعرة حبها للأدب وتجربتها الشخصية في سياق أوسع. هذه الإشارة تُضيف بُعدًا تاريخيًا وثقافيًا للقصيدة.

6. المشاعر الإنسانية:

تعبر القصيدة عن مشاعر الحب والشغف، لكنها أيضاً تتناول العزلة والبحث عن الارتباط. هناك شعور بالحنين والاحتياج إلى الآخر، مما يجعل التجربة عميقة ومتنوعة.

خلاصة:

تُعتبر /سيمفونيَّة/ تجسيدًا للفن الشعري الذي يجمع بين الإبداع والعمق العاطفي، حيث تستخدم نازك مسُّوح اللغة والصور بطريقة تجعل القارئ يغوص في عالم من المشاعر والأفكار. تعكس القصيدة رحلة داخل النفس البشرية، تستحضر الجمال والحنين والتعقيد الموجود في العلاقات الإنسانية.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

........................

سيمفونيَّة / نازك مسُّوح

أراكِ  تُحلِّقينَ  بجناحَي نور

تمرّينَ بعطرك وبسرِّ الروح،

وبداخلِك أفكارُكِ تتعاركُ مع المعاني..

نداءٌ يأتي من أبعدِ نقطةٍ فيك..

أيُّها الحالمُ بي أقبِلْ

لملمْ جهاتِ القلبِ المشتَّتة

وعانقِ الشغفَ بيقينِ السؤال:

مِن أينَ لكِ هذا

وأنتِ فراشةٌ الضياء؟

قربكِ قربُ النار

وكلُّك يقولُ برداً وسلاما،

وقبضُ الريحِ يعلنُ دستورَه..

توسّدي كفَّ اللقاء

واكتبي بلسانٍ فصيحِ الشهد

أنا طفلتُك..

لا الدهشةُ تملكُ تفسيرها

ولا العجبُ يقيمُ سرادقهُ

ببساطةِ تفسيرِ الماء..

أنت رضعتِ حليباً محلَّى بسكَّرِ الشهقة

أعلمُ لا ثغرَ لكِ

أعلمُ  أنَّكِ عندَ المساءِ  تلثمينَ عنَّابَ البُروقِ

متى ما زَمجرَ وحشُ الجمال

تهمسينَ لزنابقَ غَفَت في أحضانِ الحُقول:

استيقِظوا...

فكلّي عسلٌ ونار!

هلمُّوا لهطولٍ

يحيي ويحيي

يسابقُ أنفاسَ العاشِقين

ليصنعوا سباقَ الركضِ إلى جنَّتي

وكلِّي غيمٌ يتلاقى في طبقاتِ العِناق

ليسكبَ قطراتِ الهوى

على صفيحِ قلوبٍ أعياها العطش..

هلمُّوا نغنِّي أغاني الحبِّ،

ونكتب حولَ الماءِ، حول النارِ ما تيسّر من لهفةٍ

نُدندنُ سيمفونيةَ الخِصب،

نهلِّلُ للخيرِ معَ "المَعرِّي"

"فلا هطلَت عليَّ ولا بأرضي

سحائبُ ليسَ تنتظمُ البِلادا"

***

نازك مسُّوح

قراءة نقدية في نصّ: التسكع في ليالي الشراب كم هو حزن لذيذ!

للشاعرة: چـنور نامـق – كردستان العراق

***

مقدمة: نصّ: التسكع في ليالي الشراب.. كم هو حزن لذيذ؟ للشاعرة الكردية چنور نامق هو نصّ مفعم بالصور الشعرية المركّبة والرمزية العميقة التي تعكس تجربة إنسانية مأزومة. يحمل النص معاناة الذات المرهقة والقلقة، ويستعرض جوانب من الاغتراب الداخلي والخارجي، مشيراً إلى علاقة الإنسان بالألم والذكريات والهويات المكسورة. من خلال استخدام الشاعرة لتقنيات شعرية متعددة، يتم تسليط الضوء على العيش في حالة من التشتت النفسي والروحي، في قلب عالم يضج بالخيبة والندم.

البنية الشعرية والأسلوب:

يتسم النصّ بالأسلوب التعبيري الذي يركز على الاستعارات والرمزيات. يبدأ النصّ بصورة شديدة الخصوصية: /التسكع في ليالي الشراب كم هو حزن لذيذ؟!/، وهي دعوة للتساؤل عن طبيعة الألم وكيف يمكن أن يكون لذيذاً في أوقات معينة. هذه الجملة تُثير العديد من الأسئلة الفلسفية حول علاقة الإنسان بالحزن، وتطرح فكرة أن الألم قد يكون أحياناً مصحوباً بمتعة أو تسلية، ربما بسبب العادة أو الانفصال العاطفي.

تتوالى الصور الشعرية المرتبطة بالمعاناة والفقدان؛ فالطبيب في /ردهة العشق/ يوصف بأنه يُعالج الشاعرة بالقصائد وجبتين و/ثلاث ليالي أرق/، مما يخلق توازناً بين العلاج والنضوج الروحي، وبين المعاناة النفسية الناتجة عن الاغتراب والفراغ العاطفي.

الموضوعات والعوالم الشعرية:

تتوزع موضوعات النصّ بين الغربة الداخلية والذكريات الحزينة، والتساؤل الفلسفي عن الحب والموت، واللذة التي يمكن أن يستشعرها الفرد من الألم. فالشاعرة تتحدث عن المهجر كزمن ضائع، وتخفيه /تحت وسادتي/ في إشارة إلى محاولتها مواجهة هذه المشاعر المخبأة. إن المهجر، سواء كان جغرافياً أو نفسياً، يصبح مكاناً للألم والتأمل.

الحديث عن /سكرات الموت/ في غياب الحبيب يشير إلى شعور عميق بالفقد والتضحية، في الوقت الذي يتخذ فيه /التسكع في ليالي الشراب/ ملاذاً للهروب من هذه المعاناة. النص يلامس مفهوم /الموت الوجودي/ الذي يتمثّل في حالة الشاعرة حيث يصبح الخيال وحده، سواء عبر القصيدة أو الشراب، هو المكان الوحيد للهروب من الواقع القاسي.

تذكر الوطن هنا يعكس شعوراً مزدوجاً من الحنين والخيبة، فالوطن في النصّ ليس فقط المكان الجغرافي، بل هو أيضا حالة من الذاكرة والهوية التي تتعرض للتشويه في غياب الحبيب. وهذه الصورة تأخذ شكل /عدم نضوج التفاح في بستان القلب/، مما يوحي بأن الذاكرة والعاطفة لا تنضج، بل تبقى مشوهة أو غير مكتملة بسبب الغياب المستمر.

التكرار والرمزية:

يستخدم النصّ التكرار بشكل مكثف ليعزز المشاعر التي يعبر عنها. فمثلاً، تتكرر عبارة /ثلاث وجبات/ في سياقات مختلفة لتعبر عن صبر مرير وحالة متكررة من الذنب والحزن. كما يتكرر الحديث عن /القصيدة/ كملاذ وحيد في محاولات للتصالح مع الذات والعالم الخارجي. التكرار يضيف إيقاعاً كئيباً للنص ويعمق من إحساس المعاناة المستمرة.

أما /سيجارة تتركني/ فهي صورة رمزية يمكن أن تكون إشارة إلى طريقة الشاعرة في التعامل مع الألم، حيث تأخذ لحظة هروب مؤقتة عبر التدخين، الذي يرمز أحياناً إلى التخفيف المؤقت للهموم، إلا أنه يبقى في النهاية غير كافٍ لتخفيف الآلام الداخلية العميقة.

الأسلوب الفلسفي والتأملي:

يتميز النصّ بأسلوب فلسفي تأملي يتساءل عن العلاقة بين العاطفة والموت، الحضور والغياب. الشاعرة تطرح أفكاراً متناقضة بين الحياة والموت، بين الأمل والخيبة، ما يفتح المجال للتفكير في معاناة النفس البشرية حين تتعرض للهجران والخيانة. السؤال الرئيسي في النصّ، /كم هو حزن لذيذ؟/، يعبّر عن التناقض الداخلي بين الحب والألم، كما يطرح فكرة أن الألم قد يُعاش ويُستمتع به من خلال التعود عليه.

الخاتمة:

إن نصّ /التسكع في ليالي الشراب: كم هو حزن لذيذ؟/ هو نصّ شعري يعكس معاناة الوجود البشري في لحظات من الفقد والحزن، ويطرح تساؤلات حول علاقة الإنسان بالألم واللذة. من خلال استخدام الرمزية، التكرار، والصور الشعرية الغنية، تقدّم الشاعرة رؤية معقدة لحالة الإنسان في مواجهة الأزمات الوجودية والنفسية. النصّ يعبر عن فراغ داخلي عميق يغذي خيبة الأمل ويبحث عن ملاذ في الخيال، بينما يستمر السؤال الأهم في الترديد: كيف يمكن أن يكون الحزن لذيذاً؟

***

بقلم: د. كريم عبد الله – العراق

...............................

التسكع في ليالي الشراب

كم هو حزن لذيذ؟!

عدد يتركني

الطبيب في ردهة العشق

وصف لي قراءة القصائد وجبتين

وثلاث ليالي ارق

زمنٌ أعطاني المهجر

لأخبئه تحت وسادتي

وأهجر الصباحات

وكأس من الخيال الثمل في المساءات

وفي الليل خيبة أمل

وثلاث وجبات من تركيبة الصبر

من وطن التردد

انه لا يعرف

إن غياب الحبيب في سكرات الموت

إشارة لعدم نضوج التفاح

في بستان القلب

لا يفهم أبداً

إن المشي مع القصيدة (الملاذ الوحيد)

والتسكع في ليالي الشراب

كم هو حزن لذيذ؟!

تَذَكُّر عبق الورود

لو لم يكن في ظلك

هو خيال وصفر في اليد

ثلاث وجبات من الذنب

يجعل من القلب سوق الهرج

يفتح المزاد على لِقائَيْ عمري

أَوَكَمْ مرة أخبرتك؟!

إن تذكر الوطن

وعدم حضور الحبيب في سكرات الموت

إشارة لعدم نضوج التفاح

في بستان القلب

سيجارة تتركني

والطبيب المخدوع في مجانين العشق

وصف لي قراءة القصائد وجبتين

وثلاث ليالي أَرقْ

***

شـــــــــعر: چــــــنور نامــــق

ترجمة عربية: لقمان منصور

 

من هو الروائي "حسن الجندي": حسن الجندي، كاتب وروائي مصري، اقترن اسمه بعالم الجن والعفاريت والمخطوطات القديمة والقتلة النفسيين وعالم الرعب، لغاية ما لقبه الكثير من القراء بأبي الرعب.

كثير من القراء أُعجبوا بأسلوبه في الكتابة التي تتميز بسهولة التعبير، إضافة لاهتمامه بعامل التشويق فى رواياته واختراقه أماكن كثيرة محرمة. في أحد لقاءاته الصحفيّة قال بأنه تلقى الكثير من الاتصالات والرسائل تطلب منه أرقام هواتف شخصيات معينة فى رواياته، فكان رده بأنها شخصيات غير حقيقية، وبعض المتصلين يصر على أنه لا يقول الحقيقة لدواعي أمنية.(1). الويكيبيديا.

تقع الرواية في باب الأدب السياسي، ويقوم النسق المضمر لمضمونها على مسألتين أساسيتين هما: الإرهاب أولاً وقوى الأمن ثانيا. وكلاهما في دولنا العربيّة المتخلفة يمارسان الظلم بهذا الشكل أو ذاك على المواطنين الأبرياء دون مبرر، فالإرهاب يمارسه حملته على الأبرياء نكاية بالدولة، فعديد من أعمال التفجير التي قام بها الإرهابيون باسم الدين، قتلت من الابرياء الكثير، أطفالاً ونساءً ورجالاً. وأجهزة الأمن بدورها غالباً ما تصلها تقارير كاذبة بحق ناس أبرياء، فيقوم رجال الأمن بتعذيبهم دون وجه حق للوصول إلى ما ورد من تقارير بحقهم كذباً.

من هذا المنطلق جاءت رواية (الجزار)، للروائي المصري "حسن الجندي" محاولةً لتسليط الضوء على هذه الاشكاليّة وما تولده من قهر وظلم يصل إلى درجة الاجرام بحق الإنسانيّة، إما تحت ذريعة الأيديولوجيا الدينيّة والدفاع عن العقيدة كما يفهمها هؤلاء الإرهابيون، أو تحت ذريعة الدفاع عن الوطن وحماية الشعب كما يدعي بعض رجال الأمن.

لا شك أن الرواية تحمل في مضمونها الكثير من التضخيم في مسألة التعذيب، وخاصة (اغتصاب زوجة) المتهم أمامه، دون أن يتم التأكد من خلال التحقيق تورط الزوج بقضية إرهابية،  ولكن هذا لا ينفي ما تمارسه أجهزة الأمن من تعذيب يندى له الجبين في دول تتدعي المدنيّة، ودساتيرها مشبعة بمفاهيم الحريّة والعدالة واحترام الرأي والرأي الآخر.. ففي هذه الدول في وطننا العربي وفي مثل هذه القضايا المتعلقة بالسياسة التي يتدخل بها الأمن، لا دور للقضاء فيها، وإن وجد له دور فهو يأتي متأخراً بعد أن ينهك السجين وربما يموت تحت التعذيب أو يفقد صحته ومعنى الحياة.

يبدأ الروائي "حسن الجندي روايته " (الجزار) بعبارة مدهشة حقاً في مضمونها ودلالاتها المشبعة بالساديّة ونكران لكل القيم والمبادئ الأخلاقيّة الوضعيّة منها والدينيّة عند المحقق الرائد  "حسن" في مباحث آمن الدولة وهو يخاطب "آدم"، الذي لا يعرف لماذا هو هنا في مقر الأمن قائلاً:

(يمكنني في خلال ساعة واحدة أن أجبرك أن تكفر بوجود الله ببساطة، أو أجعلك تقبل قدمي كي تعترف بأية جريمة أطلبها.).  (ص10).

البنيّة السرديّة في الروايّة:

تعثر مباحث آمن الدولة في مصر على عبوات ناسفة في أحد الفنادق في القاهرة.. ويتم القبض عن المكلف في التفجير ويعترف بكل شيء عن العمليّة، وعن طريقه تم الوصول إلى  المهندس الذي ركب عبوة المتفجرات في الفندق والقبض عليه، وعن طريقه أيضاً وصلت مباحث آمن الدولة إلى نتائج هامة تتعلق بالخليّة الإرهابيّة وارتباطاتها الخارجيّة، حيث قام المهندس بإرشاد مباحث أمن الدولة على شقة الخليّة الإرهابيّة الكائنة في مدينة "نصر".. عند دخولها من قبل رجال الأمن  حصلوا على وثائق كثيرة وأرقام هواتف، ومعرفة كيف دخلت مواد التفجير إلى مصر من ثلاثة دول. والأهم من كل ذلك وصولهم إلى اسم الرأس المدبر لهذه العمليّة وهو (آدم محمد عبد الرحمن)، الذي لم يتم القبض عليه. وبعد التحري عن الاسم  في قيود النفوس المعتمدة، تبين أن هناك عدّة شخصيات تحمل هذا الاسم. منهم طفلان، ورجل في السبعين من عمره ضرير، وشخص ميت منذ ست سنوات، وشخص في العقد الرابع من عمره سافر إلى الإمارات،  ولم يبق سوى "آدم" (رئيس قسم الحسابات في شركة الحاسوب. ( (n. m group. في القاهرة.

جاءت الأوامر العليا بإحضار المشتبه به "آدم" بأسرع وقت ممكن، فكان يوم جلبه لمقر مباحث آمن الدولة، الثلاثاء 14/ 12/ 2007/ الساعة 11،50. ليلاً.

دورية من مباحث آمن الدولة تقتحم باب شقة "آدم".. وبعد كسر الباب ودخول الشقة بطريقة (غير قانونيّة)، يُقتاد "آدم" شبه عارٍ، مع زوجته في قميص نومها إلى مقر مباحث آمن الدولة، وتترك الطفلة وحيدة.. في المنزل... تجري عمليّة التحقيق اللاعقلانيّة مع "آدم وزوجته"، حيث مورس عليهما كل انواع التعذيب.. رجال ساديون يجدون متعة في تعذيب المتهمين قبل الحصول على أي دليل يدين المتهم. يعذب "آدم" ويكوى جسده بالنار، ويذبح جلده بالسكين ويصب عليه الكولونيا.. ويمارس الجنس على زوجته أمامه من قبل الضباط الرائد "حسن".

بعد فشلهم في الحصول على أي اعتراف من "آدم" يقرر الضباط المسؤولون عن التحقيق إغلاق الملف، وجلب أحد المجرمين المدانين بسوابق ليوقعوه على اعتراف بأنه هو من كان وراء تدبير العمليّة.

تتوفي زوجة "آدم" "بتول" المريضة أصلاً بمرض القلب، مما لاقته من تعذيب وانتهاك لعرضها.. يغمى على "آدم" من هول ما لاقى من تعذيب ومن قهرٍ لما حدث لزوجته أمامه.. تُؤخذ الزوجة وتلقى في أحدى حاويات القمامة في المدينة، بينما تأخذ الدورية "آدم" وتلقيه في فسحة أمام مبنى العمارة التي تتواجد فيها شقته عاريّاً تماماً لاعتقادهم أنه مات أيضاً. يعرفه أحد الساكنين في المنطقة فيقدم له اللباس... ليصعد إلى الشقة بعد أن عاد له شيء من وعيه.. يجد ابنته قد توفيت من الجوع... يحملها ويذهب إلى أهله.. يُعثر على زوجته ويتم التعرف على هويتها وتدفن من قبل ذويها، ليختفي بعد ذلك "آدم" طوال أحداث القصة التي بدأ فيها يمارس القصاص بطريقة (الجزر) على فريق التحقيق بمباحث آمن الدولة، وعلى هذا الأساس سميت الرواية بـ (الجزار).

تبدأ عمليات الانتقام من كل فريق التحقيق في مباحث أمن الدولة الذين مارسوا التعذيب عليه وعلى زوجته "بتول" واحداً بعد الآخر، حيث جرت عمليات الانتقام   لكل واحد  أسبوعيّاً وفي اليوم والوقت المشابه لليوم الذي أخذ فيه وزوجته للتحقيق، وهو يوم الثلاثاء الساعة 11،50/ ليلاً، وكانت عمليات الانتقام  تجري بطريقة وحشية تخللها تقطيع لأعضائهم، وأكل للحوم أجسادهم، والتمثيل بها.

أخذت عمليات الانتقام تجد صداها داخل البلد بشيء من القبول والتشفي، حيث تناولها الإعلام، وجعل من منفذها أسطورة يتحدث عنها الجميع... تقلق الدولة مما يجري لعناصر أمن الدولة، ويكلف ضابط من جهة أمنيّة أخرى هو العميد "سامح" من الأمن العسكري، لمتابعة البحث عن القاتل بعد أن عرقل فريق تحقيق مباحث أمن الدولة أنفسهم الوصول إلى (الجزار). ومن خلال خبرته وعلاقاته الخاصة مع أصدقاء له من دكاترة علم النفس، وبعد جهد كبير يصل من خلال ملامح الخوف التي كانت ترسم على وجوه ضباط وعناصر آمن الدولة الذين كان يقع عليهم الجزر.. يصل "سامح" أخيراً إلى الدوافع والأسباب الحقيقة لهذه المجازر ومن يقوم بها، وهنا يبدأ بالتعاطف مع القاتل (الجزار) نفسه، وكان يتمنى أن يعثر عليه حتى يوقف مجازره ويقدم هو ومن بقي من معذبيه إلى المحكة، وبالتالي يأخذ القضاء والعدل مجراه. ولكن لا فائدة يقتل الجزار آخر عناصر التحقيق وهو الضابط الرائد "حسن" الذي اغتصب زوجة "آدم" أمام عين "آدم"، إذ يقتل بطريقة وحشية فيها الكثير من الفانتازيا(العجائبية)، بحيث يعترف هو ذاته بأنه هو (الجزار)، وهو من قتل زملاءه بهذه الطريقة الوحشيّة، ولكن يتبين للضابط "سامح" أن الرائد "حسن" قد حقن بمادة كيميائية تدفع للهلوسة والتخيل وفقد للوعي، وهي مادة (إميتال الصوديوم) أو (بتنثال الصوديوم) وهي مواد استخدمها الألمان النازيين في معتقلاتهم، بحيث أن من يحقن بها تؤثر مباشرة على القشرة المخية عنده، وتقوم بفصل جزء من وعي الشخص المحقن بها، ويصبح قابلاً لأخذ أي أوامر تأتيه من الخارج وتنفيذها قولاً أو فعلاً، لأن وعيه يكون في حالة غياب موقت.

بعد إغلاق الملف يتابع العميد " سامح " ملاحقته للقاتل الحقيقي (آدم)، بعد أن تأكد من شخصيته عبر جهد كبير من المتابعة، إلى أن شاهده أخيراً في مقبرة العائلة، إلا أن آدام يبتعد عنه بطرية عجائبيّة أيضا، ولكن "سامح" يسمع صوت " آدم" يقول له : (والآن يا سيد (سامح) سيختفي الجزار، فالنهاية قد كتبت كما قلت لك.. ستُغلق ملفات القضية، ويصبح (حسن)، هو الجزار، وينتهي الأمر كما خططت له تماماً.. لا وجود للخير.. ولا وجود للشر.. لم ينتصر أحد.. لم ينهزم أحد.). ص321

إن أهم ما يلفت النظر في هذه الرواية هو طرق التعذيب أو الأساليب التي يمارسها رجال الأمن في عالما العربي ضد المواطنين المتهمين ولا أقول المدانين، فمع غياب المنطق والوسائل القانونيّة في التحقيق التي تقرها الدساتير، والقائمة على احترام القيم الإنسانيّة لدى الفرد، نجد الأمور تجري بطريقة خارج القانون.. حيث تأخذ عمليات الاستدعاء لأي شخص وتعذيبه وقهره، وربما تؤدي طرق التعذيب إلى مرحلة التصفية الجسديّة بطريقة شريعة الغاب، وهنا نجد الكثير من الناس المتهمين  تحت التعذيب يعترفون باقتراف قضايا لم يقوموا بها، وعل هذا الأساس يأتي الحس الشعبي ليعبر عن حالات ظلم الناس بدون حق كما يقول المثل: (كثير بالسجون مظلمة). نعم كثير من الناس تظلم وتسجن وتشرّد عائلاتهم وينحرف أفرادها بسبب غياب القانون وسيادة شريعة الغاب.

دعونا نتابع ما جاء في متن الرواية عن مثل حالات الظلم هذه وكما جرى لآدم:

في غرفة التحقيق يتساءل "آدم"

- ماذا يحدث، وأين أنا ومن أنتم؟.

رد عليه "علي" بنبرات حادة:

- لا تسأل أسئلة أيها (الكلب)، أنت هنا لترد على أسئلتنا نحن.

في حين ابتسم (حسن) لـ (آدم) ورد بطريقة ودودة.

- صديقي العزيز أنت هنا في مبنى مباحث أمن الدولة، وصدقني لو فعلت ما أقول لك بهدوء، فسنكون أصدقاء في المستقبل وسترى كل العطف والحب مني، وإذا اخترت الطريق الصعب، وأردت أن تمارس دور البطل، فدعني أقول  لك شيئاً بسيطاً: إن كل الأفلام التي شاهدتها، وكل الأساطير التي سمعتها عما يحدث هنا لا تظهر سوى1% مما يمكننا فعله يا صديقي، يمكنني في خلال ساعة واحدة على إجبارك أن تكفر بوجود الله ببساطة، أو أجعلك تقبل قدمي كي تعترف بأية جريمة أطلبها. ولكي أكون صريحاً معك أقول لك: إن تقطيع الأطراف وهتك الأعراض هو لعب أطفال لما يمكن أن تراه هنا، فأنا بالذات رجل (فنان أحب الاستمتاع بعملي أثناء تأديته)، يمكنك ان تتأكد الان من ذلك.). ص37.

إن هؤلاء لديهم القدرة أن يبرروا تعذيبهم لمن يقع تحت أيديهم لأي سبب باسم الدفاع عن الوطن.

يقول رجال الأمن لأحد أصدقائه: (أنا وطني.. نعم أنا وطني  وأحب بلدي واعشق ترابها أكثر من أي شخص آخر... كل من يتعاملون معي لا يعلمون حجم المجهود الذي يبذله أمثالنا في حماية آمن الوطن.. أنا مخبر في آمن الدولة الكل يخاف مني بمجرد أن يعرف ذلك، ولكن ما المشكلة؟.. نعم أنا أفتخر بعملي الذي لا يعرف أسراره أحد من العامة. ص97وص98... لو أخطأت ما المشكلة؟... من فضلك لا تقل لي أنك لا تخطئ، فأنت ظلمت أحدهم في يوم من الأيام، وربما قمت بضربه. أما نحن فلو ظلمنا أحداً إنما نظلم لغاية أسمى وهي جعل الشعب في أمان دائم.). ص100.

الرواية في الشكل:

العتبات السيميائية في الاسم داخل المتن الرواية:

إن اسماء الشخصيات، غالباً ما تأتي متناسبة مع سماتها وخصائصها، بحيث تحقق للنص جماليته ومصداقيته. فالاسم يوضّح هويّة الشخصيّة، فهو يمثل للشخصيّة ما يمثله العنوان للرواية أو قصة أيضاً، إنه أحد الخطوط المميزة والهامة وعلامة فاعلة في تحديد السمة المعنويّة لهذه الشخصيّة أو تلك، وهو يمثل بثباته وتفاعله وتواتره عاملاً أساسيّاً من عوامل وضوح النص. فالأسماء والصور والرموز داخل العمل السردي تعتبر شكلاً فنياً مشبعاً بالدلالة، فلا مجال فيه إلى منطق المصادفة، فلكل من اسمه نصيب. فالاسم هو الذي يحدد الشخصيّة ويجعلها معروفة، ويختزل صفاتها، ولهذا لابد للشخصية أن تحمل أسماء تميزها".

يأتي اسم الرواية (الجزار) حاملاً دلالات عميقة عن روح الانتقام  وقسوته من قبل " آدم"، تجاه من مارس عليه وزوجته التعذيب والقهر والظلم. ولذلك تتجلى لنا دلالة العنوان في صورة الغلاف التي تعبر عن رأس إنسان قد أدخلت سكين في عينيه عند نهاية أنفه من الأعلى، ووجه ملطخ بالدماء، وهذا يدل على  شهوة الانتقام التي سيطرت على الفاعل حتى حاز على لقب (الجزار).

أما بالنسبة لاسم البطل "آدم"، فهو تعبير عن الإنسان الضعيف المغلوب على أمره، الذي يمارس عليه القهر والظلم والاستلاب والتشيء والاغتراب، فليس من حقه أن يسأل حتى عن سبب ظلمه، وهذا ليس جديداً على "آدم" وهو الذي طرد من الجنة وزوجته لأنهما خالفا أوامر رب السماء، وها هو اليوم يمارس عليه الدور نفسه في ضرورة الطاعة والامتثال لرب الأرض. الذي نعته بـ (الكلب) فقد لأنه سأل أين هو ؟.

وكذا الحال لدلالات اسم زوجة "آدم" وهو " بتول" الذي يعني العفة والنقاء.

البنية العامة للشخصيات في الرواية:

الشخصيّة هي ذلك الكائن الذي يبدعه المؤلف من الكلمات، فيعطيه اسمًا، وعنوانًا، وشكلاً ومضموناً. هو "كائن موهوب بصفات بشرية، وملتزم بأحداث بشرية.

وفي الرواية نجد شخصيات تملأ فضاءات الرواية بانفعالاتها وحواراتها وأفعالها وردود أفعالها مع محيطها المهني والعائلي والاجتماعي والسياسي. فهناك الشخصيات الفاعلة والنامية في الرواية، ويأتي في مقدمتها "آدم" الشخصيّة الرئيسة، وهي الشخصيّة التي تدور حولها فكرة الرواية الأساس، القائمة على إظهار دور ومكانة الفرد في الدول المستبدة، فهو متهم دائماً، وفاقد لحريته وإرادته ورأيه وكرامته، أو بتعبير آخر: هو من سقط المتاع في وطنه.. هو رقم لا أكثر، تمارس عليه الوصاية والتدجين والنمذجة والتذرير.

وشخصيّة "آدم" إذا ما حاولنا تفسيرها في أبعادها النفسيّة والتحول في مواقفها داخل المتن الروائي، فهي شخصيّة (نامية) أصابها الكثير من التحولات والتعقيد، لقد تغيرت في أفكارها وقيمها ومسلكها بتقدم أحداث الرواية، ولكنها ظلت واضحة بمجرى الأحداث في وطبيعتها ودوافعها وصراعها، وهذا ما جعل الشارع يتعاطف معها بسبب ما يقوم به من مجازر بحق رجال الأمن الذين لم يستطيعوا مدّ جسور المحبة والألفة عبر تاريخهم مع الشعب الذي يدعون بأنهم وجدوا لحماتيه وتحقيق أمنه، بل كل الذي عملوه هو زرع الخوف عند أفراد الشعب وجعلهم يرتعبون من أي شخصيّة تنتمي لسلك الأمن.

وهناك في الرواية شخصيات جاءت في المرتبة الثانية، أو ما يسمى بالشخصيات (الثانوية)، وهي تفتقر إلى الكثافة السيكولوجيّة والتعقيد الذي ميز شخصيّة "آدم" لأنها شخصيات ذات طابع أحادي ثابت غير متغير". ولكن الشخصيّة الثانوية تظل في المتن الروائي صديقاً للشخصيّة الرئيسة، فهي تضيء الجوانب الخفية لها، والكشف عن جوهرها وحتى تعديل أو حرف سلوكها، وهذه الشخصيات الثانويّة تمثلت في الرواية برجال الأمن مثل (علي وصابر وحسين وغيرهم). التي ساهمت في تغيير سلوك آدام من رجل يعمل بعقلانيّة وعلميّة لتحقيق حياة سعيدة له ولأسرته، إلى شخصيّة تمارس القتل لتحقيق العدل من باب الانتقام. هذا مع التأكيد على ضرورة الكشف عن أبرز سمات وخصائص هذه الشخصيات الأمنيّة التي أصبحت شبه ثابتة، وهي شعورهم بفوقيتهم واستعلائهم على غيرهم من المواطنين، ووصولهم إلى مرحلة من النرجسية، بحيث ينظرون ويتعاملون مع الآخرين بأنهم (حمير وكلاب)، وأنهم وحدهم من يحب الوطن ويدافع عنه.. مفردات حياتهم تقوم على تعذيب المتهم وإهانة كرامته وممارسة كل ما يساهم في إذلاله بشكل أصبح أقرب إلى العادة. يقول أحدهم في الرواية: (ينظر العامة لنا على أننا أدوات تعذيب، ورجال جبارين على الضعفاء.. ولم ينظر أحد لنا بأننا كنا السبب في حماية عائلته من عشرات القنابل التي كان من الممكن أن تنفجر فيه... ومن عشرات الانقلابات التي يمكن أن تنهي حياته ومستقبله.. ومن آلاف المجرمين الذين يحاولون أن يعيشوا في هذا الوطن بأمن وسلام.). ص98.

ولكن نجد في المقابل رجل آمن آخر له عقليّة وسلوكيّة تشبعت بفهم طبيعة عملها. فرجل الأمن عندها هو حماية الفرد والمجتمع والدولة، دون التعالي على أفراد المجتمع، بل هو وضع في خدمتهم. وهذا النموذج نجده في شخصية العميد "سامح". وهو الاسم الذي يحمل دلالات المحبة والإنسانيّة، فعند لقائه مع والد "آدم" يقول له: (آدم ظلم في حياته، وأنا أعرف من هم الجناة، وأعرف من فعل هذا به وبزوجته). ثم يتابع: (قلت إنني توصلت لحل قضيّة "آدم" ومن فعل به، ولكن "آدم" كان يسبقني في قتلهم الواحد تلو الآخر، أما أنا فأريد لهم أن يقدموا للمحاكمة أمام الجميع ويحصلوا على جزاء فعلتهم.). بهذا الموقف يتجلى موقف العميد "سامح" كرجل أمن يعرف ما هو القانون وما هي دولة القانون، وهكذا يجب أن يكون دور الأمن وكل المؤسسات القضائيّة.

وهناك شخصيّة ثانوية أيضاً هي "سالم" الصحفي الذي مارس دوره الصحفي في قضية "آدم" بشكل عقلاني. فاستطاع أن يبن من خلالها عمله ودور ومكانة الصحافة عندما تعمل لخدمة المواطن والوطن، وكيفيّة امكانيّة التعامل مع الشخصيات النظيفة في مؤسسات الدولة كشخصيّة العميد "سامح" الذي عرفه بدوره كصحفي نشيط، وطلب منه التعاون بكل أدب من موقع المسؤوليّة العامة، للوصول إلى الحقيقة.

هناك شخصيات هامشية في الرواية لا يتجاوز دورها ملء فضاءات صغيرة في الرواية، أي هي شخصيات لا يتعدا دورها مجرد الربط بين الشخصيات الرئيسية والثانوية، حيث أدت مهام بسيطة ثم اختفت على إثرها مباشرة. مثلها في رواية (الجزار) والد "آدم"، وضابط الشرطة محمد عبد الرحمن، والممرضة أمل، وعاطف دكتور في علم النفس، وغيرهم.

عموماً نجح الروائي في رسم شخصياته بشكل بارع، وحقق النفاذ إلى أعماقها، مبرزاً أحوالها الشخصيّة والفكريّة والاجتماعيّة، وتأثير هذه الأحوال بصفاتها وقيمها المعنويّة. ولم تكون الفصول طويلة. وبالتالي لم يكن هناك سرد مجاني ممل للمتلقي رغم تعدد السارد، لقد ظهر أثر الروائي واضحاً في الكشف عن رؤية كل شخصية سارده وموقفها من أحداث الرواية، وبالتالي الوصول إلى أعماق شخصيات روايته والتحكم بها، ووضعها في إضاءات واقعيّة وديكور واقعي ورسم ملامحها بألوان وخطوط واضحة. لقد ظهرت قدرة الكاتب في استغلال تقنيات روايته، مثل تعدد السارد، وبناء الشخصيّة الروائيّة، والزمان والمكان، واللغة، والتفاعل مع الحدث. والأهم أن الروائي استطاع أن يصنع برأيي في روايته وفي خياله وبصيرته، فضاءً فلسفيّا واخلاقيّاً وسياسيّاً وفكريّا ونفسيّاً. تتنفس فيه الشخصيات وتبوح بأسرارها عبر علاقات التناسب والتفاعل والتناغم بين حضورها الدرامي والفني والجمالي في كل تلك الفضاءات التي احتوت عليها الرواية. لقد استطاع خلق علاقة متناغمة ومتكاملة بين شخصيات الرواية أشبه ما تكون علاقة متكاملة من الألوان والخطوط ومساحات الضوء في لوحة تشكيليّة لفنان مبدع..

البنية الفنيّة للرواية:

تميز تصوير الراوي لروايته بالحيويّة وتسارع الايقاع، وذلك بسبب نأيه عن السرد الانفعالي أو التقريري والانشائي أو التسجيلي، أو الحكي المجاني من خلال انفعالات وفكر كل شخصيّة. لقد كان السرد موزوناً وعقلانيّاً ودقيقاً، صيغ بمفردات تناسب وعي كل شخصيّة وثقافتها واهتماماتها، ومن زوايا تتناسب ومصالحها وهمومها وعواطفها... سرد يتدفق في سلاسة وانسيابيّة وبساطة، وحافل بمفردات من المشاهد والمواقف والحوارات التي توالت في إيقاعات منضبطة ورصينة وفي توازن دقيق بين الواقع والخيال، وبين الفكر والعاطفة، وبين الحكي المألوف والتجريب المشروع. والسرد في الرواية لا يسير باتجاه واحد حيث وجدنا بَالبنية السرديّة التي ينقلها الراوي عن طريق شخوص الرواية، أن هناك مجموعة من السرديات الحواريّة التي تتوازى على مدار الرواية، مما جعل الرواية مليئة بالزخم، فالسرديات المختلفة تتوزع على الفصول وكأن شاشة الرواية منقسمة إلى أقسام كثيرة، يراها المشاهد وكانه أمام خشبة مسرح أو مسلسل درامي، فهو لا ينتهى من السرديّة الواحدة مرة واحدة، وإنما يدخل معها حكايات متنوعة، وينتقل من حكاية إلى أخرى. ولكن يظل هناك تداخل واستغراق للسرديات ونشاط الشخصيات مع بعضها عبر محطات الرواية.  وكل ذلك جاء وفق دوائر تتسع لهموم من ظلم، ولهموم الوطن، ولهموم الإنسان في فضاء كوني واسع مشبع بالتناقضات والصراعات والمصالح المتناقضة.

أشكال السرد في الرواية:

لقد سيطر على السرد في الرواية بشكل عام، السرد الحواري، وهو تقنية سرديّة تتصل بالحوار، ويغيب الراوي بضمير الغائب تقريبا، والسرد الحواري بين شخصيات الرواية، يتجلى كالمشاهد، أو مقاطع حواريّة من الخارج تعبر فيها كل شخصيّة عن رؤيتها وبلغتها الخاصة وطريقة تفكيرها وقناعاتها، رغم أن المستوى اللغوي للحوار كان على درجة واحدة تقريباً بسبب طبيعة شخصيات الرواية ودرجة ثقافته وتعليمها القريبة من بعضها هنا. وتسمى الرواية الحواري أيضاً بالمتعددة الأصوات، وهي تتبنى علاقة الكاتب بشخصياته على مبدأ الاستقلاليّة حيث تتمتع الشخصيّة بحضور مستقل عن شخصيّة الكاتب، لأنه يتركها تعبر بحريّة عن أفكارها وقناعاتها. لذلك حفلت الرواية بتعدد الأفكار والمواقف السلوكية وصراعاتها. إن الكاتب في الرواية الحواريّة لا يعرف عن الشخصيّة أكثر من خارجها، فهو يقوم بوصفها  لا أكثر أو وصف ما يسمعه أو يراه، وما يجري من حركات وأصوات وألوان، أي هو لا يعرف ماذا يدور في ذهن الشخصيّة وبما تفكر فيه أو تحسه من مشاعر. إن هذه الرواية تدخل في نمط الرواية الجديدة أو الرواية (الشيئية) التي تقوم على الحس. وهي برأيي أقرب إلى الدخول في المنهج البنيوي الذي يلغي دور المؤلف ويترك تفسير الرواية ومعرفة دلالاتها من خلال المتلقي. وهذا ما جعل الروي يركز على شكل الرواية دون التطرق لمحطيها والظروف الخارجية التي أنتجت أحداثها.

البنية الزمكانيّة في رواية الجزار:

المكان:

إن للمكان في حياة الإنسان قيمته الكبرى ومزيته التي تشدّه إلى الأرض، ولا غرو فالمكان يلعب دوراً رئيساً في حياة أي إنسان. والمؤلف المبدع يحرص على براعة تصويره للمكان و مدى تطابق المكان المروي بالمكان الواقعي، فالأمكنة بالإضافة إلى اختلافها من حيث طابعها وتشكيلاتها (مغلقة – مفتوحة - ضيقة - متسعة)، فهي تختلف أيضاً من حيث نوعية الأحداث التي تجري فيها. لقد اشتغل الروائي في هذه الرواية على الأمكنة المغلة وقليلاً ما نجد أمكنة مفتوحة فيها. وهذا ما يجعل المتلقي أو القارئ لرواية "الجزار" يجد أبطال الرواية يتحركون وكأنهم على واجهة تشبه واجهة الخشبة في المسرح.

لقد أدت الأمكنة المغلقة في الرواية دورا محوريّاً داخل الرواية، لأنها ذات علاقة وثيقة بتشكيل الشخصيّة الروائيّة واحداثها ومهامها، فهذه الأمكنة المغلقة، مثل  البيت.. الغرفة القطار.. السجن، غرف التحقيق، المشافي.. الخ. هي أمكنة مليئة بالأفكار والذكريات والآمال والترقب والخوف والتوجس. فهي التي تولد المشاعر المتناقضة في النفس، وتخلق لدى الإنسان صراعاً داخلياً بين الرغبات وبين المواقع، ففي الوقت الذي توحي بالراحة والأمان، هي توحي في الوقت نفسه بالضيق والخوف". أي إن هذا النوع من الأمكنة يتسم بالألفة والأمان، مثلما يتسم أيضاً بالكراهية والحقد وممارسة الظلم. لقد مثلت الأمكنة المغلة في رواية الجزار عالماً من الخوف والرعب، إن كان على مستوى غرف التحقيق في أجهزة الأمن أو المشافي أو شقق السكن التي مورس فيها فعل القتل والجزر والتعذيب. يقول أحد شخصيات الرواية واصفاً حالة الشقق المغلقة وما يجري داخلها وما تركته من خوف لدى المواطنين خارجها: (المهم أنه منذ عام ظهرت أصوات من داخل الشقة، وأضواء، وبعدها كل من سكن داخل العمارة كان يشتكي من الأصوات المرعبة التي كانت تأتي كأصوات صراخ وهمهمات وبكاء ودقات، وكل ترك شقته ولا زال الوضع كما هو حتى الآن.). ص265و 266.

الزمن في الرواية:

إن الزمن الأدبي أو القصصي هو زمن التجارب والأحداث التي تلازم الكاتب وشخصياته، وبالرغم من أنه ليس زمناً واقعيّاً بقدر ما هو زمن افتراضي أو نسبي شاهد على الشخصيات والوقائع.

إن الزمن يشكل الروح المحركة لوجود حياتنا اليوميّة، أو في كتاباتنا القصصيّة والروائيّة، فالزمان يؤثر بصورة مباشرة على سرد الأحداث كما المكان، بل هناك علاقة عضويّة بين الزمان والمكان والحدث، فبدونهم تتوقف الحياة. فزمن السرد جاء في رواية "الجزار" خاضعا لمبدأ السببية، حيث جاءت الوقائع متتالية وفق تسلسل زمني منطقي، أي إن الزمن جاء هنا ًليمضي متواصلًا دون إمكان إفلاته من سلطان التوقّف رغم مشهديته الحواريّة … فهو زمن طولي يتواصل بشكل مستمر، وحركته ذات بداية ونهاية توافق فيها زمن السرد مع زمن الرواية، وهذا من ميزات المنهج الواقع في السرد.

اللغة في المعمار الروائي:

جاءت اللغةً بسيطةً شفافةً واقعيّةً، متماسكة، خالية من الصناعات البلاغيّة والتكلف والغموض المصطنع، وهذا ما يجعلها أقرب إلى المتلقي العادي والمثقف معاً.

أهداف وطموح الرواية:

أراد الروائي أن يقدم رؤيته الخاصة للحياة ذات الطابع العميق، عبر وسيط فني وجمالي يألفه ويناسب أوتاره النفسيّة والأخلاقيّة والقيميّة والفكريّة والوجدانيّة، وجد فيه ملامح من تراثه وبيئته وحياته السياسيّة المعاصرة. ولكي يحقق هدفه تأمل إبداعات الذات العربيّة التي تجسد فيها الخوف والرعب والموت والمجهول والغربة والأسطورة والخرافة والاستلاب واللامعقول، مقابل أحلامها بالمنطق العقلاني وبالعدل والبطولة والحريّة والمساواة واحترام الرأي المختلف، والخلاص من الاستبداد والوصاية السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة، والتوازن والسمو والعلو عن كل ما يسودها من كذب ورياء وأنانيّة وتنطبق فيها الممارسة مع الفكر.

أما الأهم في طموحها داخل نسقها المضمر، فهو سيادة دولة القانون، وعدم هدر كرامات الناس وفقاً لمواقف سلطويّة مستبده، تجد نفسها هي وحدها من يمتلك الحقيقة والوطن، وتسيير شؤون الدولة والمجتمع وفقاً لمصالحها أو وجهة نظرها. فالحقيقة تظل نسبية والمواطن يحميه القانون، والسلطة ليست سلاحاً للقهر بقدر ما هي وسيلة لتحقيق العدل والأمن والاستقرار، وأن كل سلطة في الدولة لها دورها ومكانتها الوظيفيّة، ولم يكن تداخل السلطات وفوضى ممارستها المشينة، وجعل بعضها فوق القانون والمحاسبة، إلا امتهاناً بحق الوطن والمواطن، وغياباً لدور الدولة ومؤسساتها.

الرواية بعنوان (الجزار) للروائي المصري " حسن الجندي" دار اكتب للنشر والتوزيع – ط2-2011. تقع الرواية في 322صفحة...

الرواية جديرة بالقراءة.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

 

قراءة في قصيدة: اسكافي عفك للشاعر كزار حنتوش – العراق.

اسكافي عفك / كزار حنتوش

يا من اسرفت بأكل الجمر على ريب

وغصصت بجرعة ماء

لم لم تبتلع الياء

من اسم الحاج كليب

ولماذا لم تلثم كف زعيم الشورجة

وجها لقفا

وتناديه أيا عم اغثني

لم تجد فتيلا كل قصائد ابن الريب

ولماذا يا ذئب السبعينات تظل وحيدا تعوي

ما من احد قال الحال سواء

سيضيع الصوت رويدا

وتموت شريدا

كمغن نهر بويب

يا اسكافي عفك

يا طالب تمر شثاثة

يا سيف خلف

*

راح العرس وناح الطرس ولاح الشيب

*

كانت في الشام لنا نخلة

قصوا كل جدائلها

كانت خلف مدينة عبادان لنا قرية

قلبوا عاليها سافلها

والان خرجنا من مكة

لم نربح بيعا كصهيب

انت الان كما انت

لا شق نواة في الجيب

لا لمع دوانيق في الغيب

ضاقت دائرة الفلسين عليك

اختر عما لم ينزل من صلب الجد وغن

للشر وانت بعيد

تقول العيب..العيب..العيب …العيب

ثبرت العالم بالعيب

بكم تشرى الاوقية في سوق مريدي من هذا العيب.

***

القراءة:

القصيدة / اسكافي عفك / للشاعر كزار حنتوش هي نص شعري معقد وذو طابع تجريبي يتناول قضايا اجتماعية، سياسية، ووجودية في سياق ما بعد الحداثة. القصيدة لا تتبع هيكلًا شعريًا تقليديًا، بل تعتمد على صورة شعورية مبللة بالرمزية واللغة المكثفة التي تعكس التوتر الداخلي للعالم العربي في فترات حاسمة من التاريخ. نلاحظ أن هناك أبعادًا متعددة في القصيدة يمكن استكشافها من خلال قراءة نقدية معمقة.

1. البنية الرمزية:

القصيدة مليئة بالرموز التي تحمل دلالات غنية. على الرغم من أن القصيدة قد تبدو وكأنها سرد شخصي أو موحد، إلا أن الرمزية تشبع النص وتعطيه طابعًا سياسيًا وثقافيًا يمتد إلى مستوى الوجود البشري. على سبيل المثال: أكل الجمر: في الثقافة العربية، أكل الجمر هو استعارة للألم والمعاناة التي لا تنتهي. الجمر يشير إلى المعاناة المذلة التي يفرضها الواقع، سواء كانت اقتصادية، سياسية أو اجتماعية. وعليه، يمثل الأكل المجازي للجمر نوعًا من القبول بالمعاناة أو الاضطرار إلى تحمل الألم. غصصت بجرعة ماء: هذا الصراع بين الجمر والماء يُظهر حالة من التناقض؛ الماء هنا يُفترض أن يكون مرادفًا للراحة والشفاء، لكن رغم ذلك، تظل هذه الجرعة ضئيلة وغير قادرة على منح الشفاء أو الراحة. يظهر هذا التوتر بين التوق للراحة والمقاومة لليأس. لم لم تبتلع الياء من اسم الحاج كليب: يشير هذا المقطع إلى فقدان الهوية أو تغييبها في إطار السياسة أو التاريخ. / الياء/ قد تكون رمزًا للمجتمع أو الهوية الشخصية التي لا تستطيع أن تستمر أو تتجسد كما يجب. اسم / الحاج كليب / هو إشارة تاريخية وثقافية تمزج بين العناصر الشعبية والرمزية، وفي ذات الوقت تحيل إلى أبعاد اجتماعية وسياسية معينة. هذا التساؤل حول / لماذا لم تبتلع الياء؟ / قد يعني أن ثمة نقصًا في التفاعل مع التاريخ أو مع الرموز الدينية والشعبية التي يتوقع أن تكون جزءًا من بناء الهوية. يا ذئب السبعينات: هذه العبارة تحمل إشارة إلى فترة السبعينات التي كانت مشحونة بالتحولات السياسية في المنطقة العربية، مثل الثورات، الانقلابات، والحروب. / الذئب / في هذا السياق يشير إلى القوة التي تحكم في الظل، شخصية تسعى لتحقيق أهدافها بينما تغيب في العلن، في وقت كان فيه الوضع السياسي في المنطقة متأزمًا للغاية. تموت شريدا كمغن نهر بويب: هذه الصورة تلمح إلى أن الصوت الجريح أو النضال المنهك يضيع تدريجيًا، مثلما يضيع مغني النهر في جو من الخراب والفراغ. نهر بويب يشير إلى مكان تاريخي، وهو يعكس بشكل رمزي التداعي والدمار الذي طال المنطقة العربية.

2. التمرد على القيم التقليدية والهويات:

الشاعر يعبر هنا عن حالة من الرفض التام للقيم والرموز التقليدية، وهو يقيم نوعًا من الممارسة النقدية للتراث الشعبي والذهني. / يا اسكافي عفك / هو خطاب موجه لشخص، ربما يمثل الفرد العادي الذي يظل مشغولًا بتفاصيل حياته الصغيرة بينما يعجز عن التأثير في الواقع الأوسع. فالشاعر يهاجم التقاليد التي تُفرض على الناس ويحث على الثورة ضد الهيمنة الثقافية والاجتماعية التي تقيد الحرية الفردية. /راح العرس وناح الطرس ولاح الشيب/ هذه الجملة توضح أن الاحتفالات والمناسبات الاجتماعية الكبرى قد اختفت أو انتهت، في إشارة إلى تقادم الزمن وتغير الأحوال. الشيب هنا يعكس تحولًا قاسيًا في الزمن، ويمثل خسارة مستمرة للآمال والطموحات التي كانت في وقت من الأوقات جزءًا من حلم جماعي.

3. الحروب والتهجير والهويات المبعثرة:

قصيدته تحمل أيضًا إشارة إلى التهجير والحروب. /كانت في الشام لنا نخلة/ تمثل بداية الحلم الذي تم تدميره من قبل القوى السياسية، حيث فقد الناس امتيازاتهم الروحية والعاطفية بمرور الزمن. نخل الشام كان رمزًا للسلام، ولكن تم قصه ونهبه. في هذا السياق، يشير الشاعر إلى الانكسارات التي طالت الجغرافيا والتاريخ العربي بشكل عام. كان خلف مدينة عبادان لنا قرية: هنا يشير حنتوش إلى مكان ذي معنى تاريخي وثقافي خاص. مدينة عبادان تمثل التغيير الاقتصادي والسياسي في المنطقة، حيث كان لها مكانة اقتصادية في إيران والعراق في فترة سابقة. الآن خرجنا من مكة: مكة في النص تمثل مركزًا دينيًا، ومع خروج الشاعر من مكة يتأثر سياق الهجرة الروحية والوجودية، بما يشير إلى فقدان البوصلة الدينية والروحانية في ظل ظروف عيش قاسية وممزقة.

4. التعالي والتشكيك في القيم الاجتماعية والسياسية:

/ العيب.. العيب.. العيب/: التكرار المكثف لكلمة / العيب / يشير إلى الاحتجاج على الانحرافات الأخلاقية والسياسية في المجتمع. الشاعر هنا يعبر عن التوتر الذي يعيشه الفرد بين العيب كقيمة اجتماعية وبين التحدي المستمر لهذه القيم التي تحكمت في المجتمع العربي لعقود. يطرح سؤالًا عن مدى جدوى تلك القيم في عالم يعج بالفوضى والظلم.

5. الخاتمة:

القصيدة لا توفر أجوبة حاسمة، بل تترك المجال مفتوحًا لتفسير متعدد ومركب. الشاعر يستخدم الأدوات الرمزية والتاريخية ليخلق صورة شعرية معقدة عن الفقدان والهويات المبعثرة في ظل الأزمات السياسية والاجتماعية. القيم التي يشير إليها حنتوش ليست ثابتة، بل هي في حالة تطور وتغير مستمر، مما يعكس مشهدًا من التيه والحيرة في لحظة تاريخية حساسة.

***

بقلم: كريم عبدالله – العراق

في المثقف اليوم