قراءات نقدية

قراءات نقدية

من أين يأتي هذا الأدب؟

يأتي الأدب ما بعد الاستعماري او (ما بعد الكولونيالي) من المستعمرات البريطانية السابقة في منطقة البحر الكاريبي وأفريقيا والهند. ويكتب العديد من كتاب ما بعد الاستعمار باللغة الإنجليزية ويركزون على موضوعات مشتركة مثل النضال من أجل الاستقلال والهجرة والهوية الوطنية والولاء والطفولة.

ما هي نظرية ما بعد الكولونيالية؟

نظرية ما بعد الاستعمار هي نظرية أدبية أو نهج نقدي يتعامل مع الأدب المنتج في البلدان التي كانت في السابق، أو هي الآن، مستعمرات لبلدان أخرى. وقد تتعامل أيضًا مع الأدب المكتوب في أو من قبل مواطني البلدان المستعمرة التي تتخذ المستعمرات أو شعوبها موضوعًا لها. وتستند النظرية إلى مفاهيم الاختلاف (او الاخر) والمقاومة. ما بعد الكولونيالية، هي الفترة التاريخية او حالة الأقطار في اعقاب الاستعمار الغربي، ويمكن استخدام مصطلح ما بعد الكولونيالية أيضا لوصف المشروع المتزامن لاستعادة وإعادة التفكير في تاريخ ووكالة الأشخاص الخاضعين لأشكال مختلفة من الامبريالية. تشير ما بعد الكولونيالية الى مستقبل محتمل للتغلب على الاستعمار، ومع ذلك يمكن ان تأتي اشكال جديدة من الهيمنة او التبعية في ضوء هذ التغييرات، بما في ذلك اشكال جديدة من الإمبراطورية العالمية. لا ينبغي الخلط بين ما بعد الكولونيالية والادعاء العام بان العالم الذي نعيش فيه خال من الاستعمار والهيمنة.

 وهناك تعريف لروبرت يونغ حول ما بعد الكولونيالية وهو كالتالي: "في أبسط صوره، فإن ما بعد الكولونيالية هي ببساطة نتاج للخبرة الإنسانية، ولكن الخبرة الإنسانية من النوع الذي لم يتم تسجيله أو تمثيله عادة على أي مستوى مؤسسي. وبشكل أكثر تحديدًا، فهو نتيجة لأصول ثقافية ووطنية مختلفة، والطرق التي يحدد بها لون بشرتك أو مكانك وظروف ميلادك نوع الحياة، المتميزة والممتعة، أو المضطهدة والمستغلة، التي ستحظى بها في هذا العالم. وتتركز اهتمامات ما بعد الاستعمار على مناطق جغرافية كثيفة ظلت غير مرئية إلى حد كبير، ولكنها تثير أو تنطوي على أسئلة حول التاريخ والعرق والهويات الثقافية المعقدة وأسئلة التمثيل واللاجئين والهجرة والفقر والثروة - ولكن أيضًا، وهو أمر مهم، الطاقة والحيوية والديناميكيات الثقافية الإبداعية التي تنشأ بطرق إيجابية للغاية من مثل هذه الظروف الصعبة. تقدم ما بعد الكولونيالية لغة لأولئك الذين ليس لديهم مكان، والذين يبدو أنهم لا ينتمون، ولأولئك الذين لا يُسمح لمعارفهم وتاريخهم ان يكون جزاء من تاريخ العالم. إن هذا الانشغال بالمضطهدين، وبالطبقات الدنيا، وبالأقليات في أي مجتمع، وبهموم أولئك الذين يعيشون أو يأتون من أماكن أخرى، هو الذي يشكل أساس لسياسة ما بعد الكولونيالية ويظل النواة التي تولد قوتها المستمرة."

أصبحت نظرية ما بعد الاستعمار جزءًا من الأدوات النقدية في سبعينيات القرن العشرين، ويرى العديد من الممارسين أن كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" هو العمل التأسيسي.

في إطار الدراسات ما بعد الاستعمارية، هناك العديد من التركيز والمنهجيات: بعض الباحثين ماركسيون، في حين أن آخرين ثقافيون وما بعد بنيويون. ولكن بغض النظر عن منهجهم الفلسفي، فإن الأسئلة تركز دائمًا في الغالب على محنة المستعمرين سابقًا، ونضالاتهم، وانتصاراتهم، وتاريخهم، وقصصهم، وكلها مسترجعة ومفصلة لنبذ السرديات الإمبريالية والاستعمارية التبسيطية حول سكان الاطراف.

هناك أيضًا أولئك الذين يدرسون تأثير الاقتصاد النيوليبرالي على المجتمعات ما بعد الاستعمارية أو المجتمعات الأصلية داخل الدول القومية ما بعد الاستعمارية. وبالتالي، يعتمد هؤلاء الباحثون على المعرفة الشاملة بماركس والماركسية والاقتصاد الكلي والنموذج الاقتصادي النيوليبرالي لفهم طبيعة الاستغلال الذي لا يزال يعمل داخل النظام الاقتصادي العالمي.

بعض القضايا في نظرية ما بعد الكولونيالية:

تتناول نظرية ما بعد الاستعمار قراءة وكتابة الأدب المكتوب في البلدان المستعمرة سابقًا أو حاليًا، أو الأدب المكتوب في البلدان المستعمرة والذي يتناول الاستعمار أو الشعوب المستعمرة. وتركز بشكل خاص على الطريقة التي يشوه بها الأدب من قبل الثقافة المستعمرة تجربة وحقائق الشعوب المستعمرة، ويطبع دونية الشعوب المستعمرة على الأدب من قبل الشعوب المستعمرة والذي يحاول التعبير عن هويتها واستعادة ماضيها في مواجهة الاختلاف الحتمي لهذا الماضي. ويمكن أن يتعامل أيضًا مع الطريقة التي يستولي بها الأدب في البلدان المستعمرة على لغة وصور ومشاهد وتقاليد وما إلى ذلك من البلدان المستعمرة. هنا معالجة لبعض تعقيدات الوضع ما بعد الاستعماري، من حيث وضع الكتابة والقراءة للشعب المستعمر، والشعب المستعمر.

الأدب الذي تناولته الشعوب المستعمرة:

إن نظرية ما بعد الاستعمار مبنية إلى حد كبير حول مفهوم الآخر. ومع ذلك، هناك مشاكل أو تعقيدات تتعلق بمفهوم الآخر، على سبيل المثال: يتضمن الاخر الازدواجية، والهوية والاختلاف، بحيث يتم إنشاء كل آخر، وكل مختلف عن، وكل مستبعد من قبل، بشكل جدلي، ويتضمن قيم ومعنى الثقافة الاستعمارية حتى مع رفضها لسلطتها على التعريف؛  إن المفهوم الغربي للمشرق يستند، كما يزعم عبد الجان محمد، إلى المجاز المانوي (الذي يرى العالم مقسمًا إلى أضداد مستبعدة متبادلة): إذا كان الغرب منظمًا وعقلانيًا وذكوريًا وخيرًا، فإن الشرق فوضوي وغير عقلاني وأنثوي وشرير. إن عكس هذا الاستقطاب ببساطة يعني التواطؤ في قوته الشاملة والمدمرة للهوية (يتم اختزال كل شيء إلى مجموعة من الثنائيات، الأسود أو الأبيض، إلخ)؛ إن الشعوب المستعمرة متنوعة للغاية في طبيعتها وفي تقاليدها، وباعتبارها كائنات في ثقافات فهي مبنية ومتغيرة في الوقت نفسه، وعلى هذا فإن هذه الشعوب وإن كانت قد تكون "مختلفة" عن المستعمرين فإنها تختلف أيضاً عن بعضها البعض وعن ماضيها، ولا ينبغي لنا أن نحصرها في مجموع أو جوهر ـ من خلال مفاهيم مثل الوعي الأسود، والروح الهندية، والثقافة الأصلية، وما إلى ذلك. وكثيراً ما يكون هذا التقسيم والجوهر شكلاً من أشكال الحنين إلى الماضي الذي يستمد إلهامه من فكر المستعمرين، وهو ما يعمل على منح المستعمر إحساساً بوحدة ثقافته في حين يربك ثقافات الآخرين؛ وكما لاحظ جون فرو، فإن هذا يشكل خلقاً لواحد أسطوري من بين العديد من الثقافات... وسوف تكون الشعوب المستعمرة أيضاً مختلفة عن ماضيها، الذي يمكن استعادته ولكن لا يمكن إعادة تشكيله أبداً، وبالتالي فلابد من إعادة النظر فيه وتحقيقه بطرق جزئية ومجزأة.

إن نظرية ما بعد الاستعمار مبنية أيضاً حول مفهوم المقاومة، أو المقاومة باعتبارها تقويضا أو معارضة أو محاكاة ـ ولكن مع وجود مشكلة مؤرقة تتمثل في أن المقاومة تطبع دوماً ما يقاومه المرء في نسيج ما يقاومه: إنها سيف ذو حدين (فرانز فانون معذبو الأرض). فضلاً عن ذلك فإن مفهوم المقاومة يحمل معه أو قد يحمل معه أفكاراً عن الحرية الإنسانية، والتحرر، والهوية، والفردية، وما إلى ذلك، وهي أفكار قد لا تكون موجودة بها بنفس الطريقة، في نظرة الثقافة المستعمرة إلى البشرية.

وعلى المستوى السياسي/الثقافي البسيط، هناك مشاكل تترتب على حقيقة مفادها أن إنتاج أدب يساعد في إعادة تشكيل هوية المستعمر قد يتطلب على الأقل العمل في وسائل الإنتاج التي استخدمها المستعمرون ـ الكتابة والنشر والدعاية وإنتاج الكتب على سبيل المثال. وقد يتطلب هذا الأمر نظاماً اقتصادياً وثقافياً مركزياً، وهو في نهاية المطاف إما أن يكون مستورداً من الغرب أو شكلاً هجيناً يجمع بين المفاهيم المحلية والمفاهيم الغربية.

ويقول هومي بهابها (Homa Bhabha ) وهو احد ابز منظري ما بعد الكولونيالية في مقالة نشرت في كتاب "إعادة رسم الحدود" الذي أعده غرينبلات وجون حول القضية المعقدة المتمثلة في التمثيل والمعنى، فيقول إن الثقافة بوصفها استراتيجية للبقاء عابرة للحدود الوطنية. وهي عابرة للحدود الوطنية لأن الخطابات المعاصرة في مرحلة ما بعد الكولونيالية متجذرة في تواريخ محددة للنزوح الثقافي، سواء كان ذلك في المرحلة المتوسطة من تجارة الرقيق والعمل بالسخرة، أو الرحلة خارج المهمة الحضارية، أو التكيف المحفوف بالمخاطر مع هجرة العالم الثالث إلى الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، أو حركة اللاجئين الاقتصاديين والسياسيين داخل وخارج العالم الثالث. والثقافة عابرة للحدود الوطنية لأن مثل هذه التواريخ المكانية للنزوح ـ التي تصاحبها الآن الطموحات الإقليمية لتقنيات الإعلام العالمية ـ تجعل من مسألة كيفية دلالة الثقافة، أو ما تدل عليه الثقافة، قضية معقدة إلى حد ما. إن التمييز بين الشبه والتشابه بين الرموز عبر التجارب الثقافية المتنوعة ـ الأدب والفن والموسيقى والطقوس والحياة والموت ـ والخصوصية الاجتماعية لكل من هذه الإنتاجات ذات المعنى، وهي تتداول كعلامات داخل مواقع سياقية محددة وأنظمة اجتماعية للقيمة، يصبح أمراً بالغ الأهمية. إن البعد العابر للحدود الوطنية للتحول الثقافي ـ الهجرة، الشتات (الثقافات المنتشرة = المصريون ينتقلون إلى جيرسي ـ إنهم ليسوا أميركيين ولكنهم لا يستطيعون العودة إلى مصر. إنهم ليسوا أميركيين مصريين. وهذا يرتبط بالتهجين الذي يشكل عادة إجابة إيجابية على الاختلافات)، النزوح، الانتقال ـ يجعل عملية الترجمة الثقافية شكلاً معقداً من أشكال الدلالة. إن الخطاب الطبيعي الموحد للأمة أو الشعوب أو التقاليد الشعبية الأصيلة، تلك الأساطير المضمنة لخصوصية الثقافات، لا يمكن الرجوع إليها بسهولة. والميزة العظيمة، وإن كانت مزعجة، لهذا الموقف هي أنه يجعلك على وعي متزايد ببناء الثقافة واختراع التقاليد.

في هذا الصدد، هناك فرق بارز بين الأدب الاستعماري (الأدب الذي كتبه المستعمرون في البلد المستعمر، على نموذج البلد "الوطني" وغالبًا للبلد الأصلي كجمهور) والأدب ما بعد الاستعماري، وهو أن الأدب الاستعماري هو محاولة لتكرار ومواصلة ومساواة التقليد الأصلي والكتابة وفقًا للمعايير البريطانية؛ أما الأدب ما بعد الاستعماري فهو غالبًا (ولكن ليس بالضرورة) أدبًا واعيًا للاختلاف والمقاومة، وهو مكتوب انطلاقًا من تجربة محلية محددة.

***

علي حمدان – كاتب ومترجم عُماني

منذ مطلع الرواية يستعيد بطلها جلال الحميد التفاصيل المؤلمة لجحود الأبناء ونكرانهم لتضحيات آبائهم، وهم يرمونهم في دور العجزة، وهي التي كان هناك ما يشبهها في التراث الياباني، حيث تُسمّى " الأوباسوت" أي وديان الموت الموجودة في اليابان القديمة، حيث يترك الأبناء آباءهم يموتون وحيدين في الجبال والوديان البعيدة عن القرى والبلدات... فالأوامر العليا تقضي بضرورة عدم إطعام الأفواه الزائدة، فيقضي كبار السن بعض الوقت في" محمية الموت" معزولين، فيما تحوم العقبان والغربان حولهم بانتظار نفوقهم... وهو ما يشبه "دور العجزة " في عالمنا المعاصر. الروائي العراقي جمال حسين علي من خلال وضعه هذا العنوان الفرعي" رحلة الأوباسوت الأخيرة" على غلاف الرواية، إنما يؤكد أنّ جحود الأبناء لآبائهم وتضحياتهم هو مفتاحٌ رئيسٌ في قراءة الرواية.

من يجحده الأبناء، هما جلال الحميد، الشخصية المحورية، وزوجته " دنيا". الحميد "رجلٌ ذو ماضٍ عريقٍ وحافلٍ بالعطاء والإنجازات، لم يسبقه إليه إلاّ أشخاصٌ يُعدّون على أصابع اليد الواحدة"، شخصيةٌ بهذه المواصفات، آل مصيرها المرير إلى العيش بمفردها وسط مقبرةٍ بشريةٍ، في مكانٍ يطلقون عليه" دار العجزة".

قسّم حسين علي الرواية إلى ما أسماه "عنابر"، والعنبر "حجرةٌ واسعةٌ في معسكرٍ أو مستشفى أو نزل، تحتوي الحجرة على أسرّة للنزلاء فيها من جنودٍ أو مرضى أو مسنين". إذاً المكان الرئيس هنا، النزل الخاص بالعجزة. وهذا يعني أنّ كلَّ ما يدور في الرواية هو عبارةٌ عن تداعيات وإسقاطات الشخصية المحورية جلال الحميد، وهو ملقىً في هذا النزل لمدة خمس سنوات، وهو الشخصية المعمارية الفذّة، هو و زوجته الأستاذة الجامعية والمترجمة والروائية، هنا يحاسب الحميد الجميع وليس فقط أبناءه.

مونولوج الراوي المتكلم

يتناوب الروي، عبر العنابر وعددها (7) بمقاطعها الفرعية، الراوي العليم، والراوي المتكلم جلال الحميد، ورويّ الأخير عبارةٌ عن مونولوجٍ مستمر، يلتهم معظم صفحات الرواية، لجهة أنّ الحميد يهجس شعوراً عظيماً بالوحدة، فيحاور ذاته في كلِّ شؤون الحياة، مثلما حياته الخاصة. في مونولوجه المليئ بالأسى، يتحدّث عن الخيبة الكبيرة من أبنائهم، حيث تركوا أمهم تستنشق الغاز والمرارة والحرمان والهلع والخوف في أيامها الأخيرة، وهو رموه مع الجيف والجثث المجهولة الهوية خلف السدّة، وهو الذي بنى لعاصمتهم أجمل المباني وأروع الحدائق وأهمّ الجسور.

كما أنّ الراوي العليم، يسهم في سرده الشفاف، برسم الصورة الشاملة عن هذا الرجل، الذي يهجس أنّ فكرة الأسرة الموحّدة دمّرت بيته، كان يريد العيش دائماً مُحاطاً بإطارٍ عائلي، يجمع أولاده وهم رهان المستقبل مع حاضر الزوجة الميتة وماضي الأم الراحلة منذ زمنٍ طويل. يريد العيش بهذا التضافر الزماني مع وحدة المكان بجميع عناصر أسرته في منزل العائلة القديم. لم يفلح في ذلك، وفقاً للتحولات الاجتماعية المعاصرة، فقد هرب الأبناء إلى المستقبل، فأقرّ باستحالة ديمومة الأشياء.. والقذائف المريرة لوجه الحياة البشع بدأت تقترب أكثر فأكثر بحسب تعبير الحميد، حيث يقفز، في مقارنةٍ مؤلمة، إلى حاله في النزل، فيصف يوميّاته فيه، نهاراً وليلاً، يشعر بالأسى على عدم استطاعته إعادة حياته كما كانت جميلةً وثريّة.

تمثيل المرأة العراقية في الرواية

من الممكن أن تكون دنيا خطاً روائياً، إذ أولاها الروائي اهتماماً واضحاً، فهي تمثّل المرأة العراقية، خير تمثيل. دنيا، ذات الإرادة الصلبة حاملة المبادئ غير القابلة للثني والتغيير. كان الحميد يلوم دنيا على عنادها، وخشيته على مصير الأسرة بكاملها بفعل مبدئيتها الصارمة، ويستعيد بهذا الشأن ما كتبته دنيا، بأنها لن تجد عذراً لأفعال الخونة والمستهلكين، وفي الوقت ذاته، تريد أن تكون دائرتها المُقرّبة مليئةً بالمخلصين والصادقين. قوة مبدئيّتها تكمن حين تصرّح بأنّها لن تتنازل عن المبادئ حتى لو اقتضى ذلك التضحية بالحميد نفسه. وهو الذي يتحدث بحرقةٍ كبيرةٍ عن غيابها، ويرسم صورة أخاذةً عن يومياته معها.

استبعد الحميد فرضية انتحارها، لكنّها حُوربت بشراسةٍ كبيرة، لا يستطيع أي بشر مهما كانت قوّته أن يصمد إزاءها، فقد طُردت من الجامعة وحُرمت من الراتب التقاعدي وسُحبت كتبها من المكتبات العامة وغيرها من المضايقات الشديدة. كان يشدّه أملٌ كبيرٌ بأنّه سيلقاها ذات يوم، وحين سقط النظام وفُتحت السجون والمعتقلات، هام في شوارع العاصمة وقرب المعتقلات لعلّه يعثر عليها. لكنّها تنبّأت بمصيرها، فبعد اتّهامها بالجنون، سيرتّبون انتحارها المُفتعل، وإن لم ينجحوا فسيكون الخطف والقتل وإخفاء جثّتها نهائيّاً.

رسائل الوهم الكبير

من ضمن الوسائل التي استخدمها الحميد لكي يعالج عقوق أبنائه، كتابة رسائل مُتخيّلةٍ على أنّها منهم، ويرسلها إلى عنوانه هو، العنوان الذي أعطاه إياه طبيب النزل، ويكتب على الظرف اسم أحدٍ من أولاده. غير رسائل الوهم والجنون، عمد الحميد إلى صنع هاتفٍ خشبي، ووضعهُ في مدخل النزل، فكان يرفع السماعة ويتحدث مع دنيا ويبثّها شكواه مما صار عليه مصيره الحزين. غير ذلك كان الحميد يلازم النافذة، بانتظار من لا يأتي، فقد أوصلته معاناته من ترك الجميع له، بدءاً من العائلة إلى الشعور بالاغتراب عن كلّ الناس.

حياةٌ عريضةٌ حافلةٌ بالعطاء

بين عنابر النزل، وقد قسّم كلّ عنبر، في الرواية، إلى مجموعة مقاطع معنونة، استطاع حسين علي، أن يبعد السأم عن القارئ بهذا الاختزال إلى مقاطع قصيرة، تشدّ القارئ إلى معرفة كلّ شيءٍ عن الحياة العريضة للحميد ودنيا، بدءاً من سرد الراوي المتكلم لكلّ شيءٍ عن ذكرياتهما في موسكو، الدراسة وقصة الحب الجميلة بينهما، وزواجهما هناك، ومن ثمّ عودتهم إلى العراق، في سبعينيات القرن الماضي، حيث كانت" الجبهة ليست هادئة، بالسماح بعودة اليساريين وفق قانون"عودة الكفاءات"، حيث وضع الحميد عقليّته المعمارية تحت تصرّف العاصمة التي أحبّها، وكذلك عُيّنت دنيا في قسمها القديم في كلية الآداب لتدرّس اللغة والآداب الروسية، حيث التزما السكن في منزل العائلة القديم، حيث يلتمّ الشمل العائلي كلّ يوم جمعة. هنا سردٌ للمضايقات التي تعرّض إليها هذان العملاقان، نتيجةً لعدم انضمامهما إلى صفوف الحزب الحاكم آنذاك. وكيف أنّ الحميد الكبير السن أُجبر على التطوع العسكري في أثناء حرب الخليج الأولى، وكان تصرّفه مع تلك المضايقات حكيماً، من باب الحفاظ على مرتّبه، بعد أن سُحبت جميع المشاريع منه، لكي يؤمّن مصاريف البيت، ومتطلّبات أولاده الذين بلغوا المراحل الجامعية. هذه العائلة الفذّة كانت تدفع ثمن سكوتها وليس كلامها، كانت القاعدة الجهنّمية للنظام آنذاك: من ليس معنا فهو ضدّنا.

المصير المجهول

كان طبيب النزل يؤكّد للحميد بأنّه ليس في بيته، بل في نزلٍ سيُغلقُ قريباً بعد أن رفعت الحكومة الدعم عنه. على لسان الطبيب، يرد تحليلٌ حقيقي، عن حالة الحميد الإنسان المؤمن بالماضي، وذكرياته هشَّمت توازنه. فهو رجلٌ أحبّ امرأته ورفض تصديق رحيلها، مثلما رفض تصديق عقوق أبنائه، الخلل في أنّه كان يراهم بالصورة التي يتمنّاها هو، وليس بصورتهم الحقيقية. هنا خللٌ بين الأحلام والواقع، هو الذي أوصله إلى هذه الحال. كانت حوارية الحميد مع الطبيب في غاية الحزن، لأنّ الطبيب يسرد عبر إجاباته عن أسئلة الحميد، وقائع مصيره الحزين، فبيت العائلة باعه الأولاد وتقاسموا حصّته وهاجروا، ومن خلال انثيالات الطبيب، نفهم أنّ هذه النهايات المؤلمة حدثت في أيام وباء كورونا أواخر عام 2019 وما بعدها، وهنا يدخل في خطاب عتبٍ مع أبنائه، ضمن مونولوجه المستمر، وهو يلمّ حاجياته في النزل، لكي يغادره إلى حيث لا يعرف.

روايةٌ أخرى

تذكّر الحميد أنّ أولاده كلّهم في الخارج، وأنّه في أثناء انتفاضة تشرين 2019، كان يعرض كتبه في ساحة التحرير معتبراً ذلك " نوعاً من التظاهر والرفض للأوضاع ومساندةٍ للناس الذين خرجوا مطالبين بحياة كريمةٍ ووطنٍ محترم". وفي أثناء إلقاء الغازيات كاد يختنق، فحمله شباب، ظناً منه بأنّهم طلاّبه يسعفونه، والحقيقة أنّهم اختطفوه ووضعوه في صندوق سيارة، متعرّضاً إلى الإهانة والضربٍ، ومن ثمَّ رموه خلف السدة.

بعد العيش خمس سنوات في النزل، قرّر الحميد، بأن يموت واقفاً في قبرٍ صمّمه وبناه في نفسه، ومعه مخطوطته، التي يمكن أن تكون هذه الرواية، والتي لغاية نهايتها، ليس هناك يقين؛ ما هو مصير الحميد، إذ يسرد الراوي، في الصفحات الأخيرة من الرواية بأنّه " لا تزال القصة الغامضة لجلال الحميد غامضة".

وأخيراً، هذه روايةٌ تمثّل خير تمثيل حبكة تضحيات الآباء، عقوق الأبناء، في السرد العراقي، فنتألم ونحن نقرأ كيف الأبناء يلقون آباءهم في مهالك شديدة القسوة. هنا سردٌ مؤثرٌ إلى حدّ إيلامنا وإرعابنا عن مآلات المجتمع، فحين يكون أبناؤه على هذا النحو، فهو سيسير نحو التفكّك المجتمعي.

***

باقر صاحب

....................

* مقاصب الحياة / رحلة الأوباسوت الأخيرة، تأليف: جمال حسين علي، دار المدى- بغداد 2024 .

 

لمنيرة الحاج يوسف / تونس

الأسلوب والصورة الشعرية:

القصيدة تتسم بالأسلوب السردي التعبيري الذي يعكس حالة من الصراع الداخلي والتحدي. الشاعرة تستخدم صورًا شعرية متشابكة، مثل (أطرافك المرتجفة) و(قلبي ربيع مؤجل)، مما يوحي بمشاعر من الألم والأمل المؤجل. الصور تنقل القارئ إلى حالة نفسية مليئة بالاضطراب، والمرونة بين الحرية والظلم.

التكرار والتركيز على الفعل (سأسرقك):

التكرار القوي لجملة (سأسرقك) يظهر الاستعجال والتصميم على التحرر. الفعل هنا يحمل دلالات من القوة والمقاومة، وكأن الشاعرة تتخذ من السرقة وسيلة لتحرير الحلم والجمال المقهور. التكرار يعمق الإحساس بأن الفعل قسري لكنه لا مفر منه.

الرمزية والمعاني العميقة:

الرمزية في القصيدة واضحة، حيث يُرسم (الربيع المؤجل) و(الضفائر) و(الصفاد) كرموز للأمل الذي أُطفئ، والقيد الذي كان يحبس الذات، والظلم الذي أدمى الجمال. الشاعرة تستخدم الرمزية لتوصيل معاني الحرية، الألم، والصراع ضد القمع والتشويه. كما أن مفهوم (الهوية المائعة) و(دق المسمار في الجدار) يعبر عن ضياع الهوية الثقافية والشخصية في ظل الظروف الصعبة.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة قوية وعاطفية، وتحتوي على مفردات مؤثرة مثل (الظلم) و(التشويه) و(الفجيعة)، مما يعكس حالة من الهزيمة النفسية. كما يتم استخدام العبارات بلغة شاعرية مثل (حروفي)، (لوحتي)، و(أغنيك لحنا يفزعهم)، لتشكيل صورة حية للمقاومة الداخلية وتأكيد الهوية.

البنية والإيقاع:

القصيدة تكتسب إيقاعًا دراميًا من خلال البناء المتلاحق والتزاوج بين الفعل المباشر والتأمل الداخلي. استخدام الجمل الطويلة، والتكرار، والجمل المنتهية بنقاط متفجرة يجعل الإيقاع مشحونًا بالتحفز. هذا الإيقاع يعكس تطور الصراع من الداخل إلى الخارج، كما يعكس محاولات التحرر والخلاص.

الخلاصة:

قصيدة (قلبي والجدران والمسمار ...) لمنيرة الحاج يوسف تمزج بين الصراع الداخلي والتعبير عن الظلم والتشويه، مع تسليط الضوء على الحرية المنتظرة. الأسلوب السردي يستخدم الرمزية القوية والتكرار لتقوية المشاعر الثائرة، ويعكس معركة الذات ضد القوى القامعة، ما يجعل النص تجربة شعرية تنبض بالأمل والتحدي.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

....................

قلبي والجدران والمسمار ...

سأسرقك، ليس أمامي غير ذلك، فكرت طويلا وقررت أن افك قيد ظفائرك، جدائلك التي رسموا بها حدود عذابي كانت حبالا ربطت أحلامي في معاقل الخوف والخيانات، أطرافك المرتجفة، يبسها القحط وأحرقها برد الصقيع، وقلبي ربيع مؤجل يشتهي أن يُنبت فيك بيلسانا من الفرح، بعد أن أحرقوا كل امالك وانتهكوا حرمة جمالك...أيتها المنسية في دروب الضياع  على حواف الفجيعة، تتقدمين نحو هزائم رسموا فخاخها فتضاعفت فراخها، كخلية خبيثة، ساسرقك، هكذا قررت لا أملك بندقية، لكنني سأرسل عليهم حمم حروفي، حتى تتحرري من اصفاد الظلم والتشويه....قررت أن اعتقك من ربق عبوديتهم...قررت أن أغنيك لحنا يفزعهم وانظمك بيت شعر احتمي به اذا اشتد كربي وغربتي... قد ارسمك لوحة أعلقها على جدار ذاكرتي ستكونين بلا حدود، واسعة وجميلة، ناصعة ونبيلة....حرة، عالية،  على جبين الحقيقة

سأسرق دفاتر الملكية لألقي بها في يم النسيان، فكرة الهوية مائعة، كلنا أوراق مختلطة...هبت عليها ريح ديسمبر فبعثرتها في طرقات الوداع، الملمك جزءا جزءا حتى تكتمل لوحتي ستسخر الجدران من مسمار يحملك بلا تأفف وتنسى انك دققت في خاصرتها..

***

منيرة الحاج يوسف - تونس

 

للروائي بولص آدم

يأخذنا المتن الروائي في أحداثه العاصفة والمؤثرة، الى رحلة طويلة واسعة الآفاق، في التناول والطرح في رواية تجمع شمل، التاريخ والسياسة والاجتماع والاتجاه الديني وتأثيراته، في واقعية الأحداث والصور والمشاهد الحية والفعلية، في لب الصراع الدائر في أوجه المتعددة والمتنوعة، في رواية تنتهج التوثيق التاريخي، وسيرة حياة قرية (ديري / إحدى قرى قضاء العمادية في كردستان العراق) مع السيرة الحياتية و الذاتية لبطل الرواية (يوناذم هرمز)، بما مرت هذه القرية (ديري) التي تقطنها ألاغلبية من الطائفة الاشورية، من حقب ومراحل التاريخية و سلطوية، منذ الاحتلال العثماني والانكليزي والملكي وحقب الجمهوريات المتعاقبة، حتى الاحتلال الداعشي المجرم، بعد احتلال الموصل، وسياسته الانتقامية في القتل والذبح للطوائف المسيحية ومنها الطائفة الاشورية، وهذه القرية الاشورية (ديري) شأنها شأن القرى العراقية الاخرى، سواء كانت في الجنوب او في الشمال، دفعت الثمن الباهظ لهذه الحقب التاريخية والسياسية، من تضحيات وأعمال تخريب ودمار بما فيها القصف بالطيران الحربي، فكيف يكون الحال بقرية اشورية، فقد يكون التدمير والتخريب والابادة وحالة الاضطهاد والظلم والحرمان، سيكون اضعافاً مضاعفة، هذه الحقب المتعاقبة لحالة هذه القرية الاشورية، يرويها او يسردها بطل الرواية (يوناذم هرمز) قصة كفاح طويل في الصمود والتضحية، حتى لا تصاب بالنسيان وتدفن تحت الغبار، قائلاً موجه كلامه الى الروائي بولص آدم، عبر 18 شريط من التسجيلات الكاسيت استغرقت ثلاثين ساعة وتصمنت 416 صفحة من السرد الروائي بنهج واقعي توثيقي تاريخي، كأنه يسرد تاريخ العراق، وليس تاريخ قريته التي ولد فيها وترعرع فيها، وسجل فيها سيرة حياته، في مقاطع حقيقية عاش في ضخمها وعانى منها، وشكلت له هاجس حياتي، لا يمكن نسيانه . لأنه جزء من انتمائه الاصيل وجزء من التاريخ الديني للطائفة الاشورية، قائلاً (لا تستغرب عزيزي بولص آدم، لديَ الكثير للبوح به، يبقى الحديث عن قريتي موضوعي المفضل، اتحدى اي انسان يعرف ديري والمنطقة أكثر مني، فأنا موسوعي) والكثير من الأحداث والمشاهد عالقة في ذهنه، لا يمكن لغبار النسيان ان يغطيها، ولكن يبقى أهم حدث مأساوي فجعه، وجعله ينزف دماً في قلبه ومشاعره . حدث امه وهي تحتضن طفلتها الجريحة، اختلط دم القتيلة مع دم الأم، عندما تعرضت القتل لهجمات استباحت القتل والتنكيل (لن تنسى أمي مدى الحياة، منظر سقوط الأم على المهد، لكأنها ترغب باحتضان ابنتها للمرة الاخيرة، لن تنسى العويل المكبوت خوفاً ان يكون مسموعاً، لن تنسى المهد الذي انقلب، ودم الام امتزج بدم الطفلة الجريحة، والقماط الأبيض قد احمر ووجه الطفلة في التراب) . حياة القرية لم تهدأ في حياتها الطبيعية من غزوات القتل والتدمير، لم تهدأ من الخوف والرعب من القادم والمجهول، رغم قسوة هذه الحياة، لكن صلة التآلف والتضامن والدعم يتجذر ويتعمق أكثر فاكثر بين سكان قرية (ديري)، أحدهم يشد أزر الآخر ويوسيه، كأن المصاب له والى عائلته، حتى لا يصابون بالاحباط والانكسار وترك القرية والهجرة منها، لان معاناتها لا تطاق (أحبتي ..... لا تعودوا إلى القرية وفي نفوسكم انكسار وخحل، ارفعوا روسكم عالياً، وسيكون لي حديث في الدير اليكم ثانية في قداس الأحد القادم، اغفروا لكل من اساء اليكم ... في العمادية من الكرد هم اصدقاء، وهؤلاء عزونا ووقفوا الى جانبنا)، اضافة الى قسوة الإنسان، فأن للطبيعة قسوتها ايضاً، وخاصة في فصل الشتاء وسقوط الثلج، قد يؤدي تراكم الثلوج فوق السقوف، قد تنهار السقوف على على رؤوس النائمين وتقتلهم، لذلك يتجند الاهالي، وكل واحد يحمي عائلته، في ازاحة هذه الثلوج تحت ظروف قاسية في صقيع الثلج وفي العراء والبرد القارص . ولكن يبقى ظلم واضطهاد من السلطات المستبدة قائم في صراع دموي في ارتكاب المجازر اشد هولاً من قسوة الطبيعة القتل وسفك الدماء، لا يفرق بين ملحد ومؤمن، الكل في المصيبة (المؤمنون والملحدون يعيشون تحت خيمة الوطن، هل تعتقدون بأن قريتنا خالية من الملحدين؟) لقد شارك سكان القرية في انتفاضات الأكراد وثوراتهم المتعاقبة، بما فيها ثورة ملا مصطفى البارزاني، ولم ينفصلوا عن الواقع الصراع السياسي العراقي في مختلف العهود السلطوية، وقدموا التضحيات ودفعوا الثمن الباهظ، وأشدها بطشاً وقتلاً، جرائم تنظيم داعش الارهابي بعد احتلال الموصل، توجهت هذه الذئاب الوحشية في ابادة هذه القرية الاشورية، في الحرق والتهجير والقتل والسبي،فقد دون بطل الرواية ( يوناذم هرمز)، الأعمال الوحشية في إبادة القرية، ولكن يذكر عن نفسه (كان آخر المغادرين بعد احتلال داعش للموصل، وحتى المغادر كان مهدداً بالقتل عدة مرات، لكنه أصر على الصمود) رغم الاهوال والفواجع تعود القرية الى حياتها الطبيعية وتشهد أعمال عمرانية في تطور الحياة الريفية للقرية .

×× يوناذم هرمز: من عائلة فقيرة الحال ترعرع وكبر فيها، وحينما استعد للهجرة، جمع المال من عائلته وأقربائه. حتى يستطيع الهجرة، وكانت محطته الاولى لبنان / بيروت، اشتغل في أعمال شاقة وصعبة، وجاءت الفرصة الثمينة الى الهجرة الى امريكا، اشتغل في عدة مهن، حتى أصبح، من الطبقة الثرية والحالة الميسورة، من الاموال والعقارات والشركات، اي اصبح رجل البزنس، لكنه لم يتجاهل أو ينسى قريته وترابها وطينها، فكانت تجري في شرايين دمه، فقد وظف هذه الاموال الطائلة للأعمال الخيرية لقريته في الدعم المالي السخي، وعاد من امريكا الى قريته، أي إلى الوطن الأصل، مشاركاً في إعادة ترميمها، بروح التفاني والحب، ليريح ضميره ورب العالمين، لأنه سيبارح الدنيا والحياة، وتظل أعماله الخيرية على كل انسان محب من أهل القرية، وهذا واجب الوفاء الى قريته، التي وقفت في وجه المحن والمصائب والاهوال ..... والآن تعيد نفسها من جديد .

***

جمعة عبد الله

الموجهة للأطفال وحيرة الفئة العمرية

عرضت على مسرح المنصور مسرحية (دفتر توفير) تأليف رحيم العراقي، إخراج حسين علي هارف، يبوح عنوان العرض (دفتر توفير) بفكرته الأساسية، إذ يحتاج المتلقي الطفل للوضوح مع الأخذ بالاعتبار قدرة العرض على التشويق والإثارة دون قول كل شيء دفعة واحدة، لقد تصدى العرض لظاهرة الإسراف والتبذير المنتشرة في بعض أوساط المجتمع (بالألعاب والمصروفات والمشتريات) وذلك من خلال تقديم فكرة التوفير.

عمد التأليف والإخراج إلى إظهار شخصية الجني (شبيك لبيك) من البرميل الساكن في يمين أسفل خشبة المسرح في المشهد الأول لغرض تلبية الطلبات الكثيرة للولد المشاكس (منذر) إلا أنه يرضى بالقليل بعد أن يُعِده الجني بإحضار كيك ولوازم عيد ميلاده، يبدأ المشهد الثاني بحفلة عيد ميلاد (منذر) ويثار تساؤل من قبل الأب والأم: من الذي جاء بلوازم الاحتفال في الوقت الذي يفتقرون فيه للمال؟ لخيب توقع (منذر) الذي وعده الجني بتوفير متطلبات الحفل، ولتكون المفاجأة عندما تخبرهم ابنتهم (زينة) بأنها وفرت مبلغا من مصروفاتها اليومية في حصالة ونظمت حفل ميلاد اخوها، ليخرج الاب بنتيجة مفادها: ابنتنا زينة مدبرة وليست مبذرة. ومن هذه النقطة تبدأ عملية نسج حبكة العرض وانطلاق احداثه الدرامية، اذ يقرر (منذر) منافسة اخته (زينة) في تنظيم حفل ميلادها بعد يومين بأفضل مما فعلت هي، وذلك بإحضار ساحر إلى جانب الهدايا الثمينة.857 sow

وجه العرض عدة نصائح ومقولات مباشرة إلى الجمهور، تناوب على إلقائها أفراد العائلة (الاب والأم وزينة ومنذر) وذلك بقرائتها من دفتر كتبت فيه زينة ملاحظات مدرسية، محور النصائح والمقولات عن توفير النقود وتقنين المصروفات، وانحصرت منطقة ادائها على وسط وسط الخشبة ومقدمتها، وان معظم الأحداث والحوارات قدمت في المنطقة نفسها بصورة لافتة للانتباه، يقود موضوع التوفير الأب إلى سرد حكاية عدم امتلاكه المال الكافي ويعزو الأمر إلى أن المطر لم ينزل بكمية كافية هذا العام ليسقي مزروعات البستان وبالنتيجة لم تثمر شيئاً، وبناء على هذا تحرض الأم عن بيع الأرض أو تجريفها وبيعها قطع ارض سكنية مع التنويه ان الخسارة ستكون فقدان جمال الطبيعة ونقاء البيئة، لأنها ستخلو من النباتات، موضوع الأرض والمزروعات ثانوي ولكنه مهم لتعرف المتلقي بأهمية الأرض والزراعة مع الابتعاد عن مداخلة التجريف وتحويل الارض الزراعية إلى سكنية. بعدها يعود العرض إلى الشخصيّة المحورية الجني (شبيك لبيك) حين يعاتبه (منذر) بعدم الإيفاء بإحضار كيك ميلاده، يرد الجني بأن (زينة) سبقته بفعل ذلك، يطلب منذر تحضير لوازم ميلاد اخته بأبهى صورة وان يكون الجني ضيف الحفلة وان يقوم بألعاب سحرية، ينتهي لقاء منذر والجني بوعود كثيرة ويعود الجني إلى مقره في البرميل، يسمع صوت قوي يخبر الجني بزوال السحر عنه وأنه سيعود انساناً ويتجرد من قواه الخارقة ويستعرض أسباب تحويله إلى جني لمدة ألف عام، وهي حكاية ثانوية اخرى، ويبدو أن ثنائي التأليف/والإخراج استند إلى شغف الأطفال بعمر ٦-٨ سنوات بعالم الحكايات الخيالية التي تحفل بشخصيات خارقة لا وجود لها في الحياة الواقعية، ولكن هذا الشغف يبدأ بالتلاشي في المراحل العمرية اللاحقة.858 sow

يفي الجني بوعده وينظم حفل ميلاد زينة وينسحب، تدخل العائلة، مفاجأة سعيدة، يغني الجميع، يشترط (منذر) ان يقطع الكيك قبل حضور والد صديقه الساحر الذي يحضر بالتوقيت المناسب ليقدم الألعاب السحرية المدهشة إلى جانب تضمينها مفارقات كوميدية، ويمنح عملات معدنية قديمة هديةً لزينة التي تعجب بها ويقدم معلومة مهمة للمتلقي (العراقيون أول من أوجد وتداول النقود في العالم …) وتُسرد الكثير من المعلومات المباشرة عن العملات وأهمية التوفير من قبل الأم والأب بإسهاب طويل، يقرر الأب والأم إكمال الحفل بقطع كيك الميلاد، يحاول (الجني) تأجيل الأمر لئلا ينكشف امره، ولكن الأب يقرر إطفاء الشموع وانطلاق الموسيقى لتكتشف (زينة) ان الكيك لست حقيقيا وأنه مصنوعة من مادة (الفلين) يصدم الجميع، ويخيب أملهم بولدهم منذر الذي يعاتب (الجني/شبيك لبيك) بحرقة تجعله يعترف أنه ليس جني ولا ساحر، ويحكي لهم حكاية تحوله إلى جني ثم عودته الى إنسان بعد ألف عام، وأنه لم يعد يمتلك أية قوى خارقة، وهي معلومات تكرر للمتلقي مرة ثانية، تقدم زينة الشكر للجني ولأخيها (منذر) لنواياهم الطيبة، يقدم الأب هدية (دفتر توفير) لزينة، يخرج الجني/ الإنسان دفترا كبيرا يحتوي مقولات الفلاسفة عن التوفير. التي ربما كانت بعض الأسماء والمقولات ثقيلة على اسماع المتلقين الصغار.859 sow

تبدأ حكاية ثانوية ثالثة ساندة لفكرة التوفير عندما يكتشف الأب عشرات المكالمات الفائتة في جهاز الهاتف النقال، يطلب فيها بعض التجار شراء العملات الأثرية منه بمبالغ طائلة، لقد وفر الاب هذه العملات فزادت قيمتها، لم ينوه المؤلف لهواية الأب بجمع العملات الأثرية سابقا، ولكن امرها يتعلق بصورة غير مباشرة بفكرة (التوفير) ينتهي العرض بموافقة الأب على عمل (شبيك لبيك) معه في البستان بصفة حارس او فلاح على أن يستخرج لنفسه دفتر توفير لأنه مشروع ناجح. وبهذا تختتم الفكرة المركزية للعرض بالتأكيد على اهمية التوفير وهي فكرة تنسجم مع الأطفال بعمر التاسعة وما بعدها، ذلك لان التوفير يتعلق بتبلور مفهوم (الملكية) الذي لم ينضج بعد لدى أطفال ما دون التاسعة. لكن هذا لا يعني مطلقا عدم السعي لإفهام الأطفال معنى وأهمية التوفير بجميع الأعمار، لأن لا وجود لفصل حاد وقاطع بين مدركات فئات الطفولة العمرية وان التداخل بين مختلف المراحل العمرية نفسيا وعقليا يجمع عليه الكثير من النفسانيين.

مؤشرات:

- كتبت حوارات كثيرة بصيغة السجع مما جعل أسلوب الإلقاء مميز بالتنغيم المحبب، كما في حوار الجني مع نفسه: (يبدو أنه غادر المكان، وتركني حيران، ماذا افعل الان …. فيخيب امل زينة، وتكون حفلتها حزينة، ويفضح منذر امري، ويكشف سري، لا … يجب نجاحي، فتكتمل فرحتي بإطلاق سراحي) هذا إلى جانب الأغاني والموسيقى التي أطرت العرض بروح احتفالية تماهى مع أجواءها المتلقي الصغير.

- تصدى الممثلون احيانا الى إثارة الجمهور لإظهار مهارات أدائية جاذبة امتعت المتلقي - لاسيما العاب الممثل هاشم سلمان - وبالوقت ذاته أبعدت العرض عن التركيز على فكرته الاساسية.

- الإكثار من التوجه المباشر للجمهور بالنصيحة وطرح الأسئلة والطلب منهم ترديد بعض العبارات معهم ذي حدين، الحد الأول: دفع المتلقي الصغير إلى المشاركة في العرض ورفع نسبة التفاعل . الحد الثاني: صعوبة استعادة الهدوء ورجوع المتلقي إلى أجواء العرض وأحداثه الدرامية.

ثمة ثلاث مؤشرات دالة على ضرورة الاستمرار بتقديم العروض المسرحية:

- تبشر ظاهرة الجهات الداعمة لإنتاج العروض المسرحية بالمزيد من الابداع وتدعو الفنانين لمواصلة مسيرة عطائهم. إذ قدم عرض مسرحية (دفتر توفير) الاتحاد العراقي لفناني الدمى بالتعاون مع المصرف الأهلي.

- توقيت العرض في العاشرة صباحا يتناسب مع مواعيد دوام التلاميذ في رياض الأطفال والمدارس، مما أدى إلى حضور أعداد احتشدت بها القاعة، وهذا يدل وجود جمهور كبير ومتفاعل.

- وجود مسرح وقاعة مجهزة بكل ما يلزم للعرض المسرحي (مسرح المنصور) في موقع حيوي من العاصمة بغداد (ساحة الاحتفالات) هذا فضلا عن وجود مجموعة كبيرة من الفنانين الحريصين على العمل في مسرح الطفل بكل جوانبه وعناصره (التأليف والإخراج والتقنيات والتمثيل)860 sow

قُدِم العرض ليوم واحد (الاثنين 18/ تشرين الثاني/ 2024) وانطفأ، وفي هذا تقليص كبير لمساحة عرض يستحق الاستمرار طويلا ليسجل حضوره الفني ولتوفير متعة المشاهدة للمزيد من الأطفال/الجمهور. يمكن تسمية العروض التي تقدم ليوم او يومين بعروض الشمعة في حين العروض التي تستمر ويستمر الطلب عليها يمكن تسميتها بالعروض المتوهجة، وان ما يجعل العرض شمعة سريعة الانطفاء ثلاث أسباب رئيسية:

- التزام بعض الممثلين والفنيين بأعمال أخرى.

- أسباب إدارية مثل حجز قاعة المسرح لعروض أخرى.

- ما يمكن أن تفعله الجهات الرقابية، ومن يمكنهم إعاقة استمرار العرض. مع الإشارة إلى أن العروض الموجهة للأطفال نادرا ما تنطفئ بفعل السبب الرقابي.

ملاحظة:

ثمة ضرورة لدعوة المعنيين بالطفولة والطفل من مختصين بعلم نفس وعلم اجتماع الطفل والنقاد والمشتغلين بحقل الطفولة وعدد من الإعلاميين لحضور عرض قبل انطلاق العرض لجمهور الأطفال لسماع آرائهم وملاحظاتهم والتحاور معهم والافادة منهم، ومما يلاحظ في العروض الموجهة للأطفال ضعف حضور المعنيين بمسرح الطفل وأدب الطفل والإعلام والصحافة.

عاش الأطفال يوما استثنائيا مع عرض (دفتر توفير) كسرت فيه رتابة اليوم العادي في المدرسة والبيت، وسيبقى في ذاكرتهم، وتنمو ذائقتهم، لان مسرحية الأطفال (دفتر توفير) أسهمت بصورة رائعة في إعداد متلقي المستقبل.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

 

الأسلوب والصورة الشعرية:

تتميز القصيدة بأسلوب سردي تعبيري مكثف، حيث يُستخدم التشبيه والاستعارة بشكل بارز لإبراز مشاعر القهر والخذلان. القصيدة تمتلئ بالصور القوية مثل (كذئب كاسر) و(كجلمود صخر) و(كحجر صوّان)، التي تخلق انطباعًا قويًا عن العنف والتدمير الناتج عن الزيارة المفاجئة للقوى الخارجية التي لا تترك سوى الدمار.

التكرار والمبالغة:

يتم استخدام التكرار في القصيدة بشكل فعّال، مثل تكرار كلمة (أنتِ) للتأكيد على العدوانية والميل إلى الإيذاء، مما يضفي طابعًا دراميًا على النص. كما تظهر المبالغة في العبارات مثل (زلزال ساحق ماحق) و(سهام ما تركت للفجر انبعاث)، مما يعكس العنف النفسي والجسدي الذي تحمله الأحداث.

الزمن والمكان:

الزمن في النص غير محدد بدقة لكنه يشير إلى فترة مضطربة، حيث تمت الإشارة إلى الحاضر بتعبيرات مثل (أنتِ تعبرين) و(عبورنا) التي تخلق إيقاعًا مستمرًا من المعاناة. أما المكان فيقتصر على بيئة محلية قد تكون مرتبطة بمحنة معينة، حيث نجد في الإشارة إلى (جنوب لبنان) محاكاة للواقع الاجتماعي والسياسي.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة محملة بالرمزية والعاطفة الجياشة، بحيث تُستخدم مفردات قوية مثل (الحياة) و(الآمال) و(الخذلان) مع ربطها بمفردات معبرة عن العنف والدمار مثل (السمّ القاتل) و(الزلزال) و(سلاح الغدر). هذه المفردات تبرز حالة من الصراع القاسي بين الأمل والخذلان.

الأسلوب البلاغي:

يظهر في القصيدة استخدام البلاغة التصويرية والفكرية من خلال الجمل مثل (جراحات لا تلتئم) و(نقضي عليكِ أمام محكمة الزمان)، مما يجعل النص يلتقط المعركة الفكرية والنفسية بين الذات المجروحة والحدث المؤلم. كما أن هناك صراعًا معنويًا يتجسد في فكرة (محكمة الزمان) وهو ما يضفي بعدًا فلسفيًا على النص.

الخلاصة:

قصيدة (بئس) لجميلة مزرعاني تجمع بين الأسلوب السردي والتعبيري لتصوير واقع مرير مليء بالخذلان والدمار الناتج عن القوى الخارجية. الأسلوب البلاغي العنيف مع الصور الشعرية القوية يعكس شعور الشاعر بالهزيمة والظلم، ويدعو إلى التفكر في وقع تلك الأحداث على النفوس المرهقة.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق.

........................

بئس السّنين  2024

أيّتها الزّائرة الهجينة الثّقيلة، الساقطة اللّعينة، يا مطرًا خذل المواسم كم كنّا ننتظره بدمعة فرح حاملًا البشائر وبواكير الوعد بغدٍ مشرق باسم فإذا بك تعبرين كذئب كاسر كجلمود صخر فوق الصدور المنشرحة للحياة تنتزعين منها بذور الآمال أو كحجر صوّان أتى على غصن بان فجعله كالرّميم لم تكن أيّامك ولا لياليك بليلة مع كلّ عبور نتجرّع كأس حنظلك المرّ نجترّ طبق موائدك سمًّا قاتلًا. عبرتنا كزلزال ساحق ماحق لأحلامنا وأمانينا تسطّرين مع كلّ شعاع وصمة عار وجراحات لا تلتئم تقزّزين نفوسًا ضاقت ذرعًا ترتقب قطرة رحمة وحفنة بلسم جاهدة تتقيّأ مبيداتك الفتّاكة وأنت تواصلين سخطك بقنّاصة الغدر كشيطان يتدثّر يمئزر الشّرور. من يطفئ نارك المستعرة في رحلة العبور؟ عبثًا يحاول. أذكر كم استقبلناك بالبسمات برشّ الزّهور والعطور نتوسّم خيرك القادم من جبّ المياسم ما نالنا منك سوى سهام ما تركت للفجر انبعاث كنت نقمة سدّدت الضّربة الأخيرة القاضية بمخالب حادّة وأنياب مستفزّة تفرغين زئيرك لكمات قاتلة على نواة الوجع قبل أن تغادري مرغمة إلى غير رجعة ونحن على الضفة نقسم نقاضيك أمام محكمة الزّمان رحمة بقلوب تراقصت على سجاجيد الأمل وبصيص سقط في مستنقع الخذلان.

***

جميلة مزرعاني

لبنان  / الجنوب - ريحانة العرب

 

أدب الاغتراب أدب قديم. عُرف فى بداياته بأدب المنفَى، حيث كان نوعاً من أدب التأسِّى والحنين للوطن، كقصائد (محمود سامى البارودى) التى كتبها فى سريلانكا، وأندلسيات (أحمد شوقى) التى كتبها فى منفاه ببرشلونة، وأزجال (بيرم التونسي) الحزينة فى باريس وليون بفرنسا.

وخلال فترات القلاقل السياسية التى واكبت الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين، حدثت موجات من النزوح والهجرة، وآثر الأدباء المنكوبون والمعوزون والمضطهدون أن يهاجروا إلى أمريكا. أرض الأحلام. وهناك أنشأ بعض الشعراء كياناً أدبياً أسموه (الرابطة القلمية) ليستوعب أدباء أمريكا الشمالية. فى حين أنشأ شعراء آخرين كياناً شبيهاً فى أمريكا الجنوبية تحت اسم: (العصبة الأندلسية).

تلك بدايات أدب المهجر الذى أحدث هزةً فى الأوساط الأدبية فى مصر والمشرق، ليس فقط بسبب ثراء محتواه وغزارة إنتاجه، لكن أيضاً بفضل حسن تنظيمه وتبنيه للاتجاهات الحداثية فى الشعر كالاتجاه الرومانسي الذى ساد أوروبا خلال فترات سابقة. هكذا ظهرت "مدرسة المهجر" كاتجاه شعرى وتيار أدبى منفصل وله خصائصه وسماته التى تميزه، وهكذا عرفت الذائقة الأدبية أشعار (إيليا أبو ماضى) و(ميخائيل نعيمة) و(جبران خليل جبران).

استمر الاضطهاد السياسي، واستمر نزوح الأدباء الشوام.. فكان منهم (أدونيس) و(نزار قبانى) و(محمود درويش).. ثلاثة من عمالقة الشعر فى القرن العشرين. أثارهم الاضطهاد، وأثْرتهم الحرية وأثرت أعمالهم بفيوض المعانى.

لم يقتصر نزوح الأدباء على الشعراء، فقد كانت هناك طائفة أخرى من الروائيين والناقدين وكتاب القصة والمسرح المغتربين.. (محمود السعدنى) مثلاً عاش حياته مطارداً مكروهاً من كل الأنظمة العربية فى تلك الفترة بسبب قلمه اللاذع. كما اختار الروائى السودانى (الطيب صالح) حياة الغربة والارتحال التى بدأها بروايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" والتى يبدو أنها بشّرت بارتحاله هو إلى بريطانيا.

والسؤال الذى قد يراودك هنا: هل هناك وجود لأدب المهجر اليوم ؟ والإجابة نعم، بل هو أقوى وأغزر مما كان فى الماضى. إذن: لماذا لا نعلم عنه هنا فى الشرق شيئاً؟!.. هذا هو السؤال.

غربة الكاتب العربي...

تحدث الدكتور حليم بركات أستاذ علم النفس الاجتماعى بجامعة ميتشجن عن عدد من المفكرين والأدباء العرب الذين عرفهم وعاصرهم، وعن غربتهم الداخلية والخارجية. وبدأ حديثه فى هذا الكتاب بالشاعر أدونيس، الذى ما كاد يغترب فى بلد مجاور هو لبنان، بعد تجربة السجن المريرة، حتى كتب ديوان (أوراق فى الريح) الذى عبّر فيه عن مأساة المغترب. وعندما تناول اغتراب الفكر الفلسطينى تحدث عن تجربة المفكر هشام شرابي،مؤسس مركز الدراسات العربية المعاصرة فى جامعة جورج تاون، والصداقة التى جمعتهما معاً، وكيف أنهما التقيا يوماً بأدونيس فى صيف عام 1982 يتساءل ثلاثتهم كيف يسير الناس فى البلدان العربية بارتياح وهدوء هكذا رغم الاجتياح الإسرائيلي للبنان ؟! وقرروا حينئذٍ إنشاء كيان هو "منظمة حقوق الإنسان العربية" وقاموا بدعوة عدد من كبار المفكرين والشعراء العرب كان من بينهم: ( أحمد عبد المعطى حجازى، وأحمد بهاء الدين، وسعد الدين ابراهيم، ونوال السعداوى، وكمال أبو ديب وآخرين ). وكان حليم بركات قد قام قبل ذلك بإصدار مجلتى: (آفاق) و(مواقف) مع الشاعر أدونيس. ثم قام بإنشاء (المؤسسة الثقافية العربية) و(آلف جاليري) فى واشنطن. مما يشير إلى أهمية إقامة مثل تلك الكيانات الجامعة لأنشطة المثقفين والأدباء من المغتربين.

وكما أن هناك غربة إجبارية لبعض الأدباء كالشاعر (محمود درويش) الذى تنقل بين عدد من البلدان العربية والأوروبية حتى استقر فى باريس.. اختار أدباء آخرون غربةً اختيارية مفضلين الكتابة فى المهجر على الكتابة الروتينية الكئيبة فى أرض الوطن، مثلما حدث مع الشاعر (أحمد عبد المعطى حجازى) الذى عاش فى باريس عدة سنوات، كتب فيها عدداً من أجمل قصائده.. ففى ديوانه: (مرثية للعمر الجميل) يقول فى قصيدة: "مسافرٌ أبداً"

أسافر الليلةَ فجأة..

ولا أرجو السلامة!

أعبر تحت الناطحات.. تحت ظلِّ المركبات

بما تبقّى من فؤادى من ثبات

وفى خيالى من وسامة

أمسح هذه المناظر المقامة

حتى يلوحُ مأمنى فى القاع

رطْباً متكسّرَ الشعاع

ويصهل الجوادُ عالكاً لجامه!

أعبرُ أرضَ المدنِ الشمّاءِ بادىَ الجهامة

أطفو على ليلاتها الزرقاء أشدو فى الطريق

أمنحُ قلبي كل يومٍ لفتاةٍ.. أو صديق

لكننى أأبَى الإقامة!

مضى حليم بركات فى كتابه يستعرض الغربة التى يستشعرها فى كتابات طائفة أخرى من الأدباء العرب أمثال: (عبد الرحمن منيف) و (جبرا ابراهيم جبرا) و ( الطيب صالح) و(إدوارد سعيد) و (سعد الله ونوس) و(مروان قصّاب)..تحدث عن الاشتياق للحرية فى ظل الاضطهاد والتسلط. وعن بحث الأديب عن دوره المجتمعى الفاعل وهويته الثقافية مع هامش الحرية التى يتمتع بها فى الغرب.

ورغم أن الكتاب أسهب فى الحديث عن طائفة محددة من الشعراء والأدباء والمفكرين، وعن مآلات الغربة فى أدبهم، لم يتطرق كثيراً للنشاط الأدبى المهجرى بصورته الأكثر اتساعاً. إذ لم يعد أدب المهجر قاصراً على الأمريكتين. لقد اتسعت دائرة الهجرة، واتسعت معها رقعة النشاط الأدبى، وإن كان لا يزال مجهولاً لدينا فى المشرق العربي !!.

ألمانيا على سبيل المثال شهدت نشاطاً أدبياً كبيراً منذ الثمانينيات، تَمثَّل فى المجموعة الأدبية التى أسسها الروائى السورى (رفيق شامى) تحت اسم"الريح الجنوبية"، واتحاد الفنانين الأجانب -أى المغتربين.  وقد أصدر مع زملائه 13 مجلداً تحتوى على مختارات من أدب الكُتّاب المغتربين خلال تلك الفترة. ولم يقتصر نشاط تلك الطائفة من الأدباء على الأدب المقروء، بل أصدروا عدة أشرطة كاسيت فى مختلف فروع الأدب كالسيرة الذاتية والشعر وأدب الأطفال. هناك شعراء وأدباء آخرون مقيمون فى ألمانيا منهم مثلاً الشاعر العراقى خالد المعالى، والذى لا يري أن شعره ينتمى لأدب المنفى وأنه يكتب بشكل مستقل حر، ولا يري أهمية كبري فى تشكيل حركة تضم أدباء المهجر، وهو رأى الكثيرين من أدباء المهجر من أنصار الفن للفن، فهم يكتبون لأنفسهم وذواتهم ما يمكن أن يُدعى أدب التطهر.

فى كندا هناك طائفة من الأدباء مثل الشاعر الكويتي (محمد جابر النبهان)، والشاعرة السورية (جاكلين سلام).. فالمرأة لا تغيب أبداً عن المشهد الثقافى سواءً فى الداخل أو فى الخارج.

استراليا أيضاً شهدت نشاطاً أدبياً واسعاً منذ فترة طويلة قد تصل إلى نصف قرن ! فالبعض يؤكد أن عدد الصحف والمجلات العربية التى صدرت فى استراليا منذ 1957 يصل إلى مائة جريدة ومجلة! بالإضافة لعشرات الكتب والدواوين والمؤلفات الأدبية بمختلف أنواعها واتجاهاتها. إلى جانب تأسيس رابطة تدعى: (رابطة إحياء التراث العربي) عام 1981. وقد أصدرت الدكتورة (هدى صحناوى) كتاباً اعتبرت فيه الشاعر والروائى المغترب (قصي الشيخ عسكر) رائداً من رواد الأدب المهجرى المعاصر فى بريطانيا. مدللةً على رؤيتها تلك بمناقشتها لنصوصه الشعرية وتجربته الأدبية الدسمة.

إذن نحن أمام نشاط أدبي متشعب ودائم فى كل مكان يقيم فيه العرب. فلماذا لا نلحظه هنا؟!

***

د. عبد السلام فاروق

 

الأسلوب والصورة الشعرية:

تتميز القصيدة باستخدام الصور الشعرية الموحية والرمزية، مثل (تلوي خصلة شعر) و(غزل الليل) و(وجهُها أضحى أصيلاً)، مما يعكس حالة من الترقب والانتظار المفعم بالمشاعر والأحاسيس. تتداخل العناصر الطبيعية مع العاطفية، حيث يشير (الغروب يئن) و(الليل يرخي انتظاره) إلى حالة نفسية مترقبة وحزينة في آن واحد.

التكرار واستخدام التوازي:

يتكرر عنصر الانتظار في النص عبر استعارات مثل (الانتظار لنجمة الصباح مع القمر) و(الليل يرخي انتظارهُ)، مما يعزز من طابع النص الساكن والمتأمل. التوازي بين الليل والمساء، وبين الأمل والفقد، يخلق إيقاعاً شعرياً منتظماً يعكس جو الانتظار الذي لا ينتهي.

الزمن والمكان:

الزمن في القصيدة يتأرجح بين الحاضر والمستقبل، حيث يبرز الحاضر من خلال (غروب يئن) و(المساء حزين)، بينما يتوجه المستقبل عبر (أحلاماً لفجر يوم من الأيام الآتية). هذا التناوب بين الحاضر والمستقبل يعكس حالة الاستشراف والتطلع للأفضل في المستقبل.

اللغة والمفردات:

اللغة المستخدمة في القصيدة غنية بالرمزية والتشابيه، حيث يرمز الشاعر إلى الزمن والمكان بطريقة تعبيرية قادرة على إيصال شعور الانتظار والتوق في قلب القارئ. الكلمات مثل (بحيرة السبابة والابهام) تشير إلى دقة اللحظة، بينما تكمن دلالة (أصيلاً) في تعزيز الإحساس بالثبات والقدرة على التكيّف مع مرور الزمن.

الإيقاع والوزن:

النص يعكس إيقاعاً هادئاً، حيث يبرز التأمل والتوقع ببطء، وهو ما يتناسب مع موضوع الانتظار. يتم التنقل بين السطور دون استعجال، مما يساهم في إيصال الشعور العام بالانتظار العميق والمترقب.

الخلاصة:

قصيدة (انتظار) لنصيف علي وهيب تجمع بين الرمزية والصور الشعرية العميقة لتصور تجربة الانتظار التي تحمل مشاعر الحزن والأمل والتطلع. اللغة المتأنية والتكرار المتقن يعززان من إيقاع النص ويجعلانه يعبر عن مشاعر شخصية وعامة في آن واحد.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

......................

انتظار

تلوي خصلة شعر من ذوائبها، بحيرة السبابة والابهام، غزل الليل إرتقاب، للشمس المشرقة على الكون، وجهُها أضحى أصيلاً، الغروبُ يئن انتظاراً لنجمة الصباح مع القمر، المساءُ حزين والليل يرخي انتظارهُ احلاماً لفجر يوم، من الأيام الآتية.

***

نصيف علي وهيب - العراق

 

رواية من فلسطين

يقول المؤرخ البريطاني هوبل:

(أذا أردت تلغي شعبا، تبدأ اولا بشل ذاكرته، ثم تلغي كتبه وثقافاته وتاريخه. ثم يكتب له طرفا آخر كتابا، ويعطيه ثقافة أخرى، ويخترع له تاريخا آخر، عندها ينسي هذا الشعب من كان وماذا كان والعالم ينساه أيضا).

و الشعوب التي لا تحافظ على تاريخها يكون مصيرها الزوال.

في غلاف الرواية كتب محمود شقير ومن لا يعرفون من هو الكاتب الفلسطيني، مقدسي كان من أبرز مناضلي الحزب الشيوعي الأردني فرع الضفة الغربية، وبعد ابعاده من قبل سلطات الاحتلال من وطنه عام 1975، التحق في الحزب الشيوعي الأردني، وبعد أن أعلن عن تشكيلة الحزب الشيوعي الفلسطيني عام 1982 التحق مع رفاقه الفلسطنين في حزبهم، وكان قد عمل في براغ في مجلة السلم والاشتراكية ممثلا للحزب الشيوعي الفلسطيني وعندما انتهت المرحلة في انهيار

 الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية عاد إلى عمان ومن ثم إلى القدس مدينته، ولابد من الإشارة انه كاتب سياسي وأديب فلسطيني ممن يشار لهم بالبنان، وله عدد من الروايات والقصص القصيرة وتميز بكتابة القصة القصيرة جدا وحصل مؤخرا على جائزة القدس العالمية للاداب، كتب عن رواية رشيد النجاب ما يلي:

الرواية التاريخية هي تجسيد في صفحات تكتب للأجيال، ويكتب رشيد النجاب رواية سيرية بلغة موحية وسرد حافل بالتفاصيل ويذكر الأمكنة العديدة التي مربها الجد ليضع القارئ أمام التفاصيل بتشويق لا يغيب، وبإيقاع متمهل لكنه متناسب ومتناغم مع كثرة التفاصيل.

ومن خلال معرفتي بعائلة النجاب حيث عرفة العائلة من خلال الدراسة في معهد كوبان الطبي المسمى بالجيش الأحمر في مدينة كراسنودار، حيث كانت الزميلة الدكتورة سلوى عبد الرحمن النجاب في نفس القسم للطب البشري معي وتعرفت والدتي (ام سامي) على عائلة والدها ابو رشيد عبد الرحمن والذي كان في بغداد يعمل في احد منظمات الأمم المتحدة في السبعينات من القرن الماضي، وتعمقت المعرفة عائليا من خلال زيارة الوالدة لهم المتكررة، وانا في دمشق وفي بيت ابو سلام (داود عريقات) تعرفت على ابو فراس (سليمان النجاب) القائد الشيوعي الفلسطيني المعروف والاخ الشقيق لعبد الرحمن النجاب.

وعندما عرفت في أن رشيد عبد الرحمن كتب هذه الرواية، أصبحت لدي رغبة للإطلاع عليها ومن ثم الكتابة عنها: والرواية تتحدث عن قرية من قرى فلسطين عاشت فيها عائلة عبد الرحمن ابو رشيد وهو الجد الجد لكاتب الرواية، الرواية تتحدث عن مرحلة تاريخية في فلسطين الا وهي زمن الاحتلال العثماني المتخلف لفلسطين الحضارة والثقافة، كيف يتعاملوا مع أبناء فلسطين في تجنيدهم في العسكرية، ويسرد الراوي أن رشيد الإبن الوحيد لعائلة عبد الرحمن وله أختان، وان ام رشيد كانت قد حملت في احد عشر حملا من الأولاد لم يعيش لها سوا ثلاثة فقط، رشيد هو الإبن الوحيد لعائلة و كيف يجند؟ ويتركهم بدون معين، وكانت ام رشيد كعادتها اليومية حتى في غياب رشيد تقوم بأعملها في الاعتناء بالدجاج والأغنام والحمار. وكانت ما تفكر به ام رشيد هي زواج رشيد ابنها الوحيد لترى أولاده، وهي كأي ام في تفكيرها. ولكن الجنادرية اخذت منها رشيد ليخدم في صفوف الجيش العثماني المتحالف مع الألمان في الحرب العالمية الأولى. سافر رشيد إلى اليمن، ويتحدث رشيد عن المجندين وحياتهم اليومية وفراقهم لعوائلهم، جلب انتباهي في الرواية مثل قاله رشيد هو [مثل خبز الشعير مأكول مذموم] ولا أعرف لماذا مذموم ولكن نحن في العراق نسوق المثل بقول آخر وهو [السمج (اي السمك) مأكول مذموم] ولأن السمك فيه عظام صغيرة. وفي الرواية يتحدث عن كرم الضيافة بين العوائل الفلسطنية كما هو المثل بضيافة ابو سليم إلى ابو رشيد، وفي الرواية نجد أن الفلسطنين متعايشون بين الطوائف والديانات المسيحية واليهودية والشيعة من المسلمين، ابو رشيد يتحدث مع ام رشيد حول ضرورة الهجرة الى مدينة يافا لأن الموسم قليل في القرية، مما حدى بأم رشيد تثير التسأل، حول مالعمل هناك؟.

ويثير المؤلف قضية وطنية تداخلت مع روح رشيد: عندما كلفه المسؤول التركي عن وجود شخص له صورة لديهم، قائلا انه شخص مشاغب ولكن رشيد ورفاقه الست الذين أخبرهم، أقترح عليهم أن لا يفتشوا عنه لكن عليهم أن يعرفوا المنطقة جيدا، حتى في حالة السؤال سيكونوا على علم بها، وقال لهم رشيد قد يكون هذا الشخص غير مرغوب به من قبل الاتراك وهو ضدهم؟ وهنا تظهر حس المشاعر الوطنية الفياضة، لدى رشيد، أن هذا حر وابن جلدته فلسطيني. وعندما عاد رشيد بعد جولة الخدمة العسكرية في دمشق وحلب وتوفي والده ابو رشيد (عبد الرحمن) ودفن في العباسية، وتزوج رشيد وانجب ابنه الأول عبد الرحمن وكذلك سليمان. ولاعتزاز رشيد الإبن سمى ولده الأول عبد الرحمن.

واريد ان أن نقل نصا مما كتبه رشيد النجاب في روايته: بعنوان العودة إلى القرية الام (العودة إلى جيبيا) يكتب ؛ [كان القرار واضحا بالنسبة لمصلحة بعد وفاة عبد الرحمن المفاجئة في العباسية، لم يبق الا العودة إلى جيبيا، حيث الدار والأهل والأقارب والأمل الخافق بعودة رشيد، ذلك الإحساس الخاص الذي سكنها منذ أن تابعت الركب يبتعد برشيدها إلى أن لمحته على مشارف أم صفاة، وهو الأمر الذي حاولت تكرسه لثنين عبد الرحمن عن فكرة الهجرة ولم تنجح، ربما لم تكن أكثر وضوحا في موقفها من ذلك اليوم، وضوح لم يترك لرفاق السفر من خيار سوى الإقرار بضرورة مرافقتها وبناتها في طريق العودة إلى جيبيا، الطريق التي بدت على الرغم من طولها، ووعورتها وصعوباتها أسهل من طريق الذهاب على الرغم من افتقارها إلى صحة عبد الرحمن، وعادت مع فاطمة وحمدة إلى السقيفة. بدأت مصلحة تؤسس لحياة جديدة تولت فيها دفة القيادة إلى أن يعود رشيد الأمل الذي أمدها بطاقة مكنتها من بث الحياة في السقيفة، هنا ستكون بانتظار رشيد، ولن يحتار هو في البحث عنها وعن اختيه، عند عودته]. انتهى الاقتباس.

عند قراءتي لهذه الرواية الجميلة وجدت انها تاريخ عائلة وقرية واستعمار عثماني، وجزء من تاريخ شعب فلسطين في معاناته من المستعمر العثماني، اجاد حفيد هذه العائلة رشيد النجاب في سباكة مهنية لقاص أجاد عمله في اختياره لمفردات، ترسم صورة للحدث من موقعه، الصديق رشيد النجاب له مستقبل زاهر ومشرق في استمراره كروائي وخاصة اليوم يتعاظم نشاط مقاومة شعبنا الفلسطيني، من أجل استرجاع فلسطين من الصهاينة، والأحداث مشجعة الان لما تقوم به الصهيونية المدعومة من الامبريالية الامريكية في عملية الابادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة والضفة من قتل للأطفال والنساء والشيوخ والمرضى وقتل الطواقم الطبية وتدمير المستشقيات.

اتمنى ان يطلع القراء على الرواية المشوقة.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

..........................

ملاحظة للتعريف

- الخروبة؛ شجرة حرجية تنبت تلقائيا، وهي وارفة الظلال، وتنتج قرونا تستخدم في صنع العصائر والحلويات.

- جبييا؛ هي قرية صغيرة تبعد 5 كيلومترات غرب بيرزيت.

والمَرْءُ في أُسلوبه مَخْبُوْءُ!

مَن يقارن مقدِّمة (الشريف الرَّضِي، -406هـ= 1015م)- وهو الكاتب الشاعر، والمترسِّل البارز في زمنه- لكتاب «نَهْج البلاغة» بما ينسبه بعدئذٍ إلى (عَليِّ بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه)، يلحظ أنَّ المقدِّمة ومتن «النَّهْج» بأسلوبٍ واحد: جُمَلًا قصارًا، في سجعتَين سجعتَين، أو ثلاث، على طريقة كتَّاب ذلك العصر.

هكذا استأنف بنا (ذو القُروح) مساقه الجديد. قلتُ:

ـ وماذا بَعد؟

ـ مَن يقرأ «النَّهْج» أيضًا يجده في بعضه أشبه بمقامات (بديع الزمان الهمداني، -398هـ= 1007م)، المعاصر لـ(الشَّريف الرَّضِي)، من حيث النَّظْم؛ فيتأكَّد له أنه ليس بأسلوب ابن أبي طالب، ولا بأسلوب العصر الذي عاش فيه، بل هو أسلوب مترسِّلي القرن الرابع الهجري.

ـ ولقد اختلف الدارسون المؤرِّخون في مُنبثَق فنِّ (المقامات الأدبيَّة)، من ناسبٍ ريادتها إلى (بديع الزمان)، وذاهب إلى أنَّ البديع إنَّما حذا حذو اللُّغويِّ (ابن دريد، -321هـ= 933م) في أحاديثه.

ـ صحيح. ولو صحَّت نِسبة «النَّهْج» إلى (أبي الحَسن)، لكان الأَولى، إذن، أن تقول إنه، في نسيجه الأسلوبي، رائد فنِّ المقامات! وما على القارئ إلَّا أن يطالع في «النَّهْج»، مثلًا، ما جاء في قِصَّة خلق آدم، وخلق الكون، وغيرهما، ليجد أنَّ الأسلوب هو الأسلوب، في فنِّ المقامات وهذا الضرب من «النَّهْج».

ـ هلَّا مثَّلتَ؟

ـ انظر، مثلًا، كيف يصف فريضة الحَج: «وفَرَضَ عليكم حَجَّ بيتِه الحَرام، الذي جعلَه قِبْلَةً للأنام، يَرِدُونه وُرودَ الأنعام، ويَأْلَهون إليه وُلُوْهَ الحَمام.  جعلَه، سبحانه، علامةً لتواضُعهم لعَظَمته، وإذعانهم لِعِزَّته. واختارَ مِن خَلقِه سُمَّاعًا أجابوا إليه دعوته، وصَدَّقوا كلمته، ووقفوا مواقفَ أنبيائه، وتشبَّهوا بملائكته، المُطيفين بعَرشه؛ يُحرِزون الأرباحَ في مَتْجَر عِبادته، ويَتبادرون عند موعد مغفرته. جعلَه، سبحانه وتعالى، للإسلام عَلَمًا، والعائذين حَرَمًا، فَرَضَ حَجَّه، وأوجبَ حَقَّه.»(1)

ـ وكأنَّ السجعة الأخيرة، «حَجَّه» و«حَقَّه»، إنَّما قيلت باللهجة المِصْريَّة؛ بقلب الجيم قافًا!

ـ على كلِّ حال، لقد ضاع أكثر النثر العَرَبي؛ لأنَّه لم يكن مكتوبًا قبل الإسلام، كما ضاع أكثر النثر الإسلامي، الذي لم يُكتب. وهو ما اقتضى تصحيح الحديث النبوي، بقدر المستطاع، بعد عقود من الرواية الشفويَّة، لحفظ ما صحَّ منه. بل إنَّ الشِّعر- الذي حِفظه في الصدور أسهل من حِفظ النثر بمراحل- قد اعتراه ما اعتراه من كَذِبٍ ووضْعٍ وانتحال. فماذا عن «النَّهْج»؟ أكان مكتوبًا منذ قاله (عَليٌّ)؟ فأين المخطوطات؟ أم كان مرويًّا؟ فمن رُواته؟ وأين الأسانيد؟

ـ غير أنَّ النقد الداخلي للنصوص يدلُّ على أنه في معظمه- في الأقل- موضوع، نُحِل عَليًّا نحلًا.

ـ نعم. غير أنَّ الأمر يتخطَّى الأسلوب إلى الأفكار العبَّاسيَّة المعروفة أيضًا، التي لم تكن مطروحة، ولا محلَّ جدلٍ في صَدْر الإسلام، ولا حتى في العصر الأُموي.

ـ مثل ماذا؟

ـ قضيَّة الأسماء والصفات، على سبيل المثال. اقرأ هذا النص: «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُه، وكَمالُ مَعْرِفَتِه التَّصْدِيقُ بِه، وكَمالُ التَّصْدِيقِ بِه تَوْحِيدُه، وكَمالُ تَوْحِيدِه الإِخْلَاصُ لَه، وكَمالُ الإِخْلاصِ لَه نَفْيُ الصِّفاتِ عَنْه، لِشَهادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّها غَيْرُ المَوْصُوف، وشَهادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَة، فَمَنْ وصَفَ اللهَ سُبْحانَه، فَقَدْ قَرَنَه، ومَنْ قَرَنَه، فَقَدْ ثَنَّاه، ومَنْ ثَنَّاه، فَقَدْ جَزَّأَه، ومَنْ جَزَّأَه، فَقَدْ جَهِلَه، ومَن أشارَ إليه، فقد حَدَّه، ومَن حَدَّه، فقد عَدَّه، ومَن قال: «فِيمَ؟»، فقد ضَمَّنَه، ومَن قال: «عَلامَ؟»، فقد أَخْلَى مِنه. كائِنٌ لا عَنْ حَدَث، مَوْجُودٌ لا عَنْ عَدَم، مَعَ كُلِّ شَيْءٍ، لاَ بِمُقَارَنَة، وغَيْرُ كُلِّ شيءٍ، لا بِمُزَايَلَة، فَاعِلٌ، لا بِمَعْنَى الحَرَكاتِ والآلَة، بَصِيرٌ، إذْ لا مَنْظُورَ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، مُتَوحِّدٌ، إذْ لا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بهِ ولا يَسْتوْحِشُ لِفَقْدِه...».(2) فهذه كانت قضيَّة القضايا في العصر العبَّاسي، (قضيَّة الأسماء الصفات)، وهذا عَين كلام المعتزلة ومذهبهم.  حيثُ إنَّهم أثبَتوا الأسماء، ونفَوا الصِّفات، مخالفين أهل السُّنة؛ ولذا وُصِفوا بالمعطِّلة، أو بالنُّفاة؛ لأنهم يزعمون، كما في هذه الخُطبة النَّهْجيَّة: أنَّ «كُلَّ صِفَةٍ له غَيْرُ المَوْصُوف، وكُلِّ مَوْصُوفٍ غَيْرُ الصِّفَة»؛ لأنه لو اتَّصف بالصفات، للَزِمت مماثلتُه خَلقَه، ولَزِم تعدُّده، كما يزعمون. وهو تفلسفٌ ما كان محلَّ تجاذبٍ في صَدْر الإسلام قط. وتلك هي القضايا الجدليَّة، التي انقسم جرَّاءها المسلمون في العصر العباسي، ولم تكن لها أثارة من ذِكرٍ من قبل. ولو كانت من مستقِرِّ الرأي في صَدْر الإسلام، لما كانت لتثير جَدَلًا، ولا خِلافًا، وتكفيرًا، وقتلًا بين المسلمين لافتراق الآراء الفلسفيَّة فيها!

ـ وها قد جعل (الشريف الرَّضِيُّ) عَليًّا أحد أقطاب الجدال حول الله وأسمائه وصفاته، وقِدَم العالم أو حدوثه، في العصر العبَّاسي، آخِذًا بيده إلى مسالك الاعتزال في تلك المسائل! فلله درُّه من عابرٍ للعصور والعقول والثقافات!

ـ هذا فضلًا عن إتيانه بتفاصيل عجيبة في «سيناريو» ابتداء خَلْق السماء والأرض وخَلْق آدم، ممَّا لم يأت لا في كتاب ولا على لسان رسول! قائلًا: «ثُمَّ أَنْشَأَ، سُبْحانَهُ، فَتْقَ الأَجواء، وشَقَّ الأرجاء، وسَكائِكَ الَهواء، فأَجازَ فيها ماءً مُتَلاطِمًا تَيَّارُه، مُتَراكِمًا زَخَّارُه، حَمَلَهُ على مَتْنِ الرِّيحِ العاصِفَة، والزَّعْزَعِ القاصِفَة، فَأَمَرَها بِرَدِّه، وسَلَّطَها عَلَى شَدِّه، وقَرنَها إلى حَدِّه، الهَواءُ مِنْ تَحْتِها فَتِيق، والماءُ مِنْ فَوْقِها دَفِيق. ثُمَّ أَنْشَأَ، سُبْحانَهُ، رِيحًا اعْتَقَمَ مَهَبَّها، وأَدامَ مُرَبَّها، وأَعْصَفَ مَجْراها، وأَبْعَدَ مَنْشاهَا، فَأَمَرَها بِتَصْفِيقِ الماءِ الزَّخَّار، وإِثارَةِ مَوْجِ البِحار، فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقاء، وعَصَفَتْ بهِ عَصْفَها بِالفَضاء، تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِه، وسَاجِيَهُ عَلَى مَائِرِه، حَتَّى عَبَّ عُبابُه، ورَمَى بِالزَّبَدِ رُكامُه، فَرَفَعَهُ فِي هَواء مُنْفَتِق، وجَوٍّ مُنْفَهِق، فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَماوات، جَعَلَ سُفْلاهُنَّ مَوْجًا مَكْفُوفًا، وعُلْياهُنَّ سَقْفًا مَحْفُوظًا، وسَمْكًا مَرْفُوعًا، بِغَيْر عَمَدٍ يَدْعَمُها، ولا دِسارٍ يَنْظِمُها. ثُمَّ زَيَّنَها بِزينَة الكَواكِب، وضِياءِ الثَّواقِب، وأَجْرَى فِيها سِراجًا مُسْتَطِيرًا، وقَمَرًا مُنِيرًا: في فَلَكٍ دائِر، وسَقْفٍ سَائِر، ورَقِيمٍ مَائِر...». 

ـ فالسماء الدنيا موجٌ من الماء، لكنَّه مكفوف، ولولا ذلك لانسكب على رؤوس الأرض فأغرقها! فأنَّى له ذلك؟ أكان نبيًّا آخَر؟! 

ـ إنَّما تلك الثقافة الشعبيَّة القديمة في تصوُّر بدء الخلق، التي نجدها عند غيره، كما في مقدمة تاريخ (الطَّبَري) حول مبتدأ الخلق، مع أنَّ الطَّبَري كان يستند في ما يورد على بعض «القرآن» و«الأحاديث»، ولو تأوُّلًا.

ـ مع بعض الاسرائيليَّات!

ـ طبعًا. فالطَّبري قد خاض بدَوره في ثقافة عصره، بالقول حول ابتداء الخلق، ما كان أوَّله؟ ومنه القول إنَّ السماوات والأرض وكلَّ ما فيهنَّ تحيط بها البحار، ويحيط بذلك كله الهيكل، ويحيط بالهيكل، فيما قيل، الكرسي. وصولًا إلى ما يورده تحت عنوان «ذِكر الأخبار الواردة بأن إبليس كان له مُلك السماء الدنيا والأرض وما بينهما»!(3) وكذلك يفعل صاحب «النَّهْج»؛ إذ يورد أدقَّ التفاصيل في كيفية خلق الله لآدم.(4) فمِن أين له ذلك العِلم بالغيب، أكان يشاهد عمليَّة الخلق؟ أم جاءه وحيٌ، لم يأت ابن عمِّه محمَّدًا، عليه الصلاة والسلام؟! بل ستجده يضيف عن السماوات قوله: «ثُمَّ فَتَقَ ما بَيْنَ السَّماواتِ العُلَى، فَمَلأهُنَّ أَطْوارًا مِنْ مَلائِكَتِهِ: مِنْهُمْ سُجُودٌ لايَرْكَعُون، ورُكُوعٌ لا يَنْتَصِبُون، وصافُّونَ لا يَتَزايَلُون، ومُسَبِّحُونَ لا يَسْأَمُون، لا يَغْشاهُمْ نَوْمُ العُيُون، ولا سَهْوُ العُقُول، ولا فَتْرَةُ الأبدَان، ولا غَفْلَةُ النِّسْيان. ومِنْهُمْ أُمَناءُ على وحْيِه، وأَلسِنَةٌ إلى رُسُلِه، ومُخْتَلِفُونَ بِقَضائِهِ وأَمْره. ومِنْهُمُ الحَفَظَةُ لِعِبادِه، والسَّدَنَةُ لأبوابِ جِنانِه. ومِنْهُمُ الثَّابِتَةُ في الأرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُم، والمارِقَةُ مِنَ السَّماءِ العُلْيا أَعْناقُهُم، والخارجَةُ مِنَ الأقطارِ أَرْكانُهُم، والمُناسِبَةُ لِقَوائِمِ العَرْشِ أَكْتافُهُم، ناكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصارُهُم، مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِم، مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُم وبَيْنَ مَن دُونَهُم حُجُبُ العِزَّة.»(5) 

ـ أنَّى له كل هذا؟! 

ـ لا تسألني، يا هذا، بل اسأل (محمَّد بن الحُسين)!

ـ حاولتُ، لكن لم أجده لأسأله! فسألت أخاه (عَليَّ بن الحُسين، -436هـ= 1044م)، فأجاب:

لا تَسلْنِـي عَـمَّا أَراهُ فـإنِّـي   :::   كُلَّ يومٍ أَرَى بِعَينيْ عَجيبا

ـ لقد سألتَ به خبيرًا! وبالمناسبة، كثير من الباحثين يرون أنَّ (المرتضَى) هو واضع «النَّهْج»، وليس أخاه (الرَّضِي)، والمرتضَى من أهل الكلام القائلين بالاعتزال. ولذا لا غرابة أن تلمس بصمات الاعتزال واضحةً على «النَّهْج».

ـ والمَرْءُ في أسلوبه مخبوءُ!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

  ........................

(1) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 97- 98.

(2) م.ن، 85- 89.

(3)  يُنظَر: الطَّبَري، (1967)، تاريخ الرُّسل والملوك، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 32- 82.

(4) يُنظَر: النَّهْج، 91- 92.

(5) م.ن، 89- 90.

التشريح النفسي لقصيدة أنشودة المطر لرائد الشعر الحر بدر شاكر السياب، ربما يستكشف أعماق اليراع الذي كتبها، والنفس التي تفاعلت مع مفرداتها وإيقاعاتها ونبضاتها العاطفية والإنفعالية والفكرية، وكيف بقيت ذات طعم خالد. وهذه المحاولة تهدف إلى وعي الصورة الشعرية وتحليل مكوناتها التعبيرية النفسية والعقلية.

تبدأ القصيدة بكلمة "عيناك"، والعين تبوح بالمعاني واللغات التي تعجز عن إحتوائها أبجديات الكلام، ذلك أن الروح  بطاقاتها وقدراتها الخلقية والإبداعية تنحبس في الأعماق ويتعذر التعبيرعنها بالكلمات، فتتحول العيون إلى ينابيع بوح صادق وأليم ومضرج بالحزن والمرارة والحرمان.

لكن الشاعر يقلب تلك الصورة المأسوية فيقرن بين غابات النخيل البصراوية المتهامسة عند السَحر والمعبرة عن طاقات الحياة والعطاء، وفي هذا توحد وتمثل مطلق يكون العاشق فيه لا يرى حبيبته كما هي، وإنما مثلما يتمثلها في خياله ورؤاه الشعرية المعتقة في قوارير الحب الفتان.

وبهذا تكون العينان في حالتي تمثل جمالي متساوق مع نبضات الأشواق والأحلام واللهفة. وهذا توحد جزئي يريد به الكلية لأن وجود الحبيبة وصورتها الخيالية قد تكثفت في العينين، ولذلك فأن التعبير يمتلئ بالصدق والحس الشاعري الإنساني الفياض، لأن ما يريده من شدة إنحباسه يفيض من العيون، فتكون النظرة أغنى من كتاب.

ويبدو أن الشاعر يجيد قراءة العيون ويترجم أبجدية النظرات بأسلوب إنتصر فيه على قيود الشعر العمودي، وحرر النفس والروح من أصفاد العروض، فكانت العيون منطلق الإرتقاء بثورة الحرية الفكرية والفنية، لأن العيون ترمز للحرية والجمال والصفاء والإنتماء.

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر

في وقت السحر تكون العيون الناعسة المستريحة متحررة من أعبائها، فتبدو في غاية النقاء والروعة الخلابة التي تداعب أنياط القلوب، فكان الوصف دقيقا وموسوعيا فيما تلاه من تطورات في الصورة الشعرية، والتركيبات الأسلوبية المؤثرة في النفس والروح.

أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهُما القمر

في هذا رسم لحالة النعاس وبهاء بريق الحياة المنبثق من العيون، التي تكثفت فيها طاقة الوجود والنماء والتجدد والبقاء، وكأن وهج الروعة بدأ يخبوا بإنسيابية نأي القمر عن الأشهاد وقت السحر الصافي الساكن العذيب.

عيناكِ حين تبسمانِ تُورقُ الكروم

وهنا يتحول رفيف الأجفان إلى إبتسامات، لكن المقل الثرية بالمشاعر والأحاسيس، كأنها سكرى بالأشواق والأمل، ولهذا أورقت الكروم لتسقيها بسلاف روحٍ إنتشر.

وترقصُ الأضواءُ.. كالأقمارِ في نهر

دفق الحياة الوثاب في فضاء العينين إستنزل الأكوان وإمتد في رحاب المطلق البعيد، فصارت الأضواء تنعكس فيه وتتلألأ الأقمار وتتجدد الصور.

يرجُّهُ المجدافُ وَهْناً ساعةَ السحر

وكأنه يقرأ لغة الأجفان ويقرنها ببيئته، ويقارن ما بين إيقاعاتها الناعسة وحركة المجداف، الذي يحركه إنسان هده تعب الليل، وهو يسعى بالظفر بصيد يعينه على مشقة الأيام.

كأنّما تنبُضُ في غوريهما النجوم

.....  وفي هذا المقطع لم يقنع بما يرى بل أخذ يغوص عميقا جدا في قاع

العيون بمنظاره الشعري وآلة خياله التواق، فيرى نجوما أخرى، لأن العيون صارت طبقات أكوان ومختصر وجود أعظم.

وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيف...

ويخيل للقارئ أن الرحلة الخلابة في عيون المعشوقة تحولت إلى صورة بانورامية، لأن الحبيبة تتوطن خيالا متدفقا ومعبرا عن طاقات لا محدودة تخشى منها الحروف والكلمات.

وهكذا تهب ومضات الأسى وتتبارق حولهما، فيراهما الشاعر ضبابا لأن صفاء النظر قد شابه التعب، وأفقده بعد المنال توهج حرارته ونماء إرادته الإنسانية.

كالبحرِ سرَّحَ اليدينِ فوقَهُ المساء...

هذا النهر الدافق قد سكن في بحر ذي أمواج صاخبة لا تهدأ لكن المساء أوهمنا بسكينته، وما هو إلا قوة فوارة معتلجة بالطاقات.

وانطبقت الأجفان وما كان الشاعر يرى إلا سواد المقل قبل أن تغيب الحبيبة في رحلة الهجوع وأنها البحر.

دفءُ الشتاءِ فيه وارتعاشةُ الخريف...

وكأنه يقرن ما بين البحر والعيون حيث الدفئ اللذيذ في أعماقه، المسكونة بالأحياء وأمواجه التي قرنها بالخريف، وهذا يرمز إلى غياب الجمال وإنعدام العطاء والتواصل الفعال مع الأشياء، فهدأت الحبيبة واستوحش الحبيب.

والموتُ والميلادُ والظلامُ والضياء...

في لحظة التبصر والإدراك العميق لمعاني القوانين الكونية العظمى، المنبثق من مشهد العيون في رحلتها الحرمانية القاسية، تشخص المتناقضات وتنطبق الكليات على الجزئيات، ويكون صوت الحياة واحد، غياب وحضور، وحضور وغياب، ودوران في قفص الوجود كالبلبل المذبوح بصوته الفتان، وما غناؤه إلا بكاء أليم وإنفجارات روح في حنجرة الأسير.

فتستفيقُ ملء روحي، رعشةُ البكاء...

بهذا الوعي الأليم يفقد الإنسان لغاته ويبدأ البكاء صولته، لكي ينقي الأعماق من صديد هول الحرمان وفقدان الرجاء، فينأى بما يريد إلى غير وجهته، أي يتسامى إلى ما لا يريد ليحافظ على ما يريده ويبتغيه من الآمال والرغبات المخنوقة في دياجير فؤاده الكسير.

ونشوة وحشية تعانق السماء...إنها نشوة متدفقة ذات سمات حرمانية، ومعوقات أرضية، فلا يمكنها أن تتحقق فوق التراب، ولا بد لها أن تطوف السماء، وترج أركانها، لأنها من شدة الإختناق فقدت صوابها وتوحشت وأمعنت بصيرورتها الفنائية العلوية، فتماهت بطاقة السماء.

كنشوةِ الطفلِ إذا خاف من القمر...

ويدخل الطفل في المشهد ليرمز إلى تحطم القيود، والتمني بالتعبير عن الرغبات المكبوتة بحرية الطفل الذي لا يعرف الممنوع، وأنه يسعى إلى ما يريده بحرارة عواطفه وطاقة مشاعره البقائية.

نشوة العاشق المتيم المحروم، تشق لها دروبا في خلجان النفس، وتصل إلى ما تريده من اللذة والتوحد مع المعشوق.

كأنَّ أقواسَ السحابِ تشربُ الغيوم

المقطع يشير إلى تعبير رمزي عن الرغبة الجياشة المتحرقة التواقة للإندماج المطلق في بدن المحبوب، والتغلغل بكيانه والسريان بعروقه، ويتحقق بعد ذلك الإعتصار العنيف، فينزفان حقيقتهما الذاتية ويسريان في كيان الوجد السرمد، وكأن السحاب ذكرا والغيوم أنثى أو العكس.

وقطرةً فقطرةً تذوبُ في المطر

هذا التداخل الإنساني الروحي العميق يتجسد بأن الحبيبين فتحولا إلى صيرورة واحدة متسربة في الصيرورات الأخرى، واللذة القصوى تتجسد في ذلك.

وكركرَ الأطفالُ في عرائش الكروم...

وبعد التفاعل الخيالي مع المحبوبة المأسورة بالممنوعات والتقاليد الجائرة، يكون التحدي بطاقات الخيال فيتحقق التفاعل في الفضاء، وتلد مسيرة العشق أثمار التلاحم النفسي والبدني، فيكون الشاعر في حضرة الخيال المجسد لما لا يكون إلا فيه.

ودغدغت صمتَ العصافيرِ على الشجر..

.وبغتة يستفيق من رحلته العميقة في العيون، ويصغي إلى إنشودة المطر التي أخذت تنبه الأحياء والبشر....

أنشودة المطر

مطر

مطر

مطر...

العلاقة بين الإنسان العراقي والمطر ليست حميمة، وإنما هي قاسية وتشير إلى ما سيحصل من سيول وفيضانات وتداعيات مأساوية إلى بضعة عقود مضت، برغم أن المفهوم العام هو الخير، لكن الأعماق الخفية ترى غير ذلك، فللمطر تداعيات نفسية وسلوكية ذات نتائج متعددة في دنيانا، ففي القصيدة حزن حرماني موجع وقاسي يستدعي الذكريات المتلائمة معه، والمؤازرة لسيرورته العاطفية وكثافته الإنفعالية القاتمة.

ومن أقسى حالات الحزن أن تتلقى المدارك إشارات الخير والنماء على أنها غير ذلك، فيكون المطر مفتاحا لبوابة الأحزان التي تندلق معانيها وشواهدها في عبارات القصيدة.

تثاءبَ المساءُ والغيومُ ما تزال

تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال...

هنا يتجلى الكسل والتراخي وفقدان العزيمة والإستسلام، فتغيب روح التحدي والمواجهة والإصرار على صناعة الحياة، فصار المساء يتثاءب متكاسلا ومحاصرا بيأسه وحزنه، وكأن الغيوم تشاركه همومه فتبكي بدلا عنه، أو تبكي معه، لأن دموعها قد تخزنت وتكثفت وإزدادت ثقلا وغزارة لدرجة ما عادت تمتلك القدرة على لجم جماح تدفقها وإنهمارها الغزير على سفوح الآلام.

كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينام...

وفي ذروة اليأس والقنوط، يتحقق الهذيان، أو تخيل الأشياء الغير موجودة، يكون الإنسان في أجواء تساقط المطر وكأنه السجين المقيد، الأسير في ذاته ومكانه ولا يمتلك القوة على الحركة والتعبير عن الحياة الجميلة، فيستكين لأراجيف التصورات والرؤى السوداوية، التي تستدعي ما يناهض الحياة.

بأنّ أمّه - التي أفاقَ منذ عام...

المقطع حاد في التعبير عن الفقدان وشدته وقوته العاطفية وتأثيره في السلوك والتفاعل مع المحيط، وكأنه يريد القول بأن الإنسان في بلاده، قد فقد الرعاية والأمومة، فاصبح تائها بلا دليل ولا تربية، ويتخبط ويتأمل على أن شيئا ما سيتحقق ذات يوم ويتمكن من التفاعل الصحيح مع الحياة.

فلم يجدْها، ثم حين لجَّ في السؤال...البحث عن المفقود لا يؤدي إلى نتيجة وإنما يدفع إلى سلوكيات مخادعة وتضليلية تجانب الحقيقة وتنكرها، لأننا لا نريد أن نواجه أنفسنا بل نخدعها، ونبرر لها ما تقوم به، ونسقطه على غيرها إن كان غير مقبول.

وهذا سياق ثابت في تربيتنا منذ الطفولة وينعكس على تفاعلاتنا في المجتمع عموما.

قالوا له: "بعد غدٍ تعود" ...

وهكذا يتم تجسيد سلوك الكذب والتضليل كأسلوب مريح ومساهم في مساعدة الإنسان على مواجهة الحرمان، فلا يتأكد العمل بالبحث والجد والإجتهاد، وإنما بالتجافي والتجاهل وخداع الذات وتخديرها حتى تستكين وتذعن لحالها وظروفها، لكي تبقى وتتواصل مستعذبة البؤس والحرمان.

لا بدّ أنْ تعود...

يتأكد الكذب ويتكرر بحيث يكون اليقين محض إفتراء، فكيف يكون الصدق بعد ذلك هو السلوك المفيد، ما دام الطفل قد كُذِب عليه في أدق حالاته الإنفعالية وأصعبها.

فكيف تعود الأم ؟

في هذه الحالة عليه أن يتخيلها ويتوهمها ويتصور كيف تتفاعل معه وتستجيب لحاجاته، وبهذا يتم خلق إنسان مقطوع عن محيطه، ومنشطر عنه وبذلك لا يمكنه أن يغيره أو يضيف إليه لأنه في حالة إنقطاع تام عنه.

وإنْ تهامسَ الرِّفاقُ أنّها هناك...

مرة أخرى يتكرر مشهد مأساوي تربوي يؤدي إلى بذر الشك وعدم الثقة في الإنسان، فالكذب الموجع، والتفاعل الذي يدعو إلى الحيرة وعدم الثقة ينمي قدرات الشك عند الإنسان، ولذلك فالإنسان يكون ميالا للشك وسوء الظن كثيرا بغيره وحتى بأقرب الناس إليه.

في جانبِ التلِ تنامُ نومةَ اللحود،...

نعم إنها هناك لكننا نكذب عليك لنتخلص منك ومن تداعيات معرفتك بحقيقة أمرها، فلن نقول لك الصدق وما عليك إلا أن تكتشفه بنفسك بعد رحلة شقاء وكدر، وفي ذلك تنمية لمشاعر الغضب والعدوان والكراهية والإنتقام، لأن الطفل سيبقى يتساءل بحسرة عن الكذب والتضليل الذي صاغ حياته بطريقة أخرى، وأخذها في مسالك متعثرة وغير مجدية، وحالما إصطدم بالواقع القاسي، تنطلق مشاعره وإنفعالاته المحبوسة المضغوطة، فتفعل ما تفعله في محيطه الظالم المضاد لمسيرته الآدمية.

تسفُّ من ترابها وتشربُ المطر ...

تعبير ثقيل وأليم، فالمطر لا يصلح للأحياء وإنما هو يتسرب إلى مواضع الأموات ويزيدهم موتا، وبهذا تتحقق الصورة الحقيقية عن العلاقة بالمطر، ولا بد من الغوص في أعماق الصورة وتعبيراتها السلوكية والإنفعالية.

فالمطر يظهر كفعل تراجيدي غريب، لا يمكن تفسيره بسهولة، فالإنسان يستاء من المطر ولا يريده، لأن البيوت كانت من الطين، وتصريف المياه متخلف وغير موجود، وكم يفيض النهران بسبب المطر ولا يستطيع الإنسان من مواجهة شراسة الفيضان، وكأنه العدوان الذي يهاجم الناس كل ربيع، حتى نهاية الستينيات من القرن العشرين.

ولم يستريح الناس من فيضانات النهرين إلا في العقود القليلة الماضية، فالمطر عدوان، ولا ينفع إلا الأموات، وقد يخلصهم من فم التراب ويجرفهم إلى حيث الذوبان في تيارات المياه المتواصل مع دورة الماء في الطبيعة المتغيرة.

وهذا موقف سلبي ومناقض لطبيعة الأشياء، فالمطر هو الخير، والإنسان ما تعلم مهارات التواصل معه وإستثمار مياهه في التنمية الإقتصادية، حتى غاب المطر وندر، فصار الجفاف ضاربا والمطر عزيزا ومجهولا في أكثر الأحيان.

كأنّ صياداً حزيناً يجمعُ الشباك...

ويلعنُ المياهَ والقدر

وينثرُ الغناء حيث يأفلُ القمر

مطر، مطر، المطر

الفرق بين صياد همنغواي وصياد شاعرنا كالفرق ما بين القطبين، وكأننا ما قرأنا ملحمة جلجامش التي ترجمها صياد همنغواي.

الصياد حزين ويائس وتم تفريغه من طاقات التحدي والإصرار، وشحذه بالإنفعالات السلبية القاسية، والتفاعلات الإسقاطية الإستسلامية للقوى والقدرات الأخرى، أيا كان عنوانها ورمزها، ولكي يزيح مشاعره الأليمة البائسة، لا بد له من الغناء الذي يرسم فيه لوحة نفسه ويسكب أنواء عجزه.

وبهذه الصور القاتمة الدامعة المتحسرة الكسيرة تتسم الأغاني  والشعر الذي يؤكد في ألفاظه وإيقاعاته الرقص على أوردة نزيف الأجيال المذبوحة بالحرمان والظلم والإمتهان.

وهكذا يبدو المطر وسيلة إجهاضية سلبية، تدين فقداننا لمهارات إستثماره وتوظيفه لصناعة الحياة الأفضل.

أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعثُ المطر؟

وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر؟

وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟

بلا انتهاء_ كالدمِ المُراق، كالجياع

كالحبّ كالأطفالِ، كالموتى –

هو المطر ....

وتعلو صرخة النفور من المطر والتخاطب معه على أنه عدو للوجود، وليس مبتدأ إنطلاق روافد الحياة ومشيد حلتها الوارفة الخضراء، فتعلن المزاريب بكاءها ويتصاعد عويلها، وتهديداتها ووعيدها لأن المطر سيجرف الأشياء وبسببه تتهاوى البنايات، لأننا ما تعلمنا كيف نجعل الطين يقاوم المطر، وشيدنا بيوتنا من الطين الذي يعشق المطر ويتفاعل معه لصناعة الحياة المعطاء، وبفعلنا حرمنا الطين من دوره ورسالته وإعتدينا على حرمته ومصيره، فالطين من أدوات الخلق المتجدد ولا يمكن حشره في جدار، ولهذا فأن المطر الشديد عنوان وعيد وخطر.

وفي المقطع تجتمع متناقضات فاعلة في السلوك، الجوع والحرمان والوحشة والقتل والمطر!!

فكيف تتفق مع المطر؟

إن في ذلك دليل على أن الإنسان قد تنازل عن دوره الخلاق،  ومسؤوليته في المساهمة بالحياة الأفضل، وإستثمار المطر في صناعة الطعام وتنمية الإقتصاد.

فالناس تلهو ببعضها وتستعذب سفك الدماء والتناحر والتصارع على الأشياء بسبب آفة العجز والإستسلام. ولهذا فأن كل موجد دامع حزين ويائس ولا يعرف إلا أن يرى بعيون ذات آليات إدراك محنطة.

ومقلتاك بي تطيفان مع المطر

وعبرَ أمواجِ الخليجِ تمسحُ البروق

سواحلَ العراقِ بالنجومِ والمحار،

كأنها تهمُّ بالشروق

فيسحبُ الليلُ عليها من دمٍ دثار

أصيحُ بالخيلج: "يا خليج

يا واهبَ اللؤلؤ والمحارِ والردى"

فيرجع الصدى

كأنّهُ النشيج:

"يا خليج: يا واهب المحار والردى"

في المقطع تحليق وهروب من مواجهة الواقع والصعود إلى أكوان الفنتازيا والخيال الساعي إلى إرضاء الحاجات بتصورها وتمنيها، فما دام الإنسان عاجزا عن مواجهة مصيره وقيادة أمره، فمن الأفضل أن ينداح في مواقد العيون ويناجيها ويحسبها بساط الريح، فقد تجمعت فيها أسرار المطر وعواديه وما يتصل به من الأحزان والمشاعر والعواطف القاسية، فالعيون يحمّلها الرجل كل ما يريده ويراه، فينعكس ما فيه من الهموم فيها، فهي مرآة نفسه وصدى صراخات أنينه وحرمانه.

وعندما يستجير بالخليج، لا يحصل إلا على الصدى، وهو تعبير وتعزيز لمشاعر اليأس وعدم القدرة على الفعل والإبداع الحياتي العملي المتجدد المتسابق مع عجلات العصر الدوارة.

نعم إنه الصدى، فالواقع الذي حولنا هو الصدى الأصيل لما فينا، فما دام العجز سيدنا، فأن كل ما حولنا يبعثه ويشير إليه ويعبّر عنه بوضوح وبسالة.

أكادُ أسمعُ العراقَ يذخرُ الرعود

ويخزنُ البروقَ في السهولِ والجبال

حتى إذا ما فضّ عنها ختمَها الرجال

لم تترك الرياحُ من ثمود

في الوادِ من أثر

أكادُ أسمعُ النخيلَ يشربُ المطر

وأسمعُ القرى تئنّ، والمهاجرين

يصارعون بالمجاذيفِ وبالقلوع

عواصفَ الخليجِ والرعود، منشدين

مطر.. مطر .. مطر

في هذا المقطع تتلخص القصيدة بفكرتها الأصلية وما فيها من آليات التفاعل والحراك، فطاقات الحرمان المكبوتة بقوة مكابس الظلم والقهر والإستبداد والجهل والتبعية وسحق الإنسان وتجريده من آلة عقله، كلها تعودت الإنفجار بين حين وآخر، وحالما تنفجر تقضي على ما حولها وعلى نفسها، لأن الطاقات المنفلتة تكون عمياء مضطربة ومشوشة وتجهل العقلانية والحكمة وتنكر الهدوء، فما أن تنطلق حتى تصنع مأساة جديدة تساهم في ترسيخ متوالية المآسي.

ويكون المطر متوالية هندسية من التداعيات والملمات القاسية التي تفتك بالشعب على مر العصور.

فمن الذي يمتلك قدرات الخروج من هذه الدائرة المفرغة المأساوية الحزينة الدامعة المنهمرة الروح كالمطر؟!

***

د. صادق السامرائي

ما الذي يجمع هذين الشاعرين والمسيح؟

لماذا يتشبّهان به ويتماهيان معه أحياناً؟

خليل حاوي شاعرٌ لبنانيٌّ مسيحيٌّ لكنَّ السيّابَ عراقيٌّ مُسلم!

هل مرّ أحدهما أو كلاهما بما مرَّ المسيحُ به من تجارب وخاضا ما خاض من سجالات ومجادلات مع خصومه ولا سيّما اليهود؟ هل سُجنا أو صُلبا ودُفنا ثم قاما من القبر؟

لم يمر الشاعر المسيحي الماروني حاوي بأية تجربة عرّضته للسجن أو التعذيب أو الصلب ثم القتل. بلى، أقصيَّ السيّاب عن وظيفته مرتين لأسباب سياسية، الأولى زمان الحكم الملكي في العراق والثانية في العهد الجمهوري بُعيدَ ثورة 14 تموز 1958. يتعذّب المطرود من وظيفته ويُعاني خاصةً إذا كان متزوجاً وله أطفال كحالة بدر شاكر السيّاب لكنَّ السياب لم يُسجن ولم يتعرض للتعذيب الجسدي ولم يُصلب أو يُقتل فما علاقته بعيسى إبن مريم؟ على كل حال.. الإستعارة مجازية وللشاعر كل الحق في أنْ يستعير ما يشاء من التأريخ القديم والحديث ويوّظف ما يشاء من رموز لإغناء تجاربه الشعرية وتعميق تأثيراتها ومدِّ قوّة تأثير شعره بمؤثرّات إضافية لها من قوة الإيحاء ما للصوت والظل واللون من تأثيرات. التكبير حيناً والتصغير أحيانا هي كذلك من بين جملة هذه المؤثّرات الضرورية لكل فعل درامي أو تراجيدي في الشعر كما في المسرح.

ركّزَ كلا الشاعرين ـ كما هو الأمرُ مع باقي الشعراء الذين استعاروا أو وظفوا المسيح في نصوصهم ـ على ثلاث مسائل أو على ثلاث صفحات من صفحات سِفر عيسى هما:

1 ـ إكليل الشوك الذي وضعه اليهودُ على رأسه وعذابه مع الصليب الذي حملَ ثمَّ صلبه على الصليب ودق المسامير في جسده

2 ـ قتله ودفنه ثم قيامته من قبره حتى أنَّ قرآنَ المسلمين قال [وقولِهمْ إنّا قتلنا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ اللهِ وما قتلوهُ وما صلَبوهُ ولكنْ شُبّهَ لهمْ وإنَّ الذين اختلفوا فيهِ لفي شكٍّ منه ما لهم به من علمٍ إلاّ اتباعَ الظنِّ وما قتلوهُ يقيناً بل رفعهُ اللهُ إليهِ وكان اللهُ عزيزاً حكيما / الآيتان 157 و158 من سورة النساء].

3 ـ ما قال عن نفسه المسيح وخاصة في إنجيل يوحنا / الإصحاح السادس:

ـ [.. فقال لهم يسوعُ أنا هو خبزُ الحياة. مّنْ يُقبلْ إليَّ فلا يجوعُ ومن يؤمنْ بي فلا يعطش أبداً]

ـ [الحقَّ الحقَّ أقولُ لكم مّنْ يؤمنُ بي فله حياةٌ أبدية]

ـ [أنا هو الخبزُ الحيُّ الذي نزلَ من السماءِ. إنْ أكلَ أحدٌ من هذا الخبزَ يحيا إلى الأبد]

ـ [فخاصمَ اليهودُ بعضُهم بعضاً قائلين كيف يفسّرُ هذا أنْ يعطينا جسدَه لنأكل. فقال لهم يسوعُ الحقَّ الحقَّ أقولُ لكم إنَّ لم تأكلوا جَسَدَ ابنَ الإنسانِ وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم. مَنْ يأكلُ جسدي ويشربُ دمي فله حياةٌ أبديّةٌ وأنا أُقيّمُه في اليوم الأخير. لأنَّ جسدي مأكلٌ حقٌّ ودمي مَشرَبٌ حقٌّ. مّنْ يأكلْ جسدي ويشربْ دمي يَثبُتْ فيَّ وأنا فيهِ. كما أرسلني الأبُ الحيُّ وأنا حيٌّ بالأب فمن يأكلني فهو يحيا بي. هذا هو الخبزُ الذي نزلَ من السماءِ].

بجسد المسيح وبدمه يحيا المؤمنون به إلى الأبد، أي إنهم لا يموتون. المسيح هنا يُضحي بجسده ودمه. هكذا يرى أو يُخيّلُ للبعض أنْ يرى وأنْ يجد نفسه ضحية لفكره الثائر أو التنويري وقُربان إلتزاماته العقائدية والسياسية. الثائر يُضحي بنفسه أو بحريته والكل يعرف الكم الهائل من القتلى والمساجين والمشرّدين من الثائرين والمعارضين السياسيين أو الدينيين على مدى التأريخ المكتوب أو المعروف. هنا يجد بعض الشعراء أنفسهم وهذا خيارهم وعلينا أنْ نحترم خيارات غيرنا.

من هو مسيح السيّاب؟

قصيدة " المسيح بعد الصلب " (1)

نشرتُ نقداً تحليليلاً لهذه القصيدة وقلت فيها إنها تمثّل قمة إبداع السياب الشعري. مَنْ يقرأ هذه القصيدة بتمعنٍ وأناة يخلص إلى أنَّ السياب يخلع المسيح على نفسه ويتلبّسه حتى يرى نفسه المسيحَ ذاته. في المقطع الأول من هذه القصيدة يستحضر السياب مشهد دفن المسيح بعد مقتله فيقول:

[بعدما أنزلوني، سمعتُ الرياحْ

في نواحٍ طويلٍ تسفُّ النخيلْ،

والخطى وهي تنأى، إذنْ فالجراحْ

والصليبُ الذي سمّروني عليهِ طوال الأصيلْ

لم تَمُتْني، وأنصَتُّ: كان العويلْ

يعبرُ السهلَ بيني وبين المدينةْ].

هنا مناحة حقيقية يصوّرها الشاعر بكل ما يختزن في صدره من ألم ومعاناة فأشرك الرياح والنخيل حتى أنَّ عويل الطبيعة ونواحها عبرا السهل الذي يفصله عن المدينة. رياحْ.. نواحْ.. جراحْ.. ثم: النخيلْ.. الأصيلْ.. العويلْ / علامَ هذه الرتابة في التسجيع والتقفية والتسكين.. علامَ تدلُّ؟ ثم إنه وقد أُنزلَ في قبره يعودُ القهقرى لزمن ربطه على الصليب حيّاً قبل مقتله [والصليبُ الذي سمّروني عليهِ طوالَ الأصيلْ.. لم تَمُتني.. ] إذاً ما الذي أماته؟ لا الجراح أماتته ولا الصليب! هناك أمور أخرى قتلته إذاً ولسوف نرى ما هي وهل هي مكائد الشعراء وخيانة الأصدقاء ووشايات الوشاة ثم العلل الجسدية؟

في المقطع التالي لهذه القصيدة نرى المسيح في السيّاب ونرى هذا في ذاك. نقرأ ما قال السياب في هذا الجزء ثم نقارنه بما أستعرتُ للتوِّ مما قال المسيح في إنجيل يوحنّا عن نفسه:

[.. قلبيَ الماءُ قلبي هو السُنبُلُ

موتهُ البعثُ: يحيا بمنْ يأكلُ

*

متُّ بالنارِ: أحرقتُ ظلماءَ طيني، فظلَّ الإلهْ

كنتُ بدءاً وفي البدءِ كان الفقيرْ

متُّ كي يؤكلَ الخبزُ باسمي، لكي يزرعوني مع الموسمِ

كم حياةٍ سأحيا: ففي كلِ حُفرةْ

صرتُ مستقبلاً صرتُ بذرةْ

صرتُ جيلاً من الناسِ: في كلِّ قلبٍ دمي

قطرةٌ منهُ أو بعضُ قطرةْ].

أعيدُ بعض ما قال السيدُ المسيح عن نفسه لتيسير المقارنة على القرّاء الكِرام:

[مَنْ يأكلُ جسدي ويشربُ دمي فله حياةٌ أبديّةٌ وأنا أُقيّمُه في اليوم الأخير. لأنَّ جسدي مأكلٌ حقٌّ ودمي مَشرَبٌ حقٌّ. مّنْ يأكلْ جسدي ويشربْ دمي يَثبُتْ فيَّ وأنا فيهِ. كما أرسلني الأبُ الحيُّ وأنا حيٌّ بالأب فمن يأكلني فهو يحيا بي. هذا هو الخبزُ الذي نزلَ من السماءِ].

لقد مهّدَ بدر شاكر السياب لما قال عن نفسه في هذا المقطع تمهيداً ناجحاً إذْ رجع إلى قرية " جيكور " قريته ومسقط رأسه حيث تُزهر أشجار الفاكهة من توت وبرتقال وتعمُها الخُضرةُ وكلَّ ما يحيط بها حتى الشمس تخضرُّ بل ويخضرّ حتى دُجى جيكور! في هذا الطقس الربيعي الخرافي ينتعشُ قلب الشاعر [يلمسُ الدفءُ قلبي].. يقوم عائداً ثانيةً للحياة ولِمِ لا، أفلمْ يقمْ من قبره قبلهُ المسيحُ؟ قال السياب في هذا المقطع [كنتُ بدءاً وفي البدءِ كان الفقيرْ]. الإنجيل يقول [في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله / الإصحاح الأول، إنجيل يوحنّا]. هذا هو شاعرنا العراقي الجيكوري ومسيحُ نفسهِ كما يرى نفسه في هذه القصيدة. هل يؤمن السياب بمبدأ تناسخ الأرواح فيجد المسيحَ فيه ويرى نفسه في المسيح؟ لم يقلْ الرجلُ ذلك وما كان معروفاً عنه أنه من معتنقي مذهب التناسخ لكنه الشعر ولكنهم الشعراء يقولون ما لا يفعلون وفي كل وادٍ يهيمون!

يتكلم السياب في المقطع الثالث عن قصة خيانة يهوذا له والمقابلة الدرامية التي حصلت بينهما بعد قيامة المسيح. الجديد في أفكار هذا المقطع وصوره البليغة أنَّ السياب جعل من الخائن يهوذا لوح المسيح السالب أو طبعة منه [الإله الشيطان.. ضديد الرب]. قال الشاعر:

[هكذا عُدتُ فاصفرَّ لمّا رآني يهوذا

فقد كنتُ سِرّهْ

كأنَّ ظلاّ قد اسودَّ مني، وتمثالَ فكرةْ]..

أروعُ وأبدعُ ما في هذه القصيدة هو ختامها. سبعة أسطر لخّص فيها السياب محنته الحقيقية في وطنه العراق وما كابد فيه وما عانى. إنه هو المسيح المصلوب قبل موته. وفي موته مخاض المدينة.. مخاض عراق جديد حلم السياب بمبعثه دون طائل.. لم تجده الأجيال التي أتت بعده ولم يجده جيلُ اليوم حتّى!!. قال السياب في هذه الخاتمة:

[بعدَ أنْ سمرّوني وألقيتُ عينيَّ نحو المدينةْ

كِدتُ لا أعرفُ السهلَ والسورَ والمقبرةْ

كان شيءٌ، مدى ما ترى العينُ،

كالغابة المُزهِرةْ

كان، في كلِّ مَرمى، صليبٌ وأمٌّ حزينةْ

قُدّسَ الربُّ!

هذا مخاضُ المدينةْ].

مسيح خليل حاوي (2)

أبدأ مع مسيح خليل حاوي وبما كتب في مقدمة قصيدة " المجوس في أوربا " وهي جزء من ديوانه الأول " نهر الرماد":

[وإذا مجوسٌ من المشرق يتقدّمهم نجمٌ.. ولما رأوا الطفلَ خرّوا له ساجدين].

أخذ حاوي هذا النص من الأناجيل ومنها إنجيل متّى ففي هذا الإنجيل نقرأ ما يلي:

[ولما وُلدَ يسوعُ في بيت لحم اليهودية في أيام هيرُدُوسَ المَلِك إذا مجوسٌ من المشرق قد جاءوا إلى أُورُشَليمَ قائلينَ أين هو المولودُ مَلكُ اليهود. فإننا رأينا نجمةً في المشرق وأتينا لنسجدَ له / الإصحاح الثاني]. هناك فروق في التفاصيل بين هذه النصين لكنَّ جوهر المسألة يبقى واحداً. ربما استعار الشاعر نصه من إنجيل آخر غير إنجيل مَتّى. المهم.. إنَّ حاوي يؤمن بما قالت الأناجيل حول مولد عيسى المسيح إبن مريم إذاً فإنه رجلٌ مسيحي الإيمان. هذا مجرد مُدخل لما سيأتي من قول. كتب خليل حاوي في مقدمة قصيدة " لعازر عام 1962 " من ديوانه الثالث بيادر الجوع ما يلي:

[وذهبت مريم، أخت العازر، إلى حيث كان الناصري وقالت له لو كنتَ هنا لما مات أخي، فقال لها إنَّ أخاكِ سوف يقومُ / إنجيل يوحنا]. هذا كلام كذلك موجود في أناجيل أُخَرَ كما سنرى. معجزة المسيح في إحياء الموتى مذكورة حتى في قرآننا وكما يلي [.. وأُبرئُ الأكمهَ والأبرصَ وأُحيي الموتى بإذنِ الله.. / الآية 49 من سورة آل عمران].

لم يتشبّه هذا الشاعر ـ على حدّ علمي وعلى قدر فهمي لما كتب في دوواينه الشعرية ـ بالمسيح أبداً ولم يحاول التماهي معه كما فعل السيّاب في بعض شعره.

ذكره مجرد ذكر هنا في قصيدة لعازر عام 1962 كما سنرى.

قد يبدو لي أنَّ خليل حاوي يتشبّه بالعازر في هذه القصيدة وهو الرجل الميت الذي أحياه المسيح. هناك إشارات قوية تؤكّد ما ذهبتُ إليه ولكن.. هل عاد حاوي للحياة من بعد موت كما كان حال لعازر ولماذا العام 1962؟ كتب الشاعرُ في بداية هذه القصيدة كلاماً غير قصير مزج فيه السياسة والنضال وسقوط المناضلين بقصة لعازر وأدخل نفسه في هذا المزيج بقوة والأمثلة غير قليلة منها (كنتَ صدى انهيارٍ في مُستهل النضال فغدوتَ ضجيج انهيارات حين تطاولت مراحله.. وماذا؟ لئن كنتَ وجه المناضل الذي انهار في الأمس فأنتَ الوجه الغالب على واقع جيل.. وهكذا وفيما يشبه الحدس، إتحدَّ الحاضرُ بكل زمان، والواقع بالأسطورة فاكتسبتَ اسماً وكان الإسمُ جوهر كيانك: لعازر، الحياة والموت في الحياة، تموتُ القيم في المناضل وتحتقنُ الحيوية فيكونُ الطاغية.. وهذه امرأتكَ تلتقيكَ عائداً من الحُفرة فيتولاها الرعبُ.. كانت تنزعُ إلى كمال وجودي يُشبع النفسَ والجسدَ فخذلتها أنت زوجها الحاقد الميّت وأسعفك الناصريُّ بكماله الملائكي المترفع عن التجربة الحسيّة. لقد امتنَعتْ (أو إمتنعتَ؟ لا وجود للحركات في النص) عن الصلاة لإله لم يعرفْ الجوع ولا الأفاعي المتولدة من شهوة متدافعة مُحتقنة:

ما تُجدي الصلاة

لإلهٍ فمَرَيٍّ ولطيفٍ قَمَري

يتخفى في الغيومِ الزُرقِ في الضوءِ الطري

حيثُ لا يُرعدُ جوعٌ مارجٌ بالزَفَرات].

يتكلم خليل حاوي عن امرأة العازر فهل كان يقصد نفسه وخطيبته التي تركها في لبنان وسافر للدراسة في بريطانيا؟ في ديوانه إشارات غير قليلة حول فتاة تنتظره خصّها بنعت البدوية السمراء! لم يتزوج هذا الشاعر إذاً كان قد خسر تلك الفتاة الخطيبة.. ربما يئست منه وقد طال غيابه فاقترنت بسواه. هنا نحن وجهاً لوجه مع حاوي ـ العازر، الميّت الذي أحياه المسيح " الإله القمري " فمن أحيا خليل حاوي؟ لم تكنْ غيبته في بريطانيا موتاً حقيقياً لكنه موتٌ مجازي.. غياب.. غيبة لا غير. ركزّ خليل في هذه القصيدة كثيراً على زوج العازر فأين المسيح الذي دعوته بمسيح خليل حاوي؟

طويلةٌ هي هذه القصيدة تتكون من 17 مقطعاً تنتشر على الصفحات 307 ـ 362 وقد نظمها في العامين 1961 و1964 كما أشار في آخر هذه القصيدة. لو تتبعنا ما قال حاوي في هذه الأجزاء السبعة عشر لوجدنا فيها شيئاً مما قال في مقدمته لهذه القصيدة. وما دمتُ قد عنونّتُ هذا الجزء من مقالي ب (مسيح حاوي) فلا بأسَ من الإشارة بشكل خاص إلى الجزء العاشر من هذه القصيدة الذي يحمل عنوان " الناصري يتراءى لزوجة لعازر ". لم تلعب زوج لعازر أي دور في بعث زوجها الميت للحياة ثانية إنما أخته مريم هي التي طلبت من المسيح أنْ يُحيي أخاها قائلة له [لو كنتَ هنا لما مات أخي]. فلماذا الأخت وليست الزوجة؟ إستشرتُ الشاعرة السيّدة جوزيه حلو في أمر مريم وزوج لعازر ثم الخضر فأرسلت لي مشكورةً فيديو يستعرض بشيء من التفصيلات وجود ثلاث مريمات هنَّ: مريم المجدلية ومريم الخاطئة ثم مريم الزانية (في الحقيقة إنهنَّ أربع نساء ولسن ثلاث لم تحمل منهنَّ إسم مريم إلاّ واحدة هي أخت لعازر). تيسيراً للأمور رأيتُ أنْ أضعهنَّ حسب ورود ذكرهنَّ في الأناجيل بالتسلسل ليسهل على القرّاء الكرام متابعة الموضوع الشائك قليلاً:

1 ـ عن المرأة الزانية قال المسيح وسط جمعٍ من شانئيها [مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمِها أولاً بحجر / الإصحاح الثامن من إنجيل يوحنا]. لم يذكر هذا الإنجيل اسم هذه المرأة الزانية فكيف يُنسب لها اسم مريم؟ نقرأ في إنجيل يوحنا الصفحة 161 ما يلي [وقدّمَ إليه الكَتَبةُ والفريسيون امرأةً أُمسكت في زنا. ولما أقاموها في الوسط قالوا له يا مُعلِّمُ هذه المرأةُ أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل]. لم تسكب هذه المرأةُ على رأس المسيح عطراً ولم تمسح قدميه بدموعها وشعر رأسها لذا فإنها لا تُشكّلُ معضلة أو إشكالات بخصوص من هي مريم المجدلية وهل هي المرأة الخاطئة أم لا.

2 ـ أما المرأة الخاطئة فقد ورد ذكرها في إنجيل لوقا، الإصحاح السابع وكما يلي [.. وإذا امرأةٌ في المدينة كانت خاطئةً إذْ عَلِمتْ أنه مُتكئٌ في بيت الفريسي جاءتْ بقارورة طيبٍ ووقفت عند قدميه من ورائه باكيةً وابتدأتْ تبلُّ قدميهِ بالدموعِ وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتُقبّلُ قدميهِ وتدهنهما بالطيب / الصفحة 105]. كذلك لا نجد اسماً لهذه المرأة الخاطئة فمن كانت؟

3 ـ أزيد فأذكر ما قرأتُ في إنجيل متّى [وفيما كان يسوعُ في بيت عَنْيا في بيت سِمعان الأبرص تقدّمتْ إليه امرأةٌ معها قارورةُ طيبٍ كثيرِ الثمن فسكبته على رأسه وهو مُتكئٌ / الإصحاح السادس والعشرون، الصفحة 48].

4 ـ وفي إنجيل مرقس رواية أخرى عن امرأة أخرى بلا اسمٍ لم يقل عنها زانية ولا خاطئة فمن كانت؟ [.. وفيما هو في بيت عَنيّا في بيت سمعان الأبرص وهو مُتكئٌ جاءت امرأةٌ معها قارورةُ طيب ناردين خالص كثير الثمن فكسرتْ القارورة وسكبته على رأسه / الإصحاح الرابع عشر، الصفحة 82 من إنجيل مرقس]. هذه الرواية، رواية مرقس، شبيهة في مضمونها برواية إنجيل متّى في الفقرة 3 السالفة الذِكْر سوى فرقين هما تسمية العطر بطيب ناردين ثم كسر القارورة.. هنا كسر وهناك سكبٌ حَسْبُ. أستنتج أنَّ هذه المرأة هي تلك.

منْ هي المرأة الخاطئة إذاً؟ نجد هذه المرأة في إنجيل لوقا فقط من دون بقية الأناجيل! إنها تشترك مع المرأتين الأخريين بسكب العطر ومسح قدمي المسيح بالدموع وبشعر الرأس!

5 ـ أما أُخت لعازر وقد ورد ذكرها في إنجيل يوحنا وكما يلي [وكان إنسانٌ مريضاً وهو لعازر من بيت عَنيا من قرية مريم ومرثا أُختها. وكانت مريم التي كان لعازر أخوها هي التي دهنتْ الربَّ بطيبٍ ومسحتْ رجليهِ بشعرها.. / الإصحاح الحادي عشر، الصفحة 168 من إنجيل يوحنا]. مريم أخت لعازر دهنتْ الربَّ بطيب ومسحتْ رجليه بشعرها. لم يقلْ هذا الإنجيلُ عن هذه المريم إنها زانية أو خاطئة.

أمامنا ثلاث مناسبات إذاً دهنت فيها ثلاث نساءٍ عيسى المسيح بطيب ثمين ومسحن قدميه بشعورهنَّ لم نعرف منهنَّ إلاّ مريمَ أخت لعازر فمن كنَّ الباقيات يا تُرى؟ هل هنَّ جميعاً مريم هذه بعينها أخت لعازر مريم المجدلية؟ وهل هذه هي المرأة الخاطئة التي ذُكرها إنجيل لوقا؟

من قصيدة خليل حاوي فهمنا أنَّ مريم أخت لعازر هي مريم المجدلية. لكنْ لا الأناجيل قالت ولا خليل حاوي قال من هي زوج لعازر وما اسمها؟

تكرر في الأناجيل ورود اسم مريم المجدلية مقرونا بحضورها بعض المناسبات مع مريم والدة المسيح لذا يعتبرها البعض امرأة مقدّسة لا علاقة لها بالنساء الباقيات. أية مريم سألت المسيح بالإشارة أنْ يُقيم أخاها من عالم الموتى؟ قطع خليل حاوي الشكَّ باليقين إذْ أفرد جزءاً خاصاً للمجدلية تحت الرقم 11. فمريم أخت لعازر إذاً ـ حسب خليل حاوي ـ هي مريم المجدلية. كما أنه ذكر مريم بالجمع في الجزء الثاني عشر الذي يحملُ عنوان " تنّين صريع " [يرتعي جلجلةَ الصلبِ ويرمي في جروحِ الناصري وجروح المريمات / الصفحة 345 من الديوان]. حتى هنا وضعنا حاوي أمام إشكالية أخرى إذْ نسب خطاب مرثا للمسيح لأختها مريم فقد قال في مقدمة قصيدة لعازر عام 1962 ما يلي [وذهبتْ مريمُ، أخت لعازر، إلى حيثُ كان الناصري وقالت له لو كنتَ هنا لما مات أخي فقال لها إنَّ أخاكِ سوف يقومُ]. في حين نقرأ في إنجيل يوحنا ما يلي [فلما سمعت مرثا أنَّ يسوعَ آتٍ لاقتهُ. وأما مريمُ فاستمرّتْ جالسةً في البيت. فقالت مرثا ليسوع يا سيّد لو كنتَ ههنا لم يمتْ أخي / الصفحة 169 الإصحاح الحادي عشر]. لكنْ وفي نفس هذه الصفحة نقرأ لاحقاً ما يلي [.. فمريمُ لما أتتْ حيثُ كان يسوعُ ورأتهُ خرّتْ عندَ رجليهِ قائلةً له يا سيّدُ لو كنتَ ههنا لم يمُتْ أخي]. أين الحقيقة أم صرنا لا نُعيرُ حقائقَ الأمور الأهمية التي تستحق! هل على الشعراء الإلتزام التام بنصوص ما يستشهدون به؟ جوابي نعم.. إذا كانت هذه الإستشهادات دينية أو تأريخية. وما عدا ذلك فإنهم أحرار.. في كل وادٍ يهيمون. فيما عدا هذين الإستثنائين لهم حرية التصرف بالنصوص مجازاً أو إشارة أو لفتةً أو صورة وحركة ما داموا يقولون شعراً يتوخون فيه إبداعاً.

الحضورُ الأقوى في قصيدة لعازر عام 1962 هو لزوج العازر.. ثم يأتي حضور خليل حاوي نفسه مساوياً لحضور زوج لعازر ولكنْ من خلف مرآة.. إنه يقف خلف مرآة الأحداث لا أمامها ليعكس على وجهها ما يُريد ويُخفي ما لا يُريدُ. ثم يأتي وجود الناصري عيسى المسيح مُنقذاً للعازر إذْ بعثهُ من الموت حيّاً أولاً ثم إنه يشارك كلاًّ من لعازر وخليل حاوي نفسه محنة الظمأ الجنسي والعجز التام عن ممارسته وأنا أتحملُ مسؤولية هذا الكلام! كانت زوج لعازر أكثرهم توقاً للجنس ومثلَّ الجنسُ العمودَ الفقري لكل ما ورد من أجزاء في هذه القصيدة بدءاً وانتهاءً. هل أنصاعُ لإغراء الجنس في قصيدة حاوي وأنساق مع منزلقاته ودرابينه فأتتبعه مليّاً وبأناة وصبر أكبر من صبر أيوب؟ أم أتجه لمسائل أخرى أكثر أهمية ولا أغفل ذكر ما وجدتُ من عيوب في هذه القصيدة؟

في الجزء الأول من قصيدة لعازر عام 1962 " حُفرة بلا قاع " يتشبث هذا الرجل الميّت بالبقاء في قبره ميّتاً [عمّقْ الحفرةَ يا حفّارُ عمّقها لقاعٍ لا قرارْ.. لُفَّ جسمي لُفّهُ حنّطهُ واطمرهُ بكلسٍ مالحٍ، صخرٍ من الكبريتِ، فحمٍ حجري]. في الجزء الثاني " رحمة ملعونة " نراه يٌشكك في قدرة المسيح على بعثه حيّاً فيقول [صلواتُ الحبِّ والفِصحِ المغنّي في دموعِ الناصري.. أتُرى تبعثُ ميْتاً حجّرتهُ شهوةُ الموتِ تُرى هل تستيطعْ.. أنْ تُزيحَ الصخرَ عنّي والظلامَ اليابسَ المركومَ في القبرِ المنيعْ.. رحمةٌ ملعونةٌ أوجعُ من حُمّى الربيعْ.. صلواتُ الحبِّ يتلوها صديقي الناصري.. كيف يُحييني ليجلو عَتمةً غُصّتْ با أختي الحزينةْ دون أنْ يمسحَ عن جَفنيَّ حُمّى الرعبِ والرؤيا اللعينةْ]. سيعيد الشاعر ذكر هذه الرؤيا فأية رؤيا عناها يا تُرى؟ وعلى نهجه الذي خبرتُ أقولُ: يقفز خليل حاوي في طفرة غريبة تُفاجئنا بغرابتها حيث لا من صلة تربطها بما تقدّم ولا من علاقة لها بما سيأتي من كلام. أعني قوله في هذا المقطع وبشكل مفاجئ [الجماهير التي يعلكها دولابُ نارْ]! إنه كذلك سيكرر هذا الكلام مِراراً ويضيف له كلاماً آخرَ يبدو وكأنه مُقحَمٌ إقحاماً لا مبررَ له إلاّ ما في رأس الشاعر من خواطر وتداعيات وأخيلة لا نراها فهي غامضة بالنسبة للقارئ. ففي الجزء الثالث التالي يقولُ حاوي [الجماهير التي يعلكها دولابُ نارْ / مَنْ أنا حتّى أردَّ النارَ عنها والدوارْ.. عمّقْ الحفرةَ يا حفّارُ عمّقها لقاعٍ لا قرارْ].

الجزء الرابع ـ زوجةُ لعازر بعد أسابيع من بعثه ـ خصصه حاوي وبالكامل لموضوع الجنس حرماناً واشتهاءً مازجاً الكل بالكل! واضحة كانت زوج لعازر في هذا الجزء وصريحة وأقوالها مرآة ما في نفسها من شوق عارم للجنس مع رجل كان قد فارقها بموته لكنه عاد إليها أو أُعيد إليها بإحدى قدرات المسيح (الخارقة!). حقق لها بعض ما كانت تُريد ولكنْ إلى حين.. فسيفارقها ويتركها تقاسي مرارة الحرمان الجنسي. مقتطفات مما ورد في هذا الجزء الرابع [كان ظلاً أسوداً ـ كذا كتبها حاوي ـ يغفو على مرآةِ صدري.. زورقاً ميْتاً على زوبعةٍ من وهجِ نهديَّ وشعري.. كان من حينٍ لحينٍ يعبرُ الصحراءَ فولادٌ مُحمّى، خِنجرٌ يلهثُ مجنوناً وأعمى.. نَمِرٌ يلسعهُ الجوعُ فيُرغي ويهيجْ.. يلتقيني عَلَفاً في دربهِ أنثى غريبةْ.. يتشهّى وَجعي، يُشبعُ من رعبي نيوبهْ.. كنتُ أسترحمُ عينيهِ وفي عينيَّ عارُ امرأةٍ أنّتْ، تعرّتْ لغريبْ.. ولماذا عادَ من حفرتهِ ميْتاً كئيبْ.. غيرُ عِرقٍ ينزفُ الكبيرتَ مُسوّد اللهيبْ]. لعازر رجلٌ غريب بالنسبة لزوجه فقد فرّقهما الموت فكيف تتعرى لغريب وتمارس الجنس معه؟ أرى خطيبة خليل حاوي تتكلم عن نفسها هنا! يفاجئنا الشاعر بمضمون الجزء الخامس وعنوانه " زُخرف " إذْ هو نقيض مضمون الجزء الرابع. هنا نحن مع فرح وبهجة وعيد لمناسبة عودة لعازر لزوجه من الموت. لا تسعها فرحتها فتُهرَعُ لجارتها وتفتح لها قلبها وتُسرف في التعبير عن بهجتها بقدوم لعازر. أعتقد كان من المفروض أنْ يقدّمَ الشاعرُ هذا الجزء على الجزء الرابع لا أنْ يضعه بعده. نقرأ ونفرح مع هذه المرأة [جارتي يا جارتي لا تسأليني كيف عادْ.. عادَ لي من غربة الموتِ الحبيبْ.. حَجَرُ الدارِ يُغنّي وتغني عَتَباتُ الدارِ والخمرُ تغني في الجِرارْ.. وستارُ الحزنِ يخضرُّ ويخضرُّ الجدارْ.. عند باب الدارِ ينمو الغارُ، تلتمُّ الطيوبْ.. حتى يختتم الشاعرُ هذا الجزء بتكرير ما سبق وأنْ قال [وحبيبي كيف عادْ.. عادَ لي من غُربةِ الموتِ الحبيبْ.. كنتُ أسترحمُ عينيهِ وفي عينيَّ عارُ امرأةٍ أنّتْ، تعرّتْ لغريبْ.. ولماذا عاد من حفرتهِ ميّتاً كئيبْ.. غيرُ عِرقٍ ينزفُ الكبريتَ مسوّد اللهيبْ].

الجزء السادس: الخضر المغلوب. لا أعرف من هو الخضرُ في التراث والدين المسيحي لكني أعرف أنَّ أهالي جانب الكرخ من بغداد وفي يوم معين أو مناسبة معيّنة يُسرّحون في ماء دجلة شموعاً طافيةً على ألواح خشبية يسمونها شموع خضر الياس. كما دأب بعض العراقيين على القول: إذا ذٌكرَ اسمُ الخضر يخطف فوراً ولكنْ لا من أحدٍ يراه! ما علاقة خضر خليل حاوي بشخوص قصيدته هذه وخاصة زوج لعازر بطلة هذه القصيدة الملحمية بامتياز؟ ربط الشاعر هنا بين هذا الخضر وزوج لعازر الممزقة بين حضور وغياب زوجه وبين الجنس والحرمان منه. ثم لماذا مغلوبٌ هذا الخضر وهل هو نسخة أخرى لخليل حاوي نفسه؟ تقول زوج لعازر وليتني أعرف اسمها:

[ولماذا لم يَعُدْ يشتفُّ ما في صدريَ الريّانِ من حبٍّ تصفّى واختمرْ.. غيمةٍ تُزهرُ في ضوء القمرْ.. وسريرٍ مارجٍ بالموجِ من خمرٍ وطيبْ.. جنّةِ الفُلكِ على حمّى الدوارْ.. طالما عادَ إلى صدري مِرارْ.. عادَ مغلوباً جريحاً لن يطيبْ.. ومدى كفّيهِ أشلاءٌ من الحقِّ مدى جبهتهِ أشلاءُ غارْ: حلوةٌ جُرّتْ إلى التنّينِ جُرّتْ، دُمِغتْ للموتِ وانهارتْ تعانيهِ انتظارْ.. مِخلبٌ ذوّبَ سيفي غاصَ في صُلبِ الحَجَرْ.. مخلبٌ في كَبِدي مِعولُ نارْ.. وعلى الشاطئِ طفلٌ ناصريٌّ يغرسُ البلسمَ في دنيا القرارْ]. في هذا الجزء إغتصاب لفتاة وأسوأ من هذا الإقحام القصدي لمفردات قلقة في المواضع التي وظّفها الشاعرُ فيها. أحسبُ أنَّ القارئ المتمهّل والمتمعّن يدرك قصدي ويشاركني هاجسي فالشعرُ ليس اعتسافاً وإقحاماً للمفردات إما سدّاً لفراغ أو ضعفاً أمام شروط الوزن والإيقاع والقافية. الأمثلة كثيرة أدعو القرّاء الكرام إلى التنبّه لها ومشاركتي جزعي من هذه الظاهرة في الشعر عامةً وفي شعر حاوي على وجه الخصوص. أعترفُ أنَّ لدى خليل حاوي قدرة على تمرير هذه الهفوات وقدرة أخرى على جعل قارئه يعتقد أنَّ الأمور ماضية على ما يُرام ولا من افتعال ولا تعسف ولا إقحام. أعزو ذلك إلى تمهل حاوي في نشر أشعاره ووقوفه معها لزمن غير قصير يُعيد النظر ويمحّص ويبدّلُ ويفكّر ثم يُسلّم أمره لقوة أغراء النشر.

ماذا نجد في الجزء السابع بعنوان " عُرس المغيب "؟ ما زال حاوي يلف ويدور حول موضوع الجنس فالعرس زواج والزواج ممارسة جنس منذ ساعاته الأولى.

[ما جنونُ الدُخنةِ الحمراءِ في فجوةِ جُرحٍ لن يطيبْ.. لجريحٍ يتلاشى في سريرِ الموجِ من خمرٍ وطيبْ.. تلتقيهِ الشمسُ في عُرسِ المغيبْ.. مُبحرٌ سكرانُ ملتفُّ بزهو الأرجوانْ.. عبثاً ترغي وترغي خلفه أشداقُ جانْ.. ] ثم يعود فيكرر ما سبق وأنْ قال في أجزاء أخرى من قبيل [صدرُكِ الريّانُ من جمرٍ ومن خمرٍ وطيبْ.. طالما طيّبَ مغلوباً جريحاً لن يطيبْ] ثم يتابع فيكرر [كنتُ أسترحمُ عينيهِ وفي عينيَّ عارُ امرأةٍ أنّتْ تعرّتْ لغريبْ.. ولماذا عادَ من حفرتهِ ميّتاً كئيبْ.. غيرُ عرقٍ ينزفُ الكبريتَ مُسوّدَ اللهيبْ]. للفظة الكبريت تأثير قوي على الشاعر حتى أنّا نجدها مراراً في متن ديوانه هذا. للتكرير دلالات كثيرة ومقاصد شتّى بعضها مستساغ ومُبرر أو حتّى له ضرورات تقتضيها حاجة الشاعر النفسية التي لا تخلو من بعض السادية.. أعني أنَّ الشاعر يفرض على غيره بالقوة، قوة التكرير، نزعاته الخاصة وما في نفسه وخواطره وتجاربه من حاجات تعنيه وقد تؤرّقه وتُضنيه فيتخلص منها بترحيلها للأخرين وما الأخرون إلاّ قرّاء شعره.

في الجزء الثامن " زوجة لعازر بعد سنوات " توترات وإحباطات إخالها تعود أساساً للشاعر نفسه. ثم في هذا المقطع ألفاظٌ وتراكيب لغوية خشنة لا تنتمي للشعر بصلة من قبيل: (أُداري حيّةً تُزهرُ في جرحي وترغي) فالجمع بين الحية والإزدهار أو الإزهار مسألة لا يسيغها الذوق الشعري. ثمة مثال آخر (إمسحي الميّتَ الذي ما بَرِحتْ.. تخضرُّ فيه لحيةٌ، فَخِذٌ وأمعاءٌ تطولْ، جاعت الأرضُ إلى شلاّلِ أدغالٍ من الفرسانِ فرسان المغول). لا أعرف ما مبرر اللجوء إلى توظيف مثل هذه الكلمات والصيغ اللغوية الغريبة على لغة وروح الشعر؟ ثم ما مناسبة الكلام عن شلال أدغالٍ من فرسان المغول؟ على كل حال.. خليل حاوي قادر على تمرير ما يحلو له من ألفاظ وجُمل تستجيب لحاجاته النفسية وتتوائم مع ما يعاني من ذكريات أقل ما يقال عنها إنها ذكريات فيها مرارة على أكثر من صعيد. إنه ليس من شعراء الباطن لكنه من بين شعراء ذكريات النفس المجروحة المُبتلية ببعض العلل والأصداء الأليمة الغائرة في أعماق روح هذا الشاعر. فكره وشعره متعددا المستويات حتى ليخيّل لي إنه يقول شيئاً ويعني أشياءَ أُخرَ لا يستطيعُ القارئ متابعتها حتى لو جرى وبذل المجهود المطلوب. إنه ظاهرة أكادُ أقولُ أنْ لا مثيل لها في الشعر العربي المعاصر. شعره ثقيل الوزن بعيد المرامي يمكن تأويله بشتى الوجوه لكنْ يظل عصيّاً على الإمساك وإنْ بدا واضحاً رغم تعرّج مساراته وتشعب أهدافه وما يتخذ من مسارب عويصة مربوطة بإحكام وحَنَكة واقتدار رجل مفكّر ثم شاعر لا يمثل إلاّ نفسه. أضربُ مثلاً من توظيفه للمغول في مناسبة لا علاقة لها بهؤلاء البرابرة الموغلين بالقسوة ونحن نعرف حجم التخريب والدمار اللذين أوقعوهما في العالم العربي والإسلامي بدءاً بتدمير الإسماعليين وحصنهم في قلعة الموت في إيران قبل وصولهم إلى عاصمة الخلافة بغداد وما فعلوا فيها وبالخليقة المستعصم بالله. هل كان قصده أنَّ النساء سبايا للرجال الغزاة كما كنَّ سبايا لجند المغول حين غزو الشرق؟ زوج لعازر ليست سبيّة وليس فيمن حولها مغول أو رجال قساة برابرة! أم أنه أشارَ إلى عمق العطش الجنسي لدى هذه المرأة المترملة بحيث لا يرويها منه إلا كتائب وجيوش جرّارة من رجال متوحشين عطشى مثلها للجنس؟ أم أنه أراد القولَ إنَّ نساء الشرق سبيّات وضحايا غزو خارجي أو داخلي وأنهنَّ في كافة الأحوال مستباحات ومعرّضات للإغتصاب القسري من قبل زوج أو رجل غريب؟

الناصري يتراءى لزوجة لعازر

يحمل الجزء العاشر من هذه القصيدة عنوان " الناصري يتراءى لزوجة لعازر ".

لماذا يتراءى المسيح لزوج لعازر وبأية هيئة وكيفية ثمَّ كيف كان هذا اللقاء الرؤيوي؟ الناصري مثل زوجها كلاهما عاجز جنسياً فما جدوى استدعائه.. أليضيف إلى جوعها للجنس بُعداً آخرَ من شأنه تعميق جروحها ويشدد من توقها لممارسة الجنس مع رجل؟ أين معجزات هذا الناصري إذاً؟ جمع خليل حاوي في هذا الجزء ـ فضلاً عن جوعه هو وحرمانه وعجزه ـ جوع لعازر وزوجه ثم عجز المسيح المعروف. أربعة جياع يعانون من عجز أو من ظمأ جنسي مزمن فما عسى أنْ يفعل الناصري العاجز لإمرأة تعاني وتعاني من جوع للجنس وظمأ قاتل؟ تتكلم زوج لعازر:

[سوف أحكي

وأعرّي جوعَ صحرائي وعاري

سوف أحكي

قبل أنْ يطردهُ ديكُ الصباحْ

وتملَّ القيدَ والمعلفَ أفراسُ الرياحْ

جئتني الليلةَ ممسوحاً رمادياً

وطيفاً يتراءى عَبرَ وهجِ الحسِّ حيناً ويتيهْ

كنتَ طيفاً قبلَ أنْ يمتصّكَ القبرُ السفيهْ

عبثاً لن أدفعَ الإصبعَ في فجوةِ جُرحٍ تدّعيهْ

.. إنْ تكنْ جَوعانَ حدّقْ

ما غريبٌ أنْ يجوعَ الطيفُ،

أنْ تكسرَ كفّاهُ الرغيفْ

أسهرُ الليلَ أُعدُّ الزادَ للموتى الطيوف]..

لفت نظري هنا توظيف خليل حاوي لأحد مشاهد مسرحية وفيلم هاملت (3)، أعني ظهور شبح والد هاملت القتيل لبعض حرّاس القصر الملكي ولولده الأمير هاملت فوق سطوح قلعة ألسينور في الدنمارك ثم اختفاء هذا الشبح مع صياح ديك الصباح. المسيح هنا هو الطيف ـ الشبح بدل والد هاملت. كلاهما قتيل، ذاك الملك بالزئبق مصبوباً في أذنه وهذا [ملك اليهود] قتيل التعذيب ثم الصلب. مليكان مقتولان. طريفة هي توريات وكنايات واستعارات وإشارات خليل حاوي في مقاربته لموضوع ممارسة الجنس الذي تبغي زوج لعازر حيث تقول [عبثاً لن أدفعَ الإصبعَ في فجوةِ جرحٍ تدّعيهْ.. إنْ تكنْ جوعانَ حدّقْ.. ما غريبٌ أنْ يجوعَ الطيفُ، أنْ تكسرَ كفّاهُ الرغيفْ].

مَنْ منا لا يعرف معنى ومغزى " كسر الرغيف "؟

11 ـ المجدلية:

هناك روايات وتكهنات تفيد بأن مريم المجدلية كانت تعشق المسيح وكان هو بدوره يستلطفها ويدعُها تطيّب قدميه بالعطور الثمينة وتمسحهما بشعر رأسها وربما بدموعها.. وكان ينتهر الذين كانوا يطردونها ويمنعونها من إتيان ما كانت تفعل مع المسيح وما كانت تقدم له. هنا إذاً نحن مع مشاهد ومقامات جنس صريح لكن البطلة ليست زوج لعازر إنما مريم المجدلية التي أحيا المسيح أخاها لعازر. كانت هناك مجرد رؤيا تراءت للأرملة المحرومة، والرؤيا حلم والأحلام طريق التنفيس عمّا نكبت من رغبات جنسية وغير جنسية ومنها الإستحلام ليلاً في ساعات النوم العميق! كانت الأرملة تحلم.. يتراءى لها.. تتمنى.. ولما غاب زوجها لعازر عنها ـ أو أنه عجز عن ممارسة الجنس معها ـ التجأت للناصري المُنقذ تتمناه وتغازله وتغريه ولكن.. لا حياةَ لمن تنادي! أنقذ زوجها من الموت لكنه عاجز عن إنقاذها مما هي فيه من محنة. المشهد المثير الجديد لا تلعب فيه الزوج المحرومة أي دور إنما المسرح مكرّس لسيّدة أخرى لا أحد يدري أكانت متزوجة أم لم تكنْ. هل كانت هي المرأة الزانية أو المرأة الخاطئة؟ وَلعُها بالناصري مبرر أنه أحيا أخاها من موته بعد أنْ توجهت وأختها مرثا بالرجاء له في أنْ يعيد للحياة أخاهما. مرةً أخرى يعالج الشاعر هذه الموضوعة معالجة جنسية " فرويدوية " درامية والشاعر قادر على ذلك. نقرأ ما قالت مريم المجدلية في هذا الجزء:

[يومَ أنّتْ مريمٌ، يومَ تداعتْ

زحفتْ تلهثُ في حُمّى البوارْ

وأزاحتْ عن رياحِ الجوعِ في أدغالها صمتَ الجدارْ

وسواقي شعرها انحلّتْ على رجليكَ جمراً وبهارْ

لم يُعكّرْ صحوَ عينيكَ التماعُ السوطِ والحيّةِ في صُلبِ الذَكَرْ

مرَّ في الصحو ملاكٌ وانطوى يدمعُ في ظلِّ القمرْ

حيثُ لا يرعدُ جوعٌ مارجٌ بالزفراتْ

كنتَ طيفاً قمرياً وإلهاً قمري

كنتَ ثوباً غائماً يعبقُ بالضوءِ الطري

يتمشى في جروحِ المريماتْ]

مريم المجدلية تئنُّ هنا زاحفةً لاهثةً محمومةً تسعى نحو الناصري وتجثم تحت قدمية طالبةً عوناً جنسياً منه يدفع عنها نيران جوعها الجنسي ولكن.. لا توسلاتها أجدتْ ولا تمسيد قدميه بطويل شعرها شفعَ لها ونفع إذْ بقي الرجل الماثل أمامها صافي العينين ثابت الجنان لم تتحرك فيه أدنى رغبة فيها. تفهّمت المجدلية موقف الناصري هذا وعزّتْ نفسها به فهذا الرجل ملاكٌ وطيفٌ قمريٌّ لا يجوع ولا يزفرُ ويظلُّ ضوءاً أو حلماً بالنسبة لكافة النساء من شاكلة مريم هذه. يظل حسرة وأمنية في نفوسهنَّ.

12 ـ تنّين صريع:

في هذا الجزء جنس صريح صارخ وضع الشاعرُ فيه كل ما يملك من طاقات ومواهب وقدرات جسدية وشعرية بل وكل ما كان يتمنى ويريد أنْ يلعب أدوار رجل مع أُنثى.. إنها صرخة خليل حاوي نفسه أعارها تارة لنساء جوعى وتارة أخرى للناصري لكنه كان هناك بينهم واضحاً وبقوة وإنْ لم يذكر اسمه أو حتى أنْ يُشيرَ له مجرد إشارة. نقرأ بعض ما جاء في هذا الجزء:

[تنطوي صحراءُ ساقيَّ على غصّاتِ شمسٍ تتلوّى

في ظلامٍ حَجري

تمخرُ الغصاتُ في ساقيَّ أليافَ الخلايا والجذورْ

الدُخْانُ الموحلُ المحرورُ يجري من غصوني وثماري

في أهازيجِ البراري ويدوّي في بخورِ الصلواتْ

يرتعي جلجلةَ الصلبِ

ويرمي في جروحِ الناصري

وجروحِ المريماتْ

حسرةَ الأنثى تشهّتْ في السريرْ

مهّدتْ صهوةَ نهديها

تهاوتْ زورقاً يلهثُ في شطِّ الهجيرْ

خلفَ بعلٍ لا يُجيرْ

من بهارِ الهندِ والفلفلِ قطّرتُ رحيقهْ

في مروجِ الجمرِ مرّغتُ عروقهْ

كان عَبْرَ السأَمِ المحمومِ يمتدُّ الصقيعْ

ميّتاً خلّفتُهُ في الدارِ تنّيناً صريعْ

يعصرُ اللذةَ من جسمٍ طريٍّ

ويروّي شهوةَ الموتِ وغلّهْ

ليس يشتفُّ سوى العُهرِ

متى انحرّتْ له الجنّاتُ في أعضاءِ طفلةْ]..

كرر خليل في هذا الجزء ما كان قد ختم به الجزء السابق الرقم 11، أعني " جروح المريمات ". يعرف خليل إذاً أنَّ هناك أكثر من مريم واحدة وقد سبق وأنْ عدّدتُ أربع مريمات ووصّفتهن كما وردن في الأناجيل فأية مريمات في رأس الشاعر، جميعهنَّ أو البعض منهنَّ؟ يبدو لي أنهنَّ سواء بالنسبة للشاعر لا من فرق بين هذه المريم وتلك فجميعهنَّ في محنة وأزمة جنسية مزمنة وحادّة هي كالجروح تماماً سوى أنَّ هذه جروح لا تندملُ ولا تشفى مثل باقي الجروح.

13 ـ لذّة الجلاد:

يخرج خليل حاوي في هذا الجزء عن السياق العام المهيمن لقصيدة لعازر عام 1962 ليعالج موضوعاً آخر فيه تأريخ قديم كما فيه سياسة معاصرة. أرى أنه مازج بين قصة التآمر على الناصري وتحريض كل من " هيرودس " و" بيلاطس " على قتله كما ورد في الأناجيل.. وما يجري اليوم وفي زمان الشاعر من مؤامرات وخيانات للأوطان ومن عملاء للمستعمرين ومتعاونين معهم. يمكن تلخيص هذا كله ببضعة أسطرٍ مما ورد في هذا الجزء فيها كفاية وغناء عن الشروح الطويلة:

[.. سوف لن يحكي: رفاقُ العمرِ

غربانُ الضميرْ

وجواسيسُ السفيرْ].

يُخيّلُ لي أنَّ الشاعر قد تعب أو ملَّ ما طرق من موضوعات في هذه الأجزاء من قصيدته الطويلة فشرع يُعيد ويكرر بعض ما سبقَ وأنْ قالَ وبعض هذا البعض مُبرر ولكن ليس جميع ما أعاد وكرر. يظلَّ الحرمان الجنسي المحور الرئيسي الأساس والعمود الفقري لهذه القصيدة فما أعمق جرحك يا خليل؟ أراه أكثر عمقاً من جروح المريمات جميعاً!

في الجزء 14 الذي يحمل عنوان " الجيب السحري " قال حاوي:

[غيبيني وامسحي ظلّي

وآثارَ نعالي

يا ليالي الثلج، فيضي يا ليالي

إمسحي ظلّي أنا الأنثى

تشهّتْ في السريرْ

خلفَ بعلِ لا يُجيرْ

مارداً عاينتهُ يطلعُ

من جيبِ السفير]..

ما مناسبة إقحام السفير في علاقة متأزمة بين زوجين هما لعازر وزوجه التي نجهلُ اسمها؟ هذه تتشّهى في السرير فهل يسعفها سفيرُ بلدٍ أجنبيّ؟ هل استباحت بسفيرها أمريكا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي جميع نساء لبنان؟ هل غدا لبنان منزل دعارة للأمريكان؟ أمريكا إذاً هي الحل وهي العلاج والعقار لكل ما فينا من علل في مقدّمتها الحرمان الجنسي الذي يعاني ناس الشرق الأوسط منه.

15 ـ الإلهُ القَمَريُّ:

عودة للأله القمري.. يحمل الجزء 15 عنوان الإله القمري وهو الناصري. كرر حاوي في هذا الجزء قوله في الجزء 14 [غيّبيني وامسحي ظلي وآثار نعالي..

يا ليالي الثلجِ فيضي يا ليالي.. إمسحي ظلي أنا الأنثى بكتْ صلّت وصلّت.. ]. إمسحي ظلّي وآثارَ نعالي.. لقد سبق المتنبي الشاعرَ خليل حاوي في موضوع مسح أو نفض النِعال في مواقف الفرقة أو التوديع وخاصة توديع الموتى إذْ قال المتنبي في رثائه لوالدة سيف الدولة الحمداني:

ولا مَنْ في جَنازتها تِجارٌ

يكونُ ودَاعُها نفضُ النِعالِ

تقول زوجُ لعازر:

[ما تُرى تُغني دموعي والصلاةْ

لإلهٍ قَمَريٍّ ولطيفٍ قمري

يتخفّى في الغيومِ الزُرقِ في الضوءِ الطري

حيثُ لا يُرعدُ جوعٌ مارجٌ بالزَفَراتْ].

لماذا كرر في هذا الجزء ما سبقَ وأنْ قال في الجزء الذي سبقه؟ أرى أنْ لا من ضرورة مُلحّة أو حاجة قصوى لهذا التكرير فالتكرير هنا مملٌّ وثقيل ولا يمثلُّ فتحاً شعرياً جديداً يُغني مجمل القصيدة أو يطوّرها أو يُضفي إليها أبعاداً مُغرية تعمّق دراما أحداثها. الناصري مجرد (إله قمري يتخفى في الغيوم الزُرق في الضوء الطري حيث لا يُرعدُ جوعٌ مارجٌ بالزفرات). هذا ما قرأناه في الجزء الحادي عشر تحت عنوان " المجدلية ". أكدَّ الشاعرُ مرتين على حقيقة عجز الناصري عن ممارسة الجنس تعففاً أو لعلّة جسدية فيه. فهو يتهرب متخفيّاً بين غيوم السماء العالية حيث لا من جنسٍ ولا اشتهاء جنسي ولا جوع. كانت بعض قبائل العرب زمن الجاهلية تعبد القمرَ إلهاً فهل هذا ما عناه خليل حاوي؟ هناك عبادة لشيء لا وجودَ له أما هنا فنبيٌّ موجود اسمه عيسى بن مريم فالإلهان القمريان مختلفان ولو أنَّ مؤرّخين يشككون في حقيقة وجود ظاهرة عيسى بن مريم. ماذا تفيدُ امرأة جوعى للجنس من قمر في أعالي السماء حتى لو كان إلهاً؟

إرتفاعه في الأعالي كناية عن تعففه وتساميه فوق ممارسة الجنس وهي شغلة البشر لا الأنبياء أمثال الناصري المسيح. موسى ومحمد تزوجا ونحن نعرف زوج محمد كما نعرف ذرّيته، أما عيسى فلا تزوج ولا أنجب.

الجنس والحرمان الجنسي يظلاّن الهاجس الأقوى لخليل حاوي!

لم أجدْ شيئاً ذا بال في الجزء 16 لذا سأتجاوزه عابراً للجزء الأخير 17

17 ـ جوع المجامر:

جوعٌ وجمرٌ ومجامر! هذه هي البداية فكيف ستكون الخاتمة؟ هذا هو أطول جزء في قصيدة لعازر عام 1962. خلط حاوي في هذا الجزء سيّدتين هما زوج لعازر وفتاته السمراء التي تركها وغادر لبنان للدراسة في بريطانيا. فقدت تلك زوجها لعازر بموته وهذه فقدت الحاوي بسفره إلى بلد غريب بعيد. كلتاهما تعانيان من الحرمان ومن تبعاته القاتلة. لا ذكرَ في هذا الجزء للناصري ولا إشارة للشاعر نفسه. إنه جزء خاص مكّرس لإمرأتين فقط فهل من وجه للمقارنة فيما بينهنَّ؟ لا من وجه للشبه سوى الظمأ الجنسي والتوق العارم لممارسته. ثم في القصيدة تكرير لما سبق وأنْ قال وضعه بين أقواس نصّه [كنتُ أسترحمُ عينيهِ وفي عينيَّ عارُ امرأةٍ أنّتْ تعرّتْ لغريبْ عاد من حفرتهِ ميّتاً كئيبْ] وقد قرأنا هذا الكلام في الجزء الخامس بعنوان " الزخرف ".هذا التكرير جيد ومُبرر في أنه يغلق الدائرة ويُعيدنا لما سبق وأنْ قال كأنه ربط الآخرَ بالأول أو ربط التوالي بالأوالي وهو ربط مُريح تطمئنُّ النفسُ له.

مؤاخذات بسيطة: بالإضافة للعيوب اللغوية المعروفة والشائعة في شعر أجيال الشعر الحر أو شعر التفعيلة.. أكثر خليل حاوي من توظيف الفعلين " مصَّ يمتصُّ " وهو فعل غليظ القوام ثقيل على أذن السامع لا من طاقة شعرية إيحائية فيه.. و" الخضرا " بدلَ الخضراء ثم " السمرا " بدل السمراء وهي عيوب لا أسيغها وإنْ كانت شائعة وصغيرة. ثم إنه، كشأن باقي الشعراء المجياليه، فرّط بالقواعد اللغوية نزولاً عند ضرورة القوافي أو الوزن. فتوقف في موقف يتطلب ألِفاً حيث قال (كنتَ طيفاً قَمَريّاً وإلهاً قَمَري / الصفحة 343 من الكتاب) في حين تتطلب اللغةُ أنْ يقولَ " وإلهاً قَمَريّا أو قمريا). أو في قوله (ميّتاً خلّفتهُ في الدارِ تنّيناً صريعْ / الجزء الثاني عشر: تنين صريع).. والصحيح هو: تنّيناً صريعاً.هذان مجرد مَثَلين للفت النظر.

***

عدنان الظاهر

آب 2012

........................

1 ـ ديوان بدر شاكر السياب / دار العودةـ بيروت 1971. قصيدة المسيح بعد الصلب.. الصفحة457 وما يليها.

2 ـ ديوان خليل حاوي / دار العودةـ بيروت (هناك خطأ في سنوات طبع الطبعة الأولى والثانية.. ) أظن أنَّ عام نشر الطبعة الثانية هو 1979..

ديوان بيادر الجوع، قصيدة لعازر عام 1962 الصفحة 307 وما يليها.

3 ـ نص الترجمة العربية لمسرحية هاملت مُختصر ومبُتسر.. ولكن بقدر تعلق الأمر بالشبح واختفائه مع صياح الديكة جاءت الترجمة كما يلي:

هاملت: ولكنْ ألمْ تتحدثا إليه؟

هوارسيو: لقد تحدّثتُ إليهِ لكنه لم يُجبْ يا مولاي. ثم رفعَ رأسه في إحدى المرات وشرع يتحرك وكأنه يهم بالكلام فما حانت اللحظة التي بدا منه العزمُ حتى صاحت الديَكةُ صياحاً حاداً فاهتزَّ الشبحُ لها ثم توارى على إثره عن الأنظار [ترجمة غازي جمال / دار القلم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1978].

النص الأصل باللغة الإنكليزية في القسم الأول من مسرحية " تراجيديا هاملت أمير الدنمارك " وبداية هذا القسم كما يلي:

Act I

Scene I. A gurad platform of the castle.

Enter Barnardo and Fransico, two sentinles.

أذكر أبياتاً من النص الإنكليزي ذات العلاقة، والكلام حول ظهور واختفاء شبح والد هاملت حين يصيح ديك الصباح:

Marcellus. It faded on the crowing of the cock.

Some say that ever gainst that season comes

herein our Savior,s birth is celebrated,

This bird of dawning singeth all night long,

And then,they say, no spirit dare stir abroad,

تمرُّ هذه الايام الذكرى الـستون لرحيل الشاعر العراقي الفذ {بدر شاكر السياب}، حيث ان السياب العملاق شعراً والنحيل قامة، كان قد اختطفه الموت وهو في قمة شبابه الزمني وابداعه الشعري، وذلك بعد معاناة طويلة مع المرض والفاقة والفقر. السياب الذي كان له ضوء السبق في تحديث الشعر العربي والبسالة في ايقاد وحمل شعلة الحداثة في الشعرية العربية مع مجموعة من الشعراء العراقيين والعرب من أمثال: نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري ومحمود البريكان وغيرهم من الشعراء الحقيقيين.

ان السياب كان ومنذ حداثة عمره، قد تأثر بالشعراء القدامى  وذلك من خلال قراءاته العميقة لمعظم الشعر العربي في كل عصوره وازمنته وانماطه واشكاله المتعددة وكان قد تعمق بالقراءات الاسطورية والميثيولوجية والتوراتية والانجيلية والقرانية التي كان لها اثرها الكبير وتاثيرها العميق في بناء ثقافته الشاملة ووعيه الشعري المتوهج، ثم أولع بالثقافة الغربية وتأثر أشد الأثر باعمال وليام شكسبير الشعرية  والمسرحية.  وحرص على قراءة اعمال اهم الشعراء الغربيين مثل: ت. أس. إليوت وكيتس ووردزورث وكولردج وغيرهم. وقد استفاد منهم واستثمر نتاجاتهم الابداعية المدهشة في تعزيز خبرته الشعرية والجمالية واثراء رؤيته الفكرية ولغته وصوره الشعرية. وويمكننا ان نشير الى مدى تاثره واستفادته من الشاعرة الانكليزية "إيدِث سِيتوِيل" التي كانت قد فتنته بقصايدها المتفردة وبنصوصها الثرية بالاستعارات والمجازات والإيقاع الشعري العالي.  وذلك من خلال تآلف الألفاظ وموسيقى الكلمات..

وقد انعكس كل هذا في شعره الحديث شعر "التفعيلة" بتنويع طول الأبيات وقصرها أحياناً، مع محافظته على تفاعيل القصيدة الخليلية العربية. ولكنه لم يلتزم بشكل بيت الشعر العربي المعروف والموروث منذ قرون سالفة. وقد أبدع في ذلك،وتعلم التكرار، من قصائد "سِيتوِيل" كما يظهر هذا في معظم قصائده خاصة في "أنشودة المطر"  تكرار: مطر... مطر... مطر.. وكأنَّ كلمة مطر عنده هي رمزٌ للخصب وللمرأة وللوطن في آن معاً.

كان منتفضاً ضد الأنظمة الاستبدادية، وكان ينشد للثوار وهم يحتجُّون ضد الطغيان والظلم والجوع. كانت قصائده تلحَّن وتغنَّى في السجون والمعتقلات، لتزرع الأمل والعزم والصلابة في نفوس المحتجين، من خلال قصائده الخالدة: " المومس العمياء وحفَّار القبور وأنشودة المطر".

وقد تميزت قصائد السياب بالخروج عن القصيدة التقليدية وبكثافة الأَلم الذي يسكنها، بسبب ظروفه الصعبة التي عاشها وبسبب الداء العضال الذي أودى بحياته في سن مبكرة.

 أهم مميزات شعر السياب

يُمكنني القول ان أهم مميزات شعر السياب هي:

أولاً: استخدام المجاز بكثرة:

 فهو يعرِّف الصورة الفنية بأنها صياغة جديدة تمليها موهبة المبدع وتجربته ؛  وفق تعادلية فنية بين طرفين هما: المجاز والحقيقة.

ثانياً: توظيف الأسطورة:

 ويعتبر السياب من أهم الشعراء الذين جعلوا الأسطورة رموزاً في اشعارهم.  وقد إجتهد السياب في استثمار هذه الرموز من حضاراتٍ مختلفة كالبابلية والسومرية والأشورية واليونانية والرومانية والفرعونية، حيث انه قد استطاع بثَّ ثيمات وشفرات تلك الرموز في طبقات قصائده فزادتها عمقاً وجمالاً وبهاء.

ان شعر السياب ثريٌّ بالإيحاءات والدلالات، وقصائده مشحونة بالعاطفة المتوهجة والثورة والألم والشجن الموجع وقد ساعدته ثقافته الواسعة كي يُجسّد معاناته الجسدية والنفسية أعمق تجسيد في شعره الفسيح الفضاءات والابعاد والغزير الثيمات والرؤى. 

ولقد تعدَّدت موضوعاته الشعرية، وفاحت منها رائحة الموت والمنايا، والاحزان والفجائع وإرهاصات وهواجس الغربة الروحية والزمكانية، ومن أهم تلك الموضوعات:

 ثالثاً: الحب والفقد:

وقد كان فقده لأمه فقداً لأقوى حبٍّ في الوجود،  وهو القائل:

" أماهُ ليتك لم تغيبي خلف سورٍ من الحجارة "

رابعاً: الغزل: 

وجد السياب في حبه للمرأة تعويضاً عن حبِّ الأم المفقود وهو في الرابعة من عمره، كما ان دمامته جعلت معظم النساء اللواتي أحببنه يتركنه، لكن َّ الخيبات العاطفية التي لاحقته في حياته، قد كانت ينبوع إلهام فجر شاعريته ورصَّع قصائده بالألق الشعري والابداع الحقيقي.

 خامساً: الشعر الوطني:

حيث ان السياب قد كان ثائراً في وجه الظلم والاستبداد فأحس بالغربة وهو يعيش في وطنه العراق، ولا يمكننا نسيان او تناسي مواقفه ذات البعد القومي والانساني، حيث انه قد قام بنظم العديد من القصائد للقضية الفلسطينية، وحيَّا نضال التونسيين والجزائريين والمصريين ضد الاستعمار والطغيان والدكتاتورية.

سادساً: انشغاله الاستثنائي بفكرة الموت

بوصفها واحدة من القضايا الجوهرية والموضوعات الكبيرة الاهمية التي منحها السياب عناية خاصة، حيث انه قد تناول الموت كحقيقة ومفهوم وجودي متعدد الاسباب، ولكنه في المحصلة النهائية يبقى واحداً. وهذا ما طغى في الكثير من قصائده على كل ما عداه في عموم شعره، فهو مثلاً يقول:

 أهكذا السنون تذهب

أهكذا الحياة تنضب؟

أُحسُّ أنني أذوبُ... أتعبْ

أَموتُ كالشجرْ

يا أَيّها الاله

أُريدُ أَنْ اموت  

وخلاصة القول: أَرى ان السياب والحداثة كانا تؤامين وصنوين ومتداخلين حدَّ التوحد والتماهي بما لا يقبل الانفصال والاختلاف على هذه الحقيقة على الإطلاق. ولا يُخفى علينا ان السياب كان قد تفوق على ذاته وأَصبح: شاعراً نسيج نفسه، والرائد الحقيقي لحركة الحداثة الشعرية العربية، وحداثته لم تأتِ بمحض مصادفة أو مجرد نزوة من نزوات حب الاختلاف والاستعراض والادعاءات الفارغة، لا بل انها كانت نتيجة مخاض عسير ومعاناة حياتية في غاية القسوة وذروة الالم.

***

سعد جاسم

يمكن قراءة هذا الفيلم وتحليله على مستويين أو أكثر لما يتوفر عليه من بنى جمالية وفنية وتقنية. ومع ذلك فإننا سنتوقف عند مستويين فقط، الأول واقعي، والثاني رمزي. ففي القراءة الواقعية يكشف لنا المخرج حسن علي محمود بأن ميران (عبدال نوري) هو رجل إقطاعي كردي يهيمن على مناطق زراعية واسعة، كما يسيطر على سوق الحبوب في المنطقة، بحيث أن مخازن الحبوب لديه لا تكفي للغلة التي تنتجها مزارعه كل عام، لذلك لجأ إلى استغلال المخازن والغرف الفارغة لدى سكان القرية القريبة من مزارعه كي يحزّن فيها كل ما لديه من حبوب مقابل مبالغ مادية تافهة لا تُذكر سوف يرفضها بعضهم في خطوة أولى للتمرّد عليه والثورة ضده.

حينما يبذر الفلاحون (الأقنان) أراضيه الزراعية الواسعة التي ستهاجمها أسراب من الغربان التي تقتات على هذه البذور شأنها شأن بقية الطيور الموجودة في تلك المضارب القروية المحيطة بمدينة أربيل. فالغراب ضمن المستوى الأول لا يحمل أية دلالة أو رمز للشؤم، لأن المخرج نفسه لم يرد لهذه الدلالة أن تترسخ في ذهن المتلقي. ويبدو أنه من خلال الأبحاث التي أجراها تبيّن له أن الغراب في الصين واليابان وما جاورهما من بلدان أخر يعتبرون الغراب طائراً للحكمة والحب، ولا علاقة له بالشؤم كما هو موجود في ثقافتنا العراقية أو الشرق أوسطية في الأقل، لذلك فإن هذه الغربان الكثيرة التي ستهاجم هذه الأراضي الزراعية بهدف إطعام نفسها لا غير!814 Poster

يطلب ميران من (حمه) وكيله في العمل أو (سركاله) على الأصح أن يبحث معه عن وسيلة لطرد هذه الغربان المهاجمه عن مزارعه فكانت الطريقة الأولى هي نصب كمية كبيرة من الفزّاعات بحيث صارت المزارع حيًا كبيرًا تقطنه الفزّاعات، لكنها لم تُخف أي غراب، بل أن الغربان كانت تتمادى كثيرًا وتقف على رؤوس الفزّاعات وتنقر عيونها. وحينما لم تنفع هذه الطريقة لجأ ميران إلى الضابط المسؤول عن القوات العسكرية الموالية للنظام الدكتاتوري السابق والمتواجدة في مدينة أربيل وطلب منه أن يرسل عدداً من الجنود المدججين بالأسلحة لكي يطلقوا النار على هذه الغربان المهاجمة التي باتت تؤرق الإقطاعي وتقض مضجعه. وبالفعل يأتي الجنود ويطلقون النار على أسراب الغربان العنيدة التي ترفض أن تغادر هذا المكان اللعين. وحينما يعجز الجنود بأسلحتهم النارية الكثيفة عن إيقاف زخم الغربان المهاجمة يستعين ميران بأطفال القرية المجاورة حيث يجمع له رجاله عدداً من الأطفال الذين يضعون حصى في علب معدنية تحدث أصواتاً قوية، لكن هذه الأصوات تذهب سدى ولا تُبعد الغربان عن مزارع هذا الرجل المتجبّر. يتابع الأطفال حمامة كانت موجودة لديهم، وحينما تخترق حاجز الأسلاك الشائكة يطأ أحد الأطفال على لغم فيفارق الحياة، عندها يتأزم الوضع ويثور بعض أفراد القرية التي ثارت من قبل حينما طلب منهم الإقطاعي أن يخلوا له بعض المخازن، وربما كان الرجل الأكثر تمرداً وعناداً هو أحد الشيوخ الكبار هو الشخص الذي وصفه ميران بأنه (نصف رجل) لأنه كان أعرجاً ولا يقوى على السير الحثّيث. لم يفلح حمه في كل محاولاته المستميتة أن يبعد الغربان عن مزارع سيده، كما أنه لا يتورع عن سرقة طعام الأطفال ويستولي على أجور الفلاحين الذين يعملون في مزارع الإقطاعي، وكعقاب سماوي له يدوس حمه على أحد الألغام فتقطع ساقه اليمنى.

تدهم ميران الكوابيس اليلية التي تأخذ شكل الفزّاعات المخيفة التي تحرمه من النوم وتؤرق نهاراته المليئة بالخوف. فالظلم لا يدوم حتى وإن استمر لسنوات عديدة، ولابد للمظلوم أن ينتصر في نهاية المطاف. تتأزم الأوضاع النفسية لميران حينما يبدأ بمشاهدة الفزّاعات في كل مكان من القرية وهي تتحدث في شؤونها الخاصة والعامة وكأنها كائنات بشرية ناطقة فيقرر الإقطاعي مغادرة القرية إلى الأبد مهزوماً مدحورا تلاحقه الفزاعات في حلّه وترحاله.

أما القراءة الرمزية وهي الأقوى والأدق فالإقطاعي هو رمز للسلطة الحاكمة المستبدة التي تتلاعب بمقدرات الناس وتبتزهم وتقود أبناءهم إلى الموت المجاني. بينما يعلب حمه دور السركال أو الوكيل والقائم على أعمال سيده، أما أفراد حمايته فهم الحلقة الضيقة التي تحيط بهذا بهذا المستبد المتجبر الذي أهلك الحرث والنسل وسبّب العديد من الفواجع لعامة الناس. فالمدينة ليست أربيل حسب، وإنما يمكن أن تكون العراق كله ضمن هذه القراءة الرمزية.

تلعب الغربان دوراً مهماً في الفيلم ضمن قراءتنا الرمزية له. فهذا الطائر هو رمز للشؤم تارة، كما يمكن أن يكون أداة عقابية يستعملها الله (جلّ في علاه) في أويقات غضبه، وهي تذكّرنا بالطير الأبابيل التي لا ترمي هنا جنود ميران بحجر من سجّيل وإنما هي تأكل حبوبه التي يبذرها الفلاحون الأقنان في مزارعة الشاسعة. فالطير هنا يأخذ معنى رمزياً مفاده الشؤم أولاً والعقوبة التي ينزلها الله بالمستبدين الظلَمة ثانياً.

لم يكتفِ المخرج بتقنية واحدة، ففضلاً عن الأسلوب الواقعي الذي جسّد فيه النصف الأول من الفيلم، والتقنية الرمزية استعملها على مدار الفيلم أيضاً، إلا أنه لجأ إلى الأسلوب السوريالي (الفنتازي) أو العجائبي حينما بثَّ الحياة في الفزّاعات وجعلها تتحرك وتتكلم وتتصرف مثل بقية الكائنات البشرية وهذا الأمر هو الذي ساهم في تنوع التقنيات والأساليب التي تخللت الفيلم وجعلته يمرُّ مروراً سريعاً وكأننا أمام تحفة بصرية آسرة الجمال.

لا يخفى على المتلقي الذكي أن مخرج الفيلم لم يعوّل كثيراً على الخطاب الأدبي الذي تتوفر عليه القصة السينمائية، وإنما كان همّه وهاجسه الأول هو تقديم فيلم يتوفر على لغة بصرية شديدة الإيحاء، وهذا ما حصل في نهاية المطاف، فليس هناك ثرثرة كلامية، وإنما هناك صور بصرية مدروسة بعناية فائقة.

أكاد أجزم أن فيلم (حيّ الفزّاعات) للمخرج الكردي العراقي حسن علي محمود هو نافذة أمل كبيرة لتحريك عجلة السينما العراقية المتلكئة على الرغم من أن هذا الفيلم يُحيل كثيراً إلى السينما الإيرانية من جهة والسينما التركية من جهة أخرى، وما هذا بمستغرب فكردستان هي المثلث الطبيعي الذي يتوسط العراق وإيران وتركيا، ولابد لمؤثرات هذه الدول أن تصل إلى الفيلم الكردي الذي انطلقت قاطرته على سكّة الإبداع السينمائي، وربما لا نستغرب إن تقدمت هي على السينما العراقية خصوصاً بعد أن أنجز العديد من المخرجين الكرد أفلاماً مهمة باتت تحصد الجوائز في المهرجانات العالمية، والأهم من ذلك أنها باتت تستقطب جمهوراً واسعاً يحترم هذا النوع الرصين من السينما الجادة التي تُعنى بقضايا السواد الأعظم من الناس.

جدير ذكره أنّ حسن علي محمود من مواليد مدينة أربيل، العراق سنة 1968. عمل مخرجًا مساعدًا في أربعة أفلام، وأنتج فيلم "عبور الغبار" للمخرج شوكت أمين كوركي عام 2007. وهو أيضاً المدير الفني لقسم السينما في أربيل. بلغ رصيده خمسة أفلام سينمائية وهي على التوالي: "حيّ الفزاعات" و "شيرين" و "واحد ناقص سبعة"، و "أمريكانو" و "خلف السحاب: تحية للبيشمركة" إضافة إلى المسلسل التاريخي "أديابين".

***

عدنان حسين أحمد

 

الاستهلال: لم يكن اختياري للأديبة التونسية كوثر بلعابي صدفة، ولا هو يدخل في -باب بنات الخاطر-، بل جاء هذا الاهتمام للقاءات جمعتنا في بوفيشة سوسة وكنت مدعوا في إطار عمل ثنائي بين صالونين -جرائري - تونسي، لتقديم مداخلة حول أدب الثورة، وكنت بصحبة صديقين عزيزين الاستاذ: كمال بونعاس والدكتورة عواطف سليماني، وكان المنبر جزائريا بامتياز، وشكل الحضور النوعي للأخوة التونسيين كوكتالا رائعا، وكانت كوثر بلعابي واحدة من الشعراء الذين أثثوا المشهد بقراءة مميزة بصحبة الشاعر الأنيق معمر الماجري

وشاءت الصدفة أن أكون مدعوا إلى ملتقى خيمة علي بن غداهم - باي الشعب، بجدليان، وتعرفت على شعراء تونسيين آخرين، شاعر تونس بامتياز الصديق عبد الكريم الخالقي والشاعر المميز عزيز الوسلاتي وصونيا مادوري، وجميلة الماجري، والدكتور الشاعر وليد السبيعي، وقد عبرت مرارا إلى الإخوة الأقربين بأني بصدد جمع الأعمال الجزائرية /التونسية المميزة، لتكون عربون صداقة بيننا، وأصدقكم القول بأنني منشغل على قصيدة مشتركة بين عزيز الوسلاتي ومحمود درويش منذ ستة أشهر،

تواصلت اللقاءات بيننا على وسائل التواصل الاجتماعي، وكنت أتتبع نشاطها المكثف، سواء في ناديها فصول أدبية بدار الثقافة، ابن خلدون المغاربية، أو في جمعية ابن عرفة الثقافية، وفي سائر الدور التي تنشط فيها، كان آخرها في هذا الشهر مداخلتها في مدينة الثقافة بتونس في ندوة ببيت الرّواية كما أن لها منشورات في منتدى الفكر التربوي، وفي مجلة الحياة الثقافية التي ترأسها في فترة من الفترات المفكر اللساني عبد السلام لمسدي، وزير الثقافة في مرحلة من مراحل تونس العظيمة،

خارج النص

رأيت في الأديبة المبدعة كوثر بلعابي المرأة التونسية الملتزمة والأستاذة الخلوقة والأديبة التي تجمع بين الدّرس والنقد والكتابة، في شيء من اليسر، ورأيت لها إجماعا في الوسط الأدبي، وحضورا بهيّا في الأنشطة المختلفة في تونس، وسجّلت لها مقدرة على تعاطي الشعر في مناسبتين، وقدمت لي ديوان من جرحها تزهر

احتفيت، بهذا الديوان خصيصا، لأنه تجربة ثالثة سبقتها تجربتان اثنتان: من جرحها تزهر و كوثر الصباح، كي ألتمس الخطوات التي كانت حاضرة، والتي حاولت أن تصنع التّجاوز في عرف الكتابة الإبداعية، ولاحظت بأن الديوان يحتوي على خمس واربعين قصيدة استهلتها بدمعة باسمة و ختمتها بحد القلم، وجرى ما بينهما حوار يطول بلغة الشعر وبلاغة الكلمة، حتى أضحى ما في القصيدة نشيدا يراود بحره،

اختارت الأديبة المبدعة كوثر بلعابي القصيدة السابع عشرة 17 لتكون عنوانا للديوان، وهو الأمر الذي تمنعه التعليات النصية أبدا، على اعتبار أن عناوين القصائد الموجودة داخل الديوان، تعد منصات داخلية مستقلة، وترفض بصوت عال أن يلغيها الأديب بالتحلية المنتسبة وترفض المحو المنظم. صحيح أن هذا الموضوع كان رائجا إلى وقت قريب حتى عند أكبر الكتاب، غير أن الدرس الحديث، حدد خطوطا حمراء للتحرر والاستقلال ومنح النصوص مسافة أمان ثابتة، وكان بوسع الأديبة أن تختار عنوانا جامعا مانعا للنصوص كي تظل النصوص الداخلية حية، يجمعها التنافس، بعيدا عن نظرية الالغاء، لأن النصوص كالأرواح تحدها الضوابط والموانع، وترفض أن يطالها الحذف والنقض والمس والتهميش،

والحقيقة الثانية أن العنوان سفر، على نار باردة شكل في عالم التترولوجيا عتبة مفصلية، بوسعها أن تكون سفيرة مفوّضة فوق العادة، وكثيرا ما تكون الدرس الأول للقرّاء في عالم اللسانيات والسيميائيات في عرف النقد، ورد العنوان على شكل جملة اسمية محذوفة المبتدأ والحذف مهارة يخفيها البيان، كي يكون الخبر عاليا في مقام التأثيث، ويشكل حضوره تيمة قوية تستند اليها الفضلة في النحو تارة وفي البلاغة طورا آخر، وقد تكون للترشيح أو الزينة، وتقود القاريء إلى الكهوف والمفاوز التي تخفيها الأديبة على شكل (الكنز والتأويل) على قول عبد الله الغذامي،

اختارت المبدعة كوثر بلعابي اللون الأصفر على صيغتين: الفاقع والثاني داكن، ومع أنهما ليسا أصليين، غير أن الفرع يكون أبلغ حين نعمده، وهو واحدة من وسائل التلميح للإفاضة الأدبية: إلى دواخل النص في تمفصلاته التي اختارت لها الأديبة عناوين فرعية على شكل منصات، (دمعة باسمة، عزف على أوتار الليل، استجواب، نشيج الفرح، العشق المشروع، نجوم ورصاص، الأرض النازفة، حد القلم).

اخترت هذه النماذج من العناوين للتدليل على القوة الصّاخبة لهذه العتبات التي عبّرت في مجملها على كون قد ينفجر في أية لحظة، ولجأت الأديبة إلى تسييج المناطق المتاخمة للقصائد بتواريخ لم تكن بريئة إطلاقا ووقعت بأسماء الأماكن على اختلافها: (جربة، تونس، شارع بورقيبة، أيام زلزال المغرب وفيضان ليبيا، يوم استشهاد الفدئي الفلسطيني رعد حازم، اندلاع الطوفان المقدس، بين الزّارات وتونس، القصرين)،

هل يا كوثر الصباح،

قدر القتيل أن يدفن في النص كي لا يكون مملوكا، ولا مولى، ويكتري مجازا للدفن والجنازة؟ وهل قدر البلاد أن تستغيث خوفا على يوليسيزا كي لا يدوسه المبصرون، وحتى يصبح التلوين في فرسخ القصيدة واضحا. وهل قدر الأبيات في تونس أن تهرب مع بضاعة الأمير، وكوثر الصباح ترفض أن تغتال مفردة في قواميس العدالة،

آه أيها الزمن الملوث، دع الرّوي في البلاغة ترسمه الشّفاه، لا حاجة لنا في مدخل القصيدة كي نستعين بالمسدس والرصاص والاغتيال، قدر البنات في تونس - يا حادي الصمت -أن يكون للوطن القبلي صوت الرّشم، قدر الصمت أن يخبيء دموعه في سترة البيان، وقدر الإحاطة أن نسمي الأشياء بأسمائها والكتاب بالترتيب والبلاغة بأهلها، والأموال بأصحابها، والشعراء صفّا /صفّا، ويكون للمنبر حق الشفاعة بين اللغة والنحو والتاريخ ويكون للصّياغة سلطان الحكامة قبل التعمية،

يقول المفكر التونسي: عبد السلام المسدي: يكون التوليد المعنوي أو العدول مكان الانزياح (1) حتى نرتق ظل السطر وننفخ في رحم المفردة ما يدفعها للتوليد والتلقيح والإبانة، هي لحظة للتكوير والعلامة لا تستبيح معالم الدليل، كي لا يفتشها البوليس،

اهتزت الأصوات داخل الديوان وتمرد الأنا في السياق، لأن الشعر إذا خاصمه الرّوي رتل الأبيات خارج القصرين، لأنها مدينة الرّوح والحياة، مدينة مرّ عليها جرجير ولم يكن لسبيطلة وحيدرة ما يصنع الموازنةً بين الخطابة والرتابة والقسم،

يا كوثر الصباح،

قدر القصائد أن تتقن فنّ الامتلاك، وترافع كلما هبت الرياح في اتجاه الجنوب، أعذريني يا تونس إن قاضيت القصائد كي أفسر انتمائي، ثم أعذريني أيتها القصائد التي افتكت من فضول نازك وغضب أولاد احمد وبلاغة الشابي، وعناد مظفر، وسلطة المزغني وتمرد الخالقي وشعرية الماجري، واعلمي بأن القصائد التي وردت موسومة بسفر، على نار باردة، تحمل جواز سفر أبدي إلى عالم الحكمة،

في الأخير لم أجد ما أبرر به يتم الكتابة وحرقة التّجلي سوى أيقونة تولد في أدغال الموسم، وهناك فقط تقام مراسيم الوداع وتكون آخر النصوص شاهدة على المحو والتدوير لآخر الأسطر، لأن الفرق بين الشهادتين أن تمانع كلما كلت الرّوح واستوى ما في الحكاية على الماهية، ولا أحد بعد ذلك يحتاج لراهب يقرأ الكف،

الأديبة: كوثر بلعابي.

دار النشر: دار خريف للنشر.

تصميم الغلاف: فراس عباسي (نجل الأديبة)

الطبعة الأولى:2024.

 ***

بقلم: الاستاذ ابراهيم بادي (ابن الجزائر العربيّة)

انتهى بتاريخ 02 ديسمبر 2024

.....................

(1) البروفيسور: عبد السلام المسدي، الأسلوب والأسلوبية، الدار العربية للكتاب، ص:162.

 

الرواية: هي سلسلة من الأحداث تُسرد بسرد نثري طويل يصف شخصيات خياليّة أو واقعيّة وأحداثاً على شكل قصة متسلسلة، وتعتبر الرواية من أكبر الأجناس القصصيّة من حيث الحجم وتعدد الشخصيات وتنوع الأحداث، وقد ظهرت في أوروبا بوصفها جنساً أدبيّاً مؤثراً في القرن الثامن عشر. وهي تعتمد السرد والحوار بما فيه من وصف وحالات صراع بين الشخصيات، وما ينطوي عليه ذلك من تأزم وجدل وتغذية الأحداث، يترك عند المتلقي حالات معرفيّة على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي والأخلاقي والنفسي وغير ذلك، ولها أيضاً شكلها أو أسلوبها الفني في العرض الذي يحقق المتعة والدهشة وحب الكشف عند المتلقي ذاته).(1).

أو بتعبير آخر: (هي تجربة أدبيّة، يعبر عنها بأسلوب النثر سرداً وحواراً من خلال تصوير حياة مجموعة أفراد أو شخصيات تتحرك في إطار بيئة أو نسق اجتماعي محدد الزمان والمكان.).(2).

وعلى الرغم من حداثة الرواية في الثقافة العربيّة، وكونها جنساً أدبيّاً حديث العهد طري العود، محدود المراس، غير خاضع لوتيرة منتظمة في تطوره ولا لمسات شكلانيّة في تجلياته ، فإنها استطاعت أن تكسب ود القارئ العربي تدريجيّاً منذ أن فجرت عينها رواية (زينب) سنة 1914 لـ"حسين هيكل" (1888 ـ 1956)، وهو تاريخ حديث لا يتجاوز القرن من الزمن، حتى ولو ذهبنا إلى ما ذهب إليه النقاد المعاصرون كـ"يمنى العيد" واعتبرنا معها المرأة هي من فتح باب الرواية العربيّة برواية (قلب الرجل) التي صدرت سنة 1904 للكاتبة "لبيبة هاشم" كأقدم نص روائي عربي وقبلها رواية (حُسن العواقب) لـ"زينب فواز" الصادرة سنة 1899 .. فإن شلال هذا الفن الروائي سرعان ما تدفق بنتاج حاول بعضهم تصنيفه بمعايير مختلفة منها:

1– روايات ذات طابع سياسي: (مرحلة ما قبل الاستعمار، ومرحلة الاستعمار، ومرحلة ما بعد الاستقلال.). عالجت قضايا الاحتلال والنضال الوطني وتعدد الأحزاب والصراع على السلطة بعد الاستقلال.

2– وذات طابع اجتماعي: وراحت تعالج هنا قضايا التناقضات الطبقية وتصوير الريف وجهله وتخلفه، وكذلك المدينة ومشاكلها الحياتيّة الأسرية والفردية.. وغير ذلك. سادت في هذه الطابع الاجتماعي الروح الرومانسيّة المشبعة بالعاطفيّة والذاتيّة والحلم، ثم جاءت المرحلة الواقعيّة. لقد ارتبطت الرواية بمعطيات اجتماعيّة معينة أثرت في تبنين الرواية العربيّة.

3– وذات طابع فني له علاقة بالآخر: (مرحلة الاقتباس والتعريب مع جيل "مصطفى لطفي" و"المنفلوطي" "وطه حسين" ومع الذين درس أغلبهم في أوربا، قبل أن تبدأ الرواية العربيّة في التأسيس لنفسها مع جيل "يحي حقي" وتصل إلى مرحلة التبلور والتأصيل مع "نجيب محفوظ"، و"إحسان عبد القدوس"، و"عبد الله نديم"، وتنتهي إلى مرحلة التحديث مع "عبد الرحمان منيف" و"حيدر حيدر وحنا مينه" وغيرهم الكثير.

4– وأخيراً روايات ذات طابع جغرافي قطري: حيث ظهرت الرواية حسب الأقطار العربيّة، كالرواية المصرية/ السورية/ اللبنانية/ المغربية. (3). وراحت هذه الروايات في معظمها تركز على الهم القطري ومشاكله الاجتماعيّة والأخلاقيّة وحتى السياسيّة دون أن تتجاهل الهم القومي أيضاً.

مرحلة الرواية العربيّة المعاصرة:

ومع نهاية الألفيّة الثانية وبداية الألفيّة الثالثة من غزو العراق ونشوب حرب الخليج الثانية وسقوط المنظومة الاشتراكيّة، وظهور النظام العالمي الجديد بصيغته المتوحشة، اقتصاديّاً وسياسيّاً وأخلاقيّاً، ومع التجليات الفكريّة لما سمي معطيات ما بعد الحداثة وتأثيرها على مسألة الحريّة الفرديّة، والفتح في المجال واسعاً أمام هذه الحريّة، فكل ذلك جعل الرواية العربيّة تدخل مرحلة جديدة ومختلفة في مضمونها وشكلها، سميت بالرواية العربيّة المعاصرة.

إن الرواية العربيّة المعاصرة اتجهت في العقود الأخيرة إلى تناول (إشكاليات الفرد) ضمن مجتمع محدد زمانيّا ومكانيّا، مبتعدة بوضوح عن الشعارات أو السرديات الكبرى، والبلاغة الإنشائيّة والافتعال. وبهذا المعنى استطاعت أن ترفع ما يجري في الواقع اليومي من حوارات وهموم وآلام إلى برزخ اللغة غير المتعالية، مما انعكس ايجاباً على توسّع الآفاق المعرفيّة والاجتماعيّة والسياسيّة في النص المكتوب روائيّا. وبهذا تجذّرت البيئة المحليّة، والوعي الفردي، وانعكاسات الأحداث الكبيرة في حركة الأفراد ضمن المساحة الزمانيّة والمكانيّة الممنوحة لهم. (4). أو بتعبير آخر إن الروايات المعاصرة الخارجة من رحم أو قاع المجتمعات العربيّة التي راح يتجلى تخلفها المزمن بشكل واضح للأديب... هذا القاع المجتمعي المسكوت عن الكثير من مضامينه السلبيّة سابقا في المتن الروائي، هو واقع فاقع ساخن وصادم، وبسبب ضغط ما هو ملموس وواقعي في الحياة اليوميّة المباشرة، مع تنامي العقليّة العلميّة المنافية للأساطير والغيبيات والمسلّمات العتيقة، ومع ما وصلت إليه البشرية من تطور في العلوم والبحوث الاجتماعيّة والفلسفيّة والجماليّة وحقوق الإنسان، ومع عمليات التأثر بالفكر الآخر وخاصة الغربي منه في معالجته لقضايا العصر، فكل هذه المعطيات راحت تسجّل تاريخاً حقيقيّاً للأحداث، تاريخاً تفصيليّاً أهملته أو تغافلت عنه المدونات الرسميّة للتاريخ الحديث، فتبنته الرواية. وهذا في المقابل ما دفع الأديب بشكل عام والروائي بشكل خاص، إلى تجاهل التاريخ الرسمي السلطوي المهيمن، والسرديات الكبرى أيضاً والتوجه نحو تدوين تاريخ الفرد البسيط والحالم، الساعي إلى شروط حياتيّة عادلة وجميلة.

على العموم إن الرواية المعاصرة لم تشكل قطيعة كليّة مع تاريخ الرواية السابقة لها، ولا اتخذت مواقف سالبة من التراث العربي أو الإنساني. إن ما سعت إليه الرواية المعاصرة في الألفيّة الثالثة، هو التركيز في سردها بشكل عام على شخصيات بسيطة وعاديّة من مختلف الشرائح، لقد تحول الروائي المعاصر في الحقيقة إلى ما يشبه الأنثروبولوجي والباحث في التراث الإنساني ينهل من الأساطير والرموز وينفتح على مختلف الأشكال التعبيريّة محطماً الحدود بين الأجناس الأدبيّة، فتميزت الرواية المعاصرة بعمق الرؤية وإثارة الأسئلة الملحة، أكثر من البحث عن الأجوبة، فوجد القارئ نفسه أمام روايات شعريّة، وروايات دسمة حبلى بالأفكار والإحالات التاريخيّة والفكريّة، والفلسفيّة والفنيّة .. وكتابها منفتحون على السينما، التشكيل ، الفلسفة ، الأديان، الأسطورة، الحكاية الشعبية، لقد قدموا للقارئ روايات أقرب إلى كتب فكريّة اعتمد فيها بعض الكتاب على مراجع ومرجعيات متعددة، وكلفتهم عناء بحث طويل.

إن الرواية المعاصرة إضافة لتسليطها الضوء على قضايا المجتمع التي أشرنا إليها أعلاه، فقد راح بعض الروائيين يمحورون متون رواياتهم حول بعض الحالات الخاصة في المجتمع أيضاً مثل:

أولاً - الأقليات الدينيّة: كاليهوديّة كما في رواية (في قلبي أنثى عبرية) لـ"خولة حمدي" من تونس. أو المسحيّة كما في رواية (طشاري) للعراقيّة "أنعام كشاجي" وعدد من الروايات المصريّة التي عالجت مشاكل الأقباط..

ثانياً - الجنس والشذوذ الجنسي: لقد أعلت الرواية العربيّة المعاصرة من قيمة العشق المذموم، وتصوير الحياة بدونه جافة كريهة لا روح فيها، ومن لا يعرف العشق لا يعرف الحياة، بل لا يعتبر إنسانا في نظرهم وقد ملأوا رواياتهم بقصص الحب المحرم بين فتى وفتاة لا تربطهم علاقة، وحتى بين امرأة متزوجة مع رجل غريب والعكس، ورسخوا في عقول بعض الشباب استحالة الزواج من دون سابق علاقة، وشرعوا للزوجة إذا لم تكّن الحب لزوجها يعتبر خيانة. إذ وجدنا عدداً كبيراً من الروايات المعاصرة تلامس بدرجات مختلفة موضوع الشذوذ في المجتمع العربي في مشارق العالم العربي ومغاربه من الكتاب الكبار كما فعل "علاء الأسواني" في (عمارة يعقوبيان)، أو من الشباب كرواية (العفاريت) لـ "أبراهيم الحجري" من المغرب. ولم تتخلف النساء عن خوض معالجة موضوع الشذوذ برواياتهن في مختلف الأقطار العربية، كما هو الحال في رواية (طريق الغرام) لـ "ربيعة ريحان"، أو في الجزائر كما في (اكتشاف الشهوة) لـ "فضيلة الفاروق"، وكذلك وجدنا في اليمن رواية (زوج حذاء لعائشة) للروائيّة "نبيلة الزبير" وكثيرة هي الروايات التي جعلت من الشذوذ محور سردها…(5).

إن من يواكب جديد الرواية العربيّة المعاصرة سيلاحظ في الحقيقة مدى التركيز على الأبطال الذين يعانون القلق، الخوف، الازدواجيّة في الشخصيّة، ومختلف الأمراض النفسيّة. بل إغراق الروية العربيّة المعاصرة في التركيز على (الذات)، بتقديم نماذج تمثل المفرد المنغلق الباحث عن الهدوء وراحته، كرواية (وراء الفردوس) لـ "منصورة عزالدين" (أنموذجا).

ومن جانب آخر، لقد همشت الرواية المعاصرة إلى حد كبير القضايا القوميّة وحتى القضيّة الفلسطينية التي ظلت تشكل محوراً هاماً في الرواية العربية بعد النكبة والنكسة، كما كان في أعمال "غسان كنفاني وإميل حبيبي" وغيرهما، حيث تراجع تأثيرها في الكثير من الأعمال الروائية. بل أكثر من ذلك هـُمِّشت كما ذكرنا في موقع سابق من عرضنا هذا، القضايا الوطنيّة القطريّة ووالإنسانيّة الكبرى لحساب القضايا الذاتيّة، فكان لكل شخصيّة روائيّة قضيتها الذاتيّة تبحث لها عن مخرج في واقع متشرذم فاسد يعمه الدمار والعنف، حتى لكأنَّ روايتنا أضحت حسب تعبير جورج لوكاتش (تاريخ بحث منحط عن قيم أصيلة في عالم منحط)، لذلك تميزت أفعال معظم أبطال الرواية العربيّة المعاصرة بطابع (التشيطن)، فتنوع الأبطال بين المحتال، المتملق، المجنون، المجرم، الوصولي، والأناني، والمتطرف في كل شيء، (في شرب الخمر، في الجنس، في تعاطي الدعارة، وفي الدين…)، وغير ذلك من الشخصيات التي لا تعير اهتماماً للقيم في المجتمعات العربيّة، حيث راحت تتجه كما قلنا في موقع سابق نحو الفردانيّة والامتثال لقوانين اللبيراليّة المتوحشة، وقيم ما بعد الحداثة وخاصة مناداتها بموت القيم والإله والأخلاق كما صرح " نتشه". ومع ذلك وبناءً على ما يجري على أرض واقعنا العربي من فساد وتردي على كل المستويات، أصبح من المستحيل معه أن نفصل بين ما ينسجه خيال روائيينا وما يدور تحت أقدامنا على الأرض العربيّة. وهذا ما جعل من الرواية أطاراً لكل المتناقضات قادرا على تمثيل مختلف الحساسيات والمرجعيات الثقافيّة وإعادة تشكيلها في قالب فني جديد، وكأننا بالرواية المعاصرة نجد تغير وظيفة الرواية الأصليّة حسب ما يقول "حسن مودن": (إن الوظيفة المركزيّة للرواية لم تعد وظيفتها هي نشر رؤية للإنسان والعالم والتاريخ موضوعة مسبقاً، بل إن وظيفتها أصبحت تكشف بطرقها الخاصة ما لا يمكن أن تقوله إلا الرواية حسب عبارة هرمان روخ)، ففي الرواية فقط يمكن بناء مجتمع للمؤلف فيه الحق في السخرية من غطرسة الساسة الحاكمين، وعناد رجال الدين المتزمتين، وسذاجة البسطاء المغلوبين على أمرهم أمام غياب المساواة)..(6).

نعم.. لقد حملت الرواية على عاتقها اقتحام عبابَ بحر متلاطمة أمواجه وعصي على الفهم، إذ وجد الروائي العربي المعاصر نفسه في لج مرايا متقابلة وصراع وقف أمامه مشدوهاً لا يعرف فيه الصديق من العدو، ولا يعرف من يصارع من؟ وكل ما يراه من الدماء وأشلاء الموتى في كل زاوية دون أن يدرك من يقتل من؟ ولأية أهداف يتقاتل العرب داخل بلادهم أو مع بعضهم كدول؟ ولماذا غدت بلاد العرب على كف عفريت وبؤرة صراع. ولكن أمام هذا الواقع العربي المزري يظل سؤال مشروع يطرح نفسه علينا هو: هل تؤثر الرواية العربيّة في تغيير هذا الواقع نحو الأفضل.؟. أعتقد أن الاجابة على هذا سؤال من الصعوبة بمكان، ونحن أمام ضعف نسب قراء الرواية والقراءة في أوطاننا العربيّة، وبسبب قوة التجهيل التي تمارسها الأنظمة العربيّة الحاكمة على شعوبها، ثم بسبب زيادة واتساع مساحة المجتمع الاستهلاكي وثورة المعلومات والتواصل الاجتماعي، وما تقدمه من ثقافة استهلاكية تشتغل على الغرائز أكثر من اشتغالها على العقل. !!.

أهم سمات وخصائص الرواية الحديثة من حيث المضمون:

1- قدرتها على التواصل مع عوالم كثيرة كالتراث والتاريخ والواقع بكل تركيباته وتعقيداته وقضاياه، وكذلك توظيف السيرة الذاتيّة أو عنصراً من عناصرها في المتخيل الروائي كعامل مشابهة بين الشخصيّة الروائيّة والشخص في الحياة. مما جعلها من حيث التركيبة أكثر تعقيدا. أي وصلت الرواية الى مرحلة النص المفتوح تأليفاً، وإلى قراءات وتأويلات متعددة عند المتلقي.

2- توظّف تقنية تعدّد الرواة في أكثر من مدلول خاص يرتبط بواقع مرجعي. فإضافة إلى جانب اعتمادها على تقنية الراوي الشاهد في توليد صورة الشخصيّة المجتمعية الراهنة، فالبطل القومي الذي كان في رواية الثلاثينات والاربعينات ولربما الخمسينات صورة لشخصيّة نموذجية تختزل الاشخاص وتمثل الإنسان في كليته، نرى الرواية العربيّة المعاصرة تركز كثيراً -كما تبين معنا في عرضنا السابق لبعض الروايات العربيّة المعاصرة - على الشخصيات القلقة والممزقة، وغالباً العاجزة المكتفية بالشهادة على الصراع الغامض والمعقد الدائر في محيط الكاتب. وكذلك الميل الشديد إلي تصوير الواقع المحلّي الضيق كالقري والأحياء الشعبية من المدن، واختيار نماذج إنسانيّة مسحوقة أو تعيش علي هامش المجتمع.

3- رغم ارتباط الرواية العربيّة المعاصرة بواقع التاريخ الحديث، وضياع مفهوم الحقيقة، أو غياب الرؤية النقديّة، أو دخولها الى عالم التغريب والغموض، فإنّ هذا الارتباط نفسه أدى في بعضها الآخر الى إعادة تبني مفهوم الواقعيّة من جديد في صياغة الرواية، وذلك عن طريق الاقتصاد في العبارة بدل الإسهاب في الوصف والحرص على تقديم الشخصيّة السويّة مثلما نرى في رواية "عودة الطائر الى البحر" لـ "حليم بركات" ورواية "التيه" لـ "عبد الرحمان منيف".

4.استلهام بعض تقاليد القص والحكي العربي القديم، وتقديمها في صور جديدة من أجل منح فنون القص العربيّة طابعاً قوميّاً وخصوصيّةً وتميزاً، بعد أن سيطر الشكل الأوروبي الوافد علي نتاج الأجيال الروائيّة السابقة.

5- تفوق الوعي الأيديولوجي علي الوعي الجمالي، لأن معظم الجيل المعاصر من كتاب الرواية العربيّة تربي وتعلم في عصر الاستعمار، وشهد بداية الثورات والانقلابات، ثم استيقظ علي انهيار الحلم القومي بعد هزيمة حزيران وغياب الديموقراطيّة والهزائم المتلاحقة عسكريّاً وقوميّاً وفكريّاً، وانتشار أنظمة القهر والدكتاتوريّة والدولة الشموليّة والاستبداد، والتناقضات الطبقيّة الحادة، وانتشار الأصوليّة التكفيريّة، والقهر والجوع والتشرد والهجرة.. الخ.. لقد بدأنا نلمس سيطرة النزعة الوجوديّة وحتى العبثية والنزعة الذاتيّة على الرواية العربيّة المعاصرة وعند جيل الشباب من الروائيين. ومن الملاحظ في جغرافيّة الرواية العربية المعاصرة تراجع دور المركز المسيطر (مصر) في كتابة الرواية، لقد تغيرت خارطة الرواية؛ فبعد أن كانت مصر وحدها، بمشاكلها وأسمائها تحتلّ الذاكرة الثقافيّة، أصبحت بقية الدول العربيّة (الجزائر وسوريا والسودان والعراق ودول الخليج)، وظهر الكثير من الروائيين والروائيات في بقية الدول العربيّة يساهمون في تجذير الرواية وتسليط الضوء على قضايا ومشاكل بلادهم..(7).

الرواية من حيث الشكل:

الشكل الروائي في جوهره، صورة لغويّة سرديّة مكتوبة للفعل أو النشاط البشري، وهي اللغة التي تعبر وتحمل في طياتها مضموناً يعبر عن مضمون الرواية من جهة، مثلما يعبر عن الشكل أيضاً. فالرواية عموماً لم تعرف ثباتا على نهج معين لفترة طويلة، إنها فن التحولات الدائمة التي ما فتئت تجرب آفاقا جديدة متسعة لاحتضان رؤى جديدة يفرزها الواقع المعيش. فالرواية (لا حدود نظريّة لها، وتتسم بمرونة شكليّة أيضاً لا نهاية لها ولا حد… وإنها نوع لا يخضع إلى قواعد ومواصفات وقوانين ثابتة، وأن التحول والمرونة الفائقة هي أهم صفاتها، خصوصاً من حيث هي شكل مفتوح يظل دائما في حالة صنع، فهي مغامرة كتابة أكثر منها كتابة مغامرات كما وصفها – بحق - الناقد الفرنسي جان ريكاريو).(8).

من خلال معرفتنا لشكل الرواية العربيّة تاريخيّاً، نلاحظ أن الروائي العربي المعاصر قد ثار على الشكل الروائي ذاته وتمرد عليها وعلى بنية السرد الكلاسيكيّة. بل وحتى على اللغة العربية التي كانت تتميز بالسجع والبلاغة التقليديّة والحشمة والوقار في معظم روايات نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حتى جاء جيل جديد ليسمي الأشياء بمسمياتها.

(ومثال على أفق التجريب والحداثة في الشكل الروائي المعاصر، نجده في رواية المفكر المغربي "عبد الله العروي" «أوراق» التي تعج بدلالات المغامرة الفكريّة والإغراء التخييلي بنزوح الشكل الروائي إلى تجربة جديدة في الانزياح الذهني، والجنوح إلى المتخيل الغني بالخطابات المتداخلة التي تجعلك في قراءة للفكر الإنساني بشموليته، ونضج تيمي قلما نجده في رواية السلف المؤسس. وهذه الذهنية التخيليّة عند بعض النقاد هي أقصى قمم المغامرة الشكليّة التي تنتصر لنوع من القص يميط اللثام عن قوة اللغة ودلالة الكلمات التي لا تصبح مجرد كلمات وقوالب لسانية لغويّة، بقدر ما تصير وعاءً لفك رموز الوجود الإنساني، وتجريب شخوص الواقع في متخيل مشخصن، مع خلخلة لمفهوم الزمن وما هو متعارف عليه في بنية الكتابة الروائيّة.). (9).

يبدو أن الكثير من عشاق الرواية يجدون ولعاً آسراً في الحديث عن نهاية الأشياء وموتها كما تطرح اليوم مع ما بعد الحداثة: كموت الفلسفة، موت الرواية، موت المؤلّف، موت الإنسان العاقل، إلخ.. ويتخذ الحديث في العادة نبرة مأساويّة منذرة بالتشاؤم، ذات صبغة كهنوتيّة لعلّها تذكّرنا بقرب حلول كارثة بشريّة ماحقة، تنفلت فيها كل الضوابط الحاكمة للحياة الإنسانيّة من عقالها، ويغدو فيها الناس مشتتين مسوقين بدفع عوامل كونية غامضة، أو نفسيّة قاتلة، وربما يمكن مشابهة هذا الوضع البشري مع ما حصل في باكورة الألفيّة الثالثة، وما رافقها من التبشير بنهاية العالم. ولكن الرواية واقعياً لم تحتضر ولم تمت، بل ازدهرت وتنوعت أنماطها، ولا أحسبها ستموت أبداً.

(إن الرواية حيّة باقية لن تموت، وليس هذا ضرباً من التفكير الرغائبي، بقدر ما هو تأكيد لحاجات بشريّة لها جوانبها البراغماتيّة، تتطلّع إلى نتائج مثاليّة ضروريّة لبقاء الجنس البشري، واستدامته وسط ظروف صراعيّة معقّدة تعاكس ارتقاء حياة الكائن البشري في الجوانب العقليّة والنفسيّة والروحيّة). (10).

ومن حيث الشكل أيضاً لقد اتجهت عدّة روايات إلى تكسير قواعد الكتابة الروائيّة الكلاسيكيّة، بالتخلي عن السرد الخطي التصاعدي المتسلسل، واللجوء إلى تكسير المسرود واعتماد نظام الفوضى في تقديم أحداث عمله، لدرجة قد يشعر قارئ بعض الأعمال غياب ذلك الخيط الرابط بين تفاصيلها نتيجة الإسراف في التكرار، والتركيز على تفاصيل قد تبدو لمن اعتاد قراءة الأعمال الكلاسيكيّة غير ذات جدوى عندما يغرق الأبطال في سرد معاناتهم الشخصيّة في ظل الواقع العربي المأزوم الذي يستحيل على مخيال الروائي تقديم حلول له. لذلك حاول بعض الروائيين الهروب من (الآن) إلى الماضي فحكت عدّة روايات أحداثها في الماضي، والهروب من الـ (هنا) إلى خارج الحدود العربيّة، فـ"فوزية شويش السالم" هربت بطلة رواية (سلالم النهار) إلى مكان معزول على قمة جبال ولاية مسندم الواقعة على رأس مضيق هرمز، وطاف كل من "علي المقري، وفضيلة فاروق، وبثينة العيسى، وسعد السعنوسي ومحمد الشعري " … بأبطالهم في عوالم كثيرة بعيدا عن الواقع العربي. (11). وهذا الهروب للأبطال نجده في رواية (طعم التوت البري) للقاصة فلك حصرية.

أهداف الرواية العربيّة المعاصرة:

لا شك أن أي عمل أدبي يحمل أهدافاً في مضمونه يريد إيصاله للمتلقي بهدف التأثير فيه سلباً أو إيجاباً، والرواية من الأعمال الأدبيّة الأكثر تأثيراً كونها الأكثر شعبيّة وانتشاراً. وهي تبني عوالم خياليّة ينتقل إليها القارئ بوجدانه وأحاسيسه ومخيلته، كونها تصور له حياة متكاملة لا يستطيع أن يلملم أطرافها في حياته القصيرة التي يعيشها، بل كثيراً ما يكون هناك تشابه بين القارئ وبين بعض شخصيات الرواية في ظروف حياته وتطلعاته فيتتبع القارئ مسيرة هذه الشخصيّة بشغف، ويرافقه شعور بالسعادة عند تحقيقها لطموحها، أو يعي الدرس عند فشلها في اتباع نفس طريقه وطموحه.

من خلال عرضنا لأهم الظروف التي تحيط بواقعنا العربي، والعوامل الداخليّة والخارجيّة التي أثرت في خلق هذه الظروف، وخاصة تلك الأمراض المستشريّة على كافة المستويات الاجتماعيّة والأخلاقيّة والفكريّة والسياسيّة، فقد جاءت أهداف الرواية لتسليط الضوء عليها وكشفها وما مدى تأثيرها على البنية الاجتماعيّة، وهذا الكشف يكفيها في الحقيقة كونه يشكل عامل توجيه للمتلقي العربي وتعريفه على واقعه وأسباب أمراضه السائدة فيه.

إن الرواية العربيّة المعاصرة في سياقها العام، استطاعت أن تمنح القارئ فوائد متنوعة لا يستطيعها أي فن أدبي آخر تقديمها لعذوبتها وسيولتها وقدرتها على الولوج في كل باب والمشي على الأشواك والقفز فوق الحواجز. مثلما منحت قارئها ثراءً لغويّاً خاصة إذا كان الكاتب يتمتع بقدرة على انتقاء الألفاظ ووضعها في مكانها المناسب. كما أنها استطاعت تلخيص تجربة شخصيته. فالروايات معظمها سير شخصيّة تُقولب في قوالب متنوعة ويضفي عليها الروائي من رؤاه وأفكاره وتجاربه، وتختلف صعوداً وهبوطاً بحسب حياة وتجربة وثقافة الروائي.

كما أن الرواية قد تنقل تجربة تاريخية، فالمؤرخ يقدم أحداثاً وأرقاماً جامدة، ولا ينقل للقارئ التفاعل الاجتماعي والنفسي لتلك الأحداث الواقعة في زمان أو مكان لم يعشه القارئ، فينقل إليه الحدث بتفاعلاته النفسيّة والاجتماعيّة، بل ويدخله في الحدث ويجعله يعيش تفصيلاته اليوميّة والتغيرات التدريجيّة التي تتشوف نفسه إليها عند قراءة الحدث. ومما تتميز به الرواية عن التاريخ أنها تؤرخ للحدث اليومي، وللشخصيات المهمشة في التاريخ، حيث لا يمكن أن يكون لها حضور على مستوى الحوادث الكبرى وفعلها في الحدث، وغير ملحوظ للمؤرخ فيغفلها عند تسجيله للحدث، بعكس الروائي الذي يستحضرها ويجد نفسه مضطراً لها عند بنائه الروائي.

كما أن الرواية قد تنقل لقارئها الحياة الداخليّة لفئة أو طبقة لا يستطيع الاتصال بها أو معايشتها، وهناك مقولة لأحد الزعماء الأوروبيين يقول: (لقد فهمت أوروبا من روايات بلزاك أكثر مما فهمتها من كتب التاريخ الفرنسي)، فهي الفن الوحيد الخالي من القيود الفنيّة المنفتح على كافة مجالات الحياة، وعلى حد تعبير إبراهيم نصر الله: إن الرواية هي (ذلك الفن المشرع على الحياة بكافة تجلياتها الإنسانيّة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، والقادر على الخروج بجرأة إلى كل ما ينتجه البشر من أنواع إبداعيّة ليتمثلها كما لا يتمثلها أي فن أدبي). (12).

إن الرواية لها أثرها البعيد سلباً أو إيجاباً كما أشرنا أعلاه، وكثيراً ما يتسرب أثرها غير المباشر إلى مكنونات عقل القارئ ونفسه ووجدانه فيتبنى ما فيها من رؤى وأفكار ويتمثل ما بها من مشاعر.

***

د. عدنان عويّد

.....................

الهوامش"

1- الويكيبيديا. بتصرف.

2- الرواية العربية وتطورها – محمد هادي مرادي* - آزاد مونسي** قادر قادري*** رحيم خاكپور- دراسات في الأدب المعاصر، السنة الرابعة، شتاء 1391 ، العدد السادس عشر.).

3- (الرواية العربية شحنات سالبة أو موجبة!! – محمد الروائي العربي- جمهورية مصر العربية - موقع: https://www.ktlyst.org/). بتصرف.

4- (موقع:الجزيرة نت -هل ساهمت الرواية العربية المعاصرة في كتابة تاريخ جديد؟ - أشرف الحساني.). بتصرف.

5- (الرواية العربية شحنات سالبة أو موجبة!! - محمدالروائي العربي - جمهورية مصر العربية - موقع: https://www.ktlyst.org/ ). بتصرف.

6- المرجع نفسه.

7- المرجع نفسه. بتصرف.

8- (د. جابر عصفور: ابتداء زمن الرواية: ملاحظات منهجية، الرواية العربية ممكنات السرد، سلسلة عالم المعرفة، عدد 357، إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، نوفمبر2008، ص 155).

9- (- مغامرات الشكل القصصي من التقليدية إلـى التجريب ـ الرواية نموذجاً - د. محمد الكرافس. بتصرف.

https://alketaba.com/

10- (القدس العربي - الرواية في عالمنا المعاصر – لطفية الدليمي.).

11- (الرواية العربية شحنات سالبة أو موجبة!! - محمدالروائي العربي - جمهورية مصر العربية - موقع:).بتصرف.

https://www.ktlyst.org/

12- (الرواية العربية (الواقع والطموح) - موقع ميداد: - محمد الفقيه). بتصرف.

https://midad.com/

 

"الآن بدأت حياتي" للروائي السوري سومر شحادة نموذجاً

يقول إياس أحد شخصيات الرواية في نهاية المقطع التعريفي الخاص به " الآن تبدأ حياتي"، بعد أن أراح نفسه من تركة علاقته مع طليقته صفاء، المرأة الغائبة ومعها ابنهما في المهجر، حيث بدا فرحاً بلجوء لين، الحاضرة، إليه، ولن تسافر، لين التي تتحدث في المقطع التعريفي الخاصّ بها عن مقتل المحامي يوسف، كما تذكر أنه حسب ما نشر في الفيسبوك، كان مقتله على خلفية تورّطه في عددٍ من القضايا ضد أشخاصٍ فاسدين، كما قرأت تعليقات، يقول معظم أصحابها بأنه كان هارباً من انكشاف أحد ملفّات الفساد، كما قرأت عن ترجيح احتمال الانتحار، تلك الطريقة الشائعة في تصفية من يعترض طريق المافيا.

لين التي سيتّهمها المحققّون بالجريمة، كانت مقهورةً من العالم الذي شكّل علاقاتها المعقدة مع يوسف المقتول أو المنتحر، ومن ريما زوجة يوسف ومن صفاء طليقة إياس. والأخير كان هو من تريد أن تبدأ به حياتها أيضاً. ربّما كانت فرحةً لموت يوسف، إذ كانت على علاقةٍ عاطفيةٍ به، فرحها يكمن في أنّها أحسّت بالخلاص من الخديعة، خديعة حبّها ليوسف، الذي سيسافر إلى أميركا، برفقة زوجته ريما.

إياس، لين، ريما، ناديا، نهاد؛ هذه الأسماء، تشكّل المحور الرئيس لأحداث الرواية، ولذا يقدّمها الروائي سومر شحادة في مقاطع تعريفيةٍ خاصّةٍ بكلّ واحدٍ أو واحدةٍ منهم، تقدّم هذه الشخصيات رؤاها لعالم العلاقات التي تشتبك بها مع الآخرين، مع الحفر السردي لدواخل هذه الشخصيات، كلُّ ذلك في الفصل الأول من الرواية ذات الثمانية فصول.

نسائم علاقةٍ عاطفيةٍ جديدة

في مقطع التعريف الخاص به، يشرح إياس خلفية علاقته بلين، صديقة طليقته صفاء، حيث لجوئها إليه صباح اليوم التالي لموت يوسف، كان بمثابة هبوب نسائم علاقةٍ عاطفيّةٍ جديدةٍ في حياته، وكان قد حصل بينهما ودٌّ شفيفٌ في حفلة وداع يوسف وزوجته ريما للسفر إلى أميركا، على خلفية تداعيات الحرب في سوريا.

أمد الأحداث في الرواية لم يتجاوز أربعاً وعشرين ساعة، تبدأ من تجمّع الشخصيات أعلاه في منزل يوسف لأجل حفلة الوداع، فضلاً عن مدعوّين آخرين من المحامين ضمن شبكة معارف يوسف، وكذلك نذير خال زوجة يوسف، الرجل الغامض في الرواية، حيث بعد انفضاض السهرة، حدث ما يُشكُّ بأنّه انتحار. نذير الذي له علاقة قرابةٍ مع القضاء، كان مؤثراً في سير مجريات التحقيق، مطالباً المحققين بحسم موت يوسف على أنهُ قتلٌ وليس انتحاراً، كما أنَّ المحقق الرئيس ومعه مساعدان، كانا عجولين في البتّ بالقضية، وإعلان نتيجة التحقيق أمام الرأي العام، وذلك مطلب الجهات العليا.

من هذا العالم العلاقاتي المتشابك بنفوس شخصيّاته المضطربة، نفذت هذه الجريمة، التي اتُّهمت فيها لين، لأنّهُ في عالم اللاعدالة، ينبغي أن يكون هناك متَّهمٌ بريء، توجيه الاتّهام إلى لين كان مع سبق الإصرار، لأنّه حين استجوب المحقّقون ريما، أدلت بشهادة، بأنّها هي التي قتلت يوسف، بما معناه لا تتّهموا بريئةً في قتله. شهادة أربكت مسار التحقيق، وحين تشاوروا مع نذير، رفض التحريف الجديد لمسار التحقيق، حيث جهّز شهوداً آخرين، من بينهم صاحب السوبر ماركت، وحارس البناء الذي فيه شقة يوسف، اللذان أشارا بعودة لين إلى مسرح الجريمة ثانيةً، قبل وقتٍ قليلٍ من حدوثها.

العشيقة المغدورة

ومادامت الجريمة هي بؤرة الحدث، فإنّ المتهمة لين، تصبح قبلة أنظار الجميع، كما أنّ الحديث عن كلِّ شيءٍ يتعلّق بها، التهم الكثير من صفحات الرواية. لين التي تعيش وحيدةً في غرفةٍ مؤجّرة، تعيش منفصلةً عن أبويها، مثلما تخاف الارتباط الدائمي، هي المُشبعة بحكايات الانفصال بين الأزواج، لكنّها رمت نفسها في حكاياتٍ لا أمل منها، وتقصد المصير المسدود في علاقتها مع يوسف، التي انتهت بموته. قررت الانتقام من واقعها المتأزم، لا عبر قتل يوسف، كما تشير لائحة الاتّهام الرسمية، بل باللجوء إلى إياس، في صباح اليوم التالي لموت يوسف، لأنّها تعلم أن الطريقة الوحيدة لدخول حياته، هي أن تفرض نفسها عليه.

كانت لين قد هجست أنّه ربما سيوجَّه الاتّهام إليها، فهي بعد أن غادرت حفلة الوداع مبكراً، بعد أن تجاهلها يوسف أيضاً، عادت مرةً أخرى إلى مسرح الحدث، عودتها كانت الخطأ القاتل. لقد رآها زملاء يوسف في هذه العودة الثانية، وذكروا ذلك أمام المحققين، مما أرسل إلى المحققين تأكيداً على اتّهامها بقتله. كانت تتمازح مع ما أصبح خطأها الكبير: "لا أنسى مظهري في الشارع أمام زملائه، بدا أنّي مقدمةٌ على جريمة قتل. أمرّ مضحك. لا أستطيع أن أمنع نفسي من الضحك لهذا الخاطر؛ وهو أن يترك تعذّر وداع الأحبّة على الوجوه إيحاءً يشبه تعابير مرتكبي الجرائم" الرواية- ص 39 .

السيناريو المُدبّر

لم يتضّح السيناريو القاضي باتّهام لين بالقتل، إلاّ عندما استدعى المحققون نهاد والد يوسف، الذين سمّوه الشاهد الملك، وهو الممثل الأخير في مسرحية الاتّهام؛ لين كقاتلة، وإياس كمتستّرٍ عليها، ما أدلاه المحقّق الرئيسي على مسمع الشاهد الملك، ما هو إلا تقنيّةٌ سرديةٌ استخدمها الروائي، ليوضّح للقارئ تفاصيل القضية بحسب رؤية العدالة المُزيّفة، فسرد للشاهد الملك الحكاية الغامضة كي يوافق شكليّاً ولو بالإيماءة، بأنه هذا ما جرى فعلاً؛ ابنه يوسف قتلته عشيقته بمساعدة صديقه، حيث كان يوسف على علاقةٍ مع زوجة صديقه إياس، وانفصلت زوجته صفاء عنه جرّاء خيانةٍ صعبة. يوسف أهدى صديقه إياس منزلاً رخيصاً قياساً بفقد العائلة: الزوجة والابن. إهانةٌ لم يستطع إياس تقبّلها. كما أنّ يوسف وعد عشيقته بالزواج منها، ومن ثمّ قرّر أن يسافر مع زوجته، ويبدأ حياةً جديدة، وهذا استخفافٌ بمشاعر العشيقة لين، التي وجدت من يساندها كي تنتقم. المحقق الرئيسي، يقول لوالد يوسف" فعلنا ما بوسعنا لترتيب هذا السيناريو . وإبعاد أيّ تشويشٍ عن جوهر التحقيق. هل توافقنا عليه". الشاهد الملك أو الأخرس، أومأ بنعم .

أحسب أن الروائي قدحت عنده في البدء، هذه الفكرة البوليسية، وأقام عليها معمار الرواية، ومن ثم هيكلها في منحيين: العلاقات الحميمة والمريبة والمتداخلة بين شخصيات الرواية الأساسيين، ومن ثمّ الشقّ البوليسي، شقّ التحقيق مع الشخصيات ذاتها، حيث يقتحم عالم الرواية المحقق الرئيس ومساعداه ليفتحوا ملف العلاقات ثانيةً بصيغ اتّهامية متعدّدة، لتنحسر إلى صيغةٍ واحدة، وهي الضرورة الحتمية في اتّهام لين، لأنه لا بُدّ من مُتّهم، لكي لا تبقى نهايات التحقيق مفتوحة، وبالتالي لا بدّ من إحقاق العدالة الرسمية في غضون أربع وعشرين ساعة، حيث المشهد الأخير، تمثّل في مداهمة الأمن الجنائي لشقة إياس، وكان هو ولين عاريين، وقد اقتيدت لين بعنفٍ إلى سيارة الأمن، كان إياس قد أدرك أن بإمكانه التحرّر من سطوة طليقته صفاء، فكلّ شيءٍ في المنزل يذكّره بها، وتذكر الرواية في صفحتها الأخيرة بأنه أخذ يغالب شعوراً مريراً وقاهراً بالقول لنفسه: الآن بدأت حياتي..

هذه الرواية بحبكتها البوليسية المحزنة، حيث لم تتّخذ العدالة الحقيقية مجراها الصافي، تحمل في طيّات سرديّاتها الشفافة؛ ثنائية وهم الحب والانتظار، من جهة لين مع يوسف، كما ثنائية الصداقة والخديعة، من جهة لين وريما، بوصف الأولى عشيقة زوجها يوسف، وقبلاً لجهة صفاء مع ريما، بوصف الأولى أيضاً من عشيقات يوسف. إنّها روايةٌ تصوّر عالماً مضطرباً في زمن انعدام الحريات، إنّها تمثّل خير تمثيل الاحتجاج على العدالة المزيّفة.

***

باقر صاحب – أديب وناقد

.....................

* الرواية، من تأليف الروائي السوري سومر شحادة، وصدرت عن دار الكرمة – القاهرة عام 2024.

مواسم الغروب: رحلة بين الوجود والزوال

***

1- البنية واللغة:

يعد نصّ /بعيداً عن جمهورية أفلاطون/ نصًّا شعريًّا معاصرًا مليئًا بالصور الفنية المكثفة والرموز التي تتنقل بين مستويات عدة من التأمل الفلسفي والوجودي، إلى جانب التشبيهات الحسية التي تربط الذات بالعالم الطبيعي. من خلال استخدام الشاعرة للزمن والفصول الطبيعية، يطغى على النص الطابع الانفعالي والتشويش الوجودي، إذ أن الشخص الذي يتحدث في القصيدة لا يملك تصوّرًا ثابتًا لوجوده في سياق الزمان والمكان.

2- الطبيعة وعلاقتها بالذات:

إحدى السمات البارزة في النص هي تداخل المواسم والفصول مع مشاعر الشاعرة، ما يخلق نوعًا من الوحدة بين الذات الطبيعية والوجود البشري. يمكن للقارئ أن يلحظ حضور الفصول الأربعة كرموز دائمة للتغير والانتقال، الأمر الذي يعكس حالة عدم الاستقرار والاضطراب التي تعيشها الشاعرة.

الشتاء الذي يبدو /بيضاءً بيضاءً/ يرمز إلى النقاء والبرودة، لكنه في الوقت ذاته يحمل غربة الداخل والشعور بالعزلة.

الصيف الذي /يذروَ رمادَ إنتظاري/ يجسد الحنين والعذاب الناتج عن الانتظار الذي لا يفضي إلى شيء، مما يترك خلفه رمادًا غير منتج.

الخريف الذي /يمرّ من جنبيَ مرتديًا عباءةً صفراءَ/ يضفي على النص شعورًا بالشيخوخة والفقدان، حيث الخريف يرمز إلى النضوج الزائل والتحولات الحتمية.

أما الربيع، فيُحتَسَبُ كرمزٍ للأمل المتجدد، لكنه في النص لا يأتي حاملًا للبشرى المتوقعة، بل يتساقط تحت ضغط /الهسيس/ من الأطواق الخضراء للشعر.

هذه الفصول، وإن كانت تمثل دورة حياة طبيعية، إلا أنها تصبح مشهدًا للاضطراب الوجودي، وهو ما يعكس شعور الشاعرة العميق بتشتت الذات والعجز عن التكيف مع العالم المحيط.

3- الرمزية والخيال:

النص مليء بالرموز التي تحمل معانٍ فلسفية وتجريدية تعكس الصراع الداخلي. الشاعرة تستعير من العالم الطبيعي صورًا حية وساخرة لتصف تجربتها الشخصية:

الذبابة التي /تَتَيَبّسُ/ في الشاعرة تصبح صورة للحظة الموت أو التوقف، في مقابل العصفورة التي تبرز كرمز للحركة والتغيير.

النحلة التي /تخطفُ قبلةً/ من الشاعرة تظهر كرمز للرغبة والألم، حيث أن النحلة، بوصفها كائنًا طائرًا، تُجسد التوق الدائم والمستمر للحب والحرية، لكن كل قبلة تُخطف وتُسقط تُعتبر خسارة على مستوى الذات.

النملة التي /تطمسُ تاريخ الأرضِ بحبة قمحٍ ثقيلةٍ/ تمثل الموت الزاحف أو الفناء الذي لا مفر منه، في حين أن العنكبوت والدودة يرمزان إلى الموت البطيء والمجهول الذي يحاصر وجود الشاعرة.

هذا العالم المليء بالكائنات الصغيرة التي تتفاعل مع الشاعرة يشير إلى نوع من التلاعب بالأقدار، حيث يتم اختطاف لحظات الوجود والحب والتاريخ في عالم لا يبدو أنه يحتفظ بأي شيء مستمر أو ثابت.

4- الوجود والعدم:

يتحول النص إلى بحث عن معنى الوجود من خلال اللغة المكسورة والملتهبة التي تسود الأبيات. الشاعرة تتساءل عن طبيعة وجودها في هذا العالم، وتطرح تساؤلات وجودية عن جدوى الحياة والآلام التي تتراكم بمرور الزمن:

السؤال الوجودي الذي يظهر في قولها: /لِمَ غدوتُ موسماً مدمراً غيرَ مُتصالحٍ/ يعكس شعورًا بالفقدان والعزلة.

التوتر بين الفصول (الربيع والصيف والخريف والشتاء) يشير إلى محاولات عديدة لإيجاد الاستقرار، لكن الواقع يكشف عن تقلبات وصراعات لا يمكن التنبؤ بها.

القصيدة تصبح مساحة للشعور بالعجز أمام دورة الحياة التي لا تتوقف، وهذا يظهر بوضوح في التشبيهات التي تلجأ إليها الشاعرة في وصف تجربتها الوجودية.

5- التمرد على التوقعات والروتين:

تظهر الشاعرة كمتمردة على الرتابة الدنيوية والوجودية، حيث تشير إلى سعيها للخروج من النظام المنطقي والمرتب الذي تحاول الفلسفات الكبرى (مثل أفلاطون) فرضه على الوجود. ففي إشارة إلى /جمهورية أفلاطون/، يبرهن النص على رفض النظام المثالي الذي يقترحه أفلاطون، ليحل محله العالم غير المثالي، حيث الألم والفوضى والغياب سيّد الموقف.

6- الانتصار على الفوضى:

رغم كل هذا التوتر والفوضى التي تسود النص، فإن الشاعرة تصل إلى لحظة من الوعي الذاتي المتجدد، يتمثل في الختام حيث تقوم /خيالي بمَحوِ مواسمي/. هذا يشير إلى محاولة تصالح الشاعرة مع نفسها، وتحريرها من أسر المواسم والأوقات التي سلبتها قدرتها على التفاعل مع العالم.

7- خاتمة:

نص /بعيدًا عن جمهورية أفلاطون/ هو نصّ فلسفيّ بامتياز، يستحضر تداخلًا بين الواقع والفنتازيا، بين الحياة والموت، بين الوجود والعدم. الشاعرة چنور نامق تقدم من خلال هذه القصيدة رؤية كونية معقدة، تتفاعل فيها الذات مع عناصر الطبيعة والعالم المحيط بها، وتبحث عن مواضع التوازن في عالم دائم التغير والتقلب. النص يتسم بالانفتاح على أكثر من قراءة، وهو يعكس حالة من البحث المستمر عن معنى في عالم مليء بالتحولات والصراعات.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

..........................

بعيداً عن جمهورية أفلاطون

شعر: چنور نامق

ترجمة: مكرم رشيد الطالباني

***

أنا  موسمٌ آخرَ الآنَ

وموعد غروبي غير معلومٌ

تَتَيَبّسُ فيَّ ذبابةٌ

وتستَكينُ بغربةٍ على غصنِ ضفيرتي الموشحة بالهموم

عصفورةٌ

يزورني الشتاءُ

ويبدو بيضاءً بيضاءً

فيما الصيفُ يذروَ رمادَ إنتظاري

والخريفُ يمرّ من جنبيَ

مرتدياً عباءةً صفراءَ

ويحسدُني الربيع

ليقطفَ بالهسيسِ أطواقَ شَعريَ الخضراءِ

ليتساقطَ بدوره

**

الآنَ أنا جزءٌ آخرَ من جسدِ النساء الغاضبات

متقرفصةٌ أمام الجناتِ

يحدقنَ فيَّ بحسَدٍ

هن لن يكفنَ عن الماراثون وأنا من زياراتي المفاجئة

الآنَ أنا نهرٌ آخرَ

لن تسمحَ الهموم الصغيرةَ لـ(فيرمينيا) أن تتعرّفَ علي الأسماكُ

تُلَوِنُني الأمطارُ

تغترِفُني طحالبُ الحياةِ

الآنَ أنا نهرٌ آخرَ

تخطفُ نحلةٌ منيّ قبلَةً

لتسقطَ على بضعِ خطواتِ منيّ

لتطمسَ نملةٌ تاريخ الأرضِ

بحبة قمحٍ ثقيلةٍ

فيما  يهدمُ دارَ خياليَ غُرابٌ

ومن ثم تخطِفُ نحلةٌ أخرى قبلةً منيّ

لتسقطَ على بضعِ خطواتٍ منيّ

والآن تجدني ملأى بنحلاتٍ تواقاتٍ للقُبَلِ

بنملاتٍ ذي أحمالٍ ثِقالٍ

بعصافيرَ أضطربتْ نومها

**

وزعةٌ تلتهمُ البعوضَ

على مرأى من الشمسِ

فيما فراشةٌ تتلذّذُ بكلتا قدميها من قبلاتِ شفاهيَ

شبحٌ ينشرُ كفنٌ خُيّطَ حديثاً أمام مرآى ناظريّ

ملاكان يتشاجران حول الوجود

الصيفُ يرشني بالنارِ

والشتاءُ يُجَمّدُني

والخريفُ يُغَطّيني بعباءةٍ ناصعةِ البياضِ

فيما ها هو الربيعُ يسيرُ أمامَ جنازاتِ النحلاتِ

الوقتُ متأخرٌ وصخبُ موسمي هذا لا ينتهي

عنكبوتٌ

يبحثُ كيديكَ في ثنايا شعري عن القملِ

فيما تحرثُ دودةٌ أرضَ شُجَيراتي

يُبَلِغُني نورٌ بنبأ رحيلِ البرقِ

فيما الأشجارُ ترقصُ فيّ لدرجةٍ أهتزُّ

يا إلهي

لِمَ غدوتُ موسماً مدمراً غيرَ مُتصالحٍ

المزهریاتُ تملأُ نفسها من عِطريَ كلّ مساء

المسافرونَ يُعيدونَ آمالي إلى أحضانِ الحياةِ

بملء سلالهم

تَتَيبسُّ صرصورٌ بأمر النور على بضعِ خطواتٍ من إحدى شجيراتِ رغبتي

حان وقتُ غروبيَ الآن

يخطفُ عصفورٌ، نملةٌ ناظري

ونحلةٌ تخطفُ شفاهي

على إثر وقعَ أقدامهِ

يقوم خيالي بمَحوِ مواسمي

 

أبا الحسنين: شكوى فاطميّ

هذه القصيدة تُجسِّد أسمى تجليات الشعر العربي الأصيل (الذي نفتقده)، إذ تفيض بمشاعر الإعجاب والتبجيل نحو شخصية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. حيث يعبر الشاعر السماوي عن مكانة الامام بأسلوب شعري بليغ يزخر بالصور المشرقة والمجازات البديعة، مما يجعل النص لوحة متألقة بألوان الإجلال والعظمة. القصيدة لا تقتصر على المدح، بل تتوغل في بُعدٍ إنساني عميق يعكس شكوى النفس وحلمها بالعدل. إنها أنشودة تحتفي بمناقب الإمام الخالدة وتجسدها بإبداع متدفق بالعاطفة والروح، ما يخلّد سيرته في أفق الأدب الخالد.

القصيدة ترتقي في مديح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى مستوى رفيع من التعابير الشعرية، حيث يمزج الشاعر بين التصوير الفني العميق والرمزية المدهشة، مُبرزًا أبعادًا متعددة من شخصية الإمام: الشجاعة، الطهارة، والعدل.

ففي البيت:

"فلستُ بمادحٍ شمسًا بقولي

تفيضُ سنىً فطبعُ الشمسِ رفدُ"

يرتقي الشاعر بالمديح إلى مقام الكمال، فيُشبه الإمام بالشمس التي تمنح نورها بلا مقابل، في استعارة تجمع بين الديمومة والكرم، وهو تشبيه يرمز إلى القوة والعظمة والإشراق، مؤكدًا أن الصفات السامية للإمام تُدرك بالحسّ لا بالكلمات. إذ يشبّه الإمام بالشمس التي تُشرق نورًا لا ينضب.

أما قوله:

"ومن ـ إلآكَ ـ بينَ الخلقِ شقَّتْ

جدارًا كعبةٌ ليقومَ مهدُ"

فهو تصوير يفيض بالرهبة والجلال، إذ يُبرز ولادة الإمام داخل الكعبة كحدثٍ فريد يجمع بين البعد الإلهي والرمزية التاريخية، في إشارة إلى طهارة الأصل وعلو الشأن.

وفي البيت:

"وُلِدتَ مُطهّرًا في خيرِ بيتٍ

وخيرُ الخلقِ منهُ عليكَ بردُ"

يتجلى الربط بين الإمام علي والرسول الأعظم محمد ﷺ في أسمى صور التلاحم الروحي، مما يُبرز الشاعر نقاء الإمام من خلال ارتباطه بالبيت النبوي، حيث يحتفي بطهارته وصفاء سيرته، مما يعكس صورة تكاملية تجمع بين السمو الشخصي والارتباط النبوي.

القصيدة تُثريها موسيقى بحر الكامل، بما يحمله من إيقاع متدفق يُبرز المضمون الفخم. القافية المُنتهية بـ "الدال" تُضفي ثباتًا على النص، فيما تتألق البلاغة عبر المحسنات البديعية كالجناس في:

"وأنتَ برودهُ إنْ شبَّ جمرٌ

وأنتَ لهيبهُ إنْ ضجَّ بردُ"

الذي يعكس التكامل في شخصية الإمام، بوصفه مصدر الأمان والحزم معًا.

وتمتد المعاني إلى نقد الواقع، حيث يصف الشاعر فساد الأمة في:

"أبالسةٌ ـ وإنْ صلّوا وصاموا ـ

وحفَّ بركبهمْ حرسٌ وجندُ"

ويبرز حاجتها إلى قيادة رشيدة تُجسّد قيم الإمام، كما في:

"فما نفعُ الكتائبِ دون حزمٍ

يسيرُ بها غداةَ يَحينُ جدُّ"

ليؤكد أهمية القيادة التي تتسم بالعدل والحزم في استعادة المجد.

القصيدة تقف شامخة في مديح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، حيث استحضر الشاعر أسمى القيم والمآثر التي تجسّد مكانته السامية. تجسد الأبيات مشاهد فنية عميقة، تمزج بين الرمز والواقع، وتبني للإمام صورة مثالية تستند إلى المجد والعدل والشجاعة

كما وتتسم بجزالة لغوية وتراكيب متينة، حيث تتدفق القوافي بسلاسة، معززة إيقاعًا موسيقيًا محكمًا. الصور البلاغية تنبض بالحياة، مثل قوله:

"فأنتَ الشمسُ لكن لا غروبٌ"،

و"عيدُكَ وحدَهُ للظلمِ وعدٌ"،

ما يمنح النص قوة تعبيرية متفردة. تكرار استخدام المفارقات (الشمس بلا غروب، والحدّ بلا حدود) يعكس طبيعة الإمام الفريدة التي تتجاوز المألوف.

كما لم ينس الشاعر ان يتناول قضية العدالة من منظور إنساني عميق، مؤكدًا على استقامة الإمام ورفضه للظلم.

القصيدة تُبرز الجانب الإنساني للإمام، فهو الشجاع والرحيم، الذي يُغيث المظلوم ويرد كيد الظالم. فيقول: "وإنْ عطشَ النميرُ فأنتَ وردُ"،

وهو تصوير يضهر شخصيته كمصدر للخير والحياة.

القصيدة تُجسّد تحفة شعرية متألقة تجمع بين الجزالة الفنية والرمزية العميقة، فتُبرز شموخ الإمام علي عليه السلام في صورة مشرقة تُحيطها العظمة والجلال. يُظهر الشاعر براعته في المزج بين الوصف الحسي والمجاز، مستحضرًا فيضًا من المعاني التي تؤكد مكانة الإمام كرمز للعدل والطهر والشجاعة. الموسيقى الشعرية المنسجمة تُضيف وقارًا للنص، فيما تفتح الأبيات أفق التأمل لاستلهام قيمه النبيلة، لتكون نبراسًا لإصلاح المجتمعات والتمسك بمبادئ الحق.

***

سعاد الراعي

.................

للاطلاع على قصيدة الشاعر يحيى السماوي

https://almothaqaf.org/nesos/979049

عن نص بعنوان (الحافلة) لـ (خالد جمعة) كتابة 1994 وسينوغرافيا وإخراج ومعالجة نصية لـ (د. حيدر منعثر). بطولة لمياء بدن وزهرة بدن ولؤي أحمد وطلال هادي وأياد الطائي وآخرون والذي تم عرضه على خشبة مسرح الرشيد يوم الثلاثاء الموافق ١٧/ ١٢ / ٢٠٢٤ ضمن فعاليات مهرجان بغداد الدولي للمسرح 5/ دورة الفنان الراحل الدكتور شفيق المهدي.

حين يتحوّل سؤال بسيط كـ "وين رايحين" إلى صرخة وجودية تهز أركان المسرح العراقي، تدرك أنك أمام عمل استثنائي يتجاوز حدود التقليد ليؤسس لرؤية مسرحية معاصرة. على خشبة المسرح، تتجسد حافلة معطلة، ليست مجرد ديكور ثابت تراه وتحسه من الخارج بل حقيقة تعيشها من الداخل وتتماهى معها لأنك احد ركابها بامتياز، وهي استعارة درامية لوطن محاصر بأسئلة المصير وقلق الهوية. يقودها سائق متوهم مغتر بحنكة زائفة، بينما يجلس على مقاعدها مانيكانات جامدة تنتظر لحظة التحول، في مشهد يختزل مأساة مجتمع يترنح بين سلطات متعددة وأيديولوجيات متصارعة.

يقدم المخرج حيدر منعثر في "وين رايحين" معالجة إخراجية فريدة تمزج بين نظرية ستانسلافسكي في تحريك الكتل وأسلوب بريخت في التغريب المسرحي. فالمانيكانات الثابتة التي تولي ظهرها للجمهور ليست مجرد عناصر سينوغرافية، بل هي تجسيد لحالة الصمت والخضوع التي تسبق الثورة، في انتظار لحظة التحول الدرامي التي ستهز وعي المتلقي.

لنرتقي سلم مستويات العرض البصرية ونطأ العتبة الأولى فيه التي هي العنوان "وين رايحين؟" حيث تجلى العنوان كسؤال وجودي عميق يتجاوز حدود الاستفهام البسيط عن الوجهة، ليطرح إشكالية فلسفية وجودية واجتماعية متعددة الأبعاد.

فعلى المستوى الفلسفي، يستدعي العنوان أسئلة الكينونة الأساسية: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ وما معنى وجودنا في عالم يفقد بوصلته كلما مضت خطواتنا فيه بعيدا؟ إنه سؤال يستبطن القلق الوجودي الذي تحدث عنه هايدغر، حيث يجد الإنسان نفسه "مقذوفاً" في عالم يفتقد فيه اليقين ويبحث عن معنى لوجوده.

اجتماعياً، يكشف العنوان عن أزمة مجتمع يعيش حالة من التشظي والضياع. فالسؤال "وين رايحين؟" يعكس حالة جماعية من فقدان البوصلة في خضم التحولات السياسية والاجتماعية العاصفة. إنه صدى لصوت جيل كامل يجد نفسه عالقاً بين موروث ثقيل وحداثة مربكة، بين سلطات متعددة تفرض وصايتها، وبين هويات متصارعة تسعى كل منها للهيمنة.799 show

أما على المستوى الوجودي، فيتحول "وين رايحين" إلى صرخة احتجاج ضد العبثية والعدمية. إنه سؤال يحمل في طياته بذور التمرد على واقع مفروض. يتجاوز الاستفهام هنا مجرد السؤال عن الوجهة ليصبح تعبيراً عن قلق الهوية في عصر تتآكل فيه المعاني وتتشظى فيه الذوات.

الحكاية: مجموعة من الركاب تحتضنهم حافلة معطلة وسط مكان يجهلونه بتعمية قصدية ليشمل وطنا بأكمله تواجههم عقاب الوصول لوجهاتهم بألوان مختلفة لكنها واقعية عشناها كذاكرة جمعية لا تفارق وجداننا وخوفنا الدائم من عودتها. في سياق المسرحية، يكتسب العنوان بُعداً درامياً خاصاً، حيث تتحول الحافلة المعطلة إلى استعارة مكثفة لحالة الضياع الجمعي والزمن المتحجر. ولو توغلنا عميقا في مفهوم "الزمن المتحجر" لوجدناه يفجر كتعبير عن الجمود الحضاري باعتباره حالة وجودية معقدة تعكس المسار التاريخي للمجتمع العراقي، حيث تتحول الحافلة إلى رمز للوطن المعطل والمحاصر. حيث مرت تلك الحافلة بمراحل للتدهور: جعلتها تنتصب في مسار طريق العراقيين ممثلة لـ "ميتافورا" الرحلة المعطلة رمز للتيه الوطني محاكاة لحالة الجمود السياسي التناقض بين حركة السيارة وثبات الواقع . شكلت سيارة التاتا في السياق المسرحي استعارة مركبة تتجاوز بعدها المادي المباشر لتؤسس فضاءً دلالياً عميقاً يختزل أزمة حضارية شاملة. يتجلى هذا التكثيف الدلالي في تضافر المستويات المختلفة للاستعارة، حيث يمتزج المادي بالرمزي، والواقعي بالمتخيل، ليشكل نسيجاً دلالياً متكاملاً.

تكتسب الميتافورا عمقها من خلال تعدد مستويات القراءة، فعلى المستوى المادي تمثل السيارة المتهالكة البنية التحتية المتداعية للمجتمع، وقِدم طرازها يعكس التخلف التكنولوجي، بينما يتجلى على المستوى الرمزي توقف مسيرة التنمية والتقدم في صورة الرحلة المعطلة. أما على المستوى الوجودي، فيتحول التعطل إلى حالة وجودية تعكس أزمة الهوية والعجز عن التغيير.

يتعمق البعد الدلالي للاستعارة في سياق الواقع العربي المعاصر، حيث تمثل السيارة المعطلة توقف المشروع النهضوي العربي، والركاب العالقون يجسدون شرائح المجتمع المختلفة في مواجهة قصور الحلول الاجتماعية. يتجلى البعد السياسي في رمزية النظم المتهالكة وغياب الإرادة السياسية للتغيير، بينما يعكس البعد النفسي حالة الإحباط الجماعي والشعور بالعجز والضياع.

يتعزز عمق الاستعارة من خلال اختيار "التاتا" تحديداً كنموذج للتخلف التكنولوجي، وقِدم طرازها كانعكاس للتمسك بالقديم وعدم مواكبة العصر. أما التعطل المتكرر يتحول إلى رمز للأزمات المستمرة، والعجز عن إصلاحها أو العثور على حل ولو على سبيل المزحة يشير إلى تجسيد لقصور الحلول المطروحة، بينما يمثل الانتظار العبثي حالة اليأس الجماعي الغودوي.

تقدم هذه الميتافورا المسرحية صورة مكثفة لأزمة حضارية شاملة، تختزل في مشهد واحد إشكاليات التقدم والتخلف، الحداثة والتقليد، التغيير والجمود. إنها تتجاوز كونها مجرد عنصر سينوغرافي لتصبح وثيقة درامية تؤرخ لحالة التوقف الحضاري وتكشف عن عمق الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية في مختلف مستوياتها السياسية والاجتماعية والثقافية، مؤسسة بذلك لحالة مسرحية تتجاوز التعبير المباشر إلى فضاء رمزي عميق يستفز الوعي ويحرض على التفكير في أسباب هذا التوقف وسبل تجاوزه.

يصبح السؤال "وين رايحين" بمثابة المرآة التي تعكس صورة مجتمع مأزوم، يبحث عن مخرج من متاهة التيه، ويسعى لاستعادة قدرته على تحديد مساره. وعبر تحول المانيكانات من حالة الجمود إلى الحركة، يتحول السؤال من مجرد استفهام يائس إلى إعلان عن إرادة التغيير والتحرر.

وهكذا يتجلى العنوان كنقطة التقاء بين الفلسفي والاجتماعي والوجودي، حيث يختزل في كلمتين بسيطتين عمق المأساة الإنسانية المعاصرة، ويفتح الباب أمام تأملات عميقة في معنى الوجود والهوية والحرية. إنه ليس مجرد سؤال عابر، بل هو صرخة جيل كامل يبحث عن ذاته في خضم عالم يفقد معناه، ويسعى لاستعادة حقه في رسم مصيره والإجابة عن سؤال: إلى أين نحن ذاهبون حقاً؟

يتجلى في العنوان نفسه جوهر الأزمة الوجودية التي يعيشها الإنسان المعاصر عموماً، والعراقي خصوصاً. المسرحية تختزل تاريخ العراق المعاصر. من حروب صدام إلى داعش، مروراً بالاحتلال وتمزق النسيج الاجتماعي الى قادة الديمقراطية المزعومة. كل مشهد يحاكم زمناً أطاح بالإنسانية. "وين رايحين" تتجاوز كونها عرضاً مسرحياً لتصبح وثيقة فنية تؤرخ لحالة التشظي والضياع، مستخدمة أدوات المسرح الحديث لتقديم رؤية نقدية عميقة للواقع. المسرحية تمثل صرخة وجودية في وجه منظومات القمع، محاولة استعادة الإنسانية المسلوبة عبر الفن والإبداع، عبر مسرح يشهق بألف لغة، ويروي مرثية وطن يحتضر على خشبة التاريخ. يتجاوز العرض المفهوم التقليدي للدراما. الحبكة تتفكك لصالح لحظات بصرية كثيفة، حيث يصبح المشهد البصري هو البطل الحقيقي للعرض. عبر أسلوب مسرحي حديث يزاوج بين التغريب البريختي والاحتجاج المجتمعي، نرى أنّ الحافلة المعطلة التي تقل ركّاباً مهمشين منكوبين تائهين هي استعارة لوطن معلّق على حافة الهاوية، يتقاذفه ضجيج أيديولوجيات متناحرة وسلطات تُحكم قبضتها باسم الدين أو السياسة أو العرف وهذا التأرجح القلق نتيجة تجاذب هذه القوى فيمن يحكم قبضته على هذه الحافلة المعطلة وامتهان ركابها. يتوهّم السائق قدرته على القيادة بينما هو مفتقر للبوصلة الحقيقية في الاستدلال، لتتعاقب بعدها على الركاب نتيجة هذا الركود المتمثل بعطل السيارة شخصيات سلطوية تمارس قمعها بذرائع متنوعة، وسط غيابٍ تامّ لحريّة المرأة والفكر والثقافة وتمييع الانتماء لنقع في مستنقع حقيقي مفاده "حيثما كان العراقي وبأي مسمى له كانت التهمة حاضرة لتغييبه" ربما يكون هذا المسمى هو الدين، ربما نوع المهنة، الثقافة العامة، الشكل، كلها اتهامات نتيجتها قطعة حديد ساخنة في الجبهة (طا ، طا) وإعلان خاتمة لبنيان الله الذي اسمه الإنسان. وكل ذلك إشارة لحقبة مريرة عاشها العراقيون وهم يخوضون غمار الوجع وسط مركبة وطنهم المحتجز عن الشمس.

إنّ الأسئلة المضمَنة في "وين رايحين" ليست مجرّد تمتمات على خشبة مسرح، بل هي احتجاج حيّ على واقع مأزوم، واستنطاق لرغبة جامحة في بناء رؤية أكثر رحابة للإنسانية ولا تمثل نقمة واعتراض على عهد بائد دون غير فالامتداد الزمني ما زال يحمل معه كل حرائق العالم المدمرة. يصير الزمن عبئاً يقمع الحاضر، فيرتفع العرض إلى مستوى الأطروحة الفلسفية: هل نحن رهائن لقوى تهمّشنا وتقتات على خوفنا؟ وهل من خلاص سوى باكتشاف الذات ونفض غبار الاستلاب؟

هكذا تسطع المسرحية كشرارة تهزّ وعينا وتهشّم المقولات الجاهزة. فبين ظلال الحافلة وأضواء التقنيات الحديثة، يبرز جوهر الصراع: حريّة تخبو تحت أثقال الماضي، وإنسان يقاوم لاعناً قيود السلطة والتابوهات، متأهّباً لعبور بوابة الرجاء. وفي هذه الرحلة الصاخبة، يظل العنوان "وين رايحين" صرخةً مفتوحة على احتمالات التغيير، واحتمالات التيه في آن واحد، كتنبيه أخير يحدّث كلّ من يجرؤ على الإنصات لنداء الحرية، ويمهِّد الطريق أمام وعيٍ جديد قد ينهض من رماد الصمت. السؤال "وين رايحين" يتردد صداه في كل مشهد، ليس فقط كسؤال عن الوجهة المادية، بل كاستفهام وجودي عميق عن مصير الإنسان ومعنى رحلته في الحياة نجهل من أين أتينا؟ وبجهل أعمق والى أين هي وجهتنا؟.

الحوار في المسرحية وعلى لسان شخصياتها يستفيد من تقنيات مسرح العبث في تفكيك اللغة، لكنه يوظف اللهجة المحلية بطريقة تجعل العبث أكثر قرباً من الواقع المعاش. هذا المزج بين العبثي والواقعي يخلق أسلوباً مسرحياً متفرداً. لذلك تتجلى براعة البناء الدرامي في توظيف الشخصيات كرموز سوسيولوجية: حيث المرأة الكبيرة (لمياء بدن) بسؤالها النابع من رحم عنوان العرض وين رايحين؟ "بعد شكد ونوصل؟" ممثلا صرخة للخلاص من حصار الزمكان الخانق الممل لتجيبها الفتاة الأيزيدية (زهرة بدن) مترددة "والله يمه ما أدري"، ليمعن الشاب "لؤي أحمد" بتأجيله المستمر في تيه وجودنا في غيابت جب الحياة بقوله "بعد وكت يمه"، وحينما توجه كل هذه الأسئلة وغيرها للسائق نجده أي نجد القائد والدليل على الخلاص والذي يجسد السلطة العاجزة تائه هو الآخر. إذن أي خراب ضياع تعيشه هذه المجموعة التي تمثل شعبا عمره 7000 سنة في حافلة بل قل في خربة معتمة تخرج يدك فيها لم تكد تراها. هذا التوظيف يؤسس لما يمكن تسميته بـ"المسرح السياسي التشخيصي" الذي يتجاوز التناول المباشر للقضايا السياسية نحو فضاء رمزي أكثر عمقاً وتأثيراً والذي استقيناه من إشارة للسائق في معرض وصفه الدعائي لعمر سيارته في مشهد ساخر جمعه مع أحد قطاع الطرق الطائفيين هذه السيارة التي تمثل الوطن كما قلنا نزولا عند ميكانزمات الميتافورا.

يشكل مشهد طلب السائق من لمياء بدن الرقص بدلاً من الحكي تحولاً درامياً عميقاً في بنية العرض المسرحي. فحين يقول السائق النعسان الذي يريد الاحتيال على نعاسه من خلال "ما أريد أسمع... أريد أشوف"، يتحول المشهد من سرد شفهي لمعاناة المرأة إلى تجسيد حركي مُفعم بالدلالات.

يتجلى في هذا التحول مستويان من القهر: الأول يتمثل في سلطة السائق الذي يمارس هيمنته على الراكبة، والثاني في تحويل المأساة من نص مسموع إلى عرض مرئي، وكأن معاناة المرأة تتحول إلى مادة للفرجة. لكن لمياء بدن تحول هذا القهر المزدوج إلى فعل مقاومة عبر الرقص، مستخدمة جسدها كأداة تعبيرية تتجاوز حدود الكلمات.

تأتي حركات الرقص متناغمة مع الموسيقى الحزينة، حيث يتحول الحجاب من قيد اجتماعي إلى عنصر درامي يشارك في تشكيل لوحة راقصة تعبر عن الألم والقهر. فالجسد المتحرك في فضاء الحافلة المعطلة يروي قصة صامتة عن العنف والظلم، ويتحول كل دوران أو انحناء إلى جملة احتجاجية صامتة.

يكتسب المشهد عمقاً إضافياً حين نفهم أن تفضيل السائق للرقص على الحكي يعكس رغبة السلطة في تحويل المعاناة إلى مشهد استعراضي يُفرغها من محتواها السياسي. لكن لمياء بدن تقلب المعادلة، فتحول الرقص إلى خطاب جسدي مقاوم، يقول ما لا تستطيع الكلمات قوله. يمثل هذا المشهد ذروة في توظيف الجسد كأداة للتعبير السياسي، حيث يتحول صمت المرأة المحجبة إلى صرخة حركية، وينقلب طلب السائق المتسلط إلى فرصة لفضح العنف المجتمعي. وحين تنتهي الرقصة، لا يكون المشهد مجرد استجابة لطلب السائق النعسان، بل يصبح شهادة حية على قدرة الفن على تحويل القهر إلى جمال، والصمت إلى احتجاج.

هكذا يقدم المخرج حيدر منعثر معالجة بصرية وحركية عميقة تتجاوز السرد التقليدي، مؤكداً أن الجسد المتحرك في الفضاء المسرحي يمكن أن يكون أبلغ من آلاف الكلمات في التعبير عن المأساة الإنسانية. ويبقى مشهد الرقص علامة فارقة في العرض، يؤكد أن الصمت المفروض يمكن أن يتحول إلى لغة احتجاجية بليغة حين يقترن بالحركة الواعية والتعبير الجسدي المدروس.

تتجلى السبورة في مسرحية "وين رايحين" كفضاء رمزي يتجاوز كونه مجرد أداة للكتابة، ليتحول إلى مختبر فكري يوثق تاريخاً من الوجع. وعند محاولة زهرة بدن كتابة حرف الدال، الذي يفتتح كلمتي "دار" و"دور"، تنفتح بوابة الذاكرة على مأساة شخصية تختزل مأساة جماعية.

تتصاعد المأساة حتى تتفجر في صرخة "بيتنااااا"، التي تتجاوز حدود الصوت الفردي لتصبح علامة سيميائية مركبة. يمتد المد الصوتي في الصرخة ليوثق عمق الجرح وفداحة الخسارة، محولاً البيت من مجرد مكان مادي إلى فضاء وجودي يحمل معاني الهوية والانتماء.

تتحول "بيتنا" إلى قصيدة مسرحية مكثفة، تختزل في لحظتها العابرة تاريخاً من الألم والفقد. إنها جسر يربط بين زمنين: ماضٍ مفقود وحاضر مشوه، لتصبح وثيقة إنسانية تؤرخ للحظة انكسار جماعي، محولة الصوت الفردي إلى ملحمة تحكي قصة شعب بأكمله.

وهكذا يتحول مشهد السبورة من مجرد لحظة درامية إلى فضاء للمقاومة، حيث تتداخل الذكريات الشخصية مع الهم الجماعي، مطلقة سؤالاً وجودياً عن إمكانية استعادة الحرية المسلوبة في ظل واقع قمعي.

 كذلك من المثابات الإخراجية المهمة التي اعتنى بها كثيرا المخرج الفذ "د.حيدر منعثر" هو مشهد التصويت على اختيار ما يذاع من راديو السيارة الغناء أو القرآن والذي شكل ذروة درامية تؤسس لنقد لاذع للديمقراطية الشكلية التي صرح وبخطاب مباشر الشاب لؤي احمد بأنها مؤامرة اخترعها السياسيون للضحك على الذقون . هنا يتجلى "التناقض الدرامي المقصود" بين أهمية القرار المطروح للتصويت (غناء أم قرآن) وحجم المأزق الوجودي الذي تعيشه الشخصيات (الضياع والتيه). هذا التناقض يؤسس لما يمكن تسميته بـ"المفارقة السياسية المسرحية" لعامة شعب مستلب حيث الاهتمام بالقشور وإهمال اللب والحقيقة الكبرى بإيجاد حل جذري للمشكلة. وهذا من خصائص "المسرح السياسي المركب" الذي يمزج بين النقد الاجتماعي والتجريب التقني والعمق الفلسفي.

أبدع المخرج حيدر منعثر في صناعة مشهد مسرحي يؤسس لخطاب درامي يتجاوز البنية السطحية للحدث المسرحي إلى البنى العميقة المؤسسة للصراع القيمي في المجتمع العراقي المعاصر. يتمحور المشهد حول ثنائيات ضدية تؤسس لجدلية درامية عمقة: النور/الظلام، الإنسانية/التوحش، التسامح/التعصب، مجسدة في الصراع بين شخصية الداعشي "اياد الطائي" (الأنا المتطرفة) وشخصيتي الأم والزوج برفقة الفتاة الايزيدية(الأنا الإنسانية). يتجلى من خلال هذا المشهد المستوى الأيديولوجي في تفكيك الخطاب المتطرف وإعادة بناء خطاب إنساني مضاد، يتأسس على قيم التسامح والتعايش. يتحول ادعاء الأمومة والزوجية من قبل لمياء بدن ولؤي أحمد إلى استراتيجية درامية تؤسس لخطاب المقاومة السلمية، متجاوزة حدود المواجهة المباشرة إلى تأسيس فضاء إنساني بديل.

تجاوز الدكتور "حيدر منعثر" الأطر التقليدية للنظريات المسرحية، مقدماً نموذجاً هجيناً يستجيب لتعقيدات الوعي المعاصر وتعدد مستويات الإدراك لدى المتلقي المعاصر. حيث تجلت هنا براعة السينوغرافيا المسرحية في توظيف المايكروفونات الثلاث المعلقة في سقف الخشبة والمحصورة في كادر الداتا شو وهي تستعرض مشاهدا مؤلمة من أرشيف حياتنا الضاجّة بالعويل كعنصر سيميولوجي مزدوج الوظيفة. فمن الناحية التقنية، تمثل المايكرفونات أداة صوتية تنحصر وظيفتها في وصول مديات الصوت لكافة الجمهور بوضوح تام ، بينما تتحول في المستوى الدلالي الأيقوني إلى تجسيد مادي لجثث الشخصيات الثلاث (زهرة بدن، لؤي أحمد، لمياء بدن) وهم يمثلون ثلاثة أجيال متفاوتة الحصار الزمني والمكاني (الجد والابن والحفيد) قد حكم عليهم بالاغتراب بالنفي بالمرض بالتجاهل بالإعدام.

من خلال هذه الجزئية الميزانسينية وظف المخرج تقنية التغريب البريختي، حيث جعل من العنصر التقني (المايكروفونات) أداة درامية تحمل دلالات سياسية واجتماعية عميقة. حتى تجاوز الميزانسين وظيفته الجمالية التقليدية ليؤسس فضاءً مسرحياً يحمل خطاباً احتجاجياً ضد الظلم الاجتماعي من خلال تداخل الصور التجريدية بالواقعية.

تتحقق جدلية التلقي الجمالي عبر صدمة المشاهد أولاً بالشكل البصري "غير الجمالي" للمايكروفونات المتدلية، ثم تحويل هذه الصدمة إلى وعي نقدي بالدلالة السياسية للمشهد. وفق نظرية المسرح السياسي، يتحول المتلقي من مجرد مشاهد سلبي إلى عنصر فاعل في العملية المسرحية، مدعو للتفكير النقدي والفعل الاجتماعي خارج إطار العرض.

هكذا تتكامل العناصر السينوغرافية والسيميولوجية في بناء خطاب مسرحي يتجاوز الوظيفة الجمالية إلى التحريض على الفعل الاجتماعي، محققاً غايات المسرح السياسي في إثارة الوعي النقدي وتحفيز التغيير الاجتماعي.

أسس المخرج حيدر منعثر لتقنية "التراكم السيميائي" في بناء مشهديته المسرحية، مستثمراً ثنائية السؤال/اللاإجابة كمحرك درامي رئيسي. تتجلى هذه التقنية عبر "السينوغرافيا الدلالية المتحولة" التي تتشكل من خلال معالجة إخراجية متقنة للإضاءة والبقع الضوئية. تتحول الإضاءة في العرض من عنصر تقني بسيط إلى مكون درامي مركب، حيث تؤسس "الإضاءة الفيضية" لما يمكن تسميته بـ"خداع البصيرة المسرحية". هذا التوظيف يتجاوز البعد الجمالي ليخلق "تشكيلاً بصرياً دالاً" يعمق المعنى الدرامي للعرض.

وذلك من خلال هذا التبسيط الدلالي حيث تتصاعد حدة التوتر الدرامي مع انتشار البقع الضوئية وتلاشيها، مجسدةً حالة القلق المتنامي للشخصيات وهي تواجه أزمة الخزان المثقوب والطريق الطويل. تبلغ المفارقة ذروتها حين يأتي الجواب ساخراً من قبل السائق مقابل اقتراحات الركاب المختلفة والقابلة للتحقيق في مواصلة الرحلة "بس آني نعسان" مصحوباً بإضاءة فيضية، كعنصر درامي يؤسس لما يمكن تسميته بـ"خداع ساخر للبصيرة المسرحية". لتتحول الإضاءة من أداة كشف إلى عنصر تضليلي يعمق حالة التيه والضياع.

يتجلى التقاطع العميق بين نظرية ستانسلافسكي حول الكتل وتوظيف المانيكانات في مسرحية "وين رايحين" عبر مستويات متعددة من المعالجة الدرامية. فبينما يؤكد ستانسلافسكي على ضرورة التحفيز الداخلي والتبرير المنطقي لتحريك الكتل الثابتة، نجد أن المخرج د.حيدر منعثر قد وظف هذا المبدأ بشكل معاصر وعميق، حيث جاء تحول المانيكانات من حالة الثبات التي ظن المتلقي بدوامها حتى ختام العرض إلى الحركة مدفوعاً بضرورة درامية واجتماعية ملحة مثلت خطاب العرض.

يتجسد "الفعل المنطقي" الذي نادى به ستانسلافسكي في العرض من خلال التحول التدريجي للمانيكانات، حيث لم يكن تحولها مفاجئاً أو اعتباطياً، بل جاء كنتيجة طبيعية لتراكم الضغط الاجتماعي والسياسي. فالمانيكانات المولية ظهرها للجدار الرابع لم تتحرك منذ بدء العرض إلا حين بلغ الوعي بالمأساة ذروته، محققة ما يسميه ستانسلافسكي "الخط المتصل للحركة". حيث تجلى التوظيف الفينومينولوجي لهذه المانيكانات المزروعة على مقاعد المسافرين في مسرحية "وين رايحين" من خلال المفهوم الفلسفي السياسي"الميتاثياتر السياسي" كتجسيد عميق للتحول من "الوجود بذاته" إلى "الوجود لذاته" بمفهوم سارتر الوجودي، فــ "الوجود بذاته" كما هو معروف يمثل حالة الأشياء الجامدة التي لا تملك وعياً أو إرادة للتغيير، وهو ما جسدته المانيكانات الثابتة في المسرحية في إطلالتها الأولى، بينما يمثل "الوجود لذاته" حالة الإنسان الواعي القادر على الاختيار وتحمل المسؤولية، وهو ما جسده ظهور كادر الممثلين جميعا كشخصيات متحولة في نهاية العرض.. فثبات المانيكانات في الكراسي مع توجيه ظهورها للجدار الرابع كان يشكل استعارة بصرية صارخة لحالتنا كمتفرجين سلبيين على جحيم جروحنا، غير قادرين على المشاركة في تغيير واقعنا. يتعمق هذا المعنى مع تحول هذه المانيكانات الجامدة إلى شخصيات واقعية بريختية ترفض العبودية وتعلن بوضوح "احنا نحدد مصيرنا ولازم نوصل" في سعي حثيث لمعرفة "وين رايحين" حيث زامن ظهور الكادر التمثيلي برمته وهم يصرخون بحرقة مواطن حقيقي مجروح يتحدث بلغة الـ "آه" والـ "ونّة" (لازم نوصل). اختفاء جميع مانيكيانات مقاعد المسافرين في مشهد التحول وهو ما أراد إيصاله الدكتور حيدر منعثر في ثمرة التحول بأننا سننهض ونعلم صرختنا بوجه الذل والعبودية والاستسلام وكل صورها.

هذا التحول الدرامي كشف عن قدرتنا الآن على نجدة من كنا نستمع لقصص معاناتهم كالسكران المكسور المهمش، والمرأة الإيزيدية المعتدى عليها التي تحوّل بيتها المربع إلى مستطيل بعد بيع نصفه، والأم التي زفت أبناءها واحداً تلو الآخر لمحارق الحروب المتتالية - من موت الملك إلى موت الزعيم، ومن صعد لحم نزل فحم الى حرب الشمال إلى حرب الكويت والخاتمة في المفخخات وتشرين. كل هذه المآسي تتكشف مع تحول المانيكانات من مجرد دمى جامدة إلى ذوات واعية تطالب بحقها في تقرير المصير.

وهكذا يتحول الجمود الأولي للمانيكانات إلى حركة درامية فاعلة، والصمت المطبق لها إلى صرخة احتجاج جماعية، والعزلة الفردية للكراسي المتفرقة إلى وحدة بآصرة متينة تسعى للخلاص، في تجسيد عميق لقدرة المسرح على تحويل الألم إلى أمل، والعجز إلى فعل، والصمت إلى صوت. كما يمثل مشهد الختام برفع الكراسي بالمقلوب في مسرحية "وين رايحين" لحظة فارقة في الوعي الجمعي للمجتمع العراقي، حيث يتحول الممثلون من حالة الصمت والاستسلام إلى حالة الرفض والتمرد. التمرد على القوى المتحجرة من خلال الطيران في فضاءات نقية والرفض لكل عمليات التجزئة والتهميش والقتل وتحجيم معنى الوطن وأثره الكمالي في ذات المواطن

الدلالات الرمزية للمشهد الأخير:

1. قلب الكراسي يعني: رفض الواقع المفروض قسرا والذي لا تستحقه هذه الجموع الغفيرة التي تبحث عن نفسها في المكان ووجهتها في الزمان وكسر منظومة الخضوع التي أصبحت مؤسساتية تحتكم الى تخطيط ممنهج مبرمج للعالمية يد طولى فيه وفي تحقيق نتائجه. وكذلك دلالة أخرى بإعلان التمرد على السلطات الظالمة وأبجديات سلوكياتها الغبية.

2. الصراخ الجماعي (لازم نوصل) للكادر يحمل معاني: استعادة الإرادة الجماعية ورفض منطق الضحية والتأكيد على حق تقرير المصير. أما الإصرار على الوصول فهو يمثل: الأمل والرغبة الصادقة في التغيير مع تفعيل لحقيقة رفض حتمية الهزيمة والإيمان بإمكانية التحول كنوع من الإجابة على التساؤل العقائدي والوجودي والإنساني (وين رايحين؟) هذا التحول بنزع جلد قد بلى وضخ دماء جديدة وبناء روح تكتمل بزرع مفاهيم التعايش السلمي وتحمل المسؤولية في رسم خطوط عبور آمنة. المغزى النهائي يتجلى في رسالة واضحة: نحن قادرون على قيادة أنفسنا، وسنتجاوز كل محاولات التركيع والإذلال، مهما كانت التحديات. فالمشهد ليس مجرد حركة مسرحية، بل بيان سياسي واجتماعي عميق يعلن ميلاد وعي جديد يرفض الاستسلام ويؤمن بقدرة الإنسان على التغيير. قلب الكراسي هو حقيقة كبرى بأن الإنسان ليس مجرد كائن يُدجن، بل هو مشروع حرية مستمر. التحرر الحقيقي يكمن في استعادة القدرة على التفكير النقدي، ورفض منطق التبعية. وكل كرسي مقلوب هو صرخة في وجه منظومات القهر. المسرح هنا ليس مساحة للتمثيل، بل مختبر تفاعلي للذاكرة المنسية. الكراسي المقلوبة في النهاية ليست استعارة، بل حفل تشييع للواقع المقلوب. كل كرسي يحمل جغرافيا روحية مهشمة تعكس شظايا الذات العراقية في لحظة استثنائية من التجلي المسرحي.

لمياء بدن ليست ممثلة، بل شاهدة عصر. رقصتها المكسورة تروي قصص نساء سلبت إراداتهن. كل حركة جسدها تختزل مقاومة، وكل إيماءة تتحدى منظومات القهر. الجسد هنا يتحول إلى نصب تذكاري للمنفى. كل حركة تختزن طبولاً صامتة، وكل إيماءة تحمل أرشيف المدن المهجورة. لمياء بدن لا ترقص، بل تُعيد اختراع الحركة كلغة مقاومة. في "وين رايحين" تتجلى الشخصيات كأيقونات لذاكرة وطن:

لمياء بدن ليست مجرد جسد راقص، بل هي أرشيف متحرك لصرخات النساء المقهورات. جسدها يتحول إلى نصب تذكاري يختزل في كل حركة مكسورة تاريخاً من المقاومة الصامتة، وكل إيماءة تحمل في طياتها أنين المدن المهجورة. زهرة بدن تتجاوز دور الضحية الإيزيدية لتصبح رمزاً للوطن النقي الممتد طويلا وعميقا كثوب ابيض من زاخو للفاو، لكنه يئن من ظمأ الإهمال وقسوة النسيان. لؤي أحمد ليس مجرد صاحب لعب ودمى وتماثيل فهو يتجسد ككيان شفاف نُحِتَ من وجع الحروب، جسده صفحة تاريخية كُتبت بمداد الدم، وتماثيله شواهد على زمن الفجيعة. طلال هادي، ليس مجرد سائق مأزوم بين دفة القيادة وبوصلة التيه، فهو يتجسد كاستعارة صارخة للسلطة الضائعة في متاهاتها. قائدٌ يقود بلا وجهة، يختزل في حيرته تاريخاً من الخراب المنظم، وفي عجزه عن تحديد المسار تتجلى مأساة قيادة أضاعت البوصلة في زحمة المصالح.

أما إياد الطائي، فيتخطى دور الداعشي المتطرف ليجسد كل لحظات الظلام التي عشناها، كل أيامنا السوداء التي أنفقناها في يومنا الأبيض الوحيد الذي كنا ننتظره خمسا وثلاثين سنة عجاف من الانكسار. هكذا يتحول المسرح إلى فضاء للذاكرة الجمعية، حيث تتحول الأجساد إلى نصوص حية تروي حكاية وطن.

الديكور يتحول من مجرد خلفية إلى شاهد عيان. السبورة ليست سطحاً للكتابة، بل سجل تاريخي يسطر مراثي الهزيمة. سيارة التاتا المعطوبة تحمل أرواح مدن كاملة، متوقفة عند محطات الموت والخراب. حيث تتحول الكراسي وهي جامدة إلى خرائط جغرافية للألم، وكل فراغ يحكي حكايات لم تُروَ. الكراسي هنا ليست أدوات جلوس، بل شواهد قبور. كل كرسي يحمل روح مدينة، وكل حركة تختزن مأساة جيل. حيدر منعثر يمسرح الألم بتلك البراعة التي يذبح بها الجلاد الضحية، متقناً فن التشريح المسرحي. شكرا من الأعماق لجميع من شارك برسم خارطة وجعنا على خشبة المسرح وحرض فينا ماردا يقلب الصفحات من سوداء الى بيضاء ناصعة. محبتي الكبيرة.

***

كاظم أبو جويدة

 

استفهامات الروح: رحلة بين الخذلان والصمت

المقدمة: تعد قصيدة /جبُلت عفوية/ للشاعرة العراقية حميدة جاسم علي رحلة نفسية وعاطفية تعكس التوترات الداخلية، والتساؤلات الوجودية، والصراع مع الذات. تكشف القصيدة عن حالة من العفوية المتمردة التي تصطدم بالواقع المرير والتخطيط المستقبلي المبتور. من خلال البنية اللغوية المكثفة والمشحونة بالعواطف، تعكس الشاعرة في هذه القصيدة صراعًا داخليًا بين أمل قديم وألم مستمر، وبين محاولة للمضي قدمًا في عالم من التساؤلات التي لا إجابة لها.

البنية والمضمون:

القصيدة تتسم بالتكرار الذي يعزز فكرة الاستفهام والشكوى المستمرة. يتجسد التكرار في عبارة /جبُلت عفوية/ التي تظهر مرتين، وكأنها إشارة إلى حالة ثابتة، أو /جبلة/ لا يمكن التغيير فيها. العفوية هنا ليست مجرد تصرفات غير مخطط لها، بل هي ملامح للشخصية التي تم تشكيلها بشكل طبيعي دون تدبير مسبق، لتصبح جزءًا من الذات التي لا يمكن تخليصها منها.

الاستفهام والعلاقة مع الآخر:

القصيدة مشبعة بالاستفهامات التي تشير إلى حالة من العزلة والضياع العاطفي. الشاعرة تتساءل عن حالتها وحالة الآخر، وتضع علامة استفهام على علاقاتها مع الناس، بما في ذلك علاقة مع /أنت/ الذي يشير إلى شخص آخر غامض. هذا الآخر لا يجيب على الاستفهام الذي تطرحه الشاعرة، مما يبرز حالة من الفقدان والخذلان الذي تعيشه الذات. الفكرة الرئيسية التي تعبر عنها الشاعرة هي أن كل الذين كانوا في حياتها، وكل الذين منحهم /الأوراق ليكتبوا سيرتهم/، كانوا في الحقيقة /صنيعتي/. وهذا يوضح كيف يشعر الشخص بالخيبة عندما يكتشف أن كل من أعطاهم جزءًا من نفسه قد خذلوه أو لم يكونوا قادرين على الوفاء بتوقعاته.

الخذلان والعلاقة مع الذات:

الشاعرة تعبر عن ألمها الداخلي الذي يتسبب به الخذلان من الآخر، مشيرة إلى أن الآخر -الذي كانت تحلم بالتوجه نحوه- هو نفسه من /أودعها خلف ظهري/، أي أنه أصبح ماضيًا لا أهمية له. كما تصف الآخر بـ/النكرات/ التي لا تعني شيئًا بالنسبة لها، فبذلك تصبح العلاقات العاطفية والاجتماعية في نظرها مجرد /نكرات/ فاقدة للعمق والصدق. في هذه الجملة تكشف الشاعرة عن احتقارها لهذا الشخص الذي كانت تهتم لأمره، في حين أن هذا الشخص لا يكترث بها.

التأمل والرفض:

يبدو أن الشاعرة كانت تخطط في البداية لأن تكون /خطوة إليك/، وهذا يشير إلى محاولة الاقتراب من الآخر أو السعي إلى علاقة معينة، ولكن الحيرة والخذلان يطغيان على هذه المحاولة. إذ تصبح التساؤلات أكثر من إجابات، وتحلّ /علامة استفهام/ محل الفعل. هذه الرمزية تشير إلى تمزق في التواصل الإنساني، وتصورٌ لعلاقة لم تتحقق أو فشلت في الوصول إلى تلبية احتياجات الشاعرة العاطفية والنفسية.

اللغة والأسلوب:

القصيدة مكتوبة بلغة شعرية مكثفة، تنضح بالتوتر الداخلي. استخدمت الشاعرة بعض الصور البلاغية البسيطة التي تجسد حالة الشكوى والتساؤلات المستمرة، مثل /ارتماءاتي التي حنطتها لعمر كامل/، وهي تعبير قوي عن تلاشي الحلم والقرار الذي اتخذته منذ فترة طويلة، والذي لم يتحقق. /صراطي الذي يستقيم وأنا أعد المسافات/ يحمل في طياته إحساسًا بالضياع، إذ يضع الشاعرة في مواجهة مع واقع يعيق سيرها نحو هدفها المنشود.

الرمزية:

تتعدد الرموز في القصيدة، بدءًا من /الأوراق/ التي تشير إلى المحاولات السابقة لتوثيق أو فهم الذات والعلاقات، إلى /الاستفهامات/ التي تصبح بمثابة حجر عثرة في محاولة الوصول إلى معنى حقيقي في هذه العلاقات. كما أن /النكرات/ تمثل الأشخاص الذين يدخلون حياة الشاعرة ويغادرون دون ترك أثر حقيقي، مما يعزز فكرة الخذلان الداخلي.

الخاتمة:

هذه القصيدة انعكاس صادق لمشاعر الشاعرة وحالة داخلية غنية بالاستفهام والرفض. من خلال التركيز على العفوية والخذلان، تنتقل القصيدة من حالة أمل متأمل إلى حالة من الانفصال العاطفي والفكري. يختتم النص بدعوة إلى التفكر في الذات وفي الآخرين من خلال تلك الاستفهامات التي تكشف عن هشاشة العلاقات الإنسانية، وكيف أن الإجابات غائبة دائمًا في العالم الذي تحياه الشاعرة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

.......................

جبُلت عفوية / بقلم: حميدة جاسم علي

ارتماءاتي التي حنطتها لعمر كامل

او صراطي الذي يستقيم وانا اعد

المسافات

جبُلت عفوية

رغم اني كنت اخطط لأكون خطوة إليك

هكذا اكو علامة استفهام

لن تجيب عليها

فكل الذين اعطيتهم الأوراق ليكتبوا

سيرتهم

كانوا صنيعتي

وما زلت افكر ان اضعك في استفهاماتي

حتى تجيب

على كل المرات التي تخذل فيها نفسك قبلي

انت من أودعها خلف ظهري

وصرت ككل النكرات

تصيح

ولا التفت .

حميد العادلي شاعر عراقي، ولد في بغداد عام 1972. درس الإعلام والصيدلة. ونشر مجموعتين ورقية في الهايكو هما: ارتعاش الثلج عام 2019 ورقصة الفالس وأزهار النرجس عام2021

 ومجموعة من الإصدارات الإلكترونية والمشاركة في الأنطولوجيات العربية. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو لماذا نكتب الهايكو؟ لماذا نكتب الهايكو في ظل وجود القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة والنثر والومضة وغيرها من الأجناس الشعرية.  العالم يتغير، أحداث 11 من سبتمبر واحتلال العراق2003 وظهور مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت وتحول العالم الى الرقمنة والتواصل الحضاري بين الشعوب وعدم تطور الأشكال الشعرية القديمة وغيرها من المسببات والمستجدات ساهمت في الانفتاح العربي على الهايكو وفي هذا المجال تقول الدكتورة بشرى البستاني: "إن الذين ينتقدون الشباب العربي على اهتمامهم اليوم بفن الهايكو عربيا، وليس يابانيا، ينظرون للقضية على أنها مجرد لعب، على أهمية اللعب الفني الذي يمتلك قوانين اللعبة ويحافظ عليها من الانفراط، لكن المتدبر للأمر يجدها أبعد من ذلك وأهم، إنها ليست عملية ممهدة ولا يسيرة، بل هي طريق محاط بالمكابدة والمعاناة من أجل خلاص الروح والعقل والجسد، لأنها ليست مسألة تغيير بنية أو تجديد شكل كما يتصور بعضهم، بل هي تغيير رؤيا أولا، وبدون هذا التغيير لن يكون لتغيير البنية كثيرُ أهمية". (د. بشرى البستاني - الهايكو العراقي والعربي بين البنية والرؤى 1- موقع الحوار المتمدن 2015).

من الأسباب الشائعة لرفض الهايكو في بداية نشأته هو عدم توفر النصوص الجيدة والمعلومات الخاطئة ومحاولة مقارنته بالقصائد العمودية وعدم وجود نقاد متخصصين في قصيدة الهايكو. ومن طرائف ما اذكر أن أحد النقاد كان يلاحق ندوات ومهرجانات الهايكو التي تعقد في أماكن مختلفة من بغداد بالحجج الجدلية والعقل الدوغماتي الرافض للهايكو. نعود إلى الهايكو وكيف نعرفه وهل له تعريف جامع وشامل. التعريف الاشتقاقي للهايكو (طفل الرماد، الكلمة المضحكة)

لا أهمية له إلا من الناحية التاريخية فقط. يختلف تعريف الهايكو اصطلاحا ولا يوجد تعريف ثابت أو محدد. كل التعريفات تشير إلى بعض الخصائص الضرورية وهذه التعريفات قابلة للإضافة والحذف من بعض الخصائص بسبب تطور الهايكو واختلاف البيئات ووجهات نظر الشعراء في التأكيد على جوانب معينة. ومن هذه التعريفات تعريف جمعية الهايكو الأمريكية عام 2004 : "الهايكو قصيدة قصيرة تستخدم لغة تصويرية لنقل جوهر تجربة الطبيعة أو الموسم المرتبط بشكل حدسي بالحالة الإنسانية". تعريف آخر للشاعر والناقد الأمريكي مايكل ديلان ويلش:الهايكو قصيدة من ثلاثة اسطر تستخدم الصور الحسية لنقل الظواهر والتجارب الخاصة بالطبيعة والطبيعة البشرية أو الإشارة اليهما باستخدام تقنية أو بنية التجاور التي تتشكل من جزئين (صورتين) بلغة بسيطة وموضوعية "المصدر:GRACEGUTS.

بعض التعريفات تشير إلى أهمية القطع (kiru’ or ‘kire’ ) الذي يربط أو يفصل بين صورتين؛صورة ثابتة وصورة متحركة كما تشير اليه الشاعرة الهندية كالاراميش في نص باشو الشهير عن الضفدع. يمكن مقارنة مصطلح الهايكو بمصطلح الفلسفة philosophy من حيث النشأ والثبات ومفارقة الأصل اليوناني والتعريفات المختلفة حسب أراء واتجاهات الفلاسفة. تاثير الهايكو الحديث على تجربة العادلي نجده واضحا في نصوصه وهذا يعود إلى اطلاعه المبكر على الهايكو الغربي من خلال الترجمات العربية في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية كما ساهمت في بلورة وتشكيل ملامح الهايكو عنده مبكرا ومفارقة بعض التنظيرات العربية للنقاد والمترجمين التي لا تعترف بامكانية كتابة الهايكو باللغة العربية. حيث أشار في حواري معه عام 2021 إلى تعرفه على الهايكو من خلال اطلاعه على ترجمات مجلة الأقلام للشعر الإسكندنافي عام 2009 وترجمات جاك كيرواك وتوماس ترانستومر. يشار إلى أن لينا شدود قد ترجمت "كتاب جاك كيرواك " عام 2014. اما الأعمال الشعرية لتوماس ترانسترومر ترجمها عن السودية قاسم حمادي /الطبعة الأولى 2005. أثر كيرواك في نصوص العادلي واضحة جدا في تناوله ذات الموضوعات كالقطط والعصافير والقهوة وأسلوب تناوله للمشاهدات اليومية بطريقة واقعية. من ناحية أخرى اعتقد أن ترجمة مقالة عزرا باوند في محطة المترو -نشرت باللغة الإنجليزية عام 1913 -إلى اللغة العربية قد عززت الثقة بالنفس عند شعراء الهايكو العرب ومنهم العادلي لتجريب كتابة الهايكو. أشير هنا إلى ترجمة عبد القادر الجنابي في موقع ايلاف الإلكترونية عام 2014 ثم أعاد بكاي كطباش نشر مقالة عبد القادر الجنابي المترجمة في نادي الهايكو-سوريا في 23 نيسان 2014. استطاع عزرا باوند لفت الانتباه إلى أهمية الصور المستخدمة في الشعر وبالتالي أهمية الهايكو الياباني وتأثيره العميق بغض النظر عن الجدل النقدي الغربي الذي دار حول اهمية عزرا باوند واهمية قصيدته "في المترو " هايكو أم لا إلا أنه يشكل المرحلة الأولى-مرحلة المراهقة والبداية في تاريخ الهايكو باللغة الإنجليزية حسب مايراه الناقد الأمريكي الكندي بروس روس.

في محطة مترو

اطياف هذه الوجوه في الزحام

بتلات على غصن ندي، اسود

ويشير بروس روس في ذات المقالة نشرت 2012 إلى أهمية الشاعرة إيمي لويل في الهايكو اكثر من عزرا باوند كونها التقطت الخصائص المتأصلة في الهايكو خارج الموضات الحالية للفن والشعر الصيني والياباني بينما بقي باوند اسير المدرسة الانطباعية في معالجته للصور الشعرية. بغداد كلمة سحرية توحي بالكثير من المعاني والخيالات والدلالات إلى الماضي إلى عظمة مدينة بغداد كأحد مراكز العالم تاريخيا.

ارتبط الهايكو عند العادلي بالمكان المتمثل بصورة واضحة في مدينة بغداد، موطن الشاعر حيث تشكل الاماكن والمشاهدات اليومية هاجسه الأكبر في الكتابة عن بيئة بغداد الاجتماعية. لعبت بغداد دورا مهما في تشكيل أو توجيه احاسيس وافكار العادلي لملاحظة ما يجري على أرض الواقع. هذا الارتباط العاطفي بالوطن انتج الكثير من نصوص الهايكو والسينريو التي امتازت بنقد الواقع والشجن العراقي. طبيعة الواقع العراقي فرضت على الشاعر أن يوثق اللحظات المريرة والمؤلمة بالرغم من أنها عابرة إلا انها تتكرر يوميا :

نصب الحرية

المتسول الاعمى

ينشد موطني موطني!

**

وحدها

لافتة بغداد المتهرئة

تكسر الريح

**

مع كوب قهوتي

اذرع شارع الرشيد

ابحث عن بغداد

**

ضباب

جدارية فائق حسن

مغمورة بالهديل

**

يا للوجع

بألف دينار اهب الحرية

لأربعة عصافير

**

زقاق بغدادي…

رائحة الوشوشات البريئة

تسكن الشناشيل!

***

في هذه النصوص أعلاه نلاحظ حركة العادلي بين أزقة بغداد القديمة (جانب الرصافة من بغداد) الممتدة بين ساحة التحرير، نصب جواد سليم وجدارية فائق حسن في حديقة الأمة مرورا بشارع الرشيد، حيث بائع القهوة القريب من بناية وزارة المالية القديمة وصولا إلى جسر الشهداء والمقاهي وشارع المتنبي ومن الجهة الثانية سوق الغزل ومنطقة الشورجة، هي رحلة أو جولة جمالية. الجمال يتجسد في الشناشيل ونصب الحرية والازقة والمقاهي ومشاهدة العصافير والطيور في سوق الغزل ورائحة القهوة في شارع الرشيد. العادلي يكتب نصوصه من مشاهدته العيانية. هذه النصوص ترتبط بالواقع وبالأرض وبرغبته بالتغيير نحو الأفضل. اما نصوصه عن الطبيعة في بغداد هي من جملة ملاحظاته للطبيعة الحضرية المدنية:

فوق الجسر

مع النقر اللذيذ

النوارس تلتقط الخبز!

**

مويجات النهر

أرجوحة بغدادية

استراحة النوارس

**

غيمة…

أطاردها بعين

وأخرى للطريق!

***

احيانا يربط الطبيعة بمعاناة الإنسان الحياتية وهذا النص من النصوص الكلاسيكية التي تذكرنا بنصوص شعراء الهايكو اليابانيين:

مساء خريفي

الجدة المريضة بإصبعها

تكور شكل القمر!

جمالية الامكنة البغدادية نجدها في الأشياء البسيطة:لون الحافلة، شكل الجسر، رؤية نهر دجلة، المقاهي، الشناشيل، النوارس كل هذه الامكنة وغيرها تصنع مناخا رائعا وتحقق الاستقرار النفسي عند العادلي ولربما بعد تناول قدح من عصير "ابن زبالة " في شارع الرشيد والقريب من ساحة الميدان:

ساحة الميدان

بقايا بغداد

عصير زبيب أحمر

**

حميد العادلي استطاع الخروج من عنق زجاجة الهايكو الياباني ومطبات الهايكو العربي، إذ امتازت نصوص العادلي بالايجاز (القصر)والواقعية التصويرية في تناوله للبيئة البغدادية في حركتها اليومية عبر بصيرة نافذة تلتقط كل ماهو هامشي ويومي عبر محورين المحور الأفقي الذي يمثل الحاضر الزائل الذي يلتقطه عبر مشاهدته والمحور العمودي الذي يرتبط ببغداد وما تمثله الأمكنة فيها من أبعاد ثقافية وتاريخية واجتماعية وجمالية وشعبية. لا نعرف إلى أين سيقودنا حميد العادلي في قصائده القادمة وما هي الإضافات والتطورات التي ستطرأ على تجربته الشعرية لكنها بالتأكيد تجربة تضيف الكثير إلى تجربة الهايكو العراقي بعدما اتضح مسار الرؤية عنده بشكل اكثر وضوحا واتساقا.

***

الشاعر والناقد عباس محمد عمارة

............................

المراجع:

1- كتاب الهايكو جاك كيرواك، ترجمة لينا شدود -الرباط-منشورات ضفاف …الطبعة الأولى-2014

2- الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر السويدي توماس ترانسترومر-ترجمة قاسم حمادي، سوريا-بدايات للطباعة والنشر والتوزيع-الطبعة الأولى 2005

3- د. بشرى البستاني - الهايكو العراقي والعربي بين البنية والرؤى موقع الحوار المتمدن /2015

4- عزرا باوند في مترو-ترجمة عبد القادر الجنابي-موقع إيلاف الإلكتروني /2014

5-حميد العادلي، ارتعاش الثلج (هايكو) سوريا-دار دلمون الجديدة 2019

6-حميد العادلي، رقصة الفالس وأزهار النرجس(هايكو)بغداد-دار الرفاه 2021

7-Academy of American poets

8-Haiku Mainstream:The path of Traditional Haiku America by Bruce Ross-modern HAIKU- volume 43. 2/Summer 2012.

9-GRACEGUTS  / Website.

 

بين الحلم والموت:

قسوة الواقع وظلال الذكريات

***

ظلال الأمل / بقلم: شهلاء فيض الله

كان المارة يمشون بخطوات سريعة على الشوارع والأرصفة من شدة الحر في ذلك الظهيرة دون أن يرى أحدا نظرات تلك الفتاة البائسة الصغيرة ذات الشعر ألأسود المبعثر والفستان الاحمر الممزق وهي جالسة على الرصيف بمحاذات الجدار المنخفض للحديقة المطلة على الشارع المزدحم. تقوم من مكانها وبيدها علبة صغيرة، تريد أن تعبر الشارع لكن نعلاها الشبه الممزقتان لا تساعدها على المشي، بعد ثلاث خطوات لم تكمل الرابعة يتمزق فردا وتصبح عديم الفائدة ولا تستطيع الاستمرار في المشي، تضع قدماها على الأسفلت، يكاد أن يحترقا من شدة الحر، سرعان ما تضعهما على النعال، ما بين عبور الشارع والرجوع الى مكانها تفز من صوت منبه أحدى السيارات! فتعود مسرعة الى الرصيف تاركة ورائها نعلاها في منتصف الشارع، ثم تراقب السيارات وتنتظر ان تنتهز فرصة لتعود وترجعهما..

حرارة الشمس الساحقة أتعبتني كثيرا وكنت على عجلة من أمري للعودة الى البيت، وأنا أسير بخطوات سريعة متجهة الى محطة الحافلات بمحاذات الجدار المنخفض للحديقة وعيناي على الفتاة والمشهد بأكمله، اتجهت صوبها، حين اقتربت منها نظرت لها مبتسمة وأبعدتها قليلا من طريق المارة، فكانت تنظر لي بتعجب! وأرى في عيناها سؤالا: هل هناك من يهتم بي؟ كانت في الثامنة أو التاسعة من عمرها، تمسك بيديها علبة علكة يبدو أنها لم تبع منها قطعة واحدة حتى ذلك الوقت من الظهيرة والسوق بدأ يخلو من الناس، وجهها المسمر من كثرة تعرضها للشمس الحارقة وشعرها المجعد المبعثر وملابسها الممزقة لم تستطيع إخفاء جمال ملامحها! جمال لا يستطيع رسام بارع أن يرسمها، لمعان عينيها السوداوين المليئتين بالأمل والبراءة جعلتني غير قادرة على تركها ومواصلة سيري.

كم سريع يمر الأزمان؟ لا يتغير البؤس بل ينتقل من زمن الى أخر، أعاد هذا المشهد قصة بائعة الكبريت ل(هانس كريستيان أندرسون) الى ذاكرتي، تلك الفتاة الصغيرة الشقراء التي خرجت من البيت في يوم بارد يتساقط الثلج بغزارة لبيع الكبريت وبعد أن فقدت حذائها في الثلج أصبحت تمشي حافية القدمين تطرق الأبواب لبيع الكبريت ولم يفتح لها أحدا فالكل كان مشغولا بعيد رأس السنة الميلادي، عندما حل الظلام كانت ترتجف من البرد والجوع وقد أهلكتها التعب فجلست في زاوية بين منزلين وبدأت بإشعال عود الثقاب واحدة تلو أخرى ولم تتدفأ. قلت في سري: أوليس روح هذه الفتاة الصغيرة بائعة العلكة هي نفس روح الفتاة بائعة الكبريت وأرادت أن تعيش مرة أخرى؟ لو كان كذلك، فها هي الحياة تعذبها مرة أخرى! عدتُ اليها من وسط بردٍ قارسٍ الى حر الشمس الحارقة فلم أجدها التقيت الى يميني ثم يساري رأيتها جالسة مع فتاة في عمرها أتعس منها حالاً، بيدها كتاب القراءة للصف الاول الابتدائي نصف ممزق تقلب صفحاتها بشغف وكأنها عثرت على كنز ثمين ولا تصدق أنها ملكته! حينها سألتها بائعة العلكة: من أين حصلت على هذا الكتاب؟ أجابتها الفتاة دون أن ترفع رأسها: وجدته في حاوية المدرسة القريبة من هنا. فجأة وضعت الفتاة بائعة العلكة يدها الصغيرة المسمرة على صفحة ما وفيها صورة فتاة جميلة بعمرها ترتدي فستان أحمر قصير ذات ياقة وحاشية صفراء وحذاءٍ أحمر، مزينة شعرها بقراط أصفر ذهبي وهي تلعب مع أخيها لعبة الطائرة الورقية، حدقت للصورة قليلا ثم نهضت بسرعة أرادت أن تقول أنها تشبهني حين نظرت الى فستانها الاحمرِ الممزق وقدماها الخشنتين حافيتين، لم تقول شيئا حملت علبة العلكة بهدوء من على الارض وفجأة ألتفت الى الجهة المقابل للشارع وكأن أحدا يناديها! نظرت لي وقالت بصوت خافت: كل يوم وأنا أقف هنا يناديني أخي من الجانب الاخر، عندما أعبر الشارع لم أجده! ابتسمت وقلت لها: أنه يريد أن يلعب معكٍ، أذا أعطيني يدكٍ لنعبر الشارع ونبحث عنه ثم أشتري لكٍ زوج نعا..... قاطعتني بصوت حزين: لا قبل عدة أشهر دهسه سيارة ومات!

كاد قلبي يتمزق حزنا عندما سمعتها! شهقت حسرتاً على حالها حينها تذكرت مرة أخرى بائعة الكبريت وهي تشعل آخر عود كبريت لترى جدتها مرة أخرى وسط الضوء تناديها لتضعها في حضنها الدافئ، فها هي أيضا تبحث عن أخيها كي تجد حظنا لها وسط الزحام التي لا تعني لها شيئا. فجأة ركضت صوب الشارع وعبرتها.. حينها أكملت سيري الى موقف الحافلات، بعد خطوتين فقط فجأة سمعتُ صوت بوق مع توقف سيارة تملئ الشارعً وكأنها صاعقة ضربة المكان! وأنا ألتف بسرعة أرى الناس واقفين في مكانهم كالتماثيل ينظرون الى الجانب الآخر للشارع..

***

القراءة:

في قصتها /ظلال الأمل/ تلتقط القاصة شهلا فيض الله تفاصيل حياة طفلة بائسة تبحث عن بصيص أمل وسط قسوة الواقع. تنبض القصة بحس إنساني عميق يعكس معاناة الطفولة في مجتمع يعاني من اللامبالاة والظلم الاجتماعي، حيث تكشف عن التناقضات بين البراءة والألم، وبين الحلم والموت. يبحر النص في عالم الطفولة الضائع، وينبش في زوايا الحياة الصعبة، ويكشف عن العزلة الداخلية التي يعيشها الإنسان في عالم مليء بالصراعات. في هذه القراءة النقدية، سنحاول استكشاف أبعاد النص، وتحليل الشخصيات، والرموز، والموضوعات التي يعالجها هذا العمل الأدبي، وصولاً إلى فهم أعمق لمغزى القصة وأساليب السرد. 

الزمان والمكان: تتسم القصة باستخدام زمان ومكان لهما دلالة قوية في تشكيل الوعي القرائي. يبدأ السرد في ظهيرة حارة، وهي دلالة على الشدة والضغط النفسي، حيث تعكس الحرارة القاسية معاناة الفتاة، وتصبح الخلفية المناخية أحد الرموز الدالة على بؤس الوضع الاجتماعي الذي تعيشه. الزمان في القصة لا يُحدد فقط على أنه وقت الظهيرة، بل يتم ربطه بالشعور الدائم بالحرمان والفقدان، ما يضيف بعدًا وجوديًا للأحداث. 

أما المكان، فيأخذ طابعًا مزدحمًا في شوارع المدينة الحارة، لكنه في ذات الوقت لا يوفر أي أمل أو تواصل إنساني. المدينة تمثل بؤرة العزلة المجتمعية، حيث يمر الناس بسرعة من دون أن يلتفتوا إلى تلك الطفلة الجالسة على الرصيف. الكاتبة تركز على تفاصيل المكان بشكل يعكس التباين بين عالم الإنسان المزدحم، وأخرى يملؤها الصمت والخوف والانتظار. رغم أن الشارع يُوصف بأنه مزدحم، إلا أن الفتاة تبدو وحيدة تمامًا، في حالٍ من العزلة الموحشة التي تتسع في عيونها.

 الشخصيات: تدور القصة حول شخصية الطفلة بائعة العلكة التي تعتبر العنصر المحوري في النص، والتي تُجسد البراءة المفقودة وسط قسوة الحياة. تخلق شهلا فيض الله هذه الشخصية بعمق نفسي لا يُمكن تجاهله، حيث تنبثق ملامح الطفلة من خلال أوصاف دقيقة تظهر تباينًا بين جمالها الداخلي، الذي لا تستطيع ظروف الحياة أن تطمس معالمه، وبين المظهر الخارجي الذي يعكس الفقر والتهميش. الفتاة التي تحمل علبة العلكة بين يديها، رغم وضعها البائس، تُظهر إرادة الحياة والتمسك بالبقاء. 

الراوي في القصة، والذي يبدو وكأنه شاهد على العالم، يسهم في خلق تأثير عاطفي هائل عبر التأملات الدقيقة التي ينقلها. يتبنى الراوي موقفًا إنسانيًا من الطفلة، ولكن في ذات الوقت، يعكس فشله في تقديم أي نوع من الحلول لمشكلاتها العميقة. هذه النظرة المركبة تساهم في خلق التوتر العاطفي الذي يميز السرد، وتكشف عن مأزق الإنسان المعاصر الذي يسعى لمساعدة الآخرين دون القدرة على تغيير واقعهم بشكل جذري.

الرمزية والتيمات:

رمزية /الحرارة/ و/الأسفلت/: يمكن النظر إلى حرارة الشمس والأسفلت المحترق كرمزين للظروف القاسية التي تعيشها الطفلة. فالحرارة الحارقة تشير إلى ضغوط الحياة والواقع المادي القاسي الذي يعيشه الفرد في مجتمع فقير. الأسفلت، الذي يكاد يحرق قدمي الفتاة، يمكن أن يُفهم كرمز للطريق المسدود والمليء بالأشواك الذي تسلكه الطفلة، ولا يمكنها الخروج منه بسهولة. هذا التوصيف يرفع من قيمة القصة في تصوير معاناة البشر في بيئات قاسية. 

الكتاب الممزق: تمثل الكتاب الممزق الذي تحمله الطفلة مع أحد الأطفال الآخرين رمزية عميقة للعلم والمعرفة التي تصطدم بالفقر والموت. إن الكتاب، الذي كان في يومٍ ما رمزًا للثقافة والنور، أصبح الآن مجرد مكتشفات جزئية وسط النفايات، ما يعكس الطريقة التي يُنظر بها إلى التعليم في مجتمعات فقيرة. الكتاب يُصوَّر كقيمة محطمة يتوق الأطفال للتمسك بها، لكنه لا يمكن أن يعوض عن فقدان الحب أو الأمان. 

بائعة الكبريت: يظهر تشبيه بين الطفلة في القصة وبائعة الكبريت الشهيرة في قصة هانس كريستيان أندرسون، حيث تموت الطفلة في كلا القصتين ببطء. في هذه اللحظة، تُعيد القاصة طرح نفس التساؤلات التي طرحتها قصة بائعة الكبريت: ماذا يحدث عندما تترك البراءة تُهدم تحت وقع الفقر والحرمان؟ هل تُقتلع الأحلام كالأشجار في الزمان؟ هذا التشابه مع قصة بائعة الكبريت يخلق صدى مؤثرًا في النص، ويعمق من إحساس القارئ بالمرارة. 

الموت والفقدان: موضوع الموت يعبر عن الانقطاع المفاجئ بين الحياة والأمل. موت أخي الطفلة، الذي دهسته سيارة، ليس مجرد حادث عابر، بل هو بمثابة /نهاية العالم/ بالنسبة للطفلة، وهي تظل تبحث عنه عبر الشارع، في سعي مستمر لملاقاته. هذا الفقد يعكس قسوة الواقع الذي لا يرحم الطفولة ولا يسمح لها بعيش لحظات البهجة. تكرار الموت في السرد يسلط الضوء على مصير الطفل في عالم يُديره الكبار، دون أن يكون هناك مكان للأحلام أو الأمل. 

أسلوب السرد: الأسلوب السردي في القصة يتميز بتركيز كبير على التفاصيل الصغيرة التي تؤثر في القارئ بشكل عميق. تفرد شهلا فيض الله الكثير من المساحة للوصف التفصيلي لحالة الطفلة، بدءًا من شكل ملابسها الممزقة وصولاً إلى انطباعات عيونها المليئة بالأمل، ما يعكس محاولات الراوي لفهم الحالة النفسية للطفلة. هذا الأسلوب التفصيلي يخلق نوعًا من التعاطف مع الشخصية، ويجعل القارئ يعيش التجربة نفسها، فيصبح أكثر انغماسًا في معاناة الطفلة.

 كذلك، أسلوب التذكر والاسترجاع الذي يستخدمه الراوي - حيث يعيد إلى ذهنه صورة /بائعة الكبريت/ - يعزز من عمق القصة ويوظف الأبعاد الرمزية بذكاء. فالراوي لا يقدم الأحداث بشكل خطي، بل يسترجع الذكريات التي تشبه ما يعيشه الآن، مما يضيف للقصة بُعدًا وجوديًا يتنقل بين الماضي والحاضر.

الختام: قصة /ظلال الأمل/ ليست مجرد قصة عن فتاة فقيرة تُحاول البقاء على قيد الحياة في عالم قاسٍ، بل هي تأمل في الإنسانية والبراءة التي تتعرض للتحطيم على يد الزمان والمجتمع. الكاتبة باستخدام أسلوب سردي عميق ومؤثر، تناولت قضايا مثل الفقر والموت والفقدان من خلال تقديم صورة معقدة عن الطفولة. القصة، بذلك، تفتح المجال للتأمل في العلاقات الاجتماعية والإنسانية في عالم مليء بالظلم والحرمان. ومن خلال الرمزية الحافلة بالمعاني العميقة، تساهم القصة في كشف الوجه القاسي للمجتمع في سعيه للإجابة عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بالحياة والموت، والفقدان والأمل.

***

بقلم: كريم عبدالله – العراق

يُعَرَّفُ النقدُ الثقافيُّ على أنّه عمليةُ تقييمٍ فنيٍّ للنصِّ المكتوبِ والمسموعِ والمرئيّ.. يتعاملُ معها ناقدٌ متخصّصٌ أريبٌ يمتلكُ أدواتِهِ الفنّيّةِ، ولديه رؤيةٌ ثقافيةٌ موضوعية، تمكنُهُ من سبرِ أغوار النصِّ بغيةِ التنقيبِ عن الجَيِّدِ والرديء، وبواطنِ القوةِ والضعف.

ويعتبرُ الناقدُ أحدَ عناصرِ النقدِ الثقافيِّ إلى جانبِ المحتوى الإبداعي (النص، اللوحة الفنية، الفلم السينمائي، القطعة الموسيقية، المسرحية).. أيضاً اللغةِ بأنواعِها اللسانيةِ والبصريةِ والتعبيرية، يلي ذلك المؤلف، والملحن، والفنان التشكيلي.. وقد يشارك الناقدَ في الرؤية كلٌّ من المخرجِ المتمكنِ، والموزعِ الموسيقيِّ.. وأخيراً يأتي دورُ المتلقي الحصيفِ الواعي.

فالعمليةُ النقديةُ الناجحةُ تحتاجُ إلى أدواتٍ فنيةٍ، وناقدٍ مقتدرٍ يمتلكُها، ويستخدمها بمسؤوليةٍ وأخلاق.. فهو ليس القاضي الذي يُصْدِرُ أحكاماً مطلقةً؛ بل أنه ذلك النطاسيُّ الذي يشخّص النصَّ (أو أيّ عملِ إبداعيٍّ نوعيٍّ آخر) ويختبرُ الرموزَ والإشاراتِ الكامنةَ فيه، ثم يقترحُ حلولاً غيرَ ملزمة، وقابلة للتغيير.. ويتعامل مع النص (أو أيّ إبداعٍ ثقافيٍّ آخر) ككائن حيٍّ.. فالناقد حتى وهو يحلل أي عملٍ كتابي أو مرئي أو سمعي سيحوله إلى نصٍّ مكتوبٍ لترجمة رموزه السيميائية.

فالنصُّ الذي يذوبُ في تفاصيلِهِ الكاتبُ المبدعُ بكلِّ ما لديهِ من وعيٍّ خاص، تحوّلُهُ أنظمةُ الرموزِ والإشاراتِ التي تنبعث منه، لتشكيلِ رؤيةِ المبدع التي تتلخَّصُ بالمعنى، وذلك وفقَ علاقةِ الدّالِّ بالمدلولِ في وضع الإنغلاق والأحادية (بوجود المؤلف) كما هو الحال لدى البنيويية والسيميائية، أو انفتاح الدلالاتِ على كلِّ الاحتمالات مع استقلالية النتائج (وخروج المؤلف من النص) كما هو لدى التفكيكيين.

والناقدُ الموضوعيُّ يجمع بين القراءةِ الواعيةِ والقدرةِ على التقييم الفنيِّ في مشهدٍ نقديٍّ ثقافيٍّ مُتْخَمٌ بما هو جيد ورديء، لذلك لا بدّ من طرحِ أهمِ المعوقاتِ التي قد تؤثر سلبياً على العملية النقدية الجادة خلافاً للنصوصِ المنتخبة من قبل الناقدِ نفسِهِ أو الأكاديميينَ المشرفينَ على برامجِ الدراساتِ العليا في الجامعات، والأعمال التي تفرض نفسها في المنتديات الثقافية أو الحاصلة على جوائز مرموقة.. وأهم هذه العوائق:

- الاختيار بناءً على شهرة الكتاب عبر الفضاء الرقمي دون تمحيص.

- المناسبات المحرجة للناقد.. حيث أن اهتمام الناقد بالنص يأتي استجابة لمناسبة توقيع وإشهار كتاب ما دون إخضاعه لموجبات النقد الجاد من حيث الأهمية أو الخطورة على المتلقي.. لذلك تكثر المجاملات.. وهذه مُشْكِلٌةٌ يعاني منها المشهدُ الثقافيُّ العربيّ برمته.

- التعاملُ مع الكتابِ من خلال قيمةِ صاحبِهِ الذي سيفرضُ هيبَتَهُ على العمليةِ النقدية.. مع أنَّ بعضَ أهمِّ الأعمالِ قيمةً لكبار الكتابِ قد تتمثلُ بباكورةِ أعمالهم.. إذ لا علاقةَ للنضوجِ بعمرِ المبدعِ ومكانتِه..

وتذكروا بأن الكاتبتين الشقيقتين شارلوت وإيميل برونتلي، كتبتا أهمَّ روايتينِ في الأدبِ الإنجليزي، "جين إير" و"مرتفعات وذرنج"، وهما دون العشرين.. فيما كتبت الكاتبةُ الأمريكية ميريغريت ميتشيل روايتَهَا الوحيدَة، "ذهب مع الريح" لتتبوأ مكانَةً متميزةً في الأدبِ الأمريكي.

وقد تكون باكورةُ أعمالِ نجيب محفوظ أو يوسف إدريس أفضلَ قيمةً من بعض أعمالهما المتأخرة.. فالوعي والنضوج لا يرتبطان بعمر الكاتب.

- المبالغة في الاهتمامُ بالعنوانِ والعتبةِ على حساب النصِّ.

- بعضُ النقادِ يهتمون بتحليل الغلاف الذي يصممه فنانٌ غير المؤلف نفسِهِ، فيأتي ذلك على حساب المساحة المخصصة للنص، كون الغلاف يرتبطُ بالمصممِ الذي يُخْضِعَهُ لمعايير الفن التشكيلي أو التصميم الفني والتي تعتمد على علاقة التكويناتٍ الفنيةٍ للكتلِ والألوانِ الجاذبةِ ببعضها، وما تحتويه من إشارات ورموز سيميائة، خاصةً بالفنانِ نفسِه.

- بعض النقادِ يعانون من "متلازمة التحذلق الأدبي" أو الثقافي.

فيتعاملون مع النصِّ (أو الأعمال الفنية المختلفة) بروحِ انتقاميةٍ جارحة، فيحصرُ الناقدُ عَمَلَهُ في التنقيبِ عن الأخطاءِ بدونِ توازناتٍ فنية.. وفق رؤية موضوعية متكاملة.. فيبدوا عملُ الناقدِ غيرَ أخلاقيّ، وكأنه شعورٌ بالنقص.. وكنت شاهداً على مواقفَ كهذه.

وقد تخضعُ العمليةُ النقديةُ لمعاييرَ مدارسٍ نقديةٍ مختلفة، على قاعدةِ احترامِ النصِّ أو الأعمال الفنية المختلفة من خلالِ التعاملِ معها ككائناتٍ حية..

ومن أهم هذه المدارس:

أولاً: المدرسة الواقعية: إن الواقعَ موجودٌ داخلَ أفكارنِا وفي الطبيعة، فهو ليس واقعاً فردياً ولا جماعياً ثابتاً وواحداً.. والواقعُ صورٌ كثيرةٌ قد تكونُ متشابهةً أو مختلفةً كلياً.

وحسب نظريةِ الانعكاسِ فأنَّ ما ينعكسُ في الدّماغِ هو صورةٌ من الواقعِ؛ ولكنّ هذه الصورةَ المنعكسةَ تختلفُ من شخصٍ إلى آخر، ومن أديبٍ مبدعٍ إلى آخر، حسب الأسلوبِ وزاويةِ الرؤيةِ وثقافة الناقد فيما لو كانت اشتراكية، ماركسية إلحادية، وجودية، دينيةً.. طبقيةَ إجتماعية قبلية.

وأكد أرسطو على أنَّ الحواسَّ والتجرُبَةَ والواقعَ هي طريقُ الوصولِ إلى الحقيقة، وأنَّ ما يترسّخُ في العقلِ يتم عن طريقِ التجربةِ الحسيّة.

ثانياً: المدرسة الرومنسية: التي تستحوذ فيها العاطفةُ على النصِّ بما فيه من معطياتٍ نفسيةٍ مبسطةٍ أو مركبة.

ثالثاً: مدرسةُ التحليلِ النفسي: وهو مِنْهَجٌ اعتمدهُ كثيرٌ من النقادِ المقتدرين معرفياً بنظرياتِ سيغموند فرويد الذي يُعْتَبَرُ أبو هذه المدرسة، فطبقوا – نتيجة لذلك – كثيراً من نظرياتِه، من أجل مقاربَةِ النصوصِ الأدبية، كنظريةِ اللاشعور، وعقدةِ أوْديب التي استوحاها فرويد من أسطورةِ أوْديب الإغريقية، وهي عقدةٌ نفسيةٌ تُطْلَقُ على الذَكَرِ الذي يُحِبُ والِدَتَه.

وعقدةُ إلكترا المستوحاةُ من قِبَلِ فرويد والتي تقومُ على أسطورة إليكترا، وتشيرُ إلى التعلقِ اللاواعي للفتاةِ بأبيها وغيرتِها من أمِّها وكرهِها لها.

رابعاً: المدرسةُ التاريخية: وهي محاولةُ فَهْمِ ما يقولُهُ النصُّ نفسُهُ في سياق وقتِهِ ومكانِه، وكما كان مقصودًا لجمهورِهِ الأصلي، بمعنى الحس التاريخي الحرفي، أو "المعنى المقصود". فيسعى الناقدُ المؤرخُ إلى التحقق من المصادروحمايتها من التضليل الذي تربطه بطول الزمن علاقة طردية .

خامساً: المدرسة السيميائية: التي وضع أسسَها رائدُ اللسانيات، دي سويسر، الذي اجتهد في وضعِ النظريةِ السيميائيةِ وقدَّمَها على اللسانيات.

وهي مِنهجٌ وصفيٌّ يرى في العملِ الأدبيِّ نصاً مُغْلَقاً له نظامُهُ الداخليُّ الذي يمنحُهُ وِحْدَتَه، وهو نظامٌ يكمنُ في تلك الشبكةِ من العلاقاتِ التي تنشأ بين كلماته.

استندتِ السيميائيةِ على مجموعةٍ من المبادئِ أهمُّها:

- التركيزُ على البنيةِ الداخليةِ للنص.

- الاهتمامُ بدراسةِ اللغةِ بوصْفِها جهازاً منغلقاً مكتفياً بذاته.

- رفضُ جميعِ المؤثراتِ الواقعةِ خارجِ النصِّ نفسِهِ الذي يخضعُ لتشريحِ الناقدِ المتمكِّنِ القادر على تأويلِ الإشارات لبناءِ المعنى الفردي المغلق، وذلك وفقَ معطياتٍ رمزيةٍ فرديةٍ نابعةٍ من وعيِ المؤلفِ الموجود في النّص.

خامساً: المدرسةُ البنيوية: وهي نفسُ المِنهج السيميائي الوصفيِّ النابعِ من رؤيةِ المؤلف المرتبطة بعقله الباطنيّ، ناهيك عن كونها منغلقة على الدّوال الخاصة بالمؤلف، بعيداً عن المؤثرات الخارجية، لكنهما يختلفان في عدد المدلولاتِ حيث أنّ السيميائية أحادية بينما البنيوية فهي منفتحةٌ على أقصى ما تُتِيحَهُ الاحتمالات.

سادساً: المدرسةُ التفكيكية: ظهرت المدرسةُ التفكيكيةُ كحركةٍ ناقدةٍ للبنيوية، فهي تُفَكِّكُ النصَّ المتماسكَ الذي يعتمدُ على دلالةٍ واحدة، وتعيدُ بنائِهِ وفقاً للأسُسِ التالية:

- الاختلافُ: بمعنى أنّ النصَّ مُنْفَتِحٌ على مجموعةٍ لا نهائيةٍ من الاحتمالات، التي تعتمد على المتلقي فتختلف الرؤى من قارئ لآخر.. أي أن القارئ هو صاحب السلطة على النص فيتقدم بذلك على المؤلف. حيث يقوم بتفكيك النص ومن ثم يعيد تجميعه وفق دوال القارئ.. وتزداد المدلولات المحتملة كلما زاد عدد القراء.

- علمُ الكتابة: أي التعامل مع الكتابةِ إنطلاقاً من كونِها مستقلةً عن اللغةِ وسابقةً لها، كونها صيغةً لإنتاجِ الوحداتِ وابتكارِها، وذاتُ آليةٍ مستمرة، فلا تتوقف بموت المؤلف وخروجهِ من النص.

وهذا يفسرُ ما جاء في مقالِ الفيلسوف الفرنسي رولان رايت بعنوان "موتُ المؤلف" المنشور عام 1961 والذي يدعو إلى تحرير الدوال والمدلولات من العلاقة المنغلقة بصاحب النص (المؤلف).

وقد تفاعل نخبةُ النقادِ الأردنيين من خلال المنجز النقدي المحلي مع هذه المدارس باقتدار سواء كانوا أكاديميين أو غير ذلك.. أنا أتحدث هنا عن المالكيْن لأدواتِهِم الفنية.. فيما تنوَّعت اتجاهاتُهًمِ النقديةِ ما بين النقدِ الكلاسيكي التقليدي والحداثة، وذلك في مجالاتِ البيئةِ المحليةِ والتراثِ والقضيةِ الفلسطينيةِ (ضمن الاهتمامِ بالقضايا القومية)، والأدبِ العربيِّ التراثيِّ والمعاصر، والعالمي.. لإلى جانب الاهتمام بمجالاتِ الفنونِ الأخرى.

ونذكر من النقادِ الروّاد، الدكاترة: ناصر الدين الأسد، ركس بن زيد العزيزي، عيسى الناعوري، محمود السمرة، إحسان عباس، هاشم ياغي، عبد الرحمن ياغي وغيرهم من النقاد الذين ساهموا في ارتقاء النقد الأردني باقتدار إلى جانب نخب النقاد المعاصرين ممن ينضوون في جمعيّةِ النقادِ الأردنيين التي تضمُّ أساتذةً كبارَ لا مجالَ لذكْرِ أسمائِهِم في هذا السياق.

***

بقلم: بكر السباتين

23 سبتمبر 2024

 

للأديب الروائي قصي الشيخ عسكر

هناك أحداث ومواقف ترسم تاريخ الشعوب، وتبقى ملامحها حية وخالدة في سماتها التاريخية والاجتماعية والدينية، لذا فأن هذه الرواية ليس أنها وثيقة تسجيلية وتاريخية في أحلك فترة في تاريخ العراق السياسي الحديث فحسب، ولكن سجلت في عدستها اليومية أحداثها عبر تسجيل واقعي بالواقع الفعلي، كيف انطلقت شرارة الانتفاضة من البصرة وامتدت الى المدن الجنوبية وعموم المدن العراقية، التي شهدت سقوط سلطة النظام الطاغي وانهزام افراده كالفئران المذعورة، تترك مواقعها الحكومية والحزبية والامنية، لتنجو بحياتها من انتقام وبطش الثوار، عقب الاحداث الدراماتيكية، والفصول المتسارعة بعد احتلال الكويت، التي اعتبرها النظام نزهة سهلة، خلال سويعات قليلة تم الاحتلال، وبدأ نهب وسرقة الممتلكات والاموال، من الفرهود الواسع كغنائم حربية، ولكن بعد ذلك انقلب السحر على الساحر، في الهزيمة الشنيعة، جعلت الجنود يهربون من مواقعهم من حمم النيران بالطائرات والمدافع، أصبحوا في حالة رعب وخوف، وفي حالة مأساوية من الجوع والعطش، فكانوا في حالة يرثى لها، ممزقي الثياب يغطيهم الغبار، كأنهم أشباح بشر، ووصلت حالة التردي، بأن اصبح الجندي العراقي يقبل بسطال الجندي الأمريكي لينجو من الموت، أمام هذه الحالة التعيسة، نزعوا ثيابهم العسكرية وتركوا ثكناتهم العسكرية، ووجهوا بنادقهم الى صور الطاغية بالتمزيق، وتحطيم النصب والتماثيل، مما اجج الغضب الى التمرد والثورة على النظام، الذي جعلهم خرفان جاهزة للذبح، فكانت انطلاق شرارة الانتفاضة وانطلقت بنيرانها في التمدد والاتساع من الغضب الشعبي العارم. نتيجة القهر والإرهاب وجنون العظمة عند رأس الطاغية بشن الحروب المتوالية والهزائم المتوالية، والتي انتهت في حرب الخليج الثانية،، ولكن تبقى مسألة الكويت في النزاع التاريخي المتواصل في العراق، من الملكية، ملك غازي وبعده الحكم الجمهوري عبدالكريم قاسم، يطالبون بالكويت بأنها ارض عراقية، فقط من اعترف بها، هو انقلاب البعث عام 1963. والمسألة الفكرية الاخرى هي مسألة العنف المفرط بين النظام، ورد الفعل الثوار بالانتقام والبطش، سيكولوجية العنف والعنف المضاد، بين الطرفين النظام والمعارضة. ولكن تبقى الانتفاضة الوجه المشرق لتاريخ العراق السياسي، كادت ان تحقق الحلم الجميل بإسقاط النظام، ولكن إضاعته أمريكا غيرت بوصلتها في الوقت الضائع، عندما ادركت بأن العراق سيقع غنيمة في الفم الايراني، أعطت اكسير الحياة والبقاء للنظام، ليجهض الانتفاضة بالقبضة الدموية، وبدأ النظام يخوض حرب ابادة وحشية ضد الشعب الثائر بالانتفاضة، لكي يحرمه من حق الحياة. احداث المتن الروائي ينقسم الى قسمين. السفر الأول: الانتفاضة، والسفر الثاني: السجن، يسردها أحد ثوار الانتفاضة (عبدالله عبدالرحيم) الموظف في دائرة العدل في البصرة، ومن اهالي منطقة التنومة البصراوية.

1- الانتفاضة: حيث تلتبس الحياة بالموت.

تؤرخ الرواية مركز انطلاق شرارة الانتفاضة في البصرة، مباشرة بعد اندحار الجيش وانهزامه وترك الوحدات العسكرية، دلالة احتجاج وتمرد على السلطة الحاكمة، و اغتنمت الجماهير المنتفضة سلاح الجيش، لكي تطارد فلول النظام وحزبه بالانتقام الدموي، سقطت السلطة في عموم المدن، وقعت في قبضة الثوار، ويعلن الثوار عبر الميكروفونات وكذلك اذاعة الثوار (شط العرب) لتزف البشرى الكبرى بسقوط النظام والدعوة الى المشاركة الشعبية في دعم وإسناد ثوار الانتفاضة (الله اكبر / يا اهالي البصرة الله اكبر / الطاغية سقط/ بشرى الطاغية يسقط !! / لقد انهار الجلاد والثورة تشتعل في كل المحافظات) ص46، ويسرد الشخصية المحورية (عبد الله عبد الرحيم) البطل الايجابي واحد ابطال الانتفاضة المشاركين بشكل فعال في منطقة التنومة / البصرة، ويسجل احداثيات اليومية بكل وقائعها، في المقاومة والتحدي، برفع السلاح بوجه أركان النظام، التي باتت غير موجودة. لم يبق اية اثر لوجود سلطة النظام في المدن. كما هو الحال في عموم المحافظات. وكل المعطيات كانت تدل على النظام يتهالك بالسقوط، حتى رأس النظام كان يستعد للهروب. لكن امريكا غيرت موقفها، عندما ادركت الامور تتجه لصالح ايران، وكانت خيمة صفوان، خيمة استسلام النظام، وقبوله بكل الشروط الامريكية ليبقى حياً، لهذه الهزيمة في خيمة صفوان، ويقف الجنرال شوارسكوف منتشياً بالنصر وهو يصافح جنرالات النظام منكسي الرؤوس بالإحباط والخيبة (ومن حق الرئيس بوش وحده يبتسم، وهو يرى العراق كله مغطى بشعارات وصور، تبعث في نفسه الريبة والخوف، سوف يسقط العراق بيد ايران، امريكا تقدم بلداً كاملاً بملايينه وشعبه وخيراته لقم) ص62. وبدأت المعادلة على الارض تتغير كل يوم لصالح النظام، وبدأ العد التنازلي في إجهاض وقمع الانتفاضة بالعنف الدموي يتوسع في ارتكاب مجازر بشرية مروعة في الشوارع والسجون والزنزانات التي اكتظت بالالاف، ينتظرون دورهم للموت، فقد وجدوا الثوار انفسهم امام جدار مسدود، اما الموت أو الفرار مع عوائلهم الى ايران (أين ذهب بقية الرجال؟ هل حقاً فرت معظم العوائل الى ايران؟ ومن نحن حتى نقف بوجه تيار جارف من الموت والجنون، الجميع غادر من شارك في الانتفاضة، وحتى من وقف متفرجاً. مكبرات الصوت صاحت: ايها الناس فروا من الطاعون في الجو طائرات الهليكوبتر، وعند الضفة شرق النهر دبابات باتت تتأهب للانقضاض الحابل اختلط بالنابل) ص65. ولكن (عبدالله عبدالرحيم) اصر على البقاء مع عائلته، مع التحذير بأنه سيواجه الموت بلا محالة.

2 - السفر الثاني: السجن (حيث يتلبس الموت بالحياة).

يزج (عبدالله عبدالرحيم) في السجن، في زنازين الموت المكتظة بالكثير، فكانت وسائل التعذيب وحشية لا تتحمل، سقط الكثير ميتاً نتيجة التعذيب بالأسلاك الكهربائية والتعليق والضرب المتواصل حتى يغمى على الضحية وحين يفيق من إغمائه يعاد التعذيب من جديد، من أجل انتزاع اعتراف بكل الوسائل الهجينة وهذا الاعتراف يقر بحكم الاعدام والموت. وكانت حفلات الإعدام في السجون تجري بوتيرة متسارعة. وتوجه تهم خطيرة الى (عبدالله عبدالرحيم) كفيلة بأية تهمة تقوده الى الموت المحقق، تهمة المشاركة مع الغوغائين وحمل السلاح. مسؤول اذعة الثوار (شط العرب) شارك في التخريب والقتل المتعمد، ويتردد على الجامع. والمحققون بملامحهم العدوانية، يتطاير منها الشر والحقد والعدوانية، وتتهالك عليه الضربات من كل جانب، تمزق ثيابه وجسمه (هنا أيها الخائن: يا اعرج الشؤم، هنا مكانك مع الخونة) ص90. لكنه بدد كل التهم بالإنكار الكلي، كوسيلة للدفاع عن نفسه ويدرك ان أي اعتراف يعني الموت، ووجد خير وسيلة مع عقدة النقص أو العاهة (العرج) متذكراً نصيحة أستاذه في المدرسة (ليس بالضرورة ان يشعر كل ذي عاهة بعقدة. تيمورلنك الأعرج احتل العالم. موشي ديان اغتصب اخوات مائة وخمسين مليون عربي في ستة أيام حسوماً، فما بالك بي وقد جعلت لواء مدرعاً يفر. الآن جمعت الاثنين!) ص93، لذلك يبرر عقدة العاهة بالعرج بعدم قدرته على المشي ولا حمل السلاح، وانه منذ طفولته في المدرسة معفياً من درس الرياضة، وأنه لم يكمل الدراسة الثانوية فمن اين اتت موهبة الخطابة، حتى يكون مشرفاً على اذاعة الغوغائيين (شط العرب) أنه يتردد على الجامع من اجل جلب الطعام الى عائلته وأطفاله ليبعد عنهم شبح الجوع. وكان كل تعذيب يغمى عليه، يعاد عليه التحقيق مجدداً، ويتنقل في عدة سجون امنية، وظل متماسكاً يردد نفس اقواله دون تغيير، ويعاند في تحمل اهوال التعذيب، واخيراً ينقل الى سجن أمني يشرف عليه (ابا درع) البدوي يجمع العنف تارة والطيبة تارة آخرى، لذلك ركز على وتر الطيبة ويضخمها بالمدح المبالغ به، بأنه رجل كريم يحب العدل ولا يظلم احداً(- سيدي انت رجل حقاني كما هو الشائع والمعروف عنك، الكل يتحدث عن طيبة قلبك وخلقك وكرهك للظلم، كلنا نعرف انك لا تظلم احداً، أرجوك ان تطلق سراحي) ص151. يلتفت الى مرافقه ويطلب: ان يسجل اسمه، لكن حذره بأنه سيقرأ ملفه، اما الموت أو البراءة. وتمر الايام احر من الجمر تنتابه هواجس شتئ، ويطلب مقابلة الجنرال البدوي، يتعجب هذا من عدم إطلاق سراحه، يبرر المرافق بعدم وجود سيارة. فيقول بحزم:

- أطلقوا سراحه، ودعوه يذهب في السيارة المغادرة عصراً.

هكذا كتب عليه النجاة والحياة بعد الموت المحقق.

×× الرواية من اصدارات مؤسسة المثقف / سدني

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

 

بقلم: كيفن يونج

ترجمة: د. محمد غنيم

***

توفيت نيكي جيوفاني هذا الشهر (7 يونيو 1943 – 9 ديسمبر 2024) عن عمر يناهز الواحد والثمانين عامًا، لتكون واحدة من أندر الأشياء: شاعرة حققت مبيعات ضخمة. انطلقت أعمالها إلى الساحة في الستينيات وقد اكتملت بالفعل - كانت مهتمة، كما كان الحال مع شعر فنون السود في تلك الفترة، بالظلم والتحرر، ولكنها أيضًا عرضت روح الفكاهة الأصيلة والحس الجنوبي. استلهمت من مسقط رأسها في نوكسفيل، تينيسي، ومن سنواتها الأولى في سينسيناتي، متحدية السرديات النمطية حول "الأوقات الصعبة" التي غالبًا ما تُفرض على تجارب السود، خاصة تلك التي تتعلق بالنشأة. "ذكريات الطفولة دائمًا مزعجة / إذا كنت أسود"، كما لاحظت بسخرية في قصيدتها "نيكي-روزا"، لكنها فضلت أن تذكر القراء بأن "الحب الأسود هو ثروة السود".

استكشفت كتبها العديدة هذا المجال الغني من الفكر الأسود، الذي يميزها الغضب والجمال والتعليقات الاجتماعية الساخرة. كانت خطوطها التي غالبًا ما تكون بحروف صغيرة، وقليلة الترقيم، لا تخشى التفاخر، كما في قصيدتها الشهيرة "ego trippin" — التي تستند إلى تقليد التفاخر الأسود الذي يمتد من بو ديدلي إلى كيندريك لامار— أو التحدث عن عدم اليقين الثوري، الذي جعلته مضحكًا وقويًا كما لم يفعل غيرها. تظهر الجوانب التي تمثلها في أنثولوجيا شعر الأمريكيين الأفارقة التي قمت بتحريرها، والتي تضعها بين مجموعة من الكتاب العميقين، العديد منهم — مثل جون جوردان، ولوسيلا كليفتون، وجين كورتيز— لم يعودوا معنا. كما قال أحد الأشخاص الذين أعرفهم عندما سمع خبر وفاة جيوفاني: "الأشجار تتساقط".

تدور أسئلة الطبيعة، سواء في ذاتها أو كموضوع أدبي، بين هؤلاء الشعراء، سواء في الإيكوبويتيكا في مجموعة كليفتون "أخبار جيدة عن الأرض" أو في قصيدة جيوفاني الكلاسيكية "من أجل ساوندرا"

...جاري الذي يظن أنني أكره

سألني—هل تكتب أبدًا

قصائد عن الأشجار—أنا أحب الأشجار

ففكرت

سأكتب قصيدة جميلة عن شجرة خضراء

نظرت من نافذتي

لأتحقق من الصورة

فلاحظت أن ساحة المدرسة كانت مغطاة

بالأسفلت

لا خضرة—لا تنمو الأشجار

في مانهاتن.

إن الحياة الريفية الإنجليزية لا تجد مثيلاً لها في المدينة، بل في الخيال الذي يقرر عدم ملاحقة الأشجار من أجل الغابة في اللحظة الراهنة. كما تقول كليفتون في قصيدة أخرى محبوبة:

كلما بدأتُ

"الأشجار تلوح بأفرعها المعقدة

و..." لماذا

يوجد تحت تلك القصيدة دائماً

قصيدة أخرى؟

هذه "القصيدة الأخرى" هي ما تخصصت فيه جيوفاني عبر العقود، كتابة عن العائلة، وليس عن شعبها فحسب بل عن أمة تحتاج إلى كل الأصوات التي عاشت فيها.

كان نشاط جيوفاني جزءاً من سخائها، الذي تجلى في تفانيها في التعليم وبناء المجتمع. بعد وفاة كليفتون في 2010، ساعدت جيوفاني في تنظيم قراءة تأبينية بعنوان "73 قصيدة ل73 سنة"، احتفالاً بكليفتون، حيث كان لي الشرف في القراءة. (حتى بعض من الشعراء الأصغر سناً الذين كانوا في ذلك الحدث قد رحلوا الآن.) في النهاية، قادتنا جيوفاني من القراء والشعراء في أداء جماعي لقصيدة لوكسييل الشهيرة "ألن تحتفل معي"، بكل كاريزما وحرفية مديرة الكورال الجنوبية. لم أتعلم فقط من بيننا من كان قادراً على "الغناء"، بل بدا الأمر أيضاً كاستعارة ملائمة لقدرتها على التجمع، والأمر، والحفاظ على الأمور في كمالها.

كانت جيوفاني مؤدية ساحرة، تسيطر على المسرح أثناء قراءاتها التي كانت تقدمها حتى وقت قريب، رغم تشخيصها بالسرطان. مع مرور الوقت، أصبحت ظهوراتها العامة أكثر من مجرد مناسبات للقراءة؛ حيث تحولت إلى فرص لإلقاء المحاضرات والتحدث بأسلوب عفوي. في مثل هذه الفعاليات، سواء من خلف الميكروفون أو في الجمهور، كثيرًا ما كنت أسمعها تتحدث عن السياسة أكثر من الشعر، وتناقش الفضاء الخارجي أكثر من تقسيم الأسطر. كانت تعظ وتستفز. وتحدثت خصوصًا عن قوة كوكب المريخ وكيف يجب علينا أن نذهب إليه. ظهر مقتطف مؤثر من عملها بين الكواكب في معرض ألڤين آيلي الأخير في متحف ويتني؛ وربما كان التعبير الكامل عن رسالتها الأفروفيتورية في الوثائقي "الذهاب إلى المريخ" الصادر في 2023، الذي تتبع رسالة جيوفاني عبر النجوم إلى عالم أحيانًا يبدو أكثر صعوبة في الوصول إليه، هنا على الأرض.

كانت معارضة لكن أصيلة تمامًا، دافئة لكنها لم تتحمل الحماقات، كتبت كتب للأطفال ولكنها كانت قادرة على السباب بكثرة—قد يقول البعض إنها كانت تتناسب مع برجها الفلكي، الذي منح كتاب مذكراتها عنوانه: "جمني: بيان سيرة ذاتية ممتد عن أول خمسة وعشرين عامًا من كوني شاعرة سوداء." كان نيويوركر محظوظًا بنشر أعمالها—وإن كان متأخراً عن المفترض، أول مرة في 1997 ثم مرة أخرى الأسبوع الماضي. تبدأ "المرآة الفضية اللامعة" بـ:

بغض النظر عن كيف حمل الرياح والنجوم الأخبار

كان العبيد يعلمون

أن شيرمان قادم

كل ما كان عليهم فعله هو الانتظار:

بينما كانوا يغنون الترانيم "لماذا لا أستطيع الانتظار على الرب؟"

كان لديهم الصبر ليعلموا أنه قد لا يأتي

عندما تناديه

لكنه دائمًا يأتي في الوقت المناسب.

كانت  تميل دائماً إلى المزاح، بما في ذلك المزاح عن نفسها، ولذلك اختارت أن تسمي المجلد القادم الذي سيضم هذه القصيدة—والذي كانت تدرك أنه سيكون على الأرجح آخر أعمالها—ببساطة "الكتاب الجديد". كل ما يمكنني أن آمله هو أنها شاهدت عودتها إلى صفحات المجلة، وأثق أن الأجيال القادمة من القراء ستظل تحملها في قلوبها كـ "جديدة" دائمًا، وفي الموعد دائمًا.

***

.................

الكاتب: كيفن يونج/  Kevin Young محرر الشعر في نيويوركر، هو أيضًا مدير متحف سميثسونيان الوطني لتاريخ وثقافة الأمريكيين من أصل إفريقي. وهو شاعر له عدد من المجموعات الشعرية .

 

دِراسةٌ فِي مُدوَّنةِ عَبدِ اللهِ المَيَّالي القَصيرةِ جِدَّاً (أرانِي أعصرُ حِبرَاً)

مِهادُ تَوطئةٍ:

 لِكلِّ خطابٍ نصيٍّ سواء أكان خطاباً شعرياً أم نثرياً جانبان مهمَّانِ في نظريات القراءة وآليات التلقِّي المعرفي الفكري، الجانب الأوَّل ما يقوله الكاتب ويبثُّه من أفكارٍ مُنتخبةٍ مُعيَّنةٍ، وهو الخطاب النصِّي الموجَّه للقارئ بعينه، والثاني ما يتلقَّاهُ المُتلقِّي الواعي أو القارئ النابه لهذا الخطاب، وهوَ التأويل النصِّي لفكرة الخطاب ووحدته. والخطاب والتأويل النصِّي هما ركنا آلية التلقِّي المعرفي للإبداع الفكري. وعندما يتوَحدن هذانِ الجانبانِ المُهمَّانِ الفكري الخطابي(المُرسل)، والتأويلي المعرفي(المُرسل إليه) معاً في بوتقةٍ نصيَّةٍ واحدةٍ تتحقَّق الغاية المنشودة لأهمية الخطاب، وتكتمل مَقصديات الهدف السامي من متن الرسالة الإبداعية التي جوهر العمل ونواته الحقيقية عند القارئ.

 ومثل هذا التوصيف التنظيري لجماليات الخطاب النصِّي، ولا سيَّما خطاب السرد، يُحيلنا قصدياً إلى تجلِّيات المجموعة القصصية القصيرة جداً(أراني أعصرُ حِبرَاً) للقاصِّ والروائي والأديب الباحث المثابر عبد الله الميَّاليّ.المجموعة التي احتوت على مائةِ قصَّةٍ من النصوص القصيرة جدَّاً، والتي أدَّت مهمَّتها الرسالية الجمالية والفكرية المتوثبة، وبلغت منتهاها المعرفي والإنساني والفنِّي في ذهنية القارئ ووصلت ضميره الوجداني على طبق فاعل من أنَّها حكاية سابقة لفكرة أو لاحقة.

العَتبةُ العِنوانيَّةُ للمُدوَّنةِ (ثُريَّا النَّصٍّ)

 يعدُّ العنوان الرئيس -في كلِّ عملٍ إنتاجي إبداعي تخليقي- بوابةَ الدخول المركزية الأولى الموازية للنصِّ المُرسل وعالمه الخطابي القارِّ. وهوَ تلكَ اللَّافتة الإغرائية التعيينيَّة والتوصيفية الضوئية، أو العلامة السيميائيَّة التأويلية التي يُواجهها القارئ مرئيَّاً وفكريَّاً وسمعيَّاً وجهاً لوجهٍ لأول وهلةٍ، والتي من خلال صور لوحتها الغلافية الفنيَّة والجماليَّة والموضوعية الأولى ينطلق فكر القارئ إلى فضاءات مدينة السرد أو الشعر الفاضلة عبر حلقة كبرى من الصراع الدائر بين يوتوبيا الخير وديستوبيا فوضى الشرِّ الناتج عن فعل أحداثها وفواعل شخصياتها الواثبة الخُطى.

 وإنَّ عنواناً فنيَّاً نسقياً ثقافيَّاً وانزياحيَّاً تناصيَّاً مُتفرِّداً مثل عنوان مدوَّنة(أراني أعصرُ حِبْرَاً) للكاتب عبد الله الميَّاليّ ما هو إلَّا انزياح مخيالي فكري تناصِّي تحوِّلي تُراثي ديني مع السياق البنائي الظاهر أو المضمر للآية(36) من سورة(الكافرون) القرآنية:(ودخَلَ مَعهُ السِّجنَ فَتيانِ قَالَ أحدُهَمَا إنِّي أَرَانِي أعْصِرُ خَمْرَاً).المعروفة بقصِّة يُوسفَ مع الغُلامينِ اللَّذينِ كانا معه في السجن.

 فإذا كان أحد أبطال هذه القصة الدينية المأثورة حكايتها التسريدية تاريخياً، هو الساقي لربِّه خمراً أو صاحب الشراب العاصر لسيِّده عِنباً بحسب ما يَذهب إليه التأويل الرؤيوي اليُوسُفي لذلك التفسير الحُلُمي، فإنَّ الكاتب القصصي عبد الله الميَّالي المُنشئ المُبدع والمنتج لمحتوى هذه المدوَّنة وفق تجلِّيات هذا التأويل، هو العاصر حِبْرَاً من مداد خمره القصصي السحري السردي القصير جداً والواثب فعلاً وعملاً في عدسة التقاطاته العينية ومشاهداته الموضوعية لحركة الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي والأدبي بمختلف صوره وأشكاله الواقعية والمخياليَّة الأُسطورية الماتعة.

 وذلك خلال مناطق تعدُّدية وأنساق ثقافية وأدبية لصور السخرية والفنتازيا الغرائبية والعجائبية الكاسرة لأفق توقُّع جدار المألوف اليومي الراهن بِجدتِها المُوضوعية وتجديدها الفنِّي والبلاغي والنقدي الساخر لِهُويةِ صوتِ الآخر، فلا حِبْرٌ سائلٌ يُعصَرُ مِدادُهُ الخَمري لِيُعطيَ مردوداً مُسكِّراً كما تُعصرُ الأعنابُ وتُخمَّرُ لتنتجَ خمراً يُذهِبُ العقل الإنساني سُكْرَاًوَيُغيِّبهُ في انتشائه غِيابَاً رُوحيَّاً.

 ولكنَّ المعادل الموضوعي المهمَّ للفعل الحالي(أعصرُ) التناصِّي القديم والجديد بين الدالتين النصيتين(حِبْرَاً وخَمْرَاً)، هو النشوة الروحية الساحرة التي يُضفيها فعل دالة(العَصْر)المؤثَّرة في التحكُّم بالعقل والروح والجسد في أبهى تجلياته النفسية وحمولاته ومقصدياته الذاتية الإنسانية. والعتبة العنوانية(أراني أعصرُ حِبْرَاً)،هي تركيبٌ نَحويٌّ منتظمٌ لجملة فعليةٍ بَصَرِيَّةٍ،والجملة الفعلية أكثر تأثيراً من الجملة الاسميَّة؛ لأنَّ الفعلية تبداً بحدث فعلي وتنتهي بحدث فاعل لذلك الفعل القائم.

 وعلى الرغم من اختلاف حركة البناء الشكلي لدالة فاء الفعل المكسورة الحاء في كلمة(حِبْرَاً)، ودالته المفتوحة الخاء في مفردة(خَمْرَاً)، فإنَّ الميزان الصرفي لوزن كلتا المفردتين واحدٌ هو الوزن(فعْلَاً) بفتح وكسر فاء الفعل. ويكاد يكون متشابهاً في إيقاعه الصوتي الموسيقي سجعاً قصيرَ الفقرة النصيَّة آيةً وعنواناً، وبالتالي فإنَّ حصيلة العطاء التخليقي الإنتاجي لهما الارتواء السحري والانتشاء المذهل للعقل. وسواء أكان ذلك المؤثِّر خمراً مُسَكِّرَاً أو سرداً فنيَّاً قصصيَّاً قصيراً جدِّاً ساحراً في توظيف واقعة الحدث الموضوعية وتشكيلها وبنائها وفعل ضربتها الإدهاشية الصادمة.

 وعلى وفق ذلك المُثير العنواني الاشتراطي، فإنَّ الوقع الدلالي للعتبة العنوانية لجِيرار جِينيت يكون صادماً ومُذهلاً مثلما كان فعل تأثير الخمر ضياعاً وخلخلةً للاتزان العقلي في تصور الأشياء والموجودات الفكرية والمادية البحتة، وشتانَ ما بينَ دالتي(حِبْرَاً وخَمْرَاً).بيدّ أنَّ السحر كان مِهمازاً مسمارياً قويَّاً فاعلاً ومؤثِّراً بين مُخرجات الدالتين. فلا حبرَ من غير سردٍ ولا خمرَ من غيرِ نشوةٍ للعقل. فالعطاء الروحي والفنِّي الناتج واحد؛لكن الفعل الوجودي لهما والتأثير الروحي مُختلف جداً.

 إنَّ َفِعلَ العَصْرِ والتحضير للخَمرِ يتمُّ عمليَّاً باليدِ، في حين أنَّ العَصرَ بالحِبر يأتي فعله حركياً وذهنياً وفكريَّاً وعقليَّاً. وهذا يشي بأنَّ عقل عاصر الخمر ليس كعقل عاصرِ الحبرِ أو(الفكرة)، فالأول سهل المنال ممتنع، بينما الثاني ليس بالسهل الممكن المستطاع في الحصول عليه ببساطةٍ، وإنما يحصل بشق الأنفس؛ لذلك كان العصر بالحبر فكراً خِلَافاً للعصر بينما العصر بالخمر سُكراً وغياباً، وهذه هي نقطة التلاقي المؤتلف والتقاطع والتفاوت المُختلف بين التناصين القديم والجديد.

 أمَّا العتبات النصيَّة الفرعية الداخلية الأخرى للمدوَّنة القصصية القصيرة جدَّاً، والتي بلغت نحو مائة عنوانٍ قصيرٍ جدَّاً، فإنَّ تركيبها النحوي والبنائي الجُمَلي الذي يُحسنُ السكوت عليه في إتمام المعنى الدلالي القريب في غالبيته العظمى أو بنحو(95) عنواناً منها جاءَ مُكوَّنَاً من كلمةٍ مفردةٍ واحدةٍ، في حين العتبات الخمس الأخرى المتبقية للمدوَّنة جاءت في كلمتين اثنتين متحدتين، فكان تركيبها إمَّا صفةً وموصفاً، أو جارَّاً ومجروراً، أو كان مضافاً ومضافاً إليه؛ وذلك بحسب ما اقتضته ضرورة توظيف الوصف الحكائي العنواني لماهية المحتوى السردي الذي اختاره الكاتب.

 ولعلَّ المُلاحظ واللَّافت على البناء المعماري لهندسة هذه العتبات النصيَّة المفردة في نَظمِ تركيبها النسقي التنظيمي والسياقي الجُملي أنَّها جاءت نكراتٍ لمبتدآتٍ أو معارفَ محذوفةً مُقدَّرةً، وتقديرها الجُملي إمَّا كلمة(العنوانُ)، أو(القِصةُ) في إتمام معناها ومبناها الكلي التام المُفيد. بيدَ أنَّ المهمَّ في قصدية هذه العتبات النصيَّة ذات الكلمة الواحدة الانفرادية التي التزم بها الكاتب في أكثر نصوصه القصصية القصيرة جدَّاً على الرغم من كونها نكراتٍ لمبتدآتٍ مُقدَّرةٍ محذوفة، فإنَّها جاءت أخباراً لمسروداتٍ متواليةٍ مُتمِّمَةٍ لمعاني تلك المعارف الابتدائية المحذوفة التي يتمُّ بها المبنى العنواني.

 هذه هي البلاغة العنوانية والفنيَّة لتلك المسرودات القصصية الموجزة. وكلَّما كان المعنى اللُّغوي النصِّي العنواني موجزاً ومقتضباً كان المبنى القصصي السردي مُكثَّفاً مكتنزاً وبليغاً مُدهشاً لذائقة القارئ في رسم صياغته التعبيرية، وَجَودته الموضوعية الفنيَّة المتراتبة الشكل والمضمون معاً.

 وقد حرص جِدَّاً الرائي والكاتب الميَّالي عبد الله على أنْ تكون جلُّ اختياراته العنوانية ثريةً ومتنوِّعةً في وحداتها الموضوعية وروافدها المعرفية وقيمة أفكارها الفلسفية والدلالية ، فكانَ موفَّقاً جدَّاً في ثنائية الجمع بين الموضوعات ذات المحتوى الدلالي الحسِّي المادي الواقعي وورؤية المخيالي الأسطوري المعنوي الذي لا يخلو من غرائبية الواقع وفنتازية العجائبي المُدهش الساخر.

 وقد ارتأى القاصُّ الميَّالي اختيارَ إحدى قصصه الفرعية الموسومة(أراني أعصرُ حِبْرَاً) أنْ تكونَ عنواناً نصيَّاً رئيساً قائماً بذاته الكليَّة، وهالةً ضوئيةً لافتةً لمُدوَّنته الخطابية القصصية القصيرة جداً. وهذا الاختيار القصدي للعنونة ناتج من باب إطلاق الاسم الفرعي الجزئي على الكلي. إذْ كان هذا الجزء الثانوي لافتاً في محتواه الفكري والمعرفي الهادف، ومضيئاً في سعة شموليته السرديَّة ومِساحته الفنيَّة الوظيفية والتي أكدها الناقد الفرنسي جيرار جينيت كعتبةٍ نصيَّةٍ مُتفرِّدةٍ في عتباته.

تَأثيثُ المُدوَّنةِ القِصصيَّةِ وهَندستِها المِعماريَّةِ السَّرديَّةِ

 المُدوَّنة السرديَّة (أراني أعصرُ حِبْرَاً) للقاصِّ والروائيّ والأديبِ العراقي عبد الله الميَّالي، هي المجموعة القصصية الثالثة من نتاجات الكاتب السردية والفائزة بالمرتبة الثالثة في جائزة دمشق للقِصَّة القصيرة جدِّاً بدورتها الثالثة في عام 2023م، والصادرة بطبعتها الأولى في العام ذاته 2023م عن دار أمارجي للطباعة والنشر في العراق، وبِكمٍّ كيفي حجمي ونوعي من فئة القطع الكتابي المتوسِّط بلغ نحو(132)صفحةً ضمَّت مائةَ قِصَّةٍ في محتواها الأدبي السردي القصير جدَّاً.

 ومن حيث التجنيس الأدبي تعدُّ القِصَّة القصيرة جدَّاً من أصعب الأجناس والأشكال القصصية كتابةً وإنتاجاً؛ لاشتراطاتها الفنيَّة المُحكمة المُعقَّدة وآلياتها البنائية المتفرِّدة،مثلما تعدُّ بالمقابل قصيدة النثر الشعريَّة من أصعب أجناس وقواعد لُغة الشعريَّة؛وذلك لكون هذا الفنِّ القصير جداً لوناً جديداً من ألوان الأدب الإشكالي الحديث الذي أخذ بالظهور اللَّافت ولانتشار المُتسارع في عالمنا الأدبي المعاصر بشكل واضحٍ. وأصبح هذا النوع من الكتابة الإبداعية الحديثة لوناً سرديَّاً قائماً بذاته على الرغم من كونه شَكلاً أدبيَّاً هجيناً وليس أصيلاً فإنَّ جنس هجنته منبثقٌ من رَحِمِ القِصَّة القصيرة أولاً، واستمدَّ أكثر خصائصه وسماته الفنيَّة الأوليَّة من بقية الألوان والأجناس الأدبية الأخرى ثانياً.

 فقد أخذ هذا اللَّون من فنُّ القصَّة القصيرة صفاتها الفنيَّة المعروفة، واقتنص من سرديات الرواية بعض عناصرها الأساسيَّة المهمَّة،ومن القصيدة الشعرية اكتسب لغتها الشاعرية وتكثيفها وإيجازها الاقتصادي واللُّغوي وتوترها النفسي، ومن المسرحية استلهم حوارها الدرامي البَصري والسَّمعي، ومن النثرية الفنيَّة استحضر جمالية إيقاعها الموسيقي الداخلي الذي يمنحها توهُّجاً وتمايزاً وتفرُّداً.

 وإنَّ ما يلفتُ النظرَ في هذا الجنس من القصة القصيرة جداً عن نظائره الأُخرى في السردية، وأعني القصة القصيرة(الطويلة)هو فنيَّة البناء الحكائي في معمارية حجمها الكمي والنوعي البنائي الهندسي الجمالي الذي لا يتجاوز تأثيثه الهيكلي أكثر من ثلاثة أسطرٍ مُكتنزةٍ، وقد تكون أكثر من سطرٍ سرديٍّ واحدٍ يؤهِّلها تأثيثيَّاً ومعماريَّاً بأنْ تكون جنساً سرديَّاً مُعبِّراً عن كينونة ذاته الوجودية.

 وإنَّ من أهم ما يُميِّز مدوَّنة(أراني أعصر حِبْرَاً)المُعبِّرة عن بلاغة دلالتها الانزياحيَّة والجماليَّة هو التزامها بالعناصر الأساسية للقصة القصيرة جدَّاً واهتمامها بأركانها الفنيَّة وقيم شرائطها وآلياتها الأسلوبية الزمكانية المتطوِّرة، والمُتمثِّلة بقصر وضيق حيز ماهية الوحدة الموضوعية المُعبِّرة عن اللَّحظة الشعورية الهاربة وما تنتجه من رؤيا وأحلامٍ وفنتازيا وسعة الخيال أو قصره المناسب لها.

 وفي هذا السياق البنائي الفنِّي تأتي أيضاً عناصرٌ مثلُ، المُبادَأَة والإقدام والجرأة الفنيَّة، والمناورة الأسلوبية المتعلِّقة ببناء الوحدة العضوية للنصِّ السردي، وعناصر أخرى مثل، خاصية التكثيف اللُّغوي والمعنوي والدلالي، والتركيز الذهني، والإيحاء الصوري، والمفارقة الإدهاشية المُذهلة المرتبطة بفعل الضربة الضوئية الختامية الصاعقة لواقعة الحدث الموضوعية الماتعة التسريد.

 وثمَّةَ اللِّجوء الشديد إلى بلاغة الأنسنة الصورية وفنيَّة التعبير الانزياحية في الأسلوب. فضلاً عن ذلك توظيف واستخدام العناصر والإشارات الرمزية والتقانات اللُّغوية والسيميائية المُتاحة في (الإيماء والتلميح والإضمار والغموض والتعقيد والإيهام)، والتندر المعنوي والاعتماد على تحشيد الصيغ الفنيَّة في الطرافة التعبيرية التي تُجسد تأثيرات اللَّقطة الحدثية الواثبة التي تنهض بالسرد.

 وكذلك التأكيد على خاصية التَّوهج في إضاءة الجملة التقفيلية للخاتمة المِهمازيَّة الصادقة للفعل الحدثي، والتأنَّي والدقة في اختيار لوحة العتبة العنوانية(ثُريا النصِّ)الذي يحفظ لمطلع البداية أهمية مفتتحها القَصِّي وللخاتمة حُسنَ تَخَلُّصِها الموضوعي الوامض. ذلك التختيم الذي يماهي تدريجياً هدوء مطالعها الأوليَّة ومُقدِّمات مُستهلاتِها الافتتاحية الراكزة لأنَّ الضربة الختامية حياتها النابضة.

 ومثل هذه التوصيفات الفنية والعناصر الأساسية المُتبعة في كتابة وإنتاج القصة القصيرة جدَّاً تشي بأنَّ كلَّ نصٍّ قصصي قصير لا يعتمد في تخليقه الفنِّي وتكوينه التعبيري على عنصر المفارقة الحدثية والهِزَّة الإدهاشية الكاسرة لأفق توقُّع القارئ أو المتلقِّي هو بالتأكيد يعدُّ نصاً فِعْلِيَّاً بارداً، وصوتاً لغوياً باهتاً غيرَ مُؤثِّرٍ في أَثَرِ ضربته التوقعيَّة، ولا يمتُّ بأيٍّ صلةٍ وثيقةٍ من الصِّلات إلى الإبداع الفنِّي القصصي القصيرالوامض لروح النص والمُعبِّرعن ثورته البركانية المُلتهبة.ولا يعدو هكذا نصٍّ سرديٍّ خَالٍ من هِزةٍ التأثير النفسي سوى كونه نصٍّاً نثريٍّاً عادياً بأيِّ حالٍ من الأحوال.

 والقارئ النابه الفاعل الذي يتتبع بتأمُّلٍ واعٍ متنَ نصوص مدوَّنة(أراني أعصرُ حِبْراً) الدالة على محتواها الإبداعي المثير، سيجد أنَّها نصوص سرديةً قصيرةً جدَّاً تهدفُ بنائياً وسياقيَّاً إلى إرساء قواعد خطاب قصصي سردي حديث متجدِّد وفاعل الأثر في خطٍّ التجريب الحداثوي لفكر القارئ.

 وقد تمَّ ذلك الفعل السردي للكاتب من خلال لغته الأنوية الشاعرية المتساوقة، وصياغة جمله القصصية المِهمازية المكثَّفة، وإيقاعية أسلوبيته التعبيرية الهادفة، وثبات قدرته المهارية المتراتبة التي تمكِّنه فنيَّاً وأُسلوبياً من التواصل المعرفي بهذا التسريد القصصي الشائق القصير جداً في مثل هكذا نصوص توظَّف تركيبياً في بضع سطور فنية مُجتزة، وجُملٍ بنائيةٍ موجزةٍ مُختصرةٍ؛ لكنَّها في واقع الأمر تُعدُّ نصوصاً فكريةً عميقةً مُركزةً وفي غاية الأهمية السردية الموضوعية الماتعة.

 كونها تحمل في طيَّاتها الموضوعية الفنيَّة والجماليَّة أبعاداً أو قيماً إنسانيةً متعدِّدةً. وتُعطي إشاراتٍ رمزيةً وعلاماتٍ سيميائيةً مُعبِّرةً وموحياتٍ دلاليةً كبيرةً مؤثَّرةً، ويمكن أنْ تُغطِّي موضوعاتٍ وأفكاراً وهواجس خطيرةً مُلِحَّةً ذات صلةٍ بالواقع الإنساني الراهن الساخن،(السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأدبي والثقافي). فهذه النصوص القصيرة جداً اختصرت بلغتها التعبيرية الموجزة حكايا وقصص موضوعاتٍ طويلةً وصفحاتٍ كتابيةً عديدةً كثيرةً عبر أثير مجسَّات هذا التراسل النصي الفكري القصصي القصير اَللَّاذع من الحكايات والمثيرات النصوصية الإدهاشية المُلتقطة.

 والذي يَحمِلُ القارئَ الناقدَ والمتلقِّيَ العادي الواعد إلى أن يهيم بفضاء خياله الواسع وَلَهَاً ويُبحِر بذائقته الفنيَّة في عوالم النصِّ إمتاعاً ويطوف بتجلياته الفكرية والجمالية. حتى تراه تارةً مستمتعاً بقراءته وإبداعه وابتداعه القصي، وتارةً تراه مُنقِّباً نابشَاً في حفرياته عن لُقى آثاره الأركيلوجية وظلاله الفنيَّة الشاخصة، وتارةً ثالثةً كاشفاً بسوناره عن رؤاه الفكرية وخبايا حمولاته الآيدلوجية.

 يحيلنا هذا اللَّون الفنِّي من الكتابة القصصية القصيرة إلى أن القاصَّ السيِّد الميَّالي كاتب مثابر دؤوب لا شكَّ في مثابرته؛ فهو يسعى إلى الجمع بين مثلث(التقانات الفنيَّة، والحكايات القصيرة المُكتنزة، والتجريب الحداثوي). وقد يميل كثيراً إلى نوعٍ آخر من جنس القصِّ السردي يمكن أنْ نطلق عليه(القصّ التألُقي)أو الألق القصصي الثيمي المتميِّز في ماهية محتواه الفكري الموضوعي.

 إنَّ هذه التوليفة التجميعية المتوحدنة تخلق كاتباً قصصياً متفرِّداً في أسلوبيته النصيَّة المتوهجة، وفي وقع معجمه القصصي السردي القصير، وتُميِّزه عن نظرائه الكُتَّاب في فنية التخليق السردي الذي يحقق له أسس ومعايير الفنِّ الكتابي القصصي القصير جداً بألمعيةٍ واقتدارٍ في محلِّ مركزية اشتغاله القصصي الحكائي العميق الموحَّد، والبعيد عن أشكال الكتابة التقريرية والمباشرة والإملال الفكري والابتذال المعنوي الذي يقتل رُوحَ النصِّ ويُمِيتُ فاعليةَ الكتابة النثرية الإبداعية الحقَّة.

 إنَّ ما يلفت النظر في قصص هذه المجموعة (أراني أعصرُ حِبرَاً) القصيرة جداً أنها قصص ذات بنية سرديةٍ تجدُّدية متحركةٍ، وليست نصوصاً سياقيةً نمطيةً جموديةً ثابتة الإطار. بل على العكس من ذلك؛ كونها بنيةً تجريبيةً قلقة الحركة عديمة الثبات أو الاستقرار في حركة تماسكها النصِّي؛ وذلك كونها تنفتحُ حيناً على الهمِّ الإنساني الواقعي، وتكشفُ خبايا وجعه الداخلي النسقي الثقافي المضمر والظاهر في جانب، وحيناً آخر تخرج عن خطِّها المحوري إلى فنِّ الأسطرة المرتبطة إسقاطاتها التاريخية والتراثية بشيءٍ من لوازم الواقع ومهيمناته في جوانب شتَّى متعدِّدة أخرى.

 وحيناً ثالثاً تَعمدُ كثيراً إلى استخدام السُّخرية والتَّهَكُم الذي هو احتجاج لديستوبيا الشر ورفض واضح للقمعِ والتهميش والنكوص والإقصاء من خلال فنتازيا فنِّ السخرية التي تتخذ من غرائبية الموضوع وعجائبيته السحرية هدفاً لها في تصوير مشاهد الواقع الحياتي المُحتقن الذي لم تألفه أبداً قوانين الطبيعة ونواميسها الكونية وعناصرها المتحركة أو الثابتة على حدٍ سواءٍ. وذلك من خلال لغةهذا التكثيف القصصي المُكتنزمن النصوص الأدبية التي تُلامس الشغاف وتهزُّ وجدان الضمير.

 هذه هي الفرادة الخصائصية المتعدِّدة الصياغات التركيبية من حيثُ البناء القصصي المحبوك والمسبوك خطابه لغةً ودلالةً. أمَّا من حيث فرادة الاشتغال الإجرائي أو مركزية عمل المشغل القصصي السردي فإنَّ القصة القصيرة جدَّاً على الرغم من كونها تعتمد إجرائياً على تقانات الإيجاز والقصر الحدثي والاقتصاد اللغوي الشديد المكثَّف والذي لا يمكن أنْ يُلقاهُ إلَّا ذو حظٍ عظيمٍ وكبيرٍ من الأمهرية والدربة القصصية العالية التي تُشهدُ له علامةً بهذا الميدان الإجرائي الصعب.

 ولا يمكن أن يغوص في بحرها اللُّجي العميق ويكشف عن دُرَرِ حُلية أحشائها الصدفية الثمينة، ويسبر أعماقها الشديدة إلَّا من كان سارداً قصصياً مُبدعاً وغوَّاَصاً مثابراً مُحترفاً، وصَيَّاداً مَاهراً في التقاط صوره الحدثية المؤثِّرة وأنساقه الثقافية الخفيَّة المُضمرة، وخبيراً مهنياً باختيار ألفاظه ومفرداته وتركيب عباراته الجُملية المتراتبة، وتوظيفها بنائيَّاً وفنيَّاً وفق أُطر السياق النسقي الأدبي الحداثوي والثقافي المعرفي الذي يتطلَّبه منهج البناء السردي المُحكم لفنِّ القصة القصيرة جدَّاً.

 إنَّ عملاً قصصيَّاً قصيراً جدَّاً ناهضاً ومثيراً مثل هذا الأثر الأدبي(أراني أعصرُ حِبرَاً) يتطلَّب في تخليقه كاتباً مَكيناً وسارداً عَليماً مُبدعاً كمثل عبد الله الميَّالي في دقة تعامله وحرصه الشديد المُتقن بحرفيةٍ في توظيف واقعة الحدث القصصية(الزمكانية)، واختزال فكرتها الموضوعية الهادفة بأقلِّ العبارات اللَّفظية الشكليَّة وأصغر المِساحات الدلالية والمعنوية المضمونية التي تُشكِّلُ النصَّ كليَّاً.

 وفي الوقت نفسه حاشداً لها في صياغاته التسريدية أقلَّ الألفاظ عدداً وأصدق المفردات الدلالية وقعاً، وأبلغ العبارات الإدهاشية إبهاراً؛ بوصفها ذات التأثيرات النفسية الأنوية الصادمة التي تضيء النصَّ القصصي القصير وتُنير جوانبه العملية، وتُرسم أبعاد حمولاته العلمية التي ينتقل بها الكاتب الماهر في تدوينه السردي من لغة التعبير الإنشائي النثري العادي البسيط إلى جماليات لُغة التعبير السردي الخلَّاق العميقة. ومن لُغة أسلوب المباشرة التقريرية المألوفة السمع والنظر إلى لغة التواصل الإيحائية والإشارية الفنيَّة ومجاوراتها العلاماتية والأيقونية. كما وينزاح بها كُليَّاً من لغة الذات الفردية الضيِّقة إلى لغة الذوات الفردية الجمعية الكُليَّة المشتركة الآفاق، فتسمو في الأفق الأدبي مهارة الكاتب السردية المتنامية في إيقاعه التعبيري الأسلوبي ورؤيته الفلسفية المتنامية.

 والحقيقة، إنَّ هندسة هذه الخصائص والقيم البنائية السرديَّة، والمستويات الفنيَّة والجمالية في هذه المجموعة القصصية، تحقِّقُ لكاتبها الميَّالي على مستوى التجنيس أُسسَ ومعايير وشرائط الفنِّ القصصي القصير جدَّاً بشكّلٍ لافتٍ ومُبهرٍ للقارئ.هذا يعكس مدى أسلوبية الكاتب التعدُّدية ومقدرته الفنيَّة في امتلاك أدوات معجمه القصصي السردي القصير والقصير جداً التي هي من أهمِّ الشرائط الفنيَّة والتقانات الإبداعية الواجب توفرها إلزامياً في أسلوبية الكاتب الإبداعية والابتداعية الناجحة.

حُقُولُ المُدوَّنةِ القِصصيَّةِ

 تَزخرُ مُدوَّنة (أراني أعصرُ حِبْرَاً) الدالة على عتبتها العنوانية التناصيَّة التداخلية الواثبة بالحقول اللُّغوية الموضوعية العديدة، وترددات ومجاوراتها الدلالية الكثيرة التي سيطرت بقوَّةٍ على آفاق محتواها الفكري والثقافي الفنِّي الجمالي للمُدوَّنة السردية القصصية. وفي الوقت ذاته تنوَّعت أفكار وثيم هذه المجموعة القصصية القصيرة جدِّاً، فكانت فلسفتها السردية تدور حولَ موضوعاتٍ السخرية والتهكم من صوت وهُويَّةِ الآخر، وهموم الحياة وأوجاعها ومفارقاتها الحدثية اللَّاذعة.

 ويشاركها في الحدث تمظهرات الألم النفسي وصور ويلاته الداخلية والخارجية، وانزياحات الواقع الشاعرية المتوهِّجة، وديستوبيا الظلم والقسوة وشرّ الانتهاكات والويلات المُحدقة بالإنسانية، واستدعاء وقائع التاريخ الموضوعية ورموزه الخالدة، وإسقاط صورها على عقابيل الواقع الراهن المتفشية. فضلاً عن مشاهد الواقع الدرامي الكوميدي الضاحك بِملهاتهِ المفرحة، والباكي التراجيدي بمأساته وأحزانه وتجلياته الغرائبية المأساوية المتنوِّعة التي هي أٍسُ هذا الواقع وعين تمظهراته.

 واستحضر الكاتب في مجموعته موضوعاتٍ متفرقةُ خطيرةً أخرى تُشاكس الذات الأنوية الفردية وتعاكس النزعة الإنسانية الجمعية للطفل والرجل والمرأة بصورها الحياتية المختلفة التي تعكس حركة وهوية الآخر بلغة ضمير الفاعلية المتكلِّم والظاهر الحاضر والمستتر الغائب غير الظاهر التي طاف بها السارد وجسَّدها برؤاه الفكرية والفلسفية الواعدة وتشخيصاته العينية الثاقبة. والتي تحتاج إلى معالجاتٍ وحلولٍ استثنائيةٍ سريعةٍ ناجعةٍ لِرَدمِ هُوةِ المخاطر السحيقة المُحدِقة بالواقع.

 لقد قدَّم لنا القاص الكاتب الميَّالي شحنةً سرديةً فنيَّةً إمتاعيةً مائزةً وفعالةً جدِّاً في فنيَّة التعبير القصصي القصير جداً، تمكن فيها القاص ومن خلالها أنْ يكون عدسة العين السردية النقدية الثالثة المتوازنة التي تُراقب بوعي الأحداث الحياتية، وتلتقط بدقةٍ عاليةٍ مشهد التطوِّرات والتحوِّلات المجتمعية في شتَّى المجالات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والمعرفية المختلفة بلغةٍ سرديةٍ إيحائيةٍ وإضمارية استتاريةٍ إيجازية نسقيةٍ فاعلةٍ ومؤثّرة دون أنْ يُقدِّمَ لنا بياناتٍ مُفصَّلاتٍ، أو شرحَ مُطوَّلاتٍ توضيحية مباشرة لتلك التمظهرات الصورية القائمة، بل جعلنا نعيش بقلقٍ مُسيطرٍ وتوجِّسٍ لذيذٍ فعلَ اللَّحظة القصصية الشعورية الهاربة لتلك الحكايات والأنساق الثقافية الإبداعية الضاربة في العمق الأرضي التي حوَّلها الكاتب لفنٍ ينهض بتجلِّيات الواقع الآني.

 وينقلنا عبد الله الميَّالي بلغته الشاعرية الرشيقة التوهجية المتوازنة إلى ضفاف شواطئ السردية الشائقة التي أغنت نصوص الخطاب السردي القصصي بجماليات مفارقاتها الإدهاشية الصادمة. والتي جعلت من المتلقِّي القارئ أنْ ينبهر ويتفاعل مع قراءتها بتأمُّلٍ وينجذب بإمتاعٍ رغم قصر إحداثها الموضوعية إلى ضربات خواتيمها الفجائية المُبهرة التي تدلِّل على أنها نماذج أبنية رصينةٍ ومكينةٍ مُختارةٍ بعنايةٍ مُتئدةٍ من الأدب الميتا سردي لفنِّ القِصّة القصيرة جدَّاً، والِّتي يَسرُنا أنْ نخوض البحث والحفروالتنقيب إجرائياً وتطبيقياً في عرض حقولها من خلال نماذجها الموضوعية.

1-الهمُّ الإنسانيُّ وَمَفارقاتهُ الحياتيةُ:

 لِلهمِّ الإنساني ومفارقاته التحوِّلية الزمكانية مِساحةً بينيةً تعبيريةً واسعةً وكبيرةً من مركزيةً من مركزية عمل واشتغالات الكاتب عبد الله السرديَّة المُضمَّخة بِحبرِ الألم ونزيف الوجع الإنساني الكبير في بحبوحة اختزالية تكثيفية من جماليات الفنِّ القصصي القصير جدَّاً. فقدَّم لنا الميَّالي عبر أثير قلمه السردي النسقي الظاهر والمضمر دراما قصصيةً صغيرةً مُصوَّرةً لمشاهد الحياة اليومية الضاجَّة بمسرح الألم والمعاناة الارتكاسية لحياة الناس وأصواتهم وجراحهم المنكوءة بالهمِّ الثقيل.

 ولعلَّ ما يلفت النظر في هذا العرض السردي لتمظهرات الألم الإنساني وصور تجلياته أنَّها جاءت على شكل شريطٍ دراميٍّ مسرحيٍّ سريعٍ واثبِ الخُطى لا يعتمد على الحوار فقط، وإنَّما يعتمد فنيَّاً وأسلوبياً على الحوار والسرد الحدثي الفواعلي من غير تعقيداتٍ أو إضافاتٍ تحليليَّةٍ أخرى لمهيمنات الواقع الحياتي، بل قد صوَّر الميَّالي الحياة كما هي ماثلة؛ ولكن بطريقة المفارقة الإدهاشية التي تثير التأمُّل والتفكُّر بأمر واقعتها الموضوعية الحدثية، وهو ههنا موقفه تحريضي .

 وقد بلغت موضوعات وأفكار هذا الحقل الدلالي الإنساني الحياتي(26)قصةً توزَّعت موضوعاتها الفنيَّة على عنواناتٍ قصصيةٍ مختلفةٍ ومتنوعةِ الحكايات مثل،(الساعةُ الأخيرةُ، ذِكرياتٌ، صَفقةٌ، تَلصصٌ، نَدٌم، لَهفةٌ، وَباءٌ، دَينٌ، أَملٌ، مَأوى، طَبعٌ، تَنويمةٌ، غَنيمةٌ، اِستثمارٌ، فِي القَلبِ، حَصادٌ، إيثَارٌ، مُسلسلٌ، وَهمٌ، نِفاقٌ، قِناعٌ، سَرابٌ، هِوايةٌ، مُناقشةٌ، صَيدٌ، قَرصنَةٌ)، ويعدُّ هذا الحقل من أكثر الحقول اللُّغوية الدلالية والموضوعية مساحةً وتعدُّداً وتكراراً لأحداث متن مدوَّنته القصصية.

 ولنقرأ في هذا الحقل الإنساني نَصَّهُ القصير جدَّاً(تلصِّصٌ)، والذي جاء توقُّعه الحدثي المُثير مسترسلاً بلغته على لسان شابٍ مُغرمٍ بالنظر لفتاة مثيرة الشكل. وعلى الرغم من اختلاف دلالة النظرتين النظرة الروحية والنظرة الجسدية فإنَّ التقاطع بينهما أحدث إمتاعاً ومؤانسةً في المفارقة:

"فِي الحَافلةِ، جَلستْ أَمامِي بِتنورتِهَا القَصيرةِ جِدَّاً، هِيَ تُقلِّبُ صَفحاتِ مَجلةٍ، وَأنَا أُقلِّبُ نَظراتِي لِاستمتعَ بِقراءةِ مَا بَينَ السُّطورِ". (أراني أعصرُ حِبَراً، ص 35).

 وإنَّ ما يثير إمتاعنا الفكري والروحي اختلاف رغبات الشخصيتين في هذه القصة في ضربة خاتمتها التوقعية الصادمة. فهيَ تُقلِّبُ نظراتها الفكرية لتزدادَ معرفةً، وهو يُقلِّبُ نظراته الشبقية العارمة ليزداد إشباعاً وإمتاعاً مادياً،وهذا هو المعادل أو المضمر النسقي بين سطور المغايرة الذي من خلاله تمكَّن القاصُّ من التوافق بين رغبات الفكر الروحية ورغبات الجسد الحسيَّة الاشتهائية.

 في حين أنَّ النصَّ الحكائي(لَهفةٌ) القصير جدَّاً ذو السطرين المكثَّفين لغةً واختزالاً، والدال على موحياته المعرفية يعتمد بالدرجة الأولى في طياته الفكرية والسردية على المفارقة الإدهاشية الفعلية الماتعة التي أحدثها ضرب التسريد الفواعلي في المتلقِّي حيالَ طرفِه الآخر المفقود حسيَّاً ووجوديَّاً:

"عِندَمَا أنهَى المُعلِّمُ رَسمَ المَائدةِ، دَقَّ الجَرَسُ، حَتَّى عَادَ لِصَفِّهِ، اِندهَشَ لِغيابِ الطُّلَّابِ وَاختفاءِ السُّبورةِ". (أرانِي أعصرُ حِبْرَاً، ص 43).

 ومن النصوص القصصية المؤثِّرة في بنية إيحائها الرمزي والإشاري الاجتماعي والاقتصادي الساحر في رسم صورة الهمِّ الإنساني القابع تحت ظلال الجوع والعوز والظلم والاستبداد قصة (تَنويمةٌ) الدالة على موحيات معناها الفكري؛ ولأنَّ الإطعام والجوع أهمُّ من النوم وأبدى من الأمن والأمان من حيث الحاجة الإنسانية في الوقت الذي تُهدَرُ فيه موارد البلد النفطيَّة هدراً وخسارةً، وأبناؤه يتضورون جوعاً ويلتحفون السماء غطاءً وظَّف الميَّالي فكرة قصته بلغة فنيَّة استعارية:

"اَقنعَ أطفَاَلَهُ الجِياعَ بِالنومِ، فِيمَا سَقفُ الكُوخِ يَفتَحُ فَمَهُ بِشهيةٍ لِماءِ السَّماءِ. خَرجَ يَستنشِقُ هَواءً مُحترقَاً وَعيناهُ تَنعمَانِ النَظرِ لِمشاعلِ آبارِ النَّفطِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 66).

 وفي نسق ثقافي آخر من أنساق مظاهر المجتمع البشري الإنسانية الموحية الذي ينتشر فيه الفقر وتعمُّ الفاقة كانتشار النار في الهشيم، ويُسيطر صداه على حياة الناس، نصَّه الموجز قصة(مُنافسةٌ) التي تفضحُ بألمٍ كبيرٍ ممن يتباهون بالمظاهر الشكلية الخادعة ويهملون الجواهر الضمنية الصادقة على حساب صفة الفقر إرضاءً لرغباتهم وتوافقاً مع نواياهم الخفية المضمرة كظاهرة اجتماعية:

"عِندَمَا اِستقبلَهُ الفُقرُ، أَدارُوا وُجُوهَهُم عَنهُ.. بَعدَمَا دَفنوهُ، اِتَّفقُوا أنْ يُقيمُوا مَأتمَاً يُليقُ بِاسمِ القَبيلةِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 103).

 هذا النوع من التسريد النقدي اللّاذع يجسِّد حالتي الإقبال والإدبار السلبي في مواقف الرخاء والشدَّة، ويؤكِّد في الوقت ذاته اهتمام بعضُ المنافقين بالمظاهر النفعية التي تسيء للهمِّ الإنساني.

 ويأتي نصَّه القصصي(ذكرياتٌ) ليجسدَ حالاتٍ مختلفةً من صور أُمِّ الحياة الاجتماعية ووقع مفارقاتها الفجائية في التشبث بمعاني الفوزحُلُماً والحذر من الضياع والتِيه والخسارة حرباً مضادةً:

"تَوسَّدَ فِراشَهُ، أَغمَضَ عَينيهِ.. بِكُلِّ سَعادةٍ يَتقلَّدُ مِيداليةَ الفَوزِ بِسباقِ الرّكضِ قَبلَ أنْ تَسرِقَ الحَربُ.. اِستيقَظَ يَبحثُ عَنْ عُكَّازهِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 31).

2- صُورُ الألَمِ الدَّاخلِي وَالخَارجِي وَأشكالُهُ:

لم يغب عن بالِ عبد الله الميَّالي وعن رؤيته الفكرية والإنسانية المحتشدة بالهمِّ تردُّدات صور القلق النفسي الإنساني، ونوازع الألم الداخلي والخارجي وأشكاله وتحدياته النازفة التي تُلاحق وجود إنسان الواقع الحالي العادي، وتُطال بالخطر شخصيته الإنسانية التي لا حول لها ولا قوة في الأرض، إلَّا وقد جسَّدَها الكاتب في متون مدونته القصصية(أراني أعصرُ حِبرَاً) في محاولةٍ جادةٍ منه لكشف مظاهر الزيف والتهميش والتغييب والإهمال التي تعبِّر عن رؤى حقيقته القيمية المغيَّبة.

 وقد تنوَّعت تلك الصور والأشكال الداخلية والخارجية الفاضحة، وتوزَّعت آفاق أنساقها الثقافية والفكرية المُضمرة في أكثر من نصٍّ قصصي دراميٍّ، وموضوع فكري أثير موجعٍ حتَّى بلغت مفردات هذا الحقل المهمِّ(20) قصةً تجمع بين ثيم الوجع الذاتي الفردي والجمعي المشترك. مثل، (تَكتيكٌ، مُقايضةٌ، تَمُّردٌ، شُرودٌ، لَحظتانِ، اِشتياقُ، عِتابٌ، اِنتفاضةٌ، وُعودٌ، أصواتٌ، بِلادِي، المُتحوِّلُ، وَفاءٌ، أَزماتٌ، اِرتقاءٌ، مَوتُ الضميرِ، ألغامٌ، رُجولةٌ، نَذالةٌ، مُؤامرةٌ)، ونصوص غيرها.

 من النماذج الرمزية المهمَّة المعبِّرة عن صور هذا الحقل الدلالي الاجتماعي وتمظهراته النَّصيَّة، نصُّ(مقايضةٌ)الذي يُقايَضُ فيهِ الحقُّ بالباطل، والخيرُ بالشرِّ، والعلمُ بلْلَا شيء، وتُصادر فيه حقوق الإنسانية المادية بالمعنوية السطحية لتمكين الحياة بالعيش المرير في زمن قميء عزّتْ فيه عليه لقمة العيش الحلال كي يقوِّت نفسه وعياله بما تفرضه عليه فلسفة الواقع المعيش المذلِّ المُهين آنياً:

"فِي حَفلٍ بَهيجٍ أهدَتهُ الحُكومةُ شَهادةً تَقديريةً، خَرَجَ وَالدُ الشَهيدِ مِنَ القَاعةِ حَزينَاً، بَاعَهَا فِي سُوقِ الخُردَةِ، وَاشترَى عُلبَةَ حَليبٍ لِحَفيدهِ". (أراني أعصرُ حِبْرَاً، ص 61).

يا لَهُ من موقف مُخزٍ تقشعر له الأبدان!ذلك الذي تسخر منه خاتمة القصة وتقفيلها بهذاالوقع الدامي للقلوب الذي يندى له جبين الإنسانية عاراً وشناراً لمن يستخف بحقوق الناس ويستهين بوجودهم.

 وفي صورة أخرى من صور الألم الذي يعتصر الإنسان داخلياً وخارجياً، يُطالعنا نصُّ (اشتياقٌ) الذي يتحدَّث فيه القاصُّ عن غربة أحد شخصياته المُهمَّشة واشتياقه لرفيق حياته في مشهد درامي بصري مليء بالحزن والمفارقات الإنسانية الفاجعة التي تخرج توَّاً باكيةً من وسط القبور والمقابر:

"فِي أَولِ لَيلةٍ بِبيتِي الجَديدِ، أَحسستُ بِالغُربةِ، اِشتقتُ لِقَهقَهَاتِ رَفيقِي، وَأنَا أستذكرُ آخرَ لَحظةٍ فَرَّقَتنَا بِهَا قَذيفة ٌمَجنونةٌ، فَزَّزَنِي عَويلُ أطفالٍ وَنِساءٍ فِي القَبرِ المُجاورِ".(أرانِي أَعصِرُ حِبْرَاً، ص 40.)

 ما أقسى تلك الصور التي تُلاحق حقيقة الإنسان في بيته، وحتَّى في قبره أو مثواه الأخير! فيشعر بالغربة القاتلة والموت البطيء لعذاباته النفسية الداخلية والمحيطية الخارجية التي لا مفرَّ منها أبداً.

 ولأنَّ المصالح الذاتية الضيقة أهمُّ بكثير من المصالح الجمعية المشتركة، وذات جدوى في نظر الآخر الحاكم الغالب في علاقته النفعية مع المحكوم سواد الشعب، يأتي نصُّ(وعودُ) الآخر الكاذبة لتنكشف حقيقة زيفه المخادع المُؤدلَج الذي خلع جلده الحقيقي في نكث الوعود الوطنية الصادقة التي تحوَّلت بعد الفوز لوعودٍ كذبٍ انتقاميةٍ في الإقصاء من الوجود الكوني الذي نظَّفَ به الأرضَ:

"زَارَنَا قُبيلَ ثَورةِ الأَصابعِ البَنفسجيةِ، شَكونَاهُ بُيوتَ الصَّفيحِ وَالقُمامةَ والذُّبابَ، رَفعَ كَفَّهُ نَحوَ السَّماءِ وَأقسمَ. مَا أصدقَهُ! نَظَّفّ الأرضَ مِنَّا". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 48).

 ما أقبح فعل هذه الصورة الرمزية التي وظَّفها الكاتب! وما أقسى نتائجها الرمزية لهذا الصوت

الحكومي الناشز! وفي الوقت ذاته ما أصدق صدى خاتمتها الإنسانية التي تعبِّر عن حقيقة هذا الداء الذي يفتك بسياسة البلد المتهالكة! وهي تسير في اتجاهٍ خاطئ لا يمتُّ بأيِّ رحمة لأبنائه الحقيقيين.

 ومن مفردات هذا الحقل الدلالي الكبير قصَّة(بِلادي) الدالة عتبتها العنوانية على وقع رمزيتها الوطنية البعيدة حين يتحوَّل الوجود البشري إلى مَعْلَمٍ خاصٍّ من مَعالمِ الوطن ورموزه الوطنية الخالدة؛ نتيجةَ عوامل القهر والاستبداد الديستوبي القابع تحت خطى الشرِّ الذي يحيق بعامَّة النَّاس:

"سَأَلَنِي ضَيفِي القَادمُ مِنْ بِلادِ الضَّبابِ وَهوَ يَحتضنُ بَاقةً مُلونَةً: -أينَ يَقعُ ضَريحُ الشُّهداءِ فِي بَلدِكُم ؟ -أينمَا تَقفُ، اِنْحَنِ، وَضِعْ إكليلَ الوَردِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 55).

 ومن النصوص السردية ذات الإيقاع الرمزي الوطني الخالص، والتي تجمع بين مشتركات الهمِّ الخارجي والداخلي معاً والاغتراب النفسي الذي يستشعر به أبناؤه الأوفياء نصُّ قصة(ألغامٌ) الذي يتصيَّر فيه الوطن حفنةً من ترابٍ تضمَّخت بدمائه الطاهرة في إشارةٍ واضحةٍإلى أنَّه قتيلُ قَدْ مَاتَ:

"فِي بِلادِ الغُربةَ، اِستلمَ هُويَةَ صَديقِهِ. فَتَحَ الحَقيبَةَ، حَفنةٌ مِنْ تُرابِ الوَطنِ، اِمتلأتْ كَفَّهُ دَمَاً". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 91).

 وأكثر تأثيراً ووطنيةً في هذا النص الحكائي المختزل مفارقته الموضوعية المؤلمة التي تكمن في بنية خاتمته المفجعة التي استحال فيها الوطن الكبير إلى قتيل يقطر دماً من ترابه وأرضه وهوائه.

3- تَشعيرُ النُّصوصِ السَّرديَّةِ:

 من جماليات لُغةِ التسريد القصصي التي تميِّز أسلوبية الكاتب اللُّغوية وتضفي على أسلوبية معجمه السردي زينةً وإمتاعاً وجمالاً وتفنُّناً استخدامه اللُّغة الشاعرية التي لا تتفوق أو تتغلب على مستوى لغة تشكيله السردي في تقصيصه الحكائي، وإنَّما تمنحه صفةَ الجمال الأخاذ إضاءةً خياليةً ودلاليةً في فنيِّة التعبير والتأمُّل والتدبُّر من قبل المتلقِّي والقارئ الذي يُحسِنُ التعامل مع النصوص عندَآليات القراءة ونظريات التلقِّي المعرفي التي تُهيمنُ ظلالها المعصرنة على الميتا سرد الحداثي.

 وعلى الرغم من أنَّ نصوص الكاتب القصصية تحمل في ثنايا طياتها المتنية عناصرَ جماليَّةً وفنيَّةً أخرى، بيدَ أنَّ الشاعرية النصيَّة التي تنحرف فيها أسلوبية الكاتب إلى انزياحاتٍ لُغويةٍ لَفظيةٍ مِخياليةٍ خَارجةً عن المألوف المعجمي،ومنحرفةً عن سياق الواقع المباشر التنميطي المُؤطَّر وبلغةٍ. تبني معالم النصِّ الأدبي وتقوِّي موحياته الدلالية البلاغية التعبيرية والسيمائية والفنيَّة المتعدِّدة.

 وتعدُّ لغةُ الشاعرية من أهمِّ علامات جودة النصِّ الأدبي وعناصر تكامله الفنِّي. وقد أدركَ الكاتب الميَّالي أنَّ الإفراط باستخدام الشاعرية قَدْ يُفقده زمام سيطرته على نصوصه السردية في اشتغالاته القصصية القصيرة جدَّاً؛لذلك وازن بين لغة الشاعريَّة النصيَّةولغة النصيَّة السردية المناسبة للقصِّ.

 والقارئ المتتبع لنصوص هذه المجموعة سيلحظ ويتلمَّس بعنايةٍ مواضع اللُّغة السردية الشاعرية التي أخذت تنتشر وتتنوَّع في أقانيم نصوص هذه المجموعة، وتُحيطُ بتخومها الخارجية. حتَّى وصل تكرار مفردات نصوصها الحقلية المتجاورة إلى(18) قصةً تمثَّلت مظاهرها النصيَّة الدالة في مجموعة ثرَّةٍ من النصوص السردية الآتية:(عُروجٌ، هُمومٌ، ضَياعٌ، عَبقٌ، تَرفٌ، تَصحُّرٌ، دِمشقُ، فُصولٌ، اِجحافٌ، كُومبارسٌ، حَريقٌ، ضَيفٌ، أحلامٌ، صِراعٌ، لِصٌ، مَصائبٌ، الوَداعُ، تَقاليدٌ).

 ولعلَّ أولى نصوص هذه المجموعة السردية الشاعرية قصَّة(عُروجٌ) ذات التقانات اللُّغوية الفنيَّة والموحيات الدلالية المكانية الإيهامية العابرة لنص ِّالحقيقة،وجماليات الاستعارات اللَّفظية الصورية البلاغية المكثَّفة بأثر فاعليتها في تجسيد واقعة الحدث الموضوعيَّة زمكانياً ونفسياً ودرامياً محبوكاً:

"أقبَلتْ مُسرِعَةً تَبحثُ عَنْ مَأوى بَينَ جَبينِي والقَلبُ. وَأنَا أَقفُ فِي حَقلِ الرَّمادِ، رَفعتُ لَهَا كَفِّي مُرَحِّبَاً. عِندَما اِنسكَبَ الفَجرُ مِنْ نَاظرِي، ناَمَتْ مُطمئنَةً تِلكَ الرُّصاصَةُ". (أراني أعصرُ حِبْرَاً، ص13).

ما هذه التي أقبلت مُسرعةً وكأنها امرأةٌ أُنثى،ولها مكانها اليقيني المؤكَّد في القلب؟ والتي نامت قريرةً العين،إنَّها الرصاصة القاتلة التي انزاح فيها الكاتب بلغته الأسلوبية التعبيرية القصصية التي أحالَ حكايتها إلى فنٍّ، وأُوهمنا بها في نهاية القصَّة ترحيباً بِمقدَمِها الدموي الذي لا شكَّ أنَّه القاتل.

 وفي الوقت ذاته نتأمل بإمتاع نصَّه القصصي القصير(َضياعٌ)الدال على سيميائية وظيفته العنوانية المتعدة الأربع:(التعيينيَّةُ،والوصفيَّةُ، والتأويليَّةُ الإيحائيَّةُ،والإغرائيَّةُ).وقد حشدَ لها الميَّالي مجموعةً كبيرةً من الاستعارات اللُّغوية والصور الفنيَّة الجمالية التي أنسنَ فيها النصَّ القصصي، وحلَّق بهِ عَالياًفي جماليات لغة السرد القصصي القصير جدَّاً الشاعرية في مثل هذه الصور البلاغية الرائعة:

"الشَّمسُ تَبتسمُ..الأحلامُ تُحلِّقُ غرباً..الزَّورقُ يُعانقُ المَوجَ الصَّاخبَ وَيَرقصانِ(الفالس). السَّماءُ تَرتدِي الحِدادَ.. البَحرُ يَلتهمُ وَجبةَ العشَاءَ.. الزَّورقُ يَشرقُ بِالنحيبِ".(أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 17).

 لقد أسهمت الأفعال المستقبلية،( تَبتسمُ، تُحلِّقُ، يُعانقُ، يَرقصانِ، تَرتدِي، يَلتهمُ، يَشرقُ) في إظهار لغة الكاتب الشاعرية وبراعتها فنيَّاً، ولكن الصورة الفنيَّة الأكثر إمتاعاً وابتداعاً ومؤانسةً في هذا القص الحكائي تكمن في خاتمته الإدهاشية المُبهرة(الزَورقُ يَشرقُ بِالنحيبِ) التي تُذكِّرُني بصورة المُتنبِّي الشِّعرية في رثائه لخولة أخت سيف الدولة الحمداني(شَرِقتُ بِالدمعِ حَتَّى كَادَ يَشرقُ بِي).

 وحتَّى الحُلم عند الميَّالي له قصَّةٌ ذاتية لا تنتهي سلسلتها الحُلمية الشاعرية، وهذا الهجس الشاعري الصوري يطالعنا به القاص في قصته(أحلامٌ) التي اختار لها فيضاً من عناصر الطبيعة الكونية الزمكانية الثابتة. فَحَلَمَ بالربيع وزهوره العاطرة، وبالبحر وأجوائه الهادئة، وبالحرية وقيمتها الواعدة التي استحالت إلى رصاصة موتٍ في هذا التوصيف الشاعري المتراتب الإيقاع التعبيري:

"حَلمتُ بِالربيعِ فَغطَّتِ الزُّهورُ وَسادتِي، حَلمتُ بِالبحرِ فَامتَلَأ فِراشِي أصدافاً وَمحارَاً. وعندَمَا حَلمْتُ بِالحُريَّة، وَجدتُ الصَّباحَ تَحتَ البَابِ مَظروفَاً دَاخلَهُ رَصاصةٌ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 78).

 وَمَنْ يَقرأ نَصَّ(الوداعُ) سَيشعر بتدفق لُغة الميَّالي الشاعرية التي تنثال بين سطور هذه القصة، أو الأقصوصة الصغيرة في تعبيراتها الانزياحية التي تُضفي عليها جوَّاً جماليَّاً دافئاً على الرغم من وقع الفجائية المُرَّة التي تحملها خاتمتها التَّخلُّصيَّة المُثيرة للنظر في وحدة واقعتها الحدثية الكبيرة.

"طَحَنتْ سَنواتُ الغِيابِ بِصبرِ الاِنتظارِ. عَقربُ الزَّمنِ لَدغَهَا أربعينَ خَريفَاً. حِينَ عَادَ مِنَ الأسرِ مَبتورَ الأطرافِ، اِستقبلتهُ بِعُكَّازِ الرَّحيلِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 107).

 فعبارات مثل،(طحنتْ سنوات الغياب، عقربُ الزمنِ لَدغَهَا...استقبلتهُ بِعكُّازِ الرحيلِ)كفيلة بأنْ تُضفي على بناءِ القصَّة وقعاً فنيَّاً مخياليَّاً وشعرياً مُدهشاً رغم مرارة الخاتمة المؤلمة الفاصلة بينها.

4- دِيستوبيَا الشَّرِّ وَالخرابِ المُجتمعِي الظَّالمِ:

 إذا كانت اليوتوبيا هي العلامة الأفلاطونية المثالية للجمهورية، والمفهوم المميَّز لرمزية المدينة الأفلاطونية الفاضلة الَّتي يحكمها الأخيار من البشر أو الأسوياء، فإنَّ مفهوم الديستوبيا هي رمز العلامة السيئة لفوضى المدينة الفاسدة التي تُسيطر عليها ثلةٌ من المارقين والعابثين الأشرار، ولا مكان للخير فيها سوى صور من الفاقة والحرمان وتجاوزات الظالمين والقسوة وحالات الحروب والانتهاكات والويلات الدامية التي أبكت عيون الناس وأفجعت قلوب عامة فقراء البشر من أبناء المجتمع من الذين يدفعون ضريبة ذلك الظلم المفروض عليهم وبشتَّى الوسائل السلمية والحربية.

 وما انفكّوا يقاومونه بأرواحهم وأنفسهم وبأصواتهم الإنسانية المسالمة، علَّهم يرفعون عن كاهلهم شيئاً من حيف ظلاله الدامية القاسية، والتي هي في نهاية المطاف واقع ُظلالٍ خاسرةٍ حتماَ أمام حرية الشعوب وحِذاءَ مسيرتهم الإنسانية وكفاحهم الثوري القائم على المطالبة بالحقوق والواجبات.

 وإنَّ صور هذا الخراب الدامي وويلاته المتفشية مجتمعياً لم تكن خافيةً عن فكر الكاتب الميَّالي، ولم يكن غافلاً عنها أبداً. فهو ابنُ المجتمع العراقي الواحد والعربي الجامع الذي عاش معاناته وهضم تصوراته وأدرك نتائجه، وهو أيضاً مرآة الأُمَّة ومهمازها الصوري العاكس لمُتغيِّراته.

 وقد عبر القاصُّ الميَّالي عن ذلك التجاوز الَّلا إنساني خَيرَ تَعبيرٍ في مدوَّنة نصوصه القصصية وتردُّداتها الفكرية التي بلغت عنواناتها ومفرداتها الموضوعية المتعدِّدة الثِّيمِ نحو(14)نصَّاً قصصيَاً في انثيالات هذا الحقل الإنساني المهمِّ وفقَ هذا التشكيل من براعة التمثيل القصصي القصير جداً. في مثل هكذا نصوص سرديةٍ هادفةِ الرؤى، (زَيفٌ، غِيابٌ، مُساومةٌ، نَزيفٌ، قَدرٌ، لَوعةٌ، جُحودٌ، خَسائرٌ، ضَريبةٌ، شَكوَى، مَبادئ، فَرحةٌ، عَبثٌ، العَينُ بالعينِ). وربَّما هناك أكثر من نصٍّ مشترك.

 ومن بين نصوص هذا الحقل الدلالي وأولها قصة(َزيفٌ) التي تتحدَّث عن حقائق الحرب المزيَّفة الضروس ومفرداتها القاسية التي تكشف زيفها وخديعتها بلغة قصصية شائقة اعتمدت على عنصر المفارقة الصادمة للنفس من خلال تقنية الاسترجاع السردي التي بنى عليها القاص أس حكايته:

"الخُوذةُ المَثقوبَةُ بِالرُّصاصِ الَّتي حَولَّهَا الأبُّ إلى مَزهريَّةٍ، تَربَّعَتْ عَلَى طَاولةٍ وَسَطَ الحَديقةِ.. يَسترقُ السَّمعَ مَزهوَاً لِحديثِ أَولادهِ عَنْ شَجاعةِ أبيهُم فِي الحَربِ. عَادتْ ذَاكرتُهُ لِمشهدَينِ: جُندي يَسرقُ خُوذةَ رَفيقهِ الشَّهيدِ. القَائدُ يَمنحهُ وِسامَ الصُّمودِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 34).

 وهذا النص من التسريد القصصي القصير جداً يؤرخن رمزياً لحقيقة مُعيَّنةٍ من تاريخ العراق السياسي الحديث،وخاصةً الحقبة الزمكانية من تاريخ الحرب العراقية الإيرانية التي استمرَّت ثمانيَ

سنواتٍ عجاف أبرزت العديد من القصص التي تصف ويلات الحرب ومآسيهاعلى شعبنا العراقي.

 وفي جانب تعبوي أخر من مشاهد الحرب التي مرَّ بها شعب العراق عبر تاريخه نتأمل قصة (مُساومةٌ) التي وظف فيها الكاتب مشهداً حيَّاً من مشاهد معارك العراق مع أعدائه المثيرة للقلق:

"اِنتهتِ المَعركةُ. وَأنَا أُشاهدُ القَائدَ يُصافحُ العَدوَ، حَطَّمتُ سَاقِي البلاستيكيةَ".(أراني أعصرُ حِبرَاً، ص57).

 والغرابة في إيقاع هذه القصة المؤلمة التي لم تكشف عن حجم الخسائر والتضحيات التي قدَّمها أبناء الشعب جرَّاء هذه المعارك الخاسرة وكأنَّ شيئاً لم يكن واقعاً في الأمر، وهذا ما تكشفه مصافحة القائد للعدو والتي كانت سبباً بفقدانه سيقان أحد جنوده المُضحِّينَ في هذه الحرب الفاِشلة.

ونقرأ في هذا الحقل الضاجُّ بالخراب والألم أحد نصوص هذه المجموعة(قدرٌ) المعبِّر عن حقيقة ما يُخِبئه القدر من أنساقٍ خَفيةٍ ظالمةٍ يرويها القاص حكاية الصوت(المُواطنُ المُوظَّفُ)، والصوت الآخر(المَسؤولُ)؛لنستقرئ نتائجها الختامية، و يا لها مِنْ نتائجِ! و يا لهُ من قدرٍ سيِّئ وَمُرٍّ ومَريرٍ:

"لَمْ أتخلَّفْ عَنْ حُضُورِي لِلوظيفةِ إلَّا مَرَّةً وَاحدةً. عِندَما دَوَّنَ المَسؤولُ اِسمِي فِي سِجلِ الغَائبينَ، كَانتْ أشلائِي تَتسكَّعُ فِي الشَّارع". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 72).

 وتتعدَّد صور هذا الحقل المليء بالخداع والتمثيل والضحك المذل على مصائر الشعوب النائمة. ويأتي نصُّ(فرحةٌ) ليقصَّ علينا حكاية الانتخابات السياسية القائمة في البلد بصورتها الشكلية البعيدة عن الواقع الراهن الذي يُنافي تلك الصور والمهازل التي لا تنطلي على أحدٍ حتَّى من سواد الناس:

"اِنتهتِ الاِنتخاباتُ. اِستعدَّ أطفالُ مَدينتِي لِلاحتفَالِ. لَديهُم مَا يَكفِي مِنَ الوَرقِ لِصُنعِ طَائراتِهُم". (أراني أعصر حبراً، ص 98).

 فالخاتمة القصصية لهذا النصِّ تفضحُ بوضوح ما يحصل ممن أنساق خفيَّةٍ وما يُصرف على هذه الانتخابات الهزليَّة من أموال ومُعدَّات وتجهيزات ماديةٍ وبشريةٍ لا توازي حجمها المزيَّف.

 أمَّا قصَّة(خسائرٌ) الدالة على وحدة معناها الدلالي القريب والبعيد فتحكي حجم الخسارة التي تعرَّض لها الإنسان في حياته اليومية، والتي لا ناقة له فيها سوى إنَّه إنسان يعيش مطمئناً مسالماً:

"وَهيَ تَخترِقُ صَدرِي، اَحرقتْ صُورةَ أُمِّي وَزَوجتِي. تِلكَ الرَّصاصةُ المَاكرةُ قَتلَتْ ثَلاثةً مِنْ عَائلتِي". (أرانِي أعصرُ حِبرَاً، ص 80).

5- الحَقلُ الدِّلاليُّ لِفنتازيَا السُّخريةِ والتَّهكُمِ:

 ومن الجدير بالذكر في مشغل النقديات الإبداعية ونظريات الفعل القرائي وآليات التلقِّي المعرفي الابستمولوجي والانطلوجي الوجودي أن فلسفة فنِّ السخرية والتَّهكُم من الأساليب والثقافات الفنيَّة والأنساق الثقافية القليلة المعروفة التي تعتمد في اشتغالاتها النقديَّة والإبداعية على فنتازيا الواقع الغرائبي والعجائبي الساحر القريب من نفوس وحياة الناس التي يلجأ إليها مهماز المبدع الماهر في المجال الأدبي الإبداعي ويوظِّفها شعراً وسرداً، ولا سِيَّما في بنية الفنِّ القصصي القصير حصراً.

 غير أنَّ استخدامها في مجال القصص القصير جداً يعدُّ أمراً خطيراً ومحذوراً؛ لِئِلَّا يقعُ الكاتب القاصُّ في الجانب الهِزْلي الفكاهي التَّنَدُّرِي التهكمي من أجل السخرية غير الموضوعية والتي ليست بالهادفة من التي تُحيل النصّ إلى مجرد نكتةٍ ضاحكةٍ عابرةٍ لا غير، فارغةٍ من المحتوى الدلالي العميق الصادق، وقد يكون نقداً كاريكاتورياً نصيَّاً لأجل التسلية المجانية الرخيصة العائمة.

 وعلى وفق ذلك فإنَّ هذا الحقل الدلالي اللُّغوي الساخر البديع يعدُّ من الأساليب الفنيَّة واللُّغويَّة السردية النادرة والراسخة التي تميَّز بها المعجم السردي القصصي للكاتب والقاصِّ الواعد عبدالله الميَّالي الذي أجاد بمهارةٍ ودربةٍ حرفيةٍ عالية اِتقانَ هذا الفنِّ القصصي الساخر المكين للوصول إلى أهدافه النسقية المضمرة والظاهرة عبرَ نصوص مجموعته القصصية الماتعة(أراني أعصرُ حِبرَاً)، وقد بلغت تَكرارت هذا الفنِّ وعنواناته الموضوعية المتشاكلة(13) قِصَّة تمثَّلت في مجموعة من النصوص الآتية:(مُفاجأةٌ، ثَعلبٌ، عَزيمةٌ، تَحجيمٌ، فُقدانٌ، تَأديبٌ، اِزدواجيةٌ، دَرسٌ، نَرجسيةٌ، اِشتغالٌ، مُساعدةٌ، اِحتيالٌ، قَرارٌ)، وقد تتسع اشتغالاته أكثر من ذلك الحصر التمثيلي.

 لقد استطاع الميَّالي أنْ ينقل إلينا الابتسامة والفرح والسرور، ويغمر قلوبنا بهذه التقنية السردية التَّنَاقُدية التي تعدُّ احتجاجاً ورفضاً لما هو واقع، وليست مجردَ سخريةٍ وتَهكُمَاً رساليَّاً مباشراً بعيداً عن الإشارات والعلامات والإيحاءات الفنية السيميولوجية المؤثِّرة في فكر المتلقِّي (المرسل إليه).

 قصة(مفاجأةٌ) هي من بين نصوص هذه المجموعة التهكمية الساخرة في نقد الواقع الخِدْمِي الذي يُقدَّمُ إلى الإنسان من أجل استمرارية حياته، وقد اعتمد الكاتب فيها على لوحة المفارقة الساحرة في توظيف نصّه وتجميله وحبكه لُغوياً وتماسكه نصيَّاً بشكلٍ سلسٍ لِبثِّ رُوحِ الدُعابةِ النَقديَّة الساخرة:

 "وَصلتْ عَربةُ الصِّيانةِ بَعدَ أَسابيعَ، اِبتسمَ عَمودُ الكَهرباءِ، تَسلَّقَ العَاملُ لِيرميَ المُصباحَ المَعطوبَ. وَهوَ يُعلِّقُ لَوحةَ المُرشحِ الجَديدِ أَضاءتْ عُيونَ الشَّارعِ" . (أرانِي أعصرُ حِبرَاً، ص 19).

 أمَّا قصة(فُقدانُ) فهي من النصوص القصصيّة الساخرة بامتيازٍ والتي تنتقد أُس مؤسسة العدالة بطريقة لافتة لنظر القارئ في وقع خاتمتها الموضوعية الضاربةوالتي تبعث على التأمُّل والتفكُّر:

"لَمْ أستغربْ أنْ تُديننِي المَحكمَةُ بِسببِ رَغيفٍ. فَعندَمَا رُفِعَتِ الآيةُ المُعلَّقةُ فَوقَ المِيزانِ، وَجَدتُ (العَدلَ) أكلتهُ الأرضَةُ". (أرانِي أعصرُ حِبرَاً، ص 25).

وكلمة(العدلُ) التي وردت في نص القصة إشارة واضحة إلى قوله تعالى: (العدلُ أساسُ الملكِ)، وكأنَّه يقول العدالة تأكل نفسها، وهو أطرف انتقاد حادٍ إلى نسق النظام القضائي العدالي المجتمعي.

 أمَّا بخصوص حكمة أبي ذؤيب الهُذلي القائلة شعرياً: (لا تنهَ عَنْ خُلُقٍ وَتأتي مِثلَهُ...)، أي عن الذي يأمر بالصواب ويفعل نقيضه، فنجد له دالاً تمثيلياً في قصة(ازدواجيةٌ) الدالة على معناها الضمني الموضوعي التي جسَّد صورتها الميَّالي بما كان له صلة بالواقع اليومي الحياتي المعيش:

"إطاراتُ السيَّارةِ تَلتهمُ الشَّارعَ. يَشكو السَّائقُ لِصديقهِ مِنْ تَكدُّسِ النِّفاياتِ: (مَتَى يَشعرُ النَّاسُ بِالمسؤوليَّةِ؟) وَهوَ يَنفخُ بِدُخانِ آخرِ سَيجارةٍ. يَقذفُ بَالعلبةِ الفَارغةِ مِنَ النَّافذةِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 51). فالعار كلَّ العارِ لمن يأمر بمعروفٍ ويفعل خلاف واقعه بعيداً عن تطبيق آثار النظام.

 وفي مشهد آخر ساخر من مشاهد العبث والتهكم الساخر الباعث على التأمُّل والطرافة نقرأ بتجلٍ وإمتاعٍ نصَّ قصَّة(مُساعدةٌ)؛ لِنتعرفَ على مضامين محتواه الاجتماعي برغم مأساة قصته، بيدَ أنَّه ينشر الابتسامة والضحك والمفارقة الجمالية المحبَّبة في تصوير الواقعة الحدثية للقصِّة:

"فِي سَرادقِ العَزاءِ، أَحدُ المُعَزِّينَ يَسألُ الزَّوجَ:- مَا سَببُ وَفَاةِ الزَوجةِ رَحمهَا اللهُ؟ -عَضَّةُ كَلبٍ- لَا حَولَ وَلَا قَوَّةَ إلَّا بِاللهِ.. أرجوكَ بَعدَ القِراءةِ دُلَّنِي عَلِيه!" (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 99).

 ونذهب إلى المجال الأدبي الإبداعي في قصة(اِحتيالُ)؛ لِنتعرفَ على جُزءٍ من مسروداتها وشخصية بطلها وفق الصورة التهكمية الساخرة التي رسمها الكاتب في تقانته السحرية الشيقة:

"الكَاتبُ الَّذي حَاولَ قَتلِي فِي رِوايتِهِ، بَاءَتْ مَحاولتُهُ بِالفشلِ. فِي غَفلةٍ مِنهُ، مَنحتنِي البَطلةُ قُبلَةَ الحَياةِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 104).

 وفق هذا الأسلوب الأدبي الفعلي الجمالي في صنع سرديات البهجة لقارئه دون تكلُّفٍ أو تصنُّعٍ ظاهر لم تشعر معه بمظاهر الإملال النفسي أو الابتذال الروحي الساخر المباشر الممقوت نصيَّاً.

6- تَوظيفُ الدَّرامَا القَصصيَّةِ:

 من المتعارف عليه أنَّ ماهية مصطلح الدراما، تُعرفُ بأنَّها هي لون من ألوان التعبير الأدبي الذي يؤدَّى فعله الحدثي عملياً وإجرائياً على مستوى التمثيل المسرحي أو السيميائي أو التلفزيوني أو الإذاعي بصيغتيه التراجيدية والكوميدية المتناقضة. وقد تكون الدراما على شكل قصصٍ طويلةٍ منتظمةٍ تخضع لقوانين وآليات التمثيل البَصري المرئي المباشر الذي يعتمد على الحوار والسرد في وقت واحد. فالدراما إذاً هي التناقض الفعلي، غير أن َّاستخدام وتوظيف الصيغ الدرامية في كتابة الفنِّ القصصي القصير جداً أمر ليس سهلاً أو هيِّناً. وخاصةً إذا كانت الدراما خليطاً سرديَّاً من الجد والضحك المشترك، والخوف والحزن والفرح المرتبط بالواقع الحياتي الراهن المعيش.

 والحقيقة أن مثل هذه التوليفة الجمعية من الخلط بين المأساوي والفكاهي الأفراحي على مستوى السرد القصير جداً يُعدُّ من أصعب أساليب وألوان القصِّ التسريدي الذي يتطلَّب مَقدرةً فنيةً مَائزةً ومُوهبةً فًذَّةً في التَّحكُم القصصي الجامع لهذ المزج الحكائي الدرامي الفكاهي الكوميدي المُسَلِّي الَّذي يتناول جانباً مُهمَّاً من جوانب الحياة الإنسانية المتنوِّعة التي يظهرها القاص للمتلقِّي في بوتقة ثنائية موحدنة. وهو يضحك ويبكي من شدَّة الابتهاج أو الانشراح والتأمُّل أو الاستمتاع والفائدة المعرفية التجريبية والتوعوية وربَّما حماسة التجريدية التي تأخذ مساحتها الكبيرة في الفنِّ التمثيلي.

 لقد تمكن الكاتب والقاصُّ عبد الله الميَّالي من التوفيق الفعلي الرصين في هذه الخلطة السحرية الدرامية الفكاهية العجيبة أنْ يوظِّفها سرديَّاً في اشتغالات نصوصه القصصية القصيرةً جدَّاً توظيفاً جماليَّاً وفنيَّاً مُدهشاً حتَّى بلغ عديدها نحو(8) قصصٍ لعنواناتٍ حكائيةٍ مختلفةٍ يجمعها حقل دلالي دراميٍ واحدٍ بهذه الصيغ العنوانية القصيرة الهادفة التالية: (عَزيمةٌ، عُقوبةٌ، دُموعٌ، حِرمانٌ، صَفقةٌ، قرارٌ، يومُ الحسابِ، جُموحٌ)، ونصوص أخرى اشتملت على بعض اللَّمحات والمشاهد الدرامية.

 لقد استطاع الميَّالي بلغته السردية المُتقنة ومقدرته الفنيَّة المتطاولة من الإلمام بهذا اللَّون البصري الدرامي الذي يعتمدُ كثيراً على تقنية لغة الحوار بالدرجة الأولى. غير أنَّ هذه اللُّغة المحكية جعلته يقصَّ سرداً مختزلاً ومكتنزاً، ولا يحكي تمثيلاً درامياً طويلاً مُسهباً في مثل هكذا اشتغالاتٍ. وهذا الفعل هو ما تشي به نصوصه القصيرة جدَّاً المحتشدة بهذا المزج الفنِّي الدرامي الاغتباطي.

من أمثلة هذا الحقل نصُّ حكاية(دُموعٌ) التي تحكي قصَّة رجل ذاق الأمرينِ في سجل حياته الذاتية:

"أنهَى المُحقِّقُ اِستجوابِي.. أطلقُوا سَراحِي سَالمَاً بَعدَ تِلكَ اللَّيالِي الحَمراءِ. الفَرحُ لا يَسعنِي وَأنَا أمرقُ مِنْ زُقاقٍ إِلَى آخرَ. أمامَ بِيتنَا صَدمَنِي سُرَادِقُ العَزاءِ". (أراني أعصرُ حِبَرَاً، ص 26).

 وفي نصِّ(عزيمةٌ) الذي ينقل لنا فيه الكاتب الرائي جانباً اجتماعياً من جوانب الحياة الإنسانية للفرد، يأخذنا فيه بلغة الفرح والابتهاج والمسرة، وفي الوقت نفسه يستحيل هذا الفعل الدرامي إلى موقف تراجيدي يستحقُّ التأمُّل والتفاعل مع هدفه النبيل وبالأخصِّ في خاتمته الإنسانية بامتياز:

"يَفوزُ الطِّفلُ الحَافي بِسباقِ الرُّكضِ. يُكَرَّمُ بِحذاءٍ رِياضيٍّ. يُهديهِ لِشقيقِهِ وَيَستعدُّ لِسباقٍ جَديدٍ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص22).

 ويسوِّق الحال ذاته مع قصة (يَومُ الحسابِ) الدالة على وقعها الإنساني الحدثي الذي يسرد فيه الكاتب بشكلٍ تراجيديٍ لواقعٍ اجتماعيٍ يجمع فيه بينَ الجِدِ والهَزْلِ في هذه المصفوفة القصيرة جدَّاً:

"أقَامتْ جَارتِي كِرنفالَ بُكاءٍ، وَأنَا بَينهُنَّ شَاردةُ الذِّهنِ.. تَنبَّهتُ لِصوتِ النَائحةِ: (اِذكرُوا مَحاسنَ مَوتَاكُم).. تَناولتُ قَلَمَاً وَورقةً أُحصِي صِفاتِ زَوجِي".(أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 41). والملاحظ على هذا النص أنَّ الكاتب بقدر ما أخذنا بكمية الحزن في مُستهل قصته أخرجَنَا منها بسردٍ ضاحكٍ في ختامها.

 ونقرأ في هذه المجموعة قصة(صفقةٌ)، ونتأمَّلُ ما فيها من كمية الدلالاتٍ الرمزيةٍ والعلامات السيميائيةٍ والصور والكنايات البلاغية المضحكة والسارَّة، لكن سنصطدم بخاتمتها النصيَّة المؤثِّرة:

"تَقابَلَا ذَاتَ نَهرٍ. هُوَ يَحملُ فِي جَيبهِ بِئرَ نَفطٍ، هِيَ تَحملُ عَلَى رَأسِهَا بَرميلَ مَاءٍ.. أغراهَا بِعطرِهِ النَّفاثِ، أَغرتهُ بِعينَيهَا الخَضرَاوينِ.. أينعتِ الصّفقةُ وُرودَاً ذَابلةً". (أرانِي أعصرُ حِبرَاً، ص 32).

 وقد سار الكاتب على هذه الشاكلة الدراميَّة في توظيف هذه الصيغ الجامعة للفعلين النقيضين في تسريد قصصه القصيرة جدَّاً وتسويقها بهذا السمت الأسلوبي اللُّغوي المتمايز إلى المتلقِّي والقارئ.

7- الحَقلُ الاِستدعائِي لِاستحضارِ وَقائعِ التَّاريخِ:

من الحقول اللُّغوية السردية والأنساق الثقافية الحديثة والقديمة التي وظَّفها الميَّالي في مركزية وحدة اشتغالاته القصصية، والتي جاءت ضمن مجموعته القصصية القصيرة جدَّاً، (أراني أعصر حبرَاً)، هو حقل استدعاء وقائع وحوادث التاريخ التراثي الغابر الزمني وإسقاط فعلها المؤثِّر ثقافياً وفنيَّاً وجمالياً على عقابيل معيش الواقع الحياتي المرتهن. وتمَّ له ذلك عبر سلسلة من الموضوعات والأفكار والتناصات وثيم النصوص التاريخية والأدبية والثقافية التحوليَّة التي تلامس نصوصها الجديدة المنتقاة حركة الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي القائم بذاته الوجودية.

وعلى الرغم من أن الإسقاطات التاريخية واستحضار الرموز والشخصيات التراثية والحوادث التاريخية في مجمل القضايا الوطنية والسياسة والاقتصادية والأمنية والحياتية المجتمعية الكثيرة المعاصرة والمنفصلة عن سياقها النسقي لا تُعالج في الحقيقة الأوضاع والمشاكل القائمة بحدِّ ذاتها.

 غير أنها تشخِّص حركة الواقع الساخن الثائر، وتلفت الأنظار إلى المقموع والمسكوت عنه من فيض رهاناته المستقبلية التي تعكسها مرآة الكاتب السردية الكاشفة وتفضحها في فاعلية قَصِّهِ القصير جَّداً المكتنز. ودون أنْ يُحمِّلَ هذه النصوص السردية الجديدة المختزلة بآراءٍ ومقصدياتٍ كثيرةٍ، أو حمولات دلاليةٍ ثقيلةٍ تُرهِّل بنية النصِّ القصِّي وتفقده زمام السيطرة النوعية والإبداعية على وحدة اشتغالاته القصيَّة التكاملية المكثفة التي وظَّفها من أجل خلق نصٍّ قصي إبداعي مليءٍ بعناصر الإثارة والإمتاع الذهني والإدهاش النفسي الذي يجعل القارئ يتواصل معه ويرتاح إليه.

 إنَّ مثل هذا التحليق السردي الإبداعي الذي يتوخَّى قصديات الجمال الفنِّي نراه حاضراً في فقط في(4) نصوصٍ زيَّنت متن المجموعة بعنواناته،(جِلجامشُ، كَيدُهُم، الحياةُ، تَعايشٌ)، وبعض من النصوص الأخرى المشتركة مع الحقول التي تمَّ التمثيل لها آنفاً في هذه الدراسة التأملية الكاشفة.

 وإنَّ أوَّل هذه النصوص التاريخية التي أسقط وقائع حوادثها ورموزها الشخصية والأسطورية العجائبية قصة ملحمة(كلكامش) العراقية التاريخية المعروفة التي يبحث فيها كلكامش جادَّاً لصديقة البطل المُخلِّص أنكيدو عن عشبة الخلود التي تخلِّد اسمه ورسمه وفعله البطولي التاريخي وإسقاط حقيقته من خلال عتبة الواقع العياني الأني المرير الذي تعاني منه الأُمَّةُ بكلِّ أطيافها ومسمياتها:

"اِنبعَثَتْ مِنْ رَمَادِ مَكتبةِ التَّاريخِ. اِشتاقَ لِمحمَةٍ جَديدَةٍ، اِلتَهَمَ مَا تَبَقَّى مِنْ أُسطورةٍ قَديمةٍ، ذَاتَ رِبيع ٍلَمَ تَنفعهُ نَجدةُ (أنكيدُو)، غَاصَ يَبحثُ عَنْ قَبرٍ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 88).

 والنصُّ التاريخي الثاني الذي يتَّخذ استدعاءً من وقائع نصوص قصة شهرزاد مع الملك شهريار في مثيولوجيا الأدبي الشعبي العراقي قصَّة(كَيدهُم)الدالة على وقع وحدتها الموضوعية التاريخية، وكيف تمكَّنَ الكاتب الميَّالي من إسقاط إحدى الليالي التي انتهت عند حدها مدوَّنة(ألفُ لَيلةٍ وَلَيلةٍ) الشهيرة على مجريات وقع الحياة العصرية واليومي لحياة الناس في المجتمع الذي يعيشه هو ذاته:

"اِختفتْ شَهرزادُ فِي اللَّيلةِ الثَّانيةِ بَعدَ الألفِ. لِلترويحِ عَنْ سَيِّدهِ الحَزينِ، جَلَسَ (مَسرورُ) يَروِي حِكاياتِ سَيفِهِ". (أراني أعصر حِبْراً، ص 95).

 إنَّ المعادل الموضوعي بين شهرزاد بطلة العمل الأسطوري المخيالي (الألفية) وبين (مسرور) بطل قصته القصيرة الجزئية(كيدهُم)،هو عامل الرواية الشفوية الكيدية التي انطلت على فكر الآخر في كلا النصين القديم والحديث. وهذا هو خطُّ التماهي في التوافق المؤتلف وفي الاختلاف الزمني.

 أمَّا النصُّ الاستدعائي الثالث من نصوص الاستحضار التاريخي الجميل، فهو نصُّ قصة(الحياةُ) الدال على وقع عتبته العنوانية المرتبطة بصميم الواقع الحياتي للإنسان المديني الذي يحاول الهروب والخلاص من خطر تجلِّيات عقابيله والسقوط في هاويته التي ما عادت تستقرُّ زمكانياً:

"هَرَبَ مِنْ وَاقعهِ، تَجاوزَ الحُدودَ، تَاهَ فِي صَحراءِ أفكارِهِ، نَظرَ لِلنجُومِ، اِستعانَ، بِبناتِ نَعشٍ، سَمِعَ عَواءَ ابنِ آوَى، عادَ إِلَى سِجنِهِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 97).

 والرابط الموضوعي المثير بين التوهان في صحراء الفكر التي لا حدود متناهية لها والعودة إلى مكانيته الزمانية السجن في لوحة مفارقته الخواتيمية المدهشة، ذلك هو الضياع والتِيه والتشظي الذي أوصله بعينه إلى سُلَّمِ هذه المرحلة من التفكير المُجدي والقاصر بحق نفسه الإنسانية الحالمة.

 ويأتي النصُّ الرابع من استدعاء التاريخ والشخصيات التاريخية والثقافية العالمية النصُّ الأدبي (تعايشٌ) الذي يتحدث عن قصة أو رواية السيِّد(المسيح) لفرانس كافكا الأديب الألماني ذو الأصول التشيكية، والذي عُرِفَ عنه بكتاباته الفنتازية والعبثية والكابوسية ذاتَ الأثر النفسي التأمُّلي الكبير:

"قَرأتُ قِصَّةَ(المَسخِ). وَأنَا فِي العِشرينِ، صَدَمَنِي كَافكَا عِندَمَا حَوَّلَ بَطلَهُ إِلى صُرصارٍ. أنَا الآنَ فِي السِّتينِ، سَعيدٌ جِدَّاً لِقُدرَتِي عَلَى الاِندماجِ مَعَ مُجتمعِ الصَراصيرِ... حَافظتُ عَلَى جُثتِي مِنَ التَّفَسُّخِ". (أراني أعصرٌ حِبرَاً، ص 110).

 ولعلّ التماهي بين بطل رواية(المسخ) لكافكا، وبطل الميَّالي الرائي في قصِّة(تَعايشٌ) الدالة على صفة الاندماج، هو الاتحاد والتعايش السلمي والتوحدن الجديد وإنْ كان سلبياً مع مجتمع مغاير غير مألوفٍ لهما مثل، مجتمع الصراصير الحشراتي. إنَّه نوع من العبث في التحوِّل الحياتي لكلا البطلين وهروب من ضغوطات الحياة الواقعية القاتلة وحمولاتها الثقيلة المؤثرة الفاعلة مجتمعياً.

 هذه هي الحقول الدلالية السبعة ومجاوراتها الأكثرُ تَمظهُراً وتأثيراً في محتويات هذه المدوَّنة، والتي يمكن أن نضيف لها حقولاً أخرى في الرفض والحِجاج والكفاح السياسي والفقر المجتمعي والآمال والتطلُّعات التي يمكن أنْ تشكل دوالاً حيَّةً بتمثلاتها الموضوعية ووقائعها الحَدَثِيَّة الكثيرة.

أُسلوبيةُ الكاتبِ الميَّالي القِصصيَّةُ

 ومن باب تقييم أُسلوبية الكاتب والقاصّ عبد الله الميَّالي في هذا المضمار الإبداعي من التجنيس القصصي لهذا الفنِّ الحاذق الضارب في الأعماق، والكاشف للآفاق البعيدة والقريبة، نودُّ أنْ نُشير إلى أنَّ هذا اللَّون من التجنيس السردي القصصي الإشكالي المُعَقَّد يعدُّ لوناً فنيَّاً صعباً عن سواه من الأجناس السردية الأخرى؛ كونه يعدُّ سرداً مِهمازياً فاضحاً ومُعرِّيَّاً لبنية خاصيَّة الصوت الأخر.

 وعلى وجه الخصوص يكون مثل هذا الفعل السردي الجالد لذات غيره من نتاج وفعل الكاتب الفذ الحاذق الذي يمتلك مَلكةً فكريةً وموهبةً قصصيةً سرديةً حقيقيةً متقدةً ومكينةً، والتي تُوجب عليه أنْ يكون كالقابض على جمرة النصِّ المُستعِر شرراً وتوقِّداً، فإنْ مَسَكَهَا اكتوى بِلسعتِها، واحترقَ بلظاها المُلتهبُ جَمرةً واشتعالاً، وإنْ تركها لشأنها حُرَّةً سقطَ في هوى متاعها المخيِّب للآمال، وبالتالي يقع بالفشل في إتمام مهمته الموضوعية والإبداعية التي أُنيطت له في هذا النوع من الأدب الجمالي الحداثوي المتميِّز عن غيره من الألوان السردية الأخرى في صناعته شكلاً ومضموناً.

 ومن أجلِ أنْ لَّا نقفُ خارج مديات النصِّ، ولا نُجانب إلَّا الحقيقة النقدية الموضوعية في إثبات ماهيتها الوجودية القائمة بذاتها الانطلوجية القارَّة في وضع الأمور في نصابها الحقيقي الثابت جذراً،وهي أنَّ القاصَّ الكاتب السيِّد عبد الله الميَّالي في هذه المدوَّنة القصصية(أراني أعصرُ حِبْرَاً) المائزة إيقاعاً وأسلوباً وإنتاجاً قد امتلك جمالياً أدواته الفنية التعبيرية والاحترافية المؤهِّلة في القيام بالمهارة والإبداع الفنِّي المغاير في مركزية اشتغالاته الحكائية في النصِّ القِصصي القصير جداً. والذي تحسُّ من خلال تضمينه البنائي السردي أنَّ لكلِّ قصِّةٍ من قصص المجموعة في داخلها قِصَّة أُخرى صغيرة تُماهيها شكلاً وتُفارقُها معنىً ودلالةً،هذا ما يُميِّز فنُّ القصيرةِ جدَّاً عن مثيلتها.

 كما تمكن الكاتب من تطويع لغته السردية وتوظيفها بحسب الغرض أو الحقل القصصي والدلالي الذي يتطلَّبه البناء النصُّي بشكلٍ ينسجم تماماً مع تطلعاته الفكرية والجمالية والموضوعية في تأثيث النصوص وتشكيل معمارية هندستها اللُّغوية الموائمة لتجلِّيات وعناصر السرد الأساسية التي أُقيمَ عليها هيكل البناء السردي. أي ما يتطلَّبه من اقتصاد لُغويٍّ مُكثفٍ، واختزالٍ لفظي ودلالي مكتنز السياق، وإضمار نسقي، وإيحاء رمزي وإشاري، وغموضٍ فنيٍّ لا بدَّ منه. فضلاً عن عنصر الإمتاع والبساطة اللُّغوية في التركيب الجُملي في توخي وإصابة غائيات الهدف الفعلي المقصود.

 هذا على المستوى البنائي السردي الفنَّي، أمَّا على المستوى الفكري والموضوعي القصصي، فقد جال الميَّالي في فاعلية تقصيصهِ الخوضَ والاكتسابَ والغَرفَ من أنهار وشطآن وجداول المعارف والعلوم النفسية والاجتماعية والفلسفية السوسيوثقافيةالمؤثِّرة الأخرى التي حفلت بها ثيمُ مجموعته. ولم يتغافل عن تدوين ثقافة الحرب وتأثيراتها الذاتية والجمعية، وَذكَرَالطبيعةَ وعناصرَها الزمكانية والغربة ومسبباتها الحقيقية. أمَّا المرأة في معجمه السردي القصير فتكاد تكون المُهمَّشةَ والمُعدَمةَ.

 لقد استطاع الميَّالي عبد الله الإنسان الرائي والكاتب وصاحب المشروع السردي الثقافي من إنجازَ مهمته التسريدية الإبداعية وفق هذه الكيفية السياقية المتساوقة من إنتاج وتخليق وتسويق الجماليات اللُّغوية المُبدعة في فنِّ القصة القصيرة جداً إلى المتلقِّي مُستنداً في مشغل تجريبهِ الإبداعي إلى خلاصة تجربته النثريَّةوباعه السردي الفنِّي الطويل في ممارسة فنِّ الرواية والقصَّة القصيرة قبلَها.

 والتجربة الجريئة التي خاضها الميّالي في ميدان فنِّ القصِّة القصيرة جدَّاً، ذلك الأدب الومضي الانفعالي الحديث المُفارق بهزته البَرقيةِ اللَّافتةِ، والتي تُسمِّى بأدب الصدمة الّذي ظهرت بوادره الأُولى في أواخر القرن العشرين يمكن أنْ يكون إضافةً أدبيةً نوعية إبداعيةً مُهمَّةً وارفة الظلال وحيَّةً لرفوف مكتبة السرديات العراقية والعربيَّة الورقية والألكترونية السريعة والمعصرنة على حدٍ سواءٍ. في مثل هذا الضرب الفنِّي الأدبي الحديث الهادف الكتابة في ميدان القِصَّة القَصيرة جدَّاً التي أخذت في الأونة الأخيرة من عصرنا الثقافي الرقمي المتهافت الوصول لهدفها بإيجاز شديد الكلمات وخاتمةٍ إدهاشية مروِّعةٍ مؤثرةٍ بالنفس. ومن الانتشار السريع في محافل أدبنا السردي النثري الإبداعي، وإنْ تجد لها موضع قدم راسخٍ عَلِيٍّ بين فُنُون الأدب وأجناسه الإبداعية الأخرى.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ / نَاقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

 

المولدي فروج والياس قعلول/ تونس

توضيح: جمعني لقاء بمناسبة بالأستاذ الياس قعلول تداولنا الحديث حول الادب والثقافة وانتهينا الى التركيز على قصيدة كنت نشرتها منذ وقت. قال محدّثي أنّه تناول القصيدة من الجانب النفساني و اللاواعي الذي رافق ولادتها ورغب في أن أوضّح له بعض الأشياء الخفيّة التي وردت في القصيدة. فكان لنا هذا النّص المشترك الذي سمّاه صاحبي: الصورة الباطنية.  

شكّلت الصّورة الشّعريّة منذ القديم هاجسا لدى الشّعراء والنّقاد على حدّ السّواء. وما زال أكثرهم يتدبّرون لها تعريفا دقيقا شأنها شأن الشّعر الذي لم يعثر هو الاخر على تعريف يشفي الغليل ويثبت ان الشّعر ليس كلاما بل فنّا في اللّغة ولم يكن بالضّرورة موزونا.

ولأنّ الصّورة الشّعرية ليست علما صحيحا خاضعا لقواعد فلن ينتهي الجدل حولها، وسيظل النّقّاد يختلفون فيها باختلاف اجتهاداتهم ودرجاتهم المعرفية. فالمتعارف عن الصّورة أنها تركيب لغوي يستعمله الشّاعر لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل. وهي أداة الشعر كما ان الفكرة أداة النثر. قال الجاحظ مؤكدا: الشّعر فنّ تصويري... 

ورغم الغموض الذي قد يطبع حديثنا المشترك (الشاعر الطبيب والأستاذ الناقد) عن الصّورة فانه يمكننا تحديد مجالات معينة بالاعتماد على الاصطلاح والدّلالة.

تولد الصّورة الشّعرية في مخيلة الشّاعر مع ميلاد القصيد وتفتّقه. لتفصل بين الظاهر والباطن وبين الوعي واللاوعي. فاذا ما خرج النّصّ الى عامّة النّقّاد والفقرّاء صار بإمكاننا أن نستنطقه لنبحث عن الظروف التي رافقت ميلاده بدءا من لحظة المكاشفة واختيار العبارة المناسبة حتى الاكتمال والتزويق والخروج الى الضوء والورق. ويمكن لكل ناقد ان يحفر في النّص أفقيا بتتبّع العبارات وتسلسلها وتناغمها مع الموضوع العام الذي بني عليه النّص وعموديّا بالغوص فيه لاكتشاف الدالّ فيه على المدلول.

لا نروم في ورقتنا هذه تقديم مسح كاشف للصّورة الشّعرية وما احتوت من عناصر وما شملت من أنواع ولكننا رأينا من خلال قراءتنا لقصيدة "نهدان" للشّاعر التونسي المولدي فرّوج أنّها تصلح وحدها لتكون درسا تطبيقيّا لمختلف الأنماط الصّورة الشّعرية المتداولة الظاهرة أمام (القارئ – النّاقد) والخافية وهي ما نسمّيه بالمناسبة الصّورة الشّعرية الباطنية.

فلحظة ميلاد القصيد في مخيّلة الشّاعر ينشط لاوعيه واحساسه قبل أن ينقل نصّه كاملا على الورقة أو بالإنشاد، كما ينشط وعيه عند البحث في ذاكرته عن اللّفظ المناسب وطريقة ربطه بالألفاظ الأخرى لتوليد الصّورة. ولعلّ خير دليل على اختلاط الوعي باللاوعي في ذات الشّاعر نفسه قوله: قلْبي يفكّرُ فيهما...

قمنا بقراءة إجرائية لقصيدة "نهدان" وغصنا في لاوعي الشّاعر (وقد شهد على نفسه) فأُبهِرْنا بحضور كبير ومتجسّم لصورة النّهد فيه من خلال شكل الحروف التي تشبه نهد المرأة وهي حروف النّون والقاف وبشكل أقل حرف الفاء. ألا تدل استدارة حرف النّون على استدارة النّهد على صدر المرأة ونقطة الحرف على الحلمة؟ ألا يشكل حرف القاف والفاء في لا وعي الشّاعر صورة مجسّمة للنّهد وحلمته. فليس غريبا اذا، أن يتكرّر حرف النّون 33 مرّة وحرف القاف 17 وحرف الفاء 18 مرّة من مجموع 92 لفظة شكّلت مجموع الألفاظ في القصيدة. ألم تحقّق الصّورة الشعرية التّالية قمّة المتعة أم هي متعة مزدوجة: متعة تحدثها جمالية النّصّ وأخرى يصنعها خيال القارئ حتّى لكأنّه خالقها وهذه ميزة الصّورة الباطنيّة التي نتحدّث عنها. لن أترك صورة الأعمى الذي يسعى بضوء النّهدين في النفق ليرى النمل دون أن أسال لماذا استعمل الشّاعر "بضوئهما" ولم يقل "بنورهما"؟ أعتقد أنه واع تمام الابداع بأن الضّوء ينبعث من جسم أكبر من النّهدين وقد يكون جسد المرأة بصورته الكاملة في ذهن الشّاعر.

***

نَهْدَانِ / مولدي فرّوج

نهدان يَا خَوْفِي

علَى النَّهْدَيْنِ من لَهْفِي

فلي كفٌّ حَرِيقْ

عِقْدانِ مَرَّا

فَوْقَ عُودِهما الرَّقِيقْ

نهْدان مُذْ وُلِدا

كأنَّ الأرْضَ لمْ تنْهَضْ لَها

شَمسٌ، ولا قَمَرٌ،

ولا حتَّى بَرِيقْ

*

نَهْدانِ مُذْ كَبُرَا

وشَاع الخَوْفُ

لمْ يَتَبيّنَا وَجْهَ النَّهَارِ

فَلَوْ سَعَى...

 أعْمَى... بِضَوْئِهمَا

لأبْصَرَ...في ظَلامِ الليلِ

نَمْلاً ..... في المَضِيقْ

نهْدان والحمّالة الحمقاءُ

تعتصِرُ الغَريقْ

نهدان لا يتَلامَسان

كأنّما

قد فرَّقَ الوجْدانُ بينَهما

فما حنَّ المُرَافِق للرّفِيق

*

نهدان لا يتَكاسَلان

وإنَّما قلْبي يفَكِّر فيهما

فيَهيمُ في رسْم الطَّريق

نهْدان نامَا فوق ظِلّهما

….فمنْ، من يَسْتفِيق

***

قصيدة /من أنا في لغة الانكسارات؟ / للشاعرة الفلسطينية آمال قزل تحمل في طياتها الكثير من الأسئلة الوجودية والتأملات الفلسفية. تتناول الشاعرة قضايا الهوية والانتماء، بالإضافة إلى تأثير التاريخ والظروف الاجتماعية على الذات الفردية والجماعية.

1. البحث عن الهوية

تبدأ القصيدة بسؤال صريح /من أنا/، مما يعكس حالة من الضياع والبحث عن الذات في عالم مليء بالانكسارات. هذا السؤال يُظهر الصراع الداخلي الذي يعيشه الفرد في مواجهة واقعه، والذي يبدو مُعقدًا وصعبًا.

2. الانكسار والخيال

تتطرق الشاعرة إلى فكرة الكتابة كوسيلة للهروب من الواقع، حيث تعيش الخيال أكثر من الواقع. يُبرز ذلك التوتر بين ما هو حقيقي وما هو مُتخيل، مما يُعبر عن معاناة الشاعرة ككائن شعري يسعى إلى تجاوز الألم من خلال الفن.

3. استحضار التاريخ

تستحضر الشاعرة شخصيات تاريخية مثل جان دارك، مما يُعكس تأثير التاريخ على الهوية. تطرح تساؤلات حول العدل والظلم عبر الأزمنة، وتسلط الضوء على التناقضات في القيم الإنسانية، مثل تقديس الشخصيات بعد تعذيبها.

4. العبودية والحرية

تناقش القصيدة مفهوم العبودية، سواء في سياق العلاقات الإنسانية أو في ظل الأنظمة السياسية. تتساءل عن مدى الحرية التي يمتلكها الإنسان، وتعرض صورة قاتمة عن الطبيعة البشرية ووجود الطغيان.

5. البحث عن العدالة

تختتم القصيدة بنبرة تشاؤمية حول عدم وجود عدالة على الأرض. تُظهر أن الإنسان مُحاصر بين قسوة العالم وطغيان الزمن، مما يُعكس أزمة القيم في المجتمع.

خلاصة

قصيدة آمال قزل تُعد تأملًا عميقًا في قضايا الهوية، التاريخ، والعدالة. من خلال لغتها الشاعرية العميقة، تدعو القارئ للتفكير في المعاني المتعددة للوجود، مُسلطة الضوء على انكسارات الإنسان ومعاناته.

أنّ هذه القصيدة تتجاوز السطح لتقدم دراسة فلسفية عميقة للوجود الإنساني. دعونا نستكشف بعض العناصر الفلسفية والنفسية في هذه القصيدة بشكل أكثر تفصيلًا:

1. الانكسار كحالة وجودية

تتكرر في القصيدة فكرة /الانكسارات/، والتي تمثل تجارب الفشل والإحباط. هذا المفهوم يشير إلى حالة الوجود الإنساني الذي يتسم بالتناقض، حيث يجد الفرد نفسه بين آماله وطموحاته من جهة، وواقعٍ غالبًا ما يكون قاسيًا من جهة أخرى. الشاعرة تسلط الضوء على كيفية تأثير هذه الانكسارات على الهوية الفردية والجماعية، مما يجعل القارئ يتساءل عن قيمة الذات في ظل هذه الظروف.

2. تداخل الواقع والخيال

الأسئلة التي تطرحها الشاعرة حول العيش في /الخيال أكثر من الواقع/ تدل على الصراع بين الطموحات والأحلام من جهة، والواقع المحبط من جهة أخرى. هذا التداخل يُظهر كيف أن الخيال يصبح ملاذًا للأفراد، يحاولون من خلاله تجاوز معاناتهم. يمكن أن يُفهم الخيال كأداة للتكيف، حيث يتمكن الشاعر من التعبير عن مشاعره وأفكاره بحرية أكبر مما هو متاح في الواقع الملموس.

3. التاريخ والهوية

استحضار الشاعرة لشخصيات تاريخية مثل جان دارك يُظهر كيف أن التاريخ يلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الهوية. هذه الشخصيات تمثل الاضطهاد والبطولة، مما يعكس الصراع بين الحق والباطل عبر العصور. كما تُظهر الشاعرة كيف أن هذه الشخصيات تُقدس بعد موتها، مما يثير تساؤلات حول مفهوم العدالة والظلم.

4. أسئلة العبودية والحرية

تتناول القصيدة مفهوم العبودية بشكل موسع، حيث تطرح تساؤلات حول الحرية الفردية والجماعية. تُظهر الشاعرة أن العبودية ليست فقط في المعنى الجسدي، بل تشمل أيضًا العبودية الفكرية والنفسية. تتجلى هذه الفكرة في وصفها للعبودية كعبودية للزمن والأفكار، مما يُظهر كيف أن الأنظمة الاجتماعية والسياسية تُقيّد الأفراد.

5. التناقضات الإنسانية

تشير القصيدة إلى التناقضات في الطبيعة البشرية، حيث يُظهر الإنسان في نفس الوقت ميولًا للخير والشر. العبارات التي تتحدث عن /ملك ومملوك/ و/قاضي وسفاح/ تعكس كيف يمكن أن يتداخل الخير والشر في النفس البشرية، مما يخلق حالة من الاضطراب الأخلاقي.

6. نداء للعدالة

تنتهي القصيدة بنبرة تشاؤمية، تُعبر عن انعدام العدالة في العالم. هذا يُظهر كيف أن الشاعرة لا تكتفي بمجرد الاستغراق في الألم، بل تدعو القارئ للتفكير في السبل الممكنة للتغيير. يُعتبر هذا النداء بمثابة دعوة للوعي الاجتماعي والتفكير النقدي حول قضايا العدالة.

خلاصة أعمق

قصيدة آمال قزل ليست مجرد تعبير شعري، بل هي تأمل فلسفي عميق في طبيعة الوجود الإنساني. تُظهر الصراعات الداخلية والخارجية التي تواجه الفرد، وتطرح تساؤلات حول الهوية، التاريخ، العدالة، والحرية. من خلال استخدام الرموز والشخصيات التاريخية، تخلق الشاعرة عالمًا غنيًا بالمعاني، مما يُعزز من قيمة الشعر كوسيلة لفهم الواقع والتفاعل معه.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

......................

من أنا في لغة الانكسارات؟!

بقلم: آمال قزل

لماذا أكتب بكل هذا الكم!

ولماذا أحمل كل هم الشعوب!

لماذا أعيش الخيال أكثر

من الواقع!

لماذا تسبح روحي الملهمة في ملكوت الله

بكل هذا الشغف!!

من أنا في لغة الانكسارات!

من أنا

في لغة الانتصارات

من أنا في لغة الأنوثة!!

من أنا في سر التكوين!!

من يعاقبني على حلمي البعيد من يطوق حرفي الشريد!

من يقرأني عبر سطورٍ

تعمقت في الميدوزا

من يفك طلاسمي المعقدة!

من يكشف لغتي على جداريات الروح!

من يسير طريق الفلاسفة ويهوى وعورة الطريق يتحدى السير

وراء القطيع

من يقيم مدينة

أفلاطونية التفكير

ويسير درب الحرير!!

من يوشوش البحر

ويسأل صدفاته التي

توارت كما تتوارى السفن

عن سر الشواطئ وتسونامي الوقت!

من يسألني عن أحدب نوتردام وكيف أحرقوا كنسيته في يومٍ أغبرَ!!

من قيد جان دارك!!

ومن أحرقها!

ومن بعد هذا أقر أنها قديسة.!

يا لتلك الأضداد!!

يا لتلك الأحكام!

يا لعبوديتنا التي نفرضها

على بعضنا

يا لعقول طاغية

عَبرت قرون من الوقت

لكنها عادت بوجهٍ أخر

وانتحلت شخصية

راسبوتين وهولاكو

يا لأطرافنا الباردة

يا لرؤوسنا الجوفاء

يا لعبودية الزمنكان

لا عدالة على الأرض

لا عدالة

من يوم ولد الأنسان

ولد ليتعذب

ولم يزل

ملك ومملوك

وقاضي وسفاح

وأرض لا تعرف غير الطغيان..

وقساوة الأنسان

للإنسان..

***

آمال قزل

 

بقلم: أندرو كوليتي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

قبل وقت طويل من رواية "محكمة الأشواك والورود"، قامت المحاكم السويدية في القرن السابع عشر بالتحقيق في الحب الخارق للطبيعة.

***

في عام 1656، تم محاكمة كارين سفينسدوتير في قرية سافشيو الجنوبية في السويد بتهمة غير معتادة: الزنا مع كائنات خارقة للطبيعة. وبالتحديد، كانت المحكمة تحقق في ادعاءات الخادمة الشابة بأنها كانت على علاقة مع ملك الجنيات.

شهدت سفينسدوتير أنه قبل عدة سنوات، اقترب منها رجل وسيم يرتدي ثوبًا من الذهب وادعى أنه "ملك الجنيات" (Älvakungen، وهو مصطلح يعني "ملك الجني"). أخذها إلى الغابة، إلى قاعة كبيرة مخفية تحت جبل، حيث رقصا واحتفلا مع جنيّات أخريات يرتدين ملابس فاخرة. بعد ذلك، قالت سفينسدوتير، بدأ حبيبها الخارق للطبيعة بزيارتها بانتظام. وأسفر علاقتها عن سبعة أطفال، لكن في كل مرة تلد فيها سفينسدوتير، كان ملك الجنيات يظهر ويحمل الطفل إلى مملكته الخاصة، رغم احتجاجاتها. شهد شهود عيان أنهم رأوا سفينسدوتير تعاني من نوبات جسدية مرهقة، وصفتها بأنها آلام المخاض، وسمعوا صوتها وهي تتجول في الغابة ليلاً بحثًا عن أطفالها المسروقين. ومع ذلك، لم يكن هناك أي دليل على أن سفينسدوتير كانت قد حملت يومًا.

لم تكن قصة سفينسدوتير والمحاكمة القانونية التي تلتها غير عادية كما قد نعتقد اليوم. على الرغم من خصوصياتها الفريدة، فإنها تنتمي إلى المخاوف المنتشرة في أوروبا الحديثة المبكرة بشأن القوى الخطيرة والجذابة لأرواح الطبيعة، وهي كائنات قد نطلق عليها في مصطلحاتنا الحديثة "الجنيات". في القرن السابع عشر، كان المجتمع السويدي يعاني من توترات بين العقيدة المسيحية والمعتقدات التقليدية، وبين التخصص الناشئ في العلوم الطبيعية: خاصة بعد عام 1608، عندما أصبح الكتاب المقدس قانونًا في السويد وأصبح السحر جريمة يعاقب عليها بالإعدام. وصلت الأفكار المتناقضة إلى ذروتها في المحاكمات القانونية، بما في ذلك العديد منها التي كانت، مثل قضية سفينسدوتير، تدور حول تهمة الحب المحرّم بين إنسان وكائن خارق للطبيعة.

يقول الباحث في الفولكلور تومي كوسيلا، وهو أمين أرشيف بحثي في جامعة أوبسالا: "هناك تصادم بين وجهات النظر في تلك المحاكمات". "عندما يقول الناس، 'لقد قابلت وكان لي علاقة جنسية مع روح الغابة'، كان رجال الدين يقولون، 'لأنه لا توجد روح غابة، ما تقوله فعلاً هو أنك قابلت الشيطان الذي اتخذ هذا الشكل.' وهذا قد يؤدي إلى عقوبة الإعدام." كانت قضايا مثل قضية سفينسدوتير تؤخذ على محمل الجد لأنه لم يكن هناك مكان لملك الجنيات في النظام المسيحي للكون الذي كان يدعمه رجال الدين والحكومة. ولكن بالنسبة للكثيرين في السويد في القرن السابع عشر، كانت الأرواح ملموسة مثل الحيوانات والنباتات، وكان بالإمكان التعايش بين المسيحية والأفكار القديمة حول الماورائيات.751 Forbidden love

يشير كوسيلا إلى أنه "حتى أولئك الذين تم اتهامهم في هذه المحاكمات كانوا يرون أنفسهم مسيحيين". خاصة في الأماكن القريبة مما يسميه كوسيلا "العالم الآخر الخطير" للغابة، كان الناس لا يزالون يتمسكون بمعتقداتهم ما قبل المسيحية في الأرواح الطبيعية، ويقدمون القرابين لكسب بركتها. كانت المعتقدات الفولكلورية تعكس الحياة اليومية وتنقل الحكمة التقليدية بطرق لم يفعلها الكتاب المقدس. يقول كوسيلا: "لديهم شيء يسمعونه من رجال الدين، ولديهم أيضًا تجاربهم الخاصة في الحياة في المزرعة". " لا تستطيع الكنيسة أن تشرح كيف تحرث حقولك، وماذا تفعل عندما تكون في رحلة صيد، وأشياء من هذا القبيل. وهذه أشياء يمكن الحصول عليها من الفولكلور". حاولت بعض الحكايات الشعبية التوفيق بين النظامين المعتقديين، حيث كانت الأرواح تُعتبر ملائكة منبوذة لا تتبع لا الجنة ولا الجحيم.

كان أحد الأسماء المستخدمة لهذه الكائنات هو "رَو" (وتُنطق كما "رَو")، وهو مشتق من كلمة سويدية قديمة تعني "حاكم". يقول كوسيلا: "هذه روح طبيعية تحكم منطقة معينة"، مثل السكوجسرو، الذي كان يحكم الغابة، أو السيوراو، الذي كان يحكم البحيرة، أو بيرجراو، الذي كان يحكم الجبل. غالبًا ما كان يُوصف الرَو بأنهم مغريون، على الرغم من بعض السمات غير الإنسانية مثل ذيل حصان أو بقرة، أو ظهر مجوف عندما يُرى من الخلف. كانوا عادة إناثًا، وغالبًا ما كنّ مثيرات. يقول كوسيلا: "غالبًا ما يكون الرجال وحدهم هم الذين يقابلون هذه الفاتنة الجنسية في الغابة". قد يكون هذا الموضوع في الفولكلور السويدي متجذرًا في خيالات الصيادين وأصحاب الأشجار، الذين أبقتهم أعمالهم معزولين في البرية لفترات طويلة. يشير كوسيلا إلى أنه في الحكايات التقليدية عن الحورية المغرية في الغابة، هي التي تعرض على الرجل، على الرغم من أن المرأة كانت ستعتبر غير لائقة إذا قامت بنفس الشيء. كانت مغامرة سفينسدوتير مع ملك الجنيات مشابهة تمامًا لما هو خارج عن المألوف في سلوك القرن السابع عشر المحترم.

عند مقارنة قضية سفينسدوتير بمحاكمات سويدية أخرى تركز على العلاقات الخارقة للطبيعة، كانت قضيتها غير عادية من حيث الوصف المحدد للكائن ومن حيث جنس الأطراف المعنية. يشرح كوسيلا أنه في الحالات التاريخية القليلة التي تم فيها اتهام امرأة سويدية بعلاقة جنسية مع روح ذكر، كان عادةً روح مائي يُسمى "ناك" (Näck). لكن وصف سفينسدوتير لملكها، بما في ذلك قصره الذي يقع تحت جبل، يبدو أنه يتناسب بشكل أكبر مع حكايات "الرَو"، بما في ذلك "ملك الغابة" الذكر الموجود في الفلكلور الفنلندي وبعض الفلكلورات الأوروبية الأخرى.

ثمة أمثلة أكثر تقليدا لهذه المحاكمات المتعلقة بالحب الخارق للطبيعة تشمل قضية بيدر يونسون في عام 1640، الذي تم إعدامه في مدينة سوديرشوبينج بسبب علاقة غرامية مع روح رَو مقابل معرفة سرية وحظ حسن (شهدت زوجته أنَّه رفض ممارسة الجنس معها لأنه وعد بالوفاء للروح). قد يكون رجل آخر يُدعى سفين أندرسون قد أُعدم في عام 1691 بعد أن أغوته روح رَو من جبل في مقاطعة فاستيرجوتلاند الجنوبية، رغم أنه غير واضح ما إذا تم تنفيذ حكم الإعدام. وفي حالتين على الأقل، اتهم الجنود الذين تم اعتقالهم بتهمة التهرب من الخدمة العسكرية غيابهم بعلاقة مع "سيدة الغابة".

في تلك المناسبات النادرة عندما كانت تُحاكَم امرأة بسبب علاقة خارقة للطبيعة في السويد، كان ذلك عادة بسبب ولادتها لطفل ذو مظهر غير عادي، مما أثار الشكوك حول هوية الأب. يربط كوسيلا هذا بالمعتقدات المنتشرة في أجزاء أخرى من أوروبا التي ترى أن هذه الأطفال كانوا "مستبدلين"، أي جنيات تم استبدالهن بأطفال بشر مسروقين. كما يمكن العثور على تماثلات لقضية سفينسدوتير في محاكمات معاصرة من أجزاء أخرى من أوروبا. في صقلية في القرن السادس عشر والسابع عشر، عندما كانت الجزيرة تحت حكم إسبانيا، شهدت عشرات النساء أنهن تم زيارتهن في أحلامهن من قبل نساء الجنيات اللاتي يُطلق عليهن "دوناس دي فويرا" (Doñas de Fuera) بالاسبانية، أي "سيدات من الخارج"، اللاتي قادتهن إلى حفلات فاخرة حيث كان الجن  الذكور يدللونهن بالاهتمام.

يشير كوسيلا إلى أن محاكمات الجنيات السويدية "يمكن، إلى حد ما، مقارنتها بالجنون الذي صاحب محاكمات السحر" التي اجتاحت معظم أنحاء أوروبا في ذلك الوقت، والتي نشأت أيضاً نتيجة لصراع الأنظمة المعتقدية والخوف من تأثير الشيطان. وفقاً لجوران مالمستيدت، المؤرخ الثقافي في جامعة جوتنبرج، فإن "إحدى الأفكار الرئيسية التي تسببت في المحاكمات الكبرى في أوروبا" كانت "فكرة أن جميع الساحرات هن جزء من مؤامرة مع الشيطان". وكان هذا يتعارض مع مفهوم أقدم للسحر باعتباره معرفة سرية يمتلكها الأفراد، بما في ذلك الأرواح نفسها. وفقاً لمالمستيدت، فإن كلمة "هيكسا" السويدية التي تعني "ساحرة" تم استعارتها من الألمانية ولم تُستخدم على نطاق واسع حتى السبعينيات من القرن السابع عشر، عندما أُقيمت أكبر محاكمات السحر في السويد. قبل ذلك، كان مستخدمو السحر السويديون يُسمون "رجال السحر" أو "نساء السحر" أو ببساطة "كلوكا"، وهي كلمة تعني "حكيمة".

كانت عمليات البحث عن السحرة ومحاكماتهم قد بدأت في الانخفاض في بقية أوروبا بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى السويد. خلال ذروة محاكمات السحر السويدية من 1668 إلى 1676، تم إعدام حوالي 300 شخص. حتى في ذلك الوقت، يقول مالمستيدت، "في الحكومة المركزية، أعتقد أنه كانت هناك بعض الشكوك حول هذه الأفكار. ولكن من ناحية أخرى، يمكنك أن ترى على المستوى المحلي أن القساوسة والقضاة المحليين كانوا يأخذون هذه الأفكار على محمل الجد". في بعض الحالات، استخدم المحققون الترهيب والتعذيب للحصول على الرواية التي يريدونها من المتهمين. "أولئك الذين لم يعترفوا، لم يكن بإمكانهم الإعدام"، يقول مالمستيدت، "لذا تم إجبار معظمهم على الاعتراف بالتعذيب". كان بيدر يونسون، الذي أُعدم بسبب علاقة مزعومة مع روح، قد وُجهت إليه في البداية تهمة استخدام السحر للعثور على الأشياء المفقودة، لكن المحكمة افترضت أنه ربما تعلم التعويذة من عاشق شيطاني. وأضاف يونسون تفاصيل على شهادته مع كل جولة من الاستجواب، حيث ذكر في البداية روح رَو ذات ذيل الحصان التقليدي، ثم وصفها لاحقاً بأنها أكثر شيطانية، مع أرجل وأظافر مثل الماعز.

على عكس يونسون والعديد من الآخرين، لم تُتهم كارين سفينسدوتير باستخدام السحر بشكل نشط. بدلاً من ذلك، تم تفسير تقلباتها الجسدية واعترافاتها المدهشة، بما في ذلك حالات الحمل الكاذب، على أنها ذات أصل خارق للطبيعة. كما كتب الباحث ريتشارد سوج في كتابه الجنيات: تاريخ خطير، أنه في القرن التاسع عشر، قد تلوم المجتمعات التي تفتقر إلى المعرفة الطبية الحديثة الجنيات بسبب الأمراض غير المفسرة، لأن "هنالك معنىً لهذا المرض الذي يبدو عشوائيًا، وهو مكان معروف ومقبول ضمن إطار تفسير مشترك". في كتاب محاكمات السحر: كرونولوجيا عالمية، وصفت الموسوعية ماري إلين سناودجراس كارين سفينسدوتير بأنها "متخيلة" اختراعت لقاءاتها "لتنشيط ملل العمل الزراعي المنزلي". لكن بناءً على محنتها في كونها مفصولة عن أطفالها المزعومين، بدا أن سفينسدوتير كانت تؤمن بتفسيرها الخاص لما حدث لها.

قد يكون جذب الخيال كوسيلة للهروب، أو تصور الأحلام أو الأوهام على أنها واقع، قد لعب دورًا في تفسير سفينسدوتير للأحداث. يصف مالمستيدت استخدام الأحلام كدليل في بعض المحاكمات السويدية، حيث "كان الناس يعتقدون أنهم كانوا على اتصال بقوى شريرة في أحلامهم." وحتى إذا تم قبول هذه الأحلام والخيالات على أنها سحرية المنشأ، كان لا يزال هناك سؤال حول ما إذا كانت قد حدثت بالفعل. يقول مالمستيدت: "كان هناك جدل بين رجال الكنيسة في القرن السابع عشر. هل كانت كل هذه القصص حقيقية حقًا؟ ... أم كانت مجرد أوهام؟" هل كان أشخاص مثل سفينسدوتير ينامون مع الشيطان؟ أم هل سحرهم الشيطان ليعتقدوا أنهم فعلوا ذلك؟

يضيف كوسيلا أن "هذه كانت أيضًا فترة كنا نستكشف فيها [ونتعلم المزيد عن] الطبيعة." أثارت محاكمات الحب الخارقة للطبيعة اهتمام العلماء وأثارت نقاشات حول ما إذا كانت الأرواح مكونة من لحم ودم، وما إذا كان البشر يستطيعون إنجاب أطفال منها، وما إذا كان الجنس مع روح ذات ذيل حصان يجب أن يُعتبر مسًا بالحيوانات (وكانت هذه "مشكلة حقيقية فعلًا" في المجتمع السويدي في ذلك الوقت، وفقًا لكوسيلا، مما أدى إلى تنفيذ المزيد من الإعدامات أكثر من السحر). تمامًا كما كانت المحاكمات المبكرة تسعى لشرح الأرواح بمصطلحات مسيحية، حاولت بعض الأمثلة اللاحقة تقديم تفسيرات علمية. في قضية من عام 1706، استنتج رئيس المحكمة أن الكائن الجميل ذي الأرجل الحصانية الذي وصفها المتهم لم يكن روحًا خالدة، بل كان هجينًا فعليًا من حصان وإنسان.

أما بالنسبة لكارين سفينسدوتير، فقد حكمت المحكمة بأن قصة حبها مع الجنية لم تحدث بالمعنى الحرفي، بل أن الشيطان عذبها بالأوهام. وهذا يعني أنها لم تكن مذنبة بالسحر، بل كانت ضحية له؛ وهو نتيجة جديرة بالذكر، بالنظر إلى أن محاكمتها حدثت في وقت لم يكن فيه توافق حول ما إذا كانت الجنيات والعفاريت خيالية أو شياطين متنكرة. قد يكون غياب الشهود على الأحداث الخارقة للطبيعة قد لعب دورًا في الحكم. يوضح مالمستيدت أن وجود عدد من الشهود الموثوقين كان أمرًا أساسيًا لإدانة شخص بتهمة السحر.

تم توجيه رعية سفينسدوتير للصلاة من أجل خلاصها، وأُرسلت إلى منزلها مع صليب فضي للحماية؛ وهو صدى لـ"صليب الجنية"، وهو صليب أو رمز نجمة كان يُستخدم في السويد لصد الأرواح الشريرة. ومن الواضح أن ملك الجنيات توقف عن زيارة سفينسدوتير بعد محاكمتها. لا يُعرف ما الذي حدث لها بعد ذلك، ولكن حالات الرجال والنساء الذين كانوا على علاقة بالأرواح ساكنة الغابة ستستمر في الوصول إلى المحكمة لعقود.

بحلول القرن الثامن عشر، بدأت وجه نظر جديدة قائمة على العلم تنتشر،  حيث بدأ الناس يبحثون عن تفسيرات عقلانية للأحداث غير العادية ولم يعد يخشون تدخل الشيطان الخبيث بنفس الدرجة. وهذا يعني أن محاكمات السحر بدأت تُعد هراء كاذب. وكانت آخر عملية إعدام بتهمة السحر في السويد قد حدثت في 1704. كانت التهم المتعلقة بالسحر الأسود التي تم تقديمها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تُرفض عادة من قبل السلطات العليا التي لم تعد تأخذها على محمل الجد. لكن، مع استمرار الناس في العيش جنبًا إلى جنب مع الطبيعة واستخراج رزقهم منها، استمر الإيمان بالأرواح الطبيعية حتى العصر الحديث. يلاحظ كوسيلا وجود روايات عن رجال ادعوا أنهم التقوا بروح غابة تم تسجيلها في أوائل القرن العشرين.

في مجتمع متغير كانت فيه الكنيسة تسعى لفرض سلطتها، كانت المحاكمات التي تتهم بعلاقات الحب مع الجنيات علامة على صراع السلطة بين فهمين مختلفين تمامًا للعالم. أجبرت قصص العلاقات العاطفية الخارقة للطبيعة الناس على فحص معتقداتهم الخاصة والتساؤل عن ما هو ممكن أو مقبول ضمن واقعهم الخاص. تقول كوسيلا إن "الحكايات الشعبية هي في الواقع قصص عن أنفسنا".

(انتهى)

***

............................

https://www.atlasobscura.com/articles/where-does-fairy-romance-come-from?utm_source=Sailthru&utm_medium=email&utm_campaign=Lit%20Hub%20Daily:%20December%2019%2C%202024&utm_term=lithub_master_list

ان الاطلاع على العلوم والثقافة يجب أن تكون ليس ملكا لصاحب التجربة في الممارسة، وإنما يجب طرحها للاخرين للاستفادة منها، واريد في مقالتي هذه ان اتحدث عن تجربتي وانا كنت طالبا في معهد للطب البشري في مدينة كرسنودار التابعة لجمهورية روسيا الاتحادية، في سبعنيات القرن الماضي، وبنصيحة من استاذي في تاريخ الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي، وهو يعرفني اني مبعوث الحزب الشيوعي العراقي وكنت مسؤول عن المنظمة الحزبية في كراسنودار، أضافة إلى نشاطي النقابي، في اتحاد الطلاب العرب كنت نائب للزميل محمد ابو مندور مصري الجنسية وهو دكتور في الاقتصاد الزراعي خريج معهد كوبان الزراعي ودرس في جامعة عدن عاصمة جمهورية اليمن الديمقراطي لفترة، ويعرف الرفاق السوفيت نشاطاتنا في المجال الحزبي وكذلك الطلابي، سجلت في المدرسة الحزبية لاعداد الكوادر التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي انذاك، بناء على نصيحه استاذي، وكانت المواضيع التي تدرس فيها: هي الفلسفة والاقتصاد السياسي والاشتراكية العلمية وكذلك تاريخ الحركة العمالية والشيوعية العالمية، كان استاذنا في تاريخ الحركة الشيوعية والعمالية العالمية يزودنا بمعلومات مهمة أهميتها تكمن في أن نقرأ روايات في الأدب الروسي والسوفيتي،" مثل الحرب والسلم لتولستوي والجريمة والعقاب لدستويفسكي ورواية الفقراء لدستويفسكي وانطوان تشيخوف الروائي والطبيب ويعرج كيف أن انطوان تشيخوف وهو من أبرز كتاب القصة القصيرة كتب عدد من القصص في رواياته كان يمازج ما تعلمه في دراسته للطب في جامعة موسكو من علوم الأحياء والفيزياء والكمياء والرياضيات أضافة للعلوم الاخرى في التشريح والفسلجة، وله قول مشهور لتشيخوف (أن الطب هو زوجتي والأدب هو عشيقتي) مستفيدا بماكتبه في قصصه ومنها الفلاحين ورسائل إلى العائلة والشقيقات الثلاث وغيرها وقد كتب تشيخوف للمسرح الروسي، وفي إحدى قصصه يقول (اذاخرج المريض من غرفة الطبيب وهو مبتسم، فهذا يعني أن الطبيب ناجح). وهنا تكمن عبقريته في القول أن المسألة هي نفسية لدى المريض. وفي إحدى قصصه القصيرة والتي كتبها عام 1953 في العهد السوفيتي وعنوانها (العروس) ينتقد فيها المجتمع السوفيتي، حيث تدور القصة حول شابة جميلة أسمها نادية تعيش مع جدتها في منزل للاثرياء، نادية تستعد للزواج من خطيبها اندريه بزواج تقليدي، ونادية كانت تعاني من شعور في الغربة، وترى في شخصية ساشا ابن عمها، الذي هو مثال للمجتمع الجامد وله رؤية نقدية للحياة، وقصة (العروس) لتشيخوف حولت إلى أعمال مسرحية وسينمائية، وقد شارك في إخراجها كتاب مخرجين مع اهتمام ناتج عن موضوعها الإنساني، لأنها تحمل في طياتها مفهوم واضح عن معنى الحرية وتحدي الأعراف الاجتماعية التي كانت سائدة انذاك.

وأريد أن انقل نص ماكتبه الكاتب الكبير صاحب قصة (الام) في تقيمه لرفيقه انطوان تشيخوف: (أن لغة وأسلوب تشيخوف قمة من المستحيل الوصول اليها) واذا تكلم المرء عن تاريخ اللغة الروسية لابد له أن فضل خلق هذه اللغة يرجع إلى بوشكين وتورجينف وتشيخوف.

وما هو موقف انطوان تشيخوف من غوركي اذكر مايلي: عندما اختير انطوان تتشيخوف في عام 1900 عضوا بالاكاديمية الروسية، لكنه بعد مرور عامين اي 1902 رفض العضوية أحتجاجا على عدم موافقة القيصر نيكولاي الثاني على قرار علماء وأدباء روسيا بأختيار مكسيم غوركي عضوا بالاكاديمية، لمعرفته في شخصية وادب مكسيم غوركي ومدى العلاقة الطيبة بينهما،

لقد عمق انطوان تشيخوف الاتجاه الواقعي في الأدب الروسي، وحتى من خلال أبطاله في قصصه ومسرحياته وهم من المجتمع الروسي أناس بسطاء، وكان يدرك في أن كل واحد منهم موضوع كامل في سرده للقصة القصيرة وكان في قصصه ومسرحياته تحمل التحليل النفسي من خلال دراسته للطب البشري.

 أما الكاتب مكسيم غوركي والذي عاصر لينين بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى فقد اشتهر في أهم واجمل رواية كتبها هي (الام) وفي هذه الرواية والتي اخذت شهرة واسعة في اوساط المثقفين الثورين والشيوعيين، وهي مترجمة إلى العربية ولغات عالمية أخرى، يتحدث فيها غوركي عن ام كادحة كانت تجلس أمام مصنع عمالي كان يعمل فيه ابنها تبيع (الشوربة) للعمال وكانت لها علاقة بالحزب الاشتراكي الديمقراطي حيث يمدها بالمناشير فكانت عندما تسكب الشوربة بالصحن بناء على طلب العامل تتطلع بوجه وتضع المنشور تحت طاسة الشوربة، وكانت حذرة من جواسيس النظام القيصري المتابع لنشاط الحركات الثورية. كان الشوربة ذات طعم لذيذ ولرخصها بالنسبة للعمال فعليها إقبال كبير منهم. ومن هنا نجد أن هذا العمل السري ودوره في الثقافة الحزبية وابتكاره في نشر الثقافة بين اواسط العمال وتوسيع القاعدة الحزبية ومن ثم الثورة على الحكم القيصري. وهذه الرواية نشرها غوركي عام 1906 وانتشرت الرواية وأصبحت كحافز للبلاشفة في الاعداد لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى، وبعد الثورة ظهر روائين كتبوا عن منجزات ثورة أكتوبر الاشتراكية كما هو كتاب الأرض البكر حرثناها ل ميخائيل شولوخوف والتي تدور احداثها في قرية اوكرانية صغيرة وتتحدث عن حياة الفلاحين والعمل الجماعي (الكلخوزات) وشلوخوف هو مؤلف ثلاثة عشر رواية ومنها الرواية المعروفه الدون الهادئ ويروي فيها بطولة الجيش الأحمر السوفيتي في الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية) وآخر ما كتبه وأنهى حياته في الكتابة به هي رواية (مصير انسان) ومن الروايات السوفيتية كذلك والفولاذ سقيناه لاستروفسكي وهذه القصص والروايات تجسد الحياة في ظل النظام الاشتراكي القائم انذاك وإنجازاته في التطور العلمي والاقتصادي وحياة المجتمع السوفيتي انذاك.

و من خلال قراءتي لرواية الفقراء لدوستويفسكي وهذه الرواية تتضمن رسائل بين أشخاص الرواية يتبادلوها بينهم وهو أسلوب ابدع فيه دستويفسكي، وأعجبني النص التالي: عزيزتي الغالية جدا، ماكار أليكسيفيش!

لو انك على الأقل، لم تيأس ! يكفي أن الأمر فيه من الحزن ما يكفي. ابعث إليك بثلاثين كوبيكا فضية! وذلك كل ما في وسعي أن ابعث إليك، أشتر ما انت بحاجة ماسة اليه، ما يسد رمقك بكيفية من الكيفيات؛ فنحن بالذات لم يتبق لنا تقريبا أي شيء، ولست ادري ما الذي نفعله غدا، ان الأمر لمحزن، يا مكار الكسيفتش! فلا تزد من عذاب نفسك، فقد حاولت ولم تفلح. فما العمل أذن ؟ تقول فيدورا أن الأمر لن يصبح بعد كارثة، اننا نستطيع البقاء هنا موقتا، وبأننا حتى إن انتقلنا من هذا المحل، فلن نفلح البتة في محو آثرنا، إذ يستطيع هؤلاء - أن هم أرادوا - أن يعثروا علينا، ولسوف يعرفون جيدا كيف وأين سيجدوننا، في اي محل استقررنا فيه، أجل، ذلك صحيح، الا اني مع ذلك لم أعد في نفسي، أي جاذبية تجرني حول هذه الشقة، للبقاء هنا، ولو لم يكن الأمر شديد الحزن لكتبت لك شيا ما. يا لغرابة طبعك، يامكار الكسيفيج ! انت تأخذ الأمور مأخذا مشرفا في الحزن، كما انك ستبقى أيضا، أنسانا شديد الحزن على الدوام.انني أقرأ بتركيز شديد كافة رسائلك، فأجد انك تعذب نفسك من أجلي، وأرى في كل واحدة من تلك الرسائل، بأنك تهتم لأجلي بدرجة لا تهتم فيها انت بالذات لنفسك، لن تكون هناك من دون شك، سوى طريقة واحدة ليقول الناس بأن لك قلبا طيبا ؟ لكني انا سأقول بأنك تفرط ياصاحبي في طيبة القلب تلك.أنا أنصحك يا مكار الكسيفتش، نصيحة الصديقة لصديقها، كما اني ممتنة لك كثيرا، لجميع ما قمت من أجلي، وإني لأحس جيدا بكل ما أقوله، فحكم هكذا بنفسك، على صدق أحاسيسي ومشاعري، اذا مازلت أرى إلى الآن، بعد كافة الأحزان والمآسي، التي تسببت لك فيها بشكل غير إرادي، بأنك لا تحيى الا بحياتي: بأفراحي واحزاني، يا سلوة قلبي ! أن العناية الشديدة بالاخر، وتجسم مثل هذه المتاعب هي بعيدة عن الذات، ليعد بحق وحقيقة ذريعة، ليجعل المرء نفسه شقيا وتعيسا للغاية، فين جئت عندي اليوم بعد عودتك من المكتب، فزعت لرؤيتك. كنت شاحب الوجه بدرجة كبيرة وفي غاية الروعة واليأس والاحباط ! كان وجهك بلا معالم معروفة - وكل هذا لأنك خشيت من أن تحكي لي حكاية فشلك، لأنك خفتي من أن تتسبب لي في عذاب وإرهاق نفسيين، لكنك لما رأيت بأن ملامح وجهي تنم بالأحرى عن الفرح، أستعدت هدوءك كله، يا مكار أليكسيفيش ؟ لا تتأسف، ولاتيأس، وإنما كن عاقلا، فإني أرجوك واتوسل إليك. هيا، سنرى بأن كل شيئ سيسير على ما يرام، وبأن الأمور ستدبر بكيفية حسنة لصالحنا، لكن وجودك سيصبح، في حالة ما إذا ظلت حياتك دوما مجرد مسار أليم ومفعم بأحزان الآخرين، مجرد ثقل ثقيل، ستظل تئن تحت وطأته. الوداع يا صديقي، وأرجوك ألا ثشغل بالك كثيرا من أجلي!

 ف. د

هكذا هم الكتاب الروس والسوفيت في كتابتهما الكلمات الجميلة في السردية والتعبير الوصفي قي رسم صورة لشخصية ما في الرواية.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

 

للشاعرة: احلام البياتي- العراق.

ظلٌّ يلاحقني: تأملات في أسرار الهوية والوجود

***

القصيدة:

خارج ظلي الممتلئ بي

في الحقيقة ذلك هو ظلي الذي يسبقني، طالما أزعجني في أوقات العتمة أبحث عنه في كل حدودي يلعب معي الغميضة، فأنادي أينك اللاهث خلفي وأمامي تمحوك غيمة عابرة ترعد وتبرق وتهز الأرجاء، فتختفي بتدوينات تخفيها حتى سطوع ساعتي المتمردة فأجدك شامخا بحروف مسطرة في قوقعتي التي تعلوني، ثم تهطل بلا هوادة وتحت أنين الروح الخافت القابع في زاوية ما من حدودي التي يجتاحها الظلام أحيانا ثم أرجعها بلملمة الفوضى ودفعها بميلٍ يتكتك بنبضي المتسارع لتسوير والحفاظ على خارطتي المتماسكة دون اجتياح.

***

احلام البياتي

.................

القراءة:

قصيدة / خارج ظلي الممتلئ بي/ هي رحلة تأملية فلسفية تبحث في العلاقة بين الذات وظلها، وتستكشف أبعاد الهوية والوجود في صراع دائم بين النور والظلام، بين الإغواء بالضياع والتمسك بالتماسك الداخلي. من خلال لغة رمزية غنية بالصور الشعرية، تقوم الشاعرة أحلام البياتي بإعادة صياغة مفهوم الظل والعلاقة الإنسانية معه، مسلطة الضوء على المدى الذي يمكن أن يصل إليه الشعور بالضياع والتشتت، ثم البحث المستمر عن تجميع الذات في ظل العواصف الداخلية.

1. الظل كرمزية للذات والتشتت

الظل في القصيدة ليس مجرد صورة مرئية تابعة للجسد، بل هو كيان مستقل يمثل الجوانب المخفية من الذات. يلاحق الشاعرة ويسبقها، ليشكل وجودها المتناقض بين الحضور والغياب. في قولها: / ذلك هو ظلي الذي يسبقني/، يظهر الظل ككائن يتواجد قبل أن تدركه الذات، مما يعكس حالة من الإحساس بالتمزق والضياع في عالم تتداخل فيه الحدود بين الحقيقية والمزيفة، بين الوجود والعدم. الشاعرة ترى في الظل شيئًا مزعجًا، لكنّه في نفس الوقت جزءٌ لا يتجزأ من كينونتها التي لا يمكنها الهروب منها.

2. الظل والتحدي الوجودي: الغموض والفوضى الداخلية

تتساءل الشاعرة عن مكان ظلها، في مشهد يتنقل فيه بين البحث عنه والقلق من عدم وجوده في لحظات معينة. / أبحث عنه في كل حدودي / و / يختفي بتدوينات تخفيها حتى سطوع ساعتي المتمردة / هما علامتان على حالة من القلق الوجودي، حيث يصبح الظل في بعض اللحظات غير قابل للرصد، مما يخلق شعورًا بالغموض الداخلي والفوضى الوجودية. وجوده الغامض يعني أن الشاعرة لا تستطيع التحكم فيه بالكامل، وبالتالي هو تعبير عن تشتت الذات وانعدام اليقين. تزاوج هذه الحالة بين الشعور بالانفصال عن الذات من جهة، والتمسك بالبحث المستمر عن التوازن الداخلي من جهة أخرى.

3. الظل كمرآة للروح: مناقشة الضوء والظلام

المقطع الذي تقول فيه الشاعرة: / تحت أنين الروح الخافت القابع في زاوية ما من حدودي/ يظهر الظل كمرآة للروح التي تبحث عن تسوية بين أضدادها، بين النور والظلام. أنين الروح يدل على التوتر النفسي الناتج عن التناقض بين الرغبة في التماسك الداخلي وبين مقاومة هذا التماسك بفعل التشويش الذي يسببه الظلام الخارجي. يمكن فهم هذا الصراع على أنه انعكاس للألم الوجودي الذي يصاحب الإنسان في سعيه المستمر لفهم ذاته في عالم مليء بالضباب والشكوك.

4. إعادة التوازن: الحفاظ على الخارطة الداخلية

على الرغم من الصراع بين الظل والنور، تنتهي القصيدة بنبرة من المقاومة والإصرار على الحفاظ على التماسك الداخلي: / ثم أرجعها بلملمة الفوضى ودفعها بميلٍ يتكتك بنبضي المتسارع لتسوير والحفاظ على خارطتي المتماسكة /. يشير هذا إلى قدرة الشاعرة على إعادة تشكيل نفسها، رغم الفوضى الداخلية. تصبح الذات القادرة على / إرجاع / الفوضى وحفظ خارطتها المتماسكة رمزًا للقدرة الإنسانية على المقاومة والترميم في ظل التحديات الوجودية المستمرة.

5. البحث عن الهوية والتحدي الوجودي

يُظهر النص بأسره التحدي الوجودي الذي يعيشه الإنسان في سعيه نحو التعرف على نفسه. الظل يمثل ذلك الجانب المظلم من الشخصية الذي لا يمكن الهروب منه، وفي ذات الوقت هو جزء أساسي من الهوية. الشاعرة تتنقل بين لحظات من الضعف والشك، لكنها في النهاية تجد طريقها إلى إعادة بناء نفسها، محتفظة بوعيها العميق عن أن الظل لا يزال حاضرًا. هذا الصراع بين الهروب والاحتضان يمثل جانبًا من رحلة الذات الإنسانية نحو تحقيق الانسجام الداخلي.

6. خاتمة: الظل كوسيلة لتأكيد الذات

في الختام، يمكن القول أن قصيدة / خارج ظلي الممتلئ بي/ ليست مجرد تأمل في العلاقة بين الذات وظلها، بل هي تمثيل حيوي للصراع الداخلي الذي يعيشه الفرد في سعيه نحو التوازن. الشاعرة تأخذنا في رحلة فلسفية إلى أعماق الروح الإنسانية، مستعرضةً خيبات الأمل، والظلام الذي قد يحيط بنا، ولكنها تنتهي بحالة من القوة الداخلية والقدرة على إعادة بناء الذات. الظل في هذه القصيدة لا يمثل العدم أو الفراغ، بل هو العنصر الذي يكشف عن وجودنا الحقيقي ويشكل جزءًا أساسيًا من صراعنا الوجودي الأبدي.

***

بقلم: كريم عبدالله – العراق

تتميز قصص القاص أحمد برحال الموسومة بـ "حراس الظلام "بغنى موضوعاتها، وتنوع أساليب الحكي فيها. وسنعمد في هذه المقاربة على تناول بعضها بغية إضاءة جوانب من مكوناتها السردية، وأبعادها الدلالية من خلال الموضوع الاجتماعي، والغرائبي المصاغ داخل قالب يتمثل ويستجيب لأدوات القص وشروطه من حوار، وشخوص، ووقائع...

ولعل الثابت القصصي الذي ترتهن له نصوص المجموعة في سيرورة ومجريات أحداثها هو رصد ما يعج به المحيط الخارجي من حالات حبلى بآفات ومفارقات تخترم منظومة المجتمع، وتفاقم من تصدعاته واختلالاته كمعضلة البطالة التي طالت حاملي الشواهد: " نادى ابنه العاطل عن العمل، بعد مسيرة دراسية موفقة. " ص 38، وتوفر الحد الأدنى من شروط العيش كالطعام: " لم يتناول طعاما منذ الأمس، عندما شارك صغاره وأمهم وجبة غذاء، على نغمات بكاء صغيره احتجاجا على مكونات الوجبة ِ... " ص43، كما لم تتوقف عين السارد على رصد مظاهر الفوضى التي تعم مكونات المحيط الذي يعيش فيه: " تزاحمه الأزبال من كل ناحية. بعضها في الحاويات، والبعض الآخر على جوانبها... " ص 53، وفي العديد من المناحي والتمظهرات: " ترى العربات المكدسة بالخضر والفواكه على الجنبات. والبعض قد افترش بسلعته الجزء المتبقي من المساحة الفاصلة بين العربة والعربة. " ص7 ،التي تنتشر في كل زاوية ومكان، مما يستدعي تدخل الجهات المسؤولة لرأب هذا الصدع، وتقويم هذا الخلل من أسرة ومدرسة: " من لم تجد التربية الأسرية ولا المدرسية تغيير شيء من سلوكه. " ص65، ليلحي عليها باللا ئمة والمؤاخذة: " فيلوم الجهات المسؤولة على تقصيرها في اتخاذ الإجراءات الضرورية والمناسبة. " ص 54، فيبلغ رصد وكشف مكامن الخلل وبؤره أقصى مستويات الفضح والتنديد في قصة "خطوات ": لعن كل اللصوص. من لصوص أغطية البالوعات، مرورا بلصوص أسواق المواشي، إلى لصوص المال العام. " ص 55، قبل أن يتورط السارد، في انتقال قسري،من قوة راصِدة ومواكِبة لقوة اقتراحية تطرح الحلول المناسبة: " لقد فرضوا علي أن أتابع تفاصيل مشكلهم. بل ووجدتني أفكر في اقتراح حلول... " ص 48، رغم ما يعترض ذلك من مثبطات وعراقيل: " تريد أن تقوم بشيء ما، فلا تتمكن لتأكلك الحسرة على العجز المركب الذي يشل إرادتك قبل حركاتك..." ص 6،وما عاشه من حيرة وارتباك بحثا عن توازن منشود يسعفه في مواجهة واقع تعتوره العديد من الهنات والآفات: " تتمسك بعض الأوقات بأعمدة الكهرباء أو الهاتف... " ص6، حيث تداهمه مظاهر الفوضى أينما حل وارتحل: " يقطع صمتك دوي سيارة لتكشف أن سائقها قد عقد العزم على تجاهل الإشارة المرورية التي تأمره بالتوقف... " ص7، أمام سيل الخروقات التي تؤسس لمنظومة فوضى تتضاعف تجلياتها، وتستفحل في شتى الأماكن والأوقات لتشكيل حالة من اختلال بنيوي ينخر هياكل المجتمع، ويستشري في جل مرافقه وواجهاته. وإلى جانب الموضوع الاجتماعي الذي ينخرط في صلب رؤية السارد برصده ومواكبته لما يصادفه من مظاهر وحالات، هناك الموضوع الغرائبي الذي يغني النسيج السردي، ويحد من هيمنة خطيته الواقعية كما في نص " خطوات " : " حك رأسه بأصابعه الأربعة. فتفجرت منه نافورة تنفث غبارا أسود غطى المكان كله... اجتهدت أسرته في إيجاد المخرج لإقامة قبر، لكن كل الوساطات لم تنجح. " ص 55، أو في شكل تحول غريب في مثل قصة " وخز ": " ينعكس وجه غير وجهه في المرآة، يراه قردا برأس كبير. " ص 101، ليتأكد ذلك: " حينها أحس أنه قرد. قرد كبير. " ص 103. فضلا عن موضوع الوجود وما يزخر به من أسئلة تغدو معها قصص الأضمومة أكثر عمقا، وتنفلت بالتالي من إهاب السطحية والبساطة: " أخذني المشهد وبدأت أفكر في ماهية الحياة، والعلاقة بينها وبين الموت، فطرحت أسئلة عن الوجود والعدم، عن الحضور والغياب، عن الوحدة والتفرق... " ص 74، إلى جانب حضور أدوات السرد الأساسية بين ثنايا نصوص المجموعة من حوار داخلي (مونولوغ): " فتسأل نفسك..." ص 8، " فيدخل في حوار داخلي... " ص 39، وخارجي ك " ـ ماحاجتك ؟ ـ أريد الحصول على وثيقة... " ص ، إلى شخوص ووقائع وأحداث، وإن كان توزيعها متفاوتا بشكل بارز في نصوص المتن القصصي حيث وظفت بشكل مكثف في قصة " من النافذة " حيث كثرة الشخوص (با العربي، وأمي فاطنة وابنتها، والمهدي نادل المقهى وزميله في الشغل، ورشيدة وابنتها الكبرى وابنها الصغير، والطفل ذو 12 ربيعا، وبا بوشتى وزوجه مي عيشة، والشاب المنحرف، ومي حادة) المنخرطين في مهام تنتظم معها خيوط أحداث ووقائع ترصدها عيون السارد من نافذة سكناه: " من النافذة تتابع مشاهد كثيرة ومتنوعة لشخصيات من العالم السفلي وهي تخرج للبحث عن لقمة العيش، لقمة تكلفها الكثير من المشقة والعناء... " ص70، وفي قصة " مي هنية " وإن بشكل أقل نسبيا. مع تنويع ضمائر الحكي بين متكلم ومخاطب وغائب، وإن كان بروز ضمير المتكلم وهيمنته في ارتباطه بعين السارد الراصدة والمصورة والناقلة لمجريات الأحداث والمشهديات في نسجه لخيوط حكي تنزع نحو وصف، وتوصيف واقعي لحالات شكلت ملامح السرد الثابتة في جل قصص الأضمومة.

وتتجلى هيمنة السارد على رسم الأحداث ، وتشكيل ملامحها القصصية كما يصرح بذلك في نص " صراع ": " قدري أن أنهك قواي مع شخصيات من ورق أصنعها لتؤدي الدور في إحدى القصص القصيرة... " ص 97، بل يتجاوز مرحلة صنع، وخلق الشخصيات إلى فرض سلطة إبداعية ترتهن لرؤية محددة: " وأنا مستبد لا أقبل المفاوضة. شخصيتي هكذا معها ومع غيرها... قد أكون دكتاتورا... ولا يمكنني أن أتنازل... " ص 93.

 فقصص " حراس الظلام " للكاتب أحمد برحال تجربة سردية تؤسس لإرهاصات لون قصصي (قصة قصيرة) بمقومات فنية وإبداعية غنية ومتنوعة في رصدها لحالات وقضايا اجتماعية وإنسانية برؤية تروم كشف مكامن الخلل عبر نمط سردي متعدد المرامي والمقصديات.

***

عبد النبي بزاز

......................

ــ الكتاب: حراس الظلام (مجموعة قصصية).

ــ الكاتب: أحمد برحال.

ــ المطبعة: سجلماسة ـ مكناس / 2022.

للشاعرة: سلوی علي / السلیمانیة ـ العراق.

مرايا الغياب: تأملات في زمن الهذيان

***

رفوف مفتوحة تراقص الغياب

أفواه جائعة ترقد في مضاجع الصمت، كي تتوسد الأحلام بشهقات الذكريات وبقايا قطار هرم ينتظر الصفير في أزقة المقابر، ليرى كيف يبعث من داخل المنطق والفلسفة، كي يوقظ شهريار على ضباب ينوح بعزف منفرد يملأ الطرقات بخيول هائجة، لجيوش من الأشواق مرصعة ببيوض الحنين فوق خارطة صماء خرساء، فيغرق الشوق، ليأكله الغياب بأنياب الوقت، يتحرك بعطر سوسنة بين ملاجئ الهذيان . شُرخت نبضاتها منذ الشهقة الأولى حين سرق الطيف من لوحة الشمس.

سلوی علي / السلیمانیة ـ العراق .

***

المقدمة:

مرايا الغياب: تأملات في زمن الهذيان

هذا العنوان يعكس عمق التوتر بين الحضور والغياب، ويستلهم من الرمزية الفلسفية في النص، حيث يمزج بين الحلم والذكريات والعزف المنفرد، متناولًا الوجود واللاوجود في سياق يتجاوز الزمن والمكان. / مرايا الغياب / يشير إلى الأبعاد المتعددة التي يتخذها الغياب في القصيدة، بينما / تأملات في زمن الهذيان / تشير إلى الحالة النفسية والتفكك الزمني الذي يعمّ القصيدة.

القراءة:

في قصيدة / رفوف مفتوحة تراقص الغياب /، تضعنا الشاعرة سلوى علي أمام مشهد شاعري غارق في الرمزية والتأملات الفلسفية التي تتراوح بين الحضور والغياب، الوجود والعدم، الحلم والذكريات. هي قصيدة تفتح أبواباً عديدة من الأسئلة الوجودية والوجدانية، حيث تلتقي فلسفة الزمن مع عبثية اللحظة، ويختلط الحلم بالواقع لتشكيل حالة من اللامنطقية التي تصوغها الشاعرة بأسلوب شعري يطغى عليه الغموض ويأخذ المتلقي إلى عوالم غنية بالأفكار المتشابكة.

1. الغياب والحضور: لعبة الوجود واللاوجود

الشاعرة تبدأ قصيدتها بصورة غريبة لكنها مشحونة بالمعنى: / رفوف مفتوحة تراقص الغياب /. في هذه الصورة، لا نرى مجرد رفوف بل إشارات إلى / الفراغ / الذي يتراقص على هامش الوجود، وهو ما يشير إلى حالة من اللاوجود، أو ربما وجود مشوه. هناك تعبير عن غياب شيء ما، شيء ثمين فقدناه أو أضعناه في زحام الحياة، لكن هذا الغياب يظل متراقصاً أمامنا، يعيش معنا وداخلنا، يضفي على النص طابعاً من المأساة المرفقة بالحركة الدائبة، وكأن الغياب هو العنصر المتحكم في هذا الكون الفوضوي.

2. الجوع والصمت: مراثي الروح والذاكرة

تتبع القصيدة وصفاً مؤثراً لصور جوع الروح وصمتها: / أفواه جائعة ترقد في مضاجع الصمت /. هذا الجوع ليس جوعاً مادياً بل هو جوع معنوي؛ جوع للمعرفة، جوع للأمل، جوع للوجود في عالم يشوبه الصمت. يتوحد هذا الجوع مع حالة السكون التي تنتاب الذات، حيث ترقد الروح في صمتها كي تستعيد توازنها أو لتتوسد الأحلام على فراش الذكريات.

وفي السياق نفسه، تبرز الشاعرة بقايا / قطار هرم ينتظر الصفير في أزقة المقابر/. هذه الصورة محملة بالرمزية العميقة، حيث يتم تصوير الزمن والذكريات كمجموعة من القطارات العتيقة التي تتنقل بين الأزقة الضيقة للمقابر، في إشارة إلى أن الحياة تتسرب بين أصابعنا بينما ننتظر الموت أو النهاية بلا أمل واضح في المستقبل.

3. الفلسفة والمنطق: بعث شهريار وعبث الزمن

في محاولة للتعبير عن العلاقة بين الفلسفة والموت والذاكرة، تطرح الشاعرة فكرة فلسفية عميقة: / كيف يبعث من داخل المنطق والفلسفة، كي يوقظ شهريار على ضباب ينوح بعزف منفرد /. إشارة شهريار (رمز الحاكم المستبد في /ألف ليلة وليلة/) تشير إلى محاولة الإنسان الخروج من دائرة الزمن المغلقة عبر الحكاية والفلسفة. لكن رغم هذه المحاولات، يبقى العالم مغموراً في الضباب، لا يحتمل سوى الحزن والعزف المنفرد. كما تبرز صورة الجيوش والأشواق المرصعة بـ/ بيوض الحنين/ التي تملأ خارطة صماء خرساء، مما يعزز فكرة التوتر بين الوجود واللاوجود، وبين الحنين والفقد.

4. شبح الزمن: الأنياب والشوق

القصيدة تتعامل مع الزمن كقوة مدمرة وشريرة: / فيغرق الشوق، ليأكله الغياب بأنياب الوقت /. الزمن في هذه الصورة لا يتصرف كعنصر محايد بل كوحش يلتهم كل مشاعر الشوق والحنين التي تراكمت عبر السنين. هذا التناول الزمني يطرح إشكالية فلسفية حول التفاعل بين الإنسان والوقت، ويمثل الزمن في القصيدة قوة قاهرة تسرق الأحلام والآمال وتغرقها في بحور النسيان.

5. الهذيان واليقظة: سوسنة الزمن المنتهك

القصيدة تنتقل من مفهوم الغياب إلى مفهوم الهذيان، حيث تتحرك الذكريات / بعطر سوسنة بين ملاجئ الهذيان /. السوسنة هنا تمثل رمزاً للجمال والهشاشة، وأينما وُجدت كانت تجسد الرقة والضعف في مواجهة تيارات الزمن والوجود المتسارعة. وفي هذه الحالة، يتداخل الهذيان مع الواقع ليخلق حالة من التشويش التي تقوض المنطق. هنا، الزمن والذاكرة معاً لا ينطويان على يقين أو حقيقة ثابتة، بل يتحركان داخل دوامة من الأفكار المجزأة التي تشكل / ملاجئ / ذاتية.

6. الوجود الأول: الشهقة المسروقة من لوحة الشمس

/ شُرخت نبضاتها منذ الشهقة الأولى حين سرق الطيف من لوحة الشمس/. في هذه الجملة الختامية، تعيد الشاعرة تعريف البداية والنهاية بشكل فلسفي عميق. الشهقة الأولى هي لحظة الوجود الأولى، لكنها مشوهة، مسروقة من / لوحة الشمس /، التي هي في حد ذاتها رمز للضياء والمعرفة. هذا الطيف المسروق يرمز إلى فقدان البراءة أو المعرفة الأولى التي كانت تكمن في اللحظة الفطرية.

الخلاصة

قصيدة / رفوف مفتوحة تراقص الغياب / هي رحلة فلسفية عبر الزمان والمكان، عبر الغياب والحضور، عبر الذكريات التي تختلط بالأحلام، وفي مواجهة مع شبح الموت أو النهاية التي تقترب كلما حاولنا الهروب منها. الشاعرة سلوى علي تستخدم في قصيدتها أدوات الشعر الرمزي لتتناول موضوعات وجودية عميقة، ولتفتح أمامنا أبواب التساؤلات حول طبيعة الزمن والوجود والعلاقة بين الذاكرة والحياة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

للقاص ميثم الخزرجي

يطل علينا من العراق الشقيق، أديب وقاص من سلالة الأدباء الكبار المتمرّسين، يدفع القاريء لمعماره السردي القصصي إلى قراءته بتمعّن وتروّ، وقد يرغمه بأسلوب الودّ والإعجاب إلى إعادة القراءة لإعادة اكتشاف أغوار منجزه السردي.

ما يلفت نظر القاريء قبل تصفّح مضمون هذه المجموعة القصصية (متنزّه الغائبين) للأديب القاص ميثم الخزرجي، غلافها المتخم بالإيحاءات والرموز والألوان الداكنة إلى حدّ السواد، الدالة على المضمون الفلسفي لمضامين القصص. لقد تبوأ الغلاف، المنمنم بريشة عين بصيرة ومدركة، رتبة العتبة المغريّة التي تدفع القاريء والناقد إلى الغوص في المعمار السردي للقاص، وتزجي فكره نحو ساحة التأمّل والحدس.

تضمنت المجموعة القصصيّة (متنزّه الغائبين) للأديب والقاص ميثم الخزرجي، في طبعتها الأولى 2024 م، عن دار ومكتبة سامراء للنشر والتوزيع، سبع قصص قصيرة (الدائرة القصيّة – الماثل في الفراغ – حجرة المرايا – رهان القادم – متنزّه الغائبين – وجهة الطير – اللائذون بالظل).

المتأمل لهذه القصص سيكتشف قاصا متمرّسا أضفى على منجزه السردي، بعدا إنسانيّا وفلسفيّا من زاوية الولوج إلى أعماق شخصيات قصصه، حيث كانت سلوكياتها خلال الوصف والحوار تدل على المستوى الفكري الذي تتمتّع به، وعلى البعد الفلسفي الذي اتّسمت به نظرتها إلى الحياة. تقول إيسلا مخاطبة الدكتور في قصة (رهان القادم): " فكرة صائبة يا دكتور، لكن علينا أن ننظر إلى المتواجدين على سطح المعمورة لنعيد ترميم ذواتهم المنكسرة " ص 98.

" وتقول أيضا: (هذا البحث الذي يعيد الإنسان واعتباريته إزاء نفسه والآخرين " ص 98.

لطالما خاض الأدباء والنقاد معارك أدبيّة ونقدية حول إشكالية علاقة الأدب بالواقع الإنساني، أيّ بالإنسان في جوهره، لا في مظهره، من بوابة المذاهب الأدبيّة المتعاقبة والمتوازية الحضور، انطلاقا من فلسفة المذهب الكلاسيكي، وصولا إلى الحداثة وما بعدها وماتلاها. فكان الصراع – ومازال قائما – بين العقل والشعور، أيهما أحقّ بالريادة والقيادة. (فقد اشتغلت إيسلا على خلايا العقل كونه المحرك الأهم في المناقشة واتّخاذ الرأي...) " رهان القادم " ص 97. بينما الطرف الآخر اشتغل على " الجنبة الشعورية " (أوكل لنفسه ثقة بأن يبث السائل المعني بالقلب) " رهان القادم " ص 97. لقد تجلّى الصراع بين العقل والقلب، بين المنطق والشعور، بين الواقع والحدس. بين جوهرالإنسان العاقل، الذي يديره العقل ويوجّهه ويصونه من شطحات الواقع العنكبوتي والإنسان الروبوتي المسلوب الإرادة والهدف والذي تحرّكه مظاهر التخلّف، من عادات وتقاليد بائدة وطابوهات معوّقة للعقل والمنطق. تقول إيسلا عن الدكتور وارشو: (فقد سعى إلى تشييد إنسان الآلة) " رهان القادم " ص 97

جاء على لسان إيسلا في قصة " رهان القادم ": (علينا أن نشتغل على الإنسان) ص 97...

كما جاء على لسان إيسلا أيضا: (أنا الدكتورة إيسلا أستاذة علم الأجنة والهندسة الوراثية، جاهدت في أن أعيد صيانة الخلايا المعطوبة في دماغ الإنسان) " رهان القادم" ص 97.

يتجلّى الحسّ المأساوي واضحا في حوار إيسلا مع الدكتور وارشو. فقد فقد الإنسان المعاصر إنسانيته، وخير دليل على ذلك حروب الإبادة التى يمارسها الأقوياء والديكتاتوريون والمستبدّون على الضعفاء والإنسانيين وطلاّب الحرية والعدالة.

هناك مأساة متعدّدة الأسباب والغايات والأوجه، تضرب أعماق الوجود الإنساني، وتهدّد الكينونة البشريّة، سببها الأول الرعونة التكنولوجية وانحراف العقل عن غايته الساميّة، المتمثّلة في العيش في كنف السلام والتعاون والتراحم، تحت مبدأ وحكم ربانييين (يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وشعوبا وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) سورة الحجرات / 13.

يبدو أن تجربة القاص ميثم الخزرجي، أثثتها فلسفته المأساوية، من خلال الغوص في واقعه العراقي المعيش ومحيطه العربي والإقليمي وآفقه الإنساني الرحب. كأنّ الكرة الأرضية أمست مدينة للأموات لا للأحياء. فالموت / الغياب / المرارة هي القواسم المشتركة بين سكانها. فـ (المدينة قد اختصتها المرارة) " متنزّه الغائبين " / ص 118.

فشخصية سباهي العظم، الذي يسكن المقبرة ترسم لنا مأساة الإنسان في بيئة مظلمة وفي مجتمع يدير دواليبه الغائبين الفاقدين للعقل والوعي، وهم في غياب ذاك لا يختلفون عن الأموات في قبورهم. (داره المنغرسة في المقبرة، والتي هي عبارة عن حجرة هرمة... فهو المتواجد الدائم الذي لا يبرح المكان كحال الموتى الذين استحصلوا سكناهم دونما مغادرة) " متنزّه الغايبين " / ص 118 / 119. ا

ولشدّة المأساة ومرارتها، حين تتحوّل المدينة إلى مقبرة، ويسعد الأموات مقابل شقاء الأحياء، حينها يحسد الأحياء الأموات على موتهم، ويشقى الأحياء بحياتهم، وتنقلب الحياة المفاهيم رأسا على عقب. إذن، أراد القاص ميثم الخزرجي، من خلال رسمه لشخصية (سباهي العظم) برموزها ودلالاتها وإشاراتها، أن يجسّد صورة المجتمع المحكوم بالأفكار الميّتة والمُمِيتة والعبثية، التي مازالت تمارسها سلطانها على العقل العربي منذ سقوط بغداد (سنة 656 هـ) وسقوط غرناطة (سنة 897 هـ).

(فمن مستحضرات هذا الطقس الروحي المؤثث بالشموع والبخور وماء الورد) " متنزّه الغائبين / ص 119.

(فهو الممتهن حكاية الظل الذي صار جسدا، والأفعى التي تلبّست الروح الواهنة، والقطة التي استحالت إلى صوت طفلة) متنزّه الغائبين / ص 121.

عمد القاص ميثم الخزرجي إلى التقاط ذلك الخيط المأساوي الذي يمتد عبر الأجيال تل الأجيال، ليؤكّد حقيقة مرّة ومتجذّرة توارثتها الأجيال، وكأنّ التخلف الذي خيّم على جوانب حياتنا كلّها ؛ لاجتماعية والدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة قدر محتوم. (فها هو بطل القصة (متنزّه الغائبين) - التي توجها القاص عنوانا لمجموعته القصصية – يرث عن أسلافه مجتمعا مترهلا، مهلهلا. تحكمه الغرائز وتديره العقول الميّتة، المنتهية الصلاحية. (ورث عن جدّه مهنة الدفن) متنزّه الغائبين / ص 119.

(فهو المشبع بالشواهد ورائحة الموت، وما اختزلته الأيام منذ أن ورث عن جده مهنة الدفن وراح يحيى من خلالها) (على الرغم من عمره الذي تخطى السابعة والخمسين) متنزّه الغائبين / 119.

(يمرّ الليل وبحوزته شعلة خجلة من الضياء) متنزّه الغائبين / ص 122.

(الغريب في الأمر أن أعداد الموتى أخذت بالتزايد) متنزّه الغائبين / ص 127.

هذا البوح السرديّ، يكشف للقاريء والناقد عن أغوار المأساة المتجذّرة في واقع لونه داكن وعنوانه غياب الحياة وطغيان مظاهر الموت والفقد، وفقد الإنسان معنى كينونته، وتحوّلت المدينة إلى مجرد مقبرة. تزايد عدد الأموات معناه غلبة الموت على الحياة، التهام المقبرة لجغرافيّة المدينة، أو بالأحرى، تجوّل الموت إلى قاعدة والحياة إلى استثناء. وسيطرة الخرافة على العقل، وانحسار مساحة المنطق والحكمة أمام طوفان الشعوذة والسحر والمجهول.

ولنتأمّل الحوار التالي الذي جرى بين حارس المقبرة (سباهي العظم) وأحد زوار المقبرة:

- من أنت؟ وما الذي تفعله في المقبرة؟

كان سباهي متوجسا حينها.

- وهل هناك ما يمنعني من الدخول؟ قالها بطمأنينة.

- هل أنت مجنون؟ ألا تشعر بالخوف من الموتى؟

- ولما (لم) الخوف؟ أنا أؤبّن الموتى بالموسيقى.

- هذا عمل قبيح وشيطاني.

- وما هو دليلك؟

- كونه شيئا غير معمول به البتّة.

- طيّب، ما الذي أحسسته حيال سماعك للعزف؟

- ولماذا تسألني هذا السؤال؟

- لأنّنا بحاجة إلى أن نكون حقيقيين ولا نكبح قوانا الروحية. (متنزّه الغائبين / ص 123 / 124.)

ولأنّ المأساة أصابت العقول الأحياء في مقتل و(هذه أرض تغص بالموتى) متنزّه الغائبين / ص 125. فلا جدوى من ممّا يفعله حارس المقبرة. وكأنّ السؤال الذي يرد في الحوار هو: ما الذي يهدّد الموتى وقد انتقلت أرواحهم إلى العالم الآخر؟ وما جدوى تأبينهم بأنغام الموسيقى وبالعويل أو النواح أو الصمت؟ المأساة التي يعكسها الحوار هي فقدان ميزان العقل والانغماس في الشعوذة والبحث عن الوجود في كنف العدم. لقد أدّى الجهل المتوارث والثقافة الزائفة والاستبداد السياسي والثيوقراطي إلى إشاعة أجواء من القلق والخوف والاستسلام للأساطير والترّهات وصناعة " أجيال القطيع ". وما زال المجتمع الشرقي (العربي والاسلامي) عرضة للتواكل والفتن العشائريّة والدينيّة والإثنيّة والنزاعات والحروب، وساحة لتسويق ما ينتجه الغرب من سلع ماديّة ولا ماديّة، وبالخصوص السلاح والمخدّرات وفلسفة التشكيك في الهويّات القطريّة والقوميّة والدينيّة.

المأساة ليس في الموتى، بل في الأحياء. يقول الرجل الزائر لحارس المقبرة " سباهي العظم ": (لو تغيّر الطرح المتعارف عليه بتوديع الموتى بالبكاء والنحيب وقلدناهم الورد والموسيقى على أنّهم ارتحلوا، أو سافروا إلى عالم آخر دون أن نغيّب أرواحهم عنّا) متنزّه الغائبين / ص 126.

هي مأساة أخرى، حين تتعطّل آليات العقل المفكّر - الذي كرّم الله به الإنسان دون غيره من المخلوقات – ويصبح عاطلا على هامش الحياة. يتغلّب الموت على الحياة، خصوصا موت العقل. حينها يفقد الإنسان بوصلة الحضور. ويغوص في متاهات الغياب ويقفز السؤال المأساوي ليصدم الأحياء: (أيهما نحن على هذه الأرض؟) متنزّه الغائبين / ص 128.

من المؤكّد أن الجواب سيكون، (نحن الموتى على هذه الأرض. لأنّ، ما أصاب من يزورون موتاهم أو يعودونهم من الدهشة والذهول، جعلهم يتساءلون عن سبب اتّساع المقبرة وزيادة الموتى (الغريب في الأمر أنّ أعداد الموتى أخذت بالتزايد) متنزّه الغائبين / ص 127.

ما يلفت الانتباه - حقا – في هذه المجموعة القصصيّة، هو هذه المساحة القاتمة، ذات الدلالات السيميائيّة، المعبّرة عن مأساة مجتمع شرقيّ، ذي ثقافة مريضة ومترهلة إلى حدّ الموت.

المتمعنّ في قصص المجموعة القصصية " متنزّه الغائبين " لميثم الخزرجي، يدرك طغيان سيميائية الموت بمفهومه الحقيقي، والذي يعني غياب الجسد عن الأنظار ورجوع النفس إلى خالقها، وهي سنّة جميع المخلوقات. (كلنا سنموت) ص 138.

لكنّ المأساة هو الموت المجازي، الموت المعنوي والروحي، حينها يصبح الجسد كتلة لا معنى لها. ويتحوّل الإنسان من فاعل حر إلى مفعول به مستعبد، فاقد للحرية والكرامة والحكمة والعقل النيّر واللاشعور. وتنسحب هذه المأساة على الأفراد والمجتمعات سواء.

من بين قصص المجموعة القصصية " متنزّه الغائبين " للقاص ميثم الخزرجي، التي تشدّ القاريء قصة " وجهة الطير ". وهي قصة تجسّد سيميائية موت إنسانية الانسان على كوكبنا ومحاولات مقاومة هذه المأساة، في ضوء غياب السلام وانحراف التكنولوجية عن مسارها السلمي. " قرب المفاعل النووي من مكان الحدث جعلها تخمد كل الطاقة المصاحبة للعيش ومقاومة الإنسان " (وجهة الطير) ص / 133

ما أصاب مدينة كامبو، مدينة الضوء والنسيم، لم يحدث مثله عبر سنين عديدة. قبل خمسين سنة حذّر الدكتور برهام بركل من الكارثة النووية، لكن دون جدوى. ومدينة كامبو الخيالية، هي - بلا شك - هيروشيما ونكازاكي اليابانيتان، الحقيقيتان. لكن بحث الدكتور برهام بركل بقي معلقا ومازال في القصة يبحر بنا القاص ميثم الخزرجي إلى منطقة الخطر الذي يتهدّد الكرة الأرضية نتيجة رعونة الإنسان وتهور وغروره التكنولوجي وتماديه في استغلال الذرة واليورانيوم المخصّب بفكر جنوني، واستنزاف قوى الطبيعة الإيجابيّة. وما حدث لمدينة كامبو، شبيه لما حدث لمدينتي هيروشيما ونكازاكي. " كانت مدينة كامبو كئيبة وموحشة، بشر بقوى خائرة " ص / 135.

"سيموتون كلّهم" ص / 136. هذا ما توصّل إليه الدكتور يشاد.

أمّا ما لاحظه الدكتور شاويس، فهو أدهي منه وأمرّ: " كل شيء ميت هنا ". ص / 136.

وقف القاص ميثم الخزرجي أمام حقيقة مأساة الموت بسبب توظيف العلم خارج دائرة الحكمة وبأساليب مرعبة ومفزعة ومجنونة. فقد تحوّل العالم اليوم إلى مضمار للحروب المدمّرة والداميّة إلى حدّ الإبادة دون رحمة أو شفقة. كما هو حادث اليوم في غزّة على أيدي الغزاة الصهاينة. إنّ السلاح النووي سيقتل الجميع الظالم والمظلوم، القويّ والضعيف، العالم والجاهل، المجرم والبريء، الغنيّ والفقير. " كلّنا سنموت " ص / 138. " ستموتون جميعكم جراء هذا الهواء المسموم إن لم تطاوعونا لإسعاف ما بقي منكم " ص / 138.

يبدو أن الإنسان المعاصر في نظر القاص ميثم الخزرجي عدوّ نفسه، أيّ أنّه يمعن في قتل نفسه، ولم يستفد من المآسي السالفة. مأساة الإنسان المعاصر في عقله الذي تمرّد على الفطرة والقيّم النبيلة. عقل تغلّبت عليه الفلسفة البراغماتية الذاتية والساديّة (النفعيّة والأنانيّة). مأساة الإنسان المعاصر لا تكمن في الجهل بقدر ما تكمن في المعرفة. مأساة الإنسان المعاصر في التسلّط والثراء الفاحش والاستبداد والكبرياء والتألّه على الله. وهو سلوك قديم حفظه لنا تاريخ البشريّة في القرآن الكريم المنزل على سيّدنا محمد صلى الله علي وسلّم. ذلك السلوك النمرودي والهاماني والفرعوني، ثم ما تبعه من سلوك نازيّ وفاشيّ واستدماري وغيره. " يجب أن نعلم جيدا بأن الأرض ستنهارعن قريب نتيجة تبدّد نسيجها " ص / 136.

إنّ مدينة كامبو، هي الكرة الأرضية، هي العالم الذي بدأت قيّمه تحتضر، وبدأ الخراب يحاصره، واليباب يغزوه من أعماقه. لقد تنبأ ت. س. إليوت في قصيدته الأرض اليباب، بخراب العالم ونزوحه نحو الزوال. لقد كانت نبوءته في القصيدة عن أن حضارة أوروبا سوف تتسبب بموت البشريّة محقّة، ذلك أنّ الحرب العالمية الثانية كانت أكثر عنفا ودموية من الأولى. ولا يعلم الناس، كيف ستكون الحرب العالمية الثالثة، إذا اندلعت، بعد نشوب هذه النزاعات والحروب الأهليّة والإثنيّة والاقتصاديّة، التي أنتجتها الحرب الباردة هنا وهناك،

(التاريخ التدميري والقاتل الذي جعل من إليوت مريضا نفسيا يحتاج إلى علاج حين كتب عن هذا التاريخ، قصيدة عظيمة سوف تظل وثيقة أبدية على الخراب الذي أنتجته الحضارة الغربية.)

وبالمجمل، فقد ساح بنا القاص ميثم الخزرجي في عوالم مأساويّة، بأسلوبه القصصي، المشبع بلغة الإيحاء والمجاز. لغة جسّدت في مضمونها حسّا مأساويا، التقطه القاص من عالم الواقع المأساوي المعيش. هذا الواقع الرمادي، الذي شيّده الإنسان من بنات أفكاره، وأرسى لبناته على أرض مليئة بالصراعات النفسيّة والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فمنذ مقتل هابيل على يد قابيل، لم يُغمد سيف القتل لحظة. بل استمرّ الإنسان في قتل أخيه الإنسان وقتل نفسه، ولم ينجه العلم من الرعونة والهمجية والجريمة، بل زادت رعونته والتهبت غرائز القتل الفردي والجماعي لديه.

و في الختام، يمكن اعتبار المجموعة القصصيّة " متنزّه الغائبين " للقاص العراقي ميثم الخزرجي، إضافة متميّزة في معمار القصة العراقية المعاصرة وفي قاموس السرد العربي المعاصر أيضا، لما تتميّز به من تفرّد وجدّة وتشويق في معالجة الموضوعات الحيويّة في المجتمع العراقي والإنساني، بأسلوب خالٍ من التعقيد والتنميق والإسفاف.

***

بقلم: الأستاذ علي فضيل العربي - ناقد وروائي / الجزائر

الفضاء الاستعادي وأفق التناسخ الجسداني

توطئة: نستطيع دائما أن نفصل في الكثير من الدقة والعناية بين مستويين من التماثل الفضائي في عملية معايير وحوافز أستعادية من شأنها تخويل حدود المقاربة القصصية في عضوية أواصر شروط وظروف اللحظة الزمنية والمكانية والذاتية المندغمة في أهليات بلاغة المخيلة وهي تتوغل في أقصى عملياتها التمثيلية للاحوال الموضوعية والذاتية المرسومة في فضاءات خاصة من التوتر والشد البنائي والاسلوبي المؤول. تتميز عوالم القاص الروائي الكبير الأستاذ (مهدي عيسى الصقر) في مجال أسطرة النص القصصي ضمن تقانات فاعلة وحيوية في مجمل علاقتي (الاسترجاع = الاستباق) إذ أن أغلب توجهات الرؤية القصصية لدى القاص، مصدرها ممارسة ذي حساسية تقترب من مجاﻻت اللقطة الزمنية المظغوطة في ملامح داخلية خاصة من صنيع الاندماج الوظائفي المتشكل ما بين (استثارةالبؤرة - تفعيل إشكالية الذات) وهذه الثنائية الكيفية من طاقات (الفضاء المتني) تجسد لذاتها نموذجا اختزاليا يتوزع في حدود دائرة ثنائية (التماثل - التمثيل) وصوﻻ بجملة وسائلية الادوات التشكيلية إلى مرحلة صنيع موضوعة عارضة غالبا ما تبدأ وتنتهي بالتركيز والتكثيف والخيار الاستفهامي في المحصلة المدلولية الأخيرة. وتندرج نموذج قصة (العودة) بالتفاصيل التي تتمظهر من خلالها ترتيب آليات التشكيل انطلاقاً من المستهل النصي وحتى حدود دائرة الهيمنة التمثيلية للمفارقة السردية الفنية التي تتزامن مع حكاية السارد الشخوصي الموزع ما بين الاسترجاع والاستباق والاحساس الحضوري بوجود ذلك النوع من التناسخ الحلولي للروح الآدمية داخل أجساد أخرى غيرية من الحيوانات.

- سردنة الصور المكانية والاحوال الزمنية

إن المكاشفة الاستهلالية في عتبة العنوان المركزي للنص القصصي (العودة) يبرز لنا كقوة إيحائية تلتحم من خلالها العلاقة المتنية بذلك الوازع المجسد في نسيج القص. لذا بدت القيمة الدﻻلية في مؤشرات موضوعة النص كحساسية خاصة بالسارد الشخوصي، وهو يتفقد وجود وغياب زوجته المتوفاة في الأصوات والحاﻻت الأكثر تعلقا بالمكان والحضور الاسترجاعي للحوادث المتعلقة بوجودها كيانا حلميا عبر الفضاء الذاتي للشخصية الزوج: (جلس مذهوﻻ يحدق أمامه ويحدق.. غير قادر على استيعاب حقيقة غيابها المفاجىء، وصوت مقرئ القرآن، الذي يتمدد داخل مكبر الصوت ثم ينتشر في الفضاء المحيط، يضج في أذنيه، ويغطي على الهممة الخفيفة المتقطعة. الذين جاؤوا يواسونه، وجلسوا في وقار حزين في حديقة المنزل، أحذيتهم اللامعة التي كان يراها وﻻ يراها تستقر على العشب بين أرجل الكراسي المعدنية. / ص١٢ النص) تنطوي استجلاءات السرد الوصفي ضمن فواصل تنفتح على مجالية خاصة من الفضاء الصوري الذي راح يسردن قابلية جزئية وكلية من توافر مجموعة الأواصر الحافة بمجال اللغة التشخيصية المفترضة ب (الراوي - المروي - المروي له) حيث تتوازى مفردات السرد بالوصف اقترابا من السارد كلي العلم بالتصور الواقع في حدود مقاربات حسية ماثلة بمواجيد المحنة الذاتية وأزمتها المندمجة وسط جملة محايثات وجودية للأشياء وعدم التحديق بها كونها وقائع واهمة من عدم استيعاب محنة غياب ذلك الشريك.

١- العودة بهيئات التشكيل الحلولي:

ﻻ شك أن فكرة عودة أرواح الأموات في أجساد الطيور أو الكائنات الأخرى هي من الموضوعات التي اشتغلت عليها فواعل حكايا الملاحم والأساطير وبعض المعتقدات الكهنوتية في المعابد البوذية والهندوسية، كما وشغلت هذه الفكرة أغلب محفزات الحكاية الخاصة بالموروث الشعبي المتعلق بمجال الحكاية الخرافية تحديدا. ولكن الأمر مع قصة (العودة) للصقر كانت عاملا في الرغبة  للحياة بأي صورة كانت. والعامل الموضوعي في حاﻻت النص نتلمسه من خلال ذلك الحوار الذي دار بين الزوجة وزوجها قبل حادثة وفاتها: (قالت له مرة وهما يشربان الشاي: - أنا ﻻ أستطيع احتمال فكرة ان الانسان حين يرتحل عن هذه الأرض ﻻ يعود إليها أبدا ؟ فقال لها أن ﻻ أحد ولا شيء يفارق هذه الارض، ما دامت باقية، وأن الكائنات تدور وتدور، ولذلك هي تعود مرة ثانية وثالثة، إنها تبدل أشكالها فقط، فزايلها الحزن قليلا: - يعني سأعود أنا أيضا إذا ذهبت ؟ سئلته، وانتظرت بلهفة، فقال لها تعودين كلنا نعود، ولكن ربما على هيئة شجرة أو على شكل طائر يحلق سعيدا في السماء. /ص١٢ النص) ان عامل الرغبة والأمنية والتخييل والوهم لدى الشخصية الزوج هو ما بات يشكل بذات نفسه الفاعل الواهم الذي راح يجمع ما بين رغبة الفاعل وتمحوره في وهم الوهم. وعلى هذا النحو غدا فاعل الذات محركا في نفسه فاعلية خلق التصور وتوجيه فعل التوهم بالتزامن مع حديثهما: (بدت مسرورة، أخبرته أنها ستعود على هيئة عصفور، تحوم حول البيت، وتسكن أشجار الحديقة ـ لا لا دعني افكر. أنا أريد أن يقف شيء بيني وبينك، لذلك سأعود على هيئة قطة تمشي معك أينما ذهبت، وتحك جسدها بساقيك، وأنت تقرأ أو تجلس شاردا. / ص١٣ النص).

٢- شرود الذهن وجنوح المخيلة:

لربما تذهب بنا الأفكار والرؤى القصصية الى افتتاح آفاق أنشائية خاصة بها فتلامس اسلوبا مبتكرا، لغاية الوصول إلى مرادات الفكرة بأشكال مغايرة وغرائبية إلى حالة فريدة من الفعل المعادل في سياق الموضوعة للنص القصصي. ولعل حاﻻت التشديد التي يمارسها القاص على شخوصه بعدم شرودها الذهني، والتأكيد على كونها باقية ضمن حضورها الواقعي الملموس، إذ نرى أن احد أوﻻده وهو الأبن البكر للشخصية جعل يمسك بيد والده للتأكد من أن والده ما يزال ضمن أحكام الواقع المعاين خوفا     عليه من أي بادرة ما من الشطح أو حتى الصمت الأبدي: (أبي ! أبنه الكبير الجالس بجواره، مس ذراعه وأيقظه من شروده، فهب واقفا، وضغط على اليد الممدودة لواحد من المعزين، وتمتم شيئاً، ثم عاد يجلس في مكانه.. وجوه كثيرة مرت من أمامه اليوم، لم يتمعن فيها جيداً. / ص١٣ النص) فلنتأمل ما جاءت به هذه الوحدات السردية وغيرها تباعاً، إذ نلاحظ أن المسافة الكشوفية التي تحيط بالشخصية ﻻ تتعدى جملة من الهواجس التي ما لبثت أن تلتقط الأجزاء الضمنية في المخبوء السردي، كمثال الصور التي بات يسترجعها الشخصية من متواليات أحداث عملية دفن زوجته وكيفية الطريقة التي قام بها ذلك الحفار للقبور والصبي الذي كان برفقته في غضون خطواته في عملية الدفن: (فجاء صبي يحمل فانوسا أضاء الوجوه الصامتة التي أحاطت بالحفرة تنتظر. / ص١٣ النص) كما ﻻحظنا من خلال هذا السرد، كيفية أن القاص يسعى إلى بناء حاﻻت تعوزها الحبكة المسوغة، لا أن تطلق خيوط السرد وكأنها خاضعة إلى عملية تراتيبية لابد من أن تأخذ المتوفاة دورها في حادثة الدفن كخصيصة ﻻ تحدث من وراءها سوى التفاتات وحركات إيمائية ﻻ يشوبها أدنى درجة من الدﻻﻻت القيمة.

- تعليق القراءة:

أقول أن قصة (العودة) لمهدي عيسى الصقر من النصوص القصصية التي ﻻ تكتمل دون القدح المدلولي الأخير من المضمون السردي، لذا فهي قصة قصيرة ربما تتحلى بالضربة الختامية فنيا وجماليا عندما يشاهد الشخصية قدوم تلك القطة متسللة من تحت قوائم الأرائك والكراسي لتستقرقرب ساقيه: (رأها تمر من بين أرجل الكراسي وسيقان الرجال، فأضاء وجهه، راقبها تدنو، وحيث دخلت تحت كرسيه، خفق قلبه، جلست هي على العشب هادئة، بعد لحظات شعر بها تحك جسدها بساقه. / ص١٥النص) ما هو مثير للجدل والافتراض في نهاية حكاية قصة مهدي عيسى الصقر، هو ذلك الإحتمال بأن تكون روح زوجته قد حلت في جسد هذه القطة ومن المحتمل أن تكون محض قطة قد تألفت مع الرجل في ظروف مناسبة، انطلاقاً من تلك المزحة التي تحدثت عنها الزوجة لزوجها قبل موتها، في كونها تتمنى أن تعود روحها داخل جسد قطة تتشهى لذاتها دعك فراء جسدها بساقه. وما حدث في الأحداث الواقعة كان مجاﻻ توكيدا دﻻليا يعزز تقانة (الفضاء الاستعادي) الذي أختاره الزوج ليكون الاسترجاع أنيسا بصحبة ذكرى زوجته التي اختارت أن تكون أكثر مرونة وصدقية عبر أفق حلولها الروحي في مواطن أكثر تمثيلا بفروض الوهم والتوهم.

***

حيدر عبد الرضا

رؤى الذات في قلب الموج

النصّ:

إني هنا وهناك كما عهدتني

أيها الموج اللطيف

يا من اقتنيت ألمي وجعلته فرحاً

حين كان الضباب يخيمُ في وحدتي...

لتحميكَ كلماتي ويرافقك دعائي

فأنا كنتُ قد افتقدت نفسي لكن الوجل من غدي أشار إلى دُنياك

وعندما لاحت رؤاك لي وجدتني هناكَ في رِحابكَ أتجول...

استمتع بكل وقتي وأستثير الفرح كي لا يغادرني

فلم أعدْ أحتملُ الأحلام بعد أن تحققت الرؤية......

القراءة:

نص الشاعرة هناء مرشد يعكس تجربة إنسانية غنية ومتعددة الأبعاد، حيث تتداخل الذات مع العالم المحيط بها وتستحضر موضوعات العزلة، البحث عن الذات، والتحول النفسي. يظهر هذا النص على أنه شهادة حيّة عن رحلة روحية ونفسية مليئة بالتأملات الوجودية. من خلال استخدام الشاعرة لأساليب لغوية متقدمة ورمزية معقدة، يتم بناء النص كفضاء معبر عن العلاقة الملتبسة بين الذات والعالم، بين الماضي والحاضر، بين الألم والفرح.

1. البنية اللغوية والتركيب الأسلوبي:

النص يبدأ بعبارة /إني هنا وهناك كما عهدتني/، وهو مدخل أسلوبي يعكس التوتر والتداخل بين الحضور والغياب. /هنا وهناك/ ليست مجرد تعبيرات مكانية، بل تشير إلى حالة وجودية بين الحاضر والماضي، بين الاستقرار والاضطراب. الكلمة /عهدتني/ تحمل دلالة تذكّر، وتستدعي في ذهن المتلقي فكرة العلاقة المستمرة بين الذات والعالم الخارجي. هنا، الشاعرة توظف الزمن والمكان ليظهر هذا التنقل الروحي والنفسي الذي تعيشه.

التركيب اللغوي في النص بسيط ظاهريًا ولكنه مكثف في دلالاته. فالتكرار الممزوج بالأسئلة الاستفهامية والتوصيفات الرمزية يخلق طبقات من المعنى. على سبيل المثال، في الجملة /لتحميك كلماتي ويرافقك دعائي/، نجد أن الأفعال /تحمي/ و/يرافق/ تعبر عن العلاقة الحميمية بين الشاعرة والموجه إليه (أو الموضوع الشعري)، حيث تستخدم الشاعرة اللغة كوسيلة للحماية والتعبير العاطفي. هذا التوظيف الفاعل للغة يشير إلى قوة الكلمات كأدوات تأثيرية في بناء العواطف.

2. الرمزية والمجاز:

تستند القصيدة بشكل رئيسي إلى الرمزية التي تعمل على تحويل الأشياء الملموسة إلى معانٍ غير مرئية، مما يتيح للشاعرة التعبير عن مشاعر غير قابلة للتوضيح المباشر. /الموج اللطيف/ هو أول رمز يقدمه النص، إذ يعكس الأثر العاطفي الذي تتركه اللحظات الموجعة عندما تمر بحالة من الهدوء الظاهر. الموج يرمز إلى الحركة والاضطراب، بينما اللطف يضيف عنصرًا من السكينة، ما يعكس التناقض بين الهدوء الخارجي والاضطراب الداخلي.

أما /الضباب/ الذي يخيم على وحدتها، فهو يشير إلى حالة من الغموض الفكري والنفسي، وهو ليس مجرد حجب للرؤية البصرية، بل هو أيضًا حجب معنوي. الضباب يُحتَمل أن يكون مرحلة من الضياع أو البحث في الظلمات، ومن ثم يصبح الفهم وتحقق الرؤية بمثابة لحظة النور التي تطرد هذا الضباب، وهو ما نراه في قول الشاعرة /"عندما لاحت رؤاك لي/. هنا تتلاقى الرمزية البصرية مع الرمزية الوجدانية، حيث أن الضباب ليس مجرد حالة خارجية، بل يمثل حالة شعورية أيضًا، وهي حالة الارتباك والقلق التي تتصاعد في داخل الذات وتبحث عن وضوح.

3. التحولات النفسية: من الضباب إلى النور:

القصيدة تنتقل عبر تحولات نفسية معبرة عن رحلة الشاعرة بين التشتت الداخلي والوصول إلى الاستقرار. بدايةً من /الضباب/ الذي يخيم في وحدتها، إلى ظهور /الرؤى/ التي تجعل الشاعرة تجد نفسها في /رِحابك/ كما تقول. يمكن تفسير هذه النقلة بأنها تشير إلى نمو نفسي من حالة الانغلاق إلى حالة الانفتاح. الضباب يمثل العزلة والتمزق الداخلي، بينما الرؤى تمثل وضوح الفكر والنضج النفسي الذي تحققه الشاعرة.

في هذه اللحظة، تتحقق رؤية الشاعرة الذاتية في حضور الآخر أو العالم الذي تجتمع فيه الذات مع غيرها، وتكتشف بعدها أنها كانت /تبحث عن نفسها فيك/. هذا التحول النفسي يعكس عملية تكامل أو تحول داخلي يجعل الذات تلتقي مع نفسها من خلال الآخر. وعليه، فإن الشاعرة في هذه القصيدة لا تكتفي بتوصيف معاناتها أو ألمها، بل تكتب عن تحولها الشخصي والعاطفي نحو وضوح داخلي، حيث الرؤية تصبح بمثابة التحرر من الضباب.

4. العلاقة بين الذات والعالم: الحضور والغياب:

القصيدة تعكس علاقة شديدة التعقيد بين الذات والعالم، بين الحضور الذي لا يكتمل والغياب الذي لا يتلاشى. الشاعرة تبدأ بملاحظة وجودها /هنا وهناك/، وهو تناقض يعكس بُعدًا نفسيًا فلسفيًا؛ الذات لا تحدد مكانها في زمان معين، وإنما هي حالة بين الوجود والعدم، في حالة من التذبذب المستمر بين الحضور والغياب. هذا التذبذب ينعكس في الصور الرمزية، مثل الموج الذي يعبر عن الاضطراب النفسي والضباب الذي يرمز إلى التشويش الداخلي.

وفي النهاية، يظهر هذا الصراع بين الحضور والغياب بشكل عميق، حيث تقول الشاعرة في النهاية /لم أعدْ أحتملُ الأحلام بعد أن تحققت الرؤية/. هنا، يتضح أن الحلم كان يشكل عالمًا متخيلًا بينما الرؤية تمثل الوضوح الواقعي. الرؤية تأتي بعد مرحلة من الضياع والانتظار، حيث أصبحت /الأحلام/ غير قابلة للتحقق بعد أن تحقق الفهم. وبالتالي، تنتقل الذات من حالة من الحلم إلى حالة من الإدراك الكامل.

5. التقنيات الشعرية: التكثيف والإيقاع:

الشاعرة تستخدم التكثيف اللغوي بطريقة متميزة، فكل كلمة تحمل حمولة معنوية كبيرة. الكلمات التي تختارها، مثل /ألم/، /فرح/، /ضباب/، /رؤى/، /"دعاء/، تساهم في خلق عالم شعري كثيف لا يعبر عن الواقع بشكل مباشر، بل يدع القارئ يغوص في معاني متعددة.

كما أن التكرار في النصّ يأتي لخدمة البنية النفسية والتراكم العاطفي للشاعرة. على سبيل المثال، التكرار في العبارات مثل /أنا هنا وهناك/ و/رؤاك لي/ و/استمتع/" لا يقتصر على التعبير عن المعنى فحسب، بل يعزز الشعور بالعودة إلى الذات والمكان في مرحلة زمنية معينة.

6. خاتمة: النص كرحلة وجدانية:

القصيدة تمثل رحلة وجدانية شاملة، تتنقل فيها الشاعرة بين الأبعاد النفسية، الروحية، والفلسفية. إنها رحلة من التشويش إلى الوضوح، من الوحدة إلى النور، ومن الحلم إلى الحقيقة. النصّ يدمج بين الأسلوب البسيط والرمزية العميقة، مما يجعله نصًا يتطلب قراءة دقيقة وتمعنًا طويلًا. كل صورة، كل كلمة، تحمل بعدًا وجدانيًا ووجوديًا يعكس التحولات الدقيقة في مشاعر الشاعرة.

النصّ في مجمله ليس فقط تعبيرًا عن تجربة شخصية، بل هو انعكاس للتجربة الإنسانية بشكل عام، حيث يواجه الفرد التوترات النفسية ويتطلع إلى الرؤية الكاملة لفهم ذاته والعالم من حوله.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق.

بين الغربة والذكريات.. رحلة في الزمن بدون تصريح مرور

قراءة تحليلية فلسفية في قصيدة: تصريح مرور- للشاعرة: اعتماد الفراتي – العراق.

***

قصيدة /تصريح مرور/ للشاعرة اعتماد الفراتي تعكس عمقاً فلسفياً معقداً يرتكز على مواضيع الذاكرة، الزمن، والغربة، ويمزج بين الأبعاد الحسية والوجدانية للوجود الإنساني. القصيدة، التي تنبض بالحزن والتساؤل الوجودي، تستدعي فينا تأملات حول معاني الحياة والموت، الحضور والغيب، وتفتح أمامنا بابًا لقراءتها كحالة نفسية تسير في حركة دائرية لا نهائية.

1. الذاكرة والزمن:

في البداية، تذكر الشاعرة /أذكر مرة/، وهي كلمة تفتح باب الحنين والتذكر، مما يعكس حضور الماضي في الحاضر. هذا التذكر يشكل نقطة انطلاق للقصيدة حيث يتداخل الماضي مع الحاضر ويصبح الزمن غير خطي، بل حلقة متشابكة من الذكريات واللحظات التي تتداخل وتغمر الحاضر. صورة /جدل ضفائر الليل/ تلمح إلى محاولة الشاعرة نسج وترويض الزمن، لكن /غفوتي سبقتني/، أي أن الذاكرة أو الحلم أخذ منها السبق، فالغفوة تسبق الوعي وتفتح أمامها مسارًا آخر مليئًا بالتجليات.

2. الوجود الداخلي والصراع النفسي:

الشاعرة تتحدث عن /ضجيج داخلي/ و/دانان الصمت/، وهو تعبير يعكس التناقضات الداخلية التي يواجهها الإنسان في صراعه مع ذاته. الضجيج الذي يشير إلى الاضطراب الداخلي يتلاقى مع الصمت الذي يرمز إلى العزلة أو العجز عن التعبير عن هذا الاضطراب. هذه الثنائية بين الضجيج والصمت هي انعكاس للصراع النفسي الذي لا يجد طريقه إلى الخارج، مما يزيد من شعور الشاعرة بالعزلة وعدم القدرة على التواصل مع الآخر أو مع نفسها بشكل كامل.

3. الغربة والبحث عن الذات:

الغربة هي السمة المركزية في القصيدة، حيث تشير إلى /غربة تتشكل زوارقَ ورقية/ تتنقل بعيدًا، متجهة إلى /نهاية الحلم/. هذه الصورة الشعرية تعكس حالة من الانفصال، ليس فقط عن المكان أو الوطن، بل أيضًا عن الذات والآخرين. الغربة تصبح بمثابة الرحلة المستمرة التي لا تنتهي، وكأن الشاعرة تبحث عن شيء غير محدد، شيء يعجز الحلم عن الوصول إليه أو تفسيره.

كذلك، نجد في الصورة الشعرية لـ/دمعة خابية/ و/تمطر ضاحكة باكية/ إشارة إلى التمزق الداخلي بين المشاعر المتناقضة: الضحك والبكاء، الفرح والحزن، الوجود والغياب. هذه الثنائية تعكس فوضى الوجود الإنساني، حيث لا يمكن للإنسان أن يحدد تمامًا مشاعره أو كيف يتعامل معها في ظل هذا التشتت الداخلي.

4. الرمزية والتشابك بين الحلم والواقع:

القصيدة تشير بشكل دائم إلى الحلم كوسيلة لفهم الذات والوجود: /أتهاوى حولي غربة تتشكل زوارقَ ورقية/ و/حتى نهاية الحلم/. الحلم يصبح مساحة للبحث عن إجابات أو للتعبير عن رغبات داخلية لا يمكن للمجتمع أو الواقع المادي أن يمنحها تصاريح مرور. هذه الرمزية الحلمية تتداخل مع الواقع في صورة الفراق والتفكك، حيث /لمحتها أمامي ترحل.. تمضي/، وهي لحظة من الفقدان الذي لا يعود أبدًا. الرحيل هنا ليس مجرد فراق مادي، بل هو فراق معنوي بين الذات وما يمكن أن يكون /مسموحًا/ أو /ممكنًا/ في هذا العالم.

5. اللامعقول والبحث عن /تصريح مرور/:

عنوان القصيدة /تصريح مرور/ هو نفسه لغز فلسفي. ففي عالم يهيمن عليه النظام والمواصفات المقررة، تصبح فكرة /تصريح المرور/ بمثابة مبحث عن إذن أو حق للوصول إلى مرحلة ما في الحياة. الشاعرة، في سعيها للفهم أو للوجود، لا تجد /تصريح مرور/، مما يعكس فكرة اللامعقول أو العبثية التي تميز الوجود الإنساني. إنها محاولة للعبور إلى مكان غير محدد، والتجربة تتم في ظل عدم وجود قواعد واضحة أو شروط.

6. الخاتمة:

قصيدة /تصريح مرور/ هي تأمل فلسفي في الأبعاد النفسية والوجودية للإنسان. من خلال لغة رمزية غنية وصور شعرية معقدة، تعرض الشاعرة معركة الفرد الداخلية مع الزمن، الغربة، والذاكرة، وتنفتح على تساؤلات فلسفية حول الحياة والموت، الحلم والواقع. الشاعرة تتساءل عما إذا كان هناك من /تصريح مرور/ أو إذن للوصول إلى السلام الداخلي أو الفهم الحقيقي، إلا أن النهاية تظل مفتوحة، حيث ترحل الذات وتبقى الأسئلة معلقة في الفراغ.

***

بقلم: كريم عبدالله – العراق

............................

تصريح مرور

أذكر مرة. وأنا أجدل ضفائر الليل سبقتني غفوتي لنجمة يقظة منحت ذاكرتي، تصريح مرور بحجم غيمة تبحر برفقة ظلي عبر العشب الأبيض تسكبُ ضجيج داخلي بدنان الصمت تنأى عني تفتش عن طيف شارد اثقلت اهدابه دمعة خابية على وجهي تمطر ضاحكة باكية عبر أخيلتي ضللتُني كنداء بعيد تركتُني وحيدة مبتلة أتهاوى حولي غربة تتشكل زوارقَ ورقية تبعدُ. تبعدُ حتى نهاية الحُلم لمحتها أمامي ترحل.. تمضي. دون تصريح مرور.

***

اعتماد الفراتي

 

دراسة في رواية (الشبيه) لجوزيه ساراماغو، الفصل الثالث  - المبحث (3)

***

توطئة: ان بالإمكان محاولة إعطاء صورة موضوعية في رؤية مسار الأشياء والعناصر في العلاقات السردية من حدود ذلك الجانب الذي يقدم الشخصية وكأنها رؤية من عوامل رؤية تقودنا نحو مقاصد سايكولوجية معينة، وليس بالضرورة أن تكون تلك النقطة التوصيلية من التبئير إلا رؤية مفرطة في عوالمها التخييلية وهويتها الانشطارية في الأحوال الزمنية والمكانية والنفسانية. فمثلا حاول جوزيه ساراماغوا من خلال شخصية أفونسو كوضعية تؤلف مع حالها إزاء ذلك الشبيه في شريط الفيديو إذ خلق حالة من الإشكالية في العلاقة بين (المرئي - اللامرئي - الواقع -اللاواقع) وبناء على ذلك نعاين أفعال الشخصية أفونسو مع هذه القرائينية كما لو أنها مفارقة وضعية أوجه خلفية من أداة العلامة وخوض الصراع مع عاملية الفاعل في ذاته. وما أهدف إليه هنا، هو محاولة تبين زمن التلفظ وزمن الملفوظ داخل حدود (زمن السردي - زمن المروي) مع الإشارة بأن حقيقة حدود الأشياء تستغرق مساحة زمنين: الزمن الذي تستغرقه الشخصية مع حاﻻته بمدى تقارب ذلك الشبيه منه شكلا، والزمن المروى الذي هو بمثابة التقديم لإمكانية المسآلة والإفصاح من الشخصية ذاتها مع تحولات تعارض كلي بين الحكي الظاهر وطبيعة العنصر الفاعلي بوصفه حكيا في ذاته كعاملية متلفظة في مواطن الملفوظ التعادلي بمعنى أكثر دقة في كيفية تمييز (الزمن المتحول ؟)للقراءة الفعلية وسوف أحاول في المباحث الفرعية شرح ومقاربة المستويات عبر فحص موضوعي للأسباب والعلل في توزيع زمن الأفعال السردية والمروية بين الزمنين المعنيين.

- جدلية النسخ الآدمي وانقضاءات زمن الانموذج الواحد

تتضامن الفواعل والمحيلات السردية في مسار تشاكل الوحدات المحورية من الفصول الأولى من الرواية نحو مشخصات تشتغل في بنية علاقة الشخصية أفونسو حول إشكالية ذلك التقارب أو بالأحرى النسخ من صورته في هيئة ذلك الممثل في شريط الفيديو، رغم تباعد بعض الفوارق العمرية بينه وبين ذلك الموظف في شريط الفلم. وتتحكم في نوازع محور أفونسو تلك الأثباتات التالية في كون ذلك الموظف ما هو إلا ذاته قبل بضع سنوات خلت، ولكن لو حاولنا اختزال ذلك الزمن الاحتفاظي في ذاكرة أفونسو، لوجدنا أن الشخصية ﻻ تبذل أدنى مجهودا في استرجاع بعض ذكرياته القديمة ولو على مضض من قابليته الاستعادية: (هو صورته طبق الأصل، بحكم الوجه والمظهر عموما. بعد مقارنة متأنية لصورته قبل خمس سنوات مع الصورة المكبرة لموظف الاستقبال، بعد أن لم يجد أي فرق بين هاته وتلك./ص٢٩ الرواية) هكذا تخضع كل ملموسات التطابق ما بين الصورتين إلى الاحساس والميل والنزوع والمزاج بأولوية الأخرى على الثانية في هيئة تفاعلية تعطي للظرف الزمني مشروعية البحث في الذاكرة الفردية عن جدوى كل هذه الملازمة في التشابه والشبه.

١- الذاكرة وتبلور انطباعات النسيان:

مما ﻻ شك فيه أن الذاكرة ﻻ تطفو على سطح إلا في سياق اللحظة المعيشية آنيا، وإنها تختلف حسب الظرفية المناسبة التي تلفظتها داﻻ، فالذكرى في شبه حالة الشخصية أفونسو عبارة عن متعلقات ماضية يصعب عليه استذكارها في حدود ذاكرة محدودة في سمة من السمات. وما يميز حالة وقوع الشبه بين أفونسو وذلك الممثل في شريط الفلم هو الوقوع في ذاكرة مرتبطة باللاوعي، تعارضا بين الوعي وعملية التذكر في شروطها الاسبابية المثبتة في نوع من العلاقة بين الإدراك والمادة في حدود وقوعية راسخة: (ترك أفونسو نفسه يسقط على الأريكة، وليس الكرسي - كابد لينظم أفكاره. يفكها من فوضى الأحساسيس المتراكمة منذ تلك اللحظة التي قامت فيها ذاكرته - إن أكثر ما يحيرني، كان يفكر بعناء، ليس أن هذا الرجل يشبهني، أنه نسخة مني، أو لنقل نسخة ثانية مني. /ص٢٩) لعل مواقع وفرضيات الذاكرة أو اللاذاكرة تلعب دورا لافتا في سيرة أحداث الشخصية أفونسو وتجدر الاشارة بنا على مستوى ومستويات من التعالق في الانتاج الجيناتي الذي جعل من الشخصية أفونسو وذلك الشبيه في الفديو يقعان داخل امتداد مداري في الصورة والإطار والافتراض، وخاصة ما يتصل بالمقصديات الذاكراتية تحديدا، فهناك حاﻻت من تعطيل الذاكرة لدى أفونسو ومعنى لك وجود الترابط بالخلل المرتبط بالذاكرة الإجرائية للبنية الأولية للدﻻلة بعلاقة المؤول التعريفي.

٢- التناظر الإمكاني وعواقب الإلتباس الجيني:

لربما القارىء دائما هو عرضة إلى فخاخ (الارتباك المؤشري) ولربما هو أيضاً أكثر توترا في فحص اختلافات المعدﻻت الموضوعية والزمنية والنفسانية المبثوثة في حدود مقاربة مواقف النص وتراتيبية المعنى الطردي. يعد المؤشر الكمي في وحدات القيمة المشهدية في تفاصيل مسار التخييل في رواية (الشبيه) عاملا طرديا ذا إمكانية تشيع التفاصيل في روح المعالجة بوظائف زمن الحكي، لذا فأوجه الأهمية بالمظهر الطردي هو الملاءمة والبحث في خيارات وسائط السرد. لعل من المهم على أقل افتراض، هو مقارنة الشخصية أفونسو في الاختلافات المشتغلة في حدود دﻻﻻت (الزمن التمثيلي ؟) بمعنى ما راح الشخصية يحث التباينات التوقعية أو التخييلية في مسار انتقاءات تتركز بوسائط طردية تسعى إلى أن تكون محض ممارسة في المقصود الامتدادي أو الغرض اللافعلي في تكهنات متفاوتة في الدليل والمدلول: (بل هي مجرد ضرفية، أن تغييرا عرضيا في إطار جيني معين يمكن أن ينتج عنه كائن مشابه لكائن ناتج عن إطار حيني آخر من دون أن تكون له أي علاقة به، ان ما يحيرني ليس هذا الأمر بقدر ما يحيرني أن أعلم أنني قبل خمس سنوات كنت نظيره وقتئذ، بل كان لنا شارب معا، بل هناك أيضا إمكانية، ماذا أقول، احتمال إنه بعد مرور خمس  سنوات،أي اليوم، في هذه الساعة تحديدا، في هذه الساعة من الفجر، ما زال التناظر مستمرا، كما لو أن تغييرا في ذاتي كان عليه أن يحدث تغييرا في ذاته./ ص٣٠الرواية) وما يدنو زمن الشخصية أفونسو من زمن ذلك المتناظر تشبيهاو تمثيليا به، هو العامل المفترض في التصور والطبيعة التناسبية، بل والطريقة في إحصاء قيمة الزمن الصاعد ما بين الاثنين، وصوﻻ إلى معدلات النظر في الكيفية الديمومية والتكوينية اللتان يترتب عليهما إحساس الشخصية في البدء والتلازم والمنتهى. غالبا ما تكون الذاكرة شديدة المكر والخداع وتنصب للذات العاملة المزيد من الشراك والاحابيل، وهذا الحكم القيمي منا يلفت انتباهنا إلى مكامن اللحظة المشوشة في ذاكرة الشخصية وهي تمارس ضروبا شتى في كشف وتعليق تلك الخيوط الواهنة من حبك الذاكرة الزمنية، ولعلنا نعاين في الوقت نفسه بأن وظيفة السارد العليم تلتزم بمنظور الشخصية - أفونسو - ووصولها الداخلي إلى أقصى نقطة مبئرة من مكون الإنفعال والرؤية إلى الأمر بطريقة الدخول في طبيعة السرد الاستعادي الذي تميزت به الرواية، ما راح الأمر من جهة خاصة يسبغ على مواطن أحداث الشخصية ذلك النوع من وظيفة أدماج السارد العليم في رقعة الشخصيتين ومأساتهما في السبب والنتيجة المبثوثة في حركة موضوعة الرؤية الذاتية للذاكرة المبأرة بملامح الإحساس من وجهة نظر احادية الوسط والأثر والجوهر.

٣- معادلة الشبيه وشيفراتها الحوارية المبطنة:

تتضح في المتواليات الصعودية من عقدة الشخصية أفونسو بأن هناك حلقات مفقودة في سلسلة مصادقات هذا الشبيه الظهورية: فإذا كان الأمر محض ممارسة فرجة على واحد من أشد الافلام هبوطا في قيمته المدلولية، فلماذا كانت كل هذه الضرورة الملحة التي بادره بها صديقه مدرس الرياضيات بضرورة التفرج عليه ؟ فهل من الممكن أن هذا الأخير يبدو أنه لاحظ مقدار الشبه بين الممثل في شريط الفيديو وزميله مدرس التاريخ فأراد بهذه المبادرة أن ينبه صديقه في كونه هو ذاته موظف الاستقبال في شريط الفلم مثالا؟.

- تعليق القراءة:

لعل هناك الكثير من الصدف والمصادفات التي تكون مجتمعة لغرض إنشاء حالة تتعدى المافوق واقعي، بل لعلها تتوافق هذه المصادفة مع عملية من الصعب فك أذرع شيفراتها المحتدمة من قبل شخصية مثل أفونسو، هذا الرجل الذي يعتاش على تدريس مادة التاريخ فيما يبتعد بمقدار المجهول عن مشاهدة الأفلام. وتراجع عن دور السينما منذ تواريخ لا تسمح للذاكرة بالتوفيق عند أزمنتها المحالة بطبقات كثيفة من الغبار والنسيان. نجد أن (جوزيه سارماغوا) يحقق في الشبيه - مظهرا بليغا من الشكوك والوقوع في ملتبسات ذلك الشاهد - أي زميله مدرس الرياضات - الذي كان قاصدا وغير مقصودا. بالفعل هناك في مواقع السرد الكثير من المشاهد وتداخل المونولوج مع النفس من خلال البعد الشخوصي واللعب الزمني وتقاطعات الكشف واللامكشوف، حيث يتجلى لنا المتخيل الروائي زمنيا وكأنه جملة من صراعات مصدرها تأملات ووساوس الشخصية أفونسو أحول ذلك الشبيه في زمن الشريط الفلمي الذي ﻻ يتجاوز زمنه عدة دقائق تاركاً في الشخصية سمات موحشة من أزمنة التذكر والإسقاط الافتراضي حول مبررات مقصودية ذلك الشبيه الكامن بين العلاقة الإطارية والرؤية السردية ونوازع وقلق عاملية الفاعل الشخوصي المأزوم ضمنا وعلنا.

***

حيدر عبد الرضا

تفكيك آلية اختيار الروح بين الأضداد

قراءة سيميائية في قصيدة: صراع الجبارين – للشاعرة: صوفيا سعيد – المغرب.

***

توطئة:

الرمزية المزدوجة لصراع العقل والقلب: تفكيك آلية اختيار الروح بين الأضداد. هذا العنوان يعكس الصراع الدائم بين العقل والقلب الذي تتناوله القصيدة كأمر رمزي يعكس صراعًا داخليًا في الذات الإنسانية. كما يُظهر العلاقة بين العناصر الرمزية (العقل، القلب، النفس) كأطراف متناقضة تتصارع على قيادة الروح، وهو ما يفتح المجال لتفسير سيميائي يتعلق بكيفية تشكيل المعنى داخل هذا التوتر بين العواطف والأفكار.

مقدمة

القصيدة / صراع الجبارين / للشاعرة صوفيا سعيد تقدم صورة رمزية معقدة لصراع داخلي بين العقل والقلب، حيث تمثل هذه الثنائية الأبدية صراع الإنسان مع ذاته. تستخدم الشاعرة في قصيدتها صورًا بلاغية مؤثرة وأسلوبًا رمزيًا مكثفًا لتمثل هذا الصراع الذي يتجاوز مجرد التنازع بين عقل وقلب، ليشكل معركة نفسية وروحية أعمق بين القيم العقلانية والعاطفية، وبين الأمان والتضحية.

الرمزية السيميائية: العقل مقابل القلب

من خلال التفاعل بين الشخصيات الثلاثة في القصيدة (المرأة، العقل، والقلب)، يظهر الصراع كصراع بين أطراف متضادة، حيث يسعى كل من /العقل/ و/القلب/ لإقناع /الملكة/ (المرأة) باتباع طريقه. الشاعرة تصف هذا التنافس بأنه /صراع الجبارين/، مما يعكس حجم الصراع الداخلي بين العقلانية والعاطفة على عرش الروح الإنسانية.

العقل: يُصوَّر العقل في القصيدة كـ /ملك الأفكار/، أي أنه يحمل القوة المنطقية والتحليلية. يتمحور دوره حول تقديم /الحلول/ التي تُمثل الأمان والاستقرار. العقل يقدم الحقيقة الملموسة والمفاهيم المدروسة، وهو مرشد يرشد المرأة نحو /مفاتيح الأمان/.

القلب: بينما يواجه العقل، يأتي القلب ليقدم نفسه كـ /ملك المشاعر/، مروجًا للأحاسيس والعواطف التي تغمر الروح البشرية. قلب المرأة هو نبضها، سرها، وأملها في الحياة. أما شِعار القلب في القصيدة فهو الإيمان بأن /لا حياة بلا حب/. تتكشف أهمية هذه الرمزية في ربط القلب بحالة أمل وطموح يعكرها /الأوهام/ التي قد تقود إلى الارتباك في اختيار الطريق الصحيح.

الصراع الرمزي: بين الجنة والنار

الشاعرة تُظهر الصراع بين العقل والقلب كمسار بين /الجنة والنار/. هذا التوصيف يشير إلى أن كل خيار يحمل معه تبعاته: العقل، بوصفه مصدر الأمان، يضع في يد المرأة مفاتيح الحياة الواقعية والتوازن، بينما القلب يضلها إلى الأوهام ويغويها بحلم الحب والسلام، رغم أن هذا الحلم قد يتسبب في الألم أو الضياع.

يُقدم الصراع هنا كتحدٍ ميتافيزيقي؛ فالمرأة لا تختار بين شخصين أو مكانين بل بين /أفكار/ و/مشاعر/ تتداخل في روحها. وهذا يعكس الصراع الأزلي بين العقلانية التي تبحث عن الحقيقة المادية، والعاطفة التي تؤمن بالقيم غير الملموسة مثل الحب والحرية.

التناغم بين العقل والقلب: التفاعل النهائي

عند نهاية القصيدة، تترك الشاعرة جملة مفتاحية تعكس الحل السيميائي للصراع: /القيادة لا تأتي من المجادلة بين القلب والعقل، بل تأتي من التناغم بين النبضات التي تملأ الروح بأمل/. هذا التحول من التنافس إلى التناغم يعكس فلسفة الشاعرة التي تُدرك أن الحل لا يكمن في الانتصار الكامل لطرف على الآخر، بل في التوازن والتكامل بينهما. هذا التوازن هو ما يمنح المرأة (الروح) القدرة على اتخاذ القرار الصحيح والقيادة الذاتية، التي لا تعني فقط النجاح بل الإدراك الداخلي العميق لمكانتها وقيمتها.

الرمزية السيميائية للأدوات اللفظية

الشاعرة توظف أدوات لغوية تجسد هذه الصراع بفعالية:

/دموع من ذهب/: هذه العبارة تعكس التوتر بين المادي والرمزي، بين الفقدان والعاطفة التي تحمل في طياتها قيمة ثمينة رغم آلامها.

/كل ما تبحثين عنه في الخفاء/: هي دعوة للبحث الداخلي عن الحلول، وتعكس حاجة العقل إلى اكتشاف الحقائق المخبأة داخل الذات.

/طريق ضلّ/ و/فقد الأمل/: في هذه الجمل، يتم تقديم فكرة /الضلال/ على أنها جزء من تجربة الإنسان في محاولة إيجاد التوازن بين عقله وقلبه، حيث يُعبر عن حالة من الارتباك أو البحث عن المعنى.

الخاتمة

في قصيدة /صراع الجبارين/، تقدم الشاعرة صوفيا سعيد صورة سيميائية غنية لعملية الاختيار الداخلي بين العقل والقلب. من خلال الرمزية المتقنة، تضع القصيدة القارئ أمام صراع أعمق من مجرد مواجهة بين طرفين؛ إنه صراع بين العقلاني والعاطفي في الإنسان، بين الأمان والمجازفة، بين الحقيقة والوهم. لكن النهاية تفتح المجال لتفسير آخر، حيث تُظهر أن حل هذا الصراع يكمن في التناغم بين هذين الجانبين، مما يسمح للروح بالاستقرار في رحلة الحياة.

***

بقلم: كريم عبدالله – العراق.

.............................

صراع الجبارين

على عرشها، جلستْ، ملكةٌ تَحكمُ الزمانَ والمكانْ

أفواهٌ تهمسُ، والأعين تراقبُ، ليتقاسموا فكرَها في الحالْ

"أنتِ... أنتِ" يناديان، بدموعٍ من ذهب، من شَوقٍ واهتمامْ

لكنَّ كلاهما يعرفُ أنها ليستْ مجردَ امرأةٍ، بل أسرارٌ وعواطفٌ تُشعلُ العقلَ في العيون الحالمه، وتثيرُ القلبَ في الوجدانْ.

أحدُهم يلوحُ بالعقلِ، تارهً تُغمضُ عيونَها لتسمعَ الحقائق،

يقول: "أنا ملكُ الأفكارِ... فيَّ كلُّ الحُلولِ، كلُّ ما تبحثين عنهِ في الخفاء."

أما الآخرُ فيعلنُ نفسهُ ملكَ المشاعرِ، ويهمسُ: "أنا قلبُكِ، نبضُكِ، سرُّكِ المكتومُ، لا حياةَ بلا حبّ."

هكذا، يصبحُ الصراعُ أكثرَ مرارةً، كأنَّهما فتيانٍ يقدمانِ الوعودَ، في معركةٍ حولَ لحنٍ لا يُسمعُ إلا في السكون.

وفي كلِّ خطوةٍ، تتمايلُ هي بينَ الجنةِ والنارِ،

بينَ صوتِ العقلِ الذي يضعُ في يدِها مفاتيحَ الأمان،

وقلبٍ لا يعرفُ إلا أن يهيمَ في الأملِ، طارحًا أمامها الأوهامَ،

لكنَّ هذا الصراعَ... لَمْ يكن في الحقيقةِ إلا معركةً بينَ العقلِ، والقلبِ، والنفسِ.

أفواجٌ من الكلماتِ تلاطمتْ حولَ شواطئِ روحِها،

لكنَّ ما اختارهُ هو الذي يليقُ بروحٍ تبحثُ عن السلامِ،

فإلى أيٍّ يذهبُ العقلُ إذا ما ضلَّ الطريقَ؟

وإلى أيٍّ يسيرُ القلبُ إذا ما فقدَ الأملَ؟

لقد أدركتْ حينها، أنَّ القيادةَ لا تأتي من المجادلةِ بينَ القلبِ والعقلِ،

بل تأتي من التناغمِ بينَ النبضاتِ التي تملأُ الروحَ بأملٍ…

وبذلك، تتفتحُ الحياةُ، ويُبنى العرشُ على قاعدةٍ من الإيمانِ والوعي،

تلكَ هي القيادةُ... بلاءٌ لا يعصفُ إلا بمن أرادَ أن يعقلَ ويفهمَ ما في نفسهِ من إلهام.

بقلم:

صوفيا سعيد – المغرب

في المثقف اليوم