قراءات نقدية

قراءات نقدية

يُعْتَبَرُ الكاتبُ المِصْري نجيب محفوظ (1911 _ 2006 / نوبل 1988) أعظمَ روائي في الأدبِ العربي على الإطلاقِ. تُعَدُّ أعمالهُ سِجِلًّا حَيًّا للتَّحَوُّلات الاجتماعية في مِصْر.

كَتَبَ في فَترةِ التَّحَوُّلاتِ السِّياسية والاجتماعية العَميقة في المُجتمعِ المِصْرِيِّ، مِنَ الاحتلالِ البريطاني إلى ثَورة 1919 ثُمَّ ثَورة يوليو 1952، ومَا تَبِعَها مِنْ تَغْييرات في البُنْيَةِ الطَّبَقِيَّة. وانطلقَ مِنْ واقعٍ اجتماعي مُضطرِب، فَجَعَلَ مِنَ الأدبِ وسيلةً لكشفِ أزَمَاتِ العَدالةِ الاجتماعية، وعاشَ مَراحلَ الصِّراعِ بَيْنَ الطَّبَقَاتِ الاجتماعية، حَيْثُ كانت الطَّبَقَةُ الكادحة (العُمَّال، الفُقَراء، صِغَار المُوظَّفين، سُكَّان الحَارَاتِ الشَّعْبية) في مُواجَهةِ الفَقْرِ والسُّلطةِ والبيروقراطية. وَقَدْ كانتْ مِصْر تَمُرُّ بِمَرحلةِ انتقالٍ مِنَ الإقطاع إلى نَوْعٍ مِنَ الاشتراكية، فانعكسَ ذلك في أدبِه كَصِرَاعٍ بَيْنَ القَديمِ والجديد، وصارَ مَادَّةً خِصْبَةً في كِتَاباته التي رَصَدَتْ حَركةَ المُجتمعِ بَيْنَ القَهْرِ والأملِ.

قَدَّمَ تَصويرًا دقيقًا لِعَالَمِ الكادحين في الحَارَاتِ الشَّعْبية، حَيْثُ يَتجسَّد الفَقْرُ لَيْسَ كحالةٍ ماديَّةٍ فَقَط، بَلْ أيضًا كَمُعَاناةٍ وُجوديةٍ وإنسانية. وكانَ يَرى أنَّ الفَقْرَ لَيْسَ عَيْبًا فرديًّا، بَلْ نتيجة لعوامل اجتماعية وتاريخية مُعقَّدة، إلا أنَّه يُعالجه بِمَنظورٍ إنسانيٍّ أكثر مِنْ كَوْنِه سِياسيًّا. فالكادحُ عِندَه هُوَ إنسان يَسْعَى إلى حِفْظِ كَرامته رَغْمَ انكسارِه، وَيَظَلُّ قادرًا على الحُلْمِ والمُقاوَمة.

شَخصياتُه غالبًا مِنَ الحَارَةِ الشَّعْبية: الحَلَّاق، البائع، البَوَّاب، الفتاة الفقيرة. يُصورِّهم بَيْنَ مِطْرقةِ الفَقْرِ وَسِنْدَانِ السُّلطة، لكنَّهم يَحْتفظون بِكَرامتهم وإنسانيتهم. والكِفَاحُ عِندَه لَيْسَ اقتصاديًّا فَحَسْب، بَلْ هُوَ أيضًا وُجودي وأخلاقي، وَبَحْثٌ عَنْ مَعْنى الحَياةِ والعَدْلِ والكَرامة.

تَتجلَّى الطَّبَقَةُ الكادحةُ بِوُضوحٍ في أعمالِه الواقعية، فَهُوَ يَرسُم لَوْحةً مُتكاملة للحَياةِ الشَّعْبية في أحياءِ القاهرةِ القديمة، حَيْثُ تتقاطع طُموحاتُ الفُقَراءِ معَ قَسْوَةِ الواقعِ، وَيَتجسَّد حُلْمُ الإنسانِ بالتَّحَرُّرِ مِنَ الفَقْرِ، وأحيانًا يَسْقَط في بَراثِنِ الاستغلالِ، فَيَتَحَوَّل الحُلْمُ إلى مَأساةٍ.

وَقَدْ قَدَّمَ في أعمالِه مَأساةَ الأُسْرَةِ المِصْرِيَّة الفقيرة التي تُكافِح مِنْ أجْلِ البَقاءِ بعد وَفاةِ عائلها، فَيَتَحَوَّل الفَقْرُ إلى قَدَرٍ يَخْتبر القِيَمَ والأخلاقَ والمَبادئ. وفي بعضِ أعمالِه، تَتَحَوَّلُ الحَارَةُ إلى نَمُوذج مُصغَّر للمُجتمعِ الإنسانيِّ، حَيْثُ يَتوارث الناسُ الصِّراعَ بَيْنَ العَدْلِ والطُّغيان، وَيَظَلُّ " الفُتُوَّة " رمزًا للسُّلطةِ التي يَسعى الكادحون لِتَقْويمها أوْ مُواجهتها. وَهُوَ يَرى في الطَّبَقَةِ الكادحةِ الضَّميرَ الأخلاقيَّ للأُمَّة، لكنَّها في الوَقْتِ نَفْسِه ضَحِيَّةٌ لِبُنْيةٍ اجتماعية ظالمة. خَلاصُها يَتحقَّق بالوَعْي والنَّزْعةِ الأخلاقية النابعة مِنَ الداخل.

والرِّوائيُّ الأمريكيُّ جون شتاينبك (1902 _ 1968 / نوبل 1962) مِنْ أبرزِ الأُدباءِ الذينَ عَالَجُوا مَوضوعَ الطَّبَقَةِ الكادحة. كَتَبَ في ظِلِّ فَترةِ الكَسَادِ العظيم (1929_ 1939) حِينَ انهارَ الاقتصادُ الأمريكي، وَخَسِرَ مَلايين الناسِ أراضيهم وأعمالَهم، وَتَحَوَّلوا إلى مُشرَّدين يَبْحثون عن العملِ في الحُقولِ والمَصانع.

تعاملَ معَ الطَّبَقَةِ الكادحة بِرُؤيةٍ إنسانيَّة احتجاجيَّة، فَهُوَ لا يَكْتفي بِوَصْفِ مُعاناتهم، بَلْ يُدِينُ النظامَ الاقتصاديَّ الذي أنتجها، ويُبْرِز القِيَمَ الإنسانية مِثْلَ التَّضَامُنِ، والحُبِّ، والإخلاصِ، باعتبارِها السِّلاح الوحيد في مُواجهةِ القَسوةِ الاجتماعية. كما يَتميَّز أُسلوبُه بالواقعية المَمْزوجة بالرَّمْز، إذْ يَتحوَّل العملُ وَالأرضُ وَالأُسْرَةُ إلى رُموز كُبْرى للكَرامةِ الإنسانيَّة.

شَخصياتُه مِنَ العُمَّالِ الزِّراعيين والمُهاجِرين الفُقَراء، يُصارِعون الجُوعَ والاستغلال. والكِفَاحُ عِندَه ماديٌّ ومَعْنويٌّ في آنٍ معًا : الجُوع، والقَهْر الاجتماعي، وَضَياع الحُلْمِ الأمريكيِّ. لكنَّه يُغلِّف مُعَاناتهم بإحساسٍ عميق بالتضامُنِ الإنسانيِّ، والكَرامةِ، والأملِ بالعَدالةِ الاجتماعية.

جَعَلَ مِنَ الكادحين الأمريكيين رَمْزًا للمُعَاناةِ الكَوْنِيَّة، فالفَقْرُ عِندَه لَيْسَ حالةً اقتصادية فَحَسْب، بَلْ أيضًا مأساة وُجودية تَنْبُع مِن انعدامِ العَدالة. وَهُوَ يُؤْمِنُ بِقُدْرتهم على التضامنِ والتَّمَرُّدِ، والوِلادةِ الجديدةِ مِنْ رَحِمِ المُعاناة.

وَنَقَلَ في أعمالِه مَأساتهم بِلُغَةٍ تَمْتزج فيها الشاعريةُ بالغضب. والأرضُ عِندَه لَيْسَتْ مُجرَّد خَلْفِيَّة للأحداث، بَلْ هِيَ مُعَادِلٌ رُوحيٌّ للإنسانِ، حِينَ تُغْتَصَبُ الأرضُ، وَيُغْتَصَبُ الوُجودُ الإنساني.

وَجَعَلَ مِنَ الحَقْلِ الأمريكيِّ مِنْبَرًا للعَدالةِ والتَّمَرُّدِ. وَهُوَ لا يَكْتُب عَن الفَقْرِ كَقَدَرٍ، بَلْ كَجَريمة. الأرضُ التي يُطرَد مِنها الفلاحون تَتحوَّل إلى كائنٍ جريح، والإنسانُ الذي يُسحَق تحت عَجَلاتِ الرأسمالية يَتحوَّل إلى رَمْزٍ للمُقاوَمةِ الصامتة. وَقَدْ صَوَّرَ الحُلْمَ الأمريكيَّ وَهُوَ يَتفتَّت بين أصابع العاملين في المَزارع، حِينَ يُصْبح الحُلْمُ نَفْسُه سِلْعَةً لا يَقْدِرُون على شِرائها.

كَتَبَ بلسانِ الجماعة لا الفَرْدِ، بِصَوْتِ الغضبِ الجَمْعِيِّ الذي يُشبِه صَفِيرَ الرِّيحِ في الحُقولِ الخالية. لُغَتُهُ مُشْبَعَةٌ برائحةِ التُّرابِ، وَعَرَقِ الأجسادِ، وَدُموعِ الأُمَّهات. والكادحون لا يَسْكُنون عَالَمَ الهزيمةِ، بَلْ عَالَم النُّهوضِ مِنَ الرُّكام، حَيْث الحُلْم آخِر مَا يُنْتَزَع مِنَ الإنسان.

لَقَدْ رَكَّزَ محفوظ على الداخلِ المِصْرِيِّ، حَيْث الصِّراع بَيْنَ القِيَمِ والتقاليدِ والحَداثة، فَجَعَلَ الكادحين رُموزًا للبَقَاءِ والكَرامة، أمَّا شتاينبك، فَقَدْ رَكَّزَ على الإنسانِ العالميِّ في مُواجهةِ النِّظامِ الرأسماليِّ القاسي، فَجَعَلَ الكادحين رُموزًا للأملِ والمُقاوَمة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

دراسة في مجموعة "اللمبة الحمراء" للكاتبة منال أمين

تُمثّل المجموعة القصصية "اللمبة الحمراء" للكاتبة منال أمين استكشافًا عميقًا للعوالم الداخلية للمرأة في سياق مجتمعي معقد، حيث تتشابك العلاقات الإنسانية وتتصارع الذات مع قيود الواقع وتوقعات الآخرين. إنها نصوص قصصية تنطلق من الخاص لتلامس العام، وتغوص في تفاصيل الحياة اليومية لتكشف عن أزمات وجودية ونفسية كبرى.

في حياة كل امرأة، تومض أحيانًا "لمبة حمراء"؛ قد تكون لحظة صمت قاتل في علاقة زوجية باردة، أو كلمة جارحة تسلبها ثقتها بنفسها، أو قرار مجتمعي يفرض عليها هوية لا تشبهها. هذا الضوء ليس مجرد تحذير، بل هو إشارة حاسمة تقف عندها الذات الأنثوية لتواجه مصيرها: إما أن تستسلم للقهر وتذوي في الظل، أو أن تتجاوز الخط الأحمر بحثًا عن شكل من أشكال التحرر، مهما كان الثمن باهظًا.

وبين دفتي هذه المجموعة القصصية، تقدم منال أمين عالمًا يعج بتلك اللحظات الفاصلة. سنلتقي بنساء يقفن أمام مرايا أرواحهن المتصدعة، يتساءلن عن ماهيتهن ودورهن في الحياة. منهن الزوجة التي تحاول يائسة أن تحطم جدار الصمت الذي بناه زوجها، فتُشعل حريقًا من الشك قد يلتهمها هي أولًا. ومنهن الأم التي تواجه تخلي زوجها وقسوة المجتمع لتمنح ابنتها "المختلفة" حقها في الحياة والحلم.

إن قصص "اللمبة الحمراء" هي تجليات سردية لصراع الذات النسوية الأبدي. هي صرخة المهمشات، وأنشودة الصامدات، ومرثية الضائعات. تستكشف الكاتبة بجرأة كيف يمكن للقهر الاجتماعي والعاطفي أن يسحق الروح، لكنها في الوقت ذاته، تحتفي ببراعم المقاومة التي تنبت في أقسى الظروف. فالتحرر هنا ليس دائمًا انتصارًا مدويًا، بل قد يكون في قرار صغير، أو دمعة رفض، أو حلم عنيد يتمسكن به في وجه المستحيل.

فالمجموعة تدعو القارئ للدخول إلى هذه العوالم، لا لتتعاطف مع الشخصيات فحسب، بل لتستمع إلى نبض أرواحهن وهي تخوض معاركها اليومية بين قيود الواقع ورغبة جامحة في التحليق نحو فضاء أرحب من الحرية والوجود.

تعتمد هذه القراءة النقدية على منهج تكاملي يستلهم آلياته من مدارس النقد الحديث، فهو يوظف:

- النقد السيميائي (Semiotic Criticism): لتحليل العتبات النصية (الغلاف، العنوان، الإهداء) بوصفها علامات بصرية ولغوية مُنتجة للمعنى وتوجه القارئ.

- النقد النسوي (Feminist Critic): لرصد صورة المرأة، وتحليل ديناميكيات السلطة في العلاقات بين الجنسين، والكشف عن أشكال القهر والبحث عن التحرر في القصص.

- النقد النفسي (نقد التحليل النفسي): للغوص في دوافع الشخصيات اللاواعية، وتفسير سلوكياتها بناءً على صدمات الماضي وعقده النفسية.

- النقد الاجتماعي الواقعي (Sociological Critic): لفهم كيف تعكس القصص قضايا مجتمعية ملحة مثل التمييز، الخيانة، والتفكك الأسري.

من خلال هذا المنهج المتكامل، سنسعى إلى تفكيك طبقات المعنى في المجموعة، بدءًا من عتباتها الخارجية وصولًا إلى قلب نصوصها السردية، لنقدم رؤية شاملة لمشروع الكاتبة الإبداعي.

تحليل عتبات النص: مفاتيح الدخول إلى عالم المجموعة

تعتبر العتبات النصية (Paratext) بمثابة البوابة الأولى التي يعبر منها القارئ إلى عالم النص، وهي تحمل دلالات مكثفة ترسم أفق التوقعات وتوجه عملية التلقي.

1. الغلاف: سيميائية اللون والصورة

يأتي الغلاف كعلامة بصرية قوية وموحية. نرى ممرًا ضيقًا مظلمًا تضيئه "لمبات حمراء"، وفي نهايته يقف ظل لشخص يولينا ظهره. هذا المشهد يولد إحساسًا بالغموض والترقب، ويمكن تفكيك دلالاته كالتالي:

- اللون الأحمر: يرمز إلى الخطر، التحذير، العاطفة الملتهبة، أو حتى الخطيئة. "اللمبة الحمراء" هي إشارة توقف، علامة على وجود خطأ أو تجاوز لحدود لا ينبغي تجاوزها، وهو ما يتردد صداه في العديد من قصص المجموعة التي تتمحور حول الخيانة والشك.

- الممر الضيق: يوحي بالنفس المحاصرة، الأزمة، أو الشعور بأن الخيارات محدودة، وهو ما تعانيه الكثير من بطلات القصص المحاصرات في علاقات مؤذية أو ظروف اجتماعية قاسية.

- الظل المبتعد: يمثل الغياب، الرحيل، أو الخذلان. هو الزوج الذي يخرج ويترك زوجته في قصة "اللمبة الحمراء"، أو الأب الذي يتخلى عن ابنته في قصة "من حقي أن أعيش".

أما الغلاف الخلفي، فيعرض صورة شخصية للكاتبة، مع اقتباس من القصة الرئيسية يكشف عن بطلة تعاني من صراع نفسي ("انتفضت في رعب حين رأت شبح أبيها المتوفى في المرآة")، مما يهيئ القارئ مباشرةً للأجواء النفسية المشحونة داخل المجموعة.

2-العنوان: "اللمبة الحمراء"

العنوان ليس مجرد اسم للقصة الأولى، بل هو رمز مهيمن على المجموعة بأكملها. "اللمبة الحمراء" هي تلك الإشارة التحذيرية التي تضيء وتنطفئ في علاقات الشخصيات وحياتهم. إنها تمثل:

- الشك الذي يدمر العلاقة الزوجية ("اللمبة الحمراء").

- علامة الخطر التي لم تنتبه لها "هند" قبل أن تسقط في فخ الخيانة ("ثمن الخيانة").

- التحذير من ضياع الأبناء بسبب الإهمال الأسري ("ثمن الخيانة").

3. الإهداء: الميثاق النسوي والاجتماعي

يُعد الإهداء مفتاحًا أيديولوجيًا للمجموعة، حيث تقسمه الكاتبة بوعي إلى قسمين، موجهة رسالة واضحة لكل من المرأة والرجل:

- إلى المرأة: دعوة لتمكين الذات وتحقيقها ("كوني نفسك دائمًا")، مع التأكيد على دورها المحوري كشريكة في الأسرة ("كوني عونا لزوجك... وملاذا دافئا لأولادك").

- إلى الرجل: نقد مباشر وصريح للسلوك الذكوري السلبي القائم على التقليل من شأن المرأة وخيانتها. الإهداء يطالب الرجل بالارتقاء إلى مستوى الشراكة الحقيقية ("كن رجلا يليق بعظمة المرأة التي منحها الله مكانة الشريك، لا التابع").

هذا الإهداء يضع المجموعة القصصية في إطار النقد الاجتماعي والنسوي بشكل لا لبس فيه، ويجعل من القصص التالية تجسيدًا سرديًا لهذه الرؤية.

تحليل قصص المجموعة وتصنيفها

تتنوع قصص المجموعة الثماني لتقدم بانوراما واسعة من التجارب الإنسانية، تتمحور غالبيتها حول المرأة كضحية ومقاومة في آن واحد.2096 najla

إحصاء تصنيفي للقصص

- قصص ذات طابع اجتماعي: 5 قصص (اللمبة الحمراء، ثمن الخيانة، من أنا؟، الصيد الثمين، من حقي أن أعيش).

- قصص ذات طابع نفسي: 4 قصص (اللمبة الحمراء، ثمن الخيانة، ليلة رأس السنة، من أنا؟!).

- قصص ذات طابع واقعي: 3 قصص (موعدي مع الحياة، الصيد الثمين، من حقي أن أعيش).

- قصص ذات طابع رمزي: قصتان (ليلة رأس السنة، الصيد الثمين).

وبتحليل قصة "اللمبة الحمراء":  نجد الكاتبة تعرض لصرخة في وجه الفراغ العاطفي

تُعد قصة "اللمبة الحمراء" للكاتبة منال أمين دراسة نفسية واجتماعية عميقة لأزمة المرأة في ظل علاقة زوجية باردة، حيث يصبح الفراغ العاطفي هو المحرك الأساسي لأحداث مأساوية. القصة لا تروي حكاية خيانة، بل حكاية صناعة الشك كوسيلة يائسة لاستجداء الاهتمام.

1. ملخص الأحداث: فخ من صنع الضحية

تدور القصة حول زوجة شابة تعيش في ترف مادي، لكنها تعاني من إهمال زوجها وبروده العاطفي القاتل. بعد شجار يتركها فيه ويخرج، تشعر بقهر الروح ورغبة في التحرر. في اليوم التالي، وأثناء جلوسها في مقهى، يحدث لقاء عابر وغير مقصود مع رجل غريب يلفت انتباهها بنظرة إعجاب.

هذه النظرة العابرة تعيد إليها شعورها بأنها ما زالت أنثى مرغوبة. انطلاقًا من هذا الشعور، تقرر أن تثير غيرة زوجها؛ فتختلق قصة عن مطاردة الرجل لها، ثم تسجل بصوت متغير رسالة غرامية على جهاز الرد الآلي في المنزل. في البداية، يسخر زوجها من قصتها، لكنه عندما يرى "اللمبة الحمراء" تومض في جهاز الرد ويسمع الرسالة، ينزعج بشدة ويبقى في المنزل. تنجح خطتها في استعادة وجوده المادي، لكنها تكتشف أنها زرعت بذور الشك في قلبه وأدخلت نفسها في نفق مظلم لا تعرف كيفية الخروج منه.

2. تحليل الشخصيات: أزمة الذات في مرآة الآخر

- الزوجة (البطلة): هي شخصية مأزومة تعيش صراعًا داخليًا حادًا. دافعها الأساسي ليس الانتقام بل استعادة الحب والاهتمام. هي لا تريد الثراء الذي يقدمه زوجها، بل تريده هو كرجل "يعزف سيمفونيتها". شعورها بأنها تحولت إلى قطعة أثاث أو "إحدى التحف التي تملأ البيت" يدفعها إلى حافة الانهيار. خطتها ليست نابعة من الخبث، بل من يأس عميق ورغبة في تحطيم جدار الصمت الذي بناه زوجها. لكنها بجهلها بعواقب أفعالها، تبني سجنًا جديدًا حول نفسها، أكثر إحكامًا من سجن الإهمال.

- الزوج: يمثل نموذج الرجل الغائب عاطفيًا. هو حاضر ماديًا، لكنه لا يرى زوجته ولا يسمعها. رد فعله الأول على محاولتها لفتح حوار هو السخرية والتقليل من شأنها، حتى إنه يتهمها بأنها "بدأت سن اليأس مبكرًا"، مما يعكس استخفافًا عميقًا بمشاعرها. غيرته لا تتحرك إلا بدليل مادي ملموس (الرسالة المسجلة)، وهو ما يوضح أنه يتعامل مع علاقته بمنطق التملك لا المشاركة.

3. الموضوعات الرئيسية (المواضيع)

- الفراغ العاطفي والوحدة الزوجية: هو المحور الذي تدور حوله القصة. فالزوجة محاطة بكل شيء إلا بما تريده حقًا: الحميمية والتواصل. إنها محبوسة في "زنزانة مؤصدة بمفاتيح من ذهب".

- انهيار التواصل: الصمت والإهمال هما القاتل الحقيقي للعلاقة. لا يوجد حوار بين الزوجين؛ هي تتألم في صمت وهو يعيش في عالمه المنفصل.

- خطورة الخداع كحل للمشاكل: تُظهر القصة ببراعة كيف أن الكذب، حتى لو كان بهدف نبيل (استعادة الزوج)، يتحول إلى سم يدمر ما تبقى من ثقة. البطلة أرادت حبيبًا، لكنها خلقت "سجانًا".

4. رمزية "اللمبة الحمراء"

العنوان نفسه يحمل رمزية قوية ومحورية. "اللمبة الحمراء" في جهاز الرد الآلي ليست مجرد ضوء، بل هي:

- علامة خطر وتحذير: إنها الإشارة التي تنذر بالخطر القادم، وبأن الزوجة قد تجاوزت حدًا لا يمكن الرجوع عنه.

- رمز الأمل الزائف: بالنسبة للزوجة، كان وميض الضوء هو علامة نجاح خطتها وأملها في استعادة زوجها.

- تجسيد الشك والخيانة: بالنسبة للزوج، أصبح هذا الضوء هو الدليل المادي على الخيانة، والرمز المرئي للشك الذي بدأ ينمو في قلبه و"يعلو كل يوم".

"اللمبة الحمراء" هي قصة قصيرة مكثفة وذات نهاية مفتوحة على الألم، تقدم نقدًا لاذعًا للعلاقات التي تفرغ من محتواها الإنساني وتتحول إلى مجرد شكل اجتماعي. إنها تحذير من أن محاولة إصلاح شرخ عميق في الروح بخدعة سطحية لا يؤدي إلا إلى توسيع الشرخ وتحويل البيت إلى سجن حقيقي.

وبتحليل نموذج آخر قصة: "من أنا؟!": وتمثل صرخة الهوية في وجه القهر الأبوي

تُعد قصة "من أنا؟!" واحدة من أكثر القصص جرأة وتأثيرًا في المجموعة، حيث تتناول بعمق قضية أزمة الهوية التي تُفرض قسرًا على فتاة بسبب العقلية الذكورية المتجذرة في بعض المجتمعات. القصة ليست مجرد حكاية، بل هي دراسة سوسيولوجية ونفسية للآثار المدمرة التي يخلفها القهر الأسري والرغبة في إرضاء الآخر على حساب الذات.

1. ملخص الأحداث: رحلة التدمير الذاتي بحثًا عن القبول

في إحدى قرى الصعيد، تعيش "سلمى" تحت وطأة والدها "الحاج محمود"، الذي كان يحلم بإنجاب ولد يحمل اسمه ويرث ماله1. ولأنه لا يستطيع الزواج بأخرى بسبب شروط الميراث العائلي، يقرر أن يعامل ابنته الوحيدة سلمى وكأنها ولد؛ فيجبرها على ارتداء ملابس الأولاد والقيام بأعمال شاقة

تكبر سلمى وهي تكره أنوثتها، وتشعر بالذنب تجاه والدتها التي تتحمل إهانات زوجها المستمرة. في محاولة يائسة وخطيرة لتحقيق حلم والدها وكسب رضاه، تبدأ سلمى بتناول هرمونات ذكورية سرًا على أمل أن يغير ذلك من هيئتها. لكن هذا القرار يدمر صحتها تمامًا، حيث تصاب بمرض السرطان نتيجة لاضطراب الهرمونات في جسدها.

عندما يكتشف الأب الحقيقة، يصاب بالرعب ويشعر بالذنب من فكرة فقدان ابنته، ويدرك حجم ظلمه. يبدأ في رحلة علاجها وينفق كل ما يملك لإنقاذها. خلال هذه المحنة، تتغير نظرته تمامًا ويتعلم أن يحبها ويحترمها لذاتها. تتعافى سلمى وتتحول إلى رمز للصبر والقوة، وتحكي قصتها لتعليم الفتيات أهمية تقبل الذات.

2. تحليل الشخصيات الرئيسية

- سلمى: هي الضحية والمحور الذي تدور حوله الأحداث. شخصيتها تجسد أزمة الهوية بكل أبعادها. هي لا تعيش حياتها، بل تعيش "الحياة التي أرادها والدها". دافعها ليس التمرد، بل على العكس تمامًا، هو الانصياع المطلق للرغبة الأبوية. فعلها بتناول الهرمونات هو ذروة التدمير الذاتي النابع من البحث عن الحب والقبول. رحلتها من الكره لنفسها إلى تقبل ذاتها والدعوة إليه تمثل مسار القصة من المأساة إلى الخلاص.

- الحاج محمود (الأب): يمثل السلطة الأبوية التقليدية في صورتها الأكثر قسوة. هو شخصية يحركها الهوس بالإرث والاسم، وهي قيم اجتماعية يعتبرها أهم من مشاعر ابنته وصحتها. هو ليس شريرًا بالفطرة، بل هو نتاج ثقافة تقدر الذكر على الأنثى. تحوله في نهاية القصة ليس نابعًا من وعي فكري، بل من دافع إنساني بدائي: الخوف من الفقد. صدمة مرض ابنته هي التي تجبره على إعادة تقييم أولوياته وإدراك النعمة التي كاد أن يفقدها.

3. الموضوعات الأساسية (المواضيع)

- أزمة الهوية: عنوان القصة "من أنا؟!" هو السؤال الوجودي الذي تعيشه سلمى. لقد سُلبت هويتها الأنثوية واستبدلت بهوية ذكورية مفروضة. القصة بأكملها هي إجابة مؤلمة عن هذا السؤال.

- نقد الثقافة الأبوية: القصة هي نقد مباشر وصريح لتفضيل الذكور في بعض المجتمعات، وكيف يمكن لهذه العقلية أن تدمر حياة الأفراد والأسر. الحاج محمود ليس مجرد شخص، بل هو رمز لثقافة بأكملها.

- الجسد كساحة للصراع: يصبح جسد سلمى هو ساحة المعركة التي يتصارع عليها رغبة الأب في الذكورة مع طبيعتها الأنثوية. تناولها للهرمونات هو محاولة عنيفة لتغيير هذه الساحة لتتوافق مع رغبة السلطة.

- الخلاص عبر المحنة: المحنة (مرض سلمى) هي التي تحمل الخلاص لجميع الأطراف. سلمى تجد ذاتها الحقيقية، والأب يجد إنسانيته المفقودة، والأسرة تجد معنى التكاتف من جديد.

"من أنا؟!" هي قصة قاسية وصادمة، لكنها تحمل في طياتها رسالة عميقة عن أهمية الحب غير المشروط وتقبل الآخر كما هو. تكشف القصة ببراعة كيف أن محاولة قولبة إنسان في قالب لا يناسبه لا تنتج إلا الألم والدمار. إنها دعوة صريحة لمراجعة الموروثات الاجتماعية التي تنتقص من قيمة الإنسان بناءً على جنسه، وتأكيد على أن الهوية الحقيقية لا تُفرض من الخارج، بل تنبع من أعماق الذات.

وبتحليل آخر قصة بالمجموعة "من حقي أن أعيش": انتصار الإرادة على وصمة المجتمع وتعد أطول قصص المجموعة

تُعتبر قصة "من حقي أن أعيش" من أقوى قصص المجموعة وأكثرها تأثيرًا، فهي لا تقدم مجرد حكاية، بل هي بيان إنساني عن الحق في الحياة والحلم، ورسالة قوية ضد التمييز والجهل المجتمعي. القصة هي رحلة ملهمة من الظلام إلى النور، ومن الرفض إلى التمكين.

ملخص الأحداث: من وصمة عار إلى أيقونة نجاح

تبدأ القصة بمأساة طفلة تُدعى "نور"، التي تُشخص إصابتها بمتلازمة داون بعد ولادتها بأربعين يومًا. يرفض والدها تقبل حقيقة "إعاقتها"، ويعتبرها "وصمة عار"، ويطلب من زوجته "ليلى" التخلص منها. أمام رفض الأم القاطع، يهجر الأب الأسرة، آخذًا معه ابنتهما الكبرى "نورهان" ويتركهما بلا سند أو مال.

تكافح الأم "ليلى" بمفردها، وتواجه قسوة المجتمع والتنمر الذي تتعرض له ابنتها. تكتشف موهبة نور في الرسم وتصميم الأزياء، فتدعمها بكل ما أوتيت من قوة. تكبر نور وتعمل في أتيليه كبير، وتفوز بجائزة دولية لتصميم الأزياء، محققة حلمها.

تتقاطع الأقدار حين تدخل شابة متعالية إلى الأتيليه لطلب فستان خطبة، وتتكشف لاحقًا أنها "نورهان"، أخت نور التي فرّق بينهما الزمن. يمرض الأب ويدخل المستشفى، وهناك تحدث المواجهة الكبرى بين ليلى وزوجها السابق، وتنكشف الحقيقة المرة أمام الابنتين. تنتهي القصة باحتضان الأم لابنتيها، معلنة بداية جديدة بعيدًا عن ألم الماضي.

2. تحليل الشخصيات الرئيسية

- نور: هي قلب القصة ورمزها. تبدأ كضحية لجهل والدها وقسوة المجتمع، لكنها لا تستسلم لدور الضحية. شخصيتها تتطور من طفلة باكية مكسورة القلب إلى شابة واثقة ومبدعة تفرض احترامها بموهبتها. نجاحها ليس مجرد انتصار شخصي، بل هو انتصار لكل "المختلفين" الذين يطالبون بحقهم في الوجود وتحقيق الذات.

- ليلى (الأم): هي البطلة الحقيقية والمحارب الصامت في القصة. تمثل الأمومة في أسمى صورها: التضحية، الصمود، والإيمان المطلق. رفضها التخلي عن ابنتها هو الفعل التأسيسي الذي تقوم عليه القصة بأكملها. هي السند والحامية والمعلمة، وبدون كفاحها وتضحياتها، ما كانت قصة نور لتكتمل.

- الأب: يمثل الجانب المظلم من المجتمع: العقلية الذكورية، الجهل، والرفض القائم على المظاهر. موقفه يجسد الخوف من "العار" الاجتماعي أكثر من حبه لابنته. عودته في نهاية القصة كشخص مريض ومنكسر هي عدالة شعرية، حيث يضطر لمواجهة نتيجة أفعاله، ويصبح هو نفسه في موضع ضعف بعد أن كان مصدر القوة والقسوة.

3.- القضايا  الاجتماعية  التي  ناقشتها  القصة: الحق في الحياة والحلم: هذا هو الشعار الذي ترفعه القصة. كلمات نور التي تتردد في قلبها على المسرح ("أنا من حقي أن أعيش... من حقي أن أحلم") هي جوهر الرسالة. القصة تؤكد أن القيمة الإنسانية لا تُقاس بعدد الكروموسومات أو بالمعايير الجسدية للمجتمع.

- وصمة العار والتنمر: تسلط القصة الضوء بمرارة على كيفية تعامل المجتمع مع ذوي الهمم. نظرات الازدراء والتنمر التي تعرضت لها نور هي انعكاس لجهل مجتمعي واسع.

- قوة الأمومة: قصة ليلى هي احتفاء بتضحيات الأمهات اللواتي يواجهن العالم بأسره من أجل حماية أطفالهن. هي التي حولت الألم إلى أمل، والضعف إلى مصدر قوة.

- الإرادة تفعل المستحيل: هذه هي العبرة النهائية للقصة. نور، الفتاة التي أراد والدها موتها، أصبحت مصممة عالمية. قصتها هي الدليل الحي على أن الإعاقة الحقيقية هي إعاقة الفكر والقلب، لا الجسد.

"من حقي أن أعيش" هي قصة مؤثرة ومُلهمة، تُعلي من قيم الإنسانية والرحمة والإرادة. إنها تدعو القارئ إلى النظر إلى ما وراء المظاهر، واكتشاف الجمال والقوة الكامنين في كل إنسان، بغض النظر عن الاختلافات. من خلال رحلة نور وليلى، تقدم منال أمين درسًا بليغًا في أن أعظم الانتصارات هي تلك التي تُبنى على أنقاض الرفض والألم.

ومجمل القول  إنًّ: مجموعة "اللمبة الحمراء" للكاتبة منال أمين ليست مجرد سرد لمجموعة من الحكايات، بل هي تشريح دقيق ومؤلم لواقع الذات النسوية في رحلتها الشاقة بين أغلال القهر وسعيها الدؤوب نحو التحرر. لقد تجلت هذه الذات في صور متعددة عبر قصص المجموعة؛ فرأيناها ضحية تتألم في صمت تحت وطأة الإهمال العاطفي كما في "اللمبة الحمراء"، ومُحطمة تبحث عن هويتها المسلوبة في "من أنا؟!"  ومناضلة صامدة تكسر قيود الوصمة المجتمعية في "من حقي أن أعيش".

تنجح الكاتبة ببراعة في أن تجعل من "اللمبة الحمراء" رمزًا مهيمنًا، لا يقتصر على قصة واحدة، بل يمتد ليصبح تلك الإشارة التحذيرية التي تومض في حياة كل بطلاتها، معلنة عن لحظة أزمة حاسمة تدفعهن إلى المواجهة. فكل قصة هي بمثابة "لمبة حمراء" تضيء جانبًا معتمًا من التجربة الأنثوية، سواء كان القهر نابعًا من سلطة أبوية، أو زوج متسلط، أو مجتمع قاسٍ في أحكامه.

وعليه، فإن هذه المجموعة القصصية تمثل شهادة أدبية وإنسانية على أن التحرر ليس دائمًا ثورة صاخبة، بل هو أحيانًا قرار بالبقاء، أو إرادة للصمود، أو حلم عنيد بالوجود. إنها دعوة صادقة لاستعادة الذات التي حاول الآخرون طمسها، وتأكيد على أن لكل امرأة، مهما كانت ظروفها، الحق في أن تروي قصتها، وأن تعيش حياتها بشروطها الخاصة، لا بشروط يمليها عليها الآخرون.

***

د. نجلاء نصير

وأنا أتابع صفحة للمترشحين لسلك الدكتوراه، لفت انتباهي طلب إحدى الباحثات يتعلق برغبتها في الحصول على نموذج لتقرير يخولها تقديم مشروعها العلمي. سؤال كبير وإشكال عميق يرتبط بهذا الأمر وهو بكل بساطة كيف لنا أن نترشح لسلك الدكتوراه ولا نحسن كتابة تقرير ؟ هل يمكن لنا أن نتبنى أفكار بعضنا البعض؟ هل الفكرة ملازمة لشخصها أم هي قابلة للانتقال رغم تغيير الأسلوب؟ كان هذا محور جوابي فانهالت علي الانتقادات والقليل من أيقونات الإعجاب.

أربأت نفسي عن جدال عقيم، رغم أني غير مقتنع بذلك، لكن ونحن نمارس الإقناع يجب أن يكون ذهن المتلقي والسامع مؤهلا فيما يسميه "محمد مشبال" بالحجاج الاقتناعي وبما أننا أمام صفحة افتراضية يضعف دور النسق والسياق الذي يحكم الخطاب كما يتوارى المقام وتتلاشى الوظائف اللغوية والنصية، هنا يمكننا أن نتحدث عن بلاغة رقمية كما دعى إليها "محمد بازي" في صياغته الفريدة لأنموذج تناغم الخطاب.

تأسيسا على ما سبق هل نجازف بالإعلان عن موت الباحث؟ ليس بالمفهوم الفلسفي للموت كما تحدث عن ذلك "نيتشه"، أو بالمفهوم النقدي البنيوي كما وظفه "رولان بارت" في قراءته للنص وإنما بمفهوم الناقد البريطاني "رونان ماكدونالد"؛ في كتابه "موت الناقد"؛ إنه موت رمزي حيث تراجع دور الناقد الأكاديمي وصعود قارئ غير متخصص يقوم بعملية التقييم للأعمال الإبداعية لقد تلاشى دور الناقد ضمن منظومة الإبداع الذي ما فتئ يسعى ويتلهف إلى مصادقة النخبة المثقفة، كما توارى دور الباحث وتولى إلى الظل واستكان وقال لاطاقة لي بالبحث، وأصبح يتلمس أيسر الطرق وأسهلها في مساره البحثي فغدا متقاعسا متهاونا متكاسلا. هنا يترادف الموت مع توقف الحركة ونبض الحياة كما تعني النهاية والعدم، لكن ألا يمكن لنا استحضار مفهوما آخر للموت كما تبلور في الشعر العربي المعاصر من خلال أسطورة العنقاء، حيث مثل الموت البعث من جديد، وهنا نعلن تكوين جنين الباحث ونموه طبيعيا إلى أن يستوي قائما ونقصد هنا بالموت الحياة من جديد، نموت في تحمل نفقات الكتب والمطبوعات، موت في الصبر على القراءة، موت في شد الرحال إلى المكتبات الوطنية والدولية، موت في تتبع الندوات والمؤتمرات والملتقيات، موت في امتصاص غضب الأستاذ المشرف، موت في تخليه عنك وعدم مواكبته لك، موت في إهانة أستاذ لك، موت في سهر الليالي، موت في تأجيل حقوق ذويك، موت في مقاومة الألم والمرض.. إنه موت لحياة جديدة وولادة باحث مجد، كطائر العنقاء حينما انتفض من رماده وعاد إلى الحياة من جديد. ورغم ذلك نسعى ونساق إلى الموت مرة أخرى لأن البحث العلمي حلقة لا متناهية لها مبتدأ ولا نهاية لها. حاولت أن استحضر هذه المقاربة لجعل الموت مرادفا لشعور بلذة المعرفة، قبل تذوق لذة الحياة. أو لذة النص وهو رسالتك أو بحثك.

إن الباحث اليوم يحتضر في صخب و ياليته يحتضر في هدوء، فالعيب أن نطلب الحياة وننشدها دون أن يتسلل الموت إلى أجسادنا. الباحثون اليوم يريدون كل شيء جاهز، دراسة جاهزة، مطبوعات متوفرة، جامعة قريبة، جدول الحصص لا يتعارض مع توقيت العمل، كتب حديثة النشر بصيغة رقمية، غيابه عن المحاضرات وعن حلقات العلم والمثال الذي انطلقنا منه لكتابة هذه المقالة هو الأساس، ألا تعلم هذه الباحثة الكريمة أن تقرير الدكتوراه يأتي بعد تصور عميق الإشكال، وبعد سنوات من اختمار الفكرة واكتمالها وبعد قراءة موسعة سماها المرحوم "فريد الأنصاري،" بالرصيد المعرفي.

إن الباحث اليوم هو خريج مؤسسة تعليمية ومؤسسة جامعية، هذا الباحث الذي يتحرى الحياة دون الموت، فما هو زاده المعرفي والعلمي ليمارس سلطته البيداغوجية والعلمية في تقديمه لمنتوجه، تنهار السلطة، وتنهار القيم، ومسؤولية المؤسسات الجامعية والتعليمية واضحة، ومسؤولية الباحث ثابتة، على الجميع أن يقتفي أثر الموت ليحيا من جديد. لقد تحدث "صلاح بوسريف" عن هذا الأمر من خلال ثلاثية العلاقة بين الجامعة والأستاذ والطالب حيث قال: " «الطالبُ، مُتعلِّم، يمتلك الرغبة والاستعداد للمعرفة والاكتشاف، وهو طالِب، بهذا المعنى، الذي هو نوع من النَّهَم المشروع الذي يسمح باستغراق المعارف والعلوم لحياة هذا الطالب..... والجامعة في هذه الحالة تكون وسيلة من وسائل عقلنة وتنظيم البحث، وعقلنة وتنظيم المعارف، ووضع الطلبة في سياق هذه العلوم، لا باعتبارها تخصُّصات صِرْفَة، بينها سياجات لا تسمح بالذهاب إلى غيرها من المعارف والعلوم».

لقد مات الباحث وترك مكانه لمتطفل على البحث العلمي متقاعس كسول يستعين بالذكاء الاصطناعي، ويعول عليه في تحرير بحوثه دون أدنى مجهود منه، إن هذا الطالب المتقاعس الكسول سيسهم في تدني مؤشرات البحث العلمي، ويكرس ثقافة التواكل، وستنتج بحوثا رثة سيئة المنهج وركيكة اللغة، وخالية من مضمون فكري.

***

د. عبد المجيب رحمون

دراسة تحليلية رمزية نفسية وتأويلية في قصيدة «شجرة نسيان» للشاعر أيمن معروف

بين النسيان والركض كاستعارتين للوجود، يقدّم الشاعر أيمن معروف في قصيدته «شجرة نسيان» وهي تجربة شعرية تتجاوز البنية الوصفية إلى ما يمكن أن نسمّيه تفكيكاً وجودياً للذات عبر رموز النسيان والركض، حيث يتخذ النسيان هيئة الخلاص والتلاشي في آنٍ واحد، بينما يتحوّل الركض إلى حركة بلا اتجاه، دائرية ومفتوحة على فراغ الوجود.

منذ المطلع، يعلن الشاعر انكساره بلغة صادمة:

«كنتُ شاعراً. أكلني الذئبُ في الطريقِ / ولم تلتفتِ السيارةُ والمارّةُ...»

في هذه الجملة تتكثّف ثنائية الحياة والمحو، فالشاعر هنا ليس فقط منبوذاً، بل ضحية اغتراب مزدوج: اغتراب عن العالم الخارجي (المارة والسيارة)، واغتراب عن ذاته الشاعرة التي ابتلعها «الذئب»؛ وهو رمز الغريزة والخراب والوحشة.

أولاً: الرمز بوصفه بؤرة الوجود الشعري

يحمل النص بنية رمزية مركبة، حيث يتحول النسيان إلى جوهر أنطولوجي (وجودي) يُعاد فيه تشكيل الذات بعد فنائها:

«صار النسيان مادتي الخام، يمحوني ثم يعيد تشكيلي...»

هنا يرتقي الشاعر بالنسيان من مجرد فعل نفسي إلى فلسفة للحياة. فكما يقول هايدغر، إن الإنسان لا يوجد إلا في قدرته على النسيان، لأن «الوجود ذاته هو إمكان يتبدّى في الانفتاح على العدم».

النسيان إذن ليس هروباً، بل ولادة ثانية عبر الفناء. وهذا يتقاطع مع رؤية نيتشه حين قال إن الإنسان لا يمكنه أن يبدع إلا إذا امتلك «قدرة نسيان فعالة»، تتيح له التحرر من ثقل الماضي.

ثانياً: البنية النفسية – الركض كأعراض القلق الوجودي

القصيدة بأكملها تُبنى على تكرار فعل واحد:

«أركض... أركض... أركض دون اتجاه»

يتحوّل الركض إلى علامة نفسية للقلق الوجودي، أشبه بما وصفه كيركغارد بـ«دوّار الحرية»، أي ذلك الشعور بالانفصال عن المعنى في عالم بلا مركز.

الركض هنا ليس فعلاً حركياً، بل تجسيداً لانعدام السكون الداخلي. فالشاعر لا يركض ليصل، بل يركض لأنه لا يستطيع التوقف.

وهذا ما يجعل النص أقرب إلى الاعتراف النفسي المتعب، حيث تختلط الحركة بالمحو:

 «أركض في داخلي. أركض في كل اتجاه. دونما أسف أو ندم»

إنه ركض داخلي، في دهاليز النفس لا في الطرقات، وكأن الشاعر يسير في متاهة صمّاء لا تفضي إلا إلى ذاته المنهكة.

ثالثاً: المستوى التأويلي (الهيرمينوطيقي): النسيان كإعادة قراءة للذات

تقوم القراءة الهيرمينوطيقية على تفكيك النص من خلال دائرته التأويلية؛ أي العلاقة بين الجزء والكل، بين التجربة الفردية والرؤية الكونية.

فكل مقطع من القصيدة هو حلقة في دائرة التلاشي والولادة، يبدأ بالمحو وينتهي بالتشكل.

 «يمحوني ثم يعيد تشكيلي... لأتمّ عدّة الطريق»

هذه الجملة تلخّص البنية التأويلية للنص: الطريق بوصفه مجازاً للوجود، والعدّة هي التجربة الشعرية والإنسانية التي لا تكتمل إلا بالضياع.

فالنسيان هنا ليس خصماً للذاكرة، بل معنى مكمّل لها؛ إذ لا يمكن للذات أن تتعرّف على نفسها إلا عبر ما تنساه.

في هذا السياق، يذكّرنا النص بمفهوم الذاكرة والنسيان عند بول ريكور الذي يرى أن النسيان «ليس غياباً للذاكرة بل أحد وجوهها، حين يُعاد تشكيل الماضي في صورة جديدة».

ومن هذا المنظور، فإن الشاعر «يتصالح مع نسيانه» ليولد من رحم العدم كذات أخرى، أكثر وعياً، لكنها أيضاً أكثر وهناً.

رابعاً: الصور الشعرية والإيقاع:

تُبنى القصيدة على صور متتالية تُحوّل المجرد إلى محسوس:

 «أُقشّر كمأة الغياب وأبكي»

«أجعل من حبّات الدمع أعشاش طيور»

في هاتين الصورتين يزاوج الشاعر بين الألم والتحوّل، بين الدمع بوصفه سقوطاً والطيور بوصفها صعوداً. إنها جدلية الانكسار والبعث، حيث يتحوّل الحزن إلى إمكانٍ للحياة.

الإيقاع الداخلي للنص متولّد من تكرار الفعل «أركض»، الذي يمنح القصيدة موسيقى نفسية أشبه بصفير اللاوعي. التكرار هنا ليس زخرفة بل إيقاع للهاجس، كما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري: «الإيقاع هو زمن المعنى».

إذ تتوالى الأفعال والحركات لتخلق موسيقى داخلية تترجم التوتر الوجودي للشاعر بين الرغبة في الثبات واستحالة التوقف.

خامساً: البعد الفلسفي والرمزي لشجرة النسيان

في الختام، تُختزل التجربة في صورةٍ ميتافيزيقية:

 «أنا، شجرةُ نسيانٍ طويلة»

هنا يتحقق الاندماج الكامل بين الذات والرمز.

الشاعر لم يعد يصف النسيان، بل أصبح هو ذاته النسيان.

الشجرة ترمز إلى الجذور والامتداد في آنٍ واحد، والنسيان إلى المحو، فالتعبير يجمع بين الثبات والزوال، بين الحياة والموت، في ما يشبه التحوّل الهيراقليطي الدائم حيث «كل شيء يتغير ولا شيء يبقى».

إنه كائن من نسيان، ممتد في الزمان، بلا ذاكرة، بلا مرفأ، بلا هوية إلا الركض نفسه.

خاتمة: الشعر كنجاة من الوعي الثقيل:

تبدو «شجرة نسيان» نصًّا عن عبث الوجود في عالمٍ فقد مركزه، وعن انكسار الإنسان الحديث أمام تيه المعنى وتضخم الذاكرة.

فالشاعر، مثل سيسيف، يركض نحو لا شيء، لكن في هذا الركض ذاته تكمن بطولته المأساوية.

يؤكّد النص أن الشعر لا يخلّد الذاكرة، بل يمنحنا نسياناً مضيئاً نواجه به ظلمة الوعي، وأن الخلاص لا يكون بالاستقرار، بل في الحركة الدائمة نحو المجهول.

كما لو أن الشاعر يقول مع ألبير كامو في أسطورة سيزيف:

 «علينا أن نتصور سيزيف سعيداً، وهو يجرّ صخرته إلى أعلى الجبل».

ففي النسيان ـ كما في الركض ـ تتجلى مأساة الإنسان وجلاله في آنٍ واحد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..................

شجرة نسيان

بقلم: أيمن معروف          

كنتُ شاعراً.

أكلَني الذّئبُ في الطّريقِ

ولم تلتفت السَّيَّارَةُ والمارَّةُ والعائدونَ

منَ الصّيدِ، لوجودي.

*

هكذا،

اكتشفتُ اسمي في النّسيان

وسرعانَ ما ضيَّعتُهُ

في النّسيان.

*

صار النّسيانُ

مادَّتي الخام يمحوني ثُمَّ يُعيدُ

تشكيلي ويوصلُني منْ جديد لأتمَّ

عدّةَ الطريق.

*

الاتّجاهاتُ

ندوبٌ في مرآتِيَ المُحدَّبة

ودمي، بحذافيرِهِ في كلمةٍ سوداء

على الجريدةِ، أبيض.

*

ابْيَضَّ دمي.

والأيّامُ الضّخمةُ جعلتْني أجرُّ رأساً هائلاً

ومجنوناً طوالَ تلك السّنين،

وأركض.

*

أركضُ في داخلي.

أركضُ في كلِّ اتّجاه. دونما أسفٍ

أو ندمٍ، أركض.

*

منْ سلالةِ العدّائين.

ومع هذا لم تذكرني الإذاعاتُ أو تأتي

على اسمي الصُّحف.

*

أرمي جسدي

مثلَ شيءٍ في الطّريقِ،

وأركض.

*

أُلمِّعُ كوارثَ النّهار

وأحملُها مثل أخطاءٍ قديمة

ولا أستعمل التّذكّر.

*

أُقشِّرُ

كَمْأَةَ الغيابِ، وأبكي. أبكي،

وأنا أركض.

*

أجعلُ منْ حبّاتِ الدّمعِ

أعشاشَ طيورٍ أكمنُ لها في قلبِ الوردةِ،

وأركض.

*

أركض. أركض.

أركضُ دونَ اتّجاهٍ. أركضُ

دونَ أثر.

*

نسيتُ،

حياتي، هناكَ، أركض.

*

أركضُ،

في البلادِ الّتي ليسَ فيها

سوى الرّكض.

*

ملءَ يدي

ثلاث علبٍ للتّيه وثلاثُ حماماتٍ

تلمعُ في عينيَّ وعلى جبيني

قوسُ قزح.

*

أنا،

شجرةُ نسيان طويلة.

 

لا تُعدّ هذه القصيدة مجرّد استعراض لغوي أو تقنية شعرية صرفاً، بل هي تجربة شعرية مركّبة، تبحر في عوالم الرؤيا، وتغرف من ينابيع الصوفية، وتنطلق من نبع الدين، ثمّ تشدّ نحو الفكر، ثم نحو المجتمع، ثم نحو الذات.

نصٌّ بهذه الكثافة الميتافيزيقية، وهذا التوقد الشعري الذي يتخذ من الهلال الخصيب رمزًا كونيًّا وتاريخيًّا في آن، لا يُقرأ كما تُقرأ القصائد، بل يُؤوَّل كما تُؤوَّل الرؤى. إنه نصٌّ يتداخل فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالعرفان، والنبوءة بالحسرة، حتى يغدو الشعر فيه لسانًا للوجدان الجمعي الذي يعاني تمزّق الجغرافيا وانكسار الوعي، لا صوت شاعرٍ فردٍ فحسب.

منذ الاستهلال:

"وَلَمّا رأى في الجنّتينِ حرائقَا ... ورُؤيا بها النيرانُ شَبّتْ حقائقَا"

يُعلن الشاعر انفتاح رؤياه على مشهد الخراب، على الجنتين اللتين لم تعودا جنتين بل رمزين للخصب المحترق، بلاد الرافدين وبلاد الشام، وقد أضحت النار فيهما "حقيقة" بعد أن كانت مجرّد نذرٍ في الرؤى. هنا، يستحضر الشاعر صورة النبيّ الرائي، لا الشاعر فحسب؛ ذلك العارف الذي يمضي في طريق النور حاملاً مصابيح الغائبين، كما قال:

"مضى في طريقِ العارفينَ مُنوّراً ... مصابيحَ مَنْ لا يُبْصِرونَ طرائقا"

إنه شاعر/ نبيّ، على طريقة المتصوفة الكبار (ابن عربي، الحلاج، والسهروردي)، يقرأ النار لا كعقابٍ بل ككاشفٍ، والخراب لا كفناءٍ بل كاختبارٍ كونيّ لمعنى الخلق. فالشاعر هنا لا يصف ما يرى، بل يؤوّل النار كحقيقة وجودية، يكتشف من خلالها جوهر الهزيمة ومعنى التطهير.

يتنقّل النص في منعرجات متعدّدة من الحسّي إلى المجازي، ومن الواقعي إلى الصوفي، في نَفَسٍ شعريّ طويل لا يكلّ، حتى ليبدو وكأنه سفرٌ عرفانيّ عبر خرائط الجرح العربي. فهو مرةً يستحضر رموز الأرض (النخيل، الفرات، الجنائن، الحداء، اليمامات...) ومرةً يصعد إلى المقامات الروحية حيث الوجدان يهطل كوثراً والخيال يفيض بواتقاً.

وحين يقول:

"خصيبيّةُ الأمدادِ صوفيّةُ الرُؤى ... تطيرُ إلى معنى الوجودِ بيارقا"

فهو يعلن التحام المكان بالروح. إن الهلال الخصيب، في رؤياه، ليس جغرافيا فحسب، بل حالة وجدٍ روحيّ، موطن النبوءة الأولى، حيث يتجلّى الإلهي في الطين، وتتمازج الزراعة بالحكمة، والنهر بالسماء. إنّه مهدُ الكلمة الأولى، وجرحها الأخير.

على الصعيد الرمزي، تتجلّى القصيدة كرحلة من الضلال الجمعي إلى الوعي الكوني. فالشاعر، وإن بدا مصلحًا أو حكيماً في ظاهر القول، يقرّ بتجربته المزدوجة بين الحكمة والزندقة:

"فلسْتُ حكيماً بل أسيرَ نبوءةٍ ... ولم أكُ يوماً بالمواعظ حاذقا"

"وحَسْبُكَ شطحٌ حازَ طعْمَ تَزنْدُقٍ ... وَرُبَّ مُريدٍ قد تزندقَ صادقا"

إنها إشارة عميقة إلى الجدلية الصوفية بين الكفر والإيمان، بين الحرف والحقيقة؛ حيث لا ينال العارف المعرفة إلا عبر "الشطح"، أي الخروج عن حدود المألوف، كما فعل البسطامي والحلاج.

فالشاعر هنا لا يبرّئ نفسه من الشطح، بل يحتفي بها كمرحلةٍ في طريق الكشف.

بهذا المعنى، تتحوّل القصيدة إلى تجربة كشفٍ وجوديّ، يُستمد فيها الوعي من نار الخسارات، لا من بارد اليقين.

وحين تنحدر القصيدة إلى مآسي الراهن العربي، تنتقل من الرمز إلى الاعتراف السياسي الفاجع:

"أيا جارتا ويْلَ العروبةِ بعدما ... مَحا الصنمانِ الأكبران علائقا"

الصنمان الأكبران هنا رمزان مزدوجان: للسلطة والاستبداد، وللعقيدة الزائفة التي استعبدت الوعي.  إنّها صرخة ضدّ تآكل المعنى في زمنٍ تآكلت فيه الأوطان، حين صارت العروبة وهماً، والناس بيادق على رقعة الشطرنج، كما يقول بمرارة:

"أكُنّا كما الغرقى بوهمِ عروبةٍ ... على رُقعةِ الشِطْرنْجِ نعدو بَيادقا"

هنا يلتقي الشاعر مع محمود درويش في "مديح الظل العالي"، ومع أدونيس في نزعة تفكيك الأوثان، ومع السيّاب في رثاء الرافدين؛ لكنه يختلف عنهم في أنه لا يكتفي بالنقد، بل يحوّل الوجع إلى طريق عرفانيّ، إذ يواصل إشعال القوافي "كي تقوم حدائقاً".

الشعر عنده ليس ترفاً بل مقاومة روحية:

"بأنّي على نارِ الجنائنِ لم أَزلْ ... أزُخُّ القوافي كي تقومَ حدائقا"

هذا الشعر، في عمقه، تأملٌ في معنى البقاء الإنساني وسط العدم. إنّه يصرّ على أن الشعر يمكن أن يكون صلاة، وأن الكلمة ما تزال قادرة على إنقاذ ما تبقّى من الروح. حين يقول:

"أعوذُ بشعري والمعوذةُ فرقدٌ ... يَراهُ فؤادي في القصيدةِ شاهقا"

فهو يُعلن الشعر ملاذًا لا عقيدة، والنصّ معراجًا نحو العدالة المفقودة:

"ويرنو إلى كنه العدالة جوهراً ... فلم يرَ ما بين الأنام فوارقا"

هنا تتجلّى الروح الإنسانيّة الكونية التي تتجاوز العروبة بمعناها الضيق، لتستبصر جوهر العدالة الإلهية التي تسوي بين الخلق.

أما البعد الصوفي الرمزي في الختام فيبلغ ذروته في قوله:

"بِقلبٍ على جمرِ الحقيقةِ عاكفٍ ... وقدْ فاضَ تنّورُ الخيالِ بَواتِقا"

إنه قلب العارف الذي يلتهمه جمر الحقيقة، لا لينطفئ بل ليُضيء. فالنار هنا ليست فناءً بل تطهيراً، والخيال ليس هروباً بل تنورًا تُصهر فيه الحقائق حتى تتجلى صفوتها.

إنها صورة للوعي المتوهج الذي يعيد خلق العالم بالكلمة، في زمنٍ تعفّن فيه الخطاب.

في المحصلة، تمثّل "الهلال الخصيب" قصيدةً تجمع بين المأساة والرجاء، بين الخراب والنبوءة، بين الكلمة والمعنى. هي ليست بكاءً على الماضي، بل استنهاضٌ للوعي الجمعي، وتذكيرٌ بأن الشعر يمكن أن يظلّ الضمير الأخير للأرض المحروقة.

إنها قصيدة تكتب جغرافيا جديدة للروح، في عالمٍ فقد بوصلته، وتعيد إلى الشعر مهمته الأولى: أن يكون مرآة الوجود حين تنكسر المرايا، وأن يوقظ فينا ما نسيه التاريخ، أن الهلال الخصيب، مهما احترق، سيبقى خصيبًا، لأنه ينبت من رماده المعنى.

***

سعاد الراعي - درسدن/ المانيا

25.10.30

...................

رابط القصيد

https://www.almothaqaf.com/nesos/984171

باسل الخليل – روائي وناقد أدبي من سوريا مدينة حلب، مواليد 1971 – يحمل شهادة هندسة كهربائيّة من جامعة حلب – صدر له رواية: (لوحة تحت الرماد) والثانية (طوق النار). لا زالت مخطوطا. وله عملان مسرحيان لا زالا مخطوطين – يكتب النقد المسرحي – نال عام 2024 شهادة تقديريّة على قراءاته النقدية لجميع عروض المهرجان المسرحي المقام في حلب – يكتب القصة القصيرة جداً – عضو جمعيّة العاديات في حلب – وعضو مؤسس في منتدى الكواكبي للحوار الثقافي في حلب .

البنية الحكائيّة أو السرديّة للرواية:

في الأزمات التي تمر بها المجتمعات والدول، وخاصة الأزمات الداخليّة التي تخلفها السلطات المستبدة في دولها الشموليّة بما تمارسه على مواطنيها، من قهر وظلم وفقر وغربة وتشيء، والأهم تسلطها على الشعب وإقصائه عن دوره التاريخي في بناء الفرد والدولة والمجتمع، نجد أن هذه الأزمة تبدأ بالتصاعد حتى تصل إلى حرب أهليّة بين مكونات المجتمع، وأهم أطرافها هنا، القوى الحاكمة التي غالباً ما تتكئ على مرجعيات تقليديّة دينيّة طائفيّة أو سياسيّة حزبيّة تدعي العلمانيّة، لكنها منخورة من الداخل ببعد طائفي أو قبلي فاقع لا تستطيع القوى الحاكمة إخفاءه بكل ما تدعيه دساتيرها وإعلامها وسياساتها الداخليّة والخارجيّة.

إن رواية (لوحة تحت الرماد) تأتي في هذا السياق، لدولة ومجتمع مأزومين، هما الدولة السورية والمجتمع السوري. فكل مفردات بنية هذا الرواية تتحدث عن أزمة دولة صنعتها قوى حاكمة طائفيّة سخرت سلطة الدولة لمصلحتها لعشرات السنين، وحكمت باسم حزب علماني همشته هذه الطبقة الحاكمة وسخرته لمصلحتها واستمرارها بالسلطة، والنتيجة صراع داخلي بين مكونات المجتمع الأساسيّة، أدت إلى حمل السلاح للتعبير عن المصالح الأنانيّة الضيقة، وكيفيّة الدفاع عنها فكانت شهوة الدم أهم تجلياتها.

لقد استطاع الأديب الروائي "باسل خليل"، وهو من أبناء مدينة (حلب)، المدينة الأهم في سوريا بعد العاصمة دمشق، بل هي المدينة التي تشكل الخزان الاقتصادي لسوريا من جهة، وهي المدينة التي عانت كثيراً في هذه الأزمة من جهة أخرى، أن يسلط الضوء على الكثير مما عاناه أبناء مدينة حلب كما سيمر معنا في عرضنا للبنية الحكائية للرواية.

تقوم البنية الحكائيّة للرواية على عرض شخصيات نالت منها الأزمة السورية، فمنها من ظل متمسكا بقيمه النبيلة فكان كالماسك على جمرة من نار، ومنها من فقد توازنه وسار بطرق ملتوية بحثاً عن شهوة المال والجنس، ومنهم من تقبل مصيره برضى أو مجبراً وراح يؤقلم نفسه مع ما يحيط به من مآسي.. الخ.

إن الرواية تتحدث عن مهندس معماري (نبيل) يحمل قيماً نبيلة على اسمه، أبا أن تلوثه الأزمة كما لوثت غيره من أصدقائه في دائرة العمل كالمهندس "سليمان" الذي راح يقبل الرشاوى من المتعهدين، وعندما حاز على النقود هرب إلى خارج القطر، أما "نبيل" فقد هُمش ووضع في قبو الأرشيف، وفقد الكثير من امتيازاته الماديّة والمعنويّة، فاضطر أن يعمل بعد الدوام سائق تكسي أجرة، عند مالك لهذا التكسي الذي راح يسخر منه بدوره كما سخر منه المسؤول عنه في الدائرة، وكذلك زوجته "نوال" الموظفة في أحد البنوك، والتي كانت تلومه على قيمه النبيلة، وتذكره دائما بصديقه "سليمان" والرفاهية التي يعيش فيها وأسرته.

أما "سمر" فهي الابنة الوحيدة كأنثى لـ (نبيل ونوال)، الطالبة في كليّة الحقوق، والتي تربطها بزميل لها في الجامعة علاقة حب صادقة هو "فادي" ابن صاحب المطبعة التي تدمرت وسُرقت بسبب الحرب، فطلبت منه زوجته أن يعمل بائع خضروات شأنه شأن الفنان التشكيلي الذي فقد الكثير من موارده فحل به الفقر وراح بدوره يبيع خضروات لتأمين لقمة عيشه.

يقع منزل "نبيل" في حي (الجابرية)، حيث كان نقطة مواجهة مع المعارضة، أصابته قذيفة فأتلفت جزءاً منه، ولكون المنزل في نقطة مواجهة، اضطر أن يستأجر منزلاً في حي (محطة بغداد). وللمصادفة أن هذا المنزل كانت فيه لوحة قديمة تالفة، أراد "نبيل تغييرها بلوحة جديدة، وعند شروعه بإنزال اللوحة القديمة، وجد صندوقا مليئاً بالليرات الذهبيّة في حفرة داخل الجدار قد غُطيت باللوحة. وهنا يدور حوار طويل بين "نبيل وزوجته نوال"، حول الليرات الذهبية، فنبيل يريد إبلاغ أبي (مروان) صاحب المكتب العقاري عن صندوق الذهب، كي يرجعه إلى ابن صاحب البيت المستأجر الذي مات مع زوجته في حادث تسرب غاز، و"نوال" ترفض فكرته معتبرة أن هذا حق أسرتها وهي هديّة لهم من الله.

فكانت النتيجة من هذا الصراع بين الزوجين، أن تقوم "نوال" بسرقة الذهب، دون علم زوجها وبيعه، وعندما عرف زوجها "نبيل" بالسرقة، طلب منها إرجاع الذهب كي يسلمه لأهله، لكنها رفضت بشدّة، وقامت بشراء أثاث جديد للمنزل بدل الأثاث القديم، عند ذلك لم يعد زوجها يتحمل تصرفاتها فانهار بجلطة أقعدته في المنزل، وأهمل زوجته كليّا، فراحت بدورها غير مبالية بوضع زوجها الصحي، تبحث عن موارد ماليّة جديدة من خلال توظيفها جزءاً من قيمة الذهب في مشروع محولة كهرباء مثلاً، شاركت بها سراً جارهم صاحب محل الأمبيرات، حيث اتفقت معه على شراء محولة من قبلها والربح مناصفة، ولكن المحولة تصيبها قذيفة فتتلف من مكوناته ما يقارب 40%، الأمر الذي دفعها للاتفاق مع صاحب الأمبيرات على بيعها وفك الشراكة.

وعند شراء الأثاث تعرفت على (ماهر) العامل في محل المفروشات، وهو رجل فاسد له علاقات مع ضباط وعساكر بالجيش ومنهم (المقدم أحمد) المسؤول عن حاجز (حي محطة بغداد)، أوهمها بأنه هو صاحب محل المفروشات ويده طايلة وخاصة مع ضابط حاجز محطة بغداد فصدقته، واتفقا على فتح محل مفروشات آخر في حي المحطة تقوم هي بتمويله. وتم فتح المحل الجديد، وكان قد وعدها بأن يعرفها على (المقدم أحمد). بعد عدّة أيام من افتتاحه يأتي المقدم إلى المحل بالاتفاق مع (ماهر ونوال)، بذريعة المباركة خاصة وأن "ماهر" أوهم المقدم أحمد بأن "نوال" مغرمة به، وعند دخوله والترحيب به يتذرع "ماهر" بأنه سيذهب لشراء علبة دخان، بعد خروجه يحاول "المقدم أحمد" التحرش بها فتجري بينهما مشادّة، وعند رفضها طلبه الخسيس، يقول لها لماذا تمانعين وماهر قال بأنك معجبة بي وترغبين بالمحظور. ونتيجة المشادّة بينهما يخرج أصحاب المحلات المجاورة من محلاتهم على ما جرى بينهما، وهنا يضطر المقدم ماهر للهروب غاضبا، وتترك "نوال" المحل بدورها وتقرر الانتقام من ماهر.

بعد عدّة أيام تأتي "نوال" إلى محل المفروشات، وتطلب من ماهر تصفية الحساب واسترداد أموالها، وتُقرعه على ما قاله للمقدم "أحمد" بحقها، فتجري بينهما مشادّة تصل إلى حد استخدام الوسائل الحادة، تحاول ضربه بسكين لكنه يمسك يدها ويلويها ليدخل جزء من السكين في خاصرتها اليسرى، يهرب ماهر وهي يغمى عليها، يحملها جيران المحل إلى المشفى، وهناك بعد خروجها من المشفى مع ابنتها "سمر"، تتعرض لحادثة اغتيال من قبل سيارة عسكريّة يبدو (المقدم أحمد) كان وراء تدبيرها بغية قتلها للتغطية على جريمة ماهر التي كان هو السبب وراءها.

أثناء وجود سمر في المشفى مع أبيها لمتابعة وضع والدتها، يأتيها اتصال هاتفي يقول إن فادي حبيبها قد استشهد.

البنية الفكريّة للرواية

لقد استطاع الروائي "باسل خليل" بما يمتلكه من ثقافة عالية، أن يغوص في عالم الأزمة السورية وتجلياتها السلبيّة في حلب خاصة، وما جرى في حلب برأيي لا يختلف إلا في الدرجة عما جرى في بقية المحافظات والمدن السورية من دمار وفساد وانتهاك لأعراض الناس وإسالة للدماء وسرقة وتعفيش لممتلكات الناس.

في رواية (لوحة تحت الرماد) تقف في الحقيقة أمام لوحة سرياليّة في دلالاتها، تجلت في تعدد ألوانها وخطوطها وظلالها وأبعادها الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة.

فمنذ بداية الرواية، تجد نفسك أمام عمل روائي يسعى إلى كشف عمق الفساد الذي حل داخل المجتمع السوري، من الفرد إلى الأسرة إلى بنية الدولة والمجتمع.

فـ "سليمان" كان أنموذجاً عن شريحة الانتليجنسيا التي ركب قسم كبير منهم صهوة الفساد، وكذا الحال عند عناصر أهم مؤسسة تحمي الوطن وتدافع عنه، كما هو الحال في شخصيّة المقدم "أحمد"، كما صور الروائي كيف تبلور الفساد عند السفلة والمنحطين أخلاقيّاً وسلوكيّاً ممن هم في القاع الاجتماعي، الذين أصبحوا يصولون ويجولون في الدولة والمجتمع كشخصيّة "ماهر". أو عند أنموذج من الشخصيات المهزوزة في داخلها كشخصيّة "نوال" الزوجة التي ضاقت بها الحياة بعد تدمير جزء من منزل الأسرة، وتردي الوضع الاقتصادي، فانهارت قيمها مباشرة عند كشفهم الذهب في البيت المستأجر. ولكن في المقابل يسلط الروائي الضوء على شخصيّة "نبيل" الذي أراد من خلالها أن يقول لا بد من وجود الناس الخيرين الذين تمسكوا في مبادئهم الأخلاقيّة رغم قلتهم كي تستمر هذه الحياة من مبدأ لو خليت لقلبت.

كما أراد الروائي "باسل" أن يبين في الرواية أن الحب الصادق لا يستطيع أحد أن يلغي وجوده من حيث الجوهر، ولكن يمكن أن توضع أمامه معوقات كثيرة تحول دون السير به قدما، كما هي الحال في قصة الحب بين "سمر" و "فادي" حيث أدت الأزمة إلى مقتل "فادي" على خطوط التماس مع المعارضة.

كما سلط الروائي "باسل" الضوء أيضاً على ظاهرة الدمار المادي والروحي الذي دفع التاجر الذي سرقت ممتلكاته أن يبحث عن أي عمل شريف لتأمين لقمة العيش، كما جرى لوالد "ماهر" والفنان التشكيلي المبدع.

والأهم في هذه القضايا الفكريّة تأتي مسألة الهجرة والهروب من الوطن، بحثا عن الأمن والأمان، رغم كل المخاطر التي تعرض لها الكثير من المهاجرين، إن كان فقدانهم لحياتهم أو إذلالهم في دول المهجر، وهذا ما ساهم في غياب الشعور بالمسؤوليّة والانتماء اتجاه الوطن والمواطنة.

البنية الفنيّة للرواية:

البعد السيميائي أو الدلالي لعنوان الرواية:

يحمل عنوان الرواية دلالات عميقة وعديدة معا، وهذا يدل على عمق ثقافة الراوي "باسل خليل" الذي استطاع أن يختزل في رأيي مسألتين أساسيتين تعبران عن البنية الرواية في هذا العنوان، وهما:

الأولى: مباشرة، تتعلق باللوحة التي وجد خلفها الكنز.

والثانية: الدلالة المعنويّة أو المعرفيّة التي أراد الروائي أن يعبر عنها، إن كان فيما تركته هذه اللوحة من معاناة لأسرة "نبيل" من ضياع وانهيارات أخلاقيّة وجسديّة من جهة. أو التعبير أيضا عن الأزمة السورية بما حملته من مواقف رديئة من الناحية السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والقيميّة داخل بنية الدولة والمجتمع السوريين عموماً. وهذ ما أكده الروائي على لسان فادي مع حبيبته سمر قائلا عن الوطن: (الوطن لا يخسر أبداً إن كان هناك من يدافع عنه... فترد عليه سمر: أيّ وطن هذا وقد بات خراباً.. علينا ألا ننسى: طالما لم نغادره فكلنا مشاريع موتٍ مؤجلة..).

الأسلوب السردي في بنية رواية (لوحة تحت الرماد)

لقد امتاز أسلوب سرد الرواية بالاقتصاد والدقة ورهافة الأسلوب، وجماليّة اللغة وسهولتها وشفافيتها، ودقة توظيف العبارات والصور والبيان فيها. وهذا ما جنب الراوي الوقوع في السرد التقريري أو الإنشائي المجاني. لقد جعل "باسل خليل" من الرواية لوحات متتابعة، تمثلت في تعدد فصولها وفقرات كل فصل فيها، حيث جاءت مرسومة بألوان حيّة مجللة بأطياف من الحزن والأسى والفرح والسخرية معاً.

لقد صاغ الروائي "باسل الخليل" الكثير من مظاهر الأزمة السورية، وما عبرت عنه من ضياع وتخلف وجهل وفساد، وذلك في ضوء وإيقاع وزوايا تصوير، وحشد الكثير من الطقوس والوقائع الواقعيّة.

إن رواية (لوحة تحت الرماد) يَقْبِلُ المتلقي على قراءتها بحفاوة، ويعكف على تأملها وتقصي أبعادها بجديّة واهتمام. وهذا يعود إلى أن الروائي يؤمن بدور الأدب في الحياة وتأثيره في الأزمات حيث يقول الروائي على لسان "نبيل" لابنته "سمر" بعد أن أصيب بالشلل وسألته عن أهمية القراءة بالنسبة له وهو الرجل المثقف: (إن أهمية القراءة وانشغالي بالشخصيات والأحداث والأفكار، ينتشلني من سفاسف الأمور وتوافه (القيل والقال).. هذا الانشغال يبعد عني شبح الفناء والفراغ وبالتالي فقدان الأهمية..).

لقد تميز أسلوب الرواية وبناؤها بالإحكام والانسيابيّة والرصانة. كما صاغ الراوي روايته في سرد روائي طغت عليه اللهجة الشعبيّة (الحلبيّة) بكل بديعها، إضافة لاتكائه كثيرا على المثل الشعبي لإدراكه العميق بأهميّة المثل الشعبي في اختزال تجارب الإنسان في هذه الحياة. هذا وظلت اللغة العربية الفصحى التي يتقن التعامل معها بطريقة بسيطة وسهلة وواضحة، هي أساس السرد في الرواية، وهي اللغة التي استخدمها بمعرفة عالية في بنية السرد، وخاصة عندما يتدخل لربط حوادث الرواية مع بعضها ومنحها حالة الانسيابيّة والتكامل.

طريقة الأسلوب السردي الذي اعتمد الراوي عليه في الرواية؟.

ما ميز طريقة السرد في الرواية، هو مشاركة السارد للشخصيات، أو ما يسمى (الرؤية مع)، حيث تكون فيها الشخصيّة هنا هي الساردة، من جهة، وهي تتشارك مع السارد – الروائي - أيضاً في تقديم أحوال الشخصيّة والأحداث من جهة ثانية. إن كثرة المواقف الحواريّة في الرواية جعلت الروائي يعطي لشخصياته حريّة واسعة في التعبير عن قناعاتها.. فالشخصيّة ليست جاهلة بما يعرفه الراوي عنها، ولا الراوي بجاهل عما تعرفه الشخصيّة عن نفسها.

ارتباط الحدث بالشخصيّة في بنية الرواية:

إن ارتباط الشخصيّة ببنية الحدث جاء ارتباطاً عضويًاً، وهذا الارتباط يدفعنا إلى القول: لا يمكن أن نتصور وجود شخصيّة في الرواية بدون حدث، ولا حدث دون شخصيّة، لأن الشخصيّة هي التي تصنع الحدث في الرواية، فهي القوة المولدة للأحداث تؤثر فيها وتتأثر بها. وأي خلل في بناء الشخصيّة والحدث معاً سيخل ببنية الرواية بالضرورة، ويحط من فنيتها التي لا يمكن أن تتحقق إلا بالترابط والانسجام بين الشخصيّة والحدث. لذلك وجدنا في رواية (لوحة تحت الرماد)، ذاك الارتباط الوثيق بين كل شخصيّة من شخصياتها مع أحداث الرواية، ومع زمانها ومكانها، وبالرغم من أن كل شخصيّة منها، الرئيسة أو الثانويّة أو الهامشيّة لها دورها في صنع الحدث الخاص بها، إلا أن الراوي استطاع أن يشكل من كل هذه الشخصيات والأحداث التي قامت بها، بنية عامة للرواية تجعل المتلقي يعيشها وينشدّ لمتابعة تفاصيلها الحدثيّة، وكأنها حلقات مسلسل تلفزيوني مترابطة مع بعضها.

على العموم: لقد تميز تصوير الراوي لروايته بالحيويّة وتسارع الايقاع، وذلك بسبب نأي الراوي عن السرد التقريري والانشائي أو التسجيلي كما بينا في موقع سابق، فكان سرد الرواية سرداً يتدفق في سلاسة وانسيابيّة وبساطة.. سرداً حافلاً بمفردات من الصور والمواقف والحوارات يتوالى في إيقاعات منضبطة ورصينة، وفي توازن دقيق بين الواقع والخيال، وبين الفكر والعاطفة، وبين الحكي المألوف والتجريب المشروع، وبين دوائر تتسع لهموم البشر الصغار والكبار معاً، ولهموم الإنسان في فضاء وجود اجتماعي متخلف، ولنقل لهموم وطن. ورغم بساطة أهل هذا الفضاء الاجتماعي، إلا أنه مشبع بالتناقضات وصراعات المصالح.

الشخصيّة في رواية (لوحة تحت الرماد)

لا شك أن أهميّة الشخصيّة في أي رواية لا تقاس ولا تحدد بالمساحة التي تحتلها، وإنما بالدور الذي تقوم به، وما يرمز إليه هذا الدور، وأيضا مدى الأثر الذي تتركه في ضمير القارئ، مما يدفعه للتساؤل والمقارنة، تمهيدا لتصويب موقف في الواقع.

وتعتبر الشخصيّة ذلك الكائن الذي يبدعه المؤلف من الكلمات على الورق، فيعطيه اسمًا، وعنوانًا، وشكلاً ومضموناً. إنه (كائن موهوب بصفات بشريّة، وملتزم بأحداث بشريّة").

نعم.. إن الرواية هي فن الشخصيّة، والشخصيات داخل الرواية تتخذ مكان الصدارة في الحدث الروائي، لأن الشخصيّة في الرواية "هي التي تكون واسطة العقد بين جميع المشكلات الأخرى، فهي التي تصنع اللغة، وهي التي تبث أو تستقبل الحوار، وهي التي تصنع المناجاة، وهي التي تصف معظم المناظر والوقائع التي تستهويها، وهي التي تنجز الحدث، وهي التي تنهض بدور تضريم الصراع أو تهدئته من خلال سلوكها وأهوائها وعواطفها، وهي التي تقع عليها المصائب... وهي التي تعمر أو تبني المكان وتشغل أو تملأ الزمان.

في رواية (لوحة تحت الرماد) نجد شخصياتٍ عديدةً ملأت فضاءاتِ الرواية بانفعالاتها وحواراتها وأفعالها وردود أفعالها مع محيطها المهني والعائلي والاجتماعي، فنمت بينهم مشاعر الصداقة والألفة والكراهية، وذلك كله بفضل ما يمارسونه ويتناقشون به ساعات لقائهم في محيطهم الاجتماعي من ألوان المصارحة والبوح والحوار، ومحاولة التعبير أو انتزاع قشور أجواء بيئيّة متخلفة أو مأزومة كما هو الحال في الأزمة السوريّة

إن لكل شخصيّة في رواية (لوحة تحت الرماد) همومها الخاصة، ولكنها بهذا الشكل أو ذاك تطمح للشروع بتحقيق التكامل والانسجام على المستوى الروحي والعقلي والجسدي مع الآخر، رغم أنها غالبا ما تفشل في تحقيق ذلك، ويتردى طموحها هذا إلى حالات من الفشل والاحباط بسبب ظروف الأزمة التي أحاطت بها .

طموح الرواية:

إن كل ما تطمح إليه رواية (لوحة تحت الرماد) هو تصوير ما حل بواقع الدولة والمجتمع السوريين من مآسي بسبب التخلف المزري الذي عاشه المواطن السوري تحت مظلة نظام شمولي استبدادي أدى إلى دمار شامل في البنية الماديّة والروحيّة داخل الدولة والمجتمع، وبالتالي تطمح الرواية إلى الخروج من كل مخلفات هذه الأزمة، من أجل بناء علاقة إنسانيّة أكثر عقلانيّة وإنسانيّة جديدة تتسم بالتوازن والسمو عن كل ما يسودها من كذب ورياء وأنانيّة، وتنطبق فيها الممارسة مع الفكر، ويتربع فيها الفكر العقلاني التنويري على عرش الضمير والقلب والعقل والسلوك.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

 

في البنية النفسية والرمزية لقصيدة "نشيد الخيول" للشاعرة ناديا نواصر

تعتبر قصيدة نشيد الخيول من النصوص التي تتلبّس بشعرية الكشف والوله والاحتراق الداخلي، وتستدعي قراءة نقدية تتجاوز المستوى الحسي إلى الأبعاد الرمزية والنفسية والإيروسية والروحية.

تمثّل قصيدة نشيد الخيول التي مطلعها «جئتك في المساء المكتظ بغربتي» تجربةً شعريةً تتجاوز حدود البوح العاطفي إلى تخوم الكشف الوجودي والوجداني، حيث تمتزج في نسيجها اللغة بالوجدان، والعاطفة بالرمز، والرغبة بالمعنى. إنها قصيدةٌ تكتبُ الذاتُ فيها حضورها عبر غيابها، وتبحث عن خلاصها في الآخر بوصفه مرآةً للكينونة لا مجرّد موضوعٍ للحب أو الشهوة.

في هذا النص، تتجلّى الأنثى في صورة كونية تتماسّ مع عناصر الخلق الأولى: الماء والنار والضوء والرماد، لتصبح العلاقة بين الأنا والآخر فعلاً من أفعال التكوّن والانبعاث. فـ"المساء المكتظ بالغربة" ليس ظرفاً زمانيّاً بل حالة وجودية تضع الذات في مواجهة عزلتها، والرحلة نحو "الصدر المؤثّث بالنشيد الحر" ليست لقاءً حسّيّاً، بل عودةٌ رمزية إلى المأوى الأول، إلى الطمأنينة الكونية التي تنبثق من رحم العشق والمعنى.

وانطلاقاً من هذه الرؤية، تُقرأ القصيدة من خلال منظورٍ هيرمينوطيقي يستنطق أفقها التأويلي، ومنهجٍ رمزيٍّ ودلالي يفكّك بنيتها الصورية والمعجمية، وتحليلٍ بنيوي لغويّ يبيّن كيف تعمل اللغة على إنتاج الرغبة والمعنى، إضافةً إلى مقاربةٍ نفسية ترصد الدوافع الداخلية والانفعالات الكامنة في نسيجها.

تسعى هذه القراءة إذًا إلى الكشف عن البنية العميقة للنصّ، حيث تمتزج الشهوة بالروح، واللغة بالانفعال، والمعنى بالغياب، في نصٍّ شعريٍّ يجعل من العشق وسيلةً لتجاوز الغربة، ومن الكلمة أفقاً للخلاص.

القصيدة "نشيد الخيول" “جئتك في المساء المكتظ بغربتي” هي نصّ شفيف مشحون بالتوتّر العاطفي والإيروتيكي المكبوت، تنبض بين سطورها رغبة وجودية لا تُختزل في نداء الجسد، بل تمتد إلى التحام الكينونة بالكينونة، كما لو أنّ اللقاء بين "الأنا" و"الآخر" هو محاولة للخلاص من التيه، من الغربة، ومن العطش الميتافيزيقي للدفء.

1. البنية النفسية للنص:

القصيدة تُبنى على محورين متقابلين:

١- الاغتراب والانكسار: “المساء المكتظ بغربتي”، “طائر ضيّع بوصلة العمر”، “عارية القلب”.

٢- الانجذاب والانبعاث: “أغواني الصوت الهارب من أقاصي المجرة”، “نبع العطش المستميت على جسد الحكايا”، “حيث أينع النرجس واستيقظت أنثى الماء والنار”.

هذا التوازي يُظهر شخصية الشاعرة الجزائرية ناديا نواصر وهي في حالة مخاضٍ شعوريّ بين العطش الروحي والشهوة الكونية، بين الانكسار والرغبة في الاتحاد. إنها لا تبحث عن جسدٍ آخر، بل عن مأوى روحيّ يشبه الصدر المؤثث بالنشيد الحر؛ مأوى للكينونة الضائعة في زحمة الغربة.

2. الدافع الإيروتيكي – الرمزي:

الحضور الإيروتيكي هنا ليس مباشراً أو حسياً، بل يتخفّى في استعارات الماء والنار والليل والمساء.

حين تقول الشاعرة نواصر:

 “استيقظت أنثى الماء والنار”

فهي لا تتحدث عن أنوثة الجسد، بل عن أنوثة الوجود؛ عن الطاقة الأولى للخلق التي تتفجّر في لحظة عشق كونيّ.

والماء هنا رمز للحياة والانسياب والحنين، بينما النار رمز للرغبة والإشراق والانصهار.

وفي اتحادهما تنبثق “أنثى الوجود” التي هي الذات وقد بلغت ذروة انصهارها بالعشق — أي اللحظة التي يلتقي فيها الجمال بالإيروس بالروح.

هذا ما يجعل النص مندرجاً تحت ما يُسمّى في النقد الحديث بالإيروس الجمالي، حيث تتحوّل الرغبة إلى طاقة خَلقٍ وإبداع، لا إلى غريزةٍ فحسب.

3. اللغة الشعرية والتوتر الدلالي:

القصيدة تقوم على لغة مُفعمة بالتوهّج والالتباس الجميل، إذ تمزج بين النور والعتمة، الماء والنار، الوله والعقل، في نسيجٍ لغويّ يقترب من اللغة الصوفية في صعودها التدريجي من الحس إلى المعنى.

فعبارة “الروح الولهى – الصبر المنتحر – الرماد المستيقظ من نار الغوايات” تمثّل مستويات النفس في علاقتها بالرغبة: من اللهفة إلى الاحتراق إلى التطهّر.

4. الدافع الداخلي: الرغبة في الاتحاد والتحرّر.

من المنظور النفسي، النص يكشف عن حالة اغتراب وجودي وعطش أنثويّ للانصهار. المتحدثة تحمل وعياً مأزوماً بالعزلة، فـ"المساء المكتظ بغربتها" هو مساء الذات، بينما "الصدر المؤثث بالنشيد الحر" هو رمزية الوطن العاطفي، ذلك الذي تُستعاد فيه الأنثى إلى كمالها.

اللقاء مع الآخر ليس لقاءً عاطفياً، بل هو خلاصٌ من تمزّق الذات، فالـ"أنا" تمشي إلى "الآخر" بلا موعد، بلا طرقٍ على الأبواب، لأن الرغبة أقوى من التعقّل، ولأن الغواية هنا هي طريق الكشف والخلق في آن واحد.

- خلاصة الرؤية:

القصيدة ليست مجرّد نص حبّ، بل رحلة وجودية – روحية – إيروسية في آن، تسعى فيها الذات إلى تجاوز غربتها عبر فعل العشق الذي يتجاوز الجسد إلى التوحّد الروحي والكياني.

إنها قصيدة عن الأنثى التي تصنع من رغبتها صلاة، ومن عطشها نبعاً للخلق، وعن الشهوة التي تُروّض لتغدو شهوة النور والمعنى لا شهوة الجسد فحسب.

المنهج الهيرمينوطيقي — تفسير النصّ في أفق المعنى:

المنهج الهيرمينوطيقي يفتح الباب أمام قراءة النص بوصفه حلقة في دائرة فهم قوامها: القارئ — النص — السياق (التاريخيّ-الذاتيّ). هنا:

سياق المتكلم/المخاطَب: المتحدثة تأتي من حالة اغتراب؛ المساء المكتظ بغربةٍ يحدد نبرة النصّ؛ المخاطَب يبدو كمنفى/مأوى/ملكوتٍ يتوق إليه الفاعل.

دائرة الفهم: كل صورة في القصيدة تُعيد تفسير الصور السابقة: مثلاً صورة «طائر ضيّع بوصلة العمر» تُفسَّر لاحقًا عبر رموز الماء والنار والصدر المؤثث، فتتحوّل إلى رمز لحالة التجوال الوجودي وليس مجرد فقدان اتجاه فيزيائي.

الأفق المُؤوَّل: القصيدة تقرأ كقِصةِ رجوعٍ/انصهارٍ؛ لا كحدثٍ معزول. الهيرمينوطيق يسمح باعتبار كلِّ تكرار لفظي/صوري (المساء، الروح، النار) حلقةً في سلسلة كشف متصاعدة تقود إلى ذروة الانصهار («أنثى الماء والنار»).

النتيجة: النص تكوينيّ؛ فهمُ المقاطعِ يَتأتى حين نعيد ربطها بدينامية البحث عن مأوى وجداني، وليس بتحليل كل بيتٍ منفردًا.

المنهج الرمزي والدلالي — قراءة الرموز الكبرى والصغرى:

القصيدة غنية برموزٍ تعمل في مستويات متعدِّدة:

١- المساء/الغربة: رمز للحالة الوجودية والليل الداخلي، ليس فقط ظرفًا زمانيًّا.

٢- الطائر/البوصلة: الطائر رمز للذات التائهة — البوصلة رمز البحث عن معنى/وجهة.

٣- الماء والنار: ثنائية كلاسيكية للحياة والرغبة؛ الماء يرمز للانسياب والحنان والخصب، النار ترمز للشوق والاشتغال والانصهار المتحرّك. اتحاد «أنثى الماء والنار» يدلّ على لقاء قطبيّين ينتجان حالة مولدة (خلق أو ولادة شعرية وأنثوية).

٤- الرماد/الصبر المنتحر: الرماد يدل على آثار الاحتراق، لكنه «مستيقظ» هنا، أي أن احتراق الغواية لا يموت بل يعبّر، والصبر المنتحر يعكس تناقضاً: الصبر الذي بلغ حد الانهيار، لكنه يولّد وعياً جديداً.

٥- الصدر المؤثث بالنشيد الحر والنرجس: الصدر كمأوى/حقل إبداع؛ النرجس رمزُ الجمال والتجدّد، ما يمنح اللقاء بعدًا مولدًا جمالياً.

- دلاليًا، الرموز لا تعمل منفصلة بل كخريطةٍ معنوية: كل رمز يوجّه القارئ نحو تجربةٍ نفسيّة/وجودية واحدة: رغبة الانصهار والتحوّل.

- البُنية اللغوية والأسلوبية — كيف تُبنى اللغة لتوليد المعنى:

تحليل البُنية يبيّن كيف تُوظّف الوسائل اللغوية الإيقاع والدلالة:

١- التراكيب الذاتية والمواضع الشِّعريّة: تكرار «جئتك» في افتتاح النصّ يمنح الحدث طابعًا إلحاحيًا؛ التتابع بين الجمل القصيرة والشرطية يخلق إيقاعًا تامورياً (تدرّجًا من الارتباك إلى اليقين).

٢- التركيب الاستعاري: النص يعتمد بكثافة على الكثيف الاستعاري (الطائر، البوصلة، الرماد، الصهيل) ما يحوّل المشهد من سردية إلى رؤيا.

٣- التناصّ الصوتي والإيقاعي: استخدام صورٍ صوتية مثل «يهذي.. وتحمله للنجم ناياتي» يخلق موسيقى داخلية؛ توظيف اقتطاعات صوتية (وقفات، نقطتين، تشطير) يعزز حالة الاضطراب والاشتعال.

٤- الضدان البنيوية: القصيدة تشتغل بصيغة التضاد (غربة/مأوى، رماد/نار، صبر/انتحار)، ما يتيح طاقة ثنائية تُحرك المعنى نحو ذروة التلاشي/البعث.

٥- الضمائر والدلالة التواصُلية: الضمير «أنا» المتحرك نحو «أنتَ/أنتِ» يجعل الخطاب حميميًّا وخطابيًّا في آن؛ المخاطب يجمع بين كينونة نفسية ومقدسٍ رمزي.

البنية اللغوية إذن ليست زينة بل أداة تصعيد دلالي: كلّ بناء يُحشد لإنتاج إحساس الاندفاع والرغبة والتطهير.

- الحسّ النفسي — الاندفاعات، الدفاعات والدوافع الداخلية:

من منظور نفسيّ موجز:

١- الدافع المركزي: رغبة في الاتحاد/الانتماء ومعالجة اغتراب وجودي؛ لقاء الآخر يمثل حلًّا رمزيًا للانقسام الداخلي.

٢- انفعالات مختلطة: نصٌّ تجمع فيه «الذعر» (الطائر الضائع، الارتباك في الطريق) و«التوق» (العطش المستميت، النشيد الحر). هذا التباين يشير إلى فاعل نفسي يعاني توتّرًا داخليًا بين الخوف والرغبة.

٣- آليات دفاعية: استعمال الصور الاستعارية والتكثيف الشعري وظيفة دفاعية — تَحويل الشهوة الخامّ إلى تجلٍّ ميتافيزيقيّ (سحبها من مستوى الجسد إلى مستوى الرمز) يسمح بالتحكم في القلق والعار المحتملين.

٤- رمزية الانتحار/الصبر: عبارة «الصبر المنتحر» تدلّ على استنفاد قدرة التحمل، ولكنها أيضًا فعل تحوّل: الموت الرمزي لصبرٍ قديم يُعيد إنتاج طاقة شعرية/عاطفية جديدة.

٥- الهوية المؤقتة: حيوية الصور تدلّ على شخصية تبحث عن ذاتٍ متجددة؛ اللقاء ليس مجرد مُتعة بل إعادة بناء للذات المشتتة.

- التقاء المناهج — تركيب قراءة مُشتركة:

حين نجمع ما سبق: الهيرمينوطيق يشرح حركة الفهم وتدرّج الكشف، الرمزي يوضح طبقات الإحالة، التحليل البنيوي يبيّن آليات اللغة، والتحليل النفسي يكشف عن دوافع الانفعال. معًا، تعطي هذه المناهج صورة متكاملة للنص:

القصيدة نص كشف/ولادة، حيث تتحوّل الغربة إلى مسار يثمر لقاءً يُعيد للذات وحدةً وكيانًا.

الشهوة ليست نزوة عابرة، بل قوة خلّاقة تُعيد تشكيل اللغة نفسها.

بناء الصورة اللغوية والرمزية يسمح بتحويل العاطفة إلى تجربة جمالية تُقنع القارئ بأن الشوق هنا مقدّس وخلقٌ شعريّ.

- خاتمة:

القصيدة تُعدُّ نموذجاً ناجحاً لشعر الوجد المعاصر الذي يدمج الإيروس بالجمال والروح. باستخدام أدوات الهيرمينوطيق والرمزية والدلالات البنيوية والتحليل النفسي، نقرأ النص كرحلة تصاعدية: من تيه الغربة إلى شعور الانعتاق/الاتحاد، عبر لغةٍ مُصقولةٍ تجمع بين الصيحة والرقة، بين الصمت والنشيد. هي قصيدة عن الاشتغال الشعري نفسه: كيف تصنع الرغبة نصًّا، وكيف يتحوّل الاحتراق إلى نورٍ يولد غدًا.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

نشيد الخيول

بقلم: نادية نواصر

جئتك في المساء المكتظ بغربتي

طائرا ضيع بوصلة العمر

في عيني شرود

وعلى كتفي نقر الوهن

عارية القلب

حافية الوجدان

في البدء أربكني الطريق

وعند السطر الأول من الخفق زلزلني المقال

أغواني الصوت الهارب من أقاصي المجرة

هزتني أغاني البحر

وماتبقى من صهيل المساء

كفه الأمان

والصهد المنبثق من يقطين الروح

نبع العطش المستميت

على جسد الحكايا

جئتك من حيث كان المفترق

والكامن الحارق

الرماد المستيقظ من نار الغوايات

الروح الولهى

الصبر المنتحر

على هيبة الجبل الوارف

أيها الموسوم بما رامه المجاز قل لي كيق مشيت إلي؟

وكيف مشيت إليك بلا سابق موعد؟

لا احتمال للحكمة

غير هذا الجنون

بعثر مدائني

وانهار العقل

بلا سابق طرق على بوابة الروح الموصدة

إني في مدار الحيرة

من أمر الروح

فابسط ذراعك كي أمضي إلى الصدر المؤثث بالنشيد الحر

حيث أينع النرجس

واستيقظت أنثى الماء والنار

وامتزج الممكن بالمستحيل

واختلطت اليابسة بالماء

واخرجت تربة الروح أثقالها

وتاه بنا الدرب إلى ما تعذر على الصحو

اعتقاله

جئتك في المساء الشهي

حيث ألقيت علي القبض

أيها الصقر قل لي

من القاتل ومن القتيل؟

 

مقدمة تعريفية بالشاعر: صقر عليشي

صقر عليشي هو شاعر سوري معاصر، ينتمي إلى جيل الثمانينيات الشعري، تميزت تجربته بالبحث الدائم عن جماليات جديدة وانزياحات عن المألوف. عُرف بلغته الشعرية المكثفة والحافلة بالرموز الميثولوجية والتاريخية، والتي يستحضرها لإضاءة هموم الواقع المعاصر وإشكالياته. يأتي اسمه ضمن كوكبة من الشعراء السوريين الذين سعوا إلى تجديد اللغة الشعرية وفتحها على عوالم أسطورية ووجودية، مما جعل قصيدته حقلاً خصباً للتأويل والدراسة.

في بابل

أخذت القصيدة الى بابل

كانت ما تزال تشكو من وعكة عابرة

في فواصلها

وعلامات الترقيم الأخرى

*

غافل رقتها البرد

في رؤوس الجبال

أثناء الجمال

*

قلت آخذها في نزهة

أعرفها على الأساطير

ولعلها تلم ببعض الأسرار

عن السحر الأبيض

لعلها توفق بلقاء مع الجن الأحمر

*

هذا يرفدها بالأفق

ويفيدها بامتحان الرشاقة

*

ثم نعرج في جولة

نحو الحدائق المعلقة

عسى يساعد هذا

في بث النشاط

في دورتها الشعرية

ويشحذ خيالها المثلم

فربما تزين المنحدرات بقفزة جمالية فائقة.

*

لكنها أزعجت الهواء اللطيف

وتجاهلت رغبتي .

حملت سلتها من المشمش

والمجاز الطازج

المقطوف من غوطة دمشق

وأدارت دفة الزمن

نحو "هاروت وماروت"

اللذين افتتنا بها من أول مشمشة

واختلفا في تفسير سحرها المغاير

ووصل صياحهما

الى مسامع الفلسفة.

*

أسرا لها قليلا من الغيب المنيع

وأهدياها اكسيرا..

وأقراطا تأرجحت في أذنيها

وتركت الدهشة معلقة !!

***

القراءة التحليلية: تشريح الرموز وطبقات المعنى في "في بابل"

لا تُقرأ هذه القصيدة كوصف لنزهة، بل كرحلة استكشافية عميقة داخل مختبر الشعر نفسه. إنها قصيدة "ميتاشعرية*" تتأمل ذاتها وتتحدث عن عملية الخلق الشعري، مُجسدةً في رحلة إلى بابل، رمز المعرفة والسحر والأساطير الأولى.

الطبقة الأولى: القصيدة ككائن حي

منذ البداية، يقدم الشاعر "القصيدة" ليس كنص جامد، بل ككائن حي يعاني من "وعكة عابرة". هذا الانزياح الجميل (تشخيص القصيدة) يُخرجها من حيز التجريد إلى حيز الوجود المادي والمرضى.

- "تشكو من وعكة عابرة في فواصلها وعلامات الترقيم الأخرى": الوعكة هي أزمة إبداعية، أو عدم توازن في البنية الداخلية للنص. الفواصل وعلامات الترقيم هي أنفاس القصيدة ونبضها، واضطرابها يعني أن إيقاعها الداخلي معتل.

الطبقة الثانية: بابل كفضاء أسطوري للعلاج

لا يختار الشاعر أي مكان للعلاج، بل يختار "بابل"، التي ترمز إلى:

1- منبع الحضارة والسحر: حيث كانت مركزاً للعلم والسحر في المخيال الجمعي.

2- الجن الأحمر وهاروت وماروت: يشيران إلى عالم الغيب والقوى الخارقة والسحر. "الجن الأحمر" قد يكون رمزاً للشهوة أو الطاقة البدائية، بينما يمثل "هاروت وماروت*" الملاكين اللذين علّما الناس السحر في بابل بأمر من الله، كاختبار لهم (كما ورد في القرآن الكريم والمرويات الإسلامية). هذا الانزياح يجعل من لقاء القصيدة بهما لقاءً مع أسرار اللغة والسحر الذي يتجاوز المألوف.

الرحلة العلاجية مقصودة بدقة:

1- "هذا يرفدها بالأفق ويفيدها بامتحان الرشاقة": الرشاقة هنا هي رشاقة التعبير وخفة اللفظ وبراعة الصورة.

2- "يشحذ خيالها المثلم": الخيال "المثلم" هو الخيال المجروح، المتعب، أو المنقوص. والشحذ يعني إعادته إلى حدة وقدرة على الاختراق.

3- "الحدائق المعلقة": رمز الجمال المعجز والهندسة الفائقة، وهي جرعة جمالية تهدف إلى "بث النشاط في دورتها الشعرية".

الطبقة الثالثة: تمرد القصيدة واستقلاليتها

هنا تكمن المفارقة الجميلة والانزياح الأهم. القصيدة، هذا الكائن الحي، لا تستجيب للعلاج المُخطط له.

1- "لكنها أزعجت الهواء اللطيف وتجاهلت رغبتي": تعلن القصيدة استقلاليتها عن شاعرها. هي كائن متمرد لا يمكن ترويضه أو توجيهه حسب خطة مسبقة.

2- "الهواء اللطيف" قد يكون رمزاً للأجواء الأسطورية الهادئة التي أراد الشاعر خلقها، لكن القصيدة أزعجتها بحيوتها غير المتوقعة.

3- "حملت سلتها من المشمش والمجاز الطازج المقطوف من غوطة دمشق": هذه هي الانزياحات الأكثر إشراقاً.

أ- المشمش: هو الفاكهة الدمشقية بامتياز. إنها تحمل رائحة الواقع المحلي والأرضي.

ب- المجاز الطازج: هنا يخلط الشاعر بين الحسي (المشمش) والمجرد (المجاز). فسلتها تحتوي على عناصر من الواقع الملموس (المشمش) وعناصر من الخيال الشعري (المجاز الطازج)، وكليهما "مقطوف من غوطة دمشق". هذه إشارة واضحة إلى أن منابع الشعر الحقيقية ليست في الأساطير البعيدة فقط، بل في الواقع المباشر والتربة المحلية (دمشق)، ولكن بشرط أن تُقطف كـ "مجاز طازج"، أي برؤية شعرية متجددة.

الطبقة الرابعة: الحوار مع قوى المعرفة والغرابة

بدلًا من الانصياع للشاعر، تتجه القصيدة مباشرة إلى "هاروت وماروت".

1- "اللذين افتتنا بها من أول مشمشة": الانزياح هنا رائع. "مشمشة" هي مرة أخرى الجمع بين الدمشقي (المشمش) والبابلي (هاروت وماروت). لقد افتتن ملاكا السحر بالقصيدة منذ أول عنصر دمشقي حملته معها.

2- "واختلفا في تفسير سحرها المغاير": القصيدة ليست فقط مسحورة، بل سحرها "مغاير"، مختلف، لا يمكن تفسيره بسهولة حتى من قبل أعظم السحرة. هذا يرفع من قيمة القصيدة ويؤكد تفردها.

3- "ووصل صياحهما إلى مسامع الفلسفة": الانزياح العبقري. الخلاف على تفسير سحر القصيدة ليس هامشياً، بل هو صياح (صراخ جدلي) يصل إلى أعلى مراتب الفكر (الفلسفة). الشعر يثير إشكاليات وجودية ومعرفية تصل إلى قلب الفلسفة وتجبرها على الإنصات.

الطبقة الخامسة: الخاتمة المعلقة (دهشة الشعر)

الهدية التي تقدمها القصيدة من هاروت وماروت هي خلاصة الرحلة:

1- "قليلاً من الغيب المنيع": لمحة من المعرفة المستعصية.

2- "أكسيراً": قد يكون إكسير الحياة، أو جوهر الشعر الخالد.

3- "أقراطاً تأرجحت في أذنيها": الأقراط تزيين، لكن تأرجحها في "أذني" القصيدة (ككائن حي) يخلق صورة بصرية-سمعية رنانة، ترمز إلى الجمال والإيقاع والزينة التي اكتسبتها.

4- "وتركت الدهشة معلقة !!": هذه هي الخلاصة. النهاية ليست حكمة محددة أو رسالة مباشرة، بل "دهشة معلقة". الدهشة هي أعلى درجات التأثير الشعري. وهي "معلقة" كالحدائق المعلقة في بابل، وكالقصيدة نفسها التي تبقى في فضاء التأويل. الشعر لا يحل الألغاز، بل يخلق دهشة دائمة أمام العالم.

الخاتمة:

قصيدة "في بابل" لصقر عليشي هي نص مركب ومتعدد الطبقات، يحفر في علاقة الشاعر بنصه المتمرد، ويبحث عن منابع الإبداع بين الأسطورة (بابل) والواقع (غوطة دمشق). من خلال استخدام الانزياحات المبتكرة (تشخيص القصيدة، خلط المشمش بالمجاز، حوار القصيدة مع هاروت وماروت)، تنجح القصيدة في تقديم رؤية للشعر كقوة حية مستقلة، قادرة على إثارة الجدل حتى بين ملكتي السحر والفلسفة نفسها، لتختتم بإعلان أن غاية الشعر ليست الإجابة، بل خلق "دهشة معلقة" تظل تتأرجح في ذهن القارئ كأقراط من نور.

مظاهر الميتاشعرية في قصيدة "في بابل"

في قصيدة عليشي، لا نرى حدثاً خارجياً ، بل نرى الحدث الداخلي لخلق القصيدة. كل عنصر في الرحلة البابلية هو استعارة لعملية الإبداع:

1- تشخيص القصيدة:

أ- "أخذت القصيدة الى بابل" – ليست مجرد ورقة، بل كائن يُؤخذ في رحلة.

ب- "كانت ما تزال تشكو من وعكة عابرة" – القصيدة مريضة، أي أن عملية الكتابة تعاني من عائق إبداعي.

ج- هذا التشخيص هو فعل ميتاشعري بحت، يجعل من النص كياناً مستقلاً عن خالقه.

2- الرحلة كاستعارة للعملية الإبداعية :

أ- الرحلة إلى بابل ليست حقيقية، بل هي رحلة في مخيلة الشاعر لـ "علاج" نصه. الشاعر هنا لا يكتب عن بابل، بل يستخدم بابل كفضاء استعاري لإنقاذ قصيدته.

ب- الأساطير، السحر الأبيض، الجن الأحمر، الحدائق المعلقة: كلها ليست غاية في حد ذاتها، بل هي أدوات وأدوية يقترحها "الطبيب" (الشاعر) لـ "المريض" (القصيدة) ليشحذ خيالها ويرفدها بالأفق.

3- الانزياح اللغوي كموضوع :

أ- الحديث عن "فواصلها وعلامات الترقيم الأخرى" و "دورتها الشعرية" هو حديث مباشر عن البنية الفيزيائية والفيزيولوجية للنص الشعري. الشاعر يتأمل جسد قصيدته من الداخل.

4- تمرد الموضوع على الخالق:

أ- هذه هي اللحظة الأكثر ميتاشعرية: "لكنها أزعجت الهواء اللطيف وتجاهلت رغبتي".

ب- هنا، تعلن القصيدة استقلاليتها عن خالقها. الشاعر يفقد السيطرة على مخلوقه. هذه فكرة وجودية عميقة عن الإبداع: في لحظة ما، تصبح القصيدة كائناً له إرادته الخاصة، ويقود الشاعر إلى حيث لا يتوقع. العمل الفني يفرض مساره على الفنان.

5. المشمش والمجاز: خلط الواقعي بالشعري:

أ- "سلتها من المشمش و المجاز الطازج" – هذا الانزياح الرائع هو خلط متعمد للمستويات:

أ- المشمش: واقع ملموس، محلي، دمشقي.

ب- المجاز الطازج: مفهوم مجرد (المجاز) يُعامل معاملة الشيء الملموس (طازج، مقطوف).

ج- هذه الجملة هي بيان شعري: مصادر الإلهام ليست في الأساطير البعيدة فقط، بل في الواقع اليومي، ولكن برؤية شعرية تجعله "مجازاً طازجاً ". القصيدة تتحدث عن مادتها الخام (الواقع والمجاز) بشكل صريح.

6. الحوار مع هاروت وماروت: النقد الذاتي:

أ- عندما "تختلف" شخصيات الأسطورة في "تفسير سحرها المغاير"، فإن هذا يمثل حواراً داخلياً للشاعر حول تفسير قصيدته الخاصة. حتى هو، كخالق، قد يختلف مع نفسه حول معنى ما كتبه.

ب- "ووصل صياحهما إلى مسامع الفلسفة" – القصيدة ترفع مستوى التأويل من التفسير السحري البسيط إلى مستوى النقاش الفلسفي. هي تتحدث عن قدرة الشعر على إثارة أسئلة وجودية وفلسفية.

الخلاصة:

باختصار، "في بابل" هي قصيدة ميتاشعرية بامتياز لأنها:

1- لا تحكي قصة، بل تحكي عن "كيفية ولادة القصيدة".

2- تتخذ من عملية الإبداع نفسها موضوعاً رئيسياً لها.

3- تتعامل مع القصيدة ككائن حي مستقل له رغباته ومساره.

4- تستخدم الانزياحات (كخلط المشمش بالمجاز) لتسليط الضوء على طبيعة المادة الشعرية نفسها.

الرحلة إلى بابل، بكل رموزها، هي مجاز كبير لعملية الخلق الشعري بكل إحباطاتها ومفاجآتها واستقلالية نتاجها النهائي. الشاعر لا يكتب عن بابل، بل يُجري عملية جراحية لقصيدته في مستشفى بابل الأسطوري.

***

بهيج حسن مسعود

***

هامش:

1-هاروت وماروت* هما شخصيتان ذكرتا في القرآن الكريم في سورة البقرة (الآية 102)، وهما ملكان أنزلهما الله إلى الأرض في بابل كاختبار للناس، حيث كانا يعلمان الناس السحر، ولكن ينبهانهم في نفس الوقت إلى أن هذا السحر هو فتنة وكفر، وأنه لا ضرر ولا خير إلا بمشيئة الله.

2- "الميتاشعرية*" (Meta-poetry

الميتاشعر هو "شعر عن الشعر نفسه". إنه نوع من الكتابة الأدبية التي يكون موضوعها الرئيسي هو عملية الكتابة الشعرية ذاتها، أو طبيعة اللغة الشعرية، أو دور الشاعر، أو علاقة القصيدة بالعالم. بمعنى آخر، هي قصيدة تُخرج نفسها كموضوع للتأمل.

يمكن تشبيهها بفيلم سينمائي يدور حول صناعة الأفلام، أو لوحة ترسم فيها الرسامة نفسها وهي ترسم اللوحة. إنه وعي ذاتي بالنص بذاته ككائن لغوي وفني.

قراءة نقدية في قصة "ذاكرة في ظلال الغياب" لسعاد الراعي

في عالمٍ تتسارع فيه خطى الزمن وتتلاشى فيه الذاكرة الإنسانية أمام زحف النسيان المرضي والنسيان الاجتماعي معًا، يبرز مرض الزهايمر كأحد أقسى التجليات الوجودية للفناء المتدرج. إنه ليس مجرد مرض عصبي يُفقد الإنسان ذاكرته، بل هو محوٌ تدريجي للهوية، اقتلاعٌ للجذور من تربة الوعي، وتحويل الذات إلى شبح يتجول في متاهات الماضي دون خريطة للعودة. في هذا السياق، تأتي قصة "ذاكرة في ظلال الغياب" للكاتبة سعاد الراعي كشهادة أدبية مؤثرة، تنسج من خيوط الفقد والوفاء نصًا يتجاوز السرد البسيط إلى أعماق المأساة الإنسانية المعاصرة..

تُبحر الكاتبة في أعماق هذا المحيط الوجودي، فتمنح المأساة صوتًا أليفًا، وتجعل القارئ شريكًا في اختبار الغياب لا مجرد مراقب له..

 تبدأ القصة بلغة شفافة" أتذكّر تلك المرّة الأخيرة التي حملتني خطواتي إلى بيت استاذتي ماريا بعد رحيل زوجها، وقد ثقلت على صدري مخاوف لم أفلح في تبديدها. كنت كمن يُساق إلى غياب غير مسمّى، يحمل في داخله رجفة لا يفسرها العقل"..

انها ارتعاشة كبيرة تنحنى فيها الذراعان الحانيتان حول الروح الرقيقة.. معلنة أن الهواجس، رغم صمتها المنضبط، تبعثر الأليف واليومي..

البنية النفسية: التوحد مع الفقد

ترصد الكاتبة بدقة موشور تشظي الذات.. فالشخصية المحورية تُحاول ربط اللحظة بالذاكرة لكنها تجد الأسماء الأقرب اليها تفر بعيدًا لحظة استدعاءها.. متعذرة عليها وخاذلة إياها.. هذا الضياع ليس فرديًّا بل جمعي..

 الراوية تحاول أن تلملم أشلاء ذاكرة استاذتها ـ وذاكرتها هي أيضًا ـ خشية أن يتحوّل كلاهما إلى أشباح. هناك اختزال نفسي مرهف للعجز صارت الأيام عندها جزرًا غائمة، لا جسر يصل بما فات، ولا قارب للعبور.

ان صياغة الاحداث تؤكد الطابع الحداثي لرؤية الكاتبة.. حيث تثير مشهد ضبابية الزمن في النص.. والذي يذكرنا بقصص مثل "العجوز والبحر" لهمنغواي أو "دكان الحلاق" لجمال الغيطاني، حيث يلتحم الزمن بالدلالة الوجودية..

البعد النفسي الاجتماعي - تفكك شبكة الأمان

تطرح القصة إشكالية اجتماعية حادة تتعلق بمصير المسنين في المجتمعات المعاصرة. ماريا، الأستاذة الجامعية والأم التي قدمت حياتها لأبنائها وللآخرين، تجد نفسها في "بيت العجزة" بعد أن "انقطع عنها أبناؤها، وتركوها وحيدة في مواجهة جسدٍ يخذلها يومًا بعد آخر وذاكرة يلفعها الضباب. هذا الخذلان الأسري يمثل جرحًا اجتماعيًا عميقًا يتجاوز الحالة الفردية ليصبح ظاهرة تستدعي التأمل والمساءلة. القصة تضعنا أمام مرآة قاسية تعكس تفكك الروابط الأسرية وتحول الإنسان إلى عبء في لحظة ضعفه، وإلى امتحان للرحمة والصبر، وتجلى قسوة الخسارة حين يتهشم معنى الانتماء على صخرة النسيان..

الطبقات الاجتماعية هنا تختبر نفسها.. هل تصبح الروابط مجرد واجب روتيني أم فضيلة متجددة تسعى إلى تخفيف وطأة الغياب؟

الكاتبة لا تكتفي بأثر المرض على الضحية، بل ترصد دوائر ارتداده على المحيطين بها: الهواجس، الانكسارات، تفاقم الغربة في الغربة وفي الديار، حتى يصير الجميع ضحايا الغياب بشكل أو آخر..

المقاربة الفكرية والحداثة

النص قائم على مأزق فلسفي.. هل الذاكرة هي الجوهر؟ وهل ينجو المرء من محنة ضياع ذاته في دوامة الزمن..

 الكاتبة تشتغل على هذه الرؤية الحداثية عبر اقتصاد لغوي مشدود، وتجسير رمزي بين تفاصيل اليومي وتيارات الفلسفة المعاصرة. كل مرآة في القصة تعكس كسرًا جديدًا في الذات؛ كل ذكرى تصبح ظلًا عاجزًا عن الامتلاء بالنور. النص بذلك يستجيب لطروحات أدباء مثل.. التشيكي الألماني كافكا أو الأمريكي بول أوستر في تمثيل الضياع والهشاشة وتحولات الوجود الفردي.

الذاكرة والهوية: التشظي الوجودي

يشكل مرض الزهايمر في القصة أكثر من مجرد حالة مرضية.. إنه استعارة للفقد الشامل، لانهيار الذات من الداخل. حين تتحدث ماريا عن حفلة حضرها زوجها المتوفى و"البروفيسور كروكوف والرفيق يوري" الراحلين، ندرك أن الزمن قد انطوى على نفسه في عقلها، وأن الموتى والأحياء قد اختلطوا في حاضر مشوش. تصف الراوية هذه اللحظة بقولها: "ذاكرتها لم تعد ملكًا لها، الزمن انسحب من عقلها تاركًا فراغًا مريرًا". هذا التصوير يحمل عمقًا فلسفيًا يتقاطع مع تأملات هايدغر حول الوجود والزمان، إذ تصبح الذات خارج التاريخ، منفية من سياقها الزمني..

التماهي السردي: أنا هي، وهي أنا

من أجمل التقنيات السردية في القصة ذلك التماهي التدريجي بين الراوية/ الراعي وماريا. تبلغ هذه الحالة ذروتها في المقطع المؤثر: "وفي لحظةٍ خاطفة، أحسستُ أنني أنا نفسي ماريا؛ جسدٌ حاضر، وروحٌ تتسرب من بين أصابعه". هنا تتجاوز الكاتبة حدود السرد الخطي لتدخل منطقة التماهي الوجودي، حيث تصبح الراوية والمروي عنها كيانًا واحدًا يتشاركان المصير والألم. هذه التقنية تذكرنا بما فعلته الانكليزية فيرجينيا وولف في "السيدة دالاوي" حين انساب الوعي بين الشخصيات كنهر واحد..

المكان كفضاء للرمز

"بيت العجزة" في القصة ليس مجرد مكان جغرافي، بل هو فضاء رمزي محمل بدلالات العزلة والاغتراب والموت البطيء. تصفه الكاتبة بلغة شعرية كثيفة.. "جدران رمادية عارية من أي حياة، نوافذ مغلقة على أسرار ساكنيها، ستائر باهتة تشبه وجوهًا فقدت لونها مع الأيام". هذا الوصف يحول المكان إلى شخصية مستقلة تشارك في صنع المأساة، تمامًا كما فعل غابرييل غارسيا ماركيز في "مائة عام من العزلة" حين جعل من ماكوندو كائنًا حيًا ينبض بالرمزية..

بلاغة اللغة وإبداع السرد

أسلوب الكاتبة يجمع بين الشفافية والكثافة: " هببت نحوها أحتضنها بنظراتي وبكل ما في شوق، ألقيت عليها تحية تتشبث بالدفء، وحاولت أن أستعيد بشاشتها التي كنت أعرفها، لكنها لم تكن هي نفسها. كان بيننا جدار خفي من الغربة، فصلٌ صامت جعلني أشعر أنني أقف أمام ظلّ ماريا لا ماريا نفسها.". في جملة واحدة تحتشد صور الحنين والوداع والموت. هناك ألفة ساحرة في تصوير اللحظات الإنسانية المربكة والشاردة "صوتها لم يعد يعرف وجهي... عيناها، حين تحدقان بي، كأنهما تبحثان عن صوت قديم".

هذه المفارقة الأسلوبية تخدم بدقة الجانب النفسي، وتمنح النص طاقة تعبيرية عالية، تمرر الكاتبة كل شيء بالصورة والإيماءة، لا التنظير المباشر، فتجعل من الشجن بؤرة تأمل لا مجرد بيان..

اللغة الشعرية والشفافية السردية

تتميز لغة سعاد الراعي بشفافية نادرة تجمع بين الشعرية والوضوح، بين العمق والسلاسة. جملها مشحونة بالصور الاستعارية دون أن تسقط في الزخرفة اللفظية. حين تكتب: " وأن أكون شاهدة على نورها الأخير " أو "صمتٌ كثيف كان يخيّم على المكان، حتى شعرت أن الجدران نفسها تسرد عليّ غيابها بصوت مكتوم"، فإنها تمنح القارئ تجربة جمالية راقية لا تنفصل عن المضمون الإنساني للنص..

الأثر التربوي والإنساني

تكمن أهمية هذه القصة في قدرتها على إثارة الوعي بقضية إنسانية ملحة: مصير المسنين والمرضى في مجتمعاتنا. إنها تدعونا للتفكير في معنى الوفاء، وفي مسؤولياتنا الأخلاقية تجاه من قدموا لنا حياتهم. القصة درس تربوي عميق في القيم الإنسانية، لكنها تقدمه عبر الفن لا عبر الوعظ المباشر، وهذا ما يمنحها قوتها التأثيرية.

البناء السردي وجماليات الانتظار

تبدأ القصة بمشهد الانتظار على عتبة البيت الخالي، وهو مشهد يحمل دلالات رمزية عميقة. الراوية تقف على "الدكّة الحجرية"، صلبة كالحجر في وفائها، مقابل غياب ماريا الذي يتحول من غياب مكاني إلى غياب وجودي. هذا الانتظار ليس مجرد فعل سلبي، بل هو موقف أخلاقي يكشف عن بنية نفسية ترفض الاستسلام للفقد. تكتب الراعي: "كنت أحرس غيابها بقلقٍ يثقل نظراتي"، وفي هذه الجملة تكثيف شعري لافت، إذ يتحول الغياب إلى كيان ملموس يُحرس ويُراقب..

أدب الشهادة والذاكرة

"ذاكرة في ظلال الغياب" نص ينتمي إلى ما يمكن تسميته "أدب الشهادة الإنسانية"، حيث الكاتبة لا تكتفي بتسجيل حدث، بل تحوله إلى تجربة وجودية شاملة. سعاد الراعي تثبت هنا أنها كاتبة ناضجة، تمتلك أدواتها السردية بتمكن، وتملك شجاعة الغوص في الموضوعات الصعبة دون خوف أو تردد. قصتها هذه إضافة نوعية للأدب العربي المعاصر، وصوت يستحق الإصغاء في زمن الضجيج والنسيان..

أهمية النص في الأدب والمجتمع

تذكَر هذه القصة بجدية وجسارة الأدب عند التصدي لموضوعات النسيان والحنين والفقد. النص بمثابة مرآة لتحولات الأسر أمام العلل المزمنة، يضيء مناطق الصمت والإرهاق، ويتيح للأفراد مراجعة علاقتهم بالحب والعطاء والذاكرة. كثيرون يغمضون أعينهم أمام شيخوخة القلب أو انهيار الرموز؛ في نص "ذاكرة في ظلال الغياب" نجد العكس: تفكيك لعقدة الصمت، واحتفاء بالتعاضد الإنساني رغم الفقد..

إنها مأساة إنسانية ومعضلة وجودية لطالما ألهمت الأدب العالمي ـ نجد شبيها له في «لا تزال آليس» لليزا جينوفا، أو في قصة ماركيز «ذاكرة غانياتي الحزينات»، حيث تتحول الذاكرة إلى مسرح للحنين والفقد والانطفاء..

*

قصة "ذاكرة في ظلال الغياب" نص رفيع، خدمه بجدارة أسلوب الكاتبة الشفاف.. واختزالها البليغ للوجع، ونضجُ رؤيتها للذاكرة باعتبارها الجدار الأخير في حرب الإنسان مع النسيان. تضم النصوص الأدبية العربية والعالمية القليل من الأعمال التي سبرت أغوار فقدان الذاكرة بهذا الصفاء والعمق..

انها تطرح العلاقة بين الفرد وذاته وذكرياته بوصفها سؤالاً وجوديًّا ممتدًّا. قصة تستحق أن تُقرأ وتروَّج كوثيقة أدبية وإنسانية واجتماعية عالية القيمة، تُكرس للأدب أدواره الجمالية والعلاجية معًا.

***

طارق الحلفي

 

وخروج النص الروائي من عمود السرد التقليدي... روايات كاظم الشويلي انموذجا

منذ أن وصل السرد العربي الكلاسيكي إلى مرحلة الاستقرار في أنماطه المألوفة – بدءًا من المقامة ومرورًا بالحكايات الشعبية وانتهاءً بالرواية الواقعية التقليدية المتأثرة بالثقافة الأوربية – كان يلتزم بما يمكن أن نطلق عليه (عمود السرد) والذي أشارت له الدكتورة (بشرى موسى صالح) في كتابها عمود السرد ما بعد الحداثي(1) وأعني به مجموعة من الأعراف التي تضبط نسقه، مثل: الخطية الزمنية، والحبكة المترابطة، والبطل التقليدي، واللغة الإنشائية المتزنة والبليغة، والراوي العليم الذي يتدخل مباشرة في ربط الأحداث، والعمل على إقناع المتلقي بواقعية الرواية، فضلاً عن الموضوعات المكرّرة والموروثة ذات الأفق الأخلاقي القيمي أو الترفيهي. لقد كان هذا العمود بمثابة القانون الضمني الذي يمنح السرد شرعيته ويحدّد ملامحه، غير أن هذا الإطار الصارم بدأ يتعرض لهزات كبرى مع صعود الحداثة، ثم جاءت ما بعد الحداثة لتعلن تحرّر السرد من (العمود) وخروجه عن سلطته إلى فضاءات الانفتاح والتجريب، فأخذ منحى مغايرًا قوامه كسر خطية الزمن، وتفكيك التسلسل إلى شذرات متفرقة، وتجريد الراوي العليم من سلطته وفتح المجال لأصوات متعددة، وعدم التحرّج من استعمال لغة متداخلة بين الفصيحة والعامية، بين النثر والشعر، بين الجد والهزل، فأصبحت اللغة نفسها موضوعًا للتساؤل والتشظي لا مجرد وسيلة للحكي، فضلا عن البطل الإشكالي، وتسليط الضوء على موضوعات كانت تمثّل تابوات في السرد التقليدي مثل: الجنس والسياسة والدين والهوية، وأيضًا العناية بالهامشي واللامألوف، والنصوص الموازية، والتناص، والعجائبي وتمظهراته المختلفة، والتداخل الأجناسي، والعمل على جعل القارئ شريكًا في إنتاج المعنى، إذ يعتمد النص على الفراغات والفجوات، ويترك له حرية التأويل، فيتحول النص إلى فضاء مفتوح لا نهائي، وتحطيم الحدود بين الواقع والمتخيل عبر تقنيات ما وراء السرد (Metafiction) وهي تقنيات كتابية يتم توظيفها في "روايات وقصص تلفتُ الانتباهَ إلى وضْعها الخيالي وإلى وقائع تأليفها"(2) حيث يُفصح النص عن أنّه مجرد حكاية متخيّلة، ويسلّط الضوء بشكل مباشر على طرائق كتابته عبر التعليق بأسلوب نقدي تحليلي على بنيته الأدبية، ممَّا يسهم في التلاعب بالحدود الفاصلة بين الوهم والحقيقة، ويعري لعبته السردية أمام القارئ الذي يجد نفسه جزءًا من عالم الرواية، وإقحام الروائي لاسمه وصفاته والكثير من تفاصيل حياته في المتن الحكائي، فيغدو الروائي كاتبًا وشخصية وموضوعًا في آن واحد، ممّا يتيح للقارئ الاطلاع على عملية الكتابة من داخلها، وهذا ما عمل عليه (كاظم الشويلي) في رواياته القصيرة الثلاث: (نيران ليست صديقتي، ومواسم الثلج والنار، وروايتي الفائزة بالجائزة) فالشخصية الرئيسة التي تتولّى سرد الأحداث في هذه الروايات التي تشبه المتوالية، هي شخصية (كاظم الشويلي) الذي يظهر داخل النص بصفته المرجعية كاتبًا وناشرًا، ففي روايته (نيران ليست صديقتي) يقحم شخصيته الحقيقية في نضالاتها كـأسير حرب عراقي ضمن الإطار الروائي(3) الأمر الذي يكسر من خلاله ما يُعرف بـعقد القراءة التقليدي. إذ لم يعد القارئ يتعامل مع شخصيات من ورق، بل مع شاهد على التاريخ يحمل ثقل تجربته الحقيقية. وفي هذا النوع من التقنيات السردية، تتفوق سلطة الواقع على سلطة التخييل، ويصبح الهدف الأساس للنص ليس الإمتاع الفنّي فحسب، بل الشهادة، والتوثيق، ويتم استخدام الأدوات الروائية كالبنية السردية واللغة؛ لتعزيز مصداقية الحقيقة المسرودة، وتصبح مهمة الراوي مضاعفة، فهو لم يعد يخلق عالمًا متخيّلاً، بل يعيد إنتاج عالم عاشه بالفعل.

تنتمي رواية (نيران ليست صديقتي) بامتياز إلى تيار أدب الذاكرة وأدب الحرب مع تركيز خاص على تداعيات (الحرب العراقية-الإيرانية) وتأثيرها الممتد إلى الأجيال اللاحقة، فهي تجربة سردية متجاوزة؛ لأنَّها تستثمر في سلطة الواقع لتوثيق صفحة منسية من تاريخ الحرب، لم يسبق لروائي عراقي أن خصّص لها رواية "يا كاظم... أنت تؤرشف تاريخ لا نعرفه ولا نعلمه، وقد دثرته الحروب الكثيرة لبلدنا بالنسيان والإهمال...هل تعلم يا كاظم انك اول كاتب يتناول رواية عن الاسرى العراقيين"(4). إن استخدام الراوي إطارًا سرديًّا مُفلترًا عبر شخصية (نيران) -التي مثّلت مستودع الذاكرة المؤلمة التي تروي قصص الحبّ والفقد في زمن الحرب والشتات-والتواصل معها عبر (الماسنجر) يحوّل كاظم الشويلي -بصفته أسيرًا حقيقيًّا- إلى علامة للذاكرة الجماعية لجيل كامل من الأسرى العراقيين، فالرواية لا تسرد قصته هو فحسب، بل تُقِرّ بوجود قصص لآلاف من الضحايا الذين لم تُروَ حكاياتهم.

تعتمد الرواية على الحكاية المضمَّنة التي تخص مصير الأسرى العراقيين (كاظم الشويلي، والضابط مرتضى) وتفاصيل معاناتهم، وعلى الحكاية الإطارية (حكاية الحب التي جمعت نيران وكاظم الشويلي) عبر وسيط حديث وهو التواصل الرقمي (الماسنجر/الدردشة)(5)؛ لـتذويب مرارة الحقيقة في نسيج يمكن للقارئ الحديث التفاعل معه. هذا الدمج بين الشخصيات الحقيقية والآلية السردية الحديثة (الإنترنت) يؤكد أن الذاكرة في العصر الرقمي لا تُستعاد إلا عبر جسور معقدة تصل الماضي الوثائقي بالحاضر الافتراضي. كما أنَّ اختيار الماسنجر كآلية لسرد الماضي ليس مجرد اختيار شكلي، بل هو تعبير عن إشكالية الذاكرة في العصر الحديث، إذ يصبح الفضاء الرقمي مختبرًا لإعادة بناء التاريخ الشخصي والجماعي، حيث تتيح هذه التقنية البوح بأسرار ظلَّت مدفونة لعقود.

تتقاطع في النص مجموعة ثيمات عميقة تشكّل جوهر الخطاب الروائي، من بينها صدمة الأسر والهوية، إذ يتجلى الموضوع الأهم في مصير الأسير العراقي كاظم الشويلي وذكره المتكرر، تجاوز السرد الجانب العسكري والسياسي والغوص في الجانب الإنساني عبر التركيز على تفاصيل الأسر، وصورة الأسير، والشوق إلى رؤية الأهل، ممَّا يجسّد الكيفية التي حوّلت الحرب إلى ندوب شخصية لا تُمحى "اظن كان دخولنا لهذا المعسكر بتأريخ 22/ 6/ 1987 أحسست حينئذ بشعور غريب يداهمني ويحيلني إلى قطعة من الحزن العميق، وامتزج الحزن بالفرح برغبة عارمة بالبكاء، لأول مرة اشعر بالغربة عن الوطن والحنين إلى الأهل والرغبة بالموت او النوم دون استيقاظ"(6)

أمَّا رواية (مواسم الثلج والنار)(7) فقد قدّمت مادة سردية ثرية تتقاطع فيها المحاور الشخصية والوطنية والاجتماعية، مُوظفة تقنيات الحوار والتناوب في السرد للكشف عن عمق الأزمة النفسية والوجودية للشخصيات، وتداعيات الأوضاع السياسية والاجتماعية على الفرد العراقي، خاصة ثيمة الحرب، والشتات والصراع الطائفي، واغتراب الذات. استخدمت الرواية لغة مباشرة وحوارات سريعة لتكثيف التوتر، جاعلة من العلاقة بين كاظم و وداد مجازًا لتمزق الذات العراقية بين الانتماء إلى الوطن المثقل، والانسحاب إلى الذات أو الفضاءات البديلة.

اعتمد السرد فيها على تتابع حوارات مكثفة ومواقف درامية تتخللها مونولوجات داخلية، يظهر ذلك بوضوح في تبادل الحوارات بين كاظم الشويلي (الراوي المحوري/الشخصية الرئيسة) ووداد المهندسة، وبين كاظم وزوجته، ممَّا يكشف عن التوتر المستمر في العلاقات. هذه الأصوات تشكل نسيجًا صوتيًّا يكسر سلطة صوت الراوي الأوحد، الأمر الذي يعزّز واقعية الحدث وتعدّد زوايا النظر للأزمة.

تضمّنت الرواية ثيمات رئيسة تبرز من بينها بقوة ثيمة الاغتراب، اغتراب الشخصيات عن محيطها الاجتماعي (كاظم وزوجته)، واغترابها الجغرافي (وداد)، واغترابها الروحي (كاظم وعلاقته بالفيسبوك/الصور المثالية). هذا يتقاطع مع سياق الرواية العراقية التي تتناول تشتت العراقيين وضياع هويتهم. أمَّا صراع الأزواج فهو الآخر شكّل ثيمة واضحة إذ استطاع الراوي أن يصوّر الصراع بين كاظم وزوجته بطريقة درامية (تتبعها، تنصتها، تصنع عدم المبالاة)(8) وظهرت الزوجة (ام علاوي) وهي تمثّل قيود الواقع البغدادي المحافظ (9)، بينما مثّلت (وداد) إغراء التحرّر والهروب من هذا القيد(10).

الأمكنة في هذه الرواية مأزومة مثل: بغداد، الكاظمية، ساحة عدن، العلاوي، هي الأخرى ثيمة مهمة، فهذه الأماكن ليست مجرد خلفيات، بل هي أطراف في الصراع الطائفي الذي شهده العراق بعد 2003، فقد طلبت وداد من سائقها كاظم اللقاء في ساحة عدن في مدينة الكاظمية، فأجابها: "أخاف من الطائفية أن تأكلنا!"(11) هذا الجواب يُحوّل المكان إلى فضاء سياسي-اجتماعي ملغّم، حيث يصبح اللقاء العادي محفوفًا بخطر الهوية والاقتتال.

لقد مثّل الفيسبوك في نهاية الرواية ثيمة أخرى ونقطة تحول درامي، إذ يشي بانتقال الصراع من حيز الواقعي الملموس إلى الحيز الافتراضي الذي يخلق صداقة مع حورية مغتربة(12)، ممَّا يعكس محاولة البطل اليائسة لتصنيع بطلة سحرية تهزمه وتنقذه في آن واحد.

امَّا رواية (روايتي الفائزة بالجائزة) فيبدأ السرد بـتشخيص الطبيب لحالة (كاظم) وكان هذا التشخيص بمثابة صدمة قاسية "يا كاظم، سوف تموت بعد اقل من ثلاثين يوماً"(13) ممَّا يشكل نقطة الانطلاق الدرامية، فالأحداث التي تلت هذه البداية القاسية، مثل التبرع بالأموال والتخطيط للسفر والعلاج، كلها تخدم فكرة مواجهة الموت(14) لقد اعتمدت الرواية على بناء سردي معقّد يزاوج بين السيرة الذاتية المتخيلة (رحلة الموت الوشيك) والرواية الفنية (الرواية الداخلية) لتطرح تساؤلات جوهرية عبر الفن حول الموت/ الخلود، وحول صراع المادة/ الروح، وقيمة العمل الإبداعي. إنّها رواية فكرية تتخفى في ثوب القصة، وتتّسم بلغة غنية، وقدرة على الغوص في أعماق الشخصية الرئيسة.

تكشف الرواية عن واحدة من أهم تقنيات ما وراء السرد، وهي تقنية (الرواية داخل الرواية) فالنص يقدم سردًا أساسيًا بضمير المتكلم لـ (كاظم) الذي يتلقى صدمة الحكم الطبي بقرب الأجل، ويتوازى معه سردٌ آخر يُكشف لاحقًا أنه من كتابة (كاظم) بعنوان "روايتي الفائزة بالجائزة"(15) هذا التداخل يثير تساؤلات حول علاقة الراوي بكتابته، وهل الرواية الداخلية هي محاولة للمقاومة أو الخلود أو مجرد انعكاس لحالته النفسية؟.

سيطرت على النص أسئلة وجودية وفلسفية حول الموت والحياة والتحولات الروحية إذ يُعدّ المشهد العجائبي الخاص بالمقبرة، والذي صوّر لقاء روح (كاظم الشويلي) وجسده نقطة تأمل ميتافيزيقية عميقة حول كينونة الإنسان. كما يمثّل تأكيدًا لـما طرحه الراوي من أفكار تتعلّق بكتابة الرواية وأهميتها، والعناصر الفنية التي يجب أن تتوافر فيها، والأهداف المرجوة من وراء كتابتها(16).

وممَّا يلحظ على الرواية استخدامها لغة ذات نبرة عاطفية عالية وشاعرية(17)، خاصة في وصف مشاعر الراوي الداخلية(18) وأيضًا غلبة أسلوب السرد التأملي الداخلي على النص، الأمر الذي كشف عن صراعات الراوي وأفكاره العميقة(19) وزاد من عمق التجربة النفسية للشخصية الرئيسية.

تكشف الصفحات الأخيرة عن انعطافة سردية وتحوّل جذري في مسار الرواية، فبعد الصدمة الأولى المتمثلة بقرب الموت وحتميته، يأتي الخلاص بفضل نجاح عملية القلب(20)  هذا التحول يعكس انتقالاً من صراع الإنسان مع الموت إلى صراعه مع ذاته. كما أنَّ سؤال كاظم للطبيب غسان عن سبب "التورم في القلب وكيف هو استأصله وعن كيفية رفع القلق والتوتر"(21) يرمز إلى أن المشكلة الحقيقية لم تكن جسدية محضة، بل نفسية وجودية. هذا يوجه الرواية نحو مغزى أكثر عمقًا يتجاوز التشخيص الطبي.

وممَّا يلفت نظر القارئ في هذه الرواية أن البنية المتداخلة للراوي/الكاتب تمنح النص عمقًا ماورائيًّا، وتسمح للكاتب بطرح أسئلة وجودية وفلسفية حول قيمة الإبداع في مواجهة الفناء. إنّها رواية تصف رحلة البطل من صدمة الموت إلى صفاء الروح، لتؤكد أن النصر الحقيقي يكمن في التصالح مع الذات وتحقيق الرضا الإلهي لا مجرد الظفر بـجائزة أدبية "ليس من المهم أن تفوز روايتي بجائزة ما، إنما أطمح فقط أن تفوز روايتي عند الله، وهذا الفوز يكفيني وأملي الوحيد أن أظفر   بالرضا الرباني"(22).

لقد استطاع الراوي ومن خلفه الروائي الواقعي في الروايات الثلاث-عبر توظيف تقنية ما وراء السرد وتنويعاتها- التمرد على تقاليد الكتابة التقليدية والتحرر من قيودها الجمالية، فعمل على كسر الإيهام السردي وتفكيك وهم الحكاية التقليدية عبر حديثه بصورة مباشرة مع القارئ المفترض(23) ممَّا يعيد للقارئ وعيه النقدي يجعله مشاركًا في انتاج المعنى، ومن تنويعات ما وراء السرد التي وظّفها (الشويلي) أن ظهر الراوي حاملا اسم الروائي الواقعي والكثير من السمات الشخصية التي تنطبق عليه "كاظم الشويلي، قاص، روائي، ناقد، ناشر..."(24)، وعضو اتحاد أدباء العراق، وعضو نقابة الصحفيين، وباحث، وكاتب لمئات المقالات النقدية والثقافية(25) الأمر الذي أحدث تداخلاً بين الواقعي والتخييلي وفجّر الحدود بينهما، وخلخل ثقة المتلقي بواقعية السرد، وبما إذا كان الراوي كائنًا سرديًّا متخيّلاً أم تجسيدًا لصوت الروائي المرجعي نفسه؟ وفضلا عن ذلك بدا الراوي منهمكًا بكتابة رواية(26) وبالحديث عن هذا الجنس السردي وأهميته وقدرته على معالجة قضايا المجتمع، وما يجب على الكاتب أن يتعلّمه، وما يتناوله من موضوعات ومفاهيم، وما هي الرسائل التي يبغي من خلاله إيصالها للمتلقي(27) والانشغال بكتابة القصص والمقالات الأدبية، ونشر روايته عن وداد وعن مواسم الثلج والنار والرعب في الجبهة(28) وزحمة أعماله في دار الطباعة والنشر(29).

ومن التقنيات التي وظّفها الشويلي هي تقديم الراوي رؤية نقدية داخلية لمواصفات العمل الأدبي الناجح، فالرواية التي تطمح للفوز بجائزة ما يجب أن تكون "مميزة وشيقة، ومليئة بأفكار مبتكرة وجاذبة وشخصيات قوية ومؤثرة، وقد يكون للأسلوب السردي واللغة دور كبير في الفوز بالجائزة"(30) كما بدأت هذه الرواية بتشخيص طبي أفصح عن الموت والفناء وانتهت بالشفاء والخلود الروحي. هذا الانتقال من (الجسد المريض) إلى (الروح المطمئنة) يمنح الرواية بنية دائرية أو تصالحية، وهذه البنية تُعدّ من أبرز السمات البنيوية التي تعبّر عن وعي سردي متقدّم، ففي الروايات التي تمارس ما وراء السرد، تمثل الدائرية وعيًا بالبناء ذاته، أي أن الرواية تعترف بأنها تُعيد الحكاية أو تكرّرها بوصفها لعبة فنية. وهنا تصبح الدائرية نوعًا من التأمل الذاتي في فعل السرد، وتؤكد أن الحكايات لا تنتهي فعلاً، بل تُروى بطرائق مختلفة، فضلا عن تأكيدها حتمية المصير، فحين يعود السرد إلى نقطة البدء، فإن هذا يشير أحيانًا إلى أن الشخصية لم تستطع الفكاك من قدرها، فكل ما جرى كان استدارة حول المصير ذاته.

لقد مثّلت روايات كاظم الشويلي الثلاث: (نيران ليست صديقتي، ومواسم الثلج والنار، وروايتي الفائزة بالجائزة) نموذجًا بارزًا لتحولات السرد ما بعد الحداثي في الرواية العراقية، وإعلانًا لتحرّر النص من قيود (عمود السرد) التقليدي. لقد تحوّل السرد في هذه الروايات إلى فضاء مفتوح لا نهائي، فضلا عن أن الشويلي نجح في توظيف تقنية ما وراء السرد وتنويعاتها بفاعلية عالية، متمرّدًا على تقاليد الكتابة التقليدية.

***

ا. م. د. إحسان ناصر حسين الزبيدي

...................

الهوامش:

(1) ينظر، عمود السرد ما بعد الحداثي النص الكاشف عن الرواية العراقية بعد 2003، بشرى موسى صالح، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2023.

(2) الفن الروائي، ديفيد لودج، تر، ماهر البطوطي، مؤسسة هنداوي، 2023: 228.

(3) ينظر، نيران ليست صديقتي، كاظم الشويلي، دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، ط 5، 2024: 5، 11، 14.

(4) نيران ليست صديقتي: 15

(5) ينظر، م.ن: 6

(6) نيران ليست صديقتي: 15.

(7) مواسم الثلج والنار، كاظم الشويلي، دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، ط 4، 2024.

(8) ينظر، مواسم الثلج والنار: ،5، 7، 16.

(9) ينظر، م.ن: 6

(10) ينظر، م.ن: 7.

(11) م.ن: 5

(12) ينظر، م.ن: 98)

(13) روايتي الفائزة بالجائزة، كاظم الشويلي، دار الورشة الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد، ط3، 2024: 5

(14) ينظر، م.ن: 6-7

(15) روايتي الفائزة بالجائزة: 17

(16) ينظر، م.ن: 26-32.

(17) ينظر، م.ن: 11

(18) م.ن: 47

(19) ينظر، م.ن: 5-11

(20) ينظر، م.ن: 53

(21) روايتي الفائزة بالجائزة: 52

(22) م.ن: 73.

(23) ينظر، نيران لست صديقتي: 19، وينظر كذلك، مواسم الثلج والنار: 21

(24) نيران ليست صديقتي: 47

(25) ينظر، مواسم الثلج والنار: 7، 19

(26) ينظر، نيران ليست صديقتي: 14، 33.

(27) ينظر، نيران ليست صديقتي: 55-57

(28) ينظر، مواسم الثلج والنار: 98

(29) ينظر، روايتي الفائزة بالجائزة: 17

(30) م.ن: 57.

للروائي شلال عنوز

تُعد رواية "يمامة بغداد" للروائي شلال عنوز عملاً أدبياً كثيفاً يغوص في أعماق النفس البشرية المتألمة، متخذاً من حكاية امرأة عراقية مرآة يعكس عليها جراح وطن مثخن بالحروب والفقد. عبر بنية سردية متقنة ولغة شعرية، ينسج الكاتب حكاية عن الوفاء والذاكرة والأمل الذي يولد من رحم المأساة.

1. عتبات النص: مفاتيح الدخول إلى العالم الروائي

تعتبر العتبات النصية (Paratext) المدخل الأول الذي يهيئ القارئ ويمنحه مفاتيح تأويلية أولية.

أ. العنوان والغلاف

يحمل العنوان "يمامة بغداد" رمزية مزدوجة ومكثفة. فاليمامة هي رمز للسلام والحب والوفاء، وهي في الوقت ذاته تجسيد مباشر للشخصية الرئيسية "حنان" التي ظلت وفية لذكرى زوجها الراحل. وبإضافة العنوان إلى "بغداد"، يتجاوز الكاتب الخاص إلى العام؛ فـ "حنان" لم تعد مجرد امرأة، بل أصبحت هي بغداد نفسها: جميلة، جريحة، وفية لذاكرتها، وباحثة عن السلام المفقود.

أما تصميم الغلاف فيعزز هذه الرؤية. نرى وجه امرأة بملامح حزينة وشاردة، تمتزج ألوانه الداكنة مع خلفية مضطربة، بينما تحوم يمامة بيضاء قرب وجهها، وكأنها جزء من روحها أو حلمها. هذا التصميم يشي بالموضوعات الأساسية: الحزن، الذاكرة، والروح التي تتوق إلى التحليق والحرية رغم واقعها المؤلم. الملخص على ظهر الغلاف يؤكد هذه الفكرة، واصفاً إدمان البطلة على زيارة قبر زوجها "ضحية حرب الخليج الثانية".

2 - تحليل البنية السردية

تتميز الرواية ببنية سردية مركبة تعتمد على تقنية "التأطير" (Framing) والتقابل بين الأزمنة.

أ. الحبكة والبناء السردي

تبدأ الرواية من النهاية؛ من مشهد جنازة "حنان" ودفنها بجوار زوجها ثائر. هذه البداية الصادمة تضع القارئ أمام حقيقة الموت، ثم تعود به الرواية إلى الوراء عبر فصل بعنوان "ما روته اليمامة..."، لتبدأ الحكاية الحقيقية كفلاش باك طويل يروي قصة حياتها منذ بدء حرب الخليج الثالثة (غزو العراق 2003).

الحبكة الرئيسية تدور حول "حنان"، الأرملة الوفية التي تجد طفلاً ضائعاً "طاهر" في خضم فوضى الحرب وتقرر تبنيه. يتشابك معها خطان ثانويان رئيسيان:

1. الخط الرومانسي المستعاد: عبر ذكريات حبها وزواجها من "ثائر" في ثمانينيات القرن الماضي.

2. الخط الاجتماعي: كشف سر "الحاج أحمد"، والد زوجها، وزواجه الثاني السري الذي نتج عنه الابن "سيف".

هذا التداخل بين الخطوط يخلق بنية غنية، تقارن بين الماضي المسالم نسبياً والحاضر المدمر، وبين قصص الفقد وقصص الكشف والمصالحة.

ب. الشخصيات ورمزيتها

الشخصيات في الرواية ليست مجرد أدوات لتحريك الأحداث، بل هي حوامل رمزية لأفكار ومراحل تاريخية.

- حنان (اليمامة): هي محور الرواية ورمزها الأكبر. إنها تجسيد للذاكرة العراقية الحية التي ترفض نسيان ماضيها الجميل (ثائر)، لكنها في الوقت نفسه تمتلك قلباً قادراً على احتضان المستقبل (طاهر). وفاءها ليس مجرد عاطفة شخصية، بل هو وفاء لقيم زمن مضى.

- ثائر (الماضي المفقود): زوجها الذي استشهد في حرب الخليج الثانية. اسمه الذي يعني "الثائر" يحمل مفارقة، فهو لم يكن ثائراً بل ضحية. يمثل "ثائر" الحلم العراقي الذي اغتالته الحروب؛ زمن الشباب والحب والثقافة الذي وُئِد قبل أن يكتمل.

- طاهر (المستقبل مجهول النسب): الطفل الذي وجدته حنان. اسمه الذي يعني "النقي" رمزي بامتياز. هو جيل المستقبل العراقي؛ جيل ولد في خضم الفوضى، مجهول الأصل (لا يعرف أهله)، لكنه يحمل براءة الأمل. تبني حنان له هو قرار رمزي باحتضان هذا المستقبل ورعايته رغم ماضيه الغامض.

- سامر (الحاضر الانتهازي): المشرف التربوي الذي يلاحقها. يمثل الواقع الانتهازي والمبتذل الذي يحاول فرض نفسه على الذاكرة النبيلة. علاقته الزوجية الفاشلة وكذبه يقفان على النقيض التام من صورة "ثائر" المثالية.

- الحاج أحمد وعائلته: يمثلون المجتمع التقليدي الذي يحمل أسراره الخاصة ويجد في النهاية طريقة للمصالحة والتعايش، مما يعطي بصيص أمل في إمكانية لم شمل المجتمع العراقي رغم انقساماته.

ج. الزمان والمكان ودلالاتهما

الزمان: يتأرجح السرد بين زمنين رئيسيين:

الثمانينيات: زمن الحب والجامعة، وهو يمثل الماضي النقي والحالم قبل أن تدمره الحروب المتعاقبة.

ما بعد 2003: زمن الاحتلال والفوضى ونقاط التفتيش. إنه الحاضر الجريح الذي تعيش فيه الشخصيات. هذا التقابل الزمني يخلق حالة من الحنين (النوستالجيا) ويكشف حجم المأساة التي حلت بالعراق

المكان: للمكان في الرواية أبعاد رمزية عميقة:

بغداد: هي ليست مجرد مسرح للأحداث، بل هي كيان حي يتألم. شوارعها (اليرموك، المنصور، البياع) تحمل ندوب الحرب، وتعاني من الاختناق والحزن.

المقبرة (وادي السلام): مكان محوري يبدأ منه السرد وينتهي إليه. إنها رمز للذاكرة والموت، لكنها أيضاً مكان للمعجزات؛ فبعد خروجها من المقبرة تجد "طاهر". إنها العتبة التي تفصل بين عالم الأموات وعالم الأحياء، وبين الماضي والمستقبل.

البيت: منزل حنان هو مزار للذكرى، تحتفظ فيه بكل ما يخص ثائر. لكن بدخول "طاهر" إليه، يتحول من متحف للماضي إلى حاضنة للمستقبل.

الرمز والتناص - بناء المعنى الخفي

لا تكتفي الرواية بسرد الأحداث، بل تغوص في أعماق الرمز لتكثيف دلالاتها، وتتناص مع الذاكرة الثقافية والتاريخية للعراق.

- الرمزية المحورية:

اليمامة: هي الرمز المهيمن الذي يجسد "حنان" وبغداد في آن واحد. إنها رمز السلام المفقود، الحب الأبدي، والوفاء لذاكرة لا تموت. تحليق اليمامة في نهاية الرواية هو فعل تحرر روحي يتجاوز الموت الجسدي، ويرمز إلى بقاء الحب والذاكرة أنقى من دمار الحرب.

الطفل طاهر: يمثل المستقبل العراقي البريء والمجهول النسب. العثور عليه قرب المقبرة وفي خضم انفجار هو إشارة رمزية إلى أن الأمل يولد من رحم الموت والفوضى. تبنيه من قبل "حنان" هو فعل رمزي لاحتضان الأمة لمستقبلها، حتى وإن كان غامضًا، ومنحه هوية ورعاية.

الرجل الغامض ذو الزي العربي: يظهر في المقبرة كشخصية نبوئية، يتنبأ لحنان بقدوم زائرين سيغيران حياتها. يمثل هذا الرجل القدر أو الحكمة الشعبية المتوارثة، التي تظهر في لحظات اليأس لتقدم بصيصًا من الأمل والإشارة إلى أن الحياة، رغم كل شيء، مستمرة.

التناص:

التناص التاريخي: تتناص الرواية بشكل مباشر مع تاريخ العراق الحديث المليء بالحروب: حرب الخليج الثانية التي قتلت "ثائر"، وحصار التسعينيات، وغزو عام 2003 الذي شكل خلفية الأحداث الرئيسية. هذه الأحداث ليست مجرد خلفية، بل هي جزء من نسيج النص الذي يوضح كيف شكلت السياسة مصائر الأفراد.

التناص الأدبي والثقافي: تستدعي الرواية أغاني عراقية شهيرة مثل أغنية حميد منصور "يم داركم" وأغنية لميعة توفيق في حفل الزفاف. هذه الأغاني تعمل كـ "مثيرات للذاكرة" ((Memory Triggers، حيث تعيد البطلة (والقارئ) إلى زمن البساطة والحب، مما يعمق الشعور بالنوستالجيا والفقد.

ثانياً: الحبكة والبناء السردي - هندسة الألم والأمل

تعتمد الرواية على بنية سردية غير خطية، تتلاعب بالزمن لتعميق الأثر الدرامي.

الحبكة الدائرية والمؤطرة: تبدأ الرواية بمشهد جنازة "حنان"، وهي النهاية الفعلية لحياتها، ثم تعود في فلاش باك طويل يروي قصة السنوات الأخيرة من حياتها. هذا البناء الدائري يجعل القارئ يقرأ الأحداث وهو يعلم مصير البطلة، مما يضفي طبقة من الحزن والقدرية على السرد. كل لحظة أمل أو فرح تُقرأ من خلال عدسة النهاية المحتومة.

تشابك الخطوط السردية: تتداخل قصة حنان مع الطفل طاهر (الحاضر والمستقبل) مع ذكرياتها عن حبها لثائر (الماضي)، ومع قصة الحاج أحمد وزواجه السري (أسرار المجتمع). هذا التشابك يخلق بنية سردية معقدة تعكس تعقيدات الحياة العراقية نفسها، حيث لا يمكن فصل الخاص عن العام، والحاضر عن الماضي. كشف سر الحاج أحمد، على سبيل المثال، يوازي كشف أسرار الوطن نفسه، وينتهي بالمصالحة، مقدمًا نموذجًا مصغرًا لما يمكن أن يكون عليه التعافي المجتمعي.

النهاية: اكتمال الدائرة وتحرر الروح

تأتي نهاية رواية "يمامة بغداد" لتغلق الدائرة السردية التي بدأت بها، ولكنها تتجاوز مجرد العودة إلى مشهد الموت لتقدم رؤية روحانية عميقة للتصالح والتحرر. إنها ليست نهاية مأساوية بقدر ما هي اكتمال رمزي لرحلة الألم والوفاء.

المشهد المحوري في النهاية هو ما يراه الابن "طاهر" بعينيه: يمامة تقف على شجرة السدر التي زرعتها حنان فوق قبر زوجها، ومع اكتمال مراسم الدفن، يظهر طائر آخر ناصع البياض، فترفرف اليمامة بجناحيها وتحلق معه عالياً حتى يغيبا معاً في الفضاء1. هذا المشهد يحمل دلالات متعددة:

1. اتحاد الأرواح: اليمامة، التي هي تجسيد لروح حنان، تتحد أخيرًا مع الطائر الأبيض الذي يرمز بوضوح إلى روح ثائر. هذا اللقاء السماوي هو انتصار للحب الأبدي على الموت والفناء الجسدي. لقد ظل وفاء حنان الأرضي راسخًا، فكان جزاؤه اتحادًا روحيًا أبديًا.

2. إتمام الرسالة: لم تمت حنان إلا بعد أن أدت رسالتها على الأرض. لقد احتضنت المستقبل المتمثل في "طاهر" ومنحته هوية وحبًا وأسرة. بمجرد أن اطمأنت على استمرارية الحياة من خلاله، تحررت روحها من قيود العالم المادي لتلحق بحبها الأول.

3. شهادة المستقبل: الشخص الذي يشهد هذا الحدث الروحاني هو "طاهر"، جيل المستقبل. هذه الشهادة تمنحه (ورمزيًا تمنح جيله) إرثًا من الحب والوفاء، وتؤكد له أن هناك ما هو أسمى من الحروب والموت. إنها وصية بصرية تنتقل من جيل الذاكرة إلى جيل الأمل.

بهذا، تتحول النهاية من قصة موت إلى قصيدة عن السمو الروحي. الموت لم يعد نهاية، بل أصبح بوابة للاتحاد والخلود، واكتمالًا لدائرة الوفاء التي عاشتها "اليمامة" طوال حياتها.

اللغة والأسلوب

تخدم شلال عنوز لغة تتميز بشعريتها العالية ورقتها، خاصة في وصف المشاعر والذكريات. "كانت مُحلّقة في سماواته، فراشة في مدى من ورد وخضرة". هذه اللغة الشاعرية تخلق تبايناً حاداً مع قسوة الواقع الذي تصفه الرواية بلغة مباشرة وواقعية، كما في تصوير مشاهد الحرب والدمار. يعتمد السرد بشكل كبير على تيار الوعي والمونولوج الداخلي لشخصية حنان، مما يسمح للقارئ بالولوج إلى أعمق أفكارها وصراعاتها النفسية.

ومجمل القول إن رواية "يمامة بغداد" ليست مجرد سرد لحياة امرأة عراقية، بل هي مرثية عميقة لوطن جريح وشهادة أدبية على قوة الذاكرة الإنسانية في مواجهة الفناء. لقد نجح الروائي شلال عنوز في توظيف كل عناصر السرد ببراعة لخدمة رؤيته.

فمن خلال بنية سردية دائرية، جعلنا نعيش الألم ونحن على يقين من النهاية، مما كثف من وطأة القدر. وعبر شخصيات رمزية مثل حنان (اليمامة/الوطن)، وثائر (الماضي النقي)، وطاهر (المستقبل البريء)، رسم استعارة كبرى للصراع بين الذاكرة والنسيان، وبين الموت وإرادة الحياة.

لقد تحولت الأماكن، من بغداد الحالمة إلى بغداد المحتلة، ومن المقبرة كفضاء للموت إلى فضاء لولادة الأمل، إلى شواهد حية على التحولات المأساوية التي طرأت على العراق. أما اللغة الشعرية، فقد منحت النص بعدًا جماليًا رفيعًا، خالقةً تباينًا مؤثرًا بين رقة المشاعر وخشونة الواقع.

في النهاية، تقدم "يمامة بغداد" إجابة روحانية على سؤال الوجود في زمن الحرب: حتى وإن سحق الموت أجسادنا، فإن قوة الحب والوفاء قادرة على أن تجعل أرواحنا تحلق حرة، متجاوزةً حدود الزمان والمكان، تمامًا مثل تلك اليمامة التي لم يكسرها الفقد، بل منحها أجنحة لتتحد بمن أحبت في الأفق البعيد. إنها رواية عن وجع الفقد، ولكنها في جوهرها احتفاء بخلود الذاكرة.

النهاية: اكتمال الدائرة الرمزية

نهاية الرواية هي عودة إلى بدايتها: موت حنان. لكنها ليست نهاية مأساوية، بل هي نهاية تحمل طابعاًروحانياً وتصالحياً. المشهد الأخير الذي يراه ابنها طاهر، حيث تحلق يمامة (روح حنان) مع طائر آخر أبيض ناصع (روح ثائر) ويغيبان معاً في الفضاء، هو إغلاق رمزي لدائرة الألم. فبعد أن أدت حنان رسالتها في الحياة برعاية المستقبل (طاهر)، تحررت روحها لتتحد مع حبها الأبدي. إنها نهاية تؤكد أن الحب الحقيقي والوفاء يسموان على الموت والحرب.

خلاصة: رواية "يمامة بغداد" عمل فني متكامل ينجح في توظيف حكاية فردية مؤثرة لاستكشاف مأساة جماعية. من خلال شخصيات رمزية، وبنية سردية متقنة، ولغة تجمع بين الشعرية والواقعية، يقدم شلال عنوز شهادة أدبية عميقة عن صمود الروح الإنسانية في وجه أقسى الظروف، وعن وطن يناضل ليصالح ماضيه الجريح ويحتضن مستقبله الغامض.

***

***

د. نجلاء نصير

 

للشاعر والناثر خلدون رحمة

١. مقدمة منهجية وسياقية: هذا النص يقف على تقاطع السيرة والرمز، بين النثر الشعري والتأمل الرمزي؛ هو نصٌّ قَدِمَ كزيارةٍ رؤيويةٍ لذاتٍ تائهةٍ تلتقي بمظهرٍ مؤنَّثٍ يحمل الوظائف الميتافيزيقيّة والوجدانية (الأم/القدّيسة/المرأة-المرآة). سأتعامل مع النص بوصفه بنية مفتوحة للمعنى: كل صورةٍ فيه ليست وصفًا فحسب، بل عقدةٌ دلاليةٌ تقود إلى نظام إشارات متداخل يفضي إلى رؤى نفسية وروحية واجتماعية. سأستند إلى مبادئ الهيرمينوطيقا (الدوران بين الجزء والكل)، وإلى سيميائيات غريماس لاستخراج المحاور الدرامية للأدوار، وإلى منهجية الأسلوب والرمز لفك طبقات اللغة.

٢. قراءة هيرمينوطيقية تأويلية (المعنى الظاهر والباطن):

النص يبدأ بلقطةٍ مركزيّة: المرأة — «بثوب صلاتها المطرّز بالدعاء» — تدخل الغرفة. هذه الولوجية ليست مجرد حدثٍ سرديّ؛ هي تفعيل لمشهد الفداء/الشفاء. على مستوى الظاهر، نقرأ وصفًا حميميًا: الضحكة، المرايا، الأصابع، العيون، الحكمة، الرهافة، العطر... إلخ. أما على مستوى الباطن، فالمرآة / العين / الثوب / الصلاة / الدعاء تعمل كرموزٍ للشفاء الروحي، للعودة إلى الذات، ولإعادة بناء «الطفل الغامض» في الروح.

الحضور الأنثوي هنا يملك وظيفة نبويّة/قابلة: يوقظ القوة الحياتية، يكسر «جبل الحزن»، يضيء «غابات العزلة»، يملأ «الركن الداخلي» بنورٍ وعطرٍ وحنان. النتيجة: خلخلةُ حالة الجمود الوجوديّ، وبلورة إمكانية الحياة (القهوة تُغلى بـ«نار القلب»). لكن المفاجأة البؤسْتية: الغياب المفارق — يبقى «ثوب الصلاة» معلّقًا على كتف الغربة. هذه الخاتمة تُعيد النصّ إلى مربع الحزن: الوجودُ لا يحصل على التثبيت، والزيارة تتحوّل رمزيًا إلى أثرٍ (ثوب) لا أكثر.

التحوّل من حضور ملموس إلى أثرٍ يذكّر بمآلات الأسطورة: الوعدُ الوجوديّ لا يستقرّ، والرغبة تتحوّل إلى أثرٍ ميتافيزيقيّ — أي إلى دوامٍ رمزيّ يربط بين الحياة والموت، بين الوعد والافتقاد.

٣. تحليل أسلوبي ورمزيات اللغة:

1. الصور الحسية: النص غنيّ بالصور السمعية والبصرية والشمّية واللمسية — «ضحكتها الدافئة»، «امتلاء الفم بالحليب»، «أصابعها إذ يكون المرمر طريًا»، «رائحة عطرها السريّ» — تخلق جوًّا من الحميمية الحسية التي تُقوّي مصداقية التجربة الرؤيوية. الحواس تتحوّل هنا إلى أدوات تأويل: الحليب رمز التغذية/الأمومة، المرمر الطريّ رمز اللطف في ما يبدو صلبًا، العطر رمز الذاكرة والخصوصية.

2. التراكيب المغايرة: اقتحام النصّ للجمل المفتوحة والتورية السردية («دخلتْ غرفتي. / هل أنا حيّ لأصدّق ما أرى؟») يساوي بين اليقظة والحلم، بين الواقعي والأسطوري.

3. الاستعارة المركّبة: «تصدّعَ جبل حزني»، «أضاءت غابات عزلتي» — الاستعارات تضخّم الحالة النفسية إلى مقاييس كونية، فتحوّل الخصوصيّ إلى عامّ، ما يجعل من تجربة الراوي تمثيلاً وجودياً.

4. التضمين الطقوسي: «بثوب صلاتها المطرّز بالدعاء» — ثوب الصلاة هنا ليس مجرد لباس؛ هو طقس يلبس العالم ويفسحه. الربط بين الثوب والدعاء يضع الرحم/المرأة/القداسة في نفس خانة الأداء الديني.

5. لغة القرب والبعد: النص متذبذب بين القرب الحميمي (جلست أمامي) والغياب النهائي (لم أجدها، لم أجد إلا ثوب صلاتها). هذه القطيعة الأسلوبية تُظهر ثيمة الفقد وعدم التثبت.

٤. تطبيق نموذج غريماس: محاور الأدوار السيميائية

طبقًا لنموذج أكتانتي لغريماس، يمكن قراءة الفعل السردي كما يلي:

١- الفاعل: الراوي/الذات المتألمة (المختبر/المنتظر).

٢- المرسل: النص يقدّم المرأة كبعث/رسالة؛ يمكن أيضاً اعتبار «القدر» أو «النداء الروحي» مرسلاً.

٣- الهدف / الشيء المطلوب: استعادة الحياة/الشفاء/الانسجام النفسي.

٤- المتلقي: الراوي/الذات (يتلقى الشفاء/الحضور).

٥-المساعد: ثوب الصلاة، عطرها، ضحكتها، دفء فم الحليب، الحكمة— جميعها وسائط تمكّن الهدف.

٦- المعارض: الحزن، العزلة، الغربة، «جبل حزني»، فقد التثبيت؛ وفي الدرجة الوجودية: الموت/العدم كقوة مضادة.

بهذه القراءة يظهر النص كحكاية نزاع: إرسالٌ — وصولٌ — تذوّق/تحقق — اختفاء/فشل. الخاتمة تجعل من الثوب علامةٍ بديلة عن حضور مُثَبَّت، وتحوّل الهدف (الانعتاق) إلى غيابٍ رمزيّ.

٥. تفكيك مفردات مفتاحية وتأويلها:

«بثوب صلاتها المطرّز بالدعاء»: مركّب رمزيّ: الثوب = الهوية الظاهرة والوقائية؛ الصلاة = فعلُ ربط/توسّل؛ المطرّز بالدعاء = عمل ينقش الحميمية الدينية على المظهر. هنا المرأة ليست فقط امرأة؛ هي طقس/وسيلة ارتداد إلى المعنى.

«امتلاء الفم بالحليب»: استعارة أمومية، رمز التغذية الأولى، والبراءة، والأصل. الحليب إشارة إلى الأصل الطفوليّ وإمكانية التجدد.

«مراياها العميقة حيث أراني بكلّ أبعادي»: المرآة تعكس تعدد الأناّهات — الذات المُجزأة تُرى بكامل أبعادها. المرآة هنا مرجعٌ للهوية الشفافة والاعتراف المتبادل.

«أصابعها إذ يكون المرمر طريًا»: تناقض لافت: المرمر مادة صلبة، لكن طراوته هنا رمزية لقوة ناعمة قادرة على جعل الحجر لينًا — رمز لاختراق الحواجز.

«برزخٍ يفصلني عن العالم»: البرزخ فضاء حائل بين عالمين؛ عيونها تنقل إلى معبرٍ شبه متصوفٍ، إنها نافذة إلى عالمٍ داخليٍّ خاص.

«نار قلبي» (لغلي القهوة): القلب كمحرِكٍ حميميّ للطاقة؛ تغلي القهوة على نار القلب تعبير مجازي عن التحضير الحيوي الذي يُقدَّم كضيافة روحية.

«ثوب صلاتها مُعلّقًا على كتف غربتي»: الغربة هنا حاملةٌ للأثر؛ الثوب كدليل على الحضور والغياب في آنٍ معًا. الكتف مكان حمل الحزن والغربة؛ الثوب عليه علامة فشل التثبيت.

٦. قراءة نفسية: الأنماط الأرشيفية واللاوعي الجمعي

1. الأنيمة اليونغية: الظهور الأنثوي في النص يجسد مفهوم الأنيمة (النموذج الأصلي للأنثى) لدى يونغ:

صورةُ المرأة-المرشدة/الأمّ/الشفائية التي تُكمّل الذات الممزّقة للراوي (الذكر الداخلي). النص يوفِّر لقاءً تآمليًا مع «العنصر الأنثوي» الذي يعيد التوازن النفسي.

2. المخطط الطفلي المُطمر: «انهِض الطفل الغامض في روحي» يُبين وجود ذاكرة طفولية محفوظة تحتاج إلى إيقاظ. الحضور يُفجر استجابة رجعية إلى حالة أصولية للتغذية/الأمان.

3. الافتقاد والحنين كآليات دفاعية: غياب المرأة في الخاتمة يمكن قراءته كأمرٍ رمزيّ يرمز إلى التجربة الخيالية التي تنقضّ أمام قسوة الواقع؛ هذا حركة دفاعية من نوع التخييل الذي يواجه الافتقاد الفعلي.

4. الشق المرضي للغة: «احترقت شجرة الكلام في حنجرتي» — صورة نفسية لشلل القدرة على التعبير أمام حضورٍ مهيب؛ الدلالة هي العجز التعبيري الذي يعكس مشاعر التوجّس والذوبان في الحضور.

٧. البعد الديني والرمزي: الصلاة والدعاء كآليات فاعلة

الصلاة والدعاء في النص ليستا طقوسًا شكلانية، بل أدوات فعّالة لإنتاج معنى وجودي: «ثوب الصلاة المطرّز بالدعاء» رمز الاتّصال بالقدسيّ، ويدلّ على أن الشفاء هنا مجهّزٌ بلغة الطقس. الإحالة إلى «برزخ» تؤكد وجود خلفية تصوفية أو قراءات إسلامية للحدّ بين العالمين. يمكن هنا استحضار مفاهيم ابن عربي حول «الانسان الكامل» والموضع الذي فيه تتلاقى الأضداد. النص يتعامل مع الدين كقوّة تأويلية عملية، لا كمجرد إطار أخلاقي.

٨. المقارنة بين المستويات: انفعالي، تخييلي، عضوي، لغوي

أ. المستوى الانفعالي:

النص يشتغل بقوة على الانفعال: ترنّحات القلق تُقابَل بفيض الحبّ والحنان. هناك توتّر مستمر بين أمواج السعادة المؤقتة وهزيمة الغياب؛ القارئ يعيش موجات الأمل ثم الصدمة الختامية. موسيقى النص الانفعالية عالية—الموروث الأمومي يُطلق طاقة أملية قوية ثم يختم بخيبة عميقة.

ب. المستوى التخييلي (التخييل):

الصور الخيالية (غابات العزلة، أطفال داخليين، برزخ) تنحت فضاءً شبه ميثولوجيّاً، يجعل من اللقاء مشهداً أسطورياً أكثر من كونه حدثًا يوميًّا. النص يعمل كحكايةٍ رمزية تُغني ذاكرة القارئ بالتخييل.

ج. المستوى العضوي (الحسي/الجسدي):

اللمسات الجسدية والتفاصيل الحسية (الفم، المرمر، العطر، القهوة) تجعل التجربة عضوية، قابلة للشعور الجسديّ، فتلتقي الرغبة الروحية والرغبة الجسدية في واجهة واحدة. هذا الانصهار يعطي النص بعدًا إنسانياً حيًا ــ لا فحسب تأمليًّا.

د. المستوى اللغوي:

اللغة مركّبة بين البسيطة والمدهشة: مفردات يومية (قهوة، فنجان) تتداخل مع مفردات عالية الرمزية (برزخ، ثوب الصلاة). التناوب بين الجمل القصيرة والمقطعات الوصفية الطويلة يكسب النص إيقاعًا موسيقيًا متغيّرًا. الأسلوب يميل إلى البلاغة المتحرّرة من القوالب التقليدية، ويستثمر التكرار الرمزي لخلق وحدة نصية.

٩. البعد الوطني/الثقافي والاجتماعي:

النص يستدعي عناصر ثقافية عربية ملموسة: القهوة كطقس ضيافة وكمؤشر للحوار والحميمية، الصلاة والدعاء كمظاهر دينية يومية، والزيارة المنزلية كفضاء اجتماعي عربي مختصّ. غياب المرأة وتحويل حضورها إلى «ثوب» على كتف «الغربة» يحمل دلالة على تجربة النازح/المغترب: الحضور الروحي لا يواكِب الحضور الاجتماعي، وتتحول العلاقات الحميمة إلى أثرٍ ثقافي يُحمل على الاستلاب والغربة. بهذا المعنى، النص يُحيل أيضًا إلى معانٍ وطنية: كيف يظلُّ الحنين والطقوس والرموز الدينية منقوشةً على أجساد المغتربين/المنفيين كعلامات لا تُمحى، بينما يغادر الناس الحقيقيون أو يعودون ناقصين.

١٠. محاور إضافية للتدقيق السيميائي (اقتراح عمليّ بتحليل غريماس تفصيليّ)

هنا يمكننا استخراج شبكة سيميائية كاملة من خلال:

1. ترشيح كلّ العلامات الدلالية الأساسية (ثوب/صلاة/دعاء/قهوة/مرآة/برزخ/المَرْمر/عطر/طفل).

2. بناء مصفوفة علاقات معنوية (تشابك علامات ــ مؤشرات ــ دلائل).

3. تطبيق مخطط الأفعال: إرسال/تلقي/مساعدة/مواجهة/غلبة.

4. استخراج «المنحى السردي»: اللقاء ــ الفتح ــ الإحياء ــ الاختفاء ــ الأثر.

هذا سيكشف عن مستوياتٍ إضافية: كيف تتقاطع العلامات لتشكّل «أيقونة الشفاء الفاشل»؟ كيف يُنتَج الشعور بالحنين كمرجع سيميائي مركزي؟

١١. قراءة مقارنة: النص على المستويات الأربعة مقابل نصوص عربية أخرى

عند مقارنته بنصوص تعالج اللقاء الإلهي أو حضور الأنوثة كمبدأ شِفائيّ (مثلاً نصوص نزار قباني الوجدانية/نصوص تصوّف ابن عربي الشعرية)، يميّز نص خلدون رحمة توفّره على تمازجٍ واضح بين الحميميّة الجسدية والطقس الديني. بخلاف الإقرار الحِلميّ في بعض نصوص الحبّ الحديثة، هذا النص يضفي على اللقاء طابعاً تقدّسياً ــ فالثوب والصلاة والدعاء عناصرٌ تعبّر عن علاقة مع الله والآخر في آنٍ واحد.

١٢. استنتاجات عامة ومقترحات نقدية:

1. النص يعمل بنجاح على خلق محوّل رمزيّ: من حضورٍ حيّ إلى أثرٍ رمزيّ (ثوب). هذه الحركة تراكمية وتنتج تأثيراً وجدانياً قوياً.

2. الازدواج الحسي-الروحي هو من أبرز مكاسب النص: يجمع بين اللمس والعطر والمرآة والمقدّس، ما يمنحه عمقاً متعدد المستويات.

3. الاختفاء النهائي (غياب المرأة) يعيد النص إلى ساحة السؤال: هل اللقاء كان فعلاً أمّ رؤيا؟ هذا البُعد الإشكالي يثري النص ويترك القارئ في حالة تأملٍ مفتوحة.

4. منهجية غريماس مفيدة للغاية لتفكيك محور «الرسول/المرسل/الهدف» في النص؛ أوصي بتطبيق مصفوفيّة تفصيلية لاستخراج كلّ تحولٍ وظيفيّ لعلامة رمزية.

5. القراءة النفسية (يونغ، فرويد، فروم) تضيء على آليات الاحتياج الأنثوي-الذكوري، وتظهر أن النص بَنَى مخزوناً من الصور الأرشيفية القادرة على إيقاظ اللاوعي الطفوليّ.

١٣. خاتمة فلسفية/نقدية مختصرة:

«بثوب صلاتها المطرّز بالدعاء» نصٌّ يقوم عند الحدود بين الحلم واليقظة، بين الطقس والحميمية، بين الرجاء والافتقاد. هو نصٌّ يشتغل كمشهدٍ طقسيّ لإعادة بناء الذات، ويعرض قلقاً وجوديّاً يتجلّى في تكرار الفقدان؛ يبقى الثوب كعلامةٍ شاهدةٍ على إمكان الشفاء ومرثيةٍ على عدمه. إن النص يعلّمنا أن اللقاءات الأهمّ ليست تلك التي تُثبت الوجود، بل تلك التي تترك أثرًا يُعيد تشكيل الذاكرة — حتى وإن كان هذا الأثر مجرد ثوبٍ معلّقٍ على كتف الغربة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

بثوب صلاتها المطرّز بالدعاء

بثوب صلاتها المطرّز بالدعاء، بضحكتها الدافئة كامتلاء الفم بالحليب، بمراياها العميقة حيث أراني بكلّ أبعادي، بأصابعها إذ يكون المرمر طرياً، بعينيها الخالدتين اللتين تفضيان إلى برزخٍ يفصلني عن العالم، بحكمة صبرها ورهافة حسّها وبراعة حدسها، بلحمها ودمها، بكلّ ما فيها ………

دخلتْ غرفتي .

هل أنا حيّ لأصدّق ما أرى ؟

دخلتْ عليّ بفرحٍ هادئٍ فتصدّعَ جبل حزني، أضاءت غابات عزلتي بنور يشعشع من أقمار محيّاها، غطّت المكان بحرير حنانها، صبّت روحها في صدري فاندهش الطفل الغامض في روحي، خطفتني برائحة عطرها السريّ الطالع من مشيتها الملائكيّة .

التبسَ عليّ صحوي، شككتُ بجسدي أتحسّسُهُ، غرقت حواسي ببحر الجنون .

جلستْ أمامي على الكنبى وقالت بصوت الحبّ:

- صباح الخير يا أمّي

صرخت من جوفي:

- صباح الحياة يا أمّي

همستْ:

- أشتهي فنجان قهوة من يدكَ

ارتبكتُ جداً حتى احترقت شجرة الكلام في حنجرتي، فأوحيتُ لها بلغةِ العينِ الدامعةِ:

- سأغلي القهوة على نار قلبي .

وضعتُ الركوة وعدتُ مُسرعاً نحوها …

لم أجدها

لم أجد إلا ثوب صلاتها مُعلّقاً على كتِفِ غربتي .

 

التوثيق والتأويل في قلب المأساة السورية

يمثل ديوان "قبور صغيرة" للشاعر السوري ماهر شرف الدين (2021) نموذجاً متميزاً للشهادة الأدبية التي ترفع الواقع المأساوي إلى مصاف الشعر، دون أن تفقد صلتها بالحدث اليومي. الديوان ليس مجرد مجموعة قصائد، بل هو "ذاكرة جماعية" شعرية، تقدم قراءة متعددة المستويات للألم السوري، تجمع بين التوثيق الواقعي والتأويل الوجودي.

أولاً: المأساة كموضوع وكمنطلق تأويلي

يدور الديوان حول المعاناة الإنسانية خلال الحرب في سوريا، ملامساً موضوعات مركزية كـ الموت والفقدان (المتجلي في العنوان الرمزي "قبور صغيرة" التي تدفن فيها الأحلام قبل الأجساد)، والمنفى والشتات، والجوع والحصار. إلا أن الشاعر لا يقف عند حدود التوثيق، بل يتجاوزه إلى تفكيك المفاهيم الكبرى، كما في تمييزه للثورة بأنها لم تكن "جداراً يستند إليه" ولا "مفتاحاً لقصر"، مما يحول الخيبة السياسية إلى سؤال وجودي عن معنى التمرد والأمل.

هنا يندمج المحتوى مع الرؤية التأويلية: فالمأساة ليست موضوعاً مباشراً فحسب، بل هي المساحة التي تتحرك فيها الذات الشاعرة لتطرح أسئلتها الوجودية. السياسة هي الإطار والوعاء، بينما المحتوى النهائي هو سبر أغوار الوجود الإنساني في مواجهة العنف والضياع.

ثانياً: الأسلوب واللغة: بين صدمة الواقع وغموض الشعر

1. اللغة الواقعية المشحونة شعرياً: يستخدم شرف الدين لغة يومية قريبة من لغة الإعلام في نقل الواقع، لكنه يحولها إلى استعارات متعددة الدلالات. "القبور الصغيرة" لم تعد مجرد مقابر، بل رمزاً لكل ما يُدفن حياً: الكرامة، الذاكرة، الطفولة. "الباص المحطم" يتحول من وسيلة نقل إلى جسد طافٍ لحكاية تشرد جماعي. هذا التحويل هو جوهر التأويل الشعري.

2. المباشرة كخيار جمالي: قد يبدو الأسلوب مباشراً وصادماً أحياناً، لأن طبيعة الصدمة تتطلب صراحة. لكن هذه المباشرة ليست سذاجة فنية، بل هي خيار مقصود يعكس فظاعة الواقع. ومع ذلك، فهي مباشرة مُؤَوَّلة، حيث يتم إفراغ المفاهيم المألوفة (كـ "لاجئ"، "ثورة") من معناها وإعادة ملئها بدلالات جديدة. فالعبارة: "افتحوا لنا الطريق لنعيش مع الوحوش" هي قلب للمفاهيم؛ فـ "الوحش" هنا يصبح ملاذاً من وحشية البشر أنفسهم.

ثالثاً: اللااكتمال السياسي كسمة جمالية

تمثل قصيدة النثر في الديوان انعكاساً لطبيعة الواقع السوري. فاللااكتمال الذي تمثله الثورة المنهارة والوطن المشظى يتحول إلى سمة جمالية في القصيدة. النصوص لا تقدم حلولاً أو خواتيم مغلقة، بل توقف اللحظة المفجعة في منتصف طريقها، محافظة على طاقة التأويل مفتوحة. القصيدة، كالوطن، لم تعد تحتمل الإجابات الجاهزة، وهذا ما يجعلها نابضة بالحياة وقابلة للقراءة من قبل أي قارئ، بغض النظر عن معرفته بتفاصيل المشهد السوري.

رابعاً: تقييم الديوان: بين قوة الصدق وعمق الرؤية

1- قوة الديوان: تكمن في صدقه الإنساني وقدرته الفائقة على تحويل الزمن الرديء إلى مادة شعرية خالصة. لقد نجح في:

أ- تجنب الخطابية: لم يتحول الديوان إلى منشور سياسي، فحتى في أكثر نصوصه واقعية، حافظت اللغة على غموضها الشعري وإيحاءاتها.

ب- تجنب الانفصام: لم ينفصل هم الذات عن هم الجماعة، بل تم تأويل معاناة الجماعة لتصير جزءاً من جرح الذات الشاعرة، مما يخلق تكاملاً عضوياً نادراً.

ج- إثراء التأويل: قدم نصوصاً لا تنغلق على معنى واحد، تبقى قابلة للقراءة من قبل من يعيش التفاصيل، ومن هو بعيد عنها لكنه قريب من ألمها الإنساني الكوني.

2- في مواجهة النقد: قد يرى بعض النقاد أن اعتماد الأسلوب الواقعي المباشر يجعل بعض القصائد أقرب إلى "الخبر الصحفي"، مطالبين بمزيد من الانزياحات اللغوية المعقدة. لكن الرد على هذا يتمثل في أن "المباشرة المؤولة" في هذا الديوان هي أسلوب مقصود وليست عجزاً تقنياً؛ فهي تستمد شرعيتها من فظاعة الواقع المراد توثيقه وتحويله إلى استعارة، مما يثري النص بدلاً من أن يفقره.

الخلاصة: وعاء للزمن الرديء

"قبور صغيرة" لماهر شرف الدين هو مشروع شعري متكامل، يثبت أن قصيدة النثر يمكنها أن تكون "وعاءً للزمن الرديء" دون أن تتنازل عن شرطها الجمالي. إنه يجمع بين قوة الوثيقة التي تحفظ الألم من النسيان، وعمق النص التأويلي الذي يستنطق المأساة ليكشف عن أسئلة الوجود الأكثر إيلاماً. قيمته لا تكمن فقط في جماليته الشعرية، بل في كونه صرخة إنسانية خالصة، وشهادة ستظل حية على مرحلة دموية من التاريخ.

***

بهيج حسن مسعود - سوريا

لنجاح عزالدين

في دروب المعرفة حيث تتدفق أنهار الحرفِ وتتوهج أماسي الفكر، تسير "نجاح عز الدين" بخطى واثقة، تحمل بين جنباتِها شغفًا لا ينضب نحو اللغةِ العربية وآدابِها، هي أستاذة استثنائية في التعليم، لم تكتف بالغوص في أعماق النصوص والأساليب، بل جعلت من دراستها الأكاديمية جسراً يعبر نحو آفاق إبداعية رحبة.

حصلت على شهادة الإجازةِ (الليسانس) والماجستير في اللغة والأدب والحضارة العربية، لتواصل رحلتها البحثية في الدكتوراه، متخذةً من "التجريب في القصة التونسية" منارةً لأطروحتها، تنقّبُ فيها عن الجديدِ واللا مُتوقع، وتكشف عن طبقات الإبداع المختبئة.

ولها في حقلِ النقدِ بصمةٌ لامعة، تمثلت في إصدارها النقدي التحليلي لكتاب "المصون في سر الهوى المكنون" لإبراهيم الحصري القيرواني، تحت عنوان "في أفانين الهوى"، والصادر عن دار دال للنشر الإلكتروني في سوريا عام 2019، وهو عمل يغوص في تفاصيل النص القديم ليستخرج منه درر المعاني ويقدمه للقارئِ المعاصر بلغة عصرية ثرية.

ولا تزال رحلتها مع الكلمة متواصلة، وهي تعد لكتاب نقدي جديد يقرأ تجارب إبداعية سردية وشعرية من تونسَ والوطنِ العربي، لتؤكد أن النقد ليس مجرد شرح، بل هو حوار خلاق مع النص.

شاركت في عدد من الملتقيات العلمية والأدبية، سواءً في الجامعة العربية أو كلية منوبة، أو عبر اللقاءات الحضورية والافتراضية، محققة تفاعلاً واسعاً مع جمهورِها وطلاب العلم، ولها إسهامات منشورة في عدة صحفَ ومجلات أدبية وثقافيةٍ ورقية، تؤكد من خلالِها حضورها الدائم في المشهدِ الثقافي.

**

واليوم، تقف "نجاح عزالدين" أمام عوالم مجموعة "كوخ من لبن النساء وأشياء أخرى"، لتسافر بنا عبر سردها الأدبي الذي يجمع بين رقة المشاعر وعمق الرؤية، في رحلة نقدية تليق بتجربة إبداعية استثنائية.

عندما نضع أيدينا على المجموعة القصصية "كوخ من لبن النساء (وأشياء أخرى)" لنجاح عزالدين، فإننا لا نقتني كتاباً فقط، بل نوقع على "عقد قرائي" فريد من نوعه، عقد لا يكون فيه القارئ متلقياً سلبياً، بل شريكاً فعالاً في تشييد عالم النص واستنطاق دلالاته، تبدأ هذه الرحلة التشاركية من عتبات النص الأولى، التي لا تكتفي بالإعلان عن المضمون، بل تُعدّل في أفق توقعنا وتستدعينا إلى لعبة تأويلية شيقة.

كيف لا ننطلق من العنوان؟ كوخ من لبن النساء (وأشياء أخرى) ، إنه عتبة تثير وتستفز الخيال، (الكوخ) يوقظ فينا البساطة والعزلة والبدائية، بينما (لبن النساء) ينقلنا إلى حكايات الجدات وأساطير الخصب والأمومة، هذا المزيج بين الأسطورة والواقع اليومي هو بمثابة النغمة الأساسية التي سترافقنا طوال القراءة. أما الإضافة "(وأشياء أخرى)" فهي كمن يقول لنا: "استعد لما هو غير متوقع، فحدود هذا العالم أوسع مما تظن".

بيان التحرر من قيود الجنس الأدبي

قبل أن نغوص في النصوص، يقف التصدير ليعيد برمجة عقولنا كقراء، إنه يعلنها بصراحة: هذه النصوص هي (قصص، ويوميات، وقد تتعدى ذلك أحياناً)، بهذه العبارة، تهز نجاح عزالدين (أفق انتظارنا) التقليدي، إنها لا تقدم لنا قالباً جاهزاً نضعه في رف "القصة القصيرة" أو "اليوميات"، بل تدعونا إلى تبني استراتيجية قراءة مرنة، هي ترفض أن تتعامل مع الكتابة كما يتعامل "الفقهاء مع النص الديني"، مؤكدة أن "الكتابة عندي تعلمك 'أن تكتب في كل شيء وأن تكتب بكل شيء'"، هذا هو الانزياح الأجناسي الأول، الذي يحطم القيود ويعلن ولادة عقد قرائي جديد قائم على المفاجأة والتعدد.

لغز "القرين": النص الخفي والدور الإبداعي للقارئ

ها نحن ندخل عالم النصوص، ولكن هل ما نقرأه هو كل شيء؟ في مقدمته الثرية، يشير عبد العزيز بركة ساكن إلى ظاهرة أدبية فريدة في هذه المجموعة، يسميها "القرين". "القرين" ليس مجرد نص ضمن النص، بل هو بنية متخفية، شبح نصي يتراءى بين السطور، إنه، كما يصفه بركة ساكن، "نصوص غير مكتملة، تتيح للقارئ كتابتها".

انزياح الزمن والسرد

لا تقدم لنا نجاح عزالدين عالماً خطياً مريحاً، بل تعتمد الانزياح الزمني وتشظي السرد لتخلق واقعاً مكسوراً يعكس حالة شخصياتها وواقعها، في "زمن الضفادع"، تنتقل بنا الكاتبة من صورة امرأة عجوز ترمي الضفادع في الوادي، إلى استعارة مجازية عميقة عن الخطاب الفارغ والفساد المستشري.

(زهرة امرأة تجاوزت العقد الخامس... ترسبت في هذا الوادي الضفادع التي تناسلت، وتضاعفت، حتى صارت قبائل وشعوب... تسمع لها نقيقاً... محدثة ضجيجاً صاخبا.)

الانزياح من الواقعي إلى الرمزي المجازي يستدعي قارئاً قادراً على فك الشفرة، الضفادع هنا ليست حيوانات، بل هي كناية عن "الضجيج" الاجتماعي والسياسي الذي يخنق الفرد، وفي "رفيقة درب"، نلمس انزياحاً آخر في منظور السرد، حيث ينتقل بنا النص من السرد الخارجي إلى تدفق الوعي الداخلي للأب، مقترباً من أعماق الشخصية ومشاعرها المكبوتة.

انزياح اللغة: متعة الانزياح عن المألوف

اللغة هنا ليست وعاء للمعنى فقط، بل هي جزء من الجمالية ذاتها، إنها لغة مشحونة بشعرية عالية، تستخدم الانزياح الدلالي لخلق عوالم موازية، في "عيشة أخرى"، نجد مثالاً رائعاً: (تعانقا الجسدان حتى تماهيا وتخاطبت روحاهما، ثمّ سرت رعشة في كامل جسديهما وتحركت أصابعهما المتشابكة، وراحا يتمتمان بكلام لا يفهمه غيرهما.)

هنا يحدث الانزياح من الحسي (التعانق) إلى الروحي (تخاطبت روحاهما)، ليرسم لنا مجازاً جميلاً عن اتحاد يتجاوز المادة. هذه اللغة لا تخبرنا، بل تجعلنا نحسّ ونتذوق متعة الانزياح عن المألوف. وفي المقابل، في "المنسية"، تستخدم الكاتبة الانزياح نحو العامية والنداءات الحميمة (هيا حبيباتي، دجيجاتي...) لخلق واقعية حسية تلمس القلب مباشرة.

النهايات المفتوحة: القارئ هو من يكتب الخاتمة

لا تقدم لنا العديد من النصوص حلولاً نهائية، بل تفضل الانزياح عن النهاية المقفولة، لتترك للقارئ مهمة ختم المعنى، مصير "زهرة" في "زمن الضفادع" مجهول: "هجرت، زهرة المكان ولم يعرف لها طريقا إلى اليوم." هل هربت؟ أم تحررت؟ أم ضاعت؟ النص يصمت، ليترك الإجابة لنا.

حتى في نهاية "عيشة أخرى" الشعرية، يظل السؤال قائماً: هل ما حدث هو موت أم اتحاد روحي أخير؟ "وراحا يتمتمان بكلام لا يفهمه غيرهما." هذا الانزياح نحو الغموض يحول القارئ من متلقٍ إلى مشارك في صياغة المصير النهائي، مكملاً المشهد بناءً على تجربته هو.

الانزياح.. فن صناعة القارئ الشريك

من خلال هذه الرحلة، تتجلى لنا حقيقة هذه المجموعة: إنها نموذج راقٍ لأدب لا يكتمل إلا بوجود القارئ.. لقد استخدمت نجاح عزالدين استراتيجيات الانزياح المتعددة – انزياح الأجناس، والزمن، واللغة، والنهاية – ليس بهدف الإلغاء، بل بهدف البناء؛ إنها تخلق عالماً قابلاً للتشكل، يتحول فيه القارئ من مستهلك إلى "قارئ مثالي"، قادر على تفكيك الشفرات واستنباط الدلالات الخفية، "كوخ من لبن النساء" ليس مجرد مجموعة نصوص، بل هو ورشة مفتوحة للقراءة والإبداع، تثبت أن أجمل النصوص هي تلك التي نكتبها معاً، كاتبة وقارئاً، في مساحة اللقاء بين السطور.

***

رزق فرج رزق – ليبيا

إنَّ مِن شَرْح الشِّعر في تراثنا ما يبدو إفسادًا للنصِّ، وإسفافًا في فهم معناه، وتقييدًا بليدًا لآفاق دلالاته الشِّعريَّة. خُذ مثالًا نموذجيًّا من شرح الشُّرَّاح بيت (أبي تمَّام)(1):

إِنَّ الإِخــاءَ وِلادَةٌ وأَنـا امـرُؤٌ

مِمَّن أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ

فماذا تفهم من هذا البيت؟ هكذا تساءل (ذو القروح) في المساق السابق. فسألته:

ـ أنت ماذا تفهم؟

ـ أمَّا أنا فأفهم- ربما بنزوعٍ (ما بعد حداثيٍّ)، يرى في التأويلات المفرطة إفسادًا للنصوص وإسفافًا بالعقول- أنَّ الشاعر يقول: «إِنَّ الإِخاءَ وِلادَةٌ»، كما قال هو حرفيًّا. أي أنَّ علاقتك الأخويَّة الصادقة بإنسانٍ هي بمثابة ولادةٍ جديدة لك. ثمَّ قال: «وأَنـا امرُؤٌ مِمَّنْ أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ». وهذا كذلك ما قصدَه حرفيًّا. أي: أنَّه ممَّن حيث ذهبَ في أُخوَّته مع الناس، أنجبَ نفسه مولودًا جديدًا منهم، وأنجبهم من نفسه مواليد جُدُدًا كذلك. فظاهر النصِّ أبلغ وأشعر من ذلك الباطن الذي تكلَّفه بعض الشُّرَّاح، محاولين التماسه، لاستنزال النصَّ من تحليق سماواته الشِّعريَّة، إلى سوقيَّته وابتذاله العامِّي، الذي لا يُدرِك الشارحُ أرفع منه، حيث تقرأ:

«قال الخارزنجي: يقول: إخاء المتآخين كأُخوَّة الإخوة. وأنا رجلٌ مستقصٍ في اعتقاد الإخوان، فإذا اتَّخذت أخًا استكرمته. أي اتَّخذته كريمًا، فأنجب، من نجبت عن الشجرة اللِّحاء، وبلغت إلى خالص الشيء. وهو مَثَلٌ ضربَه. أي: أنا بالغٌ في المودَّة. هذا على رواية، فأَنجب بفتح الهمزة. وروَى الباقون بضمِّ الهمزة: أواخي النُّجَباء.»(2)

هكذا توصَّل الأخ (الخارزنجي)، بعد طول تفكيرٍ وتأمُّلٍ وعناء!

ـ وعند الصباح، سكتَ الشُّراح، عن الكلام المباح!

ـ نعم، فلم يضيفوا على كلام (الخارزنجي) حرفًا! ولكن بعد أن نَجَبُوا معه عن شجرة الشِّعر اللِّحاء! فالشاعر لم يَعْدُ أنْ كرَّر المقولة الشَّعبيَّة الدارجة: «رُبَّ أخٍ لكَ لم تلده أُمُّك!» وهذا المستوى من التلقِّي والشرح ينطبق عليه قول (أبي تمَّام) نفسه:

أَيُّ مَرعَــى عيــنٍ وَوادِي نَسِـيبِ

لَحَبَتْــهُ [الشُّرَّاحُ] فــي مَلْحُـوْبِ

بعد أن تستبدل بكلمة «الأيَّام» في البيت «الشُّرَّاح».

ـ على أنَّ من تتبَّع آراء (الخارزنجي)- بصفة خاصَّة- في شرح الشِّعر تأكَّد له أنَّ الرَّجُل لا يفقه لغة الشِّعر.

ـ ولذا تجده يقرأها على وجه الحقيقة المطلقة، وكأنها إخبار. انظر مثلًا كيف فهم قول (أبي تمَّام) أيضًا:

ولا غَـروَ أَنْ وَطَّـأتَ أَكنـافَ مَرتَعـي

لِـمُهمَـلِ أَخفاضِــي ورَفَّهـتَ مَشـرَبي

إذ يقول للممدوح: لا عجبَ أن جعلتَ مرتعي موطَّأ الأكناف لصغار إبلي (أخفاضي) التي كانت مهمَلة، وجعلت مشربي رِفْهًا.

ـ فكيف فَهِمَ (البشتي الخارزنجي، ـ348هـ) البيتَ؟

ـ قال، لا فُضَّ فوه، إنْ لم يكن قد فُضَّ، بعد تلك القرون: «يقول: أرحتَني عن الحِلِّ والارتحال، فأهملتُ أخفاضي، فلم أحتج مع رفدك إلى استعمالها وركوبها للانتجاع.»(3) فهو- كما ترى- يفهم كلام الشاعر على أنه مجرَّد «نشرة أخبار» عن حقائق الأشياء والوقائع، لا على أنه كلامٌ مجازيٌّ تخييلي. ولو كان يفهم الشِّعر ولغته لوعَى أنْ ليس من إبلٍ هنالك ولا مرعى، وإنَّما هي استعارة مركَّبة تعبيرًا عمَّا ناله من خير الممدوح.

ـ إنَّ اللُّغة الأدبيَّة عمومًا هي لغة متشابهة، وليست بمحكمة غالبًا.

ـ صحيح. وقد أشارت الآية إلى هٰذا المعنىٰ في «القرآن»: «مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ، هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ.» ذلك لأنَّ «القرآن» جاء بلسانٍ عربيٍّ أدبيٍّ مبين. واللُّغة المتشابهة هي اللُّغة الأدبيَّة عمومًا، وهي لهذا خاضعة للتأويل، لا للشرح؛ فالشرح مجاله اللُّغة العِلميَّة المحكَمة. ولذا ذهب مَن ذَهب إلى أنَّ الآيات المحكَمة هي آيات الأحكام الشرعيَّة، لا غير(4)؛ لأنَّ هذه آياتٌ عِلميَّة قانونيَّة، «هُنَّ أُمُّ الكِتَاب»، وعليها مدار العمل أو عدمه. ولذا استُخدِم ضمير العاقل، «هُنَّ»، لا «هي أُمُّ الكِتَاب». «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ؛ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ، وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ.» إذ يُعجِب هؤلاء المتشابهُ؛ لأنَّه يتيح لهم أن يشطحوا، بلا قيود ولا حدود. وهذا ما يبغون؛ لأنهم أهل زيغٍ عن الحقِّ لا أهل حق.

ـ مع أنَّ التأويل أيضًا مقيَّدٌ بضوابط اللُّغة، والسياقات، وقبل ذلك وبعده بالرسوخ في العِلم، وليس مطلَقًا.

ـ «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ، يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ.» والراسخون في العِلم يعلمون تأويله بالضرورة، وإلَّا ما جدوَى نزوله؟! ولئن كان القائلون بهذا هم القليل من المفسِّرين؛ فإنَّ أهل الحقِّ قِلَّة دائمًا في كلِّ مجال. ومنهم (مجاهد) و(ابن عبَّاس)؛ حتى إنَّ هذا الأخير كان يقول: «أنا ممَّن يعلم تأويله».

ـ فالواو على هذا للعطف لا للاستئناف.

ـ أجل. لكنَّ الراسخين في العِلم هؤلاء يجمعون بين العِلم والإيمان، ولا يتَّبعون بعض الكتاب دون بعض، كما يفعل أهل الزيغ. لأنه، في النهاية، «مَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ».

ـ أي: «أولو العقول».

ـ لم يقل «أولو العقول»؛ لأنَّ (الألباب) تشمل العقول والقلوب. كما أن التأويل ليس حكرًا على طائفة من البَشر، وإلَّا أمسينا أمام أسوار كنسيَّة، كتلك التي كانت قائمة دون العقل في (أوربا) خلال القرون الوسطى؛ إذ كانت السُّلطة الدِّينيَّة هي المتحكِّمة الوحيدة في فهم النص؛ وعلينا- نحن خارج تلك السُّلطة (بضم السين)- قفل العقول والأفواه وأبواب الاجتهاد؛ لأنَّ ثمَّة معصومًا من الخطأ: سوف يفسِّر لنا ويفهم ويفتي!

ـ وعندئذٍ لم تَعُد من قيمةٍ للنصِّ نفسه أصلًا!

ـ ولا للإنسان المخاطَب به! والنصُّ الأدبي لا تتأتَّى قراءته بالعقل وحده، ولا بالقلب أو بالنفس وحدها، بل بهما معًا، أي: بـ(الألباب).

ـ إنَّ تلك الآية تبدو هكذا آيةً في منهجيَّة قراءة النصوص أصلًا.

ـ وإذا كان هذا حال النصِّ ذي الصبغة الأدبيَّة، فما حال النصِّ الأدبي المحض؟

ـ بل ما حال النصِّ الشِّعري تحديدًا؟

ـ إنَّه نصٌّ متشابهٌ بامتياز. غير أنَّ الذين في عقولهم زَيْغٌ من الشُّرَّاح والنقَّاد فرقتان، في تعاملهم مع الشِّعر: فرقة تغالي في اتِّباع ما تَشَابَهَ منه؛ ابتغاء تأويله بما ليس فيه، كما رأينا في بيت (أبي تمَّام) النموذج؛ وفرقة تقرأ النصَّ على ظاهره السطحي؛ لأنَّها لا تطيق التأويل؛ فتجرِّد النصَّ من أدبيَّته وشِعريَّته. والفرقة «الناجية» هم (أولو الألباب)، الذين يؤوِّلون ما يحتمل التأويل، ويُمِرُّون ما خلاه على ظاهر معناه، بلا تكلُّف تأويل. كما قال (عُمَر بن الخطَّاب): وقد «قَرَأَ عَلَى المِنْبَرِ ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾، فَقَالَ: هَذِهِ الفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الأَبُّ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَـهُوَ التَّكَلُّفُ، يَا عُمَرُ!»(5)

ـ وقد فَهِمَ بعض الحمقَى من المعاصرين أنَّ (عُمَر) وصفَ هنا «القرآن» بالتكلُّف!(6)

ـ وما أكثرهم! والنصُّ الشِّعري الجيِّد هو- في النهاية- الذي لا يستدعي الفرقة الأُولَى؛ لأنَّ تأويله منه وفيه؛ من حيث هو نصٌّ تخييليٌّ تأويليٌّ بالأصالة، لا بوساطة مؤوِّل؛ بما أنَّه شِعر، لا نصٌّ غيبي، أو دِيني، ولا نصٌّ أدبيٌّ عام. كما أنَّ النصَّ الشِّعري يربأ بشِعريَّته عن سطحيَّة الفِرقة الأخرى؛ فإنْ هي قاربته تطفُّلًا فضحَها في العالمين!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1) (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عَزَّام، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 133/ 15.

(2) يُنظَر: (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 2: 178.

(3) يُنظَر: م.ن، 2، 217- 218.

(4) يُنظَر: السيوطي، (1426هـ)، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: مركز الدراسات القرآنيَّة، (المدينة المنوَّرة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف)، 4: 1335- 000.

(5) م.ن، 3: 731. وفيه «الكَلَف». وذكر محقِّقه في حاشيته أنَّ «في مصادر التخريج: «التكلف»، وهي أنسب للسياق.»

(6) يُنظَر مثلًا: الأخضر، العفيف، (2014)، من محمَّد الإيمان إلى محمَّد التاريخ، (كولونيا- بغداد: منشورات الجمل)، 200.

لمحمود درويش

مدخـــل: في بداية تسعينيات القرن الماضي دخل الشاعر محمود درويش مرحلة إبداعية جديدة حاول من خلالها تجاوز مرحلة سابقة جعلته "شاعر القضية الفلسطينية"، وهو ما لم يرفضه درويش، لكنه كان يرفض أن يُخنق في أفق إبداعي فلسطيني؛ فلطالما كان يلوم النقادَ على ذلك. وعَبَّر عن قلقه في عدد من حواراته من قَـرْنِ اسمه في كل مناسبة بقصيدته الخالدة "سجل أنا عربي"، التي تُمَثِّل مرحلة فنية متقدمة في تجربة درويش الثرة، والتي عمل جاهدا على تجاوزها على اعتبار أنها تمثل مرحلة البدايات؛ فانتقل إلى مرحلة إبداعية جديدة نستطيع القول إنها بدأت مع ديوانه (لماذا تركت الحصان وحيدا)(1)، واستمرت في عدد من دواوينه مثل (كزهر اللوز أو أبعد)(2) و( سرير الغريبة)(3) محافظا على النفس الشعري نفسه والهم الذاتي والغوص في التفاصيل الدقيقة للارتقاء بما هو يومي عابرٍ إلى مستوى الكونية الإنسانية؛ مع نهل عميق من شتى المعارف والمرجعيات بشتى ضروبها ومنابعها شرقا وغربا، واستطاع أن يحول (التغريبة الفلسطينية) إلى رمز للاغتراب البشريّ والكوني.

"إن الدفق الشعري الخلاق يكمن عند محمود درويش في قصائد هذه الدواوين التي تتميز عن سابقاتها بذلك الامتلاك المتميز للغة الاستعارية المتفردة، وذلك الانسياب الإيقاعي الساحـر." (4)

في ديوان (سرير الغريبة) يستنطق درويش الأنثى ويقَوِّلها ما لم تستطع قوله، يسافر في جوهرها الأنثوي وينبش في ذاكرتها ومشاعرها ورؤاها ويسبر أغوارها. ومهما فعل لن يرى كل ما يريد رؤيته في عالمها، لـذا تقول له "تخيل، ولو مرة أنك امرأة لترى ما أرى". إن المرأة عند درويش ليست امرأة نزار قبّاني، أو المرأة المشتهاة في شعر الغزل العربي، إنّها امرأة من إبداعه، يصورها كما يراها أو يشتهيها وهي، كما في جُلِّ أشعاره، متعدِّدَةُ المظاهـر فهي الأم حينا وهي الحبيبة وهي الأرض أيضا؛ إنها في فكر درويش تتسامى على الزمان والمكان؛ يتحدث عنها بكل شفافية وحذر من أن يخدش عالمها الساحر والآســر الذي يصنعه بأشعاره البهية مع نرجسية جلية، فبالرغم من كل ذلك تعشق أشعاره وتغار منها.

قصيدة (وقوع الغريب على نفسِه في الغريب) من روائع ديوان سرير الغريبة. يبدأها درويش بنَفَسٍ صوفي في قوله (واحد نحن في اثنين) يستحضر فيه "مسألة الحلول" التي قال بها المتصوفة مثل أبي منصور الحلاج الـذي يقول في بيتيه الشهيرين(7):

أنا مَنْ أهْوى ومَنْ أهْوى أنا **** نَحْنُ روحانِ حَلَلْنا بَدنا

فَإذا أبْصرتَنــي أبْصَرتَــهُ  ***  وَإذا أبْصَــرْتَـــــــه أبْصَرْتَنا

وهو تعبير يشكل مدى ارتباط الشاعر بأنثاه حدَّ التماهي والحلول، ولا حلول إلا من قِبَل عاشق متفانٍ في عشق مولاه/ معشوقته، إنه عشق صوفي عميق، وليس عشقا شهوانيا لأنه الشاعر الشفيف الذي يؤثث ملامح المرأة السامية لديه بأشعاره. وصفة التوحد هذه تُنبئ القارئ بما يشترك فيه الطرفان؛ بدءا باعتماد ضمير الجمع المتكلم؛ إنهما من دون هوية (لا اسم لنا((8( وغريبان، متى؟ عندما يتأمل الغريب نفسه في المكان والزمان الغريبين يكتشف الهوية المشتركة الضائعة. ولم يبق من الأرض سوى الظلِّ "ظلِّ الحديقة/ الأرض والوطن" ذاك الظل الذي يشكل الخيال، بالرغم من أنه يشتبه بالأصل فهو شيء آخر غير حقيقي، له جماله الخاص وحضوره المميز في الذاكرة، إنه ظل لشيء بعيد متوغل في الكيان؛ وهو ما تَبَقّى من الهوية، لكن الظل سرعان ما يبهت تدريجيًا، لكنه يبقى الملجأ الوحيد للبحث عن الذات. واللجوء إلى الظلال سبيل لإثبات شرعية الوجود وامتلاك الأرض وتسلية النفس بالبحث عن ("العناوين"/ الأمكنة) الضائعة خلف الظل. يدعو الشاعر أنثاه إلى البحث عن الهوية المفقودة بتتبع الظل للوصول إلى الجغرافيا التي تؤكد شرعيتَها وهويَّتها الكتُبُ المقدسة و"نشيد الإنشاد" :

"........وبحثنا مَعا

عن عناوينِنا: فاذهبي خَلف ظلكِ،

شرقَ نشيدِ الأناشيد، راعيةً للقطا،

تجدي نجمةً سكَنَت مَوتها، فاصْعدي جَبلا

مُهمَلا تجدي أمسِ يُكْمِلُ دَوْرَتَهُ في غَدي.(ص36)

كعادته درويش ينهـل من الكتب المقدسة ويستحضر نصا من (العهد القديم) وهو (سفر نشيد الأناشيد) أو (نشيد أنشاد سليمان)(9) وأهم ما أخذه درويش من هذا "النشيد" شخصية امرأة تدعى (شولميت) كانت راعية غنم، ورجل يذكر في بعض الروايات اليهودية والمسيحية أنه الملك سليمان، يتحاوران حوار غزل شفيف ينتقل بهما إلى مرحلة تحقيق الزواج.

يدعو الشاعر أنثاه (شولميت) إلى اقتفاء أثر الظلِّ، ظل الأمكنة الساكنة في الوجدان للوقوف على حقيقة الهوية واكتشاف الجبل/ فلسطين وهو المكان الذي وحَّدَهُما وجعلهما (واحدا في اثنين).

يتوقف الصوت الذكوري ليفسح المجال للأنثى لتؤكد ارتباط الهوية بالمكان المفقود؛ فبعد الجبل هناك البحر والحشائش الخضراء والسماء وما تحمله من دلالات عن الحياة والارتباط بالهوية المهددة بالضياع.

وتكرار اللازمة في النص (واحد نحن في اثنين) له دلالاته المتعددة إنه تأكيد التوحد والبحث المشترك عن إثبات الذات والهوية والغربة وهي قاسمها المشترك (ياغريب / ياغريبة).. ولاسترجاع حياتهما في المكان قبل ضياعه ينقصهما العناق الحقيقي الذي لا يكون على إلا على الأرض بعد عودتهما إلى اثنين والخروج من الاحتواء على مستوى الذاكرة والعاطفة.

لكن ذلك لن يتحقق فقد ضاعت الهوية/ الاسم حين يبحث عنها الغريب في البلد الغريب .

" لا اسم لنا يا غريبة

عند وقوع الغريب على نفسه في الغريب ! "

***

ميلود لقاح

.................

الهوامش:

1-  رياض الريس للكتب والنشر -2001

2-  رياض الريس للكتب والنشر، بيروت: 2005

3-  رياض الريس للكتب والنشر، بيروت: 1999

4-  ميلود لقاح-(محمود درويش في كتابات بعض مؤبنيه) موقع المثقف -العدد: 2411 المصادف: 2013-04- 12

5-  سرير الغريبة 35

6-  سرير الغريبة : ص35

7-  ديوان الحلاج – جمع المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون – ص26/ نسخة pdf

8-  سرير الغريبة ص 35

9-  ويكيبيديا/ https://ar.wikipedia.org/wiki

يُعْتَبَرُ طَرَفَة بن العَبْد (تقريبًا 543 م _ 569 م) مِنْ أبرزِ شُعراءِ الجاهليَّة. عاشَ في بيئةٍ بَدَوِيَّةٍ صَحْراوية قاسية، تَنْتشر فيها الصِّرَاعاتُ القَبَلِيَّة، والمَوْتُ مَوجودٌ في كُلِّ لَحظة، وَلَهُ حُضُورٌ دائم في الوَعْي الجَمْعِيِّ، والحياة قصيرة، فانعكسَ هَذا عَلى رُؤيته للحَياةِ والشَّبَابِ. وَهُوَ يَرى أنَّ الشَّباب مَرحلة عابرة لا تَسْتحق التَّقَشُّفَ أو الادِّخار، وَيَدْعُو إلى استغلالِها في المُتعةِ واللذةِ قَبْلَ أنْ يُداهِم المَوْتُ الإنسانَ، وفي هَذا إشارةٌ إلى نِهايةِ الإنسانِ، وحَتميةِ المَوْتِ، وضَياعِ الشَّبابِ. لذلك كانتْ نَزْعَتُهُ شَهْوَانِيَّةً لَذائذيَّة، ورُؤيته العَامَّة عبثية وماديَّة ومُتمردة، تَدْعُو إلى اغتنامِ المُتعةِ واللذة، لأنَّ الحياةَ قصيرة، والشَّباب لا يَدُوم، والمَوْت لا مَفَر مِنْه، خاصَّةً في ظِلِّ شُعوره بِقِصَرِ عُمْرِه، حَيْثُ قُتِلَ في رَيْعَانِ شبابه.

نَظَرَ إلى الشَّبَابِ باعتباره مرحلةً قصيرة، يَنْبغي أنْ تَقُومَ على الاستمتاعِ والتَّمَرُّد، وَرَفْضِ الانصياعِ للمُجتمعِ أو القُيودِ الاجتماعية، فَهِيَ فُرصة وحيدة لِتَذَوُّقِ اللذةِ قَبْلَ الفَنَاءِ السريع الذي يُمثِّله المَوْتُ. وَهُوَ يَرى أنَّ الشَّبابَ ضائعٌ بالضَّرُورة، فلا جَدوى مِنَ الخَوْفِ، ولا فائدة مِنَ القَلَقِ، بَلْ يَجِبُ الانغماسُ في مَلَذَّاتِ الحياة، وَهُوَ بذلك يُعبِّر عَنْ فَلسفةٍ حَياتية تَمِيلُ إلى العبثِ، والاحتفالِ بالجسدِ، وتَعظيمِ الغرائز.

عَبَّرَ عَنْ إحساسِه بالغُربةِ والضَّيَاعِ، لَيْسَ فَقَط مِنْ خِلالِ تَمجيدِ الماضي وَبُعْدِه عَنْ مُتَنَاوَلِ اليَدِ، بَلْ أيضًا مِنْ خِلالِ التَّفَكُّرِ في الفَوضى الاجتماعيةِ والسِّياسيةِ التي كانتْ تعيشُها قبيلته.

عاشَ فَتْرَةَ شَبابِه مُتَأرْجِحًا بَيْنَ الحَياةِ والمَوْتِ، مُوَاجِهًا مَصيرَ الفَناء، وَهُوَ مَا يَعكِسه شِعْرُه الذي يَجْمَع بَيْنَ استذكارِ جَمالِ الشَّبابِ والتَّعبيرِ عَنْ فِقْدانِ الأملِ في المُستقبَل، بسببِ تآكُلِ الأحلامِ وَتَبَدُّدِهَا. هَذا التَّأرْجُحُ بَيْنَ اليأسِ والمُقاوَمةِ يَدُلُّ عَلى فلسفةِ الشاعرِ الوُجودية، ويُشير إلى صِراعٍ دائم بَيْنَ الرَّغبةِ في البَقَاءِ والتَّحَدِّي والمَصيرِ المَحتوم.

دارَ الشاعرُ في فَلَكِ المَوْتِ، وَهَذا دَفَعَه إلى الشِّعْرِ في مُحاولةٍ للتَّعبيرِ عَنْ حَياته القصيرةِ المَليئةِ بالصِّراعِ والمُعَاناةِ والألَمِ. وكانَ يَرى أنَّ المَوْتَ لا يأتي إلا بعد أنْ يَصِلَ الإنسانُ إلى ذُرْوَةِ شبابِه وأحلامِه. وَقَدْ أظْهَرَ حَسْرَةً مَريرةً عَلى ضَياعِ الشَّبابِ، وَعَدَمِ التَّمَتُّعِ بِه، وكأنَّ العُمْرَ انتهى قَبْلَ أنْ تَبدأ الفُرَصُ الحقيقية. كَما أظْهَرَ حُزْنًا شديدًا على الزَّمانِ الذي مَضَى سريعًا دُون أنْ يَتْرُكَ لَهُ الفُرصةَ للاستفادةِ مِنْ طَاقته وحَيويته. بَلْ وَيَظْهَر في شِعْرِه استشرافُه للمَوْتِ المُبَكِّر، وَهُوَ مَا يَتَمَاهَى مَعَ حَياته القصيرةِ التي انتهتْ بالقتلِ.

وَيُعْتَبَرُ جون كيتس (1795 م _ 1821 م) مِنْ أبرزِ شُعَراءِ الحركةِ الرومانتيكية الإنجليزية. كانَ مَهْوُوسًا بالجَمالِ والزَّمَنِ والفَنَاءِ، وَمَعروفًا بِحِدِّةِ تأمُّلِهِ في ضَياعِ الشَّبابِ والمَوْتِ المُبكِّر. وَقَدْ تُوُفِّيَ شابًّا بِمَرَضِ السُّلِّ، وَلَمْ يَحْظَ في حَياته إلا بالتجاهلِ والاحتقارِ مِنْ قِبَلِ النُّقَّادِ والشُّعَراءِ، وعاشَ مُعَذَّبًا بَيْنَ المَرَضِ والنَّقْدِ.

كانَ يَرى أنَّ الشَّبابَ ضَحِيَّةُ الزَّمَن، وأنَّ الجَمَالَ هَشٌّ وعَابِرٌ، لكنَّه لا يَدعو إلى المُتعةِ الجسدية بِقَدْرِ مَا يَحْتفي بالجَمَالِ الفَنِّي الخالد. وَرُؤيته العَامَّة ذات طبيعة فلسفية ومِثالية، تَعكِس حُزْنًا عميقًا، وتأمُّلًا في مَعنى الحَياةِ، لكنَّها تَسعى إلى الخُلودِ مِنْ خِلالِ الفَنِّ لا المُتعةِ.

اعتمدَ أُسلوبًا رمزيًّا مُعَقَّدًا، وَلُغَةً مُوسيقية رقيقة تَعِجُّ بالصُّوَرِ الفَنِّيةِ الرَّمزيةِ والمَجَازِ، وغالبًا مَا يَسْتدعي عَناصر مِنَ الطبيعةِ والفَنِّ، وَيَسْتَلْهِم مِنَ الأساطير، وَيَجْعَل مِنَ الطائرِ أو المَزهريةِ أو الرَّبيع رُموزًا للشَّبابِ العابرِ، أو الخُلودِ المَنشود. وَقَدْ عَبَّرَ في شِعْرِه عَنْ رَغْبته في الهُروبِ مِنَ الواقعِ عَبْرَ الجَمال، لأنَّه يُدرِك أنَّ شبابَه وَصِحَّتَه في طَريقهما إلى الزَّوال.

والشَّبَابُ عِندَه لَيْسَ وَقْتًا للمُتعةِ العابرة، بَلْ لَحْظة سريعة مِنَ الجَمالِ الباهرِ، يَطْمَح إلى تَخليده عَبْرَ الشِّعْرِ، لأنَّه يَعْلَم أنَّه لَنْ يَبقى طويلًا لِيَعيشَ هَذا الجَمَالَ بِنَفْسِه، وَلَنْ يعيشَ طويلًا لِيَشْهَدَ تَحَوُّلاتِ الزَّمَن. لذلك كانَ يُركِّز على التأمُّلِ في الجَمَالِ والفَنَاءِ كَأمْرَيْن مُتَرَابِطَيْن، فالشَّبابُ بالنِّسْبَةِ إلَيْه هَدِيَّةٌ مُؤقَّتة، مِثْل لَحْظَةِ جَمَالٍ في لَوْحَةٍ فَنِّية.

عَبَّرَ عَنْ رُؤيته للأشياءِ العظيمةِ التي تَحْدُث في الحَياة، وأيْقَنَ أنَّ وَراءَ كُلِّ شَيْءٍ عظيمٍ هُناك الفَنَاء الذي يَنتظر الجميعَ. وَرَأى في مَوْتِ الشَّبابِ جُزْءًا مِنْ دَوْرَةِ الحَياة. وكانَ يَحْزَنُ على ضَياعِ الفُرَصِ، وَعَلى فَترةِ الشَّبابِ التي غالبًا مَا تَمُرُّ سريعًا دُون أنْ يُحقِّق الإنسانُ كُلَّ مَا يَرْغُب بِه.

وَمَفهومُ " ضَيَاع الشَّباب " يَظْهَر عادةً في سِياقِ الحُزْنِ عَلى مُرور وَقْتٍ لا يَعُود، والتأمُّلِ في تِلْك الفَترةِ الذهبية التي تَتَّسِمُ بالحَيَويةِ والطُّموحِ، ثُمَّ التلاشي السريع لِهَذه الفَترةِ بَعْدَ مُلاقاةِ الإنسانِ للصُّعوباتِ والمَآسِي. وهَذا المَفهومُ لا يَرتبط بِمُرورِ الزَّمنِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَرتبط بِمَشاعرِ الخَيْبَةِ والنَّدَمِ بسببِ عَدَمِ القُدرةِ على الاستفادةِ الكاملةِ مِنْ هَذه المَرحلة.

رَغْمَ التَّبَايُنِ الزَّمَنيِّ والثَّقَافيِّ بَيْنَ طَرَفَة بن العَبْد وجون كيتس، فإنَّهما يَتشاركان الشُّعورَ العميقَ بِضَياعِ الشَّبابِ. كُلٌّ مِنْ زاويته. طَرَفَة يُواجهه باللذةِ، والتَّمَرُّدِ، والانغماسِ في المُتعةِ الجسدية، بَيْنَما يَتأمَّله كيتس بالحُزْنِ، والألَمِ، والبحثِ عَن الخُلودِ الفَنِّي، وتَخليدِ اللحظةِ الجَمَالِيَّة. وَمِنْ خِلالِ شِعْرِهما، يَتَّضِح أنَّ الشُّعورَ بِضَياعِ الشَّبابِ وَفَنَائِهِ قَضِيَّةٌ إنسانيَّة تَتجاوز الزَّمَانَ والمكان. والجَديرُ بالذِّكْرِ أنَّ الشَّاعِرَيْن تُوُفِّيَا وَلَمْ يَبْلُغَا سِنَّ السادسةِ والعِشرين مِنَ العُمْر.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

عتبات البداية والنهاية وأثر المنظمة السرية

تعد رواية "لن ينقطع الوتر" للكاتب اللبناني أحمد دهيني نموذجًا أدبيًا غنيًا يستحق القراءة والتأمل، لا فقط من خلال نسيجها السردي المتشابك، بل أيضًا عبر عتباتها النصية التي تفتح أبوابًا متعددة للتلقي والتأويل، وتكمن جمالية هذه الرواية في كيفية استثمار الكاتب لعناصر مثل الإهداء والعتبات الأولى لتأسيس حوار مع القارئ منذ اللحظة الأولى، وصولاً إلى النهاية التي تترك أثرًا متواصلًا في الوجدان.

عتبة الوجدان والانتماء

يبدأ دهيني روايته بإهداء مكثف وعميق، يمثل عتبة وجدانية تؤسس لمسار النص كله، الإهداء ليس مجرد تكريم، بل هو بيان وجودي وإنساني، فهو يهدي العمل إلى أمه، التي تصفها بـ"النور والحنان"، وإلى أخيه، وإلى روح أبيه، وإلى "الوردة العابقة بالعبير"، وإلى "الصادقين والطيبين، إلى المعذَّبين والمظلومين".

هذا الإهداء يخلق علاقة حميمة بين القارئ والنص، وكأن الكاتب يشاركنا مكنوناته الإنسانية منذ البداية. إنه يضع القارئ في حالة استعداد لتلقي نص ليس مجرد حكاية، بل هو رحلة في أعماق الإنسان: ألمه، حبه، خيباته، وإصراره. الإهداء يعمل كمرآة تعكس القيم التي ستدور حولها الشخصيات والأحداث: الوفاء، الحب، المقاومة، والبحث عن العدالة.

إشارات مفتاحية

عنوان الرواية "لن ينقطع الوتر" يحمل دلالة موسيقية ووجودية، الوتر قد يكون رمزاً للعلاقة الإنسانية، للحب، للأمل، أو حتى للصلة بين الإنسان والله، الفعل "لن ينقطع" يؤكد الاستمرارية رغم كل الصعاب، هذا العنوان يخلق توقعاً لدى القارئ بأن الرواية ستتناول صمودًا ما، ربما صمود الحب، أو الإيمان، أو القيم في وجه الفساد والظلام.

غلاف الرواية، الذي صممه الكاتب نفسه، يعزز هذه الفكرة من خلال تصوير قد يعكس التوتر بين الظلام والنور، أو بين الوتر الممدود وخطر انقطاعه، الغلاف يصبح جزءًا من تجربة التلقي، حيث يثير فضول القارئ ويوجه خياله نحو فضاء النص.2076 ahmad

عتبة الصراع المركزي وأثرها على القارئ

في الصفحات من 23 إلى 28، يقدم الكاتب وصفًا مفصلاً لمنظمة "جينتي إنتليجينتي" السرية، وهي منظمة نخبوية عنصرية تدعي الاصطفاء الإلهي وتتحالف مع المافيا، هذا الوصف ليس مجرد خلفية للصراع، بل هو عتبة سردية كبرى تضع القارئ في قلب المعمعة الأيديولوجية للرواية.

- بناء العالم الخفي: يشرح الكاتب الهيكل الهرمي الصارم للمنظمة، بدءاً من "الحكيم الأعظم" ذي السلطة المطلقة، مروراً بالحكماء الأولين والمجالس الثلاثية، ووصولاً إلى "الحراس العقائديين" و"الأذرع التنفيذية" مثل المافيا، هذا البناء المعقد يخلق لدى القارئ شعوراً بالرهبة والغموض، ويدفعه إلى تفكيك شبكة القوة هذه طوال الرواية.

- التلقي النقدي: من خلال كشف العقيدة العنصرية للمنظمة (فكرة "نقاء الدم" والحق الإلهي في الحكم)، يوجه الكاتب القارئ نحو قراءة نقدية للخطابات الاستعلائية والسلطوية، القارئ لا يتلقى هذه المعلومات بشكل سلبي، بل يُدعى لمقارنتها بالواقع ورفض منطق الهيمنة هذا.

- تضافر الصراعات: هذا الكشف يربط بين الصراع العائلي  والصراع الأيديولوجي الأوسع، مما يثري تجربة التلقي ويجعل القارئ شاهدًا على كيفية اختراق الفساد والسلطة الخفية لأعماق العلاقات الإنسانية.

استمرارية الوتر

تختتم الرواية بعودة إلى فكرة الوتر، لكن هذه المرة من خلال حوار بين لورينزو وفيرونيكا، حيث يقول لورينزو: (لن ينقطع فينا الوتر، وفي الظلام ستشعل الشمس كي تُقبل وتعانق القمر...)

هذه النهاية لا تشكل خاتمة مغلقة، بل تترك الباب مفتوحاً للتأمل والاستمرار، إنها تؤكد أن الوتر - سواء كان حبًا، أو إيمانًا، أو قيماً - لن ينقطع، رغم كل المؤامرات والصراعات التي عاشتها الشخصيات، ورغم وجود منظمات شريرة مثل "جينتي إنتليجينتي"، النهاية تمنح القارئ شعوراً بالأمل والاستمرارية، وكأن الحياة تتجاوز النص، والحب يتجاوز الموت.

عتبات متجددة

من خلال عتباتها الأولى والإهداء، وعنوانها، والكشف عن المنظمات السرية كعتبة سردية كبرى، ونهايتها المفتوحة، تقدم رواية "لن ينقطع الوتر" نفسها كنص حيوي يتفاعل مع القارئ، الإهداء يخلق جسراً وجدانياً، والعنوان يوجه التوقع، والكشف عن العالم السري يضفي عمقاً درامياً وأيديولوجياً، والنهاية تمنح مساحة للتأمل والاستمرار، كل هذه العناصر تجعل من الرواية ليست مجرد حكاية تُروى، بل تجربة إنسانية تشاركية، حيث يصبح القارئ شريكاً في بناء المعنى، وفي استمرار الوتر الذي لا ينقطع في مواجهة كل أشكال الظلام.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

في ضوء تطوّر النقد الأدبي الحديث، بات النصّ الشعري يُعامل باعتباره بنية دلالية – رمزية – تواصلية؛ فالتقصّي النقديّ لا يكتفي اليوم بتحليل المعنى الظاهر وإنما يسعى إلى الكشف عن «ما تحت الجلد» من توترات نفسية ورّموزٍ كامنة وبنى أسلوبيّة تمتدّ من اللغة إلى النحو، ومن الوزن إلى القافية. وتُعدّ السيميائيات منهجاً محورياً في هذا المسار، إذ تعرّف النصّ بوصفه «نظاماً لإنتاج الأقوال» وليس مجرد تركيب جمليّ، وتُركز على العلاقات بين العلامات داخل النصّ وخارجه، كما تنظر إلى النصّ باعتباره «فضاءً معرفياً» داخليّاً وخارجياً.

وبينما تُركّز اللسانيّات البنيوية الجُملية، على القدرة الجُملية – أي الإمكانات الإنتاجية للّغة ضمن الجملة – فإنّ السيميائيات النصية تهتمّ بالقدرة الخطابية – أي كيف يُنتج النصّ ذاته أحوالًا وجودية ومعرفية.

في هذا الأفق، تأتي دراسة قصيدة «قوس الحبر» للشاعر أيمن معروف، لتُجرى عبر تطبيقة متعددة المناهج: الرمزيّ، الأسلوبيّ، النفسيّ، الهرمينوطيقيّ، الوطنيّ، والسيميائيّ. نعمد في هذا البحث إلى تحليل النصّ باعتباره منظومة رموزٍ وتوتراتٍ شعورية، رصداً للبنى النفسية التي تحيا خلف النصّ، واستكشافاً للأسلوب الشعريّ – من اللغة إلى النحو، ومن الوزن إلى القافية – وكشفاً للأخطاء أو الانزياحات اللغوية إن وجدت، ضمن قراءة دقيقة تستند إلى منهج أكاديميٍ صارم.

التحليل:

1. البُعد السيميائي – الرمزي:

1.1 العلامة والنظام:

في قصيدته، يستدعي الشاعر أيمن معروف الماء كعلامة مركزية: «جَفَّتْ مياهُ النّهر / جَفَّ البحرُ والماءُ الذي / في الماءِ لا يتكلّمُ». اللغة هنا تحمل دلالة مزدوجة: الماء رمز للحياة والخصوبة، والجَفْافُ رمز للفراغ والموْت. إن تحوّل الماء إلى صمت أو عدم كلام يدلّ على انكسار القدرة التواصلية، وعلى فقدان المعنى. من منظور سيميائي، نحن أمام «إشارة» تتحوّل إلى «مدلول» كثيف بالغياب. ولهذا تتحوّل الصورة إلى رمزية: الماء لا يكلّم – كأنّ اللغة نفسها قد عطلت.

تتكرّر الصور المائية – النهر، البحر، الماء – ثم تتخذ الصحراء والجحيم مقعدًا لها: «وعَدَتْ على / الصّحراءِ ألفُ جهنّمٍ / وخَبَتْ على نارِ / النّشيدِ جهنّمُ». الصحراء هنا رمز المهجور، والحريق والجحيم رمزان للكوارث الداخلية. إنّ الانتقال من الماء إلى الصحراء يشير إلى تراجُع وجوديّ، من خصوبة اللغة إلى خرابها. تلك الثنائية (الماء/الصحراء) تخلق قطباً ثنائيّاً أساسيّاً في المنظومة الرمزية للنصّ، وهو ما يؤكّد مبدأ العلاقات البنائية في السيميائيات.

1.2 النصّ كمنظومة إنتاج أقوال:

النصّ لا يقف عند وصف الحال، بل يستدعي الشعر ذاته: «يا شعرُ عَلّمني ارتِكابَ الإثمِ أنتَ الآنَ أدرى بالجنونِ وأَعلَمُ». الشعر – كقدرة خطابية – يُصار إليه ليعلّم الإثمّ، بمعنى أنّ الشاعر يعترف بأنّ الشعر صار وسيطاً في الانحرافِ عن المعنى أو الواقع. من هنا، الشعر ليس مجرد موضوع بل فاعل داخل النصّ، وهو يعكس فكرة القدرة الخطابية.

يطفو في النصّ مفهوم «قوس» في العنوان «قوس الحبر»، ثم «قوسٌ أنا في / ضفّتيكَ»، أي أنّ الشاعر يلتقط نفسه بوصفه قوساً – رمزاً للانحناء والانطلاق أيضاً – على ضفتَي الماء والبلوى. إن هذا التحوّل الرمزيّ من العنصر الخارجي إلى الذات يضع النصّ في مدار من التّقليب الذاتي والتّأمل: الذات تقوس، تنحني، وتصبح عنصراً مبدعاً ورمزاً.

1.3 البُعد الوطني والوجودي:

تتكرّر في النصّ إشارات إلى الحريق والجحيم والبلوى، وهي ليست مجرد صور شعريّة بل تستبطن وضعاً إنسانياً/وطنياَ: «وحاولتُ أن أقولَ الأرضَ شِعراً». الأرض هنا ليست مجرد مكان، بل موطن مبدد، هو موطن الشاعر/الأنا التي تآكلت. وهذا يحمل دلالة وطنية ضمنية، بقدر ما ينخرط الشاعر في الأزمة الوجودية والوطنية على حدّ سواء، في عالمٍ باتت فيه مياه النهر تَجفّ، واللغة لا تتكلّم.

2. البُعد النفسي – الأسلوبي:

2.1 التوتر النفسي والاختلاف مع الوجود:

يُفتتح النصّ بتصريح الاغتراب: «وأنا المُبَدَّدُ في الجهاتِ / وليس لي جهةٌ لأعرفَ مَنْ أنا». معرفة الذات مفقودة، ويحتدم التوتر بين الأنا والجهة، بين الانتماء والضياع. من المنهج النفسي–الرمزي، هذا يدلّ على تجربة اضطراب الهوية، وفي ذات الوقت صراع وجودي. الأسلوب هنا متسق مع النفسي: اللغة موجزة، الصورة مرهقة، والعلاقات بين المتنقلات النفسية (جهات، مبَدَّد، هوية) تعكس نزعة الشعور بالانفصال.

2.2 الأسلوب والنحو:

أسلوب الشاعر أيمن معروف يتّصف بالتشظّي والتكرار: تتكرّر جملة «جَفَّتْ مياهُ النّهر / جَفَّ البحرُ» في ثلاثة مقاطع، مما يعكس حالة التثبيت على الفجيعة، وعلى الفقد الذي لا انتهاء له. من الناحية النحوية، يستخدم الشاعر الترادف والتكرار كأداة إيقاعية ورمزية. لكن يمكن ملاحظة أنّه في بعض المواضع اندفاعٌ نحو البناء الحرّ (مثلاً «من دونِما / صحفٍ تُريدُ الآنَ دمعي / صالحاً للبيعِ»)، وهو بناء قد يفتقر إلى الربط النحوي المثالي بين الجمل (إنّه انقطاعٌ عمديٌّ ربما).

3. الأسلوب الشعري – الوزن والقافية:

3.1 الوزن والإيقاع:

على الرغم من أنّ النصّ يتّخذ شكلًا شِعريّاً حُرّاً إلى حدّ كبير، إلا أنّه يحمل إيقاعات قريبة من بحر الطويل أو المتدارك في بعض المواضع، مثل: «جَفَّتْ مياهُ النّهر / جَفَّ البحرُ والماءُ الذي / في الماءِ لا يتكلّمُ». ثمّ «يا شعرُ عَلّمني / ارتِكابَ الإثمِ أنتَ الآنَ / أدرى بالجنونِ وأعلَمُ». هذا التعدد في الإيقاع يُعبّر عن التوتر ذاته؛ عن اضطراب النصّ بين بثّ الشعور وانفلات الشكل.

3.2 القافية:

القافية ليست منتظمة، بل تبدو غالباً مكسورة أو مفتوحة بوعي: «…. والماءُ الذي / في الماءِ لا يتكلّمُ». ثم «… دمعي / صالحاً للبيعِ في سوقِ / النّخاسةِ والجنونْ». هذه الحرية في القافية تعبّر عن نزوع النصّ إلى المقاومة والتمرد، وعدم الانصياع إلى البنية الكلاسيكية. من المنهج الأسلوبي، هذا الخيار يُظهر الضدية بين الشكل الكلاسيكي والمضمون الثائر.

4. القراءة الهرمينوطيقية:

من منظور الهرمينوطيقيا، أيّ قراءة تعبيرية/تأويلية للنصّ، يمكن القول إن النصّ يُحيل إلى «قراءة الذات في مواجهة العدم». حين يقول الشاعر «كن مرّةً يا صاحبي مثلي لنخترعَ القيامةْ»، فإنّه لا يدعوك إلى القيامة بالمفهوم الديني وحده، بل إلى إعادة اختراع الذات في فضاء خالٍ من الوتد والأرض. النصّ في هذا المعنى ليس صورةً للحظةٍ فحسب، بل هو دعوةٌ لتمردٍ وجوديّ.

5. الملاحظات اللغوية:

هناك إشارات نحوية قد تُعدّ «انزياحات» أو تدخّلًا شعريّاً عمديّاً، مثل «وليس لي جهةٌ لأعرفَ مَنْ أنا، فجهاتِيَ الغَبْراءُ». هنا الفاصلة قبل «، فجهاتِي» قد تُعدّ كمقطع انقطاع يُشذب الإيقاع الشعوري.

كلمة «استباهُ الفاسدونْ» في «جَفَّ البحرُ والماءُ اسْتَباهُ الفاسدونْ» استعمالٌ للشّاذّ: الكلمة «استباح» عادة تُعرَف، بينما «استباه» هنا قد تكون مقصودة لكنها تفتقر إلى شيوعها اللغويّ.

في بعض الأبيات، تبدو علامات الوقف غير متوافقة لغوياً، مثل: «، ما فازَ إلاّ الفاشلونْ.» الفاصلة قبل «ما» ثم الوقف النهائي «.» يعطي انقطاعاً شعريّاً متعمداً، لكن من منظور النحو التقليدي يُعتبر أسلوباً منحرفاً.

استخدام «وكأَنِّي» – (لم يظهر كثيراً في المقتطف)، لكن استخدام تكرار «وأنا» في المقطع «وأنا المُبَدَّدُ …» يظهر تكرار ضمير الأنا كأداة شعوريّة، لكن من الناحية النحوية يشدّد عمود الجملة الذاتية.

القافية المفتوحة والمكسورة في النص تُعدّ اختياراً شعرياً، لكنها تحمل «انزياحاً» عن التزام القافية التقليدية، مما يضع النص في موقف الحداثة ورفض القوالب المسبقة.

الخاتمة:

إنّ قصيدة «قوس الحبر» تمثّل تجربة شعريّة مركّبة تقع عند مفترق العلامة والمعنى، الذات والوجود، اللغة والعدم. عبر أدوات متعددة المنهج – السيميائي، النفسي، الأسلوبي، الهرمينوطيقي، والوطني – قرأنا النصّ على أنّه نظام دلاليّ متنبّأٌ بعيشه الداخلي، لا مجرد صورة. ماءٌ يَجفّ، لغةٌ لا تكلّم، قوسٌ ينحني، شعرٌ يعلم الإثمّ: كلها رموزٌ للغربة والوَهن والتمرد. أما من الناحية الأسلوبيّة، فالتنوّع بين الإيقاع شبه التقليدي والبناء الحر، وبين القافية المكسورة والانقطاع النحويّ، يعكس توتر النصّ الداخلي والشعور بالتشظّي. من زاوية الهرمينوطيقيا، فالنصّ يدعو إلى إعادة اختراع الذات وقيامة وجوديّة في فضاءٍ بلا أساسات.

مستقيمًا في منهجه الأكاديميّ، يمكن القول إنّ قراءة هذه القصيدة تُحقق مبتغى السيميائيات النصيّة: كشف النظم الداخليّة للعلامة وبناها، وتمكين القارئ من قراءة «ما لا يُقال» مباشرة، بل ما يُشعّ من بين طيّات اللغة. وأخيراً، فإنّ ملاحظاتنا اللغوية – من الانزياحات إلى التكرار – لا تضع النصّ في خانة الخطأ، بل تكشف بصيرة الشاعر في توظيف اللغة خارج القوالب، وهي بصمة الحداثة داخل النصّ.

ملاحظات لغوية مُلخّصة:

1. تكرار عنصر «جَفَّتْ مياهُ النّهر / جَفَّ البحرُ…» كمفتتح يعكس تثبيتاً شعوريّاً لكنه يخلق نوعاً من الجمود البنائي.

2. استعمال «استباهُ» بدلاً من «استباح» أو «ابتلاه» قد يُعدّ انزياحاً لغويّاً مفصوداً أو غير مقصود، لكنّه يخدم الإيقاع.

3. تنوّع الإيقاع بين تقريب الطويل والخَطّ الحر يجعل القصيدة في موقع الحداثة لكن يفرض على القارئ تركّزاً أكبر لاكتشاف الإيقاع الداخلي.

4. القافية المفتوحة والمكسورة تُعدّ خياراً شعريّاً يعكس التمزّق الوجودي، لكن من الناحية التقليدية تُعدّ «انحدارًا» في الالتزام.

5. الانقطاعات النحوية والفاصلة قبل «، ما فازَ إلاّ الفاشلونْ.» تعطي الإحساس بتوقّف الوعي وتردّده، وهي أسلوب شعري يُبرّر النزعة النفسية للنصّ.

بهذه الدراسة الأكاديمية، تكون القصيدة قد وُضعت تحت مجهر تحليلٍ متعدد المنابع، يجمع بين العلامة والمعنى، بين النفس والأسلوب، وبين اللغة والوجود.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

قوس الحبر

جَفَّتْ مياهُ النّهر

جَفَّ البحرُ والماءُ الّذي

في الماءِ لا يتكلَّمُ.

*

وعَدَتْ على

الصَّحراءِ ألفُ جهنَّمٍ

وَخَبَتْ على نارِ

النّشيدِ جهنَّمُ.

*

يا شِعرُ عَلِّمْني

ارتِكابَ الإثمِ أنتَ الآنَ

أدرى بالجنونِ وأَعلَمُ.

*

لي فيكَ اُغنيةٌ ولي

منكَ المدى أُنشوطتانِ

ودمعتانِ وطَلْسَمُ.

*

قوسٌ أنا في

ضفّتيكَ وفي رحى البلوى

الدّريئةُ والخُبالُ المُبْرَمُ.

*

فلتَعتَصِمْ بمياهِ

وجهِكَ يا فتى واعصمْ

سماءَكَ قبل أنْ يَصِلَ الدَّمُ.

*

جَفَّتْ مياهُ النَّهرِ

جَفَّ البحرُ والماءُ الّذي في

الماءِ تهتكُ قوسَهُ الشُّعَراءُ.

*

وأنا المُبَدَّدُ في الجهاتِ

وليس لي جهةٌ لأعرفَ مَنْ

أنا، فجهاتِيَ الغَبْراءُ.

*

وسمائِيَ الفُصحى

لسانٌ أبكمٌ ورطانةٌ عَجماءُ.

ومدارُ قافيتي

السَّوادُ الجَمُّ تَزْربُ في مدى

أنحائِهِ الرَّمضاءُ.

*

كلٌّ لَ*َدَيهِ شَمالُهُ

وجنوبُهُ وأنا لَدَيَّ

غروبِيَ الوَضّاءُ.

*

جَفَّتْ مياهُ النَّهرِ

جَفَّ البحرُ والماءُ

اسْتَباهُ الفاسدونْ.

*

ويقولُ لي منْ أنتَ !!

في أَوْجِ اشتعالي

القـاتلونْ.

*

حتى التُّرابُ

يقولُ لي منْ أنتَ

في عزِّ اتِّضاحي

*

ثُمَّ يُنْكرُني الرِّضى

والحاسدونْ.

*

وأنا هنا منْ دونِ

قافيةٍ ولا أملٍ ولا جدوى

يراها الآخرونْ.

*

منْ دونِما

صحفٍ تُريدُ الآنَ دمعي

صالحاً للبيعِ في سوقِ

النّخاسةِ والجنـونْ.

*

ويقولُ لي الشّعراءُ

دَعكَ منَ الكتابةِ

والكآبةِ والظّنونْ.

*

وأَتِح لروحِكَ مقعداً

بينَ الحداثةِ والحداثةِ

كي تكونَ ولا تكونْ.

ما فازَ إلاّ الفاشلونْ.

*

سأقولُ لي

قد يأكلُ الشّعراءُ

لحمَكَ والوظيفةْ.

*

قد يأكلُ الصّحفيُّ

صوتَكَ والخليفةْ.

*

من قالَ إنَّ الشّعرَ

ليسَ ضـرورةً مُثْلـى

لإتمامِ الصّحيفةْ !!.

*

ولكي يُتِمَّ

الشّاعرُ المقتولُ في

المعنى نزيفَهْ.

*

كونٌ صغيرٌ

ذابَ في لغتي وأَدمَتْني

القصيدةُ والمواجعْ.

*

ذهب المجازُ مودِّعاً

من قبل أن تأتي لمكمنِها

الحوادثُ والتّوابعْ.

*

هيّأتُ أسـبابي

وإنّ معي من الأدواتِ

ما يكفي لتكتملَ القصيدةُ

والشّوارعْ.

*

هذا دمي

ارتطَمتْ نيازكُهُ الصَّغيرةُ

بالزّوابِعْ.

*

قد كان

مشغـولاً بترتيبِ العواصفِ

واختلافِ اللّيلِ

*

والرّيحِ

الّتي في اللّيلِ

واللّيلِ المُخادعْ.

*

حتى العبارةُ

لم تكن تعنيهِ أصلاً.

*

كانَ مشغولاً

بِبَلبَلَةِ الأماكنِ

والأصابعْ.

*

لم تتركِ الكلماتُ

لي شغبي لأركض في

مدارِ الأرضِ أقطفُ

غيمةً في إِثرِ أُخْرى.

*

ما حيلتي !!

وأنا الأَتَيتُ كما

النّسيمِ الحرِّ

*

في الغاباتِ

يعشقُ أنْ يظلَّ

الآنَ حُرّا.

*

وأتيتُ

ملتبِساً بأشكالِ الطّيورِ

أقولُ للأشجارِ أَمرا.

*

وأتيتُ

قبل تفتُّحِ الأقداحِ

في الحاناتِ

*

قبلَ

توقُّدِ العطّارِ

في المعنى

*

أُعاقرُ

خمرتي وأُذيعُ

سرّا.

*

وأمرُّ قرب الأرضِ

أفتحُ معجَمَ القَتْلى على

اِسْمي قربَ إِسْمِ أبي

وعائلتي هنا لأراهُ ذِكرى.

*

وأرى ارتباكَ العشبِ

في الغاباتِ والقنْصَ الّذي

يشتدُّ في السّاحاتِ

*

ثمَّ أرى

أنا الأعمى ضرورةَ

أنْ أقولَ الأرضَ

شِعرا.

*

من يستطيعُ

الآنَ تشكيلَ الهواءِ

*

ليحرسَ

المعنى على بابِ

الخديعةِ

واللّغةْ.

*

من يستطيعُ

الآنَ ترتيبَ الفراغِ

*

ليخدشَ

المبنى بهذي

الأدمغةْ.

*

لو كانَ لي

ما كانَ من شأنٍ

لرامبو

*

وهـو يلتهمُ

الجحيمَ كحَبَّـةِ (البالتانِ)

لاجتحتُ الجحيمَ،

لأبلُغَهْ.

*

كن مرّةً يا صاحبي

مثلي لنخترعَ القيامةْ.

*

ونطلَّ من عدَمٍ على

عدَمٍ ونبتكرَ السّلامةْ.

*

كن مرَّةً مثلي

 بلا أحدٍ ولا ولدٍ

ولا وَتَدٍ لدَيكْ.

*

كن مبهماً

لتظلّ ملعوناً ومجنوناً

ومطروداً بأقصى جنَّتَيكْ.

*

كن واضحاً

لتكون مقتولاً ومتّهماً

ومشغولاً عليكْ.

*

كن مثلما تهوى

وأَتلِفْني جميعي

في هوائِكْ.

*

كن مرّةً وحدي

لتشرقَ بي سمائي

منْ سمائِك.

***

قدم سعد جاسم (هايكواته)* برؤية عالمية، حين جاء بعنوان واسع الأفق، مفتوح على اللانهاية، عميق الدلالة والأثر، قد يفهم منها أوجه عدة، ربما إنسانية او عوالم داخلية أو حتى أن يكون المقصد الحياة اليومية وما تحمله لحظاتها من معاناة وألم.

أجاد سعد جاسم حين أبقى أفق العنوان مفتوحاً دون تحديد، فالعالم واسع وتأويل الكلمة أوسع، وقد تحتمل الكثير من الأوجه والصور، إلا أن ما ضمنه جاسم في عنوانه أو المضمون حقيقة شيء مدهش ومعبر بشكل متقن وفنية شعرية عالية، اعتدناها في نصوصه بشكل دائم.

بأناملِها الرهيفةِ البيضاء

تُدوْزنُ سوناتاتِ الحبِّ

عازفةُ البيانو

ذهب منها سعد جاسم ليجسد رمزية معبرة، وتصور مفعم بالشاعرية يلامس نبل المشاعر ورقتها التي شدت بها صاحبة البيانو بوصلتها الموسيقية الحالمة، حباً وألفة تترسخ في مخيلة القارئ لما تشدو به موسيقاها من خلال (أناملها) الرقيقة تكتب سوناتات (الحب)، نص رائع كرسه سعد للتركيز على الأنوثة والرقة، ما يخلق انطباعًا مرهفًا لما كرسه من كلمات ل"عازفة البيانو" وصفاتها الأنثوية الرقيقة.           

أراد سعد أن يكرس رمزاً للحب عبر ألحانها، والمجازية في تصوير ذلك الحب عبر المعزوفة التي أتقن تركيب أجزائها، فظهرت على شكل أصر من خلاله أن يُحمله ما اعتراه من مشاعر وأحاسيس. رصد سعد جاسم ذلك التشكيل الرائع للحب، والذي يخلق من الصورة شكلاً فنيا عبر النص ليعبر عما فيها من مرهف جسده جاسم برقة العازفة وعاطفية المشهد عبر الرمزية التي شكل منها ذلك "الهايكو".

على أديمِ جلدهِ

يرسمُ لوحاتِ بلادٍ تحترق

رسامٌ موجوع

وفي هذه قد يَدهش سعد جاسم قراءه بما ضمن نصه من أبعاد فنية طاغية بالألم، حتى أحال (الهايكو) إلى صورة إنسانية تحتمل أوجهاً قد تختلف في مضمونها، فهي غاية في الإنسانية حين ينشد القارئ التعاطف، وهي ذات بعد أخر حين ننظر لها من وجهة ثانية، فهي تحمل دلالات اجتماعية، سياسية، نفسية تترك آثارها على شكل الصورة التي تعبر عن التماهي الذي تتداخل فيه المعاناة التي يشعر بها الفنان، وهي تعبير عن تجسيد الألم وتغلغله في الروح.

وفي لوحاته التي تحترق، ترجمة لما تعاني الإنسانيه منه جراء الحروب والطغيان والأستبداد الذي يسود العالم بلا رحمة، فيأتي الفنان ليكرس هذا كله في لوحاته التي يرسمها بلون الألم. وهي تمثيل لما جاء به سعد ختاماً للنص، وكأنها جواب لمن يقدم سؤالاً مفاده من ذاك الرسام، فيجيبه (رسام موجوع).

أراد سعد جاسم أن يكون الهايكو الذي كتب، مرآة لما تعاني منه الإنسانية من خراب ودمار وألم شخصي، فجعل نصه "صرخة" مدوية في سماء الآلام التي يرسمها بألوان مختلفة.

في غروبِهِ الحزين

يموسقُ خيباتِ حياتهِ

عازفُ الناي

هي مرحلة أراد سعد أن يشير لنهايتها (غروبه الحزين)، وأظن أنه لم يقصد الغروب بمعناه الحرفي، بقدر ما اراد منه التعبير عن الحزن كتشخيص نفسي لتداخل هذا الوقت بشجن يعتلي النفس، ويخلط بين مايمثله الغروب، والحزن العميق الذي يعتلي النفس ساعة ذلك الحدث، وكأنه تجسيد لمعاناة شخصية.

ترادف الصور والكلمات يغني النص، سواء في النصوص الشعرية المعتادة، أو حتى في هايكوات سعد جاسم، وهنا جاء بترادفات مقتضبة لصور بذاتها داخل فيها الحزن بالغروب، والموسيقى بالخيبات، وذهب ليوظفها بصورة شخصية، فأضفى عليها "حياة" عازف الناي. بدا مشهد الهايكو وكأنه شخصي، يتعلق بخيبات عازف الناي التي أظهرها، أو فضحها الغروب، والناي تعبير عن عمق الحزن الذي كان عليه العازف.

بدمهِ المشتعلِ قهراً

يكتبُ قصائدَ الدمِ والخراب

الشاعرُ العراقي

وفي هذه الصورة التي وظفها سعد جاسم بالدلالة اللفظية، لتشكل تحديداً دلالياً على شخصية معينة دون سواها ( الشاعر العراقي)، أطر صورته الشعرية بصفات قد لاتتوفر في غير (الشاعر العراقي) الذي منحه بطولة المشهد بالكامل، ووصف عمله بالذي (يكتبُ قصائدَ الدمِ والخراب)، وهذه كناية سبق وأن قلنا فيها تعبيراً عن الحروب والدمار، هذا الوصف يكتب عنه (بدمه المشتعل قهراً)، تعبير مهول لوصف حالة الكتابة وتمخضاتها في ظل مثل تلك الأوضاع القاسية المميتة.

هي تعبير دقيق عن ما عانى منه مجتمع بكامله، ومنهم الشعراء كشريحة اجتماعية عاشت وعانت تجربة الحرب وما نتج عنها من خراب ودمار، شكل هاجساً لجراح نازفة تفضي إلى مجتمع يعاني من غضب مكبوت وآثاراً للدم، فالشعر ليس رومانسية فقط، بل هو تعبير عن معاناة جمعية على المستوى الشخصي والوطني. نص مشحون بالعاطفة، وهذه ليس بالضرورة أن تكون تعبيراً عن حب، بل ربما تطغى المعاناة فيها على ما سواها، كما في نص سعد جاسم.

في مساءاتِ الوحشةِ

يدندنُ على اوتارِ قلبهِ

عازفُ العود

(مساءاتِ الوحشةِ) تعبير عن وحدة أليمة وعزلة تامة، طغى فيها الحزن على شكل النص، لم يجد صاحبها وسيلة للتعبير إلا من أن يناجي نفسه، فالوقت موحش يبعث على الحزن العميق حين تكون الوحدة نمطاً للحياة، فيشتعل الحنين في ثنايا الليل القادم ليخلق أوقاناً لايمضي فيها الوقت وسط سكون الأشياء والأوقات.

جسد سعد جاسم الإستعارة العميقة في نصه، حين قال (يدندن على أوتار قلبه)، أراد منها أن العزف ممكن على غير الوتر، ف(عازف العود) لفرط حزنه قد دندن على أوتار قلبه. وليقول أن من الممكن أن يكون الفن عزاء.

بأصابعِ قلبهِ الموجوع

يوقّعُ كونشيرتو العاصفة

عازفُ الكمان

موسيقى عاصفة هد بها سعد جاسم قوانين الفيزياء، فجاء باستعارة لفظية، طغت فيها صورة الحدث المتمثلة بالألم الموجع في القلب، ليعكس من خلالها حركة دراماتيكية أظهر منها شكلاً غير مألوف تجسيداً للألم.

جعل سعد من عازف الكمان صورة للوجع الذي تحتويه اللحظة المؤلمة ليعبر من خلال عزفه بطريقة غير معهودة، على أوتار قلبه حركة الألم العاصفة في النفس، فيحيلها لشيء أشبه بالتماهي مع الألم الداخلي المعتاد في القلب الجريح.

رأسُهُ مُحتشدٌّ بالحكايات

معماريُّ وقائعَ وذكرياتٍ وتفاصيل

الروائي

هندسة الكلمة في النص، تراتيب الذاكرة وتوظيف السرد، حين ينشأ منها الشاعر أبراجاً من حكايات وصور، تأتلف الحياة كما تتموضع بين يدي من يبني بانتظام حركة الصعود والهبوط على سلم الحياة وتقلباتها، أراد منها سعد جاسم تصوير الحياة بفنية تطغى عليها تراتيب السرد وتداخل الصور ما بين ماضيها وحاضرها، ومن خلال روايتها بأسلوب متقن.

قلبُهُ مكتظٌّ بالقهر والكدمات

حياتُهُ شريطٌ بالاسودِ والابيض

العراقي

جميل أن يذهب الشاعر لتكثيف الصور في نصه، لكن حين يكون هذا التكثيف بدلالة استباقية لما حدث، ولايهم منه أن كان بلا ألوان، فالأسود والأبيض يخدم قضية المعاناة بلا رتوش. ذهب سعد ليجسد نصاً عميقاً بما أحتواه من مضمون، وما رافقه من صور معبرة، نقل من خلالها معاناة شعب بأكمله، أختصر أوجاعهم، وأشر معاناتهم، ورسم أبعاد مأساتهم عبر ما وظف من رمزية دلالية في نصه هذا.فحين يكون الإيحاء في النص رمزاً للدلالة، فذلك يعني أن المعاناة حقيقية.

***

سعد الدغمان

.....................

*شعر ياباني، "هايكوات": جمع "هايكو"، وهو نوع من الشعر الياباني التقليدي، يتميز بالقِصر والتكثيف، ويتألف غالبًا من ثلاث سطور، يركّز على لحظة شعورية أو مشهد من الطبيعة أو الحياة اليومية.

 

الرمز لغةً: بحسب المعجم الوسيط، هو الإيماء والإشارة والعلامة. والرَّمْزُ (في علم البيان) هو الكناية الخفيَّة، وجمعها رُمُوزٌ.

الرمز في الأدب اصطلاحًا:

هو أسلوب فني يستخدمه الأديب، بحسب تجربته الشّعوريّة أو نظرته الفنيّة، ويساهم في تشكيل المعنى الذي يودّ الأديب إيصاله إلى المتلقي. والرمز قد يكون كلمةً أو عبارةً أو شخصيّةً، أو اسم مكان، وهو يتضمن دلالتين، إحداهما مباشرةٌ وظاهرةٌ ويمثل هذه الدلالة مثلاً (العلم – شخصيّة تاريخيّة أو معاصرة لها حضورها في حياة الأمّة أو الشعب.. الخ)، والأخرى باطنةٌ مرتبطةٌ بالمعنى المُراد تبليغه، مثل استخدام الحمامة رمزًا للسلام، والدماء رمزًا للحرب والقتل، والمطر رمزًا للخير، والميزان رمزًا للعدالة. والرمز هو من المصطلحات التي حظيت باهتمام كبير لتشعب المجالات التي تعمل بها. يضاف إلى ذلك أن الرمز يظهر في المنطق والرياضيات والمعرفة وعلم الدلالات، فضلاً عن الأدب. وغالبا ما ارتبط الرمز بالفلسفة. وكان الترميز معروفا لدى الإغريق والرومان عبر الأساطير، والقصص التي تمثل أفعال الآلهة والأرواح المرتبطة بالطقوس التي تنتقل الى الأفراد وتؤثر فيهم . (1).

على العموم نستطيع القول: إن الرمز هو اقتصاد لغوي يكثف مجموعة من الدلالات والعلاقات في بيئة ديناميّة تسمح لها بالتعدد والتناقض ... وهو لذلك علاج لنقض المنطق، وضيق البنى التي ترفض التناقض والاختلاف، كما أنه علاج لجمود المعطيات والمفاهيم الثابتة. فمن خلال الرمز يمكن للأدب تجاوز الثبات للتعبير عن أوجه التناقض، أو الكشف عن الثنائيات المتقابلة التي تشمل الوجود الانساني.

البعد التاريخي للرمز عند الفلاسفة:

اهتم الفلاسفة اليونان القدماء بقضيّة الرمز، ويأتي موقف "أفلاطون" السلبي من الرمز واضحاً في مجال الشعر، كونه يحدث كما يرى اثراً سيئاً في الجمهور لاعتماد معظمه على العمل الرمزي. أما "ارسطو طاليس" فقد تبنى الاشتغال على الرمز من خلال تأكيده على أن (الشفقة والخوف) في العمل المسرحي دلالتان رمزيتان. هذا وقد أصبح تقسيم "أرسطو" للرمز مصدر الدراسات اللاحقة، ذلك التقسيم الذي رُدَّ الرمز فيه الى ثلاثة مستويات رئيسة: الرمزي النظري أو المنطقي الذي يتجه الى المعرفة، والرمز العملي الذي يعني الفعل، والرمز الشعري أو الجمالي الذي يعني حالاًت باطنيّة معقدة من أحوال النفس، وموقفاً عاطفيّاً أو وجدانيّاً. كما تم تناول الرمز وأهميته في التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر، كما هو الحال عند "كانت وليفي شتراوس وهيجل وفرويد وأندريه لالاند" وغيرهم.(2).

نشأة المذهب الرمزي في الأدب:

لقد ظهر المذهب الرمزي للرد على المذهب الواقعي في أوروبا، وهو مذهبٌ فنيٌ وأدبيٌ تمتد أصوله إلى أفلاطون، في المثاليّة الأفلاطونيّة، التي كان يرى من خلالها حقائق العالم الماديّة مجرد رموزًا للحقيقة المثاليّة البعيدة. هذا وتُعد المدرسة الرمزيّة إحدى أهم المذاهب الأدبيّة العالميّة. حيث لعب الرمز فيها دوراً كبيراً في مجال الشعر، وإعطائه دلالات وايماءات خفيّة، يمكن تلمسها وفهمها من خلال قراءة النص الشعري قراءة واعية ..(3).

إنّ المدرسة الرمزيّة في سياقها العام تظل حركة أدبيّة اعتمدت الرمز لغة، والرمزيّة هنا معناها الإيحاء، أي التعبير غير المباشر عن النواحي النفسيّة والخلقيّة والفكريّة المستترة، التي لا تقوى اللُّغة على أدائها في دلالاتها الوضعيّة والمباشرة، مع التأكيد هنا على اعتبار الرمزيّة أقوى من اللغة في التعبير عن النواحي النفسيّة. فالمشاعر تتولد من الآثار النفسيّة، لا عن طريق التصريح المباشر، هذا وقد أُعلن عن المدرسة الرمزيّة رسميًا في منتصف القرن التاسع عشر في فرنسا، ومن ثم أصبحت مدرسة في أنحاء العالم كافة، وتأثر بها الأدباء والشعراء العرب المنفتحين على الثقافات الأجنبيّة.

الاتجاه الرمزي في الأدب العربي الحديث:

نظراً لتعقد الظروف الموضوعيّة والذاتيّة التي يعيشها الأديب في وطننا العربي بشكل عام، وما يتخلل هذا العالم من ضياع وخوف وظلم وجوع وتشرد وقمع سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي وفكري، يظل الرمز الوليد الشرعي للتعبير عن هذه الظروف. فالأديب يصعب عليه أن يطلق أفكاره بحريّة تامة وبصورة مباشرة هنا، لذلك غالباً ما يلجأ الى تقنية الرمز لحماية نفسه من الصدام المباشر مع السلطة والعرف والعادة. فضلا عن ذلك يريد الشاعر إبراز قدراته الابداعيّة والجماليّة من خلال توظيف تلك التقنية.

هذا وقد ظهر الاتجاه الرمزي في الأدب العربي في الربع الأول من القرن العشرين، لكنه ازدهر أكثر في منتصف القرن العشرين تزامنًا مع ظهور حركة الشعر الحر، وكان اطلاع العرب على الأدب الأجنبي من أهم عوامل انتشاره بين الأدباء العرب، وقد ساهمت في ذلك حركة الترجمة من اللغات الإنجليزيّة والفرنسيّة وغيرها إلى اللغة العربيّة، مثل ترجمة الأشعار، إضافةً إلى ثقافة الأدباء العرب التي مكنتهم من الاطلاع على الرموز الأجنبيّة بأنواعها، الدينيّة، والأسطوريّة، والتاريخيّة، وغيرها.(4). وكان أول شاعر عربي استخدم الرمزيّة الشاعر اللبناني الشاب "أديب مظهر"، من خلال قصيدته "نشيد السكون"، وقد تأثر بالشاعرين الفرنسيين "شارل بودلير وبول فارلان،". أما أهم الشعراء العرب المختصين بالشعر الحر، والذين تأثرت أعمالهم بالمدرسة الرمزية هناك فهم "بدر شاكر السيّاب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، ومحمود درويش، وأدونيس".. وغيرهم الكثير حيث اتخذوا من الرمز أداةً مجازيّةً تمويهيّةً.(5).

أبعاد الرمز في الشعر ووظيفته:

إن الرمز في الشعر على وجه الخصوص يعني حالة باطنيّة معقدة من أحوال النفس، وموقفاّ عاطفيّاّ أو وجدانيّاّ كما بينا في موقع سابق. وقد اعتمد الشعر الحديث كثيرا على الرمز بوصفه أكثر فاعليّة وقدرة على التعبير بدلالات واسعة ومختلفة. ومثلما أن التشبيه قائم على أساس المقارنة بين المشبه والمشبه به وإبراز وجه الشبه بينهما، فإن الرمز له وظيفة التعبير عن الحالة التي يعيشها الشاعر، فيحاول الأديب عكس ما يدور في خلده عن طريق الرمز والقناع والأسطورة وغيرها من التقنيات الأخرى الداخلة في الأدب. ولكون الشعر هو أهم الميادين وأكثرها حضورا في إحلال الرمز محل الأشياء والموضوعات، لذلك تزداد قيمة الرمز وأثره محل الأشياء، بكونه تعبيراً لا شعورياً يتجاوز الواقع الى الايحاء به، فهو قد يبدأ من الواقع، ولكن لا يرسم الواقع، بل يرد الى الذات، وفيها ينهار عالم المادة وعلاقاتها الطبيعيّة لتقوم على انقاضها علاقات جديدة مشروطة بالرؤية الذاتيّة، فالشاعر المبدع بحاجة الى أداة تنتشله من الخضوع لبؤس الواقع المحدود، فكان الرمز هو الأداة التي تستطيع أن تحتمل الحاجات التي يجب وضعها بطريقة فنيّة إبداعيّة، يقوم بتجسيد مظاهر المحتوى الأدبي والتجربة الشعوريّة وأعماقها.

وظائف الرمز في الأدب:

- تقوم تقنية الرمز بعيداً عن اللغة المعجمية أو اللغة المباشرة، وهو بذلك – أي الرمز- يقوم:

- بفتح آفاقاً جديدةً للنص الشعري من خلال إيحاءات العمل الأدبي وإشاراته المقروءة من قبل المتلقي لتكسب القصيدة الشعريّة دلالة قريبة عما أراده الشاعر.

- إغناء الصورة الأدبيّة، وتوسيع دلالتها المكانيّة والزمانيّة، بخاصة في الرموز التاريخيّة، عن طريق استلهامها وإسقاط دلالات الرمز فيها على الواقع المعاصر.

- يعد الرمز وسيلة، تتيح لنا أن نتأمل شيئا آخر وراء النص، فالرمز قبل كل شيء معنى خفي وايحاء كما جاء في تعريفه.

- إكساب الأعمال الأدبيّة بعداً فنيًّاً وجماليًّاً، يهدف إلى تغذية العمل الأدبي وزيادة قيمته الإبداعيّة، وإثرائه معرفيًّاً.

- الدلالة على المعاني العميقة وتكثيفها.

- توحيد أبعاد الصور الشعريّة. واغنائها.

- التعبير غير المباشر عن الحالة النفسيّة للبشر بواسطة الإيحاء. (6).

أنواع الرمز في الأدب:

من أهم أنواع الرمز في الأدب يأتي:

الرمز الديني: يتمثل في توظيف شخصيات، أو أمكنة، أو أحداث دينيّة، للتعبير عن مواقف محددة، "فإبراهيم عليه السلام" يرمز للكرم والتضحية، و"عمر بن الخطاب يرمز للعدل"، و"أيوب عليه السلام" يرمز للصبر على البلاء والرضا بقضاء الله، و"عيسى عليه السلام" يرمز للبعث ولإحياء الموتى، و"هابيل" يرمز للخير، و"قابيل" يرمز للقتل، هذا وأن القرآن الكريم والكتب السماويّة والكتابات الدينيّة، مليئة بالرمزيّة، مما يدل على أهمية استخدامها.(7).

الرمز التاريخي: ويقصد به اتخاذ أحداثٍ تاريخيّةٍ رموزًا قادرة على الإيحاء بما يريد الأديب التعبير عنه، وهي كثيرة الظهور في الشعر خاصة، من أمثلتها اتخاذ "فرعون" رمزًا للطغيان والظلم، و"صلاح الدين الأيوبي" رمزًا للقوة والشجاعة، و"هارون الرشيد" رمزًا للبذخ.(8).

الرمز الأسطوري: ويقصد به اتخاذ أحداث أو شخصيات مأخوذة من قصص شعبيّة، تروي بعض الأحداث غير الطبيعيّة، أو تتحدث عن أعمال أبطالٍ خياليين، مثل استخدام "السندباد" الذي يرمز للمغامرة والشخص كثير التنقل والسفر، و"شهريار" رمزًا للرجل المتعنّت الرافض للمرأة، و"شهرزاد" رمزًا للمرأة الذكيّة، و" حصان طروادة" رمزًا للخداع والمكر.(9).

الرمز الصوفي: فمن القضايا التي ترتكز عليها العقيدة الصوفيّة هي فكرة وحدة الوجود، أي إن العالم والله ليسا شيئين منفصلين، وقد استخدم الصوفي الرمزيّة في تسمية المسلك الذي يسير فيه للوصول إلى الله"طريقًا"، وسمى نفسه "سالكًا"، وسمى المسافات التي يقطعها ويقف عندها للاستجمام "مقامات"، وسمى الغرض الذي يقصده من سلوكه اتحاد نفسه مع الحقيقة، وبعبارة أخرى اتحاد ذاته مع الله، أي "الفناء في الحق"، وقد رسم الصوفيون وسائل لهذا الطريق، وتعددت وسائلهم بتعدد أنظارهم، وفي كل من المقامات يقف السالك فيشعر بمشاعر نفسيّة خاصة أطلقوا عليها "الأحوال". (10).

خصائص الرمز في الأدب:

من أهم خصائص الرمز في الأدب ما يأتي:

1- الاكتفاء بالتلميح إلى الأشياء: وذلك بتجنب الأسلوب المباشر والخطاب وأي نوع من الشروح والتفصيلات. أي التكثيف وشدة الإيجاز، فليس هناك تفصيل أو شرح.

2- الاعتماد على الرمز في التعبير عن الأفكار والعواطف والرؤى: لأنه أقدر على الكشف عن التجارب النفسيّة وعما هو وراء الواقع المحسوس، وذلك بزيادة النشاط الذهني للشخص المتلقي.

3- الغموض والضبابية في التعبير: تعتبر من أهم ميزات الرمزية في الأدب، وهذا الغموض ناتج عن الإيحاءات غير المباشرة.

4- الإيغال في الخيال: فهو يعتمد على الخيال بشكلٍ كبيرٍ.(11).

القناع في الأدب:

الفرق بين القناع والرمز:

هناك خيط رفيع يفصل بين الرمز والقناع، فما القناع إلاّ صورة من صور الرمز وآليّة من آليات التعبير، لخلق تكثيف فني يبتعد عن التقريريّة، ويمنح الذهن فرصة استكشاف المعاني غير الظاهرة من خلال المقاربات بين الدلالات الحقيقيّة والمجازيّة للكلمات التي تشكلت من تلاحمها الصورة الفنيّة التي اتخذت القناع وسيلة لها، بغض النظر عن نوعه. كما يشكل القناع حجاباً يقي الكاتب والشاعر الدخول في مواجهات مباشرة مع المجتمع لأسباب سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينيّة.

ولعل أهم وظائف القناع هو توفير الحماية لمن يكتب قصة حياته وحياة ذويه وأحبابه، فمن شأن القناع أن يقيم حاجزاً بين الأحداث المرويّة وحياة المؤلف الحقيقية فيضمن له ولمن يحيطون به قدراً من الصيانة تقيه وتقيهم من الافتضاح أو من الشر .

القناع لغة: جاءت مفردة قناع في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي.

قِنَاع: (اسم). وجمعه قِنْعُ. وَقنِعةٌ. ويقال أيضاً أقنعه.

والقِنَاعُ:غشاءُ القلب. ويأتي القِنَاعُ:الشَّيْبُ. والقِنَاعُ:ما يُستَرُ به الوجهُ. أو ما تُغطِّي به المرأَةُ رأْسَها. وقيل:ألقى عن وجهه قِنَاع الحياء: لم يَسْتَحِ.

القناع اصطلاحاً:

هو وسيلة فنيّة لجأ إليها الشعراء للتعبير عن تجاربهم بصورة غير مباشرة، أو تقنية مستحدثة. وفِي الشعر العربي المعاصر شاع استخدامه منذ ستينيات القرن العشرين بتأثير الشعر الغربي وتقنياته المستحدثة، للتخفيف من حدّته الغنائيّة والمباشرة في الشعر، ويأتي توظيف القناع مثلاً عند الحديث عن شخصيّة تراثيّة يراد توظيفها في تجربة معاصرة، بضمير المتكلم. وهكذا يندمج في القصيدة صوتان: صوت الشاعر، وصوت الشخصيّة التاريخيّة التي يعبر الشاعر من خلالها). (12). فهذه التقنية في التوظيف تشكل جزءاً من الرمز، أو يمكن أن يكون وجها من وجوه الترميز. ومن الممكن أن يرتقي كل قناع محكم الى مستوى الرمز وفاعليته، لكن الرمز لا يتحول بالضرورة الى قناع، فكل قناع هو رمز وليس كل رمز يشكل قناعاً على الرغم من الصلة التي تربط الاثنين معا. فتناول شخصية أيوب عن الصبر هو تأكيد على حكم الله وامتحانه لعبده، وأن بعد العسر يسر.

إن القناع مصطلح مسرحي أساساً لم يدخل عالم الشعر إلا في مطلع هذا القرن، ليؤدي وظيفة جديدة تختلف نسبياً عن الوظيفة التي كان يؤديها في مجال المسرح. أما القناع بصيغته الأدبيّة فقد كان على يد الشعراء الإنكليز سيما الشاعر (بن جونسون) الذي كتب أعمالاً مسرحيّة تنتمي إلى ما يطلق عليه (الأقنعة) من خلال مسرحيته (قناع السواد) عام 1605 والتي تقف في مقدمة أعماله في هذا المجال.(13).

وفي الأدب العربي استخدم القناع في الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، كأسلوب تعبيري ضمن ظروف وعوامل سياسيّة واجتماعيّة في الوطن العربي، الحقت بالإنسان العربي أضراراً فادحة، ماديّة ومعنويّة كما بينا في موقع سابق، جعلت الإنسان العربي، والشاعر العربي خاصة، إزاء مجموعة من التناقضات مما دفعه إلى الخروج عن دائرة المألوف، والتمرد على قيم الثبات والجمود. فكانت القصيدة الشعريّة محطة أولى أمام الشاعر، وميدان إبداعه. وهناك العديد من الشعراء الذين اشتغلوا على توظيف القناع في شعرهم كما هو الحال عند "أدونيس"، إشارة إلى دلالته التي جاءت مكتوبة على غلاف مجموعته الموسومة: (أغاني مهيار الدمشقي) وفي هذه المجموعة لجأ أدونيس إلى طريقة جديدة في التعبير الشعري هي إبداع شخصية (مهيار الدمشقي). وكذلك عند ظهور كتاب (تجربتي الشعرية) للشاعر (عبد الوهاب البياتي) حيث أصبح القناع مصطلحاً أسلوبيّاً يشير إلى الاسم الذي يتحدث من خلاله الشاعر نفسه متجرداً من ذاتيته أي أن الشاعر يعمد إلى خلق وجود مستقل عن ذاته وبذلك يبتعد عن حدود الغنائيّة والرومانسيّة التي تردى أكثر الشعر العربي فيها. ويعتبر السياب أيضاً من رواد القناع وذلك من خلال عدة قصائد له اعتمدت على تقنية القناع مثل قصيدة (المسيح بعد الصلب).(14).

أنواع القناع:

يتجلى القناع في أشكال ووجوه عدّة لا تختلف عن الأنواع التي استخدمت في الرمز. لذلك نجده يتجلى في الشخصيّة الأدبيّة. والشخصيّة الدينيّة وخاصة الشخصيّة الصوفيّة. وكذلك في الشخصيّة الأسطوريّة. كما يتجلى في الشخصيّة الذهنيّة. وفي الطبيعة.(16).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

......................

الهوامش:

1- (موقع – موضوع - مفهوم الرمز في الأدب - غيداء التميمي.). بتصرف.

2- (الترميز: المفهوم والوظيفة - د.حسن الخاقاني-https://drhassan.ueuo.com/. -) بتصرف.

3- (كتاب جامعة المدينة العالمية، كتاب الأدب المقارن، صفحة 524. بتصرّف.).

4- .(موقع موضوع المرجع السابق )

5- (موقع موضوع – المرجع السابق).

6- ("الدرس اللغوي الرمز"، كيزاكو، اطّلع عليه بتاريخ 11/9/2021. بتصرّف.).

7- (محمد عركون (24/2/2005)، "الرمزية الدينية "، نواة، اطّلع عليه بتاريخ 10/9/2021. بتصرّف.).

8- ( سليمان زيدان، "الرمز"، جامعة فيلاديلفيا، اطّلع عليه بتاريخ 11/9/2021. بتصرّف.

9- (هدى قزع (25/1/2012)، "الرمز الأسطوري في الشعر العربي الحديث"، الحوار، اطّلع عليه بتاريخ 11/9/2021. بتصرّف.

10- (احمد حسن الزيات، كتاب مجلة الرسالة، صفحة 8. بتصرّف.

11 - (عبد الرزاق الأصفر (29/7/2015)، "خصائص المدرسة الرمزية"، الميراج، اطّلع عليه بتاريخ 11/9/2021. بتصرّف.)

12- (القناع وتقنياته في الشعر العربي الحديث – موقع المنال - اشراف الاستاذ الدكتور صدام فهد الاسدي).

13- ( مفهوم القناع -الاستاذ الدكتور صدام فهد الاسدي – جريدة الأضواء الالكترونيّة -). بتصرف.

14- (القناع وتقنياته في الشعر العربي الحديث – موقع المنال - اشراف الاستاذ الدكتور صدام فهد الاسدي). بتصرف.

15- (للتعرف أكثر على دلالات كل وجه من وجوه القناع العودة إلى المرجع السابق: (القناع وتقنياته في الشعر العربي الحديث – موقع المنال - اشراف الاستاذ الدكتور صدام فهد الاسدي).

 

يُعَدّ العصر الجاهلي من أبرز الحقب التي يتأسس عليها الوعي الأدبي العربي، إذ شكّل الشعر فيه المرآة الأصدق لحياة العرب، قيمهم، حروبهم، وعلاقاتهم الاجتماعية. وفي خضم هذه البنية الأبوية التي يسيطر عليها الرجال، برز صوت المرأة الشاعرة ليكشف عن حضورٍ لا يُستهان به، على الرغم من العوائق التي أحاطت به. فما مكانة الشاعرة في الجاهلية؟ وما سمات شعرها؟ وما الوظائف التي اضطلع بها؟ وكيف يمكن قراءة صوتها مقارناً بصوت الرجل في ضوء الدراسات الحديثة؟

هذا المقال يتناول هذه الأسئلة في ضوء منهج يُزاوج بين التحليل النصي والدراسة التاريخية، مع محاولة الإبقاء على البعد الشاعري في قراءة هذا الصوت، لأن النصوص التي تركتها المرأة الجاهلية لم تكن مجرّد وقائع، بل شظايا عاطفة، ورؤى ذاتية، وأصداء مجتمع متوتر بين الحرب والفقد.

اولا: محددات العصر ومفهوم المرأة الشاعرة

العصر الجاهلي – أي الحقبة السابقة لظهور الإسلام – هو الفضاء الذي تجلت فيه بنية اجتماعية قبلية، تُنظّمها قيم النسب والشرف والحرب والفخر. وكان الشعر الأداة المركزية لحفظ الذاكرة الجماعية وتثبيت القيم.

المرأة الشاعرة في هذا السياق ليست مجرد موضوع غزل يردده الرجال، بل فاعل لغوي يكتب ذاته وصوت قبيلته. فهي تبكي فقيدها، تُحرض قومها، تدافع عن شرفها، أو تعبّر عن حبها. وبذلك، يظهر لنا أن الشعر لم يكن حكرًا على الذكور، وإن ضاق فضاء المرأة مقارنة بفضاء الرجل.

ثانيا: ملامح حضور الشاعرة في المجتمع الجاهلي

رغم أن القبيلة الجاهلية كانت مجتمعًا أبويًا، فإن المرأة حازت موقعًا مؤثرًا في بعض السياقات. كانت رثاءها يبكي الفقد، لكنّها أيضًا كانت تُذكّر بالثأر، وتدعو إلى الحماسة. والشاعرة لم تُقصَر على الحزن وحده، بل صارت أحيانًا لسان القبيلة، كما في حالة صفية بنت ثعلبة الشيبانية التي وقفت في مواجهة كسرى تستنهض قومها.

غير أن هذا الصوت لم يكن مسموعًا بنفس القوة التي حظي بها الرجل، لأسباب عديدة اهمها ضعف التدوين، التحفظ الاجتماعي، سيطرة الرجال على عملية النقل الشفوي، وانحياز كتب التراث لجمع شعر الرجال أكثر من شعر النساء. ومع ذلك، فقد وصلنا من صوت المرأة ما يكفي لرسم صورة مميزة.

ثالثا: سمات شعر الشاعرات الجاهليات

عند تأمل النصوص المنسوبة إلى الشاعرات، تتضح عدة سمات بارزة:

العاطفة الصادقة: إذ يغلب على شعر النساء الحزن والرثاء، وهو رثاء مباشر يخلو غالبًا من المقدمات الطويلة التي اعتادها الشعراء الرجال.

الوظيفة السياسية والاجتماعية: في بعض المواقف، تتحول القصيدة إلى أداة تحريض أو دفاع، مثل صفية بنت ثعلبة التي خاطبت قومها في معركة ذي قار.

اللغة والصور: تُظهر النصوص صورًا حسية، واستعارات عاطفية، ومبالغة نابعة من الألم أو الفخر.

الموضوعات: أبرزها الرثاء، التحريض على الثأر، الفخر القبلي، الغزل العذري أو الرمزي، والتعبير عن الألم الشخصي.

الصوت الفردي: يميز شعر المرأة حضور الذات بشكل واضح—آلامها، صبرها، خوفها—مما يختلف عن الشعر الرجالي الذي كثيرًا ما يُعلي من النزاعات العامة.

رابعا: أبرز الشاعرات ونماذج من نصوصهن

صفية بنت ثعلبة الشيبانية (الحُجَيْجَة): وقفت رمزًا للمرأة السياسية، تحرّض قومها على مقاومة الفرس. من قولها:

“أحيوا الجوار فقد أماتته معا / كل الأعرب يا بني شيبان”،

وهو نص يكشف دورها في استنهاض القبيلة.

الخنساء (تماضر بنت عمرو السلمية): أشهر شاعرات الجاهلية، اشتهرت برثاء أخويها صخر ومعاوية. في رثائها صخر تقول:

“وإن صخرًا لتأتمّ الهداة به / كأنه علمٌ في رأسه نارُ”،

وهي صورة بليغة تجمع بين الفخر والحزن.

هند بنت عتبة: لم يكن شعرها في الرثاء فحسب، بل عُرفت بجرأتها وفصاحتها، وقدرتها على المحاورة والمواجهة اللفظية.

هذه النماذج تُظهر أن صوت المرأة الشعري كان متنوعًا، يجمع بين الذاتية الفردية والدور الاجتماعي العام.

خامسا: وظائف الشعر عند الشاعرات

يمكن تحديد وظائف شعر النساء في الجاهلية في:

الرثاء: التعبير عن الفقد وتخليد ذكر الميت.

التحريض والثأر: دفع القبيلة للانتفاض والقتال.

الفخر القبلي: إبراز الشرف والمكانة الاجتماعية.

الغزل: ضمن حدود رمزية أو عذرية.

التعبير النفسي: إظهار مشاعر الحزن، الحب، الانتظار، والحنين.

سادسا: التحديات التي واجهت صوت المرأة

ضياع الكثير من النصوص بسبب غياب التدوين المبكر.

هيمنة الأعراف الاجتماعية التي حدّت من حرية القول.

النقل الشفوي المتحيّز، حيث كان الرجال أكثر قدرة على حفظ شعرهم وتوثيقه.

اختلاط الرواية بالأسطورة أو التشكيك في نسبة بعض الأشعار للنساء.

سابعا: مقارنة مع الشعر الرجالي

يتشابه شعر النساء والرجال في موضوعات الفخر والرثاء والتحريض، لكن يختلف في زوايا أخرى إذ أن:

الرجل يركز على البطولة العسكرية والتاريخية، بينما المرأة تركز على الفقد الشخصي والعاطفة الأسرية.

الغزل لدى الرجل أكثر جرأة وصراحة، بينما لدى المرأة أكثر تحفظًا ورمزية.

المجاز عند المرأة ينبع من الحس العاطفي، بينما عند الرجل يرتبط بالمجد والأسطورة.

خاتمة

تكشف دراسة شعر المرأة الجاهلية عن صورة متعددة الأبعاد ، فهي لم تكن مجرد صدى لصوت الرجل، بل صوتًا مستقلاً، صادق العاطفة، عميق الحزن، قادرًا على التحريض والتأثير. ورغم ما ضاع من نصوصها، فإن ما وصلنا يكفي لإثبات أن المرأة لم تكن زينة في القصائد، بل فاعلة في تشكيل الوعي الشعري والاجتماعي.

إنّ استعادة هذا الصوت اليوم ليس مجرد بحث في الماضي، بل هو إعادة الاعتبار لصوتٍ حاول التاريخ إقصاءه. ولعل مهمة الباحثين الآن أن يفتشوا في الهوامش والنقول والشواهد، ليعيدوا للمرأة الشاعرة مكانتها في الذاكرة الأدبية.

***

مجيدة محمدي

.....................

مراجع مختارة

هيبا مصطفى جابر، صورة المرأة في الشعر الجاهلي: دراسة نسوية.

حامد خليل مطر، المرأة في الشعر الجاهلي.

عادل محمد أحمد محمد، شعر الرثاء في شعر النساء في الجاهلية وصدر الإسلام (دراسة وصفية).

بشير يموت، شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام.

موسوعة الأدب العربي، باب "الخنساء وصفية بنت ثعلبة".

 

أحمد مالية، الإعلامي والشاعر والناثر، حريصٌ أنْ تكونَ نصوصُه الشعرية رقيقةَ الحاشية، رهيفةَ الأحاسيس، شفيفةَ المشاعر، أنيقةَ اللغة، ورشيقةَ الأسلوب، وعفيفةَ التعبير والتصوير، وهو ما نقرأه ونلمسه في قصائدِه. يقول في قصيدة (ذبول):

ها قد عادَ أيلولُ،

يجرُّ خلفه حقائبَ الشتاء،

ويجرُّ الحنينَ كظلٍّ يتعثّر في ظلال الغياب.

كيفَ سيولدُ الصباحُ

حين تغيبُ أنفاسُكِ عن النوافذ؟

من أين يشربُ الوردُ إذا جفّت شفتاكِ؟

ومن يوقدُ الشموعَ إن غابتْ أصابعُكِ؟

من يمشطُ للغيمِ جدائلها

بفراشاتِ أصابعها؟

كلُّ الخصائص الفنية التي ذكرناها في مبتدئنا هي منْ سمات شخصيته التي نلمسها، ونشعر بها من خلال متابعتنا لمسيرته الإعلامية، والشعرية، والنثرية، والشخصية التي تتسم بالدفء، ورفعة الخُلُق. وكذلك هي منْ سمات كتاباته الشعرية والنثرية، وصفاتِة التي نحسُّ بها ونحن نتوغل في عالمه الإبداعي، المعبِّر الأساس عن شخصية الكاتب.

حين قال الفرنسيون بأنّ الأسلوب هو الرجلُ نفسُه، لم يبتعدوا كثيراً عن الصواب؛ فمنْ خلال متابعتنا للشعر العربيّ، منذ بداياته الموغلة في التاريخ، حتى اليوم، ومنْ خلال الدراسة، والرصد القرائيّ، والبحث النقدي التحليلي، وجدنا المقولة صائبةً في الشعراء الأصلاء الموهوبين والصادقين في أحاسيسهم وعواطفهم، وما يكنزه وجدانهم النقيّ، وقلوبهم العامرة بالحبّ، وفي التعبير عن وجدانهم، وما تضمّه سرائرُهم ونفوسهم، والتعبير عنْ أفكارهم، ومواقفهم، ومعتقداتهم، وأيديولوجياتهم، ومن مكامن شخصياتهم الذاتية في حركتهم الحياتية اليومية الدؤوبة معيشةً وواقعاً، وفكراً وأحاسيسَ وعلاقاتٍ، وما تحمل في طيّاتها من صفاتٍ، وسيماءٍ، وخصائص. فلكلِّ هذا أثره البيِّن في نتاجهم الشعريّ، والأدبي عموماً، مستندين كذلك في رأينا هذا على تجربتنا الشخصية في ممارسة فنّ نظم الشعر، والكتابة عامةً. وهناك استثناءاتٌ - لا جدالَ - حين يتوجه شاعرٌ ما، لسبب شخصيّ أو دافعٍ آخر مما يعيشه وسط بيئته، ليكتب فيما لا يحياه، ولا يؤمن به، ولا يصدُق فيه، ولم يعايشه. وتاريخ الشعر العربي حافل بهذا الاتجاه والكتابة. كما أنَّ هناك نظَّامين يكتبون خارج أسس واشتراطات فنّ الشعر الحقيقي، لتخرج قصائدهم صنعةً ميكانيكية وجفافاً فنيًّا، خاليةً من الصدق والحرارة والتأثير.

شعراء الغزل، منذ بدايات تاريخ الشعر العربي، اعتادوا التغني بجمال الحبيبة جسداً ماديّاً محسوساً ملموساً بكلّ تفاصيله، وبعذريةٍ، وغير عذرية، منذ أنْ قال امرؤ القيس في معلقته:

ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ

فَقَالَتْ:لَكَ الوَيْلاَتُ!،إنَّكَ مُرْجِلِي

*

تَقُولُ وقَدْ مَالَ الغَبِيْطُ بِنَا مَعاً:

عَقَرْتَ بَعِيْرِي يَا امْرأَ القَيْسِ فَانْزِلِ

*

فَقُلْتُ لَهَا:سِيْرِي وأَرْخِي زِمَامَه

ولاَ تُبْعدِيْنِي مِنْ جَنَاكِ المُعَلَّلِ

*

فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ

فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ

وحين غنّى كعب بن زهير بن أبي سُلمى في حضرة النبي (ص):

هيفاءُ مُقبِلَةً عجزاءُ مُدبِرَةً

لا يشتكي قِصَرٌ منها ولا طولُ

*

ولمّا قال عليُ بنُ الجَهْم:

عيونُ المها بينَ الرُّصافةِ  والجسرِ

جلبْنَ الهوى منْ حيثُ أدري ولا أدري

والآخر يردّدُ بأجمل غزلٍ وأبلغ وأرقِّ وصفٍ:

فأمطرَتْ لؤلؤاً مِنْ نرجسٍ وسقَتْ

ورداً وعضَّتْ على العُنَّابِ بالبَرَد

شبّه الشاعر عينَي المحبوبة بالنرجس، ودموعَها باللؤلؤ المتساقط منهما، وخدَّها بالورد. وشفتيها بالعُنّاب، وأسنانَها بالبَرَد (الحالوب) لبياضِها وتراصُفِها.

هكذا كانت تشبيهات واستعارات ومجازات، وصور شعراء الغزل قديماً، ومعاصراً كذلك من الشعراء الذين ظلُّوا يسيرون على منوالها، كما حدث تجديد عبر التاريخ في طريقة وأسلوب ولغة فنّ الغزل، بتأثير من التطوُّر الزمني الحضاري والاجتماعي، يقول أحمد شوقي:

خَدَعوها بِقَولِهِم حَسناءُ

وَالغَواني يَغُرُّهُنَّ الثَّناءُ

*

أَتُراها تَناسَت اِسمِيَ لَمّا

كَثُرَت في غَرامِها الأَسماءُ

*

إِن رَأَتني تَميلُ عَنّي كَأَن لَم

تَكُ بَيني  وَبَينَها أَشياءُ

*

نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ

فكلامٌ، فموعدٌ، فلقاءُ

ولِنقرأْ معاصرَنا نزار قباني وهو يقول:

لو كنْتِ في مدريدَ في رأسِ السَّنةْ

كُنّا سهرْنا وحدَنا

في حانةٍ صغيرةْ

ليس بها سوانا

تبحثُ في ظلامِها عنْ بعضِها يدانا

كُنّا شربْنا الخمرَ في أوعيةٍ منَ الخشبْ

كُنّا اخترعْنا ربَّما جزيرةْ

أشجارُها منَ الذَّهبْ

أثمارُها منَ الذَّهبْ

تتوَّجينَ فوقها أميرةْ

الشاعر أحمد مالية ذهبَ في غزلياته مذهبَ التجديد، والإبتداع والخَلْق؛ حيثُ الأسلوب المُستحدَث الخلّاق، والصور النابضة بالأحاسيس، والحركة الديناميكية الغزلية، والمرسومة بدقة الصياغة والحذاقة الفنية، وجمالية الألوان الشعرية، سواء أكانت معبِّرةً عن الوصال والقُرْب في العلاقة بين الحبيبين، أم التي تتسربلُ برداء الجفاء، والبُعد، والدلال، والتغنُّج، والهجر، والانكسار:

اخطئي مرةً واحدة.

وصوّبي نحو الجناح.

كلُّ سهامك للقلب.

كوني قاتلةً رحيمة.

تريثي. فكّري.

اغمسي سهمكِ بالسم.

احرقي ذلك الركن الموبوء بكِ.

وارحلي بهدوء.

واتركيني مندثراً،

كظلٍّ ضائع،

كدمعةٍ غريبة،

كشاعرٍ نفدت كلماته قبل أن ينتهي حزنه.

(من قصيدته سهمك الأخير)

الشاعر أحمد مالية هو امتداد لشعراء الغزل العذري، الموشَّح أسلوبُه بالرقة، والرهافةِ، والتصوير الإيقاعي الوجداني، والرشاقة البلاغية، المُعطَّرة بالإحساس الشفيف، والوجدان النقيّ، والعاطفة المتأجّجة من غير ظلِّ من الخضوع والتوسُّل، بل التحدّي الإيجابي للمُحبِّ، والذي ينبع من احترام الذات، وقدسية الحبِّ، والعلاقة الإنسانية الجميلة فيه. كما يمتاز أسلوبه أيضاً بالأناقة اللفظية، مثلما الأناقة الشكلية، وبالبلاغة المُستحدَثة غير الخشبيةِ المنحوتةِ بإزميل الجمود.

***

عبد الستار نورعلي

تشرين الأول 2025

دراسة نقدية متكاملة تجمع بين التحليل البنيوي، الدلالي، الرمزي، والصوتي — مع قراءة في الأسلوب والرؤية.

في فضاء الشعر العربي المعاصر، حيث تتنازع القصيدة بين فوضى التجريب وانحسار الرؤيا، يجيء صوت أيمن معروف ليعيد إلى اللغة صفاءها الأول، وإلى الشعر جلاله الوجوديّ، وليجعل من الكلمة معراجاً للروح لا وسيلةً للقول فحسب. إنّ قصيدته التي بين أيدينا تمثّل ذروةً من ذُرى الشعر التأمّليّ العربي، بما تحمله من شفافية لغوية، ورهافةٍ روحية، وعمقٍ دلاليّ يستدعي قراءةً تتجاوز ظاهر المعنى إلى جوهر الرؤيا.

يكتب معروف قصيدته بوعيٍ جماليّ يزاوج بين بلاغة التراث وقلق الحداثة؛ فهو يستدعي صيغ المديح والرثاء القديمة ليُفرغها في قالبٍ جديدٍ تنبض فيه الحياة والموت معاً، وتتعانق فيه المفردة مع الصمت، والذات مع الممدوح في وحدةٍ رمزية تذكّرنا بالتصوّف اللغويّ عند ابن عربي وبالصفاء الشعريّ عند السيّاب وأدونيس.

القصيدة ليست خطاباً عن الآخر بقدر ما هي تأملٌ في المصير الإنسانيّ عبر الآخر، ولا تنحصر في المدح أو الرثاء بل تتخطّاهما إلى تأسيس رؤية وجوديّة للشعر ذاته، بوصفه كياناً يبكي ويُبكي، ويكشف في لحظة الكتابة عن التوتر الأزلي بين الفناء والخلود.

من هذا المنطلق، تهدف هذه الدراسة إلى تحليل البنية الجمالية والفكرية في القصيدة، من خلال قراءة متكاملة تتناول مستوياتها اللغوية والإيقاعية والدلالية والرمزية، وتكشف عن حضور النزعة الصوفية والرؤيا الفلسفية في نسيجها، بوصفها نصّاً يعيد تعريف العلاقة بين اللغة والمطلق، بين الشاعر والزمن، بين الإنسان ومعناه.

تمثل قصيدة الشاعر أيمن معروف نموذجاً فائق النضج لما يمكن أن نسمّيه القصيدة الفصحى ذات الطابع الصوفيّ التأمّليّ، الممزوج بروح الرثاء الرفيع واللغة الباذخة.

-  العنوان الغائب ودلالة الحضور اللغوي:

القصيدة لم تُعنون، وهذا غيابٌ مقصود يمنح النصَّ انفتاحه الدلالي، ويترك للغة أن تكون العنوانَ بذاتها. فـ"هنا لغة تشفُّ كما الصلاة" ليست افتتاحية فحسب، بل هي إعلان بيانيّ عن طبيعة القصيدة كلّها: اللغة فيها ليست أداة، بل كيانٌ روحيّ، ووسيلة تَعبُر نحو المطلق. الشاعر يقدّم اللغة كصلاةٍ، ككيمياء شفّافة بين الروح والمطلق، بين الشاعر وذاته، وبين الكلمة وغايتها الأولى.

-  أولاً: البنية اللغوية والموسيقى الداخلية.

1. الإيقاع:

القصيدة مبنية على نظام تفعيلة موزونٍ يحافظ على نسق موسيقي عالٍ دون أن يقيّد التدفق التأمّلي للصور. التكرارات في القوافي مثل الذات، المكرمات، النيرات، الممات، الباكيات، الدائرات… تولّد جرساً متصاعداً يُشبه الطواف حول فكرة السموّ والمآل.

2. اللغة:

لغة أيمن معروف عالية التوهّج، تقوم على الترصيع والتماثل والتوازي.

مثلًا: "إذا حام الكلام فأنت سمعٌ / وإن طاش السكوتُ، فمفرداتُ"

تقوم الجملة هنا على الطباق الصوتي والمعنوي بين "الكلام" و"السكوت"، ليجعل من المخاطَب مبدأَ الوجود اللغويّ كلّه — هو السمع في حضور القول، وهو المفردات في غيابها.

اللغة تُشبه في كثير من مقاطعها محراباً لفظيّاً، تُرفع فيه المفردات كقرابين، وهذا يتجلّى في كثرة الألفاظ النورانية والروحية: الصلاة، الصفصاف، النسيم، النيرات، القناة، العلياء، السماء، الشهُب.

-  ثانياً: البنية الدلالية والرمزية.

1. من الخطاب إلى المخاطَب:

القصيدة تميل إلى نبرة الرثاء أو التمجيد، إذ يخاطب الشاعر شخصيةً رفيعة المقام، روحية أو فكرية، قد تكون رمزاً للمعرفة، للشعر، أو لإنسانٍ راحلٍ تتماهى فيه القيم العليا.

يتجلّى هذا في النداءات المتكرّرة، يقول:

"سليل المكرمات أراك ترقى"

"أبا العلياء مسكاً في الأعالي"

"صديقَ الشعر إنّ الشعر يبكي"

"كليمَ النّون"

كلها صيغ نداء رمزيّ تُحيل إلى المكرَّم المتعالي، وتُخرجه من الواقع إلى الأسطورة اللغوية.

2. ثنائية الحياة والموت:

في البيت التالي:

"ألا، إنّ الممات أمرّ أمراً / وأقسى من مرارتِه، الحياةُ"

تتجلّى المفارقة الوجودية؛ فالموت لا يُقدَّم كضدٍّ للحياة بل كمرآةٍ تُظهر قسوتها. إنّه تأمّل صوفيّ في جدلية الفناء والبقاء، حيث يصبح الوجود نفسه اختبارًا للألم.

3. رمزية الضوء والعلو:

تكرّر مفردات النور، النيرات، العلياء، الشهب، السماء يدل على نسقٍ رمزيّ متعالٍ يجعل من الشعر وسيلةَ تساميٍ لا وصف.

العلو في القصيدة ليس مكانياً، بل معرفيّ – روحيّ، فالمخاطَب هو "سليل المكرمات"، و"إمام الشاردات"، و"حليف النيرات" — أي من ارتقى بمعناه قبل أن يرتقي بمقامه.

ثالثاً: البنية الفكرية – الشعر كمعرفة وجودية

القصيدة ليست مدحاً في ظاهرها فحسب، بل تأملٌ في جوهر الشعر والوجود معاً.

ففي قوله:

"صديقَ الشعر إنّ الشعر يبكي / وتبكيكَ الدفاترُ، والدواةُ"

يتحوّل الشعر من أداة تمجيد إلى كائنٍ حيٍّ يبكي الفقدَ، لتتجاوز القصيدة حدود الإطراء إلى مساحة الحزن الكوني.

وفي قوله:

"كبا شعري وبادَ القولُ حتّى / استحالتْ في لديه، الممكناتُ"

تبلغ القصيدة ذروة الميتاشعرية؛ فالشاعر يعترف بعجز اللغة أمام ممدوحٍ صار التجلي ذاته، حتى الممكنات اللغوية استحالَتْ في حضرته.

- رابعاً: البنية الأسلوبية والجمالية

1. الترصيع والتوازن:

كل مقطع قائم على ثنائيات صوتية ومعنوية: بانٍ وبانتُها، نواة؛ حياة/ممات؛ شعر/دفاتر؛ كلام/سكوت.

هذا البناء الثنائي يخلق تناظراً هندسيّاً يعكس اتزان الرؤية الشعرية.

2. الاستعارة الكثيفة:

القصيدة تمتح من الحقل النباتي (صفصاف، بان، نواة) والضوئي (النيرات، الشهب، العلياء) لتشييد شبكة رمزية متكاملة، تجعل من الكون مرآةً للذات الشعرية.

3. الضمير المخاطَب:

الضمير "أنتَ" يحضر كمرآةٍ للذات الشاعرة نفسها، فكل صفات الممدوح يمكن قراءتها كصفاتٍ للـ"أنا الشاعرة" في لحظة تطهّر لغويّ، مما يجعل القصيدة رثاءً مزدوجاً: للآخر وللشاعر في آن.

-خامساً: البنية الصوفية – الشعر كطريق نجاة.

في البيت التالي يقول:

 "لزمتَ البيتَ جِدّاً، أيُّ جدٍّ / يكون لمن مطامحُه النّجاةُ"

نرى البعد الصوفي واضحاً: البيتُ هنا بيتُ الروح، والنجاةُ غايةُ السالك. الشاعر يُحيل إلى تجربة زهدٍ روحيّ، وإلى التماس الخلاص بالمعنى لا بالزمن.

والقول:

 "عطفتَ على الزمان وظلتَ حيّاً / فقل لي: ما الحياة، ومالمماتُ"

هو سؤال وجوديّ يذكّر بفلسفة المتصوّفة والمتكلمين، حيث الحياة ليست استمرارًا للزمن بل حضورًا في المعنى.

 سادساً: الرؤية العامة

القصيدة من الناحية الجمالية والفكرية تنتمي إلى المدرسة الشعرية الرؤيوية الحديثة، التي تجمع بين فصاحة التراث وعمق التأمل الفلسفي.

فيها أثرٌ واضح من روح المتنبي في المديح السامي، ومن حسّ الصوفيين في تطهير اللغة، ومن حداثة أدونيس في تخييل اللغة بوصفها كونًا موازٍ للوجود.

 - خاتمة تقييمية:

قصيدة أيمن معروف نصّ رفيع المقام في تشكيل اللغة وإعادة قدسيتها الشعرية.

إنها ليست رثاءً ولا مديحاً فحسب، بل تسبيحٌ لغويّ في معبد الشعر، حيث تتماهى الذات والممدوح، الحياة والموت، الكلمة والسكوت.

تقوم بنيتها على الارتفاع: من اللغة إلى الشفافية، ومن المعنى إلى المطلق، ومن الإنسان إلى الشعر الذي يبكي ثم يُنقذ.

***

بقلم: عماد خالد رحمة- برلين.

....................

هنا لغةٌ تشفُّ، كما الصّلاة،

فتعبقُ بالشّفافيةِ،

الصِّلاتُ

*

هنا روحٌ كما الصفصاف تحنو

على بانٍ وبانتُها،

النّواةُ

*

أراها اليوم، تدلجُ في سراها،

فتدلجُ في تأمُّلِها

اللّغاتُ

*

خدينَ العالياتِ عليكَ شعّتْ،

من الأفقِ المشعِّ

العالياتُ

*

فذاتُكَ من شفيفِ الطبعِ مسكٌ

وتشرقُ في الطبائعِ منك

ذاتُ

*

كذاك، الذّاكياتُ، تكونُ لمّا،

تمرّ على نداها،

الذّاكياتُ

*

سليل المكرمات أراك ترقى،

إذا عُدّتْ هناك،

المكرماتُ

*

أتيتَ كما النسيم وكنتَ حرّاً،

أبيَّ النفسِ تحسدُه،

الأُباةُ

*

لزمتَ البيتَ جِدّاً، أيُّ جدٍّ،

يكون لمن مطامحُه

النّجاةُ

*

حليفَ النّيّراتِ، ومن إليه،

لتسعى في سراها،

النّيّراتُ

*

إذا حام الكلامُ فأنت سمعٌ

وإن طاشَ السكوتُ،

فمفرداتُ 

*

ألا، إنّ الممات، أمرُّ أمراً،

وأقسى من مرارتِه،

الحياةُ     

*

صديقَ الشعر إنّ الشعرَ يبكي

وتبكيكَ الدفاترُ،

والدّواةُ

*

أُواربُ ميتتي والكأسُ حولي

وتلمعُ في ذؤابتِها،

الرّفاتُ

*

قناةَ مُزَيِّلٍ، والدهرُ جِدٌّ،

يحايثُ أن تلينَ له،

القناةُ

*

قرينَ الوجهتين عليك نبكي

وتبكي في مشارفها،

الجهاتُ

*

وتبكي المفرداتُ عليك حبراً

وتسهبُ في القريضِ،

الباكياتُ

*

غلابٌ، هكذا، الدنيا غلابٌ،

وقد دارتْ عليها،

الدّائراتُ

*

أبا العلياء مسكاً في الأعالي

لك العلياءُ والشُّهُبُ

القُصاةُ

*

تركتَ قلائداً وسماءَ فصحى

وحرزاً في تمائمِه،

المَهاةُ

*

رواةُ الشعرِ من برديكَ فيضٌ

متى ملكتْ أعِنّتَه،

الرُّواةُ

*

نديمَ اللّام، والأسرار شقْرٌ،

تجيئُكَ والقصائدُ،

ساهراتُ

*

كبا شعري وبادَ القولُ حتّى

استحالتْ في لديه،

الممكناتُ

*

سمائي من سمائكَ، غير أنّي

بلا نجمٍ، وشهْبُكَ

طالعاتُ

*

كليمَ النّون، والآفاق غيبٌ،

وتدنو من رؤاكَ،

الغامضاتُ

*

عطفتَ على الزمان وظِلْتَ حيّاً

فقل لي: مالحياة،

ومالمماتُ

*

طموحُ السالكين سلافُ نجوى

وعشقُهما الوسيلةُ

والأداةُ

*

إمامَ الشارداتِ عليكَ عطفاً

من الملأ الشفيف

الشارداتُ 

*

صرفتَ العمرَ في تصريفِ شأنٍ

على نهوندِه منكَ

التفاتُ

*

وهندُ الليل يكشفُ شأنَ ليلى

وليلى حول هندِكَ

والثّقاتُ

***

تعتمد مجموعة "على ارجوحة الوند" القصصية للكاتبة آشتي كمال على جملة من الذكريات الشفافة في الاستحضار والاسترجاع (فلاش باك) في إيقاظ الذاكرة في مسار الحياة الذاتية والعامة، وضعت نفسها إزاء مرأة الزمن والحياة الواقعية، كأنها أمام مرآة الذات في تجلي معانيها، للاشخاص الذين ظلوا عالقين في القلب والذهن في سمات الحب والشوق والحنين، بكل خشوع وخاصة حكايات الجد والجدة أو العائلة والحي والمكان والنهر والمدينة، في حركتها الدائمة والمشوقة، في حكايات الموروثات الشعبية مثل ما تمثل شجرة السدر، وما تمثل المدينة والنهر، هذه الأشياء ليس جامدة، بل تمثل نبض الحياة الدائم، في شفافية الحضور المنعش الذي يستنطق الذاكرة بهذا الحضور، في المجتمع وفي الحياة العامة ونشاطاتها وتناقضاتها بين الخير والطمع، لذا فأن الكاتبة (آشتي كمال) تحاول في السرد القص ان تجمع شتات ذاكرتها وتظهرها في فن القصة بالصياغة الفنية المتمكنة، التي تدل على معرفة سر الحرف السردي وامكانياته في الخلق والابتكار، بلغة صافية دون زخرفة بلاغية ولغوية، وانما تحاول ان تسلط على لوحات الحياة والواقع، بلوحات مختلفة في المعنى والتعبير والمغزى، كما عاشتها وعايشتها، وما حرك نبضات الشعور في الاحساس العميق، وهي تتجوال في مسار الواقع والحياة من حكايات الجدة وشعورها بشجرة السدر المقدسة التي تشفي الامراض والعلل، في تلقائية سردية شفافة في اسلوها الممتع، اي انها تقدم ذكريات الطفولة وما بعدها، في اسلوب واقعي رصين، في تجلي معاني الحكايات، السائدة في الوسط الشعبي، مما تجعل القارئ يتفاعل معها، بما تمثل القيمة الانسانية في اطار المجتمع المدينة، سواء في الموروثات أو في النشطات العامة، سواء تتجه الى الخيراو عكسه، التي تتجه الى الشيطنة والاحتيال، ضمن عقليات مختلفة في الرؤية والتعبير. أن تسلط الضوء على الواقع المعيشي قديماً وحديثا. إن الواقع هو مثل السفينة الحياة، الحبلى بالتناقضات الحلوة والمرة، لذا فأن المجموعة القصصية تقدم لوحات مختلفة، ويمكن رصد بعضها في هذه النصوص القصصية.

1 - شجرة السدر:

ذكريات الجدة مفعمة بالشوق والحنين، وحكاياتها هي جزء من الموروثات الشعبية، التي تخص شجرة السدرة، بأنها شجرة مقدسة واوراقها تشفي الامراض والعلل، بعد غليها بالماء الحار، كما توصي اهل الحي والجيران، واكتسبت مكانة طيبة ومحترمة، وكذلك توصي ابنائها المصابين بمختلف الامراض، مثل ابنها البكر الذي يعاني من المرض السكري، والآخر الذي يعاني من أمراض المعدة، والآخر الذي يعاني من الارق والارهاق. وذكريات ابنها الأصغر (وحيد) أحب فتاة (شادية) الفتاة العشرينية، وبادلته بالحب والغرام، وتبادل رسائل الغرام والعشق بين الطرفين، لكن اهلها زوجوها الى رجل كبير في السن لأنه ثري، لم يدم الزواج إلا بضعة شهور، ولكن حين انجبت طفلتها الاولى سمتها (وحيدة) وفاء لحبيبها (وحيد).

2 - الدكتورة ماري:

طبيبة في علم النفس منذ خمسة أعوام، تعالج الكثير من الحالات السايكولوجية التي يعاني منها بعض الناس، وترجع الى بيتها متعبة ومرهقة، من الحالات النفسية أو الاضطرابات النفسية التي يعاني منها المرضى، بعض الحالات غريبة وعجيبة من الأمراض النفسية التي يعانون منها، وهي تمارس طقوس علم النفس على مرضاها. مثلاً: امرأة تعاني من مشكلة نفسية، بأنها تسمع اصواتاً غريبة خلف لوحات بيتها، ومريض اخر، يعتقد بأن بداخله اشخاصاً مختلفين، وهم في الواقع شخص واحد لا غير. إحدى المريضات شابة في العشرين، تعاني من انفصام داخلي، ترى زوجها شخصاً غريباً عنها، وتنظر اليه بغرابة وحذر وخوف .. والآخر جاءها شاب ظريف وجميل ورشيق الهندام، ليخبرها عن والده السبعيني يعاني من انفصام في الشخصية، يشعر بأنه الإنسان الوحيد في العالم، لا وجود مثله في الدنيا، لذلك اعتزل في عزلة تامة عن الناس، وحتى يرفض الطعام، إلا بعد محاولات حثيثة ومضنية من ابنه.

3 - كيد النساء:

جاءت (مرام) وهي أمرأة في كامل فتنتها وانوثتها المغرية، وكانت تحمل كيدية دفينة في الاختبار بحجة التوظيف في الشركة، وهي تشع الغواية والإغراء لكي تعرف معدن الأخلاقي لمدير الشركة، في جذبه الى غوايتها، ودلفت الى غرفة مكتبه لكي تسأل إذا كانت الشركة بحاجة الى محاسبة، تطلع فيها مدير الشركة، وهو يراها مخلوقة عجيبة من الجمال والفتنة والقوام الرشيق، وسارع الى توظيفها، سارت الامور بشكل جيد، ومدير الشركة يحاول ان يتقرب منها لكي يفوز بها. مثلاً كان يبقيها ساعات إضافية لكي يخلو بها بعد خروج الموظفين، وكانت تدرك الاعيبه وأغراضه، كأنها مخلوقة خلقت له وحده . ويحاول ان يبرز حبه وعشقه وهيامه بها، بأنه فاز بأجمل فاتنة قد تكون الوحيدة في العالم، لترد عليه بثبات وتصميم (-أنتم الرجال اكذب مخلوقات الله !

- إلا أنا

- سنرى

كان يحاول ان يفوز بها بالشهوة الجنسية، فكان تمانع وتصده، رغم الإغراءات والمكافأت المالية دون حساب، حتى ملت منه وقالت له: (ألم تمل من هذه اللعبة السخيفة) لتختم حديثها القاطع (الآن انتهت اللعبة، بالمناسبة مرام ليست إلا آلة نحن خلقناها) يعني انتاج صيني، امرأة كاملة القوام. تطلع إليها بغرابة وتخبط وارتباك، ويصاب بالدوار، واختلط عليه الأمر: هل هو في حلم أم حقيقة فسقط على الأرض.

4 - الحكاية.. تكرر نفسها:

أمرأة صحفية وتملك مكتبة صغيرة لبيع الكتب في مدينتها الصغيرة، تعرضت لعملية خطف، وسرقوا ما تحمل من أوراق نقدية وكل ما تحمل، إلا انهم تركوا لها هاتف النقال، وجاءتها الفرصة المناسبة لكي تتصل بأهلها ويردون عليها (- اين أنتِ، الجميع فقد الأمل بعودتكِ... بحثنا في الاماكن كلها، لكن..... أين كنتِ كل هذه المدة؟!) وتخبرهم انها مخطوفة (منهم) وحققوا معها، ثم إحالتها من مكان الى آخر، ولا تعرف من الدنيا إلا هذا الشبح الملتحي ذو الشعر المجعد وعينين الغليظتين، يراقبها بعدوانية، وليس هناك تهمة سوى تهمة قول الحقيقة للناس، وتبيع الكتب من مكتبتها الصغيرة، وانهم يهددونها بالقتل بدم بارد، لأنهم لايحبون الصحافة وبيع الكتب، وضد القلم الحر. وبعد أيام نشرت صحافة المدينة، خبر اغتيالها بعشر رصاصات أمام مكتبتها الصغيرة.

5 - كو... ما... ري:

احدى ضحايا حريق مستشفى (ابن الخطيب) احدى المريضات من الحرق غائبة عن الوعي اسبوعاً كاملاً، رغم محاولات الاطباء الحثيثة لاعادة الحياة اليها مجددا، لكن سمعت احدى الممرضات، تنطق بهمسات وحروف ليس لها معنى (- كو، كو ... م... كوما.. ر... كومار.... ي... كو... ما.. ري) اسرعت الى الدكتور ليسمع حروفها غير المفهومة (كوماري) وبعد ذلك تحسنت حالتها، وحينما استيقظت، وجدت جمعاً من الاطباء حول سريرها يبتسمون وقال احدهم حمدا لله على سلامتك..... أنتِ فعلاً بطلة، ولكنهم طلبوا منها معني كلمة (كوماري). وحكت لهم قصتها، بان امها تحبها حباً كبيراً، وكانت تدللها وتلاعبها وتلاطفها، ولا تدعها تمسك قدميها الارض، فكانت تأخذها باحضانها بالحب والشوق وتناديها (كوماري) وأنها اطلعت على الثقافات الاجنبية وغرائب العادات والتقاليد، ومنها نيبال، عندهم عادات موروثة، بأن الفتيات الجميلات يرتدين الثياب الحمراء، ليصبحن في مقام الالهة في نيبال، ومن الشروط العادات، بأن فدميهن لا تلمس الأرض، كما تفعل امها وتناديها كوماري.

6 - على ارجوحة الوند:

هي محاولة إبراز مضمون المفهوم التعبيري للمجموعة القصصية (مدارات الخزامى / للكاتب صفاء المهاجر) يتغنى ويمجد مدينة خانقين ومعالمها البارزة ومنها نهر الوند، وافقها الواسع والعالي، يكمن حبها في القلوب الطيبة (- أيتها القريبة الى الافق، ومن موطني....... أنا لست الافق الذي تقصدينه أنتِ، ولا مداراتي تشكل ذلك الأفق الذي ترغبين به)، ولكن احتلت قلوب الناس (- حينما تفكر المحبوب الغائب، هل توطئ راسكِ ارضاً؟ ام ترفعه نحو السماء؟ هل تبحث عنه بين ضجيج المارة؟ ام بين الغيوم الناعسة؟ هل تقدر الارض بمساحتها الكبرى وحقيقتها غير المعلنة، مكاناً ملائما للمحب؟) وكان يسمى مدينته (خانقين) مدينة الخزامى، شهدت ذكريات الطفولة والشباب، شهدت وشائج الحب في معالمها المعروفة، كما شهدت اغاني الحب والشباب، باحلى الصور الانسانية الرائعة.

***

جمعة عبد الله

 

تربطني بالزميلة رجاء عبد المجيد القيسي علاقة زمالة جامعية تمتد لفترة أكثر من 55 سنة، كانت بدايتها في العام 1968 حينما كنا طلبة في قسم الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية (الملغاة) 1968-1972.أتذكر جيدا حفلة خطوبة رجاء القيسي في نادي كلية الإدارة والاقتصاد في ربيع العام 1970 حضرها جمع غفير من طلبة السنة الثالثة قسم الاقتصاد.تفرقنا بعد التخرج في 30 حزيران 1972 وذهب كلنا منا في سبيله.لم نلتقي إلا في يوم 31 آذار 2017 بعد مرور45 سنة في المركز الثقافي الكائن في نهاية شارع المتنبي ببغداد.كان لقاءا وديا حضرته زميلتنا شميران مروكل أوديشو وزملاؤنا المرحوم قاسم سرحان وحسن الخفاجي من خريجي سنة 1971. وكذلك أخي المرحوم سعد وحفيدة رجاء التي قامت مشكورة بتصوير لقاؤنا.

أهدتني رجاء (أم لبنى) مجموعتين شعريتين، الأولى – أرهاصات والثانية صدرك مدينتي الصادرتين في الأعوام 2015 و2017 وكلاهما من دار الرواد المزدهرة. بعد قراءة المجموعتين انبهرت بهما ولم أعرف ذلك من قبل بأن رجاء تتمتع بملكة شعرية وأدبية.تركت أشعار هاتين المجموعتين أثرا كبيرا في نفسي بحيث بدأت أفكر وألوم نفسي لماذا لم أكتب عن أعز زميلاتي مقالة تعكس اعجابي بقريحتها الشعرية.

تمتاز أشعار زميلتي أم لبنى بتعابيرها اللغوية القوية التي تجعل من القاريء يشعر ويدرك ما تقصده العزيزة رجاء من عكس ارهاصاتها ومشاعرها كما هو في أولى قصائدها بتاريخ 27/11/1969، مشاعر، ص 31-32.

قلت أني أحبك ..لا تسألني لماذا؟

لا تسألني عما أحبه فيك..

فأنا نفسي لا أدري

بل ..اني لا أعرفك..

وقد احترت كثيرا في معرفتك

أحيانا يخيل لي أنك رقيق كالنسمة

في ليلة صيف قائض

حنون كصدر أمي

حالم كخيال فنان

مبتسم كالورد

نديً تصفح وتغسل ذنوبي الصغيرة

عن قلبي كما يغسل المطر أوراق الشجر.

تعيش رجاء حالة من القلق وعدم ثقتها بالحبيب الذي قد يكون لا يبادلها نفس المشاعر الوجدانية.وهذه حالة طبيعية عند الجنس اللطيف خصوصا وأن عمرها كان لا يتجاوز التاسع عشرة ربيعا، كما يفهم من تاريخ كتابة القصيدة مشاعر الواردة الذكر أعلاه.

وحينما انتقل الى الصفحة 45 حيث قصيدة عبث (ص45-47) التي الاحظ فيها نضوج الشاعرة في فهم الحياة العاطفية والتي كتبتها في 31/12/1976 أي بعد مرور سبعة سنوات من كتابة قصيدة مشاعر حيث تقول فيها:

كنت أريده ..

حبا ..منعشا كليالي الصيف

نقيا كالدمع..

خالدا كالحب الحقيقي

سأصحو من غيبوبتي..

لا بل صحوت

أحس بثورة جارفة في أعماقي

فأنا خائفة..

خائفة من التمرغ معك بعواطفك السطحية

خائفة على انسانيتي ومثلي

أصبحت أيامي مياه جدول تتكسر

بين الصخور الصلدة..

باحثة عن ذرة تراب تسقيها

وتشابهت أيامي وأضاعت مدلولها..

في زمن ما، في وقت لم أحدده، في يوم لا أذكره

شدتني الى عينيك رغبة حنون

مغرية الدفء

كلهيب موقد يلوح لضائع بين الثلوج..

ولكن..؟

أما في قصيدة إحتساب التي كتبتها في العام 2014 فنلاحظ انها انتقلت الى موضوع آخر، ألا وهو الوقت وتأثيره على حياتنا اليومية وعلاقاتنا العاطفية والاجتماعية (ص50-51).

يا أنتم كيف تحددون لليوم أربعا وعشرون ساعة ..

أنا ..أنا

ينكمش النهار عندي ليصير دقيقة

ويمتد الليل ..ليصير دهرا..

وقد يطغي النهار على الليل..

فيغدو الليل لحظة..

ويستوي النهار أزلا..

أنه الحزن والفرح

اليأس والأمل

اللقاء والفرح

التوق والوصول

هذي ..هي التي تحدد ساعات

اليوم..وأيام العمر ..

لنحطم ساعاتنا ونخترع طريقة

أخرى لقياس الوقت!

وحين ننتقل الى مرحلة تاريخية من عمر رجاء القيسي نجد فيها ان وعي الشاعرة وادراك العلاقات العاطفية قد تطور وبلغ مرحلة جديدة من النضج، وهذا الذي نشعر به من قراءة قصيدة أيها الغريب التي كتبتها في العام 1980 (ص57-58).

كم تعرف معنى أن تدعني أركض ملايين الأميال

في شوارع عينيك المفروشة بأسفلت الصمت واللامبالاة

هل صدقت أنني سأغفر لك؟

أيها الغريب..!

قبلك ..كنت أبدا منفية خارج الأشياء

منفية خارج دائرة الحزن

خارج دائرة الفرح

خارج عالم الانتظار

قبلك، ما الفرق؟؟

ما دمت بعد أن عرفتك

ظللت وحيدة

كطير يتخبط بدمائه

أنا أحبك؟ أية فجيعة؟؟؟؟

في التطور التاريخي لنضوج الشاعرة رجاء القيسي نجده في قصيدة الى التي أرضعتني الطيبة (أمي) ص81-82 في سنة 2005، نقتبس جزء منها:

هدهداتها موسيقى

لا تزال تنساب

بهدوء مسمعي

كروان يناغيني

يهدهدني

" دللول يبنيتي دللول "

زندها وسادة ريش نعام

اغفو عليها..

وأنا أتلمس بأناملي الصغيرة

مصدر غذائي

تحتويني بدفء حضنها

وكأني لم أزل ..

مرتبطة بحبلها السري

الذي أمدني الحياة

ومن القصائد التي كتبتها لذكرى وفاة المرحوم أبيها نستشهد ببعض من أبياتها:

الى المزروع في عيني ..أبي  (ص85، 9/10/1968)

تمر ذكراك والآلآم تستعر..والدمع كالجمر فوق الخد ينهمر

تمر ذكراك والذكرى تمزقني..والنار في القلب لا تبق ولا تذر

والحزن أضحى رفيقا لا نفارقه..تكاد من هوله الأحشاء تنفجر

أبتاه، كيف سيشفى جرحنا وقد ..بكى لفقدك صمت الليل والحجر

وفي نهاية هذه المجموعة (ارهاصات) في صفحة 86-87 لا تنسى أم لبني صديقتها الحميمة

من الكتابة عنها في قصيدة (صديقتي) :

صديقة العمر

أقرأ في عيونها

الفرح والمأساة

الحزن والشتات

تقرأ قلبي

تثير سكوتي

تنبش أفكاري

كمن ينبش تنور رماد

فيومض الحرف

وتشتعل الكلمات

وتتفجر الشفاه

بالآهات

آهات الزمن اللاهي 

ننتقل الى مجموعة صدرك مدينتي الصادرة في العام 2017 والتي تتألف من 44

 قصيدة مختلفة المواضيع والاهداف التي كتبت من أجلها.أتوقف عند القصيدة التي تحمل اسم هذه المجموعة، ألا وهي (صدرك مدينتي) ص17-18.

حبيبي ..

قدرنا التقينا ..

وتنفسنا الحياة

وانغرسنا في روابيها ربيع

وحللنا روحين في بدن

فكنت العطر والجمال

وكنت أنت الحياة..

فأصبحت ..أنا ، أنت

حبيبي..

يجعل الزهر ينبت

فوق الصخور ..

فأنت ..وأنا

ذرتا رمل جمعتهما عاصفة الشرق

أنت ..وأنا

كغيمتين ..إن التقيتا

تنزل الصاعقة

استعارات مكنية وصريحة تتميز بها كلمات هذه القصيدة كما نجده في بقية القصائد في كلا المجموعتين.

تمتاز قصيدة بغداد ..حبيبتي (ص37-39) بقوة تعابيرها وكلماتها التي تعكس حب الشاعرة لبغداد عاصمة العراق التي ولدت وترعرعت فيها ودرست وتعلمت فيها ومن ثم عملت في مؤسساتها ودوائرها الحكومية.وفيها أنجبت ابنتها البكر لبنى.انها قصيدة وطنية الى حد النخاع تعبر عما يجول في خاطر كل انسان شريف شرب من ماء دجلة وأكل من خيرات بساتينها وحقولها المعطاء.

بغداد ....يا بغداد

حبيبتي...بطيبتك

تحتضنين القادمين إليك

وهم يسيئون ويعبثون

وأنت تبتسمين وترقصين

فوق نجوم الله!!

وكل الذين مروا بعرباتهم

وأقدامهم النجسة

فقد تاهوا في أزقتك

تأكلهم الدونية..

بغداد ..حبيبتي

من أين لك هذا التحمل؟؟

وأنت واقفة

على (جفن الردى)

حروب، تقتيل، تشريد، تنكيل،

تفقيد، تمزيق، يتمً!!

وبيع وشراء في المزاد

المفتوح لسماسرة السياسة

أبعد كل هذا خسة؟؟؟

ننتقل الى قصيدة مداهمة التي كتبتها شاعرتنا العزيزة ام لبنى في العام 2015.، ص51.

داهمني حبك...

كبركان ..!

تفجر....

دون انذار ..!!

إقتحمني ..حبك

وأشعل النار!!

ثم ..ثم

غادرني

كمرور إعصار ..!!؟

على الرغم من قصر هذه القصيدة ولكنها عكست الحالة النفسية التي عاشتها رجاء بعد تجربة حب جديدة داهمتها وانتهت بسرعة كما يفهم من أبياتها القليلة العدد.

اما قصيدة بوصلة (ص67-68) فنجد فيها وصف تجربة حب جديدة خاضتها رجاء القيسي في العام 2016.

الحب صحوة الوعي

وحبك الغافي بين الضلوع

استنهض الأفراح في ..؟

لتتسابق وتتراكم في صدري

وبسمتك تصهر أكوام الثلج

وتبدد شتائي المكفهر ..!!

فقد لملمتك كالعباءة

حول جسدي

فاخترقت أسواري ..؟؟

وجهك المرسوم

في عيني

بوصلتي..!!

وأبدع ما كتبت زميلتي الغالية رجاء القيسي في العام 2016 هي قصيدة العراقية قيثارة سومرية والتي اشتهرت بها بين الأصدقاء ولاقت استحسان الكثير من القراء والناس ، ص (75-77) .

أنا العراقية

أنا الأبية

أنا ما وطأت

رأسي للدونية

أنا الدنيا

والحياة الزهية

فكل ما ترونه

ما تسمعونه

هو قسوة ووحشية

أنا نازك الملائكة

الشاعرية

أنا لميعة عمارة

الأنثى الزكية

أنا نزيهة الدليمي

أول وزيرة عربية

أنا زكية خليفة

المناضلة العصية

أنا عشتار ..

أنا العراقية

أنا سميراميس الآشورية

من بلد العجائب البابلية

أنا من بلد الأنبياء

والأولياء والحضارة الأبدية

أنا العراقية..

أنا القيثارة السومرية

أنا مسلة حمورابي

للحق والعدالة الإلهية

أنا الأم العراقية

مجبولة على (الحنية)

أنا الزوجة المثالية

والأخت المضحية

أنا العراقية في بلد

نزلت على أرضه

أول البشرية!!

فلست أنا المتسولة

التي تجوب البرية

أنا الكرامة والعزة

أنا العراقية..

التي أنجبت خير الرجال

المدافعين عن المبادىء والقضية

أنا العراقية

أنا خير البشرية

وبهذه القصيدة أختتم مقالتي المتواضعة عن زميلتي الغالية رجاء عبد المجيد القيسي أم لبني

التي تستحق كل التقدير والاحترام.

***

د.سناء عبد القادر مصطفى

قراءة في قصيدة شلال عنوز قرأتُكِ قلقاً

"قَرأتُكِ قَلقاً"

حينَما قَرَأتُكِ

قَلَقاً

هَمَسَ البَوح

في أُذُن الوَقت

وَهوَ يَتصفّح

قَراطيس

فَم الوَجد

سَرقَتني الكلمات

تَوَسّدتُ

مخدّة المَجانين

تَوالى على ساحلي

شَهيق

أسراب الرَغبات

فاستبقتُ

صراخ ظِلّي

إليك

وانهمرتُ سَيلاً

نازفاً

مِن حُمّى

الانصِهار

هل هي

صِدفةٌ

أن يَلتقي بَحران

عِندَ مَرسى

مَنزوع

من رقابة

العَسَس؟

وهل يُولد الحُبّ

من رَحم خَريف

على سَفح

زمن

آيلٍ للغُروب؟

1- مقدّمة تأطيرية

تنطلق هذه الدراسة من فرضية أنّ قصيدة: قَرأتُكِ قَلقاً، لشلال عنوز" لا تقرأُ بوصفها قصيدة عاطفية عابرة، بل بوصفها تجربة كتابية تختبر الحدود القصوى للغة عندما يُراد أن تَقول: القلق، لا كموضوع، بل ككينونة شعرية متكاملة بين حدّي النص / القصيدة والمخاطب والتلقّي كلاهما. وقد اخترنا تقاطع ثلاث مناظر نقدية لتفكيك هذه الكينونة:

أ. السيميائية التي تُظهر كيف تَنتج العلامة دلالتها من داخل البنية الصورية والزمنية والجسدية.

ب. الرمزية التي تُتابع التحوّلات الوجودية والصوفية والإيروسية التي تُطلقها الصور.

ج. جماليات التلقّي التي تُبرز كيف يُنجز القارئ بنية المعنى عبر ملء الفراغات ومواجهة التوترات في حميمية تسابق الآفاق لبلوغ فهم المعاني .

بهذا نكون أمام مشروع قراءة: ثلاثية البُعد تسعى إلى الإجابة عن سؤال مركزي:

كيف يُصبح القلق - في شعرية عنوز - فعلاً لغوياً، ورمزاً وجودياً، وآلية تلقٍّ متجدّدة في آنٍ واحد؟

2- القراءة السيميائية الأولية:

أ. العتبة العنوانية

بنية زمانية فعلية مكتملة في زمنٍ ماضٍ يحملها العنوان تأكيدًا على رسوخ سابق لمحصلة فعل القراءة محملًا بطاقة إشارية كثيفة الدلالة، ما يوحي بانقضاء تجربة شعورية تامة إذ يَدخِل فعل القراءة بعلاقة عاطفية مباشرة مع القلق كعاطفة فاعلة منفعلة مما يكسب النص مكنة التحوّل إلى فعالية تأويلية متبادلة وفعل معرفي وجودي يحقق للغة وظيفتها الايحائية الياكبسونية، لكنها مفتوحة دلاليًا: «قرأتُكِ» تعني هنا استبطان الآخر واستظهاره… وكشفًا عن معاناة القارئ من جرّاء بركسيس القراءة. «قلقًا» ليست صفة الموصوف بل هي الصورة التي يتجلى بها الآخر المستظهر استبطانًا داخل الذات وارتكاساته في الذاكرة المحفوظة وما تتركه على حاضر وجدان الشاعر. تتقاطع «القراءة» مع «القلق» في تمثيل حالة من الوعي الوجودي المشوَّش ليس بفعل الريبة بل جراء تناسل المتناقضات بين سيرورة اليقين وصيرورته، حيث يصبح الحبيب نصًّا يتلوه العاشق لا بعينه، بل بتوتره الدائم وحيرته إزاء تصادم الخلاص بالإخلاص وديمومة انطباعات الماضي الحسية على فعاليات مواكبة الشاعر لمطالعة المقروء وجودًا نصيًا يتجسد في الكينونة الشاخصة للمقروءة قلقًا.

ب. المشهد الشعري وتحولات العلامة

أولًا/ همس البوح - قراطيس فم الوجد

- «همس البوح في أذن الوقت» تشكيل سيميائي لفعلٍ حميم يُمارَس مع الزمن، حيث يُنسَب للبوح سلطة الزمن وهيمنته الظاهراتية، وهذا متوقع عندما يتجسد شاخص الكائن نصًا مقلقًا.

- «قراطيس فم الوجد»: استعارة مركبة تُشبه الحبيب - أو التجربة - بورقة يُقرأ منها الانفعال، في بنية تجعل الوجد جسدًا له فم وأوراق. هذه الصورة تعبّر عن تشظي الحضور داخل الغياب وتشيؤ الإحساس والتراسل مع الوجود.

ثانيًا/ سَرقَتني الكلمات - مخدة المجانين

- دال «السرقة» يوحي بغياب السيطرة والانجراف خلف انفعالات اللغة المخادعة وغوايتها الطاغية .

- «مخدة المجانين» ليست استعارة بسيطة، بل رمز يعيد إنتاج العشق كنوع من الجنون الفوكوي، مستمدّ من خطاب الصوفية والعاشقين الذين يفقدون توازنهم أمام النص/الآخر.

ثالثًا/ التوتر والذوبان

- «شهيق - صراخ - انهمرت - حمى - الانصهار» كلها علامات جسدية تمثل حالات ومواقع في المقام العاطفي تنتاب طارق المسلك مأخوذًا بها صاغر الإرادة.

3- المشهد الرمزي:

التماهي والانصهار

- «توالى على ساحلي شهيق أسراب الرغبات»: يُجسَّد «الساحل» هنا الجسد/الذات المتلقية بالجذب… و«أسراب الرغبات» كائنات طائرة تنقضّ على المدى الداخلي.

- «فاستبقت صراخ ظلي إليك»: الظل ليس تابعًا مرئيًا، بل صورة باطنية للذات العاشقة، والاستباق كسرٌ للمنطق الزمني.

- «وانهمرتُ سيلًا نازفًا من حمى الانصهار»: الجسد يتحوّل إلى مادة: ماء، دم، حرارة… تفكك الهوية داخل طقس العشق.

4 -الأسئلة الختامية:

شفرات الميتا-عشق

- «هل هي صدفة أن يلتقي بحران عند مرسى منزوع من رقابة العسس؟»: ترميز للعاشقين في موضع لقاء حرّ، منزوع من رقابة الرقيب، تمرّدًا وجوديًا.

- «وهل يولد الحب من رحم خريف؟» سؤال مفتوح على ميتافيزيقا الزمن: الحب يولد في الذبول والغياب، احتجاجًا على الغياب لا احتفالًا باللقاء.

خلاصة سيميائية

قصيدة «قرأتُكِ قلقًا» نص رؤيوي مفعم بالمجازات الحارقة… الذات لا تقرأ الآخر بعين العارف، بل تتفتّت في حضوره… لتدور في حومة وغى الحيرة… درويشًا ملاماتيًا في حلقة الذكر حول شمس الآخر الحارقة. اللغة هنا ليست أداة، بل معراج إلى التهلكة الوجدانية… وهي الطريق الوحيد لمعرفة الوجود والتعرف على الآخر وبوابة كشف الذات.

5 - القلق كرمز

أ. العنوان:

فتحة دلالية مشحونة

مع انفتاح العتبة الأولى على فعل ماضٍ مكتمل يوحي بانقضاء تجربة شعورية، ظلّ مفتوحًا على أفقٍ دلالي يتجدّد في كلّ قراءة. فالفعل «قرأتُكِ» ليس فعل معرفة، بل استبطان للآخر واستظهاره، كأنّ المحبوب نزع الحجاب وتحوّل إلى نصٍّ يُتلى ويُفكَّك. العنوان، وفق مفهوم «الوظيفة الإيحائية للغة» عند ياكوبسون، يكثّف الدلالة في لحظة انفتاح يغذّي سائر النص (إسماعيل 1).

ب. مشهدية القراءة كفعل وجودي

يُشخَّص في العنوان مجازُ التشخيص: المقروءة امرأةٌ حيّةٌ بالقلق، والقارئ لا يقرأ كلمات، بل يقرأ هيئة كيانية من القلق كماهية وجود، فتندثر الحدود بين الذات/القارئ والموضوع/المقروءة. القلق هنا ليس حالة نفسية، بل كيانٌ مُجسَّد يُقرأ، وهو الجوهر المقروء في القراءة الصوفية عند ابن عربي: «الكون كتاب الله، والإنسان حروفه» (3).

ج. القلق:

هوية انطولوجية

يشير القلق إلى أليات دفاعية يطلقها الشعور تجاه الآخر، وقد أطلق هارولد بلوم عليه «قلق التأثير» المحفّز للإبداع ومرافق خوف الشاعر من تأثيرات الآخر. في قصيدة عنوز يتحوّل القلق إلى ابتلاء المحب من وجود المحبوب وإمكان فقدانه، فيتجلى توقًا وشغفًا وجوديّين لا خلاص منهما. وبهذا يصبح القلق هوية انطولوجية للشاعر والصوفي والمحبّ على حدّ سواء.

د. المشهد الشعري وتحوّلات العلامة

- «همس البوح في أذن الوقت» تُجسّد البوح ككائن يخاطب الزمن مباشرة، فيعلن العاطفة طرفًا في سرّ عشقي.

- «قراطيس فم الوجد» استعارة مركبة تشي بتشظي الحضور وتحويل الشعور إلى نصّ ماديّ.

- «سرقتني الكلمات» تُفيد ضياع السيطرة أمام غواية اللغة، فتصير الكلمات سلطة تمارس فعلها على الشاعر (الغذامي 7).

هـ. الساحل كفضاء للهوية المُتفتّتة

يتكرر مشهد الساحل المائيّ/الهامشي، فيُصبح حدًّا متآكلًا لا يفصل بين الداخلي والخارجي بل يُذيبهما. «شهيق أسراب الرغبات» ليس فعل تنفّس، بل اجتياحٌ طائر يُذكّر برمز الماء عند أدونيس: «انبعاث وانحلال معًا».

و. المشهد الرمزي: تماهٍ وانصهار

- «الساحل» رمز للذات المتلقية اندفاع الموج العاطفي.

- «أسراب الرغبات» تزرع ندوبًا تتحوّل براعم، في مفارقة صوفية بين الجرح والولادة (ابن عربي 13).

- «صراخ الظل» يكشف قرين الذات الوجودي، والاستباق كسرٌ زمني يُعلن شدّة الانجذاب.

- «انهمرتُ سيلًا نازفًا من حمى الانصهار» تُصوّر ذوبان الجسد في ماء ودم وحرارة، إعادة صياغة للهوية عبر العشق (باشلار 15).

ز. الأسئلة الختامية: شفرات ميتا-عشق

- «هل هي صدفة أن يلتقي بحران عند مرسى منزوع من رقابة العسس؟»

- ليس سؤال صدفة، بل كشفٌ للمستتر: اللقاء خارج سلطة الرقيب تمرّد وجودي.

- «وهل يولد الحب من رحم خريف؟»

- الخريف رحم رمزي للموت/الولادة معًا، في احتجاج على الغياب أكثر من احتفال بالحياة (أدونيس 17).

ح. الخلاصة الرمزية

«قرأتُكِ قلقًا» نصّ رؤيوي يُجسّد العشق قدرًا وجوديًا لا مهرب منه. تتقاطع الحواس بالفكر والجسد بالروح واللغة بالصمت. الذات لا تعكس الآخر، بل تتفتّت في حضوره وتدور حلقة الحيرة بحثًا عن ذاتها في الآخر وعن الآخر في ذاتها، فيكون الانصهار مصيرًا لا يُردّ. القلق إذن جوهر العشق والقراءة معًا: هو الوجود في ذاته، و«الشعر فضاء للولادة المستمرة للمعنى» (إسماعيل 27).

6 - القلق كفضاء تلقٍّي

أ. تحديد منهجي: لماذا جماليات التلقي؟

يفترض هانس روبرت إيزر أنّ النص لا يتحقّق إلا بفعل قراءة يملأ فيها المتلقّي «الفراغات/الثقوب» التي يُحدثها الشاعر، فيُنشئ «بنية موضوعية افتراضية» تتبدّل مع كل تجربة تلقّية. القصيدة إذن ليست كائنًا مغلقًا، بل «مربّع إنتاج» يتجدّد عبر تفاعل القارئ مع دلالاته المفتوحة، فيردم الفجوات بأدوات التنقيب ومخزونه المعرفي.

ب. عنوان القصيدة كدليل تلقٍّ أوّلي

- «قرأتُكِ» يُفعّل المجاز التشخيصي، يستدعي خبرة القارئ بتراث «الكتابة كامرأة» و«المرأة ككتاب» (ابن عربي).

- «قلقًا» تقدّم صفةً غير مرئية كاسم مفعول به، فتخلق فراغًا سيميائيًا: ما معنى أن تقرأ «حالة» لا «كيانًا»؟ يُدفع القارئ إلى تفعيل «أفق المخزون» المتعلّق بالقلق كرمز للوجود الحديث.

ج. البنية السردية الصغرى وتفاعل القارئ

أولًا/ التقطيع المضبوط بالفراغات البيضاء

كل مقطع يُنهى بتعليق سطر أو كلمتين؛ تلك «الكسرة البصرية» تُحدث إيقاع «ترقّب/انقطاع» يُجبر القارئ على إعادة صياغة المعنى داخليًا. إنها تقنية «تحوير» تُنتج «مسافة جمالية» تمكّنه من رؤية ذاته وهو يُنتج الدلالة (إيزر 1975: 213).

ثانيًا/ التحوّلات الضميرية

يتنقّل المتكلّم بين «أنا» (مضمر) و«ظلي» و«سيلٍ» ثم يعود إلى «أنا» سائلًا. هذه التحوّلات تُشكّل «نقاط تلاقٍ متعددة» تتيح للقارئ الإبحار بين هويات متموّجة، فيُنتج معنى جديدًا في كل قراءة؛ فعل التلقّي يشبه «الإبحار دون مرسى محدّد» (Spielraum).

7- المشهد الرمزي: «مرسى منزوع من رقابة العسس»

- «العسس» يستدعي مخزونًا ثقافيًا (الدولة/الأب/القانون) فيحدث فراغًا معنويًا: ماذا يحدث حين تُرفع الرقابة؟ يدخل القارئ في «تفاوض افتراضي» بين رغبته في التمرّد وخوفه من الفوضى.

- لقاء «بحرين» يُفعّل «قاعدة السمة المكانية» (باختين) التي تُفكك الحدود بين الذات والآخر؛ النص لا يعطي إجابة، فيبقى الفراغ مفتوحًا ليُملأ بخبرات القرّاء.

8- السؤال الخواتيمي: «وهل يولد الحب من رحم خريف؟»

- «رحم خريف» فراغ مركزي يختبر إمكان ولادة الحياة من الموت؛ يُفعّل القارئ «أفق توقّع» متناقضًا: خبرته اليومية تقول إن الخريف نهاية، بينما يدعوه السؤال لتصوّر عكس ذلك.

- هذا التناقض يولّد «الديناميكية التوترية» التي تُبقي التلقّي مفتوحًا؛ كل قارئ يُعيد صياغة إجابته فيحدث «تحوّلًا في أفق التوقّع» (Horizontwandel).

9- التلقّي المُوسَّع والرقمي

في الوسائط الرقمية يتضاعف «الانكشاف»؛ يستطيع القارئ التوقف، إعادة التغريد، التعليق، حتى تعديل النص. تُنتج هذه الممارسات ما يُسمّيه إيزر «النص الممتدّ» (extended text) الذي يتجاوز الصفحة المطبوعة، فتصبح القصيدة عملاً متناسلاً مع كل تفاعل.

10- خلاصة التلقي:

القلق كمحرّك للتجربة الجمالية

- لم يُقدَّم للقارئ إجابات جاهزة، بل زُرعت فراغات يملؤها باستمرار؛ القلق إذن ليس موضوعًا، بل آلية تلقي تُبقي الذات في «تفتح دائم» (perpetual openness).

- بذلك تتحقق «أيديولوجيا التلقي» عند إيزر: القارئ لا يستهلك النص، بل «يُنتجه» من جديد في كل مرة ويُعيد إنتاج نفسه معه.

11- مقاربة ياوس/إيزر الختامية

إذا كان النص يبني أفقًا غنائيًا متوقعًا في بدايته، فإنه يُخترق فجأة بالسؤالين المفتوحين، فيُلقى بالقارئ في فضاء تأويلي وجودي. بهذا الخرق تكتسب القصيدة قيمتها الجمالية؛ إذ تُخلّف «فراغات نصية» لا تُملأ إلا بتدخل القارئ الذي يصبح شريكًا في إنتاج الدلالة.

12 - خلاصة تركيبية

كيف تُنجز شعرية القلق في «قرأتُكِ قَلقاً» تكاملًا بين السيمياء، الرمز، والتلقي؟

أ. سيميائيًا:

العلامة هنا ليست دلالة على شيء غائب، بل «فعل حي» يُنتج جسدًا وزمنًا ومادة. القارئ يُلاحظ:

- اشتغال الفعل الماضي «قرأتُكِ» كمحدد زمني مغلق يفتح ذاكرة مستقبلية للتوتر.

- تحولات الدلالات الجسدية (همس/شهيق/سيل/حمى) إلى سلسلة من «الإشارات الذائبة» التي تُفكك الثبات الدلالي للكلمات.

ب. رمزيًا:

القلق يتجاوز الحالة النفسية ليصبح:

- «كتابًا مفتوحًا» يُقرأ وجوديًا على النحو الصوفي.

- «مرسى» و«رحم خريفي» يُفجّران ثنائية الموت/الولادة، فيُصبح القلق فضاء للانبعاث عبر الانحلال.

ج. تلقيّيًا:

النص لا يُعطي إجابة، بل يُورّط القارئ في:

- ملء الفراغات البصرية والزمنية (الكسور، التحولات الضميرية).

- التفاوض مع الرقابة الرمزية (العسس) ومع الخوف من «الخريف» كرمز للنهاية.

- إعادة إنتاج ذاته عبر كل قراءة جديدة، فتتحقق «شعرية القلق» بوصفها حالة تفتح دائمة لا تُحسم.

إجمالًا، تُقدّم القصيدة نموذجًا نادرًا يتقاطع فيه:

- التحليل البنيوي (كيف تُنتج العلامة معناها)،

- التحليل الرمزي (كيف يتجلى القلق كينونة وجودية)،

- التحليل التلقّي (كيف يُصبح القارئ شريكًا في إتمام الدلالة).

وهكذا يبقى «القلق» - في شعرية شلال عنوز - ليس موضوعًا شعريًا يُروى، بل آلية كتابية تُعيد تشكيل الذات واللغة والعالم في آنٍ معًا.

***

د. سعد محمد مهدي غلام

.........................

13 - المراجع

(بترتيب أبجدي لأسماء المؤلفين)

١-ابن عربي، محيي الدين. الفتوحات المكية. بيروت: دار صادر، 1999. (المراجع 3، 13، 24)

٢- أدونيس (علي أحمد سعيد إسبر). الصوفية والسريالية. بيروت: دار العودة، 1992. (المراجع 9، 12، 19، 23)

٣- أدونيس. زمن الشعر. بيروت: دار العودة، د.ت. (المرجع 17)

٤- إيزر، وولفغانغ. فعل القراءة: نظرية جمالية التجاوب. ترجمة عبد الرحمن أيوب. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة «عالم المعرفة»، د.ت. (المرجع 26)

٥- باشلار، غاستون. جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1984. (المراجع 8، 10، 11، 15، 20)

٦- الغذامي، عبد الله. الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحية. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1985. (المراجع 7، 14، 21)

٧- فضل، صلاح. بلاغة الخطاب وعلم النص. القاهرة: دار الشروق، 1992. (المراجع 2، 5، 16، 18، 22)

٨- إسماعيل، عزّ الدين. الأسس الجمالية في النقد الأدبي. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992. (المراجع 1، 4، 6، 27)

٩- ياوس، هانس روبرت. جماليات التلقي. ترجمة منذر عياشي. دمشق: وزارة الثقافة، د.ت. (المرجع 25)

١٠- حيّ ابن سكران/مجموعة شعرية صدرت عن دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة- بغداد ط1 2025

 

قراءة في جماليات التلقي لـ "التفاتة نحو نغمة خافتة" لأصالة لمع

أصالة لمع: من مختبر الخلايا إلى مختبر القصيدة

بين ضجيج المختبر وهمس القصيدة، تمضي أصالة لمع في رحلتها الفريدة، العالمة التي تمسك بالمجهر لتكشف أسرار الخلايا، هي نفسها الشاعرة التي تمسك بالقلم لتكشف أسرار النفوس، في فرنسا، حيث تقيم منذ أكثر من عقد، تبني جسراً خفياً بين صرامة العلم وجنون الشعر، بين لغة الأرقام ولغة المشاعر.

لغتها الأم، العربية، هي ملاذها الأخير.. فيها تختزن ذاكرة الأجداد، وفي حروفها تستعيد دفء الوطن البعيد.. تكتب بلغة تبحث عن معنى في زمن العولمة، تمسك بها كما يمسك الغريق بحبل النجاة.. في نصوصها، تتحول العربية إلى فضاء للحرية، إلى وطن بديل تحمله في قلبها أينما حلت.

شعرها يشبهها: قوي وهش في آن.. كلماته تمر كالشفرة التي تحمل أسراراً لا يفكها إلا من يعرف كيف يقرأ بين السطور.. تكتب عن المنفى الذي لا يقتصر على البعد الجغرافي، بل هو منفى الروح في جسدها، والقلب في صدره.. تكتب عن الوحدة التي تتحول في قصائدها إلى رفيق درب، وعن الهشاشة التي تظهر كأجمل ما في الإنسان.

في ديوانها الأول "التفاتة نحو نغمة خافتة" (2022)، تضعنا أمام أسئلة الوجود الكبرى، وفي "فيما تمعن فيك الأشياء العادية" (2023)، تتعلم من التفاصيل الصغيرة فلسفة الحياة.. أما مختاراتها الفرنسية "نغمات خافتة" فتشهد على قدرة شعرها على عبور الحدود واللغات.

عبر مشاركاتها الدولية، من المغرب إلى تركيا إلى فرنسا، تثبت أن الشعر لغة عالمية تفوق كل اللغات.. في مهرجانات الشعر، تقف العالمة-الشاعرة شاهدة على أن العلم والفن وجهان لحقيقة واحدة: البحث عن الجمال والمعنى.

أصالة لمع لا تكتب لتسلية القراء، بل تكتب لأنها لا تستطيع إلا أن تكتب.. القصيدة عندها فعل مقاومة، مقاومة النسيان، مقاومة الصمت، مقاومة الموت.. في كل قصيدة تنجح في تحويل الألم إلى جمال، والغربة إلى وطن، والوحدة إلى لقاء.. هذه هي أصالة لمع: امرأة تحمل في يدها مجهر العالم، وفي الأخرى قلبه النابض.

الانزياح اللغوي والدلالي: هدم التوقعات وبناء القارئ الجديد

لا تكتفي الانزياحات في شعر أصالة لمع بأن تكون مجرد خروج على المألوف، بل تتحول إلى خيوط سحرية تنسج بها قارئاً جديداً ينبثق من رحم الانزياح نفسه، فالشاعرة لا تقدم نصاً جميلاً فحسب، بل تصوغ قارئاً قادراً على استيعاب جماليتها الخاصة، حيث يتحول الانزياح من أداة تعبير إلى أداة خلق، تشبه نحت تمثال من طين الذهن والتصور.

تبدأ عملية الخلق بهدم التوقعات المسبقة، فالقارئ التقليدي يحمل تصورات ثابتة عن اللغة والشعر، فتأتي أصالة لمع لتهدم هذه التصورات عبر الانزياح اللغوي، في قصيدتها "الآن، لا أمس ولا غد"، تكسر الشاعرة النسق الزمني المعتاد:

"الآن، لا أمس ولا غد

يتمدّد هذا الوقت

يبتلعُ الكَون"

هذا الانزياح الزمني يهدم صورة القارئ التقليدي الذي يعيش في زمن خطي، لتحل محله صورة قارئ جديد قادر على العيش في زمن متعدد الأبعاد، زمن يمكن أن يتمدد ويبتلع الكون. الانزياح هنا يصبح عملية جراحية في عقل القارئ، تستأصل التصورات القديمة لتزرع مكانها تصورات جديدة.. ولا يقف الانزياح عند المستوى اللغوي، بل يمتد إلى الانزياح الدلالي، حيث تخلق "لمع" عوالم متوازية يتدرب فيها القارئ على أنماط جديدة من التفكير.. في نص "الجسور"، تتحول الجسور من معنى مادي إلى دلالة وجودية:

"بَنَيْنا الجسور

لِنَعْبُر

إِلى الضِّفَّةِ المُقابِلَة

مِنْ أيِّ شيء"

هنا يولد القارئ الجديد القادر على رؤية الجسور غير المرئية، تلك التي نبنيها لنعبر من ذواتنا إلى ذواتنا، من ماضينا إلى حاضرنا، من واقعنا إلى حلمنا. الانزياح الدلالي يصبح مدرسة يتعلم فيها القارئ كيف يرى العالم بعين أخرى، عين ترى ما وراء المظاهر وتكشف الخفي من المعاني، وهكذا، يصبح الانزياح اللغوي والدلالي في شعر أصالة لمع بوابة عبور من قارئ سلبي يتلقى المعنى الجاهز، إلى قارئ مشارك يشارك في صناعة المعنى، قارئ يولد من رحم الانزياح ليكون شريكاً حقيقياً في العملية الإبداعية.

الانزياح الأسلوبي والوجودي: من الحوارية إلى الولادة الجديدة

تمتد استراتيجية الانزياح عند أصالة لمع من المستوى الأسلوبي إلى العمق الوجودي، حيث تتحول القصيدة من خطاب أحادي إلى حوار تفاعلي يفضي إلى إعادة نظر جذرية في ماهية الوجود، ففي الانزياح الأسلوبي، تلجأ الشاعرة إلى تحويل الضمير من الغائب إلى المخاطب، مما يخلق علاقة حميمة مع القارئ ويحوله من متلق سلبي إلى شريك في الحوار، نجد هذا جلياً في نص "هشاشتك لن تكسرك" حيث تخاطب القارئ مباشرة:

"لا تسه خَطْوة

عن تذكر نفسك"

هذا الانزياح في أسلوب الخطاب يخلق قارئاً محاوراً، يشارك في عملية الخلق الشعري ولا يكتفي باستقبال النص. فالانزياح الأسلوبي هنا يصبح جسراً للعبور من التلقي إلى المشاركة، ومن القراءة إلى الحوار، أما الانزياح الوجودي فيمثل المستوى الأعمق في تجربة "لمع" الشعرية، حيث تدفع بالقارئ إلى هاوية السؤال عن ماهية الوجود والعدم، في قصيدة " كأننا لم نوجد يوماً"، تصل الانزياحات الوجودية إلى ذروتها:

"نحن بحاجة إِلى أن يبدو الأمر

كأننا لم نوجد يوماً"

هذا الانزياح الوجودي يخلق قارئاً جديداً من رحم العدم، قارئاً يواجه إمكانية العدم كتجربة وجودية، ويتخيل عالماً لم يوجد فيه. الانزياح هنا يصبح عملية ولادة جديدة، يخرج فيها القارئ من رحم الانزياح كائناً متحوّلاً، يحمل رؤية مغايرة للوجود والعدم، للحضور والغياب، وهكذا ينتقل الانزياح من كونه تقنية أسلوبية إلى كونه تجربة وجودية، تبدأ بالحوار وتنتهي بالولادة الجديدة، في رحلة تحول يكون فيها القارئ شريكاً أساسياً في عملية الخلق وإعادة النظر في الوجود نفسه.

آلية الخلق: الانزياح كرحم نصي

يمكن تلخيص آلية خلق القارئ عبر الانزياح في المراحل التالية:

المرحلة الأولى: الصدمة الانزياحية

تهز الانزياحات القارئ من سباته التقليدي، وتصدم توقعاته المسبقة.

المرحلة الثانية: التفكيك

يتفكك القارئ القديم تحت وطأة الانزياح، وتتهشم تصوراته التقليدية.

المرحلة الثالثة: إعادة البناء

يبدأ القارئ في بناء ذاته الجديدة، متبنياً الرؤية الجديدة التي تقدمها الانزياحات.

المرحلة الرابعة: الولادة

يخرج القارئ الجديد من رحم الانزياح، حاملاً رؤية جديدة للعالم.

القارئ المخلوق: مواصفات القارئ الجديد

القارئ الذي تخلقه أصالة لمع من رحم الانزياح له مواصفات محددة:

- قارئ مرن:

قادر على التكيف مع الانزياحات والتأقلم معها.

- قارئ مبدع:

يشارك في إنتاج المعنى، ولا يكتفي باستقباله.

- قارئ وجودي:

يتساءل عن ماهية الوجود والعدم، الزمان والمكان.

- قارئ شجاع:

لا يخاف من الانزياح، بل يبحث عنه.

تقدم الانزياحات هنا كمسارات تأويلية تفتح أمام القارئ أبواباً متعددة للتفاعل مع النص، فتصبح عملية القراءة حواراً يتجاوز التلقي المباشر إلى المشاركة في تشكيل المعنى، وهكذا تتحول القراءة من مجرد استقبال إلى ممارسة نقدية وإبداعية، حيث يشارك القارئ في اكتمال الصورة الشعرية من خلال تجاوزه للمألوف وسعيه الدؤوب خلف الدلالات المتعددة.

***

رزق فرج رزق – ليبيا

نجد أنفسنا وفي نص (مكان للسباب) الذي نقله محمد المنسي قنديل ضمن كتابه "وقائع عربية" (دار الشروق، 2021)، إزاء سردية ذات طابع أسطوري تحاول عبر التخييل أن تفكك البنية العميقة للوعي العربي، وخاصة في لحظاته المؤسسة في زمن ما قبل الإسلام، لا من أجل استحضار مجد ماضٍ مزعوم، بل لكشف التصدعات الأولى في خطاب الفخر والأنساب والعصبيات التي صنعت تلك الهوية، يحمل هذا النص في طياته، رغم صيغته الحكائية البسيطة، بناءً ثقافياً معقداً يكشف عن التوتر الاجتماعي والقيمي، حيث يُختزل المجتمع في مكان طقسي مخصص للسباب، كأن الكلمة القذرة هي الأثر الباقي الوحيد في زمن انهارت فيه المعاني الكبرى.

ليس المكان الذي يدعى "صفي السباب" مجرد حيّز جغرافي، بل هو مساحة رمزية، تمثل التناقض العميق بين القداسة المكانية لمكة والممارسات الدنيئة التي تحدث على هامشها، هذا الانفصام بين الفضاء المقدس والممارسة المنحطة، يشي بأن الانحطاط ليس فعلاً عارضاً، بل مؤسساً في بنية الجماعة، فذكر الأنساب والمفاخرة والسباب ليست إلا تمثيلات لأوهام التفوق والامتياز، لكنها في حقيقتها لا تنفصل عن شهوة السلطة والعنف والتمركز الطبقي، أو كما يقول النص (يعلون بمفاخرهم على الآخرين للمرة الألف، ثم تأخذ كل جماعة في الطعن في نسب الأخرى وتبالغ في معايبها وهوانها على الناس).

يقدّم قنديل في هذا النص، قراءة معكوسة للسردية البطولية العربية التي لطالما مجّدت النسب والقبيلة، فبدلاً من أن تُصور تلك الأنساب بوصفها دليلاً على النبل، تتحول إلى أدوات للتهكم والطعن، بل ويكشف النص أيضاً عن أن الأنساب، التي يُفترض أن تكون حصناً للهُوية، تُستخدم كقنابل لفظية تُلقى في معركة لا تشبه معارك الفرسان، بل تشبه معارك الضواري في برية من الكراهية (ينزعون من على أجسادهم العباءات الثمينة ويقفون نصف عرايا، تستيقظ الضواري الرابضة في أعماقهم وتفرد مخالبها)، فيكشف هذا المشهد عن تَحَوُّل الجماعة من بشر إلى كائنات مفترسة بمجرد أن يُستفز الخطاب الهوياتي.

ثم تأتي المفارقة حين ينتقل النص من طبقة السادة إلى طبقة الموالي والعبيد، حيث يتحول فعل السباب إلى ممارسة أكثر عنفاً وتدميراً، فهؤلاء المهمشون، الذين لا يملكون إلا ألسنتهم وسيوفهم في حضرة سادتهم، يمارسون شكلاً من التعويض الرمزي عن تاريخ طويل من القهر، لكن لا تمنحهم الحكاية بطولة أخلاقية، فبدلاً من أن يكون فعلهم مقاومة للظلم، يصبح تماهياً مع خطاب التبعية ذاته، إذ يدافع كل عبد عن سيده ويشتم سادة الآخرين، كأنهم تماهوا مع موقعهم القيمي إلى حدّ تبني أدوات القامع (كل منهم يدافع عن سادته ويعيب سادة الآخرين، كانوا في العادة أكثر انفعالا من السادة، ينفسون من خلال السباب عن حنق أيام العبودية الطويلة).

وتمضي الحكاية لتغوص في طبقة أكثر هشاشة وجرحاً؛ وهي الجواري، إذ لا تخوض هؤلاء النساء المعركة من أجل الفخر أو الدفاع عن السادة، بل من أجل حكايات العذاب، من أجل جراح الجسد والروح التي لم تندمل، هنا يغدو السباب فعلاً وجودياً، ليس ضد الآخر، بل ضد العالم، ضد القدر، ضد الذكريات الموجعة (يتشاجرن حول نظرات الاحتقار وآهات الاحتضار والإحساس الدائم بالانكسار)، تكشف الحكاية عن الجانب الأكثر مأساوية في هذه الحفلة الجماعية للسباب، حيث تتحول الجروح الفردية إلى مادة صراخ جماعي لا يسمعه أحد.

يشارك الجميع في حفلة الانحطاط الجماعي التي يقيمها المكان الذي لم تبرحه الغربان، فلا أحد ينجو من الإدانة في هذه الحكاية (كانت تترقبهم جميعا في صمت حصيف، وتنتظر من يسقط منهم دون أن تبالي من السابب ومن المسبوب)، ليست تلك الغربان مجرد طيور، بل رموز لعقل محايد، يراقب دون أن يتورط، كأنها تمثل الحقيقة، أو الذاكرة التي لا تُخدع بالشعارات، ذاكرة صلبة لا تنحاز سوى لتوثيق ما يجري، تحفظ التفاصيل، وتعيدها للزمن كمرآة قاسية لا ترحم، وتذكّر بأن الخراب لا يُقاس بعدد الجثث فقط، بل بعدد المعاني التي تُهدر.

يقدم النص في النهاية قراءة فاحصة للثقافة العربية التأسيسية، بوصفها لحظة موغلة في الصراع والتفكك والنفاق، لحظة تكشف عن بنية عميقة من التواطؤ بين السلطة والعرف، إن «مكان السباب» هو استعارة كبرى، ليس للماضي فقط، بل للحاضر أيضاً، حين تُستبدل العدالة بالانتقام، والكلمة بالبذاءة، والتاريخ بالفضيحة، ويغدو الوعي الجمعي أسيراً لدائرة لا تنتهي من الإقصاء المتبادل وإعادة إنتاج العنف الرمزي.

ولعل الكتابة هنا ليست فعل حكيٍ ماضٍ، بل مرآة سوداء نُطل منها على وجوهنا كما هي، دون أقنعة، فهل نحن –بألسنتنا، بخطاباتنا، بتحزّباتنا– إلا امتداد لذلك السباب الأول؟ أليس التاريخ العربي، في أحد تجلياته، صراعاً دائماً على النسب والحق والكلمة، لكنه غالباً ما ينتهي إلى قذف الحصى والصراخ في العراء؟ (ويظل الصدى يردد بقايا كلماتهم القذرة حتى بعد انصرافهم)، في دلالة مريرة على أن اللغة، حين تُستنزف في السباب، تبقى كندبة لا تزول، كصدى يشوه المكان والزمن والذاكرة.

***

أمجد نجم الزيدي

 

تفاجأت حين وصلني كتاب الفنانة هديل كامل (الحياة.. كجملة ناقصة)، وهو عمل نثري يضم 93 قصيدة تبدأ ب "حريق الدمع" وتنتهي ب "تصفية حساب"، وصدر مؤخراً عن دارَّي غولدن بوك للنشر ولندن للطباعة والنشر، في 154 صفحة من القطع المتوسط. كنتُ أتوقع أن يكون الكتاب عن سيرتها الفنية الحافلة، وهي التي بدأت التمثيل في سن الرابعة في تمثيلية (تضحية وجدار)، بينما كانت بدايتها الفعلية من الإذاعة والتلفزيون في سن الرابعة عشرة.

هديل كامل الحاصلة على شهادة الدكتوراه في الإعلام من جامعة بيروت العربية، تكتب عن الحياة التي تراها جملة ناقصة: تبدأ بحرفٍ كبير، لكن نهايتها تظل مفتوحة على الاحتمالات. نولد كأننا الكلمة الأولى، ثم تتراكم حولنا الأفعال والصفات والظروف، إلا أن الفاصلة دائماً تسبق اكتمال المعنى.

هي تحاول أن تكمل الجملة بالحب، بالعمل، بالنجاحات الصغيرة، وحتى بالخذلان. ومع ذلك، يبقى فراغ يطالب بكلمة لم تُكتب بعد. كأن الحياة مشروع متواصل لإضافة كلمة، ثم تلو أخرى، حتى تصل لحظة الصمت الأخيرة التي تُشبه النقطة.

لكن ربما يكمن جمالها في نقصها؛ فلو كانت مكتملة لما بقي فينا شغفٌ بالسؤال ولا توقٌ إلى ما وراء. إن الناقص يفتح باب الاحتمال، والاحتمال يمنحنا معنى يتجاوز حدود العبارة.2067 hadel kamil

الحياة، إذن ليست نصاً يُقرأ، بل نصاً يُكتب، لا جملة تامة بل سطراً مفتوحاً، حيث لكلٍّ منَّا الحق في أن يضيف كلمته الخاصة قبل أن ينتهي السطر الأخير. فالحياة في جوهرها، لا تُشبه الرواية المكتملة الفصول، ولا القصيدة التي تصل إلى قافيتها الأخيرة في انسجامٍ تام، بل هي أقرب ما تكون إلى جملة ناقصة تُقرأ وتُعاش في حالة من التوق والترقب. جملة تبدأ بحرف كبير كما تبدأ طفولتنا بالدهشة الأولى، لكنها تظل مفتوحة على احتمالات لا حصر لها، كأن الكاتبة تتردد أو تترك المجال للقارئ كي يضع الكلمة التالية.

تعيش الكاتبة في هذا الفراغ بين الكلمات، تحاول أن تمنح الجملة معناها؛ غير أنَّ كل إضافة لا تلغي شعورها بأن شيئاً ما لم يُكتب بعد. وإن هناك كلمة غائبة، فكرة لم تُصنَع، خاتمة لم تُحدَّد، وتظل تحوم حول النص كما يظل السؤال معلقاً في ذهن الإنسان منذ وُجد على هذه الأرض.

لاتظن أن اكتمال الجملة يعني الوصول إلى المعنى النهائي، لكن الحقيقة هي أن النقص هو ما يحركنا، هو ما يجعلنا نواصل البحث، نسافر، نجرّب، نخطئ، نُعيد الكتابة من جديد. لو كانت الجملة مكتملة، لما كان في داخلنا شغفٌ بالسؤال ولا توقٌ إلى الغد. الاكتمال موت، والنقص حياة.

الحياة كجملة ناقصة تعني أن وجودنا مرهون بالمحاولة المستمرة للعثور على كلمة مفقودة. إنها دعوة للخلق والتجديد، لا للإكتفاء بما هو حاضر. في الجملة الناقصة مساحة للحرية، لأنها تسمح لكل فرد أن يختار كلمته الخاصة ليضعها حيث يشاء. بعضنا يختار أن يملأها بالمحبة، آخرون يملأونها بالعلم أو بالثورة أو بالصمت العميق. كل كلمة تُكتب تختلف عن الأخرى، لكنها جميعاً تتشارك خاصية جوهرية: أنها ليست الأخيرة.

ولعل أكثر ما يثير في هذا التصور أن النقطة النهائية ليست بأيدينا. نحن نكتب ونضيف، لكن النهاية قد تأتي فجأة، لتضع النقطة حيث لم نتوقعها. عندها تتجمد الجملة كما هي، ناقصة أو مكتملة وفق ما تركناه نحن من أثر. قد يتولى الآخرون مهمة قراءة هذه الجملة وتفسير فراغاتها، وقد يجدون فيها ما لم نرَه نحن أثناء حياتنا.

بهذا المعنى، تصبح الحياة تجربة لغوية وجودية في آن. إذ أن الكلمات والفراغات وعلامات الاستفهام التي تتوالى والحروف، قد تُمحى أو تُستبدل، مع كل لحظة وقرار وخطوة، لأنها ليست نهائية محفوظة في كتابٍ مقدس.

ومن هنا تنبع قيمة الحياة: في أنها مفتوحة. فالجملة الناقصة لا تعني نقصاً في القيمة، بل تعني وفرة في الاحتمال. فهي الباب الذي يظل نصف مفتوح. إنها تذكير دائم بأننا لسنا أسرى للنهايات بل صنَّاع بدايات متكررة.

قد تكون الحياة جملة ناقصة، لكننا نحن منْ نقرر إن كانت هذه الجملة ستظل صامتة ومبتورة، أم أنها ستتحول إلى سطرٍ يضئ للآخرين. النقص لا يُلغى، لكنه يُؤنسن الوجود، يجعلنا كائنات تبحث وتسعى وتخطئ وتتعلم. وفي النهاية، حين توضع النقطة الأخيرة رغماً عنَّا، لن يكون السؤال: هل اكتملتْ الجملة؟ بل: هل تركتْ الجملة أثرها؟.

في كتابها حضور قوي لقساوة الغربة، تلك الكلمة التي تختصر عالماً واسعاً من المشاعر. فهي ليست فقط بُعداً عن الوطن، بل عن افتقاد الدفء الذي يصنعه الأهل، وللغة التي نفهمها بلا جهد، وللأمكنة التي حفظت خطواتنا.

قساوة الغربة تظهر حين يصبح الصمت رفيقك في مقهى مليئ بالناس لأن لغتهم ليست لغتك الأم، وحين تضطر لابتلاع حنينك كي لا تبدو ضعيفاً. فالغربة مدرسة قاسية، تحمل في طياتها أثقالاً من المشاعر التي لا يقدرها إلا من عاشها. هي قساوة صامتة، تبدأ حين تبتعد الأقدام عن أرض الأهل والذكريات، وتكبر حين تفتقد تفاصيل الحياة البسيطة: رائحة الخبز في بيت الأم، صوت صديق الطفولة، أو ضوضاء الشوارع التي كنَّا تشكوها، أو لهجة الناس في السوق.

وفي قصائدها إشراقة شمس جديدة، تبدو كأنها تكتب على صفحة السماء وعداً للحياة. ضوءٌ يتسلل إلى روحها المثقلة بالهموم ليوقظ فيها بذور الأمل، مؤكداً أن لا ليل يدوم، وأن فجر التفاؤل آتٍ لا محالة.

هديل كامل تبحث عن بغداد في مغتربها البارد. تمشي مثقلة بالحنين بين جدران غريبة، تبحث في الثلج والضباب عن دفء مدينتها الأولى، بعضاً من دفء بغداد، وتسأل الريح: هل يمرُّ بي نهرٌ شبيه بدجلة؟. وتنقّب في وجوه الغرباء عن ملامح من شارع المتنبي.

لكن كل خطوة تقودها أبعد عن جسد بغداد وأقرب إلى روحها. تفتش في المقاهي عن رائحة الهيل، وفي أصوات المارة عن نبرة بغدادية ضائعة، كأنها تمارس طقساً يومياً من مطاردة مدينة لا تأتي. فهي ليست مجرد مغتربة، بل روحٌ معلَّقة بين جليد المنفى ولهيب الذاكرة. تبحث عن بغداد في تفاصيل حياتها اليومية، لكن المدن الباردة لا تعطي إلا صدى الغياب.

 تقف الكاتبة على عتبة الحب والفقدان بقلبٍ عارٍ، كطفلة تمدّ يدها الأولى نحو المعجزة. الحب عندها ليس مجرد شعوراً عابراً، بل هو وعدٌ غامض بالحياة، ضوءٌ يتسرَّب إلى الروح ليغيّر ملامحها.

 لكنها تدرك أن الحب والفقدان وجهان لتجربة واحدة؛ نحب بكل طاقتنا ونحن نعرف أننا سنفقد يوماً ما. تمد يدها نحو ما كان، وتلتمس آثار خطواتها على أرض لم تعد لها. فالحب يمنحها معنى الوجود، والفقدان يعلّمها هشاشته.

***

جورج منصور

في زوايا العتمة بصيص نور اشتياق

لا ينطفئ كشعلة فنار يردد

البحر هائج من لوعتي

وقوارب لهفتي تنزاح

عن كثب لقياك

وأنا مدى ذكرى تموج

خليلة هواك...

من اليسر ان تمسك بالقلم وتخط ما يحلو لك، ومن العسر أن تنال إعجاب من يطالع لك. في ذلك العالم الصعب المراس، الوعر المسالك، الذي لا يهب سره بيسر الا لمن أمتلك مقومات الأديب النادر.

لا تبوح الشاعرة العراقية إنعام كمونة بهذا الانجاز، بل هي لا تفتأ تشيد بجهود رائدات الشعر الكبيرات، الرائدات منهن والمعاصرات، امثال لميعه عباس عمارة وسواها، وتذكر الاخريات دوما وانجازاتهن الكبيرة عند عالم الابداع النسوي في دراسات راقية خلابة..

غير أن كثيرا من النقاد، وكل من طالع لها ديوانها (اصطفيتك همسا) يؤكد انه يقرأ نمطا جديدا من فن الشعر غير معهود من قبل، وانهم أزاء شاعرة وكاتبة استثنائية بكل المقابيس، صاحبة قلم إختلف المتخصصون في بيان كنهه، واتفقوا على روعته وتساميه وندرة صياغته وحبك نسيج لغته:

أصطفيتُكِ همساً

يوما..

الصبح ناعس الهمس

يداعب وجه الضباب بصبوة الغزل

صفقتنا كفوف النوى على خدّ أحلامك

أفترشتنا جهات الفجأة..أطياف ممزقة

تناثرت ارواحنا.. أشلاء نحيب

أغتالت شهقاتك الغضة خطوات رحيل

غفلة … غفلة

ياااا طفلتي الغافية بمخمل أحضاني

فرت أنفاسك إلى رميم أضلعي الواهية

 وأنات أشجاني

آآآه كيف داهم حرير روحك فحيح عتمة

وأنا أعدّ كواعب ترفك على مهل أوجاعي

أهتزّ مهد عطرك بخلّة ليل ضرير

 ياااا طفلتي المبعثرة

تعااالي.. أضمك برق أفول

كغيمة أثكلها عطش الأنتظار

كبرق خاطف بمطر يابس

لا تفزعي من خضاب الذبول

مهما أرّقك ضنين الفراق

 أنا جهينة قطاف لنسغ دمك

أُلملم جروحك بيد كافور الغياب

أحتضن بقايا نبضك ألموشوم بدموع البراءة

 أُقبّل كركرة أحلامك بصراخ جوارحي

وإن اصطبغت حناجرنا بالوان الهلع

وإن داهمنا غدر فجيع خاطف

 انتزع أنين مبسمك الهادئ

ها نحن بمآقي خصر الغياب.. طيور نهاجر

ضمّة حزن نستريح.. بقربنا اللامتناهي

تهدهدك أحضان نوحي..مناجاة حنين

وأنتِ ترفلين في مهاد الغياب

 سلكت روحي دروب أجنحتك المتكسرة

كجمانة وجد بأقاليم الضياء

 ااااه لسعير أنّاتي المصتصرخة زمن الرجوع

كم خضبتُ أنفاسكِ بأعشاش أحشائي

وَشَمتُ اسمك بشرايين روحي

اصطفيتُكِ همسا شغف حنين

قرأتكِ أحلامي بيلسان مشيب

ساحتضن روحك بأنين عمركٍ اليافع الدفء

زُغب فراشات معطرة الصبا

وأمضي بك وجعا بأريج لقاء

لترضعي حليب الخلود نجمة سرمدية

سنطيــــــــــــر

و...نطيرررررر...

 نولد من ذاكرة الكون...

 يمامة بيضاء وسنبلة ندية

مختومة بصوت السماء

مدى حريــــــة

مكلومة الهوية

إنعام كمونة.. سيرة حياة.

ما بين مسقط رأسها، وموطن شبابها وذكرياتها وصويحباتها، وجنوب العراق، حيث عشقها للهور وحرية تحليق الطيور، كانت روح الأديبة تتنقل وتتآلف جماليا بين بيئة واخرى، تتوارى بين أسطر الفلاسفة وكبار الادباء متلفعة بطيات عيون كتب الأدب وهي تتطلع دوما نحو الخير.. رمز القداسة الإنسانية الاكبر، ولا تكاد تجد معشوقا لديها سوى الشعر الذي ابتدأت به كبيرة وظلت تكبر وتكبر دون ان تشيخ البتة.

ولعل اكثر ما لفت نظرها وهي ماكثة في قلب الشعر، هو ذلك التناقض المهول بين مواضيع القصائد، فالشعر وجودٌ يضم الجبل الشاهق بقمته، والوادي السحيق بعمقه، تختفي معالم الوجود عند القمة كما تذوي وهي بين طيات القعر، وكيف يبدو الجبل قريبا وهو على بعد شاسع، مما ولّد لديها فلسفة أدبية خاصة، جعلت افكارها تتجلى بوضوح وهي تصطف الى جانب الشمس تارة، وتتلفع تارة أخرى بغموض مدهش، وتغوص بشكل يصيب القاريء بالحيرة والتفكر، واللذة في آن واحد !!

ربطتها صداقات عميقة مع من اختارتهن من صوحيبات، فكانت تنظر الى كل صاحبة منهن على انها قصة انسانية كاملة صاغها الزمن، تختزن منها الجانب الذي ينمي عشقها لخوض تجربة الادب، دون ان تتخلى عن انسانيتها في التعاطف معهن وكتم أسرارهن بحال من الأحوال، لتبدع في فن السردية التعبيرية كما ابدعت في سواه من فنون الادب:

(لا أُجيد رتق التهجي من فصاحة الوجود، ولا أخدش قريحة اللفظ في ذهن المشاعر، لكن يعمدني ماء الفضول فاصطاد فوارس الكلمات بنفير أصابعي، أنا لست بشاعرة لكن عنان حلم يفوح بمرآة وهم العنوان، هكذا أنا حين تسيل بين أناملي همزات وصل شاعرية وتلتف حول معصمي بنبض تمرد، تضج ترانيم عشقي لشناشيل لغة مكتظة الحنين منذ مهد أبجديتي، يسامرني شاهين الخيال بصورة شعرية آسرة التوق، أضمها الى تلابيب الإنزياح حتى تحتدم قُبل الدلالات)!!!

كانت كمونة ومنذ سنوات صباها ترفض القوالب الجاهزة والصيغ المعتقة، مثلما عارضت التنمر والتحجر، وسخّرت جزءا مهما من ادبها نصرة قضايا بنات جنسها.

تغنت بالاهوار، ليس من باب التغني بالجمال فحسب، بل معايشة منها لمكابدات اهلها وقد جف ذلك النبع الذي يهديهم الرزق والحياة الكريمة، فعايشت مآسيهم ونسجتها بأطيب القصائد وهي تعقد علاقة عشق مع سكانها الاطياب، وطيورها ومشاحيفها الآمنة. ذاك انها ووفق فلسفتها الخاصة تجد أن الخير لا يتجزأ، والشر لا يتجمل، وليس انسانا من لم يتضامن مع قضايا المظلومين.

نجاح إنعام كشاعرة جعل منها علامة من علامات الشعر، واقتدارها كناقدة جعل منها ايقونة تحليل نادره، وجميع عوامل الإنسانية والابداع جعلت منها نخلة باسقة من نخيل وادي الرافدين، وتلك هي المبدعة التي تركت وتترك اثرا من ذهب، على ثرى أرض الرافدين، ونهريها الخالدين.

كيف راودك الظمأ سيدي

ومهر سيدة النساء (فاطمة الزهراء)

فيروز الفراتين..؟

 كيف أدرك عيالك العطش

والفرات يرضع من أنامل عصمتكم

حلاوة شهد..!!

فقراح دمك أثكل ماء الزمن

ودمك المسفوح يروي

ظمأ نهر العلقمِ

للآن يفيض سلسبيل دمعهِ

من طهر دمك العذبِ

فانبلج نصرك نبراس الضياء

فجرا سرمديا

يرتدي عشبة

قربان الخلود

يستحم

ضمير النصر

في قداسة الذاكرة

نورا... يتوضأ

***

سعد محمود شبيب

ما لا يختلف عليه المتابعون للمشهد الثقافي بصورة عامة، هو كثرة النتاج الأدبي - شعرا كان أم نثرا - في موضوعات كثيرة، قد لا يتاح للمتلقّي أن يطالع تلكم الأعمال جميعها متابعة الراصد المتأمِّل في مبناها تارةً وفي معناها تارةً أخرى، وفي الوقت نفسه لا يمكن الزعم أن تلك الكثرة تعد من علامات التعافي والازدهار في المشهد الثقافي، ففي ظلِّ استسهال النشر، واندلاق لعاب نسبة عالية من الذين يَحبُون حبْوًا في طريق الأدب قراءةً له، وقفزهم - بقدرة قادر - إلى مرحلة الكتابة والنشر، فضلا عن غياب النقد الموضوعي الرصين عن متابعة تلك الأعمال متابعةً تكشِفُ الزَّبَدَ منها عمَّا ينفع الناس؛ لأسبابٍ معروفةٍ أو مجهولةٍ بقَصدٍ أم مِنْ دُونِه، تَفَشَّتْ تِلكُمُ الأَعمالُ الأدبيَّةُ في ظاهرها، ولكنّها بعد التمحيصِ النَقديِّ الجاد، قد لا تجدُ لها نصيبًا من هذا الوصف.. !

والكلامُ أعلاهُ إنَّما يصفُ ظاهرةً لا يُمكِنُ بحالٍ من الأحوال جعلها قاعدةً تنطبق على جميع الأعمال الأدبية، فكما قيل: "لكلِّ قاعدةٍ استثناء" ومن هذه الاستثناءات التي أقفُ عندها في مجال الرواية، ما صدرَ للروائيِّ العراقيِّ القدير سلام حربة، من عملٍ روائي رصين حمل عنوان: "قافز الموانع" عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لهذا العام، يستحق أن نُنوِّهَ عنه؛ لما أثارته من إشكالات في الواقع الاجتماعي بعد تغيير النظام السياسي في العراق، ونقول إشكالات وليس إشكالية واحدة، على الرغم من أنَّ الناظر في الرواية سيجد أنَّ حدثًا بارزًا يستولي عليها دون غيره، وهو المتعلق بادّعاء السيادة – أي الانتساب إلى آل الرسول – لشخصيّة ثانويّة في الرواية – وهو ناصر الذي ادّعى فيما بعد أنه (المبارك) – لكن الشخصية الرئيسية – وهو علاء ويكون ابن أخٍ لناصر – إلا أنَّ هذا الادّعاء سيتولّد عنه إشكالياتٍ أخرى، إذ بعد ظهور العمِّ (المبارك) على الساحة بعد أنْ كان مختفيًا لمدةٍ طويلة كان لأهلِ المحلّة أن تنسى معالم وجهه، ولا تعرف أنه (ناصر) الذي لم تفارق اسمه الموبقات والمنكرات، مستغلاًّ اضطراب الوضع الأمني، مدّعيًا باللقب المبارك ليموِّه على الناس، ويجعلهم تابعين له، باعتبار أنَّ الذي ينحدر من هذه السلالة المباركة في عُرف ذلك المُجتمع شخصٌ منزّهٌ عن فعل الموبقات، وهنا تبدأ المواجهة بين علاء الذي لم يقتنع بهذه السرديّة التي انطلَت على أهلِ المحلّة وعلى أخيه المعروف بسلوكه الجنسيّ المنحرف، وكان يقف إزاء كلِّ ما يصدر عن عمِّه من مواقف وسلوكيّات بالمرصاد، مذكِّرًا أنّ النسب الذي يدّعيه باطلٌ وأنّه ينحدر من نسبٍ قيل من أصول غير عربية، وهنا لم ينظر علاء إلى نسبه نظرة ازدراء، ويتشبّث بالنسب المبارك الذي ألصقه بهم العم المبارك، بل رأى – وهو أستاذ التاريخ – أنَّ الإنسان هو الذي يُشرِّف نسبه، وليس العكس، هذه الرؤية العقلانية التي آمن بها علاء، كانت الدافع لأنْ يبقى صلدَ الموقف إزاء ترغيب وترهيب عمِّه الذي ازدادت شعبيّتُه في المحلّة التي عاد إليها يومًا بعد آخر، فضلاً عن ضغوط زوجته وابنته اللّتين اعترضتا عليه أكثر من مرّة خوفًا مما سيجرّه موقفه عليه من مخاطر بدت تُحيق به وتزداد، وهنا يُجسِّد لنا الكاتب أزمة المثقّف حين يجد أقربَ الناس منه يتخلّون عنه ولا يجد عونًا له أو تشجيعًا منهم فيما يتّخذه من موقفٍ مسؤول في زمنٍ تلتبس فيه الحقائق وتضيع فيه القيم الأخلاقية..!

وإذ يتمسّك البطل "علاء" بالجذور، عبر البيت القديم الذي ورثه من أبيه، يجسِّد لنا الكاتب عبر شخصية العمِّ المنتحل صفة (المبارك) انسلاخه من تلك الجذور وقفزه على القيم الأخلاقية في عدم احترامه بيت العائلة، إذ استولى عليه حين ظهر بعد سقوط النظام السياسي، مدّعيًا أنَّ والده قبل أنْ يتوفاه الله كان مدينًا له وفي حال عدم تسديده الدين، كان قد كتب له البيت في قصّةٍ ساقها على (علاء) مستغلاّ سطوته المادّية على من يستطيع التأثير عليهم. وكان له بعد هذه الخطوة أنْ يعمل على تغيير كثيرٍ من معالمه بدءًا من إزالة الباب العتيقة التي توقّف عندها الكاتب واصفًا تفاصيلها الدقيقة معبِّرًا من خلال ذلك الوصف عن عمق الذكريات الجميلة  التي مرّت على ذاكرة (علاء) وهو يرى الباب مرميّة على الأرض كجثّةٍ هامدة، وهي خطوة تكشف عن لا مبالاة ذلك العمِّ بإرث العائلة، بقدر ما تعمل على مسح كل ما يتعلق بها من ذاكرة ترتبط بالمكان وتفاصيله، وعبر ذلك التجريف المتعمّد من قبل العمِّ المدّعي لصفةٍ دينية، يوصل الكاتب لنا رسالةً واضحة تتمثّل بزيف ادّعاء تلك الصفة من قبل ذلك العم، وذلك من خلال وضع يده على مُلك أبيه من دون أنْ يتقسّم على بقية أولاده بحسب الأحكام المرعيّة في مسألة الإرث، ولم يكتفِ بهذا الدور، بل عمل من البيت مقرًّا لمجالسه الدينية التي يعقدها، موظِّفًا قدرته المالية على جذب البسطاء من الناس الذين يحتشدون على مجلسه الذي تُرافقه الولائم الدسمة،  وبهذا أظهر الراوي لنا سلطة الكهنوت الديني على وسط اجتماعي مهيّأ لتقبّل هكذا ادّعاءات وتصديقها لسطحية الوعي الجمعي الذي يقيد عقول هؤلاء الأتباع، ويمنعهم من مناقشة هكذا ادّعاءات بموضوعية. وهنا تبرز شخصية علاء الذي لم يُهادن إزاء سلطة ذات وجهين: سلطة القرابة ممثّلةً بالعم (ناصر) وسلطة رجل الدين الذي تمثّل بعنوانه الجديد: (المبارك) الذي بسط نفوذه على المحلّة وصار الناس البسطاء يلتفّون حوله ويتكاثرون يوما بعد آخر، ويُمكن أنْ نضيف لها سلطة أخرى انضمّت إلى السلطتين السابقتين، وهي سلطة الأعراف التي تقضي على الشخص أنْ لا يغيّر السائد أو يعترض عليه، إذ كانت الأعراف تقضي على بطل الرواية مجاراة الناس في تقاليدهم وسلوكياتهم، ولا يقف منتقدًا ما يقومون به من أفعال أو أقوال، وهو الأعزل لا يملك غير الثقافة الي تزوده بالموقف الشجاع، ويبقى في صراعٍ مع زوجته (بتول) التي تحاول جهدها في ثنيه عن الوقوف بوجه عمِّه ومن اصطفَّ معه من أشخاص، وفي قبال رفضه فكرة الرحيل عن المحلّة، يرتفع صوته بالقول: (لن أترك هذا المكان وسأواجههم، عمّي وباسم وجودي، بكلِّ ما أستطيع حتى ولو بصوتي فقط، أنا بحقيقتي وهم بزيفهم وكذبهم، إنْ تنازلتُ لهم سيجعلون من حياتي جحيما..) والمكان الذي أشار إليه يمثِّل الجذور التي ينتمي إليها الإنسان، وكلُّ ما يمُتُّ بها من آثار للأسلاف، وما يطمح الإنسان تحقيقه فيها من أحلام ومنجزات، فهو إذن يُدرك أنَّ الهويّة لا تتجسّد إلا من خلال ارتباط الإنسان بالمكان الذي يعيش فيه، ويمكن لنا أنْ نستجلي ذلك بوضوح في قوله: ((أنا لا أحبُّ الأحياء الحديثة والقصور الكبيرة، لأنّها مُسيّجة ومعزولة عن بعض ولا أحد يعرف ما يجري داخلها ولا يتسرّب منها حرف كلام، بيوتٌ تنغلق على أسرارها، أنْ تكون أحد أبنائها أو ساكنيها يُشعرك بالترفّع والتكبّر وأرقّ كرامةً من الآخرين. وُلِدتُ في محلّة الوردية وامتلأت زغابات روحي برائحة أزقّتها الطينية وعفونة أبواب بيوتها الخشبية المتآكلة بمطارقها النحاسية ذوات الأشكال الهندسية الجميلة، تخدّرت خياشيمي بروائح أنواع الأكلات التي تخرج من مطابخ بيوتها القديمة وتعوّدنا رؤية الأيدي وهي تحمل الصواني الممتلئة بمواعين الأكل التي فيها ما لذّ وطاب تتصاعد منها خيوط الأبخرة الحارّة المتموّجة الراقصة التي يجب أنْ يأكلها الجار قبل صاحب الدار. لا حاجة لسكنة هذه المحلات الشعبية إلى اقتناء السيارات لأنهم في وسط المدينة يحيطهم النهر والأسواق والمقاهي والدكاكين من الجهات الأربع) ص135 . فالمكان لديه يُشكّل جزءًا لا يتجزأ من ذاته، بوصفه مستودعًا للذاكرة التي يتلخّص منها موقفه الفكري والثقافي من الماضي والحاضر والمستقبل. وبهذا التفصيل ينطلق البطل علاء في تقييم ما حوله من مظاهر وأحداث وشخصيات، ساعيًا إلى ترسيخ مبادئ لم تكن غريبة عن هذه البيئة التي عاش فيها.

 ولكن المفارقة تكمن حين يعيش المُنتمي لهويته الوطنية في زمنٍ تتبدّلُ فيه الولاءات والانتماءات والآراء والمواقف لمصالح فئوية أو شخصية، وهنا يعيش البطل (علاء) زمنًا يصفه بالقول: (الزمن في معظم البلدان يتقدّم إلى أمام إلا في العراق فإنه يمضي إلى الخلف، الزمن بطبيعته هو ما يرسم المستقبل الذي تبصره الشعوب وتتحرك بثبات وإصرار وبأرواح منفتحة نحوه. حين يكون الماضي أجمل من الحاضر فاقرأ على هذا البلد السلام) 176.. وفيما يؤكّد أنَّ (علاء) يعيش انتماءه الوطني أنّه لم يلق أذنًا صاغية لمن راح يخوِّفه من رحلته إلى الرمادي مرورًا بالفلوجة، هذه المدينة التي احتدمت بالأحداث بعد سقوط النظام، إذ يصف لقارئه ما رآه من أهوال، بالقول: (كان الوصول إلى هذه المدينة يعني أنْ تكتب وصيّتك لأنّ فرصة الرجوع منها ضئيلة أو تكون معدومة، الطريق إلى المحافظة مُخططٌ بالمفارز الأمريكية المُطعّمة بأعداد قليلة من قوات الأمن العراقية، أما الوصول إلى مدينة الفلوجة، مدينة الجوامع، يعني أنْ تنطق بالشهادة. هذه المدينة لم تهدأ أبدًا وأصبحت مركزًا لتنظيم القاعدة ودخلت في كرٍّ وفر في قتالها مع القوات الأمريكية والعراقية وقصّت ذيل المحتل حين دخلها عددٌ من المتعاقدين من قوات البلاك ووتر إلى المدينة في آذار 2004 حيث جرى قتلهم وتعليقهم على جسر المدينة وأعمدتها) 176 – 177. وبعد ذلك يتفاجأ البطل علاء بأنْ يجد زميله القديم في الدراسة المعروف بتوجهه اليساري، قد صار بقدرة قادر ملتحيًا متأثّرًا بموجة التدين الشكلي الذي تفشّى بين ساكني هذه المحافظة، مستغربًا عن سرّ ذلك الانقلاب، والروائي إنما يستعرض هذا الموقف وغيره من مواقف إنما يسعى إلى تأكيد وحدة البطل في عالمٍ غير منسجمٍ ورؤاه الاجتماعية أو الفكرية، الأمر الذي دعاه إلى توظيف المنظور الشخصي للكاتب، لأجل إقناع القارئ بما يراه جديرًا بالأهمية والتقدير، وبحسب قول الدكتور شكري الماضي: (وإذا كانت الرواية الحديثة تكابد من أجل اختفاء الكاتب لتقديم المادة الروائية بموضوعية، فإنّ الروائي الجديد يتدخل بصورة مباشرة وغير مباشرة، بل يتعمد مخاطبة القارئ ومحاورته كما يتقصد التعليق والشرح، وكل هذا من أجل تحطيم مبدأ "الإيهام بالواقعية") [أنماط الرواية العربية الجديدة: ص 15] وإذا كانت بعض مشاهد الرواية قد أخذت المبالغات في صياغة بعض أحداثها ما جعلها مفارقةً للمطابقة الحقيقية للواقع المعيش في الوسط الاجتماعي الذي شيّد الروائي أحداثها فيه، فإنَّ ذلك ما تستدعيه الوظيفة التخييلية للرواية بوصفها نقلاً لا يستدعي المطابقة الواقعية بحذافيرها عن الواقع، بقدر ما تكون (بنية فنية دالّة على الاحتجاج العنيف، والرفض لكل ما هو متداول ومألوف، وهي تجسيد لرؤية لا يقينية للعالم، مع تأكيد تنوع نماذجها وتعدد ألوانها وتباين أطيافها واختلاف مناهجها في التصوير) وهذا ما يمكن أنْ يُدركه قارئ رواية (قافز الموانع) التي يقف القارئ بعد انتهاء سيرورة الأحداث التي سردها لنا الراوي العليم بتلك التفاصيل، بين تأويلين لتعيين من هو المقصود بقافز الموانع، هل هو البطل الذي تحدّى عمّه ومن يقف في صفه..؟ أو عمه (ناصر) الذي لم يكن ليرعوي عن نيل ما يطمح إليه من مكاسب بأيّ طريقةٍ كانت..

***

د. وسام حسين العبيدي

لأمينة عبد الله

عتبات السيرة: مسيرة قلم لا يهدأ: هي أمينة عبدالله.. امرأة تحمل بين ضلوعها عوالم من حبر وورق، وتنثر في دروب الكلمة عطراً لا يتبدد، كاتبة وشاعرة لم تكن القصيدة لديها مجرد كلمات تُنظم، بل هي جسر تعبر عليه من صمت الوحدة إلى ضجيج الوجود.

من بين رفوف "الثقافة الجديدة" إلى أروقة "سيمو" في باريس، تشق أمينة عبدالله طريقها بقلم لا يعرف التوقف، موظفة في مجلة "الثقافة الجديدة"، وكاتبة حرة في دوريات رصينة كـ"الهلال" و"الأهرام العربي"، وباحثة في مركز دراسات الشرق الأوسط بباريس - وحدة القاهرة، تحولت حياتها إلى فضاء مفتوح بين عوالم الفكر والإبداع.

عضو عامل في اتحاد كتاب مصر، تجلس خلف منضدة الفحص لتقرأ للأخرين ما كتبته الحياة لهم، كما تقرأ لنفسها كل يوم نصوصاً جديدة، امرأة مطلقة، ربما جعلها الطلاق أكثر قرباً من أسرار النفس وأعماقها، فخرجت دواوينها كأنهار لا تنضب: "ألوان رغاوي البيرة الساقعة" بثلاث طبعات، و"بروفة جنرال الدخول الجنة" بطبعتين، و"بنت الشتا" بإصدار المجلس الأعلى للثقافة، وصولاً إلى "جسر لا يتسع لشخصين" الذي يختزل رحلتها مع الكتابة والحياة.

حملت قصيدتها عبر المهرجانات والمؤتمرات الدولية، من مؤتمر الأدب الإفريقي لنادي القلم الدولي 2010، إلى مهرجان طنطا الدولي للشعر، وصولاً إلى خيمة علي بن غذاهم في تونس 2022، والملتقى الثقافي دورة الأمير عبد القادر في الجزائر 2023، سكرتيرة تحرير لمجلات وإصدارات ثقافية عديدة، من "عالم الكتاب" إلى "حكاية مصر"، لم تكن مجرد موظفة بين الأوراق، بل كانت حارسة للكلمة، وقائدة لقوافل المعرفة نحو فضاءات أوسع، تتوجت مسيرتها بتكريمات محلية ودولية، من الجزائر إلى تونس، من العراق إلى مصر، حيث وقفت على منصات التكريم في الهيئة العامة لقصور الثقافة مرات عديدة، وملتقى السينما الأوروبية، وعشرات الجمعيات الأهلية والمنتديات، ظهرت على شاشات فضائيات عربية عديدة، من تونس إلى الجزائر، من القنوات المصرية إلى قناة الحرة، حاملةً صوتها الشعري المختلف، وصورتها كامرأة لا تنتمي إلا للكلمة والحقيقة، هي أمينة عبدالله.. المرأة التي جعلت من حياتها نصاً مفتوحاً، ومن قصيدتها وطناً لا تحده حدود.

القصيدة كجسر متخيّل

لا يقتصر العنوان "جسر لا يتسع لشخصين" على كونه مجرد عتبة نصية، بل هو بيان شعري مكثف يعلن عن رؤية وجودية تتصدر تجربة الديوان، الجسر هنا ليس معبراً مادياً فحسب، بل هو استعارة للعلاقات الإنسانية، للتواصل، للحب، للهوة بين الذات والآخر، بين الريف والمدينة، بين التقاليد والتحرر، وهو جسر "لا يتسع لشخصين"، مما يخلق إحساساً فورياً بالضيق، بالاغتراب، وبالمشقة التي ترافق أي محاولة للالتقاء، هذه المفارقة البصرية والوجدانية – فالجسر مصمم للعبور والوصل، لكنه هنا يرفض الاثنين معاً – تضع القارئ في قلب المعضلة الوجودية للديوان منذ البداية.

المتلقي شاهداً على تشظي الذات

الملاحظة الجمالية الأولى التي يفرضها الديوان على متلقيه هي تفكيك الذات الأنثوية وتمزقها، فالقصائد لا تروي حكاية واحدة، بل تعرض شظايا هوية متعددة الأصوات، انظروا إلى قصيدة "أحب بنصفي الأكبر":

(أكره الصبا / الأوجه التي أعرفها ببيت الأب / ... / الآن / لا أعرف ذلك الشخص المدعو أنا)

هنا تتحول عملية القراءة إلى مراقبة لصراع داخلي، المتلقي لا يقرأ عن ذات متكاملة، بل يشهد على تشظّي "الأنا" إلى كيانات متصارعة: الريفية في مواجهة المدنية، التقليدية في مواجهة المتمردة، هذا التشظي يجبر القارئ على التخلي عن دور المتلقي السلطي، الذي يبحث عن رسالة واضحة، ليصبح شاهداً على عملية الانهيار والبحث عن معنى.

جماليات الهامش: صوت الريف في صلب المدينة

يصنع الديوان جماليته من هامشية مزدوجة: هامشية الريف في المدينة، وهامشية المرأة في مجتمع أبوي، في قصيدة "بيت أبي"، يتحول الأب من رمز للسلطة إلى كائن محاصر:

(أبي ككل أقرانه الريفيين / الطامعين في الخروج من الشقة المشتركة / إلى شقة مستأجرة... / منحنا لبس الفقراء الذي يضمن له عفة المظهر / هذه الحريات المقيدة"

هنا، يصبح التلقي عملية تفكيك للصورة النمطية، الأب ليس طاغية بسيطاً، بل هو ضحية لشروط اجتماعية واقتصادية، جمالية التلقي تكمن في اكتشاف هذا التعقيد، في رؤية "الحريات المقيدة" التي تمنحها السلطة الأبوية، والتي تسهم بدورها في "مسخ" الهوية، القارئ مدعو ليعبر الجسر الضيق ليفهم تناقضات الشخصية، لا ليحكم عليها.

الانزياح اللغوي وصدمة التلقي

يستخدم الديوان الانزياح اللغوي – بوعي أو بلا وعي – كأداة جمالية تخلق صدمة تلقية. الانزياح هنا ليس عيباً، بل هو تعبير عن عدم استقرار العالم الداخلي، انظروا إلى الاستعارة في "مهن يدوية":

(أتصالح تماما مع المهن البدنية / التي حافظت على سر الكتابة)

تحويل "اليد" إلى "مهن" (بدنية) هو تشبيه غير مألوف، المهن/البدنية تصبح فضاءً حميماً يحفظ أسرار الكتابة، هذا الانزياح يوقف القارئ، يربكه قليلاً، ويدفعه لإعادة تخيل العلاقة بين الجسد والإبداع، إنه يخلق جمالية خاصة تعتمد على المفاجأة وإعادة تشكيل الدلالات.

المتلقي كشريك في بناء المعنى: قصيدة "تلك جنتي" نموذجاً

تصل ذروة جماليات التلقي في الديوان عندما تتحول القصيدة إلى حوار مفتوح مع المتلقي ومع التراث، في قصيدة "تلك جنتي"، تقدم الشاعرة رؤية نقدية جريئة للجنة التقليدية:

(أكره الجنة / التي يقف على بابها ....  معلقا في مشكاتها ........ / أعشق النار كخلية نحل تشغي بكل المغردين خارج السرب"

هنا لا يقتصر دور المتلقي على استقبال الصورة، بل يشارك في تفكيك صورة مقدسة في الخيال الجمعي.. جمالية التلقي هنا تكمن في "المقاومة" التي تثيرها القصيدة.. إنها تدعو القارئ إلى تحدي الصور النمطية عن الثواب والعقاب، والتفكير فيما تكون للعلماء والشعراء "الراقصات وصانعي الأفلام"، القارئ يصبح شريكاً في هذا التمرّد الفكري والجمالي.

الجسد كفضاء للتلقي الوجداني

يتحول الجسد في الديوان إلى وسيط رئيسي للتلقي، القصائد مليئة بالإحالات الجسدية: "جسدي يستوعينا معا"، "أرفع بنطالي كثيراً وأحفظ حذائي"، "كفك يشبه في الأثر كف مريم"، هذه الصور تجعل التجربة الوجدانية ملموسة، المتلقي لا يفهم العلاقة فكرياً فحسب، بل يشعر بها جسدياً من خلال اللغة، جمالية التلقي هنا حسية في المقام الأول؛ إنها تعتمد على قدرة القارئ على تحويل الكلمات إلى أحاسيس ومشاعر متخيلة.

التلقي كعبور على جسر ضيق

"جسر لا يتسع لشخصين" هو ديوان يرفض التلقي السلبي، إنه يبني جماليته على مشاركة القارئ الفاعلة في تشكيل المعنى، على تفكيك الذات، وعلى تحدي الثوابت اللغوية والاجتماعية، المتلقي مدعو لعبور هذا الجسر الضيق مع الشاعرة، حاملاً معه تناقضاته هو نفسه، إنها رحلة وعرة، مليئة بالشظايا والانزياحات والصور الصادمة، لكنها في النهاية تخلق تجربة تلقي فريدة، حيث يصبح فهم النص مساوياً لفهم تناقضات الذات الإنسانية المعاصرة في شرق يبحث عن جسوره المفقودة.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

في كلّ ولادةٍ حكايةٌ للوجود، وفي كلّ موتٍ بذرةُ حياةٍ تستيقظ من الرماد. من هذه المفارقة البديعة تولد رواية «فرصة ثانية» للكاتبة الفلسطينية صباح بشير، لتغزل من الألم نسيجًا إنسانيًا مشعًّا، يتأرجح بين النور والظلمة، بين بكاء المولود وصمت الراحلة. ليست الرواية مجرّد حكايةٍ عن امرأة تفارق الحياة لحظة إنجابها، بل هي تأمّل في سرّ الخلق واستمرارية الوجود، إذ ينهض الطفل «يحيى» كرمزٍ للبعث الأبديّ الذي يُقاوم الفناء ويعلن أن في داخل كلّ موتٍ حياةً أخرى تتفتّح.

تفتح الكاتبة نصّها على مشهدٍ نابض بالإنسانية، تصفه بواقعيةٍ مشوبةٍ بالشعر، فتُصغي للقلب وهو يرتجف، وللوجع وهو يصرخ باسم الحياة. هذا التمهيد لا يقدّم حدثًا عابرًا، بل يرسم الملحمة الصغرى للأمومة؛ فكلّ ألمٍ فيه هو طريقٌ نحو النور، وكلّ دمعةٍ امتدادٌ للرحمة الكامنة في طبيعة المرأة. لكنّ المعجزة لا تكتمل، إذ تتحوّل الولادة إلى لحظة فاجعة، فتغادر «فاتن» جسدها إلى سكونٍ أبديّ، تاركةً وراءها طفلًا يفتح عينيه على غيابها. عند هذه النقطة يتكثّف السؤال الوجوديّ الكبير: أيمكن أن تمنح الحياة نفسها عبر التضحية؟ وهل يُكتب للإنسان أن يولد من جرحٍ لا يندمل؟

العنوان «فرصة ثانية» يضيء الرواية من الداخل، إذ لا يشي فقط بإمكانية العودة إلى الحياة، بل يتجاوزها إلى فكرةٍ فلسفيةٍ عن التجدّد الإنسانيّ بعد الفقد. فكلّ شخصية في النصّ تُعطى فرصتها الثانية بطريقتها الخاصة: «مصطفى» الذي يتعلّم من الموت معنى البقاء، و«هدى» التي تكتشف أمومتها من رحم الحزن، و«الطفل يحيى» الذي يصبح رمزًا للمستقبل الموعود بعودة الضوء. الكاتبة تمارس فعل الخلق الأدبيّ بوعيٍ عميق، إذ تصوغ من الحكاية الفردية مرآةً للوجود الإنساني كلّه.

شخصيات الرواية تُكتب بالدمع لا بالحبر. فـ«فاتن» ليست امرأةً فحسب، بل قنديل أمومةٍ يضيء لحظة العتمة القصوى، حضورها يمتدّ بعد غيابها كأنّها طيف رحمةٍ يظلّ يرفّ على المكان. أما «مصطفى» فهو المكلوم الذي يجرّب معنى الانكسار، تتأرجح روحه بين الصبر واليأس، بين الذكرى والحلم، فيتحوّل إلى صورةٍ صافيةٍ للرجل الإنسان، لا للبطولة الذكورية التي اعتادها الأدب. و«هدى» التي تحتضن الطفل وتعيد ترتيب الفوضى، هي يد الحياة التي تُمسك بالحياة كي لا تسقط من جديد. هذه الشخصيات لا تتحرّك داخل أحداثٍ خارجيةٍ كثيرة، بل داخل مناخ نفسيّ عميق، حيث اللغة هي المسرح والوجدان هو الحركة.

لغة صباح بشير لغةٌ نقيّة، مشبعة بالعاطفة والخيال، تتقن الانتقال بين التوصيف الواقعيّ والانفعال الشعريّ. تصنع من المشهد الطبيّ لوحة إنسانية حافلة بالتفاصيل الدقيقة: «كانت تتصبّب عرقاً… ينهش الوجع جسدها… تتمسّك بيد زوجها وتبحث في عينيه عن النجاة».

الكاتبة تستثمر الإيقاع الداخلي للجملة، فتتقدّم اللغة مثل نبضٍ يتصاعد ثم يخفت. الصور المجازية تمتزج بالبساطة، وتحوّل الحدث الواقعيّ إلى تجربة رمزية: الولادة كمعراجٍ نحو الخلاص، والموت كعتبةٍ أولى لحياة أخرى.

لغة صباح بشير تملك طهر الماء وحرارة الدم في آنٍ واحد. تكتب بصدقٍ يجعل السرد يفيض بعاطفةٍ لا تنحدر إلى الابتذال، فتسكن الجملة نغمةٌ خافتة كأنها صلاة: «كان قلبه ينبض بجنون، كلّ نبضة تحمل معها جزءًا من قلقه وحبّه». في مثل هذه العبارات تتحوّل اللغة إلى مرآةٍ للروح، تُضيء الجرح من داخله بدل أن تشرحه. إنّها لغةٌ تمزج بين الواقعيّ والتأمّليّ، بين الدقّة في الوصف والرهافة في التعبير، وتستعير من الشعر مجازاته دون أن تفقد سلاسة النثر.

الزمان في الرواية يتدرّج من ظهيرة الولادة إلى ليل الحداد، في مسارٍ يشبه قوس الحياة نفسه، والمكان محدود – غرفة ولادة، بيت، مقبرة – لكنه يتّسع رمزيًا حتى يغدو كونًا صغيرًا تتجلّى فيه أسئلة الخلق والمصير. هذا التدرّج المكانيّ الزمانيّ يمنح الرواية عمقها الدراميّ الداخليّ، إذ لا شيء فيها يحدث خارج النفس، وكلّ شيء يتولّد من داخلها: الحزن، الحب، الصبر، وحتى الرجاء.

ولئن كانت الرواية في ظاهرها مأساة أُسريّة، فإنها في جوهرها رحلةُ وعيٍ وإنبعاث. فالفقد لا يُقدَّم بوصفه نهاية، بل كطريقٍ إلى إدراك قيمة الوجود. الكاتبة لا تمجّد الألم لذاته، بل تكشف عن الوجه الآخر له، وجه القوة التي تنبع من الهشاشة، والإيمان الذي يولد من اليأس. هكذا تكتب صباح بشير نصًّا يمجّد الأنوثة كقوة خلقٍ واستمرار، ويعيد تعريف البطولة في الأدب النسويّ المعاصر؛ فالبطولة هنا ليست في الصراع، بل في الصبر، لا في الانتصار، بل في القدرة على التحمّل والاحتضان.

وحين يسمّي مصطفى ابنه «يحيى»، تُختتم الرواية بما يشبه الوحي الرمزيّ، إذ تتقاطع الدلالات كلها عند هذا الاسم: الحياة، الخلاص، والبعث. الاسم لا يمنح الطفل هوية فحسب، بل يمنح العالم كله معنى الاستمرار، كأنّ الكاتبة تقول إنّ الإنسان لا يُهزم ما دام قادرًا على أن يُحبّ ويمنح فرصةً جديدةً للوجود.

في خاتمة هذا العمل، تتركنا صباح بشير أمام مرآةٍ نرى فيها وجوهنا المرهقة، ونسأل: كم مرة منحنا القدر فرصةً ثانيةً ولم ندركها؟ وكم من موتٍ مرّ بنا كان في حقيقته ولادةً مؤجلة؟

إنّ «فرصة ثانية» رواية تكتب الوجدان الإنسانيّ لا الحدث، وتستعيد من رحم الفقد معنى الحياة.

بأسلوبٍ يقطر صدقًا ودفئًا، وبجمالٍ لغويٍّ يشبه ندى الصباح على جرحٍ قديم، تقدّم صباح بشير عملًا يُذكّرنا بأنّ الأدب هو الفرصة الثانية للإنسان كي يفهم نفسه والعالم، وأنّ الجمال لا يُولد من اليسر، بل من المعاناة التي تُنبت الورد على أطراف المقابر.

في «فرصة ثانية»، تتقاطع مأساة الفرد مع فلسفة الوجود، وتتحوّل الكلمة إلى عزاءٍ نبيلٍ للإنسان في مواجهة فجيعته الكبرى.

إنّها رواية تتحدّث همساً وتبكي بصمت، تُعيد إلينا الإيمان بأنّ كلّ نهايةٍ تُخفي ولادةً، وأنّ الحزن – مهما أثقل الأرواح – يمكن أن يكون بذرة حياة جديدة.

بلغةٍ مشبعة بالشجن والضياء، تُثبت صباح بشير أنّ الأدب هو الفرصة الثانية للحياة بعد موتٍ صغيرٍ يمرّ بنا جميعاً.

وهكذا، تغلق الرواية صفحاتها كما يُغلق بابُ الكون على نبضةٍ أولى: كلّ موتٍ بداية، وكلّ نهايةٍ ولادة أخرى.

***

الناقد محمد رمضان الجبور - الأردن

قال (البحتري)(1):

غَــرائِبُ أَخلاقٍ هِــيَ الــرَّوضُ جـادَهُ

مُلِــثُّ العَزالَــى ذو رَبـابٍ وهَيْـدَبِ

*

فَكَــمْ عَجَّبَــتْ مِــن نــاظِرٍ مُتَأَمِّـلٍ

وكَــمْ حَيَّــرَتْ مِــن ســامِعٍ مُتَعَجِّـبِ!

*

وقَـد زادَهـا إِفـراطَ حُسـنٍ جِوارُهـا

لِأَخـلاقِ أَصــفارٍ مِــنَ المَجْــدِ خُيَّــبِ

فأوشكَ أن يهجو (الفتح بن خاقان) في سياق مدحه. فأنْ يقول إنَّ حُسن أخلاقه يزيد لأنَّه مجاورٌ لأصفارٍ من الأخلاق والمجد، إنَّما هو كقول الناس «الأعور في بلد العُميان مَلِك»! وما ذلك إلَّا لانشغال الشاعر بوحدة البيت، وعَشاه عن مراعاة وحدة النصِّ ونَظْمه الكُلِّي.

لكن أ هذا هو السَّبب الحقيقي، أم أنَّ الشاعر كان غافلًا عمَّا يقول أصلًا؟

يشكِّكنا الشاعر في ما قرَّرناه آنفًا؛ من حيث يؤكِّد معناه، مُصِرًّا عليه، بإتباع أبياته السابقة ببيته:

وحُســنُ دَرارِيِّ الكَــواكِبِ أَن تُــرَى

طَوالِـعَ فـي داجٍ مِـنَ اللَّيـلِ غَيهَـبِ

فإذن، هو يمدح ممدوحه بـأنه «أعور في بلد العُميان» بالفعل! وليس هذا، على كلِّ حال، بأشنع من وصف أستاذه (أبي تمَّام)(2) الممدوحَ بأنَّه طَوْع إرادته، فإذا أراد جعله (رِشاء دَلْو)، وإذا أراد كان (القَليب) نفسه:

فَــإِذا مــا أَرَدتُ، كُنـتَ رِشـاءً!

وإِذا مــا أَرَدتُ، كُنــتَ قَليبـا!

وأيُّ ممدوح يستسيغ أن يصوَّر في صورة (رِشاء «سطل») أو صورة (بئر)، ولو كان ذلك البئر (جُبَّ يوسف بن يعقوب)؟! على أنَّ الشاعر قد أرهص لهذا البيت ببيتٍ فكاهي، كأنما هو يَسْخَر فيه من نفسه بنفسه، قائلًا:

مُمطِرًا لي بِالجاهِ والمالِ لا أَلـ

ـقاكَ إِلَّا مُستَوهِبًا أو وَهُوبا

فالشاعر هكذا يعترف بأنَّه متسوِّلٌ رخيص، ولا يشبع، والممدوح لا شُغل له إلَّا محاولة ملء فيه، إمَّا من عنده، وإمَّا من عند غيره؛ ذلك أنَّه إنْ لم يجِد، تسوَّل له بدَوره، مستوهِبًا من الآخَرين! كيف لا، وهو (قَليب) تارةً، و(رِشاء قَليب) تارةً أخرى، كما نعته الشاعر؟! ولهذه المعركة بين الرِّشاء والقَليب، وتلك الشبكة من الوصوليَّات «أمسَى حبيبٌ حبيبًا»:

باسِطًا بِالنَّـدى سـَحائِبَ كَـفٍّ

بِنَــداها أَمسَـى حَـبيبٌ حَبيبـا

ولولا ذلك لأمسَى حبيبٌ أديبًا، حُرًّا عزيزًا، لا عبد الدِّينار والدِّرهم، كغيره من معاصريه!

وكم ذا بقصائد المديح العبَّاسية من اللقطات الكوميدية؟! وهذا موضوع أطروحة قائمة بذاتها.

ويلفتنا هذا إلى مفهوم (النَّظْم) بعمقه وشموله، كما حلَّله (عبد القاهر الجرجاني). ولقد كان يعرقل نظميَّة النصِّ- في وحدته الكلِّيَّة- التمسُّك الحديدي بوحدة البيت، والنظر إلى (التضمين) على أنَّه عيبٌ شِعري. ويعني التضمين هاهنا أن لا ينتهي المعنى بنهاية البيت، بل يرتبط بما بعده. ولهذا فإنَّ (أبا تمَّام)(3) لمَّا قال:

يَغـدو مُـؤَمِّلُهُ، إِذا مـا حَـطَّ فـي

أَكنــافِهِ رَحْـلَ المُكِـلِّ المُلْغِـبِ

*

سـَلِسَ اللُّبانَـةِ والرَّجـاءِ بِبابِـهِ

كَثـبَ المُـنَى مُمتَـدَّ ظِـلِّ المَطْلَبِ

وقفَ متلقُّو شِعره من الشُّرَّاح لينفوا عنه تهمة التضمين، والعياذ بالله! متكلِّفين القول: إنَّه إنَّما: «انتصب «رَحْلَ المُكِلِّ»  على الحال. و«حَطَّ في أكنافه» كلامٌ تامٌّ. ومعناه: نزل بفنائه. فيقول: راجي هذا الممدوح إذا حضرَ في جنابه يَغْدو وهو مَصَبٌّ للمسافر الذي كَلَّتْ راحلتُه ومَحطٌّ لِرَحْلِه؛ لأنه يُغنيه ويُعلِّمُه الكرم.» هكذا تكلَّف (المرزوقي)(4) إبراءً (لأبي تمَّام) من تهمة التضمين.

ولقد كان الشعراء العَرَب يضمِّنون في شِعرهم، وما كانوا يعدُّون ذلك عيبًا، وإنَّما قَعَّد هذا المقعِّدون بعد الإسلام، كما قعَّدوا أباطيل كثيرة. يقول الشاعر الجاهلي (جابر بن حُنَيٍّ التغلبي)(5)، مثلًا:

وقَـدْ زَعَمَـتْ بَهْـراءُ أَنَّ رِمـاحَـنا

رِماحُ نَصارَى لا تَخُوضُ إِلى الدَّمِ

*

فَـيَوْمَ الكُلابِ قَدْ أَزالَتْ رِماحُـنا

شُـرَحْـبِـيلَ إِذْ آلـَى أَلِـيَّـةَ مُقْسمِ

*

لَـيَـنْـتَـزِعَـنْ أَرْمَـاحَـنا فَـأَزالَــهُ

أَبُو حَنَشٍ عَنْ ظَهْرِ شَقَّاءَ صِلْدِمِ

بل لقد رصْدنا في بحثنا حول «شِعر النقَّاد»(6) ورود التضمين حتى في شِعر الشُّعراء النقَّاد أنفسهم، ممَّن قعَّدوا أنَّ التضمين معيبٌ في القصيدة العَرَبيَّة. وأكثر ما كان يؤدِّي بالشاعر إلى ربط الأبيات بعضها ببعض النسج القصصي في أسلوبه، من نحو قول (هدبة بن الخشرم)(7):

أَلا عَـلِّـلانِـي قَـبْـلَ نَــوْحِ النَّـوائِــحِ

وقَـبْلَ اطِّـلاعِ النَّـفْـسِ بَـيْنَ الجَوانِــحِ

*

وقَـبْلَ غَـدٍ، يـا لَـهْفَ نَفْـسِي عَلَى غَـدٍ،

إِذا راحَ أَصحـابـِي ولَـسـتُ بِـرَائِــحِ!

*

إِذا راحَ أَصحـابـِي بِفَـيْـضِ دُمُوعِـهِمْ

وغُـودِرْتُ فِي لَـحْدٍ عَلَـيَّ صَفـائِـحِي

*

يَـقُـولـونَ: هَلْ أَصلَحْـتُـمُ لِأَخِيكُـمُ؟

وما الرَّمْسُ في الأَرْضِ القِواءِ بِصالِحِ!

*

يَقُولُـونَ: لا تَبْعَـدْ! وهُمْ يَدْفِـنُونَـنِـي

ولَيْسَ مَكانُ البُعْـدِ إلَّا ضَـرائِـحِـي!

وإنْ حافظ الشاعر هاهنا على وحدة البيت، إلى حدٍّ ما، باستثناء البيتين الثاني والثالث.

ثمَّ وجدنا (ابن المستوفي)(8)- بعد أن دوَّنَّا تلك الملحوظة على بيتَي (أبي تمَّام)، وما تكلَّفه (المرزوقي) لنفي التضمين عنه- قد أدلى بتعليقٍ يوافق ما رأيناه. حيث قال: «معنى البيتين واضح، وهو أنه أراد: أنَّ مؤمِّله يغدو سلسَ اللُّبانة، إذا ما حَطَّ في أكنافه رَحْل المُكِلِّ الملغب. و[أمَّا] ما تأوَّله المرزوقي، فبعيدٌ جِدًّا...».

على أنَّ مِن شَرح الشِّعر في تراثنا ما يبدو إفسادًا للنصِّ، وإسفافًا في فهم معناه، وتقييدًا بليدًا لآفاق دلالاته الشِّعريَّة. خُذ مثالًا نموذجيًّا من شرح بيت (أبي تمَّام)(9):

إِنَّ الإِخــاءَ وِلادَةٌ، وأَنـا امـرُؤٌ

مِمَّن أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ

فماذا تفهم من هذا البيت؟

أمَّا أنا، فأفهم أنَّ الشاعر يقول: «إِنَّ الإِخاءَ وِلادَةٌ»، كما قال هو حرفيًّا. أي أنَّ علاقتك الأخويَّة الصادقة بإنسانٍ هي بمثابة ولادةٍ جديدة لك. ثمَّ قال: «وأَنـا امرُؤٌ مِمَّنْ أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ». وهذا كذلك ما قصده حرفيًّا. أي: أنَّه ممَّن حيث ذهبَ في أُخوَّته مع الناس، أنجبَ نفسه مولودًا جديدًا منهم، وأنجبهم من نفسه مواليد جُدُدًا كذلك. فظاهر النصِّ أبلغ وأشعر من ذلك الباطن الذي تكلَّفه بعض الشراح، محاولين التماسه، لاستنزال النصَّ من تحليق سماواته، إلى سوقيَّته وابتذاله العامِّي، الذي لا يُدرِك الشارحُ أرفع منه. وهذا ما سنتتبَّعه في المقال التالي.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1)  (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حَسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 192/ 24- 26

(2)  (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عَزَّام، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 171/ 51.

(3)  م.ن، 1: 101- 102/ 26- 27.

(4)  (1986)، شرح مشكلات ديوان أبي تمَّام، تحقيق: عبدالله الجربوع، (جُدَّة: دار المدني)، 161- 162.

(5)  الضَّبي، المفضَّل، (1979)، المفضَّليَّات، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر؛ عبدالسَّلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 211- 212/ 22- 24.

(6)  يُنظَر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (2011)، شِعر النُّـقَّاد: استقراءٌ وصفيٌّ للنموذج، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث)،

(7)  (1986)، شِعر هدبة بن الخشرم، باعتناء: يحيى الجبوري، (الكويت: دار القلم)، 89.

(8)  (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 2: 123.

(9)  ديوانه، 1: 133/ 15.

يُعْتَبَرُ المُتَنَبِّي (303 هـ - 354 هـ / 915 م - 965 م) أعظمَ شُعَراءِ اللغةِ العربيةِ على الإطلاق. تَدُورُ مُعْظَمُ قَصائدِه حَوْلَ نَفْسِه ومَدْحِ المُلوكِ، وأفضلُ شِعْرِه في الحِكمةِ وَفَلسفةِ الحَياةِ وَوَصْفِ المَعاركِ والحُروبِ. لَمْ يَصِف الحَرْبَ كَحَدَثٍ دَمَوِيٍّ فَحَسْب، بَلْ جَعَلَها مِرْآةً للمَجدِ والبُطولةِ والكَرامةِ، وَصَوَّرَهَا بِعَيْنِ الفارسِ الذي يَرى في المَعركةِ مَيدانَ الاختبارِ والخُلودِ. وَرَغْمَ تَمجيدِه للحربِ، لَمْ يَكُنْ غافلًا عَنْ قَسوتها، فَهُوَ يُدْرِكُ آلامَها، لكنَّه يَرى فِيها قَدَرًا لا مَفَرَّ مِنْهُ لِمَنْ طَلَبَ العُلا، فالمَجدُ لا يُنالُ إلا بالتَّضحية، ولا يُصَانُ إلا بالقُوَّةِ.

والحَرْبُ في شِعْرِهِ لَيْسَتْ صِرَاعًا بَيْنَ الجُيوشِ فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا رَمْزٌ للحَياةِ التي لا تَسْتَحِقُّ أنْ تُعاش مِنْ غَيْرِ مَجْدٍ أوْ شجاعة، وَهِيَ التي تَكْشِفُ حَقيقةَ الرِّجالِ، وَتُظْهِرُ طَبيعةَ البَشَرِ، وتُميِّز الأبطالَ مِنَ الجُبَناءِ، فالشَّريفُ يَزداد شَرَفًا، والوَضِيعُ يَظْهَرُ جُبْنُه وخِيانته، وَهِيَ الطريقُ إلى المَجْدِ الذي لا يُنال بالرَّاحةِ أو التَمَنِّي، وَهِيَ امتحانُ الإرادةِ الإنسانيَّة. لذلك كانت الحربُ في نَظَرِه مِيزانًا أخلاقيًّا يَكْشِفُ مَعَادِنَ الناسِ.

حَوَّلَ ساحةَ المَعركةِ إلى لَوْحَةٍ حَيَّة، تَضِجُّ بالحركةِ والأصواتِ والألوانِ، فالسُّيوفُ عِندَه تَلْمَعُ كالبُروقِ، والخُيولُ تُزَمْجِرُ كالعواصفِ، والدِّماءُ تُزْهِرُ كالوَرْدِ في الرِّمالِ، والغُبارُ يَلُفُّ الأُفُقَ كالغَيْمِ المُشتعِل. إنَّه يَصِفُ المَشْهَدَ وَيُجسِّده، حَتَّى يَسْمَعَ القارئُ صَوْتَ الحَديدِ، وَيَرى لَمَعَانَ الدُّرُوع.

والبَطَلُ في شِعْرِهِ هُوَ مَزِيجٌ مِنَ الإنسانِ والأُسطورةِ، وَهُوَ يُقَاتِلُ لِيَنْتصر، وَيُقيم عَدْلًا، وَيَصْنع اسْمًا، وَيَتَحَدَّى الظُّروفَ. والبُطولةُ الحقيقيةُ هِيَ مُواجهةُ المَوْتِ بابتسامةِ الكِبْرياءِ، لذلكَ كثيرًا مَا يَرْبِطُ بَيْنَ الشَّجاعةِ والعِزَّةِ والعَقْلِ والدَّهَاء.

وَخَلْفَ أوصافِ الدِّمَاءِ والسُّيوفِ، تَكْمُنُ رُؤية فلسفية عميقة، فالحَرْبُ لَيْسَتْ عَبَثًا، بَلْ وسيلة لإثباتِ الذات، والنَّصْرُ الحقيقيُّ هُوَ نَصْرُ الرُّوحِ والإرادةِ، وَمَنْ لَمْ يُغَامِرْ، ماتَ صغيرًا، حتى لَوْ عاشَ طويلًا. وَهُوَ يَرى أنَّ المَجْدَ الحقيقيَّ لا يُنال إلا عَبْر الخطرِ والمُغامرةِ، خُصوصًا في مَيادينِ القِتالِ، فَمَنْ يَطْلُب السَّلامةَ يعيشُ بِلا أثَرٍ، أمَّا مَنْ يَخُوض الحربَ بِكَرامةٍ فَيُخَلَّد اسْمُهُ في التاريخ. والحربُ عِندَه وسيلة لتحقيقِ الخُلودِ الرَّمزيِّ، لا مُجرَّد نَصْر مادي.

نَظَرَ إلى الحَرْبِ عَلى أنَّها صُورة مُكثَّفة للصِّراعِ الدَّائمِ في الحَياةِ، بَيْنَ القُوَّةِ والضَّعْفِ، الطُّمُوح واليأس، المَجْد والدُّونِيَّة. وكُلُّ إنسان في فَلسفته مُحَارِبٌ، سَوَاءٌ في سَاحةِ القِتال، أوْ في مَعاركِ الحَياةِ اليَوْمِيَّة.

وَيُعْتَبَرُ هوميروس (القرن التاسع قبل المِيلاد) أعظمَ شاعر في الأدب اليونانيِّ القديم، وَهُوَ الشاعر المَنسوب إلَيْه تأليف مَلْحَمَتَي الإلياذة والأُودِيسَّة، اللَّتَيْن تُعْتَبَرَان مِنْ أهَمِّ الأعمالِ الأدبية في الحَضارةِ الغَربية. وعلى الرَّغْمِ مِنْ مَكانته الأدبية، فإنَّ تفاصيلَ حَياته الحقيقية غامضة.

قَدَّمَ وَصْفًا واقعيًّا وشاملًا للحربِ، بما في ذلك تفاصيل المَعاركِ والأسلحةِ، وَصَوَّرَ الحَرْبَ بطريقةٍ مَلْحَمِيَّة، تَجْمَعُ بَيْنَ البُطولةِ والمَأساةِ، مُركِّزًا على الأبطالِ وتَضحياتِهم، فَهِيَ المَيْدَان الذي يُخْتَبَر فيه الشَّرَفُ والبُطولة، وَهِيَ لَيْسَتْ صِراعًا دَمَوِيًّا فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا مَسْرَحٌ يُظْهِرُ فيهِ الأبطالُ قِيَمًا مِثْل: الشَّجَاعة والإقدام (كما في شخصية أَخِيل)، والوَلاء للوطنِ والرِّفَاقِ (كما في هيكتور المُدافِع عَنْ طُروادة)، والسَّعْي نَحْو المجدِ الخالد الذي يَتجاوز المَوْتَ.

وَرَغْمَ الطابَعِ البُطوليِّ، يُظْهِرُ فَظاعةَ الحَرْبِ، وَيَصِفُ الدِّمَاءَ والجِرَاحَ وَصَرَخَاتِ المَوْتِ بتفاصيل حَيَّة وَمُؤلِمة، وَيُبيِّن حُزْنَ الأُمَّهَاتِ والزَّوجاتِ، وَبُكَاءَ الأحِبَّةِ على القَتْلَى. فالحربُ تَجْلِبُ الدَّمَارَ للمُدُنِ والأُسَرِ، وتَتْرُك خَلْفَها الألَمَ، حَتَّى عِندَ المُنتصِرين. وهَكذا، تَبدو الحربُ عِندَه ضَروريةً لكنَّها مأساويَّة، فَهِيَ تُنْتِجُ البُطولةَ، لكنَّها أيضًا تَلْتهم الأبطالَ.

والحربُ لَيْسَتْ فَقَط صِرَاعًا بشريًّا، بَلْ أيضًا ساحة لِتَدَخُّلِ الآلهةِ والقَدَرِ، فالآلهةُ تَتَدَخَّلُ لدعمِ هَذا الطرفِ أوْ ذلك، مِمَّا يَجْعل مَصيرَ الحربِ قَدَرًا مَحتومًا أكثرَ مِنْهُ نَتيجة لاختياراتِ البشر. ومعَ ذلك، يَبْقى لِكُلِّ بطلٍ حُرِّية التَّصَرُّفِ ضِمْنَ حُدودِ هَذا القَدَرِ، مِمَّا يُضْفي بُعْدًا فلسفيًّا وَدِينيًّا وأُسطوريًّا على مَفهومِ الحربِ.

وَهُوَ يَتَمَيَّزُ بأُسلوبٍ تَصويري رائع، حَيْثُ يَسْتخدم التَّشبيهاتِ المَلْحَمِيَّة، فَيُشَبِّه المُقاتِلين بالعَواصفِ، أو الحَيَوَاناتِ المُفترِسة، وَيُدْخِل إيقاعًا شِعريًّا يَجْعل المَعاركَ كأنَّهَا لَوْحَات مُتحركة مَليئة بالحركةِ والضَّوْءِ والصَّوْتِ، وَيُصوِّرها بشكلٍ دَقيق ومُفصَّل، بَدْءًا مِنْ تَجهيزِ الجُيوشِ، والقِتالِ الفَرديِّ بَيْنَ الأبطالِ، وحتى سُقوط القتلى وَجُثَثِهم، والوصفُ يُعْطِي إحساسًا بالواقعيَّةِ والحُضُور.

والحربُ عِندَه لَيْسَتْ شَرًّا مُطْلَقًا ولا مَجْدًا خَالِصًا، بَلْ تَجْرِبَة إنسانيَّة كاملة تَجْمَع بَيْنَ العَظَمَةِ والرُّعْبِ، البُطولة والفَناء، المَجْد والحُزْن. وَهِيَ تَعْبيرٌ عَن طبيعةِ الإنسانِ نَفْسِه: عظيم في شجاعته، وضعيف أمامَ قَدَرِه. وهُناك قواعد ضِمْن الحَرْبِ تَتَعَلَّقُ بِمُعاملةِ الأسرى وكَرامةِ الخَصْمِ، مِثْل احترامِ الجُثَثِ، وَعَدَمِ السُّخرية مِنْها، مِمَّا يُشير إلى مَفهومٍ بِدائي للعدالةِ والإنسانيَّةِ في أوقاتِ الصِّراعِ.

وإذا كانَ المُتَنَبِّي يُركِّز عَلى الفردِ والبُطولةِ الشَّخصيةِ في الحربِ، معَ استخدام لُغَةٍ شِعرية مُركَّزة وَشَفَّافة، فإنَّ هوميروس يَضَعُ الحربَ في إطارِ سَرْدٍ مَلْحَمِيٍّ شاملٍ يَجْمَع بَيْنَ الأبطالِ، والآلهةِ، والمَآسِي الجَمَاعِيَّة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يمثل النص الشعري "عبثا تبحثين عنّي فيّ" للشاعر المغربي إدريس الواغيش عالماً شعرياً مفعماً بالتوتر النفسي والوجداني، حيث يمتزج الشعور بالغياب والفقدان بالذاتية الوجودية، ليعكس حالة من الاغتراب الداخلي والوحدة العميقة. إن هذه الشذرة الشعورية تتسم بالارتجال المعنوي داخل مساحات الذاكرة والخيال، بما يجعل النص صيدا خصبا للتحليل التأويلي والهرمينوطيقي، فضلاً عن القراءة الأسلوبية والرمزية، إذ أن النص يزخر بالتراكيب الغنية، والصور البصرية المكثفة، والرموز التي تستدعي البنية النفسية والدينية والاجتماعية للشاعر.

من المنظور الهيرمينوطيقي، يكمن التحدي في قراءة النص ليس فقط كما هو مكتوب، بل بما تحمله الكلمات من أبعاد نفسية واجتماعية وثقافية. فـ"عبثا تبحثين عنّي فيّ" ليست مجرد صيحة وجدانية للحب أو الافتقاد، بل هي استعارة لعمق العزلة، وسؤال عن الذات والوجود، وتجربة الإنسان في مواجهة الزمن والمكان والوحدة.

التحليل الأسلوبي:

يتسم النص بأسلوب شعري متماوج بين التأمل الداخلي والذاكرة الحية، مع اعتماد على الجمل الطويلة المتدفقة، والفواصل المتعددة التي تخلق إيقاعاً متذبذباً يعكس الاشتباك النفسي للشاعر. كما يتكرر الضمير المتحدث "أنا" و"أنت"، مما يؤكد على الصراع الداخلي بين الذات والرغبة في التواصل مع الآخر، في حين تظهر أدوات الاستفهام والنداء لتعميق الحوار الداخلي والتحليل الذاتي.

من الأمثلة البارزة:

"عبثا تبحثين عنّي فـيّ، لن تجدني بين دفاتري وأحلام قصائدي"

هنا، تأتي الصورة الأسلوبية متكاملة بين التكرار ("عبثا") والصورة الاستعارية للدفاتر والأوراق، لتجسد مفارقة الوجود بين الذات الحاضرة والغياب الرمزي.

- التحليل الرمزي:

يمتاز النص بتوظيف الرموز المرتبطة بـ:

١- الزمان والمكان: "صفرة أوراقي"، "سماء قريتي"، التي تمثل ملامح الذاكرة والهوية الوطنية.

٢- الجسد والرغبة: "شهوتي العذراء إليك"، "شفتا امرأة تستجدي قبلة"، ترمز إلى الصراع بين الجسد والروح، والانزياح بين الرغبة والعقاب الداخلي.

٣- الضوء والليل: "سكون الليل"، "قُرص قمر" كرموز للتنوير النفسي والحلم المراوغ، وللإشارة إلى المأساة الشخصية مقابل الأمل الخافت.

- البنية النفسية والدينية:

النص يعكس صراع الذات بين الرغبة والانضباط، بين الفعل والخطيئة، ويظهر الضمير الأخلاقي للشاعر في قوله:

"أعيش شتاتي خارج جسدي، أستيقظ على هدي الخطيئة"

حيث يُبرز النص إحساساً بالذنب والاعتراف الداخلي، وهو ما يمكن ربطه بالبعد الديني للضمير الذاتي والتوبة الرمزية، كما يعكس أيضاً حساسية الإنسان أمام الزمن والموت الوشيك:

"إن طال بي العمر إلى آخر الدهر، تقودني خطيئاتي خارج الأمس"

- التحليل السيميائي (تطبيق منهج غريماس):

بتطبيق منهج غريماس في السيميائيات الدرامية، يمكن تحديد الأدوار الأساسية داخل النص:

- الدور النص / الدلالة:

الفاعل الشاعر / الذات المتأملة

المفعول الآخر / المحبوب / الزمن / الخطيئة

المرسل الشاعر نفسه / الضمير الشعوري

المتلقي القارئ / الذات الداخلية / النص الداخلي

الغرض التعبير عن العزلة، الاشتياق، الخطيئة، والموت الرمزي

تُظهر التحليلات السيميائية أن النص شبكة من العلاقات المتشابكة بين الذات والآخر والزمان والمكان، حيث كل عنصر يؤثر ويتأثر بالآخر، مما يعكس انساقاً معرفية معقدة تتنقل بين الذاكرة والخيال والرغبة.

هنا نقدّم تحليلاً تفصيلياً، مع تفسير المفردات الرمزية، الأسلوب، الصور البلاغية، وربطها بالأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية.

المقطع الأول، يقول:

"عبثا تبحثين عنّـي فـيّ،

لن تجدني بين دفاتري

وأحلام قصائدي

ولا وسط صفـرَة أوراقي

لا أدري كم طريقا مشيتُـه إليك

ولا كم زمنـًا عشتُه فيك"

- التحليل التفصيلي:

1. المفردات الرمزية:

"عبثا تبحثين عنّي فيّ": كلمة "عبثًا" ترمز إلى اليأس واللاجدوى، وتشير إلى استحالة الوصول إلى الذات الحقيقية أو الكشف عن غيابها.

"دفاتري وأحلام قصائدي": ترمز إلى الذاكرة، الفكر، والجانب الإبداعي للشاعر، أي مساحة الذات الداخلية التي يمكن للآخر أن يفتش فيها.

"صفرة أوراقي": الورق الأصفر هنا رمز للزمن المنقضي، والخسارة، والذكريات التي فقدت نضارتها، وكذلك الفقد الرمزي للفرص أو المشاعر.

"كم طريقا مشيتُه إليك" و"كم زمنًا عشتُه فيك": يرمزان إلى الإصرار على البحث عن الآخر والاشتباك النفسي مع الماضي، واستحالة قياس الزمن والجهد في العلاقات الإنسانية.

2. الأسلوب والصور البلاغية:

١- التكرار: "لا أدري كم…" يعكس الحيرة والاضطراب النفسي، ويؤكد عدم اليقين والضياع الداخلي.

٢- الاستعارة: دفاتر الشاعر وأوراقه تصبح استعارة للروح والماضي والذات الداخلية.

٣- التضاد الرمزي: بين البحث ("تبحثين") والفقدان ("لن تجدني")، مما يعكس الصراع بين الرغبة في القرب والغياب النفسي للذات.

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

١- النفسية: المقطع يعكس حالة العزلة، الاغتراب الذاتي، والشعور باللامكان، والحنين المفقود.

٢- الجمالية: استخدام الصور الأدبية مثل "دفاتري" و"صفرة أوراقي" يضفي على النص ملمسًا شعوريًا ومرئيًا، يخلق جمالًا بصريًا ووجدانيًا معًا.

٣- الدينية: يمكن قراءة النص في بعده الرمزي باعتباره رحلة نحو الذات، وهو نوع من

٤- التأمل الأخلاقي: البحث عن الحقيقة الروحية في النفس قبل أن تُبحث خارجياً.

٥- الحسية: النص يلمس الحواس من خلال تصوير الأوراق والدفاتر، ويخلق شعورًا ملموسًا بالزمن الضائع والتجربة الشخصية.

المقطع الثاني، يقول:

"حين يعتريني سكون الليل

تغازلني شفتا امرأة تستجدي قبلة

يشدني قُـرص قمر في سماء قريتي

غرته حمُـْـرَته

والحمرة في استدارة وجنتيها

يلزمني سفر موغل في أدغال الروح"

التحليل التفصيلي:

1. المفردات الرمزية:

١- "سكون الليل": رمز للعزلة، التأمل، واللحظة الانعكاسية التي يواجه فيها الشاعر نفسه وأفكاره.

٢-؛"شفتا امرأة تستجدي قبلة": رمز للشهوة والرغبة الإنسانية، وربما لتجربة الغريزة الممزوجة بالحنين والذاكرة العاطفية.

٣-؛"قُـرص قمر في سماء قريتي": القمر رمز للرغبة في النور، الأمل، والحنين إلى الماضي أو الوطن. "سماء قريتي" يرمز إلى الانتماء والهوية الثقافية.

٤- "حمرة وجنتيها": الحمرة تمثل الجاذبية والغواية، وربما رمزية العاطفة المتقدة والفتنة.

٥- "سفر موغل في أدغال الروح": استعارة للتعمق في الذات، في مشاعر الشاعر، واكتشاف أعماق النفس البشرية المعقدة.

2. الأسلوب والصور البلاغية:

١- الاستعارة المكثفة: المقطع يغمر القارئ بصور حسية متعددة؛ القمر، الشفتان، الحمرة، كلها عناصر استعارة عاطفية وجنسية ورمزية.

٢- التمثيل العاطفي: تصوير الرغبة الجنسية والرغبة الروحية في نص واحد يخلق نوعًا من التضاد الجمالي بين الغريزة والروح.

٣- الإيقاع الداخلي: استخدام الجمل الطويلة المتداخلة يعكس التشتت النفسي والحركة الداخلية للذات.

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

١- النفسية: النص يعكس صراعًا داخليًا بين الشهوة والروح، بين الذاكرة والهوية، ويصور التوتر النفسي الناتج عن هذا الصراع.

٢- الجمالية: المزج بين الصور الطبيعية (القمر) والصور الجسدية (الحمرة، الشفتان) يعطي النص كثافة حسية وعمقًا جماليًا.

٣- الدينية/الأخلاقية: يمكن قراءة النص كصراع ضمير مع الرغبة، أو اختبار للذات أمام الغواية، وهو بعد يعكس التأمل الأخلاقي والروحاني.

٤- الحسية: المقطع غني بالصور الحسية، ما يجعل القارئ يشعر بالعاطفة والجسد والفضاء المحيط، ويعيش تجربة الشاعر المزدوجة بين الرغبة الداخلية والوعي الذاتي.

هنا نستكمل التحليل التفصيلي لبقية المقاطع مع تطبيق منهج غريماس السيميائي وربط كل مقطع بالأدوار والانساق المعرفية، بحيث نحصل على دراسة نقدية شاملة للنص. سأقسّم النص إلى مقاطع رئيسية ثم أعطي لكل مقطع:

1. التحليل التفصيلي للمفردات الرمزية:

2. الأسلوب والصور البلاغية:

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

4. خريطة سيميائية للأدوار وفق منهج غريماس؛

المقطع الثالث

"وأطوف بها متكئا على وحدتي،

حين يُـغالبني الشوق إليك

أعيش شتاتي خارج جسدي

أستيقظ على هَـدي الخطيئة

أتحسّس الحاضر والماضي

أتهيأ لمسافات قادمات إلي،

إن طال بي العمر إلى آخر الدهر

تقودني خطيئاتي خارج الأمس"

- التحليل التفصيلي:

1. المفردات الرمزية:

"متكئا على وحدتي": الوحدة هنا ليست مجرد غياب الآخر، بل رمز للتأمل الذاتي، والاعتماد على النفس في مواجهة التجربة العاطفية.

"الشوق إليك": الرغبة أو الفقدان للآخر، تمثل المحرك العاطفي للنص.

"أعيش شتاتي خارج جسدي": استعارة عن الغربة النفسية والانفصال عن الواقع، شعور بالانقسام الداخلي.

"هَـدي الخطيئة": الإحساس بالذنب أو التوبة الرمزية، وهو بعد ديني وأخلاقي.

"مسافات قادمات إلي" و"تقودني خطيئاتي خارج الأمس": استعارة للزمن النفسي، حيث الماضي والحاضر والمستقبل متشابكان في التجربة الشعورية للشاعر

2. الأسلوب والصور البلاغية:

استخدام التكرار والتوازي بين الحاضر والماضي والمستقبل يعطي النص إيقاعًا داخليًا يعكس تشظي النفس.

استعارة الجسد والروح (شتات خارج الجسد) تضفي بعدًا رمزياً فلسفيًا وجودياً.

المزج بين الزمن النفسي والزمن الكوني يعطي النص كثافة هيرمينوطيقية، حيث يصبح النص مرآة لوعي الذات المتشابك مع الزمن.

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

١- النفسية: تصوير حالة الصراع الداخلي بين الرغبة والضمير، بين الشوق والخطيئة.

٢- الجمالية: استخدام الصور المتقاطعة بين الفعل والشعور، بين الداخل والخارج، يخلق جمالية مزدوجة.

٣- الدينية/الأخلاقية: ذكر الخطيئة يدل على ضمير أخلاقي وروحي، والاعتراف الداخلي بالنفس.

٤- الحسية: الكلمات مثل "متكئا" و"شتاتي خارج جسدي" تستحضر شعورًا ملموسًا بالوحدة والاغتراب.

4. خريطة سيميائية (منهج غريماس)

الدور النص / الدلالة:

الفاعل الشاعر/الذات المتأملة

المفعول الآخر/الشوق/الخيال/الخطيئة

المرسل الذات الداخلية/الضمير

المتلقي القارئ/الذات المستقبلية

الغرض التعبير عن الانقسام النفسي، مواجهة الماضي والحاضر، واستبطان الذات

المقطع الرابع:

"أحتمي بخطواتي الحمقى،

حين يلاحقني اليأس

يؤنسني صمتي في وحدتي

يضيع وجهي في زحمة الوُجوه

أحمل ما تبقى من أشلائي

ثم أعود على عجل مرة أخرى،

دون أن أدري إليّ...!!"

التحليل التفصيلي:

1. المفردات الرمزية

"خطواتي الحمقى": تمثل المحاولات الفاشلة في الحياة أو قرارات الذات المتسرعة.

"يلاحقني اليأس": رمز الصراع النفسي والاحباط المستمر، يرمز إلى الضغط الداخلي والقلق الوجودي.

"صمتي في وحدتي": الصمت كملاذ، والوحدة كمساحة للتأمل الداخلي وحفظ الذات.

"أشلائي": استعارة عن الذات المجزأة والمتضررة من التجارب الحياتية والمشاعر المكبوتة.

"أعود على عجل دون أن أدري إليّ": التعبير عن التيه الوجودي، عدم اليقين في الحياة، والبحث المستمر عن الذات أو المعنى

2. الأسلوب والصور البلاغية:

١- المفارقة: استخدام "خطواتي الحمقى" مقابل "يصمتي يؤنسني"، يظهر التناقض بين الفعل والانفعال، بين الفوضى والسكينة الداخلية.

٢- الاستعارة المكثفة: "أشلائي" و"زحمة الوجوه" تعكس الانقسام النفسي والضياع الاجتماعي.

٣- الإيقاع الداخلي: الجمل القصيرة المتتالية توحي بالتيه والعجلة، كما يخلق التكرار الشعوري إحساسًا بالدوامة الداخلية.

3. الأبعاد النفسية والجمالية والدينية والحسية:

١- النفسية: يعكس المقطع صراع الإنسان مع اليأس، الضياع، الشعور بالانكسار، والبحث عن الذات في مواجهة الحياة.

٢- الجمالية: النص يستخدم الصور المكثفة لخلق إحساس حسي وعاطفي بالاغتراب، مع بناء لغوي متقن يوازن بين الفقد والحركة.

٣- الدينية/الأخلاقية: هناك توجيه ضمني نحو الصبر والاعتراف بالضعف البشري، وربما الاستسلام الجزئي للقدر أو للتجربة الروحية.

٤- الحسية: يعكس النص إحساس الجسد المتعب والروح المنهكة، حيث يُخاطب القارئ عبر الصور الملموسة مثل "زحمة الوجوه" و"أشلائي".

4. خريطة سيميائية (منهج غريماس)

الدور النص / الدلالة:

الفاعل الذات/الشاعر المتأمل والمتيه

المفعول اليأس/الحياة/الوجوه/الأشلاء

المرسل الضمير الداخلي/الصمت/العاطفة

المتلقي الذات/القارئ/الآخر الغائب

الغرض التعبير عن الضياع النفسي، البحث عن الذات، مواجهة اليأس والوحدة

بهذا التحليل التفصيلي لأربعة مقاطع رئيسية، يمكننا رسم خريطة شاملة للنص تُظهر الانساق المعرفية والعاطفية:

١- هناك انساق زمنية: الماضي والحاضر والمستقبل متشابكة.

٢- هناك انساق نفسية: الوحدة، الاشتياق، الفقد، التيه، الخطيئة.

٣- هناك انساق حسية وجمالية: الصور البصرية (القمر، الحمرة، الأوراق)، والصور الجسدية (الشفتان، الأشلاء).

٤- وهناك انساق رمزية ودينية: الصراع الأخلاقي، الاعتراف بالخطيئة، البحث عن الذات، الانتماء الثقافي والوطن.

الخاتمة المبدئية:

يمكن القول إن نص "عبثا تبحثين عنّي فيّ" للشاعر إدريس الواغيش يمثل فضاء شعرياً مزدوج البعد: شخصي ووطني، وجداني وفلسفي. إنه تجربة وجدانية مركبة تكشف عن الصراع النفسي العميق للذات، وعن الانغماس في الذاكرة، والاحتكاك بالماضي، والخوف من المستقبل. ومن خلال المنهج الهيرمينوطيقي والتأويلي والأسلوبي والرمزي والسيميائي، يتضح أن النص لا يروي مجرد قصة عن الحب أو الفقد، بل يقدم مرآة للذات البشرية في مواجهتها الزمنية والوجودية، ويعكس بعداً أخلاقياً ودينياً يتماهى مع الحس الوطني والثقافي للشاعر.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.....................

عبثا تبحثين عنّي فيّ

للشاعر المغربي إدريس الواغيش

عبثا تبحثين عنّـي فـيّ،

لن تجدني بين دفاتري

وأحلام قصائدي

ولا وسط صفـرَة أوراقي

لا أدري كم طريقا مشيتُـه إليك

ولا كم زمنـًا عشتُه فيك

وحين عدت متعبا إلي

وجدتك سرابا طاردتُه

كانت مجرد أوهام طفولتي

عصفت بي شهـوَتي العذراء إليك

والآن، لا أعرف كم سأحيى

إذ تسابقني خطوات الكهولة،

حين يعتريني سكون الليل

تغازلني شفتا امرأة تستجدي قبلة

يشدني قُـرص قمر في سماء قريتي

غرته حمُـْـرَته

والحمرة في استدارة وجنتيها

يلزمني سفـر موغل في أدغال الروح

تطوف بي مسالك الحياة،

وأطوف بها متكئا على وحدتي،

حين يُـغالبني الشوق إليك

أعيش شتاتي خارج جسدي

أستيقظ على هَـدي الخطيئة

أتحسّس الحاضر والماضي

أتهيأ لمسافات قادمات إلي،

إن طال بي العمر إلى آخر الدهر

تقودني خطيئاتي خارج الأمس

أحتمي بخطواتي الحمقى،

حين يلاحقني اليأس

يؤنسني صمتي في وحدتي

يضيع وجهي في زحمة الوُجوه

أحمل ما تبقى من أشلائي

ثم أعود على عجل مرة أخرى،

دون أن أدري إليّ...!!

***

من ديوان: عزلة تقاسمني صبري

العشق بوصفه صلاة متألمة

تسعى هذه الدراسة إلى قراءة قصيدة "عشقٌ معذَّب: أنتَ المعبود وأنا الصلاة" للشاعرة سرية العثمان قراءة نقدية تستند إلى المنهج التحليلي الصوفي ضمن مقاربة لغوية رمزية تبرز تحولات الخطاب العشقي من التجربة البشرية إلى التجلي الروحي.

وتقوم هذه القراءة على تفعيل أدوات المنهج التحليلي الصوفي الذي يدرس النصوص بوصفها تمظهرات رمزية لتجربة الاتحاد متقاطعاً مع مقاربة تحليل الخطاب التي تشتغل على اللغة كنسق دلالي مولد للمعنى الروحي.

ينطلق النص من علاقة ثنائية بين المعبود/المتعبد، إلا أنه يتجاوز الثنائية ليؤسس خطاباً وحدوياً تتماهى فيه الذات بالمطلق عبر بنية لغوية متوترة مشحونة بعناصر الألم والفناء، حيث يتحول الوجع إلى شرط معرفي للاتحاد و يتداخل المقدس بالجسد ليصبح "العشق" نفسه ممارسة صلاتية وجودية.

تطرح هنا الفرضية الآتية:

إنّ قصيدة "عشقٌ معذَّب" تعيد إنتاج خطاب العشق الصوفي ضمن بنية شعرية حرة معاصرة تجعل الألم وسيلة لتجسيد مفهوم الفناء في المحبوب وتحيل اللغة إلى طقس عبادي يتحقق فيه حضور الإله عبر انكسار الذات.

القصيدة تبني "مذهب ألماني" للصلاة: فالألم ليس عائقاً عن اللقاء بل شرط لانسلاخ الذات والارتقاء إلى حالة اتحادية صوفية. النص يعيد تدوير صور التصوف التقليدية في إطار لسان معاصر حر يمزج الجسد بالدعاء لتقديم تجربة صوفية تقرب العشق من الطقوس اليومية (الدم، الملح، الدموع).

الإطار النظري

يستند التحليل إلى مفاهيم أساسية في التصوف الإسلامي أبرزها:

الفناء والبقاء كما عند ابن عربي و الحلاج: حيث يذوب العاشق في المحبوب حتى تمحي الأنا في الأنت.

وكما يذهب ابن عربي في الفتوحات المكية إلى أن الفناء هو اكتمال العشق حين تذوب الذات في الآخر المطلق، فإن هذا الذوبان يتحول في النص إلى فعل لغوي يعبر عن وحدة العابد و المعبود داخل تجربة الوجدان الشعري.

الجرح كرمز للمعرفة: الألم شرط الإدراك كما في قول الرومي: "إنّ الجرح هو الموضع الذي يدخل منه النور".

ويؤكد الرومي في المثنوي أنّ الجرح موضع النور والمعرفة، إذ يصبح الألم أداة كشف روحي تفتح الوعي على المطلق، وهو ما تجسده القصيدة حين تجعل الوجع وسيلة حضور للمعبود.

اللغة الطقسية: الدعاء والمناجاة والنداء بوصفها أشكالاً لغوية لإقامة الصلة مع الغيب. تتحول اللغة في التجربة الصوفية إلى معراج للروح وأداة للفناء في المعنى.

التحليل النصي:

العنوان والدلالة الميتافيزيقية

يؤسس العنوان "أنْتَ المَعْبود وأَنا الصَلاة" لمعادلة معرفية عميقة: فالمتكلم لا يصف ذاته بالمحب أو العابد فقط، بل يجعل من كيانه فعل عبادة خالص، حيث تغدو الصلاة ذاتها تجسداً وجودياً للعشق.

هذه الصيغة تكشف عن وعي صوفي يقارب الفكر الحلاجي مع فارق أن الشاعرة تحافظ على المسافة الشعورية بين الانمحاء والالتماس، أي بين الفناء والرغبة في البقاء بظل المحبوب.

الجسد بوصفه معبراً نحو المطلق

تعمل الشاعرة على تشكيل معجم روحي جسدي يمزج بين ماديات الألم ورموز الطهر ويتضح ذلك في قولها:

"يَذُوبُ حُبُّكَ مِلْحًا فِي دَمِي،

فَلَا أُمَيِّزُ بَيْنَ مِلْحِكَ وَمَائِي،

وَلَا بَيْنَ دَمِي وَدُرُوبِكَ."

في هذا المقطع تتجلى استعارة الانصهار الجسدي بين العاشق و المعبود، حيث يمتزج "الملح"(رمز الحفظ والوجع) بـ"الدم" (رمز الحياة) لتغدو الذات موضع تأله جسدي.

التحام الملح بالماء يحيل إلى جدلية التطهير والألم: الحب يطهر كما يجرح.

وهكذا تعيد القصيدة الاعتبار للجسد بوصفه موضعاً للتجلي، حيث يتحقق العشق عبر الحضور الجسدي لا عبر محوه في التقاء بين الحسي والمقدس يذكر بما ذهب إليه ابن عربي حين رأى في الجمال المخلوق أثراً من جمال الخالق.

وإذا كان الجسد في القصيدة بشكل معبراً نحو المطلق ومجالاً لتجلي التجربة العرفانية في بعدها الحسي، فإن القصيدة تنتقل بعد ذلك إلى مستوى أعمق من التجربة هو الطقس الداخلي الذي يتجلى في الألم المسبح والمعرفة المتولدة من الوجع.

الطقس الداخليّ والوجع المسبح

تقول الشاعرة:

"أُغْمِضُ قَلْبِي عَلَى طَعْنَةٍ تُسَبِّحُ بِاسْمِكَ،

كَأَنَّكَ الرَّحْمَةُ،

وَكَأَنَّنِي الصَّلَاةُ الَّتِي لَا تَكْتَمِلُ إِلَّا بِوَجَعِكَ."

يتجلى هنا منطق الألم العرفانيّ: فالصلاة بوصفها فعلاً من الانضباط الروحي لا تكتمل إلا بالوجع، أي إن الألم يتحول إلى ركن من أركان العبادة.

يتخذ الجرح وظيفة معرفية ولغوية في آن معاً، إذ إن الطعنة تسبح باسم المعبود فيصبح الألم ذاته لساناً للتقديس.

بهذا تعيد الشاعرة صياغة مفهوم "الابتلاء" القرآني بلغة وجدانية تماثل ما يسميه الرومي العشق الإلهي الذي يطهر القلب من ظلاله.

إنّ العلاقة بين الجرح والمعرفة في النصّ تحيل إلى ما تصفه آنماري شمل ( Annemarie Schimmel) بـ" نار التحول الصوفي"، حيث يصبح الألم وسيلة تطهير وارتقاء.

ولئن كانت الشاعرة تكتب جرحها بلغة مفعمة بالجسد، فإنها تلتقي هنا مع عبد الكبير الخطيبي الذي يرى أن "الكتابة لا تكون أصيلة إلا حين تكتب الجسد بجرحه"، إذ تتحول الكلمة إلى جسد متعبد في اللغة.

ومن منظور نقدي حديث، يمكن القول إن النص يجسد ما وصفه رولان بارت بـ"لذة النص"، أي تداخل اللذة والألم في التجربة اللغوية، حيث تتحد العبادة بالحب لتنتج صلاة جسدية تذوب في المطلق.

جدلية الهروب والسعي

تقول الشاعرة:

"لَمْ أَعُدْ أَهْرُبُ مِنْكَ،

بَلْ صِرْتُ أَسْعَى إِلَيْكَ

كَمَا يَسْعَى الظَّمْآنُ إِلَى النَّبْعِ،

عَارِفًا أَنَّهُ خُدْعَةٌ،

وَلَكِنَّهُ الخُدْعَةُ الوَحِيدَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الخلودَ."

في هذا المقطع يبرز التحول من موقف الرفض إلى مقام التسليم.

الظمأ والخداع والخلود مفردات تنتمي إلى المعجم الصوفيّ للامتحان والمعرفة.

فالمحب "يعرف أنّها خدعة " لكنه يختارها لأنها تفضي إلى الخلود الرمزي، أي إلى الفناء في المطلق.

إنها خدعة العشق التي تحدث عنها النفري في قوله: "أوقفني في العشق وقال لي: هذا موت لا موت بعده ".

وإذا كان هذا المقطع يعبر عن حركة العاشق في بعدها الخارجي، أي انتقاله من الهروب إلى السعي، فإن القصيدة تنتقل بعد ذلك إلى البعد الداخلي لهذه الرحلة، حيث يصبح النداء والمناجاة شكلاً من أشكال السعي الروحي الذي يتجاوز الجسد ليبلغ مقام الرجاء الصوفي.

التوسل الندائي والرجاء الصوفي

ورد في النص:

"يَا سَاكِنًا فِي صَمْتِ أَوْرِدَتِي،

أَمَا آنَ لِجَلالِكَ أَنْ تَسْتَجِيبَ لِمُنَاجَاتِي؟"

يستعيد النص هنا لغة الدعاء القرآني في صيغتها الندائية لتتجلى العلاقة بين الداخل الجسدي ("أوردتي") والقداسة العليا ("جلالك").

الجمع بين "الصمت" و"الأوردة" ينتج مجازاً عميقاً للحضور الإلهي في الدم. الإله يسكن مجرى الحياة، لكن صمته يؤكد المسافة المستمرة بين العاشق والمحبوب.

هكذا تعيد الشاعرة رسم التجربة الصوفية في قالب لغوي مؤنث يجعل المناجاة امتداداً لنبض الجسد نفسه، حيث يتحول الخطاب من السعي إلى الاستغاثة ومن الحركة نحو الخارج إلى انفتاح الداخل على نداء الغيب.

وإذا كانت المناجاة في المقطع السابق تمثل ذروة الانفعال الصوفي حيث يتجلى النداء بوصفه وسيلة اتصال بين العاشق و المعبود، فإن النص لا يكتفي بهذا المقام، بل يتجاوزه إلى مرحلة أعمق هي مرحلة الفناء. فبعد أن يرهق النداء اللغة بجهد الرجاء تتجه الذات نحو الصمت المتعالي حيث لا يبقى للقول سوى أن يذوب في المحبوب. هنا تتحول التجربة من خطاب الدعاء إلى تجربة الذوبان ومن نداء الحضور إلى سؤال العدم الذي يؤسس لما يمكن تسميته "الفناء الاختياري ".

خاتمة النص: نحو فناء اختياري

ورد في النص:

"ذُبْتُ بِكَ...

فَهَلْ لِرُوحِي أَنْ تَفْنَى بِجَلاَلِكَ؟"

ينتهي الخطاب الشعري بسؤال مفتوح يعبر عن تعليق الفناء، أي رغبة غير مكتملة في الاتحاد.

إن فعل الذوبان ("ذُبتُ بك") يعلن الوصول إلى العتبة، بينما السؤال الختامي يعيد الذات إلى دائرة التوق.

بهذا تحافظ القصيدة على دينامية الصعود الصوفيّ المفتوح فلا تبلغ النهاية، بل تستبقي المسافة كشرط لاستمرار العشق.

وبالتالي نجد أن قصيدة "عشقٌ معذَّب" تكشف عن خطاب صوفي معاصر يتأسس على جدلية العبادة والألم، حيث تتحول اللغة إلى طقس تعبدي والجسد إلى فضاء لتجلي المعنى والوجع إلى وسيلة للمعرفة الروحية. ومن خلال هذا التداخل بين الجسد و المقدس تبلور الشاعرة رؤية صوفية حداثية تعيد صياغة مفهوم الصلاة بوصفها حالة عشق وجودي يتحد فيها الروحي بالمادي.

إنّ هذه القراءة تبرز أن سرية العثمان لا تكتب تصوفاً تقليدياً، بل تعيد إنتاج التجربة العرفانية في أفق أنثوي حديث يجعل الجسد وسيطاً بين الغيب واللغة، ويحول القصيدة إلى ممارسة لغوية للعبادة الجمالية، حيث يتحقق الفناء عبر الجمال لا عبر الزهد و يغدو الجرح موضع الجلال ومعبر الخلاص الشعري.

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله

..........................

عشقٌ معذَّب: (أنْتَ المَعْبود وأَنا الصَلاة)

يَذُوبُ حُبُّكَ

مِلْحاً فِي دَمِي،

فَلَا أُمَيِّزُ بَيْنَ مِلْحِكَ وَمَائِي،

وَلَا بَيْنَ دَمِي وَدُرُوبِكَ.

*

أَفْتَحُ يَدَيَّ عَلَى شَوْقٍ لَا يُرَى،

وَأُغْمِضُ قَلْبِي عَلَى طَعْنَةٍ تُسَبِّحُ بِاسْمِكَ.

كَأَنَّكَ الرَّحْمَةُ،

وَكَأَنَّنِي الصَّلَاةُ الَّتِي لَا تَكْتَمِلُ

إِلَّا بِوَجَعِكَ.

*

مُنْذُ أَنْ نَادَى الجُرْحُ بِاسْمِكَ،

وَكُلُّ خَلَايَايَ تُلَبِّي.

لَمْ أَعُدْ أَهْرُبُ مِنْكَ،

بَلْ صِرْتُ أَسْعَى إِلَيْكَ

كَمَا يَسْعَى الظَّمْآنُ إِلَى النَّبْعِ،

عَارِفًا أَنَّهُ خُدْعَةٌ،

وَلَكِنَّهُ الخُدْعَةُ الوَحِيدَةُ الَّتِي تُشْبِهُ الخلودَ.

*

يَا سَاكِنًا..

فِي صَمْتِ أَوْرِدَتِي،

أَمَا آنَ لِجلالك أَنْ تَسْتَجِيبَ لِمُنَاجَاتِي؟

أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تُنقذ قَلْبي مِنْ لَحْنِه ؟

أمَا آنَ أنْ تَرْحَمَ صَحْوي وَجَفَائي؟

أمَا آنَ أنْ تَحْتَسِي صَفْوَ دُمُوعِي؟

فَأَذوبُ فيكَ!

فَكُلُّ لَيْلَةٍ أَنُوحُ،

وَكُلُّ فَجْرٍ أَنْكَفِئُ عَلَى جُرْحٍ

يُسَبِّحُ لَكَ.

*

لَيْسَ لِي دُعَاءٌ

إِلَّا أَنْ أَبْقَى بِكَ،

وَلَا نَجَاةَ

إِلَّا بِالتِّيهِ فِيكَ.

ذُبْتُ بِكَ...

فَهَلْ لِرُوحِي أَنْ تَفْنَى بِجَلاَلِكَ؟

***

سرية العثمان.

٢٠٢٥/١٠/١٦

جمالياً ودلالياً.. الشاعر موفق الحجار والفنانة بتول احمد نموذجا

بين الشعر والرسم شجون ورؤى، في كلّ منهما ينسج الفنّان أو الشاعر رؤيتهما وتجربتهما، الأوّل بالألوان والدوائر والأشكال، والثاني بالكلمات والصور.. فتتشابك وتتداخل هموم الشاعر والفنّان لتكشف لنا علائق جديدة وتصنع عالماً جديداً للصورة.

فالرسام يستعمل الريشة والألوان في تنفيذ مفردات اللوحة التشكيلية، في حين يستعمل الشاعر المفردات ويصوغها في قالب فنّي مؤثّر وفق نهجه ورؤيته الخاصة وعبر تقنية لغوية... كلاهما يتركان أثرهما في المتلقي سواء أكان مستخدماً المفردات والإيقاع أم عناصر فن الرسم.

 ان الخاصية التصويرية في الشعر تجعله قريبا للرسم، ومشابها له في بعد اساسي من ابعاد التشكيل والصياغة، والتأثير والتلقي فالاعتماد على التصوير والتشخيص والتشكيل ظاهرة مشتركة بين الشعر والرسم، ربما ذلك كان السبب الذي اتكأ عليه الفيلسوف اليوناني سيمونيدس” (ت 465 ق. م) كي يقول:

(الشعر رسم ناطق، والرسم شعر صامت) في إشارته إلى علاقة فنية جوهرية بين الشعر والرسم، وان اختلفا في المادة التي يصاغ منها، وبنفس الصيغة يقول ليوناردو: "الرسم شعر صامت، والشعر رسم أعمى".

يعتبر النص الشعري من الوسائل التي مكنت الشاعر السوري المقيم في ملبورن موفق الحجار (في مجموعته الشعرية - أنتروبية شعرية) من رسم مسار حياته، رغم أن الشاعر في مجموعته هذه حاول ومنذ العتبة الأولى (الغلاف) توظيف الصراع النفسي الحاد الذي لازمه مع المتغيرات التي حوله والذي يوحي بها من خلال الغموض المتمثل بحجب الرؤية عن عينيه كي لا يرى ما يجري من حوله كونه قد تشبع من رؤيا المظالم، وحماية صلعة رأسه بكف يده كي يحميها من شظايا القذائف، إلا أن قصائده كشفت عن شغفها الحسي عبر التأويلات التي اتسعت في الرؤيا عبر تقانات الشكل الى حيث تفجرت طاقته الابداعية عبر لعبة الوصف، والتلمّس، وعبر التصاق القصيدة وملفوظاتها بهاجس كل منا. تمثلات الشاعر ليست بعيدة عن رؤياه الشعرية كونها تتقمط هواجسه حيث بدت قصائد المجموعة وكأنها مرايا، تتسع لمرآى أناه المنطوية كونها حكايات مسكونة بتمثلات وجودية، وحيث ينامُ كلُّ العاشقينَ على وسائد شوقِهمْ، وتضجُّ أركانُ السريرِ على أحاديثِ الأرقْ أما هو فهو يلوح، للرفاقِ وللحَكايا، والطُرُقْ (قصيدته مشهد ليلي في كوالالمبور).

بالمقابل ركزت الفنانة بتول على اللون الأزرق الداكن لتشير الى عمقها الداخلي كي لا تستطيع العين المجردة رؤية ما تكتنفه في اعماقها، لذا تراهما قد حـشّدا عن طريق الحدس دلالاتهما بغية الكشف عن معاناتهما التي تجسد من خلال ذلك معانات شعبهما ليعطيا (لنصه / للوحتها) زخماً قوياً خدمةً لجماليته.

وهذا ما يقوله الشاعر في نصه (كلماتٌ غيرُ موجودةٍ في القاموس):

أبني غدي

أعلو على درجٍ من الخيباتِ

أختصرُ الصعودَ، بجملةٍ شعريةٍ،

أتعكزُ الماضي وتحملني الشجاعةُ

حينَ أسقطُ في الحنينِ

ولستُ أشكو.

النص ينطق من منطقة الجرح العميق لا من القاموس، حيث يلتقي الخوف والقلق بالحنين، والموت بالحياة، فهو يعاني انشطاراً داخلياً بين الواقع المدمّر والحلم المستحيل.

2042 nazarوبالمقابل تقف اللوحة الفنية للفنانة بتول بلونها الأزرق الداكن مع القليل من الاسود والابيض وهما في صراع دائم لاعتلاء الكرسي أو الهبوط في الفوهة. هي الأخرى تحاول أرسال أنويتها المحملة بآهات الشجون عبر ظلال يجسده التدرج بين الازرق الغامق (النيلي) والأزرق الفاتح من ذوات العلاقة الوطيدة بحياتها اليومية سواء في الداخل او في محطات المهاجر.

فاللون الأزرق بتدرجاته نحو الداكن وتزاوجه مع البنفسجي بتدرجاته أرادت به الرمز إلى مشاعر البرودة والعزلة والحزن لدى الإنسان، فضلاً عن الأبيض الذي يرمز إلى الصفاء، والهدوء، والأمل والى بصيص النور وتوليفه مع الاسود الذي يرمز الى العتمة في المسيرة. وكما في لوحاتها الأخرى تسيج الفنانة لوحتها بخطوط رفيعة قابلة للاختراق كاختراق الحدود.

 كلاهما (النص واللوحة) تتشظيان في اعماقنا وتنقلنا بتجربتهما (الشعرية / الفنية) الى مديات بعيدة مما يسمح لإنعكاسات صورهما الشعرية والفنية من ملامسة ودغدغة أحاسيسنا الداخلية بكلمات وجمل مموسقة أو خطوط وألوان للكشف عن الأنا الكلية والتي تعمل مجتمعة كي تنحو بالإبداع نحو التوازن في تجربتهما. لاسيما فيما يتعلق بتكوين الصورة في اللوحة المرسومة والقصيدة المكتوبة.

فانحازت قصائد الشاعر السوري موفق مثلما لوحات الفنانة بتول الى مايشبه الهاجس اليومي، حيث يحضر الآخر في أعمالهما بوصفه رمزا ويحضر اعمال (الشاعر / الفنانة) بوصفها إنعكاسا لتصرفات ندهما الآخر عبر سيل من الصور الجميلة التي تشبه لوحات رسم، كما في قصيدته (توليبُ الأربعاء):

تقولُ يا صديقَنا:

لا شمسَ في ديارِنا

وماؤكَ القليلْ،

لا ينفع الورودْ! ونحن آسفونَ أن نقولَ

متعبونْ!

وآسفونَ: زهرةُ التوليبِ

لا تعيشْ!

في غرفةٍ صغيرةٍ

ليست بها فتاةْ

فاذهبْ بغيرِ رجعةٍ

وعانقِ الحياة!

الشاعر اشتغل على دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري فتتفجر طاقتها في عملها عبر لعبة الوصف، والتلمّس، (وماؤكَ القليلْ لا ينفع الورودْ، زهرةُ التوليبِ لا تعيشْ في غرفةٍ صغيرةٍ، فاذهبْ بغيرِ رجعةٍ،...) لأن التأويل يتولد وفق مشاعره الشخصية، ومن خياله الخاص. فتصبح اللغة مُولّدا للغموض، فينمو الخيال، و يصبح العالم مدهشا، والحياة اليومية مقلقة.

2043 nazarوهكذا في لوحة الفنانة بتول، حيث اشتغلت هي الأخرى على دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري فتتفجر طاقتها في عملها هذا من خلال إمرأة تقمطت الخوف والرعب وهي تحاول بحذر تلمس فنجان قهوتها. لقد جاء التوهج نحو آفاقها الرحبة في لوحتها هذه من خلال التزاوج بين اللون الوردي الفاتح والقهوائي الممزوج بالوردي وتوليفهما مع الازرق ليدلّ على القوّة والإثارة، العاطفة والحبّ. ويرمز إلى الدم وحبّ المغامرة لتقول لنا إنها موجودة مع الإنسان لتكافح معه رغم كثافة كتلة السواد (شعر رأسها) المخيفة والدالة على عربية النشأة. حيث استطاعت من خلال لوحتها هذه بث أحاسيسها الوجدانية.

تثير الألوان المستخدمة في لوحاتها ودرجة ظلالها انفعالات متعددة توحي من خلالها الفنانة بتول بحجم الصراع الذي تبنته (كناية عن أمهات شعبها في المخيمات والأزقة).

أن القيمة الجمالية للألوان فى العمل الفنى كهذا، لا تنحصر فى مجرد الإحساس باللون منفصلاً، وإنما متداخلا ومتفاعلاً، من خلال توليفاتها ما بين إدراكها المحسوس وتأملها كقيمة معنوية تؤلف بين عناصر (نفسية وذهنية وبلاغية).

استخدامها الكثافة في كتلها اللونية من خلال ضربة فرشاتها التي تجعلها تلامس السطح بقوة لتعكس لنا ما تذهب إليه عند مواجهة السلبية في أمر ما أو واقع ما حيث لا بد من تدمير ذلك الواقع الموصوف من خلال استخدامها كتلاً لونية من أجل التعبير عن ثقل الأشياء وكتلتها لخلق واقعية جديدة.

تُعَدّ نصوص المجموعة الشعرية للشاعر نموذجاً شعريا للنصّ الشعريّ الذي يتجاوز حدود البوح الذاتي إلى أفق الواقع الحالي المحمل بالمعانات الانسانية انه عالماً شعرياً مكتملاً ينبض بصور جميلة تتفاعل من خلالهما الذاتي مع الكلي، حيث تتقاطع الرؤية وقدّسية الانسان في الجمال والخراب، العيش الكريم والرحيل في متاهات الحدود التي تفصل الدول، معتمدا على جمالية التلقي عبر حوارية عميقة بين النص والقارئ، تدفعه إلى أن يكون شريكاً فاعلاً في بناء الدلالة، لذا ليس لقصائده مكان، وكيف يكون هناك مكان وهو لا يملك وطن وكما يقول في قصيدته (الماء ذاكرة السماء / بلادٌ ليس نسكنها وتسكن في مواجعنا فكيف نحبُّ ذكراها، وذكراها ستؤلمنا؟).

 مثلما ليس للوحات زوجته بتول مكان في المدينة أو في الوطن بقدر ما هي تأمّل في مصير الكائن داخل العالم المعاصر؛ كقول الشاعر في قصيدته (آسيا):

في بابِ بيتي،

دفترٌ للذكرياتْ،

في المطبخِ المدفونِ تحتَ غُبارِنا،

عفنٌ بحجم فراقنا.

في الجوِّ يعصفُ،

بعد كل قذيفةٍ،

صمتٌ يفوق ضجيجنا

وأمام كلِّ الغائبين،

تَرَيْنَ شوقَ الأمهاتْ.

وفي لوحتها هذه لم يبقى للانسان الا هيكله العظمي بسبب حصر رأسها بين قضبان السجون كاشارة الى كبت الحرية في أوطاننا، فأبيدت الانسانية. لذا تراها قد غلفتها بالاسود في إضفاء روحها وما تكنه نفسها لإعطاء المضمون الفني روعته في اللوحة، وذلك لما للون من قيمة رمزية معبرة عند الفنانة؛ فنشأ في لوحتها هذه ثنائية (الضوء/ الظلمة)، فتأثر المكان والذات المدركة بطبيعة اللون.

2044 nazarفكما الكلمات لدى الشاعر هي عظيمة الأهمية، هكذا هو اللون بالنسبة للفنانة فالذوق الأدبي أو الفني يُستدَلّ مما يشيعه (النص/ اللوحة) من دلالات وصور وايحاءات في الفضاء الشعري والفني حيث تتقاطع التجربة الوجودية والروحية ضمن رؤية رمزية عالية الكثافة، تُعيد صياغة علاقة الإنسان بالكون والذات والآخر والقداسة. كلاهما يسعيان إلى إعادة اكتشاف العلاقة بين الصورة والعالم، بين الذات والآخر، بين الجمال والألم، عبر (لغةٍ / لون) مشحونةٍ بالاحساس والقلق، تنبض بوعيٍ لقراءة الآتي، كلاهما يرسمان الإنسان الذي ضلّ طريقه بين حدود الدول عبر رموز حبلى بلغة تتوهج بين السردي والتأملي أو ألوان كثيفة والصورة، ومن افرازاتهما نتج إيقاعاً هارمونيّاً يوازي التوتر الداخلي لكل منهما، كلاهما يجسدان الخراب فتحيلان القبح إلى لوحة غامضة كغموض المستقبل متكئان على جمالية التناقض والتشظي لاكتشاف الذات.

يقول الشاعر في قصيدته (الثالثُ عشر من آب):

كم كنتُ أعرفُ أنَّ شيئاً داخلي

حتماً يموتْ

لا لستُ أذكرُ..

كنتُ أكتبُ،

كانَ أهلي نائمين،

وأخي يُتمُّ بناءَ مشروعٍ

لإعمار البلادْ.

وأنا أتمُّ قصيدتي،

سقطت هناك قذيفةٌ

سقطتْ بلادي إثرها

ثم انحنى شجرُ الطريق

2045 nazarهذه القصيدة تُحيلنا الى المدينة التي كانت في السابق مكاناً ووطناً ولم يبقى لي منها إلا ذاكرتها وحكاياتها، والى صوت القذائف التي كانت تمطر على المدينة، فولدت لديه الخوف والبحث عن أشلاء حلم العائلة، بوصفه الشاهد الوحيد على مايتبدى من صور الحضور على ما يصطخب بها صوت القذائف من قلق وجودي، وبكل ما ينعكس من خلالها على ملامح الأشياء المُهددة بالمحو. وهذا ما جسدته لوحة الفنانة لصورة خيال إمرأة أو رجل بحجم الوطن متقمطة الأزرق الداكن مع بقعة بنية وخطوط صفراء كدلالة لمساحة الحدود الواجب التحرك من خلالها أو تزاوجها بسبب الظروف التي جعلتنا ننزوي في داخلنا. فالأزرق الذي يملأ المساحة توحي به للاستقرار والنجاح والهدوء ولكن المصير هو على عكس ذلك لذا جاءت الصورة بالازرق الداكن مع بقع من البني المائل الى لون الدم والاصفر كل هذا لتوحي لنا إلى قوة الإصرار للبقاء والعيش.

تبدو معالم أثر ضربة الفرشاة واضحة في السحب والتركيد في العديد من لوحاتها، ما يعكس قوة الصراع مع الآخر لتسرح بها بصيرة المتذوق؛ فهي تجيد اِستخدام الألوان الداكنة كالازرق الغامق والبني الذي يميل الى الاحمر لتثري نسيج اللوحة وتغني عمقها.

تبدأ جماليات التلقي عبر الصورة التي التقطها الشاعر بالتوازي مع تلك التي جسدتها الفنانة كي يخلقا فضاءً من الحركة الناتجة من الصراع بين الذات في مواجهة الرياح العاصفة. كلاهما يرسمان مشهد الكائن المعاصر في غربةٍ كونية، على رصيف العمر، أي على هامش الزمن، وضياع المقدّس كقول الشاعر في قصيدته (سيزيفُ المعاصر):

ونحن واهمونْ

نسير واثقينَ للتحررِ الكبيرْ

نناهض التمييزْ

نناصرُ النساءْ

نحبُّ من يحبُّنا

ونكرهُ الرياءْ

لا فرقَ في ألوانِنا

 فكلُّنا سواءْ

سويةً نضيعْ

بفكرةِ القطيعْ

وهذا ما جسدته الفنانة بلوحتها من خلال تجسيد صورة إمرأة تقمطت لتأخذ صورة كورسياً بسبب نظرة مجتمعنا الشرقي الضيقة الى المرأة بدلا من أن تكون مصباحا يرشدنا، لذا تراها قد استسلمت للواقع وتقمطت مع طبلة سوداء لتكون كورسيا رغم أن في رأسها ما يكفي لينير الطريق أو لربما لتقول لنا باب بيتنا مغلق فلا مجال لاستقبال الأحبة.

الفنانة استخدمت اللون الازرق بتدرجاته وخطاً أصفر يرشدنا الى حيث الرأس الحامل مشعل النور.

2046 nazarالفنانة تمارس خبرتها الحسية والجمالية في لوحتها من خلال تداخلات نفسية وذهنية، فاللون فى لوحتها له قوته التعبيرية، وبوسعه أن ينقل معانى الرقة والتألق والابتهاج.  رسمها للمرأة فى لوحتها هذه بجسد هامد ومساحة لونية مصمتة يعكس المكان الذى ينأى عن تعقيدات حياة الانسان المعاصر. تجربتها الفنية التي عكست لنا رموز الألوان المستخدمة ودلالاتها وتعاملها مع اللون، تجدها دائماً تتمركز عند اللون الازرق. هذا اللون هو الذي يكشف لنا عن طبيعة الفنّانة وشجونها ورؤاها، كونه يعبّر عن جميع النواحي الجمالية عن طريق التوافق وفق قانون جماليّ من الصعب تحديده ولكنه مختمر في بصيرة الفنّانة لتعبر عن عالمها الخاص وعن أحاسيسها التى أيقظتها الألوان.

الإبداع الشعري أو الفني التشكيلي يمرّ من خلال الخيال، واستكشاف الواقع وتحويله، وهذا يعني للمبدع اكتشافَ العالم، وامتلاك العالم، وفي نفس الوقت اكتشافَ الذات والآخرين كقول الشاعر في قصيدته (مطر المعاني):

أفتحُ البرّادَ،

أشربُ رشفةً من حزنِ أمّي،

ثم أدخلُ غرفتي

وأنامُ تحتَ "التختِ" أحلمُ كيفَ أنّي..

حينَ أكبرُ سوفَ أمضي

نحو أرضٍ

لا ينامُ الوردُ فيها في فساتينِ النساءِ

وليس فيها ياسمينْ

عبارة (رشفةً من حزنِ أمّي) بحالها تفضي بنا منذُ اللحظة الأولى إلى المزيد من الشّد النفسي للشكل المتحرك وهو في حالة الاستسلام وحيث تتحرك هذه الهواجس فجأة وتتحول إلى أشياء تتراءى بقدر التخيلات المتحفزة في أعماق الذات. فهو لا يصف فقط مأساة خارجية، بل أيضاً انكسارًاً داخلياً في الذات التي تعيش صدمة التهجير والاقتلاع.

2047 nazarوهذا ما تجسده لوحتها الفنية التشكيلية هذه وهي عبارة عن مساحة رسمهتا أو صورتها عواطفها وروحها وألوانها، وضمّنتها أفكاراً وأهدافاً لتحاكي المتذوّق، فهي في النهاية عمل اِستخدمت فيه العقل والعاطفة معاً. فالفنانة تعاملت مع الألوان (الأزرق بتدرجاته) والبقع الصفراء الداكنة وعيدان الكبريت البيضاء يرؤوسها الحمراء لما لها من طاقة وزخم وشحنات وإيقاع سكبت في اللوحة رؤاها كي تبوح من خلالها رؤيتها التي تتلمس بحواراتها الاِضطراب فأفرزت لنا شخصية يكتنفها الغموض في مستقبلها؛ فتحولت إلى شبح. لذا تراها تشدد كثيراً على اللون الأزرق القاتم.

وختاما نقول:

الإبداع لديهما، سواء كان شعريا أو فنيا تشكيليا، فإنه يغرف مواده من الواقع والخيال يتألّف من صور وأحاسيس وتصوّرات له جذوره في الواقع ويمر بالضرورة عبر الحواس، وهو دائم الاشتغال والإدراك الحسّي للأعمال الشعرية أو الفنية التشكيلية لذا أنتج لنا قصائد / لوحات غنية بتأويلاتها وانعكاساتها.

كلاهما يجسدان بلغة تصويرية تنبثق من صميم القلب، لغةً ترنو وراء الحلم في الدروب المعتمة من أجل أن يطلقا شعلة الحرية.

كلاهما يستمدان قوتهما من الشعور بالحب ومن هموم الواقع؛ فيرسمان لنا عالماً جديداً.

كل هذا يكشف لنا عن فضاء اِشتغالاتهما الأدبية والفنية ورؤاهما التي تكونت لديهما من خلال انعكاسات الواقع عليهم، وردة فعل الذات المبدعة لديهم تجاه سطوة الآخر.

كلاهما يرسمان لنا صورة معبرة عن الأنا المكتظة والمثقلة بأحاسيس تضطرب من أجل الانفلات من سجنها لتكون حرة.

***

نزار حنا الديراني

مقدمة: ورد في البيان والتبيين لأبي عثمان الجاحظ ما يلي: (فنون القول في صناعة الشعر طويلة والعمر قصير) وهو يعني بذلك كثرةَ ممُكنات التّعامل مع اللغة في الشّعر واتّساع مجالات توظيفها إلى درجة أنّ العمر بحاله لا يكفي للإمام بها والإيتاء عليها.. بما يفضي إلى لا نهاية التجديد والابتكار فيها على مرّ الزّمن وبالتالي ما يولّد لا محدوديّة عيار التّقييم لمدى جودتها ودرجة مهارة أصحابها في سبك الخطاب الشّعري وحبكه..

بذلك يظلّ الشعر عموما وشعر عصر الحداثة وما بعدها مِن تجريب يقصر العمر عن خوض بحره وشقّ غمره كما يقصر عن الإلمام بجزئياته وكلّياته خاصّة في واقع عربيّ مأزوم شهد انفجارا في كلّ شيء بما في ذلك الكتابة على اختلاف اجناسها وخاصة الشّعريّة منها وبشكل خاصّ تلك المنسوبة إلى المرأة.. ورغم هذا السّيل غير المسبوق من الشعر النّسائي في تونس تحديدا استطاعت أحلام بن حورية ابنة حمام الغزاز وجارة البحر ان تحوز لنفسها مكانا لا بأس به في هذا الوسط الزّاخر بالأصوات النّسائيّة في تونس وفي البلاد العربيّة رغم أنّها تُعتَبر مُقِلّة من النّاحية الكمّية مقارنة بغيرها.. وذلك من خلال إصداريها: * مجادل * (2020) الذي رامت فيه البلوغ بالقصيدة إلى مرتبة تضاهي المجدليّة قدرا والمجدل سموقا.. و* ومضت * (2024) الذي رامت فيه البلوغ بالقصيدة إلى مرتبة النّورانيّة خاصّة وهي تضع له عنوانا هذه الجملة الفعليّة المبنيّة بلاغيّا على " جدليّة تجويع اللفظ وإشباع المعنى" فإذا بها حمّالة تأويلات في إسناد الفعل: " ومض" إلى المؤنّث مطلقا.. "ومض" هذا الفعل الذي يعني في العربيّة (لمع لمعانا سريعا ومبهرا يخطف البصر فيُدهِش المُبصِر.. وهو فعل البرق عنوان الخصب والخير والماء قوام الحياة.. وكذلك فعل السّيف عنوان حفظ الكرامة وشرف الحياة..)

(أ صاحِ ترى برقا أريك وميضه

كلمع اليدين في حَبيّ مكلّل - معلقة امرئ القيس)

فمن تكون أو ماذا تكون هذه الأنثى التي أسنِد إليها فعل الوميض؟؟ وهل ومضت في سياق الحقيقة ام في سياق المجاز الذي يحقق جماليّة العدول في العبارة الشّعرية؟؟

وماهي تجلّيات فعلها في قصائد المجموعة الأربع والخمسين؟؟

العنوان وأصداؤه في المتن ومنزلة ذلك في تكوين الرّؤيا الشعرية:

إذا افترضنا بداية انّ التي ومضت هي القصائد المؤسِّسة لرؤيا الشّاعرة في الكتابة عموما وفي هذه المرحلة من تجربتها خصوصا نتبيّنها اساسا في مستويات ثلاثة: الإهداء - قصائد البدء والعَود - خصوصيّة اللّغة اختياراتها وتوظيفاتها..

1 - وميض الإهداء بطابعه الصّوفي في الارتقاء بالفعل الإنساني الخلّاق تثمينا وإجلالا الي مراتب النّورانيّة من خلال رمزيّة اليد / الكفّ النّيّرة وما تعنيه من دلالات خاصّة في علاقتها بالإنجاز والإنبات تأصيلا وتجذيرا وخلقا (إليك وإلى كلّ مَن يسكب ضوءا في كفّه لِيُنبِت ذاته) ولعلّ الكتابة بهذا المعنى شكل من أشكال الإنبات النّيّر في مواجهة ظلمات القعود والخمول وتصحّر المعنى...

2 - وميض قصيدتي البدء والعود على بدء:

فالقصيدة الأولى (ص 13) تردّدت عبارة " الشمس" خمس مرات مع " القمر" و" الشعاع "... في مقاربة بين الذّات الشاعرة المؤنّثة وبين النّورانيّة (أنا امرأة... تنقش شامات على وجنات قصائدها... تقف في قلب الأعاصير لهبا كالشّمس...)

والقصيدة ما قبل الأخيرة (ص 96) حملت عنوان المجموعة وقامت أيضا على اتّسام الذّات بهذه السّمة النّورانيّة (ومضت... مثل شمس فركت وجنتيها) لتعلن قرار المُضيّ في عرك الحياة الانثويّة بنور الشّعر توّاقة نحو الأمثل (مضت... تناجي ربَّها ساجِدة.. تُعِدّ بروقا تُشِعّ على جانبَيها...) وهذا الأمثل الذي يمثّل نصّا (لم يُكتَب بعدُ) هو الذي استشرفته القصيدة الأخيرة (ص 98): " رصاصٌ" والتي وضعت للكتابة " النورانيّة " او بمعنى آخر ذات الوميض وظيفة المقاومة (ما لم تفعله الممحاة... بقلم الرّصاص... وما بقى من طلقات بقلم الرّصاص)

بذلك سيّجت الشّاعرة تجربتها في هذه المجموعة الشّعريّة بوميض أناها المرأة التي يطغى انسانها وشاعريتها على أنوثتها فتشرق بالوميض وبه تنجز وتبدع وتقاوم وتلاحق ظلمات آنفة بممكنات آتية وهي تدسّ خبايا المحاولة في تفاصيل القصائد التي توسّطت مجموعتها الشّعريّة متوسّلة بخطاب شعريّ خاصّ بها قوامه توظيفات للّغة خاصّة بها..

3 - وميض الاختيارات اللّغوية وطرق توظيف تيماتها ومرجعيّاتها وتَجويد صُوَرها دلالاتِها وذاك نجلوه في هذه النّزعة الاستعراضيّة في عودة الشّاعرة إلى أعلاق العربيّة المعتّقة في أشعار القُدامى والنّصّ القرآني تستميح منها معجمها المتين وتراكيبها ذات البلاغة الفائقة شأنها في ذلك شأن مجموعتها الأولى (مجادل). فنادرا ما نجد في الشّعر الحديث استعمالا للمعجم الحوشيّ من قبيل ما ورد مثلا في (قصيدة تونس ص 39:

تاؤها تفتّحت في قُرَيعائها

وأغلقت أثباجها.. ثمّ نادت في الدُّجَن

ابتسمي.. ستندمل الجراحُ

وتَينَع الغَيناء ثانية....)

(القريعاء: الأرض الخالية من النباتات الأثباج: وسط الشّى حين يتكتّل ويبرز الدّجن: الغَيم الكثيف الغَيناء: الشّجرة كثيفة الأغصان والأوراق). وعبارات أخرى كثيرة من هذا القبيل (النّيطل - غضاريف - حَوجلت - الخطوات الرّاقلة....)

ونادرا أيضا ما نجد في الشّعر الحديث إحياء لمثل هذه الاشتقاقات والصّيغ المستنبطة أو المستلهمة من لغة القدامى التي حفلت بها قصائد شاعرتنا بشكل استثنائيّ في مجموعتيها الشّعريتين كلتَيهما (ص 21: مُرَكمِجًا آماله / ص 22: مِرصافة الوقت / ص 25: شجّرتها واشتجرتها / ص67: الهذّاءة / ص 38: تلك ال " لماذا" التي " تُلملذ " فقاقيعها التّائهة / ص 95: أنا الشّامس...)

فكان في هذا الاستخدام لمعاجم وعبارات نادرة الاستعمال إخراج لها من مجاهل النّسيان لتظهر إلى النّور فتتجلّى وتومض في القصائد بما تُكسبه للّغة من ألق يتكامل مع ما زخرت به من بلاغة المحسّنات البديعيّة التى سجّلت ظاهرة مُلفتة في قصائد المجموعة (وأيضا في قصائد مَجادل). فنجد المفارقات تشغل حيّزا كبيرا من استخدامات اللّغة تجسّد جدليّة الظّلام والضّياء في العديد من التّمظهرات الأبعاد التفصيليّة المتعلّقة خاصّة بمواضيع الشّكوى والتذمّر من واقع الذاتّ والمرأة والشّعر والمجتمع والوطن وحتى الوجود... من جهة وبما تطمح إليه رؤاها المتمرّة أبدا والباحثة عن شعاع الشمس يمرّ على الكون فيزيح عنه الكدر وعلى الوطن فيضيء زواياه المعتّمة وعلى الشّعر والكتابة فيحلّق بهما إلى مشارف ذاك (النّصّ الذي لم يُكتب بعدُ...) بل إنّ بعض القصائد قد بُنِيت كاملة على المفارقات المتنوّعة من مقابلة وطباق مثل قصيدة: (بعين الغيم ص 22 من بين ما جاء فيها:

أطلّ من جفوة وسني

وشمسي بجوف اللّيل سارحة

تغنّي بأنواري..

ينفلت حرفي الذي كان محصورا بأروقتي

وتزغرد على مَجادل الأحلام

قصائدي وأشعاري...)

Kawther

وتتكامل المفارقات في الارتقاء بلغة الخطاب الشعري مع ضروب المجانسات اللفظيّة والتّركيبيّة لتُحقّق ما تكتمل به مقتضيات الشّاعريّة فيها من تنغيم إيقاعيّ وما تستوجبه مضامين التّغنّي بالذّات (ص 13: أنا امرأة.. / تضفر شَعرها شِعرا وفلسفة ) والقصيدة (ص 71: فقصائدي حين أسرجها / أقطع عنها أوصالها / وأنزع عنها أوحالها / وأُشرِبها من كؤوس النّخوة...) والحبّ (ص 93: المكسور.. يريد أن يُثبت لها / أنّه الأضحية وأنّها السّكّين / المسجور.. مازال يحبو نحوها / وخزعبلات في صدره تنزَع وِشاح صمتِها) والوطن (ص92:

تواعدنا على حُبّ على عشق أُراضيها

تَوادعنا هنا اليوم  ولن أنسى أَراضيها)

من طابع احتفاليّ صاخب. هكذا مثّلت الاختيارات اللّغوية في المجموعة عاملا ساعد على إكساب القصائد تألّقا فنّيّا إضافيّا في إطار تلك الاختيارات التركيبيّة الخاصّة بشعر أحلام بن حورية بشكل عامّ والمتمثّلة في تلك الجمل ذات التّركيب اللّولبي القائم على تناسل مكونات الجملة من بعضها البعض حتى تسع طول النّفس الشّعريّ وتستوعب تشابك الأفكار والرّؤى بل إنها أحيانا تسع قصيدة بأسرها مثل قصيدة (أرشاق ص 80) التي تمتدّ على جملة إسميّة واحدة مُركّبة.. وهذا خاصّة في القصائد ذات النّزعة الاحتجاجيّة بمضامينها السّوداوية القاتمة في تصوير واقع تونس وفلسطين والعرب عموما (ص 65:

قالت غزّة

بلا رويّ ولا قافية.. أمشي

وذي الأصفاد تثقل خطوتي

يشدّني الوجع..

كأنّه الحجر.. كأنّه الوتد...)

وفي تصوير أحوال الفئات المسحرقة من المجتمع التي لا غرابة ان تغضب لها الكتابة بمداد شاعرة لها رصيد من النّضال النّقابي ومثل ذلك قصيدة: (وكان حلما... ص 74) التي أفردتها للحديث عن هجرة الشّباب المهمّش نحو أوروبا بحثا عن الحياة في قوارب الموت

وكذلك في تصوير واقع المرأة المعقّد في مجتمعنا ومن ذلك ما جاء في قصيدة (المدخنة ص: 32

بلا وجه.. بلا ومض.. بلا أرض.. بلا وطن

تتمدّد كالموت في الكلمات

كالسّوس الذي يسري في الحصاد

تنصب مشانق لبسماتي

تُطارد أحلامي وأنّاتي.. فيستفيق......) فتلك جملة واحدة قدّمت مسيرة حياة كاملة من معاناة سببها الأنتَ المذكّر الطّاغي في المجتمع والطّامس لكلّ ما هو جميل في الذّات المؤنّثة..

وقد واجهت الشاعرة قتامة صور الواقع في هذه النّزعة الاحتجاجيّة بنَورانيّة اللّغة التي غلب عليها الاستعراض والنّخبويّة بتلك الصّور البلاغيّة القائمة على اعتماد انواع التشبيه والاستعارة في تحقيق جمالية العدول أو ما يسميه الدكتور "محمد الخبو " في كتاب (مدخل إلى الشّعر العربي الحديث) ب" الغموض الشّفّاف ". وقد استلهمت الشّاعرة هذه الصّور البلاغيّة خاصّة من منظومات الكتابة والقِيَم والوجود والطّبيعة خاصّة السّماويّة المنيرة ممّا شفّ عن عالمها الشّعريّ المنطلق من الذات والممتدّ نحو ما يحيط بهذه الذّات عبر ما تؤدّيه اللغة من تفاعلات مع محيطها تفاعلا ينفّر من كلّ ما هو مظلم وينحاز إلى كلّ ما هو مُشرق وضيء مِن ذلك ما ورد في قصائد كثيرة منها قصيدة (في مهوى الرّياح ص 67:

ما اسودّت البهجة يوما

وما تسيّع ماؤها

إلّا إذا تكدّر في صحوها المطر

وذا مطرك ومقٌ مِن حرير

يتلألأ على خدّ القصيدة ولا يأبى الهطول...)

خاتمة:

تبقى دلالات فعل ومضت وحوافِّه ذات صلة بالنّور محورا واسما للخطاب الشعري في التّجربة التي قدّمت لها الأديبة فتحية دبّش وقد نوّهت ب: (حرصها الدائم على جعل مواضيعها متنوّعة تنوّع انشغالات الفرد والجماعة فهي التي تكتب للنساء كما للرّجال للحبّ كما للحرب وللذات كما للآخر في حالتي الثّبات والتّحول) تكتب ضمن تجربة مسيرتها محكومة بجدلية المسايرة والمغايرة قصيدا هادفا في غير انسياق وراء الشّعارات والايديولوجيا ورومنسيا في غير انحباس داخل صوت المشاعر الفرديّة ومتمرّدا في غير تطرّف ولا حدّة في الخطاب.. وتكتب ضمن تجربة سياقها التّاريخيّ محكوم بجدليّة العتمة والضّياء (الوميض) تارة تحتجّ على مكامن الحيف والرّداءة في الواقع التّونسي والعربي والإنساني وطورا تجنّح نحو الأفضل والأوجه والأكثر عدلا وجمالا أو لنقل الأكثر وميضا لمستقبل الشّعر والإنسان والأوطان..ثمّ هو وميض الكِتابة التي تَدين لذاكرة الشعر العربي القديم والحديث في مختلف مراحله وتحوّلاته ممّا أكسب قصائدها منسوبا مرتفعا من الإنشائية / الشّاعريّة ونزعة استعراضيّة حققت تَميُّزَ الخطاب وهَيبة النّصّ على أساس متين التّركيب ضارب في الأصالة وهو يُجايِل عصرَه خاصّة في هذه التّنويعة التي لا تزال تجرّب وتختبر وتُسائل مختلف طرائق الكتابة الشعرية (النّثرية والموزونة) في متلازمة بين فنون القول ومبدعتها وما انعكس في ذاتها من أصداء حياتها وثقافتها وأحلامها..

تلك أبرز ملامح الكائن الوميضي الذي تخلّق في قصائد شاعرتنا أحلام بن حورية وهو يحاول أن يخرج بنا من ظلمات راهن المجتمع وحيفه والأدب المثقَل بمزالق تردّيه والوطن المكلوم بخيباته والإنسان المُنساق نحو انحرافاته... أن يخرج بنا إلى أنوار القصيدة الرّسالة الوضيئة ضمن مسار اختارته الشاعرة لتجربتها سلكته فومضت في مطبّاته المعتّمة و... مضت بين شعابه وفيافيه نحو الآتي من الرّؤى المتعلّقة بالكتابة خاصّة وبالإنسان والوجود عامّة شعارها (ص 16:

حوريّة بلا واو

تصعد على ربوة الزّبد القديم

تعانق نسرا لا يستكين...)

***

قراءة أعدّتها: كوثر بلعابي

في المثقف اليوم