قراءات نقدية

قراءات نقدية

دِراسةٌ في شَخصيَّاتِ رِوايةِ (بَابُ الدِّروَازةِ)

تَقديمٌ: (بَابُ الدِّروازَةِ)، مُدوَّنةُ رِوايةٍ للأديب العراقيّ والكاتب الشُّمولي المثابر علي لفتة سعيد، والفائزة بجائزة الإبداع السرديّ العراقيّ لعام (2023م) في حقل الرِّواية التي أطلقتها وزارة الثقافة والسياحة والآثار في العراق. تعدُّ هذه الرواية في تصنيفها الأجناسي من الأدب الرِّوائي السِّيري، أو السرد الذاتي التوثيقي للشخصيِّات الروائيَّة (أصواتِ الرِّوايةِ)، أو رموزها الفواعلية القائمة بالحدث، والتي بُنيت عليها وقائع وأحداث الرواية في تَراتُبِها وفق الخطِّ الزمني المُمتدّ لها تاريخيَّاً بنحو ثلاث سنوات، من عام (1978م حتَّى بداية عام 1980م). وقد أشار الكاتب لهذه الأرخنة التاريخيَّة في مطلع افتتاحية السطر الأول من الرواية، وتحديداً في جزئها الأول، ثمُّ تِباعاً في أجزائها العَشرةِ.

تعتمد رواية (بابُ الدِّروازةِ) في تنامي بنائها الهرمي الحثيث وحركة سَيرِها السَّردي الفعلي بالدرجة الأولى على تقنية الحوار الداخلي أو (المُونولوج) الحركي الدَّرامي الذي يمنح السرد الذاتي السِّيري بُعدَاً إثرائيَّاً وفكريَّاً فاعلاً لديمومة الحدث الجمالي في تصاعد ديناميَّة صراعه زمانياً ومكانياً. وقد تمثَّلت تَمظهرات هذا الحوار وحِدَّةُ تشابكه الحَدَثي أو أوج عظمتها بين شخصيَّة (سعيد)، الرجل العلماني بائع الثلج في باب الدِّروازة، وشخصيَّة المجاور لمحلَّه ونظيره (هادي) بائع السِّبَحِ والسِّجاد وتُرب الصلاة،الرَّجلُ المُتدين والمُتلفع بعباءة الدين الإسلامي شَكلاً ومضموناً.

وأنَّ وتيرة هذا الحوار الفكري الناشب عقائدياً وفكريَّاً بين الشخصيتين المتضادتين والمُؤدلَجتين كانت سبباً مهمَّاً من أسباب نزوح الكاتب إلى أنْ يكون تسريده الحكائي لواقعة الحدث الموضوعيَّة على أساس بِنية المِيتا سرد الحداثوي في وقعه الأُسلوبي الذي يلفت اهتمام القارئ وعنايته له، ويَحضُّهُ ذهنيَّاً على التواصل مع مجريَات الحدث الرِّوائي الشائق في التتابع وعدم تركه حتَّى نهاياته الأخيرة. خاصةً وأنَّ الكاتب (السَّارد) قد برعَ في توظيف تقنيتَي (الاستباقِ والاِسترجاعِ) وتوزيعهما على انثيالات فضاء السرد بطريقةٍ فنيَّ وأُسلوبيةٍ تُريحُ المتلقِّي والقارئ وتُسهم إيجابياً في تنامي وتسريع عجلة الصراع الدائر بين الشخصيَّات المتشابكة، وفكّ حبكتها العُقدية المغلقة.

هذا من جانب ومن جانبٍ آخر تمنح المتلقِّي والقارئ معاً مِساحةً كبيرةً من حُريَّة التفكير والتماهي -زمكانياً- مع أنساقها في فهم وقائع أحداث الرواية والاستمتاع ذائقياً بمشاهد حركة شخوصها في حقبةٍ مهمِّةٍ من تاريخ العراق السِّياسي الحديث، والتي ما زالت تأثيراته السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والدينيَّة والثقافيَّة عالقةً في الذهن العراقي. فضلاً عن أنَّ هذا اللَّون من الكتابة السردية ذات الطابع السِّيَرِي والتوثيقي المَدِيْنِي الَّذي تميَّزت به أُسلوبية الكاتب علي لفتة سعيد في خاصية معجمه السردي يجمع في إبداعيته التعبيرية وفنيته الموضوعية الكتابية بين اشتغالات التنقيب في حفريَّات الذاكرة الجمعية المشتركة، والتجريب الذاتي الفنِّي، وبين الواقعة السِّحرية المُتجدِّدة وخاصيَّة التأمُل الفكري والفلسفي الذي يعطي العمل الأدبي أهميةً كبيرةً، وميزةً مغايرةً في السرديَّات الحديثة. ولهذا لا يمكن أنْ نعدَّ سردياَّت متن (بَابُ الدِّروازةِ)عَملاً أدبياً مُتمَايزاً فحسب، وإنَّما هو ثورة ذاتيةٌ داخليَّةٌ ضدَّ فعل ديستوبيا وأشكال الظلم والتهميش والانعتاق والتحرُّر للتعبير عن طابع الهُويَّة والانتماء الذاتي الواحد للوطن الكبير، ومن ثمُّ العبور تلقائياً عبر هذا الخطِّ الدفاعي المُستميت إلى جادة الحقِّ والصَّواب ويُوتويبا مدينة الخير الفاضلة سردياً في الِّرواية.

عَتبةُ الرِّوايةِ العُنوانيَّةِ:

من يقصدُ زيارة الإمامين، موسى الكاظم ومُحمَّد الجَواد بمدينة الكاظمية المقدَّسة في بغدادَ، لا بُدَّ وأنْ يسلكَ أحد الطرق أو شوارع الأبواب الثلاثة المؤدِّية للضريح المقدَّس والتي يُطلقُ عليها أبواب الإمام الكاظم. وأعني بذلك تحديداً بابً القبِلة، حيث الدخول منه إلى ضريح الإمام موسى الكاظم، وباب المراد المرتبط بلقب الإمام الجَواد والدَّال على قضاء الحوائج من خلال اسمه (باب الحوائج)، وباب الدِّروازة (مثابة الرِّواية) المؤدِّي إلى سوق السِّربَادي التاريخي الشهير في مدينة الكاظمية. وكلُّ بابٍ من هذه الأبواب الثلاثة يرتبط بشارع يؤدِّي إلى صحن ضريح الإمام الذي تُحيطُ به المحلَّات الكثيرة المتاجر المتنوعة وبعض الفنادق السِّياحيَّة، ويكثر فيه الباعة المُتجولون.

إنَّ اختيار الكاتب علي لفتة سعيد لِجُملة (بابُ الدِّروازةِ) عتبتهً عنوانيةً رئيسةً لافتةً لروايته، يعدُّ اختياراً عينيَّاً مُوفقاً من حيثُ المعنى الدلالي التاريخ والديني لدَالة (الدِّروازة) ذات الأصل الفارسي، والتي تعني عُجمتها بالعربيَّة البابَ أو الرِّتاجَ المفتوحَ، أمَّا من حيثُ المبنى الموضوعي المكاني فباب الدِّروازة يؤدِّي عمليَّاً وحركيِّاً إلى بابي القبِلة والمراد معاً. فهو الأكثر توسُّطاً وشهرةً من معالم مدينة الكاظمية المُقدَّسة دينياً واقتصادياً وثقافياً وروحياً وفكريَّاً، فضلاً عن كونه مثابة روحيَّة وسياحيةً مكانيةً للزائرين وعمل الفقراء والمُعدمين والمُهمَّشين العاطلين من أبناء الجنوب البسطاء.

ويُعدُّ (بابُ الدروازة) مَعلَمَاً تجارياً بارزاً للزائرين الذين يقصدون زيارة الإمامين. إذنْ (باب الدِّروازة) يُمثِّل أيقونةً ثقافيةً ودينيةً تاريخيَّةً كبيرةً وسيميائية رمزيةً بارزةً من مظاهر هذه المدينة السيَّاحية الكثيرة التي أراد لها الكاتب أنْ تدور فيها أحداث ووقائع روايته السردية وتتفاعل حركيَّاً شخوصها الفواعليَّة في خان الدروازة السكني مع مثابات الحدث الجديدة التي وظَّفها الكاتب له.

وليس مع نفسها فقط وإنَّما مع خطِّ عالمها المحيطي الاجتماعي الذي يلفُّه الكثير من آثار الغموض والضبابية والمجهول إلَّا تحقيق المأمول من الطموح المستقبلي والوصول إلى الغايات والأماني المنشودة. وهذا ما تُوحي به رمزيَّاً لوحة الغلاف الأولى المُتَّشحة بالسواد والحزن الظاهر، والتي تشي في الوقت نفسه بإظهار مظلومية وصرخة الجماهير الشعبية المُحتشدة من أجل التخلُّص من نِيرِ الدكاتورية المُستبدة بوجع الحروب التي تنتظرها وتحطُّم مستقبلها الجودي وتُهدِّد كيانها الآمن.

و(بَابُ الدِّروازة) على الرُّغم من مكانته الدينية والسياحيَّة التي يتمتَّع بهما فإنّه باب الحُريَّة وطريقها المقصود في نيل الغايات والأهداف والتمنيَات لإحلال الأمن والطمأنينة والسلام الوارف: "إنَّ العِراقَ كُلَّمَا تَعرَّضَ إلَى اِحتلالٍ تَتغيرُ الأسماءُ أو تُضافُ لَهُ أسماءٌ جَديدةٌ تَدلُّ عَلَى وجُودِ المُحتلِ". (بابُ الدِّروازةِ، ص 42). هذا الرأي يُعرفُ تَاريخياً في اختيار أسماء تدلُّ على بقايا من المحتل.

أمَّا لوحة الغلاف الثانية أو ما يسمُّى بـغلاف (التَّظهِير)،فَقد جاءت تأكيداً للخطِّ الزمني لسبعينيَّات القَرن العشرين، تلك الحِقبة الزمنية المهمَّة والفارقة من تاريخ العراق السياسي والمحصورة بين نهاية حكم أحمد حسن البكر وبداية تولي صدام حسين حكم العراق. فهي تعدُّ الشرارة النارية التي انطلقت منها أحداث الرواية بِدأً من ريف العراقي الجَنوبي بسوق الشيوخ وانتهاءً ببغداد العاصمة.

والتي شهدت بعدها أحداثاً وتطوراتٍ سياسيَّةً وأيدلوجيةً مهمَّةً ومثيرةً للدولة وواقع الشعب في تقرير المصير المجهول. وجاءت بعدها العتبة الافتتاحية للرواية التي ارتأى فيها الكاتب علي لفتة سعيد أنْ تكون تَجييراً ذاتياً وإهداءً حقيقياً لِجِدَّته العجوز التي ما زال مسكوناً بحبَّها الإنساني ووفاءً لها؛ كونها كما يرى الصَّوت الذي منحه هُويته الإبداعية المتفرِّدة الحروف، حيث قال عنها: "إِلَى جِدَّتِي، لَمْ يَزلْ صَوتُكِ يَمنحنِي هُويَّةَ المُكوثِ بَينَ الحُرُوفِ"، ويَعنِي حروف الكتابة والقراءة.

أَبنيةُ الرِّوايةِ المَكانيَّةُ:

يبدأ خطُّ الشروع المكاني الأوَّل لرِواية (بَابُ الدِّروازةِ)الصادرة بطبعتها الأولى في عام (2022م) عن دار الشؤون الثقافية العامة لوزارة الثقافة والسياحة والآثار في بغداد/ العراق، والتي تعدُّ من فئة القطع الكتابي المُتوسِّط التكثيف، والذي يقع بنحو (240) صفحةً، حيثُ تنطلق رحلة المكان والزمان فيها من مدينة سوق الشيوخ ذات الطابع الريفي بالناصرية، والتي هي إحدى أقضية مركز محافظة ذي قار المهمَّة ثقافيَّاً وإبداعيَّاً في الجَنوب العراقيّ السُّومريّ، وقوفاً بها عند مدينة بغداد مركز العاصمة والثقافة والحياة النابضة. حيث مدينة الكاظميَّة السَّياحية ولدينيَّة المُقدَّسة حتَّى بناية الخان مثابة الحدث الروائي، الذي عُرِفَ عنه أنَّه من المباني التي شُيِّدت إبَّانَ فترة العهد العثماني الذي حكمَ العراق أربعة قرون من الزمن. ويُعدُّ الخان من أولى مباني هذه المنطقة.

وإنَّ ميزة هذا الخان المُوقعيَّة بأنَّه يُمثِّل قلب الحدث، وفي زُقاقٍ قريبٍ من بابي القِبلة والدِّروازة، ومن مكان عمل شخوص الرواية، وخاصةً البطل الرئيس الذي يعمل في معمل الثلج الذي يديره زوج خالته المدعو سعيد. وتأتي أهمية هذا المكان الذي اختاره الكاتب سعيد عنواناً لروايته (بَابُ الدِّروازةِ) في كونه من أكثر الأمكنة والمثابات البغدادية الشهيرة التي مرَّ بها أغلب الرموز السياسية والمسؤولون الذين تعاقبوا على حكم العراق قاصدينَ من خلالهِ الوصول لزيارة ضريح الإمامين (الكاَظم والجَواد)،بُغيةَ تحقيق المُراد وطلبَ الدُّعاء والتَّبَرُّك بهما قولاً وعملاً وربَّما واجباً.

والغريب أنَّ هذا الخان ببنايته الشعبة القديمة المُتهالكة الجدران، والتي كانت مَلاذاً آمناً يأوي المُعدمينَ من عامةِ الفقراء والمُعوزِّين من محافظات الجنوب العراقي يحتوي على عشر غُرف ضيِّقةٍ صغيرةٍ جدَّاً تضمُّ عشر أُسرٍ أو عوائل في غرفة فقيرةٍ بسيطةٍ يصل مجموع ساكنيها بنحو سبعة وعشرين فرداً أو نسمةً بشريةً كما يُشير إلى ذلك كاتب الرِّواية وراويها العليم الذي يصف بطل روايته الفتى أو الَّصبِي الجَنوبي (خلَّاوي) الَّذي له من العمر سِتةَ عَشرَ رَبيعاً، فيقول واصفاً:

"هُوَ الآنَ يَجلسُ فِي غُرفةٍ صَغيرةٍ مِنْ غُرفِ بِنايةٍ قَديمةٍ تُسَمَّى الخَانَ، تَسكنُهُ أكثرُ مِنْ عَشرِ عَوائلَ فَقيرةٍ، كُلّهُم جَاءُوا مِدْنٍ وَمَحافظاتٍ أُخرَى. الغُرفةُ تَقعُ فِي أَولِ الخَانِ، مَا إنْ يَنتهِي مُمرُّ البَابَ الخَشبِيِّ الكَبيرِ الَّذي طُولِ الغُرفةِ ذَاتِها، والَّذي لَا يَتعدَّى ثَلاثَ أمتارٍ، وَعَلَى جِهةِ اليَمينِ تَقعُ الغُرفةُ الِّتي عَرضُهَا لَا يزيد عَلَى المِترينِ وَنِصفِ المَتِرِ.. وَهيَ بِذاتِ المِساحةِ أو أكبرٍ بِقليلٍ لِلغُرفِ الأُخرَى المُوجودةِ عَلَى ثَلاثةِ أضلاعٍ مِنْ أضلاعِ سَاحةِ الخَانِ". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 8).

على الرغم من الشعور بالقَلق والغُربة والحَيرة وعامل التَّوهان النَّفسي فإنَّ هذا المكان وغيره من أحياء بغداد والكاظمية كان مُبهراً وسَاحراً للشاب المراهق القادم من بيئة حياتية شعبية ريفية مسالمةٍ ومُغايرةٍ لتعقيدات المدينة وجوها العام. خاصةً وأنَّ خلَّاوي بطل رواية (بَابُ الدِّروازةِ) الكُلِّي لم يتركَ مدينته سوق الشيوخ يوماً فيجرب السفر أو الرحيل عنها إلَّا لبغداد الساحرة لعقله.

قاصداً هذه المدينة المُذهلة بعمرانها وزحمتها التي وصل إليها وانبهر بها وبمثاباتها العالية الكبيرة التي أدهشته. فاختلطت عليه دالات الطريق وعُنواناتها، واشتبكت عليه تشعُّبَات وكثرة فضاءاتها في الوصول إلى الخان المقصود. فهي أشبه بِحُلُمٍ مرَّ عليه، يراها كامرأةٍ أُنثى تُمشط شَعرَها على ضفاف نهر الفرات كما يوصفها أخوه الأكبر سليم طالب الدكتوراه في معرض المقارنة بين مدينته سُوق الشيوخ الصغيرة وبغداد العاصمة الحضرية الضَّاجة الكبيرة بالسُّكان ومبانيها العالية العمران، وبمشاهد سيَّارات مَصلحة نقل ِالرُّكاب الحمراء الإنكَليزيَّة ذات الطابقين التي تُشبِهُ الكائن الخّرافيَّ بحركتها الإنسيابية المُثيرة كالنحل تجري في شوارع بغداد الأزل.

كلُّ هذه الصور (الإيموجية) والبصرية المتحركة شكَّلت هاجساً مثيراً لديه عن طبيعة الحياة والمكان في الكاظمية والعاصمة بغداد. فهي لحظة كَالحُلُم الذي يمضي سريعاً عنه فجعلته في غمرة اندهاش وذهول وتفكير تامٍ. وكانت له حكاية، بل حكايات وصراع مع تداعيات المكان والزمان وشخوصه في البقعة التي يَقطن فيها ويَحيا ويَعمل رافِلَاً بالحياة ومكابدة العيش، وكان حقَّاً عاشقاً لشوارعه وأزقته الضيِّقة وفضاءاته اللصيقة التي أصبحت جزءاً مهمَّاً من مكان عمله اليومي::

"كَانَ ذَلكَ فِي صيفِ عام 1978،حِينَ وَطَأةْ قَدمَاهُ أَرضَ العَاصمةِ بَغدادَ.. كَانَ وَقتَهَا فَرِحَاً، سَعيدَاً، عَامرَاً بالبهجةِ، كَأنَّهُ تَخلَّصَ مِنْ اِلتصاقِ تَجمُّعاتِ الحُزنِ فِي قَلبِهِ وَعَلَى جَسَدهِ.. كَانَ حِينَهَا مُنبهِرَاً حَتَّى مِنْ ضَوءِ الشَّمسِ، يَرَاهَا تَختلِفُ عَنْ الَّتي تُشرِقُ مِنْ صَوبِ مِنطقةِ الصَّابئةِ مِنَ الجِهةِ الثَّانيةِ مِنْ نَهرِ الفُراتِ الَّذي يَمرُّ بِمدينةِ سُوقِ الشُّيوخِ.. لَمْ يَزلْ لِتَوِّهِ يَنزلُ مِنَ السَّيارةِ الَّتي أقلَّتهُ مِنْ كَراجِ النَّاصريَّةِ إلَى كَراجِ النَّهضةِ. فِي مُنتصفِ الطَّريقِ نَامَ مِنِ تَعبِ السَّهرِ وَهوَ يَحلمُ بِالسفرِ إلَى بَغدادَ وَالعَيشِ فِيهَا كَأيِّ مُواطنٍ لَا تُلاحقُهُ الظُّنونِ ولَاَ العَوزِ وَلَا اليُتمِ.. سَيعيشُ مَعَ أخِيهِ وَجِدَّتِهِ". (باب الدروازة، ص 5).هذه هي الصورة الكُليَّةالتي رسمها الكاتب ابن الناصرية لبطله.

لم تقف حركة البطل على المكان الذي يعيش فيه ويعمل فقط، وإنَّما دفعه شعوره الحركي والنفسي إلى التجريب والتَّنزُّه والتحوَّل والانتقال الحركي والاطِّلاع على أماكن وضواحٍ أخرى في مدينة الكاظمية وبغداد العاصمة، فذهب إلى منطقة الشوصة وإلى ساحة عدن وأحياء في النوَّاب وإلى حديقة 14 تموز. وسمع بالوزيريَّة التي لم يزرها وبكرَّادة مريم وتخيَّلها، تلك المنطقة على نهر دجلة والَّتي يقع فيها بيت نوري السَّعِيد رئيس وزراء العراق في العهد الملكي. ثمَّ اتَّسعت رقعة المكان في الرواية لتشمل أماكن أخرى مثل، كُليَّة الإدارة والاقتصاد وأكاديميَّة الفُنُون الجميلة في جامعة بغداد، ومعاهد وكُليَّات أخرى يسمع بها ولم يرَها من ذي قبل، وكان مَسكوناً بأحيائها.

والَّلافت للنظر أنَّ أغلب أحداث الرواية، بل إنَّ معظمها كان يدور في حيٍّ ما بين الخان القريب من باب الدروازة ومن معمل الثلج الذي يديره زوج خالته سعيد والقريب بمسافة ربع ساعة تقريباً عن موقع الخان الذي يؤدِّي فرعه الضيِّق إلى ضريح الإمام الكاظم. فَالبِنيةُ المَكانيَّةُ على الرغم من كونها ضيِّقة ومحصورةً بين مثابتينِ مُحدَّدتينِ بَيدَ أنَّها تُشكِّل عالماً واسعاً وكبيراً من مُخيلة الفتى خلَّاوي ومن مِساحة تفكيره الذهني الحائر الذي أخذ بالنمو والنضوج الفكري والثقافي والحضاري:

"كَانَ عَليهِ فِي كُلِّ صَباحٍ الذَهابُ إلَى مِنطقةِ بَابِ القِبلَةِ يَقطعُ المَسافةَ مَشيَاً لِمُدَّةِ رُبعِ سَاعةٍ، فِي طِقسٍ يَوميٍّ. كَانَ فِي بِدايتهِ أشبهَ بِاستطلَاعٍ لِمَا يَمكنُ أنْ يَكونَ دَهشةً لِحياتِهِ الجَديدةِ، قَبلَ أنْ تَتَحوَّل هَذهِ الدَّهشةُ إلَى رُوتينٍ يَومِي بِداخلهِ الخَوفُ فِي الكَثيرِ مِنَ الأحيانِ.. يَذهبُ إلَى هُناكَ حَيثُ مَحلِّ زَوجِ خَالتِهِ لِبيعِ الثَّلجِ.. المَحَلُّ يَقعُ فِي زُقاقٍ ضَيِّقٍ لَا يَبعدُ عَنْ مَرقدِ الإمامِ موسَى الكَاظمِ سِوَى عُبورِ شَارعٍ لَا يَزيدُ عُرضهُ عَنْ ثَمانيةِ أمتارٍ وَعُرضُ الزُّقاقِ لَا يَزيدُ عَنْ ثَلاثةِ أمتارٍ، لَهُ فَتحتانِ تَطلُّ الأُولَى عَلَى شَارعِ بَابِ القِبلَةِ والثَّانيةُ عَلَى بَابِ الدِّروازةِ المَلِيءِ بِمحَالٍ مُتنوِّعةٍ لِبيعِ المَلابسِ والأحذيَةِ وَلَعبِ الأطفالِ وَمَلابسِ العِرسَانِ، وَحَتَّى اللِّحِفُ وَالبطانياتُ". (بَابُ الدِّروازة،ص11، 12).

وعلى الرُّغم من كُلِّ ذلك العالم المكاني الجديد على نفسية وتصوُّر الصَّبي خَلَّاوي فإنَّه كان ينتابه شعور داخلي عميق من غربة المكان وغياب أثر الطفولة والمقرَّبينَ من أصدقائه في سُوق الشيوخ والفسحة الدائمة في أماكنها اللصيقة به، وربَّما أثَّرَ عليه أمر الدراسة وجوها مؤقتاً ودخوله في حياة عمليَّةٍ جديدةٍ أخرى مُغايرة لنمط حياته السابقة بسوق الشُّيوخ، فولَّدَ لديه انطباعاً نفسياً قلقاً ورؤى خياليَّةً مُخيفةً شكَّلت جزءاً فكريَّاً كبيراً من روتين حياته الجديدة. ولكن ذلك الحال يحدث لبُرهة من الزمن ويتغيَّر بين لحظة وأخرى، وينتابه شعور جديد بالفرح والسرور حين تبدأُ:

"لَحظاتُ الرَّاحةِ بِالنسبةِ لِخَلَّاوي حِينَ يَحملُ قَالبَ الثَّلجِ أوْ حَتَّى نَصفَهُ وَيَذهبُ بِه إلَى فُندقِ السَّعادةِ أوْ فُندقِ الأُمَّةِ فِي شَارعِ الشَّريفِ الرَّضيِّ المُحاذِي لِشارعِ بَابِ القِبلَةِ، وَالَّذي يَبدأُ مِنْ رَأسِ شَارعِ بَابِ الدِّاروازةِ ويَنتهِي كَمَا شَارعِ بَابِ القِبلَةِ بِساحةِ بَابِ القِبلةِ، أوْ بِالأحرَى سَاحةِ المَدرسَةِ الإيرانيَّةِ الّتِي تَقعُ عَلَى يَمينِ الشَّارعِ مِنْ الجَهةِ الأخُرى، الَّتي يَقعُ خَلفَهَا سُوقُ السّربَادي. المُهمُّ أنْ يَخرجَ ويَحفظَ عَلَى الأقلِّ أسماءَ هَذهِ المَناطقِ وَيَحفظُ خَارطتَهَا وَيَعرفُ أُناسَهَا وَأصحابَ مِحالِهَا وَحتَّى مَجانِينهَا وَمُتسوِّلِيهَا، وَبَائعِي (جَنابرِ) السَّكائرِ وَالعُطورِ عَلَى الأرصفةِ، حَيثُ يَهربونَ كُلَّما شَاهدُوا رِجَالَ البَلديَّةِ...". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 21، 22).

إنَّ أكثر ما يخيف خلَّاوي ليس وحشة المكان وغربته وتصرُّفات سعيد زوج خالته الذي يعمل معه عاملاً في معمل الثلج، وإنَّما ما يُخيفه فعلاً هو تصرُّفات وأفعال أصحاب المحلَّات والفنادق والباعة المتجولون غي هذه المدينة من الذين يعاقرون الخمر ويفعلون الرذيلة، وهم قريبون من ضريح الإمام وفي عتبات محيطه الخارجي، فما أسوأهُ من شعور وإحساس بفعل المنكر السيء:

"لَكنْ هَذِه المَرَّة لَمْ يَكنْ مَا يُخيفهُ زَوجُ خَالتِهِ،بَلْ مَا رَآهُ فِي الفُندقِ،أو مِنْ صَاحبِ الفُندقِ تحديداً، وَلَمْ يَستطعْ تَفسيرَهُ. كَانَ الرَّجلُ يَجلسُ خَلفَ مُنضدةِ الفُندقِ فِي صَالةِ الاِستقبالِ الَّتِي لَا تَنتمِي إلَى الصَّالاتِ الَّتِي يَراهَا فِي التِّلفزيونِ ، هِيَ مُمرٌّ صَغيرٌ يَفصلُ البَابَ الخَارجيَ عَنْ غُرفِ الطَّابقِ الأرضِي، هُناكَ سُلَّمٌ ضَيِّقٌ لَا يَسعُ لِنَزيلينِ، وَحَتَّى سُلَّمُ الخَانِ فِي الزَّاويةِ المَيِتَةِ البَعيدةِ أعرضُ مِنُه. كَانتْ السَّاعةُ فِي حِينِهَا قَدْ أطلَّتْ عَلَى الثَّالثةِ ظُهرَاً، حِينَ دَخَلَ إلَى الفُندقِ وَكَانتْ غُرفةُ صَاحبِ الفُندقِ مَفتوحَةً وًهوً يًشربُ الخَمَر، فِيمَا كَانتْ بِالقربِ مِنهُ مُتسوِّلةٌ رَاهَا كَثيرَاً فِي بَابِ القِبلةِ. خَرَجَ مُسرعَاً بَعدَ أنْ تَحوَّلَ الرَّجلُ إلَى كَلبٍ فِي لَحظةٍ مُباغتةٍ..." (بَابُ الدِّروازةِ، ص 23، 24).

التَّجلِّياتُ الفَنيَّةُ لِشخصيَّاتِ الرِّوايةِ:

من يقرأ التمثَّلات السرديَّة لشخصيَّات مُدوَّنة (بَابُ الدِّروازةِ) بوعيٍ وإدراكٍ عميقينِ سيلحظُ بعينٍ بصريةٍ ثالثةٍ أنَّها من نوع وصنف الروايات (البوليفونيَّة) المُتعدِّدة الأصوات والشخصيَّات والرموز المُتحركة. وعلى الرُّغم من تلك التعدُّدية الشخصيَّة فإنَّ للرواية شخصيتها المركزية وبطلها المحوري الرئيس الذي هو بؤرة الحدث ونقطته المُحورية،والتي يمكن أنْ تتشظى حكاياتها الفاعلية وتنتشر من قلب ثِيمتها المركزية التي هي مركز اشتغالات واقعة الحدث الموضوعية للرواية.

وليس هذا عملها فقط فإنَّها تتجزأ وتتوحَّد فنيَّاً بوحدةٍ سرديَّةٍ مَوضوعيَّةٍ مُترابطةِ البنيان تشكِّل لُحمة الحدثِ وَسُداه العضويَّة الكبرى التي لا ينفرط عقدها أو نسيجها السردي عن الإمساك بتلابيبه الفكري السردي، وعن نواته الحقيقية التي هي بالتأكيد تُعدُّ نقطة التَّلاقي والتَّجافي والتَّصافي والاختلاف معاً عبر سلسلة من الروافد والأنساق الموضوعية والثقافية التي تُبنى عليها أحداث الرواية تصاعديَّاً وتكتمل بها فكرة الخطاب السردي للمُدوُّنة من خلال شخصيتها المركزية الرئيسة أولاً وشخوصها الثانوية المساعدة في بناء الحدث الكلي للرواية ثانياً.

غيرَ أنَّ كلَّ هذا يُعدُّ سياقاً أُسلوبيَّاً تعبيريَّاً معروفاً ومألوفاً في أبجديات السرد الروائي وفي تقاليد كتابته التخليقيَّة إنتاجاً. بيدَّ أنَّ اللَّافت للنظر وغير المعروف من أنساق فنيَّة التعبير السردي الخفية في اشتغالات هذه الرواية يتَّصل بالجانب الإبداعي والفكري والفلسفي لرؤية الكاتب وحصافته التعبيرية في صُنع عملٍ روائيٍّ فنِّيٍّ مُتمايز. ومثيرٌ للدهشة لا في اتِّحاد عناصره الأساسَّية التقليديَّة المعروفة فحسب، وإنَّما في جماليَّات أُسلوبيته الفكرية وشِعريَة لُغته السَّردية الإمتاعية الراكزة.

فضلاً عن حساسيَّة حبكته العُقديَّة، وفرادة مُلهمات فنياته الإبداعية التجدُّدية التي تنفتح على فضاء ما بعد الحداثة في الميتا سرد، فتخلق عوالمَ جديدةً وإضاءاتٍ إمتاعيَّةً مثيرةً من الابتكار والابتداع وتؤصِّل لركائز م السرديات التفاعلية الخلاقة بين (الفكرة والحكاية) في منظومة الحداثة السردية من خلال لغة شفراتها وأنساقها الظاهرة منها والخفية، والتي هي تشكِّل محطَّ اهتمام المُتلقِّي والقارئ النابه (الناقد)، وتشغل باله تفكيكاً وتحليلاً وتأويلاً هيرمنيوطيقياً وموضوعياً كاملاً.

إنَّ ما أُريدُ أنْ ألفتَ النظر إليه جليَّاً وأُنبه القارئ الذكي الواعي إليه في هذه الإلمامة السريعة والإحاطة الأخيرة عن تلك الشخصيات في رواية (باب الدروازة) تتعلَّق بخاصيَّة وأسلوبية الكاتب السارد أو الراوي العليم أو بتمايزها الفني المغاير. ويبدو أنَّ نباهة الرائي علي لفتة سعيد وذكاءه الفكري وسعة ملكته الفطرية واستعداد موهبته المعرفية المكتسبة في القدرة على حبِّ التجديد والتخليق الإجرائي السردي كان سبباً مهمَّاً جداً من أسباب جرأته الإلماعية الفكرية وشجاعته وإقدامه واندفاعه الأسلوبي في تطوير شخصياته الروائيةالرئيسة والثانوية المتوحدنة ثيميَّاً وسرديَّاً.

ومن ثمّتَ الخروج بها من خطٍّ سرديات الرتائبية التقعيدية ومن براثن شِباكِ سياق النمطية والمعجمية الإطارية المملَّة إلى منظومة معرفية وفنيةٍ من الأنساقٍ والبدائل الثقافية والسردية الجديدة النابضة بالحياة تلك التي تبعث على التأمُّل والتفكُّر والانطلاق نحو آفاق مستقبليةٍ وإنسانيةٍ رحبةٍ تبتعد عن ركود وظلال رتابةالمُستهلك والمَعطوب موضوعيَّاً فنيَّاً.فضلاًعن رماد قيم المنتهية صلاحيته الفكرية من خلال هذه البدائل الثقافية المبتكرة لحركة هذه الشخصيات التي تصنع وتؤثَّث لبنية العمل الروائي المسلَّح بالوعي الفكري والمشيَّد بالبناء الجمالي والسردي اللُّغوي المكين.

ما أريد الإشارة إليه مجدَّداً في هذا السياق من دراسة الشخصيَّات المهمَّة وألفتُ التأكيد إليها فنيَّاً مرَّةً أخرى، هوما قام به الكاتب علي لفتة سعيد بخصوص أداء شخصياته الفواعلية وكيف وظَّف أدوارها الحكائية؟ وكيف صيَّرَ وسيَّرَ حركة فعلياتها الحدثية إلى مرموزاتٍ آيدلوجية وموحياتٍ عقائدية تبرز أشكال وتيرة الصراع الداخلي القائم الذي تنتمي إليه -سِرِّيَّاً وعلنياً- أطراف وعيَّنات كبيرة من أبناء الشعب العراقي برغم مركزيَّة الحزب الحاكم الواحد الذي يسود طبيعة نظام الحكم القائم في وقته حينذاك. والذي لا يسمح لِهُويَّة الآخر حتَّى بمجرد التفكير بمشاركته دفَّة الحكم.

لقد استطاع علي لفتة سعيد بحنكته السردية المكينة ورصانة دهائه الفكري البعيد المُتجدِّد الفاعلية أنْ يلعب لُعبته الحداثية في التعامل مع الشخصيَّات، وكيفية توظيفها بنائياً وحركيَّاً وفنيَّاً ودراميَّاً. لقد تَمكَّن سعيد برؤيته الفلسفية السرديَّة أنْ ينقل لنا حركة الصراع الدرامي التسريدي الدائر بين محوري (الخير والشرِّ) من مركزية البطل الرئيس الأوحد مع الأخر إلى مُحوريَّة الشخصيَّات الثانوية التي نفخ في جسدها الميَّت ومنحها رُوحاً سرديَّةً ودماءً نقيَّةً حركيَّةً جديدةً.

وجعل من بطلها المركزي (خلَّاوي) شكلاً رمزيَّاً حَائراً مُعطَّلاً عن دوره الرئيس الفاعل كبطل حكائي للرواية. وقد أحال دوره الفعلي المنظور إلى أشبه بِحَكَمٍ صَامتٍ غيرِ قادرٍ على اتخاذ القرار الشُّجاع حول الطرفين. فهو ينظر ويسمع بإعجابٍ ويُصغي بانتباهٍ شديدٍ إليهُما ويُحلل الأمور وما قد يحصل آنياً؛لكنَّه غيرُ قادرٍ حتَّى على إبداء الرأي أو النطق به حول تواتر الصراع الدائر بينهما.

ويَشي مثلُ هذا السلوك إلى أنَّ الكاتب قد أحال موقف البطل إلى الحيادية والابتعاد عن دهاليز السياسة التي لم يسمع عنها خلَّاوي وعن فلسفتها من ذي قبل؛ كونه فتىً صغيراً فقيراً من مدينة تميل إلى الهدوء والسَّلم وتعيش الفقر والجهل والتهميش، وأقرب ما تكون طبيعتها لِحياة الأرياف التي ترى في السياسة والآيدلوجيات العقائديَّة والفكريَّة من حقِّ أو حصَّة أصحاب العقول في المدن الكبيرة مثل بغداد وغيرها من مدن العراق التاريخية الأخرى المزدحمة بالفكر والثقافة السياسية.

هكذا بَرَعَ عقلُ علي لفتة الفكري وأُسلوبه في أنْ يُؤصِّلَ لشخصيَّاته بِخُطىً ثابتةٍ وواثبةٍ في دفع عجلة سير دراميَّة الحدث الموضوعي للرواية وجعله صراعاً محوريَّاً جدليَّاً عقيماً لا يمكن أنْ ينتهي إلا بانقضاء فلسفة الحكم الدكتاتوري المُتسلط لعقود من الزمن على رقاب الشعب العراقي.

والحقيقة أنَّ هذا النهج والسلوك الأُسلوبي الذي انتهجه الكاتب (الروائي) تُجاه الشخصيَّات في سردياته الحكائية والقصصيَّة المُنتجة لفضاء الخطاب الروائي كانت مِهمَازاً فكريَّاً مُلحَّاً أشبهَ بِمسمارٍ مُدببٍ عَاصفٍ مُباغتٍ ولادغٍ في حضِّه وإيقاظه على نقل عملية أوجه الصراع الفكري بين الشخصيَّات الثانوية المتضادة في الرواية نفسها إلى محورين أساسيين مُتعارضين لا ثالث لهما إلَّا محور الحزب الأحادي الحاكم للبلد، وخلَّاوي الذي يمثل منصَّة الاستماع والإنصات لهما بدقةٍ.

إنَّ هذين المحورين يسعيَان بكل الوسائل الخارجية والداخلية المُتاحة في التخلُّص من ربقة وشِرار نار لهيبه المُحرقة للكلِّ من تثبت نواياه العدائية له. لقد قَدَحَتْ إلى ذهن الكاتب ورؤيته السردية فكرة الصراع بين اتجاهي اليسار واليمين الَّتي جسَّدتها اشتغالاته المركزية في الرواية.

وعلى الرُّغم من اشتداد هُوَّة الصِّراع الدائر بين الطرفين المُتنازعين والغَلبة لمن ستكون في النهاية، فإنَّ بصمة الكاتب الفنيَّة وضربته الإبداعية تأتي في خاتمة الرواية الموضوعية هاتفاً إدهاشياً تحذيريَّاً مُثيراً للمتلقِّي ورجعاً صوتيَّاً لصدىً يُحذِّر فيهِ بطله الأوحد من الانتماء إلى هذه الأحزاب الفاشلة التي تمثِّل الخراب والدَّمار واليأس لدى السواد الأعظم من أبناء الشعب العراقيّ:

"لَمْ يَجدْ شَيئاً يَلوذُ بِهِ غَيرَ الصَّمتِ، وَالنَّظرِ إلَّى الحُفرةِ الَّتِي لَمْ يَجدْ لَهَا فَتحةً مُعلنَةً، فَيأتيهِ الصَّدَى نَابعاً مِنْها، يَرتَدُ إليهِ عَاليَاً: -إيَّاكَ وَالانتماءَ إلَّى الأحَزابِ، حِينَهَا سَيحلُّ الخَرابُ بِكَ وَبِعمرِكِ...". (بَابُ الدِّرازةِ، ص240)

التَّجلِّياتُ السِّيريَّةُ لِشخصيَّاتِ الرِّوايةِ:

حِينَ نَجوسُ النظر بيانيَّاً وإحصائياً في أُسلوبيَّات شخصيَّات مُدوَّنة (بَابُ الدِّروازةِ) نجدها قد تجاوزت سبعَ عشرةَ شخصيةً، منها ثماني شخصيَّاتٍ ذكوريةٍ، وتسعُ شخصيَّاتٍ أنثويةٍ بين رئيسة مؤثِّرةٍ وفرعيةٍ مُساهمةٍ وطارئةٍ مُكمَّلةٍ. لكلِّ شخصيَّةٍ لها رسمها البياني وخطُّها الفواعلي المستقلِّ ومِساحتها العمليَّة والحركيَّة المحدَّدة في فضاء السرد الروائي وانتقالاته المتواثبة. في الوقت الذي يؤكِّد فيه الكاتب سعيد ويشير إلى أنَّ مجموع الشخوص الساكنين في غُرف خان باب الدروازة بلغ سبعاً وعشرينَ فرداً، وقد ورد ذكر سبعة عشر شخصية منهم توزَّعت بأحداث الرواية وفصولها.

وعلى وفق ذلك المنظور السَّردي للشخصيَّات المستدامة ارتأى الروائي علي لفتة سعيد أنْ يكونَ الوجه الحقيقي المُمَثّل لمحورِ اليسار الوطني المنحرف في توجهه السياسي يكمن في شخصيَّة (سعيد) الوطني الشِّيوعي وصاحب معمل الثلج الذي عُرِفَ بآرائه العِلمانيَّة المتشدِّدة وشخصيَّته التحررية والانفتاحية المتواثبة الانطلاق نحو العالم الحُرِّ الآخر الذي لا تقيِّدهُ سلاسل وقُيود آفة الفساد والاستبداد والدكتاتورية والشعارات الظالمة لحقوق الإنسان المناضل التواق للمواجهة.

كان سعيد يعيش عالمه السياسي الخاص وله نظرته المستقبلية البعيدة وتوجّهه في استشراف الماضي والحاضر والقادم من الأيام والسنين الذي ينتظره مصير الحكم القائم بظهور آلهةٍ جُددٍ بَشَرٌ يحكمون الناس بالنار والحديد والقمع والموت والنفي. لهذه الأسباب وغيرها مجتمعةً تعرَّضَ سعيد إلى الاعتقال والتعذيب أكثر من مرَّةٍ وأُدعَ في سجن نقرة السلمان الرهيب في سبعينيَّات القرن العشرين؛ كونه شخصاً مُثَقَّفاً من طرازٍ خاصٍ على الرُّغم من بساطته، وله قراءاته الكثيرة وكُتبه الوفيرة ومكتبته الخاصَّة.وقد يكون سعيداً رمزاً لإحدى شخصيَّات الحزب الشيوعي الوطنية.

وللرجل المكافح سعيد كتاباته ومذكراته التدوينية والتوثيقية التَّحرُّرية المعارضة للنظام والشاهدة على أحداث العصر تركها بمخلَّفات ورقيَّةٍ في صُندوقٍ خشبيٍّ متينٍ مُودعٌ بمحل عمله. إلَّا أنَّ سعيداً كان عصبيِّ المزاج وسريع الغضب يثور سريعاً لأتفه الأسباب حين يُستفَزُ خلال حواراته مع المحور الآخر المناهض له فكريَّاً حول تداعيات الحكم وسياسة النظام الدكتاتوري الحاكم للبلد.

أمَّا المحور الثاني من هذه الشخصيَّات المناوئة لتوجَّه وفكر المحور الأول، فتمثَّل بمحور اليمين الإسلامي المعتدل، وقد تجسَّدَ تمثيله الفكري بشخصيَّة (هادي) بائع السِّبَحِ والسجَّاد والتُّرب القابع تحت عباءة الدين الإسلاموي الجديد. وكان فعلاً رجلاً هادئاً ومسالماً وصبوراً جَلِدَاً باردَ الأعصاب على خلاف نقيضه سعيد الثائر الفائر. كما كان يتحلَّى بأدبِ وصفةِ الإصغاء العالي لمحاوره وبأعصاب قويَّةٍ هادئةٍ وكَيَاسةِ عَقلٍ حَكيمٍ وَرَاجحٍ وَرَزينٍ ثابتٍ يملك نفسهُ عند اشتداد حِدَّة الغضب في المواقف الحرجة، وليس شديد الصُرعة عند الغضب الذي يُطفئ سراج العقل ويُضيِّع الحقوق.

وكان هادي يعتقد كلَّ الاعتقاد ويظنُّ بأنَّ زمام الأمور في نهاية المطاف ستفضي لدولة الإسلام السياسي الجديد متأثراً بما حصل للجارة إيران في ثورة الإمام الخميني؛لذلك كانت حواراته اليومية مع جاره سعيد تأخذ طابعاً نديَّاً وقوياً في النظر إلى ما ستؤول الأمور في المستقبل القادم القريب.

وكانت حدِّة هذا الصراع تتفاعل وتتنامى على أَشُدِّها من أول فصول وأحداث الرواية حتَّى مُنتهاها التحذيري الأخير المفتوح الذي رسمه الكاتب لها، والذي لم تكن خاتمة نهايته الموضوعية متوقعةً لرؤية وحسابات وتصوُّر كلٍّ من المُحورين بين أطراف اليسار واليمين السياسي الشعبي.

أمَّا شخصيَّة خلَّاوي الطرف الثالث لهذا المثلث فكانت تُمثِّل المعادل الموضوعي المحايد بين وجهي الصراعين المُحتدمين. وقد أفاد البطل خلَّاوي كثيراً من تجلِّيات جذوة هذا الصراع القائم والذي لم تكن له معرفة به سابقاً، أو أنَّه قد سَمِعَ عنه وعن عالمه السياسي الرحيب. غير أنَّه في كلَّ الأحوال أصبحت له حصيلة من مُدخلات الثقافة السياسية والاجتماعية، وتطوَّر نضجه العقلي والفكري الواسع، وصار له تصوراته الذاتية عما يحصل من تطوَّرات وأحداث طارئة للعراق.

لقد كان همُّ خلَّاوي الوحيد أنْ يحصل من هذا الوطن على فرصة عملٍ مناسبٍ أو وظيفةٍ بسيطةٍ يُقوُّت بها نفسه ويُعيل بها أسرته الفقيرة، مُمَنِّيَاً نفسه في الوقت ذاته ولو كان ذلك الحُلمُ لأجلٍ بعيد في استكمال تحصيله الدراسي في الابتدائية والإعدادية والذي لم يحصل عليه إطلاقاً حتى في نهاية المطاف؛ بسبب بوادر قيام بشائر الحرب التي تلوح في الأفق في عقد الثمانينيات بين الجارين العراق وإيران، والإعلان المفاجئ في طلب مواليده للالتحاق بإداء خدمة العلم العسكرية الإلزامية. والتي كانت من المفاجآت العصيبة التي تنتظره مستقبلياً. وكأنِّي بالراوي العليم أو السارد علي لفتة أنْ يقول ويخبر في تسريداته الرمزية وموحياته السيميائيَّة لواقعة الحدث الموضوعيَّة بأنَّ خلَّاويَ وسعيداً وهاديَّاً وغيرهم من عامَّة الناس من أبناء الطبقة البروليتارية العاملة هم جميعاً ضحية من ضحايا أنظمة الحكم البعثي الدكتاتوري القائم وحطب لهشيم ناره التي لا تنطفئ أوَارُها:

"وَفِي لَحظةٍ مَا لَا يَدرِي إنْ كَانتْ حَقيقيةً أمْ هِيَ مِنْ صُنعِ الخَيَالِ، رَأى زَوجَ خَالتِهِ وَهوَ يَحفرُ حُفْرَّةً بِيديهِ، حُفرةً عَميقةً جِدَّاً، ثُمَّ نَزَلَ فِيهَا وَلَمْ يُرَ مِنهُ شَيئَاً.. فِي لَحظتِهَا كَانَ يَسمعُ صَوتَ التِّلفزيونِ، إذْ كَانَ المُذيعُ يَصرخُ وَهوَ يَقرَأُ البَيانَ الَّذي أعلَنَ فِيهِ اِستدعاءِ مُواليدهِ لِخدمَةِ الإلزاميَّةِ وَعَلَى الجَميعِ الاِستعدادُ لِلمعركةِ...". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 240).

هذه التجلِّيات السرديَّة الثلاثة من أوجه الاختلاف للصراع الميلودرامي المرئي وغير المرئي من أبرز شخصيَّات الرواية الرئيسة والثانوية المؤثِّرة التي أسهمت إسهاماً كبيراً وفاعلاً في تنمية مسيرة الحوار الداخلي المونولوجي وتصاعد بنائه الموضوعي قنيَّاً وجماليَّاً، وفي إظهار آثار الصور القيمية والفكرية والإنسانية والوطنية المُثلى في مجتمع (بابِ الدِّروازةِ) المُصغَّر سرديَّاً. فهذه الشخصيّات هي أيضاً تعدُّ مزيجاً واقعيَّاً من الفنِّ السردي الدرامي والبُعد العقائدي الثوري.

أمَّا شخصياته الفرعية الأخرى التي ترتبط ارتباطاً مباشراً مع طرفي الصراع الوطني والاجتماعي والروحي الأول والثاني فكان دورها الفواعلي الحدثي تكميلياً ثانوياً؛ لكنَّه دور له تأثيراته الفنية والاجتماعية المؤثرة في الكشف عن حفريَّات وآثار الواقع الحياتي البسيط للمواطن الأعزل في حقبة تاريخية مُهمَّة جِداً من تاريخ العراق السياسي والاقتصادي الحديث والمعاصر.

وقد كشفت حقائق السِّير السرديَّة والذاتية لطبيعة هذه الشخصيَّات المأزومة عن هُوية المجتمع ومعاناته ومظلوميته وشعوره بالحيف والتهميش واللَّامبالاة وتفشي حالات العوز والفقر والفاقة. لكن في الوقت نفسه أثبتت هذه الشخصيَّات بأنها ذات طاقةٍ إيجابيةٍ كبيرةٍ تسعى من خلالها إلى الوصول لنيل حقِّها العلمي والعملي المنشود في التعلُّم العالي والتخرُّج التطور المعرفي، فضلاً عن أملها في الحصول على ما تصبو إليه شخصيَّاً من حُريَّةٍ وكرامةٍ وأمانٍ وسلامٍ وعيشٍ آمنٍ رغيدٍ.

فلو تتبعنا الأثر العملي لهذه الشخصيَّات الذكورية لوجدنا فيها شخصيّة طالب الدكتوراه بكُليَّة الإدارة والاقتصاد والتي تمثَّلت بشخصية سليم الأخ الأكبر لخلَّاوي، وهي من الشخصيَّات التكاملية التي كان لها أثر كبير في توجيه مسيرة أخيه خلَّاوي والمحافظة عليها في عالمه الجديد الآخر. ثمَّ تأتي شخصية حسن طالب كُليَّة الفُنُون الجميلة بجامعة ببغداد، والذي كان من أقرب الشخصيَّات المحلية لقلب البطل خلَّاوي، وله مواقف وحوارات عديدة معه بخصوص مظاهر حياته الجديدة. فضلاً عن شخصية حسين طالب كُليَّة الطبِّ، وهو ممن يسكنون بجوار غرفة خلَّاوي في الخان نفسه، وكان من المحبِّين والناصحين له في تمضية حياته العملية والتكيُّف معها ومع مستجداتها.

ومن بين الشخصيَّات الثانوية الأخرى شخصيَّة جعاز بائع العصير أو الشربت والشاي، وهو من الأفراد الذين يسكنون الخان بباب الدروازة،وتجمعه مع البطل مَحبَّة ومودَّة وعَلاقة جوار اجتماعية وحياتية خاصة ومشتركة تحت سقف واحد ومجتمع يتضوَّر من وقع الألم ويئن من المعاناة. وهذه الشخصيات تجمع في سِيرتها الذاتية والسرديَّة بين جمال البعدالفنِّي الميلودرامي والبعد الاجتماعي.

ونذهب في هذا التقييم السِّيري السَّردي إلى الطرف لآخر من الشخصيَّات الأنثويثة ذات الطابع السردي الثانوي أو الفرعي المُكمِّل في إيقاعه الحدثي لتجليَّات الطرف الأول الذُّكوري المؤثِّرة في شاخصية الحدث. ويأتي على صدر هذه الشخصيَّات الفواعليَّة شخصيَّة فتحيَّة، تلك الفتاة المُثيرة للجدل ذات الأصول العشائرية الجنوبية، والتي دفعتها ظروفها الاجتماعية إلى الهرب من مدينتها الديوانية إلى بغداد مع أبيها على إثر فضيحةٍ أخلاقيةٍ واجتماعيةٍ هَزَّت أركان شرفها ولوَّثت سمعتها الاجتماعية والتي تعرَّضت لها؛ بسبب فعل الغواية الجنسية التي حصلت لها.

ومن ثم الإيقاع بها من قبل شاب يدعي أنَّه ابن عمها وعَدَهَا بالزواج كَذِبَاً وبُهتاناً، ثُمَّ تَخلَّى عنها بعد أن حصل على بُغيته منها مع رفيقه سائق السيارة الذي ارغمها على الفعل ذاته وإلَّا التشهير بشرفها وسمعتها التي نزلت إلى قاع الحضيض. وكانت الفتاة فتحيَّة ضحيةً من ضحايا المجتمع الرجولي القاتلة التي لا تَرحم، وقد أمَّنها بالوعود وخان عهد الوفاء تحت فاحشةالتخدير والإغراء. وقد أدَّت فتحيَّة دوراً اجتماعيَّاً وسرديَّاً تفاعلياً مُريباً مُهمَّاً من أدوار باب الدروازة الحدثية التوقعية.

أمَّا الطرف النسائي النِشط الأثر الآخر الذي يُقابل شخصيَّة الشَّابة فتحية في فعلية الأداء الذي يُحيطه الشكُّ والغموض والرِّيبة فهي شخصية الأرملة أُمّ صلاح، وكيلة صاحب الخان في جمع أموال الإيجارات، والتي تعمل حفَّافة لِشَعرِ النساء في خارج الخان وداخله. وقد عرف عن هذه الشخصيَّة بأنَّها تحمل الكثير من الأسرار الشخصيَّةً الغريبةً والخفيةً الغامضة التي تخصُّ سيرة حياتها الشخصية؛ كونها أولاً امرأةً أرملةً وزوجةَ أحد شهداء حرب تشرين مع إسرائيل في سوريا.

وثانياً ما أصاب سيرتها الأخلاقية من اعتداء رجل عليها يُدعى صاحب محلِّ الأعشاب أثناء قيامه بالفحص الموضعي لمنطقة حسِّاسة من أسفل جسدها وتخديرها ومداعبتها بالملامسة والنيل من شرفها وكرامتها، وبالتالي سقوطها في لذَّة هاوية الإغواء الجنسي الرجولي بفعل شعورها بحميمية اللَّذة بعد سنوات طويلة من الجفاف العاطفي التي مرَّت بها إثر فقدان زوجها الشهيد. فكانت ضحيةً أخرى من ضحايا المجتمع الذكوري الباحث عن لحظات الإمتاع الجسدي للمرأة.

والشخصية النسوية الثالثة التي تمتلك الحكمة والتجربة والخبرة الاجتماعية في الحياة الأسريَّة، هي شخصية المرأة العجوز أم يوسف، التي تعدُّ الجدة الكبيرة لولدي بنتها الوسطى خلَّاوي وسليم وقد جاءت معهما إلى بغداد لتعيش في خان باب الدِّروازة وتتكفَّل برعايتهما؛ كونهما ولدين يتيمين لا راعٍ لهما سواها. وكان لها الدور الكبير في تربية وتنشئة خلَّاوي وسليم وتوجيه حياتهما العملية والأسرية والمحافظة عليهما. وسنتعرَّف عليها أكثر عندما نُجيل النظر بالتمثِّلات الإجرائية لهذه الشخصيَّة، وكيف تمكَّنت من فرض إحكام قبضتها الأُسرية عليهما من تصرُّفات الآخرين، وتوجيه مسيرتهما العلمية والاجتماعية توجيهاً صحيحاً من خلال هذه التنشئة والتربية والمراقبة والوعي.

وهده الشخصيَّات الأنثوية المهمَّة الثلاثة على الرغم من كونها شخصياتٍ ثانويةً هَامشيَّةً فرعيَّةً بَيدَ أنَّها تجمع في رمزيتها السرديَّة بين بعدين مختلفين، البُعدُ الفنِّي العملي السِّيري والبعد الاجتماعي السردي الساعي إلى تحقيق حياة حرَّة كريمةٍ وآمنة مستقرَّةٍ في مجتمعٍ بغدادي مغاير.

لم يبقَ من الشخصيَّات الفرعية إلَّا ستُ شخصيَّاتٍ تكميلية لسدِّ فراغات الفضاء السردي بالحدث الفعلي الميلودرامي والبَصَرَي الحَرَكي الذي يُضفي على واقعة الحدث الموضوعية تصويراً دراميَّاً تكامليَّاً مُذهلاً وناجحاً. فتأتي شخصية أمّ وداد الخيَّاطة على رأس هذه الشخصيَّات، وشخصيَّة أم حسين قارئة الفأل، ثُمَّ شخصيَّتا أمّ رازقيَّة وأمَ جَواد، وشخصيَّةُ صاحبةِ الحَمَّام، وهنَّ جميعاً من اللواتي يسكنَّ في الخان ومن العوائل الفقيرة التي أجبرتها ظروف الحياة على العمل بالكاظمية.

فضلاً عن شخصيَّة فخريَّة خالة خلَّاوي وزوج سعيد بائع الثلج الذي تنحدر أصوله الجنوبية من مدينة سوق الشيوخ التي لم يرها أو عاش فيها أكثر حياته. حتَّى إنَّ لهجته كانت بغدادية بحتةً وليست جنوبية، بل كانت مغايرةً؛ الأمر الذي دفعه إلى التندر والاستهزاء بلهجة خلَّاوي الجَنوبية والسخرية من بعض مفرداتها المحبَّبة للنفس التي اعتادعليها أبناؤها الجنوبيون ولم تفارق ألسنتهم أينما رحلوا وأينما حلَّوا في العراق وخارجه. وربَّما وردت هناك توصيفات لرموز شخصيَّة ليست اسميَّة في الرواية من أجل استكمال مشاهد الرواية وتتمة أحداثها السرديَّة المهمّة إنسانياً وإبداعيَّاً.

أكثر من سبع عشرة شخصيَّةً من جنس الذكور والإناث وظَّفها كاتب الرواية علي لفتة سعيد لتكون الهندسة الفنيَّة والبنائيَّة لِعُمارة شخصيَّات (بابُ الدِّروازة)، والَّتي اجتمعت في هذا الحيِّ الشعبي المقدَّس الذي تختزن ذاكرة جدرانه التأصيلية شخوصاً وأصواتاً وتواريخاً ومدناً ومثاباتٍ.

البُعدُ السَّايكولوجي السِّيرِي لِلشخصيَّاتِ:

إنَّ الشخصيَّات التي وظَّفها الكاتب السارد في حيِّ أو خان (بابُ الدِّروازةِ) المؤدِّي لأبواب كثيرة في الكاظمية، هي شخصياتٌ على الرُّغم من فقرها الاجتماعي الشديد وحاجتها الماسة للعمل وانتظار ساعة الفرج والأمل، فإنَّها تعدُّ شخصيَّاتٍ مُفعمةُ بالحبِّ والحياة الحركية النابضة الدائبة والتي لا تكلُّ أو تملُّ أو تفترُ في مواجهة الصعاب والتحديات في نيل المَراد وتحقيق الطموح.

إنَّها أقلُّ ما يُقالُ عنها شخصيَّات مكافحة عَركَتِ الحياة، وسارت في درب الجهاد والتمنِّيات؛ لذلك فإنَّ علي لفتة أعاد تدويرها وتأويلها وإنتاجها من جديد لا تكريرها، ووضعها تحت كاشف التأمل وسونار الوجود في سرديَّات المكان والزمان الذي لا يكتفي بتقصيص حكاياته، بل يذهب إلى تفعيل جُلَّ فكراته وتجديد رؤى سردياته الحدثية بِكُلِّ ما هو مثير للجدل والفكر ونبض الحياة.

فعلي لفتة سعيد ابن مدينة الناصرية الواعي والمَهجوس بها وبماضيها، وهو الذي خَبرَ دروبها وعجن تاريخها واستوعب رغبات نفوس أبنائها، وعاش مآسي وأوجاع وألم حياتها الِّسيريَّة. وكان شاهداً على تحوُّلاتها العصرية زمكانياً وتاريخياً في الريف والقرية والمدينة مثلما كان أبطالهُ أنفسهم شهوداً أحياءً ثُقاةً على فعل جريمة العصر،بل كانوا الضحايا المفجوعين بالألم والوجع والنكوص والمعاناة،وكانوا مُثقلين بالهمِّ وكثرة الجراح والخوف من المجهول الذي ينتظر حياتهم0

كان الكاتب في رحلة تسريداته الحكائية الميلودرامية وتحولاتها السريعة بين (بغداد والناصريَّة)، و (الكاظمية وسوق الشُّيوخ) باحثاً عن مرآة ماضيه الجنوبي السومري وعن مصادر وأنساق ذاته الوجودية والنفسية القلقة التي تصيَّرت أشياءَ ورموزاً ومواضيعَ نفسية وروحيَّة وثورية وآيدلوجية معقَّدة في تركيبة نفوس أبطاله المجاهدين، وشخوصه الأحرار المسالمين عبر هذا العقد الفريد من السلسلة التجريبية من المواقف والأفكار والتحوُّلات السرديَّةالعَصيبة التي أصابت المكان والزمان.

لم يكتفِ الكاتب في أطياف سرده الفسيفسائي الذي يجمع بين وقائع الماضي والحاضر والمستقبل المتقاطع الآتي برصد واقعية هذه التحوُّلات وجمع أحداثها التاريخية والسياسية والاجتماعية المهمَّة فقد ذهب بعيداً إلى مناطق أكثر حساسيَّةً، وإلى التقاط وتصوير وتجسيد نفسيَّاتِ هذه الشخصيَّات المُهمَّشة التي كانت مُتعدَّدة الثقافة والأهواء والسايكولوجيات. وكانت التمثَّلات السردية شاهداً على تلك النفسيَّات الازواجية وعلى حركاتها الفواعلية الحذرة جدَّاً في هذه البقعة المكانية المقدَّسة.

ويعدُّ الانتقال المكاني من المدن والمحافظات الصغيرة إلى مناطق العاصمة بغداد المأهولة سكَّانيَّاً من العوامل الإركيلوجية المهمة في إظهار آثار العامل النفسي والبشري والذاتي المؤثِّر لبنية هذه الشخصيَّات المركبة في الحفاظ على تراثها الثقافي والإنساني، وفي شحن قدرتها على مواصلة الحدث مهما كانت نتائجه السلبية والإيجابية.

ومن خلال ضمير الفاعلية الحدثي أكان (حاضراً أم غائباً)، والَّذي هو اللِّسان اللُّغوي للراوي العليم أو السارد والمُعبِّرُ الفاصح عن واقع حال أصوات الرواية وتُرجمان نفسيَّة شخوصها القلقة، يطرح الكاتب الراوي علي لفتة سعيد جملةً من التساؤلات التأمُّيلة والفلسفية والوجودية الذاتية حول تقرير المصير وإثبات الوجود (أكونُ أو لا أكونُ) فيقول: (ماذا يعني لنا الوطن الكبير حين يتحوَّل إلى منفىً وتغريبٍ،ويتصيَّر إلى خرابٍ ويَبابٍ ودَمارٍ؟)،إنَّه بالتأكيد شعورٌ بالضيق والتِّيهِ والضياع والتشظي والانتشار بدلاً من الحفاظ على بناء هُوية الذات الوجودية في ظل زحمة هذا التشرذم وسيادة الفُوضى وغشاوة سمادير الكدر والضياع الذي يُهدِّد مستقبل الإنسان وكيان هُويته الذاتية.

فمثل هذه الأسئلة ذات الطابع الوجودي التي تُغور في أعماق النفس الإنسانية وتُسبِرُ أنساقها الحركية الداخلية الفائرة تأتي وتؤكد حضورها السردي الفاعل لا لِتروي لنا حكاياتٍ أبطالها وشخوصها المليئة بالوجع الذاتي، والمضمَّخة بالألم النفسي والهَمِّ الوطني الكبير فحسب، بل إنَّما هي في حقيقة الأمر تُقلِّلُ من غلواء واقعة ذلك الأثر الرُّوحي وتُخفِّفُ من شدَّة الاحتقان النفسي الناقم على هيمنة الحدث الكُلِّي وتصاعد تفاقمه وضرره مع تقدُّم الزمن وبقاء التسلُّط الحاكم لها.

كانت أُسلوبية الرائي علي لفتة سعيد الأنويَّة المتمايزة في تأثيث مُعجمه السردي الروائي لمدوَّنة (بَابُ الدِّروازةِ)، هي المقاربة الشخصيَّة للنفس الإنسانيَّة الأمَّارة بالتنازع في ثنائيَّات عَديدةٍ مثل، ثنائية (الألم والأمل)، و (الماضي والحاضر)، (الحكاية والفكرة)، و (المعنى والمبنى)، و (الحسرة واللّذَة)، و (الواقعي والأُسطوري) من المتخيَّل، وغيرها من المتضادات النفسية والمعنوية المُفخَّخة التي اجتمعت غيوم فضاءاتها المُلبَّدة بالأسى تحت مظلة خطابه السردي لتكون جزءاً كبيراً لسياقٍ يُدشِّنُ مشروعه الفكري والثقافي الإنتاجي الذي تميَّز به أُسلوبه العراقي الروائي المتجدِّد سردياً.

فالكاتب لا يسعى إبداعياً إلى اجترار إنتاجه السردي الكبير وتكرار شخصياته في خط ِّمشروعه التواثبي، بل يكشف بأمانةٍ وحرصٍ عن البعد الفنِّي والنفسي لأنماط تلك الشخصيَّات المُهمَّشة والمسكوت عنها عبر فنيَّة هذا التراسل الزماني والمكاني لواقعة الحدث الموضوعية المتجدِّدة.

وعلى وفق تلك المنظورات الشخصيَّة والفنيَّة والتصوُّرات النفسيَّة الهائلة التي إنماز بها أبطال شخصيَّات رواية (بَابُ الدِّروازةِ)، لا بُدَّ من الإشارة إلى بيان مفهوم البعد النفسي أو السايكولوجي لتلك الشخصيَّات الروائيَّة العاملة على إنتاج الحدث وتفعيله فنيَّاً وإبداعياً وجماليَّاً.

فالبعد السايكولوجي لها يُشير إلى مجموعة من الجوانب النفسيَّة والعاطفية والفكرية التي تتشكَّل من خلالها هُويَّة الشَّخصيَّة الروائية المستقلة وتتبلور. فتتأثَّر هذه الجوانب وتؤثِر على سلوكها الذاتي الخاص وتفاعلاتها الجمعيَّة العامة المشتركة مع الآخرين في فضاء محيطها الخارجي.

ومَنْ يُمعنُ النظرَ جليَّاً ويُدققُ في سرديَّات مفهوم البعد النفسي لأصوات رواية (بَابُ الدِّروازةِ)، سيكتشفُ أنَّ الكاتب، أولاً، تناول الدوافع النفسية المثيرة التي دفعت كلَّ شخصيَّةٍ من شخصيَّات الرواية إلى التصرُّف العقلي بطريقةٍ معيَّنةٍ ما. وثانياً سيلحظ أنَّ هذا البعد تناول جميع المشاعر والعواطف والأحاسيس الجياشة المؤثِّرة في سلوك الشخصيَّات وتفاعلاتها الحركية.

وثالثاً أنَّ هذا البعد تناول من خلال التوصيف السردي كُلَّ الأفكار والمُعتقدات والتصوُّرات الشيئية تلك التي تشكِّل نظرة الشخصيَّة للعالم العالم الخارجي أوَّلاً ولذاتها النفسية الداخلية ثانياً. فهذه المُدخلات الثلاثة تُسهمُ إسهاماً كبيراً في بناء وتنمية البعد النفسي للشخصيَّات الروائية.

والبعد النفسي أو السايكولوجي في مدوُّنة (بَابُ الدِّروازةِ) كان له أهميته المعرفية والفنيَّة والجمالية؛ وذلك كونه يُساعد على فهم الشخصيَّة، أي يُساعد المتلقِّي أو القارئ على إدراك وفهم الشخصيَّة ومعرفة دوافعها النفسية وسلوكها العام. فضلاً عن أنَّه يُسهم كثيراً تنامي وتطوير حِبكة الرواية وفي تقديم الصراعات العُقدية والتَّحديات المَصيريَّة للشخصيَّة الرِّوائيَّة ذاتَ الأثر السردي الكبير.

ولمفهوم البعد النفسي للشخصيَّات الروائية في (بَابُ الدِّروازةِ) له تقنياته البنائية المختلفة التي اعتمدها الكاتب الرائي، وقد استخدم الكاتب والمُؤلِّف علي لفتة سعيد ثلاثاً من هذه التقنيات البنائية المهمَّة.فقد استخدم تقنية (الوصفُ النفسيّ)لهذه الشخصيَّات،وأعني بذلك وصف مشاعر كلِّ شخصيِّة وأفكارها ورؤيتها الوجودية، وإن كان نوع هذا التوصيف توصيفاً سرديَّاً متداخلاً في الحواريات الحدثية للشخصيَّات. وقد تمثَّلت مظاهر هذا التوصيف في الشخصيَّات المركزية والثانوية المُهمَّة، فقد وصف شخصيَّةَ كُلاً من (خلَّاوي وسعيد وهادي وسليم وحسن وفتحيَّة وأُمّ صلاح وأُمّ يُوسف).

وستخدمَ أيضاً الكاتب تقنية (الحِوارٌ الداخليُّ) أو المونولوج الذي يُساعد في تخليق التفاعل العميق والمباشر بين القارئ النابه والشخصيَّة الروائية التي تؤدِّي الحدث السردي بإتقانٍ. ومن أمثلة هذا الحوار النموذجية الإجرائية جميع الحوارات الداخلية الكثيرة والمُحتدمة بين شخصيَّة سعيد الثوريَّة الغاضبة وشخصيَّة هادي السلميَّة الهادئة، وما نتج عن هذه الشخصيَّة من أحداث وتوقُّعات عديدةٍ.

أمَّا التقنية الثالثة التي وظَّفها الكاتب بروايته، فهي استخدامه لتقنية (التَّفاعُ مَع الآخرينَ)، وأعني بذلك ما تَقومُ به الشخصيَّة الروائيَّة من تقديم التفاعلات الشخصيَّة مع الآخرين المُهتمِّين بالحدث، وكيفية تأثير هذه التفاعلات الكيميائية والنفسية على أثر سلوكها وتصرفها وحركتها وثباتها. وهذا ما نجده ماثلاً في المشاهد الِميلودراميَّة والسرديَّة التي أدَّتها الشخصيَّات الأنثويَّة مثل، شخصية (فتحيَّة وأُمّ صلاح وأُمّ يُوسف الجِدَّة)، وشخصيَّات ذكوريَّة مثل، (سليم وحسن وحسين وجعاز) التي تفاعلت جميعها مع شخصية خلَّاوي البطل المركزي الحائر في رواية باب الدِّروازة.

وخلاصة القول إنَّ البعد النفسي أو السايكولوجي الذي ضمَّنه الكاتب حكائياً وسِيريَّاً في رواية (بَابُ الدِّروازة) لَعبَ دوراً مُهمَّاً وكبيراً في إظهار الدوافع النفسيَّة والعاطفية الحماسية والاعتقادية والفكرية للشخصيَّات الروائية في مثابة أو خان باب الدِّروازة، والَّتي اتَّضحت معالمها السردية المائزة من خلال التقنيَات الفنيَّة المُستخدمة التي جاءت بها أسلوبية الكاتب سعيد الإبداعية والإنتاجية في صنع عمل روائي مُبهر له خصوصياته الفنيَّة والجمالية التي تستحق كلَّ التقدير.

تَمثُّلاتُ البُعدِ السَّايكولوجي الشِّخصيَّةُ:

إنَّ من أبرز الشخصيات الروائية المُهمَّة التي تركت طابعاً نفسيَّاً وإنسانيَّاً مُركَّباً وعقائدياً آيدلوجيَّاً مُعقَّداً ووطنياً وروحيَّاً دينياً واجتماعياً مؤثِّراً في إنتاج واقعة الحدث السردية لبابِ الدِّروازة، تلك هيَ شخصيَّة (سعيد) الرجل المثقّف وصاحب مَحلَّ بيع الثلج في شارع ضيق من باب الدِّروازة، وشخصيَّة نظيره (هادي) الدينية صَاحبُ محلَّ بيع السِّجَّاد المجاور لسعيد في الحي أو المَثابة نفسها.

وقد عُرِفَ عن الشخصية الأولى بأنَّها من الشخصيَّات الوطنية ذات الميول المحليَّة الشيوعية والفكرية التحرريَّة التي تُحلِّلُ الأمور وتغربل الأفكار وتَستشرف التوقُّعات حول مصير البلد وما ينتظره من تحوُّلاتٍ وتغيُّراتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ مُقبلة تتقاطع مع مصالح الشعب وتطلُّعاته المستقبلية. في حين أنَّ شخصية هادي الثانية، هي شخصية إنسانيَّة مسالمة كيِّسة تميل إلى الحكمة والهدوءوتنظر إلى الأمورنظرةً من جانب تأمُّلي إسلاميٍّ وروحيٍّ في الخلاص من الواقع المَعيش.

أمَّا الشخصية الثالثة والمُهمَّة على الرغم من أنها تمتاز بالبساطة فهي شخصية الفتى (خلَّاوي) المُحوريَّة الاجتماعية التي عُرِفَ عنها بأنَّها شخصيَّة ازدواجية سايكوباثية مضطربة السلوك ومركَّبة التعقيد، ظاهرها الخارجي الشكلي يُوحي بشيءٍ طبيعيٍّ وسَويٍّ،وأمَّا باطنها الداخلي العميق فيشي بأشياء تَخيُّليةٍ وتَصوُّريةٍ أخرى أكثر تعقيداً وغموضاً وهوساً في المشهد السردي الدرامي.

وقد أدَّى ها المثلث السردي لهذه الشخصيَّات المُغايرة فكراً وعملاً وعقيدةً وإدراكاً دوراً فاعليَّاً وأساسيَّاً في إبراز الوجه النفسي الحقيقي لعمل سردي مثل رواية (بَابُ الدِّروازة)، علماً أنَّ هذه الشخصيَّات المُتصارعة آيدلوجيَّاً وفكريَّاً أصولها الانحدارية جنوبية وليست بغداديةً، غير أنَّ ظروفها الاجتماعية والاقتصادية وروحها الوطنية وتطلُّعاتها الفكرية ألقتْ بها أن تكون في حيٍّ شعبيٍّ من أحياء الكاظمية المقدَّسة. ويضاف إلى سِيرة هذه الشخصيَّات الذكوريَّة المهمَّة شخصيَّات أُنثوية أخرى مثل، شخصية الفتاة (فتحيَّة)، ومثيلتها أُمّ صلاح المرأة المُريبة، والمثيرتين للجدل والغرابة الموضوعيَّة، والشخصيَّة الثالثة أُمّ يُوسف صمَّام الحكمة والأمان الاجتماعي في الخان.

وعلى وفق هذه البيانات الوصفية لشخصيَّات الرواية ومدخلاتها الموضوعيَّة السِّيرية، فإنَّها شكَّلت في حضورها العتبة المهمَّة الأولى من عتبات الحُمولات الفكرية والحوارية السرديَّة المكثَّفة لواقعة الحدث السردية في هذه الرواية، وذلك بدأً من مَطلعها الافتتاحي وحتَّى خواتيمهَا النهائيَّة.

لقد اتَّخذ البعد السايكولوجي لشخصيَّات (بَابُ الدِرّوازةِ) أبعاداً نفسيَّة سرديَّةً كثيرةً التمثُّلات، فجاءت موضوعات حكائية وقصصيَّة عديدة مثل، (الاختلاف الفكري، والحبّ والخوف والعصبية، والطموح المستقبلي، وإفشاء السرِّ، والمحافظة على التقاليد الاجتماعيَّة).وتعدُّ من أبرز موضوعات البعد النفسي التي شهدت تَمثلاتها السِّيرية أحداث الرواية ووقائها السرديَّة الدَّراميَّة المُتصاعدة.

1-الاختلاف الفكري:

فمن أمثلة الصراع الفكري الذي تحوَّل إلى صراعٍ آيدلوجيٍّ ونفسيٍّ مُختلفٍ على الهُويَّات العقائدية ذلك هو الحُوار الذي دار بين سعيد بائع الثلج المؤمن باليسار الوطني والكارهِ لرجال الدين وتصرفاتهم المزدوجة ومواقفهم الخفيَّة الَّتي لا تَمُتُّ إلى حقيقة الدين بِصلةٍ لا من قريبٍ أو بعيدٍ، وبين هادي المُتدين المنضوي تحت مظلة اليمين الإسلامي والمؤمن بأنَّ الوقت قد حان لهم:

"خَرَجَ سَعيدٌ غَاضبَاً مِنَ المَحلِّ، وتَوجَّهَ إلَى بَائعِ السِّبَحِ وَقَالَ بِصوتٍ عَالٍ:.. إنَّهُم سَيتوالدونَ وَسَيتكاثرونَ، فَالفرصَة ُمُواتيةٌ لِقَلبِ مُعادلةِ الحَياةِ بِالخوفِ، والعَالَمُ كُلُّهٌ سَيصنَعُ المُتغيُّراتِ.. رَأى خَلَّاوي عَلاماتِ القَلقَ عَلَى وَجهِ بَائعِ السِّبَحِ وَهوَ يُشيرُ لَهُ بِالسكوتِ أو عَلَى الأقلِّ تَخفيضِ صَوتِهِ، فَهوَ يَذكرُ رِجالَ الدِّينِ بِالسوءِ وَهَم يَعيشونَ حَولَهُ، وَلَا يَبعُدُ مَكانُهُم فِي الحَضرَةِ سِوَى بِضعةِ أمتارٍ. خَرَجَ بَائعُ السِّبَحِ مِنَ مَحَلِّهِ وَسَحبَ سَعيداً مِنْ يَدِهِ وأدخَلَهُ إلَى دَاخلِ مَحَلِّ الثَّلجِ وَأجلَسَهُ عَلَى الأريكةِ وَطاَلَبَهُ بِأخذِ النَفَسِ، وَوَجَّهَ لَهُ سُؤالاً بِلهجتِهِ بِطريقةٍ تَحمِلُ اِستهجَانَاً وَغضبًاً:- أنتَ مَا تَريدْ أتّْوُّب؟ لكنَّ سَعيداً لَمْ يَهدَأْ فَلَجَأَ إلَى ذِكرِ اِللهِ بِسوْءٍ..." (بَابُ الدِّروازةِ، ص 155).

لم تَنتهِ حِدَّة الصِّراع المتفاقم بين الرجلين المختلفينِ تحاوراً في الفكر والاتِّجاه والعقيدة والرأي، وما يمكن أن يحصل للعراق من أحداثٍ سياسيَّةٍ تَهزُّهُ مثلما حصل للجارة الشرقية إيران في الحقبة نفسها على مستوى تغيير نظام الحكم القائم من غربي علماني إلى إسلامي ديني،وكان سعيد وقتها:

"يَصرَخُ وَيقولُ اِنتبهُوا إلَى الآلهَةِ الجُددِ.. كَانَ يَتحدَّثُ مَعَ جَارِه ِالمُقابلِ لِمحلِّهِ فِي الزُّقاقِ الضّيِّق بِائعِ القائمة بينسِّبحِ وَسجاجيدِ الصَّلاةِ وِمَلابسِ الإِحرامِ وَالأحجَارِ وَالمَحابِسِ وَالخَرزِ، وَكلِّ مّا لّهُ عُلاقةٌ بِالطقُوسِ الدِّينيةِ،بِمَا فِيهَا بَيعِ أكفانِ المُوتَى ومَاء الكَافور..كَانَ زُوجِ خَالتِه يُمازِحُ الرَّجلَ بِطريقةٍ عَجيبةٍ لَا يَفعلُها مَعَ أيَّةِ شَخصيَّةٍ أُخرَى..كَانَ يَقولُ لَهُ:-خّلِّ تَنفعكَ هَذهِ الأشياءً؟ (بَابُ الدِّروازةِ، ص 95).

لم يفهم خلَّاوي ما يدور من أحاديث السياسة المُلغَّزة عن الآلهة الجدُّد بين الرجلين، بل كان: "يَعتقدُ خلَّاوي بَعدَ سَماعِهِ لِلكثيرِ مِنَ الحِكاياتِ أنَّ الآلهَةَ الَّتي كَانتْ فِي عُصورٍ غَابرةِ يَمكنُ لَهَا أنْ تَعودَ، بِل إنَّ زَوجَ خَالتِهِ يَصرُّ عَلَى أنَّها مُوجودةٌ، لَيسَ بِمعنَاهَا التَّوظيفِي الَّذي يَستغلُهُ مِنْ يُريدُ غُسلُ العُقولٍ.. كًانً يًستمعُ وَلَمْ يَكُنْ أمامَهُ سِوَى القُبولِ، فَقدْ صَارَ الأمرُ بِعينٍ أُخرَى وَزاويةٍ نَظرٍ أُخرَى..". (بَابُ الدِّروازة، ص 94، 95).وبالتأكيد أنَّ الآلهةَ الجُددَ المقصودين هُم أدوات الحكم الجديدة.

2- العَصبيةُ وَشِدَّةُ الانفعالِ:

كانت صفات نفسيَّة مثل، العصبية وسرعة الغضب والانفعال والثوران الشعوري من أهمِّ الأبعاد النفسيَّة والطباع الحادَّة التي تميِّز شخصيَّة سعيد وتستفزٌّه في معظم الحوارات السياسية والعقائدية الساخنة القائمة بينه وبين نظيره رجل السِّبَح،ولكنْ ما يغطِّي على شخصيَّة سعيد الانفعالية أنَّه كان:

"يَفهمُ مَا لَا يَفهمُهُ الآخرونَ، وَلَهُ عَقلٌ أكبرُ مِنْ جَميعِ النَّاسِ فِي هَذَا المُجتمعِ، يَفهمُ الكَثيرَ مِنَ الأشياءِ الَّتي لا يَمكنُ أنْ يَفهمَهَا غَيرُهُ، يَتنبَأ بِمَا سَيحصِلُ، لَكنَّهُ عَصبيٌّ وَسَريعَ الانفعالِ، فَيضيعُ مِنهُ خَيطُ الإقناعِ.. وَهوَ أمرُ أيضاً تَعلَّمهُ مِنْ زَوجِ الخَالةِ، وأيضاً مَا تَتَعلَّمهُ مِنْ بِائعِ السِّبحِ، حَيثُ يَنساقُ إلَى هُدوئِهِ وَقُدرتهِ عَلَى الإقناعِ بِأقلِّ الكَلماتِ وَأخفِّ الاِنفعالاتِ الَّتي تَكادُ تَكونُ غَيرَ مَرئيَّةٍ لِمنْ يُشاهدهُ.. حَتَّى إنَّه سَمِعَ مَرَّةً مِنهُ وَهوَ يَتحدَّثُ مَعَ سَعيدٍ مُحاولَاً ثَنيهُ عَن ذِكرِ اِللِه بِسوءٍ وَأنَّ هَذَا لَا يَنفعُ بَلْ يَضرُّ وَيُقلِّلُ اِحترامَ النَّاسِ لَهُ، بِل لَا يَجوزُ أنْ يَكونَ كَذلكَ". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 118، 119)

وقد وصل الحال النفسي بسعيد في عصبيته وانفعاله ومشاجراته إلى حدِّ الاشتباك والتدافع في حواراته مع الآخر الذي يشتدُّ معه في جدال أو نقاش حادٍ. وقد حدث مثل هذا السلوك فعلاً مع خلَّاوي الذي يعمل معه حين طلب من زوج خالته أنْ لا يكون عصبياًغاضبَاً فثارت ثائرته النفسيَّة:

"وَكَأنَّهُ رَمَى جَمرَاً مِنْ بُركانٍ عَلَى رَأسِ الرَّجُل، نَظَرَ إليهِ مُستشيطَاً بِشكلٍ مُخيفٍ حَتَّى خُيِّلَ لَهُ أنَّ قَطيعاً مِنَ الكِلابِ تُطاردُهُ، وَقَبلَ أنْ يَهرُبَ مِنْ أمامهِ أمسَكَهُ زُوجُ خَالتِهِ مِنْ يَاقتِهِ وَهَزَّهُ، وَعينَاهُ تَقدحانِ غَضَبَاً شِريراً.. سَمِعَهُ يَقولُ: لَولَا أنَّكَ يَتيمٌ وَابنُ أُختِ زَوجتِي لَطرتُكَ. دَفَعَهُ مِنْ صَدرِهِ فَسقَطَ عَلَى الأرضِ، وَفِي لَحظةِ نُهوضِهِ مَدَّ سَاقهُ اليُمنَى تَحتِ الأريكَةِ فَارتَطَمَتْ بِصندوقٍ خَشبِيِّ.. لَمْ يَكُنْ خَلَّاوي قَدْ شَاهدَهُ مِنْ قَبلَ، فَالأريكةُ عَليهَا فِرَاشٌ...". (بَابُ الدروازِة، ص 100، 101).

3- عَاملُ الخَوفِ:

إنَّ عامل الخوف والرهبة من العوامل النفسيَّة المُهمَّة التي اتصفت بها شخصيَة خلَّاوي والتصقت وأصبحت جزءاً من تفكيره الخيالي البعيد الذي يُصيِّر الناسَ إلى صورة قطيعٍ من الكلاب السائبة. وأنَّ هذا السلوك التخيُّلي الجديد لخلَّاوي هو ما لاحظه عليه أخوه سليم طالب الدكتوراه وحذَّره منه ومن نتائجه، موجِّهاً له عدة توجيهات وتوصيات لا بُدَّ من الالتزام والأخذ بها،بيدَ أن خَلَّاوي صار:

"لَا يَتذكَّرُ كَمْ مِنَ التَّوصياتِ الَّتِي سَمِعَهَا مِنْ أخيهِ، وَاحدةٌ مِنهَا أوصَاهُ وَهوَ يَراهُ يَحضِنُ رَأسَهُ بَينَ رُكبتيهِ ألَّا يَكونَ خاَئفَاً دُومَاً، فَهذَا عَيبٌ بِحَقِّ شَابٍ. لَكنَّهُ لَا يَعلمُ أنَّ صَوتَ الكَلبِ أقوَى مِنَ التَّوصِياتِ بين سعيدٍ وهادي؛ لِذَا حَاولَ البَحثَ عَنْ حَلٍ يَهديهُ إِلَى القُوَّةِ كَي لَا يَخَافُ". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 28).

الخوف الذي يشعر به خلَّاوي لم يكن خوفاً ناتجاً عن أمر طبيعيٍّ مُعيَّن ما يحدث له طارئاً، بل كان خوفاً نفسيَّاً مضطرباً تتحوُّل آثاره الفعلية إلى كِلابٍ يتخيَّلها على شكل صورٍ حَركيَةٍ حيَّةٍ تحدث أمامه لا يمكن التخلُّص منها إلا بالهرب والابتعاد من مكان الواقعة إلى فضاء مكاني آخر:

"مَرَّةً حًصلًتْ مُشاجرةٌ فِي رَأسِ بَابِ الدِّروازةِ الَّذِي يُؤدِّي إلَى بَابِي القِبلَةِ وَالمَرَادِ بَينَ اِثنينِ مِنَ بَاعةِ المَلابِسِ النِّسائيَّةِ فِي وَسَطِ الشَّارعِ، تَمَّ فِيهَا اِستخدامُ الأسلحةِ البِيضاءِ مِنْ سَكاكينَ وعصيٍّ .. تَسمَرَّ مِثلَ خَشبةٍ كَأنَّهُ يُراقبُ فِيلَمَاً سِينمائيَّاً، لَمْ يَتحرَّكْ مِنْ مَكانهِ حَتَّى اِزدادَ مَنسوبِ الخَوفِ وتحوِّلِ الجَميعُ إلَى كِلابٍ، حِينَهَا هَربَ رَاكضَاً إلَّى مَحلِّ بِيعِ الثَّلجِ فِي الزَاويَةِ البَعيدةِ؛ لِيتخلَصَ مِنِ جَمهرةِ النُّبَاحِ". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 40، 41).

وقد تحوَّل عامل الخوف عندَ خلَّاوي إلى عامل اقترانٍ شرطيٍّ له مثيراته واستجاباته النفسية التي ترتبط بفاعلية الحدث الحسَّاس والمُخِيف، وخاصةً عندما يتحوَّل النقاش بين سعيد وهادي إلى خلافٍ ومشاجرةٍ وتوترِ وانفعالِ شديدِوحادٍ فيما يخصُّ واقع الحال ويلامسُّ أثرَالمُحال،لكنَّ خلَّاوي:

"مُشكلتُهُ لَمْ تَزلْ فِي الخَوفِ الَّذِي يَعتريهِ، وَمَا أُضِيفَ لَهُ مِنْ وُجودِ الآلهَةِ، آلهةُ الدِّينِ كَمَا يَقولُ صَديقُهُ الفَنَّانُ وَآلهَةُ السِّياسةِ كَمَا يُسمِّيهُم زَوجُ خَالتِهِ وَآلهةُ القَدرِ كَمَا يُسمِّيهُم أخوهُ سَليمٌ .. رُبَّما أَرجِعُ الأمرَ إلَى عَدمِ قُدرتِهِ عَلَى الفَصلِ، حَتَّى الآنَ بَينَ مَا يَعرفُهُ وَمَا يُريدُ فَهمَهُ.. فَقَدْ اِختلطتْ عَليهِ المَعلوماتُ الكَثيرةُ الَّتِي سَقطتْ فِي حَوضِ عَقلِهِ بِصورةٍ مُتسارعةٍ خِلَالَ أَشهُرٍ مَعدودةٍ. وَرَغمَ عَدَمِ اِختلاطِهِ بِالنَّاسِ، لَكنَّهُم وَخَاصةً أبناءُ المَنطَقَةِ...". (بَابُ الدروازةِ، ص 118).

إنَّ شعور البطل خلَّاوي بالخوف ولَّدَ لديهِ شعوراً سريعاً بنضوج الوعي وتنامي الفكر والطموح بالمستقبل الذي ينتظره فراحَ ينظر لما يجري حوله نظرة إحاطةٍ وتحليلٍ ومعرفةٍ ويأخذ بالجديد:

"كُلُّ شَيءٍ تَغيَّرَ فِي المَكانِ وَلِذَا تَغيَّرَ خَلَّاوي،حَتَّى أخوهُ سَليمٌ لاحظّ ذَلكَ وَأغلبُ سُكَّانِ الخَانِ.صَارَ أكثرَ صَمتَاً وَأكثرَ فَهمَاً لِمَا يَجرِي، لَكنَّهُ ظَلَّ وَهوَ مَا لَا يَعرفُهُ أحدٌ، يُحاولُ الوُصولَ إلَى فَهمِ الآلهةِ، وَهَلْ لَهَا عَلاقةٌ بِمَا يَحصلُ لَهُ مِنْ رُؤيةِ الكِلَابِ النَابحَةِ؟ الآلهَةُ الَّذينَ يَقصدُهُم يَختلفونَ عَنْ آلهةِ العَمِّ سَعيدٍ أوْ الفَنَّانِ حَسنِ أو أخيهِ، بَلْ آلهةٍ مِنْ خَوفٍ.. تُطاردُهُ وَكَأنَّها تَقولُ لَهُ لِمَاذَا أَدخلتَ عَقلكَ وَتَفكيركَ فِي أشياءَ لَا يُرادُ لَكَ الوُصولُ لَهَا أوحتَّى التَّفكيرُ فِيها؟" (بَابُ الدِّروازةِ، ص 121).

4- المَحافظةُ عَلَى التَّقاليدِ وَالأعرافِ:

ومن الأبعاد النفسيَّة التي حرص الكاتب علي لفتة سعيد على توظيفها في الرواية، والتي ترتبط ارتباطاً مباشراً بالأعراف والتقاليد والعادات المجتمعية العشائرية هي المحافظة على التقاليد وعدم كسرها بما يجلب لها العار والسمعة السيِّئة بين القبائل. وذلك فعلاً هو ما حصل للفتاة فتحيَّة بفعل حادثة اغتصاب شرفها والاعتداء عليها من قبل شاب سبَّبَ لها الهجرة مع أبيها من بيتها بالديوانية إلى زقاق خان الدروازة ببغداد، الأمر الذي جعلها إحدى ضحايا المجتمع الذي لاذت منه بالفرار:

"مَرَّتْ ثَلاثُ سَنواتٍ عَلَى الحَادثةَ وَسَنتانِ مِنْ الهُروبِ مَعَ أبيهَا الَّذي صَارَ يَصرخُ بإخَوتِهِ مُعترضاً عَلَى طَلبِ قَتلِهَا غَسلَاً لِلعارِ، مَرفُوضاً مِنْ قِبَلِهِ؛ كَونَهَا ضَحيةً.. كانَ الأجدَى بِقتلِ النَّزقَينِ؛ لأنَّهما اِرتكَبَا إثمَاً كَبيراً بِشابةٍ يَتيمةٍ. كَانتْ هِيَ البِنتُ الَوَحيدةُ لَهُ مِنْ أُمِّهَا المَيِّتَةِ.. لَكنَّ الأعمامَ أصرَّوا إمَّا قَتلُها أو الخُروجُ مِنَ القَريةِ، فَهذهِ الفَتاةُ سَتجلبُ العَارَ، وَكانِ عَليهَا الصُّراخُ والاِمتناعُ..لَكنَّ الأبّ هَدَّدَهًم بِكشفِ الجَريمةِ إلَّى الشُّرطةِ أوْ الزَّواجُ مِنهَا". (بَابُ الدروازةِ، ص141، 142)

5- تَفشِّي الأَسرارِ الشَّخصيَّةِ:

ومن التمثُّلات السايكولوجية الأخرى التي طالت شخصيَّات هذه الرواية وأصبحت جزءاً مهمَّاً من ممارساتها الحدثية المُلحَّة في الاشتغال النفسي تلك هي نزعة تفشي الأسرار الشخصيَّة التي تغلف بواطن الشخصيَّة وتُحيطها بالغموض. غير أنَّ مرموزات قصص هذه الشخصيِّات السِّيريَّة وموحياتتها الخارجية والداخلية تفضحُ غشاوة تلك الأسراروتضعها أمام طاولة التساؤل الشخصي، وخاصةً تمثُّلاتها ظهرت عند شخصيَّات الرواية الأنثوية تمثَّلت بالشابة اليتيمة فتحيَّة المُريبة، وشخصيَّة أُمّ صلاح الحفَّافة الَّتي يلفها كثيراً الغموض والسَّرِّية والكتمان والانغلاق الشَّخصي التَّام:

"كَانَتْ أُمُّ صَلَاحٍ تُريدُ سَكبَ مَا بِداخلِهَا لِأغراضٍ تَعتقدُ أنَّها تَستَبِقُ فِيهَا فَتحيَةً، إذَا مَا فَضَحَتْ سِرَّهَا..فالنِّساءُ لَا يَبقَى حَرفُ تَحَت أَلسنتِهُنَّ، فَكيفَ إذَا كَانَ السِّرُّ مِنَ العِيارِ الثَّقيلِ، فَسيبقَى قَولَاً مَشهورَاً مَفضوحَاً يُسيءُإلى السُّمعةِ مَهمَا كَانَ نَوعُهُ،رغمَ هُدوئِهَا وَقدرَتِهَا عَلَى لَملمَةِ الأوضَاعِ، لَكنَّها مِنْ ذَاتَ النِّساءِ الكَثيراتِ الكَلامِ، البَاحثَاتِ عَنِ المَصلَحَةِ... ". (بَابُ الدروازةِ، ص 74).

لقد تمكَّنت أُمُّ صلاح الحفَّافة بشخصيتها العتيدة من أنْ تُشرك معها الحاجَّة أُمَّ يُوسف التي هي جدَّة خلَّاوي، وأنْ تُفضي إليها بأسرارٍ خاصةٍ عن فتحيَّة، وخاصَّةً عن موضوع يخصُّ عذريتها، وليست عن علاقتها الخاصة بخلَّاوي،والتي كانت الحاجَّة أُمُّ يوسف تعتقد أنَّها تخصُّ خلَّاوي معها:

"رَمَتْ أُمُّ صَلاح ٍ كَلماتِهَا فُوقَ الطّبَّاخِ النَّفطيِّ لِتصِلَ إلَّى أَذانِ الحَاجةِ مُباشرَةً كأنَّها تَرمِي ثُقْلَاً كَبيراً خائفة فِي الوَقتِ نَفِسهِ مِنْ رَدَّةِ فِعلِ الحَاجَّةِ قَدْ تَكونُ عَكسيَّةً وَلَنْ تَقبلَ بِمَا تَقولُهُ وَتَعَدُهُ غَيرَ مُناسِبٍ.. (فَتحيَّة لَيستْ بٍاكِرَاً)!! ". (بَابُ الدروازةِ، ص 76).

أمَّا الأسرار الخاصة بأمِّ صلاحٍ والتي كانت تخفيها عن عِلمِ الآخرين فقد أفشت بها إلى صنوها وقرينتها فتحيَّة لكي تستريح من هذا الحمل أو العبء الثقيل ذلك الهمُّ الذي يؤرقها ويزعجها دوماً:

" رَمَتْ أُمُّ صَلَاحٍ تَفاصيلَ مَا حَدَثَ لَهَا فِي أُذنِي فَتحيةَ، وَكَأنَّها رَمَتْ بِكُلِّ اِحتراقاتِهَا وَبراكينهَا وَجمرِهَا؛ لِتشعرَ بِالراحةِ وَالخَوفِ مَعَاً، رَمَتْ مِنْ أولِ حِكايةِ الشَّعَرِ إلَّى لَحظةِ اِستغلالِهَا بَعدَ أنْ نَزلَ الدَواءُ الَّذي وَصَفَهُ صاَحبُ مَحَلِّ الأعشَابِ لها، إلَّى أسفلِ جَسدِهَا حَتَّى حُدودِ رُكبتيهَا، فَكَانَ خَوفُها هُوَ الَّذي جَعلَهَا تَستجيبُ لِطلبِهِ بِرُؤيةِ مَا تَعانِيهُ بِمَا فِيهَا الكَشفُ عَنْ عَانتِهَا وَمُداعبتِهَا بِأصابعِهِ بِحُجَّةِ القِيامِ بِالفحصِ، وَكَيفَ اِنهارتْ صَارخَةً لَيس َفِي وَجهِهِ، بَلْ مِنْ اللَّذةِ بَعدَ جفافِ أعوامٍ". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 152).

6- الطموحُ المَعرفيُّ المُستقبليُّ:

حين نبحث في التنقيب عن أثر عامل الطموح الذاتي والمستقبلي نجده حاضراً في الشخصيَّات الروائية الذكورية التي ورد الحديث الحكائي عنها في سرديَّات الرواية والتي تشكِّل جانباً نفسيَّاً وثقافياً مُهمَّاً من شخصيَّات الرواية المتنوُّعة الاتجاهات، والتي لديها أيضاً رغبةٌ عارمةٌ في تحقيق مطامحها الشخصيَّة والمعرفية في المستقبل القريب. فترى شخصيَّة سليم الطالب الطموح في الحصول على شهادة الدكتوراه، وشخصيَّة حُسين طالب الطبِّ الذي يطمح نفسيَّاً واجتماعياً أنْ يكون طبيباً يوماً ما،وشخصيَّة حسن طالب أكاديمية الفنون الجميلة الذي يحلمُ أنْ يكون فنَّاناً مبدعاً:

"وَحقَّاً فَقدْ رأى[سَليمُ] أنَّ أخاهُ[خَلَّاويَ] قَليلَ الكَلامِ مَعَ الجِيرانِ إلَّا مَعَ اِثنينِ، حُسَينٌ جِيرانهُ فِي السَّكَنِ، وَهوَ أيضاً طَالب كُلَّيةِ الطِّبِ، وَحَسنُ وَهوَ أيضاً طَالبٌ فِي أكاديميةِ الفُنُونِ الجَميلَةِ.. وَهوَ مَا فَعَلَهُ حِينَ وَجَدَ ضَالتَهُ فِي الفِكرِ وَالفَنِّ وَالحَياةِ مَعَ حَسنِ الفَنَّانِ". (باب الدروازة، ص 14).

ويُلاحظ من خلال المسرودات الحكائيَّة والقصصيَّة لأحداث الرواية أنَّ الفتى (خلَّاوي) على الرغم من كونه شاباً مراهقاً لم يكمل الإعدادية في تحصيله العلمي والدراسي؛ لكنَّه كان ميَّالاً لمجالسة المُتعلِّمين والاستماع لأحاديثهم ونصائحهم التنويريَّة والمعرفيَّة، وكان أيضاً شديد الحبِّ والرغبة في التعلم من أجل مستقبل زاهر يضمن له الحياة رغم عوامل الفشل التي واجهها عمليَّاً:

"لَمْ يَكُنْ حِينِهَا قَدْ أكمَلَ عَامَهُ السَّاسَ عَشرَ.. يَرَى المَدينةَ الَّتي تَعنِي العِراقَ وَيَسمعُ بِهَا مِنْ أَفواهِ الَّذينَ زَارُوهَا وَمِنْ فَمِ أخيهِ الَّذي قُبِلَ فِي كُلَّيَّةِ الإدارةِ وَالاقتصادِ يَرَاهَا مِثلَ اِمرأةٍ تُمَشِطُ شَعرَهَا عَلَى نَهرِ الفُراتِ، وَلَمْ يَعلمْ بَعدَ أنَّ بَغدادَ يَشطرُها نَهرُ دِجلةَ الخَالدُ الَّذي يَتغَنَّى بِهِ كُلَّمَا قَرَأ نَشيدَاً عَنِ الوَطنِ، يَرَاهَا غَافيَةً تَحتَ سَعفَاتِ النَّخيلِ...". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 6، 7).

7-الرَّغبةُ بِالحبٍّ والإغْوَاءِ العَاطفِي:

لم يبقَ من الأبعاد النفسيَّة السايكولوجية التي زخرت بها أحداث رواية (بَابُ الدِّروازة) إلّا عامل نفسي مُهمٌّ جدَّاً، ذلك هو نزعة الحُبِّ أو العشق والغرام وما يرافقه من إغواء وتحرُّش جنسي.وهو الذي سعت إليه شخصيَّة الفتاة فتحيَّة وما خطَّطت له للإيقاع بالفتى القروي الطاهر خلَّاوي بحبال غرامها وهو المُتردِّد والمُحافظ الذي يشعر بالحياء والخجل؛بسبب تربيته الاجتماعية ويتمه المُبكِّر. فهو لم يجرب معنى العشق أو الغرام مع أي فتاةٍ في مدينته ذات الطبيعة العشائرية سوق الشيوخ:

"ظّلَّ خَلَّاوي يَابِسَاً فِي مَكانِهِ وَعيناهُ عَلَى صُنبورِ المَاءِ دُونَ كَلمةٍ إلَّا مِنْ أنفاسِهِ المُتلاحقةِ.. وَعَيناهُ تَجوبانِ الأبوابَ المُنغلقةَ حتَّى بَابَ المَرافقِ البَعيدةِ.. وَبَعدَ جهدٍ اِنتبهَ إلَى أنَّها كَانتْ تَتقَصَّدُ الوُقوفَ لَصقهِ. لَمْ تَنزلْ مِنْ دَرجِ الطَّابوقِ، وَلَمْ تَتحرَّكْ عَنهُ مَسافةَ سَنتمتراتٍ، بَلْ كَانتْ تَتَعمَّدُ كُلَّمَا تَمدُّ يَدَهَا إلّى المَاءِ تَضربُ خَاصرَتَهُ أوْ بَطنَهُ أوْ حَتَّى أسفلَ بَطنهِ. كَانتْ تَتشرَّبُ دُونَ هَوادةٍ كَأنَّها قَطَعتِ المَسافاتِ الكَبيرةَ فِي الصَّحراءِ.. بَلْ إنَّها زَادتْ مِنَ الحَركةِ وَتَركَتْ فُخذَهَا يُلامسُ فَخذَهُ. كَانتْ هِيَ بِجسدٍ مَربوعٍ قَليلاً.. لَهَا وَجهٌ دَائريُّ وَعَينانِ لَمْ يتبيَّنهُما مِنْ قَبلُ كَونهُ لَمْ يُطلْ النَّظرَ إليهَا أبداً.. وَرُبَّما هَذَا السُّكونُ اِعتبرتهُ فَتحيَّةُ مَقصودَاً، أوْ أنَّها شَعَرَتْ أنَّه يَستصغرُهَا وَلَا يُبالِي بِجمالِهَا، وَهوَ أمرٌّ لَا تَرضاهُ.. لَكنَّه لَمْ يِكُنْ مَشغولاً بهَا، بَلْ كِانَ مُنشغلاً فِي تِلكَ اللَّحظةِ بِكيفيةِ التَّخلُّصِ مِنْ لِزوجةِ المَكانِ وَرعشَةِ التَّلامُسِ". (بَابُ الدِّروازةِ، ص 35، 36).

هذا ما يخصَّ أو يتعلَّق بعلاقة فتحيَّة بالشاب خلَّاوي، وكيف أن الأمور لم تضبط وفشلت معها في تحقيق مراميها السديدة؛ لأن هناك توجُّساً ورقيباً حوله، وعيوناً تلاحقه وتحدُّ من حركته البريئة وتضبط حسن سلوكه ونشءتربيته التي كان شاهداً وصفياًعلى أخلاقه الحميدة وسيرته الحسنة فقد:

"كَانَ الزَّمنُ يَمشِي خَافتَاً فِي الخَانِ، وَثمَّةُ مُماحكاتٌ لَا يَرَاهَا أحدٌ بَينَ أُمِّ صَلاحٍ وَفتحيَّةَ، وَلَمْ تَشغلْ بَالَهَا الحَاجَّةُ أُمُّ يُوسفَ بِالأمرِ، فَكُلُّ مَا يَعنيهَا ألَّا يَكونُ حَفيدُهَا قَدْ تَورَّطَ بِعَلاقةٍ مُرِيبةٍ مَعَ فَتحيَّةَ مَهمَا كَانَ نَوعُهَا، سَواءٌ كَانتْ عَلاقةَ حُبٍّ أمْ عِشقٍ أوْ كَمَا تُسمِّيهَا (يِنامُ وَيَّاهَا)، وَهذَا كُفرٌ وَعَيبُ". (بَابُ الدِروازةِ، ص127).

إنَّ العَلاقات الشخصيَّة التي تحدث بين رجل وامرأة تحت ما يُسمَّى بالعَلاقة العاطفيَّة أو الحبِّ له نتائجه النفسيَّة والاجتماعية الخطيرة إذا لم يكن يسوده الثقة والأمان والوفاء والإخلاص. وقد يتحوُّل إلى دمارٍ وتحطيمٍ للشخصيَّة وخاصةً الأُنثوية التي تسعى إلى استثمار علاقتها الإنسانية من أجل الزواج والارتباط الصحيح؟ وهذا ما حصل لفتحيَّة في علاقتها المُريبة مع ابن عمها الشَّاب الذي خدعها ثم اغتصبها مع صديقة سائق السيَّارة الذي أقلهما، فتركا فتحيَّة في قارعة الطريق المُغاير فريسةً للمجهول. هذه القصة ترويها أُمُّ صلاحٍ للحاجَّة أُمِّ يُوسف لما حصل لفتحيَّة فتقول:

"وَبِصراحةٍ كَبيرةٍ أخبرتهَا أُمُّ صَلاحٍ بِشكوكِهَا مِنْ خِلالِ مَشيتِهَا وَنهديهَا وَفَرجةِ مُؤخرتِهَا.. لَكنَّ الحَقيقةَ الَّتِي أرادتْ فَتحيَّةُ التأكيدَ عَلَى أنَّها ضَحيةٌ لِعمليَّةِ اِختطافٍ مُدبَّرٍ بِحَّجةِ الحُبِّ. أخبرتهَا أنَّهُ أَخذَهَا مَعَ صَديقٍ يَمتلكُ سَيَّارةً مِنْ نَوعِ (لَادَا)، طَلبَ مِنهَا الصُعودَ سَألتهُ عَنْ السَّائقِ، قَالَ لَهَا إنَّه صَديقٌ مُهمَّتهُ إيصالُنا إلَّى المَكانِ وَيَذهبُ. أعادتِ الحَكايةَ مُنذُ البِدايةِ وقَالتْ إنَّها كَانتْ وَاقفةُ فِي ظَهيرةٍ تُموزيَّةٍ قَاسيةٍ، عَائدةً مِنْ بَيتِ خَالتِها حِينَ طَلَبَ مِنهُ ذَلكَ. طَبعاً فِي الحَالتينِ هِيَ تَقولُ الحقيقةَ، فَقدْ كَانتْ عَائدةً حَقَّاً مِنْ بِيتِ خَالتِهَا، لَكنَّهَا كَانتْ عِلِى مَوعدٍ مَعهُ، لَمْ تَذكرْ ذَلكَ فِي حَديثِهاَ. المُهمُّ السَّائقُ أوصلَهَا إلَى البَيتِ المَهجورِ وَغَادرَ بِسيارتِهِ...". (بَابُ الدِّروازةِ، ص142، 143).

ومن أمثلة وشواهد الإغواء والتحرُّش الجنسي الذي قامت به فتحيَّة لإيقاع خلَّاوي في شباك حبِّها، كونه يتيماً مثلها وقريباً لنفسها ومستواها الاجتماعي مع فارق بسيط بينهما، وهي فتاة ناضجةٌ ومستحقة للزواج وعمرها يفرض عليها الشعور بالحاجة الماسة للمُتعة الجسدية والجنسية، خاصةً وأنها بايلولوجياً قد ذاقت طعمها حين تم اختطافها واغتصاب عفتها وشرفها من قبل قريبها الشاب المخادع الذي يسكن في مدينتها الديوانية.فتحيَّة ضحيَّة وفتاة مسكينة تبحث عن فرصتها في الحياة:

"نَعودُ إلَى تِلكَ اللَّحظةِ الَّتِي لَمْ تَزلْ فِيهَا فَتحيَّةُ وَاقفةً إلَّى جَانبِ خَلَّاوي عَلَى تِلكِ الطَّابوقاتِ فِي دُرجِ الحَوضِ أوْ سُلَّمِهِ.. سَمّهِ مَا شِئتَ.. فَقدْ جَعلتهُ مُتعمِّدةً يَرتعدُ خَوفَاً وَتَرَقُّبَاً وَهيَ تَضربُ بِفردةِ مُؤخرتهِ أعلَى فُخذهِ حِينَ مَحنيَّةً عَلَى صُنبورِ المَاءِ لِتغسِلَ وَجهَهَا وَلَا تَجعلُ المَاءَ يَسقطُ إلَّى السَّاحةِ.. حَاولَ النُّزولَ، لكنَّهَا وَقَفَتْ خَلفَهُ تَمَامَاً، فَصارتْ بَطنُها لَصقَ ظَهرِهِ، فَارتعَدَتُ حَرائقُ المِعدانِ فِي سُوقِ الشُّيوخِ وَهيَ تَأكُلُ عَشراتِ البُيُوتِ المِبنيَّةِ مِنَ القَصبِ فِي اِشتعالِ التِّبنِ وِالأبقارِ وَحتَّى الجَاموسُ...". (بَاُب الدِّروازةِ، ص 40).

ليس هذا هو المشهد المُتفرِّد والأخير للإغواء والتحرُّش الجنسي مع ما حصل لشخصيَّات رواية (بَابُ الدِّروازة) الُأنثوية والذكورية، فقد كان المشهد الميلودرامي السردي الذي حصل لأمِّ صلاح الحفَّافة مع صاحب محلِّ الأعشاب في سوق السَّربادي لمعاينتها والكشف على المنطقة السفلى الحسَّاسة من بطنها ومداعبتها حتّى بلغت ذروته الحسيَّة التأوه (والتَّنيطُ الصوتي) من أكثر المشاهد الإغرائية الجنسية إثارة وتهيُّجاً لحركة الأنوثة الصوتية. وقد أبدع الكاتب سعيد في توصيف إيقاع هذه اللحظة الإمتاعيَّة الفارقة حين مزجَ بينَ الحركة الصوتية المُتمثِّلة بالصُّراخ والتأوُّه الصوتي الجنسي، وفعل الحركة الإمتاعية الروحية للجفاف النفسي لهذه الصورة السردية حين قال عنها: "اِنهارتْ صَارخةً لَيسَ فِي وَجههِ،بَلْ مِنَ اللَّذةِ بَعدَ جَفافَ أعوامٍ"الظَّمأِالطِّوالِ. (بَابُ الدِّروازةِ، ص 152).

فضلاً عن هذا كلِّه يضاف إلى ذلك ما حصلَ في حمَّام النساء من مشاهد عُريٍّ وإغراءٍ جنسيٍّ وعاطفيٍّ داخل أروقة وخلف سِتار هذا الحمَّام، وقد ذكرت فتحيَّة الكثير من هذه المشاهد حينما زارت الحمَّام أول مرَّةٍ لها برفقة شريكتها أمّ صلاح. وقد تمَّ الحديث عن بعض السرديَّات في هذه الدراسة. فمثل هذه المشاهد في الرواية التي وظَّفها الكاتب لم تاتِ اعتباطاً لغرض إثارة القارئ وتسخين مشاعرة، وإنَّما كانت جزءاً مهمَّاً من المشاهد الحكائية الموضوعية لتنشيط وتكثيف فاعلية السرد الروائي فنيَّاً وجماليَّاً ونفسيَّاً. وهي تعبيرٌ فنِّيٌّ عن تقانات الكاتب وإيقاعه الأُسلوبي النفسي.

وقبل أنَّ أختم الحديث عن تمثَّلات البعد الفنِّي والجمالي والنفسي أو السايكولوجي لشخصيَّات باب الدِّروازة، لا بُدَّ من الإشارة والتنبيهِ لا التنويه النقدي إلى أنَّ معظم شخصيَّات هذه الرواية تميَّزت بأنها من أكثر الشخصيَّات المُهمَّشة والمُغيَّبة فكرياً وآيدلوجياً وعقائدياً وثقافياً، والمسكوت عنها قصدياً أو عن غير قصدٍ في الواقع الحياتي المعيش. وخاصةً شخصيَّاتها الأنثوية التي تعاني شظف العيش والجهل والفقر والفاقة والعوز والإهمال الشديد للمرأة ودورها الاجتماعي والحياتي.

أمَّا شخصيَّات الرواية الذكورية على الرغم من أنَّ بعضها يتحلَّى بمكانة علميَّةٍ وفنيَّةٍ ومعرفيةٍ وثقافية كفاحيةً مهمَّةٍ، فإنها غير قادرة على النهوض بدورها القيادي الفاعل في المجتمع تُجاه تعدُّد الآلهة ودورها القمعي الحاكم لها. وهي أيضاً مُعطَّلة غير قادرة على اتخاذ أي قرارٍ جريءٍ وشجاعٍ وحاسمٍ في المواجهة والتصدّي لتمظهرات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي يَئنُّ من الظلم والاستبداد المناطقي لها. وخيرُ دليلٍ على ذلك التهميش عجزُ بطل الرواية المركزي وفقدان شجاعته وركونه لزاوية الاستماع والصمت والإذعان والقبول بالمحيط.

هذه الأفكار جميعها أسهمت بإمتاع وإتباع ٍفي صنع وإنتاج وتخليق عمل روائي تاريخي مهمٍّ من تاريخ العراق السياسي والثقافي في حيٍّ شعبيٍّ من أحياء بغداد يُدعى خان (بَابُ الدِّروازةِ)، حتماً ستكون له مكانته الثقافيَّة والفنيَّةً وإضافته المعرفية المهمَّة في رفوف وأروقة السرديَّات الروائيَّة للمكتبة العراقيَّة خاصَّةً، والعربيَّة عامَّةً. وسَتشهدُ نقديَّات الثقافة العراقية لكاتبه المثابر الشُّمولي علي لفتة سعيد بمكانته الإبداعية والثقافية المتمايزة بين مُجايليه من أدباء وكُتَّاب الوطن الكبير.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ /  ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

تتألق قصيدة "شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه " ليحيى السماوي كعمل شعري ينسج رثاءً حسينيًا بأسلوب عمودي يحمل إيقاعًا مهيبًا عبر البحر الكامل والقافية الموحدة، مما يضفي عليها طابعًا وقورًا يعكس عمق المأساة الحسينية. يبرع الشاعر في استحضار صور بصرية وعاطفية مكثفة، كما في قوله "الماء منذ منعته عطشان.. والغيم والأشجار والإنسان"، حيث يربط عطش كربلاء بحالة كونية تشمل الطبيعة والإنسان، مكرسًا الحسين رمزًا للعطاء والمقاومة. جمالية هذه الصورة تكمن في قدرتها على تحويل المأساة الفردية إلى تجربة جمعية، تعززها لغة بليغة تجمع بين الإيجاز والتأثير العاطفي.

يوظف السماوي الطبيعة كمرآة للحزن، كما في "لطم الفرات ضفافه ونخيله.. حزنًا وشقت زيقه الغدران"، حيث يجسد الفرات ونخيله ككائنات حية تشارك في الرثاء، مضفيًا بعدا حسيا يعمق التفاعل مع النص. الإيقاع المنتظم يعزز هذا التأثير، إذ يمنح القصيدة نبرة تراجيدية تشبه النواح، مما يجعلها مناسبة للسياق الحسيني في مهرجان الشطرة.

تبرز القصيدة أيضًا في قدرتها على الانتقال من الرثاء إلى النقد الاجتماعي والسياسي، كما في "زمن ولا كالجاهلية.. قدست فيه العرش وسيس القرآن"، حيث يستخدم السماوي الإشارات التاريخية لانتقاد الفساد والخنوع المعاصر. هذا التحول يضفي على النص بعدا معاصرا، حيث يصبح الحسين رمزًا للعدالة والمقاومة ضد الظلم. جمالية هذا الجانب تكمن في التوازن بين اللغة الشعرية العالية والرسالة الاحتجاجية، مما يجعل القصيدة صوتًا للضمير الجمعي.

مع ذلك، يمكن ملاحظة أن الاعتماد على الإيقاع المنتظم والقافية الموحدة قد يحد من مرونة التعبير عن تعقيدات الواقع المعاصر، خاصة في تناول قضايا مثل التصهين والفساد، التي قد تستدعي لغة أكثر تجريدًا أو انفلاتًا إيقاعيًا لتعكس الفوضى المعاصرة. كما أن تركيز النص على الصور التقليدية، رغم جمالها، قد يقلل من جاذبيته للقارئ الذي يبحث عن تجديد أسلوبي.

بشكل عام، تتفوق القصيدة في توظيف اللغة البليغة والصور الحسية لخلق تجربة رثائية مؤثرة، تعززها الإحالات الدينية والتاريخية التي تجعل الحسين مركزًا للتأمل في العدالة والإنسانية. إنها قصيدة تحمل روح الشامية ونبض المقاومة، محققة توازنًا بين الجمال الشعري والرسالة الأخلاقية، مما يجعلها جديرة بسياقها الثقافي والديني.

***

ريم حاوي - لندن

......................

شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه

الـمـاءُ مـنـذُ مُـنِـعْـتَـهُ عـطـشـانُ ..

والـغَـيـمُ والأشـجـارُ والإنـسـانُ ..

*

والـبـاكـيـاتُ عـلـيـكَ قـبـلَ عـيـونـنـا

مُـقـلُ الـهـدى والـحـقُّ والإيــمــانُ

*

لَـطَـمَ الـفـراتُ ضـفـافَـهُ ونـخـيـلَـهُ

حُـزنـًا وشَـقَّـتْ زِيـقَـهـا الـغـدرانُ

*

يا ابـنَ الـذي لا سـيـفَ إلآ سـيـفُـهُ

وفـتـىً ولـيـسَ كـمِـثـلـهِ الـفـتـيـانُ

*

وابـنَ الـتـي تُـعـنـى إذا قـال امـرؤٌ :

خـيـرُ الــنـسـاءِ ولـلـتـقـى عـنـوانُ

*

وأخَ الـذي مـا سَـلَّ َ سـيـفَ عَـزيـمـةٍ

إلآ تَــســاقَـطَ حـولَــهُ الــفــرسـانُ

*

أرخَصـتَ نـبضَـكَ للحنيفِ فـأرخَصَتْ

لــكَ نـبـضـهـا وخـلـودَهـا الأزمـانُ

*

فـلأنـتَ مـن فـجـرِ الـشـهـادةِ شـمـسُها

ولأنــتَ مـن ثــغــرِ الـجـهـادِ لِــســانُ

*

ولأنـتَ مـن دِيـنِ الـصــراطِ إمـامُـهُ

ومـن الـعـطـاءِ الـقـلـبُ والــشــريـانُ

*

مـولايَ لـي عـذري فـبـعـضُ تـسـاؤلٍ

فـيـهِ الـجـوابُ إذا اشـتـكـى الـحَـيـرانُ

*

جـاز الـزُّبـى زبَـدُ الـخـنـوعِ فـصـبـحُـنـا

داجٍ ... وأمّــا لــيــلُـــنــــا فــهَــوانُ

*

صَــحـراؤنـا بـحـرٌ ... ولـكـنْ مــاؤُهُ

جَـمــرٌ ... وأمّـا مـوجُـهُ فــدُخــانُ

*

مـن أيـنَ يـأتـي بـالـسـفـيـنـةِ مُـنـقِـذًا

" نـوحٌ " ولـيـس بـأرضِـنـا بُـسـتـانُ؟

*

الأرضُ أبـعَـدُ ما تـكـونُ عـن المدى

وقـد اســتـبــدَّ بـمـوجِـهِ الـطـوفـانُ

*

زمَـنُ ولا كـالـجـاهـلـيَّـةِ .. قُـدِّسَـتْ

فـيـهِ الـعـروشُ وسُــيِّـسَ الـقـرآنُ

*

زمَـنٌ تـصـهـيـنَ فـيـهِ بـعـضُ أرومـتـي

وأُعِــيـدَتِ الأصــنــامُ والأوثــانُ

*

كـم مـن مـؤدٍّ لـلــصــلاةِ وصــائِــمٍ

جَـهــرًا ولـكــنْ رَبُّـهُ الـشـيــطــانُ

*

بـلـغـوا الــتـمـامَ مـن الـفـسـادِ كـأنـمـا

فـيـهـمِ عـلـى شَــرِّ الـخـطـى إدمـانُ

*

شَـكـوى حُـسـيـنـيٍّ تـأبَّـدَ حُـزنُـهُ

وتـأبَّـدتْ فـي قــومِـهِ الأحــزانُ

*

مـولايَ أشـكـوهـم إلـيـكَ وأشـتـكـي

قـومـي ومـا قـد أضـمَـرَ الـجـيـرانُ

*

ثُـكِـلـتْ عـروبـةُ أمَّـتـي وتـأرمَـلـتْ

فـيـنـا الـسـيـوفُ ودُجِّــنَ الـشـجـعـانُ

*

كُـنّـا نُـجـيـرُالـمُـسـتجيـرَ إذا اشـتـكى

ظُــلــمًــا وطـالَ بــلادَهُ الــعــدوانُ

*

والـيـومَ صِـرنـا نـسـتـجيـرُ ولا فـتـىً

لـو تـسـتـغـيـثُ " سًـعـادُ " أو " نـجـوانُ "

*

لَـيـكـادُ يـخـجَـلُ أمـسُـنـا مـن يـومِـنـا

وتــفــرُّ مـن أحــداقِــنــا الأجـفـانُ

*

لِـمَـنِ الـجـيـوشُ تـنـاسـلـتْ حـتـى لـقـدْ

ضـاقـتْ بـهـا الـثـكـنـاتُ والــمــيـدانُ ؟

*

لا " مازنٌ " مَـدَّتْ لِـ " غـزّـ ةَ " سـاعِـدًا

فـتُـغـيـثُ مـظـلـومــًا .. ولا " ذُبــيــانُ "

*

عـذرًا أبـا الأحــرارِ مـن جـزَعـي فـلا

" قـحـطـانُ " مُـنـصِـفــةٌ ولا " عـدنـانُ "

*

بـئـسَ الـمـصـيـرُ إذا يـسـيـرُ بـركـبـنـا

نـحـو الأمــانِ الـقـادةُ الــعــمــيــانُ

*

فـعـسـى حـفـيـدًا مـنـكِ يـأتـي فـي غـدٍ

بالعـدلِ حـتـى يـسـتـوي الـمـيـزانُ

*

عـهـدًا أبـا الأحـرارِ تـبـقـى قــائِـمًـا

مـا قــامَ فــيــنــا لــلــصــلاةِ أذانُ

***

يحيى السماوي

 

في ديوان (قطاف خارج الموسم) للشاعرة المغربية زهراء الأزهر

تمهيد: لا نعتبر ديوان (قطاف خارج الموسم)* للشاعرة المغربية (زهراء الأزهر) إضمامةً من القصائد الهاربة من أتون الوجدان إلى آفاق التوثيق والنشر والسياحة الثقافية، بقدر ما نعتبره مشروعا فنياً تقترف فيه الشاعرة أعلاهُ فنّ الجمال داخل منظومة إبداعية تعجّ بالإشكالية، هي منظومةُ قصيدةِ النثر. تقترف الشاعرةُ هذا الفنّ برؤية خاصّة تتدرج عبر ثلاثيتها الإبداعية في إصداراتها: (رعشةُ يراع - في ظل كلماتك فقط - قطاف خارج الموسم.) والبقية تأتي.

و هذا التدرج لا يراكم الدواوين في خزانة الشاعرة من أجل تحقيق كمٍّ نرجسي في رفوف المكتبة المغربية الكبيرة بقدر ما ينبني في مفكّرتها كسيرورة دينامية وكصيرورة متحوّلة. الأولى تفيد الحركية في بوصلة الشاعرة الملتطقة باستمرار إمكاناتِ الإدهاش الإبداعي، كي تبعد مشروعها الفني عن آفة السكون والستاتيكية. والثانية تفيد الرغبة العارمة في التحول داخل الحساسية الشعرية الفردية والجمعية في نفس الآن، والتي تراقبها الشاعرة كوليد تخشى عليه من الشبه والتكرار، وذلك  في أفق واعد تصنع فيه الشاعرة قدر إدهاشها الممكن واللاممكن.

قد قلنا الممكن إشارة إلى إمكان القبض على الشاعرة (زز) داخل كماشات القراء ثم النقاد. وقلنا اللاممكن إشارة إلى شِعرها الآخر والقابع في سيمياء التأويل حيث يصبح المتلقي جزءاً من هذا المشروع وهو يُغْني النواة \ الأصل بمزيد من الإنتاج الأدبي في سياق (القطاف) عبر رؤىً غيرية متعددة.

المقاربة:

أ – قراءة في الإهداء:

كتبت الشاعرة (ز ز) في مطلع ديوانها ما يلي:

(كلمة لابد منها: إني حرمت الصمت على نفسي وجعلته بين أسطري محرّما) * - الديوان ص 3.

ترفض الشاعرة مقولة الصمت وتشجبها وتدينها على اعتبار الصمت حالةَ ظلم أكثر منه حالة موقف. وهي ترسل هذا البيان في إهدائها على ناصية الديوان إعلاناً واضحا ترغب فيه عن التسمية الرتيبة (إهداء) وتحوله إلى (كلمة لابدّ منها). وكأن الأمر يتعلق بحالة نفسية مضغوطة لا تجد الشاعرة بدّاً من إخراجا والصدح بها.

وفي هذه الكلمة الهامسة تناصٌّ مع الحديث القدسي " يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا... "1.

والشاعرة لا تقدم بهذا التدبيج ديواناً صامتا ً ومغلقا على ذاته. بل هي تقدم نقيض الصمت الذي نعتبرُه في هذا السياق تاريخا من الاختفاء والتواري خلف شتّى أنواع السلطة الضاغطة على صوت الأنثى عبر التاريخ. من هنا جاءت فكرة تحرير الأسطر الدالة مجازياً في جزئيتها على الكل، أي على الشعر. في أفق الإرهاص عبر ناصية الإهداء للخروج من حالة الخوف والسكون والظل إلى حالات الأمان والحركية والحضور والفعل، وذلك عبر ناصية الإهداء.

وفي عمق التأويل نقول: إن الشاعرة في هذا التناص مارستْ مكرا مشروعاً إذ امتطت صهوةَ الكينونة المتسامقة في شخص الذاتِ باعتبارها كائناً متعالياً ومتحكماً في نواصي إبداعه. وهذه صورة مستفزّة للتراث في شخص الفرزدق الذي كان يركن تحت سلطان أسطره، وكان يجد صعوبة في النظم إلى درجة أن خلع ضرس من أضراسه أهون عليه من قول بيت واحد. وهذا التعالي مشروعٌ أيضا ونلمسه في قناعة الشاعرة بامتلاكها لقرارت أسطرها، أو على الأقل هي تمنع هذه الأسطر أن تركن إلى الصمت، بله وأكبر من ذلك، فهي تحرّم على أسطرها ذلكم الصمت. إن من يمارس هذه القدرة على التوجيه لحروفه لا يمكن أن يكون متواجداً في صفوف حروفه، هو أكبر من حروفه وإلّا لما أمكنه أن يصدر قراره بالمنع وبالتحريم.

ب – مفهوم التشاكل:

لابد من الإشارة أولا إلى أن مفهوم التشاكل هنا هو مفهوم إجرائيٌّ قبل أن يكون شرطاً منهجيا. التشاكل مفهوم سيميائي غربي التنظير، ولو أن العرب تحدّثوا عنه في مضان اشتغالهم النقدي القديم. وهو اصطلاح يقوم في الأصل على جذر يوناني من كلمتين 

isos  -  وتعني متشابه ومتماثل

topos  -  بمعنى المكان

و قد استعمله  الناقد والباحث الفرنسي " غريماس " في مجال السرد مقترضا إياه من حقل العلوم الفيزيائية والكيميائية2. وهو أول من أدرج مفهوم التشاكل ضمن التحليل السيميائي للسرد، وبعد ذلك أصبح هذا المفهوم الإجرائي مرتكزا جوهريا في الكتابات النقدية تنظيرا وتظهيرا.

و يراه "غريماس" مجموعة متراكمة من المقومات والمقولات المعنوية التي تجعل قراءة الحكاية قراءة متشاكلة أي منسجمة3.

و يراه "راستي" تكراراً لوحدة لغوية مهما كانت. وإذا كان غريماس قد حصر التشاكل في المضمون فإن راستيي وسّع في دائرة المفهوم ليسري التشاكل على المضمون والشكل معا.

و يراه "محمد كمفتاح" تنميةً لنواة معنوية سلبا أو إيجاباً بإركامٍ قسري أو اختياري لعناصر صوتية ومعجمية وتركيبية ومعنوية وتداولية ضماناً لانسجام الرسالة4.

والخلاصة أن التشاكل يتعلق بوجود خصائص ومقومات دلالية وسيميائية مشتركة تجعل النص متسقاً ومنسجما ومفهوما على مستوى المعنى. أي أن هناك قواسمَ مشتركةً ومختلفةً تجعل نصا مفهوما ومنسجما قابلا لقراءته وتحليله. من هنا حديثنا عن التشاكل بالتمتثل والتشاكل بالاختلاف والتباين. هناك نص آخر يعتمد على اللاتشاكل باعتباره بنية مفككة قائمة على الاختلاف.

التشاكل في عمق المفهوم استمرارٌ لقاعدة سُلّمية للمقومات السياقية التي تمكّن من تحقيق تغيرات على مستوى التمظهر في اتجاه بنائي ظاهره هدم للتشاكل وباطنه بناء وتأكيد له.

و لنستوعب ذلك نأخذ مثالا استئناسياً من ديوان الشاعرة (زز). قالت في قصيدة (أنا والبحر) ص 107:

وها أنا قد أتيتُ إليك

تشدّ أذني عتبات ندائك

...

ثم قالت في نفس السياق:

جئتُ حيث أنت

جئتَني حيث أقفُ برذاذ مائك – الديوان، ص 107

وغرضنا هنا ينصبّ على تغيّر الوحَدَتَيْن اللسْنِيتيْن (أتيت وجئت)

و يعني ذلك أن التشاكل من زاوية أجرأته كأداة تحليلية يمكننا من ضبط استبدال المفردات والمقولات معجميا وسياقيا داخل النص أو داخل الخطاب، والتي باختلاف سماتها المتماثلة أو المتباينة تسهم في توليد الدلالة وتشكيل معاني النص، وتسعف الباحث كذلك في تصيّد الدلالات التي يحوم حولها النص.

هذه العملية ولو أنها تبدو دقيقة في اشتراطاتها المنهجية القائمة على استثمار البعد اللغوي في تداوليته، إلا أنها تمكّن القارئ أو المتلقي من ضبط ما يلي:

- البحث عن الانسجام الخطابي

- صحة المقروئية

- خلق وحدة النص الممكنة

أولاً: التشاكل الصوتي

في البدء، وجب الاحتراز من الانزلاق وراء تأويل الأصوات العربية وتأويل تكرارها في إطار ما يسمى برمزية الأصوات. ونعني بالرمزية الصوتية العلاقة بين الصوت والمعنى، وهي قضية لغوية قديمة أسالت حبراً كثيرا: فهناك من يقرّ بوجود علاقة بين الصوت ودلالته عليه وهناك من ينكر هذه العلاقة. ومع ذلك نحتفظ بالرأي المعتدل الذي يعترف للأصوات بقيمتها التعبيرية المشروطة بما يمليه سياق الحال والمقال. فكلنا نحفظ قوله تعالى (لقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) 5*. كما نحفظ قول الشاعر المتنبي:

فَقَلقَلتُ بِالهَمِّ الَّذي قَلقَلَ الحَشا    \\\   قَلاقِلَ عيسٍ كُلُّهُنَّ قَلاقِلُ6.

ندرك في المثالين وبوضوح تكرار صوت القاف في سياقين مختلفين: الأول يرتبط بغضب الله عز وجلّ، والثاني يتعلق بحزن الشاعر. وفي كلا المثالين تبدو الدلالات قويةً من خلال تكرار وحدة صوتية معيّنة. ولا نظن مختلفا واحدا يعترض هنا على العلاقة بين الصوت ورمزيته التعبيرية.

و في سياق تحليلنا للإجراء السيميائي الموسوم بالتشاكل ركزنا على الصوتي منه فقط نظرا لتراكمه الواضح في الديوان. وبدأنا بعملية إحصاء لبنيات حروف الرويّ وهو الحرف الذي تنبني عليه القصيدة، وبه تسمّى وإليه تُنسب. كأن  نقول لامية الشنفرى وسينية البحتري وهكذا دواليك.

أحصينا الديوان في إحدى وسبعين قصيدة خضعت أو أخضعتها الشاعرة لبنية تشاكلية صوتية مدهشة كالتالي.

الروي حجم التردد

روي النون 11 قصيدة

الراي 8

الهاء 8

القاف 6

اللام 4 

الباء 4

السين 3

العين 3

الكاف 3

الطاء1

الياء 1

وما تبقى من القصائد مثّل تشاكلا في سياق صوتي آخر لم تلتزم فيه الشاعرة بوحدة الروي وإنما تركت ذائقتها تنسج المخيال في نسق صوتي تشاكلي يعتمد على تعدد الأروية. ونمثل لذلك بقصيدة (أخلصت وما أحببت) فقد تناوب في دفقتها الموسيقية الأخيرة كل من روي القاف والدال والنون. وقصيدة (كلمات مروية) وفيها احتشم روي النون نسبيا في إلحاحٍ محتشمٍ بحضورٍ لم يتجاوز ثلاثة تردّدات. ثم لاحظنا في هذا المبحث ملاحظتين:

الأولى: اعتمدت الشاعرة على الروي الساكن في أغلب قصائدها، ونشزَ من ذلك عشر قصائد جاءت أرويتها متحركة أو مشبعة. والعدد 10 من 71 قصيدة يعدّ نشازا ولا يبني قاعدة. وتأكدنا من حضور هذا السكون المهيمن بالتأويل الإعرابي ومن مواقع المفردات داخل التركيب النحوي.

والسؤال هنا هو: لِمَ اختارت الشاعرة الرهان على ظاهرة السكون في الروي؟ ولمَ اختارت أن تكون الدفقة الموسيقية الأخيرة من كل سطر شعري ثانٍ ساكنة؟ إما بحرف رويّ وإما باقترانه بهاء السكت. أترك السؤال مفتوحا للإجابة عنه في غضون القادم من المقاربة.

الثانية: داخل هذه الهيمنة لوحدة الروي وحضور النشاز المكسر لهذه الوحدة يتبدى لنا اختيار الشاعرة التي تريد أن تجتهد في قصيدة النثر على مستوى الموسيقى أو الإيقاع، وعياً منها بأن قصيدة النثر بؤرة فنية لاستقبال كثير من الأسئلة الطارحة ذاتها باستمرار مادامت الرؤية النقدية العربية لم تتفق بعد على برّ ترسو فيه سفن البحث في إشكالية التجنيس.

و لقد اخترنا النسق الصوتي لحرف النون نظرا لتوفر شرط التراكم. وهو الشرط الأساس الذي يبني عليه كلٌّ من غريماس ومحمد مفتاح مفهوم التشاكل.  ثم أردفنا الإحصاء الأول إلى إحصاء آخر خرجنا فيه ومنه بالتشاكلات النونية التالية:

القصيدة النون صوتاً  ذاتيا النون تنويناً الروي

ظلت وتظل  37 مرة 6 مرات نون ساكنة

مرآة الروح  34 مرة 10 مرات نون + هاء السكت

قصيدتي السنوية 33 9 نون ساكنة

أخيّتاه 35 14 نون ساكنة

شمس النهار 14 4 نون مشبعة

تهاليل  25 6 نون ساكنة

على جناح فراشة 35 16 نون ساكنة

الرهان 32 9 نون ساكنة

أشواق 23 4 نون ساكنة

سمراء 26 14 نون ساكنة

أخلصت 30 9 نون مشبعة

و قد اعتمدنا الحرف مدخلا سيميائيا لقراءة ظاهرة التشاكل الصوتي في هذا الديوان، لا من باب البذخ القرائي أو من باب الترف الثقافي، ولكن لأن الكلمة هي الوحدة المعجمية المكونة للغة، والكلمة مادتُها الأساسية هي الوحدات الصوتية المتفاعلة لتشكيل كيان اللغة المنطوقة. إن الصوت يمثل المظهر الأول للحدث اللغوي ثم الحدث الشعري إذا ما قفز المبدع من البداهة إلى الخيال.

لكن العلاقة بين الصوت والمعنى ثم بين الصوت والدلالة علاقة شائكة ومعقدة ولا ينبغي لنا أن نقول إن صوت الصاد مثلا في القصيدة الفلانية يدل على القوة، وأن صوت الميم في أخرى يدل على الحزن، إلا إذا اشترطنا منهجية التراكم المشفوعة بالقراائن اللفظية والحالية. وفي سياق الديوان (قطاف خارج الموسم) وجدنا حرف النون صوتاً مهيمناً على مستوى:

- الحضور كوجود فونيمي ذاتي باعتباره وحدة صوتية متميزة عن غيرها

- الحضور كصوت ناتج عن التنوين

- الحضور في كل القصائد بتراكم اختياري أو لا اختياري

- الحضور كصوت مميّز في الصواتة العربية لدعم المعنى والدلالة

و الذي لا يختلف فيه الدارسون المتخصصون في الأصوات هو أن حرف النون صوت مختلف عن الاصوات العربية الأخرى، نظرا لميزته الإيحائية التعبيرية على مستوى الدلالة؟

و النون هو الحرف الخامس والعشرون في الترتيب الهجائي، والرابع عشر في ترتيب الأبجدية العربية. قال فيه ابن جنّي (النون حرف مجهورٌ أغنّ، يكون أصلا وبدلا وزائدا ) 7 *

ننتقل الآن إلى رصد ملامح التشاكل الصوتي لنسق النون في بعض القصائد، تمثيلا لا حصرا، وتأكيدا لهيمنة هذا النسق داخل رؤية الشاعرة الفنية والوجودية.

* المثال الأول: قصيدة (ظلت وتظل)

التوحيد بين أقنومي الوجود:

هيمن حضور نسق النون فيما يربو على 43 تردداً، يحكي في مقام القصيدة قفزا شعريا على مقولة التوتّر بين الرجل والمرأة إلى مرتبة تؤمن فيها الشاعرة بمقولة الوصل.

قالت: (مدّ لي جسراً إليك – الديوان، ص 30)

كما أن صياغة حرف النون داخل القصيدة يخدم هذا التخريجة عبر إضافة النون إلى مفردات الأمان والحنين ورماد السنين وموقع اليمين... وهذا الحضور الكمي يتجاوز الوظيفة التعبيرية كقيمة صوتية معزولة إلى قيمة دلالية تشي برغبة الذات المتكلمة في الهدم والبناء: هدم ميراث التوتر بين الرجل والمرأة وبناء علاقة جديدة تقوم على التكامل بدل التنافر، والتقارب بدل المسافة.

هكذا تسيرقصيدة (ظلّتْ وتظلّ) ويسير معها الديوانُ في اتجاه بناء عالمٍ  جمالي تقوم فيه الدلالة على على تنغيم أقنومي الوجود وتوحيدهما. وفيها تقفز الشاعرة برؤيتها الشعرية المختلفة على مقولة التوتّر بين الرجل والمرأة. وهي المقولة التي قهرها الشعراء طبخاً إما من زاوية الموضوع الضاغط، وإما من زاوية الموضة في التناول من أجل ارتداء عباءة الاختلاف. وأما شاعرتنا فاختارت التناغم بين الطرفين، لا ضعفاً ولا استجداءً للساحة الذكورية، وإنما قناعة فلسفية تعترف بوحدة الكينونة لا بتفرّقها وشتاتها وتنافرها.

*المثال الثاني: قصيدة (مرآة الروح)

يثيرنا في هذا النسق ذلكم التشاكل التركيبي بين النداء والاستفهام الاستنكاري  والأمر الخارج عن معناه البلاغي إلى دلالة الالتماس داخل نسق النون، الذي تردد 43 مرة.

 قالت الشاعرة:

أيها المريدون ماذا تريدون؟

أنصتوا لنبضةٍ عارمةٍ مرنة.- الديوان، ص 40

يخيّم على المقطع الصغير صوت النون وهو يتردد ستّ مرات، بين نسق صوتيٍّ ذاتيٍّ (ثلاث مرات) ونسق التنوين (ثلاث مرات). مما يشي بحضوره القويّ داخل تركيب لا يتجاوز ثمانِ مفرادت. أفعمتْها الشاعرة بهالة النون المعبّرة والذاهبة فنيّاً مذاهِبَ الإدهاش في التلقي الجمالي. وبين إرادةِ المخاطب المبنية داخل سيمياء الشك وبين يقينِ النبض العارم والمرن، تتأتّى للقارئِ إمكاناتُ تأويل الكلامِ في عدّةِ اتّجاهات، منها مساءلة المخاطب الغافل عن حقيقة الأشياء المعزولة في وهمه عن إمكان النبض الماثِلِ في ذهن الشاعرة باعتباره أساساً في الوجود... النبضُ هو الوجود.

*المثال الثالث: قصيدة (قصيدتي السنويّة)

تردد فيها نسق النون الصوتي 42 مرة.

و الأمثلة هنا وافرة نذكر منها قول الشاعرة:

يا موسم القحط أدبِرْ

دعنا نعانق الحنين

فقوافلنا ظمأى

افتح بابً للمتعبين

...

فجسد المدينة متعب

و وجهها شاحبٌ حزين – الديوان، ص 52

النون حاضرة وبانية لنسق الدلالة الداعية إلى الوصل بدل القطيعة. سواء تعلق الأمر بالإنسان (المتعبون) أو تعلق الأمر بالمكان (المدينة)...

 *المثال الرابع: قصيدة ( أُخيّتاه)

 وفيها حضر صوت النون بمعدل 49 مرة، وهو رقم مثيرٌ وفاتح لأكثر من سؤال خاصة إذا علمنا أن القصيدة لا تتجاوز 22 سطرا شعريا. بمعنى أنها قصيدة مركزة يبدو فيها النون مخيِّما على الترددات الصوتية للقول الشعري. ومما زاد في قوة دلالاتها النونية أن الموضوعة فيها تُقارِب رثاءً عامرا بالحزن.

النون هنا قالب صوتي استطاع باقتدارٍ شعريٍّ أن يحتضن حالة الفقد وحالة الصبر:

قد يجفّ الدمع من عيني وليس

يخفّ لواعج القلب الحزين

يا صاحبة القلب الحنون فداك نفسي

فدمعي يسيل بجرح سخين

و حسبنا من هذا الفيضِ غيضٌ من التمثيل والاستشها. وما على الراغب في معاينة هيمنة هذا النسق إلا قراءة الديوان واستخلاص معانيه في هذا الاتجاه الذي لا أظنه عبورا أبدعته الصدفة، بقدر ما هو حضورٌ أبدعته ذائقة شاعرة تمكر بالكلمة مكراً جميلا وتبعث فيها من روحها أشكال النغم الناطق بشتى الدلالات.

خاتمة:

مارستِ الشاعرة رؤيتها الفنية في بناءٍ شعريّ متكامل وأتحفتْنا بعمل متناغم هو الديوان (قطاف خارج الموسم). دبّجتْ فيه موقفها الفني من الوجود ومن عناصر هذا الوجود، ومن  طبيعة الإبداع وحدّدت موقفها من مجموع قضايا راهنة فيها مرونة وتحدٍّ للمألوف بشكل حوّلت فيه ديوانها من سيماء الشبه والتكرار إلى شكل من أشكال الفرادة وهي تصوغُ رهانها الشعري داخل ثقافة الاختلاف. وضعتْ فيه أشواقها وآلامها وآمالها وحنينها وحتى معانقاتها الخارجة من شرنقات الذات إلى الموضوع في شخص القضية الفلسطينة. إنها في آخر المطاف شاعرة تكلمتْ من مساحة جرحٍ نقيّ لم يغرقها في سوداوية معتمة بقدر ما فتح لها وأمامها بواباتِ الإشراق الشعري الموصوف في نسق النون.

نلفت النظر إلى أن قراءة الدلالات داخل نسق النون وحده بمعزل عن باقي مكونات الخطاب الشعري هي قراءة قاصرة عن تمثل الديوان باعتباره وجوداً فنيّاً يحتاج إلى إحاطة شاملة كي نستنطق أبعاده في غير ليٍّ لأعناق التأويل. إن تظافر المكونات القولية في فن القصيد هو ما يبعث في الديوان حياةً جديدة يبنيها القارئُ خارج دوائر الشاعرة في لحظات إبداعها والذي لا يمكن أن يحاصرنا في سيمياء رؤيتها الفنية فقط. وتبقى التخريجات الدلالية النازحة من بطن صوت النون قاصرة حتى يزكّيها القارئ الباعث في الديوان وفي القراءة النقدية معاً شكلاً من أشكال حياةِ التأويل الممكن. ذلك أن استخلاصنا للدلالة في هذا المقام هو استخلاص يعيش في وضعٍ تأجيليٍّ ريثما ينضاف إليه استخلاص آخر وآخر وثالث وهلمّ جرّا...

***

نورالدين حنيف أبوشامة\ المغرب

....................

إحالات:

* الديوان: زهراء الأزهر، قطاف خارج الموسم، مطابع الرباط نت  2022، الطبعة الأولى

1 - الحديث عن أبي ذر الغفاري، ورواه مسلم

2 - توجد مركبات ذات صيغ جزئية واحدة، ولكنها تختلف في التركيب أو في توزيع الذرات. وهذا الاختلاف جعل المركبات الكيميائية توصف بالمتشاكلة. فالتشاكل في التصنيف الكيميائي يطلق على الوحدة والتوازن والتجانس والتناظر والتشابه والتماثل، ويعني أيضا الانتماء إلى حقل أو مجال أو مكان معين.

3 - محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري، المركز الثقافي العربي، 1986  ص 20

4 - محمد مفتاح\ تحليل الخطاب الشعري\ ط1- مدار التنوير للطباعة والنشر\ بيروت 1985\ ص 52

5 - سورة آل عمران، الآية 181

6 – ديوان المتنبي\ تحقيق عبدالرحمن المصطاوي \ دار المعرفة\ بيروت \ ط 1983  ص 34

7 - أبو الفتح عثمان ابن جني الموصلي، سر صناعة الاعراب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 2000، ص 2 \ 107

 

قراءة في ضوء نظرية الفوضى

شهدت الرواية المعاصرة تقاطعًا متزايدًا مع مفاهيم علمية وفلسفية حديثة، من بينها نظرية الفوضى (Chaos Theory) التي تقوّض فكرة النظام الثابت، وتؤكد أن أصغر التغيرات قد تُحدث نتائج غير متوقعة، ومن أبرز مفاهيم هذه النظرية "أثر الفراشة"، الذي ينطبق بشكل دقيق على رواية "قواعد العشق الأربعون"، وتمثل رواية "قواعد العشق الأربعون" للروائية التركية إليف شافاق مساحة سردية خصبة للتأمل في التحولات النفسية والروحية التي يمر بها الإنسان عبر تفاصيل تبدو في ظاهرها بسيطة، لكنها تحمل طاقات تغييرية عميقة، وإذا ما نُظر إلى هذه الرواية في ضوء نظرية الفوضى، وتحديدًا مفهوم "أثر الفراشة"، اتّضح لنا أنها تبني عالمها السردي على سلسلة من الأحداث الصغيرة التي تُفضي إلى تحولات جوهرية في حياة الشخصيات، بما يبرر مقاربة الرواية بمفاهيم العلوم الحديثة، ويمنحها بعدًا فلسفيًا غير مباشر.

فهل يمكن قراءة الرواية باعتبارها تجسيدًا سرديًا لأثر الفراشة؟ وهل تمثل التحولات الدقيقة فيها مبدأً لتفكيك الثبات والجمود؟

 أثر الفراشة: المفهوم والإطار النظري

يُشير مفهوم "أثر الفراشة"(Butterfly Effect)، أحد مبادئ نظرية الفوضى- وهي فرع من الرياضيات التطبيقية والفيزياء النظرية، نشأت في القرن العشرين، وتهدف إلى دراسة الأنظمة المعقدة والحساسة للتغيرات الطفيفة-، إلى أن تغيرًا بسيطًا في بداية نظام ما قد يقود إلى نتائج بعيدة وغير متوقعة في المستقبل. ويُستخدم هذا المفهوم لتفسير التحولات الكبرى الناتجة عن مقدمات تبدو عشوائية أو هامشية. في السياق الأدبي، يُعدّ هذا المفهوم أداة تحليلية تُمكّننا من قراءة تطور الأحداث وتنامي الشخصيات بعيدًا عن خطية السببية التقليدية.

الرواية كنسق دينامي فوضوي

تعتمد الرواية على بنية سردية ثنائية، تربط بين:

القصة المعاصرة: إيلا روبنشتاين، المرأة الأميركية التي تعاني من رتابة الحياة، تتلقى مهمة تحرير رواية بعنوان "الكفر الحلو"، فتدخل عالمًا من التحولات العاطفية والروحية.

القصة التاريخية: العلاقة الصوفية بين جلال الدين الرومي وشمس التبريزي في القرن الثالث عشر، حيث تظهر "قواعد العشق" الأربعون.

هذه الثنائية تُجسّد مبدأ التراكم الفوضوي حيث تؤدي قراءة رواية من قبل إيلا إلى زعزعة بنيتها النفسية والاجتماعية، تمامًا كما تؤدي لقاءات شمس بالرومي إلى قلب توازن نظام فكري ديني مستقر.

تطبيقات أثر الفراشة داخل المتن الروائي

رفرفة الفراشة الأولى: قراءة رواية داخل رواية

إن تسلّم إيلا لرواية "الكفر الحلو" يبدو في البداية أمرًا إداريًا بسيطًا، لكنه يُفجّر سلسلة أحداث تغيّر مجرى حياتها، هنا تعمل "القراءة" كفعل تحويلي، يُشكّل نقطة بداية لتفتت النظام القديم داخل الشخصية.

وهذا الحدث البسيط أشعل سلسلة تغيرات عميقة في حياتها: فقد أعاد طرح أسئلة عن الحب، والروح، والذات. كما دفعها للتواصل مع الكاتب، عزيز زاهارا. وأيضًا قادها إلى رحلة داخلية من الشك إلى الإيمان ومن السكون إلى التغيير (هذا يشبه تمامًا رفرفة جناح الفراشة: قراءة رواية غيّرت حياة كاملة).

شمس التبريزي كعامل اضطراب في النظام الروحي

شمس هو الفراشة الثانية، دخوله حياة الرومي يُربك النظام الديني والاجتماعي، ويُحدث تحولًا شعريًا وفكريًا حاسمًا. فالعلاقة بين شمس والرومي تمثل نموذجًا لعدم الاستقرار المؤدي إلى الإبداع، وهو جوهر نظرية الفوضى في الفنون.

بمجرد دخول شمس إلى قونية ومقابلته لجلال الدين الرومي فقد أحدث زلزالًا في حياته الروحية والاجتماعية، وانقلابًا في علاقاته، خاصة مع تلاميذه وأسرته، وتحولَّ الرومي من فقيه واعظ إلى شاعر ومتصوف عظيم (وجود شخص واحد (شمس) أثّر على حياة آلاف لاحقًا عبر إرث الرومي الشعري والروحي).

قواعد العشق كنبضات تحولية

كل قاعدة من "قواعد العشق الأربعين" تُشبه في تأثيرها تلك الرفرفة الدقيقة التي تهز البنية المعرفية للشخصية، هذه القواعد ليست مجرد تأملات، بل محفزات لاضطراب خلاق في العقل والوجدان، وتعمل كبذور فكرية تفكك الاستقرار الزائف.

فكل واحدة من القواعد الأربعين التي يطرحها شمس تؤدي إلى تغيير فكري/ روحي تدريجي في الرومي وإيلا والقارئ، ومثال ذلك: "الحقيقة التي لا تُفهم بالقلب لن تُفهم بالعقل" — تنقل الإنسان من التعقّل الجامد إلى الذوق الصوفي (القواعد تبدو مفردات صغيرة، لكن أثرها واسع المدى في النفوس والعقول.)

سلسلة الأسباب الصغيرة = تحوّلات وجودية كبرى

الرواية تتأسس على مبدأ أن الإيماءة الصغيرة، الكلمة العادية، اللقاء العابر — ليست أشياء تافهة، وكل تفصيل يملك قدرة كامنة على زعزعة النظام الشخصي الداخلي.

 تحولات كبرى من مسببات دقيقة1725 nahla

 خاتمة: العشق كفوضى خلاقة

تتجلى رواية "قواعد العشق الأربعون" كنموذج أدبي يمثّل مبدأ أثر الفراشة في أبهى تجلياته، فالتغيرات الصغيرة التي حدثت للشخصيات، أو القرارات التي اتخذت ببساطة، نتج عنها تحولات كبرى في الوعي والمصير. ومن خلال مقاربة الرواية "بمفهوم "أثر الفراشة"، يمكن القول إن الرواية لم تقدم الحب بوصفه عاطفة متوقعة ومستقرة، بل بوصفه قوة فوضوية خالقة، تزعزع وتعيد ترتيب العالم الداخلي، وبذلك تكون الرواية تمثيلًا سرديًا لنظرية الفوضى حيث النظام ينبثق من اللانظام، واليقين يولد من الشك، والتغيير الجوهري ينطلق من أكثر النقاط هامشية.

وبالتالي فالرواية ليست فقط خطابًا عن الحب، بل هي أيضًا تمثيل أدبي دقيق لنظرية الفوضى حيث النظام ينبثق من الاضطراب، والتغيير الجذري يبدأ بخطوة صغيرة . وأيضًا الرواية في ضوء هذه القراءة تصبح أكثر من قصة حب، إنها تجربة فلسفية عن مصير الإنسان في مواجهة المجهول، وكيف أن الفراشات الصغيرة في حياتنا قد تكون سرّ ولادتنا الجديدة.

***

د. نهال عبد الله غرايبة

أكاديمية وباحثة أردنية/ أستاذ مساعد/ قسم اللغة العربية وآدابها/ الجامعة الإسلامية بمينيسوتا/ المركز الرئيسي

 

التقليلية والتي جاء بها الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه، في تلك الحقبة، والاعتناء في النصّ النوعي، حيث أوجد الشاعر الفرنسي هذا المصطلح لكي يكون نافذاً مع طلابه ومدى العمل على تنفيذ هذه الرغبة النوعيّة، حتى اقترح عليه طلابه بأن يعمل المصطلح نظرية لكنّه رفض ذلك، وهو يتناول البعد الزمني من خلال التقليلية، ومفردة التقليلية لاتناسب إلا قصيدة النثر، تناسبها تماماً، حيث قوّة المعاني والقوّة الزمنية بإدخال النصّ الشعري بمختبر بطيء والنظر به ربّما يكون لحظة من خلال (النصّ اللحظوي)، وربّما لأسابيع، وربّما لشهور، وإذا كانت الزمنية غير ثابتة من خلال التقليليّة، نستطيع أن نطلق عليها بـ (برهة النصّ " 2 )، ولكن ومن خلال المعانى الواسعة لهذا المصطلح الشمولي، والذي يعني لنا التقشف اللغوي أيضاً، نستطيع توظيفه كأبعاد تقليلية للمفردات من جهة وللحالة الزمنية من جهة أخرى، فظهور القصيدة القصيرة في قصيدة النثر، أعطت بعداً تقليلياً زمنياً ولغوياً، وكذلك من ناحية المعاني ومساحتها في البعد التقليلي، وأضاف هذا المصطلح لقصيدة النثر إضافة نوعية من ناحية الاعتناء في النصّ الشعري، والنصّ الحسّي بمساحته اللامحدودة، حيث أنّ السيطرة على المشاعر من الإفراط، تؤدّي إلى مهام لتنقية النصّ وتوجيهه نحو الجمالية.

والأمثلة كثيرة حول الاعتناء بهذا المصطلح وتنفيذ حدوثه بالنصّ الشعري الحديث.. وكذلك حركة المحسوس بشكل جزئي، والمصطلح جار العمل عليه أيضاً في مجالات واسعة؛ ويعد من المصطلحات المهمة في قصيدة النثر الحديثة، فنحن نقتصد حتى بالأبعاد التفكرية، وكذلك الأبعاد البصرية، فالمتخيل الذاتي له حركته الذاتية وله محفظته الخاصة، وهذا يمنحنا أن نكون معه في المتخيل البصري أيضاً، فهناك الأبعاد البصريّة والتي تشكل بعداً تقليلياً أيضاً، وكذلك الأبعاد التذكرية المقتضبة، حيث يكون زيارة الفلاش باك، زيارة وقتية وليست دائمية، ومن خلال هذا التوقيت نستطيع أن نتكفل ببعده التقليلي وعدم انشغال الذات أكثر ممّا تكون عليها وخنقها في حالات تذكرية نستطيع أن نتجاوزها في كلّ لحظة ندخل معها.

اقرأ الكثير حول النصّ والنصّ المفتوح، ويتكأون عادة على المعاني، ويحدّدون بعض النصوص ويطلقون عليها بالنصوص المغلوقة (في قصيدة النثر أعني)، ألا يرون بأنّ النصّ لاينتهي من خلال الإضافات التي من الممكن جدا التعامل معها، وبما أن قصيدة النثر تعتمد الاختزال، فهذا يساعدنا على تقويم النصّ المنتهي، النصّ المتوقف هنا، ومن الممكن جداً التحايل عليه وجعله من النصوص المفتوحة، والتقليلية واحدة من المصطلحات الداخلة على النصّ المختزل، وهي تناسب حتى المعاني وقوّة تفاعلها في النصّ وهذا يمنحنا قوة التخيل وحركة الخيال الذي لاينتهي بنقطة، وكذلك التأويلات والاعتماد على الاستدلال في تجلياته الواسعة.. فلغة الجمال ومن خلال المؤسّسة الجماليّة، لاتتوقف بحالةٍ من الحالات، وهي لغة تمتلك من المساحة الواسعة والتي تقودنا إلى المتعة الحسّية ولذة النصّ.

لم يكن مالارميه أحد أهم الشعراء الرمزيين يهدف من الجمال إلا إلى الجمال. وليس هذا فحسب. بل إن سعيه الدؤوب إلى الجمال المثالي قد جعله يحلم، لمدة عشرين عاماً بأن ينتج شعراً صافياً من دون أن ينتج إلا القليل من الشعر.

إن تغييرات المعجم الشعري لدى الشاعر هي تغييرات في البصر والبصيرة، فتارةً يقودنا إلى البصيرة الداخلية وتارةً أخرى إلى البصيرة المكانية، وهذه الاشتغالات البصرية مع الرمزية تعطي الانتماء إلى المفردة الشعرية الواحدة وكيفية حبسها وتجنيس بصمتها؛ قد أستطيع تسميتها (بالمفردة الذكية) لأنّها غير مطروقة أولًا، وتدخل المخيلة بدهشتها ثانياً.

(في الحروف لم تعد لتفاجئ القارئ. هنا يكمن وجه الاحتياج إلى شكل تعبيري قادر على استيعاب المسافة الفاصلة بين -المجاز والرمز- وبين -الحال المدركة والحال الذاهلة- بما يجسد أوجه الانحراف/ الانزياح، القائمة بين -اللغة القائمة واللغة المفكرة-، وذلك في مستويي المضامين الرمزية للقصيدة المعاصرة والآليات الفنية المشكلة لها. تلك الخصوصية هي الميزة الفارقة لأية كتابة حروفية. " 3 ).

ظهرت التقليلية بشكلها المطروق في الستينات وكانت جماعة كركوك تسعى وتشتغل على قصيدة نوعية لطرحها في الشارع العراقي، وقد برز من بين جماعة كركوك الشاعر الراحل جان دمو والشاعر فاضل العزاوي، الذي كتب الرواية أيضاً، متكئاً على الرواية القصيرة (القلعة الخامسة مثلًا)، شعراء جماعة كركوك تركوا قصائد تحصد ما بين الحروف، ووطناً يحترق من شماله إلى جنوبه.

لم أدخل إلى التقليل من الشعرية والشاعرية التي تنتاب الشاعر في آخر الليل، وكما هو بودلير عندما جعل الحياة مشفى كبيراً وكلّ واحد يغيّر سريره، فكلّ شاعر يغير رسالته/ عفواً قصيدته، وينام نومةً صامتةً، لا يسعه النهوض إلا مع نصّ مثالي، قصيدة تنتمي إلى لسان الشاعر ومحسوساته المحصورة بين الذهنية والبصيرة التي تصبّ برؤى أريحية وهو يناضل من هذه الحياة، لحياة أكثر شاعرية. إذن الشاعر ليس بحديقة يتمتع بزهورها، وإنما هو في زنزانة كبيرة لا يعرف الخروج منها إلا بنصّ قابل للضجيج.

***

كتابة: علاء حمد

..................

الهوامش

1 - ستيفان مالارميه (: Stéphane Mallarmé) شاعر فرنسي، وُلد في باريس 18 مارس عام 1842. ينتمي مالارميه إلى تيار الرمزية ويعد واحداً من روادها.

2-تمتدّ البرهة من الثانية إلى ستّة شهور حسب ماذكره العلامة العراقي د. مصطفى جواد

3-الدكتورة حياة الخياري - مجلة الكوفة - مجلة فصلية محكمة - ص126 - السنة الثانية العدد الثالث - صيف 2013.

م: سُرق المصطلح من صفحتي الفيس بوكية عام 2016، بينما كنت في عطلة في تركيا خطر على بالي مصطلح التقليلية، وكتبت عنه بشكل مختصر، وعند عودتي للدنمارك، بقيت أنقب عن المصطلح فلاحظت أنّ هناك ترجمة على صيغة وورد وهو المصدر الوحيد ولكن للأسف المترجم لم يكتب اسمه، مع أنّه اعتمدتها كمصدر وإعادة المصطلح لصاحبه وهو الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه.

***

لحسين الهاشمي.. العلاقة الشعرية وتضاعيف المستلب من خصوصية الدال الشعري

توطئة: لقد دخلت مشروعية البناء الشعري عاملا قصديا في مفهوم شعرية الميتاحداثوي ووظيفته ومشخصاته، ذلك إلى جانب أوضاعه الدلالية الكاشفة أو اللامكشوفة من تأسيسات منظور رؤية الشاعر وأشكالها واحوالها النواتية والأسلوبية المحفوفة إلى أقصى درجات (القول بما لا يقال؟). لقد أصبحت القصيدة ضمن منطلقاتها التصويرية والتأملية تمنحنا ذلك التحفيز في معاينة اشتغالية الدال المروي بوصفه هدفا قصديا في بث لواعج الذات شكلا آخر يتجلى في آفاق المتن الشعري تجليا محملا بأسمى صلات نوادر الشعرية التي تطرح الذات فعلا مرتبطا بأقصى تخوم مأزومية التجربة الموضوعية في النص، وما تتطلبه حسابات الدلالة الإحالية من فواعل تسخيرية خاصة بالمفردة الاستعارية والمرمزة في مشروع طرح صورة (الذات المستلبة؟) عبر مساراتها في سياق خارجي أو داخلي من رسومية أحوال المنطقة الشعرية التي هي منصصة (سياقا مضادا) لأحوال ذاكراتية وخارجية وذاتية منكسرة في الخفاء والغموض والتستر على هويتها الكاشفة في منعطفات زمنها ومكانها وجغرافيتها الاستكمالية في المنحى والنحو والخصوصية الصاعدة والنازلة.

ــ الفاعل الشعري وسيرذاتي الإحالة الشعرية.

من خلال تجربة مجموعة مختارات المبدع العذب (حسين الهاشمي) التي جاءتنا عبارة عن كيانات مبثوثة عبر حساسية التفاعل بين (السيرذاتي ــ الإحالة الشعرية) تقدم لنا دلالة العتبة العنوانية للمجموعة (احتيال على الفصول) بما يوثق لدينا فرضية الدلالة الملتبسة في مستوى صورة ووظيفة (احتيال؟؟) بإنضمامها إلى خانة الاحتمالات المستجيبة لمعنى وفعل الاحتيال ــ شكلا في منصة الخداع تمثيلا ــ ولكننا لو تعلمنا مع المفردة في منطقة المقترح التأويلي ــ الإحالي ــ لوجدنا شرعيتها الشعرية في سياق متدرج ومتعدد، على النحو الذي يمنحها بنية متحركة ومتموجة وقابلة للانشطار المفهومي والاستعاري وقابلة أيضا إلى ذلك التعدد والتنكر بحسب كيفيات القراءة والتلقي، وبما يحفز لدينا في الوقت نفسه رغبة التأويل في النظر إلى احوال الصور المفترضة تشكيلا وتجاوزا نحو غائية متماهية مع أوجه دلالات مرفقة بصيغة (احتيال على الفصول) إمعانا بالمتعلق من الاحتمالات المستجيبة لمنطقة القصد المؤول شعريا:

ربما يكفي

لإطفاءِ الحروب

أن أجنّدَ القمرَ الحائرَ

في غفلةٍ منها

و أُلقيهِ

كالأملِ الأعزلِ

في بُرْكَةٍ راكدة. / ص10 

قصيدة: (دائما.. أنا والعتمة)

إن مثل هذا النوع من الاحتيال التوجهي بالدال لربما هو ما يحقق بدوره تلك الاستجابة على نحو تقاني وحسي في آن معا (أن اجند القمر الحائر = وألقيه كالأمل الأعزل ــ في بركة راكدة) فخاصية التوليد الاحتيالي تكمن على صعيد حالة مدروسة بالصورة الاستعارية نحو سلطة تشكيلية تتوجه بكثافة: المستهل (ربما لا يكفي) نحو (القمر الحائر) إلى (في غفلة منها)و بذلك يمكننا جملة (الأمل الأعزل) بوصفها حركة انزوائية بالزمن التلفظي نحو نقطة تثبيت هذا الدال (القمر) في النحو الذي لا يناسب الطاقة الحوارية المكنونة بين (الذات ـ الموضوع) وصولا بجملة (في بركة راكدة) أما محاولة جملة فعل (وألقيه)فقد حلت في طور من اللااختياري أو الاارادي من جهة الباث، لتكون صورة القمر بما يقارب مسرحة الأمال والأمنيات المستلبة والضائعة، حتى وإن كانت موجودة فهي تبرز لشاعرها وكأنها الفسحة الزمنية الخارجة عن النقاء والصحو وجمال الغد القادم.إذن إن عملية مبثوثات الذات الراوية هي في أقصى حالاتها لا تتجاوز مفهوم هيمنة فعالية خارجية ما باطشة على ذاتها المستلبة، كما الحال عليه في دلالات قصيدة بلا عنوان هي، فقط هناك ثمة قاب قوسين يشغله الفراغ العاتي:

لمَنْ سألني

عن زوبعةِ الريحِ الآن..

ليستُ من هواةِ أوراقِ اليانصيب

ينثرها صبيُّ نَزِقٌ

رفقةَ جوقٍ للإنشاد..

قدمي راسخةٌ

وحزني خَفيّ.. مورقٌ أبدا

كي لا يزعمَ الخريفُ يوماً

هزيمةَ الشجر. / ص14   قصيدة: ()

1 ــ صيغ التوجه الاحوالي ومسرحة الأداء التمثيلي:

من الظاهر واللافت أن السارد الشعري (السيرذاتي) إتجه نحو قلب الإشكالية الحياتية لزمنه الذاتي، لذا باتت غائيته الذاتانية صيرورة ملحة على هوية (الأنا الفاعل ــ الأنا الجمعي) وصولا إلى ما يساوي ديمومة مأزومية الذات فعلا وفاعلا، ولكن ضمن مؤشرات احوالية وحدوثية متنوعة. فيما تبقى الإشكالية الشعرية في قصائد الهاشمي كونها (سيرة ذات؟) تتأهب في أقصى حالاتها القصدية إلى توصيف حساسية الأنا المكانية والزمنية والذاتانية بصورة تبدو منتجا على صعيد انفعالات الذات من جهة خاصة، وهذا الأمر بدوره لا يعاكس طبيعة صناعة القصيدة، خصوصا وإنها ذلك المستعاد الحسي للذاكرة واليومي المعاش، بمعنى ما أن وضع شعرية وقصيدة (حسين الهاشمي) يتلاءم مع هوية أسلوبية التأملي والشرودي والتوحد مع الذات مما جعل نصه غاية في الإحالة والتشكيل الدلالي المتضافر وحدود تجربة القصيدة لديه. لذا أردت القول بأن الجمل الشعرية الأولى من قصيدة الشاعر (لمن سألني ــ عن زوبعة الريح الآن ــ لست من هواة أوراق اليانصيب) تكاد أن تكون الدلالة ذاتها من حصيلة استلاب الذات بعد أن يتعلق الأمر بنتائج سوء الحظ وإنحدار البشارة في المعنى المقارب، لذا تكون المسألة أكثر مأساوية عندما يتحدد الأمر بنتائج نصيب الشاعر من خلال يد ذلك القدر اللامعتدل والمتمثل بجملتي (ينثرها صبي نزق ــ رفقة جوق للإنشاد) ومن المتعارف عليه عرفيا واجتماعيا أن فئة (جوق الإنشاد؟) ممن تنعكس على مراسم سلوكهم الكثير من الصفات الذميمة واللامحمودة إطلاقا، لذا جاءت الجمل الأخيرة من القصيدة بوصفها العلاقة الشعرية مع ما يحيطها من تضاعيف المستلب من زمن حياة الذات ومصيرها الوجودي الذي يناظر خفاء جمل (قدمي راسخة ــ وحزني خفي ــ مورق ابدا) وبمثل هذا أو ذاك تواجهنا العديد من قصائد مختارات (الاحتيال على الفصول) وكأنها الصرخة التي تند عنها إقرارية حدود اليقين الحاسم بأن ممارساتنا الحيواتية ما هي إلا عملية احتيالية على زمن حكاية العمر والذاكرة والمستعاد والمستعار والمشار إليه حالا مراوغا في مواطن الاضطراب والترديد الوجداني بفيض خواء الضمير الوجودي المتلاطم.

ــ جغرافيا الجسد ومرايا وجوه المستعاد والمتشظي:

إن شفافية التوالدات الدلالية في منجز (الاحتيال على الفصول) تعزز القيمة الرمزية في سمات التحولات البنائية والاسلوبية في مكونات مشروع القصيدة، لذا فالقصيدة تضحية جسدية تارة ومنكسرة بإمكانية منطقة اللاشعورها الفردي والجمعي تارة أخرى، هي ذاتها ذلك الانبعاث من رمادها إلى فناء الجسد وخلود الروح في ذكرى مستعادة، لتكشف لنا صور عمليات استبدالية موسعة من ناحية شعرية النص وعذاباته الملاءمة مع المواضع الشعرية ذات العلاقة الضمنية والعلنية من تكوينات أدلة مسميات الأشياء في مادة رؤية النص:

تذكرتان..

واحدةٌ للجسدِ الذي يغيب

و أخرى للقلبِ الذي يطوفُ

بلا ضفّة..

الحياةُ ومضةٌ

قالَها ومضى.

ص15 قصيدة: (رفقة صديقي ماركيز)

لقد أضحت مثل هذه البنيات الشعرية في علاقات الظاهرة الاقترانية، كحال أن يكون المستدعى في النص أسما مرجعيا أو صفة ما لاحدى روابط الأدباء الخطية. عموما هذه النصية من شأنها خلق كيفية تناصية من النوع الظاهر وليس من قبيل تزاوج أو تلاحم ما بين عوالم هذا الشاعر وذاك الروائي، وبصرف النظر عن إن الهاشمي ليس دؤوبا في جلب التناصات في شكلها المتشعب، غير إنه أراد من العتبة العنوانية توليدا لمسار محاكاة تماثلية مشروطة كحالة صياغة خرائطية لدليل النص وليس خطوطية النص تفصيلا. عموما أن القارىء الفاعل لقصيدة (رفقة صديقي ماركيز) يلاحظ مدى الاستجابة بالخصوصية ما بين الأحوال وليس الخطاب في نسقه التعاضدي: (تذكرتان.. واحدة للجسد الذي يغيب، وأخرى للقلب الذي يطوق، بلا ضفة..) أن تحديثات الواقع والواقعة التشكيلية ما بين الجمل تشكل بحد ذاتها جملة متفاعلات (الأنا الروابطية؟) وأقصد منها الأنا التي تشغل بذاتها عدة نقاط محورية في الظاهرة النصية. فالشاعر الهاشمي أراد لنصه والدلالة (تذكرتان) جمع التحيينات التفاعلية في دوال وسائطية (الجسد ــ الغياب ـ القلب ـ يطوف ــ بلاضفة) داخل إحالات تحقق للقصيدة علامات إيحائية مصاحبة وليس محض دوال خطية في المحتوى والأفق، ذلك لأن تعيينة الأثر لا تسبق المؤثر الذي هو الأنا الرابطة،لذا فهي تقدم موصوفات ذاتها ضمن استراتيجية استعارية وإيحائية موازية ومتماهية، لأستظهار: (الحياة ومضة ــ قالها ومضى) إذن المعطى الواصف هو (القلب) دون الجسد الذي أصبح (وعلى ساق واحدة.. هناك أقف) الأكيد في الأمر هو أنني لا أود الاختزال في القراءة، ولكن لا يحتكم في الأصل إلا الدليل الجوهري في مقاطع الدوال. أردت أن أقول سلفا أن عمليتي التحسيب والتقريب هما المسافة بين الدوال ومعطياتها التواصلية، فمثالا أستأثرت بنية العتبة العنوانية بالشخصية ماركيز، تحقيقا وخلوصا إلى مقاربة حالة الاحتكام المعلقة ما بين الأنا الشاعرة والمثال المعالج ماركيز:

هل تدري يا صديقي..

منذُ مائة عامٍ في المرايا

تبدو ملامحُ عزلتي

كصورِ الحروبِ

مشاكِسةً

وعلى ساقٍ واحدة..

هناك أفقُ

جوارَ حقيبةٍ تحملُ طفلاً. / ص15

أن كيفيات الافضاء لدى الشاعر لا يمكننا وصفها بالتوالدات المنعسكة على ذلك المعطى المراوي، بل إنها حقيقة الإيحائية المضمرة في الذهن وأنعكاسها على هيئة تحقيقات وعوائق تستدعي مستويات تشكيلية ذات حدود تدليلية في الرؤى وفعالية فضاءات الانتاج والمنتج الآفاقي في المتن النصي.

ــ تعليق القراءة:

أقول أن الشاعر الهاشمي يفتتح في مجموعة مختاراته الشعرية تلك المساحات المعادلة والتعادلية التي تشغلها الشروط الدلالية والتشكيلية لصيرورته الشعرية المكتنزة عبر منظومة فعلية توزع مساراتها على شبكة حالات دوالية ودلالية قادمة من ذلك المتن النصي المشبع بأسمى مستلزمات العلاقة الشعرية وتضاعيف ذواتها المستلبة من حيز خصوصية ومخصوصية محاور الدوال الأفعالية والأسمية والصفاتية الأخاذة في رصيدها المشهدي وتحولاته وانعكاساته وأحلامه المقموعة.

***

حيدر عبد الرضا

 

تـمهيــد: الاغتراب، حسب حليم بركات، يتكوّن من 3 مراحل؛ الأولى نتيجة وضع الفرد في البناء الاجتماعي؛ والثانية وعيه لوضعه هذا؛ أما الثالثة، فهي سلوكه كمغترب وفقًا للخيارات المتاحة أمامه. (1)

وستكشف لنا مراجعة بعض النصوص الشعرية المتنوعة أن ثمة أنواع مختلفة من الاغتراب مثل الاغتراب الاجتماعي والاغتراب العاطفي والاغتراب السياسي، وما تشكّله تلك الاغترابات من عزلة نفسية واغتراب روحي، يضاف إليها أحيانًا غربة مكانية عاشها العديد من الشعراء الروّاد في العراق، سنأتي عليها سريعًا وسنتوقّف عند حالة بدر شاكر السيّاب.

نازك الملائكة

كان اغتراب نازك الملائكة، اجتماعيًا، الأساس في اغترابها النفسي، وهكذا لم يكن لها من بدّ، إلّا اختيار العزلة، وهي تتدثّر بالحزن والخيبة، مثلما تتدفّق بالإبداع، واجتمعت كلّ هذه العوامل لتنتج منها إنسانةً متشائمةً، خصوصًا وهي ترى كلّ ما حولها مدعاة للتشاؤم، وكانت أقرب إلى شوبنهاور في تشاؤمه، كما يمكن ملاحظة ذلك في ديوانها (المقدمة) مأساة الحياة وأغنية للإنسان، وهو ما يظهر أيضًا في مخطوطتها "لمحات في سيرورة حياتي وثقافتي".

ويرجع اغترابها في جزء منه إلى ثقافتها المتقدمة قياسًا ببنات جنسها آنذاك، اللواتي لا يعبأن بالفن، وليس لهنّ من الجدّ في الحياة إلّا اليسير كما تقول، يضاف إلى ذلك فجيعتها من الحب، وهو ما سبّب لها اغترابًا مركبًا، فقد خاب ظنّها، ووجدت في الناس أمواتًا وإن كانوا أحياءً، وهم عبيد يرسفون بقيود الذلّ والتفاهة (2). فضلًا عن التقاليد الثقيلة التي تحدّ من حريّة المرأة في مجتمعاتنا، وبعض ما ترسّب في طفولتها من كوابيس مخيفة، حيث تقول:

يا ظلامَ الليلِ يا طاويَ أحزانِ القلوبِ

أُنْظُرِ الآنَ فهذا شَبَحٌ بادي الشُحوبِ

جاء يَسْعَى، تحتَ أستاركَ، كالطيفِ الغريبِ

حاملاً في كفِّه العودَ يُغنّي للغُيوبِ

ليس يَعْنيهِ سُكونُ الليلِ في الوادي الكئيبِ

وكان الموت أحد مشكلاتها انعكاسًا لوعيها الحي:

أيها الموت، وقفة قبـل أن تغري بجسمـي سكونــك الأبـديا

أه، دعني أملاً عيوني من الأنوار، وأرحم فؤادي الشاعريا

أه، دعني أودع العود، يا موت، فقد كان لي الصديق الوفيا

وأرنـم لحــن الـوداع لدنيــاي، لأمضـي للمـوت قلبــاً شقيا

وهكذا اتّحدت العوامل الذاتية مع العوامل الموضوعية لاغتراب نازك الملائكة.

بلند الحيدري

أمّا بلند الحيدري، فكان اغترابه عائليًا كما يقول في مقابلة أجراها معه الشاعر يوسف الصائغ (3): أنها نبتت في البيت بذرة، ثم نمت فيما بعد، وأصبحت حالة نفسية، بدأت من إيثار أمي لأخي صفاء وإيثار والدتي لأختي الصغيرة... فأحسست بأني الشخصية الضائعة في جو البيت. واغترابه الثاني جاء من بعض أقاربه الذين احتلوا مناصب رفيعة في الدولة، في حين كان الآخرون معدمين، وهكذا بدأ الجو يحاصره، ويضغط عليه نفسيًا، فشعر باغترابه عن مجتمعه وعن محيطه:

أنت يا من تحلمين الآن ماذا تحلمين؟

بالدروب الزرق، بالغابة

بالموت مع الكون الذي لا تفهمين

عبد الوهاب البياتي

وكان عبد الوهاب البياتي متأثرًا بالرومانسية الشعرية، التي حدّدت طريق اغترابه، خصوصًا حين ميّز نفسه عن الآخرين:

لم أصطنع حبًا كهذا القطيع

ولم أبع فى السوق ألحانى

ولم أقل هذا ملاك وديع

ولم أقل هذا من الجان

عصرت خمرى من كروم الربيع

فليشرب العشاق من حانى

وبين الشكّ واليقين، جهر باغترابه، فعسى أن يستطيع مقاومته بعقله الواعي المشحون باليقظة الشعرية، والمتطلّع إلى المستقبل (4).

غدك الغامض إيمان كشكّي

وانتظار سئمت منه النجوم

"غريب على الخليج" و "أنشودة المطر"

أما السيّاب، فبقدر ما كان اغترابه روحيًا بالأساس، فقد كان اغترابًا عاطفيًا واجتماعيًا وسياسيًا ومكانيًا أيضًا. وهنا يمكن التوقّف عند قصيدتيه الأثيرتين والأكثر جمالًا وشُهرة في الآن، وأعني بذلك قصيدة "غريب على الخليج"، التي كتبها في الكويت العام 1953، وقصيدته "أنشودة المطر" التي كتبها في فترة مقاربة للقصيدة الأولى، وهو ما يذكره إحسان عباس في كتابه (5).

تكاد تكون القصيدتان (غريب على الخليج وأنشودة المطر) تعبيرًا عن صورة واحدة أو صورة حركية يكمّل بعضها البعض، وكلاهما يمثّلان الصورة المزدوجة للوطن، بوجهيه المتناقضين أحيانًا؛ الأولى - التي تمثّل الاغتراب الروحي، الاجتماعي والعاطفي والسياسي، بكلّ ما فيه من حنين ولوعة بسبب الفراق والغياب المكاني؛ والثانية - التي تمثّل الوجه الآخر، وهو الشعور بالاستلاب، بما يولّد من سخط وردود فعل حانقة. وما بين هذا وذاك، تتجلّى صورة الوطن عند السيّاب شعريًا وجماليًا ووجدانيًا، بأحاسيسه المنفعلة والمتعارضة. وهكذا حاول السيّاب اقتفاء أثر حريّته وعقله بتجاوز الأيديولوجيا، دون أن يغفل حيرته إزاء تناقضاته التي تمثّل الوطن:

جلس الغريب يسرّح البصر المحيّر في الخليج

و يهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج

أما في قصيدة "أنشودة المطر" فيقول:

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،

أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ.

عيناكِ حين تَبسمانِ تورقُ الكروم.

وترقص الأضواء... كالأقمار في نهَرْ

يرجّه المجذاف وهناً ساعة السَّحَرْ

كأنما تنبض في غوريهما، النّجومْ...

وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيفْ

وهكذا اجتمعت المتناقضات في جوار محموم، اليقين والحيرة، الوضوح والقلق، الضياء والظلام، وهذه كلّها ترميز للحالة النفسية الاغترابية التي يعيشها الشاعر، وانعكاسًا للوضع السياسي في العراق. وفي قصيدتيه "غريب على الخليج" و"أنشودة المطر"، جعل العراق والمطر صورتان لوجه واحد، حسب إحسان عباس، حيث التطابق بين المطر والروح، وهما العراق:

صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق

كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون

الريح تصرخ بي عراق

والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق ‍‍

البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما يكون

والبحر دونك يا عراق"

هكذا يبدو العراق قريبًا وبعيدًا حين يُعيد الشاعر تكرارها لستّ مرّات في قصيدة غريب على الخليج، وهو ما يتكرّر عبر كلمة مطر في قصيدة أنشودة المطر. ولعلّ مثل هذا التكرار يكون له جرس موسيقي خاص برنين وصدى ساحر يترك أثره جماليًا على المتلقي.

ودغدغت صمت العصافير على الشجرْ

أنشودةُ المطرْ...

مطرْ...

مطرْ...

مطرْ... (6)

وحين يستعيد النخل فهو يقصد العراق، والمرأة هي العراق حين يقول:

"أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه

يا أنتما – مصباح روحي أنتما – وأتى المساء

والليل أطبق، فلتشعّا في دجاه فلا أتيه

لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء

الملتقى بك والعراق على يديّ.. هو اللقاء

ويوظف السيّاب البناء الفني للقصيدة بحيث ينقل المتلقّي إلى مناخه، فتتواتر سرديات القصيدة وصورها جامعة العراق والطفولة والأم والحبيبة في حالة من الاغتراب والشعور بالأسى كما يقول في قصيدته "غريب على الخليج":

ليت السفائن لا تقاضي راكبيها

أو ليت أن الأرض كالأفق العريض

ويظهر صوت الشاعر جليًا نقيًا وهو يتحدّث من عمق أعماقه، في حين نراه في قصيدته "أنشودة المطر"، يتحدّث بضمير المتكلّم تارة بالمفرد وأخرى بالجمع

وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموعْ

ثمّ اعتللنا ـ خوفَ أن نُلامَ ـ بالمطرْ...

مطرْ...

مطرْ...

ومنذ أنْ كنّا صغاراً، كانت السماءْ

تغيمُ في الشتاءْ

ويهطل المطرْ،

وكلَّ عام ـ حين يعشب الثرى ـ نجوعْ

ما مرَّ عامٌ والعِراق ليس فيه جوعْ.

مطرْ...

مطرْ...

مطرْ...

هكذا يبدأ من السكون ثمّ التوتّر ثم الصعود والارتقاء على نحو متعال حتى بلوغ الذروة في تكرار لفظة العراق.

إذا كان الاغتراب ظاهرة إنسانية قديمة قِدَم الوجود الإنساني، فإن غربة شاعر مبدع مثل بدر شاكر السيّاب تأخذ شكلاً مختلفاً من حيث طاقته وقدرته وتأثيره، سواء على مجتمعه بالتمرّد والانشقاق، أم حين تقوده أحياناً إلى العزلة والانكفاء على الذات. وكان أبو العلاء المعرّي يطلق على نفسه "رهين المحبسين"، فقد ظل نحو 40 عاماً لم يبارح منزله، إضافة إلى أنه يعاني من فقدان البصر، حيث مثّل ذروة الاغتراب النفسي والزماني والمكاني (الزمكاني) في الآن، للجسد والروح.

وإذا كنّا نتحدّث عن اغتراب الشاعر السيّاب، فذلك لأن الاغتراب كان يشكّل جوهر شعره وحياته والمآسي الإنسانية التي عاشها، سواء صدمة المدينة أو صدود النّساء أو فقر الحال والعوز أو المرض الذي نخر عظامه، وكل ذلك في ظلّ ارتكاس سياسي وانكسار معنويّ وضعف اجتماعي، زاده طفولة معذّبة، بفقدان والدته وهو ما سيظهر في شعره على نحو صارخ ومتكرّر.

وبعد كل ذلك، فالاغتراب قضية وجودية، شغلت الفلاسفة والمفكّرين بالدراسة والتحليل وبالبحث والاستقصاء، ولاسيّما بعد الثورة الصناعية، حيث تناولها جان جاك روسو وهيغل وماركس وفيورباخ وأريك فروم وفرويد ومدرسة فرانكفورت وتحديداً هابرماز وغيرهم.

ماركس والاغتراب

شكّل مفهوم الاغتراب عند كارل ماركس نقطة محورية، حيث تناوله من زاوية معناه الإنساني الاجتماعي، لاسيّما بين عامي 1844-1845، وذلك بالمخطوطات الاقتصادية والفلسفية التي لم تنشر في حينها، ولكنها ظهرت في وقت لاحق (1932)، فقد كان ماركس حينها يُعتبر من الهيغليين اليساريين، وتأثّراً بهيغل وفلسفته، ناقش مفهوم الاغتراب، لكنه اعتبر أن تحقيق الحرّية لم يأتِ من العقل حسبما ذهب إلى ذلك هيغل، بل من العالم المادي، خصوصاً وأن السّبب هو المجتمع الطبقي الذي لا بدّ من إلغائه.

وعلى الرغم من دعوته للإفادة من تطوّر التكنولوجيا والوفرة المادية لكنه اعتبرهما، "وإن فتحا الباب لتحرّر الإنسان"، إلاّ أن نتائجهما المباشرة كانت في "زيارة تجريد الإنسان من الإنسانية" بسبب طبيعة النظام الاجتماعي السائد (الرأسمالي)، مثلما هو اغتراب العامل عن الآلة، والإنسان عن مجتمعه.

وقد زادت الثورة العلمية - التقنية من اغتراب الإنسان، وخصوصاً بعد حربين عالميتين مدمّرتين، راح ضحيتهما ملايين البشر. واليوم بفعل ثورة الاتصالات والمواصلات وتكنولوجيا الإعلام والتدفّق الهائل للمعلوماتية والطفرة الرقمية "الديجيتل"، وبفعل العولمة والطور الرابع للثورة الصناعية واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي، فإن اغتراب الإنسان ازداد عمقاً، بتعمّق عمليات المحق اللاّإنسانية لإنسانيته، بسبب الحروب واستخدامات التكنولوجيا والعلوم لتدمير حياة الإنسان وثقافته وقيمه، وهي إحدى وجوه العولمة المتوحّشة.

وحسب ماركس هناك أربعة أنواع من الاغتراب وهي:

1- الاغتراب عن منتجات العمل، أي السلعة التي ينتجها العامل.

2- الاغتراب داخل عملية الإنتاج نفسها (حين يصبح العمل ليس لإشباع الذات ورغبة مستقلّة، بل أمر مفروضاً).

3- الاغتراب عن الوجود البشري، أي محاولة تشكيل وإعادة تشكيل العالم من حولنا وفقاً للاحتياجات والقدرات الإبداعية.

4- اغتراب الإنسان عن الإنسان نتيجة لتعميم الطبيعة اللاّإنسانية للمجتمع الرأسمالي، واستخدام جهد العمال كسلعة، بدلاً من أن يكون نشاطاً اجتماعياً واقتصادياً منتجاً لصالح تحسين حياة المجتمع.

وإذا كان ثمّة اغتراب اقتصادي واجتماعي تحدّث عنه ماركس، وهو يبحث في مضمون العدالة، فلا بدّ هنا من التوقف عند أشكال أخرى من الاغتراب متفاعلة ومتداخلة مع هذه الأنواع، مكمّلةً ومتمّمةً، ونعني بها الاغتراب العاطفي والنفسي والروحي، وكلّ ما له علاقة بالجوانب المتنوّعة من الحياة اليومية، ولا يمكن التغلّب عليه، حسب ماركس، إلاّ باستعادة الطبيعة الإنسانية (البشرية) للعمل، وذلك بتغيير طبيعة النظام وعلاقات إنتاجه وتطويع الطبيعة لصالح الإنسان، لأنه يعتبر الاغتراب هو التمايز بين الوجود والجوهر، لكن ذلك ليس كافيًا للتعبير عن اغتراب الإنسان بشكل عام والشاعر بشكل خاص، دون حساب اغترابه الروحي بتجسيد كلّ أنواع الاغتراب، بتجاوز مفهوم ماركس.

أنواع الاغتراب

لا يصحّ أن نُخضع السيّاب لمفهوم ماركس المحدّد عن الاغتراب، بل يمكن إدراجه ضمن مفهوم أريك فروم المستند إلى مفهوم ماركس (الاقتصادي - الاجتماعي)، ومفهوم فرويد (النفسي - الفرداني)، حيث يمكن القول إن السيّاب خضع لأنواع متعدّدة من الاغتراب الاجتماعي - الاقتصادي بكل تجلّياته، وأساسه شكل التعبير والموقف من النظام السياسي، والاغتراب النفسي - الفردي بما فيه الجنسي حسب فرويد من الناحية العاطفية، سواء العائلية أم العلاقة بالنساء أم الاغتراب عن نفسه، مثلما هو عن محيطه ومجتمعه، أي أن السيّاب عاش شكلاً من أشكال الاغتراب الاجتماعي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، والاغتراب النفسي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من مدلولات لها علاقة باغتراب الإنسان عن مجتمعه، وأحياناً انكفائه على ذاته (7).

هكذا حاول فروم الحديث عن الاغتراب، بما له علاقة باغتراب الإنسان (كفرد) عن مجتمعه (كجماعة بشرية) وبين الإنسان ومحيطه. وكان هيغل قد ركّز على مفهوم الحرّية لتحديد ماهيّة الإنسان من خلال المصالحة بينه وبين محيطه وبين الإنسان والطبيعة، ولعلّ انفصال الإنسان عن الثقافة التي هي "حياة الروح" كان قد عمّق اغتراب الإنسان، وذلك من خلال توجّه أخلاقي ونفسي، وحسب أريك فروم ليس العامل الاقتصادي هو الأساس مثلما ذهب ماركس، كما أنه ليس العامل الجنسي كما استنتج فرويد، وإنما هو نتاج خلطة وجودية جعلها أريك فروم شخصية الطابع واجتماعية المنشأ، ووضعها في إطار وجودي إنساني عريض.

وبدر شاكر السيّاب كان يشعر بالاغتراب إزاء ذاته أيضاً، وإن كان لاغترابه مدلولات اجتماعية واقتصادية ونفسية وروحية، لاسيّما بانحلال الصّلة بينه وبين مجتمعه، خصوصاً عدم تمكّنه من احتلال الموقع الذي يريده. والاغتراب السياسي لديه بدأ بتسيّد أيديولوجيا محدّدة وتقديسها، أو فيما بعد نقضها والانخراط في غيرها بانتقاله إلى صف خصومها وأعدائها، مثلما ينساق أحياناً بفعل الفكرة السّائدة للإذعان لزعيم أو قائد، وهو أنتج ما أطْلق عليه "عبادة الفرد"، وذلك جزءًا من الاغتراب الذي أصاب مجتمعات وكتل بشرية بكاملها أو على مستوى الأفراد.

أما لودفيغ فيورباخ فقد تناول ما يطلق عليه "الاغتراب الدّيني"، الذي يشكّل جوهر فلسفته الحسيّة، فالإنسان يكشف جوهره الخاص بفضل الدّين، ولكنّه يظلّ مفصولاً عنه طالما يسلّم بوجوده المستقلّ خارج ذاته. يقول فيورباخ: "لقد كان شغلي الدائم أن أضيء الأماكن المظلمة للدّين بمصابيح العلم، حتى لا يقع الإنسان فريسة القوى المعادية التي تستفيد من غموض الدّين لتقهر الجنس البشري".

وجمع هابرماز بين الهيغلية والماركسية ومدارس علم الاجتماع والنفس، في محاولة نقد نمطية الوعي والأيديولوجيات الجامدة، وذلك بهدف إعادة بناء المادية التاريخية على أسس جديدة، مكرّراً قول ماركس إن المجتمع المدني والدولة كانا غرباء عن الحياة الإنسانية الحقيقية، الأمر يحتاج إلى إعادة بناء المجتمعات وفقاً لأسس جديدة لتحرير الإنسان من علاقات إنتاج مريضة ومن جبروت الطبيعة، الأساس للخروج من مأزق الاغتراب، علماً بأن ماركس كان قد حذّر من الاستخدام المفرط للموارد الطبيعية.

إن اغتراب المثقّف يزداد طردياً مع تعقّد الحياة الاجتماعية، وشحّ فرص الحرّية والعدالة، والأمر ينعكس سلبياً عليه، بحكم حساسيته، خصوصاً بتراجع منظومة القيم الإنسانية، وصعود النفعية والانتهازية والاستلاب والاستغلال، محل مبادئ الحرّية والمساواة والعدالة الاجتماعية والمشاركة والحقوق الإنسانية.

الاغتراب المركّب

دخل بدر شاكر السيّاب، ومعه جيل من الشعراء والأدباء والمثقفين معركة أساسها اجتماعي وجذرها فردي، بسبب حالة الاغتراب التي عاشها بين الحلم والواقع. وكانت مقدّمات اغترابه الأولى قد بدأت من جيكور، منها غرابة شكله وهزال جسمه، يضاف إلى ذلك فقدانه والدته وهو طفل صغير (لم يتجاوز السادسة من العمر)، وزواج والده، ثم وفاة جدته. وظلّ الموت يحوم فوق رأسه، كلّما استذكر أمه، لذلك عانى من شدّة الألم والوحدة، وهما أوّل من دفعاه دفعاً نحو اغترابه المجتمعي، إضافة إلى المرض لاحقاً، والشقاء وصدود الحبيبات الموهومات. كل ذلك قد عاظم من اغترابه الوجودي والروحي.

لقد رافق اغتراب السيّاب الاجتماعي - الوجودي، اغتراب عاطفي، فهو مستوحش عائلياً وصداقياً وعاطفياً، ولم يجد ما يعوّضه عن هذا الفقدان والفداحة والحرمان.

وما من عادتي ماضيّ الذي كانا

ولكن.. كل من أحببت قبلك ما أحبوني

ولا عطفوا عليّ، عشقت سبعاً...

إلى أن يقول:

أحبيني

لأنّي كلّ من أحببت لم يحبوني

عاش ولم يعش

يقول بدر شاكر السيّاب: أشعر أنّني عشت طويلاً.. رافقت جلجامش في مغامراته، وصاحبت عوليس في ضياعه، وعشت التاريخ العربي كلّه... ألا يكفي هذا؟

كلّ ذلك والسيّاب لم يعش سوى ما يقارب 39 عاماً، فقد وُلد في العام 1926 وهناك من يقول إنه ولد في العام 1925 وتوفي في 24 كانون الأول / ديسمبر 1964، لكنّه كان يشعر وهو يستحضر كل هذا التاريخ بخياله الشعري، إضافة إلى الميثولوجيا العالمية، حيث كانت أساطير الشرق وحكاياه، فضلاً عن تراثه والأسطورة اليونانية، تتدفّق بقوّة وحرارة في قصيدته، حتى نكاد نسمع نبضها في ثنايا شعره.

في قرية جيكور التي تغفو على نهيرُ البويب، وحيث النخيل الذي يلقي بظلاله على تلك القرية المسحورة من قضاء أبو الخصيب في البصرة، وُلد الشاعر، وظلّت تلك البقعة أثيرة على قلبه، ضاجّة بالأسرار والحَكايا والأشباح، مثلما تشعّ بالجمال والسّحر والإشراق، وظلّ السيّاب متعلّقاً بموطن الصّبا الأوّل، لا يكاد يفارقه، حتى يعود إليه، بل إنه يشعر بالتيه كلّما ابتعد عنه، لدرجة أن الاغتراب كان قد تأصّل فيه منذ لحظة انتقاله إلى بغداد للدراسة في دار المعلمين العالية (قسم اللّغة الإنكليزية) حيث الشوارع العريضة والأحياء الواسعة، التي شعر معها بكيان حاجز وسور مرتفع فصل بينه وبين جيكور. لنقرأ ما يقوله في قصيدة "تموز جيكور":

جَيْكُورُ سَتُولَدُ لَكِنِّي

لَنْ أَخْرُجَ فِيهَا مِنْ سِجْنِي

فِي لَيْلِ الطِّينِ الْمَمْدُودِ

لَنْ يَنْبِضَ قَلْبِي كَاللَّحْنِ

فِي الْأَوْتَارِ

لَنْ يَخْفُقَ فِيهِ سِوَى الدُّودِ

صور الاغتراب

لقد تحوّل اغتراب السيّاب إلى قدر من النوستالجيا كما يقول الفنان والشاعر عمران القيسي (في حوار بيني وبينه 2012 )، لاسيّما حيال طفولته وقريته، حين كان مستمتعاً وعارفاً بموعد المدّ والجزر الذي يتأثّر به نُهير البويب الصغير، وقد شاءت الصدف أن تكون القرية بموضوعها النفسي أو الذاتي، وكذلك الموضوعي أي المادي، حديثاً دائماً للسيّاب، ولعلّه في ذلك كان جزءًا من القصيدة الجديدة التي ولدت في مرحلة نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وهي قصيدة ذات نكهة اغترابية، كان السيّاب أحد روّادها الأوائل ومؤسّسيها اللاّمعين.

فهذا بلند الحيدري زميل السيّاب وبعد اغترابه لأشهر عن مكان عيشه يقول:

كان الشتاء يجر أرصفة المحطه

وتموء عاصفة كقطه

وعلى الطريق

يهتز فانوس عتيق

فيهز قريتنا الضنينه

ماذا سأفعل في المدينه … ؟

وسألتني:

ماذا ستفعل في المدينه … ! ؟

ستضيع خطوتك الغبية في شوارعها

الكبيرة

ولسوف تسحقك الازقات الضريرة

 *

لا …

لن أعود لمن أعود

فقريتي أمست … مدينة

أمست مدينه

أو عند محمود الريفي الشّاعر الذي كتب قصيدة من الشعر الحديث قبل "قصيدة الكوليرا" الشهيرة لنازك الملائكة، التي تعتبر ريادية مع السيّاب والحيدري وعبد الوهاب البياتي في كتابة الشعر الحديث. يقول الريفي:

ما مات شيطان الهوى

لم يزل يزرع في آدمنا روحا

فالهدبُ خلف الهدبِ أرجوحة

والعمر كله.. أرجوحة

لقد أيقظت نازك الملائكة ما في داخل العراقي من غربة معتّقة وبؤس وحنين إلى البراءة، مثلما كان محمود البريفكان مصاب بالاغتراب والحنين، ففي قصيدته يا سلمى يناجي امرأة لم يرها، بل سمع اسمها من أخيها شريكه في الزنزانة، فكان اليوم الذي أطلق سراح الشقيق أكثر الأيام كآبة وغربة لهذا العاشق الشفوي، مثلما يغترب وهو يكتب عن موظّف اعتيادي كأنه يردّد إحدى شخصيات تشيخوف أو ما كتبه لاحقاً غائب طعمة فرمان.

اعتاد أن يستيقظ

حين تقرع الساعة

دقاتها السبع

ويعلو صخب الباعة

يفتح مذياعه

يدهن شاربيه

ويصلح عارضيه

ثم على زوايا شفتيه

يرسم ابتسامة

غبراء، خدّاعة

ونقتبس من خليل حاوي الذي يقول:

وعرفت كيف تمطّ أرجلها الدقائق

تكبر، تستحيل إلى عصور

لكن السيّاب الذي سبقه ريح قصيدته إلى كل أرجاء العالم، وهو لم يزل على مقاعد الدرس في دار المعلمين العالية، كان يصرّ على أن يكون محليّاً، إلاّ أن عالميته كانت ظاهرة باهرة وملموسة، فهو من أسمع الكثير من أقرانه بالشاعر ت. س إليوت وعزرا باوند وإيديت ستويل، مثلما كان هذا الدور الريادي لجبرا إبراهيم جبرا. وقد جسّدت حياة السيّاب والمرض الذي لازمه إضافة إلى شعوره بالوحدة السبب الأساسي في تكريس اغترابه، خصوصاً انتقاله إلى أجواء جديدة مفعمة بالدهشة والتيه والعوز، وتجسّد ذلك في اغترابه من جميع الوجوه.

المومس العمياء

في قصيدته المومس العمياء يقول دفاعاً عن الاستلاب والاغتراب وفقدان الحقوق:

اللّيل يطبق مرة أخرى، فتشربه المدينه

والعابرون، إلى القرارة... مثل أغنية حزينه

وتفتّحت كأزاهر الدفلي، مصابيح الطريق،

كعيون ""ميدوزا""، تحجّر كل قلب في الضغينه،

وكأنها نذر تبشر أهل ""بابل"" بالحريق

من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف

من أي وجر للذئاب؟

كلّما كان السلّ العظمي ينهش جسده الذاوي كان يزداد اغتراباً، فقد أصبح ذلك نهجاً شاعرياً موسوماً بدرامية عالية وحبكة مركّبة، ليتبيّن أبعاد الوجود الإنساني الحقيقي الذي لا يتجلّى إلاّ بالأحزان وحتى في جلسات السيّاب الخاصة، كان لا يميل إلى الفرح الزائد وإن كان يستغرق في المقالب مع الأصدقاء، ويقول علينا ألاّ نرفع أصواتنا، بل نرفع أحزاننا ليسمع العالم أننا البشر المسحوقون.. أننا الضحايا، مقتفياً إثر الشاعر الإسباني غارسيا لوركا الذي يقول:

في هذه الليلة

سأكتب أكثر الأشعار حزناً

وقد تكسرت أحلام السيّاب الواحد بعد الآخر، عاطفياً وسياسياً وصداقياً وصحّياً ومادّياً، مكاناً وزماناً، فقد كان غريباً على من أحبّهم من النّساء، وكان غريباً عن الحزب الذي انتمى إليه، وانتقل إلى صف خصومه، بعد خيبات ومرارات، وكان غريباً بعد جيكور والبصرة عن الكثير من أقرانه، وكان غريباً في المدينة حيث يشعر بانتمائه إلى القرية، وكان غريباً عن المجتمع، بل منشقاً عليه ومنفصلاً عنه وحتى عندما تزوّج إقبال شعر بالاغتراب سريعاً.

الغرفة موصدة الباب

والصّمت عميق

وستائر شباكي مرخاة رب طريق

يتنصّت لي ، يترصّد بي خلف الشباك وأثوابي

كمفزع بستان سود

أعطاها الباب الموصود

نفساً ذر بها حسّاً فتكاد تفيق

من ذاك الموت وتهمس بي والصمت عميق

لم يبق صديق

ليزورك في اللّيل الكابي

والغرفة موصدة الباب

لم يحمّل بدر شاكر السيّاب غربته بُعداً فلسفياً، كما حمّل الشاعر خليل حاوي وحدته بُعداً فلسفياً، بل أراد أن يتركها مثل أغنية عراقية يحزن الناس عند سماعها، وهم يغنّونها في أفراحهم. لم يكن اغترابه بالمعنى الوجودي "السارتري"، بل كان اغتراباً تتأكّد فيه حرّيته الداخلية، حيث يشكّل شعره شهادة رسولية للحزن الجليل حتى وإن كان في لجّة الفرح.

ولعلّ خاصية اغتراب السيّاب تحتاج إلى فهم خاص، فقد كان يحتاج إلى الاعتراف به كغريب ومبشّر بهذه الغربة، وكشاعر فريد لا يُعترف بأهمّيته إلاّ بعد رحيله. وكان اغترابه حتى في عمله، فرغم سعيه للوظيفة في الدولة، فإنه يحتقر اللّحظة التي يشعره فيها أحدهم أنه يرضع من ثديها، أي أن اغترابه في العمل هو أقرب إلى اغتراب العامل عن الآلة في الفكر الماركسي.

يقول إحسان عباس في كتابه عن "بدر شاكر السيّاب - دراسة في حياته وشعره": إن العشرين كانت من أصعب الجسور التي اجتازها بدر، فقد أحسّ أنه يعبر حدّاً فاصلاً بين عهدين، وهو لا يدري إلى أين تتّجه به الأقدار. كان قد سمّى المجموعة الشعرية التي رتّبها في كرّاس "أزهار ذابلة"، وبسببها تعرّض إلى لوم بعض أصدقائه، لحالة اليأس والحزن المبالغ فيها، خصوصاً وهو في عزّ الشباب، لكن خيبته وهو لا يزال في دار المعلمين هي التي ألقت به في هذا العذاب العظيم.

كتب السيّاب إلى خالد الشوّاف مفسّراً حالته، بقوله: أي خالد كم عاهدت نفسي في سكون اللّيل العميق أن أخفت نغمة اليأس في أشعاري، وأمحو صورة الموت من أفكاري حتى لا تسمع الآذان ركناً من تلك، ولا تبصر العيون خطأ من هذه، لكنّني واحسرتاه عدتُ بصفة الخاسر، وحظّ الخائب، وقد نذرت نفسي للألم والشقاء واليأس والعناء، ما أجهل من لامني على أنّني سمّيت مجموعة أشعاري "بالأزهار الذابلة"، ليته كان معي ليرى أن كل الكون، الأرض والسّماء والتّراب والماء والصّخر والهواء، أزهار ذابلة؟ ذابلة في عينيّ الشاحبتين ونفسي الهامدة الخامدة.

محاكاة بودلير

ولعلّ في ذلك محاكاة للشاعر بودلير الذي كتب "أزهار الشرّ" فكتب السيّاب قصيدة مطوّلة على غرارها أهداها إليه تحدّث فيها عن الحب الآثم، فأي اغتراب يعيشه الشاعر، خصوصاً وهو يقدّم مثل هذه القراءة الحزينة التي لم تزده إلاّ يأساً، خصوصاً وهو يودّع هواه البكر، حين اضطر إلى الذهاب إلى القرية بعد فصله من الدراسة في دار المعلمين، حيث شارك بإضراب طلابي، ثم من فقر مستكلب ومن "فراغ وبطالة وسأم وهمود".

وردّاً على رسالة خالد الشوّاف الذي حاول ثنيه ممّا هو عليه، فبعد أن ترك في نفسه الرضا، حتى وإن كانت كلماته زاجرة وأقواله ساخرة، كما ورد في كتاب إحسان عباس، حيث يقول: ولكن ليل الريف الندي، تهب عليه أنسام الشمال التي أحسبها آتية من بغداد، أقول: لكن هذا اللّيل تسرق فيه الأحلام خطاها الخفية الواهنة مفضفضة بالشعاع الباهت ينطف من نهر المجرّ المختفي وراء الأبعاد، هاج لي الألم واستنزل على صدري الخافق حسرات راعدة وآهات صاعدة، ضاق بها صدر الأفق الأرقط.

ويستطرد السيّاب: ليت لي براعة شعراء الأرض جميعاً لأصوّر لك حلمي المقطوع، الحافل بالثمار، الخالي من القطاف، الباكي على الصورة الهاربة من الإطار، ولعلّ هذا هو التناقض الجميل أو جوار الأضداد الذي كان يحفل به السيّاب شعراً ونثراً ووجوداً.

كان السيّاب يمنّي نفسه بالحب، حتى وإن كان غير حقيقي أو من طرف واحد ولربما خادعاً، وإلاّ فإن نهايته ستكون لا محالة حسبما يوحي. وكان هذا الاغتراب حدّ التناقض يمتد إلى السياسة، فمن جهة كان السيّاب ينتمي إلى حزب يؤمن بالمستقبل وبالتفاؤل التاريخي، ولكنه في الوقت نفسه يتحدّث عن الضياع واليأس والموت، خصوصاً عندما يتحدّث عن حرمانه من المرأة التي يبدو أنها سرّ الأسرار في رفضه للشيوعية فيما بعد، كما يقول إحسان عباس وإن كان هناك أسباب أخرى. وكان متمزّقاً بين اللّهفة إلى الحب والموت والانكفاء.

***

عبد الحسين شعبان

أكاديمي وأديب عربي من العراق

...........................

* "الشاعر السيّاب في اغترابه"، هو عنوان محاضرة ألقيتها في معرض الكتاب الدولي في بيروت (2 كانون الأول / ديسمبر 2014)، تلبية لدعوة من النادي الثقافي العربي لمناسبة تكريم الشاعر الكبير.

المصادر:

1-  أنظر: غربة المثقف العربي، مجلة المستقبل العربي، العدد 2، بيروت، تموز / يوليو 1978.

2-  أنظر: عبد الرضا علي - نازك الملائكة دراسات ومختارات، دار الشؤون الثقافية - آفاق عربية، بغداد، 1987، ص 59 وما بعدها.

3-  أنظر: مجلة الأدب المعاصر، العدد 5، 1973.

4-  أنظر: محمد راضي جعفر - الاغتراب في الشعر العراقي المعاصر: مرحلة الرواد، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1999.

5-  أنظر: بدر شاكر السيّاب - دراسة في حياته وشعره، دار الثقافة، بيروت، ط1، 1969.

6-  أنظر: بدر شاكر السياب - دار العودة، بيروت، 1986، ص 318 وص 475.

7-  أنظر: عبد الحسين شعبان - تحطيم المرايا: في الماركسية والاختلاف، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2009.

 

الرواية، التي أنشأتها، أو أنت آخذ في انشائها، يجب أن تنأى عن التواء الأسلوب وتعقده، وأن تكون لغتها سهلة يسيرة، من غير تقعر أو ابتذال، وأن تكون كينونة ثيمتها التي تستدعى من النقاد الكشف عنها، وبيانها، واضاءتها، ومعرفة هل هذه الثيمة، بوسعها أن تضفي ألقاً، ونضاراً للرواية، يختلف عن ذلك الذي نعرفه، أم هي مجرد أسطر واهية، لم يدونها عضد قوي، وقد خلت فصولها من الأنثروبولوجية الرفيعة، والجمال الطاغي، الذي نشعر نحوه بهوى مبرح، وعشقاً عنيف الأهواء،  فالرواية التي يتوجب علينا أن نتعامل معها، بوصفها كائناً مستقلا، حتى تظل قلوبنا تلتفت إليها، وتنشغل بها عن سواها، يجب أن تتضمن في أغلب حالاتها، مزاجاً ملائما لطباعنا، وأن يفلح مبتدعها من أن يخرجنا من روتين حياتنا المتكرر، الذي تتشابه فيه الأشياء، إلى عالمه البهيج، الذي تسري في أبداننا رعده، إذا استأذن هو في الانصراف.

إن هذا الضرب من الأدب، الذي تختلف فيه الصدور من لواعج الأسى، وتضطرب فيه المهج من فيض المشاعر، يجب أن نسمعه ونصدقه، ونسرف في تصديقه، لأنه لم يغمض ستور عينيه، أو يصم أذنيه، أو يعقد لسانه عن الخوض في علل الدنيا ومن فيها، لأنه بما امتاز به من الفطنة، والنباهة، ونضوج الفهم، وسعة الإدراك، استطاع أن يقدم لنا الحلول التي صاغها الروائي الألمعي في حبكته، بعد أن أضفى عليها بُعْداً جمالياً، أزرى بمعالم تلك الفوضى الفاشية التي نعيشها.

والرواية التي تتناغم جزئياتها مع قيمك، تحتاج إلى نقد، يدافع عن مسلكها ما وسعه الجهد، ويتحدث عن اضطرابها وقصورها، إذا امتهن هذا النقد طرحها المتداعي، ونقم على صورها الباهتة، والناقد الذي يمقت التعقيد، ويؤثر البساطة في كل شيء،  يجب أن يجاهد نفسه، ويغالب هواها، حتى تحتوي أحكامة الفاصلة، على حجج قويمة تستندها، فمهمته أن يطالع الأجناس الأدبية في تأني، حتى يدرك ما ألمّ بها من شر، وما انصب عليها من مكروه، ثم يجري عليها قواعده، التي تضبط جموحها، وتقوم خطلها.

والرواية العربية، التي يجب أن تكون الشعاع الهادئ لكل ضال، والنداء الموقظ لكل غافل، تحتاج دائماً، إلى أسس ومعايير تتزيد منها، وقد وفق النقاد في صقل هذه المقاييس، ودفعها إلى التشكل توفيقاً عظيما، فقد أحصوا ملامحها واستقصوها، ما استطاعوا إلى الاحصاء، والاستقصاء سبيلا، فهم لم يتركوا مسيرتها، في أول أمرها تمضي هائمة، دون أن يمهدوا لها الطريق، ويجعلوا الروعة أسيرة لها، وموصولة بها، وديناميكية السرد، التي صرعتها الشدائد، وضعضتها النوائب، لا تُعني بنقل كل الأشياء كما هي، فهناك ثوابت، يجنح لها الرواة، خضوعاً لسنة ماضية في حياكة القصص، وسبك الروايات، فالروائي هاجسه، يصب في حشد المادة المحكاة، التي تصطك فيها بيئات العمل المختلفة، فمما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن

أقلّ مما يجب أن نعرفه، عن طبيعة العمل الروائي، الذي لم ننقطع عن درسه، ولا ينبغي لنا أن ننقطع عن درسه، هو أن يجد مادة خصبة يطرقها الرواة، ويتهافتون عليها، ولعل السمة الطاغية التي باتت واضحة في الروايات، تافهها وجليلها، في عصرنا الحالي، هو انتكاسة تلك المادة، وتشتتها، وتصدعها، فالمادة التي ينهض على دعائمها السرد الروائي، والتي قد يرضى عنها النقاد الذين سحمت ألوانهم، ونحلت أجسادهم، عند تناولها كل الرضى، أو يسخطوا عليها كل السخط، يندرج بين طياتها، الشغف الذي يأسر ذهن القارئ، ويسيطر عليه، فنحن بحكم أهميتها هذه، مضطرين إلى الرجوع إليها كلها، واستيعاب النظر فيها، فإذا وجدناها صحراء شاسعة وممتدة، انفلتنا من رتابة السكون، وإذا وجدنا تضاريسها متنوعة، وطبيعتها خلابة، مكثنا نتأمل روعة الوجود، ثم غدونا  نلتمس مدى تناسق وتطابق هذا السحر على البناء العام للرواية، وعلى شخوصها،" فدينامية" الشخصيات المتخيلة في الرواية، والمرتبطة بحيثيات الزمان والمكان، يجب أن تنمو بين ثنيايا الرواية نمواً غير مقصود ولا متعمد، وأن تتسم بالواقعية، وأن تثير القضايا التي تثقل كاهل مجتمعاتها، وليس هذا كل ما نطلبه، ونصر عليه، فبالعودة للمكان الذي يستقي منه الروائي حكايته، يفضل أن يكون للرواية نصيبها من رجحان العقل، وصواب الرأي، وبعد النظر، وذلك بأن تحتوي على نماذج متعددة من الصور والمشاهد، تشكل هذه المظاهر والهيئات، الموجودة في بيئات متباينة، الهوية الجماعية للرواية التي في رحاها تنشب الصراعات الطبقية، والسياسية، والاجتماعية، كما لابد من القول، أن الروائي يجب أن يعكس لنا في قالب سردي، أدق التفاصيل عن العقدة، والرموز، والدلالات، التي ترسم خيوطها تلك الشخصيات، التي لا نتظر منها أن تسمعنا عظات الحكماء، أو تضع بين أيدينا اقتباسات من كتب الفضلاء،  ولكن نتظر منها، أن تقدم لنا الوعي ما استطاعت.

والروائي الحاذق، حتى لا يخرق قاعدة التوازن، بين الشخصيات المتناثرة في عمله، وبين الأحداث المسندة إليها، يجب أن يوجهها لما ينبغي أن تتجه إليه، في حسن نظم، وروعة تأليف، واسقاط حشو وتطويل، حتى تأسر العقول، والقلوب، والأذواق، وحتى تبسط نفوذها على القارئ أو "المستمع"  حتى يألم لمصيبتها، ويجزع لنائبتها، وأن يجد شيئاً من الرضى والمتاع لسعادتها،  هذه الشخصيات التي تستحق منا، أن نتفكر في أمرها ونتدبر، في الحق، لن تستطيع قطع بعض الأمتار في رحلتها الطويلة، ما لم ترتبط صورها المفردة، أو المجتمعة، بخصوصية الزمان والمكان ارتباطاً وثيقاً، وعلى الروائي بعد كل هذا، أن يكون خاضعاً لشتى التصاريف، والمذاهب، التي تساهم في تحديد ملامح العمل، واظهار تكامل ثقافته، وقدراتة التخيلية.

والرواية، حتى نتوسع في شرح أحداثها ونستفيض، نحتاج لضبط وحداتها بشكل بين، وحتى لا يقع الروائي في مهالك الشتات، بسبب عمق بنية الرواية، وتغاير أحداثها، يجب أن تخضع هذه البنية، لفكرة جامعة، صارمة، لا تنحرف عنها، وفكرة الرواية، التي يمكن ردها إلى أصولها، أو التصرف فيها، يجب أن تبتعد عن الغموض، حتى لا نبحث لها عن معنى، وأن تنأى عن التماهي مع انحدار القيم،  فالدهمة التي نسعى إلى التقليص من عتمتها، أطر الفضيلة التي باتت مشوشة بشكل غريب في الأجناس الأدبية، هذه الأجناس بات يفزعنا حقاً، ما صارت إليه من تفسخ، و عري، وانحلال، إن المبدأ الذي من المفترض أن يكون أكثر جذرية في السرديات، ليس هو الشهوة، والتنافر، والتدابر، والاحتيال، والاغتيال،  بل هو سيادة التجليات المختلفة  للشيم والمحامد، فالشيء الذي نستطيع أن نميزه على وجه الدقة، هو استيعاب فلسفة الرواية لعنصر "الجنس"، و لكن الآن أمست السرديات تكرس لهذا العنصر بصورة جامحة، تفوق ما يستحقه من مساحة في العمل الروائي.

ولعل من المهم أن نشير في خاتمة هذا المقال الذي امتد واستطال، بعد عرضنا هذا لأهم العناصر، التي يتشكل منها السرد الروائي، أن نتطرق لصياغة الحبكة الممتعة، التي لا تدلس رأي، ولا تموه باطل، والتي يقايس فيها الروائي ويفاضل، وبشكل شديد الايجاز، نقول أن الحبكة، هي الحلقة التي توحد بين عناصر شديدة التباين، وليس شرطاُ أن نجد فيها مراغماً وسعة، وهواءً طلقاً، وحياة وادعة، ولكن المهم أن تظل متماسكة، قصرت فصولها أو طالت، وأن تكون ذات ديمومة منتظمة، تتسم بالسلاسة والتشويق، حتى لو انكفأ "الراوي" يخلط ماضي هذه الشخصيات بحاضرها،  وأن تستحوذ التباينات العاطفية، والصراعات المحمومة، على أكبر قدر من الاطالة والاسهاب،  وأن تكون هناك مساحة تشحذ خاطر القارئ، وتحفزه تياراتها المدلهمة لتحليل مواقفها، والأمر الذي نستطيع ترديده دون توقف، هو الجمل الدقيقة المستخلصة، التي تزخر بها خاتمة الرواية، والتي تجسد  الرؤية المضمرة التي يرزح تحت طلاوتها سحر السرد، والتي يجب أن نحس لها ميزة، ونجد لها طعماً، لأنها كانت شفافة إلى أقصى حد، ولم تكن  طلاسم مبهمة، أو ضرباً من التقرير، أو حتى مجرد ميثولوجيا مجهولة، الأمر الذي منحنا أن  نواكب هذه الأحاسيس والأفكار، وأن نستظل تحت أفيائها.

وكاتب الرواية من المهم جداُ، أن تتجلى عبقريته في شاعرية اللغة، وعذوبة المفردات، فيختار التراكيب اللفظية، التي تخلو سياقاتها من الرزالة، والإسفاف، ويتخذ الأساليب البديعة، الذي تشد المواضيع المطروحة، والمحاور المتفرعة عنها، وأن تحفل روايته بنظم الحوارات الشيقة، التي تتراوح بين الاقتضاب والإفاضة،  وأن يتجنب الإمعان في رصد المشاعر العابرة، والأفكار الجريئة، فالأمور تجري على هذا النحو في القصص والروايات، التي هضم الكثير منها النظريات الفلسفية، والمعارف العلمية.

***

د. الطيب النقر

الإثنين 28/7/2025

(لِي مِنَ الْمَوْتِ عُشْبٌ - إِلَيْكِ أَوْرُوك) للشاعر صلاح الدين بَشَر \ المغرب

* توطئة: نحاول إزاء هذه الصياغة الرمزية أن نمسك بمرجعية الوجود وطبيعة الحدود الشعرية في قصيدة نثرية حداثية أبى صاحبُها إلأ أن يسِمها بميسمِ الاختلاف والنوعيّة الفاتكة بالشّبَه. ونقصد بذلك قصيدة الشاعرالمغربي (صلاح الدين بشر) المعنونة بـ (لي من الموت عشبٌ – إليكِ أوروك).

* مدخل منهجي:

و في اشتغال العلامة اللسنية داخل القصيدة يرقد التأويل الممكن. وهو تأويل مشروطٌ في سياق هذا البحث المتواضع بثلاثةِ شروط منهجية هي:

-  الأوّلُ هو شرط الدلالة المؤجّلة، على اعتبار أن ما نقدّمه هنا من تأويل ليس قطعياً بقدر ما هو تأويلٌ في وضعٍ تأجيلي، على حد تعبير جاك ديريدا. وبالتّالي فليس لنا من الأمر إلا اجتهادُ التأويل، لا التّأويل في إطلاقِه وهيمنته.

- الثاني هو شرطُ البناء السيميائي للعلامة داخلَ سياقٍ يستحضرُ العلامةَ داخل جذرِها اللغوي، ثم داخل اشتقاقاتها ثم داخل تداعياتِها. ممّا يُخصِبُ القِراءة ويُثْرِيها. ومثالُ ذلك في القصيدة حضورُ علامة الطوفان في جذرها اللغوي المكوّن من (ط – و– ف) ثم حضورها داخل التداعيات مثل (اللّج، الزروق،  المجداف)

- الثالثُ هو المتعلّقُ بالدائرة الهرمينوطيقية التي يحضر فيها المبدعُ والمتلقي داخل المشترك الثقافي المتعدد والمتنوّع بين الدائرة المحليّة والدائرة الكونية وبينهما تدرُّج دوائر أخرى. وكلّما اتّسعت هذه الدائرة إلّا واتّسع معها أفق التأويل، وخصُبَ، وخضَعَ لشرطِ العِلمية البعيدة عن التأويل المُفرِط على حدّ تعبير أمبرتو إيكو.

* ما يشبهُ التأويل:

1 – شِعرِية الكينونة:

لا نروم في هذا المقام بحثاً في أنطولوجيا الكينونة من زاوية فلسفية بقدر ما يهمّنا البحث في الكينونة كوجود شعري لكائن ينتج المعنى، هو الشاعر. وهو المعنى الذي يتشكل داخل وعي المتكلم المبدع وفي لا وعيه، كما يتشكل لدينا عبر تأويلاتٍ تختلف تجلياتها وتتعدد.

ينتج الشاعر المعنى في أفق السؤال لا في دوائر التسليم بالشيء. ويبني فكرته عن الكينونة في كفِّ المفارقة التي تصدمُ القارئَ في تمثّلاته النمطية. ومن قَبيلِ ذلك أنه يصدم القارئ في تمثله لفكرة الموت التي تقبع في ذهنه كصورة للنهاية والامّحاء والاندثار، فيما الشاعر يُثبتُ عكسَ ذلك. قال: (لي من الموتِ عشبٌ)... الموتُ امتداد لكينونة خاصة برؤية أخصّ لا حالة نهائية. والعلامة اللسنية الفاضحةُ لهذا التأويل هي دالةُ (العشب). وللقارئِ أن يتمثّل العشبَ في تداعياته ليكتشف كم هو مُفارقٌ هذا القصيد.

من تداعيات مفردةِ العشب نذكر على سبيل المثال ما يلي:

الأرض، التراب، السقي، الرواء، الماء، النماء، الحياة، الخضرة، الجمال، الاستقبال، الخصب ... وغيرها من تداعيات هذا الحقل الدلالي المفتوح على كثير من الاحتمالات المشروطة برؤيا الشاعر وحدود صوغه للرمز الجمالي في هذه القصيدة.

فهل يُهدينا الموتُ عشباً...؟ وحياة...؟ وامتدادا...؟ يتوقف العشب عن الامتداد الدلالي الرامي إلى تخصيب المعنى في اتجاه الرواء والنماء ليتحوّل إلى عشب محكوم بوجودٍ ناتئٍ يخرج عن المعنى إلى فائض المعنى عبر ارتباطه بوضعيةٍ نشازٍ تحتكر فيها الحيّةُ المعنى. قال الشاعر (تركتُهُ عند جُحْرِ الحيّة). وهنا يمارس الشاعر ثانياً مراوغةً دلالية للمتلقي وهو يكسّر توقّعاته وانتظاراته من المقول الشعري. فالعشب هنا حاضر لا كامتداد خارج النمطية الوجودية العالقة في تمثلنا للنهايات، بقدر ما هو إحالة على مشهد الموت في صورة أخرى، ترتبط بمشهد (جحر الحية). العشبُ والجحر والحيّة. ثلاثةُ علامات تفيد الموت بامتياز، أو على أقلّ تقديرٍ دلالي فهي تفيد العزلة والمكان المهجور والخواء.

و الكينونة المعنية في هذا السياق ترتبط بوجودين: وجود الذات ووجود الموضوع. تتمسرح الذات على ركح الكلام والوصف والتعبير والتفاعل والتمثّل والإحساس العارم بالفقد، فيما الموضوع هو المكانُ ملخّصاً في مدينة (أوروك) الأسطورية. والمدينة\المكانُ حاضرةٌ في وجدان الشاعر عبر مدخليْن: مدخل الوحشة والعزلة والهجر والبعاد (عشبٌ تركتُه عند جحر الحيّة). ومدخل الحسرة لا باعتبارها حالة نفسية مرّ منها الشاعر فحسب، ولكن باعتبارها علامة سيميائية هووية (نسبة لسيمياء الأهواء كما عبّر عن ذلك غريماس ومونتيني). وهذا الجانب العلاميُّ والهوويُّ موصوفٌ عند الشاعر في مشهدين: مشهد الهزيمة (عدتُ بِخفّي هزيمة) ومشهد العشق (لَكِ دَمْعَتِي - حُبَاباً مِنْ فَرْطِ صَبْوَةٍ).

العلاقة هنا ليست قائمة بين كائن ومكان فحسب. إنها أغور من ذلك وأعمق. هي سؤالٌ يؤكّدُ على وجود ذات مفكّرة وموضوع مُفكّر فيه، ويتجاوز مقولةَ البكائية المجانية الواقفة عند حدود التوصيف. هي سؤالٌ نابعٌ من وعي الذات المتكلمة باعتبارها بؤرةَ معرفةٍ تنتج المعنى في حدّينِ هما الماهيةُ والحقيقة.

لا يمسك الشاعر بالماهية ولا بالحقيقة، فقط،  لأنه شاعر. وهو لا يعْقِلُ الأشياء في سياق المخيال الشعري الذي يُملي عليه مجاورة الماهية والحقيقة وتقليبَهما في أتون الدلالة والبعد والتوتّر والانزياح... داخلَ تنسيبٍ رمزيٍّ لا يدّعِي الإطلاق أبدا، وخاصّةً أنّ الشعرَ كائنٌ زِئبقيّ التجلّيات. من هنا قراءةُ الكينونة قراءةً حذرة تتجنّب السقوط في الانزلاقات المجانية المتأتيّة من انسيابية الانطباعات والتمثّلات الجاهزة.

2 – جغرافيا الروح:

يصوغُ الشاعرُ قصيدتَهُ بوعيٍ فنّيٍّ مشروطٍ بحضور (الأنا) لا كمرصد متتبّع وواصف فحسب وإنما وأساساً كبؤرة تتشكّلُ بدءاً ونهايةً مع تشكّل الموضوع. والعلامةُ اللسنية الدالّة هي ضمير المتكلم الموجود في مدخلين: الموجودُ المعجمي (لي، تركتُ، عدتُ، مدينتي، دمعتي، أخوضُ). والثاني موجودٌ أنطولوجي تحضر فيه الذاتُ بؤرةً مالِكةً وفاقِدة في آن. هي مالكة لعشق الفضاء ممثّلاً في (أوروك) وفاقدة لفضاء هو في الوقت ذاتِه (أوروك). من هنا تنبع المفارقةُ الشعريةُ الذاهبةُ في التشكيل الجماليّ مذاهبَ الاختلاف والفتكِ بمقولاتِ الشبه والنمطية في الصوغِ الشعريّ. فـ(أوروك) المعشوقة هي (أوروك) المفقودة. والسؤالُ القابعُ في فضولِنا الساذج هو: لمَ يتغنّى شاعرٌ مغربيٌّ بمدينةٍ من العراقِ العتيق ومن العهد القديم ومن قلب الحضن السّومري في 4500 قبل الميلاد... ولم يتغنَّ بمدينةٍ من قلبِ المغرب التليد أو الجديد؟

ذاك لأن الشعرَ في زئبقيتِه المعهودة هو فضاءُ القولِ المُفارِق، والخلّاق، والمنتج للرموز والأبعاد خارِج المألوف والمعقول والنمطيّ. وإن ساءَلْنا الشاعر في احتمال الدلالة لفرّ من سذاجتِنا برموزه إلى قارئٍ آخر يعشقُ التأويل في دوائر موتِ المؤلّف. ولكانَ الآن ينظر إلينا شزراً بعينٍ هازئة.

نقول: نهتمّ بسياق مدينة (أوروك) لأنها:

- تمثّل نشوء الحضارة

- يُنسبُ لها أول ظهور للكتابة

- أوّل مدينة بُنِيتْ بعد الطوفان

و يستحضرُها الشاعر في هذه التجربة الشعرية لأنها مدينة مُحمّلة بهذا الزخم الدلالي وينزِلُها المكانة اللائقة في وجدانه عبر ياء النسبة الحميمية وعبر الاعتذار لها، في صوغٍ شعريٍّ يردم المسافة بين الذات والمكان (عذراً مدينتي) لاحماً بذلك لحمة الانتماء في أقصى صورها، ومعيداً صياغة مفهوم الهوية صياغةً تدفع بالمقولة إلى ألف امتداد خارج الدوائر الضيقة القائمة على ثقافة الحدود، إلى مفاهيم أخرى أوسع وأرحب ترتبط بجغرافيا الروح أولا بأوّل.

و لا شكّ أن هذا البدءَ في زحزحةِ التمثّل النمطي لعلاقة الإنسان بالمكان سيتحول إلى أفق أكثر رحابة، ونقصد بذلك البعد الكوني الذي يحتضن فيه الشاعر المكان خارج مفهوم الحيّز القابل للقياس. إنه تصوّرٌ قياسيٌّ في تفسير المفاهيم خارج صرامة الحدود والتعريفات، إنه التصوّر الباني أنساقهُ خارج البداهات والمسلّمات.

3 – مَقْوَلَةُ المعادِلات:

نرصد في هذا المقام حضور المعادلات الموضوعية القابلة للتأويل المشروط بسياقات معيّنة. وهي تفيدنا في إضاءة النص إضاءة تقرّبنا من وعيِ الشاعر.

فليس من قبيل الصدفة أن يستحضر النص مقولة الطوفان وتداعياتها، أو مقولات أخرى تنزح إلينا من الموجود الموسوم بمدينة (أوروك) في تداعيات أخرى ترتبط برموز هذه المدينة، يؤطرُها وعيُ الشاعر داخل مقولة الهزيمة. قال: (عُدتُ بِخفّيْ هَزيمَة) في تعبير يصوغُ ذاته داخل مفهوم الكثافة اللغوية الواخِزة.

نذكر من هذه التداعيات القابلة للمَقْوَلَةِ catégorisation داخل مفهوم المعادل الموضوعي ما يلي:

- مقولة الهزيمة: وتبدو متشكِّلَة في اعتمالٍ فردي (عدتُ) فيما الأمر أكبر من ذلك وأوسع. إنها الهزيمةُ الجمعية الماسحة لا لجماعة واحدة من جماعات الموجود العربي، بقدر ما هي هزيمة جمعيةٌ جمعاءُ نكراءُ واسعةُ الأثر. تبدأ بسقوط أسوار (أوروك) وتنتهي بـ (الغيلان المتحكّمة). هذه الهزيمة هي بيت القصيد في هذا الصوغ الشعري، إذ تتلقّف الدفقة النهائية للنص وتحكمُ دوائرَها المغلقة داخل سلوك الموت والعدمية المقيتة... تفتحُها على احتمال كبير هو الهدمُ الباني للنقيض. قال الشاعر:

(تَهُبُّ مِنْ جِهَةِ الْأَحْرَاشِ

تَحْمِلُ مَعَاوِلَ لِهَدْمِ أَوْثَانٍ

تَتَرَبَّعُ عَلُى عُرُوشٍ ِمنْ

زَمْهَرِيرِ الْوَقْتِ.)

- مقولة الأسطورة: نذكر منها (الطوفان، النبيذ السومريّ، فخاخ الآلهة، رماد القرابين، الجمر الأزلي، الغيلان والأبواب السبعة) وكلّها معادلات لواقعٍ جديدٍ يتمثّل عياناً أمام الذات المتكلمة وأمام الذات القارئة والمتلقية. وهي حاضرة هنا لا من باب البذخ الثقافي أو الترف الفكري أو التزيين البلاغي... إنها حاضرة من باب الوخز الشعري المتجاوز للغة الوصف والتشخيص المُعِيقيْن لحركية النص ولحركية التأويل ولحركية التلقّي. وهي معادلاتٌ قابلة للتأويل الممكن داخل مقولةٍ منهجية هي تشعُّبُ المفردات والحقول المعجمية وانسجام الدلالة.

فالطوفان موجود يتكرر خارج فعل الماء، وهو يقوم على صفيح آخر غير الماء، هو متاه الموت، أو هو تحديداً وجودٌ يمخر عباب العشب. قال الشاعر:

(أَخُوضُ لُجَّهَا،

بِزَوْرَقٍ مَثْقُوبٍ،

وَمِجْدَافٍ يُطَاوِلُ عنَانَ العُشْبِ).

و يستشكلُ أمره استشكالا دلاليا إذا استحضرنا مقام استقرار السفينة لا على جبل الجوديِّ، وإنما على جحْرِ الحية، في تحويل شعريٍّ جذريٍّ على درجة قصوى للحساسية الموروثَة في الثقافة العربية والإسلامية المرتبطة بالطوفان.

وأمّا النبيذ السومريُّ فقد أرخى الشاعر على تعبيره ظلال الغموض الدلالي الجمالي الواثق من حمولته الثقافية البعيدة. وفي هذا النحو بدا الشاعر قويّاً في تمثل نوعية القارئ الذي يتلقى هذا النوع المكثّف من الشعر. وحسبنا من ذلك أنه صاغ المعنى في قصيدة النثر بشكل حداثيٍّ لا يدغدغ بقدر ما يحرج ويسائل ويورّطُ في شباك الجمال، ويستدعي متلقياً عارِفا... نفهم بعض ذلك في توظيفه للنبيذ السومريّ :

(تَكْرَعُ نَبِيذًا سُوَمرِيًّا

مِنْ فِخَاخِ الْآلِهَةِ

تَرْقُصُ عَلَى رَمَادِ قَرَابِينَ

مُعَمَّدَةٍ بِجَمْرٍ أَزَلِيٍّ...)

و هو توظيفٌ يتطلبُ حدّا معلوماً من المشترك الثقافي الذي يؤطّره الشرط المنهجي الثالث، والموسوم في مقدّمتنا بالدائرة الهرمينوطيقية. مما يفسّر مقبولية الغموض الدلالي المنتظِر لعمليات فك التشفير من متلقٍّ نوعيّ.

فالقصيدة في هذا المقطع ذكيّة ذكاءً جماليّاً إلى أبعد الحدود، إذ تطلق عنان الكناية الكلّيانية تشير إلى ترنيمة "نينكاسي" وإلى إلهة الجعّة السومرية بما يعلّق المعنى داخل احتمال الفائض فيه والفيض فيه... بعيداً عن المعنى المباشر الذي أرهقته طريق الجاحظ بالبداهة والابتذال.

ناهيكَ عن حضور فكرة الرماد والجمر الأزلي وفكرة البعث والانبعاث من أجنحة الطائر الخرافي الذي لم تذكره القصيدة وإنما ألمحتْ إليه في ذكاء تواصل شعري لا يقول كل شيء ليترك للقارئ هامشا واسعا من القول عبر التأويل.

* ما يشبه الختم:

هذا غيضٌ من فيضٍ حاولنا تحريكه داخل سيمياء هذه القصيدة البعيدة عن إمكان قراءتها داخل فكرة المعنى، إذ يسئُ هذا إليها أشد الإساءة ويلوي أعناقها داخل الشبه والنمطية، ويفتك بهذا الفعل القرائي الضيق بجمالية النص الذاهبة مذاهب الامتداد الدلالي المتعدد بتعدد القراء. من هنا قدرة النص على الولادة أو التوالد أو التناسل عبر ممكنات التأويل واحتمال القراءات. وهذا النوع من النصوص نادرٌ جدّاً وعميقٌ جدّاً، يحترم المتلقّي احتراما دقيقاً باعتباره ناجما عن رؤية لا تدّعي الإطلاق وهيمنة المعنى، وإنما تترك الحبل على غاربه لقارئ متعدد يقول كلمته في عمق وفي فائض المعنى وفيضه.

***

بقلم: نورالدين حنيف أبوشامة \ المغرب

............................

(لِي مِنَ الْمَوْتِ عُشْبٌ)

(إِلَيْكِ أَوْرُوكَ)

شعر: صلاح الدين بَشَر / المغرب.

لِي مِنَ الْمَوْتِ عُشْبٌ

تَرَكْتُهُ عِنْدَ جُحْرِ الْحَيَّةِ،

عُدْتُ بِخُفَّيْ هَزِيمَةٍ ...

عُذْرًا مَدِينَتِي !

لَكِ دَمْعَتِي

حُبَاباً مِنْ فَرْطِ صَبْوَةٍ

كَالطُّوفَانِ

يُسْدِلُ أَسْتَاراً مِنْ غُرُوبٍ

عَلَى أَسْوَارِكِ ...

*

غَرِيبٌ فِي مَتَاهِ الْمَوْتِ

أَخُوضُ لُجَّهَا

بِزَوْرَقٍ مَثْقُوبٍ

وَمِجْدَافٍ يُطَاوِلُ عنَانَ العُشْبِ

يَجُرُّهُ إِلَى جُحْرِالْحَيَّةِ

تَكْرَعُ نَبِيذًا سُوَمرِيًّا

مِنْ فِخَاخِ الْآلِهَةِ

تَرْقُصُ عَلَى رَمَادِ قَرَابِينَ

مُعَمَّدَةٍ بِجَمْرٍ أَزَلِيٍّ...

*

هِيَ غَابَاتُ أَوْرُوكَ ذَات الْغِيلَانِ

تَحْرُسُ الْأَبْوَابَ السَّبْعَةَ

مِنْ رِيحٍ عَاتِيَةٍ

تَهُبُّ مِنْ جِهَةِ الْأَحْرَاشِ

تَحْمِلُ مَعَاوِلَ لِهَدْمِ أَوْثَانٍ

تَتَرَبَّعُ عَلُى عُرُوشٍ ِمنْ

زَمْهَرِيرِ الْوَقْتِ.

*

ومفاتيح الغموض العراقي

في مدينة المسيب، تلك البلدة الموشومة بنهر الفرات وعبير القصب، ولدت القاصة سنية عبد عون رشو عام 1956، وتفتحت عيناها على مشهد تتقاطع فيه الذاكرة الشعبية مع الحلم الشخصي. كانت المسيب بالنسبة لها ليست مكانًا فقط، بل أفقًا شعريًّا، وبيئة سردية غنية بالتفاصيل والمفارقات.

تخرجت في قسم اللغة العربية بكلية الآداب – جامعة الموصل سنة 1978، وبدأت مشوارها المهني كمدرّسة، لكن ما خفي وراء هذه المهنة كان نهرًا آخر لا يقل عن الفرات عنادًا وتدفقًا: نهر السرد. كتبت القصص والمقالات، وبدأت في نشر نتاجها في الصحف الورقية، ثم تنوع حضورها في المواقع الثقافية العربية مثل "المثقف"، و"مركز النور"، و"فراديس العراق"، و"الأنطولوجيا"، و"كتابات".

"غريد القصب": النصوص المغسولة بندى الجنوب

كان عام 2012 إيذانًا بظهور المجموعة القصصية الأولى بعنوان "غريد القصب"، صادرة عن مؤسسة المثقف العربي – أستراليا، بطبعة أنيقة من دار العارف – بيروت. حملت المجموعة طابعًا مكانيًّا واضحًا، حيث يبرز الجنوب كرمز ومسرح وأسطورة.

عن هذه المجموعة كتب الدكتور عبد الرضا علي: "قصص المبدعة الموهوبة سنية عبد عون رشو ليست تقليدية، لأن معظمها تشاكس الأداء السائد وتخالفه في المنحى والمبنى قصديًا، إذ تشدد على جعل المخيلة السردية قسيماً للرمز، وتبتكر طقسًا لغويًا أشبه بالمستهل الشعري الذي يعلن الدخول إلى عوالم مدهشة هي هموم الناس، ولا سيما العراقيين في حقب متتالية من الألم."

"زيارة غامضة": سرد بصوت باطني

في مجموعتها الثانية "زيارة غامضة" الصادرة عن دار الفرات – بابل عام 2022، تمضي سنية نحو تخليق مساحة غموض سردي، حيث تصبح القصة تمرينًا على الحيرة الوجودية، وعلى إنقاذ الذات من ركام التفاصيل.

قدّم لهذه المجموعة الشاعر والناقد عبد الستار نور علي، الذي رأى في قصصها تجوالًا واعيًا في أزقة الواقع الاجتماعي العراقي، واحتفاءً خفيًا بنماذج المرأة العراقية المثابرة وسط النكران والتهميش. كما كتب عنها الشاعر سامي العامري، مشيدًا بقدرتها على التغلغل في تفاصيل المجتمع بعين صدوقة وقلب نابض، حيث تنقذ شخصياتها من التلاشي وتجعلهم شهودًا على زمنهم بلغة جذابة مؤثرة.

أنوثة مقاومة لا ترفع الصوت

في كتاباتها، لا تسعى سنية عبد رشو إلى إصدار بيانات احتجاج نسوي، لكنها تقدم نموذجًا سرديًا لأنثى تعرف كيف تختبئ خلف الكلمات، وكيف تقول دون أن تبوح. المرأة في قصصها ليست ضحية فقط، بل صانعة معنى، تواجه مصيرها بشيء من العناد الهادئ، وتتمسك بكرامتها وسط هزائم متكررة.

وقد كتب عنها الدكتور سردار محمد سعيد: "تجعل من الحب محورًا أساسيًا، غالبًا ما يدور داخل العائلة الواحدة، برؤية تربوية تنطلق من عمق الواقع، وتتناول الأسرة كجوهر إنساني متكرر في تنويعاتها القصصية."

قراءات نقدية في تجربتها

عالج تجربتها السردية عدد من النقاد المعروفين، منهم: الدكتور عدنان الظاهر، كاظم الشويلي، رسمية محيبس زاير، سلام كاظم فرج، سردار محمد سعيد، توفيق حنون المعموري، مهدي الأنبارّي، والشاعر سامي العامري.

كتب جمعة عبد الله عن قصصها قائلاً: "الجمال الفني يتجسد في شفافية اللغة وانسيابها، في حيوية الصور، وتوهجها بمشاعر إنسانية صادقة، تعكس اختناق الواقع وتضاربه مع الحلم النقي." أما الناقد توفيق حنون المعموري فقد أشار إلى "أن عوالمها السردية مشحونة برموز الحلم والموت والحرية، مستخدمة لغة موسعة تمنح المفردة بعدها الحقيقي والرمزي."

الناقد علي جابر الفتلاوي يرى أن نصوصها تتفاعل مع المتلقي لا كمفاتيح مغلقة، بل كعوالم تتغير باستمرار حسب الزمان والوجدان، مما يمنحها بعدًا خالدًا.

الناقد كاظم الشويلي أشار إلى "أن نصوصها القصيرة جدًا تملك رسالة واضحة، تنتقد انغلاق الإنسان على ذاته وتعرّي الاستبداد، بأسلوب قصصي مباشر لا يخلو من العمق الرمزي."

أما رسمية محيبس فقد التقطت من كتاباتها سؤالًا نسويًا عميقًا حول الموهبة النسائية المكبوتة، ووضعت القارئ أمام أنموذج مزدوج لامرأة تتأرجح بين وهج الإبداع وضغط الواقع.

وكتب الدكتور عدنان الظاهر عن قصتها التي تتوازى مع قصيدة له عن "خضر الياس"، مشيدًا بتوظيفها الذكي للرموز القرآنية من سورة يوسف ومقاربتها المصائر الفردية بالأسطرة الحديثة للواقع العراقي.

كما كتبت الناقدة رحاب حسين الصائغ عن قصيدتها "موحش هو البكاء"، مشيدة بقدرتها على صوغ همّ فردي بطابع كوني يختزن الرمزية والعمق الوجداني.

المرتقب: "الرقصة الأخيرة"

ضمن مشاريعها المقبلة، تستعد القاصة لإصدار مجموعة جديدة بعنوان "الرقصة الأخيرة"، في استمرار واضح لمسار فني لم ينقطع، حيث تستبدل القصيدة هنا برداء القصة، وتغدو "الرقصة" استعارة أخيرة لما تبقى من أمل، أو عزف خافت على وتر الحياة.

إن سنية عبد عون رشو ليست فقط كاتبة قصة، بل شاهدة زمن ومهندسة سرد، تختزن في لغتها بوح الجنوب، ومفارقات الإنسان العراقي، وترسم من صمت البطلات خريطة أمل. اتفق النقاد على فرادة صوتها، وخصوصية سردها، وصدق تجربتها، معتبرين إياها امتدادًا ناضجًا لتقاليد السرد الأنثوي الذي يتسم بالعمق والشفافية والمثابرة. لقد برهنت سنية على أن الكتابة الجيدة لا تحتاج إلى ضجيج، بل إلى موهبة تتنفس بهدوء وتتكلم بصدق.

***

محمد علي محيي الدين

"عواطف على لائحة الاغتراب" للأديبة ذكرى لعيبي

محور النصوص القصصية، هي تمثل رحلة الاحزان في تعاسة التهميش في كيان المرأة وتمزيقه بلا رحمة. حكايات سردية صادمة، تكشف المجتمع الذكوري القبلي في عاداته وتقاليده، تكشف بشاعة الفقر وما يفعله بالانسان (الفقر كافر) من الامتهان والمذلة، بالحرمان والظلم وخاصة للمرأة، كأنها تواجه الوحشية متعددة الاطراف كالاخطبوط، في جعلها غنيمة سهلة الانصياع، شخصيات نسائية انتشلن من قاع البئر، يروين حكاياتهن الحقيقية والصادقة، وكيف تجرعن كأس الخيبة والإحباط حتى آخر قطرة، شخصيات نسائية يحملن الانكسار والهزيمة، بحيث تثير تعاطف القارئ وحزنه الشديد ، هن ضحايا باشكال مختلفة، الى حد المحنة والازمة النفسية، نتيجة الفقر. الحروب، المجتمع الظالم بعادات وأعراف العشيرة، وجوه محرومة من حق الحياة والوجود، في حالاتها المختلفة والمتنوعة، جئن من المجتمعات الشرقية الزاخرة بالحيف والحرمان، يعشن خلف الكواليس، أبجديته تهميش المرأة وزعزعة كيانها الإنساني، سواء كان ذلك في بلدانهن أو في الغربة والاغتراب، في البحث لقمة العيش لإعالة عوائلهن الفقيرة، وهي بحاجة ضرورية لدعم المالي، ولهذا السبب ذهبن الى بلدان الخليج، كخادمات في البيوت، عاملات في إدارة شؤون البيت، من طبخ وتنظيف وتسويق، يشتغلن طوال النهار بدون انقطاع، لكن يقعن في براثن نوازع المتعة الجنسية، أو يتعاملن بقسوة ووحشية والإهانات في أسلوب التعذيب النفسي، وبالتهديد بالطرد حتى من البلاد، إذا لم يشبع رغبات ربة البيت، او رب البيت، يقبعن في زاوية الحياة المنسية، ولهذا السبب من اجل الخروج من البئر المظلم، يخاطرن بالهجرة إلى أوروبا، يجازفن في العبور في قوارب الموت، وكثير من الأحيان ينتهي بهن المطاف الغرق في أعماق البحر، الذي اصبح مقبرة كبيرة ترقد في أعماقه،... صياغة هذه الحكايات السردية في لغة شفافة وواضحة في بساطتها وفهمها بشكل مباشر دون غموض وإبهام، بل بالرصد والتقصي وسماع صاحبة المشكلة، في سرد مكثف ومركز، حتى يسلط الضوء الكاشف في معاملة القاسية في الاهانة، لذلك نجد نساء النصوص القصصية مهمشات، رغم ما يحملن من الامل والحلم ، بالخروج من الظلام الى النور، رغم أنه صعب المنال، لكن هن يقاومن ويصمدن. نحن أمام عالم المرأة مهمش بالظلم والحرمان. نحن أمام قصص واقعية في عبودية المرأة في أي مكان يتواجدن فيه، مخالفة للقول المأثور (متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم امهاتهم احراراً) وفي هذا السياق لابد ان نذكر الاهداء بما يحمل معنى بليغ في الإيحاء والرمز:  الاهداء: ... إلى الارواح التواقة لسمو الوجد...... غير ان خبايا القدر قوضت رؤاها).

لنأخذ بعض نصوص القصص:

1- قصة (أكاتشي)

الشخصيات النسائية. اكاتشي. تشينو. أديسا. فيمي. ايبيل.هن من البلدان الاسيوية الفقيرة، اضطرت الظروف القاهرة والعوز والفقر، الى الحاجة الضرورية لدعم المادي، لذلك هاجرن من بلدانهن للعمل إلى العمل في دول الخليج ، لمساعدة عوائلهن بالدعم المادي لتخفيف العبء الثقيل عن عوائلهن ، يشتغلن كخادمات في التنظيف والطبخ والتسويق، وكل ما يحتاجه البيت، لكنهن يتعرضن للاستغلال البشع وغير الانساني، بما فيها اشباع المتعة الجنسية، او المعاملة الوحشة في الاهانة والاحتقار، مثل سكب الماء المغلي على أرجلهن لحرقها ، هذا الفقر المدقع يدفع ان يفقدن كرامتهن الانسانية، ولهذا السبب يفتشن عن مخرج لهذه المحنة الإنسانية، في استغلال السفر مع العوائل التي تسافر إلى أوروبا لسفرة سياحية، يستغلن هذه الفرصة السانحة بالهروب وطلب اللجوء، او بعضهن يجازفن في مغارة العبور إلى أوروبا في قوارب الموت، وبعض لحالات يتعرض للموت للغرق، لذلك أصبح اعماق البحر مقبرة كبيرة، للذين يجازفون في حياتهم في الوصول الى اوروبا لطلب اللجوء، لكي يتخلصون من عسر وشدة الحياة والمعيشة الصعبة، لكن تطول فترة قبول الطلب في المخيم، ولهذا يعيشن بهواجس القلق من الانتظار المرير. وكل طالب لجوء سواء كان رجلاً ام امرأة يحمل قصة لم تنتهي فصولها، في الظلم وخاصة المرأة، ان تكون ضحية المجتمع الشرقي، الذي يعطي كل الحق للذكور، ويسلب كل الحق للمرأة، يدفعها الى الاستسلام، لكن البعض من النساء يتمردن على الاستسلام والخضوع، ولهذا السبب يختارن الهجرة، كحالة إنقاذ، كالغريق الذي يفتش عن قشة الانقاذ.

2 - قصة (رسائل قيد الإرسال):

تواصل كتابة خواطر جميلة من الغزل لرجل واحد، لكن يقرأها الجميع ما عداه، مع ذلك تواصل الكتابة بكل شوق وحب، لعلها تجد مرامها من الصدى المسموع، في شهقات الروح التي اتعبها الانتظار بعدم الرد، كأن عشقها مثل الطير الذي لم يجد عشاً يستقر فيه، وما اقسى على الروح من هموم في هجران الحب وسد منافذه، ان الذاكرة محملة بذكريات الحب، الذي يشعر بالظمأ، وان الفراق بمثابة النهر الذي تجف مياهه، مما يشعر القلب بالاسى والحزن، ويبحث عن وسيلة في سبيل احياء الحب، لكن الفشل يكون نصيبه، كأنهما غريبان عن بعضهما البعض، وتصمت تراتيل الحب وانغامه عن العزف، وتصبح ثقيلة على النفس، كأن كان الحب اصبح وهماً من أوهام الخيال، وبالتالي لم يبق سوى ان  يسدل ستار النهاية.

3 - قصة (القاتل في الاحلام):

حارس ليلي يؤدي مهمة الحراسة بكل جدارة ومسؤولية، ماتت زوجته وهاجر ابناءه الاربعة وهو على أبواب التقاعد، بعد سنين طويلة من العمل المرهق، مسالم ومطيع بالطاعة التامة، ليس له عداوة ولا يكره احداً، حتى حين يكتشف بوجود لص يحاول السرقة، يكتفي، بإطلاق صوت صفارته ليتيح له فرصة الهرب، يرجع الى بيته في الصباح منهك بالتعب والارهاق، وفي احد الايام طرقوا بابه داهمته مجموعة من الرجال الملثمين، واختطفه الى جهة مجهولة،، نظفوا جسمه في الحمام  تطهير جسده، والبسوه ملابس جديدة، وحملوه الى قصر جلالة السلطان، وقف أمام جلالة السلطان بالخوف والحيرة والتخبط، لكن السلطان وجه اليه هذا السؤال الصادم (- هل ما زلت تفكر بقتلي؟؟) ارتبك من السؤال الذي لم يخطر في باله مطلقاً، وحاول ان يتنفس الصعداء ويسيطر على خوفه وحيرته، في محاولة تبرئة نفسه بأنه مسالم، لكن جلالة السلطان أمر في بقائه في قصره سبعة ايام ، وبعد ذلك يقرر مصيره، وبعد انتهاء مهلة سبعة أيام وقف أمام جلالة السلطان ثانية ليقول له: طالما أنه  في القصر توقف الحلم، الذي يهم بقتله. هذا يدل بأن لا أمان للطغاة والظالمين، الذين يراودهم في الحلم ضحايا العسف والاضهاد من المحرومين، مهما بلغت قوتهم وجبروتهم .

4 - قصة (شيء من اللوعة)

حياة مخيمات اللجوء هي معتقلات اختيارية في فضاء المنفى والغربة، يعيشون داخل أسوار مسيجة بالخرسانة الكونكريتية تعلوها أسلاك شائكة، يحرس أبوابها رجال الأمن. وتكون فترة انتظار طويلة، في قبول الطلب أو رفضه، فترة مرهقة مليئة بهواجس القلق، تنعدم في هذه المخيمات الكثير في  الحياة السوية، ولا يسمح بفرص العمل لهم ، يعطى ثلاث وجبات طعام في وقت محدد، ومن يتأخر عن الوقت يخسر وجبته، وبعض البلدان الاوربية تكون اقسى واصعب، حتى انعدام اعطاء المعونة الشهرية، هذه محنة المهاجرين، لكنها ارحم بكثير، ما يعانيه الفرد في الوطن، او في المجتمعات الشرقية المبتلية بلعنة الفقر والحروب والتفجيرات اليومية والتمييز الطائفي، الذي يؤدي بعض الاحيان الى الاقتتال والتشرد، ارحم من عادات المجتمع وتقاليد العشيرة في ظلم المرأة وحرمان من حقوقهم الانسانية،. يستغلن النساء هذه فترة الانتظار غير المحددة، في الدردشة وسرد حكاياتهن في بلدانهن، أو كيفية المجازفة الصعبة حتى الوصول الى بلدان اللجوء، وكل منهن يحملن قصص تراجيدية مأساوية، ولكن يدركن ان بلدان الغرب ليس حمائم، في الشأن الإنساني في التضامن والإسناد بل (الغرب وما يدعون به من أنسانية، عبارة عن فقاعة كبيرة، المنتصر من خرج من تلك الفقاعة وهو سليم العقل والنفس).

5 - قصة (غرابيب الايام):

تعيش عائلة (رباب) في حالة ميسورة و لا ينقصها أي شيء، بفضل رعاية وتربية الأب بالحب والاعتزاز، فكان خيمة البيت العامرة ، وفتح المجال إلى اولاده وبناته في مواصلة المراحل الدراسية حتى مراحلها العليا، في بيت يسوده الحب من كل جانب، ولكن الأقدار المشؤومة عصفت بخيمة البيت، وتحول الفرح الى حزن بعد موت الاب، او بالاحرى مقتله، داهمت البيت الغيوم السوداء، وفتحت شهية ابناء العم في افتراس البنات، كالذئب الجائع حين يفترس ضحيته ، بحجة الدفاع عن العائلة وشرفها، يتطلب تزويج البنات، او البنت (رباب) دون رغبتها وارادتها، وطلب من العائلة الانتقال من مدينتهم، ليكونوا بالقرب من ابناء العم، هذه النوايا غير سليمة يكمن وراءها اغراض خبيثة، واخبروا (رباب) بالقبول بالزواج من احد ابناء العم، حتى لا تبقى مطلقة وهذا عار على العشيرة والعائلة، لكنها رفضت الزواج بإصرار عنيد، لا يمكن قتل إرادتها ورغبتها في الارغام على الزواج، لم يبق لها طرق للتخلص إلا الانتحار، ولكنها اختارت الهجرة من مدينتها بل من بلدها ايضاً.

6- قصة (كون رمادي):

كان موت الاب فاجعة كبرى للعائلة شلت كيانهم، واختلط الحابل بالنابل في دواعي موته أو مقتله، بين الحقيقة والباطل، بما يكمن وراء جريمة القتل في هذا الخبر المشؤوم، فزت الأم مذعورة من سماعها الخبر الصادم (حتى أنكفأنا على الأرض جميعاً. عندما سمعنا والدتي وهي تصرخ:

- كيف مات ؟ قتلوه؟

كان أبي بكل اسم الاب من جبروت وهيبة...... كان الفقيد أبي ......مات مغدوراً بثلاث عشر رصاصة في الصدر) وتوجهت أصابع الاتهام بالجريمة الى أحد أولاد العم، الذي كان متواجداً معه في تلك الليلة المشؤومة ، لكن شيخ العشيرة التزم الصمت، الصمت الذي يغطي الجريمة والقاتل في طي الكتمان، بذريعة: بأن اللصوص هاجموا البيت وكان الأب نائماً فاردوه قتيلاً، لم تصدق (رباب) هذه الذريعة المزعومة برواية القتل (لا اصدق..... قتل أبي بسببي... هذا جنون.. إشاعة نشروها تبرأ ساحتهم) أبن العم المتهم أنكر تواجده في تلك الليلة المشؤومة، وبعض الشهود أكدوا كلامه، ولا دليل على الجريمة (بعدك من يحمي ظهري يا أبي) في هذا الكون الرمادي.

***

جمعة عبد الله

 

في ديوان (تراتيل على حافة البوح) للشاعرة المغربية حورية خرباش

تمهيد: سنرجئ مقولة الافتراس الناعم إلى حينها ريثما يستدعيها السياق، ونقول: إن قراءتنا الموضوعاتية لديوان (تراتيل على حافة البوح) للشاعرة حورية خرباش تدخل في ثلاثة أنساق ثقافية:

1 - نسق ثقافي مغربي يعانق تحولات الحداثة الشعرية من موقع الإسهام الفني الناضج والمسؤول.

2 - نسق انخراط الشاعرة في هذه الحساسية الشعرية الحداثية حيث تُدلي بدلوها الشعري وببصمتها الخاصة.

3 - نسق نون النسوة الذي لا يميزها عن الكتابة الذكورية، فهذا لا يشكل همّاً من همومنا النقدية وإنما نقصد أنّ كتابتها الشعرية تحمل مشروعا فنيا في سياق هيمنة ذكورية أنصفها التاريخ فوق التصور، وما ديوان (تراتيل) إلا صرخة في وجه هذا التاريخ لانتزاع الحق أو بعض الحق من هذه الهيمنة الموهومة.

و لتوضيح ذلك نستطرد عبر السؤال التالي: لِمَ يؤرّخ الدارسون مثلا لظهور الرواية في الحقل الأدبي العربي تأسيساً برواية (زينب) للكاتب المصري حسين هيكل التي صدرت عام 1914 في حين أن باكورة الظهور الروائي العربي تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر مع عائشة التيمورية في روايتها الموسومة بـ (نتاج الأحوال في الأقوال والأفعال، عام 1885 – مصر) ومع أليس بطرس البستاني برواية (صائبة، عام 1891 – لبنان) ومع عفيفة آظن برواية (فابيولا، عام 1895 – سوريا)...؟ والحديث في هذا يطول ولا حاجة لنا بالمزيد، فيكفينا فيه هذا الاستشهاد المعبّر، لأن المقام هنا مقام قصيدة النثر، لا مقام جدل أو جدال حول أسبقية دون أخرى.

* المقاربة:

1 – عتبة العنوان:

اختارت حورية خرباش لديوانها عنوان (تراتيل على حافة البوح). والتراتيل جمع ترتيلة، ورَتِلَ الكلامُ تناسق وانتظم. ورتّلَ يُرتّل جوّد وتأنّق في تلاوة القرآن. والترتيلة هي الأنشودة مرتّلة في صلاة المسيحيين.

و الحافة هي الناحية والجانب والهاوية. وهي أيضا الحاجة.

و البوح من باح يبوح أي ظهر. وباح فلان بالسر أظهره1.

و إذا ما قارنّا هذا العنوان بقرينه في ديوانها السابق (ترانيم على بياض الروح) يتبدى لنا جليا حرص الشاعرة (حورية خرباش) على العوم في هذه التيمة بوعي فني قائم على تصور جمالي للوجود.

و الترانيم اسم جمع لترنيمة واحدة. ورَنِمَ رجّعَ الصوت وتغنّى به وطرب.

يفيدنا ذلك أن الشاعرة لا تكتفي بصوغ القصيدة في مكافحة البياض للانتصار على تسطّحه فحسب، وإنما تتجاوز ذلك إلى بناء نسق دلالي يخرج بالمعنى من الطرح العائم والمشترك إلى عملية جمالية تبني الأغنية بدل القصيدة. والمتأمل للديوان يصدمه ذلكم التراكم المعجمي والدلالي للمقولات التالية في ترددها البائن:

التيمة = حجم التردد في الديوان

التراتيل = 3 مرات

الترانيم = مرة واحدة

الأغنية = 6 مرات

الشدو = مرتان

الابتهال = مرتان

الوتَر = مرة واحدة

اللحن = مرة واحدة

الانشودة = مرة واحدة

القصيدة = 12 مرة

المجموع = 29 تردّداً

وانطلاقا من هذا التردد لنفس التيمة بصيغ مختلفة متجانسة في الدلالة، يحقّ لنا التأويل بعدما غادرت الشاعرة حلبة الإنتاج مع رولان بارت، ونقول: إن الديوان في جله هو أغنية تُحيل على حواء لا في ميراث الخطيئة، ولكن في فلسفة الأنثى عندما تبني رؤيتها داخل تشكيل لغوي حيوي وضاغط بنعومة حريرية تؤمن بمقولة التجاوز والتخطي. قالت الشاعرة في هذا السياق:

و نحّيتُ تفّاحتك المُحرّمة

من موائدي2.

و في الكلام النّاعم رفض لميراث التفاحة المرتبط بإدانة المرأة. وفيه كان التاريخ يحرص حرصاً تمثُّلياً مغلوطا على إلصاق الفعل بها. مع العلم أن الوحيَ حسم في المسألة منذ قرون طويلة مسطراً الحقيقة الربّانية المنصفة في إعجاز جمالي ودلالي خارق. (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ)3. فانظر معي أيها القارئ إلى علامة التثنية (أكلا – لهما – سوءاتهما – طفقا – يخصفان – عليهما) المتكررة بقوة في هذ السياق القراني، وانظر أيضا إلى الختم الربّاني وكيف تمّ إسناد الغواية.

والديوان أغنية كبيرة تكمل أغنية الديوان الأول (ترانيم). أغنية مقطّعة يتنامى فيها البعد الدرامي والمتخيل داخل شِعريةٍ حداثية تتغيّى القول المختلف في أزمنة قصيدة النثر التي تغتال إشراقها - أحياناً - ثقافة الشبه.

و الديوان أغنية واحدة بدليل أن كل القصائد – باستثناءٍ ضعيف – هي في الأصل محاورة بين الأنا والأنت. بين الذات والآخر. قالت الشاعرة:

سأرحل وبيدي أغنية

يشدو بها عبق الدوالي

لأجلك... الديوان، ص 10

و قالت أيضا:

يا لرجع الصدى

في مسمعي

و مرايا السراب

في غربتي

و لفيف من أغاني الصباح

على أعتابك الواهية... الديوان، ص 54

وهي محاورة بؤرية تركز على الدوال بأعلى ما يمكن من طاقة التركيز والتكثيف. ذلك أن حجم الديوان صغير في صفحات لا تربو على الثمانين، وفي قصائد لا تتجاوز العشرين، وهي مركّزة تفر من قبضة القصيدة الشاملة (التي يُعبَّرُ عنها بالقصيدة الطويلة). وهذا مبحث مهم في إشكاليات قصيدة النثر المتعددة والتي تطرح أكثر من سؤال حول الحجم والبياض وهندسة الفضاء الورقي، مما يدعو إلى القول إن القصيدة المركزة في عرف الشاعرة (ح خ) هي كينونة أكثر منها إجراء مساحةٍ قابلةٍ للتسويد 4.

و في إجراءٍ منهجي تقابلي نقول إن التراتيل تتجانس مع (الترانيم) وتتشعبان في نفس الآن. محدثةً بذلك نسقا متكاملاً من فنّ القول، تُسطّره ذائقة الشاعرة في مستووين:

*  مستوى التوازي التركيبي حيث صِيغَ العنوانان داخل مركب اسمي بمبتدأ محذوف (هذه تراتيل... – هذه ترانيم...). ثم قرنت المتكلمة العنوانين معا بشبه جملة (على حافة البوح – على بياض الروح).

*  مستوى الدفقة الموسيقية الأخيرة في عنوان الديوان الأول (الروح) وعنوان الديوان الثاني (البوح). تخرج الشاعرة من التجربة الأولى وكأنها تجترح بياض الروح وتخترق صمتها وتدلف من هناك إلى ورطة لذيذة في ديوان (تراتيل على حافة البوح). إن الخروج من البياض معناه تكسير الصمت وهو الترجمة الدلالية للرغبة في البوح، أي في القول والهمس والصراخ داخل دوائر الإبداع طبعا. ولكن هذا البوح تقدمه لنا الشاعرة (ح خ) مبطّناً في مقولة الخطر بقرينة لفظية هي (الحافة). والتراتيل باعتبارها أنشودة كبيرة فهي لا تتم على الركح بل تتمّ على صفيح فضاء مختلف موسوم بالسقوط الممكن في أي لحظة. إنه فضاء الحافة. ومن عميق المفارقة أن يتمّ الإنشاد والغناء والبوح وكل أشكال القول على شَفا هذه الحافة.

و الخلاصة: إن الشاعرة في زمن الكتابة الذكورية تمارس نوعا من الخرق لناموس هذه الكتابة. وهو خرق يهدد كينونتها أولاً بأول، وهي لا تبالي، من منطلق حقّها في تأويل ذاتها كما تشاء.

2 – الأنا الحاضرة بقوة:

اعتمدنا في هذا التأويل على عملية رصد دقيق لمقولات الأنا والأنت في تجربة احصائية أفضت إلى ما يلي:

أقانيم الحضور حجم التردد في الديوان

حضور الأنا 296 ترددا

حضور الأنت 339 ترددا

و المعول عليه هنا هو تتبع المقولتيْن في التركيب أولا، وهو المفضي إلى الدلالة لاحقا في مقاربة الضمائر وما جرى مجراها من وحدات لسانية.

مثال الأنا  - أشعلتُ أصابعي

مثال الأنت  - ماذا لو أنك، وحدك، تنير خريطة حلم...

و الملاحظ أنه على تفوق التراكم المعجمي لــ (أنت) فإن هذا الأخير لا يتجلى إلا عبر جسور الــ (أنا). قالت الشاعرة في مثال لا حصري:

لا تحجب  عنّي  نورك

أنت   أنا   أنت

و في مثال آخر هو غيضٍ من فيض:

ماذا لو أنك وحدك تحضن عمري (أنت أنت أنت أنا)

هذه بعض البنيات السطحية الحاملة للدلالات العميقة في هذا الخطاب الشعري في قصيدة النثر الحداثية. وفيه تأخذنا الشاعرة (ح خ) عبر (أناها) القابضة على محورية الصوغ الشعري من حيث كونها تدير تجربة الحبّ بمعناه الواسع داخل نسق شعري عضوي يروم تلبية رغبتين: الأولى ترتبط بتحقيق الوجود والثانية ترتبط بالتعبير عن الرؤية الخاصة لهذا الوجود. وهما رغبتان تتداخلان بشدة إلى درجة التلازم، ويبقى الفصل بينهما مجرد إجراء تفكيكي لخدمة المقاربة في توجّهاتها التأويلية.

إن حقيقة الوجود المتعلقة بالذات \ الأنثى هي أمر رهين برؤية الشاعرة للوجود في أفق شاعري يمتطي ثنائية الذات والآخر لتعلن عن فلسفتها في مجال الحب. وهي فلسفة تتجاوز العلاقة المبتسرة بين الرجل والمرأة إلى تكريس فعل نبيل وعميق هو:

3 – الاتصال الإنساني:

قالت الشاعرة:

غادرْ إن شئت

ستبقى دوني

وحيدا تغوص بوحدتك

و تصل لآخر الشوط

أقصى ما في مداك

مثقلا بغبار الأرصفة

و ضياع الطرقات... الديوان، ص 61

تهدم الشاعرة بهذا الوصل الإنساني نقيضه الموسوم بالانفصال الذي تقدمه لنا في سياق الرفض لليل والظلام وتداعياتهما، حيث يبرز شعاع (الأنت) قوي الفعل ومضيئاً لأنشودة الصمت ومحوّلاً دلالة الغياب إلى حضور جميل.

تبرز الذات المتكلمة هنا واعية بتدرج كينونتها في الانبناء، عبر أطيافٍ شعرية ننظّمها وفق التتابع التالي:

- حضور الشك = كفرتُ بيقيني * ص 16

- حضور التخطي = نحّيتُ تفاحتك * ص 14

- حضور الانتظارية = القصيدة   * ص 27

- حضور الاشتعال = تلهب كفي  * ص 29

- حضور الضياع  = و ضاع خطوي * ص 31

- حضور الألم   = أنقش على جدران ألمي * ص 33

- الحضور المازوشي = أقضم أصابعي * ص 37

- حضور القوة  = أنا أميرتك  * ص 43

- حضور الخوف  =  أخاف أن أحتمي بظل صخرة * ص 47

ترتبط تجليات حضور الذات هنا بسياق الأنثى في الواقع وفي المتخيل. وفيه تمارس الشاعرة كينونتها بامتياز وجودي داخل لعبة الخفاء والتجلي. طرفها الأول يبين عن أحوال الضعف والثاني يؤكد حالة القوة. من هنا إذن تأويلنا للعنوان في تعالقاته مع سياقات المتون الشعرية كاملة. ذلك أن مفردة (تراتيل) في قلب حروفها تقودنا إلى تخريجة صورية غريبة وهي (رتيلاء) وهي تحيلنا على أنثى العنكبوت. والمسكوت عنه هنا هو أن الأنا تجد معاناتها نابعة من تاريخ وجودها، ومن ثمّة تسكنها باستمرارٍ رغبةٌ قوية في تحقيق الوجود والخلاص5. وفي هذا تشترك المبدعات الشاعرات العربيات مع اختلاف في خصوصية الرؤية التي تتعدد من خلاص عبر التمرد والرفض والتجاوز أو عبر التماهي والاستبطان أو عبر الحلم والسياحة الجمالية أو عبر القطيعة أو المداهنة وما شابه... وأما شاعرتنا (ح خ) فقد اختارت الخلاص عبر آلية الحب وتكريس الاتصال الإنساني داخل لعبة الافتراس الناعم لكل شوائب الرجولة الخارجة عن سمت الوجود الإنساني والاتصال.

4 – الآخر، الحاضر \ الغائب:

اعتمدنا في ذلك على رصد العلامات اللغوية التي تسندها الشاعرة للآخر المُعَبَّرِ عنه بـ (أنت). فوجدنا الحصيلة التالية: (وجود غامض – متعالٍ – مجنون – يحب العزلة والخلوة والوحدة – متقلب – حاملُ أسرار – مبتهل – مشرق – منير – واصل – مهاجر – لمّاح – ذكي – ملهم – أمين – غاوٍ – غائب – حاضر – طيف – حاضن – جوال – جوّاب – قوي – جارف – متمنع – بعيد – وحيد – متفرد – مشتعل – شارد – مرغوب – سلطان – غني – واعد – عميق – معاند – رحب – شديد الجفاء – ناسٍ – معطّر – معذِّب – متجاهل – فاتن – ساديٌّ – عصيّ – مدلل – رافض – مترنم...) ونكاد نجزم بأن الإيجاب في هذه المسندات هو المهيمن مقارنةً من مسندات السلب والتنقيص. وهذا معطىً معجمي مقصود يخدم رؤية الشاعرة لثنائية الرجل والمرأة و يتساوق كذلك مع لعبة الافتراس الناعم.

لا تقبض الذات أو الأنا على الآخر في وضعية السهل والمستجيب والبديهي والمسالم والدوني والرخيص. إنها تروم القبض عليه في عليائه وسموقه وقوته لتثبت الذات قوّتها وتفوّقها وعلويتها. فلا معنى للصراع مع ضعيف أو مع رخيص. المعنى يجد ذاته في مقاومة المتميز والقوي. ولعلّها صورة تبنيها الشاعرة لتأكيد قيمِ الذات القوية عبر النقيض الأقوى. وفي مثال الشاعر عنترة بن شداد شهادة على المشترك المعنوي عبر الزمان حيث كان لا يثبت قوته إلا في هزيمة الغريم المدجج الذي تفر منه أشد الفرسان بأسا:

و مدجّجٍ كره الكماةُ نزالهُ \\\ لا ممعنٍ هرباً ولا مستسلمِ

فشككتُ بالرمح الأصمّ ثيابَهُ \\\ ليس الكريم على القنا بِمحرّمِ 6.

هكذا يشتغل مخيال الشاعرة (ح خ)، فهي تتحين فرصة القبض على مفهوم الرجل متلبسا بخصائص القوة، يقاوم، لا ضعيفا في مفهوم الأنوثة، بل قويا في تجديد مفهوم هذه الأنوثة أو بعبارة أدق نقول: تصحيح تمثل الرجل المغلوط لمفهوم الأنوثة.

5 – الحضور الإشراقي:

 لا نقول الحضور الصوفي أو الحضور العرفاني لأن التراكم المعجمي في هذه الحقول لا يخدم افتراضنا وحتى توجه الرؤية لدى الشاعرة (ح خ) لا يسير في هذا الاتجاه. ولكن بعضاً من هذا يتمسرح على سطوح المعجم والتركيب وبالتالي يلحّ علينا في استقطاب الدلالات هناك فيما نسميه الإشراق. لأنه أقرب إلى تمثلات الشاعرة وأقرب إلى تأويلاتنا المشروطة. واعتمدنا في ذلك أيضا على رصد إحصائيٍّ دقيق لمفردة (النور) وتداعياتها ومرفقاتها سواء أسندت للأنا أو للآخر (أنت) .

و قد وردت في الديوان على إيقاع متكرر بائنٍ: 44 تردّداً.

قالت الشاعرة:

لطالما

لبست بردة المريدين

كي ألزم خلوة محرابك

و نذرتُ كياني هدية

لشيطان آثامك

و حفظتُ عن ظهر القلب

كل أسرارك

لا ولا حتى ملائكة السماء

درتْ بما أخفتْه أفلك أبراجك... الديوان، ص 15

و قالت أيضا:

لا تحجب عني نورك

فلا أحد لي غيرك

من يفقه بلاغة الوصال

أو يفهم لمح الشوق

في طيّ الكلام... الديوان، ص 19

 وقالت أيضا:

و تتركني عند المنتهى وحدي

تغزل عيناي اشتعالَ الرؤى

لبساً لغواياتك... الديوان، ص 21

يعجّ الديوان بمثل هذه الصياغات (اشتعال الرؤى – خوالج الروح – مقام العزلة – رحاب الهديل – أشعة الأنوار – تراتيل على كل الطرق – جوال الفيافي – يبتلّ مضجعي...) مما يشي بنوعية إضافية في مجال الكتابة النسوية عند الشاعرة (ح خ) وهي تلقي بظلال هذا البعد الإشراقي على بعض العتمات الوجودية لأغراض رؤيوية وفنية نذكر منها:

- تأكيد الندية

- تأكيد التفوق

- استلهام التراث

- جمالية الاستلهام

- الخوض في مخيال الإشراق

و تتمظهرهذه النزعة في تضخم الإحساس بالأنثوية باعتبارها نزعة وجودية تصوغها جمالية متفردة في الصوغ. تنتقل من البناء الجمالي لعالم الشاعرة المكتظ بالذاتية المنتصرة عبر قوة الآخر في أساليب شعرية تتبنّى السهل الممتنع والانزياحات الرقيقة، إلى البناء الدلالي الموغل في كشف اللاوعي الذي يبحث منذ بداية الديوان عن صيغة لتأكيد مصداقية البوح الموشك أن يكون على الحافة بما تطرحه من إمكان السقوط، وهو السقوط الممنوع مادامت الشاعرة تسعى إلى البوح داخل شرط النبوة التي تحميها من كل انزلاق. وينسجم مع هذا التخريج قرارُ الذات المتكلمة في أن تلبس البردة في حضرة الشعر لفظاً ودلالةً في سياق النبوة 7. وما الآخر المحشور في السياق الشعري إلا ذلكم المعادل الموضوعي للآخر\الرمز. وقد وردت مفردة البردة في سياق استدعاء واستجلاب الاعتراف بالأنثى داخل مقولة التاريخ.

6 – سيمياء الجسد في التراتيل:

يتبدى الجسد في ديوان (ترتيل على حافة البوح) امتداداً لرؤية الشاعرة الوجودية والفنية لعلاقة الرجل بالمرأة. وهي تقدمه لنا حضوراً نوعيا يتكلم بكثير من الترميز والدلالة والأبعاد. وحسبنا من ذلك تتبع حضور تيمة الجسد في الديوان عبر أمثلة تعزيزية لا حصرية:

-  (أشعلتُ أصابعي... ص 14): هناك تلميح شاعري لجسد التضحية والقربان، بقرينة لفظية دالّة هي مفردة (الموائد). أنظر القصيدة.

- ( لبستُ بردة المريدين... ص 15): الجسد هنا سديمٌ عرفانيّ وروحانيّ متجاوز للباس والترف والخيلاء. وقرينة القربان تأخذ بعداً آخر أكثر جرأةً في التعبير الشعري المنزاح عبر طقس النذر (نذرت كياني هدية لشيطان أناملك)

- (أنا النافذة كالريح... ص 16): حضور الجسد في صورته الشعرية الشفافة وغير المغلقة. والقرينة اللاحقة تحكي قرار الذات وهي تفتح من أنفاسها أبواباً مُشرعة، في توجّهٍ فلسفي يؤمن بالانفتاح أكثر من أي نسق آخر.

-  (كلّ لمسةٍ سلام... ص 18): المقولة هنا تتجاوز الحد البهيمي والغريزي في استحضار لحظات الجسد، واللمس متعلق بقيمة السلام نقيضاً للحرب لا السلام المتعلق بالتحية حيث التماس بين يدين هما في آخر المطاف جسدان. الشاعرة تفرّ بالعبارة الشعرية إلى عالم القيم حيث الجمال والحق والخير، ومن ذلك، قيمُ السلام بين هذين الأقنومين اللذين شغلا الناس والثقافة والعالم. وفي هذا السياق تفتح الشاعرة أفقاً آخر عجيباً وعامراً هو أفق الاتصال الإنساني.

- (علّ قبلة منك على جبيني تحتفي بصبوة الأغاني... ص 23): احتشامٌ واضحٌ في صوغِ مقولة الجسد داخل فعل الشهوة. وقرينةُ الجبينِ تفيد ذلك، وتجعل القبلة فعلاً مفرغاً من كل حسٍّ غرائزيّ ممكن. القبلة هنا متعالية، يردّدها (هدير البحر) وتحمل في آخر المطاف غضبا من الذاتِ ضد الأنت. إنها قبلة الموقف.

- (لنستحمّ معاً بأشعّة أنوارك... ص 24): الاستحمام يستدعي الجسد، والأنوار قرينة تمنع الجسدانية وتقرّبنا عرفانية مفارقة.

- (...) والأمثلة في سياق هذه الجسدانية المتأرجحة بين الشهوانية الماكرة والعرفانية الأمكر، كثيرةٌ ومتعددة، ونظنّها قائمة بذاتها في محور دلالي يشكل مقاربة نقدية مستقلة. وحسبنا من هذا أنْ أشرنا وأوّلنا، وللقارئ كل التأويل في مخرجات هذا المحور.

- خاتمة:

تتجاوز الشاعرة (حورية خرباش) ذلكم الخطاب السوداوي القاتم والقائم على رفض الآخر رفضاً مجانياً في جموحِ الأنثى البانية موقفها على رد الفعل من أجل فكرة الانعتاق... إنها لا تدين الآخر في شخص الرجل، بقدر ما تدين بنعومةٍ شعريةٍ الموقفَ التاريخيَّ الذي صاغ الرجل مهيمناً فيما قد أقصى الأنثى وأغمطها بعض حقّها المشروع...

و الشاعرة في عمق رؤيتها الفكرية والفنية تسعى إلى مد جسور الوصل والوصال والتواصل والاتصال بمقولات مقروءة في ثنائية كبيرة هي الذات والكون، وهي التي تتلاشى داخلها ثنائيةٌ أصغر هي المتعلقة بالمرأة والرجل.

الشاعرة في آخر المطاف تمارس تمرّدها الناعم، لا من باب المواجهة الرافضة للآخر كنسق ثقافي تعسّف على وجودها، وإنما هي تتمرد عليه بهسيس الكلمة وسلام المفردة ورقيق العبارة ومكر الانزياح داخل رؤية شعرية كليانية تحشر الآخر في لعبتها الفنية والوجودية... هكذا تأسر الآخر في جوهر التوحيد بين الأقنوميْنِ لا في عزلة الأقنوم.

***

بقلم: نورالدين حنيف أبوشامة \ المغرب

.........................

إحالات:

1 - أنظر ابن منظور - لسان العرب – دار المعارف – باب الباء وباب الحاء وباب الراء

2 - الديوان: حورية خرباش، تراتيل على حافة البوح، مطبعة وراقة بلال، 2020، الطبعة الأولى، ص 14

3 - سورة طه الآية 121

4 - لمزيدٍ من الاطلاع على مصطلح القصيدة المركزة، يرجع إلى: مجدي وهبة وكامل المهندس: معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب مكتبة لبنان، 1979م

5 - ذكر موقع «لايف ساينس» العلمي الأميركي أن الباحثين بجامعة «هامبورغ» الألمانية وجدوا أن أنثى العنكبوت تأكل الذكر بعد التزاوج للحصول على مزيد من المنافع الغذائية وإنجاب عناكب أكثر صحة.

6 – خليل الخوري (تحقيق)\ ديوان عنترة\ مطبعة الآداب\ بيروت\ ط 1893\ ص 82

7 - في حديث خاص مع الشاعرة ألقتْ في مسمعي اعترافاً جميلا يخص رغبتها القوية في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في منامها. أنظر:

سلسلة الحوارات مع المبدعين: ضيفة حلقة الأسبوع الشاعرة حورية خرباش 23 - 05 – 2022 إعداد وتقديم: رضوان بن شيكار

من الأنطولوجيا النصية إلى الفينومينولوجيا المشهدية.. دراسة نظرية مقارنة في حقل الدراسات الأدائية المعاصر

إن دراسة المورفولوجيا، أي علم تحوّلات الشكل والبنية، للتخييل المسرحي تكشف عن أزمة وجودية عميقة تتجاوز شكل الصراع السلطوي بين المؤلف والمخرج بتجاربه الأزلية. نحن لسنا بصدد جدل أحقية التأويل، فما يهمنا هو التوقف مليّاً عند وجود معرفي عنوانه "التحوّل التخييلي الأنطولوجي، وهو مصطلح فلسفي يعني تغيّرًا جذريًا في طبيعة وجود الشيء وماهيته والذي يعنى بدقة دراستنا هذه بكل جوانبها الفلسفية والإجرائية. فالخيال، في رحلته من الورق إلى الخشبة، لا يُترجم أو يُفسَّر فقط، وإنما يتعرض لعملية عنفٍ خلّاق، يُعاد فيها خلقه ضمن شروط وجودية جديدة تولدت نتيجة صراع باتا فيزيقي بمراتب اعلى. إنه يتحول إلى فينومينولوجيا، أي ظاهرة حيّة تُدرَك وتُعاش في التجربة الواعية للجمهور. هذه الدراسة تستعير فكرة «موت المؤلف» التي طرحها الناقد الفرنسي رولان بارت، لتعتبرها نقطة انطلاق لتحوّل الخيال من كينونة لغوية إلى ظاهرة أدائية حسية. وهنا الاستعارة لا بهدف محو بصمات المؤلف ولكن تمثيله بوصفه محرض أساس لخلق العرض وتجليه بابجديات تشكل ظاهرة جديدة مغايرة.

1- البارادايم النصي: المؤلف كصانع مطلق

في هذا النموذج المتمثل بالإطار العام والتكويني الحقيقي بمختلف أدواته للنص المسرحي، والذي هيمن على المسرح العالمي لقرون، يُعتبر النص الدرامي كينونة مقدسة ومكتفية بذاتها. المؤلف هنا هو الصانع المطلق الذي يبني عالمًا "ديجيتيكيًا" متكاملًا لا نقص فيه ولا منافذ حتى للإطلالة من خلالها إلى ما هو أبعد، وهو مصطلح نقدي يعني العالم الداخلي المتكامل للحكاية. ويُعد هنريك إبسن المثال الأبرز لهذا المؤلف-الصانع. ففي مسرحياته، مثل «بيت الدمية» تصل الإرشادات المسرحية إلى حد وصف تفاصيل الأثاث وملمس القماش، في محاولة للسيطرة الكاملة على كل عنصر حسي من الصفحة، جاعلًا من نصه خيالًا ذا نزعة "لوغوسنترية" أي إن الكلمة المكتوبة هي مركزه الأوحد. هذا النص هو أشبه بـشفرة جينية متكاملة، تنتظر التنفيذ الدقيق لا الخلق الجديد.

2- محرضات وآليات التخييل: تشريح عملية الخلق

قبل تحليل الثورة الأدائية، يجب أن نتوقف لتشريح الآليات الداخلية التي يتولد عبرها التخييل في كل من العالمين: النصي والمشهدي. فلكل منهما محرضاته وأدواته التي تطلق شرارة الخلق.

أ. في العالم النصي: التخييل كفعل ترميز للغياب

كما يعي أهل التجربة والجمال والإبداع يكون المحرض الأساسي للتخييل عند الكاتب هو "الغياب" فالصفحة البيضاء الساكتة أمامه هي فراغ مطلق، والعالم الذي سيبتكره غائب، وهمي الوجود وغير موجود. إذن عملية التخييل هنا هي محاولة يائسة وشاعرية لبعث الحياة في هذا العدم عبر أدوات ترميزية محددة:

- المُحرّض الأول: الصراع الدرامي: هو المحرك الذي لا يهدأ. رغبة شخصية متفجرة تصطدم بجدار عالٍ: هي بالتأكيد الشرارة التي تُشعل كل شيء. صراع "أنتيجون" بين القانون الإلهي والقانون المدني ليس مجرد فكرة، بل هو المحرض الذي يستدعي الحوارات، والمواجهات، والمصائر المأساوية والذي يقود إلى نتائج أخرى تدعم الحبكة وتفرعاتها.

- المُحرّض الثاني: النقص في الشخصية: كل شخصية عظيمة تنطلق من "نقص" ما: نقص في الحب، في السلطة، في المعنى، فيما علق من أحداث في الماضي. هذا النقص وإن كان ضئيلاً هو الذي يحرضها على الفعل، وبالتالي يحرض الكاتب على تخييل مسار أفعالها ومنحه مساحة للتحليق بعيداً في مسارات الخلق والإنشاء.

- الأداة: اللغة الحوارية والنص الخفي: الأداة الرئيسية هي الكلمة، ليس فقط بما تقوله صراحة، بل بما تضمره كسلاح مواجهة. النص الخفي - أي ما يعتمل صدر الشخصيات وتشعر به وتقدر قيمته ولكنها لا تقوله - هو أداة التخييل الأقوى التي يوفرها النص، حيث ترمى الكرة هنا في ساحة ملعب القارئ والممثل الذي يعالجها بتخييل محيط كامل من المشاعر غير المعلنة.

- الآلية: البنية المعمارية: يقوم الكاتب بتخييل عالمه الأدبي عبر بناء هيكل بشكل هرمي من المشاهد والفصول، ينظم من خلاله تدفق المعلومات وتصاعد التوتر. هذه البنية هي الآلية التي تضمن ألا يكون التخييل فوضويًا، بل تجربة موجهة ومحكمة بإيقاع هارموني منتظم.1714 khadom

ب. في العالم المشهدي: التخييل كفعل تجسيد للحضور

على النقيض تمامًا، المحرض الأساسي للتخييل في العرض ليس الغياب، بل "فرط الحضور المادي" فالمخرج لديه جسد حقيقي، وفضاء حقيقي، وزمن حقيقي. التحدي هنا ليس خلق شيء من العدم، بل تحويل هذا الحضور المادي الخام إلى حضور شاعري ذي معنى، تتحكم فيه أدوات سحرية مغايرة.

- المُحرّض الأول: الجسد الحي: جسد الممثل أعظم من أداة محايدة، فهذه الشعلة المتوهجة المتشكلة من لحم ودم وإحساس هي أرشيف من الذكريات والنبضات والقيود والتطلعات والهزائم والانتكاسات. الصدام بين النص المجرد وإمكانيات الجسد المادية ومحدوديته هو محرض هائل للتخييل. قد يطلب النص "غضبًا"، لكن الكيفية التي يترجم بها جسد ممثل معين هذا الغضب (رجفة في اليد، صمت مطبق، انفجار لفظي عنيف) هي فعل تخييل مشهدي خالص.

- المُحرّض الثاني: مقاومة الفضاء: الفضاء المسرحي، بحدوده وأبعاده، يحد من الأفكار المطلقة. هذه المقاومة هي التي تشعل فتيل الوعي على إيجاد الحلول الشعرية وتخييل المعالجات الصورية. الرغبة في إظهار "غابة" على خشبة فارغة هي التي حرضت بيتر بروك على استخدام أعواد الخيزران، محولةً القصور المادي إلى ثورة تخييلية جمالية تفتح الباب واسعاً لتخييلات أخرى تساهم برسم الإنجاز.

- الأداة: اللوحة الحسية: يمتلك المخرج أدوات لا يمتلكها الكاتب: الإضاءة التي ترسم الفضاء وتكشف معالم الجمال في كل ما هو ساكن ومتحرك على الخشبة وحتى العتمة هي من معالم الإضاءة الواعية التي توجه عين المتفرج حيث مكامن الجمال، والموسيقى التي تبني الإيقاع العاطفي بفونيماتها المختلفة والمتناغمة، والصمت الذي قد يكون أبلغ من أي حوار. هذه الأدوات لا "تخدم" النص، بل تكتب نص المخرج الموازي - النص الفرعي خاصة العرض وثمرة وعي المخرج.

- الآلية: الكوريغرافيا المكانية والزمنية: الآلية هنا هي تنظيم وتهذيب وتشذيب حركة الأجساد في الفضاء اليومي إلى حركة واعية درامية بحضور يوهج الحكاية والعرض، والذي يخدم تنظيم إيقاع الأحداث في الزمن لذلك نرى ريتم بطء الحركة عند روبرت ويلسون في "آينشتاين على الشاطئ" أبلغ من مجرد أسلوب، فقد تعدى ذلك بخطوات عريضة إلى آلية تخييلية تبطئ من إدراك المتفرج وتجبره على رؤية ما هو مألوف كشيء غريب وجديد. كما يحاول منح المتفرج فرصة للتفكير والتحليل وبناء التأويلات وفقاً لثقافته وأدواته الإجرائية في ردة الفعل المناسبة إزاء ما يراه ويسمعه ويحسه.

3- الثورة الأدائية: تجارب حية في إعادة الخلق

إن فهم هذه الآليات يجعلنا نرى تجارب المخرجين الطليعيين ليس كتمرد، بل كنتيجة حتمية للتحول في فهم محرضات التخييل.

خاتمة: أثر النص في زمن الفرجة

إن الانتقال من نموذج إبسن إلى نموذج ويلسون ليس قصة خيانة للنص، بل هو تاريخ تطور الفن المسرحي نفسه. الخسارة الظاهرية لسلطة المؤلف هي في الحقيقة الشرط الضروري لولادة »الحدث المسرحي «يظل خيال المؤلف كنصٍ أصلي، كـ "شبحٍ في الآلة" ومُحرّض أولي، يؤثر في العرض ويمنحه عمقه الدرامي، لكنه لا يعود المتحكم الأوحد فيه. العرض المسرحي المعاصر هو "باليمبسَت"، أي مخطوطة شائكة كُتبت فوق مخطوطة أقدم تجلت بمسارات أقل لكنها أعمق، حيث تظل آثار النص الأصلي مرئية، لكنها تتشابك مع طبقات جديدة من الكتابة الجسدية والبصرية والصوتية التي حرضتها عوامل وآليات التخييل المشهدي، لتخلق في النهاية كائنًا فنيًا جديدًا ومستقلًا.

في الختام: الأمانة المطلقة مع النص هي موت للمسرح وإعلان عن تواضع الأدوات، بينما الخيانة الواعية هي الشرط الضروري لاستنطاق صمت الورق على الخشبة وفتح النوافذ مشرعة باتجاه الجمال.

***

الكاتب: كاظم أبو جويدة

 

للشاعر الكبير يحيى السماوي

المقدمة: تستعرض هذه الدراسة تجربة الاغتراب والانفصال عن الجذور الحضارية كما تعكسها القصيدة "ومضة" للشاعر القدير يحيى السماوي، حيث يتحول التفكك النفسي إلى موت رمزي للهوية الشخصية. تهدف الدراسة إلى تحليل البيتين من الومضة عبر استكشاف الأبعاد البلاغية، البنيوية، والدلالية، مستندة إلى فرضية مفادها أن انفصال الذات عن فضاء "وادي الرافدين" لا يعبر فقط عن تحرك جغرافي، بل يشكل إعلانًا عن زوال وجود ثقافي ونفسي يسبق الموت الجسدي.

تنقسم الدراسة إلى أربعة محاور أساسية:

أولًا، التحقيق في الجذور اللغوية للتوازي بين الفعلين "استراح" و"استرحتُ"، مع إبراز دلالاتهما الرمزية ضمن السياق الشعري.

ثانيًا، تحليل بنيوي يركز على العلاقة التصاعدية بين عناصر الوطن والذات، مع دراسة التتابع الدرامي في ترتيب الأبيات لتوضيح ديناميكية الحوار الذاتي الداخلي.

ثالثًا، قراءة سيميائية للمفاتيح الرمزية في النص (مثل الوطن، الخيمة، الموت) بهدف رسم خريطة إشارات تُعمّق تجربة الاغتراب.

رابعًا، دراسة عملية إزاحة المعاني واستثمار الاستعارات المركزية في صياغة تصويرية لحالة التشرد وفقدان الهوية.

تتبع منهجية البحث نهجًا وصفيًا تحليليًا، حيث يُقدم النص بتحليل أولي ثم تُفسر دلالاته بالاعتماد على مناهج النقد البنيوي والسيميائي مع عرض أمثلة تطبيقية مأخوذة من الشعر. في ختام الدراسة، تُستخلص نتائج أدبية وثقافية تثري فهم العلاقة بين الإنسان وأرضه وتراثه الحضاري. مع مقدمة وخاتمة

ومـضـة

الـوطـنُ اسـتـراحَ مـنـي..

وأنـا اسـتـرحـتُ..

*

فإنـنـي مـنـذ نصبتُ خيمتي

في غيرِ وادي الرافدينِ:

مُـتُّ !

1. فك رموز الأبيات

في البيت الأول، لا يتناول الشاعر "الراحة" بالمعنى الحرفي، بل يقدّم مفهومًا مقلوبًا في علاقة الذات بالوطن. هنا، الوطن يستريح من الشاعر كما استراح الشاعر من الوطن. يشير هذا إلى أن العلاقة بين الشاعر وموطنه قد تعرّضت للخلل، فالمفروض أن "الراحة" تكون حالة متبادلة، لكن الشاعر يعبر عن عدم الراحة في صميم هذه العلاقة.

أما في البيت الثاني، فـ"نصب الخيمة" هو عنصر رمزي قوي يشير إلى التشتت والاغتراب. فقد كان من المفترض أن يستقر الشاعر في وطنه الأصلي (وادي الرافدين) ولكنه اختار الخيمة، التي تمثل موقفي الترحال والانقطاع. الخيمة هي تذكير بمؤقتية الاستقرار والهوية الضائعة.

2. التحليل البنيوي

القصيدة تركز على ثنائية "وطن – ذات"، وهذه الثنائية تكشف عن الصراع الداخلي للشاعر بين الانتماء إلى أرضه واغتراب ذاته. التباين بين مفهوم الوطن واحتياجات الذات يخلق حالة من التوتر الدائم، حيث يبحث الشاعر عن مكان يحقق فيه توازنه الشخصي، بينما ترفض الأرض أن تكون ملاذًا له.

ترتيب الأبيات يعزز من فكرة التصاعد الدرامي، حيث يبدأ الأمر بمفارقة تثير الصدمة، ثم ينتقل إلى حالة من السكون (الراحة)، ليحدث التحول الجذري في النهاية، حيث يعلن الشاعر عن "موت" رمزي.

3. التحليل السيميائي

في هذا السياق، "الوطن" لا يقتصر على كونه مكانًا جغرافيًا، بل يتخذ طابعًا أعمق مرتبطًا بالأمن النفسي والانتماء الثقافي والتاريخي. كما أن "الخيمة" تصبح استعارة للهوية المشتتة والضياع في المنافي، فهي ليست رمزًا للاستقرار، بل هي دالة على الافتقار إلى الجذور والهوية الثابتة.

أما "الموت" فهو ليس موتًا جسديًا، بل موتٌ للهوية أو فَقدٌ للانتماء، الأمر الذي يعكس حجم الأثر الكبير للاغتراب على الذات.

4. الدلالة الإزاحية

يتمكن الشاعر من إزاحة معاني الكلمات العادية وتوجيهها نحو سياقات ذات دلالات أعمق. "الراحة" التي يتم الحديث عنها لا تتعلق بتوقف الجسد عن التعب، بل ترتبط بالموت الرمزي. كما أن "نصب الخيمة" في مكان آخر غير "وادي الرافدين" يعني رفض الشاعر للانتماء التقليدي. هو لا يختار الهجرة من وطنه فحسب، بل يختار فقدان الهوية التي يمثلها هذا الوادي.

5. الاستعارات

- الوطن كمصدر للراحة: استعارة توضح أن الوطن في ذاكرة الشاعر ليس مجرد مكان يعيش فيه، بل هو "حضن" روحاني يشعر فيه بالسلام الداخلي.

- الخيمة كذات شاردة: استعارة تعبر عن حالة من الضياع والاغتراب، حيث لا يوجد مكان ثابت للذات في الخارج.

- الوادي كمهد للإنسانية: استعارة تشير إلى أن وادي الرافدين يمثل بداية التاريخ والجذور العميقة للإنسانية، وهو المكان الذي يعكس الاستقرار والتقاليد.

6. الاستنتاج النهائي

القصيدة تُصور كيف أن اغتراب الشاعر عن "وادي الرافدين" لا يمثل مجرد ابتعاد عن مكان جغرافي، بل هو قطع للصلة بالجذور التاريخية والثقافية. هذا الانقطاع يخلق موتًا رمزيًا في هوية الشاعر، مما يعبّر عن فجيعة الاغتراب الذي لا يقتصر على بعد جغرافي بل يمتد ليشمل التدمير الروحي.

7. استخلاص العبر

- الانتماء لا يُفصَل عن الهوية: إذا قُطِعَت الجذور، فإن الذات تصبح ميتة رمزيًا. التفريط في الروابط الثقافية يؤدي إلى موت أكثر قسوة من الموت الجسدي.

- الاغتراب كحكم مبكر على الذات: يؤدي الاغتراب عن الوطن إلى "إعدام" الهوية الثقافية في الخارج، ويعكس هذا كيف يمكن للإنسان أن يفقد جزءًا من ذاته في الرحيل.

خاتمة

تُظهر نتائج هذا البحث أن قصيدة “ومضة” لا تكتفي بوصف حالة اغترابٍ سطحية، بل تُمثِّل انتحارًا رمزيًّا للهوية كلما فُصِمَت الصلة بالأصل. إن المعالجات البلاغية—من توازي الأفعال إلى توظيف الخيمة والموت كعلامات—تبني سردًا دراميًّا يتدرج من الراحة الزائفة إلى الموت الحقيقي للذات. ومن ذلك نخلص إلى أن النص يؤكد على أنّ الانتماء ليس امتيازًا جغرافيًّا فحسب، بل ضرورة وجودية وحضارية لا يمكن تجاوزها دون دفع ثمنٍ ثقافي ونفسي باهِظ. هذه الدراسة تدعو إلى مزيد من المقارنات مع نصوص المهجرية العربية ونماذج أدبية عالمية تناولت الاغتراب الرمزي، لتوسيع آفاق فهم تأثير التشرد على تكوين الذات الشعري.

***

سهيل الزهاوي 

بما ان هنالك آراء مختلفة حول کل مبتكر حديث وامكانية تعارضه مع العتيق الاصيل، هنا في هذا المقال أود أن القي نظرة سريعة على بعض الاشكاليات التي تعيق التقاء هاتين المدرستين المختلفتين وأسباب اتساع هوة الاختلاف بينهما وكذلك بين المتحمسين لهما، من حيث اطرها العام ومن ثم بالتحديد حول التغييرات الحاصلة في هيکل الشعر العمودي الموزون وما بعده مع شعر التفعيلة.

الحداثة في اللغة هي مصدر للفعل حدث يحدث حدوثا وحداثة، وهذا الفعل يدل على التجديد والاستمرار، ومن أهم معانيه اللغوية الجديد أو الكلام والخبر.

إذاً الحداثة هي الشيء الجديد وهي الانتقال من حالة قديمة الى حالة جديدة، وقد تشمل وجود تغيير ما. كما ارتبط أفكار الحداثة مع العلوم والاختراعات، فظهرت العديد من الوسائل التي لم تكن مستكشفة مسبقا. وهي قيمة خالدة في صيرورة أنشطة إنسانيّة.

أما بالنسبة لتأريخ هذا التيار الحداثي في الغرب؛ فترجع ارهاصاته الى أواخر قرن التاسع عشر وقد شملت مجالات واسعة كالفلسفة والفنون الى جانب التغيرات في الاتجاهات الثقافية من تحولات واسعة النطاق وبعيدة المدى في عالم الغرب.

لو القينا نظرة خاطفة الى نقاط الاختلاف والتشابه بين الشعر التقليدي والحر، سنلاحظ بأن الشعر الحر بكل مدارسه مكتمل لمرحلة ما قبله وليس رفضا لها! بل بناء ما وصل اليه الشعراء الحداثة على هذا الصرح العظيم والذي يسمی بشعر الكلاسيكي أو التقليدي. فلماذا نفكر بعقلية السياسة الضيقة ونحسب ان كل ما لا ينتمي الينا فهو ضدنا؟

فلو نظرنا الى مكونات الشعر بشكل عام نلاحظ بأن (المضمون، البناء، المعجم، الصورة الشعرية) موجودة في کلتا المدرستين الشعريتين، الا ان الفرق والاختلاف الواضح هو في طريقة التشكيل الشعري، اذ ان الفارق الأكبر والملمح الجلي من حيث الشكل هو استعمال بحور العروض الستة عشر في الشعر التقليدي والتي هي منابع النغمات وقياس التشكيلة الشعرية وتعرف ببحور الشعر، وقد يتبلور هذا العنصر في شعر الحر من خلال الايقاع الداخلي للكلمات بدلا عن تفعيلات البحر الشعري. أما التكثيف والايجاز والتوهج والموسيقی والتخيل تعتبر من العناصر المشتركة في قصائد تلك المرحلتين المتفاوتتين، أي نص يتخلى عن هذه العناصر فلا يمكن أن نسميه شعرا. ومن المنطقي ان ما وصلنا اليه اليوم هو نتاج عطاءات السلف وقد بنی عليه الانسان المعاصر ما أبدعه القدماء، وبالاخص المتعلق بمجال الادب والذي يعتبر اللغة المشتركة بين المجاميع البشرية والمعلم المشترك بينهم أينما كانوا ستضاف الى ركب الحضارة.

من جهة أخری نستطيع أن نعمم فكرة هذا المقال على كل موجودات الحياة ونطرحه في شكل سوءال مثمر، بحيث نصل الى مبتغانا ونقول: هل كل جديد ضد القديم؟ وهل كل جديد سيء وكل قديم حسن أم العكس صحيح؟ وهل هما مكملان للبعض أم متضادان؟ بالطبع لاء؛ كما ان هنالك أمورا مرفوضة في الجاهلية وأمورا حسنة في ذات الوقت لم يطرأ عليها تبديل ولا تغيير بعدما انطوت صفحات زمنها، فعلى سبيل المثال ان الصدق من المسلمات الاخلاقية لا يمكن أن يتغير بمرور الزمان وتغيير الظروف ولو مرت عليه آلاف السنين، فهو من الخصال الحميدة التي يبنى عليها بقاء الأمم وصلاح الانسان اجتماعيا، إذاً ليس كل قديم سيء وكل جديد حسن والعكس صحيح؛ لكن لو نقلنا هذه النظرة الى عوالم الفن والادب والتي تعتبر من المتغيرات وليس الثوابت، فيمكننا ان نقيس أحوال وأطوار الزمان عليه، فاللغات الحية في حد ذاتها تتحرك الى الامام في دوامة التطور ومرتبطة بجميع مجالات الحياة  الاخرى، وهكذا تختلف قرائح الناس ومذاقاتهم الشعرية وميولهم، بحيث ترى ان لكل نوع من الشعر جمهوره الخاص ومتابعيه والذي يتدخل الرصيد المعرفي والطبع الخلقي في هذا التوجه، فاذا كان كل سطر في الشعر الكلاسيکي حاملا في طياته معانيه المستقلة فان نص الشعر الحر بأجمله يعتبر وحدة متكاملة فلربما تضم معنى واحدا بعينه وتشارك في صنع هذا المعنى سائر الاسطر مكتملا له، في هذا الجنس الادبي لا يكون الشاعر مقيدا بالبحور لرسم الصور المجازية وابتكار جزالة الالفاظ، لكنه في الوقت نفسه لا يمكنە ان ينأى بنفسه عن الموسيقی والايقاع الداخلي. وهكذا يرى الشاعر المنتج الحداثي بأن الشعر الكلاسيكي يعتبر موروثا غنيا وكنزا ثمينا غني عن التعريف، فلربما يصبح مصدرا لألهام الشعراء الجدد، وليس رفضا له بل بناء على ما ورثنا من أسلافنا بلغة اليوم وبمكوناتها الشكلية والضمنية بحيث تتماشی مع التطورات الحياتية المتنوعة والكينونة المعنوية لانسان العصر، اذ ان الشعر بدوره كلغة راقية للأحاسيس الممتزجة بالخيال يعتبر استجابة طبيعية لمطالب الحياة الجديدة وسبر أغوارها، فعلى سبيل المثال في زماننا وكما يزعمون؛ أصبح العالم قرية صغيرة بواسطة التقدم التكنلوجي واقترب البلدان من البعض كاسرا حاجز الحدود الجغرافي، وبالتالي كل ما يرى ويسمع في العالم أصبحت مادة خامة لأنتاج نص شعري عند الحداثوي ومع ترجمة أي قصيدة تقليدية ستفقد جزءا من رونقها الشكلي ومن بينها تفعيلاتها في اللغة الثانية وتبقی منها المضمون والصور والمجاز والدلالات. كما ان هذه الحرية أمام الشاعر تفتح لە أبواب الابداع على مصراعيه كي يخيره بين انتقاء عناصر معينة في الشعر والتعمق فيها والتركيز عليها في نصه بشرط ان لا تتعدى لغته مواصفات

جمالية اللغة الشعرية وكثافته الدلالية، وفي الضفة الاخرى يتفق معظم النقاد مع بعض الآراء التي تنتقد الاشعار الرديئة التي تكتب بأسم الحداثة والشعر الحر، والتي تخلو من أي قيمة جمالية وابداع شعري ولا تمت بأي صلة الى الشعر وآفاقه الابداعية.  فمن الحداثيون من وظفوا الرموز والاساطير في القصائد  بحيث ساد الغموض بعض النصوص، وقد لجأ البعض الى عالم ماوراء الشعور في تخيلاتهم لرسم صور شعرية سريالية، منهم من نجح وبقی واقفا على ساقيه ومنهم من سقط ونسي.

ناهيك عن رغبة التغيير والتطور عند بني البشر منذ القدم الى وقتنا الحاضر، فكل حضارة حسب رأي أرسطو تمر بمراحل الولادة ثم الطفولة والشباب والاكتمال ثم الشيخوخة، ثم الضعف والموت، مثلما حدث مع الشعر العربي في عصر الانحطاط بعد العصر العباسي، وحتی في العصر العباسي کانت هنالك نزعة التجديد والحداثة ظهرت الى الوجود، كما يعتبر البعض: أبو نواس(231هـ/846م)، وأبو تمّام(196هـ/811م) في الحداثة الأدبيّة العربيّة في العصر العبّاسيّ من الاوائل.

في حين تكتب سوزان برنار في جزء الاول من کتابها (قصيدة النثر) عن بداية نشوء هذا الصراع بين الكلاسيكي الغربي وتيار الحداثة كالآتي: (هذه االرغبة الواعية في بث الشعر في النثر كانت في بدئها خميرة ثورية، وفهمها الحديثون بأعتبارها كذلك حقا خلال المشاجرة الشهيرة ورفعوا تليماك كأنها راية الثورة . ودفعوا بقيادة (هولار دي لاموت) المتحمس للهجوم على قلعة القافية المنيعة حتی هذه اللحظة، وقدم فنيلون بنفسه المعونة العسكرية، بطريقة فعالة، عندما قام في خطاب الى الاكاديمية ١٧١٤ بالفصل بين الشعر والنظم، وعندما تكفل بقضية القافية:

ان نظمنا للشعر ان لم أكن مخطئا، يفقد أكثر مما يكسب من القافية، انه يفقد الكثير من التنوع، والسلاسة والانسجام.

وعبثا حاول حزب الكلاسيکيين المعارضة، والتذرع بالتمييز المقدس بين الانواع ، والاعلان بقلم الاب ديفونتين:

انها لاساءة استخدام المصطلحات، وتخل عن الافكار الواضحة والجلية، ان تمنح اسم الشعر -جديا- الى النثر الشعري، على نحو ما حدث مع تليماك.

لم يكن قد حدث شيء من ذلك، فقد أعلن الكتاب بحماس غامر انهم تخلصوا من عبودية نظم الشعر، كما قال الحديثون واندفعوا في أثر فنيلون، ليكتبوا اشعارا ملحميا نثرية  -ص ٤٦،٤٥)٤٤٨٨٨

في الختام أود أن أشير الى ان الغلو سيٶدي الى الهلاك  في الامور كلها وما كان الرِّفْقُ في شيءٍ إلَّا زانَه، فكم يؤلمني عندما أرى شغوفا بالشعر يستهتر بشعراء ويستهين بنتاجاتهم سواء أكان الشاعر من جيل العروض أو الحديث، فهذه علامة مرضية بحاجة الى تصحيح وعلاج، فكل كلمة لها مدلولاتها سواء أكانت في شعر القديم أو الجديد، وهناك زوايا نقدية متعددة للنظر والتقييم، فالمحب للابداع والكلمة الخلابة لا ينحاز الى فئة ليرفعهم الى السماء وينزل بالآخرين الذين لا يرغب بقراءة أعمالهم الى باطن الأرض وأسفل السافلين، صحيح ان القريحة الشعرية لكل منا مختلفة ومتفاوتة، لكن المثقف الحقيقي لا ينتهج نهج المستبدين بتصفير الاخرين.

مع انني لا تربطني أي علاقة بالشاعر لكننا لو تأملنا على سبيل المثال في نص (الشمس تُحِبّ دروب مايا) لأدونيس وهي قصيدة في المجموعة الشعرية (زوكالو) نستكشف من خلال  كثافة لغة النص ورموزه أمورا عدة، لكن مع القراءة السطحية لربما يضحك المتابع من أسماء (مايا) أو (زوكالو) ولايفهمه ولا يريد أن يسأل نفسه ولا يتعب نفسه في عناء البحث لفك شفرات النص، ومع أول قراءة يرفضه رفضا تاما، بينما نجد في هذا السطر لوحده احالات عدة من بينها حضارة مايا والتي سكنت في جزء كبير من منطقة وسط أمريكا وولايات جنوبية في المكسيك، حيث كانت لديهم حضارة يقدر تاريخها بحوالي 3000 سنة. خلال ذلك الوقت الطويل كانوا يتحدثون في تلك الأراضي مئات اللهجات، التي تولد منها هذا اليوم حوالي 44 لغة ماياوية مختلفة. وقد عرفت بالحضارة الوحيدة في تطور اللغة الكتابية في الأمريكتين زمن ما قبل كولومبوس، فضلا عن الفن، الهندسة المعمارية، وأنظمة الرياضيات والفلك. فانه من العيب للمثقف والناقد الشعري ان يتجاهل هذه الحقائق والاشارات الشعرية والحضارات البشرية العريقة ويدعي كونه ناقدا ومنظرا للشعر التقليدي، في حين لا يتعارض الجيد القديم مع الجيد الحديث.

كما ان هناك اشارة في نفس السطر الى نص (حجر الشمس) للشاعر المكسيكي أوكتافيو باث، فأنی لمتابع وناقد شعري يكون جهولا بهذه البديهيات المعرفية لضرورة فهم رموز النص وسياقاتها الدلالية؟ حيث يقول باث في مقطع له:

الزمن يعود كمدٍّ

وينحسر بدون أن يلتفت،

ما مضى لم يكنْ لكنّه يأتي

وبكلّ هدوء يصبّ

في لحظةٍ أخرى تتلاشى:

أمام مساء البارود والحجرِ

المسلّح بسكاكين خفيّة،

بكتابةٍ حمراء لا تُحلّ رموزها،

تكتبين على جِلدي، وهذه الجروح

تُغطّيني كرداءٍ من شُعَلٍ،

وأشتعل ولا أتلف، أبحث عن الماء،

ولا ماء في عينيكِ، عيناكِ من حجَرٍ

وقد كتب الاستاذ هادي الحسيني بعنوان (زوكالو أودنيس ، نافذة تطل على الشعر) عنه:

أودنيس الذي عودنا دائماً على الجديد والمختلف منذ قصائده الاولى، وأغاني مهيار الدمشقي وحتى اليوم كان دائما يأتينا بالشعر من اعماق البحر ونبقى في دهشة ونحن نرى اللؤلؤ والمحار المستخرج من نصوص مختلفة وعميقة في الرؤيا والخيال. وتأتي تسمية (زوكالو) والتي اتخذها عنوانا لكتابه الأنيق وهي الساحة الرئيسية في مدينة مكسيكو ستي حيث يفتح الشاعر نافذة فندق (لاكاسونا) الذي سكنه ليرى الشمس وهي تضع أولى خطواتها فوق عتبة مكسيكو. ويصور اودنيس بأول قصيدة في هذا الكتاب الذي يقترب كثيرا من قصيدة النثر في غالبية نصوصه واخرى يقترب فيها الى النص المفتوح، وقد استغنى الشاعر في كتابه عن اوزان الخليل الفراهيدي كما معروف عنه في كتابته للشعر منذ اكثر من ستة عقود من الزمن وتزيد ليطل ّعلينا بزوكالو ونصوصها العذبة التي تنسال منها رائحة الشمس الصافية في (مايا) حيث يقول في مقطع له:

هل أُصادق ذئاب الطبيعة؟

أقتل تلك الّتي تربضُ تحت أظافري؟

أُركِّز بصري على بصيرتي، وهذه على ذاكَ، وأرافقُ إلى بلاده القصوى عِطْر وَرْدةٍ تموت.

بدأ ثوبُ السّماء يتبلّل بالجراح. إذاً، أخذت هذه البائسة تتعلّم كيف تُنشِد معنا:

الطائر عابرٌ،

والقفص بلا نهاية.

الشمس تُحِبّ دروب مايا

***

سوران محمد - شاعر ومترجم وناقد

..................

المصادر

١- قصيدة النثر/ 1، سوزان برنار، ترجمة: راوية صادق، دار شرقيات للنشر والتوزيع.

٢- -Understanding Poetry. 4th edition. by: Brooks, Cleanth, Robert Warren, Wadsworth Publishing.

٣-  زوكالو، أودنيس، دار الساقي، ٢٠١٤

٤- (حجر الشمس) للشاعر المكسيكي أوكتافيو باث. ثلاثون قصيدة في الشعر الامريكي اللاتيني المعاصر، ترجمة: محمد الخطابي.

٥- أدونيس وتجلي الخلل العقلي اللغوي، الاستاذ محمد رشيد، ٢٠٢٤.

٦- هادي الحسيني، الحوار المتمدن، ١٣/٤/٢٠١٧.

قصي الشيخ عسكر (1951) شاعر وروائي عراقي-دنماركي. وُلد في نهر جاسم بالبصرة، وتخرّج في جامعة البصرة مجازًا في الأدب العربي عام 1973، ثم حصل على الماجستير من جامعة دمشق عام 1986، ودرس اللغتين الإنكليزية والدنماركية في الدنمارك. تنوّعت كتاباته بين الشعر والرواية والدراسات، لكنه في قصة الومضة، أبدع أسلوباً خاصاً يتميز بالاقتصاد اللغوي، والمفارقة الهادئة، والتحوّل الشعوري العميق الذي لا يُعلن، بل يُلمَح.

في قصة "مرجان"، كما في كثير من نصوصه الأخرى، يُكرّس د. قصي الشيخ عسكر جماليات القصة القصيرة جداً القائمة على التكثيف، والمفارقة الداخلية، والتحوّل العاطفي الخفي. لا يعتمد على الحبكة الملتوية ولا على المفاجآت الدراماتيكية، بل يكفيه تفصيل بسيط من الحياة اليومية، يسلّط عليه ضوءًا خافتًا، ثم يتركه يتفاعل داخل وجدان القارئ. إنه من أولئك الكُتّاب الذين يؤمنون أن المفاجأة الحقيقية لا تأتي من الخارج، بل من تماسٍ غير متوقَّع مع الداخل: مع الحسّ، والذاكرة، والخذلان، والتعلّق.

نص القصة:

مرجان

بقلم د. قصي الشيخ عسكر – نُشرت بتاريخ: 26 تموز/يوليو 2025 في صحيفة المثقف

قصة ومضة

صداقتي مع مرجان تمتدّ إلى أكثر من عام!

كان يهر إليّ عن بعد

يتمسح بساقي سواء أمشي أم أجلس على أيّة منضدة فارغة أجدها على الرصيف، وحالما يأتي النادل أرمي إليه – قبل أن تمتدّ يدي إلى فمي – بقطع من شطيرة اللحم وكسرة خبز.

يحدث ذلك كلّ يوم تقريبًا

تقرؤ ملامحه جيّدًا فيشيع في نفسي البهجة

حتى إنّي من شدّة إعجابي به سمّيته (مرجان)

صاحب المطعم الطيب ذو الابتسامة الواسعة ارتاح للتسمية وأضاف أنّه لطيف حقًّا لقد طهّر المطعم من الفئران!

ومنذ يومين لم أره

افتقدت مرحه

ومواءه الهادئ وتمسحه بساقي وهو يستقبلني حين آتي لتناول طعامي.

ظننته في الداخل يتابع مطاردة الفئران

وقد صدمت حقًّا حين عرفت فيما بعد أنّ مطعمًا جديدًا افتتح في الشارع القريب الموازي تُقَدَّم فيه وجبات السمك المشوي، وإنّ الرائحة استفزّت مرجان، فرحل إلى هناك!

***

هذه القصة، رغم قصرها الشديد، تمثل نموذجًا مثاليًا لبناء "التحول الداخلي" في قصة ومضة. القط "مرجان" هنا ليس مجرد كائن ثانوي، بل هو رمز لصوتٍ يومي ألفه الراوي. حضور مرجان كان جزءًا من النظام العاطفي للمكان، وعندما يغيب فجأة – بسبب تحوّل في الرغبة – تنفتح في النص مساحة شعورية جديدة: الشعور بالفقد. إن المفارقة المؤلمة تكمن في أن "مرجان" لم يُطرد، لم يُعاقَب، بل هو من قرّر الرحيل، ببساطة، نحو مكان آخر، بدافع الغريزة. ومع ذلك، يترك وراءه فراغًا داخليًا لم يكن الراوي يدرك وجوده.

ومضة عن الحب اليومي الصغير الذي يخونه الواقع ببرود... دون أن يرتكب أحد خطأ.

هذا النمط من التحول العاطفي الصامت يعيدنا إلى نصوص لكُتّاب عالميين اعتمدوا اقتصاد اللغة والتركيز على لحظة واحدة مشحونة بالمعنى. من بينهم ريموند كارفر Raymond Carver في قصته "Little Things" (أشياء صغيرة)، المعروفة أيضًا بعنوانها الأصلي "Popular Mechanics" (الميكانيكا الشعبية)، حيث يتكثف الألم العميق خلف شجار منزلي بسيط، ويُختزل انهيار العلاقة في مشهد تقاسمٍ عنيف للطفل. لا يُصرَّح بالتحوّل، لكنه يتجسد في الصمت، في طريقة التوصيف البارد، وفي النهاية المعلّقة. كما تشبه "مرجان" أيضًا قصة "The Basement Room" (غرفة القبو) لـ جراهام غرين Graham Greene، التي تدور حول صبيّ يكتشف هشاشة عالم الكبار من خلال مشهد خيانة بسيط يغيّر نظرته للعالم. الحدث ليس ضخمًا بحد ذاته، لكنه كافٍ لإحداث شرخ داخلي لا يُمحى. ونجد مثالًا موازيًا عند فرانسيسكو إيسبينوزا Francisco Espinoza في قصته "La Ventana Abierta" (النافذة المفتوحة)، حيث ينتظر صبيّ من نافذته يوميًا شيئًا لا يأتي، حتى تُغلق النافذة ذات يوم، وينتهي النص. لا يُقال شيء كثير، لكن الإغلاق الصامت يحمل دلالة وجودية حاسمة.

في جميع هذه القصص، المفاجأة لا تأتي من الخارج، بل من التغير الشعوري الذي يخلخل التوازن النفسي للشخصية. ويتجلى هذا النهج أيضًا لدى أليس مونرو Alice Munro، في قصتها "Perspective" (وجهة نظر) من مجموعة Dance of the Happy Shades (رقصة الظلال السعيدة)، حيث يتغير منظور البطلة للعالم بهدوء داخلي نتيجة موقف يبدو عاديًا. مونرو، مثل د. قصي، لا تشرح التغيير، بل تتركه يتسرّب عبر الإيماء والفراغات. الحدث لا يهم، بل أثره العاطفي. في "Perspective" كما في "مرجان"، لا ينهار شيء ظاهر، لكن ما يهتز هو البنية الدقيقة للتعلّق، والثقة، والإحساس بالاستمرارية.

قصة "مرجان"، إذًا، ليست عن قط فقط، بل عن الصمت بعد الغياب، عن أنفاس الكائنات التي أحببناها دون وعي، ثم تركتنا دون وداع. ومع أن التحول الداخلي لا يُصرَّح به، فإن القارئ يشعر بانزياح في الوجدان، كأنه خسر شيئًا. هذا النوع من الكتابة لا يحتاج إلى ضجيج، ولا إلى مفاتيح تفسير، بل يترك المجال مفتوحًا للتأويل، ويمنح الأدب وظيفته النبيلة: ملامسة الإنسان من الداخل.

إن قصي الشيخ عسكر، في "مرجان"، يقدم درسًا نقيًا في فن قصة الومضة، يؤكد فيه أن قوة الأدب لا تقاس بعدد الصفحات، بل بما تُحدثه في النفس من أثر. وفي اقتصاده الشديد، وفي مراهنته على اللحظة، وعلى التفاصيل العابرة، يضع نفسه في حوار عميق مع كبار كتّاب القصة في العالم.

***

بولص آدم

ويقولون أن الأيام مضت بنا عتيّا..

وحان وقتُ الخجل من التوغل في ألوان الأمنيات

كثيرة كثيرة هي عليكِ

كلّها..؟

كيف..!وكلّما مددت يدي للمس الوقت إشتعل كأنه لحظة سقطت من عوالم الخُرافة...

مازلتُ أجتر مرارة التفاصيل التي تأبى أن تصير طوع يدي

روضتها حتى تمكن مني التعب

والوحد

والحزنُ

أفواه حولي تصرخ بكل عنجهية

طوقتني بالتّهم

اللّوم والشكوى

على أحوال أفئدتهم المثقوبة الخاوية على عروشها...

على من العتاب..؟

على المسافرة أم على خالق السّفائن و الأمواج..!

كذلك أنا مركب ضائع في اليم مثلكم..

الا ان لي منارة تشتعل من داخل روحي الى السماء

تُرشدني دائما الى الطريق...

وان شاء الله سأصلُ...

***

كلثوم البوركي – المغرب

........................

القراءة:

كأننا لسنا أمام قصيدة، بل أمام نَفَسٍ حارٍّ صاعدٍ من جوف إنسان تَشظّى بين حلمٍ لم يكتمل، وخطى ما تزال تمشي بثباتٍ فوق رماد الرجاء. نصّ الشاعرة كلثوم البوركي ليس مجرد بوحٍ أنثوي يمرّ عابرًا على سطح الألم، بل هو حجرٌ قُذف في بحيرة النفس حتى ارتجف الماء من عمقه.

لم تختر الشاعرة عنوانًا. وكأن النص لا يحتاج اسمًا، بل يحتاج قارئًا يُغلق عينيه وينزل فيه، كمن يدخل نفقًا بلا بوابة، لأنه ببساطة نفقٌ داخل الروح.

أولًا: صوت الذات… حين يصير العالم متآمرًا

منذ الجملة الأولى:

"ويقولون أن الأيام مضت بنا عتيّا…"

يظهر "هم" ويظهر "أنا". بينهما مسافة بحجم المعاناة.

"هم" يقولون. و"أنا" أتألم.

هذا الافتتاح الذكي لا يصور فقط عبور الزمن، بل اتهامًا مبطّنًا للمجتمع، لمؤسسات الخوف، للصوت الخارجي الذي يقمع التوق، ويُخجل الحلم.

ثم تأتي العبارة:

"وحان وقت الخجل من التوغل في ألوان الأمنيات…"

ليتجلّى هنا ما يشبه القمع الداخلي الذي نزرعه في أنفسنا كلما حاولنا أن نحيا خارج ما يسمح به الواقع.

كأنّ الحلم صار تهمة، والأمنية صارخة يجب إسكاتها.

ثانيًا: الرماد واللمس واللهيب

تقول:

"كلّما مددت يدي للمس الوقت اشتعل كأنه لحظة سقطت من عوالم الخرافة…"

ما أعمق هذا التصوير.

فـ"الوقت" هنا ليس زمنًا فيزيائيًا، بل هو اللحظة التي كان من المفترض أن تكون للحب، أو التحقق، أو الأمان… لكنها كلما اقتربت تحترق، كأنّها "ليست من هذا العالم".

هذا النص لا يبكي، بل يلمس الحريق وهو ينظر إليه بذهول.

كمن يرى الحلم يُولد ثم يذوب، ولا يملك إلا أن يمدّ يده، حتى لو احترق.

ثالثًا: الأصوات المشوشة والاتهام المقلوب

في مقطع صادم:

"أفواه حولي تصرخ بكل عنجهية / طوقتني بالتّهم…"

نحن أمام لحظة محاكمة، لكن المدهش أن المحاكَمة لا تجري في محكمة، بل في الحياة اليومية، في عيون الآخرين، في صمت المجتمع.

"العنجهية" هنا ليست صفة شكلية، بل توتر داخلي، صوت الفوضى التي تحاول إطفاء صوت الداخل.

ويا للمفارقة، فإن قلوب هؤلاء صارت:

"مثقوبة خاوية على عروشيها…"

في بيت مقلوب البناء، العروش قائمة، لكن القلوب خاوية.

كأنّ الشاعرة تقول: إنهم يحاكمونني من قلاعهم العالية، لكنهم أكثر خرابًا مني.

رابعًا: سؤال العتاب… أم سؤال القدر؟

"على من العتاب..؟ على المسافرة أم على خالق السفائن والأمواج..!"

هنا تبلغ التجربة ذروتها الوجودية.

فالسؤال لم يعد بسيطًا.

من المسؤول؟

أهي الأخرى (المسافرة) التي تركتني؟

أم هو القدر الذي صنع السفائن وجعل اليمّ بلا ضفاف؟

في هذه اللحظة، الشاعرة لا تشك فقط، بل تفكك العلاقة بين الإنسان والله، بين المصير والاختيار، بين الغرق والهداية.

ثم تأتي أجمل جملة، الضوء الذي يُنهي هذا الليل الطويل:

"إلا أن لي منارة تشتعل من داخل روحي إلى السماء…"

يا لروعة اليقين!

كل شيء حولها ينطفئ: البحر، الأمل، الحلم، الناس، السفائن…

لكن ما يشتعل ليس في الخارج، بل من الداخل.

وهنا يكمن السر:

المنارة ليست خارجيّة، بل تنبع من الروح.

وهكذا، رغم كل شيء، تقول بثقة:

"وإن شاء الله سأصل."

ليست النهاية سعيدة، لكنها منتصرة.

الذات ما زالت وحدها، لكن لم تعد تائهة.

وأخيراً فإن نصّ كلثوم البوركي ليس قصيدة، بل تجربة وجدانية مغموسة بالرماد والضوء معًا.

كتابة تنتمي إلى ضفاف الشعر الصوفي، وتشتبك مع قضايا المرأة، والمجتمع، والقدر، دون أن تفقد سلاحها الأساسي: الصدق والوضوح المتوتر.

لقد كتبت الشاعرة نصًّا لا يحتاج أن يعلّق في الذاكرة، لأنه يسكن في القلب.

وقدّمت تجربة تُقرأ كما تُقرأ الحياة: متعثّرة، موجوعة، لكنها مضيئة من الداخل.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

لآمال صالح.. البنية الدلالية والرمزية والنفسية والتأويلية

- منذ لحظة ولوجنا إلى النص: "طائر الهدهد" ندرك أن الهدهد رمز إشكالي.

يأتي عنوان النص "طائر الهدهد" كعتبة دلالية مشحونة بالرموز؛ فالهدهد في المخيال العربي والإسلامي ليس طائراً عادياُ، بل هو رسول الحكمة والإلهام ووسيط الوحي (الهدهد في قصة سليمان مثالٌ على طائر يكتنز المعرفة ويتجاوز حدود المألوف). اختيار هذا العنوان يضع القارئ منذ البدء في مواجهة نصّ يبحث عن الرسالة المفقودة، وعن وسيط بين الذات والعالم، بين الحقيقة والغياب.

- ففي البنية الدلالية مجد أنّ الوطن ككائن حيّ.

يشتغل النص على تفكيك صورة الوطن عبر نقله من كيان جغرافي إلى كائن حيّ يتألم، يسافر، يبكي، وينمو، تقول الشاعرة آمال صالح:

"هل سمعتم بوطنٍ يسافر، يقفز.. يغتسل بدموع اليتامى ويكبر في حجر النساء الثكالى.."

هذه الصورة تكسر النمطية، وتجعل الوطن أقرب إلى ذات إنسانية تتقاسم مع الشاعرة الألم والانتظار. بهذا التحويل، يصبح الوطن آخرَ محاوراً للذات، لا فكرة مجردة بل كائن يتقاطع مع مخاضاتها النفسية.

- في مجال الرمزية والتأويل: من الهدهد إلى السحابة.

القصيدة مشبعة بالرموز: الهدهد، المطر، السحابة، الزيتون، الطفل الجائع.

الهدهد: رمز للرسول الذي يحمل بشارة، لكنه في النص يصبح أيضاً علامة على الأمل المؤجل: "لا بأس إن هو قلدَ الهدهد.. وجاء يخبرنا عن وطنٍ يأتي به على سحابة."

المطر والريح: رموز لحركة الطبيعة التي تسبق التحول الروحي، المطر هنا ليس ماءً فحسب، بل لغة كونية تنتظر الشاعرة آمال صالح أن تنطق: "ترقبتُ أن يتكلم المطر.."، وكأنها تعوّل على أن تصبح الطبيعة نفسها وسيطاً للوعد القادم.

الزيتون: رمز السلام والجذور، يوظَّف هنا كبشارة للوطن الموعود تقول: "يصبح علينا ببشارةٍ وعرف زيتون."

الطفل الجائع: أقصى تجليات الألم الإنساني، لكنه أيضاً رمز المخاض الأخير الذي يسبق الميلاد/الخلاص.

- في سياق البنية النفسية: الذات في لحظة افتقاد.

النص مشحون بشدة بـ القلق الوجودي، إذ تكتب الشاعرة آمال صالح من موقع الانتظار الذي يقترب من اليأس لكنه لا ينزلق إليه، تقول:

"قد كاد يقتلني بك السؤال.."

الخطاب هنا موجه إلى الوطن/الرسول/الحلم الذي تتوسل منه كلمة – حتى لو كانت كذباً – لكنها تعترف أنه لا يكذب: "لكنه لا يكذب، حتى وإن فاقت جراحُه كل مخاضات العالم."

هذا التكرار (لا يكذب) يكشف عن حاجة عاطفية قهرية للتصديق، وكأن الشاعرة تبني أسطورة طهرانية حول هذا الوطن/الحلم الذي يظل صادقاً حتى وهو متأخر عن المجيء.

- في مجال المنهج التأويلي (الهيرمينوطيقي): النص كرحلة بحث عن معنى.

إذا قرأنا النص بمنهج هيرمينوطيقي، فإنّ "الوطن" لا يُفهم هنا كمعطى سياسي أو جغرافي، بل كمعنى غائب تبحث عنه الذات، كأفق روحي يعيد ترميم العلاقة الممزقة مع الوجود.

الجملة:

"حتى وإن لم يأتِ مثلما تصورته.. لا بأس.."

تكشف عن تحوّل في وعي الذات: لم يعد الحلم نفسه هو الغاية، بل القبول بمجيء المختلف، كأن الذات تهيئ نفسها لرحلة وجودية تنتهي بالتسليم للحقيقة مهما كانت.

- في مجال الصور الشعرية والإيقاع.

الصور في النص مكثفة ومرنة، تزاوج بين الحسّي والميتافيزيقي، تقول:

"وطنٍ يسافر" (تشخيص مجرد).

"يغتسل بدموع اليتامى" (تداخل بين الألم والفعل التطهيري).

"يكبر في حجر النساء الثكالى" (مزج بين الوطن كطفل والنساء كأمومة جمعية).

أما الإيقاع، فالنص قائم على التدوير وكثرة علامات الحذف (..) التي تخلق مساحات صمت تعادل الحيرة والانتظار. الجمل القصيرة المتقطعة: "يقفز.. يغتسل.. يكبر.." تعكس ديناميكية حلم يتشكل ثم ينكسر.

- في مجال فلسفة النص: الأمل كنجاة.

في النهاية، يمكن القول إنّ القصيدة تعيد تعريف الأمل لا كحالة عاطفية، بل كـ فعل مقاومة وجودية حيث نجدها تقول:

"نظرةُ طفلٍ جائعٍ.. هي المخاض الأخير.. وبعدها.. لا بد أن يأتي..!"

الأمل هنا ليس تفاؤلًا ساذجاً، بل وعي مأساوي بأن الفجر لا يولد إلا من رحم أقسى اللحظات.

- خلاصة:

قصيدة "طائر الهدهد" ليست نصاً غنائياً فحسب، بل نص حواري مع الوجود؛ فيه تذوب الحدود بين الذات والوطن والطبيعة في رحلة بحث عن معنى الخلاص. الرموز الكثيفة (الهدهد، المطر، الزيتون، الطفل الجائع) تتشابك لتصنع خطاباً وجودياً يتأرجح بين الانتظار واليقين، بين الغياب والحضور.

إنها كتابة تستدعي الهيرمينوطيقا لفهمها، لأنها لا تُعطي معنى جاهزاً، بل تستفز القارئ ليشارك في تأويل حلم يتشكل على حافة اليأس والرجاء.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...............

طائر الهدهد

يا وجهي الذي لا تعرفه الحضارات الحديثة..

العالمُ غاب عن الأنظار

في الزمن الذي حضرتُ فيه..!

ترقبتُ أن يتكلم المطر..

وأن تهتدي الريحُ إلى طائرٍ جديد..

لا بأس إن هو قلدَ الهدهد..

وجاء يخبرنا عن وطنٍ يأتي به على سحابة..

هل سمعتم بوطنٍ يسافر،

يقفز..

يغتسل بدموع اليتامى

ويكبر في حجر النساء الثكالى..

يصبح علينا ببشارةٍ وعَرْفِ زيتونٍ..

هل سمعتم بوطنٍ يتكلم..؟

تخيلتُ صوته يقول الشعرَ لي،

رسمتُه بين حاجبيَّ،

ناديته: "قل لي ولو كذبًا كلامًا ناعمًا،

قد كاد يقتلني بك السؤال.."

لكنه لا يكذب، حتى وإن فاقت جراحُه

كلَّ مخاضات العالم..

لن يكذب..

وأنا أحبه لدرجة العشق..

لأنه لا يكذب..

حتى وإن لم يأتِ مثلما تصورته..

لا بأس..

نظرةُ طفلٍ جائعٍ..

هي المخاض الأخير..

وبعدها.. لا بد أن يأتي..!

إنَّ الشِّعْرَ الغِنائيَّ لَيْسَ تَجْميعًا عَبَثِيًّا للقِيَمِ العاطفيَّة، وإنَّما هُوَ تَعْبيرٌ عَن العَواطفِ الخالصة، وتَجسيدٌ للمَشاعرِ الإنسانية النبيلة. ويَمْتاز بِحَرارته وخَيَالاتِهِ وتأثيرِه في المُتَلَقِّي، وتَجَاوُزِ الواقعِ، وكَشفِ أسرارِ الذات الإنسانية، والمُوازنةِ بَيْنَ أفراحِها وأحزانِها.

والشِّعْرُ الغِنائيُّ لَيْسَ مَحصورًا في الغَزَلِ وَوَصْفِ مَحاسنِ المَرأة، بَلْ هُوَ رُمُوزٌ معرفية، وَرُؤيةٌ وُجودية، وأفكارٌ اجتماعية، وهَكذا تَتَّسِعُ اللغةُ الشِّعريةُ لِتَشْمَلَ المَشاعرَ الحاملة للعَلاقات الاجتماعية، وَتَحْتَضِنَ المواضيعَ المُتَغَيِّرَةَ والأحوالَ المُتَقَلِّبَةَ في حَياةِ الإنسانِ، وتُعيدَ صِيَاغَةَ التفاصيلِ الحَيَّة في التُّرَاثِ، وَتَدْمُجَ التَّجْرِبَةَ الذاتيةَ معَ التَّجْرِبَةِ الاجتماعية باستخدامِ الصُّوَرِ الفَنِّية المُدْهِشَةِ، والإيقاعِ الكَلِمَاتيِّ شَدِيدِ الوَقْعِ في النَّفْسِ الإنسانية.

والصُّورةُ الشِّعريةُ هِيَ حَجَرُ الأساسِ في بِنَاءِ القصيدةِ الغِنائية، والزَّمَنُ الحقيقيُّ القادر عَلى تَكثيفِ الأفكارِ في لَحظةٍ لُغَويةٍ واحدة شديدة التَّركيز، والرابطةُ الوُجودية بَيْنَ الإنسانِ والأرضِ، والعَلاقةُ المَصيرية بَيْنَ خَيَالِ الإنسانِ وَمَشَاهِدِ الطبيعة، والصِّلَةُ المَنطقيةُ بَيْنَ اللغةِ والرَّسْمِ، باعتبار أنَّ اللغةَ هِيَ الرَّسْمُ بالكَلِمَاتِ، والرَّسْمُ هُوَ الكِتَابَةُ بالألوان. كَمَا أنَّ الصُّورةَ الشِّعْرية تُحَقِّقُ التَّوَازُنَ بَيْنَ التَّجْرِبَةِ النَّفْسِيَّةِ والتَّجْرِبَةِ الاجتماعية، اعتمادًا عَلى البِنَاءِ اللغويِّ المُتَمَاسِك، واستنادًا إلى مَصادرِ المَعرفةِ التي تَتَكَاثَر باستمرار نَتيجة البَحْثِ عَن المَعْنى. مِمَّا يُؤَدِّي إلى إعادةِ اكتشافِ جَوْهَرِ الشِّعْرِ بِوَصْفِهِ عَملية تَزَاوُج بَيْنَ ذَاتِيَّةِ الشاعرِ وَتَجْرِبَتِهِ الوِجْدَانِيَّة، وَالغَوْصِ في أعماقِ العَواطفِ بِكُلِّ أبعادِها المَعنوية والمادية.

وَيَرتبطُ الشِّعْرُ الغِنائيُّ بشكلٍ وثيق بالمُوسيقى، والإيقاعُ والنَّغَمُ والتَّنَاغُمُ الصَّوْتِيُّ هِيَ عناصر أساسيَّة في بِنَائِهِ المَعْنَوِيِّ وهَيْكَلِهِ الرَّمْزِيِّ، وَيَتَميَّزُ بِرَهَافَةِ الأُسلوبِ، وَنَقَاءِ الإحساسِ، وَشَفَافِيَّةِ الصُّورةِ، والصَّفَاءِ العاطفيِّ. وكُلُّ هَذه المُكَوِّنَاتِ مُجْتَمِعَةً تُمثِّل رُوحَ التَّعبيرِ الفَنِّي، وتُجسِّد قُدرةَ الفِعْلِ الشِّعْرِيِّ عَلى حَمْلِ المَشاعرِ الشَّخْصِيَّة، ونَقْلِ التَّجَارِبِ الحَيَاتِيَّة، وتَكثيفِ المَعَاني المُتَشَظِّيَةِ دَاخِلَ فِكْرَةٍ واحدة، مِنْ أجْلِ تَسْهِيلِ تَركيزِ الانطباعِ لَدَى المُتَلَقِّي، اعتمادًا على العُمْقِ اللغويِّ، والتراكيبِ المُوحِيَة، وَسَلاسَةِ الأفكارِ، وَالصِّدْقِ الشُّعُورِيِّ، والذَّاتِيَّةِ في التَّعبير، وَهَذا مِنْ شَأنِهِ تَجذيرُ الهُوِيَّةِ الثقافية، وتَرسيخُ سُلطةِ النَّصِّ الأدبيِّ، وتَثبيتُ القِيَمِ الاجتماعية، لَيْسَ بِوَصْفِهَا أنظمة استهلاكية مُعَاشَة، بَلْ بِوَصْفِهَا حالات إبداعية مُتَجَدِّدَة وَمُتَدَفِّقَة.

وَمِنْ أبرزِ أساتذةِ الشِّعْرِ الغِنائيِّ الإنجليز، الشاعرُ ألفريد تنيسون (1809 _ 1892). وَقَدْ تَمَيَّزَ شِعْرُهُ بالرُّومانسيَّةِ الحالمةِ والحزينة، والتَّسَاؤُلِ عَنْ مَعْنَى الحَياةِ والمَوْتِ، وَهِيَ أسئلة عادَ إلَيْهَا الشاعرُ كثيرًا في مَراحل مُختلفة مِنْ حَياته. كما أظهرتْ بَعْضُ أعماله اهتمامًا واضحًا بالشرق العربي وشِعْرِه، وذلك نتيجة حركة الاستشراق التي عَمَّتْ أوروبا في القرن التاسع عَشَر، فجاءتْ مُقَدِّمَة قصيدة " لوكسلي هول "، لِتُظْهِرَ تَأثُّرَهُ بِمُعَلَّقَةِ امرئِ القَيْسِ، ولا سِيَّما مَطْلَع القصيدة على أطلال بناء لوكسلي.

وَتَمَيَّزَتْ قَصائدُ الشاعرِ الفرنسي آرثر رامبو (854 - 1891) بِالغِنَائِيَّةِ وَالبَرَاءَةِ وَنَضَارَةِ الشَّبَابِ مِنْ جِهْة، والتَّمَرُّد والسُّخْرية مِنْ جِهَة أُخْرَى.

والشاعرُ السويدي إريك أكسل كارلفلت (1864 - 1931) يُعْتَبَر بالدَّرَجَةِ الأُولَى شاعرًا غِنَائِيًّا، وَيَتَمَيَّز شِعْرُه بالأبعاد الرمزية والفَضَاءاتِ الغِنائية، وَقَدْ حَوَّلَ الأغاني الشَّعْبية إلى قصائد رمزية حيَّة عابقة بالتَّحَوُّلاتِ اللغويةِ، والطُّقوسِ المَعرفيةِ، والإشاراتِ الغامضة.

والأديبُ الرُّوسيُّ بوريس باسترناك (1890 - 1960) تُعْتَبَر الغِنَائِيَّة سِمَةً بارزةً في كِتاباته، وهي غِنائية قائمة على الأصوات والألفاظ المُتناغمة المُثْقَلَة بالأحاسيسِ والصُّوَرِ والإيقاعاتِ المُتَنَوِّعَة. كَمَا تَتَمَيَّز قِصَائِدُهُ بالدِّقَّة، وَتَدَاعي الأفكار، والتَّراكيب المُعَقَّدة. وَيَتَّصِف مُعْجَمُهُ اللغويُّ بالضَّخَامَةِ والغِنى. وَصُوَرُهُ الفَنِّية تَمتاز بالتكثيف، والأداءِ الجَمَاليِّ، وَقُوَّةِ التعبير.

وَيُعَدُّ الشاعرُ شيلي (1792- 1822) مِنْ أفضل الشُّعَراء الغِنائيين باللغة الإنجليزية. وكانت حياته غير العادية وتفاؤله العنيد وصَوْتُه القوي المُعترِض عواملَ ساهمتْ في جَعْلِهِ شَخْصِيَّة مُؤثِّرة، وَعَرَّضَتْهُ للتَّشْويه خِلال حَيَاتِه وَبَعْدَ مَمَاتِه. وَقَدْ أصبحَ أيقونةً لِلْجِيلَيْن الشِّعْرِيَّيْنِ اللذَيْن تَلَيَاه.

والأديبُ الإسباني لوبي دي فيغا (1562 - 1635) يُعَدُّ واحدًا مِنْ أفضل الشُّعَراء الغِنَائِيِّين في الشِّعْرِ الإسبانيِّ، وَتَتَبَدَّى حَسَاسِيَّتُهُ الغِنائية في القصائد التي كَتَبَ كَلِمَاتِها لِتُغنَّى.

والشاعرُ الفرنسي سان جون بيرس (1887 - 1975) يَمتاز شِعْرُهُ بِغِنائيَّة ذات طبيعة مَلْحَمِيَّة لا نظير لها بَيْنَ مُعَاصريه، كما أنَّه يُعْتبَر أكبر مُجدِّد في الشِّعْر الفرنسي. فعلى المُستوى التِّقني، نَجِدُه يَتَخَلَّى عن البَيْتِ الشِّعْري، لِيُؤَسِّس المَقْطَعَ الشِّعْري المُتكامل الذي يُشْبِه الفِقْرَةَ، كما أنَّه تَخَلَّى عَنْ بُحُور الشِّعْر الفرنسي التقليدية، وراحَ يَكْتُب الشِّعْرَ على شكل إيقاعات مُتتالية ذات مُوسيقى خاصَّة بها. في عام 1924، نَشَرَ قصيدته  الأشهر " آناباز " التي كرَّسته شاعرًا عالميًّا. و " آناباز " ليس اسْمًا لفتاة، بَلْ هُوَ تَعْبير إغريقي قديم يعني " رحلة إلى داخل الذات ".

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لا أحد يكتب القصيدة من دم الضوء..

ولا ينثر المجاز حين يكون ممتلئًا بالعافية.

إلى قارئ لا أعرفه

يستلقي الشاعر فوق البياض حائراً بين اضطرابه وقرّائه، كأنّه يُسائل الصمتَ، هل يكتبُ خوفَه، أم يعتلي صهوة الريح وبيده مفردات نحيلة تتدثر بالبلاغة؟

تتراشق الكلمات في ذهنه كسهام تخطيء أهدافها، فتتعثّر أحلامه بحبرٍ لا يجف، فكلّ جملةٍ مرآةٌ تفضحُ ما توارى خلف قناع اللغة...

فهذا البياض لا يرحم، لأن عيونا خفية تحدق فيه كأنها تنتظر اعترافاً ما، لكن؛ لا شيء في قلبه سوى نزيفٌ مؤجل، كلّما لامسَ المعنى انكسر. فينام على وسادة الأسئلة، ويخاطب الأرصفة التي علمته الانتظار، وكأن سطوره تمتد من جرحه حتى السماء.

هو لا يكتب ليُطَمْئِنَ أحداً على ضلوعه المحطمة بين الأوزان، بل ليُقنعَ نفسه أنّه لا يزال حياً. وأن الكلمات التي تخرج مذبوحة من لوعته، ليست سوى محاولة فاشلة للبكاء...

يمدّ إصبعه إلى السطر مثل محارب يسقط صريعا وهو يحاول أن يمسك بعروق الغمام، فيرتجف الورق بين يديه كجسدٍ عارٍ في حضرة الحقيقة، فأيّ خيانة هذه التي تجعله يكتب ليهرب، ثمّ يسقط في الفخّ ذاته آلاف المرات؟!

يا قارئي الذي لا أعرف

تولد القصائد حين يصرخ النَّدى من المناطق المُظلمة، ولما يضيق القلبُ على نبضه، و حين تصبح الذكرى خنجرًا لا يفهَمُ إلا الورق.

فالألمُ... هو اليدُ التي تُمسك بالقلم حين ترتجف الأنامل كأوراق الخريف ..

وهو تلك اللحظة التي يتمزق فيها شيء داخلك ، فتبحث عن أي لغة لتُنقذك...

لغة تعانق الجرح وتخرجك سالما من العاصفة.

ولولا الألم، لما بكى البحر في القصائد، فسافرت بين أمواجه سفن الشعراء كي تصطاد دمعه، ولا احترقت المدن في السطور وهي تنتظر الشتاء الطويل كي تنبت أزهار الحرف، وما تهنا بين ألف معنى كي نجد مفتاح الفرح في عالم يغرق في الأحزان.

فيا قارئي الذي لا أعرف

إن الشاعر لا يصطفي الحزن، لكن الحزن يختاره ليكون رسولًا يحمل عشبة الحياة كما الأساطير، ويمشي في الأرض مثقوب القلب، لا ظل له غير ذاكرته، وحين يتعب؛ يركب عربة الليل لعله يلتقي بالغرباء مثله، ليترك أثرًا من نورٍ على الورق.

اسأل شاعرًا حقيقيًا:

كم مرة مات ليكتب بيتًا في الهواء؟

كم ليلة بات فيها يُناجي اللاشيء وينثر الحنين؟

كم خسر؟ ،وكم ندم؟، وكم بكى وهو يصوغ مفردةً واحدة ؟

ستُدرك أن الألم ليس لعنةً تُطل من عيون الحزانى، بل بابٌ سريّ للشعر نحو بهْوٍ خفي يؤدي إلى الخلود.

وحين يضع النهاية لقصيدة ما، يكون قد تعب من كل الشرفات التي يطارد من خلالها السراب، وانهار بين الجمل التي انسكب فيها دمُه مثل المصابيح؛ لكن لا أحد استطاع قراءتها وفهْمها كما يريد.

وحين يتلاشى، لا يبكيه أحد، لكن؛ تبكيه النقطة الأخيرة، وكأن الشعر لا يولد إلا من الرماد.

***

نجاة الزباير

23/06/2025

 

شعرية الوصية ومأساوية الوجود في قصيدة "تركت لكم ما أحب"

يأتي نص الشاعر الفلسطيني محمود السرساوي "تركت لكم ما أحب" بوصفه شهادة شعرية مكثّفة تتجاوز البعد الشخصي إلى أفق إنساني ووجودي، حيث ينفتح النص على قضايا الفقد والميراث الرمزي ومواجهة الزمن. إنّه نصّ يتجاوز الحكاية البسيطة إلى بناء أسطوري-رمزي يتكئ على لغة الوصايا والنبوءات، ويغدو فيه الفعل الشعري أقرب إلى فعل خلاص روحي يمنح "الآخر" ما لا يمكن أن يُفنى: المعنى، الأمل، والجمال.

في هذه الدراسة سنعتمد المنهج الرمزي الأسلوبي لتفكيك البنية الدلالية والخيال الرمزي، والمنهج النفسي لفهم الحركية الشعورية العميقة في النص، إضافة إلى المنهج الهيرمينوطيقي (التأويلي) لتأويل أبعاد الخطاب واستنطاق طبقاته المعنوية، في ضوء حوار النص مع ذاته ومع قارئه.

- في مجال البنية الرمزية للوصية – من الملموس إلى المتعالي.

يبدأ النص بفعل تأسيسي: "تركت لكم ما أحب"، حيث يتجلّى منطق الوصية كهيكل نصّي شامل، يهيمن على حركة الدوال ويوجّهها. لكن المدهش أنّ الشاعر لا يورّث ماديات أو أملاكاً، بل يمنح "سماء تزيد عن الأرض جرحاً"، أي فضاءً فسيحاً مثقلاً بالمعاناة. هنا يتحوّل الميراث إلى رمز مركّب: السماء/الجرح، كأنّ الشاعر يسلّم وصاياه على شكل جراح كونية، لا على شكل عزاء.

هذا المزج بين السموّ (السماء) والجرح (الأرض) يخلق ما يمكن تسميته بـ"رمزية التضاد الخلّاق"، حيث تتحوّل المأساة إلى ميراث جمال، والفقد إلى إمكانية للحب والالتئام: "وقلباً تلوذون فيه إذا ما عشقتم وضاقت عليكم حدود الوطن".

القلب هنا ليس قلباً فردياً بل فضاءً جمعياً، رمز أمومي يحتضن الجماعة في لحظة التيه والاغتراب، ليصبح الوطن البديل حين تضيق حدود الجغرافيا.

- في مجال البعد النفسي – من الأنا المجروحة إلى الأنا المعطاءة

يُظهر النص توتّراً نفسياً عميقاً بين ذاتٍ مجروحة وذاتٍ معطاءة. فالشاعر الذي يقرّح السماء جراحاً، هو نفسه الذي يمنح "هبوب الصباحات بين الأصابع" و"خيل الجموح الذي لا يقال" و"جلال الجمال وخمر الأمل".

بهذه الصور يتبدّى الصراع بين نزعة الألم الوجودي (الجروح، النزف، الغياب) ونزعة التخطّي والإحياء (الأمل، الخلود، الصباحات). من منظور التحليل النفسي يمكن قراءة النص كتعبير عن آلية التحويل التسامي، حيث يتم تحويل الألم الشخصي إلى طاقة شعرية خلاقة تثمر جمالاً ومعنىً للآخرين.

* في مجال القراءة الهيرمينوطيقية – النص بوصفه خطاب خلاص

إذا كان التأويل الهيرمينوطيقي ينطلق من أنّ النصوص الكبرى تُقرأ بوصفها محاولات لفهم الوجود، فإن "تركت لكم ما أحب" هو نص خلاص: إنه يقدّم "ما أحب" لا بصفته حنيناً ذاتياً، بل كدعوة للآخر للعبور من الألم إلى المعنى.

إنّ تكرار اللازمة "تركت لكم ما أحب" ثلاث مرّات لا يمكن اعتباره مجرّد تأكيد، بل هو إيقاع طقسي يضفي على النص بعداً شعائرياً، وكأنّ الشاعر يؤدّي صلاة الوصية. هذا الإيقاع يتكامل مع موسيقى الألفاظ: (هبوب – الجموح – جلال – الخلود – شلال)، حيث ينحت السرساوي معجمه على إيقاع تصاعدي يحاكي حركة الروح من الأرضي (الجرح) إلى الكوني (الخلود).

في مجال الصور الشعرية والإيقاع

يمتاز النص بكثافة الصور ذات البعد الحلمي: "شلال لوز من النزف يولد خلف الجبال وبين الظلال وفوق السفوح"، صورة تجمع بين قسوة النزف وعذوبة اللوز، بين الموت والميلاد، في مشهدية شبه رؤيوية. أما الإيقاع الداخلي فيقوم على التكرار الدائري (تركت لكم ما أحب)، والتوازن التركيبي في الجمل: (سماء تزيد عن الأرض جرحاً / قلباً تلوذون فيه)، بما يعزز من البعد التراتلي الطقسي للنص.

- خاتمة

"تركت لكم ما أحب" ليست مجرد قصيدة وصية، بل بيان شعري فلسفي يقدّم ميراثاً من الجراح والجمال معاً. إنها كتابة تعيد صياغة مفهوم الإرث من كونه امتلاكاً إلى كونه معنىً مشتركاً يُترك للآخرين: الأمل، الجمال، الحب، وحتى الألم بوصفه ذاكرة جمعية. بهذه القراءة، يتضح أنّ السرساوي يبني نصّه على أساس تأويلي-وجودي يجعل من الشعر وسيلة لمداواة الجرح بالمعنى، ومن الوصية أفقاً مفتوحاً يتجاوز حدود الفرد والوطن إلى كونية الروح.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

....................

تركت لكم ما أحب

سماء تزيد عن الأرض جرحا

وتنفض عنكم غبار الزمن

وقلبا تلوذون فيه إذا ما عشقتم

وضاقت عليكم حدود الوطن

تركت لكم ما أحب

هبوب الصباحات بين الأصابع

خيل الجموح الذي لا يقال

جلال الجمال، وخمر الأمل

وصبوة قلب تزور خطاكم

بكل السطور وكل الفصول

 وكل المقل

تركت لكم ما أحب

طيوف الخلود بشهوات روحي

ومليون نجم يقود الكلام

ويتلو السلام بملء جروحي

وشلال لوز من النزف يولد

خلف الجبال وبين الظلال

وفوق السفوح

 

حين يصبح العشق دينًا والمحبوبة ميتافيزيقيا.. قراءة نقدية في ديوان يحيى السماوي ..

ليس "التحليق بأجنحة من حجر" مجرّد ديوان شعر، بل هو نصٌّ كونيّ يتقاطع فيه الله مع المرأة، الوطن مع الجسد، والتصوّف مع الزنا المقدّس. إنه صرخة مجنونة على هيئة قصائد، يخوض بها يحيى السماوي معركته الأخيرة ضد الخذلان، الغربة، الفناء، والجمود العقائدي.

في هذا العمل، لا يعرض السماوي نصوصًا، بل يفتح عروقه ليكتب بدمه، بلحمه، بصلاته، بعريه، بطفولته، وبشيخوخته. كل بيت هو خلية نابضة، وكل صورة تشقّ الحواس كالعاصفة. نحن أمام شاعر لا يخاف من المجازفة، ولا يخاف من المجاز.

المحبوبة: أنثى، إلهة، كونٌ مكتمل

في ديوان السماوي، المرأة ليست نصف المجتمع، ولا نصف القصيدة؛ هي القصيدة بكاملها، وهي الجسد والنصّ في آنٍ معًا.

إنها البتول السومرية، العذراء المقدّسة، ومَن يتوضأ بنداها، ويصلّي نحو نهديها، ويُقيم شعائره على خصورها كأنه يؤسس ديانة جديدة:

" متوضئًا بنداكِ

صليتُ الغروبَ

ميمّمًا نحو الواحد الأحد: الفؤادَ

ونحو خدركِ مقلتي

وفمي توجّه نحو كوثر زمزمِكْ "

هنا، نلمح انزياحًا لاهوتيًا جريئًا، يعلن فيه الشاعر أن المحبوبة هي القبلة والقيامة والمحراب. هي الله الممكن في زمن الآلهة الغائبة. هو لا يعشق امرأة، بل يؤمن بها. ولعل إيمانه بها أعمق من إيمانه بالمفاهيم الثابتة.

القصيدة كعقيدة، والمجاز كفداء

يكتب السماوي كما لو كان الحلاج يعود بعد ألف عام، لكن أكثر عريًا، وأكثر ولهاً، وأقل خوفًا من صلب جديد. قصائده تتفجر مثل نبوات متمردة. وفي لحظة، تصبح القصيدة خمرة، ثم سريرًا، ثم صلاة، ثم سيفًا.

"أحببتُ فيكِ غدي الذي قد مرَّ في

أحلامِ أمسي حين عزّ المطلَبُ"

في كل بيت، هناك صوفيٌ يقبّل قدم نبيته، وفي كل فاصلة، هناك رسولٌ يعترف بخطيئة النور. إن اللغة عند السماوي ليست أداة وصف، بل طقس خلاص.1706 yahia

الدين الآخر: أنثوي، حسي، صادق

في ديوانه هذا، يتقاطع الإيمان مع اللذة، ويتقابل الجسد مع الروح، في لحظة شعرية نادرة. الصلاة لا تُقام في المساجد فقط، بل على شفتين، على نهدين، على عطرٍ فائرٍ من جسدٍ حيّ:

"صلّى على قميصها يومًا صلاةَ الظهرِ

ركعتينْ

لأنه في سفرٍ

بين سهوبِ الخصرِ والساقِ

وبين الجيدِ والنهدينْ "

ويعلن بلا وجل أن طقوسه قبلها كانت مدنّسة. كأن الحبيبة، في لاهوته الشعري، هي "الطهارة المطلقة"، وهي وحدها من تغسله من أدران الخطيئة:

"أقسمُ بالتفاحة المقدّسةْ

وبالندى الناضحِ من زهرتها

واللذة المحتبسةْ

أن طقوسي كلها قبلكِ

كانت

نزوة مدنّسةْ "

هذا ليس تمرّدًا على الدين بقدر ما هو إعادة تشكيل للقداسة نفسها، بنزعة حسية لا تخلو من النور.

المنفى الأبدي: الجسد وطن، والوطن قبر

الغربة ليست مكانًا في هذا الديوان، بل هوية مجروحة.

السماوي، المنفي بين وطنه المسروق وحلمه المشنوق، يُحوّل قصائده إلى خيام مؤقتة ينام فيها قلبه ويهذي.

هو النبي المطرود، والحبيب المصلوب، والشاعر الذي يرتّق جراحه بالحبر والدمع والغناء:

"ما منقذي مني سوايَ ..

أنا عدوي لو جنحتُ عن اليقينْ"

هكذا يعلن أن الصراع ليس فقط مع السلطة أو الوطن، بل مع النفس التائهة، ومع القلب الذي يخونه الرجاء.

لغة من لهب وماء

ينسج السماوي لغته من الياقوت والرماد، من الرموز السومرية والمفردات الطقسية، من ماء زمزم وخمر بابل. يجمع بين فصاحة التراث وتمرّد الحداثة. لا يخشى من المجاز العالي، ولا يتورع عن العري البلاغي:

" حينًا أمُصُّ التين والخوخَ

وحينًا أرشفُ الزفيرا

وأفرشُ البساطَ والوسادَ والشرشفَ

والسريرا

عبدٌ ..

ولكنّ الهوى صيّرني

أميرا "

هذا شاعر لا يؤمن بالقصيدة المداجنة .. يؤمن فقط بالقصيدة الحقيقية، وإن كانت مرقّطة بالجنون، بالوحل، بالشهوة، بالبكاء.

خاتمة: الشاعر متَّهمٌ بالحب

التحليق بأجنحة من حجر هو شهادة شاعر في محكمة الكون.

هو سِفر عشقٍ لا يعرف التوبة، وكتاب صلاةٍ من دون محراب، وأسطورة شاعر اختار أن يكون عاشقًا حتى الوجع، ومؤمنًا حتى الكفر.

في هذا الديوان، القصيدة ليست قصيدة، بل حياة موازية، بديلة، مكثفة، وموجعة.

وأكاد أجزم: لم يكن يحيى السماوي يكتب، بل كان يتطهّر.

***

بقلم: رانية مرجية

يقدم ديوان "جحيم" للشاعر المصري محمد أبو زيد صرخة جمالية في وجه العالم، سردٌ شعريّ يمتد على مساحة كثيفة من الألم والتجريب والتأمل. لا يقدّم الشاعر نصوصًا تقليدية يمكن احتواؤها في خانة “القصيدة الجديدة” وحسب، بل يذهب إلى تأسيس "سينما شعرية" داخل كل نص، مشحونة بالحركة، والقطع المفاجئ، وتراكب الأزمنة والمشاهد، مستعيرًا أدوات الصورة السينمائية والفانتازيا، وساخراً من أدوارنا الاجتماعية واليومية والتاريخية التي نرتديها على مسرح الكارثة.

منذ العتبة الأولى، يضعنا العنوان "جحيم" أمام نوع من الاختزال الوجودي الصادم، لكنّه ليس جحيماً كلاسيكياً؛ بل جحيماً عصرياً، تشكّله الميديا، وفوضى العالم، وجثث الذاكرة، وتحوّلات الهوية. جحيم مصنوع من الضحك المكسور، من تقنيات "الكولاج" الشعري، من مفارقة حادة تجعل القارئ يضحك ويبكي في اللحظة ذاتها.

الديوان ينتمي لما يمكن تسميته بـ "شعر ما بعد الكارثة"، حيث تتفكك الذوات، ويتحول الشعر إلى أداة للبحث عن البقايا وسط ركام الرماد. في جحيم، نجد ذاتًا ممزقة، مستلبة، تتماهى أحيانًا مع الأسطورة، وأحيانًا مع شخصيات من ألعاب الفيديو، أو أفلام الكارتون، أو مخلوقات من كوابيس الواقع السياسي والاجتماعي.

رسالة هذا الديوان تتجاوز الظرف الشعري أو التعبير الذاتي، نحو نوع من التحذير الناعم والزفير المعاصر؛ كأن القصائد تقول إننا نعيش داخل مشهد منهار بالفعل، وأن الشعر لم يعد نافذة أو خلاصًا، بل أداة لحفظ ملامح الرماد قبل أن يذروه الزمن. جحيم أبو زيد موجّه إلى زمننا الحاضر المشظى، وإلى مستقبل يحتاج إلى أرشيف عاطفي وجمالي يشرح لماذا سقطت المدينة، ولماذا لا تزال الأرواح تبحث عن أغنيتها في الظلام.

في قصائد مثل حروب هادئة، أنا أقوى من سلاحف النينجا، ميت يحرس الغابة، وكوروساوا خدعنا، تظهر براعة أبو زيد في بناء نص مزيج من الشعر والتأمل الساخر والنقد الثقافي، حيث تحضر الذاكرة الجماعية (الحروب، القرى، الموت، الغياب) ضمن بناء شعري شديد الخصوصية.

هذه "السينما النصية" التي يبرع في تركيبها، لا تخلو من حمولات وجودية، تأملات لاذعة في مصير الإنسان، وقلق متنامٍ حيال ما تبقّى من الحب، من الصداقة، من الحياة، في عالم يحترق بالمفارقات والغرابة والخراب.

بين قصيدة النثر والمشهد السينمائي

قصائد الديوان تكتب نفسها بمنطق «مونتاج داخلي». المشاهد لا تُروى، بل تُركّب، والقصيدة لا تُبنى بتراتبية، بل تتوزع ككادرات سينمائية. النبرة هادئة، لكن تحتها مرجل من الألم الخافت:

«لا أغنية مفضلة لي...

تمر الموسيقى من أذني اليمنى إلى اليسرى

دون أن تسقط منها قطرة واحدة.»

الذات مفككة، تتكلم تارة، تراقب أخرى، تهذي ثالثة. أبو زيد لا يكتب عن ذاته، بل يكتب بذاته، عبر منظور مكسور، يلتقط العالم من زواياه المظلمة، كما يفعل المخرج الذي يلتقط جماليات الحطام. هذه نصوص قابلة للمشاهدة لا للقراءة، تنتمي إلى ما وصفه رولان بارت بـ"نص المتعة": نص لا يُفكك، بل يُخترق، لا يُفهم، بل يُعاش.

ظلال 2019 وما قبل الجائحة

حين نُشر الديوان في 2019، لم يكن أحد يعرف أن العالم على مشارف عزلة جماعية كبرى بفعل الجائحة، لكن روح النصوص توحي بأن الشاعر كان يكتب من قلب ما بعد الكارثة. هناك نبوءة شعرية هادئة في جحيم؛ عزلة مرئية، خوف من الخارج، زمن مفكك.

«صيدليات لبيع الأيام»

«الزمن تطاير كأوراق الرزنامة»

«كل من قابلتهم... تحدق فيّ الآن، وتحاصر البيت»

هذه العبارات تشي بتيه زمني، وفقدان تام لمرجعية الواقع. الشاعر هنا لا يرثي فقط، بل يوثّق انزياح المعنى، حيث يتحوّل الزمن إلى سلعة، والعلاقات إلى مؤثرات صوتية، والحياة إلى شاشة بلا صوت.

السينما: خيال لا استعارة

خيال محمد أبو زيد السينمائي ليس مجازًا، بل بنية تفكير. الديوان مكتوب بعدسة مخرج، لا قلم شاعر. نقرأ مشاهد حية، مكتملة العناصر:

«أدخلها من السقف، ثم أبنيه فوقنا

تغني حتى تطير الغرفة مثل بالون...

نضع أيدينا على الجدران الزجاجية

ونتأمل في انبهار ملايين النجوم في الخارج»

وفي مشهد آخر:

«أرسلت إليك غرابًا يحمل وردة...

اعتذاري يجرّ جثة خلفه»

هذه الصور لا تعتمد على المجاز اللغوي التقليدي، بل على البصري الخالص. نكاد نرى اللقطات تتحرك أمامنا. القصائد تتحول إلى cut scenes، ومجموعة متسلسلة من اللقطات المأخوذة بكاميرا قلقة، تلتقط التفاصيل وتغوص في مشهدية الأشياء.

نموذج آخر: "ميت يحرس الغابة"

«أنا الميت الذي يحرس الغابة

يرتدي قبعة الشرطة

ويكتب تقاريره بالنار

كل مساء أعدّ عدد الأشجار

أرسم وجوهها وأبتسم

أشجار ترتدي أحذية مطاطية

ولا تخرج من الأرض إلا بإذن»

هنا، لا نشاهد فقط مشهدًا شعريًا، بل نتابع افتتاحية فيلم سوداوي يبدأ من الغرابة وينتهي في التأويل الوجودي. الميت يرتدي زيًا نظاميًا ويحرس أشجارًا لها وجوه وأحذية. هذه المشهدية لا تتوسل الرمزية المباشرة، بل تعمل وفق خيال بصري فانتازي، تستعير من الرسوم المتحركة ومن أفلام ديستوبية الطابع، لخلق سينما شعرية داخل القصيدة.

سخرية وجودية وصوت من الهامش

بدلًا من صوت شعري مباشر أو نبرة احتجاجية، يقدّم أبو زيد في جحيم صوتًا داخليًا لا يكترث للنجاة، بل يراقب الخراب ويصفه، كما يفعل سارد في فيلم وثائقي عن نهاية العالم:

«كوروساوا خدعنا»

«طفل يعبر خلف أليس إلى بلاد العجائب»

«البيت فوقي تتهدم حيطانه حتى تصبح هرمًا، ليس أكبر من خوفو ولا أصغر من منقرع»

هذه العبارات تحمل طابعًا ساخرًا وغرائبيًا في آن. لا يوجد مركز، ولا بطل. بل فقط ذات مهشّمة تحاول أن تقول: «أنا موجود، ولو على الهامش».

نهاية مفتوحة على رماد

جحيم لا يُغلق أبوابه، بل يفتحها على مساحة من التأمل المتوهج. الشاعر لا يقدّم عزاءً، ولا يحاول بناء جسر للهروب من الألم، بل يمكّن القارئ من العيش داخله، كأن النصوص تقترح علينا: «كن شاهداً. لا أكثر. لكن كن حاضراً».

هذه القصائد تشتبك مع كل شيء: مع الغابة التي لم يدخلها الشاعر لكنه كتبها، مع الطفولة التي تنقلب إلى منطقة أشباح، مع "الديناصورات" التي تغزو الشعر وتدير الندوات، مع الحروب التي يخرج منها الفلاحون ليحصدوا أرواحهم، ومع القرية التي لم تعد سوى رأسه المحفوظ في "النيش" ليتلو عليه الضيوف الفاتحة.

الرسالة الأعمق التي يتركها أبو زيد بين السطور أن الشعر في زمننا ليس ترفًا، بل مقاومة ناعمة. أن الذاكرة تحتاج إلى أشكال جديدة لحفظ الألم، وأن الشاعر، في النهاية، ليس شاهدًا على الواقع فقط، بل هو من يعيد ترتيب رماده بصيغة يمكن أن يتنفسها المستقبل.

محمد أبو زيد، صاحب مشروع أدبي متجدد، تتقاطع فيه الحساسيات الشعرية الحديثة مع خيال بصري حاد، وسخرية وجودية لاذعة، ووعي عميق بالهشاشة المعاصرة. كتب في الشعر والرواية والنقد، ويمتاز صوته الأدبي بفرادته، لا يسكن في يقين، بل يكتب من مناطق الشكّ، ويقيم في تخوم اللغة، بين الحلم واليومي، بين الضوء وظله.

جحيم، يتجاوز كونه ديوانًا شعريًا فحسب، إلى أن يؤرشف روح معاصرة أنهكها التيه، وسيناريو مفتوح لقصائد قادمة تكتبها الحروب الصغيرة داخل كل بيت، وكل سرير، وكل شاشة.

***

بولص آدم

(ولدتُ في ظهيرة الضجيج للشاعرة المغربية وفاء أم حمزة اجليد)

تمهيد: قاربتُ الديوان انطلاقاً من الإجراء الإحصائي المشفوع باجتهادنا في التأويل معضوضاً باستيعابنا للحظات السيميائية القادرة على إضاءة المتن الشعري الموسوم بعنوان (ولدتُ في ظهيرة الضجيج) للشاعرة المغربية (وفاء أم حمزة اجليد) التي راكمتْ في الساحة الثقافية، لحدّ الآن، ثلاثة إصدارات هي بالترتيب الزمني:

- انْڭولْ كلمْتِي، وهو إضمامة في فنّ الزجل

- أغنيات أحفظها عن الملائكة، ديوان في قصيدة النثر

- ولدتُ في ظهيرة الضجيج، ديوان في قصيدة النثر

- وديوان قيد الطبع لعنوان (صافْلُو) في قصيدة النثر

مدخل منهجي:

يهتم الإجراءُ الإحصائي بـ(تتبع السمات الأسلوبية ومعدّل تواترها وتكرارها في النص1. ذلك أنّ أحد أهدافنا من هذه المقاربة هو جعل الأرقام تنطق بالدلالة. من هنا تتبعنا للظواهر المعجمية في الديوان وتراكماتها داخل ثنائية القصدية وعدم القصدية، في احترازٍ منهجي نقول فيه إننا لا نستنطق المفردات المتراكمة والمترددة داخل معتقل القاموس الفارض أنساقَهُ الماهوية المرتبطة بالحدود والتعريفات، وإنما نستنطقها داخل سياق الديوان ككل وداخل القصيدة كجزء من هذا الكل، باعتبارهما رؤيا تتجاوز الحدود المعجمية، علماً أن الوقوف عند مخرجات الأرقام لا يقدم الدرس النقدي في شيء إذا اكتفى بعملية العدّ والرّصد من أجل العدّ والرّصد فقط... الإحصاء إجراء تقني يمثل وساطة لا غاية.

الإجراء الإحصائي في دراستنا هذه لا قيمة له إلّا داخل المنهج التأويلي السيميائي الذي حرصنا في مقاماته على دمغه بشرطين:

- شرط العلامة الفائضة، ويتعلق الأمر بدراسة العلامة في ذاتِها وفي تداعياتها. مثال ذلك رصد علامة (الماء) داخل ذاتها بما هي ملفوظة عبر الفونيمات التالية (م – ا – ء)، ثم في تداعياتها بما هي ظلال قد تنبع من الاشتقاق مثل (المياه – مائيّ...) وقد تتأـّى من المعنى في تعبيراته المختلفة مثل (الغيم – السحاب – البحر – أغسل ... وما جاور ذلك).

هذه التداعيات هي في عمق التحليل تأسيسٌ لممكناتِ وجودٍ مجازية تصنعها الذات المؤوّلة على شكل دلالة. ومثال ذلك قول الشاعرة:

كان يمكن أن أكون نورسة – 2

قد يقول قائل إن الأمر متعلق بدلالة الحرية، ولكن هذا التخريج ليس إلا دلالة في وضعٍ تأجيلي على حدّ تعبير (جاك ديريدا)3. ومعناه أنْ لا حقّ لدلالة الحرية في ادّعاء القطعية مادام الأمر متعلقاً باجتهادٍ في تأويل المتن الشعري، ومن ثمّة فلكل دلالةٍ نصيب أختِها وأخواتِها في التجلّي دون ادّعاء الهيمنة.

- شرط التأويل المشترك، وهو القائم على أن فهم المتن الشعري أو غيره من المتون، هو حصيلة تقاطعٍ بين ما نفهمه في النص في لحظته الحاضرة وبين شتى المعارف التي نحملها في عمقنا الإنساني. نفهم من ذلك أننا لا نشتغل في دائرة هيرمينوطيقية مغلقة، بل نشتغل في أفق واسع من الدوائر التأويلية لا نكون فيه منقطعين عن جملة المعارف التي نحملها في وعينا وفي لاوعينا. وهي توجّهنا وتؤثّر فينا في تخريجاتنا لممكنات الدلالات عبر تأويلنا المشروط.

نفهم من هذين الشرطين أن حضور العلامة في المتن وفي الدرس النقدي هو حضور موسوم بالتنسيب لا بالإطلاق. وأن الذات القارئة للمتن الشعري وغيره من المتون هي ذات تتحول من دائرة مغلقة إلى حضور أنطولوجي متعدد السياقات ومنفتح جدّا.

المقاربة:

1 – المعرفة بالنقيض:

نلتقط معاً مفردة (الضجيج) بعيداً عن نية قراءتها داخل سيمياء العتبة. بل نلتقطها لتجاوزها عبر نقيضها 4. الذي يحظى بصفة الهيمنة إحصائياً، ونقصد بذلك مقولة (الهمس). فقارئُ العنوان سرعان ما ينجرّ إلى فكرة الضجيج في تجلياته الصاخبة، ويحسِبُها في تراكمها المتواضع على الشاعرة ويبني على ذلك أحكامه في غير تروٍّ أو تؤدة. في حين أن الضجيج مقولةٌ لم تتجاوز في بعدها التراكمي خمسةَ ترددات، في الصفحات الآتية: ص 19 – 24 – 47 – 78. ويتبدى في هذه السياقات أن الضجيج مرصودٌ لغير دلالة الضجيج، ذلك أن الشاعرة ساقته في سياقات بعيدة عن تأكيد تبئيرهِ باعتباره صوتاً غالباً ومهيمنا، مثالُ ذلك أنها في الصفحة 19 ربطته بالنفي (و لا الضجيج المسافر)، وفي الصفحة 24 غلّبتْ عليه مقولة الصمت، وفي الصفحة 47 بأرتِ الشاعرة النشيد على مقولة الضجيج، وكذلك وقع في الصفحة 78... نفهم من هذه الأمثلة مكر الشاعرة وهي تحاصر مقولة الضجيج باعتباره صخباً داخل طوقٍ حريريٍّ يجرّد المفردة من محتواها الصّارخ، لتحوّله سيميائياً إلى نقيضه\الهمس. ولا أدل على ذلك من ربط الشاعرة للضجيج بمفردة النشيد الفاتكة بدلالة الصخب. الشاعرة ترمي في روعنا بنداء يمجّد الهمس بدل الصخب.

إن تبئير مقولة الهمس بدل الضجيج، هو اختيار ذكي من الشاعرة، يصف الذات منذ ولادتها داخل الصخب، وقد آن الأوان للهمس كي يأخذ مقاليد الذات ويوجّهها في فلسفة العمار الهامس، لأن المعنى يكمن في الهمس.

و الديوانُ طافح بمقولة الهمس خارج دوائر العلامة الذاتية المنطوقة في فونيماتها (ه – م – س). ونجده بغزارة في العلامات المعانقة لظلالِ التداعيات، نكتفي بالأمثلة الدالة التالية:

- القصيدة 3 – كل نصوصي خواطر السنونات

- القصيدة 5 – قلبي كوخ مخمليّ

- القصيدة 7 – دعني أغزل من نبضك نفساً لصباحي

- القصيدة 8 – في مضمضة الفجر

- القصيدة 9 – أستمع لأنين الماء

- القصيدة 10 – أسموبالكلام العصيّ كأنثى الربيع

- القصيدة 11 – لم أبتعد كثيرا في الكلام عن سيرة العطر

- القصيدة 12 – لا صوت في دمي

- القصيدة 13 – أسير خفيفة كأغنية

- القصيدة 14 – وصمتي وجه آخر للناي

- القصيدة 15 – ما حاجتي إلى مساء فوضوي

- القصيدة 16 – أحجب الكلام عن الكلام

- القصيدة 17 – أغنيتي من ياسمين

- القصيدة 18 – من أنا لِأرث هدوء الياسمين

- القصيدة 19 – أتعلّم أسرار الناي والطين

- القصيدة 20 – واقفة على شرفة الكلام

- القصيدة 21 – أبتلع صمتي القديم

- القصيدة 22 – أتلو قصيدتي في خشوع

- القصيدة 23 – أنهض في فم غزالة

- القصيدة 24 – أرتّبني مجازاً على نهد الضوء

- القصيدة 25 – أزرع نبض النشيد ياسمينة

- القصيدة 26 – لو أن الكلام عنها صار أخف

- القصيدة 27 – أربّي الشعر على نهد الصبيحة

- القصيدة 28 – وترٌ لأغنية العطر

- القصيدة 29 – هذه القصائد خيالات في نبض القمر

و هذا الجرد ليس حاصراً لكل تداعيات الهمس بقدر ما هو تمثيليٌّ فقط، اخترنا منه بعض الأمثلة فيما القصائد كلها عامرة بهذه المقولة بشكل يدعو إلى درس هذه التداعيات الهامسة في مقاربة مستقلة نظرا لحمولتها القوية في فهم رؤيا الشاعرة واستيعابها.

سيمياء النبات والكينونة السديمية:

أحصيْنا في هذا الحقل الدلالي تراكماً معجمياً غزيراً وملفتاً للنظر، حتّى إن القصائد في الديوان لا تخلو واحدة منها من إشارة أو عبارة أو بشارة. وقد نيّف هذا التراكم على 113 تردّداً متنوعاً لا يكرر ذاته في شبه أو تكرار أو نسخ، ولو قيد أنملة.

المقولة النباية حجم التردد

الورد 24

الياسمين 13

السنابل 07

التفاح 06

الشجر 07

العشب 06

القرنفل 05

الصفصاف 05

القطن 05

القصب 05

الربيع 04 – بمفهوم العشب

البنفسج 03

القمح 03

و من النبات ورد في الديوان كلّ من الخزامى والعنب والسنديان والتوت والنخلة والزيتون واللوز والزنبق والحبق والليمون والرمان والزهر والبرتقال و...

لا نتحدث هنا عن محور الطبيعة، بما هي كائنات يدخل في مجالِها كلٌّ من النبات والطير والحيوان والجبل إحالةً على غرضٍ شعري تغنى به الشعراء قديما وحديثا. وإن كان هذا الظلّ حاضرا في الديوان، إلا أن حديثنا هنا يحصر الدرس النقدي في مقولات النبات باعتباره قوّة سيميائية حاضرة في وعيِ الشاعرة وفي لاوعيِها، يؤطّر مدخلات إبداعها ومخرجاته.

وحضور هذا الحقل الدلالي ليس حكراً على الشاعرة، بل هو محور قديم قال فيه الكثيرون ومنهم الأعشى:

وتضحك عن غرّ الثنايا كأنه \\\ ذرى أقحوانٍ نبته متناغم

ومنهم امرؤ القيس:

إذا قامتا تضوع المسك منهما \\\ نسيم الصبا جاءتْ بريّا القرنفل

إلا أن حضور النبات في سياق ديوان (ولدتُ في ظهيرة الضجيج) أمر آخر، يحتلّ فيه هذا العالم بؤراً نفسيةً واسعة بالإضافة إلى المساحات الفضائية في الديوان. من هنا قيمة هذا المحور الفنية وضرورة استنطاقها في ممكن الدلالات.

في بداية الديوان وفي قصيدة (بنفسجةُ النشيد) أعلنت الشاعرة عن شيء لافت. يتعلق ببيان شعري يمارس خلخلةً في ثوابت الكينونة، تقول فيه:

كان يمكن أن أكون نورسة

كما كنت قبل الآن

أو أكون شجرة لوز

في حلم ناسك – 5

التأخير في الكلام العربي تبئير. والكينونة هنا فضّلت - عبر تقنية التقديم والتأخير - تجلّيها باعتبارها وجوداً داخل النبات (شجرة لوز). وهنا يتكرر فعل الكينونة داخل مقولة الاحتمال، كما النبات هو في الأصل احتمال حياة إذا توفرت شروطها ومنها الماء على أقل تقدير... وقد حشدت الشاعرة في هذا المقطع حزمة من فعل (كان) في صيغه المتنوعة (كان – يمكن – أكون – كنت – أكون). والصورة السمعية المؤثّتة داخل النسق الصوتي المتشكل من فونيمي الكاف والنون، تهيمن على مساحات الاستقبال. وتتأكد فاعليتها الدلالية داخل سيمياء النبات: أو أكون شجرة لوز.

واختارت الشاعرة صيغة التنكير بدل التعريف لمقولة (اللوز). تاركة المفردة على غارِبِها تمارسُ حضورها النكرة الملقي بظلالِ الاحتمالات القِرائية. لأن التعريف يشير إلى متعيّن، فيما التنكير أبلغ في الإشارة والعبارة على الأقل هنا في هذا السياق.

يتحرك في المقطه أعلاهُ إيقاعٌ صوتيٌّ للكاف منغوماً بأثر صوت النون، ليُخرج الكينونة من جفافِ الفيزياء إلى مقام الأبعاد:

- الكينونة في بشريتها = علاقة تبادلية بين الذات والواقع

- الكينونة في حيوانيتها = المعادل الموضوعي في النورسة

- الكينونة في وجودها النباتي = جوهر التبئير في شجرة اللوز

يكاد هذا الاحتمال يصم المقطع والقصيدة والديوان معاً بوصمة الشك. ويفيدنا التركيب (هوس الرؤى) ذلك. ويفسر لنا هذه الكينونة المتعددة كالتالي:

الشك ------ الهوس

- الشبهة

- الاحتمال

تبحث الشاعرة عن اليقين أو ما يشبه اليقين. تبحث عن صيغة له تحوله من مقولة الاحتمال إلى مقولة الثبات وتوطين الذات خارج الوجود الفيزيائي الموسوم بالبداهة. إنه الوجود داخل فكرة النبات باعتباره عالمَ حياةٍ ثم عالمَ سديم.

و لا يتعلق الأمر بعالم النبات في حقيقته الفيزيائية، بل بجوهر النبات ووجود الذات المتكلمة لا في جغرافية تجسّدها بل في جوهر وجودها المنفلت من قبضات التشيّؤ.

و لننظر إلى عبارات شعرية من الديوان هي أمثلة فقط، تستبيح المادة وتخرج من شرنقاتها إلى معانقة الرؤيا والسديم في تفسير الكينونة داخل عوالم النباتات:

شجرة لوز – قمح الكلام – رقصة الحبق – الورد وتنهيداتي – أرتّب روائح الليمون – وكلّما استيقظت الكمنجات تنمو في كفي بنفسجة النشيد...

فيض من غيض هذا فقط. وفيه تختم الشاعرة رحلتها من الشك إلى اليقين عبر صيرورة وسيرورة النباتات مقرونة إلى أنطولوجيا الذات في تشعّبٍ ماهويٍّ يسير في اتجاهِ تناغمٍ وانسجام دلاليين يحكيانِ أكثر من بعد:

- قمح الكلام ......... عطاء

- رقصة الحبق ......  حركية وجمالية

- الليمون ............ ترتيب محطات الكينونة

- البنفسجة ........... يقين الإبداع

و غيرها من أمثلة ولادة يتناسل فيها التأويل المشروط بقرائن الحال والمقال في الديوان.

هكذا نستأنس بالشاعرة وهي تُخرج مقولة النبات من نمطية التمثّل القديم حيث الشجرةُ معبودةٌ في الأساطير القديمة – مثلاً – إلى كينونة جوهرية تختلف عن الكينونة في ميلادها المتشيّء. قالت (أكون شجرة لوز). وهنا وتحديدا في هذا المقام، يصبح النبات هوية. وهنا ينبغي التنبّه إلى القفزة النوعية البائنة بينونة كبرى من الشجرة داخل الطقس الخرافي إلى الشجرة داخل الماهية.

و النباتات حاضرة في الديوان لأنها حاضرة في نسغ الإنسان، موضوعاً غذائيا وبيئياً وزراعياً وعلمياً وثقافياً ودينياً وأسطوؤياً وغيرها من مجالات وتصنيفات. فلا يكاد يخلو مجالٌ ما من الاتصال بهذا العالم بصورة أو بأخرى. ولعلّ قصّة الخلق الأولى تثبت ذلك، حيث التعامل مع الشجرة كان من باب التوق الى فكرة الخلود. فلا غرو أن يكون الديوانُ حاصدا بغزارةٍ بائنةٍ دلالات النبات ومخرجاته في أيادي التأويل وسيمياء الكشف عن بعض الغائر من كينونة الذات المتكلمة في رصدها لكينونتها الخاصة.

من هنا نقرأ جمالية الصوغ الشعري في قوة البناء والدلالة والأبعاد في مثل قول الشاعرة:

أنقش سيرةَ النحل

على رموش صفصافة

أركض إلى المعنى

كي تذوق فكرتي العطر

و أعود لأغزل سنابل صمتي

على نوتات الحلم – 6

إن المتتبع لشرط هذه الكينونة النباتية ليفاجأ بالتراكم الغزير الباني نسقَ اعتمالٍ شعريٍّ يتميّز بالفرادة في طرق هذا الباب الدلالي والأبعادي والتأويلي. لقد اكتفينا بما يمثّل له تمثيلا قاصراً عن قراءة الكينونة قراءة مستوفية لخطوط طولها وعرضها داخل هذا المقام الضيق مساحتُهُ الورقية. فلكل قصيدةٍ حظّها من هذا الإشراق القويّ الحاضن للذات في جسد زنبقة أو ياسمينة أو حبّة قمح أو نكهة تفاحة أو في سفر عطر ليمونة...

خلاصة:

و إذا شئنا خلاصة لهذا التراكم الغامر نقول ما قالت الشاعرة في آخر قصيدتها الموسومة بـ(طائر المساء الغريب) وهي تردم داخلها كل المسافة بين النبات والذات والشعر... قالت:

و لأنني مُزارِعةٌ

في حديقة الشعر

أكتب عن حكمة الرّمان

أفتح رئتي للهواء المجفّف

أحرر حقائبي من غربتها

أرشفني شفة الضوء

مني بارقة الكلام

سقطت في نهد قصيدة ... 7

***

نورالدين حنيف أبوشامة

باحث في الأدب والفكر \ المغرب

....................

إحالات:

1 – د ابراهيم محمود خليل\ النقد الأدبي الحديث\ دار المسيرة للنشر والتوزيع\ ط 1 2003\ ص 157

2 – وفاء أم حمزة اجليد\ ولدتُ في ظهيرة الضجيج\ مكتبة السلام الجديدة\ الدارالبيضاء\ ط 1 ،2024\ ص 11

3 – للمزيد من التوسع أنظرJacques Derida / positions/paris minuit/ 1972

4 – علمتنا اللسانيات الحديثة وقبلها علّمنا علم القراءات القرآنية أن التعريف بالمقابلة وبالنقيض يكون فعّالاً وناجعا.

5 – الديوان\ ص 11

6 – الديوان\ ص 25

7 – الديوان\ ص 74

 

للكاتبة والروائيّة محبوبة محمد سلامة

محبوبة محمد سلامة - كاتبة وروائيّة‏، عملت ‏معلمة‏ للقراءات العشر للقرآن الكريم‏، وتدرس في ‏رواق الأزهر الشريف للقرآن الكريم‏، كما تدرس في ‏كليّة آداب جامعة القاهرة، قسم علم نفس وفي ‏كليّة دار العلوم جامعة القاهرة‏. (سُقِيَتْ روحها بالقرآن وتشبع به حرفها وارتوى) كما يقول أحد نقاد أعمالها.

صدر لها: كتاب "جنود من عسل" – رواية "على شق الوسن" – رواية "دليلة" – كتاب "أمسك عليك قلبك" – رواية "ونراه قريباً" – رواية "يوم المزيد" – كتاب "أميرة الدموع وقلوب الزمن". ورواية "وحوش في منزلي" موضوع دراستنا.

الرواية في المضمون:

البنية الحكائيّة للرواية:

تعالج الروائيّة "محبوبة" في روايتها "وحوش في منزلي" قصة فتاة جامعيّة تزوجت بعد تخرجها من الجامعة في بداية العقد الثالث من عمرها، موظف حكومي، أنجبت له في ولادتها الأولى طفلة سمتها "مريم"، وبعد أربع سنوات جاء حملها الثاني بثلاثة توائم، ولدان وبنت هم "روح، وريحان، وريتال".

منذ الأيام الأولى للولادة بدأت التعب والارهاق يأخذ مأخذه من حياة الأم فكراً وجسدا. حتى راحت الكوابيس تلاحقها في نومها إن استطاعت النوم (انتفضت في يوم من نومي على احساس ألهب عقلي.. أيدي تتحسسني وتنهشني.. حاولت التملص والهرب لا مفر ولا مقر، اختلطت انفاسي بأنفاس من عند رأسي وهو يقترب من وجهي ويتحسس خدي وأنفي، حاولت فتح عيني لكن شعور من الارهاق والتعب قد أنهكني.. صرخت بداخلي.. ابعدوا عني لكن الصوت لم يتعدَ حدود عقلي وفكري.في لحظة سئلت نفسي.. هل أتمنى الموت الآن أم أنتظر قليلا ؟. وصدع الرفض في رأسي معلنا ان هذا التمني سيكون دليلاً على الاستسلام والهزيمة... فتحت عيناي بعد توسلي لها لتنفتح وتدع عنها سلطان النوم وآثامه فالنوم لم يعد مسموحا لي بعد الآن.). (4ص).

بعد خمسة عشر يوماً من ولادتها تقرر الرحيل من منزل أهلها إلى منزلها.. تتوسل أمها وأختها أن تبقى أياماً أخرى حتى تتعافى من آلام الولادة، إلا انها تقرر الذهاب أخيراً وهي تقول لأختها التوأم "هدى" على الهاتف التي نعتتها بالجنون على رحيلها إلى منزلها وترك منزل أهلها غير مراعية وضعها الصحي :(انت ناسية أن اختك بتمتحن، وأمك مش حمل مراعية أولاد بالوضع دا، وطبعا أبوك إن كان مش عاوز يزعلني ويتكلم فانا من غير ما يقول لازم أخلي، عندي دم إزاي راجل في سنه يستحمل صريخ ثلاث أطفال في وقت واحد !. انا مش بستعبط.. أنا بحاول ما ضايقش الي حواليا.).(ص6).

مع وصولها إلى منزلها، تبدأ مأساة أم وحيدة مع أربعة أطفال كلهم بحاجة لتأمين حاجاتهم ومتطلباتهم، من طعام ورضاعة وتنظيف وكل ما يتطلبه الطفل الرضيع... ويلها صراخهم الذي لا تعرف سببه، هل هو من الجوع أم من ألم ما: (وعلا صوت الصراخ، وشعرت بجسدي يسخن من أثر صوتهم ورأسي تكاد تنفجر، وتجمعت في عيني دموع القهر ورأيتهم كوحوش قد سكنت عالمي بملامح طفوليّة بريئة تخدع الأعين ويتملكوا بها القلب).(ص8) فتصرخ بأعلى صوتها وهي تقول لزوجها: (إبق الليلة دي كلها هناك جنب السرير وظل إسأل عليا من فترة للتانية لا يكون جرالي حاجة. ).(ص9 ).

وهكذا تمضي أيام التعب والشقاء مع (وحوشها) كما سمتهم، حتى راحت تنسى ذاكرتها أشياء مألوفة عندها كبعض آيات القرآن: (مر أول يومان لي دون نوم تماما، فجأة عرفت معنى الجنون من قلة النوم، نام اثنان وظل ثالثهم يبكي بدون سبب، غيرت حفاضه، أطعمته حتى اكتفى، أعطيته دواء المغص، أخذته في حضني كي يهدأ وكل هذا وما زال يصرخ خ خ خ.. أكاد أجن.. أصمت.. يكفيك.. ارحمني لكن يا ليته يفهم ، بدأت أربت علي ظهره حتى وجدتني أردد سورة الفاتحة ثم أوائل البقرة وأنهيت أول ربع ووقفت ولم أعد استطيع التكملة.. يالله أين ذهب الحفظ!! ما الآية التي بعدها ؟ ). (ص10).

إضافة لفقدان بعض ذاكرتها بدأت تشعر بخلل واضح في رويتها بسبب ما تعانيه من تعب وشقاء مع وحوشها: (رؤيتي صارت مشوشة، نظرت للسرير وجدته وقد امتلأ أطفالاً..ما يقرب من العشرة كلهم على السرير.. كدت أصرخ من الفزع ،إنه كابوس مخيف لا بد أنني نائمة، لكن يا ليته كان كابوسا كنت حينها سأفرح لأنني ذقت طعم النوم لكنه ضعف رؤية وتشوش من قلة النوم جعل عيناي ترى ما لم يتواجد في الحقيقة.). (ص11).

مشكلة أخرى حلت مع وحوشها... لم يوافقهم حليب أمهم، وهذا ما جعل زوجها يبحث عن عمل إضافي لتأمين مصروف العيال من حليب ودواء وغير ذلك.

كل ما كبر الأولاد يوما كبر همهم وازدادت حركتهم وعبثهم في محتويات البيت من نثر وتكسير لكل ما يقع تحت أيديهم إضافة لإذاء أنفسهم. كل هذا كان يشكل عبئاً إضافيا على الأم من كل النواحي الجسديّة والفكريّة والروحيّة..

في يوم التقت عيناها في المرآة فجأت: (وقفت أمام المرآة ورفعت وجهي إليها، وتأملت تلك الملامح التي أظنني أعرفها منذ زمن بعيد، تألمت لحالي، اقتربت من المرآة وألصقت وجهي بها كأنني أتأكد أنني صاحبة هذا الوجه. فرأيت وجهي وقد نزفت منه الحياة، حينها رفعت يدي لأنظر إليها فصدمني اصفرارها وجفاف جلدها... أدمعت عيناي من منظري وكأنني من ضحايا حرب نزعت الرحمة من قلوب فائزيها فجاروا على خاسريها.(ص31).

وهنا تتطرق الروائية إلى حالة أخلاقيّة أو وجدانيّة تركت آثاراً نفسية عندها بسبب جارتها التي تركت عندها أولادها مرات عديدة للعناية بها، وعندما احتاجتها للمساعدة في العناية بأولادها لمدّة ساعة لظروف طارئة رفضت مساعدتها، لقد تنكرت للجميل. إلا أن العذاب النفسي الأكبر يأتي من حماتها التي ترفض العناية بأطفالها الصغار عدا الطفلة مريم التي تأخذها دائما معها إلى منزلهم، في الوقت الذي تُحَمّلُ زوجة ابنها ما يتعرض له الأطفال التوأم من مشاكل صحية أو غيرها متهمة إياها بالإهمال.

تمر الأيام مسرعة بكل شقائها وانعكاسات هذا الشقاء على الأم فيكبر الأولاد.. مريم أصبحت في السادسة ودخلت المدرسة الابتدائية، والتوأم الثلاثي وصلوا العامين من العمر فيوضعونهم في الحضانة، ولكن رغم تحوله العمري تزداد شقاوتهم وعبثهم.

في نهاية الرواية تسافر الأم وأطفالها ووالدها ووالتها وأخوها وأختها "ليلى" رحلة لمدّة يومن إلى الاسكندرية، وفي طريق العودة تتعرض سيارتهم لحادث ينجون منه بأعجوبة، موعزين سبب النجاة للقدر أولاً ثم للأطفال ثانياً، وهنا يتحول الأطفال بنظر أمهم وأهلها من وحوش كما وصفتهم أمهم إلى ملائكة.

البنية الفكريّة للرواية:

تمتد الرواية في بنيتها السرديّة على مقدمة وثمانية عشر جزءاً، كلها في سياقها العام تقوم على السرد الوصفي للأحداث التي تضمنتها الرواية، فاستخدام التفاصيل واللغة الوصفيّة في توصيف الأشخاص والأماكن والأحداث في الرواية، ساعد المتلقي على تخيل للمشاهد وتجسيدها في ذهنه، وهذا ما يجعله يعيش ويستمتع بالأحداث بشكل أكثر واقعيّة وتفاعليّة.

بيد أن اعتماد الرواية على الوصف بشكل واسع في متنها السردي، غطى إلى حد كبير على الرؤى الفكريّة التي يمكن أن تبرز بشكل مباشر من خلال الحوار، وتشد القارئ من البداية إلى النهاية بحثاً عنها والتفكير بها.

إن وصف الرواية بالتفصيل الدقيق لشقاوة التوائم وعذابات الأم بشكل خاص في ملاحقة ما يبدونه من أعمال عبث بمحتويات المنزل وإصلاحه، لا تخرج عن المألوف عند أية أسرة لديها أطفال، عدا أن شقاوة التوائم الثلاثة تتضاعف، وهذا ما يربك الأم والأسرة والمحيط الأسري بعمومه إن كان من أهل الزوج أو الزوجة.

بيد أن ما يلفت النظر في الرواية هو استنتاج المتلقي لتلك المواقف النفسيّة والسلوكية، وحتى الفيزيزلوجيّة المتشابهة التي يتعرض لها التوأم في أوقات محددة، كما يجري لبطلة الرواية وتوأمها "ليلى" من حالات مرضيّة نفسيّة أو جسديّة عرضيّة قد تصيب إحداهن فجأة فتشعر بالألم أو بالإحساس النفسي توأمها دون مبرر منطقي، كما جرى لبطلة الرواية عندما انتفضت في أحد الأيام على ألم حاد برأسها لا تدري له سبباً، فقلة النوم اعتادت عليها كما تقول.. فتتساءل لماذا الآن رأسها تؤلمنها هكذا ؟. تطور الأمر وصارت الرؤية مزدوجة والألوان متداخلة، لم تعد تستطيع الوقوف على قدميها، وكلما نظرت بالمرآة وجدت تجمعات دموية قد خطت لها موقعا في بياض عينيها، لقد ضعفت رؤيتها أكثر وأكثر... فاتصلت بزوجها بالعمل وهو بدوره اتصل بوالدتها.. لكنها لم ترد مرة واثنان وثلاث.. حتى يئس من الاتصال واعتذر من عمله وحضر للمنزل، وأخيراً تتصل والدتها تعتذر.. وتقول بأن "ليلى" توأمها في المستشفى.ص66.

عند ذهابها إلى المشفى مع زوجها سألها الطبيب (بتشتكي من إيه ؟.صمت قليلا وهي تنظر لزوجها وتشعر بقلة الحيلة ثم قلت: ولا حاجة.. أنا كنت تعبانة جداً النهاردة ومش شايفة ومصدعة وعيوني حمر، لكن من حوالي عشر دقائق كل الحاجات دي اختفت.. فانا مش عارفة إيه الي حصل. فأشرت برأسي له أنني بخير. ثم وجهت كلامها لزوجها علينا أن نرحل. فأشارت برأسها له أنها بخير.). (67). المفاجأة أن أختها "ليلي" التي كانت في المشفى قد خف مرضها فانعكس أمر الشفاء عليها. ثم راحت تسأل والدتها عن حالة شقيقتها على الهاتف وتقول: (تفتكري ها يطلعوا أولادي زينا.. كل ما يغيبوا عن بعض يعيوا ؟

هل سيكونوا مثلي أنا وليلى ؟.).

عند زيارة أم التوائم وأختها "ليلى" الطبيب للنظر في وضع حالتهما الغريبة، بعد أسئلة كثيرة تداولها معهم منذ طفولتهما حتى اليوم وصل لنتيجة مفادها كما قال لهما: (نصيحتي ليكم يا بنات ما تروحوش لدكاترة متخصصين لأن الأمر دا مش مرض دي نعمة من ربنا ليكم ويكفي ان ولا واحدة فيكم ها تحس في يوم إنها لوحدها. بالإضافة أن سبب ردود الفعل دي مختلفة.. منها البعد عن بعض لمدّة طويلة أو زيادة الالم عند حد فيكم فالتاني بيستقبله بصورة عرضية.. طبعاً كل دي فرضيات والله أعلم.).(ص94). وهنا بررت هذه القضية الغامضة بسبب عجز الطب على أنها نعمة من الله.

أما الفكرة الثانية التي تشير إليها الروية بشكل غير مباشر وهي أن المرأة تظل تعشق الأولاد والإنجاب حتى ولو كان لهذا الأمر نتائج خطيرة على حياتها.

تقول أم التوائم: (خرجت من دورة المياه بعد خمس دقائق وقد شحب وجهي وانتفضت أوصالي. أريد أن أبكي.. لا بل أريد أن أنتحب... ظلت والدتي تحدثني وتسئلني وبكل ما أوتيت من قوة وعزم تحثني على الإفصاح عن ما يدور بداخلي. لكني كنت مغيبة عن الواقع تماما وكأن الألوان حولي باهتة والأصوات مهتاجة وصريخ مولود يعلو في الخلف لا أدري موضعه لكنه يفزعني... اقترب مني زوجي وراح يسألني: في إيه.؟... أعاد علي السؤال مرة واثنتين وثلاث وخمسة وعشرة حتى افقت قليلا من صدمتي والتفت إليه ونظرت بعيني زوجي ثم أخرجت ما في قلبي بكلمتين اثنتين اسقطتهم عليه: أنااااا..... حامل.). (ص122). أفاق بعدها على لمسة يدها ليده، فنظر لي وابتسم.. ثم قال:الحمد لله على ما رزق.. بس ازاي ما انت بتاخدي موانع الحمل ؟.نظر إليها بابتسامة وأخفى الكثير من ما في نفسه بنفسه، ولكنها تعلمه وتفهمه، بل هي تدري ما برأسه قبل أن يخطر بباله أو ينطقه لسانه.

تقول: (اتصلت بطبيبتي ثانية وهي تبارك لي على الحمل وتخبرني أن حملي هذه المرة سيكون بتوأم... ابتسمت.. كيف هذا، لا أدري؟... سعدت بالخبر مع أنه أحزنني في البداية تحسست بطني فشعرت بقشعريرة قد ملكتني، أعدت النظر في المرآة فكأن جبيني يتلألأ كتلؤلؤ الكوكب في جنح ليل مبرد، وافتر ثغري عن الأنوار افترار الأكمام عن الأزهار..(ص134).

أما الفكرة الأكثر حضوراً في الرواية هي قضية إيمان الفرد المسلم بقدره وما يكتب له أو عليه، فكل شيء يعتبر أمراً مقدراً من قبل الله وعلى الإنسان أن يرضى به. ولكن الذي لا نستطيع تفسيره هو كيف حملت هذه المرأة وهي تأخذ موانع الحمل، رغم أن زوجها يعرف سر حملها وهي تعرف أن زوجها يعرف. ؟!!!!.

الرواية في الشكل:

العتبة السيميائيّة للغلاف والعنوان:

مساحة كبيرة من سطع الغلاف يغطيه الأسود الذي يدل على الحزن والألم والكآبة والتعب والمعاناة.. تتخلله بقعة ضوء متدرجة في نورها تكشف عن ثلاثة أشباح في وسط الغلاف تؤكد عنوان الروية (وحوش بمنزلي)، الذي يعبر عن غرابة تصرفات التوأم الثلاثي وما تركوه من الم وشقاء وعذاب عند الأم، الأمر الذي جعلها تصفهم بصفة الوحوش.

الأنموذج المرجعي للرواية:

تنبني الرواية على الأنموذج الواقعي، وعلى طبيعة المتخيل القائم على معطيات اجتماعيّة استلهمت الروائيّة معطيات مضمون روايتها وتشكيل عالمها الحكائي من صور الواقع.

فالرواية تدخل من جهة في محيط الأدب الواقعي، الذي يصور حياة الناس وقضاياهم ومشاكلهم، بعيداً عن عالم الفانتازيا والخيال والرومانسيّة وغير ذلك من أشكال الرواية الحديثة. ومن جهة ثانية، تقع الرواية أيضاً في مضمار الرواية النسويّة من حيث أن الروائيّة فتاة وهي " محبوبة محمد سلامة"، ثم أن البنية السرديّة والفكريّة للرواية تدخل في مضمار عالم المرأة. وهذا النوع من الروايات راح ينتشر بسرعة كبيرة في عالم الرواية العربيّة خاصة بعد أن كثر عدد الروائيات والقاصات وحتى الشاعرات من الأناث، اللواتي رحن يسلطن الضوء على عالمهن ومشاكلهن في هذه الحياة، وأهل مكة كما يقال أدرى بشعابها، وبالتالي هن أدرى بمشاكلهن.

إن الرواية في سياقها العام قدمت لنا شخوصاً تشبه شخوص الواقع المعيش في ظروف اجتماعيّة مختلفة يسهل التعرف عليها. أي الروائيّة قدمت في روايتها عالم شبيه بظروفنا الاجتماعيّة وشخصيات شبيه بشخصيات الواقع. لذلك يطلق على هذا الأنموذج من الروايات بالرواية الواقعيّة. وأهم سمات وخصائص هذه الروية أن تقدم للقارئ تفاصيل دقيقة عن المكان وجزئياته، كالشوارع والغرف ومكونتها والأصوات والأفعال وضروب الأنشطة المختلفة. وذلك يأتي لقذف المتلقي في عالم يشعر أنه جزء منه، أي تطلعنا على تفاصيل حياتنا الاجتماعية، وهذا ما استطاعت الروائية تحقيقه.

سمات وخصائص البنية السرديّة للرواية:

لقد اتسم أسلوب سرد الرواية بالاقتصاد والدقة. وجنبها الوقوع في السرد التقريري. وجعل منها لوحات متتابعة مرسومة بألوان حيّة مجللة بأطياف من الحزن والأسى والفرح والسخرية وغيرها من المواقف الحياتيّة.

إن الروائيّة صاغت الكثير من أحداث روايتها في ضوء وإيقاع وزوايا تصوير واقعيّة مدهشة كما بينا في موقع سابق. وحشدت الكثير من المفردات والوقائع الواقعيّة. الأمر الذي يجعل القارئ يقبل على قراءتها بحفاوة وتأملها وتقصي أبعادها بجديّة واهتمام. وبالتالي يقدر جهد الروائية بأنها تؤمن بدور الأدب في الحياة وتأثيره على المتلقي.

لقد تميز أسلوب الرواية وبناءها بالأحكام والانسيابيّة والرصانة والبساطة، حيث يتم فيه الانتقال من باطن الشخصيات إلى ظاهرها أو عالمها الخارجي بسلاسة وانسيابيّة واقتصاد. مع ورود الكثير من القطع في البنية السرديّة، وهذا واضح من تعدد أجزاء الرواية (ثمانية عشر جزءاً) الذي جعلها لا تسير باتجاه واحد، حيث وجدنا بَالبنية السرديّة مجموعة من السرديات التي تتوازى على مدار الرواية، مما جعل الرواية مليئة بالزخم. فالسرديات المختلفة تتوزع على الفصول أو أجزاء وكأن شاشة الرواية منقسمة إلى أقسام كثيرة، يراها المشاهد بَالوقت نفسه تقريبا، فهو لا ينتهى من السرديّة الواحدة مرة واحدة، وإنما يدخل معها حكايات متنوعة، وينتقل من حكاية إلى أخرى، بكل سهولة وحرفيّة.

لقد اعتمدت الروائيّة في معظم سردها من جهة المنطوق اللفظي على المنولوج الداخلي، وهذا المنطوق يعكس رؤية خاصة بمؤلفها، حيث تم تبنى رؤية واحدة في تشخيص الواقع، وكانت العلاقة بين الروائي والشخصيّة الروائيّة علاقة تحكم وسيطرة، وهذا ما ساهم في فقدان الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية وهي (الأم) حريتها وشخصيتها، لتصبح تعبيراً عن صوت الروائيّة وأيديولوجيتها. هذا مع وجود بياضات كثيرة داخل البنية السرديّة، قامت الروائية بتلوينها أو تغطيتها عبر حوارات سريعة على الهاتف أو بشكل مباشر بين الزوجة وزوجها أو مع حماتها أو والدتها أو الدكاترة المشرفين على حالات الوجع الذي يصيب شخوص الرواية. فالحوار من جهة أخرى جاء في الرواية أداة فنيّة أخرى كشفت عن ملامح وسمات الشخصيات، وساعد القارئ على تمثلها وفهمها. إن الروائيّة في حواراتها المتناثرة في بنية السرد استطاعت أن توظف هذه الحوارات ليس لتنمية الحدث في الرواية فحسب، وإنما لتكشف عن الملامح الذاتيّة أيضاً لشخوص روايتها، النفسيّة والفكريّة والأخلاقيّة، لقد أفصحت الرواية عن نماذج إنسانيّة متعددة، تمنح عالم كل أنموذج منها خصوبة وحيويّة متجددين. أما الكيفيّة التي تمت بها عملية السرد من قبل الروائية فهي:

الرؤية من الخلف:

ففي هذه الحالة يكون السارد أكثر معرفة بالشخصيّة الروائيّة، أي هو يعرف ماذا يجري في أعماق البطل وفي ذهنه أو ما يشعر به نفسه، فليس لشخصياته أسرار، إنه سارد عالم بكل شيء وفي كل شيء. وهو أيضاً الذي يعرف كل أحداث القصة وشخصياتها، ما خفي منها، وما ظهر، وهو يتنقل بحرية بين الأزمنة والأمكنة، ويدخل عقول شخصياته ليكشف عن أسرارها وخباياها. وعلى هذا الأساس كانت بطلة القصة وهي الراوية، على دراية كاملة بنفسيّة أطفالها وسلوكياتهم عبر مراحل تحولاتهم العمريّة، وكذلك زوجها وكل الشخصيات الثانويّة في الرواية كشخصيّة حماتها أو أمها أو والدها.. الخ.

الشخصيات في الرواية:

إن الحدث يظل فعلاً هلاميّاً ما لم تشكله الشخصيات بحسب حركتها وعلاقاتها ودرجة وعيها، وبالتالي مساراتها التي يشكلها الكاتب أو الروائي. وشخصيات رواية "وحوش في منزلي" التوأم الثلاثي، هم شخصيات نامية ممتلئة بالحياة والحرارة، تركزت فيهم اهتمامات الروائيّة، وبالتالي كانت مقنعة فنيّاً للمتلقي تماماً كونها تعبر عن شخصيات حقيقيّة ملموسة في مواقفها وتفكيرها وسلوكياتها..

أما الشخصيات الثانويّة أو الهامشيّة في الرواية كالزوج والحماة وافراد أسرة الزوجة والدكاترة وغيرهم من شخصيات، فهي في عمومها شخصيات لم تتوقف عندها الروائيّة كثيراً بحكم دورها الهامشي. لذلك كانت أقرب إلى الجمود والثبات والسطحيّة. فهذه الشخصيات تظهر قليلاً لتودي دوراً معيناً وتختفي.

المكان والزمان في الرواية:

المكان في الرواية:

يعتبر المكان والزمان من العوامل المؤثرة في الرواية، حيث يمكن أن يكونا خلفية للأحداث أو أن يكونا عنصرًا مهمًا في تطور القصة وسياقها. فالمكان في الرواية كان حقيقيّاً، إن كان من حيث شموليته، وهو مصر الكنانة، أو من حيث خصوصيته، منزل في مدينة القاهرة، أو من حيث طبيعته وسماته وخصائصه، حيث تركز معظم بنية السرد والأحداث في محيط مغلق وهو المنزل، وفي هذا المحيط كانت يجري عبث (الوحوش) وشقاوتهم ومعاركهم الطاحنة مع كل ما يقع تحت أيديهم، مثلما كان يغطى على كل أسرار نتائج هذه الشقاوة. هذا دون أن يعدم المكان في الرواية فسحات أخرى مفتوحة، ولكنها ظلت هامشيّة في العالم الحكائي للرواية.

أما الزمان:

إن زمن في الرواية جاء زمناً خطيّاً، ترتبت فيه الأحداث ترتيباً متتالياً، جاءت الواحدة منها بعد الأخرى. فالنص الروائي في عمومه شكل بؤرة زمنيّة، ومن يتابع سرد تفاصيل أحداث الرواية وحركتها يقف عند ترتيب الزمن، فهو شَكّلَ من جهة عاملاً أساسياً في تقنية الرواية، ومن جهة أخرى شكل هاجساً متوتراً عند بطلة الرواية التي كانت تحسب الزمن في اليوم من خلال متابعتها لحالات التطور والتبدل التي تحل بأطفالها، ورغبتها أن تسرع هذه الزمن كي يصبح هؤلاء العفاريت قادرين على الوعي بذاتهم، وهذا يخفف من حملها الثقيل في العناية بهم.

اللغة في الرواية:

امتازت لغة الرواية بالبساطة والسهولة والوضوح والحيويّة وخاصة عندما يتم السرد باللغة العربية الفصحى، بيد أن هناك مشكلة واجهها الأسلوب اللغوي في الرواية وهي ازدواجيه اللغة، لقد كان السرد باللغة العربية الفصحى، في حين كانت اللغة العاميّة (اللهجة المصريّة) هي الناقلة للحوار في هذه الرواية. وهذا التعدد فرضته طبيعة الشخصيات، وتنوع ثقافتها وبساطة الأحداث في الرواية، كونها أحداث يومية مباشرة خارج نطاق تعقيدات الحياة ومستوياتها السياسيّة والفكريّة والاقتصاديّة وغير ذلك.

المنظور أو المنهج للرواية:

لا شيء في الحياة ومنه الفن أن يأتي من فراغ، وليس هناك أي عمل بلا غاية أو وظيفة ومنه الفن والأدب. وقد أثرت الوظيفة على الفن ماهية وأداة منذ البداية، ويحرص الكثير من نقاد الأدب على ربط الفن بالوظيفة التي جاءت هذه الأعمال الفنيّة تلبية لحاجات فكريّة وجمالية، بل حاول بعضهم الربط بين البنية العامة للعمل التكويني والبنية العامة للمجتمع.

لقد صيغت رواية " الوحوش" الذين منحتهم أمهم بعد سنتين صفة" الملائكة" في سرد يتدفق في سلاسة وانسيابيّة وبساطة، وحافل بمفردات من الصور والمواقف والحوارات المشبعة بقيم إنسانيّة يكافح أبطالها من أجل استمراريّة الحياة وتحقيق أهداف يرغبون بتحقيقها... سرد توالى في إيقاعات منضبطة ورصينة، وفي توازن دقيق بين الواقع والخيال، وبين العقل والعاطفة، وبين حكي العامة وحكي الفصحى... وبين دوائر تتسع لهموم وأفراح الكبار والصغار في هذه الحياة، كل وفق وعيه وثقافته ومن زوايا تتناسب ومصالحه وهمومه وعواطفه.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سوريا

في زمنٍ صاخبٍ تجفّ فيه ينابيع الشعر، ويبهت فيه الحُبّ تحت وطأة الاستهلاك والسطحية، تأتي مجموعة "مناديل من حرير الكلمات" ليحيى السماوي، كضوء يتسلل من نافذة الروح، ليعيد للكلمة قدسيتها، وللعشق طهارته الأولى. ليست هذه النصوص مجرد نثر شعري، بل هي ترانيم صوفية تمتح من ينابيع الفلسفة والعرفان، وتتماهى في جسدٍ لغويّ مشغول بالحنين، وبوجع المحبة، وبجمالية الحلول العشقي الصوفي.

العاشق النبيّ: الشاعر ككاهن المحبة:

يمثّل السماوي هنا صورة العاشق-النبي الذي يخاطب معشوقته لا بوصفها جسدًا، بل بوصفها كينونة كونية، تمتد جذورها إلى الروح، وتغتسل بماء التأمل. نقرؤه فنشعر وكأننا في حضرة صوفيّ عاشق، يسجد عند محراب الجسد والروح معًا، فيصوغ من لمسةٍ قبلةً ، ومن تنهيدةٍ صلاة:

"حياتي قصيدة من بيت شعرٍ واحد ..

أنت مطلعها"

في هذا البيت النثري، لا نجد الشاعر وحسب، بل نجد الإنسان الباحث عن مطلقه، عن جزئه الضائع في الآخر. وهنا، يتحول الحبيب إلى مجاز إلهي، فيصبح العشق شكلًا من أشكال العبادة.

بين نشيد الإنشاد والحلاج: إرث العشق المقدّس:

ليست مصادفة أن تُفتتح المجموعة بإشارة عميقة إلى "نشيد الإنشاد"، فالسماوي، كما سليمان، يبحث عن الجمال الفاضل، لا الجمال السوقي. وما شولميث إلّا استعارة لعشقه الأزلي الذي لم يكتمل. وكأن السماوي يردد في طيّات نثره ما قاله الحلاج ذات عشق: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا":

" أنا وحدي: إثنان ..

 أنا وأنت: واحد "

بهذا التماهي، يُلغي السماوي المسافة بين العاشق والمعشوق، ليؤسس لحلولٍ شعري بينهما، حِلٌّ لا جسدي فحسب، بل روحي وفلسفي.

صوفية الجسد، فلسفة اللغة:

رغم العناق الحسيّ الواضح في كثير من المقاطع، إلّا أن السماوي لا يقع في فخ الغريزة، بل يرتفع بها. فالجسد عنده وسيطٌ للسمو، والقبلة طقسٌ مقدّس، يُعيد خلق العالم من جديد:

"أضلاعي سأستلها قصيدةً بعد قصيدة

لأصنع لك

سريرًا من الشعر"

في هذا التكوين، تتحوّل المفردة إلى ملمس، والجسد إلى ورقة، والشاعر إلى نحّات في معبد الجمال.

شيفرات القرآن والحديث: الحسيّ في حضرة المقدّس:

يملأ السماوي نصوصه باقتباسات قرآنية وحديثية، ليس على سبيل التزيين، بل ليمارس فعل التقديس للكلمة والحب. حين يقول:

" أين أُولّي أحداقي

 فثمّة وجهك"

نحن لا نقرأ الآية فحسب، بل نُعيد قراءتها في مرآة العشق، فتصبح الحبيبة قبلةً، ووجهًا إلهيًا يتجه نحوه القلب والبدن معًا.

رمزية الأسطورة:

من جلجامش إلى شهرزاد

يستدعي السماوي رموز الأسطورة لا ليعيد سردها، بل ليمارس إعادة إنتاجها بمعجمه العاشق. "جلجامش"، "سيزيف"، "شهرزاد"، كلها تتحول إلى طيفٍ يتقاطع مع تجربة الشاعر، فتصبح الذات العاشقة مسرحًا تراجيديًا-روحانيًا لتجربة الخلود والانكسار والبحث عن المعنى:

"  أفعاكِ بريئةٌ من أعشاب كلكامش ..

لكنها

ليست بريئةً  من قلقي "

بهذه المفارقة، يعيد السماوي صياغة قلق الإنسان أمام الحب والموت، في لغةٍ تنوس بين المجاز الفلسفي والانفعال الوجداني.

تواشج الصوت والظل: ميتافيزيقا اللغة

ينجح السماوي في تحويل الحرف إلى جسد، واللفظة إلى نَفَس، حيث لا يمكن التفريق بين النص والنبض. تتوه اللغة فيه كما يتوه العاشق في حبيبته، فيغدو النص تجربة عيشٍ كاملة، لا مجرد قراءة:

"قلمي عيني الثالثة… فهل تقرئين دمعي؟"

ما بين اللغة والدمع، يخلق السماوي معبرًا خفيًا للقارئ، ليحسّ لا فقط بالجملة، بل بما تحتها.

خاتمة: الحبّ كخلاص جمالي:

"مناديل من حرير الكلمات" ليست مجموعة نصوص نثرية فحسب، بل هي طواف في محراب العشق، حيث تتصادى الفلسفة مع التصوف، والجسد مع الروح، والمقدس مع الحسيّ، في تجربة قرائية لا تشبه إلا ذاتها. يحيى السماوي هنا لا يكتب… بل يتجلّى.

إنه يحيى السماوي الذي يكتب نشيد الإنشاد الحديث، نشيد لا مكان فيه للزيف، بل للوضوح الصارخ، للحب الطاهر، للكتابة التي تمسّ القلب قبل الورق.

وبهذا، نُسجّل شهادة محبة ودهشة في حضرة شاعرٍ، علّمنا أن اللغة يمكن أن تكون حريرًا… وأن القلب يمكن أن يُكتب بمناديل.

***

رانية مرجية

مقدمة: نظرا لأهمية تجربة الشعر التجديدي التركي أو ما يسمى بالشعر الملموس والشعر المضاد للغنائي أو الشعر التجريبي، ومن جهة أخری بسبب ندرة المصادر العربية حول هذه التجربة الشعرية الفريدة، قمت بأعداد هذا الملف عن الشاعر عمر شيشمان والذي يعتبر رائدا في هذا الحقل ومعروف كناقد، ولم لا؟ والشعر دائما حاضر داخل لغة عصره، بل هو مرآة فني لكل حقبة تتزين بمفردات زمانه، وكما تلاحظون فأن هذه الحركة تسعى الى ادخال البصريات والسمعيات الى عالم الشعر لتکوين صورها الشعرية المتجددة والمثيرة للأهتمام، آخذا مادته الخامة من تناقضات الحياة اليومية ومفرداتها وأحداثها. كما ان الاعتياد على (البصريات والسمعيات) أصبحت سمة الاغلبية بينما طغى التکنلوجيا المعلوماتي على جميع الأصعدة الاعلامية والمنصات والنشاطات الادبية والفنية في زمن السرعة، بل وصل الی حد قد كون جيلا شغوفا من الشباب ملمين في هذا، فمزاولة الشعر في هذه الحقول أعتبره فوزا للشعر وليس خسارة له، بما ان للشعر روابط وثيقة مع الدراما والموسيقی والسينما والرواية واللوحات الفنية، لكن الفارق هنا هو ان الشعر يحتفظ بسيماته وخصوصياته واستقلاليته حينما يستعين باللغة الشعرية. والشعر الجيد وعلی خطی رامبو يستعين بكل الحواس ويمنح الكلمات طاقاتها الدالة لايجاد لغة تحتوي وتختصر الروائح والاصوات والالوان. أو الهدم والبناء الجديد كما قيل.

بأنتظار قيام المترجمين الكرام بعمل ترجمات كافية عن هذه التجربة وشعرائها من اللغة التركية الی العربية كي تروي ظمأنا ويتسنی لنا متابعة كل جديد علی صعيد ركب الشعر العالمي.

عمر شيشمان وأعماله

عمر شيشمان هو شاعر وناقد تركي من مواليد إسطنبول عام 1980. بدأ كتابة الشعر في الخامسة عشرة، وهو أحد الشخصيات الرئيسية في المشهد الشعري التركي المعاصر، إلى جانب أحمد غونتان وإفي مراد ومراد أوستوبال، ظهرت هذه الحركة في الشعر التركي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي يشار إليها بالشعر الملموس والشعر المضاد للغنائي أو الشعر التجريبي، الذي يحاول تجربة شكلية مختلفة في كل قصيدة، والتي تعتبر بصمة مهمة لشعر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من خلال تقديم أشكال شعرية مختلفة تمامًاكما في كتاب الثاني (بيتكيبن) لعمر شيشمان، حيث تستمر التجربة بنفس الوتيرة. تتكون التشوهات وتحريفات في الكلمات (تقنيات مثل الانزلاق والقطع والبلع) واستخدامات نحوية غير محددة من جهة، واستمرار الشعور بالتدمير اللغوي من جهة أخرى، وهو يغني بالموت والبعث ثييمة لنصوصه. تُظهر قصائد ديوان الشاعر الثالث "ديكينلي زيبلاك"، كما عبّر عنها أسومان سوسام، "أنه بعيدعن الانفعال اللاواعي، وبتعاون العاطفة والحس والفكر مع اللغة والصور التي ننغمس فيها، تُجسّد الحركة والتكوين والخبرة خطابًا مؤثرًا للغاية. وبصفتها قصيدة تجربة، قصيدة حياة، تُجسّد ديكنلي زيبلاك علاقتها بعالم الوجود كما هو"من خلال الهروب من القيم والأحكام والمراجع. تتطور دون الحاجة إلى مركز خطابي، بل قطعة قطعة. وبقوله إن القطعة أكبر من الكل، فإن الفوضى خير من النظام.

في "أعمال شيشمان الدرامية"، يرتقي بالسرد البسيط الذي بدأ مع ديكنلي زيبلاك إلى مستوى أعلى. تعتمد هذه القصائد على روعة الشهادة الخام غير المزخرفة. تصف (إسراء إرتان) هذا الكتاب على النحو التالي: "في القصائد التي جمعتها تحت عنوان "الشفاء الدرامي"، مستفيدةً من إمكانياتها الفكرية/العاطفية، كممثل ومسرحي في هذه القصائد، تُتيح للقارئ فرصة الشعور بقرب المواقف الإنسانية. تُواجههم بمواقف تُسعدهم وتُعذبهم بنفس القدر. هذا وضع مُهدد للقارئ بطريقة ما. تتركه وحيدًا في مواجهة عصر الدمار، وحاجته لإيجاد حلٍّ لهذا الوقت الذي يجوب فيه مُتحكمون في غرف النوم. مع ذلك، فإن معرفة القلب عملٌ شجاع. ومن االبديهي ان الاستجابة لقوة الكلمات ليست تجربةً يستعد لها الجميع.

آخر أعماله كان كتاب "إمبات" عام ٢٠٢١. تدور قصائد الكتاب حول مواضيع مثل انعدام التواصل، والمسافة بين الناس، والتعاطف، وعدم القدرة على البقاء غير مبالٍ. تُحيط بهذه القصائد حدس وملاحظات شخص لا يستطيع البقاء غير مبالٍ بما يراه. لا يمكنه التظاهر بعدم رؤية أو سماع ما يراه. فيصبح متواضعًا، وخجولًا، وحزينًا. يستخدم الناقد(عثمان تشاكماكجي) التعبيرات التالية عن هذه القصائد: الكسور، والانسكابات، والأذى، والقسوة، والوحشية، وجرائم القتل المتقنة، كل هذا يحدث في لحظة، كما لو لم يحدث شيء وقد حدث. ... هنا، كعين ضخمة، يكتشف عمر شيشمان كل هذا ويسجله بنظارته الليلية التي ترى كل شيء، فهو يقوم بترميز المواقف والشخصيات والاحداث في نصوصه وفقا لما يراه مناسبا ويوظفها كتقنيات في خدمة الشعر وجمالياته وابداعاته.

أسلوبه:

يُعرَف شعر شيشمان بألعابه اللغوية واستخدامه للكلمات بمعاني مختلفة وخروجه عن اللغة المألوفة باستخدام الكلمات والحروف الناقصة لإنشاء لغة وأسلوب فريدين، كما يجمع شعره بين عناصر الحياة اليومية والثقافة الشعبية والاستفسارات الفلسفيَّة. في إحدى مقابلاته، تلقّى شيشمان السؤال التالي: "أثناء قراءة قصائدك، يبدو أن هناك خلفية ذهنية مرهقة من الكلمات ومن اللغة بشكل عام. فهل مفهوم السرد الكلاسيكي والجماليّات عبثي في إدراكك للشعر؟"، ليجيب شيشمان: "بالتأكيد ليس عبثًا، إذا قلتُ إنه عبثي، فسيتعيَّن عليَّ تجاهل العديد من الكتّاب والشعراء الذين أحبهم. ومع ذلك، هناك شيءٌ ما، فكتابة قصائد ذات صفحة واحدة تشبه خطوط أبولينير في هذه الأيام، هو أمرٌ غريبٌ ومصطنع، تمامًا مثل كتابة شيء مئة مرّة بنفس الأساليب الكلاسيكية دون إضافة أي شيء من عندك".

كما كتب سولي توزول حول هذه التجربة التالي:

مع اتساع آفاق الشعر نحو الواقع، نشر الشاعر المعاصر التركي عمر شمشان ديوان لە بعنوان "الخطأ مستمر" في مايو ٢٠١٤ ،على الرغم من قلة قراء الشعر في هذه الايام، الا ان هنالك مجموعة من الشعراء يكتبون في مجال الشعر التجريبي. عمر شيشمان هو واحد من هؤلاء الشعراء، استخدم الشاعر في ديوانه تقنيات شعرية تجريبية متنوعة.. حيث تعد كتابات الناقد (إرهان ألتان) تحاليل ومراجعات تدور في دائرة الشعر التجريبي بشكل عام. وهكذا، انطلاقًا من كتاب ألتان، انضممتُ، كقارئ، إلى رحّالة الشعر التجريبي.

يقول إرهان ألتان إن "الخطأ مستمر" تحتوي على قصائد تتميز بخصائص "ملموسة" إلى حد كبير. بمعنى آخر، في هذه القصائد تُختزل الأصوات (الحروف) إلى كلمات، وتُبتلع، وتُشتق كلمات جديدة، ويُتلاعب بشكل اللغة لخلق قصيدة بصرية وسمعية. تُتلاعب بأشكال الحروف، وتُشوّه الكلمات والجمل لجعلها غير مقروءة بصريًا، وتُستخدم رموز مثل المربعات والدوائر بالإضافة إلى الكلمات في القصيدة.

أكثر ما يُعجبني في الشعر التجريبي أنه، بالإضافة إلى إضفاءه حياة جديدة على الشعر في مطلع الألفية الثانية، يُوجد أيضًا كشكل من أشكال التعبير لا يجذب القارئ، بل يتحدى القراء والنقاد الذين يتجاهلونه، ويتحدى جهود الحفاظ على هذا الوجود. هذه القصيدة ليست كالقصائد التي اعتدنا عليها. إنها تثير أسئلة عميقة في نفس القارئ. يكاد المرء يتساءل: هل يحاول الشاعر إخفاء شيء ما ؟ لكن عندما تتمكن من دخول العالم الذي يدعوك إليه الشاعر، تجد نفسك وجهاً لوجه مع عالم مختلف تماماً. الشاعر لا يدعو القارئ إلى هذا العالم، ولكن إذا فتح القارئ الباب ودخل، فقد يكون ضيفاً، وربما حتى يحصل على فرصة أن يكون جزءاً منه.

من القصائد التي لفتت انتباهي في الكتاب قصيدة "تارانج". نعم، وكما يوحي اسمها، تستخدم لغة رسمية مرتبطة بالشطرنج. يرسم عمر شيشمان مربعات على الصفحة التي تقع فيها القصيدة، مثل رقعة الشطرنج، ويضع كلمات في هذه المربعات كقطع الشطرنج. يصبح الرخ والحصان والفيل والملكة والملك أباً وأماً، وربما حلماً على التوالي. هناك لحظات تكون فيها البيادق في المربعات. أعتقد أنها قصيدة رائعة. يحاول موضوع القصيدة هزيمة "ذات" خصمه دون أن يُقيّد نفسه. أنت تتجول في مثل هذه القصيدة وتشعر بطلاقة عنان فرس خيالك لفهم المعان والكل يستكشف جزءا منه داخل هذه النتاجات وحسب معرفته الشعرية.

في قصيدة أخرى بعنوان "الضرر ينكشف"، يُغيّر عمر شيشمان بصريًا الجمل والكلمات التي يُعبّر بها عن مواقف تتعلق بموضوع القصيدة. لذلك، يصعب قراءة الكلمات، لكن هذا الشد البصري يُعزّز أيضًا هذه التعبيرات البالية.

أما في قصيدة "ملك"يستخدم الشاعر تقنيات مُتنوعة. من أكثرها إثارة للاهتمام السرد المُنفّذ باستخدام المربعات والدوائر المُمتلئة. وكأن سرد الفناء يُعبّر عنه بالأشكال لا بالكلمات. كما يتضمن الكتاب نصوصًا سردية مألوفة لدينا.

في الواقع، يدعوا الشعراء التجريبيين القراء المهتمين إلى عالم آخر لسنا بعيدين عنه. بعد فترة، عندما لا يستطيع أحد أن يبقى غير مبالٍ، سيواجه كل منا هذه القصيدة وجهًا لوجه. وهكذا عمر شيشمان وغيره من الشعراء، يواصلون عملهم في مجال يصعب الحفاظ عليه اليوم، تمامًا مثل الشعر التجريبي، وعلينا ان لا ننسى جهود (مٶسسة١٦٠كيلومتر) على دعمهم للشعر وهذه الحركة. وكما يقولون في مقدمات كتبهم: "إذا قاوم الشعر، انتصر".

ماذا يقول الشاعر عن تجربته؟

وفي مقابلة أجرتها (بيتك سينم دولون) مع الشاعر عمر شيشمان في تشرين الثاني ٢٠١٩ حول أسلوب الشعر التجريبي، حيث يلقي فيها الشاعر الضوء على بعض حيثيات وخبايا أسلوب هذا النوع من الشعر.

استهل الشاعر بالجواب على السؤال: هل يُمكننا تقييم "الشفاء الدرامي" كنص سيرة ذاتية مُحمّل ببيانات نفسية، أم نصا شعريا؟

- لقد واجهتُ منذ البداية ردة فعل "هل يعتبر هذا شعرا؟". يقول المهتمون بما أكتبه أحيانًا إنهم لا يستطيعون وضعه "في خانة الشعر التركي". يبدو لي أننا نعجز بشكل متزايد عن الوصول إلى جوهر الموضوع. ليكن الشعر اسمًا لمهنة مرتبطة بالمختارات، وأنا أكتب شيئًا كهذا، لنسمّه "غير شعري". لكن هذه هي ترتيباتي، ومواقفي، وتكراراتي، ومناظري الطبيعية، لطالما خاض الشعراء هذه المعركة فلنمعن النظر في أبجدياتهم.

بالطبع، يُمكننا تقييم "الشفاء الدرامي" كـ"نص سيرة ذاتية مُحمّل بالبيانات النفسية". ولكن يُمكننا أيضًا تقييم "هاتا ديفام إيديوَر"، و"بيتكيبن"، وخاصةً "ديكينلي زيبلاك" بهذه الطريقة. لا أعلم إن كان هذا مُصادفة، ولكن قيل منذ البداية إن هذه القصائد كانت إنسانية للغاية، وفي النهاية، كانت مليئةً بقصص إنسانية كثيرة. أعتقد أنني أصبحتُ راويًا يجده السرديون غريبًا، وشكليًا يجده الشكليون غريبًا. احتاروا بحيث لا يُمكنهم وضعي هنا أو هناك. لا أستطيع التأقلم مع أيٍّ من الجانبين، ولا أريد التخلي عن أيٍّ منهما.

كانت الصور الشعرية في النصوص "فورية" ، مليء بالعواطف والانطباعات والصور الفورية. لطالما اهتمت بالسجلات الفورية للعين منذ قصائدي الأولى. حاولتُ استيعاب الصور بأسلوب أكثر بساطةً وبدائية. كما أن حقيقة أنني بدأت الكتابة عندما كان ابني رضيعًا كان لهذا تأثير علي أيضًا. قضيت أيامي أراقبه.

حتى عندما نعتبر نطاق اللغة محدودًا باللغة، فإنها لا تتجاوز نطاقها عندما يتعلق الأمر بـ"الوقائع والتجارب". فعبء اللغة من الوقائع والتجارب هو أيضًا مادتنا، بل هو أكثر من ذلك. لا أُفضّل اعتبار اللغة قواعد نحوية، أو صرفية، إلخ. في هذه الحالة، لا أستطيع إقامة صلة بين اللغة وعالمي، ولا جدوى من استخدامها. في يوم مزدحم، امشِ من (كاديكوي جارشي) إلى (بهاريه)، ومن هناك إلى (مودا كاب)، ثم انعطف إلى حديقة (يوغورتشو). إذا أصغيتَ إلى ما يحيط بك "بانتباه شديد" خلال هذا الوقت، ستكاد تُصيب بالجنون.

وفي الرد على السوءال: تُلفت الانتباه إلى عنصر الصوت في كتاب "الشفاء الدرامي"، مع الانسداد الاجتماعي الناجم عن ضعف الذاكرة الجماعية، مما يُقلب علاقة الفرد بالمجتمع رأسًا على عقب. هل تُقيّم الصوت كمفهوم، لا كجزءٍ مُعقّد من النص، بل ككلٍّ بتأثير أجزائه؟.

- قرأتُ مقاطع/أعمالًا من "القفزة الشائكة" و"الشفاء الدرامي" في حفلٍ موسيقيٍّ مؤخرًا. عندما انتهيتُ، شعرتُ أنها مُثيرةٌ للشفقة، يُعجبني أنني لم أُنصت إلى صوتي الداخلي المُضطرب الذي كان يُحاول إيقافي وقراءتها. تتخذ هذا القرار بشكلٍ لا رجعة فيه لحظة نشر القصائد. لا يستحق الأمر الخوض فيه. ذكرتُ هذا لأُوضّح أن الجرأة والخجل مُتقاربان بالنسبة لي. هذه أيضًا "لحظة". في تلك "اللحظة"، لم أشعر في الواقع بتحرر من الانفعال بالمعنى الحرفي، بل شعرتُ وكأنني أُثير نفسي. بالطبع، لا يمكن لأحد، ولا ينبغي لأحد، أن يكون غاضبًا طوال اليوم. ستُصيب بنوبة قلبية. عادةً ما يكون الشباب غاضبين، لسبب وجيه. كنتُ شابًا غاضبًا أيضًا. لا أعتقد أن للشعر علاقة جوهرية بالغضب، ما أقصده بالغضب هو شيء آخر؛ ربما حالة ترقب دائم للكلمات والصور والعلامات والقصص. وهذا يشمل أيضًا التشنجات العصبية والهواجس والأصوات. عندما تقول صوتًا، فأنت لا تقصد الانسجام داخل الأبيات. في "القفزة الشائكة"، أردتُ أن يُغطي لحن "القفزة الشائكة" القصيدة بأكملها كعشب، في الصوت والصورة. دع الصوت/الصورة يكونان دعامتين ومساحة. هناك عناصر صوتية أكثر طفولية في "الشفاء الدرامي". هناك تهويدات، وأغاني أطفال، ومطاردة بين كلب ورجل تستمر طوال الكتاب. دراجة نارية عابرة. "الشفاء الدرامي" هو شفاء مُتسارع عفوي، غير مُتوقع على أي حال. للشعر و(الحساب) علاقة قديمة بالذاكرة. ما نتذكره يتغير باستمرار. نحن في الواقع غير موثوقين تمامًا في هذا الصدد. علاوة على ذلك، تتغير طريقتنا في التفسير أيضًا. نُحنط موقفًا وتفسيرًا. الأمر يهم الآخرين بقدر خصوصيته.

نماذج من نصوصه:

(نستمعُ إلى أغنيةٍ جديدة)

خارجًا من الفندق، أعلقُ في بابٍ دوّار

صراصيرُ صغيرة أمام المصعد

زجاجٌ متّسخ قد لكمتُه

إلى أين تنظر موظّفة الاستقبال تلك

فأنا من أقاومُ الباب خلف الزجاج

*

صادفتُ تركيًّا في أحد أفلام الرعب

طُلِبَ مني أن أترك جوانبي الكوميدية على الطاولة

قلتُ وأنا أدخل: هذا؟ حفنةٌ من البذور

ثم رميتُ ولّاعتي الأُخرى في سلّة المهملات.

**

٢

(108)

تحرَّرتُ من الجاذبية

لا حزن ينتابني لفقدان وزني

*

شاهدتُ الأرض من خلال ثقب سفينة الفضاء

يضيء محيطه القمر الجميل

رأيتُ أشعة الشمس تخترقُ الغلاف الجوي واحدةً تلو الأخرى

الفضاء مظلم، والنجوم تتلألأ

*

كم أتمنى عناقكم

أصدقائي، الذين لم ألتقِ بهم أبدًا

الغرباء، أقربُ الناس، وأكثرهم قيمة

*

لا حزن ينتابني لفقدان وزني

شاهدتُ الأرض من خلال ثقب سفينة الفضاء

وأشعة الشمس تخترق الغلاف الجوي

لا حزن ينتابني

لفقدان وزني

***

سوران محمد

.....................

المراجع:

1-edebiyathaber.net/sir

2-160incikilometere

٣- جريدة العربي، أحمد جيو حسن

4- Wikipedia.org/ Ömer Şişman

للشاعر الفلسطيني خلدون عماد رحمة، بالمنهج النفسي، المنهجي الأسلوبي، والهرمينوطيقي:

في "حيرة النمل"، يخوض الشاعر خلدون عماد رحمة رحلةً داخلية قاسية، حرباً على الذات المتصدعة، حين يتسلل “النمل” رمزاً لوخز الضمير، لا شكلياً فقط، بل كمخرّب لمأمن الروح، مُشكّلاًً سرداً نفسيّاً تتقاطع فيه الأطياف الوجودية مع السؤال عن جدوى الحب والهوية، بلجنة تحمل لهيب الرغبة والموت، وطقوس الانتظار والضياع.

ـ في مجال البنية الدلالية والرمزية...

* النمل رمز مركزي مزدوج، يحمل دلالات التسلط الصغير، والكوامن الداخلية التي "تفتت القلب" و"تدوخ"، وهو أيضاً حامل لتأويل أعمق عن سرّ الحياة، عن "ازدواجية الزمن" الذي "يفجر رموزَه النبيلة" ثم يأكلها باجتياحه.

* الصراخ والرعد كإيقاعات ثورية داخلية، يفضح البعد النفسي الذي يصعد حتى "يصخر البعيد".

* الكأس ورموزه (الخمر، الزمرّد) تمزج الخمر بالهوى والحلم، لكن بالنمل تتحول للتحطيم، معبّرة عن تحوّل الرغبة إلى موت أو خيانة للذاتي.

ـ في مجال البعد النفسي والتحليل الهرمينوطيقي...

* القصيدة مشحونة بالقلق ("فزعٌ") والهذيان ("أهذي صِفاتُ الوحيد")، وهما نصان نفسيان يتجاذبان بين الحلم والوحي.

* الهزيمة النفسية والحضارية تتجسد في “نفاد الهدوء” و"تحطيم صرح الروح"، مما يؤسِّس لنزوع وجودي وجع سلبي يشبه سلوك الـنمل الجحود المنهك.

* ثنائية "الواقع المنطوي" و"سراب الحلم" تعكس حالة تشظٍ داخل الذات الممزقة بين قوى الواقع والخيال، محترقة في صراعهما.

ـ في مجال الأسلوب اللغوي والإيقاع الموسيقي...

* الإيقاع الداخلي محكم من خلال تكرار الحروف الصامتة القوية (النون، الراء، الصاد…) مما يولّد صوتاً مخيفـاً: "أصْيحُ وصوتي مَطارقُ رعدٍ"؛ كما يظهر نمط تقطيع شبه متداخل، يكسر تسلسل النسق الروائي نحو التقطّع النفسي.

* الشاعر يعتمد تكرار الضّمير "أنا" كإعلان للذات الفاقدة سيطرتها، متعالية على خطاب التهويل، نبرة وجود مفتعل لبلوغ الإنسانية الكاملة.

* الموسيقى اللغوية المشتبكة تنسج انحساراً وانكساراً، مرئياً في استمرارية المقاطع الجمعيّة: "أصِيـحُ"، "تهزهزُ"، "تشقّقُ"، مع إيقاع شبه سنفوني داخل أبيات مكثفة.

ـ في مجال التأويل الفلسفي...

* النمل يتجاوز الهشاشة إلى قمة التأويل؛ هو لا يقصّ صناديق العمر فحسب، بل يهدم "ضوء الرموز النبيلة"، كناية عن موت القيم السامية أمام الاستلاب.

* ثنائية الحب والجنون تتجسّد: "لأني أجنُّ إذا ضيعتني سفينةُ حبّي"، مما يعكس شكلاً شاعريّاً لظاهرة الانفصام بين الذات والمحبوب ككيان خارجي وسياسي مهيمن.

* اللحظة "إذا ما رميتَ عليها براكينَ نبضك" تختزل علاقة الشاعر بمنهج تأويلي عميق، فثمة خوف من أن يفقد "براكين الروح" الذي يغري، لكنها تختنق في النمل.

ـ في مجال الرؤية النهائية...

تنتهي القصيدة إلى سلام هش: عودة الذات كـ"نملة" تحب الحياة، رغم الفقد وسديم الهواجس. فـ"فُتاتُ الأمل" يتجسّد كرمز لاستمرار الإنسان، حتى ليبدو هذا الخلاص، رغم أنه صغير ومؤقت، أقوى من الفناء.

ـ في الختام:

"حيرة النمل" تحفر في النفس الشعريّة قاعاً تفتك فيه الفواجع الداخلية، وتستحضر التشظّي الذاتي الذي يتجاوز الشخصي إلى الحضاري. عبر الرمزية الفرنسية للحشرة الثائرة، وبنية لغوية موسيقية أقرب للطقوس، تنزلق القصيدة داخل حقل نفسي انتقادي. هي خطيّة إبداعية لذات تقف على شفير الطموح وتحتمي بفتات الأمل كمورد أخير، وترفض الاستسلام الكامل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين

.......................

حيرة النمل

حيرةُ النملِ

أحِسُّ بنملٍ كثيفٍ يفتتُ قلبي

يهدِّمُ صرحَ الهدوءِ بآلاءِ روحي

يدبُّ بظلٍّ مهيب الحواسِ

ويفضحُ أسرارَ دمعِ البنفسجِ في مهرجانِ عروقي

تُهلوسُ أشباحُ شرقي وغربي

ويبزغُ من بين أحراشِ جسمي

أسَاطيلُ رُعبي

أنا فزعٌ منْ تخبُّطِ صاريَتِي

لأني أجنُّ إذا ضيَّعتني سفينةُ حبِّي

أصيحُ وصوتي مَطارقُ رعدٍ

تشقِّقُ صخر البعيدِ البعيدْ

ويا ليتَ يسمَعُ من بِقُربي

سَأحلِفُ بالمعجزاتِ لكمْ

وأقسم أني أحسُّ بنملٍ بغيضٍ

يدوِّخُ طيرَ الزمرُّد في كأس خَمري

يقصُّ صناديقَ عمري

يفكِّكُ ضوءَ الرموزِ النبيلةِ

في بهو جُوعي العريقْ

أصارحُ نفسي:

أهذا جُنوحٌ عن الواقعِ المُنطوي في مسرحِ الذاتِ؟

أم أن حُلمَ الوصولِ مَحاهُ سرابُ الطريقْ؟

أهذي صِفاتُ الوحيدِ الشَغوفِ بماءِ الحريقْ

أيقلقُ إنسانُ هذا الزمانِ

منَ النملِ والنملُ تأويلُ

سرٍّ عميقْ

ولكنَّ نملاً مقيتاً يزلزلُ فِضَّةَ رأسي

ولا أَتحاذقُ بالاستعاراتِ

نملٌ

يُقهقِرُ ليلَ الكمنجاتِ في صفو صدري

يذوِّب أطلالَ من سَهِرُوا فوقَ جسرِ رُؤاي

يهزهزُ صخر قِلاعي

وتهرعُ قداسُ غابتي الحجريَّةِ والخيلاءُ بأرضِ سَماي

أنا فزعٌ

تكسَّر وهجُ المرايا

وشاخت عصافيرُ عطرِ الصبايا

وكل النساء بقريةِ صمتي

هَجرنَ مواويلَ أعراسهنَّ

وطرنَ عرايا

أحسُّ بنملٍ جَحودٍ عَنيفٍ دَؤوبٍ

ولا شيءَ يردعُ عنه العملْ

أحاولُ نوماً أكابرُ ضحكاً

ولا يقتدي النملُ باسمِ الجدلْ

فتجتاحُنِي حِكمَةُ الألم /

ولو دخلَ النملُ في قلبكَ

تَهلكْ

وحالُ القصيدةِ موت أكيدٌ

إذا ما رميتَ عليها براكينَ نبضكْ..

وبعدَ هنيهةِ ذُعرٍ أهابتْ وجودي

أجمِّعُ نفسي

بصمتٍ

لأدركَ أنَّ الدبيبَ ارتحلْ

فأغدو كما كنت مثل جميع البشرْ

نملةً

تحبُّ الحياةَ وتُفنَى

لأجل فُتاتِ الأملْ

 

في السياق السوداني، حيث تُثقل الكلمة بحمولة التاريخ، ويُفترض في القصيدة أن تقول الحقيقة، وتخدم القضية، كثيرًا ما يُنظر إلى الشكل بوصفه ترفًا برجوازيًا، أو حتى خيانة للمعنى. غير أن الشكل، وفقًا للشكليين الروس، ليس غلافًا لما يُقال، بل هو الكيفية التي تُصاغ بها الرؤية، وتُبنى بها المسافة بين الواقع والعادي.

ولعل الشاعر السوداني الحديث، منذ التيجاني يوسف بشير مرورًا بمحجوب شريف، وحميد، وحتى شعراء الحداثة وما بعدها من الجيل الجديد في الحراك الثوري، قد مارسوا هذا التوتر بين الشكل والموقف، بين المجاز كبلاغة، والمجاز كسياسة. وإذا أخذنا مفهوم “التغريب” عند شكلوفسكي — وهو أن يعيد النص ترتيب المألوف ليُصبح غريبًا، ويجعل القارئ يرى العالم كما لو أنه يُكتشف لأول مرة — فإننا نجد أثره واضحًا في عدد من التجارب السودانية التي كسرت أفق التوقّع، لا بصرخة سياسية، وإنما بانزياح لغوي.

في قصائد حميد، مثلًا، لا تُقال الثورة بوصفها بيانًا، بل تُقال كما يُغنّى الحنين إلى سيدة ميتة. تفقد اللغة وظيفتها الإخبارية، لتصبح بنية صوتية تتفجر بالمفارقة، بالحكي الشعبي، بالتكرار البنائي، وبكسر الإيقاع الرسمي. قصيدته “عم عبد الرحيم” ليست هجاءً للفقر، بل “تغريب” للخطاب الرسمي الذي يصوّر الريف كبقعة سكينة. القصيدة تُعيد خلق الريف بوصفه حفرة روحية، لا مشهدًا طبيعيًا.

كذلك محجوب شريف، ورغم وضوحه السياسي، لم يكن يكتب شِعرًا كمنشورات الحزب، بل كان يستثمر في “شكل” الأغنية، وفي الإيقاع الشعبي، ليُخفي داخلها ديناميتًا دلاليًا، لا يُفجَّر دفعة واحدة. الشكل هنا لا يخدم المعنى، بل يشوّشه، يبطئه، ويُعيد تركيبه.

وإذا قرأنا القصة القصيرة أو الرواية السودانية المعاصرة — من بشرى الفاضل مرورًا بعادل القصاص — بعيدًا عن موضوعاتها الكبرى (الهوية، الجندر، الدين، السلطة)، وركّزنا على طرائق بناء الزمن، والضمير السردي، والانزياحات الأسلوبية، لأدركنا كم أن “الشكل” لم يكن تابعًا، بل قائدًا خفيًا للمعنى.

في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح، على سبيل المثال، لا تحضر الحداثة في الموضوع، بل في الشكل السردي المفتّت، في الحكاية التي تتكرّر بظلال جديدة، لا لتخبر، بل لتُربك. هنا يصبح الشكل أداة مقاومة، لا فقط للنظام، بل للمُسلّمات الفنية.

والمدهش في النص السوداني أنه يمارس الشكلانية حتى دون وعي نظري بها، كرد فعل على سلطة المعنى الواحد، وعلى سلطة “الموقف”. فحين يُضطر الكاتب لأن يُعبّر عن نفسه داخل خطاب قمعي (ديني، أو عسكري، أو قبلي)، يصبح اللعب بالشكل هو التمرّد الوحيد الممكن.

وبالتالي، فإن الدفاع عن الشكل، عن التجريب، عن البنية، ليس دفاعًا عن الجماليات ضد السياسة، بل هو دفاع عن السياسة في أعمق صورها: حين تصبح الكتابة عملية خلق لا إعادة إنتاج.

ولأن السودان بلد يُطالِب كُتّابه دائمًا بأن يكونوا في “صف الجماهير”، فإن الشكل يصبح أيضًا اختبارًا للمسافة. أن تكتب بلا خطاب مباشر، في مشهد يموت فيه الناس يوميًا، هو أمر أخلاقي فقط إن فهمنا أن الشكل لا ينفي الألم، بل يصوغه بطريقة لا تُخدّر.

كما كتب جاكوبسون: “الوظيفة الشعرية للغة ليست تجميلًا، بل زلزلة.”

وإذا كان كل نظام قمعي ينتج خطابًا بلاغيًا ميتًا، فإن الشكل الحيّ، المربك، الغريب، المشظّى، هو في حد ذاته ثورة ضد يقين اللغة.

الشكليّون الروس لم يكونوا برجوازيين معزولين، بل كانوا يحاولون أن يُعيدوا للكتابة استقلالها، وسط نظام يريد من الأدب أن يكون بوقًا. أليس هذا هو عين ما نحاول فعله اليوم، في الخرطوم، حيث يُقتل الناس باسم الكرامة، وتُمنَح الجوائز للذين يقولون “الشيء المناسب” بالشكل المناسب للسلطة؟

إن السؤال اليوم في الأدب السوداني ليس فقط “ماذا نقول؟” بل: كيف نُدهِش القارئ فلا يصدّق أن ما يقرؤه هو الشيء الذي يعرفه؟

هذا هو الشكل. وهذا هو معنى التغريب.

***

إبراهيم برسي

في قصته القصيرة "إبراهيم إبراهيم" (نشرت في العدد 132 من جريدة أوروك) يبني صالح الرزوق عالمًا سرديًا داخليًا، مكثفًا، يتكئ على التهكم، والتفكيك الساخر للحبكة التقليدية، ويُفعّل وعيًا حكائيًا أقرب إلى الحكاية المعاصرة منه إلى البناء السردي الكلاسيكي.

نتابع في القصة شخصية غامضة تدعى إبراهيم إبراهيم، تقتحم حياة الراوي فجأة، وتترك أثرًا محيرًا بين الواقع والاختلاق. يتحدث إبراهيم عن ماضٍ ملتبس، عن صداقته مع بروديل وحنا مينه في قبو بيروت، ويزعم أنه أملى على الأخير فصولًا من المصابيح الزرق، رغم أن الرواية سبقت زعمه بثلاثين عامًا. يروي عن نساء عابرات وسهرات طويلة مع زكية حمدان، ويعيش في قبو شبه خاوٍ، بكنبة معدنية وعلبة سمنة استُخدمت بدل كرسي، بينما على الرف نسخ ممزقة من الكتب، بينها "الياطر" موقعة بالحبر.

الرزوق لا يقدم سردًا تقليديًا قائمًا على حبكة محكمة أو صراع واضح، هو يبعثر عناصره في فضاء حكائي ملتبس، حيث تتقاطع الواقعية مع السخرية المبطنة. لا تتصاعد القصة نحو ذروة درامية، بل تنمو عرضًا، عبر جمل قصيرة مشحونة بتهكم خافت، وتخفي مفارقات داخلية ذكية. السرد لا يلاحق غاية بحد ذاتها، وإنما يتتبع ظلال الحكاية وهي تتبخر، عبر شخصية لا نعرف عنها الكثير، وتختفي كما جاءت.

شخصية إبراهيم لا تحتل مركز السرد بوصفه بطلاً، بل تتقاطع مع حضور طيفي، يتحدث عن كتبه وصور أمه وخالته بتشويش متعمد. حين يسأله الراوي عن امرأة في صورة معلقة، يجيبه بأنها أمه. ثم يتبين أنها خالته التي ربّته لأنها لا تنجب. المفارقة لا تُحل، بل تتعقد، وتبقى ملامح المرأة ملتبسة، كما لو كانت استعارة لعمق غامض في ذاكرته.

حتى اسمه المركّب – إبراهيم إبراهيم – يُوظف على نحو تهكمي، يصل ذروته حين تسأله امرأة غريبة عن اسمه، وتلقبه بـ "إبراهيم مربع". هذا الانزلاق من الاسم إلى الجبر لا يأتي من باب الطرافة فقط، بل يعكس مأزق الهوية في عالم تآكلت فيه الثوابت.

أما المكان – القبو – فهو ليس مجرد مشهد خارجي، بل استعارة داخلية. قبو مظلم، مترب، مهجور، لكنه مأهول برائحة الورق القديم، والذكريات المفبركة، والاحتمالات. لا يصف الراوي المكان بوصف شعري، لكنه يقدمه بلقطات شبه فوتوغرافية: "ثلاجة يغطيها الغبار"، "كنبة معدنية"، و"علبة سمنة فارغة غطاها بجريدة قديمة". كلها تفاصيل ترسّخ هشاشة الحياة المادية حول هذه الشخصية، وتعزز الإحساس بعبثية الزمن ومهزلة الذاكرة.

اللغة التي يعتمدها الرزوق متقشفة، خالية من الزخرفة، لكنها مشبعة بوعي ساخر. السخرية هنا ليست خفة، بل إنذار داخلي، أو تعب هادئ من العالم. حين يسأله الراوي، باستنكار، عن حقيقة أنه أملى على حنا مينه صفحات من روايته، يرد إبراهيم بجملة تكثف فلسفة النص:

"ولكن لا يوجد في هذه الحياة شيء أصلي. كلنا لصوص يا عزيزي. حتى الأمم القوية تسرق أراضي الأمم الضعيفة. وكذلك الأفكار."

بهذه العبارة، يختزل الرزوق رؤيةً سردية للعالم: الكتابة ليست ابتكارًا بقدر ما هي تكرار بصيغ متغيرة، والحكاية ليست ملكية، بل دوّامة من التداخلات والتناص.

في النهاية، يختفي إبراهيم. يطرق الراوي الباب فلا يجده، وتفتح له امرأة غامضة تشبه المرأة التي في الصورة. ثم تختفي هي الأخرى بعد يومين، وتغلق الباب خلفها بسلسلة وقفل أصفر لامع. لا يُقدَّم تفسير. لا يحاول الراوي البحث عن أجوبة. بل يُترَك الغياب مفتوحًا كجرح بلا شفاء. المشهد الأخير لا يقدّم خاتمة، بل يفتح دائرة جديدة من الشك:

"وسمعتها تغلق الباب بخبطة قوية. وحين أخذت نظرة من العين الساحرة رأيت أنها أضافت له سلسلة من الحديد مع قفل أصفر يلمع بلون ذهبي."

ليس المهم من أقفل الباب، بل ما يعنيه هذا القفل في سياق النص: إنه رمز للغياب غير المفسّر، لصمت الشخصيات، لانغلاق الحكاية على نفسها كأنها تنسحب من العالم.

بهذا كله، ترسّخ "إبراهيم إبراهيم" بصمتها بوصفها تمثيلاً مصغرًا لعالم صالح الرزوق الأوسع: عالم لا يبحث عن البطولة، بل عن آثارها؛ لا يقيم صرحًا من المعنى، بل ينقّب في أنقاضه؛ لا يخبر القارئ بشيء، بل يجعله يتساءل عن كل شيء – من هو إبراهيم؟ هل كان موجودًا فعلًا؟ وماذا يعني أن تختفي الحكاية، لا لأنها انتهت، بل لأنها تآكلت من الداخل، مثل الصورة، مثل الأثاث، مثل الذاكرة نفسها؟

***

بولص آدم

ينطوي ديوان " يد تقود عماي " للشاعرة المغربية نجاة الزباير"1" على مفاتيح إقرائية متعددة قد يكون أسهلها قراءة هذه التجربة الشعرية ضمن الخرائطية الرمزية للشعريات الوجودية الإغترابية التي طبعت مساحة كبيرة من المنجز النصي للقصيدة الحداثية. لكننا لن نيمم بوصلات القراءة في هذه الوجهة وسنؤثر ارتيادا يذهب نحو رفع سدول النص الشعري عن أمكنة المعنى المحتجب وخلع العذار عن أحجبة المعنى الذي يتوارى في السدوف والسجوف البلاغية الشفيفة والكثيفة.

ثمة سند جمالي تنهض عليه نصانية الديوان وهو المتمثل في انتحاء كتابة شعرية تؤالف بين الرمزية الإشارية للغة العرفانية من خلال إحالات تناصية على ابن عربي وجلال الدين الرومي وابن الفارض ورابعة العدوية وفريد الدين العطار يتماهى فيها النص القرآني بالحمولة الدلالية للخطاب الصوفي، وتؤالف في نفس الوقت باسترفاد السجلات الرمزية للشعر الغربي من هوميروس إلى بودلير مع اختراقات لسجل المتن الأساطيري (جلجامش، برومثيوس، إيكاروس، سيزيف، نرسيس..)

جراء هذا التركيب الأرابيسكي وتساندات موزييك لغة بإيقاعات حابلة بما هو ظاهر وما هو مضمر من الصوغ التشاكلي لهذا التعدد من الرموز تنهض الكتابة الشعرية في هذا الديوان [كما في أعمال شعرية أخرى للشاعرة] كرحلة رمزية عبر مسالك البيان الشعري في التعبير عن علاقة الذات بواقع غير متطابق (واقع لإغتراب الجسد والروح)، وعبر إسراءات ومعارجية البوح الشعري لكتابة تتدثر بلبوس الرموز الأساطيرية والصوفية للتعبير عن اغتراب الوعي والفكر في عالم ووجود يفتقد لحمة الاكتمال ويفتقد الجوهر الخالص للروح والكينونة الصميمية. نقرأ من الديوان:

انكمشت في أسفار ابن عربي

زحف القلب خلف فجره

" أدين بدين الحب " قال

اتسعت في مداه حيرتي

وانفتحت أبواب بصيرتي

(...)

أيها البعيد

أرأيت كل هذا الغبار

يدثر إسمي في ذاكرة هواك

فآوي للعراء

كي أصطاد قصيدة

شردت حروفها

فألقاك

تحت سقف هواجسها

تعانق وردة الوصل

وكلما قصصت من الضلوع

شوقك

نبتت لي أجنحة من رماد

تحملني إلى عناوينك.

" ص – 16 / 18 "

هكذا تترحل بنا القصيدة في الفضاء السيميائي لتلاقي الأكوان المعرفية لكل من النفري [كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة] وابن الفارض [الحب عقيدة أهل الخواص]، مثلما نعبر من الإشارة اللماحة إلى غربة الملك الضليل الشاعر امرىء القيس وصول إلى الالتفات الكنائي للأندلس وشاعريها ابن زيدون ولسان الدين ابن الخطاب، دون نسيان التناص الأول مع الآية القرانية (فنبذناه بالعراء) والتناص الثاني مع أسطورة طائر الفينيق في قول الشاعرة (نبتت لي أجنحة من رماد).

أهم ما ينتج عن هذا الانتحاء الجمالي هو أننا نصير بصدد كتابة شعرية تشتغل وفق [استطيقا الاستعارات التماثلية] التي أوضح الباحث محمد بازي انبناءاتها في العديد من النصوص الأدبية من خلال كتابه (تقابلات النص وبلاغة الخطاب)"2"، أي أن القصيدة تتجاوز على مستوى تشكيل الصورة الشعرية الحيز الضيق للمحسنات البيانية والبديعية التي تجعل التشبيه والإستعارة والكناية مقصورة على حيز الجملة وبالتالي تشيد الشاعرة ما يمكن وصفه ب [الإستعارة النصية / أو الاستعارة السياقية كما يحب محمد مفتاح أن يسميها]"3"

تركز الشاعرة على بلاغة النص الشعري مبتعدة عن التنميق والزخرف البياني أو النزعة البديعية، وهذا يتضح من خلال اعتمادها جماليات التقابل بين المنوال الإستعاري لتجربتها الشخصية والمنوال الإستعاري العرفاني، أو الذهاب أبعد من ذلك إلى توسيع مرايا المناويل الإستعارية بالانفتاح على العديد من السجلات الرمزية المجازية الكونية، كما يتضح في الصوغ الشعري التالي:

أ - يمكن تأمل جمالية النسج الاستعاري في قصيدة " وجه ليس لي " التي مطلعها:

المرآة الكاذبة

تشطرني نصفين

وجه يفتح شباك القصيدة

يقود معناي

و آخر ينام غريبا

على كتف الضوضاء

يقول لي:

مساء الخير

و يتبع خطاي.

و هي قصيدة تشتغل على مفهوم الخيال المرآوي [انشطار الذات في صورتين متناقضتين اغترابيتين] مع استدعاء لصورة (القرين الشعري)"4"

ب – يستعاد المنوال الإستعاري ذاته من خلال قصيدة " أنامل تنوب عني " وهي قصيدة لتمرئيات صورة الأنا في اعكاسات الوعي الشعري، نقتبس منها:

كانت عيناها تفضحان سري

هي غيري

قلت..

وأمعنت في التخفي

لكنها أمسكت بظل وهمي

واستلقت في جرحي

تعد زنابق دمي

المسفوحة على باب التمني.

يتجانس الالتجاء إلى [المرآة] كمنوال استعاري ناظم لبلاغة الكتابة الشعرية مع النزوع الاستطيقي للكتابة الصوفية في اعتمادها رمزية المرايا للحديث عن الذات في مختلف تمثلاتها وهو ما يذكرنا بالبيت الشعري الصوفي الشهير (وما الوجه إلا واحد غير أنه / إذا أنت عددت المرايا تعددا)، لكن الأمر ليس فقط مخصوصا بالشعرية الصوفية فشكسبير في شعره التراجيدي كثير الجنوح

لا لا إلى رمزية المرآة للتعبير عن استعارات الغيرية كما عن أشكال الصراع بين الإنسان أو الزمن، أو إظهار مفارقات الوجود ونقائض المشاعر والقيم وهو القائل في شعره (يا مرآة مرائية / كأتباعي أيام الهناء / إنك تخدعينني) من مسرحية ط ريتشارد الثاني ".

لا تغرق الشاعرة نجاة الزباير في استدعاء الإصطلاح الصوفي وهي بذل ذلك تذهب نحو استلهام جوهر الشكل الشعري لروح الوعي العرفاني: كما أنها تترك النشيد الشعري يسترفد كل أشكال التعبير عن الذات سواء من خلال الأنماط التي عرفتها مختلف الشعريات الرومنطيقية في الشرق والغرب أو من خلال التماس مع الماهية الشعرية لروح الحداثة.

تعتني بتشييد القصيدة ك [معمار] لكي تتجنب السقوط في شرك التداعي غير البناء في نصاصية القصيدة، وتقتصد في بناء الجملة جاعلة المعنى المجازي سيد الكتابة فيما خطاب الحقيقة يرد بلغة مشذبة من وقع المباشرة والسطحية. في بنائها المعنى تترك مونولوج القصيدة ينفتح على الحوار الرمزي مع الكثير من الأسماء والأصوات (فان كوغ، سيلفيا بلات، زرقاء اليمامة، سعاد الصباح، الموناليزا، نزار قباني، جيفارا..).

تلك اليد التي تقود العمى الوجودي السائد هي [يد شبيهة بعناية سماوية] ترعاها أقدار ومصائر الشعر كما يرعاها ذلك النور الذي يحمله القلب والبصيرة والروح في مواجهة عالن انتصر فيح الحس على يقظة الإحساس. عالم لا يكف كل شيء فيه يندثر إلا من تلك الشعلة التي لا زلت تتوهج في قلب الشاعر / الشاعرة ولا تخبو رغم شحة الزيت في القنديل.

***

محمد علوط – 2025

......................

هوامش:

1 – نجاة الزباير "يد تقود عماي" طبعة أولى 2023 منشورات بيت الشعر في المغرب.

2 – محمد بازي " تقابلات النص وبلاغة الخطاب " طبعة أولى 2010 منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم ناشرون بيروت لبنان / راجع الفصل الرابع تحليل الباحث لقصيدة نسر لعمر أبي ريشة.

3 – محمد مفتاح " مجهول البيان " طبعة أولى 1990. دار توبقال الدار البيضاء المغرب

4 – راجع: عبد الفتاح كيليطو " الكتابة والتناسخ " ترجمة عبد السلام بنعبد العالي. طبعة أولى 1985. تالمركز الثقافي العربي لبنان – المغرب.

للشاعر الفلسطيني سعيد خلايلي

القصيدة كوثيقة وجدانية وكينونة رمزية

تنهضُ قصيدة "كُلُّ جُرحٍ فيكِ جُرحي يا فلسطين" للشاعر سعيد خلايلي على بُنية وجدانية كثيفة تتشابك فيها الدلالة السياسية بالرؤية النفسية، والرمز بالواقع، والمجاز بالمرارة. وتبدو القصيدة في مجملها نشيداً داخليّاً موشوماً بالأسى، فيه يتحول الوطن من جغرافيا إلى ذات، ومن أرض إلى معنى وجودي. تمثل هذه القصيدة مثالًا عالياً على الشعر المقاوم الذي لا يكتفي بالصراخ، بل يتوسل الأسلوبية الرفيعة، والإيقاع الموسيقي، والصور الكثيفة، لإيصال صوت الجرح الجمعي.

وإذ نقرأ هذا النص من منطلق أسلوبي ونفسي ورمزي وهيرمينوطيقي، فإننا نجد أنفسنا أمام تجربة شعرية تتجاوز الانفعال السياسي إلى تأملٍ فلسفي في العلاقة بين الإنسان وموطنه، بين الجسد والأرض، بين اللغة والجراح.

- في مجال التحليل الأسلوبي – البناء، الإيقاع، اللغة

1. البنية الإيقاعية والوزنية:

جاءت القصيدة موزونة على البحر الكامل أو الطويل (في الغالب بتفعيلات الكامل: متفاعلن متفاعلن متفاعلن)، مع حفاظ واضح على موسيقى داخلية نابضة تستند إلى التكرار الصوتي، والتوازي التركيبي، والقافية الغنائية التي تعزز الانفعالات العاطفية يقول:

"يا وطنيَ الأغلى فلسطينُ السَّنا

ومعارجُ الأرواحِ فيكَ ومُهْجَتي"

يظهر من المطلع هذا التوازن الصوتي بين "فلسطين" و"السنا"، وكذلك التناغم في نبرة الشوق والصعود الروحي نحو الوطن، مما يرسّخ النغمة التأملية ويُدخل المتلقي في مناخ وجداني صوفي.

2. الأسلوب البلاغي:

القصيدة تتوسل بتقنيات التكرار (كُلّ جرحٍ فيكِ، يا وطني، فلسطينُ)، والنداء الشعري، والاستفهام التقريري، والتضاد بين النور والظلمة، الحياة والموت، الرجاء والفناء. هذه الأدوات تُحدث تأثيراً شعورياً مضاعفاً، حيث تصير كل كلمة طقساً لغوياً يحتفي بالألم، يقول:

"فامنحينا مرةً لذةَ البقاءْ

مثلما تهدي لنا فَقدَ الرّجاءْ"

هنا نجد توازياً أسلوبياً بين "لذة البقاء" و"فقد الرجاء"، ما يعكس المفارقة المأساوية التي تعيشها الذات الفلسطينية.

- في مجال التحليل الرمزي – الوطن كرمز للأم، للذات، للقداسة

1. رمزية الوطن/الأم:

القصيدة تُحوّل "فلسطين" من مفهوم سياسي إلى صورة أمومية مقدّسة. فالوطن هو "يا أمَّ آهاتي" و"يا نخلةً في جرحها تتجلدي"، أي أنه يتحمل الألم بصبر الأم، ويتحول إلى مركز تعزية وعزاء في آنٍ معاً، يقول الشاعر خلايلي:

"يا أمَّ آهاتي التي نزفتْ دمي

يا نخلةً في جُرحِها تتجلّدي"

هذه الأم ليست فقط رمزا للأرض، بل للخصب والكرامة والتجلّد أمام الموت. وهنا تكمن القيمة الرمزية للنخلة في الثقافة العربية كعلامة على الثبات.

2. رمزية الجراح والدماء:

"الجُرح"، "الدم"، "السهر"، "الدمع"، "القاني المسفوح" هي إشارات متكررة تحوّل الجسد الإنساني إلى جسدٍ وطني. الجرح ليس خاصاً، بل هو جرحٌ كليّ/جمعي؛ وما يصيب الوطن يصيب الذات مباشرة.

"كلُّ جُرحٍ فيكِ، نبضي في شغافِهِ

ويدايَ من وجَعِ الحصارِ على صدى"

هذه الرمزية تجعل من الشعر فعل مشاركة في الألم الوطني، وتعيد تشكيل العلاقة بين الفرد والجماعة.

- في مجال التحليل النفسي – القصيدة كمرآة داخلية للأنا المقهورة.

1. أنا الشاعر بوصفها كائنًا منفيًّا داخليًّا:

القصيدة مليئة بصور الانفصال والاغتراب، لكن دون تسليم، بل بإصرار على العودة والتشبث رغم النفي. فالشاعر يقول:

"أنا المُسجّى فيكِ حينَ تُداسُني

قدسيّتي… والدمعُ فوق وسادتي"

إن الذات تتماهى مع الوطن حتى تغدو جثة "مُسجّاة"، لكنها في الوقت نفسه تحمل وعياً يقظاً وعاطفةً متقدة.

2. القصيدة كعملية تفريغ شعوري/وجداني:

الكتابة هنا فعل مقاومة نفسية ضد الانهيار. الشاعر يتلو، ينتحب، يتهجّى الدعاء في الليل، ويستعين بالصور العاطفية للتعبير عن التوترات الداخلية، يقول:

"وأنا السّهارى في ليالِكِ أنتحبْ

أتلو على الليلِ البعيدِ توجُّدي"

الشاعر هنا في حوار داخلي مع ليله الخاص، والليل رمز وجودي للضياع والأمل في آنٍ، مما يمنح النص طابعًا تأمليًا يتقاطع مع النفس الإنسانية المتعبة.

- في مجال التحليل الهيرمينوطيقي – تأويل فلسفي للمعنى العا

1. فلسطين بوصفها سؤالًا وجوديّاً:

في الخاتمة، تتحوّل فلسطين إلى "السؤال المطلق اللامنتهي". هذا التحول يمنح القصيدة بُعداً تأويليّاً جديداً، إذ لم تعد فلسطين فقط مأساةً سياسية أو وطناً محتلًّا، بل صارت سؤالًا كونيّاً حول المعنى والهوية والحضور، يقول:

"أنتَ السُّؤالُ المُطلقُ اللامنتهي

أنتَ الحضورُ وإنْ بداكَ تجلُّدُ الصَّمتِ"

هذا البيت يعكس وعياً عميقاً بالزمن الوجودي. فلسطين ليست فقط المكان، بل هي شرط وجود، والغياب الصاخب الذي يُعرّي كل العالم من معناه إذا غابت.

2. من الجرح إلى البعث:

في البيت الختامي، يقول الشاعر خلايلي:

"نمشي إليكَ، وفي المدى أرواحُنا

كالماءِ تعبرُ من جراحِكِ للغدِ"

نرى صورة "الماء" الذي يتسلل من الجراح – وهذا تأويل مدهش للتحول من الألم إلى الأمل. فالماء، رمز الحياة، يخرج من الجرح، رمز الموت، بما يؤسس لرؤية مستقبلية خلاقة وسط الأنقاض.

- في مجال الصور الشعرية والتشابيه والاستعارات

القصيدة غنية بالصور المحسوسة والرمزية معًا، مثل:

"الدمعُ فوق وسادتي" → صورة حميمية للحزن الممتد من العام إلى الخاص.

"يدينا نخلةٌ تُهدي المدى رُطبًا من الأشلاءِ" → تشبيه مركب يُبرز المأساة والخصوبة في آنٍ.

"غنّتْ صباياكِ… لكنْ دُفنَّ الحُسنَ في التابوت" → مفارقة قاتلة بين الجمال والموت.

هذه الصور تُشكّل طيفاً رمزياً يتنقل بين الحسي والتأويلي، بين المباشر والمجرد، بأسلوب بلاغي راقٍ.

خاتمة: القصيدة كأغنيةٍ للهوية وجراحاتها، تمثل قصيدة "كُلُّ جُرحٍ فيكِ جُرحي يا فلسطين" تجربة شعرية ناضجة تتجاوز خطاب المظلومية إلى بناء كينونة شعرية ناطقة بالحضور والمقاومة والمعنى. القصيدة تُزاوج بين الحنين والاحتراق، بين الحب والفقد، بين الذات والرمز، لتقدم فلسطين لا كأرض موعودة فقط، بل كوعدٍ شعري وجودي يظلّ معلقاً في فضاء الضمير واللغة والتاريخ.

إنها ليست فقط نشيداً لفلسطين، بل اعترافٌ كونيّ بأنّ هذا الجرح ليس سياسياً فحسب، بل هو انكسار في الروح الإنسانية كلما تجاهلت المأساة أو اعتادت مشاهد الذبح دون تأمل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

كُلُّ جُرحٍ فيكِ جُرحي يا فلسطين

يا وطنيَ الأغلى فلسطينُ السَّنا

ومعارجُ الأرواحِ فيكَ ومُهْجَتي

أنا المُسجّى فيكِ حينَ تُداسُني

قدسيّتي… والدمعُ فوق وسادتي

*

كلُّ جُرحٍ فيكِ، نبضي في شغافِهِ

ويدايَ من وجَعِ الحصارِ على صدى

كلُّ قرحٍ مسَّ شبرًا منكَ، وانطفأتْ

شمسي، وكانَ القَلبُ فيكَ مُوْقَدا

*

يا أمَّ آهاتي التي نزفتْ دمي

يا نخلةً في جُرحِها تتجلّدي

الثكلى دمي، واليتامى أضلعي

والروحُ بُسطتْ كي يناموا في يدي

*

وأنا السّهارى في ليالِكِ أنتحبْ

أتلو على الليلِ البعيدِ توجُّدي

وأُقايضُ النجمَ الدعاءَ لأجلِهمْ

وأقولُ: يا ربّاهُ! بَوِّبْ مولدي

*

والقانيُ المسفوحُ فوقَ ترابِنا

قد كان دمي، والروحُ زُفّتْ للسُّدى

فلِمَ استحللتِ الذُّبُوحَ لمُهجتي؟

فلِمَ الزهورُ تذوبُ فيكَ وتنطوي؟

*

يا وطنيَ الأغلى فلسطينُ الهوى

ربّما كنّا قُساةً في الهوى

فامنحينا مرةً لذةَ البقاءْ

مثلما تهدي لنا فَقدَ الرّجاءْ

*

عطشى نُموتُ، وفي يدينا نخلةٌ

تُهدي المدى رُطبًا من الأشلاءِ

وحزانى نحنُ، والأهلينَ فينا

رُمحٌ، وسيفٌ… في مَدى الأعداءِ

*

أيُّ قُبحٍ شوَّهَ القدسَ التي

كانتْ تُطرِّزُ بالضياءِ دُموعَنا؟

وغزةُ الزهراءِ، أينَ ضياءُها؟

والخيلُ تسأل: من يُعيدُ شُعاعَنا؟

*

والخليلُ الحُرُّ… أيُّ مدائنٍ

نامتْ على أوجاعِها ما بانَها؟

قولي فلسطينُ، مَن حطّمَ الوَدى؟

من بدّدَ الأناشيدَ في أفواهِنا؟

*

كُلُّ وضّاءٍ، كأنّ الروحَ فيهِ

مصلوبُ شوقٍ، أو شهيدٌ فُتِّتا

كُلُّ من ذابَ اشتياقًا في ثراكِ

كانَ النقاءَ… وكانَ فينا أنبَلَا

*

غنّتْ صباياكِ الجميلاتُ الهوى

لكنْ دُفنَّ الحُسنَ في التابوتِ يا

يا قدسُ، صبحنَا على شوقٍ دمي

هل يطلعُ الفجرُ المضمّخُ بالدُّجا؟

*

أنا عندَ بابِكِ، في يدي أناشيدُكِ

أهديكِ حُبّي، واشتياقي، ومُقلتي

أنا ذلكَ العاشقُ الذي لم ينثني

عنكِ… وإنْ ذبُلتْ يدي أو قامتي

*

يا وطني الأغلى فلسطينُ الهُدى

كلُّ جُرحٍ فيكِ… جُرحي وأُغنيتي!

وطنيَ المصلوبَ فينا كلَّ يومٍ

لم تَمتْ… بل في ضمائرِنا سَكنتْ

أنتَ السُّؤالُ المُطلقُ اللامنتهي

أنتَ الحضورُ وإنْ بداكَ تجلُّدُ الصَّمتِ

*

فيكَ انكشفتْ وجوهُنا المسروقةُ

فيكَ استبانَ خريفُنا وتَجدَّدَ النبتُ

أنتَ البقاءُ لكلِّ معنىً خالدٍ

أنتَ البدايةُ… حينَ لا يبقى لنا وقتُ

*

نمشي إليكَ، وفي المدى أرواحُنا

كالماءِ تعبرُ من جراحِكِ للغدِ

ونُعيدُ ترتيبَ الوجودِ بأسرِهِ

كي يستقيمَ الحُبُّ فيكَ… على أحدِ

*

يا وطنيَ الأغلى فلسطينُ البُكا

والمُلْهِمُ الأبقى… وسِرُّ الخالد

 

"غراب يواري سوءة الليل"

يتميز ديوان " غراب يواري سوءة الليل " للشاعر المغربي رشيد سبابو بميزات وخاصيات تعبيرية ودلالية تضفي عليه نزعة شعرية أكثر انفتاحا على عناصر ذات أبعاد رمزية تختزل الزمان والمكان والأعلام فضلا عن مكونات بلاغية وإيقاعية تغني نسيج المجموعة الشعرية من خلال ما تثري به نصوصها من تنويع وعمق يفتح أفقا مغايرا لإواليات التلقي القائم على تعدد افتراضات القراءة، ومقصديات التأويل، حيث يطالعنا من أول نص " غراب يواري سوءة الليل " العنصر المجازي بمختلف ضروبه وأنواعه من استعارة في: " أحيك من الشعر لباسا فضفاضا... أغطي عري ذاتي بالكلمات البتولة " ص 6، في استعارة اللباس المحاك من الشعر، وتحويل الكلمات إلى غطاء، وتشبيه، ضمني، للشاعر بقطرة ماء: " وربما أكون قطرة ماء تسللت من فم عطشان وانتحرت غارقة في نهر الحب " ص 13، هي القطرة المرتسمة على فم عطشان، يتوق لإرواء عطشه ولو بقطرة ماء لا يتوانى الشاعر في إلباسها مسوحا استعارية تنتهي بها منتحرة غرقا في نهر الحب، صورة تندرج في سياق نسق بلاغي جمالي تتنوع مساراته وتتعدد: " أقلعت عن تدخين الحياة " ص18، في تبديل للسيجارة بالحياة، وما يفرزه ذلك من تصورات ورؤى تنزاح عن النمط الشعري السائد والمألوف. واستعارة الصمت للتفاصيل، وخلط الأوراق للنسيان: " تصمت كل التفاصيل عندما يخلط النسيان الأوراق.. " ص22، مع إلباس التفاصيل والنسيان رداء فضفاضا، وما يحمله كفعل بحمولات غريبة وعجيبة من امتدادات بعيدة المرامي، ومتشعبة المقصديات.وفي تساوق مع عنصر الاستعارة تبرز العديد من الصور الشعرية، مثل: " حب يتدفق من بين يدي إله " ص17، حب لا متناهي الحدود، غير محدد الكنه والماهية ينبثق من ذات إلهية علوية المقام، سامية المرتبة، وتصوير لنغم الناي وما يحمله من شجن وكرب: " ناي يبكي بصخب " ص 24، ومدى هيمنة الزمن وتحكمه في مصير أشخاص: " فلننسلخ من قبضة الزمن " ص 30، يسعون للتخلص من قيوده المحكمة، وأصفاده الثقيلة. وصفات عميقة المعنى والدلالة تتمثل في انكشاف الليل: " سنعود إلى بيتنا قبل أن يتعرى الليل " ص 31، وما يسببه التيه من بلل للآخرين : " فيصيبنا بلل التيه " ص 31. ونظرا لما تحمله النصوص من طابع مجازي غني بأشكاله التعبيرية والتصويرية، وأبعاده الدلالية يصعب الإحاطة بأغلبها في مقاربة محدودة فقد اكتفينا بالتمثيل لبعضها. ورغم أن نصوص المجموعة ذات صيغة نثرية فلم يسلم بعضها من صبغة إيقاعية اخترقت تركيبها، وتسللت لصلب تفاصيلها وتشكلاتها كما في قول الشاعر: " اقتربت احترقت " ص8، بتكرار حرف التاء في نهاية جملتين فعليتين تتشكلان من فعل وفاعل، وحرف الميم في: " ظلام مزيدا من الظلام..." ص 8، وحرف القاف في: " هذه المدينة الصاخبة تزيد من قلقي من زقاق إلى زقاق " ص 34، وما يخلقه تكراره من نغمة تكسر رتابة النزعة النثرية وتوالي مقاطعها، وحرف التاء في: " أحببت كرهت تمردت بكيت " ص35، وإن كانت تروم تشكيل نوعا من التناغم خارج نظام التفعيلة وضوابطها. والطابع الرومانسي الذي لم تخل منه بعض نصوص المجموعة الشعرية كما في " نورس بلا وطن حيث نقرأ: " حيث يمكنني مشاهدة البحر يبتلع الشمس بروية. " ص 16، في تصوير رومانسي مجازي أخاذ. تصوير يتكرر في: " نورس يشرب القهوة ويسمع لموسيقى البحر... " ص16، وهو وصف ينأى عن التعبير الشعري السائد والمألوف ؛ إذ كيف لنورس أن يحتسي القهوة، ويصخي لموسيقى البحر ؟! ونص " على وجه الماء " حين يصف الراعي وهو يعبر عن لحظة الرحيل بمعزوفة يصدح بها نايه: " يعزف الراعي على الناي سمفونية الرحيل " ص19، ولعنصريْ الزمان والمكان حضور بارز في ثنايا الديوان، وما يميزهما من تواشج  وتداخل، دائب التفاعل والتأثير: " النهار هنا لا يبكي والشمس لاتريد مفارقة هذا التراب العطشان..." ص33، في تصوير لثقل الزمن وتمططه وتمنعه عن الانتهاء في رحاب قرية (الزحيليكة) يطوقها الفراغ، ويغمرها السكون والرتابة، ورغم ذلك لا يعمها الحزن، ولا تشيع مظاهره بين جنباتها: " هذه القرية تحمل كل شيء عدا الحزن كل مرة آتها حزينا.. تحضنني كطفل جائع يهتدي لثذي أمه " ص 34، وهي صورة تعبر عما تعج به هذه القرية من مشاعر حنان وحدب جديرة بالتخفيف من ثقل ووزر الغم والكآبة عكس مدينة سلا بوفرة أزقتها ودروبها، وترامي أطرافها وأرجائها الضاجة صخبا وجلبة: " هذه المدينة الصاخبة تزيد من قلقي من زقاق إلى زقاق أجر رجلاي هاربا مني إلى الفراغ... " ص 34، ورغم ما تبعثه في الذهن والوجدان من إلهام على الإبداع الشعري إلا أنها لا تزيغ عن أفق يكتنفه الحزن والضياع: " كتبت مائة قصيدة كلهن حزينات اغتصبهن الضياع " ص 35، فإذا كانت قرية الزحيلكية موطن هدوء وسكينة فسلا مصدر كدر وألم: " أنا و"سلا " وجهان لألم واحد " ص 35. وتشير بعض النصوص إلى رموز لأسماء وأعلام من مختلف الحقول والمجالات أسطورية ميثولوجية ك "إيروس " من آلهة الإغريق: " أين إيروس ؟ " ص8، وفلسفية مثل الفيلسوف الألماني " نيتشه ": " أضرب بمطرقة " نيتشه " على رأس الوجود... " ص 29، وتشكيلية في إشارة للوحة " الموناليزا ": " خلق " الموناليزا.. " ص30، وأدبية شعرية بذكر الشاعر الفلسطيني محمود درويش والكاتب الروماني سيوران: " قصائد درويش ولعنات سيوران " ص 37، وقيس بن الملوح المعروف ب " مجنون ليلى ": " لازال المجنون يبحث عن ليلى.. " ص 24، مع ما تحبل به هذه الرموز من دلالات فكرية، وميثولوجية أسطورية، وأدبية إبداعية، وفنية جمالية بمختلف أشكالها وأسسها وثوابتها ومرتكزاتها.

فديوان " غراب يواري سوءة الليل " يزخر بخاصيات إبداعية بارزة على مستوى العناصر المستخدمة، والأسماء المستوحاة، وما تحفل به من حمولات رمزية ودلالية أغنت المجموعة الشعرية، فأضحت أكثر انفتاحا وتنوعا ورحابة.

***

عبد النبي بزاز

.....................

* غراب يواري سوءة الليل(شعر) رشيد سبابو، مطبعة الخوارزمي ـ الدار البيضاء 2022.

    

"قراءة في إحداثيات التوجه"

لسرد وقائع التاريخ ولع لدى كثيرين، وشغف أيضا لاسيما إذا تعلق الحدث التاريخي بماضٍ يبدو مشرفا لعقود طويلة وبعيدة، هكذا تبدو حركة الضباط الأحرار التي قامت لإجلاء الاحتلال الإنجليزي من مصر وإنهاء حكم الملك فاروق الأول، وكلمة الحركة مفهوم عسكري يرتبط بالعسكرية والجندية والتخطيط الاستراتيجي للمعارك والمواجهات المسلحة، المصطلح الذي سرعان ما تغير اسمه ودلالته إلى كلمة ثورة التي أطلقها على الحركة عميد الأدب العربي صاحب الأيام الدكتور طه حسين ؛ وقتما انضمت جموع الشعب المصري إلى حركة هؤلاء الضباط الشباب الأحرار بالفعل والذي تزعمهم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي أصبح فيما بعد رئيسا للجمهورية العربية المتحدة آنذاك.

(٢)

وربما طه حسين في إطلاقه لكلمة ثورة بدا متأثرا كثيرا وليس بعض التأثر للثورة الفرنسية وتغلغل الثقافة الفرنسية في ثنايا تكوينه وتأصيله الفكري وربما أيضا أراد وهو صاحب العبارة الأكثر شهرة في القرن العشرين " التعليم كالماء والهواء" حينما طالب بمجانية التعليم دون التطرق الآن لما فعلت الثورة بالتعليم وما صار إليه راهن تعليمنا الآن ! لكن في صياغته لكلمة ثورة وعبارته ذائعة الصيت كان يحمل مشروعا استشرافيا للتنوير وتثوير الثقافة العربية. الأمر الذي تجسد بعد ذلك في تحقيق التوزيع الديموقراطي العادل للثقافة، وتعويض المناطق التي كانت محرومة من جني الإبداع دون التطرق مطلقا إلى يوليو من حيث نكبتها أو نكستها، أو من حيث تجاوزاتها التي تم تسجيلها أيضا في الأعمال الأدبية التي صارت خالدة إلى اليوم.

(٣)

والمشهد الذي بين يدينا ونحن نسطر بعض الحروف والكلمات في ذكرى الاحتفال بثورة الثالث والعشرين من يوليو ما يعنيني قضية الأدب والسياسة لا أكثر لا أقل، وهذه العلاقة يمكن توصيفها من زوايا ثلاث ؛ علاقات ملتبسة، ومساحات شائكة، ومغامرات أدبية غير محسوبة . رغم أن ثورة يوليو 1952 راهنت على الثقافة كسلاح ناجز من حيث توجيه الوعي القومي للجماهير في وقت باتت فيه الثقافة عموما والأدب الفني من رواية وقصة ومسرحية وقصيدة ملمحا من ملامح الوطن، وأسلوب حياة لا يمكن التغافل عن شهوده الحضاري في وقته وحينه.

(٤)

لكن من خلال استقراء العلاقة بين الأدب والسياسة يمكننا اقتناص نقطة التصالح بينهما ؛ تحقيق الأمن الفكري الذي يعني إحساس المجتمع بأن أفكاره وأخلاقه وقيمه ليست مهددة من طرف داخل أو خارجي، أو تهديده من فكر وافد خبيث. من هنا تم الالتقاء بين نقيضين من أجل السعي نحو تحقيق الطمأنينة وسلامة الفكر والفكرة أيضا، وسلامة الاعتقاد الشعبي، وحينما لجأت السياسة آنذاك للأدب فهي كانت على وعي بالرهان على التاريخ لأن الأعمال الأدبية تظل خالدة بإعادة طباعتها ورواجها اللامحدود بين القراء ومن ثم تجاوز فعل القراءة إلى جموح المشاهدة عبر شاشات السينما، وهذا ما يمكن وصفه بقانون الهيمنة على الوعي الجمعي.

(٥)

لكن، يظل الأدب رغم هروبه من مباشرة التوثيق التاريخي أصدق قليلا من تأريخ الحدث نفسه لاسيما في مساحة التوثيق والتأويل والتفسير عبر زوايا إبداعية رغم كل محاولات أي نظام حاكم بائد أم قائم بفرض الوصاية والولاية على عملية الإبداع، من أجل هذا كان الأدب هو التأريخ الخالد للعصور السياسية المنصرمة. ومن هنا يمكننا القول بأن الأدب وأهله ساهم بشكل كبير في توثيق ملامح ثورة 23 يوليو سنة 1952.

(٦)

ليس هذا فحسب، بل إن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر أعلن أكثر من مرة أن رواية المفكر والأديب الشاهق توفيق الحكيم (عودة الروح) التي استهدفت عرض فكرة عودة الروح لمصر بعد قرون من الضياع، وفكرة قيادة مصر لكي تعود لممارسة دورها الحضاري. كذلك رواية العميد نجيب محفوظ أوبرا الحكايات ومقهى الحكي في روايته الجميلة (بداية ونهاية) والتي نشرت عام 1949 والتي رصد فيها بعبقريته السردية والحوارية أيضا أوضاع المجتمع الملكي وظلم الطبقات، لكن يظل نجيب محفوظ حالة خاصة جدا في موافقه السياسية تجاه ثورة يوليو وربما هذا الاستثناء الأدبي له ضمن عشرات المبدعين هو الذي جعله بمنأى عن منافسة الحصول على رضا السلطات لعقود طويلة.

(٧)

وبحق، تظل العلاقة بين يوليو الثورة والأدب مرحلة معقدة سياسيا ومعقدة أدبيا أيضا ؛ لاختلاف الشهادات والنصوص وتباينها، وخير مثال على ذلك توفيق الحكيم نفسه الذي أشار جمال عبد الناصر أنه أحد أصحاب فكرة الثورة والرمز التاريخي لها قبل اشتعالها بسنوات، فكتب قبل الثورة روايته (عودة الروح) في 1933، ثم تبعها برواية (الصفقة) في عام 1956 التي تناولت كفاح الفلاحين حتى حصولهم على حقوقهم كاملة وإصدار قانون الإصلاح الزراعي، وبعد ذلك جاءت روايته (الأيدي الناعمة) التي تناولت قيمة العمل واختلاف البعد الاجتماعي للمواطن عقب الثورة المصرية، لكن في عام 1960 فاجأنا توفيق الحكيم بنقد ثورة يوليو مسار الحدث وليس الفكرة نفسها حينما قدم للقارئ العربي مسرحيته (السلطان الحائر) التي شهدت أحداثها حيرة الحاكم بين مزاعم الديمقراطية وشهودها، والقانون الحاكم للجميع، والقوة الغاشمة وتفاصيلها شديدة الشراسة.

(٨)

لذلك يمكننا تفسير العلاقة بين الثورة والرواية من زاويتين ؛ الأولى زاوية التوثيق، والأخرى زاوية تتبع المسار. أما الزاوية الأولى (التوثيق) في ثمة شهادات أدبية لأصحابها تم رصدها في سياق فني روائي، من مثل روايات (في بيتنا رجل) لإحسان عبد القدوس، و(صح النوم) ليحيى حقي، و(رد قلبي) ليوسف السباعي، و( غروب وشروق) لجمال حماد، فسمحت الثورة لهؤلاء الأدباء تسجيل شهاداتهم التاريخية عبر قناة أدبية وهي الرواية وتم تجسيدها فيما بعد من خلال السينما.

(٩)

لكن هل تخلى المبدعون عن سماتهم الفنية الاستثنائية التي تميزوا بها ؟ هنا نلجأ إلى عبارة إحسان عبد القدوس الشهيرة : " حبك الأول هو حبك الأخير "، لم يستطع كل من إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي التخلي عن مزيتهم الرئيسة في الفن الروائي لاسيما وأنهما من رموز الرواية الإنسانية الرومانسية، فكلاهما صبغا رواية الثورة بخيط رومانسي يعطيها فكرة موازية هي حب الوطن بقناع آخر . ربما بخلاف جمال حماد الذي له خلفية عسكرية وخبرة تاريخية طويلة دفعته أن يحاول تقليد إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي في صنيعيهما لكنه بقصة رومانسية بها أقنعة التشفي والمحاكمة غير المباشرة والانتقام بصورة غير شرعية في روايته ( غروب وشروق).

(١٠)

أما الزاوية الأخرى، زاوية تتبع المسارات، فيمكن إجمالها في روايات (ثرثرة فوق النيل) و(ميرامار) لنجيب محفوظ، و(نجمة أغسطس) و(تلك الرائحة) لصنع الله إبراهيم، و(القضبان) لمحمد جلال، و(شئ من الخوف) لثروت أباظة، وجميعها رصدت مسارات الديمقراطية التائهة ونقد اتجاه المسار الثوري وقت تدشينه وصور الانتهاكات ضد العدالة الاجتماعية الإنسانية. فتحولت الرواية العربية إلى قضية وعي بقدر ما كانت تشكل دراما سياسية، بل استحالت الرواية المصرية منذ بزوغ ثورة يوليو 1952 وحتى نهايات الستينيات من القرن العشرين جزءا أصيلا من تصدير المشهد السياسي لعقل المواطن، فتعقدت العلاقة مجددا بين الأدب والسياسة في ظل صراع الأدمغة والحرب من أجل احتلال العقول.

(١١)

وفي سياق الزاوية الأولى التي اهتمت برصد وتوثيق المشهد الثوري، نجد حراكا مسرحيا استثنائيا لم يتكرر بعد حتى لحظة الكتابة الراهنة، حتى أعدت فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين العصر الذهبي للمسرح المصري، ورصدها آخرون بقولهم تاريخ المسرح الحقيقي ؛ حيث كان البطل هو النص المسرحي لا الممثل، وباتت الفكرة المسرحية هي الحدث لا السيناريو أو الحوار بين الممثلين. فكانت ثمة أصوات مسرحية واعدة ؛ عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور ونعمان عاشور وسعد الدين وهبة وألفريد فرج، وبزغت أيقونات مسرحية خالدة مثل على جناح التبريزي وتابعه قفة، والسبنسة، وكبري الناموس، والناس اللي تحت، وسقوط فرعون.

(١٢)

ولا يمكننا ختم السطور الراهنة دون إشارة سريعة لما أحدثه صلاح عبد الصبور في المسرح الشعري العربي بدءا من رائعته (مأساة الحلاج) في 1966 والتي كانت بمثابة نبوءة لنكبة يونيو 1967، وكان بذاته كما وصفه النقاد الصوت الشعري الوحيد خارج السرب، ومسرحية ( مسافر ليل ) التي تنتمي لمسرح الكوميديا السوداء والتي تناول فيها صور الصراع الخفي والمعلن أيضا بين والسلطة بكل أشكالها السياسية والاجتماعية والدينية محاولاً تسليط الضوء على احتدام الصراع بين الإنسان والمجتمع، والإنسان والسلطة.

(١٣)

أما أبرز الحضور الأدبي وشهوده المثير بل الأكثر إثارة لتأثير الحركة الثورية في يوليو 1952 هو الصوت الشعري والمسرحي الاستثنائي الذي لا يمكن الفكاك من شراكه أو أسره أو اقتناص اسمه على سبيل التغافل؛ نجيب سرور

*** 

ا. د. بليغ حمدي إسماعيل - أستاذ المناهج وطرق تدريس اللغة العربية / كلية التربية – جامعة المنيا

حينما تختم قراءة رواية "فرانكشتين في بغداد" الحاصلة على "البوكر العالمي للرواية العربية" لهذا العام، يداهمك الشعور بالاحباط والمرارة لمصائر تلك المجموعة من الشخصيات التي عايشتها وعانيت همومها ومحنها وربما، وجدت من تعرفهم وسطها طيلة فترة القراءة. انها مجموعة من الشخصيات التي طحنتها الاحداث المروعة في العراق منذ وقوعه تحت الاحتلال الامريكي وصعود نخب للحكم غير مؤهلة اخلاقيا ومهنيا لادارة البلاد، فخلقت اجواءا تقترب في حالات منها الى الى صور الرعب والطريق المسدود في بحث الانسان العادي عن حقه بالعيش بأمن وسلام بحياة كريمة. انها شاهدة ادبية على واقع تخطى حدود الواقع ويشع العراق فيها على كافة مستوياتها اللغوية، ونمطية الشخصيات وألوان الطعام والمكان.

يستعير احمد السعدواي الاسطورة الخيالية الشهيرة التي خلقت شخصية "فرانكشين" بكل تنوعاتها وتأويلاتها النصية والسينمائية ليسحبها على العراق في أحلك مراحل تاريخه الحديث، ويفجر من خلالها ما خفي وراء ذلك الواقع والواجهات النفسية للشخصيات التي تتكيف له له باحثة عن موطء للوقوف عليه للتنفس والاستمرار في الحياة. ولكن يالخيبة الجميع. ان التجربة القصصة للجوء الى ماوراء الواقع كشكل فني، لتجسيده بكل فداحته  لها جذور عميقة في الاداب العالمية، بما في ذلك في الادب الروسي ونتلمسها بسطوع  كلاسيكيا في اعمال نيقولاي جوجول لاسيما في قصصه "الأنف" و"المعطف" وحديثا في قصص الاديب الروسي الكبير ميخائيل بولغاكوف " الماستر ومرغريتا" و " وقلب كلب" وانتشرت اكثر في ادب ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وما بعد الحداثة وتجلت باعمال فيكتور بليفين وفلاديمير سوروكين ويوري مماليف... ان رواية العراقي احمد سعداوي باسلوبها وحبكتها، يمكن ان تنتسب الى ما يسمى ب "الواقعية الميتافيزيقية"، بقدرتها على الكشف عن مكامن الواقع كحالة ماساوية تعمل ضد الانسان / المواطن وارادته وتتجاهل خياراته وتجعله بيدقة شطرنج لا حول ولاقوة لها في مواجهة الاعصار الي حركته "قوى غاشمة" لياخذ بطريقة بكل ما هو ويطفأ وهج النفوس وتطلعاتها ويختطف لحظات السعادة والفرح ويجعل الانسان من دون أمل ولاطموح وتحوله الى هارب بما في ذلك من نفسه. يعيش حالة اختناق. الانسان كحالة ككائن عاجز عن مواجهة القدر والمصير. ان الوظيفة الاساسية للاسطوري في العمل الادبي تنحى الى البلوغ بهذه او تلك من الظاهر حتى نهياتها المنطقية.

يوزع احمد سعداوي شخصياته على مجموعات صغيرة تكون كل منها انعكاسا ورؤية للمرحلة التاريخية / الاجتماعية التي تشكلت في 2006، حيث تصاعد العنف اللاعقلاني وغابت القيم وظهر على الافق نموذج مشوهه للانسان في العراق، تتداخل في مصائرها التي تكون متناقضة احيانا لكنه يخرج بها بمصير واحد. ويكون شبيه صنيعة "فيكتور فرانكشتين " الاسطوري الذي سيطلق عليه اسما عراقيا " الشِسمة" او الذي لا اسم له، هو السند الذي تتأسس عليه اركان الرواية وباعث تطور احداثها وشخصياتها. ان " الشٍسمة " الذي لا اسم له هو نتاج تجميع اعضاء من فارقوا الحياة نتيجة االتفجيرات الارهابية، وينهض بروح غريبة احد ضحايا الاعمال الارهابية للانتقام، لكنه يتحول بالنهاية الى اداة قتل عشوائية القتل من اجل القتل، انه ايضا صورة للقوى القديمة في المجتمع العراقي التي جُمعت اجزاؤها التي تهشمت بعد الاطاحة بالنظام السابق، لإستعادة الماضي والانتقام من الاحتلال ومن برايها وقف وراءه، ولكن باستعمال الوسائل القديمة وبدون طرح بديل اكثرة واقعية يستجيب لروح الحاضر، ولا قدرة على الحياة وبقيت عاجزة، وتحولت بعض تياراتها الى ممارسة القتل المجاني، والتدمير اللامبرر. ان "هادي العتاك"(العتيق)، الذي يمتهن شراء الادوات العتقية لتجديدها وبيعها بسعر اكبر، هو نسخة فرانكشتين الذي يجمع اشلاء   "الذي لا اسم له" بدوافع انسانية محضة، ولكنه جمعه من " اشلاء" عتيقة كما هي بضاعته فلم يحقق مشروعه الانساني، بل وراح ضحيته، ليكون هو الجاني. ولم يحقق المسخ الذي لا اسم له عدالة الشارع بعد ان تبدد الامل باحقاق عدالة السماء والقانون.

ان المثقف العراقي في "فرانكشتين في بغداد " يلوح مغلوب على امره. فجمهرة الصحفيين والمصوريين والكتاب ينخرطون في الوضع الاجتماعي ـ التاريخي، لتاكيد الذات وتحقيق الطموحات الشخصية والاغتراف من ملذات المال والجنس والمظاهر، انهم لا يطرحون مشروع التغيير ورسم البديل في الواقع الكالح الذي يرسمونه يوميا في صحفهم ومجلاتهم ويظهرون على شاشات التلفزيون لتقيدم تحليات عنه.

المرأة في الواقع العراقي الذي يرسمه احمد سعداوي هي الضحية الاكبر في مجتمع بلغ به جنون الرجال الى مستويات لا تقدر. وتتوزع نساءه الى معسكرين كبيرين، تنضوي في الاول الامهات العجائز اللواتي كن دائما عماد العائلة، واللواتي من المعسكر الثاني وجدن انفسهم على هامش المجتمع فرحن يمارسن بيع الجسد او الروح لمواصلة الحياة ولو في إطار النخبة. وتظهر العجوز "اليشو" الآثورية التي تنتظر ابنها الذي غيبته الحرب مع إيران قبل عشرين سنة ليبث النظارة في حياتها ويعيد مجد الدار، وتعتصم في بيتها القديم العريق، بيت الاجداد الذي يوحي بمتحف الأثريات. ان المرأة تنتسب الى أقدم شعب سكن العراق (الاشوريين) وبيتها هو بالذات صورة العراق الذي تحاول صيانته، ولكن المضاربين والمحتالين يحومون حولها لبيعه لهم، للاستيلاء عليه كغنيمة، ضمن التطور المنطقي للأحداث فالمسيحية "الآشورية" تترك بيتها ليس عن ارادة ولا رغبة، وسرعان ما يعصف به انفجار ارهابي ليدمره نهائيا، ويجد فرج الدلال الذي اشتراه من العجوز انه ارتكب غلطة بعقد الامال التجارية عليه، لانه كان منخورا وهشا من الداخل ولاح في واجهته عامرا وقويا وقوي الاركان. أنه العراق الحديث.

لم تجد حتى الشرائح الاجتماعية الطفيلية التي راحت تعتاش على مخلفات الوضع الذي خلقته حالة الاحتلال والاقتتال الطائفي، مكانا لها في الوضع التاريخي الاجتماعي الجيد. فيترك صاحب فندق العروبة وفرج الدلال ايضا بغداد ويعودون ايضا الى مواطنهم القييمة وكذلك الصحفي محمود السودادي ويختفي السعيدي، وتنهار احلام رئيس لجنة سرور. ان الوضع الي يتشكل يعصف بكل اشرائح والقوى وبالإنسان وقيمة وثوابت. ان نور التضامن الانساني والعناية بالأخر يلوح فقط في علاقة الشماس يوشيا بالعجوز ايليشو حيث يحنو عليها ويقدم لها ما يسهل عليها العيش وسط تلك الاجواء المأساوية. ان النظام السياسي في رواية احمد سعدواوي يرتسم كاصداء على جسد الواقع الممسوخ وتظهر شخصيات من دون اسماء وبوجوه متجهمة تثير الرعب ويتوجس منها الانسان شرا.

***

د. فالح الحمراني

في نص "حلّاق الشعر" للكاتب العراقي مروان ياسين الدليمي، لا نقرأ حكاية مهنة عابرة، بل نشهد مرآة مزدوجة لحياة كاملة تنحتها الضرورة وتصقلها الكرامة، حيث يتحوّل الحلاق إلى شاعر يقصّ ذاته كما يقصّ شَعر الآخرين، وتغدو الحلاقة رمزًا لفعل الكتابة نفسه: عمل يدوي وعقلي وروحي، يمارَس كل يوم ضد المحو والاختزال. فليست المهنة هنا مجرد وظيفة، بل استعارة وجودية لقصيدة تُكتب في الظل، ويقول صاحبها بيقين: "أنا كنت حلاقاً… وكانت القصائد، في داخلي، تقصّ رأسي كل يوم."

في هذا النص الذي يتكثف فيه زمن الحصار وجفاف العالم، لا يتحدث الكاتب عن "التجربة" باعتبارها شيئاً ماضياً، بل يتحدث عن "الهوية"، وكيف يمكن للواقع أن يحاول قسر الإنسان المبدع إلى زاوية ضيقة، تختزله في لقطة واحدة، أو في صفة مهنية، أو في تعليق عابر من أحدهم. يقول:

"أن يُختزَل إنسانٌ في مهنةٍ عابرة، أن يُنسى كل كفاحه، فقط لأنّ أحدهم لم يحتمل أن يراك تُواصل...".

هكذا تصبح نظرة الازدراء اليومية، مجرد "كلمة" أو "نظرة"، سلاحًا رمزيًا يقاتل به المجتمع ما لا يستطيع فهمه أو تحمله.

المفارقة العنيفة أن المجتمع لا يغفر للمبدع حاجته إلى العمل اليدوي، بل يكاد يطلب منه أن يبقى فوق الأرض وفوق الحاجة، وكأن الإبداع لا يتنفس إلا في ترف. لكن، كما كتب جورج أورويل الذي عمل في غسيل الصحون قبل أن يصبح أحد أعظم الكتّاب الإنجليز:

"أكتب لأني لا أستطيع العيش بصمت، ولكنني كنت أعيش في صمتٍ قسري طويل، حين لم يكن لي مكان في عالم الكتب".

كثير من المبدعين الكبار لم يصلوا إلى عالم الأدب أو الفن إلا عبر دروب الحرف والمهن:

الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي الذي عمل رسام لافتات إعلانية.

المسرحي الأمريكي سام شيفلين الذي عمل في مصنع للسيارات.

الكاتب الفرنسي ألبير كامو الذي شغل وظائف مكتبية متواضعة قبل أن يصبح أيقونة فكرية وأدبية.

تشارلز بوكوفسكي عمل سنوات طويلة في مكاتب البريد، وكان يقول: "الكتابة كانت نجاتي من الوظيفة التي لا تنتهي"

توفى يانسون، الكاتبة الفنلندية الشهيرة بمخلوقات الـ "Moomin"، كانت ترسم الكاريكاتير في الصحف لتعيل نفسها.

بيير شوفالييه هو مثال مهم وملهم ضمن الحديث عن المبدعين الذين مارسوا مهنًا يدوية قبل أن يحققوا حضورهم في الحقول الفنية. فقد عمل لحّامًا في بداياته، وهي مهنة تتطلب تركيزًا وصبرًا ودقة، ثم انتقل إلى الكتابة والإخراج السينمائي، ليصبح لاحقًا أحد الأسماء المؤثرة في دعم سينما المؤلف، خاصة عندما تولّى مسؤولية قسم السينما في قناة Arte الفرنسية.

المكسيكي خوان رولفو، كاتب كبير وصاحب رواية "بيدرو بارامو" المؤثرة في أدب أميركا اللاتينية، عمل قبل شهرته موظفًا في سجل السكان المدنيين وبائعًا للأجهزة المكتبية، وعانى من الفقر والضياع.

غابرييل غارسيا ماركيز، كان صحفيًا يعمل في ظروف شديدة التقشف، ولفترة، كان يكتب في الصباح ويبيع الموسوعات المنزلية من باب إلى باب ليلاً ليكفي أسرته.

الروائي الياباني كواباتا ياسوناري الحائز أيضاً على نوبل، عمل مصححًا صحفيًا ومتدربًا في النشر، وكان يعيش حياة تقشفية شديدة في طوكيو. لم يكن يملك حتى حذاءً يليق به عند حضوره أول اجتماع أدبي هام.

إن رحلة الإبداع لا تنفي الكدح، بل تسبقه غالبًا. ما بين لحّام فرنسي وحلاق عراقي وكاتب مكسيكي يعمل موظفًا مغمورًا، تكمن الحقيقة البسيطة: الإبداع ليس امتيازًا برجوازيًا، بل هو صرخة كائن حر، ينحت صوته في كل الظروف.

والمذهل أن هذا "التوتر" بين الكرامة الداخلية والوظيفة الخارجية هو ما يصنع غالبًا جوهر الإبداع. كما قال الفيلسوف هربرت ماركوز: "الحرية الحقيقية لا تُقاس بامتلاك الوقت، بل بامتلاك النفس رغم الوقت".

يكتب مروان: "الكلمة لم تكن وصفًا، بل طعنة. وسكينها ليس في معناها، بل في ما تُخفيه من نيّة."

هنا تصبح اللغة الاجتماعية أداة عنف رمزي، وتصبح السخرية من "حلاق" ـ وإن كان شاعرًا ـ إهانة موجهة لا إلى المهنة، بل إلى الكينونة الإنسانية التي يُفترض بها أن تتجاوز التصنيف.

إن العنوان ذاته "حلّاق الشِّعر" يحمل هذا الازدواج المؤلم والساخر:

فمن جهة هو من يقصّ "شَعر" الآخرين – مادة الجمال الخارجي، ومن جهة أخرى هو من يُقصي "شِعره" – مادة الجمال الداخلي. لكنه يفعل ذلك بكبرياء وهدوء، كمن يعرف أن وظيفته الأعمق هي ما لا يُرى، ما لا يُدفع ثمنه، ولكنه يبقى. في لحظة سخرية من أحد الزبائن، يتوقف الزمن:

"ما حاجتك إلى الشعر، وأنت حلاق؟!"

فيضحك هو، لا من الجملة، بل من جهلها.

في نص "حلّاق الشِّعر"، لا يُدافع الكاتب عن "الحلاقة" كوظيفة، بل يدافع عن الحق في أن تكون أي مهنة طريقاً للكرامة، لا سيفاً للمهانة. بل إنه ينزع من المهنة أي سطوة اجتماعية:

"المقص بيدي، لا على عنقي."

في اختصار يليق بشاعر يعرف كيف يضع الجملة حيث توجع.

لقد مرّ المبدعون في عقودهم الأخيرة بحصار مزدوج: الحصار الاقتصادي، ثم الحصار المعنوي. أُجبر الكثيرون منهم على العمل في المهن اليدوية، وواجهوا نظرات الاحتقار المبطنة من بيئات لا تعرف كيف تُقدّر القيمة إلا إذا جاءت عبر سلطة أو مال. وهكذا، كما تقول حنة أرندت:

"المجتمع الذي لا يعرف كيف يحترم فكر أبنائه، سيقسو عليهم بألف طريقة، ثم يتساءل: لماذا غادرونا؟"

لكن "حلّاق الشِّعر" لا يغادر، بل يبقى، يضحك، يصمت، ينتظر، يقصّ شَعر الزبائن نهارًا، ويقصّ القصائد لروحه ليلاً. ويعرف، كما في خاتمة النص:

ويظل، كلما نادوه “حلاقًا”، يبتسم ويواصل.

لأنه يعرف:

أن القصيدة الأخيرة، دائمًا، له.

بهذا اليقين العميق، تظل كرامة المبدع محفوظة رغم كل محاولات الاقتطاع أو الاختزال، لأن الإبداع لا يُقاس بوضع اليد، بل بموضع القلب. والقصيدة، كما الحياة، لا تُختَزَل فيما تراه العيون، بل فيما تصنعه الكلمات في الظل.

***

بولص آدم

قراءة نقدية رمزية نفسية هيرمينوطيقية في قصيدة سمر يازجي "سكَنتُكِ... فأزهرتُ".

في قصيدة "سكَنتُكِ... فأزهرتُ"، تسير الشاعرة السورية سمر يازجي على خيط من الضوء الممزوج بالرماد، فتكتب من قلب التجربة ومن جوف التحوّل، لا على سطح الكلمات. القصيدة ليست مجرد بوحٍ عاطفي؛ بل هي نصّ تأويليّ يتشابك فيه الحب مع الهوية، والأنثى مع الوجود، والانبعاث مع الفناء. وسنتناول هذه القصيدة عبر منهج نقدي مركّب يضمّ المنهج الرمزي، الأسلوبي، النفسي، والهيرمينوطيقي (التأويلي)، لقراءة طبقاتها العميقة بنظرة فكرية أدبية فلسفية.

- في مجال البنية الرمزية – الأزهار التي تنبت من السكن

العنوان ذاته "سكَنتُكِ... فأزهرتُ" يستبطن مركزية العلاقة بين "السكن" و"الازدهار"، وهي علاقة رمزية شديدة العمق: "السكن" هنا ليس إقامة جسدية، بل اندماج روحيّ تامّ، نوعٌ من الحلول الصوفيّ في الآخر، والذي يُفضي إلى تفتح الذات وازدهارها.

"سكَنتُكِ... فأزهرتُ" —

العنوان يشي بأن الذات لم تكن مزهرة قبل اللقاء، بل كانت جدباء، وبفعل هذا الاتحاد، حدث نوع من التحوّل الوجودي.

الرموز المتتابعة — من "الدهر"، إلى "الأحلام"، إلى "العينين"، إلى "التيه"، إلى "الرماد"، كلها تُشكّل بناءً رمزيّاً لرحلة التحوّل الداخلي التي تخوضها الذات العاشقة.

- في مجال البنية النفسية – الحب كفعل إنقاذيّ من العدم

القصيدة كلها يمكن قراءتها كمسار تحلُّل نفسي للقيود التي كانت تخنق الشاعرة، إذ نلاحظ كيف تُمثّل الحبيبة بمثابة "الآخر المنقذ"، القادر على إعادة تشكيل كينونة المتكلمة، تقول:

"ما كنتُ أحيا،

بل كنتُ أتوهّم الحياة،

حتى جئتِ،

وتنفستُ انعتاقي فيكِ."

هنا نجد تعبيراً واضحاً عن التحوّل من حالة "اللاوجود" أو "الحياة المتوهمة" إلى حالة "الحياة الحقيقية"، وذلك عبر الدخول في تجربة الحب العميق. ووفقاً للتحليل النفسي، يمكن فهم الحبيبة كـ"الذات العليا" التي تتكامل معها الـ"أنا"، أو كرمز للأمّ الأولى – الحاضنة الوجودية الكبرى.

- في مجال الأسلوب والصور الشعرية – تناغم اللغة والإيقاع والمعنى

أسلوب الشاعرة يتّسم بنَفَس تأملي داخلي، يُقرّب القصيدة من النثر الشعري، لكنه يحتفظ بإيقاع داخلي ناعم تشكّله التكرارات والوقفات، مثل:

"سأبقى فيكِ،

ولكِ،

وبكِ اشتياقي يتجذر،"

تكرار الحرف والضمير والتصعيد التدريجي في البناء النحوي يمنح النص نغمة روحية وإيقاعاً خفياً يشبه التراتيل أو الأدعية الوجودية. كما نجد صوراً شعرية مركّبة وعذبة، تقول الشعرة سمر اليازجي:

"انبعثتُ كقصيدةٍ من رماد."

"كنتُ غباراً على أرصفة اللامعنى."

"صرتُ بكِ شِعراً لا يُتعبه النثر."

في هذه الصور، تتكشّف قدرة اللغة على استعادة الذات، على تحويل العدم إلى قصيدة، والشتات إلى شكل فنيّ معترف به. الرماد والغبار يمثلان الفراغ والضياع، بينما القصيدة والشعر يمثلان إعادة صياغة الذات وتخليق المعنى.

- في مجال المنهج التأويلي – الهرمينوطيقا الوجدانية للنص

القصيدة، وفق تأويل هرمنيوطيقي، ليست عن الحب فقط، بل عن جدلية الحضور والغياب، عن التحول من غربة الذات عن نفسها، إلى لحظة تعرّفها عبر مرآة الآخر. فالحبيبة ليست شخصاً فقط، بل معنى وجودي، صورة للـ"معنى" ذاته، تقول:

"والزمان يزهر عطراً،

يتكلم بلغةٍ لم أعهدها،

لغة أنتِ مفردتها الوحيدة."

إنها ليست لغة جسد أو غرام فقط، بل لغة كينونة كاملة لا يُفهَم الزمن بدونها. وتبعاً للمنظور الهيرمينوطيقي، يمكن اعتبار هذه "اللغة" ميتافيزيقا فردية تنبع من ذاتية التجربة.

في مجال الحب كفلسفة وجودية

تُبنى القصيدة على فلسفة ضمنية مفادها: الحب ليس عاطفة، بل "حدث وجودي" يُعيد تعريف الذات والواقع. لهذا تقول:

"أنا، مذ عرفتكِ،

انبعثتُ كقصيدةٍ من رماد."

كأنّ الحب فعل خلق، يُخرج الذات من رمادها — من هشاشتها — ليجعلها قصيدة، أي بنية منسجمة، فنيّة، متماسكة. وهذا التصور يقارب رؤية كيركيغارد للحب بوصفه "رحلة الإيمان الجمالي"، ويقترب كذلك من مفهوم إريك فروم للحب كقوة روحية إبداعية، لا مجرد عاطفة عابرة.

- خاتمة: الحب بوصفه تجدداً وجودياً

قصيدة سمر يازجي ليست اعترافاً غرامياً، بل تجلٍّ وجودي لمعنى الحب كإعادة صياغة للذات والدهر والمعنى واللغة. إنها قصيدة عن "السكن" الذي لا يُشبه الإقامة، بل الانصهار، وعن "الازدهار" الذي لا يُولد من أرضٍ خصبة، بل من تربة محترقة تُحييها نظرة، أو اسم، أو أنثى.

القصيدة تقول – دون أن تصرّح – بأن الإنسان لا يُولَد مرّةً واحدة، بل يولَد حقًا حين يُحبّ.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.........................

سكَنتُكِ... فأزهرتُ

سمر يازجي

أحببتُ دهري حين أحببتكِ،

ففيكِ استقامت الأحلام،

وازدهى المعنى الذي كان غائماً في تفاصيل العيش.

في عينيكِ سمعتُ وشوشة وجعي،

وغفرتُ للدنيا كلّ انكساراتها،

لأنكِ كنتِ فيها.

سأبقى فيكِ،

ولكِ،

وبكِ اشتياقي يتجذر،

كأن بين روحي وحنيني عهدٌ

لا يُنقَض.

أنا لا أفارقكِ،

لأن الحبَّ فيّ يسكن،

وأنتِ تجسّده.

قلتُها حين التقيتكِ:

لن أنثني،

لن أتهرّب من هذا التيه الجميل،

فأنا، مذ عرفتكِ،

انبعثتُ كقصيدةٍ من رماد.

أقسمتُ أن أكون ظلكِ،

أن أُقيم في عينيكِ كفصلٍ أبدي،

لا يعرف الخريف.

منذ التقينا،

والزمان يزهر عطراً،

يتكلم بلغةٍ لم أعهدها،

لغة أنتِ مفردتها الوحيدة.

بكِ تحررتُ من أشيائي التي كانت تقيّدني،

كنتُ غباراً على أرصفة اللامعنى،

وكنتِ الريح التي أعادت لتفاصيلي الحياة.

ما كنتُ أحيا،

بل كنتُ أتوهّم الحياة،

حتى جئتِ،

وتنفستُ انعتاقي فيكِ.

صرتُ بكِ شِعراً

لا يُتعبه النثر،

ولا تُطفئه الأيام.

لحسن الموسوي

صرخة من ذاكرة امرأة: يضعنا السرد الروائي أمام عدة حالات شعورية عميقة وبليغة في المعنى والرمزية الدلالة، في ذاتية شعور أم فقدت ابنها الصغير، نتيجة انفجار سيارة مفخخة في حي شعبي وقرب بيتها، فتناثرت اشلاء الضحايا ومن جملتهم أطفالها الثلاثة، ربما عقلها يسلم للأمر الفاجعة الحزينة، لكن قلبها يرفض ذلك، بأن طفلها الصغير (صبيح) ما زال حياً لم يطاله الموت في الانفجار المرعب، بذا الشكل يغوص السرد الروائي بتفاصيل الحدث الجلل، ويرسم بريشته فنية مبدعة في وضع لوحة الواقع في الاطار الصورة العامة، والحياة العامة بكل التفاصيل الدقيقية، في ظل الرعب الذي يطال الناس ويمزق سكينة الحياة ومعيشتهم، من الانفجارات المرعبة التي تنفجر في الأماكن العامة المزدحمة، وخصوصاً الأحياء الشعبية، أو وصف وتصوير الحالة العراقية المأساوية في ظل الارهاب الدموي، بأن عامة الناس الابرياء، هم الضحايا، وهم من يدفعون ضريبة الدم من الافعال الطائشة والعشوائية من الجماعات الارهابية المتطرفة، التي هدفها تدمير وتخريب العراق، في الإفراط في رعب الدموي في كل مكان (لقد بات الوضع مقلقاً جداً، واخذت الامور تنحى منحى خطراً، حينما بدأت السيارات المفخفخة بزرع الرعب في نفوس المواطنين الآمنين، حتى بات الجميع يرى اي سيارة تمر بالقرب منهم، وكأنها الوسيلة الوحيدة التي ستنقلهم الى العالم الآخر)، براعة السرد الروائي للأحداث يتحرك على مساحات واسعة من الواقع الفعلي والتصوير الشعوري، بين المعطيات على الأرض والخيال، بين الحقيقة والوهم، بين الشك واليقين، يزيد من فعاليته في حراكاته الدراماتيكية الصاعدة الى الذروة، باللغة السردية المرهفة والمشوقة، التي تجذب القارئ من خناقه، لمتابعة مسلسل الاحداث الدرامية في حوراراته، أومتابعة مسلسل الموت، وقد اخذ شكل سيناريو في المونتاج السينمائي، في مسلسل الموت الطويل، ومن ناحية الايغال في الهواجس القلقة لقلب الام المفجوعة، ودورها بارزاً، ليس فقط في صلب الاحداث المتن السردي فحسب، وانما في تصاعده الى عمق الازمة النفسية، يغوص في سايكولوجية الام، التي ترفض بأن الموت خطف طفلها الصغير (صبيح) لذلك وجدت الملجأ الوحيد لمدارات فاجعتها، هي الغوص الاحلام، ومخاطبة الاشباح في الليل، لكي يعلموها بمصير أبنها المفقود، تخلت عن كل الامنيات، سوى أمنية واحدة لا غيرها (- أمنيتي الوحيدة هي أن أعرف مصير أبني المفقود (صبيح) أخذت الاشباح بالتشكيل على هيئة حلقة وخذوا تشاورن فيما بينهم) هذا شعور الام المؤلم في عسف الانتظار الصعب والمرهق، حتى يطل اليقين وتتضح الصورة الحقيقية، لكي يبدد الشك، هذا الاحساس العميق يمور بغليانه في شعورها الداخلي للام، كأنه يلسعها بسياخ النار . وتدور مسيرة حياتها على هذا المنوال، في عملية تراجيدية لم تتوقف، حتى اتهمها زوجها (حميد) بالجنون والهذيان في الاحلام وصوتها العالي، وهي تخاطب الاشباح في الليل، كأنهم هم شفاعتها في كشف حقيقة أبنها المفقود، رغم ان زوجها يعتقد جازماً بأن اطفاله الثلاثة جميعهم طالهم الموت، وسلم أمر للقدر، بأنهم اصبحوا شهداء من طيور الجنة (- أنت مؤمن بالله ومؤمن بالقضاء والقدر، أحتسبهم شهداء عند الله) لانه تلقى وقائع الاحداث الدموية من زوجته التي اصابت بالحادث ايضاً ونقلت الى المستشفى وكذلك من احاديث الناس (- تقول زوجتي انها رأت أولادك الثلاثة وهم يلعبون عند الباب داركم، وبعدها حدث انفجار عنيف بالقرب منهم، عثرنا على جثة أثنان منهم، اما الثالث فلم نعثر له على اي اثر) ولكن دفنوا في ثلاثة قبور، يزورانهم بين فترة واخرى، لكن الام ظلت على اصرارها العنيد بأن طفلها الصغير، لم يخطفه الموت، ضاق زوجها ذرعاً من هذيانها الجنوني، وهددها بالطلاق لانها اصبحت مجنونة (- حسناً، ما دمت مصرة على هذا الجنون اذهبي وانت طالق، سوف اذهب الى عملي، وعندما أعود لا اريدك أن أراك هنا) تركها وحيدة في محنتها الصعبة وحيدة، وتزوج غيرها، تركها في حزنها المؤلم، وهي تناجي من يسعفها ويخرجها من هذا البئر العميق، سوى الاستماع بدموع باكية الى اغنية المطرب الكبير (حميد منصور) في اغنيته المشهورة جداً، بين الناس تقول بعض كلماتها (تجينا .. تجينا / ردتك تجينا .. راحت واجت الايام ... / ردتك تجينا .. علينا .... علينا ...... بس مر علينا ...... وتورد الاحلام .... من تمر علينا) وفي تطور الأحداث الدراماتيكية، يزور الاب (حميد) قبور اولاده الثلاثة، ويلتقي مع أحد الشيوخ، الذي يدعي بمخاطبة الموتى و يدخل في حوارات معهم، ويقول لكل ميت له قصة لم تكتمل فصولها النهائية، ولكنه يوجه كلامه الى الاب الذي فقد أطفاله الثلاثة، يخبره بالخبر اليقين (- ابنك الأكبر يسلم عليك ويقول ان اخاه الاصغر لم يغادر عالم الاحياء، وان صحيفته في عالم الأموات مازالت مطوية ولم تنشر حتى الآن) عندها شعر بالندم الشديد في الاساءة الى زوجته وأم أطفاله الثلاثة، اتهمها بالجنون والهذيان . وبعد ذلك يأخذنا السرد الروائي الى مقولة (الله يمهل ولا يهمل) بعد سنين طويلة، في حادثة خلاف مالي بين اثنين شركاء في ادارة متجر تجاري، أحدهم كشف السر الذي كان مطوياً لسنوات، بأن شريكه في المحل اشترى طفلاً صغيراً بعد الفاجعة في انفجار عنيف في إحدى الأحياء الشعبية، ويعرف عائلة الطفل المفقود من سنوات، وفي صبيحة احد الايام طرق باب بيت (حميد) واخبره بأن طفله الصغير المفقود مازال حياً، وفي مشهد دراماتيكي ليؤكد ان قلب الام لم يخطئ مهما كانت الأحوال، في عرض بعض الشبان يسيرون أمامها وحين جاء الدور على ابنها انهضت مرعوبة لتاخذ الشاب في حضنها وهي تبكي وتصرخ بكل قوة الشوق والحنين هذا ابني (صبيح) وليس اسمه (احمد) كما ينادونه (- هرولت اليه مسرعة واحتضنته وغابت عن الوعي لتهوي بكامل حزنها) واخذوا يرشون الماء على وجهها لمحاولة ايقاظها، وحينما عادت الى وعيها ورشدها قالت باكية العينين (- ألم أقل لكم بأني لست مجنونة / ألم أقل لكم بأن ابني حي يرزق / أين أنت يا حميد / تعال وانظر الى ابنك / تعال و كفر عن سيئاتك / لقد طلقتني بسبب إحساس الأم الذي لا يخيب أبداً / سامحك الله ياحميد / سامحك الله) .

***

جمعة عبد الله – ناقد وكاتب

 

للشاعر محمد لشياخ

الحلمة كورال، ملحمة زجلية للشاعر الزجال ذ.محمد لشياخ، تقع في 84 صفحة، صدرت عن دار بصمة للنشر والتوزيع، من تقديم الشاعر أمغارالمسناوي . ومادامت الملحمة هي " قصيدة قصصية طويلة، تسرد مآثر بطل حقيقي أو أسطوري تتجسد فيه المُثل، أو سرد لحادث طريف شيق، بإمكان سرده أن يلقي الأضواء على خفايا ونفسيات " [1]. فإن الحلمة.. كورال عصارة تجربة إبداعية ناضجة غذتها الثقافة الأدبية والنقدية للشاعر/الكاتب محمد لشياخ، هي عالم إبداعي يتلبس فيه الشاعر بالحاكي ليوصلنا إلى الخفي الكامن وراء الإنجاز الفعلي للغة، يدل السرد والحكي فيها عن تأمل الكاتب للواقع، وعن صراعه من أجل الوجود والحياة عبّر عن ذلك بواسطة الحوار بين الشاعر/الزجال (الحاكي) والجهال(شويكات غرسهم الزمان ف اقدام الحياة) [2] من جهة، والشاعر المفترض من جهة أخرى موضوعه "القصيدة الزجلية " بين الإمكان والوجود، متأملا ما كانت عليه ووجودها الجمالي في حاضرها وفي تطورها، مستشرفا إلى مستقبل أروع. إنه صراع مر يعيشه الكاتب مع اللغة يغوص في ثخومها باحثا عن معانيها الإيحائية وصورها الجمالية، من أجل بناء عالمه الإبداعي وتأتيت صوره الشعرية الدالة العميقة والمركبة التي تبتعد عن الصور المتداولة الحسية البسيطة، حيث تلتقي في النص مقومات السرد مع مقومات القصيدة الشعرية مما أضفى عليه صبغة التميز والفرادة .

وسنقف على بعض الرموز التي استعملها الشاعر/الكاتب ودلالتها. كما سنستجلي بعض القضايا الأدبية والنقدية التي يتضمنها الديوان مع إحالاتها. الحلمة.. كورال فضاء مليئ بالعتبات والإشارات والنصوص المتناصة التي يستدعيها الكاتب/ المبدع مقتبسا معانيها، و التي يمكن الوقوف عندها زيادة على العتبة الرئيسة وهي العنوان . يسافر الشاعر/ الكاتب بالمتلقي في أزمنة متعاقبة رتبها ورقمها، فجعلها ، تبدأ ب "زمن الظلمة" وتنتهي " بالزمن اللي صبح فيه الظلام جنة، والضوء محنة " الذي يحيل إلى المعاناة وإلى الضبابية وعدم الوضوح، وبهذا يحقق الشاعر الشكل الدائري الذي هو من خصائص القصيدة الحديثة في بنائها من حيث المعنى .إذ يتمم المختتم معنى المفتتح  فيها، يقول في المفتتح:

قال الزجال اللي كتب:

صرخة ف الظلام خارجة عميا

ولد الحلمة كبر ف العتمة. [3]

ويقول في المختتم:

تم   بين القصب

غنى الحالم لحنك المرتل يا جنة

والجنة حلمة. [4]

التيمة الرئيسية المولِّدة للكتابة الشعرية هي " الحلم "، وتدور في فلكها تيمات صغرى من قبيل: الحالم، زمن الحلم، عالم الظلمة، عالم النور، الزجل أو الكلمة أو الحرف .

فبناء النصوص يعتمد على ثنائية الظلمة / النور، وهي ثنائية تضرب عميقا في التاريخ الإنساني فكرا ووجدانا، وهي لصيقة بعالم الحلم، حيث البداية عند الشاعر الزمن الأول الذي مازالت فيه الكلمة في وجودها الأول لها قدسيتها، إذ لم يدنسها بعد الاستعمال، وقد امتطى الشاعر للصعود إلى هذا النبع الصافي أمواج الحلم التي بلغ عددها ثمانية، تؤسس بدورها تلك الأزمنة الثمانية المرتبة، غير أن الشاعر ينحاز إلى عالم الظلمة الذي تختبئ فيه الأسرار، ويخاف من عالم النور حيث تتضح الحقيقة الكاذبة، وتحضر المحنة المؤلمة. إن خروج الشاعر من حيز الظلمة إلى حيز النور، واكتشافه لهذين الحيزين معا يشبه تلك الصرخة الأولى التي تعلن عن خروج الوليد، توا، من الرحم المظلم إلى الفضاء المنير، وهي في هذا السياق، ليست صرخة فرح وحبور وإقبال على الحياة بقدر ماهي صرخة هلع ورعب من مغادرة عالم دافئ تعمه الطمأنينة والسلام، ولا غرابة أن يستهل الشاعر النص الثامن باقتباس مأخوذ من منتسكيو ومفاده: " ينبغي أن نبكي الناس في يوم ميلادهم لا في يوم مماتهم ".

فالحلمة، كلمة، خروج من الظلمة للنور و شمساته، الحلمة رواء ضد العطش، الحلمة حياة خالدة، الحلمة عند الشاعر أنثى ولادة. إذ يعيش ولد الحلمة الكاتب/ الزجال مع القصيدة  تحولاتها الكبرى عبر الأزمنة على مستوى الإبداع نتتبع فيها أحوال الذات المستلهِمة لأحوال النفس المتوحدة والقصيدة الزجلية في شتى مراحل وجودها من الإفصاح والخروج إلى النور إلى التطور  في الحياة  إذ تتماشى الأحداث والتطورات النفسية للكاتب / الشاعر في نفس طويل، بدايته هيام وعشق يقول:

تسع شهور من العشق

قبل ما التاريخ يبدا

قبل ما اللوح يفتح سرداب الرعدة

ويبيع الخوف ف قراطس الندى

قبل ما تبدل وجعة الصوت ثوبها

وتلبس دربال الكلام. [5]

يتنامى الحدث هنا، وتتظافر تقنيات السرد من شخوص وحوار وأزمنة لتصور عسر الولادة والمعاناة الرمزية التي يطرح الكاتب من خلالها  أفكاره الخاصة بأسلوبه الخاص وقد اختار له الصراع بمستوييه الواقعي والرمزي، حيث المعاناة النفسية الحقيقية إبان الإبداع، والبحث الدؤوب عن اللغة المعبرة والتراكيب الدالة تحقيقا للتناسب بين ما هو وجداني والشكل الإبداعي الأدبي في تجربة الشاعر، كل ذلك انطلاقا من تراكم معرفي وتجريبي ورهانات الكاتب الزجال، حيث يبقى الزجل موروثا إبداعيا وفكريا، وملاذا آمنا لطرح الأفكار التي لها علاقة بهذا الفن الأدبي من أجل إيصال المعنى وإسماع الصوت، صوت الزجال الراوي المتلبس في القصيد بالآخر . قال:

فعين راس الماء

تفتل الماء بين صبيعات مطرزة

وبين النقش ترسمت كلمة

برمها الريح على راس عكازه

وجلس مجابه فلجة الشمس. [6]

يدل رسم الكلمة على الكتابة، كما يستنتج ذلك من قوله: قال الزجال اللي كتب. تأكيدا على الكتابة، لأن الكتابة سلطة وتعاقد بين الكتاب والمبدعين والقراء.  يريد الشاعر أن يضفي الطابع العالم على الأدب الشعبي، "الحلمة كورال" تنتمي إلى الأدب الشعبي، والشعر الشعبي تحديدا،  تضعنا في قلب نظرية الأنواع الأدبية، ونعتمد في هذا المجال على ثنائية لغوية: هي اللغة العامية / اللغة الفصيحة أو لغة العوام / لغة الخواص، وكذلك على ثنائية تاريخية انثروبولوجية: شفهي / مكتوب، فتجعلنا نلمس التحول الذي طرأ على الأدب الشعبي، وهو الانتقال من الشفهية إلى الكتابة مع الاحتفاظ بالنوع والخصائص المشتركة ، وكذلك انتقال النصوص الشعبية مما هو منسوب للجماعة ، حيث يبقى المؤلف مجهولا (مثل ألف ليلة وليلة، كتب السير،عنترة بن شداد..) إلى النص المنسوب إلى الثقافة الخاصة، فتصبح لدينا ثنائية أخرى هي الثقافة الشعبية المنسوبة إلى الجماعة/والثقافة الشعبية العالِمة المنسوبة إلى الأفراد المحددين الذين يتوفرون على ملكية إنتاجهم الأدبي، وهكذا يضيف الكاتب الشاعر الأستاذ محمد لشياخ الطابع العالم على هذا النوع الأدبي .

فإذا كان الزجل يستمد مفهومه اللغوي من الحمام الزاجل الذي يحمل الرسائل، فإن للزجال هذا الدور المنوط به ككل أديب ومثقف، أي له رسالة أو رسائل، ومحمد لشياخ ف "الحلمة كورال " أداه بكل المقاييس وعلى جميع المستويات سواء منها الفكري أو الفني الأدبي في تناغم وانسجام تام، بين الشكل والمضمون، فقد أثار من خلال النص مجوعة من الآراء والقضايا التي لها علاقة بهذا النوع الأدبي على مستوى التنظير نقف على بعضها:

-    يقول: الزجال نبي الكلام، الزجال لابس دربال الكلام، يشير إلى الخصائص والصفات التي يجب أن تميز هذا الشاعر، وهي امتلاكه ناصية الإبداع، أي الكلام  وصنعته ، وصنعة الكلام، معرفة تامة باللغة وخصائصها، ومعرفة بقواعدها الفنية في أداء المعاني وتوليدها .

-    قال الحلمة باتول ولدت كلمة، والكلمة بتول الحروف، تدل الباتول على العذراء عموما، فكذاك القصيدة جديدة وإن كانت ذات أصول وتاريخ، نفهم من هذا أن على كل شاعر وكاتب أن يتميز ويتجدد بأسلوبه، الذي يصبح علامة فارقة بينه وبين غيره.

- المبدع لا يموت الزجال لا يموت ينبعث من رماده مثل الفنيق يخلده إبداعه. قال:

ومن تحت الرماد

غتسمعوا كبدة الزجال

كوني يا نار على حرفي " برد وسلام". [7]

وأيضا

الزجال إلى قتلتوه

راه جلدوا كناش للكلمات

راه عظامه قصايد موحيات(..)

غيقراو صبيانكم وصايته ف كتاب الأموات. [8]

ونطرح في هذا السياق، السؤال كيف يخلده شعره؟ يخلده شعره إذا توفرت له الشروط  والصفات ، وأول صفة في الإبداع الذي يمكن أن يخلد صاحبه هي أن يعبر عما هو انساني، وقد سماه "القدرة على السمو اللي ما تيفرقش لا بين الألوان ولا بين الأشكال لا في الحياة ولا في الإنسان" [9].  يضاف إليه شرطا آخر وهوان يكون مدونا ومحينا. قال:

ها روحي

ها خبز معاشي

نقعوا فيه رشاتكم

شاركوني ملحة الكتابة . [10]

-  الشعر والزجل ككل شعر إبداع خلاق وليس انعكاسا ميكانيك للواقع، يستشف هذا الرأي من تكرار "مرايا كذابة" ودلا لتها، ومنه قوله:"لما العالم ضاق بالحالم قرر يرجع للظلام، فين كان قادر يقرا كينونته بلا لغة بلا مرايا كذابة" [11]، والإبداع   يستدعي المعرفة بالأدوات وامتلاكها، ويقتضي الموهبة التي يجب أن تنمى بالصنعة والقدرة على التصرف في اللغة.

- يشير الشاعر / الكاتب أيضا إلى علاقة القصيدة في فن الملحون والقصيدة الزجلية الحديثة على اعتبار أن الأصل واحد والجنس واحد. يقول:

فوسط الغمامة

سمعت خصومة

الرعد غضبان من خليلته السرابة

الماء بينهم حالف ما يشهد (..)

شكون قادر يسقي نخلة الكلام

هنا     تفرق الكلام

هنا     تكفا صدر النبي ف الحافة

هنا     الحلمة نزلت تحفر طريقها ف فيافي

هنا     وراء ظهر الشمس تخبا القدر

لابس سلهام الزهاد . [12]

-    ونسجل مع الناقد الكاتب دور النقد الأدبي في إضاءة الموضوع، وأنه مايزال زهيدا بالمقارنة مع التدفق الإبداعي في هذا المجال، كما يتعزز هذا بالدعوة إلى غربلة التجارب وإعطائها حقها في التقويم والتقييم حيث ورد الغربال الذي يدل على هذا المفهوم في مواضع شتى منها قوله:

قالت الحياة:

وعلا ش ما يكون "إنسان"

"إنسان" تيتماهى مع الصفاء

قادر يقطع دروب الجراح

"انسان" تيعلم الشمس تكون غربالنا . [13]

أما على مستوى الأسلوب واللغة فقد انتقى الشاعر ألفاظا إيحائية يطغى عليها معجم صوفي يحيل إلى الصفاء والسمو مثل: الحلم، الرؤيا، النور، الماء، حيث ترتبط الرؤيا بالأنبياء صلوات الله عليهم، وخاصة رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام التي كانت دليله إلى العزيز، كما فسر رؤى غيره ، أما عند المتصوفة فقد ارتبطت الرؤيا بالبشرى الإلاهية، وقد استعملها  الكاتب / الشاعر بهذا المفهوم فجعلها تتعدى الأحلام والحوافز النفسية وتحقيق الرغبات المكبوتة – عند فرويد مثلا – إلى الرؤيا والمكاشفة وتحقيق اللذة والشهوة  بالمعنى الصوفي فتصبح لها علاقة بالنور يقول الشاعر مستدعيا في هذا المعنى معنى قول جلال الدين الرومي:"النور اللي ف العين ما هو إلا آثار من نور القلب .أما النور اللي ف القلب فهو النور الحقيقي". [14]

إن بين الرؤية والرؤيا يتحدد عالم الشاعر الإبداعي الجمالي الحالم، والذي يبدأ بالشهوة والغواية . يقول:

شهوتي أنا ..ف حلمة... سميتها الحياة (..)

شهوتي يعصرني مزاجها ف دوايته

يخوتمني ضمغة  ف وصايته

شهوتي ف حلمة

راغ زينها ف رقاد الضاية

لما غزات بلادها الخيول

يوم خرجت لمناجل ترضع الصابة

تنشر الدفى فصبيعات الحطابة. [15]

أما "الماء " فله ارتباط بالحياة والوجود كما في القرآن الكريم " وجعلنا من الماء كل شيء حي " الأنبياء الآية 30. كما يحيل أيضا الى القوة والطوفان، لكن الشاعر استعمله استعمالا مرتبطا بالشعر وخاصة الصوفي الذي يحمل فيه الماء رمزية شدة العشق والشوق، كما ورد في دراسة رمزية الماء في التراث الشعري العربي، يقول الكاتب:" يرتبط الماء بالشعر الصوفي عند الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي فيصبح دلالة على الحب الإلاهي وتعبيرا عميقا عن الشوق والعشق وعن كل ما هو روحاني وصوفي، فالماء تعبير عن الإغداق في ملكوت الله وأسرار كونه" [16]. يقول:

قال الحالم

فين الماء اللي ماتت غمامته ف عشق أمي

باش تولدني حالم

فين السماء اللي تدلى صدرها باش ترضعني

فين حقي فصوفيات الحضرة

فين دربال الدرويش نحطو تاج

نهار يغسلني نورك من جهلي

نهار يعاوني الصبر على صبري. [17]

بصور تركيبة تجريدية تارة مبنية على المجاز والانزياح تارة أخرى، وباستثمار تجارب الآخرين والتأمل في الحياة، والقدرة على توظيف الرصيد المعرفي والثقافي المتنوع الذي يدل على الزخم المعرفي المتراكم، وامتلاك الكفايات والمهارات الإبداعية حقق الشاعر الزجال الأستاذ محمد لشياخ التناسب الوجداني بين حالته الانفعالية وبين الأسلوب الفني، في إيقاع قوي مبني على التوازي، وعلى تساوي الجمل والمقاطع مثلا:

ياك حنا اللي سمناك حلمة

يا كوكب الذر ف ملكوت الكتبات

يا تاج الورد ف سميت الزهرات

ياسوار كسرى ف قصور الطاووس

المفرخ بيضه فعشاش الكلمات. [18]

حيث تجد التساوي في التركيب "يا كوكب الذر، ياتاج الورد"، "ف ملكوت الكتبات ، فسميت الزهرات". يُكسب النص بنية إيقاعية داخلية قوية، حافظ عليها خصيصة مكتسبة أقرها الكاتب في وصف الحلمة ب "كرال"، وهذا تصنيف نوعي فرعي يعني الجوقة أو المجموعة، وهو مصطلح يستعمل في فنون أخرى، تصنيف كمي غير مؤثر، لأن الشعر يكتب في شكل قصائد مفردة أو قصائد متعددة موضوعها الحياة و" الحياة كورال من الوجعات" يتقاسمها الانسان. ومع ذلك تبقى للإبداع حرية مقيدة في الاشتغال على التخوم بين الأنواع – كما هو شأن التجريبيين -، لكن هناك ملامح كبرى، تراكمت عبر العصور، وشكلت تقاليد أدبية لا يمكن تجاهلها. إلا أن الحدود اليوم بين الأنواع الأدبية لم تعد واضحة. " فالشعر بهذا التصور مساحة يصطخب فيها الجدل بين عناصر الثبات وعناصر الحركة، ساحة تفنى فيها عناصر، وتتخلق أخرى، وتتحدد فاعلية العناصر المتولدة، بمقدار ما تقتضي من رؤى، ومقدار ما تحتوي من إمكانات الكشف وطاقات التغيير." [19]

هكذا عبر شاعرنا المبدع بأسلوبه المتميز ولغته الراقية عن الثابت والمتحول في القصيدة الزجلية عن وعي بالوظائف واستحضار تام للتراكم الثقافي والتجريبي بمؤثراته النفسية والموضوعية، فجاءت تجربته غنية تحتاج إلى أكثر من قراءة، وإلى النظر فيها بأكثر من زاوية.

***

د. فطنة بن ضالي

..................

الهوامش:

[1] سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية، دارالكتاب اللبناني، ط1985،1، ص205.

[2] الحلمة كورال، ص 31

[3] الحلمة كورال، ص 7

[4] الحلمة كورال، ص 81

[5] الحلمة كورال، ص 7

[6] الحلمة كورال، ص 11

[7] الحلمة كورال، ص 62

[8] الحلمة كورال، ص 64

[9] الحلمة كورال، ص 71

[10] الحلمة كورال، ص 40

[11] الحلمة كورال، ص 79

[12] الحلمة كورال، ص 73-74

[13] الحلمة كورال، ص 75

[14] الحلمة كورال، ص 11

[15] الحلمة كورال، ص 15

[16] خليل المعلمي، رمزية الماء في التراث الشعري العربي، جريدة الثورة 18 يناير 2016.

[17] الحلمة كورال، ص 76

[18] الحلمة كورال، ص 32

[19] اعتدال عثمان، قراءة في أوراق الغرفة للشاعر أمل دنقل ، فصول ، م4، ع1أكتوبر-ديسمبر 1983،ص121.

أهم ما يمز بنية هذه الرواية هو المونولوج غير التقليدي الذي تعودنا عليه في السبعينات. المونولوج هنا مناجاة الأم، هنا يأتي دورها كما أشرنا، صوت الوالدة العراقية فيه نغمة خاصة، معبّر عن سردية أنثوية عراقية، إنه مساهمة كبيرة في عالم تعدد الأصوات في هذه الرواية، يجسد تاريخ الهم العراقي، صوتٌ يتميز بوضوح الألم ونبرة الحزن، كله شجن، نواح، بكاء، سرد جميل جدا. إنها سردية الأم التي ترى الأمور بطريقةٍ أخرى. ص 149 تسأل ابنَها العريس العنّين: "ألا تذكر مسرحيتك الوحيدة". ص 150

وتتداخل "سردية" العروس أو تختلط مع مداخلات أم عبد الرحمن "نظرت الزوجة (يقصد شيرين) إلى التقويم الشهري ...صورة زوجها ببزته العسكرية... العروس شيرين... اعتصمت...ارتدت ثوبا أسودَ". ص 151-150

عند بداية المونولوجات يتداخل صوت والدة الجندي المقتول مع صوت أم المحتضر عبد الرحمن بشكل بارع لكنه يحتاج إلى قارئ متانٍّ، لهذا قد يتساءل عمّن يدور الحديث؟ من هي التي استلمت البرقية؟ فيتضح أنها والدة الجندي صديق شيرين أو "زوجها" المقتول في الجبهة لأن الحدث قديم يتم استذكاره. ص 152

إذن سردية عبد الرحمن بأنه أراد أن يستر شيرين ليس بالضرورة دقيقة، قد تكون هلوسة وتبريرات، مجرد ادّعاء، ليغطي "عجزه" مثلًا!

وإن شيرين ليست عذراء، بل إنها وبحسب رواية عبد الرحمن حبلت من صديقه الجندي القتيل، وهنا قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال: إنه زوجها فلماذا يجب عليه أن يسترها؟ قد يكون الجواب هو: هذا أسلوب الكاتب في الغموض أو "خلط الأوراق" والتبريرات، لو كان خطيبها فحسب بدون عقد زواج شرعي لأصبحت الحبكة أكثر منطقية!

إنها مشكلة اجتماعية تقليدية كُرّستْ لها العديد من النتاجات الروائية والمسرحيات والأفلام العربية الاستهلاكية.

وقد أجابنا الكاتب على هذا السؤال قائلاً: "موضوع زواجها غير الرسمي كان غامضًا، قالت شيرين ذلك ربما تهربًا من قصة عذريتها، قضية غامضة، المهم هو عنين وهي غير عذراء.. هكذا هو الأمر".

لا سيما أن غموضًا آخرَ يحفز القارئ على طرح السؤال ويتطلب التركيز لفهم الحبكة، سرد جميل ومونولوج متداخلان تشترك فيه عدة شخصيات يبدأ بإيضاح العقدة والأسرار لكنها قد لا تتعدى الادعاءات لتبرير المواقف وحفظ ماء الوجه بالذات بالنسبة لعجز عبد الرحمن وجنين العروس: نقرأ في الرواية: "خرجت أم الجندي من غرفتها تصرخ: ابني ابني" ص 151 بينما تسأل أم عبد الرحمن ابنها العريس العاجز: "لماذا كنت تنظر لأخيك الكبير نظرات ريبة؟". ص 152

مونولوجات واعترافات متداخلة لتبين الحقائق لكنها تزيد الغموض. لاحظ تجسيد مآسي أمهات الجنود العراقيين!

حوار بين الأم وابنها المحتضر، عبد الرحمن يتحدث في مونولوجه عن حياته والحرب كجندي، ويفسر سبب عجزه الحقيقي لإصابته بشظايا وعن شيرين التي أحبها لكنها تحبل من صديق لها، جندي يموت في الجبهة، فيقرر أن يسترها، ويعلّق على "رواية" أخيه الكبير قرأها واختلف معه في أحداثها! سرد رائع، متجدد ومتناسب مع بنية الرواية المتعددة والمتنوعة!

ولا بدّ أن نشير إلى أن أسلوب الكاتب هنا في التمهيد لبداية نهاية الرواية يتميز بمونولوج طويل من ص141 إلى ص 167 يتضمن حواراتٍ جميلةً بين الأم وابنها المريض وطريح الفراش والعروس شيرين ومولودها الرمز والأخ الكبير. وتتضح في هذه السردية الهجينة كما قلنا أهم الحقائق:

العريس المريض يتحدث عن نفسه وعجزه ويتضح انه عاجز ليس بسبب طفولته بل شظايا دخلت قضيبه.

يبدأ المونولوج هنا بين الأم وابنها العريس وهو على فراش الموت: "قل لي أي شيء قل لي عبد الرحمن لم اكن أطلب منك أن تصبح بطلا لكنك بطل .... ألا تذكر مسرحيتك الوحيدة التي كنت تحلم بتمثيلها على المسرح". ص 150

وهنا يتداخل سرد آخر بين الزوجة والأم ينقلنا الكاتب ببراعة إلى شيرين عندما كانت (زوجة الجندي) تتحدث مع والدته أثناء استلامهما برقية وفاته. ص 152 لكن، في هذه الأثناء تواصل أم عبد الرحمن حوارَها مع ابنها ومناجاته قبل أن يرحل عنها، يقول لها: " كنت في بطنك عندما انغرست في صدره (والده) رصاصات عدوه". ص 153

في "نزوة الموت" تحضر أيضا إحدى فرضيات موت الأب بينما كان ابنه البطل جنينًا في بطن امه. ص 153

لماذا تتكرر هذه الواقعة؟ إنها أليغوريا الموت الذي أهلك العراقيين! كأن الموت بطل من أبطال الرواية، أو أحد أعمدتها ورمز الحياة العراقية!

الموت! الموت! إنه الغياب والآلام، ابتلى به العراقيون منذ العهود القديمة وحروبهم الشرسة، يمارس الموت حضورَه هنا ايضاً. ص 154

البرقية والحلم عمودان مهمان تقف عليهما بنية هذه الرواية كما هو الحال في رواية "نزوة الموت"، حيث يقول البطل العائد من فرنسا لينقل رفات أبيه: "الخطيئة ابتدأت منذ اليوم الذي استلمت فيه برقية من أمي". ص 93

أما الزمان فيصوره الكاتب بوضوح من خلال أبطال الرواية الجنود: زوج شيرين الأول المقتول في الجبهة وبرقية الشؤم التي تعلن هذا الخبر المشؤوم، ونعيق الغربان فوقهم، وعريس شيرين الحالي الذي يعاني من عجز جنسي بسبب الحرب، "لا أعتقد بوقوع حرب أخرى بعد هاتين الحربين". ص 100

وإذا أردنا الحديث عن البنية، فلا بد لنا أيضًا من الإشارة إلى أن الكاتب يأخذ بيد القارئ بسلاسة لتبدأ نهاية المأساة، إن صح القول مجازًا فنحن أمام رواية غير تقليدية لا تلتزم بالمقومات المعروفة ولا بالأبعاد الثلاثة.

تدخل على الخط في السرد هنا شخصية عبد الرحمن نفسه، بطريقة رائعة لتتحقق البوليفونيا!

يعاني عبد الرحمن من الحُمّى ثم يموت! ص 148 تنتهي هذه الرواية بطريقة تتناسب مع بنيتها التي اعتمدت في النهاية على حوارات افراد العائلة وذكرياتهم.

تعتمد البنية بالأساس على تطور الأحداث ارتباطا بحياة الجنين وعمره داخل بطن شيرين كل شهر له فصل فهي تتكون من تسعة فصول لكل فصل عنوان يدل على محتواه. نظرة تجديدية في ابتكار بنية محدثة!

يلعب طائر البوم دوره في تطور الحدث وتصاعده بحيث يجعل البنية أكثر حيوية، ويبدأ بلوغ ذروة المضمون (ص 150) بقدوم ساعي البريد والبرقية كما هو الحال في "نزوة الموت" وكما أشرنا سابقًا في مقالنا هذا.

إنه موقف مثرٍ ومهم في بنية الرواية كأنه مشهد فيلم روائي!

"ظهر ساعي البريد ... برقية البرقيات مخيفة دائما مثل نعيب البوم تحمل فأل الشر قرأ اسم زوجها أصبح في قائمة المفقودين... ". ص 151

إنها ليست رواية بحبكة تقليدية، ولهذا تظهر هنا تساؤلات من المتلقي العادي موجهة للكاتب، إنها عصية الفهم على القارئ العادي، وليس هناك ضيرًا، لكن لا بأس من التوضيح أحيانًا بكلمة واحدة قد تنقذ الموقف ولا تُسيء للسرد.

لنلاحظ مرّةً أخرى كيف تتداخل الأصوات والسرديات المتنوعة في هذه الرواية، يترك الجندي المريض المحتضر، وصيتَه إلى أخيه. ص 156

إن الوصية، عمليًا، مخطوط صغير آخر يختلف عما كتبه ويكتبه الراوي الأصلي الذي لم يعد ساردًا عليمًا، يقول: " من حقي أن أسرد قصتي، ومن حق أمي وشيرين أن تسردا قصتهما" ص 156، فيشرح قصتهما، بينما شيرين تقرأ "مخطوطته" عند تعبه بسبب مرضه، ويتضح أنها (شيرين) كانت تحب شخصًا آخرَ غير عبد الرحمن و"حملت منه جنينها ...". ص 159

وهكذا فإن السرد الأخير يحصل فيه بعض "التشويش" والارتدادات بسبب تداخل أربع سرديات مثل:

- سردية الأخ الكبير، السارد الأصلي الفنطازي يستخدم رمزية العناكب والمضاجعة والعلاقة مع شيرين "العنكبوت" وقتلها بالسيف في نهاية الرواية، وقصة عجز عبد الرحمن منذ طفولته.

- سردية عبد الرحمن هي في حقيقة الأمر "وصيته" المكتوبة، يسردَها ويحكيها مؤلفها حيث يصورّ أخطاء مخطوطة أخيه ويعلّق عليها وتحريريا حيث تقرأها شيرين.

- سردية والدة عبد الرحمن وسردية شيرين التي تصلنا على شكل مداخلات.

- أما السرد عن برقية الجندي القتيل! فهو مجرد غموض مقصود من الكاتب يتطلب قراءة متأنية وتفاعل القارئ مع الأفكار بطريقة إبداعية.

هل هي حكاية أو اعتراف عبد الرحمن بأن شيرين حامل من الجندي الميت المقتول في الحرب؟ أم أن الجنين من أخيه؟ هل الجنين (الشبيه) ابن الجندي أم ابن الراوي الأول أخيه (الكبير)؟ غير واضح، وبقيت الامور غير واضحة حتى في آخر صفحة في الرواية. أنظر ص 167

ليس المهم مَن الفاعل بل الأهم الاستفادة من دروس الماضي ونبذ الحروب وتحقيق الاستقرار والحفاظ على أرواح البشر!

نهاية الرواية:

النهاية لوحدها لها معمارها الخاص، تعتمد على مونولوج الأم وحوارها مع الابن الكبير وذكريات عن المرحوم عبد الرحمن. ص 150

طائر البوم عن طفولة عبد الرحمن وخدمته العسكرية، أسلوب رائع، عبد الرحمن العنّين يكتب عن نفسه. ص 155 ويطّلع عليها اخوه الكبير. إذن نحن الآن أمام ساردين عليمين لكل منهما سرديته الخاصة به، فيتحقّقَ التناص وتتداخل هاتان المخطوطتان. ويفاجئنا الكاتب بساردَتين أخريين، تسرد الأم روايتها، والزوجة شيرين لها أيضًا رؤيتها الخاصة بها تعبر عنها في "سرديتها"، أو قسمًا من المخطوطة، فهُما تشتركان فيها

وكأننا نقرأ "مناحةً" عراقية نسائيةً بامتياز!  أنظر الصفحات 149-155

أخيرًا لا بدّ لنا من القول إن بنية نهاية الرواية بدءًا من تمهيدها إلى الذروة تتسم باعترافاتٍ مسهبةٍ بلغة تتداخل فيها الأصوات والحقائق، يساهم القارئ الفطِن في إعادة ترتيبها نتيجة عند تفاعله مع النص أثناء القراءة.

إنه سرد سيمفوني رائع على امتداد عدة صفحات. أنظر 149- 167

إنها سيناريو جدي لفيلم اجتماعي عن مأساة المجتمع العربي: العذرية والعفّة وليلة الدخلة!

تنتهي ذروة النهاية بوصف رائع جدا لولادة شيرين وليدها الجديد، ص 142 وتقدمه الأم بعملية التوليد، قائلةً: "يشبه أباه" ص 143 لكنها تشك بالأخ الكبير، صرخت في وجهه وكأننا أمام مشهد مسرحي أو لقطة سينمائية معبّرة: "أنت"! ص 143

في المقابل يضمحل العريس المريض ويعاني من الحمى والكوابيس ويتحدث عن الموت، وهي موضوعة الكاتب نفسها في "نزوة الموت" عندما يتساءل السارد: "ما شكل الموت" ص 147 تحولت شيرين في الحلم إلى عنكبوت ضخم يخنقه. العنكبوت تمارس مع الذكر مرة واحدة وتخنقه ويموت عبد الرحمن!

لكن المولود العراقي الجديد يكمّل المنظومة الأليغورية في هذه الرواية، فيُجسّدُ "أليغوريا" الحياة بغض النظر عن هوية والده المجهولة، وتبقى الأفكار حيّةً متوهجةً تبعثُ وميضها في أذهان قرائها من الأجيال القادمة التي عليها استخلاص العِبر من مآسي الحرب!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

.......................

1- شاكر نوري. نافذة العنكبوت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت 2000

2- زكية خيرهم. نهاية سرّي الخطير. وكالة سفينكس للنشر والتوزيع القاهره 2017

وأنظر دراستنا الموسعة عنها: د. زهير ياسين شليبه. قراءة في رواية " سري الخطير" لزكيه خيرهم. جريدة المثقف. 24 ايار 2023

3- د. زهير ياسين شليبه. غائب طعمه فرمان. دراسة نقديه مقارنة. دار الكنوز الأدبية، بيروت 1996

ومقالنا: قراءة في رواية زينب للدكتور عارف الساعدي. جريدة المثقف. ديسمبر/ كانون الأول 2023

4- أنظر: حوارنا مع الكاتب شاكر نوري. ملحق القبس الثقافي 04 مايو/ أيّار 2024

في المثقف اليوم