قراءات نقدية

قراءات نقدية

البحث عن حاملات للقصيدة

حين يحلم الشاعر، وهو الأحق بالحلم، تبتسم الحياة وتورق على جوانبها الأزاهير، يتداعى القبح، تجرفه سيول الأحرف التي تضئ الحلم، وحُلو الأمنيات، يحرسها، يقتنصها شذرات وصورا يبثها أضمومات يهبها الحياة والدفء.
حين يحلم الشاعر، وهو الأحق بالحلم، يكون في "لحظات الصحو القصوى"، يفكر في إمكانيات تلقي الشعر، في "حاملات" بكر للقصيدة، حاملات لم تصلها خيالات المبدعين، وعلى امتداد المدى يهبها أجنحة من زهر لتحلق بعيدا إلى حيث لا يصل القبح والتردي.
حين يحلم الشاعر، وهو الأحق بالحلم، وحلمه حياة للإبداع واستمرار لمعني الوجود والموجودات، يرصص للشعر فضاءات أرحب للاتساع والانتشار والذيوع الإيجابي التواصلي الذي يطور، يُزهر القصيدة، يُطرِّز بالعشق جمال الأحرف التي تُراقص الوجود لتهبه بهاء ورونقا وفسحة لأن يُعاش، ويُسرّجُ صهوة خياله يجوب عوالم الأنوار، يفتح مغاليق الأسرار وسحر الكلمات، ودهشة الأمنيات.
هل مكْتوبُ الشّعر أن يظل حبيس الدواوين والأوراق؟ هل مكتوب الشعر أن يضيء لنفسه ويسمع صدى لحنه في أركان اللقاءات المحتشمة وبين الأصدقاء فقط؟ هل قدَرُ الشّعر أن يقرأ أشعاره لنفسه؟
إذا كان الشعر، كما يقول الكاتب الروسي تارسوفسكي، "هو الوعي بالعالم"، وإذا "كان الشعر هو توسيع قدراتنا للوصول إلى إنسانيتنا"، فعلى الشعر أن يغامر، أن يخرج من الدواوين والأوراق واللقاءات الصغيرة، على الشعر أن يرفعَ صوته عاليا ليُسْمع كلماته، على الشعر، في ظل الأميات والتخلف والتراجعات والانهزامات، أن يظهر قويا صادحا يساهم في تشكيل الحياة، على الشعر أن يخرج لملاقاة الإنسان ويطرح أسئلته عليه وعلى الحياة.
وإذا كان "الشعراء هم الأشخاص الوحيدون الذين يعرفون حقيقتنا، الشعراء فقط"، كما تقول كاتبة البودكاست الأمريكية بالدوين، فلم لا يفكّر الشاعر في مساحات جديدة للنّشر والانتشار والاقتراب من المتلقي؟
لم لا يفكّر الشاعر في واجهات للعرض، تُسهم في تنويره وإعطائه فُرَصاً ليكون في الواجهة والمواجهة؟
لم لا يفكّر الشاعر، " ونحن في شتاتنا العربي الراهن، لا لغة لنا، نفكر بأكثر من لغة، ونعبر بأكثر من لغة، ونمارس أكثر من لغة، ولكن من غير أن نمتلك لغة واحدة امتلاكا حقيقيا "، في إعطاء القصيدة صوتا يوقظ الضّمائر؟
لم لا يفكر الشاعر، حين يُحاصر الشّعرُ ويصطدم بحائط منيع من الأمية، الأميات، البشعة التي توسع دائرة اغترابه، وتنظر إليه كمضيعة للوقت والمداد والكلمات؟
كيف للشعر أن يحيا ويروج سليما في غياب متلقين، الأغلبية منهم تعاني تشويشا في الذوق، وهبوطا في فهم الإبداع، ومرضا مزمنا في درجة الوعي بالجمال؟
كيف للشعر أن يحيا، وأغلبنا حين يعود مريضا لا يحمل إليه ديوان شعر أوردة أو رواية، ولكن ما يؤكل، لأن البطن عندنا "مقدس"، والشعر آخر ما نُفكر فيه، أو لا نُفكر فيه أصلا؟
كيف للشعر أن يسافر عبر أسرار الكون ينسج للعاشقين عوالم الحب والألفة لفهم خبايا الروح والوجدان والوجود والموجودات، والكوابح كثيرة تحد من انطلاقه ومغامراته؟
كيف للشعر أن يلامس أذواق الناس ويرقى بأرواحهم المشدودة إلى اليومي البليد الذي يتكرر ولا تكاد تنفلت منه، ويفضّ مكنون الحرف، ويُسرّح مسجون سحره ودهشته، ويفك أسراره ويسمو بالنفس البشرية، لتتخلص من عُزْلتها القاهرة التي تجوس خلال تجاويفها العصية عن الرقص للضوء والغناء للجمال؟
كيف له ذلك، وفهم بعضنا للثقافة لا يتجاوز حدود ما تعرضه الإذاعة والتلفزة والأسابيع الفنية والثقافية والرياضية التي تتناسل تناسل الفطر في مستنقع بارد؟ كيف للشعر أن يخرج إلينا مقتحما، في بهاء، خلواتنا وأشباه الشعراء يسودون وجهه بدواوين تسيج سر الحروف وتقتل فيها وهج المعاني.؟
الشعر محبّة، قُربٌ من الأسرار العلوية، الشعر هبة الروح وسكونٌ إلى حمى الجمال، إذ "وحده الشّعر يمكنه كسْر الغرف المغلقة للإلهام، إرجاع المناطق المخدّرة إلى الشّعور، وإعادة شحن الرّغبة". (كما تقول الشاعرة الأمريكية أدريا بيتش).
الشعر في حاجة إلى بيت يحمي ظهره، إلى يوم أو أيام وطنية – لا تنافق – تعيد له توهجه وأسراره بعيدا عن المناسباتية المقيتة، الشعر في حاجة إلى شعراء يكتحلوا بالجمال لاحتضان أسرار الحلم.
الشعر في حاجة إلى أن نحارب بشراسة، لا أن نمحو فقط الأمية / الأميات التي تسكن أرجاء جغرافية الوطن،
أن يقف صامداً في وجه العواصف التي تتقلب صورها بين اللحظة واللحظة.
الشعر في حاجة إلى أن يغامر بذكاء، ويقتحم بقوة الصّحافة والإذاعات ووسائل الإتصال ودور الشباب والمؤسسات التعليمية والنوادي والجمعيات الثقافية، والمقاهي وكل فضاءٍ محتضنٍ للتجمعات الشبابية.
الشعر في حاجة إلى شعراء لا ينتظرون إقبال المتلقي، بل يبحثون عنه داخل التجمعات وخلال المهرجانات، ويخرجون من دواوينهم الأنيقة، ويُسمعون صوته جهرا للحياة والأحياء.
الشعر في حاجة إلى من يفضح أشباه الشعراء الذين يُعَمّقون اغترابه.
وهل " بالكتابة وحدها يحيا الشعر؟" بالحلم أيضا يحيى، وبالحب يستمر فينا.
استمرار تألق الشعر مسؤولية الشعراء وحدهم وليست مسؤولية هذه الجهة أو تلك، الشعر إرث الشعراء الذي عليهم أن يحفظوه نقيا طاهرا صافيا من كل ذرة تفسده، ومن كل نفَسٍ تحيله قُبحا مُنفّرا للنفس والروح. إنّه "ضمير العالم" الحيّ، قَدَر اللغة الحالمة، انه الحياة في أسمى معانيها، فان ضاع أو ضعف أو طاف به طائف لا يفيه حقه، فعلى الدنيا والشعراء السلام.
***
ذ. عبد المطلب عبد الهادي
المغرب

يمكن القول أن رواية "دار خولة" للكاتبة الكويتية بثينة العيسى، الصادرة عن منشورات تكوين ودار الرافدين، العام 2024 ، تسلّط الضوء على مجريات الحياة العائلية، في عصر منصّات التواصل الاجتماعي، مع تحديد البيئة المكانية الكبرى للأحداث في بلد، فيه تقاليد ديمقراطية، مثل الكويت، ومن ثمّ البيئة المكانية الصغرى، وهي " دار خولة". فبطلة الرواية خولة سليمان، أرملة في سن الخامسة والخمسين، وهي أستاذةٌ في الفولكلور، وزوجها الراحل قتيبة أستاذٌ في الأدب العربي. ومحبٌّ كبيرٌ للشعر، وهو الذي سمّى مكان الحدث بـ " دار خولة"، تيمّناً بالإرث الشعري الكلاسيكي، الذي يتردّد فيه هذا الاسم، اقتباساً من صدر بيتٍ لعنترة بن شداد" عمّي صباحاً دار خولة واسلمي". زوجها الذي كان يلومها على خطوة تعلّم الأبناء في مدرسة أميركية، وكان يناكفها بشأن" الفتى العربي.. غريب الوجه واللسان"، تخلّى عن مسؤولية تربية أبنائه، وجعلها حصراً بها، في حين أنّ غالبية الرجال يضطلعون بهذه المسؤولية.
عشاء عائلي
تخوض الرواية، في علاقة خولة مع أبنائها الثلاثة: ناصر ويوسف وحمد، حيث تدعوهم لعشاءٍ عائلي، لإعادة أواصر الأمومة والبنوّة مع الثلاثة، إذ أنّ تلك الأواصر متقطّعةٌ بشكلٍ كبير، مع الأبن الأكبر ناصر، فقد قضى الجزء الأكبر من طفولته في بيت جدّته، أمّ أبيه، حيث الدلال الكبير للجدّات، وتمتّعه باستقلاله في الدور الثاني من بيت الجدّة، أمّا يوسف المتزوّج، وأبٌ لتوأم، وحمد أصغرهم، فيفضّلان أن ترسل صينية الطعام إلى غرفتيهما. فكانت تشعر بغصّةٍ كبيرة، وهي تأكل وحيدةً كلّ يوم. كانت الدعوة للعشاء مُبرّرةً بحجّة المناقشة بشأن برنامجٍ تلفزيوني، دُعيت للمشاركة فيه لإضاءة الجانب الإنساني في حياتها وعلاقتها مع أبنائها. فلها شأنٌ مع النجوميّة، عبر ظهورها المستمرّ لأكثر من عقد، ومشاركتها في الندوات والمؤتمرات، إلى أن حدثت الطّامّة الكبرى، بنظر أبنائها خاصّةً ناصر ويوسف، إذ أدلت بآرائها بشأن أوضاع الشباب، وهاجمت انزياحهم إلى الثقافة الغربية، وحدوث ما سمّته" الانمساخ الجمعي" للشباب، أي افتقادهم لهويّتهم العربيّة، عزّزت ذلك بمصطلحاتٍ حداثيّة، كانت موضع تندّر الشباب على منصّات التواصل، وهذا ما سبّب الشّعور بالخجل عند أبنائها، لذا كانت دعوة العشاء بشأن مناقشة مشاركتها الجديدة في برنامجٍ تلفزيوني، فرصةً كبيرةً للهجوم عليها من قبل ابنيها ناصر ويوسف، لأنّ الثالث حمد لم يحضر، مع اتّصالاتها المتكرّرة له بالحضور. حيث حوكمت من قبل ابنها ناصر على تخلّيها عنه، وتركه في بيت جدّته، واتّهامها بأنّها لا تحبّه. هنا إنكار لأمومتها، والذهاب بعيداً في المشاركة في البرامج الحوارية.
دور الأم وشرط المرأة
هنا نلتقط ثيمةً مهمّةً للرواية، ألا وهي البحث عن الذات، البحث الذي ينبثق عنه جدل الهوية والصراع من أجل التمسك بالجذور، وإثارة الأسئلة؛ فهل تقتصر ذات المرأة على الأمومة، أم يحقّ لها أن تكون ناشطةً في كلّ المجالات، ومنها الإعلام، إذ يمنح تكريس الظهور على الملأ عبر الميديا الحديثة نجوميّةً ومراقبةً من العامّة لكلِّ ما يتلفّظ به الناشط الإعلامي، سواءً أكان رجلاً أو امرأة. خولة كانت لها اليد الطّولى في البحث بشأن القضايا الاجتماعية كافّة، عبر الميديا.
إزاء خوضها غمار العقد الستّيني من عمرها، تعلن أنّ " التّصابي والتّأمرك أمران متلازمان"، أي أنّ لديها الاستعداد للظهور التلفزيوني مُجدّداً بدون أيّ رتوش، ومهاجمة ثقافة الـتأمرك لدى الشباب عامة.
الشيخوخة والوحدة
الزمن الروائي، بسرد الراوي العليم، ولم يستغرق سوى ساعات وجبة عشاء، له خلفيّةٌ زمنيّةٌ واقعية، هي على امتداد عمر بطلة الرواية، الذي يصل شوطه، إلى أنّها ستحظى أخيراً بعشاءٍ عائليٍّ تشبّهه مثل" أسرةٍ سعيدةٍ في فيلمٍ هوليوودي عن عيد الشكر". وإزاء ذلك تستبق القارئ شعوره بتناقض هذا التشبيه مع كراهيتها لأميركا، تستبق ذلك بأنَّ كراهيّتها نابعةٌ من موقف، وليس عن تعصّب. في غمرة هذه السعادة المُفترضة، يتداركها الشّعور بأنّ" الشيخوخة والوحدة أمران متلازمان" فقد أصبحت تستجدي حضور ابنائها الثلاثة على مائدةٍ واحدة.
كانت خولة قد اعتذرت مُسبقاً عن البرنامج، لكنّها أرادت لمّ الشّمل، والظّهور بمظهر الأمّ أولاً، وإعادة فرض هيبتها في الدار، وإعادة ناصر إلى حضيرته الطبيعية. وهنا حصل ما لم تتوقعه، إذ بدا ناصر مؤازراً لها في حال سمحت له بالظهور، في البرنامج المفترض، على عكس يوسف، الذي يريد أن يكون المطبخ ميدانها الرئيس. جرت بين خولة وابنيها مناكفاتٍ حول جدوى الظهور التلفزيوني من جديد، إذا كان الظهور السابق جعلها ترند السّخرية على مواقع التواصل، طبعاً هنا السخرية من نقدها لتأمرك الأجيال الجديدة، ومن المنطقي أن تتلفظ بمصطلحات مثل تغريب وامبريالية وحداثة، وأسماء مفكرين مثل فوكو وإدوارد سعيد والجابري، ورفضها مغالاتهم في إلصاق مصطلحاتٍ وأسماء فلاسفة لم تذكرهم حقّاً. إزاء عشاء السخرية هذا، أحسّت خولة كما لو أنّها أصبحت أضحوكة أبنائها، ومن خلفهم مسرح التواصل الاجتماعي. أحسّت بالفشل بأنّها لم تكن أمّاً، ولا امرأةً مثقفة كأستاذة الفولكلور وناشطةً إعلامية. فناصر المتعلّم في مدرسة أميركية، فاشلٌ جدّاً في ثقافته العربية، وهذا منبع خصومة خولة مع أميركا، حيث في البدء، الانبهار الكبير بالأميركان، ما بعد شباط 1991 ، حيث تخيّلت خولة " أبناءً فارقين: يقرؤون الصخب والعنف لفوكنر وأوراق العشب لوايتمان، يعشقون إدغار ألان بو، ويعزفون الجيتار ويحفظون أغنيات بوب ديلان، ويتحدّثون عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وقضايا البيئة"، أصيبت بالإحباط إزاء حلمها المثالي، إذ لم يخطر ببالها أنّها لن تستعيد ابنها ناصر من أميركا قط، فكانت النتيجة أنّه فاشلٌ دراسيّاً، يعمل كمنشئ محتوى، وموظّفٍ في شركةٍ استثماريّة.
الدار الخاوية
وكانت نهاية العشاء العائلي في أنّ خولة باتت مُحبطةً من اشتباك ابنيها على خلفيّة حطّ كلٍّ منهما من شأن الآخر. اشتباكٌ بالأيدي أدّى إلى تحطيم محتوياتٍ في الدار، فأيقظ لدى خولة الشعور بأنّ الدار مُفرغةٌ من معناها مادّياً وروحياً. قبلها كانت هزيمتها في المحيط الخارجي" عندما تحول لقاء الساعة إلى مقاطع فيديو لا تزيد على ثوان، وثار الناس على تويتر، أحسّت بأنّها تُسحل في شوارع افتراضية، بأيادٍ افتراضية، تتلقّى صفعاتٍ افتراضية". لقد نسيت كلّ ذلك، وقتها لكنّها لم تنس صمت أبنائها الناشطين على مواقع التواصل، ما عدا حمد، فقد كان في العاشرة من عمره سلواه ألعاب الفيديو. هذا الذي كبر، وصار يقضي أوقات فراغه في لعب" البادل" و" الفيفا الافتراضية". قدم حمد في نهاية العشاء العائلي، وما تمخّض عنه.. المزيد من الفرقة بين خولة وأبنائها. فوجد حطام المحتويات، وخولة النائمة، وقد ابتلعت حبوب" الزاناكس"، وكانت قد تركت له وجبة طعامه في "المسخّن". جلب معه سمكة زينةٍ حمراء، غمرها في الحوض الزجاجي، وبعد لأيٍ من الزمن، تَباغت بأنّها ميّتة.
كم هي دلالةٌ كبيرةٌ في أن يغرق السمك في مائه، إذ يبدو أنّه المعادل الموضوعي، لفشل خولة في محيطها العائلي، كما هو محيطها الخارجي، حيث أحبطت بأن تكون ناشطةً إعلاميةً متصديّةً لتمسّك الأجيال الجديدة بقشور الحداثة الغربية وليس بجوهرها.
هي رواية امرأةٍ سعت إلى أن تكون ناجحةً في دورها كأم، وشرطها كامرأة، كإنسانةٍ لها تأثيرها الإيجابي في الآخر، لجهة نقد سلبيات الحداثة، وما جرّته في خلق شبابٍ كسولٍ ووقحٍ ومتذاكٍ.
هي روايةٌ تمسك بتلابيب القارئ، ليكملها في بضع ساعات، كأنّها وجبةٌ روائيّةٌ ساخنة. روايةٌ عن المرأة العربية عامّةً، والخليجية والكويتية خاصّة في سعيها إلى تكريس هويتها كأمٍّ ناجحة، وامرأةٍ مؤثّرة ثقافيّاً وإعلاميّاً في عالم الميديا الحديثة ومنصّات التواصل الاجتماعي.
***
باقر صاحب - كاتب عراقي

العلاقة الجدلية بين حس العدالة وتطور العقل البشري

رواية عالم صوفي، روايتان في رواية واحدة. الرواية قدمت جردا او فهما كاملا ومبسطا لسفر البشرية في الحقل الفلسفي وتطور الفلسفة عبر حقب عديدة منذ اقدم رؤية فلسفية للكون والحياة والانسان، ومن جميع الجوانب. الفلسفة الاغريقية والفلسفة اليونانية، والقرون الوسطى، وعصر النهضة، وعصر التنوير، الى الوقت الحاضر، الحقبة المعاصرة؛ من ديموقريطس وارسطو وسقراط وافلاطون واخرون، مرورا بالفلاسفة الاوروبيين، ديكارت، وسبينوزا، ولوك، وهيوم، وبيركلي وكانت، وكيركغراد وداروين وفرويد وهيجل وماركس. لا حاجة الى التطرق الى ما اورده الكاتب، او الراوي لملخص فلسفة كل من هؤلاء الفلاسفة؛ لأنها اولا معروفة لدى القاريء النوعي وثانيا، لأني لا اريد ان احرم القاريء من متعة القراءة؛ لآراء هؤلاء الفلاسفة في الكون والحياة والأنسان. لكن في المقابل من الاهمية هنا؛ التركيز على ملخص ما اوردته هذه الرواية لرؤى هؤلاء الفلاسفة، وسفر البشرية في هذا المجال وفي الذي له صلة بها، من الأدب والاقتصاد، وما هو ذوو علاقة عضوية بهما، بالأدب والاقتصاد؛ من مراحل تطورها؛ من دراسة الظواهر الطبيعية، لتكون الاساس الذي يتم فيها البناء الفلسفي عليها او على قرأتها في تكوين الرؤية هذه، الى، في مراحل لاحقة استخدام العقل، واعتباره هو الوحيد الذي بإمكان الانسان من خلال دراسة الظواهر المادية تكوين فكرة عن الكون وعن الانسان وعن كل الحياة وتداعياتها على البشرية كلها وعلى الأنسان، الى المدارس الفلسفية، وفي كل حقول المعرفة في الوقت الحاضر. تبدأ الرواية بوجود بطاقتين برديتين في صندوق البريد الخاص بصوفي أمندسن، كل منها فيها كلمة واحدة او جملة قصيرة واحدة؛ من انت؟ من اين جاء العالم؟ معنونه الى هيلدا مولار كناج وليس الى صوفي. مما يثير استغرابها، وتساؤلاتها، التي اخذت تدور في ذهنها، من هي هيلدا؟ ثم لماذا ارسلت هاتين البطاقتين ألي. لم يطل بها الوقت حتى تعرف لاحقا؛ ان البطاقتين كان قد ارسلها والد هيلدا، البرت المياجور العامل في قوات حفظ السلام في لبنان. في اليوم التالي تتلقى رزمة من اوراق فيها دروس فلسفية، ارسلها لها الفيلسوف، البرتو كنوكس. لتبدأ بعدها مقابلته بصورة مستمرة. العالم الفلسفي، البرتو كنوكس، يبلغ من العمر خمسة وخمسين عاما، وهي الصبية اليافعة او الشابة اليافعة، ذات الخمسة عشر عاما. كان في كل رسالة منه، تحتوي على شرح فلسفي لعلاقة الانسان بالكون وبكل الوجود، لكنه كان شرحا بسيطا اولا وثانيا كان شرحا مختصرا جدا، لايتجاوز صفحة واحدة. تتكرر الرسائل لعدة ايام، ايام قليلة، لكنها في الاخير الذي لم يطل بها انتظاره، تتلقى مع الرسالة؛ دعوى لها بالتواجد عل حافة بحيرة قريبة، تحيط بها غابة كثيفة، في كوخ منعزل تماما. تذهب وتلتقي بالفيلسوف، من ثم اخذت تاليا تلتقي به، باستمرار، يشرح لها مضمون تلك الرسائل، واشراكها في الحوار الفلسفي او مناقشتها معه. تحدث هذه الرسائل، وشروحها والحوارات بينهما حولها او حول ما بها من رؤى، او ما هو موجود فيها من طروحات فلسفلية مبسطة جدا، تحولا كبيرا في حياتها. بدأت تتغير في كل سلوكها، تشعر بالاغتراب عن امها التي تعيش معها في منزل واحد على مقربة من الغابة والبحيرة، لأن الأب يعمل قبطان على ناقلة نفط، لا يظهر في الكتاب او في الرواية. امها هي الأخرى ايضا تشعر او تحس بان ابنتها قد تغيرت واخذت عندها تشعر بالخوف عليها، وبالذات حين تعلق على اي عمل او اي مادة تطرح بينهما للنقاش، اي انها بدأت تطرح طروحات هي اكبر من عمرها كثيرا، ولا تبدي الاهتمام كما هي ديندنها او عادتها قبل ان تلتقي بالفيلسوف، بالهموم اليومية، اي انها تخلصت تماما من الهم اليومي ومن انشغالاتها به، لتصبح حرة او هكذا كانت بعد عدة لقاءات مع استاذ الفلسفة. مواد الدراسة اخذت تفهمها بسرعة، فأبدعت بها وحصلت على اعلى الدرجات في صفها، وايضا اخذت على غير ما كانت عليه؛ تحس احساسا عميقا بالجمال، تتفاعل معه تفاعلا مفعما بالحياة، وكأن روحها جزءا من مكونات هذا الجمال. هنا تطرح الرواية معضلة مهمة جدا، او هي ام المعاضل، ألا وهي؛ ان يكون الأنسان فريسة الهم اليومي، وكل انشغالات الكائن الانساني، التي تنتج عنه، بما يقيد نشاط وحركة العقل الانساني تقيدا في احيان كثيرة؛ يكون تقيدا كاملا حتى انه يصير كما السجن والانسان فيه هو السجين من غير سجان ولا جدران وابواب سجون. هذه الاوضاع تجعل من الانسان آلة يتحرك بميكانيكية على حساب إرادته في الفعل الذي هو يرغب فيه، او يريده. حتى يتراجع الشعور، او الاحساس بالجمال من حوله، حتى لو كان على مقربة بوصة من وجوده، في المكان المحاط بالجمال والروعة او روعة الوجود والحياة. هذه الرؤية الفلسفية ان جاز لي وصفها بهذا الوصف؛ لم تكن هذه الرواية او كاتبها هو اول من طرحها فقد سبقه إليها، قبل عدة عقود الكاتب الانكليزي كولن ويلسن؛ في رويتين له هما الحالم وضياع في سوهو، وفي كتاب السيرة الذاتية له؛ رحلة نحو البداية. الرواية هي ليست رواية واحدة، بل هي رواية في متنها رواية أخرى وهذه الأخرى الثانية؛ هي لب او متن السرد كله. الى جانب هذا المتن او السرد؛ هناك سرد أخر موازي لكلا الروايتين، او السردين؛ استثمر الكاتب فيه الباراسايكولوجي، بتقنية حرفية عالية وبمهارة متفردة بما انعكس ايجابيا على سلاسته، رغم ما فيه من تعقيد. انها حقا رواية معقدة على الرغم من انها رواية كلاسيكية، لاتخلو من تقنيات التجريب، أذ تتداخل فيها عوالم السرد في الزمان والمكان والثيمات والشخوص. الشخوص الرئيسية في الرواية هي؛ هيلدا ابنة ضابط نرويجي يعمل مع قوات حفظ السلام في جنوب لبنان، وصوفي الابنة الوحيدة لامرأة تعيش مع ابنتها، وحيدتان في بيت يضمهما، والاستاذ الفلسفي، اضافة الى شخصيات أخرى ثانوية. نكتشف بعد ما يقارب ربع الرواية، انها رواية كان قد بعث بها والد هيلدا، كي تقرأها قبل مجيئه التي وعدها بانه سوف يجيء في يوم عيد ميلادها الخامس العشر، والذي هو ذات عيد ميلاد صوفي، في مفارقة محسوبة سرديا. نقرأ هنا الرواية كما كتبها والد هيلدا. اثناء قرأتنا لها يتبن لنا او هكذا كان الروي؛ ان كلا من صوفي والفيلسوف يعلمان بان هيلدا، تقرا الآن في الرواية التي كان قد ارسلها لها والدها من لبنان. انها عملية تخاطر، لكن هذا يبدوا وكأنه حقيقة تجري على ارض الواقع. تندمج كل لوحات الروي سواء الرواية التي ارسلها والد هيلدا او الروي التي يروي لنا، او يقدم لنا علاقة صوفي مع الفيلسوف، في سرد مركب ومتداخل في الزمان وفي المكان، في زمنين مختلفين وفي مكانيين مختلفين تماما. الرواية، او الروايتان هنا محملتان، بكل الرموز والاشارات والعلامات التي تشير الى منحى فكري، او مسارات فكرية تتحدد بموجبها ما وصلت إليه البشرية من رقي وتعاون وتألف في حفظ السلام والأمن وحيرة الانسان في كل بقاع واصقاع الارض او اماكن كوكبا الارضي، في تناقض صارخ مع واقع المعمورة، ومآساة الأنسان على ظهرها. ان قوات الامم المتحدة او كل ما هو ذو صلة بذلك او انه نتاج الهيئة الاممية؛ تعكس كما اوضحت الرواية تطور العقل البشري حتى صارت البشرية متضامنة مع بعضها البعض في حفظ حياة البشر وفي حريتهم وفي تحقيق إرادة الانسان في الحرية والحياة والكرامة وفي الحفاظ على السلام والامن والاستقرار في كل انحاء المعمورة. ان هذه اللوحة ما كان للإنسان ان يبلغها؛ لو لم يصل تطوره الى ما اصبح عليه من تطور وتعميق الحس بالعدالة. إنما الرواية ومن الجهة الثانية، ضمنيا تشير الى واقع أخر لا علاقة له بتطور العقل البشري، حسا وموقفا، وإرادة بشرية الى السلام والأمن والحرية والكرامة، وحق الشعوب في التطور، إنما علاقته بالأخر الذي يدير دفة الحروب والصراعات والغزوات في العالم بالضد من إرادة الشعوب. في نهاية الرواية يصل الاب، من لبنان، بإجازة من قوات حفظ السلام الاممية العاملة في لبنان، والد هيلدا الى بيته. يحضر الحفل الذي تم اعداده، والمفارقة هنا في الرواية ان حفلة عيد ميلاد ابنته، لم يتم الاعداد لها وتحضيرها، ليس من ابنته التي هي ايضا كانت قد بلغت الخامسة عشر من عمرها، بل من قبل صوفي وامها والفيلسوف، استاذ صوفي، وهم شخصيات روائية في الرواية التي كان الاب قد ارسلها الى ابنته قبل ايام التي هي كلها، هذه الايام؛ هي الزمن الروائي التي انتهت، قبل ساعات ابنته من اكمال قراءتها. في ذات الوقت هم ليسوا شخصيات روائية، بل شخصيات واقعية، تحيا في الواقع المعيش، لكنهم يعلمون ان هناك رواية يكتبها والد هيلدا عنهم. صوفي وامها واستاذ الفلسفة؛ يتوقون الى الحفلة هذه، اعدادا وتحضيرا بدعوة كل الاصدقاء والمعارف لحضورها. وهم ينتظرون فيها رؤية والد هيلدا في الحفل ورؤية هيلدا ذاتها؛ كي تتعرف صوفي عليها وعلى ابيها، الذي كتب رواية عنها وعن امها وعن الفيلسوف. الحفلة حضرتها صديقة صوفي، جورون( شخصية روائية ثانوية، وفي عين الوقت شخصية حقيقية) وهي من عائلة ارستقراطية والدها من رجال الاعمال وصاحب شركات كبيرة جدا، اضافة الى عوائل أخرى. الحوارات والنقاشات سواء ما كان قد حصل بين الفيلسوف وصوفي، او بين صوفي وابنتها او بين ام صوفي والفيلسوف التي يثير اعجاب والدة صوفي؛ تؤكد بالرمز والاشارات والعلامات ذات الدلالة العميقة؛ ان الاوضاع والاحداث وتصرفات الكائن الانساني على ارض الواقع، لا تعكس حقيقة هذا الكائن ورؤيته لها، بل انها توافقية مع الواقع المفروض عليه. هي هنا رمز او اشارة او علامة على ان البشرية لا تعيش على وفق ما تريد وتطمح، بل انها تعيش وفقا، أو تماشيا مع واقع مفروض عليها. احدى صديقات صوفي، والدها رأسمالي معروف، مع صديق اخر لها، يتبادلان الاعجاب بالنظرات المتبادلة، والتي تقود في اقل من دقائق معدودة الى الاختلاء بين الاثنين وراء اشجار الحديقة الكثيفة. يترك الاثنين من دون اية اثار او احتجاج او تعليق. في خاتمة الختام تختفي كل من صوفي والفيلسوف وراء النهر الى الغابة خلف البحيرة. الام، ام صوفي لا تحتج ابدا، بل ان الامر يعجبها وثير في روحها كل الفرح؛ من ان ابنتها اختارت ما تريد، على الرغم من فارق العمر بين الاثنين، اضافة الى ان الابنة لم تبلغ بعد سن الرشد، عمر التحرر من إرادة الأبوين. هنا تنتهي الرواية او تنتهي الروايتين في نهاية مفتوحة. أذ، لم يقدم لنا السارد اي شيء عن مصير والد هيلدا او مصير ابنته هيلدا. وانا انتهي من قراءة هذه الرواية؛ حضرت امامي كل ما جاري الآن في جميع بقاع الارض، من حروب وغزوات ومن انتهاك لحق الأنسان في الحياة والكرامة والحرية. ففي هذا الوقت، وقت انتهاء قراءتي لها اي لهذه الرواية؛ كان الخراب والدمار يعم كل قطاع غزة على مرأى ومسمع كل العالم الحر، او على مسامع ورؤية كل البشرية من اقصى المعمورة الى اقصاها. اضافة الى ما يجري وقد جرى في جنوب لبنان، وفي كل الاراضي العربية من غزو واحتلال، وطمس لكل حقوق الشعوب العربية واوطانها في عملية ألغاء لجهة الواقع على الارض لكل او لجميع ما طرحته الرواية من تطور للفكر البشري، إما من الناحية النظرية فهو اي هذا الطرح صحيحا من حيث تطور الفكري الانساني، وهو تطورا حقيقيا تماما، لكنه، لا يمتلك الادوات ليكون واقعا على ارض الواقع، بل ان ما يكون واقعا على الارض؛ هو الإرادة الاستعمارية للقوى الامبريالية في الدول العظمى والكبرى، والتي هي في طور الأعداد لتشكيل نظام دولي جديد على هدي مقاساتها.. هنا، ومن وجهة نظري المتواضعة؛ يكون حتما ذات يوم ليس ببعيد، وجود لإرادة الشعوب في الحرية والكرامة؛ تقلب بفعل مفاعيلها كراسي المستبد المحلي او الاقليمي او العربي على رؤوس من جلس عليها طويلا من الزمن، ان لم يكون هو موجود فعلا على ارض الواقع ولو مختفي بفعل قوة وجبروت وهيمنة ودموية؛ قوى الاستبداد محليا وعربيا واقليميا ودوليا. كاتب الرواية، جوستاين غاردر، كاتب نرويجي، فليسوف وصحفي وروائي. كان قد كتب في نهاية الثمانيات من القرن السابق، مقالا هاجم فيه جرائم الكيان الاسرائيلي في لبنان. الرواية تقع في 510صفحة من القطع المتوسط، من اصدارات دار المنى.
شخصية صوفي الفتاة اليافعة، وهي تتابع دورس الفلسفة على يد استاذها؛ يشغلها امر اخر، ان هناك فتاة اخرى في الجانب الثاني من المكان. تروم ان تلتقي بها ذات يوم ما. لكنها تصبح في حيرة من امرها؛ أذ، ان البعض من الرسائل التي بدأت تأتيها، معنونة الى شابة اخرى من نفس عمرها، بعد عدة ايام من تواصلها مع استاذ الفلسفة. الذي كان بمثابة صديق لها، اضافة الى كونه استاذها مع ان الفارق العمري بينهما كبيرا؛ فهي شابة يافعة لم تتجاوز بعد الخامسة عشر من عمرها، عيد ميلادها الخامس عشر سوف يكون بعد ايام، بينما هو في الاربعين من عمره، غير انها متعلقة به اشد ما يكون عليه علاقة من هذا النوع. هذه الرسائل كان يبعثها لها او الى الفتاة الأخرى، والتي هي ابنته، هيلدا، ألا انها كانت توضع في بريدها.
***
مزهر جبر الساعدي

 

يقدم هايكو الأحلام تصورًا جديدًا للزمن، لا باعتباره بُعدًا خطيًا يتتابع فيه الماضي والحاضر والمستقبل وفق منطق السببية، بل كنسيج متداخل من اللحظات التي تتقاطع وتتفاعل كما يحدث داخل الأحلام. في هذا السياق، يصبح الزمن مرنًا، سائلًا، يتدفق في تحولات غير متوقعة، حيث يمكن للحظة أن تتكرر بأشكال مختلفة، أو أن تتداخل الأزمنة معًا في صورة واحدة دون فواصل واضحة.
هذا الإلغاء للحدود الزمنية المعتادة لا يأتي بوصفه مجرد تقنية جمالية، بل هو إعادة تعريف لعلاقة الهايكو بالزمن، حيث يتحرر النص من الالتزام بتسجيل لحظة عابرة تُقاس بفصول السنة أو تُحدد وفق إيقاع الطبيعة. في هايكو الأحلام، لا يكون الزمن عنصرًا خارجيًا، بل ينبثق من الداخل، من حركة الأحلام ذاتها، حيث يتلاشى الفرق بين ما كان وما يمكن أن يكون، ليصبح كل شيء حاضرًا في اللحظة ذاتها.
يعمل هايكو الأحلام على تفكيك اللحظة وتوسيعها، بحيث تصبح أشبه بمرآة تتكرر فيها الانعكاسات بلا مركز واضح. يمكن للمشهد أن يبدأ من المستقبل، ثم يرتد إلى الماضي، قبل أن يندمج بالحاضر، دون أن يكون لهذا الانتقال أي دلالة سببية واضحة. في الأحلام، كما في هايكو الأحلام، لا يوجد زمن موضوعي منفصل عن الذات، بل تتشكل كل لحظة وفق حالة الوعي، فتندمج اللحظات وتتفكك بحرية، مما يفتح أفقًا جديدًا لتجربة الهايكو.
وكما يعيد هايكو الأحلام تشكيل مفهوم الزمن، فإنه يغير أيضًا مفهوم المكان. لا يمكن للأحلام أن تكون مرتبطة بدورة الطبيعة، أو بمكان جغرافي ثابت ومحدد. المكان هنا يصبح فضاءً مفتوحًا، قادرًا على التحول فجأة من شكل إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، دون أي حدود فاصلة. قد يبدأ المشهد في غرفة مغلقة، ثم يجد القارئ نفسه فجأة أمام بحر أو في صحراء، دون انتقال منطقي بينهما.
بسبب هذا التحول، لا يعود المكان مجرد خلفية ثابتة أو مشهد جاهز للنص، بل يتحول إلى تجربة ذاتية وداخلية، تتغير بتغير الحالة النفسية والشعورية داخل الحلم. قد يصبح المكان غير مكتمل، ضبابيًا، أو يختفي تمامًا، ليحلّ محله مجرد شعور أو صورة رمزية تعبّر عن حالة الوعي في تلك اللحظة.
هذا التداخل بين المكان والزمن في هايكو الأحلام يخلق بنية شعرية غير تقليدية، حيث يتبادلان الأدوار بشكل دائم. يمكن للانتقال من مشهد إلى آخر أن يحدث بسرعة ودون سبب واضح، تمامًا كما في تجربة الحلم، حيث يكون الانتقال من داخل غرفة إلى مشهد مفتوح، كالغابة أو البحر، أمرًا ممكنًا دون أن يُشعر بالغرابة.
غياب الفواصل الزمنية الواضحة والأماكن المحددة يمنح القارئ القدرة على تشكيل تصوراته الخاصة، فيعيد بناء المشاهد وترتيب الأزمنة وفق تجربته الشخصية مع النص. بهذا المعنى، تكون كل قراءة للنص مختلفة عن الأخرى، لأن المتلقي هو من يمنح النص شكله الزمني والمكاني النهائي.
وبهذا، يعيد هايكو الأحلام تعريف وظيفة المكان والزمن داخل الهايكو، فهو لا يكتفي بتسجيل لحظة عابرة من الواقع، بل يفتح النص على احتمالات متعددة، ويخلق تفاعلًا دائمًا بين النص والقارئ. الزمن والمكان هنا ليسا مجرد عنصرين في بنية القصيدة، بل هما جزء أساسي من التجربة الجمالية والإدراكية التي يعيشها المتلقي مع النص، فتتحول القصيدة من لحظة محددة إلى حالة ممتدة ومتغيرة، بلا بداية واضحة ولا نهاية محددة.
***
عباس محمد عمارة

قراءة في مدلولات قصة "سهام الفتى عادل السليطة" للقاصة سعاد الراعي

متكئة على حافة الحكمة وشقاوة الفتيان تقدم لنا الكاتبة المقتدرة سعاد الراعي لوحة أدبية مفعمة بالحياة، من خلال قصتها الموسومة بـ "سهام الفتى عادل السليطة".. التي تجمع بين براءة الطفولة وتعقيداتها، وحكمة الكبار وعصمة التروي.. انها تكشف لنا جوانبًا إنسانية واجتماعية بأسلوب سردي مشوق.. يحيطنا بطقس من اسرار الأخطاء الصغيرة الطائشة.. واسوار من نصاعة الغفران..
كقمر يتدلى نثار ضوءه.. ترسم الكاتبة شخصية الفتى عادل برؤية دقيقة كحويصلة زرزور، جاعلة منه نموذجًا حيًا للفتى الذكي المبدع الذي يمتزج في داخله الشغف بالمغامرة مع روح التحدي والمسؤولية الناشئة.
ان اللغة الأدبية التي صيغت بها القصة تتميز بالجزالة والانسيابية، حيث تنتقل الكاتبة برشاقة الحدأة بين المشاهد اليومية العادية والبسيطة، إلى الأحداث الأكثر تعقيدًا، والأكثر انعطافًا.. دون أن تفقد الوتر الحساس للتوازن بينهما.. او تنعطف متلبكة عنهما.. بالغة زلال حبكتها المدهشة بغبطة الترف/ النعمة..
ان اصطيادها لمفرداتها.. التي توحي بدقة انزياحات تعبيراتها، تضفي طابعًا شعريًا يأسر القارئ ويقربه من عالم الشخصيات التي تلعب أدوارها بأناة وتبصر في احداث القصة.. ساعية وبروية لبلوغ حالة التوتر في المؤازرة او النفور.. في الغل او الانشراح.. مستخدمة تشبيهات مثل، "قلبه يحلّق مع العصافير"، او "كأنها تزيّن تاج حكمتها الأزلية"..
والأطرف من ذلك كله.. هو عنوان القصة، إذ تجلّت براعة الاختيار في مفردة بسيطة ولكن انزياحاتها أكثر تعقيدا.. الا وهي كلمة "سليطة"، التي أضفت على النص بعدًا تأويليًا عميقًا وفي غاية البراعة.. والذي يشي بوعي واعتدال فني راقٍ..
فكلمة "سليطة"، رغم كل ما تحمله من دلالة على حدة اللسان وفي السياق العام واليومي وكذا في الوجدان الجمعي.. لأنها تفتح علينا أبوابًا من التردد والتحفظ بل والسلبية، فان التأني هنا مطلوب... توطئة لقراءة مدلولها الادبي الذي اختارته القاصة عنوانًا.. والذي يمنحنا فرصة لإثارة تساؤلات أعمق حول المعنى والمغزى من وورده..
الامر الذي دفعني للبحث المتأني عن دلالته، او بالأحرى معناه.. اعتقاد مني ان ما ذهبت اليه الاديبة كان مقصودًا وواعيا وحاذقا.. فوجدت ما يلي: حين نقول رَجُل سليط اللِّسان.. نعني طال لسانُه بالكلام، وصار جارِحًا.. او كما جاء في القاموس:
رَجُل سليط: بذيء، فاحش
رَجُل سليط: فصيح حديد اللِّسان
رَجُل سليط: فصيح
وكل هذه الصفات اجدها قد اجتمعت في سهام الفتى عادل.. جارحة.. ولكنها تعبر عن فصاحتها في عكس شخصية البطل وسعيه الحثيث في إصابة الهدف..
ان الجوانب الإبداعية البارزة في التركيز على رمزية السهم كأداة تمثل قدرة عادل على تحقيق أهدافه وإثبات ذاته.. لكنه مع ذلك، فإن هذا السهم نفسه يصبح رمزًا آخرًا للمغامرة غير المحسوبة وعواقبها، مما يعكس رسالة عميقة حول أهمية المسؤولية.
أما شخصية الجدة موزة فهي من أجمل ما قدمته القصة، إذ تمثل الحكمة والحنان اللذان يحميان الطفولة من غضب الواقع وقساوة رد الفعل المتسرعة. ان قولها: "لا تكررها يا بني.. المرح والشقاوة لهما حدودهما"، انما يدل على إدراك الجدة مسؤوليته عن فعلته المتهورة.. الا ان القول ذاته يحمل في طياته درسًا إنسانيًا عميقًا يتم تقديمه بلطف وحذر.
لقد قدمت لنا الراعي.. تحفة أدبية تجمع بين الفن والرسالة، حيث تتخطى حدود السرد لتلامس وجدان القارئ وتنير عقله.
**
طارق الحلفي
........................
رابط القصة:
https://almothaqaf.com/nesos/980331

الغربة والصمت في مواجهة العزلة والضياع

هل يمكن للإنسان أن يواجه ألمه الداخلي دون أن يفقد نفسه؟ كان هذا السؤال وما زال محورًا أساسيًا في الأدب والفلسفة، حيث يُنظر إلى الألم ليس فقط كمعاناة شخصية، بل كقوة دافعة لإعادة اكتشاف الذات. في الأدب، يستخدم الشعراء والروائيون الرموز والأساطير للتعبير عن الألم بأشكال تتجاوز حدود اللغة العادية، بينما في الفلسفة يُطرح الألم كتجربة وجودية تجبر الإنسان على مواجهة حقيقته العميقة يرى نيتشه أن الألم هو الوسيلة التي يصل بها الإنسان إلى القوة والتحول، إذ يقول: “ما لا يقتلني يجعلني أقوى” أما فرويد، فيرى أن الألم المكبوت يعيد تشكيل نفسه في اللاوعي، مؤثرًا في طريقة تعامل الإنسان مع العالم. لكن ماذا يحدث عندما يصبح الألم أكبر من قدرة الإنسان على فهمه؟ هل يتحول إلى صمت أم إلى صراع داخلي لا نهاية له؟و في هذا السياق، شدت انتباهي قصيدة الكاتبة والشاعرة حياة الرايس، فأردت أن أتأمل أبعادها الوجودية والجمالية من خلال جدلية العلاقة بين الصمت والرمز في البناء الشعري.

تقول الشاعرة:

هجمة الحياة عليّ...

هذا الصّباح

كنتَ هجمة الحياة عليّ.

وقد كنت أظنني عندكَ نسيا منسيا.

فارتبكتُ واختفيتُ

كطفلة فاجأها العيد على حين غفلة

أنا الصائمة عشرة أهلّة

عمر صمتك المبيّت.

أربكني العيد.

ولا شرائط في شعري

ولا ألوان في فستاني...

من أين يأتي العيد؟

وانت مفارق بعيد5

يا لقلب الطفلة!

"مكسور قلبي يا عشتار" صرخت!

فما استجابت عشتار.

كانت مثلي تكابد هجر تموز.

يا ربّ الذكور:

أعد لي تموز وانا أصلي لك ليلا نهارا

قال ربّ الذكور وقد استوى على عرشه:

ش" ذاك هو تموز بعيد بعييييد... حتّى يدي لا تطالُه.

جالس هناك، على سدرة المنتهى، في حلّته الطقوسيّة، يعزف الناي لامرأة غيرك.

فلا تزعجيه فهو تحت رعايتي "

ور فع يدَه يباركه.

! يا لقلب المرأة

من يطفئ حرائق الغيرة؟

وكعذراء المعبد (وما انا بقدّيسة)

أقمت كرها لا طوعا طقوس الصّمت الجنائزي

عشرة أهلّة كاملة.

والبخور يخنقني ويكتم أنفاسي والنار تلتهم طرف ثوبي وتأتي على جسدي...

ما أصعب ان نحّب في صمت

ان نجّن في صمت

ان نموت في صمت...

***

حياة الرايس شاعرة وروائية تونسية تعيش بسويسرا

1- الصمت الجنائزي: العجز عن التعبير والموت الداخلي

يشكل الصمت محورًا أساسيًا في القصيدة، حيث تصفه الشاعرة بأنه “صمت جنائزي” يمتد لعشرة أهلة، فلا يعكس فقط غياب الكلمات، بل غياب الحياة ذاتها وفي الفلسفة، يرتبط الصمت بفكرة العجز عن التعبير عن المشاعر العميقة، وهو ما أشار إليه هايدغر حين قال "إن الصمت قد يكون أحيانًا أكثر بلاغة من الكلام "فيصبح حالة من القمع العاطفي والاغتراب الداخلي

وقد كان الصمت موضوعًا للعديد من التأملات العميقة الفيلسوف لودفيغ فيتجنشتاين، في كتابه "الرسالة الفلسفية"، قال: "ما لا يمكن التحدث عنه، يجب السكوت عنه" مؤكدًا أن هناك حدودًا للغة في التعبير عن الحقائق العميقة وهذا الصمت ليس غيابًا للكلام، بل هو اعتراف بوجود ما يتجاوز اللغة أما بالنسبة للفيلسوف الصوفي الياباني د.ت. سوزوكي رأى أن الصمت هو اللغة الحقيقية للروح، حيث تتوقف الكلمات عن التعبير ويبدأ الفهم العميق في الثقافة الصوفية، إذ هو وسيلة للاتصال بالذات الإلهية، حيث تتلاشى الحواجز بين الإنسان والكون وفي المقابل، الفيلسوف الفرنسي موريس بلانشو تحدث عن الصمت كتجربة وجودية، حيث يصبح الإنسان واجهة للفراغ والغياب في كتابه "الفضاء الأدبي"، يرى بلانشو أن الصمت هو المكان الذي يلتقي فيه الإنسان بحقيقته العميقة، بعيدًا عن ضجيج العالم الخارجي تجارب مؤلمة ولها أبعاد تتعلق بالحركة والسكون لا تستطيع الكلمات تحقيقها...

2- الغيرة والحب المفقود صراع بين الرغبة والخوف:

تبرز الغيرة كمظهر آخر من مظاهر الألم العاطفي، خاصة حين تتحدث الشاعرة عن تموز، الإله السومري الذي يعزف الناي لامرأة أخرى، مما يعكس صراعًا داخليًا بين الرغبة في الحب والخوف من فقدانه أفلاطون رأى أن الحب هو البحث عن النصف الآخر الذي يكملنا، لكن في هذه الحالة، تشعر الشاعرة أنها فقدت هذا النصف، مما يجعل الغيرة تنبع من خوفها من أن تكون غير مرئية أو مستبدلة وهذا الشعور يضعها في مواجهة حتمية مع الفقدان، حيث يصبح الحب ذاته مصدرًا للألم.

ولعل هذا الموقف يذكرنا بالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، في كتابه "انفعالات النفس"، تحدث عن الغيرة كشعور مركب يجمع بين الحب والخوف وفقًا لديكارت، الغيرة هي نتاج الخوف من فقدان الحبيب لصالح شخص آخر، فكرة يجعلها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحب والرغبة في الاحتفاظ به في حين أن فريدريك نيتشه، فقد رأى في الغيرة قوة دافعة للتغيير والتحول. في كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، قال نيتشه: "الغيرة هي الشرارة التي تشعل النار في الروح"، مؤكدًا أن الغيرة يمكن أن تكون مصدرًا للإبداع والتفوق إذا تم تحويلها إلى طاقة إيجابية.

3- الرموز الدينية والأسطورية: دورة الحياة والموت

تتشابك القصيدة مع الرموز الدينية والأسطورية، خاصة من خلال شخصيتي تموز وعشتار، اللذين يجسدان دورة الحياة والموت في الأساطير السومرية. تضفي هذه الرموز على القصيدة بعدًا فلسفيًا يعكس الصراع الدائم بين الأمل واليأس، بين الخصب والجفاف، بين البعث والموت. في الفلسفة، يمكن النظر إلى هذه الرموز باعتبارها محاولات لتفسير طبيعة الفقدان والتجدد، حيث يصبح الحزن نفسه طقسًا يعيد تعريف الهوية الإنسانية. الطقوس الجنائزية التي تصورها الشاعرة ليست مجرد وداع للحبيب، بل محاولة لإيجاد معنى في فقدانه، رغم إدراكها أن هذا المعنى قد يكون مراوغًا أو حتى غير موجود.

4- الموت في الصمت: فقدان المعنى والغاية

في نهاية القصيدة، يأخذ الصمت بعدًا أكثر حدة، حيث يصبح مرادفًا للموت وليس مجرد نهاية جسدية، بل هو تعبير عن فقدان القدرة على الشعور والمعنى ولقد تحدث كيركغور عن “الموت الوجودي”، حيث يفقد الإنسان غايته في الحياة قبل أن يموت فعليًا هذا ما تعكسه الشاعرة حين تغرق في صمتها، كأنها تدخل في مرحلة من الاضمحلال الذاتي، حيث يصبح الزمن بلا معنى والحياة بلا غاية و تجدر الاشارة الموت كان ولا يزال موضوعًا مركزيًا في الشعر عبر العصور، حيث يعبر الشعراء عن رؤاهم الفلسفية والعاطفية تجاه هذه التجربة الإنسانية العميقة ويتحدث عنترة عن الموت بوصفه قدرًا محتومًا، فيقول:

"وما الموت إلا رحلةٌ لا بد منها"

فإن متُّ فالإقدامُ خيرُ عزاءِ."

فالموت يُرى كجزء طبيعي من الحياة، حيث يتقبله الشاعر بفخر وشجاعة أما في الشعر الحديث، فيأخذ الموت أبعادًا وجودية ونفسية أكثر تعقيدًا فالشاعر الفلسطيني محمود درويش، في قصيدته "أنا من هناك"، يقول:

"أنا من هناك، وأنا هنا،"

ولستُ هناك ولا هنا."

"لي وطنٌ اسمه الغياب."

موت تعبير عن الغربة والضياع، حيث يصبح الغياب وطنًا للشاعر ويطرح أسئلة وجودية حول معنى الحياة والفقدان وكما يبدع الشعراء غالباً لاستعمال اللغة كوسيلة لمواجهة هذا اللغز الإنساني الأبدي..

5- الهوية الأنثوية بين قلب الطفلة وقلب المرأة:

تعكس القصيدة صراعًا مع الهوية الأنثوية، حيث تتراوح الشاعرة بين قلب الطفلة وقلب المرأة، وكأنها عالقة بين براءة مشاعرها وقسوة الواقع الذي يفرض عليها قيودًا اجتماعية. أشارت دي بوفوار إلى هذا الصراع حين تحدثت عن المرأة كـ “الآخر” في مجتمع يهيمن عليه الذكور. هنا، تشعر الشاعرة بالغربة، ليس فقط بسبب الحب الضائع، بل أيضًا بسبب الهوية المفروضة عليها، والتي تجعلها تشعر بأنها مقيدة بصور نمطية لا تعبر عن حقيقتها.

6- الأبعاد الوجودية والروحية والنفسية: الغربة والضياع في مواجهة الألم

تعكس القصيدة أبعادًا وجودية وروحية ونفسية عميقة من الناحية الوجودية، تعبر الشاعرة عن شعورها بالغربة والضياع في عالم يبدو غير مبالٍ بوجودها. يرى كامو في “أسطورة سيزيف” أن الإنسان يعيش في عالم عبثي، لكنه يجد المعنى من خلال مقاومة هذا العبث. هنا، تواجه الشاعرة عبثية وجودها من خلال صمتها وألمها.

أما من الناحية الروحية، تستخدم الشاعرة الرموز الدينية والأسطورية للتعبير عن صراعها مع الفقدان والموت

تنعكس على حالتها من الناحية النفسية، فتعكس القصيدة حالة من الكبت العاطفي والاغتراب الداخلي، حيث يصبح الصمت تعبيرًا عن ألم لا يمكن التعبير عنه بالكلمات تقول الشاعرة: “ما أصعب أن نحب في صمت، أن نجن في صمت، أن نموت في صمت”حالة من اليأس العميق الذي يعيشه الإنسان عندما يفقد القدرة على التعبير عن مشاعره.

7- الحيرة الوجودية:

هل يستطيع الإنسان مواجهة ألمه الداخلي دون أن يفقد هويته؟ هذا هو السؤال الأهم الذي تطرحه القصيدة، حيث تعكس تجربة إنسانية تتجاوز الألم الشخصي لتصل إلى أسئلة وجودية حول معنى الحب والصمت والموت أو ربما علينا العودة إلى الفلسفة الوجودية، التي تتحول فيها حتى مشاعر الغيرة إلى تعبير عن صراع الإنسان مع الآخر في كتابه "الوجود والعدم"، يصف سارتر الغيرة بأنها محاولة للسيطرة على حرية الآخر، حيث يصبح الحبيب موضوعًا للتملك بدلًا من من خلال ولقد ابدعت الشاعرة في توظيف الرموز والأساطير، اذ ترسم صورة لصراع أبدي بين الحياة والفقدان، حيث لا يكون الألم مجرد تجربة فردية، بل هو جزء من الوجود الإنساني ذاته وربما السؤال الذي يجب ان يطرح في هذا السياق هل ينجح الشاعر في الهروب من الغربة الداخلية ؟

أم عليه أن يقتنع بفكرة أن الحياة في جوهرها هي رحلة مستمرة بين البحث عن الحب والخوف من الفقدان؟

***

الباحثة والناقدة: د/ آمال بوحرب – تونس

.........................

المصادر

1. جان بول سارتر- الوجود والعدم

2. مارتن هايدغر، - الكينونة والزمان

3. أفلاطون - المأدبة

4. كارل يونغ، - الأنماط البدئية

5. سورين كيركغور- المرض حتى الموت

6. سيمون دي بوفوار- الجنس الآخر

7. البير كامو- أسطورة سيزيف

8. فريديريك نيتشة - هكذا تكلم زرادشت

9. فرويد - تفسير الأحلام

محمود درويش في حواره مع الذّات

كلمة أولى: محمود درويش هو المبدع الذي كتبت عنه الدراسات والمقالات والأطروحات الأكاديمية الكثيرة، وشغل الناس على اختلاف انتماءاتهم وأذواقهم، والدارسين مع كل قصيدة يكتبها، وبعد كل كتاب يصدر له.

لكن محمود درويش كان يُكثر الشكوى من النقّاد والنّقد، ويرى أنه لم يكتب عنه الذي ينتظره. فقد انشغل معظم مَن كتب عن محمود بجمالية النّص، ووقف على كل حرف وكلمة واستعارة، ومجاز وتفعيلة وإيقاع. لكن القليل منهم مَن تجاوز ذلك إلى العمق، إلى ما تُخفيه الكلمة ويوحي به الإيقاع ويُغَلفه المجاز، وتدفع إليه الاستعارة، وترسمه الصورة. معظم مَن كتب عن محمود انشغل بالنص وبقوقعة محمود درويش في صورته النمطيّة التي رُسمَت له كإنسان وكشاعر.

وظلّ الذي ينتظره مفقودا..

يغتالني النقّاد أحيان:

يريدون القصيدة ذاتَها

والاستعارة ذاتها..

فإذا مشيتُ على طريق جانبيّ شارداً

قالوا: لقد خانَ الطريقَ

وإنْ عثرتُ على بلاغة عُشبة

قالوا: تخلّى عن عناد السنديان

وإنْ رأيتُ الوردَ أصفرً في الربيع

تساءلوا: أينَ الدّمُ الوطنيّ في أوراقه؟

**

يغتالني النقّادُ أحياناً

وأنجو من قراءتهم،

وأشكرهم على سوء التّفاهم

ثمّ أبحثُ عن قصيدتيَ الجديدةْ!

(أثر الفراشة ص 109-110)

محمود الانسان

محمود الذي أقصده محمود الانسان العادي. محمود الطفل، الولد، الابن، الأخ، الصديق، الشاب، العاشق، المعشوق، الحزين، السعيد، الباكي، الضاحك، المعذّب، الغريب، التائه. محمود الذي يبحث عن الصديق الذي يريد أن يبوح له بما يخفي من أسرار، والحبيبة التي يضع رأسَه في حضنها ويبكي، والأم التي يريد أن تُمسّد له شعره، وتُهلل له ترانيم الأمومة الجميلة، وتُطعمه من خبز صاجها، وتُلقّمه بيدها، وتصبّ له فنجان القهوة. محمود الذي إذا ما عاد من حفل التهليل والتكبير الذي أقيم له، يجد نفسَه وحيدا بين جدران أربعة فلا مَن يكلمه، ولا مَن يشرب القهوة معه، ولا مَن ينام وهو على ثقة أنّ هناك مَن يرعاه في نومه، وإذا نام فينام مرعوبا خوف أن يحدث له ما حدث لمعين بسيسو "تتجه نحو الباب فلا ينفتح. تنسى أنّك قد سحبتَ المفتاح من القفل ووضعته على الطاولة. فأنتَ تفعل ذلك منذ فترة طويلة، منذ مات صاحبك في غرفة مغلقة: تُبقي القفل جاهزا لاستقبال مفتاح آخر تحتفظ به مُدَبّرة المنزل التي تأتي في منتصف النهار. فقد تموت ولا ينفتح الباب، فتبقى أنتَ والموت وحيدين في الداخل". (1)

هذا المحمود لم يتناوله الدارسون والنقاد ومَن كتبوا عن محمود.

ومحمود هذا موجود في كل إصدار له.

وبرز في الحوارات المتعددة التي أقامها محمود وسجّلها نثرا وشعرا.

وكان استخدامه للضمائر المختلفة الوسيلة الناجحة في التعبير عنها ونقلها بكل حدّتها وقسوتها.

كلّ منّا عدّة أشخاص في واحد

يكتشف كلّ واحد منّا إذا ما خلا إلى نفسه وراجعها الحساب أنه يتشظى إلى عدّة شخصيات تُكوّنه من حيث لا يدري، تُحاوره ويُحاورها. فمنذ أن يُنبّهك جرسُ الساعة تقوم مخاطبا نفسك "لو بإمكاني النوم أكثر، وعليّ الإسراع. أيّ أعمال شاقّة عليّ هذا اليوم. لأتناول فطوري سَريعا. لا بأس بهيئتي العامّة. التعبُ يبدو عليّ بسبب سهر الأمس. ماذا سيقول فلان عن قرارات الأمس. سأواجهه بالحقائق الصعبة. " وهكذا يستمر الواحد كلّ مع ذاته ومحاوراتها الخاصة.

فكل واحد هو عالم قائم بذاته، هو الواحد والكل، والفَرد والجَمع، أحيانا يتحاور مع نفسه بضمير المتكلم، وأحيانا ينشطر إلى إثنين ويتحاور بضمير المخاطب، وأحيانا يتقمّص الكلّ ويتكلم بضمير الجمع، وفي بعض الحالات يُغيّب نفسَه فيحاورها بضمير الغائب. ويكون الواحد في هذه الحالات الأصدقَ مع نفسه لأنه يتَعرّى أمام ذاته فيُصارحها ويُكاشفها.

الأسلوب الحواري

والأسلوب الحواري في الكلام هو شكل من أشكال التفاعل اللفظي، وكما يقول ميخائيل باختين:" من الطبيعي ألاّ يكون الحوار بمعناه الضيّق سوى إحدى صيغ التفاعل اللفظي، لكن يمكن أن نفهم الحوار بمعناه الواسع. أي ليس فقط كتبادل بصوت عال يستدعي تحاور افراد متواجهين، ولكن نعني به تبادلا لفظيّا كيف كان نوعه"(2).

والحوار الدرامي يأتي على شكلين: "حوار داخلي ينقسم فيه الصوت الأساسي للنص على نفسه حين يحاور الشاعر ذاته ساعة أن يحدث انشطار نفسي في لحظات تأزّميّة أو شعور بالإستلاب. وهذا ما نسميه بالمونولوج"(3)

والشكل الثاني للحوار هو "الحوار الثنائي الذي يتضمّن صوتين مختلفين يُساهمان بحوارهما داخل النص في بناء رؤية الشاعر لعالمه وموقفه الجمالي والفكري."(3) يقول محمود درويش:

لقد قالت لي الأيام إذهب في المكان

تجد زمانك عائدا من موج عينيها

فقلت الجسم لا يكفي لنظرتها

وهذا البحر

ما اسم الأرض؟

بحر أخضر، آثار أقدام، دويلات، لصوص، عاشقات،

أنبياء، ما اسم الأرض؟

شكل حبيبة يرميك قرب البحر

ما اسم البحر؟

حدّ الأرض. حارسها، حصار الماء. أزرق أزرق

امتدّت يدان إلى عناق البحر فاحتفل القراصنة

البدائيّون والمتحضّرون بجثّة. فصرختُ: أنت

البحرُ. ما اسم البحر؟

جسم حبيبة يرميك قرب الأرض. (4)

والثاني الحوار الخارجي.. الديالوج: وهو عند محمود درويش يأتي كوظيفة. "بمعنى أن الحوار له دوره البنائي في مجمل العلاقات النصيّة"(5)، وفي "تعميق الموقف الغنائي وتنميته من خلال تفريد الصوت الجماعي إلى آحاده في تفاعلها الكلامي أو حوارها"(6). وفي المصالحة بين اللغة الشعرية والشكل الدرامي حيث "لا يلتقي الصوتان عند دلالة جزئية وإنما يشتبكان في أفق المعنى الشعري الكلي حيث تكسو لحظةَ الحوار ظلال رمزية تُبعد بها عن الوقوع في دائرة المباشرة وتمنحها عمقا انسانيا"(7) وتمزج ما بين التجربة الشخصية والهموم العامة، "وينعكس التوتر بين العام والخاص على المعنى، وذلك يبدو في موضوعات الحب والمرأة، وعلاقة الانسان بالطبيعة وبالطفولة والمدن وبالمنفى"(8). حيث يبدأ محمود درويش من تجربة شخصية ليعطيها إطارا عاما حيث "يتبادل "أنا" الشاعر المتكلم و"أنا" الجامعية أو نحن"(9). فيكون الاندماج بين "الأنا" و "النحن" أي الذات والجماعة في الحوار الدرامي الذي يجريه ما بين الأنا والأنتِ كما في قصيدة "يطير الحمام":

قلت: نسيتُ انتباه يديك

نسيتُ التراتيلَ فوق جروحي

فكم مرّة تستطيعين أن تولدي في مَنامي

وكم مرّة تستطيعين أنْ تقتليني لأصرخَ إنّي أحبّك كي تستريحي

أناديكِ قبل الكلام

أطيرُ بخصركِ قبل وصولي إليكِ

فكم مرّة تستطيعين أن تضعي في مناقير الحمام

عناوين روحي؟ وأن تختفي كالمدى في سفوحي

لأدرك أنّكِ بابل مصر وشام

يطير الحمام

يحطّ الحمام

-إلى أين تأخذني يا حبيبي من والدي

ومن شجري. ومن سريري الصغير. ومن ضجري

من مَراياي من قمري، من خزانة عمري ومن سَهري، من ثيابي

ومن خفَري، إلى أين تأخذني يا حبيبي.. إلى أين؟

تُشعل في أذني البراري، تحملني

موجتين، وتكسر ضلعين تشربني ثم توقدني ثم تتركني

في طريق الهواء إليكَ..

حرام حرام

يطيرُ الحمام

يحطّ الحمام. (10)

السؤال المعذّب والاستفزاز المُثير وقرار الرّحيل

يقف المتتبع لشعر ونثر محمود درويش منذ ترك الوطن عام 1970 على سيرة ذاتية تتوزّع على حلقات متتابعة مترابطة تُكمل الواحدةُ سابقتَها، وكثيرا ما تَتداخل فيها، بطلها هو محمود درويش الذي كغيره من أبناء شعبه عذّبه السؤال الدائم:

- مَن أنت؟ وماذا يعني الوطن لك؟ وأيّهما أكثر إيلاما أن تكون لاجئا في أرض سواك أم تكون لاجئا في أرضك؟!

 واستفزته مقولة الفيلسوف الصهيوني الوجودي مارتن بوبر: "إنّ الانسان يرتبط بما حوله عن طريقين: طريق "أنا وهو" وطريق "أنا وأنت". علاقة "أنا وهو" توجد في المكان والزمان وتخضع لقانون السببية. وفي هذه العلاقة لا تظهر الحرية، بل الضرورة. أمّا علاقة "أنا وأنت" فتوجد خارج الزمان والمكان وهي مستقلة عن قانون السببية. وتظهر هنا الحرية لا الضرورة. على هذا الأساس. يكون الوجود غير الحقيقي للانسحان عندما يوجد في علاقة "أنا وهو". والدين اليهودي هو الدين الحقيقي الوحيد القائم على أساس علاقة "أنا وأنت". ولأن اليهود متمسكون بهذا الدين الحقيقي فإن علاقة اليهود بفلسطين ليست كعلاقة العرب بها. لأن العرب موجودون في فلسطين بعلاقة "أنا وهو" ولذا من السهل قطع هذه العلاقة ومن الممكن نقلهم إلى أمكنة أخرى."(11)

محمود الذي قرّر أن يوجد الانسجام، ويجد الجواب على السؤال، ويُثبت سخافة مقولة مارتن بوبر، قرّر الرحيل وترك الوطن ليُحقّق الانسجام بين هويّته الغامضة على الورق والساطعة في القلب، وليجد الجوابَ على السؤال الذي يلاحقه طوال ساعات يومه:

- مَن أنت؟!

"فأن تكون منسجما مع نفسك ومع تاريخك معناه أن تكون حيث يكون شعبك(12) والوطن لا يعني الخارطة لأنها شبيهة بالرسم التجريدي, وقبر جدّك ليس إجابة لأن غابة صغيرة كفيلة بأن تخفيه. وأن تبقى بجوار الصخرة ليست أيضا إجابة كافية لأنّ اغترابك ليس شيئا ماديّا فقط"(13) وكان قرار الرحيل:

ليوم يحددني موعدا، قلتُ للكرمل: الآن أمضي.

وينتشر البحر بين السماء ومَدخل جرحي

وأذهبُ في أفق ينحني فوقنا، ويصلّي

لنا. أو يكسّرنا. هذه الأرض تُشبهنا

حين نأتي إليها. وتُشبهنا حين نذهب عنها.

تركتُ ورائي ملامحَها. واسمُها كان يمشي أمامي

يُسمّي ملامحها وانفجاري. تركتُ سرير الولادة

تركتُ ضريحا مُعدّا لأيّ كلام.

تركتُ التي أوجعَتها ذراعي. تركتُ التي أوجعتني يداها.

تُفتّش عن عاشق بعد خمس دقائق من هجرتي (14)

ثورة على الظلم وسحر الضوء الآتي من البعيد

 محمود درويش ككثيرين غيره من الشباب العرب في إسرائيل في أواخر الخمسينات والستينات من القرن الماضي (القرن العشرين) رأى في الأشقاء في العالم العربي الأمل والخلاص، وحلم أن يكون بينهم في القاهرة ودمشق وبغداد التي يراها من خلال ما يسمع بأذنيه ما يسحره ويُؤجج حماسه ويلهفه ويشدّه إليها.  وكانت الانتصارات لحركات التحرر في العالم العربي والآسيوي والإفريقي وأميركا اللاتينية تلهب خياله، ومثّل له جمال عبد الناصر البطل المخلص والمنتصر رغم الانكسارات والهزات، وكان لظهور حركة فتح شمسا مشرقة بعد هزيمة حزيران 1967وبعدها حرب الاستنزاف على قنال السويس أن تركت أثرها على الكثيرين من الشباب ودفعتهم لردّة الفعل العنيفة على ظلم وملاحقة السلطات الإسرائيلية لهم أن قرروا تَرك الوطن للعيش في بلد عربي، وبالتحديد مصر وسوريا.

خيبة الأمل

لكن محمود كغيره سرعان ما فُجع بعد رحيله بواقع العالم العربي وموقفه الرّافض للفلسطيني:

وكنتُ على باب أمّي هناك أنادي دمشق

فتسمع نبض دمي في حفيف صنوبركَ المبتعد

وتغسلني دجلةُ الخير حينَ أموت من الوَجد شوقا إلى أرض بابل.

وها أنذا الآن

حين دخلتُ إلى الجامع الأمويّ تساءلَ أهلُ دمشق:

مَن العاشقُ المُغترب؟

وكانت مياه الفرات ونافورة النيل تحذف آثار زنزانتي عن ضلوعي.

وحين وقفتُ على النيل يوما، وشاطىء دجلة يوما

تساءل كلّ الذين رأوا دهشتي

مَن السّائحُ المغترب؟ (15)

راشد حسين والحزن المشترك

ومشهد الفلسطيني المرفوض يتكرّر مع راشد حسين. ففي رسالة لمحمود درويش أرسلها من باريس يوم 25.8.1986 إلى سميح القاسم يقول فيها: "اتصل راشد حسين بي من نيويورك عندما كنت مقيما في القاهرة. دعوته إلى زيارتي فلبّى الدعوة بطيبته المعروفة. أوقفوه أربع ساعات في المطار. وحين أفرجوا عن قامته الفارعة، وعانقته مداعبا خصلة شعره الشاردة، قال لي اسمع! قلت: ماذا؟ قال:

واقف كلّي مذلّة         في مطار القاهرة

ليتني كنت طليقا         في سجون الناصرة

قلت له: مَن منّا لم تستقبله هذه الحسرة؟ ذاهبون إلى بلاد الأحلام ليدفعنا أوّل شرطي إلى بئر الخيبة. طأطأ شغفه وواصل العناق. وقلت له لأواسيه: حدث لي ذلك على الحدود السورية- اللبنانية في أول زيارة لدمشق بدعوة رسمية من وزارة الثقافة، حين وجد حارس الحدود اسمي مُدرجا على اللائحة السوداء. (16)

انشطار الذات والشعور بالوحدة

منذ ذلك اليوم الخاص الذي تركَ فيه الوطن وانتقل للحياة في المنفى حكم على نفسه من حيث لا يدري أن يعيش في شخصيتين متلازمتين، فشل في إذابة واحدتهما في الأخرى. "ولد الماضي فجأة كالفطر. صار لك ماض تراه بعيدا"(17) في هذه العودة التي لا تنفك تولد في الحاضر.

الوحدة الذاتية التي وجد نفسه فيها كل لحظة اختلى فيها مع نفسه تركته في مواجهته مع ذاته، لا يجد غيرها ليُحاورها ويكشف أمامها عن خوالج مشاعره وحقيقة الذي يفكر فيه. وهو يصارح سميح القاسم في إحدى رسائله (25.8.1986) "أصابني هذا الصباح ما أصابني أمس من بلوى ضعف حين أوصلتُ الصبيتين، ابنتي أخي، إلى المطار. جميع الركاب عائدون إلى ما هو لي، عائدون إلى صنوبرتي وسريري. وأنا ممنوع من التفكير بالعوة.. وممنوع من الرغبة في العودة. ماذا أصابني يا عزيزي. لماذا أعود إلى اكتشاف البسيط. ألئنّني كبرت دون أن أدري. ألئنّ الطفولة التي كبرت في غيابي دلّتني على أنّ الكلمات- مهما كبرت واتسعت واشتدت- لا تُنجب طفلا من لحم ودم، وأنه لا بدّ للطفل من أم؟ وأنني في حاجة عضوية ونفسية إلى مَن أصبّ له الحليب والشاي في الصباح؟ وأنني في حاجة إلى مَن أعود إليه في غرفة في فندق

أن تكون معي.. أن يكون أحد أفراد عائلتي معي.. أن يكون أحد من أصدقائي القدامى معي.. هو الدليل الأخير والوحيد على أنني موجود. ماذا دهاني؟ إلى هذا الحدّ تحتاج القربى والصداقة إلى تاريخ وأمهات وسجون قديمة؟ إلى جذور وذكريات؟ (18)

أنقذني يا عزيزي سميح من سطوة هذا الحنين. أنقذني من شماتة هذا المطار الذي يوصلكم إلى بيوت من حجر، ويوصلني إلى بيت من هواء!."(19)

البَوح بالندم واظهار الرغبة بالعودة للوطن

وفي رسالة أخرى أرسلها إلى سميح القاسم من باريس يوم (19.5.1986) يختتمها بهذه الكلمات الحارقة:

"قريبا؟ ست عشرة سنة! ست عشرة سنة كافية لتقبل بنيلوب وُدّ خطّابها وتلعن بحر إيجة. ست عشرة سنة كافية لأن تتحوّل الحشرات الصغيرة على جراح أيوب إلى طائرات نفّاثة. ست عشرة سنة تكفي لأصرخ: بدّي أعود. بدّي أعود. كافية لأتلاشى في الأغنية حتى النصر أو القبر.

ولكن، أين قبري يا صديقي؟ أين قبري يا أخي؟ أينَ قبري؟". (20)

هذا الحنين إلى الوطن والأهل والأصدقاء الذي تفجّر داخل محمود درويش وبرز بتكراره المرات العديدة في كتاب "في حضرة الغياب" للسؤال الذي أثار الكثير من الأسئلة "لماذا نزلت عن الكرمل؟" تجسّد في عنفوانه وصراحته وصدقه في كلمات محمود درويش:

أحبّ البلاد التي ساحبْ

أحبّ النساءَ اللواتي أحبْ

ولكنّ غصنا من السّرو في الكرمل الملتهب

يُعادلُ كلّ خصور النساء

وكلّ العواصم.

أحب البحار التي سأحبّ

أحبّ الحقولَ التي سأحبّ

ولكنّ قطرةَ ماء بمنقار قُبّرة في حجارة حيفا

تُعادل كل البحار

وتغسلني من ذنوبي التي سوف أرتكبُ

أدخلوني إلى الجنّة الضائعة

سأطلق صرخةَ ناظم حكمت:

آه.. يا وطني! (21)

ويطرح نفس الموقف الحاد في كتاب "في حضرة الغياب": فماذا تفعل حين تصل إلى الكرمل غير أن تسأل: لماذا نزلتَ عن الكرمل؟ وفي نفسك الأمّارة بالحيرة جواب مبهم: لكي أتعلّم المشيَ على طرق لا أعرفها. (22) وعلى الطريق الساحليّ تساءلتُ: ماذا لو بقيتُ في حيفا؟ ماذا لو بقيتُ في أيّ مكان؟ ماذا لو كنتُ؟ ماذا لو لم أكن. تتحاشى الوصول إلى الخلاصة. "(23)

كان يجد نفسه في مواجهة حادة ما بين الحاضر الذي يعيشه والماضي الذي كان، فيختلط الواحد بالثاني، وتتبدّل المواقع والرؤى، لكن الأمل بالمستقبل يكون الأقوى، فتكون نبرته القوية الواثقة ببناء عالم فيه من سحر الماضي والتعويض عن الحاضر.

يوميات الحزن العادي وانشطار الذات

كانت "يوميات الحزن العادي" عام 1973 هي الكاشفة لهذا الانشطار الذاتي  داخل محمود درويش. واستمر في رعايته وتشذيبه وتطويره وتجميله حتى كان "في حضرة الغياب" على أكمل صورة أدبيّة نصيّة "لا هي شعر وإن كان فيها من سحره الكثير، ولا هي نثر وإن كان فيها من حكمته وإيقاعيته ما لا يُحصى"(24).

فمحمود درويش قضى حياته يعيش ما بين الماضي البعيد "الذي يرى فيه الفردوس المفقود تارة والجحيم الدائم تارة أخرى وبين الحاضر الذي يُمثّل له الهاوية وانزلاق مستمر في المجهول"(25)

هكذا قضى حياته يتمزّق بين نقيضين:

 الماضي الذي يشدّه إلى الوراء والحاضر الذي يأخذه إلى المجهول.

وإذا ما أمل بالمستقبل الآتي تَمثل له منطقة يصعب عليه ترسّم معالمَها.

يأخذنا محمود درويش في شطحات وجدانية ذهنية تصف الفوضى النفسية التي تعتريه، فتتداخل الهموم الذاتية بالعامة، ومشاكل العالم الكبير بقضايا الانسان العادي البسيط، والموت بالحياة. وهو يعترف بقوله: "وأهذي وأعرف أنني أهذي، ففي الهذيان وعي المريض برؤياه"(26)

وكأننا بمحمود وهو يستعيد الماضي يريد أن يكتبه من جديد، ليس ليطلع عليه الناس، وإنما يكتبه لنفسه، لربما كان بإمكانه أن يعيد بناء هذا الماضي من جديد، وكما يريده هو.

ساعات التوحد مع الذات كثيرة في حياة محمود درويش، وزادت مع التّقَلبات المتتالية التي لاحقت الشعب الفلسطيني حيثما تَواجَد. وكانت أحداث لبنان عام 1982 واضطرار الفلسطينيين على الرحيل فوق السفن اليونانية لتُلقي بهم على شواطىء المتوسط، ومجازر صبرا وشاتيلا ونهر البارد الأكثر تأثيرا على حياة محمود وذاتيته العميقة، وبرزت بكل حدّتها ودراميتها وشفافيتها في قصيدته الملحمية "مديح الظل العالي".

خيبات الأمل المتتالية

وكان التدهور الصحي ومواجهة الموت أكثر من مرّة، وإدراك أن العمر يمضي ولا أمل في تحقيق ما خرج ليُحققه. وكانت النكسة الأقسى في اتفاقيات أوسلو. "هل انتهت الرحلة أم بدأت؟ هل اقترب هو من المكان أم افترق المكان عن صورته في المخيّلة؟"(27) ولم يُصَدّق الذي يراه وهو يتسمّر أمام التلفزيون "تسمرت أمام التلفزيون، واتخذت هيئة المحايد في حضرة الحيرة التي أقامت حاجزا بين العقل والقلب. العقل يقول: إنها مسرحية فاشلة باطلة. والقلب يسأل: كيف أنجو من سحر الإخراج؟"(28) ويسمع ولا يفهم ما تلتقط أذناه "لكن اللغة التي تسمعها تعيد قلبك إلى صوابه: لا، ليست هذه لغتي. فأين بلاغة الضحية التي تسترجع ذاكرة عذابها الطويل، أمام شقاء اللحظة التي ينظر فيها العدوّ في عين العدوّ ويشدّ على يده بإلحاح؟ أين أصوات القتلى السابقين والجدد الذين يُطالبون باعتذار لا من القاتل فحسب، بل من التاريخ؟ أينَ حيرة المعنى في لقاء الضدّ بالضد؟ واين الصرخة الملازمة لعمَلية جراحيّة يُبتَر فيها الماضي عن الحاضر في مغامرة السير إلى غَد ملتبس.. وأين لغتي؟."(28)

وصدق حَدسُه عندما قال في قصيدته "مديح الظل العالي" :"ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة""(29)(حصار لمدائح البحر. منشورات الأسوار عكا- عربسك. ص182) فقد تصاغرت الدولة التي حلم بها لتنحصر في كنتونات متقطعة الأوصال تحيط بها حراب جند الاحتلال، ولا عبور من كنتون لآخر إلاّ بتصريح من الحاكم الغريب. وأدرك أنّ العمر ضاع هباء وأنّ الأمل تقلص وتذاوب.

سهام الاتّهامات المسمومة

وطاردته الأسئلة المتهمة أينما توجّه بسهامها المسمومة: ماذا ستكتب من دون منفى؟ وماذا ستكتب من دون احتلال؟ ويصرخ بحدّة: "لماذا لا تُوَجّه مثل هذه الأسئلة إلى شعراء شعوب أخرى؟ ألئنّ شرط الإبداع الفلسطيني هو العبودية، أم لأنّ الحرية لا تليق بإيقاعاتنا؟ وما معنى أنْ يكون الفلسطيني شاعرا، وما معنى أن يكون الشاعر فلسطينيّا؟ الأول: أن يكون نتاجا لتاريخ، موجوداً باللغة. والثاني: أن يكون ضحية لتاريخ، منتصرا باللغة. لكن الأول والثاني واحد لا ينقسم ولا يلتئم في آن واحد."(30)

المجيء إلى غزة بمشاعر الخجل

وجاء إلى غزة تحاشيا لكثرة السّهام المسمومة المتّهمة، وتمنى لو كان معين بسيسو ابن غزة في استقباله، ويصف دخوله في حواره مع نفسه "في الظلام دخلنا، أو تسللنا إلى غزة. تركتك تمشي أمامي، وحملتُ عنك خيالك. فلستَ بقادر على صيانته من الوقوع على صلابة الواقع. ورأيتك تخفي وجهك عن إلحاح الكاميرت المنصوبة لالتقاط نشوة العائد، ولتصوير الكلمات المُعدّة لهجاء المَنفى. وتسير في أزقّة غزة خجلا من كل شيء: من ثيابك المكويّة، ومن جماليات الشعر، ومن تجريديّة الموسيقى، ومن جواز سفر يُتيح لك إمكانيّة السفر إلى العالم. يُصيبك وجع في الوعي. غزة المتعالية على مخيماتها وعلى اللاجئين، المتوجّسة من العائدين، فلا تعرف من أية غزة أنت. وتقول: أتيتُ، ولكنني لم أصلْ، وجئتُ، ولكنني لم أعد"(31)

وفي الطريق إلى بيت الأهل في الشمال يعذبه السؤال الصعب: "ماذا تفعل حين تصل إلى الكرمل غير أن تسأل: لماذا نزلتَ عن الكرمل؟ وفي نفسك الأمّارة بالحيرة جواب مبهم: لكي أتعلّم المشيَ على طُرق لا أعرفها."(32) ويتقرفص داخل نفسه في حالة من اللاراحة العَبثيّة "تخاف على الحاضر من سطوة الماضي، وتخاف على الماضي من عبثيّة الحاضر، فلا تعرف أين تقف من هذا المفترق. هل أنتَ ما كنتَ أم أنتَ ما تكون الآن؟ وتخاف نسيان الغد في حمأة السؤال: في أيّ زمن أنا؟" (32).

افتقاد الصديق الصّدوق

لم يكن من السهل على محمود درويش أن يجد له الصديق الذي يبادله الأسرار والهموم الذاتية ومشاعر الفرح والحزن. حتى الزوجة لم تنجح في ذلك، ولهذا تهدّم عشّ الزوجية مرتين، وقد يأتي اليوم الذي ستبوح فيه زوجته الأولى رنا عصام القباني السورية بأسرار سنوات زواجهما. لقد وجد محمود هذا الصديق في سميح القاسم قبل مغادرته البلاد عام 1970. ووجده في معين بسيسو بعد الرحيل. وافتقده حتى آخر أيام حياته بعد موت معين بسيسو عام 1985. لقد آثر التوحّدَ مع ذاته على مرافقة الغير وهدر الساعات معهم، وكان يقضي أياما لا يغادر غرفته.

إيثار الوحدة ومحاورة الذات بلعبة الضمائر

ساعات الوحدة كانت تتركه يحاور نفسَه ويبادلها الكلام. أو يدخل حالة الانفصام ويتشظى إلى العديد من الشخصيات، فيُقيم الحوارات ما بينَه وبينَه ومع الآخر والمتَخَيّل والغائب والحاضر، يريد أن يبوح بما يعتمل ويتفجر في داخله:

في البيت أجلس، لا حزينا لا سعيداً

لا أنا، أو لا أحد.

**

وكأنني وحدي. أنا هو أو أنا الثاني

رآني واطمأنّ على نهاري وابتعد.

**

في البيت أجلس، لا سعيدا لا حزينا

بين بين. ولا أبالي إنْ علمت بأنّني

حقّاً أنا.. أو لا أحد. (33).

  "الضمير الأكثر تفضيلا بالسرد هو ال "هو" أو ال "هي""(34). وأكثر من نص كامل بني على الحوار بهذين الضميرين:

هي: هل عرفتَ الحبّ يوما؟

هو: عندما يأتي الشتاء يمسّني

شغف بشيء غائب، أضفي عليه

الاسم، أيّ اسم، وأنسى..

هي: ما الذي تنساه؟ قل!

هو: رعشة الحمّى، وما أهذي به

تحت الشراشف حين أشهق: دثّريني

دثّريني!

هي: ليس حبّا ما تقول

هو: ليس حبّا ما أقول

هي: هل شعرتَ برغبة في أن تعيش

الموت في حضن امرأة؟ (35)

وتستمر الحوارية بالطريقة ذاتها، فيما تعتمد قصائد اخرى على أسلوب الراوي قالت/قال..

قال لها: ليتني كنتُ أصغر..

قالت له: سوف أكبر ليلا كرائحة

الياسمينة في الصيف

ثم أضافت: وأنت ستصغر حين

تنام، فكل النيام صغار. وأمّا أنا

فسأسهر حتى الصباح ليسودّ ما تحت

عينيّ. خيطان من تَعَب مُتقَن يكفيان

لأبدوَ أكبرَ. أعصرُ ليمونة فوق

بطني لأخفيَ طعمَ الحليب ورائحة القطن.

أفرك نهديّ بالملح والزنجبيل فينفر نهدايَ

أكثر

قال لها: ليس في القلب متّسع

للحديقة يا بنت.. لا وقت في جسدي

لغد.. فاكبري بهدوء وبطء

فقالت له: لا نصيحةَ في الحبّ. فخُذني

لأكبرَ! خُذني لتصغُرَ

قال لها: عندما تكبرين غدا ستقولين:

يا ليتني كنتُ أصغر

قالت له: شهوتي مثل فاكهة لا

تُؤَجّلُ.. لا وقتَ في جسدي لانتظار

غدي. (36)

وقد يليهما ال "أنا" ثم ال "أنت". ومن النادر أن يكون السرد بأحد ضمائر الجمع"(37).

استعمال ضمير "الأنا" فيه الرغبة بالانطواء الذاتي والمصارحة التامة مع الذات والبوح الكامل عمّا يُثقل النفس من آلام وهموم، وما يشدّها ويدفعها من أحلام وآمال ورغبات. وفي الوقت ذاته في استعمال ضمير الأنا يجد إمكانية التبرير وخلق الأعذار لما قام به من أخطاء وطلب الشّفاعة والرحمة والبراءة.

وأنظر نحو نفسي في المرايا

هل أنا هو؟

وهل أقدّم جيّدا دوري من الفصل الأخير

وهل قرأت المسرحيّة قبل هذا العرض

أم فرضَت عليّ

وهل أنا مَن يؤدي الدور

أم أنّ الضحيّة

غيّرت أقوالها

لتعيش ما بعد الحداثة

بعدما انحرف المؤلف عن سياق النص

وانصرف الممثل والشهود. (38)

بينما في استعمال ضمير "الهو" يجد الوسيلة للتهرّب من تحمّل أيّة مسؤولية حيث لا وجود للآخر. والمسؤولية كلها تُلقى على البعيد غير المُحدّد والمجهول الهويّة فيُعفي النفس من حمل تبَعة وزرها ونيل العقاب.

ويوفّر ضمير "النحن" الشعور بالطمأنينة والحماية الجماعيّة، وانك لست وحدك، فأنت وسط جماعة تحمل معك المسؤولية وتُشاطرك العبء في المواجهة وإيجاد الحلول لكل مشكلة.

استعمال أيّ من ضمائر السرد "يستلزم وجود ثنائيّة "الأنا والآخر"، وتكون الثنائيّة في حالة "الأنا" وأيضا الأنت" واضحة حيث كلّ ما يقع خارجها ينتمي إلى خانة الآخر"(39).

ازدياد خفقات القلب وانشطار الواحد في اثنين

مع مرور السنوات ازداد شعور محمود درويش أن حياته تقترب من النهاية لأن القلب الذي أجريت له العملية مرتين، لم يعد قادرا على الخفقان بانتظام، وإلحاح الأطباء وتحذيره من التعب وبذل الجهد، زاد عزوفه عن رفقة الآخرين وإيثاره الوحدة، والتحاور مع نفسه ومكاشفتها بكل ما يشعر به، والإكثار من استحضار شبح الموت ومحاورته بشتى الأساليب والكلام، وكان إذا رَكَن إلى النوم يخاف أن يغدرَ الموتُ به، ويحدث له ما حدث لمعين بسيسو. لهذا كان يترك مفتاح باب بيته بعيدا عن القفل حتى يكون بإمكان خادمة البيت أن تفتحه بمفتاحها عندما تحضر ظهر اليوم التالي لتنظيفه وترتيبه (1).

وتتجلى روعة المزج بين الضميرين أنا وأنت لتنهي حالة الانفصام بينهما في "الجدارية":

لا أحد هنالك

في انتظاري. جئت قبل، وجئت

بعد، فلم أجد أحداً يُصدّقُ ما

أرى. أنا مَن رأى. وأنا البعيدُ

أنا البعيدُ.

مَن أنتَ، يا أنا؟ في الطريق

اثنان نحنُ، وفي القيامة واحد.

خُذني إلى ضوء التلاشي كي أرى

صَيرورتي في صورتي الأخرى. فمَن

سأكون بعدكَ، يا أنا؟ جسدي

ورائي أم أمامك؟ مَن أنا يا

أنتَ؟ كوّني كما كوّنتُك، ادّهنّي

بزيت اللوز، كلّلني بتاج الأرز.

واحملني من الوادي إلى أبديّة

بيضاءَ. علّمني الحياة على طريقتك،

اختبرني ذرّةً في العالم العُلويّ.

ساعدني على ضجر الخلود، وكُن

رحيما حين تجرحني وتبزغ من

شراييني الورود. (40)

(جدارية –رياض الريس للكتب والنشر، بيروت –لندن 2000. ص 44-45)

أمّا في حالة السّرد بضمير "الهو" فتغيب ثنائية الأنا والآخر بشكل شبه كامل (41)

استعمال ضمير "الأنت" "يدخل في التباس بضمير الأنا وبالآخر. فحين يخاطب السارد الضمني الشخصية الأبرز في رواية ما جاعلا ذلك سبيلا إلى الإسراف في المكاشفة والبوح، يصير صعبا فصل أحدهما عن الآخر، فالسارد الأنا، القادر على النفاذ إلى أدقّ الدقائق وأكثرها غموضا واستغلاقا على الكشف في أعماق المخاطب لا يمكن أن يكون منعزلا خارج موضوع المكاشفة والبوح، أي لا يمكن إلاّ أن يكون قائما بسرد نفسه وأعماقه، جاعلا ضمير الأنت مجرّد مطيّة ليتّخذ البوح منحى أسلوبيّا مميّزا في عملية السرد"(42)

لكن تظل لضمير "الأنت" ميّزته وتفرّده حيث أنّه الأكثر حدّة ومُواجهة وصَراحة وقوّة في المكاشفة وعدم افساح المجال للتهرّب. 

هذا التفرّد المتميّز لضمير "الأنت" هو الذي جعل محمود يجد فيه بغيته واختياره. فقد اكتشف بعد فوات الأوان، ورثاء الذات مع ضمير "الأنا"، والهروب مع الغيّاب في ضمير "الهو". أنه لا وسيلة للمصارحة والمكاشفة والمواجهة غير ضمير المخاطب "أنت" فكان اختياره منذ "يوميات الحزن العادي" عام 1973. وكان ضميره الوحيد في كتاب سيرته الذاتية "في حضرة الغياب" عام 2006 وحتى لحظات عمره الأخيرة.

"سطراً سطراً أنثرك أمامي بكفاءة لم أوتها إلاّ في المطالع. وكما أوصيتَني، أقفُ الآن باسمك كي أشكرَ مُشيّعيكَ إلى هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع، والانصراف إلى عشاء احتفاليّ يليق بذكراك.

فلتأذن لي بأنْ أراكَ، وقد خرجتَ منّي وخرجتُ منك، سالما كالنثر المُصفّى على حجر يخضرّ أو يصفرّ في غيابك. ولتأذن لي بأن ألمّك، واسمَكَ، كما يلمّ السابلةُ ما نسيَ قاطفو الزيتون من حبّات خبأها الحصى. ولنذهبَنّ معا أنا وأنتَ في مَسارَين:

أنتَ إلى حياة ثانية، وعدَتكَ بها اللغة، في قارىء قد ينجو من سقوط نَيزك على الأرض.

وأنا، إلى موعد أرجأتُه أكثرَ من مرّة، مع موت وَعَدْتُهُ ُ بكأس نبيذ أحمرَ في إحدى القصائد. فليس على الشاعر من حَرَج إنْ كذب. وهو لا يكذبُ إلاّ في الحبّ لأنّ أقاليم القلب مفتوحة للغزو الفاتن."(43).

الخلاصة

محمود درويش المبدع الذي شكّل ظاهرة فريدة في حركة الإبداع العربية في العصر الحديث، تمثّلها الكثيرون وحاولوا تقليدها واتّباعها، وشغل بعد كل إصدار جديد له وحتى قصيدة الناس في التفسير والتحليل والمناقشة. كان يشكو من انشغال النقاد والدارسين بنصّه واهمالهم لما يعتمل في داخله وكوّن شخصيته وبَلور همومَه وحرّك أحاسيسَه. محمود درويش الذي سُحر بالمنفى وسرعان ما شعر بخيبة الأمل وجد نفسه فجأة يعيش عالمين متباينين، وانشطر إلى اثنين وتشظى إلى كثيرين، وعاش حياته وحيدا لا يجد الصديق الذي يركن إليه ويبادله الهموم، والأحلام، والفرحة، والدمعة. 

 ***

د. نبيه القاسم

أمنيات رمضانية...

لو أنني الربيعُ

لما تركتُ صحراءً إلآ وأقمتُ فيها

مهرجانَ خُضرتي..

*

لو أنني الخريفُ لانتحرتُ

كي لا تحني الوردةُ رأسَها

خجَلا ً من الفراشات..

*

لو أنني مطرٌ لواصلتُ بكائي

كي تضحكَ السنابلُ

وتستعيدَ الجداولُ الخرساءُ حنجرةَ الخرير..

*

لو أنني سوطٌ

لجَلدتُ الجلاّد..

*

لو أنني فِراءٌ

لكسَوتُ أقدامَ الحفاة..

*

لو أنني طاعونٌ

لاتخذتُ لصوصَ المنطقة الخضراء

حقلاً لِمِنجلي ..

*

لو أنني كرسيُّ عرشِ قصر الخلافة ِ

لتحوَّلتُ الى خازوق

كي لا يتقاتلَ الدهاقنةُ

من أجل الجلوس عليَّ!

*

لو أنني حرف الراء

لهربتُ من كلمة " الحرب "..

***

يحيى السماوي

..........................

القراءة:

1- الهيكل والأسلوب:

تتكون القصيدة من مقاطع متكررة تبدأ بعبارة -لو أنني-، مما يخلق إيقاعاً تأملياً يعكس رغبة المتكلم في التحول إلى قوى طبيعية أو أشياء لتحقيق العدالة والرحمة. يستخدم السماوي التناقضات والاستعارات الجريئة لربط المفاهيم المتناقضة -مثل البكاء لخلق الفرح، والانتحار لحماية الجمال-، مما يعمق تأثير الرسالة.

2- المواضيع الرئيسية:

أ- العدالة الاجتماعية:

الرغبة في محاربة الظلم جلد الجلاد بالسوط، تحويل الكرسي إلى خازوق.

ب- التضحية الذاتية:

التخلي عن الذات لحماية الآخرين انتحار الخريف لإنقاذ الوردة، المطر الذي يبكي لإسعاد السنابل.

ج- نقد السلطة:

هجوم على الفساد السياسي والديني لصوص المنطقة الخضراء، صراعات الدهاقنة حول العرش.

د- السلم والسلام:

الهروب من الحرب عبر تحطيم اللغة كهروب حرف الراء من كلمة حرب.

3- الرموز والاستعارات:

أ- الفصول والطبيعة:

الربيع رمز للتجديد، الخريف للتضحية، المطر للدموع التي تمنح الحياة.

ب- الأشياء اليومية:

السوط كأداة مقاومة، الفراء كرمز للعطاء.

ج- اللغة:

تفكيك كلمة حرب لإظهار إمكانية تحولها إلى سلام بتعديل حرفي.

4- السياق الثقافي والسياسي:

أ- المنطقة الخضراء:

إشارة إلى المنطقة المحصنة في بغداد، والتي ارتبطت بالسلطة الأجنبية والفساد بعد غزو العراق.

ب- الخلافة والدهاقنة:

نقد للنخب الدينية والسياسية التي تتقاتل على السلطة، متجاهلة مصالح الشعب.

الأبعاد الفلسفية:

أ- قوة التحول:

إيمان الشاعر بإمكانية تغيير الأدوار الظالمة مثل تحول الكرسي إلى أداة عقاب.

ب- التناقض الإنساني:

الجمع بين الألم والأمل دموع المطر التي تخلق الخضرة، انتحار الخريف لحفظ كرامة الوردة.

5- اللمسة الإنسانية:

تتجلى في الاهتمام بالمهمشين والحفاة وفي استخدام عناصر بسيطة حرف الراء لإحداث تغيير جذري. القصيدة تعكس حنيناً إلى عالم مثالي، لكنها أيضاً دعوة إلى العمل والتمرد ضد الواقع الفاسد.

6- الخاتمة:

أمنيات رمضانية ليست مجرد تمنيات، بل هي بيان ثوري يستخدم الشعر كسلاح لمواجهة القمع والفساد. السماوي يخلق عالمًا تُعاد فيه كتابة القواعد، حيث حتى أدوات القهر تصبح أدوات تحرير، والطبيعة نفسها تشارك في المعركة من أجل العدالة.

***

بقلم: بهيج حسن مسعود

سفر سقوط الأقنعة للكاتب الجزائري علي فضيل العربي

تعد الهوية من الموضوعات المحورية في الرواية العربية. حيث تعكس تحولات الفرد والمجتمع في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية. فمنذ بدايات الرواية العربية كانت الهوية الوطنية قد لعبت دورا أساسيا، خاصة في ظل الاستعمار الأوروبي.
وقد سعت الرواية إلى تصوير معاناة الشعوب العربية في البحث عن استقلالها وترسيخ ذاتها. فمثلا في رواية رجال في الشمس للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، ظهرت أزمة الهوية الفلسطينية في ظل الاحتلال واللجوء. حيث عانى الفلسطيني فقدان الوطن والبحث عن معنى للوجود من خلال البحث عن هويته التي فقدها.
أما في الرواية التي بين أيدينا والموسومة بمرايا القدس للكاتب علي فضيل العربي فإن قضية البحث عن الهوية قد تجسدت من خلال بطل الرواية الطبيب سعيد الخديم الذي يواجه أزمة وجودية بعد أن يفقد رؤية وجهه في المرايا بعد السابع من أكتوبر/٢٠٢٣. حيث يشكل هذا التاريخ نقطة فاصلة في التاريخ العربي المعاصر ليس فقط على مستوى المقاومة الفلسطينية بل أيضا على مستوى كشف مواقف الحكومات العربية المتخاذلة التي لم يكتف بعضها بالصمت عما حدث في غزة بل وساهمت في زيادة المعاناة فيها من خلال دعم العدو سواء عن طريق مد خطوط المساعدات إلى كيانهم الغاصب أو من خلال تواجد قواعد أميركية غربية على أرضها لمد العدو بالأسلحة التي فتكت بأهلنا هناك.
فكأنما أراد علي فضيل لبطله سعيد الخديم أن يمثل شريحة الشعوب العربية المغلوبة على أمرها والمقهورة التي يبكتها ضميرها لأنها كانت في موقع المراقب لوحشية العدو في غزة دون استطاعتها فعل شيء لها بسبب القيود التي فرضتها حكوماتها عليها. وبالتالي شعورها بفقدان هويتها وسط هذا العجز.
فالبطل سعيد الخديم كأنما فقد ذاته القديمة التي اختفت مع التحولات التي طرأت بعد السابع من أكتوبر. وهذا بحد ذاته يحمل رمزا عميقا يشير إلى الضياع النفسي والسياسي، حيث وجد نفسه خارج سياقها الطبيعي، وهنا تتبلور أزمة الهوية لديه والذي يمثلها ضياع وجهه في المرايا.
ويظهر الحل عندما تبدأ رحلة البحث عن الهوية عند سعيد الخديم عندما يخبره شيخه أبي الحسن الزياتي أن وجهه لن بظهر مجددا إلا في مرايا القدس. ففي ص٢٢ على لسان السارد عن سعيد الخديم "قرر السفر إلى القدس لرؤية وجهه، هناك سيرى وجهه الحقيقي". وفي ص٤٢ على لسان أبي الحسن الزياتي لسعيد الخديم في المنام "لن ترى وجهك بعد اليوم ما دمت هنا قائما". وعندما سأله سعيد عن الحل، قال الشيخ "تسافر إلى القدس، هناك سوف تعيد لك مرايا القدس وجهك المفقود يا سعيد، يا بني".
والمرايا في رواية علي فضيل ليست مجرد أداة لرؤية الانعكاس، بل هي رمز للحقيقة، للهوية، وربما للمواجهة مع الذات.
ويتجلى هذا ص٥ على لسان الشيخ الزياتي لسعيد الخديم "وتكون مرآتك هناك في القدس ستكتشف أن وجهك الماضي كان وجها مزيفا...كل الذي تراه في المرايا كان مزيفا، لا يعكس الحقيقة، وعندما عزمت الذهاب إلى القدس وسرحت قلبك، أدركت أن الظلام الذي حجب عنك الدروب المفضية إلى القدس قد بدأ الذوبان والانزياح عن بصرك".
ويمثل سعيد الخديم حالة من الهوية المزدوجة. فهو جزائري، لكنه يشعر بانتمائه العميق لفلسطين، مما يعكس العلاقة التاريخية بين البلدين. وهذه الازدواجية لا تعني الانفصال بل تعكس التكامل بين النضالات العربية. فكما قاومت الجزائر الاحتلال الفرنسي فإن فلسطين تقاوم الاستعمار الإحلالي الصهيوني منذ ٧٦ عاما.
وتبدأ رحلة سعيد الخديم للبحث عن هويته في مرايا القدس حين يسافر إلى القاهرة ويدخل غزة عن طريق معبر رفح كعضو في حملة أطباء بلا حدود، في محاولة للوصول إلى المدينة التي طالما سكنته روحيا.
ويرتبط فقدان الوجه بفقدان الانتماء واليقين، مما يجعل رحلة سعيد ليست مجرد انتقال مادي بل تجربة روحية فكرية تعكس صراعه الداخلي في غزة فيما بعد حين يواجه واقع الحرب والدمار ويتحول من مجرد طبيب إلى شاهد على معاناة الفلسطيني. ثم يصبح جزءا من المقاومة وهو ما يعيد تشكيل هويته من جديد.
ففي ص١٠٨ على لسان السارد عن سعيد "ولما أبدى سعيد الخديم للدليل رغبته في الانضمام إلى فصيل المقاومين المدربين على نصب الكمائن وتدمير الدبابات الصهيونية، قال أحدهم: مهمتك يا خال إسعاف جرحانا وتطبيب مرضانا، وهي مهمة لا تقل عظمة عن خوض المعارك الضارية".
واختيار الجزائر وغزة والقدس كمحاور جغرافية للسرد ليس اعتباطيا، بل يبرر العلاقة التاريخية بين الجزائر وفلسطين. وربما أراد الكاتب بهذا الإشارة إلى أن البحث عن الذات يمر عبر القضايا الكبرى، وهل أكبر من فلسطين قضية؟ وأن القدس تظل رمزا للحقيقة المفقودة، وبالتالي محطة لاستعادة الذات. ما يشير إلى ارتباط عميق بين الهوية الفردية والجماعية. وهذا يعكس مدى تأثير القضايا القومية على الوعي الذاتي.ويتضح هذا ص٤٥ على لسان السارد عن سعيد الخديم "قطع ثلاثة آلاف كيلومتر من أجل استعادة وجهه في مرايا القدس. هذا ما أوصاه به شيخه أبي الحسن الزياتي قدس الله روحه، وقال له: حيث يكون قلبك يكون وجهك. جاء يحث الخطى لنصرة اخوانه الغزيين المظلومين من المستضعفين".
وبالفعل، فبعد أن يضطر سعيد الخديم ودليله الغزاوي وهما في طريقهما نحو شمال غزة، البقاء في النفق ص١٠٣ بسبب شدة القصف الصهيوني، يعيش سعيد الخديم في الأنفاق ويلتقي مع شباب المقاومة الفلسطينية الذين تحدوهم رغبة النصر أو الشهادة.
وتمثل هذه التجربة اي تجربة النفق، نقطة تحول رئيسية لدى سعيد، حيث يكتشف في هذا الفضاء المغلق والمظلم بعدا آخر للهوية، وهو الانتماء إلى الجماعة التي تؤمن بقضيتها وتدافع عنها. فتصبح المقاومة هنا أكثر من مجرد فعل عسكري، حيث هي تجربة تعيد تعريف الذات عندما يجد سعيد الخديم إجابة عن أسئلته الوجودية من خلال الفعل والتضحية.
وعلى الجانب الآخر نجد شخصية ليليث الأسيرة الصهيونية التي تمر هويتها بتحول جذري بعد احتكاكها بالمقاومة.
ففي البداية تمثل ليليث العدو التقليدي، ويتضح هذا ص١٣٢ على لسان السارد عن ليليث "كانت ليليث شابة يهودية لم تتجاوز عقدها الثالث، ولدت في تل أبيب ونشأت في حي من أحيائها الميسورة". وفي ص١٣٣ عن ليليث "في طفولتها علمتها مدارس تل أبيب كيف تمقت الفلسطينيين...كانت ليليث على يقين أن أرض فلسطين أرض يهودية".
لكنها تدريجيا وبعد أن رأت ما رأت من الأشخاص المكلفين بحراستها من المقاومة هي ورفاقها من حسن المعاملة، من تقديم الماء والطعام والأمان والابتسام، وأن ما يقدم لهم من طعام أكثر مما يتناوله حراسهم، بدأت بتبني رؤية مختلفة. فعندما أخبرتها المقاومة بأن اسمها كان ضمن من سيخلى سبيلهم ضمن صفقة تبادل، رفضت العودة إلى "تل أبيب" واختارت البقاء مع المقاومة في الأنفاق. ففي ص١٧٩ بتجلى التغير الذي طرأ على هوية ليليث حين أخبرت رفيقتها سارة بأنها لا تريد العودة إلى "تل أبيب" "لا أريد الرجوع إلى جحيم تل أبيب، عودوا أنتم يا سارة، أما أنا فباقية هنا، قد اهتديت إلى حريتي وجدت طريقي".
ويتطور التحول إلى اعتناقها للإسلام متخذة اسم سلسبيل بدلا من ليليث. وقد كتبت في خاطرتها الثالثة "أنا الآن منهمكة في قراءة كتاب نبيهم، القرآن، لقد وجدت فيه ما لم أجده في كل أسفار التوراة".
ويعكس هذا التحول مرونة الهوية، وأنها تتشكل وفق التجربة والقناعة. وهنا يشير هذا العنصر في رواية مرايا القدس إلى أن الصراع ليس فقط عسكريا بل هو أيضا صراع على الوعي والانتماء. حيث يمكن للفرد أن يعيد تعريف ذاته بناء على ما يعيشه من أحداث.
فليليث/سلسبيل تلتلحق في نهاية الرواية بعد موت والدة خطيبها حنظلة المقاوم الفلسطيني، بخلية المقاومة في مدينة رفح ص٣٣٩ راجية الله أن يجمعها بخطيبها حنظلة.
أما سعيد الخديم فيختفي ودليله الغزاوي عند وصولهما الشجاعية ص٣٣٩ قادمين من منطقة جباليا المدمرة، ولم يتركا خلفهما أثرا يدل على وجهتهما. ويترك الكاتب مصيرهما مفتوحا..
وتنتهي أحداث الرواية برؤيا في المنام لعزيزة زوجة سعيد الخديم في باب الوادي، ص٣٤٠ وهو "يمتطي براقا في زي عسكري، شاهرا سيفا يمنيا بيمناه...ورسن البراق بيسراه. ولما سألته زوجته عزيزة: إلى أين أنت ذاهب يا سعيد؟ أجابها بإشارة من يده: إلى القدس لأرى وجهي في مراياها وأصلي في المسجد الأقصى صلاة الفتح والتحرير".
وبهذا المشهد كأن علي فضيل أراد أن يثبت أن الهوية ترتبط بالمكان. فالقدس ليست مجرد مدينة، بل هي رمز للانتماء الكامل. فسعيد الخديم لن يتمكن من رؤية وجهه إلا عندما يصل إليها. مما يؤكد أن الهوية ليست مجرد فكرة ذاتية بل هي أيضا حالة من التحقق في الواقع. وأن الانتماء إلى قضية كبرى هو ما يمنح الأفراد شعورها بالوجود الحقيقي، ويجعل الهوية أمرا يبنى عبر التجربة والموقف لا عبر الوراثة والانتماء الجغرافي فقط.
بقي أن نقول إن رواية مرايا القدس سعت إلى توظيف الأحداث الحقيقية للعدوان على غزة والتدمير الذي حل بها والشهادة الحية على جرائم الاحتلال مع التركيز على شخصيات تمثل أطراف الصراع المختلفة: المقاومة الفلسطينية، المدنيين، الأطباء والأسرى الصهاينة.
***
بديعة النعيمي

الدم كجمالٍ ثائر

قراءة في المكياج الدموي

***

المكياجُ الدموي

فقط دمُ الشارع يمكنُ أن يُسكبَ على وجهي

مِنْ خلالِ وصفةٍ غير عادلة، حقنة عميقة مِنْ جمالٍ مؤلم

فقط المكياجُ الدموي يستطيعُ أن يظهر الغضب

فقط دمُ الشجرة الأخضرَ يمكنهُ أنْ يصرخَ في عروقي الجريحة

فقط دمي يمكنهُ أنْ ينسجَ علمًا ويرفعهُ فوقَ كل الأشجار المدفونة

هذه البقعةُ الدموية ستصبحُ ابتسامةَ قبلة

على الوجوهِ المكشوفة لشعوبٍ مُصفَعة

هذه البقعةُ الدموية ستملأُ كلَ الجروح برائحةِ الورود

هذه البقعةُ الدموية ستُفسر بما يتجاوز الكتابَ المقدس

صدقوا!

صدقوا!

إلهام حميدي

جميع الحقوق محفوظة

***

إلهام حميدي – ايران

......................

القراءة النقدية:

قصيدة (المكياج الدموي) للشاعرة الإيرانية إلهام حميدي تمثل صرخة احتجاج عميقة وتعبيرًا عن الرفض والتمرد ضد القمع الاجتماعي والسياسي. من خلال هذه القصيدة، تتقاطع الرمزية السيميائية للدم مع معاني المقاومة والتحول، لتكون القصيدة انعكاسًا للألم والانتفاض ضد النظام الاجتماعي والسياسي.

الدم كرمز للمعاناة والمقاومة

الدم في هذه القصيدة يمثل أكثر من مجرد عنصر حيوي. إنه رمز مركزي يجسد الصراع، المعاناة، والمقاومة في مواجهة الظلم. الشاعرة تستخدم الدم لتكوين (مكياج دموي)، وهو نوع من الزينة التي تُظهر الغضب والعنف، عكس المكياج التقليدي الذي يرمز إلى الجمال التقليدي. المكياج الدموي هنا ليس فقط تجميلًا بل تجسيد للغضب والتحدي، مما يفتح المجال للقراءة السيميائية لفهم هذا (الجمال المؤلم) الذي لا يعكس إلا الواقع القاسي الذي تعيشه الشخصية الشاعرة.

العبارة (فقط دمُ الشارع يمكنُ أن يُسكبَ على وجهي) تشير إلى معاناة عامة الناس في الشوارع، سواء كان ذلك بسبب الفقر أو القمع أو الظلم الاجتماعي. الدم هنا يصبح دلالة على الثورة، والشخص الذي يضعه على وجهه يصبح رمزًا للمقاومة أو السعي للعدالة في عالم مليء بالظلم.

الجمال المؤلم: إعادة تعريف الجمال

عبارة (حقنة عميقة مِنْ جمالٍ مؤلم) تعكس التوتر بين الجمال والألم، حيث أن الشاعرة تقدم لنا جمالًا مختلفًا تمامًا عن الجمال التقليدي. هذا الجمال لا يأتي من الطيّب والناعم، بل من الجرح والمعاناة. الجمال المؤلم يعبّر عن واقعٍ متألم يرفض الاعتراف بتلك الصور المثالية للجمال التي يتم تسويقها من قبل المجتمع أو الثقافة السائدة. الجمال الذي تقدمه الشاعرة هنا هو جمالٌ ثائر يحمل معه الغضب والتصميم على التغيير.

الدم الأخضر والشجرة: إشارة إلى الطبيعة والصلات العضوية

(دم الشجرة الأخضر) يشير إلى الحياة والطبيعة التي تتشارك أيضًا في المعاناة. الدم الأخضر هو إشارة إلى عصارة الشجرة أو صمغها، مما يربط بين الإنسان والطبيعة في سياق المعاناة المشتركة. هذه الصورة السيميائية تعكس علاقة الإنسان بالطبيعة في مواجهة القمع والظلم، حيث أن الشجرة، مثل الإنسان، تتألم وتحاول أن تصرخ وتنقل صوتها إلى العالم.

(يمكنهُ أنْ يصرخَ في عروقي الجريحة) تربط بين الإنسان والطبيعة في سياق مشترك من الألم، حيث تتحول عروق الشجرة إلى عروق الجرحى. الشاعرة تشير هنا إلى أن الطبيعة تشارك الإنسان في صراعه، ويصبح الدم رمزًا للاتصال بين الكائنات الحية في مواجهتهم لظروف الحياة الصعبة.

الدم والعلم: رمز للثورة والمقاومة

(فقط دمي يمكنهُ أنْ ينسجَ علمًا ويرفعهُ فوقَ كل الأشجار المدفونة) تُعد واحدة من أهم الصور السيميائية في القصيدة. الدم هنا لا يُستخدم فقط كعنصر مادي، بل يتحول إلى رمز للثورة والحرية. العلم الذي يُرفع فوق الأشجار المدفونة يمثل حلمًا مشتركًا بالحرية والعدالة، حيث يُربط الدم بكل الأجيال التي دفنت أحلامها وآمالها تحت ضغط النظام القمعي.

التحول من الألم إلى الأمل: من الجروح إلى الورود

تنتقل القصيدة إلى تحول الدم من علامة ألم إلى رمز للأمل، عبر قولها (هذه البقعةُ الدموية ستصبحُ ابتسامةَ قبلة). هذه النقلة السيميائية تُظهر إمكانية التحول من الظلام إلى النور، من الألم إلى الأمل، ومن الدم إلى السلام. هذا التحول يرمز إلى قدرة الناس على الصمود والتغلب على المعاناة، بل وتحويلها إلى قوة تخلق الجمال والأمل.

(هذه البقعةُ الدموية ستملأُ كلَ الجروح برائحةِ الورود) هي صورة سيميائية أخرى تشير إلى القدرة على شفاء الجروح وتحويلها إلى شيء جميل. الورود هنا تصبح رمزًا للسلام والنقاء الذي يمكن أن ينبثق من صراع طويل وقاسٍ.

ما وراء الكتاب المقدس: تفسيرات جديدة

(هذه البقعةُ الدموية ستُفسر بما يتجاوز الكتابَ المقدس) تشير إلى تحدي المعايير الدينية أو الروحية التقليدية. الدم هنا يتجاوز المعاني التقليدية التي قد ترتبط بالمقدس أو الطاهر، ليُحمل رسالة جديدة تعبر عن التفسير الفردي للتضحية، المعاناة، والحرية. الدم لا يُفسر فقط في إطار الكتب المقدسة، بل يمكن أن يكون له معاني جديدة في سياقات الحياة اليومية والنضال المستمر.

الخاتمة: دعوة للإيمان

القصيدة تنتهي بتكرار (صدقوا!)، وهو دعوة قوية للآخرين للاعتراف بالقوة التي تكمن في المعاناة والدم. إلهام حميدي لا تطلب فقط الفهم، بل الدعوة للإيمان بقوة هذا التغيير والتحول. الدم هنا لا يمثل النهاية، بل بداية جديدة، حيث يمكن للمعاناة أن تتحول إلى حركة جماعية نحو الحرية والعدالة.

الختام: الدم كرمزٍ للثورة والتحول

من خلال هذه القصيدة، تقدم إلهام حميدي صورة شعرية معقدة تربط بين الدم والجمال والألم والمقاومة. المكياج الدموي، في النهاية، ليس مجرد رمز للعنف أو القتل، بل هو رمز للتحول والتحرر. قصيدتها تثير العديد من الأسئلة حول الجمال الحقيقي، التضحية، وفكرة المقاومة التي يمكن أن تولد من أكبر المحن.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

إطلاقية المخيلة بين المركز الدلالي وتضاعيف الإيحاء الحسي

توطئة: تنفتح موجهات العتبة العنوانية قي تجربة مجموعة (الكتابة على زجاج مهشم) للشاعر مهدي القريشي تنوعا جليا بين المشهد الصوري والصورة المحفوفة بمراكز دلالية تنضوي فيها حالات الأفعال الدوالية ضمن مهيمنة وفعالية (إطلاقية المخيلة ؟) بلوغا نحو مرسلات الإشارات التدليلية والاستدلالية وبناءاتها المؤلفة والمتوالفة لذلك التحقق الحسي في البناء الذواتي والحلمي والعاطفي الذي غالبا ما تعبر به الفواعل الدوالية عن فحوى مواضعها العواملية إرتباطا لها بذلك الحضور اللامجدي في سياقات الكشف واللامكشوف من الداخل الشعري.
ــ الصياغة المتنية وتعدد واصلات البوح:
إن الوظيفة المركزية التي تشتغل عليها مواضع وحالات الدوال الشعرية، تبدو وكأنها من جهة خاصة، ذلك الولوج إلى تفاصيل متفاوتة من اللغة وكشوفاتها الاسنادية المتلاحمة والمتضافرة في مساحة تتجاوز محاور اللغة ذاتها، لتصب لنفسها تطلعات ممكنة لا تتجاوز مؤثرات الإيحاء الحسي الفاعل:


منذ طفولته كان يقضم الوقت
من أطرافه فيتأخر عن أخوته في الالتحاق بدوام المدرسة.
و حين تتراكم الأسئلة عنه تتمزق أوراق دهشتهم
كونه يضيع في هدوئه
أو قد يكون معلقا في ضفيرة أنثى.

تقتضي عاملية الزمن توترا ذرويا ذات طابع مشبع بمتعلقات الذات التي تستوطن حالها الدلالي في مواضع نجدها أكثر تلويحا بالتمحور حول ذاتها أو أنها كتشكل داخلي ذا طبيعة غير محددة قصدا ودليلا. غير إن هيمنة ضمير المتكلم في سرد سيرة الذات العاملة (منذ طفولته كان يقضم الوقت) أو أنه تخصيصا كان (فيتأخر عن أخوته.. وحين تتراكم الأسئلة تتمزق أوراق دهشتهم) لعل الارتهان هنا من خلال هذه الجمل بالزمن والظرف الذاتي قيدا وشرطا في استيعاب نقطة إطلاقية المخيلة، لذا فهي تقترح مزايا ملتبسة أو عدمية أو أكثر انجذابا نحو منطقة الإيهام بالزمن المتمثل على كونه (التأجيل والاستباق، التوقف والتسريع، التغييب والإظهار) تعليلا متصلا بالماهية الذاتية نفسها وكيفية سبرها في الأشكال العدمية والحلمية وهما (قد يكون معلقا في ضفيرة أنثى) ولا تلبث الذات العاملة في أن تكون في حدود هذه المزايا هدفا شعريا بالرغم من قوة الإحالة عليها مزاحا. ولكنها مرتبطة مع جهة تصورها من الآخر، لتسعى بوعي مقارب نحو استجابة عميقة لموصوفها الذي غدا كعلاقة يوسف بأخوته بوصفها صلات دلالية ترتبط بالجب أو (كونه يضيع في هدوئه) إذ أن هذه الجملة بحد ذاتها تجيب على كل الأسئلة الدوالية المنصوصة، كما وتستجيب إلى سياق خطية تصورات تلخص بالخيبة والانكسار:


لم يرسم جرحا في باب جامع،
ولم يستأذن أجراس كنيسة
لتنبئه عن الوقت المهدور على سلم خطاياه.

إذ لا شك في أن الشاعر القريشي يتعامل مع اللغة الاستعارية، بحكم سلسلة من الإيحاءات والإحالات. التي تضج بها مواضع الدوال. ولكن في الوقت نفسه الشاعر يقدم اللغة الشعرية ضمن فائض استعاري ومجازي لا يبلغ من المراد الموضوعي شيئا مفيدا، فهو يبذل طاقة حسية وأفكارا راح يجسدها داخل وظائف استعارية ومجازية لا تبلغ حدا في الاكتفاء الموضوعي والذاتي، بل أنها محض فضاءات غاطسة إلى حد النخاع بروح المستعار والمجازي. كما وليس هناك من توفر الحالة موضوعية ورؤيوية واضحة في الفكرة والحال والغرض والمقصود، بل أنها التحامات وافتراقات في حدود التماثل المستعار واللجوء إلى صياغات دوالية قد لا تبدو متوفرة على كل الأغراض الوسائطية والواصلات الخطابية.
ــ حرائق اللغة وإنشراح الأخلية:
لا شك أن لمشروع مجموعة (الكتابة على زجاج مهشم) ذلك الثلث المقياسي من جملة الأحلام الشعرية التي تتبخر في استقصائية المقاصد الخاصة من لدن نصوص الشاعر القريشي. واللافت للنظر التأملي أن حالات الوحدات الدلالية عبارة عن صور مضادة وتضاعفية وأحيانا تبدو عبارة عن مكونات في رؤى حلمية تمتد في الأشياء حضورا يتوراى منه الحس الملموس في لغة وإشارات الدوال:


كثيرا ما أشاهده في المرآة يملأ جيبه حصى،
يتلمس فحولتهن متسائلا عن خداعهن في مجمرة القذف
صديقي ينتظر وأنا أتظاهر بالدهشة
وقف مذهولا
كيف صار اليوم غدا
والأمس بعد غد؟.

هناك فوارق حساسة من الوجهة الدلالية بين (كيف صار اليوم غدا ــ والأمس بعد غد ؟) وبخاصة عندما يعتمد المكون أسلوبية مخصوصة في الامتثال التخييلي والإيهام الحسي. أو لنقل أن علاقة الدوال تتوسم لذاتها غائية مجردة في قوانين انعكاسية الذات والزمان والمكان، خلوصا نحو تلك الممارسة المراوية والتي من خلالها تستكمل النواقص انجذابها في صلب حالاتها النوعية بالاجتزاء والاستجلاء التشكيلي (يتلمس فحولتهن متسائلا عن خداعهن) ولعل حركية لغة الإعلام ها هنا ترتبط بتصورات تتحول إلى معتقدات ويقينات تتجاوز الحقيقة والإنتاج الدلالي، لتصب وسائلية البرهان في مستويات تحتفظ بمجالها الظني الآسر (صديقي ينتظر، وأنا أتظاهر بالدهشة) فيما تبقى هذه العلاقة بين الفواعل قابلة للأداء كترسيمة أكثر انبعاثا في إقامة التلازم التلفظي في الإتجاه الأكثر تشاكلا وتفارقا في محمولات المحتوى والأداء في خصائص الملفوظات الصيغية الأكثر قدرة على تمويه الانتقالات المرسلة والمؤداة إلى صياغة التساؤل وفعلية المساءلة. وتواجهنا في موجهات هذا النص ثمة العديد من الأحوال والحالات والتقابلات التي تشكل في مجملها إمكانية مركزة في مجالية الفضاء الدلالي وإشاراته الهواجسية في مكامن الإجراء القصدي المكين.
تعليق القراءة:
يمكننا القول ختاما أن دلالات قصائد مجموعة (الكتابة على زجاج مهشم) تتحرك في مناطقية شعرية ذا مركبات دوالية تستأثر لذاتها هواجسية اللغة المفتوحة على الخارج والداخل التبئيري من حيز زمن الأفعال والشواهد الاستعارية في الزمن الملموس واللامرئي، بمعنى ما أن حضور إيحالات الرؤية للنص جاءت عبر حالات معاينة في شواغل الوظيفة الدلالية للنص الشعري، لذا بدا البناء للجمل الشعرية وكأنها تشكيلات أئتلافية حسية تواصلية تربط اقترانات الأثر بالمؤثر كموضوعة تشكيل خواصية للغة واصفة ومشبعة ببلاغة الرؤى الكامنة وراء آفاق إطلاقية المخيلة الخافقة بين (المركز الدلالي ؟) وتضاعيف ظروف الأحوال الشعرية المكثفة بالإيحاء وتقانات الوظائف التركيزية في النص الشعري. زيادة على كلامنا هذا أقول تتميز تجربة مجموعة (الكتاب على زجاج مهشم) في كونها تلك الفضاءات التي استطاعت امتلاك لغة شعرية تواصلية قائمة على تجاوز اللغة الانشائية التي تواجهنا في التجارب الشعرية المعهودة، لتقدم لنا قصائد القريشي تلك التجربة في اللاجدوى والمفارقات الفنية الأكثر غورا في مواجهة اللاجدوى والمكسوت عنه في مواطن دالات الشعر والشعرية.
***
حيدر عبد الرضا

قراءة نقدية لمسلسل "العشرين"

برز بجلاء واضح في مسلسل "العشرين" صدع جوهري بين سقف الطموح النصي وقاع الإمكانيات التنفيذية. فرغم تقديم نفسه كامتداد ملحمي لمسلسل "العشرة" بافتراض نجاح سابق فضلاً عن حجم الدعاية الترويجية وما طرحته الجيوش الإلكترونية من تهويلات نفخت في رماد العشرين، وسعيه لاستثمار ثيمة الحرب كفضاء درامي خصب، انزلق العمل نحو ما يمكن تسميته بـ "الوهم الملحمي" حالة انفصلت فيها الطموحات عن القدرات الفنية المتاحة. عانى المسلسل من هشاشة بنيوية في نسيجه الدرامي، متجلية في غياب التسلسل المنطقي للأحداث وانعدام التوتر المتصاعد الذي يشكل جوهر أي بناء درامي ناضج.
بدلاً من المعالجة الدرامية المتقنة، استعار صناع العمل أسلوب "الريزخونية" ذلك النمط الخطابي المشتق من طقوس العزاء الشيعية، ليطبقوه على سياق درامي يتطلب معالجة مختلفة جذرياً. هذا الاستيراد الأسلوبي خلق ما يمكن وصفه بـ "الدراما الطقوسية" التي حولت المشاهد من متلقٍ مشارك في بناء المعنى إلى مجرد مستقبل سلبي للشحنات العاطفية المباشرة.
استخدم المسلسل ترسانة من "الأدوات الدامعة" لاستدراج المشاهد إلى حالة تأثر قسرية: الموسيقى الحزينة المتصاعدة كخلفية دائمة، المونولوجات المطولة المليئة بالحنين والألم، والتركيز المفرط على وجوه الأطفال في لحظات الفقد مع تراكم صوري للقبور وهي تجرح روح المتابعة. هذه المنظومة من "الاستمالة العاطفية المبرمجة" أفرغت المسلسل من أي محتوى فكري عميق، محولة إياه إلى ما يمكن تسميته بـ "مشهدية الدموع" التي تستهدف غدة الدمع لا العقل.
المفارقة الدرامية الكبرى تمثلت في أن المسلسل سعى لتقديم صورة واقعية عن الحرب وتداعياتها الإنسانية، لكن استغراقه في "الهيبربوليا العاطفية" (المبالغة المفرطة) أبعده عن الواقعية التي ادعى تقديمها، فتحول إلى نوع من "الواقعية المزيفة" التي اختزلت المعاناة الحقيقية في صورة نمطية مبتذلة للحزن والفجيعة، متجاهلة التعقيدات النفسية والاجتماعية والأخلاقية التي تفرضها تجربة الحرب على الإنسان. لذا غابت المفارقة الدرامية الحقيقية التي تُعد من أقوى الأدوات التي تخلق التوتر وتثري العمل. في مسلسل "العشرين"، كادت تنعدم هذه المفارقات التي تضع الشخصيات في مواقف متناقضة أو تظهر الفجوة بين ما تعتقده الشخصية وما يعرفه المشاهد. بدلاً من ذلك، سار العمل وفق معادلة عاطفية واضحة افتقرت إلى التركيب والتعقيد.
غابت أيضاً المفارقة السياقية التي تضع أحداثاً متناقضة في سياق متصل، وهي تقنية كان يمكنها أن تمنح قصص الحرب والحب التي يتناولها المسلسل عمقاً دلالياً أكبر. فبدلاً من استثمار التناقضات الطبيعية التي تفرضها حالة الحرب، كالتوتر بين الواجب الوطني والمسؤولية العائلية، أو التناقض بين قداسة التضحية وقسوة الفقد، اختار المسلسل معالجة أحادية البعد تفتقر إلى التعقيد الإنساني الحقيقي.
يمكن القول إن المسلسل عانى مما يسميه النقاد "سيطرة الرسالة على الوسيط" حيث طغت الرغبة في إيصال رسائل محددة عن التضحية والألم، موجهة ومؤدلجة في إطار زمني وجودي ضيق، على ضرورات البناء الدرامي المتماسك.. في المحصلة هذه المقاربة أنتجت حالة من الرتابة التي انزلقت بسهولة إلى الملل والكآبة كما أشار العديد من المشاهدين.
كما وجدتُ أن المشكلة الأساسية للعمل تجلت في خلط صناع العمل بين التأثر العاطفي المؤقت والتأثير الدرامي العميق، فالبكاء الذي قد يستدره المسلسل من المشاهدين ليس دليلاً على نجاحه الفني، بل قد يكون مؤشراً على استسهال استثارة العواطف بطرق تقليدية مكشوفة لمتابعين سذج. فالدموع الناتجة عن "هندسة عاطفية" مفتعلة تختلف جوهرياً عن الانفعال الناتج عن تجربة فنية متماسكة تعكس تعقيدات الحياة الحقيقية.1219 Alaa Hussein
كان وما يزال الجانب البصري في أي عمل درامي عنصراً محورياً في نقل الرؤية الفنية ودعم البناء الدرامي. أما في حالة مسلسل "العشرين" فقد وجدنا العكس وتم رصد جملة من الملاحظات النقدية التي تعلقت بالمعالجة البصرية وتوظيف الكاميرا.
عانت اللقطات في المسلسل من تواضع ملحوظ في التنويع والإبداع، حيث طغت اللقطات التقليدية المباشرة (الميديوم شوت والكلوز أب) على حساب تنويع زوايا الرؤية وأحجام اللقطات. هذا التواضع في استخدام اللغة البصرية تناغم مع الضعف العام في بناء العمل درامياً، حيث افتقرت اللقطات إلى القدرة على خلق الدهشة البصرية التي تتطلبها الدراما الملحمية.
كما غلبت على العمل مستويات الكاميرا التقليدية (مستوى النظر) مع ندرة في استخدام زوايا مبتكرة أو حركات كاميرا تعبيرية تتناسب مع حجم الأحداث التي افترض أن المسلسل يتناولها. هذا الثبات في مستويات الكاميرا عزز الشعور بالرتابة البصرية، خاصة في مشاهد الصراع والتوتر العاطفي للممثلة آلاء حسين التي كان يمكن لمعالجة بصرية أكثر ديناميكية أن تنقلها بعمق أكبر.
لوحظ اعتماد مفرط على لقطات الوجه القريبة (الكلوز أب) خاصة في مشاهد "الريزخونيات" العاطفية، وهذا ما تماشى مع ما سبق نقده من اعتماد المسلسل على استدرار العطف بطريقة مباشرة. أتت هذه اللقطات القريبة على حساب استخدام لقطات واسعة (لونك شوت) يمكنها أن تضع الشخصيات في سياقها المكاني والاجتماعي، أو على الأقل لقطات متوسطة تظهر التفاعل بين الشخصيات بطريقة أكثر ديناميكية.
افتقرت اللقطات في المسلسل إلى هوية بصرية مميزة، حيث بدت التكوينات الكمبوزيشين مستوحاة من نماذج تلفزيونية تقليدية دون تقديم رؤية إخراجية متفردة تتناسب مع طبيعة الموضوع. ولوحظ أيضاً الافتقار إلى توظيف الإضاءة كعنصر تعبيري في بناء اللقطة، حيث غلبت الإضاءة المسطحة (فلات لايتينك) التي افتقرت إلى العمق والظلال المعبرة، مما حرم العمل من طبقة بصرية يمكنها أن تثري الدلالات الدرامية للمشاهد.
جسد أداء الممثلة آلاء حسين في مسلسل "العشرين" ظاهرة لافتة في الدراما العراقية المعاصرة عكست أزمة عميقة في فهم طبيعة الأداء التمثيلي وأدواته. وقفت الممثلة أمام الكاميرا بوجه رتيب متجلد افتقر إلى المرونة التعبيرية الضرورية لتجسيد التحولات النفسية المعقدة التي افترض أن تمر بها شخصية تواجه فجائع متتالية، متسلحة بأداة وحيدة هي البكاء الذي استخدمته كسلاح مباشر للسيطرة على عواطف المتلقي.
تحول هذا الاعتماد المفرط على البكاء إلى نوع من "الابتزاز العاطفي" الذي سعى إلى استدرار تعاطف المشاهد بطريقة مباشرة وفجة، متجاوزاً الطبقات الأعمق من العمل الدرامي المتكامل. هذا الفقر في الأدوات التمثيلية كشف عن محدودية في فهم الممثلة لطبيعة التعبير الدرامي الذي يتطلب تنويعاً في الوسائل والأساليب، فالدموع وحدها لم تكن كافية لخلق شخصية درامية مقنعة ومؤثرة.
عانى الوجه الرتيب المتجلد من جمود تعبيري أفقد القدرة على عكس التموجات النفسية المختلفة للشخصية، وكأن الممثلة كانت عاجزة عن التنقل بين المشاعر المتباينة التي تطلبتها المواقف الدرامية المختلفة، فلجأت إلى الدموع كملاذ أخير لإثبات قدرتها على "التمثيل". هذا الإفراط في توظيف الدموع تحول مع تكراره إلى حالة من "التضخم الدرامي" الذي فقد تأثيره تدريجياً مع كل اتكاء جديد عليه، فالمشاهد تشبع بالبكاء الذي أصبح متوقعاً ومتكرراً، وفقد قدرته على إحداث الأثر العاطفي المطلوب.
نهض في مسلسل "العشرين" نموذج صارخ لأزمة الرتابة والتكرار على مستويين أساسيين: المستوى التمثيلي والمستوى الموضوعي، مما خلق حالة من الإرهاق البصري والدرامي أثقلت كاهل المشاهد.
على صعيد الأداء التمثيلي، وكما قلنا آنفاً الممثلة آلاء حسين مثالاً واضحاً لما يمكن تسميته "التمثيل القالبي" الذي اعتمد على تركيبة تعبيرية واحدة طغت على مساحة العمل بأكمله، فظهرت تكرر ذات النظرات المندهشة والعيون المتسعة كأنها علقت في لحظة دهشة أبدية لم تتغير مع تغير المواقف الدرامية، وبقيت سجينة هذا التعبير حتى في اللحظات التي افترض أن تحمل بهجة اللقاء مع الزوج أو الفرح العائلي.
هذه الأحادية التعبيرية كشفت عن محدودية في الأدوات الفنية وافتقار إلى التنويع الضروري لبناء شخصية درامية متكاملة، فمن المفترض أن تعكس ملامح الممثل تحولات الشخصية وتطوراتها النفسية عبر مسار الأحداث، لا أن تقدم قناعاً جامداً لا يتأثر بديناميكية المواقف المختلفة وربما ظلال حامض حلو وغيرها من أبجديات الفن المتداعي أثّرت بجلاء على واقعها التمثيلي.
تضاعف هذا الخلل حين انتقل من مستوى الأداء التمثيلي إلى مستوى البناء الدرامي العام، حيث عانت الثيمة الأساسية للمسلسل من استنساخ ذاتي لافت تمثل في تكرار نفس النموذج الدرامي في كل حلقة: استشهاد زوج البطلة، وما تبع ذلك من مشاهد بكائية وتوديعية اعتمدت على توظيف الأطفال والقبور كأدوات لاستدرار عاطفة المشاهد، في مسار دائري مغلق لم يفضِ إلى تطور أو تحول حقيقي.
تحولت هذه المعادلة المتكررة (الزوج-الاستشهاد-الأطفال-الحزن) إلى صيغة جاهزة فقدت قدرتها على إثارة التفاعل الحقيقي مع المشاهد مع كل تكرار، فما أثار التأثر في المرة الأولى تحول إلى نوع من الابتذال العاطفي في المرات اللاحقة.
كما كشفت ظاهرة الاعتماد المتكرر على ثيمة الحرب مع داعش وتحرير المناطق ودور الحشد الشعبي في معظم الأعمال الدرامية الرمضانية العراقية عن أزمة إبداعية عميقة عكست حالة من "الاستسهال الدرامي" الذي فضل المسارات المطروقة على المغامرة في آفاق جديدة. هذا التكرار الموضوعي المتصل خلق حالة من "التخمة الدرامية" حيث شعر المشاهد بالإرهاق من رؤية الموضوع ذاته يُعالج بالأدوات ذاتها في أعمال متعددة، مما أفقد القضية - رغم أهميتها الوطنية والتاريخية - قدرتها على إثارة الاهتمام والانفعال الدرامي الحقيقي.
تحولت هذه الأعمال المتشابهة إلى حالة من "النسخ المتكررة" التي اختلفت في التفاصيل الخارجية وتشابهت في الجوهر، مما عكس ضعفاً في الخيال الدرامي وقصوراً في القدرة على استشراف آفاق موضوعية متنوعة تعكس تعقيد الواقع العراقي بكل تناقضاته وتحولاته. كشف هذا الانحسار الموضوعي عن نوع من "الكسل الإبداعي" الذي فضل الاتكاء على قضايا جاهزة تضمن تعاطفاً مسبقاً من الجمهور، بدلاً من المغامرة في استكشاف قضايا جديدة قد تثير جدلاً أو تساؤلات مركبة.
كانت المشكلة الأساسية في "العشرين" ليست في تناول قضية داعش والحرب التي مثلت مرحلة مفصلية في تاريخ العراق المعاصر، بل في آلية التناول التي تحولت إلى "قالب درامي جاهز" اعتمد على نفس العناصر: البطولة، التضحية، الشهادة، الفجيعة، الانتصار، في دورة مغلقة لم تقدم رؤى جديدة أو قراءات مختلفة للواقع.
تمثلت أبرز إشكاليات مسلسل "العشرين" في الافتقار الحاد للصراع الدرامي الذي يشكل العمود الفقري لأي عمل فني ناجح. خلا المسلسل من التوتر الدرامي الحقيقي الذي ينشأ من تصادم الإرادات والرغبات المتناقضة، مستعيضاً عنه بنوع من "الصراع المفترض" مع عدو خارجي (داعش) بقي في معظم الأحيان خارج إطار الفعل الدرامي المباشر، مما حول العمل إلى نوع من "الدراما السلبية" التي اعتمدت على ردود الأفعال (البكاء، الحزن، الفجيعة) بدلاً من الأفعال الدرامية الفاعلة.
غياب الصراع الحقيقي تداخل مع إشكالية أخرى هي تسطيح الشخصيات وافتقارها للتناقضات الداخلية. قُدمت الشخصيات في "العشرين" كنماذج أحادية البعد، "ملائكية" في بساطتها وخيريتها المطلقة، مفتقرة إلى التركيب النفسي المعقد الذي يميز الشخصيات الدرامية الناجحة.
غابت عن المسلسل تلك المنطقة الرمادية التي تتحرك فيها الشخصيات الدرامية الحقيقية، حيث الصراع بين الواجب والرغبة، بين الإيثار والأنانية، بين الشجاعة والخوف، ليحل محلها تصنيف أبيض/أسود قسم الشخصيات إلى خيرة مطلقة (نحن) وشريرة مطلقة (هم).
إن تجاوز هذه الإشكاليات يتطلب إعادة النظر في المنظومة الإبداعية بأكملها، بدءاً من توسيع آفاق الكتّاب والمخرجين عبر الانفتاح على المدارس الدرامية العالمية، مروراً بتطوير أساليب التمثيل لتتجاوز "أحادية الأداة" إلى تعددية تعبيرية تعكس تعقيد التجربة الإنسانية. فالممثل الناجح ليس من يتقن البكاء فحسب، بل من يمتلك القدرة على التنقل بين طيف واسع من المشاعر المتناقضة، محولاً الشخصية من كائن ورقي مسطح إلى كينونة درامية نابضة بالحياة.
كما يستدعي التطوير الحقيقي ثورة في المعالجة البصرية، لتجاوز "التسجيلية التلفزيونية" نحو لغة سينمائية معاصرة تستثمر الإضاءة والحركة وتكوين الكادر لخلق عوالم بصرية غنية تتجاوز وظيفة "نقل الكلام" إلى التعبير الرمزي والجمالي الذي يتكامل مع النص ويثريه.
على المستوى الموضوعي، تفتقر الدراما العراقية إلى خريطة موضوعية متنوعة تعكس ثراء المجتمع العراقي، متجاوزة "الموضوع الآمن" المضمون استقبالياً، نحو استكشاف مساحات إنسانية واجتماعية مسكوت عنها، من أزمات الشباب إلى تحولات الهوية، ومن الصراع الطبقي إلى تغيرات المنظومة القيمية التي تشهدها المجتمعات في مراحل تحولها.
إن الدراما العراقية، كما تجلى في "العشرين" تقف اليوم على مفترق طرق حاسم: إما الاستمرار في اجترار الصيغ المستهلكة ذاتها التي لا تستثمر سوى مساحة ضيقة من الوجدان العراقي، أو التجديد الجذري في بنيتها وخطابها ولغتها البصرية وموضوعاتها، لتصبح مرآة حقيقية تعكس تعقيدات الواقع العراقي وتحولاته العميقة. وهو تجديد لا يتحقق بالتمنيات، بل بإرادة إبداعية مؤسسية تؤمن بحق المشاهد العراقي في دراما ناضجة تخاطب عقله قبل دموعه، وتستنهض فيه التساؤل والتفكير، لا الاستسلام والخضوع لوصفة عاطفية مكررة.
***
كتابة: كاظم نعمة اللامي
أبو جويدة

حقل من الاغواء تشعله البروق

كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته" ... بالتفصيل..". واليوم نبدأ بالمقاطع من (31ـ 40).. "حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء"

القسم الخامس: "حقل من الاغواء تشعله البروق..." (5)

***

حجرة النور ونداء الفجر

31

هيَ حُجْرةٌ لِلْمُصْطفى

فيها على الجُدرانِ آياتٌ لِتَسمَعَ ما تَراهُ

.................

مُهْندسُ البرجِ ارتأى الكوفِيَّ خَطّاً

والكتابةَ لِ ابنِ مُقْلَهْ

ثُمَّ استعانَ بِمُقْرِىءٍ مِن مصْرَ يَصدحُ:

(إذا الشمسُ كُوِّرَتْ)

هي حجْرةٌ لِلْمُصطفى

يأتي إلى إفريزِها ديكٌ يُؤذِّنُ كُلَّ فَجْرْ"

حُجْرةٌ لِلْمُصْطفى

يقدم لنا هذا المقطع الشعري فضاءً روحياً يتجلى فيه النور النبوي في صورة حجرة المصطفى، حيث تتحول الجدران إلى ألسنة ناطقة، وتُسمَع الآيات وكأنها رؤى مرئية:

"فيها على الجُدرانِ آياتٌ لِتَسمَعَ ما تَراهُ"

إن هذا التركيب الشعري يحطم الحدود التقليدية بين السمع والبصر، بين الوحي والنظر، وكأن الشاعر يرسم مشهداً تتوحد فيه الحواس لتشهد النبوة في أبهى صورها.

جماليات الخط والتاريخ الروحي

يستحضر النص فن الخط العربي، حيث يختار المهندس الكوفيَّ خطاً، وهذا الاختيار ليس عبثياً، فـ الخط الكوفي كان من أقدم الخطوط التي كتبت بها المصاحف، مما يجعله رمزاً للأصالة والجمال المقدس. ويزيد هذا المعنى حضوراً حين يذكر ابن مقلة، الخطاط العباسي العظيم، الذي يُنسب إليه تأسيس قواعد الخط العربي.

"مُهْندسُ البرجِ ارتأى الكوفِيَّ خَطّاً

والكتابةَ لِ ابنِ مُقْلَهْ"

وكأن بناء البرج لا يكتمل إلا بإدخال البعد الروحي المتمثل في الكتابة القرآنية، لتصبح الحجرة نقطة التقاء بين المعمار والجمال والروحانية.

الصوت الذي يبعث الحياة

يتردد في هذا المقطع صدى التلاوة القرآنية، التي تصدح بصوت مقرئ مصري (وفي ظني انه يقصد عبد الباسط عبد الصمد)، في اختيار يذكرنا بتاريخ تجويد القرآن وإتقان أدائه، مما يعكس امتداد الإسلام جغرافياً عبر العصور. ويختار الشاعر الآية العميقة ذات البعد الكوني والقيامي:

"إذا الشمس كورت"

وهنا تتداخل صورة الوحي مع نهاية العالم، وكأن المكان نفسه محاط بعظمة النبوة وأسرار القيامة.

الديك… رمز اليقظة الروحية

يختم المقطع بمشهد مهيب:

"يأتي إلى إفريزِها ديكٌ يُؤذِّنُ كُلَّ فَجْرْ"

فالديك ليس مجرد طائر، بل رمز للصحو والاستيقاظ الروحي، وهو في التراث الإسلامي يؤذن حين يرى الملائكة. وكأن البرج الذي يحمل حجرة المصطفى قد تحول إلى منارة نورانية توقظ الأرواح من سباتها، وتدعوها إلى الفجر، إلى النور، إلى الحق.

رؤية فلسفية وإبداع أدبي

هنا نلاحظ مزجًا بين القداسة والجمال الفني، حيث تتجسد النبوة في الخط، والصوت، والنور، واليقظة.. إن الإيقاع اللغوي، والتكرار المدروس للجملة "هي حجرةٌ للمصطفى" يمنح النص قوة التأكيد والتجذر، ليصبح هذا المكان رمزاً للإشراق الروحي الذي لا يزول.

إنه نص يعبر عن خلود الرسالة، وسحر الحروف، وسرّ النور، وصوت الحقيقة الذي لا ينقطع.

ثنائية الحرب والحب

(32)

"هِيَ حُجْرَةٌ مِن حُجْرتَيْنِ

بِلا جِدارٍ عازِلٍ يَتَجاورانِ بِها معاً عقْلٌ وقَلْبْ

يَتَشاجَرانِ،

الحُجْرَتانِ لَدودتانِ

إذَنْ هُما في يومِ حرْبْ

...............

يَتَناغَمانِ:

قوْسٌ على خَصْرِ الكَمانِ

إذَنْ هُما في يومِ حُبْ"

بين العقل والقلب

الشاعر يجسد هنا ثنائية وجودية أزلية: الصراع بين العقل والقلب. يستعير الشاعر صورة معمارية لحجرتين متجاورتين بلا جدار عازل، في إحالة رمزية إلى ازدواجية الإنسان الداخلية، حيث لا فاصل بين المنطق والعاطفة، بل تعايش محتدم بين الفكر والشعور:

"هِيَ حُجْرَةٌ مِن حُجْرتَيْنِ

بِلا جِدارٍ عازِلٍ يَتَجاورانِ بِها معاً عقْلٌ وقَلْبْ"

التوتر الأبدي: حرب لا تنتهي

يصور النص العلاقة بين العقل والقلب على أنها عداء محتوم، إذ إن كلاً منهما يسعى لفرض منطقه على الآخر، فهما في "يوم حرب"، حيث الصراع الداخلي للإنسان لا يهدأ، وكل قرار يخضع لمعارك مستمرة بين الحكمة والعاطفة، بين الرؤية العقلانية والاندفاع الشعوري:

"يَتَشاجَرانِ،

الحُجْرَتانِ لَدودتانِ

إذَنْ هُما في يومِ حرْبْ"

الوئام الموسيقي: يوم الحب

لكن رغم الحرب، تأتي اللحظة التي يلتقيان فيها في تناغم شعري بديع، حيث يتحول الصراع إلى انسجام موسيقي أشبه بقوسٍ يعزف على خصر الكمان، مشهد يحمل في طياته جمالاً ورقة، حيث يتحول التنافر إلى لحن، والتناقض إلى تكامل، وكأن الإنسان لا يكتمل إلا عندما تتوحد العاطفة بالحكمة في سيمفونية وجودية عميقة:

"يَتَناغَمانِ:

قوْسٌ على خَصْرِ الكَمانِ

إذَنْ هُما في يومِ حُبْ"

بين التصادم والتكامل

يؤكد الشاعر أن الإنسان لا يكون إلا بهذا الصراع والتآلف، فالعقل والقلب ليسا مجرد قوتين متناقضتين، بل هما جناحا التجربة البشرية، حين يتصارعان نعيش التوتر، وحين يتناغمان نصل إلى حالة الحب والتناغم الكوني. في هذه الصورة البديعة، يقيم الشاعر جدلية داخلية متحركة بين الصدام والوئام.. بين الحرب والموسيقى.. بين الحدة واللحن، مما يجعل هذا المقطع نموذجاً فلسفياً في قالب شعري بديع.

فضاء الحكاية

(33)

"السينَما في البرْجِ: حُجْرةُ شهْرزادْ

يرتادُها سُكّانُ بابِلْ

في بابِها الأبَنوسِ قد كُتِبَتْ عبارةُ:

(لا يَدْخُلَنَّكِ شَهْريارْ)

سينما شهرزاد: والتحرر من سطوة شهريار

الشاعر يقدم هنا رؤية مدهشة لمفهوم السينما كفضاء سردي أسطوري، حيث تتحول الشاشة إلى حجرة شهرزاد، رمز الحكاية والفن والسرد. لكن هذه الحجرة ليست مكاناً عادياً، بل هي محجٌّ لأهل بابل، الذين يأتون إليها كما لو كانوا يعودون إلى ذاكرة السرد الأولى، حيث الكلمة كانت الخلاص، والحكاية كانت النجاة:

"السينَما في البرْجِ: حُجْرةُ شهْرزادْ

يرتادُها سُكّانُ بابِلْ"

الحكاية كبديل عن السلطة

لكن اللافت هو العبارة المكتوبة على باب الأبنوس لهذه الحجرة، حيث يُمنع شهريار، رمز الاستبداد، من الدخول:

"في بابِها الأبَنوسِ قد كُتِبَتْ عبارةُ:

(لا يَدْخُلَنَّكِ شَهْريارْ)

في هذا المشهد الرمزي، تعود شهرزاد إلى امتلاك صوتها وحكاياتها بعيداً عن سلطة شهريار، كما لو أن السينما - كامتداد لفن الحكاية - أصبحت أرضاً لا تسود فيها القوة، بل يسود فيها الخيال والكلمة والفن.

السينما كمنفى جمالي وسردي

إن جعل السينما مكافئاً حداثياً لحجرة شهرزاد يفتح تأويلات عديدة: فهي مكان للهرب من الواقع القاسي، كما كانت حكايات شهرزاد مهرباً من الموت، وهي أيضاً ساحة لإعادة إنتاج العالم بعيداً عن سطوة السلطة. تبدو العبارة المانعة لدخول شهريار تمرّداً ناعماً لكنه جذري، حيث تتحرر الحكاية أخيراً من مقصلة الحكم والرقابة، وتصبح السينما عالم الحرية المطلق، حيث تسرد شهرزاد قصتها دون خوف من فجر جديد قد يحكم عليها بالفناء.

الانفتاح على الأبدية

(34)

"إنَّ المَجَرّةَ حُجْرةٌ

في البرجِ

نهْرٌ مِن لَبَنْ

ولَها مَيازيبٌ تَنُثُّ على الفراتِ

كواكِبا

إنَّ المجرّةَ

حُجرةُ البرجِ التي مِن دون سَقْفْ

في الليلِ أوقَفَتْ الزَمَنْ

أيْ عَوَّمَتْهُ قَوارِبا"

المجرة: حجرة البرج

يقدّم جمال مصطفى صورة كوسمولوجية مذهلة، حيث تتحوّل المجرة إلى حجرة داخل البرج، في انزياح شعري يجعل اللامحدود متجسداً في المعمار، والمطلق محصوراً في فضاء محسوس:

"إنَّ المَجَرّةَ حُجْرةٌ

في البرجِ"

المجرة كفيض كوني بين الأرض والسماء

في استعارة بديعة، يصبح النهر السماوي نهراً من لبن، في إشارة تجمع بين الطهر والنقاء والخصوبة، حيث تسكب الميازيب كواكب على الفرات، فتتلاشى الحدود بين العلوي والسفلي، بين السماء والأرض، في رؤية صوفية تجعل الكون وحدة متدفقة من النور والسيلان المستمر:

"نهْرٌ مِن لَبَنْ

ولَها مَيازيبٌ تَنُثُّ على الفراتِ

كواكِبا"

الزمن المعلق: الليل كمسرح أزلي

لكن المقطع يبلغ ذروته الفلسفية عند الحديث عن الزمن، حيث المجرة لا تكتفي بأن تكون سقفاً مفتوحاً، بل إنها تعطل الزمن، تعلّقه، وتعومه مثل قوارب. هنا، الليل ليس مجرد لحظة زمنية، بل هو مسرح أزلي تتجمد فيه الحركة ويتحول إلى ديمومة طافية على سطح الوجود:

"في الليلِ أوقَفَتْ الزَمَنْ

أيْ عَوَّمَتْهُ قَوارِبا"

إنها رؤية كونية ساحرة، حيث لا يصبح البرج معلماً معمارياً، بل نقطة التقاء بين الزمن والأبدية، بين الأرض والنجوم، وبين النهر والمجرة، وكأن الوجود برمته يتحوّل إلى حالة من التداخل المتناغم بين العلوي والسفلي، المادي والروحي، الزمني والسرمدي.

القصيدةُ برجٌ يحلّق بين الماء والسماء

(35)

"بَجَعٌ على ماءِ القصيدةِ

في الصباحِ

وقُبّةٌ كالقِرْطِ أرْجَحَها الهلالُ

فَلا تَحُطُّ ولا تَطيرُ

إنَّ القصيدةَ بُرْجُها الجوْزاءُ

تَأمُرُهُ مَليكَتُهُ

فيأْتَمِرُ الأميرُ"

العلاقة بين الشعر والكون

يضيء هذا المقطع على العلاقة العميقة بين الشعر والكون، حيث تصبح القصيدة كائناً حيّاً، وبُرجاً معلّقاً بين الماء والسماء، بين الثابت والمتحرّك، بين الحسيّ والمجرد.

البجع: الشعر كتحليق عائم على الماء

يفتتح النص بصور شاعرية آسرة، حيث يبدو البجع جاثماً على ماء القصيدة، في إشارة إلى الرشاقة والانسياب دون غرق، والتحليق دون انفصال عن الواقع. فالبجع لا يغوص كلياً في الماء، ولا يحلق عالياً كالنسر، بل يبقى في تماس دائم بين السطحين، كما يفعل الشعر في توازنه بين الواقع والخيال:

"بَجَعٌ على ماءِ القصيدةِ

في الصباحِ"

الهلال والترنح بين الثبات واللااستقرار

تتجسد الحركة المستقرة في صورة القبة التي تترنح كقرط بفعل الهلال، لكنها لا تطير ولا تحط، في استدعاء للتوتر الشعري الدائم بين السكون والانطلاق، وبين الامتلاك والفقدان. إنها حالة الشاعر وهو يتأرجح بين المعنى والصورة، بين الواقع والمجاز:

"وقُبّةٌ كالقِرْطِ أرْجَحَها الهلالُ

فَلا تَحُطُّ ولا تَطيرُ"

القصيدةُ بُرجٌ له ملكةٌ تأمره

لكن الذروة تأتي في تشبيه القصيدة بـبرج الجوزاء، وهو برج فلكي يشير إلى الثنائية والازدواجية والتقلبات، مما يعكس طبيعة الشعر كفضاء يتحرك بين الأضداد والتناقضات. وفي نهاية المقطع، يبرز بُعد السلطة في الشعر، حيث أن للبرج ملكةً تأمر، فيأتمر الأمير، في إشارة إلى أن الشعر يحكم حتى من هم في السلطة، وأن الإبداع هو الذي يسيّر العالم، لا العكس:

"إنَّ القصيدةَ بُرْجُها الجوْزاءُ

تَأمُرُهُ مَليكَتُهُ

فيأْتَمِرُ الأميرُ"

القصيدة ككائن كونيّ

يقدّم الشاعر رؤية مدهشة للشعر كقوة تحلق ولا تحط.. تترنح دون أن تسقط.. وتفرض إرادتها حتى على الأمراء، وكأن الشعر لا يُكتب فقط، بل يحكم ويتحكم.. يعيش ويتحرك..  يطير ويطفو، دون أن يكون قابلاً للتقييد أو التحديد.

تأمّل الفلاسفة في المعادلة الكونية

(36)

"في الحُجْرةِ الكَونيّةِ الزرقاءِ

أعلى البرجِ مِنضدةُ التَفاضُلِ والتَكامُلْ

مِن حولِها يَتَحَلَّقُ الأفذاذُ (إخْوانُ الصَفاءِ) فلاسفة

يَتَفَكَّرونَ لِيكْشفوا

أبْعادَهُ وضميرَهُ وَوراءَهُ وسَقائِفَهْ"

البرجُ الأزرق

يستحضر هذا المقطع مشهداً تأملياً مهيباً، حيث يتحوّل البرج إلى حجرة كونية زرقاء، فضاء فلسفياً تتلاقى فيه العقول العظيمة، في إشارة إلى المعرفة التي تسعى إلى كشف أسرار الوجود.

اللون الأزرق: الأفق اللامحدود للعقل

افتتاح المقطع بوصف الحجرة بـ "الكونيّة الزرقاء" يمنحها بعداً سماوياً، فاللون الأزرق يرمز إلى الأفق اللامحدود/ المنفتح، إلى العقل المتحرر من القيود، إلى الصفاء والتأمل الفلسفي. إنّه اللون الذي يحفّز الروح على التطلع نحو ما وراء المحسوس، حيث تكمن الحقيقة المخبوءة خلف ظواهر الأشياء:

"في الحُجْرةِ الكَونيّةِ الزرقاءِ

أعلى البرجِ"

منضدة التفاضل والتكامل: العقل الرياضي في البحث عن الحقيقة

يرتكز هذا المجلس الفلسفي على "منضدة التفاضل والتكامل"، وهي ليست مجرد أداة رياضية، بل رمز لمنهج البحث العقلي الذي يسعى إلى تحليل الوجود تفصيلاً (التفاضل) وتجميعه في رؤية كلية شاملة (التكامل). هكذا تصبح هذه المنضدة مركز الكون الفكري، حيث تجتمع الرياضيات والفلسفة في كشف أسرار الوجود:

"أعلى البرجِ مِنضدةُ التَفاضُلِ والتَكامُلْ"

إخوان الصفاء: اجتماع العقلاء في برج الحكمة

يُحيل النص إلى إخوان الصَّفاء وخلّان الوفاء، تلك الجماعة الفلسفية الباطنية التي سعت إلى التوفيق بين الفلسفة والدين.. بين العقل والروح. اجتماعهم حول المنضدة يُحاكي مجالسهم الفكرية حيث ناقشوا أسرار الطبيعة، النفس، الإلهيات، والهندسة الكونية:

"مِن حولِها يَتَحَلَّقُ الأفذاذُ (إخْوانُ الصَفاءِ) فلاسفة"

السعي وراء الحقيقة المطلقة

الغاية النهائية لهذا المجلس الفلسفي ليست مجرد التفكير، بل كشف جوهر الأشياء وضميرها، والغوص فيما وراء الظاهر، ورفع سقف الإدراك إلى مستويات أعمق. فالمعرفة هنا ليست نهائية، بل رحلة مستمرة إلى الأبعاد الخفية للوجود:

"يَتَفَكَّرونَ لِيكْشفوا

أبْعادَهُ وضميرَهُ وَوراءَهُ وسَقائِفَهْ"

البرج كرمز للمعرفة المتسامية

يمثّل الشاعر قمة البرج لا بوصفها مكاناً فيزيائياً، بل باعتبارها قمة في الفكر والتجريد، حيث يتحوّل البرج إلى مركز إشعاع فلسفي، ومرصدٍ عقلي يكشف المستور ويفكك ألغاز الوجود. إنه مشهد للعقل حين يرتقي فوق الماديات، في سعيه نحو السقف المفتوح للكون، حيث لا حدود للمعرفة والتأمل.

الفنّ أرشيفُ الجمال العابر

(37)

"في بابِ (رَسْميدو) مِن اللوحِ الكتابِ

البرجُ بَهْجةُ داخِليهِ

البرجُ مُتْحَفْ:

مِن لَوحةِ (البرجُ الذي حَمَلَتْهُ أكتافُ القصيدةِ)

ثُمَّ لوحةِ (لازَوَرْدُ اللّا نهايةِ) ثُمَّ ثُمَّ إلى الكبيرةِ:

(راقصونَ يُحَلِّقونَ معَ الدفوفِ إلى السقوفِ)

البُرْجُ قِبْلَةُ كُلِّ مُرْهَفْ

كُلِّ آتٍ كي يُؤَرْشِفَ ما تَجَمَّعَ مِن بدائِعَ

لا تُعَدُّ ولا تُؤرَشَفْ"

البرجُ متحفُ الأبدية:

يتجلّى البرج في هذا المقطع بوصفه متحفاً حياً، فضاءً تتجمّع فيه روائع الفنّ والقصيدة والموسيقى، قبلةً لكلّ مرهف الحسّ، وملاذاً للمبدعين والمُتأملين. إنّه ذاكرة جمالية، تحفظ اللحظات العابرة وتصوغها في لوحاتٍ خالدة.

رَسْميدو: الكتابة كمدخلٍ إلى الجمال المطلق

يبدأ المقطع بالإشارة إلى "بابِ (رَسْميدو)"، وهو مفتتحٌ غامض ذو دلالاتٍ رمزية، إذ يمكن تأويله بوصفه مدخلاً إلى عالم اللوحة والكتابة، حيث تندمج الصورة بالكلمة، والريشة بالقلم، ليشكّلا معاً سجلاً فنياً خالدًا:

"في بابِ (رَسْميدو) مِن اللوحِ الكتابِ"

الباب هنا ليس مجرد مدخلٍ مادي، بل هو رمزٌ للفنّ كعالمٍ منفتحٍ على الخيال والمعرفة، وكأنّ الدخول إليه عبورٌ إلى فضاءٍ من الإدراك الجمالي، حيث يتلاشى الفاصل بين الواقع والحلم.

البرج بوصفه متحفًا: الحاضن الأبدي للإبداع

تتحوّل بنية البرج من معمارٍ حجريّ إلى متحفٍ مفتوحٍ على الأزمنة، يضمّ كنوز الجمال والفنّ. ويظهر ذلك جلياً في وصفه بأنه "بهجةُ داخليهِ"، فهو ليس مكاناً صامتاً، بل فضاءً حياً يحتضن التجربة الجمالية بكلّ أبعادها:

"البرجُ بَهْجةُ داخِليهِ

البرجُ مُتْحَفْ"

يُصبح البرج بذلك أرشيفاً للمخيلة البشرية، مستودعاً للدهشة، وذاكرةً للحضارة، فهو يحفظ الفنّ ليس بوصفه ماضياً مجرّداً، بل بوصفه نبضاً مستمراً في كلّ آتٍ جديد.

سرديّة اللوحات: الفنّ بين الشعر والمطلق والموسيقى

يمضي النص في استعراض ثلاث لوحاتٍ أساسيةٍ تُلخّص جوهر البرج الفنيّ:

1.  "البرجُ الذي حَمَلَتْهُ أكتافُ القصيدةِ"

*هنا تتماهى العمارة بالشعر، وكأنّ البرج لم يُشيَّد بالحجر، بل بالكلمة والإيقاع والوزن، في إشارةٍ إلى دور اللغة في بناء التصورات الكبرى.

2.  "لازَوَرْدُ اللّا نهايةِ"

* اللون اللازوردي رمزٌ للامتداد الكونيّ، للصفاء الأزلي، للحلم المفتوح على اللانهاية، وهو يحوّل البرج إلى فضاءٍ من التوق اللامحدود، حيث يسكن الجمال في أبديةٍ لا تَنقضي.

3.  "راقصونَ يُحَلِّقونَ معَ الدفوفِ إلى السقوفِ"

*  تبلغ التجربة الجمالية ذروتها مع الرّقص كفعلٍ من أفعال التجلّي، حيث يصبح الجسد موسيقى متحرّكة، والحركة وسيلةً للتحليق نحو السموّ. هنا، يتحوّل البرج إلى ساحةٍ صوفية، حيث الفنّ هو الصلاة العليا، والإيقاعُ هو المعراجُ نحو المطلق.

الفنّ بين التوثيق والانفلات

رغم أنّ البرج يُوصَف بأنه "قبلةُ كُلِّ مُرْهَفْ"، أي أنّه المكان الذي يحفظ الجمال ويوثّقه، إلا أنّ النصّ يُدرك المفارقة الكبرى:

"كُلِّ آتٍ كي يُؤَرْشِفَ ما تَجَمَّعَ مِن بدائِعَ

لا تُعَدُّ ولا تُؤرَشَفْ"

هنا يكمن التناقض العميق في جوهر الفنّ: فهو يسعى إلى توثيق الجمال، لكن الجمال بطبيعته عصيٌّ على التوثيق، متجدّدٌ، متدفّقٌ، لا يُمكن احتواؤه في سجلٍّ ثابت. يطرح النصّ سؤالاً فلسفياً: هل يمكن للزمن أن يحفظ الفنّ، أم أنّ الفنّ بطبيعته هاربٌ إلى ما بعد الزمن؟

البرج كأرشيفٍ حيّ للإبداع

في هذا المقطع، يتحوّل البرج من صرحٍ معماريّ إلى متحفٍ سماويّ، حيث تتراكم لوحات الخيال البشريّ، وحيث تتجاور القصيدة واللون والإيقاع في وحدةٍ إبداعيةٍ متسامية. لكنّه أيضاً يُذكّرنا بأنّ الفنّ، مهما سعى إلى التوثيق، يظلّ في جوهره تجربةً متجددة، لا تُختَزل في إطارٍ، ولا تُؤرشف في سجلٍّ، بل تحلّق دائماً إلى سقوفٍ جديدة.

التلوينُ بين الإيقاعِ والخلاص

(38)

"في حُجْرَةِ التَمكينِ تَلْوينٌ وطُوبى

فيها مِن الإيقاعِ ما يَبدو ذُنوبا

وهْوَ ليْسْ

في حُجْرةِ التَمْكينِ

تَنْعَمُ كُلُّ لَيْلى يا مَجازُ بِكُلِّ قَيْسْ"

حجرةُ التمكين:

في هذا المقطع، تتجلّى حجرة التمكين بوصفها فضاءً للتحوّل، حيث يتشابك الإيقاعُ باللون، والذنبُ بالخلاص، والمجازُ بالحقيقة، في جدليةٍ تجمع بين اللذة والتطهّر، وبين الانغماس والانعتاق.

التلوين والطوبى: الفنّ كتحوّل روحيّ

يبدأ النصّ بالإشارة إلى فعل "التلوين"، وهو ليس مجرد استخدامٍ للألوان، بل هو رمزٌ للتحوّل والتعدّدية، لعدم الثبات في هيئةٍ واحدة، ولقدرة الإنسان على إعادة تشكيل ذاته ورؤاه. ويُقرَن هذا التلوينُ بـ „الطوبى"، التي تُحيل إلى النعيم والتجلّي الروحيّ، وكأنّ التنوّع في الفنّ والتعبير هو طريقٌ إلى بلوغ النعمة والخلاص:

"في حُجْرَةِ التَمكينِ تَلْوينٌ وطُوبى"

إنّ "التمكين" هنا ليس مجرد سيطرة أو هيمنة، بل هو بلوغٌ لذُرى الإبداع والتحرّر، حيث يصبح الفنّ وسيلةً للعلوّ لا للقيد، وحيث تتماهى اللذة الروحية باللذة الحسية في فضاءٍ لا يعترف بالحدود التقليدية.

الإيقاع والذنب: جدلية الجمال والخطيئة

في السطر التالي، يقدّم النص مفارقةً عميقة:

"فيها مِن الإيقاعِ ما يَبدو ذُنوبا وهْوَ ليْسْ"

هنا، يُصبح الإيقاعُ مُبهماً، متأرجحاً بين الطهر والخطيئة. يُوحي هذا بأنّ الجمال، حين يصل إلى ذروته، يُصبح ملتبساً، ويُثير في النفس تساؤلاتٍ وجودية حول حدوده وقيمته. ربما يكون الفنّ في نظر البعض تجاوزاً محرّماً، لكنه في جوهره ليس ذنباً، بل تجربة تحررية تتجاوز الأحكام التقليدية.

ليلى والمجاز: لقاء العشق والتمكين

يُختم المقطع بصورةٍ تمزج بين الأسطورة والعشق، بين المجاز والحقيقة:

"في حُجْرةِ التَمْكينِ

تَنْعَمُ كُلُّ لَيْلى يا مَجازُ بِكُلِّ قَيْسْ"

ليلى وقيس، رمز الحبّ العذريّ، يُعيدان تشكيل المفهوم التقليدي للعشق. لكنّ الشاعر يضيف مخاطبةً للمجاز: "يا مجاز"، في إشارةٍ إلى أنّ الحبّ هنا ليس مجرّد قصة تقليدية، بل هو صورةٌ رمزيةٌ لتحوّلٍ أعمق، حيث تلتقي الروح بالجسد.. والخيال بالحقيقة، في فضاءٍ متحرّر من القيود.

التمكين كفعلٍ من أفعال الجمال

في هذا المقطع، تتبدّى حجرة التمكين كمكانٍ للتجربة الجمالية والروحية المتكاملة، حيث يمتزج الفنّ بالعشق، ويصبح الإيقاع طريقاً للخلاص، ويكون التلوين انعكاساً لتعدّدية التجربة الإنسانية. هنا، يذوب الحُكم الأخلاقيّ في بهجة الإبداع، ويصبح المجاز هو الحقيقة الوحيدة الممكنة، في عالمٍ لا يعترف بالحدود بين المقدّس والدنيويّ، بين العشق والانعتاق.

الحانةُ بين الكفرِ والخلود

(39)

سَيّدةٌ، فاتِنةٌ، لَمْ تَزَلْ

في البُرْجِ سَهْرانَهْ

تَكْفرُ بالأربابِ حتى ولو

لَمْ تَكُ سَكْرانَهْ

حُجْرَتُها ليستْ بِمَبغى ولا

بِمَعْبَدٍ، بَلْ إنّها حانَهْ"

سيدوري:

في هذا المقطع، تبرز شخصية "السيدة الفاتنة" التي لم تزل "في البرج سهرانةً"، حاضرةٌ كطيفٍ من التمرّد والجمال..  وهي ليست سوى سيدوري، صاحبة الحانة في ملحمة جلجامش، تلك المرأة التي وقفت بين البطل الباحث عن الخلود، وبين الحقيقة الفانية للحياة. إنّها رمز الحكمة واللذة، التي تتخذ من الحانة فضاءً للحوار مع القدر والوجود.

الشاعر يجعل من حضورها كائناً متجاوزاً للحدود، لا تُعرِّفها المعايير السائدة، بل تتشكّل من نقيضاتها، بين الإيمان والكفر.. بين المعبد والحانة.. بين الجسد والروح.

اما سهرها، فهو هنا ليس مجرد امتدادٍ للّيل، بل هو حالة وعيٍ مختلف، حيث يصبح الزمن ثقيلاً، والوجود أكثر كثافة انها ليست مجرد امرأة، بل هي رمزٌ للخروج عن المألوف، للسؤال الذي لا يهدأ، للفتنة التي لا تُفسَّر.

بين الكفر والبحث عن المعنى

يقول الشاعر:

"تَكْفرُ بالأربابِ حتى ولو لم تَكُ سَكْرانَهْ"

هنا، لا يكون الكفر رفضًا مطلقًا، بل هو تشكيكٌ في النظام القائم، انه تمرّدٌ على كل سلطة تُقيّد الروح والفكر.. انه تساؤل وجوديّ عن دور الآلهة والمصير.. سيدوري، في ملحمة جلجامش، كانت تُجسّد الفلسفة العملية، فهي التي دعت البطل إلى تقبّل لذّة الحياة عوضًا عن مطاردة الوهم. وهذا النصّ يُعيد إنتاج رؤيتها، ولكن ضمن برج بابل، حيث يُعاد تعريف الوجود في كلّ حجرةٍ من حجراته.

حجرةٌ بين المقدّس والدنيويّ

يُقدّم الشاعر مفارقةً أخرى:

"حُجْرَتُها ليستْ بِمَبغى ولا

بِمَعْبَدٍ، بَلْ إنّها حانَهْ"

إنّ الحانة، هنا، ليست مكانًا للانحلال، ولا معبدًا للتقوى، بل مساحةٌ بينيّة، حيث يُمكن للإنسان أن يكون حرًّا، متأمّلًا، مشكّكًا ومتحرّرًا من التصنيفات الجاهزة. سيدوري لا تُغري بالفساد، بل تدعو إلى عيش اللحظة، والتمتّع بالحياة دون أوهامٍ كاذبة.

بهذه المفارقة، يهدم الشاعر الثنائية الأخلاقية التقليدية، التي تحصر المرأة بين قداسة المعبد ودنس المبغى. حجرتها/ الحانة، فضاءٌ للذة الواعية، مكانٌ يحتفي بالوجود دون أن يخضع لسلطته. الحانة، بطابعها غير الرسمي، غير المقدّس وغير المدنّس، تصبح رمزاً للحرية، حيث يجتمع الناس لا طاعةً ولا معصية، بل بحثاً عن لحظة وجودٍ خالصة.

سيدوري كصوت الحكمة الضائعة

النصُّ يُعيد بناء سيدوري لا كامرأة عادية، بل هي كيانٌ رمزيّ.. كشخصيّةٍ تتحدّى المفاهيم المطلقة، وما وجودها في البرج الا لجعلها جزءاً من بانوراما المعرفة والتمرّد والجمال.. حيث يُعاد تشكيل كل المفاهيم المألوفة، وان تكون الحانة فضاءً للمتعة والتأمل معًا.. وللرفض والقبول سوية.. حيث تُطرَح الأسئلة ولا تُقدَّم إجابات نهائية. فهي فاتنةٌ وسهرانةٌ ولا تسكرُ، لكنّها تُزعزع اليقين، وتُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والمطلق.

عبيدٌ ومهندسٌ وآلهةٌ مترددة

(40)

البرجُ مُعْجزةُ العبيدِ

فَكيفَ تَرضى الآلِهة؟

تَرضى إذا قالَ المُهَندسُ ثُمَ أكَّدْ

البرْجُ: هذا البرجُ معبدْ

البرجُ: هذا البرجُ مَعْبَدْ"

برج المعجزة:

يُقدّم هذا المقطع البرجَ بوصفه نتاجاً لعظمة الإنسان المُستَضعَف، العبيد الذين شيّدوه، لكنه في الوقت نفسه، يُثير تساؤلاً وجودياً: هل سترضى الآلهة بهذا الصرح؟ هنا، يتحول البرج إلى رمزٍ للصراع الأزلي بين الإرادة البشرية والسلطة الإلهية، بين الفعل المجرّد والتبرير الدينيّ، بين العمل القسريّ والتبرير الأيديولوجيّ.

معجزة العبيد: صرح العرق والدم

"البرجُ مُعْجزةُ العبيدِ

فَكيفَ تَرضى الآلِهة؟"

المفارقة هنا قاسية، فالبرج ليس معجزةَ المهندسين أو الملوك، بل معجزةَ العبيد الذين حملوا الحجارة بأجسادهم، وأسالوا العرق والدم لبنائه. لكنه مع ذلك، يواجه سؤالاً وجودياً: هل يرضى الماوراء بصنيع الأرض؟ كأنّه إنجازٌ فائقٌ للطبيعة، يستدعي عقابًا، أو على الأقل، مساءلةً ميتافيزيقية.

المهندس كمُشرعنٍ للمعجزة

"تَرضى إذا قالَ المُهَندسُ ثُمَ أكَّدْ"

هنا، يظهر المهندس كوسيطٍ بين الآلهة والبشر، ككاهنٍ جديدٍ يُعطي البناء بعده المقدّس. فالقوة البشرية وحدها ليست كافية، لا بدّ من تأويل، من صياغةٍ لاهوتية تجعل العمل مشروعاً. المهندس ليس مجرد صانع، بل هو المفسِّر، المؤوِّل، المروِّضُ لغضب الآلهة.

المعبد: الخاتمة الأيديولوجية للمُنجَز

"البرجُ: هذا البرجُ معبدْ

البرجُ: هذا البرجُ مَعْبَدْ"

التكرار هنا ليس اعتباطياً، بل هو تثبيتٌ للمعنى، تحويلٌ للبرج من مجرد بناءٍ ماديّ إلى فضاءٍ مقدّس. ما بُنيَ بالكدح والقهر، يُعطى طابعاً روحياً، يتحوّل إلى معبد، إلى سلطةٍ جديدة تُكرِّسُها العقيدة. في هذا، يفتح الشاعر باب التأويل: هل هذا خضوعٌ للآلهة، أم تحايلٌ عليها؟ هل هو مَعبدٌ طوعيٌّ أم مَعبدٌ مفروضٌ بسلطة المهندس؟

البرج، بين العبيد والآلهة

يقدّم المقطع صورةً رمزية للسلطة والتبرير، حيث يصبح الجهد البشري العظيم محتاجاً لختمٍ دينيّ، لخداعٍ أو لإقناع، كي لا يكون مجرد تمرّد. بين العبيد والآلهة، بين العرق والمقدّس، يُعاد تشكيل التاريخ، حيث يتم تدوير الألم ليصبح حجراً في معبدٍ يباركه الجميع.

***

طارق الحلفي – شاعر وناقد

......................

* رابط القصيدة //

https://www.almothaqaf.com/nesos/971491

* رابط المدخل //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979452

* رابط القسم الاول //

https://www.almothaqaf.org/readings-5/979564

* رابط القسم الثاني //

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979680

* رابط القسم الثالث//

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979779

* رابط القسم الرابع//

https://www.almothaqaf.com/readings-5/980014

**

طارق الحلفي

بين وقت وآخر، ثمة كلمات تتحدث بصمت، تنتظر من يطرق بابها. باسمها ونصوصها تهديك حلقات من حياة، ومن زمان كان له وقته وحاضره، وله أيضًا انتظاره. بين النظرية والتجربة تقاس المعرفة، والقلم وحده غائر، على قربه وبعده، يناديك إلى عمقه. والفراغ محجوب لكنه موجود، كأنه سراب في وجدان متوقف بسبب ليبرالية الحياة التي طغت على الإنسان في بحثه وحقه في العيش بكرامة، الكرامة التي ينشدها في خضم صراعات الحياة وتقلباتها.
إنّ هذه السطور ليست إلا انعكاسًا لحالة من التأمل في واقع تتقاذفه المتغيرات، حيث وجدت نفسي أضع جانبًا هرج الحياة وصخبها، متوقفًا عند لحظات أكون فيها في حاجة ماسّة للجوع والعطش، جوع المعرفة وعطش الفهم، أمام نهر دافق يراك ولا يراك، مستسلمًا لقدره أن يمضي قدمًا في البحث عن النهايات، تلك النهايات التي لا تكون دائمًا كما نتصور، بل تأخذنا إلى بدايات أخرى لم نحسب لها حسابًا.
لا أخفيكم سرًا، فالبرد القارس كان دافعًا لي لأن أبحث عن الدفء، لكن ليس بالطرق المعتادة. ارتأيت أن أتلحف بكتبي التي سوّفت في قراءاها، فبقيت متراكمة على أرفف مكتبتي بانتظار لحظة مناسبة أستعيد شغفي بها. أغلقت باب مكتبتي، وبين أكواب الشاي والقهوة الساخنة، أعلنت الحرب على القراءة، وأصبحت ساعات النوم محدودة جدًا. كنت أرافق كتابي من الصباح حتى المساء، وفي ساعات الفجر الأولى، حيث يُولد الفكر النقي بعيدًا عن ضجيج العالم.
في كل مرة أفتح فيها كتابًا، أشعر أنني أخوض مغامرة جديدة، أعيش حيوات أخرى، وأختبر مشاعر لم أعشها من قبل. إنها رحلة لا نهاية لها، ويصبح الماضي جزءًا من الحاضر والمستقبل.
في رحلتي هذه، انتهيت من قراءة رواية "بيت القبطية" للكاتب المصري أحمد العشماوي، وهي رواية تتسم بعمقها الدرامي والاجتماعي. تأخذنا الرواية إلى أقصى ريف مصر، حيث يلتحق نادر فايز كامل بوظيفته وكيلَ نيابة في قرية صغيرة بشمال الصعيد. هناك، تبدأ الأحداث في التداخل، ويصبح القارئ شاهدًا على حبكة متشابكة تسلط الضوء على واقع المسلمين والأقباط في المجتمع المصري، حيث زرعت الفتنة جذورها العميقة، وتحولت إلى شرخ اجتماعي سبب كوارث لا تُحصى.
الرواية تجسّد الصراعات الطائفية التي أودت بحياة الكثيرين، حيث اشتعلت الحرائق بسبب العنف والتكفير المتبادل، وامتلأت الحياة بالمآسي والضياع. تتوالى الأحداث، وكأنها انعكاس للواقع الذي تعيشه بعض المجتمعات المنغلقة. تبرز في الرواية شخصية سيدة قبطية غامضة، تشكل نقطة تقاطع مهمة في سير الأحداث، إذ يغوص المؤلف في أعماق النفوس المعقدة، ناسجًا صورًا مدهشة للأحداث والمشاعر.
ما يميز الرواية ليس فقط حبكتها المشوقة، بل قدرتها على تقديم صورة واقعية للمجتمع المصري بكل تناقضاته. لقد رسم المؤلف تفاصيل الشخصيات بدقة، ليجعلنا نشعر وكأننا نعيش داخل الرواية، نتنفس مع أبطالها، ونتألم مع معاناتهم. لقد استطاع المؤلف أن يعكس ببراعة كيف تتحول الأفكار والمعتقدات إلى سلاح مدمر عندما تُستغل في غير موضعها الصحيح.
لقد وجدت نفسي أطرح العديد من الأسئلة حول واقعنا الحالي:
كيف يمكن لمجتمع أن يعيش متعايشًا ظاهريًا بينما تغلي في داخله مشاعر متناقضة؟
كيف يمكن للحياة أن تستمر وسط هذا الكم من الصراعات؟
وكيف للإنسان أن يحافظ على إنسانيته وسط عالم يمزقه التطرف؟
هذه التساؤلات ليست جديدة، لكنها تعود للظهور في كلّ مرة نواجه فيها واقعًا مشحونًا بالتوترات والانقسامات
وفي الوقت الذي كنت أقلب فيه آخر ورقة من "بيت القبطية"، وجدتني أفكر في الرواية التالية التي ستأخذني في رحلة جديدة، رحلة قد تحمل إجاباتٍ أو تثير مزيدًا من الأسئلة الملحّة، لكنها بالتأكيد لن تتركني كما كنت.
كلّ كتاب نقرؤه يترك أثرًا، بسيطًا أو عميقًا، لكنه يضيف شيئًا ما إلى هويتنا. وهكذا، تستمر رحلتي بين الكتب، رحلة ابتدأت ذات يوم، لكنّها لن تتوقف؛ لأنّ كلّ نهاية تحمل في طيّاتها بداية جديدة، وقصة أخرى، وفكرة أخرى، وعالمًا آخر ينتظر رحالة يكشف معالمه وطقوسه إلى كلّ إنسان على سطح هذا الكوكب.
***
فؤاد الجشي

صفعة موجعة

هل سبق أن تذوّقت صفعة موجعة من كفوف الهوى على وجنات القلب؟ أكنتَ تدرك حينها أن الحبّ هو القاتل بسياط الهجر وسهام الغدر؟ أما هالك سيول عبراتك النّازفة أمام رهبة الكوابيس تؤرّق أجفان الغفوة في ليل دامس بأفكار النّوارس السّود والغربان المشؤومة وهي تقنص اللّحظات السعيدة لقلبك الذي أصابته صعقة الرحيل كتيّار كهربائي، وأنت ما كنت تدري أنّها تشيّع انتظار وتينك على شاطئ المفاجآت المذهلة فتبقيه كحقل نضر مزهر طالته نيران حريق مباغت أتت عليه فاستحال يبابًا على مرمى مشاعرك المكتنزة بالصّدق والوفاء فإذا هي تزأر زئير أسد في غابة موحشة مقفرة تنزف الوجع على ستائر الليل البهيم؟. أكان يخطر ببالك ذاك الخافق الغرّيد الغارق في أتون الإخلاص يتدحرج في مستنقع غدره يحتسي كأس الخيبة المريرة؟ وفي ضفة أخرى متنصّل يخلع عباءة هواك العابر.وتلك الفراشات التي اختمرت برحيق العشق كيف غزاها سلطان الأفول ينقش على أجنحتها الذّهبيّة نقطًا سودًا تنذر بالنهايات الوخيمة لجرعة حبّ قاطعّ وبلسم فاقد الصّلاحيّة؟.
جميلة مزرعاني - لبنان / الجنوب - ريحانة العرب.
...................
القراءة النقدية:
قصيدة /صفعة موجعة/ للشاعرة اللبنانية جميلة مزرعاني هي نص شعري يعكس تجربة عاطفية مؤلمة ومعقدة، مشحونة بالصور البلاغية الغنية التي تتنقل بين الألم والخذلان والحزن العميق. القصيدة تشتمل على تساؤلات ومخاطبات موجعة، ويصوّر النص العاطفة كأداة قوية للدمار، حيث يتحول الحب في النهاية إلى شعور قاتل يُخلف الخيبة والمرارة.
1. الأسلوب اللغوي والبلاغي
الشاعرة تعتمد على لغة بلاغية غنية ومثيرة، محملة بالصور المكثفة التي تدفع القارئ إلى استكشاف أعماق التجربة العاطفية. تتنوع أساليب الشاعرة بين الاستفهام الإنكاري والتشبيه والاستعارة، مما يخلق لغة شعرية تتسم بالثراء والتكثيف.
الاستفهام الإنكاري: الشاعرة تبدأ القصيدة بأسئلة تعبيرية، مثل /هل سبق أن تذوّقت صفعة موجعة من كفوف الهوى على وجنات القلب؟/، وهي أسئلة ليس المقصود منها الحصول على إجابات، بل طرح المشاعر بطريقة تثير القارئ وتدفعه للتأمل في تجربته الخاصة مع الحب.
الاستعارة والتشبيه: الشاعرة تستخدم العديد من الاستعارات والتشبيهات، مثل /الحبّ هو القاتل بسياط الهجر وسهام الغدر/، حيث تقوم بتشبيه الحب بالسلاح القاتل الذي يضرب بالقسوة ويخلف الألم. كما تقول /فاستحال يبابًا على مرمى مشاعرك المكتنزة بالصّدق والوفاء/، لتصور تحول المشاعر النبيلة إلى يأس وجفاف نتيجة الخيانة.
التضاد: التناقضات بين الحب والموت، الوفاء والخيانة، الأمل والخذلان، تظهر بوضوح في القصيدة وتخلق تأثيرًا قويًا على القارئ. يظهر ذلك في الجملة /أنت ما كنت تدري أنّها تشيّع انتظار وتينك على شاطئ المفاجآت المذهلة/، حيث يتناقض الانتظار بسلامته مع المفاجآت المدمرة.
2. الرمزية في القصيدة
القصيدة مليئة بالرموز التي تضفي على النص عمقًا وجدليًا يتطلب التأمل. الرمزية تساهم في التعبير عن الوجع العاطفي بشكل مكثف وغير مباشر.
الهوى والحب كقاتل: الشاعرة تبدأ قصيدتها بمقارنة الحب بالقاتل، وهو استعارة قوية ومؤلمة تعكس فكرة أن الحب، رغم كونه مصدرًا للسعادة، يمكن أن يتحول إلى أداة للدمار. كلمة "سياط الهجر" تضيف طابعًا عنيفًا لهذه الصورة، حيث يصبح الفقد نفسه عقابًا.
الطبيعة كمرآة للوجع: تكثر الصور الرمزية المستوحاة من الطبيعة مثل /النوارس السّود والغربان المشؤومة/، /حقل نضر مزهر طالته نيران حريق مباغت/، و/الفراشات التي اختمرت برحيق العشق/، وهي رموز تشير إلى الجمال الذي تفسده الخيانة والألم. الغربان والنوارس السود هي طيور ترتبط عادة بالموت أو الشؤم، وهي تضيف طابعًا مظلمًا على القصيدة.
النهاية والموت: يتم استخدام الرمزية في صورة /الفراشات/ التي تدور حول الفقد والموت العاطفي، حيث كان يُتوقع للفراشات أن تظل رموزًا للجمال والبراءة، ولكنها تلوثت الآن بـ/نقاط سوداء/ كأنها قد فقدت القدرة على الطيران في سماء الحب.
3. التجربة النفسية والتفاعلات العاطفية
الشاعرة تسلط الضوء على التجربة النفسية العميقة التي يخوضها الفرد عندما يواجه خيانة عاطفية أو فراغًا داخليًا ناتجًا عن فشل الحب. في القصيدة، لا تقتصر العاطفة على مجرد الخيبة أو الألم، بل تتداخل فيها حالة من الصراع النفسي، حيث يجد الشخص نفسه في صراع داخلي مع مشاعره بين الإخلاص والخيانة.
المفاجآت المذهلة: الشاعرة تستخدم هذه العبارة لتصور صدمة الخيانة التي تأتي بشكل مفاجئ وغير متوقع، وهو ما يترك الشخص في حالة من الذهول، في الوقت الذي كان ينتظر فيه شيئًا آخر.
الصراع الداخلي: في عبارة /هل كان يخطر ببالك ذاك الخافق الغرّيد الغارق في أتون الإخلاص/، نلاحظ أن الشاعرة توضح الصراع الداخلي بين الوفاء والإخلاص من جهة، والغدر والخيانة من جهة أخرى، مما يبرز حجم الألم الناتج عن هذا الصراع.
4. الصور العاطفية ومظاهر الحزن
القصيدة تحتوي على العديد من الصور التي تكثف شعور الحزن والفقد. الشاعرة لا تقتصر على وصف الألم بشكل مباشر، بل تلجأ إلى تصويره باستخدام صور مؤلمة، مثل /تدحرج في مستنقع غدره/ أو /كتيّار كهربائي/، لتؤكد على فداحة الخيانة التي تشبه الصدمة الكهربائية التي تجرد الشخص من مشاعره وتدفعه إلى حالة من الارتباك والحيرة.
5. الختام: الحزن كمفهوم مركزي في القصيدة
القصيدة تدور حول مفهوم الحزن العميق الذي يأتي من الخيانة والخذلان في الحب. الشاعرة تخلق مسارًا سرديًا عاطفيًا يعكس التحولات النفسية التي يمر بها الإنسان عند تعرضه لمواقف مؤلمة في حياته العاطفية. الحزن هنا ليس مجرد عاطفة سطحية، بل هو تجربة مركبة تحمل في طياتها صورًا دلالية عميقة تكشف عن تصدعات داخل النفس الإنسانية.
خلاصة
قصيدة /صفعة موجعة/ هي نص شعري غني بالصور الرمزية والبلاغية التي تلامس أعماق المشاعر الإنسانية وتكشف عن تحولات مؤلمة في تجربة الحب. الشاعرة جميلة مزرعاني تنقل للقارئ صورة حية لتجربة عاطفية مليئة بالصراع الداخلي، الألم، والخيانة. هذه القصيدة لا تقتصر على التعبير عن الحزن بل تعكس رؤية نفسية معقدة للإنسان في مواجهة خيبة الأمل العاطفي.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق

الأنسنة تعني إضفاء الصفات والمشاعر الإنسانية على الكائنات غير البشرية، مثل الحيوانات، النباتات، الجمادات، والظواهر الطبيعية، بحيث تتصرف أو تشعر كما لو كانت تمتلك وعيًا بشريًا. يظهر هذا الأسلوب بوضوح في الحكايات الشعبية والأساطير والقصص الخيالية، كما هو الحال في ألف ليلة وليلة.
في المقابل، يعتمد الهايكو على تقديم الصور الشعرية المستمدة من الواقع كما هي، دون تدخل الشاعر في إعادة تشكيلها وفق مشاعره أو رؤيته الذاتية. فالحيوانات لا تتكلم، والأشجار لا تبتهج أو تحزن، والنهر لا يشعر بالكآبة أو السعادة، بل يتم تقديم هذه العناصر بصفاتها الفعلية، دون إسقاط مشاعر بشرية عليها.
على العكس من ذلك، في هايكو الأحلام، يتغير منطق الإدراك، إذ لا يمكن بناء المشاهد وفق القواعد الصارمة التي تخضع لقوانين الفيزياء أو المنطق والعقلانية. فالأحلام تشكّل فضاءً متحركًا ومفتوحًا على التحولات، حيث تتداخل العوالم وتتلاشى الحدود بين الإنسان والأشياء. في هذا السياق، يصبح من الممكن منح الكائنات غير الحية والظواهر الطبيعية صفات بشرية، وهو ما يميز هايكو الأحلام عن الاستخدام غير الدقيق للأنسنة في بعض ما يُكتب من هايكو.
لا تُستخدم الأنسنة في هايكو الأحلام لمجرد كسر قواعد الهايكو والواقع، بل تمنح النص بعدًا جماليًا يعزز وقع المشهد الحلمي، ويخلق تفاعلًا شعوريًا أعمق بين القارئ والعالم الذي ينقله الهايكو. يتميز هايكو الأحلام بأنه لا يعيد تفسير الصور، بل ينقلها كما تظهر في الحلم، دون أن يخضعها لقوانين المنطق المعتادة. الأحلام، بطبيعتها، قد تتطابق مع الواقع، أو تتقاطع معه، أو تبتعد عنه تمامًا، مما يجعل الصورة الشعرية في حالة دائمة من التحول والانسياب.
في هذا السياق، تصبح الأنسنة امتدادًا طبيعيًا لمنطق الحلم، حيث يمكن للكائنات والأشياء أن تتغير، وتكتسب أصواتًا أو مشاعر لم تكن تمتلكها في الواقع. وكما أن العالم الحلمي لا يحتفظ بشكل واحد، فإن العلاقة بين الإنسان والطبيعة فيه مرنة، متغيرة، وغير قابلة للتقييد بنمط ثابت.
في النهاية، فإن استخدام الأنسنة في تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو لا يهدف إلى صنع عالم خيالي منفصل عن الواقع، بل إلى خلق تجربة شعرية أكثر عمقًا. حيث يمكن للمشهد أن يتنفس بحرية، ويمكن للصورة أن تتحرك وفق نظامها الخاص، دون أن تكون مضطرة للالتزام بقواعد ثابتة.
***
عباس محمد عمارة

 

بلغت مبيعات رواياتها ملياري نسخةٍ حول العالم

في أواخر شهر كانون الثاني المنصرم، مرّت 100 سنة على صدور روايتها الشهيرة " شاهد اثبات"، المشغولة بتقنية السرد الخادع والمرافعة القانونية السامية. وفي عام 2021، كان الاحتفاء بالانطلاقة المئوية لأجاثا لكريستي، ككاتبةٍ روائيةٍ بوليسيةٍ عالمية، بدءاً من روايتها" العلاقة الغامضة في ستيليس" ويقال بحسب معطيات السيرة الذاتية لكريستي، بأنّها المولودة عام 1890 في قريةٍ إنجليزيةٍ نائية، ولم تكمل تعليمها فكانت دراستها متعثرة، لكنّ والدتها التزمت تعليمها القراءة والكتابة، وكانت تحضّها على الكتابة الروائية. ومن هنا كان رحيل والدتها عام 1926 صدمةً كبيرةً لها. كانت" العلاقة الغامضة في ستيليس" هي ثمرة رهان كريستي مع شقيقتها بأنّها قادرةٌ على كتابة روايةٍ ناجحة.
عايشت أجاثا كريستي الحرب العالمية الأولى بعد التحاقها مع زوجها الضابط آرتشي في الجبهة الفرنسية، وكانت تعمل في قسم الطبابة والتمريض. وعلى الرغم من مآسي الحرب وأهوالها، أصرّت على الخوض الدائم، ولكنّه المتطوّر باستمرار، في عوالم الجريمة والإثارة والغموض. وكانت الصدمة الثانية في حياتها قرار زوجها بالانفصال عنها، عام 1928. ولكنّ صدماتها الحياتية لن تحدّها في أن تصبح الكاتبة البوليسية الأشهر في العالم.
المحقق البلجيكي ذو الشارب الدقيق
منذ انطلاقتها المئوية عام 1921، ولغاية رحيلها عام 1976، تُعدُّ الروائية الأكثر مبيعاً على مستوى العالم، إذ بيع مليار نسخةٍ من رواياتها، وبحسب تقديراتٍ أخرى تصل إلى مليارين، وهي أرقامٌ غير مسبوقة في تاريخ النشر أبداً. تُرجمت رواياتها إلى 130 لغةً في كلّ أنحاء العالم، ولغاية الآن تُشترى حقوق رواياتها، لإعادة طباعتها من جديد، أو تقديمها للسينما، كأحدث أفلام التشويق والإثارة. وكُتب عنها بأنّه "في وقت كانت فيه الرواية البوليسية تعجّ بالمحققين التقليديين وأسرار الجرائم النمطية، جاءت كريستي بشخصيات مثل هيركيول بوارو المحقق البلجيكي ذو الشارب الدقيق". فقد خلّدته كريستي ليصبح شخصية تحرٍّ عالمية، وظهر في ثلاثٍ وثلاثين روايةٍ من رواياتها وخمسين قصةٍ قصيرةٍ وثلاث مسرحيات، أي بالمُجمل في ستّةٍ وثمانين عملاً إبداعياً لها. كما ابتكرت كريستي العجوز الذكية ميس ماربل، التي تفكّك ألغاز الجرائم بخبراتها المُستمدّة من حياتها العريضة. إنّ الاستثمارات السينمائية المتلاحقة والمتجدّدة، على مدى عقود، لروايات كريستي أسهمت بشكلٍ لا يصدّق في زيادة الطبعات الورقية لغالبية الروايات، ومن ثمّ زيادة المبيعات بالأرقام الضخمة التي ذكرناها.
أجاثا كريستي في بغداد
ينبغي أن ننوّه إلى مرحلةٍ مهمةٍ جداً في حياة كريستي وإبداعها البوليسي، وهي إقامتها في العراق في ثلاثينيات القرن الماضي، لقد اكتشفت ميلها إلى التنقيب في الآثار ونبش الماضي. وكان مرشدها السياحي المنقب الآثاري ماكس مالون، الذي أنشأت علاقة عاطفية معه، ومن ثمّ تزوّجا، فقد اهتمّت كريستي بآثار وادي الرافدين، في الجنوب، بآثار أور، والموصل بآثار الحضر والنمرود، ومن رواياتها المستوحاة من العيش في العراق "جريمة في بلاد وادي الرافدين" و" لقاء في بغداد"، ومن ثم توّجتهما برواية" جريمةٌ في قطار الشرق السريع" التي اجتذبت السينمائيين، وتحولت إلى فيلم عام 1974، مثّل فيه كبار نجوم هوليوود آنذاك. كانت كرستي قد أحبّت السكن في دارٍ على الطراز البغدادي مطلّةٍ على نهر دجلة. ومن هنا فهي أحبّت كلَّ شيءٍ في بغداد، ودوّنت يومياتها وانطباعاتها عن بغداد.
الرواية التي كان اسمها" أيادٍ خائنة"
تتبوّأ رواية" شاهدة إثبات "إحدى قمم روايات كريستي، المثيرة والغامضة بأساليب الخداع المتقن فيها، وبالتحولات في المواقف والأدوار.
يكفي أن نعلم بأنّ الرواية التي كان اسمها " أيادٍ خائنة" تحوّلت إلى مسرحيةٍ عام 1953، وإلى فيلمٍ عام 1957، يكفي أنّها تُعرض حالياً كمسرحيةٍ في قاعة بلندن، وهي أشبه بقاعة محاكمة، منذ ثمان سنوات، تنتهي في أيلول من العام الحالي.
في هذه الرواية تعصف كريستي بأفق توقّعات القارئ. القصة تدور مجمل أحداثها في قاعة محاكمة شابٍّ مُدانٍ بقتل أرملةٍ ثريّة، ليس لديه شهود إثباتٍ على دفع التهمة عنه سوى زوجته، فالخادمة ومدبّرة البيت، كانت شهادتها واضحةً ضده. لكن الذي يحبس أنفاس القارئ أنّ زوجة المتّهم تصبح أخطر شاهدٍ ضدّه، إلى الحدّ الذي أيقن الجميع أنّ المدان سيحكم بالإعدام لا محالة. إذ أنكرت وجود المدان في البيت معها ساعة وقوع الجريمة، بل عاد إلى البيت بعد وقوعها.
لكنّ ذلك الإنكار يخفي وراءه خدعةً جهنّميةً، هي أحد ابتكارات كريستي بعبقريتها البوليسية وثقافتها القانونية الواسعة، إذ جعلت الوهم ببراءة المُدان مغروساً عند وكيل الدفاع عنه عبر تصريح الزوجة باعتقادها أنّه لو كانت شاهد الإثبات الوحيد، لما حازت مصداقيّة القضاء والمحلّفين، لا سيّما أنّه لا أحد يثبت أنّه كان في بيته ساعة وقوع الجريمة غيرها.
عالجت كريستي ذلك، بانتحال الزوجة ذاتها صفة امرأةٍ قريبةٍ من محيط المدان، هذه المرأة تجلب رسائل إلى مكتب وكيل الدفاع عن المدان، في الوقت الحرج، الذي ربما في اليوم التالي يصدر حكم الإعدام بحقه. هذه الرسائل تثبت (خداعاً) بأنّ الزوجة لها علاقةٌ مع عشيق، وتفضح تلك الرسائل، الإنكار المزعوم بأنّها ليست زوجة المدان، وكذلك مؤامرتها لإرسال رأسه الى حبل المشنقة، بالشراكة مع عشيقها المفترض، لا سيّما بعد أن عرف الاثنان بأنّ الأرملة الثرية القتيلة، أوصت بثروتها إلى المدان. عند عرض تلك الرسائل تهتزّ قاعة المحكمة، لأن ذلك يعني براءة المتهم، والحكم لاحقاً على الزوجة بالسجن لإدلائها بشهادة زور. وهنا يحدث التطور الدراماتيكي الأكبر، مواجهة صاعقة بين وكيل الدفاع والزوجة، حيث يدرك أنّها هي صاحبة الرسائل نفسها، واستخدمت تلك الخدعة الجهنمية لإنقاذ زوجها المذنب وليس البريء، كما تقول هي.
حين تقترب فتاةٌ شقراء من المدان الذي أصبح بريئاً، ومالك ثروة، تهنئّه وتفرح بأنّها سيعيشان حياةً سعيدة. تُجنُّ الزوجة لذلك، وتقدم على طعن زوجها القاتل توّاً في الحال، لأنّها تطوعت أن تضحّي بنفسها حتى لو تطلّب الأمر قضاء السنين القادمة في السجن، في سبيل براءة زوجها الذي خانها وكان جزاؤه الموت، وإذ ذاك تقدّمت للقاضي مردّدةً بطريقةٍ مسرحية: إنني مذنبةٌ يا سيدي القاضي.
هي ليست روايةً بوليسيةً فحسب، إنّها درسٌ في فهم النوازع البشرية المتناقضة، أمن أجل الحبّ وحده تستخدم الزوجة حيلاً شيطانيةً في سبيل تبرئة زوجها القاتل، أم من أجل الثروة المُنتظرة؟ وكانت النتيجة الخسران المبين بطعنها الزوج القاتل الخائن، ومن ثمّ مصيرها الإعدام بجريمة قتل زوجها، الذي يريد استبدالها بفتاةٍ أصغر منها، كي يجولا، مع التمتّع بالثروة، حول العالم. غرابة وقائع الرواية تحاكي غرابة واقعنا، منذ عشرات السنين، فالبريء يتحول إلى مجرم، والمجرم نفسه يتحول إلى ضحية.
ليس جزافاً أن يجري الاحتفاء بالذكرى المئوية لصدور الرواية، لأنّها تُعدُّ من طلائع روايات كرستي، فقد صدرت بعد أربعة أعوام من انطلاقتها الروائية الأولى، ومع ذلك حملت بصمةً أقوى المرافعات القضائية في الأدب العالمي.
***
باقر صاحب - كاتب عراقي

للزجّال المغربي عبدو سلطان جاسمي

تسطير منهجي لابد منه:

إن اشتغالنا على المتون الزجلية من خلال منظورات نقدية لا يقصي من اعتبارنا الاعتماد على الانطباع والقراءات العاشقة والقراءات المنهجية الغارفة تصوراتها من مدارس النقد العالِم، سواء ما تعلق برصيدنا المتواضع في النقد العربي قديمه وحديثه، أو ما تعلق باجتهاداتنا في الاستئناس بالتيارات الغربية المتقدمة شأواً بعيدا في هذا المجال، ندخله لا من باب الانبهار والدهشة المستلبة وإنما من باب الاشتغال الحواري التواصلي مع العقل الغربي في سجالية مجادلة منتفعة بعيدا عن الهضم البليد والاجترار الكسول.

كما أن اشتغالنا على المتون الزجلية بمنظورات عالمة تستأنس بأعلام النقد الغربي لا يمس في الزجل أصالته ولا يعيب فيه خصوصيته ولا ينقص منها، على اعتبار أن هذه المنظورات الحداثية تعالج كل الأنساق الدّالة، والزجل نسق دالّ بعلاماته الملفوظة ويستدعي بفعل تراكماته النوعية مقاربته من هذه الزاوية، التي تخدم صيرورته المتحركة والمتغيرة باستمرار.

النقطة الثالثة في هذا التسطير المنهجي ترتبط بعلاقة النص مع المنهج، فنحن لا نختار للمتن الزجلي عباءته المناسبة وكأننا نمتلك دولابا من المقاسات النقدية القابلة للتنميط والتطبيق المبتسر، وإنما وأساسا، نترك للنص حرية اختيار المنظور الذي يناسبه ويقرأه في توجهاته الموضوعية حتى تخرج النتائج انسيابية لا نحس فيها ليّاً لأعناق المتن ولا قسرا ولا إكراها.

يفرض ديوان (لامةْ لحْرُوفْ) للشاعر الزجال المغربي (عبدو سلطان جاسمي) على القارئ هيبة نوعية لا نجد لها تفسيرا إلا عبر الدخول في غضون تشكلاته القوية لفظاً ومعنىً، دلالةَ وأنساقاَ، حضورا وغيابا، تصريحا وتلميحا، حيث تفرض علينا مساحات النص المرفولوجية المتسمة بالطول الزئبقي قراءات دقيقة ومتأنية وحذرة، حتى لا نقوّل المتكلم ما لم يقله أو يريد قوله. ناهيك عن العمق الدلالي القابع بذكاء خلف أسوار الحرف المنيعة. لهذا اختارتْنا متونُ الديوان أن نقاربها عبر مجموعة من التيمات هي في آخر المطاف أشكال من التأويل القابل للأخذ والرد والتصويب.

1 - تيمة الشك:

ننظر إلى الشك لا من زاوية فلسفية ترتبط بتفكير الشاعر في الموجودات، وإنما من زاوية الحيرة كعلامة سيميائية تمتح مادتها من فكرة الاستهواء بتعبير (غريماس) وهي حيرة المبدع في تشكيل هوية الآخر، المخاطب، الداخل في علاقة تفاعل غير متوازنة مع الذات، وهو تفاعل يقضي افتراضا بحدّ أدنى من التعادلية في الفهم وفي الإيصال. إلأ أن الشاعر اختار موضعة هذا الآخر في ذلكم المخاطب النوعي الذي يمارس على الذات المتكلمة – ومن باب الاستهواء أيضا – ضغطا ناعما يستمد قسوته وقوّته معاً من شرط المحبّة التي اقتضت في المتكلّم رصيداً من الوفاء، في حين استدعت في الآخر تحدّياً زئبقيّاً، مادته أنثى موصوفة حاذقة في فعل الغواية وفي فعل الصدّ.

والقارئ للمتن الشعري الزجلي عند الشاعر الزجال (عبدو سلطان جاسمي) تصدمه في إدهاشٍ قدرةُ البوح على فعل الرسم، لا بالكلمات وحدها، وإنما بالفونيمات أيضا، في تناغم جناسي واضح يحمله الشاعر ما أمكنه الحمل بعيدا عن عمليات الإثارة القريبة والمتكئة على وظيفة التحقق الجمالي، إلى وظيفة أخرى أكثر تبئيرا وعمقا، تُزوْبِع دَعَة المتلقي وتخلخل راحته المستهلكة في استرخاء الاستمتاع والأنس، إلى إحداث نوع من التشويش المولّد لدينامية النص. لننظر معاً إلى اختياره هذا المقطع للتعبير عن حيرته تجاه الآخر، قال الشاعر في قصيدته (طريق الضحكة) ما يلي:

ولّيتْ نشكْ فْ شكّي

وشكّي عادْ

يشكْ فْ شكّو

يومْ شافتكْ

ودْنِي لْعَمْيَة …

وهو التشويش الجميل الباعث على استكمال دورة القراءة، سواء تعلق الأمر بقارئ عادي يستمتع بفن الزجل مع هذا العَلَم المتميّز، أو تعلّق الأمر بقارئ دارس لهذا المتن. وهو التشويش الحامل لمجموعة من الأسئلة التي لا ترتبط بعتبات الاستفهام الراغبة في المعرفة، وإنما الأسئلة المعالم، باعتبارها محطات ضوئية تكشف عن طبيعة هذه الحيرة التي تأخذ من الذات كل مأخذ، وتحرك فيها الرغبة الاستهوائية في تعرية العلاقة بين الذات والآخر. من هنا جاءت ممارسة الشاعر للعبة الجناس في اختياره لصوتي الشين والكاف المتكررين باطّراد في المقطع أعلاه، وهو المقطع المتجاوز لفعل المعنى المباشر المرتبط بشك الذات في الماحول، إلى الرغبة في تحجيم هذا الآخر باعتباره مصدر انكواء ومصدر إلهام في آن.

تقدّم لنا النصوص اللاحقة مزيدا من الضوء على فكرة الاستهواء عبر مقولة الحيرة أو الشك، منها قول الشاعر في قصيدة (نترجّاكْ تْكُونِينِي) ما يلي:

حِينْ تْكلّمتْ مْعَ سْكاتِي

باغِي نعْرَفْ منّو جْوابْ

أو ما يشابه ذلك في قوله من نفس القصيدة:

لْقِيتِينِي حايرْ

ما عْرَفتْشْ إمْتَى

تْخَونتْ منّي رُوحِي

و منه قوله في قصيدة أخرى بعنوان (عَاهَدْ لحْرُوفْ)

الخطْوَة تالْفَة

فْ كُدْيةْ لكْلامْ

من هنا، تدرّج الشاعر في رسم معالم هذه الحيرة، والانتقال بها من دوائر الحواسّ إلى آفاق أكثر سديمية، بل أكثر تعاليا، وهو التعالي الفلسفي في غير قصد من المتكلم، يدفع بالحيرة عبر مقولة الاستهواء إلى أقصى حالات التجلي وهي الدرجة القصوى من التوحد مع الآخر عبر الرضى بنتيجة هذا الشك وهذه الحيرة، من خلال القناعة بأن الآخر هو الذات عينها في تعبير جمالي يدلّل تدليلا على أن الزجل قوة تعبيرية ضاربة في الجمالية: لم يعرف الشاعر متى سُرقت منه روحه (ما عرفتش إمتى تخونت مني روحي) وهي قمّة التسليم للآخر في غير مقاومة، وفي لذّة (بارْتِيّة) نسبةً إلى رولان بارت.

عرف الشاعر كيف يتلاعب بعواطف القارئ وهو ينقله من وضعية القلق إلى وضعية الانفجار الأقصى. ولقد رأيتموه تجليا واضحا في عملية السطو على الروح. إنها وضعية مفارقة وقادرة على توضيح خصوصية هذا الخطاب الزجلي القائم على خلق مسافات من التوتر الدلالي العامر …

2- فوضى الحواس:

يختار الشاعر (ع س ج) زاوية نظر شعرية خاصة في علاقته بالمحسوسات، يبنيها على مقولة (الوثوب الحيوي) بتعبير (هنري برغسون) والقفز على الأشياء من حيث هي أشياء، إلى استنطاقها داخل رؤية شعرية وجودية تتعامل معها من باب الإثارة الحيوية أيضا. وهي الإثارة الْمُشركة للمتلقي في استبطان المقول لا في مرفولوجيا الكلام وإنما في حفريات الكلام. من هنا مارس الشاعر عملية البصر بواسطة حاسة السمع، في قلبٍ وظيفيٍّ للأدوار. قال من قصيدته (طريق الضّحْكة):

يومْ شافتكْ

ودْنِي لْعمْيَة

بْ مُومّو لڭـرُوحْ

مضاتْ شُوكْ الرّمشْ

و طاحتْ عيْنِي

عْلى عينْ ڭْـفَاهَا

هكذا، فالشاعر ليس ناقلا ناسخا صادقا مرآتياً للمألوف الذي تبنيه تمثّلاتنا للقضايا وللأشياء، بقدر ما هو كائن غريب غرابة استثنائية تمجّ التسجيل وترحب بالانبثاق. لهذا اختار اللعب السيميائي على وظائف الحواس. فالأذن تحلّ محلّ العين، والأذن في عُرف الشاعر عمياءُ، في إطار إسناد لغوي عامر بالانزياح، لأن العمى مكوّن حسّي لا ينسجم إلا مع مسند إليه من جنسه في تمثلنا البسيط، والماتحِ من عالم الحقيقة. لكنه في قنوات الشاعر التخييلية هو إسناد شائك متوثّب وحيوي، يخترم توقعات المتلقي بصناعته للدهشة النوعية عبر تسطير زجلي محمّل ب (الشعرية) ومحمّل بالضوء.

يسير الشاعر في هذا المسار الفوضوي الباني والعامر بالشعرية الزجلية عبر اخترامات أخرى لمألوف الحواس، في محطات أخرى من قصائد أخرى مخلصا لنسغ الرؤيا التخييلية، ماضيا فيها إلى أقصى حدود الإبهار، نذكر من ذلك أمثلة لا حصرية من متون مختلفة داخل الديوان:

- العين حمرة جمرة

- وعْقَلْ ضحْكِي يفكْ عڭادْها المعڭودْ

- ساعةْ شفتكْ يا فاكْيةْ الرّوح

- هتهت لڭلب لمضيوم، طلق ودانو، رْخا الطانڭة، يتصنت لدقاتو

- بغيتْ نشُوفْ حدّ الشّوفْ

- لحرام ف يّامنا زْيانتْ لِيهْ البنّة ، ولحْلال مْرارْ لِيه الذوقْ

- شوْفتْنا وجهْنا فْ مْرايةْ لْبَاطلْ شُوفانْ

- نْشُوفْ حلْمات ، مرّة عڭاربْ ، مرّة حيّاتْ

- تْهتْهِيتْ لْڭانَة

- شمّيتْ رِيحةْ لْمَاضِي

من هذا الفيض كثير من الاستهواءات المرتبطة بفوضى الحواس يؤرجحها الشاعر بين سمع وبصر وشم وتذوق للماحول من زوايا إغرائية مستفزّة، بجمالية زجلية نوعية، قادرة على التشويش الجمالي لبرنامج المتلقي التذوقي والتمثلي والقرائي البعيد، ونقله من برنامج استهلاكي استمتاعي إلى خطط مشاركة في عمليات الإنتاج لدلالات وأبعاد المتن الشعري الزجلي، من خلال حزمة من التأويلات البانية لنسقين في آن: نسق الذات المتكلمة وهي تباشر فعل الانزياح في وظائف الحواس من الحالة المتشيئة إلى حالة المعنى، ومنه، إلى حالة المعرفة، ونسق المتلقي الباني لمضمرات القول (السلطاني) خارج البداهة الحسية لتتشكل هذه المتون الشعرية الزجلية في آخر المطاف عقدا فريدا تنتظم داخله كثير من الصدف الدلالية المتشعبة وتنسجم.

يبغي الشاعر من محمولاته المقولية إغراءنا بجمالية الخروج عن طبيعة النص النمطي الماثل أمامنا بفعل العقد المشترك الذي تبنيه الثقافة المشتركة بين المبدع والمتلقي، ولتوضيح ذلك نأخذ مثالا يرتبط بحاسة الشم، قال الشاعر (شميتْ رِيحةْ لْماضِي)، وهو تركيب استعاري (ينقل العبارة في مكان غيرها وملاكها تقريب الشبه، ومناسبة المستعار له للمستعار منه، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة) على حد تعبير (الجرجاني). فالشاعر (ع س ج) جعل للماضي جسداً ترشح مسامه رائحة، حتى يستقيم فعل (الشمّ) مع المسند إليه الموسوم بطبيعة التجريد والهيولى، ونقصد الماضي المؤطر داخل عملية التحييز الزمني. وحتى يتحقق انسجام الصورة البيانية في أطرافها، رام الشاعر إلى خلق هذه الفوضى الجميلة في ترتيب الحواس وفي توظيفها خارج المألوف، من زاوية استبدالية تعتمد عنصر المقارنة والمشابهة بين الماضي والجسد، بين المستعار له والمستعار منه… كما يمكن قراءة فوضى الحواس داخل إطار استعاري تفاعلي قائم على خلق عوالم لغوية جديدة داخل اللغة العادية لأنها تبني علاقات جديدة بين الكلمات وهي تذوّب عناصر الواقع في بؤر أكثر توليدا وتناسلا للدلالات.

و من ثمّة فالسياق هو الضامن لتأويل عملية شمّ الماضي عبر استحضار مؤشر الذاكرة المسافرة في استجلاب صور هذا الماضي من خلال توظيف حاسة الشم توظيفا ماكرا ولذيذا في آن. وبالتالي لا تقتصر الانزياحات في مقام الحواس على الهدف الجمالي والقصد التشخيصي فحسب ولكنها تتجاوز ذلك إلى القيمة العاطفية والوصفية والمعرفية على اعتبار أننا نحيا بهذه الاستعارات، وتدخل نسغنا الجمعي أبينا أم شئنا …

يتميز توظيف الشاعر لشبكة الحواس في ديوانه، باعتماده على الاستبدال والتفاعل وخلق المسافة بين المفردة وحياتها المعجمية، لإدراكه ان الشعر رؤيا، وأن الشاعر كائن رائي، موسوم بأنفاس النبوّة، مخترم للمألوف، وحامل للدهشة في تعابيره، ومغرم بالتغيير سواء في الحساسية الشعرية أو في المنظورات الابداعية، ولإدراكه أيضا أنه يمتلك رؤية مختلفة تمام الاختلاف عن الناس، ولإدراكه أن بصره ينبغي أن يمتد قامات عالية فوق هامات الناس. لهذا جاءت همسته واضحة أن الرؤية المقيدة لا تصنع شاعرا، وهي الهمسة التي لخصها (ع س ج) في قوله (بْغِيتْ نْشُوفْ حدْ الشّوفْ) رغبة دفينة في تجاوز المرئيات والموجودات.

3 - تيمة الكتابَة أو لْكتْبَة في ” لامةْ لحْرُوفْ “:

يبدو لقارئ الظاهر في كلام ديوان (لامةْ لحروفْ) أن الشاعر يكرر موضوعة العرب القدامى في شيطان الشعر. قال (ع س ج) من قصيدته (طريق الضّحْكة)

وكلْ ما زفْ

شيطانْ لكْلامْ وتْسَلطْ

يبُوحْ بْ قْصِيدَة

والأمر هنا لا يتعلق بالنقل الحرفي لطبخة تراثية مستهلكة بقدر ما يرتبطُ، وأساساً، بقناعة (سلطانية) أن المبدع هو من لا يمتلك ناصية حرفه، بل حرفه هو المالك، وهو المادة الزئبقية التي لا تستأذن ولا تستشير إلا وفق مزاجها الخاص… ومن ثمّة فهي ما يُملي شروط الكتابة وزمن الكتابة وشكل الكتابة أيضا. قال الشاعر من نفس القصيدة:

(تارة يعف، تارة يتلف) إشارة إلى شيطان الشعر الذي يتجلى في حالات متعددة ومختلفة، قد يكون في مستوى اللحظة وقد لا يكون، وقد يصيب المعنى في مقتل وقد لا يصيب.

ينظر الشاعر، من جهة ثانية، إلى الإبداع نظرة شعبية يبنيها التمثل الشعبي الموروث، حيث القريحة التي ترتبط بالسديم المتعالي وغير القابل للقبض، يحولها الشاعر في استعارة قوية إلى متعيّن (لقْرِيحَة بنتْ لجْوادْ) تنرسم معالمه في الثقافة الشعبية ويتجسّد في هذه الوحدة اللسنية المحمّلة بكثير من الدلالات (لجْوادْ) المرتبطة بقيمة الكرم، أو المرتبطة بالقوى الغيبية الماتحة مادتها من الاعتقاد الشعبي في كلمة (لجواد).

الكتابة في منظور الشاعر (ع س ج) مادة نارية ترفض أن تتشيّأ على مستوى الحضور والغياب (حتى لقْرِيحة بنت لجوادْ، مرّة شاعْلة عْوادْ، مرّة طافية رْمادْ)... هي ما يتحكم في سيرورة البوح بمزاجها الخاص إلى درجة الغلبة والقهر، تمارسهما على المبدع في صلف (ويا لطيفْ، ملّي تْغوبشْ، وتعْطِي بالظْهَرْ، يعودْ لْخاطرْ مكْسُورْ).

تتظمهر تيمة الكتابة أو (لْكتْبَة) في الديوان بشكل ملفت، يمثّل كثافة نوعية ينبغي الوقوف عند تراكماتها لاستيعاب آليات اشتغال هذا المفهوم الشعري في لاوعي المبدع. نذكر من هذه التجليات على سبيل الحصر ما يلي مع العلم أن الديوان عامر بهذه التيمة في انسجام دلالي مع عتبة العنوان (لامةْ لحْرُوفْ):

(نْسڭِّيوْ قصْرِيةْ لكْلامْ – كُلّا يلڭّـمْ لْڭِـيمَة – مْسلّحْ بْ خطْ الزْناتِي – نتْهَجّانِي بْ حْرُوفْ لْمَكْتابْ – مدْ ڭوڭَة فْ لْواحْ لقْدَرْ – تْعالى نْكتْبُو خُطْبَة – نفْتِيوْ لمْحَبة – نقْراوْهَا فْ مَحْرابْ لْعشْقْ – نْفِيدُو بْ خُطْبتْنَا لعْبَادْ – نكتَبْنِي صَفْحاتْ بْ مْدادْ الصْبَرْ – كتْبِينِي كلْماتْ تْكونْ واضْحَة – نكْتبْ سْكاتِي – لكْلامْ دَاوي – رْكبْ رِيحْ لقْوافِي – يا مْدادِي ولْحكْمَة حْلُوفْ – لْوَرْقَة زْرِيبَة ولْحرْفْ شْرِيفْ…) ومثل هذا فيضٌ ثَرّ في الديوان وحسبنا منه أمثلة للاستئناس.

ما هو إذن مسار تكوين الكتابة في لاوعي الشاعر (ع س ج) وكيف تتفاعل هذه التيمة مع بنيات المتن الشعري الأخرى ؟

بدايةَ يُمثّل الشاعر الزجال (ع س ج) حساسية شعرية فطرية في الساحة الزجلية المغربية الحديثة، تشحذها الدّربةُ والتجربة والرؤية الواضحة للذات وللماحول وللعلاقة بينهما. من ثمّة تنبني مفاهيم الكتابة عنده باعتبارها سيرورة فنية ترفض شرنقات النسخ والإعادة والتكرار والشبه. وتصنع لنفسها نسغها الخاص الذي تتشربه كل حين، وفي كل حين تؤتي أكلها بإذن ربّها.

وهذه زاوية حتمية للنظر إلى اشتغال المفهوم، وهو يسير عبر هذه الخطاطة:

التكوّن —- الاستعداد —- البلورة

ويتعلق الأمر بتكون جينات الكتابة أو (لْكتْبَة) في لاوعي المبدع خارج شرط الإرادة وخارج شرط الحضور الذاتي المالك لناصية القول، حيث الكتابة سلطان مهيمن في صورته التقليدية المرتبطة بشيطان الشعر وفي صورته الشخصية المرتبطة بلحظات الانبثاق. والتكون مرحلة تتجلي في حضورين: الأول حضور قدري لا طاقة للمبدع فيه ولا يد، والثاني حضور إرادي لا يتجاوز عتبة التفاعل مع هذه الهيمنة مع التوق لمعانقتها في تجلياتها الواعية، وهذه المرحلة غالبا ما يتم التفاعل معها من باب التسليم.

أما العنصر الثاني من الخطاطة، والمرتبط بالاستعداد، ففيه تبدأ الذات المبدعة في وعي تجربتها، واكتشاف منظورات بوحها الخارجة عن شرط الإرادة. وتتميز مرحلة الاستعداد بتفوق جانب الوعي بالموجودات وكيف تتم عمليات استيعاب اللحظتين، لحظة الداخل القارع بيت المبدع في غير استئذان، ثم لحظة الخارج المشرئب إلى دمغ الوجود الشعري بخاتم الإرادة النوعية. ولما كانت سلطة الداخل الهيولى غالبة، فإن الذات تكتفي بمعاينة البوح في حذر لذيذ وفي استعداد لمرحلة البلورة.

تأتي أخيرا مرحلة البلورة، والمتعلقة بصناعة قرار التفاعل الايجابي مع سيرورة الشيطان الملهم أم الإلهام الشيطاني، وفيه تربح ذات المبدع رهانا جيدا وهي تختار الدخول مع الآخر في تقاسم إيثاري لثمرات الكتابة بما هي كشف شخصي وفتح خاص لا تريد الذات المبدعة أن تحتكره (تْعالى نْكتْبُو خُطْبَة – نفْتِيوْ لمْحَبة – نْسڭِّيوْ قصْرِيةْ لكْلامْ – نقْراوْهَا فْ مَحْرابْ لْعشقْ...). وهنا تنبلج الدرجة الصفر من الكتابة وهي درجة سابقة في العطاء ولا تحتكر ما تجنيه من جمال في دروب الحرف الطائر في المخيال الفردي وفي المخيال الجمعي. وكأني بالشاعر يمارس شعرا تعليميا يدعو فيه المتلقي النوعي إلى معانقة قضية الابداع من بابها المتسامح والواعد بالعطاء عبر التفاعل الإنساني المغيب للامتلاك الرخيص لمتون الزجل وللامتلاك الواهم لمقولة التفوق الادبي.

***

بقلم: نور الدين حنيف أبوشامة

.................................

* صدر هذا الديوان عن مطبعة بوجو برانت، بالدارالبيضاء\المغرب، في رمضان 2018

قراءة نقدية تحليلية لقصيدة فيكتوريا

للشاعرة د. هـ. ماريا إلينّا راميريز – فنزويلا

***

فيكتوريا

أفقٌ هادئٌ، الطيورُ

لا تحلق في أسراب؛

العقابُ يعبرُ الرياح

باندفاعٍ، وطيرانهُ هادئٌ في الأعالي.

*

تقتربُ العاصفة، وقت

يصل، ضاربًا السفينة بشدة؛

يستيقظُ المحارب

مواجهة المدّ بقبضة الدَّفَّة.

*

يقاومُ كل ضربة ويعطي

منعرجًا غير متوقع؛

المحاربُ لا يندب ولا يتوقف

عندما يشتعل الغضب وتنتصر المعركة،

محققًا النصر.

***

د. هـ. ماريا إلينّا راميريز - فنزويلا.

...............

القراءة النقدية:

قصيدة (فيكتوريا) (للشاعرة د. هـ. ماريا إلينّا راميريز)، تأتي لتجسد حالة صراع داخلي يمر به الإنسان في مواجهة التحديات الحياتية. هذه القصيدة، التي تمتاز بلغة أدبية دقيقة وصور شعرية قوية، تنطوي على معاني عميقة تتعلق بالصمود والنصر في خضم الأزمات. لنقرأ القصيدة تحليليًا من خلال دراسة بعض عناصرها الأدبية والفنية.

1. العنوان ودلالته

عنوان القصيدة (فيكتوريا) (التي تعني النصر باللغة اللاتينية) يفتح أمام القارئ أفقًا من التفاؤل والطموح. فهو يوحي بأن الموضوع الرئيسي للقصيدة هو تحقيق الانتصار، لكن السؤال الأبرز يبقى: هل هذا النصر يسير بسهولة، أم أن هناك تحديات قاسية تقف في وجهه؟

2. المحتوى والموضوع

تبدأ القصيدة بأفق هادئ، حيث تذكر الشاعرة في البيت الأول أن الطيور لا تحلق في أسراب، بل إن العقاب، رمز القوة والشجاعة، يعبر الرياح باندفاع بينما طيرانه هادئ في الأعالي. هذا المشهد يُعد تمهيدًا رائعًا، حيث ينقل القارئ إلى حالة من السكون الذي سرعان ما يواجه تغييرات جوهرية.

تقترب العاصفة في البيت الثاني، مما يعني قدوم فترة من الفوضى والصراع. العاصفة تمثل التحديات والظروف القاسية التي قد تهدد الاستقرار. لكن في مواجهة هذه العاصفة، يظهر المحارب الذي يستعد لملاقاة المد بشجاعة واحترافية، كما يظهر من خلال (قبضة الدَّفَّة). الدفَّة هنا ليست مجرد أداة تقليدية، بل تمثل قدرة الإنسان على التحكم في مسار حياته والتوجيه في الأوقات الصعبة.

3. الصور الشعرية

القصيدة مليئة بالصور الشعرية التي تضفي عليها طابعًا دراميًا وتأمليًا في آن واحد. على سبيل المثال، تشبيه الطيور بالعقاب في بداية القصيدة يُعطي انطباعًا بالقوة والقدرة على التحليق عكس الرياح، في حين أن العاصفة تمثل القوى المدمرة التي تلوح في الأفق. إن هذه الصورة الثابتة ثم المتحركة تشير إلى تقلبات الحياة بين السكون والفوضى.

4. الرمزية والتفسير النفسي

المحارب في القصيدة ليس مجرد صورة للمقاتل، بل يمثل الإنسان الذي يواجه التحديات والمحن بحكمة وشجاعة. إنه يرفض الاستسلام أو الندم، ويتابع مسيرته في ظل اشتعال الغضب الذي يرافق كل معركة. هذا المحارب، الذي لا يندب ولا يتوقف، يمثل الإرادة الصلبة في مواجهة المصاعب، وهي قيمة أساسية يمكن أن يربطها القارئ بالصراع النفسي أو الاجتماعي الذي يمر به أي إنسان في حياته.

5. الأسلوب والتراكيب اللغوية

الشاعرة تستخدم أسلوبًا مميزًا، يعتمد على التوازن بين السكون والاضطراب. ففي بداية القصيدة نجد السكون والتوازن مع وصف الأفق الهادئ، بينما في نهاية القصيدة يسيطر العنفوان والاندفاع الذي يعبر عن النصر والنجاح بعد صراع طويل. كما أن الإيقاع الذي يميز القصيدة ينقل إحساسًا بالتحرك الدائم والتحدي المستمر، حتى وإن كانت الكلمات في ظاهرها هادئة.

6. الرمز الكوني في القصيدة

العاصفة التي تقترب تمثل صراعًا داخليًا أو خارجيًا، لكنها في النهاية تدفع المحارب إلى النهوض ومواجهة التحديات. وبالتالي، فإن النصر الذي يتحقق في نهاية القصيدة ليس مجرد انتصار عسكري أو مادي، بل هو انتصار داخلي على النفس والظروف.

7. الرسالة والتوجه الفلسفي

القصيدة تحمل رسالة فلسفية عميقة تتعلق بالصراع الداخلي للإنسان في مواجهة الظروف القاسية. هي دعوة للإصرار على المضي قدمًا، والتعامل مع الأزمات بروح المحارب الذي لا ينهار أمام التحديات. يمكننا أن نرى في هذه الرسالة دعوة للإنسان إلى أن لا يستسلم، بل يستمر في الكفاح حتى ولو كانت الظروف ضدَّه.

8. الختام

قصيدة (فيكتوريا) هي رحلة عبر رمزية الحرب والصراع، حيث تكشف عن أبعاد النفس البشرية وكيف يمكن للفرد أن يواجه التحديات العاتية بعزيمة لا تلين. الشاعرة قد قدمت لنا نصًا عميقًا، مفعمًا بالحكمة، يرفع شعار النصر من خلال الصمود والمثابرة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

جدلية المقدس والمدنس في (أتوضأ بالدم) للأديب محمد خالد النبالي

يتسم النص "أتوضأ بالدم" ببنية لغوية حداثية تتأسس على التفكيك وإعادة تشكيل المعنى، حيث تتوتر اللغة بين البعد الصوفي والاحتجاجي، رافضة الانصياع للنمط التقليدي، ما ينتج تراكيب تستدعي تأويلات مفتوحة. يتماهى هذا التوجه مع تفكيكية جاك دريدا، التي ترى أن اللغة ليست مجرد وسيلة لنقل الفكر، بل ساحة للصراع بين الدلالات والانزياحات. لكن ما يميز النص ليس فقط تبني التفكيك، بل توظيفه لإحداث صدمة دلالية لدى القارئ، حيث يتم تحوير معاني الطهارة والدم من سياق ديني إلى سياق احتجاجي، ما يفرض على المتلقي إعادة قراءة مألوفاته اللغوية ضمن سياقات غير تقليدية.
تفكيك البنية السردية والرمزية في النص
يتميز النص بطابعه التأملي الذي يتجاوز السرد التقليدي إلى تفكيك الذات داخل مشهدية متشظية، موظفاً تقنيات التكرار البنيوي والتوتر الدلالي لتعزيز أثره الاحتجاجي. يتجلى ذلك بوضوح في جملة: "أتوضأ بالدم خمس مرات كلما ذكرت اسم بلادي"، حيث تعاد صياغة مفهوم الطهارة عبر استبدال الماء بالدم، مما يخلق مفارقة تجمع بين الفعل الديني والفعل الثوري. هذه الإزاحة الدلالية تتقاطع مع رؤية بول ريكور للاستعارة بوصفها أداةً لإعادة تشكيل الفهم، لا مجرد عنصر زخرفي.
يتلاقى هذا التوظيف الرمزي مع بعض أعمال غسان كنفاني، حيث يتحول الجسد إلى استعارة للوطن، كما في رواية "رجال في الشمس"، حين يختنق الأبطال داخل الخزان وكأن الوطن ذاته يختنق. بالمثل، في هذا النص، يصبح الجسد وسيطاً لنقل تجربة الفقد والمعاناة الوطنية، ويتحول الدم إلى عنصر تطهر يعيد إنتاج معانٍ تتجاوز الاستخدام التقليدي للرموز الدينية.
لا يقتصر النص على استدعاء الرموز، بل يوظفها في سياق احتجاجي يُعيد تعريف مفاهيم التضحية والطهارة، ما يتماشى مع طرح جورج باتاي حول العلاقة بين العنف المقدس وإعادة تشكيل القيم. فالدم هنا ليس مجرد سائل مسفوك، بل فعل وجودي يعكس تحول الألم إلى أداة للتماهي مع الوطن، حيث تصبح المعاناة شكلاً من أشكال الولادة الجديدة داخل سياق نضالي. بهذا، يضع النص القارئ أمام تجربة دلالية متجددة تتحدى الحدود التقليدية للمعنى.
التوتر بين الجسد والوطن
يتحول الجسد في النص إلى مرآة للوطن، حيث يصبح الألم الجسدي انعكاساً لمعاناة الأرض، كما يظهر في قول الأديب: "إنني أتعثر في متتالية من الحسرات، غارقة في عيني، أوراق الزيتون التي تقسو عليّ، تكوي وجهي وجنبي، وتُلقي بي في جبال الموتى، تراقبني بالضغائن المسنّنة، تخبرني أنني لم أكن سوى نشارة أزمان الحثالة." هنا، لا يكون الجسد تعبيراً عن فردية المتحدث فقط، بل يتحول إلى نص احتجاجي ضد محو الهوية الوطنية، حيث تتداخل المعاناة الفردية مع القمع الجماعي.
هذا التصور يتقاطع مع رؤية إدوارد سعيد حول المكان كهوية، إذ يرى أن المنفى ليس مجرد خروج من المكان، بل تجربة تعيد تشكيل الهوية داخل النص، مما يجعل الجسد ذاته امتداداً للمكان.
تظهر هذه العلاقة بين الجسد والوطن أيضاً في نصوص محمود درويش، حيث يكتب: "جسدي هو المعبر الأخير"، في إشارة إلى أن الجسد ليس مجرد كيان مادي، بل مساحة مقاومة. وبهذا، يتحول الألم في "أتوضأ بالدم" إلى رمز لمعاناة الوطن، حيث يتداخل الألم الفردي مع الجرح الجماعي، ويصبح الجسد ساحة مقاومة تكتب من خلالها الهوية الوطنية في مواجهة التلاشي.
التحولات الزمنية المتشابكة
لا يخضع النص لمنطق الزمن الخطي، بل يتبنى بنية دائرية تتداخل فيها لحظات الاحتضار والاستذكار والمواجهة الداخلية، كما في: "كلما قبضت على هذا الكون، كانت يدي تغوص في رغوةٍ وجفاء، تُزهر الكلمات تحت أطراف أصابعي، لعلني أستطيع أن أقتلعها من جذورها." هذا الأسلوب يستدعي تقنية "تيار الوعي" التي وظفها جيمس جويس، حيث تتحول اللغة إلى تدفق داخلي يعكس تناقضات الذات ويضع القارئ في حالة تفاعل وجداني عميق مع النص.
يتشابه هذا البناء الزمني مع ما نجده في روايات مثل مئة عام من العزلة لغابرييل غارسيا ماركيز، حيث يتداخل الماضي بالحاضر في مشاهد تتكرر بطرق مختلفة، مما يخلق شعوراً بأن الشخصيات محاصرة في دوائر زمنية لا نهاية لها. في "أتوضأ بالدم"، هذا التداخل الزمني يعزز الإحساس بأن الألم الوطني متجدد، وكأن التاريخ يعيد إنتاج القمع والاحتجاج بشكل مستمر.
البنية الصوتية والانفعالية للنص
يعتمد النص على إيقاع داخلي متوتر يعكس طابعه الاحتجاجي، حيث يتجلى التكرار الإيقاعي في: "رضوخٌ، رضوخٌ"، مما يخلق تأثيرًا صوتياً أشبه بضربة طبول في فضاء معتم، معززاً الإحساس بالتمرد والاحتدام الداخلي. كما يتجسد التوتر بين الهمس والصراخ في عبارة: "تفرّ دمعتاي، يصدح الصوت كزلزلة قبري"، حيث يؤدي الانتقال من الوصف الهادئ إلى الانفجار الصوتي إلى تصعيد درامي يعكس تصاعد الاحتدام الوجودي داخل النص.
يتشابه هذا الاستخدام للإيقاع مع ما نراه في قصائد مظفر النواب، حيث تخلق التكرارات الإيقاعية توتراً يشبه الاحتجاج الصوتي داخل النص، مما يمنح اللغة بعداً نضالياً إضافياً.
البعد السياسي والاحتجاجي للنص
لا يقتصر النص على تقديم خطاب احتجاجي مباشر، بل يعيد إنتاجه بأسلوب حداثي جمالي، حيث يتحول السؤال السياسي إلى مأزق وجودي يتجاوز الخطاب الأيديولوجي التقليدي نحو تفكيك أعمق للعلاقة بين الفرد والسلطة. يتجلى ذلك في إعادة صياغة مفاهيم الطهارة، التضحية، والألم لتصبح أدوات مقاومة رمزية تعكس واقعاً سياسياً مضطرباً.
في ظل سياقات القمع، يتحول الجسد في النص إلى مساحة اشتباك بين السلطة والمقاومة، حيث يتم تحميل النزيف دلالات وطنية، كما في: "تفرّ دمعتاي، يصدح الصوت كزلزلة قبري، وتبدأ الطرقات بالازدحام بالتعب." هنا، يتماهى الألم الشخصي مع الجرح الجمعي، ويتحول الصوت إلى فعل احتجاجي يزعزع الصمت المفروض. يعكس هذا مفهوم "السيطرة الحيوية" (Biopolitics) عند ميشيل فوكو، الذي يرى أن السلطة تتحكم في أجساد الأفراد وتحولها إلى موضوع للرقابة والعقاب، حيث يصبح الجسد نفسه ميداناً للصراع السياسي.
يمكن مقارنة هذا الطرح برؤية جان بول سارتر حول الأدب الملتزم، حيث يؤكد أن الكاتب الملتزم لا يهدف إلى تقديم إجابات، بل يضع القارئ في مواجهة الأسئلة القاسية، تماماً كما تفعل نصوص المسرح الوجودي التي تسائل جدوى المقاومة والسلطة. بهذا، لا يكتفي النص بتوثيق الألم، بل يحوله إلى أداة مساءلة وإعادة تشكيل للوعي السياسي والإنساني.
جدلية المقدس والمدنس في النص
يطرح النص تصادمًا بين الحسي والروحاني، حيث يتم تفكيك مفهوم التطهر من الدنس عبر استبداله بالتضحية الدموية. هنا، يبدو أن المقدس في النص لا ينفصل عن العنف، بل يتماهى معه، كما يرى جورج باتاي. هذه الجدلية تتكرر في الأدب الصوفي حيث يصبح الجسد وسيلة تطهير من خلال الألم، كما في تجارب الحلاج.
هكذا، يتجاوز نص" أتوضأ بالدم" الثنائيات التقليدية بين المقدس والمدنس، وبين الفردي والجماعي، ليكشف عن اشتباك دائم بين السياسي والوجودي. وبهذا، لا يصبح النص مجرد خطاب احتجاجي، بل يتحول إلى ساحة مقاومة لغوية حيث تتحدى اللغة ذاتها السائد، ليظل المعنى مفتوحاً على التأويل في فضاء الصراع والتغيير.
***
قراءة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله
..........................
"أتَوضأ بالدّم"
بينما تُجفف الشمس أشعّتها عني، يَتجمد الفم في صمتٍ ضائع، وكلّي في نعمتك، يا رب، أستظلُّ بظلال الليل. الليل الذي يقشِّرني كقشرةٍ رقيقة، بينما يشرب الدفء من عروقي كأنما يسلبني قوة الإيمان.
أي يأسٍ قد حرّرني من خيوط حياتي أو قبضة الموت، بينما تنهش فيّ براثن الشهوة الخالصة.
صوتي يغتالني، وكل المحيطات تَغتَسلُ من غريزتي، ترتشفُ من زخم المشاعر الجياشة، والبحار تنبُع من أطراف شِفاه الحرف، تندمج كأنها تلد صوت الوطن.
كلما قبضت على هذا الكون، كانت يدي تغوص في رغوةٍ وجفاء، تُزهر الكلمات تحت أطراف أصابعي، لعلني أستطيع أن أقتلعها من جذورها، إلى أن يأتيني نحيب الوطن يأمرني بأن أتوضأ بالدّم خمس مرات، كلما ذَكَرتُ اسم بلادي.
إنني أتعثر في متتالية من الحسرات، غارقة في عيني، أوراق الزيتون التي تقسو عليّ، تكوي وجهي وجنبي، وتُلقي بي في جبال الموتى، تراقبني بالضغائن المسنّنة، تخبرني أنني لم أكن سوى نشارة أزمان الحثالة. رضوخٌ، رضوخٌ، كل ما في الوجود حيّ إلا أنا، وحيدًا، كحطب الشتاء يُثرثر في فمي.
تفرّ دمعتاي، يصدح الصوت كزلزلة قبري، وتبدأ الطرقات بالازدحام بالتعب، بينما تنادي الحرائر في صرخات مكتومة: "لا تُنادي، يا ابنة أُم، لا تسألي أين العرب؟"، وكأن السؤال قد أصبح جرحًا نازفًا لا ينتهي. كأنما نداء الذاكرة يتحدى الزمن، فتظل الحقيقة أسيرة، تطاردني كلما أردت أن أكون.
أعوم في هذه الكلمات، في رماد الوجع، وأنا مُصمّم على أن أتوضأ بالدَم، أُقدس لحمي الذي يُزهق، بدماء تعكس ألوان الأمل والحنين، لعلي أستطيع أن أبعث الحياة في هذا الضمير الميت.
***
الأديب محمد خالد النبالي

في هذه التقنية، لا نكتفي بسرد الأحلام كما هي، بل نقوم بإعادة تشكيلها جمالياً، حيث يستلهم الشاعر موضوعات وأفكار الأحلام التي تمثل تجارب متعددة الأبعاد: دينية، أدبية، اجتماعية، أو ثقافية. التحول هنا لا يتم فقط عبر توثيق الأحلام، بل من خلال التناص الذي يفتح فضاءً تأويليًا متعدد الطبقات، حيث تصبح الأحلام نصًا أدبيًا.
يتداخل التناص في هذه العملية بين ثلاثة مستويات أساسية:
1. الحالم الأول: وهو صاحب الحلم الأصلي، سواء أكان فردًا يحلم في الواقع أم حلمًا واردًا في نص.
2. الحالم الثاني: الشاعر الذي يعيد صياغة الحلم في شكل هايكو، ملتقطًا جوهره الآني.
3. الحالم الثالث: القارئ الذي يعيد اختبار الحلم عبر قراءة النص والتفاعل معه، مما يمنحه بُعدًا جديدًا في كل مرة.
كل مستوى يشكل حلقة وصل في بناء التجربة الجمالية للحلم، مما يجعل الهايكو أكثر من مجرد توثيق، بل إعادة إنتاج الحلم داخل فضاء تأويلي مفتوح. لا يقتصر التناص في هذه التقنية على مجرد الإشارة إلى نصوص الأحلام الأدبية أو الفلسفية أو الدينية، بل يتحول إلى طابع متجدد ومفتوح، حيث تصبح الإشارات المتناثرة جزءًا من بنية الهايكو ذاتها. الحلم بطبيعته غير خاضع لقواعد منطقية محددة، فهو تجربة قائمة على التدفق العاطفي والصوري. وعند تحويله إلى هايكو، يتم التركيز على التقاط لحظته الجوهرية دون الحاجة إلى ترتيب زمني أو تفسير مباشر. هذا يشبه تيار الوعي الشعري، حيث تتجسد اللحظات الشعورية في حالة مؤقتة، غامضة، لكنها مشحونة بالإيحاءات. يُنظر إلى الحلم في بعض النظريات النقدية على أنه نص ذاتي غير مكتمل، يتشكل داخل وعي الفرد لكنه مفتوح للتأويل بمجرد نقله إلى شكل مكتوب. في هذا السياق، يمكننا الاستفادة من مقاربات مثل: جاك دريدا ونظرية النص المفتوح، حيث يصبح الحلم نصًا متحولًا قابلًا لإعادة التفسير بلا نهاية. عبر هذا المنظور، فإن تحويل الحلم إلى هايكو إعادة بناء للصورة الحلمية ضمن سياق جديد يثريها بالتأويلات المتعددة. إضافة إلى الطرح الفلسفي السابق، فإن عملية تحويل الأحلام إلى هايكو لا تقتصر على إعادة بناء الصور الحلمية داخل النص، بل ترتبط كذلك بكيفية تأثير هذه الفلسفات على البنية اللغوية والصورة الشعرية. رغم أن الحلم تجربة شخصية، إلا أنه لا ينفصل عن تأثير السياقات الثقافية والاجتماعية. الرموز التي تظهر في الأحلام قد تكون متأثرة بـالميثولوجيا، التاريخ، الدين، والأساطير الشعبية، مما يجعل كل هايكو امتدادًا ثقافيًا لحلم فردي. هنا، يتحول التناص إلى نقطة تلاقٍ بين البنية الذاتية للحلم والموروث الجمعي الذي يتشكل داخله. لا يقتصر دور القارئ هنا على التلقي السلبي، بل يدخل في عالم الحلم ويبدأ في إعادة إنتاجه داخل وعيه الخاص. في كل قراءة جديدة، يتشكل الحلم من جديد، ويصبح الهايكو جسرًا بين التجربة الشخصية والتأويل الجماعي. هذه الطبيعة التفاعلية للهايكو الحلمي تمنحه قوة خاصة، حيث لا يبقى مجرد نص مغلق، بل يتحول إلى مساحة مشتركة بين الشاعر والقارئ والتجربة الحلمية ذاتها. كل قراءة هي إعادة خلق للحلم داخل وعي جديد، مما يجعل الهايكو تجربة غير نهائية، متجددة، وقابلة لإعادة المعايشة والتأويل.
***
عباس محمد عمارة

الشيء الذي لم تستوعبه بعد؛ الفلسفة النسوية، ومنظمات دعوات تحرير المرأة هو أن علاقة المرأة بالرجل علاقة تكامل، حيث يسعى الرجل إلى امتلاك المرأة واحتوائها، في حين تطمح المرأةُ إلى رجل يحترم قدراتها العقلية، وتقلبات مزاجها، ويقدر أنوثتها، ويستوعب أسرارها. وفي السعي إلى بعضهما البعض، يكمن جوهر العلاقة القائمة على المودة أولا ثم الحب ثانيا.
لكننا نطالع في إحدى الأعمال السردية الحديثة؛ تجازواً لهذه العلاقة، وبوثقتها في خانة الماديات، والمقصود بها تحويل قيمة الجسد من دوره الثقافي السيميولوجي، وبعده القيمي والوظيفي إلى دور إيروتيكي. هذا ما عبرت عنه رواية الملهمات ل"فاتحة مرشيد"؛ بل تعدى الأمر إلى استلاب المرأة في علاقتها بالرجل، والمجتمع بشكل عام، حيث أرادت الكاتبة تبرير منطلقات خيانة الزوجة بخيانة مماثلة لزوجها، وفي الكثير من المشاهد ربطت الإلهام عند شخصية "الكاتب إدريس" بتعداد نزواته الجنسية، والمفاخرة بفحولته، لكنها لم تستحضر قيمة الجنس عند الزوجين، إنه توافق وتطبيع مع علاقات عابرة من منطلقات الحرية الفردية، لذلك نقول بأن الفكر النسوي في الإبداع الروائي يجعل موضوع الجسد والمرأة مبأراً، ومحوراً للبناء السردي؛ كأن الشروط المعرفية للنص لا تكتمل إلا بإفراد هذا الموضوع، لذلك كل صفحات الرواية كنت أسأل نفسي ماذا تريد أن تقول الساردة الحقيقية، انطلاقا من مستويات السرد؟، ماهي غايتها؟ ما هو أفقها السردي والمعرفي؟ لا نختلف في كون الأدب صورة للمجتمع المتناقض، وتعبير عن الحياة في تقلباتها، لكن ينبغي معالجة إشكال الهيمنة الذكورية، أو علاقة الرجل بالمرأة في ظل واقعية سردية تحتكم إلى التشريع والقانون والدين والأعراف السردية في الكتابة. إن الجسد معطى بيولجي ونفسي واجتماعي، ومن ثمة نطرح سؤالا آخر لماذا لا تهتم النسوية بظلم هذا الجسد؟؛ بانتهاكه، وتداعياته التي تنتج نساء يعانين في صمت، حيث تحفل المجتمعات العربية بمثل هذا الانتهاكات، وجدير بالأدب أن يلتفت إليها ليؤكد دوره المعرفي.
في إطار هذا القلق الفكري الذي صاحب القراءة، يتضح أن الكاتبة استحضرت بقوة مفهوم " النص آلة كسولة" يقول "أمبرتو إيكو": «النص إن هو إلا نسيج فضاءات بيضاء، وفرجات ينبغي ملؤها، ومن يبثه يتكهن بأنها فرجات سوف تملأ، فيتركها بيضاء [....] وهو أن النص يمثل آلية كسولة تحيا من قيمة المعنى الزائدة التي يكون المتلقي قد أدخلها إلى النص». (القارئ في الحكاية ص: 63). يبدو أن الرواية ابتغت إلى هذا المعنى سبيلا عبر تقنية تداخل، وتكاثر الحكايات التي يسميها "سعيد جبار" ب "التوالد السردي" في كتابه الذي يحمل نفس الإسم، حيث تعمل الساردة على الحكي بالاستذكار من خلال الاعترافات والرسائل، اعتراف الزوجة بخيانتها، أمام زوج فاقد للوعي، بعد حاثة سير غرامية؛ إنه انتقام للمشاعر باللاشعور؛ حيث يتوارى الحقد والكراهية والتحامل على خيانة الزوج التي لا تبررها منظومة الأخلاق كذلك. «بينما أمينة تحكي لعمر قصتها مع كامل التفاصيل، وتجد لذة شبه سادية في سرد أحاسيسها، لمحت شبه حركة من سبابته اليمنى» ( الرواية، ص: 125). إن التوالد السردي أسلوب ذكي وفريد في الكتابة الروائية، يفسح مجال الإبداع والخيال للكاتب، ويمنحه فرصة التعبير بانسيابية وحرية بدون قيود التلقي التي تقبع في ذهنه، من بينها سؤال: من هو القارئ وما هي قدرته وكفاءته السردية؟ إن هذا الانتقال بين الأحداث بمشاهد سردية تميز الفن السنيمائي، جاء لتعميق النَّفَس السردي، وإطالته؛ حيث تتوالد وتتعانق الأفكار، إنه حيلة، وحلية فنية؛ الأولى تقلص زمن السرد وتكثفه، والثانية لعبة سردية تشويقية تنقل القارئ من حالة إلى أخرى.
تصور الرواية نمطا من الرجل الشهواني الذي يفاخر بذكورته وفحولته في اتصال بمفهوم الإبداع والكتابة «وعندما شرحت لها أنني أكتب بعد ممارسة الحب، بكت في البداية كطفلة مدللة». ( الرواية ص: 100) لقد نقلت الرواية مفهوم الإلهام من الروح والعقل إلى الجنس، وهنا سقطت رؤية الساردة في المستوى الطيني الذي بلورته "سعاد الناصر" في كتابها "البوح السردي"، حيث يتم تشيئ جسد المرأة، إنها رؤية ذات احتمالات متعددة للمبدعين والنساء، ولمفهوم الإلهام. لقد ارتبط الإلهام قديماً بشيطان يلهم الشعراء بلاغة الكلمة، وقوة التصوير، كما ارتبط عند علماء النفس بالصفاء الذهني، وعند الأطباء بممارسة الرياضة. إن الإلهام فيما يبدو طاقة حسية لاشعورية، وفي نفس الوقت، هو شعلة من نور تقذف في الذهن فتتشكل الأفكار وتتراص فيما بينها، لكن عند "إدريس الكاتب" بطل الرواية انتقل الإلهام من الحسي إلى المحسوس، الأمر يبدو معقداً، وغير واضح ، فهل تريد الساردة أن تجعل من العلاقة الحميمية محفزاً للإلهام من خلال ارتفاع منسوب الأدرنالين، حيث يرتفع مؤشر السعادة، المرتبط بهدوء الأعصاب، وصفاء الذهن؟ هل تلمح إلى كون المرأة/ الحدث الرئيس حافزاً سردياً بتعبير بوريس "توماشفسكي"، أو قوة فاعلة بتعبير "غريماس"، مهما يكن، فالرواية تنزع نحو تجريد المرأة من هويتها، من روحها، حسب الرؤية التي انطلقنا منها منذ بداية التحليل ؛ رؤية تستمد مرجعياتها من النقد النسوي ذاته، ومن المنهج الأنثروبولوجي الذي يجعل من علاقة المرأة بالرجل علاقة تكامل، في احترام تام لسلطتها العقلية، وتدبيرها للشؤون التربوية، والاجتماعية، والاقتصادية، والإعلامية، والسياسية.
***
د. عبد الـمُجيب رحمون

قراءة تحليلية لـ "قراءة نقدية سيميائية لقصيدة" محارة عارية أنا"،

بقلم: سلوى علي – كردستان العراق"

للناقد كريم عبد الله

***

القراءة السيميائية (Semiotic Reading) تُعدّ منهجًا نقديًا حديثًا يهدف إلى فك رموز النصوص الأدبية واستكشاف دلالاتها العميقة عبر تحليل العلامات والرموز التي تحملها. تعتمد هذه القراءة على النظر إلى النص كنظام من العلامات المترابطة، حيث تتجاوز حدود اللغة التقليدية لتشمل الرموز البصرية، السمعية، وحتى الثقافية التي تشكل معًا شبكة معقدة من المعاني المحتملة. في هذا الإطار، تكتسب السيميائيات أهميتها من قدرتها على كشف الطبقات الخفية للنصوص، سواء كانت تلك الطبقات متعلقة بالرموز الصريحة أو الضمنية، أو بالإشارات الثقافية والاجتماعية التي قد لا تكون ظاهرة مباشرة.

تستند القراءة السيميائية إلى نظرية العلامات (semiotics) التي طورها فلاسفة مثل فردينان دي سوسير وشارلز ساندرس بيرس، والتي تركز على كيفية إنتاج المعنى وتداوله عبر العلامات. في مجال الشعر والأدب، تتيح هذه القراءة للنقاد استكشاف العلاقات بين الكلمات والصور البلاغية من جهة، وبين السياق الثقافي والاجتماعي الذي نشأ فيه النص من جهة أخرى.

فيما يتعلق بقصيدة "محارة عارية أنا"، تأتي القراءة السيميائية لتسلط الضوء على الرموز المركزية في النص، مثل "المحارة العارية" و"الأرواح العائمة" و"زنابق الطفولة"، وغيرها من العناصر التي تحمل دلالات متعددة المستويات. من خلال تحليل هذه الرموز والعلاقات بينها، يمكن الكشف عن الأبعاد النفسية، الوجودية، وحتى الاجتماعية التي يعالجها النص. كما تساعد القراءة السيميائية في فهم كيف تتفاعل هذه الرموز لإنشاء صورة شعرية متكاملة تعكس حالات إنسانية عميقة مثل الألم، الحنين، والبحث عن الذات.

وكجسر الى مرساة الفجر أجدل حبائل الندى مع زميلي د. كريم عبد الله.. معبدًا الطريق توطئة للعبور الى شجرة الأغاني..

الجوانب الإيجابية في القراءة النقدية:

1. تحليل الرموز والعلامات:

- الكاتب/ الناقد د. كريم عبد الله قدم قراءة دقيقة للرموز المستخدمة في القصيدة مثل "المحارة العارية"، "الأرواح العائمة"، و"زنابق الطفولة". هذه التحليلات أظهرت فهمًا عميقًا لدلالات هذه الرموز وكيف أنها تعكس حالات نفسية وعاطفية معقدة.

- على سبيل المثال، تفسيره للمحارة العارية كرمز للضعف والعجز عن حماية الذات كان منطقيًا ومتناغمًا مع النص.

2. التركيز على السيميائيات النفسية:

- الكاتب/ الناقد استخدم مفاهيم سيميائية لتوضيح التوتر النفسي والصراع الداخلي الذي تعاني منه الشاعرة. فالعبارة "أحلامي أحلام طفلة في سنوات الشوق" تم تحليلها بشكل مكين، كتعبير عن الحنين إلى الماضي والبحث عن السلام الداخلي.

3. التناول الزماني والمكاني:

- القراءة اهتمت بالانتقالات الزمنية في النص (من الطفولة إلى الحاضر) وكيف أن هذه الانتقالات تعكس حالة من عدم الاستقرار والبحث المستمر عن الأمان.

- هذا التحليل أضاف بعدًا جديدًا للنص وأظهر كيف يمكن للزمان أن يكون أداة للتعبير عن المشاعر المعقدة.

4. التوتر بين الذات والعالم الخارجي:

- الكاتب/ الناقد أشار إلى التوتر بين الذات المتألمة والعالم الخارجي، وهو موضوع أساسي في النص. فالأسئلة المتكررة مثل "من يجد لي شفتيه؟" و" من يجد لي شهد الاصطبار؟" تم تفسيرها بشكل جيد كتعبير عن الحاجة إلى الحب والقبول.

5. الختام والتعبير العاطفي:

- التركيز على الختام ودور الصدى والصرخة ("ياااايها الصدى") كان ملحوظًا.. فالكاتب/ الناقد تمكن من تسليط الضوء على أهمية هذه اللحظات في إيصال مشاعر الألم والحاجة إلى الخلاص.

الا ان قراءة د. كريم عبد الله النقدية انطوت على نقاط ضعف أو إخفاقات تجلت في:

1. الاعتماد المفرط على التفسير الشخصي:

- بينما كانت القراءة غنية بالملاحظات، إلا أنها اعتمدت بشكل كبير على تفسير شخصي للرموز دون تقديم أدلة واضحة من النص أو النظرية السيميائية التي تدعم هذا التفسير. على سبيل المثال، تفسير "الأرواح العائمة" كإشارة إلى "الفجوة بين الوعي واللاوعي" قد يكون مبالغًا فيه وغير مدعوم بشكل كافٍ من النص.

2. غياب التحليل الهيكلي:

- القراءة لم تتطرق إلى البنية الشعرية للنص بشكل كافٍ. لم يتم تحليل الإيقاع، التكرار، أو حتى الصور البلاغية من حيث دورها في بناء النص وتقوية رسالته.

3. إغفال البعد الاجتماعي والسياسي:

- النص مليء بالإشارات التي يمكن أن تُقرأ ضمن سياق اجتماعي وسياسي، خاصةً فيما يتعلق بالضياع والحنين إلى الماضي. ومع ذلك، فإن القراءة لم تستكشف هذه الجوانب بشكل كافٍ، مما أدى إلى تقليل العمق العام للتحليل.

4. الإسهاب في بعض النقاط:

- القراءة أحيانًا تميل إلى الإسهاب في تفسير بعض العناصر دون غيرها. على سبيل المثال، تم التركيز بشدة على "المحارة العارية" بينما تم تجاهل عناصر أخرى مهمة مثل "صوت يجلجل ما وراء الحدود" الذي يمكن أن يكون رمزًا قويًا للشعور بالعزلة والتشتت.

5. الافتقار إلى التنويع في النظرية السيميائية:

- القراءة اعتمدت بشكل كبير على تفسير الرموز من منظور نفسي فقط، دون استخدام نظريات سيميائية أخرى مثل التحليل الدلالي أو النسقي. هذا جعل التحليل أقل تنوعًا وأكثر تحديدًا.

6. الإغفال عن اللغة الشعرية:

- القراءة لم تركز بشكل كافٍ على اللغة الشعرية نفسها، مثل استخدام الكلمات والتراكيب الغريبة (مثل "عرائشي"، "دهشتي التّوّاقة") وكيفية تأثيرها على المعنى العام للنص.

ولكن..هل استطاع الكاتب قراءة النص بشكل سليم؟

نعم، الكاتب استطاع تقديم قراءة شاملة ومبنية على الفهم العميق للنص، لكنها ليست كاملة. القراءة كانت قوية في تحليل الرموز والصور الأساسية، ولكنها أهملت بعض الجوانب الأخرى مثل البنية الشعرية والبعد الاجتماعي والسياسي. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك اعتماد مفرط على التفسير النفسي دون استكشاف آفاق أخرى للنص.

اقتراحات لتحسين القراءة النقدية:

1. استخدام نظريات سيميائية متعددة:

- يمكن إدخال نظريات أخرى مثل التحليل النصّي أو التحليل البنيوي لفهم العلاقات بين العناصر المختلفة في النص.

2. التركيز على اللغة والأسلوب:

- يجب التركيز أكثر على اللغة الشعرية والصور البلاغية وكيفية تأثيرها على بناء المعنى.

3. لنظر إلى السياق الاجتماعي والسياسي:

- يمكن تحليل النص من منظور اجتماعي وسياسي، خاصةً إذا كان هناك أي إشارات في النص إلى قضايا تتعلق بالمجتمع أو السياسة.

4. تقليل الإسهاب:

- يمكن تقليص التركيز المفرط على بعض العناصر لجعل التحليل أكثر توازنًا وشمولًا.

عليه أجد ان القراءة النقدية لقصيدة "محارة عارية أنا" قدمت رؤية مثيرة للاهتمام حول الرموز والعلاقات داخل النص، بالرغم من محدودية في بعض الجوانب. بينما استطاع الكاتب فهم النص بشكل عام، إلا أن هناك حاجة إلى تعميق التحليل من خلال النظر إلى العناصر اللغوية والهيكلية والسياقية. إذا تم دمج هذه الجوانب، يمكن أن تكون القراءة أكثر شمولًا وإثراءً.

***

طارق الحلفي

................

رابط الموضوع

https://www.almothaqaf.com/readings-5/980111

قراءة نقدية سيميائية لقصيدة "محارة عارية أنا"، بقلم: سلوى علي – كردستان العراق

القصيدة / محارة عارية أنا / للشاعرة سلوى علي تمثل حالة من الغموض والتشظي العاطفي، وهي رحلة داخل الذات المتألمة والممزقة بين الألم والذاكرة، بين الحنين والضياع. تتبنى القصيدة أسلوبًا شعريًا غنيًا بالصور البلاغية والمعاني الرمزية التي تفتح المجال أمام القارئ لقراءة النص من عدة زوايا، وهو ما يسمح للقراءة السيميائية بتحليل العلامات والرموز والعلاقات التي تميز النص.
1. الرموز والعلامات
محارة عارية: يعد هذا التعبير من العنوان مركزًا رمزيًا بارزًا في النص. /المحارة/ تشير إلى الكائن المغلق الذي يحتفظ بما هو ثمين داخلها، ولكن عندما تكون /عارية/، تصبح غير قادرة على الحماية أو الإختفاء، مما يعكس حالة نفسية مكشوفة، عاطفية، وهشة. المحارة العارية تشير إلى الذات التي أصبحت عاجزة عن حماية أسرارها، معلنة عن هشاشتها الداخلية وحاجتها الماسة إلى الاهتمام والعطف.
الأرواح العائمة: هذا التعبير يدخل في مجال ماورائي يعكس حالة من الضياع في عالم غير مرئي، حيث لا يستطيع الشخص الوصول إلى الفهم الكامل لما يحدث حوله، في إشارة إلى الفجوة بين الوعي واللاوعي، بين الواقع والخيال. استخدام /العائم/ يوحي بحالة من التشتت واللاغية التي يشعر بها الشخص في رحلة بحثه عن ذاته.
زنابق طفولتي: الزنابق رمز للنقاء والجمال، لكن في هذه القصيدة تأتي محملة بالحنين والذكريات التي تحث الذاكرة على إيقاظ الماضي المؤلم. /زنابق طفولتي/ تدل على الطفولة البريئة التي فقدت في ظل الزمن القاسي.
الذاكرة على صراخ بأزقتها الخاوية: الذاكرة، هنا، تتجسد كمساحة فارغة، مليئة بالصراخ، كأنها شوارع مهجورة تفتقر إلى الحياة. هذه الأزقة الخاوية تعكس حالة العزلة والفراغ العاطفي الذي تعيشه الشاعرة، وهو صدى للألم الداخلي الذي لا يجد من يسمعه.
2. السيميائيات النفسية والتأويلية
أحلامي أحلام طفلة في سنوات الشوق: هذه العبارة تشير إلى براءة الطفولة وأحلامها البسيطة، ولكنها محملة بالوجع الناتج عن الزمن والمسافات الملعونة، حيث أن الحلم الطفولي النقي تحوّل إلى شوقٍ مرير. هذه الانتقالية بين الطفولة والنضج تعكس سعيًا مستمرًا للعثور على شيء مفقود، وهو الإحساس بالسلام الداخلي والراحة النفسية.
مَنْ يجدُ لي شفتيه؟: هذا السؤال يعكس الفقد العاطفي والجسدي، ويبحث عن المحبة والاحتواء الذي يمكن أن يخلص الذات من غربتها الداخلية. الشفاه هنا قد تمثل شفاه الأب، الأم، أو أي شخص آخر يشبع الحاجة الإنسانية العميقة للمحبة والقبول.
محارةٌ عارية أنا: هذه العودة للعنوان في نهاية القصيدة هي بمثابة إعادة التوكيد على حالة الفقد والضعف، حيث أن الشاعرة لا تزال تعيش حالة من العراء الداخلي، مفتوحة للريح والدموع، غير قادرة على حماية نفسها أو العيش بسلام مع نفسها.
3. السيميائيات الزمانية والمكانية
القصيدة تَنتقل بين عوالم مختلفة، ما بين الطفولة (زنابق الطفولة، حلم البلابل) إلى الحاضر الذي تتوالى فيه الخيبات والصراخ، ثم العودة إلى زمن الطفولة أو الأمس من خلال البحث عن /قبلة عيد/ و/شفاه أبي/. هذه الانتقالات الزمانية تحمل في طياتها إحساسًا دائمًا بالحركة والبحث عن الاستقرار في زمن غير مستقر.
تسارعت نبضي كهمّي المملوء المحموم: الصورة هنا تبرز توترًا داخليًا غير قابل للتهدئة. النبض والتسارع هو تمثيل للحالة العاطفية والفكرية المضطربة، التي تعكس جمودًا في الذات في الوقت ذاته. نجد أن الشاعرة تسعى لتسريع الزمن، لكنها تدرك في النهاية أن الوقت /قصير/، وتجد نفسها في حالة من الندم على ما فات.
4. التوتر بين الذات والعالم الخارجي
تتراوح القصيدة بين التوتر الداخلي للشاعرة وبين محاولاتها المستمرة للوصول إلى الأمان والطمأنينة. /محارة عارية/، كما ذكرنا، تمثل الذات المتألمة والمنفتحة على العالم الخارجي، وهي هنا، تتساءل عن من يمكن أن ينقذها من الألم، فمن خلال الأسئلة المتكررة /مَنْ يجدُ لي شفتيه؟/ و /مَنْ يجدُ لي شهد الاصطبار؟/، تبدو الشاعرة في حالة بحث مستمر عن خلاص، لا يجد لها سبيلًا إلا في التمسك بالماضي والذكريات.
5. الختام والتعبير العاطفي
يااااا أيها الصدى .. يا أيها الصدى/: هذا التكرار يشير إلى تواصل الشاعرة مع عالم بعيد عنها، وهو صدى لصرخة ألم ونداء لشخص أو لحالة من الخلاص لم تأتِ بعد. الصدى هو الصوت الذي يظل يعود إليك بعد أن ينقطع، وهو هنا يرمز إلى إصرار الشاعرة على الوصول إلى الحقيقة أو الراحة النفسية التي طالما بحثت عنها.
أصرخ في زمن الضجيج وااااأبتاه!: الختام بصرخة /أبتاه/ يجسد الحنين الأبوي الذي يطفو على السطح بعد أن كانت الشاعرة تطوف في عوالم معتمة مليئة بالتشويش والمشاعر المضطربة. الأب هنا يمثل مصدر الحماية والراحة، وهو آخر أمل يمكن أن يلتجئ إليه الشخص الذي يعيش في العراء.
الخلاصة:
القصيدة /محارة عارية أنا/ هي نص شعري مكثف وعميق يدمج بين الرمزية والسيميائية في التعبير عن حالة الضياع والبحث عن الذات. من خلال الرموز والألوان والعلاقات المكانية والزمانية، تفتح الشاعرة مجالًا للتأمل في الهوية، والحب، والضياع، والحنين. النص يعكس تجارب إنسانية متعددة، وهو يجسد التوتر بين الذات والعالم، وبين الحلم والواقع، وبين الماضي والمستقبل.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق
....................


محارة عارية أنا
بقلم : سلوى علي

كلّما أتأملُ الأرواحَ العائمة في عالمٍ لا مرئي، تتناغى الضربات الشاردة للقلب صلوات بأسرار عرائشي، ليدغدغ حكايات الوسائد المحشوة بحلمِ البلابل تحت خبايا نهار متدفق فوق أحجار التمني. فجأة، صوت يجلجل ما وراء الحدود زنابق طفولتي، لتحثّ الذاكرة على صراخ بأزقتها الخاوية وتلامس رماد سروجي كريح العراء بين نتوءات الخيال. يتسـارعُ نبضي كـهمّي المملوء المحموم فـوق مـشارف التأوه بإرث عــظيم، ينقّي قــلائده من كســـرات صـرخة منتفضـة بترتـها الخيبات.
أحلامي أحلام طفلة في سنوات الشوق ملعونة المسافات، تنتظر مـعانقة دمـوعي اليتيمة قُبلة عيد مـن جـذع شـجـرة التهمه الضباب وتناثر.
مَنْ يجدُ لي شفتيه؟! لأتطهر من غربتي وأغزل ضفائري بدندنة أزهار مدججة بطربه الغجري.
مَنْ يجدُ لي شهد الاصطبار..؟! فذاااك الصوت مازال قاتلي..!!
كي أقتفي هديل سراب حديقة مجهولة يتأرجح الجفاف بين مداراته، مشوشة الفكر. عساه ينساب مروجاً من سندس سرمديّ، قزحية الألوان، فراشاتها أزلية، براعمها أيقونات بلورية فوق جسدي المغتصب.
يااااا أيها الصدى.. يا أيها الصدى.
محارةٌ عارية أنا تغرق بأوردة الحنين بين فراديسه الضاحكة وقمحه الناضج، أتوسل اليك دع ابتهالاتي تتوهج، امهلْ دهشتي التواقة فالوقت قصير، دعني أمتطي صهوة الطيف بارتعاشاتي وهزيع الوجد بين جموح الخيال، لأسرق قُبلة واحدة من شفاه أبي وأصرخ في زمن الضجيج وااااأبتاه!

إلهام مختلف،

بقلم: الكاتب علي عزيز - كردستان العراق.

الليلة وعكس كل الليالي تقلبت في فراشك كثيرا ! احساسك بالحرارة يشعرك بالاختناق، لن تتحمل، راسك امسى كوره للدبابير، منذ المغيب وراسك مزدحم بالكلمات والذكريات، وحيدا انت في غرفتك الخاوية، خاوية كالمقبرة التي تحتضن امك في هذه المدينة المكتومة والحزينة، انت والاخرين كأنكم موتى، مع انك في هذه العتمة والخوف اردت ان تكون صرخة،صرخة اذا لم تمزق ستار الصمت علها توقظ اناسا نائمون منذ الازل ولا يريدون الاستيقاظ،اردت ولكن هيهات، لم يسمحوا لك اولئك الذين ينشرون في عناوين صحفهم و برامجهم حقوق الانسان ويتغنون للإنسانية بأعلى صوت لكنهم في غرفهم السوداء وفي سراديبهم يستحوذون على الحقوق والاحلام والامان واعترافات الانسان. لن تستطيع ان تخدع نفسك اكثر من ذلك، اقتنعت اخيرا انك هذه الليلة لن تنام، دفعت بقدميك غطائك وجلست تلف ذراعيك كالمفجوع حول ساقيك نظرت بصمت نحو الكتب الملقاة على دكة النافذة، بماذا تفكر يا ترى؟ هذه المرة لن يعتقوك، تعرفهم جيدا فهم مجرد كلام وضحكات مزيفة، مقنعة وجوههم، تصرفاتهم تمثيل ووعودهم كاذبة، ماذا تريد ان تفعل؟ نهضت كالمجنون نحو الكتب اخرجت ورقة بيضاء والتقطت القلم المرمي بجوار السرير وكتبت (لا اعرف) تأملت بصمت تلك الكلمة تثاؤبك المنقطع ملأ عينيك بالدموع مسحتها بظهر كفك بسرعة ونظرت الى الكلمة ومحوتها بالقلم وكتبت (لماذا؟)
نهضت من غير وعيٍ وتجولت في الغرفة ذهابا وإيابا ادخلت اصابعك بين شعرك عده مرات محاولا تخفيف الالم، كان راسك يؤلمك كثيرا وكانه بالونة مليئة بالهواء على وشك الانفجار،ماذا تنوي ان تكتب؟.. مقاله؟ نثر؟ انت حتى لست بقاص، لا تقل انك ستكتب شعرا؟ فهذا موضوع لا ينسى ابدا، قالوا لك عليك ان لا تكتب الشعر اطلاقا، فضحكت كثيرا، الا يعرفون ان حياة الطيور في تحليقها ضربوك بكف اوقفوك عن ضحكاتك، هذه الليلة تريد ان تضع حدا لإهاناتهم واستخفافهم بكرامتك وجميع القيود التي تحيط بحياتك والكلمة هي سلاحك الوحيد آآاه ما اصعبها من مواجهة ! صياح ديك الجيران افزعك رفعت راسك ناظرا الى النافذة قلت مع نفسك النهار! نظرت الى الورقة التي امامك عضضت شفتاك بضجر وكتبت (يسقط....) ثم ارتديت ملابسك وخرجت.
..................
المقدمة:
تدور القصة حول حالة نفسية معقدة لبطل يعاني من ضغط داخلي وخارجي في محيطه الاجتماعي والسياسي. تتناول القصة الصراع الداخلي للشخصية ومحاولتها للتعبير عن ألمها وإحباطها باستخدام الكلمة كأداة للمواجهة. في هذا التحليل السيميائي، سيتم التركيز على الرمزية، التركيب اللغوي، والعناصر السردية التي تساهم في بناء دلالة القصة.
1. الشخصية:
الشخصية الرئيسية في القصة هي شخصية مضطربة نفسيًا، يعبر عنها من خلال استخدامه لأفكار وأحاسيس متضاربة. يتضح من النص أن الشخصية تعاني من شعور بالاختناق الداخلي والضغط النفسي، وهو ما يظهر في العبارات مثل /رأسك امسى كرة للدبابير/ و /الشعور بالحرارة الذي يشعرك بالاختناق/. هذا الاختناق ليس فقط جسديًا، بل هو أيضًا معنوي، نتيجة للحالة التي يمر بها الشخص في بيئته الاجتماعية والسياسية.
2. الرمزية:
النافذة: تعد النافذة في النص رمزًا لفصل بين العالم الداخلي للشخصية والعالم الخارجي، وهي نافذة يطل منها الشخص على واقعه الذي يعاني منه. الكتب على النافذة تمثل ربما محاولة للهرب إلى المعرفة أو الإلهام الذي يبدو أنه غير مجدي في تغيير حالته.
الورقة البيضاء: الورقة البيضاء تمثل بداية جديدة أو محاولة للبدء في التعبير عن الذات، لكنها تصبح محض شعور بالضياع كما يظهر في كتابة /لا اعرف/ ثم محوها وكتابة /لماذا؟/. هذه التفاعلات تشير إلى حالة من الحيرة والتشوش الذهني الذي يعيشه البطل.
الديك: صياح الديك يشير إلى بداية اليوم الجديد، وهو يمثل الضوء الذي يتسلل إلى ظلام الليل ولكن دون أن يكون له تأثير حقيقي في تحسين الحالة النفسية للبطل.
3. البنية السردية:
القصة تتبع أسلوب التداعي الحر للأفكار والمشاعر، حيث لا توجد تسلسل زمني دقيق أو تطور واضح للأحداث. السرد ينقل القارئ عبر التبدلات النفسية للمحكوم عليهم بمأزق داخلي؛ إذ تبدأ الشخصية تفكر في الموت، في الكلمات، في الغضب، ثم في محاولات لكتابة شيء قد يغير الواقع. هذا الأسلوب يعكس حالة نفسية مشوشة ومضطربة، وهو ما يعزز من إحساس القارئ بمدى التوتر الذي يعيشه البطل.
4. اللغة:
اللغة المستخدمة في القصة مليئة بالصور المجازية القوية مثل /رأسك كورة للدبابير/ و /الشعور بالاختناق/. هذه الصور تعكس الصراع الداخلي للبطل وتظهر قسوة الواقع الذي يعيشه. استخدام العبارات المباشرة مثل /لا اعرف/ و /لماذا؟/ يزيد من وضوح الإحساس بالضياع والاستفهام المستمر الذي يواجهه البطل في محاولاته لتفسير وجوده.
5. الفضاء الزماني والمكاني:
الزمان: القصة تتم في /الليلة/، ما يوحي بتوقيت يكون فيه البطل في عزلة، سواء كان الوقت مساءً أو في مرحلة الليل حيث يغلب الهدوء والظلام. الليل هنا يشير إلى حالة من الانغلاق الداخلي، حيث لا يمكن للفكر أن يجد مخرجًا.
المكان: يتم تحديد المكان بشكل ضبابي وغير محدد بشكل دقيق، لكن وصف الغرفة بأنها /خاوية كالمقبرة/ يجعلها مكانًا منغلقًا ومكتومًا، ما يعزز شعور العزلة والفراغ الداخلي. كما أن المدينة نفسها تُوصف بأنها /مكتومة وحزينة/، مما يشير إلى قسوة البيئة المحيطة التي يعيش فيها البطل.
6. الرسالة أو المضمون:
القصة تعكس الصراع الشخصي والوجودي الذي يواجهه الإنسان في بيئة تتسم بالقمع الاجتماعي والسياسي. الرغبة في التعبير عن الذات والكلمة التي هي سلاح البطل تتعثر بسبب الضغوط الخارجية. الكتابة هنا تصبح أداة مقاومة في وجه الواقع الذي يعاني منه البطل، لكن في النهاية، يبقى الشخص عاجزًا عن تغيير الوضع. الكلمة /يسقط.../ التي يكتبها في النهاية تظل غير مكتملة، مما يعكس عجزه عن إيجاد إجابة أو حل لحالته.
الخاتمة:
هذه القصة تتعامل مع موضوعات الاغتراب والضياع الداخلي في عالم مليء بالصمت والظلام. من خلال السيميائية، يمكن رؤية كيف يستخدم الكاتب الرموز والأفكار المتداخلة لخلق جو من القلق والتوتر الذي يعكس حالة الشخصية. إن تداخل الذات مع المحيط القاسي يعكس الأبعاد النفسية والاجتماعية التي يعاني منها الإنسان في مجتمع يرفض الاستماع إلى معاناته.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق

عرضت مسرحية (فرح) الموجهة للأطفال - تأليف وإخراج حسين علي صالح، يومي الأربعاء والخميس ٢٦- ٢٧ / ٢/ ٢٠٢٥ على مسرّح الرشيد، الساعة الحادية عشر صباحا، فقد عمل القائمون على العرض على مراعاة توقيت العرض ليناسب حضور جمهور كبير من تلاميذ المدارس.
أحكم المؤلف (المؤلف المخرج) حكاية المسرحية وحبك أحداثها: الأب (غضبان) والأم (قوية) يدفعون (فرح) و (سعيد) لسرقة أموال موجودة في دار الأيتام، بناء على خطة محكمة وضعها (غضبان) يسرق الاخوين (فرح) و (سعيد) حقيبة الأموال، يتناولها منهم (غضبان) ليفتحها ويفرح بكمية الأموال، ويجد فيها ورق يعطيها لـ (سعيد) لرميها ، ويأمره لاصطحاب (فرح) والذهاب للتسول وإحضار الطعام، في الشارع يسرق (سعيد) و (فرح) كيس طعام من أحد المارة، لكنه يتمكن من الامساك بهما ويجد معهما الورقة، وبعد التحقق منهما بخصوص الورقة، يخبرهم انه (نبيل) مدير دار الايتام، وأن هذه الورقة فيها اسماء الايتام ومعها أموال تبرعات اليتامى ومعالجة مرضى السرطان مسروقة ، يعترفان له بعملية السرقة، وانهما نادمين على فعلتهما، وتكشف فرح عن إصابتها بمرض السرطان، يتفقون على استرجاع الأموال وإعادتها إلى مستحقيها، وينجحون في تكبيل (غضبان) و (قوية) لانتزاع اعترافاتهم لتحدث فعل التعرف ومفاجأة بأنهما قاموا بخطف (فرح) و(سعيد) يتم الاتصال بالشرطة لاعتقال المذنبين، ويعم الفرح.1138 farah

يتضح من خلال سرد الحكاية أن المؤلف/المخرج عمد إلى تسمية شخصياته لتكون دالة على طبعها ومفصحة عن جوهرها، كما أنه حرص تبسيط فكرة العرض للطفل وإيصالها عبر المتن الحكائي (لا يجب تسخير الأطفال في أعمال شريرة مثل التسول والسرقة، والتأكيد على الحفاظ عليهم، مع التنبيه إلى التعاون من أجل مساعدة الأيتام ومرضى السرطان)
(المفاجأة والصدمة والصدفة) ثلاثة عوامل توافرت في العرض، أسهم إثنان منها في زيادة التفاعل وهما عامل (المفاجأة) وعامل (الصدمة) أما العامل الثالث (الصدفة) فقد أسهم في تأرجح مصداقية الأحداث وتوفير القناعات بمجرياتها ، تجسدت المفاجأة في تعرف ان (فرح) و (سعيد) ليسا أبناء هذه العائلة القاسية مما زاد في التشويق والإثارة لمتابعة الآتي من الفعل الدرامي، اما الصدمة القاسية فتجلت في فعل إزالة الشعر المستعار (الباروكة) عن رأس (فرح) وظهورها صلعاء، وحوارها الدال على اصابتها بمرض السرطان، مما رفع نسبة التعاطف معها ومشاركة المتلقي لمشاعرها، وقد كان لعامل (الصدفة) دور في دفع الأحداث للتصاعد مع الاخذ بالاعتبار ان وجود ثلاث مصادفات متتالية تجعل المتلقي أمام حيرة بدرجة ما، الصدفة الاولى لقاء الطفلين فرح وسعيد بمدير دار الأيتام (نبيل) في الشارع، الصدفة الثانية احتفاظ (سعيد) بورقة ووقوع نظر مدير دار الأيتام عليها ليكتشف السرقة من خلالها ويحدث التحول في الأحداث، الصدفة الثالثة احتفاظ (غضبان) بهاتف عائلة (فرح و سعيد) وفعل الاتصال بهم الذي أنهى المسرحية بعجالة بعد إعادة حقيبة الأموال.1139 farahتنوعت فضاءات العرض وبيئة الأحداث، فقد تغير المناظر لثلاث مرات، الفضاء الأول أقرب إلى التجريد والايحاء بالمكان منه إلى الفضاءات الواقعية الموجهة للأطفال، ثلاث شبابيك وباب ملونة، يبدو عليها آثار الفقر والاهمال معلقة في الفضاء، الفضاء الثاني والثالث صنعته صورة منظر شارع، عرضت بواسطة جهاز الـ (داتاشو) مع اضافة مصطبة، أما ما ملأ الفضاء وجعل الحيوية تتدفق في ارجاءه فهي حركة الممثلين وتوزيعها على مناطق خشبة المسرح فضلا عن وضوح بنية الشخصيات وتصنيفها على طرفي معادلة الصراع المناسبة للطفل منذ بداية العرض (غضبان وزوجته قوية) الطرف الشرير و (فرح واخوها سعيد) الطرف الخيِّر، ومنح المؤلف/ المخرج شخصية (نبيل) فعل حل الصراع.
تقول (وينفريد وارد) في كتابها الرائع (مسرح الأطفال): (المخرج الذي يستطيع أن يرى العالم من خلال نظرة الطفل هو وحده الذي ينبغي أن يخرج مسرحيات الأطفال) ويمكن تعميم هذه المقولة لتشمل المؤلفين والممثلين والشعراء والموسيقيين وجميع من يتوجه بنتاجه إلى الطفل، وقد حققت مسرحية (فرح) أهدافها التثقيفية والجمالية بفضل ما تمتع به فريق العرض من روح الطفولة و مستندين في ذلك لخبرتهم الفنية وما زرعه المخرج (حسين علي صالح) الخبير بخبايا مسرح الطفل فيهم، مع الاشادة بالحضور الجميل لجميع الممثلين (قاسم السيد وسلوى الخياط وعدي الكرخي وأحمد شوقي وبنين أيمن) الذين جسدوا خصائص التمثيل في العرض الموجه للطفل من خلال نقطتين أساسيتين: محاكاة الحركة والإلقاء ذي السمات الطفولية، لا وجود انفعالات مأساوية عميقة ولا إسراف في المواقف الكوميدية.
تعد الكوميديا والاغاني من الأمور الأساسية الواجب حضورها في مسرح الطفل، ذلك أنها من الجماليات المؤطرة للدراما الطفلية، ولتكون عناصر ترويحية تساعد في امتصاص توترات الصراع، لذا وظف المخرج عنصر الكوميديا في العديد من بعض المواقف، وعمل على تزيين العرض بالأغاني المؤلفة من قبل الشاعر (عبد الرزاق الربيعي) والحان (هادي الشاطي) وهي معبرة عن الشخصيات والأحداث الدرامية، وأسهمت في تصاعد الأحداث لكونها جزء عضوي في العرض وليس جزء ترفيهي وحسب. وهنا لابد من الاشارة المحمودة لعدم سماع الموسيقى والمؤثرات الصوتية ولا الانتباه إلى الاضاءة والمؤثرات الضوئية بصورة منفردة، لقد أدت الموسيقى الإضاءة فعلا أساسيا في صناعة الجو النفسي العام للعرض، وشكلت لغة متضامنة مع الصورة الكلية للتكامل الفني في العرض.1141 farahليس من اليسير السيطرة على انتباه جموع الأطفال، ما لم يمتلك العرض وسائل تجعل انتباههم مركزا على ما يقدم إليهم لمدة ساعة تقريبا، ان حكاية العرض واحداثه وتنوع شخصيات وأداء الممثلين ومهارة الفنيين.. كلها عوامل صنعت العرض وأسهمت في جعل المتلقي الصغير مشدودا وغير قادر على التفريط في لحظات من العرض، وهذا من المؤشرات الهامة على النجاح، مع ملاحظة حضور أطفال ليسوا من الفئة العمرية (9 - 12) سنة التي يمكن أن تتابع عرض مسرحي لستين دقيقة، وهذا أمر خارج سيطرة القائمين على أي عرض مسرحي، إذ لا يمكن حصر الفئة العمرية واستبعاد فئة أخرى من الدخول إلى القاعة، ويبدو أن مسألة تحديد الفئات العمرية لا يعدو كونه مسألة نظرية أكاديمية.
إن مثابرة وجهود فريق عرض مسرحية (فرح) إلى جانب العروض الاخرى الموجهة للأطفال التي قدمت خلال الشهور القليلة الماضية، أنتجتها جهات عديدة، تؤشر علامة مضيئة في مسيرة المسرح ودلالة حقيقية لتعافي الدراما المسرحية في بغداد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تكون هذه العروض موجهة ليس لتلاميذ المدارس حصرا، إذ يفضل تنفتح على عموم الأطفال، وأن يكونوا بصحبة ذويهم لأن عروض مسرح الطفل موجهة للعائلة ضمنا، لأن موضوعاتها وافكارها تمس الحياة الاجتماعية العامة.
***
د. حبيب ظاهر حبيب

 قراءة في تجليات المضمر

يبدو أنَّ الرياضات الروحية والعشق هما ما يحققان للعارف الوحدة الشخصية للوجود ولوازمها وتحقق لمن  أدرجها ذاتاً أشبه بالذات الملائكية، ونعلم أنَّ العرفانيين اعتمدوا الكشف والشهود والمقصود بالشهود العرفاني هنا هو مقام حق اليقين والذي يؤدي إلى الوصول إلى أعمق ساحات الوجود، وقد يتأتى هذا بفطرة نقية من دون الاعتماد على المنهج العلمي للعرفان كالشهود القلبي ودون أنْ يطوي المنازل السلوكية للرياضة فبالإمكان الوصول إلى العشق من خلال الإيمان برواسخ العقيدة وتعطش النفس للفناء بالذات العليا ومن بين هؤلاء الزهاد والمؤمنون باليقين، و من أحب كمال الوجود من علماء وشعراء، ولربما أناس بسطاء قد تجدرت فيهم ثوابت اليقين فراحوا يجهدون أنفسهم بالعمل الصالح وإفناء ذواتهم في أنوار الخالق الرحيبة، فتتولد لديهم المعاني القيمية التي بها تزيل من أمامهم الحجب فراحوا يتوسلون الفيوضات الربانية والانصهار ببركاتها النورانية.

والشاعر الدكتور عبد الأمير الورد واحد من أولئك الذين تكشَّفت لديهم الأنوار الرحيبة، وكما عرفناه أستاذاً ومربياً كانت تتجلى شخصيته الإيمانية بخلقه العالي وباستشهاداته القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة وما يحفظ من أحاديث لأهل البيت (عليهم السلام) ولا سيما في الدرس وخارجه، فضلاً عن الشواهد الشعرية ذات النزعة الدينية والصوفية وما استقى طلبته من مواعظه وإرشاداته والاقتداء بشخصيته النجيبة.

أما ما تجلى في شعره من خصال وصور ملائكية، فهي كثيرة، لابد أن نتناول نماذج منها؛ كونها تترجم ما في مكنوناته القدسية، يقول في إحدى قصائده:

يا من هواهُ يغذِّي فؤادي

رحماكَ يا ربِّ يوم المعادِ

*

رحماكَ ربي بعبد فقير

شانت هواه ضروب الشرور

*

مازال يرجوك حُسنَ المصير

إذ لا شفيعٌ سوى خير هادي

*

رحماك يا ربِّ ضلَّت خطانا

حين اتَّبعنا دليلا هوانا

*

إنَّا فزعنا فهبنا الأمانا

يا غافراً يا رحيم العبادِ

فنرى الشاعر في دعائه الذي سكبه شعراً يحاول تنقية نفسه طالباً الرحمة والمغفرة، بينما هو يُظهِر ضعفه أمام خالقه، بوصفه الفقير لتلك الرحمة، إذ شانت هواه أنواع الشرور كما يقول، وتلك عادة مستحسنة من لدن الزهاد والعرفانيين والمتصوفة في تبرير ضعفهم وطلب السماح والمغفرة؛ لإطفاء الذنب وستر العيب، كما أنَّه يبث ذلك؛ ليُظهر أنَّ الخلق بحاجة إلى مغفرة الخالق؛ لأنَّ طبيعة النفس البشرية هي إملاء حاجتها الدنيوية المتعلقة بالجسد؛ لذا يدعو الله بحسن المصير والعاقبة، ويبدو أنَّ الشاعر من دون وعيه يُظهر لنا إيمانه باليوم الآخر، وما الفزع منه إلا صورة حية لذلك، مترجياً الأمان ليوم لاتنفع فيه معذرة ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾(غافر: 52) فهو المؤمن بأنَّ الله رؤوف رحيم بعباده.

وفي نص آخر بعنوان (جد لي بلطفك) يقول:

جدْ لي بلطفك كي تُعزَّ مكانتي

فبغيرِ لطفك لا أريمُ ذليلا

*

جد لي بلطفك كي أتيه على المدى

فخراً وأُصرعُ في هواك قتيلا

*

الآن تعطيهِ بغيرِ تأخُّرٍ

فأخو الضنى لا يقبلُ التأجيلا

*

آياتُ فضلك محكماتٌ كلها

وضَّاحة لا تقبل التأويلا

فنجده ينزع هنا نزعة صوفية وهو يطلب من الخالق سبحانه اللطف به من دون غيره؛ لأنَّ طلب اللطف من غير الله مذلَّة، بينما نجد في البيت الثاني رغبته الذوبان بهذا المدى فخراً ... متمنياً أن يُصرَع في هواه قتيلاً، فهو المضنى بحبِّه، فلا تأجيل لهذا اللطف؛ كون الله سبحانه هو الضامن لهذا اللطف الذي سيناله حتماً مؤمناً بفضل الله الذي لابدَّ أن يتحقق، وليس في حسبان الشاعر أن يقبل التأويل. ولعل الدكتور الورد كان موقناً وحفياً بأقوال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنها قوله: " والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" (متفق عليه).

فالصورة الملائكية تتجلى لدى الشاعر، وهو ينغمر في لطائف الله الذي يتمثل بسعي العبد إلى بارئه عن طريق الدعاء والإيمان بالله من أنَّه هو صاحب الفضل من دون مِنَّةٍ على العباد. ويبدو أنَّ الشاعر يعيش منزلة اليقظة "إنَّ منزل اليقظة هو منزل التنبه والوعي وإدراك الذات، وعدم كون الإنسان من مصاديق، فالناس نيام بمعنى أنَّه يتعين علينا أن نقوم بإيقاظ أنفسنا بأنفسنا ونلقِّن أنفسنا بأننا إيقاظ ولسنا نياماً" وهكذا يعيش الورد حالات الإيمان الذي لابد أن يستمر لديه؛ ليبقى قلبه يقظاً وأنْ لايسقط في حجب الظلمات.

أما قصيدة (دعاء الأمان) فتُعَدُّ من النصوص التي توثق للشاعر ملائكيته في التهجد والدعاء والتسبيح فهو يقول:

أمان أمان - أمان أمان - أمان أمان

ربّ الحنان

ربّ الأمان

لكَ الركوعُ والخضوعُ والخشوع في الجنان

أمان أمان - أمان أمان - أمان أمان.

لك السجود والوجودُ والمكان والزمان

أمان أمان- أمان أمان- أمان أمان

أنت الهدى والمنتهى والمبتدأ والعنفوان

أمان أمان- أمان أمان- أمان أمان

ربُّ العطايا ترجو البرايا محو الخطايا هَبها الأمان.

أمان أمان- أمان أمان- أمان أمان.

القصيدة كُتبت عام 1985 م, وهذا العام هو ذروة الحرب العراقية الإيرانية، بينما الورد ذلك الإنسان التقي الذي يدعو إلى السلام من أجل الحفاظ على الأرواح من تلك الحرب التي كانت تنزل الصواريخ على منازل الناس؛ ماجعله يدعو الله أنْ يبثَّ الأمان في النفوس، فالله هو ربُّ الأمان وربُّ الحنان، فالعبادة له وحده بكل أشكالها كما أنَّ كل شيء له. ولعل الشاعر انماز في الأدعية باللغة السهلة المبسطة؛ كونها تتناغم مع ثقافة الناس الذي يدعو لهم أن تنفرج عنهم الغُمَّة التي سادت البلاد، واستفحل شرورها عليهم فراح الشاعر يردد لفظة (أمان) بعد كل سطر شعري من القصيدة، وهذا نابع من إيمانه العميق بالله سبحانه وتعالى خالق الخلق ومدبر الأمر.

نخلص أنَّ الإنسان يمكنه أن يصل إلى مرتبة الملاك حين يكرس النقاء بأفعاله وأعماله، وخلقه الحسن وعبادته الصادقة، ما يجعله يرى ذاته تتطوف في أنوار الإشراق الإلهي الذي تظلل عوالُمه المؤمنين والصديقين والأنقياء وحسن أولئك رفيقا.

***

بقلم أ.د. رحيم عبد علي الغرباوي

قصيدة في زمن الشوق والحرمان: بوح القلب

قصيدة / بوح قصيدة / للشاعرة اللبنانية حنان يوسف تحمل في طياتها مزيجًا من الشوق، الألم، والحنين، وتنقل القارئ إلى عالم عاطفي مليء بالتناقضات، حيث تعبر الشاعرة عن صراع داخلي عميق بين الحب والحرمان، الأمل واليأس، التواجد والغياب. هي قصيدة تتناول الرغبة في التواصل والاتصال مع الآخر، لكنها تبرز أيضًا الألم الناتج عن المسافات التي تفصل بين الأحبة.

الموضوع العام:

القصيدة ترتكز على فكرة الاشتياق والحب الممنوع أو البعيد، حيث تتعامل الشاعرة مع مشاعر متناقضة ومتداخلة. من خلال بوحها الداخلي، تنقل لنا الشاعرة تفاصيل العاطفة الهائلة التي يشعر بها الشخص في حالة الحب أو الاشتياق، وهي مشاعر متوترة بسبب المسافة بين الأحبة أو الزمن الذي يمر ويؤثر على العلاقة. على الرغم من هذه المسافة، يبقى الحب حيويًا في القلب، ولكن يتبدد بمرور الوقت وتزداد مشاعر الحنين، ويحل معها شعور آخر من الفقد.

التقنيات الأدبية:

الاستعارات والتشابيه: الشاعرة تستخدم استعارات غنية ومعبرة لخلق صور شعرية حية. على سبيل المثال:

/نبضاً يتراقصُ في صدري/: استعارة تُجسد تأثير الحب على الشاعرة بشكل قوي، حيث يُظهر القلب كآلة حية تتأثر بالعواطف بشكل فوري.

/في بوحه أسراري/: هنا، البوح يصبح وسيلة للكشف عن الذات، وهو رمز للكشف عن المشاعر المخفية.

/والمسافات شموعٌ تتوهج بالشوق الكبير/: توازن بين المسافة والشوق، حيث تصبح المسافات شيئًا يتوهج في القلب بدلاً من أن تكون مجرد فراغ.

الرمزية:

الزمان والمكان: الزمان والمكان في القصيدة يلعبان دورًا أساسيًا في تعميق شعور الغربة والفقد. /سكن في زمنِ الأبعاد/ و/عشقك المهزوم/ يعكسان الحنين لماضي أو لحظة كانت أكثر حضورًا في الذاكرة من الواقع الحالي.

الشوق والحرمان: الشوق يصبح عنصرًا أساسيًا في القصيدة، ولكنه لا يأتي في صورة ممتعة أو مفرحة، بل هو شوق يرتبط بالحرمان والألم. /نم قرير الشوق على صدر الحرمان/ يمثل حالة من التعايش مع الألم الناتج عن الفقد أو البعد، مما يضيف بعدًا مأساويًا في القصيدة.

التكرار: التكرار في القصيدة ليس مجرد وسيلة لإضفاء الإيقاع، بل هو أداة لتكثيف المشاعر وتعميقها. تكرار كلمات مثل /الشوق/، /الحنين/، و/الزمان/ يعكس تكرار التجربة العاطفية نفسها، بما في ذلك الصراع الداخلي المستمر بين الأمل والفقد.

الأسلوب واللغة:

الشاعرة استخدمت لغة شاعرية، تميل إلى الغموض في بعض الأحيان، مما يفتح المجال لتفسير متعدد المعاني. الكلمات مثل /غدر بشتائك/ و/أحنى ظهرك الزمان/ تحمل إحساسًا بالخذلان والظروف التي تحول دون التقاء الأحبة أو حدوث اللقاء المأمول.

استخدام الشاعرة لبعض الألفاظ ذات الطابع الكلاسيكي مثل /صبري/، /الحنين/، و/الوقار/ يمنح القصيدة بعدًا ثقافيًا تقليديًا، لكنه في الوقت ذاته يتناغم مع طبيعة القصيدة المرهفة التي تحمل أبعادًا عاطفية وفلسفية. هذا التزاوج بين العاطفة الشخصية واللغة الرمزية يجعل من القصيدة مساحة مفتوحة للقراء ليتواصلوا مع أفكارهم الخاصة حول الحب والفقد.

الصور الشعرية:

القصيدة مليئة بالصور الشعرية التي تترجم الصراع الداخلي بين الرغبة والفقد، مثل:

/المسافات شموعٌ تتوهج بالشوق الكبير/: صورة شعرية غنية حيث تتحول المسافات إلى شموع تضيء في قلب الشاعرة، مما يضيف بعدًا شاعريًا ورومانسيًا للصراع الداخلي.

/في بياضِ شَعرك يلمعُ الوقارُ/: الشعر هنا ليس مجرد عنصر مادي، بل هو رمز للوقار والنضوج الذي يتجلى في علاقة الشاعرة بالمحبوب أو في عالمها الداخلي.

/نم قرير الشوق على صدر الحرمان/: هذه الصورة تمثل صراعًا داخليًا، حيث يتعايش الشوق مع الحرمان، ويبدو أن الشاعرة قد اعتادت هذا الوضع المؤلم.

الختام والفكرة الفلسفية:

القصيدة تنتهي بتعبير مكثف عن الحزن والتقبل لمفهوم الفقد: /فأنا مثلك،، اسكن إنما،،؟ في زمن بلا أسياد/. في هذه السطور، نرى نوعًا من التمرد على الزمن وعلى القيود التي يفرضها الواقع، حيث يختتم النص بعبارة تشير إلى نوع من التأمل الفلسفي في الحرية والوجود في /زمن بلا أسياد/. إنها دعوة للعيش بوعي مكثف رغم الألم، والتصالح مع الواقع.

الاستنتاج:

قصيدة /بوح قصيدة/ هي عمل شعري متقن يعكس صراع الذات مع مشاعر الشوق والحرمان في عالم مليء بالتناقضات. عبر استخدام الرمزية والاستعارات واللغة العاطفية العميقة، تطرح الشاعرة رؤية حساسة للعلاقة بين الفرد وواقعه الداخلي، وتعبر عن فكرة الاشتياق والحب بشكل يعكس القوة والضعف في آن واحد. القصيدة تلخص تجربة إنسانية عميقة مليئة بالألم والأمل، مما يجعلها مؤثرة وقادرة على لمس قلوب القراء.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

..........................

بوح قصيدة

قرأتُ فيكَ نبضاً

يتراقصُ في صدري

يهمسُ بسرّي

غرسني،،

في حقولِ الاشتياق

سلبَ صبري

وتمادى في الابتعاد

في بوحه أسراري..

ولهفةُ اللقاء

تسبحُ في ثنايا أوردتي

والمسافات شموعٌ

تتوهج بالشوق الكبير

سكن في زمنِ الأبعاد

أسمعُ أنينك المتعب

غدرَ بشتائك

وأحنى ظهرك الزمان

يا وصالاً،،

دونَه جفّت العروق

والنبضُ ارتهان

في بياضِ شَعرك

يلمعُ الوقارُ

في صدرك ،،

ذاب الحنينُ

إلى القصيدة

دائم البحث عن الحنان

في دروب مخفية

ومتاهات

عن عشقك المهزوم

فنم قرير الشوق

على صدر الحرمان

فأنا مثلك،،

اسكن إنما،،؟

في زمن بلا أسياد

***

حنان يوسف – لبنان

يُعد مفهوم الأنا والآخر من أبرز المحاور الفكرية والفلسفية التي شغلت النقاد والكتّاب في النصوص الابداعية بشكل عام، والنصوص الروائية بشكل خاص. إذ يمثل هذا المفهوم إنعكاساً للعلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع، وبين الذات والهُويات المختلفة، ففي النصوص الروائية، يظهر هذا المحور كعنصر مركزي يُسهم في بناء الشخصيات، والحبكة في ثيمة النص، والرسالة التي يُراد إيصالها.
فالأنا هو مركز الذات وتجليّ الهُوية، حيث تمثل الأنا في الرواية الذات الواعية التي تسعى لفهم العالم المحيط بها، وتعكس رؤية الكاتب للحياة والوجود، فالأنا ليست مجرد شخصية في النص؛ بل هي وسيلة للتعبير عن القيم، والطموحات، والصراعات الداخلية، وفي كثير من الأحيان، تكون الأنا هي البطل أو الراوي الذي يوجه القاريء لفهم السياق السردي.
وعلى سبيل المثال، في روايات الحداثة وما بعدها، نجد الأنا تواجه أزمة هُوية عميقة نتيجة التغيرات الاجتماعية والسايسية. فالروائي يعبّر عن هذا من خلال تيارات الوعي والسرد الداخلي، حيث تكشف الأنا عن هشاشتها وشكوكها في محاولة لفهم العالم المتغير من حولها.
وعندما نقول (الآخر)؛ هو المرآة والنقيض، فالآخر في البناء الروائي يُمثل كل ما هو مختلف عن الذات، قد يكون الآخر شخصية ذات هوية مغايرة ثقافياً، أو دينياً، أو إجتماعياً، أو حتى رمزاً لأفكار ومفاهيم مناقضة لما تؤمن بها الأنا. كما يظهر الآخر كعامل محفز للصراع والتطور في النص، حيث يسلط الضوء على التباين بين الذات والغيرية. كما هو الحال في النصوص التي تتناول قضايا الاستعمار أو التعدد الثقافي، يُظهر الآخر غالبًا كرمز للهيمنة أو التهميش. في هذه الحالة، تتجلى العلاقة بين الأنا والآخر كصراع حضاري أو ثقافي، يعكس مواقف المجتمع تجاه الإختلاف.
العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر
تُظهر العلاقة بي الأنا والآخر في الرواية جدلية معقدة تحمل في طياتها جوانب الصراع والتفاهم. فمن جهة، يُعد الآخر وسيلة لتحدي الأنا وإجبارها على مواجهة ذاتها، ومن جهة أخرى، يُمكن ان يكون الآخر رمزاً للتهديد أو مصدراً للسلام.
وعلى سبيل المثال، ففي رواية (الغريب) للروائي البير كامو، يُمثل الآخر المجتمع الذي يُحاكم الأنا وهو البطل (ميرسو) على أفعاله وطبيعته اللانتمائية، كما يصفها أيضاً الكاتب والروائي الفيلسوف كولن ولسن في كتابه اللامنتمي؛ هذه العلاقة تعكس إغتراب الإنسان الحديث والمعاصر وصراعه مع القيم الاجتماعية التي يفرضها الآخر.
فالأنا والآخر تعد أداة للنقد الاجتماعي، حيث تلعب العلاقة بين الأنا والآخر دوراً هاماً في النقد الإجتماعي، وذلك من خلال كشف التحيزات الثقافية والتمييز العرقي والجندرة والاختلاف الديني. فالروائي يستخدم هذه العلاقة ليُبرز التوترات الاجتماعية والسياسية، ويدعو المتلقي أو القاريء لإعادة التفكير والتقييم في تلك القضايا.
إن الأنا والآخر لهما بعدان في السايق الثقافي والحضاري، وتمتد العلاقة بينهما في النص الروائي الى سياقات أوسع تعكس التفاعل بين الثقافات والحضارات، ففي الأدب العالمي نجد الروايات التي تتناول الاحتكاك بين الحضارات المختلفة نتيجة الإستعمار أو الهجرة أو التبادل الثقافي، فتُقدم الآخر بوصفه مرآة تُظهر للأنا مدى تشابكها مع العالم الخارجي.
كما يتجلى هذا في أعمال مثل (قلب الظلام) للروائي جوزيف كونراد، حيث يُصور الآخر بوصفه النقيض للحضارة الاوربية، مما يفتح النقاش حول المركزية الأوربية ونظرتها الى الآخر. في المقابل، نجد أدب ما بعد الإستعمار يركز على إعادة تعريف الآخر من وجهة نظره الخاصة، كما هو الحال في أعمال تشينوا أتشيبي، التي تُظهر الأنا الافريقية وهي تُعيد صياغة علاقتها بالآخر الغربي.
الآخر الداخلي: صراع الذات مع نفسها
لا يقتصر مفهوم الآخر على الكيانات الخارجية، بل يمتد ليشمل (الآخر الداخلي) أي الجزء المختلف أو المكبوت داخل الذات الانسانية نفسها، يظهر هذا الجانب في الروايات التي تستكشف صراعات الهُوية والانقسام الداخلي، حيث تصبح الأنا عالقة بين متناقضات أو ولاءات متعددة. ففي رواية (دكتور جيكل ومستر هايد) لروبرت لويس ستيفنسون، يُقدم الآخر الداخلي بوصفه إنعكاساً للصراع الاخلاقي والنفسي داخل الإنسان، فالأنا هنا لا تواجه تهديداً خارجياً، بل تعيش معركة داخلية تعكس الصراع الأزلي بين الخير والشر في النفس البشرية على مرّ الازمان.
أما الأنا والآخر في الرواية العربية، ففي الأدب العربي، تأخذ العلاقة بين الأنا والآخر طابعاً خاصاً نتيجة التداخل التأريخي بين الثقافات الشرقية والغربية، فالرواية العربية الحديثة، خاصة تلك التي ظهرت بعد فترة الإستعمار، تُركز على إستكشاف علاقة الهُوية الذاتية بالمؤثرات الخارجية.
وعلى سبيل المثال، في رواية (موسم الهجرة الى الشمال) للروائي السوداني الطيب صالح، نجد بطله يعيش صراعاً بين هُويته كشرقي والآخر المتمثل في بلاد الغرب الذين عاش معهم، فالرواية تُظهره ليس فقط كخصم، بل كجزء من الأنا ذاته، ما يعكس تعقيد بين الذات والغيرية في السياق العربي.
إن البُعد الفلسفي للأنا والآخر في الرواية على المستوى الفلسفي، تناقش العلاقة بين الأنا والآخر بوصفها تعبيراً عن رغبة الإنسان في الفهم والإعتراف، يقول الفيلسوف إيمانويل ليفيناس؛ (يُبرز أهمية الآخر في البناء الروائي وحتى الشعري والتشكيلي، بوصفه أسا ساً للأخلاق، حيث يُشكل وجود الآخر دعوة للذات للإنفتاح والإعتراف بالإختلاف)
هذا البُعد الفلسفي يظهر في العديد من الروايات التي تُركز على التعاطف والتفاهم بين الأنا والآخر، كما هو الحال في رواية (البؤساء) للروائي فكتور هوغو، حيث يُعيد الآخر بطل روايته (جان فالجان) تعريف نفسه من خلال التفاعل مع الآخرين الذين يمدّون له يد العون أو يواجهونه بتحديات أخلاقية.
الأنا والآخر: بين الصدام والتعايش
إن العلاقة بين الأنا والآخر لا تُخزل في الصراع فقط، بل تحمل إمكانيات للتعايش والتكامل في الروايات التي تُعالج قضايا العولمة والهُويات المتعددة، حيث تظهر الأنا وهي تعيد تشكيل نفسها من خلال قبول الآخر، هذا التفاعل يُنتج هُويات هجينة تعكس تعقيد العالم الحديث وتنوعه.
من هنا، ومن خلال إستكشاف العلاقة بين الأنا والآخر في النصوص الروائية، يُمكن فهمم العديد من القضايا الإنسانية المعاصرة مثل الهُوية ، والتعددية، والإنفتاح على الآخر، فالرواية بوصفها شكلاً أدبياً تمتلك القدرة على إظهار الصراعات الداخلية والخارجية للأنا، وتجعل القاريء المتلقي جزءاً من رحلة البحث عن الذات والتفاهم مع الغير، فهذا التنوع في العلاقة بين الأنا والآخر يجعل النص الروائي مساحة غنية للتأمل والتحليل والاستغراق في عالم النص الإبداعي.
إن مفهوم الأنا والآخر في النص الروائي يُعد أداة فنية وفكرية تعكس عمق التجربة الإنسانية وتعقيدها. من خلال هذا المفهوم، يستطيع الكاتب تسليط الضوء على الهُوية والاختلاف، الصراع والتعايش، ليقدم صورة غنية ومتعددة الأبعاد عن الإنسان والعالم. إن فهم هذه العلاقة في النصوص الروائية يُضيف بُعداً أعمق لتفسير العمل الأدبي وإدراك رسالته الإنسانية المنشودة نحو تغيير العالم.
***
د. عصام البرّام - القاهرة

(تقنية جديدة في الهايكو)

تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو تمثل نهجًا مبتكرًا نسعى لاستخلاص جوهر الأحلام – تلك التجارب العقلية العابرة للحدود – وصياغتها في قالب شعري مكثف يحمل طابع الهايكو. هذا الأسلوب لا يكتفي بتسجيل الصور والمشاعر التي تتشكل في أعماق النوم، بل يعيد تشكيلها لتصبح لوحات شعرية نابضة بالحياة، تمنح القارئ إحساسًا وكأنه يتنقل داخل فضاء الحلم نفسه. فالأحلام، كما يراها علماء النفس، تعيش في عالم موازٍ، حيث تنهار قيود الزمن والمكان، وتتحرر الروح من أغلال المنطق اليومي. هذه التقنية، إذن، ليست مجرد أداة فنية، بل جسر يربط بين اللاوعي والتعبير الشعري.

**

باشو والأحلام: إعادة تأويل “أعشاب الصيف”

في قصيدة الهايكو الشهيرة التي كتبها ماتسوو باشو:

*أعشاب الصيف

كل ما تبقى من أحلام

المحاربين*

كان التفسير التقليدي يميل إلى قراءة “الأحلام” هنا كرمز للطموحات أو الآمال الضائعة. لكن فوكاساوا شينجي، الباحث في الأدب الياباني الكلاسيكي، يقدم رؤية مغايرة في مقاله “حلم عن محاربين” المنشور على موقع Nippon.com. يرى شينجي أن باشو كان يشير إلى أحلام النوم الحقيقية، مستندًا إلى تجربة شخصية عاشها الشاعر. ففي زيارته إلى تاكاداتشي، غفا باشو وحلم بيوشيتسوني وبينكي وآخرين يروون قصص معاركهم الأخيرة. وعندما فتح عينيه، لم يجد أمامه سوى أعشاب الصيف تملأ المشهد. بناءً على ذلك، يمكن إعادة صياغة الهايكو كما يلي:

"أعشاب الصيف

كل ما بقي من حلم

عن محاربين"

هذا التفسير يفتح أفقًا جديدًا لفهم الهايكو، حيث يصبح الحلم مدخلاً لاستكشاف أبعاد شعرية لم تُطرق من قبل بشكل متكامل. الأحلام هي نوافذ اللاوعي، تطل منها صور وأحاسيس تتحدى قوانين الطبيعة والمنطق. في المقابل، يُعرف الهايكو بقدرته على التقاط لحظة عابرة من الواقع بكل وضوحها وحيويتها. للوهلة الأولى، قد يبدو الاثنان على طرفي نقيض: الأحلام بطبيعتها الفوضوية، والهايكو بتركيزه على “الآن وهنا”. لكن هذا التناقض الظاهري يتحول إلى تكامل إبداعي عبر هذه التقنية. فالأحلام تضيف إلى الهايكو طبقة من الخيال اللامحدود، مما يوسع آفاقه الجمالية ويمنحه عمقًا تعبيريًا جديدًا.

***

كيف تعمل هذه التقنية؟

تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو تتجاوز القواعد التقليدية للشعر مع الحفاظ على جوهر الهايكو ومن أبرز سماتها:

1- تحطيم الحدود الفيزيائية: تتيح تداخل الأزمنة أو تحرك الأشياء بطرق مستحيلة واقعيًا.

2- تحرير الخيال الشعري: تمكّن من خلق نصوص سريالية أو فانتازية أو تاريخية أو واقعية.. حسب طبيعة الحلم.

3- توظيف استخدام الأنسنة دون افتعال: إذ يمكن للحلم أن يمنح الطبيعة صفات إنسانية يجعلها تتفاعل مع المشاعر الإنسانية.

4- التنقل عبر الزمن: تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل بحرية مطلقة.

5- التلاعب بوظائف الحواس: كأن تتحول حاسة السمع إلى حاسة الذوق وهكذا بقية الحواس الأخرى

6- إبراز البعد النفسي: تعكس الرغبات والمخاوف الدفينة، مضيفة طبقة عاطفية عميقة.

7- التناص مع الأحلام الشهيرة: تستلهم من أحلام تاريخية أو أدبية لإعادة صياغتها من جديد.

الهدف من هذه التقنية:

تسعى هذه التقنية إلى تحرير الهايكو من قيوده التقليدية دون التفريط بروحه، لتفتح له أبوابًا جديدة نحو الإبداع. كما تهدف إلى إعادة تقديم أحلام عالمية معروفة بأسلوب شعري مكثف، مما يعزز من مكانة الهايكو كفن عابر للثقافات. هذا بالإضافة أهميته في مجال الدراسات العلمية.

نماذج شعرية تطبيقية

إليكم بعض الأمثلة التي صيغت وفق هذه التقنية من تأليفي:

1-

منبه الهاتف –

أمسك أوراقًا نقدية

تتبعثر في الهواء

2-

 غفوة –

قطار يعانق

سحب السماء

3-

 قيلولة –

مطر يغمر

أرضية غرفتي

5-

بنج عام –

أرقص مع فراشات

في حديقة المشفى

6-

 قبل اليقظة –

تنزلق قدمي

في هاوية الغرفة

7-

 استيقاظ –

بنكهة القهوة

صياح الديك

8-

جرس الباب –

أتوق لتكملة

الحلم

9-

 صوت عجلات -

فشلت في التقاط صورة

مع السندباد

10-

 نوم ثقيل-

سماء من حديد

حقول النفط

11-

 الفتى –

أحد عشر نجمًا

يركعون أمامي

12-

لمعةُ النصل—

الأبُ يلتفتُ

نحوَ النداءِ

13-

مطر خفيف –

أحلم بشراء منزل

ثم أفتح عيني

14-

 نوم عميق-

أتحدث مع حفيدي

الذي لم يولد بعد

الخاتمة:

تقنية تحويل الأحلام إلى هايكو ليست مجرد تجربة شعرية، بل محاولة نظرية وتطبيقية لاستكشاف أعماق الاحلام وإعادة تشكيلها بأسلوب فني راقٍ. إنها خطوة نحو تطوير الهايكو ليصبح أكثر شمولية، مع الحفاظ على بساطته وقوته.وهي دعوة لشعراء الهايكو للكتابة بهذه التقنية .

***

عباس محمد عمارة

عندما تقرأ رواية تتوقع أن تكون بين النور والظلام، متنقلًا بين مشاهد مختلفة تثير مشاعرك، وتضعك في أجواء لا تنتهي من التشويق والتفكير العميق. فالقصص ليست مجرّد كلمات تُسرد، بل هي عوالم تُبنى داخل العقول، وأحداث تتشابك لتشكل نسيجًا فنيًا يعكس خيال الكاتب ورؤيته. من هنا، تأتي أهمية الرواية التي تأخذنا في رحلة سينمائية من خلال الكلمات، فتنسج لنا صورًا حية ومؤثرة تجعلنا نشعر وكأننا جزء من الأحداث.
الرواية التي انتهيت من قراءتها للكاتب زهران القاسمي هي واحدة من تلك الأعمال التي تترك أثرًا لا يُمحى. استطاع القاسمي، من خلال أسلوبه الفريد، أن ينقلنا إلى عالم مستوحى من تراث عُمان، حيث تمتزج الحداثة بالأصالة، ويصبح التاريخ خلفية زاخرة بالتفاصيل التي تدعم السرد الروائي. إنّ القصة ليست مجرد حبكة درامية، بل هي تجربة عميقة تمنح القارئ إحساسًا بالغوص في بحرٍ من اللغة العذبة والتراكيب الأدبية الراقية.
ما يميز هذه الرواية هو قدرتها على خلق مشاهد ذات طابع سينمائي، حيث تتجلى التفاصيل بوضوح، وتتحول الكلمات إلى صور حيّة داخل مخيلة القارئ. لم يقتصر على السرد التقليدي، بل استخدم تقنيات سردية متقدمة جعلت القارئ يعيش التجربة وكأنه يشاهد فلمًا متكامل العناصر.
من بين أكثر المشاهد تأثيرًا في الرواية، ذلك المشهد الذي يصف فيه الكاتب الغراب الجبلي، الذي لا يُعرف متى هبط، بسواده الفاحم وعينيه المرتكزتين على الأرض. هذا المشهد يحمل في طياته رمزية عميقة تعكس حالة الترقب والتشاؤم التي قد تراود الشخصيات أو ربما القارئ نفسه. بأسلوب دقيق ومفعم بالحيوية، استطاع الكاتب أن يجعل من الغراب عنصرًا دراميًا ذا دلالة، يضيف إلى أجواء القصة طابعًا غامضًا مثيرًا للتساؤل.
الرواية لا تعتمد فقط على الحبكة القوية، بل أيضًا على اللغة الراقية والأسلوب البديع الذي يمزج بين الوصف الدقيق والخيال الخصب. النص مليء بالجمل التي تحفّز الذهن، وتجعل القارئ يتوقف للتأمل في معانيها العميقة. على سبيل المثال، ذلك المقطع الذي يصف عمل الفلاح في اقتلاع الحشائش بطريقة تجعل القارئ يشعر وكأنه يشاهد مشهدًا حيًا من يوميات الريف. التفاصيل الدقيقة، مثل تفتت التربة في يده وتساقطها كالمطر، تضفي على المشهد حسًّا واقعيًا يجذب القارئ ويغمره داخل القصة.
إلى جانب اللغة الرصينة، تميزت الرواية ببنائها الدرامي المحكم، حيث تتوالى الأحداث بسلاسة دون شعور بالتكلف أو الإطالة غير الضرورية. كلّ مشهد له دوره في تعزيز الفكرة العامة للرواية، مما يجعلها عملًا متكاملًا يستحق القراءة والتأمل. كما أنّ الشخصيات مرسومة بعناية، حيث تعكس تصرفاتها وأفكارها ملامح إنسانية حقيقية، تجعل القارئ يتفاعل معها ويشعر بقربها.
الكاتب نجح أيضًا في توظيف الرمزية بطريقة ذكية، حيث استخدم العناصر الطبيعية، مثل الغراب والحقل، لإيصال معانيَ خفية تتجاوز السرد المباشر. هذه الرمزية تمنح الرواية أبعادًا متعددة، تجعلها قابلة للتفسير من زوايا مختلفة، مما يزيد من قيمتها الأدبية وعمقها الفكري.
من ناحية أخرى، استطاع المؤلف أن يمزج بين الواقع والخيال بأسلوب سلس، حيث تتداخل المشاهد الحقيقية مع الأحداث المتخيلة بطريقة تجعل القارئ يتساءل عن الخط الفاصل بينهما. هذا التداخل يضيف عنصر التشويق، ويدفع القارئ إلى الاستمرار في القراءة لمعرفة المزيد عن هذا العالم الذي خلقه الكاتب.
الرواية تعكس قدرة الكاتب على بناء عوالم سردية غنية بالتفاصيل والدلالات العميقة. هي ليست مجرد قصة تُقرأ ثم تُنسى، بل هي عمل أدبي يترك أثره في ذهن القارئ، ويدفعه إلى التفكير والتأمل في معانيه ورموزه.
الرواية تستحقّ أن تُصنف ضمن الأعمال الأدبية المتميزة، ليس فقط على المستوى الخليجي، بل أيضًا على المستوى العربي والعالمي. إنها رواية تُقرأ بشغف، وتظلّ تفاصيلها عالقة في الذاكرة، مما يجعلها واحدة من تلك الأعمال الأدبية التي تستحق أن تترجم إلى لغات مختلفة.
***
فؤاد الجشي

 

هذه مقالتي الرابعة من سلسلة مقالات نناقش فيها الرواية القصيرة جدًا أو الميكرو نوفيلا، يطلق عليها أيضًا مسميات متعددة مثل الرواية المكثفة، الرواية المصغرة أو الرواية القصيرة القصيرة،
ترجمة انجليزي
الرواية القصيرة جدًا أو الميكرو نوفيلا، يطلق عليها أيضًا مسميات متعددة مثل الرواية المكثفة، الرواية المصغرة أو الرواية القصيرة القصيرة، عندما تضع هذه المصطلحات على موقع من مواقع الترجمة والذكاء الأصطناعي ويمكنكم فعل ذلك سيترجم لنا كالأتي:
The very short novel
or micro novella
or the short short story.
يمكنكم جميعًا الدخول في نقاشات مع" الشات جي بي تي" أو "ديبسيك" أو أي موقع آخر أو البحث على منصات الكتب العالمية، ستجدون عشرات الروايات صدرت في العقود الماضية تصنف بوصف ميكرو نوفيلا، بعض أغلفتها يوجد هذا الوصف وبعضها نجد الصفة في عرض الناشر أو المقالات النقدية وتوجد عشرات النماذج صدرت بداية هذا القرن، كنت اشرت في أحدى مقالاتي لوجود المصطلح في قاموسِ أكسفورد، وتعريفًا للنوفيلا القصيرة: “روايةٌ قصيرةٌ، اسم. قصةٌ متوسطةُ الطولِ لها خصائصُ الرواية. أي ظهرَ المصطلحُ في الأدبِ الإنجليزيِّ منذ زمن بعيد.

عندما نطلع على المقالة الأولى للكاتب العراقي حميد الحريزي، فهو يدعي ابتكار المصطلح ويقول كتب مقالة في 2015 ثم نشر أول رواية قصيرة جدًا في 2019، مدعيًا أنها أول رواية قصيرة جدًا في الكون، نناقش هذه النقطة بموضوعية، نفهم من كلامه أنه ابتكر المصطلح حسب زعمه ثم انتظر أربع سنوات ليكتب أول عمل، ثم توقف ثم نشر إلى أن تواصلنا معه قبل شهور ونظمنا ندوات نقاشية وبدأنا البحث بجدية وكذلك كتبت أربع ر.ق.ج وخمسة أصدقاء نشروا رواياتهم مع الوصف على الأغلفة.
حقيقة تطور النقاش وكان الحريزي يردد نفس الأسطوانة في تعريف المصطلح بأنه نوع جديد هو من ابتكره والرواية القصيرة جدًا ضرورية ورفيقة سفرنا في القطار، خمس أو عشر عبارات يرددها في كل لقاء ومقال وحوار ويطلب من الجميع الأعتراف به ويقول تنظيراتنا واختراعي، طبعًا هو يجهل أو يتجاهل وجود مصطلح الميكرو نوفيلا والتي ولدت ما بين الحربين بحسب مقال الأكاديمي البريطاني ديفيد جيمس، نشر المقال في عام 2009 بعنوان (توطين الحداثة المتأخرة: الإقليمية بين الحربين ونشأة الرواية القصيره) في في مجلة الأدب الحديث.
الحريزي لم يعلم مطلقًا بتجربة الكاتبة الأمريكية نانسي ستولمان وزملاء لها، حيث كتبوا ما يسمى الرواية القصيرة والقصيرة جدا بحجم (100 × 100) أو بحجم (100 × 50) رواية «مئة في مئة»، أي مئة فصل، وكل فصل يكون مئة كلمة فقط. فيكون عدد كلمات الرواية عشرة آلاف كلمة فقط أو خمسون وفصل وكل فصل مئة كلمة
أو (50 × 50) أي خمسين فصل وكل فصل خمسين كلمة فقط أي الرواية تساوي الفين وخمسمائة كلمة فقط.
كذلك ران ووكر، قاص وروائي وأستاذ جامعي أمريكي له روايتين مئة فصل كل فصل مئة كلمة، يذكر أن مصطلح ميكرو نوفيلا ليس جديدا ابدا ولكن الأكثر صعوبة هو الأشكال التجريبية الجديدة والابتكار خلق نصوص إبداعية جديدة وتتجدد عند كل تجربة وهناك عدد قليل كتب بهذه الطريقة وقد جربتها روايتي ليليث وهايل بحجم (100 × 50)، صدرت عن دار أطياف في يناير 2025.
كما أعيد واشير إلى مقال منشور بالقدس العربي بتاريخ 9 سبتمبر عام 2008
بعنوان/قراءة في قصة ‘حلم وردى للكاتب الليبي غازي القبلاوي، بقلم محمد المصراتي، ذكر مصطلح الرواية القصيرة جدًا ووصف أعمال بورخيس واحسان عبد القدوس أنها تندرج تحت خانة ‘روايات قصيرة جداً، أي أن هذا المصطلح متداولا عربيا أيضا قبل أن يعرفه الكاتب العراقي حميد الحريزي وغيره من الذين اصدروا بيان الرواية القصيرة جدًا أو المصغرات.
هذه الإشارات والإستدلالات ليس تلفيقًا مني، تجدونها بسهولة وتجدون مقالات كثيرة باللغة الإنجليزية يتداولون مصطلح رواية قصيرة جدًا لوصف بعض أعمال كتاب مثل: إرنست همنغواي، ألبرت كامو، دونالد بارثلمي، فرانسيسك ميراليس، سارة مازي، خورخي لويس بورخيس، فرانز كافكا، أوغستو مونتيروسو وغيرهم.
حتى على المستوى العراقي نجد أن نقاشات كثيرة حدثت لوصف أعمال حمدي مخلف الحديثي وعلي غازي وراسم الحديثي، هذا حدث قبل 2015، مما يجعلنا نستنتج أن الحريزي التقط المصطلح ثم كتب وهو لا يذكر هؤلاء في تنظيراته الضعيفة جدًا، رغبته ليكون المخترع انساه الأمانة الأدبية والعلمية وحتى عندما يكتب أحدنا ويورد مادة أو غلاف كتاب غربي موجود عليه ميكرو نوفيلا، يقول أننا نجير المصطلح للغرب.
خلال بحثي وجدت احدى المدونات الإبداعية الأدبية الفرنسية تعمل ورش ونقاشات حول الإبداع السردي ومنها الميكرو نوفيلا والأشكال الوجيزة المكثفة، هذه المدونة تأسست قبل سنوات وفيها مقالات ونقاشات وملخص ورش واصدارات.
أختم بالقول نحن في المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح والنقاد والكتاب ناقشنا موضوع الميكرو نوفيلا أو الرواية القصيرة جدًا، لتحسين إبداعنا وتشجيع هذا النوع الموجود أصلاً منذ عقود طويلة، ومتابعة الجديد وأشكال تجريبية متجددة، لم يكن هدفنا تتويج فلان أو علان كرائد عظيم أو مخترع عبقري، وعبارة أنا مخترع الرواية القصيرة جدًا، سذاجة والأغرب أن الحريزي أصبح يخدع نفسه ويوهمها أنه العبقري الفذ.
***
حميد عقبي

 

جنكيز إيتماتوف مثل أي كاتب عظيم، خلق كونا كاملا من الصور الفنية والمواضيع والأفكار، تميزت بوجهة نظر ذات بعد أيديولوجي وحتى تنبؤي حاد. أعماله الفنية، ذات قوة تعبيرية جبارة، بثت فيها رؤية الكاتب ـ المفكر للعالم الحياة، وفكره المتسائل والباحث، المحذر للنوع البشري من الخيارات السلبية والقاتلة، وطرح خيارات للتطور تقدم طرق خلاص جديدة
إن علامات إبداعه الأصيلة والعميقة التي تؤثر بصورة فعلية على وعي قرائه، تمثل الصورة الرمزية والاكتشافات الواسعة لإيتماتوف، التي دخلت في زمننا في التداول في حياتنا اليومية. دعونا نتذكر من روايات الكاتب صور «المانكورتي» و«الجينات الوراثية الفوضوية»، فالكاتب أدخل الأحداث الأولى والفصول الأولى والصور الأولى التي لم تعرفها أبدا الثقافية العالمية. فما أروع «فيلوفي الراهب ـ اللاعائد» الفضائي وانتحاره الكوني. إن مغني الجبال والسهوب إيتماتوف، أضفى على العلاقة بالطبيعة، من صميم قلبه، رؤية داخلية وعضوية خاصة
إن مجال الوعي او تكويرة نو، التي تخترق بوضوح خاص، روايات إيتماتوف الأخيرة، غير ممكنة التصور من دون وعي الإنسان بجذور تطوره، ومن دون الشعور بتتابعية الصلة والقرابة مختومة في أقدم الطوطميات والمعتقدات الأسطورية والطقوس القديمة. وليس محض الصدفة أن تكون حيوانات إيتماتوف الوحشية الشهيرة ـ أحد ثوابت إبداعه وإحدى النقاط المرجعية القيمة له. إن أهم التغيرات في الوجود هي واحدة من الشِداد، التي تحمل تصميم عالمه الفني، فروايات وقصص إيتماتوف تفوح بروح العلاقات القديمة بالحيوانات
لنتذكر المرأة ـ السمكة، سلف والدة قبلية نيخفيف التي تمتهن الصيد في رواية «الكلب الأبلق الراكض على حافة البحر»، أو الظبية ـ الأم ذات القرون من رواية «السفينة البيضاء. حينما يتم التخلي عن الأساطير القديمة، تطرح جانبا مشاعر الامتنان لأولئك الأسلاف البعيدين الذين جلبوا بتضحياتهم للوجود إكليلا عقلانيا، حينها يظهر الإنسان ذو البعد الواحد، الوغد المتغطرس والمتبجح الذي لا يتذكر روابط القرابة. إذ أن علاقة الصلة مزدوجة، فهي ترتبط طبيعيا بالآباء والأجداد، والأبعد رأسيا بأدنى مخلوق.
ينشأ في عالم إيتماتوف الفني موضوع الابن الضال بصورة راسخة، الذي يعممه الكاتب إلى حدود رمز الإنسان والبشرية بأسرها، التي تهدد أنشطتها الكوكب بأكمله.
إن دراسة نثر ايتماتوف الناضج تتيح لنا الحديث عن أنه ينطوي على مادة أسطورية وفلكلورية غنية، عالجها الكاتب وراجعها وفق رؤيته. هنا يمكن للمرء أن يميز وحدات فلكلورية/ أسطورية نافذة، من الحافز والباعث المنفرد إلى مجموعة الحوافز والبواعث الراسخة، وبُنى مضامين كاملة تحولت في إطار توجهات الكاتب وإبداعه. في الوقت نفسه تشكل الحوافز والبواعث، سواء المنفردة أو بُنيوية الخط العام للفكرة الرئيسية. إن الأسطورة في أعمال أيتماتوف هي وسيلة للتعبير عن موقفه الأخلاقي ـ الفلسفي من العصر، وهي محاولة للنظر إلى مشاكل البشرية، من خلال منظور الحكمة التي مرّت على ظهورها قرون. إن مضمون الأسطورة، وتنوعها تتيح لنا استعمالها كمفتاح فك شيفرة يخلق مضمونا متعدد الأوجه والطبقات
إن إبداع إيتماتوف يصب في اتجاه أدبي كامل ظهر في ستينيات القرن العشرين، وسُمي اصطلاحا الاتجاه الميثولوجي (الأسطوري). فخصوصية أعمال كتاب هذا الاتجاه، كتاب النثر الريفي، أصبح السعي نحو استكشاف السبب الأول والجذري للكارثة، التي تهدد حياة الناس ومبادئها الأساسية. وبمساعدة الأسطورة والخرافات والمأثورات الشعبية يدخلون في جدل مع العقلانية والبراغماتية (النفعية) للحضارة المعاصرة. وظهرت في الفلكور والأساطير، معايير أخلاقية سجلت ووضعت بصورة مجازية، على مدى قرون. وفي هذا تم اكتشاف نماذج النزاعات في المستقبل التي تندلع نتيجة لانتهاك هذه المعايير التي كان من الممكن أن تكون بمثابة تحذير للمعاصرين والأحفاد. وقال جنكيز إيتماتوف بهذه المناسبة: «لقد اتضح منذ زمن قديم أن الإنسان يحاول حماية الطبيعة من نفسه، وكيف أنه يعكف على هذه المشكلة الأبدية، للحفاظ على ثروة وجمال العالم المحيط». لقد ظهر أن القضية حيوية حتى أن الناس في العالم القديم جسدوها في شكل مآس وتراجيديات، واعتبروا أن من الضروري أن يمارسوا النقد الذاتي لموقفهم من الطبيعة، وعبّروا عن تأنيب الضمير
إن التناص الأسطوري والأسطوري/ السياسي يهيمن على قصص مثل «السفينة البيضاء» و«الغرانيق المبكرة» والكلب الأبلق». إن الصورة الفنية في هذه الأعمال هي صورة الطفل والعجوز، أحدهما لم ينفصل تماما بعد عن الطبيعة البكر، والثاني يقترب إلى الخطوط التي تفصل الوجود الاجتماعي عن الفكر الطبيعي الأنطولوجي. إن تحول الرمز الأسطوري تدريجيا يتسم بالانتقال من الطبيعي إلى مستوى الإدراك العاكس للعالم
ينشأ في عالم إيتماتوف الفني موضوع الابن الضال بصورة راسخة، الذي يعممه الكاتب إلى حدود رمز الإنسان والبشرية بأسرها، التي تهدد أنشطتها الكوكب بأكمله. ليس لدى إيتماتوف إحالات مباشرة إلى القصص التوراتية، ولكن عقدة الابن الضال مع مكوناتها الرئيسية حاضرة في مسار الكاتب الإبداعي. إن فلسفة الأخلاق لنثر إيتماتوف الناضج من المضمون الإيكولوجي يقترب أكثر من موضوع علم الأخرويات. حينما يهدد الدمار ليس فقط الطبيعة الحية، وإنما أيضا الوجود البشري. ويسود في الروايات موضوع مثل نهاية العالم أو موضوع التدمير الذاتي للنوع. على سبيل المثال رفض أجنة ـ كاساندرا الظهور إلى الدنيا، والانتحار الجماعي للحيتان في رواية «ماركة كاساندرا». ولدت هذه الموضوعات في عالم إيتماتوف الفني، بالدرجة الأولى من أساس الفكر الوجودي، وحالة العالم المعاصر، وكوارث العصر.
أسطورة إيتماتوف هي أولا وقبل كل شيء، حكمة الأجداد وتجربة الأجيال التي اختبرتها القرون، التجربة التي تتحول في وعي كل إنسان تبعا لقدراته الروحية وهدفه من التعاطي مع الأسطورة.
إن رواية «ماركة كاساندرا» «هرطقة القرن العشرين»، قريبة من أعمال ما بعد الحداثة في أواخر القرن العشرين، وموضوع بحث إيتماتوف في هذه الرواية يغدو العالم المضطرب الذي يعاني من الخلل وفقدان النظام. وليس من قبيل الصدفة إن الرواية تنتقل إلى الغرب، إلى أمريكا ـ رمز التطور المتسارع للحضارة، حيث لا وجود للجذور القومية الروحية، فحالة الفوضى تسيطر على العالم بأسره، ويسود هنا الوعي بعبث الحياة، الذي ينحصر في الاعتقاد بأن الإنسان فقد السيطرة على الوجود. ولكن لا يجوز إدراجه من دون شرط في أدب ما بعد الحداثة، نظرا لأنه لم يجر تدمير الأسطورة، ولا تغدو وسيلة في لعبة الكريات الزجاجية، بل على العكس من ذلك، إن الأسطورة تنظم السرد.
تكمن في أساس فكرة الكاتب الفنية مأساة الخيار الشخصي، مأساة قدر الإنسان. ويتغلب إيتماتوف خلال عمله على العدمية. إن رواية «ماركة كاسندارا» ـ هي مصير إشاعة الإنساني في المجتمع المعاصر الممزق في فضاء افتراضي. وعلى الرغم من وفاة صاحب نظرية جينات ـ كاساندرا، يؤكد الكاتب على أنه لا يجوز التوقف عن التفكير. إن اكتشاف فليوفي يشهد على بداية حقبة جديدة في تطور البشرية. وكان هدف فن إيتماتوف دائما إيقاظ شعور الإنسان بالجمال والخير والحب لكل ما يحيط به. والأسطورة بالنسبة له هي وسيلة لفهم العالم غير المستقر، بل إنه المطلق الذي يمكن أن يكون معيارا لتقييم الحقيقة والكذب في تيار الواقع التاريخي. إن أسطورة إيتماتوف هي أولا وقبل كل شيء، حكمة الأجداد وتجربة الأجيال التي اختبرتها القرون، التجربة التي تتحول في وعي كل إنسان تبعا لقدراته الروحية وهدفه من التعاطي مع الأسطورة.
كتب ميخائيل باختين إن تحضير أعمال الأدب العظيمة يجري على مدى قرون، وفي حقبة إبداعها يجري فقط قطف الثمار اليانعة لعملية نضج طويلة ومعقدة. إن محاولة فهم وتأويل العــــمل الفــــني بالاعتمـــاد وحسب على ظروف عصرها، وفقط بالاعتـــماد على ظروف الزمن القريب، لن تجعلنا نخترق عمق دلالاتها، لذلك دعونا نقول إن الأسطورة في إبداع إيتماتوف هي مرحلة طبيعية وعضوية لفهم الإنسان لمصيره ومكانه في التاريخ، من خلال منظور تجربة القرون التي اُدرجت في الأساطير.
***
د. فالح الحمراني

"من باب توأمة البصيرة والبصر..."

كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته" ... بالتفصيل.."، واليوم نبدأ بالمقاطع من (21ـ 30)..
"حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء"

القسم الرابع: من باب توأمة البصيرة والبصر..." (4)
لغزُ الجمال وسِرُّ الأبدية
(21)
"مِن بابِ لُغْزى في الكتابِ

بأنها عذراءُ ساحِرةٌ جميلَةْ

في البرجِ حُجْرَتُها تُطلُّ على الفراتِ،

يَفُضُّها مَن يستطيعُ لِلُغْزِها حَلّاً

ولكنْ

لَمْ يَفُزْ أحَدٌ فَعاشَتْ هكذا في البرج

عذْراءً وساحرةً جليلةْ"

الطهارة والسحر:
يتوهّجُ هذا النص بإشراقاته الرمزية، حيث تتشابكُ الأسطورة بالتاريخ، والدين بالفكر، ليشيّد الشاعر معمارًا لغويًا مدهشًا، يحتضن أبعادًا فلسفية وإنسانية عميقة، مستنطقًا سِرَّ الأنوثةِ المتعالية، والحكمةِ التي تستعصي على الامتلاك.
ففي قلب البرج، المطلِّ على الفرات، تستقرُّ العذراءُ الساحرة، جميلةٌ في حضورها، مهيبةٌ في صمتها، وكأنها تجسيدٌ لسرٍّ أزليٍّ لا يُدرك إلا بالمكاشفة الروحية. إنها ليست مجرد امرأة، بل كيانٌ ميثولوجيٌّ ينهلُ من عوالم المعرفة السرّانية، من "باب لُغزى في الكتاب"، حيث يتماهى وجودُها مع النصوص المقدّسة، لتظلَّ لغزًا يُغرِي العقول، ويستفزُّ التوقَ الإنساني نحو الإدراك..
البرجُ هنا ليس مجرّد حصنٍ منيع، بل استعارةٌ للسموّ المعرفي، للعزلة التي لا تُبتَر، لحقيقةٍ لا تُفضّ إلا لمن يملك مفتاح الفهم العميق. "يَفُضُّها مَن يستطيعُ لِلُغْزِها حَلّاً"، لكن أحدًا لم يفلح، فبقيت العذراءُ في سموِّها، تتأرجحُ بين الجمال والغموض.. بين الإغواء والنقاء.. بين الانكشاف والاحتجاب، كأنها طيفُ الحكمةِ المتجلّية، تظلُّ بعيدة المنال، خالدةً في برجها، حيث لا يطولها إلّا مَن أدرك أسرارَ الوجود..
فاللّغز الذي يطرحه النصّ ليس مجرد أحجية أدبية، بل استعارة كبرى للصراع الإنساني مع المعرفة، وللمعركة الأزلية بين الطموح الإنساني والقدر المحتوم.

جدلية البراءة والانفتاح على التجربة
(22)
"عن نَحلَةٍ في البُرْجِ

إنَّ صديقَها فَرَسَ النَبي

كانَتْ لهُ في البُرجِ شِبْهُ جُنَيْنَةٍ

فيها مِن الخَشْخاشِ ما يَكفي

تَعالي جَرِّبي "

نحلة البرج:
الانزياحات الرمزية المكثفة في هذا المقطع تجمع بين الطبيعة والمقدّس، البراءة والتجربة، العزلة والانفتاح، في مشهدٍ تتداخل فيه الكائنات والأزمنة لتشكل عالمًا شعريًا مدهشًا.
يبدأ الشاعر برسم صورة: "نَحْلةٍ في البُرْجِ"، في مشهد يوحي بالتناقض، إذ يجمع بين الكائن الحرّ الطليق والمكان المغلق الذي يحمل في ذاته معاني العزلة والسموّ. لكن هذه النحلة ليست وحدها، بل ترتبط بعلاقة فريدة مع "فَرَسَ النبي"/ السرعوف.. ربما أراد الشاعر من هذا الكائن/ الحشرة ان يحمله دلالات دينية او رمزية استنادا الى ورود كلمة " النبي".. فيمنحه ما يُذكِّر بالصبر والزهد والعلاقة الخاصة بالسماء. هذه الصداقة تخلق جسرًا بين الأرضيّ والروحيّ، بين الفطريّ والميتافيزيقيّ، حيث النحلة رمزٌ للعمل الدؤوب والتلقيح والخصوبة، بينما فرس النبي رمزٌ للتأمل والانتظار المهيب.
ثم يفتح الشاعر نافذة على المكان كجنّة صغيرة، فيقول: " كانَتْ لهُ في البُرجِ شِبْهُ جُنَيْنَةٍ"، حيث يتجاوز البرج كونه مجرد بناء حجري، ليصبح مكانًا حيًّا، نابضًا بالطبيعة، ومساحةً تجمع التناقضات في تناغمٍ خفيّ. ويعمّق الشاعر هذه الفكرة بذكر "الخشخاش"، وهو نبات ارتبط تاريخيًا بالراحة والنسيان والسموّ الروحي، مما يضيف بُعدًا صوفيًا، وكأنه دعوة للانغماس في حالة من التأمل والانفتاح على التجربة الداخلية.
ويأتي النداء الأخير: "تَعالي جَرِّبي"، ليفتح باب الدعوة إلى الآخر.. النحلة او سواها.. المخاطَبة المجهولة، ليكون الختام تحفيزًا لاستكشاف هذا العالم السحري والتفاعل معه، وكأن الشاعر يهمس: "البرج ليس سجنًا، بل تجربة، جنة مخبّأة تحتاج لمن يكتشفها".

البصيرة في مرايا العمى
(23)
"في حُجْرةِ العمْيانِ لو دخلَ البصيرُ

يَصيرُ أعمى،

هيَ كُلُّ ما فيها مَرايا

لا يَرى العمْيانُ صورَتَهُمْ ولكِنْ

ما عَداها يُبْصِرونْ

فيها جميعَ وكُلَّ ما قد يَشتَهونْ"

حجرة العميان:
يأخذنا هذا المقطع الشعري إلى فضاءٍ فلسفي عميق حيث تتداخل الرؤية والعمى.. البصيرة والوهم.. الإدراك والحقيقة، في صورةٍ شعرية مدهشة تتلاعب بالمفارقات ببراعة.
يبدأ الشاعر بتقديم مشهد مهيب: "في حُجْرةِ العمْيانِ لو دخلَ البصيرُ يَصيرُ أعمى"، حيث تتجلّى أولى مفارقات النص.. فالعجز عن الرؤية لا يعود مجرد عطبٍ جسدي، بل هو حالة مكتسبة، يفرضها المكان وقوانينه. إننا أمام قلبٍ جذريٍّ للمفاهيم، حيث تتحوّل البصيرة إلى عمى بمجرد دخول عالمٍ تحكمه قوانين أخرى، وكأن المعرفة والجهل يتبادلان الأدوار حسب السياق.
ثم يكشف الشاعر سرّ هذه الحجرة: "هي كُلُّ ما فيها مَرايا"، وهنا تبلغ الرمزية ذروتها. فالمرآة رمزٌ للرؤية، لكنها أيضًا سجنٌ للوهم، وفخٌّ للذات الباحثة عن صورتها. غير أن المفارقة الأدهى أن العميان لا يرون أنفسهم، لكنهم يبصرون كل شيء آخر، في مشهد يذكّرنا بمفهوم الحقيقة في الفلسفة الأفلاطونية، حيث الرؤية ليست دائمًا إدراكًا، والعمى ليس دائمًا فقدانًا للمعرفة.
وأخيرًا، يأتي السطر الختامي: "فيها جميعَ وكُلَّ ما قد يَشتَهونْ"، ليكشف عن البعد الإنساني العميق للنص؛ إذ لا شيء ينقص العميان سوى رؤية أنفسهم، وكأن إدراك الذات هو الغياب الأشدّ وطأة، وهو العمى الحقيقي الذي لا يُعوَّض برؤية أي شيء آخر.
بهذا، يقدّم الشاعر تأمّلًا فلسفيًا عن الإدراك والوجود، حيث لا يكون العمى في فقدان البصر، بل في فقدان رؤية الذات في مرايا الحقيقة.

طقوس الماء والنظر
(24)
"في الصيْفِ في السَنةِ الكبيسةِ

يومَ مَوْلِدِ عشْتَروتَ وعرْسِ بابِلْ

في مهْرَجانِ الليْلة البيضاءِ أو سَهَرِ العنادِلْ

قبْلَ الغروبِ،

البرجُ تَصعدُهُ النواظيرُ التي حَملَ الرجالُ

رجالُ بابلَ كُلُّهُمْ أوْ جُلُّهُمْ عندَ المساءْ

لِيُشاهدوا غَسْلَ العريسِ البَدْرِ

يَسبحُ في الفراتِ معَ النساءْ"

بابلُ تحت ضوء البدر:
إلى عالمٍ طقوسيٍّ مهيب، يأخذنا هذا المقطع حيث تتلاقى الأسطورة والتاريخ وفي مشهدٍ يحتفل بالحياة والماء والنظر.. إنّه نصٌ يفيض بالرمزية والإيحاء، إذ يحشد الشاعر فيه دلالات دينية، اجتماعية، وفلسفية، ويعيد صياغتها في لوحةٍ شعريةٍ فاتنة.
الأسطورة والتاريخ: الزمن المقدّس
يبدأ النص بالإشارة إلى "الصيف في السنة الكبيسة"، حين يلتقي الزمن الدنيوي بالزمن المقدّس، في لحظةٍ استثنائيةٍ تتقاطع فيها الولادة (مولد عشتروت) مع الاتحاد (عرس بابل). وهنا، عشتروت، إلهة الحب والخصب، ترمز للولادة الجديدة، في حين أن بابل تمثل الحاضرة الكبرى، بكل ثقلها التاريخي والأسطوري.
الليلة البيضاء: الطقوس والرموز في برج بابل
يأخذنا هذا المقطع الشعري إلى عالم الاحتفالات المقدسة، والطقوس الغامضة، حيث يتشابك الزمن الأسطوري بالتاريخي، والروحاني بالحسيّ، في مشهدٍ يموج بالحياة والرمزية العميقة.
الرؤية والنظر: سُلطة الرجال وسحر النساء
يكتسب المشهد بعدًا بصريًا طاغيًا، حيث: "البرجُ تَصعدُهُ النواظيرُ التي حملَ الرجالُ" النواظير هنا ليست مجرد أدواتٍ للرؤية، بل رمزٌ لسلطة المراقبة الذكورية التي تتحقق في احتشاد "رجال بابل: " عند المساء، يترقبون طقسًا لا يخلو من الدهشة والمهابة: "لِيُشاهدوا غَسْلَ العريسِ البَدْرِ يَسبحُ في الفراتِ معَ النساءْ.. الماء هنا فضاءٌ للتطهير والانبعاث، لكنه أيضًا ساحةُ الانكشاف، حيث يتجلى العري الطقوسي كجزءٍ من الطهر والاحتفال.
المرأة والماء: ثنائية التطهير والانعتاق
يحمل الماء في هذا المشهد دلالة مزدوجة، فهو وسيلة التطهير الطقسي، لكنه أيضًا مساحةٌ للتحرر والذوبان. إنّ اختلاط البدر بالماء، وغسله في حضور النساء، مشهدٌ يُعيد إلى الأذهان طقوس الإخصاب القديمة، حيث تلتقي السماء بالأرض، ويستعيد الإنسان صلته بالكون الأولي.
الرمزية العميقة: ولادة الضوء في الماء
في النهاية، يمكن قراءة هذا المقطع كقصيدةٍ تحتفي بولادة الضوء في الماء، وبإعادة صياغة العلاقة.. بين الذكر والأنثى.. بين المقدس والمدنس.. بين الرؤية والانكشاف. كل شيءٍ في النص يبدو محكمًا ومتداخلًا في شبكةٍ من الرموز العريقة التي تجعل منه قصيدةً طقوسيةً تُعيد إحياء ميثولوجيا بابل برؤية حداثية آسرة.

ارتقاءٌ من اللوح إلى القلب
(25)
"يا بابَ أبوابِ الكتابِ اللوحِ

والمُغْني عن

الأبراجِ،

والأعشابِ أجْمَعَ،

والأطِبَّةْ

يا بابَ (حَيَّ على المَحَبَّةْ)"

بابُ المعرفة والمحبة:
قدرات الشاعر الإبداعية والفكرية تتجلى بالاستناد إلى لغة خصبة ورمزية تنضح بالدلالات الصوفية والتأملات العميقة. حين يستهل خطابه بنداءٍ احتفائي إلى "باب أبواب الكتاب اللوح"، وكأن الشاعر يُخاطب أصل المعرفة، وجوهر الحكمة الأولى (وبهذا فهو يعيدنا الى النص الأول من البارانوما: " قد جاءَ في ديباجةِ اللوحِ الكتابِ بِأنّهُ.. ").. هذه العبارة تحمل ثِقَلًا دينيًّا وفلسفيًّا، حيث يلتقي الكتاب الإلهي باللوح المحفوظ، في صورةٍ تعيدنا إلى مركزية الكلمة كمنبعٍ للمعرفة والوجود.
الكتاب واللوح: المعرفة الكونية
يمنح النصُ البابَ صفةَ التجاوز، فهو "المُغني عن الأبراجِ، والأعشابِ أجْمَعَ، والأطِبَّةْ". هنا، يبدو الشاعر وكأنه يضع المعرفة المقدّسة في مقام أعلى من العلم الدنيوي، حيث يصبح "الباب" رمزًا للخلاص الكلّي، مغنيًا عن الحاجة إلى الوسائل البشرية التقليدية للبحث عن الحقيقة أو العلاج.
البعد الصوفي: المعرفة بوصفها محبة
يصل النص إلى ذروته العاطفية والروحية حين يقول: "يا بابَ (حَيَّ على المَحَبَّةْ)". هنا يتحول الباب من كونه مدخلًا للمعرفة إلى بوابةٍ للحبّ، في إشارةٍ تمزج بين الدلالة الدينية والإنسانية. فكلمة "حَيَّ" تستدعي الأذان الإسلامي، لكنها تتجاوز النداء التقليدي للصلاة نحو دعوةٍ أسمى، حيث تكون المحبة هي الغاية العظمى للوجود.. وهو الامر الذي نراه منعكسا كنفحة في طريق الوجد الصوفية..
الرمزية العميقة: بين الدين والإنسان
يُعيد النص تشكيل العلاقة بين العقل والقلب، بين المعرفة والمحبة، ليضع المحبة في قمة الهرم الروحي، باعتبارها الغاية النهائية التي تتجاوز كل وسائل الفهم الأخرى. بهذا المعنى، يكتسب الباب بعدًا رمزيًا يتجاوز كونه مدخلًا للحكمة، ليصبح رمزًا للخلاص العاطفي والروحي.
إنه نصٌ يتوهّج بالدلالات العميقة، حيث تتضافر الرمزية الدينية والفلسفية مع أبعادٍ إنسانية صافية، ليصبح "الباب" مدخلًا للحكمة، لكنه أيضًا دعوةٌ مفتوحة للحبّ، باعتباره أسمى أشكال المعرفة.

رحلة الهبوط إلى الذات
(26)
"في سرّةِ البُرجِ البليغِ وأنتَ تَصعدُ:

حُجْرةُ الفُصْحى هناكَ، بَناتُها مِن حَوْلِها

سَبْعٌ وسبعونَ انغماسةَ لثْغةٍ

في ريقِ مَرْشَفِها الذي فَتَن الإلهْ

يا بُلْبُلاً قد عَلَّقَتْهُ على حبال غرامِها حتّى اعتَراهْ

طَرَبُ الهبوطِ الحُرِّ

مِن

آهٍ

لِ آهْ

يا بُعْدَ سدْرةِ مُنْتَهاهْ"

آهات البرج:
تتجلى هنا قدرات الشاعر الإبداعية والفكرية، حين يستند إلى لغة خصبة.. ورمزية تنضح بالدلالات الصوفية والتأملات العميقة.. فهو يبدأ بمشهد صعودي إلى: "سرّة البرج البليغ"، وهو مكانٌ مهيب.. إذا اخذنا بانزياحات مفهوم السرة وعلاقتها بالحبل السري، الذي يستمد منه الجنين حاجاته المادية، فمعناها هنا هو السمو في الترقية الروحية أو الفكرية..
وفي حجرة الفُصحى، يلتقي الصعود بالهبوط، وما ترمز اليه الفُصْحى من قمة التعبير اللغوي وأسمى درجات الفهم لقداسة اللغة، حيث تمثل هذه الحجرة موطن الفصاحة والبلاغة، ثم يأتي ذكر: " بَناتُها مِن حَوْلِها سَبْعٌ وسبعونَ انغماسةَ لثْغةٍ" ليرمز إلى الأجيال التي حملت لواء اللغة عبر الزمان.. فالرقم سبعٌ وسبعون يتناغم مع طقوسٍ مليئة بالتكرار واللذّة اللغوية. (وقد يعني بها اللهجات المحلية وذائقتها المتجلية بفرادتها ولذاذتها وامتلاء مفرداتها بالدلالات.. راوية حكاية الاندغام والتشابك في المعاني والإنزياحات). ويُختتم الشطر بتفسير هذه الفصحى التي فتن بها الاله: "ريق مرشفها الذي فتن الإله". هذه الصورة تعكس تأثير اللغة بوصفها سرًا إلهيًا خفيًا لا يدركه سوى التأمل العميق.. حيث يبدو أن اللغة تتجاوز عالم البشر لتغدو وسيلة تواصل بين الإلهي والإنساني، كقوة تأثير شعورية ومعنوية على الذات، بما في ذلك التمرد على الأطر الثابتة للواقع..
ثم يتحول النص فجأة إلى صورة شعرية مع "البُلْبُل" الذي يبدو فيه كرمز للحب الأسير الذي يعاني لذة السقوط الحر في بحر الشوق الإلهي.. ليحكي عن الألم والنشوة. هذا التحول يشير إلى التوتر بين الحرية والمأسَاة.. الطرب والدمار.. بين النشوة والشجن.. الذي ينتهي بموال „آهٍ لِ آهْ" الذي يشكل تكرارًا موسيقيًا يخلق نوعًا من التموج الشعوري بين الطرح الفلسفي والوجداني، او تكملة للإيقاع الموسيقي/ العروضي.. كالمواويل المتنوعة، التي ترد في اغانينا التراثية والتي تمنح المرء لحظة حبور وتهلل.. لا تضاهيها اية لحظة سوى عويل المسرة.. وكأن المستمع اليه يفز من سبات المّ به او حلم راود يقظته.. انها الرحلة الوجدانية التي لا تنتهي، لينبثق أخيرًا "يا بُعْدَ سدْرةِ مُنْتَهاهْ"، مذكّرًا بالحدود النهائية للعقل البشري في بحثه عن المعرفة، وهي رمز للحقيقة النهائية التي لا يمكن الوصول إليها إلا بالتسامي الروحي.
الرمزية في النص تضيء العلاقة بين الكلمات والمشاعر.. الصعود والهبوط.. الحب والخيانة.. النثر والشعر، مما يجعل البرج مجازًا للوصول إلى درجات عالية من الوعي، لكن في الوقت ذاته يَكشف عن الصراع الداخلي في التذبذب بين الغبطة والأسى.. بين الفرح والألم..

ضيق الاختلاف وسعة اللامحدود
(27)
"هيَ حجرةٌ للأنبياءْ

زرْقاءُ: سُرّةُ ما وراءْ

يَتَجادلونَ على طبيعَة ذلك المعبودِ رَبّا

سرعانَ ما ضاقتْ بهِمْ:

كُلٌّ يُريدُ مِن المُهندسِ حُجْرةً

قالَ: ابشروا سعَةً ورَحْبا"

حجرة الأنبياء:
بمشهد مهيب وغامض يمزج هذا المقطع بين الأبعاد الفكرية والرمزية والدينية، ليقدم رؤية عميقة تأملية تعبر عن صراع البشر الأزلي مع المفاهيم الإلهية والوجودية. استهلال النص بعبارة "هيَ حجرةٌ للأنبياء" يرمز إلى مكان مقدس، حيث تتلاقى العقول المستنيرة بالنبوة في مساحة فكرية وروحية، مما يشير إلى وجود فضاء معرفي مخصص للبحث عن الحقيقة المطلقة.
ثم ان وصف حجرة الأنبياء "زرْقاءُ: سُرّةُ ما وراءْ" يضفي بعدًا كونيًا على هذا المكان، فهو رمز لما هو أبعد من الإدراك الحسي، اللون الأزرق، لون الغيب الذي يلفّ الكون بأسراره.. رمز السموّ واللامحدود.. ولكنها "سرّة ما وراء"، أي مركز ما يتجاوز المحسوس والمعروف، وكأنها بؤرة تجمع الغيب والتأويلات المفتوحة.. حيث تبدأ التساؤلات الفلسفية حول طبيعة الإله.. وبتعبير الشاعر "يَتَجادلونَ على طبيعَة ذلك المعبودِ رَبّا" عاكسًا النزاع الفكري العميق الذي يعيشه الأنبياء والبشر، بحثًا عن إدراك ماهية الإله.
هذا المشهد يحاكي تاريخ الفكر الديني والفلسفي، حيث يتنازع المفسرون والمفكرون حول الجوهر الإلهي، كلٌّ يبحث عن حقيقة تستوعب رؤيته. لكن سرعان ما تتحول الحجرة إلى رمز لضيق".. الاختلاف".. ضيق الإنسان تجاه تعددية الآراء وتفسيراته المحدودة للعالم الروحي، الذي "سرعانَ ما ضاقتْ بهم"، وكأن التأويلات لا تتسع للجميع رغم اتساع المعنى المطلق.
ولكن الشاعر يلخص الحل من خلال المهندس "كُلٌّ يُريدُ مِن المُهندسِ حُجْرةً"، حيث المهندس هو رمز للحكمة الإلهية التي تسع الجميع وتمنحهم الأمل في التوافق من خلال التعددية في الأفكار والرؤى.. أو ربما للإنسان نفسه، الساعي إلى إيجاد فضاء تتسع فيه الرؤى المختلفة.. "ابشروا سعَةً ورَحْبا" حيث يتحول الضيق إلى رحابة للفهم
ان النص يحمل عمقًا فكريًا ودينيًا بشكل لا يخفى عند المتأمل المتأني، لأنه يتناول إشكالية الاختلاف داخل الوحدة.. والصراع بين المطلق والنسبي، كما يُبرز التناقض البشري بين البحث عن الحقيقة والرغبة في امتلاكها، في لغة ترميزية كثيفة ومشحونة بالدلالات الفلسفية واللاهوتية.

الحكمة الطائرة بين الأرض والسماء
(28)
"هيَ قُبّةٌ فَلَكيّةٌ أمْ مَكْتَبَهْ؟

إدريسُ حُجْرتُهُ تَطيرُ كَمَركبَهْ!

ويُقالُ: شُوهِدَ مَرّةً يَمشي

وسطحُ البرجِ لا أحَدٌ عليهِ سواهُ حتى

ويُقالُ والأقوالُ عن إدريسَ شَتّى:

الحُجْرةُ انتُهِبَتْ وأُفْرِغَتْ الرُفوفْ"

إدريس ومركبته:
يتسم هذا المقطع بجماليات لغوية وصوفية عميقة، حيث ينفتح على تساؤل يحمل بعدًا معرفيًا وكوزمولوجيًا: "هي قبةٌ فلكيةٌ أم مكتبة؟"، ليضع القارئ أمام تأرجح رمزي بين العلم السماوي والتدوين الأرضي.. ليُبرز بشكل رمز، فكرة المعرفة والارتقاء الروحي في إطار فلسفي وديني.. بين الفلك بوصفه لغة الكون.. والكتاب بوصفه لغة الإنسان.. هذا التساؤل يعكس التداخل بين المعرفة الدنيوية والحكمة الكونية، في إشارة إلى إدريس، النبي الذي رفع إلى السماء، والذي يُنسب إليه الكتابة والعلم والخط والصناعة، فيتحول إلى جسرٍ بين الأرض والماوراء..
الحجرة التي يسكنها إدريس ليست حجرة جامدة، بل كيانٌ متحرك، مركبةٌ تطير.. "إدريسُ حُجْرتُهُ تَطيرُ كَمَركبَهْ!"، فإننا نرى صورة ديناميكية، حيث تتحول الغرفة إلى مركبة، في إشارة إلى سفر إدريس بين العوالم المادية والروحية، مما يعكس قدرة العقل المستنير على التنقل بحرية بين الأفكار والرؤى.. أنها تجسيد للمعرفة في حالتها القصوى، حيث لا تسجنها جدران ولا تحدها المسافات.. بين العوالم الكونية والعقلية.. ليُبرز أن الفضاء ليس مجرد موقع مادي، بل هو مكان معرفي يتجاوز الأبعاد الفيزيائية. اما حين يقول الشاعر: "ويُقالُ: شُوهِدَ مَرّةً يَمشي وسطحُ البرجِ لا أحَدٌ عليهِ سواهُ" تحمل دلالات عميقة حول العزلة التي تميز الباحثين عن الحقيقة المطلقة، فإدريس هنا رمزي لمن يسير على درب المعرفة منفردًا، عابرًا الحدود بين الأرض والسماء.
لكن الجانب المأساوي يظهر في المفارقة، التي تكمن في أن هذه الحجرة قد "انتُهِبَتْ وأُفْرِغَتْ الرُفوف"، وكأن الحكمة السماوية قد سُرقت أو تلاشت، أو أن المعرفة التي كانت تتوهج قد طُمست بفعل الزمن أو النسيان.. او أن الشاعر يشير هنا إلى ما فقدته الحضارة الانسانية أو المعرفة العظيمة التي كانت يوما ما تزخر بها البشرية، نتيجة الحروب والصراعات (ولنا ان نتذكر ما فُعل في بغداد على يد المغول وما حصل لمكتبة الإسكندرية وسواهما).. مما يعكس الألم الإنساني المرتبط بضياع الحكمة.
النص يحمل رمزية عميقة تتجاوز الحدث الظاهري، فهو يتأمل في مصير المعرفة، في ارتباطها بالزمن، وفي تحول الحكيم إلى أسطورة، محاطًا بأقوالٍ "شتى" قد تُزيده حضورًا أو تُلقي به في ضباب الحكايات.. بلاغيًا، تتراقص الأبيات بين الإخبار والتأمل.. بين الحركة والثبات.. بين الغموض والوضوح، مما يجعلها تنبض بجدلية الوجود والمعرفة والمصير الإنساني.

" الفراغ المضيء بين الإيمان واللاإيمان
(29)
"هيَ حجرةُ البوذا صغيرهْ

ليستْ مؤثَّثةً

إذا دخَلَ المُريدونَ الحُفاةُ تَرَبّعوا:

بِاللهِ تُؤمِنُ؟ يَسألُ الكُفّارُ بوذا

أيْ نَعمْ كانَ الجوابْ

بِاللهِ تُؤمِنُ؟ يسألُ العُبّادُ بوذا

لا ولا كان الجوابْ

هيَ حجْرةُ البوذا منيرهْ"

حجرة بوذا:
تأخذنا هذه الأبيات إلى حجرة بوذا الصغيرة، لكنها رغم صِغَرها، تتسع لمفارقات كبرى تتعلق بالوجود والإيمان والتناقضات الظاهرية في الفكر البشري. فهي "ليست مؤثثةً" وكأنها تجسد الزهد المطلق، والفراغ الذي يحمل الامتلاء الروحي في طياته، مما ينسجم مع مفهوم التخلي الذي يميز تعاليم بوذا، حيث الفراغ ليس نقصًا بل فضاءً للتحرر من الماديات.
ثم تتجلى أعظم الجدليات حين تتقاطع أسئلة الإيمان واللاإيمان، ليكون بوذا نفسه مرآةً تعكس التناقضات البشرية. حين يسأله "الكفار" إن كان يؤمن بالله، يجيب: "نعم". وحين يسأله "العُبّاد"، تكون الإجابة: "لا ولا". هنا يكمن التلاعب العميق بالثنائيات التقليدية، فبوذا لا ينتمي إلى يقين محدد، بل يتجاوز الفهم الضيق للإيمان والإنكار، مما يجعل إجاباته صدى لحكمة تتجاوز التصنيف القاطع.. فالحقيقة الإلهية في الفلسفة البوذية ليست مطلقة، بل مرنة، وهذا يعكس تباين الرؤى حول الله والوجود.
رغم الحيرة التي يثيرها هذا التعارض، فإن حجرة بوذا تظل "منيرة"، وكأنها تُعلن أن الحقيقة ليست في الجواب، بل في النور الكامن في السؤال ذاته. إنها حجرة التأمل المطلق، حيث تتلاشى ثنائية الإيمان واللاإيمان، ليبقى النور وحده الحقيقة الوحيدة.. لأنه نور الحكمة الداخلية والمعرفة الروحية المتحررة من الظلام الداخلي.

معجزة الشفاء وزهرة الثالوث
(30)
"هيَ حجْرةٌ ليسوعَ

تَعرفها لأنَّ أتانَهُ بالبابِ واقفةٌ

وتعرفها لأنَّ قبْلَكَ أعرَجاً

شاهدْتَ يَدخلُها ويَخرجُ غيرَ أعرجْ

هي حجْرةٌ لِيسوعَ تَعرفها

لأنَّ قلادةً مِن زهرة الثالوثِ

ألطَفَ زهرةٍ روحاً بِعائِلةِ البَنفسجْ

تُرِكَتْ هُناكَ مُعَلَّقَه"

حجرة يسوع:
يتجلى في هذا المقطع الشعري بعدٌ رمزي عميق يتشابك فيه اللاهوتي بالإنساني.. والمعجزي بالطبيعي، في مشهد متخم بالدلالات الروحية والفلسفية. فالحجرة التي تُنسب إلى يسوع ليست مجرد مكان، بل فضاء ميتافيزيقي تتجسد فيه المعجزة، ويُضاء فيه المعنى من خلال الرموز الموحية بالشفاء والتطهير الروحي.
يبدأ النص بتأكيد هوية المكان عبر العلامات:
"هيَ حجرةٌ ليسوعَ / تَعرفها لأنَّ أتانَهُ بالبابِ واقفةٌ".
يثير شعورًا بالتقديس والرهبة، فتلك "الحجرة" ليست مكانًا عاديًا، بل رمزًا للمكان المقدس الذي تتجلى فيه معجزاته.. وأتانه هنا ليست مجرد دابة، بل إشارة قوية إلى المسيح بوصفه انسانًا وديعًا ومتواضعًا، كما في دخوله أورشليم، حيث كان الأتان رمزًا لحكم الرحمة لا القوة.. والبساطة مع العمق الروحي. ثم تأتي المعجزة مضمرةً ولكنها حاضرة بقوة:
"لأنَّ قبْلَكَ أعرَجاً / شاهدْتَ يَدخلُها ويَخرجُ غيرَ أعرجْ".
هذا المرور السريع على معجزة الشفاء، دون تفاصيل، يعزز أثرها العجائبي من خلال الإيحاء لا التصريح، بان التحرر من القيود الجسدية والروحية لا يمثل الا تجربة التحول الداخلي، وكأن الحجرة هي مكان الانبعاث الروحي والتحرر من الألم.. وكأن القارئ يشارك في اكتشاف السر الكامن في الحجرة.
لكن الإشارة الأكثر عمقًا تكمن في "قلادةً مِن زهرة الثالوثِ / ألطَفَ زهرةٍ روحاً بِعائِلةِ البَنفسجْ / تُرِكَتْ هُناكَ مُعَلَّقَه"
زهرة الثالوث، تلك الزهرة البنفسجية التي ترمز في المسيحية إلى التواضع، الحزن، الفداء، او الثالوث المقدس (الآب والابن والروح القدس).
ان لون البنفسج هنا ليس مجرد تفصيل، بل يشير إلى الألم المختلط بالأمل، وإلى الصفاء الداخلي المستمد من التجارب الصعبة. الزهرة "معلّقة" هناك كأنها أثر مقدس، مما يعزز الطابع الصوفي للنص.
إنها هدية مقدسة، أثرٌ من يسوع، وعلامة على بقاء الروح حتى بعد الرحيل. فالزهرة المعلقة في الحجرة كأنها صلاة صامتة، أو ذكرى من عالم الغيب، أو بقايا نور لم يخبُ بعد.
النص ينسج بعدًا فلسفيًا واجتماعيًا وإنسانيًا عبر الغياب والحضور.. المعجزة والرمز.. المادي والروحاني، ليجعل حجرة يسوع ليست مكانًا مغلقًا بل مزيجًا متوازنًا من العمق الروحي والرمزية الدينية، وفضاءً مفتوحًا على الإيمان والتأمل والتجدد والدهشة.
***
طارق الحلفي
......................
* رابط القصيدة
https://www.almothaqaf.com/nesos/971491
* رابط المدخل
https://www.almothaqaf.com/readings-5/979452
* رابط القسم الاول
https://www.almothaqaf.org/readings-5/979564
* رابط القسم الثاني
https://www.almothaqaf.com/readings-5/979680
* رابط القسم الثالث//
https://www.almothaqaf.com/readings-5/979779

تعدد الأهواء السردية بتعدد الأمزجة الشخوصية

توطئة: تجسد الأحداث في رواية (البعوض) للكاتب الأمريكي وليم فاكنر، ترجمة جمال الدين الرمادي، ذلك النوع من التشكل الوقائعي بفكرة جعلت ترتبط بعنصري الزمان والمكان بصورة قائمة في حدود تركيز الحكي على وقائع ذات ملامح تقترب من حياة الأهواء والأمزجة الفردية، تفردا يجعلها متعددة في أدوارها وتنقلاتها القائمة بطريقة البناء الاستعراضي في الفنون التراجيديا، وهذه الوقائع لربما بدا من جهة عامة متنامية غير أنها من جهة خاصة تبدو غير دالة عن فحوى ركيزة مدلولية معتمدة، فهي بكل الاحوال رواية لا تحظى بأهمية أدب فوكنر الروائي الكبير، بقدر ما تبرز في كونها محض سلوكيات تمثل فئة من الشخصيات الارستقراطية التي تجمعها واقعة مكانية متحركة في فلك ذلك اليخت العائم فوق أمواج ثقيلة وكأنها مياه ملوثة ببقع زيوت أو طبقات من حشرات البعوض افراضا على حد توصيف وسائل ومعادلات السرد المكشوفة والمتشظية في الإقناع والتماسك السردي والفني.
- الخطاب السردي وديمومة الوقائع المتناثرة
يحشد الكاتب في مجموع أحداثه الروائية، جملة من التنوعات الحوارية التي تتسم بالوحدة الزمنية المؤشرة لذاتها ضمن يافطة كل عتبة متنية للنمو السردي، لذا واجهتنا ثمة حوارات لا تقتضي الغاية منها سوى فرض أسلوب الإسهاب في الحوار دون ربط الأحداث بوازعة دﻻلية من شأنها دعم هوية الرؤية السردية في المبنى الروائي.. وﻻ تتوقف انشغالات المساحات الحوارية المقتضبة عن أية وقائع تقودنا نحو فسحة تبئيرية تجذبنا نحو غاية مدلولية ما، فقد وجدنا الوحدات الحوارية تعبر عن مسارات كاشفة من الغو والفضاضة المعتمدة من قبل مستويات الركة في الوعي الشخوصي. أخذت الرواية (البعوض) مسار حركتها من بيئة صراعية في المشاهد التي تتعلق بعملية إبحار المجموعة الشخوصية على ظهر ذلك اليخت. ولكنها جميعها محض حاﻻت ليست بما يمكنه وصفه بالدوافع الحقيقية لمووعة الرواية: وأين هي بالضبط فكرة الرواية ؟ وما الدور الذي تشكله تلك المجموعات المتحاورة في ما بينها رجاﻻ ونساء، إذ لو معنا فيها، لما وجدنا سوى ضخامة هائلة من التهريج والاستعراضية في خضم سياحة جماعية على ظهر ذلك اليخت الذي يشكل بدور الوحدة العولمية للكائن الارستقراطي بكامل علاماته وسماته الأهوائية. فالسارد يضع المتلقي من بداية السرد الحواري وحتى آخر لمحة عابرة في مسار الرواية داخل حدود حجامية نقاشية ﻻ تعكس أية علامة ثقافية على نوع ومظهر الشخصيات، بقدر ما تبرز حاﻻت ضوضائية وضجيجية قائمة ودائرة بين كل طرفين من شخصيات اليخت المتعددة. لعل تزايد عد الشخوص الفجائية في ظهوريتها، جعل من الرواية كمكنون غاكس في نزوات وأمزجة غير مدروسة ومحسوبة. الكلك يتحاور، الكل يضع الأجواء في النص ضمن مقاربة مخصوصة بكونه ذلك الفرد الأكثر جدوى ثقلا في سماته الإدراكية والعقلية، لذا هذا الأمر الذي جعل بدور من كل هوية شخوصية وكأنها منفتحة على دواخل الشخصية الأخرى من ذات الوحدة السردية: (جلس الجميع حول مائدة البريدج وهم يتحدثون ويمرحون وراحت السيدة مورير تتطلع نحو الفضاء أحيانا، والسفينة تشق عباب الماء. / ص٤٤ الرواية) يستهل السارد بضمير الأنا العليم سرده بخطاب أتى أرهاصا للكشف عن أجواء الحكي وعن تلك الدوافع السلوكية والأفعالية التي تقف وراء بعض محفزات عن طبيعة تلك الرحلة البحرية التي هي بحد ذاتها ﻻ تتجاوز البناء التعددي دون انقطاع لتقديم الأوضاع الشخوصية وكأنها ذلك الصرح المتصاعد نحو هدية الحياة الحقيقية. ولكن في الواقع كوننا كقراء للرواية، ﻻ يصادفنا سوى التكرار لبعض من الأحداث وإعادة الهيئات المحورية ضمن فرصة عروضية تحكي هذرا داخل الأحداث. الغريب في أمر أننا ﻻ نواجه ثمة محصلة حقيقية لوجود مكون (البعوض) سوى من ناحية تهكنية خاصة بمؤشرات المعادل التقريبي في مرمزات الوظيفة الروائية.
- تعليق القراءة:
لعل من مظاهر لنا أن رواية (البعوض) قد جاءت كحكاية روائية من دﻻﻻت الخارج الروائي، ذلك لكونها تتطلع نحو ذلك الشكل المتنامي بالأفعال الخاطفة والمبعثرة حيث ليبدأها السارد بتهيئة الحوارات المقتضية، ويستكملها بحاﻻت صورية هامدة في الحكي والشد الموضوعي، ولأجل تسوية اصة للرواية أجدني أقول أن الخطاب السردي في (البعوض) حله في حدود العلاقات والاضطراب الشخوصية الخارجية مع انشطار الوظيفة المركزة للمهمة الموضوعية الجادة. لقد فارقت حبكة الرواية الحوار الداخلي للشخصية واللغة الوصفية العميقة وتقانة أدوات بناء الأحداث بالصورة والأسلوب والشعرية الجمالية الكبيرة، فيما بقيت صور وأحوال مدار حكاية الرواية حالة غارقة بتعدد الأهواء السردية بتكاثر واقع نفسي استعراضي جعلها رواية ذات دﻻﻻت ترتبط بأحساس المؤلف للواقعة الخاصة بمقصديات الذاتية ، دون أن تسجل الرواية ذاتها أدنى صورة فنية بالاحواء التي كان يقصدها المؤلف في عين طاته الفردية. وكأنها صورة رامزة تبحر على ظهر تلك السفينة العائمة وسط أمواج الأهواء والأمزجة الشخوصية الموظفة تهكما في أدوات السرد الروائي.
***
حيدر عبد الرضا

قراءة نقدية تحليلية لقصيدة "شُذُوذٌ كيميائي" داخل غرف الإنفلونزا – للشاعر فراس جمعة كاظم – العراق
***

شُذُوذٌ كيميائي داخل غرف الإنفلونزا

فِي النِّزَاعِ عَلَى بَابِ الباصِ

قمصانٌ تَتَمَوَّجُ

وأَحْذِيَةٌ تَتَرَاكَمُ وتطيرُ

الصُّرَاخُ مذبحٌ مناسبٌ للاضلاعِ الناتئةِ

لَا...............

لَا تسرقوا الْمَحْفَظَةَ

الْمَحْفَظَةُ سَرِيرٌ مُقْفَلٌ

لبطاقةِ الباصِ رَقم ٩

دَرَاهِمُ مَرْبُوطَةٌ بمقصلةِ الْقَاضِي السَّمِينِ

الأطفال يُغمضونَ.....

تَدعكُهم قَذِيفَة

دَاخِلُ لُعبةِ السَّرَاوِيلِ الْفَارِغَةِ

الأمهات طاهياتٌ جيدات

يَمْتَزِجُ الرُّزُّ المُحمرُ

مَع رَكْضَةِ حِصَانٍ

حَسَاءُ مَعَدٌ للطواويسِ الْبَيْضَاءِ فَقَط

المناجلُ لِلضَحَايَا....

لَا للمزارعين

يُشاركُ جَرَسٌ ضَخْم وعكاتِ البَنادِق

لَا وَقْتَ لأعواد الثِّقابِ الكونكريتية

لَا وَقْتَ لعناقِ الأشجار الْعَارِيَّة للمظلات

القَهْوَةُ أكواب لدُنة لأفواه حَدِيدِيَّة

مَسَامِيرٌ بصِنَاعَة فاخرة لتثبيتِ الأصابع

الحانة تراجِيدِيا قرمزيةٌ لِرَجُلٍ طَاعِنٍ

الْمَطَاعِمُ فوانيسُ السندويشات البرونزيةُ

طائرة.......

تَسْتَضِيفُ الْمَدَارِسَ الْمُسَلَّحَةَ

تَلاَمِيذٌ يرسمون د ا رنَا

ويرسمون طائرة

وَعُلْبَةَ سردين مُتَعَفِّنٍ

وَحِذَاءً محشوراً فِي سَرِيرٍ مُعَقَّمٍ

الأمعاء تَحِيضُ اعشاشاً

مِنْ الْجُبْنِ الرَّاشِح

وَالْكَثِيرَ مِنْ الفايروسات الْمُحَمَّصَةِ

بَاعَةُ البراندي........

تَكدسوا فِي شَارِعِ الوَطَن

البرانديُ حَزِينٌ

السَّاعَةُ الْحَادِيَة عَشَرَ مساءً

أضواء الزئبق تتقافزُ عَلَى النَّهْرِ

اسماك نَظِيفَةٌ جداً

تُشاطِرُ الْمَاءَ غناءَهُ الْفَاحِشَ

تَعومُ الْمَتاحِفُ تَحْتَ حُفْرَةِ المصائر

رِمَالُ بَارِدَةُ تَغَطسُ

وحبيباتُ مهجوراتُ يتشنَّجن

كَمَا عَاصِفَةٍ عالقةٍ بِسِياجِ

تتعامدُ الأجساد الرَّاسِخَة

مَع الأعوام العصيّة

قبلاتٌ علْوِيَّةٌ تُدْفَنُ دَاخِلَ قُبَّعَةٍ

أَشْجَارُ المَزَامِيرُ القَاحِلَة.......

تترصعُ خَلْفَ مَرْقَدِ الْفَمِ

فَمُ يترهلُ

فَمُ مُضْطَرِبٌ تماماً

الْفَمُ مقهىً عَرِيضٌ

يَرْشَحُ الْكَثِيرَ مِنْ القصائد اللزجةِ

مَدامِعُ مَعاقَةٌ دَاخِلَ شَبَابِيكِ الْمَاءِ

عذراواتٌ كمناجمَ مُنْقَرِضَة

تَعَدُّ مَا ذَبُلَ مِن أشرطة الْيَنَابِيعِ الساخنةِ

العوانسُ صُخُورٌ مُتَحَلِّلَةٌ فِي مَرْمَى الْمَعَاطِفٍ

مَعَاطِفُ ثَقِيلَةٌ جداً

تَحْمِلُ الإناث الْخَالِدَةَ

كَمَا تحْمِلُ الشِّتَاءُ

الجَلِيدُ أرقام مُجَرَّدَةٌ مِنْ الْعُشَّاقِ الْمَوْتَى

الجَلِيدُ فُقّاعَةُ الرأسمالية الثلجيةِ

الاكواخُ انهار مِن الدُّخَانِ الْعَاطِل

تتناسلُ مَع زجاجاتِ النَّبِيذِ المُثلّجِ

يتزاوجُ النَّبِيذُ مَعَ قَطْعِهِ كَعْكٍ ذائبة

يَفْرُغ الكأس فِي بَطْنِ تِمْثَال

سَاقٌ عَرْجَاءُ استبدلت بِرَاْأس

اصبح الرأس اعرجا بِمَا لَا يُطَاقُ

تَذَكَّرَةٌ زئبقية نهائية

تزفرُها مؤخرات النوافير

الشَّوَارِعُ خَرْسَاءُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ

ولائم جَاهِزَةٌ تَمَامًا

وقَتْلَى جاهزون ايضاً

النوافيرُ تموءُ بِبُطْء

تُعَبِّر الأنفلونزا الصُّلْبَة

الى خَاتِمَةٍ الْفَنّ

وَخَاتَمُةِ الْغِنَاء

المنصاتُ عَمَلِيَّةٌ جِرَاحِيَّةٌ

خَارِجَةٌ عَنْ السَّيْطَرَةِ

نَسَبَةُ الشِّفَاءِ

صفر بالـ %.

***

بقلم: فراس جمعة كاظم.

..............................
القراءة النقدية:
قصيدة /شُذُوذٌ كيميائي داخل غرف الإنفلونزا/ هي عبارة عن رحلة إلى أعماق الوجود الإنساني المُعذب والممزق، إذ تشكل لغة الشاعر ساحة متشابكة من الرموز والتخيلات البصرية التي تجسد أبعادًا متعددة للواقع المأزوم والمضطرب.
البنية والأسلوب:
القصيدة تتميز ببنية سردية غير تقليدية، حيث تبرز الصور الشعرية بشكل متسلسل وغير خطي، ما يخلق حالة من الفوضى والارتباك الذي يعكس أجواء الانفلات الفكري والتشويش العاطفي. في هذه القصيدة، لا يبدو أن الشاعر يتبع تسلسلًا منطقيًا للأحداث؛ بل يعتمد على تقديم مشاهد معزولة عن بعضها البعض لتشكيل لوحة من الفوضى الكيمياوية، كما يوحي العنوان /شُذُوذٌ كيميائي/ من خلال تكثيف الصور غير المتوقعة.
الصور الرمزية والتشابك الفكري:
الصور التي يقدمها الشاعر تجعلنا نشعر وكأننا في وسط عالم يختلط فيه العنف بالعجز، والهزيمة بالأمل. فالصور مثل /قمصانٌ تَتَمَوَّجُ/ و/أحذيةٌ تتراكمُ وتطيرُ/ تعبّر عن حركة غير مستقرة، تمامًا كما هي الحالة العامة في القصيدة. الطيران والتراكم المتناقض بين الأشياء يشيران إلى حالة من التفكك والضياع.
النمط الرمزي المكرر في القصيدة هو تكرار /المحفظة/ و/بطاقة الباص/، مما يعطي شعورًا مستمرًا بفقدان الهوية أو تكرار الحياة الروتينية التي يرفضها الشاعر في هذه اللحظة، بالإضافة إلى أن /المحفظة/ قد تكون رمزًا للقيمة والمكانة الاجتماعية المفقودة في هذا الواقع المربك.
المرجعية الثقافية والسياسية:
الشاعر يدمج إشارات إلى الأزمات السياسية والاجتماعية التي يمر بها المجتمع العربي، من خلال تطرقه لمفردات مثل /دَرَاهِمُ مَرْبُوطَةٌ بمقصلةِ الْقَاضِي السَّمِينِ/ و/المناجلُ لِلضَحَايَا/. هنا لا يُبدي الشاعر فقط صورة واقعية للألم، بل يوجه نقدًا حادًا للظلم الاجتماعي والفقر والتفاوت الطبقي، حيث تبرز الهياكل السياسية والاقتصادية القاسية التي تتحكم في مصير الأفراد.
العلاقة بين الفرد والمجتمع:
القصيدة تركز على تناقضات الحياة في المجتمع وتُظهر كيف أن الأفراد، بما فيهم الأطفال والنساء، يُسحبون في دوامة من الألم والمعاناة. يظهر هنا انتقاد حاد للمجتمع الذي يعاني من اللامبالاة والتهميش، فيما يضيع الأمل في ظل الظروف الصعبة. يتم تقديم صورة المجتمع كمكان بائس مليء بالحروب النفسية والجسدية، حيث يتم تحويل الحياة إلى معركة يومية للبقاء.
التوجه التجريدي والرمزية:
القصيدة مليئة بالرمزية الغامضة التي تتجاوز حدود المعنى المباشر لتصل إلى عوالم فنية مجازية. من بين هذه الرموز، تظهر الفكرة القوية /العوانس صُخُورٌ مُتَحَلِّلَةٌ/، والتي تُعيد تشكيل صور المجتمع المتهالك بتلك اللغة الرقيقة التي تبدو كأنها تأملات عميقة حول قضية العنوسة والمجتمع المغلق. هذا المزج بين الرمزية المفرطة والسياقات الاجتماعية يجعل القصيدة أشبه بلوحة فنية قاسية تثير الأسئلة وتفتح أبواب التأمل في العديد من القضايا.
التوتر بين الواقع والخيال:
القصيدة تتنقل بين الواقع والخيال بمهارة لافتة، حيث يبدو أحيانًا أن القصيدة تمثل حلمًا مرعبًا، وأحيانًا أخرى تشبه كابوسًا مستمرًا. الصور الشعرية الممتزجة بالخيال المتطرف - مثل /الطواويس البيضاء/، /الفمُ مقهىً عريضٌ/، /العوانس صُخُورٌ مُتَحَلِّلَةٌ/ - تخلق إحساسًا بتنافر وخلل داخلي، يضع الشاعر نفسه على شفا الهاوية بين المعاناة والهروب. تتعدد صور الموت والانفصال والفراغ النفسي لتُظهر تناقضات الإنسان أمام الواقع الصعب.
النهاية والتفاعل مع العالم الخارجي:
النهاية التي يقدمها الشاعر هي بمثابة توجيه للقارئ لمواصلة التساؤل حول مصير الإنسانية في ظل الفوضى المتنامية: /النوافيرُ تموءُ بِبُطْء/، /الشَّوَارِعُ خَرْسَاءُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ/. تُختتم القصيدة بجو من التشاؤم العميق، حيث لا يوجد أفق للنجاة أو الخلاص. تشعر وكأن الشاعر يسلط الضوء على العجز المطلق أمام ما يواجهه الفرد من معاناة.
الخلاصة:
في قصيدته، يستخدم فراس جمعة كاظم أسلوبًا غير تقليدي يعكس تشوهات الواقع من خلال الصور الرمزية القوية واللغة المربكة، مما يجعل القارئ يدخل في عالم من اللامعقول، بينما يشير إلى معاناة الفرد والمجتمع في أوقات الأزمات. تشكل القصيدة مرآة معكوسة لحالة المجتمع الممزق بين الماضي الحزين والمستقبل المجهول، حيث تمثل الانفصال بين الجسد والعقل، والروح والواقع.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق

قراءة نقدية سيميائية في قصيدة "الصمتُ فقط" للشاعرة سابرينا موريللي – ايطاليا

الصمتُ فقط

لنْ يكونَ هناكَ صمتٌ فقط بينَ أحضانِ كلماتي، سأسيرُ في تأرجحٍ لاهوتي مِن الأفكارِ التي تخصني، مبعثرة في أفقٍ يهمسُ لي بالحياة عنك.

سأستدعي ذكريات كامنة مِن زمنٍ يطالب بكلِ شغف، بكل اضطرابٍ مِن ذلكَ البيت المرتبك في نموذج لفعلٍ لمْ أعدْ أستطيعُ تصريفه.

مغمورةٌ في سرابِ ذلك الحب الضائع، أتيهُ في ضبابِ طريقٍ تغطيهِ أفكار متشابكة في هوةٍ من الألم.

سأرددُ رغبةً في احتضانٍ، في غروبٍ أخير يبتعدُ، أفكاري التي لا يمكن ملؤها، التي تداعبني بين الأبيات العابرة والكسولة.

لنْ يكونَ هناك صمت فقط، حيث تتجلى روحك في ذلك التنهد الصامت الذي تركتهُ في صدري؛ صرخةٌ ستنفجرُ في الكون في تناغمٍ تامٍ مع سيمفونية ستعزف بين نغمات وجودك الخالد.

***

سابرينا موريللي- ايطاليا.

......................

القراءة النقدية:

تعدّ قصيدة / الصمتُ فقط/ - للشاعرة الإيطالية سابرينا موريللي نصًا شعريًا مليئًا بالرمزية والتعبير المكثف، يعكس الصراع الداخلي بين الصمت والكلام، بين الفقد والذكرى، وبين الحب والموت. باستخدام أسلوب سيميائي، يمكن تحليل الدلالات الرمزية والعلامات التي تقود إلى فهم أعمق للقصيدة وأبعادها النفسية والفلسفية.

1. الصمت كعلامة رمزية:

البداية مع العنوان /الصمت فقط/ يشير إلى تناقض مبدئي؛ فالصمت في العنوان يقابل الفعل والتعبير الذي تطرحه الكلمات في النص. يفتح هذا التناقض أمام المتلقي أسئلة فلسفية عميقة حول المعنى والحضور والغياب. في البداية، تتحدث الشاعرة عن عدم وجود /صمت فقط/، إذ تعترف بأن الصمت ليس مجرد غياب الصوت، بل هو أيضًا مشبع بالوجود الكثيف للأفكار والعواطف. هنا، /الصمت/ يصبح علامة على حالة من الوجود المزدوج: الصمت المادي مقابل الصمت الداخلي المملوء.

2. اللغة وأبعادها الزمنية:

تتمثل السيميائية في هذه القصيدة في تداخل الأبعاد الزمنية في النص. تتنقل الشاعرة بين الزمن الحاضر والماضي، وتحاول أن تعيد استحضار الذكريات واللحظات الماضية التي يسيطر عليها الحب المفقود. تعبير /سأستدعي ذكريات كامنة/ يشير إلى عودة إلى الماضي واستعادة للحظات زمنية قد تكون فقدت بالفعل، مما يشير إلى عدم القدرة على التفاعل مع الزمن الحاضر كما كان من قبل. الماضي يتداخل مع الحاضر، حيث يصبح الحب والذكريات علامات يمكن للشاعرة أن تعيد اكتشافها.

3. الفقد والوحدة:

/سراب ذلك الحب الضائع/ و/أتيه في ضباب/ تعد علامات دالة على الفقد المستمر والضياع. الشاعرة تعبر عن شعور مؤلم من فقدان الأمل، وتستخدم استعارات سيميائية (مثل "السراب" و"الضباب") لتصوير هذا الفقد. الفقد هنا ليس مجرد غياب لشخص أو شيء، بل هو فقدان الذات وابتعاد المشاعر الحقيقية عن الواقع، مما يولد حالة من الغموض والضياع الداخلي.

4. الصرخة والموسيقى:

الصوت في القصيدة لا يظهر إلا في النهاية، وفي لحظة الانفجار الوجودي، حيث /صرخةٌ ستنفجرُ في الكون في تناغمٍ تامٍ مع سيمفونية ستعزف بين نغمات وجودك الخالد/. يتجلى الصمت هنا في تضاده مع الصرخة، مما يعطي للقصيدة طابعًا ملحميًا يتسم بالاحتشاد العاطفي. إن هذه /الصرخة/ ليست مجرد خروج مفاجئ للصوت، بل هي علامة على تمرد الذات على صمتها الداخلي، وعلى السعي للتحرر من أصفاد الذكريات. السيمفونية، بما تحمل من تناغم، تصبح بمثابة تجسيد لصوت الحب الخالد والوجود الذي لا ينتهي.

5. الرمزية في النهاية:

القصيدة تُختتم بتعبير عن التناغم بين الحضور والغائب، بين الوجود والعدم. عندما تقول الشاعرة /سيمفونية ستعزف بين نغمات وجودك الخالد/، يظهر أن المعنى لا يأتي من الفقد فقط، بل من الإصرار على استحضار الحضور عبر الموسيقى والصرخة، مما يترك القارئ في مواجهة مع السؤال الوجودي: هل يمكن للصمت أن يصبح صوتًا؟ هل يمكن للحب الضائع أن يتحول إلى موسيقى خالدة؟

الخلاصة:

قصيدة /الصمتُ فقط/ تعد نصًا شعريًا مليئًا بالرمزية والسيميائية العميقة. تتعامل مع الصمت ليس كغياب، بل كحالة مليئة بالذكريات والآلام والتوق. ينجح النص في خلق تضاد داخلي بين الصمت والصوت، بين الفقد والحضور، وبين الحياة والموت. ومن خلال هذا التفاعل بين العناصر، تسعى الشاعرة إلى التعبير عن عالم داخلي معقد، حيث يصير الصمت والألم والحب الخالد علامات ذات دلالات شديدة القوة، تحمل في طياتها أكثر من مجرد كلمات، بل تنبض بحياة ومعانٍ أعمق.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

يمكن التّوقف هنا على أهم فصول وأبواب الكتاب، حيث يتطرّق الكاتب إلى ست روايات لستة روائيين عرب لتكون شواهد على شواطئ النّص/ الاقتباس التّمهيدي في الرّواية العربية، وهم حيدر حيدر، عبد الرحمن منيف، صنع الله ابراهيم، ابراهيم الكوني، جبرا ابراهيم جبرا وسالم حميش.

(دأب حيـدر حيـدر ابـتـداء بروايتـه الأولى (الفهـد) ما على جعله عتبة الاقتباس

التمهيـدي عنصراً رئيساً من عناصر لعبتــه الروائية حتـى صــارت لازمة تتكرر فيما بعد في كل رواياته تقريباً، بل حتى في عدد من قصصه القصيرة أيضاً (التموجات وحكاية النورس المهاجــر مثلاً). نصـوص الاقتبـاس التمهيدي لدى حيدر متنوعة من حيث جنـس النـص المقبــوس وحجمه ومؤلفه؛ ففي رواية الفهد يأتي الاقتباس

نصاً نثرياً طويلاً خالياً من التوقيع بينما يكون في وليمة لأعشاب البحر، مقطعا

صغيراً موقعاً باسم هرمان ملفل......). ص 290

وعندما يخصّص رواية "الزّمن الموحش" للدّراسة يقول:

(الاقتباس التمهيـدي في هذه الرواية نص من الشعر الحديث، ويمكن القـول إنه طويل نسبياً قياساً إلى كونها اقتباساً تمهيدياً لنص روائي، ولكن مع ذلك ثمة

بنيــة متماسكة للنص تظهر في الانسجام الواضح والمدروس بين محطاته الثلاث:

البداية والوسط والنهاية. من السهل أن يكتشف القارئ أن نص الاقتباس برمتــه يتمحور حول موضوعة الزمن الذي يلبسه الناص ثوب القدرة والتحكم في الأحداث والمصائر فيقدمه بوصفه (فاعلاً) سلبياً مرة وإيجابياً أخـرى....). ص 291

ويرى الكاتب أنّ الرّوائي حيدر يصف الزّمن أحياناً بالسّلبية وأخرى بالإيجابية، وفي ذلك يقول:

(الانتقال في النص الشعري من كون الزمن عاملاً سلبياً إلى كونه عاملاً إيجابياً يتم من خلال أداة الاستدراك "ولكن"، كي يضع الشاعر بوساطتها ما سلف من شرور الزمن وراء ظهره وينظر إلى الأمام حيث الوجه الآخر للزمن: الزمـن المداوي الشافي، حيث المستقبل، إذ يقول:

لأن الزمن يقهر الزوايا الحادة

ويغلق الجراح

أريد أن أنسى الزمن العاري والقاتل

إلخ....

ولكن...

لأن الزمن يشفي تلك الجراح

ويسوي الجراح

فإني أرغب في تشييد دعامة للزمن...

أريد الآن أن أعيد إليه الكمال......). ص 291, 292

ويضيف الكاتب في هذا السّياق حول خصال هذه الرّواية والتي تميّزها من روايات حيدر الأخرى:

(يتميز نص الاقتباس التمهيدي في الزمن الموحش عنه في روايات حيدر الأخـرى بخصلتين بارزتين: الأولى أن توقيع نـص الاقتباس في هذه الرواية عام مطلق (شاعر من أفريقيا)،  بينما يأتي في الروايات الأخرى باسم مؤلفه الصريح حيناً، وغفلاً خالياً من التوقيع حيناً آخر. أما الخصلة الثانية فهي أن نـص الاقتبـاس التمهيـدي في هذه الرواية محاط بثلاث عتبات خاصة به؛ فبالإضافة إلى التوقيع الذي يـأتي في الأسفل تعلو نص الاقتباس عتبتان أخريان: الصفة الأدبية لنـص الاقتباس أو نوع العتبة (تقديم) وعنوان نص الاقتباس (مراسيم دفن)، ما يمنح نص الاقتباس استقلالية تامة وهوية خاصة به وهذه سمة يمتاز بها هذا الاقتباس التمهيدي). ص 297

في الفصل الثّاني يتحدّث الكاتب عن رواية "سباق المسافات الطويلة" للرّوائي عبد الرحمن منيف.

يصف الرّوائي منيف بأنّه من الرّوائيين الذين بدؤوا كتابة الرّواية في أوائل السّبعينيات، أي في خضم الفترة التي بدأت الرّواية العربية تأخذ منحى جديداً ( فنياً وموضوعاتياً) مفارقاً للمنجز الرّوائي العربي حتى ذلك الحين، لكنّه يؤكّد على أنّ منيف دخل نادي الرّوائيين العرب في مرحلة متأخرة نسبياً من حياته التي قضى شطرها الأوّل في العمل السّياسي:

( ولكنه ما لبث أن وجد نفسـه كارها للسياسة وألاعيبها ووجد في الرواية مجالاً بديلاً للتعبير عن رؤاه وأفكاره وأحلامـه، فغـادر الأولى إلى الثانية باحثـاً في اللغة والعوالم المتشكلة منها عن الحلم الذي لم يستطع تحقيقه عبر العمل السياسي). ص 291. وربما كانت الخلفية السّياسية التي قدم منها منيف إلى عالم الرواية هي التـي جعلتـه يـشــتغل في الكثير من أعماله عـل المـادة التاريخية التي تتميز عنــده على الأقل بسمتين: الأولى أنها لا تعود إلى التاريخ البعيد (كما هي لدى الكثير من الروائيين)، بل إلى التاريخ القريب الحديث. أما الثانية فهي أنها لا تخاطب أحـداث التاريخ ووقائعه وشخصياته بل تقارب ذلك التاريخ الذي يروي حكاية تشكل المنطقـة والتحـولات التـي طرأت على شعوبها وصراع الآخرين عليهـا، مستفيداً في ذلـك من خبرته السياسية وقدرته على قــراءة التاريخ وتحليلـه استناداً إلى تخصصه في مجال النفط واقتصادياته وسياساته وأثر كل ذلك في تشكل تاريخ المنطقة الحديث).

ثم يتابع الكاتب:

(من هنا ستتقدم موضوعات مثل اكتشاف النفط في المنطقة وأثره في تشـكل

شخصية الإنسان فيها نفسياً واجتماعياً، وصراع القـوى الغربية عليـه لتكـون واحــدة من أهم المواد التي سيشتغل عليها منيف في رواياته عموماً....). ص360

يقسّم الكاتب هذه الرّواية إلى خمسة اقتباسات تمهيدية، ويرى أنّها تتكامل فيما بينها لتشكّل نص الرّواية، وتنتج دلالته الكلية، وفي النّتيجة يرى أنّ:

(الاقتباسات التمهيدية للأقسام الخمسة تتكامل فيما بينها لتشـكل نـصــاً مرافقاً لنص الرواية وتنتج دلالة مجاورة لدلالة النص الروائي؛ فما دامـت الأقسـام تتكامل فيما بينها فإن الاقتباسات الممهدة لها والدالة عليها سـتتكامل فيما بينهـا أيضاً). ص409

يتوجّه الكاتب بعدها إلى الاقتباسات التّمهيدية الخاصة وعتبات النّص في أربع روايات أخرى، هي:

بيروت بيروت للرّوائي صنع الله ابراهيم، البئر أسطورة الصّحراء وأسطرة الواقع للرّوائي ابراهيم الكوني، يوميات سراب عفان للرّوائي جبرا ابراهيم جبرا ورواية فتنة الرّؤوس والنّسوة للرّوائي سالم حميش في الفصول الثّالث والرّابع والخامس والسّادس من الصّفحة 419- 567.

وكما بدأ دكتور ولات كتابه ب" عتبة الدّخول" فقد أنهاه ب " عتبة الخروج" وفي بداية الفقرة الأولى فيها يطرح تساؤلات عدة:

(ما الذي يمكن أن يخرج به من قام برحلة كهذه في رحـاب العتبات النصــة ودهاليـز المتون التي تحيـط بها تلك العتبات؟ وكيف يكن للمغامر الخروج من "ورطة"، من هذا النوع؟ وإذا كان صاحب المغامرة اتخذ من عتبة الدخـول بوابـة للعبور إلى متن موضوعه ومنبراً لتسويغ مغامرته وتسويقها لـدى القارئ، فـماذا عساه أن يخبر به ذلك القارئ قبل أن يترك عتبة الخروج خلف ظهره، وهو الذي أطال الإقامة في ربوع ذلك المتن وتجول في دروبه وأزقته وتعرف إلى بعـض معالمه وخفايـاه)؟

ليختتم الخروج بعبارات ربّما أراد لها أن تكون أجوبة لتلك التّساؤلات حيث يقول:

(أود أن أختم هذه المغامرة (مؤقتاً) بالإشـارة إلى أمرين: الأول أن الدراسة قامت بمسح عتبة الاقتباس في ما يربو عن ماثتين وثلاثين رواية، كما قامت بدراســة تحليلية تفصيلية لتلك العتبة النصية في ستة نماذج روائية عربية وقد خلصـت في النهاية إلى نتائج وأحــكام وتصنيفـات بخصــوص العتبـات النصية عموماً وعتبـــة الاقتباس التمهيدي على نحو خاص تراها جديدة وهامة، ولكنها لا تدعي أنهـا نتائج وأحكام نهائية وقطعية وقارة، بل ترى أنها قراءة واحدة من قـراءات كثيرة ممكنة، ولكنها في الوقت نفسـه تؤكد أنها مختلفة لأن منطلقها مختلف.

الأمر الثاني أنه مما لاشك فيه أن ثمة العشرات وربما المئات من النصـوص الروائية العربية التي تشتمل على عتبة الاقتباس التمهيدي وما تشــملها الدراســة الراهنة (لأنه من المتعذر على أية دراسة أن تعاين أو تمسـح كل النصـوص التـي تدخل في نطاق عملها....).

وربّما يحاول من خلالها الإجابة على ما تضمّن كتابه من اللحظة التي قرّر فيها الاستجمام في شواطئ النّص التي أراد لها أن تكون بمثابة بصمات خالدة له في هذه الموضوعات التي سلك سبيلها، وهي مليئة بالصّعوبات والتّعرجات، لكنّه وفّق فيها إلى حدّ كبير، وتمكّن من تجاوز الصّعاب والأسلاك الشّائكة التي اعترضت سبيله، وهذا بحدّ ذاته جعله موفقاً في مغامراته التي أبدى خشيته منها في البداية؛ ولكن هذا لا يعني أنّ القارئ للكتاب ربّما يسجّل عليه بعض الملاحظات، وهي بحدّ ذاتها من باب الحرص على الكاتب وعلى كتابه:

الملاحظة الأولى: الكتاب ضخم جدّاً يتضمّن 600 صفحة، ما يتطلّب وقتاً طويلاً في قراءته والاطلاع عليه، لأنّ موضوع الكتاب جديد على القرّاء وإن كان سهل الفهم على المختصين أو النّخبة.

حبّذا لو كان مقسّماً إلى قسمين أو جزئين، أو اختصره الكاتب إلى صفحات أقلّ.

الملاحظة الثّانية: استشهد الكاتب بست روايات لستة روائيين عرب بالإضافة إلى استشهاده بأمثلة وشواهد لكتّاب آخرين من العرب والأجانب، حبّذا لو كان يستشهد بروايات لروائيين كرد أيضاً، من خلال كتابه كان سيتمكّن قرّاء العربية وكتّابها من التّعرف عليهم والتّعرف إلى ثقافة الشّعب الكردي وأدبه المكتوب بالعربية.

***

نارين عمر

......................

* د. ولات محمد ـ دكتوراه في اللغة العربية وآدابها ـ قسم الدراسات الأدبية، 2011.

المؤلفات:

ـ كتاب: دلالات النص الآخر في عالم جبرا إبراهيم جبرا الروائي، الهيئة العامة السورية للكتاب، 2007.

ـ كتاب: شواطئ النص.. الاقتباس التمهيدي في الرواية العربية. دار لوتس للنشر الحر، مصر/ المغرب، 2023/ 2024.

ـ كتاب دراسات في الرواية العربية (قيد الإنجاز).

ـ كتاب تاريخي ثقافي، ترجمة من الكردية للعربية (قيد الإنجاز).

 

أحداث رواية "قيامة الخفافيش" وتيماتُها تتوالدُ متتاليةً كلما أمعنتَ فيها قراءةً، فهي رواية الأكشن والسوسبانس، ورواية الحكمة والعِبرة، ورواية الواقع والتخييل، فمن أيِّ جهةٍ جسسْتَها وجدتها ممتلئةً مكتنزةً، ففي نهايتها ترى "الخفافيش" التي أسَّسها سلمان في قرية من قرى البحرين لإحقاق حقٍّ مُضَيَّعٍ، قد لاحقته لعنتُها في بوغوتا كولومبيا، وأوردتْه غرفة الإنعاش ميتا تسري فيه بقيةٌ من حياةٍ.

خفافيشُ سلمان تنتقي ضحاياها تشبعهم ضرباً مبرِّحاً، وترميهم قرب سكناتهم، مكتوبٌ على قمصانهم "أنا مجرمٌ آثمٌ"، وفي سلمان تجتمع تناقضاتُ الإنسان، يلاحظها منبهراً فيمن حوله، ويغفل عنها في نفسه، يراها في والده مكشِّراً في أهله، مبتسماً للغرباء ص57، الغضوبِ الذي يخرجِه غضبُه عن طوره، الوديع الرَّفيقِ مع نباتات حديقة البيت، ضُرِب ضرباً شديداً في كمينٍ نصبه له الخفافيش، وحين أوصلوه إلى البيت، لم يستقرَّ به المقام طويلاً، فاختلق سبباً عكَّرَ به مزاجَه، وعلا صراخه، وانهال على زوجته بضربٍ موجِعٍ ص62، شديد القسوة على سلمان لكنه يتودد إلى الله أنْ لا يوريه مكروهاً فيه ص92.

يكتشف سلمان بعداً آخر للإنسان، فهو وحده "الكائنُ ذو الأسرار" الذي يعود له حقُّ التصرُّف فيها ص320. تولَد الأحداثُ العظيمةُ الخطيرة من رحم حدثٍ صغيرٍ ولادةَ الحرائق اللاهبة من مستصغر الشرر، نتيجةٌ وصل إليها سلمان في السجن، فقد اكتشف في إحدى استرجاعات شريط حياته "حدثاً" قلَبَ حنقه وكُرهه لأبيه حبّاً له، واكتشف به سبب سلوكه الأنثوي الذي كان يُعيَّرُ به بين أقرانه، وسبب تطرُّفه في مناصرة قضايا المرأة، والمطالبة بحقوقها، والحرص على توعيتها ص534.

لفتتِ الرواية النظر إلى قيمة "التجربة الشخصية"، حصيلة المغامرات التي بها يتباينُ الناس، وبها ينبني التاريخ الشخصي والجمعي، وهي منعدمةٌ أو تكادُ في المجتمع البحريني، بينما هي أساسُ فاعلية المجتمعات المتطورة، لذا قام سلمان بتفكيك شخصيته وإعادة بنائها مستلهماً من تجربته الخاصة، التي وضع معالمَها من خلال دراسة "الكتب المحرمة"، وقد شاركته في هذه التجربة أختُه نور ص100، وحاولَ الحاج كامل عبد اللطيف صاحب مكتبة الضياء أن يُقنعه بالابتعاد عن هذه القراءات مشيراً بأسبقيته في سلوك هذه الطريق، وأنَّه رجع عنها بعد طول تأمل وتدبُّر، فكان جوابُ سلمان:" تجربتك مختلفةٌ عن تجربتي" ص74.

اكتشف عبر القراءة النفاق الاجتماعي المستشري، وازدواجية مواقف الناس، وانغماسَ المجتمع في مراتع العفن السلوكي، وتخلفه الذي جعله يعظِّمُ شخصيات وهمية لا تاريخ ولا واقع لها كالشيخ الكنعاني، خلع سلمان على مجتمعه وصف "الطواويسِ" حين استبدَّ بهم الرعبُ من الخفافيش. وضعت القراءةُ سلمان وجهاً لوجهٍ مع قضايا وجودية كبرى يعْشى مجتمعُه عن رؤيتها، ظهر بعضٌ منها مع الشيخ الإمام السجين في جدلٍ غدا حديث السجناء، وفي السجن اعترف له اللصُّ الظريف حين أوشك على استكمال محكوميته بأنَّه قد نضج على يديْه بالرغم من أنَّه أكبرُ منه سنّاً ص551، هذا الاعترافُ أثار في سلمان تساؤلاً هو: بأيِّ حقٍّ يستفرد عالم الكبار بـ "الوصاية" على الجيل الذي بعدهم، فرغبات "عالم الصغار" وشطحاتُه هي عينُها التي كانتْ أمسِ لعالم الكبار؟ فكيف يسمح لنفسه ما لا يسمح بها لمن بعده؟ ص77، وخرج بنتيجة أنَّ هذا الاستحواذ تولَّد عنه "إحباط وغضب" الجيل الجديد، فظهر ذلك في تمرداتهم وثوراتهم ص204، كما أدرك فرْقَ المترعرع في المدينة عن الذي نشأ في القرية من أنَّ الأوَّل منفتحٌ على التعدد والاختلاف والثاني منغلقٌ على الهوية، متعصبٌ لها ص208.

أكسبتْه القراءة قوَّةَ شخصيةٍ، لا يعبأ بردَّات فعل غيره، فقد مرَّ بمحتجين يتوَّعدون الخفافيش الذين اعتدوْا على ثلاثة شبان جدد، وانصرف عنهم غير مكترثٍ، واتصل به صديقُه وأبلغه سخَطَ الناس وتشنيعهم عليه، إذْ لمْ يؤازرهم مع أنَّ أخته مخطوفةٌ، لكنَّه لم يشأ أن يكلِّفَ نفسه إفهامهم ولو عن طريق الفيسبوك ص209.

وقع محمد عبد الكريم بين مخالب الخفافيش، وأردَوْه مثخناً في دمائه، وهشَّموا هاتفه وحاسوبه المحمول، واستدعتْه الشرطة، وأقرأوه ملفَّه المتخمَ بإيقاع الفتيات وابتزازِهن، وسوَّى وضعيته بالتعاون معهم على رصد الخفافيش وإسقاطهم، وَكان محمد عبد الكريم معروفاً بين رفقائه في الدراسة بالمكر والخبث، استعاض بهما عن شجاعةٍ مفقودة، فكان محلَّ مقتٍ وازدراء، وبرَّرَ مكرَه بأنَّ له وجوداً شخصياً ووجوداً سياسياً "هكذا هي النفس الإنسانية، حقيرة. مزدوجة. متناقضة ومعقدة" قالها في نفسه ص348، ولما أعطتهُ الشرطة مساحةَ تصرُّفٍ بمقتضى العملية الأمنية وبطلبٍ منه، ظهرتْ نذالتُه ودناءته ص370، ومرضه النفسي مع الخفاشة التي وقعتْ في قبضته ص380.

تُظهِرُ الروايةُ المجتمعَ البحريني هشّاً سطحياً يتأجَّجُ غضبُه بكلمةٍ وينطفئُ بأخرى، فقد أوقع محمد عبد الكريم في فخه سلمان، ولغيرته منه وحسده انتهزها فرصةً، فأظهره للمجتمع مجرماً حقيراً بنشر صوره المشبوهة في صفحات الفيسبوك قبل أن يتم التحقيق البوليسي الرسمي، فخرج الناس منددين به، واعتصموا أمام محافظة الشرطة طالبين تسليمه لإنزال القصاص به، ثم أجرى الصحفي الشهير أيمن حسين تحقيقاً معه في حجزه فأبهرته إجابته، ونشر مقالته، وسرعان ما تضامن هؤلاء الذين احتجُّوا عليه من قبل، وتعاطفوا مع قضيته، ولمَّا اضطر سلمانُ بعد خروجه من السجن لتنفيذ الوصية المحرجة لصديقه يوسف المتوفى، حوَّله هؤلاء الناسُ أنفسهم إلى أيقونة شرٍّ وشؤمٍ وفسادٍ، وجنى على أهله، ورحل إلى غير رجعة إلى بوغوتا كولومبيا.

روايةٌ في 604 صفحةً، مثيرةٌ على صعيد الفكر والعاطفة والتأمل والحركة، تصلحُ موضوعَ ورشات المناقشة والتحليل، وتصلح لأن تكون فيلماً سينمائياً ناجحاً، يمتحي الروائي أحداثها من واقع مجتمعه في البحرين، يقدمه في صورة موضوعية لا يتحرج من ذكر بعض ملامح التقاليد والثقافة الشعبية، ومن المزاج والسلوك الإنساني الفردي والجماعي، ويعرض ثقافته السائدة ويأمل كسرها من خلال صرامة العقل النقدي ومشرط السؤال.

***

عبد اللطيف الحاج اقويدر

  كاتب جزائري.

......................

* حسين كاظم روائي من البحرين....الطبعة الأولى، 2024، دار سؤال للنشر، بيروت، لبنان.  

من خلال التّنزه في وعلى شواطئ الكتاب المعنون "شواطئ النّص، الاقتباس التّمهيدي في الرّواية العربية" للكاتب الدّكتور ولات محمد الصّادر عن منشورات دار لوتس للنّشر الحر، الإصدار رقم 757 يناير 2024 سوف نجد أنّه بذل جهداً كبيراً في كتابته وإعداده، وخصّص له سنوات طويلة ليكون الكتاب الأوّل في النّقد العربي الذي يخصّ عتبة الاقتباس، كما يؤكّد هو على ذلك على الغلاف الخلفي لكتابه بالقول:

(كتاب شواطئ النص۔ وهو الأول في النقد العربي الذي يخص عتبة الاقتباس epigraph وحدها ببحث شامل ومعمق-  يبحث في آلية عمل هذه العتبة النصية لدى كل من الروائي والقارئ في الرواية العربية...). ربّما لذلك نجده يهدي كتابه هذا إلى نفسه:

إهداء 2

إليْ ها...

التي أحببتها وأحبتني

التي أخلصُ لها وأخلصتْ لي

التي فعلتُ من أجلها الكثير القليل

التي احترمتُ رغباتها وتفهمتْ أفكاري

التي خذلتها سهواً فلم تؤذني عمداً

التي بذلتْ الكثير لهذا العمل

فاستحقت هذا الإهداء

إلى نفسي..

وكان الإهداء 2:

""إلى خير جليس" الصّفحة 3

وقبل هذه الفقرة يطرح عدّة تساؤلات:

(ما الذي يدفع الرّوائي (وغيره) إلى تصدير نصّه باقتباس ذاتي أو غيري؟ ولماذا يمهد الروائي لنصه باقتباس واحد وأحياناً أخرى باقتباسين أو أكثر؟ وهل يؤثّر وجود ذلك الاقتباس في تأويل النص؟ وهل يختلف الدور الوظيفي للاقتباس إذا ما جاء في صدر النص الروائي أو في صدر أحد فصوله؟ لماذا بات انشغال الروائي بوضع نص مقتبس أو أكتر قبل نصه أو بعده ظاهرة منتشرة في التجربة الروائية العربية خلال العقود الأخيرة؟ متى بدأت الرواية العربية

باستخدام الاقتباس التمهيدي؟ وكيف؟ وهل وجد في النص العربي القديم ما يشبه الاقتباس التمهيدي الراهن؟ وماذا كان موقف النقد منه آنذاك)؟

في فقرة "عتبة الدّخول" يبدأ الكاتب بهذا التّساؤل:

(من أين يمكن للمرء أن يبدأ مغامرة كهذه؟ وكيف؟ ما الذي يحدّد في مثل هذه الحال نقطة البداية التي يمكن للباحث التّأسيس عليها بغية الخروج بنتائج ترضي شيئاً من طموحه وشغفه؟) الصّفحة 5

إذاً، يرى الكاتب ولات أنّ ما بدأ به كان مغامرة، ويتساءل عن نقطة البداية التي ترضي طموحه وشغفه.

نجد الكاتب في الباب الأوّل يتحدّث عن العتبات النّصية- الاقتباس التّمهيدي الأساس النّظري.. عرض ومناقشة، ويقسّمه إلى فصلين، في الفصل الأوّل من كتابه يتحدّث عن العتبات النّصية في النّقد الغربي ثمّ العتبات النّصية في التّراث العربي أدباً ونقداً، العتبات النّصية في النّقد العربي الحديث وينهيه بهذا السّؤال: لماذا العتبات؟

من خلال بحثه عن تعريف للعتبات النّصية في النّقد الغربي يرى بأنها تعني:

(البدايات: العنوان، العنوان الفرعي، لوحة الغلاف، علامة التّجنيس، اسم المؤلف، اسم النّاشر، تاريخ النّشر، المقدّمة، الإهداء، كلمة الشّكر، التّنويه أو الإشارة، الاقتباس التّمهيدي، عنوان الفصل، الحواشي، الاقتباس الختامي، كلمة الغلاف، قائمة المراجع، والملاحق والفهارس. تلك هي الوحدات او العلامات اللفظية وغير اللفظية التي تندرج تحت مصطلح العتبات النّصية thresholds/ seuils او النّصوص الموازية paratexts..)). الصّفحة 21

ويرى أنّ الأمر في العتبات النّصية في التّراث العربي لا يختلف عن هذه كثيراً:

(يتمثّل محيط النّص في الأدب العربي القديم في مجموعة من العلامات، منها العنوان والمقدّمة والافتتاحيات والتّصدير والختم والتّوقيع والتّذييل والحاشية والشّروح والتأريخ. وهي عتبات يرتبط بعضها بالنّص (مراسلات وخطب) وبعضها الآخر بالكتاب). الصّفحة 34

والنّقد العربي الحديث لم يؤسّس لمنهج نقدي أو نظرية يمكن الحديث عنها في هذا الإطار إلا بعد صدور كتاب جيرار جينيت (عتبات seuils) عام 1987. ص 21

أمّا في الفصل الثّاني سنجد دكتور ولات مركّزاً على الاقتباس التّمهيدي، وفيه يتحدّث عن أصل المصطلح، موضع نصّه، زمن ظهوره ومادة الاقتباس، مؤلف الاقتباس التّمهيدي ومرسله ومستقبله ولماذا وظائف الاقتباس التّمهيدي؟

وعن أصل المصطلح عند جيرار جينيت يقول:

(أصل المصطلح: يستخدم المختصون بالآثار بحثأ وكتابة ملفوظ epigraph للدلالـة على الكتابة والرسوم المنقوشة على محيط بناء أو تمثال؛ فقد كانوا قديماً يكتبـون وينقشـون ويرسـمون عـلى الحجـارة والصخور وعلى جــدران المبـاني والتماثيـل لغايات مختلفة، وكانت هذه الممارسة منتشرة في المنطقة العربية أيضاً). أمّا عن مؤلف الاقتباس فإنّه يورد ما أورده جيرار جينيت أيضاً:

(... وفق هذا التّعريف سنكون أمام ثلاثة فاعلين حقيقيين او مفترضين لهم علاقة بالاقتباس التمهيدي: الأول مؤلفه والثاني مرسله( المؤلف أو الناشر او طرف آخر) الذي يختاره ليكون عتبة للنص، والثالث هو المرسل إليه الذي يكون حسل جينيت هو قارئ النص نفسه...). ص90

وفي حديثه عن الاقتباس لغة واصطلاحاً يقول:

(الاقتباس لغة: القبس: الشعلة من نار نقتلسها من معظم، واقتباسها: الأخذ منها، قبست منه ناراً...الاقتباس اصطلاحاً يعني إدخال المؤلف كلاماً منسوباً للغير في نصه، ويكون ذلك إما للتحلية أو الاستدلال..). ص 118

يتحدّث في الباب الثّاني من الفصل الأوّل حول الاقتباس التّمهيدي في الرّواية العربية- دراسة وتصنيف- يجيب فيها على الأسئلة الخمسة المتعلقة بالاقتباس التّمهيدي في الرّواية العربية مستشهداً بالقرآن والأحاديث النّبوية والنّصوص الشّعرية والنّثرية وغيرها، تبدأ من الصّفحة 125 إلى الصّفحة 222، وبعدها ينتقل إلى الفصل الثّالث حيث الحديث عن:

الاقتباس التّمهيدي حقلاً للإبداع، نماذج خاصة من الرّواية العربية، فيقول في مستهل هذا الفصل:

(انطلاقاً من كون الاقتباس التمهيدي لعبة فنية وإحـدى الوسائل والأدوات التي يقوم الروائي بتوظيفها بغية تشكيل نصه وإثارة قارئه، فإن هذه العتبة ذاتها قد تتحول أحياناً في كتابة الروائي إلى مادة للإبداع والابتكار، كي تؤدي دورها المفترض في أفضل صورة ممكنة. لهذا قد يعثر القارئ أحياناً على نماذج لاستخدام هذه العتبة الروائية تتميز بلمسات إبداعية تخرجها عن إطارها المألـوف والمعتاد شـكلاً

ووظيفة.......). ص 223

وفي هذا الفصل أيضاً يستشهد بأمثلة وشواهد من القرآن وسفر التّكوين والعهد القديم والنّصوص الشّعرية والنّثرية وغيرها من النّصوص.

في الباب الثّالث نجده يأتي على:

الإجراء العملي/ من عتبة الاقتباس إلى نصّ الرّواية، وفيه يتطرّق إلى الرّواية العربية الحديثة والعتبات النّصية، مدخل خاص، وعلى شاطئ قراءة النّص، شيء عن خصوصية الاقتباس التّمهيدي. وهنا يؤكّد على عوامل تطوّر الرّواية العربية الحديثة حيث يقول:

(يجمع الدارسون على أن جملة من العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية اجتمعت وتضافرت وتناسلت ابتداء من النصف الثاني من القرن الماضي وأثرت تأثيراً كبيراً في إعادة تشكل الرواية العربية حتى راحت ملامحها تتغير بوضـوح. ابتداء من منتصف الستينيات، إلى أن تبلورت (الملامح) بصورة أوضح مع مطلـع سبعينيات القرن. أما العوامل السياسية فيمكن إيجازها في حدثين بارزين: نكبة 1948 ونكسة 1967اللتين دفعتا بالمثقف العربي إلى إعادة طـرح الأسئلة بصيـغ جديدة سعياً منه إلى معرفة الأسباب التي أدت إلى تلك الانكسارات وفتح آفاق جديــدة). ص 267

ويؤكّد على أنّ الرّواية العربية تطوّرت وازدهرت بفضل تأثرها بالرّوايات الأجنبية وخاصة بعد أن نشطت الترجمة إلى العربية لأعمال روائية وغير روائية منذ مطلع الستينيات، وصارت بين يدي الرّوائي العربي مجموعة من أهم الرّوايات العالمية الكبرى.

...... يتبع

***

نارين عمر

 

في المثقف اليوم