قراءات نقدية

قراءات نقدية

هذه هي مشاعري - إلِيزَا مَاشِيَا – ايطاليا

في لحظة ما من الطريق

أدركت أنك إلى جانبي

ربما أُرسلت لتكون عوني

تحت السماء المضيئة، وجسدي المتعب

*

قدمت لي رشفة من إكسير الحب

وكان حديثك صريحًا منذ اللحظة الأولى

وكما في الأزمنة البعيدة، قبَّلت ظهر

يدي، ومنذ تلك اللحظة، فُتح لك قلبي.

*

ما أشعر به هو انعكاسك

أفكاري منذ البداية كانت تنبض معك

وفي عينيك أرى جوهري الحقيقي

*

أرى نفسك في قالبك الحقيقي

الذي يتجدد كل يوم كهدية

حتى وإن لم تكن الحضور مضمونة.

***

إلِيزَا مَاشِيَا – ايطاليا.

القراءة النقدية:

القصيدة التي بين أيدينا، /هذه هي مشاعري/ للشاعرة الإيطالية إلِيزَا مَاشِيَا، هي قصيدة تتميز بالشفافية العاطفية وتقديم تجربة شعورية إنسانية مليئة بالتفاصيل الدقيقة التي تبرز تفاعلات النفس البشرية في سياق علاقة حب أو تواصل عاطفي عميق.

الأسلوب الأدبي:

الرمزية والتشابيه: الشاعرة تستخدم الرمزية بشكل لافت، حيث تقدم المشاعر والأفكار بصورة تتجاوز الواقع الحسي إلى عالم أعمق يعكس الصراع الداخلي والتساؤلات الوجودية. مثلًا، حين تقول: /قدمت لي رشفة من إكسير الحب/, فإن هذه الصورة تمثل العاطفة كعلاج أو إكسير يحيي الروح. هذه الصورة تجعل من الحب فكرة سامية ومنقذة.

التكرار: في القصيدة نجد التكرار الذي يعزز الفكرة المركزية. مثلًا، /منذ اللحظة الأولى/، /منذ تلك اللحظة/، وهو تكرار يعبر عن التأكيد على اللحظة الفاصلة التي تغيرت فيها العلاقة بين الشاعرة والمحبوب. هذا التكرار يساهم في إبراز التحول العاطفي الذي مرّت به الشاعرة.

الزمن والمكان: هناك تداخل بين الزمن والمكان في القصيدة، وهو ما يعكس مشاعر الشاعرة. على سبيل المثال، في سطر /في لحظة ما من الطريق/, نجد أن الشاعرة تستخدم الزمن بطريقة غير دقيقة، ربما تقصد به لحظة من الوعي أو الإدراك، لا لحظة مادية. أما المكان فهو يتنقل بين السماء المضيئة والطريق والجسد المتعب، مما يعكس الحركية والتغير المستمر في الحالة العاطفية.

اللغة العاطفية والشفافية: اللغة هنا شفافة تمامًا وتحرص على نقل الأحاسيس الداخلية للشاعرة بشكل مباشر، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه جزء من التجربة نفسها. العاطفة تترجم بتفاصيل دقيقة، مثل قبلة على ظهر اليد التي تفتح الباب للقلوب والمشاعر.

الدلالات العاطفية والوجدانية:

الإدراك المتأخر والتواصل: تشير الشاعرة في بداية القصيدة إلى لحظة إدراك مفاجئة: /أدركت أنك إلى جانبي/. هذا الإحساس بالوجود المفاجئ للشخص الآخر يعكس أهمية اللقاء واللقاء العاطفي الذي يحدث في وقت غير متوقع ولكن له أثر عميق.

الحب كإكسير: من خلال جملة /رشفة من إكسير الحب/, تجعل الشاعرة من الحب مصدرًا للحياة. هذا الحب لا يقتصر على العاطفة البسيطة بل يُعتبر قوة تجدد الحياة، مما يبرز فكرة أنّ الحب هو العنصر الذي يحيي الروح ويمنح الشخص قوّة داخلية.

انعكاس الذات: في السطور التالية، تعبر الشاعرة عن فكرة غاية في التأمل، حيث تقول: /ما أشعر به هو انعكاسك/. وهنا تكمن فكرة أن المحبوب ليس مجرد شخص آخر، بل هو مرآة للشاعرة نفسها، تعكس مشاعرها وأفكارها. العيون، في هذا السياق، تصبح وسيلة لرؤية الذات بوضوح أكثر.

التجدد في الحب: تشير الشاعرة إلى أن الحب والمشاعر في العلاقة ليست ثابتة، بل هي كهدية تتجدد كل يوم، مما يعكس فكرة الديناميكية والتغير المستمر في الحب.

البنية الشعرية:

البنية الشعرية للقصيدة تقليدية إلى حد ما من حيث استخدام الأسطر الشعرية المتوازية، مما يجعل القصيدة سريعة القراءة وواضحة في إيصال مشاعرها. الأبيات تتسم بالبساطة والوضوح، مما يجعل الرسالة الشعورية تصل مباشرة إلى القارئ دون تعقيد.

الخلاصة:

القصيدة /هذه هي مشاعري/ هي تعبير شعري عن تفاعلات داخلية معقدة في علاقة عاطفية. الشاعرة تستخدم الأسلوب الرمزي والعاطفي لتعرض تجربتها في الحب والتواصل مع الآخر. استخدام الصور الشعرية واللغة الشفافة يعزز من قوة المشاعر التي تعبر عنها، مما يجعلها قصيدة مثيرة للتأمل وتحفز القارئ على التفكير في معنى الحب والعلاقات الإنسانية.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

 

الأسلوب السردي والتعبيري: القصيدة تتبنى أسلوبًا سرديًا مفعمًا بالمشاعر، يركز على تصوير الحالة العاطفية والوجدانية للشاعر. تبدأ بتعريف /دفء ديسمبر/ كفصل يتسم بالحنين والحب، حيث يصور الشاعر مشاعر العشاق والمشاهد المتعلقة بالحياة واللقاء. الأسلوب التعبيري المستخدم يكشف عن مشاعر مرهفة، ما يجعل القارئ يشعر بالدفء والحميمية رغم البرد الرمزي لفصل ديسمبر.

الصور الشعرية والرمزية:

القصيدة غنية بالصور الشعرية التي تحاكي جوهر الحب والشوق. /تشتعل بجمر الحب/ و/مواقد العشق لا تنطفئ/ هي صور تدل على قوة المشاعر التي لا تنطفئ مهما مر الزمان. /جيوب الشعراء لا تخاف الفراغ/ تعكس الإبداع المستمر الذي لا ينضب في قلب الشاعر. كما أن /خلف المعاطف أسرار تبحث عن مأوى/ تضفي غموضًا حول علاقات العشاق أو مشاعرهم الدفينة.

التقنيات البلاغية:

يلاحظ استخدام الاستعارة والتشبيه بشكل لافت، حيث يتم تجسيد المشاعر إلى أشياء ملموسة مثل /كؤوس الخيال/ و/نبيذًا محلى بريقها الظمآن/، مما يعزز الارتباط بين الخيال والمشاعر الإنسانية. كما أن الشاعر يوظف التكرار في صور الحب والشوق لتأكيد استمراريته، مثل "المواقد لا تنطفئ".

التناص الثقافي:

هناك تداخل في القصيدة مع الثقافة العربية والعراقية، خاصة مع ذكر /دجلة/ و/بغداد/، حيث ترتبط هذه الأماكن بمشاعر الحنين والتاريخ. بغداد ليست مجرد مدينة في القصيدة، بل هي رمز للحب والجمال والأصالة، حيث يُعلن الشاعر أنها /أجمل من كل حبيبة/، مما يعزز البُعد العاطفي والجمالي للمكان.

الإيقاع والموسيقى:

الإيقاع الموسيقي في القصيدة سلس ومتناغم، حيث تساهم الصور الموحية والمتشابكة في خلق تدفق متوازن يعكس التفاعلات العاطفية في الذهن. رغم أن القصيدة ليست طويلة، إلا أن لحن الكلمات المتكررة مثل /دفء/ و/الشوق/ يعطيها موسيقى خاصة تجعلها تنساب برفق عبر ذهن القارئ.

الخلاصة:

القصيدة تعكس حالة من الرومانسية العميقة التي يغذيها الأمل والشوق، مستخدمة أسلوبًا سرديًا مليئًا بالصور الشعرية والرمزية التي تعكس التجربة العاطفية للشاعر. بالربط بين الحب والمكان والتاريخ، يقدم الشاعر صورة شاعرية لبغداد وأجواء ديسمبر الباردة، مؤكدًا على أن الحب قادر على إضاءة الظلام وجعل الروح تشعر بالدفء رغم التحديات.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

............................

دفءُ ديسمبر

دافئة أرواح العشاق؛ تشتعل بجمر الحب، تقلب صفائح من لهب الشوق فمواقد العشق لا تنطفئ، خلف المعاطف أسرار تبحث عن مأوى، مشاعر تفتش عن شاطئ لترسو، جيوب الشعراء لا تخاف الفراغ فهي ممتلئة بنشوة اللقاء! على منضدة البوح تنسدلُ خيوط شعرها الذهبي؛ لأشرب كؤوس الخيال نبيذًا محلى بريقها الظمآن، في ديسمبر ظلت روحي تعانق دجلة تطوف حول صوبي المدينة، فبغدادُ أجمل من كل حبيبة.

***

علاء الدليمي - العراق

 

رُؤىً احتجَاجِيَّةٌ في مُدوَّنةِ (عَلَى أكتافِ يَومٍ تَمُّوزيٍّ)

يرى الكاتب والأديب والشَّاعر والناقد الإنكَليزي المفكِّر (ماثيو أرنولد) ، إحدى شخصيات العصر الفيكتوري الإبداعية المهمَّة أنَّ الشعر، هو (نقدٌ للحياةِ) . أي أنَّه مِرآةٌ صوريَّةٌ ناطقةٌ عن تجلِّيات الحياة بشتَّى ضروبها (السلبيَّة والإيجابية) ؛ لذلك فإنَّ الاعتقاد اليقيني بأهمية الشعر ومدى خطورة فتوحاته الفكريَّة والإنسانيَّة في كشف الواقع (المَا حَولَ) ، كانت أولى مناط اهتمامه في بوتقة إنتاجه الفكري والأدبي مقدِّمَاً إيَّاهُ على كلِّ نتاجاته الإبداعية النقدية والفلسفيَّة والتعليميَّة الأُخرى في هذه التعدُّدية التي شكَّلت باكورة بُناةِ أفكاره الرئيسة في تخليق فنيَّة إنتاجه المُترَاتب عِلمَّاً وعَملاً وفلسفةً.

فإذا الشعر لم يكن مِهمَازاً تنبيهياً مُوقِظَاً، ولم ينتقد منظومة القيم والمعايير الحياتية (الاجتماعية والسياسيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة الفلسفيَّة) السائدة. ويُظهِرُ في الوقت نفسه الحقائق الخفيَّة وعللَ التمظهُرات الإنسانية ومواطن القُبح والجمال المَسكوت عنها، والتي تؤثِّر على المشاعر الإنسانية والتفكير الإنساني وتؤدِّي إلى التغيير والتحسين الإيجابي، لم يكُنْ في الحقيقة شعراً صادقاً ومهمَّاً ومؤثِّراً بالمعنى التأصيلي؛ كونه شعراً لا يحتوي على عمقٍ فنِّيٍّ أوجماليٍّ ينتقد أنساق الظلم والجَور وفروضَ الحيفِ والاستبداد التي يُمارسها الساسة والطًّغاة. ولا يدعو البِتَّةً إلى عقيدة التحرُّر الفكري التوحيدي المجتمعي، ويظهر الحقيقة الإنسانية على شاكلتها الطبيعية دون زيفٍ أو مُرَاءَاتٍ خادعةٍ.

هذا التمايز الفكري المتفرِّد الرؤيوي على مستوى الشعر هو ما كان يعتقده أرنولد حقيقةً ثابتةً في رسالة الشعر الجيِّد الصادق المؤثِّر مثلما يعتقده غيرهُ الآخرونَ من شعراء التحرير والرفض الاحتجاجي في دنيا المَعمورة من أجل تطوير الثقافة والفنون وتعزيز الفكر وسيادة الحُريَّة والعدالة وتحسين واقع المجتمع، والنهوض به فكرياً وعلمياً وعملياً باستمرار لمواجهة الصِّعاب والتَّحديات.

إنَّ العلاقة بين الواقع الحياتي الدِّيستوبي والشعر الاحتجاجي تمثِّل ماهيتها عَلاقةَ مفاهيم تكامليةٍ متصلةٍ بعضها ببعضٍ اتِّصالاً وثيقاً ومُرتبطاً بـ (الشعر والأدب والفكر والسياسة) على حدٍّ سواءٍ، ولا يمكنُ الفكاك عن بعضها. وذلك كون الواقع الديستوبي القائم يُشير حدُّهُ التعريفي الظاهر إلى أنَّه مصطلح فكريٌّ يصف مجتمعاً إنسانياً واقعياً قريباً أو مخياليَّاً بعيداً يعاني من عدة ارتكاساتٍ وانكساراتٍ نكوصيةٍ وخيباتِ وجعٍ كبيرةٍ ومؤلمةٍ فرضت نفسها علية بشكل مقصود وبفعل فاعلٍ.

ويشكو في الوقت نفسه ظروفاً سيِّئةً مريرةً لا تنقطع؛ نتيجةَ تأثير السياسات الحكومية الهوجاء للأنظمة الاستبدادية الحاكمة الفاسدة، ونتيجةَ إثرَ عوامل الاضطهاد الجمَّة والتمييز والقهر وانعدام الحريات أو نقصها، وكثرة الأمراض الاجتماعية والسياسية، وتفشي ظواهر الفقر والفاقة. ونتيجةً أيضاً لظهور بعض المظاهر التواصلية والأساليب السياسية والتكنلوجية الوهميَّة الحديثة الخدَّاعة.

لهذه الأسباب الحقيقية الجمَّة وغيرها من المُسبِّبات الفعليَّة الراهنة ظهرت الحاجة الذاتية إلى قيام الشعر الاحتجاجي الذي يُعدُّ ظاهرةً ثقافيةً من ظواهر الشعر الانتقادي الثائر، ولوناً نسقياً ثقافياً رفضياً حداثوياً من أنساق النقد الثقافي المُعصرن الذي يُضِيءُ فيه الشاعر الحاذق بشعره التخليقي مناطق الحياة المضمرة والظاهرة المعتمة؛ كونه يدعو إلى ضَفافِ التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الفكري من خلال وسائل التعبير الشعوري الذاتي الجمعي بأدواته، الغضب والاحتجاج الرفضي للفساد والظلم والاضطهاد، والدفاع عن حقوق الإنسان وحريته وكرامته المهدورة.

هذه الأسباب والمؤثِّرات مجتمعةً هي التي تظهر حجم العَلاقة المَتينة بين الواقع الديستوبي والشعر الاحتجاجي. وتوضِّح البَونَ المَسافِي الشَّاسعَ بينَ الشَاعر الثائر والواقع الحياتي المتأزِّم المَائر الذي يُشكِّلُ (رؤىً اشعريَّةً) فيها التي تُمثِّلُ المُعادل الموضوعي لخطٍّ هذه العَلاقة الجدلية الثنائية المُتضادة.

ومثل هذا الشعر الاحتجاجي نجد له في مجتمعنا العربي حضوراً كبيراً مائزاً في أشعار كلٍّ من محمود درويش وعبد الوهاب البياتي ونزار قباني وأحمد شوقي وجبران خليل جبران وأحمد مطر. ومن الأجانب نجده ماثلاً عند بابلو نيرودا، ودان براون، وألبير كامو وغيرهم من شعراء الرفض.

لم تَكُنْ اللُّغةُ الشِّعريَّةُ وحدَها كافيةً لتعميد العمل الشعري الإبداعي بماء النجاح والتفوّق وتنقيته وتطهيره من لَممِ الشَّوائبِ التي تكدِّر صفوه ما لم تكن هناك مجموعة من التحشيدات والاصطفافات والتفرُّدات النوعيَّة لمزايا من التَّقنيات الفنيَّة والجمالية الأخرى التي تتعاضد وتتساند بنائياً؛ لتؤدِّي دوراً مهمَّاً وتمايزاً نوعيَّاً في تكامل العمل الأدبي ونضوجه فنيَّاً في آليات القراءة والتلقِّي المعرفي.

اللُّغةُ هذا الوعاءُ اللُّغويُّ والفكري المعرفي البوتقي المُحلِّق في سماء التجنيس الإبداعي، والذي هو أحد مظاهر الوعي الشعري الراسخ في صنع وتخليق القيم الفنيَّة والجماليَّة الإبداعيَّة الخاصَّة بالشاعر، هو ما يُميِّز إمكانات وقدرة الشاعر العراقي المعاصر (جَنان السَّعدي) في تأثيث بُنيَانِ عمارة مخطوطته الفِكريَّة وهندسة مجموعته الشعرية الموسومة بـ (نَعشٌ عَلَى أكتافِ يومٍ تَموزيِّ) .

تِلكَ العلامةُ أو النقطة الضوئية اللَّافتة الأثر في تبويب عتبتها العنوانية (ثريا النصِّ) وتأثيثها بهالةِ حسَّاساتٍ بَرَقِيَّةٍ من مجسَّات الإثارة الصادمة والتأمُّل والتفكُّر المعنوي بقيمة الأثر الإبداعي. والِّتي تُحيل القارئ النابه والمتلقِّي في مُوازاتها النصيَّة، وفي ثَراء لغتها ومعانيها الدلالية القريبة منها والبعيدة إلى أجواء ومُناخات الخطاب الشعري وتقفِّي آثار ولُقَى أقانيم متنه وعوالمه الداخلية المحتدمة بؤرته بالتناقضات الواقعية والصراعات الموضوعيَّة والحمولات الفكرية العديدة الراهنة.

إنَّ قراءةً تأمُّليَّةً لِلَافتةِ عتبةِ العِنوانِ الرئيسةِ (نَعشٌ عَلَى أكتافِ يَومٍ تَمُّوزيّ) تُشير إلى أِنَّه يجمع بين الواقعية والرمزية والأسطوريَّة بكلِّ مَفاصلها وتَداعياتها المُثيرة. فَمُفردة مَثلُ لفظة (النَّعش) الواقعيَّة القريبة من حياة الناس اليوميَّة تُعطيكَ في التَّفكيك اللُّغوي لِشفراتِ هذه العَتبة أكثر من دلالةٍ رمزيَّةٍ ومَعنىً شِعريّ واقعي وتَاريخيّ وأسطوريّ.

فالنعشُ يرمزُ إلى دالةِ المَوت والحزن على تضحيات الناس والشهداء الثوار من أبناء البلد، ويعبِّر عن العزيمة والإصرار وتأكيد روح التحدِّي. أمَّا حَمْلُهُ على الأكتاف فَيَرمزُ إلى عزم أبناء الشعب على مواجهة مخاطر العقابيل والمصاعب المُحدِقة بهم. فضلاً عن أنَّه يرمز إلى الفخر والاعتزاز؛ كونه حصاداً مَحمولاً على الأكتاف في يوم تَمُّوزي خالدٍ عظيمٍ. ذلك اليوم التاريخي الذي فجَّرَ فيه الشعب العراقيُّ ثورته التحرُّرية واستقلاله الذاتي من المَلكيَّة ومن ربيبها الاستعمار الغربي في حُلَّةٍ ثوريةٍ جديدةٍ تمثِّل بداية الخلاص والتلاشي لِمُهيمناتِ الظلم والفساد التي تحفُّ به.

ومن حقِّ الشاعر جَنان السَّعدي أنْ يفتخر بهذا اليوم التُّمُّوزيّ الثائر في عنونته الرئيسة المتحوِّلة أصلاً من عتبة نصٍّ فرعيٍّ داخلي جُزئي. وإنَّ مصدر هذا الفخر التَّمُّوزي ومرجعياته الثقافية؛ كونه يرمز لإلهِ الجنس والخِصب والنماء والربيع وإله (الحياةِ والموتِ) في الأساطير السومريَّة والأكاديَّة والبابليَّة. وقِصَّة تَمُّوز أو (دُمُوزُّي) مع آلهة الحبِّ (عِشتار) معروفة في الأساطير البابلية القديمة.

وعلى وفق ذلك التفكيك اللُّغويّ لدلالات الشفرة العنوانية، فإنَّ الرمز الثقافي لها يمثَّلُ رمزاً للثورة الجديدة والتحوِّل، وللخِصب والتَّكاثر والنماء والحبِّ والجمال، وفي الوقت ذاته يعتبرُ أكثر عمقاً وبلاغةً؛ بسبب تعبيراته الشعريَّة والبلاغيَّة القويَّة، وتأثيراته النفسية التراثية التاريخية الحديثة.

فهذه المجموعة الشعرية التي اشتملت على أربعين نصَّاً شعريَّاً على الرغم من كونها تزخر بشعرية الرفض ومعاني الاحتجاج والمواجهة والتحدِّي، فإنَّها في الوقت ذاته تحوي على عدَّةِ قصائد تضمَّنت معاني الحبَّ والغزل الجمالي الرُّوحي والحسِّي الشفيف معاً. فضلاً عن قصائد أخرى في أغراض الفخر والمديح والثناء والرثاء لوحدة موضوعات كبيرة من الوقائع والأحداث التاريخية والرمزية والدينية المهمَّة التي مَنحتِ الخطابَ هالةً من جماليات السُّمو والرقي الإبداعي.

إنَّ ما يعزِّزُ شعرية الاحتجاج ويُكرِّس ديمومة لُغة الرفض الديستوبي لمناهضة الفساد الواقعي في خلطة هذه المجموعة الشعرية البركانية الواثبة التي تحمل نعشها الرمزي (التابوتي) على أكتافها جمراً مُميتاً قاتلاً، مُرحِّبَاً بقدوم الموت إيثاراً للتضحية من أجل حياةٍ حرةٍ عزيزة تُسرُّ فرح الصديق وتغيظ قلب العِدى. تِلكَ الصَّرخةُ الإنسانيَّة المُتعالية التي وجَّهها الشاعر في مُستهلِ تصديره الإهدائي إلى الغيارى من الأحرار والشرفاء من أبناء الشعب الأُباةِ والحُمّاةِ وَبُنَاةِ الأرض الحقيقيين الأصلاء حينَ قال: (إلَى بُنَاةِ الأرضِ وَحُماتِهَا... إلَى أسيادِ أنفُسِهُم ... إلَى الغَيارَى) .964 jabar

وبالرغم من تلك الروح الثوريَّة المُهتاجة والاحتقان الوطني الذاتي الذي يؤرِّق مشاعر السعدي ويحفر نُدُوباً وأخاديدَ شقيَّةَ في قلبه الدامي جروحاً، فإنَّ الشاعر بَدَأ أولى بواكير قصائده الشعرية في هذه المدوَّنة بقصيدة غزلٍ ذاتيٍّ شفيفٍ يُخفِّف فيها من وقع شدَّة الغيظ والاحتقان النفسي والشعور بمرارة الخَيبة والنكوص والفشل في محاولةٍ منه؛ وذلك تحبيباً وترغياً لذائقة متلقيه في فتح شهيته القرائية للتواصل معه بنصوص هذه المجموعة التي سَتمضي كما مضت السنونُ الخمسون من العمر سريعاً، مانحةً ذلك الشَّيب الرجولي الخضيب وسامةً وإجلالاً ومهابةً ووقاراً:

مَنْ مَنحَ الشَّيبَ الوَسامَةَ

خَمسونَ مَرَّتْ

يَغرُسْنَ أقمَارَاً فِي الوَجنَاتِ

وَفِي الصَّدرِ يَعصُرْنَ شَهدَاً فِي العَناقيدِ الزَاهيَةِ

ومن خلال هذه القيم البنيوية الوطنية والثوريَّة والجماليَّة التي احتشدت بها مضامين هذه الخطاطة التدوينية، نرى بحياديةٍ موضوعيةٍ وصدقٍ أنَّ مجموعة جَنان السعدي (نعشٌ على أكتافِ يومٍ تَمُّوزيٍّ) على الرغم من بساطة لغتها التعبيرية ووضوح انزياحات أُسلوبيتها الصورية، فّإنَّها تحقِّق في مركزيَّة اشتغالاتها النقديَّة معايير وآليَّات وقواعد فنِّ الشعريَّة بشكلٍّ مُتقنٍّ ومُتمايزللقارئ.

وتُظهِرُ في الوقتِ نفسِهِ مقدرةَ الشاعر السَّعدي الشِّعريَّة وموهبته الإبداعية الكبيرة في فهمه لتجلِّيات الواقع الحياتي وتماهيه مع تمظهراته الحركية الإنسانية الدائبة؛ وذلك من خلال أُسلوبه الشعري المُتعدِّد الألوان والاتِّجاهات والتَّقانات الفنيَّة التي ترجمها في معجمه الشعري إلى أفعال حقيقيةٍ مُكتنزةٍ بالألفاظ والمفردات الثَّرة. ومن ثُمَّ تحويلها إلى قصائد صوريةٍ تضجُّ بسهامها النُّباليةِ ومقصدياتها الانتقادية الواضحة في رصد رهان الواقع وتحدياته المصيرية التي عبَّرت عنها لغته.

ومن يقراً قصائد هذه المجموعة بتامُّلٍ، ويفكِّكُ شفرات معانيها الدلالية بوعيٍّ وحسٍّ نقديٍّ متأنٍّ، سيلحظ بوضوح أنَّ الشاعر في إنتاجه الفكري من الشعر لا يقفُ على مسافةٍ واحدةٍ في موضوعة أو خصيصةٍ مُعيَّنةٍ ما، بل على الخلاف من ذلك فقد كان التنوُّع الفكري لوحدة الموضوع سبيله الضارب في تدشين مُحتوياتها بأكثر من قضيةٍ أو غرضٍ شعريٍّ يَفرضُ نفسه على فضاء خطابه.

ونفهم من خلال هذه التعدِّدية والثراء التنوُّعي الموضوعي أنَّ أسلوبية الشاعر وقاموسه الشعري اللُّغوي تنوَّعت مضامينهُ وتعدَّدت أساليبه بكثرة تنوُّعها وتشابكها العضوي الوحدوي. فثمَّة أساليب متعددة زخرَ بها خطابهُ الشِّعري لا يمكن تخطيها وتجاوزها دون أنْ نَّقفَ على مقصديات رؤاها.

1- أُسلوبيةُ الرِّفضِ والاحتجاجِ:

ومن بين الأساليب الشعرية المُهمَّة التي اِتَّبعَهَا الشَّاعر السعدي ومنحها الأولوية والتبكير النوعي والعددي في تأثيث هندسة هذه المجموعة أسلوب الرفض والاحتجاج الذي يُعدُّ من أجرأ الأساليب الحديثة مُواجهةً وإقدَامَاً وَبسالةً التي خاضها الشاعر بحذرٍ وقوَّةٍ في ترجمة الواقع السِّلبي وتصوير ما كان منهُ مَقمُوعاً أو مَسكوتاً عنه بقصدٍ أو غَيرِ قَصدٍ عبرَ مَراياهُ الشِّعريَّةِ الناطقة بالحياة، وتوجيهه برسائل نصيَّةٍ شائقةٍ إلى المتلقِّي تمكِّنه من فهمه وهضمه من خلال صياغاته الشعرية المباشرة تارةً، وغموضه الفنِّي وإيحاءاته الدلاليَّة والرمزيَّة العميقة التي امتزجتْ مَعهَا تارةً أخرى.

لقد حفرت مخالب بؤس الواقع المتردِّي، وأنشبت أظفارها الطويلة المؤلمة نُدُوباً عميقةً وجروحاً كبيرةً لا تندمل في روح الشاعر المائرة التي لا تحتمل وقع ألم السكوت، وترفضُ بوعي دواعي الخنوع والمهادنة والاستسلام، ولا تقبله بَديلاً عن شعار الحُريَّة الحمراء. فقد كانت حصيلة إنتاجه الفكري في مضمارهذا المَشروع الصعب المراس عشر قصائد جادت بها صفحات هذه المجموعة. مثل، (المُصباحُ السحريُّ، هُروبٌ بِطعمِ الشَّهدِ، الفَقراءُ يُوتوبيا الأوطانِ، المُخبرُ العَلنِي، مَفعولٌ بِهِ، الجَامعةُ العَربيةُ مَعَ التَّحيةِ، أينَ العُروبةُ؟ ق. ق. ج، أطنانُ الذَّهبِ، اِعترافٌ)، وغيرها من القصائد.

حتى أنَّ الكثير من قصائد الشاعر ونصوصه في هذا التوجُّه الأُسلوبي جعلنا نستشعر بوعيٍّ ما خفي من آثار الواقع ونتلمَّس خطورته المستقبلية، بل جعلنا نتألم بِحقٍّ لِمَا يَحصلُ لهذا البلد الجريح على مدى تاريخه الخالد الوطني الأصيل وحضارته الكونية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ:

لَا تَقرَبُوا الأوطانَ وَأنتُمُ حُفَاةْ

اِنتعِلُوا الطُّغَاةَ وَالبُغاةْ

وَاِنتعلُوا حَاشيةَ مِسخِ رَذِيلَةٍ

أفعَالُهَا مِسخُ أَحذيةِ الوُلَاةْ

أقوَالُهَا إفكٌ بَينَ مَكرُوهٍ وَمَشبوهٍ

مَردُودةٌ فِي قِلاعِهَا الصَّلاةْ

2- الأسلوبُ الرمزيُّ الدينيُّ التاريخيُّ:

من خلال أُسلوبهِ المُتنوُّع في هذه المجموعة عَمدَ جَنان السعدي في الكثير من قصائده الشعرية على استدعاء الرُّموز الدينيَّة المُهمَّة واستحضار الشخصيَّات البُطوليَّة التاريخية المؤثِّرة في التراث العربي عَامَّةً والعراقيَّة بِوجهٍ خَاصٍ؛ لِمَّا لها من أثر بَالغٍ وَكبيرٍ في نفوس محبيها من عامة النَّاس وخاصَّتهم. وأنَّ تأثيرها الأبدي مازال قائماً في حياتهم الدينية التاريخية وإحياء طقوسهم الشعبويَّة.

لقد تَمكَّنَ السَّعدي جَنان من استذكار الوقائع الدِينيةِ والأحداث السياسية التاريخية وإسقاط دلالاتها ومضامينها المعنوية العميقة على رهان عقابيل الواقع وتجلِّياته الخبيئة. فَأحداثٌ مثلُ واقعة الطفِّ التاريخية وغيرها من الوقائع والرموز والشخصيات التاريخية البارزة أمثال الإمام الحسين بن علي وأخيه أبي الفضل العباس وأختهما زينب بنت علي بن أبي طالب، أبطالُ ثورةِ كربلاء في واقعة الطفِّ التاريخية ورموزها المكانية قد أخذت من فكر الشاعر واهتمامه العقائدي والآيدلوجي الجمِّ نصيباً وحظَّاً وافراً كبيراً لا يستهان به في مثل هذه المدوَّنة التي ضمَّت سبع قصائد تُرثي وتتغنّى بمآثر أل البيت الأطهار وتُمجِّد تَاريخَهم الدِّيني والسِّياسي عبرَ مَجسَّاتِ التَّراسل الزمكاني الطويل.

إنَّ قصائد ونصوصاً استحضارية مثل هذه النصوص، (خُذْ حَتَّى تَرضَى، أَيَا فُراتُ، مِنْ كُلِّ فَجٍّ، صَوتُ الطَّفِ المُجلجلُ، رَبيبُ الحُسينِ، حِينَ بَكَى الفُراتُ، الوَعدُ الصَّادقُ)، وَغيرُها من الأمكنة الأعلَام التي أخذنا فيها الشاعر لأعماق التاريخ الحسيني الضاربة جذوره في رحلة الطَّف الخالدة.

أَقسِمُ يَا فُراتْ

كَذِئبِ يُوسفَ

بَريْءٌ مَاؤُكَ مِنْ ظَمَأِ الحُسَينِ

مَا زِلتَ تَبكِي كَمَا الزَّينبيَّاتْ

بِلَهفَةٍ تَشتَاقُ لِلشِّفاهِ الذَابلَاتْ

النَابضَاتِ بِالتَرتِيلِ وَالدُّعاءِ والصَّلَاةْ

3- الأُسلوبُ الغزليُ العَاطفيُّ والحِسِّي:

إنَّ توظيف الشاعر لغزلياته الذاتية والعاطفية الشفيفة في مثل هكذا مدوَّنةٍ مُكتظةٍ بأساليب حائط الصدِّ وفعل المقاومة والرفض الواقعي ليس نزوةً فكريةً أو بطراً سياحياً أو من باب الاستراضة أو النزهة الترويحة للنفس الأمَّارة بالتسلية وحبِّ الغرائزية القريبة من اللِّبيدو الجِنسي؛ بل هي في الحقيقة من باب الذات الأنوية الشاعريَّة الأمَّارة بالحُبِّ الصادق الذي يجمع بين ثنائية (الأمل والألم) .

ذلك الحبُّ الذي يَمُدُّه بشحنات سلاح الدفاع القويَّة لمواجهة رهان الواقع التداولي الفاسد. هذا من جهةٍ ومن جهةٍ أُخرى إحساس الشَّاعر واستشعاره الرُّوحي بنفسية قارئه الناقد ومتلقيه العادي والنابه وحبُّهما الآسر في أنْ يشاركاه غمرة المشاعر الغزلية المحبَّبة التي تُقلِّل من غُلواء الشُّعورية الثورية وطغيان آثارها الإنسانية المُؤلِمة التي فرضت سطوتها القويَّة على قصائد الديوان الأخرى.

فوجود موضوعات الغزل وسط هذا الجوِّ الشعري المُلبَّد بِغُيوم المَقاومة وأمطار الرفض هي أشبه بروائح عطور الورود وأنداء شذاها الفوَّاح الذي تبثُّه في الفضاء المكاني لإنعاش النفوس وتجدِّدها بالحياة. فما كان من الشاعر إلَّا وقد عَمِلَ جاهداً في إنتاج ستة نصوصٍ شعريَّةٍ لإحياء هذه المجموعة التي ابتدأت بقصائد مثل، (خَمسونَ، لَهَا كُلُّ الحُروفِ طَيِّعةٌ، مَا بَعدَ الإبداعِ، مَراسيلٌ، كَأنَّهَا هِيَ، صُعُودٌ لِلأسفلِ). ونصوص غزليَّاته تُعدُّ مُحاولةً جادَّةً للحرب، لكن من أجل الإمتاع.

إنَّ قصائد السَّعدي الغزليَّة كُتبتْ بِلغُةٍ شِعريةٍ مَائزةٍ اِمتزجت فيها العفويَّة الفطرية بالقصديَّةِ دون أنْ تَشعرَ فيها بِتَرَهُّلٍ لُغويٍّ أو استطرادٍ إملاليٍّ جافٍ؛ بل كانت تبعثُ الرُّوح الجماليَّة الهادئة في نفس القارئ، وتمدُّهُ في شاعريتها الرُّوحية والحسيَّة بشآبيب أمطار المطاولة والتفكير بعذوبتها النصيَّة التي تُشعركَ بأنَّ شاعرها السَّعدي يَعيشُ مرحلة الشَّباب العُمرية لا نهاياتِ العُمرِ الخَريفيةِ.

حِينَ ضَممتُهَا بِرِقَةٍ شَهيِّةٍ كَانتْ أَكثرَ مِنْ تُفاحةٍ شَاميَّةٍ

مَسحتُ تَحتَ خَدَّيهَا تَقاطرَ العِطرُ فُوَّاحَاً كَماءِ الزَّهرِ

عَصَرتُ مَنهَا الشِّفَاهَ، سَالَ الشَّهدُ رِضَابَا نَادِرَاً

4- أُسلوبيَّةُ شِعريَّةِّ الجَمعِ بينَ الذَّاتي، والذَّاتي الجَمعِي (المُشتركُ):

لقد كان للذات الفرديَّة الشَّاعرية والذات الجمعية للآخر مجالٌ واسعٌ في اشتغالات الشاعر ورؤاه الفكرية، وأنَّ أغلب القصائد التي قِيلَتْ في هذا المجال الحيوي، هي نصوص تتماهى في بناء موضوعاتها الفكرية القريبة والبعيدة مع هُوية الآخر، سواءٌ أكان هذا الآخر إنسانيَّاً فرديَّاً مؤنَّثاً كالحبيب أو الصديق أم جمعياً مكانياً مشتركاً في الصفات والواجبات والحقوق وسيميائية الأهواء والتمنيَّات التي هي ليست مَطلباً فرديَّاً فَحسب؛ وإنَّما هي مُدخلات فردية تَوحدَنَتْ معَ شخوصها

الفاعلية وزمكانيتها الوجودية؛ لتنتجَ لنا مخرجاتٍ جمعيةً مُشتركةً وآفاقاً رحبة تنفتح على الواقع.

فَنُصوصٌ سِتةٌ مثل، (نَظراتُ العَرافةِ، وَلَا وَقَتَ لِلانتظارِ، وَعِتابٌ، وَكَمَا أخبرنِي، وَاُدخلوهَا آمنينَ، وَلَيستْ أكثرَ مِنْ فِكرةٍ) ، استطاعت بأفكار وحداتها الموضوعية المتنوِّعة عبر أثير مجسَّاتها النَّصيَّة الباعثة أنْ تنقل لنا محطَّاتٍ مختلفةً من رؤى وأفكار الشاعر وهو يتماهى ويتفاعل مع عوالم محيطه الخارجي إنساناً ومكاناً ووجوداً، ويتعاتب معه وكأنَّه رفيق حياته وصديق عشرته الأليف معه. حتى أضحى المكان قريباً من نفسه، والزمان تاريخه الماضي والحاضر والمستقبل.

وقد مارس الشاعر الغواية الذاتية مع أفكاره وتطلعاته وحاول استلطافها والتعايش معها على أنَّها جزء من ذاته الجمعية وهمّه الإنساني اليومي. وقد يخرج في أسلوبه المشترك إلى التناهي معَ هُويةِ الآخرِ وكأنَّه الحبيب المعشوق الذي قضى شطراً من عمره لأجله في البحث عنه عبر هذا التناسل الزمني الصعب. وهذا يعني أنَّ السَّعدي في شعريته تمكَّن من الخروج من ذاتيته الشعرية الضيقة إلى أفاق وضفاف وشطآن الجمعية الاشتراكية المتوحدنة روحاً وجسداً لا ينفصلان عنهما.

فَوقَ أَعمِدَةِ الكَهربَاءِ المُعَطَّلةِ الَّتي تُقاومُ الصَّدَأ دُونَ هَوَادَةٍ

أَرسِمُ بِالطُبشُورِ مَدرَسَةً

أُعَلِّمُ صِبيانَ الأَحيَاءِ الفَقيرَةِ حُبَّ الوَطنِ

أبنِي مِئذنَةُ لِلحُبِّ نَاقوسَ إخَاءٍ

أُكحِّلُ أَعيُنَ الصَّبايَا بِماءِ دِجلةَ والفُرَاتْ

5- أُسلوبيةُ الجمعِ بينَ الوَاقعي والأُسطوري (الرَّمزي):

ليس غريباً على شاعر مثل جَنان السَّعدي أنَّه قرأ تاريخ بلاده وأدرك تأثيرات عراقة حضارته المُهمَّة، واكتسب موحيات ثقافة مجتمعه الرافديني الواسعة من خلال موهبته الإبداعية وملكته الشعرية واستعداده الفطري المتنامي مع مثيرات ثقافة المُكتسب الذي وظَّفه كمهاراتٍ إجرائيةٍ في مركزية اشتغالاته الشعرية في هذا الأُسلوب الجَمعي الذي مَزجَ فيه بصدقٍ بين الواقعية والرمزية عَبرَ شعرية الواقعية السِّحرية التي أوحتْ لَه وَمَهَّدت الطريق إلى إنتاج وتخليق وصُنعِ نُصوصٍ نَاضجةٍ مثل، (أُولمبيادُ، وَنَعشٌ عَلَى أكتافِ يَومٍ تَمُّوزيّ، وَالكُرسِيٌّ وأخواتُهُ، وَأصواتٌ وَأشواقٌ) .

بهذه القصائد الأربع استطاع السَّعدي جَنان ومن خلالها أنْ ينفذَ بهدوءٍ إلى استحضار مُهيمنات وقائع الحدث الموضوعيَّة ومزجها برباط الرمزية التاريخية الحقيقية أو القريبة من ضفاف الواقع. والتي يستمدُّ منها تاريخ حياته وجذوره الإحيائية المتأصِّلة في فتوحات خطابه الشعري المواظب.

فالشاعر الذي يُسقطُ الرموز التاريخية والوقائع الحَدَثِيَةَ المَاضية على بنيان واقعه الحياتي الآني والمستقبلي، مُدرِكُ تماماً لِخُطَى مشروعه الشعري الثقافي الفكري، وهو على يقينٍ أنَّه مكين من أدواته الشعرية في رسم خارطة بيت الواقع المُغيَّب وتشخيصه وتفعيله؛ ليثيرَ فينا روح الاستنهاض الثوري بدلاً من انسداد الأفق وتلاشي آثار الأمل الذي يُعدُّ خلاصاً من براثن الهيمنة الواقعية.

فما أحوجنا لقراءة نصِّ مثل، (نَعشٌ عَلَى أكتافِ يَومٍ تَمُّوزيٍّ) الذي جسَّد فيه الشاعر معاني الحبِّ والإيثار والتضحية والتبجيل لِمَقدَمِ مِثلِ هذَا اليوم التاريخي الذي أشرقت فيه شمس على العراق بضوئها الساطع لِتُنيرَ عهداً جديداً لِحياة ينشدُها كُلُّ الشرفاء الأحرار من دُعاة الحرية والاستقلال.

لَا أَعلمُ سِرَّ هَذَا اليّومِ

اِختفاءُ الشَّمسِ مَثَلَاً فِي يَومٍ تَمُوزِي

الكُلُّ يَعلمُ مَاذَا يَعنِي تَموُّزُ العِراقِ

مِنْ دُمُوزِي إلهِ الرَّعِي والخِصبِ السُّومريِّ

إِلَى نَضجِ الرُّطُبِ وَحُمرَةِ الخُدودِ وَسُيولِ العَرقِ

6- الأٌسلوبُ المَكانيُّ وتَشكُّلاتُ الطبيعةِ:

شكَّلت مُهيمنات الواقع الطبيعي الكونية بمختلف عناصرها المكانية الثابتة والمُتحركة حضوراً فنيَّاً وجماليَّاً موضوعيَّاً لافتاً في شعرية جَنان السعدي وتحديداً في منحنيات خطابه وتعرجاته البينية المتشابكة. فتفاعل الشاعر معها وتأثَّر بها؛ بسبب رهافة حسِّه ورقةِ مشاعره الشخصيَّة وَحُبِّه الجمِّ لها؛ كونه أديباً مفعماً يَرسمُ خطوط الواقع الطبيعي بمخياله الفنِّي الجامح ويستلهم عناصر الطبيعة وتكويناتها المؤثِّرة، ويوظَّف مفرداتها وحقولها الدلالية ورموزها الإيحائية الفاعلة في لوحاتٍ تجريبيةٍ من خلال قصائده الذاتية والجمعية التي يشحنها بطاقاتٍ فنيةٍ تعبيريةٍ صُوريةٍ خارقةٍ الأثرَ.

وقد اتَّضحت حركة الشاعر الفعلية مساره الصوري في تماهيه الشعوري وتجسيده الذاتي والحيوي لعناصر شعاب الطبيعة الكونية وشغفه بها وبوحداتها الوجودية المتعدِّدة في أربع قصائد -من نصوص هذه المجموعة- كَلَوحَاتٍ دالةٍ على وقع عتباتها العنوانية ومعانيها الدلالية المكانية والرمزية في هذه العنوانات، (لَهَا تُغنِّي العَنادلُ، وَالبَيدرُ، وَمِنْ وَحيِّ الذَّاكرةِ، وَاِحتذيتُ كُلَّ القَتلةِ) .

واللَّافتُ في هذهِ النُّصوصِ الشِّعرية أنَّ علاقة الشاعر بمصادر الطبيعة علاقة روحية وجمالية؛ كونه استلهم منها صورها الحركية الساخنة وأشياءَها الهَادِرَةَ الجَامحة، ولم يقترب من عناصرها الهادئة الوادعة إلَّا القليل المناسب لطيِّات حُقول نصوصه المكانية التي تُعبِّر بصدقٍ عن مكنوناتها الوجودية وموحياتها الدلالية (سماءً وماءً ومطراً وشمساً وزُهوراً) ومثاباتٍ مكانيةً زاخرة بالعطاء.

هَلْ سَمَعتُم عَنْ سَمَاءٍ تَمطُرُ الخُبزَ؟

السَّماءُ فِي بِلادِي تَمطرُ الخُبزَ كَمَا تَمطرُ الزُّهورَ وَالأولادَ

تَمطرُ المَوتَ والقَتلَى ، تَمطرُ الطِّفلَ الرَّضيعَ وَحَرمَلةْ

تَمطرُ البَردَ وَالشَّمشَ المُحرِقَةْ

تَمطرُ زُهَا حَديدٍ وَوَردةَ العِراقيَّةَ

كُل التَّناقضَاتِ تَمطرُهَا بِعُنفٍ سَماءً بِلادِي

حَتَّى التَّاريخَ والحضَارَةَ

7َ- أُسلوبُ استحضارِ الذَّاكرةِ الزمانيَّةٍ:

من بين الأساليب الموضوعية المُهمَّة الأخرى التي شغلت همَّ الشاعر السَّعدي استحضار الذاكرة الزمكانية واستدعاؤها لآثار موضوع الحصار الاقتصادي كحدثٍ مُهمٍّ مرَّ به تاريخ العراق السياسي المعاصر؛ نتيجةَ استمراءِ الألم وبسبب فشل الأنظمة الدكتاتورية الشمولية الحاكمة، والتي دفع ثمنها الباهظ المواطن البسيط ابن هذا البلد الذي لا يملك سوى قوته اليومي وأثاثه الحياتي المعيشي الذي اضطرّ إلى بيعه والتنازل عنهَ من أجل أنْ يؤمِّنَ لعائلته سدادَ لقمة العيش الشريف.

وقد ظهرت اشتغالات الشاعر لهذا المسار الحيوي في قصيدته الدالة على أفق معانيها الحَدَثيِةِ (من ذاكرة الحصارِ) . وهي إشارة واضحة لسنين الحصار الاقتصادي الثماني التي أكلت الغالي والنفيس من عمر المواطن العراقي البسيط الأعزل الذي آثرَ بَيعَ أثاثِ بيتهِ وبَعض محتويات عيشه المهمَّة والكمالية من أجل أنْ يعيشَ شريفاً في الوجود وفي مواجهةٍ جهاديةٍ مع الموتِ البطيء الذي يستشعره كلَّ يوم شبحاً يطاره في الحياة. فما كان من الشاعر إلَّا وقد استعادت ذاكرته الشعرية صور سنين الحصار الجائر من خلال تقنية الاسترجاع الفنيَّة التي احتشدت بها موضوعة القصيدة.

صَديقِي اللَّدُودُ لَا تَفعلْ أرجُوكَ

تَذَكَّرْ يَومَ بِعتَنِي شُبَّاكَ دَارِكَ

وَوَهبتُكَ عَبَاءَةَ جَدِّي وَسِجَّادَةَ الصَّلاةِ والمِسْبَحَةَ

كَانَّ مِلْحُ الحِصَارِ قَاسيَاً

كُنَّا نَتبادَلُ الدَّمعَ فِي الأفرَاحِ عَلَى نُدرتِهَا

نُراقِصُ إِنسانَ بُؤْبِؤِنَا بِوُدٍّ

نَقتسمُ رَغيفَ الطِّينِ فِي سَطحِ دَارِنَا

8- أُسلوبُ الثُّنائياتِ المُتضادةِ:

لم ينسَ الشاعر السعدي الخوض في غمار الثنائيَّات الشِّعرية المتضادة التي أوجد لها مكاناً علياً رحباً في ديمومة نصوصه الشعرية المتعدِّدة الموضوعات في معترك تناقضاتها الجدلية والوجودية وحركة صراعها الأبدي القائم الذي لا يمكن أنْ ينتهي. فعنصر الخير لا بدَّ له من صنوٍّ آخر وهو الشرُّ، والحياة لا بدَّ لها من الموت، والوجود لا مناص له من عدم، والبياض الدال على النقاوة لا بدَّ له من السواد المعتم الحالك، والنجاح السارُّ لا بدَّ أنْ يقابله الفشل الضارُّ، وكُلُّ فِعلٍ له رَدٍّ فِعلٍ آخرَ.

كلّ هذه المُهيمنات من المفردات التناقضية ومتجاوراتها الدلالية هي التي شكلَّت تمظهرات هذا الحقل الدلالي القائم على صراع الذات مع هُويات نظيراته الأخرى حبَّاً بالحياة وقياماً للتشبث بها. وخير من يمثِّلُ أُسَّ حركة هذه المتناقضات التضادية قصيدة (دَعوةٌ ونداءٌ) التي قامت على المقارنة التقاربية بين دفَّان الموتى (حفَّار القبور) ، وفنَّان الطين (نحَّاتُ الشخصيَّاتِ والرموزِ) . فعلى الرغم من كونهما يصنعان بإرادتهما الفنيَّة والعمليَّة أشكال وصور الحياة وشواهدها الرمزية فإنَّهما يواجهان في الوقت ذاته الموت الآخروي المقابل للحياة الدنيوية. فَلُكلِّ وجودٍ لهُ ما يُخالفه في العمل والأثر.

يَنحتُ الدَّفانُ قُبورَنَا وَالعَلَامَةْ

وَينحتُ الفَّنَّانُ الطِّينَ بِابتسَامَةْ

هَذَا بِمطرقَةٍ وَذَا بِمثلِهَا وَكِلاهُمَا رَاحلانِ وَإيَّانَا

فَمهلاً لِكلِّ النَاحتينَ قُلوبَنَا فَزَعَاً وَرُعُبَا

9- الأُسلوبُ التَّأمُّليُّ الفلسفيُّ:

وعلى الرغم من سيطرة الأساليب الحسيَّة التقليديَّة المعنوية المخياليَّة على فقرات خطابه الشعري وسطوتها التي فرضتها بكثرة على ظلال مدونته الشعرية (نعشٌ على أكتاف يوم تَمُّوزي) ، فقد انزاح الشاعر السعدي قليلاً إلى ناصية التأمُّل الفكري الفلسفي وزيَّن قصيدته الموسومة عتبتها (تحتَ ظلالِ الفناءِ) ، مُصرَّاً بها على أنْ ينقلنا إلى رحاب عوالم الفناء وموحيات الهلاك في مقاربةٍ شعريةٍ تداوليةٍ بين الشَّاعر ذاته صاحب الكلمة المُزهرة والأشجار الطيِّبة المُثمرة، وبين الضمير الحيِّ الظاهر والمغيَّب الخبء المستتر، وبين مُنبِّهات الصحوة وَمُغيَّبات الغفوة، وبين رمز الموت والخلود، والسعادة والشقاء الأبدي، وحياة الغربة والبقاء الذي هو جوهر عمارة الإنسان والبنيان.

فمثل هذه المفردات التأمُّلية الفذة تبعث في أعماق النفس الإنسانية عوامل الإثارة ومنشطات التأمُّل والتفكر والانبعاث الوجودي لـ (أكونُ أو لَا أكونُ) الذي صوَّر الحياة بطريقة جمالية وروحيَّة يحلقُ معها القارئ الواعي المواظب مع نسيج شعريته إلى مرافئ الفكر وشطآن الفضيلة وعوالم السحر والوجود والعدم التي هي من مفردات قيمِ الحياة وأشيائها الفذة الفلسفية الضاربة في جذور القِدِم. وعلى وفق تلك الأساليب التعدِّدية استطاع جَنان السَّعدي بمشروعه الشعري أنْ يَحفرَ لهُ مَكاناً بينَنَا.

يَموتُ الشَّاعرُ كَالأشجارِ المُثمرَةِ

وَلَنْ تَموتَ الكَلمةُ تَبقَى مُزهرةِ

يَغيبُ الضَّميرُ أو يُغَيَّبُ أحيَانَاً

هَلْ يَموتُ؟ عِندَ البَعضِ رُبَّمَا

***

تَقديمٌ: د. جبَّار ماجد البهادليّ / نَاقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

 

قصيدة /تحت زبد الخيال/ للشاعر المغربي أحمد لمقدم هي قصيدة تحمل طابعًا أسلوبيًا مميزًا وعبارات مشحونة بالرمزية والتصورات الخيالية. يمكننا أن نقرأ القصيدة من خلال عدة مستويات أسلوبية:

1. اللغة والأسلوب:

القصيدة تشتغل على اللغة المجازية والاستعارات المعقدة. الكلمات تحمل دلالات عميقة ومبهمة، الأمر الذي يشير إلى أن الشاعر لا يسعى إلى التعبير عن معنى مباشر بل يهتم بخلق أجواء شعرية وفكرية تتجاوز الحدود التقليدية للغة. العبارات مثل /تحت زبد الخيال/، /نُشَرِّحُ المدى حتى يُفْرِغَ قلبه في كفَّينا/، /نَخْتَرِعُ زمانًا لا يحتاجُ إلى الوجود/ كلها تُشَكّل عالمًا شعريًا مليئًا بالتساؤلات والتفكير في الوجود والزمن.

2. الرمزية والتصورات:

تتنوع الرموز في القصيدة بين الضوء والظلام، الحياة والموت، الوجود والعدم. الشاعر يعبر عن رغبة في إعادة تشكيل الواقع من خلال الخيال والمجاز. /نَصْنَعُ خَريطَةً بلا طرقات/، و/نُصْلِحُ الزمن بِشَفَراتٍ مِنْ نُورٍ/ تظهران السعي المستمر لتجاوز الواقع والبحث عن إمكانيات جديدة للمستقبل.

3. الصور الفنية:

القصيدة مليئة بالصور الفنية التي تخلق توترات بين الواقع والخيال. مثلًا، صور الطير الأعمى الذي /يحدق في الهواء/ ليبني عشه /للعدم/، أو /الجناحين/ المرسومين بـ/شَفَراتٍ من نور/. هذه الصور تنتمي إلى عالم غير واقعي مليء بالصور المتناقضة التي تعكس الشعور بالضياع والبحث عن الهوية.

4. التوتر بين الذات والآخر:

هناك حضور قوي للفرد في القصيدة، كما يتجلى في التفاعل مع الآخر. في عدة مقاطع، نرى الحيرة والبحث عن معنى للوجود بين الشاعر والمحبوبة، مثل المقاطع التي يتحدث فيها عن التائهة /كحبرٍ ينزف بين السطور/، وعن العلاقة بين الذات والآخر المتجسدة في صورة /أنا وأنتِ قد نكون حلمًا لكائنٍ أعمى/. هذه التوترات تكشف عن علاقات معقدة بين الذات والعالم المحيط.

5. الموسيقى والإيقاع:

على مستوى الموسيقى والإيقاع، تستخدم القصيدة تنويعات في التكرار (مثل /لنصنع/) مما يضيف إيقاعًا موسيقيًا يعكس الحالة الوجدانية المستمرة والتغيير في التفكير. يمكن ملاحظة كيف أن الشاعر يبني جملًا طويلة متعددة المعاني، مما يمنح القصيدة إيقاعًا متأملاً وصوفيًا.

6. التساؤلات الوجودية:

القصيدة تطرح تساؤلات وجودية عميقة مثل: /هل كنا يوماً أكثر من أثر فوق وجه الزمان؟/ وهو سؤال يشير إلى محورية الإنسان في هذا الكون وتجاوزه. التساؤلات تفتح المجال للتأمل في معاني الحياة والوجود، مما يجعل القصيدة تحمل طابعًا فلسفيًا يبحث في قضايا الوجود والغياب.

الخلاصة

قصيدة /تحت زبد الخيال/ هي تعبير شعري عن الحلم والبحث المستمر عن معنى في عالم يتسم بالتغير المستمر. أسلوبها مفعم بالرمزية، ويستند إلى لغة مليئة بالصور المجازية التي تتحدث عن الوجود والموت، والحياة والخيال. هذه القصيدة تأخذ القارئ في رحلة فكرية وشعرية تساءل الزمان والمكان، وتظل مفتوحة على العديد من التفسيرات والقراءات المختلفة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

.....................

تحت زبد الخيال

لِنَحْتَرِقَ تَحْتَ زَبَدِ الخَيَالِ، سَنَسْتَدْعِي النُّجومَ مِنْ مَخابِئِها، ونُشَرِّحُ المَدى حَتّى يُفْرِغَ قَلْبَهُ في كَفَّيْنا. سَتَنْبُتُ أَجْنِحَتُنا مِنْ أَظْهُرِ الظِّلالِ، ونَحْمِلُ حَطامَ الغُرْبَةِ كَتَمائِمَ عَلى أَعْناقِنا.

كَيْفَ نَصْنَعُ قَلْباً يُنْبِتُ الحُلْمَ؟ نَسْكُبُ الكافَ والنُّونَ فَوقَ شَفَتَيْنِ، نَخْتَرِعُ زَمَناً لا يَحْتاجُ إِلى الوُجودِ، ثُمَّ نُطْلِقُ طَيْراً أَعْمى يُحَدِّقُ فِي الهَواءِ لِيَبْني مِنْهُ عُشّاً لِلْعَدَمِ.

لِنَصْنَعَ خَريطَةً بِلا طُرُقاتٍ، حَيْثُ تُقاسِمُنا الشَّوارِعُ أَحْلامَها المُمَزَّقَةَ، وَنَجْلِسُ عَلى رُكامِ مَدينَةٍ، أَحْجارُها تُدَوِّنُ أَسْماءَنا بِصَمْتٍ.

أَنَا تائِهٌ كَحِبْرٍ يَنْزِفُ بَيْنَ السُّطورِ، وَأَنْتِ طَيْفٌ يَتَأَرْجَحُ فَوْقَ جَسَرٍ هَشّ، بَيْنَنا نُقْطَةُ وَهْمٍ تُحاوِلُ الفِرارَ، وَبَيْنَ أَضْلاعِنا تُفّاحَةٌ تَبْكي جَريمتَها الأُولى.

لِنَصْنَعَ لَحْناً يُراقِصُ النَّيازِكَ، سَنَسْتَعيرُ الوَتَرَ مِنْ أَصابِعِ الغُرْباءِ، نُشْعِلُ الأُغْنِيَّةَ بِنَفَسَيْنِ، وَنَزْرَعُها في أُذُنِ اللَّيْلِ حَتّى يَنامَ.

لِنَصْنَعَ شَمْساً، سَنُقْنِعُ الظَّلامَ أَنْ يَرْتَديها كَتاجٍ، وَنُزَيِّنُها بِرَمادِ الوَقْتِ، ثُمَّ نُرْسِلُها كَمَطَرٍ يَتَساقَطُ فَوقَ صَحارَى المَدى.

أَنَا وأَنْتِ قَدْ نَكونُ حُلْماً لِكائِنٍ أَعْمى، يَسْتَجيرُ بِنا مِنْ كآبَةِ الكَوْنِ، أَوْ زَبَدَيْنِ يَتَصارَعانِ فِي عَينِ بَحْرٍ مُسْتَعِرٍ.

لِنَصْنَعَ جَناحَيْنِ، نَرْسُمُهُما بِشَفَراتٍ مِنْ نُورٍ، وَنُحَلِّقُ حَتّى تُزْهِرَ الغُيومُ فِي الأَعالي، حَيْثُ لا شَيء سِوى العَدمِ يَتَراقَصُ مَعَ الرِّيحِ.

يا غَجَرِيَّةَ الخُيولِ، أَنْتِ هُناكَ، في زاوِيَةٍ غارِقَةٍ في الغِيابِ، وَأَنا هُنا، أُدَوِّنُ أَشْباحَنا في دَفاتِرِ السُّؤالِ: هَلْ كُنّا يوماً أَكْثَرَ مِنْ أَثَرٍ فَوقَ وَجْهِ الزَّمانِ؟

***

أحمد لمقدم - المملكة المغربي

 

تتطلب الكتابة الإبداعية من الكاتب –بأي جنس إبداعي- أنْ يكون في حالة من التفاعل المستمر مع نصوصه، إذ يمتزج لديه الإبداع بالقلق النقدي والرغبة الدائمة في تحسين ما كتبه، فالكاتب، بوصفه مبدعاً، لا يرى نصوصه كنتاج نهائي مكتمل، بل كمشروع مستمر للنقد والتجديد، فالاقتناع بالكمال في الكتابة يُعد أحد أكبر التحديات التي تواجه المبدعين، إذ إنَّ الرضا الكامل عن النص يعوق النمو الإبداعي ويحد من قدرة الكاتب على التطور.

إذ يمثل القلق الإبداعي هنا دافعاً رئيسياً للتجريب والمراجعة، حيث يشكل الشك المستمر في كمال النص حافزاً لمواصلة التفكير في طرق جديدة لتطوير العمل الأدبي، إذ يُدرك الكاتب الحقيقي أنَّ الإبداع لا يعني الثبات عند نقطة واحدة، بل هو عملية متجددة تتطلب النقد الذاتي كأداة لتحليل وتقييم النصوص بشكل متواصل.

يمكن القول ومن خلال هذا المنظور، إنَّ الكاتب يتعامل مع نصوصه بوصفه أول ناقد لها، مما يدفعه إلى مراجعة أفكاره وصياغاته بعمق أكبر، حيث يمثل هذا التفاعل بين القلق الإبداعي والتجريب جوهر العملية الإبداعية الحقيقية، حيث يسعى الكاتب دائماً إلى تجاوز ذاته والوصول إلى أفق جديد من الابتكار.

فمن البديهي أنَّ الوعي الإنساني لا يتوقف عند نقطة ثابتة واحدة، بل هو كيان ديناميكي يتسم بالحركة والتطور المستمرين، إذ تشكل هذه الطبيعة الحركية للوعي البشري، جوهر تجربة الإنسان في استيعاب ذاته والعالم المحيط به، إذ يمتلك الكاتب حساً واعياً، يسعى به دائماً إلى استثمار هذا الوعي المتنامي في تطوير تجربته الإبداعية، فوعي الكاتب لا ينبع من فراغ، بل يتشكل عبر تفاعله مع عدد من العوامل الفكرية والثقافية التي تشمل القراءة المتنوعة والاطلاع على التجارب الإبداعية المختلفة سواء في الأدب أو الفنون أو الفلسفة، مما يُعزز من رؤيته ويُعمق فهمه لكل من الواقع والنصوص التي يتعامل معها.

تلعب أيضا الممارسة المستمرة للكتابة دوراً محورياً في صقل مهارات الكاتب وتوسيع أدواته التعبيرية، فمن خلال المثابرة والاستمرارية، يكتسب الكاتب خبرات تراكمية لم يكن يمتلكها في بدايات تجربته الأدبية، وهذا التراكم المعرفي والمهاري يتيح له إعادة تقييم تجربته الكتابية بشكل نقدي، مما يساعده على تحديد نقاط القوة والضعف في أعماله السابقة، ويسمح له باستشراف طرق جديدة لتطوير وعيه الإبداعي، ومن المهم أنْ نُدرك أنَّ هذا التطور لا يحدث في عزلة، بل هو ثمرة لتفاعل الكاتب مع قراءاته وتجاربه ومحاولاته المستمرة للخروج عن النمطية واستكشاف أفق جديدة للكتابة.

يُعدّ التجريب الأدبي، بما يحمله من جرأة في تحطيم الأشكال المألوفة وتجاوز الحدود المتعارف عليها، ركيزة أساسية لدفع الكاتب نحو مراحل متقدمة من الوعي الإبداعي، إذ يسمح للكاتب بإعادة التفكير في أدواته وأساليبه التعبيرية، مما يعزز من قدرته على الابتكار والتجديد، فمن خلال هذه المحاولات المستمرة لتجاوز القوالب التقليدية، يتعمق فهم الكاتب لنصه الإبداعي وللعالم الذي يحيط به.

يمكن القول إنَّ الكاتب يدرك تماماً احتياجات نصه الإبداعي في كل مرحلة يمر بها، فهو ليس مجرد منتج للنصوص، بل هو أول ناقد لها، كونه أول قارئ يتفاعل معها، وهذه القراءة الأولية للنص تجعله ناقداً صارماً لما يكتبه، إذ يعيش لحظات مستمرة من المراجعة الذاتية التي تترافق مع شعور دائم بعدم الاكتفاء، لا ينبع هذا النقد الذاتي من السعي للكمال بقدر ما هو نابع من قلق إبداعي مستمر، يدفع الكاتب إلى التساؤل حول كيفية تحسين النص، سواء من خلال حذف جملة معينة، أو إضافة تفاصيل أخرى، أو تعديل صياغة بعض الأفكار.

إنَّ فكرة الكمال المطلق في العمل الإبداعي هي فكرة إشكالية، والاقتناع بتحقيقه قد يكون أشبه بآفة تلتهم روح الإبداع، فالركون إلى الرضا الكامل عن النص يعني، بشكل أو بآخر، نهاية لحركة النمو والتطور، وعلى العكس من ذلك، يبقى الشك الدائم هو المحرك الذي يدفع الكاتب إلى الاستمرار في تطوير قدراته الإبداعية، فالكاتب الذي لا يرضى بالثبات يُدرك أنَّ الإبداع الحقيقي لا يتوقف عند نص معين أو مرحلة محددة، بل يتطلب دوماً مراجعة مستمرة للنصوص، والشك في كمالها، والسعي الدائم نحو تحسينها.

تمنح هذه الحركية النقدية الداخلية، التي تنمو مع الممارسة والقراءة والتجريب، النصوص الأدبية حيوية وديناميكية تجعلها قابلة للتطور، فالكاتب لا يرى في النصوص التي كتبها سابقاً مجرد منتجات نهائية، بل يرى فيها محطات في مسيرته الإبداعية، لذا فإن الرغبة في التغيير والتحسين تظل مستمرة دائماً، وهي التي تدفع الكاتب إلى الاستمرار في العمل على نصوصه وإعادة النظر فيها حتى بعد نشرها.

نرى ومن هذا المنطلق، أنَّ الكثير من الكتاب يعزفون عن العودة إلى نصوصهم القديمة بشكل متكرر، حيث أنَّ كل قراءة جديدة تولّد رغبة في التعديل، وكأن النص، حتى بعد نشره، يظل مفتوحاً على احتمالات جديدة للتطوير والتغيير، هذه الرغبة الدائمة في تحسين النص تعكس إدراك الكاتب العميق بأنَّ العمل الأدبي لا يمكن أنْ يصل إلى حالة من الكمال النهائي، بل هو دائماً في حالة من التغير المستمر، فالنصوص الأدبية، بطبيعتها، تظل مفتوحة وقابلة للتحول، وهذا ما يجعل الإبداع الأدبي عملية مستمرة لا تعرف الثبات أو الجمود.

يمكننا القول إنَّ الكاتب الحقيقي، الذي يدرك هذا الجانب النقدي الذاتي في عمله، يظل دائماً في حالة من الحوار المتواصل مع نصوصه، حيث تتجدد قدراته الإبداعية من خلال هذا التفاعل المستمر بين النقد الذاتي، والقراءة المستمرة، والتجريب الإبداعي، لذلك فإنَّ الكتابة، بهذا المعنى، ليست مجرد إنتاج لنصوص، بل هي عملية تفاعلية مستمرة بين الكاتب وذاته، وبين الكاتب والعالم، وبين الكاتب والقارئ، مما يجعل منها رحلة لا تتوقف عند حدود معينة، بل تظل مفتوحة على احتمالات التجديد والإبداع.

***

أمجد نجم الزيدي

 

كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته" ... بالتفصيل..". واليوم نبدأ بالمقاطع الخمس الأولى:

القسم الأول: متعة القراءة..

الديباجة:

(1)

" قد جاءَ في ديباجةِ اللوحِ الكتابِ بِأنّهُ

مِن ألْفِ بابٍ، كُلُّ بابٍ ألْفُ لَوحٍ

هل قرأتَ؟

سمعْتُ عنهُ وجئْتُ أصعَدُ

كيْفَ تَصْعَدُ، لا سَلالِمَ؟

عُدْ إلى (اللوحِ الكتابْ)

وأينَ ذاكَ؟

عليكَ وحدَكَ أنتَ أنْ تَجِدَ الجوابْ"

** يكشف هذا المقطع الشعري عن عمق فلسفي ورمزية كثيفة تجعل منه نصًا يتجاوز المعنى الظاهري ليغوص في مجاهل الفكر والوجود. فالقصيدة تنطلق من استعارة مهيبة تتجلى في "اللوح الكتاب"، حيث تتداخل المفاهيم الصوفية والمعرفية ضمن نسيج لغوي محكم. إنّ استخدام "ديباجة اللوح الكتاب" يلمّح إلى فكرة الأزلية والمقدّس، وكأنّ الشاعر يستدعي معنى اللوح المحفوظ أو سفر المعرفة الكبرى الذي يضم أسرار الكون.

يبدأ النص بتوكيد أنّ هذا "اللوح الكتاب" يتفرّع إلى "ألف باب"، وكلّ باب يحوي "ألف لوح"، مما يكرّس مفهوم اللانهائية في المعرفة، إذ لا حدّ للبحث ولا نهاية للسؤال. وهنا نلمح بعدًا فلسفيًا وجوديًا، فالإنسان كائن تائه في مسارات لا متناهية من الإدراك، وعليه أن يواصل التسلق رغم انعدام السلالم، أي دون أدوات جاهزة أو طرق ممهّدة، وهذا انعكاس لمعاناة البحث عن الحقيقة في عالم غامض.

"كيف تصعد، لا سلالم؟"

يأتي هذا التساؤل ليؤكد استحالة بلوغ الحقيقة عبر الوسائل التقليدية، فالحقيقة ليست شيئًا يُمنح، بل هي معراج داخلي، ومسيرة ذاتية على الباحث أن يخوضها بنفسه. وهذا يبرز البعد الإنساني العميق في النص، إذ يشير إلى التجربة الفردية في السعي نحو المعرفة، حيث لا دليل ولا مرشد، بل على الإنسان وحده أن يجد طريقه.

ثم يأتي ختام المقطع بعبارة توجيهية أشبه بتحدٍ وجودي:

"عليك وحدك أنت أن تجد الجواب"

إنّ هذا المقطع يعكس فلسفة الحرية والمسؤولية الفردية في اكتشاف الحقيقة، وكأنّ الشاعر يضع القارئ أمام مرآة ذاته، حيث لا يوجد جواب مُعطى، بل على الإنسان أن يحفر في وعيه، ويتبع نداءه الداخلي في رحلة لا تنتهي.

النص يوظّف الرمزية بذكاء، فاللوح يمثل المعرفة، والسلالم تمثل الوسائل، وانعدامها يرمز إلى صعوبة الوصول إلى جوهر المعنى، وهذا يحمل أبعادًا دينية وصوفية، إذ يذكّرنا بتجارب العرفاء الذين وجدوا أن الحقيقة ليست في الكتب بل في المجاهدة الروحية. كما أنّ الأسلوب الحواري يمنح النص بُعدًا دراميًا، إذ يتجلى الصراع بين الحائر والسائل، بين من يبحث ومن يواجه الفراغ.

ان هذا المقطع ليس مجرد تأمل شعري، بل هي دعوة لرحلة فكرية وروحية، تضع الإنسان في قلب تجربة البحث، بلا دليل سوى ذاته، وبلا خارطة سوى وعيه المتنامي.

البرج والشاعر:

(2)

"في بابِ قَرْميدو المُهَنْدسِ

مِن كتابِ اللوحِ

قالَ: البُرجُ بُرْجي

صَمَّمَتْهُ رؤايَ شاهقةً

وصادَفَ أنّها قد راقَتِ النَمْرودَ

فانتَحَلَ القصيدهْ

وأزاحَ شاعرَها مِن الطَبَعاتِ قاطبَةً سوى

طبَعاتِ إصبَعِهِ الفريدَه"

** ينبثق هذا النص من عمق فكري يجمع بين البعد الرمزي والطرح الفلسفي، في تجلٍّ شعري ينحت المعاني بأسلوب مكثف، يعكس صراع المبدع مع السلطة، والمعرفة مع الطغيان، والحقيقة مع التزييف.

"في بابِ قَرْميدو المُهَنْدسِ / مِن كتابِ اللوحِ"

يستهل الشاعر بمشهد يوحي بالرصانة الهندسية والصرح المعماري المتقن، حيث يمتزج البناء المادي مع البناء الفكري، فالقرميد يرمز للصلابة والثبات، فيما "كتاب اللوح" يلمّح إلى المعرفة المطلقة، وكأنّنا أمام نص مقدّس أو دستور للوجود.

"قالَ: البُرجُ بُرْجي / صَمَّمَتْهُ رؤايَ شاهقةً"

هنا تتجلى الذات الإبداعية، حيث يعبر الشاعر عن اعتزازه برؤيته الخاصة التي تتخذ شكل برج شاهق، بفضل خياله وتطلعاته.، او رمزًا للمعرفة والطموح الإبداعي. فالبناء هنا ليس حجريًا فقط، بل هو بناء فكري تتجسد فيه قمة الفكر والإبداع، وكأنّ الشاعر ينحت وجوده في فضاء لا محدود.

"وصادَفَ أنّها قد راقَتِ النَمْرودَ / فانتَحَلَ القصيدهْ"

يتحول المشهد من البناء إلى الصراع، حيث يظهر "النمرود"، الرمز الأسطوري للطغيان، ليغتصب القصيدة، أي الفكر والإبداع. هنا يستحضر الشاعر إشكالية سرقة الفكر، حيث يستولي المستبد على إنجازات المبدعين وينسبها لنفسه، تمامًا كما استحوذ الطغاة عبر التاريخ على منجزات الحضارات وألحقوها بأسمائهم.

"وأزاحَ شاعرَها مِن الطَبَعاتِ قاطبَةً سوى / طبَعاتِ إصبَعِهِ الفريدَه"

هنا يصل النص إلى ذروته الرمزية، حيث تُمحى هوية الشاعر الحقيقي، ولا يبقى من أثره إلا ما سمح به الطاغية، أي ما يتوافق مع شخصه وسلطته. وهذه صورة بليغة عن تشويه الحقائق عبر التاريخ، حيث يُمحى الأصل ويُستبدل بظل السلطان. ولكن، وبلمسة رؤيوية حصيفة يزيح الشاعر/ جمال مصطفى هذا الادعاء، ليرفع المهندس/ المعمار فوق النسيان. فـ " طبَعاتِ إصبَعِهِ الفريدَه" هي بصمة يد المعمار، الفطنة والمبدعة، التي حفرت روحها في كل لبنة ونقش، فـ (الهاء في اصبعه تعود على المبدع).. صحيح الطغاة يسرقون الأسماء، لكن الصحيح أيضا انهم يعجزون عن سرقة الإبداع، يطمسون الحروف، لكنهم لا يملكون محو البصيرة. هكذا يبقى الفن شاهداً على صاحبه، عصياً على الطمس، منتصراً على كل ادّعاء.

النص يحمل أبعادًا إنسانية وفكرية ورمزية عميقة.. يعكس مأساة الفكر الحر أمام السلطة المستبدة، كما يمثل، ضمنيًا، نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا عميقًا.. يعكس معاناة الفكر الأصيل الذي يُنتزع ليصبح جزءًا من قوى الهيمنة، حيث يتقاطع مفهوم "النمرود" مع طغاة التاريخ الذين واجهوا النور بالظلام. إنه نص مكثف، يمزج الفلسفة بالتاريخ، والرؤية الفردية بالهمّ الإنساني، ليترك القارئ أمام تساؤل وجودي: هل تبقى الحقيقة شامخة رغم محاولات الطمس؟

القصيدة كالبرج

(3)

"ومِنَ القصيدةِ:

حينَ تَصعدُ قال قرْميدو تَرَيّثْ

أجملُ الحُجُراتِ

في بُرْجي اللواتي لا تُرَقَّمُ

بَلْ تُسَمّى

ومِن القصيدةِ:

إنَّ بُرْجي كالقصيدة طالما اكتَمَلَتْ

وَلَمّا"

** يستبطن هذا المقطع الشعري بعدًا فلسفيًا وجماليًا عميقًا، حيث تتداخل الصور الرمزية لتُشكّل رؤية متكاملة حول الزمن والإبداع والاكتمال. يتماهى "البرج" مع "القصيدة"، فيصبح البناء المعماري كيانًا حيًّا، لا يتجلى في صلابة الجدران فحسب، بل في مرونة المعنى وانفتاح الدلالة.

"حينَ تَصعدُ قال قرْميدو تَرَيّثْ"

يفتتح النص بحوار يضفي بُعدًا دراميًا، حيث يدعو "قرميدو" إلى التريث أثناء الصعود. وكأنّ الشاعر هنا يرسم فلسفة التأمل والتروي في السعي نحو القمم، ليؤكد أن الوصول ليس مجرد حركة مادية، بل تجربة وجودية تحتاج إلى وعي وانتباه.

"أجملُ الحُجُراتِ / في بُرْجي اللواتي لا تُرَقَّمُ / بَلْ تُسَمّى"

هنا تتخذ اللغة بعدًا صوفيًا، إذ إنّ الحُجرات الأجمل ليست مُرقّمة، أي أنّها ليست خاضعة للنظام الصارم أو القواعد الجامدة، بل تحمل أسماء، مما يمنحها بُعدًا إنسانيًا وتاريخيًا. وكأنّ الشاعر يشير إلى أن الجمال يكمن في التفرد، لا في التصنيف، وأن الإبداع لا يُختزل في أرقام، بل في هوية وذاكرة حيّة.

"إنَّ بُرْجي كالقصيدة طالما اكتَمَلَتْ / وَلَمّا"

هنا تبرز ذروة الرمزية، حيث يشبه البرج بالقصيدة، في إشارة إلى أن كلاهما عملية ديناميكية تتأرجح بين الاكتمال واللاتمام. فكأنّ القصيدة لا تكتمل أبدًا، لأن المعنى يبقى مفتوحًا، وكذلك البرج، إذ لا ينتهي بناؤه طالما أنّ الوعي يتجدد.

النص يفيض بجمالية لغوية أخّاذة، حيث يتناغم البناء المادي (البرج) مع البناء المعنوي (القصيدة)، ليجعل منهما صورة واحدة للحياة والتجربة الإنسانية. إنه نص يطرح أسئلة أكثر مما يمنح إجابات، ويدعو القارئ إلى رؤية الجمال في اللامتناهي، وفي المساحات التي لا تُقاس بالأرقام بل بالأسماء والذكريات.

قَرْميدو وإقصيدو

(4)

"هل كانَ بُرجاً أمْ قصيده؟

سيّانِ

قَرْميدو وإقصيدو هُما لَقَبانِ

مِن ألقابِ مِعْمارِيِّهِ الحُسْنى العديدهْ"

** ينسج هذا المقطع الشعري فضاءً فكريًا تتماهى فيه المعمارية بالشعر، ليقدّم رؤية فلسفية حول طبيعة الإبداع والاكتمال. يتلاعب الشاعر بالمفاهيم ليجعل البرج والقصيدة وجهين لحقيقة واحدة، مما يفتح المجال أمام تأويلات متعددة حول ماهية الجمال وبنية الخلق.

"هل كانَ بُرجاً أمْ قصيده؟ / سيّانِ"

يستهل الشاعر بسؤال جوهري، لكنه سرعان ما يلغيه بالمساواة بين البرج والقصيدة، وكأنّه يؤكد أن البناء المادي (البرج) والبناء اللغوي (القصيدة) ينبثقان من الروح ذاتها، كلاهما فعل إبداعي يحمل طابعًا هندسيًا في ترتيبه وتنظيمه. فالمهندس والشاعر صانعان للحضارة، والأثر الذي يتركانه يتجاوز حدود الزمن.

"قَرْميدو وإقصيدو هُما لَقَبانِ / مِن ألقابِ مِعْمارِيِّهِ الحُسْنى العديدهْ"

هنا تتجلى لعبة الأسماء، إذ يمنح الشاعر "قرميدو" وإقصيدو" دلالة رمزية عميقة، حيث يدمج عالم الهندسة (قرميدو من القرميد، رمز البناء) بعالم الشعر (إقصيدو من القصيدة) ، في صورة تمزج بين المادة والروح، الواقع والتجريد. كما أن استخدام "الألقاب الحسنى" يحيل إلى بعد صوفي، حيث تتعدّد تجليات المبدع مثلما تتعدد أسماء الجمال المطلق.

هذا المقطع القصير يُكثّف فيضًا من التأملات حول جوهر الإبداع، إذ يرى في الفن المعماري والشعر عملية خلق متكاملة، لا فرق بين حجر يُشاد وكلمة تُبنى، فكلاهما يمنح الإنسان معنى للوجود، وكلاهما يعبر عن توق الإنسان نحو الخلود.

القصيدة كقميص

(5)

"كَم كانَ إقْصيدو يَقولُ:

البُرجُ قُمْصانُ القصيدةِ

وَهْيَ تَمْشي عاريَةْ

.......................

البرجُ تَقتُلهُ القصيدةُ

قالَ قرْمِيدو المهَندسُ وهْوَ يعرفُ ما يَقولْ

لكِنَّ إقصيدو يُرَدِّدُ وهْوَ يَصعدُ: لا نُزولْ

إنَّ النزولَ كَهاويَةْ"

** يمثل هذا المقطع الشعري تأملًا عميقًا في العلاقة الجدلية بين المادة والروح، بين البناء الفيزيائي والتجريد الشعري، حيث تندمج الصورة المكانية (البرج) بالصورة اللغوية (القصيدة) لتصوغ رؤية فلسفية حول الإبداع والصراع بين الثبات والتحول.

"كَم كانَ إقْصيدو يَقولُ: / البُرجُ قُمْصانُ القصيدةِ / وِهْيَ تَمْشي عاريَةْ"

في هذه الصورة المدهشة، نجد إسقاطًا مجازيًا بديعًا، إذ يُشبَّه البرج بالقُمصان التي تُلبس القصيدة، وكأنّ البناء يحاول أن يمنح للكلمة شكلًا ماديًا، أن يكسوها بملامح محسوسة، لكنّ القصيدة بطبيعتها كيان متحرر، لا تقبل التقيد، فتمشي "عارية"، أي خالصة في تجريدها، بلا أثقال الزمن ولا قيود الجدران. هنا تتبدّى فلسفة التجريد والجمال المطلق، حيث تكمن قوة الشعر في هشاشته، تمامًا كما تكمن متانة المعمار في صلابته.

"البرجُ تَقتُلهُ القصيدةُ / قالَ قرْمِيدو المهَندسُ وهْوَ يعرفُ ما يَقولْ"

هنا تنعكس العلاقة بين الكيانين، فبينما كان البرج يمنح القصيدة لباسًا، نجد القصيدة الآن تهدد البرج، وكأنّ الفن المجرد يمكن أن يفتك بالمادة، أن يزلزل الثبات، أن يجعل الصرح المعماري بلا روح، فيموت رغم صلابته. هذه ثنائية عميقة تُذكّر بصراع الإنسان مع الخلود، حيث يبقى الإبداع متجاوزًا للحجر، لأن الكلمة تدوم حيث ينهار البناء.

"لكِنَّ إقصيدو يُرَدِّدُ وهْوَ يَصعدُ: لا نُزولْ / إنَّ النزولَ كَهاويَةْ"

هنا يصل النص إلى ذروته الفلسفية، حيث يؤكد إقصيدو أن النزول ليس مجرد هبوط، بل هو هاوية، إنه ليس عودة إلى الأرض، بل سقوط إلى العدم. وكأنّ الصعود، سواء كان ماديًا أو فكريًا، هو السبيل الوحيد للنجاة من الفناء. هذا المعنى يكتنز بعدًا صوفيًا، حيث يصبح الارتقاء رمزًا للبحث عن الحقيقة المطلقة، فيما يُصبح التراجع انحدارًا نحو النسيان والضياع.

هذا النص يفيض بالدلالات الرمزية، حيث يتجلى الصراع الأزلي بين الثبات والتغير، بين الملموس والمجرد، بين البناء والهدم، في لغة مكثفة عميقة، تجعل من البرج والقصيدة كائنين يتصارعان في فضاء الوجود، وكأنهما وجهان لحقيقة واحدة، لا تكتمل إلا بصراعهما الأبدي.

***

طارق الحلفي – شاعر وناقد

.................................

* [قيل، أن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه: «إدعوا لي أخي» فدعي.. ثم دعي..  ثم دعي.. ثم دعي علي بن أبي طالب، فستره بثوبه وأكب عليه، فلما خرج من عنده، قيل له: ما قال؟  قال:» علمني ألف باب كل باب يفتح ألف باب».]

* يشير جمال مصطفى في أحد تعليقاته على انه " حاول جعل الأسماء على وزن إنكيدو صديق جلجامش "

* رابط المدخل

www.almothaqaf.com/readings-5/979452

* رابط القصيدة

www.almothaqaf.com/nesos/971491

عندما تكون القصة فنًا وتحطّم القيود الأجناسية

نستكشف المبدع من خلال إبداعه وما ينتجه، ولكننا أيضًا قد نكتشف سحر هذا الإبداع وأناقته من ناقد مبدع. كتاب (غواية السرد وترويض النقد: دراسات تحليلية لأجناس أدبية) للناقد الأكاديمي المصري د. حافظ المغربي، والذي قسّمه إلى أربعة فصول، تناول عدة أجناس سردية، ولكني سوف أركّز على الفصل الثاني المعنون:

شعرية السرد وآفاق التجريب في قصص يحيى الطاهر عبد الله القصيرة والقصيرة جدًا: دراسة في نماذج من مجموعته "الرقصة المباحة".

هذا الفصل يبدأ من صفحة 81 وينتهي في الصفحة 145، وتليه قائمة مهمّة من المراجع والمصادر.

اتّسمت كتابة الناقد د. حافظ المغربي بسلاسة مغرية. من ميزات النقد الحداثي أنه يبحر بك وبمخيلتك ويشجّعك على قراءة المادة. كما أن هذا الفصل البحثي يدفع قارئه للبحث عن إبداع القاص الشاعري يحيى الطاهر عبد الله، ويقدّم هدية بديعة لمحبي هذا القاص العبقري في أسلوبه ولغته، الواقعي المحبّ لقريته الكرنك بجنوب مصر، السينمائي في تصوراته. كل قصة له نجدها إبداعًا فنيًا وتجريبًا شجاعًا يحطّم القيود الأجناسية عن وعي، بحنكة وشعرية تدميرية. فهو يتجاوز القيود والحدود والتابوهات، لكنه يميل للبسطاء، يسمعهم ويتيح لهم أن يحلموا وأن يتكلّموا وربما يرووا أيضًا.

قراءة هذا الفصل البحثي ستفيد النقاد المهتمين بفن القصة القصيرة وكتابها، وحتى كتّاب ومبدعي الرواية. نعم، يمكننا أن نتعلّم كتابة الرواية وحتى المسرح والسيناريو من قاص عظيم مثل يحيى الطاهر عبد الله.

كل الشكر لأستاذنا الناقد د. حافظ المغربي، على جهده الأنيق والتحليق بنا في عوالم السرد الساحرة.

شعرية السرد وآفاق التجريب

يلفت الناقد انتباهنا إلى أن قصص المبدع يحيى الطاهر عبد الله تحمل روح الشعر: (أي قريبة من لغة الشعر، دون إيقاعه ووزنه، وأقرب في بعض نماذجها من قصيدة النثر). هذا الرأي النقدي لم يأتِ مجاملة، ولو عدنا مثلًا إلى قصة الغول، وهي من صفحة واحدة، لكنها استطاعت أن تلخّص بشعرية مدهشة قضية كبيرة جدًا.

قصة "الغول": تأمل نقدي

هناك روايات عربية كثيرة عن الغول، وبعضها فشل في عرض جوهر الغول. يحيى الطاهر في هذه القصة لم يعرض أحداثًا جسيمة، لكنه نجح بأسلوب سلس وسهل أن يمسك بعقدة القضية، وكأنه يقول: الغول ليس من خلق الآلهة، بل هو من خلق البشر.

الشخصية، التي سمّاها المطرود من أهله، تسير مع قطّتها الحامل في الصحراء والضياع. ينجح القاص في خلق شخصية قوية ومهمة دون الإسراف في وصفها وأسباب طردها. يدعونا القاص هنا للمشاركة في بناء هذه الشخصية وتخيّل أسباب خروجها مطرودة دون ماء أو طعام أو أي سبب من أسباب الحياة.

بجمل ترسم وتصور وتفتح شهيتنا التخيلية، يمضي القاص ليحكي قصة ميلاد الغول، وربما يكون الغول الأول في الكون. كفيلم سينمائي قصير، تمضي الأحداث الصغيرة لتخلق الحدث الجسيم: ولدت القطة، جاعت القطة فأكلت أحد صغارها وشربت دمه من أجل حياتها، قلدها هو وأكل لحم القط الصغير. لم يعجبه اللحم النيّئ، فأشعل نارًا وشواه.

هكذا، انتقل الإنسان من الإنسانية إلى التوحش. عندما شاهد القتل، قتل، وقتل، حتى تحوّل إلى غول.

قوة إبداع هذا القاص تكمن في فكره وموقفه الواضح القوي هنا ضد القتل بكل أشكاله وأنواعه، وضد خلق شخصية القاتل. ربما لو أن هذا الشخص لم يُطرد ويُهان، لتغيّر مصيره.

يشير الناقد حافظ المغربي إلى تجربة هذا القاص بأنها: (ثرية في طبيعة بنائها الفني، من خلال جدلية الرؤية والأداة، أو المضمون والشكل). ومن خلال البحث والاستشهادات، نشعر أن القاص ليس هدفه مجرد الكتابة، فهو يعتبرها فنًا وحياة وليست مجرد مهنة. لذلك، قصصه تجعلنا ننغمس معها في لحظة كل حدث وننتقل معها في الحقول والأكواخ وقرب الترعة، في الأسواق والغرف الضيقة، تلسعنا شمس الظهيرة كما تسحرنا هذه الشمس.

إذا لاحظنا، الكثير من قصصه تعطي قداسة خاصة للشمس وللنهار بتفاصيله وأزمنته. لكل لحظة سحرها اللوني. يكون السرد والوصف كأنه أدوات رسم وتصوير، تتفاعل الشخصيات مع هذه الأزمنة واللحظات وتعيشها.

قصة "البكاء": أسطورة في قالب قصصي

يمتلك القاص عبقرية مدهشة، يبتكر مفردات بسيطة وأدوات حياتية، فيحرّكها ببراعة ليفجّر دلالات قوية، وأحيانًا قد تكون صادمة وصاخبة. لو تأمّلنا نص البكاء بما فيه من فنتازيا، نجد أن القصة ليست بعدد شخوصها أو الواقع الظاهر على السطح.

يحيى الطاهر عبد الله ينسخ أساطيره الصغيرة. ففي هذه القصة، الحية التي قُطع ذيلها تهرب إلى بيت جارته العجوز، التي تربي الدجاج. الدجاجات مصدر رزق العجوز التي، لعدم قدرتها على محاربة الحية، تعقد معها اتفاقًا: تطبخ لها كل يوم بيضة مع البصل.

باضت الحية وأخفت بيضها، ثم فقس البيض، وأصبح لها صغار. خرقت الحية الاتفاق، وقتلت إحدى الدجاجات، ثم قتلت الرجل الذي قطع ذيلها، وخرجت تاركة العجوز تبكي وتندب.

كأن القاص يسألنا: أين الشر؟ ومن هو الشرير؟ أكانت العجوز ساذجة لتأمن مكر هذه الحية؟ أم أن الحية ضحية عنف ذلك الرجل؟

أفكار كثيرة تنبثق من نص صغير وقليل العبارات. قوة المبدع تكمن في إثارة الجدل، تجعلنا نعيد ترتيب الأحداث ونتخيل الدوافع. هذا النص، والكثير من نصوصه، قد تُفهم بطرق متعددة: اجتماعية، سياسية، أو مراجعة لتاريخنا وهفواتنا ونكباتنا.

التجريب وتحطيم القيود الأجناسية

يتحدى يحيى الطاهر عبد الله القيود التقليدية للأجناس الأدبية. قصصه القصيرة جدًا تعتمد على التكثيف، لكنها تمتلك عمقًا فلسفيًا ونفسيًا يترك أثرًا عميقًا في القارئ.

إذن، سنجد أنفسنا أمام قاص يجرب بخيال فني لا يقيّد نفسه بمصطلح أو تسميات. يكسر الحدود والأجناس والأنواع، ويرفض الخضوع والإنصياع الأعمى لقواعد ونظريات السرد في عصره. يقول إن كل شيء وموقف يمكن أن يصبح قصة.

سنجد أنفسنا مع قاص تأملي، يشاهد من بعيد ثم يقترب وينصت. يجعل شخصياته تتكلم بعفوية وبلسانها هي، تنازعه وظيفته كسارد، تسرد أو تصف مشهدًا بأسلوبها، تصرخ وتضحك، تبكي وتحلم.

السينمائية في السرد: مشاهد حيّة محفزة للخيال والتفكر الفلسفي

المتأمل لقصص يحيى الطاهر عبد الله كأنه أمام شاشة سينمائية، يشاهد فيلمًا إيرانيًا شعريًا أو فيلمًا يابانيًا. يذكّرنا أسلوبه أيضًا بأفلام أندريه تاركوفسكي، في تأملاته للأرض وقلة شخصيات بعض نصوصه، وكذلك بالرؤية الذاتية الحرة في أفلام بازوليني.

نجد يحيى الطاهر يبرع في خلق أكثر من وجهة نظر، ولا يهتم بخلق بطل واحد أو مصير واحد. وجهات النظر متعددة، والأصوات متنوعة، حتى في النصوص التي يمكن وصفها بالقصيرة جدًا. يمتلك قدرة خلاقة على خلق نهايات بديعة.

التناص والتراث الشفهي

وكما وضّح الباحث حافظ المغربي، نجد نزعة القاص لتكون قصصه محكية كأنها من التراث الشفهي السهل الحفظ، والساحر للسامع. يصوّر ببراعة، يلوّن لغته، يضرب الأمثلة، يستشهد بتناصات مختصرة. تناصاته أشبه بومضات خاطفة، كأنه يبحث عن الصورة وليس النص. وقد يأخذ جزءًا من الصورة ويكملها من خياله.

قصة "الخوف"

نختم بمراجعة تأملية سريعة لنص الخوف. الأسلوب اللغوي كحكاية تراثية شفهية، دون الوقوع في الجناس وصناعته. في هذا النص، نحن مع تاجر عقيم يتزوج حسناء جميلة، يحبسها في البيت، يغرقها بالملبس والمأكل، ويقضي معها الليل ليأخذ لذاته.

تتبدّل أحواله بالوسواس، ثم يحدث الانقلاب عندما تهاجمه خيالات فيقتل أحدها. يخاف من انتقام خيالين لصاحبهما الميت. هذا التاجر يريد المال والجمال.

تنتهي القصة برسم شخصية مصابة بالهوس. يغلق التاجر دكانه ويحمل بندقية ليقتل روحين، وأحيانًا يطلق رصاصتين في الهواء.

كأننا مع مشهد من مشاهد المخرج السينمائي فيديريكو فليني أو تيم برتون. القاص يبدأ القصة كأنها حكاية، ثم يحدث انقلاب مفجع. تتوحش الشخصية، وتترك لنا مساحة للحوار معها، لتحليلها، لنكرهها أو نحبها.

القاص هنا يخفي صوت الزوجة الجميلة. لم نسمع اعتراضها أو صوتها، لكننا نتخيل وجعها وألمها من زوج يأخذ لذته، وهي وحيدة ولن يكون لها طفل لأن التاجر عقيم.

الشخصيات النسائية في عالم يحيى الطاهر

تتجلى قضايا اجتماعية كثيرة. يصوّر الشخصيات النسائية دون مبالغات. الشخصية النسوية تعاني وتخاف، تحلم وتأمل، تحب الحياة والتحرر، كما تعكس قصصه القهر الاجتماعي والضغوط النفسية وعادات وتقاليد تكرس ضعف المرأة وتنتصر لذكورية الرجل وسلطته المطلقة، وكذلك فهذه القصص تتأمل الطفولة وما يعانيه الأطفال من قسوة وديكتاورية الأباء.

من الصعب أن نوجز الحديث عن هذا القاص في مقالة واحدة، أو أن نعرض ملخصًا وافيًا لهذا الفصل النقدي من كتاب غواية السرد وترويض النقد: دراسات تحليلية لأجناس أدبية للناقد المصري د. حافظ المغربي. الكتاب يستحق القراءة، وهو مساهمة نقدية مهمة. وما أحوجنا لنقد إبداعي يحفزنا على اكتشاف المبدعين وفهمهم والذهاب إلى عمق النص الإبداعي.

***

حميد عقبي - باريس

"إنها ليست الكتابة المكتوبة فقط، ما يهم، بل يتوجب قراءة الكتابة غير المكتوبة أيضاً"! المسرات، ص10

هذه الرواية مقسمة إلى اربعه فصول، لكن الانطباع السريع أنها تتكون من جزأين، الأول مكتوب بلغة سارد خارج عن الشخصيات والثاني على لسان البطل، الراوي توفيق.

تبدو "المسرات والأوجاع" من صفحتها الأولى أنها رواية ذات مغزى فني عميق يمكن أن يكون قريبا أو متجسدا بالمقولات الفلسفية، التي أوردها العراقي فؤاد التكرلي في نهايتها.

إنها في حقيقة الأمر رواية واقعية فلسفية عن حياة بشر عاديين وإنسان من مستوى خاص ولكنها مشبعة أيضاً بالمفاهيم ألأليغورية المجازية والرمزية ذات العمق الفلسفي والخيال والدفقات المضمونية في "دربونة الشوادي"، حيث تكوّنت عائلة القردة من نسل الجد الحطاب المعروف "بجسده القصير المتين وبخلقته الغريبة، فهو أقرب إلى القرد منه إلى الإنسان" أنظر: فؤاد التكرلي. المسرات والأوجاع. دار المدى للثقافة والنشر، ص5

تتأسّس هذه الفكرة المجازية عن عبد المولى منذ بداية الرواية في مضمونها وبنيتها كما سنرى لاحقا، فوصف الكاتب له كونه مختلفا عن الآخرين من حيث الأصل والتكوين له دلالته لا بدّ من التوقف عندها، فهذا المسخ " لم يعلم أحد من أي مكان قدم إلى تلك المنطقة الحدودية المفتوحة.. غير أنه كان يتكلم بلكنة أقرب إلى لكنة الهنود.. وتضاربت الآراء مع الإشاعات عن سبب قبول هذه الفتاة ابنة النجار، التي لا علاقة لها بالجمال، بقاطع الخشب القادم من المجهول والذي لا علاقة له هو الآخر بالشكل البشري. قيل إنه والدها، اراد التخلص من هذه المصيبة، وقيل إنها ثروة عبد المولى.. وقيل إنها رأت فيه شيئاً أضاع صوابها فوافقت." المسرات والأوجاع، ص 6

نجد في هذه الرواية صوراً ذات معانٍ أليغوريةٍ تم التعامل معها وتصويرها ومعالجتها في مشغل عمل الكاتب بطريقة "تكرلية" تختلط فيها الأوراق والصور والمفاهيم بحيث تتحمل قراءات متعددة ومتنوعة ومختلفة في آن واحد وتعطي الفرص لمختلف التأويلات والتفاسير.

ولهذا فقد يكون من غير المجدي البحث عن حياة الكاتب وتجاربه الشخصية ودورها في بلورة الأحداث الروائية أو تأويل واحد للبنية والمضمون الروائيين إذ إن ما نقرأه هنا ليس تصويرا للواقع فحسب، بل إعادة تصويره وخلقه والأصعب من هذا وذاك اقتحام الحياة وإعادة فلسفة ظواهرها بدءاً من الأكل والشرب مرورا بالجنس، هذه القوة العمياء وانتهاءً بالامتلاك أو أن تكون إنسانا أو لا تكون.

ولكنه قد يكون من المفيد للباحث الاستعانة بخلفية التكرلي الثقافية والروحية وغيرها من الأمور، التي جعلته يهتم بهذا الجانب دون غيره من جوانب العمل الفني وبخاصة الرمز والجنس. 

فالقارئ في حقيقة الأمر وكما سيتبين لاحقا ليس أمام مجموعة من البشر، أراد الكاتب أن يشبههم بالقردة في الخلقة والتكوين فحسب، بل في اسلوب الحياة والعيش وكما لو أنه يدعونا للنقاش حول السؤال الأزلي عن مغزى الحياة.

يتكرر وصف أشكال أفراد عائلة عبد المولى ".. كمجموعة من ممثلي السيرك" ص10 لدرجة أن زوجة سور الدين، بن عبدالمولى أصيبت بالذعر لسماع " نقيق" أطفالهم. ص11

يبدو أنهم يحملون رمزا (أليغورياً) غير عادي وليسَ جديداً في عالم التكرلي، الذي سبق له وأن قدّم لنا في روايته "الرجع البعيد" منيره، واحدة من أجمل المخلوقات الرمزية الروائية العربية.

حتى المكان: دربونة الشواذي "درب القردة" يبدو أنه موظف لتكريس هذه الفكرة الأليغورية المطلقة مع هؤلاء الناس المشكوك في أنسنتهم وإنسانيتهم كما سنرى فيما بعد.

تتكرس هذه الموضوعة باضطراد مع تصاعد بافَث (حماسة) السرد الروائي وظهور أبطالها وتفاقم الأحداث وتناقضاتها، حيث تصبح ولادة توفيق منحى أليغوريا جديدا يضيف للشكل المضموني الروائي دفقا تشويقيا في بداية السرد حيث يولد الطفل الجميل الإنسان الطبيعي توفيق ".. في الساعة الخامسة من فجر يوم الأحد الخامس عشر من حزيران 1932

أعتقد أنه من الضروري البحث في التاريخ الشخصي والخاص والعام عن هذا اليوم في العراق للعثور على ما يمكن إضافته لفهم الصورة الفنية ولتفسيرها ضمن السياق الأليغوري.

.. كان توفيق طفلا نادرا في جماله، فشعره الأسود الناعم منثور على جبينه، وعيناه واسعتان وتقاطيعه مرسومة بإتقان على صفحة وجهه الصافي البياض" ص17 و"توفيق يزداد وسامة وعنادا ومشاكسة"18 لدرجة أن عمتهم صاحبة الدار تغدق عليهم بسببه المال والهدايا والأكل. توفيق بادرة خير في شكله وحضوره، إلا أن الصورة تتغير كما سنرى فالعالم كله يشن عليه حروباً غير معلنة.

تحمل المقارنات من حيث الشكل والخلقة بين توفيق من جهة وأخيه القبيح عبدالباري وأقربائه الآخرين من ناحية أخرى، تحمل نفس المعنى والمغزى ف"ما أن بلغ توفيق الثانية عشرة من عمره حتى تساوى في الطول مع شقيقه عبد الباري الذي يكبره، كما نعلم بسبع سنوات والذي تجاوز سن المراهقة دون تغيير في هيئته التي لا تسر. ولم يذق توفيق من الحرمان ما ذاقه أغلب العراقيين باستمرار الحرب العالمية الثانية.." ص21، بينما نجده على عكس أخيه ".. طويلاً نحيفا.. بمظهر جذاب يملأ العين،..". ص22

وفي مكان آخر يتساءل توفيق نفسه ".. من أين جاء كل أولئك البشر ذوي الخلقة الملتوية" بينما يصفه الكاتب ب " الوضاء لم يكن يحمل شارة "الدربونة" على وجهه.. هذا الذي قرأ جده على رأسه القرآن". ص27

التأكيد على اشكال آل عبد المولى يتكرر في أكثر من مكان من الرواية وبإشارات واضحة لا غموض فيها، أنظر مثلا ص132

ولهذا فليس صدفة أن يذكر سانين قبل غيره من الأبطال الروائيين الذين تأثر بهم توفيق، فنحن إذن أمام إنسان من مستوى خاص في الواقع والفضاء الروائي، إنسان منصرف نحو الحاجات الروحية كالجنس والكتب. ص28

يدخل ضمن هذا السياق الأليغوري العديد من التفصيلات السردية بما فيها انتقال سور الدين "البعيد عن الفطنة" ص16، والد عبدالباري القرد وتوفيق من خانقين إلى بغداد عام 1931 واهتمام الأم بعبد الباري القبيح أكثر من أخيه الجميل وسرقتها ماله. أنظر ص263 وإتلاف رسائل آديل، محبوبة توفيق، من قبل المعتوهة كميله المهووسة بالامتلاك، "رسائلي؟ لماذا؟ ماذا عملت لهم؟ ص267، ورجل الأمن الأعرج، الأمي العادي وهوسه في الوصول إلى كرسي الحكم والسلطة ولكن ليس بدون متاعب "كرسي مدير العام بالوكالة انكسر تحته مرة أخرى" ص315 وصعود المحامي المسخ المقطوع الجذور ممتاز، الذي يستعير لقب اللامي والاعتداء على توفيق في خانقين ص283-284 وتصرفه في فاتحة آل قصابي ص381، إضافة إلى نهاية الرواية المتجسدة بعلاقة فتحيه وجنينها من غسان، الشخصية الموازية لتوفيق، والتي تذهب ضحية الحرب تاركة ورائها خمسين ألف دينارا. 

لكنها ليست رواية أليغورية كلاسيكية وعظية تعليمية ترمز فيها الشخصيات إلى الخير والشر، تتصارع فيما بينها وتكون النهاية سعيدة حسب مفهوم الكاتب للسعادة من وجهة نظره.

سنرى فيما بعد أن هذه المسحة الأليغورية غير مقتصرةٍ على الوصف الخارجي للأبطال ودرجة شبههم بالقردة فحسب، بل شملت مقومات الرواية الأخرى مثل الزمان والمكان وعلاقاتهما الهرونوتوبية ( الزمكانية) ونشاطات السياسة والحب والجنس والامتلاك. نلاحظ مثلا أن تكاثر آل عبد المولى يبدأ "بعد تأسيس الدولة العراقية الجديدة". المسرات والأوجاع. ص 11

لا شيء عند فؤاد التكرلي بدون مغزى، ويخطىء أي ناقد يتناوله بدون التعمق في مغزى كل حرف وصورة ونبرة، ومن هذا المنطلق يجب الاعتماد على التأويل الباطني وليس الظاهري لكل حدث وظاهرة وممارسةٍ.

تتضح هذه الفكرة الأليغورية في بنية الرواية أيضا من حيث اعتمادها على طريقتين سرديتين رئيستين: الأولى تقليدية والآخرى على لسان الراوي، أو السارد العليم، البطل اللغز توفيق وكتاباته ومذكراته، إضافة إلى الأساليب الثانوية الأخرى.

إذ إننا أمام سرد تقليدي، يقوم به الكاتب متنقلا بكاميرته لوصف تاريخ تطور عائلة عبد المولى وابنائه وأحفاده في خانقين حتى انتقال ابنه سور الدين إلى بغداد وولادة توفيق الرمز المجازي الكبير في هذه الرواية.

إن المتلقين لهذا النوع من الروايات يتعاطفون ويتفاعلون مع شخصية معانية، مدمرة، ضحية ومسحوقة مثل توفيق رغم مغامراته الجنسية، التي قد تبدو لبعضهم مجرد لهو وعبث، يتعاطفون معها بسبب صدقها ومرارة حياتها وقدرة الكاتب على استخدام لغة معبرة خاصة بها ذات إيقاع داخلي ونبرات شاعرية وحسية مرهفة.

ويُفاجيء المتلقي المتفاعل اثناء قرائته الصفحات الأخيرة لهذا العمل الفني ببقاء توفيق على حاله من الفقر والإفلاس حتى قبل نهاية الرواية بثلاث صفحات. قد يرفض المتلقي في مثل هذه الحالة نهايةً تعيسةً، يُشرّد فيها بطلٌ وُلدَ جميلا رائعا متعلما ذكيا ويبقى فقيرا وحيدا بلا مال ولا بنين، لا زوجة ولا ذرية ولا أهل. وهذا أمر مناقض تماما للتفسيرات الأليغورية الكلاسيكية الرمزية القديمة التي تفترض نهايةً سعيدةً لقوى الخير التي يمثلها هنا توفيق وغسان ونهايةً أخرى بائسةً لقوى الجشع والشر والخانعين مثل أم توفيق وثريا وآل القصابي والمحامي المتسلط المسخ ممتاز اللامي، الذي يلقى حتفه مع عشيقته نتيجة لصاروخ إيراني يسقط عليهما في خانقين فيضيع كل شيء.

هذه هي النظرة الكلاسيكية التعليمية لمثل هذه الطباع، لكننا أمام نص تختلط فيه الأوراق أو الطرق بحيث تبدو لي "المسرات والأوجاع" رواية معاصرة بمسحة كلاسيكية ليس في كيفية تناول الرمز فحسب، بل في طريقة السرد في الفصل الأول وفي الحدود الحسّاسة الفاصلة بين لغة الكاتب في كل العمل الفني من جهة، ولغة السارد بضمير الغائب ولغة الراوي بضمير أنا.  

ومع ذلك حدثت هذه النهاية السعيدة عمليا، ولكن بطريقة معاصرة ضمن وحدة سردية مفاجئة فيها الكثير من الفنية والتشويق ومقبولة ومتوقعة بالنسبة للمتلقي المتفاعل مع العالم الداخلي للنص، مفاجأة، ينهي فيها الرواية خير نهاية "أدخلت، مع ذلك، المفتاح الصغير في قفل الحقيبة الخضراء وأدرته كما يجب ثم رفعت الغطاء. كان الفجر، متسعا، أخاذا بألوانه الحمراء والزرقاء والصفراء، يتفتح ببطء على رقعة السماء المنبسطة باسترخاء أمام شارع أبو نواس، وكنت أسير على مهل، واضعا يديّ في جيبي معطفي، استنشق بعمق نسائم بقايا الليل الباردة..شاعراً كأن أعماقي تغتسل مثلما تفعل السماء..لم أتحمل البقاء بعد تلك الليلة البيضاء، فخرجت أتمشى وأحقق هذه المسيرة العجائبية على ساحل النهر، مستقبلا يومي الجديد". المسرات، ص460

يذكرني هذا الوصف الشاعري بطريقة وصف بطل رواية الرجع البعيد، الذي عقد العزم على العودة لحبيبته وزوجته منيره رغم إطلاق الرصاص بين المتصارعين على السلطة، فيصاب برصاصةٍ، لكنه مع ذلك في نهاية المطاف يستر شرف زوجته التي اغتصبت قبل عقد قرانهما، ذات الصفة النورانية والمقدسة بقدر قدسية وطنه العراق. لكن سلوك مدحت هنا أقرب إلى الواقعيةً وليس ألأليغورياً أسطورياً خالصاً، كما هو الحال لدى وليم فوكنر عند تصويره بطل" الصخب والعنف" (كوينتن) الذي يدّعي أنه هو من فضّ بكارة اخته ليستر سلالتهم والجنوب الأميركي كلّه، ولهذا لم يثق والده به! بينما يثق القارىء بسلوك مدحت كونه نابعاً من شخصيته المدينية المتفوقة رغم المعاناة النفسية الكبيرة والعميقة التي مرّ بها والعراق في شباط 1963. 

ولهذا ليس صدفةً أن الروائي فؤاد التكرلي يذكر رواية «سانين» للروائي الروسي ميخائيل أرتزيباشيف، الذي يعتمد على فلسفة الألماني العدمي ماكس ستيرنر 1806-1856 الأقرب إلى الوجودية وفكرة الحرية الفردية ورفض التقاليد المحافظة، والذي انتقده إنجلز شعراً!

ولهذا نلاحظ أن توفيق (المسرات) أكثر تحررا من مدحت (الرجع البعيد).

ولو افترضنا مثلاً أن توفيق "المسرات والأوجاع" لقي نفس مصير مدحت "الرجع البعيد" لاعتبرنا النهاية غير موفقة أو على الأقل غير متناسبة مع السياق العام وبافَث (شغف وحماسة) السرد كله وحماسته أو لفقد حديثنا عن طابع الشخصيات الأليغوري أساسه العلمي.

يقول توفيق "تذكرت غسان وما عمله معي. لم يكن إنسانا عاديا بالمرة، وها أنذا أتأكد من ذلك بعد رحيله الأبدّي. كان، بحياء لا يصدق، يخترق ببصيرته الحجب ويدرك نوع البشر الذين يعايشهم. ورغم كل شكّي، فإن معدنه الإنساني كان قد صُهر، كما يبدو، بتجربة عظمى صفَّت، بشكل ما، روحه وقلبه وفكره. أكان إذن على علم بكل شيء.. بكل النوايا؟.. وكيف يتأتى لبشر أن يعرف مالم يخلق بعد أو يصير؟.. نضد من الدنانير في لفافات محاطة بشرائط ومصفوفة بإتقان، ملكت، قبلئذ الوقت لتعدادها فكانت خمسين ألف دينار". ص461-462 أريد أن أقرر ما يجب أن أعمله بشأن هذه الثروة، ثروته، بشأن تلك الفتاة، فتاته، بشأن جنينها..بشأنها وشأني". ص463

يمكن للباحث ان يلاحظ بجلاء اللغة المفعمة بنبرات داخلية تتسم بالشاعرية والسمو والتفاؤل ومحاطة بالرهبة من اتخاذ القرار رغم أن الفجر ملون بألوان رائعة، ذات أبعاد رمزية.

ويمكن ملاحظة طريقة وصف الطبيعة والعالم الداخلي للبطل والجو النفسي والمشي ببطأ بدلا من حالات التسكع والتشرد والشعور بالجوع ومرارة العيش، التي لاحظناها عليه قبل استلامه هدية غسان النقدية، مما يؤكد رأينا حول الجانب الأليغوري في هذه الرواية ولكنها بالتأكيد ليست تقليدية كما هي في العصور القديمة والوسطى.

ويقول توفيق مختتما الرواية "أحسست بمواجهة الشمس والسماء ودنياي، بخفة روحي تزداد، وخطر لي بأني في نهار رائع كهذا قد أستطيع أن أفهم بعمق وان أنفذ إلى الخفايا التي استغلقت عليّ ليلة أمس. ولعلي، إذ أنشد بإخلاص مثال الخير والجمال، أكون أكثر قدرة على الاختيار الصحيح وأكثر صلابة في السير نحو هدفي.

فما دمت متأكدا بأني وغسان عشنا زمننا، الذي أتيح لنا بالصدفة، متحدين نفسا وعاطفة ورؤى، فلا بدَ إذن أن أتوصل إلى إدراك ما يُفترض أنه تمنى على أن أعمله، له ولها ولي. لا بد". المسرات والأوجاع، ص 464

أخيرا فإن هناك إشارات أليغورية عديدة موزعة على مختلف مساحات الفضاء الروائي في الحبكة والبنية والوصف الخارجي والداخلي ووصف الطبيعة وتطور الشخصيات وغيرها من السرديات التي مارست حضورها في هذه الرواية، والتي يمكن ويجب درجها ضمن هذا المفهوم.

يمكن للباحث التوقف عند الطابع الأليغوري لمختلف الشخصيات بما فيها أسماءهم، مثل رجل الأمن الأعرج سليمان فتح الله وكرسيه والمحامي المسخ ممتاز اللامي وآديل وأنوار وتوفيق وغسان وعبد الباري وكل القردة.  ويمكن مقارنة هذه الظواهر التي ذكرناها بكل اعمال التكرلي الأخرى، القصصية الأولى مثل "موعد النار وهمس مبهم والقنديل المنطفىء والوجه الآخر" وغيرها و"الرجع البعيد" و"خاتم الرمل" وأعمال روائية لكتّاب آخرين.

وفي الحقيقة أن هذا الموضوع يستحق دراسة كاملة، يمكن لها أن تعتمد على معالجة قراءات الكاتب وتجاربه الشخصية لا سيما وأنه عمل في القضاء العراقي مما سمح له الاطلاع على جوانب حياتية لم يكن يمكن لزملائه الآخرين من الكتاب العراقيين أن يطلعوا عليه.

 زمان الرواية

يبدأ الفضاء الروائي بظهور عبد المولي منذ بداية القرن العشرين حتى الحرب الأخيرة بين العراق وإيران "كانت دربونة الشواذي في بداية القرن العشرين قد امتدت وأخذت ابعادها..قبيل الحرب العالمية الاولى 1914-1918 بقي من الأبناء اثنان لم يتزوجا..". ص7-8

وفي ص 11 يشير السارد إلى أن العائلة تكبر بعد تأسيس الدولة العراقية كما ذكرنا سابقا ص11 وأن نور الدين ينتقل إلى بغداد على مشارف العقد الثالث. ص15

ويلاحظ القارئ أن الكاتب يحاول أن يربط الأحداث الشخصية بالتواريخ الكبيرة المهمة والأحداث التي تهز الأمة والعالم مثل الحرب العالمية الأولى والثانية وتقسيم فلسطين ومعاهدة بورتسموث 1948 والثورات أو الانقلابات العسكرية في 14 تموز 1958 و8 شباط 1963 و14 رمضان 1963 ونكسة حزيران مهتما بتبعات 1968 وما بعدها، التي تتجسد بممارسات رجل الأمن الأعرج سليمان فتح الله بشكل تصاعدي حتى اندلاع الحرب مع إيران عام 1980 كنتيجة لحالات الجشع والامتلاك والسيطرة متمثلة بممارسات عائلتي عبد المولى وآل قصابي وكميله وممتاز اللامي وخنوع جاسم الرمضاني وإسحق توفيق.

يقول السارد: ".. قرار ابنته الرزين ببيع دارهم في خانقين. كان ذلك غبَّ مقتل الملك غازي الأول وقبيل الحرب العالمية الثانية سنة 1939.. ” ص19 ويقول في مكان آخر من الرواية "ومرت أحداث تقسيم فلسطين والمظاهرات الشعبية ضد معاهدة "بورتسموث" أواخر 1947 وبداية 1948 دون أن تمس العائلة بسوء فعبد الباري ووالده منكبان في العمل وتوفيق بدا لوالدته أكثر إدراكا من تعريض نفسه لمخاطر مجانية إلا أن الحقيقة هي أن هذا الأخير لم يكن بهذه الرزانة التي توسم بها فقد خرج مع الطلاب الخارجين في المظاهرات إلى الشارع عدة مرات وهتف مع الهاتفين وشاهد الجواهري يلقي قصيدته محمولا على الأعناق". ص22

يحدث انتقال عائلة آل قصابي ضمن احداث 1948 ص23 ويصف كلية الحقوق عام 1952 ومظاهرات 1952 ص30-31  و"في سنة 1956، حين كان العالم يشتعل في قناة السويس والمؤامرات تحاك في الشرق الأوسط على كل الأصعدة اتخذ توفيق وأصدقاؤه وكلهم موظفون محترمون لا يتدخلون في السياسة قرار... للعب البوكر في أحد النوادي". ص47

كما يبدو من النبرة التي يحكي لنا بها السارد حكاياته بأن الرزانة أبعد من السياسة في هذا البلد الذي كما يبدو لا يعرف أحد حقوقه ولا يميزها عن حقوق الآخرين كما سنرى ولهذا فإن أبطال التكرلي على الأغلب لا يتدخلون في السياسة ولا أحداثها، لأنهم برأيي غير قادرين على صنعها بأنفسهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. لم يتعاطَ مدحت بطل الرجع البعيد السياسة ولا توفيق لكنهما يتميزان بالصدق والأصالة وبالمستويين الخاص والعام ونوع من السمو الاخلاقي.

أعتقد أن هذا الأمر يستحق عناية ودراسة خاصتين من قبل الباحث المهتم بعالم التكرلي وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى تكوينه الفكري والنفسي ورؤيته للعالم وموضوع نسبية التفاؤل والتشاؤم وغيرهما من المفاهيم. أبطال الروائي لا يقدمون على أعمال سياسية كانت أو عاطفية بدون شروطهم الخاصة بهم لفهم الأشياء العميقه بغض النظر عن إيجابيتها أو سلبيتها. في الحقيقة أن موضوع التفاؤل بشروط يجب أخذه على منتهى الجدية ومناقشته على أساس فلسفي وعقلاني لا عاطفي.

والزمن يصبح بتطور العمران والجشع والامتلاك مشحونا عنده في "المسرات والأوجاع" بتَبِعاتِ السياسة المدمرة وتصعيداتها وليس بأحداثها اليومية والمحلية ونشاطات أحزابها، كأن يأتي هذا الأعرج الأمي ليصبح رجل أمن ثم مديرا ينهي ويأمر ويساهم في إيقاف دورة العمل والإجراءات الإدارية وتعطيل الحياة، بل شلّها.

وما تكدس الرسائل إلا رمز استباحة المجتمع له ومصادرة آرائه، إلا أن التكرلي كعادته يفضل ان يصورها بطريقة غير مباشرة بعيدة عن نشاط الأحزاب والحزبيين والمظاهرات السياسية. أنظر ص 129، 139، 149، وأنظر حول فصل توفيق من عمله: ص185

كان من الواضح أن تبعات هذه السياسة في هذا الزمن العراقي المعاصر، الذي يتحرك فيه الفضاء الروائي تأخذ بالاتساع لتشمل الحياة الاجتماعية والسقوط الأخلاقي لتصل إلى نتيجة مدمرة تأخذ معها غسان، ذلك الرمز الضارب في الأعماق ليس بالنسبة لتوفيق فحسب، بل لكل الصرح الروائي كعمل فني.

وكان أيضا من الطبيعي أن يتفاعل المتلقي مع الكاتب بأن هذا السرد أو بالأحرى التسلسل التاريخي سيؤول إلى حدث كبير مثل الحرب "آلة الهرس الجماعي" كما يسميها التكرلي، حدث المحنة الكبرى، لا يمكن أن يمر عليه مرور الكرام بدون أن يرتبط بمصائر البشر وحياتهم فكان أن وظفه لخدمة بنية الرواية ونهايتها التي أعطت دفقا زمنيا جديدا لبداية جديدة، يولد فيها ابن غسان وفتحية وقد يحدث هذا في رعاية توفيق! ص 414

بنية الرواية:

عند نضج البطل توفيق تتغير بنية الرواية ويترسخ كشف الواقع مختلطا مع الأليغوريا والرمز ويصبح إنسانا لغزا، يربط العالم كله حوله وليس الأبطال الآخرين فحسب، بل أحداث الرواية كلها.

يصبح توفيق السارد مركز شد هام في بنية الرواية، تزداد أهميته بإضطراد وبشكل حماسي يشكل ما يدعى بالبافَث الفني. هذا البافَث أو الحماسة تتصاعد باستمرار صعود نجمه و"أُفوله" حسب مفاهيم القردة "الفولجار" المبتذله، ومع تحركاته وصولاته وجولاته الجنسية وتشرده في احياء بغداد القديمة والحديثة مستمتعا رغم التشرد بالمعنويات الروحية على الضد من انشغالات الرعاع الحياتية الضيقة الأفق.

ويلعب الكرونوتوب دورا كبيرا في تشكيل الفضاء الروائي وشد معماره من خلال التشرد والتجوال ووصف الأمكنة وربط الأحداث والشخصيات الأخرى بالبطل وببعضها بعض.

كما أشرنا سابقاً، يلتزم الكاتب في الفصل الأول بالسرد التقليدي، الذي يكاد أن يكون الجزء الأول من الرواية حيث تسود موضوعية الوصف باستثناء حالات سردية معينة تتسرب فيها تلميحات فكرية أو تصريحات تعبر عن وجهات نظر الكاتب الأكثر تعقيدا في مثل هذا العمل كما سنرى في أجزاء الرواية الأخرى.

الجزء الثاني من الرواية هو الأكثر تعقيدا لكونه يمد القارئ بقوة دفع خيالية بسبب دفق الأفكار والمفاجآت وتسارع الأحداث بيان غير ساذج أو بسيط لواقع ظاهره معقول أو يقوم على القيم والأخلاق بينما باطنه ليس كذلك.

من هنا تأتي أهمية شخصية توفيق في بنية الرواية فتصبح راوية الأحداث لكونها حيويةً ضاربةً جذورها في عمق أعماق الأرض والحياة والكون، بل كل الكون وشموليته من خلال انفتاحه على عالم الفكر عن طريق تحليله الروايات العالمية.

لا شيء في هذه الرواية، بل في كل أعمال التكرلي، يدخل ضمن ما اعتدنا على تسميته بالتلقائية والعفوية وغيرها من سمات الرواية الواقعية وفي مرحلتها وتجاربها الأولى بخاصة لأنه ينقح أعماله ويغربلها ويراجعها كثيرا ويعيد النظر فيها ويؤخّر نشرها، وهذا يعني أنه يطيل من أمد بقائها في مشغله، ما يجعله يدرس كل شيء دراسةً عميقةً ويحسب لكل أمرٍ حسابه.

تعتمد الرواية في بنيتها على محاور مضمونيه يتمركز أغلبها حول توفيق بخاصة عندما يصبح هو السارد العليم بضمير أنا، مثل محور توفيق وآديل وكميله وأنوار وفتحيه، الذي يتطور بدخول غسان عند نضجه ثم يتوسع فيشمل ممثلي سكنة حي العامل أهل فتحيه وغيرهم ثم يزداد اتساعا ليشمل الجميع تقريبا بمن فيهم جاسم الرمضاني، الباحث عن الانتماء.

فؤاد التكرلي صبور للغاية في تقديم الأحداث وبنائها ضمن سياق سردي متواصل، ويجيد اخفاء الصغيرة والكبيرة والبوح بها في الوقت المناسب دون أن يلمح أو يصرح بها قبل أن يحين موعدها. هكذا كان الحال مع ممانعة زوجته كميله السفر إلى باريس ثم يتضح أنها كانت على علم بعلاقته بآديل وأنها حرقت رسالة الأخيرة له. ص96

ويمهد الكاتب في الفصل الأول لبنية روائية ولغة جديدتين وشخصية ذات مستوى خاص، لدرجة أنه ينهي الفصل الأول  في نبرة يختلط فيها نَفَسُ توفيق متحدثا بلغة نحن. ص104

ويلاحظ القارىء أن بنية الرواية تتجه بسبب حماستها الخاصة نحو بنية المذكرات حيث يتجسد فيها الهرونوتوب، وكان من الواضح أن توفيق هو الذي سيأخذ على عاتقه هذه المهمة المتميزة بالوجد والمعاناة بسبب أهميته فيها (بنية الرواية)، لدرجة نستطيع القول إنها كلها تقوم على شخصيته الحاضرة أصلاً قبل ولادتها. وهذا أمر يحتاج في المستقبل إلى دراسة بإسهاب لبيان العلاقة بين العالم الروائي كله بتوفيق قبل ولادته من خلال المقارنة بين اللغة في الفصل الأول والأسطر الأخيرة منه من جهة وفي الفصلين الأول والرابع على لسان توفيق.

تمارس وحدات سردية في بنية الرواية استقلاليتها لكنها ليست منقطعة الصلات بسياق الرواية العام وبنائها، مثل قصة انتحار الدكتور عبد الجواد محمود. ص109

يتقن التكرلي تطوير حدثه من خلال سرد، يعرف متى يقتصد فيه بالمفردات، عن طريق "تسريب" المعلومات على شكل أقساط أو دفعات تعمل بشكل غير صريح على تزويد الرواية رغم طولها بدفقات تشويقية تشد القارئ فيفاجئ مثلا بأن كميلة حرقت رسالة حبيبته آديل منذ عدة سنوات، وأن توفيق يتعرض فيما بعد للاعتداء من قبل مجهولين في خانقين فيقول له الناس عنهم "يوما ما ستعرف..". ص250-251

حادث تعرض توفيق إلى اعتداء له أهمية كبيرة في بنية الرواية من حيث كونه بداية المواجهة نحو ذروة نهاية الحبكة وبداية ذات مستوى خاص، فيقول توفيق عنهم "سأفضحهم.." ص257

وإن هذا الحادث لم يكن عاديا أيضا في البنية الأليغورية، فهو أكثر من مجرد اعتداء شخصي، بل تقف وراءه قوة منظمة ذات سلطة طاغية. إذن فهي حلقة مهمة في بنية الرواية لا تختلف عن فصل توفيق من عمله، إذ إن الحدث الروائي أخذ بعد ذلك مجرى آخر من كل النواحي الكرونوتوبية.

يمكن أن نذكر في هذا السياق ان توفيقا هو الذي أصبح يتابع الأحداث مصورا إياها بكامرته وأن بنية الرواية أخذت تعتمد على الخروج إلى الفضاء وتعدد الأمكنة او دخولها في عالم الكتابة والروايات والمذكرات وكأنه ينظر إلى الأحداث بمنظار آخر ومن طرف آخر. ص281

كل شيء عند التكرلي موظف لوحدة السرد وبناء العمل الفني كله، والتلميح والتصريح من ناحية أخرى مثل قصيدة شعر ذات إيقاع صاعد مستمر وحركة داخلية تصعد الأحداث بشكل متناسب مع حماسة الأفكار، فإن الوحدة السردية، التي تصور ظهور ممتاز اللامي ومسلحيه لإجبار زوجته على العيش معه (ص 314 ) تشكل مفصلا هاما من مفاصل حبكة الرواية الصاعدة. وهي إضافة إلى ذلك توضح فكرة ما آلت إليه بنية المجتمع من دمار، بحيث يصبح فيه ممثل السلطة رجلا على أقربائه لا رجلا لهم فهل هي أليغوريا الحاكم المستبد الذي استقوى على رعيته وسامَهم الأمرّين؟

تمارس في مضمون هذه الرواية عدة قصص، لنسمها مفاجئات أثرت في بنيتها وجعلتها أكثر تماسكا من حيث ارتباطها بالقوة الداخلية المحركة للأحداث، من ذلك نذكر مفاجأة الكشف عن ممتاز اللامي باعتباره مخطِّطاً للاعتداء على توفيق، الذي أعطى زخما كبيرا لبنية الرواية والحبكة السردية بحيث تضرب ضربتها في إدهاش القارىء وخلق دفعة قوية في المضمون كله.

وعبرت أيضا عن قدرة التكرلي الرائعة في التلوين بعدة ألوان. هذه الفعلة الخسيسة لممتاز اللامي تقول للقارىء إنه لا زال هناك الكثير من الأحداث وإن مسار البنية لن يكون بسيطا او عادياً، وإن هؤلاء الناس ليسوا بسطاء وإنهم قادرون على أفعال جسام، في مجتمع آيل إلى السقوط الأخلاقي.  ص246 ونفس الشيء يمكن أن يقال عن أهمية ظهور آديل من جديد واختفائها وكأن الكاتب يقدم زخما جديدا لبنية الرواية من خلال التنقلات والمذكرات. ص265

تخدم المفاجأة السردية غرضين: الأول تشويقي، يشد بنية الرواية، والثاني فني بما تحمله من معانٍ ذات صلة بالمغزى الفني العام "البشر يا أستاذ توفيق تتملكهم نزعات الشر دون أي سبب معقول.. حتى السيد كاسب بذاته يخشى من المحامي ممتاز ويتجنب تدبيراته.. لا تنتظر من أحد يحترم شرف غيره..إنها سلسلة خفية سوداء من رغبات الاشتهاء لزوجات الآخرين..". ص272

مفاجأة ظهور غسان هي ايضاً ليست عاديةً، وتحمل نفس الأهمية في البنية والقصد الفني وإلا فماذا سيكون ترتيب الحبكة لو كان مفلسا أو لو لم يظهر نهائيا ولم يتعرف إلى فتحية ولم تحمل منه جنينها؟

ظهور غسان أعطى أيضاً دفقا قويا للغاية لبنية الرواية إذ بظهوره تمت أحداث ممهدة لبداية النهاية ومناقشات كثيرة وجميلة عن القصة والفلسفة وتحركاته بين الأهل والجبهة وحي العامل. ص286، 326

هناك مفاجآت أخرى مثل معرفة العائلة بملاحقة توفيق لأنوار بحيث يخبره أخوه" ألا تكف؟"  قبل نهاية الرواية ص420 ومفاجأة إعطاء جاسم الرمضاني وصية عميد أسرة آل قصابي لثريا الجشعة بدون مماطلة حنقا عليهم، إلا أن الكاتب لا يترك هذا الأمر بدون متابعة فيسلط عليه الضوء ويأخذ حيزا تشويقيا مهما في البنية. ص384 وص388

مفاجأة الالتقاء بين توفيق وجاسم الرمضاني في مقهي بغدادية لها أهميه اكبر في البنية والمضمون من حيث كونها تعطيها زخما جديدا قبل النهاية وتقدم للكاتب فرصة إعادة النظر بكل ما جرى ولكن ليس للاهتمام بالأمور الجانبية بل بما هو أعمق وأعم وأشمل مثل المال والجشع وآل قصابي والخير والانتماء والشر. ص407 لاحظ أن توفيقا ينتهز الفرصة في هذا اللقاء بمقارنته بمسخ كافكا "أهو ممسوخ حقاً". ص 409

أما مفاجأتي موت غسان في جبهة الحرب، أنظر: ص445 وتركه الصندوق المليء بالدنانير لتوفيق، أنظر: ص 459 فهي الأكثر إيذانا بنهاية البنية الروائيه والكشف عن آخر حبكة لآخر محور: توفيق -فتحيه وجنينها -غسّان،

اللغة:

"إن الكلمة شيء خطير لا يجب العبث به" أحد أبطال مسرحية "الصخرة والطوف" لفؤاد التكرلي. ص 14

يقول فؤاد التكرلي في مقدمته لكتابه المسرحي "الصخرة والطوفان" "سحرني منذ البدء كلام البشر، أعني التعبير بواسطة الكلام، ثم أسرني أن أكتب الحوار بين شخصيات في مكان ما: ان يتبادلوا الكلام والأفكار وأن يشيد من ذلك بناء أو أن يخط مسار.. " أنظر: فؤاد التكرلي. الصخرة والطوفان. مختارات فصول. القاهره، 1989 ص 5

والتكرلي في حقيقة الأمر ايضا لا يعبث بالكلمات في كل أعماله ويعرف كيف يجيد استخدامها في مكانها المناسب، فلغته تتميز بالحساسية والموسيقى الداخلية والتناغم والبوليفونيا والشفافية والعمق والدقة والمتانة والقدرة على خلق التركيبات أو التشكيلات اللغوية المتعددة والمتنوعة وتجاوز اللغة التقليدية. يتميز الكاتب هنا أيضا بقدرته على استخدام اللغة العربية الصريحة في فلسفة الأشياء والإفصاح عن العالم الداخلي لأبطاله وفلسفة االظواهر وإعادة خلقها بطريقة فنية رغم الشروح والتأويلات والتبريرات كما حدث في روايته الثانية "خاتم الرمل" لكنه لم يقع فريسة آفة الإنشاء والتقريرية والمباشرة. تتكرر في رواية "المسرات والأوجاع" مفردات مثل التقزز، السحق، الدوس، إنسان مُداس، مهان مكدوم الروح، الموسيقى، الأحلام، التطهير، افعال حيوانية بطرق إنسانية، اقتناء الأشياء، مشمئز، زاهد، كاره أنظر صفحات: 157، 167، 170، 182، 221، 281، 282 ، 283، 422، 424  وهي مفردات يجب التوقف عندها و متابعة تطورها في السرد كله منذ بدايته حتى نهايته، لأننا أمام رواية عميقة تتناول الإنسان من الداخل، ليست عادية بل نفسية وفلسفية.

استخدم التكرلي في هذه الرواية لغة متينة مختصرة مكثفة وموظفة لمفرداتها بالكامل و في بعض الحالات وحسب الضرورة، التي يصور فيها نفسية البطل. استخدم عدة افعال مع فاعل ضمير مستتر تقديره هو أو انت، مثل "واستجابَ وتساهل وتغاضى وتعامل وتراضى واسترخى، من أجل أن تكون الحياة ممكنةً.. ”. ص 203

وفي مكان آخر من الرواية يقول الراوي عن آديل:" يتحدثان ويتناجيان ويبكيان أحيانا ويتبادلان الحب المستعر ويتساءلان..". ص268

ويقول عن فتحية بعد وفاة غسان وهي حامل منه: "كانت سعيدة وشقية وقلقة بشدة ومنهوبة العواطف ومشتتة وخائفة..". ص379

ويصف القصابي بعد موته وفي فاتحته: "كان في الجو عنصر لإضحاك لا يثير الضحك، فهذا الإنسان، عميد آل قصابي المزعوم، توفي بعد أن جاوز الثمانين من العمر واستوفى كل حقوقه واستولى على حقوق الآخرين أحيانا، وسرق ما استطاع سرقته و تزوج وأنجب وغشَّ وزنى وشرب الخمرة وكذب وظلم إخوته وتظاهر بما ليس لديه..ثم عاد إلى التراب الذي جاء منه..". ص 381

ولو تكررت مثل هذه الجمل بكثرة لأصبحت مملة ولكنها كانت كما أشرت مناسبةً لحالة الأبطال.

فؤاد التكرلي ينصت جيدا للغة الأرواح والعوالم الداخلية للإنسان وأحاسيسه ومعاناته الروحية والفلسفية وليس المادية فحسب، ولكن رغم سقوط الفكر والأيديولوجيات والأخلاق في العالم، الذي شهدناه ولا زلنا نشهد فصوله في هذا العقد، الذي تشترك فيه أطراف وقوى وبشر وقردة عديدة لتجويع شعوب بأكملها تحت مختلف الذرائع، رغم هذا كلّه فإن هناك لغزا يكمن في سبب عدم حدوث الانهيار الكامل وسقوط البشرية ونهاية العالم.

ينهي الكاتب الفصل الأول بلغة ضمير نحن على عكس الفصل كله الذي بدأ وشارف على الانتهاء بلغة سارد خارجي على لسان ضمير الغائب وهو هنا الكاتب أو صورته، ينهيه قائلاً "هذه الصفحات، السابقة والتالية، هي من أجل محاولة اكتشاف أخطائنا الشخصية التي اقترفناها فكبلتنا، وتلك الأخطاء التي لم نقترفها فزادت من تكبيلنا". ص104

كأنه بذلك يلتحم مع صوت توفيق في مذكراته، التي تبدأ في الفصل الثاني. أنظر: ص 105

في العملية السردية الأولى يشعر المتلقي بأن شخصا آخر غير الكاتب يقدم القص بطريقة تقليدية مباشرة فيها التلميح والتصريح متجنبا الحوارات والحوارات الداخلية وكأن راويا آخر يقوم بذلك أو على الأقل يعينه في تخفيف النبرة أو تشديدها. إلا أن لغة هذا الراوي او صورة الكاتب، الغائب في الفصل الأول، تقترب بالتدريج من لغة توفيق وعالمه، حيث يظهر ذلك من خلال الاهتمام بظواهر معينة أو الانحياز لها وفي نبرة الحديث عنها.

يبدأ الفصل الثاني بمذكرات توفيق وينهيه بإغلاق دفتر المذكرات ممهدا للغة روائية جديدة بعبارات جميلة تشير إلى استقرار الروح رغم كثرة المتاعب التي ستواجهه، أنظر: ص 200، بينما يأخذ الكاتب زمام المبادرة في الفصل الثالث ليطل توفيق بوجهه على القارىء في الفصل الرابع ليختتم الرواية بمعاناته.

الكتابة هنا نوع من التطهير أو ما يسمى بالكاثارسيس كما هو الحال مع قراءة الروايات ومناقشة أفكارها وتحليلها، فهي بالنسبة لتوفيق فعل حقيقي ونشاط روحي. "أن نضع مرآة الذات هي الكتابة. ما يهم حقا أن تكون الكتابة صادقةً ومصنوعةً بمهارة ودقة لكي تعكس الأمور كما هي، بدون تشويه" ص107، ويقول أيضا "أعدتُ قراءة ما كتبتُ.. ليس صحيحا أننا نقول كلّ شيء. هنالك خفايا لا نصل إليها، وعلاقات أكثر خفاءً تفوتنا على الدوام.. "إنها ليست الكتابة المكتوبة فقط، ما يهم، بل يتوجب قراءة الكتابة غير المكتوبة أيضاً" المسرات، ص108، أليست هذه هي هموم الروائي في مجال اللغة الفنية.

موضوعات الرواية وشخصياتها:

يورد الكاتب في نهاية الرواية مقولة سيوران، الكاتب الروماني" إني أستولي على الشيء وأحسب نفسي سيداً له، والواقع أني عبد له.. "ص467 ومقولة أخرى لباسكال "الإنسان قصبة، بل هو أضعف قصبة في الطبيعة، إلا أنه قصبة مفكرة.." ص465 وغيرها.

فهذه الرواية كما اشرنا لا تتناول واقع المجتمع بدون فلسفة الحياة، فهي بالتالي حول مغزى الحياة والصراع بين الخير والشر والجشع والسيطرة.

تتناول هذه الرواية تاريخ العراق منذ بداية القرن حتى الحرب العراقية الإيرانية، حيث نتابع تطور بغداد ثقافيا من خلال قراءات توفيق وعمرانيا بانتقال عائلتي القصابي وعبد المولى إلى مناطق بغداد الجديدة وفترة الستينات، التي شهدت ظهور طبقة المقاولين الجدد.

"المسرات والأوجاع" مقارنة جميلة ولكنها مضنية بين حياة البشر العاديين والقردة والأقزام والمقزمين والمذلين والمهانين وغشهم وتلاعبهم بمصائر البشر وهي مقاربه ومعارضه ومقارنة لحياة القردة بأشكالهم وطبائعهم وتصرفاتهم وأحاسيسهم الداخلية، هذا إن كانت لهم مشاعر بالأساس وحياة نوع آخر من الناس مثل توفيق وآديل وغسان وأبو الأدب.

هنا يمكن، بل يجب مقارنة شخصية عبدالباري وزوجته ثريا الجشعة وأبيها عميد أسرة آل قصابي الذي لم يكن أكثر من إنسان عادي فيتحول بسبب الحرب العالمية الثانية إلى رجل غني، ومن قبلهما أم عبد الباري، التي بخلت على توفيق بحبها وحنانها وسرقته ماله.

هنا يمكن مقارنة أبو فتحية الفراش المهاجر من الريف إلى بغداد ليتلذذ بأن يكون مذلاً مهاناً بحجة الإضطرار والفقر والجوع والعمل، وليضطر فيما بعد لبيع ابنته الوحيدة إلى رجل غني أكثر منه تخلفاً، وسليمان فتح الله، رجل الأمن الذي لا يجد طريقا لخروجه من ظلماته وعقده غير اقتناص الفرص وأن يكون آلة في يد القوى الشريرة للتجسس على الآخرين.

هذه الشخصية تصبح فيما بعد رمزا لما آل له المجتمع العراقي والدولة العراقية وتطور تركيبتها السياسية، حيث يطرد توفيق الحقوقي الرومانتيكي الأصيل الحالم العالم بينما يتبوأ الجاهل الأعرج، رجل الأمن الأمي سليمان فتح الله مركز الصدارة في مجتمع يتشرد فيه الأول محاولاً ممارسة أحزانه وأفراحه وطقوسه الروحية في مختلف زوايا الفضاء الروائي.

لا يترك التكرلي موضوعة أو شخصية من شخصياته دون عناية منه مهما كبر أو صغر حجمها. ولا يوجد في أعمال التكرلي شيء اسمه الصدفة فكل شيء هنا مدروس و"مهندَس" ولم يبق جانب ما خارج إهتمام الكاتب لا من حيث الوصف الخارجي أو الداخلي في بعض الأحيان.

حتى والد غسان الرسام، وزوجته سندس، والهاربة، التي لم نرها على مسرح الأحداث، والتي تجسد حضورها المهم في بنية الرواية وظهور ابنها عمودا هاما من أعمدة الرواية بسبب الإرث الروحي والمادي الذي تركته له فأفقدته نعمة النسيان وتركته فريسةً لمعاناته الروحية التي يحملها بقلبه أما ثروته التي يحملها في جيبه فلا يدري ماذا يفعل بها.

تظهر أهمية توفيق ومن بعده غسان من حيث كونهما يمثلان الصدق ويقفان على الضد من جشع الشخصيات السلبية كلها إلا أن الثاني يختار قلبه ويخلص لمشاعره، فيتعلق بالأول وعالم تولستوي حالما بلا شك بقيم الأمير بيير وناتاشا روستوفا ودوستويفسكي والدايالوجيا أو الحوارية والأفكار الدوستويفسكية.

عالم توفيق الروحي خليط من الأفكار الفلسفية في القيم والأخلاق والسعادة والعدالة يحاول أن يبحث عنها في الكتب فيستهويه سانين وبازاروف بطل "الآباء والبنون". توفيق متميز عن الجميع بشكله وجماله ولم يأتِ هذا صدفةً، بل لمغزى فني فتتعمق شاعريته ورهافة حسه فيزداد شعوره بالحزن لما يكتشفه من غش بدءاً من والدته التي سرقته حقه وأخيه مروراً بالمدير العام ومن يقف خلفه وانتهاءً بكميله زوجته المعتوهة، التي تطلقه بسبب فصله من الوظيفة.

لم يكن لتوفيق أحد يشعر به غير حبيبته والطفل الصغير غسان الذي كبر وصار مثله صادقا حساساً والروايات الجميلة التي يقرأها ويناقشها.

يتحول عالم الكتب إلى مزار بالنسبة لتوفيق، محراب يصلي فيه، كاثارسيس تصعد فيه روحه وتتصاعد فيه بافَث الرواية كلها محققةً بهذا الشكل دفق خيالي مليء بالأفكار الفلسفية ذات الصلة الوثيقة بعالمنا الذي نجهل أسراره وحفاياه.

إن اللجوء إلى الكتابة نوع من الكاثارسيس والناستولجي بسبب سحرها وصدقها وإن اغلبها كان منتشرا في الخمسينات فيذكرها ويزور سوق الكتب في بغداد.

هذا التطهير الروحي والحنين إلى الذكريات والماضي يحدثان عند تأزمه وزيادة المعاناة النفسية والاقتصادية.

يقول توفيق عن نفسه "لست زاهدا بالحياة بل مرتدا عنها ولا أنا كاره إنما مشمئز منها.." ص158، ويقول في مكان آخر من الرواية "إنني عضو في المجتمع جرى بتره لأسباب لا تشرف أحدا" ص189، إلا أن توفيقا غير محبط رغم طرده من العمل ومن بيته شر طردة لأنه يشعر بالحرية ويقول" وقد خرجت من معمعة العلاقات المتضاربة، ولكن أين المهرب من الماضي العذب" ص 197، ويقول أيضا مبررا سبب شحوبه وضعفه: "الناس حولي يسمنون يوما بعد يوم فيبدو الفارق على وجهي". ص279 

تبدأ رحلة الروح والهموم والمعاناة في مذكرات توفيق، حيث يناقش معنى الكتابة والشخصيات التي يلتقيها ص 106-108، وكلما يقترب الكاتب من نهاية الرواية كلما تبدأ شخصياته بالإفصاح عن عالمها ومكنوناتها، ويحاول الكاتب من خلالها ومن ما يقال على ألسنتها من تلميحات توضح المغزى الفني فبينما يُرفض توفيق بشكل مجاني ومن قبل الجميع وفي كل الحالات نرى أن سليماناً الأعرج يصل إلى أعلى المناصب. أنظر حديث ابي فتحيه عن سليمان الأعرج. ص300-301

عند مناقشته هذه الروايات، يركز توفيق على ضرورة أن يكشف الروائي عن أسباب سلوك الشخصيات ونجد أن التكرلي يبني الشخصية بشكل تدريجي بحيث يبدأ باتخاذ سلوك طريق آخر غير أقربائه كرد فعل على تعامل والدته معه منذ صباه.

ابطال الجيل الثالث أو الرابع من عائلة عبد المولى وشخصيات الرواية الشباب بشكل عام أمثال نجيه وسلوان وغيرهما لم يكونوا ثانويين بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فهم  أيضا يلعبون أدوارهم في نسق الرواية وبنيتها المضمونية.

إلا أن غساناً هو الأكثر دمارا وعذابا من أفراد هذا الجيل وكأن الكاتب يريد أن يقول لنا بأنها عذابات روحية أزلية تنتقل من جيل إلى آخر. فهو في حقيقة الأمر امتداد لتوفيق، يقف على الضد من كل تفاهات الشباب فيسقط ضحية بؤس التفكير والتدبير وهمجية محرقة الحرب أو آلة القتل الجماعي كما يسميها التكرلي.

ولكن هذه الأجيال لم تصوَّر على طريقة آل بودينبروك لتوماس مان ولا ثلاثية نجيب محفوظ، التي لم يستهوِها توفيق على عكس الحرب والسلام التي تعد برأيه عملا عملاقا بسبب زخمها بالتولستوفشينا. ونشير في هذه المناسبة إلى أن التكرلي نفسه لم يكن معجبا بنجيب محفوظ.

وهل هناك عمل يضاهي اليوم ملحمة "الحرب والسلام" التي أعاد تولستوي كتابتها إحدى عشرة أو ست عشرة مرة، المشبعة بالفكر الإنساني وحماسته رغم مرور ردح طويل من الزمن عليها ذلك لأنه شهد معاناته الروحية من المجتمع والكنيسة وآلامه لتعاسة فقراء الفلاحين في المجتمع الروسي وفي ياسنايا بوليانا، فما كان يقدر على فعل شيء آخر غير بثِّ احزانه في أوراق كتبها على مكتبه القابع في غرفته المغلقة داخل أكثر من حجرة في بيت كبير يقع وسط ريف روسيا الجميل بمناخاته وعذاباته وجبروت سكانه. إنها حالة وجد حقيقية تشبه معاناة الصوفيين وكان توفيق كذلك رغم أنه أنكر زهده.

تتجسد موضوعة الناستولجي في التشرد ووصف الأمكنة القديمة، والمقاهي واللقاء بأبي الأدب الرجل الخمسيني والحديث عن الخمسينات. وعلى الرغم من أن شخصية الرجل المسن ابو الأدب ظهرت على مسرح أحداث الرواية في نهاية فصلها الأخير، إلا أنها هي ايضا أخذت حقها من الراوي توفيق، فلم يتركها تمر أو تغيب عن باله رغم اختفائها وكان لها دور ومغزى في ذروة بنية الرواية.

موضوعة الناستولجي هنا وفي روايات أخرى للغيطاني وفرمان على سبيل المثال لا الحصر، تختلف من حيث المنحى والعمق عن بعض الروايات، التي اهتمت بها من حيث كونها في "المسرات والأوجاع" إنسانية بمعنى الارتباط العميق بالعالم الداخلي للإنسان وروحيةً شموليةً غريزيةً وليست تاريخيةً ولا سياسيةً، ولهذا نرى أن الجنس يأخذ حيزا كبيرا جدا لدرجة أنه قد يحصل لبس في فهم الامور المرتبطة بهذا الفكرة.

بوضوح أكثر نقول إن الجنس في هذه الرواية يتميز بطابع خاص أكثر من كونه رمزاً كما اعتدنا عليه في عدة روايات بما فيها نتاجات التكرلي السابقة.

الجنس هنا صرخة احتجاج واستغاثة وطلب العون في الوقت نفسه وحالة ضعف إنساني وتشبث بالحياة وتعويض عن الخسائر والفقدان.

إنه حالة وجدٍ روحيةٍ وارتباط البطل بالطبيعة في الحالات الثلاث إذ إن آدِل ملاك بريء غير خائنة لبعلها حيث اعتبرت عشيقها توفيق زوجاً لها، اما فتحية فهي الريف والضحية بينما تتجسد في أنوار الصدق والجمال الجبليين. هل هي تكملة للصورة الأليغورية التي تخطر ببالنا حيث يتآلف الشمال بالوسط والمسلم بالمسيحي؟

هذا أمر هام لا بدَ من الانتباه إليه لا سيما وأن توفيقاً لم يكن من حيث المظهر والخلقة يشبه أخوته وأقربائه أشباه القردة، فكان منذ ولادته يتمتع بجمال له خصوصية أكثر من خاصة وهو نفس الأمر الذي نراه في وصفه لآدِل وأنوار المنوّرة باعتبارهما ملاكين او فيهما صفاء البهاء والنورانية على عكس فتحية المفتوحة شهيتها على كل شيء مما يعطي الناقد حق القول بطابعهن الأليغوري.

هذه الأليغوريا العميقة اشبه بِطُرُقِ حياة البطل ووحدانيته وتشرده في هذا العالم وهي بالتالي عمود هام من أعمدة الرواية.

فالجنس غير مهم في هذه الرواية عندما يتم في بيوت الدعارة كما هو الحال في بداية السرد ولا يصوره الكاتب كممارسات حب أو غرائز جنسية بين الأبطال الآخرين مثل عبد الباري والقصابي وأبو فتحيه وكاسب وممتاز اللامي والآخرين.

ألا يشكل هذا الأمر ظاهرةً في الرواية تستحق التوقف عندها ودراستها بتفصيل دقيق وعلاقتها بحالة البطل وانكساراته الروحية وانهزاماته في حروب خفية لم يخضها ولم يعلنها أحد عليها.

الجنس هنا أمر غير عادي ولا بدَ من فهمه على أنه ليس روتينياً بدون مغزى وأن عقم توفيق ليس أيضاً بدون دلالات، إذ إنه غير مصاب بالعقم الحقيقي، بل بعدم الاتحاد الحقيقي مع كميله أو فتحيه.

لقد أولى فؤاد التكرلي موضوعة الجنس عنايةً كبيرةً وحملها رموزا خاصة، على الباحث أن يتعمق كثيرا بدراستها، وهي في حقيقة الأمر ليست دائما بهذا القدر من الوضوح بحيث يمكن سبر أغوارها أو الوصول إلى مغزاها الفني.

لقد تناول الروائي الجنس في قصصه القصيرة بجرأة مثل قصة "همس مبهم" 1951، التي يقول فيها بطلها عن أمه" كانت رائعة في كل شيء.. لكنها أمي، وكنت أشعر أنني أحبها، لكنها كانت تحزنني وتؤلمني..لِمَ يجب أن تكون الأم فاضلةً ذات تربيةً راقيةً":

أنظر: موعد النار. مجموعة قصص قصيره جمعها وقدم لها توفيق بكار. تونس دار الجنوب 1991

وفي قصة "القنديل المنطفىء" 1954، حيث يصور الأب يضاجع بنتاً عمرها ثلاثة عشر عاما ذهب أبوه ليخطبها له فرفضوه فأخذها لجبار ابنه من الناحية الرسمية. موعد النار ص 108 أو في "التنور" حيث تقتل زوجة الأخ بسبب الجنس غسلا للعار. موعد النار. ص 127

هذه الطريقة في الكتابة عن الجنس باعتباره أهم حاجة روحية إنسانية عند البشرلم تكن مقبولة باستمرار في العراق من بعض مجايلي التكرلي أو نقاده.

ولكن ماذا يقول الكاتب نفسه عن الرمز والجنس؟

يقول فؤاد التكرلي "الرمز لا يوجد في العمل الأدبي، بل في الإنسان، وهو - الرمز - إذ يبرز للقارىء - أو المشاهد- فإن ذلك بسبب احتواء العمل الفني على بذور تتعامل مع نفس هذا القارىء وتؤثر فيها.. إنني بعد المباشرة بالعمل، أحاول أن أضع بعض البذور الموحية، التي تعطي العمل الفني أبعادا يمكن أن تكون رمزية.." ويستمر قائلا عن الجنس "..ما يسمى بأدب الجنس او الإثارة بارنوجرافيك لا علاقة لي بهذا النوع من الأدب.. والدوران حول الجنس وتلمس الموضوع بخفة.. لاعلاقة لي بهذا النوع.. يبقى التناول الآخر للجنس، وهو التناول الذي يمكن أن تسميه، بشكل ما، التناول الرمزي، اعني أن الجنس، منذ البدء كان رمزا، او- إن صح القول- أمرا يمثل قوة عمياء وامام هذه القوة تجد بعض شخصياتي القصصية أحيانا نفسها، وسواء كان عليها أن تتصرف أم كان عليها أن تخرق القوانين الموضوعة، فإن تصرفها تجاه الجنس هو تصرف رمزي محض. وواضح جدا أن اختياري الجنس اللاشرعي أو اللامألوف إنما هو لزيادة شعور القارىء بالتناقض وبما يمثله هذا التناقض من قوة تستحق احيانا دون رحمة". أنظر: د. نجم عبد الله كاظم. الرواية في العراق. بغداد، 1980 ص246

ولعل في هذا القول ما يؤكد صحة أفكارنا عن الطابع الأليغوري لبعض موضوعات الرواية وشخصياتها والمرأة وموضوعة الجنس بخاصة كما سنرى.

تتحرك في هذه الرواية شخصيات نسائية عديدة، إلا أن التركيز بالنسبة لتوفيق يتم على حبيبته الأولى والأخيرة آديل المثالية ومن ثم كميلة المهووسة، التي تكمّل تعليمها وبيتها "المشتمل" ولا بدَ  لها إذن من زوج  فيقع اختيارها على توفيق وتصبح زوجته عنوةً، أما فتحية ذات الشهية المفتوحة على كل شيء خوفا على مستقبلها الغامض فتصبح ملاذه ومأواه الأخير حيث يتم اتحادها مع غسان ويتم لم الشمل، بينما تبقى سندس، زوجة أبي غسان نموذجا للمرأة البيتية التي بقي مع ذلك يحلم بها.

وسنلاحظ أن لكل واحدة من تلك البطلات خصوصيتها وسماتها، فشخصية آديل".. لا أشك أن تلك الحورية كانت مرسلة من السماء إليه، وإلا فكيف يمكن تفسير الأمور؟". ص35 

آديل امرأة من صنف آخر فيها نورانية، هذا ما سيتأكد في الصفحات القادمة.

"ولا يزال مضطربا بسحر غامض تملكه فجأة وهو يقابل تلك المرأة/ اللغز بعد هذه السنين الطويلة" ص51، إذن فإنها امرأة ليست عادية، حتى في طريقتها لقراءة فنجان حبيبها توفيق "أنت مسروق.. كيف يسرقون من له وجهك؟ ص54 "..إنك مسروق..أنت خسران مع الجميع إلا معي يا حبيبي". ص66

فهي هنا تستقرأ طالعه بنبرة فيها البراءة والصفاء فيشير لها بطريقة رفيعة فيها السمو"وتذكّرَ آديل..يا للمخلوقة الملائكية..". ص55

تتمثل شخصية آديل هنا أكثر من كونها امرأة يشتهيها توفيق، بل هي رمز عميق يظهر بوضوح في ذكرياته عنها بعد الفراق والأوجاع التي يعاني منها فهي مسراته"..حين نظر إليها عن قرب، في الظلام الشفاف، ورأى بغموض عينيها ولون جسمها الوردي...سكران بعطر بشرتها ورائحتها وبدفء وجودها هي، هي آديله العزيزة، سالت الدموع خفيفة من عينيه وانفتح قلبه...شعور فذ من الطمأنينة المطلقة.. خلال الأيام التي قضاها معاً كان يحس بنفسه مملوكا ومالكا لها، هذه المرأة التي منحته سعادة عظمى لغير سبب مفهوم تماما..لم يعد قادرا على الاقتراب من فتحيه أو على اشتهائها". ص287-288 آديل روحه وموسيقاه الداخلية.

بل إن توفيقاً يقارن لأول مرة في الرواية وبعد أن فقد كل شيء، بين كميله وآديل وفتحيه وسندس المرأة العائلية المستقرة "تسلل إليه شعور غامض، وسندس جالسة معهما بانه يفتقد حقا وجود امرأة من هذا النوع في حياته..سندس وحدها، هذه المرأة الهادئة المبتسمة، هي القادرة على تضميد جراحه وانقاذه". ص302

لكن آديل تبقى هي الأكثر حضوراً من حيث الوصف الخاص بالألوان بطريقة شاعرية عذبة"..اصطبغت الغرفة كلها بصبغة ذهبية وردية من جراء ما كان يشع من ألوان جسمها. اقترب منها يتحسس برفق وتعبد، ذلك التكوين الساحر، كانت تنظر له برقة نظرات تفيض منها المحبة والاندفاع..كان يرى إلى صفحة وجهها اليسرى وأذنها وأنفها وفمها وكله بهجة..رأى فيهما اصداء رؤى تستجيب لدلالات الحب..همست..لأنك زوجي من الأزل فأنا لا أخون بحبك أحداً..أنت تسربلني بعواطفك التي ولّدتُها فيك.. كانت على الطرف الآخر من النقاء والصدق والاستقامة..هل ستبقى آديل إذن جرح حياته النازف ولغزها الا بدّي وجنتها المفقودة؟". ص311 

نلاحظ أن الكاتب اعتمد على تطور البنية والحبكة والأحداث في إضفاء الصفات المختلفة على آديل، أقصد بها طريقة: لقاء- فراق- لقاء-  وبافَث العمل الفني كله. هذا الوصف يذكرني بطريقة تعامل الكاتب مع منيره ومن قبله الأديب الراحل غائب فرمان مع بطلته مظلومه في "القربان".

ونلاحظ ايضا أن آديل توصف بعمق وشفافية ورومانتيكية ذات مستوى خاص في تأزم البطل ومقاومته الاندحار في الحياة وحصد الفشل على كل الأصعدة وكأنه يدفأ عظامه بذكرياته عنها، يختارها هي بالذات ليقرأ عنها في مذكراته بعد أن يرى خصلات شعرها " مسترخية على الورق. يا ألله كل هذا الوقت وقطعة آديل تستقر في هذا المكان المهمل..كانت لا شك، تاريخا شخصيا لا يهم أحد، إلا أنها، رغم ذلك، كانت تملك من التفرد ومن محاولة التخلص من القيود، ما يمنحها بعدا استثنائيا يخص البشرية منذ الخليقة". ص403

يتضح البعد الاستثنائي منذ الخليقة لشخصية آديل في ظهوره في كل الكرونوتوب الروائي بشكل متناسق مع بافَث البطل، الذي هو أيضا من مستوى خاص، وهذا ما يمكن أن نراه في منيره "الرجع البعيد" وفي الأنوثة وهاشم في "خاتم الرمل".

أنوار هي أيضا منوّره ولها خصوصية، تصبح موضوع منافسة بين ثلاثة رجال: الأول زوجها والثاني توفيق والثالث المحامي والقائمقام المتسلط. يقول عنها الراوي " كانت قريبة مني بصمت، وكانت لي صديقة وحبيبة وأماً عطوفاً، وما كان من الممكن البته أن تخطر لي عنها فكرة خبيثة عن الجنس أو غيره، ابدا فهناك حدود لكل شىء". ص332

وليس صدفة أيضا ان يعجب بأنوار ويتعلق بها فهي ليست لزوجها الذي خطفها من الجبال وليست لذلك المعتوه المتسلط ولكنها تضع حدودا لعلاقتها مع توفيق مكتفية بتسمية ابنها على اسمه"..إذا بي أرى أنوار تبزغ خارجة..وهي تحمل طفلها الجميل..صافحتها رغم ارادتها ولثمت سمييّ من خديه.." ص335 ويقول عنها ".. هذه الإنسانة المخلصة الصافية القلب..". ص338

ومنذ الوصف الأول لأنوار نجد أن قصتها ليست سردا عاديا ويتملك المتلقي الواعي شعورا بأن هذه القصة ليست طارئة وأنها لن تنتهي بهذه السرعة وأن خيطها المضموني سيلعب دورا في تشييد المعمار الروائي ".. لاحظتها بين الجمع يضيء وجهها أو يكاد، بنصاعة بشرته وبياضه، وكانت عيناها السوداوان طويلتين ذات اسرار عميقة..جبلية ساحرة..فسحرتني لكنتها وحركاتها، ورأيت حاجبيها الدقيقين يتحركان عند الحديث حركات مثيرة..بدت كميله إلى جنبها منطفئة تماما..كانت "أنوار" مطلقة شعرها الأسود..مثل أميرة غجرية تصدر أوامرها". ص 133

وكان من الواضح أن قصة أنوار وإعجاب توفيق بالحركة الإلهية من حاجبيها لم تكن مجرد وحدة سردية لغرض التشويق الجنسي، بل ذات بعد رمزي ودلالات اليغورية مثل الطبيعة، باعتبارها جبلية وخاصة عندما يصورها حافية، لابسة الحجل الذهبي ص133 ويصفها "بالحوريه" ص 139 التي يجب أن تُخصّب لتحسين نسل أهل الدربونه العراقيين، لكن من قبل من؟ بالتأكيد من قبل توفيق الجميل المحيا. ويتكرر وصفها على انها جميلة، ساحرة، مضيئة مثل اسمها "كانت أنوار الجميلة جالسةً..تضيء كاسمها.. مثل شمس تشرق في منتصف الليل.. مثل هذه الأنثى الرائعة يجب أن تخصّب لكي يرتفع مستوى الجمال بين هؤلاء البشر الممسوخين في دربونة الشوادي”. ص151

هذا الإصرار الكبير من توفيق على مطاردة هذه المخلوقة الساحره، كأنها صيد أو طريدته، تستمر على مدى عدة صفحات وهو بالتأكيد ذو مغزى فني يجب على الباحث دراسته بعمق. المسرات. أنظر: صفحات 242، 245، 248، 252 

إننا هنا أمام إصرار على تحقيق الذات والفوز بشىء مفقود من قبل شخصية إنسانية عميقة ومليئة لكنها مهمومة ومكدومة الروح ومسروقة على كل الأصعدة. أما فتحيه فعلى الرغم من كون أهميتها الرمزية تكمن في أنها ريفية إلا أنها لا تصل في وصف الراوي لها إلى مصاف آديل، فهي جائت إليه طالبة المساعدة، وهي ابنة فر‍‎ّاشٍ ينحدر من الريف عانى من الذل والفقر والجوع، إلا أنها مع ذلك فتح بالنسبة له فقد وحدّت "غسّانه" بجنين تحمله في أحشائها سيقوم بالتأكيد بتبنيه. إنها مفارقة ومفاجأه ولكنها ضرورية لاكتمال الصورة الأليغورية والمضمونية الجميلة.

توفيق والشخصيات الأخرى

هل اختار الكاتب توفيقاً ليضفي عليه مجموعة هائلة من المجازات والرموز؟

هل اختاره الكاتب ليصبح دلالة رمزية على معنى الحياة؟

هل اختاره الكاتب ليصبح رمزا للإنسان الذي يريد محاكاة الطبيعة في نزوعه نحو الحرية، والثورة على القيم والأخلاق وكل ما يدخل ضمن مفاهيم فلسفة الأخلاق "مورال"؟

إنه الأقرب لصورة الكاتب وليس الكاتب نفسه، إذ إن للأخير عدة صور يعبر عنها بمختلف الطرق والأشكال والأنواع والحالات والاساليب.

إذن فإن فكرة البطل الروائي باعتباره إنسانا خاصا شاهدا على العصر على حد تعبير باختين وغيره من منظرّي الرواية تتحقق في شخصية مسرات توفيق وأوجاعه بسبب عدم مقدرته الانسجام مع تقاليد مجتمعية محافظةٍ، هذا المعذب، المهموم بمعاناته الروحية، الخائب، الصامد أمام غزوات القردة والمقزّمين وممارساتهم المتخلّفة.

***

.............

* نُشر هذا المقال على ثلاث حلقات في جريدة القدس العربي بتاريخ 10، 11، 12 شباط 1999

 

مقدمة: الاناشيد الوطنية أشعار فصيحة ملحَّنة تنشد مع فرقة موسيقية في المناسبات الرسمية وغير الرسمية. وهي شراكة بين الملحن والشاعر فهما أبوا النشيد. وغالبا ما يكون الملحن أهم من الشاعر فيه، وبعض الاناشيد بلا كلمات كالنشيد الاسباني. وتظهر الدراسة ان الاناشيد الوطنية لم يكتبها شاعر كبير لقيامها على الموسيقى اكثر من الكلمات، ولا كتبها شعراء غنائيون معروفون، لانها شكل شعري غنائي يتميز بالبساطة والشعبية. وكذلك لم يلحن الاناشيد الوطنية ملحن كبير ضرورة، فاشهر الاناشيد لحنها ملحنون غير كبار أو مشهورين، فالاناشيد بسمتها البسيطة والشعبية تحتاج شعراء وملحنين خاصين ممكن تسميتهم (شعراء وملحني أناشيد).

وتحتاج الاناشيد عدا الشاعر والملحن الى مقوم ثالث هو: التلحين والآلات الموسيقية، التي يكون الطبل والبوق أساسا مهما فيها، لحاجة الأناشيد الى الصوت القوي الثاقب، وكان لإيقاع الطبول هيمنة على العقل والجسم معا. وكانت (فرق الطبلجية) تصاحب الجيوش في أغلب الحروب القديمة، فقد استعملها السومريون والبابليون في حروبهم. وعرفت حضارة امريكا اللاتينية الطبول والدفوف ومارستهما في الحرب. ومن هنا جاء مصطلح (طبول الحرب). واجاز الاسلام استعمال الطبل والدف للحرب، واستقبل الرسول الكريم بالدفوف في المدينة مع شعر مشهور (طلع البدر علينا) لتأثيره في تجميع الناس. ويستعمل الطبل في السلام والانس ايضا لتأثيره في الحماس والفرح، ومن هنا جاء المثل العراقي (على حس الطبل خفن يرجليه). أما البوق فلصوته الشجي العميق المعبر عن المشاعر العاطفية صار ضروريا في الاناشيد الوطنية، ولأن أدوات النفخ ولاسيما الأبواق، لا تعزف الا على الماجور والمينور وهما من مقام العجم، صار هذا المقام أنسب قالب موسيقي للأناشيد. ويذكر أن نشيد (بلادي بلادي) وضعه الموسيقار سيد درويش على مقام الرست اولا ثم اضطر الى تحويله الى مقام العجم لتمكين الابواق من ادائه.

عرفت الاناشيد الوطنية ظاهرة حديثة، متلازمة مع العَلَم؛ فالعلم يرفع مرفرفا بسمو الدولة، والنشيد يغنى مدويا بهيبة الدولة. ويعد النشيد الوطني البولندي (بوغورودزيكا) أقدم نشيد، فقد ظهر بين القرنين العاشر والثالث عشر. ويأتي بعده نشيد هولندا (فلهلموس)، كُتِب شعره بين عامي 1568م و1572م، أثناء الثورة الهولنديّة، ولحن قبيل عام 1626م. واعتمد نشيدا رسمياً لهولندا عام 1932م. وأقدم شعر تحوّل إلى نشيد وطني شعر النشيد الوطني الياباني (كيميغايو) كُتب بين عامي 794 و1185م، ولكنه لم يُلحّن إلا في العام 1880م. وكان نشيد فرنسا (المَرْسِيّيز) في العام 1792م أغنية حربيّة ثوريّة، واعتُمِد نشيدا رسمياً عام 1795م، وظهر نشيد صربيا ام 1804م. ونشيد بريطانيا ( God Save the Queen= الله يحمي الملكة ) اعتمد عام 1745م. أما أمريكا فقد كتب نشيدها عام 1814م وأقر رسميا عام 1931م. ونشيد روسيا القيصرية اعتمد عام 1833م، وابدل عام 1917 بمجيء الاتحاد السوفيتي، ثم أبدل بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي عام 2000، وهكذا كانت أوربا سباقة في صناعة ظاهرة النشيد الوطني.

أما في الوطن العربي، فكانت مصر أول دولة عربية عملت نشيدا وطنيا عام 1907، ثم تلتها الدول العربية: لبنان 1927، فلسطين 1930، عمان 1932، سوريا 1936، الاردن 1946، السعودية 1947، ليبيا والسودان 1955، الجزائر 1962، المغرب 1970، البحرين 1971، جيبوتي 1977، جزر القمر 1978، الكويت 1978، العراق1981، تونس 1987، اليمن 1990، قطر 1996، الامارات 1996، الصومال 2000، موريتانيا 2017. وتوجد أناشيد وطنية حماسية غير رسمية في دول الوطن العربي مثل (بلاد العرب أوطاني) و(لاحت رؤوس الحراب).

الا ان الاناشيد بوصفها حاجة ماسة وضرورة قصوى في اثارة الحماس عند الحروب، ورص صفوف المجتمعات في كل زمان ومكان، جعلها موجودة منذ القدم لها جذور وتمظهرات مختلفة في والاسلوب والطريقة، لذا فانها أسبق من ظهورها في العصر الحديث، وان استقرت ظاهرة لها قوانينها واسلوبها. وقد ذكرنا ان الشعوب القديمة كانت تقرع الطبول والدفوف، وتنفخ في الابواق. ويذكر ابن الاثير ان المسلمين كانوا في صدر الإسلام ينشدون شعر عنترة بن شداد لإثارة الحماسة في الجيش، وكان على المتنبي أن يؤدي مهمة اخرى غير مهمة شاعر الامير المادح، فقد طلب الامير سيف الدولة من الشاعر أن يلقي عليهم قصيدته قبل ذهابهم لساحات المعارك. فوقف المتنبي يقول محمسا للجند:

وَنارٌ في العَدوِّ لَها أَجيجُ

             لِهَذا اليَومِ بَعدَ غَدٍ أَريجٍ         

*

بِما حَكَمَ القَواضِبُ وَالوَشيجُ

             رَضينا وَالدُمُستُقُ غَيرُ راضٍ      

*

وَإِن يُحجِم فَمَوعِدُهُ الخَليجُ

             فَإِن يُقدِم فَقَد زُرنا سَمَندو      

***

الأستاذ الدكتور محمد تقي جون 

الايقاع والوزن والبحر

يخلط أغلب الدارسين بين هذه المصطلحات الثلاثة. وفي هذا الكتاب نسجل تعريفا مانعا جامعا لها لتكون أساسا موسيقيا في دراسة الاناشيد الوطنية.

الايقاع:

هو نغمة غير مطردة ولا مضبوطة وحرة غير مقيدة: مثل (قل هو الله أحد = فعْ فعَوْ مُسْتَ فعَوْ)، وحين يتكلم أي شخص فانه يطلق ايقاعات لا حصر لها.

الوزن:

هو ايقاعات متكررة نفسها، أي انه استعمال للايقاعات بضبط وانتظام. وبهذا تتحول الايقاعات الشاردة الى وزن محدد منتظم. والوزن بحر مقترح لا يسمى بحرا حتى يكتب عليه الكبار وتكتب عليه قصائد مهمة. أذكر في الماجستير أهديت الرسالة الى والدي شعراً، وجعلتها، حسب ظني آنذاك، على بحر جديد مبتكر مفتاحه

(مفاعلتن فعولن). والابيات هي:

لروحك في سماها

             لجسمك تحت أرضكْ

*

بكفّي وهي خجلى

             أقدِّمُ بعضَ فرضكْ

*

ازاهيراً من العلم وهي جَنِيّ روضكْ

*

وثغرا في البرايا

             يخبرهم بمحضكْ

*

وان اك منك بعضا

             فـ(هذا) بعضُ بعضكْ

وقد أعلمني الدكتور عبد الحسن المحيالي ان القرآن الكريم سبقني الى هذا في قوله تعالى (وفاكهة وأبَّا = مفاعلتن فعولن). ونحن نتفق مع الدكتور عبد الحسن على هذا التوافق، ونحتلف معه بأن ما جاء في القرآن الكريم ايقاعات ليست اوزانا او بحورا حنى تمر بالدورة الموسيقية التي نحن بصدد شرحها.

وحوَّل الرصافي ايقاع (مستفعلاتن مستفعلاتن) الى وزن حيث كتب:

سمعتُ صوتا للعندليبِ

             تلاه فوق الغصن الرطيبِ

*

اذ قال نفسي نفسي الرفيعة

             لم تهوَ الا حسن الطبيعه

وظلَّ وزنا مهملا حتى كتبت عليه نازك الملائكة ونظَّرت له وسمته (بحر الموفور) فصار بحرا. واشتهر أبو العتاهية بصنع الاوزان قيل انه (لسرعة وسهولة الشعر عليه يقول شعراً موزوناً يخرج به عن أعاريض الشعر وأوزان العرب) وقد صنع أوزانا كثيرة سجلتها كتب الادب مثل (للمنونِ دائرات يدرن صرفها) و(عتبُ ما لليالي خبريني وما لي) فلم يُكتب عليها فأهملت. ولكنه نجح في اختراع وزن صلح أن يكون بحرا وهو المتدارك. ولم ترق الاوزان الكثيرة التي صنعها ابن السميذع ورزين العروضي وغيرهم أن تصبح بحورا، وكذلك في الازمنة بعدهم وحتى زماننا، عشرات الايقاع يصنع منها اوزانا فلا يكتب عليها الشعراء الكبار او تكتب قصائد نابهة فتهمل تلك الاوزان. وان قدرة الوزن وطاقته الموسيقية وصلاحية نغمته للشعر والاغراض المختلفة هو الحاسم في نجاح الوزن وتحوله الى بحر.

البحر:

 وهو وزن قادر على التعبير شعرا بطاقة وجمال موسيقاه. فكتب عليه الشعراء الكبار واشتهرت فيه قصائد وعدت من المختارات. ابتكر العباسيون بحورا كثيرة أدخل منها الخليل بن احمد اربعة في عروضه. وهي: المضارع والمقتضب والمجتث والمتدارك. وكان عد المضارع بحرا اضطرارا؛ لانه سقيم الموسيقى، ولم يكتب عليه شعر جيد. والمقتضب محدود النغم يصلح للخواطر فقط، كتب عليه ابو نواس ابياتا اربعة، وقليل من كتب عليه وما كتب عليه. اما المجتث والمتدارك أو الخبب فبحرا جيدا الموسيقى يصلحان لبعض الاغراض.

سمات الاناشيد الوطنية

1- جاء النشيد الوطني من الخارج، فهو ليس ابتداعا عربيا؛ وهذا يعني ان املاءات كثيرة جاءت مع النشيد. مع الاعتراف بوجود اصول له في التراث العربي، وتلك الاصول هي مشترك عالمي؛ لان النشيد حاجة متطلبة في كل شعوب العالم، الا ان النشيد الوطني تطور واستكمل قوانينه في أوربا.

2- النشيد الوطني يكتب باللغة الرسمية للبلد، ويشترط فيه الانشاد بفرقة موسيقية، فهو يجمع بين الشاعر والملحن. والملحن أكثر فاعلية وتأثيرا في صناعة النشيج الوطني، وقد يعدل في كلمات الشاعر.

3- غالبا يكتب النشيد الوطني شعراء غير كبار أو مشهورين، وهو واقع شعراء النشيد العرب. بعض الاناشيد لا قيمة لكلماتها وقيمتها ونجاحها بقوة تلجينها ووجنا بعض الاناشيد وضعت على قالب لحني مسبق. وبعض الاناشيد وضعها شعراء غنائيون لحاجة النشيد الى غنائية عالية وللنشيد مبدعوه الخاصون، وليس كل شاعر قادر أن يكتب النشيد.

4- وقليل من الاناشيد كتبه شعراء كبار مشهورون كنشيد العراق الذي كتبه شفيق الكمالي، ولكن ذلك من القليل او النادر.

5- بعض الاناشيد قوالب لحنية وضعت عليها الكلمات. وبذلك نجد كثيرا من الاناشيد الوطنية مكتوبة على اكثر من بحر او ايقاع لان الشاعر راعى اللحن المتنوع.

6- قد يكتب النشيد على بحر معين، ثم يتصرف به الملحن فيتحول موسيقيا الى بحر أو ايقاع آخر.

7- بعض الاناشيد الوطنية العربية كتبت بغير العربية كنشيد الصومال وجيبوتي وجزر القمر، وهذه الاناشيد لا تدخل الدراسة لانها معرَّبة كتبت بغير لغة الشاعر.

***

الأستاذ الدكتور محمد تقي جون

إنَّ كلَّ ما في عالمنا قابل للإدراك أو التصور سواء أدركناه بذاته أم بتمظهرات أخرى، إذ إنَّ الحقيقة في طبيعتها الظهور مثلما في طبيعتها الخفاء، فمن متبنيات أدونيس في كتابه الصوفية والسوريالية، أنَّه يرى ما نسميه بالواقع الخارجي أو المادي أو الطبيعي ليس إلا جانباً من الوجود، فما وراء الأشياء إلا جزء آخر من الأشياء، ومثلما يرى سبينوزا الطبيعة هي جوهر واحد وأوحد، يتجلى في نسق لامتناهٍ ذي وجهين: وجه مادي ووجه لامادي (فكري)، ولكنهما وجهان لحقيقة واحدة، فكل عرض مادي ينهض معه عرض فكري، ويبدو أنَّ ذلك هو تمييز بين وجهين أو جانبين للعالم أو الواقع نفسه(1).

و بهذا الوعي يمكننا أنْ ندرس النصوص الشعرية بتمعّن وتدبّر للرؤى التي يمتاحها أصحابها، وبما تحمله من توجهات فكرية وجمالية تشكِّل مادة النص الظاهرة والمغيبة، ولعل الناقد الأدبي بما له من أدوات ومناهج تمكنه من قراءة تلك النصوص   واستحصال مكنوناتها وتفسيرها، وواحد من تلك المناهج التي تتعرض لقراءتها والتي يتبين عن طريقها دوافع الأديب ومكبوتاته اللاواعية هو المنهج النفسي، وهو واحد من المناهج النقدية التي تساعد في فهم العمل الأدبي وتفسيره.

وحين نطرقُ مغاليق شعر الأديب طه الزرباطي، نجد في نصوصه ما يساورنا إلى قراءة رؤاه ولا سيما النفسية ومسبباتها؛ كونها تنبثق من عوالم داخلية ذات مؤثرات خارجية، تتطلَّع إلى مشاهدات عيانية عبر لغة الشعر وتصويره الفني ما يجعلنا سبر أغوار الرؤى الأخرى أيضاً، ومنها الرؤيا الوجودية المعبرة عن حالات الاغتراب، والإحساس بالمرارة، وعبث الوجود، وسر المصير، كذلك نجدها تتجه إلى الواقع بوصفه مناخاً أصيلاً، وتربة عريقة تنبت الآمال والأوهام والضجر والقلق والأمن والاستقرار، ولعلها تتطلَّع أيضا إلى فتح آفاق الوعي العالي صوب ميتافيزيقا الأشياء والوجود والكون والإنسان، ولعل الشاعر في رؤية يونج يَعدُّ الإنسان موجوداً أسمى وإنساناً أرفع؛ لأنَّه يمثل الحياة النفسية للإنسانية(2). ويبدو أن ما يعانيه الزرباطي يعلنه في الكثير من قصائده متوسلاً الإعانة؛ كونه في أحايين يشك من أنَّه لم يصل إلى طقوس الكتابة الشعرية كما ينبغي، فهو من فرط مايريد أنْ يوصل ما عَنَتْ له نفسه لما يحيره، نراه يؤثر محو مايكتب؛ كون آلية القصد عند من لايعيش التجربة الشعورية كاملة، لايمكنه إيصال ما يريد إلى متلقيه، يجعله ذلك بكل تأكيد لايصل إلى المعنى القطعي، وفي ذلك يقول:

ربما أجدُ ما أقولهُ؛

حينَ أمزِّقُ أوراقي كُلها،

قدْ يُشوِّهُ الماءُ ما قالَهُ الحِبرُ،

وقدْ لا تتركُ القبلةُ شاهِدا على الشفتين.

إنَّ هذه الحيرة تمثل قلقاً نفسياً من فرط حرصه على أن يحقق النص الشعري بغيته وهي إرسال رسالته إلى متلقيه حين لا تتحقق التجربة الشعورية في الكتابة كاملةً.

فيتساءل:

لكن كيفَ تُخبئُ جُرحَ روحِكَ؟

كثمرةٍ ناضجةٍ تسقطُ؛

لينالها جائعٌ أرضيٌّ؛

لا يلوحُها جوعُهُ،

فالكتابة حين لاتقاس بمقاييس ما تدخره أعماقنا نجد القلق يجتاحنا، وهذا ما يُنبئنا به الزرباطي، وهو يعيش ذلك الإحساس المتوهج بالانفعالات، ويبدو أنَّ الثمرة الناضجة التي قصدها الشاعر لا يلوحها الجائع، هي الفكرة التي لا يفهمها مَن لم يعش تجربتها، فيعسر عليه فهمها.

أعاليها بعيدَةٌ كـفرحَةٍ ...

كالحلمِ نلجأُ إليهِ في يأسنا،

ونُحققَ ما عجِزْنا عنهُ ...

أعِنّا ياربُّ؛ كي لا نخسرنا؛

فالقيمة العليا التي لايمكن قولها هي كفرحةٍ، وكالحلم نلجأ إليه في يأسنا؛ كي يقلل من سطوته، بل ونحقق ماعجزنا عنه؛ كونه الشفاء الذي يداوي اليائسين والمهمومين، بيد أنَّ الشاعر حتى في نظم الشعر يحتاج العون؛ من أجل إيصال رسالته.

وفي نص آخر نراه يقول:

في سلمِنا،

في حربِنا،

في هروبِنا منّأ،

في عودتِنا إلينا...

ساعِدْنا أنْ نَجِدنا ياربُّ!

لكن ليسَ كما كُنا...

تَساقطُ التماثيلُ البرونزية،

تَتساقطُ أنامِلُ مبدعيها ...

كقصائدِ الحَربِ ...

كقصائدِ الغزل التي تُكتَبُ لِتُباعَ؛

لعاشقٍ آخر لِقاءَ كأسٍ

...

ياربُّ رِفقاً بأحلامِنا الممنوعَةِ...

فاليأس والقنوط كلاهما يُبددا أحلام الشاعر والفنان عندما يعيشا الحلم، فلا يمكن لهما تحقيقه إلا في المتخيل (الميتا واقعي) ما يفقدهما الكثير، أليس التماثيل تتساقط  كما تتساقط الأنامل التي نحتها حين لم يحقق هذا التمثال جدواه، كذلك القصيدة ولاسيما قصائد الحرب، وقصيدة الغزل التي لاتكتب من أجل فضيلة الحبّ، بل لأجل أن تباع كي تُغنى، أو تُكتب للترف أو الاستجداء. ولعلها لعاشق أفلس في عشقه إلا أنَّه يطمع أنْ تكون تلك القصيدة مستساغة في ذاكرة الحبيبة حين لاتحبُّ سوى الزهو بنفسها. وقد أشار إلى رجاء الرب عسى أن يحقق حلمه الميئوس منه.

ويظهر لنا الزرباطي من أنَّه مهووس بالشعر، بيد أنَّه يمتلك وعيًا سايكولوجياً، فهو يحدس ما في البعد الخفي للعالم الإنساني ويستدعي تجليات اللاشعور الجمعي ذلك في قوله:

أخرجُ من نصي،

مُبلَّلاً بالشعر،

مُترنِّماً بالكلمات،

مُتدفِقاً بالحروف،

أحلم أنْ أكونَ شِعراً؛

من أنْ أكونَ شاعِراً،

ليكتُبني الصخرُ،

ويعزفني الشلالُ،

كوردةِ دوارِ الشمسِ،

أبحثُ عن شمسٍ لحلمي.

فالشاعر العاشق للشعر؛ هو من يحمل في ذاته رؤية العالم الإنساني الخفي ويستدعي تجليات اللاشعور الجمعي غير أنَّ ذلك لن يتأتى إلا بالمعاناة والمواجد، في حين يستمد بعض الشعراء القوة من الإحساس بوجود الذات في طبيعة العمل الفني الذي يرجعه النفسانيون إلى الحالات الانفعالية والتجربة اليومية(3). والزرباطي لفرط سكره وهيامه بعوالم الكتابة الشعرية، يرى أنَّه حين يخرج من نصه، يخرج مُبللاً بالشعر مُترنَماً بالكلمات، مُتدفِقا بالحروف، فهو يريد أنْ يكونَ قصيدةً لاشاعراً؛ كي يكتبه كل ما في الطبيعة، يريد أن يذوب بكل شيء فيها (ليكتُبني الصخرُ، ويعزفني الشلالُ، كوردةِ دوارِ الشمسِ،أبحثُ عن شمسٍ لحلمي)؛ إشارة إلى الجمال الإنساني في الشعر، فحين يذوب الشاعر شعراً تتحول الكلمات إلى تفكير جمالي صرف إذ "إنَّ التفكير الجمالي هو أشبه مايكون بحالة نفسية سعيدة" (4). والنص الإبداعي الذي يشير له الشاعر الزرباطي يهب معناه الحقيقي مع التوازن الداخلي للذات التي أبدعته.

وفي قصيدة أخرى يقول:

أنا ذئبي

يُداعِبني ذئبي،

يُغازلُني،

يعانقني،

ويُسمعني غزلا ذئبياً.

فالشاعر يستشعر أنَّ في داخله ذئباً والمقصود شيطان الشعر الذي لايهدأ إلا أن يأتي للشاعر فيخالجه بفكرةٍ وبتفنّن في تشكيلها والذي يقصده هو الإلهام، -وهو واحد من عناصر تكوين النص- في حين كان الشعراء الأوائل يسمونه شيطاناً؛ ماجعل الزرباطي يستعير لفظة الذئب بدلاً من الشيطان، ولايخفى أنَّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وصف الشيطان بالذئب، فقال: (إنَّ الشيطان ذئب الإنسان يأخذ القاصية والشاذة) أما في رؤيتنا الحديثة أنَّ انفعال الشاعر يؤثر تأثيراً كبيراً في شحذ قوة التخيل وإعانته على إقامة تجربته الشعورية، إذ إنَّ العمل الفني يقيم في كل ماهو خيالي.(5). فالإيحاء الشعري (الذئب) ونشوة القول (الغزل – العناق) كلاهما ينتجان وحدة قائمة بذاتها تحققان نصاً شعرياً. وهكذا يقدح لنا الزرباطي شعراً يحدد فيه مسارات القصيدة المرجوة وطقوسها، وما خلفها من عناصر وإرادات تُقوِّمُ إنشاءها؛ لتصل إلى متلقيها مثلما يريد.

نتمنى للشاعر الزرباطي مزيداً من النجاحات في مسريته الأدبية، ومن الله التوفيق.

***

بقلم: د. رحيم عبد علي الغرباوي

.................

المراجع:

(1) ينظر: أدونيس أو الإثم الهيراقليطي، عادل ضاهر: 36- 37

(2) ينظر الرؤيا والتشكيل في الشعر العربي المعاصر، د. سلام الأوسي: 134 وما بعدها.

(3) ينظر الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، د. عبد القادر فيدوح: 9

(4) الصورة واستيحاء، يوسف حسن نوفل: 68

(5) ينظر: الكون الشعري وفضاءات الرؤيا، د. رحيم الغرباوي: 17- 18

 

بين النصوص الأدبية والمراسلات الشخصية

أقيمت خلال مؤتمر السرد الخامس الذي نظمه اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، طاولة نقاشية بعنوان ""الرسائل بوصفها سرداً"، وقد طُرحت فيها الكثير من الآراء، التي احتاجت نقاشا مطولا لما أثارته من اشكاليات، لكن ضيق الوقت لم يتح - لي ولا للحاضرين- فرصة التعقيب عليها، فقد تداخلت في ذهني مجموعة من الأسئلة تتعلق أغلبها بأسئلة جوهرية – كما أعتقد- وهي هل يمكن اعتبار الرسائل شكلا أدبيا، وما مدى قدرتها على بناء نص سردي، وكيفية تعاملها مع الزمن السردي والشخصيات، وما إذا كانت الرسائل تتطلب تأطيرا خاصا يمكن أنْ يميزها عن الأشكال الأخرى للسرد، مثل الرواية والقصة القصيرة، وهل يمكننا اعتبارها سرداً مكتملا بذاته، أم أنَّها تحتفظ بطابعها الذي يحد من إمكانية تحولها إلى شكل أدبي مستقل؟

كنت سابقا من هواة المراسلة، وكانت تصلني في ذلك الوقت الكثير من الرسائل ومن مختلف الأمكنة، حاملة بين طياتها، في بعض الأحيان، حكايات متنوعة، أشبه بقصص متسلسلة، فكل رسالة جديدة تضيف لبنة إلى تلك السردية التي تجمع بين الواقع والمتخيل، ولكن تلك السلسلة لم تكن متواصلة كما في قصة أو رواية تقرأها دفعة واحدة؛ بل كانت تصل بصورة متباعدة، بسبب بطء البريد في ذلك الوقت، أو ربما ضياع بعض الرسائل، ومع كل تأخير تتصاعد حدة الترقب، فيضيف هذا التباعد الزمني لوصولها، عمقا سردياً خاصاً، يتيح لي التأمل في ما قرأته، ويدفعني إلى إعادة تركيب الأحداث وإعادة تفسيرها من جديد، وربما التشكيك فيها في بعض الأحيان.

كانت تلك الرسائل، وإنْ اختلفت في الشكل والمضمون، تقدم لي سرداً متماسكاً، يقربني من تفاصيل حياة أناس بعيدين عني في المكان، لكنهم قريبون في الأثر الذي تتركه كلماتهم، لذلك، وبهذا المعنى، تحولت المراسلات من مجرد وسيلة اتصال إلى عمل سردي حي، يتدفق مع الزمن، ويعيد تشكيل اللحظات والأحداث داخل إطار سردي غير مكتمل، ينتظر أنْ يكتمل بما تحمله الرسالة التالية.

فعلى الرغم من أنَّ الرسائل قد تبدو في ظاهرها وسيلة للتواصل الشخصي أو ربما الرسمي، إلا أنَّها تحمل في طياتها ملامحاً سردية، من حيث بناء الشخصيات، ونقل الأحداث، وتوظيف الزمن، تجعل منها نصوصاً تستحق الدراسة بوصفها نوعاً من السرد، بما تحمله من غنى وتنوع في التعبير، قادرة على تجاوز وظيفتها التواصلية المباشرة، لتصبح عملاً سردياً، فهي ليست مجرد وسيلة لنقل الأفكار والمشاعر، بل فضاء للتأمل، حيث تعكس أحيانا جوانباً من ما يضمره الكاتب، ولعل التفاعل بين الذات الراوية والآخر/ المتلقي، يُضفي عليها طابعا سردياً، حيث ينقل الراوي/ كاتب الرسالة من خلالها تجربته السردية ضمن سياقات زمنية، تتداخل فيها الذاتية مع السرد، عندما يكون الراوي شخصاً حاضراً في الحدث، مما يعطي السرد طابعاً ذاتياً، لتبرز الجانب الشخصي والإنساني، وتصبح وسيطاً لرواية التجربة الإنسانية في صورها المختلفة، وربما يكون الراوي، في بعض الأحيان، محايداً يتخذ دور المراقب أو الناقل.

لكن مع ذلك ليست الرسالة بالضرورة سرداً مكتملاً بالمعنى التقليدي للرواية أو القصة، بمعنى آخر أنَّها تمتلك عناصراً سردية مثل الراوي والمروي له، وهناك تسلسل للأحداث، ووصف، وربما حوار داخلي، لكنها غير ملتزمة بالبناء السردي المتكامل كما في الرواية والقصة القصيرة، من تسلسل للأحداث، والحبكة.. إلى آخره، فهي قد تروي أحداثاً وتصف مشاعر وتفاعلات، لكنها غالبا ما تكون مجزأة وتركز على لحظات محددة أو تفاعلات شخصية، مما يجعلها أقرب إلى نصوص تحمل ملامحاً سردية أكثر من كونها نصوصا سردية متكاملة.

ما يميز الرسائل عن غيرها هو قدرتها على تجاوز الحدود بين الأنواع الأدبية وغير الأدبية، والتي يصطلح عليها في اللغة الإنجليزية (fiction) و(nonfiction)، فهي تحمل في طياتها جوانب من السيرة الذاتية، واليوميات، والمذكرات، وفي الوقت ذاته تحتفظ ببنية سردية قائمة على الحوار الداخلي (المونولوج) والخارجي الموجه للآخرين، هذه الخاصية تجعل من الرسائل نصوصًا مركبة، فالرسالة بوصفها نصًا سردياً تتحدى القوالب التقليدية للسرد، إذ تسهم في تشكيل نصوص سردية دون الحاجة إلى حبكات متماسكة أو تطورات درامية متتابعة.

من أهم الخصائص التي تجعل الرسائل نصوصًا سردية هي طبيعة بنيتها الزمنية، ففي الرسائل، نجد الزمن يتشظى ويعاد تركيبه وفقًا لمنطق التجربة الشخصية، فغالبًا ما يتلاعب الكاتب بالزمن في الرسائل، إذ يعيد ترتيب الأحداث بطرق لا يتبع فيها السرد الخطي، مما يضفي على الرسالة طابعاً تأملياً أشبه بنص سردي يعيد تشكيل الماضي والحاضر في إطار من التدفق الحر، وهذا البعد التأملي يعطي للرسائل دفقاً سردياً لا تتسم بها النصوص الرسمية أو اليومية الأخرى.

يتمثل في الرسائل مزيج من الواقعية والذاتية، حيث تظهر الشخصيات في النصوص الرسائلية بوصفها ملامح للأنا، فالشخصيات في الرسائل غالبًا ما تكون انعكاسًا مباشرًا لشخصية الكاتب نفسه، والتي تعزز البعد الذاتي للسرد الرسائلي، إذ يتركز السرد حول التجربة الداخلية للراوي أكثر من تركيزه على تصوير واقع خارجي متماسك.

ومن أبرز الخصائص السردية في الرسائل هي العلاقة بين الراوي والمروي له، ففي الرسائل، يكون الراوي معروفًا عادةً للمروي له، مما يضفي طابعًا شخصيًا على السرد، هذا التفاعل بين الشخصين يسمح بوجود سرد يتجاوز الإخبار العادي أو العلاقة التواصلية المباشرة، إلى مستويات أعمق من التفاعل النصي، حيث يتداخل الحوار الداخلي والخارجي، ولا يمكن التمييز بينهما، في أكثر الأحيان، والذي يحول الرسالة إلى أداة للتعبير عن الذات وعن الآخرين في آنٍ واحد.

أما على صعيد الأدب، فنجد هناك العديد من الروايات التي تتخذ من الرسائل المتبادلة بين الشخصيات أساسًا لبناء حبكتها، فعلى الرغم من هيمنة نوعها الأدبي، إلا أنَّها تثير تساؤلات عديدة حول طبيعة تلك الرسائل وما إذا كان يمكن اعتبارها رسائل حقيقية أم أنها مجرد أداة أو آلية موظفة ضمن إطار سردي، فالرسائل في هذا النوع من الروايات، رغم كونها تحمل ملامح الرسائل العادية، إلا أنها خاضعة لبنية السرد الروائي؛ فهي مكتملة العناصر من حيث الحبكة، وتسلسل الأحداث، وبناء الشخصيات.

أما الرسائل المتبادلة بين الأدباء والفنانين، كرسائل فرانز كافكا إلى ميلينا أو رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة، فهي تمثل نوعًا مميزًا من الكتابة الرسائلية التي يمكن تصنيفها في مساحة وسطى بين الرسائل الشخصية والنصوص الأدبية السردية، فهي تتجاوز وظيفتها التواصلية البسيطة لتصبح نصوصًا أدبية عميقة، تعبر عن هواجس الكتاب وتصوراتهم، وتصور مواقفهم العاطفية والفكرية بأسلوب يجمع بين الشعرية والتأمل، لذا فهذه الرسائل، تشكل نصوصًا أدبية حية يمكن دراستها وتحليلها بوصفها تجارب سردية مكتوبة بلغة الرسائل، فهي أقرب إلى الأدب منها إلى المراسلات التقليدية، إذ نلمس فيها بوضوح النزعة السردية، فهي ليست مجرد وسيلة لنقل المعلومات أو المشاعر، بل هي فضاء لإعادة بناء الذات ولتجسيد تجارب فنية وشخصية عميقة، إذ أنَّها تمزج بين الخيال والواقع، وتتجلى فيها شخصيات كتابها كجزء من النصوص الأدبية ذاتها، مما يجعلها تستحق الدراسة كنماذج تحمل بنية سردية متكاملة، يمكن النظر إليها بوصفها جزءًا من سيرهم الذاتية غير الرسمية، إذ تروي تفاصيل حياتهم الداخلية من خلال حوارات نصية تتسم بالتدفق العاطفي والبعد التأملي الفلسفي، تلك الفروق الدقيقة بين الرسائل في الروايات والرسائل الواقعية تفتح المجال أمام دراسة أوسع لعلاقة الرسائل بالسرد، حيث يمكن اعتبار الأولى نموذجاً للأدب السردي الموجه، بينما تظل الثانية فضاءً مفتوحاً للتعبير الذاتي العفوي، الذي يُظهر ملامح سردية غير مكتملة.

***

أمجد نجم الزيدي

للشاعرة فوزيه سليمان - سوريا

1. الأسلوب الأدبي: تُظهر قصيدة (عطر الروح في رحلة الحب) لغة شاعرية متدفقة، تمزج بين العاطفة والخيال في صور شعرية غنية وعميقة. الأسلوب هنا ينتمي إلى الشعر الرومانسي حيث تُصوَّر العلاقة بين الحبيبين كاتحاد روحاني يتجاوز حدود الجسد والمكان. يعكس النص حالة من الاندماج والتوحد بين الذاتين، حيث يصبح الحبيبان كيانًا واحدًا في سماء الحب الأبدي.

2. التراكيب اللغوية:

يتميز النص بتراكيب لغوية بسيطة في ظاهرها لكنها تحمل معانٍ عميقة ومركبة. الاستخدام المكثف للاستعارات والتشبيهات يعزز من تأثير الصورة الشعرية. على سبيل المثال، (لملمت خيوطك من رمال الشمس ووضعتها في عربة الغيم)، تمثل عملية جمع الخيوط وكأنها فعل ملحمي، إضافة إلى رمزية الشمس والغيم التي تشير إلى العلاقة بين الأرض والسماء، والنور والغموض، مما يعزز الفكرة الروحية للعلاقة.

3. الصورة الشعرية:

تغلب الصور الشعرية على النص، حيث تتوالى التشبيهات والاستعارات التي تضفي جمالًا وعمقًا على التجربة العاطفية. تعبيرات مثل (نسقط مثل الريش المتساقط من القمر المسافر) و(نعطر الكون بشعلة حب لا تنطفئ) تنقل القارئ إلى عالم من الخيال البصري والروحي، حيث تتداخل العناصر الطبيعية (الريش، القمر، الغيم) لتشكل لوحة متكاملة عن الحب الطاهر والمستمر.

4. التوازي والتكرار:

تستخدم الشاعرة التوازي بشكل متقن لتعزيز فكرة التوازن والتناغم بين الروحين. فالجمل مثل (روحين متناغمتين في سماء واحدة) و(تلتمس أرواحنا بعضها البعض على شرفات العطر في اتحاد أبدي) تكرّر المفهوم نفسه لكن بأساليب مختلفة، مما يخلق إحساسًا بالانسجام والتكامل بين الحبيبين، ويزيد من شدة الرابطة العاطفية بينهما.

5. المفردات والرمزية:

تُظهر الشاعرة قدرة على استخدام مفردات تحمل بُعدًا رمزيًا يتجاوز المعنى الحرفي. مفردات مثل (الجناح)، (الصقيع)، (الضياع) تحمل دلالات على الضعف، السقوط، والشتات، بينما مفردات مثل (العطر)، (الحب)، و(الاتحاد الأبدي) تخلق انطباعًا عن السمو والرفعة والخلود. هذه المفردات تخلق توازنًا بين المعاناة والمثالية، ما يعكس حالة من الحب الذي يتخطى الصعاب ويعيش في الأبعاد الروحية.

6. الموضوع والمضمون:

الموضوع الأساسي للقصيدة هو الحب العميق والمخلص الذي لا يتوقف عند حدود الجسد أو الزمن. الشاعرة تعكس تجربة حب تتجاوز المظاهر، وتستند إلى العطاء اللامتناهي بين الطرفين. (أحبك أعمق من الجلد) ليس مجرد تعبير عن حب جسدي، بل هو تأكيد على حب روحي وعاطفي يتجذر في الأعماق.

7. الأسلوب الإيحائي:

يتسم النص بالإيحاءات العميقة التي تعكس فلسفة الشاعرة في الحب. فالحب هنا ليس مجرد علاقة عاطفية عابرة، بل هو علاقة تُلهم حياة جديدة وتمنح الأمل والتجدد. التشبيه بـ(الريش المتساقط من القمر المسافر) يوحي بمشاعر الضعف والرحيل، لكن ذلك يكتسب معنى آخر مع تحول الريش إلى رمز للعشق الطاهر الذي يظل يرفرف رغم العواصف.

8. الخاتمة:

قصيدة (عطر الروح في رحلة الحب) تقدم مزيجًا من الرومانسية والروحانية من خلال لغة شاعرية غنية بالصور البلاغية والمفردات الرمزية. الشاعرة فوزيه سليمان تنقل القارئ إلى عوالم عاطفية غير تقليدية، حيث يظل الحب خالصًا وأبديًا في مواجهة التحديات والصعوبات. الأسلوب الإيحائي والتراكيب الشعرية المتقنة يجعل القصيدة تنبض بالحياة وتعكس تجربة حب إنسانية تتجاوز الأبعاد الجسدية.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

...................

عطر الروح في رحلة الحب

لملمت خيوطك من رمال الشمس ووضعتها في عربة الغيم، استمعت الى روحك وهي تصرخ لأجلي، وسمعتني عندما اصبت بالكآبة لأجلك، روحين متناغمتين في سماء واحدة، نسقط مثل الريش المتساقط من القمر المسافر، نعطر الكون بشعلة حب لا تنطفئ، أحبك أعمق من الجلد، ليس شهوة تتعلق بالمرور في منتصف الطريق، بل عطاء منا للآخر، لننبض بحياة جديدة، اريد ان أعتني بجناحيك حين تهرب أصابعك وتتغلغل في الصحو وانت تحلق، أن اكون بجانبك لأمسك بك إذا سقطت تحت صقيع الضياع والذهاب حتى تلمس ارواحنا بعضها البعض على شرفات العطر في اتحاد أبدي ..

***

فوزيه سليمان - سوريا

 

حزمة من حطب الغربة في بستان العشق الضوئي

يعملُ بصمت، كلماته قادمة من عوالم أخرى، ومضامين وصور حية تنبض بالحياة، حتى أن قصائده كالريح فوق أغصان المحبة المفقودة في عالمنا الميت والعاج بالحروب والتوابيت، هذا العاشق الولهان رغم خريف العمر، وكأنه يسبح في معترك العشق الذي رسمه لنفسه الملتهبة لعالم المرأة الغامض، ليس هذا فقط وإنما يرسم غربته والوطن في وعاء لا يخرج منه إلا بصعوبة " والشاعر " السماوي " كما أجده في عصرنا الراهن "شاعرا بحجم الأمة " بما يقدمه الان للأدب والثقافة العربية، وكأنه نذر روحه الهائمة للمحبة البشرية .وكما قال " ابن منظور" الشعر منظوم القول غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعرا:

" كنُ عاشِقا ً لا تُساقي قلبَهُ امرأةٌ

غيري تجدْ لذّةَ الفردوسِ في ثمري " ص18

فالشاعر "السماوي " كما غيره من الشعراء الذين سبقوه فهو يدرك اليومي والمألوف، وتأثيرها عليه وكيف تكون أصداء هذا التأثير على نفسيته حتى تتحرك في داخله وتخرج شعرا ً، وكأنما يرسمها بواقعية كي تخلد قصيدته التي تعبّر عن شخصية الشاعر الواعية . وحتى يأخذنا إلى مرابع اللغة والكتابة فهو دائم الحراك والتجريب من خلال اللغة الفارهة وفيها من المخيلة الكثير عبر اجتراح صورٍ شعرية طازجة وفيها من الحلاوة الكثير:

" ولماذا جئتني في آخر العمر

لتُغري بتلتي المعصومةَ اللوزِ؟

أجِبني ما الذي أعنيهِ لك ْ؟ " ص27

هو يشتغل على الكثير من آليات الشعر العربي القديم والحديث، قلَّب جميع الصفحات التي اشغلت تفكيره في الشعر العربي منذ تعلمه القراءة والكتابة، وعرف جميع بحور الشعر، ولو تفحصنا جميع دواوينه نجد كل ديوان من دواوينه يتضمن تجربة مغايرة لسابقتها:

" أدركتُ أنكِ خيرُ مفتاحٍ

لقفلِ المستحيل                                   ْ     

*

وندى زهور اللوزِ في واديكِ

خمرتيَ الحلالُ

 وأنَّ عطرَزفيركِ الليليِّ

 أشذى من رذاذ الياسمين

ومن رحيق الزنجبيل " ص132

وقصيدة " بدرًمن الماء والياقوت "وغيرها قد تجلت اللغة القرآنية الرائعة والمرسومة بإحكام في معظم قصائده المنشورة في دواوينه الحديثة والقديمة التي أطلعنا عليها، ويبدو أنه مطلع على القرآن الكريم كثيرا ومتأمل لكل أحكامه، هذا الطائر الذي ينزف شعرا ويجدد قضاياه اليومية وهو يستعير عدداً من الصور حتى يحاكيها بالحبر السائل يجعله يثق بما يكتب:

" أتاني من وراء ِالبابِ

ناداني:

 لِتدخلْ

 فأنا قد هَيتُ لك " ص30

ويجد نفسه في هذا المجال كالطائر الذي لا يوجد غيُره في عالم السماء، ولأنه تربى في بيئة تعكس انفعالاته الداخلية وما يحيطه من ضجيج هذا العالم الذي شبههُ بخيمة كبيرة ممزقة لاتشبه الوطن، ولأنه مهووس بالشعر، وهذا الهوس الذي يعلو في فضاءات الغربة المقيتة، والتي شكلت له عالماً خاصاً به، حتى أخذته السنين "الغربة " إلى مطافات آخرى جعلته يشدو في سماء غربته التي أنتجت لها مصدات كثيرة في عالمها الذي يجعلك تتفرد بمغزلك الشعري، والذي أراد منه أن يكون أداة محركة لتلك الذكريات والأحداث الآنية التي ربطها في ديوانه ( تيممي برمادي ) وكأنها مرثية يشيّع بها الأحبة:

قد كنتُ قبلَكَ محمولاً على نزقٍ

طاوي الجهاتِ فمن ماءٍ الى جُزُرِ

*

أحدو وليس سوى الأوهامِ قافلةً

بين المنافي حسيرَ الحزنِ والكدرِ " ص22

 يقول عنه الناقد " جمعة عبد الله ": " نجد الطراوة والحلاوة في اللغة الشعرية المبهرة لدى الشاعر العراقي المعروف "السماوي "نجد الأندهاش في الأداء الفني والتعبيري في شفافية ملهمة، في جوهر الأشياء الروحية والمادية، في محسوساتها المتفجرة " ولهذا أخذتني قصائد هذا الديوان " تيمًمي برمادي " إلى مديات أخرى حتى شعرت أنني أتكئ على عالم كامل من فيض هذه المشاعر العفوية والراقية والمؤثرة، وأنت أيها القارئ تستلهم مصدرها من أحاسيس هذا الشاعر "السماوي" الكامنة في داخله المعبأ بالعشق والسكون .

وشاعرنا " السماوي " بقوة أفكاره وما يؤمن به من فلسفة شكلها مشواره الشعري، منذ أن جعل للمفردة صورا مختلفة عاجة في البانوراما التي ترسمها قصيدته التي أشعلت في داخله هذا العشق الضوئي، ولهذا تتبين لنا دلالة على قدرة " السماوي " على اللحاق بأفق مفتوح لقصيدته التي لاتكتمل:

"  يا جنة الله في قلبي ويا قمرا

من الأنوثة أدناني من القمرِ " ص19

ولو دققنا كثيرا في جميع دواوين هذا الشاعر المتفرد لوجدنا أنه أطلع على الكثير من الثقافات والتجارب، وأنتج وأبدع، ووجدت في هذا الديوان وخاصة عن المرأة هي الحلم، الأم، الجمال، الدفء، الحبيبة:

 " فَلقَ الوردةَ ربُّ الفلق ِ

 فتجلت شفتينْ " ص161 ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الديوان "تيممي برمادي " للشاعر العراقي المعروف بين الأوساط العربية والعراقية، هو من القطع المتوسط ويقع في 176، وهو من إصدار مؤسسة المثقف العربي - سيدني- استراليا.

***

قاسم ماضي - ديترويت

شكلت الراوية الكلاسيكية الألمانية أهمية في تأريخ الأدب العالمي، من خلال أمتلاكها مقومات القوة النابعة من تأريخ الفلسفة الألمانية، ويعد الروائي الألماني هيرمان هيسه واحداً من كتّاب الرواية الألمانية الكلاسيكية، الذي تميزت كتاباته بالعمق الفلسفي والنفسي، فضلاً عن رصده حركة المجتمع الدؤبة، والتطور الصناعي، وتناولها بالتحليل الأجتماعي العميق، ومن أبرز ما كتبه من روايات (الخبير من ساندرا) عام 1924، التي تناولت حياة الشباب في أوروبا بالقرن العشرين، وأثر الحرب العالمية الأولى عليه، وما نتج عنها من تأثيرات سلبية، كما كتب رواية (الموتى الأحياء) التي نُشرت في عام 1931، حيث تناول فيها الأضطرابات السياسية والاجتماعية وظهور أحزاب جديدة في تك الفترة، فضلاً على تركيزه على تأثيرات البيروقراطية والفساد في ذلك الوقت، في حين كتب روايته (جبل سيساينغ) والتي رصد فيها من تناقضات داخلية والبحث عن الهُوية للأنسان الألماني وجدوى وجوده في الحياة، أما في رواية (نزاع الروح) المنشورة في عام 1930، فهي تروي قصة صداقة بين شخصيتين مختلفتين في الطباع والرؤية للعالم، فالرواية تستكشف المواضيع الأكثر جدلاً بين الجمال والقبح والروحانية والغرائز البشرية وحب التسلط والقوة.

إلا إن رواية الكريات الزجاجية، الحاصلة على جائزة نوبل للآداب عام 1946، هي أحدى أهم رواياته، التي أمتازت بأسلوبها العميق والمعقد، والتي كُتبت في القرن العشرين، حيث سعى هيسه في هذه الرواية الى تناول موضوعات فلسفية وثقافية عامة، بمشتركات متعددة، تختلج فيها الذات الانسانية، فالرواية تدور أحداثها في إطار طوباوي أو نوع من اليوتيبيا، تقع في مستقبل بعيد، حيث تعيش مجتمعات تحكمها الفلسفة اللاهوتية والوضعية والغيبيات، ومن طرف آخر الموسيقى، التي عبّرت عنها الحضارة الألمانية قوتها وشغف بها؛ ليس المجتمع الألماني فحسب، إنما أخذت سيطرتها على معظم دول أوربا وتأثيرها عليها.

فبطل الرواية هاري، ذلك الشاب الذي يتمتع بقدرات فائقة في لعبة تدعى (الكريات الزجاجية) إذ ترمز لنا هذه اللعبة لتمثل تجسيداً للمعرفة والحكمة، التي طالما أرتبط مفهومها عند البطل هاري بالفلسفة الألمانية. (اللعبة معقدة غامضة القواعد لا يفهمها ويتعلمها إلاخاصة الخاصة، وتمتزج فيها الجملة الموسيقية بالفكرة الفلسفية).

لقد قدم هيرمان هيسه هذه الرواية بعدة ملامح بارزة تجعلها عملاً أدبيا فريداً ومميزاً، ومن بين أهم هذه الملامح؛ هو عمق الفلسفة والمعرفة وتشعبها، فالرواية من المواضيع الفلسفية المعقدة التي تغوص بالحكمة والبحث عن المعرفة والتطور الفلسفي والسعي الإنساني وصراعاته، وهي تتحدث عن معنى الحياة والبحث عن الحقيقة، إذ تبرز الرواية التكامل في التكنيك الفني والخيال العلمي، مما يعكس رؤيته الشاملة للثقافة والمعرفة الانسانية.

فالكاتب يسعى الى تسمية الرواية بالكوريات الزجاجية لرمزية اللعبة ، إذ تمثل التوازن بين العقل والروح والجسد، فهو يقودنا الى رحلة تطور لشخصية بطل الرواية داخل ثيمة النص، كما يسلط الضوء على تحولاته الفكرية والروحية وصراع الذات، ويسعى الى تناول عمق التطور الشخصي للبطل، فضلاً عن آستخدامه لغةً وأسلوباً أدبياً عالي متقن، فأسلوب الكاتب يتميز تارة بالتعقيد وتارة بالغنى الجمالي الفني، من خلال آستخدامه لغة تعبيرية بلاغية تتناسب مع عمق السرد الذي يتناوله، ودرجة الصراع الدراماتيكي داخل النص الروائي، كما يركز على تحليل الطبقات الاجتماعية وتأثير الصراعات فيما بينها وآنعكاسها على الفرد داخل المجتمع.

البعد النفسي لبطل الرواية

تعد شخصية البطل الشاب هاري، التي تتميز بالعديد من الأبعاد النفسية وتعقيداتها، فترسم خطوط الأحداث من خلال شعوره بعدم الأرتياح والقلق تجاه العالم من حوله وشعوره بالإنعزالية، فهو دائم البحث عن معنى للحياة وحيثيياتها، وعن إتصال إنساني حقيقي في عالم الوجود، كما يعاني من صراعات داخلية عميقة، يتقاطع فيها بين رغبته في الإنتماء وتقبّل الواقع، وبين رفضه للمجتمع والقيم والعادات التي يمثلها، فالبطل في الرواية يعاني من حالة دائمة من التوتر والقلق، وشعوره بالغربة في كل ما يحيط من حوله، وهذا ينعكس بدوره على علاقاته مع الآخرين، ويجعله يشعر بالعجز والإحباط المتكرر.

ويسعى الكاتب الى إبراز الصراعات الباطنية لشخصية هاري، من خلال تحليله ونقده العديد من القيم والمفاهيم الأجتماعية التي يعتبرها مزيفة وغير ملائمة، والسعي الى الثورة في ذاته ومن ثم السعي الى تغيير الواقع الاجتماعي، فنحن هنا أمام شخصية تتميز بالحساسية الشديدة والتعقيدات العاطفية، وهو دائم الميل الى التأثر بسرعة بما يجري من حوله، خلال وجوده وعمله في المنظمة السرية غير العلنية، ويظهر تذبذبات في مشاعره وسلوكه معها، وعن طريقة تعامله الحساس بما يحيطه، فالرواية تقدم البطل المحوري كشخصية تعاني من التشتت الذهني وعدم القدرة على التركيز أحياناً، مما يجعله يبدو غير قادر على الاستقرار في أي مكان أو بيئة، فيظهر بطل الرواية كشخصية إنعزالية، يفضل الإبتعاد عن العالم الخارجي والعيش في عوالمه الخاصة، وبنفس الوقت ينظر لتغيير الواقع الذي يصبو اليه والتمرد عليه.

لقد أراد هيسه الى التعمق الفلسفي بشخصية الإنسان من خلال ما رسمه لبطله، وهو يعبّر عن ذاته الحقيقية التي تناولها في أغلب رواياته وعلى شخصيات أبطاله، كمعادل موضوعي من خلال التعبير عما يجري في العالم الخارجي من حروب وفساد. إن أغلب أبطال هيسه يعبّرون عن حاجتهم المستمرة للبحث عن هويتهم الحقيقية ومكانهم من هذا العالم، وهو ما يدفعهم لأستكشاف مختلف السُبل وأتخاذها للتمرد والتحدي بأستمرار.

لقد قدم الكاتب بطله في الكريات الزجاجية، أنه في رحلة مستمرة للبحث عن هويته ومكانه الأمثل بين العالم، ويبدو أنه تأرجح بين محاولة تحديد ذاته، وبين الأستسلام للعواطف والظروف الخارجية، فبطل هيرمان هيسه، يعاني من صراع بين زخم من الرغبات والتطلعات التي يحملها في داخله، كشخصية قلقة، يشعر بالشك تجاه الآخرين وتجاه نفسه، مما يجعله يتردد في أتخاذ القرارات والتصرفات نحوها، أنه يجسد في هذه الشخصية تجربة الإنسان الحديث في مواجهة التحديات النفسية والإجتماعية في عصر الصناعة الحديثة، والتغيرات والتطورات السريعة والمتلاحقة، فضلاً عن الاكتشافات التي قادت الى تطور العالم من جهة، ودماره من ناحية أخرى.

عناصر الكتابة عند هيسه

إن أبرزما يميز كتابات هيرمان هيسه، تناوله مواضيع عميقة تتعلق بالبحث عن الذات والروحانية والفلسفة والصراع الشخصي، كما يظهر ذلك في أعماله مثل (سيدارثا) و (دميان والزارع) كما قدم هيسه في كتاباته تفاعلاً مع الفسلفة والديانات المختلفة، ويستكشف معاني الحياة والوجود من خلال شخصياته وأحداث قصصه. إن كتاباته تحمل لغة رقيقة وأنيقة، تُشكل صوراً جميلة في ذهن القاريء، وتعبّر عن المشاعر والأفكار بطريقة عميقة وجذابة، فضلاً عن تقديمه أهتماماً بالطبيعة والجمال الروحي في كتاباته، فهو يستخدم الطبيعة كرمز ومصدر إلهام والتأمل والإبداع الإنساني، ليعكس عذابات الإنسان مع الوجود.

ففي أغلب كتابات هيرمان هيسه، يتناول مواضيع الرحلة الداخلية والتطور الشخصي، وكيفية تأثير التجارب والتحديات في تشكيل الشخصية وإثراء الحياة الروحية، كما تتميز بعمقها الروحي وفلسفتها العميقة، إضافة الى لغتها الجميلة وقدرتها على تشكيل رؤى ملهمة عن الحياة والإنسانية، وستظل رواية (الكريات الزجاجية) عملاً أدبياً أستثنائياً تتناول مواضيع معقدة بأسلوب أدبي عميق وملهم، تتوزع بين الفلسفة وعلم النفس، وتستحق القراءة والتأمل لمن يبحث عن تجرية أدبية غنية ومثيرة للفكر والكتابة الروائية، وكذلك للبحث العلمي الأكاديمي.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

للأديب محمد خالد النبالي

يمثل نص "أنا لست شاعراً" تجربة أدبية تتجاوز التصنيفات التقليدية تجمع بين النفي والإثبات كاستراتيجية إبداعية تعيد تشكيل الذات والشاعرية. تنطلق الأطروحة الأساسية من العبارة المحورية "أنا لست شاعراً" التي تعكس موقفاً فلسفياً يزاوج بين إنكار الشاعرية وممارستها مما يجعل النص فضاءً مفتوحاً على تعددية التأويلات وفق رؤية دريدا للنص باعتباره "غير مكتمل ومفتوحاً دائماً".

البنية النصية واستراتيجية النفي

يتسم النص ببنية مرنة تمزج بين الشعر والنثر في قالب حداثي، ما يعكس صراع الذات وانفتاحها على احتمالات لا نهائية. العبارة المتكررة "أنا لست شاعراً" تعمل كأداة تفكيكية حيث يتحول النفي إلى فعل يعيد تشكيل معنى الشاعرية.

وفق بول ريكور، "النفي ليس إلغاءً بل وسيلة للعبور نحو الممكن"، وهو ما يظهر في النص عبر استمرارية الكتابة كفعل إبداعي يتجاوز المعايير التقليدية. التكرار هنا لا يستخدم للتأكيد فقط، بل كوسيلة لإبراز انشطار الذات وسعيها المستمر لإعادة تعريف هويتها.

تجربة الذات ورحلتها نحو المعنى

النص يعبر عن تجربة وجودية ذاتية عميقة حيث تمثل الذات محوراً لحوار داخلي بين الانتماء والنفي. العبارة "أنا لست شاعراً" تُستخدم كنافذة لفهم صراع الكاتب بين رغبته في التعبير والقلق من التصنيفات التقليدية. الصور مثل "الظل الحامل للقلم" و"الغسق" تجسد هذا الصراع بين الحضور والغياب مما يمنح النص طابعاً ذاتياً فريداً يعبر عن قلق الإنسان الحديث وعلاقته بالعالم.

الرمزية والصور الحسية

تعكس الرمزية في النص حالة من التوتر الوجودي بين الذات واللغة. صور مثل "الغسق" تمثل الانتقال بين النور والظلام ما يعكس حالة الذات المتأرجحة بين الوعي واللاوعي، بينما تعبر صور "عطر الكرز" و"الطيور" عن احتمالات مفتوحة رغم قيود التناقضات الداخلية.

وفق رؤية هايدغر، "اللغة هي منزل الكينونة"، وهنا تشكل اللغة في النص فضاءً حياً يعيد تشكيل العلاقة بين الذات والعالم. الرموز ليست مجرد أدوات زخرفية بل تعبير عن تجربة شعورية عميقة تعكس رحلة الكاتب نحو تحقيق التوازن بين المتناقضات.

تجاوز التصنيفات الأدبية والانفتاح النصي

يمثل النص نموذجاً للأدب الحداثي الذي يكسر القوالب التقليدية حيث يدمج بين التأملات الفلسفية والتجربة الحسية في نسيج إبداعي واحد. الانفتاح النصي يجعل النص أشبه بشبكة من العلاقات المتداخلة كما يرى رولان بارت بأن النص الأدبي هو "نسيج مفتوح على قراءات لا نهائية".

هذا التداخل بين السرد والشعر وبين الذاتي والعام يفتح النص على احتمالات تأويلية متعددة تجعله عملاً أدبياً يعبر عن اغتراب الذات في العالم الحديث.

صراع الذات وقلق الكتابة

النص لا يكتفي بإعادة تشكيل الشاعرية بل يعبر عن صراع داخلي بين رغبة الكاتب في التجاوز وإدراكه لحدود الكتابة. يظهر هذا الصراع من خلال ثنائية "المتفرج والمتورط"، حيث تعلن الذات رفضها للشاعرية لكنها تمارسها بأسلوب واعٍ.

وفق رؤية جاك لاكان، الذات كيان غير مكتمل يسعى لاكتشاف نفسه عبر الآخر. النص يعكس هذا الصراع الداخلي في صور رمزية مثل "الظل الحامل للقلم"، الذي يجسد توتر الذات بين الحضور والغياب وبين الرغبة في الإبداع والخوف من التصنيف.

 وهكذا نجد أن النص كتجربة إبداعية مفتوحة

في المجمل، يقدم نص "أنا لست شاعراً" تجربة أدبية تتجاوز حدود التصنيفات التقليدية حيث يمزج بين الشاعرية والنفي لإعادة تشكيل الذات واللغة. النص يعكس قلقاً وجودياً عميقاً ويبرز صراع الذات مع القيود الداخلية والخارجية مما يجعله عملاً حداثياً يعيد صياغة مفهوم الإبداع.

بهذا، يحقق النص انسجاماً داخلياً وسط تناقضاته محولاً اللايقين إلى فضاء للخلق المستمر وفق رؤية تودوروف للأدب كإعادة صياغة مستمرة للوجود. النص إذن هو دعوة للتأمل في الذات والعالم، وفضاء مفتوح على تعددية التأويلات ورحلة دائمة نحو المعنى.

***

قراءة نقدية إنجاز فاطمة عبد الله

...................

"أنا لست شاعرًا"

في زوايا هذا العالم البعيد، حيث تلتقي الأشباح بالذكريات، أجد نفسي محاطًا بكتابات لا تعبر عني، ومع ذلك تشبهني. أنا لست شاعرًا، لكنني أتجول في أروقة الشعر، أستنطق الكلمات التي تخبئ في طياتها سرًّا لم يُكتشف بعد.

تتلاشى الصورة في الأفق، وتمتد الأعداد بلا حدود، كما تمتد المسافات بيننا وبين ما نريد أن نكون. أرى الناس، كل منهم يحمل حكاية، ورقة مهترئة من كتاب مفتوح. أتساءل: ماذا لو كانت تلك الحكايات تختبئ وراء ضباب العواطف كالنجوم التي تخفت في سماء ملبدة بالغيوم؟

في الزاوية، هناك ظلٌّ يحمل قلمًا، وقد كُتب عليه "أنا لست شاعرًا". لكنه يكتب، يشمخ بجمل ملتوية، كأغصان شجرة عتيقة تتمايل في مهب الريح. أرى في عينيه تجاعيد الزمن، ملامح مشاعر هاربة، كرامة الوجود التي تكاد تُنسى بين ضجيج الحياة.

أوّلستُ جزءًا من هذا النسيج؟ أأنا فقط المتفرّج على العواصف، بينما الكلمات تتراقص في دمي؟ الضحك الذي ينبعث من داخلي، يخلط بين الفرحة والحزن، يشبه رقصات قناديل مصنوعة من الفضة تضيء ليالي الشتاء الحالمة. في قلب كل كلمة وقلم، تنبض الحياة، رغم أنني أقول: أنا لست شاعرًا.

الألوان تتداخل كأنها مشاعر متشابكة، فالأسود يتزاوج مع الأبيض ليخلق ظلالًا جديدة، تعكس عواصف أفكاري. أحيانًا، أتمنى لو أستطيع احتواء تلك الألوان، لكنني أكتفي بانتشال الرمز من فراغ لا نهائي. صور الذكرى تتراقص في عقلي، بعضٌ منها مرعب، وآخر جذاب كعطر الكرز في أوائل الربيع.

الليل، له شفافية تعكس ما لم يُقل، والأماني المنسية تتسلل كالجرحى إلى أعماق القلب. مشاعر رهينة، تواجه الأفق المجهول، وخلف كل جملة نطق بها لسان، تمشي الأحلام بصمت. هل أستطيع حتى أن أفكر فيها؟ هل أستطيع أن أكون صوتًا من بين الأصوات الضائعة؟

أنا لست شاعرًا، لكنني روحٌ تتنقل في ملكوت الكلمات، تتخبط بين المعاني، تبحث عن معنى، وتضيع في دروبها، كعصفور في سماء مفتوحة بلا حدود. أتحسس القلم بين أصابعي، أدرك أن الشاعر فيني محبوسٌ، ينتظر زيارتي مرةً أخرى. وككل زائر متخوف، يسأل: هل تقبلني يا صاحبي؟

مع كل همسة في الهواء، يتردد صدى تلك العبارة: "أنا لست شاعرًا." ولكن، ماذا لو أصبحت في أحد الأيام؟ ماذا لو كانت كل تعبيراتي خيوطًا تنسج حكاية، تتسلل إلى قلوب الآخرين، تلامس أوداجهم؟ حينها، قد أقول: أنا لست شاعرًا، لكنني أستطيع أن أكون.

وهنا، تنتهي كلماتي في أفق من السراب، حيث تتراقص الأحلام وسط الكلمات، في انتظار أن يلامسها قلمي مرة أخرى.

***

محمد خالد النبالي

للدكتور رحيم جودي الغياض

حين نتصفح النصوص الروائية يلامسنا شعور بأنَّ تلك الأحداث المبثوثة فيها بعضها حادث في أرض الواقع، ومنها ما يلامسه، والروائي الحاذق يقدم تلك الأحداث بزاوية نظر ملفتة؛ كونه يلتمس التجربة الشعورية والتخطيط المسبق لمعالجة أحداث روايته، ثم يختار الشخوص والأمكنة والأزمنة، فضلاً عن توظيف التقنيات التي يتمكن من خلالها سرد روايته، ويختار لها رواة راوياً يحلل الأحداث من الداخل، وآخر يروي القصة مستعملاً ضمير المتكلم، فله حضوره في الحكاية لكنه يقترب من الحوادث والشخوص، وراوياً يراقب الحوادث من الخارج، فهو حاضر وغائب في الوقت نفسه، بينما علاقة الراوي بما يرويه، فهي التي تحدد زاوية النظر, فضلاً عن الحوار والرموز التي بها يستطيع الإيحاء، بل والتوغل في سكب رؤاه في طبقات النص، لتمنح المتلقي بعداً رؤيوياً لفك الشفرات التي تمكنه من قراءة ما تحمله الرواية من مكنونات داخلية، ولعلنا حين نقرأ أول صفحة من رواية (أوجاع على ضفاف الغراف) للدكتور رحيم جودي، وهي أول رواية يكتبها وكأنه كتب عدداً من الروايات؛ ذلك لامتلاكه أسلوب الروائي، إذ نراه يتفنن في إدارة تقنيات مسروده، فضلاً عن ثقافته التي أهَّلته في نسج حبكة النص، وهذه المؤهلات التي  أنتجت تلك الرواية فتحت آفاقاً على التاريخ السومري القديم وإيمان الشعوب آنذاك بالأساطير ولاسيما اسطورة (إنكي) إله الماء من أجل أن يمنح الكاتب نهر الغراف قدسيته وأزليته في آنٍ واحد"إن الولد إذا وصل الى مرحلة البلوغ عليه أن يغتسل في نهر الغراف المقدس؛ ليتطهر من روائح الأنوثة التي علقت به من مصاحبته لأمه، فالتطهر يمنحه شعوراً بالأمن والأمان؛ لما يحتويه من قدسية روحية، ويمنحه وعياً وإحساساً بالرجولة" (ص)5 ، وحين ننظر إلى الماء المُطهِّر نجده استقى تلك الرؤيا ليس فقط من الأساطير إنَّما من الديانات التي أكدت على أنَّ الماء هو مادة التطهير من جميع المدنسات ولاسيما في طقوس التعميد بل أنَّ الماء هو أصل الحياة.

ولما كانت الرواية تتحدث عن الفتاة أحلام يتيمة الأم ونتيجة ضغوط زوجة الأب لها وهي في عمر اليتم، فأرادت أن تتخلص من المعاناة التي تعيشها والذل الذي لحق بها والتعنيف الذي أجبرها على ترك البيت بعدما غرر بها أحد الشباب ليقنعها بالزواج لكنه بعدما حقق مبتغاه منها، تركها تسوح في القفار، وهي تعيش أسوأ الظروف ويبدو أنَّ الربط بين تطهير الغراف المحاذي للمدينة التي كانت تقطنها أحلام التي اقتص والدها منها بقتلها لغسل عاره في آخر صفحات الرواية يمثل الوحدة العضوية للرواية، إذ جعلها المؤلف حلقة دائرية تبدأ بالتطهر وتنتهي به لكن يظهر لنا أنَّ رؤية المجتمع  للمرأة إزاء الرجل من أنَّها قاصرة، وأنَّ مجتمعنا ما يزال بتلك النظرة الدونية للمرأة، التي تمقتها الحضارة الإنسانية اليوم وهذا المبدأ هو ما بنيت عليه الرواية.

والصورة الثانية التي عالجتها الرواية هي صورة الخرافات التي تعج بها مدينة الكريمية وهي إحدى المدن الشعبية في مدينة الكوت" الكريمية صنيعة نهر الغراف ولدت من رحم الخرافات المعبقة بجاذبية الأمكنة والأزمنة أزقتها الضيقة المسكونة بالفقر، تشتمّ بين جنباتها ذكريات الأسى في متاهة النسيان أصوات أهلها الذين رحلوا، أو هاجروا تتسلل عبر شقوق بيوتها المتصدعة الطلاء المتآكل على الواجهات أصابها الهرم، شربت من نخب الأساطير المعتقة حد الثمالة، تتغذى على الحكايات تلهبها سياط الجن، ومناجاة الأولياء الصالحين، تعج بالأضرحة التي تدور في صمت بين أزقتها الصامتة وحولتها إلى متاهة أسطورية علاقتها بالأساطير والخرافات وثيقة" (27- 28)، ويبدو أنَّ الخرافة والأسطورة تنبع من الجهل والخوف ما يجعل الجهلة يعتقدون بها، فكلّ من الأسطورة والخرافة قصة خيالية قوامها الخوارق والأعاجيب التي لم تقعا في التاريخ ولا يقبلهما العقل حتى عندما نريد أن ننفي وجود شيء، نقول أنَّه أسطوري. ولعل الكاتب يتطرق إلى كثير من الحكايا التي تدل على تبرير الناس لكثير من جهلهم بإرجاعها إلى عوالق غيبية.

أما الوضع ما بعد التغيير ولاسيما الاقتتال الطائفي أو الانتقام من رجال النظام السابق، فيصفه من أنَّ ما حدث هو أبشع من قطع الأّذن ولاسيما قطع الرؤوس الذي أصبح يمثل جريرة شائعة في البلاد "بعد سقوط النظام ظلت الأوضاع على ما كانت عليه وربما أسوأ من السابق كانوا يقطعون الأذان ! والآن يقطعون الرؤوس لم يتغير شيء، فالإرهاب لم يترك مكاناً في البلاد إلا وداسه بنعاله الملوثة بدماء الأبرياء معسكرات الجيش نهبت، وسلبت عن بكرة أبيها، وأُفرغت مشاجب الأسلحة من محتوياتها حتى الشرطي لم يعد في أمان في هذه المدينة على الرغم من السلاح الذي يحمله، فالأمل الذي انتظرناه طوال سنين لم يتحقق، مجرد زيف ووهم" (ص47- 48). ويبدو أن العنف بلغ أعتى درجاته ليس فقط في أخذ الثأر أو ما نجم عن الشحن الطائفي بل صار يطبق شريعة الله من هم بعيدون عنها  إذ نرى الكاتب يرفض العنف الذي يجد فيه إزدواجية الشخصية وهي تعاقب الآخرين فـــ"الجماعات المسلحة تحيط بالشقة دخلوا الحجرة وقبضوا عليهما معاً، تجمهر عدد قليل من الناس لمشاهدة تنفيذ حد الرجم في (حنان) قالوا أنَّها زانية ... رفض بعض الأهالي قتلها من خلال الرجم بالحجارة ... وفي تلك اللحظة أمسك أحدهم بـ(عيسى) من رأسه، وجذبه بقوة، وذبحه من الوريد إلى الوريد، وفصل رأسه عن جسده، فرمى الرأس في جهة والجسد في جهة أخرى" (85 وما بعدها). ويعد الكاتب هذا الفعل مخالفاً للقوانين المدنية التي تتنافى ومبدأ الرأفة في العقاب ولاسيما قطع الرأس كونه من التمثيل بالإنسان التي تشجبها حتى التعالم الإسلامية فقد جعل الكاتب صورة ابن حنان الصغير في موقف يدمي القلب تبريراً منه لتلك الرأفة، وهو ينادي:

"- أريد أمي ... أريدُ أمي). ليجعل أنَّ في رجمها ذنباً كبيراً قام به دعاة الإسلام الجدد.

أمَّا النفاق فقد مقته الكاتب بكل عناية واهتمام في الوصف ولاسيما ممن كان في حال ثم استبدله بحال آخر تبعاً لسياسة العصر ببراعة ومهارة "يتلوَّن كالحرباء كما أنَّ مجاراته للآخرين لاحدود لها يسلخ جلده، ويلبس جلداً آخر كالأفعى وفق تغيُّر الأحوال، يتكيف مع كل الأوضاع، يرتدي لكلِّ مرحلة لباساً، يمتلك نوازع انتهازية بالتسلق والحصول على ما يريد، أخذ يعزز موقعه من الأحزاب الدينية بسرعة متناهية دون أن تعصف به المتغيرات المتسارعة، اشترى رخصة الحج برشوة من أحد مكاتب السوق السوداء، وذهب لأداء مناسك الحج حتى يضع صفة الحاج قبل اسمه وكأن هذا يكفي لبراءته من أفكار الإلحادية " (89-90) التي كان يتبناها قبل سقوط النظام, وكل ما يجري كانت أحلام تشاهده.

كما قصَّت لها عجوز في المقبرة القريبة من المدينة "أنَّ الكثير من هؤلاء السحرة والمشعوذين يستعملون ماء غسيل الموتى، أو حرق الأدوات المستعملة في تغسيل الميت الطاسة أو الصابونة أو دفنها بعد ربطها برجلي الميت، أثناء الليل يقتحم غرباء قبور الموتى، وثمة نساء يهرِّبن ماء غسل الموتى للمشعوذين بأثمان خيالية من أجل إيقاف زواج النساء والتفريق بين الأزواج، ومنهم من يقوم برمي السحر في جثة الميت حتى يدفن السحر نهائياً، ولا يشفى، وهناك لصوص المقابر أو ما يطلق عليهم النبَّاشة يقومون بنبش القبور واستخراج جثث الموتى للحصول على أسنان الميت من الذهب أو سرقة الأكفان." (92)

وصورة أخرى "ثمة شابّة طويلة تبدو من بعيد قطعة سواد مدلهمة تأتي المقبرة كل ليلة خميس خلسة؛ لتزور حبيبها وهو شاب في أول ربيع حياته قتل برصاصة عمياء من قبل متطرف تحمل بيدها غصن ياسمين ... بعد ذلك قادتها قدماها في لحظة يأس، ووقفت فوق فوهة قبر صديقة طفولتها خلود الشيخ ناجي التي عشقت شاباً وسيماً، تقدم لخطبتها، ولكن أهلها رفضوا زواج ابنتهم من فقير؛ لكونهم من الأشراف وأرفع قدراً وأسماهم مكانة، ومن علية القوم، وبعد أيام وجدت جثة الفتاة غارقة في نهر الغراف عند المطحنة القديمة بعد أنْ ألقت بنفسها من الجسر القديم وأخذت تناجيها: ليتك أخذتيني معك، وكم تمنيت أن أموت وأُدفَن بجوارك"(ص 97) ولعل الدكتور رحيم جودي يرصد مثل هكذا مواقف؛ ليبين أنَّ الأثينية والتطرف وجهان لعملة واحدة لم يبرأ منهما المجتمع العراقي، فالموت بالمجان وأنَّ ما يطمح له الشباب ولاسيما البنات أمام تلك العراقيل هي أضغاث أحلام بيد أنَّها تخلق مآسي مفجعة.

أما ما يحدث في مراقد الولاة من الشيوخ في المدينة في علاج من تلبَّسه الجن ومن وقعت في هوس الإنجاب ممن تريد وضع حد لحياتها؛ نتيجة اليأس والاكتئاب الذي خيم على حياتها الزوجية عساها بعد يأسها من كبار الأطباء اتجهت إلى ضريح الشيخ هاشم عسى أن تجد ضالتها عند المشايخ الذين يتواجدون في مثل تلك الأضرحة من الذين دفعت لهم المال وعلقت حجاب في رقبة زوجها وآخر وضعته تحت وسادته, كل ذلك يشير إلى أن هؤلاء الشيوخ يستغلون سذاجة بعض من النساء في الزواج والإنجاب من خلال عمل الأوراق والأحراز وفك السحر، ولفرط طيبتهن وثقتهن به أخذ يحتال عليهن يسلب أموالهن يقوم بعصب عيونهن، وغلق الأبواب عليهن في حجر مظلمة بحجة فك السحر وتخصيب العواقر منهن كأنه يمارس معهن العهر المقدس في المعابد " ثار عليه الأهالي وحاصروه وتعقبوه كذئب هارب هرب من القرية ليلاً إلى قرية أخرى أصابها الجفاف والقحط والمجاعة" كل هذا استفحل لغياب سطوة القانون الذي كان قبل سقوط النظام يضرب بيد من حديد لكل من يمارس هذه الأعمال التي تستغل جهالة الناس وميلهم للجادة التي تستغل الفقراء من الجهلة لمثل هكذا طرق سيئة.وحين تكون الأوطان تحت ظل الاحتلال ينطبق قول ابن خلدون على الواقع اليوم الذي ترصَّده الكاتب في روايته "عندما تنهار الأوطان يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدعون والقوالون والمتصعلكون وقارئوا الكف... والمتسيسون والانتهازيون، فيختلط  مالا يُختَلط، ويختلط الصدق بالكذب، والجهاد بالقتل... وتشح الأحلام، ويموت الأمل وتزداد غربة العاقل، ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد إلصاقا وإلى الأوطان ضرباً من ضروب الهذيان"

وفي أماكن العبادة يلفتنا الكاتب إلى صورة من صور البؤس من المقهورين سلام الأعور الغارق في غيبوبة المخدرات، فقدَ إحدى عينيه في نزال بطولي مع تجار المخدرات يعتاش على سرقة الأحذية الثمينة من أبواب المساجد، ويبيعها بأسعار زهيدة للفقراء، ولاسيما أحذية المسؤولين في الحكومة عند صلاة الجمعة أطلقوا عليه (اللص المؤمن) (ينظر ص106- 107).

أما الحي العائم بالفقر والجهل والذي "يغذيه التهميش والحرمان، ويغطيه البؤس والقهر مكاناً أشبه بالمنفى وملاذًا للغرباء، تبدو على شوارعه وأزقته آثار الإهمال وتراكم الأوساخ، فكل شيء ينذر بالحزن والكآبة والألم والمعاناة. الفرق بين الأحياء والأموات النوم فقط, وتحت الأرض يعانون من شظف العيش, أكثرية مهمشة تشعر بنوع من الدونية يطحنها الفقر، سلكت دروب المهالك، فالعنف هو النظام العلائقي البارز الذي ينظم العلاقات بينهم انخرطوا في أعمال الإجرام والارتزاق أجيال ولدت من رحم الحروب والصراعات لأجل كسب المال"(ص127-128) ولعل مثل هكذا مجتمعات تعتاش فيها الكثير من دواعي الغيبيات العجائبية والغرائبية من معتقدات لا يتقبلها العقل فضلاً عن الحاجة التي تولد من عدم تحقيق ما يرومه الفقراء يجعل بعضهم يعتاش بالصعلكة مثلما هو سلام الأعور وبعض الذين يدعون أنهم أولياء الله ومن قارئي الكف والفال والمشعوذين من أجل الحصول على لقمة العيش.

وفي محطة أخرى في الرواية "تعيش الأكثرية إرهاصات التدين الشعبي المفتعل خلف أيدلوجيات مغلَّفة بالخرافات والأفكار الغيبية، وتقديس الزعماء كأنهم يعيشون في مستعمرة البؤساء والمهمشين فلا سلطة لأحد على العشيرة غير سلطة الشيخ" (133)

ينهي الروائي روايته على لسان إمام الجامع بعد مقتل أحلام وذلك بذبحها بسكين الأبوة التي أشبهت سكاكين الإرهابيين بقوله:" على مذبح الأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية البائدة التي تبارك تلك الأفعال الساذجة رحلت عن هذا العالم القاسي الذي لم تجد فيه الراحة والأمان، وذهبت إلى ربٍّ كريم لا يظلم عنده أحد" (165) .

يبدو أنَّ المعاناة التي تقاسي شرورها المجتمعات البائسة؛ نتيجة الجهل والتقيّد بنير العادات والتقاليد وما يلازمها من خرافات وخوف نتيجة السطوة التي يكرسها في النفوس أدعياء الخير من المشعوذين والمتسلطين والإرهابيين والمدعين أنَّهم أولياء الله في أرضه مستغلين سذاجة البسطاء وضعفهم  فيضيفون تعاسةً على تعاستهم ، وناراً على نيرانهم، فصار هؤلاء البسطاء قساةً حتى على أنفسهم وذويهم بفعل تلك العادات والمعتقدات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي جعلتهم أسارى بها لا يمتلكون حرية الوعي والتثقيف للخلاص من سجون العبودية المقيتة.

نتمنى التوفيق للدكتور رحيم الغياض المزيد من النتاجات الأدبية ذات المضامين الهادفة، والرؤى الإبداعية الناضجة. ومن الله التوفيق.

***

بقلم: أ. د. رحيم الغرباوي

الأسلوب السردي والتعبيري:

القصيدة تتبنى أسلوبًا سرديًا معبرًا، يتنقل بين الألم الشخصي والتأملات الفلسفية حول الذات والمعاناة. الشاعرة تُظهر حالة من القلق الداخلي، ممزوجة بالإحساس بالضعف والمواجهة مع الماضي. يبرز الأسلوب التأملي في تساؤلاتها المستمرة عن كيفية التغلب على المعاناة.

الرمزية:

الرمزية تهيمن على القصيدة من خلال استخدام الصور الدالة على الصراع الداخلي. تعبيرات مثل /شِراك ضعفي/، و/بحرٌ جف الحرف/، و/رأس أفعى/ تُظهر تداخل المشاعر السلبية، حيث يرمز البحر الجاف إلى عجز اللغة عن التعبير عن الذات، بينما الأفعى تُمثل التهديد المستمر. كما أن /الكنانة فرغت/ ترمز إلى الفراغ الداخلي، مع صورة الأرملة الثكلى التي تعكس فقدان الأمل والاتصال.

التقنيات البلاغية:

الشاعرة تستخدم الصور الشعرية مثل /يذهب في غيبوبة التعبير/ و/حكايا لا يتسنى لها فرصة الإنقاذ/ لتصوير شعور الخيبة والتعثر في التعبير. بالإضافة إلى استخدام الاستفهام، الذي يضيف طابعًا من التساؤل والبحث عن المعنى، مما يزيد من حدة الشعور بالعجز والضياع.

الصراع الداخلي:

تتناول القصيدة الصراع الداخلي بين الألم والرغبة في الهروب من الضعف. /أحتاج الأمان حتى الوهم/ تعكس حاجة الشاعرة للأمان حتى لو كان هذا الأمان غير حقيقي، مما يبرز التشويش النفسي الذي تعيشه. المعركة مع الذات واضحة في التساؤلات المستمرة حول كيفية النجاة من الثأر، والغرق، والصمت.

التناقض بين الظاهر والباطن:

هناك تناقض بين الصورة الظاهرة للألم وبين البحث عن الأمل أو الخلاص. يتجلى ذلك في /لا الطير غادر عشه ولا الصياد عاد بحلم حنيذ/، مما يشير إلى الفقدان المستمر، والبحث عن شيء ضائع أو مفقود. وهذا التناقض بين الفقد والبحث عن الأمل يعكس حالة من التوتر الوجودي.

الخلاصة:

/حلمٌ في الليالي الحرُم/ هي قصيدة مليئة بالتأملات النفسية والتساؤلات الوجودية. تُظهر الشاعرة صراعًا داخليًا مفعمًا بالصور الرمزية التي تشير إلى الفراغ الداخلي، والخوف، والصراع مع الزمن. اللغة المجازية المعقدة، والإيقاع الساكن للمشاعر، يعكسان حالة من التشويش والبحث الدائم عن الخلاص، مما يجعل القصيدة تحمل وزنًا نفسيًا عميقًا وتُبرز عمق المعاناة.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق.

.......................

حلمٌ في الليالي الحرُم

كيف أجعلُ من هذه الأوراق كتفاً أبكي عليه ومن الكلمات والإشارات قامة تُهدِّئ رياح دمي من يزيح عني ثأراً أقدم منّي كيف أعْبُر شِراك ضعفي وما بيننا بحرٌ جف الحرف زورقٌ أحمقُ الخطى يسير إلى الغرق بطيش أبثه الصرخة فيتفجر الحبر يذهب في غيبوبة التعبير حكايا لا يتسنى لها فرصة الإنقاذ ربما يقرأ خوفي المُطل رأس أفعى تلدغ في العمق أحتاج الأمان حتى الوهم و الانتظار معولٌ يدق في أديم الصبر ليس كل ذلك ثرثرة أوراق بل تُهَمٌ وقصد أدعيه قد لا تدفع عني لوم الصيد في الأشهر الحرم الكنانة فرغتْ كأرملةٍ ثكلى لا الطير غادر عشه ولا الصياد عاد بحلم حنيذ

***

يسرا طعمة - سوريا

 

تبدأ العلاقة الأسلوبية اللغوية بين الأديب والمجتمع في اللحظة التي يلج فيها الأديب إلى روح المجتمع ليستلهم منه إرهاصات وومضات قلمه، وعدسة رؤيته ليرسم صورة حدث قد تبدو لغيره غير واضحة المعالم، ويسطر أحداث حكاية رصدتها الأعين، وهي نفسها كانت حدثا ترك أثره في القلوب، لكن دون ان يجرأ أحد على مزج الصورة بالكلمة ليصنع حكاية تندك في عمق الواقع. وهو بعمله ذاك يفتح باب الخيال من خلال تزاوج واقعي يجمع موهبة الأديب في استخدام خزينه اللغوي، مع الأسلوب السردي البعيد عن التعقيد، بما يبدو وكأنه محاكاة حقيقية لأوجاع المجتمع، وهو أمر بالغ الأهمية والضرورة لأنه يجعل المتلقي جزء من العمل، بل جزء من الحدث نفسه، بمعنى أنه يحشر المتلقي ضمن تلافيف النص وحدود الرؤية، وذلك وحده ممكن أن يُحدثَ تبادلا إيجابيا بين السارد وبيئته ومجتمعه ويمزق شخوص الحكاية للتفاعل مع الواقع الحياتي للمجتمع بشكل عام، حتى لو كانوا مجرد شخوص وهميين مبتكرين لا وجود لهم على أرض الحقيقة، وتلك إشارة واضحة للموهبة والقدرة الفريدة على خلق أشخاصا وأحداثا وهمية لا تمت للواقع بصلة تذكر، تنجح غالبا في خداع المتلقي، فلا يستطيع التفريق بينها وبين الحقيقة، في عالم مغرق بالعجائب.

من هنا أرى أن الأديب الذي يلتقط أنفاس المجتمع وهمساته وتداعيات حياته اليومية والصورة التي ترتسم على الملامح الرثة المتعبة ليخلق منها رواية تلقى قبولا غير مسبوق، هو الأديب الحقيقي، الذي يجازف بكل ما يملك، فيخوض دون تردد مغامرة غير أكيدة، ليجعل من عمله المقتبس من الحياة بشكل فانتازيا مغرقة بخيالات بوهيمية تجمع بين الطيبة والشراهة مرآةً تعكس صور تلك الأجسام التي لا يمنحها التصوير التقليدي مساحة لتُظهر جمالها الداخلي؛ صورة تدهش القارئ وتثير سيلا من الأحاسيس من خلال تفعيل المخيال (Imagination) (1) الذي تحفزه بشراهة، وتدفعه عنوة كشفا وتطلعا لما هو أبعد من حدود العقل الساذج والروح التقليدية، فالمخيال: ضوء يستخدم عادة من أجل عكس صورة بعض الحاجيات ذات اللون الداكن أو الشفافة على الشاشة، لتصبح واضحة ومرئية، وهو من مصطلحات علم النظريات (2).

وأنا واقعا تعمدت استخدام هذا المصطلح وفقا لرأي "غراسي" في القضايا التي عالجتها النزعة العلموية الوضعية، وقصرت أبحاثها عليها في محاولتها توجيه النظر إلى أهمية مسائل (الصغرى) "الميكرو" التي حجبتها قضايا (الكبرى) "الماكرو" (3)، لأني وجدت رأيه يعبر تعبيرا حقيقيا وصادقا عما أردت قوله عن رواية "أوجاع على نهر الغراف"، وما انماز به الراوي رحيم جودي في عمل هو بكر نتاجه الأدبي.

ذلك لأن ما يميز الإنسان ويعطيه الخصوصية الوجودية التي تعينه على التفاعل مع الحدث هي قدرته على عقلنة فوضى الأشياء، دون أن يعيد خلقها وفقا لتطلعاته، وإنشاء شبكات عديدة من الرموز والمعاني التي تتداخل فيما بينها لتخلط بين الخيال والواقع، لتسعى من وراء ذلك إلى إعادة تأثيث الواقع، وهي محاولة لإعادة بناء العالم المادي والمعنوي وفق سياقات المنطق واللامنطق، وبالتالي أرى أنها هي التي تُرسي نظام العلاقة الخلاصية المبتكرة والواقعية بين الكاتب وبين المجتمع.  فالكاتب مهما كان مبدعا ومتألقا يبقى حبيس هاجسه ما لم يغادر المساحة الشخصانية الضيقة التي يحشر بعضهم روحه فيها، ليسيح بدلا عن ذلك في دنيا الوجود بكل إرهاصاته وخيالاته ووقائعه وكل صور الطيبة والتوحش فيها.

إن اقتباس الكاتب من عمق المجتمع صورا مختلفة الأبعاد ليعيد بهرجتها وتزويقها وإعادة بنائها من أجل أن يخلق من مجموعها حدثا يثير التساؤل والشكوك، هي مرحلة النضج الروائي الحقيقي، فالسرد وحده لا يخلق تواصلا أثيريا بين الكاتب والمتلقي، بل هو إعادة بناء مبتكرة لصور المعاناة والفرح بما يمنحها ملامح شخصانية يشعر المتلقي وكأنها تعكس صورته، وهي الفعل الأثيري الذي يعيد تحديد الهويات، من خلال صور التناقض التي تزدحم فيها، ومن خلالها تستوطن في الروح.

إن رواية "أوجاع على ضفاف الغراف" محاولة للارتحال عبر بوابات الزمن بحثا عن عشبة الخلاص من كمد الروح الإنسانية التي أظنت الأيام بسمتها، فضاعت أمنياتها في سيل عرم من التداعي الأخلاقي المدعوم بإرهاصات مجتمع البساطة وسطوة الإرث القبائلي المتمثل بروح البداوة التي ترفض مغادرة الواقع الحياتي، وكأنها عصية على أي تغيير يسعى إليه المجتمع من أجل التقدم خطوة إلى الأمام.

في دنيا الواقع يتفق العقل والمنطق على أنه لا فرق بين وأد فتاة رضيعة، لا تعرف الدفاع عن نفسها، لأنها لا تملك لسانا ولا قوة ولا رغبات، وذبح صبية تتمثل الإنسانية في وجودها بأبهى صورها، لمجرد أنها أرادت أن تمارس حقها الطبيعي، وتشبع رغبة ممارسة الإنسانية لوجودها، مثلها مثل باقي قطيع المجتمع من الجنسين، ولكن باختلاف بسيط، هو أن القانون تواطأ مع القطيع، فأباح له ما أباحته الفتاة لنفسها خلافا لما سنه قانون العرف الرث.

من هنا أرى ان رواية رحيم جودي البِكر؛ والتي نأمل ان تتبعها روايات أخرى لا تقل عنها شأنا، جاءت لتعترض على موروث يستلب إنسانية الإنسان، جاءت تدعو إلى احترام إنسانية الإنسان، جاءت تدعو إلى الخلاص من خلال تنقية الروح من درن مواريث السذاجة التي لا تحترم رغبات الإنسان، في وقت لا تتيح له أن يمارس تلك الرغبات تحت ظلال القانون بدوافع فيها الكثير من الأنفة الكاذبة.

أما ختم الرواية بجملة: "إنها ابنتي" التي رددها الرجل (والدها) الذي ذبح بطلة الرواية (ابنته) "أحلام" في محاولة منه للدفاع عن "رجولته" المتهافتة إلى حد الإذلال، فكان ومضة اختزلت إلى حد النانو مواريث الأمة وتداعياتها المغرقة بالازدواجية والسذاجة، وبالكثير من التوحش الإنساني؛ الذي يقود المرء أحيانا للسير خلاف ما تريده السماء من أجل الحفاظ على رجولة سبق وداستها إكراهات المجتمع عشرات المرات، فوَّلدت في داخله عقدة نقص قضى عمره كله بحثا عن شفاء لها، فلم يجده إلا بنحر ابنته، وسلب روحها، ناسيا أنه ليس رباً بل عبدا آبقا عصى مولاه، وارتكب جرما سوف يحاسب عليه حسابا عسيرا.

صدرت رواية "أوجاع على نهر الغراف" للكاتب والأديب والباحث الدكتور رحيم جودي عن دار النخبة المصرية بغلاف يحمل صورة من التراث العراقي الموغل في القدم، وكأن مصممه أراد أن يربط بين أحداث الصورة وتلك المواريث التي عفا عليها الزمان، والتي تمارس خلافا للقانون؛ الذي يتساهل دائما مع المجرمين من هذا النوع.

والرواية هي العمل الأدبي الأول الذي نأمل ألا يكون الأخير، وأن يستمر العطاء الثر لرفد ساحة الأدب العراقي والعربي بأعمال مائزة فيها الكثير من الإمتاع والمؤانسة.

***

الدكتور صالح الطائي

...........................

هوامش

(1) بعلبكي، منير، المورد الحديث: قاموس إنكليزي عربي، منير البعلبكي ورمزي البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، 2008، ص: 402.

(2) المكتب الدائم لتنسيق التعريب في العالم العربي، المعجم الموحد لمصطلحات الفنون التشكيلية: (إنجليزي - عربي - فرنسي)، سلسلة المعاجم الموحدة (24)، جامعة الدول العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الرباط، 1999. ص:27.

(3) غراسي.، فالنتينا، مدخل إلى علم اجتماع المخيال: نحو فهم الحياة اليومية، ترجمة: محمد عبد النور وسعود المولى. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (سلسلة ترجمان)، الدوحة ـ بيروت، 2018، ص:24.)

(4) جودي، الدكتور رحيم، أوجاع على نهر الغراف، دار النخبة، القاهرة، 2024.

 

الأسلوب السردي والتعبيري: القصيدة تندرج تحت الأسلوب السردي التعبيري الذي يركز على المشاعر الذاتية والتجربة الشخصية للشاعر. يطرح الشاعر عبر لغة مألوفة حوارًا داخليًا مع القارئ، حيث يتأمل الحياة اليومية والمشاعر التي تصاحبها. الحديث عن التعب يختلط مع تصوير صور الحياة اليومية، مما يعطي القصيدة طابعًا حياتيًا واقعيًا.

الصور الشعرية والتشبيه:

الشاعر يستخدم صورًا شعرية عديدة مثل /النافذة وقد أضاءت الشمس حروف حكمتها/ و/النايات التي تراودك/ لخلق انطباع عن الأمل الذي يتسلل إلى حياتنا رغم التعب. الصورة الأخيرة تبرز كما لو كانت النايات تحمل إشارة إلى الماضي وأوجاعه، لكن الشاعر يحاول عدم الاستسلام له. هذه الصور تخلق مشهدًا مرئيًا ينقل القارئ إلى عالم الشاعر الداخلي.

التكرار والإيقاع:

يتميز النص بتكرار الجملة /لأنك متعب/، وهي بمثابة مفتاح للقصيدة، حيث تعكس انشغال الشاعر بحالة التعب العاطفي والنفسي الذي يعيشه. التكرار يساهم في خلق إيقاع شعري ثابت ويعزز إحساس القارئ بأن هذه الحالة هي موضوع القصيدة الرئيسي.

الرمزية والمفارقة:

هناك مفارقة بين السكون والراحة التي تبحث عنها الذات في ظل تعبيرات /النايات/ و/حروف الحكمة/ من جهة، وبين حياة المدينة المكتظة بالمحلات التجارية وصور الفاتنات والإعلانات التي تلهي الناس من جهة أخرى. هذه المفارقة تخلق توترًا بين ما هو داخلي (التعب والبحث عن الراحة) وما هو خارجي (حياة المدينة الصاخبة).

البُعد الفلسفي والنفسي:

القصيدة تحمل بُعدًا فلسفيًا في تأملات الشاعر حول مفهوم التعب وكيف يعيشه الإنسان في حياته اليومية. الشاعر يطرح أسئلة عن الحيرة والبحث عن اللحظات الهادئة والهادفة وسط زحام الحياة. /لأنك متعب/ يشير إلى معاناة الإنسان المستمرة ومحاولاته للوصول إلى لحظة صفاء رغم الصخب المحيط به.

الخلاصة:

القصيدة تتسم ببساطة في المفردات، لكن تعبيراتها العميقة تكشف عن إشكالية الحياة اليومية وصراع الذات مع التعب والمشاعر التي تتزاحم في الروح. الصور الشعرية والمفارقات تساعد في بناء عالم معقد داخل النص، يعكس الصراع الداخلي والتحدي في إيجاد الراحة وسط الفوضى.

***

بقلم: كريم عبدالله - العراق

.....................

لأنك متعب

لأنك متعب تستعيد صباحا لا تعكره امزجة الغيوم العابرة ونشرات الأخبار التي التهمت السنوات، ان تنظر مليا ما يجاور النافذة وقد اضاءت الشمس حروف حكمتها لترتب نهار يتسرب منه الدفء ، ولأنك متعب تراودك الدروب كأن تخاتلها الأساطير والحكايات لكن الباعة ينتظمون في اكشاكهم وصور الفاتنات تزين لوحات الإعلانات وتلهم العشاق  ، اما المحلات لا تخلو من فساتينهن المعلقة وهي تسترخي لبهجة الانتظار  ،ولأنك متعب ان لا تأسرك نايات الماضي وخاكي الحروب، لابأس ان تجلس في المقهى لتغتنم ما امكن من الوقت طالما الأفكار تلتف حولك  ،لعلك تحظى بها.

***

قصي خزام ناصر - العراق / السويد

من بين ثنايا الكلمات وعبق الحبر، تشرق علينا باكورة أدبيّة جديدة للكاتب سهيل عيساوي، بعنوان: "والي المدينة"، وهي مجموعة قصصيّة قصيرة جدّا، تسافر بنا إلى عوالم مختلفة، تحلّق في سماء الواقع الاجتماعي والسّياسيّ الّذي نعيشه، وتحرّك الأحاسيس المختلفة في الوجدان.

سأقدّم في هذه المقالة لمحة موجزة عنها، أسلّط الضّوء على عوالمها المكثّفة؛ لنستكشف معا، أسلوب الكاتب في نسج هذه القصص، الّتي تشبه ومضات خاطفة تثير التّساؤلات وتحرّك المشاعر.

صدرت هذه المجموعة الّتي تضمّ ثمان وخمسين قصّة مختلفة، عن دار سهيل عيساوي للطّباعة والنّشر، وتقع في أربع وستّين صفحة من الحجم المتوسّط، يفتتحها الكاتب بالإهداء (ص3) فيكتب: "إلى عشّاق الشّمس، الّذين يحملون هموم النّاس البسطاء.. إلى أصحاب القلوب الكبيرة".

من المعروف أنّ القصّة القصيرة جدّا تشبه ومضة خاطفة، تنير زوايا النّفس المظلمة؛ كنافذة صغيرة تطلّ على عوالم شاسعة، تثير في النّفس تساؤلات عميقة، وتغادرها معلّقة بين الأرض والسّماء، لتبحث عن إجابات في فضاءات الخيال.

هي صرخة في وجه الرّتابة، ولغز أدبيّ مثير، يخبّئ في طيّاته حكايات لا تحصى، تشعل الخيال وتطلق العنان للتّفكير والتّأويل، وهي فنّ يتقن لغة الإيجاز للتّعبير عن عوالم كاملة في سطور قليلة.

في هذه المجموعة، يضع عيساوي بصمته الخاصّة، يتركها في قلب القارئ، ليثير فيه مشاعر متضاربة، ويجبره على مواجهة ذاته، والتّفكّر في معنى الوجود ومآسي الحياة، وذلك عبر رحلة قصيرة، لكنّها عميقة بالمعنى، تكشف عن خبايا الحياة وأسرارها؛ كمرآة صغيرة تعكس واقعا كبيرا، وتلخّص حياة بأكملها في لحظة عابرة.

"والي المدينة" كعنوان للمجموعة:

عنوان "والي المدينة" هو اختيار دقيق ومثير للاهتمام، فهو يحمل في طيّاته العديد من الدّلالات الّتي يمكن أن تتشعّب في اتّجاهات مختلفة.

هذا العنوان لا يقتصر على الإشارة إلى شخصيّة سياسيّة محدّدة، بل يتجاوز ذلك ليصبح رمزا يحمل العديد من المعاني، وأوّل ما يتبادر إلى الذّهن عند ذكر "والي المدينة" هو صورة الحاكم والقائد.

الوالي يمثّل السّلطة والقوّة، وهو شخصية محوريّة في أيّ مجتمع. يمكن لهذا العنوان أن يستخدم كرمز للسّلطة بشتّى أنواعها، سواء كانت سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينيّة، والقصص في هذه المجموعة تتناول جوانب مختلفة من السّلطة، مثل تعسّفها، أو عدالتها، أو تأثيرها على حياة النّاس، تستكشف القصص أيضا الصراع بين السّلطة والفرد، وبين السّلطة والقيَم الأخلاقيّة.

"المدينة" في العنوان لا تشير فقط إلى مكان جغرافيّ، بل هي رمز للمجتمع بكلّ تعقيداته وتاريخه، فالقصص تتناول أيضا التّقاليد والعادات والقيَم الّتي تربط النّاس بمدينتهم، وكيف تتفاعل هذه القيَم مع التغيّرات الاجتماعيّة والسّياسيّة.

صحيح أنّ والي المدينة يمثّل السّلطة، لكن.. يمكن أن تمثّل الشخصيّات الأخرى في القصص، الفرد الّذي يسعى إلى تحقيق ذاته في ظلّ هذه السّلطة، فالقصص تستكشف أيضا الصّراع بين الفرد والمجتمع، وبين الرّغبة في التّغيير والحفاظ على التّقاليد.

قصّة "طوشة" (ص5)، تقدّم صورة مكثّفة لواقع اجتماعيّ معقّد، وتسلّط الضّوء على ظاهرة العنف، وانتشار ثقافة "الشّلليّة" بين فئة الشّباب.

تنطلق أحداث القصّة بخطىً سريعة، حيث يبدأ "المعتدي" بالتّحديق بالضّحيّة بنظرات حادّة تنذر بقدوم مواجهة وشيكة، ثمّ تنتقل إلى استدعاء المعتدي لأصدقائه عبر رسالة قصيرة في مجموعة "الصّقور الجارحة"؛ لتنتهي بالاعتداء الجماعيّ على "الضحيّة" دون سبب واضح. وبما أنّها قصّة قصيرة جدّا، فهي تركّز على سرد الأحداث بشكل سريع، دون التعمّق في وصف الشّخوص أو الخوض في تفاصيل البيئة المحيطة، لكنّ القارئ الفطن، يمكن له أن يستشفّها من خلال الإشارات الدّقيقة والإيحاءات المكثّفة الّتي وظّفت في النّصّ، الّذي صيغ بكلمات قليلة مختارة، ليجسّد بيئة محدّدة بأبعادها المكانيّة والزّمانيّة والاجتماعيّة.

تُظهِر القصّة شخصيّتين رئيسيّتين: "الضّحيّة" و"المعتدي"، دون الكشف عن أسمائهما أو خلفيّاتهما الشّخصيّة، مما يضفي على القصّة طابعا رمزيّا واضحا.

يعتمد الكاتب على لغة أدبيّة مباشرة، تناسب طبيعة الأحداث السّريعة والمكثّفة.  يستخدم بعض الصّور الفنّية؛ لإضفاء الحيويّة على السّرد، مثل تشبيه نظرة "المعتدي" بعين النّسر، ووصف الحارة بالضّيقة، واستخدام كلمة "الغضّ"؛ لوصف جسد الشاب "الضّحيّة" وعدم قدرته على مواجهة "المعتدي" ورفاقه.

يطرح هذا النّصّ قضية العنف بين الشّباب، يسلّط الضّوء على السّلوكيات العدوانيّة الّتي تنتج عن أسباب تافهة أو وهميّة، ويشير إلى خطورة ثقافة "العنف" الّتي تؤدّي إلى تكوين جماعات تمارس البلطجة على الآخرين، كما يبرز مفهوم "الهيمنة" الّتي تتمثّل في قدرة "المعتدي" على استدعاء أصدقائه؛ للوقوف معه حتّى في المواقف الّتي لا تحتاج لذلك.

يعتمد الرّاوي وجهة النّظر العليمة بشكل واضح، ناقلا لنا أفكار الشّخصيات ومشاعرها، كما لو أنّه ينظر إلى عوالمهم الدّاخليّة من نافذة شفّافة، فيمكّننا من  خلال رؤيته الشّاملة فهم تصرّفات شخوص العمل، مما يضفي على السّرد صبغة  من  الموضوعيّة، ويمنحنا نظرة أكثر عمقا على أبعاد القصّة وتفاصيلها الدّقيقة، الّتي تطرح بعض الظّواهر الاجتماعيّة السّلبيّة المنتشرة في مجتمعاتنا، مثل العنف والبلطجة وانعدام الأمن والاستهتار بالقانون.

يركّز النّص أيضا على غياب الحوار البنّاء والتّواصل بين الأفراد، واستخدام العنف كوسيلة لحلّ الخلافات، يقدّم لوحة رمزيّة مكثّفة تثير التّساؤلات حول السّلطة وسلوكها تجاه الأفراد.

يمكن النّظر إلى "المعتدي" في القصّة على أنّه انعكاس للسّلطة القمعيّة الّتي تمارس العنف دون وجه حقّ، وتسخّر قوّتها في تجييش الأنصار للقضاء على أيّ معارضة مثلا. كما توحي نظرة "المعتدي" الحادّة بعين السّلطة الّتي تراقب الأفراد وتلاحقهم، وتثير في نفوسهم الخوف والقلق.

مقابل ذلك، تجسّد "الضّحيّة" المواطن المقهور، الّذي يتعرّض للقمع والظّلم دون أن يستطيع الدّفاع عن نفسه.

كما يعبّر السّؤال عن سبب الاعتداء، عن حالة الضّياع والتّيه الّتي يعيشها الفرد في ظلّ الأنظمة القمعيّة، الّتي لا تقدّم تفسيرات أو مبرّرات لأفعالها، وتترك المواطن لمواجهة مصيره، يلملم جراحه بصمت.

تضفي عبارة "الحارة الضّيقة" بعدا رمزيّا آخر، حيث تشير إلى "المجتمع المقيّد"، الّذي يفتقر إلى الحريّة والتّعبير عن الرّأي، وتوحي "الحارة" بالتّضييق على الأفراد وعدم إتاحة المساحة الكافية لهم للتّحرّك والتّنفس، في ظلّ أجواء مشبعة بالخوف  والتّرهيب، تمثّلها "المفرقعات" الّتي تطلق؛ كأدوات للسّلطة في إخافة النّاس وقمعهم.

أيضا، يبرز غياب العدالة وانتشار الظّلم في المُجتمع، حيث يتعرّض النّاس للاعتداء دون أيّ ذنب، ثمّ يعبّر سبب الاعتداء "داس على خيالي" عن تفاهة الأسباب الّتي قد تؤدّي إلى ممارسة العنف، وانتشار هذه الثّقافة في المجتمع، وغطرسة البعض دون أيّ رادع أو محاسبة.

أيضا.. تطرح القصّة، قضيّة مهمّة وهي خطورة ثقافة "القطيع" الّتي تؤدّي إلى تبعيّة الأفراد للسّلطة الحاكمة، الاجتماعيّة أو السّياسيّة، دون تفكير أو تمحيص. ويمكن تفسير استجابة الشّباب لرسالة "المعتدي" على أنّها خضوع للسّلطة، وتنفيذ لأوامرها دون نقاش، مما يؤدّي إلى غياب الإرادة الفرديّة، وتحوّل الأفراد إلى أدوات طائعة، يُستَخدمون للقمع وإسكات الأصوات المعارضة.

تعتبر هذه القصّة مهمّة، لما تطرحه من قضايا حسّاسة، وتشكّل دعوة إلى التّفكير في أسباب العنف وطرق معالجته.

قصّة أخرى بعنوان "وطن" (ص47)، وهي تقدّم لوحة رمزيّة مؤثّرة عن سقوط وطن وأوجاعه، ويمكن أن يمثّل النّص الوطن نفسه أو المواطن المُتمسّك به، يحاول النّهوض رغم جراحه، ليعانق الحياة بكلّ مظاهرها: أبناؤه، الورد، النّجوم، الشّمس.

هذه الرّغبة في الحياة والتّجدّد، تتجلّى في الأفعال "يلعق"، "يضم"، "يشم"، "يعانق"، "يبتسم"، الّتي تعكس جميعها حالة من التّفاؤل والإيجابيّة، لكنّه يصطدم بواقع قاس، يرمز له "الحبال والسّكاكين والبارود"، هذه الأدوات الّتي ترمز للعنف والقمع تحول دون نهوضه وتدفعه للسّقوط.

"عتاب للشّمس" يعكس خيبة الأمل من قوى الخير الّتي تبدو عاجزة عن حمايته. أمّا "صندوق التّاريخ المتأرجح" فيشير إلى تراث الوطن وهويّته الّتي يحاول التشبّث بها رغم السّقوط. 

القصّة مكثفة ومؤثّرة رغم قصرها الشّديد، واستخدام الرّموز يضفي عمقا على المعنى ويفتح الباب لتأويلات متعدّدة، والتّناقض بين رغبة الوطن في الحياة وأدوات القمع الّتي تواجهه، يخلق حالة من التوتّر الدّراميّ. 

بشكلٍ عام، فقصّة "وطن"، ناجحة في تصوير معاناة الوطن بأسلوب مكثّف وشاعريّ.

أمّا قصّة "والي المدينة" (ص21)، فعنوانها هو عنوان المجموعة، يوحي بوجود صلة وثيقة بين جميع القصص الّتي تدور تقريبا، حول ذات المحاور المطروحة في قصة "والي المدينة"، مثل السّلطة والقوّة، والتّاريخ والمجتمع، والفرد والجماعة، وبعض الممارسات والعادات والظّواهر الاجتماعيّة السلبيّة.. إلخ.

مع ذلك، فإن كلّ قصة تقدّم رؤية جديدة وشخصيّة لهذه المحاور، مما يجعل المجموعة ككلّ عملا متنوّعا.

"والي المدينة" هي قطعة أدبيّة تثير التّفكير حول طبيعة السّلطة والعدالة والانسانيّة، من خلال حكاية بسيطة عن حلم يراود الرّاوي، يتمكّن الكاتب من تقديم نقد لاذع لبعض الممارسات الاجتماعيّة المتجذّرة، وخاصّة تلك المتعلّقة بالعقاب الجسديّ.

تبدأ القصّة بوصف بسيط ليوم عادي ينقلب إلى عالم الأحلام، حيث يرى الرّاوي والي المدينة يأمر بقطع يد سارق. هذا الحلم، البسيط في ظاهره، يحمل رمزيّة عميقة. فـ"قطع اليد" لا يمثّل العقاب الجسديّ فقط، بل يرمز إلى العقاب الّذي كان سائدا في بعض المجتمعات، كما أنّ "السّوق القديم" الّذي يذكره الرّاوي يرمز إلى التّراث والتّقاليد المتوارثة، والّتي قد تحمل بعض الممارسات الباليّة القديمة.

إن غياب الكف بعد الاستيقاظ يجسّد فقدانا رمزيّا لشيء ثمين، وهو يدلّ على الخوف من المستقبل، والخوف من أن تتحوّل الأحلام إلى كوابيس.

هذا الحلم يعكس أيضا التوتّر بين الماضي والحاضر، حيث تتداخل تقاليد الماضي مع واقع الحاضر.

شخوص القصّة محدودة، لكنّها تحمل دلالات عميقة، فالرّاوي يصوّر الفرد البسيط الّذي يعكس مخاوف وهموم المجتمع، بينما يمثّل والي المدينة السّلطة والقوّة الّتي تتّخذ قرارات مصيريّة، أمّا السّارق فهو غائب بشكل مباشر، لكنّه حاضر في الوعيّ الجمعيّ كرمز للمجرم والمنحرف.

تتميّز القصّة بلغة بسيطة وواضحة، مما يسهل على القارئ استيعابها، لكنّها في الوقت نفسه تحمل عمقا فكريّا، إنّ استخدام الرّمزيّة والتّشبيه يضفي على القصّة جمالا أدبيّا.

أيضا، يمكن النّظر إلى هذه القصّة من زوايا متعدّدة، فهي نقد اجتماعيّ لاذع، وتساؤل فلسفيّ حول طبيعة العدالة، ودعوة إلى إعادة النّظر في بعض القيَم والتّقاليد المتوارثة، كما يمكن قراءتها على أنّها تعبير عن الخوف من المجهول، والرّغبة في التّغيير.

وبعد.. يمكن القول إنّ مجموعة "والي المدينة" تقدّم لنا قراءة نقديّة للمجتمع والإنسان، وتجمع بين الواقع والخيال، بين الماضي والحاضر.

ختاما، أبارك للأستاذ سهيل عيساوي هذا الإصدار وأشكره على الإهداء الجميل، وأتمنّى له مواصلة مسيرته الأدبيّة بالتّألّق والنّجاح.

***

صباح بشير – أديبة وناقدة

"حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملومة كقطرة ماء"

مدخل: تتلاعب قدرة الشاعر جمال مصطفى في الحياكة الباذخة للكلمات من اجل خلق عوالم من الدهشة.. ندية المبنى.. بليغة المعنى.. شاهرًا ودائعه اللغوية بلا صخب.. وخائضا حلباتها بلا وجل.. منفتحًا كأفق.. وملمومًا كقطرة ماء مشتهاة..

تمثل تجربة الشاعر جمال مصطفى المدهشة في هندسة القصيدة العمودية مادة دسمة للدراسة والتحليل لما تحمله من رشاقة في البناء وصور فخمة ومبهرة وكلمات ذات ابعاد فكرية وانزياحات ودلالات قل نظيرها في شعرنا المعاصر.. والذي يدل على انه لا يكتب القصيدة الا بعد ان يستوفي شروطها التي تكمن في جمع العديد من الشواهد والمشاهد التي سعى بجد وبجدارة ليملأها بماء الشعر فتأتي نَظِرَة ومُسِرّة للقارئين فكل بيت فيها يبهرك بحسن صياغته ودقة وقعه وموقعه وامتلاء مفردته بأريج حصافته..

جمال مصطفى، كما عودنا، يطبخ قصيدته بنبيذ التأمل ويلمعها بماء الخلود فتأتي واردة لا شاردة.. لا يماثلها الا نبضه وهو يتبصر في كتابة القصيدة.. فيقطرها كمصائر العناقيد..

القصيدة التي بين أيدينا هي آخر نص ادبي نشره جمال مصطفى حسب علمي.. النص الجدير بالتأمل والتفكير وإعادة القراءة على مستويات عدة.. ولأني اعتقد ان ليس هناك تفسير واحد او قراءة واحدة له.. فان ما انا ذاهب اليه لا يعبر الا عن جزء من حقيقة انه مجرد راي شخصي وتفسير مجزوء.. ادعي، انه لا يخص أحدًا غيري لأني أرى ان القصيدة تستدعي من بين ما تستدعيه امكانية الاستعانة بعلوم أخرى لفهم أعمق للمعاني الكامنة في النص.

ان ما يميز هذه القصيدة.. وهي ميزة استثنائية لا يحددها الا هو.. بهندسة بارعة الذكاء واقتدار باهر النجابة في اختيار الموضوعات وامتدادها.. مملوءة بماء الشعر ونبض الجملة الشعرية.. بتركيبها وعلاقة مفرداتها من حيث البراءة والتوقد.. فتجيء مترفة ومدهشة..

في قصيدته الملحمية "بانوراما برج بابل" التي تشكل مشهداً شعرياً عميقاً يستحضر رمزية برج بابل القديمة ويجعلها حاضنة لمجموعة من الأفكار والتأملات الفلسفية، الدينية، والإنسانية، من خلال استخدام الرموز والأساطير ليخلق عالماً متداخلاً من المعاني.

سأعمل على تناولها اجمالا.. كمدخل قبل ان افصل في قراءة كل فقرة فيه بما اوحت لي من دلالات ومعاني وانزياحات عليّ اوفق بما عزمت عليه..

1. الأبعاد الفلسفية والفكرية:

** يرتكز النص على تأملات فلسفية حول الصعود والسقوط، والتعالي والانحدار. برج بابل هنا لا يمثل مجرد بناء معماري، بل هو استعارة عن الطموحات الإنسانية، وعن قدرة الإنسان على الصعود والتطور، ولكنه أيضاً يحمل في طياته إشارة إلى احتمالية الفشل والانهيار. يقول في المقطع الأول: "كيف تصعد، لا سلالم؟"، ما يعكس استحالة الوصول إلى الكمال من دون وسيلة، وهو هنا قد يرمز إلى السعي البشري للمعرفة والحكمة من خلال أدوات الفكر والعقل. التساؤل حول الصعود، والحديث عن الأبراج التي "لا ترقم بل تسمى" في المقطع الثالث، يفتح الباب أمام التفكير في أن بعض القيم والمعاني لا يمكن تحديدها أو حصرها، فهي أبعد من أن تُدرك بسهولة.

2. البعد الرمزي والأسطوري:

يستخدم الشاعر أسطورة برج بابل القديمة، والتي تتعلق بقصة طموح البشر لبناء برج يصل إلى السماء تحدياً للإله، كرمزٍ للتحدي الإنساني للطبيعة والآلهة. في المقطع الرابع والخامس، يشير إلى "قرميدو وإقصيدو"، وهما مهندسان بنّاءان، وربما يمثلان العقلانية والخيال، أو الواقع والحلم. البرج هنا يصبح رمزاً لهذا التوازن بين البناء والتدمير، بين الحقيقة والمجاز. يقول في المقطع الثامن: "الحقيقة كالمجاز"، في إشارة إلى تعقيد الحقيقة ذاتها، وأنها ليست مطلقة بل نسبية، تتداخل مع المجاز.

3. الأبعاد الأدبية والإبداعية:

على المستوى الأدبي، يمتاز النص بثراء اللغة وتنوع الصور الشعرية، التي تتجاوز الوصف المباشر إلى خلق مشهديّة شعرية متداخلة. النص يستخدم أسلوب التداعي الحر، حيث تنتقل الأفكار والصور من حجرة إلى أخرى في البرج، مما يعكس عمق التجربة الشعرية. في المقطع الحادي عشر، على سبيل المثال، "البرج أعْرَقُ منكِ بابل، البرج أحلام الأوائل"، نجد أن البرج يصبح رمزاً لأحلام الإنسان القديم في التحرر والانتصار على العلو والرفعة.

4. الأبعاد الاجتماعية والإنسانية:

النص يحمل تأملات عميقة في العلاقة بين الإنسان والسلطة، وبين العبيد والأسياد. في المقطع التاسع عشر، على سبيل المثال، نجد تلميحات إلى التمرد الاجتماعي والإنساني، حيث يصرح الشاعر: "البرج معبد"، لكنه سرعان ما يتحول إلى موضع للتمرد حين يقول: "البرج معجزة العبيد". هذا التعارض يعكس الصراع الأبدي بين الطموح البشري نحو الحرية والقيود التي تفرضها القوى العليا، سواء كانت آلهة أو سلطة بشرية. والتي تجبر العبيد على تشيد وبناء أمثال هذه المآثر والعجائب

5. البعد الديني والتأملي:

على المستوى الديني، يمتلئ النص بالرموز الدينية من مختلف الثقافات والحضارات. نجد إشارات إلى الأنبياء (مثل المقطع الثلاثين الذي يتحدث عن غرفة يسوع)، وإلى الأساطير الدينية (مثل المقطع العشرين الذي يتحدث عن "أجنحة جبرائيل" و"ألواح الزمرد"). البرج يصبح في هذا السياق مكاناً للالتقاء بين الدنيوي والمقدس، بين الأرضي والسماوي. في المقطع الحادي والثلاثين، نرى "حجرة المصطفى"، حيث "الكتابة لابن مقلة" والديك يؤذن في الفجر، مما يعكس اتصالاً بين الروحانيات الإسلامية والرمزية العالمية لهذا البرج.

6. الرمزية والهندسة المعمارية الفكرية:

النص يستخدم البرج كرمز للمعرفة والتنوير، لكنه أيضاً يشير إلى جوانب فلسفية عميقة متعلقة بالصعود والهبوط، بالبناء والهدم. في المقطع السادس عشر، نجد "حجرة التيجان"، التي يدخلها المرء كما لو كان إمبراطوراً، ولكن النص لا يكتفي بالرمزية الملكية، بل يضيف لها بعداً فلسفياً يعكس زوال السلطة وفناء الملوك. البرج هنا يتجاوز كونه بناءً هندسياً ليصبح معبراً عن صعود وسقوط الحضارات والإنسانية.

7. الأبعاد الإنسانية والوجودية:

هناك حس وجودي عميق في هذه المقاطع، حيث يتم تناول مواضيع مثل الحرية، السقوط، والصعود. المقطع السابع يقول: "النزول كهاوية"، مما يعكس فكرة الوجود الإنساني الذي دائماً ما يسعى للصعود نحو الكمال، ولكنه يواجه خطر السقوط في الهاوية. الفكرة تتكرر في المقطع الثالث عشر عندما يقول: "برج الطيور معاً تطير لكي تطرز في الصباح سماء بابل"، وهو تصوير للحرية والرغبة في التحليق نحو الأعلى، رغم ما يواجهه الإنسان من قيود.

8. الرموز الزمنية والتاريخية:

يحتوي النص على إشارات زمنية تاريخية، تربط الماضي بالحاضر. في المقطع العشرين، يتحدث عن "حجر الفلاسفة، الهَيُولَى، البَهِيموث"، وهي رموز تعود إلى الفلسفة والعلم القديم، مما يربط بين المعرفة القديمة والبحث المعاصر عن الحقيقة. البرج يصبح متحفاً للرموز والأفكار عبر التاريخ، فهو لا يمثل مجرد مكان مادي، بل مستودعاً للذاكرة البشرية. الزمن في هذا النص ليس خطياً، بل دائرياً، يتكرر من خلال الصعود والهبوط، والتفاعل المستمر بين الماضي والمستقبل.. انها ديالكتيكية الانزياح..

9. البعد الرمزي للغات والثقافات:

يتناول النص في عدة مقاطع فكرة التواصل واللغات، وهي جزء من الأسطورة الأصلية لبرج بابل، حيث تسبب انهدامه الى تبعثر اللغة الواحدة الى اللغات المختلفة في تشتيت البشرية. في المقطع الأول، نرى إشارة إلى "اللوح الكتاب"، مما يعكس أهمية المعرفة والكتابة في بناء البرج، ولكن هذه المعرفة ليست متاحة للجميع، فهي تتطلب بحثاً واكتشافاً. في المقطع الأخير، نجد حواراً بين العاملين في البرج، مما يعكس تباين الآراء حول كيفية البناء، وهذا قد يكون رمزاً لتعدد الثقافات واللغات التي لا تزال تشكل تحدياً للتفاهم البشري.

10.        البعد الصوفي والتأمل الروحي:

من أروع جوانب النص هو الطابع الصوفي الذي يتخلله. المقطع الرابع عشر، على سبيل المثال، يتحدث عن "حجرة الشامان"، حيث تتحول الحجرة إلى غابة، وتفهمك الأيائل "فقه إبكاء السحابة"، مما يخلق جواً روحياً يتجاوز المادي والمباشر. هذه اللحظات الصوفية تأخذ القارئ إلى عوالم أخرى من التأمل، حيث يصبح البرج مكاناً للتجلي الروحي وليس فقط المعماري.

"بانوراما برج بابل" هي رحلة شعرية عبر الرموز والتأملات، تجمع بين الفلسفة والدين، بين العمارة والخيال، وبين التاريخ والرمزية. فالنص لا يقدم مجرد وصفٍ للأشياء، بل يخلق عالماً متكاملاً تتفاعل فيه الأفكار والمعاني بشكل ديناميكي. البرج يصبح هنا رمزاً للإنسانية بكل تناقضاتها: الطموح والسقوط، الحرية والعبودية، الحقيقة والوهم. إنها دعوة للتفكير العميق في مغزى الحياة والوجود، وكيف يمكن للإنسان أن يصعد، رغم كل ما قد يواجهه من صعوبات ومعوقات، وقد يصبح هو القصيدة ذاتها، بكل ما تحمله من جلال الكلمة وعظمة المعنى وخطورة التأويلات..

سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانورامته" المتجلية في كل مقطع والتي سنتناولها، في القادم من الأيام، بالتفصيل..

انها سلوى في القراءة.. ومتعة في المنادمة.. لا تحدها قراءة ولا لوميضها سكون..

***

طارق الحلفي – شاعر وناقد

.......................

رابط القصيدة

https://www.almothaqaf.com/nesos/971491

للشاعر مصطفى سليمان

[.. يُعد نص "من عمق الكلمة" للشاعر مصطفى سليمان عملًا أدبياً عميقاً يتناول الأبعاد الفلسفية والاجتماعية للكلمة بوصفها كياناً يتجاوز التعبير ليحمل سلطة وسياقاً حوارياً متشابكاً. من خلال توظيف التعددية الصوتية والحوارية كما بلورها ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtin) يبرز النص ديناميكية الكلمة بوصفها محوراً للتفاعل بين الذات والمجتمع والزمان. في هذه القراءة نستعرض النص أكاديمياً عبر عدة محاور: التعددية الصوتية والحوارية وسلطة الكلمة والزمكان والأبعاد البلاغية والأسلوبية..]

- التعددية الصوتية / تعدد الأصوات داخل النص:

[.. التعددية الصوتية تعني حضور أصوات متعددة تتفاعل داخل النص، مما يعطيه عمقاً وديناميكية. في نص مصطفى سليمان يظهر هذا التعدد جلياً من خلال الأصوات التالية

- صوت الذات (الشاعر):

يتحدث الشاعر بصوت يغلب عليه الحزن والاغتراب.. "مروا من حيث راق لكم... خذوا ماهيتي معكم... لا تجعلوا أحداً يدوس ما تبقى مني.".. هنا يعكس النص حالة انكسار وجودي حيث يناجي الشاعر الآخرين بأسلوب استسلامي يحمل في طياته احتجاجاً صامتاً على الظلم.

- صوت المجتمع (الآخر):

ينتقد النص استخدام المجتمع للكلمة بطريقة غير نبيلة كما في قوله: "كونوا نبلاء لمرة واحدة للمرة الوحيدة... لا تتركوا أثر بشاعة الفضيحة." هذا الصوت يمثل دعوة أخلاقية للمجتمع كي يرتقي إلى مستوى إنساني أسمى مما يعكس توتراً بين الفرد والمجتمع.

- صوت الكلمة ككيان مستقل:

الكلمة ليست مجرد أداة بل كيان يحمل سلطة وتأثيراً: "آه من الكلمة... أي قوة ستقف وجه صراحة الكلمات؟".. هذا التصور يبرز وعي الكاتب بأن الكلمة ليست حيادية بل تشكل الواقع الاجتماعي والإنساني.

- الحوارية: النص بوصفه تفاعلاً حياً:

الحوارية هي قدرة النصوص على التفاعل مع نصوص وخطابات أخرى ضمن سياق اجتماعي وثقافي.. يظهر ذلك في النص من خلال محاورة المجتمع: "لم أخن حلماً، لم أفتح جرحاً... لم أترك يوماً رسالة جريحة تنتظر عشاء حضوري مائدة الحقيقة."

يبدو الشاعر هنا في حالة دفاع أمام قاض مجازي يمثل المجتمع مما يجعل النص أشبه بمحاورة أخلاقية تعيد تعريف العدالة والصدق.

أيضا هناك نجد محاورة الزمن والمستقبل

"إنها محكمة الفصل العليا... يوم تشهد الأقلام، المحابر، المخيلات أنها بريئة مما كانوا يسطرون."

النص يستبق كلمات المستقبل ويستدعي الماضي مما يمنحه طابعاً ديناميكياً حيث تصبح الكلمة حكماً مطلقاً على الأفعال.. وكذلك في النص يتجلى لنا بوضوح التناص مع النصوص الأخرى

إشارة النص إلى مفاهيم مثل: "يوم تشهد الأقلام" تحمل تناصاً مع النصوص الدينية مما يضفي بعداً ثقافياً وروحياً على سلطة الكلمة.

- الكلمة بوصفها سلطة:

الكلمة في النص ليست مجرد وسيلة تعبير بل سلطة حاكمة تمتلك القدرة على محاسبة الأفراد والمجتمعات.. "آه من الكلمة.. إنها محكمة الفصل العليا... يوم تنطق الكلمة آخر فرصة."

هذا التصوير يعكس فلسفة ترى في اللغة أداة أخلاقية واجتماعية قادرة على التأثير أو الخيانة.

- النفي والاغتراب:

"أشيحوا عني بأقنعتكم... انزعوا جواز سفري عن كل جنسية.".. تعكس هذه العبارة كيف يمكن للكلمة أن تصبح أداة للنفي مما يعمق الشعور بالاغتراب عن المجتمع والهوية.

- البعد الأيديولوجي:

إساءة استخدام الكلمة تبرز كيف يمكن للغة أن تعيد انتاج السلطة أو مقاومتها مما يجعلها محوراً للصراع بين القيم الأخلاقية والظلم.

- الزمكان:

التفاعل بين الزمان والمكان.. يركز باختين على مفهوم "الزمكان" (Chronotope) في النصوص الأدبية حيث يربط بين الأحداث والواقع الثقافي والتاريخي.

- الزمن:

لنلقي الضوء على طبيعة الزمن في النص:

نجد الزمن معلق/أبدي.. فالنص يعكس زمناً رمزياً غير محدد مثل "يوم تشهد الأقلام"، يجسد قضايا إنسانية أزلية كالعدالة والصدق.

و يرتبط هذا الزمن بفكرة الزمن الأخلاقي أو الديني الذي يتجاوز الزمن الفيزيائي ليكون لحظة فاصلة بين الحق والباطل.

- زمن الماضي والحاضر والمستقبل:

يتفاعل الشاعر مع الماضي عبر استدعاء تجارب الانكسار والحزن في حين يعبر الحاضر عن صراع واغتراب.. وينظر إلى المستقبل كحكم نهائي يجمع بين الأمل والقلق مما يعزز النظرة الديناميكية للزمن.

أما الزمن النفسي في النص:

يتجلى لدى الشاعر معبرا عن اغتراب داخلي عميق كما في قوله "انزعوا جواز سفري عن كل جنسية.".. الزمن النفسي يتمثل في شعور بالبطء والانتظار حين يمتزج الحزن بالاغتراب مما يجعل الزمن عنصراً مؤثراً على وعي الذات.

أيضا نجد الزمن كسلطة عليا.. الزمن في النص ليس مجرد سياق بل سلطة عليا وقاض نهائي كما يظهر في "يوم تشهد الأقلام.".. هذا الزمن يعبر عن عدالة مطلقة وأبعاد دينية وفلسفية كونه يمثل الحقيقة التي لا مهرب منها...

- تناقضات الزمن:

النص يعكس تناقضاً بين الزمن الثابت والأبدي (مثل أزلية "يوم تشهد الأقلام") وبين الحركة التي تظهر في الانتقالات من مشاعر الاغتراب إلى التأمل والدعوة.. هذا التوتر يعبر عن صراع داخلي بين الثبات الزمني والتحولات النفسية والاجتماعية..

أما المكان في النص هنا رمزي يعكس العزلة والاغتراب مما يجعل النص يعبر عن فضاء نفسي أكثر منه جغرافي.. "يُتمَ صحارٍ لم تعد تتسع أنفاس عشيرة... امتنعت مضارب القبيلة".

- الأبعاد البلاغية والأسلوبية:

- الصورة الشعرية:

النص غني بالصور التي تجسد مشاعر الشاعر مثل: "يُتمَ صحارٍ لم تعد تتسع عشيرة."

الصورة هنا تعكس العزلة بطريقة جمالية تربط بين الذات والبيئة المحيطة...

- التكرار والإيقاع:

استخدام التكرار، مثل "آه من الكلمة"، يخلق إيقاعاً داخلياً يعزز التأثير العاطفي للنص.

- التناص:

الإشارة إلى "محكمة الفصل العليا" و"يوم تشهد الأقلام" تحمل تناصاً دينياً وأخلاقياً يعزز سلطة الكلمة بوصفها حكماً نهائيا ً.

- النبرة العامة:

النبرة تتراوح بين الحزن والاحتجاج والدعوة للتأمل مما يجعل النص متعدد الطبقات العاطفية.

- البنية النصية:

النص يتخذ بنية تصاعدية، تبدأ من التأمل الفردي وتنتهي بالدعوة الجماعية، مما يمنحه تماسكاً ديناميكياً.

وكما يقول باختين: "الأدب العظيم هو ذاك الذي يعكس التفاعل الحي بين الأصوات المختلفة". نص "من عمق الكلمة" يجسد هذا التفاعل من خلال تعددية الأصوات وحواريته الغنية. الكلمة في هذا النص ليست مجرد أداة تعبير بل كيان مستقل يحمل سلطة أخلاقية واجتماعية تتداخل فيه الأبعاد النفسية والثقافية والزمانية....

القراءة تبرز النص بوصفه دعوة للحوار والتأمل في قضايا العدالة والصدق والهوية مما يجعله عملاً أدبياً غنياً بالتأويلات والدلالات.

***

إنجاز الأستاذة فاطمة عبد الله

.........................

من عمق الكلمة

[... أيها المارون لحد وجعي

العابرون جثامين حروفي

أوصيكم خيرا بالجناة.. (سُذَّج)...

ما أتقنوا فن الجريمة.. اعذروا (سذاجتهم)

... خذوا معاولهم، مجارفهم، أظافرهم المنكسرة

و لا تتركوا أثر بشاعة الفضيحة

... كونوا نبلاء لمرة واحدة، للمرة الوحيدة

.. للمرة الأخيرة..

... نبلا منكم.. احملوا معكم تعبي، قلقي، ألقي

.. وما تبقى مني.. أحلامي الكسيرة..

... خذوا ماهيتي معكم.. خذوا ظلالي اليتيمة

ولا تجعلوا أحدا يدوس ما تبقى مني

... فأنا لم أخن حلما، لم أفتح جرحا

و لم أجعل حرفا يبكي ألما وسط كلمة

و لا تركت يوما رسالة جريحة

تنتظر عشاء حضوري

.. مخلفا وعدي ومائدة الحقيقة..

... ولا تركت أبدا وصية مشفرة

.. استعصت صائدي كنوز الذاكرة.. !]

*

[... أنا هكذا ولدت وكذلك حييت

لم يتعدَّ حلمي مسافة المخيلة

تقاذفتني ضروب الألم.. مسيرة مسيرة

.. من صلب خديعة إلى مهد خديعة..

... مروا من حيث راق لكم

.. من هنا، هناك، هنالك..

أو عبر شتات أمنياتي الصغيرة

... فأنا من عاش يُتمَ صحارٍ

لم تعد تتسع أنفاس شعاب عشيرة

.. أَنْ ناءت.. ومضارب القبيلة..

... احملوا نعشا فارغا وجوبوا المدينة

اعلنوا.. بالكاد مت وانهوها قضية

... انكروا صنائعي كما لم أكن أبدا حيا

أشيحوا عني بأعقنعتكم

انزعوا جواز سفري عن كل جنسية

و إن اهتديتم.. ترحموا علي كثيرا غزيرا

أو كيفما شئتم.. إن شئتم

من أجل حروف داعبت سهادكم يوما

.. رافقتكم ولم تكن أبدا شقية..

هدهدتْ نومكم بكل النثريات المسالمة

من أجل أمنية ابتدأنا المشي بساطها سويا

ما زغنا المحجة فيها أبدا ولا السبيل

... من أجل راحة اشتقنا إليها

.. وما أسعفتنا نداءات القريحة.. !]

*

[... لم أكتب يوما بدمي

لا ولم أتلفظه حتى.. ولا أنا له أستطيع

شعار ألسن المتصنعين مختلقي الأكذوبة

... كتبت.. وأكتب بمداد دمع الخديعة

و كلما تبخر.. لَعقَتِ اليراع من لهاث خطوي

لتكمل معي نهاية ما بدأت

.. صمت الحملان الوديعة..

... شتات القطيع.. أقتَطِع من حروفي

و عساها تبتعد.. أرمي الذئاب الجائعة

.. أَنْ يفتر نهمها..

... أن ترحم شقاء الحرف خضم الكلمة

أن ترأف لحال التائهين بحثا

عن ومضة، همسة، خاطرة

.. تيه الصحاري الموحشة..

... أن تعلم فقط كون من يكتب

لا وقت له تشذيب خصلات السهاد

يكفي أنه قابع صلب عوالمه الموجعة

لا ينتظر تشجيعا مجوفا.. بلون الشفقة

يكفيه معاناة... يكفيه أنه واقف

حيث جلس الكل

.. مدرجات الفرجة المثيرة.. !]

*

[... أنا لا أحاسب ولا أعاتب.. أحدا

فلم ولن أكون أبدا.. بهكذا.. أنا

.. هو سيل الحروف إن وصل الزبى..

... سنلتقي لا محالة.. سنلتقي جميعا

و الكل سيقف وجها لوجه حقيقة الكلمة

... لا النقط ستنفع، لا الفواصل ولا الحركات

لا التأكيد سيجدي، لا المرموز ولا الاستعارات

لا المعلوم سيشفع، لا المجهول ولا الغيبيات

... آه من الكلمة.. ومنها هي الكلمة

أي قوة ستقف وجه صراحة الكلمات

... إنها محكمة الفصل العليا

.. محكمة الكلمة..

... يوم تشهد الأقلام، المحابر، المخيلات

أنها بريئة مما كانوا يسطرون

... مما نظموا ومما هم كانوا ينثرون

ما ظلمتهم الكلمة.. بل كانوا هم الظالمون

يوم لا ينفع المتشدقين العذر

... لهم (.......) أبد الآبدين.. (.......) العار

يوم تنطق الكلمة آخر فرصة.. آخر جلسة

من غرر بكم، ألم تكونوا تعقلون

.. من أين لكم (.......).. وكيف.. !؟

... تنطق ألسنتهم رغم أنوفهم

أنهم كانوا يمتهنون (.......) واضحة النهار

(.......) الغير نثرا وما طاب لهم من أشعار

... يوم ينصف المعذبون صلب الكلمة

فلا شبه (كلمة) تعلو فخامة الكلمة

إنها وبكل البساطة:

.. إنها.. عدالة "محكمة الكلمة".. !]

***

مصطفى سليمان / المغرب

الأسلوب السردي والتعبيري:

القصيدة تتسم بأسلوب سردي تأملي يعتمد على التعبير عن الأحاسيس والمشاعر الداخلية عبر صور شعرية غنية بالرمزية. يتم استخدام /المعطف/ كرمزية للحماية والأمان، ويمثل صورة ذات دلالة عاطفية تحمل في طياتها دفء الذكريات وأمل المستقبل. الأسلوب السردي يعتمد على تأملات في الزمن والمكان والروح، مما يخلق تواصلًا عاطفيًا عميقًا مع القارئ.

الرمزية واستخدام الصور:

صور القصيدة مفعمة بالرمزية، مثل /أمواج البحر في سماء الليل/ و/أوراق الأمل على أنغام الصبر/، التي تعكس التباين بين الأمل والمشاعر المتأججة. /المعطف/ يمثل الرابط الذي يجمع الشخصيات والعوالم الداخلية في القصيدة، ويعزز المعاني المرتبطة بالدفء، الحماية، والحنين. تُستخدم صور مثل /الأشجار العارية/ و/زهرة تتفتح وسط العتمة/ لتعكس تطورًا داخليًا، وتواصلاً مع ما هو أبدي وجميل.

التقنيات اللغوية:

اللغة الشعرية في القصيدة غنية بالأوصاف المتعددة والمجازات. تتنقل الصور بين الفضاءات النفسية والعاطفية، من /دهاليز النفس/ إلى /أشعة أفكارنا/، مما يعطي إحساسًا بالحركة والانتقال بين الأزمنة والأماكن. الفعل /نُحلق/ و/تتفتح/ يعطي انطباعًا بالحرية والانطلاق، مما يساهم في تعزيز التيمة المترابطة بين الفرح والأمل.

التوتر والتناغم بين الأضداد:

القصيدة تُظهر التوتر بين الليل والنهار، البرد والدفء، الأمل والقلق. التباين بين /أمواج البحر/ و/سماء الليل/ وبين /الثلج/ و/الشموع/ يعكس الصراع بين العواطف المتضاربة، ويؤدي إلى خلق مشهد شعري غني يعبّر عن حالة من السكينة والانتظار. هذا التوتر المتوازن يبرز المشاعر الإنسانية الحقيقية.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة تميزت بالخيال الشعري، حيث تتداخل العواطف والمشاهد الحسية في مزيج قوي. /أوراق الأمل/، /الثلج الذي يغمر الأرض/، /أضواء القمر الباردة/ تساهم في خلق أجواء شاعرية تشحذ المشاعر وتدعو القارئ للتفاعل العاطفي مع النص.

الختام والتوجه العاطفي:

الختام بـ /ما زلت أيها المعطف أمنَنا لتكن جناحاً لأرواحنا/ يؤكد على استمرار الأمل والحماية التي يوفرها المعطف في مواجهة قسوة الحياة. هناك إشارات إلى المستقبل المشرق والأحلام التي لم تكتمل بعد، مما يعزز من شعور بالتفاؤل والتطلع.

الخلاصة:

قصيدة /معطف ديسمبر/ لسمر الديك تعكس مزيجًا من التأملات العميقة في الحياة والأمل. الأسلوب السردي والتعبيري يستخدم صورًا رمزية غنية تدور حول الحماية، الأمان، والحلم. اللغة الشعرية المليئة بالمجازات والمفردات الحساسة تخلق جوًا شاعريًا يلامس الوجدان، وتطرح فكرة الأمل والمستقبل المشرق رغم التحديات والظروف القاسية.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

....................

معطف ديسمبر

فيك انتهتْ حقبةٌ من الزّمن كرحلة محمّلة بالذكريات، وجدنا أنفسَنا في مساحةٍ فريدةٍ تُحاكي الأوهامَ والأماني، تُخلقُ العوالم من أشعة أفكارنا، تتماوجُ الأحاسيسُ كأمواجِ البحر في سماء الليل، كمْ شعرنا بدفئكَ في رحلتنا بدهاليز النفس، نُحلقُ فوقَ السّحاب بلغة البراءة، تتفتحُ أوراقُ الأمل على أنغامِ الصّبر. بكَ ومعك أيُّها المعطف نسجنا قصصَنا بخيوط الأمل والرجاء في لوحةٍ لانهائية من الجمال. تدثرنا بك مع المساءات الطويلة حيثُ تُضاء المدافئ بألسنة النار الحامية وتجتمعُ الأرواح حولَ نورِ الشّموع الخافت مع ضحكات العشّاق التي تَملأ أجواء الليالي المظلمة يُنيرها الثلج الذي يغمرُ الأرضَ كغطاءٍ من الحنين وتتجلّى الرّوحُ في أبهى حلّتها تبحثُ عن خباياها كزهرةٍ تَتفتحُ بتلاتها وسط العتمة تتنفسُ النسيمَ البارد كنسيم الأبديّة تنتظر الأشجارُ العارية لمسة الرّبيع لكنها تجدُ الجمال بولادة أحلامنا بعد مخاض عسير تحت أضواء القمر الباردة مُعلنةً قدوم قصيدةٍ لم تكتملْ بعد ترقصُ على نغمات الأبدية

وما زلتَ أيُّها المعطف أمنَنا لتكنْ جناحاً لأرواحنا يَحملُنا نحو الغد المشرق

***

سمر الديك - فرنسا - سوريا

 

الأسلوب والصورة الشعرية:

القصيدة تتسم بأسلوب سردي تأملي، حيث تشترك الشاعرة في رحلة بحث عن الذات وسط الظلام والفراغ. الصور الشعرية التي تستخدمها الشاعرة، مثل:

ظلّي يرافقني في ظلمة الطريق

و/ ثلج ديسمبر يكسو الأرض والأشجار

تقدم أجواء حالمة تنبض بالتأمل الذاتي. تزاوج الصورة بين الواقع والخيال في مفردات مثل

الطريق مقفرة وقلبي عامر بالعشق

تبرز الازدواجية بين الظلمة الداخلية والنور الخارجي، مما يُضفي عمقًا شعريًا على النص.

الرمزية:

هناك استخدام واضح للرمزية في القصيدة، حيث يُرمز للظلام بالجهل والخوف، بينما النور يمثل الأمل والتحرر. الرمزية تتجسد في النّجوم تتهافتُ نحوي لترشدني

وهو تعبير عن التوجيه أو الإلهام في لحظات الشك، بالإضافة إلى/

الجرذان تصاب بالهلع

التي تمثل الخوف أو المواقف المزعجة التي يتجنبها الشاعر.

التكرار والدلالات العاطفية:

التكرار في

أمشي، أمشي، أمشي

يعكس شعورًا بالتحرر والرغبة في الهروب من القيود الداخلية والخارجية. هذا التكرار يبني الإحساس بالحركة المستمرة والرغبة في الفرار من الحالة النفسية المتراكمة. كما أن تكرار عبارة

أنا سعيدة

يظهر التناقض بين الغربة الظاهرة والسعادة الداخلية، ما يعزز التوتر العاطفي بين الوجود الشخصي والشعور بالوحدة.

اللغة والمفردات:

مفردات القصيدة غنية بالصور الذاتية مثل

أهمس للقطط

و/الصّراصير

وهي مفردات يومية تدور في فلك الخيال، مما يُضفي على النص طابعًا سحريًا غير تقليدي. اللغة تتنقل بين الملموس واللاملموس، بين مشاهد الطبيعة والوجدان الداخلي، ما يجعلها مليئة بالتناقضات التي تؤثر في القارئ بشكل عاطفي.

البنية والإيقاع:

القصيدة تتبع بنية حرة بدون تقيّد بالقافية أو الوزن التقليدي، مما يتيح حرية في التعبير عن المشاعر والأفكار. هذه البنية المفتوحة تتناغم مع الموضوعات المتنقلة بين الواقع والخيال. الإيقاع يتنوع بين الهدوء والحركة السريعة، مما يعكس التناقضات الداخلية في الذات بين الشعور بالفراغ والرغبة في الانطلاق.

الخلاصة:

قصيدة /بهجة الروح/ لسونيا عبد اللطيف تمزج بين الخيال والواقع، بين السكون والحركة، لتعبّر عن حالة من التفكك الداخلي والتجدد الشخصي. الصور الرمزية والتكرار يعززان من عمق النص، بينما اللغة والموضوعات تخلق جسرًا بين المشاعر الفردية وتفاصيل الحياة اليومية، ما يُضفي على القصيدة طابعًا شعريًا مليئًا بالصور المتناقضة التي تحفز القارئ على التأمل والتساؤل.

***

بقلم: كريم عبدالله - العراق

.........................

بهجة الروح

سأخرج لأتسكّع قليلا هذه الليلة، مللتُ البقاء في السّرير، والمكوث بين جدران الوقت، النّومَ ودّع أحداقي، لذا سأمشي وأحمل معي ظلّي، ليرافقني في ظلمة الطّريق، ويحميني من عيون اللّيل الحالكة، هو لا يُرى في السّواد، لكنْه يَرى.

في هذه الليلة الدّامسة، وفي هذه الآونة، وجدتُ ضالّتي في التّسكّع، الذي لم يتوقّف لحظة عن مُناداتي، سأخرج إذنْ، سأوشوش للصّراصير لكيْ تخفّضَ من أصواتها قليلا حتى لا تزعجَ صغار العصافير النّائمة تحت أجنحة الحلمِ، وأهمسُ للقطط المتسلْلة في الأزقّة بين الشّرايين أن تخفض من حدّة بريق أعينها حتى لا يفزعَ البرقُ فيتخلّى عن لمعانه، وس. أمشي، أمشي، أمشي التّسكّع فعلا يُغريني، وبرغم شعوري بالغربة، أنا سعيدة، فالجرذان تصاب بالهلع حين تشاهد اللّيل يُغازلني، وتصاب بالغيرة حين ترى النّجوم تتهافتُ نحوي لترشدني،..

الطّريق مقفرة وقلبي عامر بالعشق ومأمون. فكيف أخشى الظّلام وثلج ديسمبر يكسو الأرض والأشجار، فيغدو الفضاء من أمامي أبيض، أبيض تحيطه هالة من النور، أو كأسراب حمام تحمل أغصان الزّيتون.

المشهد مثير. ترفعني الأنواء إلى سدرة الأنس حيث يستقبلني ديسمبر بدفئه الوثير.

من أين يأتيني هذا الشعور؟

من بهجة الرّوح أم من سطوة الغرور؟

***

سونيا عبد اللطيف

تونس 14/ 12/ 2024

 

تجتاحني دهشةٌ مهيبة وأنا أُبحرُ في عوالم هذه القصيدة؛ فقد أبدع الشاعر يحيى السماوي في صياغة كل بيت كأنَّهُ قصيدة قائمة بذاتها، نابضة بالمعنى، ومترعة بالبلاغة التي تتراقص بين أصابع الإعجاز الشعري. في تناغم مدهش، استطاع الشاعر أن يدمج الخاص والعام، الذات والجموع، ليخلق لوحة شعورية متشابكة تعكس عمقًا إنسانيًا تتجاور فيه العوالم وتتداخل.

صرخة وجدانية ومعاناة إنسانية

تأتي القصيدة كنداءٍ ملتهبٍ يصرخ فيه السماوي من أعماق وجدانه، متكئًا على إرث شعري غارق في الفلسفة والعاطفة. تتردد أصداء المأساة في أروقة النص، حيث تتقاطع ثنائية النور والظلام، الإيمان والضياع، الحب والخيانة، في مشهد صراعي متجذرٍ في حيرة الإنسان أمام مفارقات الوجود.

البنية الفكرية وصراع الأضداد

تُشيّد القصيدة بنيانها على أسئلة الوجود، حيث يبدأ الشاعر بمونولوج داخلي يعكس صراع النفس:

"أمسي ويومي في الهوى خصمانِ

أأنا المُضامُ؟ أمِ المُضيمُ الجاني؟"

في هذين البيتين، يضع السماوي القارئ أمام مفارقة فلسفية تنبض بانشطار الذات، متأرجحة بين متناقضات لا تهدأ. ويتجلى هذا الصراع بوضوح في قوله:

"يتقاتلُ الضِّدانِ تحتَ أضالعي

نورُ الإلهِ وظُلمةُ الشيطانِ"

هنا، يُحيلنا الشاعر إلى صراع أبدي بين الخير والشر، مستمدًا من الإرث الصوفي معانيه، إلا أنه يُطعّمه برؤية عصرية تعكس واقع الأمة وأزماتها، كما في قوله:

"القائمون إلى الصلاةِ جباهُهم

كالقائمينَ إلى كهوفِ غواني"

اللغة والصورة الشعرية

لغة القصيدة متينة، تُبهر القارئ برصانتها ورسوخها بالاتكاء على ما في التراث القرآني والشعري. أما الصور، فهي مُبدعة تستند إلى المجاز العميق والاستعارة البديعة، مثل قوله:

"ما العُجْبُ إنْ غُصْني يُحاربُ جَذْرَهُ

وتَخافُ من أهدابِها أجفاني؟"

يمزج الشاعر في هذه الصورة بين تجريد الفكرة وواقعيتها، ما يمنحها أبعادًا متداخلة تُحرّك خيال القارئ وتثير فيه الخيال والتأمل!

ومن جانب آخر، يستدعي الشاعر رموزًا تاريخية، كما في قوله:

"كم ملجمٍ فينا وأبرهةٍ وكم

هندٍ وكم من عصبة السفياني"

ان الإشارة الى هذه الشخصيات الخيانية والغادرة، ما هو الا اسقاط للماضي على الحاضر بأسلوبٍ يتسم بالإيحاء والانزياح، كاشفًا التداخل بين الأزمان والتجارب الإنسانية.

جدلية القداسة والتناقض

من المشاهد البليغة التي يرسمها السماوي تلك التي تُبرّز ازدواجية الواقع:

1.

"مولايَ واخْتَلَطَ الصدى في يَومِنَا

ما بينَ صوتِ رَبَابَةٍ وأذانِ"

هنا، تتداخل الأصوات بين الروحانية والهوى، بين النداء المقدس والحياة العابثة، لتُجسد حالةً من السقوط الاجتماعي والسياسي والفكري.. انه الضياع القيمي.

2.

"القائمون إلى الصلاةِ جباهُهم

كالقائمينَ إلى كهوفِ غواني"

تُجسّدُ هذه الصورةُ الشعريةُ المدهشةُ نفاقًا اجتماعيًا صارخًا، حيثُ تَحملُ الجباهُ أثرَ السجود، لكنَّ القلوبَ خاويةٌ من الإيمان. هنا يُبرزُ الشاعرُ ازدواجيةَ المظهر والجوهر، مستنكرًا طقوسًا بلا روحٍ، وديانةً بلا يقين، مُشيرًا إلى أزمةٍ أخلاقيةٍ عميقةٍ تُفكّكُ القيمَ الحقيقيةَ للدين والالتزام بها.

صرح التأريخ واطلال الواقع

1.

"الخيبريون استباحونا على

مرأى الكتائبِ من بني عدنانِ"

في هذا المقطع، تتداخلُ الأبعادُ التاريخيةُ والسياسيةُ، إذ يُحيلُ لفظُ "الخيبريون" إلى يهودِ خيبر، مُستدعيًا خيانةَ الماضي لتفسيرِ خياناتِ الحاضر. والمفارقةُ الحادّةُ تكمنُ في موقفِ "بني عدنان"، حيثُ يُشيرُ إلى العربِ الذين يفترضُ أن يكونوا حُماةً، لكنهم باتوا شهود زور عاجزين عن الفعل المستوجب اتيانه في ظروف تكالبت علينا فيه الذئاب؟

2.

"قومي هُمُ قتلوا أميمَ أخي" وهم

أغووا بني صهيونَ بالعدوانِ"

في هذا الاقتباسِ من التراثِ الجاهليّ، يُوظّفُ الشاعرُ الحارث بن وعلة الذهلي، ليُعيدَ إنتاجَ مأساةِ الأخوّة المذبوحة. يفضحُ تناقضَ القومِ الذين خانوا أبناءهم وأوطانهم، وأصبحوا عرّابي العدوانِ الصهيونيّ، في انقلابٍ كارثيٍّ يُبدّدُ المروءةَ والنخوةَ لصالحِ الخيانةِ والتبعية.

3.

"الموصِدونَ بوجهِ غزّةَ بابَهم

والفاتحونَ البابَ للذئبانِ"

يستحضرُ هذا المقطعُ مأساةَ الحصارِ على غزّةَ، مُحمّلًا العربَ مسؤوليةَ التخاذلِ والتواطؤ. فالبابُ الذي أُوصدَ في وجهِ المظلومين، فُتحَ على مصراعيهِ للغُزاةِ والمعتدين، في صورةٍ تُكثّفُ الخيانةَ السياسيةَ والأخلاقية، وتجعلُ من الأعداءِ شركاءَ لبعضِ الأنظمةِ العربيةِ نفسها.

4.

"الشامتونَ بقتلِ أشرفِ ذائدٍ

عن غزّةَ تُسبى وعن لبنانِ"

تتصاعدُ حدةُ المرارةِ في هذا المقطع، حيثُ يُدينُ الشاعرُ أولئك الذين شمتوا باستشهادِ المقاومين، وكأنّهم ينتمونَ إلى صفِّ العدوّ. هذا الاستنكارُ اللاذعُ يُبرزُ انقلابَ الموازينِ، حيثُ صارَ الدفاعُ عن الأوطانِ جريمةً في عُرفِ الجاحدين، وباتَ الشهيدُ هدفًا للتشويهِ بدلًا من التمجيد.

انتصارَ الانتماءِ

1.

"حاولتُ أكفرُ بالعراقِ وأهلهِ

فاعتابني شرفي وشُلَّ لساني"

يمثلُ هذا البيتُ صرخةَ وجعٍ من شاعرٍ عشقَ وطنهُ حتى العظمِ، لكنَّهُ استبدَّ به الألمُ حتى فكرَ في التنكّرِ له. غيرَ أنَّ الشرفَ، كقيمةٍ متجذّرةٍ، صفعهُ قبلَ أن ينطقَ بالكفرِ، في صورةٍ مُبهرةٍ تُجسدُ انتصارَ الانتماءِ رغمَ كلّ الجراح.

2.

"وأردتُ تجربةَ الخيانةِ مرةً

فتحجّرتْ مُقلي وهُزَّ كياني"

هنا يصلُ الصراعُ الذاتيُّ إلى ذروتهِ، حيثُ يتحدى الشاعرُ نفسهُ في اختبارٍ أخلاقيٍّ وجوديّ، لكنَّ استجابةَ الجسدِ كانت أعنفَ من الفكرةِ ذاتها. فالعينُ التي كادتْ أن تشهدَ الزيفَ تحجّرت، والروحُ ارتجفت، وكأنَّ الانتماءَ الصادقَ يُحبطُ الخيانةَ حتى قبل وقوعها.

3.

"لي طبعُ باديةِ السماوةِ رملُها

لم يَشكُ جمرَ القيظِ للغدرانِ"

يعودُ الشاعرُ هنا إلى أصولهِ، مُجسّدًا نفسهُ كامتدادٍ لصحراءِ السماوةِ الصامدةِ تحتَ شمسِ القيظِ دون أن تستجدي الغدرانَ. هذه الصورةُ الموحيةُ تعكسُ الاعتدادَ بالقيمِ، والإصرارَ على عدمِ الاستسلامِ رغمَ قسوةِ الظروفِ، في مشهدٍ يُكرّسُ البطولةَ والكبرياء.

الإيقاعُ والموسيقى الشعرية

القصيدةُ مكتوبةٌ على البحر الكامل، وهو بحرٌ ذو إيقاعٍ قويٍّ ومتماسك، ما ينسجمُ مع نبرة الشاعر الحادّة وانفعاله العاطفي العميق. كما يُلاحَظُ استخدامُ التكرار، مثل تكرار "مولايَ"، وهو ما يُعزز البُعد الصوفي في القصيدة، ويضفي عليها طابعًا ابتهاليًا يُذكِّر بالمدائح النبوية.

***

سعاد الراعي

الأسلوب السردي والتعبيري:

القصيدة تتسم بأسلوب سردي تأملي مع استخدام تعبيرات قوية وحِمْل رمزي، حيث تنقل شعورًا عميقًا باليأس والخيبة. الافتتاحية بـ /ديسمبر ليل مضيء/ تعكس تباينًا بين الضوء والظلام، مما يهيئ القارئ لتصعيد في الأحداث والتوتر العاطفي. الشاعر يربط الزمان والمكان بالذاكرة البشرية المحبطة، مما يعزز التيمة المتعلقة بالفقدان والانكسار.

الرمزية واستخدام الصور:

الرمزية حاضرة بشكل واضح في القصيدة، حيث يمثل /ديسمبر/ فصلًا رمزيًا من السكون والتأمل، بينما /الخفاش/ و/جلاد الموتى/ يشيران إلى قوى الظلام التي تقاوم الأمل والتقدم. صورة /الفرات يجهش بالبكاء/ تعكس مشاعر الحزن والدمار المرتبطة بالمأساة، و/بابل تفتح عينيها بعد سبات القرون/ هي صورة قوية لاستيقاظ تاريخي متأخر على واقع مؤلم.

التناقضات والتوتر:

تطرح القصيدة توترات بين الحياة والموت، النور والظلام، الأمل واليأس، وهو ما يعكس حالة الأزمة التي يمر بها العالم العربي. كما أن التناقض بين /الدم المستباح/ و/السماء تمطر الرماد/ يسلط الضوء على الفوضى والموت الذي يحيط بمصير الشعوب في ظل الأنظمة القمعية.

اللغة والمفردات:

المفردات في القصيدة تحمل وزنًا دلاليًا عميقًا. كلمات مثل /جلاد الموتى/، /الفناء/، /الرماد/، /النسيان/ تحمل أبعادًا قاتمة وتساهم في بناء الإحساس العام بالفقد والانهيار. اللغة تأتي مشبعة بالحزن والتصوير المأساوي، مما يعزز من الوجع الذي يعبر عنه الشاعر.

البُعد السياسي والتاريخي:

القصيدة تغلف رؤية سياسية وتاريخية لواقع مؤلم، حيث يختلط الماضي بالحاضر ويظهر التفاعل بين الأساطير والهزائم التاريخية. /الحلم القومي في قارورة النسيان/ يعكس ضياع الطموحات الوطنية في ظل النكبات والظلام السياسي، ويعبر عن إحساس بالخيانة التاريخية على صعيد الأمة.

الخلاصة:

قصيدة /ديسمبر المضيء/ لفراس الوائلي هي قصيدة تأملية مشبعة بالرمزية تعبر عن الحزن والخذلان في سياق سياسي وتاريخي. اللغة القوية والمفردات الموحية، بالإضافة إلى الصور الرمزية التي تجسد مأساة الشعوب والهزائم القومية، تعكس رؤية شاعرية نقدية تلامس واقعًا أليمًا، محملًا بالندم والفقدان.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

.......................

ديسمبر المضيء

ديسمبر ليل مضيء الأسرار لذاكرة بشرية نائمة في سجن رقمي يعصر فيها الضوء الأوجاع فجر دم مستباح، السماء تمطر الرماد، الفرات يجهش بالبكاء فيما الخفاش يلتهم الأرض يقضم القبور جلاد الموتى يدفن الحلم القومي في قارورة النسيان يلقيها في أعماق البحر تاركا صراخ الشعوب تحت ظلال العناكب على رفوف التاريخ

المتربة حتى فتحت بابل عينيها بعد سبات القرون تنادي الآلهة لماذا غَرَست في أرضها بذور الفناء وصار الزمن رمادا تحمله الأساطير تغنيه الأجيال في مواسم النكبات حين يغرق الضوء في لجج الظلام مودعا حلم العروبة المكبل بالطغيان.

***

فراس الوائلي - العراق

 

معارضة نسيم عاطف الأسديّ في قصيدته "اجمع جموعك وانتفض يا عنترة"

لقصيدة مصطفى الجزّار "كفكف دموعك وانسحب يا عنترة"

***

يُعدّ الشّعر وسيلةً أساسيّة للتّعبير عن الذّات والأيديولوجيّات، ويعكس مشاعر الشّاعر تجاه الأحداث والمواقف المختلفة. وشعر المعارضات يُعرّف بأنّه نظم شعرٍ موافق لشعرٍ آخر في موضوع معيّن، حيث يلتزم الشّاعر المُعارِض نظمَ الشّاعرِ الآخر (المُعارَض) في قافيته، وبحره، وموضوعه التزامًا تامًّا، يحرص فيه الشّاعر المُعارِض على مضاهاة الشّاعر المعَارَض في شعره، إن لم يتفوّق عليه، وقد يلجأ الشّاعر إلى هذا النّوع من الشّعر عندما يرى في شِعرِ غيره من الشّعراء ما يمتاز به من فصاحة، وروعة صياغة، أو صور معبّرة، وغيرها من أمور تثير في نفسه العجب.

وكنت قد قرأت معارضة الشّاعر الدّكتور نسيم عاطف الأسديّ لقصيدة الشّاعر مصطفى الجزّار "كفكف دموعك وانسحب يا عنترة" والّتي أحدثت ضجّة كبيرة في برنامج "أمير الشّعراء"، ورأيت أن أتناول قصيدتي الشّاعرين المذكورين لأنّهما شاعران معاصران ترتقي قصيدة كلٍّ منهما إلى مصافي الشّعر القويّ المتين، جيّد السّبك، قويّ الصّورة، جميل الجرس، إلّا أنّ كُلًّا منهما يُظهرُ توجّهًا شعريًّا مختلفًا حول قضيّة واحدة، من خلال المعارضة الّتي أبدعها الأسديّ على إبداع الجزّار.

تكاد أبيات قصيدة مصطفى الجزّار كلّها أن تؤكّد مشاعر الخنوع والتّراجع والاستسلام، فمطلع القصيدة "كفكف دموعك وانسحب يا عنترة"، يُوجّه الشّاعر فيه نداءً إلى البطل العربيّ عنترة بن شدّاد، طالبًا منه الانسحاب والاستسلام في وجه الظّروف المعاصرة، وهذا التّوجّه يعكس حالة من الهزيمة والخذلان، ويعبّر عن عدم القدرة على مجابهة التّحديّات الجديدة الّتي فرضتها الحروب الحديثة.

يقول الجزّار:

كفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترة

فعيونُ عبلةَ أصبحَتْ مُستعمَرة

تصوير عيون عبلة -حبيبة عنترة- بأنّها "أصبحَت مُستعمَرة"، يشير إلى التّغيير الكبير الّذي لحق بالعالم القديم، وإلى عجز البطل عن الحفاظ على ما كان له. تعكس هذه الصّورة فكرة أنّ الثّوابت قد تلاشت وأنّ البطل الّذي اعتاد الفوز قد خسر أعزّ ما يملكه، وأصبح غير قادر على المواجهة.

وهذه الصّورة تستمرّ مع توالي الأبيات دون أن نلمح في القصيدة أيّة ومضة من الأمل أو التّفاؤل، فالشّاعر يؤكّد مع توالي الأبيات، ومن خلال فرض حقائق جديدة تُنهي ما كان سابقًا، بأنّ الثوّرة على الموجود وقلب الموازين لمصلحة عنترة أمسى مستحيلًا، يقول في البيت التالي:

لا ترجُ بسمةَ ثغرِها يومًا، فقدْ

سقطَت من العِقدِ الثّمينِ الجوهرة

"سقوط الجوهرة"، وهي تمثيل للقيم والمثل العليا الّتي كانت تُمثّلها عبلة، أثمن وأعزّ ما يملكه عنترة العربيّ. يسعى الشّاعر هنا إلى تصوير حالة من الفقد الكامل، حيث إنّ الأمل في استعادة الماضي قد ضاع. هذه الصّورة تُجسّد الإحساس بالاستسلام التّامّ للوضع الرّاهن، وهو ما يعكس فكر الشّاعر الّذي يعبّر عن الهزيمة والتّخلّي. يقول مؤكّدًا عجز العربيّ في حاضره:

واخفِضْ جَنَاحَ الخِزْيِ وارجُ المعذرة

قبِّلْ سيوفَ الغاصبينَ.. ليصفَحوا

*

فقدَ الهُويّةَ والقُوى والسّيطرة

والسّيفُ في وجهِ البنادقِ عاجز ٌ

ويشير إلى واقع الحال راسمًا صورة الهجوم الغربيّ على العالم العربيّ، وتآمر العرب بعضهم على بعض، والمؤامرة والخيانة الّتي لحقت بالعربيّ الأصيل الباحث عن استعادة الأمجاد والعزّة، يقول:

حُمُرٌ  لَعمرُكَ.. كلُّها مستنفِرَة

عَبْسٌ تخلّت عنكَ.. هذا دأبُهم

ونرى الجزّار يصف واقع الحالّ العربيّ المتضعضع المتشقّق اليوم، كما في قوله:

مفتاحَ خيمَتِهم، ومَدُّوا القنطرة

يا ويحَ عبسٍ.. أسلَمُوا أعداءَهم

*

ونفاقِهم، وأقام فيهم منبرَه

فأتى العدوُّ مُسلَّحًا، بشقاقِهم

*

فالعيشُ مُرٌّ.. والهزائمُ مُنكَرَة

ذاقوا وَبَالَ ركوعِهم وخُنوعِهم

*

مَن يقترفْ في حقّها شرًّا.. يَرَه

هذِي يدُ الأوطانِ تجزي أهلَها

*

لم يبقَ شيءٌ بَعدَها كي نخسرَه

ضاعت عُبَيلةُ.. والنّياقُ.. ودارُها

على النّقيض من قصيدة الجزّار، تتّسم قصيدة د. نسيم عاطف الأسديّ بالتّأكيد على الثّبات والإصرار في مواجهة التّحدّيات. ففي هذه القصيدة، نجد أنّ الشّاعر يصرّ على التّمسّك بالكرامة والمقاومة، رغم الظّروف القاسية. الأبيات الّتي تعكس فكرة الأسديّ وموقفه في رفض الواقع المتمثّل بسيطرة العدوّ الأجنبيّ، والنّضال لاسترداد الوطن، والثّورة من أجل ذلك تحتلّ مساحة من القصيدة، ونلحظ ذلك في مطلع القصيدة، بل في الكلمة الأولى منها حيث يأمر الشّاعر عنترة بجمع قومه والانتفاض والدّفاع والمنع، يقول:

اِجمعْ جُموعَكَ وانتَفِضْ يا عَنتَرَةْ

فالسّيفُ مَجدُكَ وَالقصيدةُ جَوهَرةْ

*

اِدفعْ بِسيفٍ في يَمينِكَ غاشما

وَامنعْ بِتُرسٍ في يَسارِكَ مَجزَرَةْ

ونجد أنّ الأسديّ شارك الجزّار فيما يخصّ وصف حال العرب اليوم وأسباب ذلك، ولم ينس الأسديّ أن يذكر دور القادة فيما أصاب العرب، يقول:

شيطانُ غاصِبِنا يَسُنُّ سِنانَهُ

وَعَراؤُنا جَهلًا يُحَدِّدُ خِنجَرَهْ

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أسيادِهِم

أمسَوا بِهذا العصرِ رَمزَ المسخَرَةْ

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أسيادِهِم

مَرهونَةٌ أفكارُهُم مُستعمَرَةْ

*

وَالحاكمُ المسؤولُ حَثَّ سِياطَهُ

تَبقى عَلى ظَهر الشّعوبِ مُسَيطِرَةْ

*

وَالحاكمُ المَسؤولُ ذي قُبُلاتُهُ

فَوقَ النِّعالِ الأجنَبِيَّةِ مُمطِرَةْ

ولكنّ هذه الأبيات تقع في وسط القصيدة، أمّا المطلع والنّهاية ففيهما تحريض ونداء للثّورة والرّفض، وهذا الغلاف الذّي يغلّف به الشّاعر واقع الحال المرير، والّذي يدعو من خلاله لاسترداد الماضي المجيد يدلّ على قوّة توجّهه، وصلابة موقفه، فكأنّه لا يُبدي عجزه للعدوّ، بل يخفيه ليظهر دائمًا قويًّا باسلًا.

يقول الأسديّ في نهاية قصيدته:

أسْرِجْ حِصانَكَ يا ابنَ عَبسٍ وارتَحِلْ

رُوحًا لِشَعبٍ مَيّتٍ في المَقبَرَةْ

*

لمّا رأيتَ العِلْجَ أقبلَ جمعُهُم

وسِلاحُهُم في أرضِنِا ما أكثَرَهْ

*

كُنتَ المَنونِ بأيِّ أرضٍ نِلتهُم

والرّعبَ يَفتِكُ في العَدوِّ فَيَقهَرَهْ

*

أسْرِجْ حِصانَكَ يا ابنَ عَبسٍ وانتَقِلْ

طوفانَ نورٍ في لَيالٍ مُقمِرَةْ

*

أسْرجْ رِياحَ العَزمِ وَارفعْ رايَةً

"للصَّحوِ يا أرضَ العُروبَةِ مُجبَرَةْ"

*

أسْرِجْ فَتيلَ العَقلِ يُشعِلْ دَربَنا

وَلْيَنتَهي عَصرُ اللّيالي المُقفِرَةْ

*

أسْرِجْ ظُهورَ المَجدِ تَحتَلُّ المَدى

فَسُيوفُنا مَسلولَةٌ مُستَنفَرَةْ

وهكذا ومن خلال تحليل الفروق بين التوجهين في القصيدتين، نلاحظ أن قصيدة مصطفى الجزّار تعكس قبول الهزيمة كواقع مفروض، وتعكس الاستسلام والخنوع في للعدوّ، بينما قصيدة نسيم عاطف الأسديّ تُبرز الثّبات والإصرار على المقاومة رغم التّحدّيات، ورفض الاستسلام والحثّ على النّضال. الأسلوب في القصيدتين أيضًا يعكس هذا التوجه: ففي قصيدة الجزّار، نجد أسلوبًا تأمّليًا حزينًا، بينما في قصيدة الأسديّ، نجد أسلوبًا تحفيزيًّا يُشدّد على قوّة الإرادة. في النّهاية، يقدّم الشّاعران معًا رؤيتين مختلفتين للصّراع والوجود، وكلٌّ منهما يعبّر عن مواقفه إزاء التّحدّيات السّياسيّة والثّقافيّة الّتي تمرّ بها الأمّة العربيّة.

...........................

قصيدة "كفكف دموعك وانسحب يا عنترة"

للشّاعر مصطفى الجزّار

فعيونُ عبلةَ أصبحَتْ مُستعمَرَة

كَفْكِف دموعَكَ وانسحِبْ يا عنترة

*

سقطَت من العِقدِ الثّمينِ الجوهرة

لا ترجُ بسمةَ ثغرِها يومًا، فقدْ

*

واخفِضْ جَنَاحَ الخِزْيِ وارجُ المعذرة

قبِّلْ سيوفَ الغاصبينَ.. ليصفَحوا

*

فالشِّعرُ في عصرِ القنابلِ.. ثرثرة

ولْتبتلع أبياتَ فخرِكَ صامتًا

*

فقدَ الهُويّةَ والقُوى والسّيطرة

والسّيفُ في وجهِ البنادقِ عاجزٌ

*

واجعلْ لها مِن قاعِ صدرِكَ مقبرة

فاجمعْ مَفاخِرَكَ القديمةَ كلَّها

*

وابعثْ لها في القدسِ قبلَ الغرغرة

وابعثْ لعبلةَ في العراقِ تأسُّفًا!

*

تحتَ الظّلالِ، وفي اللّيالي المقمرة

اكتبْ لها ما كنتَ تكتبُه لها

*

هل أصبحَتْ جنّاتُ بابلَ مُقفِرَة؟

يا دارَ عبلةَ بالعراقِ تكلّمي

*

وكلابُ أمريكا تُدنِّس كوثرَه؟

هل نَهْرُ عبلةَ تُستباحُ مِياهُهُ

*

عبدًا ذليلًا أسودًا ما أحقرَه

يا فارسَ البيداءِ.. صِرتَ فريسةً

*

نسبوا لكَ الإرهابَ.. صِرتَ مُعسكَرَه

مُتطرِّفًا.. مُتخلِّفًا.. ومُخالِفًا!

*

حُمُرٌ  لَعمرُكَ.. كلُّها مستنفِرَة

عَبْسٌ تخلّت عنكَ.. هذا دأبُهم

*

أن تهزِمَ الجيشَ العظيمَ وتأسِرَه

في الجاهليّةِ...كنتَ وحدكَ قادرًا

*

فالزّحفُ موجٌ.. والقنابلُ ممطرة

لن تستطيعَ الآنَ وحدكَ قهرَهُ

*

بينَ الدّويِّ.. وبينَ صرخةِ مُجبرَة

وحصانُكَ العَرَبيُّ ضاعَ صهيلُهُ

*

كيفَ الصّمودُ؟ وأينَ أينَ المقدرة!

هلاّ سألتِ الخيلَ يا ابنةَ مالكٍ

*

متأهِّباتٍ.. والقذائفَ مُشهَرَة

هذا الحصانُ يرى المَدافعَ حولَهُ

ولَصاحَ في وجهِ القطيعِ وحذَّرَه

لو كانَ يدري ما المحاورةُ اشتكى

*

مفتاحَ خيمَتِهم، ومَدُّوا القنطرة

يا ويحَ عبسٍ.. أسلَمُوا أعداءَهم

*

ونفاقِهم، وأقام فيهم منبرَه

فأتى العدوُّ مُسلَّحًا، بشقاقِهم

*

فالعيشُ مُرٌّ.. والهزائمُ مُنكَرَة

ذاقوا وَبَالَ ركوعِهم وخُنوعِهم

*

مَن يقترفْ في حقّها شرًّا.. يَرَه

هذِي يدُ الأوطانِ تجزي أهلَها

*

لم يبقَ شيءٌ بَعدَها كي نخسرَه

ضاعت عُبَيلةُ.. والنّياقُ.. ودارُها

*

في قبرِهِ.. وادْعوا لهُ.. بالمغفرة

فدَعوا ضميرَ العُربِ يرقدُ ساكنًا

*

لم تُبقِ دمعًا أو دمًا في المحبرة

عَجَزَ الكلامُ عن الكلامِ.. وريشتي

*

تترقَّبُ الجِسْرَ البعيدَ.. لِتَعبُرَه

وعيونُ عبلةَ لا تزالُ دموعُها

....................

قصيدة "اِجمَعْ جُموعَكَ وَانتَفِضْ يا عَنتَرَةْ"

للشّاعر نسيم عاطف الأسديّ

اِجمعْ جُموعَكَ وانتَفِضْ يا عَنتَرَةْ

فالسّيفُ مَجدُكَ وَالقصيدةُ جَوهَرةْ

*

اِدفعْ بِسيفٍ في يَمينِكَ غاشما

وَامنعْ بِتُرسٍ في يَسارِكَ مَجزَرَةْ

*

هانتْ عَلى الأعرابِ أعراضُ الثّرى

فَاستَعجَلَ الطُّغيانُ يُرسِلُ عَسكَرَةْ

*

وَاستَفْرَسَتْ فينا المَنايا والرَّدى

أطماعُهُ بَينَ الوَرى مُتفَجِّرَةْ

*

شيطانُ غاصِبِنا يَسُنُّ سِنانَهُ

وَعَراؤُنا جَهلًا يُحَدِّدُ خِنجَرَهْ

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أسيادِهِم

أمسَوا بِهذا العصرِ رَمزَ المسخَرَةْ

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أوطانِهِم

وَهُمُ العَبيدُ وَقَدْرُهُم ما أحقَرَهْ؟

*

ما يَصنعُ الأعرابُ في أسيادِهِم

مَرهونَةٌ أفكارُهُم مُستعمَرَةْ؟

*

فَالحاكمُ المَسؤولُ تُسبى أرضُهُ

وَيَدُقُّ أقداحَ الشّرابِ المُسكِرَةْ؟

*

وَتُراقُ أعراضُ النِّسا مِن يَعْرُبٍ

وَخُيولُهُ في أرضِها مُتمَسمِرَةْ

*

وَالحاكمُ المسؤولُ حَثَّ سِياطَهُ

تَبقى عَلى ظَهر الشّعوبِ مُسَيطِرَةْ

*

وَالحاكمُ المَسؤولُ ذي قُبُلاتُهُ

فَوقَ النِّعالِ الأجنَبِيَّةِ مُمطِرَةْ

*

كم أثقلَتْنا في المدامع غَصَّةٌ

مِن غيرِ ذَنبٍ حينَ نَرجو المعذِرَةْ

*

يا أُمّةً غَدُها يَموتُ مُدرَّجًّا

بِدموعِها تَبكي الأَسى مُتحَسِّرَةْ

*

يا أُمّةً تَبكي لِتاريخٍ مَضى

وَاليومَ تسألُ: أينَ تلكَ المَقدِرَةْ؟

*

قولوا لِعَبلةَ إنّ فارسَها هُنا

سَيَجيءُ بَطشًا كان ربي قَدَّرةْ

*

هلّا سألتِ الخَيلَ يا ابنةَ مالِكٍ

كيفَ الرّماحُ تُذِلُّ كُلَّ مُجنزرَةْ؟

*

وعنِ القتالِ سَلي نُسورًا أُشبِعَتْ

وَسَلي العِدى عَن سَيفِنا ما أقدَرَهْ

*

أسْرِجْ حِصانَكَ يا ابنَ عَبسٍ وارتَحِلْ

رُوحًا لِشَعبٍ مَيّتٍ في المَقبَرَةْ

*

لمّا رأيتَ العِلْجَ أقبلَ جمعُهُم

وسِلاحُهُم في أرضِنِا ما أكثَرَهْ

*

كُنتَ المَنونِ بأيِّ أرضٍ نِلتهُم

والرّعبَ يَفتِكُ في العَدوِّ فَيَقهَرَهْ

*

أسْرِجْ حِصانَكَ يا ابنَ عَبسٍ وانتَقِلْ

طوفانَ نورٍ في لَيالٍ مُقمِرَةْ

*

أسْرجْ رِياحَ العَزمِ وَارفعْ رايَةً

"للصَّحوِ يا أرضَ العُروبَةِ مُجبَرَةْ"

*

أسْرِجْ فَتيلَ العَقلِ يُشعِلْ دَربَنا

وَلْيَنتَهي عَصرُ اللّيالي المُقفِرَةْ

*

أسْرِجْ ظُهورَ المَجدِ تَحتَلُّ المَدى

فَسُيوفُنا مَسلولَةٌ مُستَنفَرَةْ

***

د. فارس شفيق العبّاس

لشاعر السَّـــلام/ عدنان الريكاني - كردستان العراق.

الأسلوب الشعري والتعبيري:

القصيدة تتسم بأسلوب شعري سردي تأملي، يمزج بين الواقع والرمزية ليعكس الصراع الداخلي للشاعر. يبدأ النص بتعبير عن التشظي والتمزق من خلال تصوير (قَمْحُ شَّيْبَتي) كرمز للزمن والماضي الذي يتناثر بين (تشقق الأرض). هذه البداية تعكس شعورًا بالضياع والشتات في عالم يعج بالتحديات.

الرمزية واستخدام الصور:

الرمزية حاضرة بقوة في القصيدة، حيث يتكرر حضور الطبيعة كرمز للوجدان الداخلي. صور (سنابل العشق الأخضر) و(طائر البجع قبل الرحيل) ترمز إلى الأحلام المفقودة والحنين للماضي الجميل، بينما تشير (الناي) و(الفزاعات) إلى حالة من العجز والخذلان. الصورة الرمزية للـ(رسائل الغفران) التي تذرف دمًا، تعكس معاناة الشاعر الداخلية في مواجهته للندم والألم.

التناقضات الداخلية:

القصيدة تتخللها تناقضات متوازية بين الحب والوجع، الخلاص والموت، الرغبة والمعاناة. (الميلاد بلون الأحمر) يشير إلى علاقة معقدة بين الحب والتضحية، بينما (لعنة الخطيئة) و(موت الرغبات) تسلط الضوء على الصراع النفسي، الذي يعيشه الشاعر بين الحب والرغبة في الخلاص من آلام الماضي.

 اللغة والمفردات:

اللغة قوية وعميقة، تحتوي على مفردات غير تقليدية تعكس حالة من الصراع الداخلي بين الأمل والخيبة، مثل (فزاعات) و(رسائل الغفران). تزدحم المفردات بالحزن والتوتر النفسي، مما يساهم في تكوين صورة مفعمة بالعاطفة، تعكس تفاعل الشاعر مع محيطه الوجداني.

التكرار والعمق النفسي:

تكرار تعبيرات مثل (سأخْتَبِئُ) و(تَذْرِفُ) يظهر الحالة من الفراغ الروحي، ويضيف المزيد من التوتر والتدفق العاطفي داخل القصيدة. هذا التكرار يسلط الضوء على تأمل الشاعر في ألم الوجود وإحساسه بالخذلان.

الخلاصة:

قصيدة (قَمْحُ شَّيْبَــــتِي) لشاعر السَّـــــــلام/ عدنان الريكاني هي تعبير عن الحنين والحزن، مشبعة بالرمزية العميقة التي تعكس الارتباك الداخلي والتحديات النفسية. الأسلوب الشعري الذي يمزج بين الواقع والمجاز، واستخدام الصور الرمزية الموحية، يخلق تأثيرًا عاطفيًا قويًا في القارئ، في حين يعبر عن التوتر الداخلي الناتج عن الحب، الفقدان، والبحث عن الخلاص.

***

بقلم: كريم عبدالله - العراق

....................

قَمْحُ شَّيْبَــــتِي..

لا تَدَعْ قَمْحُ شَّيْبَتِي مَنْثُوْرَاً بَيْنَ تَشّقُقَاتِ الأرّضِ، كُلمَا دَارَ عَليْهِ الزَّمَانُ تَذَكرّ سَنَابِلَ عِشْقِهِ الأخَضْرَّ حِيْنَ يُرَّاقِصُ الحُقُوْلَ، وَيُغَنِي فِي بُحَيْرَةِ أحَلامِهِ طائِرُ البَجَع قَبْلَ الرَّحِيْل، سَأخْتَبِئُ تَحْتَ فُسْتَانُكِ الأزْرَّقْ وَلا أخْبِرُ أحَداً عَنْ سِرُّكِ المَدْفُوْن فِي مَقْبَرَّةِ صَدْرِي، وأنْحَنِي مَعَ دَوَائِرَهَا المَلسَاء عِنْدَمَا تَتَكَوْرُ حَوْلَ مَفَاتِنَكِ المُثِيْرَة لِلجَدَل، أصَافِحُ كُلَ نَسْمَةٍ عِطْرٍ تَتَهَيْجُ ضُمُوْرَهَا وَهِيَ تُضَاجِعَ نُورُ وَجْنَتَيْكِ لِيَغْرِسَ الأمَل..

امْلَئِي ثُقُوْبَ النَّاي بِنَشْوَةِ نَصّرِ الفَزَّاعَاتِ التِي أكَلَتِ الطُيَورُ مِنْ رَّأسِهَا، ورَّسَائِلُ الغُفْرَّانِ فِي جِيُوْبِهَا تَذْرِفُ دَمَاً بِخُطُوْطِ كَفْي، يا رَّسُولَ الوَجَعِ أسْمَاكُ السَّمَاءِ مَعْصَوبَةٌ الأعْيُنِ تُجَادِلُ عُتَمَةَ الضَمِيْر..

وَفَوْقَ رَّوَابِي تُرَّابُكِ الزَّيْتِي رَّسَمْتِ أحْجَارَاً لِطَحْنِ وِلادَتِي، ونَسَيْتِ أنَّ مِيْلادِي بِلَوْنَ الأحْمَرّ شَغَفُ حُبٍ بِلا ضِفَافْ، أيَتُهَا التِيْجَانَةُ السَرّمَدِيْة ارّفَعِي عَنِي لّعْنَة الخَطِيئةِ وَأمْتَصي مِنْ مَسْخِ وَجْهِي شَرّاهَةُ اللقَاء، مُعّذِبَةٌ تِلْكَ الرَّغَبَاتُ الَّتِي تَنَاحَرَّتْ فِيْ مَبْسَمِي والانْتِظَارُ بِقَتْلِي لا يَرّحَمُنِي..!    

***

شاعر السَّـــــــلام/ عدنان الريكاني / 2024

 

قراءة نقدية أسلوبية تحليلية لقصيدة "المدينة جرح تخيطه اللغة"

 للشاعرة: ايمان يادور، ترجمة: علي عزيز

***

تتسم قصيدة /المدينة جرح تخيطه اللغة/ للشاعرة إيمان يادور بالكثافة الرمزية والوجدانية، كما تنقل بمهارة عالية مشاعر الحزن، الضياع، والقلق في إطار مشهد مديني معبر، يتم تصويره ببلاغة مؤثرة على مستوى الأسلوب والمضمون. القصيدة تمزج بين الحنين إلى الماضي والألم الناتج عن الحاضر، واللغة فيها هي الرابط بين الجرح والشفاء، بين الخراب والأمل، بين العتمة والنور.

1. المشهد المكاني والزماني:

تبدأ القصيدة من خلال إشارة إلى الزمان والمكان، حيث يُظهر الشاعر كيف أن /السماء لا تتسع لقلقنا/ (البيت الأول)، وهو تعبير دقيق عن تراكم القلق والخوف الذي يعصف بالإنسان. هذا التقديم الزماني والمكاني يعكس حالة من الضيق الشديد، حيث تتضاءل السماء (المكان الأوسع والأعلى) لتكون غير قادرة على احتواء قلق الإنسان. هذا العنصر الزمني يصبح تجسيدًا لحالة داخلية، تُظهر التوتر النفسي في بيئة غير مستقرة.

ثم يأتي استحضار الطبيعة كوسيلة لفحص الحاضر، حيث يُقال إن

/الطبيعة متحف/

لكن من خلال نظرة الحاضر تصبح الطبيعة مجرد ذكرى باهتة، /استحال أصفر/

و/لن تزهر الورود/

ما يعكس الانقطاع عن الحياة والخصوبة، ويُظهر قسوة الواقع الذي يُحيط بالشاعر.

2. اللغة والتصوير الشعري:

القصيدة تعتمد على الصور البلاغية والتراكيب المعقدة، مثل

مئة عام ستمر دون أن تمنحنا تشكيلة خضراء

وهو تعبير يربط الزمن الطويل بفقدان الأمل في التغيير. الشاعرة توظف الصور الشعرية بشكل مميز لتعكس حالة من الإحباط الثقافي والاجتماعي، حيث أن الشوارع مبللة

/بدموع المتسولين/

وكأن المدينة أصبحت مغطاة بدماء الفقراء والمحرومين.

عند الحديث عن

/شجرة الحور/

التي لا تحمل ذكريات، تصبح الشجرة رمزًا لفقدان الذاكرة والتاريخ، حيث تموت الرموز التي كانت تحمل في الماضي القيم الثقافية والاجتماعية. صورة /شجرة الحور/ تضاف إلى صور أخرى تكشف عن تعثر الروح الجماعية: لا أحد يلتقي في

/موعد/

ولا أحد يتوجه إلى الله في

/سجادة الصلاة/.

هذا الفراغ الروحي يعكس حالة الاغتراب والتفكك في المجتمع.

3. الرمزية الدينية والسياسية:

يتداخل في القصيدة البُعد الديني، حيث يظهر الإيمان بوجود قوة عليا تعكس حيرة الشاعر في علاقة الإنسان مع الله:

/الهي.. لماذا لا ترسل قلادة قوس قزح/.

هنا يُستخدم قوس قزح كرمز للأمل والتغيير، وهو عنصر من عناصر الطبيعة التي قد تعيد الإضاءة إلى المدينة المظلمة. ومع ذلك، في إطار الانتقاد السياسي والاجتماعي، تساءلت الشاعرة /ماذا يمكن أن يكون أكثر رعباً / وضع الإنسان عينه حتى على السماء؟/

وهو تساؤل يحمل في طياته الإشارة إلى العبث السياسي والتسلط على المقدسات، حيث يصبح الإنسان، أو الإنسان السياسي، عاجزًا حتى عن رؤية السماء بتواضع واحترام.

4. اللغة كأداة للتعبير عن الألم والبحث عن الخلاص:

يُلاحظ أن القصيدة تتحدث عن المدينة كـ/جرح/ تُخيطه اللغة، وهذه الجملة تعبير عن القوة الكامنة في الشعر واللغة كأدوات علاجية. اللغة تُصبح بمثابة الطبقة التجميلية التي تحاول إخفاء الجرح العميق، لكن رغم ذلك يظل الجرح واضحًا، وهو في النهاية لا يجد شفاءً حقيقيًا. كما يبرز التناقض بين سعي الإنسان نحو الخلاص بواسطة اللغة وبين هشاشة هذه اللغة في مواجهة الواقع المدمر.

5. الصراع بين الفرد والمجتمع:

القصيدة أيضًا تُظهر العزلة الفردية في مواجهة مع مجتمع مفكك، حيث يُشار إلى الأنانيات والمفاهيم السطحية التي تسيطر على الأفراد. الشاعرة تعبر عن هذه العزلة عبر الفردية:

/أمنحني لساناً / لا أحد يستطيع أن يترجم اسمك إلى لغة الحرب/. هنا يظهر التشاؤم الشديد من المحاولات العديدة التي فشلت في إيجاد لغة سلام بديلة عن لغة الحرب.

6. التناقض بين الأمل واليأس:

القصيدة تقدم رؤية متناقضة حيث تمزج بين اليأس والأمل. في حين تصف المدينة بأنها

/كئيبة/

و/مظلمة/

إلا أن الشاعرة تطلب من الإله قلادة قوس قزح لإضاءة هذه المدينة، ما يعكس التفاؤل الخفي بوجود إمكانية التغيير رغم الظلام. هذا التوتر بين الأمل واليأس يتجسد في التساؤل الذي يُطرَح على شكل دعاء، مما يعكس حالة القلق الروحي.

7. الجانب الاجتماعي والثقافي:

القصيدة تُسلط الضوء على الواقع الاجتماعي حيث تنحدر الشوارع إلى

/دموع المتسولين/

وهذه صورة تعبيرية مؤلمة تبين الفجوة بين الطبقات الاجتماعية والاختلال الاجتماعي الذي يعاني منه المجتمع. كما يظهر التدهور الثقافي حين يُظهر الشاعر صرخة /الشعراء/ في ظل ظروف ثقافية متدهورة تُهدد الذاكرة الجماعية.

الخاتمة:

تُعد هذه القصيدة من القصائد التي تتسم بالعمق الفلسفي والوجداني، حيث تعكس أزمة الهوية والوجود في مدينة عانت من القلق الاجتماعي والروحي. إن الشاعرة من خلال صورها البلاغية والتراكيب اللغوية الدقيقة تنجح في نقل الوجع والحزن الناتج عن واقع متأزم، لكن الأمل يظل حاضرًا في خلفية النص، متجسدًا في البحث عن النور والذاكرة واللغة كسبيل للإنقاذ.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

.....................

المدينة جرح تخيطه اللغة

انه زمان حتى السماء لا تتسع لقلقنا

التحليق دون مكان يحتويك ضياع

الطبيعة متحف لو تأملته بعين الحاضر لاستحال أصفر وبتلك النظرة لنْ تزهر الورود

ومائة عام ستمر دون ان تمنحنا تشكيلة خضراء

أترى قامة شجرة الحور ليس عليها حرف من الذكريات

لا ترى احد لموعد تتمايل روحه في الأعالي

ولا ترى احد يفترش سجادة الصلاة باتجاه قلبه

الجميع يصلّون لعيونهم.

ماذا يمكن أن يكون أكثر رعباً

وضع الإنسان عينه حتى على السماء؟

مَنْ يدري لعل غيمة في صرختها الأخيرة تعيد الحياة الى البداية

أتظن أن الكهوف سوف تؤوينا مرة أخرى؟

أي مرض هذه الحياة ؟!

الارض عوضاً عن قلبي

تخفق مثل كتلة مستديرة داخل جسدي

لعلي انا فقط أسمعها تصرخ ولا أحد يهتم

أسير في الشوارع وليس مِن ابتسامة تعمرّ طريقي

الشوارع هنا مبللة بدموع المتسولين

أذهب وأجمع الأغاني التي تتدفق من أفواه السكارى.

عندما يكونون ثملين،

يندبون حياتهم المفقودة.

مدينتنا بيضت رؤوس هؤلاء الذين أرادوا ان لا يسودَّ قلبها

الهي.. لماذا لا ترسل قلادة قوس قزح

لعنق هذه الشوارع السوداء لمدينتا الكئيبة؟!

يا إلهي أعطني كوكباً

ودعْ الشعراء يعمّرونه

أمنحني لساناً

لا أحد يستطيع أن يترجم اسمك إلى لغة الحرب

أعطني مصباحاً من نورك،

كي لا تضيع المدينة في الظلام.

إلهي أعطني ذاكرة كي لا تنسى المدينة ذكرياتها.

كي لا تخاف المدينة بعد الان منك،

ولكي لا يغرنّها الشيطان، ولا يقتل شعراءها.

***

ايمان يادور – كردستان العراق

للقاص الروائي محمد عبد الله الهادي

لعل الروائي محمد عبد الله الهادي أحد أبرز المبدعين الذين لم يلقوا الاهتمام النقدي الذي يليق بقيمة إبداعهم، ربما لأنه لم يمتلك منصبا ثقافيا أو يرأس صحيفة أو غيرها من المناصب التي تجذب إليه جوقة أدعياء النقد، أقول هذا انصافا للحق واحتجاجا على فساد الحياة الثقافية فى معظم بيئاتنا الثقافية. ومحمد عبد الله الهادي فوق هذا كاتب قصة قصيرة وروائي غزير الإنتاج ومع ذلك لم ينشر على امتداد عمره الإبداعي الذي تجاوز ربع قرن سوى تسعة كتب، أربعة مجموعات من القصص القصير، وأربع روايات، وكتاب نقدي وله من المخطوطات والأعمال الجاهزة للنشر ما يفوق هذا العدد.

وقد أصدر مؤخرا رواية مهمة بعنوان " ليالي الرقص فى الجزيرة " جـ 1 (العبد) وأنا أشير إلى هذا العمل قبل أن أتناول مجموعة "امرأة من ألف وجه"، لأن المؤلف يؤكد فى هذا العمل تماسك وتفرد عالمه الروائي، حيث يمكن ملاحظة التماسك بين معظم شخصيات قصصه القصيرة وشخصيات رواياته، إنه عالم خيالي خاص بالروائي محمد عبد الله الهادي، يتخذ من البيئة المصرية فى إقليم الشرقية منطلقا، وهى نفس البيئة التى انطلق منها الروائي يوسف إدريس عبقري القصة العربية بلا منازع، لذلك لن نعجب إذا ما وجدنا تشابها بين الكاتبين، وخاصة فى الأسلوب، كما سنشير فيما بعد.

أعود إلى المجموعة التى بين يدي "امرأة وألف وجه" فأبدي فى البدء ملاحظة شكلية تتعلق بحجم المجموعة، فأقول إن هذه المجموعة كان يمكن أن تقسم إلى مجموعتين، نظرا إلى التباين الشديد فى بناء القصص، ولا أقول المضمون. تنتظم المجموعة فى ثلاثة أقسام، يضم القسم الأول منها ست قصص هي على الترتيب: البلغة مرة أخرى ـ جولدن فينجرز ـ عروسة للأديب الأدباتي ـ خارج الخدمة ـ ابنان من رحم الليل ـ جمل حمدان) ويغلب على هذا القسم طول القصص وتعدد الشخوص فيها. والقسم الثاني مكون من جزأين الأول منهما يضم خمس قصص تحت عنوان "كفان" والجزء الثاني يضم عشرة قصص بعنوان " قصص قصيرة لحد ما "(إلى حد ما) وهذا الجزء فى مجموعه يشكل مجموعة قصص مكتملة يغلب عليها بناء القصة القصيرة جدا، حيث التركيز والتكثيف والمفارقة بوصفها سمات بارزة لهذه القصص، وكان الأجدر بالمؤلف نشر هذا القسم فى مجموعة أو كتاب مستقل أما القسم الثالث فيضم قصتين هما: صباح جديد على طائر أبيض صغير وصندوق الدنيا) وهاتان القصتان تعدان- من وجهة نظري - ذروة إبداع المؤلف فى هذا الكتاب.

على أية حال يمكننا أن نلحظ خطين متواصلين عبر هذه الأقسام الثلاثة، الأول على مستوى التيمة، وهو الاتكاء على موضوع المرأة، بداية من عنوان الكتاب "امرأة وألف وجه" والإهداء الذي يوجهه المؤلف إلى نساء حياته أو على حد قوله: إلى نساء حياتي، فيذكر اسم الزوجة واسم الأم واسم الابنة، فالمرأة تيمة قارة ومتربعة على العرش فى كل قصص المجموعة تقريبا، فهي الأم الحنون فى قصص: جولدن فنجرز، وعروسة للأديب، وكفا نبوية، وهى الزوجة فى البلغة مرة أخرى وجمل حمدان وغيرهما , وهي الأم الرمز المتعدد المعاني للوطن فى قصتي: صباح جديد وصندوق الدنيا، وهكذا أي نص تقرأ تجد فيه تلك المرأة فى وجه من وجوهها المتعددة.

أما الخط الثاني الذى يربط قصص المجموعة، فهذا الوعي الفني الحاد الذي يسمو بالواقعي إلى درجة الرمز من خلال قصد واضح نحو التجريب، حيث يحاول المؤلف استخدام تقنيات سردية تبدأ بالتقليدي وتنتهي بالتجريبي، فيغلب على قصص القسم الأول البناء التقليدي، فى حين تنحو القصص فى القسمين الأخيرين منحى الأبنية غير التقليدية من استخدام شكل القصص القصير جدا إلى توظيف الفنتازيا والتراث الشعبي فى القسم الأخير. لكن تبقى هناك استراتيجية ثابتة فى معظم القصص وهى استراتيجية المقابلة ,سواء على مستوى الزمن أو المكان أو الشخوص، وهى استراتيجية ذات دور مهم فى بناء النص كما سنرى فى التحليل.

ولعله من المفيد أن نقف بالتحليل الفردي عند أبرز قصص المجموعة، ولنبدأ بالقسم الأول:

1 ـ البلغة مرة أخرى (أبو الوجوه):

لا أعرف لماذا التردد فى العنوان لدى المؤلف؟ فعلى الرغم من التوطئة التى صدر بها المؤلف قصته "أبو الوجوه" فأعتقد أنه كان يكفي أن يحدد العنوان مباشرة "أبو الوجوه" وتبدأ القصة هكذا، ولكن أنه يبدو أن المؤلف أراد أن تكون العلاقة أو الامتداد بين هذه القصة وقصة أخرى أبطالها تقريبا نفس الأبطال بعنوان "البلغة" نشرت عام 2002 م ضمن مجموعة "حلقة ذكر".

والقصة تبدأ من بعد غضب وصيفى من مصيلحى صديقه رافضا رفضا قاطعا انتعال بلغته الجديدة التي أخذها علي سبيل السلف، مفضلا العودة إلى المنزل وعدم الذهاب إلى عرس القنادلة، وهناك فى المنزل يلتقي بسعدية التى تحاول فى البدء الاختفاء بعيدا عنه، ثم تتطور الأحداث فى اتجاه آخر يجعل من البلغة هنا مجرد خلفية أو رمز يختبئ خلف الفكرة المركزية للنص الجديد (أبو الوجوه).

وأبو الوجوه هو المرض الذي أصاب "إدريس عبد العظيم" عمدة القرية الظالم والشهير باسم "أبو جريدة" نسبة إلى الدرويش أبو جريدة الذي بشر أمه زوجة عبد العظيم بولادته، فسمي بذلك على اسمه واشتهر بهذا الاسم، ولأن الدرويش ذكر العمدة بظلمه وأمره بالتقوى ضربه الأخير على وجهه ؛ ثم أصابه المرض بعد ذلك، وفى المنام يأتي الدرويش إلى العمدة يأمره أن يبحث عن بلغة قديمة لفلاح فقير يضرب وجهه بها، ويجد بسطويسى شيخ الخفر بغيته عند وصيفى، بالضبط عند بلغة وصيفى القديمة، تلك البلغة التى كانت محور الأحداث في القصة السابقة، وقد تطورت وظيفتها هنا، لتصير رمزا أسطوريا، فهي هنا علاج لمرض العمدة الظالم، إنها آلة تطهير لذنوب العمدة، حيث اقترح أبو جريدة الشيخ الصوفى فى المنام للعمدة أن يضرب وجهه ببلغة قديمة لكى يبرأ من مرضه.

2 ـ جولدن فنجرز:

البداية: نظرت بريبة التائه اللوحة الزرقاء المعلقة بأول الشارع، مرت عيناي ببطء على الحروف البيضاء المتشابكة عليها... يهز الرجل رأسه من أعلى لأسفل هزة عظمة:

هو يا سعادة البيه "(ص29)

وهذه فى الواقع أطول بداية لقصة قصيرة، ومع ذلك يمكن تلخيصها فى جملة واحدة وهي دهشة الراوي / البطل.

بداية الأحداث / القصة ـــ رؤية لوحة مكتوب عليها "جولدن فنجرز " (ص30)

الماضي

صالون العروبة

راجي عفو الخلاق... الأسطى أنيس الحلاق

أما الحاضر

جولدن فنجرز

الراوي يدخل محل الحلاقة، فيتذكر، وهكذا نجد أن الأحداث قائمة على التقابل بين الماضي والحاضر، والماضي أكثر حضورا، ويزداد إيقاع القصة مع نهاية الأحداث، ويبقى الموقف الرئيسي هو موقف الأم (الماضي) عندما انتصرت للابن الصغير الراوي الآن(الحاضر)، فالراوي لا ينسى يوم أن جلس للحلاقة، ثم دخل وليد ابن الضابط المحل، فتركه الأسطى أنيس واتجه باهتمام وحفاوة إلى وليد ناسيا الراوي، فما كان من الأم التى كانت تراقب المشهد وتشعر بنظرة القهر فى عيني ابنها، إلا أن نهضت وعاتبت الأسطى أنيس وسحبت ابنها وخرجت من المحل. إن القصة هنا تمجد فعل الأم، على حين تمجد القصة السابقة فعل الزوجة، فهنا أم أيمن، وهناك سعدية زوجة وصيفى والجازية زوجة العمدة.

3 ـ عروس للأديب الأدباتي:

لعل هذه القصة تعد على المستوى الفني أقل من سابقتيها، ولكنها تبقى محتفية بالأم، والأم هنا تأتي مقابلا للزوجة أو بديلا لها، فالأديب يتزوج بعد موت الأم، إن هذه القصة على تلك المقابلة الخفية بين الأم والزوجة، الأم تقرأ الأعماق، فى حين الزوجة تقرأ السطح ففى نهاية القصة يكتشف الأديب راوي القصة أن الزوجة لم تقرأ كتابيه اللذين أهداهما لها، ولكن كانت تقرأ فقط الإهداء كل ليلة، فيما عدا هذه المقابلة بين موقف الأم وموقف الزوجة، يبدو ما جاء فى نسيج النص فيما بعد أشبه بالآراء الشخصية حول الأدباء والأديبات والزواج

للأم جملتان فى بداية النص يؤكدان صدق العلاقة ومتانتها

الأولى: نفسى ومنى عيني أشوف أولادك يا ابني قبل أن أموت " ص45.

الثانية: ربنا يعلى مراتبه وينجح مقاصده، ويرزقه ببنت حلال تسعده " ص45.

4 ـ خارج الخدمة:

يضع المؤلف عبارة لماركيز من قصته الأخيرة "ذاكرة غانياتي الحزينات" بديلا للبداية السردية، وخلاصة العبارة، أن استفزاز الفتيات الصغيرات للشيوخ بعبارات يعتقدون فيها أن الشيوخ خارج الخدمة أمر مثير أو مفتن من مفاتن الشيخوخة. ولم لا لا نضع مقتبس ماريز هنا كاملا: " خطر لي إن إحدي مفاتن الشيخوخة هي الاستفزازات التي تسمح لأنفسهن بها الصديقات الشابات اللواتي يعتقدن أننا خارج الخدمة ".

والقصة كلها تدور حول علاقة الأستاذ يحيي عبد الواحد مدير الإدارة وسط ثماني نساء وتاسعتهن (فتحية)، وكيف لعب المؤلف بلفظ "خارج الخدمة" بمعناها الرمزي والحقيقي معا، ففي الوقت الذي يكون فيه يحيي على وشك الخروج خارج الخدمة(التقاعد)، يدخل الخدمة، والخدمة بمعناها الرمزي وهو أن يكون شخصا مرغوبا فيه من قبل النساء.

لقد نجح المؤلف رغم تعدد الشخصيات بأن تدور كلها حول شخص واحد هو يحيي وحول نقطة محددة هي علاقة الرجل بالمرأة، وكيف استطاع بالفعل أن يوظف عبارة ماركيز التى صدر بها القصة، وقد وجد يحيي فتنة الشيخوخة فى فتحية العرجاء.

5 ـ ابنان من رحم الليل:

هذه القصة تمتح من الواقع الحقيقي لجزيرة مطاوع حيث تختلط التقاليد الريفية بالتقاليد البدوية على أرض الجزيرة، ولذلك تتماس أحداث هذه القصة مع أحد فصول رواية المؤلف الأخيرة "ليالي الرقص فى الجزيرة" التى كتبت قبل هذه القصة، فبقرة محيسن فى الرواية هي جاموسة أبو إسماعيل فى القصة، والعبد فى الراوية هو عصفور فى القصة، الجديد هنا هو الراوي، والراوي غفير الدرك الذي الذى ساعد فى إعادة الجاموسة إلى صاحبها (أبو أسماعيل)، وصديق عصفور منذ أن كانا صغيرين فى المدرسة، الأول صار لصا، والثاني صار غفيرا، فصار الاثنان معا ابنين لليل، فمن هنا كان عنوان القصة "ابنان من رحم الليل".

والقصة هنا تقوم على المقابلة بين شخصين من جنس الذكور والغريب لا ذكر للمرأة هنا بل إن الإشارة تكون بالسلب: " كانت داره التى لم تعمرها امرأة قريبة من سور البستان " ص81. طبعا هناك امرأة أخرى يكاد يكون دورها سلبيا وقليل الأثر ألا وهى زوجة أبو أسماعيل، حيث يقتصر دورها على الصراخ بينما الزعيق والكلام للرجل:

" كان الصراخ المستنجد مازاليجرح صمت الليل الكاذب، صراخ امرأة تستغيث، ورجل يزعق بصوت أجش: - يا خلق هوه.. أغيثوني.. جاموستي يا عالم ؟ " (ص75). ويؤكد هذه السلبية بقوة أن البطولة الحقيقية فى هذه القصة لعصفور ابن الليل، فهو من أنقذ الجاموسة من أيدى رفاقه الخونة من اللصوص، وبالطبع استكمل دور البطولة غفير الدرك راوي القصة:

يا أهل قريتي الكرام: حارسكم الشجاع يعترف أمامكم بالحقيقة..

يا أهل قريتي الكرام: هذا الرجل "عصفور"، ابن الليل، المثخن بالجراح على فراشه في هذه الدار، هو الذي أعاد الجاموسة لصاحبها " ابو إسماعيل يا أهل قرايتي الكرام.. يا أهل قريتي الكرام..

لم يسمعنى أحدٌ من أهلي أو ناسي الكرام بالقرية..

لم يسمعني سوى أبينا الليل..(ص82)

6 ـ جمل حمدان:

لعل المكان فى هذه القصة وسابقتها هو البطل الرئيسي، فثمة أسماء أماكن تردد فى العملين، وفى عالم محمد عبد الله الهادي كله (انظر عصا أبنوس، وليالي الرقص فى الجزيرة) مثل: كوبري الميزانية ـ ترعة بهجت ـ مصرف صان ـ جنينة الخواجات وغيرها.

والقصة بعد ذلك تؤكد هذا الدفء الإنساني فى الجزيرة بين البشر وخاصة بين الزوج وزوجته، فالمرأة هنا زوجة "شلبية" ولنلاحظ دقة الوصف والخبرة الكامنة لدي المؤلف بأحوال البشر فى الريف فى العبارة التالية: "... فتندس بجواره ترمي هموها عليه ويرمي همومه عليها، يسألها عن أشياء وتسأله عن أشياء، يتكلمان عن الجزيرة الواسعة وناسها الكبار، عن شغل الموسم وأحواله المستقبلية، عن آخر أجر دخل جيبه وشح أصحاب الأرض، عن أشياء شتوية ملحة يرغبان فى شرائها للطفلين من السوق.

تخمد الجمرات، يتسلل برد من عقب الباب. يتضامان أكثر. ياخذها بين ذراعيه تحت البطانية القديمة متلمسا منهادفء عز عليه فى ليل الشتاء الطويل.. " ص 89.

الاهتمام بالتفاصيل من أبرز سمات هذه القصة ومعظم قصص المجموعة، والاهتمام بالتفاصيل يجعلك تلهث وراء الراوي، فكان يمكن للقصة أن تنتهي بذهاب شلبية إلى المنزل مع حمدان الجمل، ولكن المؤلف لهدف آخر يؤجل النهاية ليوم آخر عندما يأتي الجمل إلى دكان مشرف ويوجه إهانة بالغة للشيخ تهامي، وذلك الرجل المستغل، حيث يقول له أن حيوانه (ما بين فخذي) هو الذي أرجع شلبية إلى دارها.

القسم الثاني: يضم هذا القسم خمس عشرة قصة قصيرة جدا من حيث الحجم على الأقل بالنسبة لقصص القسمين الأول والثالث، وقد وضع المؤلف الخمس الأولى منها تحت عنوان "كفان" كفا أم ـ كفا قناص ـ كفا نبوية ـ كفا آل طعمة ـ كفا الحلبي. ووضع للعشرة الأخيرة عنوانا شاملا هو "قصص قصيرة لحد ما " وهذه القصص هي: الأخرس ـ شجيرات حب صغيرة ـ سيمفونية الغروب ـ الجائزة ـ فى عز الليل ـ آخر الخط ـ هواء يرد الروح ـ القلعة ـ آجال ـ عود.

وسأتوقف من هذا القسم عند قصتين الأولى "الأخرس" والثانية "شجيرات حب صغيرة".

1ـ الأخرس:

هذه قصة مأساوية تستحق أن تترجم إلى معظم لغات العالم، تبدأ القصة بجملة تقريرية تبدو بريئة فى ظاهرها، إلا أنها تخفى مضمونا مختلفا " لأنه الأخرس الوحيد بالقرية، فإنه كان دائما ما يحاط من أهلها بنوع من الحب والشفقة " ص 117.

الحقيقة أن هذا النوع من الحب والشفقة عندما يتعرض للاختبار الحقيقي تكتشف أنه حب مزيف وشفقة مفتعلة، فالقرية ترفض تزويج الأخرس من إحدى بناتها، وعندما يتزوج وينجب ابنه يموت تحت عجلات الجرار، يجلسون حوله فى البداية، ولكنهم ينفضون عنه رويدا رويدا تاركينه وابنه وزوجته تحت سطوة الليل البارد، وفى الصباح تكتشف القرية كلها هروب الأخرس وزوجته بجثة الابن. " فقط كانت هناك كومة قش مبللة، وبقعة دماء مختلطة بالوحل، ومصباح من الصفيح، ورماد نار بللته قطرات المطر.. وبحثت القرية عن اخرسها فى كل مكان ولم تجده " ص 122.

2 ـ شجيرات حب صغيرة:

هذه قصة طريفة يوظف فيها المؤلف طقسا شعبيا كان شائعا فى الريف وهو رسم المحبين شجرة الحب على منتصف جبهته، وكان الفلاحون يفعلون ذلك بطرف الطاقية الصوف، وشجرة الحب أو الحب عامة فى الريف كان دليل الرجولة والنبل، وكان الآخرون يشفقون على المحب دائما، والقصة تكاد تخلو من الصراع الدرامي ومن ثم تشحب فيها الحكاية، فثمة أم وابنها يذهبان إلى السوق فى القرية، البنت جميلة جدا واسمها كوثر، تشيع الدفء والحب فى السوق، يلاحقها الشباب ويتمنى كل واحد منهم أن يفوز بحبها.

وينهي المؤلف القصة، بأن أهل السوق لم يلتفتوا لغياب كوثر وزوجها، لأنهم كانوا منشغلين بكوثر أخرى، وكانه يريد أن يقول أن الجمال ضروري لحياة البشر فى هذا الريف رغم الفقر والجهل، إن القصة فى النهاية دعوة لتقدير الحب وتقديس الجمال.

القسم الثالث: يضم هذا القسم قصتين(صباح جديد على طائر ابيض صغير ـ صندوق الدنيا)، فيهما يعتمد محمد عبد الله الهادي الفنتازيا استراتيجية فى السرد، والفنتازيا هنا عمادها خيال قوي، يبعث الروح فى الأشياء والحيوان فيصيران شخوصا سردية محملة برؤية جمالية هي فى الأخير رؤية المؤلف، فالطائر الأبيض الصغير فى القصة الأولى يجعلنا نلهث خلفه وهو يقودنا من مكان إلى آخر داخل المدينة، حتى يستقر فى نهاية الحداث عند كوخ العجوز وسط كتاكيتها الصغيرة، يلتقط الحب ويشرب الماء بعد رحلة عذاب ومطاردة من الجنود / الغرباء، فوق الأشجار وعند سوق المدينة وغيرها من الأماكن العامة، تراه العجوز فتناديه: تعالى يا إبراهيم.

وإبراهيم هو ابنها الذي قتله الجنود الغرباء، وهم قساة لا يرحمون، فنجدهم يهاجمون العجوز بحثا عن المقاومين الهاربين الذين يقاومون الجنود، وعندئذ يصيبون الطائر الصغير فينكسر جناحه، وفى اليوم الثاني يعود ليكتشف أن الغرباء حطموا كوخ العجوز وقتلوا الكتاكيت الصغار. إن هذه القصة حكاية رمزية عميقة مركبة لقهر العدو المحتل لكل أرض محتلة بشعبها وأرضها وخيرها، فما الطائر الصغير وما الكتاكيت وما العجوز وما إبراهيم الشهيد إلا مفردات هذا الوطن المحتل المقاوم الذي قد يكون فلسطين أو العراق أو اي بقعة فى الأرض يدنسها الدخلاء الغزاة المحتلون. إن قوة التخيل تجعلنا نحن المتلقين نصدق مع العجوز أن الطائر الأبيض الصغير الجائع هو إبراهيم ابنها الذي قتله العدو.

فى القصة الأخيرة "صندوق الدنيا" يوظف المؤلف الموروث الشعبي توظيفا أكاديميا أي توظيفا واعيا مقصودا على خلاف البلغة مرة أخرى وشجيرات حب صغيرة " حيث لا يتوارى الموروث الشعبي فى خلفية الأحداث، ولكنه هنا يبرز فى المقدمة ويعتبر المحفز السردي الأول فى العمل.

فى هذه القصة يعيد المؤلف إنتاج حكاية ست الحسن والشاطر حسن من خلال لعبة سردية مشهدية اقرب غلى العرض المسرحي، أداته موتيفة تراثية مشهورة هي " صندوق الدنيا" حيث يحمل فى الأسواق ويعرض من خلال الصور المدهشة التى كانت تأخذ بألباب النظارة فى الريف والقرى.

وحاملة الصندوق هنا امرأة عجوز تتفاعل مع النظارة أو المتلقين وتقترح عليهم الحكاية التى ستعرضها، فيجمع النظارة ومعظمهن من البنات الصغيرات على رواية حكاية ست الحسن والشاطر حسن. وهنا لا يروي لنا السارد حكاية، ولكن يروي مأساة وبالتحديد دراما، فهناك صوتان يتناوبان السرد أو قل العرض، صوت الراوي وهو صوت العجوز، فالعجوز تمثل الشخصية الرئيسية على المسرح حيث تحكي حكاية فتاة جميلة يحبها ابن الملك، ولكن الحب لا يدوم، فالملك الظالم يقتل الأب ويسجن الأسرة بما فيهم ست الحسن، وعندما يتولى الابن / الحبيب الملك يسير على نهج أبيه ويتنكر لحبه القديم فيواصل تعذيب وإهانة ست الحسن، وها هو يطاردها فى الأسواق حيث تحمل صندوقها أو قل همها على كتفها.

أما الراوي فبمثابة الجوقة فى المأساة الإغريقية، يردد بعض الجمل الأساسية التى تبرز الفكرية ويهيء المسرح للمثل الأول العجوز يسرد ما لم تستطع سرده، إن أجمل ما فى هذه القصة هى النهاية التى تؤكد مغزى القصة فعندما يهجم جنود الملك على العجوز يساعدها الغول فتتحول إلى طائر أخضر يطير فى سماء السوق، ثم ينبه النظارة على المشهد وكأنهم فاقوا من حلم، يلقون بالفواكه الفاسدة والتراب والطوب على جنود الملك، إن القصة ببساطة تجعل من ست الحسن والجمال رمزا واسع الدلالة للمثقف الذي تطارده قوى الظلام والجهل فى كل مكان وزمان.

***

د. محمد عبد الحليم غنيم

 

قراءة نقدية في نصّ: ذاكرة العطش – للشاعرة عبير محمد – مصر

قصيدة /ذاكرة العطش/ للشاعرة عبير محمد تنغمس في لغة مشحونة بالرمزية والإحالات النفسية والوجدانية العميقة. هي قصيدة تكشف عن الصراع الداخلي للذات بين الألم الروحي والتوق المستمر إلى الخلاص، وبين الجمود الناتج عن الفقد والانقطاع. تنسج الشاعرة شبكة من الرموز التي تربط بين الطبيعة والوجود البشري، وبالأخص الحجر الذي يتكرر كرمز مركزي يُحتفى به ويُستثار في مواجهة الذاكرة المرهقة. ولعل التفاعل بين العطش والذاكرة، كما بين الحجر والأنين، يخلق حوارًا شعريًا بين الثبات والتحول، وبين ما هو جسدي وما هو روحاني.

الذاكرة والعطش: توترات روحية وإشارات إلى الوجود

من خلال /ذاكرة العطش/، تبدأ الشاعرة عبير محمد في استكشاف عمق الوجود الإنساني، حيث يُنظَر إلى العطش لا كحاجة جسدية فحسب، بل كرمزية رمادية تنبض بالحاجة الروحية والمشاعرية التي لا تروى. العطش في النص هو عطش الذاكرة، الذي يسعى إلى إشباع نفسه من خلال التذكر، وقد يكون في ذلك ألم أو رغبة محمومة للعودة إلى نقطة بداية لم تتحقق. إنه عطشٌ للروح، عطشٌ يتقاطع مع الزمن والمكان ولا يتوقف عن /الأنين/ المتمثل في الصور المتناثرة. الشاعرة تخلق مشهدًا من «الظلال» و«السراب»، وكلها تعبيرات عن عدم اليقين والفراغ الوجودي الذي يشعر به الإنسان في رحلته مع العطش الروحي.

أما الذاكرة، فهي ذلك الشبح الذي يطارد الذات، كأنها لا تملكها بل هي التي تملكها. هناك إشارة دائمة إلى الذاكرة المحترقة و«الخطوات المبعثرة»، في مشهدٍ يوحي بحركة مستمرة لا يمكن التنبؤ بها أو السيطرة عليها. الذاكرة في هذا السياق ليست مجرد محتوى للذكريات، بل هي كائن حي يعيد إحياء الألم ويدفع صاحبه إلى البحث عن إجابات لا نهاية لها.

الحجر: رمز الجمود والاحتجاج والتحدي

يتحول الحجر في النص إلى كائن رمزي يتسم بالثبات، بل يتعالى إلى مستوى الكائن المشتبك مع العاطفة الإنسانية. فالحجر في الثقافات المختلفة هو رمز للألم، للصلابة، ولما لا يتحرك، وعليه فإن الشاعرة لا تكتفي بتسليط الضوء على هذا الثبات، بل تدعوه لتحدي الجمود. الخطاب الشعري الموجه إليه ليس نداءً عاديًا، بل هو حوار مع الجمود ذاته، وتحدٍّ لمحاولة هذا الحجر أن يظل ساكنًا.

/أنا من أنطقتك أيها الحجر/ هي الجملة التي تبدأ فيها الشاعرة تحدي الحجر ليتنفس الحياة في الكلمات والذكريات، ويتكلم من خلاله الوجع والحلم. في هذا السياق، الحجر ليس فقط مادة مادية، بل هو حجر يحمل في طياته معاني التاريخ والجروح المشتركة، حتى أنه يتصالح مع مفاهيم الحب والجمال، كما في قوله: /أنا من جعلت منك ماء الحب يتفجر/. هنا يبرز الصراع بين الثبات والتحول؛ فالحجر لا يظل جمادًا، بل يصبح جسدًا حيًا يعبر عن الألم والجمال في آن واحد.

العلاقة بين الذات والطبيعة: تفاعلٌ فلسفيٌ ووجداني

الطبيعة في القصيدة تتحول إلى حضور قوي، يتفاعل مع الذات ويؤثر فيها، ولكن ليس بشكل مباشر. الشاعرة تذكر في نصها /أبنة الزيتونة الشامخة/، في إشارة إلى ارتباطها بالأرض والوطن، ولكنها أيضًا تستخدم الزيتونة كرمز للصمود والقداسة. الزيتونة، مثلها مثل الياسمين، ليست مجرد عناصر نباتية، بل هي رموز للهوية الوطنية والإنسانية المتجذرة في الأرض، التي على الرغم من ألمها ومواتها، تستمر في العطاء.

وما يثير الانتباه هو أن الشاعرة لا تكتفي بهذه الرمزية الوطنية، بل تمزجها مع الطابع الوجداني والعاطفي، حيث يتحول الياسمين إلى رمز للبراءة، والنقاء، والطهر. في قلب هذا التفاعل بين الذات والطبيعة، هناك استحضار لحالة معقدة من الفقد والتوق إلى شيء غير ممكن: /تضرع من أجلي... تضرع في يوم ميلاد/. تضرع الشاعرة هنا هو بمثابة استغاثة، طلب النجاة من الأقنعة الزائفة التي تلوثها الدماء، وهو استعارة للضياع في زيف الواقع، وعليه يُطلب من الشاعر أن يحافظ على الطهارة، على الأصالة، في مواجهة هذه الفوضى.

التوق إلى النقاء والضوء: التحول إلى الذات الأكثر إشراقًا

القصيدة لا تنتهي باليأس أو الهزيمة. على العكس، هناك إشراقة مفاجئة في النهاية. يُحتفل بـ /سديم/ الذات، حيث الدموع تتحول إلى نور، وهي صورة شاعرية توحي بتحول الألم إلى نورٍ داخلي. تقول الشاعرة: /ها هو سديمها يتفتق دموعًا من نور/. هذا التحول يحمل دلالة فلسفية عميقة، فهو ليس فقط تحوّلاً عاطفيًا بل هو مقاربة للنقاء الروحي الذي يمكن أن ينبثق من أقسى لحظات الألم.

الأمر اللافت هو أن الشاعرة تمنح الحجر القدرة على التوهج والتحول، رغم ثباته. /توّهج كما تشاء... فلا سماء لك سوى قلبي/، هو مشهد نهائي يُعيد تقديم الحجر ككائن متجدد يستطيع أن يحمل معناه الجديد في قلب الشاعرة، في تلك الفضاءات التي لا تقيدها الأرض أو الزمن. الحجر هنا يشير إلى التحول الداخلي الذي لا يتوقف عن الظهور في أشكال جديدة، بل يمتد إلى السماء من خلال القلب.

الخاتمة: بين العطش والنور

قصيدة /ذاكرة العطش/ لا تكتفي بالسعي نحو الخلاص أو الوصول إلى هدف معين، بل هي رحلة وجودية وشعرية غنية بالرمزية التي تنقلنا بين الألم والحلم، بين الجسد والروح، بين الأرض والسماء. الحجر، كرمز للجمود، يتحول إلى كائن حي، والشاعرة نفسها تتحول من نقطة الألم إلى نقطة الضوء والنور الداخلي. إن النص يشير إلى أن الوجود لا يمكن أن يظل في حالة ثابتة، وأن كل الألم يمكن أن يتحول إلى أمل وتحقق في النهاية.

وفي هذا السياق، /ذاكرة العطش/ هي قصيدة عن السعي المستمر نحو الضوء، حتى لو كان هذا السعي محفوفًا بالعطش، وموصولًا بالذاكرة التي تلاحق الإنسان في أزمنته المختلفة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

.......................

أيها المتسكع

مع الريح على أرصفة الشتاء

وظلال الردى تلسعك

بخطوات السراب وذاكرة العطش

تتعرى غصون القلب المحترقة

وهي تتعقب آثار أقدام مبعثرة

وتمتمة شفاه ظامئة

بشقاء المسافات

وخيال حلم لم ينفك من أساه

يجره الأنين بالف والف آه

أنا من أنطقتك أيها الحجر

وبشفاهي أستفززت أنين أحلامك اللاهثة....

الجمر واللهب يستيقظان بتلك اللذة الخبيئة

كشمعة ترفض الإنطفاء الاخير

أنا أبنة الزيتونة الشامخة

ومن تلك الارض الطاهرة

التى تنبت الياسمين

فكن حافظا لي

من تلك الوجوه العابثة بالسكون

ونكر عرشي بالياسمين

*

تضرع من أجلي

تضرع في يوم ميلاد

لكيلا تقترب مني الأقنعة الزائفة

الملطخة بدماء الأبرياء

أنا انثاك.....

فلا تتكبر أيها الحجر المصقول بأمواج

شواطئ الوجد

أنا من جعلت منك ماء الحب يتفجر...

عطرا وشعرا

لتنشد قوافيك

في حقول العشق

لترفرف كالفراشات

لتغرد كالعصافير

وتحلق كما الأغاني في الأثير

بعيدا عن ضجيج الفوضى

وتتبع ما أوحي إليها

وتهتدي بهالتي الحبلى بالضوء

فها هو سديمها

يتفتق دموعا من نور

في سماء بعيدة عن شياطين

الإثم والغرور

أيها الحجر النيزكي

توهجْ كما تشاء

فلا سماء لك سوى قلبي

لتحط في معارجه

على مدرج الأضلاع

كطفل أبصر النور.

***

عبير محمد

 

الأسلوب والصورة الشعرية: القصيدة تتميز بأسلوب سردي تأملي مليء بالصور الشعرية المركبة والمعقدة، حيث تتحول اللغة إلى وسيلة للتعبير عن التوتر الداخلي والافتقار العاطفي. تعبيرات مثل (كدمات الجوع) و(أغصان معطوبة) تعكس حالة من الألم والفقدان، وتوحي بالصراع بين الذات والعالم المحيط بها. هناك أيضًا تداخل بين الصور الطبيعية مثل (غيمة كثيفة قرنفلية) وأحاسيس داخلية عميقة، مما يخلق تناغمًا بين الطبيعة والمشاعر الشخصية.

الرمزية والتشبيه:

الرمزية في القصيدة حاضرة بقوة، مثل (أغصان معطوبة) و(شبح البعد المزركش بالألتياع)، حيث يتم تصوير الألم والبعد عن الأمل من خلال صور محورية مستوحاة من الطبيعة. استخدام (كصخرة بريرية) و(جسدي المحنط) يعكس حالة الجمود والتصلب الداخلي الذي يعاني منه الشاعر، وهو ما يُغذي شعور الانكسار النفسي. كما أن صور الموت والتجاعيد والغربة تضع القارئ في مواجهة مع الحزن الدائم والاشتياق المستمر.

التكرار والدلالات العاطفية:

التكرار في العبارات مثل (أترى أناقة القصيدة؟) و(وحشتي) يعزز من حالة الصراع الداخلي والشعور بالضياع. هذا التكرار يوحي بالتمزق العاطفي والبحث المستمر عن الهوية أو الوضوح في خضم الانفصال عن الذات أو العالم. كما أن تكرار الكلمات المرتبطة بالفراغ مثل (الطيف البعيد) و(الغياب) يعكس الهجر الداخلي والمعاناة الوجودية.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة تفيض بالتشابيه المعقدة مثل (سيرها أسراب عصافيري) و(حكاياتي المبللة)، مما يخلق تدفقًا شعريًا مكثفًا ويعكس الأبعاد العاطفية المرهقة والمزدوجة. المفردات مثل (وحشتي) و(الضجر) و(الغرام) تميز النص بتوتره العاطفي، بينما تشير مفردات مثل (الجوى) و(المزركش) إلى التداخل بين الجمال والحزن، وتساهم في بناء مناخ شعري مليء بالحيرة والانتظار.

البنية والإيقاع:

القصيدة لا تتبع بنية تقليدية، بل تشكل سيلًا من الأفكار والمشاعر المتدفقة بشكل متسارع وغير مرتب. هذا الإيقاع المتسارع يعكس تشتت الأفكار والشعور المستمر بالضياع والحيرة. الفقرات غير المتوازنة والجمل الطويلة تمنح النص إيقاعًا متقطعًا، حيث تبرز الانفعالات والمشاعر بطريقة غير متسقة، تعبيرًا عن حالة نفسية مشوشة.

الخلاصة:

قصيدة (خطوات منمشة بكدمات الجوع) لسلوى علي تُعبّر عن تجربة شعرية مكثفة، حيث تلتقي الصور الطبيعية بالداخل العاطفي بطريقة تكشف عن الألم المستمر والبحث عن الذات. اللغة الغنية بالصور المركبة والتكرار المدروس يُكسب القصيدة طابعًا تجريبيًا، ويُعزز من الإحساس بالتيه والضياع. النص يمزج بين الأمل والخيبة، وبين الجمال والعذاب، ليُعبر عن معاناة الذات في عالم غير مستقر.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

....................

خطوات منمشة بكدمات الجوع

يا وحشتي المحدقة، لامتداد عقيق أسارير الأحلام يكتنز خيال كأبتي عطره المتجرجر بين همهمات الشهوات الخجولة ومواقد الخطوات المنمشة بكدمات الجوع.

اريج براعم الدفء تطيب تلك الأغصان المعطوبة في تقاويم جسدي المحنط كصخرة بربرية منذ سنين في أعماق ابتسامة التجاعيد الغامضة بين صخب وقع خطا بدواخل غيمة كثيفة قرنفلية التيجان وعطرها الغائم فوق شبح البعد المزركش بالإلتياع.

أترى أناقة القصيدة..؟ مهدورة الرجفة، يهجعها الليل المبلل بشوق رجيم، كقطوف تدلت بين بابه المغلق وشواطئ القانية المهدورة دمائها بين عقارب الضجر  الموشومة بسمرة النخيل، بقامته، بسياط لهفته الثملى، وصوره المتناثرة انتصبت في مدائن بكائي الملحي ودهاليز محيطاتي المصلوبة بين الفواصل والنقاط، وصدى عباراته الممسوقة كصعلوك ليل يثقب أحلامي النحيلة بدفعة واحدة، لأفتح خزائن ذاكرتي بحبور وشهقات الغرام.

أراها تستشهد فوق لحافي المزركش باكتواء الجوى، تنزلق منها رياح عاتية، تدغدغ سيرها اسراب عصافيري وحكاياتي المبللة واغانيها الراعفة بحدود الحب، كلما هيأت خربشاتي الجائعة فوق حيزي لوحة تداعب الشمس في صومعة الأمنيات، حين تلاطم أمواج الروح المرهقة، وعطشي المتطاير توخز دفاتري بحجم رعشته.

واااااا ويلتاه لازلت لا أجد سبيلا، أشرع بها وحشتي التي تئن وجعا من رائحة طيف بعيد لأرخبيلات الحلم المحتقنة بخيالات الزبد الطافي حين تجرجرني الفكرة.

***

سلوى علي/السليمانية – العراق

 

المجموعة الشعرية: مناجاة مع الكون والكائنات

تقديم: تذكّرتُ وأنا اتصفّح المجموعة الشّعريّة: " مناجاة مع الكون والكائنات " لشاعرتنا الأستاذة نجاة الورغي دراسة لجابر عصفور تناول فيها مسألة حضور الطّبيعة في الشّعر العربي على امتدادِ فتراته التاريخيّة وطرقِ تفاعل الشّعراء مع عناصرها أرضيّةً كانت أو سماويّةً.. فذكر أنّ العَيْنَ التي نظر بها امرئ القيس الى الكون والكائنات حين ناجى الليل ووصف السّيل والخيل هي ذات العين التي حاور بها ابن خفاجة الجبل وصّور بها كلّ من الشّابّى ومي زيادة ونازك الملائكة الوجود بِبُعدَيْه المحسوس والمُجرّد وهي على حدّ قوله: (عَيْنٌ طِفلةٌ أدركت على سجيّتها حقيقةَ الصّلةِ الرّمزيّة بين الإنسان والكَوْنِ واستطاعت بذلك ان ترى في الطّبيعة وعناصرِها مرايا للإنسان وأوجهِ وجوده فأسكنتْه عالمَها الشّاعريَّ الأليفَ فاتِحة إيّاه على مستويات عديدة من الحوار الفنّيّ) وهو الذي أطلقت عليه شاعرتنا لفظة المناجاة.. ولعلّ جابر عصفور يحاول بذلك البحث في ممكنات الكون الشّعري الذي شكّلته القصيدة العربيّة في العُموم في تعاملها مع الكون الوجودي وكائناته خاصّة وهو يعتبر أنّ الشّعر في معناه المُجمَل: (هو صدى الكون والكائنات الكامنُ في تردّدات اللغة حين تخترق الزّمان والمكان في اتّجاه الفكر والوجدان يدفعها بحث كَونيّ في مَجاهل الذّات وما يحيط بها فتتسامى وهي مُحمّلةً بالرّؤى والخيالاتِ المدهشةِ على مظاهر الحَيف والدّناءة في الواقع الاجتماعي وتسعى إلى استشراف كلّ ما هو راقٍ ورائقٍ في الوجود والمَوجودات بلغة منفتحةٍ على فِتنةِ الجمالِ المُدهِش..) فبِهذا التّعريف وضع جابر عصفور نِسبةً معتَبَرَة من قصائد الشّعر العربي قديمِه وحَديثِه في سياق استنطاق الكون والكائنات بحثا عن الدّور الخارق والاستثنائي للشّعر في الكشف عن منزلة الإنسان في الوجود بين الكائن والممكن وحتّى المفروض ممّا يحملنا إلى القول بالرّسالة النّورانيّة والثّوريّة لهذا الصّنف من القصائد خاصّة وأنّها تصدّرت تجارب عدد من الشّاعرات في زمننا وفي تونس والبلاد العربية منهن الشاعرة نجاة في هته المناجاة التي تنتصر للسّموّ الإنساني وللسّموّ النّسائيّ خصوصًا..

فمن تكون نجاة وكيف ناجت في شِعرها الكائنات ؟؟

تعريف:

نجاة الورغي.. تونسية اصيلة تبرسق من ولاية باجة متحصّلة على الأستاذية في اللغة والآداب الفرنسية وعلى الإجازة في اللغة والآداب الرّوسيّة.. تكتب الشعر والقصّة بالعربية والفرنسية كما ترجمت العديد من الروائع الأدبية لتونسيين وأجانب نقلا وتعريبا.. فازت بجائزة نادي الطاهر الحدّاد للشّعر باللغة الفرنسيّة (1992) وجائزة زبيدة البشير (الكريديف. 1996) وتحصّلت على وسام الاستحقاق الثقافي (1996) وجائزة منتدى المتوسّط للقصّة القصيرة باللغة الفرنسية (2013).. من إصداراتها: بالعربية: انا لست شاعرة.. وبالفرنسيّة: nuages وamour proche. Amour lointain.. أحدث إصداراتها المجموعة الشعريّة: " مناجاة مع الكون والكائنات " (2023)

وصف خارجي:

" مناجاة مع الكون والكائنات " كتاب سماوّي الغلاف بصورة لغسق لا يزال ملتحفا بالزّرقة الليلكيّة والنجوم تنازعه الضّياء تُوَلّي إليه وجهَها طِفلةٌ تعتلي غَيمَِة الأحلام وكأنّها تنتظر بِشغف ولادة اليومٍ الجديد.. قد تكون حلم الشّاعرة المسكونة بطفولتها او تلك " العين الطّفلة " التي تحدث عنها جابر عصفور وهي تبحث عن (حقيقة الصّلة الرّمزيّة بين الإنسان والكون) أثناء مخاض يومه.. يُشرِق العنوان بلون الشمس الوَضيء على زرقته المُريحَة مُحدّدا الصياغة اللّغويّة لمحتواه: مناجاةً ووِجهَةً هذه المناجاة (الكون ومافيه بل ومَن فيه).. هذه الكلمة ذات المعاني المتعدّدة معجما ومجازا هي صيغة مصدر من ناجاه يناجيه مناجاةً ونجوى بمعنى سارّهُ وباح له بما يجيش في خوالجه.. وناجى الله بمعنى دعاه وإليه تضرّع وبثّ شكواه.. والمُناجَى أو النّجيّ هو الذي نأتمِن صدقَه وإخلاصَه فنُسِرّ له بما في أنفسنا.. والشاعرة هنا اتّخذت الكون والكائنات (يعني عناصر الكون) بمعناها الطبيعي والرّؤيوي نَجِيَّهَا.. ومادّة هذه المناجاة ذات الدّلالات المجازيّة هي قصائدها الواحدة والثلاثون التي نجد أولاها على الوجه الثاني للغلاف موجّهة إلى المتلقّي بشكل مباشر بواسطة ضمير المخاطب مطلقا في صياغة وكتابة توشيحيّة مُوقّعة على وزن الرّمل تضمّنت تبريرا في إهاب رومنسيّ للتلك الصّلة الخاصّة والشّفيفة بين الشاعرة المناجِية والكون المناجَى..

ضمّ الكتاب أيضا تصديرا بعنوان: معارَضة مقفّاة للدكتورة فاطمة لخضر هي عبارة عن تقييم لا يخلو من نزعة شاعريّة لقصائد شاعرتنا وإحالة على وظيفة الشّعر في الحَياة: (ص 6 : في بَوح شفيف لِقارئ مشتاق

تجلّت مناجاة الشاعرة

بِرويّ سِمَته الانعتاق

مشاعر فيّاضة عميقة شاسعةُ الآفاق...

... شِعرها إيقاظ للغافِل الوَسنان

وحَفر في منابع الوجدان

غايته إدانة العنف والغدر والظلم والبهتان

وإعلاءُ رايةٍ خفّاقة بأسمى قِيَمِ الإنسان)

هذا التّصدير يُعاضده الإهداء المحتفي بالسّماء تأمّلا وبحثا في أسرار الكون سموّا بذاته عساها تبلغ مراتب الفعل الجميل والجليل..

ذاك مغزى مناجاة شاعرتنا للكون تلك المناجاة المجازية التي هي في الحقيقة رسالة شعرية موجّهة إلى الإنسان وقد ساءها سقوطه من مرتبة الاستخلاف إلى قاع (الغدر والجحود والتجنّي) كما ردّدت قصائدُها..

وصف داخلي:

هذه القصائد وزّعتها الشاعرة إلى باقات أربع حسب الحالة الشعرية ووجهة المناجاة كالآتي:

_ البوح... قالت الشّاعرة

_ لمسات كَونيّة ونجوم

_ كوكبنا..

_ رجع الصّدى... قالت الكائنات..

وهي بهذا التّقسيم قد نبست بملامح كونها الشّعري الذي نفذت منه الى محاورة الكون والكائنات لا سيما القول / الكلمة النابعة من الوجدان.. والفضاء السّماوي بسموّه ونَورانيته.. والأرض بحنوّها على أبناء رحمها حتى الجاحدين منهم.. وصدى الوجود الفاعل في الشعر والشعراء.. فنحن إزاء كون شعري تسبح الكلمة في أوساعة بين الأرض والسّماء وجهتها الحقيقيّة هي الإنسان لذلك حكمت كتابة هذه القصائد المناجاة ثلاثيّةُ:

_ السّؤال (خاصّة في قصيدتين لافتتين ص 32 أ هي حائرة ؟: أ هي حائرة لا تنام / رفيقُها الظّلام...

و أ هي صامتة ؟: أ هي صامتة تلك النجوم / أم هي ساهمة إيانا تلوم؟ / عن الهيام بالسّراب / عن الغَوص في الضّباب / عن الارتياب..) ونجد الشاعرة في موضع آخر تضع الكتابة ذاتها في موضع التساؤل في مغزاها ووظيفتها إذ أوردت في قصيدة: تساؤلات ص 27: (أ انتم سطور كتبتها الصّدف؟

حروفها اختفت قبل أن تجفّ ؟

أ بقايا ميثاق خُطَّ بِحبر الفراق؟

غابت عنه البُنود عبر العهود...)

_ التّمرّد: في سياق الانسجام مع الفضاء الكوني والتعارض مع الفضاء الاجتماعي ممّا افرز قصائد تتغنّي بالسماء والنجوم مساحة لسعادة الحلم والخيال.. وتتذمّر في المقابل من مظاهر السّلوك السّلبي للكائنات الاجتماعية.. تقول مثلا في: (ص 42... أرحّب لِحين بِبَدرٍ أو هلال / معه أجول بأجنحة الجذل / سعيا للوصول إلى كواكب تمرّ سريعا أو على مهل...

... بعيدا عن الصّلف / في فيافي العبث / في فجاج الإعياء والغيوم) ثمّ نجد شاعرتنا في القصيدة الأخيرة التي أفردتها بباقة رجع الصدي ص 85 تعبّر مستعيرة أصوات البحار والقارّات والكواكب والمجرّات لتعلن تبرّمها ممّا يقترفه الناس من جرائم وخطايا في حقّ كوكبهم وفي حقّ إنسانيتهم وبعضهم بعضا: (كوكبكم يتصارع / الأجناس تتطاحن / تمقت التّوازن / تنحر الأمان / لا شيء يسرّ / حين نمرّ / مخلوقات تنتشر / منها مَن يتّجر / بمُهجتِه والسّلام...)

_ الإقرار: جسّدته في جمل تقريريّة مثبتة affirmatives بالمقوّمات المثلى التي مثّلت أساس المناجاة لما ينبغي أن يكونه الإنسان والشاعر تحديدا حتى يرتقي بيكون إلى مصافّ " مرايا الكون" على حدّ عبارة جابر عصفور فأشادت بالأرض التّوّاقة إلى أعالي السّمَاء وبالإنسان الأمثل الذي يجسد معنى الاستخلاف الحقِّ محافظا على سلامة نوعه وسلامة كوكبِه وذلك في ص 68: (يُحالف المدى / يتصدّى للجحود / يحتقر البغضاء / على الدّوام يُجيد / فنون الاحتماء / بالجرأة بالتّجديد / بِدروع الإباء) وها هي شاعرتنا تُشيد في مواضع عديدة بالشّعر والشّعراء ودورهم المتقدّم في تحقيق هذه المعاني إذ كتبت عن المرأة الشاعرة ص 58: (نحن نور وملكات / نحن لغات ونغمات / نهب الأكوان أنغامنا والبيان.../... نرسم السّحر في الفضاء / للوحود للأنام / نحن نُلَوّح بالأمان..)

تلك ملامح الكون الشعري لنجاة الورغي وهي تناجي الكون الوجودي في قصائد رومنسيّة الرّوافد حتّى أنّها أهدت قصيدة (غربلة على كوكب الأرض ص 74) إلى روح ميخائيل نعيمة  وجوديّة الأبعاد بمحمول صوفيّ تجلّى خاصّة في كثافة المعجم السّماوي برمزيته القِيَميّة التّجريديّة وتلك التّوظيفات ذات العمق التّعبيري لأسلوب التّشبيه البليغ على طريقة ابي القاسم الشّابّى وهو يقارب مثلا في قصيدة: " للأبد الصّغير" بين قلبه وبين عناصر الكون الفسيح.. وخاصّة ذاك الإيقاع التّراتيلي القائم على ترجيع التّراكيب النّحويّة (مِنهم مَن صفا.. منهم مَن ارتمى.. منهم من جَنَى) وتَجانُس الصّيغ الصّرفيّة (تَسارعٌ.. تَسابُق / صمود.. خلود) في أجراس صَوتيّة مُتَعاوََدةٍ أضفت غنائيّةً مؤثّرة على مناجاة الأكوان التي هي في الحقيقة نشيد الإنسان..

صفوة القول:

هكذا مثّلت المناجاة كتابة لصيقة بذات الشّاعرة في انفعالاتها وتأمّلاتها وهي تعبّر عن (شوق الحياة وأسرار الملكوت) ذاك المعنى الذي ترجمته قصيدة الشّابّى (إرادة الحياة) فكانت بذلك صدى لتجربة حياتيّة مُوازِنةٍ بين القلق والتّمرّد في بحثها على حدّ قلم جابر عصفور " عن جوهر الإنسان الحرّ و الأمثل في مرايا الكون والكائنات" دواتُها جماليّة التّوظيفات السّلسة للّغة وتلك الخيالات الرّومنسية الشّفيفة القائمة على جملة القيم المثلى المُستمدّة من الانسجام الأبديّ للكائنات داخل أوساع الكون وبين مجرّاتِه.. تلك المعاني السّامية التي تتسرّب سريعا إلى الذهن والوجدان.. أ ليس حسن الوقع لدى المتقبّل هو المعيار الأوّل لنجاح الشّاعر في تَجويد القصيد؟؟

***

بقلم الأديبة التّونسيّة: كوثر بلعابي

العديد من الفرق المسرحية في كثير من الدول لا تقدم عروضها إلا بالاستعانة بلغة الحوار الشعبية (اللهجة المحلية) وتنأى بنفسها عن اللغة العربية الفصحى، لأنها تجد بالفصحى لغة ثقيلة على المتلقي الذي تريد أن تتقرب إليه وتتعاطى مع قضاياه الاجتماعية والوطنية، بل يذهب الأمر -احياناً - إلى جعل الحوار باللهجة الشعبية اساسياً في معالجة النصوص العالمية، بقصد إسقاط الموضوع على الفضاء المجتمعي الوطني وتيسير عملية التلقي والتفاعل. ولدينا تاريخ مسرحي حافل بالمسرحيات الشعبية التي شهدها جمهور واسع، مثل مسرحيات (النخلة والجيران) و(البستوكة) و(بغداد الازل بين الجد والهزل) و(الخيط والعصفور) وغيرها.

تنتهج معظم العروض الشعبية أسلوب المسرح الشامل الذي أسس له (فاجنر) حين رأى " أن المسرح يجب ان يجمع كل الفنون في صعيد واحد " (1)  وقد عمل المخرج الفرنسي  (جان لوي بارو) على بلورة أسلوب المسرح الشامل من خلال التركيز على "المشاركة communion، أو ما يسميه في استعارته الاثيرة (فعل الحب) والذي يصبح فيه العرض المسرحي (تآلفا) بين الممثلين والجمهور"(2)  وعلى الأسلوب ذاته عمل مخرج وفريق عرض مسرحية (بغداد 41) التي قدمت يوم السبت 1/ 1/ 2025 على المسرح الوطني، ليشكل باكورة العروض المسرحية العراقية للعام الجديد.892 Theatrical show

يثير عنوان عرض تساؤل: ما المقصود بـ (41)؟ ليجد الاجابة بعد مرور أكثر عشرين دقيقة من أحداث العرض وهي ان الانكليز احتلوا بغداد عام 1941 للمرة الثانية وتمت مواجهتهم من قبل الشعب في حينها، فهي فترة اضطرابات انعكست على مفاصل الحياة كافة، ومنها الحياة داخل البيت العراقي.

يبدأ العرض بدخول الجد (محمد حسين عبد الرحيم) والحفيد إلى بيت بغدادي قديم، إذ تملك الحنين الجد بعد سنين الغربة عن البلاد، عاد إلى مرتع طفولته لاستعادة الذكريات، ليرجع بالزمن إلى عام 1941، عندما كان جده (المختار) (حسين علي هارف) صاحب نفوذ ويحتكم إليه الناس،  وقد شهد احتفال ختان المولود الجديد أو ما يسمى باللهجة العراقية بـــ (الطهور) ولعب أطفال المحلة البنات والأولاد والمحاورة الغنائية، وحضر عدة مشاجرات بسبب الشابة الجميلة (سنية) وعلاقتها مع (نور) الذي يدرس الطب، وتجاوزات (ناظم) الشاب الأرعن الذي يتسبب بالعديد من المشاكل، وغالبا ما كانت تحل الأمور من قبل المختار وزوجته. وأهم ما كان يعكر أجواء البيت العراقي هو دخول الاحتلال الانكليزي، إلى جانب ما تضفيه المظاهرات المحتجة على الاحتلال من حماسة وقوة. وأن المشكلات في البيت الواحد التي حدثت وتحدث أمر طبيعي إذا ما تم احتوائها والتفاهم بشأنها، لأن الذين يعيشون في فضاء واحد ينتمون إليه، ولا مهرب لهم منه لانهم سيعودون إليه مهما طال بهم الزمن، كما هو حال (الجد) الذي عاد يملأه الحنين بعد سنين من الغربة.893 Theatrical show

حرص المؤلف (عقيل العبيدي) والمخرج (دريد عبد الوهاب) على بناء شخصيات الساكنين في البيت لتكون مزيج من اطياف الشعب العراقي وتنوعاتها من المحافظات من بغداد والموصل وغيرها ومن قومياته واديانه المؤتلفة تحت سقف واحد (المختار وزوجته وحفيده - عائلة (كرجي) الموصلية ولدين وأم وأب - طالب الطب (نور) من ديانة اخرى  - بروين ودايا من القومية الكردية - ام ناظم الأرملة وولديها المطيرجية ناظم وعزام - الفتاة سنيه وامها) اتضحت ملامح الشخصيات من خلال لهجات الحوار وتصميم الازياء والسلوك الاجتماعي وبعض العادات. والهدف من ذلك إظهار مكونات المجتمع كافة بصورة واضحة لا يقبل اللبس، ولا يختلف على دلالته اثنان.

أسس المؤلف علاقة حب من طرف واحد بين (ناظم المطيرچي) و (سنية)، زرعها المؤلف في المشاهد الأولى، لتبرز نتائجها في نهاية المسرحية، وكرر المؤلف كلمات (نور) عن صعوبة ارتباطه بعلاقة زواج مع (سنية) وأنه لا يستطيع ذلك رغم حبهما المتبادل، حتى بات المتلقي يتساءل لماذا لا يرتبط بها وهي الشغوفة به؟ هذا الزرع يدل بوضوح على قدرة المؤلف وضع العديد من علامات الاستفهام أمام المتلقي بقصد حصد المزيد من عوامل الاثارة والتشويق. 894 Theatrical show

حبك المؤلف أحداث المسرحية المتشابكة، وتضامن وعمل المخرج في ضوئها على البناء الدرامي للعرض: أطراف الصراع ومحوره علاقة حب الفتاة (سنية) مع الشاب (نور) في ظل عداء (ناظم) الشقي، أغاني المطرب ناظم الغزالي، (سنية) قلقة على نور بسبب اصوات الاطلاقات لأن الإنكليز دخلوا بغداد،(نازك) ترسل حفيدتها (بروين) الى (نور) مع (كليچة) العيد لغرض استمالته، تفاجئها ام سنية الغليظة، لقاء نور وبروين تفاجئهم سنية يبرر لقاءهم لسنية فيكون لقاء غرامي متخيل ينتهي بأغنية (تهانينا يا ايام … عزفي يا أنغام) ورقصة الأطفال ومشهد زواج  ليكسر الفرحة بأخبارها بأنه ليس مسلما،  وسط أفراح العيد، في وسط باحة البيت يلعب (ناظم) القمار -(لگو) باللهجة العراقية- مع مجموعة من المقامرين، يأتي إعلان ( صار الفرهود ) يطرد المختار (ناظم) وأخوه ولاعبي القمار. فتاح الفأل (نجم اللباگ) يبحث عن سكن لكي يفيد المختار، لأنه يعرف يقرأ الطالع، لقاء فتاح الفال (نجم اللباگ) مع (ست نازك) التي تريد تعديل حظ بنتها العاثر، يدخل إلى غرفتها لإنجاز عمل سحري، (نور) يخبر المختار بقرار مغادرته البيت وسط ذهول الجميع لأنه اكتشف كل ما مكتوب في الكتب كذب : خمس سنوات ولم يبح بسره. يطلب المختار من (نجم اللباگ) قراءة طالعه، يخبره بوجود: غيوم سوداء وغربان في كل مكان .. وكيف دخلت للبيت، المختار: يا ربي سترك.

تظهر بداية الأزمة في مشهد: سنية ترتدي السواد وتتذكر لقاءها مع نور، انها متعبة تخبر أمها ان حظها سيء مع الدكتور (نور) تروي معاناتها كونها بنت (ام الكبة) المحرومة التي لا تشبه باقي البنات وبلهجة خطابية مباشرة للجمهور، ام سنيه تفخر بكونها ام عاملة تعبت في تربية ابنتها (اللي مثلنا.. حرام عليه يحلم؟) يصفق الجمهور لهم.895 Theatrical show

ذروة الازمة تتجلى عندما يذاع بيان -من خلال جهاز الراديو- يناشد الشعب للدفاع عن الوطن ضد المحتل الانكليزي، ويبقى الجد وحده يفكر بدخول الغربان للبيت، تدخل عصابة (ناظم) لسرقة مخزن المختار بمشاركة مجموعة ويردون سرقة (گرجي ) يتفق عزام وناظم ويعملون على تنفيذ خطة السرقة ويهربون بعد صياح (كرجي)، يفزع الجميع ومعهم المختار وجميع النساء والأطفال .. (انه حرامي البيت) هكذا يقول المختار، ينسحب ناظم ويبقى السجال بين المختار وأم ناظم التي تعلن ان هذا البيت بيتها وأنها ستزوّج سنية من ناظم وستذهب لإحضار بدلة العرس، يتصدى له المختار، يشهر (ناظم) مسدسا لينال من المختار، يصيب ناظم والدته بطلق ناري بالخطأ أثناء الشجار ويندم على ذلك، الجد يصيح (كل شيء ولا الدم … دمكم غالي عليّ) يتم إنقاذ ام ناظم في المستشفى على يد الدكتور (نور) لتدخل فرقة موسيقية ومربعات بغدادية وتعم الأفراح. 

تباينت اصوات الممثلين من حيث جودة وصول الصوت إلى المتلقي، بسبب الاستعانة بوسائل مختلفة (النك مايك) و (الميكروفونات المعلقة) و (التسجيل الصوتي) و(الصوت العادي) مما جعل إيقاع الصوت متذبذبا ووحدة العرض السمعية غير متماسكة إلى حد ما.

جرت أحداث العرض جميعها في باحة البيت العراقي (البيئة البغدادية) المكونة من خمسة أبواب وأربعة شبابيك في الطابق الأرضي، وبابين وأربعة شبابيك في الطابق العلوي بألوان التراث البغدادي مع وجود الفوانيس والبساط بحياكة يدوية، تمركز الفعل الدرامي وحركة الشخصيات في وسط خشبة المسرح على ارضية مسطحة بلا مستويات، أمام أبواب وشبابيك الغرف المحيطة به، ولم تتحرك كتلة المنظر طوال العرض، مما أصاب الفضاء بجمود الصورة البصرية، في الوقت الذي عمل الاخراج على إثارة التطلع لما يجري في الطابق الثاني من البيت، حيث برج الحمام وشغف (سنية) بلقاء حبيبها (نور) هناك، مع ملاحظة : أن الكثير من اللقاءات الغرامية في تلك الأزمان كانت تتبلور تتم على سطح الدار، هذا حسب ما باحت به حكايات الآباء والأجداد، وما جادت به العديد من لقطات ومشاهد الأفلام والمسلسلات العراقية.896 Theatrical show

تفاعل الجمهور بالتصفيق مع كلمات مثل (ما نتفرق بإذن الله) واستأنس وتعالت الضحكات مع الكثير من المواقف الكوميدية، ولكن لم تكتمل صورة تأثيرها بعض التفاعلات، بسبب عدم إشباع الموقف من قبل الممثلون الاخرين، لان تفاعل المتلقي من تفاعل الممثل الآخر وينبني على رد فعله، وذلك حدث كثيرا مع حوارات الممثل (محمد حسين عبد الرحيم) وتعليقاته على الأحداث، إذ لم يصغ لها بعض او كل الممثلين أو لم يمنحوا الفعل مساحة الوصول والتفاعل إلى المتلقي وباشروا بأدائهم دون الالتفات إلى لحظة إشباع الفعل. وهذا حدث مع عدد من حوار وفعل شخصية المختار (حسين علي هارف) وكذا الحال مع شخصية (أم سنية) التي قدمت أداء كوميدي مقتدر دون مغالاة بصوت قوي وإلقاء متنوع وخفة حركة وسيطرة على الشخصية وحضور مميز. وربما ذكرت المتلقي بالفنانة الراحلة (أمل طه) وظهر الممثل (سعد عزيز) مع أغاني (فاضل رشيد) وفرقة المربعات البغدادية، التي تراوحت وظيفتها الجمالية بين التعليق على الأحداث وبين أداء فواصل ترفيهية، كما في مشهد محاولة (ناظم) تقبيل (سنية) بائعة (الكبة) والنيل منها، يقطع المشهد صاحب المربعات البغدادية عن (الكبة) بأداء حيوي للحد الذي لم يتبين منه هل ما يسمعه المتلقي تسجيل صوتي أم غناء حي، لقد أضفى على العرض أجواء من البهجة والاحتفال الشعبي المحبب. وتجدر الاشارة إلى جميع فريق العرض من الممثلين الذين قدموا وحدة أدائية فنية متماسكة، بدءا من استرخاء الفنان (محمد حسين عبد الرحيم) الذي تواجد على خشبة طوال العرض - ساعتان- يشارك ويعلق على الأحداث، إلى  (د. حسين علي هارف) صاحب الحضور المميز بشخصية مختار البيت وهي شخصية على درجة من البناء المركب، وانتهاء بمجموعة الأطفال المشاركين التي أضفت حيوية للعرض ومسحة جمالية، كسرت جمود احتكار العروض على الممثلين الراشدين، وكانت توقيتات دخولهم مبهجة مع الأغاني والرقصات / الحركات الإيقاعيّة التي رغم بساطتها منحت العرض أجواء من المتعة والبهجة، فضلا عن أن مشاركة مجموعة الأطفال كشف عن مواهب في التمثيل، ترسم صورة مستقبلية مشرق لهم.

يختم الجد العرض بنصيحة (خليكم يدا بيد وبغداد حلوة والوطن أغلى من الولد … محروسة يا بغداد) ومقولة (إذا ضاع وطنا نضيع كلنا) تهتز مشاعر الجمهور ويصفق طويلا، فقد اتضحت فكرة العرض: الاعتزاز بالماضي والإفادة من مجريات أحداث التاريخ في صناعة حاضر مشرق وجميل يتعايش فيه الجميع بسلام ومحبة.

حفل العرض بتنوع التمثيل والموسيقى والغناء الفردي والجماعي والرقص والمواقف الكوميدية والرومانسية مع التوترات والصراعات العائلية إلى جانب بعض الاحداث التاريخية. وعليه يصح ان يصطلح على الأسلوب الذي انتهجه الإخراج بالمسرح الشامل.

عرض مسرحية (بغداد ٤١) علامة مشرقة في تاريخ المسرح الشعبي العراقي، تواصل العروض بهكذا وتيرة يصنع جمهورا كبيرا، ليكون حضور العروض المسرحية جزء من تقاليد العائلة العراقية.

***

ا. د. حبيب ظاهر حبيب

........................

(1) احمد زكي: المسرح الشامل، بيروت، المركز العربي للثقافة والعلوم، السلسلة الثقافية، د.ت، ص 7.

(2) كريستوفر اينز: المسرح الطليعي من (1892-1992)، ترجمة : سامح فكري، القاهرة، وزارة الثقافة، مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، 1994،ص181.

الأسلوب والصورة الشعرية: القصيدة تتسم بالأسلوب السردي التأملي الذي يعكس صراعًا داخليًا مع الغياب والفراغ. الصور الشعرية، مثل (أذوب في ألمي كأغنية فلاح) و(حقيبتي تفيض بالغائبين)، تُجسد معاناة الشاعر بين الألم والذكريات المفقودة. الرمزية المستخدمة في (الشبح الأسطوري) و(الطيور تحملها عربات لا نهاية لها) تُحمل الدلالة على التفكك والضياع، حيث يتحول الغياب إلى جزء حيوي في التكوين الذاتي للشاعر.

التكرار والدلالات العاطفية:

التكرار في العبارة (ليس لدي) و(عندما يصبح الغياب) يعكس حالة من العجز والفراغ المستمر، إذ يبدو أن الشاعر يواجه الحياة فارغ اليدين من كل شيء سوى الألم والذكريات. هذا التكرار يُعمق إحساس القارئ بالعزلة، كما يعبر عن الافتقار إلى المعنى والوجود في عالم مليء بالغموض.

الرمزية والمفردات:

الرمزية في القصيدة حاضرة بقوة، مثل (الغياب إشراقًا) و(أوراق من المطر تصنع من قلقها عكازًا متعبًا)، مما يعكس التناقض بين الحياة والموت، والحضور والغياب. الشاعر يستخدم مفردات متناقضة لخلق جو من الانعدام والتشتت، كما أن استخدام (مسامير صدئة) و(عكازًا متعبًا) يعكس وضعًا بائسًا مليئًا بالتدهور والخذلان.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة حافلة بالصور المعبرة والمجازات التي تُضفي طابعًا حالمًا على النص، مثل (يتلفت بين الكلمات والحرية تتدفق من أذني كالنمل)، مما يعكس ضياع الذات في بحر من الأفكار والذكريات. المفردات توحي بالصراع الداخلي بين الرغبة في الخلاص من الغياب والواقع المؤلم الذي يعيشه الشاعر.

البنية والإيقاع:

القصيدة تتميز ببنية غير خطية، حيث تنتقل بين الأزمنة والأماكن والأحاسيس بشكل متداخل، مما يعكس التشتت الفكري والعاطفي الذي يعيشه الشاعر. الإيقاع في النص يشبه التدفق المستمر للأفكار والصور، حيث يتنقل الشاعر بين الأمل واليأس، وبين الحركة والثبات، ما يعكس التوتر النفسي والصراع الداخلي.

الخلاصة:

قصيدة (غياب) لأنور غني الموسوي تعبر عن حالة من الانقطاع والفراغ الداخلي، حيث يُظهر الشاعر صراعًا مع الغياب الذي أصبح جزءًا من هويته. الأسلوب السردي المتداخل والصور الشعرية القوية تعمل على تجسيد مشاعر التشتت، العزلة، والألم، مما يجعل النص يحمل ثقلًا عاطفيًا ويغرق القارئ في عمق تجربة الشاعر النفسية.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

..........................

 غياب

أنا لست ظلاً لامتلك كل ذلك التاريخ العظيم. أطرافي تدفأ بها الحطابون والأحزان أغلقت دكاكين بسمتي، فجعلتني شبحاً أسطورياً ترك رغبة الحياة. ها انا أرى أعشاش الطيور تحملها عربات لا نهاية لها، تغادرني بلا ألم. نعم، للطيور قلب مليء بكل قصة حبيبة.

 هكذا، أذوب في ألمي كأغنية فلاح تنبت بين القمح. حقيبتي تفيض بالغائبين، ليس لدي سوى ركبتين تلامسان وجه الأرض. ليس لدي سوى الأشواك التي تلتهم مفاصلي، تنحني حول حلمي كبائع لبن بارد في صباحات الشتاء. عندما يصبح الغياب إشراقًة، وعندما تتنكر الكلمات لثيابها، فاعلم أنك تنظر إلى ليلة زفاف تفيض بالجفاف مليئة بمسامير صدئة، لا تعرف شيئاً عن الحضارة، عيناها أوراق من المطر تصنع من قلقها عكازاً متعباً تغرق قدماه في الوحل. في أحضان هذا الغياب، بالكاد أستطيع التمييز بين وجه الأرض وأجزاء من كتفي أتفاخر بأنها راقية. نعم، يجب أن يكون لدي جميع كلمات البحر عندما أتحدث عن الغياب داخلي.  فمي يتلفت بين الكلمات والحرية تتدفق من أذني كالنمل. انني أتلاشى في بهجة غريبة كعاشق يجر الضوء خلفه فلا يسير. تصور؛ لم يعد بوسعي أن أستحم في الفرات، أو أجد في دمي مركبا أبحر به نحو الشمس.

***

انور غني الموسوي - العراق

 

الأسلوب والصورة الشعرية: القصيدة تعتمد أسلوبًا سرديًا تعبيريًا، مشحونًا بالصور الشعرية الموحية بالحيرة والرهبة. الصورة التي تعكس (خاصرة الرّهبة) تُستخدم لتمثيل مكانة الخوف في الذات، حيث يظهر الشاعر في حالة من الصراع مع الأحلام والواقع. استخدام صورة (الغراب) في إشارة إلى (إدغار) يعزز من الرعب والقلق، ويخلق جوًا يشبع القارئ بتوتر دائم بين اليقظة والكوابيس.

الرمزية والتشبيه:

الرمزية حاضرة بقوة في النص، مثل (غراب إدغار) الذي يمثل الموت أو الخوف الداكن. كما أن (القارب المهترئ) و(شظايا اللاإنسانية) تعبران عن حالة ضعف وعدم الأمان، مما يعكس حالة انهيار الذات أمام قوى خارجة عن إرادتها. الرمزية تعمل على تكثيف المعنى وتحمل مشاعر من العجز والهزيمة.

التكرار والدلالات العاطفية:

تكرار الأسئلة الاستفهامية مثل (لم؟ كيف؟ متى؟ أين؟) يعزز من حالة الشك والضياع التي تعيشها الشاعرة. التكرار هنا يوحي بتأزم داخلي مستمر، حيث تحاصر الأسئلة الذهن ولا تجد إجابة شافية، مما يُعمق الشعور بالفراغ والعجز.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة تنطوي على شحنة عاطفية قوية ومفردات معبرة مثل (تسربل) و(التأتآت) و(جثث نازفة). هذه الكلمات تؤكد على معاناة الشاعر الداخلية والصدمة العاطفية التي يمر بها. كما أن استخدام مفردات مثل (شظايا اللاإنسانيّة) و(شريعة الغاب) تعكس الوضع الاجتماعي أو السياسي المليء بالعنف والاضطراب.

البنية والإيقاع:

البنية تتميز بالازدواجية بين الواقع والخيال، حيث يقتحم الكابوس عالم اليقظة. الجمل الطويلة والمتناثرة تُبنى بشكل يخلق حالة من التيه والضياع، مما يعكس التشتت الذهني والمشاعر المتباينة في النص. الإيقاع يعكس الاضطراب الداخلي من خلال التفكك في العبارة والتسلسل المتسارع للأحداث.

الخلاصة:

قصيدة (خاصرةُ الرّهبةِ) لسامية خليفة تُعبّر عن تجربة نفسية مليئة بالتوتر والضياع، حيث تتداخل الأسئلة مع الكوابيس لتُظهِر معاناة شخصية تتأرجح بين الواقع والخيال. اللغة المشحونة بالصور الرمزية تُعمق الانطباع بالاضطراب والقلق، ويعكس التكرار البارز حالة من العجز الداخلي والبحث عن إجابات لا تجد لها مخرجًا.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

.......................

خاصرةُ الرّهبةِ

لا أدري هل أنا وحدي فقط منْ تتسربلُ بي الأحلامُ لتكملَ أحداثَها في اليقظةِ كما يشاءُ لها؟

كلّما أهربُ من ليالي الصّقيعِ، المرتعدةُ فرائصُها، تلاحقني ليلةٌ نابحٌ كابوسُها، جاثمٌ الرعبُ على عتبتِها كما جثمَ غرابُ إدغار فوقَ بابِ حجرتِه، أرتعشُ فتحوطُني الرّؤيا بأسئلتِها المستفزّةِ المتدفّقةِ من خاصرةِ  الرّهبة أمواجًا لأراني على سفرٍ بقاربٍ مهترئةٍ أخشابُه، أجذّفُ به عبثًا. التأتآتُ تفرقعُ في حنجرتي، تخرج منها الأسئلةُ جريحةً مدماةً، لمَ؟ كيف؟ متى؟ أين، وغيرها، كلّها ماتتْ بعدما شعرتْ بالخزيِ، قد ضاعتْ قيمتُها فلم تلدْ إثرَها أيُّ إجابةٍ تشفي الغليلَ، ومَنْ هم خلفي تركتهم جثثا نازفةً، أو محترقةً ، هؤلاء لم تصبْهم شظايا تأتآتي، بل أصابتهم شظايا اللّاإنسانيّة المغمسة بشريعة الغاب، ذلك هو كابوسي الذي يعرضُ في مسرحياتٍ كلما وصل المتفرجون إلى مشهديّة الجثثِ منهم من يقهقهُ، من يستهزئ ، منهم من يصرخ أو يبكي، ومنهم من يصمت.

***

سامية خليفة/ لبنان

 

تدخل رواية "فرصة ثانية" للكاتبة صباح بشير في مضمار الرّواية الواقعيّة الاجتماعيّة. ومَن قرأ روايتها الأولى "رحلة إلى ذات امرأة"، يلاحظ بسهولة إصرار الكاتبة على التّشبّث بالاتّجاه الواقعيّ في الكتابة كاختيار تعبيريّ يتلاءم وتصوّراتها الإبداعيّة والفكريّة ويخدم هذه التّصوّرات.

في هذه الرّواية، تقدّم لنا الكاتبة نصًّا روائيًّا مميّزًا يحكي عن العلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة عبر شخصيّات واقعيّة، بل هي شخصيّات حقيقيّة موجودة خارج الكتاب، لفتت انتباه الكاتبة وسكنت ذاكرتها، فأرادت الكتابة عنها، ومشاركة ما تكتب مع القارئ.

توزّع الكاتبة شخصيّاتها على مشاهد متعدّدة في الرّواية بأسلوب سرديّ هادئ وسلس، يتميّز بالدّقّة في رسم تفاصيل الأحداث والمشاهد المرويّة لتنقل ملامح العالم الواقعيّ لهذه الشّخصيّات، وانعكاسات هذه الأحداث على مسارات حياتهم العمليّة والفكريّة والاجتماعيّة والعاطفيّة. فنراهم كما تقول الكاتبة: "يصارعون لإعادة بناء حياتهم بعد تجارب وخيبات الماضي، باحثين عن فرصة ثانية للتّغيير، وإعادة اكتشاف الذّات في رحلة وجوديّة تتقاطع فيها مسارات الحبّ والألم والأمل". (مقابلة مع الكاتبة)882 sabah basheer

تدور أحداث الرّواية حول ثلاثة أصدقاء: مصطفى، عبد الله وإبراهيم، يعيشون في مدينة حيفا. وتبدأ الرّواية بمشهد تفاؤليّ يتمثّل بولادة طفل جديد. ولكن، سرعان ما يتّجه المشهد نحو التّأزّم في موت الأمّ "فاتن". هذا الموت الذي كان وقعه صعبًا على الجميع: زوجها، والديها وأختها "هدى". ويظهر "مصطفى" الزّوج المحبّ والمخلص، وقد وقع عليه خبر موت زوجته كالصّاعقة: "انهار مصطفى تحت وطأة الخبر، فالصّدمة رجّت كلّ كيانه، وتحوّل جسده إلى كتلة من الجليد، أطبق عينيه، ليستردّ أنفاسه، وبدا كمن فقد القدرة على التّفكير أو الحركة أو الكلام" (ص 17). ففاتن لم تكن "مجرّد زوجة بالنّسبة له، بل كانت جزءًا من روحه" (ص 190)، إذ "كان يرى في عينيها النور، يستمدّ من ابتسامتها شمس يومه، ويجد في حضنها دفء الأمان". والكاتبة، حقيقة، تبدع في وصف حزن مصطفى ومدى معاناته لفقدان زوجته، وتنجح في جعل القارئ يتعاطف معه ويشاركه حزنه ويتألّم لألمه. ونراها تسهب في وصف تخوّفاته وتخبّطاته وصعوبة تكيّفه مع حياته الجديدة، وتشبّثه بذكرياته مع زوجته يناجيها ويسترجع أيّامهما السّعيدة. فقد كان "في كلّ زاوية يرى صورتها، وفي كلّ صوت يسمع صدى صوتها، وفي كلّ رائحة يشمّ عطرها، يزور قبرها كلّ يوم ]...[ ويخبرها كم يفتقدها ويشتاق إليها" (ص 28). ولم يخفّف مكان العمل واكتظاظه بالأشخاص، شعوره هذا بالألم والوحدة. وهنا تدخل شخصيّة "سناء" سكرتيرته التي تحاول استغلال هذا الظّرف والتقرّب منه، إلّا أنّه يرفض أن تخرج علاقتهما عن إطار العمل ويقاوم انجذابه لها حتى يضعف. ونجد الكاتبة تهتمّ أن توضّح أنّ ما دفعه إلى هذه العلاقة ليس الحبّ وإنّما الرّغبة، وهذه الرّغبة هي في الواقع رغبته بفاتن وافتقاده لها: " فما يجمعه معها ليس إلّا رغبة تشتعل وتخبو، كوهج النار يتراقص في الظلام، أمّا الحبّ فهو شيء آخر" (ص 79)، وأنّ هذه العلاقة لم تكن "إلّا ملاذًا من وحدته وبلسمًا يخفّف من آلامه. ففي عيني سناء، لم يجد سوى انعكاس لخيبة أمله، وصورة مشوّهة لفاتن وذكريات محطّمة" (ص 80).

اختار مصطفى اسم "يحيى" لمولوده ليحمل معنى الحياة والأمل، وكأنّه بذلك "يحيي ذكرى حبيبته ويخلّد حبّهما الأبديّ" (ص 26). ويرمز الطّفل المولود إلى الأمل في هذا الظّرف الصّعب. وكما يظهر في المشهد الأخير من الرّواية، يحيى هو الرّابط بين شخصيّات الرّواية والجامع بينها على مشاعر المحبّة والألفة والتّسامح. وقد أخذت "هدى"، أخت فاتن، عهدًا على نفسها أن تعتني به وتربّيه. وهدى، بصفة عامّة، هي الرّاوي العليم بكلّ شيء في الرّواية. فتاة لم تتجاوز التّاسعة عشرة من عمرها، تصفها الكاتبة بأنّها شابّه طيّبة، حنونة ولديها الكثير من الأحلام والطّموحات. هذا الوصف الذي يتعارض مع زواجها من مصطفى لاحقًا، وفي الوقت ذاته، يُبرز حجم التّضحية من قبلها من أجل مصلحة الطّفل المولود. ثمّ تسرد الكاتبة عبر صفحات كثيرة تخبّطات كلا الطّرفين إزاء هذا الزّواج، ومن ثمّ اقتناعهما، وكيف عاشا كصديقين/أخوين في بداية حياتهما الزّوجيّة، وصبر هدى على مصطفى، ومن ثمّ نقطة التّحوّل في العلاقة بينهما حين رآها مصطفى في الجامعة جالسة مع زميلها في الدّراسة، لتتّخذ الحياة الزّوجيّة بعد ذلك مسارها الطّبيعيّ. ويلاحظ القارئ أنّ الكاتبة، وعلى امتداد الرّواية، تهتمّ بإظهار هدى بصورة إيجابيّة وهي تلقي بظلال شخصيّتها الحنونة على الشّخصيّات المحيطة بها والمواقف والأحداث.

"عبد الله"، شقيق مصطفى، يسكن مع زوجته "لبنى" في الطّابق السّفليّ من البناية نفسها التي يسكن فيها مصطفى ووالدته. ينكشف القارئ على الأزمة الزّوجيّة التي يعاني منها عبد الله في المشهد الذي يعود فيه من عمله الى البيت ولا يجد طعامًا، بل نظرات لا مبالية من زوجته. وتظهر لبنى في الرّواية زوجة أنانيّة، مهملة لبيتها ولزوجها، تعامل زوجها بقسوة وجفاء، لا تخبره بوقت خروجها من البيت ولا بموعد عودتها. وفي المقابل، يظهر عبد الله الزّوج الصّبور، القادر على التحكّم بمشاعره وكتم غضبه، وهو متسامح و "طويل روح" إلى درجة تستفزّ القارئ. نراه يعتذر دائمًا بعد كلّ مشادّة كلاميّة بينهما لأنّه "يدرك أنّ النّقاش معها أشبه بمعركة خاسرة، فطبعها الجدل حتى تخرج منتصرة... يختار الصّمت كسلاح أخير يخمد به نيران الجدل، ويحافظ على ما تبقّى من دفء العلاقة" (ص 93). ولعلّ المشهد الذي ترسمه الكاتبة وتُظهر فيه الاهتمامات المختلفة تمامًا لكلّ منهما ص 152، يجعل القارئ يقف على عمق الشّرخ في هذه العلاقة حيث لا تواصل بينهما ولا حوار بتاتًا. أمّا جملة لبنى: "لتفهم، أنا لا أحبّ الثوم، ولن أقوم بطهي أيّ أكلة لا تروق لي"، فتكشف للقارئ عن العقدة النّفسيّة التي تعاني منها الشّخصيّة، وفي الوقت ذاته، عن قدرة الكاتبة على إحداث هذا التّداخل بين الاجتماعيّ والنّفسيّ بمهارة ووعي. فهذه الإجابة تختزن بين طيّاتها مشاعر متراكمة من القهر والكبت والغضب. وبالتّالي، تحمل دلالات أعمق وأقسى ممّا تظهر عليه من بساطة وعاديّة. فلبنى عمليًّا تقول: لن أقوم بفعل ما لا أريد وما لا أرغب! ولن يُجبرني أحد على ذلك! وهذا ما يتأكّد للقارئ بعد معرفته أنّ زواجها من عبد الله كان ملاذًا لها من القيود الصّارمة التي يفرضها والداها، وأنّ تصرّفاتها وسلوكها هذا تجاه زوجها قد دفعها إليه الخوف من فقدان ما تملك من حريّة في حياتها الزّوجيّة والعودة إلى حياتها الكئيبة السّابقة.

الدكتور "إبراهيم"، الشّخصيّة الرّئيسيّة الثّالثة، طبيب أسنان يسكن في مدينة حيفا. تخبرنا الكاتبة بأنّه تزوّج مرّتين وفشل وأثّر ذلك على نفسيّته، خلافًا لما يتظاهر به أمام أصدقائه ومرضاه من روح الفكاهة والمرح. فهو في قرارة نفسه، يحارب شعورًا داخليًّا بالفراغ والوحدة ويشعر بالخوف من تكرار تجربة الزّواج، وبات مقتنعًا أنّ السّعادة لا تأتي من الزّواج فقط، بل من الإيمان بالنّفس والعمل المخلص ومساعدة الآخرين. وأصبح يرى أنّ العلاقات بين الرّجال والنّساء قائمة على المصالح والاحتياجات، وأنّ الحبّ الحقيقيّ خرافة لا وجود له في الواقع. فالزّواج بحسب رأيه "قفص ذهبيّ، يحبس فيه الرّجل حرّيّته، ويقيّد مشاعره وأحلامه" (ص 59). والحبّ في نظره هو "وهم سراب، ينبعث من ينابيع الأمل المتدفّقة، لكنّه سرعان ما ينضب، مبقيًا وراءه واقعًا مرًّا من الخيبة والألم" (ص 59). ولأنّ الكاتبة ترفض اتّخاذ مثل هذه المواقف لمجرّد فشل في علاقة أو أكثر، ولأنّها تؤمن بفتح أبواب القلب وإتاحة الفرص الثّانية، نراها توظّف شخصيّة "نهاية" التي تعاني، كما تصفها، من وحدة امرأة مستقلّة. تسكن في البناية نفسها التي يسكنها إبراهيم، وتتطوّر صداقة بين الاثنين خلال التقائهما في مصعد البناية. ويبدو أنّ نهاية أبدت تودّدًا له خلال هذه اللّقاءات، الأمر الذي يُفسّر شعوره بالرّاحة التامّة في أن يطرق باب بيتها لاحقًا، فتتحوّل الصّداقة بينهما إلى حبّ، وتطلب نهاية منه الزّواج ويرفض، فتتركه ليعود وحيدًا ضائعًا وتائهًا، حتى يقرّر أخيرًا "أن يفتح أبواب القلب والعقل معًا، وأن يواجه الحياة بكلّ ما فيها من تحدّيات وفرص، وينطلق نحو حبيبته نهاية" (ص 151).

تتمكّن الكاتبة عبر هذا الطّرح، من أن تجذب انتباه القارئ إلى واقع العمل الرّوائيّ في سياقه الخاصّ، بينما تكشف في الوقت ذاته عن أغوار الشّخصيّة الرّوائيّة وأزماتها الحياتيّة أو نجاحاتها في تخطّي المآزق والخيبات التي تتعرّض لها. كذلك، فإنّ المشاهد اليوميّة التي تصوّرها الكاتبة في حياة شخصيّات روايتها، تثبت أنّها تمتلك قدرة مميّزة تمكّنها من أن تطلّ على المشهد الحياتيّ اليوميّ كي ترصده إبداعيًّا بكلّ ما يحتويه من نوازع وتجارب متنوّعة. كذلك، برأينا، أنّ أكثر ما يشدّ القارئ إلى الرّواية هو هذه الصّراحة المطلقة التي نلمسها في تصوير الشّخصيّات ومواقفهم في الماضي والحاضر، والجرأة في عرض سلوكهم وأفكارهم، والتّعبير بصدق عن قلق الشّخصيّة وعدم استقرارها النّفسيّ والاجتماعيّ. بالإضافة إلى المصداقيّة في العمل والتي تنبع من العلاقة القويّة بين صباح بشير ونصّها. فكثيرًا ما تتحدّث الشّخصيّات بلغة الكاتبة وتنقل أفكارها وآراءها التي هي غالبًا الرّسائل والقيم والنّصائح التي تبثّها الرّواية مثل: لا يمكن للإنسان أن يقرّر أنّه لن يحبّ مرّة أخرى. لا تحكم على نفسك بالوحدة، أبق الأبواب مفتوحة "ففي كلّ قلب مغلق، هناك مساحة واسعة للحبّ، تنتظر فقط مَن يفتح لها الباب لاستقبال الفرص" (ص 258)، "من واجبنا الاستماع إلى وجهات نظر كلا الطّرفين ]...[ الحوار البنّاء هو السّبيل الوحيد لفهم الحقيقة وإيجاد حلّ للمشكلة" (ص 249)، وجوب عدم التسرّع في اتّخاذ قرار الطّلاق وضرورة إعادة النّظر فيه: "الحياة الزوجيّة مليئة بالتحدّيات، لكن.. بالحبّ والصّبر يمكن التغلّب على أي عقبة" (ص 251)، " الحبّ الحقيقيّ مواقف ثابتة تبرهن على الاهتمام بسعادة الشريك واحتياجاته. الزواج ليس مجرّد عقد قانونيّ، بل هو شراكة مقدّسة تُبنى على أسس راسخة من التضحية والإخلاص والتفاهم والاحترام والثقة" (ص 208). "تذكّري يا هدى أنّ الكلمة الناعمة تلامس القلوب قبل الآذان، وأنّ رقّة الأسلوب تذيب أشدّ القلوب قسوة. فكوني كالفراشة الرقيقة التي ترفرف بأجنحتها الجميلة، تاركة وراءها أثرًا من سحر وبهاء" (ص 199). كذلك، كلّ هذا التّركيز على مسألة الأمومة نابع من داخل صباح، من شخصها. تقول: "في الحقيقة، كلّ أم هي عالم خاصّ بحدّ ذاته، لها رائحة فريدة تعبّر عن شخصيّتها وحنانها وحبّها، تعيش في ذاكرة أطفالها للأبد. تلك الرّائحة ليست مجرّد شعور حسيّ فحسب، بل هي لغة تخاطب الرّوح والقلب، تعبّر عن مشاعر لا تُقال بالكلمات، لغة الحبّ والحنان والتّضحية التي تلامس أرقّ المشاعر الإنسانيّة" (ص 50). صباح بشير في الحقيقة أمّ حنون وكلامها صادق ونابع من شعورها العميق بالأمومة نحو بناتها.

لا بدّ أن يلاحظ القارئ أيضًا، أنّ المرأة تلعب في الرّواية دورًا حيويًّا وهامًّا، وذلك من خلال موقعها الفعليّ في واقع الرّواية المعيش، سواء أكانت أمًّا أو أختًا أو زوجة. فبصفة عامّة، تمّ النّظر الى المرأة في الرّواية على أنّها جزء مُتمِّم للحياة ومبعث للاستقرار والاستمرار. كما تمثّل في دور هدى ونهاية ولبنى، ووالدة مصطفى ودورها الهامّ في إقناعه بالزّواج من هدى ودفع أحداث الرّواية إلى الأمام في سياقها الإيجابيّ.

نقاط في الرّواية لا بدّ من الإشارة إليها:

- القيمة الأخلاقيّة والنّزعة الإنسانيّة في العمل: في مواضع كثيرة من الرّواية نجد الطّرح يتطلّع الى سموّ الإنسان واكتسابه القيم الأخلاقيّة، وإلى أهميّة توطيد روابط المحبّة والتّقارب الإنسانيّ. رأينا أنّ حياة أبطال الرّواية تشتمل على لحظات محبّة صافية، وتعاطف إنسانيّ بليغ وغامر. فلم يعِن مصطفى على تحمّل ألم فقد زوجته سوى التّضامن والدّعم الذي وجده داخل العائلة: من أمّه ومن الأصدقاء. كذلك، أهميّة التّسامح ومنح أنفسنا والآخرين فرصة ثانية. بالإضافة إلى قيمة التّضحية البارزة في الرّواية من خلال شخصيّتي هدى ومصطفى وهدى بالذّات، كذلك من خلال شخصيّة عبد الله. فحياة الإنسان تتطلّب التّضحيات كي تستمرّ، والحياة المشتركة تستحقّ التّضحية ومنحها فرصة ثانية.

- قيمة الصّداقة ودور الصّديق الهامّ خاصّة في الظّروف الصّعبة، وكيف تربط الأصدقاء وتجمعهم اهتمامات وأحلام وأفكار وطموحات مشتركة.

- علاقات النَّسَب المبنيّة على الاحترام والتّفاهم ومعرفة الواجب والالتزام ممثّلة بأهل هدى وأهل مصطفى.

- تقدّم الرّواية صورة مشرقة عن السّلائف، عكس الشّائع والمعروف ممثّلة بعلاقة هدى ولبنى: "حكاية هدى ولبنى، حكاية سلائف أزهرت صداقة نابعة من القلب، وأثبتت أنّ العلاقة بين السلائف ليست بالضرورة صراعًا محتّمًا". (ص 198).

- الدّعوة إلى التّفاؤل والتّسلّح بالأمل. فما يلفت انتباه القارئ هو عدم سماح الكاتبة بسيطرة الحزن أو اليأس على أيّ موقف، بل يجدها تبثّ شعاعًا من الأمل وتفتح نافذة للتّفاؤل عبر رسمها شخصيّات متمسّكة بالأمل وغير مستسلمة للحزن، كما في قول هدى مثلًا: "أتمسّك بالأمل، وأعرف أنّ الحياة لا تزال أمامنا، وأنّ علينا إكمال مسيرنا من أجل هذا الطفل" (ص 51). وفي وصف تخطّي مصطفى لحزنه: "انسلّ من عزلته رويدًا رويدًا، مدّ يده إلى الحياة مرّة أخرى باحثًا عن شعاع الأمل، رسم ابتسامة على شفتيه مخاطبًا السماء بكلمات صامتة، تعبّر عن إيمانه بالأمل المختبئ بين ثنايا الصبر" (ص 63).

كذلك، نجد الكاتبة تفتتح كلّ صباح بتفاؤل حتى لو كانت شخصيّات المشهد تشعر بالحزن والكآبة: "يطلّ الصباح بنوره الذهبيّ مخترقًا العتمة" (ص 40)، "تطلّ شمس الصباح على المعرض، حاملة معها نسائم جديدة من التحدّيات" (ص 45)، "تشرق الشمس دافئة على منزل والدي هدى" (ص 60)، "تسطع الشمس وتعانق شرفة بيت عبد الله ولبنى" (ص 91). وكأنّ الكاتبة تبحث عن نور الأمل وسط الظّلام وتصرّ على ضرورة إبراز الجانب المشرق للحياة.

تطرح الرّواية كذلك أسئلة جادّة عن مسائل وظواهر اجتماعيّة على نحو يستفزّ القارئ ويدفعه إلى أن يفكّر في تلك الأسئلة، فيرى هذه المسائل بنظرة جديدة أعمق وبفهم أفضل. مثل: "هل يستحق الزواج الحفاظ عليه، إن لم يجلب لنا السعادة التي نستحقّها؟" (ص 203)، "ألا يُفترض أن يكون الزواج ملجأ للحبّ والحنان، وملاذًا من قسوة الحياة وضغوطاتها؟" (ص 157). كذلك، مسألة فارق العمر الكبير بين الزّوجين: مع/ضدّ؟ مسألة الزّواج بالإقناع وإلحاح الأهل والحديث كلّ الوقت عن وجوب التّضحية من أجل يحيى. وماذا مع تضحية هدى؟ مصطفى يكبرها بخمسة عشر عامًا، كان متزوّجًا، وهو سيعيش مع شابّة صغيرة جميلة وحنونة على ابنه. وهل يتوجّب على المرأة أن تكون هي المضحّيّة الأكبر في هذه المسألة؟

- أسئلة قد يطرحها القارئ العربيّ الشّرقيّ المحافظ حول "نهاية" حتى لو كانت ابنة مدينة حيفا: ما قصّتها؟ لماذا تسكن بمفردها؟

- الصّداقة بين الجنسين: المرأة والرّجل؟ إبراهيم ونهاية! هل نؤمن بها؟

- ضيق القارئ بطول صبر عبد الله وبتكرار الكاتبة لوصف معاناته، في الوقت الذي يتوقّع فيه أن يرى منه موقفًا حازمًا تجاه زوجته. هذا الموقف جاء ولكن متأخّرًا.

نقاط هامّة أخرى طرحتها الرّواية:

- خطورة الفيسبوك ووسائل التّواصل الاجتماعيّ بصفة عامّة. قد تشوّه سمعة أناس وتدمّر حياتهم. وهنا تدخل أهمّيّة الثّقة بين الأشخاص، على اختلاف طابع العلاقة التي تربطهم سواء زواج أو صداقة أو عمل. فقد رأينا أنّ ثقة مصطفى بأخلاق هدى حالت دون نجاح سناء في تحقيق مآربها.

- ظاهرة تبلّي النّساء على الرّجال واتّهامهم بالتّحرّش: إبراهيم وإحدى زبوناته (ص54-55). ممكن أن تدمّر حياة الرّجل وتُفقده مهنته.

- أنانيّة الرّجل التي ظهرت في شخص مصطفى حين شكّك بعلاقة الزّمالة بين هدى وموسى، في الوقت الذي كان فيه مهملًا لها وهي صابرة على إهماله وهجره. (ص 229). بالمقابل، تظهر شخصيّة المرأة القويّة، الواثقة بنفسها والحاسمة في قراراتها في ردّ هدى على شكّه بأخلاقها وسلوكها: "لتعلم أنّني لست ضعيفة أو خاضعة، ولن أسمح لأيّ أحد مهما كان أن يسيء معاملتي، وإن لم تحترمني وتقدّر مشاعري، فلن يكون لك مكان في حياتي" (ص 230).

وبعد،

تَعتبر الكاتبة صباح بشير الرّواية عالمها الخاصّ حيث تطلق العنان لخيالها، وتخلق الشخوص وتبني عوالم جديدة، وتعيش مع أبطالها مغامراتهم. تقول: "إنّها الفضاء الذي أمارس فيه حريّتي في التّعبير بلا قيود، ألامس فيه أعمق مشاعر الإنسان". وهي تدرك جيّدًا أنّ الطريق طويلة لامتلاك معرفة عميقة بأصول الفنّ الرّوائيّ وأسرار الإبداع الأدبيّ. وعليه، فإنّ خلاصة العطر عند صباح بشير، في روايتها هذه، لم نرها بعد. علمًا أنّ تطوّرًا كبيرًا شهدناه في هذه الرّواية مقارنة بروايتها الأولى. وهذا ما يثبت أنّ الكاتبة تشتغل على رؤيتها الإبداعيّة وتطوير أدواتها بما يتناسب وتطوّر الحركة الإبداعيّة الرّوائيّة. فبغضّ النّظر عن بعض الهنّات التي قد يجدها القارئ هنا وهناك، فإنّ رواية "فرصة ثانية" قويّة بمبناها الفنيّ المتماسك وبلغتها الشّاعريّة الجميلة، وبجعلنا نرقب حركة شخصيّاتها ونتعرّف إلى أعماق النّفس الإنسانيّة ونزعات الفرد وصراع الرّغبات والأفكار، ممّا يجعل من هذه الرّواية عملًا إبداعيًّا هامًّا لا يقتصر تأثيره في القارئ ومخاطبته إيّاه على المسائل المطروحة بين صفحاته فحسب، وإنّما ينطلق به إلى قضايا اجتماعيّة وإنسانيّة أخرى، ويحثّنا على تأمّل الواقع المعيش والإفادة من تجارب الماضي، وطرح الأسئلة الموجعة ومواجهة أنفسنا بها وضرورة التّقدّم إلى الأمام وفتح نوافذ الأمل وإتاحة الفرص الثّانية. هذه الرّواية، بطرحها الاجتماعيّ والإنسانيّ، تدعو الى المحبّة والتّسامح والتّصالح مع النّفس والتآلف مع الآخر. وهي، بدون شكّ، تترك القارئ في حالة لم يكن عليها قبل فعل القراءة. تتركه وقد تملّكه شعور بالتّفاؤل والسّعادة والأمل والرّغبة في الحياة. وهذه المشاعر الجميلة، وهذا الأثر الإيجابيّ القويّ والعميق الذي تتركه فينا الرّواية، يُحسب للكاتبة ويجعلنا مدينين لها بكلّ هذا الجمال.

***

د. رباب سرحان

القصة القصيرة، هي قصة تنتمي إلى الأدب القصصي، وتتميز باختصارها وإيحاءاتها العميقة واكتفائها بعدد قليل من الشخصيات ومكان واحد وزمان محدود. وتهدف القصة القصيرة إلى إيصال فكرة معينة، أو إثارة إحساس معين لدى القارئ في وقت قصير.

"وسيلة أمين سامي" قاصة شابة من اليمن السعيد، اهتمت بالكتابة منذ عام (2012)، امتلكت أدوات القص لغةَ وأسلوباً وفكرةً، فكتبت في مجالات عدّة قصصها القصيرة، الأمر الذي جعلها تفرض حضورها الأدبي في بلدها اليمن أولاً، وعند العديد من كتاب القصة والمهتمين بالأدب في عالمنا العربي، هاجسها الكبير انصب على قضايا اليمن وفلسطين والإنسان. فراح العديد من المهتمين بالتذوق الأدبي أو نقده يساهم في نشر قصصها على الكثير من صحف ومجلات الشأن الأدبي. حيث نشرت لها جريدة الدستور العراقيّة، وجريدة منبر التحرير المصريّة، وجريدة الأسبوع الأدبي لتحاد الكتاب العرب في سوريّة، والعديد من الجرائد والمجلات العربيّة. كما نشر لها العديد من المواقع الالكترونيّة العربيّة مثل الحوار نيوز في لبنان، وساحة التحرير في العراق، ونشرة المحرر في المغرب العربي، وصحيفة المثقف في المهجر، والسياسي في الأردن، وهناك موقع تللسقف في العراق. وغيرها. بل أن هناك من راح يترجم لها بعض قصصها إلى اللغة الانكليزيّة. وللقاصة مجموعة قصصيّة واحدة مطبوعة حتى الآن. ولديها محاولات شعريّة جميلة

في تواصل جرى بيننا اقترحت عليها أن أجري لها دراسة نقديّة على بعض قصصها، ولا أقول أعمالها فكانت استجابتها سريعة، علما أنني قد قمت بإرسال أحد قصصها الابداعيّة (دافنشي)إلى مجلة "الأسبوع الأدبي" لاتحاد الكتاب العرب في سورية، فكانت الاستجابة سريعة في النشر من قبل المعنيين بشأن مجلة "الأسبوع الأدبي".

أرسلت لي القاصة المبدعة "وسيلة" قصتين من نتاجها لتكون محط دراستي لها وهي:

1- ثلاث ساعات.

2- الغريب.

العتبات السيميائيّة في عنواني قصتيها ورموزها:

في عنوان قصتها الأولى (ثلاث ساعات)، يحمل دلات تحولات نفسيّة وأخلاقيّة وقيم نبيلة، تتركها فتاة جميلة كاسمها (كوثر) في مواقف لص شبه متشرد هو محمود بطل قصتها، جعلته، يفيض بمشاعر دافئة راحت معها روحه تعرج بمحاريب وضاءة من سَحَر إلى سماء الطهر والنقاء.

وفي قصتها (الغريب): دلالة عميقة في مضمونها أيضاً، وهي تشير إلى الفلسطيني الذي حمل قدر مأساته بكل ما تحمله من قهر وجوع وتشرد ليجد نفسه دائماً يعيش الغربة في عالم فقد الأحاسيس الإنسانيّة بهذه المأساة.

البنية السرديّة في قصتي (ثلاث ساعات والغريب):

في بنية قصتها الأولى (ثلاث ساعات): نجد القاصة " وسيلة تسلط الضوء على رجل حرمته الحياة لذتها بسبب الحرب، فتحول إلى شبه لص يبحث عن لقمة عيش ومكان هادئ تحت ركام ما خلفته الحرب بكل جنونها.

(الثانية عشر منتصف الليل، كان يسير بخطى وئيدة، مشتملاً قتامةَ روحه، يشق عباب نقمته المسفوحة فوق ملامحه المكفهرة، يركل كل ما يصادفه أمامه باستياء مرير.

وقف قبالة منزل أدرك أنه تعرض لقصف صاروخي، الظلام يلف المكان، أغلب أهالي الحي النائي نزحوا من مساكنهم بعد القصف.

فكر بدخول أحد المنازل.. لكن قبل ذلك دفعه فضوله لاستكشاف ذلك المنزل المهدم جزئياً، تسلل اليه وهو يتلفت يمنة ويسرة بحذر شديد.. ترامى لمسمعه صوت أنين خافت أفزعه، قادم من تحت ركام كثيف في إحدى الزوايا.. حركه شعوره الإنساني الذي حاولت الحرب دفنه، وأيقظ ضميره من غفلته.. تراجع عن فكرة المغادرة، انتابته رغبة جامحة في تقديم المساعدة، وإن كان قد حرم من كل شيء. كانت فتاة (ملاك) أنقدذها من بين الركام وأسعفها إلى المشفى القريبة بعد معاناة فرضها عليمها المناخ الماطر بكل قسوته، وأثناء رحلة العذاب هذه تحركت كل هواجسه الإنسانيّة لتعيد إليه إنسانيته التي وجدها مرة ثانية من خلال انقاذه لهذه الفتاة (كوثر). بهذا الموقف الإنساني تختم "وسيلة قصتها) الرائعة: (أملت عليه رقم جوال أحد أقاربها، أُدخلها المشفى.. انتظر حتى اطمأن لقدوم شخص يسأل عنها.

نظرا لبعضهما نظرة أخيرة طويلة، فاضت مشاعر دافئة صعب البوح بها. الفجر يبتسم في وجه الأفق.. روح محمود تعرج بمحاريب وضاءة من سَحَر إلى سماء الطهر والنقاء.. لوحت له كوثر مودعة، غادر وهو يردد في نفسه: من يدري لعلي ألقاك يوما وأنا الملاك الذي ظننتِه. ثلاثُ ساعاتٍ انصرمت كـأنما قَدَّت لعمره من ضَيِّ الإشراق دهرا.

البنية السرديّة في قصتها الثانية الغريب:

قصة لا تخلوا من الفانتازيا، إلا أنها ليست بعيدة عن عالم معاناة الشعب الفلسطيني الذي يعاني كل أشكال القهر والظلم والجوع والألم والتشرد، فتاة تخرج مع زميلات لها يبحثن عن لقمة عيش في عالم المجهول، عالم فقد كل الأحاسيس الإنسانية. (المكان خال إلا منها ، يغشاه سكون خائف من سكونه... لم يكن لها بد من مواصلة السير.. الطريق وعرة شاقة.. أحجارها  الحادة المتناثرة تخترق حذاءها المتهالك تدمي قدميها. لم يثنها ذلك عن عزمها للوصول لمبتغاها، فهي تمسك وعاءها تمني النفس بالعودة ظافرة بشيء من طعام تسكت به صراخ معدتها وأمها العاجزة التي تنتظرها في مخيم مضرج بأوجاع الشتات.. يلوح في خلدها رغيف شهي لكنه ذاو في مسافات المحال.). لاحت لها أضواء قصر منيف لم تر مثله، تحيط به حديقة غناء، تتدلى من أشجارها بسخاء صنوف من الثمرات والفاكهة.. انتابها الذهول، لم صدق ما تراه:(هل أنا في حلم ؟ كيف لم يصل أحد لهذا القصر وكيف لم يطاله القصف والمدينة قد دمرت، وكيف نجوع وكل هذا الخير ليس ببعيد عنا؟؟.)

نعم هكذا تدور فانتازيا أحلام اليقظة حول قصر مليء بالخيرات هو (فلسطين) الواقع الذي استلبته قوى الغدر من أهله، ورغم ذلك لم يزل هناك من يتمسك به ويعمل على عودته لأهله رغم كل الدماء التي سالت ولم تزل تسيل من أجل استرداده. (هالها ما رأت، كادت تصرخ.. فالرجل نصفه الأيمن من جسده مثخن بجراح تقطر دما، اقشعرت أوصالها، تساءلت: ـ كيف لا يتألم، كيف له الوقوف بهذا الثبات ؟.. لم لا يداوي جراحه ويوقف نزفها؟..أسئلة كثيرة اقتحمت رأسها.. استجمعت قواها وحاولت الدخول.. لكنه منعها.. دعني أدخل... لا.. كان صوته غريبا كأنه آت من البعيد من آخر نقطة في الأفق.. جائعة وأهلي جائعون، أيام مضت ونحن بلا طعام دعني أدخل، من حقنا أن نأخذ شيئا من هذا الخير، نحن في مجاعة، لا يحق لك منعي.

سمح لها أخيراً أن تدخل القصر المليء بالخيرات... أذهلها الغريب الجريح.. ظلت كلماته عالقة في وجدانها.. ترامى لسمعها أصوات رفاقها.. استدارت تناديهم:

ـ أنا هنا.. وقد وجدت طعاما كثيرا سيغني المدينة بأسرها ركضت نحوهم... لكن يا للهول وجدت نفسها مرة أخرى تائهة، رأت جماعة من الناس يتحلقون حول جثة شهيد يزفونه نحو المقبرة... اقتربت منهم، تأملت الشهيد.. هالها ما رأت.. وقع الوعاء من يدها وأخذت تصرخ:

ـ إنه هو.. إنه هو بكوفيته.. بجراحه النازفة. أقسم أنه كان يحدثني قبل قليل.

نعم هو المناضل الفلسطيني الذي لم ولن يمت، وأرواح المناضلين التي تتناسل من رحم الأرض والمعاناة ستبقى تتناسل.

الزمان والمكان في القصتين:

بالرغم من أن القاصة وسيلة يمنيّة المنبت والهوى، إلا أن المكان عندها مفتوح هنا على مجالاته العربيّة، وخاصة فلسطين التي شكلت عندها مكاناً مفتوحاً على كل جغرافيته ودلالاته الإنسانيّة، وهذا ما جعل الزمان لديها أيضاً مفتوحا على دلالاته الإنسانيّة المطلقة والذي تجلى في تركيزها على مسألة الحروب وما تخلفه من دمار للإنسان في كل زمان ومكان،، فالقيم الإنسانيّة النبيلة شكلت عند القاصة وسيلة محطات عديدة ومفتوحة على المطلق.

البعد الفني في قصتي الغريب وثلاث ساعات عند القاصة وسيلة:

هناك الشكل البسيط في تشكيل القصة، يعتمد على عرض الحكاية من خلال السرد والوصف في أسلوب شاعري رقيق وألفاظ غنيّة وصور بلاغية جميلة جاءت مواكبة لأحداث القصة الأمر الذي منحها جمالية خالية من الصنعة والترف السردي أو مجانيته.. وهذا الشكل سهل وممتع لا يقدر عليه إلا الكاتب القدير والمتمرس في الكتابة، والممتلك لقدرات فنية اكتشفها من خلال تجربته الفنية. هذا وقد اعتمدت الوضوح المستمد من عمق الرؤية وعلاقاتها المتينة مع المتلقي، بحيث لا يوجد حاجز بين الكاتبة والمتلقي.

وفي الشكل الفني أيضاً: هناك وصف رائع للشخصيات، يحمل تحليلاً نفسيّاً واجتماعيّاً مستخدماً ألفاظاً سهلة عذبة رقيقة ترتفع بالأسلوب إلى مستوى الشعر. وبالتالي اعتمدت القاصة على الوصف الخالي إلى حد بعيد عن الاسهاب والاستطراد، فكان بناء القصة متماسكاً، والشخصيات مرسومة بدقة سيطر فيها الكاتب على احداث القصة سيطرة تامة. الأمر الذي جعل العمل القصصي مذهلاً،

هذا وقد امتازت القاصة بحسها الفني الرقيق، وذوقها المثقف، ورهافة اللفظ، وبراعة تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصيات التي رسمتها بدقة، فبرزت أبعادها الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة، وكشفت عما تعانيه من صراع مع نفسها، أو مع الآخرين، ولأن هذه الشخصيات سويّة وواعية وعندها ضمير يقظ استطاعت الخروج من أزماتها منتصرة مع نفسها في لحظات الضعف، وهذا أقوى الانتصارات على النفس وعلى الآخرين، لقد جسدت وسيلة في عمليها سلوكاً طبيعيّاً لا افتعال فيه، وبالتالي استطاعت أن تدير الصراع بين الخير والشر حتى يكون الانتصار عبرة للآخرين.. ليؤكد أن الخير الأساس في الإنسان وبه تستمر الحياة والعلاقات بين الناس.

أما بالنسبة لطريقة السرد التي اتبعتها القاصة، فقد اعتمدت على ما يسمى الرؤية من الخلف:

ففي هذه الحالة يكون السارد أكثر معرفة بالشخصيات (أي السارد – الشخصيّة)، هو يعرف ماذا يجري خلف الجدران وفي أعماق البطل وفي ذهنه أو ما يشعر به نفسه، فليس لشخصياته أسرار، إنه سارد عالم بكل شيء وفي كل شيء.

بتعبير آخر: في هذا الأنموذج يكون السارد العالم بكل شيء والحاضر في كل مكان. فالسارد كلي العلم الذي نحن بصدد تحديد إشكالياته. والسارد العليم هنا مثل المؤلف المسرحي الذي يضع بعض «الإرشادات المسرحية» لتأطير العرض المسرحي، وهو أيضاً الذي يعرف كل أحداث القصة وشخصياتها، ما خفي منها، وما ظهر، وهو يتنقل بحرية بين الأزمنة والأمكنة، ويدخل عقول شخصياته ليكشف عن أسرارها وخباياها.

الدلالات الإنسانية في شخصيات قصص وسيلة:

الشخصيات ليست كلها خيرة من حيث المبدأ، ففيها ما هو سيئ كما هو الحال في قصة "ثلاث ساعات" شخصية محمود. بيد أن القاصة بينت ما هي الظروف التي ساهمت في تكوين هذه الشخصيات وخاصة محمود. وهو الإنسان الذي إفقدته الحرب بعض قيمه النبيلة وكاد أن ينحدر إلى الهاوية ويتحول إلى لص لأنه لا يملك القدرة على التحكم في سلوكه أو تفكيره نتيجة عدم الخبرة أو افتقاره الثقافة.

دور الكاتبة في تصوير شخصياتها:

يبدو لنا أن القاصة ذات خبرة عميقة في تصوير أحداث قصصها ورسم شخصياتها. فالكاتب المبدع ذو الخبرة والثقافة العالية يمتلك القدرة على التصوير الدقيق كفنان قدير يمتلك أدواته الفنية والثقافيّة والخبرة الطويلة مع الحياة تمكنه من فهم النفس الإنسانيّة ومعرفة أسرارها وكوامن قوتها وضعفها. وهذا ما تجلى واضحاً في شخصيات القصتين موضوع الدراسة، فهي شخصيات مشبعة بالحس الإنساني والقيمي العال.

أهداف العمل القصصي عند وسيلة:

رؤية أخيرة في الرواية، وطموح الراوي:

أرادت القاصة أن تقدم رؤيتها الخاصة للحياة عبر وسيط فني وجمالي تألفه ويناسب أوتارها النفسيّة والأخلاقيّة والقيميّة والفكريّة والوجدانيّة. وجدت في هذه الرؤية ملامح من تراثها وبيئتها وابداعاتها المحليّة والعربيّة، التي تجسد فيها الخوف من الموت والمجهول، وأحلامها بالعدل والبطولة والحريّة والمساواة.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث وناقد من سوريا

 

الأسلوب والصورة الشعرية:

القصيدة تفيض بالصور الشعرية المكثفة والمعبرة، مثل (قطمير القلب) و(يحوط رقبة الحرف) و(موجة غاضبة)، التي تُستخدم لإيصال مشاعر التوتر الداخلي والتمزق العاطفي. هناك توظيف متقن للاستعارات التي تخلق عالمًا شعريًا معقدًا، حيث يتنقل النص بين مشاعر الشوق، الحنين، والتورط في متاهات الألم والحب.

الرمزية والتشبيه:

الرمزية في القصيدة تتمثل في مفردات مثل (صحراء البوح) و(مخادع أفعوانة النص)، مما يخلق شعورًا بالغموض والتداخل بين الواقع والخيال. التورط بين الحب والجسد، والمشاعر المتلاطمة يشكلان محور النص الذي يتغذى على فكرة الانفصال بين الروح والجسد.

التكرار والدلالات العاطفية:

تكرار الفعل (يتجدد) و(يحاول) يعكس المحاولة المستمرة للتواصل والهروب من الواقع، مما يضفي إحساسًا بالعجز واللاجدوى. التكرار هنا يُعزز الصراع الداخلي للشاعرة بين الرغبة والمقاومة، ويُظهر التوتر المستمر في النص.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة غنية بالرمزية والمجاز، فمفردات مثل (المعشوقة النزقة) و(أنفاس حبيبها النائم) تحمل دلالات عاطفية مكثفة تُظهر التناقض بين الرغبة والجفاء. كما أن المصطلحات مثل (ألم الحنين) و(الوجع) تعزز الشعور بالحرمان والخذلان، وتُعبّر عن حالة نفسية مليئة بالفراغ العاطفي.

البنية والإيقاع:

البنية في القصيدة تتسم بالتعقيد والترابط بين المعاني المتداخلة، مما يساهم في خلق إيقاع شعري غير مستقر يعكس المد والجزر العاطفي. الفقرات الطويلة والجمل المتلاحقة تجعل من النص مشهدًا شعريًا نابضًا بالألم والحيوية.

الخلاصة:

هذه القصيدة تقدم تجربة شعرية عاطفية مكثفة، حيث تتنقل بين الرغبة، التوق، والحزن، في سرد شعري متشابك مليء بالرمزية والتشبيه. الأسلوب الاستعارتي والتكرار يعكسان حالة صراع داخلي بين الحب والفقد، مما يجعل النص ينبض بالمعاناة والتوق الدائم للحرية العاطفية.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

..............................

موجةٌ غاضبةٌ

يتجدد نبض الحياة قطمير القلب تخترقه المساحة الهائمة ينوء بثقل الشوق لكنه لا يقوى عليه يلوي عنان التيه يلجم قافية المعنى يحوط رقبة الحرف بجدائل عاشقة مجهولة تشير عيناها لسماء المعاني ينفلت العشق يفوح أثير الروح يعلن التوحد يهيم الشغف جانحاً نحو صحراء البوح مترنماً بواحة تلك المعبودة المتمددة شساعة الأزل يسكنها ألم الحنين الغافي الذي أنهك قلبها ذاك تليد الحب نذير اللهفة نزيه السريرة  تصيح واهنة ترقص على حواف شفرة الوصل الآسن لتنهض من جفوة الزمن تتحول معشوقة نزقة تربض فوق ديمومة الرغبة تجذب أنفاس حبيبها النائم  ذاك المخاتل وقد نام في أحشاء امرأة متطرفة الشهوة غاص حتى نخاع الزيف اشتهى نبرة الأماني ومخدع أفعوانة النص غاب حائرًا يدعو الروح للخروج من جب السطور يحاول الفكاك لكن العناء كبله والبقاء شتت روحه تناثر رذاذ موجة غاضبة تزفر المستحيل تؤم الماء نحو غوث السماء تتعالى حينها أصوات العبث أن انقذوا ما تبقى .

***

عائشة أحمد بازامة – بنغازي / ليبيا

 

الأسلوب والصورة الشعرية: القصيدة تعتمد على أسلوب سردي تأملي يحمل طابعًا فلسفيًا، إذ يستخدم الشاعر الصور الشعرية العميقة مثل (ذاكرة توشحت بالصمت) و(شعاع الشمس الموبوء بالرحيل) لتعبير عن حالة من الرفض والتمرد على الزوال. الصورة هنا تستخدم التناقض بين الصمت والصوت، مما يعكس حالة من الوعي والانتقاد.

الرمزية والمفردات:

الرمزية في النص تتجلى في إشارة (الأحجار) التي قد تمثل الثبات أو العجز أمام العواطف والزمن. كما أن (الصمت) و(الشعاع الموبوء) يعكسان مشاعر الانغلاق والنقد السلبي للواقع الاجتماعي أو التاريخي، حيث الصمت يصبح سلاحًا يواجه (الطغاة).

التكرار والمبالغة:

تكرار فعل (تحفظ) في القصيدة يسلط الضوء على استمرارية الذكريات والمواقف الثابتة في ذاكرة الشاعر. كما أن (تسخر) و(تقهقه) تضيفان طابعًا ساخرًا يحاول تحدي الواقع المفروض، وهو ما يعزز من طبيعة القصيدة التي تحمل مسحة من الانتقاد.

اللغة والمفردات:

اللغة في القصيدة تحمل ثقلًا شعوريًا باستخدام مفردات مثل (الغضاضة) و(العواطف) و(الطغاة)، التي تثير مشاعر من التمرد والاحتجاج على الزمن والمجتمع. هذه المفردات تُبنى بطريقة تجعلها تعكس رفضًا حاسمًا لما هو عاطفي أو عابر.

الزمن والمكان:

الزمن في القصيدة يتأرجح بين الماضي (الذاكرة) والحاضر (الصمت)، في حين أن المكان يُختزل في مفهوم داخلي متمثل في (ذاكرة) الشاعر التي تحكم على الماضي والحاضر معًا.

الخلاصة:

قصيدة (الأحجار) لابن الحاضر تستكشف تعبيرًا شعريًا فلسفيًا حول الذاكرة والرفض، حيث تمثل الأحجار رمزًا للثبات في مواجهة العواطف الزائلة والواقع القاسي. الأسلوب الرمزي والتعبير عن الصمت كأداة مقاومة يعكسان رؤية نقدية للمجتمع والزمن.

***

بقلم: كريم عبدالله - العراق

.......................

الأحجار..

ذاكرة توشحت بالصمت منذ الغضاضة، رفضت الإنجرار وراء العواطف ولذة المواقف الحميمة، كنبؤة صامتة تسخر من شعاع الشمس الموبوء بالرحيل، تقهقه سرا من حتمية الزوال، تحفظ كل الأغاني عن ظهر قلب وترفع عقيرة الصمت في وجه الطغاة.

***

ابن الحاضر

 

في المثقف اليوم