قراءات نقدية

قراءات نقدية

شهدت معسكرات الاعتقال في كندا في أربعينيات القرن الماضي تنظيم أولى قصائد الهايكو باللغة اليابانية، وبأقلام شعراء أسرى من أصول يابانية كانوا ضحية الموقف المعادي لليابان. فقد تضمنت مقاطعة كولومبيا البريطانية وحدها، والواقعة في أقصى غرب كندا بين المحيط الهادىء وجبال الروكي (10) معسكرات إعتقال (معسكرات إعادة التوطين)، كان أكبرها وآخرها معسكر (تاشمي) الواقع على بعد (20) كيلومترا تقريبا جنوب شرق (هوب)، وقد سجن فيه نحو (2600) شخص. ومن أشهر شعراء هذا المعسكر (هاشيرو ميازاوا، تاكيو ناكانو، تشويتشي سومي، ميدوري إيواساكي، جيري أوسامو شيكاتاني)، وأيضا (سوكيو ساميشيما – سوك) المولود في 23 تشرين الثاني 1915 في (نيو ويستمنستر – كولومبيا البريطانية)، والذي ظل يكتب قصائد الهايكو حتى مماته في 5 تشرين الأول 2017 عن عمر يناهز ال 101 عاما.

وكانت الشاعرة والناشطة (فيوليت كازوي دي كريستوفورو) (1917 – 2007) قد نشرت كتابا بعنوان (ماي سكاي 1999) متضمنا مختارات مترجمة من قصائد الهايكو المكتوبة من قبل شعراء من أصول يابانية في معسكرات الاعتقال تلك أثناء الحرب العالمية الثانية. وهي مؤلفة ستة كتب جاءت على نفس المنوال، ومنها (انعكاسات شعرية عن معسكر اعتقال بحسرة تول 1944) المنشور في عام 1984 و(سماء أيار، هناك دائما غد، مختارات من معسكر الاعتقال الياباني الأمريكي كايكو هايكو 1997).

و قد ورد الكثير من قصائد الهايكو المكتوبة في المعسكر المذكور خلال الفترة 1945 – 1946 في كتيب بعنوان (أصداء الجبال) وفي كتيب آخر بعنوان (النور الروحي). يقول (إيجي أوكاوا) زميل ما بعد الدكتوراه في قسم التاريخ بجامعة فيكتوريا في مقال له بعنوان (جمعية تاشمي للشعر): (بالنسبة لشعراء معسكر تاشمي، ربما كان الشعر أكثر من مجرد هواية، أو شيء يقومون به من أجل الترفيه عن النفس، لقد أتاح لهم الشعر فرصة للتعبيرعن مشاعرهم وتنشيط قلوبهم وأرواحم أثناء أعوام الاعتقال المروعة).

كما ورد شرح واف لهذا الموضوع بكتاب (الهايكو في كندا: تاريخ، شعر، مذكرات) لـ(تيري آن كارتر) التي أشارت في فصل (رواد الهايكو الأوائل) من كتابها المذكور إلى (دينبي كوباياشي – هوسوي وليونارد كوهين وكلير برات وباتريك لين) بإعتبارهم من رواد شعر الهايكو في كندا. ثم جاء بعدهم (هارفي جينكينز، كيم جولدبرح، روبن سكليتون، ريتشارد أولافسون، ليان ماكنتوش، بيث وغريغوري سكالا، جوانا ستريتلي، وإيفون بلومر). أما (تيري آن كارتر) فهي شاعرة وفنانة ومحررة، أصدرت ست مجموعات شعرية، ومجموعة كتب إرشادية حول شعر الهايكو، وحررت أربع مجموعات هايكو، ونظمت العشرات من الندوات وورش العمل حول الهايكو وفي مختلف بلدان العالم.

أما أول شاعر كندي نشر شعر الهايكو فهو القاص والصحفي (جان أوبيرت لورانجر) (1896 – 1942)، وكان ذلك في عام 1922، ومن خلال ديوانه الشعري (قصيدة – باللغة الفرنسية). وجاءت بعده الشاعرة والصحفية والروائية (سيمون روتييه) (1901 – 1987) من (كيبيك) التي نشرت ديوانها (المراهق الخالد – باللغة الفرنسية) في عام 1928 (كيبك – لو سولاي)، وقد تضمن إضمامة من قصائد الهايكو. وكانت متأثرة بمعلمها (بول موران) و(لورانجر). وذلك وفقا ل (لويز دوبريه) في مقدمة للطبعة الأخيرة من كتاب (سيمون) التي نشرت ثلاث مجلدات شعرية خلال الفترة 1928 – 1934. ومن أعمالها (أولئك الذين سيكونون محبوبين 1931، الاغراءات 1934، الرد على يأس الخادمة العجوز 1940، وداعا باريس 1940، مزامير الجنينة المسورة 1947، والرحلة الطويلة 1947). ومن قصائدا المترجمة إلى اللغة الإنكليزية:

ينتظرك فؤادي

السكينة اللامتناهية

للعديد من أوراق الشجر المتساقطة

أما أول مجموعة هايكو بالكامل فقد كانت من تاليف الشاعرة والفنانة والمحررة الكندية (ميلدريد كلير برات) (1921 – 1995) من (تورنتو) والمعروفة ب (كلير برات)، ونشرت في عام 1965 تحت عنوان (هايكو)، وقد أعيد نشرها من قبل (جمعية الهايكو الكندية) في عام 1979. حصلت (برات) على شهادة في اللغة الإنكليزية والفلسفة من جامعة تورنتو – كلية فيكتوريا 1944، ثم تابعت دراستها العليا في الدراسات الدولية في جامعة كولومبيا بنيويورك. كما درست الفن في مدرسة (دون) للفنون في تورنتو وفي في متحف بوسطن للفنون الجميلة رغم حالتها الصحية السيئة لاصابتها بشلل الطفال والتهاب العظام الشديد. ومن قصائدها المنشورة في مجموعتها المسماة (هايكو):

تهتز الأرض

ينقسم المعبد إلى الأبد

و ينبجس الملح متدفقا دون توقف

*

أيها الليل، أيها اللص المصاب بالبراغيث

الق بنفسك السوداء إلى القمر

و أعد إلي نومي

و هناك شعراء كثر برزوا على خارطة الهايكو الكندية، ومنهم (إريك دبليو أمان)، ولد عام 1934 في (ميونخ) وتوفى في عام 2016. حرر ونشر الهايكو الكندي خلال الفترة (1967 – 1970). ثم مجلة (سيكادا) المعنية بالهايكو خلال الفترة (1977 – 1982). ثم مجلة (كونكريت) 1979. وصفهما (كور فان دن هوفيل) في مقدمة كتابه (أنطولوجيا الهايكو) بأنهما (من أكثر مجلات الهايكو الصادرة باللغة الإنكليزية تأثيرا وتميزا من حيث المحتوى والتصميم). ومن شعره:

طريق العودة الطويل...

ثمة زنبقة نمر

تشير إلى الطريق

أما (ديبي سترينج): وهي (ديبرا ماي ماكنزي)، فهي شاعرة وفنانة ومصورة فوتوغرافية وموسيقية. ولدت عام 1955. تعيش في (وينيبيج) في (مانيتوبا). عرفت الهايكو وهي في مرحلة الدراسة الابتدائية. تكتب الهايكو والتانكا والسينريو وغيرها. حاصلة على عدة جوائز، منها جائزة (ماريان بلوجر شاببوك) 2022 عن كتابها (لغة الخسارة)، وجائزة مسابقة (سابل بوكس الدولية للهايكو – فئة السيدات 2019 )، وجائزة هايكو بلودروت 2022، وجائزة الجمعية الايرلندية للمسابقة الدولية 2021 وجائزة في مسابقة شحذ القلم الأخضر للهايكو 2018 وجائزة من مهرجان فانكوفر لزهور الكرز الدولية للهايكو 2017 وجائزة هارولد ج. هندرسون 2015 وغيرها. عضوة في (جمعية الهايكو البريطانية، جمعية الهايكو الكندية، جمعية الهايكو الأمريكية، جمعية شعراء الهايكو في شمال كاليفورنيا، جمعية الشعر النيوزيلندية، جمعية التانكا الامريكية، رابطة الهايكو العالمية، جمعية يوكي تيكاي للهايكو) وغيرها. من مؤلفاتها (شرارات زرقاء عشوائية، فواصل البراري 2020، لغة الخسارة - دار سيبل بوكس 2020). ترجم لها (هيدينوري هيروتا) إلى اللغة اليابانية.

و أيضا (جورج سويد): وهو شاعر هايكو غزير الإنتاج وعالم نفس وكاتب له أعمال موجهة للأطفال وأكاديمي متقاعد. ولد عام 1940 في (ريغا – لاتفيا)، ويعيش في (تورنتو – أوتاريو). درس في جامعة (كولومبيا) وحصل فيها على شهادة البكالوريوس في علم النفس عام 1965. حاصل على شهادة الماجستير في علم النفس أيضا وبمرتبة الشرف من جامعة (داهوزي – نوفاسكوشيا) في عام 1965. درس في جامعة (فانكوفر المجتمعية) في الستينيات من القرن الماضي، ثم في جامعة (رايرسون) حتى تقاعده في عام 2006. نشر أول قصيدة له في عام 1968، وأول مجموعة شعرية في عام 1974. وأول قصيدة هايكو في عام 1977 في مجلة (بونساي) الأمريكية المعنية بشعر الهايكو. نشر أكثر من (56) كتابا وكتيبا في كندا وفرنسا وو بولندا والبرتغال والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، ومنها (42) مجموعة شعرية، أكثرها هايكو. وأولها كان في عام 1974. ترجمت أعماله إلى (23) لغة. منح عدة جوائز، منها جائزة متحف أدب الهايكو (1983 و1985 و1992). من كتبه (الهايكو العالمي: 25 شاعرا من جميع أنحاء العالم، شبه غير مرئي، أول ضوء: أولى الظلال، حلازين، لم يزل الفرح في داخلي، أريد أن أقضي وقتا ممتعا، كيف تنشأ القصيدة: ثالوث الهايكو وما بعده). ومن شعره:

تتذكر الأم حبها الأول

في الفناء الخلفي للدار

تفوح رائحة التفاح الناضج

اما (آنا يين): فهي شاعرة من أصل صيني. ولدت عام 1970 في الصين وهاجرت إلى كندا في عام 1999، وتقيم في (ميسيسوجا – أونتاريو). حاصلة على شهادة البكالوريوس من جامعة (نانجينغ)، وعلى شهادة في الكتابة الإبداعية من جامعة (تورنتو). تعمل كمبرمجة للكومبيوتر. نشرت ست مجموعات شعرية وثلاثة كتب مترجمة، منها (المرايا والنوافذ 2021) و(سبع ليالي مع الأبراج الصينية، دار بلاك موس للنشر 2015) و(أجنحة نحو ضوء الشمس، موزاييك برس 2011) و(أضواء ليلية، دار بلاك موس للنشر 2017). حاصلة على جائزة (تيد بلانتوس) 2005 وجائزة (مارتي) وجائزة الإنجاز المهني 2013، وعلى منحة دراسية من مجلس الفنون في أونتاريو ومجلس كندا للفنون، وأخرى من الولايات المتحدة الامريكية. ظهرت قصائدها في (آرك بويتري، نيويورك تايمز، تشاينا ديلي، وراديو سي بي سي) وغيرها. من قصائدها:

الضفدع الحجري

أنا الآخر أحلم بالنط

فوق البركة الجافة

و أيضا (جاكلين ماري بيرس) المعروفة ب (جاكي بيرس) المولودة في عام 1962 (فانكوفر) والمقيمة في (برنابي). وهي شاعرة هايكو ومحررة ومؤلفة (12) كتابا موجها للأطفال والشباب. تحمل شهادة البكالوريوس في الأدب الأنكليزي من جامعة فيكتوريا 1985، وشهادة الماجستير في الدراسات البيئية من جامعة يورك 1990. من مؤلفاتها (تحذير من الفيضانات – للأطفال 2012، لغز الحظ المفقود 2011، حلم إميلي 2005، اكتشاف إميلي 2004، لم الشمل 2002، بركة اليشم: هايكو مستوحى من حديقة الدكتور صن يات سين الصينية الكلاسيكية – مجموعة هايكو فانكوفر 2018).حائزة على جائزة في مسابقة (ليزلي سترات) الشعرية السنوية عن قصيدتها (حديقة مستنقع الشاي 2021). لها مقالة قيمة فازت بجائزة وطنية، نشرت في مجلة تاريخ كولومبيا البريطانية في عام 2020 بالاشتراك مع (جان بيير أنطونيو) بعنوان (الهايكو في تاشمي: إرث سوكيو – سام – ساميشيما)، وتتضمن ترجمة وتحليل (300) قصيدة هايكو كتبها شعراء أسرى من أصول يابانية في معسكر الاعتقال في (تاشمي) في كولومبيا البريطانية. وبحسب (جيسيكا بيترز) يعود الفضل في الاحتفاظ بقصائد الهايكو المؤلفة في المعسكر المذكور إلى الياباني (سام ساميشيما) (1915 – 2017).

ومن رائدات الهايكو الكندي الشاعرة (ماريان بلوجر) (1945 – 2005). حاصلة على شهادة البكالوريوس من جامعة (ماكجيل) 1967 وبدرجة ممتاز. درست الشعر على يد الشاعر والاكاديمي والناشر الكندي المعروف (لويس دوديك) (1918 – 2001). كتبت التانكا أيضا. تشمل مؤلفاتها (الرجل الذي لا أصبع له يعزف على البيانو 1981، في ليالي مثل هذه 1984، التجمع البري 1988، العشب الصيفي 1992، تاماراك وكليركوت – هايكو 1997، هبات – تانكا 1998، مقص، ورقة، امرأة 2000، قطع المساء المبكرة – هايكو 2003، ساتوريس الصغير – تانكا 2005، والأبدية 2005). منحت عدة جوائز وكرمت أكثر من مرة، منها جائزة (أرشيبالد لامبمان) للشعر 1993 وجائزة مجلس كندا للفنون 1989. ترجم لها من الفرنسية إلى الإنكليزية (غابور تيريبيس). استحدثت (جمعية الهايكو الكندية) في عام 2020 مسابقة شعرية تخليدا لذكرى الشاعرة (ماريان بلوجر) العضوة النشطة السابقة في الجمعية ومؤسستها. ومن شعرها:

ذيل السنونو

يتشبث بورقة البردي

في مهب الريح

و من الرائدات أيضا كاتبة المقال والمحررة والشاعرة (جانيك بيلو) التي تكتب الهايكو والتانكا. ولدت ونشأت في مونتريال (1946)، عاشت لفترة من الزمن في (أوتاوا) و(وينيبيج)، لتعود بعدها إلى مسقط رأسها. تكتب بالانكليزية والفرنسية. حاصلة على شهادة البكالوريوس في الادب الفرنسي والتواصل الاجتماعي من جامعة اوتاوا. مهتمة بتدريس الهايكو والتانكا منذ عام 1998. منحت عدة جوائز، منها جائزة (نواج) في مسابقة ماركو بولو الدولية الثانية للهايكو 2006 والجائزة الثانية في مسابقة ماينيتشي شيمبون الدولية للهايكو 10 – القسم الدولي 2006 وتنويه شرف في مسابقة ماينيتشي شيمبون الدولية للهايكو 11 – القسم الدولي 2007 وتنويه شرف في مسابقة ماينيتشي شيمبون الدولية للهايكو 12 – القسم الدولي 2008 وجائزة في مسابقة ماركو بولو الخامسة للهايكو 2009 وجائزة كندا – اليابان الأدبية عن مجموعة تانكا المسماة (من النفوس والأجنحة 2010).

أما (ريتشاد ستيفنسون) (1952 – 2023) فهو موسيقي ومحرر وروائي وأكاديمي وشاعر هايكو وتانكا وسينريو وهايبون. حاصل على درجات علمية في اللغة الإنكليزية والكتابة الابداعية من جامعة فيكتوريا وجامعة كولومبيا البريطانية. درس في نيجيريا لبضعة أعوام، وقبلها في كلية (ليثبريدج - - ألبرتا). نشر (40) كتابا. منها مجموعة شعرية باللغة الإنكليزية بعنوان (سحر العصافير 2004)، وأيضا (التوابيت الطائرة 1994) و(جريمة قتل الغربان 1998) و(الهبات الساخنة 2001) و(وداعا أيها الطائر الأسود 2007) و(الساعة الزمردية 2008) و(أخبار العقعق 2008) و(تفاح الرياح 2010) و(الضجة الشعرية 2024). منح جائزة (نورمان إبستاين للكتابة الإبداعية – مشتركة) 1983 وجائزة فانكوفر الأدبية للكتاب الصغير 1983، وجائزة (ستيفان ج. ستيفانسون للشعر) لنقابة كتاب ألبرتا عن كتابه (أفواه الملائكة)، وجائزة الوردة الأدبية 1997، والجائزة الثانية في مسابقة اسكتشات الاميال 2001. ومن شعره:

نهاية الفصل الدراسي

يطن النحل في أزهار التفاح

فوق قبعتي المنسوجة من القش

و أيضا الكاتب وشاعر الهايكو والرينكو (مارشال جون لويس هريسوك) المعروف ب (مارشال هريسوك) والمولود في عام 1951 في (هاميلتون – أونتاريو) والمقيم في (تورنتو – أونتاريو). متزوج من الشاعرة الكندية (كارين سوهن). حاصل على شهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة تورنتو 1975. نشر في عام 1978 مجموعة شعرية بعنوان (الجناح الرفيع) وتضمنت (22) قصيدة هايكو. ساهم في تأسيس مجلة (إنكستون) للهايكو. رئيس (هايكو كندا) للفترة 1990 – 1998. نشر (11) كتابا وكتيبا. أدار أكثر من (50) جلسة رينغو. نشر في (هايكو كندا ريفيو ونشرات هايكو كندا) و(25) مجلة دورية في كندا والولايات المتحدة الامريكية. نشرت قصائد له في (مختارات من الهايكو الكندي – مطبعة ثري تريز – تورنتو 1980). من مجاميعه الشعرية (الأوراق المحترقة – هايكو 1990) و(عشبة اللبن 1987) و(بتلات في الظلام – رينكو) و(أغصان لامعة: قصائد). حاصل على عدة جوائز، منها جائزة في مسابقة جمعية الهايكو الدولية / 8. من شعره:

فتاة صغيرة مع شريطها

الدوران والدوران

تحت أشعة الشمس

و هناك شاعرة هايكو وتانكا كندية ماجدة هي (ميشلين بودري) المولودة في (مونتريال – كيبيك) في 29 حزيران 1942. من مجموعاتها الشعرية (ليلة الماء – هايكو) الصادرة باللغة الفرنسية والمترجمة إلى اللغة الإنكليزية من قبل (مايك مونتروي – دار ديفيد للنشر 2004). ومن قصائد هذه المجموعة:

حلول شهر آب

يتعالى صوت صرصور

الليل

أما (أندريه دوهايم) المولود في (مونتريال) عام 1948 فهو كاتب وشاعر غزير الأنتاج، وهو من رواد الهايكو بالفرنسية في كندا. يكتب بالفرنسية والإنكليزية. حاصل على شهادة الماجستير في الآداب من جامعة (أوتاوا) 1994. نشر (43) كتابا، منها (5) مجموعات هايكو و(4) كتب هايكو مصورة موجهة للأطفال. حاصل على جائزة الإبداع 2001 وجائزة التميز الكبرى 2011. هناك جائزة شعرية باسمه، انشأها (هايكو كندا) في عام 2021. من أعماله (قشور البرتقال 1987، آثار الأمس 1990، اللقاء الأخير 1996، أمس وإلى الأبد 2003،و الإقامات – هايكو وتانكا 2009). والقصيدة التالية من مجموعته الشعرية (قشور البرتقال – ثنائية اللغة:

في درج دولابها

الدمية التي رميتها فعلا

ثلاث مرات

و من شاعرات الهايكو البارزات بالفرنسية (جان باينشود) المولودة في عام 1962. وهي كاتبة وفنانة وكاتبة سيناريو أيضا، وتعيش في مونتريال. أصدرت منذ عام 1992 (11) كتابا بين الهايكو والأعمال المصورة للأطفال، وكلها منشورة في مونتريال، بإستثناء واحد نشر في باريس. كما ساهمت في (30) مختارات شعرية. منحت الجائزة الأولى في المسابقة الدولية للهايكو التي تديرها مجلة (ماينيتشي شيمبون) اليابانية 2022. اشتركت بعدة فعاليات أدبية في فرنسا وبلجيكا واليابان والسنغال والولايات المتحدة الأمريكية. من أعمالها (قطع الصمت 2015، السماء شاحبة للغاية 2011، وتحت أقدامنا 2003). وقصيدتها التالية فائزة بجائزة تقديرية في مسابقة الهايكو الدولية الخامسة لجمعية الهايكو الدولية (بالانكليزية):

شاحبة هي السماء كثيرا

هذا الصباح

صرت أشك حتى بوجود النجوم

و أيضا (ماريان بول)، وهي شاعرة وروائية وفنانة معروفة. درست الهايكو والتانكا والهايجا والهايبون. تكتب باللغة الانكليزية. من مؤلفاتها (مذكرات فتاة ميتة 2008، وزن الجسم – هايكو 2019، فوق وتحت خط الماء 2011، الحجارة المحولة 2004، والمسكون: قصائد عن الطبيعة والحب والخسارة 2022). تنشر في مختلف الصحف والمجلات الورقية والرقمية. حاصلة على جائزة (جين رايخولد ميموريال هايجا – فئة الوسائط المتعددة 2016). من قصائدها:

هذه الحياة البرية

المطر الذي

يلامس وجهي

و (ميشيل هايات). وهي شاعرة هايكو وتانكا، وتعمل كمدربة معتمدة في الصحة والعافية ومعلمة يوغا. لها عدة مؤلفات. نشرت قصائدها في عدة صحف ومجلات ومواقع الكترونية. ومن شعرها:

الكثير من المكياج

يخفي وجهها الجانب المظلم

من القمر

و (سي جين داونر). وهي شاعرة هايكو مرشحة لجائزة (تاتشستون) وروائية مرشحة لجائزة (الأدب الذهبي). ولدت في الولايات المتحدة الأمريكية – باسكو، وتعيش في (وايت روك – كولومبيا البريطانية – كندا). تكتب بالأنكليزية. منحت جائزة (هايكو إنفيتيشنال – مهرجان فانكوفر لأزهار الكرز 2023). عضوة في (هايكو كندا) و(جمعية الهايكو الأمريكية). من مؤلفاتها (تدوم الأكاذيب إلى الأبد – بيلا بوكس 2023) و(تحت القمر البارد). لديها حلقات تلفزيونية وأفلام. ومن شعرها:

وداعا

تلتصق ندف الثلج

بأشجار دائمة الخضرة

أما بخصوص (جمعية هايكو كندا) فقد تأسست في 21 تشرين الأول 1977 على يد الدكتور (إريك أمان) و(بيتي دريفنيوك) و(جورج سويد). ثم سميت ب (هايكو كندا) في عام 1985. وهي معنية بالدرجة الاساس بالهايكو وأيضا (التانكا، الرينجا، السينريو، والهايبون). وقد توالى على رئاستها عدة شعراء: (إريك أمان 1977 – 1979) و(بيتي دريفنيوك 1979 – 1982) و(ساندرا فورينجر 1982 – 1985) و(دوروثي هوارد وأندريه دوهايم 1985 – 1988) و(دوروثي هوارد 1988 – 1990) و(مارشال هريسوك 1990 – 1997) و(نيك أفيس (1997 – 2004) و(ديفار دال 2005 – 2012) و(تيري آن كارتر 2013 – 2018) و(كلوديا كوتو رادمور 2018 – 2022) و(أنجيلا لوك – حاليا).

نماذج من شعر الهايكو الكندي (مترجمة عن الإنكليزية)

1 – باميلا كوبر

سقوط سمكة من الاعالي –

ثمة نورس يطعم صورته

المنعكسة على الماء

***

2 – بيث سكالا

مطر طال إنهماره

ثمة جدار ثابت

بيننا وبين الجيران

***

3 – لييت جانيل

ما من خطابات في صندوق بريدي

هذا الصباح

فقط نسيج عنكبوت كبير الحجم

***

4 – سبيروس زافيريس

أهوى شجرة الدردار

القريبة

فهي تعرفني

***

5 – آنا يين

(بالنسبة لي، وظيفة الشاعر هي أن يكون مثل المرايا والنوافذ، يبحث عن الجانب الداخلي، ويتواصل مع الغير – آنا يين)

الانتقال من غرفة المعيشة

إلى السرير

عرض الفصول الأربعة

***

تحية

عند المدخل

إفتراق ظلالنا

***

يوم الجمعة...

أجادل دون توقف

حول رغبتي باللون الأخضر

***

ليلة رأس السنة الجديدة

زاخرة بالألعاب النارية

فطائر أمي

***

دار العجزة

صورتي وأنا طفلة

في علبة الدواء الخاصة بها

***

بحيرة البجع

قلب أحدهم

رسمته ذات مرة

***

زنابق برية

تفوح رائحة شعرك

من بناني

***

أوراق الشجر الخريفية

ما برحت تشغل مكانا

في حلمي

***

على جرس الباب

إشارة (اضغط رجاء)، زال

ظل الزوج السابق

***

6 – مايكل دادلي

اقحوان بري...

الذكرى الثالثة

لوفاتها

***

7 – فيرونيكا زورا نوفاك

عاصفة

ثلجية

يطويها النسيان

***

الخمرة الارجوانية

الطريقة التي الج بها العوالم

و أغادرها

***

يتدلى حذاء ابنتي

التي لم تعد للبيت

من مقبض الباب

***

8 – ريتشارد جودوين

ثمة شخص يسير وسط المياه الراكدة

في البرد القارس

تناغم أجراس الكنائس

***

9 – إريك دبليو أمان

مسيرة الإياب الطويلة:

-       تشير زنبقة النمر

إلى السبيل

***

شاحنة فورد قديمة –

لم تزل أوراق الشجر من الصيف الماضي

ملتصقة بها

***

مرور القطار المسائي

تهتز صور الموتى

على رف الموقد

***

لوحة إلانية

مبللة

بمطر الربيع

***

عشية عيد الميلاد...

تساقط الثلوج

على المواقف الفارغة للسيارات

***

تساقط الثلج في الصباح...

يسمع الصوت الخافت

لعصا الرجل الصرير

***

10 – لاريالي فريزر

يوم الافتتاح

زهرة زعفران صفراء اللون

تكتنز أشعة الشمس

***

11 – ديف ريد

جولات متأخرة

كومة بذور

دوار الشمس

***

12 – ديبي سترينج

(من المرجح أن أنجذب إلى قصائد الهايكو التي تنقلني من ذاتي إلى عالم شخص آخر من التجارب والعواطف – ديبي سترينج)

خزامى

نوضب ثيابها

بهدوء

***

القبر المنسي

لم يفضل منه

سوى العروق الناعمة لأوراق الشجر

***

مناخ قاس

تتحطم الوردة الحمراء

مصدومة

***

الإياب للوطن...

إضمامة من السماء

في جرة عتيقة

***

الرمال المنجرفة

تكتب القصيدة نفسها

أحيانا

***

قطيع من سمك الرنجة

يتحول المحيط من تلقاء نفسه

من الداخل إلى الخارج

(المركز الثاني – هايكو شينتاي)

***

سنة جديدة

كم يلزمني من الوقت

ليتوقف اشتياقي اليك ؟

***

منازل مرممة

إحتراق الخشخاش

على التل

***

غابة الصنوبر

النصيحة التي أقدمها لنفسي

و أنا يافعة

(جائزة الشرف – مسابقة سوكا ماتسوبارا الدولية 2020)

***

13 – جورج سويد

(أريد أن أصدق أنني قد حددت الأسباب الرئيسية التي دفعتني إلى كتابة شعر الهايكو، بالنسبة لي، فإن هذه الأسباب تقودني إلى مركز الشبكة كخيوط العنكبوت – جورج سويد)

وجه يتضرع

قبل أن يتحول -

زنبقة ماء

***

حرارة خانقة

تشير سعفة النخيل

إلى وجود نسمة هواء

***

نسيم ربيعي دافىء

يعدو الكلب المسن

أثناء نومه

***

أرملة شابة

تطلب كعكة حظ

إضافية

***

غزال نافق على جانب الطريق

تذوب ندفة الثلج

فوق عينه المفتوحة

***

تسحب الفتاة المراهقة مرآتها

داخل الحافلة

و تعدل هندامها

***

مقبرة ريفية

يدفن الكلب

عظمة واحدة

***

ثقب في السور

يكشف نور الشمس مساء

عن شبكة العنكبوت الموجودة فيه

***

14 – جاكي بيرس

(يساعدني الهايكو في التعامل مع الحياة، مع ملاحظة الأشياء الصغيرة من حولي، ورؤية اللحظات العادية بالشعور بالحداثة والأهمية – جاكي بيرس)

جذع شجرة القيقب –

ما زالت السماء

تحمل العرزال

***

توقف المطر عن الهطول

تقفز ابنتي إلى كل قطعة

من السماء

***

منزل واحد

لا غير

التهمه حريق الغابات

***

صبي يتمرجح

على غصن شجرة

ثمة صبي يتمرجح

***

حزن دائم

تأثير فوكوشيما

على السلمون

***

مساء بارد

معطف لامع برتقالي

على رجل متشرد

***

البرد المبكر

يجمع الجار أوراق الشجر المتساقطة

و يعيد نثرها في ساحتنا

***

15 – شيريل آشلي

خزانة مظلمة

مليئة بالمعاطق

بتلات أزهار الكرز

***

16 – غاري إيتون

عشاء مشترك

تسقط بتلة الكرز

في صحن الحساء الذي أتناوله

***

17 – ماريان بلوجر

(يحرك الشعر في نفسي نوعا من التبجيل، ليس كله، بل الكثير من أفضل ما فيه – ماريان لوجر)

حل الربيع على جدول الماء

يخطو طائر السحنون بخفة

حيث تبتسم التماسيح

***

نهاية الموسم

يقف النورس منتصبا على الرمال الباردة

في مواجهة الريح

***

يشاهد وجه أبي الشاحب

عبر النافذة المظلمة

يراقب النار المشتعلة في المخيم

***

مكشوف بوجه السماء

و مهجور

عش الصقر

***

نسيم خفيف

شرع نبات المريمية

يهمس للنجوم

***

طائر البلشون الأزرق المسن

لم يزل حاضرا

في المياه الضحلة المتلألئة

***

تطفو ورقة الشجر المتساقطة

في الوادي حيث يسود الصمت

و حيث تتصدأ عربة القطار

***

توقف الريح عن الهبوب

للحظة

يسمع هديل الحمام

***

18 – آن ماري لابيل

في زاوية فمها

كسرة خبز –

اليوم الدراسي الأول

***

19 – أغناتيوس فاي

ذوبان الثلج

ما برحت ورقة الشجر تلك

متمسكة بالسياج

***

20 – شارلوت هرينشوك

إغلاق

الباب الدوار

إنعزال

***

21 – روبرتا بيري

الباب الدوار...

ابنتي الصغيرة

تحمل طفلتها الصغيرة

***

22 – ليز آن ويكلر

بلدة صغيرة...

بواب الفندق

الملقب أيضا بالحارس

***

23 – ماكسيان بيرجر

الصمت الذي يسود بيننا

يراعات تتراقص محلقة

في الظلمة

***

24 – وينوتا بيكر

لقد استحدثت أسلحة

لتكون صديقة للبيئة

إنها تقتل برصاص أخضر !!

***

25 – أورليك نرواني

مطر الربيع الدافيء

تنساب اغنية الطائر

من وكر دفين

***

26 – ريتشارد ستيفينسون

(أجد الإلهام من مصادر مختلفة حقا، يعتمد الأمر في أي جانب من الشارع أعمل، وفي أي وقت – ريتشارد ستيفينسون)

بدون نظارتي، أستطيع أن أقسم

بأن ورقة الشجر الدائرة في الهوا

كانت فراشة

***

بقايا قهوة باردة –

ثمة نورس واحد يحوم

في السماء تحت العاصفة

***

والدي وابني

صنارة صيد واحدة

سمكة وحيدة

***

لم تزل باردة –

تغرد الطيور على أغصان

شجيرات القطن

***

توقف المطر عن الهطول –

يسمع صوت الأطفال وهم يلعبون

و نباح الكلاب

***

باب قلما يستخدم –

هل توقفت الدبابير

عن بناء وكرها ؟

***

27 – أندريا غراديدج

الاستحمام برائحة زكية

تحت مظلة

شجرة الكرز

***

28 – ليندساي فيرميولين

ظلال الدانتيل

على عتبة الشباك

و أزهار الكرز في الخارج

***

29 – لوسي بيليتر

ربيع بارد

ظلي

بلون وردي غامق

***

30 – رولاند باكر

المنزل المتصدع

حتى الظلال

لها ظلال

***

31 – سوزان كونستابل

ريح خريفية

سحابة من الغربان

تخرج من شجرة الكرز

***

32 – مارشال هريسوك

شرفة مضاءة بالفوانيس

الورقية

كعكة عيد ميلاد مخدوشة

***

نسور تطير محلقة

فوق القمة

من جرف مليء بالحفر

***

وسط الظلمة

أنتظر

صوتي

***

33 – بي. اج. فيشر

يرن

الجرس...

فراشة

***

انتقاد

فتور

عند المدخل

***

34 – ايسلينغ وأين

البيت وسط الحقول –

أخيرا، تستريح أحذيتنا

بإزاء الباب

***

35 – ألبرت شيبرز

الباب الأمامي العريض

الاستعداد للمضي قدما

الهواء النقي

***

36 – كارين هيديتنيمي

الإضاءة الأولى

من البازلاء الحلوة –

ابتسامتها عند الباب

****

37 – ميشلين بودري

سيدة الليل

الكثير من الشوارع

المزيد من الرجال

***

اكتمال القمر

انخفاض فراغ السماء

فوق الأسطح

***

القمر المكتمل

يزرق لون الليل

أكثر

***

38 – ماريان بول

يقضي الطفل نحبه

في معسكر الاعتقال

ليلة يسود فيها الصمت

***

موجة برد

حتى العصافير المنزلية

تكون صامتة

***

وعاء مليء ببذور الكرز

يحاول حفيدي جاهدا

معرفة عمري

(الجائزة الآولى – مهرجان فانكوفر لأزهار الكرز 2016)

***

التنفس بعمق

التجول بالقرب

من كشك بيع الزهور

***

مسقط الرأس

لمس الجروح

القديمة

***

السير على سطح القمر

ثمة امرأة أخرى

تتقدم للأمام

***

دوران الآرض

تلقي الهندباء

بظلها

***

لم تزهر شجيرة الليلك

بشكل كامل

بدأت أزهارها تتحلل

***

أرتدي سترتي مقلوبة

طيلة اليوم

من الداخل

***

39 – ميشيل هايات

مئذنة

حفيف السنديانات

نداء صلاة

***

غطاء من رقاقات الثلج

تمايل الأشجار بخضرتها الدائمة

أشباح أثيرية

***

40 – سي جين داونر

أول الصقيع

المسافة

التي تفصلنا

***

يوم القمامة

غرابان يتقاسمان وجبة

تغمرهما السعادة

***

أطفال في حديقة حيوانات المدينة

يطوون طيور الكركي

الورقية

***

الصقيع

يغطي المنزل الذي تركته

لنا

***

......................

1 – Welcome to Haiku Canada. https: // www. haikucanada. org

2 – T. A. Carter، A History of Haiku in Canada. https: // www. thehaikufoundation. org

3 – Terry Ann Carter، Haiku in Canada: History، Poetry، Memoir. https: // www. terryanncarter. com

4 – Canada. https: // livinghaikuanthology. com

5 – Marco Fraticelli and Claudia Coutu، Haiku Canada: 40 years of Haiku. https: // www. ekstasiseditions. com

6 – Interview with Debbie Strange. https: // thesolitarydaisy . ca

7 – World Haiku Series 2022 (24)، haiku by Debbie Strange. https: // akitahaiku. com

8 – Debbie Strange – Haiku poet Interviews. https: // haikupoetinterviews. wordpress. com

9 – The Language of Loss. https: // debbiemstrange. blogspot. com

10 – Debbie Strange. https: // inksweatandtears. co. uk

11 – World Haiku Series (10)، haiku by Debbie Strange. https: // akitahaiku. com

12 – Daily Haiku Special - Debbie Strange: Dec، 6، 2023. https: // charlottedigregorio. wordpress. com

13 – George Swede’s Haiku، Terebess Asia Online. https: // terebess. hu

14 – George Swede: Haiku Master & Secular Contemplative. https: // besharamagazine. org

15 – Western Death Haiku by George Swede. https: // www. thehaikufoundation. org

16 – George Swede. https: // www. georgeswwde. com

17 – George Swede Essay. https: // www. americanhaikuarchives. org

18 – Anna Yin – poet at allpoetry. https: // allpoetry. com

19 – Anna Yin – Asian Heritage in Canada. https: // library. torontomu. ca

20 – Yin، Anna. https: // livinghaikuanthology. com

21 – Anna Yin. https: // www. best – poems. net

22 – Anna Yin. https: // poetryinvoice. ca

23 – Jacqueline Pearce & Lean Pierre، Haiku in Tashme: The Legacy of Sukeo Sam Sameshima. https: // www. thehaikufoundation. org

24 – Sasha Khokha، Haiku Poet Documented Life in Japanese Camps. https: // www. npr.org

25 – Eiji Okawa، Tashme Poetry Society. https: // tashme. ca

26 – Emile J. Talbot، Simone Routier and the Rise of the Personal Lyric. https: // muse. jhn. edu

27 – Four haiku and a severed head by Simone Routier. www. vianegative. us

28 – Those Women Writing Haiku – Chapter 4. https: // www. ahapoetry. com

29 – Sameshima، Sukeo ‘ Sam ‘. https: // lethbringenewsnow. com

30 – A 1965 Collection of Haiku by Canadian Poet Clair Pratt. https: // thehaikufoundation. org

31 – Graphic Works of Clair Pratt. https: // library. vicu. untoronto. ca

32 – 2018 Winning Haiku. https: // v1. vcbf. ca

33 – Jacquie Pearce – March 2، 2023. https: // thehaikufoundation. org

34 – Jacquie Pearce – July 23، 2024. https: // thehaikufoundation. org

35 – Volume XXXI V، November 3: September 2022 – Jacquie Pearce. https: // www. theheronsnest. com

36 – Poetry & Hybrids: Jacque Pearce: holding on. https: // www. nacqueensquinterly. com

37 – Winner of the 1st Annual Lesley Strutt Poetry Contest – Jacque Pearce. https: // poets. ca

38 – The Living Haiku Anthology – Bluger، Marianne. https: // livinghaikuanthology. com

39 – haiku by Marianne Bluger. https: // terebess. hu

40 – 2022 Marianne Bluger Award. https: // www. haikucanada. org

41 – Poetry by Marianne Bluger. https: // www. neilyworld. com

42 – The Marianne Bluger Book and Chapbook Awards. https: // www. haikucanada. org

43 – Returning to Japan to talk about tanka – Janick Belleau. https: // jalt – publications. org

44 – Haiku: Richard Stevenson. https: // simplyhaiku. thehaikufoundation. org

45 – Richard Stevenson. https: // haikuspirit. org

46 – Richard Stevenson (poet). https: // en. Wikipedia. org

47 – Haiku by Richard Stevenson. https: // epe. lac – bac. gc. ca

48 – Quarterly Journal of Japanese Short From Poetry – Richard Stevenson. https: // simplyhaiku. thehaikufoundation. org

49 – Haiku by Richard Stevenson in Canada. https: // akitahaiku. com

50 – Marshall Hryciuk Archives. thehaikufoundation. org

51 – Marshall Hryciuk. https: // haikupedia. org

52 – Marshall Hryciuk. thehaikufoundation. org

53 – Haiku by Marshall Hryciuk – part 1. https: // akitahaiku. com

54 – The 8th HIA Haiku Contest. https: // www. haiku – hia. com

55 – Micheline Beaudry. https: // https: // haikupedia. org

56 – Micheline Beaudry Archives. https: // thehaikufoundation. org

57 – Andre Duhaime. https: // thehaikufoundation. org

58 – The 5th HIA Haiku Contest – Jeanne Painchaud. https: // www. haiku – hia. com

59 – Haiku -The Literary Kayak -Marianne Paul. www. litrary. com

60 – Butterfly Dream Wild Life Haiku by Marianne Paul. https: // neverendingstory. haikutanka. blogspot. com

61 – Marianne Paul – Gnarled Oak. https: // gnarledoak. org

62 – Marianne Paul. https: // www. versewrights . com

63 – haikuNetra – Marianne Paul. https: // haikunetra. blogspot. com

64 – International Women’s Haiku Festival 2018 – Michelle Hyatt. https: // jenniferhambrick. com

65 – Haiku Poet Interviews – Michelle Hyatt.https: // haikupoetinterviews. wordpress. com

66 – haiku about trees Archives – Michelle Hyatt. https: // thehaikufoundation. org

67 – Haiku – C. Jean Downer. https: // literaryrevelations. com

68 – Pet Profile – C. Jean Downer. https: // www. thehaikufoundation. org

69 – Volume XXV، Number 4: December 2023. https: // theheronsnest. com

يُعد النضال ضد العنصريين البيض من أبرز الموضوعات التي تناولها الأدب في دولة جنوب أفريقيا، وقد اهتم أدباء هذه الدولة بمشكلة العنصرية اهتماماً كبيراً

‏ما زالت مشاكل النظام العنصري تستحوذ على اهتمام الأدباء، إلا أنها تجسدت في أدب السبعينات بالذات ولهذا سنوجه اهتمامنا في هذه الدراسة المتواضعة إلى أدب هذه الفترة بالذات. لقد اخذ كتاب جنوب أفريقيا يتحدثون بكل وضوح عن مشكلة العنصرية في أعمالهم الإبداعية ودعوا إلى النضال المسلح ضد العنصريين البيض، ونستطيع أن نقول إن قضية النضال المسلح تجسدت بشكل خاص في أعمال كتّاب زمبابوي "روديسيا سابقاً".

وفي الحقيقة إن توجه أدباء جنوب أفريقيا إلى هذا الموضوع لا يعد أمرا غريبا، إذ إن شعوب هذه المنطقة ناضلت نضالاً واسع النطاق ضد العنصريين البيض.

ونود أن نشير هنا إلى أن اختيارنا لفترة السبعينات بالذات لم يكن من وحي الصدفة، بل لأن هذه الفترة شهدت العديد من النشاطات الجماهيرية المعادية للعنصرية على مختلف الأصعدة، وقد شاركت فيها كل الجماهير الشعبية من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، التي لم تخشَ هراوات الاجهزة القمعية ولا سجونها. ويكفي هنا أن نتذكر المجزرة الدموية التي اقترفها العنصريون في حزيران 1976 ضد أهالي سوويتوا، تلك المدينة الصغيرة التي تبعد قليلا عن جوهانسبورج. كانت هذه المجزرة الدموية ضد السود في جنوب أفريقيا بمثابة الشرارة الأولى للاضطرابات والانتفاضة التي عمت كل زوايا المنطقة وارجائها. ومنذ ذلك الحين، اعتبرت هذه المجزرة التي تذكرنا بمذبحة دير ياسين في فلسطين المحتلة رمزاً لنضال شعوب جنوب أفريقيا من أجل الحرية وتحقيق أبسط الحقوق الإنسانية.

من الجدير بالذكر، إن سقوط الفاشية في البرتغال ومستعمراتها وانتصار القوى القومية والوطنية في روديسيا، الذي تكفل بتأسيس جمهورية زيمبابوي ونضال ناميبيا من أجل التخلص من الاضطهاد الاستعماري من قبل حكام جنوب أفريقيا، وأخيرا نضال الجماهير الشعبية الواسعة فيها نفسها، أدى إلى تغيير تناسب القوى السياسية لصالح المناهضين للعنصرية.

منذ تأسيس جمهورية زيمبابوي استعد بوتو لتنفيذ خطته الموجهة نحو توحيد الدول العنصرية والعسكرية ضد حركات التحرر الوطني في جنوب أفريقيا، وقد قامت القطعات العسكرية التابعة لجيش العنصريين بالهجوم على انجولا، موزانبيق، زيمبابوي، زامبيا، ليسوته وسيشيل. وأخذ الحزب القومي الحاكم يبحث عن امكانيات إنقاذ النظم التقليدية القديمة من خلال المناورات السياسية المختلفة.

ويحاول الحكام العنصريون إضفاء صبغة الليبرالية على نظامهم لكنهم وضعوا في الوقت نفسه خطة سياسية لتشكيل وزارة القانون والنظام، التي أنيط بها، باسم المواطنين البيض، مهمات وصلاحيات واسعة جدا بما فيها الوظائف القمعية البوليسية والإرهاب ليس ضد السود فحسب، بل ضد المواطنين البيض الذين لا يؤيدون القوانين العنصرية.

وقد فَضحت التنظيمات الشعبية المعروفة في القارة كلها مثل المؤتمر القومي الأفريقي في جنوب أفريقيا (تأسس عام 1912) الديمقراطية والليبرالية التي يشرف عليها العنصريون، وكشفت الصحف التقدمية كل ممارسات نظام جنوب أفريقيا الإرهابية، التي أدت إلى قتل العديد من المناضلين تحت التعذيب. وعلى الرغم من قسوة الأساليب الإرهابية إلا أن النضال ضد العنصرية ازداد وتوسع واتخذ أشكالا مختلفة بما فيها الكفاح المسلّح.

ولقد اهتم أدباء جنوب أفريقيا وزيمبابوي بكل هذه الأحداث والقضايا، التي هزت المنطقة وعانوا من صعوبات كبيرة تحدث عنها في أكثر من مناسبة الأديب المعروف الروائي الراحل لا جوما السكرتير السابق لرابطة كتاب آسيا وأفريقيا1.

ونشير هنا إلى أن المجلس المسؤول عن النشر يستطيع بكل سهولة وحسب القوانين المعمول بها في البلاد أن يمنع نشر هذا العمل الأدبي أو ذاك، بل ويحاسب الأديب صاحب النتاج النقدي والأدبي المرفوض من قبل الرقابة، على دفع ضريبة كبيرة إلى مجلس الرقابة!

إن أعضاء مجلس الرقابة لا يبالون بأهمية الكتاب المقدم إليهم، لا من حيث الشكل ولا الفكرة ولا المستوى الفني، بل كل ما يهمهم هو أن يشيد "بمنجزات" هذا النظام.

وقد أكد لاجوما على أن الفنانين الموهوبين يستطيعون رغم كل الصعوبات، تصوير النضال ضد العنصرية مهما اختلفت أشكالها، ونشير هنا إلى أهمية النقاش الذي دار حول أدب الاحتجاج في ندوة عقدتها عام 1979 جامعة رودس في جريامس تاون وحضرها العديد من أدباء جنوب أفريقيا مثل ن. جورديمي و أ. برينك.

رفض برينك في هذا النقاش الأدبي ادب الاحتجاج واعتبره أدباً شعرياً لا يحقق نجاحا ملموسا كبيرا ضد سلطة قوية تمتلك جيشا وأجهزة قمعية متمرساً في تنفيذ أعمالها الإرهابية، ويرى ان كتابا احتجاجيا مليئا بشعارات لا يكفي لمقاومة كل هذه الاجهزة القمعية2.

إن برينك لا يعتبر الكتاب الأدبي وسيلة نضالية تحقق نجاحات سريعة في الصراع السياسي، بل إنه يرى أن للنتاج الأدبي تأثيراً معنوياً بطيئاً يعمل على تغيير حياة الناس الروحية بمرور الزمن، كذلك يعتقد برينك أن الكاتب من الأفضل أن يتحول إلى مناضل سياسي، أو جندي في الجيش الشعبي ليقاتلوا ضد النظام العنصري.

إلا ان أديبا آخر، هو جورديمير، يرفض أفكار برينك ويتفق مع الأديب المعروف لاجوما ويردد أفكاره في هذا النقاش، الذي أشرنا إليه ويؤكد على أهمية التصوير الخلاق والثوري للواقع بكل صدق وإخلاص، وإذا التزم الادب تصوير البيئة في جنوب أفريقيا تصويراً صادقا فلا بد له أن يتناول موضوع العنصرية والحالة الثورية والاحتجاج الشعبي ونضاله ضد كل أشكال الإرهاب. إن صوت الاحتجاج لا بّد أن يجد طريقه إلى العمل الأدبي، إذا كان مؤلفه أديبا ملتزما بقضايا الشعب المصيرية وبواقعه الحياتي اليومي والاجتماعي المعاش3.

وقد تحدث كيورابيشة كوسيتسيلي الشاعر والصحفي المعروف في جنوب أفريقيا، في مقال له بعنوان "الثقافة والنضال التحرري في جنوب أفريقيا"، عن دور شعر المقاومة في النضال التحرري، الذي تخوضه شعوب جنوب أفريقيا.

أكد كيورابيتشه كوسيتسيلي على الوظيفة الاجتماعية والسياسية للأدب ورفض الشعر الذي لا يصور قضايا الشعب ونضاله التحرري ضد العنصرية. إن المهمة الرئيسة لكتاّبأفريقيا تتجسد في النضال ضد كل أشكال الاستغلال الاجتماعي والاضطهاد العنصري والعمل البناء والجاد من أجل تكوين ثقافة اشتراكية ثورية تعمل على تربية الأجيال القادمة تربية خلاّقه، هذا وقد كرّسَ الشاعر المعروف فاينبيرغ كتابه "الشعر ونضال شعوب جنوب أفريقيا من أجل التحرر القومي" لمثل هذا الموضوع4.

طالبَ فاينبيرغ الشعراءَ أن يتخذوا موقفا حازما تجاه سياسة العنصريين قولا وفعلا، لأن الشعر يتميز عن كل أشكال الفنون الأخرى من حيث كونه أداةً فعالةً في تحريض الجماهير الشعبية وتعبئتها في نضاله ضد العنصرية.

يدعو فاينبيرغ وبكل صراحة ووضوح إلى وقوف الشاعر إلى جانب المقاتلين الذين يمتشقون السلاح ويناضلون نضالا مسلحا ضد العنصرية.

وقد نشرت العديد من المجلات مثل سيتشابا لسان حال المؤتمر القومي الأفريقي في جنوب إفريقيا، ومجلة لوتس لسان حال رابطة كتاب آسيا وأفريقيا قصائد شعرية كثيرة لشعراء ثوريين ملتزمين بقضايا الشعب، كذلك هناك أعمال شعرية لشعراء جنوب أفريقيا نُشرت باللغة الإنجليزية في السبعينات على شكل كتب، اما لشاعر واحد أو لعدة شعراء، نذكر على سبيل المثال لا الحصر مجموعة شعرية لأسوا لد متشالي وما زيس كونيوني بلغة زولو ونشرت مجموعات للشاعرين المعروفين كيورابيتشه كوسيتسيلي ودينيس بروتوس وغيرهما.

تتميز هذه الأشعار بعاطفة جياشه، وهي مشبعة بالآلام بسبب الحالة البائسة التي يعيشها الشعب، وتدعو إلى ثورة ضد العنصريين.

نستطيع أن نلاحظ سمات عامة تتميز بها هذه الأشعار كلها، مثل وحدة موضوعاتها أو تشابهها، الشيء نفسه يقال عن الاهداف المشتركة، وفي بعض الحالات نلاحظ تشابها كبيرا في الأفكار، لأن هؤلاء الشعراء يصورون واقعا مريرا مليئا بالهموم والمعاناة المختلفة مادية كانت ام روحية. كما قلنا سابقا فإن اغلب هؤلاء الشعراء كان يدعو إلى النضال ضد العنصريين بمختلف الأشكال والطرق بما فيها الكفاح المسلح، لدرجة أن الشعر أصبح وسيلةً فعّالةً للتحريض وننقل هنا مقطعاً شعريا لأحد المقاتلين المجهولين:

خطوط الجبهة والنار

مكان لاختبار الوعي والرجولة

هنا نتخلص من الظلم والملاحقات

هذا هو المكان الوحيد

تحصل فيه على الخلود

صدقني يا أخي

أنت هنا لست الوحيد

هنا الناس والشجيرات

طعام للرصاص

هذا الإنسان الفريد

يهجم بسرعة البرق

وقوي كالرعد

شجاع وقناص

هناك يسقط العدو

كيلا ينهض من بعد

صدقني يا أخي

سيكون ضلّك هنا إلى جانب ضلّي5.

اما النثر المكتوب باللغة الإنجليزية، فإنه قد يتميز في السبعينات بطابع احتجاجي ضد السياسة العنصرية والظلم.

وفي الحقيقة إن أدب "الاحتجاج" و"أدب المقاومة" يقفان على الضد من الأدب الرجعي، الذي يمثل سياسة العنصريين، وسنتطرق في هذا المقال إلى بعض أعمال أليكس لا جوما الروائية مثل "في نهاية موسم الضباب" و "تجوال في الليل" وغيرهما، وأعمال روائية لأدباء آخرين من البيض والسود مثل "آلان شواولفيلد، دجونتى درايفر، بيتر ولهيلم كاتيو، مونجوشي ودجيرالد جوردون.

ونلاحظ أن مواقف بعض الناشرين الليبراليين البيض الذين يطرحون افكارا تقدمية تمثل فئة المثقفين الليبراليين البيض تتسم بالتعقيد وعدم الوضوح.

فالروائي الأبيض ألان شواولفيلد مثلا يطرح في روايته "السادة الشباب"6 فكر الليبراليين المتشائمين، لكنه فكر انتقادي بالنسبة لسياسة التمييز العنصري.

لم يصور ألان شواولفيلد في روايته "السادة الشباب" الحياةَ في جنوب أفريقيا تصويراً روائيا كاملا، ولم يقدم لوحةً متكاملةً لهذه الحياة، بل اكتفى بوصف بسيط لحياة السكان البيض في مدينة صغيرة، وهنا لا بدّ للروائي من تصويرهم كما هم في الواقع، أي أنهم يعيشون بعيدا عن التجمعات السكانية للأفارقة من خلال تصرفات بعض الشخصيات الواعية، هنا بالذات يكون التناقض في وجهات نظر الروائيين البيض، الذين ينادون بالأفكار الليبرالية، وهذا بالتالي ادّى إلى ظهور نزعة تشاؤمية في وسط الأدباء البيض.

* والشيء نفسه يمكن أن يُقال عن روائي آخر معروف في أدب جنوب أفريقيا، ألا وهو دجونتي درايفر فهو أيضًا يصور الوضع في جنوب أفريقيا تصويرا يتسم بالتشاؤم.

يصور الروائي درايفر في روايته "مرثاة للثوري" و"ابعث الحرب إلينا يا إلهي" حالةَ الإحباط في أوساط المثقفين الليبراليين البيض.

إن درايفر وغيره من الكتاب البيض التقدميين لا يقبل بالقوميين العنصريين، لكنه من ناحية أخرى لا يستطيع أن يرى أفقا أو بارقةَ أمل في حل هذه المشاكل العنصرية والاجتماعية. لم يكن بمقدوردرايفر أن يرى القوى الاجتماعية القادرة على تحطيم العنصرية وحل الأزمة، ولا يثق بقدرة الجماهير الشعبية الواسعة ولا بحركة الثوريين الأفارقة، الذين يعتبرهم إرهابيين عاديين".

وفي الحقيقة أن روايتي درايفر اللتين أشرنا إليهما سابقا لم تقدم لوحة كاملة وموضوعيه للحياة الاجتماعية والوضع السياسي في جنوب إفريقيا.

تصور رواية "مرثاة للثوري" مثلاً مصير مجموعة من الليبراليين البيض وهي تناضل سراً وتنظم بعض العمليات الإرهابية ضد النظام العنصري. وبسبب من حاجة أعضاء هذه المجموعة الإرهابية من الليبراليين البيض إلى خبرة العمل العسكري نراهم يلجأون إلى تنظيمات المؤتمر القومي الأفريقي السرية طلبا للمساعدة، إلا أن قادة المؤتمر يرفضون أساليب الإرهاب الفردية، التي تقوم بها مجموعة البيض فرفضوا التعاون معهم.

تقوم مجموعة الإرهابيين البيض بأعمال إرهابية فردية ويكتب لبعض أعمالها النجاح، مثل عملية نسف خزانات المياه التي أدت إلى قتل أحد الحراس الأفارقة، سيؤثر هذا العمل تأثيرا سلبيا على شخصية الصحفي كفيك، العنصر القيادي في الخط المدني لهذه المجموعة، فيخرج من التنظيم مستقيلاً عن العمل فيه وفق هذه الأساليب، وتبدأ أجهزة الأمن بمراقبة المجموعة وتستطيع القبض على بعض أفرادها.

إن شخصيات درايفر تتعاطف بكل صدق وإخلاص مع الأفارقة وتعبر عن عدم اقتناعها بالعنصرية وقوانينهما وتحاول أن تفرغ طاقتها بعمل ثوري إلا أن اغلبها غير قادر على الخروج من العمل الإرهابي الفردي ولا يمكنه معرفة القوة الاجتماعية التي يجب الاعتماد عليها في العمل السياسي، وغالبا ما تكون أسباب دخول هؤلاء الليبراليين في مثل هذه التنظيمات ذات طابع شخصي.

جيمس جيريم مثلا يمثل إحدى الشخصيات الليبرالية التي دخلت التنظيم بحماس، إلا أنه يخون مباشرة بعد سقوط المجموعة وفشل أعمالها، بل إنه أصبح الشاهد الرئيس في التحقيقات، وشخصية أخرى من شخصيات الرواية مثل ديفيس، الذي أحب فتاة سوداء، فتعرض للمحاكمة بسبب "جرأته" على اقتراف مثل هذا العمل! فيدخل في مجموعة الإرهابيين البيض كرد فعل لممارسة المحاكم العنصرية تجاه مشاعره الإنسانية. أما هانتر فيعتبر دخوله في هذا التنظيم السري تعبيراً عن علاقته بالحركة الديمقراطية الواسعة، إلا أن هذا الموضوع ينحصر في سلوك هذه الشخصية فقط ولا يطرحه الروائي بعمق.

‏بعد عام من نشره رواية "مرثاة للثوري" يصدر دجونتي درايفر روايته الثانية "ابعث الحرب إلينا، يا إلهي" التي تصور مجموعة من الإرهابيين أيضا، إلا أنهم هنا من الأفارقة، وتدور أحداثها في مدينة سان جوزيف سيتلمينت، حيث يقدم إليها الإرهابيون المدربون جيدا إلا أنهم يفشلون في أعمالهم بسبب عزلتهم عن السكان.

وتزداد الهوّة بين الإرهابيين وسكان المدينة، لأنهم لا يفهمون درجة استعداد الناس للكفاح المسلح، ويصور الروائي شخصية ارهابية متطرفة تقترف جرائم عديدة ضد المدنيين البسطاء لعدم انتمائهم للمجموعة الارهابية.

كذلك يصور الروائي درايفر شخصية المعلم المعروف بالقرية باسم يوهانس سمبل، إلا أن اسمه الحقيقي "زاك" وهو شخص نقابي معروف، سبق له أن ُسجن لنضاله ضد العنصرية.

ويكشف أحد أعضاء الفصيل المقاتل شخصية زاك الحقيقية لانه سبق له أن عمل معه في التنظيمات السرية ويستطيع فيما بعد من كسبه للعمل لصالح الفصيل. يوافق المعلم الوطني المخلص على العمل مع فصيل الإرهابيين، إلا أنه لا يتفق مع أفكارهم وأعمالهم الإرهابية، التي لا تعتمد على مساندة سكان المدينة. ورغم عدم اقتناع المعلم يوهانس زاك بأسلوب المغامرة الإرهابية، ووضعه الذي لا يحسد عليه، إلا أنه لا يستطيع أن يبقى مكتوف الأيدي ويتخذ موقفاً حيادياً تجاه نشاطهم، فيقرر المشاركة في عملياتهم العسكرية ويخاطر بحياته في عمل غير مقتنع بنجاحه .

يلاحظ الباحث أن شخصيات هذه الرواية تعاني من اليأس والإحباط والشعور بلا جدوى العمل الذي تقوم به، مثل المعلم الذي يشارك في عملية إرهابية وهو غير مقتنع بفائدتها في النضال ضد العنصرية، والدكتور الأبيض ريدمان، ذلك الرجل المتعب الذي لا يثق برسالة البيض الإنسانية ولا بمستقبل الأفارقة فكل ما يفكر به هو عمله والفتيات الإفريقيات اللاتي شغلن وقته.

كان ريد مان يعرف عاجلا أم اجلا بأنه سيقف أمام السلطات يحاكم اما بسبب علاقته مع الفتيات الملونات أو بسبب تقديم المساعدة الطبية لأحد الإرهابيين الجرحى، ولهذا كله يقرر الانتحار. كذلك تصاب الشخصية النسائية المتدينة ماري إلين بالخيبة والإحباط لعدم اهتمام الناس بأفكارها النصرانية التي تدعو إلى الإخاء والمحبة بين البشر.

في نهاية الرواية يصف الروائي مدينة سان جوزيف وهي تعاني من الوحشية والإهمال مما يؤكد السمة التشاؤمية التي تتميز بها أعمال  درايفر، بل إن عنوان الرواية بحد ذاته يشير إلى حالة اليأس والإحباط بين بعض البيض.

ويتناول الروائي بيتر ويلهلم موضوعَ العلاقات المتبادلة والتعصب القومي عند البور في روايته "الغابة المظلمة" 8 بطريقة تختلف عن الطرق السابقة، التي يستخدمها غيره من روائيي جنوب أفريقيا.

يصور ويلهيلم العنصرية من خلال مفاهيم أعضاء أسرة البرجوازي الأفريقي هندريك فان فلا آمسو وسلوكه، وينتقد الروائي أخلاقيات المجتمع البرجوازي المزيفة في جنوب إفريقيا.

تدور أحداث الرواية في منتصف السبعينات في جوهانسبورغ حيث يوجه الروائي اهتماماً خاصاً إلى وصف حياة عائلة الأفريقي الأبيض من شعب البور، هذا الشعب الذي يعود أصله إلى المستعمرين الهولنديين والالمان والفرنسيين، والذي يقود سياسة الآبارثائيد

يكاد قارىء الرواية لا يلتقي بشخصيات تمثل الأفارقة السود، ومع ذلك فنستطيع أن نقول: إن المشكلة العنصرية تعتبر من أبرز القضايا التي تناولتها الرواية، يوضح الروائي القضية الاصلية من خلال هندريك وولديه ديفد ويان. يتعرف القارئ على حياة هندريك عن طريق زوجته الثانية مادير المتحمسة للأفكار القومية للبور، الذي كان فقيراً، لكن وضعه الاقتصادي يتحسن بعد الحرب.

إن مأكثر ما يشغل بال مادير هو أن يتزوج ابن زوجها من فتاة أوروبية الأصل بيضاء نقية الدم والأصل، وكانت هذه الزوجة تنفق النقود على اجير خاص ليراقب الابن الأصغر، ويكتشف أن الأخير على علاقة بالأفريقية السمراء كريستل، وبهذا يخرق قانون "الأخلاق" ويعرض نفسه للسجن.

يزداد قلق مادير في البداية، إلا أنها تطمئن فيما بعد، حيث تستلم صورة تجمعه والفتاة الأفريقية فيضطر يان إلى إنهاء علاقته مع الأفريقية كريستل، وتعمل على إبعادها إلى أعماق الريف فيما بعد.

لا تغير مادير أفكارها حول السود "كافري"، (هكذا اصطلح على تسميتهم في جنوب إفريقيا) فهم يجب أن يعرفوا مكانهم الخاص بهم، ويجب أن لا يخرجوا منه، إلا عند الضرورة كالعمل لصالح البيض أو عند الحاجة إلى أيدي عاملة رخيصة. ولا تمانع مادير في بعض المرات من تقديم بعض الطعام للأطفال الأفارقة الجياع من ضواحي جوهانسبورغ، وتتحمس مادير كثيراً لجنود جيش جنوب أفريقيا الذين يستعدون للهجوم على موزامبيق وأنغولا، إذ إنها تعلم ان انتصار هاتين الدولتين يعني ضرب مصالح أسرة فان فلا آمس، وتتحول مشاعر السيطرة والقوه والتفكير بالمصلحة الاقتصادية للأسرة إلى الابن الاكبر دَيفيد، الذي يعتبره والده اليد اليمنى والوريث الحقيقي له، وفعلا يتطور ديفيد الابن الأكبر تطوراً سريعاً على مدى بضعة شهور!

رجع ديفيد إلى الوطن بعد إنهاء دراسته في كامبرج، ويجمع رأسمالاً بفضل الاختلاسات والاحتيال، ثم يدرك جيدا بأنه في نهاية المطاف سيكون المالك الحقيقي، ولهذا كان عليه أن يتعلم ويدخل إدارة الأمور المالية والتجارية جيدا. ثم يتحول ديفيد بالتدريج إلى رجل مدافع عن سياسة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا لأنها هي الحل الوحيد الذي ينقذ البلاد من خطر "الانزلاق" إلى طريق أنغولا وموزامبيق، بل إنه كان يدعو للتدخل العسكري في انغولا.

اما الابن الأصغر يان فقد تعب كثيرا من نمط الحياة في بيته الذي تشرف عليه زوجة أبيه، إلا أنه كان ضعيفا لدرجة انه لا يستطيع الاحتجاج ضد سلوك زوجة العنصري، وتظهر في وعي يان أفكار متطرفة غير موضوعية، لم تشكل خطرا كبيرا، فاعتبرتها الزوجة وابن زوجها ديفيد مجرد حالة مزاجية عابرة. ويوضح الروائي أيضا أن "انتفاضة" يان على نمط الحياة في البيت حصلت بسبب ما يتعاطى من الحشيش ومأ ساته العاطفية، ويُضطر فيما بعد إلى الخروج من البيت، وترك الدراسة في الجامعة ويعيش في العزلة بحثاً عنها في قرية بعيدة، ويحاول إقناعها بالهرب من الحدود والعيش هناك بحرية وهناء.

تتسم هذه الرواية بافتقارها إلى وصف الواقع الاجتماعي الواسع، إلا أنها مكتوبة بنبرة انتقادية واضحة بالنسبة للاخلاق البرجوازية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالأفكار العنصرية. وتذكرنا هذه الرواية برواية توماس مان "آل بودن بروك" الألمانية الشهيرة ورواية "الصخب والعنف" للكاتب الأمريكي وليام فوكنر وغيرهما من الروايات التي تصور المجتمع من خلال حياة أسرة واحدة أو عدة عائلات.

وهناك مجموعة أخرى من الأدباء التقدميين الأفارقة، ساهمت مساهمة كبيرة في بناء "أدب الاحتجاج" بناءاً راسخاً، وبدأت في السبعينات بتكوين ادب من طراز جديد، هو "ادب المقاومة" من خلال الأعمال النثرية المكتوبة باللغة الإنجليزية. اعتمدَ كتّاب "أدب المقاومة" على المنهج الانتقادي، وصوروا الواقع الاجتماعي المعاصر في جنوب أفريقيا، متناولين أكثر القضايا الاجتماعية تعقيداً. يُعد موضوع الاحتجاج ضد العنصرية ومقاومتها بمختلف الطرق موضوعاً رئيساً في أعمال أدباء جنوب أفريقيا مثل أليكس لاجوما وكريستيان برنارد، وفي النثر الموزيمبيقي وبالذات في رواية "ابن الأرض" لمؤلفها ولسن كاثيو9.

"ابن الأرض" هو العمل الروائي الأول لِولسن كاثيو وينقسم هذا العمل إلى ثلاثة أجزاء: "البداية"، "مداهمة الزمن"، "الدائرة تنغلق" يأخذ المؤلف بيد القارئ في الجزء الأول "البداية" إلى منطقة جبليه نائيه، يتحدث عن تاريخها الشيخ الجليل سيكورا، الذي رأى بأم عينيه دخول المستعمرين الأوروبيين الاوائل، واستغلالهم للأفارقة في البحث عن الماس.

وهنا يطرح الروائي شخصيتين متناقضتين: هيل الذي تتجسد فيه القسوة والعنف والاستغلال، وميلس الذي يمثل الكنيسة والأفكار الدينية الداعية إلى السلام والإخاء ورفض العنف كوسيلة لحل المشاكل بين الناس، كذلك يتعرف القارئ على زعيم قبلي جوما، المعروف بمقاومته للمستعمرين الأوروبيين، رغم علمه مسبقا بعدم جدوى وقوفه ضد جيش المستعمرين المعد إعدادا كاملاً.

أما الجزء الثاني "مداهمة الزمن" فيتحدث فيه الكاتب عن طفولة البطل الرئيس اليكسيوعن والديه وعن سنوات الدراسة ونضاله السياسي قبل سقوط النظام العنصري في روديسيا، ثم تنتقل أحداث الرواية من قرية اليكسيو إلى العاصمة سالزبوري حيث يدرس البطل في مدارسها.

هنا يصور الكاتب تبلورَ أفكار ألكسيو بفعل الأحداث السياسية والنشاطات الجماهيرية، التي تقوم بها التنظيمات السرية ويلتقي هنا مع ابنة عمه رودو وزوجها تاوي اللذين ينتميان إلى تنظيم سري.

يلاحظ القارئ أن الجزئين الأول والثاني مليئان بوصف تفصيلي للحياة والأحداث بغض النظر عن أهميتها في الرواية، أما الجزء الثالث من الرواية "الدائرة تنغلق" فقد أصدره كاتيو بعد الجزئين الأول والثاني بفترة لا بأس بها، مما يمكن ملاحظته على الأسلوب، فقد تغير تغيراً ملحوظاً.

يتعرف القارىء في "الدائرة تنغلق" على الأحداث التي أدت إلى دخول اليكسيو إلى معسكر المقاومة، كانت أجهزة الأمن تراقب تحركات ألكسيو، وتتحين الفرص لإعتقاله، وتم لها ما أرادت وحاولت أن ترغمه على العمل معها ضد الثوار، إلا أنه يهرب من السجن متجهاً نحو معسكر المقاتلين في الجبال.

هذه هي باختصار قصة دخول اليكسيو إلى معسكر المقاتلين، وتنتهي الرواية بنفس النبرة الثورية، حيث تقرأ عن عملية فدائية بطولية يقوم بها الكسيو مع مجموعة من الثوار ضد أحد مواقع الجيش.

في الجزء الثالث لا يكتفي كاتيوا بسرد الوقائع والأحداث، بل يوجه اهتماما خاصاً إلى مقومات العمل الروائي الفنية مثل الوصف الخارجي والتحليل الداخلي للشخصية الروائية ويستخدم اسلوب الحوار الداخلي في الكشف عن مشاعرها الداخلية ولهذا يبدو تحول ألكسيو هو الثوري وإنخراطه في المقاومة تحولاً منطقياً.

إضافة إلى موضوع العنصرية ومقاومتها الثورية، يُلاحظ القارئ أن هذه الرواية تناولت في الأجزاء الثلاثة موضوعات أخرى، مثل التناقض بين الطبيعة التقليدية الريفية فيأفريقيا والعنصرية الهمجية، وكذلك موضوع التحول السريع في العلاقات الاجتماعية في المدن الكبيرة. ويُعد موضوع المثقفين الأفارقة وانتقالهم إلى المقاومة المسلحة ومساهمتهم في القتال جنبا إلى جنب مع المقاتلين من أجل جمهورية موزمبيق الحرة من أهم موضوعات الرواية.

وهناك كاتب آخر معروف هو ج. مونكوشي، صاحب رواية "في انتظار المطر" 1975 قدم لنا نمطاً آخر يمثل الشباب المتأثر بالحياة الغربية10.

يقدم مونكوشي في روايته "في انتظار المطر" التي يدل عنوانها على مضمونها، شخصية ليو تسيفر العائد إلى الوطن الكبير والقرية الأم بعد الفراق.

تدور أحداث الرواية في روديسيا في فترة الخمسينات والستينات في إحدى القرى الأفريقية، التي تعيش حياة تقليدية بكل معنى الكلمة وتعاني من الجفاف. يصور الروائي معاناة الفلاحين الفقراء من إدارة المستعمرين وممارساتهم اللا إنسانية، كذلك الجوع والقحط بسبب الجفاف، فيضطر الفلاحون إلى ترك أكواخهم والرحيل إلى أماكن أخرى بحثاً عن لقمة العيش. وعندما يرجع بطل الرواية إلى الوطن يصطدم بهذه الحالة فيتجه إلى قريته التي مازالت تنبض فيها الحياة قليلا ويلتقي بافراد عائلته، وبجدّه سيكورو المدافع بلا هوادة عن التقاليد والعادات. ويكاد يكون موضوع الدفاع عن العادات والتقاليد من الموضوعات الرئيسة في الرواية متجسداً في شخصية الشيخ سيكورو وفي القرية كلها.

ومن ناحية أخرى يصور الروائي المدينة الاستعمارية ونمط الحياة فيها، الذي يختلف اختلافاً كبيراً عن القرية، وتؤثر في اقتطاف "متع المدينة". في المدينة تختلف العلاقات الاجتماعية مما هي عليه في القرية، بل حتى الصِلات بين افراد الأسرة الواحدة تعاني من الضعف والتحلل، ويلاحظ القارئ أن الحفيد جارابها يتأثر بهذا الجو الاجتماعي، فيبحث عن "الثروة والمجد" ولا يبالي الى تواصله مع أفراد أسرته وأقربائه. ليو تسيفير هو البطل الرئيسي في الرواية، تلتف حوله شخصيات مختلفة، وهو يمثل الثقافة الأوروبية، التي عرفها سطحياً، لكنه يدعي معرفتها بمستوى جيد، ويدعو لها ويهتم بأفكارها، ولهذا السبب كان يشعر بأنه لا أصل ولا قبيله له، وكان جده سيكورو يقول عنه: إنه فقد الصلة بهذه الأرض. وفي نهاية الرواية يرحل الشاب ليو تسيفير كما لو انه غريب عن قريته، التي ولد وترعرع فيها، لكنه يتركها دون رجعه .

لا نتعرف في هذه الرواية على الواقع الاجتماعي من خلال التصوير العميق الواسع له، بل عبر علاقات عائلية ولا يطلع القارىء على الأوضاع السياسية والاجتماعية كما هو الحال في رواية "ابن الأرض" التي تحدثنا عنها سابقا.

تُعد أعمال لاجوما الروائية من أبرز النتجاات الإبداعية والروائية في السبعينات، من حيث الشكل والمضمون، فأصدر روايته المعروفة "في نهاية موسم الضباب" عام 1972 ثم أصدر روايته الأخرى "وقت النهس" عام 1979 11.

توضح هاتان الروايتان بعد القراءة الأولى التطورَ الفني، الذي حصل عليه لا جوما منذ إصدار روايته الأولى "الترحال في الليل" عام 1962. إن ما يميز أعمال هذا الكاتب الأفريقي هو توظيف الفن في النضال ضد العنصرية وممارساتها القمعية، ونستطيع أن نقول وبدون مبالغه إن كل أعمال لاجوما الإبداعية صورت الواقع الاجتماعي في جنوب أفريقيا ونضال الثوار فيها ضد السلطات العنصرية والمقاومة العسكرية لها.

يلاحظ الباحث أوجه الشبه الكثيرة بين شخصية بيكس البطل الرئيس في رواية "في نهاية موسم الضباب"، وجورج آدمس بطل قصة "الدولة الحجرية" المنشورة عام 1967 من قبل لاجوما نفسه.

كلتا الشخصيتين تخوضان النضال السياسي ضد العنصرية، إلا أن القارئ يتعرف على بيكس من خلال وصف الكاتب للعمل السري، بينما نرى أن جورج آدمس بطل "الدولة الحجرية" لا يوصف من خلال تحركاته السرية. يمثل بيكس نموذجا حيا للمناضل الثوري، ويتمثل فيه الوعي السياسي المتكامل، فهو ينظر إلى الآخرين نظرة إنسانية وموضوعيه فنراه لا يحاسب الآخرين على خوفهم من الأجهزة القمعية ويعلم أن بعض رفاقه يتلكئون في توزيع المنشورات خوفا من أجهزة الأمن إلا أنه لا يحقد عليهم إطلاقا .

يصور الروائي لاجوما شخصية بيكس من خلال النشاطات السياسية وأعماله الكبيرة ويقيمه على لسان إلياس رئيس المنظمة السرية التي يعمل فيها بيكس، وهنا تظهر أهمية شخصية إلياس باعتبارها تكمل شخصية بيكس، فمن خلال التحولات في حياته يتعرف القائد على تطور الوعي عند الأفارقة وانخراطهم في النضال السياسي. إلياس وبيكس ينحدران من الطبقات العمالية الفقيرة، ولهذا فإن الروائي لا يكتفي بتصوير وعيهما السياسي المعادي للعنصرية فحسب، بل يوضح موقفهما من الطبقات الغنية وشعورهما بالاضطهاد الطبقي إضافة إلى التمييز العنصري.

ولا بدّ من الإشارة في نهاية حديثنا عن لاجوما إلى أنه يُعد أحدَ أبرز الكتّاب الأفارقة المعروفين على مستوى القارة والعالم بتوظيفه الأدب الإبداعي لخدمة الثورة ضد العنصرية، فكونت أعماله الإبداعية، جنبا إلى جنب مع روايات الأدباء الآخرين أدب المقاومة الذي لعب دورا كبيرا في النضال ضد العنصرية وممارساتها الفاشية، واستمر مع لاجوما في نفس هذا المنحى فاضحاً النظام العنصري في رواية أخرى "زمن الناس"، ولا نجد الضرورة للحديث عنها في هذا المقال إذ إن مضمونها يؤكد نفس الأفكار التي دعا لها الكاتب منذ نعومة أظفاره حتى وفاته.

من المؤسف حقا أن أدباً أصيلا وتقدميا في جنوب أفريقيا لم يجد اهتماما خاصا في النقد العربي المعاصر، علماً أن النقاد الأوربيين كتبوا عنه وأولوا اهتماماً خاصاً له.

وتكاد المكتبة العربية تفتقر إلى الدراسات النقدية والتاريخية عن الأدب الأفريقي باستثناء بعض المقالات والكتب المترجمة.

ومن المؤسف أيضا أننا لم نجد مصادر باللغة العربية عن موضوع بحثنا المتواضع، الذي نقدمه بين أيدي القراء عسى أن يساهم في التعريف بالأدب الثوري في جنوب أفريقيا.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

.....................................

المصادر:

* هذه المادة إعداد وترجمة بتصرف لمقالات فقدنا عناوينها.

1- La Guma A. South African Literature under apartheid, Lotus, 1975 no. 1

2- English in Africa, 1979, September, vol. 2 no 6

نفس المصدر السابق 16 - 3

4- Feinberg B. Poetry and National Liberation in South Africa. Lotus, 1974, no 4

5- المصدر السابق نفسه

6- Scholefield A.: The Young Masters, Lotus, 1971

7- Driver C. J.: Send war in our time, O Lord, Lotus, 1970

Driver C. J. Elogy for Revolution, Lotus, 1969

8- Wilhelm P. The Dark Wood. Johannesburg, 1977

9- Katiyo W.: A son of the soil, 1976

10- Mungoshi, Ch: Waiting for the Rain. Lotus, 1975

11- La Guma A.: In the Fog of The Seas`s End. 1972, Time of the Butcherbird, Lotus, 1979

طالما كانت الساحة الأدبية مليئة بالتجاذبات بين النقاد والكتّاب، حيث يطرح النقاد رؤى وتقييمات تهدف إلى إلقاء الضوء على الإبداعات الأدبية وتحليل مضامينها. في هذا السياق، كنت وما زلت أؤمن أنّ النقد يميل أغلبه إلى الذاتية بعيدًا عن التحليل المنهجي المحايد. ومع قراءتي المتواضعة لما يعج به المشهد الأدبي من آراء نقدية، يتضح أنّ العلاقات بين الأفراد تلعب دورًا بارزًا في تشكيل مسار النقد، مما يجعله يتأرجح بين الإيجابية والسلبية وفقًا لطبيعة تلك العلاقات. 

هذا الاتجاه الذاتي في النقد يمكن أن يؤدي إلى تراجع النقد المنهجي الحقيقي، الذي يعتمد على أسس علمية وتحليلية تهدف إلى تقديم قراءة شاملة للنص الأدبي. لكنّ الواقع يظهر أنّ مثل هذا النوع من النقد غالبًا ما يطغى عليه النقد النمطي الدعائي، الذي يخدم أهدافًا تسويقية بحتة، ويهدف إلى جذب القراء لشراء الكتب، بغضّ النظر عن جودتها الأدبية. هنا يصبح النقد جزءًا من اللعبة التجارية، حيث يسعى الناقد إلى الترويج للكاتب أو العمل، مما يحول العملية النقدية إلى أداة تسويقية تهدف إلى زيادة المبيعات ودعم شعبية المؤلف.

من ناحية أخرى، للنقد تأثير نفسي عميق على الكاتب، خاصة إذا كان النقد موجهًا بشكل سلبي أو غير عادل. يمكن أن يتسبب النقد القاسي في زعزعة ثقة الكاتب بنفسه، ما قد يؤدي إلى تراجع إبداعه أو تجنبه لتقديم أفكاره بجرأة. ولكن، لا بُدّ أن يُنظر إلى النقد كجزء من رحلة التعلم والتطور، حيث يمكن للكاتب الاستفادة من ملاحظات النقاد لتحسين قدراته وصقل أسلوبه. هنا يظهر دور ما أسميه "الضبط الداخلي" الذي يجب أن يتسلح به الكاتب، وهو القدرة على التمييز بين النقد البنّاء الذي يمكن أن يسهم في تطويره، وبين النقد الذي لا يقدّم سوى رأي شخصي دون قيمة إضافية.

الضبط الداخلي هو القدرة على إيجاد مسافة متوازنة بين الوهم والحقيقة، بين ما يقوله النقاد وما يشعر به الكاتب تجاه عمله. فبينما يرى الناقد في النص ما لا يراه الكاتب، فإنّ الكاتب يمتلك الرؤية الأعمق لرسالته وأهدافه من العمل الأدبي. ولهذا، فإنّ قدرة الكاتب على التعامل مع النقد، سواء كان إيجابيًا أم سلبيًا، هي ما يحدّد مدى استمراريته في الساحة الأدبية.

لا يمكن إنكار أنّ النجاح في المجال الأدبي يأتي مع تحدّيات وضغوط نفسية كبيرة. فإلى جانب التعامل مع النقد، يواجه الكاتب أيضًا ضريبة النجاح التي قد تتمثل في الضغط المستمر لتقديم أعمال جديدة تلبّي تطلّعات جمهوره. هذه الضغوط قد تؤدي ببعض الكتّاب إلى ما يشبه الانهيار النفسي، خاصة عندما يجدون أنفسهم محاصرين بين التوقعات المتزايدة من جمهورهم ورغبتهم في الحفاظ على هويتهم الأدبية.

تاريخ الأدب مليء بأمثلة لكتّاب مشهورين تأثروا نفسيًا بسبب الضغط الذي وضعوه على أنفسهم، ومنهم الكاتب الياباني ياسوناري كواباتا، الذي انتحر في عام 1972، وكذلك الكاتب الأمريكي إرنست هيمنغواي، الذي انتحر في عام 1961. على الرغم من اختلاف الظروف بينهما، فإنّ العامل المشترك بينهما كان تأثير الضغوط النفسية المرتبطة بشهرتهم ونجاحهم. هؤلاء الكتّاب، رغم إبداعهم وتأثيرهم العميق في عالم الأدب، عانوا من مواجهة الذات في ظلّ التوقعات والضغوط النفسية الكبيرة.

هذه الأمثلة تسلّط الضوء على أهمية الوعي النفسي لدى الكاتب المبتدئ والمحترف على حدٍّ سواء. فالتعامل مع النقد والنميمة والشائعات التي قد تحيط به يحتاج إلى صلابة داخلية. وهنا يظهر دور النقد البنّاء الذي يساعد الكاتب على فهم نقاط القوة والضعف في أعماله، دون أن يُغرق في دوامة الشكوك حول قدراته.

رغم الانتقادات الموجهة للنقد الأدبي، إلا أنه يبقى أداة ضرورية لفهم النصوص الأدبية وتقديمها للجمهور. النقد البنّاء يساعد على إضفاء عمق أكبر على الأعمال الأدبية، ويفتح آفاقًا جديدة للفهم. يمكن أن يكون النقد وسيلة لتشجيع القراء على النظر إلى الأعمال الأدبية من زوايا جديدة، وهو ما يعزّز من الوعي الثقافي ويثري النقاش حول الأدب.

لكن، على الناقد أن يتجنّب الوقوع في فخ الذاتية المفرطة، وأن يسعى لإيجاد توازن بين رؤيته الشخصية والمعايير النقدية المعروفة. فالنقد الذي يعتمد على منهجية واضحة وتوازن بين الذاتية والموضوعية يمكن أن يقدّم قيمة حقيقية للعمل الأدبي، ويساعد في تقدير النصوص بناءً على معايير أدبية متينة.

***

فؤاد الجشي

دِراسةٌ نَقديَّةٌ لِمُدوَّنةِ إبراهيم سَبتي الرِّوائيَّة (ضِحكةُ مُوزارتَ)

عَتباتُ النَّصِ: لَوحةُ الغِلافِ الأُولى

تشترك العتبة العنوانية الأولى للرواية مع وجه الغلاف الأوَّل بلوحةٍ صوريَّةٍ مرئيةٍ فنيِّةٍ أو رمزيَّةٍ تُسمَّى بلوحة الغلاف الأولى للكتاب شعراً أكان جنسه الأدبي أم نثراً سرديَّاً أو قصصياً، وتعدُّ واحدةً من بين أهمِّ العتبات النصيَّة التي اجترحها الناقد جيرار جينيت في عتباته النصيَّة، وأكدها لأهميتها الفنيَّة والموضوعيَّة في بيان صورة العمل الموازي للنصِّ الأدبي.

فحين تقتني رواية(ضحكةُ موزارتَ)، للكاتب العراقيّ القاصِ والروائيّ المثابر إبراهيم سبتي، والصادرة بطبعتها الأولى عام 2023م عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع في بابل- الحلة، ومن فئة القطع  المتوسِّط، وبحجمٍ نوعيٍّ وكميِّ عدديٍّ ورقي بلغ نحو(181) صفحةً، حتماً ستقعُ نظرات عينيك الثاقبة لأوِّل وهلةٍ على غلاف لوحتها الأولى أو صورتها الكليَّة الحمراء اللَّون التي تُنذر بكمية التشاؤم اللَّوني والخوف الُمُدمِي، وعدم الاستقرار النفسي الناجم عن وقع هيأتها.

وسيلفت نظرك جليَّاً وجود صورة تلك القبعة أو الطاقية السوداء البارزة الظهور من غير رأس إنسان يعتمرها، والتي تظهر في هرم الصفحة الأولى العُلوي، فضلاً عن صورة تلك البدلة الرجالية السوداء المنفصلة عن القبعة في أسفل الصفحة ذاتها. والتي ترمز موحياتها الدلالية إلى شخصٍ ما بعينه دون غيره ستتضح معالم هُويته وصورته الكليَّة بانتهاء سرديَّات أحداث الرواية.

ولكن الذي يجعلك أنْ تقف مُندهشاً ومتأمِّلاً فكرتها هو رمزية هذه الصورة التي تمثِّل العَلاقة الخطيَّة الأولى المباشرة أو غير المباشرة بين صورة لوحة الغلاف الأولى وعنوان عتبتها الرئيسة (ضحكةُ مُوزارت)، فتبحث عن المعادل الصوري الموضوعي الجامع بينهما، تلك هي الصورة الأيقونية السيميائية لثنائية شخصيَّة بطل الرواية(فؤاد)، والرمز الفنِّي الموسيقي العالمي موزارت.

أمَّا التَّظهير الصوري الآخر للكتاب أو ما يُسمَّى عُرفيَّاً بلوحة الغلاف الثانية ذات اللَّون الزهري أو الأزوردي الفاتح الدال على الأمل في المأمول بعد تجربة الألم، ففد اكتفى فيه التصوير بمجموعةٍ رباعيَّةٍ من جمع القبعات، أو ما يُسمَّى فنيَّاً بـ(طاقيَّات الإخفاءِ) المتداخلة أجزاؤها في ما بينها. فضلاً عن نصٍّ سرديِّ مُقتطع للراوي العليم(الكاتب) يتحدَّث فيه عن أساليب وطُرق المهرِّبين المحتالين لمن يروم الهجرة الشخصيَّة إلى دول أوربا خارج وطنه الأصلي العراق.

وذلك باعتبار أنَّ الرواية بُنيت فكرتها أو أكثر أحداثها السردية عن موضوع الهجرة والمغامرة السرابية الغرائبية في البحث عن الشيء المجهول، والَّتي قام بها بطل الرِّواية المدعو فؤاد من أجل إيجاد ضالته الذاتية في إثبات شخصيه القوية تُجاه مناوئيه وتَحديداً بشخصية المدعو علوان الَّذي يمّثِّل رمز الشرِّ ومصدره القمعي الموازي لشخصية فؤاد البطل المقموع الباحث عن منتجٍ ما.

عَتبةُ الرِّوايةِ العِنوانيَّةِ

(ضحكةُ موزات)، هي اللَّافتة العنوانية الرئيسة للمدوَّنة الروائية؛ كونها تمثِّل من الناحية الوظيفيَّة هُوية أوسِمة الدخول التعريفية، والهالة الضوئية اللَّافتة اسماً ورمزاً ودلالةً ومعنىً للنصِّ الموازي أو(المَتن) الحكائي، والتي تعدّ بوابة الدخول الخارجية الأولى إلى عالم الخير ليوتوبيا مدينة السرد المثالية الفاضلة، وهي أيضاً تُشير إلى واقع راهن صراع الشرِّ المِخيالي المرير وسلطة قمع فشله الجمعي الطوباوي القَصِي البعيد مع ديستوبيا الواقع الرفضي الحجاجي اليومي المرير للمواجهة مع الآخر.

فمن هذا المنطلق الدلالي الرمزي الكبير أكَّد الناقد الفرنسي جيرار جينيت أهمية العتبة العنوانية وأثرها المعنوي في تجسيد صورة العمل السردي الروائي، والكشف عن رؤى عوالمه االخفيَّة البعيدة المُضمرة الأخرى من خلال تفكيك شفراته اللُّغوية والدلالية الموحية الرامزة.فمن يتطلَّع لأول وهلةٍ روايةَ(ضحكةُ موزارتَ)، سيلفتُ نظره الفاحص بقوةٍ نظم تركيبها العنواني اللُّغوي السردي الجُملي الثنائي المتكوِّن من دالتينِ لُغويتين اسميتينِ.

الأولى الدالةُ الاسمية على معناها اللُّغوي الدلالي القريب الواضح البيان هي (ضحكةُ) الإنسان. وهي النكرة الاسمية الدالة لفظياً على مسمَّى غير معيَّن أو محدِّدٍ بما؛ ولكنَّها عندما أُضيفتْ تركيبياً إلى اسم علمٍ شخصي بعدها اكتسبت الصفة المعرفية الإضافية منه بالدلالة على إنسان معيَّنٍ ما، وهو اسم هُوية(مُوزارت) الفنَّان النمساوي.

أمَّا الدالة الاسمية الثانية لهذا التركيب العنواني القصير، فهي(موزارتُ)، اسم العلم الدالة على طابع هُويته الاسمية العالمية الموسيقية المحدَّدة وجودياً. فأصبح التركيب الصوري اللُّغوي والجُمَلي لعتبة المدونة الروائية(ضحكةُ مُوزارتَ)الدالة على هُوية موزارت الفنيَّة العالميَّة وضحكته الرمزية السيمائيَّة المعروفة.

ولكنَّ السؤال المُثير والمُهمَّ الذي لا بدَّ منه في مقام قراءة هذه الرواية وتتبُّعها فكريَّاً بدأً من مرفأِ عتبة عنوانها وانتهاءً بخاتمة أحداثها، والذي يمكن أنْ نطرحه آنياً، ما العَلاقة الخطيِّة الأولى الجامعة بين عنونة الرُّواية(ضحكةُ موزارت)، وبين مضمون ومحتوى سرديات الرواية للواقعة الحدثية الزمكانية؟ وهل هي عَلاقةٌ خطيَّة واقعيَّة سحريَّة قريبة أمْ رمزيَّةٌ تأمليَّةٌ فكريَّةٌ بَعيدةٌ؟ فمثل هذا التشاكل التعالقي الإشكالي المعنوي لفلسفة العتبة الروائية هو ما نَهمُّ بكل تأكيدٍ من خلال دراستنا النقدية التتابعية التكاملية بالكشف عنهُ وعن موحياته النسقية والبحث عن حمولاته الداخلية والخارجية.

إنَّ المعنى الدلالي القريب بين طرفي العنونة لا يَشي بعلاقةٍ واقعيةٍ بصريةٍ مرئيةٍ  مُباشرةٍ، ولا حتَّى تقريرية خطابية واضحة تدلُّ على الوحدنة والالتحام الفكري بين المعنيين القريبين، بل على العكس من ذلكَ أنَّها تُبعد المسافة بينهما وتشتت الفكر إلى مقاصد وتوقعاتٍ وتخميناتٍ لا تُفضي إلى نقطةٍ جوهريةٍ معيَّنةٍ يُستدَل بها على الطرفين المتماهيين رمزياً وإيحائياً وفنيَّاً وجماليَّاً في التعالق النصِّي بين العملين الروائي والفنِّي.

أمَّا المعنى الدلالي البعيد، فإنَّ جُلَّ موحياته الرمزية والسيمائيَّة المَفصليَّة بين الاثنين هي التي تدلِّلُ على نسقية ذلك السياق الفكري العنواني البعيد، ومن تلك القصدية في التسمية العنوانية لعتبة المُدوَّنة الروائية الشاخصة وظيفياً وإعلانياً. فعندما نغور بعمقٍ في بواطن النصِّ السردي ونشتبك فكريَّاً مع دلالة بنيته النصيَّة الداخليَّة، نصلُ معرفياً إلى نقطة الحقيقة الجوهرية الجامعةبين نصِّ العنونة ومضامين أحداث الرواية الجمعية.

والمشغل الحِفري النقدي لواقعة الأمر يتطلَّب مِنَّا نسقياً وسياقياً اللُّجوء ضمنيَّاً إلى ما أشار إليه كاتب أو مؤلِّف الرواية، أو الرَّاوي العليم إبراهيم سبتي بالرجوع سرديَّاً إلى فكرة أحداث الفيلم الأجنبي المأخوذ عن روايةٍ للكاتب الانكليزي(بيتر شافير)، والذي يحكي فيه مشاهد عن سيرة الموسيقار العبقري العالمي النمساوي المبدع الكبير(ولفغانغ أماديوس موزارت)، ويترجم فنياً ودراميَّاً لقصة حياته القصيرة جداً، والتي لا تتجاوز الخامسة والثلاثين عاماً من الإبداع الفنِّي، بداً من ولادته حتّى وفاته(1756- 1791م).

ويستعرض فيه قصَّة نظيره وعدوه الآخر المؤلِّف الموسيقي الإيطالي الشهير(أنطونيو سالييري). والمعروف عنه فنيَّاً بموسيقي البلاط الملكي وصاحب الحظوة الفنيَّة القريبة الشاخصة والمكانة الشخصية العالية في البلاد عند الملوك إبانَّ النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، والتي تُشير توجُّهاته النسقية الخفيَّة المضمرة لموزارت إلى أنَّه:

"أولُ مَنْ حَاربَهُ وَغَارَ مِنهُ؛ لِأنَّ مُوسيقاهُ أخذتْ تَتلاشَى وَتُنسَى وَصَارتْ مِنَ المَاضِي. وَمُوسيقَى مُوزارتَ خَالدةً بًاقيةً رَغمَ صُغرِ سِنِّهِ. قَدَّم سَالييري أبغضَ مِثالٍ عَلَى المُبدعِ الَّذي يَغارُ غَيرةً عَمياءَ مِنْ صَاحبِهِ، أَيُعقلُ هَذَا أنَّنِي فِي سَالزبورغَ؟ أكادُ أسمعُ ضِحكةَ مُوزارتِ المُضطربةِ والمُتوترةِ فِي الفِيلمِ، والَّتي جَعلَ مِنهَا المُخرجُ مِفتاحَاً لِشخصيَّةِ بَطلهِ غَيرِ الاِعتياديَّةِ. إنَّها لَحظةٌ لَا تَتكرَّرُ فِي هَذَا الزَّمانِ. مَنْ يَدرِي رُبَّما لَا يُصدِّقنِي مَنْ أخبرَهُ بِذلكَ؛ لأنْ الحكايةَ لَا تَحدُثُ إلَّا فِي الأحلامِ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 130).

ونفهم من ملخص قصة هذا الفيلم الدلالية والرمزية(ضحكة موزارت) غير الطبيعية اللَّافتة التي لا يمكن أن تصدق واقعياً إلَّا في الأحلام كما يشير الكاتب، والتي حوَّلها مخرج الفيلم إلى علامةٍ أيقونيثةٍ فنيَّةٍ ودلالةٍ سيمائية رمزية. ثمِّ صارت إثر ذلك مفتاحاً شخصياً مهمَّا من مفاتيح المعرفة لبطل فيلمه غير المألوف.

فما بين شخصية بطل الفيلم الموزارتي وشخصية بطل الرواية الديستوبية الثائر ضد الظلم والقمع والاستبداد(فؤاد)،هو صفة التماهي الرمزي المُوحدن بين خطِّ الشخصيتين اللَّتين عانتا كثيراً في مسار حياتهما العملية من خلال هذه الرحلة الفنية عبر الزمان والمكان إلى الوجود؛ لتنفرجَ بعدها شدَّة الواقعة نحو الأفضل رغم قساوة الأمر ومشقته.

فمن خلال هذه الضحكة الانفراجية (الموزارتية والفؤاديَّة) الجامعة بين دلالة الرمزين الموسيقي الفنِّي والرُّوائي السردي، والتي بها تكتمل مهمَّة فؤاد بطل الرواية الغالب وتنتهي بهدوءٍ ويُسرٍ وبساطةٍ بعد ذلك العناء والشقاء والنَّصَبِ الذي لاقاه في البحث عن ضالته في رحلته السرابية البعيدة خارج الوطن وعبر بحار الخطر الزمكانية من أجل الحصول على طاقية الإخفاء التي يحلم بها للقضاء على صنوه الآخر علوان وهزيمته.

فعلوانُ واتباعه الآخرون ممن كانوا ينظرون إليه نظرةَ ازدراءٍ دونيةً جعلت منه بطلاً ارتكاسياً نكوصياً متشائماً يبحث عمَّا في داخله من طُرق الخلاص منهم، حتَّى  وإن كلَّفه ذلك الأمر الجلل حياته الشخصيَّة؛لكنَّ الأمل بالانتصار عليه كان حليفه الأخر.

ولمَّا سمع فؤاد بخبر موت نظيره ومبغضه الأول علوان، كان وقع موت علوان في نفسه الهائمة وانتصاره النهائي عليه بعد أن لاقى أشدَّ الهزائم المرَّة منه أشبهَ بضحكة موزارت التاريخية التي انتصر فيها بطل الفيلم على حاسده ومبغضه الموسيقار انطونيو سالييري . فالألمُ والأملُ هما ثنائية المعادل  الموضوعي الرابط بين فؤاد وموزارت في ضحكته المتوترة التي  كانت تمثِّل علامة الفوز أو الانتصار الكبير على عدو الإبداع:

"مَاتَ عَلوانُ وَاختفَى مِنْ حَياتِي...إنَّهُ كَلامٌ خَطيرٌ. اِرتحتُ كَثيراً وَاِنتعشتُ وَزَادنِي الخَبرُ الصَاعقُ بِالثِّقةِ المَفقودةِ مُنذُ زَمنٍ. وَشَعرتُ بِنشوةِ الفَوزِ فِي المَعركةِ، وَلَمْ أَعُدْ أحتاجُ  إلَى القُبعةِ وَلَا حَتَّى البقاءُ هُنَا..." (ضِحكةُ موزارتَ، ص 169).

إذا كان بطل الفيلم الموزارتي قد ضحك في نهاية المطاف ضحكةً غيرَ مَعهودةٍ مَيِّزته فنيَّاً عن باقي وقع الضحكات الاعتيادية، فإنَّ البطل الروائي فؤاد قد ضحك في الأخير هذه المرة على نفسه من هول شدِّة صاعقة خبر موت عدوه علوان على الرغم مما عاناه  كثيراً في سفر رحلته السيرية التي كانت غرائبياً مُجردَ سرابٍ لا أساس له من الحُلم  سعى إليه كثيراً في الحصول على الطاقية.

أُسلوبيَّةُ الكاتبِ السَّرديَّةُ

ما بين مفهوم السردية الغرائبية القادرة على إنتاج الواقع الحدثي السردي في أكثر من نمط أو إطار أسلوبي إبداعي دون الالتزام بنمطٍ رتائبي مُعيَّن ما، طالما أن قوانين الواقع الحدثي الطبيعي تبقى سليمةً مُعافاةً دون تجاوز عليها، كما يذهب لذلك الرأي تودوروف. وما بين مفهوم العجائبية في السرد التي يُقدِّمُ لها تودورف أيضاً تعريفاً دقيقاً في عملية التردُّد الكتابي الإبداعي الذي يستشعره الكائن الإنساني الذي لا يعرف غير قوانين الطبيعة الكونية، وقد يواجه بحسب الظاهر له أو يجد نفسه أمام حدثٍ غيرِ طبيعي أو اعتيادي مألوف. أي يجد نفسه أمام ظاهرةٍ غريبةٍ لا بدّ من تفسيرها من خلال المُسبِّبات الطبيعية أو المُسبِّبات فوق الطبيعية، والتردُّد بينها هو الأثر العجائبي.

فما بين مفهومي الغرائبية والعجائبية يقف الأدب المخيالي الفنتازي السوداوي ماثلاً بوجوده الخطابي ذلك الأدب الذي سعى إليه الكاتب والروائي إبراهيم سبتي في مدونته الروائية (ضحكةُ موزارتَ).هذا الأدب الذي لا يخلو من شآبيب تمظهرات الواقع اليومي المألوف، والذي هو خليط منه ومن الخيال الأسطوري الخصب للكاتب. حتَّى تراه يقف في خطابه السرديِّ بمنطقة وسطى أكثر خطراً تجمع المفهومين معاً بطريقة فنيِّة تجذب القارئ إليها وتُسحِرُعقلَهُ بفرادتها في التواصل مع النصِّ الإبداعي عبر آليات الكتابة السردية الحداثوية في الميتا سرد الحداثوي وما بعده حداثياً.

لقد حاول إبراهيم سبتي كثيراً بأُسلوبه الوسطي السوداوي هذا عبر نافذة الأدب الفنتازي المحبَّب لنفس القارئ البحث جديَّاً لشخصية بطله الارتاكسي المأزوم والمقموع بعقدة مازوشيةٍ من التسلُّط والنكوص والتهميش وفق كَمٍ كبيرٍ من ضلالات الفشل والخيبة. وأوجدَ له طرق الحُريَّة الوعرة كصخرة سيزيف من أجل العيش بكرامة واستقلال بعيداً عن كلِّ أشكال الحقد والعداوة والبغضاء التي انتهت بالظفر والانتصار الذي انتظره البطل في رحلته الشاقَّة بعد أنْ مرَّ بمدن وبلدانٍ كثيرةٍ مثل، (تركيا وصربيا ومقدونيا والمَجَر والنمسا وصولاً لألمانيا)،تلك المحطَّة الأخيرة من هذه الرحلة الزمكانية.

كلُّ هذا الذي لقيهُ فؤاد الإنسان المهمَّش المهزوز، ومَرَّ به في حِلِّه وارتحاله التاريخي يمضي قُدُمَاً في جهةٍ الهجرة الطوعية الهادفة لمقصديات خاصَّة، ومروره الأثير بمدينة الفنَّان موزارت (سالزبورغ) يعدُّ نسقاً ثقافياً بمنتهى الفرح والسعادة الغامرة للنفس وهو يمرُّ مسافراً عبر مسارات الطرق العابرة بالقرب من بيت هذا الموسيقار العبقري الذي ألَّف أكثر من سبعمائة قطعةٍ موسيقيةٍ:

"مُبدعٌ  نَالَ الإِعجابَ وَهَوَ يَقودُ أولَ أُوركسترَا فِي حَياتهِ وكَانَ فِي السَّابعةِ مِنَ العُمرِ. يَا إلهِي أَيعقَلُ أنَّي أَمُرُّ بِالقربِ مِنْ بَيتهِ؟ وَطَبعَاً لَا يَمكنُ أنْ أنسَى فِيلمَ(أماديُوس) الَّذي أخرجَهُ مِيلوشُ فُورمَان وفَازَ بِثمانِي جَوائزِ أُوسكارٍ فِي عَامِ 1948 مِنْ أصلِ أَربعينَ جَائزةُ أُخرَى فَازَ بِهَا" (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 129).ومثل هذا الانطباع الثقافي الفنِّي لإرث موزارت وسيرته الفنيَّة الخالدة يُضفي على أسلوب الكاتب سبتي متعةً تفوقُ مُتعتهُ وهو يُؤرخنُ عبرَ الزمن لرحلة بطله المأزوم السرديَّة.

فكم كان شعور فؤاد البطل المقموع طافحاً بالأمل عند وصوله لمدينة سالزبورغ التي وصفها، "بِأَنَّهَا قِطعةٌ مِنْ الخَيالِ الَّتي تُحيطهَا جِبَالُ الألبِ وَسِلسلةُ البُحيراتِ المُدهشَةِ الَّتي مَنحتَ المَكانَ  سِحرَاً لا يُوصفُ." (ضحكة موزارت، ص 129، 130).

فهذه المراوحة الوصفية الأسلوبية التي استحضرها الكاتب أو الراوي عن متعلقَّات الحدث السردي الأخرى وإنْ كانت ثانوية تعطي القارئ أو المتلقِّي فسحةً نفسيةً من الراحة الثقافية والمعرفية الماتعة، وهي دليل على سعة المِساحة الثقافية للمؤِلَّف.

عبر معطيات هذه الأسلوبية الدراميَّة القصصية الواثبة الأثر البنائي لفاعلية الفكرة السرديَّة  يتجسَّد المعنى الدلالي البعيد لمدونته السردية(ضِحكةُ مُوزارتَ) التي طاف بها الكاتب بمدنٍ عديدةٍ وجالَ ببلدانٍ أوربيةٍ شرقيةٍ وغربيةٍ نائيةٍ بعيدةٍ كي يُعيد الثقة والثبات لبطله المقهور قمعياً، ويحقِّق له إرادته الذاتية المستلبة بدلاً من ذلك الاهتزاز الذي خيمَ على سجل حياته الدنيوية المتهالكة.

فهذه العنونة التصريحية المُكتنزة بوظائفها المتعدِّدة قد جمعت بين سيميائية الرمز الموسيقي موزارت وضحكته الفرائدية الغرائبية غير المكشوفة،والتي أسقط الكاتب فيها أثر وقائعها التاريخية والفنيَّة بهذه الترددات الحدثية المتصاعدة الصراع على سيرة شخصية بطله المهموم حياتياً من أجل تحقيق ما عزم النية عليه في هذا السَّفر العاتي الذي لاقى فيه أمرَّ ما لاقاه من مخاطر وأهوال عصية تهزُّ مشاعر الوجدان وتوقظ صحوة الضمير النائم لتحيا راية العدل والإنصاف الإنساني.

فما بين رحلة البطل الروائي فؤاد الوهمية، وضحكة موزارت الإيحائية، هو تحقيق للذات الحلمية وإثبات لوجود الشخصية التي صيرها الكاتب المؤلف مفتاحاً رئيساً في توجيه مسارات روايته التي جاءت أفكارها الفنتازية جامعة ما بينها وبين راهن الواقعية المعيشية وعقابيلها اليومية المألوفة في هذا الأسلوب الجمعي المثير للنظر، وإلَّا ما علاقة(ضحكة موزارت) بأحداث  الرواية؟

ويبدو أنَّ سعة الثقافة المعرفية السردية المُكتنزة لأُسلوبية لكاتب أو المؤلِّف، واتِّقاد موهبته الفنيَّة الألمعية الفذة هي التي وهبته شحنة هذا الخيط الرفيع الموصل من التواصل الفكري والرمزي في التناصِّ الموضوعي مع شخصية موزارت العالمية الفنيَّة لتكون لافتةً عنوانيةً لسرديات الرِّواية.

بدليل أنَّ مفهوم الضحكة الغرائبية المتفرِّدة التي أطلقها بطل فليم موزارت العالمي والتي تَمُتُ إليهِ بصلةٍ كبيرةٍ جدَّاً هي في الحقيقة كما تُشير الشبكة المعلوماتية العنكبوتية ليوكيبيديا مأخوذة من "إشارات في رسائل كُتِبَت عنه من قبل امرأتين قابلتاهُ" في حياته. والتي تصفُ صوت هذه الضحكة بأنه يضحك بشكلٍ (معدني)، أي بطريقة ما قد تُشبه صوت المعدن حينما يخدش الزجاج، فينطلق منه صوت شبيه بهذه الضحكة الموزارتية التي أضحت علامة أيقونية أو ماركة باسمه.

وفي واقع الأمر الحدثي أنَّ فؤاداً الذي هو شخصية الرواية الأولى البطولية، هو رجل عراقي جنوبيّ سومريّ كأيِّ إنسانٍ يرغب العيش بأمن ومحبَّةٍ وسلامٍ واستقرار دون أنْ يضمرَ إيذاءً للآخرين في عالمه المحيطي الكوني الإنساني، في حين أنَّ فولفغانغ أماديوس موزارت الذي ولد بالنمسا في السَّابع والعشرين من يناير عام 1756م، وتوفي بداء الحُمَّى في الخامس من ديسمبر عام 1791م، وهو في عزِّ شبابه وتوقده الفنِّي الكبير، ويعدُّ من أشهر العباقرة الموسيقيين عالمياً.

وعلم الرغم من عمره الزمني القصير وحياته المهنية العابرة للزمن من حيث عطائه الفنِّي الكبير فقد تمكن موزارت من تأليف ستمائة وست وعشرين قطعةً موسيقية ولحنٍ فني جبَّار. ومنٍ أشهر أعماله أو مؤلفاته اللَّحنية(الناي السحري)، و(وجوبتير)، وأعمال كثيرة أُخرى وسمت فنِّه.

ويبدو من خلال أسلوبية الكاتب السردية المعمقة نسقياً، أنَّ ثيمة هذا التعالق الفكري الحميمي الأيقوني بين الرمزين المتناظرين البطل الروائي العرافي فؤاد المُهمَّش سلبياً، والمؤلف الأجنبي النمساوي موزارت المحسود إيجابياً كانت سبباً ثقافياً وفنيَّاً مُهمَّاً وناجعاً لمشروع كتابة هذه الرواية بخطى وئيدة وفق معطيات هذا الأسلوب الغرائبي العجائبي من إشكاليات الأدب الفنتازي المُدهش.

مُلخصُ أحداثِ المُدَوَّنةِ وشَخصياتُها

مدونة(ضحكةُ موزارتَ)، رواية بوليفونية متعدِّدة الأصوات تتألف من سبعة أقسامٍ أو فصولٍ تتابعية الأثر، وتحتوي أحداثها السردية الزمكانية الثابتة والمتحركة على سبعِ شخصياتٍ، أربع منها رئيسةٌ مؤثِّرةٌ نوعاً ما بمجريات واقعة الحدث السردية، وهم:(فؤاد، وحسن، وزوجة حسن، و د. يوهان هولمر)، وثلاث شخصيات أُخرى منها ثانويَّة فرعيَّة طارئة ومُكمِّلة لمجريات الحدث، وهم: (الفتاة غيداء ابنة حسن، وعلوان، والمهرِّب) النمساوي سائق السيَّارة ومرشدهم الذي أوصلهم إلى ألمانيا.

ولكنَّ الصوت الرئيس المهمَّ والغالب من شخصيات هذه الرواية، هو صوت فؤاد بطل الرواية وشخصها المقدام الأول والأخير الذي قام بأحداث الرواية التراتبية بدأً من مُستهلها الأول، وحتَّى مختتمها النهائي الأخير، والذي لم يعلن الكاتب عن ذكر اسمه الصريح وهويته الشخصية في النصف الأول من أحداث الرواية، وإنَّما اكتفى المؤلِّف بالحديث عنه بإنابة ضمير المتكلِّم(أنا) أو تاء الفاعلية في (قُلْتُ)،على لسان بطله (فؤاد)، ولم يُصرِّح بذلك علناً إلَّا في الصفة رقم(104).

وكان ذلك حينما قرَّرَ فؤاد الهجرة إلى ألمانيا للبحث عن طاقية الإخفاء في مختبر الدكتور الألماني يوهان هولمر؛ نتيجةً للظروف القمعية التي مارسها ضدها في العمل الأستاذ علوان الذي عمل له الدسائس والمكائد العديدة في دائرته من أجل تسقيطه ومحاربته لوظيفته بشتى الوسائل. وفؤاد بطل الرواية الذي يعمل موظَّفاً بقسم الإحصاء في وزارة التجارة في إحدى مدن الجنوب.

وقد لاقى  محاربةً حقيقيةً من قبل الطرف الآخر القاهر(علوان) الذي  أضمر له الشرَّ والعداء والبغضاء؛ لإزاحته عن وظيفته بِحُججٍ واهيةٍ باطلةٍ لا أساسَ لها من الصحَّة لغرض تنحيته من عمله الوظيفي من خلال ممارسته لسلطة القوة التي يتحلَّى به تُجاه مناوئيه من الموظفين الآخرين:

"بَعدَ أُسبوعٍ حَضرَ وَرَاحَ يَسألُنِي، وَكَانَ بِصحبةِ مُديري المُباشرِ أَسئلةً بَعيدةَ عَنْ اِختصاصِي وَعَنْ مُؤهلاتِي، وَيَبدو أنَّهُ اِقتبسَهَا مِنْ بُطونِ الكُتُبِ؛ لِكِي يُوصِي مُديرِي بِوضعِ عَلامةٍ مُتدنيةٍ لِي أوْ ضَعيفةٍ فِي سِجلِ تَقييمهِ السَّنويِّ؛ كَي أُعاقبَ أَوْ أُنقلَ مِنْ هَذهِ الدَائرةِ إِلَى دَائرةٍ أُخرَى أوْ يُدخلونَنِي فِي دَورةٍ تأَهيليةِ؛ لِكونِ مَعلوماتِي ضَعيفةُ ولَا أَصلحُ مُوظَّفَاً فِي الإحصاءِ كَمَا أَخبرنِي مديري." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 6) .

بهذه التهمة الكيدية المُلفَّقَة أُتِّهمَ الموظَّفُ فؤاد بأنَّه ضعيف المؤهَّلات، وبحاجةٍ ماسةٍ لتقويمٍ وتأهيلٍ جديدٍ لا بدَّ منه، بل الأكثر من ذلك عُدَّ فؤادُ زورَاً موظَّفاً فاشلاً لا يرقى لمثل هذا العمل.في مثل كهذا موقف لَا إنساني كُتِبَ على فؤاد الفشل والاستلاب والركوس الذي قلبَ موازينَ حياته رأساً على عَقِبٍ دون مسوغٍ أو مبررٍ حقيقيٍ. إنَّها سلطة العداء البغيض والحسد المقيت المُبَيَّت لهُ.

إنَّ مُعاداة علوان لفؤاد الموظَّف والإنسان البسيط كانت نقطةَ البداية التي انطلقت منها شرارة القطيعة العمياء والإقصاء الديستوبي المرير، والَّتي حفَّزت فؤاداً بالرحيل عن وطنه برغبته مرغماً على ذلك الأمر عندما ضاقت به الحيل من أجل أن يعيش حراً كريماً  بعيداً عن إيذاء الآخرين له ممن ينصبون العداء والتضييق على مساحة حريته الشخصية والعملية التي يتمتَّع بها في دائرته.

كلُّ هذه المسوغات الشريرة التي مورست ضده والتي تعتمل نفس فؤاد للتخلص من غريمه علوان، مصدر الشرِّ الذي يتربص به. فكانت الخطوة الأولى التي قام بها فؤاد عندما التقى مصادفةً بأسرة المهاجر حسن العراقي في تركيا الذي كان يروم الهجرة بصحبة عائلته إلى ألمانيا. ولأسباب شخصية واجتماعية وعائليةٍ خفيةٍ بحتةٍ. وقد عبر فؤاد عن ذلك الأمر الخفي الجلل الذي يختلج نفسه لرفيقه حَسَنِ إثر لقائه به لأول وهلةٍ، كاشفاً عن هويته الشخصية وعمله الوظيفي في العراق:

"أَعملُ مُوظَّفَاً فِي دَائرةٍ تَابعةٍ  لِوَزارةِ التِّجارةِ، وَتَحديدَاً بِقسمِ الإحصَاءِ، وَأنَا مَعَكُم الآنَ لِلوصولِ إِلَى ألمانيَا إنْ كُتِبَتْ لَنَا السَّلامةُ؛ لِمقابلةِ دُكتورٍ أَلمانيٍّ وَجهَاً لَوجهٍ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص104).

إبَّانَ هذه اللحظات المصيرية التي قرَّر فيها فؤاد بدء رحلته السرابية المليئة بالمفاجآت والمعاناة المضنية في البحث عن المجهول القصدي الذي يردُّ له الاعتبار الشخصي بألمانيا، بدأتْ أنساق الفشل والتأزم النفسي المرير وعقابيه الديستوبية تتوالى تترى عليه؛ مُعلِّلاً  نفسه الأمارة  بالآمال البعيدة. فما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأملِ المنشود التي تسوقه نواياه الراهنة نحو المجهول الضبابي! لتحقيق ما يسعى إليه قدره الحياتي في الحصول على بغيته السحرية من دكتور هولمر:

"أَحتاجُ مِنهُ شَيئاً، اِختراعٌ جَديدٌ، جِئتُ آخذهُ مِنهُ، سَيُغيَّرُ حَياتِي إِلَى الأبدِ، وَأعتقدُ أنَّه يَستحقُّ  المُعاناةَ وَالسَّفرَ الطَّويلَ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 105). وَقَدْ سوَّغ فؤاد أسباب رحلته الغرائبية لألمانيا قائلاً عنها: "نَعمٌ سَتكونُ لِي جَولاتٌ وَجَولاتٌ بِاستخدامِ هِذَا المُنتجِ النَّادرِ إِنْ وَفقَنِي اللهُ فِي الحُصولِ عَليهِ مِنَ الدُّكتورِ! سَآخذُ ثَأْرِي مِنْ شَخصٍ أهدَرَ كَرامتِي وَمَسحَ بِيَ الأرضَ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 105).

تُرى هل يستحق مثل هذا الثأر كلَّ هذه المغامرة التي كلفته الجهد والوقت والمال وراحة البال.  ولعلَّ هذا الثأر الذي يقصده فؤاد في حديثه لرفيقه في السفر حسن يعني به المدعو علوان رأس هرم الفساد بالدائرة وسبب مرجعه الرئيس في هذه المعاناة. وقد تقوض حُلُم فؤاد في الحصول على المخترع حينَ علم وهو في ألمانيا بخبر موت مُبغضه وصنوه في العراق علوان وطويت صفحة (طاقية الإخفاء) من سجله الشخصي مع موت علوان الذي كان السبب الأول في هجرته القسرية.

أَنساقُ دِيستوبيَا الوَجعِ المَريرِ وتَمظهراتهُ السَّوداويَّةُ

مارس فؤاد (البطل الموجوع والمقموع) أنساقاً عديدةً من مآلات الحُلم  والعمل القائم على بنية الأمل في تكريس جهوده الشخصية، وتطويع إرادته الذاتية من أجل تحقيق بغيته النفسية الذاتية البعيدة، وفي إثبات ذاته الأنوية القارَّة على المستوى الشخصي والعملي؛ لكنَّه للأسف الشديد على  الرغم من كل هذه المحاولات العملية الإجرائية الحثيثة الجادة لاقى شتَّى أنواع الوجع الإنساني المرير، وذاق كثيراً مرارة وطعم الفشل والتأزُّم والتراجع والانكسار النفسي والروحي الجمِّ المثير.

لم يلبث فؤاد من إنهاء خطوةٍ تشاؤميةٍ سوداويةٍ فاشلةٍ إلَّا وقد سعى مُجدَّداً إلى بناء خطوة جديدةٍ أخرى غيرها؛ لإثبات وجوده الكوني. ولم يترك وسيلةً ناجعةً يراها مناسبةً لمقصديات وجعه إلَّا وقد جرَّبها وسار في مركبها الصعب، مسرى البطل الآمل والطامع في تحقيق رميتها الهادفة. فلا وجود لشعور اليأس مكاناً ثابتاً في عزيمته الواثبة، ولا قرار قارٌ ثابت في لجم عنان استكانته وركونه.حتَّى وإنْ كلفه ذلك العزم الشيء الكثير للتغلُّب على حراكه من أجل هدفه البعيد المقصود.

كان نشيده الروحي والنفسي المثير بعد كلِّ عوامل الوجع والحزن والإحباط والألم المُضني ما كان يتغنَّى به الشاعر العربي إثر  الفشل: (لا تيأسنَّ إذا كبوتم مرةً     إنَّ النجاح حليفُ كلِّ مثابر). حتَّى كلفته مثابرته الفعلية وإقدامه  البطولي لا إحجامه الانهزامي في الوصول إلى ضفة المراد في أنْ يكون ثمناً باهضاً للانتصار على ثورة تأزمُّه ووجعه الديستوبي المرير الذي أوصله إلى هذا.

إنَّ فعل العامل البطولي والنفسي لفؤاد الإنسان يشي بأنّه شخصيةً غريبة وفريدة نادرة في هذا الزمن العجائبي تحمل صفات ثنائية النقيضين معاً(الألم والأمل)؛ لتخلق منها ناتجاً شخصيَّاً مُتحركاً في توجيه بوصلته الحياتية بدلاً من أنْ تدور في رَحى فَلكٍ نسقيٍّ واحدٍ مكررٍ لا جدوى من فعله. وهذا هو مكمن سرِّ مغامرته السرابية في السفر للبحث عن براءة اختراعٍ جديدة مثل قبعة الإخفاء تكفل له كرامته االمهدورة وشخصيته المعدومة، مُتخذاً نموذج(ضحكةُ موزارتَ) التاريخية الفريدة منهلاً روحياً وفكرياً في إنجاز مهمَّته الثأرية في من كان سبباً في كلِّ هذا العناء الفكري والحياتي.

ولعل أول أنساق هذا الوجع والارتداد النفسي وتمظهراته الفكرية الطافية على سطح الرواية، محاولته اليائسة بعد عام التغيير السياسي للبلد وتحوِّلاته السريعة، وعزمه على اختلاق  قصة ذاتية محبوكة يقدِّمها افتراضاً لمفوضية حقوق اللَّاجئين بالعاصمة عَمَّان في الأردنّ؛ للحصول على سمة اللُّجوء السياسي من أجل الذهاب إلى ألمانيا رسمياً، أو أي بلدٍ أوربي أخر يؤهِّله بلوغ هدفه وتحقيق وجوده الخلاصي الذاتي الأخير. لكنْ حتَّى هذه المحاولة الافتراضية عُدَّت فاشلةً ولم تلقَ في نفسه أُذناً صاغيةً مجيبةً؛ لأسباب وعراقيل وصعوبات عديدة كان لها الأثر الباغ في نفسه:

"لَا أَعتقدُ قِصتِي إنْ رَويتَهَا لَهُم سَيقتنعونَ  بِهَا. مَاذَا سَأقولُ؟ هَلْ سُجِنْتُ فِي ذَلكَ العَهدِ فِي دَائرةِ الأَمنِ مَثَلاً؟ وَأنَا لَمْ أُسجنْ. هَلْ أَودَعُونِي التَّوقيفَ بِحَجةِ رَفضِ الحُروبِ والمَعاركِ وَالبطولاتِ الَّتي ذَهبتِ بالبِلادُ؟ أنَا لَمْ أَخدمْ فِي الجَيشِ أَصلَاً وَأعفونِي بِتقريرٍ مِنْ لَجنةٍ عسَكريةٍ مُشدَّدةٍ بِأنَّني أُعانِي مِنْ ضُعفِ البِنيَّةِ الشَديدِ جِدَّاً آنذاكَ وَهِي حَالةُ وِراثيَّةٌ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 20).

لقد علَّل فؤاد أسباب فشله ومحاولته في بطلان قصته بأنَّ موظفي المفوضية يسألون الشخص اللَّاجئ في لقائه الأول عدةَ أسئلةٍ ويُسجِّلونَ أجوبتها ثُمَّ يُكرِّرون الأسئلة ذاتها في اللِّقاء الثاني، ويقارنون بين الإجابتين الأولى والثانية. فإذا اختلفت الإجابة عنهما يُرفضُ الطلب المُقدَّم للجوء. فكانت هذه هي المحاولة الأولى التي عزم النية عليها، لكنَّه تراجع عنها خوفاً من تلقى فشلاً مريباً:

"إِذنْ سَأفشلُ وَأنتكسُ اِنتكاسةَ كُبرَى؛ لِأنَّنِي بِالتأكيدِ سَأستدينُ مَبلغَ السَّفرَ إِلَى عَمَّان أوْ أيَّةَ عَاصمةٍ  أُخرَى. الطَّريقُ الثَّانِي  لَمْ أُفكرْ بِهِ؛ لِأنَّنِي لَيسَ لَدَيَّ قَريبٌ ولَا بَعيدٌ أَعرفهُ هُناكَ. وَحَتَّى إنْ وِجِدَ فَلَا أَعتقدُ أنَّهُ سَيوافقُ عَلَى طَلَبِي؛ لِكثرةِ المَشاكلِ الَّتي أَحدثَهَا أَغلبُ مَنْ دَخلَ إلَى هُناكَ بِصورةٍ غَيرِ شَرعيَّةٍ، فَصَارَ الغَريبُ مُثيرَاً لِلشكِّ وَالرِّيبةِ والظَّنِّ وَالاِتِّهامِ." (ضِحكةُ مُوزارَتَ، ص 21).

وعلى الرغم من هذا الجَيشان الشعوري والقلق والاضطراب النفسي الناشئ المحتدم من عواقب الفشل الممزوج الذي لا بُدَّ منه. ولم يبقَ من هذه المكتبة إلَّا أربعة كتبٍ منها كان لها في نفسه محبَّة خاصَّة، ولها في قلبه وقع أثير لا يمكن التفريط بها مهما كان الأمر؛ لِمَا فيها من محتوى فكري إنساني وجمالي مفيدٍ وماتعٍ ومسلٍّ شائقٍ:

"أَوَّلُها كِتابُ(المَرايَا وَالمَتاهاتُ)، وَهوَ مَجموعةُ قِصصٍ كَتَبَهَا بَورخِس، وَهوَ أحدُ أَعظمُ كُتَّاَب القَرنِ العَشرينَ. وَثانيهَا كِتابهُ(ألفُ لَيلةِ ولَيلةٍ)، وَكتِابُ القِصصِ الغَريبةِ وَالعَجيبَةُ، وَصَارَ تُراثَاً عَربيَّاً كَبيرَاً. وَثاَلثها كِتِابُ(الطَواسينَ)، لِمؤلِّفهِ المُتصوِّفِ الإشكَالِي  الحُسينُ بِنِ مَنصورِ الحَلاَجِ، أمَّا الكِتاَبُ الرَّابعُ، فًهوَ رِوايةٌ قًديمًةٌ عنُوانُهَا،(مَسرحُ الدُّمَى)، وَقَد تَمزَّق َغِلَافُهاً وَلَا أَعرِفُ كَاتبَها." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 23).

ففؤاد برغم إصراره العجيب وهاجسه على السفر خارج العراق، وقراره النهائي بالرحيل السريع مهما كانت نتائجه السلبية أو الإيجابية المحتملة، فإنَّ شبح طريدة علوان وأعوانه بات أمراً مُلحَّاً وهاجساً مؤرِّقاً لنفسه يلازمه كظلِّه في قيامه وقعوده وفي حِلِّه وترحاله. على الرغم من أنه عقد العزم بالخروج من بغداد سِرَّاً خشيةَ أنْ يراه خصيمه علوان من أنْ يفشل مخطَّطه المستقبلي، ويقضي على آخر آماله الذاتية في التصدِّي له، والقضاء على مركز سلطته الاستبدادية المؤذية؟

لم يستطع فؤاد التخلُّص من ذلك الشعور بالفشل الضافي على نفسه  التشاؤمية، فغداً مُسيطراً عليه روحاً وفكراً وسلوكاً وعملاً. حتَّى حينما فكَّر قبل السفر بقضاء ليلةٍ واحدة يمكث فيها مع صاحبه في أحد الفنادق الرخيصة ببغداد، والتي تُديرهُ ثُلَّةٌ سيئة من  النساء المُبتذلات والرخيصات من بائعات الهوى اللَّيلي سلوكاً وعملاً والتي تقول إحداهن عارضةً بضاعتها الرخيصةله بسخريةٍ:

"هُنَا كُلُّ شَيءٍ تَحتاجانهُ، وَأطلقتْ ضِحكةً هَزيلةً بَاهتةً. لَا أَثرَ لِأيِّ جَمالٍ عَلى وَجهِهَا سِوَى  الرِّتوشِ والألوانِ الَّتي حَوَّلتهَا إِلَى اِمرأةٍ قَبيحةِ المَنظرِ. قَالَ صَاحبِي: بِأنَّنَا لَا نَحتاجُ غَيرَ المُكوثِ هَذهِ اللَّيلةِ وَلَا نُريدُ أيَّ شَيءٍ آخرَ. يَبدو أنَّ كَلامَهُ لَمْ يَعجبهُنَّ، فَراحتْ إحداهُنَّ تَتحدَّثُ بِصوتٍ عَالٍ  وأسمعتنًا بًعضً تًرانيمِ البًذاءةِ وَالكَلامِ المُنفلتِ،حَتَّى اِنتهتْ إلَى أنَّ هَذَا الفُندقَ لَا يَستقبلُ المُعقَّدينَ وَالخَوافينَ مِنْ نِسائهمَا أَخرجَا وَابحثَا عنْ فُندقٍ غَيرِهِ يَقبلُ بِتافهينَ مِثلكمَا!"(ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 29).

لا أدر ي لماذا كُلَّما حاولَ فؤاد التحرُّر من الصفة التي تلاحقه،اِستَجدت طارئة أخرى من مثبطات الفشل الموجع وقتل للعزيمة التي يُخطِّط لها من أجل تنفيذ مهمته بالانتقام من مناوئه علوان السيء.

وفي سابقة أخرى لصراعه المرير مع ديستوبيا الحياة المُذلَّة، حاول فؤاد التسكُّع ليلاً في إحدى مقاهي البتاوين ببغداد لقضاء بعض الوقت، فتعرَّض له شخص مدمن خمرٍ  واعتدى عليه في مكان ضيقٍ مع اثنين أخرين من الرجال النصَّابين والمُحتالين من الذين لهم صلة بهذا الرجل اللِّصِّ الذي أشبعه بالسُّباب والتعريض والتنكيل والكلام البذيءمن أجل ابتزازه والحصول على نقوده الخاصة:

"بَعدَ أكثرِ مِنْ دَقيقتينِ بِقليلٍ رَأيتُ ثَلاثةَ أَشخاصٍ يُهرولونَ بِاتجاهِنَا عِندَمَا سَكتَ عُنْ صُراخهِ، وَاستلمنِي أحدُهُم بِالسَّبِ الَّذي لَمْ أسمعْهُ فِي حِياتِي وَجَرجرنِي فِي الزُقاقِ المُظلمِ الَّذي يُؤدِّي إِلَى الشَّارعِ العَامِ، حَاولتْ التَّخلُصَ مِنهُ؛ لَكنَّنِي فَشلتُ وَاستسلمتُ لِرغبتِهِم فِي إجبَارِي عَلَى الذَهابِ إلى سَيارةِ الشُّرطةِ الوَاقفةِ فِي الشَّارِعِ العَامِ المُضاءِ جَيَّدَاً..."  (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 31، 32).

والأنكى من ذلك كلِّه أنَّ أفراد الشُّرطة الذين هم أصلاً وجدوا لحفظ النظام وخدمة أبناء الشعب قد تعاطفوا مع معطيات الباطل، أي مع اللُّصوص وساندوهم بعفويةٍ، وبمؤشرٍ سَيِّءٍ كأنَّ لهم الحقَّ الشرعي العادل في الحصول على أموال فؤاد الخاصة؛ وذلك تَرضيةً لهم، واتقاءً شرِّهم، وإلَّا لم يتركوا فؤاداً من قُبيل حلِّ المشكلة والارتضاء بطريقةٍ غيرِ قانونيةٍ أي عشائريةٍ،لا تحبُّ أنْ تسيطر على زمام الوقائع الحدثية لنزوات النظام وهفوات المجتمع التي لا تنصلح إلَّا بالاجتثاث والتام:

"دَخلتُ غُرفتِي الصَّغيرةَ والعَابقةَ بِالرطوبةِ وَالغارقةِ بِرائحةِ عُفونةٍ مُتجذِّرةٍ، حَزينَاً أُقلِّبُ مَا جَرَى لِي مَعَ المَخمورِ وَأفكِّرُ بِهزيمتِي الأولَى فِي رِحلتِي هَذهِ. ظَلَلتُ أَبحثُ عَنْ وَسيلةٍ أَستردُ بِهَا نُقودِي الِّتي اَستحوذُ عَليهَا السِّكِّيرُ دُونَ وَجهِ حَقٍّ. لَا أُريدُ الهَزيمةَ أمامَ أُولئكَ الأَوغادِ الَّذينَ يَتَكِّسبونَ  بِأسلوبِ الاِفتراءِ  وَالباطلِ والتَّلفيقِ عَلَى الآخرينَ."  (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 33، 34).

لم ينتهِ شعور فؤاد المأزوم بهؤلاء اللُّصوص الثلاثة الذين استحوذوا على أموال منه، بل راح يشعر بالخوف  والقلق حينما يتذكَّر فعلتهم بتلك الواقعة الحدثية التي جرت معه، ويخشى على نفسه منهم. حتى بات الهروب من الفندق والتسكُّع في الشوارع والأزقة هدفه في التخلُّص من شبحهم  الذي يتراءى له باستمرار. أليس هذا التصوُّر المُوجع الذي يعتمل فؤاداً يُعدُّ فشلاً ديستوبياً قاهراً:

"ُصُعقتُ عِندمَا تَذكَّرتُ الرِّجالَ الثَّلاثةَ الَّذينَ شَهِدُوا ضِدِّي أَمامَ ضَابطِ الشُّرطةِ، كُلُّهم رَأونِي وَعَرفُوا اِسمَ الفُندقَ الَّذي أنزلُ فِيهِ. فَكَّرتُ بِمغادرةِ الفُندقِ فِي هَذَا الوَقتِ، وَأتسللُ بَينَ الشَّوارعِ والأزقةِ؛ لِأختفيَ عَنَ المَكانِ تَمامَاً. بِرغمَ خَوفِي وَذُعري، خَطَّطتُ لِهُروبِي جَيِّدَاً لَأتفادَى الوُقوعَ فِي المَصيدةِ الَّتي لَا يُمكنُ الخلاصُ مِنهَا هَذهِ المَرَّةِ."  (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 36).

أخذت هذه الحادثة الانهزامية الأليمة من فؤاد مأخذاً كبيراً على مستوى  الفكر والوقت والجهد والإحباط النفسي وما صاحبها من خوفٍ شديدٍ،خَشيةَ العثور عليه، خاصة ًوأنَّ أحد هؤلاء الرجال الخمَّارين الثلاثة عَثَرَ عليه فؤاد مُضرجاً بدمهِ، فانتابه شعور بالهلع والريبة في أنْ تَشكَّ الشرطة أو أصحابُ القتيل من أنَّه هو من قتله طلباً للثأر واسترداداً لنقوده التي اغتصبوها منه. فكان فؤاد دائماً في هروبٍ وقلقٍ وإرباكٍ مُسيطرٍ على مشاعره الداخلية، ومدمِّرٌ لنفسه الأمَّارة بالفشل الذريع:

"دَوَّت صَافرةُ الشُّرطةِ وَهيَ تَسيرُ بِموكبِ مِنْ ثَلاثِ سَيَّاراتٍ بِسرعةٍ لَافتةٍ  رَغمَ الزَّحامَ. خَمَّنتُ أنَّهم يَبحثونَ عَنْ شَيءٍ مَا فِي المَنطقةِ، وَلَمْ يَدُرْ فِي خُلدِي وَلمْ أُفكرْ أنَّهم سَيذهبونَ إلَّى مَكانِ الرَجُلِ القَتيلِ البَعيدِ ويَعبرونَ الجِسرَ. فَثمَّةَ مَركزٌ للشُّرطةِ قَريبٌ مِنْ الحَادثِ وَتَحديداً في شَارعِ السَّعدونِ." (ِضحكةُ مُوزارتَ،  ص9).

ونتيجةً لهذا الشعور الغامر الذي حَزَبَه فؤادَ كُليَّاً وسيطر على رؤية تفكيره؛ بسبب الإرباك والارتجاف والخوف والانكسار الشديد من صُلب الواقعة وأثرها المُقرِف، لم يشعر فؤادُ غريزياً بجوعٍ أو عطشٍ؛ نتيجة الصدمة؛ ولكون الوقت الذي  يمرُّ فيه فؤادُ كما يصفه هو، بأنه جبَّار أغلى من حياته، بدليلِ أنْ  صَافرة الانذار حين دوَّت مرَّةً أخرى لاذَ بالفرار؛ بسبب ذلك التحذير خلف مجموعةٍ من  الشباب والجنود كي يتوارى عن  الشرطة ورجال الأمن الباحثين عن الفاعل القتيل.

وعقب الانتهاء من عقابيل الجريمة السوداء التي تعرَّض لها فؤاد جراء أولئك الرجال المتسكِّعين والبوهيميين،تتوالى صور الانتكاس والنكوص النفسي والارتكاس الرُّوحي المُرِّ بالعودة إلى مصدر الأذى الأول علوان الذي كان السبب في شقائه وهجرته وبُعده عن أُسرته ووطنه وعمله ومحبيه:

"لَمْ تَنفعْ كُلُّ وَسائلِ الرَّدعِ والتَّهديدِ والمُضايقاتِ والشَّكاوَى ضِدَّ المَدعوِّ عَلوانَ الجَشعِ الَّذِي آذانِي وَقلَّلَ مِنْ قِيمتِي، حَتَّى اِضطررتُ يَوماً لِتأجيرِ رِجالٍ ذَوي جَاهٍ وَهيبةٍ وَمَكانةٍ وأرسلتَهُم  إليهِ لِترطيبِ الأجواءِ بَينِي وَبَينَهُ، وَلَمْ يَحصلُوا مِنهُ عَلَى شَيءٍ سِوَى الضِّحكِ وَالوعودِ وَالسُّخريةِ. هَكذَا هُمُ حَديثُو النِّعمةِ لَمْ يُبالُوا بِأحدٍ وَيَرونَ النَّاسَ أقلَّ قِيمةٍ مِنهُم. إنَّهُ يَتصنَّعُ الكَلامَ بِغباءٍ  مُباشرٍ مُثيرٍ لِلسخريةِ حَقَّاً، رَجلٌ فَظٌ وَثَقيلُ الظِّلِّ، عَلَيَّ مُعاقبتهُ لَأُريه مَنْ الوَفي؟!" (ضِحكةُ مُوزارتَ، 47، 48).

ويُبرر فؤاد الموظَّف والإنسان الطبيعي موقفه العدائي هذا من شخصية علوان مصدر صراعه الأبدي معه بأنَّه إنسان مسالم وطيَّب، وليس من شيمته إيذاءَ شخصٍ آخر طيلة حياته؛ ولكنَّه حينما  سار في ركاب هذا الأمر الصعب تُجاه  نقيضه علوان كان مُضطراً لفعله هذا معه في الدفاع عن نفسه. وكان مُستغرباً من فيض شعوره الذهني  حياله، مُعلِّلاً إثر هذا الاستغراب بأنَّ وراء علوان قد تكون قصةٌ غريبة ما يَضمرُها عنه وربما تكون نتائجها مهلكةً له وتهدِّدُ وجوده. وفي انعطافةٍ  استذكاريةٍ أخرى  يُخبرنا الراوي العليم (المؤلِّف) بترجمان لسان بطله علوان الذي يقول متأكداً:

"عَلوانُ لَمْ يَبِعِ البَيتِ الَّذي اِستأجرهُ أَنَا مُنذُ سَنةٍ كَمَا يَدَّعِي، وَسَمعتُ أنَّهُ يُحاولُ إخراجِي مِنْهُ؛ لِيبنيَ عُمارةً عًلًى أرضِهِ. وَهوَ لَا يَبيعُ، بَلْ يَشترِي المَزيدَ، وَأعتقدُ أنَّ حَربَهُ ضِدِّي بَدأتْ مُنذَ لَيلةِ حَادثةِ الحَقيبةِ الَّتِي رَفضتُ إدخالها إلَى بَيتِي، وَكَانتِ التَّكهناتُ تَقولُ إنَّهُ يُتاجرُ فِي المَمنوعاتِ مَعَ عِصابةٍ تَابعةٍ لَهُ. مِنْ صَاحبِ مُقهَىً مُتواضعٍ إلَى تَاجرٍ كَبيرٍ ثَريٍّ مَغرورٍ وَأخرقٍ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 48).

ويبدو لي أنَّ سبب التوتر والكراهية والعداء بينه وبين علوان كان ناتجاً عن الحسد والغيرة وربَّما صفة النجاح الشخصي. كما أنَّ أقرانَ فؤاد وأصدقاءَه يَضمرُون له الحسد خلال سنوات الدراسة  عندما كانوا يختبرونه بأسئلةٍ صعبةٍ فَيتمنون زوال نعمته العلمية وذكاءَه وفطنته العقلية الشديدة.

لم تنمحِ صورة علوان المؤذية من تفكير فؤاد، وصارت تتراءى له حتَّى في خيالاته وأحلامه ويقظته.إنَّه شبح لا يمكن إزالته من تفكيره المشدود له وهو بعيد عنه خلال هجرته وسفره للخارج:

"مَرَّ وَجهُ عَلوانَ القَبيح ِأَمامِي سَريعَاً وَكِدتُ أَصفَعهُ وَأقضمُ كَتفَهُ بِملءِ أَسنانِي لَولَا اِنتباهِي فِي اللَّحظةِ الأَخيرةِ بِأنَّها خَيالاتٌ."(ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 58). هذه  صور الخوف التي تتراءى له باستمرار.

ومن أكثر صور التشاؤم والخوف والفشل والخذلان بشاعةً واستغفالاً وسوداويًة لِديستوبيا الواقع الإنساني المرير الذي مرَّ به فؤاد إثر سفره إلى تركيا، ومنه إلى مدينة أزمير التي تنطلق منها هجرته الدَّوليَّة إلى ألمانيا، ومنها الوصول لمختبر الدكتور يوهان هولمر. تلك الواقعة التي تعرَّض لها نتيجة وقوعه ومن معهُ بفخٍ مُعدٍّ من قبل فئة المُهرِّبين الذين احتالواعليه وعلى غيره من العرب  المهاجرين إلى أوربا، حينما أوصلوهم بسيارتهم المُهيَّأة للتهريب إلى البحر على أمل ركوب  الزوارق البحرية  بعيداً عن أعين الشرطة التركية؛ لكنَّها كانت مَكيدةً  ونَصبَاً واحتيالاً مُرَّاً عليهم:

"-أَلُو-ألُو،عَرفتهُ أنَّه السَّائقُ الَّذي تَركنَا مُنذَ سَاعةٍ.لَا تَتَحركُوا مِنْ مَكانِكُم حَتَّى العَامِ القَادمِ؛ لِأنَّني أَخافُ عَليكُم مِنَ النَّصبِ وَالاحتيالِ، فَالزورقُ لَمْ يَأتِ، لِأنَّه لَا زَورقٌ أصلَاً، وَلَا تَهريبٌ، عِيشُوا وَكُلوا غَيرَهَا حَبابينَا! وَأطلقَ ضِحكةً مَاكرةً ذَكرتنِي بِضحكتِهِ فِي المَرأبِ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 61).

هذه الواقعة الحدثية التسريدية المُوجعة الأثر، هي أوَّلُ غيثٍ من غَمام أمطار فكرة الهجرة التي أصابت فؤاد من ألاعيب وحيل المخادعين ثُلَّة المهرِّبين، والتي على إثرها ندب فؤاد حظَّه السيء العاثر حيال ما شعر به من خوفٍ وارتعاشٍ ونكوصٍ واستغلالٍ وفضيحةٍ لا يمكن إخبار عائلته بها بعد أن خسر أجرة التهريب لأوربا التي تسلَّمها المهربون منهم مُقدَّماً وأوقعوهم في المكيدة الكبيرة.

كلَّما ضاقت مِساحاتُ الفشل وصور القمع والاستبداد وروح الانكسار والخذلان التي تعرَّضت لها شخصية البطل المثابر الدؤوب فؤاد، اتسعت الرؤيا لمحاولات الإصرار والعزيمة في التغلُّب على الإخفاقات والنكوصات النفسية والعملية المريرة التي تفرضها وقائع القدر ونوازع المُسبِّبَاتِ الكيدية العارضة والتي تحول دون الوصول للهدف الموعود  في تحقيق آماد بُغيته للتغلب على علوان والقضاء عليه بالعزم على استمرار هجرته لألمانيا، وجلب تقنية الابتكار أو طاقية الإخفاء.

وإذا كانت  المحاولة الأولى  في الهروب قد فشلت في تحقيق هدفها، فإنَّ الإصرار القويَّ على تكرار غيرها بروحٍ وهمةٍ عاليةٍ هو منتهى الأمل الذي يُجدِّد عزيمته ويمنحها جلداً وصبراً وإقداماً:

"بِالرغمِ  مِنْ أنَّ الحَربَ الَّتي أَعلنَهَا ضِدِّي لَمْ تَكنْ مُتكافئةً. بَدأَ القَاربُ بِالتحرُّكِ فِي رِحلةِ البَحرِ  المُروعةِ بِالنسبةِ لِي، وَهذهِ أولُ مَرَّةٍ أَصعدُ فِي مَركبٍ فُوقَ المَاءِ فِي حَياتِي، وَبَدأتْ دَقاتُ قَلبِي تَقرعُ طُبولَ الخَوفِ. أولُ مَرَّةٍ أخطُو هَكَذَا خُطوةُ جَريئةً وَخَطرةً. هَؤلاءِ يَبحثونَ عَنْ مُوطنِ قَدَمٍ  فِي أُوربَا كَبديلٍ لَهُم وَأنَا أُغامرُ فِي هَذَا الخِضَمِ والقَلقِ كَيْ أفلحَ فِي مُعاقبةِ عَلوانَ البَشعِ الجشع. وَأتمنَّى أنْ يَتعاطفَ مَعِي الدُّكتورُ وَيُعطينِي القُبعةَ لِتجربتِهَا فِي مُهمَّةٍ لَمْ أدرِ تَحديدَاً مَدَى نَجاحِها وَتحقيقَ حُلُمِي. رُبَّما سَفرتِي هَذهِ لَنْ تَكونَ بِمستَوَى مَا فَعلتُهُ مِنْ أجلِهَا..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص72).

إذن الهدف الأساسي من كلِّ هذه الأهوال والصراعات هو القضاء على  نظيره علوان ومعاقبته مهما كانت  نتائج رحلة هذا البحث عن السراب غير الواضح الذي غامر من أجله لإعلان راية الانتصار عليه.ولكنَّ الأهم في كلِّ تلك المحاولات الديستوبية المريرة، هو شحذ العزيمة والإصرار وتكرار المحاولات الفاشلة بأخرى جديدة من أجل تحقيق مشروعه الإقصائي الذي هو بمثابة صرخةٍ للوجود الهاملتي (أكونُ أو لًا أكونُ)، وإلَّا فلا فليجلَّ الخَطبُ وليفدحَ الأمرَ الصارمَ ثورةً.

ويمضي فؤاد قُدُمَاً يَطرق وسائل الهجرة الخطرة المتاحة مرتحلاً بسفره إلى ألمانيا بصحبة رفيقه العراقي حسن وعائلته، وقد جال بخاطره وهو في السيّاَرة، ماذا سيحصل له عند الدكتور هولمر من مفاجآت صادمة؟  لكنّ الأمر المزعج في ما كان يدور بِخُلدِهِ، وهو غارق في الأحلام في غير وعيه ويقظته. فقد كان هاجس الرعب والخوف في عوالمه الداخلية مسيطراً على عقله الباطن تماماً ولا يمكن الفكاك من التفكير بعلوان وما فعله به وما سيفعله بعائلته مجدَّداً في غيابه:

"لَمْ أنَمْ كَمَا فَعلَ الرُّكابُ الآخرونَ، كُنتُ أَطوفُ بِعوالمِي وَمَا سَيحصلُ لِي عِندَ الدُّكتورِ هَولمَر. لَكنَّني فَزعتُ عِندَمَا جَالَ خَاطرِي بِعلوانَ المَعتوهِ المُزعجِ الَّذِي سَبَّبَ لِيْ قِلقاً وَهوَ يَفعلُ كُلَّ أنواعِ المسَاوِئ لِطرَدي مِنْ بَيتِهِ، تُرَى مَا سَيفعلُ مَعَ عَائلتِي إنْ عَلِمَ أنَّني مُسافرٌ؟ هَواجس ٌظَلَّتْ تَدورُ فِي عَوالمَ مِنَ الإحباطَ وَالفَشلِ وَبُلوغِ اليَأسِ، كُلَّمَا صَارَ شَبحُ عَلوانَ وَقريبهِ المَسؤولِ أَمامِي إنَّهُمَا خَارجُ نِطاقِ البَشرِ الَّذينَ عَرفتهُم وَقَرأتُ عَنهُ، وَخَاصةً عَلوانُ ..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 92، 93).

والملاحظ على الكاتب إبراهيم سبتي من خلال تسريده الحكائي الفاعل لصورعقابيل هذا الفشل الموجع وتكرار الشعور بالخيبة والانكسار والتراجع أنَّه ينكبُّ بذكاءٍ وحرفيةٍ واثبةٍ ووعيٍّ في استخدام وتوظيف تقنيات الاستقدام والاسترجاع السردي الحدثي(الفلاش باك)في الحفاظ على وحدة الرواية العضوية كسجد عضويٍّ واحدٍ لا يمكن تجزئة أعضائه أو التفريط به في فصول  الرواية. فضلاً عن مزيَّة التجديد والتنوع في أسلوبية السير بمسارٍ واحدٍ رتيبٍ قد يشعر معه القارئ بالمللِ.

فتراه تارةً يركن في تصويره لمشاهد رحلة البحث عن الابتكار أو المكنون الإخفائي إلى تقنية الاستقدام أو التقديم الحدثي كي لا يشعر معه القارئ بالسأم والملل والرتابة والخمول والإهمال، وتارةً أخرى يعود مُجدَّداً إلى تقنية الاسترجاع أو الرجوع إلى الترتيب الزمكاني الحدثي اعتماداً على وتيرة الاتصال من خلال تقنية الفلاش باك الفني لمجريات الحدث الموضوعي للرواية.

فإنَّ هذه التقنيات الفنيَّة تمنح الخطاب النصِّي السردي قوةً إشراقيةً موضوعية وتزيده تماسكاً  فنيَّاً وجمالياً يجعل من المتلقي مُتشوقاً  لمعرفة الآتي من الأحداث. ومثل هذه الآليات السردية التي يناور بها الكاتب في تخليق روايته تتطلَّبُ مَهارةً عاليةً ودِربةً فنيةً من كاتبها للإمساك بتلابيب نسيج الرواية وتوجيهها بشكلٍ سلسٍ دونَ عقبات تعرقل سيرها في استكمال بقية فصولها الأُخر.

والأمر الآخر الملاحظ على بوصلة أسلوبية إبراهيم سبتي السرِدية هو إيمانه الحقيقي والثابت بقضية تغيير الأمكنة الزمانية واستبدالها بأخرى على الرغم من حبّه لمنبتِ عَيشهِ الأرضي الأول:

"لَا بَأسَ بِالتَّغيُّر، نَحنُ بِالتالِي بَشرٌ وَاجبٌ عَلينَا اِستبدالُ الأمكنةِ بِأُخرَى أفضَل رَغمَ أنَّ المَكانَ الأوَّلَ هُوَ مَنبتُ جُذُوري وَحَنينِي وَلَا أُبدِّلهُ بِأيِّ مَوقعٍ فِي الأرضِ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص  104).

والأمكنة التي يتحدَّث عنها فؤاد في سفره لرفيقه المهاجر بمعيته حسن، هي في الواقع أمكنة أرضية محببة النفس، ولكن قد تكون وحدة هذه الأمكنة افتراضيةً معنوية وليست ماديةً مكانيةً بحتةً، فهو يتحدَّث عن البدائل الزمكانية ولو لفترةٍ قصيرة يقضي من خلالها حاجته الذاتية، ولا يهمُّه أيَّاً كان المكان. المهمُّ أنْ يصلَ إلى مُبتغاه الأنوي الذي بذل من أجله كلَّ غالٍ ورخيصٍ ماديٍّ.

ثانيةً يأخذنا فؤاد الراوي إلى العودة في التفكير القهري بما يفعله المهرِّبون من صور الاحتيال الكثيرة ووسائط الاستغفال المتاحة،وفرضية المكائد والخداع والريبة والجزع لجموع لمهاجرين. إنها صورة مؤلمة جِدَّاً تَظهر لهم بين الفِينةِ والفِينةِ الأخرى شوكة في تفكيره وتذهب به بعيداً مخاطرها ومآلاتها الضبابية غير الواضحة وما سيحدث لهم من مفاجآتٍ مُثيرةٍ وصادمةٍ مُذهلة:

"بَدأتُ أَسمعُ مِنْ حَسنِ كَلامَاً فِيهِ بَعضُ الرِّيبةِ في سِيرنَا، وَأنَّ الدَّليلَ المُتطوِّعَ إمَّا سَيُسلِمُنَا إِلَى الشُّرطةِ أوْ سَيأخذُنَا إِلَى التِّيهِ وَفُقدانِ الأثرِ، أوْ سَيبيعُنَا عَلَى تُجَّارِ الأعضاءِ البَشريَّةِ، وَهَذا مُمكنٌ جِدَّاً فِي مِثلِ هَذهِ الظُروفِ.. عَلينَا أنْ نَتأكدَ مِمَّا يَضمرُهُ فِي رَأسِهِ لَنَا. ضَحكتُ وَأجبتَهُ بِأنَّنا أُسوةٌ  بِالآخرينَ، نَسيرُ مَعَهُم وَنَتوقفُ معَهُم. َومَا يُصيبُهم سَيصيبنَا بِالتأكيدِ، وَلَو أَنَّ لا ثَوبَ أبيضَ فِي مَنجمِ الفَحمِ." (ضِحكةُ مَوزارتَ، ص 112). والعبارة الأخيرة بلاغتها تشير إلى سوداوية الأمر واستوائه.

ومن بين اللَّوافت الأخرى التي تثير حفيظة القارئ وتُمتِّعهُ بجمال حكاياتها الشائقة على الرغم من فداحة الرحلة وقساوتها، هي استدعاء الكاتب أو الراوي العليم واستحضاره على لسان راويه البطل فؤاد المشاهد التذكارية للمدن والرموز والشخصيات الفنيَّة العالمية من أمثال موزارت عند دخوله للأراضي النمساوية في رحلته التهريبية.وبالذات أثناء مروره بمدينة الفنَّان موزارت ومنبت أصله(سالزبورغ)،وَتَوقهِ الشديد لرؤية  بيته والاطِّلاع على معالم آثاره التاريخية والفنيَّة والجمالية:

"إِذنْ نَحنُ دَاخلُ الأراضِي النَّمساويَّةِ، وَلَنْ يَفصلَنَا الكَثيرُ عَنْ ألمانيَا. لِلأسفِ الشَّديدِ لَمْ أستطعْ رُؤيةَ مَنزلِ مُوزارتَ؛ خَشيةَ مُصادرةُ بَعضِ الوَقتِ المُهمِّ مِنْ رِحلتِنَا وَنَحنُ عَلَى عَجلٍ مِنْ أَمرِنَا، غَيرُ مُصدِّقٍ بَأنَّني فَي مَسقطِ رَأسَ العَبقريِّ الَّذي أتخيَّلُهُ كَمَا فِي الفِيلمِ وَهوَ يُؤلِّفُ مُوسيقاهُ فَتوجَّهَتْ إليهِ سِهامُ الحَاسدينَ وَالحَاقدينَ"(ضِحكةُ مُوزارتَ، ص130). والعبارة الأخير للنصِّ في تخيَّل الفيلم إشارة سيمائية واضحة وموحياتها دالة على الربط بين أحداثه والرواية، وما لَقيه بطله المِقدَام فؤاد من الحسد والحقد والعداوة والإقصاء السوداوي مثل ما لقيهُ بطل فليم موزارت من عداءٍ بَيِّنٍ.

إنَّ صيغة الاستدعاء والاستذكار هذه لموزارت ولموسيقاه ولإرثه الأرضي يشي  جيِّداً بأنَّ فؤاداً شخصية إنسانية ليست عاديةً كباقي المهاجرين الآخرين الذين لا يهمهم  الفنُّ والثقافة، بل كان من المهتمين جداً بفنِّ موزارت  وبموسيقاه وإرثه الثقافي الفنِّي. وهذا يعني بأنه قارئ ومتذوقٌ صاحب مشروع ثقافي وفكري. على الرغم من كونه مُهاجراً عادياً يروم بهجرته الوصول لمبتغاه الأخير. وقلَّما تَجدُ في الروايات البطل من صنف المثقفين المُهتمين بفنِّ المُوسيقى ورموزها الفنيَّة العالمية.

وقبيل الوصول لألمانيا وفي آخر محطَّة من محطات البحث عن السراب، وأثناء القيام بفترة أخذ استراحة قصيرة ليتمتَّعَ بها فؤاد مع صُحبة رفيقه المهاجر حسن العراقي وعائلته التي تضمُّ زوجتهُ وابنته الشابَّة الوحيدة، يتدخَّل فؤاد في نزع فتيل الخلاف الأُسري وإخماد حدَّتهِ بين العائلة. بيدَ أنَّ زوجة حسن تقمع فؤاد بردِّها المُفعم عليه وغضبها الحاد السريع اللَّافت منها في ممارسة سلطة الرفض الديستوبي والمجابهة المُباشرة معه. وهذا يعني أنَّ فؤاداً قد فشل حتَّى في إيجاد تسويةٍ أو وساطةٍ مؤقتةٍ لخلاف تلك العائلة الصغيرة المُحتَقَنة بالهمِّ والحزن، وبالتالي لقي رداً قاسياً منها:

"وَيَبدو أنَّ الزَوجةَ لَمْ تَدعْ تَدخلِي فِي إِخمادِ الفِتنةِ بَينهُمَا يَذهبُ مَعَ الرِّيحِ، فَتدخَّلتْ مُحاولِةً لَجمِي وَإسكاتِي حِينَ قَالتْ بِغضبٍ وَتوترٍ وَمِزاجٍ مُضطربٍ: وَفِّرْ كَلامَكَ لِنفسكَ، لَمْ نَطلبْ مِنكَ النُّصحَ والإرشادَ وَالتَّدخُلَ! لَمْ أَردُّ عَليهَا وَسَكتُّ أنظرُ إِلَى الطَّريقِ النَابضِ بِالجمالِ وَالدَّهشةِ، وَلَا أُريدُ أنْ أخرجَ مِنَ الحُلمِ الَّذي غَرقتُ فِيهِ. لَكنْ حَسنٌ وَبَّخَهَا وَطلبَ مِنهَا الاِعتذارَ لِي، لَمْ تَعتذرْ فَظلَّتْ تَضمرُ لِي بُغضاً كَمَا خَمَّنتُ. عَذرتُها لأنَّها لَمْ تَحفلْ وَتعِشْ اللَّحظةَ التَّاريخيةَ وَهيَ تَمرُّ فِي بَلدةِ مَوزارتَ. رُبَّما أَنَّهَا بِبساطةٍ لَمْ تَسمعْ بِهِ إطلاقَاً فَلَا طَائلَ لِلكلامِ مَعهَا..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 131) .

وعلى الرغم من اقتراب هجرة فؤاد القسريَّة من منتهاها الأخير بصحبة عائلة حسن رفيق دربه الشفيف في السفر، بيدَ أنَّ فؤاداً لم يتخلَّصْ من  شبح علوان المُفزع  ومن صورته البشعة المؤذية التي يستحضرها في أحلامه وكوابيسه وسيطرتها على  فكره وخواطره. وهذه يدلِّلُ بوضوحٍ على أنَّ فؤاداً لم يكن مرتاحاً من المدعو علوان ومن فعل سلوكياته المُضمرة والظاهرة بالقضاء عليه:

" هَدأتُهُ وَلَمْ أُبالِ بِمَا قَالت وَأخبرتُهُ إِنَّنا الآنَ دَخلنَا فِي الأراضِي الألمانيةِ وَمَا عَليكُم سِوَى الصَّبرِ وَالرَّاحةِ وَرُبَّما لَا أَراكُم مَرَّةً أُخرَى،كَانتْ تَجربةً شَيِّقَةً لَمْ أحسبْ حِسابَهَا وَبِرغم ِالجُهدِ الَّذِي بَذلتُهَ فإنَّ الكوابيسَ لَمْ تَأتنِي، ويُمكنُ لِأَنَّني لَمْ أنمْ كِفايةً. بَاغتنِي حَسنٌ:كوابيسٌ!- نَعمٌ كَوابيسٌ ذَلِكُم المَدعوعلوانُ الَّذي لَمْ تُفارقنِي صُورتُهُ وهَيْأَتُهُ القبيحةُ فِي حِلَّي وَتِرحَالي؟"(ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 137).

ومن المفارقات اللَّطيفة التي يُوثِّق فيها فؤاد ويؤرخن زمكانياً لأنظمة تلك الدول والأمكنة، وحرص أفرادها على تطبيق القانون والالتزام به من خلال مرور سيارتهم بنقطة تفتيشٍ على الحدود الألمانية لم تكن في فكر الحسبان. والَّتي غاب عنها عنصر الشرطة لِلحظاتٍ طارئةٍ وتركها لأمر مفاجئ وسيعود بعدها لمكانه المخصَّص له.

ولكونهم مُهاجرينَ غيرَ نظاميينَ، فقد استغلَ فؤاد وحسن عدم تواجد الشُّرطي في النقطة وطلب لحظتها من المُهرِّب الشاب سائق سيارتهم التكسي التي تَقلُّهم لألمانيا انتهاز الفرصة والإفلات منها بتجاوزها طالما الشُّرطي لم يكن حاضراً فيها،غير أن المُهرِّبَ برغم كونه مخالفاً رَفضَ الاستجابة لطلبهما؛لكونه مُتقيِّداً بلائحة النظام والقانون؛لكنَّه خضع لهم أمام سلطة المال وتجاوز النقطة حالاً:

"أَشرنَا لِلسائقِ بِالتقدُّمِ وَالخروجِ مِنَ النُّقطةِ. رَفضَ خَائفَاً وَتَعجَّبَتُ مِنْ مُهرِّبٍ يَخافُ مِنْ نُقطةٍ خَاليةٍ مِنَ الشُّرطةِ.  فَأخرَجنَا لَهُ وَرقتينِ مِنْ فِئةِ مَائةِ  يُورو هَزَّ رَأسَهُ مُوافقَاً  وَانطلقَ  مُسرِعَاً. يَا لَهُ مِنْ مُهرِّبٍ يَتقيَّدُ بِالقوانينِ! تَنفستُ الصُّعداءَ وَشَكرتُ مُهرِّبِنَا الَّذِي لَمْ يَفهمْ مَا بَدَرَ مِنِّي..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 143، 134).

وعقب انتهاء رحلة فؤاد إلى ألمانيا ووصوله إلى مختبر(المستفبل القريب) للدكتور يوهان هولمر الذي يبحث فيه عن ضالته الأخيرة، راح فؤاد يُبرِّر تَعبه وتعرضه الشديد لكثير من المخاطر الجمَّة والأهوال الصعبة في البحث عن السراب مآله الذي ينقذه ويُنجيه ويُحدِّد مُستقبله الحياتي مَعَ مُبغضهِ المدعو علوان الوقح، لا لغرضٍ ترويحي ذاتي أخرَ مثل بقية الناس المُهاجرين الذين ينشدون الحياة الحُرَّة الكريمة  والعيش الرغيد، بل كان هدفه الأول والأخير هو كيفية القضاء على  وجود علوان في مدينته الجنوبية، والِّتي حرمه من العيش فيها بأمان  دائم بدلاً من التهديد:

"هَذَا الوَغدُ الَّذي أُسلوبُهُ مَعِي عَلَى رُكوبِ الأهوالِ والمَخاطرِ في أَرضِ اللهِ الوَاسعةَ. بَعدَ عَشرِ  دَقائقَ حَضرتِ المَرأةُ وَأشارتْ لِي بِالدخولِ إلَى غُرفةِ الدُّكتورِ أو مُختبرهِ بِصراحةٍ لَمْ أَرتحْ لِهذهِ الحَركةِ، وَهَلْ أنَّ كُلَّ مَنْ يَأتي  لِلدُّكتورِ يَدخلُ مَشغلَهُ؟" (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 147).

هذا الموقف الذي واجهه فؤاد كان سبباً من أسباب فشل مهمته في ألمانيا، والذي ستعقبه إحباطات ونكوصاتٌ  كثيرةٌ أخرى غير متوقِّعة في التفاوض من أجل الحصول على ضالة هدفه الأساس:

"لَقدْ تَحمَّلتُ كُلَّ تِلكَ الطُّرقِ المُوحشةِ وَغَيرِ قَانونيةٍ فِي السَّيرِ لِساعاتٍ كَي أَقابلَكَ. قَرأتُ أَنَّكَ تَقومُ بِتصنيعِ قُبعةِ الإخفاءِ وَهوَ الاِختراعُ الأولُ فِي العَالمِ!" (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 148).

هذا الكلام الإقراري لفؤاد موجَّهاً مباشرةً للدكتور يوهان هولمر، ولتقرأ كمية الامتعاض والنفور منه وعدم الارتياح لما لاقاه منه. في الوقت الذي كان هدف فؤاد من رحلته المضنية واضحاً في الحصول على سلاح تقنية قبعة الإخفاء السحريَّة التي يمتلكها صاحب الاختراع الأول الدكتور يوهان هولمر، ليس لفؤاد في الواقع هدف شرير آخر يبغي من الحصول على فائدة مادية أو إبداع:

"عَاهدتُ نَفسِي أنْ لَا تُستخدَمَ فِي غَيرِ مَحلِّهَا وَلَا أُريدُ إيذاءَ النَّاسَ، وَلَا اَستخدمُهَا فِي إهانتِهُم أوْ  سَرقتَهُم أوْ أبغِي النَفعَ المَادِي مِنْ وَرائِها. (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 150). هكذا دار فحوى الحوار بين فؤاد والدكتور هولمر . ومع كل  ذلك تعرَّض الحوار بينهما إلى انتكاسات عدةٍ وفشل ذريع في كلِّ مرَّةٍ يصلان لنقطة اتفاق ما بينهما، وكان النكوص والتلاشي ضالتهما الأخيرة دون حصول اتّفاق تامٍّ:

" لَقدْ خُدِعْتُ وَتَحمَّلتُ السَّفرَ المُذلَّ، وَفَشلتُ فِي نَيلِ مَطلبي الَّذِي صَارعتُ القَدرَ حَتَّى أَحصلُ عَليهِ. مَدَّ الدُّكتورُ يَدَهُ لِيسحبَهَا مِنِّي بِقوّةٍ وَقَدْ تَجَهَّمَ وَجهُهُ وَبَانَ عَلَى قَسماتِهِ الاِضطرابُ والاِنزعاجُ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 154).

هكذا يسير مؤشِّر المفاوضات الجارية وتنحرف بوصلتها عن الاتجاه الصحيح بين فؤاد والدكتور هولمر بخطواتِ فشلٍ مُتعثرةٍ.فكُلَّما وصلت إلى نقطة اتفاقٍ مُهمةٍ ظهرت الخلافات وبانت شُقَّةُ  الخلاف بينهما في إبرام العقد بسبب حساسية المنتج الجديد على الرغم من أنَّ فؤاداً يّعدُّ هذا الاتفاق الذي سار من أجله حلمَ الأحلامِ منذ نشوء الخلق، وسيخلِّدهُ التاريخ، وسيقول لكلكامش العراقي أنَّك لم تحصل على الخلود، بل أنا الذي  حصلت عليه في هذه التماهي  التاريخي الأُسطوري الذي  يرمز  إليه فؤاد في إفشال مُهمَّة كلجامش في البحث عن عشبة الخلود الأبدية لأنكيدو بطل ملحمته:

"قُلتُ فِي نِفسِي: أَيعرفُ هَذَا الدُّكتورُ جِلجامِشَ؟ هَلْ سَمِعَ بِهِ  مَثَلاً؟ أَعتقدُ أنَّ مَلحمتَهُ قَدْ قَرَأَهَا كُلَّ العَالمِ بِكُلٍّ اللُّغاتِ، إنَّها المَلحمةُ الِّتي أَخبرتَنَا بَأنَّ الأفعَى قَدْ قَضمتْ عُشبَةَ الخَلودِ وَحَرمتُ جِلجامَشَ مِنهَا يَا لِسوءِ الأقدَارِ!" (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 156).

هكذا يُفكِّر الراوي العليم بإدارة فكرة الحوار الحكائي في أسلوبه الأسطوري التاريخي؛ لإدامة  حركة الرواية وإسناد عناصر فاعليتها السَّرديَّة بمثل هذا البناء  التناصِّي  مع أساطير الشعوب.

وليس كُلُّ هذا ما يدور في فكر إبراهيم من أساليبَ سرديةٍ تُغذِّي فكر المتلقِّي بالنافع الجميل  والمًفيد من فنون العالم وآدابها السامية لإدامة  الزخم  الفكري  للقارئ خلال آليات التلقِّي المعرفي  السردي. وهذا يقودنا للحديث عن عتبة عنوان الفيلم العربي(طاقيةُ الإخفاءِ) لبطله المُثِّل العربيِّ المصري عبد المنعم إبراهيم؛ لكونِ محتوى الرواية له عَلاقة فنيَّة وموضوعيَّة بعنوان الفيلم وأحداثه الشائقة  لتحويلِ فيوضات حُلمهِ إلى حقيقةٍ مدهشةٍ على فضاء الواقع الإنساني الحدثي:

"إذنْ فَأنَا حُرٌّ طَليقٌ بَعدَ إجراءِ التَّجربةِ لَأرتديهَا وَأخرُجُ مِنْ هُنَا قَافِلَاً إلَى بِلادِي؛ لَأُنفِذَ مَا وَعدْتُ  نَفسِي بِهِ تُجاهَ عَلوانَ وَقَريبِهِ المَسؤولِ. ثُمَّ أعيدُهَا لِصاحبِهَا بَعدَ أنْ أُحَوِّلَ الحُلُمَ إلَى حَقيقةٍ وَلَيسَ خُدعةُ سِينمائيَّةً كًمًا فِي الفِيلمِ الَّذي مَثَّلَهُ عَبدُ المُنعمِ إبراهيمَ، وَلَا خُرافةٌ كَمَا يُشاعُ عَنهَا، وَلَا خَزعبلاتٌ. سَأثبتُ أنَّهَا أصبحتْ وَاقعَاً ملموسَاً أَمسكُ بِهِ..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 156، 157).

لقدْ فَشلَا نتيجةً لفقدانِ الثقة بينهما واتِّساع هوَّة الخلاف في من يكون من الطرفين صادقاً بوعده وفيَّاً بالتزامه إثر إتمام التجربة من قبل فؤاد والاطمئنان عليها في مدى صلاحيتها المستقبلية الناجزة:

"إنَّهُ أمرٌ صَعبٌ. ظَلَّ الرَّجلٌ يَلحُّ كَثيرَاً بِأنْ أَسرعَ فِي إجراءِ التَّجربةِ، وَأنَا غَارقٌ فِي تَفكيرِي لإيجادِ وَسيلةٍ تَقنعهُ بِأخذِهَا مَعِي[أي طَاقيةُ الإخفاءِ]. الرَّجلُ العَجوزُ مُستميتٌ بِانتظارِ نَجاحِ تَجربتهِ الَّتي أفنَى كُلَّ عِمرِهِ فِي صُنعِهَا كَمَا يَدَّعِي. كَانتْ أفكارِي تَنثالُ عَلَيَّ وَلَا أستفيدُ مِنهَا؛ لأنَّها لَا تَجعلهُ يَقبلُ بِإعطائِي القُبعةِ ذَاهبَاً بِهَا إلَى بِلادِي." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 160، 161).

وعلى وفق ذلك الاتفاق المُتعثِّر بالفشل لما جَرى ويحدثُ من مفاوضاتٍ وئيدةٍ صارمةٍ، وصلت فيها  الأمور بينهما إلى آخر مَحطَّةٍ من محطَّات التعقيد والفشل الموجع التي لقيها فؤاد في سلسة مفاوضاته الساخنة مع دكتور هولمر، والتي انتهت بالفشل المرير دون الوصول إلى اتفاق نهائي.

وقد حدث ذلك الفشل وبانت مواجعه التَّأزُّميَّةُ الخاسرة لحركة البطل السوداوية من خلال حلِّ حبكة الصراع الدائر بين الخير والشرِّ، والتي انتهى إليها الكاتب إبراهيم سبتي في خواتيم روايته حينما تلقَّى البطل فؤاد في معرض اتِّصاله الهاتفي الذي أجراه مع أهله وأسرته بالذات خبراً صاعقاُ مَفاده مقتل غريمه وعدوه أسّ الحكاية في العراق المدعو علوان؛ وذلك من خلال ظروفٍ غامضةٍ كان صداها المدويُّ على نفسه أشبه بالنصر البعيد الذي تحقَّق له بعد أنْ فشل في جميع مباحثاته وخاصةً الأخيرة مع الدكتور هولمر، الأمر الذي سبب له الإغماء نتيجة وقع أثر الصدمة:

"وَلكنَّنِي وَاصلتُ اِتِّصالِي بِعائلتِي فَانسابَ صَوتُ زَوجتِي لِتطمئنَ عليَّ. تَكلَّمتُ مَعهَا بِكُلِّ جَوارحِي  وَاشتياقِي إلَى بَيتِي وَسمعتُ صَوتَ اِبنِي؛لَكنْ صَوتُ زَوجتِي عَادَعَاليَاً:-اسمع.. رَاحَ صَوتُها يَتقطَّعُ ..عَلوانُ.. مَا لَهُ عَلوانُ؟ -قُتِلَ .. مَاذا.. قُتِ..لَ .. قَتلوهُ.. كَيفَ؟ مَنْ قَتلَهُ؟ اِنقطعَ الاتِّصالُ لِنفادِ العُملةِ المَعدنيةِ. شَعرتُ بِالإغماءِ  وَالرعشَةِ تَسرِي فِي عُروقِي..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 169).

وبعد سماعه لنبأ مقتل علوان سببُ وجعه وضياعه وتشتُّته وَتِيهِهِ وتَغَرُّبه في بلاد الهجرة، ومروره  بحالةٍ من الذهول والارتعاش والصدمة غير المتوقَّعة لِمَا تَلقاه مِن خبرِ مَقتله الصادم، استعادَ فؤاد وعيه بالكامل جرَّاء المكالمة، وتنفس الصُّعداءَ، وشعر بأنه  لم يعد هناك حاجة لطاقية الإخفاء التي جنَّد نفسه لها وراح يبحث عنها في مسرى رحلته السرابية المُوجعة التي كلفته مَالاً وجهداً كبيراً:

"إنَّهُ لِكلامٌ كَبيرٌ وخَطيرٌ. اِرتحتُ كَثيرَاً وَانتَعشتُ وَزادنِي الخَبرُ الصَّاعقُ بِالثقةِ الَمفقودَةِ مُنذُ زَمنٍ. وَشَعرتُ بِنشوةِ الفَوزِ فِي المَعركةِ وَلَمْ أعُدْ أحتاجُ إلَى القُبعةِ وَلَا حَتَّى البَقاءِ هُنَا. لَمْ تَسمحْ لِي دَقائقُ الاتِّصالِ، بِإخبارِ زَوجتِي أنَّ الجَامعةَ التُّركيةَ سَتردُّ عَلَيَّ بَعدَ أُسبوعٍ حَولَ قُبولِ طَلبِي أوْ رَفضَهُ. مَعَ أنَّي لَمْ أُقَدِّمْ لِأَيةِ جَامعةٍ وَلَكنَهُ العُذرُ الَّذي سَافرتُ بِهِ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 169، 170).

وأخيراً أيقن فؤاد كلَّ الإيقانِ بأنَّ مُهمته التاريخية ومعضلته العسيرة الكبرى بالحصول على شبح قبعة الإخفاء المُنقذ من هواجس علوان وتربصاته العدائيَّة، انتفى شرط الحصول عليها، وما عاد لها أثر مُهمٌّ في تاريخ سجِّل نفسه المُتأزِّمة بِعُقدة علوان إثرَ هذه النهاية التي توفِّر له الأمن والسلم والاستقرار والعيش بحريَّةٍ كرامةٍ دونَ عدوٍ يتربَّص به كلَّ يومٍ من أيام حياته المتجدِّدة:

"فَكَّرتُ بِالأمرِ وَاِنتابنِي الفَزعُ بَأنَّ مُهمتِي قَدْ فَشلتْ وَدَخلتْ نَفقَاً مَسدودَاً خَاليَاً مِنِ بَصيصِ الضَوء.الُّدكتورُ العَجوزُ لَا يَستسلمْ بِسهولةٍ. هَكذَا هُمُ الألمانُ،التَّاريخُ أخبرنَا بِعنَادِهم  وَمُفاجآتِهُم، الحَربانِ العَالميتانِ أَحسنُ دَليلٍ عَلَى أنَّهم قَومُ لَا يُهادنونَ ولَا يَرتَضونَ التَّنازل..." (ضِحكةُ مُوزارتُ، ص 170) .

في الوقت الذي يَقرُّ فيه فؤاد إقراراً تامَّاً بوقع فشله وهزيمته المتكرَّرة في الاتفاق مع الدكتور العجوز هولمر، يََنقل لنا  الكاتب على لسان حال بطله المنكسر فؤاد حقيقةً  تاريخيةً عن مواقف الألمان وثباتهم الصعب إبَّان الحرب وعدم، قبولهم بالهزيمة، وكأنَّه يقول هذا هو خطر قائدهم العظيم (هتلر) الذي غزا العالم تَلقَّى الموت ولم ينهزم أو يقبل بالهزيمة والتراجع عن موقفه التاريخي الحربي في المعارك التي خاضها في الحربين العالمتين. إنًّهم هكذا الألمان أصحاب مواقف شاخصةٍ ليست من السهل النيل من قلاع  حصونهم المتينة، وكسر شوكتهم الحربية عالمياً.

وحسن التخلُّص الموضوعي يشير إلى أنَّ فؤاداً قد عاد مُقيداً بسلاسل الهجرة وتعليماتها الصارمة إلى وطنه بعدَ أنْ تمَّ نقله إلى تركيا عن طريق مركز إيواء العائدين إلى بلادهم  قسراً. وبعد تلك العودة السريعة والمفاجئة غير المخطَّط لها في قصَّة هجرة البطل الهارب من شرر العدو، أعلن  فؤاد عن وقع فرحة انتصاره على نقيضه الشرير علوان، وهو ينتظر بشغفٍ لحظات  نقله  إلى الأراضي  التركية  بعد منع من دخول أراضيهم  ثانيةً  خلال التفكير  بذلك مَرَّةً أخرى.

تَجلِّياتُ الخِطابِ السِّرديِّ

لقد أثبتت كلُّ مشاهد هذه الرواية بأنَّ فؤاداً هوَ رجل ُالرواية الأول وبطلها الافتراضي المهزوز،  وعلى الرغم من ثقافته المعرفية الشخصية المكتسبة فأنَّه شخصيةٌ اجتماعيةٌ مازوشيةٌ طيِّعةٌ لتلقي  سلطة القمع والاستبداد النفسي والتلذُّذ بالفشل الذريع، وهذه الشخصية المتفرِّدة تجدُ في وجع هذه النكوصات الارتكاسية المأزومة ميلاً شديداً في تنميتها وتثميرها لتتعايش بتوحدنٍ تامٍ مع معطيات الحدث.

وهي على الرغم من أنَّها تسعى دوماً إلى التحرُّر والاستقلاليَّة عن كلِّ عناصر الشرِّ التي مارسها الآخرونَ ضدها مثل علوان وغيره من فئات المجتمع ذي الصلة المتنفذة والجاه الكبير في سير العلاقة بين الحاكم والمحكوم،أي(أكونُ أو لا أكونُ).فقد تمكَّنت هذه الشخصية السلبية في نهاية  الأمر مُصادفةً لا بإرادتها من التحرُّر الوجودي من قيدها الآسر وقامت حياتها على رماد غيرها.

تعدُّ رواية(ضحكةُ موزارتَ) لمُدَوِّنَها الكاتب الألمعي إبراهيم سبتي رحلةً استكشافية شاقةً الأثر في أدبيات حداثة الميتا سرد الروائي الفنتازي للبحث عن عوالم الذات الأنويَّة الإنسانية الموَّارة. ومحاولة استنطاق مكنوناتها النفسيَّة غير القارَّة، والقابعة في تواترها الفعلي الحدثي المُتراتب عبرَ تجلِّيات القمع ومَجسَّات الألم ومشاهد التِّيهِ ومخرجات الضياع الرُّوحي والاجتماعي بشتى تمثُّلاتها ومظاهرها الديستوبية للوصول إلى ضفاف الحقيقة المغيّبة عبرأثيرأنساقها الثقافية القريبة والبعيدة.

إنَّ ثنائية العوامل المحيطية الخارجية لبنية فاعلية السرد الحكائي لهذه الرواية، والمُتمثلة بالبيئة الزمكانية ورؤية المؤلِّف وموقفه المُحايد في توزيع مشاهد الواقعة على جسد الرواية ومُتغيِّرات العصرنة وإسقاطاتها. مُضافاً لها العوامل الداخلية التي تهتمُّ بالدرجة الأولى ببنية النصِّ السردي وتماسك لغته ومنهجيته النقدية، لقد لعبتا دوراً مُهمَّاً في رسم هندسة الخطاب السردي وإخراجه إلى المتلقِّي بهذه الصورة الفنيَّة، ودعوته إلى الاقتراب منه والولوج في فضاءاته السحريَّة والواقعية والسياحة في عوالمه المعرفية الإبستمولوجية والوجودية الأنطلوجية والأكسيولوجية القيمية الثلاثة.

لقد حاول الكاتب سبتي في اللَّحظات الأخيرة من خواتيم هاوية السقوط الذاتي في بئر مستنقع الفشل المرير، أنْ ينقذ بطله (فؤاد)، ويجعله شمساً متجدِّدةً الإشراق على الآخرين بعد أنْ كان يظنُّ كلَّ الظن أنَّه يعيش على هامش الحياة القاتلة التي لا وجود لها أمام براثن الشرِّ التي تتصيَّدُ حياته.

تستمد رواية(ضحكة موزارت) قوتها الموضوعية وثيمتها الفكرية من رمزية شخصيتها الارتكاسية المرتدة عبر أحداث الرواية الزمكانية، والتي تستدعيها وتوظف فكرتها في ثنايا متنها الحكائي، وهي شخصية(فؤاد) التي لا يعرف عنها الآخرون سِرَّاً إلَّا القليل القليل من النزر اليسير. فجاءت ثيمة هذه الرواية لتعيدَ ترميمَ بناء شخصيتها القلقة المأزومة والمحتشدة بطاقةٍ كبيرةٍ من الخيبات والانكسارات الروحية والنفسية المتلاحقة، والتي أخذت من موزارت ضحكته الإشراقية.

تتميِّز هذه الرواية بخاصيةٍ فنيَّةٍ متوحدةِ وبمرونة إجناسية سرديَّة متعدِّدةٍ مرنةِ تتسع لشتى فنون السرد من رواية واسعة المساحة وقصة طويلة وأدب رحلاتٍ وسيرةٍ ذاتيةٍ أدبيةٍ ونفسيةٍ واقعيةٍ وخياليةٍ متواشجةٍ. وتسعى بتجردٍ جاهدةً للقيام بدور توثيقي بشكل مباشر أو غير مباشر لحياة كثير من المهاجرين العراقيين والعرب ممن تقطَّعت بهم سُبل حرية العيش والنجاة في واقع بلدانهم المضطهدة. وأعطت صورة واضحة عن واقعية ذلك العالم الغربي الذي تسعى إليه هذه النفوس.

لقد تَمكَّن الرائي الكاتب إبراهيم سبتي من خلال قُدرته التعبيرية والفنيَّة الإدهاشية على الإقامة الطوعية داخل أقانيم جسد الجنس الأدبي السردي الروائي والمكوث به معايشة لاِكتمال الأحداث لحين انتهاء مهمَّة البطل القناعية الفاصلة بين عنصري الخير والشرِّ.

وحرصَ المؤلِّف بعنايةٍ واجتهاد كبيرٍ على تأصيله وتأثيثه موضوعيَّاً، وثابر بتؤدةٍ فكريةٍ على تكثيف مشاهد الخطاب النصِّي الدراميَّة السوداويَّة وإبراز وقائع صوره التراجيدية التشاؤمية معنوياً ودلاليَّاً. وكان هدفه الأول في إنتاج هذا العمل التخليقي السردي الشائق هو إبراز السمات الفنيَّة والجماليَّة والإنسانية الفاضلة. واستطاع من خلال المعادل الموضوعي ضحكة موزارت التاريخية والفنيَّة أنْ يصنع لشخصية بطله ضِحكةً كوميديةً فارقةً تخلِّد اسمه البطولي وترفع من قيمة رسمه الانطلوجي الوجودي كبطلٍ قائم بذاته الإنسانية عاش أحداث الرواية الإيجابية والسلبية.

***

د. جبَّار ماجد البَهادليّ / نَاقدٌ وكاتبٌ عراقيُّ

 

المكان وشخصياته في (عن الشط وأهله) لمعن غالب سباح

تُعد النصوص الشعرية التي ترتبط بالمكان وشخصياته، انعكاسا للهوية الثقافية والسياقات الاجتماعية التي تنبثق منها، ولا يُقدَّم المكان في هذه النصوص بوصفه مجرد إطار مكاني، أو خلفية للأحداث، بل يتحول إلى كيان مشبع بالرموز الثقافية والتاريخية التي تُساهم في تشكيل هوية الشخصيات التي تتفاعل معه، إذ يُنظر إليه كتمثيل للخصوصية الثقافية.

ففي النصوص الشعرية المرتبطة بالمكان، يتم إضفاء طابع رمزي على الشخصيات التي تنبثق منه، لتصبح بمثابة تمثيل رمزي للهوية الجمعية، وحاملة للتراث الثقافي والتاريخي، ويُصبح المكان جزءاً لا يتجزأ من تكوين الشخصية داخل النص الشعري، حيث يعبر عن انتمائها الثقافي وعن تجربتها الفردية التي تعكس بدورها البنية الاجتماعية للمكان ذاته، إنَّ هذا التفاعل بين الشخصية والمكان يفتح النص الشعري على أبعاد ثقافية عميقة، ويخلق صلات متشابكة بين الذات الفردية والهوية الجمعية.

ومن تلك النصوص ما قدمه الشاعر معن غالب سباح في مجموعته الشعرية (عن الشط وأهله- نصوص عن الشامية العظيمة وأهلها الشرفاء) الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2021، إذ يمكن النظر اليها من زاوية كيفية تقديمها لشخصيات معروفة داخل المدينة، وهي مدينة الشامية في محافظة الديوانية العراقية، باعتبارها رموزاً ثقافية تمثل قيماً اجتماعية محددة، حيث اطلقت الدكتورة ناهضة ستار على هذا النوع من النصوص في تقديمها للمجموعة بـ (النصية الإنسامكانية) (عن الشط وأهله: 10) حيث يعكس هذا التناول كيف يعمل الشاعر على تحويل الشخصيات إلى مرآة تعكس هوية المكان، مستفيداً من التقاليد والقيم المحلية التي يحملها كل فرد، كذلك، تصبح المدينة نفسها عنصراً فاعلاً في تشكيل الشخصيات، إذ تتخذ أبعادها الثقافية والتاريخية دوراً مركزياً في توجيه الأحداث وتكوين العلاقات، ففي نص يحمل عنوان (الأب "عليه السلام" السيد صاحب الشرع والد الشامية) يقول الشاعر:

ياااااا أبا الشهداء

جعفرُ ومحمدُ وتوفيق

شاميتُكَ

أجملُ ما فيها

أنّها إلى الآن

تَصدُقُ حينما

يُقسِمُ أبناؤها بك

وحنّاءُ امهاتهِا

وهنَّ يطبعْنَ الزغاريدَ

في ديوانِكَ نذوراً

لطلبٍ مقبول

تحبُّكَ

حدَّ انغماسِ الروحِ

وذوبانِ النفسِ

في طريقِ

الربِّ الرحيم

بالنسبة للقارئ من أبناء المدينة المطلع على تفاصيل المكان وشخصياته، تكون هذه الدلالات واضحة ومباشرة، حيث تتطابق معرفته الشخصية بالمكان والشخصيات مع ما يقدمه النص، أما القارئ الخارجي، الذي لا يمتلك الخلفية الثقافية عن المدينة وشخصياتها، يجد نفسه أمام تحدٍ في فهم الرموز والتأويلات الثقافية، لذا يستند التأويل إلى مدى معرفة القارئ بالتفاصيل الثقافية والاجتماعية التي تُثري النص، مما يخلق تبايناً في تلقي النصوص وتفسير دلالاتها بحسب الخلفيات الثقافية المختلفة للقراء، وفي نص أخر (حنوف –عطر الشامية الأصيل/ أبو عايد جايك واصل)، يقول:

النقاءُ سجيّة

والأيّامُ

شواهدُ المدّعين

الكرمُ

بقَدَرِ ما تستطيع

لا بما تَملك

حنوفُ

يا شرفَ الفقرِ

وساحاتِ البذلِ النبيل …

يا لطولك الشاهق

رغم القصر

وأنتَ وجهٌ لعملةٍ أخرى

هي أخوكَ التوأمُ إدريس

تحبانِ البراءةَ

و تمنحان ابتسامةً

تفتقتْ من قلبِ نخلةٍ

عاشقة

تُظهر مجموعة "عن الشط وأهله" للشاعر معن غالب سباح بوضوح أن النصوص الشعرية المرتبطة بالمكان ليست مجرد تعبير عن إحساس جغرافي، بل تتجاوز ذلك لتصبح تمثيلات ثقافية تعكس عمق الهوية الجماعية والفردية في تفاعلها مع السياقات الاجتماعية والتاريخية، فالتحول الرمزي للشخصيات والمكان في هذه النصوص يفتح آفاقاً جديدة لفهم كيفية توظيف الشعر في صياغة الهويات الثقافية، حيث تتشابك الدلالات بين الماضي والحاضر، الفرد والجماعة، مما يخلق بنية ثقافية تتجاوز حدود الزمان والمكان، من هنا، يمكن القول إنَّ هذه النصوص تُساهم في إثراء دراسات النقد الثقافي، بفضل قدرتها على تقديم رؤى متعددة الأبعاد تعكس والتحولات التي يشهدها الواقع الاجتماعي والهوية الثقافية في آن واحد.

***

أمجد نجم الزيدي

 

قد يجوز لنا اعتبار رواية "خط النار ممتد" من نوع السرد الروائي الإطاري كونها تتضمن عناصر هذا النوع من القص، ولأنها تعتمد في بنيتها على عدة حكايات، يصعب تفضيل واحدة على الأخرى كما سيتبيّن لنا لاحقاً.

ورغم أن عنوانها يوحي عن انتمائها إلى أدب الحرب، لكنه يؤكد أيضًا أنها لم تنته، بل لا تزال ممستمرةً، فخط النار هذا ليس ممتد فحسب، بل متوغل في العمقين المكاني والزماني وكل زمكان العمل. الزمكان هنا خير تجسيد لمجمل العلاقات الزمانية والمكانية السردية.

وكأغلب روايات الحروب، تناول هذا العمل الأدبي أيضاً موتيفَ الحب لتدور حوله شخصيات مثل عبد المنصف ومجاهد وزينات أثناء الحياة الجامعية، وقد انتهت أعوام الدراسة بحلوها ومرها لتبدأ بعد ذلك أنواع أخرى من المعاناة.

والرواية بدءًا من مطالعها المتناثرة تعرض على المتلقي عدة شخصيات متباينة، مثل المجندين من أجل تحرير الوطن، وآخرين غير مبالين: "إحدى الطالبات مددت للشمس ساقين عاريتين" "قال للشاب الذي تتدلى من عنقه سلسلة ذهبية، ويصل شعر رأسه إلى كتفيه". (ص5)

"كان الحوذي ممددًا ساقيه النحيلتين، الخاليتين من الشعر في الشمس، بينما رأسه في ظل حائط"، و"استلقى بعيدًا يلوك رغيفًا لواه على بضع طعميات باردة وأعواد فجل غير مغسولة وهو مغمض العينين في استرخاء وبلادة وعته". (ص11)

نلاحظ هنا أن المَشاهد تنتقل إلى قرية "القاضي" التي أعتبرُها كناقد أدبي تجسيداً لمفهوم "الأليجوريا"، لكن بدون تخطيط الكاتب لها أو عن قصد منه!  وربما أراد الكاتب أن يجعل منها رمزًا للوطن كله الذي يعاني من التخلف. يقول الروائي: "لكنها (القرية) ملبدة بالخرافات والجهل وسخافات اللا منطق".

ولهذا بالضبط اعتبرتُها شخصياً "أليجوريةً" أكثر من كونها رمزاً عاديّاً، لأنها تأخذ حيزاً أكبر في السرد ووصف الناس بطريقة توحي بأنه يركّزُ على فكرة الأليجوريا الشمولية النمطية (الرمزية المجازية). نقرأ في الرواية وصفاً عاماً لأبطاله، كبشر غريبي الأطوار، ومنازلهم كأنه يصنّفهم جميعاً كمجموعة بشرية تمثّل صنفاً معيناً: "وأهل القرية يوقنون أن أبطالهم دجالون"(ص17) "البيوت القديمة هذه لها رائحة الزمن المتخمر يتعرف عليه من يعود إليها بعد غيبة". (ص22)

وبمناسبة الحديث عن مكبر الصوت الذي تبرع أحدهم به للمسجد نقرأ: "وهل يوجد صوت أحلى من الذي يخرج من القلب، إنه أحلى ألف مرة من الأصوات التي تثقب الأذن". (ص22)، "هل أنت متحجرة يا قريتنا، راضية بتحجرك؟ أم تنتظرين من يرفع الغطاء عن عينيك ويرفع وجهك إلى السماء لتحط على تقاطيعه طيور الشمس؟ (ص35)

وهنا يتتبع الكاتب مسيرة الوقوع في شرك الخزعبلات، وقبل ذلك- وبعد ذلك أيضا- يطلعنا على الظلم المتفشي في المجتمع مثلما نقرأ تحت عنوان "مفاتيح على صينية شاي" (ص25) و"لقيط جنب السور" (ص37) و"منافسة غير شريفة" (ص50) و"ألاعيب رأفت القاتم" (ص30)

يعرض الكاتب في هذه الرواية على المتلقي شخصياتٍ موهمًا إياه أنها كلها حقيقية؛ حيث يذكر الأسماء كاملة، والعمل الذي كان يقوم به المجند قبل تجنيده، والشهادات المدنية الحاصل عليها، وتاريخها، بل إنه أحيانا يكاد يوثقها حيث يذكر أرقامًا وتواريخَ محددةً تجعلك تثق بأن هذا الحدث او ذاك قد حصل فعلا وليس له شيء من الخيال. وأنا لا أكاد أشك أن العديد من الشخصيات هي كذلك بالفعل، لكني واثق أن ثمة شخصيات عديدة في الرواية قد ابتدعها الكاتب ابتداعًا، ولا بدَ له من فعل ذلك ليجعل منها رابطًا يصل الروافد بالمنبع الذي تتدفق منه الأحداث، "كما أنه لا يعقل أن يذكر الكاتب شخصية حقيقية مسماة ثم يحكي عن جوانب النقص فيها بكل صراحة، أو يزج بها في بحار الغرام هكذا بكل جرأة دون أن يحتسب لذلك ألف حساب" على حد قوله في حوار خاص معه.

إذن فالشخصيات بعضها حقيقي تمامًا، بل يوهمك الكاتب أن كل الشخصيات الواردة في الرواية حقيقية، وهذا الأمر يجعلك تعيش الأحداث كما فعلَ أصحابُها، وكأنك تشاركهم أعمالهم وإنجازاتهم.

لا يختار الروائي هنا أبطاله أعمدة مقصودة ليشيد عليها البناء الدرامي، لكنهم قدموا من منطقة معينة، وعاشوا في أخرى كيفما اتفق؛ فهم إذن ليسوا أفضل رجالات الحرب ولا هم أبطال خارقين، إلا أنهم قاموا بأدوار عظيمة قد تتتسم بإخفاقات، لكنها حقّاً إنسانية، بدون تكلف أو ادعاء.

وفي "كلام في السياسة" نلاحظ أن الكاتب يؤكد فكرة "الأليجوريا" فنرى الجو العام يتسم بالخوف من التعبير عن الرأي مما يجعل العقم السياسي يستشري في المجتمع، وتتحجر الأفكار بحيث يخشى مدير المدرسة من إزاحة تمثال رئيس راحل في عهد رئيس حالي من أمام مكتبه رغم إعاقته الحركة، فما بالك لو كان هذا النصب للرئيس الحالي نفسه؟! إنها حالة الرعب، لدرجة أن المدير طلب من جميع العاملين بالمدرسة التوقيع على ورقة يقولون فيها إنهم دخلوا المدرسة فوجدوا التمثال ملقى على الأرض. "سأله أحدهم: وما الذي يوقع تمثالا ضخمًا كهذا يا حضرة الناظر بين عشية وضحاها؟ فكانت الإجابة: "وما أدراني؟ لقد حدث هذا ليلا. ربما قفز قط فوق كتفيه أو أي شيء...". (ص80)

هذه هي الكيفية التي اتخذ بها ناظر المدرسة قراره بإزاحة تمثال من أمام مكتبه. ربما جاء الكاتب بهذه الواقعة ليدلل على أن اتخاذ قرار حرب مصيرية هائلة كهذه كان شيئا هائلا.

لا شك أن الإرادة المصرية لم تنتصر إلا بعد تحررها من عدّة عوائق رغم تفشي الجهل في المجتمع، ويصف الروائي هذا الأمر بسخرية سوداء وتهكم.

نقرأ في الرواية كمثال على ذلك ما قام به ناظر آخر في فصل: "نقش على خصية" عندما استدعى عبد المنصف وصارحه: منذ أربعة أشهر وأنا لا أستطيع "النوم" مع زوجتي. وطلب منه الذهاب معه إلى أحد هؤلاء. وكان ما كان: "سأكتب لك بعض الكلمات على خصيتك وستدهش لسرعة تحسنك!". (ص106- 107)

هكذا تُبنى الأليجوريا، كل مجموعة بشرية أو كل شخص يمثّل سلوكه رمزاً معيناً مثل الشر أو الجبن والأمية والجهل، أو الخير والشجاعة والعلم والمعرفة، قد يقصد الكاتب من وراء ذلك أن يبرز وجه القيادة الآخر، الذي أدّى إلى نتائج ناصعة، "وأعني بذلك ما كان من الملازم ثان عبد الستار حجازي الذي ما كاد يصل إلى موقعه الجديد أيام حرب الاستنزاف، ويتعرف على الأفراد" من رسالة شخصية من الكاتب محمد السنباطي.

 نقرأ في الرواية " سأل الشاويش حسن سليمان:

"- هل اشتبكتم مع العدو يا حسن في الفترة الأخيرة؟

- لا يا أفندم..  نحن لا نريد كشف مواقعنا كي لا يرصدنا العدو ويضربنا بالطائرات..

- نحن موجودون هنا لكي نموت.. احفظ عني هذه الجملة.. وأرفض الجبن بأية صورة من الصور ...

وفي الفجر.. بعد ساعات من هذه الأمسية.. أمرت أفراد المدفعية باحتلال أماكنهم وكشف المدافع ووقفت أنا في نقطة قيادة وأصدرت أمرا بتدمير الأهداف المرصودة والتي لم تدمر من قبل..

وكانت تلك مفاجأة كاملة ...". (ص166- 167)

و.... انظر إلى الضباط وكيف كانوا يوافقون على منح إجازات للجنود الذين يقومون بعمل دراسات عليا في الجامعات وكيف كانوا يساندونهم ويشجعونهم.

كانوا يعطون القدوة والمثل.

ولم يكن ذلك يحدث من جانب الضباط الصغار فقط، بل على مستوى القادة الكبار أمثال الفريق عبد المنعم رياض، وقد عبر الكاتب عن ذلك أبلغ تعبير حيث عرض الأمر على هيئة مسرحية قام بها طلبة المدرسة التي كان يعمل بها عبد المنصف وزينات.

ثم انظر إلى أحد القادة وما يقوله عنه أحد جنوده بعد استشهاده: "جاءت طائراتنا لتتصدى. تقدمنا وليس بيننا وبين ممر مثلاً سوى مسافة بسيطة. تبادلنا القصف الشديد. وعلى مقربة نصف كيلو متر من الممر حصرنا قواتنا لنعرف عددنا بالضبط.. وإذا بقائد اللواء بروحه الطاهرة مع الشهداء..  أما جسده فمتفحم في الدبابة..

كنا ننظر لهذا الرجل وكأنه من جيل الصحابة أو من القادة الإسلاميين الأوائل.. لم يكن من الذين يرهبون الأهوال، بل كان يقتحمها وفي أيام انتظارنا للعبور كان متوترا جدا لأنه لم يعبر.. كان يتمنى أن يكون أول الفاتحين أو أول الشهداء.. لهذا كانت دبابته في المقدمة دائما..

بكيته كثيرا ...  لا يمكن أن أنساه أبدا ...

كنت قد تقدمت إليه بطلب للحصول على إجازة لمدة شهر لدخول امتحان الدراسات العليا في شهر يوليو 73 وذلك عن طريق قائد السرية وقد طلبني بالتليفون وأخبرني أنه صدق على إعطائي هذا الشهر لأنه لا يستطيع أن يقف في طريق العلم.. وشجعني..

بكيته كثيرا وترحمت عليه أكثر".

تتميز هذه الرواية بكثرة الحكايات، وقد يصعب على المتلقي تحديد أهمها، التي يبني الروائي عليها معمارها، وأنا شخصيا حاولت ذلك لكن برزت قصص أخرى فرضت نفسها على فضاء السرد، لكن ربما كان هناك حكاية "لقيط جنب السور" هي الأهم، كما ذكر لنا الكاتب نفسه. (ص37)

"عوج فمه في ابتسامة بلهاء، وهرش قفاه ثم تمتم:

- طفل مولود يا جناب العمدة يقول: واء واء

- ماذا يقول يا ولد؟

- واء واء

- أسمعت يا شيخ عبد الفتاح؟ أنا معك إنَّ غضب الله آتٍ لا محالة وأنت تتحمل جانبا من المسئولية لأنك تخطب الجمعة والناس ينعسون أمامك حتى تكاد أدمغتهم تتخبط في الأرض وهم مقرفصون على حصير المسجد. لماذا لا تشد انتباههم بغير الجعير؟ لماذا تتركهم ينعسون؟

- ولماذا لا تسهر أنت على الأمن؟ هه؟ لماذا تسكت على الدجالين؟

- الخطوط موصولة إلى بعضها يا حضرة العمدة. هل عرفتم أهل الطفل؟ حسبنا الله ونعم الوكيل".

عثر أحد الخفراء على هذا اللقيط وأبلغ العمدة بالواقعة فدار حوار بين الشيخ عبد الفتاح الطاهر وبين العمدة، هذا الحوار سينقطع أكثر من مئتين من الصفحات حتى تنتهي الحرب ويعود من يعود من الغائبين، إلأ ابن بسام البشراوي فلم يعد بعد.

يقلق عليه أبوه ولا يفلح سحره في إرجاعه، يسيطر عليه الشعور بالذنب لأن ابنه تنكر للمولود الذي يعيش الآن في ملجأ بعيد. شيئا فشيئا نعرف أن أم الطفل هي ابنة عبد المعين العربجي، يحاول بسام استرضاءهم ويعد بلم الشمل المبعثر متى عاد ابنه من الحرب سالما معافى. لقد وعدهم بذلك. (أنظر ص261)

أخيراً، نختم مقالنا هذا بمقطع من الرواية: "ولم يكد الحاج بسام يخطو بضع خطوات حتى سمع صوتا يناديه.. صوت صابر الفلاح الطيب المرح يكرر النداء وهو يسرع الخطى ليلحق به:

- عندي لك خبر بمليون جنيه

- عن إلهام؟

- عن إلهام!

لا يمكن أن تتساوى اللحظات ولا الأماكن ولا حتى الأشخاص.. في هذه اللحظة صار صابر غير ذلك الشخص الذي يعرفه أهل القرية.. بل أصبح ذا قيمة كبرى.. في إمكانه أن يأتي بالسعادة في كلمات ينطقها فإذا ببسام هو الأسعد.. رأيته؟

- وسلمت عليه!

قلبه يدق بعنف وهو يرمح ويكلم نفسه بصوت مسموع:

- أحمدك يارب.. أحمدك يار ب. لعنة الله عليك ياعبد المعين يا تمثال القذارة! أيمكن أن تصبح صهري في يوم من الأيام؟ إذن ستقوم القيامة قريبا!".

* محمد محمد السنباطي. خط النار ممتد. مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2010

272 صفحة من القطع المتوسط.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

تمثل رواية "متاهة الأشباح" لبرهان شاوي إحدى الأعمال الأدبية المميزة التي تجمع بين العمق الفلسفي والغموض الأدبي. الرواية هي جزء من سلسلة "المتاهة"، التي تركت بصمة خاصة في الأدب العربي المعاصر. في "متاهة الأشباح"، نجد أنفسنا في عالم معقد مليء بالصراعات الداخلية والتشظي النفسي، حيث تعيش الشخصيات في حالة وجودية غامضة تتأرجح بين الحياة والموت، بين الماضي والحاضر، وبين الحقيقة والوهم. تعد هذه الرواية مرآة تعكس التحديات التي يواجهها الإنسان المعاصر في رحلته للبحث عن ذاته وهويته وسط ضجيج العالم الخارجي وتناقضاته. من خلال شخصيات معقدة ورمزية، يقدم شاوي تجربة سردية غنية بالمعاني التي تتناول أبعادًا نفسية وفلسفية، تتخطى الحدود التقليدية للسرد الروائي، وتفتح الباب أمام تأملات عميقة حول طبيعة الوجود الإنساني.

في "متاهة الأشباح"، يعتمد برهان شاوي على بناء شخصيات تحمل أبعادًا نفسية وفلسفية متداخلة، تعكس التوترات والصراعات الداخلية التي يعيشها الإنسان في مواجهة ذاته ومجتمعه. الشخصيات في الرواية ليست مجرد أدوات روائية تحركها حبكة معينة، بل هي تجسيدات حية لمفاهيم فلسفية ونفسية تتعلق بالوجود والهوية والصراع الذاتي. غالبًا ما نجد هذه الشخصيات عالقة في حالة من التعليق بين عوالم مختلفة، وكأنها تعيش في فراغ لا ينتمي إلى مكان محدد أو زمن معين. هذا التعليق بين الحياة والموت، بين الماضي والمستقبل، وبين الواقع والخيال، يعكس الصراع النفسي العميق الذي تواجهه الشخصيات وهي تحاول فهم موقعها في هذا العالم المعقد. تعيش الشخصيات في حالة دائمة من الاغتراب، حيث تبدو غريبة عن نفسها ومحيطها، مما يجعلها تدور في دوامة لا تنتهي من التساؤلات حول هويتها ومعنى حياتها. إحدى السمات البارزة لهذه الشخصيات هي أنها تحمل بداخلها شظايا من الذكريات والأحداث المؤلمة التي لم تتمكن من تجاوزها، مما يدفعها إلى البحث عن خلاص ذاتي قد لا يكون موجودًا. تتصارع الشخصيات مع أشباح الماضي التي تعيد إحياء الصدمات النفسية والأحداث المؤلمة التي أثرت على حياتها. هذه الأشباح ليست مجرد تجسيد لذكريات ماضية، بل هي قوة فعالة تؤثر بشكل مستمر على الحاضر والمستقبل، مما يضع الشخصيات في مواجهة دائمة مع ماضيها.

الشخصية الرئيسية في "متاهة الأشباح"

الشخصية الرئيسية في "متاهة الأشباح" تتجلى ككائن مثقل بالهموم والشكوك، يغوص في دوامة لا تنتهي من الأسئلة الوجوالوجودية. تعيش هذه الشخصية في عزلة نفسية تامة، حيث تبدو منفصلة عن محيطها الاجتماعي، ولكن هذه العزلة ليست اختيارية بقدر ما هي نتيجة حتمية لتجاربها السابقة. تجد الشخصية نفسها محاصرة بذكريات مؤلمة وأشباح الماضي التي تلاحقها باستمرار، وهذه الأشباح ليست بالضرورة كائنات مادية، بل هي استعارات لتجارب عاطفية ونفسية تركت أثرًا عميقًا في حياتها. تشكل هذه الأشباح عائقًا حقيقيًا أمام الشخصية في محاولاتها المستمرة للبحث عن معنى لحياتها أو عن مخرج من المتاهة النفسية التي تجد نفسها فيها. تبدأ الشخصية الرئيسية في مواجهة هذه الأشباح، محاولة التصالح مع الماضي أو على الأقل فهمه. تدرك تدريجيًا أن المواجهة ليست مجرد صراع مع أشباح الماضي، بل هي في جوهرها مواجهة مع الذات، مع الأخطاء التي ارتكبتها والندم الذي يلاحقها. تعيش الشخصية حالة من الانقسام الداخلي بين ما كانت تريده لنفسها وما فرضته عليها الحياة، محاولة باستمرار التوفيق بين هذين الجانبين المتناقضين. القيود التي تعيشها ليست فقط نتيجة لتأثير المجتمع، بل هي أيضًا نتيجة لصراعاتها الداخلية العميقة التي تجعلها عالقة في حالة من التيه النفسي، غير قادرة على تجاوز الماضي أو المضي قدمًا نحو المستقبل. تحاول هذه الشخصية الهروب من نفسها، ولكن في كل مرة تعود إلى نفس النقطة، حيث تظل محاصرة في دوامة لا تنتهي من التفكير والقلق. في نهاية المطاف، تبدو الشخصية وكأنها تسير في طريق مسدود، تبحث عن نور في نهاية المتاهة، ولكنها تدرك أن الخلاص الحقيقي قد لا يكون في الهروب من الأشباح، بل في تقبل وجودها ومواجهتها بصدق.

الصراع النفسي والوجودي للشخصيات

تتجلى إحدى أهم التيمات في "متاهة الأشباح" في الصراع النفسي والوجودي الذي تعيشه الشخصيات. هذا الصراع ليس مجرد مواجهة مع العالم الخارجي، بل هو انعكاس لحالة اضطراب داخلي تجعل حياتهم وكأنها رحلة دائمة للبحث عن إجابات لأسئلة وجودية معقدة. الشخصيات لا تجد الراحة أو الاستقرار في حياتها اليومية، بل تبدو وكأنها عالقة في حالة من التيه النفسي الذي يعوق تقدمها ويضعها في مواجهة مستمرة مع ذاتها. الشخصية الرئيسية، على سبيل المثال، تعيش في حالة دائمة من الاضطراب، حيث تحاصرها أسئلة حول الذات والمعنى والغاية من الحياة. هذه الأسئلة تدفعها إلى الغوص عميقًا داخل نفسها بحثًا عن إجابات، ولكن كلما اقتربت من الحل، تجد أن الأسئلة تزداد تعقيدًا وغموضًا. الشخصيات في الرواية لا تتعامل فقط مع اضطرابات خارجية من حولها، بل تعيش أيضًا في دوامة داخلية من الصراعات التي تجعلها غير قادرة على التواصل الحقيقي مع العالم من حولها. هذا يجعلها تعيش على هامش الحياة، حيث تبدو وكأنها تراقب كل شيء من بعيد دون أن تكون قادرة على المشاركة الفعالة. تتحرك الشخصيات في دوائر مغلقة من التفكير، عالقة بين ماضيها والحاضر، بين ما كان وما يجب أن يكون، وتكاد لا ترى مخرجًا واضحًا لهذه المتاهة النفسية. الفوضى الداخلية التي تعيشها الشخصيات تظهر بوضوح في طريقة تعاملها مع الأشباح التي تطاردها. هذه الأشباح ليست مجرد رموز للماضي أو للندم، بل تمثل أيضًا أفكارًا وظلالًا نفسية تعيق الشخصيات من التقدم في حياتها. تعيش هذه الشخصيات في حالة من الفوضى الداخلية التي تخلق حاجزًا بينها وبين الخلاص الذي تسعى إليه، سواء كان هذا الخلاص مرتبطًا بالتخلص من الماضي أو بفهم أكبر للذات. هذا الصراع المستمر يعمق شعور الشخصيات بالعجز والضياع، حيث تصبح المواجهة مع الأشباح جزءًا لا يتجزأ من بحثها عن معنى لحياتها. في النهاية، يعكس هذا الصراع النفسي والوجودي التوتر بين الرغبة في الفهم والاعتراف بالعجز عن الوصول إلى الإجابات النهائية. الشخصيات تجد نفسها في متاهة لا تنتهي، وكلما حاولت الخروج منها، واجهتها تحديات جديدة تعيدها إلى نقطة البداية.

الهوية المتشظية

إحدى النقاط المركزية في "متاهة الأشباح" هي مسألة الهوية الممزقة والمشوهة التي تعيشها الشخصيات. هذا التمزق في الهوية ليس مجرد حالة مؤقتة، بل هو جوهر وجود الشخصيات التي تعيش في عالم غير محدد المعالم، حيث تجد صعوبة بالغة في تحديد من هي أو أين تنتمي. الشخصيات غالبًا ما تكون معلقة بين الماضي والحاضر، مشوشة بين هويتها السابقة وما تحاول أن تكونه الآن، مما يولد شعورًا دائمًا بالارتباك والضياع. إنها تجد نفسها في حالة من الاغتراب النفسي، حيث تبدو غريبة عن ذاتها، غير قادرة على التصالح مع ما كانت عليه سابقًا أو التكيف مع الوضع الجديد. هذا الاغتراب ليس محصورًا فقط في الذات، بل يمتد إلى علاقة الشخصيات بمحيطها الاجتماعي. تجد الشخصيات نفسها معزولة عن المجتمع، وكأنها تعيش في عالم منفصل لا يشبه ما حولها. حتى في التفاعل مع الآخرين، يشعرون بأنهم لا ينتمون، وأن هويتهم ضائعة في ظل تغييرات اجتماعية وداخلية متسارعة. هذا الانفصال عن الذات والمجتمع يعمق الإحساس بالاغتراب النفسي والعزلة، مما يجعل الشخصيات تائهة في بحر من التساؤلات التي لا تجد لها إجابة واضحة. الهوية الممزقة تمثل أيضًا الصراع الداخلي العميق الذي تعاني منه الشخصيات بين ما كانت عليه في الماضي وما أصبحت عليه في الحاضر. الشخصيات لا تزال عالقة في ذكرياتها القديمة، وتجد نفسها غير قادرة على التوفيق بين تلك الذكريات وما فرضه الحاضر عليها من تحديات. هذه الهوية المشوهة تجعل الشخصيات تواجه صعوبة في التكيف مع واقعها الجديد، حيث تكون ممزقة بين رغبتها في الحفاظ على ماضيها وبين محاولة العثور على مكان لها في الحاضر. الصراع بين الماضي والحاضر يعزز شعور الشخصيات بالتشويش والارتباك، حيث تتأرجح بين الاثنين دون القدرة على اتخاذ موقف ثابت. هذا التمزق العميق يجعل الشخصيات تعيش في حالة من الضياع النفسي، حيث تصبح غير قادرة على تحديد من هي وما هو موقعها في الحياة. نتيجة لذلك، يتعمق الصراع الداخلي لهذه الشخصيات، ويزداد شعورها بالعجز والاضطراب، مما يجعلها عالقة في متاهة نفسية لا نهاية لها. الشخصيات في "متاهة الأشباح" لا تعاني فقط من فقدان هويتها، بل هي أيضًا محاصرة بين محاولات التصالح مع الماضي والتكيف مع الحاضر، مما يجعلها تعيش حالة مستمرة من القلق والتوتر.

في النهاية، الشخصيات في "متاهة الأشباح" ليست مجرد أدوات سردية تتحرك ضمن حبكة روائية، بل هي تمثيلات حية للصراعات النفسية والفلسفية العميقة التي يعيشها الإنسان المعاصر. من خلال هذه الشخصيات، يجسد برهان شاوي رحلة معقدة للبحث عن الذات في عالم مشوش، تغمره الظلال والأشباح التي تلاحق الشخصيات بلا هوادة، مذكرة إياها دومًا بماضيها وبأخطائها. هذه الرحلة ليست مجرد بحث عن هوية ضائعة، بل هي مواجهة مستمرة مع كل ما هو مخفي داخل النفس البشرية، بما في ذلك الألم، الندم، والأمل في التجديد. شاوي يقدم من خلال "متاهة الأشباح" فرصة للتأمل العميق في طبيعة الوجود الإنساني، حيث لا يمكن فصل الإنسان عن ماضيه، ولا يمكن الهروب من تأثيراته. الشخصيات تجد نفسها في مواجهة مع ماضيها ليس فقط كجزء من الذاكرة، بل كجزء من الحاضر الذي يستمر في تشكيل هويتها وإعادة صياغتها. إن وجود الأشباح في الرواية يمثل تجسيدًا رمزيًا للقوى النفسية التي تعصف بالإنسان وتمنعه من الوصول إلى حالة من الاستقرار الداخلي. الرواية تطرح أسئلة فلسفية حول معنى الحياة والهوية، وتدعو القارئ للتفكير في دوره في هذا العالم المعقد. من خلال تصوير الصراعات الداخلية للشخصيات، يثير شاوي تساؤلات حول ما إذا كان من الممكن حقًا الهروب من الماضي، أم أن الإنسان محكوم دائمًا بمواجهة ما حدث في حياته السابقة. هذا الصراع الداخلي بين الماضي والحاضر يشكل قلب الرواية، ويجعل الشخصيات تبدو وكأنها عالقة في متاهة لا مخرج منها، تعيد التفكير مرارًا وتكرارًا في أخطائها وندمها. في "متاهة الأشباح"، نرى كيف أن البحث عن الذات ليس مجرد عملية بسيطة، بل هو رحلة طويلة وشاقة تتطلب مواجهة الكثير من الأشباح والمخاوف التي تعيش داخلنا. برهان شاوي، من خلال هذه الشخصيات التي تتأرجح بين الواقع والخيال، يقدم لنا صورة عميقة للإنسان في صراعه مع نفسه ومع مجتمعه، موضحًا أن الرحلة نحو الفهم الحقيقي للذات قد تكون مليئة بالعثرات، ولكنها أيضًا مليئة بالإمكانيات الجديدة للفهم والتجديد.

***

زكية خيرهم

 

طريقة السرد

تتحقق في هذه الرواية أهم مقومة من مقومات النوع الروائي ألا وهي بيان  الواقع الاجتماعي المعاش حيث نقرأ فيها عن تفصيلات حياة الإنسان المكافح المصري المعاصر بتقاليد روائية عربية بامتياز حيث تختلط هنا الأساليب العربية. لكن الحدوته المصرية الانسيابية في السرد لا تزال باقية في أصل المضمون والحبكة وهذا ما يميزها عن غيرها من النتاجات الروائية العربية.

نذكر على سبيل المثال لا الحصر "وعاد منصور من الأراضي البعيده" ص 98 أو "ومرت شهور .... ودخل تدريبات جديدة مستمرة، يعود حين يعود كأنما على ظهر سحابة شفافة من الهناء تتحرك به ويقبلني في جبيني وفي رأسي ثم يدلف الى النافذة الشرقية مصدر سعادته". ص 94

أو في قصة العرّاف السيد اللوائي إذ إن الكاتب يصور طريقة تفكير العرب عندما يقعون في مصيبة حيث كثيرا ما يلجأون إلى الغيبيات أو الميثولوجيا والسحر لدرجة أن القارىء يكاد يأخذ الموضوع على محمل الجد وأن هذا الساحر يعلم الغيب حقاً. ص 119-121

الراوي هنا أنثى، بنت شابة جميلة في الثانوية، "توحيده" تحاول أن تجسد شخصية عرابي البطولية على خشبة مسرح مدرستها وبمساعدة الشاب "جلال" الذي يتزوجها فيما بعد كما سنرى في الرواية.

فالراوية إذن هي محور أحداث الرواية ومركز تحرك شخصياتها بدءا من والدتها مرورا بزوجها جلال ووالده الحاج "بهجات" وعمّها وانتهاءاً بابنهما "منصور" وجيرانه. 

ويأتي السرد في "عشيقة عرابي" على لسان بطلة الرواية "توحيده" في مواقف وهرونوتوبات متنوعة ومتشابكة بحيث يختلط الأمر في بعض الأماكن والمقاطع على القارىءغير المدقق.

 حدث هذا بالذات في الانتقالات السردية السريعة أثناء تشابك الزمكانيات بدون تمهيد أو إشارة إلى ذلك بحيث يشعر القارىء بضرورة كتابة اسم الراوية عند بداية سردها بدلا من استخدام الضمير.460 arabi

الشخصيات

يمزج الروائي محمد محمد السنباطي بمهارة التاريخ المصري الحديث بالواقع المعاصر من خلال مقارنات ومقاربات بين الشخصية البطولية عرابي والناس المصريين المشغولين بالهموم اليومية العادية.

كذلك تتداخل الهرونوتوبات التاريخية كما يقول "باختين" بنظيراتها المعاصره كما هو الحال في قصة عودة البطل المنفي عرابي من منفاه معززاً مكرما ورحيل عائلة الديب خلسة بدون توديع لهم او احتفاء أحد بهم على طريقة " روحه بلا رجعه.

لكن ماذا تريد هذه الرواية أن تقول لنا؟ هل تريد أن تطرح لنا فكرة الفروسة والرجولة التي تناولتها الرواية العربية عموما والمصرية بالذات منذ الثمانينات أم أنها رواية كشف الواقع؟.

وفي الحقيقة إنها رواية أرادت أن تكرس نفسها لكلا الموضوعتين بدون مانشيتات عريضة أو إسهاب أو تدفق لغوي سردي نابع من حماسة الكاتب لهما.

وهنا تتحقق مقومة تقليدية أصبحت من المقومات الكلاسيكية للنوع الروائي ألا وهي "بافَث" الكتابة، أو حماسة البطل كما يتجسد في قصص الصياد ومدرب الخيول الحاج "بهجات" عن زميله الراحل والد توحيده حيث تظهر فيه ملامح البطولة.  نقرأ في الرواية على لسان الصياد الحاج بهجات محدثا بطلة القصة عن والدها الراحل:"ابوكي كان زي النسمة. كان عامل زي .. زي .. انتي عارفه لما حتلاقي الشمس عاوزه تعدي من الورقة. الورقة يبقى منظرها شفاف. رهيف....". ص20 وانظر ايضا ص 23، 24

ونفس الشيء يتكرر في سلوك بطلة الرواية "عشيقة عرابي" "توحيده" حيث تصرعلى ركوب الخيل وإدخال الفرس في المسرح وهي بالتأكيد أليغوريا تجسد ملامح الفروسة في الشخصية المصرية وأن عرابي لا يزال في روحها وعقلها وكيانها.

تصف الراوية مشاعرها عن تجسيدها لشخصية عرابي في المسرحية: "تلتهب الكف بالتصفيق التلقائي، ثم تنساب أحداث المسرحية لتفضي إلى المشهد المثير وكانت الطالبات متحفزات لرؤية الحصان يدخل وانا على ظهره، والقدم في الركاب، تطلعت إلى الخديوي المندهش وقلت له بصوت خشن: جئنا نعرض مطالب الأمة. ... وكان الشارب الملصوق تحت أنفي يقوي همتي". ص 17

ويمكن قول نفس الشيء عن تسليم جلال الأمانة "طعام" لصاحبها رغم تأخره وفساده، لكنه أصر على أداء الأمانة لمن ائتمنه كنوع من الأصالة والفروسة وكي لا يشعر بتأنيب الضمير والكَثارسيس "جلد الذات".

والحاج بهجات نفسه فيه من الفروسة وملامح النبل الإنسانية ما يكفي إلا أن الروائي لا يلون بالأسود والأبيض بل يعطي شخصياته مجالا رحبا من السلوك البشري السوي ولكن ليس بمعزل عن مختلف الغرائز والرغبات، وهنا تتجسد في حقيقة الأمر سمة البوليفونيا أو تعدد النغمات التي أشار اليها باختين في كتاباته النقدية عن الرواية.

من ذلك يمكن ملاحظة تطور شخصية جلال وتصرفاته المتغيرة حيث يسلك سلوكا حالماً وعاقلاً وحكيماً عند وفاة والده فيصر على إتمام مراسم عرس أخت زوجته ص 114، لكنه في نفس الوقت لم يُخفِ حادثة حرق بيتهم عن زوجته واضطرارها إلى العودة وعدم الاحتفال مع أمها بالفرح. لذا نسمعها تتسائل معاتبة "ألم يكن من الأجدر بجلال ألا يخبرني...". ص 115

فهل يمكن أن يكون الحاج بهجات شخصا رجوليا إن جاز لي التعبير هنا و"يصادر" في الوقت نفسه تنقيطة زواج ولده يوم عرسه ص 114 على مبدأ "الولد وما ملك لأبيه" ويجسد أيضا "نضج البطل الروائي أو رجولة البطل الروائي" في رواية الثمانينات المصرية.

الاختلاف بين "عشيقة عرابي" والروايات العربية السابقة المكرسة لنضج البطل الروائي أو رجولته يكمن هنا، في كونها ليست موضوعةً مقدسة وأن بطلها ليس شخصية أسطورية تتجسد فيه مواصفات القوة والذكورة المبالغ فيها أحياناً، بل واقعية تخطئ وتصيب.

وشخصيات هذه الرواية ليست مكرسة أو موظفة جميعها لموضوعتها بحيث يُسقط الكاتب أفكاره عليها ويصمم أدواراً لها، بل يحاول أن يعطيها كما أشرت سابقا فضاءً رحبا تتحرك فيه.

ونذكر هنا بعض الأمثلة: مزج أحداث ثورة عرابي بحرب أكتوبر و مقارنة ثوار عرابي بسارقي "الغسالة" بنك العائلة ص116، ولاحظ في الوقت نفسه مقارنة عرابي بجلال الذي يبيع ذهب زوجته منذ بداية زواجهما. ص 36

ومع ذلك فهو لا ينسى أن يقول لأخيه غير الشقيق زكريا: "أنا أحد أبطال أكتوبر يا شيخ زكريا" ص86 وهي مناسبة رائعة من الروائي ليذكر القارىء بزمان الرواية.

وكنت أتمنى على الكاتب أن يكون حواره أقرب بكثير الى المحكية و أن يبتعد قدر الإمكان عن المفردات غير المستخدمة في العامية مثل فقد وغيرها، وأنا أقول ذلك وأعلم علم اليقين بأن مسألة الحوار في النتاجات السردية العربية من أعقد المهمات على الكاتب، لكني مع ذلك أصر على أن الرواية يجب أن تتميز بلغة متعددة الأصوات والنغمات والدرجات وتتجسد فيها "لغة الساعات" على حد تعبير باختين.

تتميز لغة هذه الرواية الجميلة بقصر الجمل واقتضابها أو اقتصادها اللغوي لكنها أحياناً اخذت طابعا قد يكون صعبا للقارىء غير الدقيق بسبب الانتقالات السردية بدون تمهيد لغوي لاسيما وأن التصميم الفني الطباعي لبعض فقرات الرواية افتقر إلى الإشارة الى ذلك.

وهناك اختلاط سردي بين أكثر من موضوعة فبينما يتوقع القارىء أن الراوية ستحدثه عن خطبة منصور بعد عبارة "وعاد منصور من الأراضي البعيده ..." ص 98 لكنه يقرأ عن خطبة خالته الصيدلانية. ص99

أعتقد أن القارىء أصبح عملة صعبة ونادرة ومن الضروري أن يفكر الكاتب العربي به عندما يكتب نتاجه السردي الطويل وأنا لست مع الشروح والإسهاب لكن لا بدَ  من أخذ هذا الموضوع على محمل الجد.

وقد يكون من المناسب هنا أن أشير إلى أهمية السخرية في العمل الفني وليس بالضرورة على طريقة رابليه او غوغول أو التركي نسين، ولكنها لا بدَ  أن تعكس حياتنا الواقعية بكل مافيها من مآس ٍ وأحزان وأفراح ومزاح في الوقت نفسه وفي الحوارات.

وأذكر هنا مثالا على هذا المزاح أن أم ربيع تزور قبر زوجها فيسألها جلال "ووجدته في القبر أم على المقهى؟!" ص 127

أخيرا فلا يسعني إلا القول إن هذه الرواية إضافة جديده للنتاجات الروائية العربية وتجسيد لتطورها الحديث، استخدم فيها الكاتب الرائع محمد محمد السنباطي الحلم بطريقة رائعة ص 64 وصوّر فيها العلاقة الحميمية بين الناس المصريين مهما اختلفوا في انتماءاتهم  الطبقية مثل علاقة المرأة الغنية المدام ناني بالإنسانة الفقيرة المصرية المكافحة بطلة الرواية وعائلة جلال حيث تقول لها " أنت مثل بنتي لقد أحببتك .." ص 67 وتصوير واقعي لحالة الفقر التي يعيشها المواطنون المكافحون أحفاد عرابي ص69 الذين يستحقون بالتأكيد حياةَ أفضل  بكثير من تلك التي يعيشونها والمليئة بالمعاناة.

تقول بطلة الرواية عن مكان سكنهم الجديد: " ... هنا لكل عائلة من الثلاث حجرة أما أنا فلي حجرتان، بهذا أخبرني زوجي ليخفف عني لوعة الصدمة. بعد قليل سأعرف كل شيء عن هذا المكان. في الحجرة المجاورة رجل وامرأة لا يكفا عن الشجار والنقار وتبادل الشتائم الغليظة. ... في التي يليها امرأة مات زوجها، لم تعد تلبس الأسود تاركا لها حملا ثقيلا من الأولاد والبنات ولا مورد ظاهرا لها وإن كانت تشتري لهم كل مايريدون وأكثر! ... وضعوا نظاما لدخول المرحاض لكنهم غالبا ما يكسرون هذا النظام. يرقد المصرف الراكد أمام هذا المنزل يمتص مواسير المراحيض المدفونة القادمة من المنازل المطلة عليه. تعف شركات الذباب المتحدة على المنطقة حوله، وخلف المستنقعات يمكنك أن تلمح مساحة من الحقول المزروعة تبدو كثوب نظيف ساقط من الأوساخ.؟ ص 69

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

عن دار بصمة للنشر والتوزيع، صدر قبل أيام قليلة كتاب (أوراق الزلزال) بأسلوب السرد التوثيقي،كما جاء على هامشه. ويعبّر هذا السرد عن تصوير كارثة الزلزال التي حدثت في نواحي مراكش من خلال معايشتها، من لحظة حدوثها حتى مرور عام كامل عليها.

ويكتسي هذا السرد أهميته، لأنه ينطلق من رحم تجربة أديبٍ سجّل الحدث عبر مجسّاته الإنسانية إولا، في تصوير المحنة وانعكاساتها، وعبر أدواته الإبداعية ثانيا، في كونه أديبا وصف لنا جملة من المشاعر التي لا تستطيع الميديا تسجيلها بنفس الدقة، وذلك من خلال تصوير فزع اللحظة الأولى الذي تراءى في ملامح الناس وارتباك أجسادهم، وهم يسارعون في الهرب من بين شقوق الجدران المتهالكة من أجل الفوز بالحياة، تاركين أعز ما يملكون، بعد أن وجدوا أنفسهم تحت رحمة غضب الأرض والجبال والوديان، تلك التي شهدت ولادتهم وترعرعهم وخطواتهم الأولى، ولكنها الآن تطاردهم برقصات موت حجرية.

والكاتب محمد كروم معروف في الوسط الثقافي المغربي من خلال أنشطته الثقافية المتنوعة، سواء في إدارة مهرجانات القصة القصيرة في تارودانت أو في مدينة الصويرة، حيث اضطلع بمهمة نشر التذوّق القصصي بين تلامذة تلك المدن،فزرع فيهم بذرة القراءة والكتابة.

وللأديب عدة مجاميع قصصية ومنها (شجرة القهر) و(قريبا سأحبك). ولديه أيضا رواية (بادية الرماد) ورواية( سيدات المدينة)، إضافة إلى اهتمامه بالرحلة والذي تجلى في كتابه الموسوم (الحياطة في الرحلة إلى طاطا).

ومن خلال صورة غلاف الكتاب وعنوانه، يجد القارئ نفسه إزاء معايشة دقيقة ومتتابعة للحدث الذي وجدناه يتمحور حول ثلاث مراحل.

المرحلة الأولى: رعب اللحظة الأولى، حيث صراخ الأرض وانكسارها، وحيث الشقوق التي تغلغلت في عمق الصخور والممرات، وانبجست على قشرتها لتلامس الجدران التي بناها أبناء هذه السهوب والوديان المكسوّة بالصخور والحجر، كي يتقوا حر الصيف وقر الشتاء، ولكن الجدران تهاوت على رؤوسهم وأجسادهم، فوصف لنا لحظات الرعب والحيرة وعدم القدرة على الاستجابة للحدث وتداركه، وقد تخلل هذه المرحلة وصف الخراب، وهروب الناس إلى السهول الفسيحة خوفا من هزات ارتدادية، وعدم معرفتهم لفداحة المأساة، وعدم تمكنهم من مواجهتها للحد من نتائجها.

أما المرحلة الثانية،فهي لاستيعاب هول الزلزال، وتلمس مكامن أخطاره، ثم الإحصاء  السريع لفداحة الخسارة للبشر الذين طمروا تحت الركام، والبيوت التي تهاوت بعد أن آوتهم وترفقت بهم منذ طفولتهم، فترعرعوا بين جدرانها، والآن يجدونها قد غدرت بهم وأصبحت غير صالحة للسكن، فأخذوا منها على عجلة بعض مقتنياتهم وأوراقهم الرسمية وما تيسر من الأفرشة والملابس، وغادروها مسرعين،ليفترشوا الساحات العامة.  أما الكاتب فقد وصف لنا مشاعره حينما عاد خلسة إلى داره المتصدعة الجدران، ولكنه لم يحزن سوى لمنظر كتبه التي غمرتها الأتربة وبلعها الركام.

أما المرحلة الثالثة، فقد تحدث عن مجهولية استمرار الحياة في ظل الخصاص المُطبق للحاجات الأساسية للحياة كالخبز والماء وكل المرافق المألوفة لقضاء الحاجة ولاسيما للنساء، وبداية البحث عن الطعام جعل الناس يشعرون بأن مأساة الزلزال قد ذوّبت فيهم النوازع السلبية، ليكونوا أكثر تعاونا وتآزرا بينهم لمواجهة مصيرهم المجهول.

أما المرحلة الرابعة، فقد كانت على النقيض، تلك التي تدخلت فيها السلطة والجمعيات الخيرية لتوزيع المساعدات على النازحين، من خلال( الكود) الذي يقوم بتوزيع المال على المتضررين، ولكن هذا الكود الذي تشبثوا بالحصول عليه، تحوّل إلى رمز للفرقة الاجتماعية والتنافس بين الناس الذين تحولوا من روح التعاون والمحبة إلى تقيضها في الحسد والأنانية، وتفضيل مصلحة الذات على الآخر، بل وصل الأمر إلى العداوة.

لقد كانت روايته خالية من الأسماء، ولكن الكاتب استطاع أن يذكر بعض الضحايا بأسماء قد تكون مستعارة،ومنها زعفان الذي يحصل على الراتب الشهري بضربة حظ، تجعل جيرانه ومعارفه لا يطيقونه ويحسدونه، لاسيما وإنه قد حصل على المبلغ المالي الكبير الذي سيجعله قادرا على بناء بيت جديد، ورغم فرح زعفان بذلك ولكن سير الأحداث تُشعرك بخسارته، لأن توزيع المستحقات لا يكون مفيدا إلا إذا شمل الجميع. وقد تناولت الرواية صعوبات الحصول عليها، ولاسيما لأبناء المناطق النائية الذين شعروا بأن الجميع قد تخلى عنهم، وقرروا القيام باحتجاجات، ولكن احتجاجاتهم لم تجد صدى مناسب. ولاسيما فإن الأحداث السياسية في الشرق الأوسط ومنها طوفان الأقصى ومآسي الحرب قد حجبت الأضواء عن مأساتهم.

ثمة لمحات إنسانية وردت في سياق السرد، ومنها ما عبّر عنه الكاتب (بنظرات العتاب) التي ظهرت في أعين الحيوانات، حينما فر أصحابها للنجاة بأنفسهم وتركوا كلابهم وطيورهم وبقية مواشيهم فريسة لغضب الطبيعة. كما تناول محنة الطفولة من خلال شكوى أحد الأطفال بالحيف والتمييز والظلم من قبل أقرب الناس إليه.إضافة إلى تناول شخصية (زعفان) ولعل في الاسم دلالة على صفة الغضب في اللهجة المغربية، ومع أنه حصل على المعونة كاملة، ولكن تلك النقود لم تسعفه لشراء كبش العيد، مكتفيا بشراء كيلوين من اللحم لإرضاء رغبة أطفاله، وذلك للغلاء الذي منع أغلب الساكنة من شراء الأضاحي، كما تناول قصص الناس عن الهيليوكبتر وهم يشاهدونها لأول مرة تسرح وتمرح في فضاءاتهم، ويطلقون العنان لمخيلتهم في تفسير تحركاتها. إضافة إلى ظهور بعض الرواة من أبناء المنطقة من تفتقت مخيلته الروائية للحديث عن عيون تفجرت من تحت الأرض، ووديان برزت إلى الواجهة، وكأن هذه الروايات بلسمٌ لمداواة النفوس التي أرهقتها الكارثة.

رواية (أوراق الزلزال) شهادة من داخل الحدث، ولكن بإسلوب روائي لا يخلو من تشويق، ولقد كانت خاتمتها تختزل فحواها، حيث يخاطب الكاتب المتضررين من الزلزال بقوله:

"تأخرُ البناءِ يا زعفان لم يمنع عجلة الحياة من الدوران، انظر حواليك تر الناس: يتزاوجون،يتوالدون،يدفنون موتاهم، وينهضون كالعنقاء لمواصلة الرحلة. "

***

رحمن خضير عباس

البلدان وشعوب العالم توصف وتؤرخ بالأحداث الكبيرة والعاصفة التي تمر بها، وترسم خارطتها السياسية والاجتماعية من خلالها، التي تعتبر نقلة نوعية في نظامها السياسي والاجتماعي، وترسم الخط الفاصل بين ماضيها وحاضرها، مثل كومونة باريس، الثورة الروسية البلشفية، وجسدتهما روايات كثيرة ظلت خالدة عبر التاريخ النضالي للشعوب في الحرية والتحرر، مثل رواية (عشرة ايام هزت العالم / جون ريد) وهذه الرواية القصيرة (البركان) محاولة إحصاء وجرد يوميات انتفاضة الشباب في ساحات محافظة النجف الاشرف، كدلالة رمزية لكل الساحات المنتفضة في عموم العراق، وخاصة ام ساحات انتفاضة الشباب في ساحة التحرير في بغداد، لقد شهدت أيامها بالأحداث بأجوائها المرعبة، من المواجهات الدامية بالقتل العشوائي بالرصاص الحي والعنف الدموي المفرط في البطش لشباب الانتفاضة، اضافة الى الوسائل التحريضية ودعايات الترويج المزيفة والمنحرفة بالنعوت والصفات البذيئة بحق شبابها البطل والجسور، بأنهم جوكرية تحركهم اصابع اجنبية معادية للعراق، او انهم ابناء السفارات أو ابناء الرفيقات، أو شلل من عصابات الجريمة والسرقة، وغيرها من الصفات البذيئة والهجينة، ولكن رغم هذه الأجواء المرعبة والحيل والمكائد ومحاولات الدس والاندساس داخل التظاهر والاعتصام لتخريبها، من انفار مأجورة ومدسوسة بشكل حبيث، فان الشباب واصلوا المواجهة والتحدي، وسجلوا أروع الملاحم الاسطورية في الدفاع عن الوطن والحقوق الشرعية، التي يقرها القانون والدستور، بايام الانتفاضة سقطت الاقنعة وانكشف الزيف، وتعالى الدخان الاسود والابيض والفرق الشاسع بينهما (ادعياء الدين والوطنية ممن شوهوا سمعة المنتفضين، بالاضافة الى ووقوف المرجعية السيد السستاني على وجه الخصوص المؤيد لمطالب الثوار وحقهم في التعبير عن رأيهم.

متسائلاً:

- ألا يدعي هؤلاء أنهم يتبعون المرجعية ويمثلون بقرارتها، فلماذا إذن يضربون ساحة الاعتصام والتظاهر؟) ص31. لماذا القمع الدموي بالبطش الهمجي بالرصاص الحي والقنابل الدخانية ؟ أين وصايا المرجعية الدينية التي تقف بجانب حرية التعبير وتفهم مشاكل الشباب بالحل السلمي، طالما التظاهرات سلمية، لايملكون الشباب سوى صدورهم العارية وحب الوطن الذي يسري في دمائهم، أين صوت العقل والمسؤولية تجاه الشعب ؟ لماذا هذا الانتقام الدموي في حقده الأسود الدفين، (- استاذ لقد شهدت عاصفة صفراء هوجاء تهب على ساحة الاعتصام ترافقها بروق ورعد قوي يهز الارض، شاهدت قطعان من الذئاب المسعورة تهاجم الساحة وتمزق الخيم، شاهدت الحمائم الحمائم والعصافير والفواخت تسقط ميتة لتحترق بنيران الخيم المشتعلة، شاهدت وشاهدت........) 24. هذا الانتقام الوحشي من السلطة وأجندتها القوات الأمنية وميليشياتها المسلحة في حقدها الأسود الدفين، هذه الصورة السوداء الهمجية، يقابلها صورة بيضاء ناصعة البياض في روحها الانسانية والشعبية المتفهمة، هي روح التضامن الشعبي بالاسناد والدعم من عموم الشعب العراقي وطبقاته الشعبية، في روح التضامن والإسناد لشباب الانتفاضة، زادهم عزماً واصراراً في التحدي و الصمود والمواصلة، بل اصبحت الانتفاضة عنوان التحدي بهذا الاحتضان الشعبي الكبير لها (- أثار اعجابي واندهاشي هذا الكم والنوع الهائل من التضامن بين المنتفضين وعموم أبناء وبنات الشعب، حيث نصبت المطابخ والمطاعم وإحضار الأكل والشراب والماء بالسيارات من الأحياء ومن مختلف فعاليات الشعب الثائر ومن البيوت، لضمان استمرارية الانتفاضة وتحقيق أهدافها المشروعة، لم يحصل هذا الاندفاع إلا أثناء تأدية مرسم زيارة الاربعين للامام الحسين (ع)) ص 33. هذا الإشراق الوطني والشعبي يحمل هوية العراق الحقيقية في أصالته الشعبية، في زمن أصبحت الوطنية والوطني اشد تهمة اجرامية يعاقب عليها القانون بالسجن والموت والاغتيال والخطف كالعهود السابقة المظلمة وخوفها من كلمة وطني ومعنى الوطنية (هززت يدي مستغرباً حيث تراقصت امام ناظري عشرات علامات الاستفهام والتعجب حول كلمة (الوطني) هذا الضيف الدائم على السجون والمعتقلات المنتشرة على طول وعرض البلاد، الملاحق دوماً من قبل النظارات السوداء، اينما يذهب) الحقب السوداء التي مرت على العراق في مراحلها السياسية منذ الملكية ولحد الآن، لم ياتٍ الى العراق حاكم إلا يحمل معه سوط الارهاب والظلم والطغيان، واهمال وحرمان الشعب لا يهمه إلا الكرسي، ما عدا عبدالكريم قاسم (ماحكم العراق رئيس بي حظ وبخت وراعه الوادم وشبع اليتامه اللهم إلا عبدالكريم قاسم وكتلوه البعثية والاكطاعيه واهل العمايم بالتعاون ويه الانكلريز والامريكان وحكام الكويت وعبدالناصر) ص 19.

×× أحداث المتن السردي:

تدور أحداث السرد الروائي اليومية العاصفة في ساحات محافظة النجف الاشرف، تظاهرات الاعتصام والشوارع والساحات، يسردها الراوي العليم، وهو ناشط سياسي واجتماعي، له علاقات واسعة مع الناس ويكن له الاحترام والتقدير، بما يقدمه من مساعدة والدعم في مجاله الصحي، الطب الفني المختص بالتحاليل المختبرية، يساعد الفقراء في الاجور المالية ويدفعهم الى اطباء يهتمون بالعلاج بدلاً بالاهتمام بالأجر والدفع المالي، يقف إلى جانب انتفاضة الشباب ويدعمها بكل امكانياته، كالتزام وطني وانساني واخلاقي، ويشخص العلل الاجتماعية ويفند الدعايات الترويجية والتضليلية، التي تعمي البصر والبصيرة، في تشويه سمعة ومكانة الشباب المنتفض، في محاولة لقلب الحقائق بالتزيف المنحرف، ويعري دعايات التحريض والدس، والروائي أو السارد يربط بالرؤية الفكرية الواقعية والناضجة في ابعادها، ربط الماضي بالحاضر من العهد الملكي ولحد اليوم، عبر تناول الشخصية الرئيسية في ثلاثية المحطات، الفلاح (مظلوم) الذي انخرط في النضال السياسي والشعبي واعتنق الفكر الاشتراكي، ومدافعا عن العهد الجمهوري وزعيمه عبدالكريم قاسم، عاش وانخرط في النضال الصعب من الملكية الى العهد الجمهوري، الى انقلاب البعث ومجازره الوحشية ضد اليسار العراقي، وبعده اعطى راية الكفاح والنضال الى ابنه (كفاح) لمواصلة الطريق الثوري ثم الى حفيده، هذه الاشارة الرمزية البليغة، بأن الشعب وحركته اليسارية لم تنقطع على مواصلة النضال حتى في احلك الظروف القاسية والصعبة، وحتى رمزية اختراق رصاصة للشاب المتظاهر وهو يحمل كتاب (المحطات) بما يدل على الارهاب الفكري ينزف دماً كالنضال السياسي والشعبي. أي ان لغة الدم والنار والرصاص الحي في صدور الشباب العاري، هو نهج البطش بالانتفاضة واجهاضها بالدماء والحرق، في كل وسائل البطش، لا تفرق بين الارهاب بشقه السياسي والفكري (- أستاذ لقد شهدت عاصفة صفراء و هوجاء تهب على ساحة الاعتصام ترافقها بروق ورعد قوي يهز الارض،، شاهدت قطعان من الذئاب المسعورة تهاجم الساحة وتمزق الخيم، شاهدت الحمائم والعصافير و الفواخت تسقط ميتة لتحترق بنيران الخيم المشتعلة، شاهدت وشاهدت.......) ص24.، وكذلك تجنيد كل طاقات الدولة ومؤسساتها الخدمية والبلدية في إجهاض الانتفاضة، بكل الطرق الوحشية (أنظروا ايها الاخوة الى عشرات من الشفلات سيارات الحمل والبلدوزرات والسيارات المرافقة التي تحاصر الساحة بدلاً من ان تتوجه لتعديل الطرق والشوارع وبناء البيوت للفقراء وبناء المصانع والمعامل والمستوصفات أتت كالذئاب الجائعة لهدم الخيم على رؤوسنا ظناً منها بأنها ستقتل احلامنا بالحرية والرفاه وتحقيق دولة المواطنة وطن الجميع) ص62. هذه ثمار الحكم الطائفي والمحاصصة الطائفية، ليس في بالهم تطلعات الشعب وخدمته بالمسؤولية، وإنما الصراع على الكرسي والنفوذ، الصراع على الغنائم من يهمش اكثر، ويدفع ثمنها الشعب الأعزل بالدماء والخراب،تحرسهم القوات الأمنية والمليشيات المسلحة كي (تبقى البلاد تدور في حلقة الفساد والجهل والمحاصصة الطائفية في ظل انتخابات مزورة فاسدة ومشاركة اقلية مجتمعة، حكم هزاز غير مستقر وسط خلاف مكوناتها وانانياتها كخليط غير متجانس لا يعيش بدون ازمات مستدامة، فلا تقدم ولا تطور ولا امكانيات تحول جذري في نظام الحكم) ص 40. ان الزخم الكبير الصمود رغم سقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعوقين والانتفاضة تزداد قوة وعنفوان في المجابهة، مما ارعب السلطة الحاكمة وتيقنت ان كرسيها أخذ بالاهتزاز العنيف، أجبرت عادل عبدالمهدي على الاستقالة من منصب رئيس الوزراء، ومجيء مصطفى الكاظمي ليلعب على الحبلين، ادامة النظام الطائفي الفاسد، وإعطاء الوعود الكبيرة للشاب المنتفض بتحقيق تطلعاتهم ومطالبهم، ودق صدره بالشرف والقسم في إيجاد قتلة المتظاهرين وتقديمهم للعدالة بالحساب العسير، لكن هذه الوعود ذهبت ادراج الرياح، فكانت في حقيقتها العملية، أشبه دس السم في العسل، لم يتحقق اي شيء وظل النهج الإرهابي على حاله كما كان، إذا كانوا افلحوا في اخمادها، ففي داخل رمادها ناراً قد تشتعل وتتفجر كالبركان، أكثر قوة وعنفوان من السابق، ان الانتفاضة حية تولد من رمادها كالطير العنقاء.

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

هي صورة، لكنها لاتعكس نفس الملامح، هي انعكاس للآخر في دواخلنا، هي تجسيد للذي نريد أن نراه (المخفي) من شخصياتنا، تعري دواخلنا، وتطرح صوراً نظنها مغايرة، لكنها حقيقة ما نحن عليه. من أين تأتت الفكرة ل (حبيب السامر) ليفضح خبايا الأنفس، ليرسم صورة الحقيقة بماء الزئبق (المرآة)، والسؤال هنا ملح، أيهما الأصدق مانرى أم مايراه الآخرون من صور.

أورد السامر ذلك الجواب الضمني (أنا شكل آخر لايشبهني)، يحاول أن يجر القارئ للتيه في اجواء القصيدة المشحونة بالتخالف والتضاد، إلا أن طريقته الفائقة في توظيف الصورة التي رسمها بشكل خارج عن المألوف ولم يعتدها القارئ وفق تصور مشحون بالدلالة (في المرآة، أنا، شكل آخر، لايشبهني، التحديق، إلي، لايشبهها) لكن معظم ماجاء به السامر من دلالة مبهمة (في المرآة، شكل آخر، التحديق، لايشبهها) هذا الإبهام اضفى مزيد من الجمالية على النص وعلى الصور التي شكلها السامر ليفاجأ القارئ بهذا النص المهول بمعانيه وتشكيله وما أحتواه من صور.

في المرآة

أنا شكل آخر لا يشبهني

تطيل المرآة التحديق إلي لا أشبهها

حين نمعن النظر في هذا الجزء من النص، تتقافز إلى أذهاننا ابعاداً مترامية من مساحات الأفكار، نقف عندها لنميز أو نفرز ماذا أراد السامر من توصيف (مصقولة) المعنى الظاهر يقصد فيه (المرآة)، لكن ثمة معان أخرى تطرأ على البال حين تركز في المفردات التي وظفها الشاعر ودلالاتها وفيما تمثله من استبدال لفظي أو حتى (حركي)، ونتسائل هل هي (الحقيقة، المدينة، الحياة)، هل هي الأرض، أو الروح، أم النفس وما تحمله من خلجات، أم تراها المرأة وما تمثله من تقلبات في حياة الرجل (السامر أو أي رجل آخر من معشر الرجال) .

(أنها مصقولة) وهنا نتكلم عن المرآة، أي أنها تعكس الصورة بشكل حقيقي لاشائبة عليه، أو أنها تنقل صورة الشخص بتفاصيل وجهه نقاء ومشاعر وما أحتواه الوجه من تجاعيد وإن كان الرأس أشيب، أم أصلع أو ما أحتوى من أوصاف، لماذا دخلنا في تفصيل التوصيف، لأن السامر أرادها موصوفة فدفعنا بشرح ما تعني (مصقولة) التي وظفها في النص وأراد منها أن يلاعب المتلقي ويأخذه من يده نحو دروب التيه في النص.

الأغرب والذي يضفي الدهشة، بل الحيرى على القارئ حين يتناول هذا البيت من نص السامر تتمثل في (بلا أذرع)، وهي تمثيل لصورة انعدام الحركة وتأصيل الفعل، فهي (مصقولة) لكنها (بلا أذرع) أي أن الفعل تم نلكن نفى عنها صفة الحركة، والسؤال هنا كيف تم الفعل دون حركة، هل هي قصدية، أم حالمة، أم من وحي الخيال، أم تراها واقعة فعلاً أي حقيقة تتمثل في ذاتية الحركة.

نص غريب فعلاً، احتوى من الدهشة ما يظهره وكأن السامر يهزأ بالقدر، ويحاول أخفاء ذلك التفسير عن القارئ حتى يكتشف طلاسم النص دون أن يفك حبيب السامر تلك الطلاسم، الغرائبية التي يكتب بها كثير من الشعراء تحتمل الإنطباعية، ومنها تصوير المشهد الشعري ساعة الفعل (تكريس الحبكة) على تأويل ما حدث، ليكون النص مرآة ناقلة لمجريات الحدث بشكله الفعلي الذي تمثله الحركة.

أنها مصقولة تماما

لكنها بلا اذرع

ربما قسى علينا السامر في هذه، (مصقولة) تعبير عن السهولة عن البساطة بعيدا عن التعقيد، أراد السامر أن يقول (وجهة نظر) إن الحياة بقدر ماتحمله من مشاق وتعقيدات وتتطلب الركض والمعاناة، فهي بسيطة بقدر ما تشبه الماء ببساطته، والمرآة وهي (مصقولة) بشكل جميل يعكس للناظر الصورة التي هو عليها ببساطة ودون تعقيد.

أي نحن الذين نضفي على مجريات الحياة من تعقيد ما يجعلنا نتعكز على مختلف الأعذار التي تهبط الهمم ولا تشحذها، فنراها (بلا اذرع) فنعيش هم المعاناة ووهم عدم القدرة وتفاصيل التعقيد، ومنها نخلق لأنفسنا صوراً غير محببة من التعقيدات والعلل.

الجمال هو الحياة بما فيها من زهو الألوان والصور، جمعها السامر في قوله (مصقولة)، وجاء ب (تماما) للتأكيد و لثبات الصورة، لكنه نفى فعل التأكيد بما جاء به من عدم القدرة مورداً (بلا أذرع) كحالة جزم لفعل الحركة، والحركة لا تتم إلا بأذرعها، ومن لا أذرع له فهو عاجز، صورة شاملة للعجز القاتل والمدمر للإنسان تنهي كل فهل (الصقال) الذي أراد منه السامر أن يورد الجمال الذي عليه الحياة بصوره المختلفة، ولكن ليس بشكل لامنتهي، بل إلى حدود معينة تعمل فيها الأذرع فعلها، وما كان بل أذرع، فلا عزاء له.

شمولية النظرة التي جاء بها السامر في هذا البيت كرسها للدلالة على الحياة بشكلها العام، ومنح القارئ مساحة من لانهائية من التساؤل المفتوح على أفق المشهد، اعتمد حبيب السامر على تشتيت الكلمات وتناثرها مستخدماً عنصر الزمن للتأثير على القارىء، وهي لعبة ذكاء أراد منها المطلق في الزمن ليكون فضاء كلماته غير ساكن عبر تحريك المشهد باختلاف الرؤى وتجذر مفهموها عند المتلقي (1) .

غرفة…

مرآة تتوسطها، على حائط أملس،

تفضح، أم تكتم خيباتي لأنني عالق”.

يخط حبيب السامر مساحة الحدث بتأني حتى أنه يباعد بين الوصف والتوصيف، فيأخذ مقاسات الصورة من بعد الحدث نفسه، فنرى أن الموصوف قد تجسد بوضوح في أبعاد صوره الشعرية، يتلاعب على الحقيقة بدراية فيأتيك بها كاملة حتى حين تظن أنك لامست أطرافها، أحالك إلى لاشيء (تفضح أم تكتم خيباتي)، وأنت، (أقصد القارئ) تبقى بين الحيرى

الصورة الشعرية التي يجسدها حبيب السامر في نصوصه قادرة على ايصال مضمون الفكرة المستوحاة من القصدية الدلالية التي يضمنها النص لتبدوا وكأنها رسمت عن دراية واتقان فعلي مثلها السامر بألفاظ دلالية تحمل في طياتها عمق الحق ودلالة المعنى. هي تجسيد للحبكة بصورة ناطقة قد أبالغ إن قلت عنها (صورة مرئية) ذات دلالة واقعية، هي فلسفة أخرى أنطوت عليها نصوص السامر فأبدع في التوصيف الدلالي الذي من خلاله جعل القارئ وكأنه يلمس الأشياء الدالة فتتعمق الفكرة ويتنامى الأثر وتسمو الصنعة الشعرية باكتمال أركان الصورة النص والتي تشكل ذات الدلالة والعمق الذي يأتي به السامر في قصيدته وكأنه يداخل فيها سحر الكلمة وجوهر المضمون وتأثيرات الصورة ممزوجة بنكهة موسيقى النص وألوان مايرسم من صور، وتلك ميزة فلسفية تتسامى في نصه الذي يأخذ طريقه نحو الإبداع.

" يرسمُ السامر لوحاته بصدق وصفاء ذاتي ويعطيها إيقاعا" يزف به منارة الوجدان الإنساني في دواخله، وقد ينتهي بلون يختلطُ مع التراكيب الجمالية، أو أنه يبرز صورة مجسمة واضحة لواقعنا في ترنيمة متموجة كصخب البحر أو عاكسةٍ للنور كهدوء الشطآن، فيظل بدراية شفيفة يسهب في رسم الحقيقة كما هي، ويلج في ثنايا الحياة كأهز وجة حبٍ على أبواب العشق ويرنو كساحر أوشك على مسك الورقة الرابحة، وينجو في فلك مترف دافيء بمعانيه، فيضمن للوحته مزيجا" من ألوان مشاعر الحب أو المرارة والألم" (2) .

عمل حبيب السامر على تداخل الصور والمضامين في ثنايا النص، وأفرد أبعاداً تصويرية مدعمة بمساحات وزوايا وصفية للغرفة التي تحتوي المرآة، فجاء ب(الوسط والحائط) كدالة مكانية، وثم كتب في البوح والكتمان تضادان يكمل بعضهما البعض خلق منهما صورة التناقض والترادف، ثم آتى على التوصيف (خيباتي) توصيف الحالة التي عليها المتكلم سواء الشاعر أو من كان المشهد على لسانه، فربما يكون السامر قد نقل عن لسان شخص أخر واصفاً (خيباته)، ثم جاء بالتحديد (لأنني) مقرون بالحال (عالق)، وهنا ربما تحتمل مفردة (عالق) الزمان أو المكان.

هذا التداخل يبين قدرة الشاعر على التحكم في مفردات النص، وتقدير الصورة التكوينية أو التشخيصية للحدث عبر توظيف الدلالة الزمانية والمكانية، ومنها كما ذكرنا استطاع أن يرسم حدود نصه بدقة، كما تمكن من مزج الوصف والدلالة بقالب الشكل لتظهر الصورة مكتملة الأبعاد جزيلة الوصف رائعة في تكويناتها الموسيقية المرافقة للنص ودقيقة في تفسير الأسباب، لماذا (تفضح) لانني (عالق).

وربما يقال أن تلك الصورة مبسطة ومستهلكة في النص الشعري وحتى في الأداء، نقول نعم، ذلك لمن ينظر بفوقية ومن بعيد للنص الشعري ولايبحث عما وراء الكلمة من معنى قد يصل حد (النظرة الفلسفية) لتوظيف الكلمة أو المصطلح، أنا لا أقول أن حبيب السامر فيلسوف وله أراء فلسفية أو نظريات، ولايدعي الرجل ذلك، إلا أني ومن خلال نظرتي الخاصة للنص الشعري الذي يكتبه السامر أرى أن هناك ومضة فلسفية في تفسير نصوصه، والفلسفة في الشعر ميدان فسيح وغني وفيه الكثير من شعر الحكمة والتبصر.

نلمح آثار أقدام ممحوة

توا

بفعل جنون الموج أو ربما.

"ثمة تصورات أخرى تلتقي فيها الشاعرية بالفلسفية منها الثنائية الضدية للوجود، والحتمية التي تعني في بعض معانيها كسرا منطقيا للأشياء، وذلك في بحث الفيلسوف عن سر جبروت الزوال والعدم وانعكاساته في سلوك العبث وتصور الاجدوي، فالحتمية دون شك وفي ابسط تعريفاتها هي علاقة السبب بالنتيجة، وقد قدمها الفيلسوف علي وفق منظور منطقه ليحل به إشكالية الحيرة إزاء الموت، موت الفصول والاشياء والانسان في تصور خال من المرجعية الي نظرة الدين وتفسيره لها . ولذلك وجدنا صورتين فلسفيتين عميقتين احدهما صورة وتصوير لفعل الحتمية، في تصور تشاؤمي، عدمي وهذا الذي فعله شوبنهاور، ومن اثر فيهم من بعده، او تفسيرها بحالة طبيعية واقعية يلتقي في تصورها الفيلسوف مع القدر الإلهي . وهنا قدمها الفيلسوف محاول في تصور فهم الزوال علي انه حالة طبيعية تمر بها لكائنات حيث تافل وتتلاشي من اجل ولادة جديدة و تحدد وتطور في هذا العالم" (3) .

وللسامر القدرة على التحكم بأدوات النص وبمجمل عناصر البناء الشعري والتشكيلي سواء على مستوى المفردات من ناحية أختيارها وتوظيفها أو استخدامها الحسي وتوظيفها بتوافق مع موسيقى النص وبناءه الصورة واستخدامات الصورة وقدرتها التعبيرية عن النص بشكل كامل ومافيه من حبكة وتصور وحتى بناء الصور الفلسفية في مضامين النص وتكوينات السرد والتناول الشعري.

"استطاع السامر التحكم بمفردات النص الشعري عبر التنقل مابين الممارسة الى الانضباط الذي تتحكم به أدوات الشعر الرصينة، فالشعر هو نتاج الواقع، وأن أبلغ الأدب هو الواقعي الذي يتماشى مع التغييرات الطارئة وليس المعزول عنها أو عن بنيته المحددة بأدوات لا يتجاوزها الى غيرها" (4).

***

سعد الدغمان

...................

1- سعد الدغمان، حبيب السامر شمولية النظرة عبر مرآة الحياة، صحيفة كتابات، 25-11-2015.

2- سعد الدغمان، مرجع سابق.

3- سعاد خليل، فلسفة الشعر، صحيفة رأي اليوم، 13-8-2013 .

4- ناظم عبد الوهاب المناصير، الشاعر حبيب السامر سموكلماته برؤى خلاقة في الإبداع، موقع المرسى نيوز، البصرة، 21-jul - 22.

وهي علاقات "تايبولوجية" نمطية موضوعية، تَشابُهات أو سمات مشتركة بين الظواهرالأدبية المختلفة، (مثل الأعمال الأدبية وأساليب الكتّاب والتيارات الأدبية وآداب مختلف العصور)، وهي مرتبطة ومحددة بظروف الواقع الاجتماعي والفكري، التي تحيط بالكاتب، وتظهر هذه الصلات بغض النظر عن وعي الأدباء لها. يجب أن نميز بين العلاقات التتابعية المنشأية (مثل ترسخ الواقعية من خلال الرومانسية) وبين العلاقات الأدبية المتبادلة بين الكتّاب التي تتم بوعي منهم، مثل علاقة الشاعر الإنجليزي المعروف بايرون بالشاعر الروسي بوشكين.

ومن الضروري تحديد العلاقات النمطية لأنها تغنى الناقد في تعيين قوانين التطور الاجتماعي والتاريخي، التي يمر بها الأدب، ولأن الظروف الاجتماعية والتاريخية المتشابهة تخلق بدورها أعمالاً أدبية متشابهة مثل الاتجاهات والتيارات الأدبية المتشابهة أيضًا. وعند أخذ العلاقات التاريخية – النمطية ودراستها وتحليلها، نرى أن “التأثيرات الأدبية” تمتلك أهمية ثانوية، وبخاصة عند دراسة العملية الإبداعية. هذا من ناحية، ومن جهة أخرى نلاحظ أن العلاقات النمطية تساعد الباحث في أغلب الحالات، على تمييز السمات الذاتية والخاصة، فإن مقارنة أعمال تورغيينيف مثلاً بنتاجات غونتشاروف تعطي نتائجَ كثيرةً جدًا على عكس مقارنة الأول مثلا بأعمال كاتب روسي آخر هو سالطيكوف شدرين، أو أي كاتب آخر من ممثلي الواقعية النقدية.

إن العلاقات (الصلات) النمطية تظهر بطرق متنوعة للغاية ولأسباب كثيرة، إمّا بسبب ارتباطات تاريخية ملموسه، أو لأسباب تتحدد في الانتماءات الزمانية والفكرية التي ينحدر منها الكتّاب، وهي هنا تتسم بوجود أوجه شبه موضوعية وبتقارب لا جدال فيه. كذلك تظهر العلاقات النمطية بسبب التطور اللولبي للأدب، مثل ترسخ الواقعية النقدية والواقعية الاشتراكية والرومانسية في بداية القرن التاسع عشر حتى نهايته، أو تطور العديد من الكتّاب في بداية القرن التاسع عشر وتحولهم من الرومانسية إلى الواقعية النقدية، أو تحول بعض الكتّاب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من الرومانسية الجديدة إلى الواقعية الاشتراكية والخ. وتتجسد العلاقات النمطية أيضًا بظهور أعمال أدبية متشابهة، بل ومتطابقه تقريبا في آداب مختلف الشعوب مثل “أُنشودة رولاند، (قصة رولاند) ق 11” الأوروبية المكرسة للقائد العسكري رولاند (ت 778) مادة خصبة لأدب القرون الوسطى وأدب عصر النهضة، و” قصة إيغورييف” الروسيه، أو أعمال ديدرو وليسينغ وبلزاك وتيكيري ودودو وديكنز وغيرهم. وقد حددت الأبحاث النظرية والأدبية التاريخيه سمات الاتجاهات الأدبية (مثل الكلاسيكية والوجدانيه وغيرهما)، على أنها خصائص عامه لأعمال كتّاب معينين في القرن الثامن عشر فحسب، إلا أن هذه التعميمات اتسمت في الحقيقة بطابع على الرغم من أن النقد الأدبي آنذاك لم يستخدم مصطلح نمطية “تايبولوجيا”.

ولقد انشغل الأدب المقارن بدراسة العلاقات (مثل كتاب: تاريخ الأدب الفني 1814 للدكتور جون كولِن دنلوب.

ومقدمة الترجمة الألمانية لكتاب بانشاتتري 1859، ومن بعدهما الناقد الأدبي السوفييتي الراحل ألكسندر فيسيلوفسكي وأوليبريخت وكيلر وغيرهم. هذا وإن الأعمال النقدية الأوربية الغربية المعاصرة مشبعة بالنزعة المقارنة.

ورغم أهمية الملاحظات النقدية التي قدمها ممثلو المنهج المقارن في مجال العلاقات النمطيه، إلا أنها تعاني من نقص كبير أعاق ولا يزال يعيق هؤلاء النقاد من بيان قوانين تطورالأدب وكشفها. ويكمن هذا النقص في الاهتمام بتقارب بعض عناصر العمل الفني كالمضمون السردي والفكري والتغاضى عن الأسس التاريخية الملموسة للظواهر المتقاربة (المتشابهة).

ويمكن ملاحظة حضور تقاليد النقد الأدبي المقارن في هذا المجال في البنيوية المعاصرة أيضا. فقد أولى كل من كونراد وجيرمونسكي أهمية كبيرة لمسائل النمطية (التايبولوجيا) الفنية، التي تأخذ بنظر الاعتبار تمام بناء الظواهر الأدبية والأسباب التاريخية لظهورها وهناك ثلاثة مبادئ رئيسة لدراسة العلاقات النمطية، وهي:

1- ضرورة كشف الأسباب التاريخية للتقارب النمطي (التشابه).

2- لا بدّ من تحديد العلاقات النمطية بين ظواهر أدبيه متكاملة (مثل الأعمال الأدبية، الأساليب والاتجاهات).

3- من الضروري إيجاد تشابهات نمطية لا في الأدب القومي الواحد، بل في عدة آداب قومية لمختلف الشعوب.

إن الدراسة النمطية في مجال الاتجاهات الأدبية تعتبر أكثر منطقية وعقلانية ومستقبليه، فدرست مسائل أدبية مثل طابع تطور الواقعية في الأدب العالمي (مثل واقعية عصر النهضة، الواقعية التنويرية، الواقعية الاشتراكية). أخيرا فإن كونراد استطاع بأبحاثه العديدة بيان العلاقات الأدبية النمطية التايبولوجية.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

...............

* مصطلح: التشابه "التايبولوجي" النمطي، أنظر:  قاموس المصطلحات الأدبية، موسكو، 1974

أو: التشابه النمطي المقارِن. ويُقصد بالتايبولوجيا (أو النمطية) هنا تصنيف الظواهر حسب الخصائص الأساسية.

يُستخدم هذا المصطلح في النقد الأدبي الروسي المقارنِ ويعتمد على مفهوم النمطية الموضوعية (التايبولوجيا الموضوعية) كوحدات تقسيم الواقع المدروس، والنموذج المثالي الملموس للأشياء المتطوّرة تاريخياً.

وهي ايضاً فروع العلوم التي تتناول تحديد الأنواع المتشابهة بشكل موضوعي حسب خصائصها الداخلية أو الخارجية للظواهر أوالأشياء. والمقصود هنا مقارنة الظواهر الأدبية مثل اللغات والتيارات والمدارس والنتاجات الأدبية في مختلف بقاع العالم، وليس المعبّر عنها بلغةٍ واحدةٍ.

 

قراءة في مقالة الكاتب والروائي يحيى علوان المعنونة: ("سلمان رشدي.. المورسيكي الذي خلع "قفطان" اليسار)*

1. مقدمة: التغيرات الفكرية بين الواقعية وخيانة المبادئ

في هذه المقالة، يستعرض الكاتب بمرارة كيف يتحول المثقف من حارس للقيم والمبادئ إلى أداة تخدم السلطة، سواء كانت سلطة المال أو النفوذ السياسي. هذا التحول، الذي يشبه الانقلاب على الذات، يُعتبره خيانة لكل ما دافع عنه المثقف في مسيرته الفكرية.. لذا نجد ان الكاتب يستشهد بأمثلة معاصرة وتاريخية ليبرز هذا التناقض.. التناقض الذي يعكسه بعبارات قوية مثل "يبصقُ في البئر الذي شربَ ويشربُ الآخرون منه".

2. استعادة الروح البرجوازية: خيانة المثقف لذاته

يشير الكاتب إلى أن التحول الذي شهده سلمان رشدي ليس حادثة فريدة وفردية.. بل هو جزء من نمط متكرر في التاريخ الثقافي. ولم يُقدم رشدي الا كمثال حي للمثقف الذي تخلى عن قضاياه الأولى والمبدأية وانحاز إلى السلطة.. متناسياً وقوف المثقفين والأحرار إلى جانبه عندما كان محاصراً بالفتاوى والتهميش والقتل.. ويرى الكاتب أن رشدي لم يتحول هكذا وفجأة.. بل لان روحه البرجوازية المختبئة خلف كم من التراكمات الملتاثة والقلقة.. ظهرت عندما وجد نفسه في حاجة للحماية الشخصية. هذا الانقلاب ليس مجرد تحول في الفكر، بل هو سقوط في الخطيئة، كما يصفه الكاتب.

3. المقارنة بين الأعداء والمقاومين: من طالبان إلى غزة

في نقاش عميق حول المقاومة، يتساءل الكاتب عن المقارنة بين حركات المقاومة الشرعية والمجموعات الإرهابية مثل القاعدة وداعش.. ويرفض بشدة أي محاولة لمساواة المقاومين الفلسطينيين في غزة بتلك الجماعات، ويعتبر أن من يقوم بذلك، مثل رشدي، قد وقع في فخ السطحية والانحياز للسلطة. هذا النوع من الخطاب يعكس، كما يؤكد الكاتب فقدان البوصلة الأخلاقية والانصياع الأعمى للتيارات المتذلة والسائدة.

4. ثمن التحول: الانعزال والانكشاف

يلمس الكاتب موضوع الانعزال الذي يعاني منه المثقف بعد تحوله، حيث يجد نفسه مكروهاً وعارياً بلا محبة او تضامن أو دعم حقيقي، إلا من السلطات الدكتاتورية والإعلام الموالي للصهيونية. ويستمر الكاتب في تأمل هذا المشهد البائس، مستخدماً لغة مليئة بالاستعارات الشعرية، ليصف حالة المثقف الذي تخلّى عن مبادئه في مقابل "المال والسلطة والنجومية". هذا الانحدار، كما يراه الكاتب، يقود إلى فقدان الذات والاحترام.

5. أمثلة تاريخية: خيانة الأمهات والأصول

من هنا يروي الكاتب قصة رالف غوردانو، الذي تحول من مدافع عن الشيوعية إلى ناقد لها بعد هروبه إلى ألمانيا الغربية.. ويتوج القصة بمشهد مؤثر لوالدته التي تتبرأ منه علناً في إحدى المحافل، مما يعكس فكرة الخيانة ليس فقط للأفكار، بل للأصول العائلية والإنسانية. هذا التناقض بين ماضيه النضالي وواقعه الجديد يعكس بدقة الصراع الداخلي الذي يعيشه المثقف عندما يخون ذاته.. كما يفضح في هذا السياق" الزواج الكاثوليكي بين المؤسسات الاعلامية والسلطات الحاكمة".. بما فيها القضائية وممارساتها القمعية لمنتقديها وفاضحي توجهاتها الليبرالية الجدية

6. خيبة الوعود وثمن الفردانية

ينتهي الكاتب بتأمل في مصير "الوعود الكبرى" التي لن تتحقق في زمننا هذا. فحتى الحرية، التي اعتبرها بعض الشعراء والمثقفين قيمة عليا، أصبحت مسألة نسبية في مواجهة التبريرات السياسية والاجتماعية. الكاتب ينقد بشدة مفهوم "الفردانية" الذي رفعته الليبرالية الجديدة إلى مستوى القيمة العليا، مؤكدًا على أن هذا أدى إلى "تسطيح وتسليع كل شيء"، بما في ذلك الفنون والآداب.

7. المقالة مكتوبة بلغة أدبية مكثفة، مليئة بالاستعارات

والتلميحات التاريخية. هذا الأسلوب، رغم جاذبيته، يمكن أن يُصعب على القارئ غير المعتاد على هذا النوع من الكتابة فهم الفكرة الأساسية.. كما واستخدام الرموز التاريخية والثقافية لإبراز الانقلاب الفكري يعزز من قوة الحجة...

8. الخلاصة: سقوط المثقف بين المبادئ والواقع

الكاتب يعبر عن خيبة أمله من المثقفين الذين تخلوا عن مبادئهم وانحازوا للسلطة، ويرى في ذلك تجسيدًا للسقوط الأخلاقي. النقد الذي يقدمه للمشهد الثقافي العالمي هو نقد لاذع، يعكس تشاؤماً عميقاً تجاه إمكانية الحفاظ على المبادئ في وجه إغراءات السلطة والنفوذ.

مقالة جديرة بالقراءة..

***

طارق الحلفي - شاعر وناقد

...........................

* أخر ما كتبه الفقيد في صحيفة المثقف في// 122024-06-

https://www.almothaqaf.org/opinions/976033

مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد

صدر حديثا عن دار "المتن" للطباعة والنشر والتوزيع في بغداد، كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" للأستاذ الدكتور "رحيم الغرباوي" حاول فيه الغرباوي أن يسلط الضوء بقوة على موضوع شديد الاتساع والأهمية في الأوساط الأكاديمية والأدبية معا، كونه يتعلق بالتقنيات الفنية الحديثة والفنون البلاغية التي بدأت توظَّف على وفق مسارات جديدة في نصوصها الإبداعية، أطلق عليها الغرباوي مسارات ما بعد الحداثة.. على الرغم من أن مفهوم "ما بعد الحداثة" جاء كردِّ فعل على طروحات ومناهج الحداثة ونظرياتها الكبرى، بعد التبدل الذي طرأ على نظم الحياة في أوروبا والعالم ككل، لاسيما عقب مرحلة الخروج عن سلطة الكنيسة ومركزيتها، ونتيجة للإخفاقات التي خلفتها هذه المرحلة، مما أسهم في ظهور تيارات تنادي بضرب المركزيات الكبرى وتفتيتها، والثورة عليها، وما رافق ذلك من نهوض الهامش على اختلاف أشكاله وأنواعه.. ساعد في ذلك التطور الكبير الحاصل في عالم التكنولوجيا والإعلام، وتيارات العولمة التي غيرت الكثير من المفاهيم، وأعادت إنتاج منظومة فكرية جديدة قد تختلف عن السابق تماماً، مما أَحدَثَ تحولاً فكرياً في العقلية والمفهوم، والإبداع أيضاً.

ولما كان للنقد الفني اتجاهاته المختلفة، فإن حتما سيكون لتلك الاتجاهات الأدوات القادرة على فك تشفيرات النصوص الأدبية في محاولة للوصول إلى أعماق تلك النصوص، وتشخيص جمالياتها، وهذا العمل قد يستثمر المرئي من البنى النصية من أجل الوصول إلى ما ورائياتها من دلالات ومعانٍ، لذلك حاول الغرباوي، في تناوله لنصوص الشاعر موفق محمد، أن يسلط الضوء على فنون بلاغية هي ليست بجديدة ولا مبتدعة من قبل الشاعر، كالموتيف والتناص والمفارقة، إلا إن الجدَّة قد تحددت في قدرة الناقد الدكتور رحيم الغرباوي على تحديد مسارات ما بعد الحداثة في توظيف الشاعر لتلك الفنون البلاغية، وما تتضمنه من حمولات معرفية وظاهراتية قد منحت نصوصها عمقها واتساعها وتشظيها.. لذلك كان العنوان متوافقا تماما مع المتن، فالجديد في الكتاب الذي جاء به الغرباوي هو طريقة تحليل النصوص والبحث في ما ورائيات اللفظة والعبارة والسياق ككل، من أجل تشخيص جمالية غير واضحة علناً في النصوص، وكشف مسارات جديدة لشريح النص ونقده وإبراز قيمته الفنية بدقة ومهارة، وذلك باللعب بقوانين البلاغة وقواعدها وفنونها ومزاوجتها مع مناهج ما بعد الحداثة، للخروج بتشظي دلالي للفظة مثلا، فنراه يقول في لفظتي المأذنة والقباب الزرق: ((الشاعر موفق يمازج بين المئذنة والقباب الزرق، فكلاهما تومئان إلى المقدس، بينما العباءات السود تحمل مقدساً من وجهة نظر أخرى، إذ أوردها مجازاً مرسلاً علاقته المجاورة، وما يجاور العباءة هي الأم، وما لها من مكانة عند الله سبحانه وتعالى، فالعباءة تتطاير هامسة، وهي تطلب بعض مراد النفس والمقصود هنا الدعاء عساه أن يفتح هذا الباب المسدود، ويبدو أن الانغلاقة في عام ١٩٩٠م التي قيلت فيها القصيدة هي القرارات الصارمة التي وضعتها الأمم المتحدة بعد دخول العراق الكويت؛ ما جعل الحياة تغلق بوجه أبناء الوطن ومن الأسباب الرئيسة لذلك الحصار الاقتصادي الجائر))[ص22]

فقد زاوج في هذا النص التحليلي بين البعد الظاهراتي للفظة، والبعد البلاغي أيضاً، وليس ذلك فحسب، بل إنه جاء بتلك الحمولات الدلالية ليرمي بثقلها على الواقع المعيش للنص والشاعر، وبذلك نكون إزاء نص نقدي يمتزج فيه الفني والإيديولوجي معا، فيخرج عن امتزاجهما تحليلاً نقدياً يحمل سمة الدقة والاتساع الدلالي، والبعد عن النمطية، بشكل أسهم في حيوية النص وتشظي دلالاته.. وهذا التشظي مردَّه أن (اللفظة) في منظور الغرباوي لا تعطي دلالة واحدة، بل عدّة دلالات، ليس اعتباطية ولا تكهنية، بل هو ما يبوح به السياق النصي، فلفظة "الناي" مثلاً لها حمولاتها الدلالية التي تمكَّن السياق الشعري من تحقيقها، والتي تم رصدها من قبل الغرباوي بدِّقة، فكان للناي خمس دلالات تقريبا، ولكل منها سياقها ومسارها الدلالي، حتى أن بعض تلك المسارات متضادة تماماً، فالناي هو "الحزن والألم والحسرة، ونيران الجحيم"، وهو أيضاً "رمز فيوضات العطاء النافع"، كما أنه في نصوص أخرى " مصدر العلم والعطاء "، وهو في معنى آخر ونص آخر " وسيلة من وسائل النصح والإرشاد وصوت الحق والبراءة "، وأخيراً هو " وسيلة انبعاث الحياة".. لذلك فقد تم تسليط الضوء من قبل الغرباوي على تعدد دلالات اللفظة الواحدة، وبما يضفي على السياق الشعري أبعاد دلالية بعضها ظاهر، وأكثرها خفي غير مُعلن، لذلك يقول: (إن موتيف اللفظة يمثل الينبوع " الذي تسترسل منه القصيدة وتستمد وحدتها "؛ لما يضفيه من امتداد معنوي مشكلاً مع تشكيلات النص شبكة معرفية جمالية تستبين منها مضمراته لدى المتلقي الحاذق والقادر على قراءته قراءة استبصارية تحقق تقارباً لرؤية الشاعر التي تحمل رسالته، وهو يسعى بإبلاغها لمتلقيه، كما يحقق الموتيف له إفراغ ما يطاله من ضغوط نفسية تجعله يركز على ألفاظه في أكثر من سياق، وفي قصائد متعددة من تجربته الشعرية). [ص30]

من أجل ذلك يُعد كتاب "مسارات ما بعد الحداثة في شعر موفق محمد" دراسة جادة وفاعلة في تشخيص المسارات الجديدة للتوظيف الفني لبعض التقنيات الشعرية والفنون البلاغية التي جاءت متماهية مع الاتساع والتشظي الذي نعيشه اليوم في ظل التطور السريع في الميادين الحياتية ككل، فكان التشكيل الشعري مواكباً، على إثر ذلك، لطبيعة العصر، وللذهنية الجماهيرية أيضاً..

***

أ. م. د. محمد جري جاسم النداوي

للرّوائي الأردنيّ يحيى القيّسي

مقدّمة: تعتبر رواية "حيوات سحيقة" للرّوائيّ يحيى القيسي رحلة استكشافيّة في أعماق الوعي الجمعيّ العربيّ، ففيها يتداخل الواقع بالخيال، والتّاريخ بالحاضر.

تسعى الرّواية إلى فكّ شفرة الهويّة العربيّة المعاصرة، من خلال استحضار التّراث، واستخدام رموز الغموض والماورائيات.

في هذا التّحليل، أقوم برحلة في أعماق النّصّ لاستكشاف جوانبه المختلفة، من حيث الشّكل والمضمون، والأفكار الّتي يطرحها، وكيفية ارتباطها بالواقع المعاش.

بداية: اعتقَد الفيلسوفان اليونانيّان سقراط وأفلاطون قديما، أنّ هنالك نفسا داخل كلّ شخص فينا تبقى حيّة بعد موته لا تموت معه، وأنّ هناك عودة للحياة، وأحياء من الموتى،‏ وأنّ نفوس الموتى تبقى موجودة، ومنها تنطلق حياة أخرى جديدة.

من قلب هذه الفكرة، نسج الرّوائيّ الأردنيّ يحيى القيسي عالم روايته "حيوات سحيقة" الصّادرة عن دار خطوط وظلال عام (2021م)، وتمتدّ على (164) صفحة، مستحضرة المكان كإطار أساسيّ لها، لتقدّم للقارئ فكرة متميّزة بغموضها وجاذبيتها. يطرح الكاتب فكرته الّتي تميّزت بغرابتها، محفّزا قارئها على التّغلغل فيها، متجاوزا المعاني الظّاهريّة للنّص، باحثا عن تلك الغائرة في أعماقه. ولعلّ كتابة رواية تحمل فكرة ماورائيّة، تحتاج إلى جرأة شديدة، وكفاءة عاليّة، وذلك لإيصالها إلى القارئ وإقناعه بها على النّحو الأفضل.

الإهداء:

استهلّ الكاتب روايته بإهدائها "إلى فرسان الأنوار العلويّة في رحلتهم الأرضيّة". يتبادر للذهن لأوّل وهلة أنّ هذا الإهداء غريب غير مفهوم، لكن.. عند قراءة النّصّ والتّأمّل في معانيه ودلالاته، يستنتج القارئ ما رمى إليه الكاتب، وبالطّبع فإنّ القارئ المتفحّص، يسعى إلى فهم التفّاصيل الدّقيقة والتّداخلات العميقة الّتي تلقي الضّوء على المعاني الخفيّة في النّصّ، يحاول سدّ الفجوات الّتي خلقها الكاتب عمدا، ويتساءل عن دوافع الشّخوص وكيف تتأثّر بسياق الأحداث من حولها، يحاول أيضا فهم الرّموز الموجودة، وكيف تلعب دورا في تعزيز الفهم للرّسالة العامّة للعمل.

بشكل عامّ، يقوم القارئ المتفحّص بجهد لاستكشاف عمق هذا النّص وكشف أبعاده، تلك الّتي تُركَت بشكل مقصود؛ لتفعيل ذهن المتلقّي وتحفيز تفكيره وتشويقه.

العنوان ودلالاته:

بعد البحث عن المعنى اللّغوي لأصل كلمة "حَيَوات" نجد أنّها في صورة جمع تكسير، وجذرها (حيّي) وجذعها (حيوات)، وهي تشير الى الحياة، النّموّ والبقاء، أمّا كلمة "سحيقة" فهي صفة تدلّ على الثّبوت من سحُقَ وسحِقَ.

يقول العرب: الأزمنة السّحيقة، أيّ الغابرة، ومكان سحيق أيّ بعيد، وواد سحيق أيّ واد عميق، من هنا فعنوان الرّواية يدلّ على فكرتها غير النمطيّة وعلاقتها بالمكان، الّذي برز كعنصر مهمّ في صياغة هذا العمل، وذلك لارتباطه بالمكوّنات والعناصر البنائيّة للنّص.

تركّز الرّواية على عنوانها الّذي يحمل المعاني المتشعّبة، ومع هذا التّشعّب والتّداخل، نجده يرتبط ارتباطا وثيقا بالقلق الماثل في ثقافة الإنسان العربيّ، وتراثه الفكريّ وارتباكه أمام الحداثة.

يحمل العنوان أيضا فكرة التّطلّع إلى التّاريخ، ويؤكّد أنّ الهويّة العربيّة هي نتاج لحياة ودورات تاريخيّة محاطة بالكثير من الجدل.

يسعى النّص أيضا إلى التّوضيح وإعادة تفسير ذلك السّياق، ضمن إطار عامّ يقوم على الجدل؛ نتيجة لأسر الماضي وتأثيره على الذّات العربيّة، فكرها ومستقبلها.

بين التراث والحداثة:

يزخر التّاريخ بالعصور الّتي تميّزت بالصّراع بين التّقليد والحداثة، بين الخرافة والعلم، بين العقيدة والعقلانيّة، وعجلة التّاريخ مستمرّة، وهي تعني كامل الحياة دون استثناء، الماضي الحاضر والمستقبل، لذا يدرس المؤرّخون والباحثون الماضي؛ كتجارب للشّعوب يجب النّظر إليها والتمّعّن فيها، وذلك للاستفادة منها ومن خلاصة ما قدّمته الأمم من نشاطات عبر الزّمن في مجالات المعرفة الإنسانيّة المختلفة.

تسعى العديد من هذه الدّراسات إلى اكتشاف السّبب الجذريّ للرّكود المعاصر من خلال الاستقصاءات التّاريخيّة، بينما تسعى دراسات أخرى للكشف عن ديناميكيّة التّراث الفكريّ وقدرته على التّكيّف مع مختلف الأنظمة الاجتماعيّة والأيديولوجيّة.

من بين أهمّ مؤسّسي النّهج النّقديّ المفكّر محمد أركون، الّذي رفض الفصل بين الحضارات، وتساءل عن تاريخ المفاهيم المركزيّة، كالدّين والمجتمع، الحلال والحرام، العقل والضّمير، المعرفة التّاريخيّة والعلميّة والفلسفيّة إلخ. وعن مؤرّخي الفكر والأدب فقد تطرّقوا إلى هذه المفاهيم، لكن.. ما زالت الحواجز قائمة في طريق المعرفة، بالإضافة إلى إشكاليّات التّطبيق بين الأديان والتّاريخ والفلسفة، والعلوم المعرفيّة والسياسيّة والأدب، خصوصا ما يتعلّق بالأنثروبولوجيا الّتي لم تزل غائبة عن الأذهان بفروعها، والّتي تدرّس التّصرفات الإنسانيّة وبناء الثّقافات البشريّة، بأدائها ووظائفها في كلّ زمان ومكان، كذلك وتأثير اللّغة على الحياة الاجتماعيّة وتطوّر الإنسان بيولوجيّا، وثقافات البشر القديمة.

نستنتج ممّا سبق، أنّ القيسي دخل في روايته إلى موضوع شائك، تتشابك فيه الثقّافة بالتّراث والميثولوجيا والفكر في شبكة معقّدة من التّفاصيل والتّداخلات، ممّا يضفي على الرّواية طابعا خاصّا وعمقا تأمّليّا لصورة معقّدة، تعكس أسلوب التّفكير والثّقافة الشّعبيّة والفكريّة العربيّة، وتستكشف التّأثيرات المتبادلة بين التّراث والفكر والتّغيرات المجتمعيّة.

حبكة الرّواية:

"صالح" بطل الرّواية الّذي اقترب من الأربعين، عمل في مجال التّدريس ثمّ دليلا سياحيّا، بعد ذلك باحثا في مركز للدّراسات، قام بمرافقة فريق تلفزيونيّ لتصوير فيلم وثائقيّ عن الرّحالة والمؤرّخ السّويسري "يوهان لودفيك بركهارت"، الّذي وصل إلى شرق الأردن مكتشفا مدينة البتراء في جنوبه (1812م).

يتتبّع صالح مع الفريق الأماكن الأثريّة في الأردن، وخلال إنتاج ذلك الفيلم، انفرد صالح عن الجميع وزلّت قدمه؛ فسقط في حفرة قضى فيها ليلة قاسيّة صعبة، بعد أن سَدّ التّراب ثغرة الحفرة، فشعر بالإحباط واليأس، وأن لا أمل له بالنّجاة.

نظر حوله فاكتشف أنّ الحفرة تنتهي إلى سرداب يؤدّي إلى كهف يقود إلى مكان ما، بعد ذلك وجد إناء من الفخّار يشبه الجرّة؛ فقام بكسره، وجد فيه سائل كثيف، تذوّقه واستشعر حلاوته؛ فانتابته حالة غريبة! وكأنّ شيئا ما قد تغيّر به، بدأ يشاهد ومضات من حيوات أخرى عاشتها النّفوس الأثيريّة وانتهت إلى جسده!

غاب صالح عن الوعي، وأضحى بحالة هلوسة شديدة، راح يرى أشياء غريبة، ويتخيّل حياة مختلفة بوقائعها، وكأنّ أحد أجداده قد عاشها في أزمنة سحيقة!

في اليوم التّالي تمّ إنقاذه وإسعافه من الكسور الرّضوض والكدمات، وعاد إلى مدينة الزّرقاء حيث عائلته الّتي اعتنت به.

انقلبت حياته رأسا على عقب جرّاء ذلك الحادث الغريب، فقد عصفت الأحداث الغامضة به وبأيّامه، انهالت عليه المشاكل وتتالت عليه الأفكار السّلبيّة، بدأ يشعر بالخوف والقلق وفقد الثّقة في نفسه وفي الآخرين، بدأ يشكّ في كلّ شيء حوله، وأصبح ينظر إلى العالم نظرة تشاؤميّة، وجد نفسه في صراع دائم مع نفسه، وأخذ يفقد الأمل في الحياة.

اجتهد في البحث عن تفاسير منطقيّة لما يحدث معه، وعن إجابات للأسئلة الّتي كانت تدور في ذهنه، ثمّ لجأ إلى التّفسير الدّينيّ، وانغمس في دوّامة التّطرّف الدّينيّ، ومن خلال بعض الأقرباء وقع فريسة للتطرّف، بحث عن الخلاص، فبدأ يقرأ ويبحث في الكتب والمراجع، علّه يجد فيها بلسما شافيا لما هو فيه، فلم يساعده ذلك، لكنّ عمله مع فريق التّصوير البريطانيّ، وعلاقته مع "أليس" دفعته للتمعّن في الواقع والعودة إلى المنطق والتّفكير بعقلانيّة، والعثور على ضوء في نهاية النّفق.

أخيرا.. وبعد المعاناة، بدأ يتعلّم كيفيّة التّعامل مع هذه الأزمة، وراح يستشعر الأمل مرّة أخرى وينظر إلى الحياة بمنظور جديد، أصبح يؤمن أنّ كلّ شيء يحدث لسبب، وأنّ كلّ تجربة، حتّى لو كانت صعبة، يمكن أن تكون فرصة للتعلّم والنّمو، مدركا أنّ الحياة مليئة بالتحدّيات، ولكن.. يمكننا التّغلّب عليها إذا كان لدينا الإيمان والعزيمة.

ألهمته "أليس" بالنّظر إلى الأمور بعقلانيّة، فبدأ باستعادة توازنه العقليّ، فوجد النّور وحقّق التّحوّل الإيجابيّ؛ لينجو بنفسه من تلك الأفكار السّامة، وذلك بمساعدة العنصر الأنثوي الفعّال في الرّواية، فعلاقة صالح بأليس لم تكن مجرّد خيوط عاطفيّة زيّنت السّرد، بل كانت المحرّك الأساسيّ في تطوّر شخصيّته، وخروجه من المأزق الّذي كاد أن يؤثّر على صحته العقليّة والنّفسيّة، بدأ تأثير الحبّ الإيجابيّ يظهر عليه بشكل واضح؛ كمحفّز لتغيير نظرته إلى الحياة والمستقبل، وبفضل الدّعم العاطفيّ والتّفهّم والاحتواء الّذي قدّمته أليس، استعاد صالح توازنه العقليّ وشعر بالإلهام لتحسين وضعه النّفسيّ والمعنويّ.

أظهرت الرّواية من خلال تلك العلاقة، كيف أنّ الحبّ والاهتمام يمكّنان الإنسان من التّغلّب على التحدّيات والخروج من المواقف الصّعبة، وأنّ تأثير الحبّ على الإنسان ليس محصورا في العلاقات الرومانسيّة فقط، بل يمتدّ إلى تأثيره الإيجابيّ على النّفس والتّفاؤل والنّظرة إلى الحياة.

هلوسة أم اضطراب نفسيّ:

الهلوسة هي تجارب حسيّة لا أساس لها في الواقع، قد تكون بصريّة أو سمعيّة، وغالبا ما توصف بأنّها "رؤيّة أشياء غير موجودة" أو "سماع أصوات غير حقيقيّة".

هناك العديد من الأسباب المحتملة للهلوسة، بما فيها الاضطرابات العقليّة مثل الفصام والاضطراب ثنائيّ القطب والاكتئاب، وبعض الأدويّة والأمراض الجسديّة مثل الصّرع والأمراض الدّماغيّة والإرهاق الشّديد، أو الحرمان من النّوم، أو التّعرّض لصدمة نفسيّة أو عصبيّة كما حصل مع بطل الرّواية.

في بعض الحالات، قد تكون الهلوسة علامة دالّة على حالة طبيّة خطيرة، لذلك، من المهمّ استشارة الطّبيب المتخصّص، وبالطّبع يعتمد علاج الهلوسة على السّبب الكامن وراءها.

أدخل الكاتب موضوع الهلوسة إلى روايته بأن جعل أحد الشّخوص الرئيسيّة "صالح" يعاني من الهلوسة، فكشف بذلك عن نفسيّته وصراعه الدّاخليّ، الّذي تعمّق بسبب صدمة نفسيّة وعصبيّة، فجاءت الهلوسة كجزء من عالمه الخياليّ؛ مما خلق بعض الغموض.

كما استخدم القيسي الهلوسة؛ كرمز واستعارة لتمثيل شيء آخر كالحلم والخيال أو الجنون، فقد رأى البطل أشياء غير موجودة في الواقع، هذه الأشياء رمزت إلى مخاوفه أو رغباته أو أحلامه كإنسان عربيّ قلق، لديه الكثير من المخاوف، يحاول فهم معنى الحياة والموت، ويعيش واقعه المضطرب في مجتمع وثقافة متناقضة، متحضّرة في خارجها ومنغلقة على ذاتها من الدّاخل، تقليديّة تقاوم التّغيير، وتؤمن بالسّحر والشّعوذة والتّنجيم والماورائيات، والكثير من الخرافات. وهنا يحضرني ما قاله الشّاعر نزار قبّانى: "لبسنا قشرة الحضارة والرّوح جاهليّة"!

هذه الهلوسة عكست الصّدمة الّتي تعرّض لها صالح، وأضافت الكثير من الغموض والتّشويق، وفي النّهاية فإنّ الطريقة الّتي ربط بها الرّوائي موضوع الهلوسة في روايته، اعتمدت على أهدافه الفنّيّة والموضوعيّة الّتي سعى إليها؛ لتجسيد أفكاره ومشاعره، وأسلوبه ورؤيته ورسالته التّنويريّة.

المكان والزّمان:

تعامل القيسي مع المكان بشكل جيّد حين اتّخذ منه إطارا مادّيّا للأحداث المتخيّلة؛ فحقّق امتزاجا مكانيّا عجائبيّا بالحدث، الّذي حملت أحداثه حيّزا من السّكون إلى عالم الدّهشة السّرياليّة، فتجلّى المكان كأرض خصبة، امتزجت فيها الطّبيعة الثّقافيّة والتّاريخيّة بتفاصيلها المتشابكة الّتي عكست مركزيّة مكانيّة، ذات عمق تاريخيّ، فمنطقة البتراء النّبطيّة هي جزء من السّاحة التّاريخيّة والتّراثيّة الأردنيّة.

أمّا الزّمن فتداخل بالعديد من الأحداث؛ ليرسل القارئ إلى فترات عديدة، بدءا من زمن الرّاوي أو السّارد "صالح" المرتبط بالحاضر، ثمّ زمن رحلة "بيركهارت" وتقنيّة الاسترجاع، ثمّ أزمنة أخرى تُستعاد داخل وعي "صالح"، وتتّصل بالتّاريخ والتّراث العربيّ.

بشكل عام، يرمز الزّمن إلى الماضي والذّكريات، وإلى آمال الإنسان العربيّ وطموحاته الّتي تحكمها القيود الفكريّة العديدة، وإلى القديم والحديث والمقارنة بينهما، وقد ساهمت هذه الرّمزيّة في خلق جوّ خاص للرّواية، وإثراء كبير للزّمن السّرديّ فيها.

سرديّة الوعيّ والبحث عن الذّات:

تطرّقت الرّواية إلى العلاقة مع الثّقافات الأخرى والانفتاح على الآخر ونبذ خطاب الكراهيّة، الزّواج المختلط وقصّة الحبّ الّتي جمعت صالح بأليس، وقصّة زواج السّائحة النيوزلندية "مارغريت"، الّتي جاءت إلى البتراء ثم تزوّجت بدويّا من أهل البتراء واستقرّت فيها.

كلّ هذه الشّخوص وغيرها أدّت دورها بعناية وبرعت في شدّ انتباه القارئ، وذلك عبر حبكة متماسكة، حيكت بمهنيّة كتابيّة سرديّة عاليّة، وبأسلوب فنّيّ غنيّ بالغموض، وصور حيّة للشّخوص المتفاعلة مع نصّ تشابك وتعقّد، فظهر تأثير التّراث الفكريّ عليه، وعلى تشكيل شخوصه وطرق تفكيرهم.

بهذا الأسلوب قدّم القيسي تحليلا لتفاعلات الأفكار والقيَم في سياق مركّب لعمق التّحوّلات في المجتمع، وكيفيّة تأثيرها على الفرد والجماعة.

أمّا هيكل الحدث، فقد جسّد السّقوط في الحفرة الفعل الأساسيّ الّذي قاد البطل إلى الوعي والنّمو الروحيّ ونضج التّجربة، وذلك عبر جملة من الدّلالات حول أهميّة الوعي الفكريّ، واستخدام الحوارات الدّاخلية ونماذج الإسقاط؛ لتفسير ما حصل.

تُشَبّه فترة العزلة الّتي قضاها "صالح" في الحفرة بواقعة لا يمكن تفسيرها، غرائبيّة الأثر والتّكوين، إذ تبدو خارج نطاق المنطق، مخالفة للتوقّعات المنطقيّة للعالم الواقعيّ، فهي واقعة سرياليّة تشبه الأحلام والكوابيس، تثير في نفس القارئ مشاعر الغموض والغرابة والعجب والرّيبة.

يتمّ إنقاذ صالح ويعود إلى حياته السّابقة، لكنّه لم يعد هو نفسه، وهنا يظهر الوعيّ الجديد الّذي صاغته الظّروف، تلك الّتي خضع لها، وتبرز رؤيته المنطقيّة للماضي والحاضر، تلك الّتي تشكّلت بعد تجربة نفسيّة مريرة، ساهمت في تشكيل شخصيّته وجعلتها أكثر نضجا.

قاده هذا التّحوّل إلى تجربة قريبة من التّسامي نتيجة الخوف والقلق، إذ اقتربت تجربته من البعد الرّوحيّ وأثّرت عميقا في نفسه.

في البداية اعتقد أنّها تجربة دينيّة؛ فزاد من إيمانه حتّى وصل إلى التطرّف، وحين شعر بأنّها تجربة وجوديّة، أعاد التّفكير في قيَمه وأفكاره، لكنّه في مرحلة لاحقة وجدها تجربة نفسيّة، زادت من وعيه الذاتيّ، فعندما يتعرّض الإنسان لتجربة صعبة، يواجه التّحدّيات والصّعوبات التّي يجب التّغلّب عليها، وذلك ما يتطلّب الصّبر والتّحمّل والعزيمة.

يتعلّم الإنسان من تلك التّجارب، ويخرج منها بفهم أعمق للحياة والنّاس، وكأنّي بالكاتب يقول: التّجارب المريرة ما هي إلّا فرصة للإنسان؛ للنّمو والتّعلّم والتّحوّل إلى شخص آخر، أكثر نضجا وموضوعيّة.

اللّغة.. بين الجمال والخيال والبحث:

يجمع هذا العمل بين الخيال والبحث الفكريّ والتّوثيق التّاريخيّ، ساعيا إلى تقديم عمل سرديّ يحتفي باللّغة وجمالياتها، وقد لجأ الكاتب إلى آليّة خاصّة لإبداع نصّه الأدبيّ، فجعله متكاملا يزخر بالبلاغة والجماليّات اللّغوية الّتي تبهر القارئ، وتخلق عوالم جديدة مبهرة في الجوهر والعمق، فجاد بما في جعبته من الألوان اللّفظيّة، ولعلّ هذا ما شدّني إلى الوصول إلى آخر سطر في الرّواية دون أن أفقد شغفي بلغتها ورغبتي بالقراءة، وذلك لما يسكنها من سحر لغويّ خاصّ، يخلق الفخامة والرّقي للعمل، ويجعل منه أكثر جاذبية وثراء، ويجعل النّص أكثر إلهاما.

من ناحية أخرى فمصطلحاتها وتراكيبها صعبة، وغير سلسة للقارئ العاديّ، فهذا العمل استهدف النّخبة من القرّاء، وتناسى القارئ العادي البسيط، لكنّها وللحقّ، لغة صعبة القراءة والاستيعاب على القارئ العاديّ، ما يقلّل من متعته في القراءة، ويؤدّي إلى صعوبة فهمه لأفكارها، وبالتّالي إلى عزوفه عن قراءتها، وذلك ما يعيق وصولها إلى جمهور أوسع.

إذن، فهذه اللّغة الفصيحة البليغة تغدق علينا بفيض من الجمال، وفي الوقت ذاته تلقي بظلال من التّحدي على بعض القرّاء.

التّصنيف الأدبيّ:

بعد قراءتي لهذه الرّواية لمستها في أكثر من تصنيف، فقد تُصَنّف بالرّواية "القوطيّة" لتميّزها بأجواء الغموض، والأماكن المهجورة فيها، والمعتقدات والتلّميحات الّتي تسودها، ووجود الأماكن الأثريّة، والأطلال والماضي الذي يخزّن أسرارها.

كما يمكن تصنيفها كرواية نفسيّة عميقة، حيث تتناول رحلة البطل نحو اكتشاف الذّات وتجاوز الصّدمات النّفسيّة، مستخدمة رموزا وأحداثا غامضة تعكس أعماق اللّاوعيّ البشريّ.

قد تُصَنف أيضا بالرّواية "الملغّزة"، الّتي تعنى بالمجهول وكلّ ما يحيط به من الغموض والأسرار؛ لتقود إلى طرح الأسئلة والبحث عن الإجابات، وقد تصنّف بالرّواية "الفانتازيّة" الّتي تطرح فكرة وجود كائنات خارقة، متحرّرة من قيود المنطق، معتمدة على الخيال بشكل كامل، حيث تقع أحداثها في عالم متخيّل لا يخضع لقوانين مادّية فيزيائيّة طبيعيّة كعالمنا، إنما تصوّر عالما خاضعا لقوانين ميتافيزيقيّة، متناقضا مع التّجربة الواقعيّة.

إنّ ما يميّز "حيوات سحيقة" هو براعة السّرد، فأحداثها المتداخلة المتتاليّة تنقل القارئ إلى عالم الخيال والإثارة، وتسعى لاكتشاف الغامض وفهم المجهول؛ لتقدّم لنا لوحة فنّيّة متشابكة، تتناول قضايا الإنسان الوجوديّة في مواجهة عالم متغيّر ومعقّد.

ما وراء الفكرة:

للمفكّرين والباحثين والأدباء، أساليبهم المختلفة في تناول مسألة التّراث الفكريّ والحداثة، يعود ذلك الاختلاف إلى العوامل الأيدولوجيّة ودورها في التّعامل مع جدليّة التّراث والحداثة، انطلق بعضهم من منظور التّنوير لنقد التّراث الفكريّ العربيّ، فنادى إلى إعادة قراءة التّراث الفكريّ ليواكب العصر، العديد من الباحثين قاموا بإعادة النّظر في الفلسفة والعلوم الدّينيّة؛ لجعلها تتماشى مع  حداثة العصر والعلم، فمثلا المفكّر علي شريعتي قام بإعادة النّظر في المصادر الكلاسيكيّة الفكريّة، لإظهار توافق الأديان مع الأيديولوجيات الحديثة، ينطبق هذا الأمر على المفكّر الطّيب تيزيني، الّذي اعتمد على الجدليّة التّاريخيّة في مشروعه الفلسفيّ؛ لإعادة قراءة الفكّر العربيّ، وكذلك الفيلسوف حسين مروّة الّذي قدّم كتاب "النّزعات المادّية في الفلسفة العربيّة الإسلاميّة"، وركّز على احتواء الفلسفة والفكر الدينيّ على وجهات نظر وأساليب متقاربة مع الديالكتيك المادّي، والفلسفة العلميّة المستندة إلى المنطق ومفهوم التّناقض، وظاهرة تغيّر الأشياء باستمرار، الّتي تفسّر تطوّر الأشياء وتغيّرها عبر سلسلة من المراحل، كلّ مرحلة تقوم بنفي المرحلة السّابقة، مع الاحتفاظ ببعض عناصرها.

استخدم "كارل ماركس" الدّيالكتيك المادّي لشرح تطوّر الرأسماليّة، حين رأى أنّ الرأسماليّة تستند إلى التّناقض بين الطّبقة العاملة والرأسماليين، وبشكل عام فالدّيالكتيك المادّي يستخدم لدراسة مختلف الظّواهر الطّبيعيّة والمجتمعيّة، فهو أداة تحليليّة قويّة يمكن استخدامها لفهم العالم من حولنا، وهو يوفّر الفهم العميق للتغيّر والتطوّر.

المفكّر محمد عابد الجابري قدّم مساهماته في تحليل المعرفة في الثّقافة العربيّة ونقد العقل العربيّ، عبر دراسة المكوّنات والبنى الثّقافيّة واللّغويّة، ودراسة العقل السّياسيّ ثمّ الأخلاقيّ، ابتكر مصطلح "العقل المستقيل" ذلك العقل الّذي يتجنّب مناقشة القضايا المحوريّة الهامّة، مشيرا إلى العقليّة العربيّة وحاجتها إلى الابتكار.

يرى "أدونيس" أنّ العرب في القرن العشرين، عندما يحاولون دراسة تراثهم الماضي فإنّهم ينجذبون بشكل خاصّ إلى الإنتاج الّذي يرتبط بالتّغيير والتّحوّل.

هذا الإنتاج هو الّذي رفضه أسلاف العرب في الماضي، ولا يزال حتّى اليوم خارج بنية المجتمع العربيّ الأساسيّة، يشير أدونيس إلى أنّ هذا التّناقض هو أساس المشكلة.

في كتابه الأصول الاجتماعيّة للإسلام، طرح أستاذ علم الاجتماع محمد باميّة العديد من الأسئلة، وضّح الحاجة إلى الشّجاعة وكسر الحواجز والتابوهات؛ للوصول إلى الفهم الصّحيح، وإلى المزيد من الإثباتات التّاريخيّة والأدلّة الأركيولوجيّة، وعلم الآثار ودراسة البقايا المادّية للحضارات السّابقة، ودراسة الهياكل والأماكن الّتي بناها الإنسان مثل المدن والمعابد والمقابر، خاصّة وأنّ التّراث الفكريّ العربيّ في مجمله ضدّ الحداثة، أمّا المفكّر هشام شرابي فقد تناول التغيّرات الهيكليّة داخل العالم العربيّ خلال القرن الماضي، الّتي أدّت إلى "النّظام الأبويّ الجديد" بدلا من الحداثة، وفسّر ذلك بأنّ النّظام الأبويّ أنتجه التّفكير المجتمعيّ المفتقر إلى الإحساس بالأصالة، كما تناول السّلوكيات الاجتماعيّة، هيكل العائلة العربيّة، العجز، التّبعيّة، الوعي، المثقّف العربيّ وتحدّيات العصر.

في الواقع نحن ضحايا الموروث الفكريّ الّذي يقف حائلا بيننا وبين الحداثة، يحرمنا من الخوض في مسائل جديدة، إذ يقدّس النّاس القائم ولا يسعون إلى تغييره، ولا يفكّرون بجدواه أو صحّته، وبالتّالي فقدنا فعل الحريّة، وافتقدنا إلى التّفكير النّقدي الّذي يقودنا إلى الإبداع والابتكار.

الماورائيّات والتّراث الأدبيّ العربيّ:

تأثّرت بعض الرّوايات العربيّة بالماورائيّات، والتّراث الأدبيّ العربيّ الّذي قدّم فكرة السّحر والشّعوذة مثلا، هو تراث قديم وثريّ بالقصص والحكايا، ومن أقدم الأمثلة على ذلك هو الشّعر العربيّ القديم الّذي تطوّر من الأناشيد، الّتي توجّهوا بها إلى الآلهة.

في بدايات الشّعر الجاهليّ، ارتبط الإبداع بالإلهام، ثم تحوّل تدريجيّا إلى مهارة يتقنها الشّعراء من خلال الصّقل والتدرّب، وقد استلهم الشّعراء الجاهليّون قسوة الحروب وأساطير الأجداد، وتأثّرت نفوسهم باللّاشعور الجمعيّ، فظهرت في أشعارهم رموز وأيقونات تعكس عمق النّفس الجماعيّة، وقد شكّل الدّين والأسطورة خيالهم الشّعريّ، وبهذا، نرى أنّ الإبداع الشّعريّ في العصر الجاهليّ كان نتاجا لتفاعل معقّد بين الشّاعر ومحيطه، حتّى بدأ الشّعر ينفصل عن المعتقد، ليصبح فنّا أدبيّا مستقلّا.

في رحلة استكشاف جذور الكهانة عند العرب، يرى جرجي زيدان أنّ هذا العلم الغامض قد حمله الكلدان إلى أرض العرب جنبا إلى جنب مع علم النّجوم، تاركين بصمتهم على ثقافة المنطقة، ويستدلّ زيدان على ذلك باللّفظ العربيّ المستخدم للدّلالة على الكاهن، وهو "حازي" أو "حزاء"، وهي كلمة كلدانيّة الأصل تحمل في طيّاتها معنى "الرّائي" أو "النّاظر" أو "البصير"، كما لو أنّ الكاهن يمتلك عينا ثاقبة تخترق حجب الغيب.

تثير الكهانة جدلا واسعا بين النّاس، فبينما يعتقد البعض بصدقها ويؤمن بقدرتها على كشف المجهول، يشكك آخرون في صحّتها ويرونها مجرّد خرافات، وعلى الرّغم من انتشارها عبر العصور، إلّا أنّ العلم الحديث لم يجد أيّ دليل يثبت صحّة ادّعاءات الكهانة، فقد خضعت هذه الممارسات للعديد من الدّراسات والأبحاث، لكنّها لم تسفر عن أيّ نتائج تؤكّد فعاليّتها، فهل تُعدّ الكهانة مجرّد وهم يسلّي العقول، أم أنّها نافذة حقيقيّة على عالم الغيب؟

يبقى هذا السّؤال مفتوحا، تاركا لكلّ فرد حرّيّة الاعتقاد بما يراه مناسبا.

من الأمثلة الأخرى على التّراث الأدبيّ العربيّ الّذي قدّم فكرة السّحر والشّعوذة هي الحكايات الشّعبيّة والتّراثيّة، مثل ألف ليلة وليلة، الّتي تضمّنت مجموعة من القصص الخياليّة.

في العصر الحديث، استمرّت فكرة الغيبيّات والماورائيّات في الظّهور في الأدب العربيّ، وخاصّة في الخيال العلميّ والفانتازيا، فقد استخدمت هذه الأنواع الأدبيّة لخلق عوالم خياليّة مليئة بالمغامرات والإثارة.

يمكن القول أيضا، إنّ فكرة الغيبيّات هي فكرة عالميّة، ظهرت في العديد من الثّقافات المختلفة حول العالم، وقد لعبت هذه الفكرة دورا مهمّا في الأدب العربيّ، وفي تشكيل الثّقافة العربيّة، واستخدمت لخلق عوالم خياليّة مليئة بالمغامرات والإثارة.

في الختام:

لعلّ عملية إنتاج رواية تعتمد على فكرة غيبيّة أو ماورائيّة، هو عمل يتطلّب جرأة كبيرة من الكاتب، ومعرفة وثقافة واسعة؛ وذلك لإقناع القارئ بمضمونها ومحتواها، وهو ما يتطلّب أيضا مهارة في تناول العناصر الخياليّة والرّوحانيّة بطريقة مغايرة، تثير الفضول وتلامس الوجدان.

يتمثل التّحدّي الأكبر في جعل أفكار العمل ملهمة وجذّابة ومشوّقة؛ لتعيش في ذهن القارئ، بعد الانتهاء من القراءة وإغلاق الصّفحات، كما فعلت رواية "حيوات سحيقة" الّتي أثارت تساؤلات حول ماهيّة الوجود والحياة والموت.

***

صباح بشير – أديبة وكاتبة

........................

* هذه المقالة جزء من دراسة نشرتها في كتابي "شذرات نقديّة".

فعل التوازن بين الضرورات الفنية والمتطلبات الجماهيرية 

المسرح الشعبي تجسيد رائع لمقولة الفن للمجتمع، فهو نوع من الفنون الساعية لاستقطاب الجمهور عبر تقديم ما يتسق مع ذائقتهم، ويتوافق مع توجهاتهم، وفي الوقت نفسه يقدم افكارا ترتقي بالوعي وتنمي الذائقة بإضفاء المزيد من العناصر الفنية/الجمالية.

عمل الفنان مقداد مسلم مؤلف ومخرج مسرحية (أحوال وأمثال) على إنشاء امتداد لمسرحيّته الذائعة الصيت (الخيط والعصفور) التي عرضت عام 1984 وشهدت اقبالا جماهيريا واسعا، امتد عرضها سنة تقريبا، وما زال الجمهور يتذكرها بمحبة تقترن بالمواقف الكوميدية والممثلون الذين جسدوا شخصياتها، وبعض العبارات التي أصبحت لازمة يرددها الجمهور إلى يومنا هذا. وجاء حصاد النجاح استنادا إلى مقومات المسرحية الشعبية التي يحرص المخرجون على وجودها لكي يتمتع العرض بحضور جماهيري كثيف، منها: حضور الممثل النجم وتجسيده لشخصية رئيسية، وأن يشتمل العرض على الموسيقى والغناء والحركات الإيقاعيّة إلى جانب القفشات الكوميدية والحوار القريب من روح المتلقي، وأن تكون قاعة العرض وسط المدينة، مع اهمية الترويج الواسع للدعاية والإعلانات في وسائل عدة، وأماكن يرتادها المجتمع. 440 habib

عرضت المسرحية الشعبية (أمثال وأحوال) إنتاج وزارة الثقافة والسياحة والآثار/دائرة السينما والمسرح، على مسرح المنصور لثلاثة ايام اعتبارا من 16/ 10/ 2024، تكون العرض من فصلين بينهما استراحة، زمن الفصل الاول خمس خمسون دقيقة وزمن الفصل الثاني خمسون دقيقة، وبهذا أعاد (مقداد مسلم) الجمهور إلى زمن المسرحية الطويلة التي يقضي افراد العائلة معها أمسية كاملة، وفي هذا توافق مع المسرحيات التي لا يقل عدد صفحاتها عن مائة صفحة مثل هملت ومكبث وبيت الدمية والقرد الكثيف الشعر، والكثير من العروض التي قدمت في المهرجانات وحققت جوائز، ذلك أن المسرحية الطويلة تلبي الاشباع الفكري الجمالي المتوخى من حضور العرض المسرحي.

يدخل الجمهور إلى الصالة ليجد بيتا عراقيا بغداديا ماثلا أمامه، وتستقبل مسامعه اغاني تراثية بهدف الدخول في بيئة العرض وأجوائه، وقبل بدء حكايات العرض قدمت الشخصيات نفسها للجمهور بصورة تعريفية مباشرة، ولم يعمد المؤلف المخرج إلى تقديم هذا التعريف في طيات الحوار وتوالي الأحداث كما هو المعتاد في العروض المسرحية، ثم بدأ الفعل الدرامي بمشهد صورة تعاقب الأجيال من خلال ولادة طفل (حمامة) زوجة (يابس) الذي كثر الحديث عنه وعن بخله ولم يظهر أبداً على خشبة المسرح، وقع فعل الولادة يسار خشبة المسرح، وبالوقت نفسه يموت الجد (عصفور) يمين الخشبة وما بين اليمين واليسار تتجول الشخصيات مفصحة عن مشاعرها إزاء الولادة والموت وتتحدث وتبحث عن وصية الجد المكتوبة.441 habib

ارتكز العرض على محورين، محور البحث عن وصية الجد (عصفور) ومحور سردية الأمثال الشعبية، مع التركيز على ثيمة انشغال العائلة بتطبيقات الهواتف المحمولة والتواصل عن بعد، وفقدان التواصل الوجاهي الحي مع أفراد العائلة، وقد أوصاهم جدهم بأن يكونوا ليوم واحد في الشهر مع بعضهم، يلتقون ويتحدثون فعلا دون هواتفهم ، وإذا بهم ينفذوا الوصية الشفوية ويستمرون بالبحث عن الوصية المكتوبة، ويشغلون أنفسهم برواية الأمثال الشعبية وحكاياتها الشيقة.

اطلق المؤلف تسميات متنوعة على شخصياته فأخذ من الطيور (عصفور، كناري، حمامة) ومن الاسماك (كوسج، حوت، زورية) ومن الصفات الشخصية: (كفوشه: أي ذات الشعر غير الممشط- بردان: يشعر بالبرد، مكروده: مظلومة ومسكينة، غنية: من الثراء) و(فاهم) الذي اتفق الجميع على أنه فاهم فعلا، وافسحوا له المجال لممارسة دوره التنظيمي للعائلة، بقصد الدلالة على طبيعة الشخصية، وقد انسجم أداء الممثلين مع طبيعة الشخصيات، وشكل وحدة إيقاعية متناغمة بفعل تأطير الشخصيات جميعا -عدا شخصية واحدة- بالروح العراقية وإيقاعات الأغاني البغدادية التراثية، مما جعل للعرض ترجيعات في ذات المتلقي، وبالنتيجة نسج المخرج خيوطا كثيرة تربط بين مجريات العرض وجمهوره، مع الالتفات إلى أن تذوق الأغاني التراثية لا يمكن تعميمه على جميع الفئات العمرية الحاضرة في العرض، بسبب من تباين ذائقة الأجيال، مع الأخذ بالاعتبار ضرورة تعريف الأجيال الحديثة بالتراث بأنواعه.

كتلة المنظر ذات الطابقين ثابتة دون تغيير طوال العرض، دون الأخذ بالاعتبار ضرورة التنوع البصري في المسرحية الطويلة نسبيا، فضلا عن أن الوقت الذي استغرقته أحداث المسرحية سنة، وكانت فسحة الاستراحة بين الفصلين فرصة مواتية لتغيير المنظر جزئيا، وقد استثمر المخرج مناطق الخشبة، فكان الطابق العلوي مشغولا لفترة وجيزة لمشاهد الجيران (غنية ومكرودة) دلالة تسلطهم الفوقي على أصحاب الدار، ومنح المخرج الجارة (كفوشة) وزوجها منطقة أسفل يمين الخشبة لإجراء محاورتهم وتآمرهم وطمعهم بالحصول على شيء بعد العثور على الوصية المفقودة، اقتصر تغيير الأزياء الملحوظ على الشخصيات النسائية فقط. وقد تمت مراعاة عزل بعض المشاهد بواسطة الإضاءة عن عموم المنظر، مع اضافة ملحقات للشخصية، وتجلى ذلك في أحداث مشهد القاضي الخائن للأمانة أسفل يسار الخشبة، وأضيفت لشخصية القاضي بطن كبيرة وجبة وطربوش ولحية طويلة ساهمت بتغيير بنية الشخصية ومنحها الدلالة المتوخاة، واحدث المشهد تفاعلا، وتغييرا متصاعدا في إيقاع العرض، وكسر رتابة تكتل التمثيل في وسط المسرح.442 habib

تسيد الخطاب المباشر للجمهور حيزا كبيرا من زمن العرض من خلال فعل سرد الأمثال الشعبية وأدائها التقديمي، وفي هذا اتضحت قدرات الممثلين على تقديم أكثر من شخصية من قبل الممثل الواحد عبر تغييرات طبقات الصوت وأسلوب الإلقاء فضلا عن الاستعانة ببعض الإيماءات والملحقات الموحية، ذلك أن لعبة التمثيل داخل التمثيل احدى جماليات تأليف واخراج هذا العرض الذي بانت فيه السمات الفنية للمسرح الملحمي بوضوح، مثل الاستعانة بالتراث والحكاية داخل حكاية، وفعل القص والرواية ، المشاهد المتعددة، عدم الاندماج في الشخصيات وقطع الايهام بصدقية الأحداث، وتقديم صور مغربة للواقع.

وقد اسند المؤلف/ المخرج مهمة تنسيق حكايات الأمثال وتوزيع أدوارها إلى شخصية (فاهم) مثقف العائلة الذي يرتاد شارع المتنبي إلى (حسين علي هارف) الذي أمسك بدفتر والقى أبياتا شعرية وأشار إلى الممثلين بتقديم حكايات الأمثال بحسب أولويات تنظيمية وكانه قائد أوركسترا العرض، مع الحاجة الى المزيد من وضوح طبيعة علاقة (فاهم) بشخصية (زوريه) في الوقت الذي زرع المؤلف/المخرج حب (زوريه) لـ (فاهم) منذ بداية العرض كمعادل مكافئ لتدفق مكائد المرأتين الباحثتين عن الزواج (مكرودة المرأة العانس، وغنية المرأة الغنية التي توفي عنها ثلاثة أزواج وما زالت تبحث عن الرابع)

الشخصية الوحيدة المستثناة من الإطار المحلي التراثي والروح العراقية هي شخصية (كومار الهندي) التي دخلت في مشهدين، ورغم افتقاد حضورها مبرراته الفنية في سياق العرض التراثي، إلا أنها أعطت للعرض زخما كوميديا، ومنحته حيوية جذابة لشريحة من الجمهور الذي حضر وجل مقصده فاصل ترفيهي، وعليه كان وجود (كومار الهندي) أحد المتطلبات الجماهيرية.

ختم العرض بالعثور على وصية الجد عصفور بعد مأساة تقاتل أفراد العائلة، وماتت (زورية) البنت الرقيقة وهاجر (فاهم) المثقف الذي يعول الجميع على فعالية شخصيته، وجرح (كناري) المغني وتفرق الآخرون عدا الحفيد عصفور وأخته و (بردان) الذي يصفونه بالبلادة والبلاهة ، وهنا تحدث المفاجأة عندما يخلع (بردان) عنه سترته لتسقط منها ورقة وصية الجد (عصفور) ويتذكر بعد مرور أكثر من سنة ان جده أعطاه الوصية ووضعها في جيبه، هذا دون تعريف الجمهور بمضمون الوصية المكتوبة والإبقاء على فحوى الوصية الشفوية (اعملوا على الاجتماع مع بعضكم دون الانشغال بهواتفكم الجوالة).

إن ما فعله صاحب المسيرة الفنية الطويلة الذي أخرج مسرحية (المهندس والامبراطور) التجريبية بالأمس ومسرحية (أحوال وامثال) اليوم، الأكاديمي (مقداد مسلم) وفريق العرض الفني والتقني ليس خطوة على طريق اعادة الجمهور إلى المسرح وحسب، بل ذهبوا إلى اعداد وصناعة جمهور جديد، عسى ان تكلل جهودهم النبيلة بخطوات أخرى تضمن التواصل والديمومة وتفتح الأفق للفرق الأخرى للعمل ضمن توجهات (المسرح للمجتمع).

***

د. حبيب ظاهر حبيب

يُعرف التهكم بأنه "إلباس الجد ثوب الهزل، والهزل ثوب الجد، والوعيد لفظ البشارة، وهو في الاستعمال عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في موضع الإنذار، والوعد في مكان الوعيد، والمدح في معرض الاستهزاء"(1)، وهناك من الدارسين والباحثين من جعل هذا المصطلح مقابل مصطلح المفارقة(2)، وباتخاذ الشاعر من التهكم وسيلة لإبراز المفارقة ينقل الألفاظ من سياقها الخاص إلى سياق آخر مناقض لها، إذ أنَّه يوحي من خلال القول بمعنى آخر مناقض لمعناه الحقيقي(3)، فضلاً عن هذا يُعد التهكم "مجاز معقد وجد معدول به إلى الهزل، يُلبس المعرفة صلة التجاهل، ويصب الذم في قالب المدح"(4).

هذا ويرتكز التهكم على قرينة لفظية تبينه، وهنا تكمن نقطة التعارض والاختلاف بين التهكم والهجاء في معرض المدح، وإذا ما شئنا التفريق بين التهكم والهزل الذي يراد به الجد قلنا: إنَّ الهزل الذي يراد به الجد يوحي ظاهرة بالهزل، وباطنه جد، أمَّا التهكم فيكون  ظاهره جدا وباطنه هزلا (5).

وتقف السخرية ضمن الفنون القديمة التي عرفتها المجتمعات البشرية، ومارسها الإنسان والأدباء بصورة خاصة على مر العصور مثل: كوميديات ارستوفان وسوفوفكيس وغيرها التي وصلتنا من تراث المجتمع الإغريقي والروماني، وفي العصر الحديث حاول الأدباء الغربيون معالجة الاضطرابات السياسية والاجتماعية وإصلاحها عن طريق السخرية كما هو الحال عند (مولير) الذي وظف سخريته لمعالجة موضوعات اجتماعية كالنفاق والبخل، فضلاً عن (برنادشو) الذي حاول عن طريق السخرية معالجة قضايا المجتمع وعاداته البالية، هذا وكان للأدباء العرب والشعراء بصورة خاصة دور في ممارسة هذا الأسلوب؛ للتعبير بصورة هادفة عن قضايا تخص المجتمع.(6)

وتعدُّ السخرية من الأساليب الفنية الصعبة، أساسها التلاعب بحقيقة الأشياء ومقاييسها تضخيماً أو تصغيراً أو تقويماً، ويتكئ هذا التلاعب على معيارية فنية هدفها تقديم (نقد لاذع) ضمن جو من الفكاهة والإمتاع، يجنح إليها الشاعر ليسخر من الظواهر السلبية والمتناقضة التي يرصدها.

والسخرية هي نوعٌ من الفكاهة، لا يعني بها الهزل والعبث، بل إنها ترقى إلى المستوى الأكثر ذكاء ولباقة، إذ تجعل لها دلالة معينة، وهدف خاص تعمل على خدمته وتحتال عليه، وتشحن اللفظة بدلالات تتناقض وطبيعتها فيقع على عاتق المتلقي التأمل والتأويل وصولاً للمعنى المقصود.(7)

وإذا أردنا تقديم مفهوم دقيق للسخرية في الأدب فيكون من الأنسب البدء بالرؤية الغربية للمفهوم (Irony) هو المصطلح الأدبي للسخرية أصله مشتق من كلمة يونانية (eironia) والتي تعني وصفاً لأسلوب كلام إحدى الشخصيات بالملهاة اليونانية القديمة، وتسمى بـ(إيرون(eironia، ومن التعريفات التي أدلى بها الكُتَّاب  الأوربيون لمفهوم السخرية(8) "أنها طريقة من التعبير يستعمل فيها الشخص ألفاظاً تقلب المعنى إلى عكس ما يقصده المتكلم حقيقة وهي صورة من صور الفكاهة"(9).

وهناك من أشار إلى تعريف آخر على أنها "طريقة في التهكم المرير، والتندر أو الهجاء الذي يظهر فيه المعنى بعكس ما يظنه الإنسان، وربما كانت أعظم صور البلاغة عنفاً وإخافة وفتكاً".(10)

ومن تعريفات الكتاب العرب وآرائهم حول مفهوم السخرية ما قدمه (جبور عبد النور) فهو يرى فيها "وهي نوع من الهزء قوامه الامتناع عن إسباغ المعنى الواقعي، أو المعنى كله، على الكلمات، والإيحاء عن طريق الأسلوب، وإلقاء الكلام بعكس ما يقال"(11)، أما شاكر عبد الحميد فقد ترجم السخرية عن كلمة (satire) والتي تعني  نوعا من التأليف الأدبي أو الخطاب الثقافي يُبنى على انتقاد الرذائل والحماقات والنقائض الإنسانية، الفردية منها والجمعية، ويتم ذلك من خلال الرصد والمراقبة، والاتكاء على وسائل التهكم والتقليل من قدرها، وقد توقعنا السخرية في فخ الأسمية، فمن الصعوبات التي تواجه الدارس تناوب السخرية ما بين الضحك الهزلي والفكاهة والدعابة والمفارقة(12).

ويقودنا هذا إلى الإدلاء بحقيقة مهمة وهي أنَّ هناك وجه تباين واختلاف بين (السخرية في المفارقة)، و(السخرية المجردة)، إذ أنها ــ أي في المفارقة ــ تأتي لتجلي الحقائق وتقرعها بعضها ببعض دون أن تحل احدهما مكان الأخرى؛ أي تتربع على المعنى الظاهر والباطن معاً(13)، ولهذا تنبني مفارقة السخرية "على موقف يتناقض مع ما ينتظر فعله تماماً، إذ يأتي فعل مغاير تماماً للوجهة التي يجدر بالإنسان أن يقوم بها"(14).

يرى (مويك) بأنَّ عدَّ السخرية ضمن حدود المفارقة أمر فيه نظر، فليس كل سخرية أو تهكم مفارقة، وليست كل مفارقة تهكما  وسخرية، إذ أنه يرى في السخرية (sarcasm) أكثر أساليب المفارقة قسوة(15)، وتعد المفارقة "أداة أسلوبية فعالة للتهكم والاستهزاء"(16).

إنَّ تضاد مفارقة السخرية لكي يكون كذلك يجب أن يكون مؤلماً وكوميدياً في آن واحد، وهذا ما ذكره (أ. و.تومسن) في كتاب (الهزء الجاف)، إذ تتضارب العواطف في المفارقة تضارباً فكرياً وعاطفياً معاً، وعلى المتلقي أن يكون هادئاً متجرداً؛ ليدرك ويستوعب ذلك، فضلاً عن ذلك فالأذى والتسلية في المفارقة لا يمكن أن تصدر من الأساس ذاته، إذ يكمن العنصر الكوميدي في الخصائص الشكلية للمفارقة أضف إلى ذلك الغفلة المطمئنة فعلية أو مصطنعة، فالمرء يمكن أن يناقض ذاته عن قصد؛ كونه يسعى لحل تناقض على مستوى آخر، وينجم عنه تناقض مقصود مما يؤدي بدوره إلى نشوء توتر نفسي .

أما عنصر الألم الذي أشار إليه (تومسن) وسلَّم بوجوده في المفارقة فهو لا يمكن أن يصدر عن الخاصية الشكلية فيها، بل يكمن في التعاطف الذي نشعر به تجاه الضحية.(17)

وباستقصاء منتج السماوي الشعري نجد أنه غني بنصوص اتكأت على هذا الأسلوب في المفارقة، وكلُّ هذا نابع من روافد متعددة، ومنابع عملت على تفجير طاقة الإبداع لديه ففي الحقبة التي عاشها السماوي كان للسياسة الجائرة دور في ذلك، إذ حاول تمثيل هذه الاضطرابات وتعرية زيف السياسة وعيوبها في صياغة مفارقة ساخرة هادفة عملت على تنبيه المجتمع وإيقاظ وعيه، وهذا بدوره عمل على تحقيق توازن نفسي في دواخل الشاعر الذي كان يؤلمه واقع البلاد، فضلاً عن ذلك فقد كان لذات الشاعر أو شخصيته وما شهده من ظروف مليئة بالأسى والحزن دور في إنضاج طابع الحزن في داخله، ولهذا نرى السماوي يجنح إلى مزج الحزن بالسخرية في العديد من قصائدهِ، وقد يُعزى توظيف السماوي لهذا الأسلوب في المفارقة إلى دفاعه عن ذاته وآرائه إزاء من يهزأ بمبادئه وآرائه، فضلاً عن الدوافع النفسية التي تعد من أهم الأسباب لجنوح الشاعر لهذا الأسلوب، فالقلق والاحباط وإدراك التناقضات والاضطرابات في المجتمع لها دور فعَّال في التأزم النفسي للشاعر.

ولهذا جاءت الكثير من نصوصه الشعرية حاضنة ومشتملة لمثل هذا الأسلوب في المفارقة، إذ يقول في قصيدة "جلالة الملك":

جلالةَ الملك

قبلَ أن تُشيدَ لنا الجسرَ

شُقّ لنا النهر أوَّلاً

منذ أنْ نمتَ ولم تستيقظْ

ونحنُ

مستيقظون ولا ننام

في مملكتك المُخَلَّعةِ

الأبواب

جلالة الملك

من حقِّك أنْ تخرج للنزهةِ

راكباً سفينتك

ولكنْ

ليس من حقِّك

أنْ تجعلَ

دموعَ الشعبِ

نهراً للسفينة!(18)

يخاطب السماوي الحاكم أو السياسي بصيغة خطابية هي مزج بين التذلل والتبجيل والعظمة، لكن هذا التبجيل أو العظمة في خطاب السماوي مبطن يحمل في طياته سخرية مريرة هي أشد إيلاماً من التصريح المباشر، فجاء خطابه بهيئة يحاول من خلالها التماس الرحمة والرجاء، لكن لم تكن هذه التذللات والقداسة إلا سخرية من الحاكم وهذا ما نلمحه في قوله: "جلالة الملك"، فضلاً عن هذا هناك تحول مفاجئ في خطاب الشاعر إذ يلجأ في ثنايا النص إلى التصريح بغضبه وتمرده ورفضه، فيعود ليخاطب الحاكم أو السياسي في بلدهِ (العراق) قائلاً: "منذ أنْ نمتَ ولم تستيقظْ، نحنُ مستيقظون ولا ننام"، "مملكتك مخلَّعة الأبواب"، "ليس من حقِّك أنْ تجعلَ دموعَ الشعبِ نهراً للسفينة"، إذ أننا ندرك ما تعنيه العبارات من فقدان الأمان والسلام في البلاد، واستغلال الشعب وقوته لمصلحة الحاكم ورجالات السياسة، وأنَّ الشعب فاقدٌ للراحة، فيقف الشاعر موقف الرافض المتمرد، مطالباً برفع الظلم والمعاناة عن أبناء شعبه، مقدماً من خلال النص رقعة لفظية تبطن في أعماقها مدلولاً مغايراً مناقضاً، تعكس صورة نقيضة تحفل بالسلبية وتحاط بسخرية مريرة من الحاكم وإنجازاته. وتتجلى مفارقة السخرية في قصيدة "خليك في منفاك"، إذ يقول:

كلّ الذئاب اتحدتْ

واختلفتْ ما بينها الأنعامْ

*

على بقايا الزاد

في مأدُبة اللئامْ

*

دماؤها مهدورة ٌ..

فمرَّةً

تـُذبَحُ باسم جنـّـة ِ السلامْ

*

ومرَّةً باسم فتاوى

"حجّـة الإسلامْ"

*

ومرَّةً تُسْلَخُ

تنفيذاً لما رآه في منامِهِ

سماحةُ المفتي

وما فَسَّرَهُ وكيلُهُ الغلامْ

*

ومرَّةً

لأنها ترفضُ أَنْ تُهادنَ المحتلَّ

أو يكفرُ بالحريةِ التي بها بَشَّرَنا

مستعبد الشعوب ِ

جاحدُ الهدى

موزّعُ الأرزاق من بيدره الحرامْ.(19)

تحمل القصيدة مفارقات حادة، وتعالج واقعاً مريراً لشعب مغلوب على أمره، إذ تبرز المفارقة في أكثر من شطر في بنية النص، فنرى الشاعر يسخر من حالة الخنوع والاستكانة التي تسيطر على العراقيين، والتفرق فيما بينهم قائلاً: "كل الذئاب اتحدت، واختلفت ما بينها الانعام"، فيجد المتلقي نفسه أمام تصوير مفارق، إذ أن السياسين الذين أشار إليهم بلفظة (الذئاب) قد اتحدوا، في حين أن العراقيين الذي أشار إليهم بلفظة (الأنعام) لخضوعهم قد سادتْ التفرقة بينهم، فتتجلى من ثنايا النص نفثة غاضبة يعكسها امتعاضه من واقع بلاده المتردي، ولهذا فهو يسخر من حالة الذّل والهوان التي تُكبل شعب العراق، فهم يُقتلون بذريعة فتاوى يشرعها أدعياء الإسلام باسم الإسلام دين التسامح والسلام والأمان، إذ تبلغ المفارقة أقصاها فيوجه الشاعر إدانته إلى قاتلي الشعب وبأسلوب ساخر ونبرة تهكمية، ثم ينقلنا النص إلى مفارقة أخرى في قوله: "أو يكفر بالحرية التي بها بشرنا مستعبد الشعوب"، فالبشارة هي الخبر السار، لكنها في النص توحي بمعنى يغور في باطن اللفظة ليثير عقل المتلقي للتأمل في المعنى المقصود جاعلاً منه  شريكا مهماً في خلق النص، والكشف والتأويل في آنٍ واحد، حيث يتواطأ معه محاولاً الكشف عن الدلالة وتأويل اللفظة لإيجاد دلالة اخرى مقصودة حاول الشاعر الإفصاح عنها وبأسلوب ساخر، ولنا أن نقول: كيف لأعداء الحرية والسلام أن تحمل (بشارة الحرية) لشعب بات فريسة للمؤامرات فقد عكست البشارة الوعيد والجحيم والظلم والفساد الذي هيمن على البلاد.

وتتجسد المفارقة وبأسلوب ساخر ونبرة تهكمية في قصيدة "يا صاحبي"، إذ يقول:

هي أمةٌ أعداؤها منـــــــــــــها ... متى

من أين يأتينا الأمانُ و "بعضنـــــــــــا"

ومُدَجّجٍ بالحقدِ ينْخـــــــــــــــــرُ قلبهُ

حازَ العيوبَ جميعها فكــــــــــأنه

أعمى البصيرةِ فيهِ من خُيلائِـــــــهِ

إنْ قامَ يخطبُ فهو "عنترةُ" الفتــى

أمّا إذا شَهَرَ الحســـــــــــــامَ عدوُهُ

وهو "الأديب الفيلسوف" وفكرُهُ

*

طارَ الجناحُ وبعضُهُ معطـــــــــوبُ؟

لِعدوّنا والطامعينَ ربيــــــــــــــــــبُ؟

ضَغَنٌ إذا قادَ الجموعَ لبيـــــــــــبُ

مأوىً رأتْ فيهِ الكمالَ عيــــــــوبُ

مسٌ ومن صدأ الظنونِ رسيـــــبُ

و "الحارسُ القوميُّ" و "الرعبــوبُ"

عندَ النزالِ فإنهُ "شيبـــــــــــــوبُ" !

فلسٌ بسوقِ حماقةٍ مضـــــــــروبُ(20)

يعكس النص صورة لواقع الأمة الممزق، وصورة للتدخل في شؤون البلاد، إذ تفجر هذه المفارقة وجدان المتلقي وتُثير انفعاله وكأنها ثورة ضد أساليب الحكام وزعماء العرب، ساخراً من قسوتهم وجبروتهم وجهلهم وزعمهم بأنهم قادة الأمة، فالصورة الساخرة التي تتجلى في ثنايا النص قائمة على مفارقة أو مقارنة أو عرض حقائق واقعية مرتبكة المقاييس، واعني به التناقض والتضاد في المفردة التي تحمل ثنائية الدلالة الموجبة والسالبة، إذ يظهر طرف لهذه الدلالة في حين يكون الطرف الآخر كامناً في اللفظة، وبتأمل النص نجد أنه مبني على حقول دلالية تناقض حقيقتها كقوله: "الكمال عيوب"، "إن قام يخطب فهو عنترة الفتى الحارس القوميُّ والرعبوب"، "إذا شَهَرَ الحســـــــــــــامَ عدوُهُ عندَ النزالِ فإنهُ شيبـــــــــــــوبُ"، "هو الأديب الفيلسوف وفكرُهُ"، فمن المعروف أنَّ الكمال هو في التمامة والحسن في الأخلاق دون نقص أو عيب، لكن السماوي عمد إلى استخدامها في غير ما تأول إليه جاعلاً الكمال في العيوب والنقصان، ثم يطرح السماوي العديد من الصور الساخرة مستثمراً عبارات متضادة ومتناقضة، وإضفاء العديد من صور التقديس والتبجيل لهؤلاء الزعماء الذين يدعون بأنهم قادة عظماء، فتارة هو البطل الشجاع الفارس عنترة، وتارة هو العظيم الحارس القومي، وتارة هو المفكر والأديب، وكأن الشاعر عمد إلى توظيف سلاح التهكم من أجل الكشف عن حقيقة الآخر التي يراها المتلقي مفارقة ومناقضة تماماً لما هي عليه في الواقع، ثم يواصل الشاعر هجومه وبصورة مباشرة ليسخر من حقيقتهم فهم لا يتفوهون إلا بالحماقات والأكاذيب منشغلين بالخطابات، وبهذا احدثت المفارقة وبأسلوبها الساخر والنبرة التهكمية  مفاجأة للمتلقي.

ومن القصائد التي تتكئ على هذا الأسلوب في بناء المفارقة قصيدة "ما العُمر إلا ما تُعاشُ مسرَّة" فيقول:

تابَ الـلـصـوصُ وأرْجَـعـوا لحـقـولِـنـا

مـا كـان قــد ســرقــوا مــن الأنــعــامِ

والــفـاسـدون الــمُـرخِـصـون مَــروءةً

ثـابــوا الـى رُشــــدٍ وحُــســنِ خِــتــامِ

خلعـوا الـذقـونَ الـمسـتـعارةَ واسـتحى

مــن جُــرمِــهِ ذو خـــنــجــرٍ ولِـــثــامِ(21)

تأخذ نبرة التهكم والسخرية في العلو ابتداءً من مطلع النص حتى منتهاه، إذ تفيض الرؤية بالشكوى المقترنة بالخوف ممن اتخذوا من الدين والعمامة والذقون سلم سلّماً  للتحالف مع الشيطان من أجل السلطة والمال الحرام، فثمَّة تفسير على المتلقي أن يتأمله ويلتقطه من خلال القرائن الواردة، وهذا التفسير هو نقيض ما يطفو على بنية النص، وكأن الشاعر أراد أن يقول نقيض ذلك تماماً، جاعلاً من السخرية سلاحاً ضد كل من جعل الدين غطاء للصوصية والسرقة، وسلاحاً ضد من يخون العراق ويدفعه إلى الخراب من أجل اطماعه بالمال والسلطة وخيرات البلاد.

وفي قصيدة "هوامش من كتاب الحزن العراقي" يجنح السماوي إلى تأطير قصيدته بالمفارقة الساخرة ونبرة تهكمية، فيقول:

لا تـقـولـي: إنَّ جـرحَ الـيـومِ يـشـفـى فـي غـدِ

*

كلُّـهـمْ أقـسَـمَ

أنْ يـحـرسَ بـيـتَ الـمـالِ

باسـمِ الأحـدِ

*

سـادِنُ المـحـرابِ ..

والـنـاطـورُ

ربُّ الـدَرَكِ الـسِـرّيِّ

قـاضـي الـعـدلِ والشَّـرْعِ

إمـامُ المـسْـجِـدِ..

*

فـلـمـاذا ازدادتِ الــفـاقـةُ

واسْـتـشـرى وبـاءُ الـفَـسَـدِ؟

*

ولـمـاذا كـلَّـمـا يُـوعِـدُ بـالـخـبـزِ

أمـيـرُ المـؤمـنـيـنَ

ازدادَ جـوعُ الـبـلـدِ؟(22)

يفاجئنا النص بالهوة السحيقة بين ما يقوله الشاعر في أول النص من فكرة معينة، وبين ما تصل إليها الفكرة في نهاية النص من معنى مناقض تماماً ومخالفاً لما ذكره الشاعر في البداية، فالتكامل الصوري في النص الذي يتكئ على مفارقة السخرية يكون أساسه التضاد والتناقض في المعاني والنتائج وهذا بدوره  يُكسي  النص صفة المفاجأة  والدهشة، وهو ما يجعل المتلقي مندهشاً من غرابة الصورة، بدأ السماوي نصه الأنف الذكر بقوله: " كلُّـهـمْ أقـسَـمَ أنْ يـحـرسَ بـيـتَ الـمـالِ باسـمِ الأحـدِ، سـادِنُ المـحـرابِ والـنـاطـورُ، ربُّ الـدَرَكِ الـسِـرّيِّ، قـاضـي الـعـدلِ.." والمتوقع بعد هذا أن يُذكر ما يؤيد ما بدأه الشاعر، ولكن ما قامت به السلطة المسؤولة من أفعال لا تصب في المعنى الذي بدأته القصيدة، بل تعاكسه وبذلك كانت النتيجة تناقض البداية تماماً، فالبداية هي التعهد بصيانة ثروة البلاد والمال العام والكل أقسم بهذا، لكن النهاية وحقيقة الأمر المستقاة من الواقع هو أنَّ الفساد قد دبَّ وسُرق المال وثروات البلاد باسم الدين والوطنية، وهنا تكمن المفارقة الكبيرة بين طرفي الصورة، وهذا بدوره نقل النص إلى مجال السخرية، ففي الحقبة الزمنية التي ادركها السماوي مارست الحكومة التي تدعي الوطنية أشكال الظلم والجبروت ضد شعبها باسم الحرية والديمقراطية والدين، ولهذا انبرى الشعراء والمفكرون إلى مقارعتها بالكلمة المقاتلة، فقد شكَّل السماوي صوراً رائعة في نصوصه الشعرية عن أساليب السلطة الجائرة، وهو يتحدث عن وقائع عاشها العراقيون، وثمَّة تضاد وتناقض آخر في بنية النص في قوله: "كلما يوعد بالخبز أمير المؤمنين"، فالمتوقع من لدن المتلقي أن يصنع الشاعر ما يقابله بأن يزداد الخير وتوزع ثروات البلاد، لكن تعود النتائج لتكسب القصيدة صفة الدهشة والغرابة، إذ أنها ناقضت ما  بدأه الشاعر، وبدل أن يفي (الأمير) بوعده، ازاد الجوع وتفشى الفقر في البلاد.

وثمَّة قصائد أخرى في منتج السماوي اتكأت على هذا الأسلوب الساخر في المفارقة، ففي قصيدة "مقاطع من قصيدة ضائعة" يقول:

الناطِق ُ الرَّسْـمِيُّ باسم ِ القصْـر ِ

يُطـْنِبُ في الحديث ِ عن الرفاهِ..

ونعمةِ العصر الجديدِ ..

وما تحققَ من وئامِ

*

ورسائِلُ الأصحاب ِ

تسـألُ عن جوازات ٍ مُـزَوَّرَة ٍ

وعن سُـفـُن ٍ

مُـهَـيّأة ٍ لِشـَحْـن ِ الهاربينَ

إلى جنائن ِ كـَهْـف ِ مُـغْـتـَرَب ٍ

وفِرْدوس ِ الخِـيام ِ!؟

*

مَنْ ذا أُصَـدِّقُ ؟

ما يقولُ الناطق ُ الرسـميُّ باسمِ القصرِ؟

أو

ما قالـهُ الكوخُ المُـهَـدَّدُ بالضـَّرام؟(23)

تحمل القصيدة مفارقة  وتناقضا كبيرا  وفي الوقت ذاته تعالج واقعاً مريراً يعيشه العراقيون، إذ يبدأ الشاعر القصيدة بنقل خطابات الساسة والحكام وفئة المتنفذين بأمور الدولة، وما قدموه للشعب من حياة تنعم بالرفاهية في ظل الحكومة الجديدة، ولم يلبث الشاعر حتى يناقض ويفارق ما قاله في بداية النص، فيقول: "رسائل الأصحاب تسأل عن جوازات مزورة عن سفنٍ مُهيأة لشحن الهاربين إلى جنائن كهف مغترب وفردوس الخيام" فما ابتدأه السماوي والذي تمثل بخطابات المسؤولين حول منجزاتهم في البلاد، تنتظر من الشاعر أن يقدم ما يتلاقى مع هذا المعنى، ولكن يتضح للمتلقي وبإكمال النص أنه عمد إلى طرح نتائج تناقض البداية، إذ أنَّ ابناء الشعب اتخذوا من الهجرة والهروب من الوطن وسيلة لحياتهم وهو ما يؤكد أنَّ سُبل الحياة معدومة في وطنهم، ولنا أن نقول: إنَّ التفاوت بين الطرفين دفع الشاعر للتساؤل أيهما يصدق؟ ادعاءات الساسة والمسؤولين أم واقع البلاد الذي تتجلى منه صورة واقعية تعكس سياسة الأنظمة القمعية وأساليبها الاستبدادية التي يتبعها  المتنفذون في الدولة والتي تنعكس بدورها على الواقع المرير، فضلاً عن ذلك يتجلى لنا حشد من المفردات المتنافرة المتضادة والتي كان لها دور في تأجيج الدلالة وتكثيف الحدث، (جنائن، كهف مغترب)، و(فردوس الخيام) فالمغترب الهارب من الوطن يرى في ظلمة الغربة ووحشتها وقسوتها جنائن الفردوس، فأي جحيمٍ كان يأويه، وبهذا تمكن السماوي من تقديم صورة واقعية ممتزجة بالسخرية من واقع البلاد.

وفي قصيدة "سوء المنقلب" صورة أخرى من صور المفارقة الساخرة، إذ يقول:

مـا الـعـجَـبْ

أنْ يـكـونَ الـزِّفـتُ مـسـؤولاً عـن الـيـاقـوتِ فـي سـوقِ الـذَّهَـبْ ؟

*

نـحـنُ فـي عـصـرٍ بـهِ الـلـصُّ أمـيـنُ الـمـالِ ..

والـنـاطـقُ بـاسـم الـدِّيـن مَـجـهـولُ الـنَّـسَــبْ  !

*

مـا الـعـجـبْ.(24)

يبدأ السماوي نصه بعنوان "سوء المنقلب" الذي يوحي بانقلاب موازين الحياة إلى الأسوأ، ثم يعود لمزج بين السخرية وعناصر الهجاء، إذ امتلأ النص بكلمات لاذعة غامزة (الزفت مسؤولاً عن الياقوت)، (اللص أمين المال)، و(الناطق باسم الدين مجهول النسب)، فالتقابل بين طرفي العبارات المتنافرة والمتضادة يوحي بتوتر وانفعالية كبرى، وحتى لا يبادر المتلقي بالاستهجان سبقه الشاعر بقوله: "ما العجب" لأنه لا مجال للسؤال أو الاستهجان في عصر انقلبت فيه الموازين.

وفي قصيدة "ربنا قد أظلم الصبح" يستثمر السماوي المفارقة وبأسلوبها الساخر للتعبير عن رؤيته الخاصة، فيقول:

ربَّـنـا إنّـا سَـــمِـعْــنـا

هـاتــفــاً يـهــتــفُ بـالـعـدلِ الإلـهـيِّ

فـصَـدَّقـنـا كـلامَـه ْ

*

فـمَـحَـضـنـاهُ خـطـانـا ...

ومـفـاتـيـحَ بـيـوتِ الـمـالِ ...

بـايَـعْـنـاهُ لـلأمـرِ ولِـيَّـاً..

وخَـصَـصْـنـاهُ بـمـيـراثِ الإمـامـةْ

*

ثـمَّ لـمّـا أكـمَـلَ الـبَـيْـعَـةَ

بـاعَ الـصُّـحُـفَ الأولـى

وأرخـى لـلـيـواقـيـتِ ولـلـدولارِ والـجـاهِ لِـجـامَـهْ

*

ربَّـنـا قـد أظـلـمَ الـصـبـحُ

فـلا نـعـرفُ

هـلْ أنَّ مـلاكَ الـعـدلِ فـي الـقـفـطـان ِ؟

أم "إبـلـيـسُ" أخـفـى فـي الـجـلابـيـبِ غُـلامَـهْ؟

*

كـلُّـهُـمْ يـحـفـظُ آيـاتٍ

وفـي جـبْـهَـتِـهِ مـن أثـر "الـحَـكِّ" عـلامـةْ.(25)

يبدأ السماوي نصه بـ(سمعنا هاتفاً يهتف بالعدل الإلهي) ويُنهي النص بقوله: (كـلُّـهُـمْ يـحـفـظُ آيـاتٍ وفـي جـبْـهَـتِـهِ مـن أثـر "الـحَـكِّ" عـلامـةْ) إذ نلحظ مفارقة وتناقضا بين دفتي النص في بدايته الاطمئنان والسلام والسكينة، ولكن ما يُقابل هذا هو الخيبة والإحباط والذُّعر والوقوع ضحية لأدعياء الدين الذين خدعوا الشعب بطمغات جباههم وباللحية والمسبحة وسياسة يكسوها لباس الدين، لكن في حقيقتها كانت معبأة لتحقيق أطماعهم بالثروات والمال والسلطة، إذ يتجلى من ثنايا النص واقع مرير اختلت فيه الموازين وتداخلت المقاييس وفُقِد العدل والسلام، فتفيض الرؤية بالمعاناة المقترنة بالخوف ممن اتخذوا من الدين سلماً للائتلاف مع الشيطان من أجل السلطة والمال، يحدث الاستفهام الوارد في النص (هل أنَّ ملاك العدل في القفطان أم "إبليس" اخفى في الجلابيب  غلامَهْ ؟) أثر دلالي لما يوحيه من معاني ليؤكد حقيقة قائمة، كونه استفهام انكاري.

ومن صور مفارقة السخرية قوله في قصيدة "فصل من كتاب العشق":

أ سـمـاحـةَ الـشـيـطانِ شـكوى حـنـظـلٍ

يــشــكــو إلـــيــكَ مَـــرارةَ الإيــمــانِ

أ سـمـاحةَ الـشـيـطانِ واخـتـلـطَ الـصـدى

مـــا بـــيـــنَ صــوتِ ربــابــةٍ وأذانِ

الـقـائــمـون الـى الـصـلاةِ جـبـاهُـهُــمْ

كـالــقــائــمـيــن الى كـهـوفِ غــوانِ

أ ســمـاحـةَ الـشــيــطـانِ تـدري أنــنـي

ضِــــدُّ.. .. وأدري أنِــــنـــا نِــــدّانِ

مـا لــ" ابـن آدمَ " يــتَّــقــيـكَ لــسـانُــهُ

أمّــا الــفِــعــالُ فــأنــتـمــا صــنــوانِ(26)

يستهل شاعرنا نصه بكسر أفق التوقع للمتلقي، وذلك بمعارضة ما هو متعارف عليه بقوله: "أ سماحة الشيطان"، إذ تقف هذه العبارة على طرف نقيض للأصل في اللغة؛ كون مفردة (سماحة) لقب يسبق  اسماء رجال أصحاب المقام، بينما عمد الشاعر إلى اطلاق هذا اللقب على الشيطان، ومنبع هذا التناقض يكمن في واقع الشاعر فلم يعد يميز بين الشياطين والملائكة في ظل نظام المحاصصة واحزاب السياسة، فلم يرَ الشاعر من مجتمعه إلا الاستكانة والخنوع، تُملي عليه إرادته من قوى عُليا متسلطة؛ ولهذا حاول الشاعر أن يستفزهم بقلب المقدس إلى مدنس، ورفع الشيطان إلى منزلة القداسة، وكأنه أراد بهذا تحفيز عقولهم وحثها على التفكير والثورة لتغيير الواقع، ولنا أن نقول: بأنَّ عبارة (أ سماحة الشيطان) تحمل في أعماقها تضاداً مبطناً يوحي بالسخرية المريرة كانت أشد إيلاماً من التصريح المباشر، فالتحول المفاجئ والمزج بخطاب الشيطان أراد من خلاله القول: إنَّ الشياطين ساسة الصدفة وأحزابهم التي تدعي الإسلام زوراً هم الذين تسببوا في كلِّ الخراب الذي يعمُ العراق، فضلاً عن ذلك قد نلمح في ثنايا النص  حشداً من المفردات المتضادة المتنافرة والتي عملت على منح الدلالة تأثيراً أعمق وتكثيفا للحدث كقوله: "مرارة الإيمان"، "ربابة، أذان، "القائمون إلى الصلاة، القائمون إلى كهوف غوان"، ثم يعود ليعترف بأن الموازين قد قُلبت، فقد أتى الشاعر بالحقيقة المرَّة بعدما أصبح المتلقي على توافق معه، إذ أضحى يعرف أنه من المفترض أنْ يكون الشيطان ندَّاً لنا، لكن الواقع المفارق يكشف أنَّ ابن آدم هو نظير للشيطان بأفعاله.

تتسم السخرية بأنها نوع من التهكمية التي تبدو ذماً في ثوب المدح مع اتباع أسلوب عدم المباشرة(27)، إذ يخال للمتلقي بأنَّ الشاعر يمدح ممدوحه، لكن حقيقة الأمر أنه يذمه، ويتضح هذا بصورة جلية في قصيدة "يا أولي الأمر ببغداد علام الارتجاف"، إذ يقول:

يـا أولـي الأمْـرِ بـوادي الـنـخـلِ

نـامـوا مُـطـمـئـنـيـن نـشـاوى لا تـخـافـوا

*

الـجـمـاهـيـرُ الـتـي تـفـتـرشُ الـسّـاحـاتِ

لا تـحـمِـلُ غـيـرَ الـعُـشـبِ والـوردِ عـلامَ الارتجافُ ؟

*

لا تـخـافـوا

عـهـدُكـمْ مَـنِّ وسـلـوى وسُـلافُ

*

عـجَـبـاً !كـيـفَ يـخـافُ الـجـائـعَ الأعـزلَ

مَـنْ لـيـسَ مِـنَ الـلـهِ يـخـافُ ؟

*

فـعـلامَ الـحَـرَسُ الـجَـرّارُ ..؟ والأقـبـيـةُ الـسّـريـّةُ

الأحْـزِمــةُ الإسْـمـنـتُ؟ والقناص والغازات

ظِـلُّ الـلـهِ فـوق الأرضِ أنـتـم ..

والـوصِـيّـونَ عـلـى الـواحـاتِ والأنـهـارِ أنـتـم

فـلـمـاذا غـضِـبَـتُ هـذي الـضِّـفـافُ

*

زحـفـتْ فـي حَـربـهـا تـطـلـبُ خـبـزاً

خـيـلُـهـا لحن وأعلام هُـتـافُ

*

فعلامَ الارتجافُ ؟

*

صـادقاً كـان إمـامُ الـقـصْـرِ فـي فـتـواه

كُـفْـر أنْ يُـنـادي بـرغـيـفٍ بَـطِـرٌ أتْـخَـمَـهُ جـوعٌ وقـهْـرٌ ..!

كـلـكـمْ راعٍ ..

وهـذي الأرضُ مـرعـىً ..والـجـمـاهـيـرُ خِـرافُ

*

فاقسموها بـيـنـكـم قـسـمـةَ ضـيـزى

وتـصـافوا

*

لـكـم الـبـسـتـانُ ..والـبـيـدرُ والأعـنـابُ والـنـفـطُ ..

ولـلـشـعـبِ الـكـفـافُ!(28)

تؤطر المفارقة وبأسلوبها الساخر والنبرة التهكمية القصيدة بأكملها بدءاً وختاماً، إذ تحدث أثراً قوياً في ذات المتلقي، فيوزع السماوي مفارقاته على مدارات أساليب الطلب والتعجب والهجوم المباشر، ومن الجلي أنَّ صيغة أفعال الأمر التي اتكأت عليها بنية النص في قوله: "ناموا، لا تخافوا، اقسموها، تصافوا" لتبدو مفارقة في مضمونها وكأنها تؤدي مهمة توجيه سهام الشتيمة والهجوم على الآخر (الخصم) لتعريته والسخرية منه، فنظرة السماوي إلى ولاة الأمر نظرة استصغار وكأنهم الأدنى، وهو الأعلى؛ لذا أصدر أوامره سخرية منهم وتشهيراً لفسادهم؛ أي أنَّ هذا التوظيف لأفعال الأمر لم يكن توظيفاً صدفوياً، فهي أبعد ما تكون أن يطلب السماوي من ولاة الأمر (أصحاب السلطة) النوم أو أن لا يخافوا أو حثهم على أنَّ يتقاسموا خيرات العراق، وأن يتصافوا بينهم،وقد تقودنا قرائن المفارقة لتعلل الطلب، هذا وعمد شاعرنا استعمال اللغة بطريقة توحي بمعنى باطن يقتضي من المتلقي أن يكشفه، إذ استثمر عبارات توحي بالظاهر على المدح، لكن القصد منها هو السخرية وتعرية الآخر، وهذا ما يتضح في قوله: "عهدكمْ منٌّ وسلوى وسُلاف"، و"ظل الله فوق الأرض أنتم"، و"صادقاً كان أمام القصر في فتواه"، قد يظهر من خلال الأبيات أنها تحمل في ظاهرها إحساس الشاعر بالرضى والأمان والخير في ظل حكم ولاة الأمر في العراق، لكن حقيقة الأمر أراد أن يقول نقيض ذلك تماماً، ولكن السماوي لا يكتفي بمجرد الإشارة والتلميح، إذ يعمد أحياناً في ثنايا النص إلى الهجوم المباشر والتصريح بغضبه وتمرده، فيقول متسائلاً مندهشاً: "عـجَـبـاً! كـيـفَ يـخـافُ الـجـائـعَ الأعـزلَ مَـنْ لـيـسَ مِـنَ الـلـهِ يـخـافُ؟"، و"لكم البستان.. والبيدر والأعناب والنفط، وللشعب الكفاف"، ثم يعود الشاعر ليصور حالة الشعب المضطهد تحت سياط جلاديه ساخراً من حالة الاستكانة والتبعية التي تسيطر على الشعب قائلاً: "هذه الأرض مرعى.. والجماهيرُ خِراف".

إلى جانب هذا نجد مفارقة السخرية أخرى في قصيدة "نقوش على جذع نخلة"، إذ يقول:

آخرُ ما تناقَلَتْهُ نشرةُ الأخبارْ

*

أنَّ العَدُوَّ دكَّ بالمدافعِ "الكوفة"

واسْتَدارَ "للأنبار"

*

وحضرةُ "الإمامِ" ما زال على فَتْواهُ

أَنْ نُطْفِئَ نارَ حِقْدِهم

بِكَوْثَرِ الحوار!(29)

صور لنا الشاعر ردة فعل الحاكم في صورة ظاهرها المدح، وذلك جلي في قوله: "حضرة الإمام" لكن باطنها مثير للعجب والدهشة والسخرية من استكانة الحاكم والصبر والحوار دون مقاومة مقابل استباحة الدماء وتدمير البلاد.

وثمَّة نصوص أخرى تحمل في ثناياها ذلك الأسلوب الساخر، وهذا يتمثل في قوله:

ولم يَزلْ سعادةُ العُمْدةِ  في مجلسهِ

يُطْنِبُ في الحديث عن كرامة الشعب

وعن تكامُلِ  السيادةْ

خاضع وهو الذي يعرفُ أنَّ رأسَهُ

بات رهينَ صاحب  الوسادةْ

فوق سرير سلطة مُحتلَّةِ  الإرادةْ.(30)

إِنَّ التفاوت واضح بين بداية المقطع وختامه، إِذ أنَّ شاعرنا يبدأ حديثه بمدح (سعادة العُمدة)، كونه يبدي في خطاباته اهتمامه بكرامة شعبه، وتأكيده على تحقيق السيادة ومراعاة مصلحة البلاد، لكن يفاجئ المتلقي بأنَّ يقول الشاعر نقيض ذلك تماماً، إِذ أنَّ (سعادة العُمدة) مسلوب الإرادة لسلطة المحتل والدخيل، فيمسي المدح هجاء  وهجوما مباشرا  لسعادة العُمدة، وبذلك يتضح من خلال النص إدانة السماوي للسلطات الحاكمة وموقفه الرافض لسياستهم، فالاهتمام الذي يبديه (العُمدة) بكرامة أبناء شعبه وتحقيق السيادة، هو من قبيل التهكم والسخرية لحقيقة شعب مسلوب السيادة والكرامة، وبذلك يُعد "التهكم والسخرية سلاحاً  فعالاً من أسلحة المفارقة اللفظية التي تدلُّ عليها وتبشر بها، ولذلك يبدو الخطاب التهكمي والساخر أرضاً خصبة لنمو المفارقات وتكاثرها"(31)، ومثال ذلك ما ورد في قصيدة "رفقاً بالعصافير"، إذ يقول:

أيُّها الآمرون

بإطلاقِ القنابل المُسيلة

للأرواح

العصافيرُ لم تتظاهر

في

ساحةِ التحرير

نـعـرفُ أنَّ قـلـوبـكـم لا تـتـرفّـقُ بالإنـسـان

فـتـرفّـقـوا بـالـعـصـافـيـر.(32)

تخترق هذه المقطوعة نبرة تهكمية ساخرة، تحتم على المتلقي إعادة تفسير العبارات حين يتحسس وجود مفارقة، وهذا ما يوجب عليه إعادة إنتاج البنية النصية، والبحث عن الدلالة النقيضة، ممَّا يعمل على ولادة مفارقة لفظية يقدم فيها الشاعر دلالة ويريد نقيضها، إذ أنه يطلب من "الآمرون بإطلاق القنابل المُسيلة للأرواح" على سبيل التهكم، أنْ يرفقوا بالعصافير، وكيف للذين لم يرفقوا بالإنسان أنْ يرفقوا بالعصافير؟ وكأَنَّنا نلمح صورة تعكس تناقضات تستفز وعي المتلقي، وتوقظ روح الثورة، والتمرد لمحاربة قوى الظلم والطغيان.

وفي مقطع من قصيدة "نقوش على جذع نخلة" يقول السماوي:

ذكية قنابل التحريرِ

لا تصيبُ إلَّا الهدفَ المرسومَ

من قبل ابتداءِ نزهةِ القتالْ

*

ذكيَّة... ذكيَّة

تُمَيِّزُ الوَحْلَ من الزُلالْ

*

ونغمةَ القيثار من حَشْرجَةِ السُعالْ

*

ذكيَّةٌ... ذكيَّةٌ

لا تُخْطيءُ الشيوخَ والنَّساءَ والأطفالْ

*

ولا بيوتَ الطينِ ... لا أماكنَ الصلاةِ

أو مشاغِلْ العمَّالْ!(33)

من الواضح أنَّ عبارة (ذكيةٌ) والتي كررها السماوي أكثر من مرة على طول بنية النص لا يمكن قراءتها من خلال المعنى السطحي القريب لذهن المتلقي؛ أي أنَّ هناك ثمَّة معنى أعمق وأقرب إلى رؤية الشاعر الخاصة، وهو معنى يناقض تماماً المعنى المذكور، وهنا تتجلى المفارقة اللفظية، إذ أنَّ المحتل الأمريكي يملك قنابل ذكية تحدد الهدف وبدقة، ولكن هذه القنابل لا تميز الشيوخ والنساء والأطفال والمساجد!؛ أي أنَّ قنابل التحرير هذه وتطبيق الديمقراطية وشعاراتهم، ما جاءت لتحرير العراق كما زعموا، بل جاءت لاحتلال الوطن، فضلاً عن هذا يعكس تكرار لفظة (ذكية) في بنية النص الحالة الشعورية التي تُكبل الشاعر إزاء احتلال الوطن وما يعانيه  شعب العراق تحت ظل الاحتلال الأمريكي، إذ أوحت هذه القطعة الشعرية الساخرة بالواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب العراقي، والحزن والدمار الذي خلَّفه الاحتلال باسم الحرية المزيفة، فمفردة (ذكية) لا يقصدها الشاعر بقدر ما توحي بالإدانة والاستنكار للأساليب الوحشية التي يتبعها المحتل الأمريكي ضد الإنسانية.

وفي قصيدة "جلالة الدولار" يسعى السماوي إلى بناء مفارقة لفظية تنتج أسلوباً ساخراً وبصيغة لفظية تُحتم على المتلقي أنْ يجد البديل لها؛ للوصول إلى المعنى القريب من رؤية الشاعر:

جـلالة ُ الدولارْ

*

حـاكـمُـنـا الجـديــدُ ...ظـلُّ اللهِ فـوقَ الأرض ِ...

مـبـعـوثُ إلـهِ الحـربِ والتـحـريــر ِوالـبـنـاء الإعمارْ

*

لـه يُـقـامُ الـذِكْـرُ..

تـُنـّحـَرُ الـقرابيـنُ

وتُقـرعُ الـطـبـولُ

تُرْفـعُ الأستــارْ

*

وبـاسـمِـهِ تـكـشـفُ عـن أسـرارهـا الأسـرارْ

وباسمِـهِ تـمـتـلـئ .. الـحـقـولُ بـالـسـنـبـل ِ

أو يـُصـادرُ الـرغـيـفُ

فـهـو صـاحـبُ الـعِـزَّةِ فـي الـمـدائـن ِالـمـذبـوحـةِ الأنـهـارْ

*

جـلالـة ُالـدولارْ

*

مـنـقـذُنـــا...

والـمرشــدُ الـفـقـيـــهُ ...

يُـفـتــي فيُـطـــاعُ

لا كـمـا كـانـت فـتـاوى الـسـيـد الـديـنــارْ

*

لِـحيـتـهُ الـخـضـراءُ صـهـوةُ الـمـضـاربـيـن

فـي مـصــارفِ الـحــــوارْ.(34)

تأطر القصيدة بالمفارقة اللفظية بدءاً وختاماً، إذ أنَّها أوَّل ما تصادف المتلقي وآخر ما يقرؤه، ومن الجلي أنَّ الشاعر لا يقصد ما يقوله بعبارة (جلالة الدولار، ظلُّ الله، إله الحرب والتحرير والبناء والأعمار، منقذنا، المرشدُ الفقيه)، وفي تضاد مبطن يقدم السماوي العديد من الصور التي توحي بالرضى والقبول والتقديس للدولار، ورفعه إلى مصاف إله التحرير والإعمار، إذ أنَّه المنقذ وكذلك المرشد والمفتي الذي يُطاع أمره، وإذ ما تجولنا في ثنايا النص قد نصل إلى تأويلات عدَّة تقترب من رؤية الشاعر، فالدولار قد أغوى اللصوص والساسة الفاسدين على السرقة والعمالة والخنوع للأجنبي، ولذلك فهو يُقدس ويُعظم، فضلاً عن هذا تُبين لنا القصيدة الخنوع العربي والتسلط الأمريكي، وما يرمز له بالدولار من الظلمة والواقع السياسي المرير للعراق، والتهتك الاجتماعي، وهذا بدوره يناقض تماماً القراءة الحرفية للنص، مما يعمل على ولادة مفارقة لفظية ساخرة من الواقع الذي يعيشه الشاعر

ولنا أن نقول: إنَّ أساليب المفارقة الساخرة التي اكتظت بها نصوص السماوي كانت نتيجة المفارقات التي افرزتها أزمات الفرد العراقي الذي وجد نفسه خاضعاً فاقداً الإرادة؛ أي أنَّ توظيفها لم يكن اعتباطياً أو بغرض تزيين الكلام، لكن الواقع المرير قلب الموازين في رؤى الشاعر وجعلته يتراوح بين نقيضين محاولةً منه استشراق النور وسط هذا الظلام، وبتوظيف بنية المفارقة وبأسلوبها الساخر تمكن السماوي من عرض مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية وإنسانية، وعالج موضوعات هادفة وفي الوقت ذاته عمل على تأجيج روح الثورة والرفض في ذات المواطن العراقي.

***

نسرين ابراهيم الشمري

...........................

المصادر والمراجع

(1) لغة التضاد في شعر أمل دنقل، د. عاصم محمد أمين بني عامر، دار الصفاء، ط1، عمان، (2005م): 39.

(2) ينظر: المفارقة في الشعر العربي الحديث: 31.

(3) ينظر: مواكب التهكم، عادل العوا، دار الفاضل، دمشق، (1995م): 12.

(4) لغة التضاد في شعر أمل دنقل:39.

(5) ينظر: المصدر نفسه:39.

(6) ينظر: سيكولوجية الفكاهة والضحك، زكريا إبراهيم، دار مصر للطباعة، (د.ط)، (د.ت): 9.

(7) ينظر: جماليات مفارقة السخرية في رواية "البحث عن العظام" لطاهر جاووت، (بحث)، حسينة بوعاش، مجلة علامات، العدد(5)، جامعة أمحمد بوقرة بومرداس، الجزائر، (2017م): 261 ـ 263.

(8) ينظر: الجانب النفسي للسخرية في الشعر العربي المعاصر "محمد اﻟﻣﺎﻏوط، وﻣﺣﻣود درويش، وأﺣﻣد ﻣطر" انموذج، فاطمة حسين العفيف، العدد(3)  مج(43)، (2016م): 2436.

(9) المصدر نفسه:2436.

(10) الجانب النفسي للسخرية في الشعر العربي المعاصر "محمد اﻟﻣﺎﻏوط، وﻣﺣﻣود درويش، وأﺣﻣد ﻣطر" انموذج، فاطمة حسين العفيف، العدد(3)  مج(43)، (2016م): 2437.

(11) المصدر نفسه: 2437.

(12) ينظر: الجانب النفسي للسخرية في الشعر العربي المعاصر "محمد اﻟﻣﺎﻏوط، وﻣﺣﻣود درويش، وأﺣﻣد ﻣطر" انموذج: 2438.

(13) ينظر: شعرية السخرية عند عز الدين مهيوبي "ملصقات" انموذجا، (رسالة ماجستير)، جواهر كزيز، بإشراف: روفيا بوغنوط، جامعة العربي بن مهدي (أم البواقي) /كلية الآداب واللغات، الجزائر،(2015م): 44.

(14) جمالية مفارقة السخرية في رواية "البحث عن العظام" لطاهر جاووت: 261.

(15) ينظر: موسوعة المصطلح النقدي (المفارقة وصفاتها): 27.

(16) المفارقة القرآنية: 17.

(17) ينظر: موسوعة المصطلح النقدي (المفارقة وصفاتها): 50.

(18) ديوان "حديقة من زهور الكلمات": 169 ــ 170.

(19) البكاء على كتف الوطن: 57 ــ 58.

(20) البكاء على كتف الوطن: 55 ــ 57.

(21) ديوان "ثوب من الماء لجسد من الجمر": 26 ــ27.

(22) لماذا تأخرت دهراً، يحيى السماوي، دار الينابيع، ط1، دمشق ــ سوريا، (2010م): 124.

(23) البكاء على الوطن: 37 كتف

(24) عيناك لي وطن ومنفى، يحيى السماوي، دار الظاهري، ط1، جدة ــ السعودية، (1995م): 23.

(25) الاختيار، يحيى السماوي، دار الرفاعي، ط1، الرياض، (1994م): 7.

(26)  قلبي على وطني، يحيى السماوي، الناشر: عبدالمقصود محمد سعيد خوخة، ط1، جدة، (1992م): 61

(27) ينظر: شعرية المفارقة في خطاب بشرى البستاني السياسي، (بحث)، عزت ملا إبراهيمي، علي باقر طاهري، حسين الياسي، مجلة اللغة العربية وآدابها، العدد(1)، (2015م): 150.

(28) الأفق نافذتي: 39

(29) نقوش على جذع نخلة: 104.

(30) المصدر نفسه: 108.

(31) المفارقة في الشعر العربي الحديث: 108.

(32) ديوان (ملحمة التكتك)، يحيى السماوي، دار الكتب والوثائق، ط1، بغداد، (2020م): 109.

(33)  نقوش على جذع نخلة:122.

للمتخيل في نص الشاعر العراقي الأستاذ الفاضل كامل فرحان

***

النص:

مابين غَسَقَ الدُّجى

 وإبْلاَجُ الصُّبْحِ

 قَلبِي

يُرَتِل تَرًنِيمَة وَجد،؟

بعْدَ سُهاد

طَيْفكٍ زارَني

حَدَثَنِي

عن أمْنِياتِ  الأمس.

عن الفرحِ  ، والهمسِ

عن وعودِ

 بالوفاءِ

 الصدق. كل الصدق

ثارَ بِي أسئلةٌ مُستَفزة

أتراهم عَبَثُو في الطريقِ

يَوُمَ كُنتُ أطوي المسافة

كسجادةُ صلاةُ

هلّ للاحاسيس ثمن؟

لِتُباعُ المشاعُر

في سوقِ النخاسِةِ

أم انَّ الوفاءَ

 شُيعُ الى مثواهِ الاخير

لتَحُلَ ساعة النسيان

***

كامل فرحان

......................

امتداد رؤيوي:

دائماً اللغة تنتمي إلى مجموعة "الأنظمة الرمزية" التي تشكل الثقافة كافة بما يتبع المنجزات الإنسانية

فهناك علاقة جدلية

داخل مجال النص منطق افصاح عن الطاقة الرمزية كي يكتمل أي نص. لقد خلص (بارت) إلى مفهوم الدلائلية/ دال ومدلول/ تميزه على صعيد الماهية السياقية.  فسيميائية الثقافة هي موضوعات تواصلية وأنساقاً دلالية  بين الناص والنص حين يتمظهر بالبحث النسق المتخفي وراء الاشارات اللفظية لكشف انتاج المعنى العام بالتوليد الدائم للدال كما سنرى ذلك في لغة الناص. فالسيميولوجيا

هو العلم الذي يدرس الدال وعلاقته مع المدلول. العلم الذي يدرس فقط المدلول يسمى: علم المعان. وحين لايتطابق الدال مع المدلول هو مايسمى بالانزياح والذي لم يترجم كلياً بالنص.

قراءة على المستوى الأسلوبي:

من المتن نرى تشكل الدجى والصبح، فلهما صلة ببعض حين يتم استخدام تلك العبارة لتوضيح البُعد الكبير بين الأمرين كمعنى.  واستحالة تجميعهما لكن يترافقان زمنياً بالتتالي. وعظمتها في السماء يمتدان إلينا أرضاً.   وتستخدم مابين/ هنا استهلالاً كنوع من التوضيح فـ(ما)، نحيلها كإسم موصول. و(بين) نؤولها قواعداياً إلى ظرفية مكانية. أي بين الدجى والصبح هناك "القلب".

القلب = بيولوجياً مرتكز الجسد بالنسبة للإنسان يمنحه الحياة

يرتل أي يتماهى بالتمهل والتأني جهراً أوغير جهر نحيلها للقرآن.

وَرتِّل القرآن تَرْتيلًا.

ترنيمة، وهي تقارب.

الترتيل، بنغمة متفانية خاشعة. بغرض أداء مايقرب العبادة

وجد، نعتبره هنا الحزن فالوجد له معانيه العدة، لكن ضمن سياقات الجملة الوجد هنا الشوق الشديد وسنح الإشتياق

فهو التوحد الروحي والذاتي للتوحد مع الإله صوفيا. فالشاعر من ابتداء المتن يعطي للحالة الشعرية الصوفية والالتزام بها من خلال ذاك بالمفردة الدينية (غسق / دجى /يرتل/صبح). ومع غياب

اللغة:

كما ننوه دائماً إن العنونة هي الجسر الواصل بين النص والمتلقي وعنوانه. وأيضاً تقديم الفكرة الجامعة للكشف عن مضمون النص وسلطته وبغيابها هنا نرى أن الناص استعاض عنها ببوحه الذاتي بسيولة لفظية قريبة للمتلقى لاتتبع الغموض أو الإبهام فكان هذابديلاً عن العنونة والتي باتت جزءا رئيسيا للنص. إنما الشاعر اعتمد الألفاظ في النص كي تظهر اللغة في الأشكال المختلفة صرفاً وتركيباً برشيمات معرفية تعطي المعنى العام بكفة تتأرجح بين الشك واليقين بانعكاسات الذات التي توسم عصوات إسناد اضلاع الشكوى والحنين في حضن أمل أخرق.

الحالة الشعورية

الناص بحالة تلاصق حسي منذ البداية مع الأنا الأخرى. فبين الغسق والانبلاج مساحة تكفي كي يبدد ذاك الوجد وهو يتغنى بهذا الكلف ليوصل الحالة الروحانية المتهجدة، بتجرد كلي أنوي فهو بهذيان اللحظة بعد ذاك الأرق. لم يتموضع ضمن حدود الكلمات وضمن نطاقها اللغوي بل كانت حالة دراماتيكية لها أثرها الفعلي. فالأرق سبب كل ذلك الوجد المتلظي ووثبة في تحريك الذات الشاعرة بعقلانية يستنبط منها الروحاني فهنا:

ما بين غَسَقَ الدُّجى

 وإبْلاَجُ الصُّبْحِ

 قَلبِي

يُرَتِل تَرًنِيمَة وَجد،؟

بعْدَ سُهاد.

إن السهاد كان حالة فاعلة مؤثرة وترشيد لنقطة دوران النص ضمن التحولات الدلالية الناجمة من المدى العمقي في معالم النص.

الحالة الشعرية والفكرة:

اعتمد الناص الوصف الدرامي فالأرق أخذه إلى هذيان وتخلقات طقوس تجعل ذاك الطيف يراوده ضمن تحول مدرك / الصدق كل الصدق/ هنا الذات تظهر مكنونها الذي هي تبتغيه من خلال مخيلة تستدعي حضور طيفها وترى من خلاله حوار مورق بفلسفة الجوارح والداخل، أي الفينومولوجيا.

عن امنيات الامس

عن الفرح  والهمس

عن وعود بالوفاء

كل ذلك كان حديث طيفها المراود أثناء السهاد بميكانيزمية جامعة لكل مستغرقات الذات للتناص بصوت الشاعر عن طيفه الذي تجلى له. فالنص يتنفس من خلال مايراه هو ذاتياً لأن الطيف هو ذاكرته الملاصقة له وسط سهده بجمل شعرية حاملها متناغم بين الدال والمدلول. وتبقى التحولات المضمنة رهن الإحتمالية:

 أتراهم عبثوا

فهذيان اللحظة المؤرقة تتراتل الصور بالذاكرة والخيال بالفكرة.

فالامنيات هي المأمول

الأمس: هو الوقت الماضي القريب

الفرح: السرور

الهمس: الصوت الخفي

الوعود: العهود أو الإلتزام

الوفاءك  الاخلاص والثبات على الوعد

الصدق: سمة حسنة وقول الحقيقة

فالذات تسوس مرتدة عن دهرية البندول. وماكان فيها من فرح وهمس ووعود. وأكدت على الوعود بالصدق. وتكرار مفردة الصدق. بمعنى أن الأنا تبحث عن أمان عن حقيقة وترنو إلى البقاء على العهد. بمحاكاة مع طيفها كناسك هجير وحدته بل لنعتبره ظله. ليستدعي قسراً الدفق الشعوري الذي يعكس الحالة النفسية الباحثة عن يقين ترغبه فهنا الدالة سحابة متسولة في صوامع الرجاء.

مسارات النص

وما تفرزه الذات هي رؤيا خاصة بصاحبها وتوجهاته. وما أثّر به الطيف فلقد غيّر المسار بأسئلة عدة لرتق فجواته. تلك الأسئلة ليست عابرة بل تستفز الذات الى حيرة مسائلة.

 اللغة وأسلوبية الناص تسير بسياق دلالي حسب طقوسه الحسية والشعورية لحظة كتابة النص فلغته مشحونة بمناخات تعبيرية مستغربة بأسلوبية فنية تصويرية تؤكد حيرته وشكه بذاك العبث

أتراهم عبثوا في الطريق

يوم كنت أطوي المسافة

كي تكون لغة فنية ابداعية تتموضع ظهوراً ضمن واقعية شعرية متحدة مع الكائن الإنساني الوجودي في حلقة تتسع غسق الدجى

وتضيق الصدق كل الصدق

بتوليفة جمل خبرية واسمية لتتخلق رهان أكبر لقدرتها التأثيرية على المتلقي. فماذا بعد ذلك الانشداه؟.

هل للأحاسيس ثمن؟

سؤال يجمع بين  الحسية وبين المادية

هذا التناقض أعطى للصورة جماليتها مع وهلة السؤال الذي استطرد من خلاله الى:

لتباع المشاعر

أيضاً هنا الصورة بارعة بين البيع والمشاعر مخاض لغوي ينفتح على دوائر عدة فالشاعر ينصب نفسه شاهداً على الإحباط ليعيد ترتيب غموضه من أجل روح مفعمة بيقينها تجبّ الذات الشاعرة لتؤثث للبرّاني التقاطاتها النفسية وتحولاتها ليتمادى الوعي لكسر الحواجز ورفع صوت المواربة ولجم الحالة. فهو مضطرب غير متيقن بل مستنكر. هل من المعقول أن تبادل المشاعر وتتنازل ويتاجر بها؟

بأبخس الأثمان؟

سوق النخاسة

أم مات الوفاء

 الوفاء شيع

(هلّ للاحاسيس ثمن؟

لِتُباعُ المشاعُر

في سوقِ النخاسِةِ

أم انَّ الوفاءَ

 شُيعُ الى مثواهِ الاخير)

حينها يكون حصاد الغفلة، كي تمسح الذاكرة ويتوجب النسيان. نعم إن الوفاء شيع مثواه الأخير. فاللغة موجعة تبدد معاني الزمن المر في تبدلات المزاج.  تناقضات عدة في زمن الاهتراء ولامكان للعهود في هذا الخواء.

خاتمة فيها كل العبرة حين تستنطق الخراب.

فما بين الخيانة والوعد فارق خطوة

وقد انكسر شراع اليقين

واستكان فحيح الصور لجنح الأمان

ففلك الخلاص صراط أَشَر

لحسية فيها كل الحيرى والأسئلة المرة

فهل ينتظر بريق الوتر

لأسماء نخرتها سوسة الرجاء

الختم وبعض التفاصيل:

لغة لها تكوينها الدلالي المسترسل بالنص وتوظيف شعري لجوهر عناصر زمكنة.

/الطريق /المسافة /

خلقت تماهي مؤثر لسياق المعاني باقتصاد لغوي وتصوير مقطعي للتعبير عن الفكرة التي تتوالد قوية ملحاحة بترابطية لغوية مكثفة لصالح النص ولتظهر مدى تفاعل الذات مع الحدثية الجوانية المنفلتة ببركانها النازح ليتمخض التوهج الدلالي بجمل النص.

أ. كامل مبدع بهي جُماني الحضور مضفي الحبور على كل من يحيط به حيثما حلّ

يسكب سلاف الجمال بلغة من عقيق

بالتوفيق الدائم

***

مرشدة جاويش

 

الشاعر عبد الستار نور علي، يوم أمس كتب قصيدة مهداة لي أنا (هاتف بشبوش) .. بعنوان (الجسدُ المرمر). وقد جاء النص رداً جمالياً ومعجباً بنصوصي في الحب والآيروتيك ورسائل الحب .. وقد استوقفني النص ولابد لي من محاكاته ضمن القراءة البسيطة أدناه ..

نص (الجسدُ المرمر):

أتمايلُ طَرَباً

وأنا أهتفُ:

عجبي!

تتمايلُ أحرفُكَ السكرى

في وهج الشمعةِ

ليلةَ أنْ فكَّيْتَ الأزرارَ

لصدرٍ كالمرمرْ.

لم أعتدْ أنْ أفتحَ

صفحاتِ الجسدِ المرمرْ

في أوراقي

فأنا تاريخُ الورقِ الصاعدِ

مِنْ لهبِ التنورِ المسجور

في دارٍ تتداعى كالأطلالْ.

أتمايلُ طرَباً، يا هاتف!

حين تنادينا كي نقرأَ طلِّسمَ الأجساد:

جسدٌ يتسجَّى في تابوتِ الأيام.

الدولُ الرافعةُ عقيرتَها،

وسيوفَ قبيلتها

ليلَ نهار

تأكلُ....تأكلُ....

ما تعرقُهُ الأجسادْ

الوحشُ الكامنُ خلفَ عقيرتِها

جسدٌ هشٌّ بملايين ذباب.

جسدٌ آخرُ يصعدُ سُلّمَ أهدابِ الأقمارْ

ينضحُ برحيقِ الوردِ، وبالخمرِ،

وبالجُمّارْ.

أتمايلُ طرّباً

حين تفكُّ الخطَّ الغافي في أحرفِنا

خلفَ بلاغةِ تلكَ الأسوارْ،

وتعيدُ بناءَ الأسفارْ

***

(لايمتلك الجسد أبداً القوة الكافية ليجد تعبيره الخاص به ..) البير كامو..

قبل كلّ شيء أن الحب ليس وليد النقاش اليوم، وإنما وردنا على سبيل المثال من المأدبة الإفلاطونية الشهيرة (مأدبة إفلاطون) وهي وليمة بحضور سقراط وتلميذه إفلاطون. وكان الحديث عن (الأيروس) إله الحب، ومنه جاء الأيروتيك والرغبة في التطلّع للجسد وبقي وهاجاً بناره ولهيبه حتى اليوم الذي وصل للستربتيز (العرض العاري والبوح الفاضح الذي ليس له لجام).

النص أعلاه للشاعر الكبير عبد الستار - كما قلت- جاء رداً على أشعاري المختصة بالآيروتيك والحب. لكن الشاعر عبد الستار أراد من خلال النص أنْ يوضح طبيعة العلاقة الصميمية بين الرجل والمرأة في عالم بات خطيراً وبائساً، ولايمكننا أنْ نعرف الى أين يتجه هذا العالم وهو ينزّ وسط الجراح من الحروب المحلية والعالمية، وتغيير مسار العلاقات الأنسانية بينما يبقى الحب مطرزاً بنغماته وموسيقاه، وهنا نقصد الأيروتيك لا الستربتيز ولوحاته الحية في مراقص العري أو في أفلام البورنو أو في ملصقاته الفوتو وما أكثرها. عبدالستار نورعلي وموسومية نصه الذي إتخذ عنواناً ناعماً يليق بنعومة النساء والحب معاً، فذات يوم قال سعدي يوسف (لمن يزهر الجلّنار ويندفع المرمرُ) أي إندفاع فلقتي الصدر (الرمّان) الى الأمام مما يعطي جمالاً صارما فتاكا لناظريه، أو أن الجسد الإنثوي كله عبارة عن لدانة عظيمة مثيرة كما لدانة رمانة نعصرها فتنصاع الى أي شكل نريده أو أي ملمس يثير بنا لاعجة الحب ولوعة الرغبة في الحب والممارسة وإصرار الولوج والتقبيل والتمسيد عند مجيء تلك الرغبة الأعنف من بين رغباتنا كما يقول (شوبنهاور). في القصيد أعلاه وفي أوله يقول الشاعر عبدالستار (أتمايل طرباً وأنا أهتف عجبي). هنا لم يقل وأنا أصرخ بل قال (أهتفُ) لتأتي تنويهاً إعجابياً بهاتف ونصوصه في الحب ورسائل الحب. فهو هنا حين يقرأ قصائد هاتف بشبوش في الحب والآيروتيك، كمن يسمع أغنية فيطرب فيدخل في دائرة (إذا طربت النفوس غنت). عبد الستار قرأ واستمتع بجمال الحرف والحب حتى غنى، بل وتمايل فهنا يعني أنه دخل أقصى غايات الأنتشاء والإستمتاع القرائي الذي تحوّل الى الغنائي من جراء الوصف الواقعي والفنتازي لقصائد الشاعر هاتف حتى تمايل وترنّح ربما دون خمر وكحول، فهو الشاعر الذي أعرفه لايعاقر الخمر أبداً، بل ربما في أيام مضت من الشباب الثوري والنضالي. فهو قد كان في لجة الصراع قبل أن ندخل نحن . ثم ينتقل عبد الستار فيقول:

تتمايل أحرفكَ السَكرى

في وهج الشمعة

ليلة أن فكّيت الآزرار

لصدرٍ كالمرمر ..

الشمعة حكمة وتأويل كبير، الشمعة حين تحترق تترك جوفاً في بطنها وتظل تحترق، تتألم كثيراً حتى ينتهي نارها. لكنها تبقى تلك الشمعة المنتصبة، ولذلك نتصور ما مدى الألم والجمال في الحب حيث يكون ألم البطن من جراء الإحتراق الصارخ بالحب والحب والإستنارة لحبيب أحببته وظل في القلب وجوف البطن. أما فكّ الأزرار للصدر المرمر فهو قد جاء على طريقة الملك أدويسوس بعد غياب دام خمس وعشرين عاماً عن زوجته، وإذا به يفتح أزرار قميصها فيحترق ناراً وشوقاً وحباً لفلقتي رمان صدرها. ويبقى الحب محض كلمة حتى تجد الشخص الذي يمنحها المعنى. وها هو عبد الستار يضع كل المعاني ضمن حيواتنا التي ستتقدم معاً عبر زمن حزين أو ضاحك . فمرة نراه في الإنثيال على الأيروتيك العفيف البعيد عن الستربتيز فأعطاه العفة والنزاهة، ومرة ينثال على أوجاعنا التي لاتنتهي، لكننا نخلق ورودنا في دروبنا العاثرة على الدوام لآن الورد والأزاهير حياة، فهي حتى لو ماتت سوف تترك بذورها في الآرض لتحيا زهرة أخرى مثلما نحن البشر نموت ويحيا بعدنا أحفادنا وأكبادنا. ولذلك قال عبد الستار في شذرته الصارخة بالحب والألم معا:

اتمايل طرباً ياهاتف

حين تنادينا كي نقرأ طلّسم الأجساد:

جسد يتسجى في تأريخ الأيام

عبد الستار في نصه قد مزج مفاهيم الزمن في الحب الأبدي الذي يخشى الشك ويستمر بالشك ويموت من اليقين . النص الجسدي الجميل تدحرج الى حيواتنا اليومية العامة ومانراه من بؤس وتراجيدية فنراه يقول:

أتمايل طرباً

حين تفكّ الخط الغافي في أحرفنا

خلف بلاغة تلك الأسوار

وتعيد بناء الآسفار

نصّ فيه أكثر من مفصل يستحق الشرح وعلى وجه الأخص تلك التراجيدية التي يصنعها الأوغاد ونحن من يشاهد ويصمت على الدمار القاتل للحب رغم إن هذا الحب يبقى عاصياً على النيل منه مهما كانت قراراتهم .. فهو الحب الذي يريد أن يرى الرغبة التي خلقها الرب سارية المفعول في كل أزمانها ومكانها ..الحب الذي يصر على فتح أزرار قميصها كحق مكتسب منذ الأزل ومنذ إن تعلمت حواء وعرف آدم ماهو الطلّسم الذي يشفي الجسد . نص متجاوز في الحب ومعرفة الجسد وقد إتخذ رابطاً مكرراً (تتمايل طرباً) مما زاده بهاءاً على بهاء في اللحنية والموسيقية المهمة في الشعر النثري . ويبقى الجسد هو العنصر الأساس للجنسانية التي تعبّر في نهاية المطاف عن وجود الأشياء التي تبحث في بعضها عن العنصر الذي ينقصها. ويبقى النص لعبد الستار باحثاً عن الغوايات النبيلة نسبياً إنْ لم تكن مستحيلة. عبد الستار ربط الجسد مع الوجدانيات التي لايمكن لنا تحطيمها فهي عادات وسلوك وواجبات في بعض الأحيان. وأخيرا أقول من أنّ الجسد الذي وظفه عبد الستار في هذه المفاهيم الجنسانية والثورية والحياتية، هو كلمة من الممكن أن نوظفها في رسم العلمانية البعيدة عن العنصرية مثلما قال محمود درويش ودعوته للمدنية من خلال شعره في الجسد الإباحي الجميل:

سنصيرُ شعباً

حين يكتب شاعرٌ

وصفاً إباحياً ، لبطن الراقصة .

***

هاتف بشبوش / شاعر وناقد عراقي

 11/10/2024

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير)  تحت مسمى (قصة)، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار الورشة/بغداد 2023 .

الملاحظ على التسمية أنّ الكاتب أطلق عليها اسم قصة، لا رواية قصيرة. لكننا حين نقرأها وبعدد صفحاتها – حوالي 50 صفحة -، إضافة الى حكايتها الطويلة نسبياً، والمؤلّفة من أحداث كثيرة مختزلة، تدور حول حدث محوريٍّ واحد، مرّ بها بطل الرواية (جوامير) وهو الشخصية المحورية، وشخصيات أخرى عديدة، لها دورها في الأحداث والبناء التركيبي المؤثر، وفي مسيرة البطل حياةً، و تصاعداً للأحداث وتطورها متفاعلةً معها، وبهندسة معمارية فنية البناء، سردية الأداء، فإنها والحالة هذه؛ ولخصائصها الفنية: حبكةً (بداية، وسط/عقدة، خاتمة/نهاية)، وأحداثاً وشخصياتٍ، وأسلوباً وعرضاً وسرداً. وبالنظر الى أنَّ سلسلة الحوادث التي تجري في القصة متصلة ومرتبطة برابط السببية فيما بينها، ولا تنفصل عن الشخصيات، متأثرة بها ومؤثرة فيها، وأنّ القاصّ يعرض علينا شخصياته، وهي متفاعلة ومترابطة مع الأحداث، ومع بعضها البعض، ووجودها ضرورة لمسيرة الرواية وموضوعها وتطورها، ومهمة في سير الأحداث، وبطل الرواية، ولا تنفصل عنها بأيِّ وجه من الوجوه، فإنّه يمكننا أنْ نضعها جنساً أدبياً تحت مسمى  (روايةً قصيرةً).

إضافة الى كلِّ ما أسلفنا أعلاه، فإنّ ما يدعم هذا  أيضاً  كثرة الأحداث وتكثيفها، وتركيزها من خلال الضغط، والابتعاد عن الإفاضة والهوامش الفائضة عن حاجة الحكاية وسيرها وسياقها المتنامي؛ وهي ناتجة عن ادراك الروائي بأنه عليه أنْ يعمل على عدم إلقاء القارئ في متاهات الترهُّل السردي الفضفاض، ومقابض السأم. وكلُّ هذا من أجل توفير الوقت والجهد للقارئ المهتم، وربطه بالحكاية، وشدّه بإحكام، وحنكةٍ ومهارة اليها، دون ضجر ولا ملل من التفاصيل الفائضة المحشوّة حشواً عشوائياً، والتي لا تخدمها فنيّاً وتقنيّاً.

الحكاية حدثت بمحافظة واسط/مدينة الكوت، وهي قصة الشخصية المحورية (جوامير)، وما مرَّ به من أحداث عظيمة التأثير على حياته العائلية الشخصية، هو ووالدته، حيث ألقت الشرطة القبض عليه بسبب نشاطه السياسي أثناء الانتفاضة الشعبانية/ آذار 1991. فبعد سجنه لبضعة أشهر صدر قرار تسفيره (تهجيره) الى إيران بحجة عدم امتلاكه شهادة الجنسية العراقية، وأنه فارسيٌّ. هُجّر هو وأمه، ليعاني الكثير في منفاه القسري ظلماً وعدواناً، ولأسباب سياسية محضة، حيث ماتت أمه هناك، وكانت تتمنى أنْ تُدفن في وادي السلام/النجف. ثم يذكر في سياق سرده حملة التهجير التي تعرّض له الكرد الفيليون (وهو منهم) عام 1980 إثر الحرب العراقية الإيرانية، وما تعرضت له العائلات المنكوبة، التي هُجّرت قسراً وظلماً الى إيران بدعوى التبعية الإيرانية، وما لاقوه من ويلات ومعاناة، ومصاعب ومخاطر جمّة، ومشاقٍ في طريق مسيرهم أثناء عبورهم الحدود بين أراضٍ مُلَغمَة، وليكونوا عرضةً للوحوش الكاسرة، وقُطّاع الطريق، ومشقات  وتضاريس الأرض والجبال القاسية.410 Deportation

يَعرِض القاصّ مؤيد عبد الستار بسردٍ مُحكَم، ولغةٍ رصينة مُعبِّرة بدقةِ احترافية فنيّة، واسلوب يحمل في طياته فنَّ الإثارة، وشدِّ القارئ للأحداث والوقائع والصعاب، وطرق المسير الخطرة، وأهوال الطريق،  ومعاناته هو وأمه في المنفى القسري، وما لا قوه هناك منْ شظف العيش وقساوة الغربةً، حتى وصل الحال الى وفاة أمه، التي كانتْ تحلم أنْ تُدفَن في مقبرة السلام في النجف الأشرف. كما ظلّ متعلّقاً مرتبطاً عاطفياً بوطنه، يحنُّ ويتحمّلُ نوازع الشوق الجارفِ لوطنه، وخطيبته ابنة عمه التي تركها خلفه، ومِنْ حبّهالشديد  لها كان يحتفظ برسالة قديمة أرسلتها اليه تبوح بحبها وتوقها الى يوم زواجهما.

وبسبب هذه المعاناة فكّر وخطّط للعودة الى وطنه العراق، باصرار وتصميم وتحدٍ للصعاب، والى مسقط رأسه الكوت، وعن طريق التهريب، وباسم مستعار (جمال) مشتق من اسم جمال عبد الناصر؛ كي لا يجلب الانتباه. دبّر له المهرِّب هويةً مزورة، لتبدأ مغامرة العودة المحفوفة بالمخاطر والخوف، والصعوبات والتعب والجوع، والحذر الشديد؛ خشية الوقوع بين براثن رجال الأمن العراقيين، فلا يرحمونه.

يمزج القاصّ مؤيدعبد الستار في روايته بين الحدث الذاتي والحدث التاريخي والاجتماعي، بين ما تعرّض له البطل (جوامير)، وتعرّض له الوطن والناس تاريخياً واجتماعياً. إذ يمرُّ من خلال سرد الأحداث والشخصيات على تاريخ احتلال الإنجليز للعراق، وما فعلوه في الجنوب من مآسٍ واعتداءات على الناس، دون وازع من ضمير أو أخلاق، وفي ذلك إدانة للاحتلال، وما يجرّه من ويلات، ولعلاقة سببية بين الاحتلال ذاك وبين ما جرى للعراق بعده.  وذلك من خلال الشخصيات الكبيرة في السنِّ التي  يذكرها القاصّ، والتي تذكر تلك الأيام. وكذلك يسرد بعضاً من الأحداث التي تعرّض لها معارضو النظام البعثي السابق من السياسيين وغيرهم، منْ خلال ذكر شخصية أبو سلمان واعتقاله ثم إطلاق سراحه، دون أنْ يعرف السبب، وقد تمّ اطلاق سراحه بناءً على تدخل بعض وجهاء مدينة الكوت. وهو بهذا يعرض تاريخ فترة من العراق ألقى بظلاله السود ورياحه العاتية على طيفٍ من الشعب العراقي (الفيليون) اذ أنّ بطل الرواية من الفيليين، فيقول:

" لاشك ان غاية السلطات كانت كسر شوكة المعارضين لها ، وتهديدهم بالتسفير الى ايران بحجة  اصولهم الفارسية"

" كان الحرس اسوأ ظاهرة عرفتها مدينة الكوت" (الحرس القومي)

كما يسرد لنا من خلال القصة (الرواية) بعض الوقائع اليومية المعيشية للعامة من الناس والبسطاء، وأصحاب الأعمال والمهن، وما كانوا يعملون في حياتهم، مثل التهريب بين ايران والعراق/محافظة واسط المجاورة لحدود ايران، وما كان هؤلاء يتعرضون له من حوادث يومية، وما يتحمّلون من صعاب ومشقات في سبيل توفير لقمة العيش لهم ولعوائلهم. وهذا جانب تاريخي اجتماعي لحياة العامة من الناس يعرضه القاص في الرواية.

وكما ذكرنا أنه بقصته هذه يمزج بين التاريخي والواقعي الاجتماعي الناتج والمتأثر بالوضع السياسي في البلد. ولكثرة الأحداث والشخصيات فإنها تقترب كثيراً حبكة وتقنيةً وحجماً (50 صفحة) من فنِّ الرواية، وعليه يمكن درجها تحت جنس الرواية القصيرة. فلو فصّلها بالسرد أكثر، وبالمرور على حياة هذه الشخصيات العديدة، والأحداث التي مرّوا بها، لكان بإمكانه أن يحوِّلها الى رواية طويلة تاريخية اجتماعية سياسية.

يسرد القاصّ في قصته هذه كلَّ تلك الأحداث والشخصيات بواقعية تقترب من السحرية إثارةً واسلوباً وفنتازيا، مع أنّ الساردَ لم يتدخّل في مسار الحكاية ليضع بصمات خياله الفانتازية فيها، فهو لم يختلق ما يبتعد عن الواقع المعاش يومياً، من المخزون في ذاكرته، فيستعيد ما تمتلكه مما عاشه القاصّ مؤيد عبد الستار، والتي وقعت وتقع للناس  في محيطه وبيئته عموماً ضمن سياقات التاريخ السياسي والاجتماعي الواقعي، والتي عشنا وشاهدنا عياناً الكثيرَ منها، فهي ليست غريبةً على العراق وتاريخه المضطرب المليء بالوقائع والمآسي والنكبات غزواً خارجياً، واضطراباتٍ وتقلبات وانقلابات داخلياً.

يُقسّم القاصّ روايته الى فصول تحت عنواين وهذا عنصر آخر يجعلها من جنس الرواية والقصيرة منها:

تسفير، قافلة الحساوية، القاء قبض، مشهد ايروتيكي  في زقاق ضيق، الهجع، شهادة، لقطة جانبية، بعيد المدى، مولوي، مجلس وداع، البدوي، رحلة  قرمزي  الأخيرة، الى بدرة، حادي العيس.

الرواية قيد القراءة تسجيل فنيٌّ أدبي لصراع الإنسان بين ما يقع فيه من مشاقِّ وأهوال وبين حبّه لوطنه وحبيبته التي تركها في العراق، وحلمه في العودة الى مسقط رأسه وحبيبته؛ لتعلّقه الشديد بهما؛ فهما جزءٌ لا ينفصم منه وهو أيضاً جزء وصورة منهما.  لذا قرّر العودة الى وطنه سرّاً، مصمّماً على مواجهة الصعاب والمخاطرَ والعقبات بشجاعة وتصميم واصرار. فهي تجمع بين الحدث الشخصي والحدث التاريخي.

يُنهي الروائي روايته بنهاية مفتوحة فيها الإثارة شديدة الوقع؛ مما يمنحها أثراً ناحتاً في نفس القارئ، بحيث تبقى في ذاكرته، بعد ما لاقاه جوامير في طريق عودته وهو يتوجّه الى مدينته الكوت بحلمٍ وأملٍ، إذ ترك الكاتب للقرّاء أنْ يعيشوا مع الحكاية، ويُشغلوا أخيلتهم ليضعوا النهاية التي يتوقعها كلٌّ بحسب تأويله. وفي هذه النهاية مهارة وحنكة وحرفية فنيّة من ساردها وكاتبها في هذا القالب المُحكَم العناصر، فنّاً  وكتابةً وأسلوباً ولغةً، ورصانةً أدبية في الأسلوب. إضافةً الى كلِّ ذلك فإنَّ مسحة التراجيديا واضحة عليها، فيما تعرّض له البطل، وغيره من الشخصيات، ومن الأحداث والوقائع التي مرّ بها العراق وشعبه عبر تاريخه الحافل بها. وكذا تظهر في الرواية مسحة من الكوميديا الساخرة، خاصة في فصل (مشهد إيروتيكي  في زقاق ضيق).

ولهذه المعطيات والمحدِّدات كلّها، وما تحتويه قصة (تسفير)، وما تمتاز به من خصائص فنية هي من عناصر واشتراطات ومحددات الرواية، فإنها  رواية قصيرة، رغم أنَّ كاتبها الأديب مؤيد عبد الستار أشار اليها بتسمية (القصة) فحسب.

***

عبد الستار نورعلي

تشرين الأول 2024

 

تفكيك الإطلاقيات ونسبية الحقيقة

في الذكرى الثامنة لرحيل المخرج منصف السويسي

1 ـ الخرافة: الاقتباس والتملك الادبي للاصل:

كيوتو، القرن 11م، تحت رواق معبد راشمون القديم، ثلاثة رجال يحتمون بالبوابة من المطر، كانت الحروب والمجاعات قد أبادت عددا كبيرا من الناس. في البداية يلتقي رجل دين شاب مع حطاب شيخ وقد هالهما ما سمعاه وهما يحضران المحاكمة ــ كانا مربكين إلى الحد الذي جعلهما يجبران أحد المارة على الاستماع إلى قصة هذه المحاكمة محاكمة قاطع طريق متهم باغتصاب سيدة شابة وقتل زوجها الساموراي (1). لقد وقعت الجريمة في أطراف الغابة المحاذية لرواق راشمون، القصة بسيطة.

من قتل الزوج الساموراي؟ قاطع الطريق تاجومارو أم الزوجة أم الحطاب الذي كان مارا من هناك ساعة وقوع الحادثة أم أن الزوج إنتحر؟ في المحكمة تتناقض إفادات الشهود وتختلف الروايات وتتضارب في كل مرة حول حقيقة ما حدث. فبينما كان الساموراي يتنزه صحبة عروسه في إحدى الغابات اليابانية يلحظهما قاطع الطريق "تاجومارو" الذي يقرر افتكاك المرأة من زوجها... بعد المعركة التي تنتهي بموت الساموراي وفوز قاطع الطريق بالمرأة يقبض عليه. نص المسرحية يعود في الأصل إلى الكاتب الياباني أكوتاقوا وقد تعاملالمنصف السويسي مع هذا النص لأول مرة عند إشرافه على إدارة فرقة الكاف ما بين سنة 1967 وسنة 1976 فأنتج مسرحية نسمة راشمون سنة 1968. وهي ثاني عمل له مع فقرة الكاف بعد مسرحية " الهاني بودربالة" المقتبسة عن نص من نصوص موليير وقد انتهج السويسي في هذه المسرحية خطا إبداعيا.

حاول فيه تعديل الأشكال الجمالية التي تأثر بها خلال تربصاته بفرنسا بما يتماشى والأرضية الاجتماعية لمدينة الكاف التي أسست فيها الفرقة(2). لكن السويسي في "راشمون" يغير البوصلة مائة وثمانين درجة فيشتغل على نص من أقاسي آاسيا، لكن كان يرغب في إحداث قطيعة مع المسرح الغربي مسرح شكسبير وموليير وبرشت.

لكن الملفت للنظر ان هذا النص سيظل حاضرا في مسرح السويسي على امتداد ما يزيد على الثلاثة عقود، فقد أعيد تقديم المسرحية في افتتاح مهرجان الحمامات الدولي سنة 1998 ثم بمناسبة الاحتفال بتونس عاصمة للثقافة العربية.

إن نص السويسي، حافظ على أحداث المسرحية الأصلية وعلى تطور خطها الدرامي، ولكنه أعاد كتابتها وصياغة حوارها من جديد بما يعطي للنص أبعادا جديدة فلسفية وفكرية وفنية قد تضاهي النص الأصلي وقد تفوقه وهذا هو جوهر الاقتباس. لقد أكدت التجربة أن هذه العملية التي تحافظ على المرجعية الثقافية للخرافة سرعان ما تتحول إلى إعادة كتابة لنص صيغ في لغة أخرى تتضمن تعديلات عديدة تجعلها تتناسب مع أذواق العصر... النص الجديد يتحول إلى عملية تملك ثقافي لنص حامل لمرجعية ثقافية سابقة(3). في الغلب، يتكتم أصحاب النصوص التي تمت مسرحتها ونقلها إلى الخشبة عن النصوص الأصلية وهو ما لم يفعله السويسي، الذي حافظ في مسرحية "نسمة راشمون" على سينوغرافيا وعلى إشارات ركحية كالأزياء والموسيقى أشرت على الجذور الأصلية للنص المسرحي.

أن يعود المخرج للتعامل مع نص مسرحي، كان قد عالجه لإعادة تقديمه من جديد في فترات زمنية متباعدة نسبيا فذلك يعني أن النص مازال قادرا على أن يعطي معنى جديدا كلما استنطقه القارئ/المخرج. إن السويسي قد وجد نفسه أمام تساؤلات عديدة واختيارات عدة، ظفحت على خط التواصل بين المبدع والمتقبل، ستسمح بإعادة صياغة المسرحية بوسائل وآليات ونظرة جديدة يمليها أساسا تجدد الحياة واستمرارها.

11 ــ البناء الفني للمسرحية:

انبنت المسرحية على بني توليدية، بحيث أن اللوحات المعروضة للمشاهد وعددها ربعة متولدة عن الحوار الثلاثي الأطراف الذي يدور بين الكاهن والحطاب وصانع الشعر المستعار، هؤلاء الثلاثة تجمعوا عند بوابة المدينة بسبب سوء الحوال الجوية وتهاطل المطار، لقد احتلت البوابة ركنا صغيرا من الفضاء الركحي، في حين تم توظيف بقية الفضاء مداولة بين المحكمة حيث يدلي كل من تاجومارو والمرأة وشبح الساموراي بشهادتهم وبين الغاب الإطار المكاني لحدثي الإغتصاب وقتل الساموراي. كانت الأحداث المسرحية تنتقل من البوابة إلى المحكمة ومن المحكمة إلى الغبة. هكذا كان البناء الدرامي للمسرحية توليديا فكل مكان يفضي بالمشاهدإلى مكان ثان والمكان الثاني يفضي به إلى مكان ثالث ليعود به من جديد إلى مكان الانطلاق. انه بناء توليدي دائري، باستثناء المشهد الرابع حيث ننتقل من البوابة إلى الغابة ويصبح الرابط بين المكانين سارد الأحداث الحطاب الشاهد الوحيد على ما وقع.

يوم المحاكمة، يتراجع القاتل تاجومارو في أقواله، وينفي عن نفسه تهمة القتل، ولكن المرأة تؤكد أنها هي التي قتلت زوجها، بينما شاهد العيان/الحطاب يصرح أمام المحكمة أنه حضر مبارزة بين رجلين ولكنه لم يتبين كيف جرت الأحداث.

إزاء هذا المأزق تستدعي المحكمة "روح الساموراي" لتستمتع إلى إفادته. ورغم ذلك تعجز المحكمة عن إصدار حكم مما حدا بالمخرج إلى قحام الجمهور في لعبة البحث عن الحقيقة ليجعل منه هيئة محلفين قادرة على البت في المسألة(4).

أما تقنيات العمل المسرحي الموظفة في مسرحية "نسمة راشمون" فقد تنوعت بحيث تضافرت مع الملفوظ القولي لتنسج الرؤية الفنية المراد إبلاغها. لقد جرى العرف أن تصاحب الموسيقى بعض المشاهد المسرحية وتسمى بالموسيقى التصويرية وتعتمد غالبا على الآلات الموسيقية لا على الأصوات البشرية، وقد كانت الموسيقى في "نسمة راشمون" إما ممهدة للحدث/المشهد المسرحي أو تعقبه ومن وظائفها تأصيل العمل المسرحي في بيته، والتأثير في نفسية المشاهد باستنفار رغب التقبل لديه، لقد جعل السويسي من الموسيقى في عمله مقوما من مقومات تماسك العمل المسرحي، أما الأزياء وهي أزياء تاريخية فقد فرضت على الممثلين ضرورة التقيد بأنواع من السلوك وطرائق في التحدث تتطابق مع العصور التاريخية التي تحيل عليها تلك ضمن معادلة تقوم على الترابط بين مظهر الممثل ودوره، لأن أي إخلال بالمعادلة من شأنه أن يدمر مصداقية العرض ويشوه جماليته الفنية.

لفكرة الضوء صورها الشعرية في المسرحية، وهي تمثل في حد ذاتها وفي تجلياتها المتنوعة أحد المصادر الرئيسية الهامة للصور والاستعارات المسرحية. فالضوء أشبه ما يكون بمنطقة تماس واتصال والتقاء بين الذهن البشري وبين عالم المحسوسات. "في نسمة راشمون" كانت الإضاءة تتراوح بين الانحسار في المحكمة حيث يقع التركيز على سارد الأحداث وبين الاتساع حيث فضاء الأحداث متسع حين تحتضنه الغابة، فالإضاءة موظفة في شد انتباه المشاهد واستفزاز ملكاته الذهنية لمتابعة مسار الأحداث وحركات الممثلين وأقوالهم. إن تقنيات العمل المسرحي المعتمدة في هذا العمل تضعنا أمام حضارتين مختلفتين، لكنهما منفتحتين بحكم التاريخ والجغرافيا وما تقتضيه العولمة اليوم من انفتاح على الآخر المختلف.

لكن تظلّ لغة الحوار قادرة على !خراج النص - نص المسرحية - من خصوصيته ليعانق افاقا حضاريّة جديدة . فاللغة العربيّة الفصحى المطعمّة بألفاظ قريبة من العاميّة والتي أجاد الممثّلون استخدامها، أصبحت القناة الأولى التي تربط المبدع ـ المخرج بالمتقبّل ـ المشاهد وهذه القناة هي التي ستمكّن المنصف السويسي من أن يطرح من خلالها المسائل التي تشغله والتي تتحكّم برؤيته الفنيّة للنصّ المسرحي.

إنّ البوّابة ـ الرواق حيث التقى الكاهن والحطاب وصانع الشعر المستعار هي الفاصل والفاصل بين داخل المدينة وخارجها، فمنها ندخل المدينة حيث المحكمة ومنها نخرج حيث الغابة . وشخصيّة الكاهن تجسّد بدقّة هذا الفصل والوصل في ما تشيعه البوابة من معاني حافة des connotations فهي مزيج من عالم الناسوت حيث الأجساد تتصارع وتتقاتل وعالم الملكوت حيث الأرواح تبحث عن الطّهر والبراءة .فالناسوت تجسّده المدينة بكلّ الشّرور التي تحملها والملكوت تجسّده الغابة التي ترمز إلى براءة الإنسان قبل أن تفسده المدينة والاجتماع البشري .أما المحكمة فلا نعثر فيها إلاّ على شخصيات:تاجومارو، المرأة، أمّها وشبح السّاموراي جميعهم محاطون بحرس موزّعين في جوانب القاعة.تغيب هيئة المحكمة بقضاتها ومساعديها وتجد الشخصيات نفسها في مواجهة مباشرة مع الجمهور المشاهد وتحاول كلّ منها إقناعه بصحّة روايتها للأحداث .هكذا يقحم السويسي الجمهور في الفعل المسرحي ويحوّله من مُتقبِل سلبيّ للعمل إلى فاعل إيجابيّ، فيتقمّص دور القاضي الذي يعمل جاهدا على غربلة الروايات المتضاربة وتمحيصها حتّى يميز الحقّ من الباطل.

111ـ في دلالات المسرحية وأبعادها:

في شهادته ضمن الندوة الثانية من ندوات معرض تپنس الدولي للكتاب في دورته 27 ما بين 24 أفريل و3 ماي 2009 والتي كان محورها "الفن المسرحي بين النص والركح" قال المنصف السويسي متحدثا عن تجربته في كتابة وإخراج "راشمون": هناك عمق أفقي وعمودي وأخرجتها بثلاث رؤى مختلفة، في سنة 1968بالكاف كانت القراءة تميل إلى التطاحن الطبقي، وعندما افتتحت بها مهرجان الحمامات الدولي سنة 1998، كانت خلفية الكتابة المسرحية فلسفية تحاول إبراز نسبية الحقيقة، أما بمناسبة الاحتفال بتونس كعاصمة للثقافة العربية اهتممت بإبراز تفاصيل العلاقات النفسية"(5).

هذه الشهادة تفسر الأسباب التي شرعت للسويسي العودة مجددا إلى نص مسرحي والاشتغال عليه في فترات زمانية متباعدة، وكان في كل مرة محكوما برؤية مخصوصة. إن نواة الخرافة محملة بدلالات غنية، سمحت للمخرج بأن يحولها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل ضمن سياقات اجتماعية وفكرية وحضارية لعبت دورا مهما في صياغة رؤى السويسي الفنية.

من القضايا التي ارتأى ضرورة طرحها، تلك التي أحس أنها تقع على خط التواصل بينه وبين المتلقي من ذلك مسألة الصراع الخفي أحيانا والظاهر أحيانا أخرى بين طبقة الفقراء المعدمين وطبقة الأغنياء النبلاء مجسدة كليهما في شخصيتي الحطاب والساموراي.

هذا الصراع طرح مسألة الهامشيين الذين "تنتجهم" بنية اجتماعية ذات ملامح مخصوصة قائمة على الاستغلال والرغبة في الثراء الفاحش والسريع. وسيلتها في ذلك امتصاص جهد الآخرين بغير وجه حق امتصاصا يبلغ حد الاستعباد.

فهؤلاء الذين يقتلون ليعيشوا، وأولئك الذين يرتزقون من جثث الموتى، لفظتهم نواميس المجتمع فصنعوا لأنفسهم قناعات ومبادئ يحيون من أجلها وأحلاما يعملون على تجسيدها بكل الوسائل المتاحةو إن إقتضى الأمر خرق الأعراف الاجتماعية والقيم الأخلاقية.

فالكاهن البوذي صار عاجزا على مواجهة الشر الذي استفحل، وكان على وشك مغادرة المدينة، متخليا على دوره في استثمار رأسماله الرمزي في التصدي للفساد ونشر قيم الخير والعدل والفضيلة.

لقد صوّرت المسرحيّة اِستحالة التعايش بين كائنين من طبقتين مختلفتين وهذا ما كشفه الحوار الذي دار بين الساموراي وزوجته، اِبنة الخادمة .هذه الاِستحالة سببها اِضمحلال القيم التي اِنبنت عليها طبقة النبلاء التي يمثّلها السّاموراي قيم الشجاعة والشهامة والدفاع عن الشرف .فإذا بالساموراي ذي التاريخ العريق جبان، عاجز عن الدّفاع عن زوجته متعلّلا بأعذار واهية.كما صوّره المخرج فريسة سهلة لقاطع الطريق.لو حاولنا اِستقراء الظروف الاجتماعية والتاريخيّة التي حفّت باُشتغال السويسي على نصّ راشمون ً سنة 1968 لأدركنا أنّ حركة الاقتباس آنذاك كانت قائمة على معادلة قوامها الربط بين الرِبرتوار le répertoire العالمي وبين مقتضيات الفعل المسرحي في علاقته بالمحيط الاجتماعي المحلّي. فسنة 1968 شهدت بداية احتضار تجربة التعاضد.و استقبلت تونس السبعينات وهي في حالة إنهاك جرّاء ذاك الاختيار الاقتصادي الخاطئ .فقد تسبّبت خيبة التعاضد في تشقّق جدار الإجماع حول مجموعة من المفاهيم مثل التضحية والجهاد الأكبر والوحدة الوطنيّة والبناء والتي مثّلت شروطا ضروريّة لتحقيق التقدّم وتكريس التسيير الذاتي والاستقلال الفعلي للبلاد. (6) لقد أدرك السويسي أنّ في ً راشمون ً ما يشي بإرهاصات تحوّل في الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة.إنّ تفكّك طبقة النبلاء ذات العمق التاريخي ودورها في تأبيد نمط معيّن من الحكم بفضل ما تتوفر عليه من قوّة ماديّة يوازيه في قراءة سوسيولوجية مقارنة بالواقع التونسي اِنهيار التصوّرات الكبرى وتحلّلها فقد عصفت بها تحوّلات اجتماعيّة واقتصادية أجبرت السياسي على أن يأخذها بعين الاعتبار في بناء رؤيته المستقبليّة لتونس الغد. لقد ارتقت تجربة التعاضد وما آلت إليه من نتائج كارثية إلى مرتبة الجريمة المرتكبة بحقّ أبرياء وهي تشبه ما ارتكبه تاجومارو في راشمون . يظلّ البحث عن الفاعل أي عن حقيقة ما جرى وعمّن تقع مسؤوليّة ما حدث مصدر خلاف وتعدّد في وُجُهات النظر ويبقى في نظر السويسي أن الجمهور أي الشّعب هو الوحيد القادر على تحديد المسؤول ومحاسبته لذلك يقول المخرج:‹‹ لقد جعلت من الجمهور الحكم الوحيد...››.ربّما يصبح الاقتباس عن نصّ ياباني قناعا التجأ إليه السويسي لمخاتلة الرقيب حتّى يتسنّى له نقد الواقع التونسي في تلك الفترة ففكرة القناع قد تجد مُسوغاتها إذا علمنا أنّ نصّ مسرحية نسمة راشمون لم تقع تونسته على غرار مسرحيات أُخرى لعلي بن عيّاد مثلا وغيره ممّن تعاملوا مع نصوص أجنبيّة . grasset 1972

لقد حافظت راشمون على أصولها اليابانيّة .إنّ الفكرة التي تبدو هامة في نظري والتي طرحتها المسرحية هي تنسيب الحقيقة واِختلافها من شخص إلى آخر وو من ظرف إلى آخر، حسب زاوية النظر التي تقدم من خلالها الحقيقة. هذه الفكرة من شأنها أن تُخلّص المسرحيّة من شُحنتها الإديولوجية التي طُبِعت بها جرّاء الظرف الذي آقتبست فيه، لتطرح مسائل معاصرة كالنسبيّة وحق الاختلاف وتعدّد الآراء وتفكّك الإطلاقيات. وتكمن خطورة الفكر الإطلاقي في كونه يُمثِّل قطب الرحى ضمن المثلّث الانتروبولوجي: المقدس، العنف والحقيقة وهو بفضل ما يختزنه من نزعة إطلاقيّة قادر على التحوّل إلى حقيقة لا تعترف بغيرها وتعتبر نفسها هي الوحيدة الممثّلة للحقّ وينبغي بالتالي اتّباعها فتكتسب شيئا فشيئا صفة القداسة، وتحاط بسياج دوغمائي يمنع طرح الأسئلة حولها، فيتعزّز مجال اللامفكّر فيه وتستحيل مقدّسا محضا لا يتوانى عن ممارسة العنف لإثبات نفسه وفرضها ولإقصاءالآخرين المخالفين(7). وتجدر الإشارة إلى أنّ الأديان ليست هي وحدها المسؤولة عن العنف المرتبط بالفكر الإطلاقي والتعصُّب فقد نعثر داخل الفكر العقلاني اللائكي والسياسي على عنف زخرت به مختلف الإديولوجيات الحديثة كالنازيّة والفاشية والاِشتراكية وحتى الليبرالية في جلّ وجوهها.إنّ عودة المنصف السويسي إلى نصّ سبق أن تعامل معه، كما فعل الفاضل الجزيري مع مسرحية التحقيق وكما فعل عبدالعزيز المحرزي مع الماريشال، من شأنه أن يدفعنا إلى التساؤل عن الأسباب الكامنة وراء ذلك. فهل يعني ذلك اِنسداد آفاق التجريب أم أنّ المسألة لا تعدو كونها أزمة نصوص؟

***

رمضان بن رمضان

...........................

المصادر والمراجع:

1ـ ساموراي: أعضاء في الطبقة الأرستقراطية يسمّون ـ المحاربون ـ زمن اليابان الإقطاعية كانوا تابعين لطبقة الدايميو Daimyo عند الخروج إلى القتال والدايميو اسم يطلق على كبار أشراف اليابان وكانوا يملكون ضياعا شاسعة معفاة من الضرائب، فقد بدؤوا في اِمتلاك هذه الأراضي منذ القرن الثامن ميلاديا وكانوا في القرن 13 يتمتّعون بنفوذ أقوى من حكومة الإمبراطور. لقد مُنح الساموراي حق حمل سيفين وكان لهم الحق في قتل كلّ من يُسيء إليهم من الشعب . أُلغيت طبقة الساموراي بعد إعادة السلطة لميجي ـ والميجي هو الاسم الذي اتخذه الإمبراطور موتسوهيتو حينما اعتلى العرش سنة1867فقد حدث في أوائل حكمه انقلاب أطاح بحكم الجوشن وبدأت اليابان تدخل عصرا جديدا سنة1868 فأُلغي الإقطاع وأُمّمت الأراضي وسارت الييابان بخطى حثيثة نحو التصنيع واقتباس الحضارة الغربية وهذا لم يمنع الساموراي من أن يكونوا من بُناة اليابان الحديثة.

2ـ فوزية المزّي، ثلاثون سنة من المسرح التونسي (مقاربة اجتماعية) ً، مجلة الحياة الثقافية، عدد64 ـ 65,سنة 1992 ص 167.

3ـ حافظ الجديدي، في معالجة النصّ الدرامي التونسي، مجلة الحياة الثقافية، عدد خاص الفن المسرحي مقاربات وقراءات، عدد188ـ تونس، ديسمبر 2007، ص43.

voir hechmi ghachem، figures du théatre tunisien، (tunis، S D

ailleurs j avais fait du public le seul jury p.151souissidit ً le tribunal ne put trancherd

5ـ اُنظر جريدة الصحافة، بتاريخ 1ماي 2009 ص 8.

6ـ فوزيّة المزي، ثلاثون سنة من المسرح التونسي...ص169 وص 170.

7ـ حول هذه النقطة اُنظر René Girard le sacré et la violence Paris

ضوء القصيدة

وأعبر إلى ضفة الحلم،

أسابق ظلي بإيقاع النبض،

لعلّي أستحصل قبضة من نور.

أتصدى بصمت

للحظة العالقة على شفا الانقراض،

وأثر الخطى ينقش ذاكرة الخطوة.

لا أبالي بليلٍ بهيم،

ولا بوحشة الأصوات المنهكة

عند جدار الصورة الباكية

التي تقذف روحها نحوي.

ولأن الانتظار كأصيص،

يمتدّ مداه مع نمو الاتساع،

كالنافذة المشرعة

يتسلل منها الحنين

ومطلعها اللقاء.

سلام السيد

***

مقدمة:

تعتبر قصيدة "ضوء القصيدة" رحلة شاعرية عميقة في أعماق الذات والوجدان. الشاعر يستخدم لغة رمزية قوية وكلمات ذات دلالات متعددة لبناء لوحة فنية تعكس صراعه الداخلي وسعيه الدؤوب نحو المعنى والضوء.

تحليل الدفقات الشعرية:

"ضوء القصيدة وأعبر إلى ضفة الحلم": يشير الشاعر هنا إلى أن القصيدة هي وسيلته للعبور إلى عالم الخيال والأحلام، وهي بمثابة الجسر الذي يربطه بواقع آخر أكثر إشراقاً.

"أسابق ظلي بإيقاع النبض": هذا البيت يعبر عن الصراع الداخلي الذي يعيشه الشاعر، فهو يسعى جاهداً لمواجهة نفسه وتجاوز ظلالها المظلمة. إيقاع النبض يرمز إلى الحياة النابضة بالحركة والنشاط.

"لعلّي أستحصل قبضة من نور": يعكس هذا البيت رغبة الشاعر الملحة في الوصول إلى الحقيقة والمعرفة، فهو يبحث عن نور يضيء طريقه ويخرج به من الظلمات.

"أتصدى بصمت للحظة العالقة على شفا الانقراض": يشير الشاعر هنا إلى لحظة حاسمة في حياته، وهي لحظة تواجه خطر الزوال. الصمت الذي يتصدى به يعكس عمق تأمله وتركيزه.

"وأثر الخطى ينقش ذاكرة الخطوة": يرمز هذا البيت إلى أن كل خطوة نتخذها تترك أثراً في حياتنا، وأن هذه الآثار تتراكم لتشكل ذاكرتنا.

"لا أبالي بليلٍ بهيم ولا بوحشة الأصوات المنهكة": يعبر الشاعر عن تحديه للظلام واليأس، فهو مستعد لمواجهة كل الصعاب من أجل الوصول إلى هدفه.

"عند جدار الصورة الباكية التي تقذف روحها نحوي": الصورة الباكية هنا رمز للماضي أو لحالة نفسية معينة، وهي تطلق روحها نحو الشاعر بحثاً عن التحرر.

"ولأن الانتظار كأصيص يمتدّ مداه مع نمو الاتساع": يشبه الشاعر الانتظار بالأصيص الذي ينمو ويتسع بمرور الوقت، وهذا يعني أن الانتظار قد يكون طويلاً ومؤلماً ولكنه ضروري للنمو والتطور.

"كالنافذة المشرعة يتسلل منها الحنين ومطلعها اللقاء": تعتبر النافذة رمزاً للأمل والتطلع إلى المستقبل، والحنين الذي يتسلل منها هو شوق الشاعر إلى اللقاء بشيء ما أو بشخص ما.

الموضوع والمحتوى:

تتناول القصيدة موضوع البحث عن الأمل والضوء في مواجهة الظلام والانقراض. يصور الشاعر رحلة روحية نحو "ضفة الحلم" حيث يسعى للحصول على "قبضة من نور". هناك صراع بين الصمت واللحظة العالقة على حافة الاندثار، وبين وحشة الأصوات والظلام. يصور الشاعر حالة من الانتظار والتأمل العميق.

اللغة والأسلوب:

تتميز لغة القصيدة بالرمزية والصور الشعرية الغنية. يستخدم الشاعر مفردات ذات دلالات عميقة، مثل "الحلم"، "النبض"، "النور"، "الانقراض"، "الوحشة"، "الصورة الباكية"، "الحنين"، وغيرها. الأسلوب شعري وموسيقى، مع استخدام تقنيات مثل التكرار ("وأعبر"، "وأتصدى"، "ولا أبالي")، والمجاز ("قبضة من نور"، "شفة الانقراض")، والتشبيه ("كالنافذة المشرعة").

الصور الشعرية:

تتضمن القصيدة صورًا شعرية جميلة ومؤثرة. فكرة "التصدي بصمت" للحظة العالقة على شفا الانقراض تخلق صورة قوية. كذلك، وصف "أثر الخطى" الذي ينقش ذاكرة الخطوة يضيف بعدًا بصريًا وعاطفيًا. الصورة الباكية التي تقذف روحها نحو الشاعر تعكس حالة من الحزن والانكسار. كما أن تشبيه الانتظار بأصيص النباتات يضفي حسًا من الأمل والانتظار.

الرمزية:

تحمل القصيدة العديد من الرموز التي تعكس معاني عميقة. "النور" يرمز للأمل والخلاص، بينما "الظلام" يمثل الظروف القاسية والانقراض. "الحلم" هو هدف الشاعر المنشود، و"النبض" يمثل الحياة والحركة. "الخطى" و"الذاكرة" ترمزان إلى أثر الماضي وتأثيره على الحاضر. "النافذة المشرعة" ترمز إلى الانفتاح على الأمل واللقاء.

الإيقاع والصوتيات:

الإيقاع في القصيدة متنوع، حيث يبدأ الشاعر بأسلوب سريع ومتحمس ("أسابق ظلي")، ثم ينتقل إلى إيقاع أكثر هدوءًا وتأملًا ("أتصدى بصمت"). استخدام كلمات مثل "الانقراض"، "الوحشة"، "الباكية" يخلق نبرة حزينة ومؤثرة.

البناء الشعري:

القصيدة مكتوبة بأسلوب حر، مع استخدام القوافي الداخلية في بعض الأبيات ("الانقراض/ الخطوة"، "الباكية/نحوي"). البناء الشعري يتناسب مع موضوع القصيدة، حيث يعكس حالة من التدفق والبحث عن الأمل.

الرسالة:

رسالة القصيدة هي البحث عن الأمل في مواجهة الظروف القاسية. الشاعر يتصدى للانقراض والظلام بصمت وتأمل، ويحاول الوصول إلى ضفة الحلم والنور. هناك إحساس بالتحدي والصمود في وجه الصعاب.

الانطباع العام:

تترك القصيدة انطباعًا عميقًا لدى القارئ، حيث تثير مشاعر التأمل والتفكير. الأسلوب الشعري الراقي والصور الشعرية المؤثرة تجعل القصيدة تجربة قرائية مميزة. الشاعر نجح في إيصال رسالته من خلال اللغة الرمزية والصور الشعرية الجميلة.

الخلاصة:

تعتبر قصيدة "ضوء القصيدة" رحلة داخلية عميقة للشاعر، حيث يواجه صراعاته وأحلامه وآلامه. اللغة الشعرية الرقيقة والرمزية القوية تجعل القارئ يشعر بعمق المعاني التي يحاول الشاعر إيصالها. القصيدة تدعونا إلى التعمق في أنفسنا والبحث عن الضوء والمعنى في ظلمات الحياة.

***

تحياتي عبد الناصر عليوي العبيدي

بقلمه الرشيق البسيط الذى يشد قارئه فى سهولة ويسر، أصدرت دار ميريت للنشر والتوزيع بالقاهرة، أحدث أعمال الكاتب الروائى والقاص المصري خالد اسماعيل (مقتل بخيتة القصاصة) .. وهو يكشف للقارئ حقيقة العالم الذى سيقبل عليه منذ البداية.. غلاف العمل يوحى لك به، والعنوان يخبرك أنك ستقرأ عن الريف.. لكنه ليس الريف الصريح البسيط المعروف للكافة، وإنما الجانب الآخر الغامض منه..

خالد اسماعيل له عدد من الإصدارات الأدبية السابقة أغلبها روائى وأقلها قصصى. لهذا لم تغب الرواية حتى فى هذا العمل الأخير الذى ضمّنه ما دعاه رواية قصيرة. وبحكم نشأته ومولده فى مدينة بأقاصى الصعيد تنتمى لمحافظة سوهاج، فإنك حين تقرأ ما كتبه من قصص تستشعر أنه إنما يستوحى من واقع عايشه ورآه، خاصةً عندما تجده فى كل قصصه يحرص على الاهتمام بسائر التفاصيل الصغيرة للأحداث والأشخاص، هو لا يهتم كثيراً بالعنصر الوصفى ولا التحليلى قدر اهتمامه بسرد الأحداث مجردة حتى من الرأى الذاتى. لا تظهر شخصيته كروائى فى الأحداث ولا تستطيع أن تستشفها من ثنايا السطور إلا بصعوبة؛ ذلك أنه يتخذ مساراً قصصياً ذا نكهة صحفية تعتمد فى قوامها على المعلومة وتكثيفها فى إطار واقعى يلتبس على القارئ فلا يستطيع التفريق بين الخيالى والحقيقي..

اللغة تبدو مكثفة ودقيقة فى اختيار الألفاظ، بل حتى حرصها على تشكيل الحروف لتتواءم مع النطق الصحيح لها رغم أن الحوارات تجري بالعامية، لكنها عامية صعيدية ذات طبيعة خاصة، وهى مفهومة بسيطة لا تستخدم العبارات والألفاظ الصعيدية الصعبة. اختار للعمل الأدبي مسمى (قصص) لا (مجموعة قصصية) وهو اختيار ينم عن فهمه ودقة اختياراته؛ لأن عمله امتاز بنوع من التباين واللاسمترية فالموضوعات والأماكن والأزمنة للقصص متباينة غير موحدة رغم أن جلها يدور فى سوهاج. لكنك تجد بين القصص رواية قصيرة تجمع زمنياً بين أحداث قديمة عمرها نصف قرن وأحداث قريبة منذ أحداث يناير وسقوط نظام مبارك. بينما عدد القصص قليل وهى مختلفة حجماً وزمناً، وقد تتعجب عندما تجد بعضها يستخدم القرش والتعريفة كعملات متداولة فى زمن القصة، ما يجعلك تتساءل عن عمر الكاتب أو إن كان يحكى عن قصص سمعها من أسلافه..

تستطيع بسهولة تقسيم العمل إلى ثلاثة أجزاء افتراضية.. جزء أول قصير من أربع قصص بينها قصة لها عنوان العمل، وجزء أوسط طويل يبدأ بالرواية القصيرة، وخاتمة من قصة واحدة. كل جزء من الثلاثة يتناول موضوعاً جامعاً .. البداية تدخلك سريعاً وبعبارات مندفعة عالم الصعيد بكل ما فيه من شظف العيش ووعورة الحال، كل قصة ذات شخصيات كثيرة لها أسماء محددة كاملة وربما خلفية عن ظروفها بحيث تستطيع أن تستوعب توالى الأحداث وعلاقة الأشخاص بعضها ببعض. وفى كل هذه القصص الراوى لا يبغى من وراء سردها رسالة ولا يوجهك نحو رأى أو قناعة يتبناها بل يتركك وما تراه أو تعتقده حرا من أى توجيه أو نصيحة أو رأى معلب. ورغم أن القصص تتناول شخصيات من أقاصى الصعيد إلا أن راويها ينتقل بين الحضر والريف ويلامس الأحداث من بعيد.

الجزء الأوسط أشد ثراء وسرياناً من الشطر الأول، وهو أكبر حجماً من سابقه. ورغم أنه يبدأ زمنياً منذ أحداث 25 يناير وما تلاها من تنحى مبارك، إلا أنه يرتد زمنياً ليحكى لنا عما يكشفه الزمن من حقيقة تيار ساد بين أوساط المثقفين زمناً طويلاً وهو التيار الشيوعى اليساري. وبرغم أنك تتخذ موقفاً ضد هذا التيار من خلال القصص، لكن هذا الموقف يتسلل إليك بتلقائية لا اقتحام ولا افتعال فيه بل تكتسبه من وقائع القصص وأحداثها وتفاصيلها التى تشعرك بأنها مستمدة من وقائع ربما حدثت كلها أو بعضها.

القصة الختامية ذات نكهة اجتماعية مختلفة عما سبقها من قصص.. تتناول ذكرى حب قديم لم يبق منها إلا ذكري يستعيدها بطل القصة فى أتوبيس خالى يجمعه بتلك الذكريات الشبحية. ولعل هذا هو الرابط الوحيد بين تلك القصص.. أنها تمثل ألبومات قديمة لصور وأحداث وشخصيات اختلطت فى ذهن الراوى كأنها أضغاث أحلام تراود ذهناً عاصر أزمنة وأحداثاً شتى..

عمل أدبي خصب لأديب وصحفى مخضرم له وزنه فى عالمى الصحافة والأدب، الروائى يقدم للقارئ وجبة قصصية شيقة فى عوالم لم يرها مكانا ولم يعاصرها زمانا لكنه يراها بعيون الأديب.

***

د. عبد السلام فاروق

قراءة في قصيدة للشاعرة المغربية تورية لغريب

- توطئة: تطمح هذه القراءة إلى تحليل المتن الشعري في أفق الكشف عن طبيعة الذات عندما يوغلُ الجرح في النكاية بها تباعاً وبلا هوادة. ويتعلق الأمر بقصيدة (دوّاسة الألم) للشاعرة (تورية لغريب).

والغاية من هذه القراءة تتجاوز الممارسة النقدية الموضوعية الوافدة من الدرس الأكاديمي، إلى معانقة حزن الذاتِ في تجربة الفقد، والتضامن معها في مُصابِها، وكأن هذه القراءة عزاءٌ وتعزيةٌ من القارئ إلى المقروء لَها، ولو أنهما لا يرقيان إلى مستوى الحضور الفعلي والمواساة الواقعية.

- مقاربة:

استطاعت الشاعرة (تورية لغريب) في قصيدة (دواسة الألم) أن تقدّم واقعها الخاص والحميميّ والطافِح بالحزن من خلال عوالمَ تخييليةٍ لا تدغدغ اللغةَ بقدرِ ما تنسج مجموعة من العلاقات تتفاعل فيها بنياتٌ شعرية ترصد الحدث الشعري (الفقد المتعدّد)، وتنمّيهِ في مسار تصويريٍّ يغذّيه مخيالٌ مُجنِّحٌ وذكيٌّ وصادق.

1 - مقولة التِّيه:

تأسست كينونة القصيدة وانْبنتْ جمالياً على عنصرالمفارقة بين النظام والفوضى، وهو العنصرالذي يمكن أن نرصده بدءاً في قول الشاعر في مطلع القصيدة:

(أنا المرآة التي كلما جمعت شظاياها

عكست وجوهاً

لمْ تكتمِلْ...)

المرآةُ دالة على النظام في توجّهيْنِ: الأوّل يرتبط بطبيعة المرآة ووظيفتها في الانعكاس ونقل الصورة الموضوعية. والثاني يسكن في تمثّل القارئ للمرآة بحيثُ تصبِح نمطيةً دالّةً على نظامٍ واحدٍ لا يتغير ولو تعدد القراءُ.

والفوضى تمثّلها مفردة الشظايا الماكرة بالنمطية والبداهة. والعلاقة الآن بين المرآة والشظايا تجد مصداقِيتها في فوضى التمثّل الشعري الجديد من لدن الشاعرة لمفهوم الانعكاس، حيث لا يبدو الوجه المقابل للمرآة بقدر ما تتبدى وجوهٌ أخرى... وزيادةً في النكاية بالنّظام، جعلتِ الشاعرة هذه الوجوه ناقصةً في الوجود مصرِّحةً أنّها (لم تكتمل).

يؤطرُ هذا التشظي إحساسٌ غريبٌ بالتيه والضياع. عبّرتْ عنه الشاعرة في غير موقع واحد. تدرّجتْ في صوغِ هذا الإحساس بقوة شعرية تبدو فيها مالكة لناصيةِ فن القريض في مفهومه الواسع. وفي هذا الامتلاكِ انتقلتْ من ترجمة مقولة التيه من الصورة النمطية الفاقدة لجواز السفر( تلقفتني دون جواز للسفر) إلى الصورة المشحونة بالفرادة (حيث لا أحد يشاركني الرقص) إلى الصورة المثقلة بالوحدة (وحجرات قلبي... موحشة) إلى الصورة الطافحة بالغياب (فأستدرك أنّ لي جناحا... بترَه الغياب) إلى صورة الذات المقهورة بفعل الزمن ( عقاربُ الزّمن تَعضّني)...

هكذا يتبدى التيهُ مقولةً مترعة بالتشظي، تفضحُهُ صورٌ شعريةٌ مؤطرةٌ ببلاغة الفوضى التي تحكم صيرورةَ القصيدِ في تجلّيهِ المتمايز والمتقاطع. والمتمايز جاء اعتباراً للذات الشاعرة وهي تحكي عن خصوصية، وفيها حرصت على تحقيق شرط التعبير والإفصاح والبوح أكثر من حرصها على الإمتاع الجمالي والفني... وأما المتقاطع، فقد ورد على اعتبار أنّ موضوعة الرثاء تيمة معروفة في مضانِّ كثيرٍ من المحطّات الشعرية المعاصرة.

2 - ضدّ المرآتية:

يبتعد النص الشعري عند الشاعرة (تورية لغريب) ما أمكنه الابتعاد عن اعتبار الشعر تصويراً تسجيلياً لما في الواقع. والصوغ الشعريُّ عندها يرفض أن يكون القصيدُ انعكاساً حرفياً للوضع الوجودي الذي تعيشه الشاعرة، على الأقل من منظورها الحداثي المرحّب دائما بالاختلاف واجتراح الجمال في تمرّده وفي توتّره الرادم للمسافة.

لا تعكس القصيدة ظروف الشاعرة في حالات الفقد والموت المكتفية بالرغبة في الإخبار والتشخيص لوضعٍ مفردٍ يعاني من جرّاء الغياب، بقدر ما هي وعاءٌ للإبداع والتجديد، تقدم فيه الشاعرة عالمًا شخصيًا خاصًا، يربأ بنفسه أن يعومَ في سياحاتِ الإمتاع والمؤانسة، أو التشكّي والبكاء، أو ما جاور ذلك من أغراض لا تمتّ إلى صدق القول بصلة... إنه عالم تخييلي يحاول أن يغوصَ في تركيبة الذاتِ لمعانقة تجليّاتِها الممكنة وهي ترزأُ تحت تجربة الفقد.

وبالتالي فالقصيدة بعيدةٌ كل البعد عن المرآتية التي تكتفي بالتسجيل الباهت لتحوّلات الذات عبر تجربة الموت. هي إذن متاهةُ فنية موغلة في أدغال الذاتِ، حيثُ الروح والجسد يتشظيان معاً في حصار اللغة والخيال، حصاراً حريرياً يحوّل التجربة من مفهوم المقبرة إلى مفاهيم الحياة، عبر السؤال الوجودي الذي وإن عانق إشكالية القلق إلا أنه حافظ على إشراقةٍ واضحةٍ فتحتْ فيها الشاعرةُ إمكان الاستمرار بدل النكوص، والصيرورة بدل الانتكاس المجاني.

قالت الشاعرة:

(قل لي أيها الحظ المقيم في سوادِه كيف أرمّم الكسور

وقلبي مهاجرٌ في الشقوق...؟)

إن قرار الترميم لا يعكس ضعفاً في القرار بقدر ما يعكس قوةً في القومةِ من وضعية السكون. فالذاتُ وإن أصيبتْ في فقد ثلاث أيقونات مركزية في حياتها إلا أنها لم تُلْقِ بنفسها في شُؤمِ البكائية وفي بكائية الشؤم. بل اختارت مقولة الترميم لما تركه الموت لها من إمكان الحياة. (كيف أرمّم الكسور)... إن منطق الأشياء هنا يقول بالانهزامية أمام فقد ثلاث علامات، وهو منطق المستسلمين والخنوعين الذين يكتفون بالفرجة على ما تبقى في حياتهم من (كسور). في حين أن الذات المتكلمة هنا اختارت فكرة التجاوز لوضعٍ منكسر عبر ترميمه لا عبر البكاء على طلله.

3 - حداثية القصيد:

تنبع حداثة النص الشعري عند الشاعرة (تورية لغريب) من رؤيتها للوجود، قبل أن تنبع من زمنها المؤطّر داخل عمليات التحقيب. فهي تتجاوزالرؤية المقيدة على حدّ تعبير الناقد (شكري عياد). ولو أن القصيدة تعوم في زمنية قريبة تُتاخم مواقيت رحيل وغياب الأب ثم الأم ثم الأخ. إلا أن الشاعرة ترفض أن يكون الرثاءُ هنا عبوراً لحظيا يقف عند حدود البكاء لاستدرار عاطفة القارئ في عملية تفاعل سطحية تنتهي صلاحيتها بانتهاء عملية القراءة.

الرثاء هنا أو بعبارة دقيقة: الكشف عن أثر الرحيل والغياب في الذات، يتجاوز تشكيل اللحظة إلى تشكيل الزمن في تحوّله الصارم والقاسي قسوة بائنة على هذه الذات المكتوية بلظى الفراق. من هنا صدق الصورة الشعرية وصدق الانزياحات الغاضّة بصرها عن زخرفة المقول الشعري إلى تلوين هذا المقول بسيمياء الذات في عبورها الوجودي من حالة الحزن المُمِضّة إلى حالة الاستواء الغابرة في مقولات الاحتمال.

والانزياحُ الكبير في هذه القصيدة ألخصه في سؤال بلساني على لسان حال الذات المتكلمة: لماذا يموت الذين نحبّهم؟

وعوض أن تجيب الشاعرة عن هذا القلق الوجودي اختارت أن تسرد ذاتها في هذه القصيدة التي أعتبرها رحلةً في سديم الواقع الفردي المتخيل، أو في سديم المتخيل الشعري للواقع الخاصّ... والإجابة عن هذا السؤال تجرّنا إلى مزالق القطْعِية والإطلاق، فيما التنسيب هنا أجدر أن يكون بيتَ قصيدٍ وبؤرة صوغٍ انسجاما مع قناعة الذات المتكلمة. لهذا تبقى القصيدةُ الحكائيةُ أنسب مخرجٍ شعريٍّ تأمّليٍّ وفلسفيٍّ لاجتناء بعض الجواب عن سؤال يربأ بذاته أن يقطع ويحسم في أمر كينونةٍ تعوم في التشظّي.

القصيدةُ إذن سردٌ دراميٌّ متخيّل لكائنات حضورية وغيابية في آن واحد. هي رحلة الموت الحقيقي، الذي تفوح رائحته وتخيّم على مقولات الإنسان والمكان والزمان: (أنا المرآة... رحل أبي باكرا جدّا... أمي رحلتْ باكراً أيضا... أخي عاش مضرجًا بدم العزلة... ) ويكاد الموتُ يؤطّر طبيعة الانزياحات والتشكيل الفنيّ للصور الشعرية ويوجّهها في اتّجاهٍ واحد. اتجاه التيه والتشظّي والسؤال.

تنبع حداثية القصيدة أيضاُ من انفتاحها على المجهول المحرّضِ على السؤال والتساؤل، والضارب عرض الحائط كل نمطية تنهل من القاعدة والمرجع. وانظر معي أيها القارئ قول الشاعرة:

(منذ عقود ألمّع الأرض من الأسف

أحفر عميقًا في دمي

لعل بؤرة ضوء تنير

عتمة النفق)

انزياحٌ ماكرٌ يمكرُ بذائقة المتلقي وهو يعومُ في المعنى الوارد في مقولة الزمن (منذ عقود)، وما إن يسترخي المتلقي لفكرة الزمن حتّى تقضّ الشاعرة استرخاءَه بفائض المعنى ( ألمّعُ الأرضَ من الأسف)، فيدوخُ المتلقي في جمالية الغموض الدلالي، ويتحوّل إلى مستقبِلٍ ذكيٍّ لا يقف عند حدود المعنى المطروح في الطريق... ومن المعنى إلى فائض المعنى ينتقل المتلقي إلى فيضِ المعنى عبر عملية الحفر التاريخي في مادّة الدم (أحفر عميقاً في دمي)، فنكون أمام شعريةِ انزياحٍ ذكيّةٍ لا تقنع بالقطف المباشر لأوراق المعنى. إنها تركيباتٌ شعرية حداثيةٌ تقفز على البداهة والمألوف قفزاً تأملياً ويكاد يقارب الفلسفة في عمقها الوجودي لا في نظرها المجرّد والمحايت.

إن شعرية (تورية لغريب) الحداثية لا تكمن في الشكل، ولا في تناسلِ هذا الشكل عبر مختلف الانزياحات، ولا تكمن في طبيعة الموضوع الماتحة مصداقيتها من صدق المعاناة، بل هي في اللغة نفسها، وفي استعمالها خارج معتقل القاموس، وفي توالدها الخلّاق، وفي تجدّدها تباعاً كلّما انتقل القول من محطة دلالية إلى أخرى...

4 - اندفاعٌ خلّاق:

في القصيدة وثوبٌ حيويٌّ خلّاق لم تستطع طبيعة الحزن أن تقلّص من اندفاعه العامر. ويتعلّق الامر بانثيالِ القصيد تباعاً داخل مقولةٍ كبرى هي التغنّي بالفقد، أو البكائية الإيجابية الماتحة مادّتها الرّاثِية من قناعة الذات المتكلمة بمبدأ القوة المتاخم للمفهوم في منظوره النيتشوي، عندما تصبح القوة غريزة ترغب في انتصار الحقيقة. وهو المبدأ الذي حمى القصيدة من السقوط في البكائية السلبية وفي قدر الاستسلام. وهو ما دفع الشاعرة إلى فكرة الاحتجاج الذكيّ عبر الحروف، ضدّاً في حجم هذه الهزائم المصفوفة. قالت:

(في حين...

تحتجّ الحروف على الهزائم المصفوفة بعناية

داخل خِزانة قلبي

هأنا أدرك أخيرًا

أو ربما يقودني التعب

إلى حقيقة)

كيف يقود التعب إلى الحقيقة أو بعض الحقيقة كما عبّرت عنه دلالة التنكير؟ هذا نوعٌ من الوثوب الحيوي أو الاندفاع الحيوي المرتبط بمبدأ الإرادة حين تتحول الذاتُ المتشظية إلى ذات قادرة على لملمة انكسارها في بؤرةٍ وجودية تتسم بالقوة. فالتعب في هذا السياق تجربة حياتية قادتْ إلى وزنِ مُدخلاتِ ومُخرجات تجربة الفقد، فكان الميزان ترجيحاً للاعتبار بدل الانقهار، وتأكيدا للاستمرارية بدل الانقطاع.

التعب هنا تجربة طويلة مع الألم والفقد والموت والصبر والجلد والتحمّل والفراغ النفسي القاهر... التعب مسار طويل من الإكراهات، حوّلته الذات المتكلمة من مقولة سالبة إلى مقولة موجبة تختزن داخل فكرتها نقيضها. التعب هنا رؤية للبحث عن بديل للحزن.

و الجميل في انزياحات الشاعرة تورية لغريب أنها استعملت لفظة (حقيقة) غير مُعرّفة، اعتباراً لرفضها للإطلاقية، وانسجاما مع قناعتها بالتنسيب... من هنا فكل شيءٍ نسبيٌّ. الحياةُ نسبيةٌ والموتُ نسبيٌّ، والحزن نسبيّ. والحقيقة التي تبحث عنها الشاعرة هي حقيتها الخاصّة لا العامّة، هي مبدؤها وختامها في حدود وجودها الإشكاليّ المتحول من لحظات الانسحاق تحت وطأة الفقد إلى وجودها القويّ القادر هلى مواجهة الهزائم المصفوفة.

ختم:

لم أقرأ قصيدة (دوّاسة الألم) بقدر ما عزّيتُ فيها صديقتنا الشاعرة (تورية لغريب) في مناوشة خفيفة لبعض تجليات شِعرِيتها الدفّاقة والمتدفّقة، متوسّلاً أدواتٍ نقديةً غاية في الاحتشام أمام صدق التعبير وقوة التحبير في متن هذه العلامة الإبداعية الموسومة بالإدهاش.

***

بقلم نورالدين حنيف أبوشامة

.........................

دوّاسة الألم

كما لو كنت عائلة مكتملة العدد

يشتهيني القفز على عناوين

تلقفتني دون جواز للسفر

أنا المرآة التي كلما جمعت شظاياها

عكست وجوها

لم تكتمل...

رحل أبي باكرًا جدًّا

قبل أن تنفجر القذائف الطائشة

في وجهي

في ذاكرتي جدران بيتنا

تهاوت تباعًا على قامتي

فانكسرت

لكني لا أخاف إلا على أحلام رضيعة

أن تتعثر

في ساحة الوجع

حيث الأنوار والأدوار زائفة

حيث لا أحد يشاركني الرقص

على إيقاع حظي المتعب...

رحل أبي في أولى مراكب العمر

لم أحسب أنّ السّهام

التي تُصِيبُ القلب

تُدميه...

لكنه مضى بعيدًا دون أن يُعَمّدَني بِماءِ نهرٍ

أزهرَ أمّهات كُثر...

أمي الأولى علمتني

كيف أطهو الصبر في قِدر الزمن

كانت قديسة يحبها الله

عيناها أجمل من النجوم

لكنه الموت...

ليت عيون الموت

لم تمعن النظر

ليتها

لم تكتحل بعينيها

كي يستمر النهار

رحلت باكرًا أيضًا

قبل أن تنفرج أسارير الصباح

وهأنذا أرمق عتبة البيت

تتمسح بنعالها

كل مساء

فتنبطح باكية

ولست أدري...

أعليّ تبكي أم عليها...؟

أمي الثانية

أذاقتني ملح الطعام مغموسًا في الجرح

ومن يومها وأنا أعدد الندوب

لفظتني رغيفًا يابسًا

فشهقتُ مِلْء يأسي

كانت أمومتها مكتملة

لا تحتاج زيادةَ أو نقصانَ حرارةٍ...

الجو معتدل هناك

قارس هنا

كأقصى درجات الفقد...

جروحي ناهزت الخمسين

أنبتت أصابعَ تدين النزوح المتكرر

وحجرات قلبي

موحشة

لكن ليل سمائها غائم

منذ عقود ألمّع الأرض من الأسف

أحفر عميقًا في دمي

لعل بؤرة ضوء تنير

عتمة النفق

أمي الثالثة

ناولتني عكازة الحياة

فأهديتها ما تبقى مني

لم يكن كافيًا

ظلت خِراف الحزن

تلازمني... تقتات من دمي

نتأمل بعضنا في صمت

أستدعي النوم على ثغائها كل ليلة

في حين...

تحتجّ الحروف على الهزائم المصفوفة بعناية

داخل خِزانة قلبي

هأنا أدرك أخيرًا

أو ربما يقودني التعب

إلى حقيقة

أنّ التمرد نار تحرق مقترفيها

وقد أتقن قلبي فن الانطفاء

واغتسل بالرماد...

أخي عاش مضرجًا بدم العزلة

مشاكسًا لدوران الأرض

دهسته الحياة

فحمل ضجيج صمته

وتبدّد كالدخان...

الأيام تنتحر

تراودني فكرة التحليق

فأستدرك أنّ لي جناحا

بترَه الغياب

تعفّنت دمعتي

ولا ثوب لي على مقاس الفرح...

عقارب الزمن

أعدّدها

تعُضّني

كلانا عالق في أحاديث تقبل التأويل

لا تنتهي...

قل لي أيها الحظ المقيم في سوادِه كيف أرمّم الكسور

وقلبي مهاجرٌ في الشقوق...؟

...

تورية لغريب \ المغرب

 

تتميز قصص " طيور وذئاب " القصيرة جدا للقاص المغربي محمد بوشيخة، وهي مجموعة الكاتب الثانية بعد  مجموعة "أجساد فقط" الصادرة سنة 2013 من نوع القصة القصيرة جدا، بميزة التكثيف والاختزال المشروط باقتصاد لغوي، قد يصل إلى حد التقتير، مخترق بجمالية تعبيرية بلاغية تخلع عليه مسحة شعرية متولدة عن نزعة التكثيف، ويتجسد ذلك على مستوى الحجم في العديد من النصوص خصوصا تلك الموسومة ب (متواليات قصصية قصيرة جد جدا)، والتي يختتم بها مدونته السردية، مما يرهص ويؤشر على قصدية الإيجاز والاقتضاب الصادر عن رؤية إبداعية  تتغيا خلق توهج تعبيري ودلالي يؤسس لإواليات ضرب من ضروب كتابة تنحت خصوصيات وميزات أسلوب منزاح عن النمطية المتبعة  والنمذجة الشائعة، وهو ما يطالعنا انطلاقا من النص الأول (أقفال صدئة) حيث نقرأ: " اُرسمْ صورتك في لوحة الامتداد، واغْلِقْ فجوات ذاكرتك بألوان قوس قزح. "  15، حيث تنتأ معالم نَفَس شعري تغدو معه للامتداد لوحة تحتضن صورة منفتحة ومفتوحة على شتى الأبعاد، ومختلف التأويلات. والدعوة لرأب صدع ما يعتري الذاكرة من فجوات بألوان قوس قزح وما ترمز إليه من دلالات غزيرة المعاني والدلالات؛ وفي قصة " ألم ": " تعتقلني هواجس الدم في بحر القرابة... "  17، برسم صورة، لا تخلو من شعرية، تحدد معالم الهوية بانتساب قائم على عنصر الدم والقرابة في صياغة مجازية تجيز فعل الاعتقال لهواجس الدم، وتُغْرِق معنى القرابة في يم لا محدود الضفاف. وقصة " انفصام " المتضمنة لمسوح جمالية وبلاغية: " أنا غصن تَفتَّق  من ذاكرة مثقوبة !" ص 21، وما تزخر به العبارة من تشبيه دال وعميق، للمتكلم بالغصن، والذاكرة بالمثقوبة، وما فتئ الجانب الشعري يحفر مجاري عدة، وقنوات متنوعة داخل متن القصيصات في التوسل بعناصر بلاغية كالطباق في: " تجرجرني نفسي بين حكاية قديمة وميلاد جديد... " ص21،  بين قديمة / جديد، وتقدم / تأخره، والأصدقاء / الأعداء في نص " عبث ": " قِفْ  مكانك... َتقَدَّمْ، تأخَّرْ... فالأصدقاء والأعداء متضامنون... " ص 51، وجناس كما في: " المرآة امرأة... " ص 25، وفي: " تنبش وتنبش وتنبش... " ص  41، وصِيَغ مجازية كما في قصة " ملاذ ": " لشرب كأس الضياع والخسران. " ص43، بخلق صيغة موسومة بالاختلاف في تجرع الضياع والخسران من كأس، والتطهر من ليالي السكر، وعقاقير الإدمان: " بعد أن اغتسل من ليالي السكر وعقاقير الإدمان. " ص 45، وكلها أساليب وصِيَغ تختزل عبارات مجازية ذات حمولات أكثر غنى وإيحاء. وإلى جانب الاستخدام المجازي والبلاغي تضمنت قصيصات الأضمومة  تيمات عديدة ؛ منها ماهو ديني: " البيت خال إلا منهما، وبعض الشياطين المتواطئة، وربما في إحدى الزوايا ملائكة ضعاف (محتجبة). " ص 33، وهو اقتباس مُحَوَّر من قصص القرآن ومعجمه (الشياطين، ملائكة)، وفي اختلاء زليخا امرأة العزيز بالنبي يوسف: " البيت خال إلا منهما... " ص 33، وما طرأ من تغيير على صفة الملائكة في سورة " التحريم " حيث  تم تحوير (عليها ملائكة غلاظ شداد) إلى (ملائكة ضعاف)، واستعمال لفظي الحوقلة والتسبيح: " يحوقل ثم يسبحل... " ص 63، وشاهد ومشهود من سورة " البروج ": " بعيدا عن عيون الشاهد والمشهود ! " ص 73، ولفظ الجنة المذكور في العديد من الآيات القرآنية: " تفتح أبواب الجنة للزيارة... " ص 75، كما ورد ذكر الخالق،ارتباطا بالجانب الديني، في نصوص المجموعة، وفي سياقات مختلفة، مثل: " فعين الله ترعاني... ولا رضى  يعلو فوق رضى الله ! " ص 29، وفي نص " رعاية ": " لأن رعاية الله تحمي الحالمين مثلي. " ص 65. وما هو اجتماعي كما تلخصه قصيصة " جناية "، والتي توحي تفاصيلها إلى ما تعرضت له الخادمة الصغيرة من اغتصاب اقترفه ابن العائلة المُشَغِّلة آل إلى افتضاض بكارتها: " حصل المكروه، ودَّعتْ بكارتها... " ص 33، حدث مأساوي فاقم  من معاناتها، وكرس حيفا سافرا زكاه القضاء بحكم جائر أعادها لبيت الأسرة التي كانت تشتغل لديها لإكمال فصول جريرة تختزل عناصر الظلم والضيم: " القاضي دارس وتدارس، شاور وتشاور. يحكم بعد تريث طويل جدا بعقوبة رد الجانية لتشتغل في بيت الضحية... " ص33، فتنعكس الآية، وتقلب موازينها لتتحول الضحية إلى جانية، والجاني إلى ضحية ! كما لجأ القاص إلى  استعمال مغاير في نسق التعبير مثل ما حصل في فعل " تُفَسْبِكُ "  المشتق من (فيسبوك) كأحد عناصر التواصل الاجتماعي الذي أفرزته التكنولوجيا الحديثة، وأيضا تُغَرِّد من تغريدة وكلها تندرج ضمن قاموس هذه الوسائل التكنولوجية التي تحكم وتتحكم في شبكة علائقية تجمع العديد من الرواد عبر إيقاع تواصل متعدد المسلكيات والآليات: " ثم تُغَرِّد وتُفَسْبِك... " ص53، وفي نص " اللعنة " حيث  ورد: " فينظر إلى نفسه بنفسه. " ص 81، وهو ما يعكس ردم الهوة بين الشخص وذاته لإرساء أسس تواصل حميمي يتجاوز كل الأشكال المعروفة الرهينة بتحديد العلاقة مع الذات. وتم توظيف الكاتب للحروف بشكل متناغم ومتجانس ببعد دلالي يعتمد الإشارة والتلميح في تقسيم اسم " فراس " إلى أربع قصيصات معنونة بالفاء، والراء، والألف ثم السين (ص89)، وكلمة " مرض " بثلاث عناوين: ميم، راء وضاد (ص91)، وهي أشكال محدثة  تسهم في خلق قصيصات تشذ عن نمطية السرد الموجز، وتنعتق من ربقة قوالبه.

لنخلص أخيرا إلى أن الباحث الأدبي والتربوي الأديب والقاص محمد بوشيخة أبدع، منوعا ومجددا، في مجموعتيه القصصيتين (قصص قصيرة جدا): " أجساد فقط "، و" طيور وذئاب " التي رسم فيها خطا سرديا متشبعا بدفق شعري، ومجازية لغوية أرست وأسست لنمط سردي (قص موجز) ذي أبعاد مغايرة، ومعالم مختلفة.

عبد النبي بزاز ـ المغرب

.......................

*  طيور وذئاب (قصص قصيرة جدا) لمحمد بوشيخة، أكادير 2024.SO- ME PRINT ــ مطبعة

 

قراءة في قصيدة دف الشك للشاعر فارس مطر

القصيدة التي بين أيدينا تحمل أبعادًا متعددة تتجاوز سطح النص البسيط إلى عمق التأمل الفلسفي والوجودي، مما يجعلها توليفة من الصور الشعرية التي تتحدث عن الثبات والتحول، الحيرة والاستقرار، والعلاقة بين الإنسان والعالم من حوله. كل صورة شعرية هنا تعبّر عن حالة من حالات الوجود الإنساني، وما يتخللها من محاولات للفهم والمقاومة والثبات في وجه الزمن والتحولات.

1. "الإوزةُ التي تسبح في اتجاهات مختلفة / قد تبدو حائرةً، لكنها في البحيرة"

الإوزة التي تسبح في اتجاهات مختلفة هي أول صورة شعرية في القصيدة، وهي صورة تجمع بين التناقض والاتساق. حركتها قد تبدو مشتتة وحائرة، كأنها لا تعرف وجهتها. ولكن، هذه الحيرة لا تعدو كونها سطحية، فالإوزة ما زالت ضمن البحيرة، في إطار محدد وواضح. هذا يعكس رمزًا للحياة البشرية حيث يمكن للإنسان أن يبدو متخبطًا أو غير متأكد من خطواته، ولكنه في النهاية موجود داخل حدود وجوده الطبيعي، حيث هناك ثبات ضمن تلك الحركة المستمرة. هنا يتجلى الصراع الأزلي بين الحيرة والاستقرار، بين الاتجاهات المتعددة التي تأخذ الإنسان في أرجاء حياته، والبحيرة التي تمثل البيئة التي تحتضن هذه الحركات والاتجاهات.

2. " الشجرةُ التي تبدو أغصانُها مسافرةً مع الريح ثابتةٌ. / وأجلسُ في ظلها"

هنا نجد ان الشجرة وقد انقسمت بين الثبات والحركة، أغصانها تتحرك مع الريح، ولكن جذعها وجذورها ثابتة راسخة في الأرض. الشاعر يجلس في ظل هذه الشجرة التي تمثل رمزًا للثبات والاطمئنان، رغم مظاهر الحركة الخارجية. الشجرة هي استعارة لوجود الإنسان الذي قد يبدو متأثرًا بالظروف الخارجية، لكنه في جوهره ثابت ومستقر. هذا التناقض يبرز حاجة الإنسان إلى الظل، إلى مكان آمن يمكنه أن يستريح فيه من اضطرابات الحياة. وكأن الشاعر هنا يبحث عن هذا الثبات الداخلي الذي يجعله قادرًا على مواجهة الرياح دون أن يهتز.

3. "الأحجارُ سعيدةٌ في الضفةِ المتلألئة"

تبدو الأحجار في حال من السعادة والرضا وهي ترقد على الضفة المتلألئة. الأحجار، التي ترمز إلى الثبات والجمود، تبرز هنا في حال من الانسجام التام مع موقعها. إنها في مكانها الطبيعي، ولا تحتاج إلى الحركة أو التغيير. وكأنها تعبير عن السعادة التي تأتي من القبول بالوجود كما هو، دون رغبة في التحول أو السعي إلى شيء آخر. هذا الانسجام مع الذات والطبيعة هو ما يمنحها السعادة والراحة.

4. "والقهوةُ المعتدَّةُ بالرغوةِ والنكهةِ / أنيقةٌ في فنجانها"

القهوة، هنا، هي صورة أخرى للعناصر المتناسقة مع مكانها. فهي "معتدة" برغوتها ونكهتها، تعبر عن نوع من الثقة بالنفس والاعتزاز بالذات. "أنيقة في فنجانها" تحمل دلالة على التناغم والجمال، حيث كل شيء في مكانه الصحيح. القهوة كرمز للوقت الهادئ، التأمل، ولحظات الاستمتاع البسيطة، تُضفي على المشهد نوعًا من الرومانسية الهادئة والاعتزاز بتلك اللحظات الصغيرة التي تعطي الحياة نكهة خاصة.

5. "رغم مضي العمر، / يثبُتُ المُسِنُّ والمُسِنَّة على المقعدِ الخشبي بانتظار غودو"

يعود الشاعر إلى الإنسان، مع صورة للمسنّين الجالسين على المقعد الخشبي، ينتظران قدوم "غودو"، في إشارة إلى مسرحية "في انتظار غودو" لصمويل بيكيت، التي تمثل الانتظار الوجودي للشيء الذي قد لا يأتي أبدًا. المقعد الخشبي يرمز إلى الثبات، لكن الانتظار هو رمز للعبث، للعجز عن التقدم أو التغيير. ومع مضي العمر، يبقى الانتظار، والمرء يتساءل عن جدواه. هل الانتظار هو جزء من طبيعة الحياة؟ أم أن هناك شيئًا أكبر ينتظرنا دون أن ندركه؟

6. "نسبياً تبدو الأشياءُ ساكنةً مؤمنةً بوجودها / عدا ظهوري المريبِ في المشهد"

الأشياء تبدو ثابتة، واثقة من وجودها. لكنها تواجه "ظهور" الشاعر نفسه في المشهد. ظهوره هو العنصر الذي يعكر هذا الثبات، وكأن وجوده ذاته يطرح الأسئلة حول معنى الثبات والوجود. هو المريب، المتسائل، الذي لا يستطيع أن يقبل الأشياء كما هي. الشاعر هنا يدخل في مواجهة مع الأشياء الثابتة، حيث يصبح وجوده هو العنصر الذي يكسر الهدوء.

7. "لا بأسَ أن تفشلَ اليوم أيضاً يا فارس مطر / ربما غداً.. لم العجلة؟"

ينتقل الشاعر إلى خطاب داخلي، حيث يخاطب نفسه بلطف وحنان. هذا الفشل هو جزء من الحياة، ولا يجب أن يُنظر إليه بسلبية. ربما الفشل اليوم هو خطوة نحو النجاح غدًا، وكأن الحياة ليست سوى مجموعة من المحاولات المستمرة، دون حاجة إلى العجلة. هنا يظهر نوع من الفلسفة الهادئة، المتصالحة مع الزمن والفشل، حيث كل شيء يأخذ مجراه الطبيعي.

8. "مازلتَ في منتصفِ عقدكَ الخامس / عليك أن تكابرَ وترممَ أكتافَك المنهدمة"

الشاعر يبدأ في الحديث عن الذات المنهكة، الأكتاف المنهدمة، لكنه يدعو نفسه إلى المكابرة، إلى الاستمرار رغم التعب. هذه الصورة تعكس المعاناة الداخلية للإنسان الذي يحاول الترميم والإصلاح رغم الألم.

9. "عليك فقط أن تَثبُتَ في مكان / وألّا تُشَعِّرَ هذا النصَّ كخِفَّةِ ريشةٍ"

في النهاية، يعيد الشاعر التركيز على الثبات، لا يجب أن يكون النص خفيفًا مثل الريشة المتنقلة التي لا تعرف الاستقرار

القصيدة تتأمل في التناقض بين الثبات والحركة في الحياة والوجود الإنساني. تبدأ بالإوزة التي تبدو حائرة لكنها داخل البحيرة، والشجرة التي تتحرك أغصانها بينما جذعها ثابت. الأحجار راضية بموقعها، والقهوة أنيقة في فنجانها، مما يرمز للتناغم والقبول. المسنّان ينتظران "غودو" في صورة تعبر عن العبث والانتظار. الشاعر يعترف بفشله لكنه يدعو نفسه للصبر والمثابرة. القصيدة تتأمل في الزمن والفشل والثبات، وتحث على قبول الحياة كما هي دون عجلة، مع المحافظة على الثبات والعمق في مواجهة التحديات..

**

طارق الحلفي - شاعر وناقد

...............................

الرابط

https://www.almothaqaf.com/nesos/977410

جين نيکولاس آرثر رامبو من مواليد 20 أكتوبر عام 1854، وتوفي في 10 نوفمبر من عام 1891، شاعر فرنسي معروف بتأثيره على الأدب والفنون الحداثية ورسمه للمعالم الأساسية للفنون السريالية. وُلد رامبو في بلدية شارفيل في فرنسا، وبدأ الكتابة في سن مبكرة جدًا، وتفوق في مدرسته، إلا أنه تخلى عن التعليم المدرسي الرسمي خلال سنوات مراهقته، وهرب، خلال الحرب الفرنسية البروسية من منزله إلى باريس. خلال فترة مراهقته المتأخرة، وأولى سنوات رشده، أنتج رامبو الجزء الأكبر من إنتاجاته الأدبية، ثم توقف في العشرين من عمره عن الكتابة بشكل كامل، بعد أن جمع آخر أعماله الأدبية التي حملت عنوان إشراقات.

وعندما توفی وبعد مجازفات عدة وتمردات مختلفة شهد المارة في فرنسا بكثير من الدهشة والذهول والشفقة موكبا صغيرا لجنازة متواضعة لم يكن يمشي فيها سوى إمرأتان متشحتان بالسواد، كان ذلك يوم وفاة الشاعر الفرنسي آرثر رامبو في 10 نوفمبر 1891. “ولكنك على الأقل تموت الميتة التي تريد، زنجيا أبيض، متوحشا رائع التمدن…."

قالها صديقه الشاعر بول فيرلين والذي كتب عنه ايضا فيما بعد: “انه شاعر ملعون،  انه أحد الشعراء الملعونين، لكن الغريب في أمره انه هو الذي يلعن نفسه ولا ينتظر هذه الصفة من الآخرين”. أعلن ثورته على الموت لكن الموت اختطفه وهو في سن السابع والثلاثين.

كان آرثر رامبو، المفكر التقدمي والإنساني، قد رفض العالم الاستعماري قبل قرن ونصف وفي سن المراهقة، ولم ترسم التوابل وعاجة الفيلة الهندية، وخضرة خط الاستواء الممطر، وأحجار الذهب المنهوبة من أفريقيا، ابتسامة على شفتيه. وأصبح يهرب ويتمرد ويستكشف، الى ان فر إلى اليمن والحبشة واستقر فيها منشغلا بتجارة البن والاسلحة بعيدا كل البعد عن الادب والشعر، وبعد سنوات قليلة من استكشافات رامبو في القارة السمراء، تمكن  الجيش الفرنسي من التعرف علی هذه المناطق واحتلالها.

لقد كان حس رامبو الإنساني في نص (ديمقراطية) غريبا على مجتمع صناعي حديث منفتح على الاحتلال العالمي آنذاك. نعم، لقد عبر رامبو منذ قرن ونصف عن آرائه بشأن ديمقراطية أصحاب العيون الزرق، ومع ذلك والى الآن هناك من مثقفينا من يتغنی بشعار الديمقراطية الغربية والمتناقضة في صورته الواقعية. واحيانا مخيفة كذلك!.

في نص (ديمقراطية)، يبدأ رامبو بكلام جنود الاحتلال، نعم هو كلام الجنود، وليس رامبو، الذين تعلو أعلامهم ولغتهم على أبواق وطبول القبائل بثقافتهم ولغتهم الخاصة، وسيتم الرد عليهم بالنار والحديد من قبل حاملي راية الديمقراطية اذا أرادوا التحرر من قيود الاحتلال. حتى عندما انتهز رامبو فرصة الذهاب إلى جاوة بإندونيسيا مع البحرية الهولندية عام 1876، هرب على الفور ولم يخدم في الجيش يوما. وكما يشير الشاعر في النص فإن مسيرة الجنود تتغلب على صوت طبول قبائل الأراضي المحتلة، العلم الذي يحمله الجنود وهم في الطريق سيحدث الكارثة بوصولهم، لأنه يعلم ما هي الخطوة القادمة.

هذه هي صورة ثابتة أينما وقعت، سواء حدثت في قارة الهنود الحمر وتم تطهيرهم، أو في جزر كوك الماورية في أقصى شرق الكرة الأرضية في نيوزلندا، وكما هو الحال في هذا النص؛ عندما يغادر الجنود مكانًا ما ويذهبون إلى أي مكان، فالغرض هو احتلال الدول وتقسيمها ونهب ثرواتها، وإذا أخذ شكلًا مباشرًا آنذاك، فقد اتخذ شكلًا حديثًا تحت نفس الاسم وبطريقة غير مباشرة من خلال الضغوطات الاقتصادية وصنع ولاءات مقابل وعودات والتأثير علی مراكز صناع القرار للدول أو حتى احتكار أصوات المعارضين فيها.

هل يمكن أن نسمي قصيدة رامبو هذه بقصيدة سياسية؟ أم أنها قصيدة بعكس القصائد السحرية والمعقدة للمرحلة الأخيرة من كتابته الشعرية في (اشراقات)، أم أنها تحتوي على شيء من الواقع وحتى الواقعية الثورية؟ في مواجهة الفكرة السائدة التي أخضعت العالم باسم الديمقراطية، فإن مقايس هذا الشعار مختلفة من بقعة الى الاخرى، فعلی سبيل المثال إذا مات طفل بسبب الإهمال الطبي تهتز وزارة الصحة في بعض البلدان الراقية وإذا لم يستقيل رئيس الوزراء فعلى وزير الصحة ان يفعل ذلك، لكن نفس التركيبة الفسيولوجية للأطفال الابرياء في جزء آخر من العالم، يقتل آلاف منهم، وليس طفلاً واحداً، يُذبحون بأسلحة محرمة مصنوعة في هذه البلدان الديمقراطية، دون ان يتحرکوا ساكنين وكأنما لا وجود للضمير والحس الانساني تجاه معاناة الاخرين. هذا النفاق والكذب هو الوباء القاتل الذي يقتل الملايين من البشر على وجه الأرض، وقد فهمه رامبو قبل ذلك بكثير وأعمق بكثير - كشاعر واعي وحساس ومبتكر - وعايشه في حياته اليومية عند ولادة الديمقراطية، كما أعلن ثورته في عالم الشعر عندما تبول على أوراق صفراء لشعراء مزيفين وهو في سن المراهقة..

هل لاحظتم صدق المشاعر عند الشاعر وهو ابن بلاد الديمقراطية وينحاز الی من يعاني علی أيد حاملي راية الديمقراطية، هذه هي نقطة الاختلاف بين الشاعر المبدع والشاعر المكبل، الشاعر المبدع يری الدنيا من منظوره وتكوينه الشخصي لا معايير ومصالح الاخرين، تخيل وأنت تسافر مع جيش محتل، تکرههم وتفضحهم لأنهم لاانسانيين، اليس هذە عملية الغوص ضد التيار، وهكذا حال المبدعين..

نص (ديموقراطية) لآرثر رامبو من ترجمة كاظم جهاد

العلم سائر الی المنظر القذر

ورطانتنا تطغی على رنين الطبل

سننعش في المراكز الدعارة الاكثر كلبية

وسنبيد الانتفاضات المنطقية

*

في البلدان البليلة المفلفلة

في خدمة ابشع

الاستغلالات الصناعية أوالعسکرية

الى اللقاء هنا، أو في أي مكان

*

سننال نحن المجندين بالارادة الطيبة

الفلسفة الشرسة، غير عابئين بالعلم

دهاة في (ايجاد) الرفاهية

الموت للعالم المتقدم،

انها المسيرة الحقيقية، أماما في الدرب

***

وفي عام 1946 عندما كان العراق تحت الانتداب البريطاني كتب الشاعر ابن السليمانية فايق بيكاس(1905-1948) في قصيدته (سبعة وعشرون عامًا) والتي تعبر عن ارادة الحرية عند الشعوب المحتلة وصوت الشعوب المضطهدة ونضالهم الدءوب حيث يقول في أبيات من هذه القصيدة الثورية ما يلي:

سبعة وعشرون عامًا قد مضت

وأنا أكدح من أجلك

بخبزي ومائي وملبسي ودون الأجر

وقد خدمتك في ايران وروم

فمن أجلك انكسر عنقي!

ورغم ذلك انني مازلت أسيرا ذليلا

فماذا كان ذنبي ابتليتني بهذا الداء

لماذا ذللتني ودون وجه الحق

*

سبعة وعشرون عامًا وأنت تقهرني

تتحايل علي بالكذب والخداع

تجعلني أرقص كل يوم بنوع مختلف

انك تحطم عنقي في سبيل غايتك

ولما تصل مرادك تتركني وشأني

*

سبعة وعشرون عامًا وحياتي مر

تحت يديك أنا نادم

لا أبدو كإنسان، بل أبدو كحيوان

متى سأتخلص يا منزلي المدمر؟

تطلق على نفسك لقب "حامي" الشعوب

ما كان ذنبي حتى أوصلتني إلى هذا الحد؟!

لماذا أذلتني ظلماً ‌هكذا؟!

***

سوران محمد

..........................

نص رامبو الشعري باللغة الانجليزية:

Democracy

"The flag goes with the foul landscape,

and our jargon muffles the drum."

In the great centers we'll nurture

the most cynical prostitution.

We'll massacre logical revolts.

*

In spicy and drenched lands!--

at the service of the most monstrous

exploitations, industrial or military.

"Farewell here, no matter where.

*

Conscripts of good will,

ours will be a ferocious philosophy;

ignorant as to science, rabid for comfort;

and let the rest of the world croak.

This is the real advance. Marching orders, let's go!"

تكمن الفكرة الرئيسية للقصيدة حول طفل عنيد ومشاكس هو الشاعر نفسه. اول ما يلتقط أنفاس الحياة يجالس ضجره ويدعي الهدوء. هو طفل أنيق ونبيل يتحدى ركام الزمن يتمرد ليبقى خارج حدود السيطرة.

يحطم القيود من حوله ليعتلي غمام السماء. وكأنه يشرح لنا جوهر الحياة..

روح طفولية التقت مع الشاعرية لتزداد شغفا وتجليا.

 مزق عباءة الطفولة بصرخة حرة ليبدا بها عزف النهار.

يلمس القاريء مشاعر حقيقية صادقة وجريئة تشكل حوارا خياليامبهرا بين الام و صغيرها الطفل العنيد. يبعث الحب والحياة بين مسارب التيه، وكان هذا الطفل يعلم انه سيصبح شاعرا كبيرا..

يخيم على القصيدة هدوءا رغم الضجيج الداخلي ، وهي بمثابة مغامرة جريئة عن طفولة الشاعر العفوية والمحببة.

ميزات القصيدة

- قصيدة مميزة في المضمون والبناء..

-  تترك اثرها في ذات القاريء لما بها من تقدير للذات الكونية للشاعر.

- استصراخ للرجولة بكل ماتعنيه من إباء وقوة ونزوع للتحرر من القيود والسير في طريق المجد.

- نلمس انه هناك عشق بين الشعر والشاعر رغم أنه مشوب بالارق الا انه تطغي عليه لمسات من الشجن الجميل.

 - يخيم على القصيدة طابع درامي بنص مدهش يتسلل الى الروح والوجدان

- تساق لنا المعاني

من خلال سخاء الغة وبلاغتهاالنصيه، ابدع الشاعر في اقتناص الكلمات وتوظيفها..

- قدم لنا الشاعر صورا شعرية جميلة متفردة استعارها من مناجاة ذكية بين الام وصغيرها المتمرد.

مثل؛ (تصفع الكرى بالصراخ). (تركع النهار لغفوتك) (تمسك تلابيب الليل.)

- نحن أمام إبداع ثري مشوق وممتع اوصل لنا رسائله بيسر ووضوح حين بنى صرحا شعريا

بجراة متفردة تثير الدهشة..

- القصيدة هي ثروة شعرية تستحق ان نقف عندها للنقد والتحليل.

- تغوص كلمات النص

الى عمق القاريء فكرا وروحا.

- اعتمد الشاعر الإحالة والايحاءات نحو سؤال كتابة الذات كما في قول الفيلسوف كافكا( الكتابه هي مفتاح لجرح ما) وكما قال البير كيمو (الكاتب يكتب نفسه)

- تعتبر القصيدة نص رائع  اعتلى به الشاعر سلم الابداع.

القصيدة

اهجع يا صغير

شعر رياض الدليمي

كنت طفلا مشاكسا في المهد

اركل الأحزمة والأغطية

أتشبث بالوسادة

لاستجمع قواي

أمي تبحلق بي

بدهشة

ما هذا الطفل الذي لا ينام؟

لم اعدْ اعرف منامه وإفاقته

انك تتعبني أيها الوليد الساهر

يا طفلي الذي لم يستكن

كل شي فيك ثائر..

انك تصفع الكرى بالصراخ

وتُركع النهار لغفوتك

الم تكن من صلصال وطين؟

أنا نفحات روحكَ

وشهدي عجينك..

اهجعْ يا صغير

كي أسقيك من ظمأ

أتترك جيدي؟

وتمسكُ تلابيب الليل

أتُراكَ ترضعُ أحلاماً؟

.. تتنهدُ رؤى

ما بالك أيها الصغير؟

تصرخ وكأنك تقاتل جلجامش

تصرخ لتلين عشتاروت

وتخضعها لجبروتك..

تُقدمُ نحو انكيدو وترميه في الفرات

ليستحم من غبار الحروب

.. تنفض عنه شقاق السنين

.. تحرس مملكتك كجندي مقهور

ألا يقترب من جيدي أحد

.. ترسم حدودها بأنفاسك..

أنا أعلنتُ الحدَّ على ضفائري

ألا يلمسها جان

أو قائد مكسور في حرب..

اعتقني من جنونك أيها الولد

كفاك

لا تقترب من النهر المقدس

تعال

أعلمك المشي على النهر

والزحف على الشواطئ

نيران ثوراتك بلا حد..

اخمد أيها اللهب

تعال تفيّء في بساتين العنب

واشرب من حليب التين

غادر المهد..

استرح... ياااا... بشر؟

فك اسر تلابيبي

حل جيدي من مَسكَ

لا تعبث بضفائري... هي ذخائر عفتي

وبياض أيامي..

أَمنْ عشبة تشبع صيامك؟

الجم أحلام المهد

.. امضِ لغابات الأرز

.. أشعلْ النيران فيها

.. اطرد جانك

.. سامر جيوشك

تعلم يا طفلي فن الحرب

من لم يستطع أن يدير رحاها

داسته الجيّاد

ولن يذوق كاس رمادي

وبات بلا مجد.

***

د. نادية عوض/ فلسطين

قراءة فى رواية الكتاب الأبيض لهان كانج

بقلم: كاتي كيتامورا

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

جذبت روايتا "النباتية" و"أفعال بشرية" للكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ قراء اللغة الإنجليزية إلى عالمها الروائي المثير. وعلى الرغم من أن روايتها الجديدة "الكتاب الأبيض" تتميز بنبرة أكثر هدوءًا، إلا أنها أيضًا جريئة من الناحية الشكلية، مؤثرة عاطفيًا وعميقة سياسيا. أما صغر حجمها النسبي - 157 صفحة فقط، مصممة ليناسب راحة اليد - فيعتبر خادعًا؛ فهو علامة على كاتبة ذات ثقة عالية.

وقد تُرجمت الروايات الثلاث إلى الإنجليزية جميعا من قبل ديبورا سميث، التي نالت أعمالها شهرة واسعة: فقد فازت ترجمتها لرواية "النباتية" بجائزة مان بوكر الدولية لعام 2016، وكان "الكتاب الأبيض" من ضمن القائمة النهائية للجائزة في نفس العام. ومع ذلك، لم تكن الكتب السابقة خالية من الجدل، حيث أشار العديد من النقاد إلى وجود أخطاء في ترجمة "النباتية" والتعديلات التي أجريت على عباراتها الأصلية.

معايير مهمة المترجم ليست ثابتة بأي شكل من الأشكال، ويمكن أن تتراوح بين الترجمات الحرفية - كما يتذكر المرء ترجمة نابوكوف الشهيرة، التي كانت حرفية ومثيرة للجدل في نفس الوقت، لرواية "أوجين أونيجين" - إلى شيء أقرب إلى التفسير. من العادل أن نقول إن ترجمات سميث السابقة لأعمال هان تميل نحو التفسير. في مقابلة، وصفت "الإخلاص" بأنه "مفهوم عفا عليه الزمن، مضلل وغير مفيد عندما يتعلق الأمر بالترجمة." تم نشر العديد من المقالات حول هذا النزاع، وجرى جدل حول أن السجل المعزز لعمل سميث - إضافة العديد من الصفات والزخارف - جعل أعمال هان أكثر تقبلاً للقراء الغربيين. سواء كانت الترجمة الأكثر تقليدية والأكثر إخلاصًا ستمنح هان الجمهور الدولي الذي تتمتع به الآن هي نقطة جدل. لكن الجدل يثير سؤالًا مهمًا: هل تتمثل مهمة الترجمة ببساطة في سد الفجوة بين الثقافات أم أنها يجب أن تمثل تلك الفجوة بطريقة ما؟ هذا السؤال ذو صلة أيضًا بـ "الكتاب الأبيض"، الذي تُروى قصته على لسان كاتبة كورية جنوبية وصلت حديثًا إلى وارسو.

تتجول الراوية في مدينة تحمل آثار الحرب العالمية الثانية بشكل واضح: "الحدود التي تفصل بين القديم والجديد، والخيوط التي تشهد على الدمار، تظهر مكشوفة بشكل بارز. في ذلك اليوم، بينما كنت أمشي في الحديقة، أنها أول ما خطر في بالي." تلك "هي" هي الأخت الكبرى للراوية، التي توفيت "بعد أقل من ساعتين من الحياة." "كانتا ملتصقتين هناك على أرضية المطبخ، والدتي على جانبها مع الطفل الميت بين ذراعيها، تشعر بالبرد يتسلل تدريجياً إلى اللحم، يغوص حتى العظام." يصبح تلاقي المدينة التي أعيد إحياؤها والأخت المفقودة هو الخط الأساسي لرواية تروى في لمحات وقطع، كعمل من الذاكرة والتعويذة.

لا يمكن اتهام سميث في تقديمه لرواية "الكتاب الأبيض" بالإسهاب. فالرواية تتألف من فقرات قصيرة تركز على كلمة أو عبارة تتعلق باللون الأبيض، وتبدأ بقائمة تتضمن "الملح" و"الكفن" و"الورقة البيضاء" . من هذا، تبني الراوية الرواية: "الآن، في هذه اللحظة، أشعر بتلك الإثارة المذهلة التي تسري في عروقي. وأنا أخطو بتهور إلى زمن لم أعشه بعد، وإلى هذا الكتاب الذي لم أكتبه بعد".

ما يلي هو نص مشبع بـ "الإثارة المدهشة". تلاحق الأخت الميتة الراوية: "لأنه توجد لحظات، وأنا مستلقية في الغرفة المظلمة، عندما يكون للبرد في الهواء حضورًا ملموسًا. لا تموتي. من أجل الله لا تموتي. ... ربما أنا أيضًا، قد فتحت عيني في الظلام، كما فعلت، ونظرت إلى الخارج."

تنتقل الرواية بسلاسة بين "أنا" و"هي"، في تحولات بين الشخص الأول والثالث، ولكن أيضًا في الانهيار البطيء للحدود بين الراوية والأخت، بين الحياة والموت. يصل هذا إلى ذروته في تشكيل تاريخ بديل لولادة الأخت: "ومع ذلك، قبل الفجر، عندما جاء أول حليب أخيرًا من ثديي والدتها وضغطت بحلمة ثديها بين الشفاه الصغيرة، وجدت أنه، على الرغم من كل شيء، لا يزال الطفل يتنفس. على الرغم من أنها كانت قد فقدت الوعي بحلول ذلك الوقت، فإن الحلمة في فمها شجعتها على البلع برفق، ثم ازدادت قوة تدريجيًا".

تتكرر فكرة البعث في أعمال هان، وهي فكرة مرتبطة بالذاكرة السياسية والجماعية. في رواية "أفعال إنسانية"، تلاحظ كاتبة مداهمة غير قانونية من الشرطة على مجموعة من الناشطين. وفي هذا السياق، ترى شبح انتفاضة غوانغجو عام 1980، وهي احتجاج مستمر ضد الحكومة العسكرية في كوريا الجنوبية، أسفر عن مقتل المئات من المدنيين: "أتذكر أنني كنت ملتصقة بالتلفاز... ودهشت من الكلمات التي خرجت من فمي: لكن هذه غوانغجو... الانتشار المشع مستمر. لقد وُلِدت غوانغجو من جديد فقط لتُذبح مرة أخرى في دورة لا نهائية. لقد تم تسويتها بالأرض، ثم أقيمت من جديد في ولادة جديدة ملطخة بالدماء".

من بين أمور أخرى، يُعد "الكتاب الأبيض" نداءً عاجلاً لقوة الطقوس المرتبطة بالحزن — لأهميتها من حيث التعويض الشخصي والتاريخي. تكتب هان: "فكرت في حوادث معينة في تاريخ بلدها الخاص، البلد الذي تركته من أجل المجيء إلى هنا، عن الأموات الذين لم يتم الحزن عليهم بشكل كافٍ. بينما كانت تحاول تخيل تلك الأرواح تُشاد بها، في قلب شوارع المدينة، أدركت أن بلدها لم يقم بذلك بشكل صحيح مرة واحدة."

تستكشف هان الاحتلال بأشكال وسياقات متعددة، بدءًا من الاحتلال الياباني إلى التظاهرات السياسية، دائمًا تتبع "الانتشار الإشعاعي" للصدمات. لكنها أيضًا تدافع عن التعاطف، الذي يعترف بقوته وقيوده: "رأيت الأمور بشكل مختلف عندما نظرت بعينيك. مشيت بشكل مختلف عندما مشيت بجسدك.. لكن الأمر لم يظهر كما كنت أنوي. مرة بعد مرة، كنت أُحدق في عينيك، كما لو كنت أبحث عن شكل في مرآة عميقة وسوداء." في هذه الرواية الدقيقة والبحثية، تقترح هان، من خلال سميث، نموذجًا حقيقيًا للتعاطف، يصر على قوة التجربة المشتركة لكنه ليس قائمًا على محو الاختلاف.

(انتهت)

***

.......................

المؤلفة: كيتي كيتامورا / Katie Kitamura: كاتي كيتامورا (من مواليد 1979) روائية وصحفية وناقدة فنية أمريكية ذات أصل ياباني . وهي حاليًا زميلة بحثية فخرية في اتحاد لندن أحدث رواية لكيتي كيتامورا هي "الانفصال".

* الكتاب الأبيض، بقلم: هان كانج. ترجمة ديبورا سميث. 157 صفحة. دار هوغارث للنشر.

منذ ان وجد الانسان علی وجه الخليقة وقد خلق معه أداة الاستشعار والتمعن والتعبير، فاللغة في سلمها  الراقية ومرتبتها العليا تتمثل في الشعر والذي عرف علی مر العصور بمفاهيم متنوعة حسب استيعاب ونظرات الناس اليه؛ من بين تلك التعاريف انه لغة الوجدان أو كلام الروح.

فقد ذكر ابن خلدون في تعريف الشعر: إنّ الشعر هو كلام مبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متّفقة في الوزن والروي، المستقل كل بيت منه بغرضه ومقصده عما قبله، الجاري على أساليب مخصوصة.

ومن بين تلك التعاريف أيضا والتي أتفق الباحثون عليها ما جاء في انسكلوبيديا الويكي بأن الشعر: هو شكل من أشكال الفن الأدبي في اللغة التي تستخدم الجمالية والصفات بالإضافة إلى أو بدلاً من معنى الموضوع الواضح.

وقد قيل عن الشعر الكثير، من بينها:

الشعر وردة الرياح، لا الريح بل المهب، لا الدورة بل المدار. (أدونيس)

الشعر لا يعبر عن عاطفة، إلّا بعد أن تسكت ثورتها ويهدأ انفعالها. (نجيب محفوظ)

الشعر موهبة ومثابرة لصقل تلك المنحة الإلهية.

الشعر صناعة لغوية.. للتعبير عن ذواتنا.

إنّ صوغ الشعر جزء من الأحلام، والشاعر لا بدّ أنّه حالم.

الأوزان والقافية مهمان للشعر، لكنهما يستعملان بحذر، فإذا جاءت القافية- الموسيقى- بشكل عفوي كان بها، وإلا فلا ضرورة برأيي أن نضحي بالمعنى أو الصورة من أجل الوزن.

الا اننا هنا بصدد موضوع مختلف تماما عن معنى الشعر وأنواعه ونظرات الناس اليه، لكن بما ان موضوعنا يعتبر شعرا لذا استهلنا البحث بتلك التعاريف.

لكن السؤال الجوهري هو: لماذا نسمي شعرا عالميا. وما الفرق بينه وبين شعر محلي؟ وهل يجوز لنا ان نسميه هكذا. بما ان الشعر بشقيه شكلا ومضمونا بحاجة الى مهارات والتفنن والبلاغة، فلو امعننا النظر في تعريف ابن خلدون السالف للشعر نقرأ بين طياته العناصر المهمة للشعر والتي تنقسم الى قسمين: الشكل والمضمون.

ان الوزن والقافية والايقاع الخارجي للكلمات تعتبر من عناصر جمالية الشعر، الا ان الصور والاستعارات والتيمة والموسيقى الداخلي يعتبر من الشق الثاني. والذي برأي سيبقى هذا الجزء تمثيلا حقيقيا لأي نص شعري عندما يترجم الى اللغات الأخرى, وسيبقى منه هذا الجزء شعرا والباقي سيضيع اثناء الترجمة الی اللغة الثانية لأن كل لغة لها تركيبتها ومصطلحاتها الخاصة بها، حينها نستطيع الحكم علی النص بأنه شعر عالمي وقد اجتاز كل عوائق الزمكان ويتفاعل معه الانسان أينما كان علی وجه الأرض، لأن الجانب الشكلي سيفقد شعريته أثناء الترجمة وخاصة إذا لم يترجم شعرا في اللغة الثانية وتعتبر هذه الوظيفة صعبة للغاية خاصة إذا لم يكن المترجم شاعرا.

لكن الإيقاع الداخلي للمعنى سيبقى خالدا في أي لغة كانت، والتيمة  أوالصور الشعرية المتجددة لها دور فعال في تحريك غريزة القراءة عند المتلقي، وخاصة في هذا الزمن المتطور تكنلوجيا بحيث علی سبيل المثال لو فتحت صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك ستقرأ كل محتويات الصفحات بلغتك وبمجرد تفعيل زر الترجمة وأحيانا سيقوم الموقع تلقائيا بترجمته الى لغتك، حتى ولو لم تكن هذه الترجمة دقيقة الا انها ستعطيك الإطار العام والفكرة الرئيسية من النص.

هل سألنا أنفسنا لماذا يعتبر نصوص بعض الشعراء عالميا ويشتهرون بنصوصهم الشعرية شرقا وغربا في حين لا نفهم كلمة واحدة من لغتهم الاصل، علی سبيل المثال اذا يوقفنا ويٶثر علينا نصا ما لأوكتافيو پاث  فهذا سببه انه  شعر جيد، مع العلم انه کتب معظم نصوصه بالاسبانية الا ان شعرية النص جعله عالميا حتی بعد الانتقال الی لغة اخرى غير لغة الام، أو فرنسية لرامبو وبودلير وأراغون أو الانجليزية لـ ت.س.الليوت أو الصينية لـ: لي باي... لكننا في نفس الوقت حينما نقرأ نصوصهم ستحركنا من الاعماق وتهز كياننا وكأنهم كتبوها لنا، هنا يلتقي الشعور الانساني والهموم البشري، لأن الحالات البشرية متكررة ومتشابهة والروح هي الشعلة الوضاءة والمحرك الحقيقي في وجودنا والشعر بدوره هو هذه اللغة المبطنة داخل اللغة العامة والكلام اليومي وسنلتقي الجميع في المضامين وما ادراك وسع المضمون في كل نص شعري، خاصة اذا يتقنه الشاعر ويغوص في أعماق الميتافيزيك اللامتناهي أو يوجه رسالة نصه الی البشرية ولا يخصه بموقع جغرافي أو زمان معين، بعكس نصوص المناسبات والاهداءات والاحداث العابرة أو المواضيع الذاتية البحتة، خاصة اذا  لم يقوم الشاعر بتحويل همومه الشخصية الی هموم مشتركة أي جعل ذاتيته موضوعيا.

فعلی سبيل المثال يكتب الشاعر سعد جاسم في 'الوفاء الجميل وانت تتذكر الشاعر الراحل كمال سبتي' في

-المنفيون-

منفيونَ نحنُ

يؤرّقُنا سؤالُ الغيبِ

والتأويلِ والرؤيا

-هلِ المنفى هوَ الزمانْ؟

-أمْ المنفى هو اللامكانْ؟

-هلِ المنفى خلاصٌ؟

أمْ قصاصٌ؟

أمْ رهانْ؟

على حصانٍ غامضٍ

يمضي الى المجهولِ

لكنْ ... نتبعُهْ؟ .... الخ

نرى في هذا المقطع بأن حالة كمال السبتي المكتوب له القصيدة هي التقاء كل روح مشردة في عياتيه المنافي، ربما يكون أنا وأنت أو الذي لم يولد بعد وسيمر بتلك المحن والتجارب المريرة من هول واضطهاد ومنفى ومرارة وشظف الحياة، ومع ذلك فقد نجح الشاعر الموهوب في ادخال إشارات فلسفية وانطولوجية ليستهل به نصه ويترك القارئ بين حيرة المعنى وهول المشاهد، واذا حذفنا منه اسم المهداة اليه النص سيبقى نصا مفتوحا بامتياز ويجتاز الحدود دون عناء القراء للبحث عن بروفايل المهداة اليه.

وهكذا في جدارية خالد الأمين- قصيدة للشاعر المغربي المرموق عبد الحق الميفراني والذي أهداه الى الشهيد خالد الأمين، الغائب الحاضر الى الحاضر خالد عبد الجبار، يمكننا ان نسميه شعرا مفتوحا بعيدا عن مفردات وهوية شخصية بعينها بحيث سيشارك المتلقي في العمل داخل النص بإعطائها منحنيات اخرى غير الذي يختبئ في داخل كينونة الشاعر ومراميه، وهذه دائما هي ميزة النصوص الغنية حيث يكتب الميفراني في نصه:

يا آخر الهلع

لمستك

ومازالت يدي تدعن

لصحراء المسافات

عبثا

توغل جسدك في أنفاس

منفى

سيجته بهاء فراغاتك الباردة..

عبثا

تطرق دقات الكينونة

دالية

دمع الشهداء

كما يستهل الشاعر هذا النص علی نفس وتيرة القشعريرة الداخلية وكأن كل (شهيد الكلمة) هو الشاعر نفسه أينما وجدوا، ولقد استطاع بنجاح ان يجعل الذات موضوعا ويعطي بنية واسعة ومتينة لهذا المعنى الخالد والذي يتكرر علی مر العصور سواء كان حلاجا أو خالدا أو مارتن لوثر أو لوركا أو بكر علي أو غيرهم...

ممسكا بالضيق

يفرش لمرفأ العالم

كينونة عصية على اليأس

ثمة

عين تشعر بالحقيقة

لدا تنتظر اللغة آخر سقوط

للنهار..... الخ

 وعلى نفس المنوال لو ألقينا النظرة علی بعض النصوص العالمية للشعراء الأجانب نتلمس تلك النفحة والنفس الكوني للمعنى الشعري والمضامين المبتكرة من خلال متن نص يجتاز كل الحدود العرقية ويدخل أبواب والوجدان والعقول دون استئذان، وهذا هو سحر الشعر الذي يغذي الروح وتنجذب اليه دون الكلام والإعلان.

يقول تي سي ألليوت في مقتطف من القصيدة، من مجموعته الشهيرة (زمن التوتّر)

وتُخلق العينُ العمياء

اشكالا فارغة بين الابواب العاجية

وتسترجع المالح للارض الرملية

هذا هو مكان الوحدة

حيث تعبر الاحلام بين الصخور الزرق

هذا هو زمن التوتر

 بين الموت والولادة.

كلمات رنانة موسيقية معبرة عن مضامين متفاوتة بين الانطولوجيا، والسيكولوجيا والذات المحصورة بين التيه والخلود والفناء، حيث يدخل المتلقي ويعطي ويوظف الرموز والمصطلحات حسب فهمه واستنباطاته، ومن ثم التقاء الصور وتجميعها في لوحة مكتملة لمعرفة رسالة النص ودور المتلقي فيها، بين فلسفة وجودية وسهل ممتنع معرفي.. مع كل هذا وذاك يرجع اليه القارئ في أوقات متفاوتة ودون الاشباع منه، بل أكثر من ذلك يمكن ان يعطيه دلالات مختلفة مع كل قراءة، كمتن بحاجة الى حواشي عدة لاكتماله وحسب حالات المتلقي المغايرة, وبغض النظر عن توظيفات الشاعر للرموز والدوال في نصه.

فلنأتي بمثال آخر من فرنسا وهو ليس الا (لويس أراغون) حيث يكتب في - شظايا -عن ذاته لكن في صيغة أقرب الى حالات كثير من قراء العصر، الضمير المستخدم في النص هو الشاعر نفسه لكن الكاتب هو أنا وأنت وكل من يصارع الجهل ويجاهد حثيثا للوصول الى بر الأمان، مع إيجاد إيقاعات كلمات كل من (سكين من القتام، هرة في مخيلة، اناء زهر ذابل، ثقب في قلب) تدوي صداها في الأعماق دون الخروج من هذه المعضلة والنزف المفرط، وليس منا من هو دون ثقب أو ثقوب في قلبه، لكن كل له أجواءه وتضاريسه الخاصة به حسب مستوى ادراك الشخص وهمومه وانفعالاته الحياتية مع خلفيته المعرفية والأدبية بالتأكيد:

أتجول

وسكين من القتام مغروزة في نفسي

أتجول

وهرةٌ في مخيلتي

أتجول

ومعي إناء زهر ذابل

وصور مصغّرة

أتجول

بأطمار بالية

أتجول

وثقب كبير في قلبي

وأخيرا فلنأتي بأسطر شاعرنا المغربي عبد الحق الميفراني في نصه القصير (ديداكتيك جمالي):

مر كثير من الألم الأسود من هنا

قرب شرفة تصنع جل بورتريهات رائحة البحر

مرت كثير من المعاني حتى الجميلات منها

تبخرن في المحيط المطل على صدري الأسود..

‏ جاء في العنوان مصطلح (ديداكتيك) وهي طريقة تدريس تتبع نهج علمي أو نمط تعليمي يشارك فهم الطالب وعقله غالبا ما يتناقض مع أسلوب الديالكتيك والأسلوب السقراطي. كلمة ديداكتيك تعني تعليم أو ما نتج عن التعلم وبكم أخرى علم التدريس. الديداكتيك بمفهومها الضيق هي نظرية التعليم أو التدريس. وبمعنى أوسع هي نظرية وتطبيق عملي للتعليم والتعلم. ويقبله أسلوب ماثيتي أو علم التعلم. قد يتناقض هذه النظرية مع مفهوم 'التعلم المفتوح' والتي تتعلق بالتعلم الذاتي حول موضوعات ذات اهتمام وبطريقة غير منظمة. 

لكن الشاعر هنا أضاف الى هذا المصطلح كلمة (جمالي) أو الاستيطيقا وأصبح مركبا ذو بعد شعري مجازي أعمق، بحيث يرسم الشاعر الموهوب من خلال هذه البورتريتية الجمالية (كي تعلمنا) دلالات الجمالية والعمق الشعري بالبدء من الذات المهمومة ومرورا من خلال الشرفة المطلة علی البحر ثم الالتفاتة الى أغوار المضمون (صدر) والمعان وشيء من علم الكلام وينتهي بالمحيط ومن ثم الرجوع الى الذات المكلومة، أي ان هنالك أوجه التشابه علی هذه الوتيرة:

 (ألم أسود <-----> صدر أسود)

(رائحة البحر <-----> محيط مطل علی صدر)

مع ان دنيا جمال الطبيعة خلابة وهي لا تفهم الا لغة الاشراقة والابتسامة، لكنها هنا تمتزج بمشاعر وتجارب شاعر مكترث بالبلاغة حيث يصنع منها صورة مجازية وفكرية في آن معا بالرجوع الى الذات حيث يبدئ التغيير من هناك ويوظف صفات بشرية علی الطبيعة من خلال رٶاه الشعرية وتخيلاته، هنا يظهر للعيان معاناة الانسان في هذا العالم المليء بالفوضى والقهر والاضطهاد حيث يذوب كل الوجود داخل الأعماق وهذه الانطباعية الوجودية السوداوية تسيطر علی الذات وفي النهاية ستعطي معان جديدة أخرى للجمال وعلم الجمال الشعري.

***

سوران محمد

...................

المصادر

١- مجلة الكلمة العدد ٣٧ لشهر مايو ٢٠١٠

2- T.S. Elliot, The Complete poems and plays, 1909-1962 Faber and faber Publisher.

3- Ruth Padel, 52 Ways of Looking at a Poem.

4- Wikipediaقواميس وتعاريف

 

بقلم: فلابيا بيسثي فيلتري

ترجمة واعداد: يوسف امساهل

***

العزلة ليست دائما مكسبا. ليس نصرا أن تتحسس في العتمة المنزل الفارغ، المهجور، الجسد المنفي في الظلمة، المهمش. العزلة والاخلاء ليسوا على الأقل ممتلكات. هم أهداف تم تحقيقها، بسبب او بدونه، تجبر الشخص على ايجاد طريقة مختلفة لرؤية العالم، طريقة أخرى للارتباط به. يمنحونه أحيانا ورغما عن نفسه صوتا جديدا بأصداء مظلمة. " مارتينيث باشريك، 2011، ص 337".

مقدمة

تفتح عينيها قليلا، تتلمس موضع الضوء وتشعله، تتحسس طاولة سريرها، تأخذ ورقة، تبحث عن القلم داخل الدرج، تبدأ في خربشة كلمات، والأرق قد سيطر عليها وصارت جزء اً منه، ثم تجمعها في جمل لا معنى لها على ما يبدو؛ ظلال تملي ما لا يريد النهار رؤيته، تكتب بهذيان ودون تفكير، يدها لم تعد جزء اً من الجسد، تدون، تشطب، تجمع، تفكك، تتوقف، أصبح للورق جلد أخر، فالظلام يعبر، لا يمكنه ان يطل على النهار وينتظر الليل جاثماً.  تصدر أنينا من شدة إنهاكها، يسقط القلم الأعزل،  تطفئ الضوء، تنكمش على شكل لفافة خيط، ترتجف

عندما نقرأ لانطونيا بالاسيوس يهيأ إلينا أنها غارقة في غيبوبة لا نهاية لها وان الليل قد أسرها، منهكة القوى من شدة الهجر، وفي بحث مستمر عن صفاء الهدوء والسكينة. هذه الحالة النفسية تحديدا هي التي تحاصر انطونيا بالاسيوس وتسيطر على شعرها الذي كتبته بعد حدث يعد الأشد إيلاما بالنسبة لكل أم، ألا وهو فقدان احد ابنائها.

و نتيجة لهذا المصاب الجلل أصيبت كاتبتنا باكتئاب حاد أبعدها عن العالم وطردها من الحياة. وبذلك استقر في جسدها وفي روحها حزن عميق يستحيل التغلب عليه نهائيا

راهنت انطونيا على المنفى الاختياري والتواجد في مكان، هو اخطر منطقة في اللاّ انتماء (اسينثيو، 2004، ص 98) حيث صار وجودها دون مبرر ودون موطن يذكر، لتتأمل العالم من مسافة مليئة بالذكريات والحنين

في شعر انطونيا بالاسيوس تبدو بوضوح شديد تلك الحالة النفسية التي تسمى بالمنفى الداخلي، ويختلف هذا المنفى عن المعنى المتداول كونه إبعاداً قسرياً عن الوطن لأسباب سياسية أو اقتصادية أو دينية أو عرقية أو اجتماعية (بواداس، 2000، ص 26

إن المنفى الداخلي الذي نستشعره في أبيات انطونيا يوقظ كذلك حركة مستمرة وتجوالا من مكان لأخر على شكل سفر، لكنه بحثا عن وطن للروح. فكل من يعيش هذه الحالة النفسية يفر من نفسه لعدم قدرته على البقاء

وكما أن المنفى الخارجي يعتبر حصيلة مواقف سياسية أو اقتصادية أو عرقية تعرقل مسار الحياة الطبيعية، فإن المنفى الداخلي هو نتاج سبب خارجي لا يتحكم فيه ذلك الذي يعاني منه، انه حدث مأساوي يدفعه للانكسار ويترجم الى تجزئة مرتبطة بالوجود والغرابة وبالمنفى الداخلي لموجات عميقة والذي هو بالتأكيد شكل من أشكال المنفى(أسينثيو 2004، ص 113).

انطلاقا من هذا التشرذم تجد انطونيا بالاسيوس، وهي منفصلة عن نفسها، في الشعر، أداة لإخراج ألمها الكوني والشمولي وتفتح ممراً في الظلام وتخلق الجمال بسبب المعاناة والشقوق التي تنخرها.

و انطلاقا من وفاة ابنتها باعتباره حدثا غامضا، فان انطونيا ـ ووجودها إجمالا ـ  لن تعود أبدا إلى المكان الذي كانت تسكنه، بل سوف تتجول بين الكلمات وظلالها وسترتبط أيما ارتباط بالشعر نفسه بالرغم من ارتياب الأصدقاء والعائلة، بيد أنها ستظل دائما منفية من الحياة ومن نفسها. وهو ما تعبر عنه مارينا كاسباريني في مختاراتها المتميزة من شعر أمريكا اللاتينية تحت عنوان: المنافي:

المنفى هو رحلة بدون عودة، فلا يمكن الرجوع من المكان الذي فتحته فينا جغرافية التهجير. تتغير الأرض التي ابتعدنا عنها ونتغير نحن كذلك، لنصير منذ ذلك الحين سكانا للاغتراب. لم نعد كما كنا ذلك الشخص الذي يتجول من جديد في شوارع ذاكرتنا ذات يوم.

نتابع مسيرنا دون ان ندرك الايقاع المتوازن لاولائك الذين يشعرون بالامان في وطنهم: ضمير المنفى يشير بايقاع مختل لخطواتنا المندفعة. ففي اغترابنا نفقد تسلسل الاحداث ومعانيها، ونفقد الشعور بالامان واليقين في حين يكبر الاحساس بالعطف في ظل العجز . (كاسباريني، 2012، ص XV)

سنحاول في السطور الآتية تقديم مقتطفات من السيرة الذاتية لانطونيا بالاسيوس حتى نتمكن لاحقا من ملامسة شعرها باعتباره تعبيرا عن هذه الحالة النفسية الناجمة عن حدث مأساوي آت من بعيد وخارج عن سيطرة الشاعرة وكذلك كوسيلة إبداعية لاجتياز الظلمات والبقاء على قيد الحياة

الكتابة الشعرية المرتبطة بالشخص المنفي الذي يتوفر على طريق واحد: نقل عزلته وعدم ارتياحه وحزنه وتوازنه وقوته.(بينييدا بيريث،2000،ص69). تقوم انطونيا بصياغة هذا التحول وهي حائرة بين الوجود واللاوجود، تفر من الظلمات وتعود إليها لتترك لنا شعرا شاملا ورائعا يهزنا هزا

لمحات من سيرة انطونيا بالاسيوس (1904 ـ 2001)

رأت انطونيا بالاسيوس النور في مدينة كاراكاس سنة 1904، وكان لها كبير الأثر في أدب فينيزويلا من خلال انتاجاتها الأدبية الغزيرة التي شملت الأعمال السردية والمقالات والقصص والشعر وكذلك من خلال ماقدمته في الورشات الأدبية التي كانت تلقيها في منزلها كاليكانتو

وقد شهد عقدها الرابع غزارة من حيث الانتاج وقامت بالعديد من الرحلات داخل وخارج فينيزويلا. وفي عام 1944 قامت بنشر كتابها "باريس وثلاث ذكريات" وبعد بضع سنوات (1949) بدأت مسيرتها الادبية تعرف تأثيرا كبيرا مع صدور روايتها الاولى والوحيدة "أنا إسابيل، فتاة عفيفة" والتي نشرت في بوينوس ايريس

وقد حظيت هذه الرواية بترحيب كبير في الأوساط الأدبية المحلية والأجنبية وتعتبر اليوم مرجعا أساسيا  في أدب فينيزويلا. وبعد سنوات نشرت انطونيا مجموعة من القصص جمعت في "قصص الساعات" (1954) و"رحلة إلى نبات الفرايليخون" (1955

وعندما بلغت 37 سنة ازدادت ابنتها ماريأنطونيا التي تميزت منذ نعومة أظافرها في العزف على البيانو، لذلك كرست انطونيا بالاسيوس نفسها روحا وجسدا لتطوير ابنتها فنيا، فرافقتها في العديد من الرحلات لتشجيع مسارها المهني. وقد عاش كلاهما في نيويورك وفي العديد من المدن الأوروبية إلى أن قررت ماريأنطونيا سنة 1957 التخلي عن البيانو والرجوع الى كاراكاس، مما تسبب لامها في خيبة أمل كبيرة لدرجة ان ذلك احدث بينهما شرخا مؤلما وعميقا.(مارتينيز باتشريك ، 2011، ص159

وبعيد وصولهما الى كاراكاس قررت ماريأنطونيا ان تتزوج وتشارك بشكل سري في مجموعات تخريبية ضد نظام الجنرال بيريز خيمينيث الديكتاتوري ومع ذلك فان استمتاعها بحريتها خارج الصرامة التي يفرضها البيانو سيكون عابرا لانها كانت مصابة بمرض السكري الحاد، الذي تسبب بعد بضعة أشهر في وفاتها "1963.

بالنسبة لكاتبتنا، الموت المفاجئ لابنتها كان قاتلا حيث أنه حطم حياتها. فقد عاشت بالاسيوس منذ تلك اللحظة متأثرة بمشاعر الألم وكما ذكر مارتينيث باشريك فإنها انغمست في اكتئاب حاد استطاعت التخلص منه تدريجيا بفضل وجود عائلتها وأصدقائها الذين يحبونها وكذلك لان الوجود نفسه فرض ذلك بشكل من الأشكال

. بدأت تتلمس الطريق لتستعيد عافيتها وهي تنسج خلال الليل خيوط الكتابة الشعرية مما سيساعدها رويدا رويدا على الاندماج مجددا في العالم. ستحمل معها معاناتها بفضل الشعر، ورغم عزلتها فهي قادرة على قول ما لايمكن تصديقه. إنها الوسيلة الممكنة لانطونيا لتعبر عن نيران معاناتها  ومخاوفها واحتضارها المدمر

ان حياة الام، وحياة المرأة وحياة هذا الكائن الذي هو انطونيا تلك التي تعيش معزولة ومهمشة، صارت كلها انطلاقا من هذا اليوم والى الابد " قطعة أرض دون سماء فوقها " أو بالاحرى ان الحياة انتهت في تلك اللحظة. ومن الان فصاعدا فكل ما تبقى هو حياة زائدة ورمادية ومظلمة ورهيبة. وأنطونيا تقبل ذلك، لانها دخلت في اللعبة الخبيثة. وكأنها تقول: فليكن رعبك لا حد له، فليكن رعبك قاس وبشع..

ولعل صوتها الذي يتلعثم أو يهمس أوينوح أو يصرخ قصائدها المستقبلية يصدح من تلك الهاوية. ولذلك نعتقد ان قراءة الاعمال الناضجة لانطونيا خصوصا: "نصوص الاخلاء" يتضمن خطرا محدقا بين ثناياه . لهذا فلا يمكن ان نخرج سالمين من هذه القراءة. (مارتينيث باشريك، 2011، ص164)

عند بلوغ 55 عاما، وهي في قمة نضجها، تجسد الشعر في انطونيا ليعيدها للحياة (مارتينيث باشريك، 2011،   167)

وبذلك استأنفت مسيرتها الأدبية. وفي سنة 1972 بادرت لإصدار مجموعة قصصية بعنوان "سكان الجزيرة" وفي السنة الموالية، اي سنة 1973، ظهرت قصائدها النثرية الأولى تحت عنوان "نصوص الإخلاء" لتفتح بذلك الطريق نهائيا نحو الكتابة الشعرية في سن لا نتصور فيه إلا الصدق في الكتابة مهما كانت قاسية ومحفوفة بالمخاطر

في سنة 1976 تم تتويج انطونيا بالاسيوس بالجائزة الوطنية للاداب عن مجموعتها القصصية "اليوم الطويل آمن فعلا

لتصبح أول امرأة فينيزويلية تحظى بهذه الجائزة، وفي نفس السنة حصلت قصتها "خطوات المطر" على الجائزة الثانية في المسابقة القصصية التي تنظمها صحيفة ´إالناسيونال´

يجب الإشارة لشئ مثير للاهتمام،هو أن من بين 52 متوجا بالجائزة الوطنية للآداب المعترف بما محليا ودوليا منذ عقود والتي تعد مرجعا أدبيا منذ إنشائها عام 1948 حتى حدود عام 2000 تقريبا، هناك 6 نساء فقط حصلن على الجائزة، كانت أولهن، كما ذكرنا سالفا، انطونيا بالاسيوس..

وفي السنوات الموالية، استأنفت تدريجيا أنشطتها الأدبية بانضمامها للمركز المرموق "رومولو كاييكوس" المعنى بدراسات امريكا اللاتينية "سيلارك" حيث كانت عضوا في لجنة التحكيم التي منحت جائزة "رومولو كاييكوس" للرواية للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيث عن مؤلفه مائة عام من العزلة.

وبطلب من صديقها الكبير اوسفالدو تريخو (مارتينيث باشريك، 2011، ص211) تقلدت شاعرتنا إدارة ورشة الأعمال السردية في المركز نفسه. وبمجرد انتهاء هذه التجربة، افتتحت ورشة خاصة بها تعنى بالشعر وبالأعمال السردية، لتبدأ  مرحلة تسمح لها بالاندماج في الحياة بمعية أصدقائها وطلبتها. وبذلك صار منزلها "كاليكانتو" مركزا لحركة أدبية ساهم فيه كتاب شباب متحمسون أصبحوا اليوم من شعراء ومثقفي فينيزويلا

في هذه الورشة تولدت فكرة انشاء مجلة ادبية "اوراق كاليكانتو" حيث نشرت نصوصا لما لايقل عن 60 شابا من المشاركين. وكان ذلك قطعا بفضل حماس شاعرتنا السخي التي لعبت دورا محوريا بتوجيهها لعدة اجيال، كما يؤكد ذلك مارتينيث باشريك "2011"..

وقد بلغ عدد المشاركين في المجلة من بدايتها الى صدور اخر عدد اكثر من 60 شابا مبدعا. وفي مرحلتين مهمتين من تاريخ المجلة التي كانت بمثابة الذراع الاعلامي للورشة، احتضنت اعمال مبدعين من قبيل "هوغو اتشوكار" و"رفاييل ارييث لوكا" و"ايكور بارييتو" و"رفاييل كاستييو ثاباطا" و"ارماندو كول" و"سيرخيو دابار" و"باسكوال استرادا اثنار" و" جاك جيرار" و"اليانا غوميث بيربيسي" و" سوسيا غونثاليث" و" البيرطو غواوورا" و" باتريسيا غوثمان" و"ايلينا اغليسياس" و" الياسار ليون" و"ادواردو لييندو" و"خوليان ماركيث" و" ميغيل ماركيث" و" انطونيو ميندوثا وولسكي" و" اسطيفانيا موسكا" و" ويليان نينيو اراكي" و" يولاندا بانتين" و" لويس انريكي بيريث اوراماس" و"جون بيتريزيلي" و"باربارا بيانو" و" ماريا ايلينا راموس" و"نيلسون ريبيرا" و"انطونييت روش" و"ارماندو روخاس غوارديا" و"لورديس سيفونتيس غريكو" و"بلانكا ستريبوني" و"باسكو سينيطار" و"نابوس ثامبرانو" ، فضلا عن مبدعين اخرين ومتخصصين في الرواية والمقالة والشعر والرسم والنحث والتصوير والسينما وعلم النفس والصحافة والهندسة المعمارية والامراض العقلية ورجال السياسة، ممن صاروا رواد الثقافة في فينيزويلا خلال العقدين المواليين (مارتينيث باشريك، 2011، ص229

خلال عقد الثمانينات، اصدرت الشاعرة مجموعة قصصية بعنوان "ساحة تحتل فضاء محيراً" '1981'، كما اصدرت الدواوين الشعرية التالية: "العتمة المضاعفة" '1983' و"الحجرة والمرآة" '1985' و"رياح عاتية من الذكريات" ' 1989' وفي بداية التسعينات اصدرت " حيوان الحلم المظلم هذا" '1991' و"رجفة الموارى العميقة" '1993'.

وبعد 38 سنة من رحيل ابنتها، توفيت انطونيا في منزلها 'كاليكانتو' يوم 13 مارس من سنة 2001 عن عمر يناهز 97 سنة.

وبحسب الذين عرفوها، كانت انطونيا بالاسيوس أساسا خجولة وتشعر بالاضطراب عندما يتم التحدث عن كتاباتها.

هذه الخصائص الشخصية ترجع، على ما يبدو، الى كونها كانت عصامية، بمعنى:

انها كاتبة بالفطرة، دون اي تكوين أكاديمي ودون معلمين بالمعنى الدراسي للكلمة، على عكس المؤلفين الكثر الذين قرأت لهم والذين يكتبون بشغف وبإحساس مرهف وكذلك على عكس أصدقائها المقربين والكتاب والفنانين الذين ينتمون للطبقة الراقية. "ماركيث « Xرودريغيث، 2002، ص ا

ان عفويتها في الكتابة، والتي لا تحتاج لإبراز المعارف كما يفعل الكثير من المثقفين، تسمح بان تصل مؤلفاتها للقارئ بعمق. هذه التلقائية في التعبير والصدق في قصائدها النثرية تمهد الطريق لأبياتها لتكتسح ثنايا كل من يقرأها تاركة بصمتها التي ترج .

وكما أشار ذات مرة الشاعر الفينزويلي ايغور باريت،  تلميذ انطونيا واحد أهم شعراء فينيزويلا في الوقت الحاضر، في إطار الورشات الشعرية التي يديرها حاليا في مدينة كاركاس "لا الذكاء ولا الفكر يقودان الى قصيدة جيدة، يجب ألا ننتظر لنكون مثقفين، الكتابة هي شغف بذاتها وبالعالم" وهذا بالضبط ما يحدث لنا مع شعر انطونيا الذي يكشف عن تمجيد للكلمة وللعالم وذلك ببناء ـ حول مواضيع محورية كالبيت والطفولة والزمن والأفول والخراب ـ "ماركيث رودريغيث، 2002، ص 13" عالم ندرك فيه أنفسنا ونعود إليه بخوف وإعجاب

المنفى الداخلي لانطونيا بالاسيوس

تظهر نصوص انطونيا بالاسيوس الشعرية ان بإمكان الشعر أن يكون أداة تساعد من يكتبه ليبدأ مسارا عميقا  يمكنه من تغيير نفسه بنفسه. فمن خلال الكلمة الشعرية صارت انطونيا قناة تعبر من خلالهاعن إرادة غريبة على ما يبدو،  لتصيح أو تهمس لها بأصوات وأوهام. إن لاوعيها هو من يدفعها لمواجهة هذه الإرادة والنظر في عينيها لتحاسبها من عمق بحر هارب ومضطرب

في هذه العملية الإبداعية لا يتمكن الجميع من التملص من براثن الظلام، حيث يعلق البعض بين الطحالب اللزجة في معركة دائمة ضد الحيوانات البحرية أما البعض الأخر فيتمكنون من العوم بتحسس ليصلوا للسطح: يتنفسون وينظرون  من أعلى البحر ويستنفذون طاقتهم بينما يحاولون أن يطفوا ويغوصون من جديد ويستسلمون وفي منتصف السقوط يعودون للحياة ليعطوا شكلا وصوتا لعالم العتمة ويعطوا معنى لوجودهم. هذا المسار تحديدا هو الذي تجسد انطونيا عندما تكتب قصائدها الناضجة.

في ديوان "نصوص الإخلاء" الصادر سنة 1973 "10 سنوات بعد وفاة ماريانطونيا" ـ والذي سنسلط عليه الضوء في هذا العمل ـ تظهر انطونيا مرتجفة، تطل من الهاوية، من ليال طويلة ومنيعة محاولة التبات في مكان الغياب، خارج العالم، في المنفى حيث تقطن تجاويفها والتي تحاول انطلاقا منها أن ترفع يدها لتلمس قبس النور الذي يحاذي طيات حياة تشعر أنها مبعدة منها

وفي زمن مشروخ ، وبعقل مضطرب وكلام من يشعر بالإقصاء، تثير انطونيا الغبار الثقيل لتشير مباشرة للمخاوف وللشكوك التعيسة وللتعب المبهم ، راجية من منفاها الداخلي عطاء صادقا ونهائيا. يفهم هذا المنفى على انه هيمان فكري حميمي لمن كانت منفصلة عن العالم وغريبة حتى عن جسدها ونفسها وهو من يفرض عليها الشعر كوسيلة لبناء أرض أخرى يكون الوطن الوحيد فيها هي الكلمة التي تلعثم هروبا من واقع يصعب الحفاظ عليه لأنه يأسر ويقصي ويتخلى..

انه عالم الظلام الذي يغرقها في الصمت، هي ارض لا يمتلكها احد حيث الحاجة الملحة هي صاحبة الطلب، من هذا الفضاء الذي يفتقر للأرضية وللأساس تكتب لنا انطونيا لتكشف عن نفسها وتكشف النقاب عن الهشاشة التي نحن عليها. فهي لا تعرف أين توجد او على الأقل إن كان يجب أن تتواجد. تتفحص جرحها وتتحمله بكل عناية، وانطلاقا من هذا الكسر تتكلم عنه  وتمنحنه لنا

تسعى انطونيا، ربما بشكل فطري، ان تؤسس لنفسها واقعا خاصا بها بخلق جسور هشة بين العدم الذي تسكنه ووجودها من خلال الكلمة التي تناجيها. لقد ارتمت بين احضان الموت وهي على قيد الحياة، تبحث من خلال مؤلفاتها ان تتواصل انطلاقا من الصمت، تدفعها قوة البقاء على قيد الحياة التي تخترق الشقوق الصغيرة لغرفتها. تستعيد انطونيا انفاسها عن طريق الشعر، وتحاول الكتابة اقناعها بان المرء يمكن ان يعيش بالرغم من ألم العالم.

المنفى الداخلي للشاعرة هو تحديدا ما نسعى لملامسته في قراءة بعض القصائد التي تم تجميعها في "نصوص الإخلاء" التي تتألف من ثلاثة أجزاء؛ حيث يحمل الجزء الأول نفس العنوان، بينما يسمى الثاني والثالث على التوالي "اساس مضطرب" و"زمن مشروخ" وكلاهما يخبر القارئ بما يحمل بين يديه: انطونيا المقعرة والمظلمة والمتضرعة  التي تحكي من مكان تألم جسد وروح منفصلين عن بعضهما، إنها الشاعرة التي تترجم الهجر والنفي.

تتوق الشاعرة في "نصوص الإخلاء" للعدم وتتوسل لتتجاوز اضطراب الأرض والصلابة الصخرية، وتسعى للتخلي عن الأشياء والأماكن وتناجي الليل بان يسمح لها باختراق النور الحقيقي، وتتمنى أن توقف الحياة ـ وهو أفق قسري ـ التي تم اختراقها من الزمن الذي لا يتوقف، وهو ما يمنع من تجسيد الماهية الحقيقية

إنها تود أن تخترق اللحظة دون أبعاد ودون مسار محدد، اللحظة الغير متوقعة والهدوء المنهك والهجوم المظلم.إنها ترغب في اختراق الليل، الليل ـ الجزيرة والليل ـ الكون الذي يهم بالنزول. إنها تأمل أن تخترق النور وان تسمو مضيئة وتصعد غير أبهة بفوضى الأرض وبالصلابة المتحجرة، وان تلمس فضاء ات بيضاء وعوالم لا وزن لها مجردة من كل كثافة. إنها ترغب في ترك كل الأشياء. ترغب في ترك الأفق الذي لم تختره وترك كل الأماكن. تود ألا تكون في اي مكان وتخترق الزمن في دورانه السريع وتخترق العلامات والإشارات. لاترغب في أن تكون. ترغب في الا تتواجد وآلا تكون في هذا الكون المعقد والمتشنج الذي لا يطفو. انها ترغب في فتح اقامات دائمة ولمس مواد وأشياء من شأنها أن تنعش وتدخل البهجة والسرور من جديد. إنها تأمل بان تكون جزء ا من الانصهار الدائم للوجود. "بالاسيوس، 2011، ص511"

وبينما تتوق الا تكون في اي مكان يذكر، فهي بالفعل ما زالت على قيد الحياة، تتنفس وتستشعر ثم تتوغل، وهي مجردة من نفسها داخل انفصام عميق بين الوجود وعدم الرغبة في الوجود، في المنفى الداخلي، لتزحف وتنادي نفسها لكنها لا تجيب، ثم تتخلى عن نفسها وهي تتمزق ذاتيا ثم تموت تلقائيا.

جزء منها يهرب، يرتجف، ثم ينحني. وجزء ينفصل ويمتنع ويتنفس. أما جزء أخر، فيستشعر نفسه ويتوقف ليستشعر العزلة والعتمة، يتوقف دون أن يعلم بذلك وينفصل دون أن يعلم بذلك، ينفصل عن جزء أخر ليتشابك مع نفسه، مع الجزء الذي يظن انه مختلف وهو نفسه...

جزء يتخذ الزمن المهجور والمعزول متكئا، جزء وحيد يبحث عن نفسه ويتتبع خطواته، يبحث عن نفسه دون أن يجدها، يقوم بتهدئة نفسه ويتضرع إليها، يندمج في الفراغ، ينادي نفسه دون أن يجيب، جزء ينفصل بإخفاق...ينفصل...ينفصل...آه الجزء الذي يجعلني انحني وارتجف! آه الجزء الذي هو مني ويتنكر لي، يتخلى عني، الجزء الذي يموت!. " بالاسيوس، 2011، ص 513".

اجزاء انطونيا تنفصل، في صمم عن البحث والتضرع، كما أنها تشيع مراسم جنازتها التي هي في نفس الوقت جنازة كل ما تم التخلي عنه. في هذه الأثناء، يصبح العالم، وهو محروم من أنظار من لم يعد موجودا، اخر قطعة صغيرة، اخر مسلوب، يصبح بحرا مهجورا تمر منه الكلاب اللاهثة، دون امل في العثور على اي قبس مشتعل أو أي وهج

مثل ملابس العزاء، مثل أخر قطعة صغيرة، مثل أخر شئ منتزع، صفائح في حداد، أهداب تزيل خيوطها، طيات عميقة وهائلة، مثل غابات مقتلعة، مثل مدن حزينة، مثل غبيات مجردات من لباسهن، مثل بحار مهجورة، مثلما تمر الكلاب اللاهثة، مثلما يعبر الهواء، مثلما يمر اليوم، مثلما تسحب الساعات وتتداخل، مثل ملابس حداد منشورة وفارغة ومغبرة وذابلة. فأين الوهج؟ اين اللمعان؟ اين القبس المشتعل؟، الاتقاد القصي، أين العبور، أين الانتظار الهائم، أين الفجر، أين الاين، أين الهناك، أين؟...هنا ...هنا الليل، هنا الغياب، هنا العدم. "بالاسيوس، 2011، ص515".

و بمؤلفها " اساس مضطرب"، الذي يشكل الجزء الثاني من ديوان "نصوص الاخلاء"، تبدأ في رمق هذا المكان، هذا الاين، هذا الاتقاد القصي جدا الذي بتشبتها به واعتمادها عليه ، نجر ؤ ان نقول انه بإمكاننا ان نرى كيف ان كاتبتنا تشرع من الاعماق وعن طريق ابداعها الشعري في بناء دعامة تتمسك بها، اساس ما يزال هشا وقلقا وحائرا، لكنه في النهاية اساس.

ولذلك، فإننا نشارك في إعادة بناء جسد من أدركته الموت دون ان يموت، وهو يبحث عن يوم جديد ومتجدد. يصبح اذن أمرا ملحا ان تدير ظهرك للجدران المدمرة التي هزها الصمت، وأن تنبعث من مصدر مجهول بإشارة جديدة، تلك التي لم تستخدمها من ذي قبل.

اصنعي نفسك من جديد، ابن نفسك في اليوم الجديد الذي بالكاد رأى النور ، اصنعي نفسك في اليوم الذي يضئ، أنت، سجينة وبدون كلام. أنت وحيدة، في عزلة بين المئات، بين الآلاف، بين لا احد، وحيدة. وحيدة بين أشياء لا وزن لها، بين البخار الذي ينضح الليل المنطفئ. اصنعي نفسك بشكل مغاير، أنت وحيدة، دون كلمة تحملك ودون نظرة ترشدك، وحيدة. وحيدة...

ابن نفسك من جديد كمن يسبح فجأة، قم بحركة جديدة، تلك التي لم تستخدمها من قبل، اجعل البيت يرحل في تعويذاته وفي مطره الذي يهطل غبارا. ابتعد دون خوف، ادر ظهرك لنوافذ غارقة في الهواء ولجدران مهدمة هزها الصمت. دع الأبواب المحاصرة في الخلف وانظر بعيدا...انظر للقوس المفتوح الذي لا يرى. "بالاسيوس 2011، ص525".

، انطلاقا من الأصل المتجدد ولتتمكن من البروز مجددا، يجب استحضار الجرح بشكل مستعجل، وذكر النسيان وكتابة الكلمات التي جلدها الصمت والنظر في عيون التائهة، ومثل الترانيم يجب أن: تدون وتفك الشفرة وتنادي.

أنا أقول، أقول بصوت لا احد. أنا أطالب، أنا أقول، أقول دون دموع، ومازلت أقول في النسيان. لا يسكنني احد، مشتتة في اعتداءات، أقول، أنا أقول كل شئ دون تسميته. جلدتني سياط الكلمات والصمت. أقول وأنا أضع النقاب واكشفه عن النبض الخفي. أقول وأنا مستيقظة وحية، وفي نفس الوقت أتكلم عن أشياء أخرى وشؤون أخرى، تاركة ان يوقفني أزيز الكلام ويدركني في حالة احتضار. أقول، أقول وأنا انحني وابحث عن الفاصل بينما اخدش ارض الآخرين. أقول وأنا تائهة، منفية، غاضبة، من عتبة باب كان لي. أقول. أطالب. أتضرع. أناجي الدخان، أناجي ارتجافه، أناجي ظلامه الكثيف. أقول. انفخ في نار خامدة. "بالاسيوس، 2011، ص 527."

من خلال تعريفها الذاتي، تحاول شاعرتنا آن تلمس الواقع، ترفع ذراعيها نحو السطح، بأيد مفتوحة إلى مالا نهاية، نحو السماء، تنصب جسدها المرتجف لتدعم الفراغ المتماسك، وانطلاقا من رأسها المغروس في عظام مترددة، انطلاقا من أساس مضطرب تدور حول نفسها بحثا عن إشارة تسائلها وتعلمها حياة جديدة.

افتح ذراعي، ارفع راحة يدي نحو الأعلى ، ارفع ذراعي وأهز أطراف جسدي من الأسفل. ابحث عن اللمس، عن الدعم، في أعلى رأسي، رأسي في الفراغ، في الفراغ المتماسك. رأسي في الأعلى، جسدي منتصب، هذا الأساس الحي، منحن، هذا الأساس مضطرب. راحة يدي، ذراعي مرفوعتين، رأسي يدور. اكتشف المرامي التي يشير لها جسدي، دوائر دون اتجاه. جسدي منتصب، جسدي لا يتحرك، ما ألمسه انا، ما ادعم به نفسي، رأسي يدور، أدور في الاتجاه، أدور في الفراغ. راحتي يدي مفتوحتين في انتظار، ذراعي مرفوعتين من العمق، رأسي يدور، وحدة بطني السرية هناك في العمق...جسدي منتصب. هذا الأساس الحياة...هذا الأساس المضطرب..."بالاسيوس، 2011، ص531."

انطلاقا من هذا التوازن غير المستقر، بدأت انطونيا تعبر عن ذاتها، تحكي لنفسها، تلاحظ وتعبر عن الانتقال انطلاقا من الموت: موتها، موت اقربائها، موت اولائك الذين كانوا والذين سيأتون. توقف حيوي يعيدها للحياة، اخر نفس تعاني منه، لا بد من استحضاره لانه ليس بالموت النهائي.

أنا أموت، أموت موتا بطيئا، هادئا، بدون ضجيج. انا أموت دون ان أموت. أنا ملأى بالوفيات. وفيات تعبر محياي كأنها ظلال.وفيات تفر ولا استطيع آبدا إدراكها

انطلاقا من هذا التوازن غير المستقر، بدأت انطونيا تعبر عن ذاتها، تحكي لنفسها، تلاحظ وتعبر عن الانتقال انطلاقا من الموت: موتها، موت اقربائها، موت اولائك الذين كانوا والذين سيأتون. توقف حيوي يعيدها للحياة، اخر نفس تعاني منه، لا بد من استحضاره لانه ليس بالموت النهائي.

أنا أموت، أموت موتا بطيئا، هادئا، بدون ضجيج. أنا أموت دون ان أموت. أنا ملأى بالوفيات. وفيات تعبر محياي كأنها ظلال.وفيات تفر ولا استطيع أبدا إدراكها. كيف سأدرك موتي الوحيد؟ كيف اختارها من بين الوفيات التي تتحرش بي؟ انا أموت من الموت كونيس وحيد والموت يخترق منزلي، يطأ سجاداتي، يلمس زجاجي، يطفئ أجراسي. أموت من موت قاسية، لا ترحم. موت تقوم بسلخي لتجعل جلدي الحي جلدا ميتا. أموت من موت كثيفة، عنيفة، موت يلعب مع أنفاسي لعبة الموت، ياخدها ويتركها، يطلق سراحها ويشد وثاقها، يأخذها إلى مراحلها النهائية، يعيدها إلى بداياتها. موت يجرحني دون ان يريق دما وينخر أحشائي رويدا رويدا. أنا أموت...

وفجأة يبدو أن الموت تضيء، وأنها مجرد ظل لحلم الحياة، وبان هواء الحياة هو نَفَس ميت وصرخة حب فارغة وصاخبة. وبان هذه الثياب التي تخفق، ترتجف فقط وتهدأ وهي محاطة بالموت. وفجأة يبدو أنني لم اعد أموت. وبأنني أدركت الموت دون أن أموت. " بالاسيوس 2011، ص 535".

لكي تخرج على مضض من هذا الاحتضار، قامت انطونيا بعملية جرد لايامها، لمشاعرها واحاسيسها، تلك التي ولّت وتلك التي لم تتحقق، للغائبين، كل شئ تراه امامها على شكل موكب. تظهر كذلك الطفولة والذكريات، تعود للخطوات التي فاتت كي تسترجع النور؛ ذكريات بمثابة حجارة مرمية في الهواء او التي غطاها الماء، وبينما تستحضر ايامها الخوالي، لمحت المستقبل حتى أبصر الحجارة، تلك التي ليس لها اسم بعد، وهي الحتمية.

هنا حجرتي التي لا تتحرك، حصني الذي لا يتحرك. هنا حجرتي الهامدة،  حجرتي في كارثة. هنا كل حجراتي. أقوم بجرد لكل حجراتي. تلك التي تزن بين يدي كأنها زلات، تلك التي لم ترم بعد، تلك التي لا يعرفها الهواء. أقوم ببناء وجوه بحجرتي المسودة، وجوه عمياء، من الأمام وشفاه نخرة. ألمس حجري الذي نفخ فيه النار، ألمس حجري الملتهب، المدخن، الظمآن. ألعب مع ذلك الذي يأتي من البحر، ذلك الذي نحمله في الأعلى،  التاج الصخري، ونجعله يحدث صوتا ويتحرك، وشرارات تقفز من احتكاك ضارب في القدم. ذلك الذي غمرته المياه المتسربة والذي يرقد في آبار سحيقة ومظلمة ويخرج إلى النور مغسولا للتو، ما زال رطبا ويتدحرج عبر السنين، عبر الأيام...

هنا أحجاري النبيلة التي تتنفس باتجاه الداخل، وحجر النسيان هذا الذي يرقد هنا وهو عالق، صلب وقاس. هنا أحجاري كلها، أحجاري الكبيرة الهدامة وأحجاري المتضائلة، الجامدة، العارية، خالية من الطحلب، خالية من الأخاديد. هنا أحجاري كلها. أحجاري كلها مجتمعة تجعلني ألف، تلف من حولي، محاصرة بسياج، سور حائط، حائط عملاق متجمد في حجر. وذلك الحجر العذري، حجري الأخير، مستلق على الأرض، مستطيل وبارد حجر لا يحمل اسما، ينتظر اسمي كل يوم. "بالاسيوس 2011، ص541".

إن عبور الاعتراف بالألم وتقبل العتمات الذاتية يجعل من الضروري النظر للوراء وتصفح الماضي، ومن تم فان انطونيا تتوقف في الجزء الثالث والأخير من ديوانها "زمن مشروخ" لترى شقوق الزمن وتوقِف الحركة مما يساعدها على

التعرف على الشقوق واستعادة الإيقاع الحيوي الذي ما يزال يتنفس.

لهذا يطرح السؤال: اين الانحناء الفسيح الذي بدأ للتو؟ اين الشمس المبعدة؟  وتتحدث للنور كونه وهجا شاحبا يحافظ على سر كل شئ ضائع، ويخشى تألق الظلمات؛ وتتحدث لنفسها لتفرض لحظة لكي تتوقف، تستحضر ولتدع الشباك التي تشل حركتها تقع ولتبعث من الأنقاض وهي تبتعد عن الاحتكاك بمشارف العتمات.

افتح المساحات، دع المادة الخفيفة تنزلق من بين أصابعك. أمسكي القوس من فوق أحلامك. توقفي حيال الزمن المشروخ. تذكري إشعاعاتك البعيدة، أنت، ضعيفة الذاكرة. دع الشباك تقع على البحر الملتهب بالنيران. سينبعث دافع الضرائب من بين الأنقاض. ستأتي لتؤدين ثمن الظمأ، ظمأ سهادك وقلة نومك. لا تنحني، لا تخضعي. فالنهار طويل، والنور طويل، لا تدع ي جنبات العتمات تلمسك. " بالاسيوس 2011، ص 551".

تقر الشاعرة  بمنفاها كخطوة أساسية في الانتقال نحو انتعاشة نفسية، من اجل ذلك تنفصم ذاتيا، ترى نفسها من زاوية أخرى، تدرك وتفهم حدادها، تتأمل قوامها الملفوف وتسعى لإنقاذه.

أنا هنا في الظلام، أدير ظهري للنور، في نسيان للبداية ولليوم الذي لا ينتهي. انا هنا متجاهَلة، قسمات وجهي المفقود بين العتمات. أنا هنا مقلصة، مجرد سطر، نقطة لا قيمة لها. أنا هنا مائلة، ادع الليل ليخترقني. خارجا، في الفضاء، النسور العملاقة تحارب الرياح. أنا انتظر هنا...اجمع ايماء اتي واسحب أنفاسي، اخنق صوتي وأنا كلي صمت، مختبئة بين الظلام. أنا هنا  يقظة، أراقب بخوف مخلوقا متجولا استقر به المقام بداخلي. "بالاسيوس 2011، ص 557".

وبمجرد ما تواجهت الاشباح بعد ان سافروا في رحلة إلى أعماق التهجير السحيقة، أقرت انطونيا ببعدها الذي يتيح لها كذلك ان تفهم بان في مكان ما في الظلام يرتجف الوجود، التنفس، الندى، الصباح؛ انه الجسد الذي يريد الخروج إلى آماكن أخرى، ويبحث عن ارض أكثر لطفا من خلال اختلاق لفتة أخرى، وربما لاستعادة طاقته الحيوية التي تعترف بها الشاعرة وأحيانا تتوق إليها.

بعد ان انهينا مقاربتنا الخاصة بمراجعة بعض قصائد "نصوص الإخلاء"، جدير بالذكر بان القصائد المتوالية التي نشرتها الشاعرة، يستخلص منها ذلك العبور المستمر بين الظلام والنور؛ ذلك التنقل المتناوب من حالة لأخرى، من مكان الى اللامكان "خايميس بورخيس، 2013، ص 1" الذي يميز بالأساس الحالة الوجودية للمنفي. وبناء عليه،  في أخر قصائدها،على سبيل المثال، الصادرة بعنوان "الرجفة العميقة لما هو سري" '1991'، تخبرنا انطونيابما يلي:

أنا أتدرب للقيام بإيماءة، يختل توازني في بداية الإيماءة. يظل جسدي في راحة. توقفت في إحدى الايماء ات. سوف ابحث عن شكل أخر وأفصله عن الوقت وأحرره من الجسد. لقد بدأ يتدفق مثل نهر ممتلئ. ثمة أيادي تنغمر، أيادي تريد أن تلمسه. بدأت إيماءتي تتمدد، لم تعد تنتمي إلي. إيماءة أخرى ترتفع، رحلة أخرى، مسافة أخرى. "بالاسيوس 2011، ص 565".

ان محاولة ابتكار ايماءة جديدة والبحث عن رحلة أخرى وعن مسافة اخرى للتمكن بشكل من الاشكال من السفر باتجاه الارض التي تلعب دور الدعامة، يكون ممكنا فقط اذا اعدنا النظر في اتجاه امكنة تنتمي لازمنة اخرى واذا  تصفحنا مجددا، انطلاقا من وعي جديد، اثار المسار المتلاشي وسفر الانفصال..

اني ابحث عن نفسي في أمكنة تنتمي لأزمنة أخرى. وأنا أسير بين فضاء ات مرّ منها السكون. إني أطأ أثار المسار المتلاشي التي تركتها قدماي في ليالي النسيان. هناك ضوء يتغير، السماء تتوارى ممددة وهي تطفو. بعيدة هي الأرض التي تعتبر دعامتي. ابحث عنها في القسوة، في الحزن المنفرد للأيام الخوالي التي انحدرت دون ان تعرف مصيرها. لم اعد اعرف من أنا. لعلي أبدو وأنا اقتفي أثار ذكريات أصبحت متناثرة. يدي أصبحت يدا أخرى. ذراعي وعنقي صارت في جسم غريب. أنا المجهولة، تلك التي انطفأت فجأة بين عتمتها. "بالاسيوس 2011، ص 571"

ما تزال المنفية مستمرة في ذكرياتها، تلمس جسدها من جديد، يبدو وكانها لم تتعرف عليه، منفصلا في جسد أخر، ومع ذلك تتأكد من وجود شفتين وعيون ترى الاشياء، وتستمر الحياة.

مازالت هناك شفتين، عيون ترى الأشياء. مازالت ذراعين مرفوعتين تحاولان الطيران. مايزال الجنس يخفق، ما يزال رطبا. وسقوط الندى في غابتي الكثيفة السرية التي صارت عارية. "بالاسيوس 2011، ص 577".

تصر انطونيا أن تكلم نفسها وان تدعم نفسها وأن تبقى على قيد الحياة وان تفتح أخاديد السماء المغطاة بظلة، وان ترفع يديها، حلقة وصل بين الحياة والموت؛ وان تكتب ولو اسما واحدا. لكن الرحلة لم تنته بعد، لقد عادت الشاعرة للعتمة التامة، للعدم، بيد ان هذه المرة بعيون مفتوحة؛ تتأمل جسدها ـ في السابق كان منتصباـ الذي يزحف فوق السطح الأملس، وقطعة تلو أخرى ينزلق وينحدر نحو الأسفل .

وأخيرا، وصلوا ليلا وتركوا حمولتهم المظلمة في الأرض. دخان كثيف خط دائرته. إيقاع الساعات ظل ثابتا في جسدي. تذكرت نظرتك في ذاكرتي الحادة، بطئك، تنفسك المتثاقل. شابكت يدي وأصبحت لا شئ "بالاسيوس 2011، ص 599". واذا هم جاؤوا مؤتثين أيامهم والليالي العابرة: هم، الغائبون، الذكريات، الحب، الابنة، الألم المُلح، الموت.

سنتوقف هنا. في الصفحات السالفة أردنا ان نقوم بمقاربة أولية لشعر انطونيا بالاسيوس ونتفحص من خلال قراءة قصائدها حالة المنفى الداخلي التي بقيت فيها أخر ثلاثين سنة من حياتها.

لقد أورثتنا شاعرتنا مؤلفا بمحتوى مؤثر للغاية يحدثنا انطلاقا من لامكان تلك التي تم نفيها من حياتها الخاصة؛ بالإضافة الى انه يقدم لنا شجاعة من يواجه التحول الإجباري؛ لهذا تلتجئ لعالم الكلمة الشعرية، كونه فضاء حميميا ومنعزلا يسمح لها خلال عبورها نحو العدم بان تقاوم لياليها السحيقة.

ان انطونيا بالاسيوس، التي كانت وما تزال المرأة والأم والشاعرة، تاخدنا من يدنا وتحضرنا بعطف وحنان إلى منفانا الخاص والمتشابه وتساعدنا على أن نذكر من جديد أرضا وُعدنا بها والآن تقوم بتهجيرنا بعيدا حتى عن أنفاسنا.

السيرة الذاتية

فلابيا بيسثي فيلتري هي من مدينة كاركاس فينيزويلا "1968". شاعرة ومحامية وأستاذة بكلية العلوم القانونية والسياسية بالجامعة المركزية بفينيزويلا منذ سنة 2002. شاركت في ورشات شعرية خاصة بالشعراء الفينيزويليين: استريد لانديرو لويس اينريكي بيلمونتي ورافاييل كاستيو ثاباطا وأرماندو روخاس كوارديا وييكور باريتو وسانطوس لوبيث. نشرت بعض قصائدها في مختارات شعرية: قاعة الانتظار "كاركاس، 2010" ؛ صوت المدينة، كاركاس 2012"؛ " جلسة من الأصوات الجديدة "ماراكاييبو، 2014"؛ 102 شعراء جيمينك "كاركاس، 2014"؛ مائة امرأة ضد العنف القائم على النوع "كاركاس، 2015" . وفي سنة 2012 تم اختيار ديوانها "مكان العبور" فائزا بالمسابقة الوطنية للأدب التي نظمتها جمعية أساتذة جامعة الانديس. وفي ابريل 2017 أصدرت دار النشر "أوسكار تودتمان ناشرين" ديوانها  "جسد في الضفة.

***

........................

EXILIO INTERIOR

EN LA POESÍA DE

ANTONIA PALACIO

Autora: Flavia Pesci Feltri

Venezuela. Enero, 2018.

Traducción al árabe: Youssef MSAHAL

No siempre es una ganancia la soledad. No es una victoria estar a tientas, en la casa vacía, desalojada; el cuerpo confinado a la sombra, abandonado.  No son al menos, la soledad y el desalojo, pertenencias. Son designios cumplidos, con o sin razón, que obligan al ser a inventarse una manera diversa de ver el mundo, una forma otra de relacionarse con él.  Le otorgan, a veces a despecho de sí mismo, una nueva voz de oscuras resonancias (Martínez Bachrich, 2011, p. 337).

Introducción

Entreabre los ojos, a tientas prende la luz, palpa su mesita de noche, toma  cualquier papel, busca el bolígrafo dentro del cajón, dominada por el insomnio en el que se ha convertido comienza a garabatear palabras, unirlas en frases aparentemente sin sentido; sombras dictan lo que el día no quiere ver; frenética escribe, a ciegas, su mano ya no forma parte del cuerpo, anota, tacha, une, disgrega, se detiene, el papel tiene otra piel, es la oscuridad que atraviesa, la que no puede asomarse al día y aguarda agazapada la noche.  Exhausta suelta un quejido, cae el bolígrafo inerme, apaga la luz, se recoge en ovillo, tiembla.

Cuando leemos a Antonia Palacios nos las imaginamos en un trance indetenible, arrebatada por la noche, exhausta por el desamparo en búsqueda de una callada serenidad.  Es precisamente ese estado anímico que embarga a Antonia Palacios el que se quiere evidenciar con la aproximación a su poesía escrita con posterioridad al evento más doloroso que puede vivir una madre: la muerte de un hijo.  Como consecuencia de este hecho terrible, nuestra escritora entra en una profunda depresión que la aleja del mundo, la expulsa de la vida; se instala en su cuerpo y en su espíritu una tristeza constitutiva imposible de superar definitivamente.

Antonia se exilia y se ubica en un lugar, en el peligroso territorio de la no pertenencia (Ascencio, 2004, p. 98), en el cual comienza una existencia sin asidero, sin tierra alguna desde donde contempla al mundo con una distancia poblada de memorias y nostalgias.

En la poesía de Antonia Palacios se refleja, creemos con mucha claridad, ese estado anímico que se ha querido denominar exilio interior, distinto al otro exilio, aquel que se entiende como alejamiento obligado de la patria por razones políticas, económicas, religiosas, raciales o sociales (Boadas, 2000, p. 26).  Este exilio interior que vemos reflejado en los versos de Antonia:

[P]rovoca también la errancia, el continuo desplazamiento de un lugar a otro bajo la forma del viaje, pero en busca de una patria para el alma. Es el estado en el cual quien lo vive huye de sí mismo por la incapacidad de estar.  Así como el exilio exterior es provocado por situaciones políticas, económicas o raciales que impiden llevar una vida normal, el exilio interior se produce también por una razón externa que está fuera del control de quien lo sufre, un evento trágico que lo impulsa a fracturarse, se traduce en la fragmentación del ser, de la extrañeza, de ese exilio interior que es, ciertamente, una forma de exilio, de ondas profundas (Ascencio, 2004, p. 113).

Desde esa fragmentación, exiliada de sí misma, Antonia Palacios encuentra en la poesía un medio para exhumar su dolor, universal y omnipresente, abriéndose paso desde la oscuridad y creando belleza por causa del sufrimiento y de las grietas que la perforan.

A partir de ese suceso insondable, la muerte de su hija, Antonia -y su ser todo- no regresará más nunca al lugar que habitaba; deambulará entre las palabras y sus sombras, logrará asirse con incerteza de los amigos y la familia, de la propia poesía, pero será siempre una desterrada de la vida y de sí misma en los términos que los expresa Marina Gasparini, en su extraordinaria Antología de poesía latinoamericana titulada Exilios:

El exilio es un viaje sin retorno. No se regresa del lugar que abrió la geografía del extrañamiento en nosotros.  Cambia la tierra de la que nos alejamos, cambiamos también nosotros, habitantes desde entonces del desarraigo.  La persona que fuimos no es la misma que un día cualquiera deambula de nuevo por las calles de nuestros recuerdos.  Caminamos desconociendo el ritmo acompasado de aquellos que se sienten seguros en su patria: la conciencia del exilio marca con compás desigual el discurrir de nuestros pasos. En el desarraigo extraviamos la secuencia de los acontecimientos y su significado; se pierden certezas y seguridades mientras la compasión crece a la sombra del desamparo (Gasparini, 2012, p. XV).

En las próximas líneas se intentará dar una semblanza bibliográfica de Antonia Palacios para poder, posteriormente, acercarnos a su poesía como expresión de ese estado anímico causado por un evento trágico exterior y fuera de control de la poeta y, asimismo, como medio creativo para transitar las sombras y sobrevivir.

Escritura poética la del exiliado que tiene un solo camino: transmutar su soledad, su desazón, su melancolía, su equilibrio, su fortaleza (Piñeda Perez, 2000, p. 69); Antonia va moldeando esa transmutación, vacilante, entre el estar y no estar, huyendo y volviendo de las sombras, y dejándonos un extensa y maravillosa poesía que estremece.

Algunas notas sobre la vida de Antonia Palacios (1904-2001)

Antonia Palacios nació en Caracas en 1904. Ejerció una gran influencia dentro de la literatura venezolana por su extensa obra literaria que comprende narrativa, ensayos, cuentos, poesía; y por la labor que llevó a cabo a través de los talleres literarios que dictaba en su casa Calicanto.

La década de sus 40 años de edad fue muy productiva.  Emprendió numerosos viajes dentro y fuera de Venezuela.  En 1944 publicó París y tres recuerdos; pocos años más tarde (1949), su carrera literaria comenzó a tener un gran impacto con la publicación de su primera y única novela Ana Isabel, una niña decente, editada en Buenos Aires.  Esta novela fue muy bien recibida en los medios literarios nacionales y extranjeros considerándose hoy referencia imprescindible dentro de la literatura venezolana. Años más tarde, Antonia publica una serie de relatos reunidos en Crónicas de las horas (1954); y, Viaje al frailejón (1955).

A la edad de 37 años (1941) nace su hija Mariantonia, quien desde muy temprana edad se había destacado en el piano por lo que Antonia Palacios se dedicó en cuerpo y alma al desarrollo artístico de  su hija, y la acompañó a distintos viajes para promover su carrera. Vivieron en Nueva York y en varias ciudades de Europa hasta que en 1957 Mariantonia resuelve renunciar al piano y regresar a Caracas, lo que produjo en su madre una terrible contrariedad y decepción tanto que entre ambas hubo una honda y dolorosa fractura (Martínez Bachrich, 2011, p. 159).

Poco después de la llegada de las dos mujeres a Caracas, Mariantonia resuelve casarse y comienza a participar clandestinamente en grupos subversivos contra la dictadura del General Pérez Jiménez.  Sin embargo, el goce de su libertad fuera del rigor del piano va a ser breve, pues le diagnosticaron una diabetes terrible que, a los pocos meses, la llevó a la muerte (1963).

Para nuestra escritora, el fallecimiento repentino de su hija fue demoledor, fragmentó su vida; a partir de este momento Palacios vivió marcada por el dolor y, como lo comenta Martínez Barich, se sumergió en una desgarradora depresión de la que va a ir saliendo poco a poco gracias a la presencia amorosa de su familia y amigos; y porque, de alguna manera, la propia existencia así se lo impuso.

Comenzó a transitar el camino hacia la recuperación, hilando durante las noches la escritura poética que le permitirá, muy lentamente, insertarse de nuevo en el mundo.  Va a ir llevando su sufrimiento gracias a la poesía, única capaz de decir lo indecible, constituyendo para Antonia el solo medio de expresión posible para pronunciar sus infiernos, sus miedos, su devastadora agonía.

La vida de la madre, de la mujer, del ser que es esa Antonia insular y desalojada, la vida toda desde ese día y para siempre se habrá vuelto “un pedazo de tierra sin cielo arriba”. O mejor aún: en ese momento la vida se acaba.  Lo que queda, de allí en adelante, es gris, oscura, terrible sobrevida.  Y Antonia lo acepta. Entra en el siniestro juego.  Sea pues la infinitud del horror.  Sea lo atroz, parece decirse.

Y es acaso desde ese abismo que se levantará la voz que balbucea, murmura, solloza o grita los poemas futuros.  Es por eso, tal vez, que leer la obra madura de Antonia: Textos del desalojo, especialmente, implica un evidente peligro.  Es por eso que no se sale ileso de esa lectura (Martínez Bachrich, 2011, p. 164).

A los 55 años de edad, entrando ya indefectiblemente en la madurez, la poesía encarna en Antonia y le devuelve la vida (Martínez Bachrich, 2011, 167);  retoma su carrera literaria y en 1972 se anima a publicar un libro de cuentos titulado Los insulares; un año después, en 1973 salen a la luz sus primeros poemas en prosa bajo el título Textos del desalojo, abriéndose así el camino definitivo hacia la escritura poética en una edad en la cual es sólo concebible escribir de manera honesta no importa cuan desgarrador y arriesgado sea.

En 1976 Antonia Palacios fue honrada con el Premio Nacional de Literatura por su libro de relatos El largo día ya seguro, convirtiéndose en la primera mujer venezolana a la que se le da este premio; ese mismo año, su cuento Los pasos de la lluvia, obtiene el segundo premio del Concurso de Cuentos del diario El Nacional.

Interesa resaltar como dato curioso que de las 52 premiaciones que ha otorgado el Premio Nacional de Literatura en Venezuela, reconocido nacional e internacionalmente durante décadas y que ha sido referencia literaria desde su creación en 1948 hasta aproximadamente el año 2000, solamente seis mujeres escritoras han sido galardonadas con dicho premio, la primera de ellas como se dijo fue Antonia Palacios.

En los años sucesivos, retomó paulatinamente sus actividades literarias.  Formó parte del prestigioso Centro de Estudios Latinoamericanos Rómulo Gallegos (CELARG) cuando integró el jurado que otorgó el Premio de Novela Rómulo Gallegos al escritor colombiano Gabriel García Márquez con su obra 100 años de soledad.

A instancia de su gran amigo Oswaldo Trejo (Martínez Bachrich, 2011, p. 211), nuestra poeta asume la dirección del taller de narrativa en ese mismo Centro. Una vez finalizada esta experiencia, abrirá su propio taller de poesía y narrativa, comenzando una etapa que le permitirá insertarse a la vida de la mano de sus amigos y alumnos. Su casa Calicanto, se convirtió en el centro de un movimiento literario en el que participaron jóvenes y entusiastas escritores, hoy día reconocidos poetas e intelectuales venezolanos.

De este Taller surge la idea de hacer una revista literaria Hojas de Calicanto donde fueron publicados los textos de al menos 60 jóvenes talleristas, bajo el entusiasmo generoso de nuestra escritora quien, sin duda alguna, ejerció un papel esencial como guía de varias generaciones.  Efectivamente, tal y como nos lo comenta Martínez Barrich (2011):

La nómina de la revista Hojas de Calicanto llegó a tener, entre el primer número y el último, más de sesenta nombres de jóvenes artistas.  En sus dos grandes etapas, la revista, que era el órgano difusor del taller contó con las firmas de Hugo Achucar, Rafael Arraiz Lucca, Igor Barreto, Rafael Castillo Zapata, Armando Coll, Sergio Dahbar, Pascual Estrada Aznar, Jack Gerard, Ileana Gómez Berbesí, Socia González, Alberto Guaura,  Patricia Guzmán, Elena Iglesias, Eleazar León, Eduardo Liendo, Julián Márquez, Miguel Márquez, Antonio Mendoza Wolske, Stefania Mosca, Willian Niño Araque, Yolanda Pantin, Luis Enrique Pérez Oramas, Jhon Petrizzelli, Bárbara Piano, María Elena Ramos, Nelson Rivera, Antoniette Roche, Armando Rojas Guardia, Lourdes Sifontes Greco, Blanca Strepponi, Vasco Szinetar y Nabos Zambrano, entre muchos otros narradores, ensayistas, poetas, pintores, escultores, fotógrafos, cineastas, psiquiatras, periodistas, arquitectos, psicólogos y gente de la política que se convirtieron en nombres protagónicos de la cultura venezolana en las décadas siguientes (Martínez Barrich, 2011, p. 229).

En la década de los ochenta, la poeta publica los libros de cuentos Una plaza ocupando un espacio desconcertante (1981); y los poemarios Multiplicada sombra (1983), La piedra y el espejo (1985), Largo viento de memorias (1989); y, a comienzo de los noventa, Ese oscuro animal del sueño (1991) y Hondo temblor de lo secreto (1993). Muere a los 97 años, 38 años después de la muerte de su hija, el 13 de marzo del 2001 en su casa Calicanto.

A decir de quienes la conocieron, Antonia Palacios era una persona esencialmente tímida e insegura en cuando a su escritura se refiere. Estas características personales se debieron, aparentemente, a que fue autodidacta, es decir:

[u]na escritora natural, sin formación académica alguna, sin maestros en el sentido escolástico del término, como no fuesen, por una parte los autores de sus innumerables lecturas, hechas con pasión y con una muy permeable sensibilidad, y por otra los muy bien escogidos amigos, escritores y artistas todos ellos de primerísima línea… (Márquez Rodríguez, 2002, p. XI).

Esta naturalidad a la hora de escribir, despojada de la necesidad de muchos intelectuales de evidenciar sus conocimientos, permite que la obra de Antonina llegue hondo al lector; la espontaneidad de su expresión y la honradez de sus poemas en prosa permiten a sus versos llegar directo al interior de quien la lee, dejando una impronta estremecedora.

Tal y como lo ha comentado alguna vez el poeta venezolano Igor Barreto, discípulo de Antonia y uno de los poetas venezolanos de mayor trascendencia hoy día, en el contexto de los talleres de poesía que dirige actualmente en la ciudad de Caracas “ni la inteligencia ni el intelecto conducen a un buen poema, no hay que esperar a ser un ilustrado, la escritura es una pasión por sí misma y por el mundo”; y es precisamente lo que nos sucede con la poesía de Antonia que revela una gran exaltación por la palabra y el mundo construyendo -alrededor de temas esenciales como la casa, la infancia, el tiempo, la decadencia y la ruina (Márquez Rodríguez, 2002, p. XIII)-, un universo en el que nos reconocemos y al que volvemos con temor y admiración.

El exilio interior de Antonia Palacios

Los textos poéticos de Antonia Palacios son una manifestación de que la poesía puede ser también un instrumento que permite a quien la escribe iniciar un proceso profundo de transformación de la propia psique. A través de la palabra poética Antonia se convierte en un canal mediante el cual una voluntad, aparentemente ajena, le grita o susurra voces y delirios; es su inconsciente que la empuja para que lo enfrente, lo mire a los ojos desde el fondo de un mar huidizo, incierto y lo interpele.

En este proceso creativo, no todos logran escabullirse de los tentáculos de la oscuridad. Algunos se mantienen entre las algas viscosas en una lucha perenne contra animales marinos; otros, en cambio logran nadar a tientas hacia la superficie: respiran, miran por encima del mar, se agotan mientras intentan flotar, vuelven a hundirse, se rinden y, en medio de la caída, regresan a la vida dándole forma y voz al mundo de las sombras y un sentido a la propia existencia.  Es precisamente este proceso el que Antonia encarna cuando escribe sus poemas maduros.

Con Textos del Desalojo poemario publicado en 1973 (una década después del fallecimiento de su Mariantonia) -y al que se hará referencia concretamente en el presente trabajo-, Palacios nos llega temblorosa, asomada desde el abismo, desde las largas e insondables noches, en un intento de sostenerse en el lugar de la ausencia, fuera del mundo, en el destierro donde puebla sus propias cavernas y desde dónde ensaya levantar la mano para tocar los intersticios de luz que rozan los pliegues de una vida de la que se siente expulsada.

Así en un tiempo hendido, con el centro en vilo y la palabra de quien está desalojada, Antonia eleva el pesado polvo para apuntar directo a los miedos, a las laceradas dudas, a la fatiga incomprendida, invocando, desde su exilio interior una última entrega honesta.  Exilio entendido como errancia íntima de quien ha sido desprendida del mundo, extranjera del propio cuerpo, extraña a sí misma y a quien se le impone la poesía como vehículo para construir otro territorio donde la única patria es la de la palabra que balbucea la huida de una realidad que no es posible mantener porque encarcela, excluye, abandona.

Es el mundo de la oscuridad que la sumerge en el silencio, es la tierra de nadie donde la carencia anhelante reclama; desde ese espacio sin piso y sin columna nos escribe Antonia, develándose y develándonos la fragilidad que somos. Ella no sabe dónde está y menos aun si debe estar. Indaga en su herida, la asume meticulosamente y, desde la fractura, nos habla de ella y nos la entrega.

Pretende Antonia, probablemente de manera intuitiva, fundar para sí su propia realidad; crear frágiles puentes entre la nada que habita y su existencia a través de la palabra que la invoca.  Estando viva ha sido arrojada a la muerte, busca con sus textos comunicarse desde el silencio, impulsada por la fuerza de la sobrevivencia que traspasa las pequeñas rendijas de su habitación.  A través de su poesía Antonia recupera el aliento; la escritura la va persuadiendo de que aun se puede vivir no obstante el dolor del mundo.

Es precisamente el exilio interior de la poeta lo que se pretende dar cuenta con la lectura de algunos de los poemas recogidos en Textos del desalojo, compuesto por tres secciones; la primera de ellas lleva el mismo título, mientras que la segunda y la tercera se denominan respectivamente Columna en vilo y Tiempo hendido;  estos anuncian al lector lo que tiene entre sus manos: la  Antonia cóncava, oscura, implorante que se narra desde el lugar del tormento de un cuerpo y de un ser desprendidos de sí mismos; la poeta traductora del abandono y del destierro.

En Textos del desalojo la autora anhela la nada, suplica saltar por encima del tumulto terreno, de la pétrea solidez, abandonar las cosas, los objetos, los lugares e invoca la noche para que le permita penetrar la verdadera luz, detener la vida -horizonte no elegido- que, perforada por el tiempo indetenible, impide la materialización de la auténtica esencia.

Se quisiera penetrar el instante sin dimensiones, sin trayectoria definida, el inesperado instante, la calma exhausta, el tenebroso asalto.  Se quisiera penetrar la noche, noche-isla, noche-universo descendiendo. Se quisiera penetrar la luz, remontar iluminada, ascender por encima del tumulto terreno, de la pétrea solidez, tocar esferas blancas, mundos sin peso desprendidos de toda densidad  Se quisiera dejar las cosas, los objetos.  Se quisiera abandonar el horizonte no elegido, dejar los sitios.  Se quisiera no estar en sitio alguno, penetrar el tiempo en su nueva, vertiginosa rotación, penetrar los signos, las señales.  Se quisiera no estar. Se quisiera no estar y no ser en el ser anudado, espasmódico ser que no emerge.  Se quisiera entreabrir permanencias, tocar sustancias, savias, primarios deleites. Se quisiera ser en la cópula infinita prolongación del ser (Palacios, 2011, p. 511).

Y, mientras anhela ese no estar en sitio alguno, lo cierto es que aun vive, respira, presiente y, entonces, desprovista de sí misma en la profunda dicotomía entre el ser y el querer no ser, se adentra en el exilio interno, se rastrea, se llama pero no responde, despedazándose se abandona, se muere.

Una parte se escapa, tiembla, se curva.  Una parte se desprende, se niega, se respira.  Una parte se  presiente, se detiene a presentirse ensimismada y a oscuras, se detiene sin saberlo, se desprende sin saberlo, separada de otra parte, entrelazada a sí misma, a la parte que se piensa diferente y es la misma….

Una parte se aposenta sobre el tiempo en despoblado, sobre el tiempo de lo solo, una parte solitaria que se busca, se rastrea, que se busca y no se encuentra, que se clama, que se implora, que se adentra en el vacío, que se llama y no responde, una parte en descalabro se desprende…se desprende…se desprende…¡Oh la parte que me curva, que me tiembla¡ ¡Oh la parte de mi misma que me niega, me abandona, que se muere¡ (Palacios, 2011, p.  513).

Las partes de Antonia se van desprendiendo, sordas a la búsqueda y a la imploración, ella asiste a sus propias exequias que son también las de todo aquel que ha sido abandonado; entretanto el mundo, privado de la mirada de quien ya no está, es un último jirón, un último despojo, playa desierta por donde pasan los perros jadeantes, ausente la esperanza de alguna llama viva, de algún fulgor.

Como ropajes de duelo, como el último jirón, el último despojo, orlas enlutadas, flecos que se desflecan, inmensos pliegues hondos, como bosques talados, como ciudades tristes, como mensas desnudas, como playas desiertas, como pasan jadeantes los perros, como pasa el aire, como pasa el día, como quedan prendidas, engarzadas las horas, como ropajes de duelo extendidos, vacíos, polvorientos, marchitos, ¿dónde el fulgor, dónde el brillo, dónde la llama viva, la lejanísima incandescencia, dónde el tránsito, dónde la errabunda espera, dónde la alborada, dónde el dónde, dónde el allá, dónde?...aquí…aquí la noche, aquí la ausencia, aquí la nada (Palacios, 2011, p. 515).

Con Esta columna en vilo, segunda parte del poemario Textos del desalojo, comienza a vislumbrarse ese lugar, ese dónde, esa lejanísima incandescencia a la que aferrarse y sostenerse; nos atrevemos a decir que es posible entrever cómo nuestra autora, desde las profundidades y a través de su creación poética, emprende la construcción de un apoyo al cual asirse, una columna aun frágil, angustiada y titubeante, pero columna al fin.

Participamos por tanto a la reconstrucción del propio cuerpo de quien ha alcanzado la muerte sin morir, en una búsqueda del renovado día naciente.  Se hace entonces impostergable darle la espalda a los muros derruidos que el silencio arrebata, surgir desde un desconocido origen, con un nuevo gesto, ese que nunca has usado.

Invéntate de nuevo.  Constrúyete en el nuevo día naciente.  Invéntate en el día que alumbra, tú, prisionera y sin habla. Tú, solitaria. Sola entre cientos, sola entre miles, entre ninguno, sola.  Sola entre cosas sin peso, entre el vaho que exuda la noche que se extingue.  Invéntate distinta. Tú sola, sin palabra que te lleve, sin mirada que te guíe. Sola. Sola….

Constrúyete de nuevo como lo que nade de pronto, sin origen. Levanta un nuevo gesto, el que nunca has usado. Deja que la casa sucumba en su conjuro, en su lluvia de polvo.  Aléjate sin miedo.  Vuélvele la espalda a ventanas hundidas en el aire, muros derruidos que el silencio arrebata.  Dejas atrás las puertas confinadas y mira hacia lo lejos…Mira el arco abierto, invisible (Palacios, 2011, p. 525).

Para forjarse desde el renovado origen, se hace urgente entonces nombrar la herida, decir el olvido, escribir las palabras azotadas de mutismo, mirar los ojos a la extraviada y, como un cántico: apuntar, descifrar, llamar.

Digo. Digo con voz de nadie. Clamo. Digo. Digo sin lágrimas. Voy diciendo en el olvido. Deshabitada, desdoblada en asaltos. Digo. Digo cada cosa sin nombrarla. Azotada de palabras, de silencios. Digo velando y develando el oculto latido. Digo despierta, viva, hablando de otras cosas, otros asuntos, dejando que el zumbido del habla me detenga, me alcance en agonía.  Digo. Digo encorvada, buscando el límite, arañando tierra ajena.  Digo extraviada, desterrada, sacada de mi quicio, del umbral de una puerta que fue mía. Digo. Clamo. Invoco. Invoco el humo, su temblor, su densa oscuridad. Digo. Soplo sobre fuego apagado (Palacios, 2011, p. 527).

Es desde ese nombrarse que nuestra poeta intenta rozar la realidad; levanta sus brazos hacia la superficie, las manos abiertas al infinito, al cielo; erige su cuerpo tembloroso para sostener el sólido vacío y, desde su cabeza apoyada en unos huesos que vacilan, desde una columna en vilo, da vueltas sobre sí misma, en la búsqueda de una señal que la interrogue y le enseñe una nueva vida.

Abro mis brazos, vuelco hacia arriba las palmas de mis manos.  Alzo mis brazos, los excesos de mi cuerpo los levanto desde el fondo. Busco el tacto, el apoyo, en lo alto mi cabeza, mi cabeza en el vacío, en el sólido vacío.  En lo alto mi cabeza.  Mi cuerpo erecto, esta columna viva, inclinada, esta columna en vilo.  Las palmas de mis manos, mis brazos levantados, mi cabeza girando.  Descubro los designios que mi cuerpo señala, círculos sin rumbo.  Mi cuerpo erecto, mi cuerpo inmóvil, mi propio tacto, mi propio apoyo, mi cabeza girando, giro en el rumbo, giro en el vacío.  Las palmas de mis manos abiertas a la espera, mis brazos levantados desde el fondo, mi cabeza girando, la secreta unidad de mi vientre allá en el fondo…Mi cuerpo erecto.  Esta columna vida…Esta columna en vilo…(Palacios, 2011, p. 531).

A partir de ese equilibrio inestable Antonia se va forjando, se narra, observa y expresa el tránsito desde la muerte: la propia, la de los suyos, la de aquellos que estuvieron y la de los que están aun por venir.  Suspensión vital que la devuelve a la vida, último aliento que ha sido sufrido y que es imprescindible nombrarlo porque aun no es el deceso definitivo.

Estoy muriendo.  Estoy muriendo de una muerte lenta, callada, sin ruido.  Estoy muriendo sin morir. Estoy llena de muertes. Muertes que pasan como sombras por mi rostro. Muertes que huyen y que nunca alcanzo.  ¿Cómo alcanzar mi muerte única? ¿Cómo elegirla entre tantas muertes que me acosan? Estoy muriendo. de la muerte como sola compañía, y la muerte penetra en mi casa, pisa mis alfombras, toca mis cristales, apaga mis campanas.  Estoy muriendo de una muerte dura, implacable.  Una muerte que me va desollando y va dejando en carne muerta mi carne viva. Estoy muriendo de una muerte espesa, violenta, una muerte que juega con mi aliento el juego de la muerte, y lo toma y lo deja, lo desata y lo anuda, lo lleva a sus postrimerías, lo regresa a sus comienzos.  Una muerte que me hiere sin sangre derramada y me va socavando lentamente las entrañas.  Estoy muriendo

Y de pronto parece que la muerte alumbra.  Que es sólo sombra el sueño de la vida, que el aire de la vida es soplo muerto, vacuo estrépito el grito del amor.  Que esta vestidura que palpita sólo tiembla y se aquieta ceñida por la muerte.  Y de pronto parece que ya no estoy muriendo.  Que he alcanzado a la muerte sin morir (Palacios, 2011, p. 535).

Para salir a rastras de esa agonía, Antonia hace un inventario de sus días, de los afectos y amores, aquellos que fueron y los que no pudieron ser; de los ausentes; todo lo mira en procesión frente a sí.  Aparecen también la infancia y las memorias, regresa a los pasos andados para recuperar la luz; recuerdos que son piedras lanzadas al aire o que han sido cubiertas por el agua y, mientras presencia sus días pasados, entrevé el futuro para vislumbrar la última de las piedras, aquella que aun no tiene nombre, la definitiva.

Aquí mi piedra inmóvil, mi inmóvil fortaleza. Aquí mi piedra inerte, mi piedra en descalabro.  Aquí mis piedras todas. Hago el inventario de mis piedras. Las que pesan en mis manos como culpas, las que nunca fueron lanzadas, las desconocidas del aire. Construyo rostros con mi piedra ennegrecida, rostros ciegos, de frente y labios carcomidos. Toco mis piedras sopladas por el fuego, toco mis piedras ardidas, chamuscadas, sedientas.  Juego con aquellas venidas de la mar, las que llevábamos en alto, pétrea corona, y hacíamos sonar y rebullir y chispas saltaban de roce inmemorial. Aquellas cubiertas por las aguas en fuga que yacían en lo hondo de pozos sombríos y salían a la luz, recién lavadas, húmedas todavía rodando por los años, por los días…Aquí mis piedras nobles, las que respiran hacia dentro, y esta piedra del olvido que yace aquí encallada, dura, impía. Aquí mis piedras todas, mis grandes piedras demoledoras y mis piedras menguadas, inánimes, desnudas, sin musgo, sin estrías. Aquí mis piedras todas. Todas mis piedras reunidas dándome vueltas, girando en torno mío, apretadas en cerco, cerco de muro, muro gigante cuajado en piedra. Y ésta mi piedra intacta, mi última piedra, reclinada sobre la tierra, rectangular y fría, piedra sin nombre, aguardando mi nombre cada día (Palacios, 2011, p. 541).

El tránsito del reconocimiento del dolor y la asunción de las propias sombras hace necesario volver la mirada y recorrer el pasado, de ahí que Antonia en la tercera y ultima parte de su poemario (Tiempo hendido), se detenga para mirar las grietas del tiempo y frenar el movimiento lo que le permitirá reconocer las fisuras y restablecer el ritmo vital que aun respira.

Se pregunta entonces ¿Dónde la anchurosa curva apenas iniciada? ¿Dónde el desterrado sol?, y le habla a la luz que es un pálido fulgor que guarda el secreto de todo lo perdido, que teme alumbrar sus tinieblas; y se habla a sí misma exigiéndose hacer una pausa, recordar, dejar caer las redes que la tienen amarrada, surgir desde los escombros alejándose del roce del borde de las sombras.

Abre los espacios. Deja que resbale entre tus dedos la materia sin peso. Tiende el arco por encima de tus sueños. Detente ante el tiempo hendido. Recuerda tus lejanas irradiaciones, tú, la desmemoriada. Deja caer las redes sobre el mar en fuegos. De entre los escombros surgirá el Tributario. Vendrá a pagar la sed de tus desvelos. No te inclines, no. No te doblegues. Es alto el día. Alta la luz. No dejes que te roce el borde de la sombra. (Palacios, 2011, p. 551)

Reconoce la poeta su estado de exilio, paso fundamental en el tránsito hacia una cierta recuperación anímica y para lograrlo se desdobla, se ve desde otra esquina, percibe y comprende su duelo, observa su silueta ovillada y quiere rescatarla.

Estoy aquí en lo oscuro de espaldas a la luz, olvidando el comienzo, la eternidad del día.  Estoy aquí ignorada, el perfil de mi rostro perdido entre las sombra.  Estoy aquí disminuida, apenas una línea, un punto sin relieve.  Estoy aquí inclinada dejando que la noche me pase por encima.  Afuera en el espacio las águilas inmensas batallan con el viento.  Estoy aquí aguardando…Y recojo mis gestos, y repliego mi aliento, amordazo mi voz y toda yo soy silencio oculta entre lo oscuro.  Estoy aquí vigilante, velando temerosa una criatura errante que en mí se ha detenido (Palacios, 2011, p. 557).

Una vez enfrentados los monstruos, habiendo recorrido el viaje hacia las profundidades abisales del extrañamiento, Antonia reconoce su propia lejanía que le permite también entender que en algún lugar de la oscuridad tiembla la existencia, la respiración, el rocío, la mañana; es el cuerpo que quiere salir hacia otros parajes, que busca un territorio más amable inventando otro gesto, quizá para recuperar el propio impulso vital que ella reconoce y, a veces, ansía.

Finalizada nuestra aproximación a la revisión de algunos de los poemas de Textos del desalojo, no podemos dejar de mencionar que en los sucesivos poemarios publicados por la poeta, se desprende ese constante transitar entre la oscuridad y la luz; esa intermitencia de un estado a otro, de un lugar a un no lugar (Jaimes Borges, 2013, p. 1) que caracteriza esencialmente la manera de estar del exiliado.  Así, por ejemplo, en el último de sus poemarios publicados Hondo temblor de lo secreto (1991) Antonia nos dice

Estoy ensayando un gesto.  Se rompe mi equilibrio en el inicio del gesto. Mi cuerpo se queda en reposo.  Me he detenido en un gesto.  Voy buscándole otra forma, desprendiéndolo del tiempo, liberándolo del cuerpo.  Ha comenzado a fluir como un río desbordado.  Hay manos que se sumergen, manos que quieren tocarlo.  Mi gesto se va estirando, deja de pertenecerme.  Otro gesto se levanta, otro vuelo, otra distancia (Palacios, 2011, p. 565).

El intento de inventar un nuevo gesto, buscar otro vuelo, otra distancia para poder de alguna manera viajar hacia la tierra que le sirve de apoyo, es posible sólo si se vuelve la mirada hacia los sitios de otros tiempos, si se recorre nuevamente desde una cierta conciencia las huellas del rumbo desvaído, el viaje del desprendimiento.

Me estoy buscando en sitios de otros tiempos.  Caminando entre espacios donde pasó el silencio.  Estoy pisando huellas del rumbo desvaído que dejaron mis pies en noches de olvido.  Hay una luz cambiante.  Un cielo que se esconde extendido y flotante.  Lejana está la tierra que me sirve de apoyo.  La busco en la inclemencia, en la especial tristura de los días huidos que fueron descendiendo si saber su destino.  Ya no sé quien soy.  Acaso me prodigo rastreando las memorias que dispersas se hallan. Mi mano es otra mano, mis brazos y mi cuello transcurren en cuerpo ajeno.  Soy la desconocida aquélla que de pronto se pagó entre su sombra (Palacios, 2011, p. 571).

La exiliada persiste en sus memorias, vuelve a tocar su cuerpo, pareciera no reconocerlo, separado está en otro cuerpo y, sin embargo, constata que aun quedan labios y ojos que miran las cosas, aun la vida persiste.

Todavía quedan labios, ojos que miran las cosas. Quedan los brazos alzados en un intento de vuelo. Queda el sexo palpitante, húmedo todavía. Y este caer del rocío en la secreta espesura de mi bosque ya desnudo (Palacios, 2011, p. 577).

Antonia insiste en hablarse, en sostenerse y sobrevivir, en abrir los surcos del cielo entoldado, levantar su mano, enlace entre la vida y la muerte; y escribir aunque sea un solo nombre.  Pero aun el viaje no ha terminado, ella regresa a la sombra absoluta, a la nada solo que esta vez con los ojos abiertos; observa su cuerpo -otrora erecto- que se arrastra por encima de la superficie lisa y, por piezas, de nuevo, va resbalando, descendiendo.

Finalmente, llegaron en la noche.  Dejaron en la tierra su oscura carga.  Un humo denso trazó su círculo.  El ritmo de las horas quedó fijo en mi cuerpo.  Recordé tu mirada en vívida memoria, tu lento, despacio respirar. Crucé las manos y comencé a no ser nada (Palacios, 2011, p. 599).  Y, sí, ellos llegaron; poblando sus días y las transitadas noches: ellos, los ausentes, las memorias, los amores, la hija, el dolor que insiste, la muerte.

Nos detenemos aquí.. En las páginas anteriores se ha querido hacer una primerísima aproximación a la poesía de Antonia Palacios y reconocer con la lectura de sus poemas el estado de exilio interior en el que permaneció los últimos treinta años de su vida.

Nuestra poeta nos ha legado una obra con un contenido absolutamente estremecedor que nos habla desde el no lugar de quien ha sido desterrada de su propia vida; también nos presenta la valentía de quien afronta el obligado devenir; acude para ello al universo de la palabra poética, espacio íntimo y solitario que le permitirá resistir, en el tránsito hacia la nada, sus noches abisales.

La mujer, la madre, la poeta que ha sido y es Antonia Palacios nos lleva de la mano y nos asiste con ternura a nuestro análogo y propio exilio ayudándonos a nombrar, nuevamente, una tierra que nos fue prometida y que ahora nos desaloja más allá  de nuestro propio aliento.

Referencias bibliográficas

  • Ascencio, Michaelle (2004). El viaje a la inversa (Reflexiones acerca del exilio en la narrativa  antillana).  Fondo Editorial de Humanidades. Universidad Central de Venezuela. Caracas.
  • Boadas, Aura Marina (2000). “El exilio en la narrativa de Jacques-Stéphen Alexis”. en Memoria, Nostalgia y Exilio. AVECA- Asociación Venezolana de Estudios del Caribe. Caracas.
  • Ficciones y aflicciones. Antonia Palacios (1989). Selección y prólogo Luis Alberto Crespo. Cronología y bibliografía: Antonio López Ortega. Biblioteca Ayacucho. Tomo No. 146. Caracas.
  • Gasparini Lagrange, Marina (2012). Exilios. Poesía Latinoamericana del siglo XX. Sociedad de Amigos de la Cultura Urbana. Caracas.
  • Jaimes Borges, Daniela (2013). ¿Lugar de residencia?, en Ficción breve venezolana. http://ficcionbreve.org/lugar-de-residencia-por-daniela-jaimes-borges/.
  • Márquez Rodríguez, Alexis (2002). “Prólogo a las Obras Completas de Antonia Palacios”, en Obras Completas Antonia Palacios. Volumen I. Calicanto. Universidad Católica Andrés Bello. Editorial Ex Libris. Caracas.
  • Martínez Bachrich, Roberto (2011). Tiempo hendido. Un acercamiento a la vida de Antonia Palacios. Editorial Sociedad Amigos de la Cultura Urbana. Caracas.
  • Palacios Frías, Fernán (2002). Presentación de las Obras Completas Antonia Palacios. Volumen I. Calicanto. Universidad Católica Andrés Bello. Editorial Ex Libris. Caracas.
  • Piñeda Perez, Ileana (2000). “La pequeña Habana: la narrativa cubana y la construcción de la patria en el exilio”, en Memoria, Nostalgia y Exilio. AVECA- Asociación Venezolana de Estudios del Caribe. Caracas, 2000. 

Curriculum Vitae

Flavia Pesci Feltri es de Caracas-Venezuela (1968). Poeta y abogado. Profesora de la Facultad de Ciencias Jurídicas y Políticas de la Universidad Central de Venezuela desde el año 2002. Ha participado en los talleres de poesía de los poetas venezolanos Astrid Lander, Luis Enrique Belmonte, Rafael Castillo Zapata, Armando Rojas Guardia, Igor Barreto y Santos López. Algunos de sus poemas han sido publicados en antologías poéticas: Antesala (Caracas, 2010); La voz de la ciudad (Caracas, 2012); Sesión de nuevas voces (Maracaibo, 2014); 102 poetas Jamming (Caracas, 2014); y, Cien mujeres contra la violencia de género (Caracas, 2015). En el 2012, su poemario Lugar de Tránsito fue seleccionado como ganador del Concurso Nacional de Literatura, organizado por la Asociación de Profesores de la Universidad de los Andes (APULA). En abril de 2017, la editorial Oscar Todtmann Editores publicó su poemario Cuerpo en la Orilla.

(العنوان مستقى من أغنية المطربة اللبنانية نهاوند)

بمناسبة مرور الذكرى السادسة على رحيل الصديق هاشم القريشي والذي صادف قبل بضعة أيام

***

بيني وبينه ألفة ومودة، وإستمرت على هذا النحو حتى رحيله. ومن محاسن الصدف التي لا بأس من التذكير بها، أن كان من أوائل الرجال الذين التقيتهم ومع وضع خطواتي على طريق الإغتراب وإختيار المنفى إضطرارا كملاذ لي. وعن أبو علي أو أبو زيد كما هو متعارف عليه بين أبناء قريته، نسبة الى ولده البكر الذي تمت تصفيته على يد قوى الإرهاب، كان قد سبقنا في مغادرة بلده، لتطوعه كمقاتل مع إحدى فصائل المقاومة الفلسطينية اليسارية، فضلاً عن أسباب أخرى ما عادت بالخافية على أحد.

وبحكم العلاقة التي جمعتنا والتي قاربت الأربعين عاماً أو يزيد، فقد كانت تدور ما بيننا أحاديث طويلة ومعمقة ومتنوعة، كان حصة الأسد فيها ومدارها الجانب السياسي وما حلَّ ببلدنا من كوارث، نتفق في بعضها ونختلف في غيرها، مع بعض الشد والجذب. وإن كنت قد نسيت الكثير منها بفعل تراكم الزمن والأحداث عليها فسوف لن أنسى ما كان قد قدمه لي من نصائح ووصايا، فكانت من بينها والتي لا زال رنينها وصداها يترددان على مسامعي: إياكَ وقطع الصلة. في حينها وجدت نفسي مجبرا على الإستفهام والإستيضاح أكثر عمّا يعنيه أبو علي، فردَّ قائلاً: أعني إياك وقطع صلة الرحم مع الوطن ومع َمَنْ تُحب. فكانت نِعمَ النصيحة ونِعمَ القول.

ولإلقاء الضوء على بعض من سيرته، فأكاد أجزم بأن أبو علي وفي الفترات الأخيرة من حياته وعلى الرغم من سعة علاقاته وتنوعها، أن ليس هناك من أحد يكشفٌ له ما يمر به من مصادفات وصعوبات ومن وقائع يومية، وبمستوى عالٍ من الثقة والصراحة، كما اعتاد أن يكون عليها معي، حتى الفتني وقد تحولتُ الى أشبه ما أكون بخازن أسراره وحافظها. وآخر ما كشفه لي وحدثني عنه على سبيل المثال وقبيل رحيله بفترة قصيرة جداً، وبين الجد والهزل وبعض الدعابات المتبادلة التي اعتدناها، ما كان قد رآه في منامه.

فراح مشرعاً القول:

لا أعرفُ كيف حطَّ بي الرحال على أرض سمرقند، وكيف تجولتُ في درابينها وشوارعها بحثا عن احدى الحانات، ﻷحتسي من الخمر ألَذَّهُ وأطيبه. وأخيرا (لا زال الكلام له) وبعد قطعي من الوقت وبما يزيد على الساعة مشياً، وإذ بي أتوقف عند أحدى الواجهات، المزدانة بصور على درجة عالية من الجمال والجاذبية وما تسعد لها الروح وتهنأ. قلت في سرّي لألج المكان إذاً، ففعلت، وإذا بجمهرة واسعة من عشاق الغناء والطرب الأصيل، مجتمعون على شكل حلقات، يحيطون بطاولات فارهة في أبعادها، زاهية بألوانها، سخية في كرمها، وليبادر أحدهم وبعد أن أحّسَّ بحيرتي، بدعوتي للجلوس معهم ومشاركتهم فرحتهم، فكان ما كان ودارت الأقداح.

هما كأسان أو ثلاثة على أرجح الظن حتى بلغتُ غايتي من الراحة والإسترخاء، ولأشعر اثرها بنشوة ما بعدها نشوة، فحلَّقَت بعيداً. الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فمؤشرات الشجاعة والجرأة أخذت بالتسلل ألي، لتفسح في المجال للدخول في نقاشات حامية الوطيس وعلى مستوى عالٍ من الجدية مع مجموعة من جلاّس الحانة وندماءها ومن خيرة القوم. هذا ما بدا عليهم ومن خلال مظهرهم وأسلوبهم، كذلك في كيفية تعاطيهم وتعاملهم مع الغريب.

وكي أصدقك القول، فلم أعد أتذكر بأي اللغات تحدثت اليهم، لكني وفي كل الأحوال فقد نجحت وعلى ما أزعم في إيصال ما جال في خاطري، حريصاً على التوقف عند أبرز المحطات وأكثرها أهمية، فشرعت بإستعراضها بتأنٍ تام وحذر شديد وبتواريخ محددة لا زلت أحفظها عن ظهر قلب، على الرغم من تراكم السنين عليها ورحيل العديد من رجالها. في ذات الوقت فقد تعمدت إستبعاد الكثير من المواضيع التي قد تسبب الملل والضجر في نفس المتلقي، مستفيداً في ذلك من الدرس الذي تعلمته أثناء خوضي لنقاشات عديمة الجدوى والفائدة مع جهال القوم.

أمّا إن سألتني عن طبيعة الأحاديث التي تمَّت إثارتها وتناولها، فقد تراوحت ما بين الخوض في شخصية احمد صالح العبدي، الذي كان قد عُيِّن حاكما عسكريا عاما بعد نجاح ثورة تموز سنة 1958 في العراق، وما بين التوقف عند أغاني العشق والهوى ومنطق الطير وطبيعة العلاقة الحميمة التي تربطني بذلك العالم، فضلاً عمّا يجمع الحبيب بحبيبته وتبادل رسائل العشق بينهما. كذلك شرعت وبعد أن حلى لي الجو وطاب، وشعرت بأن ذائقتي الشعرية قد فُتِحَتْ أبوابها وعلى مصراعيها ومن دون قيود، بقراءة آخر القصائد الشعبية التي كنت قد فرغت من وضع اللمسات الأخيرة عليها قبيل غفوتي بدقائق، مستعينا ببعض الحركات والإشارات المناسبة، والتي قد تعين المتلقي على فهمها.

الأهم من ذلك وبعد أن طاب المقام وإستأنس الحضور بما قرأته من شعر وما تركه من إنطباعات إيجابية في نفوسهم، فقد إنتقلت وبناءاً على رغبتهم وإلحاحهم الشديدين الى مناخ آخر لا يمت بصلة بما سبقه، حيث قمت بإستعراض وجرد آخر ما توصلت اليه التكنولوجيا الحديثة من إبتكارات وما انتجته دوائر الصناعات العسكرية الحربية الروسية، المتصدية دائما وبقوة لقوى الإستعمار والإمبريالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، مستعرضا كذلك ما كنت قد أقدمت عليه وفي إحدى المناسبات، حين تصديت وبمفردي لإحدى المظاهرات المناوئة ﻵخر زعماء البلاشفة النجباء الا وهو الرفيق فلاديمير بوتين.

بالمناسبة، فما أن أتيتُ على ذكر اسم الرفيق بوتين، وإذا بالحاضرين يقفون جميعاً وبميقات واحد، مصفقين مهللين هاتفين بحياته وبحياة الإتحاد السوفييتي وقادته العظام. ناسين أو ربما كانوا في غفلة أو ليس لديهم خبراً بأن هذا الإتحاد ودولته قد صارا في خبر كان. أو قد يكون وهذا إحتمال آخر وأظنه الأرجح، بأنَّ الأمل لا زال يحدوهم بعودة ذلك العهد وتعود معه منظمة التعاون الإقتصادي (الكوميكون)، الداعمة لإقتصاديات شعوب العالم الثالث، والتي كانت تضم مجموعة الدول الإشتراكية. غير أنّ ما أدهشني وأفرحني أكثر وفي آخر الحلم وقبيل يقظتي، أن وقف الجميع وبلحظة إجلال وكبرياء، وراحوا يغنون سوية، نشيد الأممية:

بجموع قوية هبوا لاح الظفر، غد الاممية يوحد البشر.

انها لأيام زاهيات حقاً، ولا ندري إن كانت ستعود أم أمست حلما كحلم أبو علي  ... .

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

قصة يوسف الابن والنبي تتحول الى ملحمة فلسفية في الديوان الشعري (يوسفيات) للأديب واثق الجلبي

***

الكثير من الكتب تناولت قصة النبي يوسف، شعراً وسرداً ونثراً، ولكن ضمن إطار السيرة الدينية التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، من ناحية الموعظة والحكمة والتفسير، ولكن نجد في الديوان الشعري (يوسفيات) شيء مختلف خلاق في ابتكاراته، ان تتحول القصة الى ملحمة فلسفية في أثرها العميق، في المعنى والمغزى والرمز، في أبعادها الفكرية التي تستلهم الحاضر، أي في الدلالة التعبيرية جر الماضي الى الحاضر، في رحلة استكشافية واستقرائية في إعادة صياغة، بالتشكيل الفكري، وتسليط الضوء على الفراغات التي ملأت الحياة والوجود، حيث كثرت الندوب والزعانف والعلل، وأصبح الوجود الراهن يمثل كل أبعاد محنة يوسف الإبن والنبي في الصراعات القائمة، والمتناقضات المتناثرة هنا وهناك، قصة يوسف معضلة (يوسف في الجب) (يوسف خارج الجب) هي نفس معضلة الحياة في الجب، ربما أكثر ضراوة وشراسة، تكون احياناً بطرق سلمية، وتارة بالطرق العنف والغدر والخيانة، وأصبح يوسف النبي وظله زليخة، ويوسف الإبن وامتداداته عنوان الحاضر والوجود. معنى ودلالة ورمزاً، ومحاولة الارتقاء على الجروح، التشبث بالحب الصوفي في آفاقه الواسعة، الارتقاء إلى عشق الحقيقة والنور، لعل طرد الظلام والزيف، انها امتحان عسير في جوانب الصراعات التي أخذت شكل أرجل الاخطبوط في المرادفات والمعارضات الكثيرة، نوجز بعضها: العجز والتضحية. الظلام والنور. الجلاد والضحية. البطش والتحدي. الاستسلام والمقاومة، الإخفاق والحب. القبح والجمال. الفقر والتخمة. الخيانة والطيبة. وغيرها من المرادفات التي ابتلى بها يوسف النبي ويوسف الإبن، تتجدد زعانفها في واقعنا الراهن، والتعمق الفلسفي والفكري في الديوان الشعري، وزع هذه (يوسفيات / عددها 214) على عدة محاور، أهمها:

1 - يوسفيات الإبن والنبي

2 - يوسفيات حسينية

3 - يوسفيات واثقية. نسبة إلى الاستاذ الشاعر واثق الجلبي

4 - المرادفات والمعارضات وابجدية الكلمات

فلابد من تسليط الضوء بايجاز على هذه المحاور الأربعة.

×× اليوسفيات:

أن للشعر صنفان،صنف يناصر الجمال، والاخر يناصر القبح بذلك يضع نفسه في الكفن، لأنه يتجنى على الجمال والحقيقية زوراً وبهتاناً.

قبيحٌ أن ينام الشعرُ في الكفن وأقبحُ منه ما ألقاه في زمني

أيسكتُ شاعرُ الشمسين جللهُ من التضييع ما يزري على اليفنِ

فمنهم من أراح الشعر قاطبة وراح ينام ملء العين في الوسن

ومنهم راقب الأشعار يحسبها خرافة من له عينان كالوثن

ومنهم من يزور النجم ساحته لينظم أجمل الأبيات في المحن

* بين الحقيقة والكذب خيط رفيع من ذهب، ربما يخلط الأشياء بالأسود والأبيض،وقد يقود هذا التجني على حتفه. يعني تجنى على نفسه.

بين الحقيقة والكذبْ خيط رفيع من ذهبْ

لا تعجبوا من كاذبٍ فالصدقُ باتَ هو العجبْ

من كان يرجو أن يلاقي حتفهُ.. فأنا فعلتُ

أو أن يُغّمِس قلبهُ بندى رماد الذاريات.. فأنا غمستُ

من كان يشطرَ وحيهُ.. فانا شطرتُ

هل منكمُ رجلٌ يذوقُ حروفهُ صلبا بغير المقصلة

***

التغني بالجمال شيء جميل ولكن هل يصمد امام أفاعي الغدر والخيانة؟

يا وجه يوسف شبههُ البدرُ هَتكَ اشتياقُ حبيبكَ الصبرُ

قد راع أيامي تآكلها إذ فرّ من أعواميّ العمرُ

منكَ الفؤادُ وفيه أمنيةٌ أن تلتقي بدنانها الخمرُ

أن تجرع الشفتان ما ادّخرتْ فيها وثلجُ شرابها الجمرُ

واسمعْ تباريحي وما كتمتْ تلك العيونُ وماؤها الغمرُ

مِنْ غادرٍ أبقٍ يُباعدنا وحظوظهُ من عودةٍ صفرُ

التيه في الحياة كالقلب المهجور فقد البوصلة، وأصابعه لا تعرف إلا ان تبكي حبراً في ورق، وتنام مرتاحة البال.

كنتوء في قلب مهجور

وأصابع لا تعرف إلا ان تبكي حبراً في ورق

وتنام على زهرة الدفلى

×× اليوسفيات الحسينية:

الإمام الحسين نبراس وعنوان المجد والتضحية والشجاعة والإقدام. أصبح مثالاً ساطعاً لكل شعوب العالم لتحرر من الظلم والفساد، والديوان الشعري ينفرد بهذه المميزات الحسينية ضمن يوسفيات، نقتطف من هذه الشجرة بعض الزهور الحسينية.

× إن الحسين قصيدة عصماءُ فيها من الرفضِ العظيم سماءُ

لاءٌ بألف كتيبةٍ أمويةٍ فاللامُ في حرمِ الحسين إباءُ

صوتٌ يشقُ رماحهم وسيوفهم وكأنه في جمعهم أرزاءُ

من فتيةٍ قاموا بنشرِ جسومهم وعيونهم من بأسهم حمراءُ

إذ يوفضون إلى العلاء دماءهم والمُطعمونَ بروحهم أمراءُ

**

×ما ذنبُ هذا القلب أن يتمزّقا شعراً ومن شوقٍ عليك تدفقا

يا آية بوركتَ خامسَ كوكبٍ رتلتني وحياً وغيرك ما رقا

وكأنني في الطفِ رملُ نقيعةٍ قامتْ لتُنهِض من قطيعٍ مرفقا

ولقيتُ صبحك بالدماء ملونٌ من عاشقٍ لاقى بحبك ما لقى

×× عن أي جرحٍ ناطقٍ أتكلمُ

وهو الذي رمتهُ يتبرمُ

* دعْ عنك إن أحجية الرجوع ملامة فلطالما أغراك ما لا يفهمً

×× يبقى الحسين وتذهب الأسماءُ وكأنه للعالمين دماءً

وكأنما كل العوالم قفرة ودمُ أبن بنت رسولنا أمواءُ

لم يشتكي عطشا ولم يفتك به أحدٌ ولكن ساعة وقضاءُ

×× يوسفيات واثقية نسبة إلى شاعرها الاستاذ واثق الجلبي. يجول ويصول بفكره ورؤيته الهادفة والرزينة، في مختلف مناحي الحياة والوجود في براعة متناهية في تناسق البلاغة في اللغة والرؤية الفلسفية الناضجة. نقتطف بعض أزهارها.

أدمنتَ موتكْ

وقتلتَ بعد بكائه المدفون.. صوتكْ

وحملتَ نجم الشمع

حتى في وسادتك التي حرّقتها

ونسيتها ونسيت بيتك

خُذها كمعتصر الغمام..

واحمل بقاياك الرتيبة

وارسم غبار الكون في أمسٍ.. حقيبة

خُذ من عصيفِ الصبر بعضا من شِفاه

×× لا الرأس يهدأ قل لي كيف أسكتهُ والقلبُ ينبضُ بين النارِ والخشبِ

- أفرِغْ حياتك من الشخصيات الزائدة ومن الوجوه التافهة فحياتك ليست كيسَ قمامة

- ليس في وجهك موقعٌ لكدماتٍ لا تنته يعِشْ بلا شك

4 - المرادفات والمعارضات وابجدية المفردات

في المصنفات يوزعها بشكل جميل وشفاف، كأن الشاعر يقدم لنا أبجدية شعرية متكاملة في أجناسها اللغوية وعمقها التعبيري البليغ في دلالته، واختار هذه المعارضة الجميلة. بين هو وهي:

×× هو:

لكِ ما للرياحينِ أيا سيدة التينِ

فيا ويلي من الدهرِ وقد ضيعتُ عشريني

تعالي وانعشي قلبا من الأحجار والطينِ

وصُبي فوقهُ غيماً كما الإعصار واسقيني

أيا ملساءُ فأرويني برفقِ الحبِ واللينِ

أماتَ الدهرُ أيامي وقد عادتْ لتُحييني

هي:

أيا معنايَ في النونِ وطيبَ الأمرِ في الشينِ

أيا من قلبهُ حولي يذوقُ خمرَ ماردينِ

وتلك النقطة العميا على سري ومكنوني

نقلنا أمسنا حتى تلاقتْ أعينُ الجونِ

أغطي منك آلاما كما أنت تغطيني

سمعتُ القلبَ وافاهُ نزيلُ الشوقِ في الحينِ

الديوان الشعري يستحق القراءة والمتابعة، لأنه يختلف عن المألوف والتقليدي، انه ابتكار خلاق في المنصات الشعرية لغة وبلاغة وفي العمق الفلسفي الدال بشكل عميق وبليغ.

***

 جمعة عبد الله

 

كانت الانظار تتجه صوب الصين، فمعظم التوقعات وضعت اسم الروائية الصينية " تسان شيئه "، على قائمة ابرز المرشحين لنيل جائزة نوبل للاداب لعام 2024، لكن القائمين على الجائزة قرروا منحها الى الكاتبة الكورية الجنوبية " هان كانغ " التي ستدخل عامها الـ " 54 " الشهر القادم . كانت هانغ في ذيل قائمة الترشيحات بالرغم من كونها ابرز كاتبة في كوريا الجنوبية، وحصلت على جائزة البوكر الدولية عام 2016 عن روايتها " النباتية " – ترجمها محمود عبد الغفار -، وكادت ان تفوز ببوكر ثانية عام 2020 عن روايتها " الكتاب الابيض " – ترجمها محمد نجيب "، لم تصدق ان نوبل طرقت بابها قالت لسكرتير الجائزة وهو يبلغها بالفوز عبر الهاتف:" لم أكن مستعدة حقا للفوز بالجائزة "، بدا الأمر مثيرا لها، كانت تعيش يوما عاديا، انتهت من تناول طعام العشاء مع ابنها الاصغر حين اخبروها بالخبر، لتصبح المرأة الثامنة عشر في سجل نوبل للاداب الذي افتتح عام 1901، واول اديب كوري جنوبي ينال نوبل . اشاد قرار منح الجائزة باسلوب كانغ " الشعري المكثف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف عن هشاشة الحياة البشرية". وبأنها:" تمتلك وعياً فريداً بالارتباط بين الجسد والروح، والأحياء والأموات، وأصبحت بأسلوبها الشعري والتجريبي مبتكرة في النثر المعاصر، مكرسة نفسها للموسيقى والفن".، وقال أندرس أولسون، رئيس لجنة جائزة نوبل، إن "تعاطف كانغ مع حياة الضعفاء، والنساء في كثير من الأحيان، ملموس، ويعززه نثرها المشحون بالاستعارات"

ولدت هان كانغ في السابع والعشرين من تشرين الثاني عام 1970 في مدينة غوانغجو، جنوب كوريا الجنوبية، في العاشرة من عمرها تتنقل عائلتها إلى حي سويو دونج في سيول، درست الأدب الكوري في جامعة يونسي في العاصمة.في عام 1993، ظهرت هان لأول مرة في مجال الأدب من خلال سلسلة من خمس قصائد نُشرت في مجلة الأدب والمجتمع الكورية. وفي العام التالي، فازت بمسابقة سيول شينمون الأدبية الربيعية بقصة بعنوان "المرساة الحمراء". صدرت مجموعتها القصصية الأولى، حب يوسو، في عام 1995.، كما فازت بجائزة مان هاي الأدبية وتعمل حاليا أستاذة في قسم الكتابة الإبداعية في معهد سيول للفنون. في طفولتها عشقت الكتب من خلال والدها العاشق للادب:" كنت محاطة بالكتب دائما على الأرض وفي كل زاوية وركن حيث غطت الكتب كل شيء ما عدا النافذة والباب فقد أبقى والدي المكتبة متنامية وأذكر أني شعرت دائما بأن الكتب كانت توسعية بمعنى أنها كانت في وفرة مستمرة إلى حد أنني فوجئت عندما زرت منزل صديقي ورأيت كيف أنه أفتقر إلى الكتب "، ترسم صورة مبهجة لبيتهم الصغير الذي كانت الكتب تتدفق فيه " من الأرفف، فتغطي الأرض بأبراج غير منظمة مثل متجر لبيع الكتب المستعملة حيث تم تأجيل التنظيم إلى الأبد. بالنسبة لي، كانت الكتب كائنات نصف حية تتكاثر باستمرار وتوسع حدودها. وعلى الرغم من التنقلات المتكررة، كنت أشعر بالراحة بفضل كل تلك الكتب التي تحميني" .

عاشت حياتها خائفة من الموت والمرض تتذكر ان والدتها اخبرتها انها كانت مريضة عندما حملت بها تتناول الكثير من الأدوية. ولأنها كانت ضعيفة للغاية، فكرت في الإجهاض. لكنها بعد ذلك شعرت بي أتحرك داخلها وقررت أن تلدني تقول ان الحظ منها فرصة العيش على الكرة الارضية.

قرأت في طفولتها المبكرة كتب الأطفال المصورة:" أتذكر أنني كنت مفتونًا بقصة استوديو تصوير طبع صورًا لأحلام الناس. وصورة طفل يشعر بالأسف على الأشجار النائمة واقفة في الليل ويغني: "يا شجرة، يا شجرة، استلقي ونامي".، بعدها ستجد نفسها منغمسة في في قراءة الأدب وخاصة دوستويفسكي . قرأت باسترناك عدة مرات وكانت رواياتها لاتفارق مكتبتها .

على الرغم من أن هان كانغ ترفض وضع تعريف ادبي لنفسها إلا النقاد اطلقوا عليها لقب روائية " العزلة والخسارة" . تطرح في معظم اعمالها السؤال، الذي عبرت عنه بطلة روايتها " الكتاب الابيض ": "إذا كنت قادرا على العيش كما تريد، فماذا ستفعل بحياتك

حظيت أعمال هان كانغ باشادة النقاد والقراء لقدرتها على الاستكشاف العميق للطبيعة البشرية من خلال أسلوب الكتابة المتدفق والقوي . وكأنها تقول إن حياتنا اليومية، والأفكار المحدودة المقبولة اجتماعياً التي تدعم تلك الحياة، فضلاً عن حالة كوننا بشراً في حد ذاتها، تشكل عنفاً لا يطاق، تحتضن شخصيات هان أحاسيسها الحية المؤلمة وتمضي في حياتها بشجاعة، قالت انها ادركت بوقت مبكر أن الحقيقة يمكن أن تكون جزءًا من الخيال، تقول انها تعلمت من قراءة ا بورخيس كيف يمكن للانسان ان يعيش الحياة بكل تفاصيلها، سيكون بورخيس حاضرا في صفحات روايتها " "دروس إغريقية - ترجمة محمد نجيب - ". والتي وصفت بانها صرخة صمت، حيث تحارب اللغة ضد الفناء. بطلة الرواية امرأة فقدت صوتها وأمها وحضانة ابنها. لمكافحة هذه المآسي، تلجأ إلى لغة ميتة - اليونانية القديمة - في محاولة لاستعادة ما سُلب منها. وستجد أستاذا أعمى يشبه بورخيس، يساعدها على الاجابة على الاسئلة التي تحيرها وستكون هذه العلاقة العمود الفقري لرواية تثير العديد من الأسئلة: كيف نعيش بدون صوت؟ ماذا لو علمنا أننا سنفقد بصرنا؟

في اشهر رواياتها " النباتية " تقدم لنا هان كانغ صورة بالغة الروعة والدقة عن الوضع الاجتماعي الذي تعيش فيه المرأة في العصر الحديث، وتطرح اسئلة عن الظلم والتمرد والاختلاف بين البشر، والجنون الذي يصيب الانسان في لحظة ضعف من خلال حكايات ابطالها.

في الصفحة الاولى من الرواية يخبرنا السيد تشيونغ عن زوجته التي قررت فجأة الامتناع عن تناول اللحوم وطبخها، وهو يعطينا انطباع عن نظرته الى زوجته هذه: " لم أكن أرى شيئاً مميزاً في زوجتي قبل أن تصبح نباتية، وأقولُ بصراحةٍ إنني لم أشعر بانجذابٍ نحوها حين رايتها أول مرَّة " فهي في نظره: " قليلة الكلام .كانت القراءة – لسبب غير معلوم – شيئا تغمس نفسها فيه، تقرا الكتب التي تبدو مملة الى درجة انني لا استطيع ان احمل َ نفسي على مطالعة اكثر من اغلفتها " .. لماذا اصبحتُ نباتية تبرر الزوجة " يونغ هاي " فعلها هذا بحلم رأت فيه فمها وثيابها ملطخة بالدماء، ووجهها ينعكس في بركة دم، فيما تمسك بسكين تقطع به اصابع يدها . بعد ذلك الحلم تبدا تتحول إلى كائن يتصرف بغرابة، فلا تطيق اللحوم ولا تطيق الاقتراب من زوجها وملامسته والنوم معه، لأنه يذكرها برائحة اللحوم، الزوج الذي يشكو تصرفات زوجته يبدا باثارة حملة ضدها تدفع والدها إلى معاقبتها بضربها، ووضع اللحم بالغصب في فمها. ترد على العقوبة بقطع شرايين يدها، وعندما تنقل الى المستشفى تقرر خلع ثيابها والوقوف في حديقة المستشفى على يديها ورأسها كالشجرة حيث تحلم بأوراق تنبت من جسمها، قائلة إنها لم تعد حيواناً وإنها تحتاج فقط الى الماء والضوء. .انها تتذكر الآن حياتها حيث كانت ضحية لعنف الأب الذي ظل يضربها حتى بلغت الثامنة عشرة من عمرها .

في القسم الثاني من الرواية سنتعرف على زوج شقيقتها، مخرج افلام فديو، يفاجأ ذات يوم حين يرى ملصقاً لعرض مسرحي فيه ررجال ونساء عراة إلا من رسوم لأزهار ملونة على أجسادهم. خطرت له فكرة تصوير فيلم حين علم من زوجته أن على جسد شقيقتها علامة ولادة زرقاء صغيرة اشبه بالنبتة. كانت " يونغ هاي" بشعة ربما مقارنة بزوجته، لكنها تشعُ طاقة، وبدت له مثل شجرة في البرية. يزورها في المستشفى متظاهراً أن شقيقتها قلقة عليها، توافق في النهاية على فكرته ان أن يصوّرها،

في الاستوديو، يرى العلامة الشاحبة الزرقاء - الخضراء. يرسم جسمها بالأزهار بدءاً بالعلامة، ويصوّر نفسه وهو يرسمها. كان جسدها جسد شابة جميلة يُفترض أن يكون موضع الرغبة، لكنه خلا منها تماماً لرفضها الحياة فيه وتركها لجمالها يذبل مع الايام .

بعد منحها جائزة البوكر اكدت اللجنة المشرفة على الجائزة ان هان كانغ نجحث في " النباتية " بـ " إظهار التلاحم الطريف بين الجمال والرعب عبر قصة مركزة ودقيقة ومروعة، عن امرأة تستحيل إلى نباتية بين يوم وليلة دون أي مسوغات، سوى الكابوس الذي نبش حلمًا من أحلامها في إحدى الليالي"، وقال الناقد البريطاني بويد تونكن الذي راس لجنة تحكيم البوكر أن: " هذه الرواية الموجزة والمقلقة والمكوّنة بشكل جميل تتتبع رفض المرأة العادية لجميع الاتفاقيات والافتراضات التي تربطها قسراً بمنزلها وعائلتها والمجتمع في أسلوب غنائي يكشف عن تأثير هذا الرفض الكبير على كل من البطلة نفسها وعلى من حولها. سوف يظل هذا الكتاب الصغير والرائع والمزعج طويلاً في العقول، وربما في أحلام قرائها. "

تطرح هان كانغ في " النباتية " فكرة المعاملة السيئة للنساء، فالبطلة حين تتحول إلى نباتية تلام بشدة، ويَصِمونها بالجنون، وكأن ليس من حقها أن تختار، بل هذا الخيار الحرّ نحو ما يلائم شخصيتها لا وجود له في عالم المرأة المتزوجة، هذا الانتهاك الذي يتعرض لحريتها الشخصية ربما هو المبعث الأساسي لفشل حياتها الزوجية، ليس هذا فحسب، بل إن الرواية أيضًا تظهر طبيعة المجتمعات التي لاتتقبل اختلاف الآخر، قالت " هان كانغ " بعد فوزها بالبوكر:" "أردت أن أصف امرأة يائسة لم تعد تريد أن تنتمي إلى الجنس البشري. فالبشر يرتكبون العنف، فكيف يمكن لي أن أتقبل أن أكون أنا واحدة من هؤلاء البشر؟ هذا النوع من المعاناة دائما يطاردني ".

روايتها أفعال بشرية- نرجمها الى العربية محمد نجيب - تدور أحداثها حول انتفاضة ايار عام 1980 التي شهدتها المدينة التي ولدت فيها " غوانغجو "، وقد قدرت أعداد ضحايا المواجهات بين الشرطة وتالمتظاهرين بالمئات، حيث تصور الرواية الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية بعد اغتيال الدكتاتور بارك تشونك سنة 1979، حيث أحكم الجيش قبضته على الحكم وقمعَ الحركات التي برزت في الجامعات وأطلق الرصاص على المتظاهرين.قالت انها كتبت " افعال بشرية "

عن الراحلين والباقين والعالقين بين الرحيل والبقاء. انها " رواية يرويها أحياء عن أموات وأموات عن أحياء " .

قالت هان كانغ انها تنبأت بان الادب الكوري سيجد له مكانا على خارطة الادب العالمي، وبعد فوزها بجائزة البوكر صرحت لجريدة الغارديان البريطانية:" إن الفوز بجائزة أدبية دولية لن يكون مشكلة بعد الآن".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

الكاتب زهير ياسين شليبه في كتابه "جودليّه" يقدم عملاً أدبياً يصعب تصنيفه، فهو يوصفه بـ"السردية الهجينة العابرة للأجناس". الكتاب يأخذنا في رحلة معقدة ومؤلمة يعيشها اللاجئون في بحثهم المستمر عن الأمان والانتماء، وهو ما يجعل القارئ يتأمل في مدى التناقض بين المشاعر الإنسانية العميقة التي يحملونها وبين التحديات التي يواجهونها في أوطانهم الجديدة.

في الجزء الأول من الكتاب، "رسائل من زمن الحصار"، يغمرنا الكاتب بمشاهد من الماضي والحاضر عبر "مخطوط لُقية"، وهي مجموعة من القصص المؤثرة التي تروي حياة سارد مجهول. نعيش معه طفولته وشبابه في بلاده قبل أن يجبره الواقع القاسي على مغادرتها، ثم نتابع تفاصيل حياته بعد وصوله إلى الدنمارك كلاجئ. تلك القصص لا تقتصر على الحنين للماضي، بل تقدم لنا صورة معقدة عن صراع اللاجئ بين وطنه الذي تركه والبلد الجديد الذي يحاول الانتماء إليه. ما يميز هذه الرسائل ليس فقط التناص بين الذكريات الشخصية والواقع الصعب الذي يفرضه الحصار الاقتصادي على وطنه، ولكن أيضًا التحليل العميق لمشاعر اللاجئين المتباينة: الأمل والحزن، الشوق للعودة والتطلع إلى الاندماج. النصوص تشكل نسيجًا معقدًا من هذه المشاعر، مما يجعل القارئ يبحر في تجربة إنسانية صادقة، حيث لا يمكن الفصل بين الفرح والحزن، بين الغضب والامتنان.

في كل فصل من الكتاب، تتجلى هذه المشاعر بوضوح، سواء كانت فرحة لاجئ بإيجاد استقرار مؤقت أو حزنًا عميقًا على فقدان الوطن. عشت مع كل صفحة من الكتاب وكأنني جزء من هذه التجارب. تأثرت بشدة بأحاسيس اللاجئين، فبينما كانوا يحاولون بناء حياة جديدة، كنت أشعر بالحنين والحزن يتسلل إلى أعماقهم، وكأنهم يعيشون في عالمين متوازيين. لم يكن الكتاب مجرد سرد لأحداث حياة اللاجئين، بل كان أشبه بلوحة فنية تتلون بألوان الحياة المختلفة. كل قصة، كل رسالة، كانت بمثابة لوحة جديدة مرسومة بعناية، تعبر عن مصير مختلف. وما جعل الكتاب استثنائيًا هو قدرة الكاتب على الجمع بين الفكاهة والدراما، بين السخرية السوداء التي تعكس مرارة الواقع، واللحظات الإنسانية التي تتسلل عبر السطور. في بعض الأحيان، توقفت عن القراءة لأشعر بعمق الحزن الذي حملته هذه الرسائل، وأحيانًا أخرى لم أستطع إلا أن أضحك بصوت عالٍ عند وصف المواقف الساخرة. عبر الكتاب، نجح زهير شليبه في جعلي أشعر وكأنني واحدة من هؤلاء المهاجرين، أعيش يومياتهم، وأتشارك أحلامهم وخيباتهم. بصفتي مقيمة في النرويج، وجدت أن الكتاب يتحدث عنّا نحن المغتربين في بلاد الشمال، ويعيد رسم صورة واقعية عما يواجهه اللاجئون من تحديات، ليس فقط في محاولاتهم لإعادة بناء حياتهم، ولكن أيضًا في صراعهم للحفاظ على هويتهم.

هذا الكتاب ليس مجرد سرد لقصص اللجوء، بل هو تأمل عميق في التجربة الإنسانية، تجربة التمزق والانتماء، الحنين والاستسلام. يقدم زهير شليبه من خلال "جودليّه" صورة حية عن واقع اللاجئين، ويجعلنا نعيش تلك اللحظات معهم، نتأملها ونتساءل عن مصير هؤلاء الذين يعيشون بين وطن غاب ووطن لا يزال يبحث عنهم.

***

زكية خيرهم

حصلت الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانج على جائزة نوبل في الأدب لعام 2024 ، مما مثل لحظة هامة للغاية في مسيرتها الأدبية والمشهد الثقافي في كوريا الجنوبية. وقد اعترفت بها الأكاديمية السويدية "لنثرها الشعري المكثف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف عن هشاشة الحياة البشرية".

لا يسلط هذا التكريم والاحتفاء المستحق الضوء على إنجازات هان الفردية فحسب ، بل يعكس أيضًا السياقات السياسية والأدبية الأوسع التي شكلت عملها وتداول الأدب الكوري الجنوبي على الساحة العالمية.

ولدت هان كانج في غوانغجو عام 1970، ونشأت في مدينة اتسمت بالاضطرابات السياسية، مما أثر بشكل عميق على صوتها الأدبي. تتمتع غوانغجو بأهمية تاريخية بسبب انتفاضة غوانغجو عام 1980 ، حيث قُتل مئات المدنيين على يد الجيش أثناء حركة مؤيدة للديمقراطية. هذا الحدث المؤلم هو موضوع متكرر في كتابات المحتفى بها، وخاصة في روايتها المشهورة "تصرفات إنسانية" ، والتي تستكشف تأثير العنف والخسارة على حياة الأفراد.

بدأت هان مسيرتها الأدبية بالشعر، ونشرت مجموعتها الأولى في عام 1993. وعلى مر السنين، انتقلت إلى النثر، واكتسبت شهرة دولية بروايتها "النباتية" (2007)، والتي تتعمق في موضوعات الاستقلال الجسدي والمعايير المجتمعية من خلال قصة امرأة تقرر التوقف عن أكل اللحوم بعد تجربة أحلام مزعجة.

إن ترجمة هذه الرواية إلى الإنجليزية في عام 2015، ثم فوزها بجائزة البوكر الدولية في عام 2016، قد رفعت من مكانتها على مستوى العالم بشكل كبير.

غالبًا ما تتناول أعمال هان كانج الصدمات التاريخية ، وتستكشف كيف تشكل التواريخ الشخصية والجماعية صورة الهوية. وغالبًا ما تتميز رواياتها ببطلات إناث يتنقلن بين الضغوط المجتمعية والصراعات الشخصية، مما يعكس انخراطًا عميقًا في قضايا مثل الصحة العقلية والحزن والأسئلة الوجودية.

على سبيل المثال، في روايتها "تصرفات إنسانية" Human Acts ، تستخدم هان أسلوبًا سرديًا مجزأً لإعطاء صوت لضحايا العنف الحكومي، مما يسمح لهم بسرد تجاربهم حتى بعد الموت. لا يخدم هذا المنهج المبتكر كشكل من أشكال "أدب الشهادة" فحسب، بل يؤكد أيضًا على التفاعل بين الذاكرة والصدمة.

إن الاعتراف بفوز هان كانج كأول امرأة آسيوية بجائزة نوبل للآداب يرمز إلى الديناميكيات المتغيرة داخل عالم الأدب. تاريخيًا، تعرضت جائزة نوبل للانتقاد بسبب تركيزها على أوروبا، حيث لم تحصل سوى 17 امرأة على الجائزة من بين 120 فائزًا منذ إنشائها.

إن التأثيرات السياسية لأعمال هان يتردد صداها بعمق في السياق المعاصر لكوريا الجنوبية. لقد خضعت البلاد لتحولات كبيرة منذ نهاية الحكم الاستبدادي في أواخر القرن العشرين، مما أدى إلى تطور وارتقاء في التعبير الثقافي الذي يستسقي من روافد الماضي. تعكس الأعمال الأدبية للكاتبة هان هذا التطور من خلال تحدي المعايير المجتمعية ومعالجة الظلم التاريخي، وبالتالي المساهمة في الحوارات المستمرة حول الهوية الوطنية والذاكرة.

لقد فتح التألق الدولي الذي حققته هان كانج الأبواب أمام مؤلفين آخرين من كوريا الجنوبية، مما سيعزز الاهتمام بالأدب الكوري في جميع أنحاء العالم. لقد أسر أسلوبها السردي الفريد - وهو مزيج من اللغة الشعرية والعمق الموضوعي العميق - القراء خارج حدود كوريا الجنوبية.

إن التقدير الذي حصلت عليه من جوائز مرموقة مثل جائزة نوبل سيعزز مكانتها كشخصية محورية في الأدب النسائي المعاصر.

علاوة على ذلك، أثار عمل هان مناقشات حول دور الأدب في معالجة القضايا الاجتماعية. ومع استمرار الحركات السياسية في التطور على مستوى العالم، ستعمل كتاباتها كتذكير بقوة الأدب في مواجهة الحقائق المزعجة وإلهام طرائق التغيير.

إن حصول هان كانج على جائزة نوبل في الأدب لعام 2024 ليس مجرد إنجاز شخصي معزول؛ بل إنه يمثل اعترافًا أوسع بالتراث الأدبي الغني لكوريا الجنوبية وانخراطها في السرديات التاريخية المعقدة. إن استكشافها للصدمة والمرونة والهوية يتردد صداه بعمق في السياقات الوطنية المحلية والعالمية، مما يجعلها صوتًا نسائيا رائدا في الأدب المعاصر.

وبينما تستعد لقبول هذه الجائزة المرموقة في ديسمبر 2024، تقف هان كانج عند تقاطع الفن والنشاط الإنساني - وهي شهادة على كيف يمكن للأدب أن يسلط الضوء على التجارب الإنسانية تحت الظلال التاريخية. وتوضح رحلتها من جوانججو إلى الشهرة العالمية كيف يمكن للسرديات الشخصية أن تتجاوز الحدود، وتعزز التعاطف والتفاهم عبر الثقافات.

***

عبده حقي

لاشك بأن الشعر يعتبر العنصر الرئيسي للتعبير عن الاحاسيس الانسانية منذ القدم، وقد مر بمراحل عدة من النظم الشفهي الى الكتابة عن طريق الأوزان والبحور ثم الى يومنا هذا وتأثير جميع الحركات الحداثوية والفكرية العالمية على نبض الشعر وتدوينه دون انكار الوقع الكبير لجميع انواع الشعر على النفوس قديما وحديثا، فهو الجنس الادبي الاصعب اذا اردنا ان نأتي بعمل مميز ونتاج ابداعي، وقديما كان للشعر حضورا في حياة الناس والمجتمعات بل أثر على الاحداث وأدى دورا فعالا في المناسبات والطقوس .

لكننا في مقالنا هذا نتطرق الى مسألة مختلفة تماما وهي طرح طرق ومعايير النظر والتعامل مع الشعر المعاصر، لكن وقبل كل شيء يجب ان نتعامل بشيء من الاحترام  مع كل ما يكتب باسم الشعر، سهلا أم معقدا، جميلا أم ركيكا، لأنه يعتبر جزءا لا يتجزأ من عالم الروح والشخصية والتجارب لموءلفه وكل نص يعبر عن شيء من عالم الشاعر ومعاناته ولحظاته الروحية الخاصة، لذا جدير بالاهتمام والتقدير. وبما ان الوسيلة الاهم في الشعر هي اللغة وان اللغة تتحرك وتتقدم الى الامام من خلال الشعر والادب وهي في دوامة التجديد مستمرة مع حركة الحياة، لذا نلاحظ احيانا تفاوت طرق الانشاء والتعبير والفهم والاسلوب بشكل عام من حقبة الى الاخرى، وهذا ما يجعلنا ان ننظر الى الشعر کوحدة واحدة وكتلة غير متجزئة منذ منذ بدايات العصر الكلاسيكي  ولحد الان، وهكذا يبني الشعراء المعاصرون على ما بنوا القدماء ولا نرى تنافرا بل اكتمالا للمسيرة الشعرية على مدى العصور وبين الاجيال.

في هذا المقام نحن لسنا بصدد توجيه القراء والتمييز بين الشعر الجيد والرديء، لكن وعلى ضوء التجارب يمكننا القول بأن هنالك قاسما مشتركا للاعمال الشعرية الاصيلة والجادة لوجود وتوافر مقومات ونقاط القوة في تلك النصوص أيما كانت لغة الشاعر، فالشعر في ذاته هو لغة مشتركة عالمية بين بني بشر على خلاف ألوان بشرتهم ومشاربهم وميولهم.

اذ ان هناك ركائز عدة يجب اخذها بالحسبان  عند النظر والتقييم للنصوص الشعرية ومن ثم على ضوئها نتعرف على الطبيعة التكوينية للقصائد. فقوة هذه النقاط تلقي بظلالها علی الاستنتاج والاستكشاف، ومن بين تلك الركائز يجب مراعاة الجودة والتمييز في الثيـمة والتي هي بمثابة العمود الفقري للشعر، كما علينا ان نسأل هل هي متكررة أم متجددة؟ هل تسترعي انتباه اللاوعي أثناء التأمل والدراسة؟ أي خيط فيها تربط بهموم القاريء، ثم هل ان الفكرة وليدة طبيعية لتصورات ورٶی وقناعات الشاعر وانتضجت داخل المختبر الشعري وذهن الشاعر أم لاء؟ الى ان نأتي الى مناقشة نوعية اللغة واساليبها البلاغية من المجاز والاستعارات والتضاد، ثم هل ان للشاعر رٶی شعرية خاصة به بحيث يتميز به دون غيره؟ وما نوع الرسالة التي تحتوي النص وبأي لغة صاغت القصيدة هل هي دارجة يومية أم راقية متفننة؟ وما هي التقنية المستعملة والاسلوب الصياغي للشعر؟ هل هي سائدة أم فيها دلائل وشفيرات يرشد القاريء الى عوالمه الخفية بحيث يحتاج قراءات متأنية وتأملات عميقة. وبما ان الخيال هو المحرك الرئيسي لتحديد خطوات الانجاز الشعري، مع مراعاة تجدد الصور  الشعرية  وندرتها نصل الى حافة الاتيان بالجيد والتمتع بقراءة نصنا كأول قاريء وناقد في آن معا.

بل كلما حاول الشاعر أن يكون نفسه وذاته في نصه كلما كان شعرا أحسن وأجدر بالذكر والتدبر، والشاعر الجيد يحاول دوما ان يتجنب التقليد والتكرار، وفي الاخير ان لكل نوع من الشعر طبقة معينة من القراء، بحيث يتقاسم كل طبقة نوعا محددا من المضامين والاشكال الى نصل الی النص الجاد ولا نجد الاغلبية ترغب بقراءته الا النخبة الشعرية وهم دائما يتابعون كل جديد ويبحثون عن تغذية ذائقتهم بالاختيار الانسب الخاص بهم والمتميز.

عموما ينقسم أصناف الشعراء الی ثلاثة أنواع:

1- الصنف الذي يكتب الشعر كممارسة للهواية.

 2- الذين يجدون في كتابة الشعر ضالتهم للتخلص من الهموم والاحتراق الداخلي.

3- الشعراء الجادين الذين يحاولون اجتياز ومغادرة السابقين بل حتی أنفسهم العتيقة!.

الا ان التعامل مع الاسماء بدلا من الاعمال يعتبر الداء العضال عند القراءة ويفسد علينا موضوعيتنا وينقلب المعايير الابتكارية والجمالية عندنا، في حين ان كل نص شعري له مناخه وتضاريسه الخاصة به وهو في علاقة مترابطة وعضوية بروح الشاعر وأنفاسه الآنية وتعدد أدواته الشعرية وغناء تدفق أفكاره وتخيلاته، وهذا ما سماه الباز بـ (عصير الشاعر) أو بئره الذي يستخرج منه افكاره وصوره أو سماءه التخيلي.

في الختام يجب علينا ان لاننسى بأن الثيمة كلما كانت نادرة وعلى صلة بالمتلقي كلما كانت بداية موفقة لكتابة الشعر، وبما ان الصور الشعرية تعتبر المكون الرئيسي لبناء النصوص فان الشاعر الملهم والمتمكن يعرف كيف يرسم ويصوغ  صوره الشعرية، وهو عالق بين الواقع والخيال لكنه وبمهارته سيصنع خيطا أو حبلا يربط من خلاله بداية نصه بوسطه وآخره ويخرج منه سالما دون الهلاك، ونحن بدورنا نشعر كالقراء بالعذوبة والانسجام وثبات البنية للنص من خلال التعابير الشعرية المتدفقة وصوره المتجددة وبناءه الرصين.

***

سوران محمد

الحب موضوع أبدي في الأدب العالمي، وقد ألهم الأدباء في كل العصور. وفي كل عصر كان يعبر عن قيم أخلاقية وجمالية معينة للشعب الذي ينتمي إليه الأديب. وهذا الشعور يمنح الإنسان السعادة والإلهام، أو يجعله يكابد ويعاني، وقد يكون سبباً في القيام بمآثر أو ارتكاب جرائم. ويحتل مكانة كبيرة في حياة كل إنسان، وهو شعور لا معنى للحياة دونه، وفي الوقت نفسه، يعيش في قلوب كل من الأشخاص الحقيقيين وأبطال الأعمال الأدبية. كل مظهر من مظاهر الحب فريد من نوعه في نص كل مؤلف.

لقد ولت منذ فترة طويلة الأوقات التي كان فيها تقبيل يد الفتاة، أو رؤية بعض مفاتنها هو الحلم النهائي لمن يعشقها، وبما أن الأدب هو غالبا انعكاس فني للواقع الذي خلق فيه، فليس من المستغرب أن تحتوي أي قصة حب على بعض المشاهد الصريحة في الأقل، إنها تحفز الخيال وتثير مشاعر قوية لدى القارئ. ومع ذلك، هناك احتمال كبير للوقوع ليس في الايروتيكا الجميلة، ولكن في البورنوغرافيا، أو الإباحية الكريهة، رغم وجود القيود القانونية العديدة في معظم بلدان العالم، التي تحد من نشر المواد الإباحية. ومثل هذه المواد لا تثير اهتمام الجميع، وتقابل بالسلبية والرفض من القارئ السوي.

تتمثل إحدى المشكلات في تطبيق المعايير، التي تحد من نشر المعلومات الإباحية وما شابهها، هي عدم اليقين في مسألة التمييز بين مفهومي الإيروتيكا والبورنوغرافيا، حيث لم يتم تعريفهما بشكل معياري في أي مكان، ولا يزال علماء الجنس يتجادلون حول هذا الأمر حتى اليوم. لفهم هذه المشكلة، من الضروري أولا وقبل كل شيء، التمييز بين ثلاثة مفاهيم ينبغي عدم الخلط بينها. الجنس هو الحياة الجنسية الحقيقية للإنسان بكل مظاهرها، ورغم اختلاف الثقافة الجنسية بين الأمم المختلفة، إلا أنها لا تزال تقوم على الغريزة الجنسية والحاجة إلى الإنجاب واللذة التي ينالها الإنسان، من تلبية هذه الحاجة.

الإيروتيكا وسيلة لعكس الجنس في الثقافة، وتختلف من ثقافة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر، كما تختلف باختلاف المراحل التاريخية، وهي متميزة وفريدة في كل ثقافة، فعلى سبيل المثال يختلف مفهوم الإيروتيكا في الثقافة الهندية والصينية القديمة كثيرا عن هذا المفهوم في الثقافة الروسية أو العربية..

البورنوغرافيا قد تتجاوز الثقافة الإيروتيكية لبلد ما، لكنها لا تعد مواد بورنوغرافية في ثقافة أخرى أو بلد آخر، فعلى سبيل المثال هناك قيود قانونية في معظم البلدان الأوروبية، تحد من نشر المواد الإباحية، في حين أنها متاحة في هولندا، التي لا توجد فيها مثل هذه القيود، ولكن بغض النظر عن ذلك، ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أنه في أي مجتمع، وفي أي ثقافة، فإن الابتذال واستخدام الألفاظ النابية أو الفاحشة هما أساس البورنوغرافيا في الأدب، في حين أن الذائقة الجمالية، ونبل الأفكار شرطان لا غنى عنهما لإنشاء عمل إيروتيكي. إن معاداة الفن والفظاظة وابتذال الوسائل والتقنيات في حد ذاتها، يمكن أن تخلق تأثيرا إباحياً (بالطبع، إذا كانت هناك حبكة إباحية) حتى في الحالات التي لم يكن لدى المؤلف مثل هذا الهدف أو النية. وهذا ما يسمى بالإباحية العفوية، التي تصاحب دائما تدني مستوى ثقافة الأديب أو المجتمع ككل. تحدد نسبة الإيروتيكا والبورنوغرافيا في أي مجتمع من خلال مستوى ثقافة مواطنيه في المقام الأول. ولهذا السبب، تحديداً عندما يكون هذا المستوى منخفضاً، لا يمكن لأي رقابة أن تحد من نطاق انتشار المواد البورنوغرافية. وفي حالة وجود مثل هذه الرقابة فإنها تتخفى تحت الأرض. ومن الصعب التمييز بين مفهومين عندما لا يكون هناك حتى تعريف واحد متفق عليه بين علماء الجنس والباحثين لأي منهما. ومع ذلك، دعونا نكتشف أين هو الحد الفاصل بين الإيروتيكا والبورنوغرافيا في الأدب، الذي ينبغي للكاتب أن لا يتجاوزه إذا كان يعتمد على قارئ مهتم بالقيم الجمالية.

الإيروتيكا: فن نقل المشاعر الجنسية. في مثل هذه الأعمال هناك عنصر الإيحاء أو الإيماء بدلا من التصريح المباشر. تركز الإيروتيكا فقط على الجمال الجسدي والروحي، دون إثارة الرغبة في الاتصال الجنسي، وتصور الرغبات والأفعال الجنسية في شكل فني، وتهدف إلى التأثير على عواطف الشخص من أجل إثارة المشاعر والأفكار الجمالية لديه. وغالبا ما تكشف عن أعماق جديدة للوجود الإنساني، لم يتم فهمها أو قبولها بعد من قبل الأخلاق والوعي الجماعي.

أما البورنوغرافيا فإنها تربط كل شيء حصريا بالسرير، وهي مليئة بالوصف الطبيعي المباشر، وتنفي تماما العنصر الروحي للعلاقة بين الرجل والمرأة، وتجرد الإنسان من الإنسانية. علاوة على ذلك، قد تحتوي هذه الكتب على عناصر انحرافات مختلفة، بما في ذلك تلك التي يحظرها القانون.

إذا كانت الإيروتيكا تأخذ القارئ إلى مستوى جمالي جديد، وتجعله يحلم ويتخيل ويفكر، فإن البورنوغرافيا لا تترك مجالا للخيال، لأن التركيز هناك يكون على الاتصال الجنسي نفسه، ويترك كل شيء آخر جانباً. ونتيجة لذلك فإن مثل هذه الكتب تثير الرغبة وتكثفها، لكنها لا تقدم أي غذاء للعقل أو القلب. من الواضح أن الأدب البورنوغرافي (مع استثناءات نادرة) لا يمثل أدنى قيمة فنية، لأن المهمة الرئيسية لأي أدب هي التعبير عن المشاعر والتجارب الإنسانية. الأدب فن يجب أن يظل جميلاً وروحانياً للغاية، بغض النظر عن الانحرافات النفسية والسلوكية. الإيروتيكا قادرة على إشراك القارئ في تكوين أحكام أخلاقية، كما تستطيع استكشاف مجموعة واسعة من المشاعر والاستجابات العاطفية. الخوف والألم والشوق والإيمان والحب والكراهية والرفض والقبول ـ إن هذا النطاق لا نهاية له. أما البورنوغرافيا فإنها بطبيعتها ـ غير قادرة على القيام بأي من هذا بطريقة ذات معنى. الإيروتيكا هي الجسد والجمال، والبورنوغرافيا هي اللحم والسلعة» وبعبارة أخرى، فإن البورنوغرافيا غير حساسة، تلقائية، مثيرة، أي جنس مجرد تماما من الإنسانية. وإذا كان الشخص غير قادر على فهم هذا الاختلاف، فإن هذا يدل في المقام الأول على تدني مستوى ثقافته العامة والجنسية. ليس للإيروتيكا والبورنوغرافيا التأثير نفسه في المجتمع، وخاصة في النساء. ففي البورنوغرافيا يتم قمع النساء ومعاملتهن بعنف مثل الأشياء، بينما في الإيروتيكا لا يوجد مثل هذا القمع والعنف، بل هو مظهر من مظاهر المتعة التي يشعر بها الشريكان، وليس مظهرا من مظاهر العنف. الإيروتيك أو الإيروسية آتية من الإله إيروس، إلهُ الحُبِّ والجنس والخصوبة، وتعبر عن نشاط جنسي كامل قائم على المودة والرغبة المتبادلة بين شريكين متساويين، ونزع صفة الحيوانية عن الاتصال الجنسيّ، وتحويله عملاً فنياً يجتمع فيه الخيال والحساسية والفانتازيا.. أمّا البورنوغرافيا فإنها تأتي من جذر يوناني آخر ـ «بورنو» الذي يعني الدعارة وتعكس نشاطا جنسيا مجردا من المشاعر والخيال، قائما على هيمنة الذكور واستغلال النساء.

ولهذا السبب فإن كلمتي «متبادل» و«بين المتساويين» صريحتان بشكل خاص لأنهما تعنيان عدم وجود فرق بين الرجال والنساء في هذا المجال. لا يستعرض الرجال سلطتهم على النساء، بل على العكس من ذلك، هناك مفهوم المشاركة بين الشريكين.. هذه مشاعر إيجابية يعيشها كل زوجين في الحب. ونتيجة لذلك، تُظهر الإيروتيكا العلاقة الحميمة الطبيعية بين الزوجين. من ناحية أخرى تعكس البورنوغرافيا نشاطا جنسيا حيوانياً قائما على هيمنة الذكور واستغلال النساء. من وجهة نظر الحركات النسوية، الايروتيكا هي تصوير للعلاقات الجنسية المتساوية بين الرجل والمرأة، والبورنوغرافيا هي العلاقات غير المتكافئة التي تنتهك الرغبات الجنسية للمرأة.

إن ممارسة الحب يجب أن تكون جميلة ورومانسية وناعمة ولطيفة وخالية من الفوضى والابتذال والرغبة في التسلط، أو العنف من أي نوع. هذا هو السبب في أن المواد البورنوغرافية تخنق النساء فعلا. في الواقع، احترام المشاعر مهم جدا بالنسبة للنساء، ومعظمهن مدفوعات بمشاعرهن، بينما معظم الرجال مدفوعون بالغريزة. على سبيل المثال، ليس من الشائع والصعب بشكل خاص بالنسبة للنساء ممارسة الحب دون مشاعر بينما هو شائع لدى الرجال. وهذا هو السبب في أن رؤية الفعل الجنسي دون مشاعر، كما في الأفلام الإباحية ليس خانقا للرجال كما للنساء.

***

جودت هوشيار

قراءة في النص الشعري "برقيات" للشاعر اليمني/ محمد ثابت السميعي

هذا النص الشعري الذي بين ايدينا هو قطعة أدبية ذات طابع فلسفي يتعمق في جوانب متعددة من الحياة والوجود الإنساني. يتميز النص بالتركيز على تجارب الأفراد المختلفة وصراعاتهم الداخلية مع الحياة والمجتمع والقدر. يضم النص مشاعر الاستسلام والقوة، العجز والتمرد، مما يجعله تعبيراً عن أصوات مكبوتة تسعى للتعبير عن ذاتها وسط قسوة الواقع.

1. الشكل الأدبي والأسلوب:

يتكون النص من مقاطع شعرية قصيرة ومكثفة.. تتميز باستخدام أسلوب التوازي، حيث يعتمد الشاعر في كل مقطع على تقديم شخصية أو حالة معينة، يتبعها موقف أو اعتراف مختصر يعبر عن مشاعر هذه الشخصية أو موقفها من الحياة.

2. أسلوب الحذف والاختصار:

الشاعر يعتمد على الإيجاز والاختصار في التعبير، مما يجعل كل جملة أو عبارة مكثفة بالمعنى. هذا الأسلوب يترك المجال للقارئ لملء الفراغات وتفسير المعاني العميقة. فعلى سبيل المثال، جملة "لم أعتدي!" التي تأتي بعد وصف الشاعر بأنه "ألقى... وزُجَّ بأبعدِ" توحي بأن الشاعر يشعر بالظلم والعزلة، رغم أنه لم يرتكب ذنبًا يستدعي تلك العقوبة.

3. استخدام الرمز والمجاز:

النص مليء بالرموز والإشارات المبطنة، مثل "الرصيف" الذي يشهد تخرج الطالب وتردده، وهو صورة تعبر عن حال الشاب الذي يقف على حافة الحياة العملية لكنه يتردد في الإقدام بسبب ظروفه أو إحساسه بعدم القدرة على التحكم في مستقبله. كذلك، جملة "رجلاه تحلم بالغد" التي تصف الشخص المقعد تعبر مجازًا عن الأمل المحاصر داخل جسد عاجز، بينما "هاكم يدي" تعكس روح التضحية والمساعدة رغم العجز الجسدي.

قراءة وتحليل

1. المقطع الأول:

"مِنْ شاعرٍ ألقى...وزُجَّ بأبعـــدِ: لمْ أعتدي!"

يتحدث الشاعر عن نفسه بوصفه كائنًا مبدعًا يلقي بكلماته وأفكاره، لكنه يُقصى ويُبعد عن المجتمع. استخدام فعل "زُجَّ" يشير إلى القوة التي استخدمت ضده، وكأن الشاعر قد عوقب على كلماته أو على وجوده الإبداعي. ومع ذلك، يعبر الشاعر عن براءته بصيحة "لم أعتدي!"، مؤكدًا أنه لم يرتكب ما يستحق العقاب. هنا تكمن معاناة الشاعر أمام نظام قمعي أو واقع اجتماعي غير متسامح مع الإبداع والاختلاف.

2.  المقطع الثاني:

"مِنْ طالبٍ شهِدَ الرصيفُ تَخَرُّجي وتَرَدُّدي: ما باليد!"

هذا المقطع يمثل طالبًا يتخرج من الدراسة لكنه يجد نفسه في مواجهة الحياة بلا قدرة أو أدوات لمواجهة التحديات. "الرصيف" هنا يمكن اعتباره رمزًا للحدود البسيطة أو الأفق الضيق الذي يقف أمامه الطالب المتخرج، حيث لا يمتلك القوة الفعلية لتحقيق أحلامه. "ما باليد!" تعبر عن الاعتراف بالعجز والضعف أمام القدر والمصير، وهو تكرار لشعور الضعف والإحباط الذي يواجهه الكثير من الشباب بعد انتهاء فترة التعليم.

3. المقطع الثالث:

"مِنْ مُدَّعٍ بعمامةٍ وبلحيةٍ وبمعْبَدي: لا تقتدي!"

هنا يتناول الشاعر شخصية المدعي، الذي يبدو مظهره الخارجي بما يوحي بالتقوى والإيمان (بعمامة ولحية)، ولكن مضمون رسالته ومخابئ هيئته هو النفاق المنحط أو الادعاء الزائف. هنا ينصح الشاعر الآخرين بعدم الاقتداء بهذه الشخصية الدينية، لأنها لا تعكس الا انفصالًا بين المظهر والمضمون، وبين ما يُقال وما يُفعل.

هذا النقد الضمني قد يكون موجهًا إلى رجال الدين أو الأشخاص الذين يتظاهرون بالتقوى في حين أن أفعالهم لا تتفق مع مبادئهم.

4.  المقطع الرابع:

"مِنْ مُقْعَدٍ - رِجْلاهُ تحْلُمُ بالغَدِ - هاكمْ يديْ!"

هذا المقطع يحمل معانٍ إنسانية عميقة، حيث يقدم الشاعر صورة لشخص مقعد، أي عاجز جسديًا، ولكن ما زالت روحه تحمل أحلامًا وطموحات للمستقبل. رغم عجزه الجسدي، فإنه يعرض يده (هاكم يدي) في إشارة إلى تقديم المساعدة أو التضامن.

تتجلى هنا الروح الإنسانية القوية التي تتحدى القيود الجسدية وتؤمن بالتضحية والمشاركة رغم كل الصعاب.

5. المقطع الخامس:

"مِنْ مُعْدَمٍ ما نام دون تأَوُّهٍ وتَنَهُّدِ: هاكُمْ غَدِي!"

يصف الشاعر حالة الإنسان المعدم الذي يعاني من الفقر والحرمان، بحيث لا ينام دون أن يشعر بالألم والتنهد. رغم ذلك، يعرض هذا المعدم الغد/ المستقبل على الآخرين، في تعبير عن الأمل والاستعداد لتقديم العون بما لديه للآخرين رغم فقره.

النص يعبر عن فكرة التضحية بالذات في سبيل المستقبل المشترك، حتى وإن كان الفرد يعاني من العوز او العجز الشخصي.

6. المقطع الأخير:

"ما شِئْتُ هذا والذي فَطَرَ النجومَ لِنَهْتَدي"

هذا المقطع يجمع بين السمو الروحي والاعتراف بالقوى الكونية الأكبر، حيث يعبر الشاعر عن استسلامه للقضاء والقدر، أو للقوة التي "فطرت النجوم". النجوم هنا ترمز إلى الهداية والأمل الذي يسعى الإنسان إلى اتباعه. هذا الختام يعكس فلسفة قناعة الشاعر بأن هناك قوة أكبر في هذا الكون توجه حياة الإنسان وتمنحه الإلهام والتوجيه.

المعاني العميقة

النص يعالج قضايا إنسانية شاملة مثل العزلة، الفقر، العجز، والبحث عن الذات. يتناول الشاعر كل مقطع كشخصية قائمة بذاتها، لكنه يربط بينها بخيط رفيع من التجارب المشتركة؛ الجميع يعاني، وكل شخص يتفاعل مع واقعه بأسلوبه الخاص. يمكننا ملاحظة أن النص يعبر عن صراعات داخلية عميقة:

الاغتراب والظلم:

1. يتجلى هذا في شخصية الشاعر في المقطع الأول، الذي يشعر بأنه مظلوم ومقصي رغم عدم ارتكابه خطأ.

2. العجز والإحباط: يتمثل في شخصية الطالب والمقعد، وكلاهما يعبران عن الرغبة في التقدم، لكن تعيقهما الظروف.

3. النفاق الاجتماعي:

يتجلى في شخصية المدعي، الذي يرمز إلى التناقض بين المظهر والمضمون في المجتمع.

4. الأمل والتضحية:

رغم المعاناة التي تعبر عنها الشخصيات، إلا أن هناك عنصرًا مشتركًا من الأمل والاستعداد للتضحية، سواء في يد المقعد الممدودة أو في الغد الذي يعرضه المعدم.

الإبداع الأدبي

يتجلى الإبداع في هذا النص من خلال:

1. البنية الشعرية الفريدة:

النص يتبع نمطًا حرًا من الشعر، حيث لا يلتزم بالقافية أو البحر الشعري التقليدي، مما يعطيه طابعًا حداثيًا ويتيح للشاعر التعبير عن أفكاره بحرية.

2. استخدام الرموز:

مثل "الرصيف" و"العمامة" و"النجوم"، التي تحمل معاني متعددة وتترك للقارئ حرية التأويل.

3. الجمع بين الشخصية الفردية والتجربة الإنسانية المشتركة:

الشخصيات في النص تمثل حالات فردية، لكن مشاعرهم وتجاربهم تعبر عن مشاعر إنسانية شاملة.

الخلاصة

هذا النص الشعري هو تعبير مؤثر عن صراعات الإنسان مع نفسه ومع المجتمع، وهو استكشاف عميق لمشاعر العجز والأمل والظلم والتمرد. باستخدام أسلوب مكثف ومجازي، يقدم الشاعر رؤية فلسفية للعالم تتراوح بين القسوة والجمال، وتجمع بين الاستسلام للقدر والإصرار على مواجهة التحديات. النص يلمس موضوعات تتعلق بالإنسانية في كل زمان ومكان، مما يجعله ذا طابع عالمي وإنساني بامتياز

***

طارق الحلفي/ شاعر وناقد

.................................

رابط النص

https://www.almothaqaf.org/nesos/977719

بيئة المؤلف وجدلية الموقف المغاير، الفصل الأول - المبحث (4)

توطئة: لعل من أكثر علامات رواية (حياة الكاتب السرية) تلك التي تتصل على نمطية اللحظات الشعورية الخاصة من لدن طبيعة الوقائع الشخوصية المرتبطة بجغرافيا متفاعلة وهوية المماثلة السردية التي تشكل بذاتها ذلك الأفق الانتظاري المحموم بصيغة (الاستدعاء المطرد) أو ذلك الولوج في نمو الحلقات الوحداتية في طيات النسيج الاسترسالي من حقيقة الحوادث العارضة . يأتينا مثل هذا الحدث العارض بما يتعلق وقدوم الشخصية ماتيلد موني وهي تعبر الغابة الممتدة قاصدة منزل الكاتب ناثان فاولز، بحكم كونها من عثرت على كلبه برونكو الذي راح في مقعد السيارة الخلفي يراقب حركة سير السيارة التي تقودها الشخصية ماتيلد موني وكل أملها إنها سوف تقضي أمسية لطيفة مع ذلك الكاتب الملغز بعد سعادته بعودة كلبه برونكو .

- تجسيد الحوار المنزلق في وحدات مأزومية الشخصية:

١- الفضاء المكاني ومؤطرات الزمن السكوني:

لقد ميز جيرار جينيت بين (زمن القصة -زمن الخطاب) وبحث في ضروب التطابق والاختلاف بينهما من خلال مقولتي (النظام = الديمومة) وسوف نحاول بدورنا من خلال عرض بعض من وحدات السرد، إلى الكشف عن زمن معطيات الاحداث الماضية في ذاكرة الشخصية ناثان فاولز حول مسألة خداعه من قبل الصحافة، عندما يكون دخولهم مع فاولز دخوﻻ ﻻ يعكس أية خلاصة إعلامية، فهو بدوره كان متوجسا من مجيء الصحافية ماتيلد موني مما استدعى أمر قدومها في دواخل فاولز أشبه ما يكون بالخيبة أو الحيطة أو حلول أوان مواجهة خصما ما، لذا كان الزمن المعطى ما بين الأثنين وثالثهم الكلب، شبه محفوفا بكلمات متطايرة أو منزلقة في صورة ذلك المؤلف المأزوم: (كان ناثان متكئا على عكازه، فطار فرحا بعودة رفيقه . تقدمت ماتيلد نحوه . كانت قد تخيلت الكاتب أشبه برجل الكهف أو قل أشبه بعجوز بربري وفض،شعره طويل، يرتدي ملابس بالية، وقد أرخى لحيته حتى بلغ طولها عشرين سنتيمترا. /ص62 الرواية) على ما يبدو ظاهرا أن الشخصية ماتيلد موني لم تصادف فاولز سابقا، ولكنها ضمن مؤشر حواري تكشف للشخصية فاولز بأنهما قد ألتقيا سابقا . بمعنى أن حقيقة التصور لدى ماتيلد كان بناء على مجرد سماع أخبار سيئة حول عزلة فاولز خلف حجب جدران قلعته المهيبة، إذن التشكيل التصوري لدى مخيلة الشخصية هو عبارة عن مستويات شكوكية وظنية في الآن نفسه، وعندما تتاح لها رؤية فاولز وهو يحمل ذلك المظهر الجذاب من الأناقة والرجولة والوسامة الظاهرة: (كان يرتدي قميص بولو من الكتان لونه أزرق سماوي مثل عينيه) لعل النقاط الحدودية بين الشخصيتين تتجسد في حوارية مقتضبة تدعو إلى الإحساس المباشر بأن فاولز كان يتحين الفرصة لذهاب ماتيلد موني، رغم إنها كانت لطيفة وجذابة في موضع فتنتها، الأمر الذي كان يشعر بمداه على وجدانه فاولز نفسه رويداً رويداً، غير أن مأزومية فاولز كانت من الحجب والتفارق الحسي، مما جعله يحصِ اللحظات الساقطة عليه من خلال فجوات ذلك اللقاء: (اشارت ماتيلد موني إلى العكاز والكاحل المجبر: - آمل ألا تكون الإصابة خطيرة جداً ؟ نفى فاولز بحركة من رأسه: - غداً ستصبح مجرد ذكرى سيئة ؟ ترددت قليلا، ثم قالت له: - أنت لم تعد تذكر ربما،لكن سبق أن التقينا ؟ . اشارة كلماتها الريبة في نفسه، فتراجع خطوة إلى الوراء ورد: - لا اعتقد ذلك.؟: - بلى، منذ وقت طويل ؟. / ص62 .ص63 الرواية) من خلال بعض ردود كلمات المحاورة نفهم عدم التفاعل الحواري ما بين الشخصيتين، ما يثبت لدينا بأن في تصورات فاولز الماضية إكراهات ورفضية قاطعة،فهو ذلك الرجل الذي يتوهم نسيانه للماضي، رغم أنه دلاليا محفوفا بآثاره التي سوف يتم التعرف عليها في حينها، وبعد مرحلة قصيرة من تلك المحاورة توجس فاولز في نفسه بأنه من الأكيد عليه وضع حدودا لكل تلك الأسئلة التي قامت الشخصية ماتيلد بأثارتها في نفسه: (تدين لي بحسب الاعلان بمكافأة قدرها ألف يورو، لكنني اعتقد أنني سأكتفي بكوب شاي مثلج، قالت ماتيلد مبتسمة ./ص63 الرواية) يتجلى انفتاح النص عبر وحداته من خلال مواصفات حوارية - خطية الحكي، تحمل البناء النصي تصاعدا هو من الخصوصية والاستثناء ما جعل من ترهين مادة المحاورة وتقدمها كحالة تحليلية في ضرورة الإعادة والترتيب والمنظور السردي . أي بمعنى أن آليات الحوار تنقب في الأزمنة القديمة مما يجعل فاولز بذاتية مشحونة بروح الصدمة والتوتر والتخييل، فهو -أي فاولز - رغم سخطه الداخلي الرافض لهذه الفتاة، إلا أنه من جهة خاصة راحت مخيلته تتنعم بآثار أنوثة ماتيلد على نفسه، وكان هو يدرك هذا الأمر بذاته سرا . تكشف لنا الوحدات الصغرى من السرد عن بنيات المكان ومدى دور هذه المؤثثات في نمو عجلة الزمن ومادة الحكي عبر المستويين الداخلي والخارجي .

- الخطية السردية المخاتلة:

١- مخاتلة البنيات: تحوﻻت التداخل الزمني:

و نحن حين نتحدث من خلال هذا الفرع المبحثي عن (المخاتلة السردية)، فإننا نقدمها، ها هنا بمعنيين: الأولى (مخاتلة البنيات ؟) والثانية ب (تحوﻻت التداخل الزمني) وهناك حالة اجرائية أخرى تقتضي بمعنى (وقائعية الثيمات ؟) ويمكننا أن نفهم من خلال (مخاتلة البنيات) ذلك المكون الالتفاتي الذي يتحقق ضمن إمكانية تقويض المكرس من توقعات النص الخطية المباشرة والمعلومة في زمن التلقي المحدود . أما (تحوﻻت التداخل الزمني) فهو تشعب حبكات النص ضمن موجهات زمنية ذات مقاربات متفرقة . فيما تلعب (وقائعية الثيمات ؟) بتنوع ملامح الابعاد في المساحة الصفاتية والفعلية في تفاصيل بناء الأحداث وهذا الأمر ما وجدنا لمثله في مشهد لقاء الشخصية ماتيلد موني عندما طلبت من فاولز تذكر مناسبة ذلك اللقاء الذي جمعهما في الماضي البعيد: (أنت لم تعد تتذكر ربما،لكن سبق أن التقينا./ص62) لقد حاول فاولز من خلال هذه الوحدة الانكارية التملص من تطور العلاقة مع ماتيلد لو كان قد أكد لها بدوره عن صحة وجود مثل هذا اللقاء بينهما سابقا . بهكذا مركب تزداد عملية المخاتلة في متواليات السرد اقترانا بدليل الزمن لدى احساس الشخصية فاولز . كما وهناك عدة احداث تجعلنا نتصور بأن فاولز يرفض مجال التواصل مع ماتيلد، وذلك من خلال نفيه كونه ما يزال كاتبا أو أنه لديه الرغبة في ممارسة الجنس مجددا بعد ذلك التلميح القصدي الذي بادرت به ماتيلد موني الى فاولز: (بيني وبينك، ألا تشتاق إلى ذلك ؟) وبمثل هذا النوع من توافر عنصر المخاتلة التي كان يتبعها الشخصية ناثان فاولز وبمثلها من حاﻻت التفلت عن كونه ترك مهنة الكتابة . غير أن زمن التحول في مساحة الحوار إعادة إلى فاولز هيام جنوحه الذكوري نوعا ما: (تجنب فاولز عيني محاورته الخضراوين، وأوضح لها بفتور بعد أن أصبح عاجزا عن الحركة . / ص 64) .

- تعليق القراءة:

تعتبر آليات زمن القصة في شكلها التناسبي والديمومي في رواية (حياة الكاتب السرية) بمثابة حركتي (الاسراع = الإبطاء)حيث العلاقة بين ديمومة الحدث وطول النص متماثلة،أي أن زمن إيصال احداث الحكاية الروائية للمتلقي هي مساحة زمنية مقدمة من زمن (النص المتطابق) حيث أن سرعة النص هي درجة تناسبية بين الأحداث وعرضها وتكوينها في إطار زمن الخطاب الذي يكاد أن يصل إلى مرحلة التطابق مع زمن الحكاية . وأخيرا يمكننا أن نقول ان عمليات التشخيص لمساحات القراءة النقدية تنصب حول دﻻﻻت (بيئة المؤلف المفترض)وصولا إلى نوازع تلك المواقف الحاصلة من قبل لغز الشخصية ناثان فاولز عبر ممارسة حياته المتباينة والمتخالفة في الأواصر الذاتية والموضوعية الهاربة في إيقاع عزلوي يشي بعشرات الأسئلة المحتملة حول حياته ومصيره ذات الأوجه التفارقية في السياق النصي المفعم بالأسرار والحلقات المفقودة.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

في المثقف اليوم