قراءات نقدية

قراءات نقدية

للروائي سيف المفتي

عندما فتحت صفحات رواية "ظالميا" للروائي العراقي المغترب محمد المفتي، لم أكن أتوقع أن أجد نفسي غارقة في عالم يجمع بين الرمزية الاجتماعية والسياسية، وبين سرد غني بالواقعية والحلم. الرواية لم تكن مجرد قصة عن قرية هامشية، بل كانت مرآة لمجتمعات تعاني من أزمات متشابكة تعكس واقعية قاسية. منذ اللحظة الأولى، شعرت بأنني أمام عمل أدبي يتجاوز الحدود الجغرافية ليضعني في مواجهة مع قضايا إنسانية عميقة مثل الظلم، التهميش، والصراع بين الأمل واليأس. تُعتبر "ظالميا" من الأعمال الأدبية التي تتناول مجموعة متنوعة من الموضوعات الاجتماعية والاقتصادية والدينية المتشابكة. وعلى الرغم من أن الرواية قد تبدو للوهلة الأولى كحكاية محلية تجري أحداثها في قرية صغيرة نائية عن المدن الكبرى، إلا أن الكاتب يستخدم هذا الإطار المحلي لتقديم صورة أوسع عن صراعات إنسانية ذات طابع عالمي. تتجاوز الرواية حدود الجغرافيا المحلية لتسلط الضوء على قضايا مثل الفقر والتهميش والهوية في مجتمعات تتأرجح بين الأمل والخيبة. هذا المنظور الرمزي يعمق فهم الرواية، ويضعها كبنية أدبية معقدة تستحق التحليل والنقد. في رواية "ظالميا"، يُبرز الكاتب معاناة المجتمعات المهمشة التي تكافح من أجل البقاء في ظل ظروف اقتصادية خانقة وتوترات اجتماعية متزايدة. يسرد الكاتب قصة قرية "ظالميا" وسكانها الذين يعيشون تحت وطأة الظلم الاجتماعي والاقتصادي، حيث تعكس الرواية الفجوات الطبقية الشديدة والفقر والبطالة. الشخصيات، رغم سعيها للهروب من واقعها القاسي، تجد نفسها عالقة في دوامة من الأزمات التي لا تنتهي. "ظالميا" تصبح رمزًا شاملًا للظلم الاجتماعي والاقتصادي والديني. فالقرية لا تمثل مجرد مكان جغرافي، بل هي استعارة لكل منطقة أو مجتمع يعاني من الفساد والقهر. هذا الربط بين القرية والواقع العالمي يجعل القارئ يستوعب أبعاد الرواية التي تتجاوز المحلية، لترتبط بأوضاع المجتمعات المهمشة في أي مكان في العالم. في الرواية، يتجسد الأمل في عودة شخصية "أنطوان"، الذي يمثل الحلم بالتحسن الاقتصادي والاجتماعي. إلا أن هذا الأمل سرعان ما يتلاشى، حيث تتحول وعود التغيير إلى خيبة أمل جماعية. الرواية تعرض بوضوح التناقض بين الأمل والخيبة، وتوضح كيف أن الطموحات الكبيرة تصطدم بالواقع القاسي. من خلال هذا التفكك، تعكس الرواية الصراع بين الحلم والواقع، وتطرح تساؤلات حول دور الأمل في حياة الفئات المهمشة. يمثل الصراع الطبقي والديني جزءًا جوهريًا من بنية الرواية. من الناحية الطبقية، نجد الفجوة الكبيرة بين الأثرياء والفقراء واضحة، حيث تسعى الشخصيات الثرية لتعزيز مكانتها، في حين أن الشخصيات الفقيرة تعيش على هامش المجتمع. أما على المستوى الديني، فإن الرواية لا تتجاهل التوترات بين المسلمين والمسيحيين، بل تستخدمها لفضح كيفية استغلال الدين لتعميق الفجوات الاجتماعية. الدين في "ظالميا" يظهر كعامل للتفرقة، وليس للتوحيد، ويستخدم من قبل الشخصيات كذريعة لتبرير العدوان والتمييز، مما يزيد من حدة الصراع. من خلال تناول قضايا الفقر، والصراع الديني، والخيبة الناجمة عن الوعود الاقتصادية والسياسية غير المحققة، يقدم الكاتب صورة واقعية لمجتمعات تعيش تحت ضغط هذه الأزمات. شخصية أنطوان في الرواية تمثل التناقض بين النجاح والفشل، بين الأمل والخيبة. في البداية، ينظر إليه أهل القرية على أنه المنقذ الذي سيحقق لهم التغيير الذي طالما انتظروه. رؤيته كرمز للنجاح تأتي من وضعه الاجتماعي والوعود التي قدمها لأهل القرية بتحسين أوضاعهم المعيشية. ولكن سرعان ما يبدأ هذا الأمل في التلاشي عندما تفشل وعوده في التحول إلى واقع ملموس، وتبدأ شخصيته في التحول إلى رمز للخذلان وخيبة الأمل الجماعية. هذا التناقض في شخصية أنطوان يعكس تناقضات أكبر داخل المجتمع الذي يعيش فيه، حيث تصطدم الطموحات الفردية والجماعية بالواقع القاسي والقيود الاجتماعية والاقتصادية. الرواية تسلط الضوء على الفجوة بين ما نعتقد أنه ممكن تحقيقه وبين القيود التي تمنع ذلك، مما يخلق حالة من الإحباط والخيبة بين الشخصيات، وخاصة تلك التي وضعت آمالها في شخص مثل أنطوان. هذا التحول من رمز للأمل إلى رمز للفشل يعمق الصراع بين الحلم والواقع في الرواية، ويعكس كيف يمكن أن يتحول الأمل نفسه إلى مصدر للمعاناة عندما يصطدم بواقع لا يرحم. هذه الشخصية تُظهر القيود الاجتماعية التي تحول دون تحقيق الطموحات الفردية. أما ماما ليلى، فهي تمثل الانتظار الطويل والتضحيات التي تُبذل دون جدوى، حيث تظل محاصرة بخيبات أمل عائلية وشخصية، ما يعكس الصراع الداخلي بين الواجب العائلي والاحتياجات الفردية. في النهاية الدرامية للرواية، تعود الشخصيات إلى نقطة الصفر، مما يعكس التشاؤم العميق الذي يسيطر على الرواية. بالرغم من كل المحاولات للخروج من دائرة الفقر والظلم، تبقى الشخصيات عالقة في نفس الأزمات. هذه النهاية تعكس فشل المجتمع بأكمله في تجاوز مشاكله، وتوضح أن وعود التغيير كانت مجرد وهم. الرواية تُظهر أن الصراعات الاجتماعية والدينية والاقتصادية ليس لها حل، بل تظل ثابتة، ما يخلق إحساسًا بأن المحاولات للتغيير هي دورات متكررة من الأمل والخيبة. في "ظالميا"، تتجلى القصة المحلية كمرآة تعكس الصراعات الإنسانية العالمية، حيث يتصارع الفرد والمجتمع بين الأمل والخيبة. الرواية تقدم رؤية عميقة عن الصعوبات التي تواجهها المجتمعات المهمشة، وتعكس الصراعات الطبقية والدينية التي تقسم المجتمعات. النهاية الدرامية للرواية تترك القارئ أمام إحساس قاتم بأن الصراع المستمر بلا نهاية، مما يعزز الإحساس بالتشاؤم والعبثية في محاولات تحسين الواقع. رواية "ظالميا" تُعد نموذجًا قويًا للأدب المعاصر، الذي يسلط الضوء على القضايا الإنسانية المعقدة، ويطرح أسئلة حول كيفية مواجهة الفقر والظلم والصراع الاجتماعي. إنها قصة تجمع بين الأمل واليأس، وتحفز القارئ على التفكير في دور الفرد والمجتمع في مواجهة التحديات الإنسانية. أن "ظالمايا" لا تقتصر فقط على تقديم صورة متشائمة للواقع، بل تفتح الباب أمام أسئلة أكبر حول العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الدين والسلطة، مما يجعلها عملاً أدبيًا يتجاوز حدود السياق المحلي ليعبر عن قضايا إنسانية عالمية.

***

زكية  خيرهم

مهرجان المسرح التجريبي بدأ في مصر منذ عام 1988 وانتظم إجراؤه على مدار سنوات طويلة منعقداً كل عام جامعاً محاولات التجريب المسرحي من أطراف العالم..

ومع أحداث يناير2011 انفرط عقده ثم عاد على استحياء عام 2014 تحت عنوان: "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي" ثم لم يكتب له الاستمرار. ودار سجال وقتذاك حول مدي جدواه في ظل أزمة تتهدد المسرح بكل أنواعه واتجاهاته؛ فالمسرح القومي يواجه أزمة تمويل، والمسرح الخاص يبحث عن جمهور، ولم يستمر إلا نوع من المسرح الكوميدي المعتمد على الإفيهات المضحكة، ما يسمي farce، وهو لا يهدف لطرح قضايا بقدر ما يهدف للتسرية والسخرية والإضحاك الصرف، وحتى هذا النوع بات قاصراً على العروض المحدودة دون ارتباطه بمواسم مسرحية لم يعد لها وجود.

أما المسرح التجريبي فهو بطبيعته لا يخاطب عموم الجمهور، فرواده جميعهم إما نقاد أو مسرحيون أو مثقفون. لأنه في الأصل مسرح موجَّه نحو تطوير آليات مسرحية كالإضاءة والإخراج والسينوجرافيا وفنون الأداء. معني هذا أنه يستنزف أموالاً دون مردود وبدون جمهور. إنه أشبه بورشة عمل مكبرة تحاول البحث عن آليات تطوير مفاهيم المسرح وأدواته، لهذا يصبح وجوده مرهوناً بالرغبة في تطوير المسرح أو انعدامها..

جزء من كل

لو أن هناك أزمة في دعم وجود المسرح التجريبي، فلأنها في قلب أزمة أكبر في المسرح بصفة عامة، في تمويله وعائداته وانتظامه وقدرته على اجتذاب جمهور حقيقي.

لقد بدأ المسرح التجريبي، أو المسرح الطليعي طبقاً للمسمي القديم، في أواخر القرن التاسع عشر مع مسرحية "الملك أوبو" لألفريد جاري، والتي أعلن من خلالها رفضه لكل طرق المسرح الكلاسيكي السائدة في الكتابة والإخراج. ثم تتابعت نماذج ومحاولات التجريب في المسرح وكان من ثمارها حدوث تطور هائل في تقنيات المسرح وتكنيك أدائه.

لقد كان الهدف الأول للمسرح التجريبي عند ظهوره إحداث ثورة تطويرية تخرج به عن دائرة الإملال والتقليد والتكرار. غير أنه صار بالتدريج تياراً وحده ينضم لتيارات المسرح وأنواعه، مما تسبب في خروجه أحياناً عن قدرته على تحقيق أي هدف، وبالتالي قدرته على الصمود والاستمرار..

وقد ظل التجريب في المسرح سابقاً مقتصراً على أروقة المعاهد المسرحية والدرامية المتخصصة، قبل أن ينفتح على التجارب العالمية من خلال المهرجان القومي الدولي، والذي أتاح امتزاج التجارب وانصهارها معاً من أجل الوصول إلى تحقيق أهدافه في تحسين آليات الدراما وأدواتها. وبرغم أن طبيعة المسرح التجريبي تحول دون قدرته على إنتاج فرق مسرحية ثابتة، لأن جمهوره من الخاصة، إلا أنه استطاع أن ينشئ فرقاً مسرحية كفرقة الخشبة المقدسة وفرقة البطل وفرقة أوبن مايند. فهل استطاعت تلك الفرق الصمود في وجه الأزمة المسرحية العامة في مصر والمنطقة؟ وهل ارتبطت أزمة المسرح القائمة بالأحداث والتوترات في المنطقة؟ ربما.

أهمية التجريب المسرحي

هناك عدة دراسات أكاديمية متخصصة استفاضت في الحديث عن أهمية التجريب في المسرح. كان من أقدمها وأهمها رسالة الدكتوراه للدكتور "سيد خاطر" والتي ركزت على ناحية الإخراج المسرحي ومفاهيم العرض المسرحي فيما يخص التجريب. ثم صدر كتاب للناقد "سيد إمام" بعنوان: (قراءة في الوعي الجمالي العربي) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ناقش فيه الكاتب جماليات المسرح التجريبي خلال عامي 88، 89. ثم قام الدكتور "أشرف زكي" بعمل دراسة ماجستير بعنوان: (دور المخرج في تأسيس حركة التجريب في المسرح المصري)، بحث من خلالها محاولات التجريب الأولية قبيل عام 88 الذي بدأت فيه الدولة تتبني تفاعلاً دولياً في التجريب المسرحي. ثم تتابعت الدراسات والمقالات المتخصصة حول موضوع التجريب الدرامي، ما يشير إلى تحول "المسرح التجريبي" إلى فرع من فروع المسرح المهمة.

ولفهم مدي أهمية التجريب المسرحي، يكفي أن ندرك أن محاولات "أنطونين أرتو" و"بيرانديللو" و"برتولت بريخت" هي نماذج من المحاولات الناجحة التي أسهمت في تغيير مفهوم الدراما تغييراً جذرياً وللأبد. تلك المحاولات التي رسخت لمفهوم إسقاط الحائط الرابع بين الجمهور والممثلين، وأرست دعائم أشكال جديدة من المسرح، لدرجة أن بعض هذه الأنواع ساهمت في تقليل تكلفة العروض المسرحية بدءاً من تصميمه المعماري البسيط، كمسرح الغرفة ومسرح العلبة، ومروراً بقلة تكاليف الديكورات والأثاث المسرحي طبقاً لمفاهيم المسرح الملحمي، وانتهاءً بتقليل الأجور المسرحية، من خلال الاستعانة بعدد أقل من الممثلين، حيث أمكن إيجاد نصوص مسرحية قوية مؤثرة ببطلين فقط، وعدد قليل من الأدوار الفرعية.

ثم هناك آثار أعمق للمسرح التجريبي على المستوى الفكري والأيدولوجي: بدأت أولاً بظهور ما سُمي بمسرح القسوة الذي أحدث أثراً مدوياً كشكل من أشكال الصدمة الثقافية ذات التأثير العميق. الغريب أن فكرة مسرح القسوة القديم، عاد للظهور متخفياً داخل عباءة تيار ما بعد الحداثة، التي استدعت القيم الشعبوية وحتى العبارات والحوارات المتدنية المنتسبة إلى الطبقات الاجتماعية الأدني. ومهما كان هذا النوع من الدراما صادماً لجمهور الكلاسيكيات، فإنه أحدث وقت ظهوره تأثيراً أدي في النهاية لتغيير مسار المسرح تغييراً هائلاً استمر حتى وقتنا هذا.

المسرحيون من المتخصصين سواء كانوا أكاديميين أو فنيين أو مخرجي دراما كلهم يدركون مدي أهمية التجريب المسرحي لتطوير تقنيات الدراما وفلسفاتها وأدواتها. لكنهم أيضاً يدركون مدي ارتباط حركة التجريب بالاقتصاد القومي من ناحية، وبالاقتصاد المسرحي على المستويين الحكومي والخاص. وهنا بالضبط تكمن إشكالية المسرح التجريبي، وربما المسرح بصفة عامة.

أمل التطوير الشامل

هناك دراسة مهمة عن التجريب الدرامي أصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2014 تحت عنوان: "الاتجاهات التجريبية في المسرح المصري خلال الفترة من 1988 إلى 1999) وهي دراسة أكاديمية متخصصة للدكتور حسام عطا.

خلصت تلك الدراسة إلى عدد من النتائج كان منها: ارتباط المسرح بالاقتصاد كنتيجة لارتباط المدينة بالعقل الجمعي وبآليات السوق وأنماط الاستهلاك، وبنصيب الفرد في الحداثة. أي أن هناك علاقة تبادلية بين حركة المسرح وانتعاشه وبين الإنتاج القومي والنشاط الاقتصادي.

وعلى المستوي الفكري والأيديولوجي تؤكد الدراسة انتصار الحياة اليومية بمفرداتها على الجماليات التقليدية في الفنون المرئية سواء في العالم الغربي أو في مصر. ما يعني انتصار الشعبوية على الكلاسيكية، وأن هناك قفزة للطبقات الاجتماعية الأقل على حساب الصفوة، وأن هذه القفزة جاءت تحت تأثير العولمة، وأن هذا الانضغاط ضد النخبة القديمة أدي إلى التأثير على نوعية الجمهور المتلقي للفكر الدرامي. وإذا مددنا الخط على استقامته فسوف ندرك سبب تقلص أو انعدام جمهور المسرح التجريبي حتى على مستوي النخبة المتخصصة والجمهور المثقف.

استطردت الدراسة، التي أجدها عميقة، في عرض نتائجها التي ناهزت العشرين. وهي مهمة لكل باحث أو دارس لفن الدراما. وقد أوصي كاتبها بأهمية دعم مساحة حرية الإبداع، وبالتأكيد على أهمية الاتجاهات التجريبية لدعم المسرح، وأن يتم هذا برعاية قومية حكومية في الأساس من أجل إيجاد آلية لانتظام فعاليات المسرح التجريبي. وأن يتم إدماج المشروع التجريبي مع مشروعات عامة أخري تمس الصحة والتعليم لدعم مسرح المقهورين ومسرح الشارع من أجل جذب جمهور أكبر، تماشياً مع تيارات ما بعد الحداثة وتأثيرات العولمة التي أعادت جمهور الطبقات الاجتماعية الكادحة لصدارة المشهد.

إن تطوير المسرح التجريبي وانتظامه واستمراره رهن بعملية تطوير كبري تشمل المسرح بصفة عامة، وأملي أن تتضافر جهود القطاع الخاص والحكومي والأهلي لدعم تطوير المسرح أبو الفنون. ففي تطويره فرصة لازدهار جميع تياراته وأنواعه، ومنها المسرح التجريبي.

***

عبد السلام فاروق

لعلَّ المنهج الانطباعي أو التأثري هو أقدم المناهج التي عرفها النقد، لاسيما أنَّه صاحب ظهور فنون الأدب المختلفة، وبخاصة فنون الشعر، وظل قائمًا وضروريًّا حتى اليوم، ورغم كل ما طرأ عليه يعتبر مرحلة ضرورية وأساسية وأولية في النقد، ولكنه ليس النقد كله، ولا يمكن الاكتفاء به، بل يجب أن تتبعه مرحلة أخرى تفسر وتبرر التأثرات التي نتلقاها عن العمل الأدبي بأصول ومبادئ موضوعية عامة، حتى نستطيع أن نحوّل ذوقنا الخاص الى معرفة موضوعية يقبلها الغير في ضوء الإدراك الفكري. وقبل أنْ نتحدث عن المنهج الانطباعي عند بعض النقاد في تحليل النص الأدبي، نرى من الضروري أنْ نقف عند معنى الانطباعية في النقد، وهل يمكن عدّها منهجًا أم لا؟!!!

النقد الانطباعي

عرفت الانطباعية في النقد الحديث بأنها نزعة تشكيلية، ظهرت في القرن 19، وجاءت كرد فعل، ضد الطبيعية والرمزية معًا، كتعبير عن مدركات الحس، وهي أيضًا وصف للانطباعات، التي يثيرها الموقف في النفس. أما النقد الانطباعي فهو تقديم جذاب للعمل الأدبي، انطلاقًا من تأثير العمل على الناقد ، أي أنه يعتمد أساسًا على الذوق الذي هو في الأصل ملكة تدرك بها طعوم الأشياء واصطلاحًا أداة الإدراكات التي تثير في نفس المتذوق لذة فنية تجاه العمل الأدبي.

لقد تباينت الآراء حول الانطباعية هل هي منهجًا أم لا؟، فالبعض منهم يرى أن النقد مزيج من الانطباعية والموضوعية، وهو ما ذهب إليه الناقد أحمد الشايب، ود. أحمد كمال زكي، ود. إحسان عباس، حيث اتفقوا على أن: النقد مزيج من الذاتية والموضوعية فهو مقيد بأصول علمية مقررة من جهة ومتأثر بذوق الناقد ووجهة نظره من أخرى، وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى أن يتوخى بلوغ النهاية في تجويد الصورة. ومن هنا نرى كيف ترتبط الموضوعية بالذات ارتباطًا وثيقًا، وكيف ينبغي على الناقد ألا يسهو عن التفاعل بين النفس والطبيعة من حيث أن الأدب يشكل تجربة ميدانها الأول خارج الذات. وطبقًا لهذا الرأي فإن النقد مزيج من الانطباعية والموضوعية، فهو عملية فعالية وسطية تقع دائمًا بين فعاليتين أو منطقتين، فهو الحلقة التي تتوسط الأدب والجمهور، وهو يستمد من الثقافات المختلفة ليسلّط الأضواء الكاشفة على المادة الأدبية، أي هو منطقة وسطى بين الثقافة المعرفية وفنون الأدب، وهو منطقة تطغى حدودها من جهة على العلم ومن أخرى على الفن؛ النقد قائم بين اعتبارات موضوعية وأخرى ذاتية، ولذلك كان بحكم موقعه قابلًا للتأثر والتوجيه، منفعلًا أكثر منه فاعلًا، وإذا لم يستطع أن يحفظ التوازن الضروري بين المنطقتين الواقعتين على حدَّيه تورَّط في الخطأ أو الإخفاق. وحري بنا في هذا المقام أن نسوق آراء الفريق الآخر من النقاد الذين أكدوا على ضرورة الفصل بين الانطباعية والموضوعية في النقد، وعلى عدم وجود منهجية في الانطباعية، وهو رأي دكتور عز الدين إسماعيل، والناقد طراد الكبيسي، الدكتورة بشرى موسى صالح؛ إذ ذهبوا بالقول بأنَّ الحكم الذاتي ليس حكمًا جماليًّا بالمعنى الصحيح أي لا ينصب على جمال موضوعي، بقدر ما هو مفسر لحالة المتلقي، وقد وصفوا الانطباعية بأنها أشبه بوجبة طعام خفيفة نلتهمها في حالة فقدان شهية، أو حين لا نريد أن نثقل على أنفسنا. ومع إيماننا بأن التذوق عنصر مهم في النقد، وربَّما كان أول نقد بدأه الإنسان، هو النقد الذوقي أو الجمالي إلا أن النقد تعدى هذه المرحلة مذ قرون، ذلك أننا لو اعتبرنا التذوق منهجًا نقديًّا قائمًا بذاته، لكان كل قارئ – مهما كانت درجة ثقافته وتذوقه – ناقدًا لا يصح رد مزاعمه.! ومجمل قولهم أنَّ الانطباعية ليست منهجًا بل عملية تذوق ذاتية محضة تتجلى في استجابة لا واعية قائمة على التفضيل المبهم، والاستجابة اللاواعية للنص لا تفرز وعيًا نقديًّا منهجيًّا بالضرورة، فيكوّن أو ينشىء الانطباعي نصًّا آخر يمثل طبقة ذاتية عازلة ثقيلة تغرّب النص عن باثه ومتلقيه.

النقد الموضوعي

لما كان النقد عملية فكرية موضوعها الإبداع بما فيه من تفكيك وتركيب وإضاءة وتحليل للنصوص الإبداعية في كافة الأجناس الأدبية؛

كان الأدب بحاجة إلى هذه العملية لأنَّ طبيعته المتميزة تقتضي الحديث عما فيه من خفايا ومكامن أو متغيرات ومستجدات، وبعبارة أخرى فالأدب إنتاج لغوي مفتوح، له مقومات عديدة وإمكانيات كثيرة قد تجعل منه كيانًا مستعصيًّا أو غامضًا أو مُعقَّدًا في بعض النصوص، وعلى ذلك تصبح الحاجة ماسة إلى فهمه أو تقريبه أو تفسيره أو تقويمه وهي ضمن المهام المنوطة بالنقد في الأساس، ومنها يستمد تعريفه ومشروعيته وحقيقة وجوده. فإنَّ وجود المنهج في النقد هو أمرٌ ضروري لأن تحليل العمل الأدبي دون منهجٍ واضح ٍ في نفس الناقد لهذا التحليل أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر، حيث سيادة الأحكام والأهواء الفردية القائمة على أساس الذوق الذي يعد في رأي الانفعاليين الفيصل الفذ في وصف الأدب وتذوقه سواء أكانت نتيجة التذوق والتأثر ثابتة أم متغيرة بتغير الأوقات والبيئات. هذا لا يعني أننا لا نقبل بوجود نقد ذاتي أو يغلب عليه الذوق، ولكن نقبل به في حالة واحدة هي بدايته التي يشهد عليها التاريخ. فنحن لو تتبعنا أصول النقد في العالم قبل أرسطو نرى ثمة أموراً يغلب عليها الذوق، وظل النقد قائمًا بها حتى نهاية العصر الهومري في القرن الثامن قبل الميلاد، وعندما تطور على أيدي فلاسفة القرنين السادس والخامس لم يتحرر من الأحكام الذاتية، حتى وإنْ دعمت بالأخلاق، وظل الأمر كذلك حتى قدم أرسطو للنقد الموضوعي، واضعًا بكتاباته عن الشعر والخطابة حدًّا للنقد الذوقي والنقد الذوقي الأخلاقي. إذن نستطيع القول أنَّ وجود المنهج في النقد أدى إلى ظهور ما يعرف بالنقد الموضوعي وهو ذلك النقد الذي يقوم على منهج تدعمه أسس نظرية أو تطبيقية عامة ويتناول النصوص الأدبية، يفصّل القول فيها ويبسّط عناصرها ويبصّر بمواضع الجمال والقبح فيها، كما أن النقد ينبع من الشعر، أو النص ذاته وليس من الأديب، أي أنَّ اللغة الشعرية أو الأسلوب الشعري على سبيل المثال، هو الذي يقود الناقد من خلال التحليل والموازنة إلى حكم نقدي موضوعي وحس فني جمالي.

وخلاصة القول

إنَّ النقد الموضوعي لا يعني أنْ يستخدم الناقد ما يشاء من المناهج ويقحمها داخل النص، وإنَّما النص هو الذي يفرض على الناقد استخدام هذا المنهج أو ذاك وهنا يدخل النقد الأدبي الحياة الإنسانية حين يغدو مظهرًا مهمًا من مظاهر حركية المجتمع حيث يشارك العلوم الإنسانية الأخرى هدفها وغايتها في تحليل النفس البشرية من خلال تجاربها الأدبية المختلفة. فتصير حينئذٍ بعض الأحكام الجزافية والعابرة ضربًا من السذاجة وإنْ عدّها البعض من النقد الأدبي. إنَّ النظرة النقدية للنصوص الأدبية يجب أن تنطلق من فهم عميق للأبعاد الفنية بتعادلية موضوعية بين الذوق والمنهج وإلا فهي ضرب من النقد التأثري والذاتي الذي يطفو على سطح التجربة الشعرية ولا يحاول النفاذ إلى أعماقها. وعلى ذلك إذا كانت التأثرية نقدًا مشروعًا حسبما نرى، يبقى فيها شيئًا من الموضوعية أو المنهجية، فيما نرى أيضًا الموضوعية أو المنهجية قسطًا من التأثرية. وحسبما نرى أن هذا التضارب أو التناقض في الآراء حول الانطباعية كونها منهج من عدمه، يرجع الى ثنائية العملية النقدية كما نراها ذوقًا وإدراكًا، ويمكن النظر إلى النقد على أنه فنًّا من جانب، وعلمًا من آخر، على أنَّه لا بدَّ أنْ ينصهر الذوق والإدراك كلاهما ويتوحدا في ذات وفكر من يتصدى للنص الأدبي بالقراءة والدراسة والتحليل.

***

د. سيد فاروق

 

رؤية الهاجس وشعرية الرؤيا، الفصل الأول - المبحث (2)

توطئة: إن ما ينبغي التأكيد عليه في تجربة النص الشعري الموسوم (قارات الأوبئة) ذلك التشبث بإمكانية الربط القصدي - التراكيزي - للفعل الرمزي الداخلي الذي يشكل بذاته ذلك الاستخدام الواعي في جعل المدلول الجزئي على وفق دوال انطلاقية، اختبارية تسعى إلى تحديد غايتها الجوهرية من جراء التسيير الذي يخضع لعملية (رؤية الهاجس) الداخلي - اقترانا - بذلك الاحتدام الخارجي الذي يواجه الذات الرائية لحظة إنبثاق التلميح والاختزال في معنى (شعرية الرؤيا) واستبعادها في مجاورات دﻻلية قائمة بالفعل الذهني المضاف إلى تفاصيل العلاقات الشعرية المتحولة والبديلة في معطى الخطاب الظاهري بالصيغة المخصوصة في طبيعة واقعة التركيز الشعري انطباعا ورمزا .

- توالدات خصوصية المكان وحركية رؤية الإيحاء المتصور:

١- محورية التراصف الكنائي:

لقد استثمر الشاعر فوزي كريم عبر وحدات مقاطعه الشعرية المتوغلة في مواضع فصولية ذات دﻻﻻت منحها الشاعر بعدا دراميا فاعلا، يومئ إلى ذلك من خلال مواطن الرحيل والزوال واللاجدوى وغالبا ما تكون مشاهدا خاصة في استخلاص تجليات الحرب والحروب، لذا بدت أغلب المقاطع عبارة عن (محاور متراصفة كنائيا)مشحونة بالرؤى المكانية التي بدا عليها تعدد الاصوات وتقطيع الأجواء في أمكنة أخذت تتشرب ملامح مرجعية ذا اشباعات أفقية خاصة من تحويل الدﻻلة السياقية إلى مباغتة مشهدية بضياع مظاهر البلاد والواقع وحركة الحياة:

عند زقاق - كان القمر يشي بالفجر -

تراءى لي كلكامش

يقطف من دافلى الدار

وردتها

ثم يبيع شذاها للعطار

...

... /ص٩

تقوم شعرية المقاطع ضمن بؤرتها التشكيلية على محور (التراصف الكنائي) أو على استثمار المعادل الموضوعي (تراءى لي كلكامش -يقطف من دفلى الدار - وردتها - ثم يبيع شذاها للعطار) بل يكاد الشاعر أن يؤسس بضياع (أريج الورد)و بخاصة من جهة كلكامش الذي يشكل بذاته رمزا مرجعيا في تشييد وحدة الأوطان، فكيف به عندما يظهر لنا وهو يبيع شذا وردة الدار (البيت = الوطن) إلى دال العطار، كما وتحتل جدلية الوظيفة التشكيلية تحوﻻ في دﻻلة جملة (عند زقاق - كان القمر يشي الفجر)و غالبا ما تتشكل محددات (المكان =الظرف)موقفا داﻻ على براءة (السكون =الحركة) امتدادا نحو أداة التنقيط السطرية التي تشي بتجليات النواة المضمرة في حركية الواقع الضاج باللاجدوى والفراغ الطافح:

في ذاك اليوم ولدت . أبي يحتاط من الفيضان

و أمي في الغيبوبة. والحرب الكبرى توشك ان

تتوقف فوق المفترق الواسع للزمن المتردي

نحن الحمقى كنا نكبر

دون محاذرة، ونلوح للدفلى

في حوش الدار بحمى الفرد . /9

لعلها لقطات من مشهد يختزل الزمان العمري .. عمر الفرد المستلب في طفولته حين غدا يلوح لزهرة الدفلى التي ابتاع أريجها المحصل التاريخي إلى ذلك المعادل الموضوعي بر(العطار ؟)كما ومستوى الاستعارة هنا تعد بجزئيات التراصف الكنائي المختبئ وراء تلك التمثيلات الزمنية التي تتراوح في كفة قدرية الانطفاء الموقفي (أمي في الغيبوبة .. والحرب الكبرى .. نحن الحمقى كنا نكبر)لقد بدت مستويات الاستدلال تتعرض لمواجهة قصور الوعي، عبر مجاﻻت إشكالية من مآثم الضمير الفردي،لذا تبقى حركية الزمن تشكل بذاتها حساسية مضافة في إحصائية الشائع والضائع من تفاصيل المفروض الزمني(و نلوح للدفلى في حوش الدار بحمى الفرد)هذا المعنى الحتمي هو نتاج مؤولات الخسران بمحمولاته التي تتعدى حاصلية الرؤية الهواجسية الواحدة، بل أن المعنى ها هنا جرى في حدود تصورات التسليم بذلك الراهن المحسوس والمعاش بأقصى وحدات التأكيدات الذاتية المستوعبة .

٢- تسخير المعاذير وتمكينها في معايير الذات المستلبة:

إن الواقع الإجرائي في مؤديات الوحدات الشعرية، لم يكن سوى دوافع حسية بالتشخيص التصوري أو بذلك الافتراض للتجربة الذاتية التي تتوالد في الوجدان والذهن على هيئة تركيبات صورية مبثوثة عن ظاهرة مؤشرة في ممكنات أقوال الأنا المتكلمة:

فنحن كأفراد مختلفين يفرقنا وجه

الأبّ، ووجه الأم يوحدنا مثل الطرفاء ..

أخي معذور حين يلاحق ولعي بالاشياء فيغضب

أمي حين تلاحق وجعي من وهم لا يتحقق . /ص10

ان الشاعر يتبين عليه من خلال هذه الوحدات، كونه غدا يجتر مساحات من معوقات الذاكرة المتصلة وحدود الاواصر الأسرية، لذا تقودنا جملة (فنحن كأفراد كنا مختلفين) إلى مدى تصور صورة الاختلاف بين متاهات الأمنيات والأحلام المتصلة بكل فرد على حدة، وهذا الاختلاف ما راح يصور الذات المتكلمة على كونها بؤرة تحكمها المضادات الخارجية من النسق الاسري (يفرقنا وجه الاب، ووجه الأم يوحدنا) أي بمعنى أدق ان حالة الانشطار العائلية كواقعة يومية صارت محطات من الفراق والتوحد، ولكن الشاعر لم جعل يستوحي هذه الصورة تحديدا، لربما هناك خصائص حدوثية من شأنها باعدت وقاربت بين كفة الأم على الاب، لذا نلاحظ أيضا في جملة اللاحق (أخي معذور حين يلاحق ولعي بالاشياء فيغضب)من هنا تتضح (أزمة طفولة الشاعر) ودهشتها بعد إحصاء صوت الذات الراوية بكل حاﻻتها القلقة والمنقطعة عن أدنى حقوقها الرغبوية وصوﻻ إلى جملة (أمي حين تلاحق وجعي من وهم لا يتحقق) في هذه الجملة يتبين حقيقة اضطهاد الفرد في حيز مرحلته العمرية، وتتحول هذه البراءة الى جملة أسئلة صعبة المراس في حال تكرار جملة المناشدة الاعتذارية حتى إلى جهة خارج زمن العائلة: (معذورون: فتاة الجار - وفتيان الحلم المنهار بفعل الثورة) وﻻ أحسب من جهتي بأن الذات الفاعلة تركز صوتها الى حدود ضيقة من مرسلاتها القولية، دون تخطي ذلك القطب المركزي المعتمد معادلا موضوعيا، والمقصود به جهة أسى الحكومات، ما دام الشاعر راح يمنح لكل افراد اسرته بذلك الاعتذار وطلب الصفح، أي ان هناك قصدية مصبوبة في وجدان حاﻻت الذات، لربما هي حصيلة تراكمات سلطة باطشة أو لربما هي جملة القيود الفردية الشخصانية التي تحيط الذات بمفردها الحضوري المنكفئ.

معذورون .

سخام الوجه نذير ﻻ ينفك يشي بالليل الأليل

بالأيام لها شكل الاسلاك الشائكة.

أبي مات وأمي ماتت .

و احترقت في الدار الدفلى . /ص10

تتجلى وحشة الذات في ضوء علامات القهر والضديات الثنائية المتوالدة، لذا اصبحت حالة الحزن بوحا سوداويا فاعلا، ويصبح الدال الشعري من خلال لحظة سقوط (سخام الوجه نذير ﻻ ينفك يشي بالليل الاليل .. بالايام لها شكل الاسلاك الشائكة)كدﻻلة متراصفةفي مجرى روح الشاعر الكظيمة، لذا ينثال الواقع في تواتر محزون، فيتساوى توصيفا بمشبه (الاسلاك الشائكة) لذا تحيلنا دﻻﻻت الوحدات إلى ذلك النوع من الشعائرية بالفقد والمفقود، وتتلاشى من زمن قاموس بوح الذات كل الافعال والآمال المجدية .

- تعليق القراءة:

لعل القارئ للفصل الأول للمجموعة (قارات الأوبئة) يعاين مدى التشابه الدﻻلي بين (بداية =نهاية)وهو ما يعرف بالتدوير، ويمكن أن يمنحنا المعنى في مواضع دﻻﻻت النص إلى ذلك النحو من مقصدية الشاعر الرثائية للذات نفسها وإلى مواطن أمكنة الذاكرة وزمن اشتغال آليات دوال الفواجع الضدية التي تتعرض لها الذات الشعرية عبر موطنها الكبير والصغير (المنزل = البلاد) وصوﻻ الى حالات وصفية ضمنية راحت تختزن لأدوات الشعر علاقات وآفاق فقدانية عبر الحاﻻت والمواقف والزمكانية وفضاءات شعرية الأسى:

الموتى أكثر تعباً تحت الشمس من الأحياء

ورائحة العرق تطهر حاشية وجودي

من عفن الساعات . /ص13

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

في قصيدة "ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ" للشاعر عبدالناصر عليوي العبيدي قراءة نقدية

إني بحبكِ واضحٌ وصريحُ

وحروفُ شعري في هواكَ تبوحُ

*

عانيتُ ما عانيتِ من ألمِ الجَوَى

لا ضوءَ في نفقِ الضياعِ يلوحُ

*

بي مثل مابكِ يا صديقةُ من هوى

همٌ يؤرقُ في الفؤادِ لحوحُ

*

حتّامَ ندفنُ في الهوى أحلامَنا

ونظلُّ في طَلَلِ البُعادِ ننوحُ

*

نَتَقَبّلُ الخيباتِ دونَ تَمَلْمُلٍ

أفلا يداوي جُرحَهُ المجروحُ

*

هل نستمرُّ على الطريقِ مع الأسى

لا بُدَّ من بعد الضّبابِ وضوحُ

*

أيقنتُ أنّ الدربَ أولُ خُطوةٍ

من بعد تِيهٍ يبدأُ التصحيحُ

*

مازلت أسعى كي أنالَ سعادتي

ما خابَ في نيلِ المُرادِ طَمُوحُ

*

حتى نطيرَ إلى ذُرَى أحلامِنا

لم تُغنِ عن قِممِ الجبالِ سفوحُ

*

قد باتَ حبكِ في الخلايا من دَمِي

ولقد أقَرَّ بذلك التّشْرِيحُ

*

هو ثابتٌ مادامَ نبضيَ عامراً

لا لنْ يزولَ وفي الأضَالعِ روحُ

*

ما غابَ صوتُك عن حدودِ مَسَامعي

قد باتَ في صمتِ الخَوَاء يصيحُ

*

قَسَمَاتُ وجهِك في مرايا غرفتي

ورَشَاشُ عِطْرِك في المكانِ يفوحُ

*

ماذا أقولُ وقد مَلكتِ حُشَاشتي

ماذا عساهُ سيفعلُ المذبوحُ

*

هيا لنعلنْ ما تكتَّمَ للملا

ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ

***

قصيدة “ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ” للشاعر عبد الناصر عليوي العبيدي تتسم بالكلاسيكية والأصالة في التعبير عن مشاعر الحب واللوعة. هذه الكلاسيكية تتجلى في عدة جوانب:

اللغة والأسلوب

الشاعر يستخدم لغة عربية فصحى تقليدية، مما يضفي على النص طابعًا كلاسيكيًا وأصيلًا. الأسلوب البلاغي والبياني يعكس تأثر الشاعر بالشعر العربي القديم، حيث يعتمد على الصور البلاغية والتشبيهات والاستعارات التي تعبر عن مشاعر الحب والألم بعمق.

الوزن والقافية

القصيدة تتبع نظام الوزن والقافية التقليدي، وقد نظمها الشاعر على بحر الكامل التام وهو مما يعزز من طابعها الكلاسيكي. حيث أن استخدام الوزن الشعري المنتظم والقافية المتناسقة يضفي على النص إيقاعًا موسيقيًا متناغمًا، يجعل القصيدة تنساب بسلاسة وتترك أثرًا موسيقيًا في ذهن القارئ.

الموضوعات

الموضوعات التي يتناولها الشاعر في القصيدة، مثل الحب واللوعة والألم، هي موضوعات تقليدية في الشعر العربي، فالعزل غرض من أغراض الشعر العربي الكلاسيكي على مر العصور والأزمان والشاعر يعبر عن هذه المشاعر بأسلوب صريح وواضح، مما يعكس الأصالة والصدق في التعبير.

التعبير عن الأصالة

الشاعر يعبر عن مشاعره بصدق ووضوح، مما يجعل النص قريبًا من القلب. الأصالة في التعبير تتجلى في استخدام الشاعر للصور البلاغية التي تعبر عن مشاعره بعمق، مثل:

“ما غابَ صوتُك عن حدودِ مَسَامعي

قد باتَ في صمتِ الخَوَاء يصيحُ”

هذه الصورة تعبر عن مدى تأثير غياب الحبيب على الشاعر، مما يعكس الأصالة والصدق في التعبير عن المشاعر.

شاعرية النص

هذه القصيدة الأصيلة للشاعر عبدالناصر عليوي العبيدي تعبر عن حالة شاعرية تصف مشاعر الحب الصادقة والواضحة. الشاعر يتحدث عن معاناته في الحب وكيف أن التلميح لم يعد يجدي نفعًا، بل يجب أن يكون الحب صريحًا وواضحًا.

وحسبما نرى أن قصيدة “ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ” للشاعر عبدالناصر عليوي العبيدي تتميز بشاعرية عالية تتجلى في استخدامه للصور البلاغية والتشبيهات والاستعارات التي تعبر عن مشاعر الحب والألم بعمق.

الشاعر يستخدم لغة واضحة وصريحة ليعبر عن مشاعره، مما يجعل النص قريبًا من القلب. على سبيل المثال، عندما يقول:

“قد باتَ حبكِ في الخلايا من دَمِي

ولقد أقَرَّ بذلك التّشْرِيحُ”

يستخدم الشاعر هنا صورة قوية لتوضيح مدى تغلغل الحب في كيانه، وكأن الحب أصبح جزءًا من دمه.

كما أن الشاعر يعبر عن الألم والمعاناة من خلال صور مثل:

“لا ضوءَ في نفقِ الضياعِ يلوحُ”

هذه الصورة تعبر عن حالة الضياع واليأس التي يشعر بها الشاعر، مما يضفي على النص عمقًا عاطفيًا.

لوعة الحب وبلاغة التعبير

لوعة الحب هي من أعمق المشاعر الإنسانية، والشاعر عبدالناصر عليوي العبيدي يعبر عنها ببلاغة فائقة في قصيدته. استخدامه للصور البلاغية والتشبيهات يجعل القارئ يشعر بعمق الألم والشوق الذي يعيشه الشاعر.

على سبيل المثال، عندما يقول:

“ما غابَ صوتُك عن حدودِ مَسَامعي

قد باتَ في صمتِ الخَوَاء يصيحُ”

هذه الصورة تعبر عن مدى تأثير غياب الحبيب على الشاعر، حيث يصبح الصمت نفسه صاخبًا بصوت الحبيب الغائب.

كما أن الشاعر يستخدم التكرار والتوازي في بعض الأبيات لتعزيز الشعور باللوعة، مثل:

“مازلت أسعى كي أنالَ سعادتي

ما خابَ في نيلِ المُرادِ طَمُوحُ”

هذا التكرار يعكس إصرار الشاعر على تحقيق سعادته رغم كل الصعوبات.

الأسلوب والموسيقى

قصيدة “ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ” تتميز بأسلوبها الرشيق والموسيقي، مما يجعلها سلسة وجذابة للقراءة. الشاعر عبدالناصر عليوي العبيدي يستخدم الوزن والقافية بشكل متقن، مما يضفي على النص إيقاعًا موسيقيًا ينساب بسلاسة.

الأسلوب

الأسلوب في هذه القصيدة يتسم بالوضوح والصراحة، حيث يعبر الشاعر عن مشاعره بشكل مباشر دون تلميح. هذا الأسلوب يعزز من قوة النص ويجعله أكثر تأثيرًا. استخدام الصور البلاغية والتشبيهات يضفي على النص عمقًا وجمالًا، مثل:

“قد باتَ حبكِ في الخلايا من دَمِي

ولقد أقَرَّ بذلك التّشْرِيحُ”

الموسيقى

الموسيقى في القصيدة تأتي من الوزن والقافية المتناسقة، مما يخلق إيقاعًا متناغمًا. الشاعر يستخدم البحر الشعري بشكل متقن، مما يجعل الأبيات تنساب بسلاسة وتترك أثرًا موسيقيًا في ذهن القارئ.

السلاسة

السلاسة في النص تأتي من استخدام الشاعر للغة بسيطة وواضحة، مما يجعل القصيدة سهلة الفهم والتفاعل معها. التكرار والتوازي في الأبيات يعزز من السلاسة ويجعل النص أكثر انسجامًا، مثل:

“مازلت أسعى كي أنالَ سعادتي

ما خابَ في نيلِ المُرادِ طَمُوحُ”

هذه العناصر مجتمعة تجعل القصيدة تجربة شعرية ممتعة ومؤثرة تجذب القارئ لقراءتها حتى النهاية وهو يعيش مع الشاعر تلك الحالة الشاعرية الفريدة التي ربما عبرت عن حالة جمعية لدى بعض القراء مما يعمق المشاركة الوجدانية بين الشاعر والنص والمتلقي.

شكرا جزيلا للشاعر على هذه القصيدة الرائعة وشكرا جزيلا للناقد الذي أضاء أركان القصيدة تفكيكا وتركيبا ولغة وأسلوبا

تحياتي لكما فقد أبدعتما شعرا ونقدا

*** 

 بقلم د. سيد فاروق - مصر

في دراسة شيقة للدكتور حاتم الصكر وهو كاتب وأكاديمي عراقي، حملت موضوعًا نقديًا صرفًا، وربما مهنياً، لكنه قريب العهد بالمناقشة والتفصيل على المستوى الثقافي، لاسيما في الجانب الأدبي، فقد اخترت المثاقفة وهي بالحقيقة مصطلح مرحل من الأنثروبولوجيا، ومن علم الاجتماع، بحيث يعود أولًا إلى الأنثروبولوجي" إليوت أوباوند" في القرن 19 من خلال الثقافة حين تكون متبادلة، والذي يسمونه أحيانًا في الغرب" التبادل الثقافي"، ولكن المصطلح استقر عندنا اليوم على أنه "المثاقفة" .

في هذه الدراسة كشف الدكتور صكر على أن هناك مناهج تطبيقية، وقد حاول أن أقرأها،، حيث يقول الدكتور حسن حنفي:" إنها وجه آخر للهيمنة الاستعمارية"، وقد وجد بعض النقاد الأعذار للدكتور " حسن حنفي" لكونه من أنصار "العولمة" و" والانفتاح على الآخر"، وله تجربة في كونه قد درس في الغرب، وارتد بنكوص عقائدي (وليس هنا مجال لمناقشة فكر حسن حنفي) ولكن يمثل نموذجًا لرفض هذه المثاقفة، حتى في التعريف البسيط وهو تبادل الثقافات بين الجماعات والأفراد على مستوى الحضارة والمدنية والأشياء الأخرى، وقد نسي الدكتور" حسن حنفي" مع الأسف أن الغرب طرف في المعادلة، وقد قام فعلًا بقراءتنا، وهذا هو المثقف التفاعلي، فأنت لا تستطيع أن تفرض، كما أننا نرفض، والدكتور حنفي يرفض أن يفرض علينا الغرب ثقافته، ونحن أيضاً بالمقابل لا نريد أن يكون لنا هيمنة على ثقافة الآخر، فنقدم أنفسنا بشكل حضاري، بحيث يكون فيه المطلب الإنساني الأول، وهو شرط المثاقفة، ثم تصبح النصوص هذه مثل البشرية، ودليل ذلك أن" ألف ليلة وليلة " لم تنتظر إلى أن يقوم أحدٌ منا ويترجمها، وإنما قام الغرب نفسه بترجمتها، ولم يشعر بأي نقص !.. نعم.. لنا اعتراضات على قراءات الغرب من قبل ألف ليلة وليلة، أو الليالي العربية كما يسمونها، لكن هذا النص لم يجد عائقًا، ولا خضع لوهم أن الثقافة الغربية تريد أن تسيطر من خلال المثاقفة، ولكن بالعكس، وأيضاً أمثلتنا الأخرى موجودة في التراث العربي الصوفي على سبيل المثال، حيث أحيا جزءًا كبيرًا منه مستشرقون معتدلون !.. نعم لنا على المستشرقين الكثير من الملاحظات على أهدافهم، وعلى استراتيجياتهم، ولكنهم بالأخير يقرؤون نصوصًا، وهذه النصوص، هي التي تقدم نفسها. وأحب هنا أن أقترح عليكم إجراءً، وذلك من خلال كتابي الأخير بعنوان" تنصيص الآخر"، حيث رأيت أن العرب قد درسوا المثاقفة من قبل، ومروا بمراحل كثيرة عليه، فبدءوا بموضوع السرقات، فالمتنبي قد قُرء بوحي المثاقفة، لكن بسوء نية، فكتب الحاكم سرقات المتنبي، وأن المتنبي ينظر لقول الحكيم أرسطو ويأتي بقول من أرسطو نثري – فلسفي بلغة أخرى ويحاكم به قولاً للمتنبي ليصل إلى أن المتنبي سرق أفكاره، ويصل به الكيد أحيانًا، ويقول:" وفي هذا القول ينظر المتنبي إلى قول الحكيم "، وسرد كثيرًا من الأشياء لا تنطبق !.

ثم يؤكد الدكتور صكر على أن هناك مشترك إنساني، فمثلًا المتنبي عندما يقول " وما الموت إلا سارق دق شخصه "، ثم يأتي أحد الغربيين من قبله فيقول إن " الموت كالسارق" فهذه لا تعد سرقة هنا، ولهذا فالموضوعات الكبرى مشتركة بين الناس جميعًا، فالجمال، والحب، والموت، والخوف، والأمل .. إلخ، فهذه موضوعات كبرى مثل المانشتات يشترك فيها البشر جميعاً .

لذلك رأينا الدكتور صكر يدخل في موضوع المثاقفة من باب تجاوز موضوع السرقات، ثم صارت في العصور الأحدث للنهضة العربية – الثقافية والأدبية تحمل اسم " التأثير والتأثر"، فهناك دائمًا مؤثر، والعرب جميعًا بشعرائهم وكتابهم وفنانيهم وقعوا تحت تأثير الغرب، وحتى صيغة المثاقفة نجد من خلالها خدمة لغوية كبيرة للصرف العربي، فالمثاقفة تعد مفاعله تقتضي وجود طرفين، وهذا يحكي الكثير من التهم ويلغيها، لأنه موازنة، فأنت تمثل طرفًا،وهناك طرف آخر، وبينكما خط المجرى الثالث، وهو النصوص، والمدونات سواء كانت بصرية، أو كتابية، أو تراثية، أو معاصرة، وغير ذلك، فالمثاقفة تقتضي وجود هذين الطرفين، بينما التأثر والتأثير يفترض وجود نقطة، أو مركز إشعاع، وهو الغرب غالبًا، ولذلك أغلب دراسات الأدب المقارن، كانت تأتي من زاوية: ماذا أخذ العرب عن الغرب فقط! .. لكن ماذا قدم العرب من ثقافة حتى يفهمه الغرب، فهذا لم يكن على جدول القائلين بمبدأ " التأثير والتأثر" .

ثم انتقل الدكتور صكر بعد ذلك من خلال درس حديث جاء من البنيوية، وهو "التناص"، وباختصار شديد فهو كما يقولون:" حياة نص قديم، أو أول في نص ثان، ويأخذ مكانة مهيمنة بحيث يُشار إليه"، فحين تقرأ قصة معينة، أو قصيدة، فتقول: هذه تعيش على فكرة موجودة في نص آخر، وهذا قد سمح بأن يخفف من فكرة موضوع السرقات ويهذبها، حيث صار بالإمكان من حديث عن عدة تناص، فهناك: تناص جملي، وتناص فردي، وتناص نوعي، وتناص بالأجناس، وهذه الأنواع من التناص جعلت الدرس النقدي يهذب أكثر، وبدأت تتضح حياة النصوص نفسها.

اليوم هناك طفرة أخيرة كما يقول الدكتور صكر في موضوع " التناص"، وهو "التنصيص"، بمعنى ألا أكتفي بأخذ جملة، أو فقرة، أو عمل معين سواء كان فنيًا أو كتابيًا، وأقول إنني عشت في تعانق نصي معه !.. لا.. من الممكن الحديث عن "تنصيص الآخر" ؛ أي أن يصبح الآخر بمدوناته نصاً، يُدرس، ويُقرأ، وهذا أيضًا سيأتينا إلى موضوع آخر، وهو ماذا تريد المثاقفة أن تفعل مع الآخر؟.

والحقيقة في نظر الدكتور صكر قد تفرعت عن مبحث المثاقفة مسألتان مهمتان: الأولى: الأنا والآخر، حيث صار إن صح الاشتقاق للأنا بثقافته ومكوناته، وقوة هذه الثقافة وإنسانيتها، والآخر، وهو المكان متغير، بمعنى أنني الآن أمثل الآخر بالنسبة للغربي والذي يشاهد هذه الندوة، ولكن بالنسبة لي أنا الأنا، وهو الآخر، ثم تفرعت عنها مسألة ثانية، وهي "هنا وهناك"، لأن الأنا مرتبطة بالزمن أولاً، وبمكان ثان، والمكان يعطي المعاصرة أكثر باعتباره يعيش هنا، فيكون " أمريكا"، أو "بريطانيا "، أي الغرب .

والقفزة الرقمية قربت أكثر، فصار بالإمكان شرط التعامل المباشر، بعد أن كانوا يشترطون في تعريف المثاقفة أن يكون هناك احتكاك وتماس مباشر، فالآن بإمكانك أن ترى معرضا عبر الانترنت، وتقرأ كتابًا مترجمًا، ومؤلفًا بلغة أخرى عبر هذه الشبكة، وبالتالي الثقافة عاشت حالة حركية، وأعتقد أنها قربت من مفهوم المثاقفة وشجعت عليه.

وهناك وجوه أخرى من المثاقفة كما يقول الدكتور صكر، منها المثاقفة الشعرية، وهناك مثاقفات يهتم بها العالم والفنان، ولكن هنا حقل عملي هو " المثاقفة الأدبية"، والذي من خلالها أخصص لها تلك المحاضرة المتواضعة وهي" المثاقفة الشعرية"، والمثاقفة الشعرية مرت بعدة مراحل، حيث نتذكر جيدًا في درس التأثير والتأثر أن الدراسات النقدية قد أهلكت القارئ بأثر" إليوت" على " بدر شاكر السياب"، وعلى الشعراء الذين جاءوا من بعده بأفكاره الريادية التي طابقت ما في نفوسهم من أفكار وهوى، وكذلك بأثر " لوركا" على " البياتي"، وفعلًا كان التشبع الروحي والثقافي عبر هذه الأسماء .

واليوم المثاقفة الشعرية وعبر درس التنصيص أي جعل الآخر نصًا تعدد ذلك، فصار من الممكن أن نقرأ الآخر،ونبحث عنه في نصوصنا دون أن نسمى هذه الأسماء بـ " اللافتات الكبرى"، أي صار التأثر بالموضوعات، والمثاقفة تتم عبر سمات كثيرة مكانية، وزمانية سيأتي المجال إلي ذكرها.

ولكن المثاقفة الشعرية المتعددة الجوانب، لا يستطيع بحث مثل هذا أن يوفيها كلها حقها، أي لابد من الأخذ في الاعتبار التأثر الروحي والذهني، ثم التناص ودروسه، والتنصيص، ثم المكان، وهنا في هذه المحاضرة أركز على جانب " المدينة"، أي كيف تثاقف الشاعر العربي ليس بكونه فردًا، أو ذات، وإنما ذات شاعرة، وهذه تسمى المكان أو " المدينة" الأخرى أو الآخر، وفي المدينة نجد أن الشعراء عادة ما ينفرون منها على نحو قريب مما يمكن تسميته " فوبيا المدن"، وهذا استقرائي السريع يكشف ذلك، فالسياب في قوله: وتلتفّ حولي دروب المدينة.. حبالًا من الطين يمضغن قلبي.. ويعطين عن جمرة فيه طينة.. حبالًا من النار يجلدن عرى الحقول الحزينة".

وينتقل الدكتور صكر إلى شاعر عربي معاصر وهو " أحمد عبد المعطي حجازي" من مصر، حيث يسمي قصيدته " المدينة بلا قلب"، وهي مدينة القاهرة والتي كتبها في عام 1965، وقد احتفى بها "رجاء النقاش" طويلًا في مقدمة الديوان واعتبرها إيذانًا بميلاد اتجاه جديد في الشعر ينضوي عنه ثوب الرومانسية المراهق دون أن يتلبس بمصطلحه البديل "الواقعية". بل هناك منظر كبير للشعر والمدينة، وهو شاعر الإسكندرية المعروف "قسطنطين كفافيس":، والذي تكلم عن المدينة وقال: "ليس ثمة سفينة ولا طريق هذه المدينة ستطاردك فهي خراب حيثما حللت"، وأعتقد أنه يمكن رؤية المدينة كما تتراءى للشعراء، فهي وحش خرافي، وأنها من باقي صلة الريفي بالمدينة، فعندما تنعدم الروابط التي يعرفها الريفي، والإنسان البسيط تصبح المدينة مكان غربة واغتراب بالنسبة له، وقد جاءت عوامل المدنية المضافة إلى الحضارة كالصناعة وغيرها، مما سنجد من شكوى الشعراء المهاجرين الأوائل عندما ذهبوا إلى نيويورك مثل المداخل، والمصانع، والشوارع السريعة، والتقنيات الموجودة في كل مكان، وهذه تزيد من شعور الشاعر بالذات في الغربة، فالشاعر بقدر ما يبدو قويًا في نصه ولغته، إلا أنه في الحقيقة إنسان ضعيف إزاء المكان، فالغربة والاغتراب انتقلت من الفلسفة وصار مجالها اليوم في الدراسات الثقافية والشعر، والسبب يرجع إلى الألفة التي يحس بها الشاعر ويفتقدها، والبراءة التي يشعر بها وهو يكتب، يلامس مدنًا وطرقًا ووجوهًا لا يعرفها، فمثلًا" أحمد عبد المعطي حجازي" يشكو من الناس، وحتى "صلاح عبد الصبور" كان يشكو من الناس أيضًا كما في قوله" الناس في بلادي جارحون كالصقور"، وهو كما نعلم جاء من قرية، والناس تصافحه في أي زقاق يمر به داخل القرية، وعندما يأتي إلى القاهرة فيشعر به وقع مصيدة بحكم كونه ريفيًا، ونفس الشيء نراه لدى السياب، حيث جاء من قرية في جنوب الجنوب إلى مدينة بغداد حيث يرى الزحام والضجيج .

وقد صدم هذا معظم المهاجرين الأوائل كما يقول الدكتور صكر، حيث كتبوا عنها أشياء حقيقة ندرسها اليوم، وهي أشبه بالنبوءات؛ فمثلًا " أمين الريحاني" عندما جاء إلى أمريكا في عام 1910، رأيناه يكتب قصائد عن نيويورك بألم وغضب مزدوج، حتى أن بعضه يصل إلى حد النبوءة، حيث تكاد تراه يستشعر بداخله ما سيحدث من بعد مثل أحداث 11 سبتمبر على سبيل المثال، فيتكلم عنها، ويقول:" نهر من الكهرباء، على ضفتيه جبال من الرخام، وغابات من الحديد.. ليل باهر، نجومه من معامل الإنسان الفانية، لا من معامل الله الأبدية، تعسًا لذا الجمال.. ساعة أولها ابتهاج، وآخرها تثاؤب.. مسرح الأهواء واللذات والأطماع، صدر جمالك.. آخر ما اخترعته المدنية من آيات الكذب والمصانعة، عين جمالك.. ضخامة تتمخض بها التجارة، فيلقبها التجار بالعظمة والفخامة.. لقد كذبوا والله وكفروا.. جمال معبودهم كدولار، صك في الليل وطلًا في النهار، تبًا لذا الجمال.. قباب هي دمامل الأرض، وأنفس تحتها هي دمامل الحياة.. وغدًا تصير أبراجك في أنفاقك، ويُدفن مجدك الكاذب تحت أنهارك، فتبكيك عندئذ نَيْنَوَى وتترحم عليك بابل" .

وهناك مقتبسات كثيرة يؤكد عليها الدكتور صكر وجهة النظر هذه، وهي أن المهاجرين الأوائل كانوا يرون مدينة مزدحمة بالمداخن، والعبيد، وبالتالي فهي مجزومة، وبدلًا من أن تنتقل الحضارة من الغرب إلى الشرق، انتقلت من الشرق إلى الغرب، إلا أن الشرق هو الذي سيكون فاعلًا حضاريًا، ويقدم للغرب هذه الحكمة التي يفتقدونها من نَيْنَوَى وبابل.

ومن الطريف أن" أدونيس " بعد سنين، أي أكثر من نصف قرن يأتي إلى نيويورك، ويكتب قصيدته الشهيرة " من أجل نيويورك" التي كتبها سنة 1971 وتتضمن رؤيا للمدينة وهي مشتعلة بالنيران، وعندما تسأله صحفية في عام 2015: هل تنبأت بما حدث لنيويورك في 11 سبتمبر، فرأيناه يقول:" هذه المدينة هي رمز للعالم الحديث تضمر رمزًا آخر هو رمز الطغيان، وبقدر ما أحببتها فقد رفضتها في ذات وجهين: الجنة والجحيم، قلت ستهب الرياح من الشرق وتهدم ناطحات السحاب، قلتها مستشرفًا ثورات الشعوب، ولم أكن أعلم أن ذلك سوف يحدث فعلًا .

ويعتقد الدكتور صكر أنه عندما يتكلم" أدونيس " عن الرياح التي تأتي من الشرق فإنه يعيد أمنية " أمين الريحاني" بأن تأتي من الشرق نَيْنَوَى وبابل، وتعيد هذا المجد الكاذب وهو ما يسميه كما يقول عن نيويورك " هو قلب خاو ومجد كاذب"، لكن مما يحسب للمهاجرين الأوائل أن محمولهم النصي لم يتضمن سياسة أو أيديولوجيا كما سنرى فيما بعد، حيث إنهم مجموعة البشر الذين جاءوا كفقراء في الغالب، مثل " جبران خليل جبران"، و"ميخائيل نعيمة"، وكل الأسر اللبنانية التي هاجرت أو السورية بالأحق جاؤوا طلبًا للعيش والرزق إلى آخره، ومن بعدها توالت الهجرات نتيجة الحروب التي صارت فيما بعد بسبب ضيق العيش.. وللحديث بقية.

***

د. محمود محمد علي - كاتب مصري

يوجد فرق بين من يأوي إلى مكتبته يجلس على كرسيه منزوياً وراء طاولته وأمامه فنجان قهوة أو كوب شاي أو كأس عصير يكتب عن آلام وأفراح ومخاوف الآخر والحروب التي أكلت الأخضر واليابس، وبين من يكون شريك تلك الآلام والأفراح وتلك المخاوف وشاهد وجع على حرب كان هو فيها يهادنها، يصارعها يداً بيد مع أيديهم يصدها بصدره وكتفه إلى كتفهم.

ما أريد قوله إن الروائية والكاتبة نارين عمر وهي تقرأ الآخر وتكتبه في روايتها " موسم النّزوح إلى الغرب " الصادرة عن دار الخليج للطباعة والنشر عام 2018 تنتمي للثاني الذي ذكرته. هي معهم تكتب لهم عنهم، تمتطي البحر، تسكن قارب الموت كما أسمته، ويقابله البلم الحامل لمشردين مثلها، تعاين الخوف في أعينهم وهو يراقص جفنيها.

تلك المقارنات الكثيرة بين شرق الوجع وغربه، بين شرق الحياة بمتناقضاتها وغرب الحياة وازدواجيتها تبدأ من النهاية، نهاية العمر حينما يكتسي شعرها بمشيب يوغر بموعد الرحيل وتجاعيد ليست سوى دلائل على كل الخبرات المكتسبة من معركة الحياة.

تتفادى عمداً ذكر أسماء شخصياتها بل حتى اسمها وهي حاملة الشيء الوحيد الذي لا يتجزأ منها ولا يفارقها إلى نهاية الرواية دفترها توأم لسانها الذي يبادلها الأدوار للبوح قليلاً عن تفاصيلها الصغيرة والسرد كثيراً عن الخطوط العريضة لموسم العبور إلى الغرب لأنها تختصر الكل فيها، وتعمم نفسها على الكل.

لا تنسى أن تخيط من المسافة الفاصلة بين شرقها وغربها برحلة الموت والحياة وتغرس في جبينها نيسان وكانون وشباط الأحداث.

تعشق نفسها بملامحها التي تشبه أمها بانحناءة، بانحدار شغف مستخدمة لغتها اللطيفة التي تجعل فكرنا دهشاً أمام الوصف وهي تعاين بحزن صامت" ضربة الجزاء المهدورة في ملعب الوطن"

ما أرغمها مع الكثيرين للنزوح من ربيعه إلى بلاد الثلج. قصص النزوح تنساب حكايات تقضم أصابعها المتعرقة ممسكة يراعها تلوذ بدفترها لتمر بكل الزوايا التي بكي فيها إنسانها الشرقي، بل وكل من صادفتهم من أجناس وبيئات مختلفة في هذا العالم المحض بفكرة الاختلاف والتشابه، منتمية إلى زمان ومكان لا تشخّصه باسم سوى بدلالة هروب من ظلم ومعارك وشيكة، بل بآلام مخاض ما قبل الإجهاض الذي لا يبشّر بولادة وصرخة انعتاق، لذلك تحمل ذاك الرحم الذي يتلوى وجعاً إلى غرب ربما تُجرى له ولادة قيصرية ليبصر الوليد نور حياة ركل رحم أمه كثيراً ليصل إليها.

حتى الريح لم تفلت من كلماتها، هي تشبّه ضرباته" بعقاب الشيوخ للتلاميذ في الكتاتيب" مكثرة من المترادفات والعطوفات للتعبير عن شيء أو شخص ما في روايتها " الأمل والانبعاث، خوفها وفزعها" بتعابير ملفتة فتقول:

"وأنا أهدّ خفافيش الخوف والجبن".

ثم تحط الرحال في قاموس المفردات الدينية وتصبغ على الحدث بما يجعل القارئ يتعرف إلى الخلفية الدينية لعائلتها ومدى تأثرها بشخصية والدها والكتب التي تناولتها وقرأتها في صباها،

الأمر الذي جعل كلماتها تنوح بنغمة ثرّة تفوح منها رائحة القبة البيضاء وشجرة الأمنيات التي تتوسط ساحتها، الدير القديم في مدينتها ومحاولتهم إلصاق قطع الفخار الصغيرة على حائطه لتحقيق أمانيهم:

"لأن أبي كان شيخ دين، يساقون إلى الكعبة ليتمّموا واجب الرجم، تضرعاً وخيفة، على جدار الدّير الحجري وأمانيهم ترتعش".

تستطيع بحنكتها ومعايشتها لكل تفاصيل الوجع أن تتحدث عن الإنسان بكل شاردة وواردة محللة نفسيته ووضعه كإنسان تسوّغ له أحياناً وتعرّيه أحايين كثيرة، فقط لتثبت طبيعته البشرية وجانبي الخير والشر فيه دون أن تنسى الاختلاف في الطبائع وحكمة التصرف أو التحامق.

البلاد التي ساوت بين الجلاد والضحية، بين المستغِل والمستغَل، بين القاتل والقتيل، بين من يستحق ومن لا يستحق. وهي تتماهى في سرد الوقائع قبيل تجهّم البحر وأثناءه وقبيل السلام على المركب وبعده وتلك الساعة الفاصلة بين الموت وشاطئ النجاة. لا تنسى أن تذكرنا بنفسها بأنها موجودة في طوابير الانتظار مع تلك الحشود التي بلغت التراقي حيث التفت الساق بالساق وجهل الكل أين المساق في يوم حشر عظيم، وهي تدَوَّن معهم على الكمبيوترات مجرد رقم.

تؤخَذ لكل واحد منهم صورة سيئة وتدفن بين الأوراق والثبوتيات ليتم مواجهتهم بتلك الصورة بعد حين، حتى لا ينسوا أنهم كانوا لاجئين وكأنّ الحبشة ستمنّ على المهاجرين بأنها فتحت حضنها لهم دون الخوض أو النظر في الخلفيات المهاجرة ، فتبدأ معركتها من جديد في الفصل والوصل بين إنسان في الشرق لا يقاد إلا بالسوط وآخر في الغرب تمّ تلقينه أن الشرقيين هم الدون وأنهم لا يفقهون لغة التحضر حتى في كيفية استخدام فرشاة الأسنان، فهي للتنظيف وليست للأكل وكأنها تتحدث عنا جميعاً نحن الذين نحمل صفة لاجئ.

لا بد وأن كل منا كان هناك في ذلك الطابور تحت تلك الخيام في انتظار الأكل الرديء والنظرة الدونية والخلاف والاختلاف والمعارك الجانبية بين الهاربين الذين يشبهون الكنة والحماية، الكنة التي كانت تُظلم صارت تَظلم والحماية التي كانت متسلطة أصبحت تجد نفسها الآن ضعيفة، مستكينة مع تبدل الظروف والأدوار، مستغربة كيف نهرب من الظلم لنظلم، من اللصوص لنسرق، من التطرف لنتطرف.

أجادت الوصف عندما شرحت كيف أن لحظة الموت والحياة واحدة تحدث في نفس الثانية، فالبلم الذي رمى بالنفير على شاطئ النجاة رمى بنفس النفير في نفس اللحظة في بطن البحر الذي كان قد صام دهراً وأفطر على أجساد من اللحم والدم:

"المسافة بين الحياة والموت بسمة ودمعة وأمنية لم تكتمل". الصفحة 154وهي تجعل مأساة آلان الكردي ذكرى تدق في منطق إنسانية الغرب وشاحنات الموت التي بخلت بهواء الرب ليتنفسه الواجمون في صمت مريب في رحلتهم الأخيرة نحو الموت الذي هربوا منه أخلاء الوفاض واشتروه بدولارات كثيرة.

لم تنسى أن تذكر كيف يبني الغربي أمجاد وطنه وكيف يبني الشرقي مجده الخاص فوق جثة الوطن وأنهار الدماء:

"في هذه البلاد لم يعد الزمان يقاس على ريختر الأوقات، لم يعد يخضع لقانون التجزئة والشتات. الزمن هنا قد يعاش دفعة واحدة في اليوم الواحد كما أيام هذه البلاد التي تعيش في الواحد منها الفصول الأربعة". الصفحة 159

نارين عمر المرأة التي تحدثت عن المرأة هنا وهناك والأمور الاشكالية بين الجهتين "الشرف والناموس، الطلاق والزواج، التربية والأطفال، الأبوة والأمومة، القوانين والحب، الذكر والأنثى، السبي والرق، الهشاشة هناك والقوة هنا، قتل النساء، ادعاء موتها انتحاراً وسقوطاً ووو.. إقحام الدين في التحليل والتحريم:

"تدرك أن شرقها لن يفلت من مخالب التخلف والانحطاط ما دامت المرأة هي الشرف والناموس، وعواطفها هي ميزان التأرجح بين الشرف واللاشرف، الناموس أو نقيضه. علة العلل عندهم أن الذكر يدرك بالفطرة أنه هو لوحده مالك الحس والشعور، سيد الحب وما يثيره من المتعة والجنون، اللهو والتعقل، وكأن الوجود من أجله فقط نفث الروح في الجسد، ألبسهما للأرض والسماء وما فيهما وعليهما".

سبب توق النساء للغرب لنيل حقوقهن وتحجيم دور الذكر أو إعادته إلى دوره الطبيعي والوحيد في حياتها:

((المرأة في هذه البلاد كائن تستمدّ كيانها من ذاتها كالنجمة التي تستمد ضوءها لا تحمل إلا وزر وجودها، لا تحمل أوزار الآخرين من الذكور والإناث....)). الصفحة 74

فهم الكاتبة لسلوك البشر والطعن فيه، والتبرير له صنع لها من رحلة لجوئها مغامرة لتكون قوية ومتصالحة مع وضعها الجديد، وضعها المتقلقل غير المستقر حسب السياسات الدولية والذي يجب أن تتماشى معه لتستطيع العيش، وأمام كل ذلك تراودها فكرة الرجوع الى الوطن. تستذكر عمتها وهي جاثية على ركبتيها تنظر في عينيها الغارقتين في يمّ عميق، تسمع حديث الموت والولادة وقصصهم العائلية والمصير القديم الجديد وجدتها وحكاياتها عن البحر وعن الخير والشر، والذي لم يختلف حتى الآن. الاختلاف الوحيد هو أنها هي أصبحت الشخصية المحورية والبطلة في حكايات جدتها وتأثير كل ذلك على شخصيتها لأن معاناتها ليست إلا جزء من معاناة شعبها ووطنها، بل معاناة كل إنسان على وجه البسيطة لذلك لم تتطرق إلى ذاتها إلا من خلال بعض الايحاءات:

الدراجة بين تلتين وهجوم الكلاب عليهم، الكلب روتو والطفلة لولو

خيبة أملها من بعض الذين أحسنت إليهم، البحيرة وتأملاتها، قربها من الجهة اليسرى الذي ينبض بحبها:

"عندما أغدو بمحاذاة كتفك الأيسر، على بعد أنفاس من الجهة اليسرى لصدرك سوف أطلق العنان للوتين كي يغازل وتيني لتمهيد الدّرب بين قلبينا في مراسيم لا يحضرها سوانا، ووتين القلبين الشّاهدان الوحيدان علينا".

أعود إلى التعابير:

"مبللة بخطايا المِلَل والأجناس،

مناسك الغربة" هذه الجمل التي تحكي الكثير الذي اختصرته في:

"الأخذ بالجملة والعطاء بالتقسيط أو منقطاً، التعامل بالمثل في كل الأحوال وإشعار الآخر بمحاسنك ومآثرك" الصفحة 133

يؤلمها ما آلت إليه حال شباب بشرها كما تسميهم:

"شبان وشابات، صبايا وصبيان كانوا يدغدغون وجنتي المدى، يحرثون تراب اليوم لثمار أفضل للغد. مضغهم المدى، ابتلعهم الغد غدراً من الخلف، ولأنهم لم يكونوا يحسبون حساباً لغدرهما، أي" الغد والمدى" حصل ما حصل". الصفحة 116

هنا حبذا لو تم الاستغناء عن كلمة "أي"

عندما تحدثت عن المدى والغد.

تحدثت عن المكان "سرخت، بن خت"،

أخوة الآخرة الأبدية، جيرانها، زهرة النرجس والريحان، الحب:

"غياب خلف لي وراءه قطرات ندى تنساب كدموعي الأخيرة فوق وجنتي النرجس والريحان التي ما تزال تحتضنها حافات شرفة دارنا لحظة فراق لم نقم له مراسيم الوداع والعاشق والمعشوق بصمت أنشدا معزوفة الهجران".

الصفحة 148

دفترها الذي لا يزال يحتفظ بأسرار وردة مهداة إليها، ونظرة متلصصة من حبيب قديم، السماء عرفت مقصد الأفق، رحيل الأم.

حاولت عدم التطرق إلى دواخلها بإسهاب، ولكن الكلمات غاصت بنا بعيداً لنسبر أغوارها ونستنتج ما نرغب به أو على الأقل ما فهمناه وهنا مكمن التشويق:

"بركة الماء لما رأتني أرنو إليها وأنا أتراقص على صفحاتها، انتحلت صفة قائد اوركسترا، بدأت تعزفني سيمفونية حنان في نبض الحنين وقطرات الماء تلثم وجنتيهم. المارون أسكرتهم مشاعر السيمفونية فتراقصوا كما شاء لهم السكر والحنين" 178

المقارنات المتعبة بين الشرق والغرب وهي تورد على لسان بطلة الرواية:

"لاحظت أنه لا اختلاف جوهرياً بين بشر شرقها وسكان الأرض السّمراء وأهل شرق الغرب، أو الشرق الغربي من حيث الطباع والطبائع. أدهشتها تصرفاتهم وسبل تعاملهم، وفوق ذلك يرونها ومن ينتمي إلى أرض وطنها من شرق التخلف والانحطاط....".

الندم على الوصول للأرض الموعودة،

وباء الحقيقة في الغرب، معاناة المتعبين وسعادة المتسلقين يكاد شخير الضمير يصم الآذان.

الأسئلة المثيرة التي طرحتها بطلة الرواية، حوار الحكمة والسذاجة،

قصائد الحب بمفردات حربية، وقد آلمها ما وصلت إليه أحوال شعبها حتى العشاق والمحبين منهم:

(تفكيك لغز قلبك أشدّ صعوبة من تفكيك أرض وطني الموبوءة بالقنابل المستهترة بهم، ليتك كنتَ أحد المقاتلين المحاصرين لمدينتي كما أنت محتل محاصر لقلبي، كنت حينها تبرعت للقتال ضد قلبك، مواجهة مشاعرك، وفي لحظة انتصار كنت أسرتك، ثمّ نفيتك إلى قلبي وفرضت الإقامة الجبرية عليك فيه".

كلمة اللعنة التي تستخدم بكثرة كلعنة الحب، لعنة الابتسامة، لعنة الحرب:

"وحدها الحرب -ألا اللعنة على الحرب- إذا حلت بأرض جعلت عاليها سافلها..." الصفحة 11 تظهر الألم الدفين لديها على نفسها وشعبها.

تحاول نارين عمر أن تشير إلى أن القدر في الكثير من الأحيان يكون من صنع البشر ليكون المتهم الأول في الكوارث التي تحل بهم:

"قدر خلقناه، نفثنا فيه من روحنا الخيّرة و الشّريرة معاً، حمّلناه مهمّة اللعب معنا أو بنا.."

لتختم روايتها قائلة:

"قبل الرحيل حوم الحلم خاصرة بلاد عشنا فيها عمر الحلم

بعد الرحيل، صرنا نعيش بلادنا في حلم عمر ربما ما عاد للعمر بقية.

***

زينب خوجة

 

الأبعاد المحورية المركزة اللامحددة، الفصل الثالث - المبحث (1)

توطئة: مثلما الحال في كل روايات (جوزيه ساراماغو) لعلنا نواجه ثيمة (الراوي المهيمن؟) عبر آليات وتمفصلات رواية (الشبيه) لكي تقتضي بهذا الحال تناول هذه الرواية على أساس من الشخصيات المتحفزة داخليا عن طريق (الحوار الضمني - المونولوج) ومما ﻻ شك فيه أن مسارية الأبعاد المحورية في موجهات (السارد حياديا) تم بفعل خصوصية الوسائط الاستطرادية التي شغلت ثلاث أرباع الفصل أو القسم الروائي الأولى - بلوغا نحو ذلك المركب النواتي كمظهرا شخوصيا من تمظهرات حساسية المحور الفاعل في تحريك العلاقات الحكائية وتأزيمها بعدة وظائف من المحور الداخلي واستقراء مبعث مواصفات الأحداث بطرائق ﻻ تحمل من الشكوكية والخيبة الانتظارية مطلقاً.

- مرايا ولوج الشبيه في تفاصيل مركزة:

تكشف القيم الاستهلالية الأولى من جل تفاصيل (السارد حيادا) بأن الضرورة التعرفية للشخصية كعلامة نصية مدرجة في مفترقات الاسم والتسمية التي راحت تشكل بذاتها ذلك الفضاء التضفيري المرشح في جل تمظهرات الوحدات المسرودة والسردية، أي أن الشخصية تحضر داخل قمعية نعتها وكنيتها الاسمائية، ذلك إتصالا مع محفز كونها تعمل في مجال تدريس مادة التاريخ، وهذا الأمر ما جعلها منكفئة على ذلك الحس المرجعي الذي يقدم الأشياء عبر خياراتها الإدارية ضمن ذلك الطابع التدويني أو الوثائقي حصرا، لذا فهي - أي الشخصية - تواجه تفاصيل حياتية مملة من جراء تقادم العمر والزمن على موضعيتها المفترقة عن جسد الحياة وملذاتها، لذا عن ذلك المحل الخاص ببيع أشرطة أفلام وثائقية ﻻ مشكلة في ان تكون المادة المضغوطة في حلقات ذلك الشريط عائد إلى ملهاة أو مأساة أو حتى كوميديا ساخرة، كان الأهم لدى الشخصية تزجية بعض الوقت مع تلك المادة المنسوخة على ذلك الشريط بطريقة أو بأخرى: (الرجل الذي دخل إلى المحل لتأجير شريط فيديو يحمل بطاقة تعريفه أسما غير مألوف تماما، ذا مذاق كلاسيكي عتيق، تيرتو ليانو ماكسيمو أفونونسو، لا أقل وأكثر من هذا . فأما - ماكسيمو - و- أفونسو - المتعلمين بشكل واسع، فإنه يستطيع تحملهما مع ذلك، رغم أن الأمر يتعلق بالحالة النفسية التي يوجد عليها - وأما تيرتو ليانو فجثم على نفسه منذ أول يوم أدرك فيه أن هذا الأسم المشؤم يمكن أن ينطق بسخرية قد تكون مهينة. /ص٩ الرواية) لعل الظروف التي تحيط بالإيماءة النعتوية للشخصية هي كل ما يتعلق بسياق الحبكة والتماسك المنظوري المستخدم من قبل السارد المتكلم، ولكننا عندما نعلم بأن الرجل هو مدرس لمادة التاريخ تتأكد لدينا بأن الشخصية تتعامل وحدود التسمية من خلال مجال التأثير الصراعي بين (المحدث - اللامحدث) أو الفاعل أو اللافاعل، وبعبارة موجزة يمكننا القول بأن الشخصية يشكل في ذاته عاملا سياقيا جعله تجسيدا مقصودا في ترابط ذاته إزاء معطيات الواقع المحدث، لذا فهو يتوجس الفعل السياقي في حياته كونه مندثرا في حجب الانفعاﻻت التأريخية . وهذا الأمر ما دفع زميله استاذ مادة الرياضيات بالاقتراح عليه بالذهاب إلى ذلك المحل ليبتاع لنفسه شريطاً مدمجا لأي مادة مريحة من شأنها زرع الود والمتعة في دواخل استاذ مادة التاريخ

١- الوهن الروحي في البنية الشخوصية:

قلنا سلفا بأن (سياق الترابط) هو بدوره ما يشكل لدى الشخصية أفونسو كل هذه البواعث من الغثيان والضجر، ذلك لأنه (عاملا سياقيا ؟) وهذه الموارد السياقية في عمل وشخصية ومسمى الفاعل -أفونسو- مصدرا للكثير من التفاصيل الغامضة في حياته المشحونة بمعنى الحوادث المرجعية في مادة التاريخ، وعلى هذا النحو راح زميله مدرس مادة الرياضيات يخبره بوجود ذلك الشريط الذي هو مادة بسيطة تحتوي على محض روح فكاهية تقريبا: (لأخذ فكرة واضحة عن حالته، يكفي القول أنه كان متزوجاً ولا يذكر ما الذي دفعه للزواج، تطلق اليوم ولا يريد أيضاً أن يذكر اسباب الفراق .. في المقابل لم يتبق من القِران الفاشل أبناء يطالبونه اليوم بأن يقدم لهم مجانا العالم من فضة، لكن التاريخ الحلو، مادة التاريخ الجدية التي استدعوه  لتدريسها، والتي يمكن أن تكون ملاذه المريح . / ص١٠ الرواية) ويمكننا تعريف علاقات الترابط على أنها علاقات تشنجية تقوم على صلة الأواصر الحاضرة في النسق بغيرها من الأوضاع الغائبة عنها والمترابطة معها، بخاصة فنحن ﻻ نرتب كل الوحدات الواردة في النص على أنها علاقات مخصوصة في المستوى التفصيلي، بل أننا نكتفي برصد الحالات في ثباتها ونفيها وذكر الاسباب الناتجة عنها . وعلى هذا النحو يمكننا التعامل مع طبيعة الشخصية على أنها تعاني من تصدعات قهرية عديدة، أولها غياب الحضور الأمري، وآخرها التسليم المتحفي للمادة التاريخية تجسيداً وإمعانا وشرودا . إذ أننا إزاء حالة حسية اختلطت عليها الاحوال والأزمنة، لذا بدت غالبية عظمى من التركيبة الأسمائية الكلاسيكية المشبعة بالمذاق والنكهة المجتزأة من العنوانات والشواهد الميثولوجية: (كتب مسجل الإعارة عنوان الفليم وتاريخ الخروج المواقف ليومه، وبعد ذلك أشار إلى المستأجر وبين له السطر الذي ينبغي أن يوقع فيه - أظهر التوقيع الكلمتين الأخيرتين من الأسم، ماكسيمو أفونسو، من دون تيرتو ليانو، لكن، كمن قرر مسبقاً أسرا يثير جدلاً، همهم الزبون، وهو يكتب في الوقت ذاته -هكذا؟- يكون أسرع . ص١١ الرواية) نقول بطريقة ما ﻻ يمكننا الإفصاح عنها الآن، خصوصا والأمر يرتبط بصورة المواصفات التضادية في عوالم روايات ساراماغو، فاللروائي علاقة بالرواية متصلة في حدود مجاﻻت تفاعلية مقصودة بين ثنائية (الآخر - المؤخر) فهي بدورها محملة بطاقة تأويلية تصاحبها تلك القدرة الخاصة على (الاستطراد في مخبوء التفاصيل ؟) وما دامت الرواية هي عالم من الأحداث الكلامية، ﻻ عالم الأحداث العابرة والتخاطرية، لذا فإن رجل مادة التاريخ من الإمكان أن يبدو في حالة تضاد وتنافر إزاء مسلمات الحياة الحاضرية، غير إنه في الأونة الأخيرة أصبح متحررا من قيود التاريخ طالما إنه شعر بالحاجة للخروج من زمن المؤرخ والوثيقة، فهو الآن يحاول العيش كباقي الأناس مادام قد هيئه لذاته ذلك الفضول بالتفرج على ذلك الفلم: (وبينما كان يحتفظ بالشريط في محفظته المتعبة، كابد الأستاذ تيرتو ليانو ماكسيمو أفونونسو، بكبرياء يستحق التقدير، حتى ﻻ يظهر ما أصابه من امتعاض بسبب ما قام به مستخدم المحل من وشاية مجانية - لكنه لم يجد بدأ من أن يقول في نفسه، رغم أنه يلوم نفسه بسبب ظلم الفكرة الدنيئة، أن الذنب هو ذنب الزميل، ذنب هوس بعض الأشخاص بتقديم النصائح من دون أن يطلب أحد منهم ذلك . /ص١١)

٢- المسافة القصدية الفاصلة بين تكنيك السارد وحوارية الشخصية:

إن ما يميز (المسافة القصدية ؟) في هذا الشكل من وحدات الإنتاج في مجال البينات الصغرى في فصول رواية (الشبيه) ذلك المستوى الارتباطي الفاصل والواصل بين آفاق (تكنيك السارد الفاعل) ونوعية مؤشرات استراتيجية الشخصية الروائية المتبدي في محاقب القابلية الانفعالية الدالة، لذا نقول أن أدلة التكنيك قد حلت في مدار علاقة تحويلية في الاعتبار الذي يكشف لنا بأن مؤوﻻت التجسيد الربطية بين احوال الشخصية تيرتو ليانو وذلك الرجل صاحب محل التسجيل، قد جاءت في حدود مباينة مؤثرة بشكل ملموس، ذلك لأن فعل التكنيك الساردي، أخذ يتصل بكلا الطرفين في حدود قابلية واقعة بالمحتمل المزامن، أي لعل الأمر هو صورة فرضية من روابط السرد، بما هي الإشارة إلى سنين مشبعة بالوعي الافعالي المجانب لمواضع الشخصية المحورية، كما الحال يرد في هذه الوحدات مثالا: (و الحقيقة أن بعض الأصوات غير واضحة التي تصدر من أفواهنا بطريقة إدارية أو غير إدارية - تدرجات الصوت التي يعلن فيها أنه رهن إشارة الزبون ردا على عبارة -أمسية سعيدة - الاضطرارية التي وجهوها إليه. ص١١الرواية) لعل الرابط بين الشخصية وصاحب المحل، محفوظة في مجال جزئية محتملة من تصورات الشخصية ذاتها، إذن الأمر بدوره يشكل حالة حسية نادرة مبعثها حلفية الشخصية بالنقصان والخيبة من جراء نعته المهمش في جيوب التواريخ الأسمائية العتيقة . وذلك أيضاً ما ينطبق على عنوان الفلم الذي جاء بمسمى (الإلحاح هو سر النجاح ؟) ليعكس حالة الخصوصية في منزل الشخصية في وضع علاقاتها الهامشية مع محيطها المجتمعي، كذلك الأمر سيان على قدم عرض هذا الفلم القصير الذي قد تم عرضه منذ أكثر خمس سنوات مضت، إذن المستوى العلائقي ها هنا راح يضم بالدليل المحتمل ما بين محتوى الفلم ومكونات الشخصية في الآن نفسه: (لكني أقول لك الآن، يا عزيزي، إنه ينبغي لك، بل من الضروري أن تشاهد - الإلحاح هو سر النجاح - وهو بالضبط عنوان الفلم - كان بوسع أستاذ التاريخ أن يسأل في أي قاعة سينمائية يعرض، وهو ما قد يرد عليه استاذ الرياضيات مصححا إنه ﻻ يعرض، بل عرض سابقاً. /ص١٢. ص١٣ الرواية) ربما الأمر إلى الآن ﻻ يتعدى حدود: العامل = الذات / العامل = الموضوع: ذات الحالة = ذات الفعل = ذات الموضوعة) ولما كان الأمر هكذا مقصورا في عدة عوامل موقفية في النص، نستدل بأن تجسيد علاقة الفاعل محايثة للشروط التداخلية في مؤخر السارد المتكلم، وصوﻻ بها إلى علاقة تتقصى الوضع التمثيلي للانموذج الشخوصي وفعاليته الدﻻلية .

- خصوصية الأداء وتقانة الاستطراد:

لعل الشيء الحقيقي في بنيات رواية (جوزيه ساراماغو) هو خصوصية الأداء وجزالة تقانة العمق الاستطرادي، فالروائي ساراماغو يقدم حقيقة شخصيته الروائية ضمن حدود وقائع استطرادية من شأنها إعادة ترتيب منظور النص عبر خاصية الإحساس المفعم بما تتجلى به مقاصد الترتيب المعتمد من وجود افتراض الأحداث ذات المادة تعديلا ومحكومية تحوﻻت العناصر والمكونات الشخوصية من جهة إلى أخرى من مقومات الأحداث والحدوث . لذا في أكثر الأحوال مالم يصادفنا صوت ووجود الشخصية ألا وهي في خفاء ذاتية السارد المتكلم ومن خلفه المؤلف الضمني، أو الذات الثانية للحكي . أن الشخصية الغير مشخصة في روايات ساراماغو حلت في أحوال صوت الراوي حلوﻻ إسناديا يحكي لنا الأشياء التي ﻻ تعرفها الشخصية ذاتها، لذا فإننا نفترض الصوتين (السارد - الشخصية) داخل موجهات كلية المؤلف في النص تحديدا. غير أن ﻻ يعني صوت المؤلف في موجهات الشخوص ووعي السارد، بل نقصد المساحة المنظورية للمؤلف ورؤيته في آليات النص إجمالا، وهذا الأمر ما جعل مغزى الشخصية في رواية (الشبيه) وكأنها الفعل التدرجي في مرابع المؤلف الكلي، وهنا يظهر الإحساس المركب لدى الشخصية والمؤلف الذي هو في صميم مؤشرات جل روايات المؤلف نفسه .

١- الكائن الشخوصي بين المتمثل بالفعل والشاهد العاملي:

رأينا في الأجزاء الأولى من الفصل الروائي الأولي، كيفية تقديم الشخصية المحورية ضمن أهليتها النفسية والأيديولوجية، بل أن الشخصية راحت تنهض بوظيفة حساسة من حيث تحريك العلاقات الدﻻلية وتأزيمها، لهذا نذهب إلى القول بأن شخصيات (جوزيه ساراماغو) تتصف بوظائف داخلية، ولعل سبب ذلك واضح للقارىء لروايات ساراماغو كونها غ ترصد الابعاد النفسية من خلال وساطات السارد المتكلم، وهذا الأمر ما راح يوفر للشخصية في رواية (الشبيه) إلى الملامح الكاملة بين المونولوج الداخلي للشخصية والمروي بوساطة السارد العليم: (غسل تيرتو ليانو ماكسيمو أفونسو أواني طعام العشاء بعناية، فقد كان دائما يعتبر أنه من الواجب المقدس أن يترك كل شيء نظيفاً - لعد كان بوسعنا أن نتحاشى هذا الشرح المتكلف لو قلنا إن تيرتو ليانو توجه مباشرة، أي في خط مستقيم إلى طاولة العمل، أخذ شريط الفديو، جال ببصره عبر المعلومات الواردة في وجه العلبة وظهرها . / ص٢٠ الرواية) إن معظم المقتطفات الواردة داخل القوسين، كلها عبارة عن حاﻻت خاصة من (تكنيك السارد العليم) ولكننا عندما تصادفنا ثمة تعليقات حوارية داخلية مقتضبة فهي حتما تعود إلى الشخصية أو ما يمكننا تسميته ب (الميتافيكت) تلك الآلية التي تتبنى طرح الأسئلة ما بين المتخيل والواقع أو الشخصية المذابة في سمات السارد العليم.

٢- الأنا الشخصية وصيغة الراوي السرد الذاتي:

لعل (أنا الشخصية) أو تلك العلاقة المخصوصة بين مسار أزمنة صيغة فواعل السارد العليم، هي المسار المحقق بين جهتي: (الراوي المهيمن = تداخل الشخصية= بين المحورين = أنا الشخصية = الراوي السرد ذاتي) بلوغا نحو امتلاك الراوي إلى كافة تمثيلات الشخصية ضمن مواقعها الدائرة في مساحات مرآة السارد العليم: (عندما انتهى الفيلم، كان أفونسو أكثر غضبا من نفسه مما كان عليه حيال الزميل - فما كان يؤلمه،كما يحدث دائماً للسذج، هو هذا الأمر نفسه - فلا يظهر في حكاية الفلم غير قصة طموح جامح وشخصي لممثلة شابة وجميلة تجسد تجسد أحسن ما لقنوها . /ص٢١ الرواية) من اللافت للنظر أن صراعات الشخصية لا تجرؤ في ظاهرها المتحفظ إطلاق بعض الكلمات البذيئة حول مادة الفلم التي قام بمشاهدتها وقد بدد بوضع الوقت في معاينة نزهات كان من الأولى به تصحيح دفاتر الطلاب الامتحانية في هذا الوقت الذي كرسه هكذا دون جدوى بمشاهدات جمال تلك الممثلة فقط، لذا فها هنا نعاين كيفية حدوث ذلك الشكل ردود الشخصية : (بصوت عالٍ، قال، غدا سوف اعيد هذا اغراء، ولم يشعر بدهشة هذه المرة . /ص٢١ الرواية) يتبين من هنا أن صوت وفعل الشخصية جاء مذابا بصوت السارد المتكلم، وهذه هي حدود حرية الشخصية في عالم ساراماغو بالتحديد . الشخصية من النوع المحافظ جداً، لذا من المعيب أن يطلق الكلمات الأكثر بذاته، ولكنه على ما يبدو كان يحاول الترويح عن نفسه بهذه الكلمات .

- الحضور الخفي للأشياء وصورة الشبيه:

إذا كان البحث عن المؤشرات في روابط وعلامات الأجزاء الأولى من رواية (الشبيه) فينبغي لنا معرفة الحالة الزمنية والظرفية والذاكراتية للشخصية في ذاتها ضمن حدودها الواصلة ما بين (آلية الربط = سياق التركيب) لعل ما حدث للشخصية لم يكن اعتمادا خالصاً على ما تم قراءته في كتاب حضارة بلاد الرافدين وخاصة ملكهم حمورابي، وﻻ من جهة ما ان مؤثرات الوحدة في شقته لربما تترك في نفسه تلك الارهاصات بوجود من يترقب خطواته في غفلة منه داخل الغرف والممر المركبة الاكثر توغلا في معاناة الشخصية بذاتها. عندما عاد أفونسو من دورة تجوالية أختصرت بدخول الحمام ثم المطبخ، ثم عاد بعد ذلك إلى غرفة جلوسه حيث آلة الكتابة، والطاولة الصغيرة وجهاز التلفاز، ثم همهم قائلا بشيء من الخوف: (هذا إذن؟) ثم تحول بعد ذلك بالانشغال بتشغيل جهاز التلفاز ثم شريط ذلك الفيلم الذي يحمل عنوان (الإلحاح هو سر النجاح) مما جعلنا نستخلص بأن الشخصية استلهم مفردة - الإلحاح - بصورة فطرية حتى راح يعيد مشاهدته لذلك الفيلم، بعد أن كان قبل عدة ساعات بين ارجاعه لصاحب المحل: وفكم ما الذي حدث بالضبط للشخصية وجعله يعاود مشاهدة الفيلم مجددا بعد أن شاهده أول مرة وأكتشف سوء وخواء محتواه، بأستثناء تلك الممثلة الجميلة هل يود مثلا معاودة رؤية الفتاة مجدداً احتمالاً ؟ أم إنه كان يني التدقيق في الاجزاءالفلمية هكذا دون قصدية، لو افترضنا ذلك ؟.

- مشاهد من الفيلم: (ضغط من جديد على زر جهاز التحكم عن بعد ثم، منحنيا إلى الأمام، ومرفقاه متكئتان على الركبتين - شاهد من جديد قصة تلك المرأة الشابة الجميلة التي كانت تريد أن تحقق نجاحاً في حياتها .. بعد مرور عشرين دقيقة، رآها تدلف إلى الفندق وتتوجه إلى مكتب الإستقبال، وسمعها تنطق باسمها - إنيش دي كاشترو، سمعها بعد ذلك تتابع - لدي حجز هنا في فندقكم - نظر إليها الموظف وجها لوجه، إلى الكاميرا، وليس لها، أو إليها هي التي كانت تقف مكان إبهام يده التي تمسك جهاز التحكم عن بعد ضغطت بسرعة على زر التوقف، لكن الصورة كانت قد مرت، ومن المنطقي ألا يتلف الشريط سدى من أجل ممثل من الكومبارس أو ما يزيد قليلا عن ذلك . / ص٢٤ الرواية) .

- تعليق القراءة:

لعل ما يحدث في الاجزاء الأولى من رواية (الشبيه) ما يشرع منا وقفة تأويليلة خاصة، حيث من المفيد أن نؤول مسار الاحداث الأخيرة بذلك الطابع من التمحيص لنقول: على حد علمنا الشخصية كان قد أطلع على شريط الفيلم منذ البداية جيدا ما دفعه الأمر إلى أن يكون غاضبا على زميله أستاذ الرياضيات لكون الأخير هو من اقترح عليه هذا الفيلم بإلحاح قصدي نوعا ما فما سر اهتمامه بإعادة التركيز حول وجه موظف إستقبال الفندق بخاصة وهو يعد من الكومبارس مثالا ؟ . مما ﻻ شك فيه أن جوزيف يضعنا إزاء خيارات محتملة بواسطة ذلك الموظف المدرج في لقطة عابرة من الفيلم، خصوصا وأن الشخصية أكتشف بمدى الشبه الواقع بينه وبين ذلك الموظف: (؛هذا أنا، قال ومرة أخرى أحس بشعر جلده ينتصب .ة/ ص٢٥ الرواية) كذلك نلاحظ ظهور مثل هذه التقانة الخاصة ب (الميتافكشن) عندما تتعلق بمحاورة السارد العليم للشخصية كمونولوج داخلي: (يا لها من فكرة، عزيزي تيرتو ليانو،أرجوك أن تلاحظ أن له شاربا،بينما وجهك أنت محلوق ./ ص٢٥ الرواية) من الغريب والمدهش في نهاية الفصل الاول من الرواية يكتشف الشخصية بعد جولة قلقة مفتشا في أغراضه القديمة يتعرف على صورة شخصية له عقود إلى خمس سنوات كان له فيها شاربا . في الحقيقة هناك العديد من الأسئلة الخاصة حول هذا الفصل، لكننا سوف نكتفي بالقول بأن (جوزيه ساراماغو) وضعنا بنية تقانية معمقة بحركية التكثيف والتحفيز في متابعة روايته (الشبيه) التي جعلتنا نواجه إجرائية روائية تتراوح ما بين (الأبعاد المحورية المركزة) وذلك الجانب من (الكشوفات اللامحدودة) في تضاعيف متوازنة ومتكابدة من جدلية زمن وجهات الخطاب الروائي الأكثر استطرادا وحبكة وإتصالا في الأزمنة المعادلية للشبيه وتواتر مأزومية الصورة والشخصية والأحداث الفاعلة والمتوالدة في زمن التنصيص الروائي .

***

حيدر عبد الرضا

 

ذاكرة في الحجر، عنوان لافت ومُعبّر، ذلك أنّ الذاكرة العربية الجمعيّة منها او الفرديّة معظمها في الحجر وهي حُبلى بالذكريات الموجعة نتيجة الممارسات القهرية المعتمدة من قبل أغلب أدوات النظام الرسمي العربي بحق مواطنيه تحت ذرائع مختلفة حينًا ومختلقة أحيانًا أخرى. كان لإطلاق إسم "عربي" على بطل الرواية دلالة عميقة، فهذا العربي  يشبه بشكل أو بآخر كل مواطن عربي في بعض محطاته. كما أتت الرواية لتؤرخ الموجة المسماة بالربيع العربي التي عصفت بأغلبية البلدان العربية في العقدين الأخيرين.

تتمحور الرواية حول الحياة التي عاشها "عربي" بكل مراحلها منذ طفولته في كنف والده المثقف المُدمن على إقتناء الكتب وقراءتها والمؤمن بفكرة العروبة إيمان لا حدود له لدرجة يقول في هذا أنّه "ابن الفكرة الشرعيّ، ولست لقيطا على أبوابها. نشأتُ في بيتها وكبرت معها وبها، وصار لا بدّ من ترتيب هذا البيت وتطهيره وتعقيمه. لقد صبرنا كثيرا،وصدّقنا على مضَض أنّ من حقّ الغاية أنّ تُبرّر الوسيلة فإذا بالوسيلة صارت هي الغاية". وأصبحت الفكرة بكامل رحابتها وعظمتها،  تتحوّل إلى لباس ضيّق على مقاس نفوس صغيرة".(12). ويستذكر عربي تحذيرات والدته لزوجها من مغبّة ما هو مُقدم عليه فتقول:"لن تنفعك مبادئك ولن تشفع لك. سيفرُمونك فرمًا كما فرموا غيرك. ماذا سيكون مصيرنا لو حلّ المكروه بهذا البيت؟"(12). لكن الزوج لم يرتدع وبقي مصرًا على مواقفه آملاً  بتغيير الواقع الشاذ وإعادة فكرة العروبة إلى موقعها الطبيعي ودورها الطليعي لكن كما يقول عربي "العروبة هي التي أودت بأبي إلى مُعتقل حُماتِها، حين تلصّصوا عليه في الحلم فوجدوه يردم الخندق بين الفكرة والتطبيق"(8).

لقد نشأ عربي في كنف والديه ونصائحهما فوالده ينصحه بالقول: " عِشْ أبيّا يا عربي، فالعمر وقفة إباء أو لا يكون، املأ رأسك قبل بطنك، واجعل من وقتك سلّما للصعود، ابتعد عن الثرثرة والفراغ يا ولدي، حتى تقترب من الإنجاز والمعرفة، أما والدته قتلقنه أصول الأمان وراحة البال اللّتين اختصرتهما في عبارتين حاسمتين: "احذر السياسة يا عربي.. السياسة خراب  بيوت"(17). هذه النصائح المتناقضة خلقت من عربي شخصية مضطربة إلى جانب نرجسية مفرطة لإيمانه المطلق بفطنته وحنكته وبحجم المعارف التي يكتنزها، لقد امتاز عربي بشيء من الواقعية وحتّى العبثية في بعض المواقف –إذا جاز التعبير- لذا نجده ينأى بنفسه عندما تم اقتياد خطيبته تيماء متسائلاً: "ما الذي كانت ستستفيده تيماء لو اقتادوني معها،  والتهموا جُبنتها أمام عينيّ، سوى  مزيد من الموت قهرا أو القهر موتا؟ أوليست الحمِيّة والشهامة بغير مَقْدرة غير بطولة زائفة أو سيف من خشب؟(9). لم يكن ليدرك ذلك غير حكيم ذي فراسة مثلي، حتى لو رآني من هم دون حكمتي نذلا (وهنا مظهر من مظتهر نرجسيته). ويردف قائلًا:"  سامحيني إن عجزت أن أحميك يا تيمائي.. مازلت مؤمنا بحكمتي التي اقتضت عدم الشجاعة الزائفة، ما دامت المواقف لا ﹸتقاس سوى بنتائجها(55) .

في وصف غير بعيد عن الحقيقة يقول عربي في نقاشاته مع صديقته تالا تلك الفتاة المشبعة بالأفكار اليسارية،منتقدا الشعارات الفارغة التي ترفع تحت مسمى الصالح العام فيقول: هناك أيديولوجيات ومذاهب متصارعة، تدّعي كلها امتلاك الحقيقة كي توّظفها للصالح الخاص، تحت بند الصالح العّام.(24).− ﹸكلٌ يدّعي صواب فكرته حتى شعار( أمّة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة).. لن تَجِدي منه على أرض الواقع سوى العصبيّة القُطريّة والطائفيّة، والشعبويّة والفئوية..التي ما فتأت تتقلص إلى إقطاعيّة عائلية احتكاريّة يتمّ توريثها تحت بند الصالح العام (24).

وفي موضع آخر تبرز لنا الرواية ضعف النفس البشرية التي غالبًا ما تودي بالمبادىء التي تسقط وتنحني لسلطان الرفاه وبحبوحة العيش!  فقد فوجىء عربي خلال بحثه لاحقا عن تالا عبر الفايسبوك بأنّ صفحتها شبيهة بصفحات إعلانات للموضة ومظاهر الرفاه سيّارتها الفارهة، حديقتها بمسبحها المستدير! مظاهر ثراء فاحش لشيوعيّة متعصّبة تنحاز للطبقات الكادحة لكن المفاجأة زالت بظهوراسم زوجها وهو سليلٌ لإحدى  مافيات الاقتصاد ممّن انتفخت بطونهم بالتُخمة على موائد الجياع. (142).

ويبدو اننا في عصر المفاهيم المقلوبة، والوازرة تزر وزر أختها وليس كما آمنّا، لذا فإن عربي حُمِلَّ وزر أبيه، عندما أوقف من قبل أحد الحواجز، "فأي مهزلة أن يتحوّل اسم أبيك على بطاقة هويّتك، بعد عشرين عاما من غيابه، إلى دليل إدانة كامل ضدّك"(29).

أجادت الكاتبة في وصف الممارسات في اقبية الإعتقال وصورتها كما عاشها الكثيرين من المواطنين العرب الذين أصابتهم هذه اللعنة، ويصف عربي هذا المشهد بالقول: "كلابٌ جائعة لاستفتاح الحفلة ولعقِ عصائر النزيف..  ﹺعِصِيّ غليظة لهشاشة العظام..حبالٌ لتعليق الجلود الممزّقة بالسياط، ودواليبٌ لطيّها.. كلاليب للأظافر، ﹸبصاق وأكفّ غليظة للصحو.. مسامير وسجائر مطفأة للكلام.. أسلاك ﹺمكهرِبة، تجوس بين السُرّة والفخذين لامتحان الرجولة..  صيام للنهارات والليالي، ينتهي بربع رغيف عفن، وطاسة ماء صدئة.. وقتلى بلاجنازة.لكنّني نجوت وهربت (31)..

وتنقلنا الرواية إلى إحدى تداعيات الربيع العربي وإلى أصحاب اللحى الذين سخروا الدين لغايات شخصية وقاموا بأعمال السبيّ والقتل باسم الدين، وكان من بين ضحاياهم الأزيدية جيلان التي وهبها الأمير إلى عربي الذي بفطنته إستطاع نيل ثقة الجماعة لدرجة كُلف في إحدى المرات بخطبة الجمعة، ولتبيان الإنتقائية التي تعتمدها هذه الجماعات وخصوصا في تعاملها مع الدين وأحكامه يورد عربي اعتراض أمير الجماعة عليه لأنه ذكر في خطبة الجمعة الآية 125 من سورة النحل: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(ص46). متمنيا عليه اللجوء إلى آيات أخرى تحث على الجهاد والقتال وليس الحوار والجدال الهادىء.

ينتقل عربي بعد الإستعانة بحيتان التهريب ليصل إلى فرنسا ويخضع للتحقيق حول سبب مجيئه هربًا، وهنا تبرز العنصرية لدى المحقق الفرنسي بعد أن عرف أن اسمه عربي فقال: عربي! ومحترم! هل تدفع الشُبهة عن نفسك أم تؤكّدها(161). لقد ضقنا ذرعا بكم" لكن عربي بسرعة بديهيته يجيب: "سبق وأن ضاقت شعوبنا ذرعا بكُم على امتداد عقود من الاستعمار، لا بأس أن تتحمّلونا قليلا إلى أن تضع حربُنا أوزارها. (85).

وفي فرنسا محطته الأخيرة يلتقي عربي بصديقته "أوود" التي تعمل في إحدى المنظمات الإنسانية  وتسمح له بالعيش معها، وفي إشارة ألى إختلاف الثقافات والتقاليد بين الشعوب يقول : "لم أسأل أوود يوما عن سابق علاقاتها مثلما سألتُ ذات يوم تالة عن عذريّة شفتيها ولا منحتُ نفسي قطّ حقّ السؤال. هل تراني سقطت وانحدرت أم ارتفعتُ وارتقيت؟(88). ولأجل إزالة الغشاوة عن الأعين حيث ينظر الجميع الى الغرب وكأنه مهد الحريات والديمقراطية  توضح أوود لصديقها عربي الأمر وتقول:" لا تغرنَّك حريّاتنا وديمقراطيّاتنا الغربية كثيرا. هي اسم يفتقر إلى مسمّى حقيقيّ، بدليل أنّنا نؤمن بها داخليّا وننتهكها خارج حدودنا ومع غيرنا وكأنها حقّ محتكَر لنا. لا أنصحك أن تصدّق كثيرا أننا جنّة اﷲ على الأرض، فليس كل ما يلمع ذهبا يا حبيبي 107).

ختاما إن رواية ذاكرة في الحجر مليئة بالإشارات وتسمح بإجراء إسقاطات كثيرة على واقع البلدان العربية كل من منظوره وخصوصيته.وهي بشكل أو بآخر تشكل نوعا من الوثيقة التاريخية لحقبة من الزمن العربي المكلوم.

***

بقلم: عفيف قاووق – لبنان

لا يموت الإنسان إلى حين لا يتذكر احد

لا تخف كثيرا من الموت

بل من الحياة الناقصة

المحزن من الحياة

وليس الحياة قصيرة

و المحزن إننا بدءنا الحياة متأخرين

برتولد بريخت

الكاتب المسرحي الألماني

***

لرواية الصديق العزيز حازم كمال الدين أهمية من حيث انها ترتبط بشكل واقعي للأحداث عراقية، يشير لها الموقف من خلال الشخصيات التي اتخذ منها أبطال لروايته، ومن المعروف أن حازم كمال الدين هو مسرحي، كما عرفناه في دمشق عندما استضافتنا سوريا العروبة، ونحن تركنا الوطن بسبب من الاضطهاد السياسي، من قبل (الحليف) حزب البعث العربي الاشتراكي، بعد فرط عقد الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، والتي للأسف وقعت حسب شروط الحزب الحاكم حزب البعث، وهنا حلت المأساة .

حازم كمال الدين وعدد غير قليل من المثقفين والكتاب والصحفين هجروا الوطن، وانبروا كل في مجاله، وحازم ورفاقه اسسوا فرقة مسرحية، وعرضوا اعمالهم على مسرح قاعة الحمراء في وسط دمشق، ولاقت مسرحياتهم النجاح في عروض دامت لاسابيع، حازم خريج معهد الفنون الجميلة في بغداد ولديه طموح في تطوير نفسه وهذا ما ظهر عندما توفرت الامكانيات له في بلد المهجر هولاندا بلد الزهور الجميلة، لقد استفاد من خبرة اساتذته في مجال التمثيل والإخراج، من أمثال يوسف العاني وفخرية عبد الكريم (زينب) وسامي عبد الحميد ،جاسم العبودي، صلاح القصب، جعفر السعدي، ابراهيم جلال، خليل شوقي، ، وقاسم محمد، وبدري حسون فريد وغيرهم ممن شاركو في المسرح العراقي، والذي لعب دورا مهما في تطوير الشارع العراقي، فمثلا مسرحية اني امك ياشاكر في الخمسينات من القرن الماضي وأيام الملكية، لعبت دورا مهما في تثوير الشارع ورفع معنوياته ومطاليبه، وفي الستينات عرضت مسرحية النخلة والجيران وهي رواية كتبها خالد الذكر غائب طعمة فرمان الروائي العراقي المعروف، كانت تتحدث عن طبيعة المجتمع العراقي والمعانات التي يعاني منها في السياسة والاجتماع والعيش في ظل الأنظمة السابقة .

أن أذكر هذه المقدمة لكون كاتبنا المسرحي حازم كمال الدين هو له باع طويل في تطوير منهجية المسرح مكتسب لتجارب كتاب المسرح من خلال تواجده اليوم في المهجر (هولاندا) وقد كتب عنه الكثير في مجالات عمله المسرحي المبدع.

و قد أطل علينا في روايته الجميلة:

الــوريث

عن البدء في قرأة الرواية، يطل علينا د. فتحي بن معمر في تقيم هذه الرواية [هل اتاكم حديث من يستحق الحياة على تخوم الموت] ويستطرد قائلا: هذا العنوان مقتبس من عنوان مقالة ليسري الشيخاوي حول حازم كمال الدين فنان يستنطق الحياة على تخوم الموت.

يقول د. فتحي (الحقائق عل الأرض تقول ألا خيار سوى الاخيار في ظروف لا خيار فيه) صيحة تراجيدية متحشرجة تخرج من صلب (أيوب) احبه لتعلن عجزه وعجز بلاده ودكتاتوره ومعارضيه بل وعجزنا جميعا إزاء النظام العالمي الجديد الما بعد عولمي والما بعد حداثي، حيرة كبرى تنتابه، كما تنتبنا كقراء فنقف محدودين أمام(فلسفة رعناء) _ والعبارة له _ تتسلط عليه وعلينا في حوار حجاجي أقرب إلى السفسطائية بحثا عن إجابة تغدو بمجرد الوصول اليها معظلة لا تختلف عن معضلة أيهما أسبق البيضة أو الدجاجة..فستطرد بمقالته الفلسفي عن رواية حازم كمال الدين كاتبا: ففي سابقة أولى من نوعها أقام حازم كمال الدين نصه على خمسة أقسام اخرج أحدثها وحرك شخصياتها أنطقها على أركاح (جمع ركح) عديدة تنوعت بها ومعها الأفضية والامكنة كما تخاتلت وتبادلت الأدوار فلم تعدم الرواية بعضا من ساحاتها أثينا الاغريقية بما فيها من توضيح مسرحي، ولم تخلو من بعض ملامح ساحات الجدل في روما،كما رشحت في ثناياها ملامح بلاد وادي الرافدين وعكاظيات أسواق العرب وأيامهم انتثر في بعض طياتها عبير الحضارة الغربية صلف زمن ما بعد الحداثة في التصور القول الفعل والممارسة. فكان هذا النص عصيا على التجنيس وان وسمه صاحبه برواية، فبلغ التشويق ذروته وصار سلام الخير شاهقا. ونص المقالة وسردية للرواية خاض فيها الدكتور فتحي بن معمر طريقين اولهما فلسفي والاخر يدخل ضمن مفاهيم علم الاجتماع في تشخيصي لأ أبطال الرواية. بدء الكاتب روايته في القسم الأول تحت عنوان وادي الرافدين (القلعة المقدسة) نحنوا صخرة فصارت قلعة: خشبية عثيقة. طرقها يصر إذا ارتفع ويخشخش إذا هوى، نوافذها مشبعة بظلال، ،زوجاجها مضبب بغباء ملتحم بمعدن يستعصي تميزه عن حائط كان في الأصل حجرا سحقته حقب سحرية وواقعية وغبارية ومطرية فاكتسى روحا هائمة الألوان والأزمان والاحساس! من نافذة القلعة يلوح غصن زهرة عباد شمس كمن ينادي فجرا ستلوحه شمس فيتقطر على حافات السماء. نسائم تربت على زهرة عباد الشمس الحمراء، يفر من الزهرة خفق جناحي نحلة، يصطفق بالنافذة فيتكسر ازيزه .. كوة تلوح داخل الزجاج، صمت. يصف الفجر تحت ضربات الشمس صمت . الصباح المتعثر بألوان الفجر عازم على الظهور صمت. صياح ديك يثلم الصمت طائرات إلى زهرة عباد الشمس مخلفا كوة في كلوس اب. من كوة النافذة تتبين باحة كلوس اب. باح عتيقة صخرية رابطة الجيش تمركز في وسط القلعة. كلوس اب. في ركن من الباحة محراب. في المحراب شبح إذا ما نظر حوله فسوف يوصف الفضاء هكذا: _ هذا الفضاء زمن تحول أمواجا ثائرة تحجرت وهي في أوج الثوران واذا ما ما تأمل الأمواج الثائرة غمغم: انها على اهبة الاستعداد لاتنكر لتحجرها والتحول ماء أجاجا. كلوس اب.

من خلال هذه السردية القصيرة التي اتخذ المؤلف عنوان لها وادي الرافدين متحمسا للكتابة عن هذه الحضارة العظيمة التي سجلت في التاريخ، وكأنها الجذر الأساسي الذي استمدت منها الحضارات في العالم بمشرقه ومغربه أولوياتها ومنها مسلة حمرابي واضع القوانين في العالم وكذلك الهندسة في ماسمي بالجنائن المعلقة وهي إحدى عجائب الدنيا السبع، ولا ننسى كيف أن اشور بنيبال في الدولة الاشورية، قام بإنشاء اول مكتبة في العالم المكتبة التي ضمت الكثير من المخطوطات من جلود الحيوانات، ف المؤلف يريد أن يصف لنا وبشكل تصويري لبوابة عشتار بجمالها ورونقها وهي المدخل لشارع الموكب حيث تسير فيه مواكب ملكية عند انتصارات مملكة بابل على يد نبوخذ نصر ماسمي (بالسبي البابلي).

و لمتابعة رواية الوريث وفي هذا المقطع يكتب الراوي في سرديته: في ليلة زاف غونريل من إسفاف وجد العريس نفسه في المخدع أمام عروس مستلقية مثنية الركعتين على وجها خمار خفيف، فاتبع بسرعة وصية ابيه وكشف عن الشيء بين ساقيه وارامى فوقها. لكنه لم يعرف ما العمل! فقد عجز عن تحديد المكان الذي يولج فيه الشيء: (أهو الفتحة الصغيرة بحجم عين الإبرة، أم الفطر الطولي المسيجيد بما يشبه شفتين متهدلين تحت عين الإبرة؟) كانت تساؤلاته ضاربة في الاطناب ذاهبة حد الارتباك وقد قصد منها فتحة التبول وماتحتاج.لمن يعرف كيف ينفذ وصية والده القاضية بايلاج الشيء في الشيء: تقصد الفتحة الصغيرة بحجم عين الإبرة، ام الفطر الطولي؟ همس بعصبية لوالد العروس،الملك لير، الذي اجابه بهمس متواطئ (في الفطر يا يا ابني!) الأمر الذي جعله يرفع صوته: (الفطرالثأر وغسل العار ليس فتحة يا عمي! الفطر الذي تقصده شق تطبق عليه شفتان، وأبي أمرني أن أدخله في الفتحة! .

حدث ذلك لما تأخر الوقت إبان انتظار والده هرقل بن ذي الجوشن ووالد العروس الملك لير بصبر شب عن الطوق ظهوره المظفر من قبة الزفاف بشارة النصر على العروس: المنديل الخفاق الملطخ باللون الأحمر اللزج.

و إذ أعلن النفير نتيجة التأخير اقتحم الملك لير قبة الزفاف مرتعدا في صوته رئيس (هل يعقل أن تكون ابتي فاقدة للعذرية ؟) ومايترتب على ذلك الزئير من عواقب تلوث اسم العائلة الجليلة وتوقظ حفلات الثأر وغسل العار. وأصابه فرح بليد حين انجلت الأحجية ابان اندفاع الحوار السالف مع إسفاف الذي لم يتزحزح عن رأية قيد انملة: _ لا يمكن إدخال الشيء في فتحة صغيرة بحجم خرم الإبرة!هل رأيت الفتحة ياعمي؟ تعال إريك ايها. وسحب الملك لير بقوة صوب ساقي العروس التي شدت خمارها على وجهها بقوة ولمت ساويها ففلقهما اساف عنوة: " انظر بنفسك يا عمي! لاتوجد فتحو أخرى! فقط الفطر الطولي المغطى بكتلة لحم تشبه الشفتين! . والحوار يطول،

و من هنا نستنتج ان ما أراده المؤلف في هذه السردية، أن يقول ان المجتمع منذ عهود سالفة لم يجد ما يعلم الجنسين عن علم وظائف الذكر والأنثى وحتى الوظيفة التشريحية لكل عضو فيه، أضافة الى العادات و التقاليد منها البكارة عند الزوجة واشهارها

بين المدعوين في حفل الزفاف ليؤكدوا طهرة وشرف الزوجة .

و انتقل إلى عنوان اخر وهو [ مونولوخ أيوب ] وقد اتخذ المؤلف من أيوب بطل لروايته مع أربعة اخرين لهم ادورهم. وعنوان الفصل (شهر الحرب الرابع، لسعة ضوء) يسرد فيه مشهد التالي: يوم قصف مصنع حليب الأطفال عصافير الجنة . على الطاولة أمامنا أنا واساف وجبة الظهيرة في مطعم قريب من يشق السماء من العدم. شرعت بالتعليق: _ هذه ليست طائرات حر... لكن تعليقي قاطعته قذائف فراغية التهمت بقية حروف كلمة حربية _بم بم بم بم بم، في تلك الزلزلة ضاعت أيضا صرختي (يا أمي الحقيقي!) لم يسمعها أح

حتى انا. هرع اساف بعيدا وصاح علي؛ _ دعنا نجري خلف خلف أولئك الناس! إلى أين؟ إلى المطبخ؟ صرخت بارتباك، لا! إلى هنا. صاح بيد اني لم أعد أراه، أين أختفيت يا اساف ؟ هنا في المخبأ! أسرع، تحت السلم ؟ نعم أركض، هذا ليس مخبأ! إنه دورة مياه! دو ة مياه ؟! مرحاض! ثم ماذا!؟ أنها مرحاض يا إسفاف! ادخل! هذا هو الملجأ الوحيد في هذه الساعة أسرع! ادخل! ادخل!، انهال القصف مجددا وضاع التفكير. هرعت تاركا ريحا مسكونة بلازمة، إسفاف: ادخل! أدخل! ادخل! أدخل!، محاطة بصرخات اخرين كفقاعات انفجرت وتوقفت صورتها عن الحركة في الهواء. دخلت التواليت، مرحاض من متر مربع، أكثر من 12 شخص مكبوسين داخل المرحاض يتنفسون من رئات بعضهم يتلمسون ايدي من بجانبهم متوهمين انها ايديهم الشخصية، كتلة من لحم 12 شخصا انصهرت فكانت كائنا ب 48 من الأطراف و24 من الأعين ما لانهاية من أصوات الاستغاثة واللعنات و الآيات . روائح الطعام ما تزال تخرج مع التنفس المنقطع لمن حط في التواليت وقد نسي البعض أن يمضخ لقمته ا يبصقها.

هكذا يصف روائينا الحرب وماتجر من مآسي قاسية على الإنسان مخلفاتها، القتل و الأسر والدمار للمدن وتيتيم أطفال في العائلة والأرامل.

ويستمر في سرد هذه الحرب التي تأكل الأخضر واليابس لان القائد هكذا يريد ؛ يتابع، صاح إساف: لم أعد أسمع شيئا عن طريق السماعة الإلكترونية يبدو أن الاتصالات الإلكترونية قصفت. لم أفهم شيئا مما قال، ساد صمت جاف بللثه بتمتمته: ماذا قلت؟ فرد اساف دون فاصل المعتاد: كيف تجرؤ على شتم القائد إسماعيل يسن حفظه الله ورعاه ؟ أنعقد لساني من عبارة الرئيس القائد حفظه الله ورعاه: _ وماذا تريد أن أقول؟ أدبج له قصيدة مدح؟! _ انتبه لكلماتك! الرئيس القائد حفظه الله ورعاه يجب أن يحمي نفسه أسوة بأبناء شعبه! باغتتني صحوة متأخرة ؛ [ لايمكن أن يتكلم أحد من اتحاد الرافدين الديمقراطي عن حق إسماعيل ياسين في الدفاع عن نفسه، ولن يسميه الرئيس القائد حفظه الله.بلمح البصر استرجعت صورة الخط المائل في الصحراء وتمترست خلف أساليب العمل السري وأجبت ؛ يجب أن يحمي حضرته نفسه، ولكن سيادته يقود عملياته البطولية من مكان تتعرض فيه حياتك وحياتي للخطر، و شبكات تجسس الرجل الكاوبوي متغلغلة داخل كل اجهزته!.

و يواصل السردية حول مأسي الحرب وما آلة اليه من الخسارة في كل شيئ حتى بالمال وشراء السلاح ذو التكنلوجي العالية أضافة للخسائر الاخرى من القتلى والأسرى . الرواية غطت مراحل من تاريخ وادي الرافدين في سردية تصلح لان تكون مسرحية خاصة وان الكاتب لها هو رجل مسرحي وفي فترة تواجده في المهجر (هولاندا) بعد أن ترك الوطن ليس اختيارا وإنما بسبب الاضطهاد والمعاناة نتيجة حكم الحزب الواحد وكذلك اضطهاد الرأي الاخر، والحروب التي تصدرت المشهد السياسي، منها الحصار الجائر على الشعب، والعدوان الأمريكي البريطاني الغربي على العراق بلد الرافدين وموطن الحضارات الأولى السومرية والبابلية والاكدية والاشورية.

رواية الوريث جديرة بالقرأة، وهي صادرة من دار الكتاب في تونس ويتضمن 376 صفحة، اتمنى للعزيز الصديق حازم كمال الدين المسرحي و الكاتب، المؤلف لهذه السردية الشيقة والمتضمنة في اسلوبها الاكاديمي، الفلسفي والتاريخي، في طياتها تاريخ أحداث بلد الرافدين، من أجل أن تكون هذه الرواية في المستقبل عمل مسرحي له النجاح والوفقية دوم.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

 

قراءة نقدية لقصيدة ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ

إني بحبكِ واضحٌ وصريحُ

وحروفُ شعري في هواكَ تبوحُ

*

عانيتُ ما عانيتِ من ألمِ الجَوَى

لا ضوءَ في نفقِ الضياعِ يلوحُ

*

بي مثل مابكِ يا صديقةُ من هوى

همٌ يؤرقُ في الفؤادِ لحوحُ

*

حتّامَ ندفنُ في الهوى أحلامَنا

ونظلُّ في طَلَلِ البُعادِ ننوحُ

*

نَتَقَبّلُ الخيباتِ دونَ تَمَلْمُلٍ

أفلا يداوي جُرحَهُ المجروحُ

*

هل نستمرُّ على الطريقِ مع الأسى

لا بُدَّ من بعد الضّبابِ وضوحُ

*

أيقنتُ أنّ الدربَ أولُ خُطوةٍ

من بعد تِيهٍ يبدأُ التصحيحُ

*

مازلت أسعى كي أنالَ سعادتي

ما خابَ في نيلِ المُرادِ طَمُوحُ

*

حتى نطيرَ إلى ذُرَى أحلامِنا

لم تُغنِ عن قِممِ الجبالِ سفوحُ

*

قد باتَ حبكِ في الخلايا من دَمِي

ولقد أقَرَّ بذلك التّشْرِيحُ

*

هو ثابتٌ مادامَ نبضيَ عامراً

لا لنْ يزولَ وفي الأضَالعِ روحُ

*

ما غابَ صوتُك عن حدودِ مَسَامعي

قد باتَ في صمتِ الخَوَاء يصيحُ

*

قَسَمَاتُ وجهِك في مرايا غرفتي

ورَشَاشُ عِطْرِك في المكانِ يفوحُ

*

ماذا أقولُ وقد مَلكتِ حُشَاشتي

ماذا عساهُ سيفعلُ المذبوحُ

*

هيا لنعلنْ ما تكتَّمَ للملا

ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ

***

عبد الناصر عليوي العبيدي

......................

اللمسات والهيكلية الصورية والدرامية:

1. اللمسات البيانية:

التشبيه والاستعارة:

في البيت "لا ضوءَ في نفقِ الضياعِ يلوحُ"، نجد استعارة واضحة تشبه الحالة النفسية لنفق مظلم، وهو تشبيه قوي يبرز مشاعر الضياع واليأس.

"قد باتَ حبكِ في الخلايا من دَمِي"، استعارة أخرى تجعل الحب جزءًا من الدم والخلايا، وكأن الحب قد أصبح جزءًا من الجسم، مما يضفي إحساسًا بالقرب الدائم والاستمرارية.

التجسيد:

في البيت "قد باتَ في صمتِ الخَوَاءِ يصيحُ"، يظهر تجسيد للخواء، وكأنه يمتلك صوتًا يصيح في الصمت، مما يضفي أبعادًا درامية للحزن الداخلي الذي يعانيه المتكلم.

التشخيص:

"أفلا يداوي جُرحَهُ المجروحُ"، في هذا البيت نجد تشخيصًا حيث يُنظر إلى الجرح وكأنه كائن حي يمكنه مداواة نفسه، وهذا يزيد من الإحساس بالمعاناة المتبادلة بين المحبين.

2. الهيكلية الصورية:

البداية:

النص يبدأ بوضوح الحب وصراحته، مما يُعد تمهيدًا للتوترات الدرامية التي ستتبعها، حيث يتم الانتقال تدريجيًا من حالة الاعتراف إلى التوتر الناتج عن الصعوبات في الحب.

التصاعد الدرامي:

تتصاعد القصيدة مع تصوير الألم والخيبات المتبادلة بين الحبيبين، من خلال صور مثل "همٌ يؤرّقُ في الفؤادِ لحوحُ" و"نظلُّ في طَلَلِ البُعادِ ننوحُ". هنا تتجلى قوة العاطفة والدراما في المشاعر.

الذروة:

البيت الذي يقول "مازلت أسعى كي أنالَ سعادتي" يمثل نقطة الذروة، حيث يبرز الطموح للوصول إلى السعادة بالرغم من الألم والخيبات.

النهاية:

القصيدة تختتم بالدعوة إلى التصريح بالمشاعر أمام الجميع، "ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ"، مما يُعد نهاية تصاعدية درامية تُعبر عن قرار جريء بالاعتراف بالحب.

3. الدراما العاطفية:

الصراع الداخلي:

القصيدة تعبر عن صراع داخلي بين الألم والأمل، وبين مشاعر الحب والمعاناة. من خلال البيت "هل نستمرُّ على الطريقِ مع الأسى"، نرى أن الشاعر يعيش تناقضات عاطفية، حيث يتساءل عن إمكانية الاستمرار في ظل المعاناة.

القرار النهائي:

النهاية الدرامية تكشف عن تطور عاطفي كبير، حيث يتحول الصراع إلى قرار بالإفصاح عن الحب والمضي قدمًا. هذا التحول الدرامي يمثل قمة الصراع والتخلص من التردد.

الهيكلية البيانية والدرامية:

النص يتميز بتماسكه من حيث البناء البياني والدرامي. يبدأ النص باعتراف صريح بالحب، ثم ينتقل إلى تصوير المعاناة والمشاعر المعقدة، ويصل إلى الذروة بالتصريح بضرورة الاستمرار في الحب بالرغم من كل التحديات.

فن التوظيف والتضمين وجوهره العام والخاص

(1. التوظيف (العام والخاص):

أ. التوظيف العام:

الصور البلاغية والاستعارات:

الشاعر يستخدم التوظيف البلاغي للتعبير عن مشاعر الحب والمعاناة بطريقة تتجاوز اللغة المباشرة. على سبيل المثال، توظيف صورة "نفق الضياع" لا يعبر فقط عن ضياع الحب، بل يعكس أيضًا حالة التوهان التي يشعر بها الإنسان في حياته العاطفية. هذه الصورة تمثل توظيفًا عامًا لأزمة الإنسان في مواجهة الحب والفراق.

توظيف التضاد والتناقض:

في القصيدة، نرى توظيفًا لتناقضات مثل النور والظلام، والصمت والصراخ، والجرح والمجروح. هذه العناصر المتناقضة تضفي على النص بعدًا دراميًا يعكس صراع الشاعر الداخلي. مثلًا، التضاد بين "الخواء" و"الصياح" يبرز تأثير الحبيبة رغم غيابها، مما يعمق من معاناة الشاعر ويجعل النص أكثر غنى على مستوى المشاعر.

ب. التوظيف الخاص:

توظيف الحب كعنصر وجودي:

- الحب في القصيدة ليس مجرد عاطفة عابرة، بل يمثل جزءًا أساسيًا من وجود الشاعر. الشاعر يوظف فكرة الحب كشيء مرتبط بالخلايا والدم، وكأنه جزء من تركيبته الجسدية والنفسية. هذا التوظيف الخاص يجعل الحب عنصرًا ضروريًا للحياة، مما يضفي على القصيدة بُعدًا فلسفيًا يتجاوز الحب العاطفي التقليدي إلى حب أعمق، يكاد يكون وجوديًا.

توظيف الفراق كقوة خفية:

الفراق في هذه القصيدة ليس مجرد غياب مادي، بل هو قوة تؤثر على جميع جوانب حياة الشاعر. الشاعر يوظف الغياب ليجعل الحبيبة حاضرة في كل شيء من حوله، سواء في "مرايا الغرفة" أو "رائحة العطر". هذا التوظيف الخاص يعبر عن استمرارية الحب رغم الفراق، مما يجعل الحبيبة حضورًا دائمًا في حياة الشاعر، حتى في غيابها الجسدي.

2. التضمين (العام والخاص):

أ. التضمين العام:

المعاناة المشتركة:

في القصيدة، نرى تضمينًا لفكرة المعاناة المشتركة بين المتكلم والحبيبة. استخدام عبارات مثل "عانيتُ ما عانيتِ" يُضمّن فكرة أن الألم ليس مقتصرًا على الشاعر وحده، بل هو مشترك بينه وبين الحبيبة. هذا التضمين يعزز من الإحساس بالاتحاد بين الحبيبين في مواجهة الصعوبات والمشاعر العاطفية.

تضمين فلسفة الصبر والتحول:

هناك تضمين لفكرة أن الألم هو جزء من رحلة التحول نحو الأفضل. العبارة "من بعد تِيهٍ يبدأُ التصحيحُ" تضمّن فلسفة تشير إلى أن التيه والمعاناة هما خطوات ضرورية للوصول إلى الفهم والنضج. الشاعر هنا يُضمّن فكرة التحول والتعلم من التجربة العاطفية، مما يضفي على النص معنى أعمق يتجاوز الحب الشخصي إلى فكرة النمو الروحي والعاطفي.

ب. التضمين الخاص:

الرمزية الوطنية:

رغم أن القصيدة تركز على العلاقة العاطفية، هناك تضمين خاص قد يرتبط بالوطن أو الهموم العامة، خاصة في عبارات مثل "حتى نطيرَ إلى ذُرَى أحلامِنا". يمكن أن يُفسر هذا على أنه رمزية لطموح أكبر يتجاوز العلاقة الشخصية، ليعبر عن حلم بالحرية أو السعادة المشتركة على مستوى أكبر. هذا التضمين الخاص يفتح الباب لتفسيرات أوسع تجعل القصيدة تتحدث عن قضايا أكثر شمولًا.

تضمين لحظة التحول في الحب:

في نهاية القصيدة، الشاعر يضمّن فكرة أن التلميح لم يعد كافيًا، وأنه حان وقت التصريح بالحب. هذا التحول يمثل تضمينًا خاصًا لفكرة أن العلاقة العاطفية يجب أن تكون واضحة وصريحة لكي تزدهر. هذا التضمين الخاص يعبر عن لحظة حاسمة في العلاقة، حيث ينتقل الحب من مجرد إحساس داخلي إلى شيء يحتاج إلى الإفصاح عنه بشكل علني.

3. جوهر التوظيف والتضمين (العام والخاص):

أ. الجوهر العام:

التوظيف والتضمين في القصيدة يعكسان فكرة الصراع الإنساني الدائم بين الحب والألم، النور والظلام، والتمني والواقع.** الحب يُصور كقوة طبيعية لا يمكن السيطرة عليها، مثل الدم الذي يجري في العروق، والمعاناة تُعتبر جزءًا من هذه الرحلة العاطفية. التوظيف العام يعبر عن تجارب إنسانية شاملة تتجاوز الفرد إلى المجتمع.

ب. الجوهر الخاص:

على المستوى الخاص، التوظيف والتضمين يعكسان علاقة الشاعر الشخصية بالحبيبة، وتجربته الفريدة مع الحب والمعاناة.** الحب في هذه القصيدة ليس مجرد علاقة عاطفية، بل هو تجربة تتعلق بوجود الشاعر نفسه. التضمين الخاص يلمّح إلى جوانب أعمق في العلاقة، مثل التأمل في دور الحب في تشكيل هويته الشخصية والنفسية.

فن التوظيف والتضمين في هذه القصيدة يعزز من عمقها ويضفي عليها أبعادًا متعددة، سواء على مستوى التجربة العاطفية الشخصية أو على مستوى التجربة الإنسانية العامة. الشاعر يستخدم هذه العناصر بشكل مبتكر ليخلق نصًا يتحدث إلى القارئ بطريقة تجعله يعيش معه تجربة الحب والمعاناة بشكل مشترك.

المضامين الدراماتيكية

1.الصراع بين الحب والمعاناة:

"عانيتُ ما عانيتِ من ألمِ الجَوَى"

2. فقدان الأمل والتيه:

لا ضوءَ في نفقِ الضياعِ يلوحُ"

3. الاستسلام للخيبات:

"نَتَقَبّلُ الخيباتِ دونَ تَمَلْمُلٍ"

4. الأمل في التغيير والتحول:

"أيقنتُ أنّ الدربَ أولُ خُطوةٍ، من بعد تِيهٍ يبدأُ التصحيحُ"

5. التصريح بالحب بعد التردد:

"ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ"

6. العلاقة بين الجرح والمجروح:

"أفلا يداوي جُرحَهُ المجروحُ".

7. القوة الثابتة للحب:

"هو ثابتٌ مادامَ نبضيَ عامراً"

8. الفراق الحاضر في الذكريات:

"قَسَمَاتُ وجهِك في مرايا غرفتي"

9. ذروة التضحية في الحب:

"ماذا عساهُ سيفعلُ المذبوحُ"

10. التحرر من التردد:

"هيا لنعلنْ ما تكتَّمَ للملا"

المضامين الدراماتيكية

تعبر عن رحلة عاطفية مليئة بالصراع والتوتر بين الحب والألم، اليأس والأمل، التردد والشجاعة. هذه المضامين تجعل النص مؤثرًا ومعبرًا عن تجارب إنسانية عميقة تجعل القارئ يعيش تجربة الشاعر بشكل مكثف.

التجنيس والدلالة

التجنيس:

التجنيس هو استخدام كلمتين أو أكثر تتشابه في البنية الصوتية أو الحروف، لكن تختلف في المعنى. في القصيدة، يمكن أن نلاحظ وجود تجنيس في عدة أماكن:

1. "الجوى" و"الضياع"

- هذه الكلمات تشترك في بعض الحروف وتستخدم في سياق واحد لإظهار تشابه بين معانيهما. فالجوى يعبر عن ألم الحب العميق، والضياع يشير إلى التيه والافتقاد. هنا، التجنيس يساهم في تكثيف الألم الذي يعانيه الشاعر.

2. "النور" و"الظلام":

على الرغم من أنهما تضادان، إلا أن التجنيس الصوتي في وجودهما يبرز الفكرة بأن الحياة مزيج من النقيضين، ما يعمق الشعور بالصراع الداخلي الذي يمر به الشاعر.

3. "الجرح" و"المجروح":

التجنيس في هذه الكلمات يبرز المعاناة المتبادلة بين الشاعر والحبيبة، ويعكس الترابط بينهما في الألم. الجرح والمجروح يتشاركان نفس الجذر، مما يعكس اتحاد الشعور بين الطرفين.

الدلالة:

الدلالة في القصيدة تعتمد على استخدام المفردات والصور الشعرية لخلق معانٍ عميقة متعددة الأبعاد:

1. دلالة الحب كجزء من الوجود:

الحب في القصيدة ليس مجرد علاقة بين اثنين، بل هو مرتبط بالروح والجسد. الشاعر يقول: "قد باتَ حبكِ في الخلايا من دمي"، وهو ما يدل على أن الحب أصبح جزءًا أساسيًا من تركيبته الجسدية والعاطفية، مما يضفي عليه دلالة وجودية.

2. دلالة الفراق والمعاناة:

الفراق هنا ليس مجرد غياب جسدي، بل هو قوة دائمة تلاحق الشاعر وتسيطر على مشاعره. "ما غابَ صوتُك عن حدودِ مَسَامعي" يدل على أن الحبيبة حاضرة رغم الغياب، مما يضفي بُعدًا مأساويًا على الفراق.

3. دلالة الانتقال من التلميح إلى التصريح

في نهاية القصيدة، يُعلن الشاعر: "ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ". هذا التحول من التلميح إلى التصريح يحمل دلالة على النضج في العلاقة، وأن الحبيبين وصلا إلى مرحلة لا يمكن فيها الاستمرار باللعب بالرموز والإشارات، بل يتطلب الأمر وضوحًا وصراحة تامة.

4. دلالة "التصحيح" و"الوضوح":

استخدام الشاعر لكلمات مثل "التصحيح" و"الوضوح" يدل على أن الحب والعلاقة هما رحلة نحو النضج والنور، بعد فترة من الألم والتيه. هذا يعبر عن دلالة فلسفية تتعلق بفكرة أن الحب قد يكون وسيلة للارتقاء الشخصي.

الترابط بين التجنيس والدلالة:

التجنيس . في هذه القصيدة يساهم في تعزيز الدلالة. عندما يستخدم الشاعر كلمات متشابهة في البنية مثل "الجرح" و"المجروح"، فإنه يعكس وحدة المصير والمعاناة بين الحبيبين. هذا الترابط بين الأصوات والمعاني يضفي على القصيدة انسجامًا داخليًا ويعمق من تأثيرها العاطفي.

التجنيس أيضًا يستخدم لتكرار الأفكار بطريقة تزيد من وضوح الدلالة، مثل "الصمت" و"الصياح"؛ حيث يتم إبراز أن الصمت الذي يشعر به الشاعر مليء بالضجيج الداخلي، وكأن غياب الحبيبة ليس هدوءًا بل هو حالة من الصراخ المكبوت.

التجنيس في هذه القصيدة لا يقتصر فقط على تجميل النص، بل هو أداة تعبيرية تدعم الدلالات العميقة التي يريد الشاعر إيصالها. من خلاله، تتعزز معاني الحب، الفراق، الصراع الداخلي، والنضج العاطفي. التجنيس والدلالة يتفاعلان بشكل متكامل لجعل القصيدة أكثر تأثيرًا ووضوحًا في إيصال مشاعر الشاعر وأفكاره الفلسفية حول الحب.

القصيدة تعكس مشاعر عميقة وأصيلة، حيث تبرز التوتر بين الحب والمعاناة بطريقة تجعل القارئ يشعر بأنه جزء من هذه التجربة العاطفية.

،وتترك أثرًا عميقًا في القارئ الذي قد يجد نفسه في هذه المشاعر المختلطة.

دمت بكل النقاء والابداع

***

سلام السيد

أسطرة مكونات السرد وحكاية الواقع المؤسطر

توطئة: لعل رواية (صخرة طانيوس) للروائي القدير المبدع أمين معلوف من الأعمال الروائية التي تحتل لذاتها ذلك الانفتاح السردي بين قطبي (التاريخ - الاسطورة)لذا فإنها تجسد عملية (الحكي التكويني؟) المتمثل في ممهدات (القص ما قبل الرواية؟) كذلك فهو القص في طريقه إلى إنشاء حكاية روائية موصولة ما بين نقطتي (التاريخ - الأسطورة) وصوﻻ إلى حاﻻت من التشكيلات التعقيبية من قبل السارد المشارك الذي راح يتعامل مع مادة الحكي من خلال مواقف ذاكراتية لها جذورها الممتدة في عمق التمثيل التاريخي للضاحية ورموزها المغروسة في علائق زمكانية مطردة في إلانتاج والتجوهر داخل تلك الاحياز المؤسطرة من مادة الأشياء والذوات والسياقات والأدارة المرجعية التي تحددها مخطوطة علاماتية غارقة فيها العديد من الوصايا والأسماء والأدوار العاملية .

١- مسميات الصخور وملحمة الطفولة الرائية:

ﻻ شك أن علاقات الأفعال المحكية في السرد الروائي بدأت من مواطن (الأنسنة المغايرة؟) لمعاجم وموارد وسياقات تسمية الأشياء الموضعية ضمن حدوثات حبكوية تتصل وهوية الدور الذي تترتب عليه طبيعة ذلك النوع الفرضي من المسمى. فمن خلال آلية صوت السارد نتعرف على مرابع طفولة السارد المشارك الذي سيغدو تجسيدا للحكي المرسل بطريقة العرض المسرود المباشر كقوله:(للصخور اسماء في الضيعة التي أبصرت فيها النور .. فهناك المركب، ورأس الدب، والكمين، والجدار، وكذلك التوأمان المعروفان ببزاز الغول .. وهناك تحديدا صخرة العسكر التي كان الجنود يرابطون عندها حين تطارد الكتيبة العصاة . /ص٩ الرواية) لعل هنا ما يجعلنا نتعرف على طبيعة البذرة النواتية الأولى من المسرود، خصوصا وأن ماهية الحكي جارية كصوتا يسعى إلى صياغة مشاريع المسميات ورموزها عبر نماذج لها كل التعالق والعلاقة مع خلفية (السارد المشارك - المشهد السياقي) بلوغا نحو مراجعة الأوليات المحفوظة في سجل هذه الضيعة من خلاصات ذات وشائج وطيدة وهوية وموقع وصوت السارد المشارك . فمثلا نعاين بأن مرجحات الثيمة الموضوعية تتركز في فحوى تلك الجملة من الصخور وماهية مسمياتها التي ترتبط وطبيعة الزمكانية لجذور الضيعة والشخصية الساردة، وهذا الأمر ما راح بدوره يوفر للرواية ثمة مؤشرات مؤولة يكون حاصل إنتاجها مجموعة دﻻﻻت مؤسطرة - مؤنسنة، تمنح المستهل الإمكاني الأولي من الحكي قابلية ورود وقائع الأنموذج وتتقاطع معه في عدة وحدات من ذات الإطار في التسمية ودﻻئلها الواقعية المؤسطرة . وعلى هذا الوجه هل يمكننا الحديث عن مجموعة الصخور القناعية الواردة في الزمكانية الروائية على إنها الخلفيات النموذجية في دﻻئل الوقائع الحدثية؟ أم أن الطبيعة التاريخية للكائن الجيلوجي هو المستودع الباطني والظاهري في صيغة خطاب العناصر العلائقية في الرواية؟ . يرد لنا صوت السارد متراوحا بين (علاقة طفولة - خطاب مونولوجي - حوارية كائن - خارج وداخل مخطوطة) أو ذلك المستوى من (المرسل إليه ساردا؟) فكأن سياق السارد القيمة الوسطية الواقعة ما بين (ضمير المتكلم - جهات السرد - ممكنات السارد) ومما يثير الانتباه هو حجم العلاقة ما بين المستويين أن تدخل السارد الخارجي لا يكون أحيانا إﻻ في شكل وقفات تعاقبية فيما يقع المستوى الآخر بضمير المتكلم (على لسان طفولة السارد ذاته؟) وهذا الأمر الأخير هو من المواجهة بالنسبة للسارد ولثام الطفولة في حين لحظته الممكنة:(أبصر في الحلم طبيعة طفولتي، تتراءى أمام ناظري صخرة أخرى ... تلوح كمقعد جليل، متقعر، كأنه اهترأ في موقع المؤخرة - وهي الصخرة الوحيدة التي تحمل على ما أظن أسم رجل،صخرة طانيوس .. لطالما تأملت ذلك العرش الحجري ولم اجروء على ملامسته . ليس خوفاً من الخطر، ففي الضيعة، كانت الصخور مرتع لهونا المفضل، وقد اعتدت في طفولتي، على تحدي أترابي الأكبر مني سنا، والمجازفة بتسلق أخطر الصخور . ص٩ الرواية) .

٢- الصلة الدﻻلية بين السارد والحدث الرئيسي:

ﻻ شك ان القارئ يلاحظ ان هذه الوحدات المحكية من زمن السارد المشارك، ما هي إلا متعلقات مركزية مثبتة في جملة مؤديات تحكي قصة الصخور في الضيعة، فالسارد من خلالها بدا محايداً مبدئياً إزاء موقعي (السارد طفلا - السارد قارئا = ساردين مستقلين) وعندما نتأمل العلاقة المحدد في خطاب الرواية، نعاين بأن ما يتحدث به الخطاب، ﻻ يتعدى حدود علاقة شخصية ذلك الطفل الذي يجازف بتسلق الصخور، دون ان ننكر بأن هناك (ساردا شاهدا) جعل يجسد موقعه كضميرا غيابيا تاركا المجال لذلك الطفل الذي هو ذاته يتحدث طويلا عن طفولته وعلاقته بتلك الصخرة المؤسطرة:(لا، لم احجم خوفا من الانزلاق بل كان تطهيرا وعهدا، انتزعه مني جدي قبل أشهر على وفاته - كل الصخور إلا تلك الصخرة ! .. وكان الصبية الآخرون يظلون مثلي على مسافة منها ويشعرون نحوها بالرهبة المتطيرة نفسها - كان يلقب بطانيوس الكشك . وقد جلس على هذه الصخرة ثم توارى عن الانظار . /ص٩ص١٠ الرواية) ﻻ شك أن بنية الحكاية بنية ذات حكايات متفرعة ومتوازية ومتقاطعة . فحكاية هذا الطفل مع ذلك الحجر تنتهي بمحاور حكائية شاخصة في مستوى أسطرة الكون والوجود وطبيعة الأغراض الشخوصية بذلك الترابط التبئيري الذي يلعب فيه المخزون الذاكراتي المدون في المخطوطة الخضراء دورا ﻻ يتجسد للسارد سوى أن يكون  شاهداً ومرسلاً إليه من خلال ما تمليه عليه حكايا تلك المخطوطة .

٣- المخطوطات الثلاثة وغرائبية غياب طانيوس:

إن طبيعة الشخصيات في رواية (صخرة طانيوس)ذات ملامح أسطورية منتقاة عن طريق الخطاب المروي، لذا بدت وكأنها كائنات ملفعة بأشد الاوضاع دورا في إكمال ملامح حركية شخوصية تختزن هيئاتها وسلوكها رؤى الحكواتي المشحون برغبة إيصال المادة التأريخية بروح الكينونات القائمة على وتيرة الشد والجذب والتقديم والتأخير لما هو أكثر إجلالاً في حوادث تلك الحكايا المروات:(غالبا ما ذكر أمامي ذلك الرجل، بطل الكثير من الحكايات المحلية، وكان اسمه يثير فضولي - كنت أعلم أن طانيوس أحد الأسماء العامية الكثيرة لأنطوان على غرار أنطوان - وانطونيوس،ومطانيوس، وطانوس ... ولكن لم ذلك اللقب المضحك - الكشك؟ - لم يشأ جدي ان يبوح لي بالسر - كان طانيوس ابن لميا . /ص١٠ الرواية) تتناظر مترابطات الكشف والتعالق ضمن فعالية بروز توالادات الأسمائية ومحايثاتها التي تشق طريقاً مرجعيا مرموزا في شتى العقود والأعقاب الزمكانية، وصوﻻ منها إلى الهوية التحققية في محاولة تفعيل الأدوار في المسميات وإنطلاقا من عملية إغتيال البطريرك بواسطة بندقية القنصل الانكليزي:(هكذا كان جدي يتكلم حين ﻻ يرغب الرد على اسئلتي، فيلغي بشذرات الكلام كأنه يهدي إلى سبيل . / ص١٠ الرواية) وقد تكون كل السبل ﻻ تهدي إلى أيا منها (لقد اضطررت للانتظار سنوات طويلة قبل اكتشاف الحقيقة وما جرى)تخبرنا الرواية بأن أسم لميا كان من الذيوع والإنتشار في الضيعة نظر لذلك القول الشعبي الدارج (لميا .. لميا .. كيف بتخبي هالحلا؟) وعلى هذا الوجه صار حتمي في الايام الراهنة من زمن أحوال الرواية .

٤- جبرايل والشغف بتواريخ ذاكرة الضيعة:

إن ما يميز الواقع التأريخي دليلا وتوليفا ونمذجة، هو ذلك الطابع من المزاوجة في مزامنة (الحتمية المصدرية - الإرادة التخييلية) لذا فإن أوجه الأهمية تبقى ضمن  مدارات سياقية مشبعة بروح المعالجة الإنتاجية في مستويات (الزمكانية - الذوات الشخوصية) حيث سيتحول ما كان مرجعا ووثيقة إلى مبأرٕ في مستوى الإنتاج المتخيل . وقد شاءت إرادة السارد المشارك ومن وراءه المؤلف أن يلقي أحد طرفي (التأرخة - التخييل)في الجانب الأكثر خطابا وبلاغاً،ذلك عملا بما يقتضيه خطاب الحكاية السياقية من مشخصات وقائعية أكثر تفعيلا لأدوار الأدلة السردية في النص، وتبعا لهذا تواجهنا تحصيلات السارد موضحا ومعللا ما كانت تخفيه لميا عن انظار الناس في الضيعة، لقد كان السارد المشارك ذو همة واسعة في تقص الاخبار والأحداث الأكثر خفاء فيما يتعلق وحياة لميا الصورية، ولكونه كان يدون ما يسمعه أو ما كان يخبره به جبرايل توصل إلى حقيقة كون هناك مخطوطات ثلاثة تتحدث عن طانيوس، وخصوصا ان أصحاب هذه المخطوطات كانوا ممن يعرفون طانيوس عن كثب، ولكن هنالك مخطوطة وهي الثالثة كانت أكثر حداثة ووثوقية، كان مؤلفها ذلك القس الذي توفى غداة الحرب العالمية الأولى، وهو ما كان يطلق عليه ب (الراهب إلياس كفريبدا)و كغريبدا هو اسم الضيعة - وكانت تعني هذه التسمية ب (أخبار الجبل) وقد تخبرنا الرواية عن لسان حال السارد: (كان كتابا غريبا، وفريدا، ومحيرا .. ففي بعض صفحاته كانت النبرة ذاتية، يتحمس فيها اليراع ويفلت من عقاله، فينطلق الأسلوب ويسترسل .. ثم وعلى حين غرة ينكفىء الراهب، كأنه خشي إرتكاب إثم الغرور . /ص١٢ الرواية)و الغريب في موضوع هذا الكتاب الذي قام السارد المشارك بمطالعته من التوطئة وحتى الختام، أنه كان يوجه إلى السارد مثل هذا القول القصدي:(أنت الذي سوف تقرأ كتابي ./ص١٣ الرواية)

- الكتاب الأخضر ورحلة المخطوطة الغوائية

١- الجمل التصديرية وسلطة موجهات الرمز:

لقد تابعنا سلفا في كتاب (عتبات) لجيرار جنيت ما تحدث عنه حول (التصديرات التوجيهية) التي تقع عادة بين مداخل الفصول، حيث منها ما كان ذاتيا من قبل تنصيصات الكاتب نفسه، ومنها ما كان مقتبس من متون الاساطير والملاحم، غير أننا ﻻحظنا في مداخل ما بين الفصول في رواية (صخرة طانيوس)ذلك الاقتطاع الضمني من حيز استنتاجات المؤلف الإظهارية في مدخلية كل فصل وكان أغلبها يعود إلى صلب موضوعة الرواية ذاتها . لعلنا من جهة ما لاحظنا أن طبيعة المحكي في مسرود الرواية كان ذو التبئير الداخلي الثابت، أي هو عملية اختيار السارد لذي شخصية محددة ليقدم الأحداث من خلالها. فقد سعى ما جاء تحت عنونة (العبور الأول: إغواء لميا) ذلك التصدير السردي الذي راح يستطرد في طبيعة الحياة في الضيعة، وكيف كانت محكومة من قبل ملكا اقطاعيا، حيث تعود زمنية حكمه إلى سلالة عريضة ومتينة من المشائخ: (عصر الشيخ في الزمن الحاضر، دون تحديد آخر، ﻻ تخفى على أحدهم، فقد كان ذلك الذي عاشت لميا في ظله . /ص١٧ الرواية) وتخبرنا الرواية إلى إن عشرات المقاطعات التي تجاوز فكفريبدا التي تتجاوز مساحة مقاطعته،كان يملكها الشيخ الأقطاعي فكفريبدا كانت هي الأخرى من ضمن ما يملكه ذلك الشيخ وصوﻻ إلى إمتلاك كافة حقولها، لذا كانت حدود حكميته لا تتجاوز (ثلاثمائة بيت!)و كان يعمل هذا الشيخ وأتباعه ضمن سلطة ما يسمى ب (أمير الجبل) وما تشتمل عليه مجموعة الأقاليم الأخرى بدءاً بطرابلس ودمشق وصيدا وعكا . ورغم وجود سلطة الاميركان سكان الضيعة يقدسون السلطان شيخهم الأقطاعي، ذلك لكونه ذو مقامية رصينة ومهيوبة من قبل جميع الأهالي: (كانوا يسلكون كثرا كل صباح، طريق القصر لانتظار استيقاظه من النوم .. متدافعين في الرواق الذي يفضي إلى مخدعه .. وحين يطل عليهم، تلهج حلوقهم بالأدعية التي يهمسونها همسا - كان معظمهم يحاكي زيه، سرواﻻ أسود فضفاضا - وعندما يؤوب هؤﻻء الرجال إلى بيوتهم ﻻحقا خلال النهار،يخبرون زوجاتهم: لقد رأيت يد الشيخ هذا الصباح؟ عوضا عن: قبلت يد الشيخ؟ كانوا يقبلونها ﻻ ريب وعلانية ولكنهم يأبون الاعتراف بذلك ./ص١٨ الرواية) ﻻ شك أن القارئ يلاحظ أن هذه الأمثلة تقترب من العبودية والرق، ولكنها عادات كان الناس في الضيعة قد استحسنها على قدم وساق .لعل الخطاب الروائي في مواطن الأحوال السردية، شبه متهكم وباذخ بسخرية لاذعة، وقد يكون الامر ممكننا بشكل من الأشكال . إذ لم تكن مجالات الرواية ذات مستوى خاص من لعبة الخفاء، خصوصا وان طبيعة دﻻﻻت النص تعكس الإرث الواسع من العبودية في تلك الازمنة الضاجة برحيق (السوط - الكف) وبمجرد نظرة أولية في قراءة تواريخ الاقطاعية سوف تتاح لنا معرفة الكثير عن مراحل عصيبة عاشتها الشعوب العربية في ظل هذه القوى الاحتكارية، ولكن كلامنا هذا قد يبدو مختلفا بخصوص وضع الشيخ ذات السترة الخضراء المطرزة بخيوط ذهبية، وهو يحمل صولجانا ليس لمعاقبة عصاته من الناس، بل ذلك إكماﻻ لعلامات وقاره وهيبته:(لم يكن الاقطاعي يعاقب على تنكيله برعيته، ولو صدف في نادر الأحيان أن وبخته السلطات العليا، فلأنها تعتزم التخلص منه لأسباب مختلفة - وعندما يسعف الحظ الفلاحين بسيد أقل جشعا وقسوة من سواه، يعتبرون أنفسهم محظوظين - كان ذلك هو الوضع السائد في كفريبدا، وأذكر أنني فوجئت وثارت حفيظتي، غير مرة، بسبب الود الذي كان يذكر به القرويون ذلك الشيخ وعهده ./ص١٩ الرواية) .

٢- تطويع خطاب الشخصيات لخطاب السارد:

و مما ﻻ شك فيه لاحظنا كيفية حدوث ظاهرة حين يتولى (الراوي؟) إسقاط الخطاب الاسنادي برمته ويبقى مطوعا خطاب الشخصية ليلائم خطابه نحويا وتركيبيا ودﻻليا، حتى وكأن الشخصيات في بعض الاحيان تبدو بعيدة عن مؤهلات إطلاق الكلام تماماً، كما تبقى حالة الربط بين الشخوص وصوت السارد المهيمن، وكأنها حالة تكوينية تنبع من عضوية العلاقة الخاصة والعامة في الرواية، ولكننا لو أحصينا جميع الاعمال التاريخية في الرواية، لوجدنا أن أغلبها ما يتيح للسارد العليم حرية تولي كافة الاصوات والعناصر العاملية .

- لميا والغواية بطبيعة الشيخ الشبقية

إن مشهد المقدمات الأولية من رواية (صخرة طانيوس) التي جاءتنا بوصفها الحركة في الزمنين (الذاتي = الموضوعي) وبما إن كلا الزمنين ﻻ يمكن فصلهما عن خطية الترابط في متواليات المسرود والسرد، وعلى هذا الاساس يتبين لنا أن المنظور الروائي ينطلق في تصوره للزمن النفسي والعاطفي الغرائزي من مبدأ مقاربة الطبيعة التراتيبية عبر الترابط بين دواخل الشخوص والاحداث ذات المتعلقات بالوصلة بين (الزمن - الذات)ومن خلال ديمومة بعض الصلات نتوقف على ملامح الصلة اللامباشرة حسيا وعاطفياً بين لميا وذلك الشيخ، إذ تتجلى ثمة حاﻻت شعورية لدى لميا تتعلق بمتابعة حاﻻت الشيخ الصحية التي حدثت بالمصادفة أمام تنصتات لميا له .. بل اصبحت حاﻻت الشيخ بمثابة الاهتمام لدى لميا وهي المرأة المتزوجة من إحد وكلاء الشيخ ذاته: (لربما كانت لميا تستحق بكل تأكيد زوجا أقل غثاثة،فقد كانت مرحة، ومغناجا، وعفوية، وكلما لفتت الأنظار بملاحظة نبيهة أو ضحكة مقتضبة، أو دندنت أغنية،رمقها جريس عابسا - قد يكون جريس على صواب، فلو أنها امتثلت لنصائحه، لوفرت دون شك على نفسها وعلى أهلها الكثير من المآسي،ولما أثارت في حياتها كل هذه الأقاويل - كان للشيخ على الأرجح نوايا مبيتة، إنما ﻻ يعني ذلك أن كل ابتسامة، وكل كلمة ودودة يتفوه بها كانت محسوبة . /ص٣٠ .ص٣١ الرواية) .

١- الخطاب المخاتل والمعنى الآخر:

عادة ما يكون المسرود الخطابي في وحدات الرواية (صخرة طانيوس) مخاتلا إن صح التعبير، ذلك لقدوم جملة من الوحدات على اهمية متكاثرة من الملمحات على المستوى الدﻻلي والمعنى الآخر من التحصيل كحالة مخمنة من القارئ في محاولة لربط الحقائق. أما بخصوص المؤشرات الحاصلة في نتيجة المحتملات الواردة، ما تشكل بذاتها رواجا جوانيا من حيث دﻻلة تقارب وميل لميا إلى الشيخ الأقطاعي عاطفياً: (في الواقع كانت المرأة الشابة غالبا ما تستسلم لطباعها العفوية) وعلى نحو من هذا السياق نلمح جملة أحاسيس شاردة تتكون في وحدة لميا بذاتها، ليبدأ جبرايل مؤكدًا: (كان حادثا مجرد حادث، ولكن عينيه كانتا تلمعان .. ومضى يسرد بأطناب وتنميق . /ص٣٢ الرواية) يتضح لنا في هذه الوحدات بأن السارد المشارك مازال تحت عبء قراءة المخطوطة في زاوية ما من زمنه المتخيل، لذا فهو زمن الإحالة في المتعلقات الدﻻليةالمضمرة، ومعنى هذا أن جميع محددات العلاقة الناظمة ما بين السارد وامتداد صفحات المخطوطة، ما غدا يشكل بذاته الحالة التنفيذية والمزامنة والمقيدة في منتج المؤوﻻت التعرفية فيما يتعلق بخطاطة الناظم السردي وزمنها اللامحدد في فعل الافعال المسرودة عبر عين الزمن الذي هو المرسل إليه ساردا .

- تعليق القراءة:

لعل حاﻻت الالتباس والتناقض من الشيوع في منظومة خلق نتائجية الأسباب والأغراض في بعض مواطن الرواية، فهناك عدة بناءات لم يحسن معلوف إعادة إنتاجها روائيا، لذا بقيت أشبه بحالة المراوحة بين (الاسطرة - التاريخ) . قد ﻻ ننكر أبدأ ما عليه أدوات معلوف الروائية من مثابرة ولياقة اسلوبية متينة، ولكن هناك مثالب في عملية الإقناع الاسبابي والحبكوي في متواليات صياغة العلل النصية، فما وجه هذا التقارب الفجائي بين(الشيخ = لميا) وكأنه حدث دون مبررات كافية من الشد والتدرج الموضوعي؟ ثم ما حجم هذه المادة السياقية لتشكل كل هذا التدليل المركز في جوامع النص؟ أما بخصوص تلك المخطوطات فلا يمكن ان تدون الحياة برمتها للشخوص والمصائر؟ عموما تبقى فرضيات الإنتاج عرضا في الأحوال المكانية والزمنية، ولا تعبر بمقدار حدود إرغامية على الاقتناع فيها ومن خلالها، ذلك لكونها محايثات خلطية تبدأ من (اسطرة مكونات السرد) وتنتهي ب (حكاية الواقع المؤسطر؟) فهي دﻻليا مدعمة من جوانب حسية تذكرنا بالاساطير الإغريقية ومن ناحية كونها تجربة المتخيل الروائي المنبسط بأجلى إمكانية الكتابة الروائية المتثاقفة .

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

حكاية جعفر التميمي من بغداد إلى الجائزة الملكية

في عالم مليء بالتحديات والفرص، تبرز بعض الشخصيات التي تتمكن من تحويل تجارب الحياة الصعبة إلى قصص نجاح تلهم الآخرين. إحدى هذه الشخصيات هو جعفر التميمي، الذي حقق نجاحًا ملحوظًا في النرويج، بعد أن قدم إليها كلاجئ حرب من العراق. رحلته من ضابط بحرية في بغداد إلى رائد في قطاع النقل الجماعي في النرويج تمثل قصة ملهمة عن الإصرار، التفاني، والقدرة على التكيف مع تحديات الحياة. وُلد جعفر التميمي ونشأ في العاصمة العراقية بغداد، حيث كانت عائلته جزءًا من المجتمع العراقي الذي تأثر بشدة بالحروب والأزمات السياسية. جعفر، الذي كان يمتلك طموحًا كبيرًا، التحق بالبحرية العراقية وأصبح ضابطًا بحريًا، حيث تعلم الانضباط والعمل الجماعي والاستراتيجية. حصل على فرصة للتدريب والدراسة في إيطاليا، مما وسّع آفاقه وعزّز من مهاراته القيادية. ولكن تغيرت الظروف السياسية بشكل جذري عندما غزا النظام العراقي الكويت في أوائل التسعينيات، مما أدى إلى اندلاع حرب الخليج. جعفر التميمي وجد نفسه مجبرًا على العودة إلى ساحات القتال، ولكن هذه المرة كان الوضع مختلفًا، حيث تدهورت الأوضاع بشكل كبير وأصبح البقاء في العراق أمرًا مستحيلاً. في عام 1993، وبعد مرور عامين في مخيمات اللاجئين في السعودية، وصل جعفر التميمي إلى النرويج كلاجئ حرب. كانت بداية جديدة في بلد بعيد عن وطنه وثقافته، ولكن جعفر لم يدع الظروف تتحكم في مسار حياته. بدأ بتعلم اللغة النرويجية وعمل في مختلف الوظائف، من عامل نظافة إلى نادل، وذلك ليصبح جزءًا من المجتمع الجديد. مع مرور الوقت، لم يكن هدف جعفر التميمي فقط الحصول على عمل، بل كان يسعى لتحقيق تأثير إيجابي في المجتمع النرويجي. استمر في تحسين مهاراته وأخذ دورات تدريبية في القيادة والإدارة، مما فتح له أبواباً جديدة في حياته المهنية. في النهاية، وصل إلى مناصب قيادية في قطاع السينما، حيث شغل منصب المدير التنفيذي لـ"Oslo Kino".

لكن طموحه لم يتوقف عند هذا الحد. في عام 2016، تم تعيينه كمدير تنفيذي لشركة "Viken KollektivTerminaler FKF" (VKT)، وهي شركة مسؤولة عن إدارة وتشغيل البنية التحتية للنقل الجماعي في منطقة فيكن. تحت قيادته، شهدت الشركة توسعاً كبيراً في مسؤولياتها، حيث ارتفع عدد المحطات والمرافق التي تديرها من 18 محطة إلى أكثر من 2300 محطة ومرفق. قيادة النقل الجماعي بلمسة من الانضباط العسكري. تعكس مسيرة جعفر التميمي في قطاع النقل الجماعي فلسفته المستمدة من خلفيته العسكرية. فهو يؤمن بالعمل الدؤوب، الانضباط، والتخطيط الاستراتيجي لتحقيق الأهداف. تمكن من تطبيق هذه المبادئ في تطوير البنية التحتية للنقل الجماعي في النرويج، مما أدى إلى تحسين الخدمات وزيادة رضا المستخدمين. كان له دور كبير في تحديث محطة الحافلات في أوسلو، وهي واحدة من أكثر المحطات ازدحامًا في النرويج، حيث ساهم في زيادة كفاءة استخدامها وتحسين جودتها. الجائزة الملكية: تقدير للإنجازات. تقديرًا لإنجازاته البارزة في مجال النقل الجماعي، حصل جعفر التميمي على جائزة ملكية، وهي واحدة من أعلى درجات التكريم في النرويج. هذه الجائزة لا تعكس فقط نجاحه المهني، بل تمثل أيضًا اعترافًا رسميًا بمساهماته الكبيرة في تحسين جودة الحياة العامة من خلال تطوير خدمات النقل الجماعي. التزامه بالمجتمع والمستقبل. إلى جانب نجاحه المهني، لم ينسَ جعفر التميمي دوره كعضو نشط في المجتمع. يشارك بانتظام في أنشطة تهدف إلى دعم اللاجئين الجدد ومساعدتهم على الاندماج في المجتمع النرويجي. كما يسعى جاهداً لتعزيز مفهوم التنوع والشمولية في بيئات العمل، سواء في القطاع العام أو الخاص. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال التميمي مرتبطًا بوطنه الأم. في زياراته للعراق، يحاول أن ينقل تجربته ومعرفته للسلطات المحلية، مشجعاً إياهم على اعتماد النماذج الناجحة للنقل الجماعي من أجل تحسين البنية التحتية لمدن مثل بغداد. جعفر التميمي هو مثال حي على كيف يمكن للإصرار والشجاعة أن يحولا التحديات إلى فرص. من ضابط بحرية شاب في بغداد إلى رائد في قطاع النقل الجماعي في النرويج، تمكن من أن يصنع لنفسه مكانة مرموقة بفضل عمله الجاد وإيمانه بأهمية العطاء للمجتمع. حصوله على الجائزة الملكية هو تتويج لمسيرته الحافلة ويعد شهادة على تأثيره الإيجابي الكبير في النرويج وخارجها. قصته ليست مجرد قصة نجاح فردي، بل هي شهادة على قدرة الإنسان على التغلب على الصعاب وتحقيق تأثير إيجابي في حياته وحياة الآخرين.

***

زكية خيرهم

ان المفاهيم الجديدة للرواية التاريخية بانها بنية زمنية متخيلة خاصة داخل البنية الحديثة الواقعية او ما يعبر عنه تاريخ متخيل خاص داخل التاريخ الموضوعي وقد يكون هذا التاريخ المتخيل تاريخيا جزئياً او عاما، ذاتيا أو مجتمعياً وقد يكون تاريخاً لشخص أو لحدث او لموقف او للحظة تحول اجتماعي.. هذا ما يلمسه القارئ في رواية حب في قندهار للروائي محمد الزهراني الصادرة عن منشورات ضفاف بيروت،2016.

ومن خلال استقراء العنوان وما ينطوي عليه من دلالات يمكن ان نتوقع ما سيحكيه النص..يملي علينا النظر فيه وتحليله بما يتوافق مع قراءتي من حيث علاقته بالتاريخ لان التاريخ يتمظهر من خلال النص الروائي

 ان القارئ للمدونة او السيرة يتبادر في ذهنه ان نوع النص هنا ديني تاريخي سياسي للماضي القريب وما جرى من احداث في الواقع الافغاني والحركات الجهادية لطلبان ضد الوجود الروسي، في وقتها حتى طور الامر حتى تحول الى تنظيم القاعدة والتحاق العديد ن الشباب في الوطن العربي وما حصل من تعصب وتشدد الديني.

 وقد يتساءل القارئ عن هذه الثنائية التي تجمع الحب مع الحرب والاقتتال ..

عند الولوج الى النص يهيئ القارئ نفسه للأقبال على عمل فني ينتمي الى جنس السيرة الذاتية يجسده شخصية رجل (عيد بن سالم) والذي يبدو انها تحكي قصته في رحلة الى افغانستان للالتحاق بالمجاهدين في مرحلة من الماضي القريب حيث تتضح السمات العامة في سرده الروائي الاتجاه التقليدي الواقعي الذي يستدعي التاريخ باستخدام عدد من التقنيات الفنية الحديثة التي تعمل على المزج بين الماضي البعيد الذي يعود الموروث الديني في زمن الحركات والغزوات في اوائل عصر الاسلامي والماضي القريب

اتسمت الرواية حب في قندهار كونه نص نثري تخيلي سردي واقعي يدور حول شخصيات متورطة في رحلة جهادية كما نراه جليا من ظاهر عنونة بعض فصوله (سفر الى المجهول)، (الفضاء المجهول)،(لايزالون يحتلّون رأسك)،(كوابيس)، (الخوف والتردد)، (صرنا كالدمى)،(هؤلاء الوحوش)، (تطرف فكري)،(فقد حقيقي)  والذي يتضح ذلك من خلال المناصات التي ذكرها السارد

في توضيح" الاسماء والشخصيات التي وردت في الرواية هي شخصيات روائية متخيلة، غير حقيقية، ولا ظلال لها في الواقع بل هي محض خيال.

ومن خلال تساؤلات السارد التي نراها عل ظهر الغلاف التي تبين حالة الندم والتورط والتغرير به "كثيراً ما كنت أتساءل بحرقة وألم: " لمن تركت أهلي وأحبابي.. وذكرياتي الجميلة وأصدقاء الطفولة؟ وكنت أقول:

هل يستحق أهلي تلك الغصة التي تركتها لهم؟

وهل يستحقون تلك الحرقة التي زرعتها في قلوبهم ؟ خصوصا والدتي الحبيبة.. التي وصلت الاخبار عنها في رسالة قصيرة " امك في العناية المركزة أصيبت بانهيار عصبي وربما بجلطة في الدماغ"

يظهر الكاتب تهكمه ونقده والتعبير عن حالات الرفض لحالات التطرف والتكفير والتشدد والذي نراه جليا على لسان السارد المتكلم العليم " ان الولع بالعلم والتقنية أنفع وأجدى من التشبث بالخوارق والمعجزات " ص107

وكما يقول في بنية نصية أخرى " هناك حقيقة يجب أن أواجهها، أعترف أولا بأنني ارتكبت خطأً في التفكير، يجب أن اصلحه، أعتقد أن الله هداني الآن لأستيقظ من هذا الضلال، أشعر بنور يشدني الى رؤية المدينة "ص118

وعلى لسان أحد شخصياته " التي تصف الجهاد بالتطرف وتصف المجاهدين بالوحوش" ص138

في اضمامة الرواية 43 فصل جعل لكل فصل عنونة اختارها بعناية وذلك بهدف جذب وتشويق القراء لموضوعاته الحكائية معتمدا البناء التقليدي البسيط للرواية استهل الرواية في عنونة (ذاكرة الطفولة) حيث اعتمد الروائي تقنية الاسترجاع الارتدادي والرجوع الى الطفولة

 " كان ابي يهرب من حياته الرتيبة الى النوم. يخرج صباحاً ليجني رزقه بما يكسبه من أجرة التكسي الابيض القديم، ويعود في المساء مجهدا لا يريد الكلام " ص9

البناء الفني

أولى الروائي الزهراني اهمية كبير ة للعنوان الرئيس واختار عناوين فصولها بعناية وذلك بهدف جذب وتشويق القراء لموضوعه الروائي وتحقيق غايته فاختار (حب في قندهار) الذي يشير الى عنونة مكانية وقد يتوقع القارئ قصة حب في هذه المدينة.ولكن حين نلج متن الرواية لا نجد للحب مكانا في وسط هذا التشدد ابان تلك الفترة، نراه في لقاء عابر بسيط بين عيد بن سالم الشخصية المحورية ونازك التي قد تعرف عليها في احدى الليالي التي تسرب فيها وهروبه الى باكستان بحثا عن فضاءات مختلفة " وربما قد شعرت بالملل من قيود الجماعة التي صارت تنظيماً ارهابيا بكل وضوح، شعرت بالخوف، واردت الخلاص منهم والنجاة بنفسي من دون وعي مني " ص99

اعتمد الروائي على البناء التقليدي البسيط للرواية، اسلوب لغوي سردي بسيط وبلغة مباشرة وقد يلمس القارئ بعض البنى السردية التقريرية بأسلوب الصحفي، ضمّن الروائي بعض النصوص النثرية على لسان السارد الشخصية المحورية.

صور لنا الزهراني المكان والزمان ورسم الشخصيات، يدير الحوار بينهما ولم يهبط الى اللغة العامية ويصور الصراع بينهما تصويرا مشوقا بأسلوب سردي جميل ومشوق بسيط قريب من فهم الناس يجذب فضول القارئ لمعرفة تلك المرحلة التاريخية  ليوصل اليهم معلوماته التاريخية بأسلوب واضح سهل وسلس وبلغة فصحى عذبة الايقاع تركز على الفكرة والمضمون مصوراً الشخصيات بأبعادها النفسية ومحركاً اياها من منظور علوي في اطار ثنائية الخير والشر أو الشقاء والسعادة.

" لن انتظر أكثر. يجب أن أنجو بما تبقى لي من أمل في الحياة. سأهرب في ليلة سوداء، قبل أن يفتح الفجر صدره. الشجاعة هي المواجهة، نعم حين تواجه الحقيقة، وتتخذ موقفاً يحفظ كرامة الانسان، فانت شجاع، الشجاعة مواجهة أبطال، وليس مواجهة الغدر وانتظار الطعنات الحاقدة من هؤلاء الذين تربت قلوبهم على الغدر والخيانة" ص118

وفي النهاية فقد احسن الروائي في اختيار موضوعاته ومضامينه الروائية ورصد التحولات التاريخية ذات الاتجاه الواقعي في تلك المرحلة بشكل ادبي صادق

***

طالب عمران المعموري

والذي حارت البريّة فيه

حيوان مستحدث من جمادِ

المعرّي.

أخطر الأكاذيب التي ألبست ثوب الإبداع، وخدعنا بها البلاغيون، ونقدة الأدب الملقَنين والملقِنين معاً، هو التشبيه البلاغي الذي لا بلاغة فيه ولا هم يفرحون؛ فالمرء من الصحراء إلى المدينة، ومن البعير إلى الطيارة، هو صديق موجودات بيئته التي هي عدوته في الوقت نفسه؛ أما معينه فثقافته واطلاعه، إن بصراً أو سماعاً:

لَقَد أَقومُ مَقاماً لَو يَقومُ بِهِ

أَرى وَأَسمَعُ ما لَو يَسمَعُ الفيلُ

لَظَلَّ يُرعَدُ إِلّا أَن يَكونَ لَهُ

مِنَ الرَسولِ بِإِذنِ اللَهِ تَنويلُ

هكذا كان كعب بن زهير يرتعد خوفاً، ولأنه يكابر في خوفه جعل الفيل يرتعد خوفا ثم شبّه نفسه به! ولعلّ مخبوءاً لوّح به الشاعر ليوقع عقداً ثقافيا يجلب له الأمان؛ ذلك لأن الرسول الأكرم ولد في عام الفيل وهو العام الذي غزا فيه إبرهة الحبشي الكعبة بجيش تصحبه الفيلة، لذلك كَسِيَ الشاعر خوفه بهول تلك الحادثة التي استهدفت الكعبة، ثم جعل الفيل الذي ظلت حادثته مرعبة، ولم ينكسر إلا بعد تدخل الله "عزّ وجل" حين دحر الفيل وأصحابه، بطيرٍ أبابيل.

الفيل ـــــــــــــــ الطير

الإنسان

لقد وفرت الشواهد أو الخزين المعرفي للشاعر ضمان الأمان، فمن الموروث والذاكرة الجمعية والثقافة القرائية الاستقصائية، من كل هذا تقترن الأشياء، وعلى الرغم من امتلاك الإنسان العقل والكلام، إلا أنه مع يقينه من أنه سيد المخلوقات تتسرب من بين جدران لغته بأنه أضعف من الحيوان والجماد، بل يتمنى أن يصل لبعض من مزاياهما؛ لذا نرى أن التشبيه في أسّه ثقافي، وذلك أمرٌ لم يدركه الأولون فوصلنا عبر التلقين، كما (إن الصورة الجديدة في القصيدة المعاصرة لم تدفع إليها نزوة طائلة، أو مجرد رغبة في التجديد، وإنما جاءت لتحول عميق لثقافتنا الفكرية والفنية)(1)، ويبدو أن محمد مندور أدرك التحول ولم يتناول عيوب الجذور، ولأن التحول ثقافي وفكري وهو تحول تصحيحي لمفاهيم رسخت بوساطة التلقين، فهذا يعني أن علينا أن نقرأ ما قبل التحول وحتى ما بعده، ونقول إن كل تشبيه هو ثقافي وكل صورة هي ثقافية، نابعة من علاقة المرء بالموجودات من حوله.

يذهب مارتن هايدغر إلى أن اللغة تكشف لنا خفايا الأشياء، وتظهرها بألوانها وأصواتها، فهو يرى) أن اللغة تُشكل الوسيلة التي ينهض من خلالها تاريخياً عالم أي شعب من الشعوب... ويلاحظ هايدغر في الوقت نفسه أنه بينما تشير هذه الصورة إلى ما يمكن قوله، تجلب اللغة أيضاً إلى العالم ما لا يقبل القول، فذلك الشيء الذي لا يمكن قوله، أو الظل الذي تُسقطه الصور الرأسية للأشياء، يرسم حدود الواقع دون أن يحاول تحديد معالمه)(2).

واقع الحال أنّ الإنسان العربي أو الشرق أوسطي، يمارس نسق التعويض بالشتائم فيصف خصمه بالحيوان، الكلب، القرد، الخنزير، هجاءً منطلقاً من حقيقة أن الإنسان أعلى منزلة، لكنه في الوقت نفسه يصف حبيبته بالغزالة والحمامة واليمامة ويصف الرجل الشجاع بالأسد، فهل في الأمر نوع من أنسنة الحيوان القوي الجميل، وحيونة الإنسان الضعيف القبيح؟ الجواب: لا، فالمرء ابن محيطه، ويتعامل مع ما يراه، جمالاً وقبحاً، قوةً وضعفاً، أليس هناك من يعبد البقرة؟ ولعلهم يعبدونها لما تهبه لهم، فالبشر عبد العطايا وعبد القوي وأسير الجمال، لذلك يلتصق بأقرب المعوضات لخيباته؛ فقد (يكون الواقع كبيراً جداً كضخامة الكون، على سبيل المثال، أو ربما يكون صغيراً جداً، إنما يكتنفه الغموض. سجل جاك دريدا (Jacques Derrida) تجربة مقلقة عندما التقت عيناه بعيني قطته التي كانت تحدق به وهو عار. فنحن ننظر إلى القطط في معظم الحالات أنها كائنات جديرة بأن تكون موضع اهتمامنا، ولكن كيف تنظر إلينا هذه القطط؟ هل ترانا كأي شيء آخر، أو ليس بالشيء الكثير؟ وما الشعور الذي ينتاب قطة عندما تنظر إلى إنسان دريدا؟)(3)، ودلالة أن الواقع كبير، وربما الموجودات تشكل قلقا وخوفاً للإنسان، نجد أبا الطيب المتنبي يجعل من حصانه معلّما موبّخا له ولنا:

يَقولُ بِشِعبِ بَوّانٍ حِصاني

أَعَن هَذا يُسارُ إِلى الطِعانِ

*

أَبوكُم آدَمٌ سَنَّ المَعاصي

وَعَلَّمَكُم مُفارَقَةَ الجِنانِ

أليس الحصان هنا أعلى رتبة من الناس جميعا؟ إن القطة التي هي حيوان أليف حيرت جاك دريدا، وجعلته يخشى أن ترى عريه، وإن كان ذلك افتراضاً، لكن لماذا رفع المتنبي حصانه إلى رتبة من يملك الحجة على راكبه؟ أليس في ذلك جلدٌ لضعف الإنسان، فالمتنبي نفسه، حين أراد أن يصف قوة وشجاعة ومنزلة سيف الدولة، شبهه تشبيهاً ثقافيا ورسم صورة سيرية ثقافية، لا صورة بلاغية، جيث قال:

يا سيف دولة ذِي الْجلَال وَمن لَهُ

خير الخلائق والأنام سميُّ

*

أَو مَا ترى صفّين كَيفَ أتيتها

فانجاب عَنْهَا الْعَسْكَر الغربيُّ

*

فَكَأَنَّهُ جَيش ابْن حَرْب رعته

حَتَّى كَأَنَّك يَا عَليّ عَليُّ

لقد اختلف مقام القول والاقتضاء التداولي، فارتفع المتنبي عن نسق الحيونة الثقافي، وشبه من يريده قوياً بسند تاريخي لرجل قوي معتمدا على ثقافته برسم الصورة والتشبيه الثقافي، من دون الاحتياج إلى الموجودات المحايثة له، بل غرف صورة من الأثر الراسخ المستمر الذي يمثل قوة إنجازية في أي حجاج.

لقد تعامل "أبو الطيب" مع الموجودات من حوله تعاملاً براغماتياً، فعلى الرغم من تهمة الفحولة التي وسمه بها عبد الله الغذامي الذي لم يفرق بين فحولة الشعر والذكورة النسقية، نجد أبا الطيب ينسف الذكورة من دون التنازل عن فحولته الشعرية:

فلو كان النساء كمن فقدنا

لفضلت النساء على الرجال

ولأن الشمس من الموجودات المؤرقة والمحببة للإنسان في آن واحد؛ والشمس من المعبودات تاريخيا، وجدنا المتنبي يصف المرأة بالشمس لكنه يفضلها على الشمس الحقيقية:

فليت طالعة الشمسين غائبةٌ

وليت غائبة الشمسين لم تغب

وقد يتساءل القارئ الكريم ويقول: نراك ذهبت إلى الجمادات وتركت الحيوان، فأقول: إن أبا الطيب نفسه احتاج إلى أن يصف نفسه بالأسد:

إِذا رأيتَ نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً

فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ

فكم هي مفارقة، وقد يقال: إنه مقام القول، لكن ألم يرفع المتنبي رتبة حصانه إلى منزلة الناصح المذكر/ الموبخ، وهل الحصان أعلى رتبة من الأسد؟ لكن الجواب يكمن في أن الإنسان يعيش شعورا لما يكمله، فهو من دون الموجودات من حوله، يبقى أسير الاحتياج والنقص، وهذا شائع جدا في الأدب العربي والشرق أوسطي.

وإذن، كل تشبيه هو ثقافي محض، نابعٌ من الثقافة والقلق الإبداعي، ذلك لأن (الأفكار التي أزاحت جذرياً آفاق فروع العلوم الإنسانية في نصف القرن الماضي ظهرت للوهلة الأولى كنظريات للثقافة بشكل عام، وعندما بدأ فردينان دي سوسير (Ferdinand de Saussure) بتقدير قيمة اللغة ورفع منزلتها بمعزل عن أي مرسى مفترض لها في الأشياء أو الأفكار، اتضح أن تفسير العالم الذي اتخذته المعاني التي تعلمناها قد لا يكون أكثر من نتاج للثقافة. وكانت الكيانات المستقلة التي ميزتها اللغة عن بعضها بعضاً مدينة لنظام الاختلافات الذي سلمنا به أكثر من كونها مدينة لأي وجود)(4)، وهذه الاختلافات هي بنت الاحتياج، فالمرء إن عدِم وجود ما يحتاجه، لجأ للغيبيّ؛ لأن (معظم المناقشات التي تتناول الثقافة تتجه بصورة ملحوظة نحو النقد الثقافي، وتسلم بالعلاقات الممكنة بين الصور المرئية والتراكيب اللفظية، من دون طمس الاختلافات العامة بينهما)(5).

ولنا أن نقر بنزعة الاحتياج لدى الإنسان، فضلا عن محاورته لما حوله من موجودات، بل حتى لما هو غيبي؛ فعلى الرغم من أنه يغدق على نفسه بكل الصفات الحيوانية، وهذا يشي بأن الحيوان أعلى رتبة! لأن المرء مجبول بالتطلع إلى الصفات الأسمى؛ لكننا وربما ننهي هذا بمفارقة، وهي أن المرء حين يتذكر عقله يرمي كل الموجودات جانباً ويحلق عالياً، كما في قول المتنبي:

حولي بكل مكان منهم خلقٌ

تخطي إذا جئت باستفهامهم بمن!

لقد رمى المتنبي خصومه بالحيونة أو انعدام العقل؛ لأن (من الاستفهامية) للعاقل. ولنا أن نختتم بقول أحمد الصافي النجفي:

يعترض العقل على خالقٍ

من بين مخلوقاته العقل!

أيعترض؟ وحين يصف ما يريد وصفه، يضفي على الموصوف صفات مستعارة من الحيوان؟ ليس من أمر سوى نسق المواءمة، وإن كل تشبيه إنما هو ثقافي.

وقد قالت العرب: (ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻠﻘﺎﺋﺪ اﻟﻌﻈﻴﻢ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻴﻪ ﻋﺸﺮ ﺧﺼﺎﻝ ﻣﻦ ﺿﺮﻭﺏ اﻟﺤﻴﻮاﻥ: ﺳﺨﺎء اﻟﺪﻳﻚ، ﻭﺗﺤﻨﻦ اﻟﺪﺟﺎﺟﺔ، ﻭﻧﺠﺪﺓ اﻷﺳﺪ، ﻭﺣﻤﻠﺔ اﻟﺨﻨﺰﻳﺮ ﻭﺭﻭﻏﺎﻥ اﻟﺜﻌﻠﺐ، ﻭﺻﺒﺮ اﻟﻜﻠﺐ، ﻭﺣﺮاﺳﺔ اﻟﻜﺮﻛﻲ، ﻭﺣﺬﺭ اﻟﻐﺮاﺏ، ﻭﻏﺎﺭﺓ اﻟﺬﺋﺐ، ﻭﺳﻤﻦ ﺑﻌﺮﻭا، ﻭﻫﻲ ﺩاﺑﺔ ﺑﺨﺮاﺳﺎﻥ ﺗﺴﻤﻦ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﻌﺐ ﻭاﻟﺸﻘﺎء)(6).  أبو حيان التوحيدي.

***

ا. د. حسين القاصد

أستاذ النقد الثقافي في الجامعة المستنصرية كلية الآداب

........................

(1) فن الشعر، محمد مندور: مؤسسة هنداوي للنشر (المملكة المتحدة)، 2017: 47.

(2) الثقافة والواقع، نحو نظرية للنقد الثقافي، كاثرين بيلسي، تر: باسل المسالمة، وزارة الثقافة- دمشق، 2017: 18.

(3) الثقافة والواقع، نحو نظرية للنقد الثقافي: 19.

(4) الثقافة والواقع، نحو نظرية للنقد الثقافي: 20.

(5) المكان نفسه.

(6) الإمتاع والمؤانسة، أبو حيان التوحيدي، تحقيق: أحمد أمين وأحمد الزين، مؤسسة الهنداوي، ٢٠١٩ : ٤٩ – ٥٠.

 

"تغريبة القافر" للروائي العماني زهران القاسمي نموذجاً

لكي يشدَّنا زهران القاسمي، إلى روايته، الفائزة بجائزة البوكر العالمية للرواية العربية لعام 2023، منذ صفحاتها الأول، يُعلنُ في قرية "المسفاة" عن حادث غرقٍ في بئر، لكن لم تُعرف هوية الغريق أو الغريقة. فتنفتح أبواب حبكة الرواية، حين نعلم أنّ الغريقة هي امرأةٌ تدعى "مريم بنت حمد" زوجة "عبد الله بن جميل".

مع ذهول زوجها بما حدث، بدأ يتساءل: ما هو الباعث لذهابها إلى هناك، وهي تتخوّف من الآبار، سنكتشف بأنَّ الذي جذبها إلى هناك جنينها، فالغريقة، كانتْ حاملاً، حيث أنّهُ قبلَ أن يتمَّ تكفينها، صرختْ خالتها بعبارةٍ بليغةٍ:" في بطنها حياة، في بطنها حياة" ص:13. وبالرغم من توجيه شيخ القرية، بأن تُدفن الميتة، وفي بطنها الجنين، تتمرد عمّتها "كاذية" على ذلك بأن تقوم بشقّ بطن ابنة أخيها لتُخرج منه الجنين، حيث كان حيّاً سالماً، ولذا سُميّ "سالم" وهنا تتجلىّ لنا، ثنائية الحياة والموت.

كانت مريم في أثناء فترة حملها تحلم بأشياءٍ غريبةٍ تنبىء بموتها المبكر، وولادة ابنها، وبمهمة الوليد المستقبلية، فهو القافر الذي وهبه الله معجزة السمع عن بعد، فيجوس في القفار، بحثاً عن منابع الماء في جوف الأرض، في الصخور والجبال. حين همّوا بإحضار نعشها، كان المطر ينهمر بغزارة، حتى أنَّ القبر امتلأ بالمياه، في مشهدٍ يحمل دلالةً، بأنَّ الفقيدة ماتت غريقة ودُفنت غريقة.

هنا يعود الراوي إلى عبد الله بن جميل، حين زار "كاذية"، تفاجأ أنّ لديه ولداً، فاحتضنه، حين ذاك فطن الصغير إلى حامله وابتسم له، لاحظت مرضعته آسيا بنت محمد، وهي التي ثكلت بناتها الخمس، وهاجر زوجها، بأنَّ الطفل" منذ أن كان يحبو رأته يميل بأذنه اليسرى على كتفه ويحكّها عليها:ص49.

هنا يريد الراوي استدراجنا إلى ما يريد، بأنَّ تلك الأذن التي تحكّه، دأب على إلصاقها بالأرض، كأنّها بداية نموِّ موهبته وهو صغيرٌ كقافر، يتتبّع أثر الماء في باطن الأرض.

تلحظ "كاذية" ذلك الأمر أيضاَ، لكنّها تكتم ذلك عن نساء القرية لئلاّ يحسدنه، لم تطلعْ سوى أبيه، الذي ضحك من الأمر، لكن ذلك حدث معه وطفله سالم في عمر التاسعة عندما أخذه في رحلةٍ إلى الوديان البعيدة .

وحين بلغ سالم من العمر 15 سنة بانت موهبة اكتشاف الماء تحت الأرض بإلصاق أذنه على التراب الذي من تحته انبجس الماء، في البقعة التي يمتلكها سلام بن وعري العاموري، حيث انكشاف الماء عبر ينبوعٍ صغير، جاء في أثناء جدبٍ حلّ في القرية بعد خصبٍ دامَ فيها بعدد سنوات عمر سالم، وحصل أن اتّفق أهالي القرية بأن يجدوا آثار القناة القديمة التي تسقي مزروعاتهم، ما دامت عين الوعري لا تكفي إلاّ لأغراض الشرب وطهي الطعام. وبدؤوا بالبحث عن أثر القناة التي تُسمّى عندهم (الفلج)، لكنّهم تعبوا ويئسوا ولما يجدوا الفلج.

ينبوعُ الحب

بعد سردٍ متتابعٍ، لكلِّ جهود أهالي القرية، ومضيِّهم أيّاماً عديدةً في الحفر في المكان الذي قال عنه سالم بأنه المكان الخطأ، يتّضح لهم صحّة كلام سالم، وأنَّ الماء تدفّق في المكان الذي أصرَّ عليه، فرح أهل القرية، حيث انساب الماء في أراضيهم، ومضوا يرتّبون أمورهم في سقي محاصيلهم وتنظيف بيوتهم، حينذاك اعترف أهل القرية بأنَّ سالم هو القافر فعلاً، بعد أن كانوا يسمّونهم باستصغارٍ ابن الغريقة. عند ذاك شاع خبر قرية المسفاة بين القرى، وجاء البدو الرّحّل يستسقون من أفلاجها، وبدأ الناس يعقدون اتفاقياتٍ مع سالم بشأن تتّبع الماء في قراهم، ولكنّ ومضة حبٍ برقت بين سالم وفتاة جاءت مع أمها إلى كاذيّة، ثمّ رحلتا إلى حيث لفّهما الغياب، وكأنها تنتظره في قريةٍ بعيدة. في الوقت نفسه عرّج الراوي إلى الحديث عن أناسٍ جاؤوه من قرية المسيلة، لكي يبحث أثر الماء في أفلاجهم المطمورة، وحلَّ في قريتهم الجدب، مثلما هو حال قرية المسفاة، وبقية القرى. ومضى هو وأبوه الى المسيلة، وكانت المفاجأة، بأنّ الطفلة التي جلست جنبه وتحدّثا كأنهما يعرفان بعضاً منذ زمن، أصبحت فتاة جميلةً تُسحر من يراها، ونزل هو وأبوه ضيفاً في بيت أهلها، جرفه الحب، حتى أفلح سالم بالزواج منها.

عائلةٌ مائية

لكنّ الخبر المؤلم موت عبد الله بن جميل، في العالم المائي ذاته، الذي غرقت فيه زوجته ريم، أم سالم. ولذلك عاهد سالم نفسه، أن يترك مهنة القافر، لأنّ فيه مماته. ولكن يأتي رجلٌ اسمه محسن بن ضيف، يطلب القافر، بعد أن أصاب ما يسمّيه بن ضيف "البلدة" الجدب، لكنّ سالم تردّد كثيراً في الأمر، وألحّت زوجته على ترك المهنة، خشية أن ]موت كميتة أبيه، ولكن بن ضيف تعهّد له بأنه سيكتب له حقوقه كاملة، (نصف البلدة) وتتسلّمها زوجته في حال مماته.

نهايةٌ مأساوية

كانت غيبة سالم طويلة، وأخذت أهل زوجته الظنون بأنّهُ مات غرقاً في أحد الأفلاج، وكان سالم قد أصيب بجروح، منها شجٌّ في رأسه، في سبيل تهشيم الصخرة الجاثمة على القناة، بعد كفاحه المرير، يموت سالم غرقاً في الماء المتدفق جارفاً كل شيء بما فيه هو، كانت ضرباته الغاضبة، انتقاميةً على ما كلِّ ما هو بائسٌ في حياته، على البعد عن زوجته، الذي أطاله عدم تهشّم الصخرة الصمّاء. كانت لحظة حياةٍ أو موت، هي التضحية والمغامرة، حين تتهشّم الصخرة أخيراً، ويتدفّق الماء هادراً في أرجاء البلدة، لكنّ سالم يموت غريقاً ومتأثراً بجروحه البليغة.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

.................

* صدرت الرواية بطبعتها الثامنة عن دار الرافدين –بغداد، ودار ميسكلياني-تونس عام 2023

 

رواية فرصة ثانية للأديبة الفلسطينية صباح بشير، صدرت مؤخرًا عن دار الشامل للنشر والتوزيع. وبرغم صفحاتها التي لم تتعدَّ ال260 صفحة، إلا أن الكاتبة استطاعت التطرّق وإثارة العديد من القضايا والإشكاليّات الإجتماعية، وقدّمتها لنا من خلال ثلاث حكايات ليست غريبة عن واقعنا العربي وأن تجمع بين هذه الحكايات وتقدّمها في رواية خُطّت بأسلوب سلِس وبلغة سهلة الفهم بعيدة عن أي تصَنُّع. فتُحفّز القارىء لمتابعة القراءة. وإذا أردنا تجنيس هذه الرواية فإنها برأيي تنتمي الى الأدب الواقعي والاجتماعي كونها تتطرّق الى قضايا اجتماعية واقعية يكاد لا يخلو أيّ مجتمع في وطننا العربي من وجودها. فقد تناولت مسألة الزواج والأمومة والعلاقات العاطفية العابرة، ومدى انعكاس هذه المسائل على حياة الفرد والأسرة في آن.

وقبل الغوص في مضمون الرواية وشخصياتها، لا بدّ من التوقّف للإشادة بجماليّة الوصف الذي قدّمته لنا الكاتبة، ونورد مثالا على هذا، ما أجاد به قلمها من بوحٍ تصف فيه مدينة حيفا وعراقتها فتقول: "مدينـة حيفـا التّـي تعـجّ بالحيـاة ، سـيمفونيّة مـن البشـر والحجـر والبحـر والحيـاة، تتراقـص أمواجهـا علـى إيقـاع أنغـام البحـر المتوسّـط،  وتلامـس جبـال الكرمـل الشّـامخة حكاياتهـا الإنسـانيّة، تشـكّل حيفـا لوحـة فنّيّـة سـاحرة،  فيهـا مـن التناقضـات مـا يضفـي عليهـا جمـالا خاصّـا، مـن جمـال البحـر إلـى صخـب المدينـة، مـن خضـرة الجبـال إلـى زرقـة السّـماء، من عراقـة التّاريخ إلـى حداثـة الحاضـر، وهـي لا تنـام علـى وسـائد الليـل، بـل تبقـى مُضـاءة بأنوارهـا السّـاطعة؛ كأنّهـا تقـاوم الظلام، وتعلـن عـن إيمانهـا بالحيـاة، فهـي ليسـت مجـرّد مدينـة علـى خريطـة، بل هي حكايـة إنسـانيّة خالـدة، حكايـة شـعب عـاش علـى هـذه الأرض منـذ القِـدَم، حكايـة صمـود وكفـاح، حـبّ وأمـل.(83).

وفي موضع آخر تقدّم لنا الكاتبة رؤيتها ومفهومها للأمومة، وهنا أقتبس بعضاً ممّا ورد: "كلّ أمّ هـي عالـم خـاصّ بحـدّ ذاتـه، لهـا رائحـة فريـدة تعبّـر عـن شـخصيّتها وحنانهـا وحبّهـا، تلـك الرائحـة ليسـت مجـرّد شـعور حسّـيّ فحسـب، بـل هي لغة الحـبّ والحنـان والتضحيـة التـي تلامـس أرقّ المشـاعر الإنسـانيّة. فالأمومـة لحـن يرافـق المـرأة طوال حياتهـا،. فالشـمس تشـرق مـن عيـون الأمّهـات، وشـال الحرير على أكتافهـنّ سـرّ مـن أسـرار القداسـة، ينسـجن مـن العطـاء أجمـل أثـواب العطـف والحنـان، ويغمـرن أبناءهـنّ بالـدّفء والأمـان" (50)، كما أن هُدى التي تكفّلت برعاية ابن شقيقتها تقول "أنّ الأمومـة ليسـت محصـورة علـى الإنجاب البيولوجـي فقـط، بـل هـي شـعور عميـق بالحـبّ والعطـاء، يمكـن أن ينبـض فـي قلـب كلّ امـرأة" (219).

بالعودة إلى الرواية، وكما أسلفنا فقد اثارت بعض القضايا الإجتماعية وسنحاول التطرّق إليها قدر المستطاع:

الحكاية الأولى حكاية مصطفى الذي توفيّت زوجته فاتن على سرير الولادة بعد أن أنجبت وليدها يحيى، وهنا تبدأ أم مصطفى على حثّ ابنها للزواج من هدى شقيقة زوجته المتوفاة، بعد أن لمست منها كل تعاطف وحنوّ تجاه ابن شقيقتها وتعلّقها به ، وبدأت كلّ من والدة مصطفى ووالدة هدى بمحاصرتهما بالحجج والموجبات التي تجعل من هذا الزواج ضرورة لا بل واجباً فقط لأجل رعاية الطفل الوليد دون الإكتراث لمشاعر الزوجين المفترضين. فوالدة مصطفى تلفت نظره إلى هدى التي ستكون زوجـة مثاليّـة لـه، وأنّ حبّهـا ليحيـى لا يضاهيه حـبّ الأمّ لابنهـا، إضافة إلى كونها جميلـة وأنيقـة ورقيقـة.

وعلى الضفة الأخرى نجد والدة هدى تحاول إقناع ابنتها بهذا الزواج، وتضغط عليها من زاوية تعلّقها بيحيى في حال رفضها فتقول: أن والده مصطفـى لن يوافق علـى بقـاء فلـذة كبـده تحـت جناحـك الرّقيـق إن تزوّجـتِ يومًـا برجـل آخـر؟ هـل تظنّـين أنّ يحيـى سـيظلّ برفقتـك بعدهـا؟ وأمام هذا الإلحاح من كلا الجانبين يتمّ الزواج الخالي من أحاسيس عاطفية تجذب العروسين اللذين بقيا لفترة لا بأس بها تحت سقف واحد دون أي تلامس او حياة حميميةّ. قبل أن تستقيم الأمورلاحقًا ليباشرا حياة زوجية مكتملة.

وعلى هامش حكاية مصطفى مع هدى، نجد أن المرأة تبقى هي الأنثى التي تصرّ على الإنتصار لأنوثتها مهما كانت الظروف، فمثلاً هدى التي ارتضت شبه مرغمة للزواج بمصطفى بعد وفاة شقيقتها فاتن، ومع كلّ تفهّمها لحيثيّات هذا الزواج ولحجم الحبّ والوفاء الذي يكنّه مصطفى لزوجته المتوفاة، إلا أنها وفي لحظة غضب نجدها تثور في وجهه وتنبّهه إلى أنّها هدى وليست فاتن قائلة: "لتفهم أن فاتن  لـم تعـُد موجـودة،  أنـا هنـا حاضـرة،  مُحبّـة ومخلصـة، لا تقارنّـي بهـا، فأنـا لسـت نسـخة عنهـا ولـن أكـون، أنـا هـدى، أمّ ابنـك، زوجتـك، شـريكة حياتـك، متـى سـتدرك ذلـك؟ لا أريد أن أكـون فـي المرتبـة الثّانيـة بعـد فاتـن".(214).وتكمل قائلة: "لا أسـتطيع البقـاء فـي بيـت لا أشـعر فيـه بالحبّ، لا أشـعر فيه بأنوثتي ككلّ النساء، أحتـاج أن أكـون محبوبة ومقدّرة  ومرغوبـة" (217).

أمّا مصطفى، فعلى الرغم من زواجه – الأخوي إذا جاز التعبير- يبقى الرجل الذي تجتاحه الغيرة وبوادر الشك بعد ان لاحظ معاودة هدى لرحلتها الجامعية واختلاطها بالزملاء، ممّا أشعل نار الغيرة والشك في قلبه، محاولا إقناعها بالابتعاد عن أحد رفاقها بالجامعة لتواجهه بالقول: "كرامتـي خـطّ أحمر لا أسـاوم عليه، لا تظنّ أنّ حبّـي وتعلّقـي بيحيـى سـيجبرني علـى السـكوت عـن إهاناتـك وشـكوكك، فمشـاعري ليسـت رخيصـة. وعنـد الاختيـار بـين كرامتـي وبينـه، سـأختار كرامتـي دون تـردّد".(229).

الحكاية الثانية في هذه الرواية هي حكاية عبدالله شقيق مصطفى الذي تزوّج من "لبنى"، فكان الزوج العاشق والصبور على تصرّفاتها المستفزة والتى لا تفوّت أيّة فرصة لتشارك صديقاتها في حفلاتهنّ وسهراتهنّ دون الإلتفات إلى مسؤوليّاتها تجاه زوجها، كما انها ترفض الحمل والإنجاب وتعتبر ان هذا القرار مصيـريّ سـيغيّر حياتهـا وهي تريد الاسـتمتاع بشـبابها وأيّامـها قبـل أن تدفنهمـا فـي الأمومـة كما قالت.

لقد امتاز زواج عبدالله ولبنى بوجود فجوة ثقافية بينهما، وعدم انسجام أو توافق حتى في الهوايات، لا بل أكثر من ذلك حتى في الأطعمة، فهي لا تضع مثلا الثوم في الملوخية فقط لانها تكره رائحته وتفرض على زوجها تناولها كما هي. وأيضا تقضي معظم الوقت امام شاشة التلفاز وصوته المرتفع ممّا يمنع زوجها عبدالله من ممارسة هوايته المفضّلة وهي القراءة. هذا التنافر وغياب لغة التفهّم والتفاهم بينهما جعلهما يعيشان في شبه طلاق عاطفي وإن وُجدا تحت سقفٍ واحد.

انطلاقا من علاقة لبني بزوجها عبدالله، تثير الكاتبة مسألة اعتبار الزواج من قِبل البعض وخاصة الفتيات، بمثابة الطريـق للخلاص من الكبت او الحرمان الذي تعانيه الفتاة في بيت أهلها، وهذا ما أفصحت عنه لبنى لصديقتها هدى بأنها وافقت علـى الزّواج من عبد الله رغـم افتقـار قلبهـا للميـل نحـوه، واختـلاف اهتماماتهمـا كاختـلاف الليـل والنهـار. وتستذكر تهديـدات والدهـا الصّارمـة قبـل الـزّواج، بمنعهـا مـن الخـروج مـن المنـزل، وكيف كانت طفولـتها مقيّـدة بقوانين صارمـة، فالأجـواء مشـحونة بجدّيّـة مقيتـة، كأنّها تعيـش فـي سـجن مقفـل. وتكمل لبنى في بوحها فتقول: " كنـت أختنـق وأتـوق إلـى التحـرّر للعيـش حيـاة طبيعيّـة كباقـي الفتيـات. لذلـك، فـررتُ مـن سـجنهم بـزواج لـم يكن حبّـا حقيقيّاً، فقـد كان عبد الله بوّابتي الوحيـدة نحـو عالـمٍ جديـدٍ ينبـض بالحرّيّـة والانفتـاح، عالـم يغـدق علـيّ فيـه حبّـه وعنايتـه واهتمامـه دون حـدود"(252).

أما الحكاية الثالثة في هذه الرواية فبطلها ابراهيم طبيب الأسنان وهو صديق مصطفى وشريكه في معرض لتجارة السيارات، وإبراهيم هذا تزوّج مرّتين وفشل في زواجه، ممّا ولّد لديه نفوراً من عالم النّساء، وأصبـح أكثـر حـذراً من الزواج ومؤمناً أنّ السّعادة لا تأتي من الـزواج فقـط، بـل مـن الإيمـان بالنفس والعمل المخلص ومسـاعدة الآخرين . وسأل نفسه: " هـل الـزواج مـأوىً للحـبّ أم قيـد لـلأرواح؟ هـل المرأة شـريكة في رحلـة الحيـاة أم لغـز نحـاول نحـن الرّجال فـكّ رموزه؟(58)، فالـزّواج بحسـب رأيـه قفـص ذهبـيّ، يحبِـس فيـه الرجـل حريّتـه، ويقيّـد مشـاعره وأحلامـه، ويخـدع العطشـى ويُضِلّهـم عـن طريقهـم"(59).

لكن القدر شاء أن يلتقي إبراهيم بجارته "نهاية" وتنشأ بينهما علاقة مودّة وإلفة أوصلتهما إلى السرير، ولكن ابراهيم بقي مصرّاً على موقفه من الزواج عندما طلبت منه نهاية ان يتزوّجا، وشـعرت بأحلامهـا تتحطّـم أمـام صخـرة الواقـع، رفضت بشـدّة الاسـتمرار فـي هـذه العلاقـة بعد أن اعترف لها ابراهيم قائلاً: "الزواج أنـا لا أُؤمـن بقيـوده، ولا أرى فيـه سـوى قفـص يحاصـر حريّتـي، إنّ علاقتنـا جميلـة هكـذا، فلمـاذا نفسـدها بـأوراق رسـميّة قد تصبـح عبئا على قلوبنـا؟ أريـد أن أكون معكِ دون قيـود أو شـروط، يكفـي أن تتلاقـى أرواحنـا، وأن تتناغـم قلوبنا؛ لتصبـح الحيـاة سـيمفونيّة جميلة تعزف لحن الحبّ".(145).

نلاحظ في هذه الرواية الدعوة ولو غير مباشرة للإهتمام بالشأن الثقافي والفنّي، من خلال الإشارة إلى اهتمام ابراهيم بالموسيقى مثلاً "عندما استمع إلى معزوفة موسيقيّة من بيت جارته " نهاية" هـي موسـيقى «نينـوى» وتورد لنا الكاتبة نبذة عن هذه السيمفونية التي يُختَلـف حـول مؤلفّهـا وتقول بأن "للموسيقى  سـحرها الخاص فهي تتجاوز حـدود الزّمان والمـكان، وتتحـدّث بلغـة عالميّـة يفهمهـا القلـب قبـل العقـل".

كما برزت دعوة مماثلة تحثّ على الإهتمام بالقراءة، وفي رسالة ملؤها الأمل، وبلفتة ذكيّة تشير الكاتبة إلى روايتها الأولى التي أقتبست منها فقرة تُثري روايتنا الحالية، ولا تبدو دخيلة عليها لتتحدّث عن الحبّ والأمل، فعندما لاحظ ابراهيم انّ هناك امرأة  تتصفّح كتاب«رحلـة إلـى ذات امرأة» سألها إن كانت قرأت الفقرة التي تقول:«هـا أنـا أجلـس علـى شـرفتي الجميلـة وأدوّن الذكريـات، بعـد أن أَغلقـتُ أبـواب قلبـي بإحـكام وفتحـت أبـواب العقـل علـى مصراعيهـا»..؟ لتجيبه: "يُخيّـل إلـيّ أنّنـا نُسـارع أحيانـا في إغـلاق أبواب قلوبنا، لكنّنـي أؤمـن أنّ الحـبّ قادرعلـى إحيـاء القلـوب المنهكة، فلا تقفـل قلبـك أبـدا، فالحيـاة جميلـة، كيـف نعيشـها بقلـب مغلـق؟ تذكّر يا أخي، أنّ أبواب القلب مثل أبواب البيوت، إذا أغلقتها تمامـا لـن يدخـل إليهـا الهواء والنّور، لكـن.. إذا فتحتها بحذر فسـتدخل إليها السّعادة والأمل والحبّ".(150).

واستكمالاً لرسالة الأمل هذه، تُنهي الكاتبة روايتها بانتظام العلاقة الزوجيّة بين مصطفى وهدى الحامل في شهرها السادس، وكذلك لبنى بعد أن راجعت نفسها واقرّت بخطئها تعود إلى زوجها عبدالله، وها هي في شهرها الثامن تنتظر مولودها، وأخيراً ابراهيم تجاوزعقدة الخوف من الزواج وتزوّج من جارته نهاية. واعتبر كل منهم بأن القدر أو المستقبل منحه فرصة ثانية لإنعاش حياته.

لا بد وأن نسأل إذا كانت الرواية تحدّثت عن أن ابراهيم  ومصطفى وعبدالله وأيضا لبنى قد منح كلّ منهم فرصته الثانية، يبقى السؤال مُعلقًا وهو: ما هي الفرصة الحقيقيّة التي مُنحت الى هدى او حُرمت منها ؟ .

رواية فرصة ثانية رسالة مفعمة بالأمل ، وإثر كل كبوة لا بُدّ من النهوض لتستمر الحياة بكل تلاوينها.

ختاما أقول، سبق للكاتبة صباح بشير أن منحتني فرصة أولى لقراءة كتابها "رحلة إلى ذات امرأة" وها هي اليوم مشكورة تمنحني فرصتي الثانية لقراءة هذه الرواية الشائقة. وأختم بالقول مبارك للأديبة وإلى المزيد من التألّق والنجاحات.

***

عفيف قاووق – لبنان

للشاعر منذرعبد الحر

تتسم اللغة الشعرية الحديثة بخصائص فنية متعددة تحقق الأداء البنيوي للشاعر وقدرته على توظيفها لصياغة تجربته الشعرية وترجمة تصوراته واحاسيسه وهمومه السايكولوجية والسيسولوجية بصيغ إبداعية فريدة تميز كل تجربة عن غيرها في الصفة الجمالية والمحتوى الفكري ومستوى التعبير والاستخدام الإيحائي لمدلولات الكلمة الى اقصى مدياتها .

منظور النقد

ولاشك أن التصدي للغة الشعرية في منظور النقد مهمة غير يسيرة وتتطلب إدراكا بالمحاور التي يمكن من خلالها تناول المادة الادبية والشعرية منها بشكل خاص وهي تتباين من ناقد الى آخر، فتعليل الغموض والتضمين في النص الشعري وضروراته التعبيرية وتوظيف مدلولات الرمز والاساطير والمجاز والانزياح والكناية وغيرها التي يستخدمها الشاعر للإرتقاء ببنائه الداخلي للقصيدة أو النص وشحن المفردة بطاقة إيحائية لتجسيد مقاصده، كلها ادواته التي تلتقي في بودقة واحدة لتفريغ الإعصار النفسي الكبير والاسفار عن النداء الكامن في الأعماق .

وشاعرنا المبدع منذر عبد الحر لامس هذه المعضلة فأشار في احدى مقابلاته الى قصور النقد في تحليل الأسس التي اوردناها فيقول (لا أبالغ ولا أجدني متجنيا على أحد حين أقول إن الكتابات النقدية التي تناولت تجربتي الأدبية في عمومها، معظمها لا علاقة له بعلم النقد، مع تقديري واعتزازي للكتابات النقدية الرصينة التي تناولتني برؤيةٍ علميةٍ مهمة، وعلى العموم فإن أكثر النقد العربي بعيد عن عمق النص الأدبي وجوهر الاشتغال فيه من قبل الأدباء في مختلف اختصاصاتهم، لأن النقد الآن بمثابة كشف واستبصار وغور في النص والتجربة، وليس انطباعاً عاما أو رأيا عائماً لا مرتكزات علمية ونظرية فيه) . فمن هذا المنطلق فإن الناقد أمام مسؤولية مزدوجة تتمثل بتفسير الأسس السايكولوجية وجماليات التعبير اللغوي وكذلك القواعد النقدية الصارمة التي تقيد أي نص ابداعي مع التسليم أن حضور كل المفاهيم والاسس النظرية والاكاديمية عند تناول مجموعة ما أو نص بعينه مهمة عسيرة بل ومستحيلة في اغلب الاحيان .

المجموعة الشعرية (دموع النهر) للشاعر الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 2024) ضمت 14 نصاً، وهي في مجملها تنبض بوجع جنوبي معهود ومتوتر ولغة سلسلة تنوء بأعباء الذكريات والمرادفات المثقلة بالحزن النبيل، وتأخذ بتلابيب المتلقي لكي يعيش معه مرارة التجربة ولحظات الفرح الصغيرة المتناثرة والنادرة بين الأبيات بأسلوب إستبعد الغموض في التعبير دون أن ينعكس ذلك سلبا على جهده لتكثيف الصورة وخلق فضاء مترامٍ للانفعالات والحس الداخلي والوصول به الى الهزة النفسية أوالدهشة فأجاد بقوة السيطرة على الكلمة المنتقاة والتغلغل الى الدخيلة:

نفخر بأبائنا ...

وهم يفتحون نهاراتهم بشهقة

ويزرعون فينا فسائل فرح

فنرى أكواخنا قصورا

وثيابنا مطرزة بينابيع الحب

لأن أمهاتنا ..شغلن عيونهن المتعبات

بترتيق ما غضب من بقع فيها

إثر خصام بين الألوان .173 mounder adulhor

بالعودة الى النص يلاحظ المتلقي أنه رغم البساطة المتناهية في تناول الاضداد بين الفقر المدقع والفخر والقناعة، إلا أن أسلوب الطرح لم يسقط في حبائل السهولة والكتابة السردية التقليدية هنا ينبض الشعر بقدرة بيّنة، فقد طرح الشاعر قضية اجتماعية خطيرة تأكل من ضفاف المجتمع وتنخر في كيانه، الأب المنكوب والكوخ المتداعي والملابس العتيقة الممزقة وفوضى الالوان لكنه أفلح في سبكها بعيدا عن النثر المجرد في هيئة صور شعرية في غاية الجمال، وقرّب بدقة المفهومين المتعاكسين الى الذائقة الشعرية، الافتخار بالأب المتعب من اجل الاسرة والام الساهرة على تأمين حاجات الاسرة بأدنى المتاح والكوخ الذي يغدو قصرا فيما إذا ساد الاسرة التآلف مع الموجودات من حولها .

واضح أن نصوص المجموعة حافلة بتراكيب مجازية مقننة في التعبير دون إسراف في ايراد التفصيلات التي تهوى بالشعر الى هوة المباشرة والتقريرية، فشاعرنا منذر ركن إلى إيراد الكثير من هذه التراكيب اللغوية ( نجوما تتكسر، بستان من عبير وأغان، الليل وحش مجنون، نادتهم سياط الظهيرة، ماتت عليها فواخت أحلامنا، تكسر صوتي على امواج حروفها، كأنه عقد يطوق عنق الليل، سقطت طفولاتنا في سواقي الثعابين، دعها تغفو على اعقاب سجائرك ... إلخ) وغيرها كثير ومنها هذا الانتقاء حين تعجن الشرفة وترمز الى الاطلالة النبض بالموت كما أن العشب الاصفر المريض الذي يرمز الى احتضار النماء وقسوة الزمن:

من شرفة صفراء

عجنها النبض بالموت

ذابت عقارب الوقت ..

وسال دمها على العشب الأصفر

ويتكأ شاعرنا أيضاً على الصور الخيالية الانزياحية التي تخالف المألوف وذلك بتوظيف تغييرات لغوية على مستوى النص لإثراء تجربته الشعرية أي انه استطاع أن يخلق لغة داخل اللغة لكن بعيدا عن الإيغال في التعقيد والغموض، ففي (مروج الغواية) يستعيد الشاعر ذكرياته المفعمة بالاحاسيس والمشاعر عن محلة الجمهورية في البصرة والتي توحي بالقدم والعراقة والتغيير بعدما كان إسمها الفيصلية لتتحول الى الجمهورية مع السقوط المأساوي للملكية في العراق فيطرح وقائع تلك الايام بلغة آسرة و صادمة لكنها تقطر شوقا وخضوعا للممكن:

كي لا ألتفت إليك

فأجرح سماء صمتك

بشرارة عشق

أغني من بعيد

لشر جنوني فيك

انا الساعي إليك على جناح اشتياقي

العائد إليك من صهيل معارك

وحتوف أحلام

وجفاف أمنيات

خطواتي ..قوافل

قطعت صحارى الوهم

كي تصل إلى دوحة المنفى

وترقد في حيرتها ...

في نصه (مناجاة متأخرة) المهداة الى الشاعر الكبير بدر شاكر السياب المترعة بالصور الشعرية النابضة بالتشبيهات والاستعارات التي تشي بما وراء الكلمة فالتعلق بفنار الخوف والسؤال عن العودة الحائرة وجحود الخليج لها مدلولات سياسية، فلقد عانى السياب كثيرا نتيجة موقفه السياسي الداعم لإنتفاضة عام 1952 وهروبة الى الكويت وهناك حيث كتب اجمل قصائده ومنها (غريب على الخليج ) التي جسدت انفعالاته المريرة الناجمة عن المرض والغربة والتوق الشديد والمؤلم للعودة الى جيكور رمزا للوطن . هذه المكابدات الغائرة في ذات السياب وغيرها أختارها شاعرنا منذر ليستلهم ويحيك منها نسيجا بارعا من الصور الشعرية المتتابعة والغنية بالمقاصد:

عابرا همس الطين

وخفقات أجنحة البلابل

اللائي يرددن غناءك

لم يكن جيكور

إلا عتبك النحيل على البحار

تلك التي فصلتك عن ربوع بكائك

وجعلتك ترنو إلى السفن التائهة

متعلقاً بفنار الفزع

وانت تلوك لوعة

وسؤالاً عن عودة حائرة

يا من رسم على جحود الخليج

خيبة وغربة مداها سرير يطفو

على صبر فادح .

إنسان مقهور

وفي نصه (دموع النهر) يصور الشاعر النهر كأنه البشير الذي يطرق الأبواب وإنه يطوي الليل ويصارع النهار فيستخدم النهر كناية للإنسان المقهور الذي عليه أن يكف عن الوجع ويجيد فن التمرد والمواجهة وأن يتخطى سنوات الجدب والقهر بعد أن يصرخ باؤلئك الذين يهربون ويهابون المواجهة:

آن لضجيج مراياك

أن يفتت زوادة الصبر

لتمضي بعيداً

فالنهر …

تسلق ظهيرته بعكاز

ليمسك بالشمس

ويضعها على رمح هياجه

يصرخ بالقوافل الهاربة

إمسحوا رماد الخوف

عن عيونكم

وتحفل قصائد المجموعة بصيغ مستعارة من القران الكريم أو المرويات أو الإرث الشعبي الغزير لتقريب المقصد الى ذهن المتلقي وإضفاء المزيد من الحيوية الى نواة النص الشعري، فهنا مثلا يفسر التلون وإخفاء الدخيلة الشريرة بالتلفع بالورد الذي يرمز للرقة والنقاء والحب، كما يستعين بواقعة استواء سفينة النبي نوح على جبل الجودي التي وفرت للكائنات على متنها الحماية من سطوة وغضب الله وذلك في مسعى لتأكيد عبثية المحاولات الرامية الى النيل من نبل المشاعر وصدق الدفينة:

وسكاكين غدر

ملفوفة بالورد

لا عليك

*

سنرسو على الجودي

فقد " قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ

و يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي"

فيما هم لم تعصمهم جبال الوهم

ولم يحمهم سور

أو تحملهم غيمة صنعوها.

ويستمد الشاعر منذر عبد الحر من خزين الشعر الشعبي أرق واجمل النصوص المعبرة عن الوجع والمكابدة والبعد القسري عن الديار والصبر الآيل للنفاذ فيستعين بمقطع في غاية الجمال ل (الطير الاغريقي) شاعرالجنوب العذب الراحل جبار الغزي ليشحن بها نصه ويقشر الكلمة لكي تتكامل اللوحة الغنية بالقهر والوجع:

ما لهذا العاشق

رمى نفسه في أحضان الصمت

وعبر جراحه

ليعانق الغربة ؟

....................

(بسّك تره تعديتْ حد الجفه وياي

أعطش وأذوك الموت وبجفك الماي) !

ذقه… هو ملاذك الأمين.

قال شاعر الحداثة الانكليزي توماس إرنست هيوم (أنه لا خلق وبالتالي لا شعر إلاّ إذا استطاع الشاعر بالمراس الشديد والاخلاص العنيف أن (يحني) اللغة لمنحى فكره بدقة) وهذا ما فعله منذر عبد الحر وعبرت عنه نصوص (دموع النهر) بإقتدار مشهود.

***

محمد حسين الداغستاني

في الخامس عشر من تشرين الاول عام 1965 وعلى شاطيء بحيرة في كازخستان، وصل خبر الفوز بجائزة نوبل للادب  لرجل قصير القامة، خشن الصوت، ذو عينين زرقاويتين حادتين كان يقضي إجازته في خيمة ومعه حقيبة مليئة بالكتب، يحملها معه أينما يذهب، يعود إليها بين الحين والآخر، إنها رواية الحرب والسلم لتولستوي ودايفيد كوبر فيلد لديكنز، وقصص موباسان ومجموعة أعمال تشيخوف، كان في الستين من عمره لم ينجز سوى كتابين الأول رواية متوسطة الحجم والثاني ملحمة روائية يعنوان " الدون الهادئ " أراد فيها أن يتبع خطى المعلم تولستوي. عندما سُأل ميخائيل شولوخوف عن خبر فوزه بجائزة نوبل ابتسم ابتسامته المعهودة وقال للصحفيين :"من الصعب أن يخرجني هذا الخبر من متعتي اليومية، إعادة قراءة الحرب والسلم، واصطياد السمك والعيش وسط الناس مثل ديكنز.. ولكن هذا لايمنع أن تأتي للانسان ضربتان من ضربات الحظ في يوم واحد، الحصول على جائزة نوبل واصطياد بطة كبيرة".158 ail hosan

ولد ميخائيل ألكساندروفيتش شولوخوف  في 24 أيار عام 1905، كان عمره خمس سنوات عندما توفى تولستوي، بعد ذلك سمع من والدته إنها كانت تشاهد الكاتب الكبير وهو يتجول مع الفلاحين ويمنحهم بركاته، كانت الأم قد تعلمت الكتابة والقراءة من أجل أن تكتب خطابات لابنها عندما سافر للدراسة في موسكو عام 1922، أما أبوه فقد عمل في معظم المهن، فلاح، بياع في دكان صغير، تاجر أبقار، عامل في مطحنة للدقيق، وعندما يصل شولوخوف الى موسكو للدراسة تضطره الظروف أن يعمل حمالاً في المراكب وكاتب حسابات، في العام 1924 ينشر أولى قصصه القصيرة، لكنه يقرر في العام 1925 أن يحذو حذو تولستوي ويكتب ملحمة روائية جديدة: "لتكن بعدة أجزاء.. تتناول الحرب والسلم.. والحب والموت.. والعدل والحقيقة". وتمضي السنوات وهو يكتب في أجزائها، حيث ظهر الجزء الاول منها عام 1928، بينما ظهر الجزء الاخير عام 1940.. هكذا حقق شولوخوف رواية بأربعة أجزاء وبثلاثة آلاف صفحة.بنفس حجم روايته الاثيرة الحرب والسلم.

في الدون الهادئ يروي لنا شولوخوف حياة القوزاقي ميلخوف العائد لقريته من آخر الحروب مع تركيا، وعلاقته بحبيبته اكسينيا وزوجته ناتاليا، واخيه واخته وجيرانه واصدقائه، واعدائه، وزملائه في الحرب والعمل والتمرد، وارتفاع نجم حياته من الارض، الى الحرب والمجد، والتحقق بالحب والانجاب، ثم تردده وسثوطه وفاجعته وانهياره الى ان يصبح طريدا محطما، فقد كل شيء، لم يبق له الا ابنه الصغير وحسه الخلقي المعذب بالاثم والضياع.. انها رواية لايكاد يفلت من اطارها العريض شيء من احداث الموت والبلاد، الحب والحرب. 

يكتب شولوخوف: "في المجال الانساني، القراء بدأو يعقدون مقارنات بين الحرب والسلم والدون الهاديء.. لكنهم لايدرون ان تولستوي غير حياتي منذ ان كنت في الخامسة عشر من عمري حيث عثرت في احدى المكتبات نسخة قديمة من كتاب المعلم تولستوي"..

ومثلما يتذكر القراء ملحمة "الدون الهادئ" واعمال شولوخوف التي وضعته في مصاف كبار كتاب العالم، ستتذكر الثقافة العراقية باعتزاز شديد  المترجم والناقد والباحث الراحل كاظم سعد الدين بموسوعيته التي كانت تتنقل ما بين حقول المعرفة، في سعي طويل وشاق لا يكف عن الكتابة والترجمة طوال اكثر من نصف قرن، كانت فيه الاعمال التي قدمها تقدم نماذج متميزة للقيمة الادبية والفكرية، كان كاظم سغد الدين يتنفس الثقافة، ويراقب اتجاهاتها، ويشعر ان عليه ان يقدم للقارئ نماذج تنحاز الى قيم الانسانية، ولم يكن هناك اقرب اليه من اتجاه الواقعية الاشتراكية بتكوينه الطبقي واحلام كتابه، وكان يعزز في وعيه ضرورة الانتماء الى هذا الاتجاه، فهو يريد كما قال يوما في حوار صحفي ان يقدم " أجمل الكتب  للقارئ"، وقد كان هذا الاختيار يعني نموذج الادب الملتزم بقضايا الناس، ولا شك في ان تنوع ترجماته هو اول ما يلفت انتباه القارئ حيث الانتقال من ادب الاطفال الى التاريخ مرورا بالتراث الشعبي الذي كان ابرز اعلامه وليس انتهاء بكتابه الموسوعي " مشاهير أدباء العالم. ذكريات وحوارات " . في سجل كاظم سعد الدين عشرات الكتب، وفي خزانته التي تركها بعد موته الكثير من الاعمال التي تنتظر ان تمتد لها ايدي الناشرين، وكان من بينها هذا الكتاب " لقاءات مع شولوخوف " المثير للبهجة والمحفز للعقل والوجدان .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

قراءة نقدية تحليلية

إباء الصقور قصيدة لقصة الأمير علي الدحام العبيدي

يــكادُ الصقرُ أنْ يَفنَى سُعَاراً

ويــأنَفُ جِــيفَةً عِــندَ اَلْعُقَابِ

*

وَيَــبْقَى دَائِــمًا شَــهْمًا كَرِيمًا

يُــخَالِفُ كُــلَّ ذِي ظُفْرٍ وَنَابِ

*

يَــعَافُ مَــوَائِدَ اَلْأَنْــذَالِ زُهْدًا

إِذَامَــا اَلــنَّاسُ دَفَّــتْ كَالذُُّبَابِ

*

يَـــرُومُ اَلــطَّيِّبَاتِ وَلَا يُــبَالِي

إِذا اَلْــجَنَبَاتُ شُكَّتْ بِالْحِرَابِ

*

فَمَنْ يَرْضَعْ حَلِيبَ اَلْعِزِّ طِفْلاً

يَــعِشْ حُــرًّاعَزِيزًا لَا يُحَابِي

*

وَمَــنْ لِــلْأُسْدِ دَوْمًــا كَانَ نِدًّا

مُــحَالٌ يَرْتَجِي فَضْلَ اَلْكِلَابِ

*

دَعِ اَلْأَنْــذَالَ تَــأْكُلُ مِنْ حَرَامٍ

وَتَــرْفُلُ بِــالْحَرِيرِ مِنَ اَلثِّيَابِ

*

فَلَمْ تَخْفِ اَلثِّيَابُ ذُيُولَ خِزْيٍ

وَإِنْ أَخْــفَتْ ذُيُــولاً لِــلدَّوَابِ

*

فَــمَنْ بِالْحَيِّ يَعْرِفُ كُلَّ لِصِّ

وَعَــاهِــرَةٍ تَــخَــفَّتْ بِــالنِّقَابِ

*

سَــيَبْقَى اَلْخِزْيُ لِلْأَجْيَالِ إِرْثًا

وَلَوْ فَلَتَ الخَسِيسُ مِن اَلْعِقَابِ

***

عــبـد الناصرعـليوي الـعبيدي

قصيدة "إباء الصقور" للأمير علي الدحام العبيدي تجسد روح الفروسية والشهامة من خلال رمزية الصقر، الذي يُمثل القوة والكرامة في مواجهة التحديات.

1. الرمزية:

- الصقر يُرمز إلى العزة والكرامة، ويُقابله في النص العقاب، الذي يُمثل النقيض الأخر.

- الحليب والمواشي تعكس معاني النبل والصفاء، حيث يشير الشاعر إلى أن من ينشأ على العزة لن يرضى بالذل.

2. الأسلوب:

- القصيدة تتبع أسلوبًا شعريًا تقليديًا يعتمد على السجع، ما يعطي النص موسيقى خاصة تُعزز من قوته التعبيرية.

- الاستخدام المتكرر للطباق يعكس الصراع بين النبل والذل، مثلًا: "الطيبات" مقابل "موائد الأندال"، و"الأسد" مقابل "الكلاب".

3. المعاني:

- الشاعر يبرز قيمة الفخر والإباء التي لا تقبل المساومة، فهو يرى أن النبلاء يبتعدون عن كل ما يُدنس عزتهم.

- النص يُحاكي رفض القيم المنحطة، والإصرار على التمسك بالقيم الرفيعة حتى في ظل الصعوبات.

4. الرسالة:

- الشاعر يوجه دعوة للتمسك بالكرامة والرفض لكل ما يُلحق العار، مشيرًا إلى أن الخزي سيظل ملازمًا للذليل، حتى لو تزين بالحرير.

(الأسلوب الصوتي)

استخدام الحروف والأصوات المناسبة في الأبيات، كالتقارب الصوتي، يمكن أن يعزز الإيقاع.

مثلًا، استخدام حروف ذات وقع صوتي قوي أو ناعم بحسب طبيعة المشاعر التي يريد الشاعر إيصالها.

في قصيدة "إباء الصقور"، الإيقاع الموسيقي يتجلى من خلال الوزن الشعري المنتظم، القافية المتناسقة، والسجع الموجود في نهايات الأبيات، مما يضفي على النص تأثيرًا قويًا ومؤثرًا.

(المضامين الدراماتيكية من خلال التصوير الشعري والتوظيف البلاغي).

تشكل إطارًا دراميًا قويًا يعزز من تأثير القصيدة، ويجعلها تحمل رسالة عميقة حول الإباء والشموخ في مواجهة الظلم والخضوع، مما يجعل القارئ يشعر بعمق الصراع الداخلي الذي يعيشه الصقر كشخصية رمزية.

  1. الصراع بين العزة والذل:

التصوير: الصقر يرمز إلى العزة والشهامة، في حين أن العقاب وجيفة الأندال تمثل الذل والخضوع.

التوظيف: الصقر يرفض الاقتراب من الجيفة التي يتناولها العقاب، وهو تصوير بلاغي للصراع الداخلي بين قيم النبل والكرامة وبين الانحطاط والذل.

2. الإباء والشموخ:

التصوير: الصقر يبقى دائمًا شامخًا كريمًا، يخالف كل ذي ظفر وناب، مما يعكس الإباء والشموخ الذي لا ينحني أمام المغريات أو التحديات.

التوظيف: هذا الإصرار على الشموخ يعكس فلسفة الإنسان الحر الذي لا يساوم على كرامته ولا يخضع للضغوط.

3. الزهد والترف:

- التصوير: الصقر يعاف موائد الأندال رغم زخمها، في إشارة إلى رفض الترف الممزوج بالذل.

التوظيف: يُستخدم هذا التصوير لتوضيح قيمة الزهد في الحياة، حيث يفضل الصقر الكرامة على الرفاهية غير المشروعة، مما يعكس فلسفة الحياة الكريمة.

4. الفضيلة في مواجهة الرذيلة:

التصوير: الشاعر يجمع بين الصفات المتضادة مثل "الأسد" و"الكلاب"، و"الحلال" و"الحرام"، لتصوير الصراع الأزلي بين الفضيلة والرذيلة.

التوظيف: يستخدم الشاعر هذه المتضادات لتوضيح أن الفضيلة لا تخضع للرذيلة، حتى لو ارتدت الأخيرة ثيابًا زائفة كالحرير.

5. الخزي والعار:

التصوير: رغم أن الذليل قد ينجو من العقاب، إلا أن الخزي يبقى إرثًا للأجيال، مما يعكس أثر العار الذي لا يمحوه الزمن.

التوظيف: هنا يستخدم الشاعر هذا التصوير لتوضيح أن العار لا يمكن إخفاؤه بالمال أو السلطة، وأن العواقب الأخلاقية للأفعال لا تزول.

6. التمسك بالقيم الإنسانية:

التصوير: الصقر، الذي يرفض الذل ويختار الموت بعزة، يمثل الإنسان الذي يتمسك بالقيم الإنسانية العليا.

التوظيف: يبرز الشاعر من خلال هذا التصوير رسالة التمسك بالمبادئ والرفض التام لأي مساومة على الكرامة.

(التوليفات الصوتية وجوهر الدلالات والرموز)

1. الحروف القوية والجهرية:

الحروف مثل "ص"، "ر"، "ق"، و"ض" المستخدمة في كلمات مثل "الصقر"، "سُعارًا"، "فنَى"، "كرِيمًا" تعكس القوة والشموخ.

هذه الحروف تضفي على النص طابعًا حادًا وجادًا، مما يعكس دلالة القوة والشجاعة المرتبطة بالصقر كرمز للعزة والكرامة.

2. التكرار الصوتي:

التكرار في الكلمات ذات الحروف المتشابهة مثل "ذِي ظُفْرٍ" و"نَابِ"، "جَنَبَاتُ" و"حِرَابِ"، يُعزز الإيقاع الموسيقي ويوحد دلالات القوة والمواجهة.

هذا التكرار يعزز من صورة الصراع المستمر بين العزة والخضوع، كما يربط الرموز ببعضها البعض صوتيًا ومعنويًا.

3. التصوير الصوتي (الأونوماتوبيا):

الأصوات المستخدمة لتقليد أو إيحاء المعاني مثل "سُعارًا" و"دَفَّتْ" تساهم في نقل الصورة الحسية والتجربة الشعورية.

استخدام هذه الأصوات يُمكّن الشاعر من خلق تجربة حسية تعكس جوهر المعنى المتعلق بالشدة والرفض، حيث يحاكي الصوت المعنى ويعزز من قوة الرمز.

4.الانسجام الصوتي بين الكلمات:

الانسجام بين الكلمات مثل "ذِي ظُفْرٍ" و"نَابِ"، و"الطَّيِّبَاتِ" و"يُبَالِي" يُعزز من الترابط بين المعاني، ويقوي الرمز.

- هذا الانسجام الصوتي يُمكّن النص من أن يكون أكثر تماسكًا ودلالة على الوحدة بين المعاني المرتبطة بالكرامة والشرف.

5. السجع:

السجع في الكلمات مثل "ذِي ظُفْرٍ وَنَابِ" و"كَالذُّبَابِ" يُضيف بعدًا صوتيًا يرمز إلى التحدي المستمر والمواجهة.

هذا التكرار الصوتي الموسيقي يُبرز دلالة التحدي الذي لا ينتهي، ويجعل الرمز أكثر قوة ووضوحًا.

6. الصوتيات اللينة:

الحروف اللينة مثل "م" و"ن" في كلمات مثل "كرِيمًا"، "يُخالِفُ"، و"ظُفْرٍ" تضيف نغمة هادئة ولكن قوية، تعكس التعقل والرزانة.

هذه الحروف تُضفي عمقًا على الرموز، حيث يُصور الصقر ليس فقط كقوي، بل أيضًا ككائن نبيل وهادئ.

(التجنيس الأدبي للقصيدة)

القصيدة "إباء الصقور" تنتمي إلى الشعر الفخم أو الحماسي، وهو نوع من الشعر يتميز بتناول موضوعات الشجاعة، العزة، الكرامة، والبطولة.

ويمكن تصنيفه أيضًا ضمن الشعر الرمزي، حيث تعتمد القصيدة بشكل كبير على الرموز والاستعارات (مثل الصقر) للتعبير عن المفاهيم المعنوية، مثل العزة والكرامة، بطرق غير مباشرة ولكن قوية.

إضافة إلى ذلك، القصيدة تنتمي إلى

الشعر العمودي التقليدي حيث تعتمد على الوزن والقافية المتناسقين، وهو ما يُعزز من قيمتها البلاغية والإيقاعية، مما يجعلها تندرج بوضوح ضمن إطار الشعر العربي الكلاسيكي..

(بيان تفعيلاتها)

القصيدة مبنية على موسيقا البحر الوافر وتفعيلاته الأساسية

مفاعلتن مفاعلتن فعولن مع جواز الزحاف في مفاعلتن لتصب مفاعيلن

استخدام تفعيلاته الأساسية "مفاعلتن ومفاعيلن" بنمط منتظم في كل بيت. صياغتها مؤنقة ومعبرة تستحق التأمل والتاويل

***

بقلم الناقد: سلام السيد

 

تختلف اللغة الابداعية عن اللغة اليومية المباشرة بالعديد من الصفات والسمات، ففي حين يتمحور همُّ اللغة اليومية المتداولة بين الناس في عملية التوصيل، فإن اللغة الابداعية كما يرى دارسو الادب ونقاده، لا سيما الخبراء في علم الاسلوب، تتمحور في هموم أخرى مختلفة تمام الاختلاف، مع عدم تجاهل عملية التوصيل، ذلك أن الكتّاب والشعراء الجادين لا يتنازلون عن عملية نقاوة التوصيل اللغوي، ويصرّون في الآن ذاته على جماليات اللغة الابداعية، علمًا ان هذه اللغة تختلف الى حد بعيد عن لغة الكتابات النثرية، اقول هذا وانا افكر في اللغة المخادعة التي تحدثت عنها في هاجس سابق، فهناك فرق بين اللغة الابداعية في الشعر والقصة وبينها في لغة المقالة التي يُفترض ان تكون واضحة كونها ترمي الى توصيل معنى او اكثر تم تحديده مسبقًا من قبل كاتبه المرسِل له.

تتصف اللغة الابداعية، كما يظهر من اعمال ادبية راقية ومعروفة، بالعديد من الصفات، ذلك ان حمولتها تختلف عن حمولة اللغة اليومية المباشرة او حتى لغة الكتابة النثرية خاصة في المقالة الصحفية بالعديد من الامور، فيما يلي اشير إلى عدد من مُميزات اللغة الابداعية.

* الانزياح: تنزاح اللغة الادبية لا سيما في مجال الشعر، عن اللغة اليومية المباشرة، ضمن محاولتها رفد ذاتها بحمولة تتوزع على المتطلبات الادبية المتفق عليها بين الدارسين وهي: الفكرة، المشاعر الوجدانية، الخيال والاسلوب. لهذا تنحو هذه اللغة حينًا نحو الغموض وآخر نحو الوضوح، وتحاول في كلتا الحالتين أن تُحقق هدفها المقصود، وهو إثارة مشاعر قارئها بحيث تتماهى هذه المشاعر مع مشاعر صاحبها الشاعر، فتتداخل بذلك فيما بين المرسِل/ الشاعر او الكاتب وفيما بين المرسَل اليه/ القارئ، وقد تحدّث عن عملية التأثر هذه العديد من النقاد والباحثين الادبيين، اذكر منهم اثنين احدهما عربي والآخر أجنبي، أما العربي فهو حازم القرطاجني صاحب الكتاب الرائد في علم الشعر وصناعته واعني به كتاب "منهاج البلغاء وسراج الادباء". لمن يهمه الامر اقول إن طبعة محققة صدرت من هذا الكتاب الهام في نقدنا العربي القديم ضمن منشورات الغرب الاسلامي المُميزة، وان الباحث الدكتور المتخصص في دراسة ادبنا العربي القديم خاصة الشعر محمد محمد أبو موسى وضع كتابا رائعًا حول هذا الكتاب-منهاج البلغاء- قرّب فيه مفاهيمه وما تضمنه من آراء ورؤى متعمقة. حمل هذا الكتاب عنوان" تقريب منهاج البلغاء". اما الاجنبي فهو جون كوين صاحب الكتابين اللافتين عن "اللغة العليا" و"بناء لغة الشعر"، وقد تمت ترجمة هذين الكتابين إلى العربية، وبإمكان من يود التوسع في الموضوع قراءتهما.

* الايحاء: وواضح من هذا ان اللغة الابداعية، تختلف عن اللغة اليومية المتداولة، في كونها لغة ايحائية تعتمد التلميح والاشارة من بعيد او قريب، وسيلةً لتوصيل ما تود توصيله، وهنا تؤدي براعة الانسان/ الكاتب المبدع، دورًا رئيسيًا في تشكيل هذه اللغة، فهو يتحدث إلى قارئه بلغة تكتسب كل صفات اللغة، غير انها تختلف عنها جوهريًا، ففي حين أن اللغة المتداولة يوميًا، وحتى لغة المقالة الصحفية إلى حد بعيد، ترمي إلى توصيل معنى واحد محدد مسبقًا من قبل الكاتب، فان اللغة الايحائية ترمي إلى اكثر من معنى، يبرز من بين هذه المعاني، نقل الحالة التي يود الشاعر أو الكاتب السردي توصيلها إلى قارئه، لهذا فان بإمكاننا أن نقول إن ما وراء الكلمات أهم بكثير من الكلمات ذاتها في اللغة الايحائية، وينطبق على هذه اللغة ما اعتدنا على قوله في مثلنا السائر وهو " الحكي الك واسمعي يا جارة". من هكذا منطلق أعتقد أنه يتوجب علينا التعامل مع اللغة الابداعية ضمن اعتبار مختلف عن ذاك الذي نتعامل به مع اللغة اليومية المتداولة. من مواصفات هذه اللغة- الايحائية- انها تتحدث من داخل اللغة وليس من خارجها فهي لا تذكر ما تود ذكره بطرائق مباشرة، بقدر ما تذكره ضمن سياقاته الشعرية والقصصية ايضًا. ومن مواصفات هذه اللغة أيضًا تُجسّد الحالة التي يعيشها الراوي الشعري او القصصي وتروي ما ترمي إلى روايته من وجهة نظر هذا الراوي.. كما يتخيلها الكاتب مرهف الاحساس واسع التجربة وشديد الملاحظة. للتوسع في هذا الموضوع اقترح على من يريد أن يقرأ كتاب " عناصر القصة"، لمؤلفه روبرت شولز ترجمة محمد منقذ الهاشمي.

* الغائية: وتتمثل هذه في أن اللغة الابداعية تتحوّل في العمل الادبي الابداعي، من كونها اداة توصيل وحسب، الى لغة تتغيّا ذاتها، بمعنى أنها تضحي هدفًا جماليًا قائمًا بحد ذاته له استقلاليته وبُعده القائم بذاته، لكنه يستهدف اول ما يستهدف عملية التأثير عبر استعمال صاحبه الكاتب، قاصًا او شاعرًا، للجماليات اللغوية، وهو يفعل هذا كله، معتمدًا على التأثير اللغوي في قارئه. لهذا نلاحظ أن المبدعين الجُدد لا سيما في مجال كتابة القصة والرواية، يبتعدون عن الجماليات القديمة المتعارف عليها كلاسيكيًا وقديمًا، ويلجؤون إلى استعمال اللغة النابعة من أعماق الحالة الادبية المقصود توصيلها من مُرسِل إلى مُرسَل إليه. على هذا يمكننا أن نشير إلى أن المبدع الجديد والمُجدد يسمح لنفسه التلاعب في اللغة تقديمًا وتأخيرًا، وهو ما سبق وحدث في نماذج عديدة من شعرنا العربي ايضًا، ولعلّنا نشير هنا إلى مثال بارز مارسه الكثيرون من كُتّاب القصة المحدثين في مقدمتهم الكاتب العربي المصري اللامع يوسف ادريس، عندما قدموا مثلًا الفعل على الفاعل، على العكس مما تقول به الاسس اللغوية المتعارف او المتفق عليها.

صفوة الرأي، أن اللغة الابداعية تختلف عن اللغة المتداولة يوميًا بين الناس، وأنها تتصف بالعديد من المواصفات والصفات المختلفة، أهمها الانزياح، الايحاء والغائية. وعليه بإمكاننا القول إن الاختلاف بين هاتين اللغتين إنما يؤدي أمرين هامين جدًا احدهما في صميم اللغة الابداعية وهو تأثير المرسل/ الكاتب في المرسل إليه/ القارئ، والآخر أن اللغة الابداعية عادة ما تُجدد شباب اللغة كما قال الشاعر الفرنسي الهامّ جدًا بول فالري.

***

هاجس: ناجي ظاهر

بقلم: إميلي زاريفيتش

ترجمة : د. محمد عبد الحليم غنيم

***

لماذا يُعتبر أن يُؤكل المرء على يد تمساح يُدعى "كارل الصغير" هو في الواقع درس في مخاطر رأس المال الأجنبي.

يمتلك معظم الكتاب على الأقل تجربة واحدة غريبة وملغزة في محفظتهم الأدبية. إذا استعرضت تاريخ الأدب الروسي، ستجد "التمساح" (الاسم الروسي: "كروكوديل") لفيودور دوستويفسكي. نُشرت القصة في عام 1865 في مجلة "إيبوك"، وهي بعيدة عن روايات دوستويفسكي المميزة التي تتناول الجرائم وطغيان الدولة، وتُعتبر بلا شك أغرب قصة قصيرة له.

شخصية "التمساح" الرئيسية هي نقيض كابتن هوك من "بيتر بان"، إذ أن احتمال أن يُلتهم من قبل تمساح لا يقلب حياته رأساً على عقب، بل يُحسنها. إيفان ماتفيتش هو موظف مدني وإنسان عادي. تتغير حياته بشكل جذري في أحد الأيام عندما يزور مع زوجته، إيلينا إيفانوفنا، وصديقه، سيميون سيميونيتش، الذي يكون راوي القصة، متجر "باساج" في سانت بطرسبرغ. هناك تمساح حي، أحضره ألماني إلى روسيا، معروض في المتجر. إيفان، في محاولة لإظهار شجاعته، يستهزئ بالوحش إلى درجة أنه يواجه العواقب: يُبتلع حياً.

داخل بطن الوحش (الذي يُطلق عليه مالكوه اسم "كارل الصغير")، يجد إيفان بالفعل محيطه مريحاً وملائماً، ويقرر أن يستقر فيه. ترغب إيلينا إيفانوفنا، الغاضبة والمذعورة، في إخراجه بالقوة، لكن مالك التمساح يرفض إيذاء المخلوق. ولا يهتم إيفان ماتفيتش بالعودة إلى المجتمع كأحد أفراده العاديين بدخل ضئيل. كونه مقيمًا داخل التمساح، يمتلك هوية جديدة فريدة وفرصة لجني ثروة.

إن اختفاء شخصية ما في أحشاء حيوان ليس من الموضوعات غير المعتادة في الأدب الكلاسيكي. فقد كان لابد من إخراج شخصية ذات الرداء الأحمر من جسد الذئب الشرير الكبير. وكان لابد أن يهرب بينوكيو وخالقه جيبيتو من داخل وحش بحري بطريقة ما بعد أن ابتلعهما المحيط. ولكن ما يجعل قصة دوستويفسكي غريبة للغاية هو عدم وجود أي إلحاح في الهروب من هذا المصير المروع كجزء من رحلة البطل. والواقع أن الشخصية تحب هذا الوضع وتريد البقاء. ولكن لماذا؟

تعتبر هذه القصة الساخرة، بحسب النقاد، أنها تعبر عن السخرية. ليس إيفان ماتفيتش والتمساح مجرد شخص وملاذه، بل هما يهدفان إلى نقد العلاقات المحلية والدولية من جميع الجوانب.

"يجب على إيفان ماتفيتش، باعتباره الابن الحقيقي للوطن، أن يفرح ويفخر بأنه هو نفسه ضاعف قيمة تمساح أجنبي، وربما ضاعفها ثلاث مرات."

تقدم القصة "هجاءً حاداً لمعاصري المؤلف واستعارة للعلاقة الغامضة بين روسيا وأوروبا"، كما يكتب الروائي تشارلز هولديفير. ويثير التمساح الألماني من أصول أفريقية (على الأرجح) الذي يلتهم رجلاً روسياً في سانت بطرسبرغ نقاشاً ليس حول الحياة والموت، بل حول توغلات رأس المال الأجنبي في روسيا، وتهديد "التقدم"، والمبادئ الاقتصادية.

يوافق R. A. Peace، مؤلف كتاب "المراجعة السلافية وأوروبا الشرقية"، على أن إيفان ماتفيتش والتمساح يمثلان نوعًا من الاتحاد المشوه. كتب دوستويفسكي في الوقت الذي كانت فيه روسيا.

تسعى روسيا في ذلك الوقت لتحقيق "علاقات اقتصادية جديدة"... وهي عبارة مشحونة تتكرر طوال القصة، مثل "البرينتسيب الاقتصادي" [القاعدة الاقتصادية]. الراوي نفسه هو مدافع عن "البرينتسيب الاقتصادي"، وكان هذا موضوعًا مهمًا في الصحافة في ذلك الوقت، كما يتضح عندما يحاول [الراوي، سيميون سيميونيتش] توضيح الأمر لزوجة إيفان ماتفيتش المذعورة.

يوضح سيميون سيميونيتش أن هناك فوائد غير متوقعة لجذب رأس المال الأجنبي إلى وطننا، "كما قرأت عن ذلك في صباح ذلك اليوم في صحيفة بيترسبورجسكي إزفستيا وفي فولوس." (دستويفسكي قد قام بتغيير أسماء الصحف الحقيقية بشكل خفيف، وهي سانكت-بطرسبرغسكي فييدوموستي [أخبار سانت بطرسبرج] و جولوس [الصوت].)

تتفوق قيمة المبادئ الاقتصادية التي تحكم استهلاك الحيوانات الخارجية على الأضرار المحتملة التي قد تسببها أجهزة هضم تلك الحيوانات.

يكتب بيس: "على الرغم من أن موظفًا روسيًا جيدًا قد ابتلعه تمساح أجنبي، يبدو أن هناك فائدة متبادلة، حتى من وجهة نظر الشخص الذي ابتلعه التمساح، حيث يدعي إيفان ماتفيتش أن 'تغذية التمساح بنفسي، أستلم بالمقابل الغذاء منه؛ ومن ثم فإننا نغذي بعضنا البعض بشكل متبادل.'"

وعندما يبلغ سيميوني سيميونيش الحدث إلى السلطات، يطمئنه المسؤول "التابع" تيموفي سيميونيش بأن كل شيء على ما يرام. يوضح تيموفي سيميونيش أن روسيا تحتاج إلى "إنشاء صناعة"،

"إننا لابد وأن نخلق رأس المال؛ وهذا يعني أننا لابد وأن نخلق طبقة متوسطة، أو ما يسمى بالبرجوازية، وبما أننا لا نملك رأس مال، فلابد وأن نجتذبها من الخارج. [...] إن إيفان ماتفيتش، باعتباره ابناً حقيقياً للوطن، لابد وأن يفرح ويفخر بأنه هو نفسه قد ضاعف قيمة تمساح أجنبي، وربما ضاعفها ثلاث مرات. وهذا ضروري لجذب [الآخرين]. فإذا نجح أحدهم، فسوف يأتي آخر ومعه تمساح، وسوف يأتي ثالث بتمساحين ثم ثلاثة في المرة الواحدة، وسوف يتشكل رأس المال حولهم. وعندئذ سوف تنشأ البرجوازية. ولابد وأن نشجع هذا".

يكتب بيس أن من الواضح أن التمساح هو "رمز للطبيعة الجشعة للأعمال الأجنبية على الأراضي الروسية". كانت الخصخصة في الهواء، واعتقد دوستويفسكي أنها تشكل خطراً. من ناحية أخرى، كان إيفان ماتفيتش راضياً بالبقاء داخل بطن الوحش، سعيداً بأن يكون "مثالاً على العظمة والاستسلام للقدر!"

ربما لا تشترك الشخصيات في معظم القصص الخيالية في نفس المشاعر. ولكن من ناحية أخرى، لم يكتب دوستويفسكي هذه القصص.

(تمت)

***

.......................

الكاتبة: إميلي زاريفيتش/ Emily Zarevich: إميلي آر زاريفيتش هي معلمة لغة إنجليزية وكاتبة من مدينة بيرلينجتون، أونتاريو، كندا. نُشرت أعمالها في العديد من المجلات والمواقع الإلكترونية، كما تُعرض أعمالها بانتظام في مجلات Inspire the Mind وThe Archive وEarly Bird Books وHistory Magazine وSmithsonian Magazine وThe Queen’s Quarterly وغيرها.

 

حينما تطالعنا بعض الآراء حول الأعمال الأدبية، خاصة تلك الصادرة بالبلدان التي تفتقد إلى المؤسسات الديمقراطية، وهي تبتغي أن يكون الأدب بكل أجناسه، معبرا عن هموم الشعوب، لدرجة انه قد يصبح عبارة عن بيانات تنديدية او مخطوطات لمشاريع سياسية واجتماعية، تموسقها القافية اذا كانت منظومة الخ...، فهذا يدل أن هناك غياب مهول للمؤسسات السياسية وعلى رأسها الأحزاب، وهو غياب الفعل وليس غياب الجمهرة. لأنها هي التي من المفروض أن تؤدي هذا الدور. وفي ظل هذا الغياب، ونتيجة لهذه الآراء التي تكون في الغالب تحت ضغط إديولوجي، او فقط رغبة في لمس صوت يعبر بصدق، يصبح الأدب مؤسسة سياسية بامتياز. وهكذا قد يغيب مفهوم "الأدبية" littérarité، حيث من المفروض أن توحي النصوص الأدبية بالموضوع بفنية ممتعة ، ولا تسميه حتى لا تسقط في المباشر والتقريرية. فالأدبية تتجلى في هذا الإيحاء.

لكن حينما يحتفظ الأدب بأدبيته وهو يعبر عن هموم الشعوب، قد يتعرض للانتقاد بدعوى أنه غامض ولا يفي بالغرض. وهكذا تطرح إشكالية التواصل الأدبي. بمعنى هل يجب على الأدب أن يحافظ على التواصل العادي كما يحافظ عليه أي خطاب يهدف إلى توصيل الفكرة؟ بطبيعة الحال إذا اخذ هذا المنحى، سوف يسقط في المباشر كما سبق الذكر. إذن كيف يمكن تحقيق هذا التواصل الأدبي؟ هل يتحقق بالرضوخ إلى رغبة هؤلاء المنتقدين على حساب عنصر الأدبية؟ أم التمسك بجوهر الأدبية دون أي اعتبار لهذه الآراء ؟

قد يقول قائل بأن "الأدبية" ليست مفهوما جامدا. بل لنا "أدبيات". فكما هو الشأن بالنسبة للموسيقى حيث هناك موسيقى شعبية وأخرى بدوية وأخرى عصرية الخ.. فلِمَ لا نتحدث عن أدبية شعبية وأخرى بدوية الخ... فالإنسان بطبعه يحب ما يمتعه، لكن ما يمتع مجموعة ما قد لا يمتع مجموعات أخرى... لهذا أيضا نجد في الفنون التشكيلية من يميل إلى الفن التشخيصي وآخر يجد ضالته في الفن التجريدي...

الأذواق إذن تختلف، ومن خلالها يتم الحديث عن عنصر الأدبية.

إلا أن الحديث هنا، رغم هذا التعدد في الأذواق، لا يخرج عن الإبداع الأدبي، أي الكتابة الموسومة بنوع من الخيال، وليست الكتابة التقريرية المباشرة...

***

محمد العرجوني

 

فلك حصرية: صُحفيّة الجذر العملي والمعرفي، وكاتبة مقال أدبي، امتلكت ناصية الأدب من خلال عملها في اتحاد الكتاب العرب كرئيسة تحرير لمجلة أدبيّة هي "الأسبوع الأدبي"، أكسبها العمل بها خبرة ومعرفة بالأدب وقضاياه الحلوة والمرة معاً، لتنتقل فيما بعد إلى كتابة الرواية.

في مضموم الرواية:

في روايتها (بطعم التوت البري)، تضعنا الروائيّة "فلك حصرية" أمام أحداث واقعيّة في مضمونها، وربما في بعض شخصياتها من خلال الوثائق المرفقة، مع تأكيدنا بأن بقية الشخصيات المتخيّلة في الرواية لا تخرج في الحقيقة عن الواقع الذي جرت فيه الأحداث، على اعتبار أن مجريات الأحداث التي قامت "الروائيّة" بسردها، هي أحداث واقعيّة لا مست كل أفراد المجتمع السوري كبارهم وصغارهم.. نسائهم ورجالهم، ولم تترك أحداً خارج دائرتها غير تجار الوطن والفاسدين الذين وجدوا في مجريات أحداث قهر الشعب السوري وظلمه وجوعه وجريان دمه المجاني وهجرته وتشرده، بيئة لتحقيق مصالحهم الشخصيّة على كافة المستويات.

تنطلق أحداث الرواية ومعظم شخصياتها من دمشق العاصمة، ودمشق هنا في جوهر ما جرى فيها من أحداث إرهابيّة، ابتدأت عام (2011وامتدت إلى اليوم 2024)، تمثل في الحقيقة الأراضي السورية كلها مجازاً، فلا فرق في هذه المعاناة بين أهالي دمشق وأيّة بقعة من سورية، فالكل تحولت حياتهم إلى جحيم وقهر وجوع ومعاناة في تدبير شؤون حياتهم اليوميّة ولقمة عيشهم، والأهم سيلان الدم المجاني، وفقدان للأمان وعدم الاستقرار.

تُقسم الروائيّة رواياتها من حيث المضمون إلى محطات، ولكل محطة شخصيتها أو شخصياتها الذين تجمعهم مأساة واحدة هي تكالب كل قوى الشر في الداخل والخارج عليهم، وقد حولوا حياتهم إلى جحيم حقيقي، فقدوا فيه الأمن والاستقرار، ففي أي مكان يوجدون فيه تلاحقهم قذائف الموت الهمجية التي لا تفرق بين صغير وكبير وبريء وشرير، فالكل بنظر من يُلقي القذائف مدان سياسيّاً أو دينيّاً أو أخلاقيّاَ.

مع أول محطة في الرواية، تؤكد الروائيّة توحدها هي مع دمشق بقولها متسائلة:

من أنت؟.

من أنا؟؟.146 falak hasrya

ومع هذا التوحد الصوفي للروائيّة، يأتي حبها بل عشقها لدمشق بكل الحالات التي تعيشها مدينة الياسمين من موت وحياة .. حقيقة أم سراباً.. جسداً أم روحاً.. ضحكاً كانت أم دمعاً.. لتعبر عن هذا العشق اللامتناهي لها بقولها: (توت سياح كنت أم وهم ظل لكأس مهشمة، فأنا السجين بأهدابك القتيل بفتنة تفاصيلك، فضميني.. ضميني.. ضميني واسكبي التاريخ مداماً في الروح، لعل طعم توتك ينسحب من حلقي فاستيقظ من هيستريا الضياع ...) ص5-6. ثم تعود الروائيّة لتعبر عن كل ذاك التآمر الذي تعرضت له دمشق من قبل الأشقاء العرب مستشهدة بقصيدة للشاعر الدمشقي "نزار قباني" وهي بعنوان "سامحونا" التي يصف فيها حالة العرب وما وصلوا إليه من تردي وتشرد، والتي مطلعها: (إن تجمعنا كأغنام على ظهر سفينة... وتشردنا على كل المحيطات سنيناً وسنينا... لم نجد ما بين تجار العرب تاجراً يقبل أن يعلفنا أو يشترينا... سامحونا سامحونا إن رفضنا كل شيء واقتلعنا كل شيء ورمينا لكم أسماءنا ... فالبوادي رفضتنا .. والموانئ رفضتنا والمطارات التي تستقبل الطير صباحاً ومساءً ... رفضتنا... - ليقول أخيراً- سامحونا إن كفرنا.). ص7.

هنا مع كفرنا في عصر ليس له تسمية، تبدأ أحداث رواية الأديبة "فلك حصريًّة" (بطعم التوت البري) بكل حموضته.

في محطتها الثانية غير المعنونة إلا بعبارة للأديبة والروائيّة الكبيرة " غادة السمان" الدمشقيّة المنبت والهوى التي عاشت الغربة تقول: (أي هرب ما دامت الأشياء تسكننا، وما دمنا حين نرحل هرباً منها، نجد أنفسنا وحيدين معها وجهاً لوجه.). ص8

لقد اشتغلت الروائيّة هنا على شخصيّة تعشق الشام، ولكن ظروف القهر التي ألمت بها منذ عام (2011)، جعلتها تعيش حالة من الصراع النفسي العميق والتردد بين البقاء في الشام لعشقها لها، دمشق التي تعبأت برائحة وعطر الياسمين الذي تعربش على أصابعها، وعجزت كل رياح الغدر على اقتلاعها من جذور الأرض، رغم أن روحها تركتها الأحداث (المصيبة) مشلوحة على أسطحة مساءتها تغازل لآلئ مآذن الأموي، وبين مغارتها للخلاص من هول فجيعتها التي تعيشها.

قامت الروائيّة بوصف دمشق وتاريخها العريق المشبع بالفرح والامجاد، وجمال طبيعتها في غوطتها وعذوبة مياهها وسر خلود نهر بردى فيها... دمشق التي كانت قبلة الدينا ومجد التاريخ": (دمشق هل الخلد الذي وعدوا به... إلاك بين شوادن وشوادي ... قالوا تحب الشام ؟، قلت جوانحي مقصوصة فيها، وقلت فوادي) ص11. وهي التي قال في أحد مناطقها الجميلة وهي "دمر" الشاعر الكبير" بشارة الخوري" في قصيدته: "خيال من دمر":

(أيها الدوح، دوح دمر إني لست أنسى تلك الليالي اليتامى.

سألتني وكفها فوق قلبي عمرك الله هل تحب الشآم؟.

قلت حباً زق الحمامة للفرخ فلم لا تكون ذاك الحماما..).ص.11.

(دمشق حملتها أشواق عشاق محفوفين ببريق الغموض والمجهول والأسرار فيما ينفث الصوت سحرا يلف اليقظة ويدوخ العقل، ويسكر الرأس ويخطف الكروان الفيروزي سنابل الوجدان والملل:

شآم أرض الشهامات التي اصطبغت

بعندي تمته الشمس منسكب) ص12.

صراع مرير يتداخل في نفسيّة هذه الشخصيّة العاشقة  لدمشق، لتقرر أخيرا الهجرة بعد أن سدّت أمامها كل أبواب الأمان والاستقرار، وأصبح الموت يلاحق الجميع بقذائف حملت التخلف والكراهية والحقد على الحياة. ولكن الهجرة أو الهزيمة الروحيّة والجسديّة ليست في المحصلة أفضل من البقاء. فها هي الطرق المؤدية إلي الهجرة تحيط بها المخاطر من كل حدب وصوب، ويأتي في مقدمتها مراكب أو سفن الهروب التي أكل الدهر عليها وشرب، وهي تدار لنقل المهاجرين عبر البحر بأيادي تجار لا يهمهم إلا جمع المال من الذين قسى عليهم الدهر كل قساوة حتى اضطروا إلى الاستجارة من الرمضاء بالنار.

هذا هو حال قوارب الهروب إلى المجهول كما تصفها الروائية : (قوارب متداعية كأنها منبعثة من مقبرة الخردة.. أركانها محطمة حتى حركة إصلاحها وبعث الحياة والحركة في أحشائها وأصالها المرتدة إلى زمن ماضٍ باتت معها عملية الإيقاظ  وبعت الحياة والرشاقة فيها مستحيلة، فهي تمثل في أوصالها ومنظرها ما يؤكد شيخوختها، وبالتالي خروجها من الخدمة منذ أمد طويل. أما مآل هذه السفن المتهالكة التي أودى بعضها بحياة مئات السورين في عرض البحر طعما لأسماك القرش، فهو شبيه بنهاية الباخرة  (تايتنك) عام  (1912)، التي راح نتيجة تحطمها موت (1500) راكبا. ص23.

أما في محطة الرواية الثالثة، (على ضفاف الحزن يذبح الأمل)... قصة حب أشبه بالحب العذري بين "فهر وليلى". فهر طالب الطب في جامعة تشرين، وليلى طالبة الأدب العربي في الجامعة ذاتها، أحبا بعضهما رغم اختلاف الاختصاص لكل منهما، إلا أن ما يجمعهما أقرب بكثير... فالأمزجة وطريقة التفكير وأسلوبيّة التقويم للأشياء والأحوال والظواهر، كانت كلها تعمل على ربط الخيوط الخفيّة لتخلق الوصل بين روحين لم يمانع الأهل من التحامهما، فكانت الموافقة على الخطوبة كاستعداد لتحقيق الزواج.

لم تكد الفرحة تتبرعم في القلوب وتفتح باب السعادة في تحقيق الحلم ، حتى كان بدء الزحف الهمجي لقوى التخلف الذين عمت بصرهم وبصيرتهم أيديولوجيا التكفير من جهة، ومصالح القوى الخارجيّة ودولارتها من جهة ثانية، هذا الزحف الفاتك المتوحش على سورية، وكأن قيامة القتل قد قامت لتحصد الأرواح والحجر والشجر وكل ما يمت إلى حياة السوريين بصلة... كان اختراق صاروخ "غراد" لإحدى القوى الهمجيّة المتوحشة على حي آمن لم يسلم من نتائجه الكارثية الكثير من سكان الحي الشعبي الذي يسكنه "فهر" أيضا، الأمر الذي جعل "فهر" وأهله يفكرون بترك المدينة كلها والهجرة إلى دمشق التي لم تكن هي الأخرى بمنأى عما تعيشه المدن السوريّة كافة من انفجارات وألغام تقطف الأرواح دون رحمة وسابق إنذار. وهذا ما جعله وأهله يفكرون بالرحيل إلى أوربا، فاختار "فهر" فرنسا بعد أن أقنع حبيبته أن تلتحق مع أهله في السفر إلى "أزمير" ومنها يلتحقون جميعاً به. غير أن "ليلى" كانت أكثر رغبة في تسريع الالتحاق بخطيبها، وبعد جهد وجدت المهرب والأوراق التي تسمح لها بالسفر.. هي زوارق الموت المتعبة المتهالكة نفسها من سينقلها وينقل بشر من لحم ودم، أطفال ونساء وشباب وصبايا وأمهات ورجال إلى شواطئ أوربا، ولكن في هذه الرحلة لم تستطع قوارب الموت أن تقاوم هيجان عواصف البحر وعنفوانه، فكانت الكارثة الكبرى لكل من كان في القارب، بعد أن فككت العواصف حديده وخشبه، وتركت لسمك القرش أجساداً بدون أكفان، أو أسماء أو طقوس وداع.

المحطة الرابعة من الرواية: (كثير من الموسيقى – وقليل من الخبز). حكاية شباب امتلكتهم موسيقى الروك، أبطالها " ربيع صبري و أنس المغربي)... "ربيع صبري" الذي كان يحلم بتشكل فرقة موسيقيّة في الجامعة اتفق مع صديقه " أنس المغربي" أن يسمياها "خبز دولة" هذا الخبز الذي سأل " أنس " صديقه "ربيع" : ماذا تقصد بـ "خبز دولة"؟.

(- قصدك الخبز تبع الأفران الحكوميّة يلي متوفر دائما ولكل طبقات المجتمع وبسعر رخيص.

- ويمثل الأمان والاستقرار والعيش الكريم بـ / دولة كريمة ومستقرة وذات سيادة ... فالخبز أكثر من غذاء.

قوم نعزف شي شغلة.

قوم نلغي فرق العملة.

قوم نجمع كل ها/لخبز.

قوم نعمل دولة.) ص57.

لم يكن الخبز وحده ومآسيه من يقهر "ربيع وأنس"، بل تلك القذيفة التي فتت جسد ربيع إلى شقف صغيرة غيبت كل معالمها، للتترك " أنس" وحيدا كاد أن يفقد كل شيء بفقدان صديق العمر. فقرر أخيراً أن يهاجر إلى لبنان ويترك بيته وأهله وحيه وأحبابه ودمشق التي أحبها وأحبته، وهو يقول في قرارة نفسه: (لم يكن هناك أي وظيفة لأشخاص مثلي، وأنا لست الشخص الذي يستطيع حمل السلاح.). ص59... فكانت بيروت أولى المحطات التي استقبلت "أنس" العازف وقائد فرقة موسيقى الروك السورية " خبز دولة"، لينجح في إقامة عدّة حفلات خلال عامين من وصوله، إلا أن فرص العمل شحت في لبنان، الأمر الذي أوقعه وأعضاء فرقته بضائقة ذات اليد... فقد الأمل من أن تكون لبنان خشبة خلاصه فقرر الرحيل بعد أن باع معظم أدوات الفرقة الموسيقية، وعلى جناح السرعة كان في تركيا حيث سبقه إليها أعضاء فرقته ( محمد باز - حكمت قسار – بشار درويش.)، ومنها سافروا عبر المتوسط إلى أوربا...المحطة الأولى كانت "كرواتيا"، التي أقاموا فبها أول حفلاتهم الموسيقيّة في مخيم اللاجئين. وبعد انتشار أخبار حفلهم الناجح هذا، أقاموا حفلهم الثاني في أكبر المسارح في زغرب، وبعدها انفتحت أبواب المستقبل أمام الفرقة، ومع الزمن بدأت الفرقة تتلقى الكثير من الدعوات والعروض في ألمانيا وغيرها من مدن أوربا. وفي كل يوم تضيف الفرقة لرصيدها رقماً بعد رقم وأغنية بعد أخرى، وراحوا يدخلون إلى الأغاني كلمات عربيّة في حفلاتهم، ونجحت في جذب كل الفئات العمريّة.. هكذا مضت رحلة اغتراب أعضاء الفرقة التي عانت كل أنواع القهر في رحلة المتوسط ، ليأتي ابداعهم الموسيقي كي يعتقهم من كل تلك العذابات، ويدفعهم إلى عوالم حفلات ومهرجانات في جميع أنحاء أوربا. ولسان حالهم يقول: (ها نحن نقدم صورة حضاريّة عن بلد ظلم من قبل ومن بعد، وشعب تاه أفراده في الشتات، ومات تحت الأنقاض، ودفن في البحر بلا شواهد وأسماء، وربما بات وجبة طعام لأسماك القرش أو تماسيح متوحشة لا تعرف الاكتفاء ولا يصل إليها الإحساس .. مثلما قتل وذبح متخلفين يحللون القتل تحت شعار " الله أكبر وتكبير"... ويحللون الاغتصاب تحت شريعة "نكاح الجهاد".. ويقطعون الرؤوس بتأويل آيات واعتماد أحاديث وفتاوى أوجدها من يكره الاختلاف، وهم بذلك يعارضون دين المحبة والرحمة... يقول أنس: لسنا مجرمين .. نحن أناس عاديون.).ص 75- 76.

المحطة الخامسة في الرواية: (في القلب غصة)

أسرة دمشقيّة حاصرها القهر والجوع والقتل المجاني، فقررت ترك دمشق والذهاب إلى لبنان الشقيق، ولكن ظلم ذوي القربى كان أشد مرارةً على "أبي السعد وزوجته لجين وابنتاه حلا وربا وطفله الصغير ذو الخمس سنوات سعد". .. لبنان التي مرت بحرب تموز استقبل أهلها المهجرين السوريون بكل رحابة صدر وفتحوا للمهجرين منهم حتى بيوتهم، ها هم اليوم في أزمة سوريّة الدامية يحاصرون ويذلون السورين الذين لجأوا إلى لبنان هرباً من الموت  ويذيقوهم الذل والهوان...

(ما يتعرض له السوريون حرام ... حرام والله.

جريمة يا بشر ... يا عرب.. يا أبناء جلدتنا.).ص80.

ظلم ذوي القرى جعل أبا سعد يفكر في الهرب إلى الغرب، فكانت وجهته بعد أن اتفق مع المهربين هي مصر – الاسكندرية، ليدخل في رحلة عذاب مع جشع المهربين الذين أمنوا لهم إقامة رديئة في مواصفاتها حتى يأتي وقت تهريبهم ‘ إلى ايطاليا... القوارب التي ستنقلهم هي ذاتها قوارب الموت بما حازت عليه من مواصفات رديئة في بنائها أو هيكلها المتأكل.

تمت انطلاقة الرحلة بكل معاناتها التي ولدتها عواصف البحر وأمواجه العاتية المتلاطمة، إضافة لتعطل القارب وتركهم في عرض البحر ينهشهم الجوع والخوف والمرض، إلى أن أنقذتهم طوافة حرس الحدود البحريّة الايطاليّة، التي اقتادتهم إلى " سركوزة"، وهناك بدأت رحلة العذاب والإهانة للمهاجرين في الكامب، هذا الكامب الذي تحول إلى معتقل مورست فيه كل أساليب القهر والإذلال، فحتى الكلاب البوليسيّة سمح لها بممارسة دورها في نهش أجساد المهاجرين. .. بضعة أيام وهم على هذه الحال حتى سمح لهم بالخروج من الكامب والتوجه إلى الدولة الأوربيّة التي يرغب كل منها الذهاب ‘ليها بعد أن قدموا كل المعلومات المتعلقة بشخصياتهن للبوليس الايطالي.

كانت وجهة أبا سعد وأسرته "السويد"، حيث أقلتهم حافة مع عشرين مهاجر آخر كانت لهم وجهات أخرى غير السويد. أخيرا أبدت السويد  ترحيبها بأبي "سعد" وعائلته وفتحت لهم مدينة "مالمو" ذراعيها وقلبها لتطوي صفحات رحلة مضنية ستمسي في عداد الزمن مع الذكريات التي لا تخلوا من المرارة والحلاوة والحقيقة والخيال. (كانت رحلة حلم.. تجردت من كل ما علق فيها من كوابيس وعذابات ... رحلة ألق... بكل ما كان يحف بها ويلاحقها من ألم ودموع وجوع وخوف وحرمان وتشرد.. مسيرة موت لروح فارقت دمشق ولم تفارقها ..). ص151.

المحطة السادسة: (عصافير... تنقر الذاكرة ...).

لم يكن رمي القذائف يرحم أحدا.. فالكل مدان أمامها ويجب أن يموت بنظر ممارسي الإرهاب ومدعي الثورة باسم الإنسان وحقوق الإنسان الضائعة في سورية.. قذائف أخرى طالت ألسنة لهبها وقوة تفجيرها مقصف جامعة البرامكة، في تلك الاستراحة باتت القبور مشرعة والأجساد متطايرة، وفناجين القهوة تطايرت مع أيدي شاربيها ليمتزج الدم مع البن. كان لماجد الحظ الأوفر من بين العديد من زملائه الطلبة الذين تواجدوا في استراحة التداول في شؤون المعرفة والعلم والمستقبل، لقد أصيبت إحدى قدميه بشظيّة، بينما فارق الحياة زميله "علي" الذي كان يشاركه الطاولة بعد أن حطمت إحدى شظايا القذائف رأسه. وكذلك كان مصير صديقه "مازن" توأم الروح.

ماجد ممدد على سرير في "مشفى المجتهد" ما بين الموت والحياة في العناية المشدّدة...

- (حمداً لله على سلامتك.

- الحمد لله وما شاء قدر وفعل.

- اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف به.

لو طلعتم على الغيب لرضيتم بالواقع). ص159،

بهذه العقليّة الايمانيّة الجبريّة، رضي واستكان والد ماجد وعائلته، وهم الذين لم يرحمهم الارهاب أيضاً... صاروخ من صواريخ الغدر يتوجه إلي بيتهم الجميل في دمر فيحيله إلى ركام، ليقرر بعد ذلك أبا ماجد الهجرة دون تردد... باع محله وسيارته واستقرض مبلغاً من شقيقه... كانت وجهة العائلة تركيا. ومن هناك قرر "أبو ماجد" أن يهاجر ولديه "ماجد ومحمود" إلى أوربا لتكملة دراساتهما هناك. قسم بينهما مبلغا من المال يكفيهما في رحلة الهروب التي لا تُعرف مخاطرها ونتائجها.... غادر الأخوان إلى الجزائر بالطائرة، ومن هناك التقيا بالمهربين بعد جهد كبير، لنقلهما مع عدد آخر من راغبي الهجرة إلى مدينة "زوارة" في ليبيا... ومنها ابتدأت رحلة الموت والعذاب والذل والخوف وجشع المهربين وعواصف البحر ورعبه، بقارب مطاطي احتشد في جوفه المهاجرون كعلب السردين.. حالفهم الحظ في الوصول إلى شواطئ ايطاليا، وفي مركز الإيواء التقى "ماجد ومحمود" بأصدقاء لهم نالهم شقاء دمشق مثلهما.. يتابع الجميع رحلة الهجرة منهم إلى ألمانيا، ومنهم إلى اليونان وإلى إيطاليا... وقبل انطلاقة الحافلة يصيح أحد الشباب مخاطبا صديقه بلال:

(- انظر يا بلال... نجمة براقة رائعة.. ما أروعها... إنها تقترب... أجل تقترب نحونا...فضحك بلال وتأمله باستغراب:

- أية نجمة تلك يا سهيل ؟. إنها تكبر) ص177.

أما ما تبقى من محطات في الرواية فهي لا تخرج عن السياق العام لمعاناة المهاجرين التي جئنا عليها في المحطات الأولى بشكل خاص ولكل الموطنين بشكل عام، فهذه المحطة السابعة التي تبين لنا حالة الشاب "عاصم" خريج كلية الاقتصاد من جامعة دمشق، الذي لم يستطع الحصول على وظيفة فيها فأمن له والده عملاً بعقد مدته عشرة سنوات في الإمارات.. وعند انتهاء العقد فُرض عليه أن يغادر دبي بعد أن عجز في تأمين عمل بديل له هناك. فالعودة إلى سورية لم تعد ممكنة فهناك قذائف الموت وهناك المعاناة في تأمين متطلبات الحياة الضروريّة... وهناك الخدمة العسكريّة التي لا يعرف سنين بقائه فيها.. فقرر الهجرة إلى تركيا ومنها إلى أوربا في رحلة العذاب ذاتها،

في المحطة الثامنة هي قصص مهاجرين فقدوا الأمل في كل شيء فقرروا  الرحيل بحثاً عن الأمل في بلاد الغربة، وهم يعلمون بأن الأمل الحقيقي في وطنهم حتى لو حققوه في الغرب إلا أنه يظل ناقصاً ومشوباً بالشوق والحنين إلى الوطن ... (ريناد) شابة مغربيّة أو غجرية جميلة تمارس مهنة ضرب الفأل والعرافة.. استغلت ضياع العقول والأجساد والأرواح عند المهاجرين في مركز التجمع فراحت تمارس مهنتها التي وجد فيها المسافرون سلوى لمعرفة ما يستقبلهم من أيام.. (كذب المنجمون ولو صدقوا).. ولكنه العجز هو الذي يدفع مثل هؤلاء المهاجرين البؤساء إلى " ريناد".

أما في المحطة الثامنة: قصة الشاب عمران الذي ضاقت به سبل الحياة، وملأ الخوف والاحساس بالموت حياته والذي يمكن أن يناله في أية لحظة.. رحلة جديدة مع بعض المهاجرين عن طريق الطائرة من مطار حميميم .. هي المعاناة ذاتها، ولكن هذه المرة في أرض الوطن أولاً.. تبدأ بتأخر سفر الطائرة عدّة أيام بدون سبب .. وارتفاع في الأجر، وعند الوصول إلى القامشلي تبدأ رحلة المهربين من القامشلي إلى تركيا التي يشارك بها ويسهل أمرها بعض الأكراد ومنهم في مواقع المسؤوليّة.. ابتزاز مالي.. ومتاجرة بالبشر... وخيانة للوطن.. يصل عمران وصحبه بعد معاناة قاسية إلى تركيا لتبدأ رحلة العذاب الأخرى إلى أوربا ... تجار آخرون من المهربين وقوارب مطاطيّة.. وسفن متهالكة.. وعواصف البحر.. والخوف من المجهول حتى بعد وصولهم أوربا.

في المحطة الأخيرة من الرواية وهي: (الأعمار رهائن... المصارع).

في المحطة الخاتمة من الرواية، تدخلنا الروائيّة "فلك حصرية" في أسباب أخرى لمعاناة السوريين قبل أن تنالهم قذائف الجهل والتخلف والأيديولوجيا العمياء ولعبة الدولار وشهوة السلطة وخيانة الوطن. تدخلنا في عالم الفساد الذي راح ينخر الدولة والمجتمع منذ عدّة عقود.. هنا تَكْشِفُ لنا (المسكوت عنه) وحتى (المضمر) في حياة الشعب السوري.. في مسرحيّة "كاسك ياوطن" لـ"محمد الماغوط" نظرياً، و"دريد لحام وهالة شوكت" والعديد من الممثلين السورين تطبيقاً.. في كاسك يا وطن تظهر لنا تشكل الارهاصات الأولى  لمعاناة السوريين،التي تتصاعد فيها أحداث المسرحية للوصول إلى مشهد بيع الأطفال من أجل تأمين لقمة العيش.. وفي بيع الأطفال تُفْقًدُ قيمة المناضلين الحقيقيين والشرفاء في هذا الوطن..

(- من مال الله يا محسنين .. من مال الشعب يا مناضلين.

- ما وراك يا أخي".

- كما ترى يا أخي ... إيد من ورا وإيد من أدام.

- الله أومال شو عم تبيع؟!!.

- عم بيع ضنايا... عبود بابا عبود...عود حبيبي.

- يعني عم تبيع ولادك؟ !!.

-إيه نعم... عمرك شفت هيك أب .. العمى شو حقير أنا.

- جدهم شهيد.

وإلهم شجرة عيلة.

- ولك إلهم سنديانة عيلة.) ص233.

هذا المشهد يحصل فعلا في الأحداث السوريًة الأخيرة حيث تقوم امرأة ببيع أربع أطفال (أولادها) لسائح أجنبي بـ (600) دولار.

وهنا يستمر التعجب الممزوج باللامعقول كما تقول الروائيّة.. لتكشف جدليّة الواقع عما هو خطير فعلًاً، وبأنه ما من شيء يأتي من فراغ، وما من فعل ينطلق من المجرد.. فكل شيء بدا لنا اليوم حقيقة استند إليها "الماغوط".

هذه هي الحقيقة (إنسان بلدي ضاع أو ضيّع.. إنسان النكبة الجديدة دفعه الخوف من الموت للهروب إلى الموت، فمات قهرا وحزنا ويأساً وقلة كرامة قبل أن يموت غرقاً وتنكيلاً ورفضاً لوجوده فوق مسرح الوجود.). ص241.

الرواية في الشكل"

لم يأت عنوان الرواية عبثاً، بل جاء مدروساً وبعناية فائقة. فتوت الشام الحلو المذاق الجميل المنظر ذو الشهرة الواسعة الذي يعبر عن جماليّة الشام بكل تجلياتها، يأت العنوان ليشي بنوع آخر من التوت، وهو التوت البري، بطعمه الحامض، وهو هنا يدل على طبيعة التغيرات الكبيرة والجسيمة في قهرها ومصيبتها التي بدأت تنال الشام وسورية عموما  وحولت حياة أهلها بكل تفاصيلها إلى جحيم.

أما غلاف الكتاب بألوانه التي سيطر عليه اللون الأحمر والأسود والبني الغامق، وهي ألوان حارة في سماتها وخصائصها، تشير أيضاً إلى عمق المآساة (الترجيديا)، التي تمر بها الشام، فالدم المسفوح في كل مكان يشير إلى حياة فقدت زهوها وجماليّة علاقاتها وحتى طبيعتها، فساد ظلام الروح والعقل والجسد معا. وهنا يتطابق عنوان الرواية مع ألوان الغلاف ليشكلا لوحة تراجيديّة بكل تفاصيلها.

بناء الحدث الروائي:

جاءت الأحداث في الرواية متماسكة وعقلانيّة إلى حد كبير، حيث ترتكز في مضمونها وقيامها ودوافعها وأحدث كل محطة فيها إلى أسباب حقيقيّة، هي من ساهم في هروب السوريين من الموت والفقر والجوع والخوف الذي حل في دمشق وسورية كلها.

فأحداث الرواية كما بينا في عرضنا لبنيتها كانت مفعمة بالكوارث والمصائب والدم. وكل الأحداث الواردة في محطاتها تدور في إطار المشكلات العامة التي وقعت فيها سورية. فمعظم شخصياتها ذات حالات فرديّة أو أسريّة إلى حد ما، قد حكمتها الغربة والهجرة وشقاء مسيرتها، ووعيها وسلوكياتها، وهذا ما جعلها تخلوا وتقطع إلى حد بعيد مع العلاقات الاجتماعيّة، رغم أن ذكريات الأهل والأصحاب والوطن كانت طريّة في ذاكرة كل فرد منها.

الملامح الشخصيّة:

إن الحدث يظل فعلاً هلاميّاً ما لم تشكله الشخصيات بحسب حركتها وعلاقاتها ودرجة وعيها، وبالتالي مساراتها التي يشكلها الكاتب. وشخصيات الرواية كانت مقنعة تماما كونها تعبر عن شخصيات حقيقيّة في مواقفها وتفكيرها وحتى سلوكياتها .. بيد أنها شخصيات الرواية رغم ما قامت به من مغامرات قاسيّة هروباً من الموت في وطنها، إلا أنها ظلت فاقدة لإرادتها في صنع أحداثها، عدا قرارها في الهجرة، أما كل ما حدث لها في مسار رحلة الهجرة ظلت محكومة مستسلمة للقدر أولاً، وللمهربين ورجال بوليس الشواطئ الأوربية ثانياً. وهذا ما جعلها شخصيات غير ناضجة فنيّا داخل محطات الرواية، فالقاصة هي من كان يوصف حركتها وطريقة تفكيرها وحالاتها النفسيّة بحيث تشعر وكأن الكاتبة هي من رافق كل شخصيات روايتها في كل محطات الرواية، وهي الشاهد على كل ما تعرضوا له من معاناة، داعمة سردها في النهاية ببعض الوثائق لتحقيق مصداقيّة ما جرى لأبطال الرواية....

القص بطريقة المقالة:

الرواية تتكون من عدّة عناوين أو محطات كما بينتُ بداية، وهذا يدل على تأثير العمل الصحفي على الروائيّة من جهة، وكونها كاتبة مقالة أدبيّة كان التأثير على سردها، أو قصها الروائي من جهة ثانية. فهناك غياب كبير للحور عند شخوصها كونها كما قلنا هي من قام بتأدية هذا الدور من خلال رسم شخصياتها وحركتهم ومعاناتهم منذ انطلاقتهم الأولى وصولاً إلى المحطة الأخيرة لكل شخصية. علماً أن هذه الطريقة في عرض أحداث الرواية فسح في المجال واسعاً للروائيّة أن تجود في عبارات وجمل لغويّة بتعبير بلاغي ذي صنعة وصياغة أدبيّة  تحقق الإدهاش عند المتلقي، إلا أن تكرار العديد من جملها وعبارتها في محطات الرواية، قلل من حماس المتلقي ودهشته لها، فيضطر أحياناً إلى القفز متجاوزاً ما يتكرر في سردها من وصف للطبيعة على سبيل المثال ومنها البحر وعواصفه وانعكاسه على نفسيّة شخوصها.

العناية باللغة:

العناية باللغة التي صيغت بطريقة شاعريّة. تجد فيها الكثير من المحسنات البديعيّة، كالترادف، والطباق، والمقابلة، والتورية، وكثرة الانزياحات اللغويّة، والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة، الأمر الذي يجعل المتلقي يشعر بأن مسألة التعامل مع البلاغة بشكل مدروس كحرفة تمتهنها الروائيّة بشكل متعمد، وهذا ما حول الصفة الأدبيّة من السهل الممتنع، إلى تصنيع متكلف يرهق دلالات المعنى.. إن صياغة البلاغة في أسلوب الروائيّة هو أقرب إلى الشعر منه إلى النثر. كما أشرنا قبل قليل.

التناص:

استخدمت الروائيّة التناص بشكل عقلاني، وهذا يدلّ على سعة ثقافتها وقدرتها على التضمين، فهناك الكثير من الأحدث التاريخيّة والشعر والأمثال والحكم والأقوال التي وظفتها بشكل ذكي وعقلاني لإغناء مواقف مرت بها شخوصها في محطاتها الروائية مثل:  غرق الباخرة (تيانتك). وقصيدة نزار قباني (سامحونا) وكل ما ورد من أقوال وأشعار مشبعة بمضامين تتفق وجوهر مضمون شخصياتها ومسيرة هجرتهم ومعاناتهم. كما هو الحال مع غادة السمان. وماريو فارغاس يوسا. وبدر شاكر السياب. وغير ذلك الكثير وصولاً إلى الماغوط وكاس ياوطن.

الرواية تقع في (286) صفحة من القطع المتوسط. إصدار دار العراب – دمشق سوريّة - حلبوني الجادة الرئيسة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

في رواية " قطط إسطنبول" لزياد حمامي

تلخيص: سنحاول في هذه الدراسة مقاربة رواية (قطط إسطنبول) للروائي السوري زياد كمال حمامي والنبش في دلالات ورمزية القطط في هذا العمل وفق منهج الثنائيات الضدية  لما (تشكله الثنائيات من تباينات دلالية تجعلها عنصًرا فاعلًا في تكوين المعنى، وإنتاج الدلالة، والخروج بالنص إلى أبعد المستويات) ولما للثنائيات من قدرة على تعرية الحقائق وكشف المواقف، وإظهار تناقضات المجتمع، والربط بين ما قد يبدو منفصلا، مع ردم الهوة بين طرفي الثنائية مهما كانت تلك الهوة سحيقة، حتى وإن كان الطرفان يقفان على طرفي نقيض (الإنسان / الحيوان) لنتساءل عن السر في اختيار القطط دون غيرها من الحيوانات الأليفة والمفترسة للتعبير عن الواقع العربي.

Summary

In this study, we will try to approach the novel (Istanbul Cats) by the novelist Ziad Kamal Hammami,  and to dig into the connotations and symbolism of cats in this work according to the method of antithetical binaries (the binaries are formed from semantic differences that make them an effective element in forming meaning, producing  significance, and taking the text to the farthest levels) and because binaries have the ability to expose facts and reveal positions, highlight the advantages and disadvantages, show the contradictions of society, link what may seem separate, and bridge the gap between the two sides of the binary no matter how deep that gap is, even if the two sides stand on opposite sides (human/animal)  to ask about the secret in choosing cats over other domestic and predatory animals to express Arab reality.

تستمر الرواية تأكيد نفسها باعتبارها الجنس الأدبي الأنسب لتصوير ذبذبات الواقع العربي ورصد كل تفاصيله، والأقدر على مواكبة تفاعلات الإنسان العربي في واقع  زئبقي مختل عصي على التصنيف يعاني أزمة قيم، يتحول (se métamorphose) باستمرار، لا يستطيع أي تعبير فني آخر غير الرواية مواكبة جميع تلك التفاعلات،  فاستطاعت الرواية بذلك ملامسة كل المواضيع والقضايا الراهنة... ولعل من القضايا المعاصرة الحارقة في عصرنا، قضية وضع اللاجئين العرب في الدول المجاورة التي اضطر الكثير من العرب اللجوء إليها بعد تفجير الأوضاع بأوطانهم غداة انفجار أزمة الخليج الثانية والغزو الأمريكي للعراق، وما نتج عنها من اندلاع أحداث الربيع العربي التي دحرت الكثير من العرب خارج أوطانهم... فتهاوت قيمة العربي في بورصة المعاملات الإنسانية، وجعلته يتقبل المهانة ويعيش معاناة الإذلال والاحتقار...

وقد حاولت الرواية تصوير هذا الواقع وتجاوزت تشيء الإنسان العربي إلى حيونته وإبراز أرذل الحيوانات أرقى منه، بعدما رأى الروائي العربي أن اللغة المباشرة عاجزة على استيعاب حماقات وزئبقية هذا العصر، وربما وجد في الرمزية الوسيلة الأنسب للتعبير عن واقع اختلت فيه الموازين وصار فيه الحيوان (الذي كان رمزا للوحشية والهمجية) أرقى من الإنسان وقيمه الإنسانية التي تتبجح كل حين بالكرامة والتسامح والتضامن...  وقد يكون في حيونة الإنسان، وأنسنة الحيوان طريقة للتعبير عن واقع يعيش أزمة قيم، واقع أشبه ما يكون بغابة البقاء فيها للفاسد الأقوى، ولا مكان فيها للنبل والشرف، وضحاياه الأوائل العفة والكرامة الإنسانية... ولعل من الروايات الصادرة حديثا في هذا الموضوع رواية (قطط إسطنبول للروائي السوري زياد كمال حمامي لتنضاف إلى فسيفساء مشروعه الروائي بعد روايات (الظهور الأخير للجد العظيم) و(الخاتم الأعظم) ورواية (قيامة البتول الأخيرة) ...

تحكي رواية (قطط إسطنبول) قصة لاجئ سوري - اختار له السارد اسم اللولو - يتفاعل مع عدد من القوى الفاعلة أغلبهم لاجئين سوريين في تركيا وقطته التي كانت  طيلة أحداث الرواية تحدثه وتلهمه فجعلها أنيسة دربه بعد أن اختار لها اسم الآنسة "هند خانم"، وهي في نظره (قطة مختلفة عن كلّ القطط التي تعجّ بها إسطنبول) ص.24 ولم يقتصر السرد على حياة اللولو في اللجوء بل كان السرد يتراجع في بعض اللحظات ليذكر بحياة هذه الشخصية في بلادها سوريا قبل الحرب، كما كان ينفتح على المستقبل الذي يتطلع إليه بطل الرواية...

أحداث الرواية وفضاؤها تضع رواية (قطط إسطنبول) في إطار أدب الهامش الذي يقارب معاناة المهمشين، ومنها معاناة اللاجئين والمشردين وما يتعرضون له من استغلال واضطهاد يفقدهم أحيانا إنسانيتهم، ويجعل حياتهم أشبه بحياة القطط الضالة والكلاب المشردة، هذا ما كشفت عنه الرواية منذ أول فقرة فيها، فقد  افتتحت الرواية بأول مشهد يقارن فيه السارد بين اللاجئين المشردين والقطط والكلاب الضالة: (ليس لدى المشردين مأوى في ليالي البؤس، غير ظلام الحدائق بعد منتصف الليل، أو مقابر المدن أو تحت الجسور الرَّطِبة أو الأماكن المهجورة، يتشابهون مع الكلاب الضالة وقطط الليل) بداية الرواية ص7. وظلت مقارنة اللاجئين بالقطط حاضرة في معظم المشاهد سواء وهم يتحركون في المجتمع أو وهم قابعون في السجون يقول السارد واصفا اللاجئين في السجن (الأجساد النائمة على جوانبها مثل القطط ) ص100

تدور معظم الأحداث بحي الغجر وهو (أسوء أحياء إسطنبول سمعة) ص 31 /32 وهو حي يعج ب (قوَّاد الدعارة وبائعي الحبوب المخدرة والحشيش والزبَّالين المتجولين، حتى عدم فتح أبواب البيوت أثناء سماع جرْسِ المبنى سرتْ عادة، خشية أن يكون القادمُ لصّا أو مُحتالا أو عصابة ... ) ص32

الرواية بهذا المحتوى تفصح عن مضمونها، وتنكشف للقارئ كرواية تحاول معالجة قضايا إنسانية كثيرة بأبعادها السياسية الاقتصادية الاجتماعية والثقافية... فتبسط للقارئ ملامح تلك الأبعاد بمجرد تصفح المشهد الأول من المشاهد الخمسة والأربعون التي تتشكل منها الرواية. وفيه يصادف  اللاجئ (اللولو) بعد منتصف ليل في حديقة من حدائق إسطنبول فتاة سورية تدعى شام وهي في حالة نفسية منهارة، حاول مساعدتها بأخذها إلى بناية في حي الغجر على أطراف "اسنيورت" ليجد نفسه في ماخور معد لاستغلال فتيات جنسيا من جنسيات عربية مختلفة منهن (ياسمين المغربية، جليلة من اليمن، بتول اللبنانية، سماح العراقية، مريومة الليبية...) مما يجعل معظم القراء يفترضون انطلاقا من هذا الافتتاح أن القطط في العنوان قد تكون تعبيرا رمزيا عن أولئك الفتيات ومن هن في وضعهن، خاصة وأنه شبههن بالقطط فقال في ياسمين ("ياسمينة" المغربية، هي شابة سمراء جميلة، عيناها صغيرتان مثل قطة إفريقية)...  ويتعزز هذا الافتراض في تلك العداوة الشرسة المضمرة في الوعي الإنساني بين الكلاب والقطط، فأول ما تلفظت به القطة (شام) في حواراتها هو شتم الكلاب، فقد ظهرت وهي لا تكف عن وصف الآخرين بالكلاب (تنتهي شتائمها بترديد كلمة واحدة: "كلاب... كلاب"،) ص8 (تصرخ : كلاب كلّكم كلاب) ص20 ...

إذا كانت هذه المؤشرات في بداية الرواية تسمح بافتراض إطلاق القطط على كل من هو في وضعية هذه الفتيات... فإن ذلك يفرض طرح أسئلة من قبيل: ما سبب اختيار القطط، دون غيرها من الحيوانات خاصة وأن الرواية ذكرت الكلاب قبل القطط في أول تشبيه لحال اللاجئين والمشردين (يتشابهون مع الكلاب الضالة وقطط الليل)؟  وما دلالة ورمزية القطط في هذه الرواية؟ وهل للقطط دلالة إيجابية أم دلالة سالبة خاصة وأن للقطط في الفكر الإنساني معاني متباينة؟...

لابد من الإشارة منذ البداية إلى أن القطط كانت موضوع دراسات فلسفية فكرية كثيرة نكتفي للإشارة منها إلى كتاب (فلسفة القطط) لجون جراي ومشروع البروفسورة لي كلير لا بيرج (ماركس الموجه للقطط:  (Marx for Cats   كما حضرت القطط  في عدد من الأعمال الفنية والسردية منذ القديم مع اختلاف النظر إلى القطط وتباين الموقف منها بين:

موقف يبجل القطط ويبرز إيجابياتها في حياة الإنسان كحمايته من القوارض والزواحف السامة التي قد تهدد حياته، إضافة إلى دورها في تسلية الإنسان ومؤانسته، وبين من استعملها رمزا حسب الرسائل المراد تبليغها... لذلك وجدنا من المؤلفات ما تدعو إلى الاستفادة من القطط كما في كتاب (فكر وتصرف كأنك قط) لستيفان جارنييه ترجمة فالس بورس. وهو موقف يجد جذوره في ثقافات قديمة أضفت على القطط هالة من التقديس كما كان عند الفراعنة الذين اعتبروها إلهة البيت والخصوبة وحامية الفرعون، كما اعتبرها اليابانيون جالبة الحظ السعيد والثروة. وتوجد لدى الاسكندنافيين حكايات وأساطير تظهر فيها قطتان تجر عربة الإلهة فريا الإلهة المرتبطة في الثقافة الاسكندنافية بالحب والجنس والجمال والخصوبة والذهب والحرب والموت... وفي الثقافة الإسلامية قد يكون الإحسان إلى القطط سبيلا لدخول الجنة، وسوء معاملتها سببا في دخول جهنم إذ روي عن الرسول قوله (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ في هِرَّةٍ سَجَنَتْها حتَّى ماتَتْ، فَدَخَلَتْ فيها النَّارَ، لا هي أطْعَمَتْها ولا سَقَتْها، إذْ حَبَسَتْها، ولا هي تَرَكَتْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ)

- في مقابل ذلك وجد ويوجد موقف يهين القطط ويعتبرها رمزا للشر والدناسة وسببا في نقل الكثير من الأمراض للبشر، إضافة إلى ما قد يسببه شعرها وفضلاتها من إزعاج أو مرض لبعض الأشخاص الذين لهم حساسية تجاه ذلك، لذلك يدعو أصحاب هذا الموقف عدم مخالطة القطط، وضرورة إبعادها عن البيت .

والمتتبع للأعمال السردية العربية المعاصرة يلاحظ مدى حضور القطط في عناوين عدد من الروايات المعاصرة مثل رواية (خمارة القط الأسود) لنجيب محفوظ، ورواية (قطط العام الفائت) لإبراهيم عبد المجيد، ورواية (قطة في عرين الأسد) للكاتبة منى سلام ومنها (قطط إسطنبول)... فكيف حضرت القطط في هذه الرواية الأخيرة.؟ وما دلالات حضورها في الرواية؟

في قراءة لرواية (قطط إسطنبول) تبين أن لفظة (قطط) تكررت في الرواية حوالي 128 مرة، توزعت حسب الجنس (مذكر قط 34مرة ومؤنث قطة 48 مرة) وذكرت جمعا (قطط 46 مرة) واستعمل اللفظ حوالي مائة مرة بمعناه الحقيقي  في إشارة  إلى ذلك (الحيوان المستأنس الأليف  من فصيلة السنوريات) وفي الحالات الأخرى استعير القط للتعبير عن الإنسان، أو استعير الإنسان للتعبير عن القطط ... فتراوح  استعماله بين الرفع من قيمة القطط وأنسنتها بإسناد أفعال وصفات إنسانية إليها، وبين الحط من قيمة الإنسان وقطقطته وإبرازه في أدنى المراتب الحيوانية...

وبما أن الرواية بنيت على التقابل بين عالم واقعي مرفوض تسوده قيم سالبة تقوم على الاستغلال والاضطهاد يرفضه البطل، وبين عالم منشود يحلم البطل بتحقيقه يستعيد فيه إنسانيته وتراعى فيه القيم الإنسانية... فإن لفظ "قطط" ومشتقاتها تحكمت فيها نفس الثنائية: هكذا وجدنا لفظ (قط) الذي ارتبط في الغالب باسم البطل (اللولو) يتوزع بين دلالتين متقابلتين: دلالة موجبة تبرز القط قويا قادرا على المناورة والانتصار على خصومه (اللولو يتلاعب بالجميع تلاعب القط بالفأر) ص102، ودلالة سالبة هي الأكثر حضورا يرفض فيها اللولو أن يحيا حياة القطط (أنا لست قطا) ص161. كما يستعمل كلمة قط في سياقات تحط من شأن البطل ويرفض فيها  (أن يكون مجرد شِبْهَ قط من قطط إسطنبول) ص 161 وينتقد وضعا تحط فيه الكرامة الإنسانية سواء بمدينة حلب أيام الحرب  حيث (أصبحنا فيه مجرد قطط تائهة) ص112 أو بمدينة إسطنبول حيث قيل له (أنت مجرد قط لاجئ) ص182... وحتى إذا قصد قنصلية بلاده بحثا عن وثائق تؤكد لديه صفة لاجئ وتتيح له حرية الحركة في تركيا (أهين أمام مبنى الهجرة وطرد مثل قط أجرب)ص224 فلم يبق أمامه سوى التساؤل في حالة اليأس (هل أنا محنط مثل قط) ص 236 ... والتساؤل في حال التفاؤل (ماذا لو تحولت إلى قط جائع) ص255

هكذا تتغير دلالة القط في ارتباطها بالبطل اللولو، وهي شخصية مبنية في الأساس على التقابل بين دلالة اسمه الإيجابية، ودلالة حياته التي لم تكن سوى سلسة من الخيبات والمآسي: فاسمه الحقيقي كما ورد في الرواية (جميل بن سعيد بن فوزية الحلبي) شاب لم يتجاوز الثلاثين سنة يشعر أن صفات اسمه لا تطابق فيه شيئا يقول :(لستُ شابا مثيرا تتودّد إليه النساء، ولم يكن أبي سعيدا لقد عاش عاملا، في مزرعة الأغا، وكان يقول دائما: كلاب الآغا تعيش أحسن منَّا. - لم تفُزْ أمّيِ بأيّ شيء، ولا أدري لماذا أسموها فوزية ؟ ! وهي المرأة التي كانت تلعن حظها العاثر دائما، وتشتم عمرَها كله، حتى حين أنجبتني، كانت تدير وجهها عنّي، وتقول لي: ما أتعسَك! إنكَ تشبه والدك.... ولكن السؤال الذي يجب ألا أنساه، كيف سأغيّر حياتي وأبني؟ حين أستطيع دفنَ الماضي اللئيم، سأكون شخصا آخر غير الذي يعدونه لاجئا منبوذا) ص 120 .

ومن مظاهر التقابل في شخصية البطل أيضا ذلك التقاطع بين الكاتب والسارد والبطل، والتداخل بين السيري التاريخي الذي عاشه الكاتب وبين الروائي المتخيل الذي تخيله السارد، فحتى وإن ظلت شخصية اللولو شخصية متخيلة لا وجود لها إلا على الورق، فقارئ الرواية يشم الكثير من الأحداث الذاتية من سيرة الكاتب ينسبها السارد للولو عبر سارد يتحكم في رقاب شخصياته، يبعد ويقصي من يشاء ويعلي من قدر من يحب، يعرف عن كل شيء عن شخصياته: تفاصيل ماضيهم، وما يعيشونه في حاضرهم، وما يفكرون فيه في خلوتهم وحتى ما يحلمون به، بل كان يتسلل إلى عقل القطط فيعرف ما تفكر فيه وما يدور بخلدها، وما يسعدها، ولم ترتاح من زوارها، ومن وما يقلق راحتها، فيحرك كل الشخصيات على هواه...

ومن مظاهر التقابل كذلك في حياة البطل الروائية التركيز على تلك العلاقات المأزومة بين بطل يحاول الظهور بطاقة وقيم إيجابية، يصارع واقعا مأزوما ينخره الفساد ولا أمل في إصلاحه وتغييره، حيث حاول اللولو التعامل بطهرانية في واقع موبوء فاسد، اشتغل مهناً كثيرة دون أن تؤمن له أي مهنة لقمة عيش كريم، يقول اللولو (اشتغلتُ في البداية عاملَ بناء كي أتابع دراستي، ثم بائع "موبايلات" مستعملة، تطورت قليلا، افتتحت محلا  لبيع وتصليح الآلات الموسيقية، خسرت، ربحت، غامرت، اجتهدت، قاومت كلّ ما يحبط هدفي، ومن أجله سأستمر) ص175 ويقول في مكان آخر (اشتغلتُ في سوق الخضار حمَّالا، للبطيخ ومناولا، ومنظفا للمستودعات...) ويقول فيه السارد (أمام وابلٍ من الإحباط المتتالي، والتنقُّلِ من مهنة غسلِ الصحون في مطعمٍ ما، إلى حمَّالٍ  للأدوات المنزلية المستعملة، ومن مُوَزّع المياه الغازيّة المعبأة بعبوات بلاستيكية إلى صيَّاح في "بازار" المنطقة الكبير، ناهيك عن أعمال الدهان، ومهنٍ أخرى،  وَجَد اللولو عملا مقبولا ً بعد عُزلة مقيتة، لم يحصد فيها غير الندم...) ص 249  وكل شغل اشتغله إلا اكتشف كيف يتسلل الفساد إلى دواليبه، وكيف بني على امتصاص دم الفقراء، ويكفي الإشارة إلى ما وقف عليه من تزوير في تواريخ استهلاك المواد، وعبث الفئران والصراصير فوق المأكولات التي تقدم للناس، مما جعله يقف مشدوها ويتساءل (أكنَّا نأكل من هذه الأغذية الفاسدة ولا ننتبه إلى بداية تاريخ الإنتاج، ونهاية مدّته الصحية؟!".)  يقول السارد واصفا المخزن الذي أوكلت إليه مهمة ترتيب المواد الغذائية فيه (المخزن الكبير تقطنه جحافلُ الفئران، وربما أبرمت عهودا مع كتائب القوارضِ المرئية وغير المرئية، رأى بعينيه الثاقبتين تلك الصراصيرَ المنفردة، تمشي فوق البقايا الطريّة لنُتَفٍ من حلويات سكريّة ترقد مهروسة على الأرض، وها هي تعبث في المكان، دون أن يمنعها أو يبيدها أحد.... أصابه شيءٌ من الغثيان، عندما تأكد أن كلّ ما في المخزن الكبير قد فقد صلاحيتَه منذ وقتٍ طويل! ) ص252 وعلى الرغم من كل تلك السوداوية في الحياة، والفساد الذي يعمّ الواقع فقد ظل اللولو أبيَّ النفس عزيزها لا يقبل الإهانة، ولا يرضى لنفسه أن يعيش عالة على أحد، بل و(لا يقبل أن يدفع أحدٌ من الذين يجلسون على طاولته ليرة واحدة. هو يتكفل بكل شيء) ص 29...

هكذا ظل هذا البطل المأساوي يصارع الحياة، والسارد يضيق عليه الخناق، وما أن يفتح أمامه أملا كاذبا حتى يكتشف بداية معاناة جديدة، تكالبت عليه المشاكل، وتحالفت عليه القوى الإنسانية وحتى الطبيعية، فما كاد يجد عملا يضمن له دخلا يكفيه ضنك العيش، من خلال (فتح "بسطة" صغيرة يضعها على أحد الأرصفة، ويبيع فيها "الجوارب والكلاسين" والقمصان الرجالية الداخلية...) ص 115 حتى ضرب إسطنبول فيضان جرف كل شيء -ولم تسلم منه حتى القطط- فجرف (بسطة) اللولو مما أزم علاقته بصديقه عبود الأقرع الذي موّل المشروع...

ومن ضمن الثنائيات التي تحكمت في مسار السرد نجد قطتين رئيسيتين فقط وسط كل هذا العالم المأساوي التراجيدي كانتا محببتين لقلب البطل اللولو: القطة الأولى: تجلت بمظهر إنساني مثلته فتاة سورية في العشرينيات من عمرها اختار لها السارد اسم (شام). أما القطة الثانية : فقدمتها الرواية بمظهر حيواني مثلته قطة اختار لها السارد اسم (هند خانم) وقد خضعت هاتان القطتان لنفس الثنائية وبنيت قصصهما هي الأخرى على التقابل:

- هكذا قدم لنا السارد القطة الإنسان شام بقيمتين متناقضتين والنظر إليها من زاويتين مختلفتين نظرة إلى الجسد ونظرة إلى الموقف: وبقدر التركيز على جمال شام جسديا وإظهار مفاتنها فهي فتاة جميلة في العشرينات من عمرها، جمالها فطري يعشقه كل من رآه فقد كانت منذ طفولتها (طفلة مرِحة، ذات شعر أشقر، وعينين سماويتين.. قوامها متناسق، وصدرها أبيض مثل الحليب الشهي) ص33/34  بذات القدر رصدت الرواية  التحول الذي أصاب جسد هذه القطة المشاكسة  إذ صارت في نهاية الرواية  فتاة مريضة منهكة جسديا(لم يعد قلبها يشتعل، وصراخها لم يعد يتعالى، العطش والجوع والبرد يحيلها إلى كتلة لا تقدر على الحَراك، ولا حتى على الزحف مثل سلحفاة عاجزة، تحسُّ أنها في قبرها، بلا شواهد، ولا صلاة، وتمنّت أن تنهار الجدران فوقها، تقبرها، وتقطع أنفاسها...) ص167 لقد انتهى جسد (شام) الفاتن، وصارت جسدا لا يحرك شهوة أحد، جسد يصفه اللولو للقطة المغربية ياسمين قائلا:  (تفوح منها رائحة العطر والحشيش معا...  كانت مستسلمة، باردة، لا شهوة تحركها ولا رغبة تناديها، مثلَ دمية لا أحاسيسَ فيها، الفارق بيننا وبين الدمى في تلك اللحظة، أننا نملك أرواحا مكسورة، متهالكة، مستبدة، مضطهدة، والدمى يا ياسمينة، كما تعرفين، هي بلا روح، ولكننا في تلك اللحظة كنَّا معا بلا حياة) ص168.

بالإضافة إلى هذا التقابل على مستوى الجسد، الذي تحول من جسد فاتن إلى جسد متهالك، رصدت الرواية تقابلا في القيم التي عاشت عليها القطة (شام) فهي وإن كانت تمتهن الدعارة فإنها تحمل قيم التمرد والرفض إنها قطة مشاكسة تحاول (التمرد على شرف مهنة الدعارة) بعد أن رفعت شعار (الموت أشرف لي من أن أكون داعرة) ص21 تصيح بأعلى صوتها (أنا شام...  أنا لستُ داعرة.) ص7.

ويتجلى التقابل أكثر في البون الشاسع بين حجم المعاناة الداخلية والمظهر الخارجي في حياة (شام) فهي كانت تظهر للعامة وحتى لأقرب الناس إليها (أمها) أنها تعيش حياة مستقرة في أسرة محافظة، لكنها في العمق كانت تعاني ألم جرح غائر بسبب الاغتصاب والاستغلال الجنسي في سن صغيرة من طرف زوج أمها الذي كان بمثابة والدها...

- القطة الثانية المحببة لقلب اللولو حيوان آثر السارد والبطل أن يصفانها بالآنسة والأميرة والقطة الفاضلة ص106 إنها (جميلةِ الجميلات الآنسة  "هند خانم"، ذات الشعر الذهبي، والغرّة الوردية، والعيون الزرق السماوية...) ص23 بخلاف كل القوى الفاعلة التي كانت مواقفها تتطور وتتغير حسب الأحداث، فقد ظلت "هند خانم" على نفس الصورة الإيجابية طيلة النص الروائي فهي (مؤمنة، ولا يمكن أي أحد آخرَ أن يغيّر رأيها أبداً) ص24. وهي على الدوام (تحمل قلبا طيبا مسامحا) ص99. (فهي قطة حساسة جدا) ص98 و(قطة ودودة، قطة مميزة) ص 99... (وهي القطة التي لم يخب ظنُّها في غدر بني البشر أبدا...) ص110 و(تعرف ما يخبّئه الإنسان من مشاعر نحوها) ص111... فهي على الدوام جميلة لا يتأثر جمالها بالمتغيرات حولها (أن القطة الجميلة " هند خانم"، وهي القطة المختلفة عن بقية القطط...) ص174

وبخلاف كل الشخصيات التي تنوعت علاقتها بالبطل بين المد والجزر، فقد ظلت القطة "هند خانم" تحافظ على نفس العلاقة مع البطل تداعبه (تمدُّ الآنسة "هند خانم" يدَها الناعمة، تداعب صدره، في منطقة القلب العاشق غيرِ الآمنة) ص31  تشكل له السند والعون في كل اللحظات الصعبة، فهي من جعلته يتراجع عن تنفيذ الجريمة لما فكر في اختطاف طفل وطلب دية من أهله، فتراجع عن فكرته احتراما لمشاعر "هند خانم " ص182، وما عاد إلى القبو إلا (نظرت إليه القطة الجميلة مستفسرة عمَّا فكربه) ص31، فقد لعبت دور الأم والحبيبة والصديقة التي تنصحه وتشجعه على القيام بالأفعال الإيجابية، وتحول بينه وبين كل ما هو سلبي: فهي التي فرضت عليه فتح حقيبة صديقه الشاعر المتوفى "نادر الرحَّال" وهي التي أوحت إليه بقرار الانتقام لقطته المحبوبة (شام). ص150... إن القطة "هند خانم"  كانت دائما  تنام بقرب البطل، وتسهر معه في أيام الشدة، تواسيه، تشعر بالخطر الذي يحدق به،   تنبهه لتربص الأعداء، فلما شعرت بسوء علاقة اللولو ببراق الاسطنبولي  رآها ( تبكي ثم تبكي ملء العين والذاكرة) ص178  ويكفي القطة "هند خانم" فخرا أنها  وهي من جعلته تخلى عن فكرة ارتكاب جريمة، فلم يتراجع عما كان قد خطط له إلا احتراما  لمشاعرها قال بعدما اقتنع بصواب رأيها:(لا أريدها أن تفقد الثقة والأمان، ولا أن تنظر إلى وجهي، كما تنظر إلى وجه رجلٍ مجرم...) ص 183

هكذا يكتشف القارئ أن الرواية في كل تفاصيلها تؤنسن القطة "هند خانم" بل تجعل لها وظائف لم يتشرف بها الإنسان في النص، فعاشت حياة روائية بعيدة عن الفحش والفحشاء، يقول فيها السارد (ولا يمكن لمثلها أنْ يرتكب الفاحشة، ولا أن تحمِل سِفاحا، هذا أمرٌ معيبٌ في حقّها) ص160 فهي قطة صاحبة مبادئ لا تتوفر في أغلب شخصيات الرواية فهي دائما (تنتصرلمبادئها الواضحة) ص177 فيما كان الفساد والدعارة والغش والاستغلال والكراهية العملة الأكثر رواجا بين بني البشر، والقيم الأكثر تحريكا للعلاقات الإنسانية... لذلك لم يكن للبطل إلا أن يعامل القطة "هند خانم" (بكل مودّةٍ واحترام وتقدير) ص107 في الوقت الذي انعدمت فيه الثقة بين الأصدقاء وصار شخص يرى نفسه النموذج الأمثل ينظر للآخرين نظرة احتقار وازدراء لا يرى فيها إلا البلادة والتهور مهما كانت الصداقة،ولنستمع كيف يقدم السارد شخصية عبود  الأقرع صديق اللولو الذي لا يفارقه  (أما "عبود الأقرع"، فهو حكاية مختلفة بحدّ ذاتها، وقد عَدَّه اللولو الظلَّ الذي لا يمكن التخلي عنه، رغم بلاهته أحيانا، وغبائه

السرمدي، وتهوّره الدائم الذي قد يسبب بعض الحرج في أوقات مصيرية حاسمة.) ص 30 . هكذا صار البطل ينظر لزملائه من الشخصيات الآدمية كقطط متشردة ضالة، فيما يرفع قطته (هند خانم) إلى مستوى الملائكة في قيمها وتصرفاته.

في ختام هذه الدراسة، يتضح مدى التقابل الذي بنيت عليه أحداث الرواية، وكيف سعى الكاتب زياد كمال الحمامي إلى أنسنة القطط بالرفع من قيمها وأفعالها وعلاقاتها بالإنسان  من جهة، وقطقطة الإنسان بإظهار الجانب السلبي في علاقاته الإنسانية من جهة أخرى، هكذا وجدنا القطط  في الرواية تتعامل وفق مبادئ ومشاعر صادقة في أحاسيسها وأفعالها ولكل قطة (هوية ودفتر صحي)... في وقت فشل اللولو وغيره من اللاجئين في الحصول على (الكيملك) "بطاقة الحماية الدولية للاجئين التي تكفلها كل القوانين الدولية" وأكثر من ذلك قصد قنصلية بلده التي يفترض فيها أن تحمي كل مواطن وتضمن له حقوقه، قصدها بحثا عن الأمن والأمان ف(أهين أمام مبنى الهجرة وطرد مثل قط أجرب) ص224... لكن كل ذلك لا يغيب آثار التضامن بين اللاجئين في بعض اللحظات الحرجة كما تجلى في سلوك لاجئين عندما تكفلوا (بدفع ما كانت تدفعه سلام لأهلها لشراء الدواء بعدما قتلها شاذ معتوه) وتضامن اللولو مع المرأة المسنة في محنة تجاوز الحدود، وتلك خاصية من خصائص الثنائيات التي اعتمدناها منهجا في مقاربة هذه الرواية لما (تشكله الثنائيات من تباينات دلالية تجعلها عنصًرا فاعلًا في تكوين المعنى، وإنتاج الدلالة، والخروج بالنص إلى أبعد المستويات)

ولما للثنائيات من قدرة على تعرية الحقائق وكشف المواقف، وإبراز المحاسن والمساوئ، وإظهار تناقضات المجتمع، على الربط بين ما قد يبدو منفصلا، وردم الهوة بين طرفي الثنائية مهما كانت تلك الهوة سحيقة، حتى وإن كان الطرفان يقفان على طرفي نقيض (الإنسان / الحيوان)، فبأضدادها تتميز الأشياء... لذلك نأمل أن نكون برصد بعض الثنائيات قد وقفنا على إبراز الاختلافات، وإظهار التناقضات، في حياة مبنية على التقابل، لا استمرار فيها إلا بوجود الخير والشر، والصالح والفاسد، والمستغِل والمستغَل ومن وظائف الرواية والروائي إضاءة العتمات التي يعشش فيها الفساد وإماطة اللثام عن المسكوت عنه وكشف المستور.

***

بقلم الكبير الداديسي

صدر للشاعرة السورية ميادة مهنا سليمان[1] ديوان شعري جديد موسوم بعنوان:" قصير فستان صبري" عن دار المتن بالعراق الشقيق، والديوان يتضمن  إهداءً لروح زوجها رامز سلمان سليمان، ومقدّمة للشاعر عبد الله السمطي، وإضاءة للدكتور محمد عبد الرضا شياع، وقد تضمَّن الدّيوان ستة وأربعين نصّاً مُقسّمة إلى ثَلاثة أَقْسَامٍ بِعتبات فرعية، ترتبط بالعَتبة الرئيسية، وهذا التّقسيم يُعطي للمتلقي انطباعا جليا بأن الشاعرة قد خَطّطت مُسبقا لهذا المِعمار بكل فُسيفسائه المرصوصة لَبنَاتٍ متينة، تحكمها علاقات مبنية على رُؤية إبداعية تنهل من قاموس العاطفة والمشاعر، وهذا ما نلمسه بقوة في الحقول المعجمية للمجموعة الشعرية -ويقصد بمفهوم الحقل المعجمي مجموع الألفاظ التي تتعلق بموضوع معين- التي تُفردُ مساحات واسعة لألفاظ وجدانية تحتفي بالحب، بالحياة، بالوفاء، والجمال ... مع الحرص على خلق ترتيب يفسح المجال لوهج المعنى بشكل يتخطى الدال والمدلول في مستوى البنى السطحية للغة، وينفذ إلى أن يَحفر في مستويات التكثيف اللّغوي (المَبْنَى) ويتوّسل بالمجاز والرمز والاستعارات البلاغية لينقل (المَعْنى). ونقرأ من أجواء الديوان ما يفيد ما تمّت الإشارة له أعلاه:

قررت هذا الصباح

أن أفخخ نفسي

بالأزهار بالأشواق

بالأشعار بالنّغمات

قررت أن أحيط خِصريْ

بحزام ناسف

من الحب والقبلاتْ

وأكمن لك في درب ما

بين الورود، بين البيوت

بين بساتين الكلماتْ

لاشَكَّ تَمُرُّ...

سأفجّر نفسي فيك !

ولتتناثر أشلاء الوجد

والعشق والضَّمّاتْ [2]

وعوداً على بدء، نعود إلى العتبة،أعطى علم السيميولوجيا أهمية كبرى للعنوان إذ اعتبره أساسيا في مقاربة النص الأدبي، وبوابة لِدخول أغوار النص، واستنطاقه.

واعتبره شُولز:"خالقَ النّص الأدبِي ومانحا الهَوية" وقد عَرّف "جيرارجينيت”، العتبة العنوانيّة بقوله: إنها «نقطة ذهاب وإيّاب إلى النَّص» أيْ إشارات دالّة ورامزة تفتح مغاليق النَّص وتكشف عن غموضه!! وعرّفها أيضا بقوله إنّها «علامات دلاليّة تُشرّع أبواب النصّ أمام المتلقّي للولوج إلى أعماقه» أي إنّها مداخل قِرائِية لكي نصل إلى أعماق النَّص، إنّ العنوان وإن كان حَمّال أَوجه لا يكون صادقا دائما، فالعناوين مُخاتلة وربما صادمة،  وعنوان الديوان الموسوم ب " قصير فستان صبري" يرتبط في تجليه اللغوي بغُنج أنثوي باذخ، ما يوحي بأن اجتيازنا العتبة سيفضي بنا إلى بوابة عالم ميادة مهنا سليمان الساحر والمفعم بروح جامحة متوثبة، ولكن دعونا قبل ولوج هذا العالم نتعرف على عتبة الديوان تركيبيا، إنها عبارة عن جملة إسمية وإعرابها كالتالي:

قصيرٌ: خبر مقدم جوازا مرفوع

فستان: مبتدأ مؤخر مرفوع وهو مضاف

صبرِ: مضاف إليه مجرور بِكسرةٍ مقدرة على آخره، منع من ظهورها   اشتغال المحل بالحركة المناسبة  .

ياء المتكلم: ضمير مبني في محل جر بالإضافة

ولوج عالم الشاعرة يستقبلنا بعتبات فرعية ثلاث هي عبارة عن فساتين نُسجت من سدى ولحمة المشاعر والعاطفة المتجذرة في الذات الشاعرة فانحسرتْ عن زخارف ذات ألون مبهرة، وتجليات وجدانية شفافة، أصبغت على فساتين شاعرتنا مسحة من الجرأة و الإثارة جعلتها تشد انتباه واهتمام المتلقي، وأجدني أقتبس من فستانها الثالث هذه المقاطع المقتطعة من نص " قصير فستان صبري "

أنيقٌ حبي

في حضرة وسامتك

وقصيرٌ جدّاً

فستان صبري

إذا تخاصمنا

يُعَرّي سوأة الحنين

ويوصل لسَعات الأسى

إلى جمرِ ولَهي

فينطفئ زهوي

قصير جدّاً

فستان صبري

إذا افترقنَا

ولست أعلم كم مترَ عناقٍ

يطيل قماش وقتٍ

يقصّه وجع الاشتيّاق !

إن الشاعرة في هذه النص تؤكد على الصورة الشعرية، والموسيقى والإحساس والوجدان، والمخيلة.  وتكشف لنا عن حبها لشعرية النص وقوته التعبيرية وعلى الحضور الانساني، والعاطفي، والوصفي، وعلى تجربتها الجمالية من خلال التجليات والإشراقات الوجدانية، واحترامها للإيقاع الخارجي بتعدد حروف  القوافي والروي (عناق / اِشتياق)، الذي يسند ه ايقاع داخلي يرسم سمة إبداعية للنص،معتمدة خاصيات : التكرار والتوازي وطبعا نجد هذه الحالة تتكرر في نصوص أخرى.

لنلاحظ مثلا هذا المقطع من نص اقتحمني عشقا[3] وهو يوجد ضمن نصوص الفستان الأول ص 27

لا تكن هادئا

لا تكن عاقلا

مدّ لِي يَدكَ

واصعد معي دَرَجَ الجنونْ

ما الشِّعر تلميذ عاقلٌ

ولا الحبُّ طفل هادئٌ

كلاهما بحرٌ هائجٌ

غاضبٌ تارة

وتارةً حنونْ

كنْ شقِيّاً عابئاً

تعال نلعبْ فوق روابي اللغةِ

يطيب لي القفزُ

على الباء

يطيب لي الاختباءُ

خَلْف حرف النّون

مدّ لي يدك عبر المدى

واهزأْ بالمسافات والحواجز

أصرخ من بعيد :

أحبّك. أحبّك

دعها تعانق الفضَا

تعال اقترب مني قليلا

دعني اعديك

بأنفاس العشق الثّائرْ

تعال اقترب منّي قليلا

وخد منِّي فيروس جنوني

في هذا النص العميق نلمس ” شعرية” قوية تضفي عليه تدفّقا عاطفيا يسهم في ثراء الإبداع الشعري الصادر عن ذات شاعرة متمرسة وعاشت في أجواء شعرية واستعداد طبيعي لقول الشعر، ويمكن القول أن :" الشعريّة ليست تاريخ الشعر ولا تاريخ الشعراء… والشعريّة ليست فن الشعر لأن فنّ الشعر يقبل القسمة على أجناس وأغراض… والشّعرية ليست الشّعر ولا نظريّة الشّعر… إن الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعرًا، وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق، إنّ الشعريّة ” محاولة لوضع نظريّة عامة ومجرَّدة ومحايِثة للأدب بوصفه فنًّا لفظيًا، إنّما يستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبيّة، فهي إذًا تشخيص قوانين الأدبيّة في أي خطاب لغوي، وبصرف النظر عن اختلاف اللغات"[4]

من الفستان الأول أقتبس نص "وأما بنعمة حبّك سأحدّثُ"

وأما بنعمة حُبِّكَ

فسَأُحَدِّثُ :

أنَا المُخلَّدَةُ

في جنانِ العِشق

مُذْ أَشرقَتْ بسمَتِي

من ليلِ رِمشيك

أنَا المُتَّكِئةُ

على أَرَائِكِ النَّعِيمِ

وَوَسائدِ الهناء

مُذْ غفَوتُ عَلَى زِندَيك

أنَا الزَّاهِيةُ بِأساورِ الجَمَال

وسندس الدلال

مُذِ اخضوضرَتْ كَفِّي

بلَمسَةِ كَفَّيك

وأَمَّا بنعمة حُبِّكَ

فسَأُحَدِّثُ:

أنَا الرَّافلة بأثوابِ النَّعِيمِ

فَكُمْ مرَّةٍ تَشَرَّدْتُ

وَوَجَدتُ وَطني

في عينيك[5] !

تَعتبرُ جوليا كريستيفا "أن كل نص هو صدى لنصوص أخرى، وهو مكان تتقاطع فيه النصوص، والنصية نفسها هي مجموعة من النصوص المتداخلة، حيث يحيل النص بالضرورة إلى نصوص سابقة أو معاصرة له" وترى أيضا: «أن كل نص يتكوّن من فسيفساء من الاستشهادات، وكل نص هو امتصاص وتحويل لنص آخر"[6].

أسوق وجهة نظر الناقدة والمحللة النفسية  الفرنسية جوليا كريستيفا التي تقول بتقاطع نصين أو أكثر في نص واحد، وأنا أتوقف أمام قصيدة  "وأما بنعمة حبّك سأحدّثُ" التي تحيل مباشرة على تناص جلي مع سورة الضحى، والتقاطع النصي مع القرآن الكريم باعتباره أولا كتابا مقدسا، وثانيا ظاهرة سيميائية تشمل علامة ماديّة ولغويّة متعدّدة المعاني، إيحائيّة تتجاوز أحاديّة الدلالة إلى تعدّديتها مما يفرض علينا مراعاة التناص الداخلي المتمثل  في اسم السورة ومتنها، وأيضا التناص الخارجي الذي يكمن في علاقة القرآن بباقي النصوص السماوية، وكذلك النصوص البشرية من نثر وشعر[7]، فإلى أي حد كانت الشاعرة وفية لهذا النهج وموفقة في توظيفه بشكل يخدم القصيدة؟ تقول الشاعرة: وأما بنعمة حبك سأحدث، نلاحظ أن هناك تناصا على مستوى الشكل والتركيب وأيضا المضمون مع الآية القرآنية:" وأما بنعمة ربك فحدث"، والتناص حدث هنا من خلال محاكاة الشاعرة للآية بشكل يكاد يكون حرفيا على مستوى الشكل والفكرة، وهذا يتكرر أيضا في مقطع :

أنَا المُتَّكِئةُ

على أَرَائِكِ النَّعِيمِ

وَوَسائدِ الهناء

التي تتقاطع مع جزء من الآية 13 من سورة الانسان:" مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكۖ".

هذا التقاطع النصي رغمه جزئيته  فهو يعكس استحضارَ نصٍّ غائب في نص حاضر لغاية أسلوبية أو معنوية.

إن حلاوة الشعر، وسحره لا يعرف سرهما إلا الشعراء. حيث يتلمسون ومضاته في الكون. وميادة مهنا سليمان، تقتبس هذه الومضات، وتحولها إلى شعر ترضِي بها نفسها، وترضي نزعة نفس المتلقي/ القارئ،  إنها تعرف كيف تُدمجنا في عالمها الشعري، فنجالس الحس والجمال، كي يشتعل داخلنا كقراء، ومتلقين. إننا نستضيء بهذا النور الشعري البديع، لنفهم تجليات  ثنائية الحضور و الغياب التي استحضرتها الشاعرة من خلال عدد من نصوصها التي تحتفي بالحبيب الحاضر الغائب، وتفرد له مساحات واسعة تكشف لنا  مدى حب الشاعرة لشعرية النص وقوته التعبيرية، ومحاولتها التوفيق بين القضايا الوجودية والاجتماعية والذاتية التي تطرقت لها في نصوصها وفنيات خطابها الشعري الذي يدور حول مفهوم: الموت /الحياة،  الحضور /الغياب، الانسان/الطبيعة...

وبالتالي نطرح هذا السؤال: هل الشاعرة في مجموعتها قصير فستان صبري تكشف عن الإنسان فيها؟ .الإنسان العاشق، المحب للحياة؟. الذي يرفض ما هو كائن وموجود؟.. هل اللغة الموظفة في الوصف، والعرض والتأويل قادرة على نقل مكنونات الذات الشاعرة؟

تقول الشاعرة في نص أهنئ نفسي المقتطف من الفستان الأول :

في العيد

كَكُل الأيَّام

أشتَاقُ إليك

أَسْرِقُ نَفسي مِن بَيْنِ النَّاسِ

وأنادِي عَليك

فَيُجيبُ النّبضُ الدافئ:

يا عَاشِقَتِي أَنَا كُلِّي لديك

في العيد

أوشوشُ صورتَكَ الحُلوة

تَهمِسُ لِي شَيئًا عَذِبًا

فَتَتَوهُ الخَفقةُ مِنِّي

آهِ مِن كَلِماتِكَ!

تأسُرُني جِدًّا

تَسحَرُنِي

تُغوِينِي بَسْمَةٌ شَفَتَيَكْ

في العيد

تَتزيَّنُ دُنْيَايَ بوجودِك

فَأُهنِّيُّ نَفْسِي بِأَنَّكَ حُبِّي

وَبِأَنِّي أَغْفُو دومًا

في عينيك

من  خلال هذا النص نتبين تجربة الشاعرة الذاتية، وقوة العاطفة الجياشة التي تشدها إلى الحبيب الحاضر /الغائب، فنراها تدخل في حوار مفعم بالرومانسية معه، يشوبه  تدفق وجداني و توهج اِنفعالي، ولعل السؤال الذي طرحناه من

من قبل يجد صداه في مقاطع هذا النص الذي يكشف عن تجليات وجدانية تتطلب منا إنصاتا دقيقا لما بين السطور من أجل فهم زخم البوح الصادر عن الذات الشاعرة الملتاعة التي تعاني تَبعات الغياب المقترن بالحضور المجرد غير المحسوس.

خاتمة

الشاعرة ميادة مهنا سليمان أدبية متميزة وهي من الأصوات الشعرية التي تتمتع بمكانة بارزة في سوريا والعالم العربي تمتاز قصائدها بتنوع وثراء جمالي يشوبه نوع من الغموض الفني المقصود الهادف إلى فتح باب التأويل أمام القارئ للمشاركة في عملية تشكيل النص وبناء معماره، كما أن لغتها مُوحية تتوسل بالتكثيف والايجاز، وتبتعد عن المباشرة، ولم تَخْل العديد نصوص ديوانها "قصير فستان صبري" من الرمز والتناص، سعيا لتوسيع المعنى وتجويع اللفظ بأسلوب بلاغي قوي.

محمد محضار أديب من المغرب

***

بقلم: محمد محضار

...........................

[1] شاعرة من سوريا لها ثلاث مجموعات شعرية وخمس مجموعات قصصية

[2] ديوان قصير فستان صبري ص 41

[3] ديوان قصير فستان صبري ص 27

[4] حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1، 1994 ص9

[5] ديوان قصير فستان أحلامي ص60

[6] عبد الكريم شرفي رابطة أدباء الشام 31كانون الأول 2020م

[7] التناص في القرآن الكريم مجلة الرابطة المحمدية للعلماء المغرب،  2012-08-28م

 

للاديب حميد الحريزي

تملك التجربة الروائية للاستاذ حميد الحريزي براعة ابداعية في صياغة السرد الروائي الحديث، على ضفاف الرؤية الفكرية الناضجة والمدركة لمجريات الواقع والمفاصل التي تتحكم به، فهو غني عن التعريف في الابداع والصياغة والتكوين في الفن الروائي من خلال مسيرته الطويلة والغنية في الخبرة المتألقة في الابتكار داخل النص الروائي، وقد قدم عدة الروايات قيمة تناولت مراحل السياسية لتاريخ العراق الحديث، الذي عرف بالصراع السياسي الدموي والانقلابات والمفاجأة العاصفة، يسوقها ضمن رؤية فكرية واقعية ورصينة، في الاتجاه الواقعية الانتقادية، في إسلوب تراجيدي ناقد، في اسلوبية التعامل مع الاحداث وتقلباتها. وفي السنوات الاخيرة ابتكر صياغة فنية حديثة في السرد الروائي، أطلق عليها: الرواية القصيرة جداً، وهذا الوليد الحديث يعتمد على سمات وخصائص، قوامها التكثيف والاختزال والتركيز في صياغة الحدث الروائي، اي انه يتجه الى الهدف المنشود مباشرة، دون اطالة وزخرفة وصفية مطولة في السرد، وهذا ما يتطلبه الواقع الحديث في السرعة والاختزال، مع الحفاظ على شكلية السرد الروائي، وقدم في هذا المجال أكثر من ست روايات قصيرة جداً، وآخرها (هذيان محموم) في براعة النقد الاجتماعي، من خلال الجدل والمناقشة. تخص المقولات الدينية وخطابها المعلن، وكذلك يتناول مراسيم تشييع المتوفى من البداية حتى النهاية بوضعه في القبر، واقامة مراسيم العزاء وتقديم موائد الطعام وغيرها من الاعراف والتقاليد الدينية والاجتماعية بشكل مفصل والمبالغة التي لا تعطي قيمة وانسانية للمتوفي، يضعها في مشرحة في المحاججة والنقاش ويفند مقولاته بالحوار الرصين والهادف، أي ان محاولة الرواية القصيرة جداً (هذيان محموم) نقل هذه التقاليد والاعراف الدينية والاجتماعية، من اللامنطق واللامعقول، الى سكة المنطق والمعقول، بشكل حضاري متطور ومتمدن، اي بنزع ثوب التخلف والسلفية، الى ثوب المنطق الحضاري، كما هو متبع في الشعوب المتحضرة و المتمدنة، في تعاملها في مراسيم التشيع والعزاء، التي تعطي قيمة واحترام واعتزاز للمتوفي، بدون الانزلاق إلى الابتذال والتفاهة. كما يعرض معنى الفكري لرسائل السماوية للأديان والرسل والمبشرين والأنبياء، في معاني السلام والمحبة وعدم التفريق والشقاق والخلاف، ان تسود عقلية وثقافة التسامح والاخاء، يعني هدفها السير بالمجتمع نحو الانسانية والتحضر، عكس ما هو معمول به في يومنا هذا في الخطاب الديني ومقولاته الفكرية وعاداته وتقاليده بعيدة جداً عن وصايا رب العالمين ورسله وأنبيائه، هذا النكوص، اصبح الدين ورجاله ومراجعه، يعبرعن المشكلة والازمة القائمة، وتعقيد المعاناة وتشديدها نحو الخناق السلطوي، اي الانزلاق نحو التراجيدية / الكوميدية الالهية، بأن ينسبون كل شيء حتى المخالف للعقل والمنطق الى رب العالمين . ومن هذا المنطلق تتفجر الاسئلة والتساؤلات (ينسبون كل أمر الى الله كالفقر والغنى، السلطة والوجاهة والمال والنساء والبنين، مما لا يستقيم مع العقل الحكيم. أو يدفع بعض الناس الى الكفر بهذا الاله غير العادل في توزيع الهبات والصفات على مخلوقاته دون عدل) ص10. إن المناقشة الفكر الديني السائد في الوقت الراهن، خرج عن رسالة الدين الانسانية وفكرها النبيل، اذ تدخلت المصالح والمنافع من بعض رجال الدين والمشرفين على الخطاب الديني، ان يقفون مع القوى الظالمة والسلطة الغاشمة، بذلك اصبح للدين وجهين احدهما يناقض الاخر، والغلبة النافعة التي تبحث عن كنز الذهب والدولار، قادوا الحياة في اتعس حالاتها من جحيم المعاناة، حتى أصبح الموت راحة وسلامة، وان الموتى تحت الأرض أفضل من الحياة فوق الأرض (أن الموت يحمل السلام والراحة الابدية، أما الحياة فهي تجربة واحدة لن تتكرر ثانية) وكانت لقاءات (حامد) في العالم الآخر (عالم الاموت) مع الكثير من الشرائح الاجتماعية المتضررة ظلما وعدواناً، قتلت بدم بارد لانها طالبت بحقوقها الشرعية، مثل شهداء انتفاضة أكتوبر الشبابية، التي سميت انتفاضة وطن ( - لا تخف يا جاري العزيز فانا جارك في المقبرة، ولكني اقدم منك من حيث تاريخ الدفن هنا، فلم تمض عليَّ اكثر من سنة، فقد قتلت في تظاهرات اكتوبر الشبابية المناهضة للسلطة الفاسدة الحاكمة في العراق) ص14. هكذا تكون الاحلام مشاعة بالقتل والاجهاض، لانها تفكر بحياة افضل بالاماني والاحلام والرغبات الانسانية النزيهة. هذا يدفعنا الى المسائلة: ماهو دور الدين والمراجع الدينية، في هدر ارواح بريئة بالقتل؟، ماهو دورها في صبغة الدين بالزيف والاحتيال؟ ماهي المقولات الدينية في معاني الفرح والحزن والتعاسة والسعادة والجوع والشبع ؟ لماذا تقود الحياة الى العدم والغاء الاخر، لماذا محاربة الجمال والخير لكي يتغلب الباطل والقبح؟ لماذا سطوة ونفوذ المقايضات تجري تحت الطاولة في الحياة في العقلية الدينية السائدة؟ هنا يدفعنا الى عدم الخوف من العدم، كما يقول أبيقور (أيها الانسان لا تخف من العدم لانك كنت سابقاً في العدم، كنت عدماً لمليارات السنين، لا تملك خبرة واحدة للعدم، فكر في كل الزمن الذي مررت به قبل ان تولد) ص4.134 اhorayzi

دوافع الرؤية الفكرية التي كونت وصياغة الحدث الروائي وأهميته في الترميز الدال وهي.

1 - الحدث الأول: الذئاب الغازية المكشرة الأنياب التي اقتحمت الدار وعاثت خراباً وفزعاً ورعباً لأهل الدار. ليس فقط سرقت الجمل بما حمل، وإنما سرقت الأماني والتطلعات بغدٍ أفضل، وهذا البعد الرمزي لحقيقية العراق الحالي بكل التفاصيل الدراماتيكية والسريالية.

2 -الحدث الثاني: الظروف المعيشية القاسية في أزماتها خانقة وتفاقمها نحو الخناق الكلي، تدفع العقل الى الجنون والانتحار (خروجك قبل ثلاثة أيام على الدراجة في الشارع و درجة الحرارة 55 م، لتجلب الثلج بسبب انقطاع التيار الكهربائي، كان خروجك انتحارياً، فما إن عدت الى الدار حتى سقطت مغمياً عليك) ص27.

3 - الحدث الثالث: الظلم الاجتماعي على المرأة بتبريرات اجتماعية ودينية، بأنها ناقصة العقل، او عورة ينبغي لجمها وحصرها في البيت، ومنعها من حقوقها في الكثير من المسائل الجوهرية، اعطى كل شيء للرجل وحرمان كل شيء للمرأة.

4 - شماعة (الدين افيون الشعوب): خرجت من ظرفها وسياقها الزمني ضد الكنيسة المتسلطة آنذاك، وأصبحت سلاحاً في مواجهة المعترضين والمعارضين، وصفهم بالكفر والإلحاد، السلاح الناجح والخطير بيد العقلية السلفية المنغلقة، وتكميم الأفواه وخنق حرية الفكر المتنور، وتشويه السمعة لأصحاب المدنية والعلمانية .

صياغة المضمون الفكري وأبعاده الرمزية الدالة:

تغليف الحدث السردي برؤية فكرية تضع موجودات الواقع الفعلي في مسائله الرئيسية في الشأن السياسي والاجتماعي والديني، هي مهمة في غاية الصعوبة، ان تملك معنى ومغزى ورمز، لابد من مهارة احترافية في التسويق والصياغة بشكل تؤثر لدى القارئ والمتابع، لذلك اختار الاستاذ حميد الحريزي اللعبة السريالية أو الحدث السريالي الواقعي، الذي يتناسب مع سريالية الواقع القائم، وموت بطل الرواية والشخصية المحورية (حامد) لكي يضع مرئياته في الحياة والموت، تحت مشرحة الجدل والمناقشة، في الصراع القائم بين الحقائق والمغالطات في مقولاتهم الفكرية البالية، التي لم تعد تصلح لمتطلبات الزمن الحاضر، بل اصبحت من الزمن الماضي، يعاد تدويرها وانتاجها بشكل مخالف للعقل والمنطق، بل راحت تصب في المتاجرة والربح لصالح المنافع الضيقة، بالضد من المصالح العامة، وما شخصية (حامد) تمثل شخصية المثقف الملتزم الذي لا يساوم على الحقائق ولا يبيع قلمه لمن هب ودب، بغمط مجريات الأمور مقابل مقايضات مالية. لا يمكن ان يصمت أمام معاناة الانسان والوطن. لا يمكن ان يصمت عن الصواب، في تفنيد المفاهيم والتقاليد الاجتماعية والدينية المغلوطة، ان يجابه بالمواقف الصلبة في الرفض والتمرد، وهذه الشخصية (حامد) هي تمثل المؤلف نفسه (تساءل بطل الرواية، ليستعرض عناوين كتبه العزيزة التي لم يتمكن من قرائتها لحد الآن..... أننا أيتامك ايها الغادر) ص5، وهنا يتبادر السؤال: كيف يكون موت المؤلف قبل ان يحدد مصير بطل الرواية ضمن روايته الجديدة، وما صيغة (هذيان محموم) هو عنوان استفزازي يغري القارئ، والعمق الفكري لهذا الهذيان، هو صراخ المثقف الواعي لما يجري من مهاترات وتجارة واسفاف في غسل العقول بالعواطف الدينية المزيفة، ليكون الباطل منتصراً على الحق والحقائق. انها صرخة احتجاج وتمرد على ما يقومون بهدم المجتمع، بالعادات والتقاليد الدينية المتخلفة التي لا تحترم قيمة الإنسان لا في حياته ولا في موته، وهو في سرير الموت حتى مراسيم الدفن ومراسيم اقامة العزاء وتقديم الطعام والموائد خلال أيام الوفاة وفي يوم الأربعين لغيابه عن الحياة، يتناولها بشكل ساخر وانتقادي. هذا الاحتجاج يمتلك مشروعية منطقية (- صرخ حامد بأعلى صوت، يا أحبتي أنا لا اريد أن تقام على روحي الفاتحة وتولم الولائم، يكفيني ان تزرع على قبري شجرة واحدة مزدهرة) وكذلك بدلاً من البذخ في تقديم الطعام، يمكن توزيعه على الفقراء. وأن يكون لمراسيم الجنازة والدفن، قيمة حضارية وانسانية، تحترم المتوفي بالتقدير والإجلال وليس وضعه في (الصندوق الخشبي العفن والضيق ناتئ المسامير الذي سيلقى فيه بعد ان تخمد انفاسه، والادهى من ذلك بأن هذا الصندوق القذر سيوضع فوق سقف سيارة ويربط بالحبال معرضاً لحرارة الشمس اللاهبة و الرياح المغبرة صيفاً ولزخات المطر والبرد في الشتاء دون رحمة ودون احترام من اقرب الناس اليه ومن الذارفين الدموع نفاقاً عليه، فلا يحمل في سيارة خاصة مكيفة كبقية البشر في نقل الجنائز) ص6. هذا المحاور الجدلية لبطل الرواية (حامد) خلال رحلته إلى عالم السفلي (الأموات) تبقى اسئلة عالقة للحياة جديرة بالاحترام، مقولات الفكر الديني السلفي لم تعد تلائم الظرف الراهن، التي تحولت الى التراجيدية الكوميدية. واصحاب الالهة الارض الذين اصبحوا لعبة بيد السلطة الظالمة، كأنهم نزعوا ثوب الدين الصائب بالمسؤولية والنزاهة، بأنهم مبشرين للخير وليس للشر في وجود هذه الالهة (على فرض وجود، فهذه الالهة بوصفها آلهة هي أسمى من أن تهتم بأمرك أيها المسكين المتوهم، أن الالهة في عليائها تنتظر لتموت لتحاسبك، ما وزنك أنت؟ ما قيمتك أنت في هذا العالم اللامتناهي؟) ص17. الجدل في مناقشات بطل الرواية (حامد) اين يقف رجال الدين ومراجعهم؟. اذا كانت تقف مع العدل وإحقاق المظلومين، يكونوا في صف قوى الخير، أما ان يقفوا مع سلطة المال والسلطة الظالمة، يفقدون دورهم كرجال دين مصلحين، وإنما يكونوا اتباع تحركهم شهية المال والنفوذ والسطوة المتنفذة.

أن الحوارات التي يقدمها بطل الرواية (حامد) تدور في ذهن كل مثقف ملتزم بمسؤولية القلم والمواقف الرشيدة. وهي تمثل صراع اليوم بكل تفاصيله الاساسية.. انها حمى الهموم الاساسية للواقع والحياة.

***

جمعة عبدالله

 

قراءة وتحليل قراءة وتحليل لقصص قصيرة جدا المجموعة (6)  للشاعر والقاص عادل الحنظل:

كينابيع الطفولة نبتكر شهواتنا غماما من الكلمات.. بغية اعادة صياغة احلامنا قصائدا.. قصصا.. روايات او.. ما يفاجئنا به الشاعر الحنظل عادل...الذي يلملم عبق لهاثنا.. ليقدم لنا رئة نتنفس منها بروق الدهشة والتأمل..

هل لي ان ارتجل دون ان اتخبط متجنبا الإعادة والتكرار فأشير الى ما يبلل كافة النصوص من مياه مشتركة كامنة في قصرها وكثافتها وطرافتها ولغتها القوية وتعبيراتها البلاغية المميزة من تشبيه واستعارة وتورية.. مما يمنحها إيقاعاً خاصاً يشبه الشعر في تكثيفه وتركيزه.. فيضفي عليها طابعاً مميزاً يجعل القارئ يتوقف متأملا في المعاني التي يحملها النص وانزياحاتها التي تجعل منه مرتعا للتأويلات والرسائل التربوية والفكرية والفلسفية والرمزية المهمة..

ساتناول كل نص بما يميزه قراءة وتاويلا ..

001

القصة الأولى:

"والدي ليسَ كسائرِ البَشر، أوحىٰ إليّ أن أقرأ، كالأنبياء، فابتدأَ كلُّ شيء، بعده."

النص الذي بين أيدينا يغزل بفنية عالية قصيدة فكرية تحاكي رحلة الإنسان في دروب المعرفة، حيث يتجلى الأب كنبع للحكمة والإلهام.. يفتح أمام ابنه آفاق القراءة، ويضيء له مسارات العلم كما الأنبياء يهدون برسالتهم. في وصف الأب بأنه "ليس كسائر البشر"، نلمس دفء العلاقة، وأثرها العميق في تشكيل وعي الابن. هذه العلاقة ليست مجرد رباط دم، بل هي جسر يمتد نحو عالم الفكر، حيث تنغرس بذور الثقافة وتنمو لتثمر فهماً عميقاً للحياة.

النص يتألق بجملة ختامية، تُحاكي لحظة التحول: "فابتدأَ كلُّ شيء، بعده"، كإيذان ببداية جديدة تعقبها رحلة بحث دؤوب عن الحقيقة والمعرفة. القراءة هنا لا تقتصر على كونها مجرد عادة، بل هي انفتاح على عوالم رحبة، كالوحي الإلهي الذي يُبصّر الروح ويحرر العقل. في نهاية المطاف، النص يفيض بالرموز، يجعل منه رسالة تربوية وفلسفية تستحق التأمل والتفكر العميق.

002

القصة الثانية:

"عندما كثرَتْ أخطائي، وجدتُني مُضطرّاً أن أُعيدَ الحِساب، ولمَا لم أجدْ ما أقوّمُهُ، ابتدأتُ من جَديد، بالأخطاءِ ذاتها."

تجسيد لرحلة الإنسان في متاهات النفس، حيث تتناوب الأخطاء والندم كظلال متكررة تعكس صعوبة التحرر من دائرة السقوط المتجدد. رغم اعتيادية الفكرة، إلا أن النص يتألق بجاذبية تعبيرية تجعل من مراجعة الذات مشهداً درامياً مفعماً بالتأمل. هنا، يتأرجح الإنسان بين وعيه بأخطائه وعجزه عن اجتيازها، ليظل عالقاً في دوامة الإعادة بلا تحسن يذكر.

اللغة تحمل بساطة مباشرة تعكس اضطراباً داخلياً، وتجسد رغبة مُلحة في التصحيح، وإن بدا التغيير بعيد المنال. التكرار في الأفعال، مثل "أُعيدَ الحِساب" و"ابتدأتُ من جَديد"، يصور محاولات متكررة للخلاص، محاولات تحكمها الجدية والجدلية مع الذات. في النهاية، يتجلى النص كقطعة أدبية مكثفة، حيث تتسارع الأحداث كنبض قلق، تعبيراً عن استعجال في مواجهة النفس. إنها قصة عن النقد الذاتي، تنبئ بصعوبة التغيير، ورغبة مستمرة في كسر القيود والارتقاء.

003

القصة الثالثة:

"استطاعَ كتمانَ علاقاتِهِ المُنحرِفة، بجدارة، ولما ثقُلَ حِملُها، قرّرَ التوبةَ، فانفضَح."

القصة تتألق بقوة تعبيرية وعمق فلسفي، وتصور رحلة الإنسان في مواجهة ذاته المثقلة بالأسرار والذنوب. تبدأ بهدوء مخادع، حيث تستعرض ثقل الكتمان وما يترتب عليه من ضغوط نفسية خانقة، لتنتهي بانكشاف مدوٍ يزلزل النفس. عبر لغة مكثفة ومفردات قوية مثل "كتمان" و"ثقُلَ حِملُها"، تتجلى الدراما الداخلية فيها، وتُبرز الصراع بين الرغبة في التوبة والخوف من الفضيحة.

بنية النص متماسكة، تبدأ بالكتمان ثم تتصاعد تدريجياً نحو لحظة الكشف، حيث تتحول التوبة من فكرة خفية إلى حقيقة تتطلب مواجهة شجاعة. الصور البلاغية مثل "ثقُلَ حِملُها" تعكس عمق المعاناة النفسية، بينما الإيقاع المتغير يترجم تصاعد التوتر الداخلي.

في جوهره، يعالج النص صعوبة التحرر من الذنوب، ويدعو إلى التوبة الصادقة رغم المخاطر. إنه تأمل في طبيعة الكتمان، والعبء الثقيل الذي لا يمكن التخلص منه إلا بالصدق مع الذات والمواجهة الحقيقية.

004

القصة الرابعة:

"كانَ دائما في الأمام، لم يقُلْ ذلك، عرَفتُ هذا، من توالي الطعنِ، في ظهرِه."

النص يتجلى في بساطة مكثفة، لكنه يعصف بالقارئ بصور شعرية مؤثرة تعكس مرارة الخيانة وعبء النجاح. في كلمات قليلة، يعري النص حقيقة العلاقات الإنسانية المتقلبة، حيث يصبح النجاح نفسه سبباً للطعنات الخفية. التشبيه بالطعن في الظهر يجسد قسوة الغدر، ويصور كيف أن الشخص المتقدم، الذي يتصدر الصفوف، يتحمل وحده خناجر الحسد والخيانة.

الأسلوب السردي يختزل في بساطته عالماً من التوترات الداخلية، حيث تتوالى الطعنات في صمت، معلنة عن صراع خفي بين التفوق والعداء. النص يتلاعب برمزية "الأمام" و"الظهر"، ليبرز الفجوة بين الظاهر والباطن، بين القيادة والثقة المهدورة.

إنه نص يستحضر تعقيدات النفس البشرية، ويُبرز كيف أن النجاح لا يأتي بلا ثمن، حيث يكون الشخص الناجح عرضة لسهام الخيانة المتخفية، في تجربة لا تزداد إلا عمقاً وتأملاً مع كل قراءة

005

القصة الخامسة:

"أنا أفكرّ، أنا أكتُب، أنا أُحبّ، أنا ...، إذن أنا موجود، لماذا نحنُ في الوجود؟ أصلاً."

انه تأمل في أعماق الذات والوجود، مستلهماً من الفكرة الديكارتية "أنا أفكر إذن أنا موجود"، ليعيد صياغتها بعبارات تجمع بين الفكر والفعل، ويضيف إليها أبعاداً جديدة من الحب والكتابة. بتكرار "أنا"، يُبرز النص الوجود الذاتي كجوهر لا ينفصل عن الأنشطة الإنسانية التي تشكل هوية الفرد. هنا، يتردد صدى الفلسفة في جمل بسيطة لكنها محملة بالمعاني العميقة، حيث التصاعد من التفكير إلى الحب يعكس رحلة الإنسان في البحث عن ذاته.

انه تصاعد بطيء، يبلغ ذروته بسؤال وجودي مفتوح: "لماذا نحنُ في الوجود؟ أصلاً."، سؤال يحمل في طياته القلق الوجودي والرغبة في فهم معنى الحياة. التكرار يُضفي على القصه إيقاعاً داخلياً، يُكسره السؤال الختامي ليبقى معلقاً في ذهن القارئ. إنها قطعة أدبية تتجاوز بساطتها الظاهرية لتغوص في جوهر الفلسفة، وتحفز القارئ على تأمل أعمق في ماهية الوجود والذات.

006

القصة السادسة:

"تابَ، أبدلَ الكأسَ بالعِمامَة، لا أدري، في أي جانبٍ، تكمُنُ الذُنوب."

حياكة تجسد رحلة التوبة والتحول الروحي، متسائلاً بعمق عن جوهر الذنوب ومعنى التغيير. باستخدام لغة بسيطة لكنها مشحونة بالدلالات، تصور التحول من حياة المعصية إلى التدين من خلال استبدال "الكأس" بـ"العِمامَة"، في صورة بلاغية تعبر عن الانتقال من الضياع إلى الصلاح. لكن النص لا يكتفي بهذا التحول الظاهري، بل ينتهي بتساؤل فلسفي ينبض بالشك: هل التوبة الخارجية كافية لمحو الذنوب، أم أن هذه الذنوب تختبئ في أعماق النفس، بعيدة عن متناول التغيير الظاهري؟

الأسلوب السردي التأملي للنص يخلق تناغماً بين وصف التحول وإثارة التساؤلات، مما يمنح القصة قوة فكرية وفنية. الجملة الأخيرة، بتأملها المفتوح، تعكس قلق الإنسان المستمر حول طبيعة الذنب ومعناه الحقيقي. في النهاية،  انها تعبير عن تعقيدات التوبة، حيث لا يكتفي بالتغير الظاهري بل يبحث في أعماق الروح عن الصفاء المفقود.

007

القصة السابعة:

"رمَتْ ورَقةً بين قدَمَيْ، عُنوانُها، لعلّها مُخطئة، أجهَلُ جُغرافيا النساء."

النص ينسج ببساطته وعمقه لوحة شعرية تختزل الحيرة الإنسانية أمام غموض النساء. بأسلوب سردي مختصر وتعبير بلاغي دقيق، يتناول النص تعقيد العلاقات الإنسانية ويجسد محاولة فهم "جغرافيا النساء" كاستكشاف لخريطة مجهولة. مشهد إلقاء الورقة بين القدمين يعبر عن محاولة التواصل العاجزة، في رمزية تشير إلى عمق التباعد والصعوبة في فهم المرأة.

تعبير "أجهل جغرافيا النساء" يخلق صورة بلاغية مؤثرة تعكس الفجوة بين الظاهر والباطن، ويعزز النص عبر هذا التشبيه جمالاً لغوياً وبُعداً فلسفياً يتساءل عن مدى قدرة الإنسان على فك طلاسم الآخر. رغم قصره، يفتح النص أفقاً للتأمل في تعقيدات النفس البشرية وغموض العلاقات، تاركاً القارئ أمام تساؤل دائم حول إمكانية فهم العالم الداخلي للنساء، ومثيراً تساؤلات أعمق حول الفروق النفسية والتعقيدات التي تشكل جوهر العلاقات بين الجنسين.

008

القصة الثامنة:

"انتصَرتُ في الحَرب، على نفسي، بخَسائرَ فادِحة، أدركُ أني سأبحَثُ عن تعويض، لاحقاً"

بصور بلاغية عميقة ينسج القاص حكاية الصراع الداخلي الذي يخوضه الإنسان في معركة مع ذاته. في هذا الصراع، يظهر الانتصار على النفس بوصفه نجاحاً مريراً، إذ لا يأتي دون خسائر فادحة تترك أثرها العميق في الروح. بعبارات مختصرة وقوية، يعبر النص عن رحلة النمو الشخصي التي تبدأ بالتغلب على العيوب الذاتية، لكنها تترك وراءها جراحاً تحتاج إلى التئام، وتثير تساؤلات عن كيفية التعويض والتوازن.

الحرب الداخلية التي ينتصر فيها المرء على نفسه تحمل في طياتها التضحيات الضرورية للنمو والتغيير، لكنها تفتح باباً للتفكير في كلفة هذا الانتصار. بذلك، يلامس النص جوهر النضال الشخصي، ويطرح تساؤلات فلسفية حول الثمن الذي ندفعه مقابل التقدم والتحول. إنه تأمل في رحلة الإنسان نحو ذاته، حيث يكمن الانتصار الحقيقي في التوازن الذي يسعى لتحقيقه بعد أن يخفت ضجيج المعركة.

009

القصة التاسعة:

"لم أدركْ جَدّي، لم أعرفْه، رحَلَ قبلَ أن أفطَن، ورغمَ ذلك، أكيلُ لهُ المديحَ، دائماً."

يتجلى النص في بساطته وعمقه، في نسجه خيوط حنين وتقدير للأجداد الذين لم يعرفهم الكاتب شخصياً، لكنه يشعر نحوهم بإجلال متوارث عبر الأجيال. يعبر النص عن تلك الصلة الخفية التي تربطنا بأسلافنا، حتى في غياب المعرفة المباشرة. فبالرغم من عدم إدراكه لشخص الجد، إلا أن الحنين يلامس قلبه، ويعكس احتراماً راسخاً في وجدان العائلة.

بلغة بسيطة يعبر الكاتب عن مشاعر عميقة، فالتكرار في "لم أدركْ"، "لم أعرفْه" يثري النص بإيقاع هادئ، يحمل نغمات الاحترام المستمر. الجد هنا ليس مجرد فرد، بل رمزٌ لكل الأجداد، لتلك الجذور العميقة التي تغذي شجرة العائلة بالقيم والتقاليد.

هذا النص هو وقفة تأمل في استمرارية التراث والاحترام عبر الزمن، دعوة لتقدير ما ورثناه من أسلافنا، وما نحمله للأجيال القادمة من حب واعتزاز.

010

القصة العاشرة:

"تعوّدَتِ الابتسسام، تلكَ ايماءةٌ بلا مشاعِر، كلَ ما تتمّنىٰ، أن تنجَلي المعرَكة، بالكثيرِ من الغَنائم، على جَسدٍ بلا حياة."

النص يعبر برقة وعمق عن التناقض بين المظهر والجوهر، حيث تختبئ المشاعر خلف ابتسامة معتادة، في مشهد يعكس اضطراباً داخلياً عميقاً. يتناول النص صراع الإنسان مع ذاته، محاولاً تحقيق نجاحات خارجية رغم الألم الداخلي المستتر.

اللغة في النص قوية، تختزل في بساطتها معاناة معقدة، وتُظهر صراعاً مريراً بين ما يُبديه المرء للعالم وما يعيشه داخلياً. الصور البلاغية، كـ"ابتسامة بلا مشاعر" و"جسد بلا حياة"، تُبرز الفراغ الداخلي وتعمّق من وقع الصراع النفسي.

النص يتدفق بإيقاع هادئ ومتماسك، يعكس السكينة الظاهرية المحفوفة بالعواصف النفسية. يُعري النص واقع التعايش مع التناقضات الداخلية، ويثير التأمل في مدى توازن الإنسان بين النجاح الخارجي وسلامه النفسي..

في النهاية، يلتقط النص ببراعة تلك المعركة الخفية، مُبيناً كيف تتلاشى السعادة الحقيقية تحت وطأة الابتسامات المزيفة.

011

القصة الحادية عشر:

"نظَرَ إليّ بغَيْظ، كانَ في عَينَيهِ شيئٌ مُخيف، أردتُ أن أغادر، نظرتُ حولي، لا أحَد."

يحبك القاص  مشهداً يغمره التوتر والرعب، حيث تتجلى الوحدة في أعمق معانيها. العينان اللتان تحملان شيئاً مخيفاً، تشكلان نافذة إلى تهديد خفي، فتوقظ في النفس رغبة ملحة للهرب. لكن ما يعمق الرهبة هو تلك العزلة المطلقة؛ حيث لا ملاذ، لا أحد يُبدد الوحشة.

اللغة بسيطة لكنها نافذة، تختزل في كلمات قليلة شعوراً بالاضطراب النفسي والانغلاق، وتخلق جواً من الخوف الملموس. الجمل القصيرة المتلاحقة تعكس إيقاعاً متسارعاً، يواكب دقات قلب يعتصره الهلع.

الأسلوب السردي المباشر يُقحم القارئ في حالة من الترقب، لتتحول النظرة المريبة إلى كابوس يقظ. يبرز النص التناقض بين الحضور المخيف والغياب البارد، مجسداً العزلة الموحشة والخوف الكامن في أعماق النفس.

بهذا، يغدو النص مرآة تعكس هشاشة الروح أمام تهديد مجهول، محاطة بفراغ قاتل.

012

القصة الثانية عشر:

"قفزتُ على الحَبل، لابدّ أن أصِلَ الى الطرفِ الآخَر، بحَذر، لا يحكمُ خُطواتي قانونُ الجاذبية، بل قانونُ الهِجرة."

يتأمل النص في رحلة الإنسان لتحقيق أهدافه وسط تحديات الحياة، مستخدماً لغة رمزية تعبّر عن المخاطرة والتوازن. يشبّه السعي لتحقيق الغايات بالقفز على حبل، حيث لا تسود قوانين الجاذبية بل قوانين الهجرة، مما يرمز إلى التحديات الاجتماعية والسياسية التي تؤثر على قرارات الإنسان ومساراته. ان الجمل القصيرة والتعبير المكثف تكشف صراعاً داخلياً مستمراً، حيث يتطلب الوصول إلى الهدف حذراً دقيقاً وسط ظروف معقدة. الصور البلاغية في النص تعبر عن التوازن بين الرغبة في التقدم والخوف من السقوط، مما يعزز الإيقاع المتزن ويكشف عن عمق فلسفي في التفكير حول القوانين التي تحكم حياتنا. يعبر النص في مجمله عن رحلة الإنسان الحذرة لتحقيق النجاح، محاطاً بقوانين تحدّ من حريته، مما يجعله قطعة أدبية تأملية تستحق الغوص في دلالاتها.

013

القصة الثالثة عشر:

"أينَ اختَفَتْ أوراقُ التوت، سُؤالٌ بريء."

النص يتجاوز بساطته الظاهرةوسهولة فهمه، ليكشف لنا عن عمق معنوي وفلسفي. ببضع كلمات، يطرح تساؤلاً بريئاً لكنه يحمل في طياته معاني ودلالات عميقة . "أوراق التوت" التي لطالما ارتبطت بالحماية والستر، تختفي، مما يفتح باب التأمل في حقيقة ما كان مخفياً. السؤال البريء يكشف عن توتر بين البراءة وكشف المستور، متسائلاً عن مغزى الحقيقة بعد زوال القناع. النص يمتاز بلغة مكثفة  وإيقاع هادئ وبسيط، يؤكد دلالات براءة السؤال وعمق المعاني المخفية وراءه وتأثيره . كما يمكن ان  ينير الدرب الى الكيفية التي تطرح بها الأسئلة البسيطة.. تلك التي تحمل في طياتها عمقاً فكرياً.

النص  يتناول  ايضا المعنى الفلسفي للبراءة ومخاطرها في كشف الحقائق، اما في الجانب الرمزي، فانه يعبر عن التحولات التي تحدث عندما تُرفع الحجب. انها دعوة للتفكير النقدي، مؤكداً أن البراءة ليست مجرد جهل، بل قد تكون بداية لوعي نوعي وشجاعة في مواجهة ما خفي. او انه البحث البريء والصادق عن الحقيقة دون تلاعب أو تحايل. باختصار، إنه نص قصير ، مركب من جملتين قصيرتين، تمنحانه تماسكاً وبنية واضحة..لكنه غني بالمعاني، يثير الفكر ويستدعي التأمل.

014

القصة الرابعة عشر:

"أسمَعَها أجملَ الشِعْر، أعذبَ الكلام، طافَ بها الدُنيا، كانَ فمُها الهدَف، ولم يُفتَحْ."

يعبّر النص بلغة رقيقة وشاعرية عن الجهد المبذول في الحب، متسائلاً عن جدواه رغم المحاولات المستمرة. يتناول النص بأسلوب بسيط وعفوي تساؤلاً يحمل في طياته إحباطاً واستفساراً بريئاً عن الحقيقة المختبئة خلف الحجاب. الكلمات المختارة بعناية تجسد هذا التساؤل البريء، بينما تكشف الصور البلاغية مثل "أوراق التوت" عن رمزية الحماية والأسرار المكنونة. النص ينساب بإيقاع هادئ، يعكس عمقاً فكرياً وفلسفياً في البحث عن الحقائق المخفية وراء الأسئلة البسيطة. في نهايته، يترك النص القارئ أمام تأملات حول قوة الاستفسار العفوي في كشف الغموض، وإزالة الحجاب عن الحقائق المدفونة. هذه الكلمات القليلة تحمل بداخلها صراعاً بين السعي والخيبة، مظهرة كيف يمكن للبساطة أن تكون مدخلاً للغوص في أعماق الأمور، حيث تتلاقى الرومانسية بالتأمل الفلسفي.

015

القصة الخامسة عشر:

"السنينُ التي عبَرَتني، كثيرة، كسَرتُها، أعدتُ بناءَها، لأصنعَ منها قَفَصاً، لا يسعُ غيري."

النص ينسج بحرفية أدبية عالية رحلة الحياة في صورة مجازية مؤثرة، حيث يتحدث عن التجارب التي تصوغ الذات رغم قسوتها، ليمتد إلى بناء استقلال داخلي يفضي إلى عزلة ذاتية. بأسلوب شعري غني بالصور البلاغية، يصور النص عملية كسر الذات وإعادة بنائها، ليخلق قفصاً لا يسع سوى صاحبه، وكأنه يسجن نفسه داخل تجاربه. النص متماسك، يتدرج من استذكار السنوات والتجارب، مروراً بالتحولات الداخلية، وصولاً إلى لحظة السجن الذاتي. كل جملة تحكي مرحلة، وكل صورة تحمل عمقاً يعكس الصراع الداخلي. لغة النص هادئة لكنها تحمل تأملات عميقة في كيفية تحويل الألم إلى قوة، وتجعل القارئ يغوص في فلسفة التعامل مع الحياة وتحدياتها. في النهاية، النص يعبر عن كيفية تحول التجارب إلى قيود ذاتية، حيث يصبح الإنسان أسير رحلته الخاصة، مفكراً في كيفية التحرر منها.

***

طارق الحلفي

...............................

رابط قصص قصيرة جدا

https://www.almothaqaf.com/nesos/976664-%D8%B9%D8%A7%D8%AF%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%86%D8%B8%D9%84-%D9%82%D8%B5%D8%B5-%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D8%AC%D8%AF%D8%A7-6

للروائي الغلى بوزيد

بوزيد الغلى هو باحث وروائي مغربي متخصص في التراث الحساني، وله بصمة واضحة في الساحة الأدبية الوطنية والعربية. يُعد من أبرز المساهمين في الحفاظ على التراث الشعبي الصحراوي، وذلك من خلال مجموعة من مؤلفاته التي تستعرض ثراء هذا التراث وتنوعه. من بين أبرز أعماله "زاوية أسا: جدل التاريخ والأسطورة"، "دراسات في المأثور الشعبي الحساني"، و"عتبات صحراوية: قراءة في المنجز السردي والأكاديمي بالصحراء". كما أنه نشر العديد من المقالات الأكاديمية في مجلات مرموقة وشارك في فعاليات ثقافية وعلمية داخل المغرب وخارجه.

"الطلح لا يخطئ القبلة" هي رواية تتناول قصة شخصية تمر برحلة فكرية ونفسية، تكشف من خلالها عن هويتها وتخوض تجارب سياسية واجتماعية معقدة. هذه الرواية تقدم سرداً عميقاً لحياة الفرد داخل مجتمع يمزج بين الدين والسياسة، ويعالج قضايا الانتماء والصراع بين الطاعة والتحرر. الرواية تركز على شخصية رئيسية تشعر بالضياع بين ما تؤمن به وما تراه في حياتها الواقعية. بطل الرواية ينتمي إلى تنظيم ديني متشدد، لكنه مع مرور الوقت يبدأ بالتساؤل حول مدى صحة هذا الالتزام الصارم الذي فرضه عليه التنظيم. الرواية تظهر كيف أن مثل هذه الصراعات الداخلية تدفع الشخص لإعادة التفكير في معتقداته وخياراته. من خلال رحلة الراوي في الرواية، نرى معالجة لمسألة الانتماء، حيث يتم تقديم الانتماء إلى الجماعة كنوع من الأمان والمعنى، ولكنه يتحول لاحقاً إلى عبء يقيد حرية الفرد ويحد من قدرته على التفكير بحرية. هذا الصراع هو أحد المحاور الرئيسية في الرواية، حيث يظل الراوي يتردد بين الولاء للجماعة أو السعي نحو التحرر الشخصي واستعادة حريته الفكرية. البعد النفسي لشخصية الراوي يظهر بوضوح في الرواية. هذه الشخصية تبدأ رحلتها كفرد مطيع ومنخرط في التنظيم، لكن مع مرور الزمن يتحول إلى شخص متسائل، ومن ثم متمرد. الرواية تسلط الضوء على الطريقة التي تؤثر بها التنظيمات المغلقة والمتشددة على نفسية الفرد وتفكيره، وكيف أنها قد تدفعه إلى إعادة تقييم حياته واتخاذ قرارات جريئة بالتحرر والانفصال عن تلك الجماعات. في بداية الرواية، يظهر الراوي كشخص تائه يبحث عن اليقين والطمأنينة داخل الجماعة. مع مرور الوقت وتزايد التناقضات بين قناعاته الشخصية وما تمليه عليه الجماعة، يبدأ الراوي بالشك في الطريق الذي اختاره، وهو ما يقوده في النهاية إلى اتخاذ قرار بالتحرر والانفصال عن التنظيم، ليصبح فرداً مستقلاً وقادراً على اتخاذ قراراته بعيداً عن الضغوط الجماعية. في المقابل، تأتي شخصية "أبو النواجر" كأحد الشخصيات القيادية في التنظيم الديني المتشدد. "أبو النواجر" يمثل شخصية قيادية تسعى للسيطرة على أتباعها من خلال الدين، إلا أن الرواية تكشف عن تناقضات جوهرية في هذه الشخصية. فعلى الرغم من ظهوره كمخلص لأفكاره، إلا أنه في المواقف الحاسمة يظهر انتهازية واضحة، حيث يضع مصالحه الشخصية فوق مبادئه التي يروج لها. في نهاية المطاف، تتجلى هشاشته أمام التحديات والمواقف الحقيقية. الرواية تتعامل مع مواضيع حساسة مثل الدين والسياسة، وتوضح كيف يمكن استخدام الدين كوسيلة للسيطرة على الأفراد واستغلالهم من قبل الجماعات المتشددة لتحقيق أهداف سياسية. الجماعة التي ينتمي إليها الراوي تسعى إلى استغلال الدين من أجل فرض سيطرتها، مما يجعل الراوي يشكك في مصداقية أهداف الجماعة. قضية الهوية تمثل أيضاً موضوعاً مركزياً في الرواية، حيث يتصارع الراوي مع ضياع هويته الشخصية بسبب انتمائه إلى الجماعة. الرواية تعالج ببراعة هذا الصراع بين الانتماء والتحرر، وتظهر كيف أن الابتعاد عن القيود الجماعية يفتح الباب لاكتشاف الذات والهوية الشخصية الحقيقية. البنية السردية للرواية تعزز من تجربة القارئ، حيث تميل الرواية إلى الانتقال الزمني التدريجي في سرد أحداثها، مما يسمح بفهم تحولات الراوي الداخلية. يبدأ النص بتقديم الراوي كشخص مؤمن تماماً بما تمليه عليه الجماعة، ثم تتغير تلك القناعة تدريجياً مع مرور الزمن، حتى يصل إلى مرحلة التمرد والاستقلال. الأسلوب الأدبي الذي يستخدمه الكاتب في الرواية يتميز بالعمق والرمزية. بوزيد الغلى يعتمد على لغة غنية بالتأملات الفكرية والفلسفية، وهو ما يجعل القارئ يتفاعل مع التجربة النفسية والروحية التي يخوضها الراوي. النص مليء بالتأملات الداخلية التي تمنح القارئ فرصة لاستكشاف الحالة النفسية للبطل، وكيف يواجه التحديات الداخلية والخارجية.

في النهاية، "الطلح لا يخطئ القبلة" تقدم رحلة عميقة نحو التحرر الشخصي والوعي الذاتي. الرواية تطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول الهوية والدين والسياسة، وتسلط الضوء على أهمية الحرية الفردية في عالم تسيطر عليه الجماعات المتشددة.

***

زكية خيرهم

 

في يوم (1960\1\4) قطعت اذاعات العالم برامجها الاعتيادية لتذيع خبر وفاة الفيلسوف والرائي الفرنسي (البير كامو) بحادث اصطدام السيارة التي كان يستقلها بشجرة البلوط، انتشر الخبر في كل عواصم العالم لكن والدته كانت اخر من يعلم فقد كانت مصابة بضعف السمع غير ان شقيقها اعلمها بالخبر بعد جهد جهبد .

ولد البير كامو في الجزائر عام 1913 وتوفي في باريس عام 1960 ولم يكن امام مثقفي العالم كله الا ان يعلنوا الحداد الفلسفي والروحي على هذا الفيلسوف الذي كان يعاني من امراض عصره وحاول ان يعالجها كما انه كان رجل سياسة واخلاق، ناضل من اجل الحرية والعدالة وكاتبا صحفيا لقد وجد مثقفوا عصره عزاء في الثالوث المقدس الذي كان يؤمن به (كامو) وهو :العبث،التمرد، والثورة).

جاء في المعجم الفلسفي الروسي .. (ان كامو فيلسوف وروائي فرنسي وممثل للوجودية الملحدة تشكلت اراءه تحت تأثير (شوبنهاور) و(نيتشه) وتعبر فلسفته عن الضياع والقلق والعدمية، والانسان عنده في حالة عبثية دائمة ومقدر عليه ان يقوم بأنشطة لا معقولة وليس لها اي معنى ..).

وهكذا كانت ثلاثية العبث والتمرد والثورة هي المحاور الرئيسية الثلاث في فكر (كامو) حيث حاول معالجة العبث في روايته الشهيرة (اسطورة سيزف) وقد رفض كامو فكرة الانتحار ويرى ان الحياة يجب ان تعاش وان لم يكن لها معنى حيث اتهم بانه متناقض في احكامه العامة لانه استولت عليه فكرة عبث الحياة.

كان البير كامو يعشق (الجزائر) مسقط راسه وقد تصور ان مصيره قد ارتبط بها وهي كما كان يقول (تمنحني الشمس مجانا فأتمتع بالدفأ ..) وكان يهدف الى نشر حضارة جديدة يشترك فيها العرب والمستوطنون الفرنسيون فأسس فرقة مسرحية كان هو الممثل والمؤلف والمخرج معا ولكن القلق ظل يساوره فعاد الى باريس التي احتلت من قبل قوات هتلر فانضم الى حركة المقاومة السرية في باريس واتخذ شعار .. (انا اتمرد فنحن اذا موجودون) على غرار شعار (ديكارت) (انا افكر اذا انا موجود ..) حتى تحررت باريس عام 1944

حاز البير كامو على اعجاب الكثير من المفكرين الادباء والكتاب من حيث فلسفته واعماله الادبية ونظروا بعين الاهتمام والتحليل رواياته مثل :الغريب،اسطورة سيزف وغيرها وذهبوا الى العلاقة التي تربطه بالفيلسوف الفرنسي الوجودي (جان بول سارتر)من بين الذين كتبوا عنه الكاتب المصري كامل زهيري الذي ركز على مرحلة الطفولة التي مر بها هذا الفيلسوف،كتب زهيري في كتابه الموسوم (الغاضبون) (كان اغرب ما في حياة هذا الاديب انه يحب الرياضة (كرة القدم).. كان يسير وحيدا ويدرس وحيدا ويقف وحيدا وان الشيء الوحيد الذي تعود عليه البير كامو هو الوحدة منذ صباه،وكان يعيش في بيت متواضع لقد احب دراسته حبا عظيما وتعلق باول مدرس علمه الحروف الاولى في المدرسة الابتدائية الى الحد الذي جعله يهدي اليه الخطاب الذي القاه بعد اربعين عاما عندما حصل على جائزة نوبل عام 1957 .

لقد اهتم البير كامو بالشعراء والكتاب والفلاسفة واهتم بفلسفة اليونان اختار لرسالة (الدبلوم) دراسة عنوانها (العلاقة بين الفلسفة اليونانية والمسيحية) الا ان المرض منعه من اكمال دراسته واخذ يكتب بالصحف اليومية التي تصدر بالفرنسية عن الفقراء في الجزائر، وفي باريس ترأس تحرير جريدة كومبا اي (الكفاح) فكانت كتاباته عبارة عن مفاجئة لباريس وللأدب الاوربي كله، رحبت باريس بالكاتب الجديد الذي يكتب عن مأساة الانسان الحديث، لقد كان يتهم حياة الناس بانها حياة عادية سخيفة الانسان يصحو من النوم ويركب الترام ويقضي اربع ساعات في المكتب او المصنع ويتناول طعامه ثم ينام وهكذا ويمضي الاحد والاثنين والثلاثاء والاربعاء والخميس والجمعة بنفس الترتيب .

فأين هي الحياة الحقيقية؟ ومن هو الانسان ولماذا يعيش وماهي الغاية من الحياة ..؟

فماركس يقول ان الاقتصاد هو الذي يحرك التاريخ،فرويد يرى ان الجنس هو الذي يفسر الانسان وعندما جاء البير كامو قال ان الانسان يشبه (سيزف) بطل الاسطورة اليونانية التي تقول عليه ان يحمل صخرة كبيرة الى اعلى قمة الجبل، وهكذا فالحياة خليط من اللذة والسخف كما يراها (كامو) وتتأرجح بين المعقول واللامعقول وليس هناك شيء معقول تماما ولا مجنون تماما.

كان كامو معجبا بالطبيعة ويرجع سر اعجابه بها كما يصرح بانها لا تكذب وشريفة وان الانسان هو المخلوق الوحيد الي يرفض ان يبقى كما هو فهو وجود ومستقبل والحيوان وجود فقط)،هذا ما كتبه عنه كامل زهيري وختاما فالفيلسوف الذي عاش طوال حياته ينادي بفلسفة العبث مات بطريقة عبثية.

***

غريب دوحي

 

عن دار يافا العلمية الحديثة (2023) صدرت رواية السّيرة الذّاتية "أرملة من الجليل" للكاتب محمد بكريّة، وتقع في مئة وسبعٍ وثمانين صفحة، مقسّمة على خمسة فصول.

السيرة الذاتيّة هي مرآة عاكسة لحياة الفرد، ترسم صورة واقعيّة لحياته، بدءًا من الأفراح وانتهاءً بالأحزان، وهي بمثابة شهادة صادقة يقدّمها عن نفسه، يسجّل فيها ما مرّ به من تجارب وأحاسيس.

من الذّاكرة إلى السّرد، رحلة في أعماق الذّات والمجتمع:

ينسج هذا العمل خيطًا رفيعًا يربط بين الذّات والمجتمع والمكان، حيث تتقاطع الذّاكرة الفرديّة مع الذّاكرة الجماعيّة في لوحة متشابكة تشكّل صورة بانوراميّة للحياة.

يروي السّارد حكاية أسرته على خلفيّة تاريخيّة واجتماعيّة متغيّرة، فتتداخل الذّكريات مع الأحداث الّتي شهدها المجتمع، ليتحوّل النّصّ إلى سيرة تعكس روح الزّمان والمكان، وإلى رؤية شخصيّة عن المجتمع الّذي نشأ فيه الكاتب.

في هذا التّناغم، تتجلّى قوة الكلمة في قدرتها على ربط الأجيال وتوثيق الأحداث، وتتجلّى أيضا قدرة الأدب على تجاوز حدود الذّات الفرديّة، وتصوير تجارب وأحلام وآمال الجماعة، فهو نافذة تطلّ على عالم متشابك من العلاقات والتّأثيرات المتبادلة.

يستهلّ بكريّة نصّه بتأكيد قاطع على قوّة ذاكرته، مستبعدًا أيّ احتمال للنّسيان، خاصّة في ظلّ الأحداث الّتي مرّ بها، يعتبر الذّاكرة جزءًا لا يتجزّأ من هوّيته، ورابطًا حيّويًا بين الماضي والحاضر والمستقبل، يستخدم تشبيهًا قويًّا ليوضّح هذه العّلاقة، فيشبّه الذّاكرة بالطّفل الّذي يتمسك بأمّه، والأمّ الّتي لا تتخلّى عن طفلها، مؤكّدا أنّ الذّاكرة ليست مجرّد مستودع للأحداث، بل هي رفيقة دائمة يستأنس بها ويستدعيها وقتما يشاء، سواء في اليقظة أو المنام، ويظهر ذلك واضحا في قوله: "أمسك بمعصمها وألوذُ بها إلى أيّ مكان" (ص 7).

هذا التّعبير المجازيّ يعكس مدى الألفة والتّقارب بين الكاتب وذاكرته، فهذه الفقرة الافتتاحيّة توضّح أهميّة الذّاكرة في حياته، ودورها في تشكيل هويّته وتوجيه مساره، فهي مستودع تجاربه، بها نحفظ قصص الأجداد، وهي الخيط الّذي يجمعنا بأحفادنا، وبوصلتنا الّتي تدلنا على الطّريق، ففي كلّ ذكرى نستعيدها ننقل قيمنا وتقاليدنا، ونزرع في نفوس الأجيال القادمة حبّ الأرض والانتماء إليها، نؤكّد على وجودنا وهويّتنا، ونبني جيلًا واعٍ بتاريخه وماضيه.

في هذا السياق، قرأ كلّ من محمود درويش وإدوارد سعيد واقعهما السياسيّ والإنسانيّ في مرآة الآخر، التقيا على أرضية الذّاكرة والتّاريخ، فبينما رسم درويش معاناة الإنسان في مواجهة واقعه، ناقش سعيد القضيّة بروح إنسانيّة، وقد أدرك كلّ منهما أنّ صراعنا مع الآخر ليس سوى حرب ذاكرة.

أمّا غسّان كنفاني، فجعل من الذّاكرة محورًا أساسيًا في أعماله، مؤكّدًا على دورها في مقاومة النّسيان والحفاظ على الهويّة، في حين اعتبرها سميح القاسم سلاحًا لمواجهة محاولات طمس الهويّة والتّاريخ.

أمّا مقولة الكاتب الرّاحل سلمان ناطور، فتختصر أهميّة الذاكرة الفلسطينيّة، وضرورة الحفاظ عليها؛ لمنع الغياب والتّغييب، حيث قال: "ستأكلنا الضّباع إن بقينا بلا ذاكرة".

لم يتوانَ هؤلاء الأدباء عن استخدامها كوسيلة للتّعبير عن واقعنا، فكانت بالنّسبة لهم بمثابة الجسر الذي يربط بين الماضي والحاضر، وبين الأجيال المتعاقبة.

ينتقل بنا الكاتب إلى طفولته مع والدته الأرملة وإخوته، فالنوستالجيا عنده ليست مجرّد ذكرى، بل هي حالة عاطفيّة عميقة ترافقه في كلّ خطوة، يستعرضُ تفاصيل بيت الطّفولة البسيط، حيث تجسّدت قيمة الأسرة في أبسط صورها، وساد الحبّ في كلّ ركن من أركانه، على الرّغم من آلام الفقد المبكّر، يسرد أحداثاً فارقة في حياته، ويصف المشاعر الّتي رافقتها، ويحلّل الدّروس الّتي تعلّمها منها.

الخوف كموتيف أدبيّ، رحلة داخل النّفس:

يتجسّد الخوف كموتيف أدبيّ في هذا العمل بعدّة مستويات، فهو يظهر بوضوح في تجربة الأمّ بعد وفاة زوجها، حيث عاشت في قلق دائم من فقدان أبنائها أو تعرّضهم للأذى، خاصّة في ظلّ الظّروف الصّعبة الّتي عاشوها.

عكس هذا الخوف تأثير هذه الظّروف على نفسية الأفراد وتصرّفاتهم، كما سلّط الضّوء على قوّة الأم وقدرتها على التغلّب على مخاوفها من أجل حماية أبنائها وتوفير حياة كريمة لهم.

يكتب (ص 74): "الخوف أحيانا يثأر من نفسه، ومن شدّته يتحوّل إلى مخزون قوّة، فالخائف المتحوّل إلى قويّ، لا يلتفت إلى الخلف، ولا يحاول تقليب مواضع خوفه من جديد. هكذا نجحت أمي في ترويض مخاوفها حتّى زأرت كالأسد".

كما لاحق الخوف السّارد كظلٍّ عنيدٍ، منذ بواكير حياته وحتّى بعد أن بلغ أشده. كان خوفه على والدته انعكاسا لمخاوفه العميقة، فبعد أن تيتّم بوفاة والده، عاش في رعب دائم من فقدانها هي الأخرى، وعندما غادرت الدّنيا، رحمها الله، تركت في نفسه جرحا لا يندمل.

لقد ظلّ شبح الخوف من فقدان أمه يلاحقه حتّى في أحلامه، كان يراوده كابوس مزعج، وصفه بالتّفصيل بين الصّفحات (56 الى 59).

ذلك الكابوس كان إشارة واضحة لخوفه من غيابها، فهي بالنّسبة له لم تكن مجرّد أم، بل كانت الوطن والأمان والحضن الدّافئ، تحمّلت كلّ الصّعاب وتعبت وضحّت؛ لأجل تربية أبنائها دون كلل.

يقول (ص 103): "ذات الكابوس لم يفارقني منذ طفولتي إلى أن بلغت رشدي، تساءلت، لماذا يتردّد عليّ هذا الكابوس في منامي من فترة إلى أخرى؟ فأدركت أن خوفا شديداً أصابني في صغري، وترك أثره عليّ إلى يومنا هذا، مع تراجع حدّة الخوف".

في عالم الأدب وفي السّيرة الذاتيّة تحديدا، عندما يتحوّل الخوف إلى "موتيف" متكرّر، فإنّه يتجاوز كونه مجرّد شعور عابر؛ ليصبح نافذة نطلّ منها على أعماق شخصية الكاتب وتجربته الحياتيّة.

في هذا النّصّ، يتحوّل الخوف إلى خيط رفيع يربط بين مختلف مراحل حياة الكاتب، يكشف عن تحوّلاته وتطوّره، يستخدمه كأداة للتّنقيب في أعماق نفسه، لفهم دوافعه ومخاوفه وكشف أسرار شخصيّته، الّتي ربّما، لم يكن مدركا لها في مرحلة مبكّرة من حياته.

يبدأ السّرد منذ عام (1976م)، حين يصف استشهاد جابر الطحان في القرية، في منطقة "المراح" خلال أحداث يوم الأرض، حيث ملأ الصّراخ والنّحيب فراغ اللّيل الّذي تضوّعت منه رائحة الموت.

يصف خوفه قائلاً (ص 18): "كان الرّعب من الموت يعشعش فينا؛ لدرجة كنت وشقيقي محمود، نخاف الذّهاب إلى الحمّام الخارجيّ في ساعات المساء، حين يخيّم الظّلام على الحيّ والقرية".

"كنّا نخاف من الموت، حتّى من الحديث عنه، أمّا ذكر اسم الميت فكان مبعثا للهلع والرّعب، فالحديث عن الموت كفيل أن يبقيَنا في حالة نفسيّة سيئة للغاية".

يتابع السّارد حديثه عن الخوف بعينيّ طفل بريء، لا يشعر بالأمان بسبب الظّروف المحيطة به.

تتّضح آثار تلك التّجارب المؤلمة على روحه، لتغدو فكرة الموت شبحا يطارده في كلّ زاوية، يؤرّق منامه ويقضّ مضجعه، فلطالما ارتسمت في مخيّلته على جدران الغرفة حيث ينام، أشكال وظلال من الضّوء الخافت، تتراقص على الجدران والسّقف، وتتحوّل في خياله إلى أشباح تترصّده، فتزداد نبضات قلبه رعبا وهلعا.

يكتب أيضا (ص 19): "كنت أعزّز التصاقي بالوالدة، الّتي كانت تنام على فراشها بجانبي".

أمّا الأمّ فكان خوفها على أولادها العشرة واضحا، يتعاظم مع تقدّمها في السّن، أصبحت تخشى الوحدة، وتناشد أبناءها ألا يتركوها وحيدة، فهم بالنّسبة لها الملاذ الوحيد في هذه الحياة.

تقول (ص 63): "يمّة خليك حدي".

يقول بكريّه (ص 63): "اعتقدنا أنّ خوفها مصطنع، لاحقاً أدركنا أنّ هذا الخوف حقيقيّ، يشعر به كبار السّنّ في خريف أيّامهم، حيث تسيطر عليهم فكرة الفراق والموت، الخوف في هذه المرحلة معروف وغير مبتذل".

يكتب: "ما أبسط أمنيات العجائز، كأمنيات الأطفال طاهرة نقيّة، فهي لم تبغ شيئا من الدّنيا سوى منحها شعوراً بأنّها عنصر هامّ في هذا المحيط" (ص 51).

يقول أيضا: "كنت أظنّ أنّ المرض الجسديّ، هو أصعب ما يبتلى به الإنسان، لكنّني أنكر ذلك الآن، بعد التّجربة المرّة الّتي عاشتها أمّي مع الخوف، الخوف من الغامض، الخوف من الموت، الخوف من الوحدة، الخوف من أمر نجهله" (ص 46).

أمّا آثار التربيّة الخاطئة الّتي تعرّض لها الكاتب في طفولته؛ فظلت تلاحقه تاركة أثرا عميقا على نفسيّته، يكتب (ص 106):

"أعلم أنّ الوالدة لم تقصد ترهيبي ولا تعذيبي، فوالدتي كانت أميّةً لا تفقه أيّ شيء في علم النّفس وأساليب التربيّة الحديثة، لهذا جهلت تبعات تهديدها لي باختلاق الحكايات المخيفة، على سبيل المثال: "روح نام قبل ما يجيك أبو وجه مسلوخ" أو "أسكت قبل ما يجينا خطّاف الأطفال".

"حينها أندسّ في فراشي، وأطمر وجهي بالغطاء، وأنا ألهث من الخوف". (ص 107).

على صعيد الأحداث العامّة الّتي سادت، يصف الكاتب (ص 27) كيف شهدت قرى عرّابة وسخنين ودير حنّا، أيّاما عصيبة، حيث كانت المواجهات تتكرّر وتخلّف وراءها الشّهداء والمسيرات الحاشدة، الّتي تنطلق وتهتف بالشّعارات الوطنيّة، لتؤكّد على أنّ الارض موطن ووطن، هويّة وكيان.

كان مصطفى، شقيق الكاتب، قلبا ثائرا ينبض بحماس الشّباب المتمرّد، وكان عليّ شقيقه الآخر، عمود المنزل ورفيق والدته في تحمّل أعباء الحياة بعد رحيل الأب عام ثمانية وستين، حاولت العائلة الاعتماد على الزراعة لتوفير لقمة العيش، لكن حادثة تدمير المحاصيل ألقت بظلالها الكئيبة على حياتهم، وزادت من معاناتهم. تلك الحادثة أثرّت في طفله الدّاخليّ وزادت من خوفه، خاصّة حين سمع صراخ أهل البيت يتعالى في فضاء الحي.

يكتب (ص 35): "كان ردّي الطّبيعيّ أن التقطت طرف جلباب الوالدة، تمسكّت بساقها وانفجرت باكيا، خوفا لا حزنا، بكاء المذعور الّذي يشعر أن زلزالا قادما لا محالة، وفرص النّجاة معدومة".

هناك حزنٌ يتسرّب من بين السّطور، يغمر القارئ بحنينٍ مؤرّقٍ، كنسيمٍ يحمل عبق ذكرياتٍ أليمة، واشتياقٍ إلى زمن مضى، وأرواح غابت، تتردّد سيرتها بين ثنايا السّطور؛ كأنينٍ مكتومٍ.

أسلوب الكاتب، والتّأثير الفنّيّ:

يتّبع الكاتب أسلوبًا انفعاليًّا يشدّ القارئ، محدثًا فيه تأثيرات عميقة ومستمرّة؛ ليعكس حالة من التّساؤل والبحث عن الحقيقة، موظّفا أسلوب السّرد الدّاخليّ للكشف عن أفكاره ومشاعره بوضوح.

أمّا اللّغة، فاستُخدمت كأداة تجمع الواقع بالماضي والحاضر، والحزن والفرح، التقى الكاتب من خلالها بطفله الدّاخليّ الّذي كان، وبأحلامه الّتي راودته، ومشاعره الّتي أحسّ بها، وكأنّها حبلاً يمتدّ عبر الزّمن، يربط بين مختلف أطوار حياته، ويصالحه مع ذاته.

كانت نسيجًا من العمق والمعنى، حيث نسجت الكلمات الإيحائيّة خيوطًا من الدّلالات الفلسفيّة؛ لتدفع بالقارئ إلى رحلة تأمليّة في أعماق النّصّ، الّذي تنوّعت فيه المشاعر، لتلامس أعماق النّفس البشريّة، فمن الحيّرة والقلق، إلى الصّبر والأمل، إلى البحث عن الذّات والتّصالح مع الحياة.

التّصنيف الأدبيّ:

الرّواية والسّيرة الذاتيّة هما نوعان أدبيّان لهما خصائص متميّزة، لكنّهما يتقاطعان في بعض الأحيان، ممّا يثير التّساؤلات حول تصنيف الأعمال الأدبيّة الّتي تجمع بينهما.

الرّواية هي شكل أدبيّ سرديّ يتضمّن أحداثًا وشخصيّات خياليّة، وهي مفتوحة على التّأويل والتّفسير، والكاتب في الرّواية يتمتّع بقدر كبير من الحريّة في صياغة الأحداث والشّخوص وتطوير الحبكة.

أمّا السّيرة الذاتيّة فهي تحكي قصّة حياة شخص حقيقيّ، ولكن باستخدام تقنيّات سرديّة روائيّة مثل الوصف، الحوار، الفلاش باك، والرّمزيّة، وغيرها، وذلك لتقديم سردٍ جذّابٍ ومثيرٍ للاهتمام لحياة الشّخص، مع التّركيز على الجوانب الإنسانيّة والنّفسيّة.

هي شكل أدبيّ يجمع بين سحر السّرد وعمق السّيرة، وتمثّل تحدّيًا مثيرًا للنّقاد والكتاب على حدّ سواء.

لقد عرّفها "فيليب لوجون" على أنّها استعادة نثريّة يقوم بها شخص يحكي عن نفسه وواقعه وحياته.

إذن، فالرّواية تعتمد على الخيال، بينما السّيرة ترتكز على وقائع حقيقيّة، حتّى وإن خضعت لعمليات سرديّة وتجميليّة، وكاتب الرّواية يتمتّع بحريّة أكبر في تشكيل الأحداث والشخصيّات، بينما كاتب السّيرة مقيّد بحدود الواقع والحقيقة.

أرى أنّ تصنيف عمل "أرملة من الجليل" كسيرة ذاتيّة، لا رواية، هو التّصنيف الأنسب، الّذي كان يجب وضعه على الغلاف؛ وذلك لارتباطه الوثيق بوقائع حياة الكاتب وتجربته الشخصيّة الحقيقيّة، على الرّغم من العناصر السرديّة المتوفّرة فيه، وعلى الرّغم من وجود بعض السّرد الغيريّ المتعلّق بالأمّ، لكن.. يبقى هذا التّصنيف، هو الأدقّ والأكثر ملائمة للنّصّ.

الذّكريات والزّمن، ورحلة السّرد:

في هذا العمل، يمتدّ السّرد منذ عام (1976م) وحتّى اليوم، وهذا يعني أنّنا أمام رحلة زمنيّة طويلة، شهد فيها المجتمع تحوّلات سياسيّة واجتماعيّة جذريّة، ليغدو الزّمن أداة للتأمّل في تلك التغيّرات العميقة، وتأثيراتها على حياة النّاس.

على مستوى الجغرافيا المتغيّرة، يذكر السّرد أماكن مختلفة، يرصد من خلالها أثر الزّمان وتأثير الأحداث عليها، كما يواكب أجيالًا متعاقبة، لكلّ منها تجربتها الخاصّة، ما يبرز التنوّع والتباين في الرّؤى والتطلّعات، في ظلّ الظّروف المتغيّرة.

يغوص بكريّة في أعماق ذاكرته، لاستعادة الماضي وصياغة سلسلة متماسكة من المشاهد الحيّة، الّتي تسودها الألفة والأجواء الدّافئة، فيذكّرنا بالأرض الخصبة، وبأجدادنا وهم يكدحون في حقولهم، يحصدون ثمار تعبهم بوجوه مشرقة، ليبعث فينا الحنين إلى زمنٍ بسيطٍ مضى، كان فيه الحبّ أصدق، والعلاقات أعمق.

تحتفي الصّفحات (69- 73) بقدوم تشرين، موسم زراعة أشتال الدخان والبندورة في البستان الواسع أمام البيت.

كان هذا الموسم مناسبة لتكاتف العائلة، فكبارها وصغارها يشاركون في فلاحة الأرض، متّحدين في سبيل تحقيق هدف واحد.

أمّا شعور الفقد فقد ظلّ يلازم الكاتب، فكلما شاهد أبًا وابنه معًا، أحسّ بحنين عميق إلى حضن أبيه، كانت تلك اللّحظات مؤلمة ومحرجة في آن واحد، فيشعر وكأنّه غريب في عالمه الخاصّ.

في شيخوختها، كانت الأمّ تجد سعادتها في قضاء الوقت مع ابنائها، تستعيد ذكريات الماضي المرير، الّذي سطّرت فيه بطولات الأرملة الوفيّة المكافحة.

كانت متعتها أن تحكي قصصًا ترويها بفخر المنتصر على الدّنيا وقسوتها، في ظروف بدا فيها النّجاح مستحيلاً، والفشل يتربّص بها كذئب مفترس.

الأرملة، تجسّد قوّة المرأة الفلسطينيّة وصمودها:

يروي الكاتب حادثة الجنديّ الذي طردته أمّه من أمام بيتها بصلابة وشجاعة، ويتساءل (ص78): "هل كانت أمّي قويّة بطبعها؟ أم أنّ الظّروف العصيبة هي من خلقت فيها تلك القوّة؟".

"سألت نفسي: كيف لامرأة شابّة جميلة، كانت تعيش حياة مريحة وآمنة لدى أبويها أن تمتاز بهذه القوّة؟".

الحديث عن أرملة كالكثير من أرامل بلادنا، وَجدَت نفسها ترعى الأيتام دون معيل، إنّه صراع البقاء تماما كما جاء في مسرحية شكسبير مع اختلاف السّياقين "إمّا أن تكون أو لا تكون".

إنّ قصّة هذه الأرملة، هي قصّة صراع من أجل البقاء، قصّة تظهر مدى قوّة المرأة الفلسطينيّة وقدرتها على التكيّف مع أصعب الظّروف، فتاريخنا حافل بقصص نساء صُنعن من صلابة الصّخر، وقوّة الإيمان، قاومن بكلّ ما أوتين من قوّة، وحافظن على هويّتهن وعروبتهن.

يقول بكريّة: هذه هي الورود الّتي أحبّها حدّ الثمّالة، أليست شبيهة بأرامل بلادي؟ الصّابرات، المحصّنات، العفيفات، المؤمنات، الرّاضيات، الطّاهرات، التّقيّات؟ النّقيّات؟ أليست شبيهةً بأمّي؟ (ص 164).

الوجوديّة، وفلسفة الحياة والموت:

يتبنّى هذا العمل "الوجوديّة" في تأكيده على فرديّة التّجربة الإنسانيّة، وعلى أهميّة القلق الوجوديّ في تشكيل هويّة الفرد، يطرح الأسئلة الجوهريّة حول معنى الحياة والموت والحريّة والذّات الإنسانيّة، يدعو المتلقّي إلى التوقّف والتأمّل في الأسئلة الكبرى الّتي شغلت البشريّة منذ الأزل، وإلى إعادة اكتشاف ذاته والعالم من حوله بعين جديدة، يصوّر صراع الإنسان الدّائم مع الحياة، مركّزا على شخصية الأمّ، وكفاحها من أجل إيجاد معنى لحياتها في عالم مليء بالتحدّيات.

يقول الكاتب عن الموت (ص 64 -65): "كم استنزف تفكيري كي أعرف مكنوناته وخباياه، كم بحثت في النّصوص الدّينيّة وقرأت فصولا كثيرة في فلسفة الحياة والموت، لأعرف ماذا يخبئ لبني البشر، هل الموت يعني حياة أخرى لا نعرفها؟ لِمَ نلهثُ خلف حياة فانية؟ ولِمَ يجب أن نعمّر البلاد ونظلم العباد؟ لِمَ الحروب؟ ولِمَ خلقنا الله؟ استغفر الله، وماذا بعد الحياة؟ هل الموت موحش؟ هل الموت تبديل عوالم؟ أم فناء وهباء أبدي؟".

هذه الأسئلة الفلسفيّة الّتي كانت تحطّ رحالها في مخيّلة الكاتب ووجدان، هي جوهر الأدب الكفكاوي، فهي تتناول صراع الحياة؛ لمحاولة فهم سيرورة هذا العالم، الّذي يشغل الموت فيه حيزًّا كبيرًا.

كما اتّسم النّصّ بالتأمّل العميق للأفكار المجرّدة والمعقّدة المتعلّقة بالحياة والموت والمعنى من الوجود، ويبدو أنّ الكاتب قد استغرق تمامًا في عالم كافكا الأدبيّ، حيث تتردّد أصداء أفكاره في تساؤلاته الوجوديّة، ليعبّر عن حيرته وقلقه إزاء هذه الأسئلة الكونيّة، وغموض الحياة.

كما استخدم أيضا التّداعي الذهنيّ؛ لوصف تجربة الوعي الذاتيّ والقلق الوجوديّ، وذلك لخلق عالم سرديّ كثيف ومثير للتّفكير، تتداخل فيه الذّكريات وتتصارع مع مشاعر الخوف والقلق، الّتي رافقت مسيرته نحو النّمو الوجدانيّ، ومراحل تطوّره الفكريّ، والوعي بالذّات، وبالحياة والموت.

فلسفة الكاتب الشخصيّة:

يكشف الكاتب عن فلسفته الخاصّة ونظرته إلى الحياة، يستخدم الماضي كمرآةٍ يعكس فيها الحاضر، يدعونا إلى التعمّق في أنفسنا، واكتشاف كنوزنا الدّاخليّة. ركز على أهمية الإحساس باللّحظة والاستمتاع بالتّفاصيل الصّغيرة، الّتي نغفل عنها عادة أثناء سعينا وراء الحياة.

قدّم رؤيته عن السّعادة مستندًا إلى تجاربه الحياتيّة، مؤكّدًا إيّاها بأمثلة عمليّة؛ كانسجامه مع أسرته، وهم يعتنون بشجر البرتقال، وبفرحتهم بالمكافأة وبدرّاجة ثلاثية العجلات، وصولًا إلى فرحة العيد الّتي كانت تزداد بهجة باقتناء الذبيحة.

يقول (ص 83): "لمّا قطعت مشوارا من عمري، وصرت متمكّنا بقدر ما من فلسفة المواقف والتصرّفات، أدركت أنّ السّعادة تكمن في تفاصيل الأيّام والزّمان، وهي ليست مرحلة ثابتة في مكان ما، أو مرحلة معيّنة من الزّمن، لأنّها تأتيك مصادفة دون استئذان، أو إخطار مسبق، وأقول ذلك ليس من باب إغداق المعلومة، أو استعراض قدرة فلسفيّة، بل لأنّ التجربة الذاتيّة أبلجت مقولتي هذه".

هذه الأحداث الصّغيرة، رسمت لوحة زاهية للفرح في نفوسهم، وأكّدت أنّ السّعادة ليست هدفًا بعيدًا، بل لحظات صغيرة ومتفرّقة تنتشر في تفاصيل الحياة اليوميّة.

هذه الفلسفة تشجّع على تبنّي منظور إيجابيّ للحياة، وتركّز على الأشياء الجيّدة الّتي تحدث معنا، تحثّنا على تقبّل الواقع، والتكيّف مع الظّروف والتغيّرات الّتي تحدث معنا.

التوثيق الأدبي: مرآة الأجيال وإلهام المستقبل

يُجسّد التّوثيق عبر الأدب وكتابة السِّيَر الذاتية أو الغيريّة، مرآةً تعكس تجارب الأفراد وإنجازاتهم، وتُلهم الأجيال القادمة للسّير على خطاهم، ففي طيّات السّرد الأدبيّ وسطور السِّيَر، تتجلّى قيمٌ نبيلة ومبادئ سامية، تُشكّل نبراسًا يهتدي به الشّباب في مسيرتهم نحو تحقيق الذّات والمساهمة في بناء مجتمع أفضل.

إنّ قراءة سيرة ذاتيّة لشخصية ملهمة، أو التعمّق في عمل أدبيّ يوثّق حقبة زمنيّة معيّنة، يُتيح لنا فرصةً للتعلّم من تجارب الآخرين، واكتشاف دروب النّجاح والتغلّب على التحدّيات، وعندما نُسجّل سِيَرنا الذّاتية، أو نكتب عن حياة الآخرين، فإننا نُساهم في حفظ ذاكرة الأمّة، ونُخلّد قصصًا تستحقّ أن تُروى، لتكون مصدر إلهام للأجيال القادمة، وتحفّزهم على تحقيق أحلامهم وطموحاتهم.

ملاحظة أخيرة:

اختتم حديثي بالإشارة إلى نقطة أخيرة تستحقّ الذّكر، وهي أنّني لاحظت وجود عدد من الأخطاء المطبعيّة في الصّفحات، الّتي كان من الممكن تفاديها بمراجعة العمل قبل الطباعة.

آمل من الكاتب أن يتدارك هذه الأخطاء إن قرّر إصدار طبعة جديدة من هذا العمل.

***

صباح بشير

.......................

* ورقة مقدّمة لنادي حيفا الثّقافي، بتاريخ: (22.08.2024)

 

في زمن جمهورية الرعب التي أسسها صدام وحزبه كان كل شيء يخضع للرقابة الامنية المشددة، حتى الجهد الادبي مثل كتابة القصة او الرواية! خوف ان يمس احد صورة الحكم التي يجب ان تكون زاهية، والا يتعرض الكاتب لابشع انواع الاذلال والتعذيب، او يتم اعدامه كما حصل مع الكاتب حسن مطلك، والذي كان يعد اهم الاصوات الادبية الصاعدة، حيث تم اعدامه شنقاً في 18 يوليو من عام 1990، والتهمة جاهزة وهي اشتراكه في محاولة لقلب نظام الحكم، هكذا كانت الاجواء في العراق، حيث كان النظام يتعامل بقسوة شديدة، وعلى الظن والشبهة مع الادباء والكتاب.

ويمكن ان نوضح الصورة عن تلك الحقبة مما يعانيه اي جهد للكتابة (القصة او الرواية) في زمن الطاغية’ كانت تواجه العديد من المعوقات التي أثرت على الكتّاب والمبدعين بشكل عام. ومن أبرز هذه المعوقات:

الرقابة

من أكبر المعوقات كان يتمثل في الرقابة، حيث كان هناك رقابة صارمة على الأعمال الأدبية والفنية، أي نص يجب ان تتم مراجعته قبل الطبع والنشر، فإذا كان يتعارض مع سياسات الحكومة، أو يعبر عن احتجاج أو نقد للنظام، كان يعرض صاحبه للمسائلة القانونية أو حتى الاعتقال، وقد يدفع به للمشنقة او الى احواض التيزاب، لذلك ابتعد اغلب الكتاب عن النقد السياسي، وبعضهم ترك النشر للحفاظ على كرامته، واخرون استخدموا الرمزية للهرب من ملاحقات أجهزة النظام القمعية.

فكانت الاجهزة الرقابية معوق كبير امام الابداع الادبي، وفيما يخص كتابة الرواية.

الموارد المحدودة

كان العراق يعيش ظروف صعبة جدا بسبب عبثية السلطة العفلقية، والتي ادخلت العراق حربين (حرب ايران 1980-1988)، وما ان انتهت حتى عاد صدام لعنترياته الغبية ليدخل العراق حرب مدمرة اخرى (حرب الكويت 1990-1991)، وبعدها دخول العراق فترة الحصار شديدة القسوة بحق المجتمع الى عام 2003، كل هذا جعل العراق فاقد للكثير، حيث كانت هناك نقص في الموارد اللازمة للكتابة والنشر، بما في ذلك قلة دور النشر المحلية، وندرة المعارض الأدبية، مما جعل من الصعب على الكتّاب نشر أعمالهم.

فكان طباعة كتاب يمثل حلم كبير جدا صعب التحقق، لاي كتاب في تلك الفترة الصعبة،

عقوبات نظام البعث

الكتابة الروائية والنقدية لممارسات السلطة او نقد الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية قد يمس السلطة ويعتبر انتقاد للنظام، ويصبح مباشرة ضد نظام صدام حسين، وكانت هكذا امور تعرض الكتّاب لمجموعة من العقوبات القاسية، التي تتراوح حسب طبيعة النص المكتوب ومدى تأثيره في النظام. ومن أهم العقوبات التي كان يمكن أن يتعرض لها الكتّاب:

1. الاعتقال: كان العديد من الكتّاب والمثقفين يتعرضون للاعتقال، بتهم تتعلق بالتحريض ضد النظام، أو نشر أفكار معارضة، او حتى بتهمة السعي للانقلاب، وبعض هؤلاء الكتّاب تم احتجازهم لفترات طويلة أو حتى بشكل غير محدد، وبعضهم حتى من دون محاكمة يتم زجه في السجن لسنوات طويلة.

2. التعذيب: هناك تقارير كثيرة تتحدث عن تعرض المعتقلين إلى التعذيب الجسدي والنفسي في السجون، مما يمثل أحد أبشع صور القمع، حيث عمل نظام صدام على تطوير وسائل التعذيب كي تكون رادع عن اي فكرة نقد للسلطة، فقط السمع والطاعة، والا الاذلال التام وبكل وحشية.

3. التهديد والابتزاز: كان الكتّاب يتعرضون لتهديدات مباشرة، سواء ضدهم أو ضد أسرهم، مما يجبر الكثير منهم على التراجع عن التعبير عن أفكارهم، كي يحافظوا على كرامة عوائلهم من بطش السلطة واجهزتها القمعية.

4. الفصل من العمل: الكتّاب والمثقفون العاملون في المؤسسات الحكومية أو التعليمية كانوا قد يفقدون وظائفهم بسبب آرائهم أو كتاباتهم، وحصل هذا الأمر كثيرا في فترة الثمانينات، حيث كان النظام شديد القسوة مع كل ما يمكن ان يحسب انه صوت معارض.

5. الاغتيال: في بعض الحالات، تم اغتيال كتّاب معارضين بشكل علني، وفي كثير من الأحيان كانت تلك عمليات اغتيال تُنفذ بطريقة تخيف الآخرين، فالقتل امر سهل جدا للسلطات البعثية، وهي تعمل به لأنه يزرع الرعب في قلوب أبناء المجتمع.

6. الرقابة: كان هناك رقابة صارمة على المواد الأدبية، مما يعني أن الكثير من الكتب لم تتمكن من النشر، وأي عمل يشتبه في كونه مُعارضاً كان يُحظر تمامًا، كانت الأجواء بوليسية تماما، وكان على الكاتب ان يكون حذر جدا والا تفسر كلمة منه باعتبارها محاولة لقلب النظام.

أشهر الأعمال التي تناولت زمن البعث

هناك العديد من الأعمال الروائية التي تناولت نظام صدام، وواقع الحياة تحت حكمه، وبعض هذه الأعمال كانت مباشرة في انتقادها، بينما تناولت أخرى الظلم والمعاناة بشكل رمزي، إليك بعض من أهم هذه الأعمال:

1.    "البلد الجميل" للكاتب أحمد سعداوي: تناولت بجرأة واقع الحروب وآثارها على المجتمع العراقي وعلى أحلام الإنسان القليلة، وتحكي قصة حب معقدة تتضمن أشباح حبيبة البطل. وتعتبر هذه الرواية أيضًا دراسة عن الحي الشعبي الكبير في بغداد، مدينة الثورة الصدر، وصراع أبنائه مع مصائرهم، وحال البلد تحت حكم الاستبداد البعثي.

2.    رواية "دهاليز للموتى" للكاتب حميد الربيعي: هي أول رواية عن غزو الكويت، وما فعله صدام من جريمة كبرى، وربما هي الروايةُ الأولى في العراق التي نظرت إلى هذا الحدث من أرض الواقع، بعين عراقية، لأن هناك روائيين كويتيين كتبوا عن ذلك، طبعاً من وجهة نظر كويتية منفعلة، ومن هنا تأتي قيمة هذا العمل الروائي، صحيح أن الرواية لم تكن تأريخا أو توثيقا لما حدث ؛ لكنها نقلت جزءاُ غير قليلٍ مما حصل في مسرح الأحداث.

3.    رواية «الحقد الأسود»، للكاتب شاكر خصباك، والتي عنونها لاحقاً بـ«السؤال»، وتناول فيهما التعذيب خلال الفترة التي جاء فيها البعث لحكم العراق بعد الانقلاب على عبد الكريم قاسم، كان خصباك أحد معتقلي ذاك الانقلاب، هو لم ينضم الى الحزب الشيوعي، لكنه كان من المقربين له؛ روايته "الحقد الأسود" هي ذاكرته وذكرياته وهو في معتقل "قصر النهاية"، رأى كل صنوف التعذيب والالم، لم يبخلوا عليه بأية وسيلة للتنكيل به، شاهد عمليات التعذيب وسمع انين وتأوهات المعذبين، ووقف على المنتحرين والذين يموتون تحت التعذيب، سمع قصص الاغتصاب التي كانت تجري؛ بعد ستة أشهر قضاها بمعتقلات الحرس القومي، سارع ليسجل ما علق في ذاكرته، فكانت سفر من 150 صفحة مليئة بالاسى والحزن.

4.    رواية سفاستيكا، للكاتب علي غدير، سفاستيكا هي كلمة سنسكريتية الأصل، تعني «مفض إلى الرفاهة»، لها رمز يتمثل بصليب معقوف، اعتُبر منذ القدم رمزا للازدهار والحظ السعيد، وسبق أن عرفه العراقيون والهندوس والهنود الحمر، تناول الكاتب فترة صعود صدام وصور لنا  سلوكيات العائلة الحاكمة الغريبة، وحاول الكاتب من خلال روايته هذه أن يثبت إمكانية أن يصنع الإنسان لنفسه حظا سعيدًا، يلغي الاعتقاد السائد بأن الإنسان يولد سعيدا أو شقيا، فهو يجذب الخير من خلال التفاؤل به، ويجذب الشرّ من خلال التشاؤم به.

***

الكاتب: اسعد عبدالله عبدعلي

إن دراسة ديوان الشاعرة والأديبة سليمة مليزي من زوايا نقدية متعددة، يلزمني بتقسيم الدراسة إلى عدة محاور تشمل التحليل السيميائي، التفكيكية، الثقافي، الاجتماعي، والنفسي، بالإضافة إلى النظر في الأدب النسوي وأثره في تشكيل هوية المرأة في أشعارها.

1. التحليل السيميائي:

التحليل السيميائي لقصائد سليمة مليزي يكشف عن استخدام رموز متعددة تعكس حالة الاضطراب والتقلبات العاطفية. الكلمات مثل "الروح"، "النقاء"، "الشوق"، "النغمة"، و"الحب" تظهر بشكل متكرر، مما يشير إلى مدى تأثير العواطف العميقة على الشاعرة. هذه الرموز غالبًا ما تكون مرتبطة بمفاهيم الحب، الحنين، الفقدان، والتعلق العاطفي. إن الشاعرة تستعمل هذه الرموز كوسيلة للتعبير عن مشاعرها الشخصية، وكذلك كأداة لاستكشاف عمق تجاربها النفسية.

2. التحليل التفكيكية:

من خلال التحليل التفكيكية، يمكن الكشف عن التناقضات الكامنة في نصوص مليزي. يظهر في قصائدها صراع داخلي بين القوة والضعف، بين التعلق بالحب والرغبة في التحرر. على سبيل المثال، في القصيدة "اغضب كما تشاء"، نجد تناقضًا بين رغبة الشاعرة في الانفصال عن الحب وبين تمسكها بالكبرياء. هذه الازدواجية تعكس التوترات الداخلية التي تعيشها الشاعرة، مما يبرز تعقيد مشاعرها وتجاربها.

3. التحليل الثقافي:

السياق الثقافي الذي كتبت فيه سليمة مليزي لا يمكن إغفاله عند تحليل ديوانها. الشاعرة، كابنة شهيد ومنحدرة من عائلة ثورية، تعكس في قصائدها تجربة حياة مليئة بالصراعات والتحديات. يظهر ذلك بوضوح في قصائدها التي تتحدث عن القرى والاضطرابات التي عاشتها. استخدام الرموز الوطنية مثل "الجزائر"، "الشهيد"، و"الوطن" يبرز التعلق العميق بالشعب والوطن، مما يعكس جزءًا من الهوية الثقافية للشاعرة.

4. التحليل الاجتماعي:

من خلال قصائدها، تسلط سليمة مليزي الضوء على العلاقات الاجتماعية والتأثيرات التي تشكلت نتيجة للأحداث التاريخية والسياسية في الجزائر. القصائد التي تعبر عن تجاربها كابنة شهيد تحمل وزنًا اجتماعيًا كبيرًا، حيث تعكس آثار الاستعمار والتضحية الشخصية من أجل الوطن. هذه القصائد توضح كيف أن الظروف الاجتماعية أثرت بشكل كبير على تشكيل هويتها وكتاباتها.107 salyma

5. التحليل النفسي:

التحليل النفسي لقصائد سليمة مليزي يكشف عن أعماق تجربتها العاطفية والنفسية. قصائد مثل "صهوة عطرك"، "رفقًا بهذا النبض"، و"شهد القلب" تبرز تجربة حب عنيفة وتقلبات عاطفية مستمرة. الحب بالنسبة للشاعرة يمثل قوة مهيمنة تتحكم في حياتها ومشاعرها، وهذا يظهر من خلال وصفها للحب كقوة تؤدي إلى الشوق والحنين، ولكن أيضًا كقوة تعزز الكبرياء الشخصي والكرامة.

6. الأدب النسوي:

فيما يخص الأدب النسوي، يمكن أن نرى أن سليمة مليزي تجمع في قصائدها بين التعلق بالرجل من جهة والرغبة في إثبات ذاتها كأنثى مستقلة من جهة أخرى. التناقض بين حبها الشديد للرجل ووصفه بأنه "ثوبها" و"دفءها"، وبين بحثها عن هويتها الخاصة يظهر بوضوح في قصائدها. هنا، تعكس الشاعرة صراع المرأة بين التقاليد التي تربطها بالرجل وبين رغبتها في التحرر والتعبير عن نفسها ككيان مستقل.

1. الشعر الرومانسي:

- في هذا النوع من الشعر، تعبر مليزي عن مشاعرها العميقة تجاه الحب والعاطفة. قصائدها تحتوي على عناصر من الحب العنيف، الشوق، الحنين، والتقلبات العاطفية. تستخدم الصور الحسية والمجازات للتعبير عن مشاعر الحب المعقدة والصراعات الداخلية.

2. الشعر الوطني:

- مليزي تنتمي إلى عائلة ثورية، مما ينعكس في قصائدها الوطنية التي تعبر فيها عن حبها للوطن وتقديرها للتضحيات التي قدمها الشهداء من أجل الحرية. تستخدم في قصائدها الرموز الوطنية مثل "الشهيد" و"الجزائر"، وتظهر إحساسًا قويًا بالانتماء والوطنية.

نوع الأدب:

سليمة مليزي تمارس الأدب النسوي، وهو نوع من الأدب يعبر عن تجارب المرأة ومشاعرها واهتماماتها، ويسعى لإثبات وجود المرأة في المجتمع كمبدعة مستقلة. في شعرها، تجمع بين التعلق بالرجل من جهة والرغبة في تحقيق ذاتها كأنثى مستقلة من جهة أخرى، مما يعكس صراع المرأة بين التقاليد والرغبة في التحرر.

إضافة إلى ذلك، شعرها ينتمي أيضًا إلى الأدب العاطفي والأدب الوطني، حيث تجمع بين التعبير عن المشاعر الشخصية العميقة وبين الإحساس بالمسؤولية الوطنية. هذا المزج بين الجانبين يعكس تنوع اهتماماتها الأدبية ويظهر قدرة شعرها على التأثير في مجالات متعددة.

الخلاصة:

ديوان سليمة مليزي يشكل نموذجًا معقدًا ومتنوعًا من التجارب العاطفية والنفسية التي تتجسد في سياق اجتماعي وثقافي متشابك. من خلال استكشاف هذه الجوانب المتعددة، يمكننا أن نفهم عمق تأثيراتها كشاعرة وأديبة على جمهورها، وكذلك كيف تسعى لإثبات ذاتها في مجتمع يتسم بالتقاليد والاضطرابات السياسية. هذا التوازن بين التعلق بالرجل والسعي للاستقلال يعكس بشكل كبير تحديات الأدب النسوي في المنطقة العربية.

سليمة مليزي هي شاعرة وأديبة تعبر عن مشاعرها وتجاربها من خلال قصائد تنتمي إلى نوع الشعر الرومانسي والشعر الوطني، حيث تتمحور قصائدها حول مواضيع الحب، الفقدان، الحنين، وكذلك الانتماء للوطن والنضال من أجل الحرية.

***

بقلم: رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

مفهوم الثقافة لغة: جاء في "لسان العرب": ثُقف الرجل ثقافةً أي صار حاذقاً، وثقف الشيء قومه وأزال اعوجاجه -  ورجل ثَقِفٌ أي فطنٌ.

فالتثقيف يعني التقويم، والتهذيب، والتنقيح.

الثقافة اصطلاحاً:

بالرغم من تعدد المفاهيم التي تناولت الثقافة ودلالاتها، حتى كادت أن تتجاوز المئة تعريفاً، بل تجاوزتها، يمكننا أن نعرفها  في سياقها العام بأنها: مجموع ما قام الإنسان بإنتاجه في الاتجاهين الماديّ والروحيّ عبر علاقته التاريخيّة مع الطبيعة والمجتمع، مضافاً إليها كل ما اكتسبه هذا الإنسان من مهارات وخبرات عضليّة بفعل نشاطه الفرديّ، أو ما تجذر عنده من قابليات واستعدادات فطريّة انطبعت في جيناته بفعل نشاطه التاريخيّ..(1).

أهميّة النقد الثقافي:

يعد النقد الثقافي من أهم الظواهر الأدبيّة التي رافقت (ما بعد الحداثة) في مجال الأدب والنقد، وقد جاء بمثابة رد فعل على البنيويّة اللسانيّة، والسيميائيات، والنظريّة الجماليّة التي تعتني بالأدب باعتباره ظاهرة لسانيّة شكليّة من جهة، أو ظاهرة فنيّة وجماليّة (شعريّة) من جهة أخرى. هذا وقد استهدف "النقد الثقافي" تقويض البلاغة والنقد الأدبي معاً، بغية بناء بديل منهجي جديد، يتمثل في (المنهج الثقافي) الذي يهتم باستكشاف الأنساق الثقافيّة المضمرة، ودراستها في سياقها الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، والتاريخي، والمؤسساتي، إما فهماً أو تفسيراً.

ويرى المفكر المصري "صلاح قنصوه" (1936-2019): (أن النقد الثقافي ليس منهجاً بين المناهج الأخرى، أو مذهباً أو نظريّةً، كما أنه ليس فرعاً أو مجالاً متخصصاً بين فروع المعرفة ومجالاتها، بل هو ممارسة أو فاعليّة تشتغل على دراسة كل ما تفرزه الثقافة من نصوص سواء  أكانت ماديّة أو فكريّة. ويعني النص هنا هو ما تحققه أو تولده كل ممارسة قولاً أو فعلاً أو معنى أو دلالة.).(2). ويمكن القول أيضاً: (إن النقد الثقافي هو نشاط فكري يتخذ من الثقافة بشموليتها موضوعاً لبحثه وتفكيره، ويعبر عن مواقف إزاء تطوراتها وسماتها.). (3)

بينما يرى نقاد آخرون أن النقد الثقافي هو (منهج) سبقنا إليه الغرب (أمريكا وفرنسا)، له أدواته للكشف عن المضمر النسقي في العمل الأدبي. (4). و"النسق الثقافي" كما حدد دلالاته وسماته عبر وظيفته التي يؤديها في النص الناقد السعودي "عبد الله الغذامي" ، بأنه وظيفة تتحقق (حينما يتعارض نسقان أو نظامان من أنظمة الخطاب أحدهما ظاهر والآخر مضمر، ويكون المضمر ناقضاً وناسخاً للظاهر. ويكون ذلك في نصّ واحد، أو في ما هو في حكم النصّ الواحد. ويشترط في النصّ أن يكون جماليّاً،  وأن يكون جماهيريّاً.). (5).

على العموم ليس المهم عندنا أن يكون النقد الثقافي، منهجاً أو نظريّة أو نشاطاً نقديّاً، بقدر ما يهمنا بأنه فرع من فروع النقد النصوصي العام. وهو أيضاً أحد علوم اللغة، المعني بنقد الأنساق المضمرة التي ينطوي عليها الخطاب الثقافي بكل تجلياته وأنماطه. وهو نقد غير مؤسساتي وغير رسمي. إذاً هو معنيّاً ليس بكشف مضمرات النص الأدبي ومرجعياته التاريخية والاجتماعية والسياسية والدينية .. الخ فحسب، وإنما هَمُه الكشف أيضاً عن الأقنعة المخبوء جماليّاً وبلاغيّاً.(6). إضافة لذلك فهو ظاهرة من الظواهر التي تزامنت مع نقد ما بعد الحداثة في الأدب والنقد، وقد راح يستعين بجميع المناهج ليتمكن من كشف وتعرية الأنساق الثقافيّة المضمرة الموجودة في الخطابات الثقافيّة كما بينا أعلاه .

تاريخ ظهور النقد الثقافي:

لقد ظهر النقد الثقافي نتيجة لتوسع الثقافة في النصف الثاني من القرن العشرين، فالثقافة في عمليّة توسعها استطاعت أن تمنح الفرد القدرة على الإبداع والابتكار والخلق، وبالتالي منحت  في حالة توسعها الناقد الثقافي تلك القدرة على كشف العيوب النسقيّة الموجودة في الثقافة ذاتها، دون تفريق بطبيعة الحال بين ثقافة النخبة المختارة، والأخرى الجماهيريّة، ولا بين الآداب الرفيعة والآداب الشعبيّة. (7).

بيد أن الظهور الفعلي والحقيقي للنقد الثقافي لم يتحقق إلا في ثمانينيات القرن العشرين المنصرم والتحديد في عام (1985) في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استفاد هذا النقد من البنيويّة اللسانيّة، والانثروبولوجيا، والتفكيكيّة، والحركة النِسويّة، ونقد الجنوسة، وأطاريح ما بعد مرحلة الاستعمار. أي نقد ما بعد الحداثة عموماً، ويعتبر الناقد الأمريكي "فنسنت .ب. ليتش" أول من تبلور على يده مصطلح النقد الثقافي منهجياً في  كتابه: ”النقد الثقافي – النظريّة الأدبيّة ما بعد البنيويّة"  الذي صدر في عام (1992)، ونقله إلى العربيّة "هشام زغلول" الصادر عن المركز القومي للترجمة في مصر. فـ"ليتش" في طرحه هنا ينتمي إلى نقد (ما بعد الحداثة)، فهو يقوم بتشريح النص تفتيتاً وتفكيكاً، بغية استجلاء الأنظمة غير العقليّة، ولأنساق الثقافيّة الأيديولوجيّة، ضمن رؤية انتقاديّة وظيفيّة. وبتعبير آخر، يتعامل "ليتش" مع النص أو الخطاب، بالتركيز على الأنظمة العقليّة واللاعقليّة، وتفكيكها اختلافاً وتقويضاً وتضاداً على غرار التصور التفكيكي عند "جاك دريدا". ويعمل أيضاً على نقد المؤسسات الأدبيّة التي توجه أذواق القراء بالطريقة التي ترتضيها هذه المؤسسات لما لها من تأثير سلبي على طريقة التلقي والاستجابة لدى القراء.(8). وهذا يدل على أن المنهج الثقافي قد تأثر بمنهجيّة "جاك دريدا" التفكيكيّة القائمة على التقويض، والتشتيت، والتشريح، ولكن ليس من أجل إبراز (التضاد والمتناقض، وتبيان المختلف إضاءة، وهدماً)، بل من أجل استخراج الأنساق الثقافيّة عبر النصوص والخطابات، سواءً أكانت تلك الأنساق الثقافيّة مهيمنة أو مهمشة، وموضعتها في سياقها المرجعي الخارجي، وتبيان مدى تأثر هذه الأنساق بالدراسات الثقافيّة المتنوعة، كالماركسيّة الجديدة، والتاريخانيّة الجديدة، والماديّة الثقافيّة، والنقد الاستعماري (الكولونيالي)، والنقد النِسوي الذي يدافع ثقافيّاً عن كينونة التأنيث في مواجهة سلطة التذكير.  (9).

مبادئ المنهج النقدي الثقافي:

1- يعتبر النقد الثقافي صورة جديدة من العودة إلى ربط النص بمحيطه الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتاريخي. وعليه، فالنقد الثقافي يقوم بدراسة الأدب الفني والجمالي باعتباره ظاهرة ثقافيّة مضمرة. أو بتعبير آخر، هو الذي يربط الأدب بسياقه الثقافي غير المعلن. ومن ثم، لا يتعامل النقد الثقافي مع النصوص والخطابات الجماليّة والفنيّة على أنها رموز جماليّة ومجازات شكليّة موحية، بل على أساس أنها أنساق ثقافيّة مضمرة ومتوارية بامتياز، تعكس مجموعة من السياقات الثقافيّة التاريخيّة، والسياسيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والأخلاقيّة، والقيم الحضاريّة والإنسانيّة. ومن هنا، يتعامل النقد الثقافي مع الأدب الجمالي ليس باعتباره نصاً، بل بمثابته نسقاً ثقافيّاً يؤدي وظيفة نسقيّة ثقافيّة تضمر أكثر مما تعلن.(10).

2- وما يميز المنهج النقدي الثقافي أنه ليس مدرسة محددة المعالم، وإنما هو قابل للتبدل بتبديل شخصيّة الناقد وثقافته وتوجهاته وطبيعة النص وقضاياه. أي إن النقد الثقافي مفتوح على التفسير والتأويل وعلى مناهج السيمائيات وتحليل الخطاب ومختلف العلوم الإنسانيّة المحيطة بالأدب، بل إنه مرتبط بحركات فكريّة وثوريّة كالحركة النِسويّة، وحركة ” الزنوجة ” وصراع الحضارات والثقافات وغير ذلك، مما يقع في باب الخطاب المضمر في النص، والنسق المضمر المحرك له .(11).

3- هو يميز بين النقد الثقافي والنقد الأدبي، إذ يرى أن النقد الأدبي بقي على تقليديته في نقد النصوص الأدبيّة والفنيّة وتفسيرها وتأويلها، ثم إصدار الحكم النقدي المتعارف عليه ضمن مصطلحاته المعروفة، بيد أن النقد الثقافي لا يحل محل النقد الأدبي أو يلغيه، فالعلاقة بينهما علاقة تكامل لا علاقة تنافس أو الغاء لأن النقد الثقافي ينفتح ويستعين بكل المناهج ومنها النقد الأدبي (12).

4- كما يسعى النقد الثقافي إلى إلغاء الطبقيّة الثقافيّة لكونه يركز على أنواع الخطابات عامة، ويدعو إلى المساواة بين الأثرياء والفقراء، ويمقت التمايز الطبقي والعنصري، ويعري الظلم الذي يسلط على المهمشين من خلال تركيزه على ضرب المركز ليتساوى المهمش معه، ويعري ثقافة المؤسسة لتتساوى معها الثقافة الشعبية المهمشة.(13).

5- والنقد الثقافي لا يهمش الآخر سواء كان ذكراً أم انثى، ولا يفرق بين فقير أو غني، ويعلي من شأن الحريّة والمساواة والديمقراطيّة. وقد ساعده تبنيه للحريّة والديمقراطيّة على كشف الأنساق الظاهرة والمضمرة المختلفة التي أنتجت أو تحكمت بالنص سياسيّة كانت، أو اقتصادية، أو دينيّة أو اجتماعيّة، أو قومية أو عرقيّة أو أخلاقيّة من جهة. إضافة إلى أن هذه الأنساق بإمكانها التعبير عن ذواتها بحريّة من جهة ثانيّة، فضلاً على أنه بنقده الأنساق المضمرة والظاهرة في كل الخطابات وبكل أنواعها وصيغها، أخذ يمثل في سياقه العام نقداً إنسانيّاً يخدم الانسان دون النظر إلى مرجعيته الأيديولوجيّة أو القوميّة أو العرقيّة أو الدينيّة أو الطبقيّة .(14).

6- وبناءً على هذا الموقف الإنساني الذي بينا توجهاته أعلاه، فالنقد الثقافي يسعى في أهدافه إلى زحزحة المركزيّة الذكوريّة التي تقصي المرأة، ويعري ذكوريّة المجتمع التي أوجبت هذا التمايز بينهما. وبالتالي الدعوة أو العمل على مساواتها مع الرجل في الحقوق والواجبات.

7- كما التزم النقد الثقافي بقضايا الشعوب ومشكلاتها المجتمعيّة، وبآمالها وطموحتها، وعلى هذا الالتزام راح يعري فهم المؤسسات الرسميّة التي تتبنى النص الجمالي كنص بعيداً عن محيطه أو مرجعياته التي أشرنا إليها سابقاً، سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة وغيرها، فهو ينفتح إلى ما هو أبعد من اهتمامات هذه المؤسسات وإلى ما هو أبعد من الجمالي، مركزاً على أنظمة الخطابات المتنوعة، يحفر في داخلها من أجل معرفة معانيها الغامضة.(15).أي إن النقد الثقافي هو تحليل التصورات الثقافيّة للعالم، كما أنه يدخل في نقد أعم هو النقد الحضاري. وفي اللغات الأجنبية يستعمل لفظ Cultural للنقدين معاً. فالنقد الحضاري هو النقد الثقافي من منظور أعم، كون الثقافة وعي تاريخي، وتراكم من الماضي إلى الحاضر. وهي – أي الثقافة - رؤية للعالم تعبر عن ثقافات الشعوب وخصائصها. وعلى هذا الأساس يشتمل النقد الثقافي أربع حلقات متداخلة من الأصغر إلى الأكبر، من (النقد الأدبي، إلى النقد الثقافي، إلى النقد الاجتماعي، إلى النقد الحضاري.)، وتتشارك هذه الحلقات في مركز واحد هو النص، وتنتهي إلى دائرة واحدة هي الواقع. ويمكننا أن نعطي مثالاً على هذه التوجهات أو الحلقات الأربعة التي يمثلها النقد الأدبي، على سبيل المثال لا الحصر: ” النقد الأدبي عند عبد القاهر الجرجاني، والنقد الثقافي عند ابن رشد، والنقد الاجتماعي عند ابن خلدون، والنقد الحضاري عند إدوارد سعيد ” (16).

سمات وخصائص النقد الثقافي:

وهي برأيي سمات وخصائص لا تخرج في الحقيقة عن جوهر أو مضمون المبادئ التي أشرنا إليها أعلاه:

1- ” إبعاد الانتقائيّة المتعاليّة التي تفصل بين النخبوي والإنتاج الشعبي، فيقوم النقد الثقافي بدراسة ما هو جمالي وغير جمالي.

2- كشف جماليات أخرى في النص لم يُلتفت إليها من قبل.

3- الدخول في عمق النص بدلاً من النظرة السطحيّة.

4- كشف القيم النبيلة والحقيقيّة للنص.

5- تذوق النص بوصفه قيمة ثقافيّة، لا مجرد قيمة جماليّة فحسب، وذلك من خلال الكشف عن حقائق تحيط بالنص وقائله.

6- ربط العلوم الإنسانيّة بالأدب (علم الاجتماع، علم النفس، التاريخ…) مما يساهم في إثراء النص والساحة الثقافيّة.

7- ربط النقد الثقافي بالعمل السياسي، فهو يربط عمل المثقف بالسلطة، والسلطة بالمثقف، ويدرس العلاقة المترتبة على ذلك.

8- كشف حقائق متعلقة بالنصوص المهمشة من خلال إلقاء الضوء عليها، حيث يهتم هذا النوع من النقد بنصوص المعارضة، والأدب الشعبي، والأدب النسوي، ونحو ذلك.

9- يتناول النقد الثقافي النسق المضمر في الثقافات المحليّة، للارتقاء بها وتسويقها إلى العالميّة “.

10- هو يميز بين "النقد الثقافي" و"نقد الثقافة"، أو "الدراسات الثقافيّة". فالنقد الثقافي هو الذي يتعامل مع النصوص والخطابات الأدبيّة والجماليّة والفنيّة، فيحاول استكشاف أنساقها الثقافيّة المضمرة غير الواعية، وينتمي هذا النقد الثقافي إلى ما يسمى بنظرية الأدب على سبيل التدقيق. في حين، تنتمي الدراسات الثقافيّة أو نقد الثقافة إلى الانثروبولوجيا، والاثنولوجيا، وعلم الاجتماع، والفلسفة، والإعلام، وغيرها من الحقول المعرفية الأخرى. وهذا يعني - بمعنى أدق - أن الدراسات الثقافيّة تركز على مختلف الخطابات الثقافيّة التي تنتجها المجموعات البشريّة المختلفة والمتنوعة، وعلى مستوى المثاقفة بين تلك الثقافات، وعلى أنواع من الثقافات الخاصة والعامة والهامشية، وبالخصوص الهيمنة الثقافيّة التي راحت تفرض نفسها عبر ما يسمى النظام العالمي الجديد والعولمة. (17).

وفي هذا السياق، يقول "عبد الله الغذامي ”(ونميز هنا بين ” نقد الثقافة ” و” النقد الثقافي “، حيث تكثر المشاريع البحثيّة في ثقافتنا العربيّة، من تلك التي عرضت وتعرض قضايا الفكر والمجتمع والسياسة والثقافة بعامة، وهي مشاريع لها إسهاماتها المهمة والقويّة، وهذا كله يأتي تحت مسمى ” نقد الثقافة “، كما لابد من التمييز بين الدراسات الثقافيّة من جهة والنقد الثقافي من جهة ثانية، وهذا تمييز ضروري التبس على كثير من الناس حيث خلطوا بين ” نقد الثقافة ” وكتابات ” الدراسات الثقافية “، وما نحن بصدده من ” نقد ثقافي “، ونحن نسعى في مشروعنا إلى تخصيص مصطلح ” النقد الثقافي ” ليكون مصطلحاً قائماً على منهجيّة أدواتيّة وإجرائيّة تخصه، أولاً، ثم هي تأخذ على عاتقها أسئلة تتعلق بآليات استقبال النص الجمالي، من حيث إنه المضمر النسقي لا يتبدى على سطح اللغة، ولكنه نسق مضمر تمكن مع الزمن من الاختباء، وتمكن من اصطناع الحيل في التخفي، حتى ليخفى على كتاب النصوص من كبار المبدعين والتجديديين، وسيبدو الحداثي رجعيّاً، بسبب سلطة النسق المضمر عليه.). (18).

أهداف النقد الثقافي:

وهكذا نجد أن النقد الثقافي في سياقه العام يعني التوسع في مجالات الاهتمام والتحليل للأنساق، حتى غدا جزءاً من كل الدراسات الثقافيّة، بما تعنيه الثقافة التي توجز أيضاً بأنها ” دائرة نشاط الإنسان المتحققة على الأرض فعلاً نشطاً، والراسخة، فيمن يدب فوقها من البشر أثراً باقياً “. وعلى هذا الأساس، يمكن لنا أن ندخل النقد الأدبي مع النقد الثقافي، الذي بدوره يضم كماً من المعارف الإنسانيّة والفلسفيّة، والأدبيّة. ومن هنا، فلا خوف على الأدب من هجر الخصوصيّة التي يمثلها في طريقة التعامل معه، وبذلك تتم دراسة النص بكونه أدباً، وبكونه خطاباً ثقافيّاً (19).

الناقد السعودي عبد الله الغذامي:

"عبد الله بن محمد بن عبد الله الغذامي"، من مواليد عام (1946) في عنيزة. أكاديمي وناقد أدبي وثقافي سعودي، وأستاذ النقد والنظريّة في كلية الآداب، قسم اللغة العربيّة، بجامعة الملك سعود بالرياض. ومنح جائزة "الشيخ زايد" للكتاب عام (2022)م  تقديراً لجهوده المتميزة في ميدان النقد الثقافي، ودراسات المرأة والشعر والفكر النقدي التي بدأت منذ منتصف الثمانينات وأحدثت نقلة نوعيّة في الخطاب النقدي العربي.

أبرز أعماله:

تميزت أعمال "الغذامي" بالتنوع، فهو صاحب مشروع في النقد الثقافي، وآخر حول المرأة، وحول اللغة، وكان أول كتبه دراسة عن خصائص شعر "حمزة شحاتة" الألسنيّة، تحت اسم (الخطيئة والتكفير: من البنيويّة إلى التشريحيّة)..(20).

لديه كتاب أثار جدلاً يؤرخ للحداثة الثقافيّة في السعودية تحت اسم (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعوديّة).

ويعتبر الناقد السعودي "عبد الله الغذامي" أول باحث عربي تبنى (النقد الثقافي) بمفهومه العربي في كتابه “النقد الثقافي- قراءة في الأنساق العربيّة الثقافيّة” الصادر عام (2000)0. لقد كان "الغذامي" جريئاً في تحطيم ما يعتري الثقافة العربيّة من أنساق مضمرة، وهتك أسرارها بما لم يفكر فيها أحد من قبل، كما فعل في نقده للمتنبي ونزار قباني على سبيل المثال لا الحصر، فأبرز الأنا عند الأول ودونية المرأة عند الثاني، وهو أول باحث عربي تسجل له الريادة، فمشروعه مشروع حيوي مهد الطريق أمام الباحثين العرب لتعرية الأنساق الهدامة الموجودة في الخطابات السابقة للنقد الأدبي.(21). معلناً موتها.

نقد مشروع الغذامي:

لقد كانت هناك محاولات عديدة سلطت الضوء على نقد مشروع النقد الثقافي للغذامي، وكان من أهم ما وجه له من نقد هو محاولته غير المعلنة بشكل مباشر، وهي رغبته في نظريّة جديدة دقيقة ومنهجيّة يسميها (النقد الثقافي)، والتي يؤسس أغلب عناصرها ردا على النقد الأدبي. محاولاً تأسيس جل عناصر نظريته من خلال عناصر معروفة في النقد الأدبي: كالمجاز، والتورية... معتبرا أن النقد الثقافي أعم من النقد الأدبي، لذلك فالمؤلف عنده مؤلفان معهود ومضمر (هو الثقافة). وبالتالي يظل السؤال الجدير بالاهتمام هنا هو: لماذا ينبغي تجاوز النقد الأدبي إلى النقد الثقافي؟.

إن النقد الثقافي لا يمكن أن يكون بديلا للنقد الأدبي، وهو ما يحيل عليه الغذامي نفسه ولو بشكل عرضي، لأن النقد الذي يوجهه للنقد الأدبي ليس نقدا فارغا بل هو محمول بنوع من الازدراء وهذا ما جعل المهتمين بالنقد الادبي يصبون جام غضبهم على الغذامي بعد قوله: (إننا نقول بمفهوم المجاز الكلي متصاحباً مع الوظيفة النسقيّة للغة، والاثنان معاً مفهومان أساسيان في مشروعنا في النقد الثقافي كبديل نظري وإجرائي عن النقد الأدبي).(22). كما يذكر مؤكداً على رغبته هذه التي جاءت في مقدمة كتابة (النقد الثقافي)، وعاد ليكرر هذا القول ذاته ولكن بصيغة أخرى في ندوة عن الشعر عقدت في تونس  تاريخ 22 ستنبر (1997). وفي مقالة له كذلك في جريدة الحياة (أكتوبر 1998): (وبما أن النقد الأدبي غير مؤهل لكشف الخلل الثقافي فقد كانت دعوتي بإعلان موت النقد الأدبي، وإحلال النقد الثقافي مكانه.).(23). وهنا نلاحظ الرغبة الخفيّة في مشروع الغذامي والمتمثلة في العمل على استبدال النقد الأدبي بالنقد الثقافي، كونه يراه أو يتصوره بديلاً. وهذا برأي ما يجعل المشتغل على مشروعه في النقد الثقافي يفقد القدرة على تحديد ملامحه بين كونه باحثاً أو ناقداً.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

............................

الهوامش:

1- (موقع صحيفة المثقف – د. عدنان عويّد - الثقافة والتثاقف.. الثقافة الْعَالِمَة أنموذجا.).

2- (صلاح قنصوه: تمارين في النقد الثقافي، دار ميريت، القاهرة ، ط1، 2002، ص5.).

3- 4- (ميجان الرويلي، سعد البازعي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2002، ص.305).

4- (موقع  قناص - مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل | د. حسام الدين فياض).

5- (جامعة البصرة - مركز دراسات البصرة والخليج العربي أخبار ابن قتيبة - دراسة في النسق الثقافي -م.د خالد صكبان حسن).

6- (عبد الله الغذامي: النقد الثقافي – قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2005، ص.83-84.). بتصرف.

7- (قناص - مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل | د. حسام الدين فياض). بتصرف.

8- (جميل حمداوي: النقد الثقافي بين المطرقة والسندان، دار الريف للطبع والنشر الإلكتروني، المغرب (تطوان)، ط1، 2015، ص13). بتصرف.

9- (المرجع نفسه - ص.5). بتصرف.

10- (مركز نقد وتنوير - مفهوم النقد الثقافي في مشروع المفكر العراقي ماجد الغرباوي.). بتصرف.

11- (موقع نقد وتنوير - مفهوم النقد الثقافي في مشروع المفكر العراقي ماجد الغرباوي). بتصرف

12- (حمزة عبيس الجنابي: رؤية في النقد الثقافي، قسم الإعلام، جامعة المستقبل، العراق (بابل)، 05/03/ 2005. – عن مجلة قناص - مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل). بتصرف.

13- (مجلة قناص - مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل).) بتصرف.

14- (جامعة د. موالي الطاهر سعيدة - كلية الآداب واللغات والفنون – قسم الأدب العربي - النقد الثقافي عند عبد هللا الغذامي - مذكرة مكملة لنيل شهادة الماسترLMD في اللغة العربية وآدابها –الطالبة - قداري الضاوية.) لتصرف.

15- (حمزة عبيس الجنابي: رؤية في النقد الثقافي، قسم الإعلام، جامعة المستقبل، العراق (بابل)، 05/03/ 2005.) بتصرف.

16- (محرر الصحيفة: من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، صحيفة الاتحاد، 19/ يوليو / 2019.). بتصرف.

17- (للاستزادة في معرفة خصائص وسمات النقد الثقافي يراجع -جامعة تلمسان - الأستاذ الدكتور  بن اعمر - محاضرات خاصة بالسداسي السادس نقد ومناهج - في مقياس النقد الثقافي - قسم اللغة والأدب العربي).

18- (عبد الله الغذامي، عبد النبي اصطيف: نقد ثقافي أم نقد أدبي، دار الفكر، دمشق، ط1، 2004، ص.37-38.).

19- (مجلة بحوث كلية الآداب – جامعة المتوفية - نظرية النقد الثقافي ما لها وما عليها - د. ملحة بنت معلث بن رشاد السحيمي - أستاذ مساعد في الأدب والنقد بقسم اللغة العربية - كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة طيبة بالمدينة المنور.). بتصرف.

20- (الويكيبيديا – بتصرف).

21- (قناص - مجلة ثقافية – حول مفهوم النقد الثقافي: محاولة للتأصيل | د. حسام الدين فياض). بتصرف.

22- عبد الله الغذامي: "النق الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2000. ص. 79.

23- حول النقد الموجه لعبد الله الغذامي  - راجع موقع - http://rachidelalaoui.blogspot.com/ - النقد الثقافي عند الغذامي.

لقد امتد تيار التجريب ليشمل الرواية والقصة والقصة القصيرة والقصيرة جداً، فعلى صعيد القصة القصيرة خلقت لنفسها تميزا في الساحة الادبية، حيث حققت جماليات على مستوى البناء والفكرة حيث حاول كتابها الخروج عن المألوف والسائد وتكريس كل ما هو جديد، حيث استفاد القاص من الموروث الحكائي والانفتاح على الغرب والتعرف على تقنيات الكتابة السردية العربية والغربية ولعل أهم آليات التجريب الموظفة في القصة القصيرة على اختلاف تمثلها ودرجات وعي كتابها تتجلى في تكسير الميثاق السردي المتعارف عليه، والخروج عن نمطية بنياتها، بتغير طريقة التعامل مع مكونات الخطاب وكسر الحدود بين مختلف الاجناس الادبية، وكذلك الاجناس غير الادبية (كالموسيقى، والتراث، والتاريخ، والصحافة، والسينما، والاسطورة .. وهذا ما لمسته في القصة القصيرة (رؤيا الملك) للقاص أركان القيسي في اتباع هذه الطرق في تحقيق المغايرة واكتساب تجربته القصصية سمات الجدة وتجاوز ما هو سائد في السرد والاستفادة من امكاناتها التعبيرية وتوسيع فضاء التخييل لديها .

نسيج القص

ما يلاحظ في الوهلة الاولى كيف يبدو الاهتمام بكيفية استلهام التاريخ ابتداء من عنوان القصة القصيرة (رؤيا الملك) على اعتبار أن العنوان يمثل واجهة العمل السردي وأول عتبة نصية يقف عندها القارئ قبل الولوج الى الفضاء القصصي وما يملكه العنوان من سيادة وما له في الواقع من تأثير على أي تفسير ممكن للنص اذ يحاول الكاتب من خلاله أن يثبت في قصده بوصفه النواة التي يخيط عليها نسيج القص، فمن خلال استقراء العنوان وما يحمله من دلالات يمكن ان نتوقع ما سيحكيه النص .

ان عنونة القصة (رؤيا الملك) يملي علينا النظر فيه والوقوف عنده وما يتضح علاقته بالتاريخ والموروث الحكائي والتناص (القص) القرآني (رؤيا الملك الفرعوني" وقال الملك اني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات " يوسف : 43 " ، وان هذا التقاطع بين العنوان والتاريخ الذي قد لا يظهر بشكل جلي في العنوان وانما بعد أن نقرأ استهلال النص نصل الى نتيجة هذا التقاطع :

"الرؤية هذه المرة ليست في مصر بل في بلاد أرض السواد، حيث لم ير الملك في منامه سبع بقرات سمان ولم ير السنبلات الخضر ولا اليابسات، ولم يجد كهنة آمون لتعبير رؤياه"

ومن هذا الاستهلال قد يبني القارئ من البداية ويهيئ نفسه لقراءة نص قصصي ذي صلة بالموروث الديني .

الا ان القاص حاول ان يجسد في قصته (رؤيا الملك) الواقع العراقي في فترة التسعينيات وما وقعت من احداث والظروف التي اسهمت في احداث تغيرات وحصول الانتفاضة ضد النظام الشمولي، حيث صور الكاتب الماضي القريب الواقع الاليم الذي عاشه المجتمع العراقي في تلك الحقبة وهو يستحضر الحرب، الانتفاضة والحصار / التاريخ / الذاكرة.

" رأى في المنام عاصفة تأتي من حفر الباطن تقلع الصحراء الغربية ويختنق بها أهل الوسط، والسماء تمطر نارا وعاصفة تقطع رؤوس الرجال في الجنوب !!

الاستذكار والتاريخ :

لقد جسدت القصة (رؤيا الملك) في مسار حكايتها ذاكرة المجتمع احياء لأحداث التاريخية التي عاشها الفرد العراقي، حرب حفر الباطن وما تبعها من آثار وويلات صبت على رأس المجتمع العراقي :" وما زاد الطين بلة الحاشية ورجال الدولة اتعبوا العامة من الناس

حتى يتمنى الرجل الموت، بل كان الحي يحسد من يموت في تلك السنوات العجاف.... الطفل يصارع الموت بسبب الجفاف الرجل يعمل أسبوعا من أجل أن يشتري نعله ... اشتدت الأمور على الناس من كل صوب وحدب جداول الأنهار بدأت تحتضر"

 يقوم النص السردي (رؤيا الملك ) في جميع تكويناته على خطاب الذاكرة المسيطر على المادة الحكائية والذي استطاع الكاتب الانتقال بانسيابية بين الازمنة والتواريخ في الماضي القريب للواقع العراقي بالاسترجاع والاستذكار والتفكر والاستحضار والتداعي في شكل متخيل، ان استخدام الذاكرة يتطلب تدخل التاريخ لأنه المحرك الاساسي . استعان القاص القيسي بهذه الالية بغية فتح المجال أمام الانسياب عبر الازمنة المختلفة ولأجل حفظ هذه الاحداث التاريخية في الذاكرة الجماعية ." ازدادت المحنة سوءا وغلت الاسعار واصبحت الحيات جحيم واشتعلت النيران في الاسواق وعجزت المستشفيات عن المعالجة .. الناس يتقاتلون على الخبز "

لاشك ان حضور خطاب الذاكرة في النص القصصي ولجوءه الى التذكر يكون خاضعا لسطوة الذاكرة والتي يهيمن عليها الطابع الذاتي سواء كانت فردية أو جماعية فهي تتسم بالانفعالية والرمزية احيانا هو رغبة من القاص قصد التعبير عن قضايا المجتمع واسترجاع ابرز الاحداث التاريخية التي عاشها العراقيين في تلك الحقبة متأثرا بآلامه وهمومه مما يضطره الى ملء فراغاتها عن طريق التخييل الاسترجاعي كعملية ذهنية

" حتى أرسل الملك إلى ولي عهده يعاتبه على الانكسار والتخلي، ثم أبلغه وذكره هذا تفسير رؤياي من قبل لقد كذب ألخماهو ورفاقه في تفسيرها وجانبوا قول الصواب، سيستمر الجرح بالنزف."

ينقل حقيقته التاريخية المكتظة بالأحداث بأسلوب وسرد مكثف موظفا التناص والرمز .وبهذا تتجسد وظيفة الذاكرة والاستذكار في حفظ الماضي وان هذه الذاكرة التاريخية هي ذاكرة جماعية بالأساس والمنسجمة مع الذاكرة الفردية، فالذاكرة أكثر وقعا من التاريخ بالقياس الى درجة تأثيرها على عامة الناس، باعتبارها عنصرا فاعلا ومعبرا عن ظرفية تاريخية معينة .

***

طالب عمران المعموري

الرواية الفلسفية هي أشبه بلوحة فنية تتداخل فيها ألوان الفكر والخيال، وتهدف إلى استكشاف عمق الوجود ومغزى الحياة من خلال حكاية تتجاوز حدود الواقع المألوف. إنها رحلة في عوالم متخيلة، حيث تتشابك الأفكار والمعاني عبر حوارات رمزية وتفاصيل مشحونة بالدلالات. كما تحاول أن تُضيء ظلام التساؤلات الكبرى حول المعرفة، الأخلاق، والحرية، بل وحتى الكينونة ذاتها. تُقدم الشخصيات فيها كأيقونات لفلسفات مختلفة، تعكس مواقف فكرية متباينة، وكأنها تُناظر في ساحة معركة عقلية، تتحاور وتتجادل حول جوهر الإنسان ومعنى الحياة.

الرواية التي بين أيدينا، "واترلو"، تأخذنا إلى هذا العالم الفلسفي والفكري والاجتماعي والرمزي من خلال سرد غامض يحمل في طياته معاني عميقة وتفاصيل متشابكة.

تبدأ القصة ببطلها، الراوي، الذي يجد نفسه في ساحة معركة غريبة.. يتقاتل جيشان دون أن يتأثر الجنود بالخوف أو يتعرضوا للموت.. أنهم يتقاتلون بابتسامات وهدوء، وكأنهم ممثلون في مسرحية عبثية. يتجول البطل بينهم، دون أن يلاحظه أحد أو يعيره اهتمامًا، وكأن وجوده محض وهم. وفي لحظة مفاجئة، يتم القبض عليه ويُعتبر أسيرًا، ويقررون معاقبته بقذفه نحو البحر باستخدام منجنيق، غير أن الراوي، رغم قسوة الموقف، يشعر بالسلام الداخلي وهو يحلق في الهواء، متأملًا العالم من حوله، العالم الذي تركه خلفه حيث اختفت المعركة وعاد كل شيء إلى طبيعته.

يسقط الراوي في البحر، ويبدأ في السباحة دون أن يشعر بالتعب أو الخوف، بل كان محاطًا بمشاعر باردة وساكنة، ولم يكن البحر عدائيًا له. خلال سباحته، يلمح على البُعد هيكلًا عظميًا لحوت، فيقترب ليكتشف أنه ليس سوى سفينة مهترئة، يصعد إليها ليجد امرأة مقيدة إلى كرسي متآكل ومتعفن. حين يحاول التواصل معها، ترد عليه بطريقة غامضة ومشوشة، تذكر له معركة "واترلو" وتلمح إلى فقدانه لذاكرته.. وتدّعي المرأة أنه طبيب تجميل من القرن الحادي والعشرين، ثم تطلب منه القفز من السفينة والتوجه إلى جزيرة قريبة لممارسة حرفته.

ينصاع الراوي لطلبها، وحين يصل إلى الجزيرة، يجد نفسه بين بشر مشوهين بأشكال غريبة؛ أنوف طويلة، آذان كبيرة، وعيون مشوهة، وأطراف غير طبيعية. يستقبلونه كإله، ويبدأ في إجراء عمليات جراحية لتحسين مظهرهم. لكن سرعان ما يلاحظ أن جمالهم المكتسب قد جرّ عليهم مشاكل جديدة، فقد أصبحوا غيورين وعدوانيين بعد أن كانوا متسامحين ومتعاونين. وفيما يعتقد أنه قد انتهى من علاج الجميع، تقتحم عيادته امرأة مشوهة بوجه قبيح، فيباشر بإجراء عملية جراحية لها. ليتضح له في النهاية أنها نفس المرأة التي قابلها على السفينة.

تبدأ المرأة بالكشف عن حقيقة تجربته، وتوضح له أن ما يعيشه ليس سوى حلم من صنع هوسه بالجمال المطلق. ومع اقتراب القصة من نهايتها، يواجه الطبيب حقيقة أنه محبوس داخل حلمه الخاص، غير قادر على الهروب منه، في عالم أصبح فيه إلهًا لسكان الجزيرة. وتؤكد له المرأة أن هذا هو حلمه الأخير، وأنه لن يستطيع العودة إلى زمنه الأصلي أبدًا.

بهذا السرد العميق والمليء بالرمزية، تتجاوز الرواية كونها مجرد حكاية لتصبح تأملًا في ماهية الجمال والحقيقة، ونداءً خافتًا في عالم يمزج بين الواقع والخيال، بين الوعي واللاوعي.

القصة تنطوي على طبقات متعددة من الرمزية و المواقف الفلسفة.. التي يمكن تناولها كاجزاء حسبما وردت:

الجزء الاول

في هذا النص، ينغمس القارئ في جو من العبثية والفوضى، حيث تتشابك رمزية الحرب مع فلسفة الموت ليصورا صورة غير تقليدية لواقع معقد. الكاتب ينحت مشاهد حرب لا تسير وفق القواعد المألوفة؛ فالقتال يدور دون أن يحصد أرواحًا، والجنود يقاتلون بابتسامات باردة، في مشهد يعكس عالماً فقد معناه وغايته. يتنقل الراوي في هذه الساحة، كمن يتجول بين أطلال إنسانية، حيث تُجسد اللامبالاة التامة تبلداً نفسياً وجموداً روحياً، مما يسلط الضوء على عبثية الحرب وتفاهتها. الحرب هنا تتجاوز حدود الجغرافيا والزمان، لتصبح رمزاً لصراع أبدي، حيث العنف يستمر بلا غاية، والدمار لا يؤدي إلى تغيير حقيقي.

ابتسامات الجنود الباردة تخفي وراءها مأساة فقدان الإنسانية، فهي تعبير عن مجتمع أُشبع بالعنف حتى أصبح غير قادر على التفاعل مع المعاناة، وكأن القلوب قد تحجرت. هذه الصورة العبثية تعكس فلسفة الوجود البشري حيث اللاجدوى تسيطر، والمعاني تضيع في دوامة من التكرار الخاوي.

الشخصية الرئيسية في النص هي تجسيد لأزمة الهوية والوجود. حيث يجد نفسه في مكان مجهول، بلا اسم أو تاريخ، مما يعكس حالة من الضياع وعدم الانتماء. فقدانه للاتجاه يعبر عن أزمة الإنسان المعاصر الذي فقد بوصلته وسط زحام الحياة وضجيجها. الجنود الذين يتجاهلونه يجسدون حالة من العزلة والانفصال عن الواقع المحيط، وكأنهم رمز لمجتمع لا يعترف بالفرد ولا يهتم بوجوده، مما يثير في نفسه شعوراً بالغربة والضياع، وكأن حياته تجري في مسرحية عبثية لا نهاية لها.

الحوارات التي تجري بين الراوي والجنود تضفي على النص بعداً فلسفياً عميقاً. فالحوارات تأتي مكررة وروتينية، تُجسد تفاهة المواقف البشرية التي تدور في حلقات مفرغة، فلا تؤدي إلى فهم أو تغيير. التساؤلات التي تراود الشخصية الرئيسية تعمق إحساسه بالضياع والتيه، وكأن الإنسان في بحث دائم عن إجابات في عالم مليء بالتناقضات واللامعقول. إنها رحلة في قلب العبث، حيث لا شيء يبدو ذا معنى، وكل شيء يظل معلّقًا في فضاء من الغموض.

لحظة وضع الشخصية على المنجنيق وقذفها نحو البحر تحمل دلالات تتجاوز حدود الحدث ذاته. المنجنيق هو تجسيد للقوى الغامضة التي تدفع الإنسان نحو مصيره المجهول، وكأنها قوة القدر التي لا مفر منها. أما البحر الأزرق، فهو رمز للمجهول واللامحدود، قد يكون تعبيراً عن رغبة البطل في التحرر من قيود الحياة والمعاناة، أو ربما هو انتقال إلى مرحلة جديدة من الوجود، حيث الإدراك يتسع ليشمل معانٍ جديدة وأبعادًا أعمق.

النقد الاجتماعي والسياسي يظهر بوضوح في النص من خلال تصوير الجنود كأشباه متشابهة في الشكل والتصرف، كأنهم نسخ متطابقة، مما يعكس انتقاداً للمجتمعات الشمولية التي تسحق الفردية وتسعى لتوحيد الجميع على حساب التنوع. الحرب تُعرض كـ"لعبة تثير المرح"، في نقد لاذع لثقافة الترفيه المعاصر، حيث العنف يُستهلك كمادة للإثارة، وتصبح الحروب مجرد عرض إضافي على شاشة التلفاز أو في ألعاب الفيديو.

النهاية المفتوحة، حيث يُقذف البطل نحو البحر، تترك القارئ في حالة من التأمل والتساؤل حول المصير الإنساني ومعنى الوجود في عالم مضطرب. القصة تطرح أسئلة فلسفية عميقة حول عبثية الحرب، وفقدان الهوية، ومعنى الحياة، وتجعل القارئ يواجه حقيقة أن الصراعات التي نعيشها قد تكون بلا جدوى، وأن الإنسانية قد فقدت طريقها في دوامة اللامعقول.

خلاصات وهوامش

1. عبثية الحرب:

يجسد النص حربًا عبثية، حيث يختلط مشهد القتال بابتسامات باردة ولا مبالاة، في دلالة على تفاهة الصراع وانعدام جدواه. الموت غائب، والجنود تائهون في دوامة العنف بلا غاية. هذه الحرب ليست مجرد نزاع عسكري، بل رمزٌ لصراعٍ أعمق، يتجلى فيه فقدان الإنسان انسانيته وسط هذا العبث.

2. رمزية الحرب والموت:

في هذا النص، ترتقي الحرب إلى رمزٍ لصراع أزليّ يتجرد من أي معنى أو هدف، حيث يطلق الجنود النار دون موت أو تغيير. الابتسامات الباردة تعكس تبلد الحواس وفقدان الإنسانية في عالم اعتاد العنف، لترمز إلى عبثية الوجود واللامبالاة تجاه المعاناة البشرية.

3. فقدان الهوية والوجود:

يجسد النص أزمة الهوية والوجود، حيث تعكس الشخصية الرئيسية ضياعها في مكان مجهول وتيهها بلا ملامح واضحة للحياة. يظهر عدم اكتراث الجنود كرمز لعزلة الفرد وغربته في مجتمعٍ بارد لا يعترف بوجوده، ليجسد بذلك الأزمة الوجودية والتشتت في الحياة المعاصرة.

4. السخرية من مفهوم البطولة:

التصور التقليدي للجنود هو أنهم أبطال يقاتلون ويموتون من أجل قضية. هنا، الجنود الذين يبتسمون ولا يموتون يسخرون من هذا المفهوم البطولي التقليدي. قد يشير الكاتب إلى أن البطولة الحقيقية ليست في القتال والموت، بل ربما في إيجاد معنى في الحياة نفسها.

5. النقد الاجتماعي والسياسي:

يجسد النص نقدًا لاذعًا للمجتمعات الشمولية التي تقتل الفردية لصالح التجانس، حيث يتحول الجنود إلى نسخ متماثلة بلا تميز. ويكشف عن قسوة العصر الحديث وعزلة الإنسان العادي وغربته وسط الصراعات وتصنيف الأفراد بناءً على مظهرهم الخارجي والانتماء الظاهري.. وتُختزل الحروب والصراعات إلى ترفيه عابر ومشاهد مثيرة في وسائل الإعلام وألعاب الفيديو، في تحريفٍ للواقع.. اضف الى ذلك عزلة الإنسان العادي وغربته وسط الصراعات.

6. الحوار الداخلي والخارجي:

حوارات الشخصية مع الجنود حيرتها الوجودية وسعيها المحموم للمعنى وسط عبثية المواقف البشرية المكررة. استجابات الجنود الروتينية تكشف فراغ الحياة ودورانها في حلقات مفرغة. تساؤلات الشخصية المستمرة تعمق شعور الضياع، مما يعكس بحث الإنسان عن إجابات في عالم يعج بالتناقضات واللامعقول.

7. التاريخ والتكرار:

تجسد البنادق القديمة عبثية القتال، حيث يتداخل الماضي بالحاضر في صراع عديم الفائدة. الحرب هنا ليست إلا تكراراً لصراعات بائدة، تعيد نفسها بلا جدوى، وكأن البشرية لم تتعلم من أخطائها. إنها حرب متجذرة في الماضي، تتكرر في الحاضر، بلا نهاية أو معنى.

8. اللامبالاة الوجودية:

الابتسامة في مواجهة الموت عادة ما تُعد رمزًا للسلام الداخلي أو الفهم العميق للحياة والموت. في هذا السياق، قد تكون الابتسامة تعبيرًا عن لامبالاة وجودية تجاه الحياة والموت. فهل أدرك الجنود زيف المعركة التي يخوضونها، وبالتالي لا يأخذونها على محمل الجد

9. الرغبة في المعرفة والفهم:

رغم إقراره بالجهل، يعبر البطل عن رغبة ضمنية في المعرفة والفهم. هذا الجهل يمكن أن يكون دافعًا للبحث والتعلم، والسعي لفهم الذات والعالم من حوله. إنه اعتراف بالحاجة إلى البحث عن الحقيقة والمعرفة.

10. البراءة مقابل الفساد:

الخوف والتعب والجنون على الحيوانات (الخيول، الكلاب، السناجب) يمكن تفسيره كرمز للبراءة والطبيعة. هذه الكائنات تمثل البراءة والعفوية في الطبيعة، بينما البشر الذين يُفترض أن يكونوا أكثر عقلانية يتعاملون مع الحرب كمرح وبالتالي تظهر على الحيوانات آثار الصراع بوضوح لأنها غير مهيأة لفهم أو التعامل مع الحرب، والفساد البشري والعنف.. والذي يبرز التناقض بين الطبيعة البريئة، والإنسان المتحارب الذي يتعامل مع الحرب كـ "لعبة تثير المرح والنشاط" والتي لا تفهم دوافعها وأسبابه.

11. الخريطة على الأرض:

ان وجود الخريطة بعيداً عن أقدام البطل يعبر عن البحث عن طريق أو مسار للحياة، او عن الاتجاه وحب المعرفة ولكنه لا بزال امرا غير ملموس او بعيد. وهذا يشير إلى أن البطل يشعر بالحيرة ويبحث عن طريقه في الحياة.

12. الجزيرة الأسد:

وحينما يصف الجزيرة بأنها تربض مثل أسد ظهره باتجاه الأرض يضيف بُعداً من القوة والعظمة. الأسد يمثل القوة والهيمنة، وربما يشير إلى إمكانات غير مستغلة أو إلى وجود شيء قوي ومؤثر في حياة البطل لم يواجهه بعد.

13. البعد الفلسفي والنهاية:

ان وضع الشخصية على المنجنيق والقذف بها نحو البحر، يمكن تفسيره بأبعاد فلسفية عميقة. فالمنجنيق هنا يمكن أن يرمز إلى القوى التي تدفع الإنسان نحو المجهول.. بمعنى اخر  نحو قدره المجهول أو مصيره الحتمي.اما البحر الأزرق المخضر فانه يشير إلى المجهول واللامحدود. او يمكن تفسير عملية القذف نحو البحر تكمن في رغبة البطل في التحرر من قيود الحياة والمعاناة، أو ربما هو انتقال إلى مرحلة جديدة من الوجود أو الإدراك.

14. التقييم النقدي:

النص يمتاز بالقدرة على خلق جو مميز وغير تقليدي من خلال تصوير معركة بلا موت، مما يعكس رؤية فلسفية أو نفسية حول عبثية العنف والحرب. الأسلوب السردي القوي واستخدام الحوار الذكي يضيفان عمقًا للنص ويحثان القارئ على التفكير النقدي. ومع ذلك، قد يجد بعض القراء أن النص يحتاج إلى وضوح أكبر في بعض الجوانب لفهم الرسالة بشكل أفضل. بشكل عام، النص يعتبر قطعة أدبية مثيرة للاهتمام تدفع القارئ إلى التفكير والتأمل في معنى الحرب والعنف في سياق إنساني أوسع .. ان استخدام الوصف التفصيلي والمشاهد السريالية التي تعزز من جاذبية النص. كذلك الأسلوب السردي يعكس تأثيرات الأدب الحديث والعبثي، مما يجعل القارئ يشعر بالاضطراب والتساؤل.

في المجمل، القصة تقدم نقدًا قويًا للحرب والعنف، وتدعو للتأمل في حالة الإنسان المعاصر وفقدان الهوية والمعنى في عالم مليء بالصراعات.

***

الجزء الثاني

في سرد متشابك بين الرمزية والفلسفة، تُظهر القصة رحلة داخلية إلى أعماق الذات البشرية، حيث تتلاقى رموز السفينة والمقصورة المظلمة، والمرأة الموثوقة، لتشكل انعكاساً لحالة الإنسان المعاصر الممزقة بين الواقع والخيال، بين الحاضر والماضي. فالسفينة تعكس مسار الحياة الغامض، بينما تُمثل المقصورة المظلمة العقل الباطن المشحون بالأسرار والرغبات المكبوتة. أما المرأة، فهي تجسيد للعقل المحاصر في دوامة من الأفكار المشوشة، التي لم تكشف عن نفسها بعد. في هذا الفضاء المغلق، يتحاور البطل مع نفسه من خلال المرأة، في صراع داخلي يعكس بحثه عن الهوية في عالم يغمره الغموض والتناقضات.

ان البطل، الذي فقد ذاكرته واسمه، يجد نفسه في مواجهة أزمة هوية عميقة. هذه الأزمة ليست مجرد فقدان للذاكرة، بل هي انقطاع عن الذات، عن العالم المحيط. في سعيه لاكتشاف اسمه، يبحث البطل عن ذاته في عالم يكتنفه الغموض والارتباك. وتتجلى هذه الأزمة في الحوار مع المرأة، حيث تنقلنا القصة بين مشاهد تاريخية وزمانية مختلفة، من معركة واترلو إلى أزمنة أخرى، مما يعكس تشوش إدراك البطل للواقع. هذا التشوش يُذكرنا بفلسفة ديكارت، حيث تُمثل "أنا أفكر، إذن أنا موجود" تحويراً يطرح سؤالاً أعمق: "أنا أحلم، إذن أنا موجود."

وفي قلب هذه الفوضى الزمانية والمكانية، يتفاقم شعور البطل بالضياع. ان الانتقالات المتكررة بين العصور والأحداث تخلق شعوراً بالتيه، حيث لا يستطيع البطل التفريق بين الحلم والواقع. هذه التنقلات تعبر عن فوضى تعتري تجربة البطل، كما لو أن الزمن ذاته أصبح متاهة بلا نهاية، تزيد من شعوره بالعزلة والانفصال عن الواقع.

كما وتحمل نهاية القصة رمزاً للتحرر من هذه القيود النفسية والفكرية. عندما يقفز البطل من السفينة نحو الساحل الآخر، يكون قد اتخذ خطوة نحو التحرر من الأفكار المتشابكة والضياع الذي يحيط به. هذا القفز يمثل رغبة قوية في التخلص من القيود والبحث عن هوية جديدة، حتى وإن كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر. تحمل هذه النهاية إشارات إيجابية عن الأمل والسعي نحو الاستقرار النفسي، رغم الغموض الذي يكتنف المصير.

يتناول النص كذلك أبعاداً فلسفية متعددة، من أزمة الهوية إلى مسألة الحقيقة والواقع. فقدان الذاكرة لدى البطل هو رمز لضياع الإنسان المعاصر، الذي يواجه تعقيدات الحياة الحديثة والتكنولوجيا. تداخل الأزمنة في القصة يشكك في مفهوم الحقيقة، فيظل البطل عالقاً بين الواقع والوهم، مما يعمق من تساؤلاته الوجودية. إنه ليس فقط في رحلة بحث عن الذات، بل في محاولة لفهم معنى الحقيقة في عالم يغرق في التشكيك واللامعقول.

خلاصات وهوامش

1. الرمزية والفلسفة:

القصة مليئة بالرموز والدلالات الفلسفية. فالسفينة يمكن ان ترمز إلى رحلة الحياة الغامضة والمجهولة. وما المقصورة المظلمة الا تمثيلا للعقل الباطن المليء بالأسرار والأفكار المكبوتة. اما المرأة الموثوقة فيمكن ان تشير إلى العقل المحاصر بأفكار مشوشة وأسرار لم تُكتشف بعد. ثم ان الحوار مع المرأة لا يمثل الا صراعًا داخليًا بين الواقع والخيال، بين الحاضر والماضي.. هذا الصراع يمكن ان يحيلنا الى البحث عن الذات والهوية في عالم مليء بالتناقضات.

2. فقدان الهوية والذاكرة:

فقدان البطل لذاكرته يعكس حالة اغتراب وجودي وأزمة الهوية والانتماء. فالبحث عن اسمه وذاكرته هو بحث عن ذاته في عالم غريب ومربك. هذه الأزمة تعكس حالة الإنسان المعاصر الذي يشعر بالغربة في عالمه الخاص.. اما المرأة الموثوقة التي تتحدث عن معركة واترلو ، فيعزز فكرة أن الإنسان محاصر في معاركه الداخلية والخارجية، غير قادر على التحرر منها بسهولة..

3. الوهم والواقع:

يتطرق النص إلى العلاقة المعقدة بين الوهم والواقع، حيث ما يبدو حقيقة في البداية قد يتحول إلى سراب. هذا يطرح أسئلة فلسفية حول طبيعة الإدراك البشري، وما إذا كان بإمكاننا الثقة بما نراه ونشعر به.

4. البعد الزماني والمكاني:

القصة تتنقل بين أزمنة وأماكن مختلفة، مما يعزز الشعور بالضياع واللامعقول. الانتقال من القرن الحادي والعشرين إلى القرن التاسع ثم إلى معركة واترلو يعكس تداخل الأزمنة والأحداث في عقل البطل.هذا الانتقال الزماني يعبر عن الفوضى وعدم التماسك في تجربة البطل، مما يجعله غير قادر على التمييز بين الحلم والواقع.

5. الدلالات الاجتماعية:

** العزلة والانفصال الراوي يبدو معزولًا عن الآخرين، حتى في ساحة المعركة. هذه العزلة قد تعكس شعور الإنسان الحديث بالانفصال عن المجتمع والطبيعة، مما يخلق حالة من الضياع والبحث عن مكان للانتماء.

** الخداع الاجتماعي: يمكن رؤية الخداع البصري للسفينة كرمز للخداع الاجتماعي الذي يتعرض له الفرد في حياته، حيث ما يبدو جاذبًا ومغريًا قد يكون في الحقيقة تالفًا ومهترئًا:

6.  الدلالات النفسية:

** التبلد العاطفي: مشاعر الراوي الباردة تشير إلى حالة من التبلد العاطفي أو الانفصال العاطفي، ربما نتيجة للصدمات أو التجارب القاسية التي مر بها. هذه الحالة النفسية تعكس قسوة التجارب التي تجعل الإنسان غير قادر على الاستجابة العاطفية العادية.

** اللاوعي والذكريات المكبوتة: تساؤلات الراوي عن ماضيه وهويته تشير إلى عملية استكشاف للذاكرة واللاوعي. يبدو أن هناك أجزاء من ذاته مفقودة أو منسية، مما يشير إلى حالة من الإنكار أو النسيان المتعمد لتجارب مؤلمة.

7. دور العلم والتكنولوجيا:

المرأة تذكر أن البطل كان طبيب تجميل، مما يعكس دور العلم والتكنولوجيا في تشكيل هوياتنا المعاصرة. البطل الذي كان يغير ملامح الناس لجعلهم "أجمل" قد يعكس كيف أن المجتمع يفرض معايير جمال زائفة تؤدي إلى فقدان الهوية الحقيقية، هذه الفكرة تمتد إلى نقد أعمق للكيفية التي يمكن أن تتلاعب بها التكنولوجيا بأفكارنا وذكرياتنا، مما يؤدي إلى شعور بالانفصال عن الواقع الأصيل

8. النهاية والتحرر:

نهاية القصة حيث يقفز البطل من السفينة تعكس رغبته في التحرر من القيود والأفكار المشوشة التي تحاصره. السباحة إلى الساحل الآخر تمثل سعيه للعثور على نفسه واستعادة هويته.هذه النهاية تحمل دلالات إيجابية عن الأمل والبحث عن الذات، رغم الغموض والتحديات التي يواجهها

9. الحوار والأسلوب:

الحوارات في هذا الجزء تحمل طابعًا فلسفيًا وغامضًا.. الأسئلة والأجوبة تبدو متداخلة ومعقدة، مما يعكس تعقيد الأفكار والمشاعر التي يمر بها البطل. ثم ان أسلوب الحوار يعزز الشعور بالضياع والتيه، حيث أن كل إجابة تفتح بابًا جديدًا من التساؤلات بدلاً من تقديم إجابات واضحة. هذا الأسلوب يعكس حالة الشك وعدم اليقين التي يعيشها البطل.

الاستنتاج:

النص يقدم تأملًا عميقًا في النفس البشرية والعلاقة المعقدة بين الواقع والوهم، والزمن والتحلل، والعزلة والانفصال الاجتماعي. والكشف عن مشاعر الاغتراب والبحث عن الذات في عالم مليء بالسراب والأوهام، والتأثير النفسي للتجارب القاسية، حيث يصبح الإنسان غير قادر على الشعور بالألم أو الخوف، مما يضعه في حالة من الجمود العاطفي والتساؤل حول معناه ووجوده.

الجزء الثالث

في أعقاب معركة واترلو، يجد الراوي نفسه على شواطئ جزيرة غامضة، مأهولة بمخلوقات بشرية غريبة، مشوهة الخِلقة كأنها بقايا من زمن الأساطير. وحين تطأ قدماه الأرض، يلتف حوله أهل الجزيرة بعينين مليئتين بالدهشة والتوقير، وكأنهم يرون فيه إلهاً خرجة لهم من اليحر( بدلا من السماء) ليعيد تشكيلهم من جديد. تلك المخلوقات، التي تشبه نصف إنسان ونصف حيوان، كانت تعيش في ظلال العزلة، بين الغموض والغرابة، في زمن لا ينتمي إلى أي عصر محدد، وكأنها تائهة بين الحاضر والماضي. لم يكن بوسع الراوي تحديد القرن أو الحقبة التي يعيش فيها، فالزمن هنا كان متداخلاً وغائماً، لا يُفرق فيه بين الحلم والواقع.

بفضل مهارته في التشريح والجراحة، يصبح الراوي موضع عبادة، إذ يشرع في إعادة تشكيل أجسادهم لتصبح أكثر جمالاً وأناقة، أقرب إلى صورته البشرية، متحررة من التشوهات التي حملتها لقرون. في البداية، يظن هؤلاء المخلوقات أن الجمال الذي منحهم إياه هو الخلاص المنشود، وأن تلك الهيئة الجديدة ستجلب لهم السعادة الأبدية. إلا أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، فيتحول ذلك الجمال إلى لعنة تزرع بذور الغيرة والغرور بين أهل الجزيرة. تتبدل العلاقات بين الأفراد، وتظهر صراعات جديدة لم تكن موجودة من قبل، تضعف وحدة المجتمع وتفكك روابطه.

وسط هذا التحول الدراماتيكي، تظل امرأة واحدة، تُدعى "الموثوقة"، تلعب دوراً محورياً في حياة الراوي. تتبعه عبر الأزمنة، حاضرة كالظل، تذكره بالحقيقة القاسية: أن كل ما يعيشه ليس إلا حلماً طويلاً، وأن العودة إلى الماضي أو المضي قدماً نحو المستقبل لن يتحقق إلا إذا حلم بعصر أقل رقيًّا، عصر يعود فيه إلى حالة من البساطة والتوازن.

القصة، بأبعادها الأدبية والفلسفية والرمزية، تطرح تساؤلات جوهرية عن الهوية والذات. فالراوي، الذي ظنه أهل الجزيرة إلهاً قادراً على تغيير مصائرهم، يبدأ بالشك في قدرته على تغيير ذاته أولاً، قبل أن يغيرهم. الجمال، الذي اعتبره أهل الجزيرة منتهى المبتغى، يتبين أنه مجرد غطاء يخفي وراءه تعقيدات نفسية واجتماعية لم يكونوا مستعدين لها. الهوية الذاتية لا تتغير بتغيير المظهر، بل بالتأمل العميق في جوهر الإنسان.

يتداخل في النص الحلم بالواقع بشكل يعكس تشابك الأفكار وتعدد الأزمان. الراوي لا يستطيع تمييز الواقع من الحلم، وكأن الزمن توقف عند نقطة لا يمكنه تجاوزها. "الموثوقة" تأتي لتؤكد له أن ما يراه هو فقط وهم، وأن القوة التي يمتلكها لتغيير الآخرين ليست كافية لتحريره من قيود الزمن والحلم.

رمزياً، يكتنز النص بمعاني عديدة؛ التشوه والجمال يمثلان النقيضين اللذين يعكسان جدلية الخير والشر، والقبول والرفض. الجمال هنا ليس نعمة بقدر ما هو اختبار للقيم والأخلاق. الراوي، الذي كان في نظرهم إلهاً، يجد نفسه ضائعاً بين طموحاته وقدرته المحدودة على فهم تأثير قراراته على المجتمع.

في نهاية المطاف، تطرح القصة أسئلة وجودية عميقة حول ماهية الواقع، وحدود القوة البشرية، ودور الجمال في المجتمع، والأخلاق المرتبطة بالتغيير الجسدي. هل يمكن حقاً للإنسان أن يلعب دور الإله دون أن يتسبب في فساد النظام الطبيعي؟ وهل الجمال دائماً نعمة، أم أنه قد يكون نقمة تُفسد العلاقات الإنسانية؟ القصة تقدم لنا رؤية معقدة عن الوجود الإنساني، حيث يتشابك الحلم بالواقع والجمال بالقبح، في رحلة نحو اكتشاف الذات والهوية والمعنى الحقيقي للحياة.

في قلب النص الذي نسجتَ خيوطه بأفكار متشابكة ومعاني عميقة، ينبثق لنا عالم يعج برموز ودلالات ترتكز على النفس البشرية وما تواجهه من تحديات. هنا، نبدأ رحلتنا في إعادة صياغة هذا النص، محاولين الحفاظ على عمقه وسحره الأدبي في قالبٍ رصين وشعري، ليصل إلى القارئ بسلاسة وأناقة.

خلاصات وهوامش

1. الوصف الخارجي والتشوهات الجسدية:

**  الأوصاف الجسدية: النص مليء بالأوصاف المفصلة للتشوهات الجسدية للبشر في الجزيرة، مما يعكس الهوس بالمظهر الخارجي والجمال. هذا التصوير يمكن تفسيره كرمز للتمييز والعزلة الاجتماعية التي يعاني منها الأفراد المختلفون عن "المعيار" المجتمعي للجمال.

** اللغة والصور: يستخدم الكاتب لغة بصرية قوية ومفصلة وصورًا حية لإبراز القبح والتشوهات الجسدية والجمال المثالي مما يعزز من تأثير النص على القارئ ويدفعه للتفكير في القيم الجمالية والمعايير الاجتماعية. لنقل التشوهات، مما يخلق تباينًا مع الجمال "المثالي" الذي يسعى البطل لتحقيقه.

** الجمال كقيمة نسبية: النص يستكشف فكرة أن الجمال ليس مطلقًا وأن السعي وراء الكمال يمكن أن يكون مدمرًا. التحولات الجسدية تعكس تغيرات داخلية ومجتمعية، وتطرح أسئلة حول ما إذا كان الجمال الخارجي يستحق الثمن الباهظ الذي يُدفع لتحقيقه.

** التشوه كرمز للإنسانية: الشخصيات المشوهة تعكس الطبيعة البشرية الحقيقية التي تحتوي على عيوب وأخطاء. هذا التشويه يصبح رمزًا للأصالة والإنسانية الحقيقية، في مقابل الجمال الزائف الذي يسعى البطل لتحقيقه. –

**التكرار والرمزية**: استخدام التكرار في وصف التحولات الجسدية والشخصيات المختلفة يعزز من الرمزية في النص ويعكس فكرة أن التغيير هو جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية.

2. البطل والإله:

** الشخصية الرئيسية:البطل يبدو أنه يحمل مزيجًا من القدرات الطبية والهوس بالجمال، مما يجعله رمزًا للشخصية الإلهية في عيون السكان. هذا التصور يمكن أن يشير الى الرغبة البشرية في البحث عن الكمال والاعتقاد بأن المظهر الخارجي يمكن أن يحل جميع المشاكل.

** مفهوم الألوهية: النص يعرض فكرة الإله الذي يهبط على الجزيرة ليغير حياة السكان، ولكنه يكشف في النهاية عن تأثيرات سلبية لهذا التغيير. هذا التحول يمكن أن يرمز إلى الطبيعة المعقدة للتغيير والتحديث وكيف أن التطلعات الإنسانية يمكن أن تؤدي إلى نتائج غير متوقعة.

** نقد للسلطة المطلقة: كما انه يمكن ان يمثل نقدًا للسلطة المطلقة والشخصيات الكاريزمية التي يُنظر إليها كمنقذين. هذه الشخصية تجمع بين الصفات الإيجابية (القدرة على التغيير) والصفات السلبية (الهوس بالكمال)، مما يعكس تناقضات السلطة وكيف يمكن أن تؤدي الطموحات الكبيرة إلى نتائج كارثية.

3. القضايا الاجتماعية:

** الاندماج والتعاون: يوضح النص كيف أن التشوهات الجسدية كانت توحد السكان وتجعلهم أكثر تعاونًا وتسامحًا. هذا التباين بين الوحدة في القبح والصراعات في الجمال يمكن أن يكون نقدًا للمجتمع الذي يمجد الجمال الخارجي على حساب القيم الإنسانية الأساسية.

**النظام الاجتماعي: يعرض النص تحول السكان من حالة من السلام والتعاون إلى حالة من الصراع بسبب التغيرات الجسدية، مما يعكس هشاشة النظام الاجتماعي القائم على المظهر الخارجي.

4. الشخصية النسائية:

** المرأة المشوهة: هذه الشخصية تمثل التحدي الأخير للبطل، مما يعكس فكرة أنه حتى في المجتمعات الأكثر "كمالا" هناك دائمًا تحديات خفية. كما أن صمتها وغموضها يزيدان من تعقيد القصة.

** التغيير والتحول: تحول المرأة من حالة القبح إلى الجمال يعكس مرة أخرى هوس البطل بالجمال الخارجي، ولكن الكشف عن هويتها الحقيقية بانها السيدة الموثوقة يعقد السرد ويضيف بعدًا فلسفيًا حول الهوية والتغيير.

5. الحلم والواقع:

** التداخل بين الحلم والواقع: النص يشير إلى أن التجربة برمتها قد تكون حلمًا ناتجًا عن هوس البطل بالجمال. هذا التداخل بين الحلم والواقع يمكن أن يفسر كتعليق على الطبيعة الوهمية للسعي نحو الكمال. كما يمكن أن يكون وسيلة للهروب الواقع المرير ، وكيف أن هذا السعي يمكن أن يبتلع الفرد في دوامة لا تنتهي. هذه الفكرة تطرح تساؤلات حول طبيعة الوعي البشري وقدرته على التمييز بين الحلم والواقع.

** الزمن والتاريخ: النص يستكشف فكرة الزمن والتنقل بين العصور، مما يضيف عمقًا فلسفيًا حول تأثير الزمن على الهوية والشخصية. يتساءل البطل عن مكانه وزمانه، مما يعكس حالة من الضياع والبحث عن الذات.

6. الانعكاسات الاجتماعية والفلسفية:

**الانعكاسات الفلسفية: النص يطرح أسئلة حول معنى الكمال والجمال، وما إذا كان السعي نحو الجمال يستحق الثمن الذي يُدفع من أجل تحقيقه. هذه الأفكار تعكس قضايا أوسع حول المجتمع والثقافة والقيم.

** الهوية والزمن: النص يستكشف العلاقة بين الهوية والزمن، حيث يتحول الزمن إلى عامل مهم في تشكيل الهوية الشخصية والجماعية. يتساءل البطل عن مكانه وزمانه، مما يعكس حالة من الضياع والبحث عن الذات في عالم يتغير باستمرار.

** القيم الإنسانية: القيمة الحقيقية مقابل القيم الزائفة النص يعكس نقدًا للقيم الزائفة مثل الجمال الخارجي والكمال، ويدعوان إلى التمسك بالقيم الحقيقية مثل التعاون والتضامن وتقبل الاخر المختلف. هذا النقد يعزز من رسالة النص بأن الجمال الحقيقي يكمن في القيم الإنسانية وليس في المظاهر الخارجية.

7. النهاية المفتوحة:

نهاية النص تترك القارئ في حالة من التساؤل حول مصير البطل والمرأة المشوهة، مما يعكس الطبيعة المعقدة وغير الحاسمة للحياة والهوية. ان مثل هذه النهايات تعكس عدم الحسم في القضايا الفلسفية والوجودية التي يطرحها النص، مما يعزز الشعور بالغموض والبحث المستمر عن الحقيقة النهاية تحمل دلالات عميقة تتعلق بالوجود والهوية والواقع.

8. تحدي الواقع:

السيدة التي تعلن أنها الحلم الأخير للراوي تمثل فكرة أن الإنسان قد يصل إلى نقطة لا يمكنه فيها العودة إلى واقعه السابق. هذا يعكس الطبيعة الإنسانية في السعي للتحسين والتغيير وكيف يمكن أن يؤدي ذلك إلى انفصال عن الواقع الأصلي

9. الصراع الداخلي:

الراوي الذي يجد نفسه غير قادر على النوم أو الحلم مرة أخرى يعكس الصراع الداخلي بين الرغبة في التحسين والخوف من الفناء. هذا يعبر عن الحيرة الوجودية والبحث المستمر عن المعنى.

10. السلطة والعزلة:

الراوي الذي يصبح إلهًا يجد نفسه محاطًا بالطاعة والاحترام، لكنه في نفس الوقت يشعر بالعزلة والحيرة. هذا يعكس التناقض بين القوة والسلطة والشعور بالوحدة والعدم.

الاستنتاج

النص رحلة فكرية تتعمق في الفلسفة والوجود، حيث يعكس أزمة الهوية وسعيًا لتحقيق الاستقرار النفسي في عالم متغير. بين تحديات الزمن، يتجلى الجمال في التعاون والتسامح. في عالم غامض، يتجاوز الأبطال المحن بقوة العقل، مؤكدين أن السلام ينبع من الروح والعقل، لا الجسد.

***

طارق الحلفي

..............................

* رابط رواية الجيب "واترلو"

https://www.almothaqaf.com/nesos/975825-%D9%82%D8%B5%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D8%AA%D8%B1%D9%84%D9%88

 

اهتم الواقعيون من كتاب الرواية اهتماماً خاصاً بالزمن التاريخي وجسدوه في كتاباتهم القصصية، وهو الذي يمثل المقابل الخارجي الذي يسقطون عليه عالمهم التخيلي في نصوصهم الروائية. والزمن الحقيقي أو الواقعي هو الذي وقع فعلاً في حياة الناس خارج زمن الرواية الذي يحاول التقرب من تلك الوقائع ليخلق صلة فعالة معه وليمنح زمن الرواية بعداً واقعياً وحقيقياً حتى يكون له وقعه المؤثر في ذهن القارئ المتلقي.95 ghaeb toma farman

إن الزمن العام في رواية (النخلة والجيران)، يدور في الحقبة الزمنية للحرب العالمية الثانية، وفي أثناء وجود الجيش الإنكليزي في العراق مع كل تأثيرات الحرب وسلبياتها، وزمن الرواية مدة محصورة بين شهر "آب" وبداية "كانون الأول"، قبل رحيل الإنكليز، أي "بدايات الأربعينيّات في القرن العشرين". والزمن الحقيقي وهو (العام) في رواية (خمسة أصوات) يمكن أن نحدده بواسطة الأحداث السياسية الموجودة فيها، والظواهر الطبيعية التي تشير إليها الرواية، وبواسطة الدلائل نعرف أن زمن الرواية هو الخمسينيات من القرن العشرين. (المدة ما قبل ثورة 14 تموز 1958)، فالقصة جرت أيام سقوط حكومة (الجمالي)، وأيام فيضان دجلة العام (1954)، وزمن الانتخابات (النيابية)، ولم يشهد تاريخ العراق الحديث انتخابات قبل ثورة 14 تموز إلا في الخمسينيّات، وفي النص، بالحوار بين الشخصيات نقرأ اسم (جبهة الاتحاد الوطني) وهذه إشارة أخرى إلى الحقبة لأن الجبهة تكونت العام 1957، حلت بعد حقبة قصيرة بعد اندلاع ثورة 14 تموز في العام 1958، والزمن في رواية (المخاض) فهو مدة ما بعد ثورة 14 تموز 1958 إلى بداية الستينيّات وهذا يمكن أن نستنتجه من العبارات الصريحة في بعض عبارات الرواية(المخاض:217،226)، فمثلاً "كل رسائلي و تساؤلاتي خلال عامين من عمر الثورة". (المخاض:14)

وعملية تحديد المدة الزمنية في رواية (القربان) ليس سهلاً، لأننا لا نرى أي دلالة نصيّه تشير إلى ذلك، ولكن بواسطة أجواء القصة (الأمكنة، والواقع الاجتماعي) نستطيع الاستنتاج أنها حدثت في الخمسينيّات وفي العهد الملكي وبداية الستينيّات، ونلاحظ في (مقهى دبش)، والكرسي الذي هو رمز للسلطة، والصراع عليه رمز للصراع على السلطة بعدما يموت صاحب الأملاك (دبش) الرجعي الديكتاتوري المتسلط على جميع العاملين وكذلك من حوله، وشدة القساوة مع ابنته (مظلومة).

إن وصية "دبش" لـ"حسن علوان"، وتسليم أملاكه له في حين لم تبلغ (مظلومة) الثامنة عشرة من عمرها يمثل الأمير عبد الإله الذي كان وصياً على عرش العراق، لأن (الملك فيصل الثاني) كان قاصراً مثل مظلومة.

إذا أخذنا بهذا التفكير تكون الأحداث قد جرت في المدة بين (1939) و(1953).96 ghaeb toma farman

إن لا محدودية الزمن، وطبيعة الأحداث، وتطويراتها بعد موت دبش، تجعلنا نربط بين الصراعات الدائرة بين شخصيات الرواية والصراعات السياسية التي حدثت بعد ثورة 14 تموز 1958. ونستطيع أن نحدد الزمن الحقيقي في (ظلال على النافذة)، بفضل بعض المؤشرات والقرائن منها: الرواية التي كتبت العام 1978، وأحداثها جرت في بداية السبعينيّات، لأن عائلة "عبد الواحد" تسكن في حي الوشاش، وهو الحي الذي  بدأ فيه البناء الجديد في نهاية الخمسينيات، وعبد الواحد اشترى قطعة الأرض في هذا الحي وتركها عشر سنوات قبل الشروع في بنائها بيتاً، واستغرق البناء سنتين وإن هذه الأسرة عاشت في بيتها الجديد ثلاث سنوات، والعائلة تعيش في حالة تمزق وانحلال في الداخل التي تجسد وضع المجتمع العراقي في الستينيّات، وكان منفساً على نفسه.

أما الزمن الحقيقي لرواية (آلام السيد معروف) فهو مجهول أيضاً، ولم نر أية إشارة زمنية، ربما لأن الرواية تخللتها موضوعات نفسية، فالموضوع صالح لكل الأزمان، وفي أي مجتمع يعاني أمراضاً اجتماعية واقتصادية، ومن إدارة بيروقراطية في مؤسسات الدولة، ويتحدث الروائي في هذه الرواية عن حياته ومعاناته وآلامه الخاصة. والزمن في رواية (المرتجى والمؤجل)، ليس واضحاً تماماً رغم وجود أدلة زمنية أيضاً، ولم يكن الزمن فيها صريحاً، ويمكن أن نحدد زمن أحداث هذه الرواية من خلال المؤشرات الموجودة في النص بشكل تقريبي، فمثلاً (قصة قطار الموت) التي حدثت العام 1963، على إثر الانقلاب العسكري ضد حكومة (عبد الكريم قاسم)، وهي محاولة لقتل مجموعة من الضباط والمناضلين، وذلك بوضعهم في قطار يحمل البضائع مغلقاً بدون نوافذ، وشحنهم من بغداد إلى السماوة، ليلاقوا حتفهم اختناقاً من شدة حر صيف العراق اللاهب، في ذلك الوقت كان عمر الصبي ثلاثة أشهر، وعندما أصيب الطفل بحادثة سيارة، ونقل للعلاج في الخارج كان لا يزال صغيراً، لدرجة أن الطبيب طلب موافقة أبيه لإجراء العملية لعدم بلوغه الثامن عشرة، أي أن زمن القصة ينحصر بين 1963-1980، والمؤشر الثاني: ما دار بين ثلة من الأصدقاء حول حازم بالعودة إلى العراق، إذ قال أحدهم: "اسمع نصيحتي حازم، سافر ما دامت الجبهة لم تلفظ أنفاسها بعد"( المرتجى والمؤجل:137)، ويقصد الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، التي عقدت بين القوى السياسية في العراق عام 1973، وانتهت عملياً عام 1978 إذ إن زمن الرواية كان في السبعينيّات. (ينظر: الزمان والمكان في روايات غائب طعمه فرمان: 155).97 ghaeb toma farman

والزمن العام في رواية (المركب)، تبدأ أحداثها في أواخر آذار دون أن يذكر أية سنة، ينتهي خلال ثلاثة أشهر يعني في حزيران أكد ذلك (خليل) في حواره مع (رائد): "وهكذا هو الزمن يمر كالطيف يبدو لي أمس فقط كنا في سيارة (عصام) (الموسكو فيتش) منطلقين مع الشيخ للقاء المركب الذي كان يجب أن يأخذنا إلى (أم الخنازير). قال (خليل) مستغرباً: أمس فقط يبدو أنني عشت عمراً بأكمله خلال هذه الأشهر الثلاثة".(المركب:217)

ونتلمس مؤشراً آخر بواسطة الحوار الذي دار بين "رائد" :" وهكذا هو الزمن يمر كالطيف يبدو لي أمس فقط كنا في سيارة إذ يقول: "... سأقول لك من أنا، بالمناسبة أنا تركت الحزب وهو انتعاش، فوق النخل فوق، يعني لا يمكن أن اتهم بالتخاذل أو الانتهازية"(المركب:227). ويقصد (الحزب الشيوعي العراقي)، وربما يشير إلى الانتعاش النسبي في الحياة السياسية شبه العلنية، والتي لم يحدث إلا في زمنين: الأول في بداية ثورة 14 تموز 1958 وحتى 1963، والثاني خلال مدة (الجبهة الوطنية والقومية التقدمية) (1973-1978). وكل المؤشرات تؤكد أن وقائع الرواية حدثت في الحقبة الثانية. فضلاً عن  ذلك أن جزيرة (أم الخنازير) لم تكن عام 1959 مرفقاً سياحياً، وأن واسطة النقل (المركب) كانت مستخدمة في السبعينيات، أما في الثمانينيات فقد أنشأ جسر يربط الجزيرة بجانبي الكرخ والرصافة، وجرى الاعتناء، وبدل اسمها إلى جزيرة (الأعراس السياحية). وقد وردت عبارة أخرى تؤكد ما ذهبنا إليه: "هناك عناصر مغرضة تريد تثبيت فشل (القطاع العام)، ويقصد به قطاع الدولة كان سائداً قبل العام 1968، واستبدل بعد ذلك بـ(القطاع الاشتراكي) ومصطلح (التوجيه الاشتراكي)، كان سائداً في حقبة السبعينيات"(المركب:163).

***

د. شازاد كريم عثمان

رواية "فرصة ثانية" مشبعة بالدراما والترقّب والأحداث، رواية تعرض الحدث بكلّ تفاصيله وتترك مجالًا كبيرًا لتسأل وتعظ وتفكّر: "شردت أفكاري حول أسرار الحياة والولادة وسرّ الأمومة، فكيف تتحمّل الأمّهات كلّ هذا الألم؟ هل حبّ الأمّهات لأطفالهنّ يستحقّ هذه التضحية؟ أم هي غريزة فطريّة بحتة؟ أم أنّها قوّة طبيعيّة نسير في فلكها دون وعي منّا؟" ص9-10.  ص18: "هل هذا جزاء من وهبن أجسادهنّ معابد للحياة؟" هذه التساؤلات تضفي على بداية الرواية لونًا تأمّليًّا.

لغة الرواية متقنة جدًّا وسليمة وفيها من الجمال ما يفيض عن أحداث الرواية ويشكّل شطحة شاعريّة رومانسيّة حالمة، مثال: "تحوّلت إلى مراقب صامت لمسرح الحياة الإنسانيّة بمختلف مشاعرها وألوانها، فكلّ من مرّ من أمامي كان يحمل حكاية منقوشة بخطوط الفرح أو الحزن، أو الأمل أو الخوف، أو الترقّب" ص15.

تبدأ الرواية بدراما الولادة بكلّ دقائقها ثمّ الموت بعد الولادة ثمّ الحياة الغضّة لرضيع فقد والدته لحظة قدومه إلى الدنيا، وتنتهي الرواية بالحمل المرتجى والزواج السعيد لثلاث نساء العائلة والأصدقاء: هدى ولبنى ونهاية. 99 sabah basher

وصف فقدان فاتن في البداية كان عميقًا ودقيقًا وشاملًا حيث يعيش القارئ حالة الفقدان مع مصطفى وهدى وأمّ فاتن ويتفاعل معهم. ص22 "من بعيد يظهر وجه مصطفى يحمل بين ذراعيه طفله، ثمرة حبّ انطفأت شمعته قبل الأوان".

وصف الحالات والأشخاص في الرواية يطول ويتوسّع عبر إطار الحبكة، ويدفع الحالة أو الشخص إلى مركز الرواية.

كل شخصيّات الرواية توصف بمثاليّة كبيرة وبحدّ أقصى حيث أنّ صفة الأفضل تدخل في أوصاف كثير من الشخصيّات، مثال على ذلك: مصطفى ومعرض سيّاراته وإبراهيم والمهنيّة العالية في طبّ الأسنان، رغم أنّه قلع سنًّا صحّيًّا لمريض بدل أن يقلع المعطوب ومثاليّة هدى كانت في لطفها وأخلاقها وتضحيتها بمستقبلها من أجل الرضيع اليتيم ابن أختها.

لغة الوصف في الرواية تحتفل بجمالها ودقّتها وتصبح سيّدة الموقف. في وصف المكان، حيفا مثلًا (ص34 وص83)، ووصف الحب والزمان والشخصيات يتغنّى باللغة واللغة تتغنّى به. والوصف، أيضًا، يتحدّى السياق ويصبو إلى الكمال في المشاعر وفي الممتلكات: وصف الحبّ والعشق أخذ قسطًا كبيرًا من الجمال اللغوي والاستعارات المبتكرة واعتلى عرشًا جميلًا يعبّر عن فكرة رئيسيّة في الرواية: الأمومة والإنجاب (ص 50-51).   

فكرة أخرى عميقة وفاعلة طرحتها الرواية وهي مبادرة المرأة في الحبّ: سناء مثلًا، ومن الناحية الأخرى: تحرُّش المريضة بطبيب الأسنان إبراهيم.

حول كلّ الأوصاف في الرواية، وهي جزء كبير منها، يلتفّ خيال خصب يزيّنه جمال اللغة وتتعاقب فيه الاستعارات التي لا تخلو هي الأخرى من الجمال والخيال.

تتخلّل الرواية أسئلة وجوديّة تضفي عليها عمقًا خاصًّا. بالإضافة إلى أسئلة الأمومة التي تدعو إلى التفكير بالموضوع، هناك أسئلة عن الزواج: "هل الزواج مأوى للحبّ أم قيد للأرواح؟"، ص58.

إجمالًا تتحلّى كلّ مشاهد الرواية بالوصف الحالم المتأمّل، والذي يوجّه القارئ إلى دخول جوّ مميّز تبدعه أصوات الرواة وتترك القارئ متقبّلًا لهذا الجوّ وحريصًا على ألّا يمسّه حين يدخل إليه. مثلًا: جوّ وصف الحبّ ص65 يترك القارئ مذهولًا ومتسائلًا عن أنماط الشخصيّات التي مارست الحبّ جسدًا وروحًا، مثل سناء، سكرتيرة مصطفى، بوصفها "لحظة ضعف انسدلت فيها العتمة على نور العقل، فيها استسلم مصطفى لنداءات الجسد وقرّر أن يشارك سناء ليلة حميميّة" ص65، في حين أنّ سناء لم تكن متأكّدة من مشاعر مصطفى تجاهها ورغم ذلك قالت له: "سأكون معك كلّما احتجت إليّ" ص76. هذا المشهد يترك سناء تعيش بين الأمل وخيبة الأمل وبين لحظات القوّة ولحظات الضعف.

تكثر في الرواية مواقف الأمل وخيبات الأمل، الحبّ وتمثيل الحبّ، الإخلاص والتواجد على شفا الخيانة، وهذا جعل الرواية غنيّة بالمشاعر وبالواقع الخيالي وبالخيال الواقعي.

شخصيّات الرواية تتعدّى خطوط الواقع في كثير من الأحيان، مثال على ذلك شخصيّة عبد الله وشخصيّة لبنى وعلاقتهما.

أمّا مشهد إلحاح والدة مصطفى عليه ليتزوّج من هدى فقد كان تقليديًّا، ولكنّ النتيجة كانت إيجابيّة ومثاليّة. إنّ اتخاذ القرارات المصيريّة عند شخصيّات الرواية كانت تقع في إشكاليّات تتراوح بين الواقعي والمتخيّل.

موضوع الشهر الأوّل من زواج مصطفى وهدى كان أحيانًا طبيعيًّا وأحيانًا أخرى متصنّعًا يميل إلى المثاليّة واليوتوبيا، ولا تظهر فيه سيرورة واضحة. وكذلك وضع إبراهيم ونهاية لم تكن فيه سيرورة.

الاسترسال في الوصف أدّى مهمّة واضحة في زيادة إثارة الترقّب وأبطأ مجرى الحبكة.

أثار اهتمامي تواجد الكثير من التناقضات الداخليّة في شخصيّات مصطفى وعبد الله وهدى، وهذا أعطى الرواية بعدًا نفسيًّا لهذه الشخصيّات وأوحى بكثير من التساؤلات حول كونها جزءً من الحياة الواقعيّة أم أنّها من إبداع الكاتبة فقط، كثرة الأوصاف للشخصيّات أدّت إلى تكرار بعض الصور عنها، مثال على ذلك جمال هدى وفاتن ومصطفى. ومع ذلك لم ألاحظ بأنّ هذه الشخصيّات تغيّرت وإنّما معظمها سار على خطّ مستقيم.

لم أستطع أن أتخلّص من عيني الانتقائيّة، كقارئة مهنتها العلاج الزوجي/الأسري، فوجدتُ أنّ الشخصيّات والعلاقات بينها فيها غرابة معيّنة، وربّما تكون الكاتبة قصدت ذلك.

هذه الرواية أثارت اهتمامي فبعد أن قرأتُها تصفّحتُها مرّة ثانية، ووجدْتُ فيها ثلاثة أبعاد للحبّ: الحبّ حسب التعريف المثالي الموجود في النصّ، والحبّ التلقائي الشعوري النادر، والحب كمسؤوليّة تجاه الآخر وتجاه الذات.

وهناك ثلاث طبقات في النصّ: الطبقة الأولى: الظاهر السطحي من العلاقات الاجتماعيّة، والطبقة الثانية: العلاقات من فئة المتوارث والتقليدي، والطبقة الثالثة: ذوبان الفردي الذاتي بالجماعي وفقدان الفرد لجوهره. وهذه الطبقات تمثّل واقعًا لا مهرب منه.

ويبرز محور مركزيّ على طول الرواية وهو: المرأة والرجل. أورد هنا بعض الأمثلة من شخصيّات الرواية:

* عبد الله الرجل الخاضع بشكل كبير ولبنى المرأة المسيطرة في كلّ المجالات الحياتيّة والتي تأخذ مساحتها كاملة وتلغي مساحة زوجها عبد الله.

* هدى وطيبتها اللامتناهية وتضحيتها من أجل يحيى الرضيع ابن أختها فاتن التي ولدته وتوفّيت.

* سناء تتحايل وتتظاهر بالحب لتكسب مدير عملها مصطفى بعد أن توفّيت زوجته فاتن.

* مصطفى الذي استجاب لتظاهر سناء بالحب من ناحية، ومن الناحية الأخرى لم يستطع القرب من هدى بعد أن تزوّجها حيث أظهر عواطف وحبّ طوباوي لفاتن زوجته الراحلة ولم يتمكّن من منازلة الفقدان، وهدى التي استمرّت بالتضحية بذاتها من أجل الرضيع يحيى على الرغم من تجاهل زوجها مصطفى لأنوثتها.

* إبراهيم عاش فشلًا في زواجه مرّتين وكان محبطًا من هذا الوضع، وعندما تعرّف على جارته نهاية شفته من إحباطه وخيباته، إلّا أنّه تركها عندما طلبت منه أن يتزوّجا. في نهاية الرواية يذكر أنهما أخيرًا تزوّجا.

* لا نعرف الكثير عن أم عبد الله وزوجها المتوفّى، إلّا أنّها تؤثّر كثيرًا في حياة ولديها وكنّتيها. أمّ فاتن وهدى أيضًا تؤثّر كثيرًا على ابنتيها وعلى زوجها. بذلك نرى أنّ أم عبد الله وأم فاتن تتبنّيان العرف والتقاليد وأسس النسيج المجتمعي بعيدًا عن المشاعر.

تعدّد الأصوات الراوية والديناميكيّات في المسارات الفرديّة الذاتيّة والتي تندمج في الاجتماعيّة، شكّلت نسيجًا روائيًّا محكمًا وأعطت الرواية زخمًا أجهدني لولا دراميّة الأحداث وتنوّعها والمفاجآت التي تخلق كثيرًا من الترقّب.

مدّ الأحداث الدراميّة في الرواية يأخذ القارئ خارج حدود الرواية ويلقي بسحره عليه غير تارك له مجالًا للتأمُّل.

رواية جذّابة وجميلة وتستحقّ القراءة.

مباركة جهود الكاتبة صباح بشير ومبارك هذا الإبداع.

***

سلمى جبران

 

بنظير هذه السردية المغرقة في خطاب الفوضوية البانية، تبصم الروائية البحرينية ليلى المطوّع، كصوت واعد في المشهد الإبداعي العربي، ملامح منجزها السردي المتشابك الأهداف والحمولات والرؤى والمتون، والذي انتقت له عتبة: المنسيون بين ماءين.

وهو عمل صادر عن دار رشم للنشر والتوزيع، عرعر، حي المباركية، طبعة ثانية2024، المملكة العربية السعودية، والواقع في434صفحة من القطع المتوسط، والمتجزئ إلى فصول نجردها بشكلها التصاعدي:

سليمة، ما حدث لناديا، وأد الماءين، سيرة عين لم تدرك أمومتها إلا مؤخرا، ناديا، أدبيات أهل الجزر/ الواقعة الأولى، ناديا، إيا ناصر، ناديا، ناديا، إيا ناصر، ناديا، سيرة عين اسمها حوز والعناق الأبدي، ناديا، سيرة السكاكين ما بين مد وجزر، سيرة الذنب/ يابسة اغتصبت، أدبيات أهل الجزر/ الواقعة الثانية، ناديا، يعقوب، ناديا، سيرة حالة متواطئة مع الإله خنقت بالرمال، ناديا، أدبيات أهل الجزر، الواقعة الرابعة، ناديا، درويش، ناديا، درويش، سيرة نورس يبحث عن بحره، ناديا، أدبيات أهل الجزر/ الواقعة الخامسة، ناديا.. شيء يسردني، أيوب، ناديا، ناديا، سيرة"ثامار"/ غل النخيل ونخلة فاقدة للذاكرة، حراس النخلة، نادية مع حراس النخلة، سيرة ماء منحسر قبل كل شيء، ناديا تروي عن تداخل الذاكرتين، ناديا، سيرة البحر، نادياــ ثامرا، ما جاء في البيان بعد غرق الجزية، نادياـ ثامارا.

إنه ومن دون هذه الجدولة، ليتوه المتلقي، في غمرة ازدحام الشخصيات، وزئبقية الأحداث، كون شخصية ناديا، هنا، الأكثر استحواذا، وفق ما يتناسب وحضور هذه الثمرة، أو الفلذة، التي هي من إفراز صراح الأجيال، في عكس ذاكرتين الأولى لتمجيد ماضوية البطولات، وشحذ طقوسها، أما الثانية فهي للمحو والتمرد على جغرافية الجنائزي وزمكانية مكابدات الأنثوي، بدرجة أولى.

إذ ما بين الوجه المعهود للمائيات، والوجه الآخر لها، أي داخل إطار لعبة تحريك الشخصيات في مسارات تضارب المصائر، وعلى نحو ينم عن تمكن السارد، تُرسم آفاق التوازي في معنيي الماء.

تقول الراوية:

{صرّ طرفة على أسنانه غيظا لما رآها تهلل، واندفع بسيفه نحو المبعوث. تشابك الرجلان بالسيوف والعيون ترقب. القادم من الشمال، رجل عنترة، لا يهزم، قوي. بضربة أسقط سيف طرفة، وأصابه في كتفه إصابة بليغة، فصاح مخفيا ألمه بكبرياء لا يهزم حين أدرك الموت وهو على ركبتيه:" أفصدني". فشقّه المبعوث. طشّت دماؤه، صرخت الخرنق التي أتت على عجالة راكبة فرسها:" طرفة.'". اتسعت عيناه، سقط على الأرض يلفظ أنفاسه. ساد سكون تام. رأته، رأت سليمة الموت فوق رأسه، حركتها قطعت الصمت من هول الفاجعة. ركضت متجهة إليه، تماسكت الخرنق وجرت خلفها تمنعها، ولكن الحزن عرقلها، فسقطت على التراب ويدها ممتدة إلى سليمة، لعلها تمسك طرف جلبابها. كشفت سليمة عن أعلى جسدها، شاقة جلبابها، مظهرة أوشاما تمتد من العنق، وتتسع باتساع بطنها المكور المخفي عن الأعين، قفزت على جسده، وهي تشد سلسلة الفضة قبل أن تقطعها ليحل العهد، ويسقط لثامها كاشفا عن حسن ملامحها. يغالب النظر إليها ولا يقوى على الحركة لمنعها، وخصمه ينظف سيفه من الدماء. في كل قفزة تقف ناظرة إليه، تتأكد من شهقات الموت، والخرنق تتلوى على الأرض باكية تصرخ شاتمة إياها، ولكن سليمة ظلت تهلل فرحا، وتقفز على الجسد يمينا ويسارا، حتى اصطبغت قدماها، من وطئها، بدمه الشريف. انبرت تحاول منعها، تشدها من ذراعيها، فتتعاركان، وتسقطان على التراب. قوة جبارة تنتاب سليمة، إنها غريزة الأمومة، صراع لأجل جنينها، ليرى النور، فتدفع الخرنق التي تتشبث بقدمها، واصطبغت يدها بدم شقيقها.}(1).

إنها صفحات النسيان، نسيان الكائن المبتلى بشتى صنوف الوباء الوجودي، بل وتناسيه، في سياق ثقافة أصولية متجذرة ومغذية للصوت الرجولي، والراعي لنعرات الفحولة، ما استدعى هذا الزخم، والتكثيف من إيقاعات الشبقي، ولكن... من غير خلاعة مبالغ فيها، مشوشة ومشوهة للمنحى المعماري الإيروسي، في صيانة البعدين: التيمي والفني على حد سواء، بل والاتكالية على كامل هذه الجندرية، عبر الاحتفاء بمفهوميتها، على نحو فلكلوري ومجاني.

وراء كل ذلك، تأتي الأمومة كي تفتح نافذة أمل في عتمة الذات والحياة وجغرافيات شح الماء.

الأمومة وحدها صانعة المعجزات في أدغال هذه السردية الطاعنة بخلفيات الأزمة الهوياتية والإنسانية، تناوبا على أنساق الموروث والتاريخ ومعطيات الطبيعة، وفق تمذهب غرائبي يأخذ بالجوارح، ويستفز الوعي والذائقة، إلى حد بعيد.

تقول كذلك:

{هناك شيء يسردني

تنهض. هي الآن وسط البحر. تشعر بشيء يظهر أسفلها. كما تفعل السلحفاة حين تخدعنا. فنظن أنها اليابسة. ولكنها كانت فعلا يابسة. ينحسر عنها الماء. تبين قمتها. رملها مبتل. تضم ركبتيها. تجلس على القمة. أما الماء فيتراجع كاشفا عن مساحات من الجزيرة. الشمس ترتفع على انحساره. تنتصف في السماء. هنا تشعر بقلق يتصاعد. بشيء لا يهدأ. ولا يسكن. تحفر بيدها الأرض. تغرس ساقها. تذرو التراب. يتشنّج جسدها. ينتصب ظهرها. وترتفع عن الأرض. تشعر أنها تطول. تثبت قدميها بشكل أكبر، وتطول. تطول. شعرها يتمدد. يهتز جسدها هزة أخيرة قبل أن تغيب.

تنهض على الصوت المخيف يسألها: " من الذي عكس نفسه لترى ما لا يُرى؟ّ".

موج البحر يداعبها. مثبتة لا تقوى على الحركة. تميل بصعوبة. يعيد سؤاله. تشعر بحاجة ملحة إلى الميل على مائه. فتميل. هناك على مائه ترى انعكاسها. تشهق خائفة.. إنها نخلة.}(2).

 وإذن... بهذه التراكيمة للأفعال الممتدة في الزمن، والنافذة في شرايين دوراته السرمدية، تأخذ التعبيرية مسارها، منبثقة من موقف تقديم القرابين البشرية تبركا بالنبع، وفضّا لبكارة اليابسة، كي تجود بالماء، مثلما يجود الرحم الأنثوي.

من هنا، ذلكم التلاقي أو التقاطع ما بين معنيين للماء في رمزيته وقداسته وجبروته.

أمعنت الروائية في التأصيل لثقافة وجودية تربط الكائن البشري بكائن طبيعي غامض ومتستر على جملة من الأسرار، كما أنه مُغر بمقامرات مصادقته واكتشاف عوالمه.

ختاما، يمكننا التأكيد على أن الروائية البحرينية ليلى المطوّع، أبدعت وأمتعت في بسط فلسفة خاصة بانتظارات الكائن العربي المنقمع والمكبوت والمطعون في هويته وانتمائه، من هذا البعبع الذي اسمه بحر، في هروبنا المخملي منه وإليه، رابطين مصائرنا بثورته تارة، وتعقله واتزانه تارة أخرى.

إنه جنون المغامرة، بما يجعل الكائن يُسقط على البحر، والماء، عموما، من حيواته وتخشب راهنيته، والعكس بالعكس تماما.

بحيث تدور أحداث الرواية وتدور، ثم تعود لتربطنا بمفهوم الأمومة، في انكفاء ملزم بدوال ما قد يقلب كؤوس وجودنا المعتل والمنقوص، فيشرعها على جود المائيات في موسوعية معانيها.

إنه انتماء ضاغط، جاذب إلى رحاب النوراني، بما قد يتحقق له انفصال الكائن عن اضطهاداته النزوية، والترفع عن بهيميته، لصالح ما يصقل الروح ويمنح الخلاص الذاتي والكوني، في النهاية.

انتماء طوعي للمائيات في تلبّس معنيين.

تقول الراوية ملخصة مسيرة بحر سردي كامل:

"خلال بحثي كنت أنسل الخيوط، أفتش عن الجذور، التصقت بالأرض من دون علم ووعي. خيط مني وخيط منها، الأرض والماء.

عرفت الأرض، عرفت البحر. أجنحتي قوية، ولكن لا هجرة أفردها لأجلها وأطير.

أنا الطائر الحزين، كلما قل الماء، بان الحزن على وجهي.".

بهذا تطرز مبدعة من طينة ليلى المطوع سيرة تأليهها للبحر، وتترنم ملء الشفة بقداسة ولذاذة الانتماء إلى الماء، مجبرا إيانا، على حمله حملا وجوديا هوياتيا في معنيين، تماما، مثلما سبق وأكدنا.

***

أحمد الشيخاوي

شاعر وناقد من المغرب

..........................

هامش:

(1) مقتطف من فصل" سليمة"، صفحة27/28.

(2) مقتطف من فصل" نادياــ ثامارا"، صفحة428.

أنظر رواية" المنسيون بين ماءين"، منشورات دار رشم للنشر والتوزيع، عرعر، حي المباركية، طبعة ثانية2024، المملكة العربية السعودية.

في الذكرى العاشرة للغائب الحاضر

في خمسينات القرن الماضي (القرن العشرين) بينما كان شعراء العالم العربي يجتهدون في كتابة القصيدة التي تُواكب تطوّر القصيدة الغربيّة بمضامينها وشكلها، ويهتمّون في الوقت ذاته بمُواكبة تطوّر الحِراك السياسي والاجتماعي في العالم العربي، خاصّة في الفترة الناصريّة، وتفجّر حركات التّحرّر  في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينيّة، وتشهد الحركة الشعرية العربية تطوّرا هائلا في بنية ومضمون القصيدة، وتبدأ مزاحمة قصيدة النثر لقصيدة التّفعيلة التي بدورها احتلّت السّاحات الشعرية، وقزّمت القصيدة التقليديّة، كان شعراؤنا العرب الفلسطينيّون هنا في البلاد ، والذين يحلو للبعض تسميتهم "عرب الـ 48 نسبة لعام النكبة 1948، يُتابعون ما يصلهم من الشعر العربي ويبنون لأنفسهم مَنهجا شعريا فرضه الواقعُ السياسي والاجتماعي للجماهير العربية في البلاد، في ظل الحكم العسكريّ والسياسات التمييزيّة للحكومات الإسرائيليّة، ويبتكرون أساليب جديدة للتّواصل مع الجماهير باللقاءات المفتوحة في ساحات البلدات العربية. ولهذا اتّخذ هذا الشعر مَنحى المباشرة والبساطة والعَفَويّة والصّدق، فتقبّلته الجماهير وحفظته وحوّلته لأهازيجها في المناسبات المختلفة. وتحوّل شاعرُنا هنا، بالإضافة إلى دوره الثقافيّ، إلى حامل لواء الرّفض والتّحدّي وصوت الجماهير العربية الصّارخ في وجه السياسات الحكوميّة الظالمة.

وكانت قصيدة محمود درويش "سَجّل أنا عربي" وقصيدة توفيق زيّاد " على صدوركم باقون" وقصيدة سميح القاسم "خطاب من سوق البطالة" قصائدَ الجماهير العربية وأناشيدَها الوطنيّة.

عَمَلُ سميح القاسم في الصحافة العربية، صحافة الحزب الشيوعي بالتّحديد، وإقامته في حيفا، واللقاءات الثقافيّة التي كان يُشارك فيها مع الكتّاب والشعراء العرب واليهود، والانفتاح على الثقافات الأخرى، جعله قابلا للتّأثر السّريع والاستفادة والرّغبة في تطوير القصيدة شكلا ومضمونا. وبدأت القصيدة عنده تتوهّج بالجديد الدّائم، وتحتلّ قلوبَ الجماهير، وتُلفت انتباه النقّاد، وتستأثر الدّراسات التي تنشرها الصحافة المحليّة، وتجد طريقَها، في صحافة وإعلام العالم العربي.

لقد استوعب سميح القاسم كلّ التّجديدات والتّغييرات التي طرأت على القصيدة العربية، واطّلاعه على الأدب العبري وعلى الجديد في الأدب العالمي وخاصّة الروسي منه، مَكّنه أن يكون بين الطّلائعيين من الشعراء العرب في دَفع تطوّر القصيدة العربية بخطوات حثيثة. وبسرعة تخلّص من المُباشرة البسيطة والسّطحيّة التي ميّزت قصيدة الستّينات الأولى من القرن الماضي، واتّخذ الرّمز ليكون الخطوة القويّة نحو انطلاقة القصيدة، واحتلّت الرّموز الدينيّة والأسطورية والتاريخيّة والأدبيّة والتراثيّة مَكانة واسعة ومتميّزة في شعره.

ويقول سميح القاسم: "إنّه أصبح يميل في شعره إلى القصائد المُركّبة، المُتعدّدة الأصوات. وبهذا تتحوّل الكلمة من حالتها العاديّة المُتعارَف عليها لتحمل دلالات رمزيّة تفرض على القارئ إعْمال فكره وثقافته وتجاربه للوصول إلى ما ترمي إليه.

كما أنّ سميح عمل على إحياء التراث الشعبي وإغناء قصيدته بالصّوَر الشّعريّة المفردة منها والمُركبة والكليّة كقوله في قصيدة "ريبورتاج عن حزيران عابر":

بين أنقاض حزيران التقينا

أنا والموت، تَداخلنا، اشتعلنا وأضأنا

وعلى أرصفة النكسة قابلتُ كثيرين -

اعذروني

فالعدد،

صار شيئا ونقيضه

والقصيدة عبارة عن مقاطعَ اتّبع فيها أسلوبَ السّرد القصصي، وتتخلّلها أصواتٌ للرّاوي والرّاعي حيث يتبادلان الأدوار. ويُدخل الشاعر مقطعا عموديّا بصوت الفدائيّ ثم يعود إلى صوت الرّاوي، ويُنهي القصيدةَ بخلاصة يُقدّمها الشاعر نفسه.

وعمل سميح على تطوّر شكل قصيدته، حيث عمل على مَدار السنوات المُتلاحقة على توزيع القصيدة إلى مقاطع، واستخدام البناء القَصصي وكتابة القصيدة القصيرة والطويلة كما شهدناها باسم "السّربيّات" عند سميح القاسم، واستخدم مختلف الأساليب الفنيّة كالتّكرار والحوار وازدواجيّة اللغة واستعمال كلمات غير عربية والأرقام وتداخل الشكلين العمودي والحرّ في القصيدة الواحدة، والتضمين النثري واستخدام الأفعال والأسماء في فنيّة رائعة.

سعى سميح القاسم إلى جعل الشعر الذي يُعبّر عن قضيّتة الوطنية شعرا جميلا حافلا بالفن الحقّ، وانتقل للتعبير عن قضيّة الإنسان عموما. هذا الطّابع الإنساني الرّحب كما يقول الناقد صلاح فضل "ارتفع إلى رؤية شموليّة تتّسم بالتّسامح بين الأديان وبالعُلوّ على الصّراعات البشريّة المصلحيّة العابرة".

لقد حرص الشاعر على الالتزام بالضوابط العَروضيّة، وتعامله مع العَروض يكشف حالات رائعة من التّواصل الإبداعيّ مع ظواهر قديمة، وبعثها على نحو جديد وفي إطار من التركيبات الحديثة. فالمُحسّنات الإيقاعيّة في شعره بارزة بشكل لافت وشديد، وصارت ظواهر الجناس والطباق والتّصريع والتّقفية المتقاربة والتكرار والتّوازي والتلاعب بالتفعيلات والبحور علامات بارزة في شعره.

قال سميح القاسم: "إنّني أعتبر إتقان العروض من أهم مَعايير كتابة الشعر وليست قيدا عليه. إنّ الادّعاء الذّاهب إلى أنّ أوزان الشعر العربي هي قيود هو وَهْم مبنيّ على جهل. فهذه الأوزان هي أجنحة حريّة. وعروض الشعر العربي تُعتَبر ثروة موسيقيّة للقصيدة لم يحظ بمثلها أيّ شعب باستثناء الشعب العربي."

ويسخرُ من هؤلاء الذين ابتعدوا عن الشعر الكلاسيكي في حواره مع الكاتب علاء حليحل، "الكرمل الجديد عدد 3-4 ربيع صيف 2012" بقوله: "تركوا الشعرَ الكلاسيكي ليس لأنّهم يريدون تركَه، بل لأنّهم لم يستوعبوه. أقولها صراحة: لم يكتشفوا عَبقريّة الأوزان العربية. العربُ فقط هم مَنْ يملك هذه الثروةَ من الإيقاعات. هذه ثروةٌ موسيقيّة هائلة. صاروا يقولون إنّها قيود. هي قَيْدٌ لمَنْ لا يعرفها. ولكنّها أجنحةُ حريّة إذا أنتَ استوعبتَ الأوزان وصارت جزءًا من تكوينك الداخليّ، من إيقاعك الداخليّ، من نفسِك، فهذه أجنحةُ حريّة ستأخذُكَ إلى أماكنَ لا تتخيّلُها".

ويقول إنّه جدّد في هذه الأوزان وأضاف: "في الكلاسيكيات ثمّة صدرٌ وعجزٌ في البيت الشعريّ. وفي قصيدة الرثاء التي كتبتُها في حافظ الأسد طلع معي صدران للبيت فأبقيتُهما، ثمّ جاء عجزان فأبقيتُهما".

"وبنـــــوا أميّــة يولمــــونَ خيــولَهـــم      وضيوفُهـــم قبل الأُفــولِ أُفــولُ

وسيوفُهم كَلِمُ الهوى المصقولُ

بغداد وقصائد أخرى ص51))

ودمشقُ تطوي الليلَ عن أهدابها

وتُطلُ ساهرةً على أحبابِها من قاسيونَ. وقلبُها قنديلُ)

بغداد ص54)

كما وشكّل الشاعر سميح القاسم ظاهرة مميّزة في الشعر العربي عامة والفلسطيني خاصة في جَمعه بين شكلَي القصيدة التّقليدي والتّجديدي. وحرصه على احتفاظ القصيدة بكلّ خصائص التراث العربي. فقد ظلّ حتى آخر أيام حياته يكتبُ القصيدة الموغلة في التّجديد والحداثةِ إلى جانب القصيدة المتمسّكةِ بعَمودية القصيدة ووحدة الوزن وجماليّة القافية الواحدة. وكما عمل على التجديد والتّحديث في قصيدة التّفعيلة، عمل على التّجديد والاضافة في القصيدة التقليديّة. وقد دأب سميح القاسم على كتابة القصيدة العموديّة على فترات متقاربة وفي مناسبات وطنيّة، وجد أنّ الشكلَ العمودي للقصيدة أكثر ملاءمة وقبولا لها من الشّكل التفعيلي، وهذا برز، بشكل خاص، في قصائد المناسبات الوطنيّة المختلفة، وفي قصائد الحماسة التي جمعها في ثلاث مجموعات، وفي القصائد التي خصّ بها العواصم العربية وجمعها في ديوان "بغداد".

اهتمّ سميح القاسم بالقصيدة التّراثيّة كقيمة يجب المحافظة عليها، ليس فقط في كتابة القصيدة العمودية، وإنّما أيضا في الجو التراثي الذي يُضْفيه على القصيدة والصّور الشعريّة التي ينقلنا بها لجوّ الصحراء وكينونتها:

بنصال أظافره الوَسخة

حكّ البدويّ السّاخطُ غرّته السّائبةَ على مَدرَجة الرّيح

لم يأبه بضَراعة أرواح الموتى المُعترضين على حربِ الطبقات

مَسّدَ عينيه الصّافيتين كقلب نبيّ

وبخفّة وحش صحراويّ دَمْلقَ ساقيه الهائجتين بسُخْط "بلو جينز" السّمل الكالح

وتأهّبَ لمطاوي الخسّة خلف زوايا الليل الفادح

أو بالشكل أو المُفردات التي يستعملها أو الاقتباسات أو الكلمات الغريبة أو الجَزالة. وهذا برز أيضا في استحضاره لبعض المعاني والنّصوص لشعراء قدامى مثل طرفة بن العبد بقوله:

وظلمُ ذوي القربى أشدّ مضاضة    

على المرء من وقع الحسام المهنّد

فيقول سميح:

لكنّ ظلمَ ذوي القربى أشدُّ على

روحي الجريحة من ظلم يُقاويني

ويُذكِّرنا بقوله:

نحنُ الأبُ المحرومُ زقّ فراخَه   

   والتوأمُ المنفيُّ عنه التّوأمُ

بقول الحطيئة:

ماذا تقول لأفراخ بذي مَرخ        زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ

ألقيتَ كاسبَهم في قَعْر مُظلمة      فاغفر عليك سلامُ الله يا عمرُ

ونجده في اتّباعه للشكل العَموديّ لم يلتزم القيودَ الخليليّة وإنّما عمل على تطوير القصيدة. ورَفْضِ قوقعتها في تعريفها الجاف "كلاسيكيّة"، ورأى في هذه القصيدة قيمةً تراثيّة ثمينة وقابلة للتطوّر والتّعايشِ في كلّ عصر، ومع كلّ مُتَغيّر وجديد. ورفَضَ ادّعاءَ البعضِ بأنّ الأوزانَ الشعرية القديمة عبءٌ ثقيلٌ وغيرُ مُواكبٍ للتطوّرات الحديثة.

ومن مظاهر التأكيد على قيمة التراث الأدبي في القصيدة القديمة اهتمامُ الشاعر سميح القاسم باستخدام الألفاظ الجَزلة التي تُعَزّزُ الانتماء للتّراث الشعري. والجَزالة "تعني قوّةَ الكلام التي تبدو في التّفخيم. وهي مَتانةُ الُألفاظ وعذوبتُها في الفمّ، ولذاذتُها في السّمع، ومواضعُ استعمالها وصف مواقف الحروب، والتّهديد، والتّخويف".(مجدي وهبة معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب). وهو ينقل المُتلقي إلى أجواء قومه العرب وتراكيبِهم اللغويّة ونمَطهم العمودي:

صالوا كماةً دارعين وجالوا مُستقتلين.. وليس ثَمَّ قتالُ

من كَدرة الماضي السّحيق تسلّلوا لتموتَ في آمالهم آمالُ

شقّوا بحارا من دم بعِصِيّهم وبكَوْا على صدر الشعوب ونالوا

وعلى ضحاياهم تسيلُ دموعُهم   ودمي على أنيابهم سَيّالُ

أعرفتَهم يا جرحُ.. عفوك إنّما بعض الجواب كما علمتَ سؤالُ

عاج السّعيدُ عن الطلى متسائلا   وأنا سألتُكِ أنتِ يا أطلالُ

قربانتي بهظتْ، فهل كفّارة  شفعتْ؟ وهل تتبدّل الأحوالُ

كما ونقف على الكلمات الغريبة التي لا تُستخدَم في اللسان العربي المعاصر لوجود بدائلَ متعدّدةٍ مستخدمةٍ. والكلمةُ الغريبة كما عَرفَتْها كتبُ البلاغة " أنْ تكونَ الكلمة وحشيّةً، لا يظهر معناها، فيحتاج في معرفتها إلى أن يُنَقّر عنها في كتب اللغة المبسوطة" (الخطيب القزويني" الإيضاح في علوم البلاغة ص3"

يقول سميح هاجيا:

يعربيّون راية ولسانا                       بيغنيّون نيّةً ومنمّا

شيخهم مهطع ينادي بمصر       في مزاد يبيع بالغُرم غُرما

هيرع في الصّدام نزّاعُ سلم       دونه الموت في الكريهة غمّا

- الهيرع الذي لا يتماسك. الجبان الضعيف.

- مهطّع – نزّاع خنوع ذليل.

وفي قصيدته التي خاطب فيها الجواهري:

يا دجلة الخير ضجّت كلّ جارحة        منّي وأنتَ مُشيح لا تُلبّيني

وارنْتُ وجهكَ من أعماق مجزرتي فهل تراني بعينَيْ مفشغٍ دونِ؟

همُ الأيابس والأسياف مهزلة تُبْكي وتُضْحك أيّام الهوى الجونِ

تفشقوا.. العَلَم المخضوبَ واخترقوا إلى الحياة قَتاما غيرَ مأمون

*وارن- واجه قابل. مفشغ- الرجل قليل الخير والكسول. الأيابس- ما تُجرّب عليه السّيوف وهي صلبة، الجون- الأسود المُشْرب حمرة، تفشّق – توشّح بثوب.

وعمل سميح القاسم على استحضار الشخصيّات وصبغها بملامح العصر الحديث، وكثيرا ما كان يتقمّص الشخصيّة ويتّخذها قناعا إسْقاطيّا يتماهى فيه، وينطلق من خلالها إلى التّعبير عن ملابسات تجربته المصوغة. فقد تقمّص شخصية الشنفرى، وشخصيّة الصحابي ابي ذرّ الغفاريّ. واستحضر الرّموزَ الدينية وتقمّص بعضها مثل شخصية النبي يوسف وهاجر والنبي أيوب والرسول محمد وهابيل والحسين والحاكم بأمر الله.

زمّليني يا خديجة

زمّليني

فقد أبصرتُ وجهي

في حراء الموت

محمولا على رؤيا بهيجة.

أنذا يتقمّصني روحُ رسول الله

وإنّي لأضيفَ إلى أسماء الله الحسنى

اسمَ "الثورة"

فلتأتِ وفودُ الحجاج إليّ

لتأتِ إليّ جموعُ البؤساء

ولنشهر سيف الله

لنُصرة رايتنا الحمراء.

وموسى

ضرب البحرَ الصّاخبَ بعصاه السّحريّة

فانشقّ البحر

ألقى في القوم عصاه فصارت أفعى

تتلوى وتفح وتسعى

سحر؟

لا تصمت.. كذبَ السحر.

والمسيح

حوّلْتُ خدّي دائما

لصَفْعة العدوّ والصّديق

يا ربّنا وربّهم متى تفيق؟

ويستعير نداء المسيح الأخير "إلهي إلهي"

لماذا قتلتني. نبذتني. تركتني.  زنحتني.

وهابيل والحسين والحاكم بأمر الله.

وأخذ بالمُتلقي إلى أجواء الصحراء العربية في سربية الصحراء حيث يعيّشه في أجواء البداوة العربية الكاملة.

هدوءا

سيكتملُ البدرُ عمّا قريبٍ

سيدنو رهيبا بطيئا

سأصرخُ رعبا

وأُمسخُ ذئبا

هدوءا.

على سُنّة الله واللات والأنبياء

تدبُّ العقاربُ

هكذا أيضا في مجموعة "سُبحة للسجلات" اعتمدت القصائد على الأفكار والمعتقدات الباطنيّة، واستفادت منها كثيرا. وسيطرت الأجواء الصّوفيّة بشكل واضح وقد أبدع الشاعر في توظيف الرموز والإشارات والاصطلاحات الباطنية في خدمة إنسانه وقضيّته.

متى تكونين لي ضيقي ومتّسعي في ضجعة الموت؟ أمْ في رَجعة المتع

وهل تكونين، والأكوانُ ذاهلة     عن غيبها لحضورِ الجوع والشّبع

سميح القاسم الشاعر المتطوّر المُتجدّد الحداثي

كما تمسّك سميح القاسم بالتراث والتاريخ والطبيعة العربية الصحراوية حيث رأى في الصحراء مَلجأه ومَهربه ومَأمنه، فقد عمَد إلى التّجديد والتّطوير والتّحديث، وقد اعتبر الحداثة "عمليّة مُستمرّة مُتجدّدة لدى كلّ الشعوب. لا شيء يبقى على ما هو في كل مَناحي الحياة المعيشة يوميّا، وفي مجالات الإبداع المختلفة، دائما يسعى الإنسانُ لتطوير أدواته ومستوى مَعيشته وتغيير نمَط حياته، دائما يتغيّر ويتجدّدُ. قد تُصيبُه النّكساتُ، ويتراجعُ إلى الوراء، ولكن حتى في هذا، يكون التغييرُ وتحديثُ الموجود وثورة على القائم".

ولو تتبّعنا مسيرةَ سميح القاسم الشعرية منذ مجموعته الأولى "مواكب الشّمس" (1958) لوَجدْنا الشاعر الحَداثيّ بامتياز، حيث نجد التّغيير والتّجديد والتطوّر والإبداع المتَفَرّد في كل عمل إبداعيّ جديد يصدرُ له. وقد قالت سلمى الجيوسي إن سميح القاسم هو الشاعر الوحيد الذي تظهر في أعماله مَلامح ما بعد الحداثة في الشعر العربي.

وقد تفرّد سميح القاسم في قصائده الحواريّة في مجموعاته "دخان البراكين" و "دمي على كفي" و "الموت الكبير"، وخاصّة في "سربية انتقام الشنفرى" باستخدام أسلوب البناء الدّراميّ الذي يعتمدُ على عناصر التعبير الدراميّ من حوار (ديالوج) وحوار داخلي (مونولوج) وسَرْد قَصَصي في البناء الشعري وذلك لتَمثيل الصراع والحركة.

وفي الوقت الذي أحسّ فيه الشاعر بتصدُّع المعركة الوطنية وتراجعها، أعلن، على عَجَل، عن ميلاد مرحلة فنيّة جديدة في تجربته الشعرية. مرحلة ديدنُها الانتصارُ للقيَم الجماليّة من خلال نُزوع الشاعر إلى الذّات بتصَدُّعاتها وتشققاتها، الشيء الذي جعل شعرَ هذه المرحلة يمتاز بالغموض الفنيّ الأصيل.

والشاعرُ سميح القاسم، نفسُه، أكّدَ في غير ما مرة، على أنّ منجزه الشعري في المرحلة الثانية، قد تميّز بخفوت الصّوت وتسرَب شعاع الشك إلى يقينيّاته المُطلقة، تلك التي ميّزت المرحلة الأولى. الشكّ هذا ما كان له أنْ يتحقّق لولا التراكم المَعرفي الذي تحصّل لهذا الشاعر من خلال اطّلاعه العميق على خبايا الفلسفة المعاصرة. هذا الأمرُ جعله يُعيد طرح السؤال الأنطولوجي من جديد، مثلما حفّزه لإعادة النظر في قيَمه الجماليّة، وبذلك استطاع سميح القاسم أنْ يؤسّسَ حداثته الخاصة، نقصد حداثةَ الابتداع لا حداثة الإتّباع. والشاعر لم ينتبه إلى هذا الأمر إلا بعدما قرأ دراسة للناقدة الأمريكية تيري دي يونك المعنونة بـ "سميح القاسم وتحديث الجناس». يقول سميح القاسم في إحدى حواراته عن هذا الأمر: «وبهذا لفتت [دي يونك] نَظري إلى مسألة كنت أعيشها من دون أن أنتبه إليها، وهي مسألة المُحاولة المستمرة لتكوين حداثة على أسس تراثية أصيلة، حداثة لا تتنكّرُ للماضي، ولا تتقزّم أمام حداثة الآخر الغربي أو الأجنبي».

رفض سميح القاسم قوقعةَ القصيدة العربية في تعريفها الجافّ "كلاسيكيّة"، ورأى في هذه القصيدة قيمةً تراثيّة ثمينة وقابلةً للتطوّر والتّعايش في كلّ عصر ومع كلّ مُتَغيّر وجديد. ورفَضَ ادّعاء البعض بأن الأوزان الشعريّة القديمة عبءٌ ثقيل وغير مُواكب للتطوّرات الحديثة.

وكان في القصيدة الواحدة يكتبُ المقطعَ الجديدَ وبعده القديم، فتارة ينسج على منوال التّفعيلة وطورا على نسَق بحور الخليل، وحينا يعود لالتقاط نَبْضِ الكلام اليومي، ساحبا البلاغة من عليائها العاجيّ ليرفدَها بصرخات اليومي والمباشر كما كان يهتم بتضمين قصيدته بالأغنية الشعبية والأهزوجة بشكل خاص. ونجد بعضَ المقاطع ليست قصيرة فقط، بل تتقلّص أحيانا إلى أبيات ذات كلمة واحدة، وتُسيطر عليها حركة الفعل:

تبعتُ وبعْتُ

عبدتُ وبدتُ

أُسِرْتُ وسرتُ

بعُدْتُ وعُدْتُ

ومتّ ومتّ

وعُدت بُعثْت

الحداثة في التّعامل مع المخترعات التكنيولوجية الجديدة وأنسَنة بعضها وتعريب أسماءها

يتعاملَ سميح القاسم مع هذه المُستجدّات الجديدة المُتلاحقة، ويُطوّعها للإبداع الشعري، وجعلها جزءا لا يتجزأ من الحياة اليوميّة للإنسان، ويُعَرّب أسماءها بقبولها كما هي في لغتها الأصلية إيمانا منه أنّ المحافظة على اسم ولفظ المخترَع أو المنتوج الجديد من حقّ صاحبه، ولغتنا العربية قادرة على استيعاب الألفاظ الجديدة. الشاعر سميح القاسم واع للتغيير الذي يحدث يوميّا على حياتنا ويعرف خطر هذا علينا نحن الذين نتردّد في تقبّل الجديد الغريب:

لا فينوس. لا تمّوز. ولا أفروديتَ

ولا نرسيسَ. ولا سيزيف. ولا عَشْتارْ

هذا زمنُ ستار أكاديمي

والهامبورغر والكوكاكولا والبَمبرز واللبتون والسوبر ستارْ

الويل لنا والويل لكُمْ

دبليو. دبليو. إس.و. إس. دوت. كوم..

ويتقبّل الهاتف النَّقّال والفاكس بحبّ ويجدُ فيه الوسيلة الأسْرع للتّواصل بين العشّاق:

لنَقّالِكِ الحُلْوِ أشرحُ أسبابَ موتي عليكِ

وبالفاكسِ أٌرسلُ قلبي إليكِ

باي! (ص35)

لا يُخْفي الشاعر عدمَ رضاه عن هذه الوسائل الجديدة السّاحقة لكل حسّ إنسانيّ وإظهار ميله للتلفون القادر على إيصال الصوت الإنساني بكل روعته:

بينَ نقيقِ الفاكس

وصمْتِ الإي.ميل السّاديّ

ينسحبُ التليفون حَيِيًّا

ويظلّ وفيًّا

للصوتِ الإنسانيّ

وهو مقتنع بأنّ المَشاعر الإنسانية والجمال الطبيعي الحقيقي وكلّ ما خلقَه الله هو الأجمل والأبقى والأفضل، لكنه لا يرفضُ الجديدَ ويتعاملُ معه، ويحاولُ أنسنَتَه والتّعايُشَ معه:

لا تُخيّرْني رجاءً

بين أسرار الفراشَه

وجمالِ الهليكوبتر!

استعمال اللغات الأجنبية لخدمة التّشكيل الجَمالي الدّلالي في قصائده

يقول سميح القاسم: "لا مجال لتَقسيم المفردات إلى شعرية ولا شعرية إذا هي تداخلت بصدق فنيّ في حالتها الشعريّة المناسبة، ولعلّ هذا يُفسّر حقيقة تعاملي مع ألفاظ أجنبيّة وتكنولوجيّة تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن الشّعر".

استعمال اللغة الإنكليزية

تُواصل اللغة الإنكليزيّة اندفاعَها لتكونَ اللغة العالمية الأولى، ولغةَ الشباب، حتى أنها تفرض حرفَها على كل اللغات نتيجة لطغيان وسائل التّواصل المختلفة، وقد كان الشاعر سميح القاسم واعيا لهذا التحوّل المتواصل، وأبرزه في الكثير من القصائد في مجموعاته المختلفة إضافة إلى انفتاحه على باقي اللغات، ووعيه لأهميّة التّواصُلِ والتّداخُلِ بينَها.

منْ قاعِ الجَهلِ وقاعِ البؤسِ وقاعِ الدِّستْ

East is east and west is west

من قاعِ الحزنِ وقاعِ الموتِ وقاعِ الفاشيّةِ والفاشِسْتْ

هولوكوست

The twins shall never meet

هولوكوست

That game can't run

And west is east and east is west

No more

وقد يستخدم اللغة الأجنبية مكتوبة بالحرف العربي:

توتو توتو

هعربيم يموت

بيوم ريشون.(ص58)

و (نوك أوت) (ص59)

لا قُدسيّة للغة، ويرفضُها طائعة ذليلة

يختلف الشاعر سميح القاسم عن مُعظم المُبدعين إنْ لم يكن كلّهم، في موقفه من اللغة، فقد اعتدنا تأكيدَ الجميع على قُدسيّة اللغة، وأنّ المُبدع الخَلّاق هو الذي يستطيع تطويعَ اللغة وجعلها تأتيه تُجرّرُ أذيالَها مُستجيبة ذليلة. لكنّ الشاعرَ سميح القاسم لا يجدُ في اللغة القُدسيّة، ولا يُريدها مُطيعة مُنقادَة مُستجيبة، تأتمرُ بأمْره:

وكم أزدري اللغةَ العَبْدةَ الطائعهْ

إنّها لغةٌ ضائعهْ

اللغة الطائعةُ هي اللغة الضائعة التي تفقدُ الهالة التي ترتسمُ حولها والقدسّية التي نُغلّفها بها، واللغة كالمرأة، إذا استجابت وانقادت واستسلمت دون تمنّع وعِناد وتَردّد سرعانَ ما تُرمى وتُبعَد وحتى تُزدَرى، وتكون قيمتُها وقدسيّتُها وحرصُنا على الاحتفاظ بها والدّفاع عنها إذا ما لاقينا الأمرّين وكلّ الصّعاب وتجاوزنا المستحيلات في الوصول إليها والفَوْز بها. وعندها فقط نعرفُ قيمتَها وكيف نتعاملُ بها ونستخرجُ المكنونات النادرة والمُتجدّدة التي فيها.

هكذا يتعاملُ الشاعرُ سميح القاسم مع اللغة، وهكذا تتحوّلُ اللغةُ لتكونَ التي يُعطيها دورَها الإبداعي في تأدية ما رَسمَ لها وما أرادتْ أنْ تُؤدّيه.

واهتمامُه ينصبُّ على الحرْف لأنّه الأصل، فهو الأهمّ، وهو المكوّن للكلمة والمُتحَكم بها ومُغيّر صُوَرَها ومَعانيها. ويؤكّدُ أنّ موقفَه من الحرف يتغيّر تبَعًا لما يُنجزهُ الحرفُ ويُقدّمُه، فالحروف تُبهره إذا أتت بالروائع من الكلام والعبارات، وهو يزدريها إذا ما أدّتْ إلى فكرة خانعة:

للحروف تقاليدُها الفاجعهْ

مرّةً، للحروفِ انبهاراتُنا،

حينَ تصطفُّ في آيةٍ رائعهْ

مرّةً، نَزْدَريها طريقًا يُؤدّي

إلى فكرةٍ خانعهْ.(ص136)

هو يحبّ الحروفَ التي تُعبّرُ عمّا يُريده، والتي يجتهدُ في استحضارها ليُبْدعَ من حرارة توهّج جَمْرها لغتَه التي هي ثمرةُ ونتيجةُ ثورته التي اشتعلت، وتجد في اللغة وحروفها مُتنفّسَها وأداةَ توصيلها وانتشارها ووصولها إلى حيث يُريد:

للحروفِ مَسالكُها

وأنا لا أحبُّ الحروفَ قَطيعًا

وأحبُّ الحروفَ التي

صوتُها مِلَّتي

وأحبُّ الحروفَ التي

جَمْرُها.. لغتي

وعلى نارِها نضجَتْ ثورتي

واحبُّ الحروف..

التّلاعب بالحروف وترتيبها ودلالاتها

الحرفُ هو القيمةُ وهو الأساسُ لإبداع الكلمة وتكوين الجملة وإيصال الفكرة، وأيّ تغيير على موقعه يتغيّر معنى الكلمة ويتبدّلُ الهدفُ وتنقلبُ المواقفُ، وهذا صحيحٌ في الكلمة الواحدة أو الجملة:

قَمَرٌ. رَقْمٌ. قرمٌ. رَمَقٌ.

صقْرٌ. قُرْصٌ. قَصْرٌ. رقْصٌ.

دَهمٌ. هَدْمٌ. مَهْدٌ.

لمسٌ. سَمْلٌ. سلْم (ص18)

و

سَقْفٌ

فَقْسٌ

فِسْقٌ (كولاج 3 ص34)

ويتلاعبُ بمواقع الكلمة في الجملة، فالكلمةُ التي يُنْهي بها الجملة تكونُ بدايةَ الجملة الثانية

ليلي يا عيني

عيني يا ليلْ (ص50)

خطايَ تعيبُ عليّ الطريقَ

أعودُ.

يعيبُ عليَّ الطريقُ خُطايَ

أعودُ ببدئي إلى مُنتهايْ

ومن مُنتهايَ أعودُ لبدْئي. (ص89)

وكثيرا ما نجدُ إيقاعَ الحرف أو الكلمة يُسيطرُ على الشاعر فينسابُ معه ويتفاعل ويأتي بالمزيد:

كونغو

سانتو دومينغو

رينغوٌ يرقصْنَ الرومبا

لومومبا

رومبا

سامبا. (ص142)

ووصف لعبة المَحْبوسة مُصوّرا حركة تقلّصات أصابع اليد الخمسة كما تفعل القطّة عندما تستعدّ للهجوم على الخَصم.

قِطَطٌ خمْسٌ

في خطّةِ صَيْدٍ مَدروسَه

إقْذفْ زَهْرَك

واقطُفْ نَصْرَك

يا مَلِكَ المَحْبوسه! (كولاج3 ص57)

المَزج بين النثر اليومي والحوار العادي في القصيدة الواحدة.

أكثر سميح من التّضمينات النثرية في سياقات بعض أعماله الشعرية حيث يستدعي الموقف وتتطلب الضرورة. مثل تضمين خبر صحفي، تضمين نصوص دينيّة، استعمال الكلمات البذيئة، اللغة المحكيّة والفلكلور لتوثيق دلالة، أو تأكيد موقف، أو ترسيخ معنى.

الرموز الدينية والتاريخية أغنت قصائد سميح القاسم واحتلت مكانا مهما في ترسيخ الحَفْر في الماضي.

كذلك اهتمّ بالشخصيات النضالية مثل:    هوتشي منه، جيفارا، كاسترو، ثوار الفيتكونغ، عمر المختار، لومومبا، جميلة بوحيرد إضافة إلى شهداء وشخصيات الشعب الفلسطيني.

رمز الأسطورة

لجأ الشاعر إلى توظيف الأسطورة في تجربته الشعرية، بسبب ثرائها الدّلالي بما تحمله من شحنات إشعاعيّة.

أسطورة أوديب ملكا، أوزيريس وإيزيس، إيكاريوس ووالده ذيذالوس والجناحين من الشمع  (قصيدة جنازة في ثلاثاء الرماد) عن الشهداء الذين قُتلوا في بيسان. ، أُخذة الأميرة يبوس"  التي ارتكز فيها على ديانة الكنعانيين عَبَدة الأوثان.

أنا هملتُ العربيُّ اشهدوني

أدرّبُ عقلي على أحجيات الجنونِ"

أبي مَيْتٌ لا يموتُ

وأمّي أمّي

ومُلكيَ نَهْبٌ لعمّي" (كلمة الفقيد في مهرجان تأبينه)

ثم مجموعة «مقدّمة ابن محمد لرؤى نوستراسميحداموس "

) 2006، التي وصفها البروفيسور إبراهيم طه: «بأنّها في مُحصّلتها العامّة نصّ شعريّ واحد مُتضخّم »Hepertext« في منظومة تناصّاته العديدة وإحالاته وإشاراته السّريعة إلى محطّات بارزة في الموروث الثقافيّ العربيّ والإسلاميّ والحضاريّ العالميّ. ولعلّ المنظومة التّناصيّة التي تَنبني على أساسها هذه المجموعة تقوم أوّل ما تقوم على قائمتين اثنتين:

-1 علاقات حواريّة كبرى مع تنبؤات نوستراداموس.

-2 علاقات حواريّة صغرى من إحالات إلى القرآن الكريم وإشارات إلى الموروث الحضاريّ بصفة عامّة.

كان أقصى ما يطمح إليه نوستراداموس في تنبؤاته هو دقّ ناقوس الخطر المُحدق بالبشر، ولقد خاف سميح القاسم من خوف الناس وارتكانهم إلى السّراب والزّيف والهَلع كاستراتيجيّة دفاعية، وتعلّقهم بقشّة نوستراداموس، فعاد إلى نوستراداموس واخترقَه في وسَطه تماما، وحطّم الخَرابَ المُعشّش في جوانب تنبؤاته، ونقل الكرة من ملعب الغيب إلى ملعب الحاضر المُقدّس، وحوّل تنبؤاته التي تحرقُ كلّ بقعة خضراء إلى رؤى دافئة تبعثُ الإنسان في الإنسان» (إبراهيم طه. “قراءة هيكلية في مقدّمة ابن محمد لرؤى نوستراسميحداموس ) 111 رؤيا في 111 ثلاثية(”. جريدة الا تحاد، 16 / 1/ 2009 ).

رؤيا رؤى نوستراسميحداموس،

على متاهة الزمان والمكانْ

ينتصر الله على الشيطانْ

ويبعثُ الإنسانُ في الإنسانْ

ويولدُ الإنسان للإنسانْ

ويفرحُ الإنسانُ بالإنسانْ.

(سميح القاسم. مقدّمة ابن محمد لرؤى نوستراسميحداموس ) 111 رؤيا في 111 ثلاثية (ص 153)

لكنّ الشاعر رغم هذا الجوّ السريالي، وخَلخلة المألوف وإعادته للواقع في صياغة بشكل جديد يُريده هو، إلاّ أنّه يُبرز ويُؤكد ثوابت أصبحت من مميّزات شعر سميح القاسم منذ سنوات، يدلّ عليها برموز خاصة به، تتمثّل في (الحجر) الذي يرمز به إلى الحقيقة الثابتة و(الوردة) التي ترمز إلى الجمال الروحي و(التفاحة) التي يقصد بها المُتعة الحسيّة في الحياة والوجود الحسّي.

أخيرا واستخلاصا لكل ما قيل، فإنّ الشاعر سميح القاسم ساهم مساهمة كبيرة في التّغيير الذي طرأ على شكل القصيدة، وذلك برز في:

توزيع القصيدة إلى مَقاطع

البناء القصصي

القصائد القصيرة

السِّربيّات

التّكرار

الحوار

ازدواجيّة اللغة

استعمال كلمات غير عربية والأرقام

تداخل الشكلين: العمودي والحرّ في القصيدة

التضمين النثري

استخدام الأفعال والأسماء

وفي مضمون القصيدة:

المُباشرة المنبريّة

الرمز

الرموز الدينيّة

الرموز الأسطوريّة

الرموز التاريخيّة

الرموز الأدبية والتراثيّة

احياء التراث الشعبي والصورة الشعريّة

***

د. نبيه القاسم

................................

* ولد الشاعر سميح القاسم في مدينة الزرقاء الأردنية في الحادي عشر من شهر آب 1939، وتوفي في مستشفى زيف في مدينة صفد حوالي الساعة التاسعة مساء يوم 19.8.2014

في المثقف اليوم