قراءات نقدية

قراءات نقدية

ما بين رصيف الذكريات وآفاق الرؤى، تنطلق تجربة الشاعر الجزائري بادر سيف، في ترجمتها للحالة النفسية المثقلة بحمولة السلبي، ما استدعى نظير هذه الصرخة التي تعزّز إيقاعاتها هوية المكان/ الانتماء.

تجربة تنثر الجمال، وإن جدّفت الذات الشاعرة، ضمن حدودها، على قدر معين، ومنسوب تصاعدي، من الضبابية في تلوين المعنى والصور.

نقتطف له التالي:

لا توقظ خيولنا العصية لنضطر للرحيل

فنحن غبار مدن عابر

وقصائد من مربع ماء راكد

أيها الليل يا باب الضيافة والحلم

كسر أنياب الفجيعة فجرا

فالأطفال على عجالة من أمرهم

يسرقون خوخ نملة صائمة

ونحن نعد حناجر الشواطئ المتيبسة

أيتها الانجم الصادق عشقها لصراخ الأعنة

إن المطر أمسكه رأس اللغة

فلا تقسمي رغيف الطمس

يا لغة الخيل

وشرفات الدهشة

إني أتشبث بشرفات الأرقة

لا أستسلم للريح.

ولكن يظل يشفع لهذا الخطاب القِناعي، وإن كان يروم عملية تواصلية يهيمن عليها الطابع الحِجاجي الإقناعي، موروث البكائية والانكسار، الشيء الذي يدفع بالشاعر إلى اللوذ بمعجم الإغراق في الغموض، بما يتيح تمرير هذا الزخم من الصور الغاضبة جدا، وعلى الشاكلة المروّحة عن اختناقات أصوات متعددة، قد تختزلها الشخصية الواحدة، في السياق السردي للمنجز، في كليته. يقول:

عن رقيم المسقط

كي أعيده إلى صنوبرة المزار

ليشفي الكوكب الرضيع

من غصة بفعل ريشة الريح

ومتلازمة الإشارات...

في الطريق إلى صينية الجوى

أفرك تفاحة الجسد المهادن

أنبش هبوط الدمعة

إلى مسارب الأيك عله المساء يعيد للأسماء  

 لون الصباحات

علها المدن السابحة في رونق الهباء

تستلطف كياسة الخدر أحصي أجراس النهر

نمير الموج

أرتب رفوف السماء المتوجة

بنوارس من نور

أذكرها بهديل الانتساب لقشيب الينابيع

ثم في الطريق أسهر مع عكاز التاريخ

أعيد له كيمياء الشعر

ومنطق الاتكاء على رابية النسيان

كي أزيل غبار المادة

عن وردة شكلتها من نغم الأيام

وذلك الزمن يغرد

لا حرف الشفاه

لترتطم ثورة الغيب بمتاريس

العسجد المتهالك على شرفات الأبجدية.

هذا التصوير الفني المكثف، المفروض، والذي لم يُجترح قط من باب المجانية، أو ما يشبه الدّعاية، إنما انرسمت ملامحه، حتّى يكون في مستوى صرخة انكسار هوية كائن مقموع ومجروح في انتمائه، يحاول أن يتشبث قدر الإمكان بـــــ" ثالوث التملك" كما ذكرته الشعرية هنا:

ـــ أنا الشاعر.

ـــ أنا الوطن (جبل سردون).

ــــ أنا الضمير الجمعي المغيّب.

كل ذلك كي يخيم العطش الوجودي، بمفرداته القاهرة، والتي لن بعالجها سوى ديدن إدمان الشعر، ومقامرة الحياة به، في بلوغها من الظلامية والتخشب، ما يتحقق له منتهى الإحباط والانشطار، بل وحدّ المكاشفة الوجدانية التي تبدو لها هذه الحياة، بلا روح تذكر، أي في أقصى درجات التصوير المشفّر والمبهم لدوال الموت. ويقول أيضا:

ترثي صيفا يكاد يمضي نصفه

وبيدر الأسرار

ألوذ بنصوص الكناية الكئيبة قرب

طمي النخل

لأبتر ذراع زمن ...وناب ذئب أدهشته زفة النهار

هذا المساء قهوته البريئة

أركب الطواحين من أجنحة الورق

والريح ثكلى

تبكي يوميات من عالم الأمطار

لأغازل مصاعد اللغة المنهكة.

تجدر الإشارة إلى أن هذه المجموعة تقع في94 صفحة من القطع المتوسط، وتضمّ 19 نصا، بين المطولات والمتوسطة الطول.

صمم غلاف الديوان الشاعر والفنان المغربي نور الدين الوادي. اما لوحة الغلاف فتعود للشاعر والفنان المهجري مهدي النفري.

***

شاعر وناقد من المغرب

..........................

هامش:

انظر نشيد سردون (مجموعة شعرية رقمية) لمؤلفها الشاعر الجزائري بادر سيف، منشورات عبور الثقافية، 2024، المغرب.

يرى الكثير من النقاد بأن الصورة الشعرية في النصوص واحدة من المعايير التي يُحكم بها على أصالة التجربة الشعرية، وعنصر من عناصر الإبداع في الشعر  وتضفي على القصيدة او النص بُعدا جماليا وطاقة ايحائية  تعبّر عن تجربة الشاعر واحتدام مشاعره السيكولوجية والتي يعكسها باستخدام الإنزياح الاسلوبي لضمان تفاعل المتلقي مع تاويلات نصه من خلال التفسير والكناية والمجاز واستخدامات زمن الفعل …. إلخ،  في مسعى لتوظيف الصورة الشعرية التي تتباين من شاعرٍ الى آخر، بل هي التي تؤطر بُنية القصيدة بكاملها وتستعين بإيقاعها الداخلي للتأكيد على مهارته وموهبته وبراعته  الشعرية .

أسوق هذه المقدمة لكي أبدأ بها قراءتي لنصوص المجموعة الشعرية للشاعرة عالية ميرزا الموسومة (68 شهوة بيضاء) والتي تضم ثمانيةً وستون مقطعاً تشكل بمجملها كتلاً مرصوفة من الصور المستلهمة من خيالها ببراعة مدهشة وقدرة اخاذة ممزوجة بفيض من الجرأة والوضوح فضلاً عن تحميل الكلمة بالدلالات والمعاني الى أقصى مداياتها المتاحة . وبفعل البيئة الفكرية والاجتماعية التي عاشتها الشاعرة في المهجر فإنها اكسبتها مساحة واسعة من الانفتاح والانعتاق من الكوابح والقيود الاجتماعية التي أثرّت تجربتها خلافا للسائد في مجتمعاتنا الشرقية التي تتسم أغلب نتاجات العنصر النسوي فيها بالتورية والرمزية  والانكفاء على الذات:

في المرة القادمة عندما نلتقي

اعلمك ثقافة إهداء الزهور الصباحية

واقود اصابعك لتكتشف كالاعمى

خريطة جسدي بحواسك الاخرى

لتصل الى عوالم لم يطأها قبلك أحد !

وتجوس عالية في تقنيات اللغة الشعرية وتركن الى  التشبيه التي هي من أقدم الوسائل الفنّيّة في بناء الصورة الشعريّة وتحديد أبعادها، فتهرب من الذاكرة وتحيل الوقت الى سائل، وتجعل من الضوء كائناً ذي حركة  بل وتحيل الانتظار الى جمرة من النار لتمزج هذه التشابيه في مقطع يموج بالحركة ويمور بالحيوية:

أُراوغ ذاكرتي كي لا أنهمك فيها

فينساب الوقت ويتبع ضوء

مُرتد للفضاء

أطارد ظلك الموشح بهالة

الشبق المنفلت من روح إلهٍ تمرد

وتنازل عن عرش إلوهيته

ليتذوق لسعة جمر الانتظار.

من الواضح إتكاء الشاعرة التام على الفعل المضارع في نصوص المجموعة  في تكوين الصّورة الشعريّة التي تُعدّ الرّكن الأساس في البناء الشعريّ لتوظيف الإمكانات الزمنيّة له في السياقات التركيبيّة للبنية  اللغوية للمجموعة من منطلق  قناعتها  بأن هذا الفعل الأثير ليس لديها فحسب بل ولدى جمهرة واسعة من الشعراء لإضفاء سمة الاستمرار والتجدد على النص والتعبير الدقيق عن مكنونات الشاعر نفسه  في زمنه الحاضر في منحى لمزج ذات الشاعر مع المتلقي بحيث يكوّنان معا نسيجاً مشتركاً من المعاناة والمكابدة او الفرح والحب الغامر مثل (أعلمك، أقود، أستعير، أحملها، أعبر بها، أخبئها، ألتقط، أصونها...) وحشد كبير من مثيلاتها في جلّ النصوص:

من الشمس أستعير

حفنة دفء

وخصلة من جديلتها

أحملها في حنايا الروح

كذكرى الوطن عند الغريب

اعبر بها الحدود نحو المحال

أخبئها تحت جلدي

أخبئها   ...  في الجانب الأيسر من صدري

ألتقط أحلامي التي ارتكبتها خلسة

أصونها من فم العتمة  !

لكن غربة الروح ومكابداتها لا تحول دون خلق مساحات شاسعة من الرقة والرومانسية في نصوص المجموعة   فترتقي عالية بأدواتها التصويرية ولغتها الدافئة نحو الركون الى أعماق القلب،  وتتجاوز الصيغ السطحية المبتذلة  فتحيل كلمة (أحبك)  الى طاقة حسية تنبض بالمناجاة  والتعاطف والرجاء، بل إن سحر هذه الكلمة قادرعلى ان يخوض مديات التجربة ويغير من طبيعة الموجودات المادية من حولها:

حين أقولُ أحبك

تلبس الكلمة حلتها

لتهرب من شفتي

وتسكن زاوية بعيدة من قلبي

أنتشل نفسي

أتلاشى فيك

فيغير النهر مجراه

تسبقني الصفصافة

لتقف أمامي وتلفني بظلها

فأهمس باسمك  !

وتمضي عالية في سعيها المحموم للتشبث بالأرض التي لا تشعر بالإنتماء إليها هناك في المهجر، فتقع في حيرة الاختيار بين الريح المنسلة من بين أناملها وبين ذرات الرمل التي تتحايل عليها  لتحشرها  في  محبس الزمن  لكن وجع الانتظار يلسعها وهي تترقب إنقضاء  فوضى الحبيب للعودة الى دفء السكون، وهي تستعين بلغة صافية وموحية  ترسم عبرها  صورة شعرية لتحافظ على إصرارها الذي لا يلين:

أتشبث بذيل الريح

ناسية أصابعي

وهي تطارد ذرات الرمل

أضعها عنوة في قنينة الوقت

لتطفو فوق الغيم

أترقب طيفك المنفلت من قبضة

فوضاك المتمردة

أغريه بخصر ساعة الرمل

ليستكين .

ورغم قدرة الشاعرة  على التعبير عن مكنونها الداخلي بإستخدام  تقنيات الصورة الشعرية بإقتدار واضح، إلا ان بعض نصوص المجموعة  تلكأت في اللحاق ببراعتها  وعانت  من تكرار المرادفات التي أضعفت مقاصدها رغم  محاولتها إستلهام   بعض الوقائع المحورية كمحنة الخروج من الجنة  فعادت في العديد من نصوصها  الى مرادفات المطاردة  والزمن والاستكانة  والظل والرمل والفوضى وغيرها، بل والإحساس بالتوتر نتيجة  ترويض جموحها وتعاملها مع الحدث الآني بفوقية بينّة:

لا هدنة مع الوجع

أتكور في جحرٍ

أدخل في سبات الأفعى

أطارد غفلة أمواج البحر

بين المد والجزر

أصطاد الوهلة

من غفوة الزمن

لأروض اللبوة في صدري

كشرنقة منسية

ألف ظلاً حول ظلي

لتستكين على ورقة توت

هاربة من الجنة.

ولأنها تتجرع جائحات  الغربة عن الوطن والأحبة  بوجع  ظاهر، فهي مع تأكيد الحاجة الى التلفع  بأعباء التعبير الصوري تتناول معاناتها وتوقها الى حضن الوطن  البعيد  بأسلوب سردي  مباشر ا لم يؤثر سلباً على ميزة  المجموعة  التي حفلت بالصور الشعرية الشفافة التي هي من أبرز سماتها:

في المكان نفسه

أجلس على طاولتي المنزوية

في الركن للمرة بعد الألف

أنتظر بعضاً من الشمس

الهاربة من بوابة الشرق

لعلها تحمل ومضة دفء

بين خصلات جديلتها

لتذيب صقيع الشمال

أمسك الزمن من عنقه

ليكف عن التثاؤب والهذيان

ثم أطوي وحدتي في كتابي

وأمضي ...

وفي خضم جحيم الانتظار واللوعة لا تزال  عالية تتمسك بأملها الضائع بين الشظايا والمدن الأفلة خلف الضباب والريح المجنونة والموج الصاخب والانتظار الممض ليأتي الغائب الحاضر ويأخذها خلف المسافات  أو على متن غيمة مطيرة تحمل معها مفاتيح الرجاء  والرخاء معاً:

خذني غيمة شاردة

لسماء قلبك

أو قبضة قمح

زادا لمواسم القحط

وشحة الشجون .

وهكذا فإنها أسرفت في إعتمادها التشابيه الاستعاريّة كما في النصوص المماثلة في المجموعة، لتعيد إلى التشبيه فاعليّته في خلق الومضة الشعرية، ورفد الصورة بعناصر التخيّل الابتكاريّ والابداعي .

***

محمد حسين الداغستاني

تنتمي روايةُ (الحفيدة الأميركية) للروائيةِ العراقيةِ المغتربة إنعام كجه جي، نسبياً  إلى الأدبِ  الذي يتناول الإرهاب اليومي في العراق. عنوانُ الرواية يمارسُ غوايتهُ في قراءةِ الروايةِ والبحثٍ فيها، لاسيما تعالقُه بالحدثِ المهمِّ في تاريخ العراق، ألا وهو الاحتلال الأميركي عام 2003.

الوضع العراقي المعقَّدُ والملتبسُ ومخلفاتُ النظام الدكتاتوري المباد، خلقت حالةً أشدَّ حراجةً في تاريخ المغتربين العراقيين في المنافي، وبعضهم لاجئون عراقيون في أميركا فرّوا في سنوات التسعينيات من القرن الماضي أو قبلها، حصلوا على الجنسية الأميركية. تغوصُ الروايةُ في إشكاليةِ الهويَّةِ بين وَطنين مُختزلين في صورتي الحلمِ الأميركي والحنينِ العراقي، ولمن يتغلب الولاء في النهاية.

الحفيدة الأميركية هي (زينة) بطلة الرواية الشابة، حفيدةُ عقيدٍ في الجيش العراقي، وأبوها مذيعٌ في ذلك العهد، يُسجن ويُعذَّب إثر وشايةِ أحد زملائه في العمل، حين تذمَّرَ من طولِ نشراتِ الأخبار ومللِ الناس منها، قرَّرَ بعدَ خروجهِ من السجن، مغادرةَ العراق نهائياً، هو وزوجته وابنتهما بطلة الرواية وأخوها، ألم نقلْ إن كلَّ مشكلاتِنا عقّدها النظامُ المباد.

تعمل الحفيدةُ على العملِ كمترجمةٍ في صفوف الجيش الأميركي المتواجدِ في العراق، متنقلةً بين مدينة تكريت- مركز محافظة صلاح الدين- والمنطقة الخضراء في العاصمة بغداد، بالإضافة إلى مدينة  الموصل-مركز محافظة نينوى، تسعى متنكِّرةً إلى لقاء جدتها (رحمة) التي بقيت في بغداد. وبعد ما علمت الجدَّة بطبيعةِ عملِ حفيدتِها لامتها أشدَّ اللوم على عملها هذا، عَدَّته خيانةً للوطن، مثلما تنقلُ البطلةُ  أصداءَ تجنيد العراقيين المقيمين في ديترويت، كمتعاقدين في صفوف القوات الأميركية، التي ستُسقط نظام الحكم البعثي في العراق. أصداءٌ هي صراعٌ بين هويتين، فتقول: "أناس يشجِّعون ويزيِّنون التجربة، وأناسٌ يديرونَ الوجوهَ ويبصقونَ ويحذِّرون من خيانةِ الأرض، التي شربنا من دجلتها وفراتها، حتّى ولو لصالح أرضنا الجديدة التي تسقينا الكوكا كولا صباحَ مساء": الرواية- ص 17 .

لكنَّ بطلةَ الروايةِ لم تقتنعْ بعدمِ صوابِ حماسها للعمل كمترجمة، فهي تسهمُ في تغييرِ الحالةِ العراقيةِ، فضلاً عن إيفاء دينٍ للوطنِ الجديد أميركا، واعتباراتٍ شخصيةٍ  مثل تحسينِ الوضعِ المادي، إذ تعاقدَ المتطوعون برواتبَ مغريةٍ جداً، تجعلهمْ  يتجاهلونَ مخاطرَ الموتِ أو الإعاقة، إنَّها باختزال؛ المغامرة. بل تعتبرُ نفسها، موقنةً من ذلك أشدَّ اليقين بأنها" ذاهبةٌ في مهمةٍ وطنية": ص18

ومن الملاحظِ أنَّه كلَّما برزتْ مجسّاتُ الصراعِ بينَ الهويَّتين، تبرّرُ لذاتها، بأنَّها ستخدمُ وطنينِ في مهمتِها تلك، وتريدُ كجه جي من ذلك صعوبة إقناع القارئ من قبل البطلة بذلك. فهي مؤمنةٌ بالوهمِ الأميركي، بأنَّ أوضاعَ العراقيين ستتحسنُ حالاً، ويتمتعونَ بالحريةِ، والرفاهية، فحتى الشيخ سيعودُ صغيراً. ولكنَّه الوهمُ المبطَّنُ بالإغراءِ المالي الخيالي.

ولأجل خلقِ عمقٍ في الإقناعِ الذاتي بالمهمة المقبلة، تتذكَّرُ أحداثَ 11 ايلول 2001، حينما صُدم الأميركان بما جرى، فهي ترى أنَّ عمقَ مهمتها مرتبطٌ بمكافحةِ الإرهابِ وداعميهِ في كل مكان، من أنظمةٍ شموليةٍ قامعةٍ للحريات، مثل النظامِ الصدامي في العراق آنذاك. ومن هنا تبريرنا في زجِّ الروايةِ في  دراساتِ هذا الكتاب، بوصفِ مهمةَ البطلةِ بأنَّها تسهمُ في الحربِ ضدَّ نظامٍ إرهابي،  بتقدمِ فصول الرواية نشعرُ أنَّ البطلةَ تشعرُ أنَّه من الضرورةِ الفصلَ بين النظامِ والشعب، وبأنَّ ليسَ كلِّ قطاعاتِ الشعبِ تؤيُّد تلكَ الطريقةِ في إسقاطِ النظام، ويَعدُّونه غزواً ليس إلاّ.

نرى البطلة أيضاً  في حالةِ هبوطٍ معنويٍّ مستمرٍّ سببهُ الخسائرُ المتصاعدةُ في صفوفِ الأميركيين، وكذلك الشحذُ المستمرُّ لمشاعرها الوطنية إزاء بلدِها الأوّل، بعدَ كلِّ لقاءٍ مع جدَّتِها (رحمة).

 ولكي تُحسنَ  كجه جي، التي رُشِّحت روايتُها (النبيذة) إلى القائمةِ القصيرةِ لجائزة البوكر العربية لعام 2019، في نسجِ خطوطٍ متقنةٍ تصبُّ في خلقِ انقلابٍ نفسي وتحولاتٍ نوعيةٍ في حياةِ البطلة، زجّتْ بساردٍ عليمٍ، لن يظهرَ كثيراً في الرواية، عبر شخصيةٌ تسمّى المؤلِّفة، وكأنَّ البطلةَ انقسمتْ بين ذاتين؛ الراوي العليم المتجسِّدُ فيها وذاتُها الأخرى المؤلِّفة، فتناكدُ  تلك المؤلفةُ البطلة، وتتّهمُ الأخيرةَ بإزعاجها، وأنّها تفتعلُ المواقفَ لكيْ تكتبَ روايةً وطنيةً على حسابها.

هناك خطوطٌ سرديةٌ أخرى تمثِّلُ طبيعةَ التعايشِ والانسجامِ بين المكوِّنات العراقيةِ منذُ القدم، (طاووس) مثلاً، امرأة مسلمة من مدينة (الصدر) تعمل كخادمةٍ شاملةٍ تعتمدُ عليها عائلةُ (زينة) المسيحية في كل جوانب حياتها، وإذ تُصابُ والدةُ البطلة، ب (التيفو)، تُرضع طاووس زينة عندما كانتْ طفلةً  بعمر شهرين، فيصبح أبناؤها الستة إخوةً لها, أحدهم واسمهُ (مهيمن)، فوجئتِ البطلةُ بمعاملتهِ لها كأخٍ كبيرٍ لها، وتعلّقتْ به بما يشبه خروجاً عن الحبِّ الأخوي، ولكنَّه ظلّ أخاً حنوناً على الرغمِ من عدم رضاهِ عن عملها مع الجيشِ الأميركي.

مهيمنُ والجدةُ التي تموتُ بحسرتِها من مأزقِ حفيدتها، كما تقول زينة، جعلاها تقرِّر عدمَ تجديد عقدها والعودةَ إلى أميركا. كما انتصرتْ ذاتُها الأخرى عليها كأميركيةٍ متمأزقةٍ بين وطنين: "تعبتُ وتعبَ مني الكمبيوتر. ضاقَ بطباعِ المؤلفة. أرادتْ أنْ تلحقَ بي إلى ديترويت. تتبعنُي حتى آخر رمقٍ. تسجّلُ اندحاري قبلَ أنْ تنهضَ عن طاولةِ الكتابة. تمطُّ ذراعيها وتفردُ ظهرَها وتصفِّق جذلاً. تشربُ نخبَ انتصارِها على الحفيدةِ الأميركية"  ص193.

***

باقر صاحب - شاعر وكاتب عراقي

 

قراءة نقدية مسافاتيّة في النص الشعري الموسوم (ثلاث قطرات من ندى فرات السماوة) للشاعر يحيى السماوي.

***

- مسافة النص:

(ثـلاث قـطـرات من نـدى فرات السماوة)

(1)

مـا حـاجـتـي لِـ " بـسـاط الـريـح "؟

خـذوا " الـريـحَ " لـكـم

واتـركـوا " الـبـسـاطَ " لـي ولـحـبـيـبـتـي ..

*

(2)

لا أتـمـنـى أنْ يـكـونَ لـي جـنـاحـان قـويـان

فـحـبـيـبـتـي تـقـيـمُ فـوق الأرض ...

لـذا أتـمـنـى امتلاك:

قـدمـيـن قـويّـتـيـن

تـقـطـعـان الـطـريـقَ الـمـمـتـدّ مـن أحـداقـي

الـى وجـهِـهـا!

*

(3)

قـالـت لـيَ الـحـديـقـةُ:

الـريـاحُ أفـضـلُ سـاعـي بـريـد

بـيـن الـمـيـاسـم والـتـويـجـات!)

- مسافة إستهلالية:

إنَّ الكتابة الإبداعية بصورة عامة، والشعرية منها على وجه الخصوص هي عبارة عن ممارسات لفعل إحتجاجيّ لا يعرف التوقف أو المهادنة بأي شكل من الأشكال، وثمّة مسافات متعددة لذلك الإحتجاج: احتجاج ضد الواقع المظلم، إحتجاج ضد الوسط النخبوي الراكد ولا يتقبل أن تلقى في مائه حجارة جمالية تحرّك دوائر الوعي لديه، واحتجاج ضد الذات أيضاً ليس بجلدها سايكولوجياً فحسب، وإنما لحّثها على ممارسة الإحتجاج الجماليّ لكي يضمن ديمومة وسلامة حركيّة الإبداع في كوامنه ذات الأغوار السحيقة، وهنا يحضرنا قول مهم للكاتبة الأسبانية آنا ماريا ماتوته حيث تقول:

(الكتابة إحتجاج متواصل، حتى لو كانت عن الذات).

ثمَّة دراما إحتجاجية تشي بالتوتر المستمر Constant Tension الذي يعيشه الشاعر-المؤلف-الممثل-المُخرج-المُنتج لخطابه الإبداعيّ شعراً إيقاعيَّاً أم نثراً فنيَّاً يركب بساط الشِعريَّة المدهشة. إنَّ الفعل الدراميّ بثيمته أو بنبرته الإحتجاجية يغري القارئ- المتلقّي على ملاحقة خيوطهِ، حتى لو لبس لبوس تقنية الرسائل المُضمَرة Mechanism of Implied Messages

كما نراه ونشعر به جماليَّاً في قصائد وومضات الشاعر المبدع يحيى السماوي الذي يغوينا سحر مراياه الشعرية Poetic Mirrors على قطع تذاكر الدخول لمسرح قصيدته لنرى ما نرى هناك من نفائس وكنوز ودرر شعريَّة تُعرضُ لنا فوق خشبةِ مسرحٍ جماليٍّ بامتياز.

في مسرح القصيدة ثمَّة مرآة جمالية تعكس ما يحدث في بؤرة النص، أي المسافة الجمالية Aesthetic Distance، وتلك المرآة تتحول إلى مرايا أخرى عاكسة لمفهوم المسافة وما بعدها، وهنا تحدث عملية تشّظي مسافاتيّ تعكسه مرايا النص، حيث تتحوّل المرآة الواحدة إلى مرايا مسافاتية تعكس للمتلقي تفاصيل ما يدور خلف الكواليس الدرامية من أحداث درامية ذات إيقاع مسرحي يوقظ وعي القارئ-المتلّقي، ويلقي في بؤرة وعيه الراكد أحجاراً جماليّةً تجعله يعي ويطلق العنان لمخيلته أن تتصوّر ما يجري هناك، وتحثه على أن يفتح ستائر مسرحه المُتخيَّل، ويكون في تلك اللحظة الجماليَّة شريكاً وفاعلاً فعّالاً بما يُعرَض من أفكار ودلالات وإشارات تُجسَّدُ دراميّاً فوق خشبة مسرح القصيدة.

- مسافاتيَّة العنوان:

(ثلاث قطرات من ندى فرات السماوة)

وفقَ ما نرمي إليه في نظرية المسافاتية، نرى أنَّ عنوان الخطاب الشعري، قصيراً كان أم طويلاً، يشكّل البؤرة الجمالية أو المسافة الجماليّة التي يتركها مبدع النص للقارئ الجماليّ Aesthetic Reader لكي يلجَ في طبقات النص المسافاتيَّة، أو يغور بعيداً وعميقاً في غابة النص ذات المتاهات المتشابكة كأغصان أشجار تلك الغابة المُتَخَيَّلة، ليكتشفَ الأسرار الجماليّة الغائرة هناك، وهذا الأمر قد يلتبس على القارئ العادي Normal Reader الذي عادةً ما يمرّ بالنص مرور الكرام، ولا يَبذلُ جهداً بالكشفِ عن خفاياه، وإذا ما حملنا عدّةَ القارئ الأول: القارئ الجماليّ، الذي تهمُّهُ عملية مغامرة الغوص بعيداً في مياه النص، ليشاركَ مُبدعَهُ لذّة إكتشاف البنية الدرامية العميقة للنص، نجدُ بأنَّ الشاعر الفذ يحيى السماوي قد أسّسَ لمسرح قصيدته إنطلاقاً من العنوان: (ثلاث قطرات من ندى فرات السماوة)، حيث نرى، وفق منظورنا المسافاتيّ، بأنَّ القطرات الثلاث سيشكلّنَ مسافاتٍ دراميّة ثلاثا، بمعنى أنَّ كل قطرة تمّثل مشهداً مسافاتيّاً متحرّكاً، بل كل قطرة تصبح شخصيةً مسافاتيّةً مطلوبا منها أن تؤدّي دورها الدرامي فوق خشبة مسرح القصيدة، ويمكن للقارئ الجماليّ أن يتخيَّلَ بأنَّ القطرات الثلاث: بنات ثلاث ولدن من رحم الأم-الندى وأبيهنّ الفرات، وبيتُهُنَّ الجماليّ Aesthetic Home هو مدينة السماوة، ولا غرابةَ في الأمر، إذا ما أخذنا المخيالُ بعيداً في تصوّر ذلك البيت- المسرح، حيث يقول الفيلسوف والمفكر الجماليّ الفرنسي غاستون باشلار:

(يجسّد البيت إحدى القوى الكبرى التي تمزج بين الأفكار والذكريات، وكذا الأحلام الإنسانية، فيمثل حلم اليقظة مبدأها الرابط).

وهنا يكون كل مقطع من مقاطع النص عبارة عن مسافة جماليّة حُلُميَّة تضمر في طيَّاتها الكثير من الأسرار التي تُعرَض كأحداث مسافاتيّة دراميّة من على خشبة مسرح القصيدة.

- المسافة الأولى:

مـا حـاجـتـي لِـ " بـسـاط الـريـح"؟

خـذوا " الـريـحَ " لـكـم

واتـركـوا " الـبـسـاطَ " لـي ولـحـبـيـبـتـي ..

يدخل الشاعر هنا (أو صوت الشاعر المسرحي) مخاطباً جمهور القرّاء في مسرح قصيدته، أو ربما جوقة أخرى مُتخيَّلة تقدّم له بعض الإغراءات لكي يمتطي صهوة (بساط الريح)، ويرحل بعيداً عن سمائه أو أرضه الأولى، وإذا ما كانت صورة (بساط الريح) تأخذنا أو تحلّق بنا في سماء التراث حتى لو كنا نطير بأجنحة الخيال، كما يرى الفيلسوف إفلاطون بأنَّ (الشاعر كائن خفيف الأجنحة)، والشاعر هنا يحتّج متسائلاً: (ما حاجتي لـ "بساط الريح"/ خذوا "الريحَ" لكم/وأتركوا "البساطَ" لي ولحبيبتي...).

إنَّ إحتجاج الشاعر الدرامي يؤسس لما يمكن أن نسمّيه بـ (درامية الإحتجاج Dramatisation of Protest) والتي يترجمها جماليَّاً من فوق خشبة مسرح قصيدته، إذْ يكون إحتجاجهُ إحتجاجاً مسافاتيَّاً، أي يمكن الرجوع إلى قراءة محمولاته ودلالاته من خلال التزوّد بزاد المسافة الجمالية Aesthetic Distance، فهي المستودع الجماليّ الذي نأخذ منه ما يكفينا من مؤن الخيال التي تغذّي أفكارنا وتمدُّنا بالطاقة الجماليّة التي نحتاجها لإتمام طقوس تلك الرحلة في مسرح القصيدة. وعندما نتحدّث عن شخصيات Characters المسافة الأولى أو المشهد الأول التي يقدّمها الشاعر من على خشبة مسرحه الدراميّ، نجدها كما يلي:

 (أنا الشاعر وهي مسافاتية بإمتياز: أنا الشاعر-أنا الراوي-أنا الممثل-أنا المخرج-أنا المنتج)، وكل (أنا) تمّثل مسافة بحد ذاتها، أما شخصية "بساط الريح"، تلك الشخصية المركّبة، تتحوّل فيما بعد إلى شخصيّتين بارزتين في مسرح القصيدة هما: البساط، والريح التي تتكرّر ضمنيّاً في المشهد الثاني، وتعود لتطّل علينا بصوتها الجماعي الإحتجاجيّ في المشهد الأخير، وكذلك تظهر لنا شخصية محوريّة يتكرّر حضورها الدرامي في المشهد الثاني والثالث على حدّ سواء، ألا وهي شخصية الحبيبة.

 - ثيمة الإحتجاج في المشهد الأول:

تتجسّد صرخة الشاعر الإحتجاجية في المشهد الدرامي الأول عبر عبارة: (ما حاجتي لـ "بساط الريح"؟)، إذْ يطلب منهم أن يفصلوا ما بين الشخصيّتين الدراميّتين المحوريتين: البساط، والريح، وللبساط دلالة فلكلورية ورمزية تراثية ووطنية، فهو لا يريد لبساط الريح، وإنْ كان نتاج مخيَّلة ميثولوجية Mythological Imagination، أن يبعده عن حبيبته الأولى: السماوة، الأم، الأرض، الوطن، العراق وهو ينعم ببرودة ندى الفرات الذي يراقب من خلف الكواليس ما يدور من أحداث فوق خشبةِ مسرح القصيدة.

- المسافة الثانية:

يقول الشاعر-الراوي-الممثل-المخرج-المنتج للنص الدرامي:

(لا أتـمـنـى أنْ يـكـونَ لـي جـنـاحـان قـويـان

فـحـبـيـبـتـي تـقـيـمُ فـوق الأرض ...

لـذا أتـمـنـى امتلاك:

قـدمـيـن قـويّـتـيـن

تـقـطـعـان الـطـريـقَ الـمـمـتـدّ من أحداقي

الـى وجـهِـهـا!)

وقبل الوصول إلى مسافة البنية الجمالية للمشهد الدرامي، ربما تستوقفنا مسافة من نوع آخر، ألا وهي المسافة التأملّية للشخوص التي ستؤدي دورها المسرحي من فوق خشبة مسرح القصيدة بمواجهة جمهور القراء الذين يطّلعون على النص، أو أولئك الذين يجلسون في المقاعد الأمامية من مسرح خيال الشاعر وهي تبدو لنا بالشكل التالي حسب ظهورها على الخشبة الإفتراضية:

- أمنية الشاعر التي يجسدها الفعل المسبوق بـ (لا الناهية: لا أتمنى) وتلك تقودنا إلى ثيمة النفي والإثبات فهو لا يتمنى أن يكون له جناحان قويان، وهنا نلتقي بالشخصية الثانية:

- جناحان قويان: علامة الطيران والبقاء بعيداً عن الوطن.

- حبيبة الشاعر التي تقيم في الأرض.

وهنا ثمَّةَ صرخة إحتجاجية مُضمرة تجسدها عبارة: (حبيبتي تقيم في الأرض...)، وأيَّة أرض؟ أيَّة مسافات لنا أن نتخيّلها في تلك النقاط الثلاث(...) والتي تلعب أيضاً دورها السيميائيّ في مسرح القصيدة؟! إنَّ النقطة هنا علامة دراميّة مُتخيَّلة تخرق مخيّلة القارئ-المتلّقي، أو ما يمكن بتسميته بجمهور مسرح القصيدة، وتهّز الإسترخاء الذهني لديه، وتجعله متوّثباً على الدوام لأي دور جماليّ يتحتم عليه تأديته هو الآخر، أي تجعله يتفاعل مع دراما النص، ويكون على أتمّ الجهوزية والاستعداد لملء الفراغ المسافاتي، بما يريد أن يدخله من أفكار أو كلمات تحلّ محل مسافات النقاط المذكورة، حيث كل نقطة تكون مسافة، وثمَّةَ مسافة ما بينها وبين المسافة الأخرى.

-الطريق، هنا، شخصيّة مسافاتيّة تلعب دورها الدرامي الخاص بجماليَّات المكان.

-الأحداق: بمظهرها الجمعي لا تكون خاصة بحبيبة الشاعر كصورة إنسانية، وإذا كانت كذلك لجعلَ الطريقَ يمتّد من حدقتي عينيه، لكن ثمّةَ تحوّلات درامية تصنعها كلمات ذلك المشهد المسافاتيّ بإمتياز، فكلّ الأحداق التي يمتلكها الشاعر: حدقتي عينيه، وحدقات عيونه الإبداعية، بوصفه شاعراً ودراميَّاً وممثلاً مسرحيَّاً ومخرجاً ومنتجاً، وبغضّ النظر عن وجود تلك المسميَّات من عدمها في سيرته الشخصية، نحن هنا نتحدث عن فاعليَّته الجماليَّة في مسرح قصيدته لأنَّ حدقات تلك الشخصيّات مجتمعةً ستتجّه صوبَ وجه الحبيبة-الأرض-السماوة-الأم-رفيقة درب العمر الطويل.

- المسافة الثالثة:

يقول الشاعر-الراوي مخاطباً جمهور مسرح قصيدته:

(قالت ليَ الحديقة:

الرياحُ أفضل ساعي بريد

بـيـن الـمـيـاسـم والـتـويـجـات!)

ولو سلّطنا الضوء على شخصيّات المشهد المسافاتيّ الأخير، نرى من الممكن أن نقرأها على النحو التالي:

- شخصية الشاعر-الراوي من خلال عبارة (قالت ليَ).

الحديقة: شخصية دراميَّة جديدة تظهر على خشبة مسرح القصيدة لأول مرة. والحديقة هنا رغم حضورها الجماليّ في مسرح الحياة الواقعي، وفي مسرح المخيّلة أيضا، يترجم وجودها في المشهد الدرامي الأخير فعلاً إحتجاجيّاّ وإن جاء ضمنيّا هذه المرّة، فهي تهمس بإذن الشاعر-الراوي وتخفّف بعض الشيء من حدّة التوتر الدراميDramatic Tension لديه، وإن كان المشهد يتطلب تلك الحدّة من التوتر، وبهذا الفعل الإحتجاجي الهادئ تغيّر شخصية (الحديقة) من نظرة الشاعر-الراوي (للريح) التي تحدث تغيّراً مسافاتياً لتحوّلها من دورها الفردي إلى دورها الجماعي، حيث كانت في المشهد الأول شخصية منفردة بعد فصل جسدها عن جسد (البساط) لتكون هنا شخصية جماعية اسمها:

- الرياح: شخصية إيكولوجية Ecological Character محوريَّة سبق لنا، كجمهور مسرح القصيدة، أن التقينا بها في مسافة المشهد الدرامي الأول وهي ترتدي بدلة الميثولوجيا الشعبية Popular Mythology ممثلةً بـ (بساط الريح)، وفصلها الشاعر عن (البساط) لتعود شخصية إيكولوجية فردية، أي أصبحت شخصية تؤدّي دورها البيئي حسب مقتضيات الفعل الدرامي المطلوب تأديته من فوق خشبةِ مسرح القصيدة، بيدَ أنَّ دورها الإيكولوجي الجماعي يتحوَّل، حسب نظرية التحوّل المسافاتيّ: أي نظرية تحوّل المسافة إلى مسافةٍ أخرى مختلفة عن بنيتها الدراميّة الأولىDramatic Structure، إلى دور شخصية أخرى، بمعنى إنَّ شخصية (الرياح) البيئية Ecological تتحوّل أمام أنظار جمهور مسرح القصيدة إلى شخصية إنسانية يكون إسمها الدرامي في هذا المشهد المسافاتيّ الأخير:

- ساعي البريد: إنَّ شخصية (ساعي البريد) رغم حضورها المجازي Metaphorical Presence هنا، إذا ما قرأناها بلغتها الشعرية قبل تحوّلها إلى لغة درامية مسرحية، تلعب دوراً جماليّاً مزدوجاً Double Aesthetic Role في مسرح مخيلتنا الإفتراضي، فهي شخصية إنسانية لعبت وتلعب دوراً مهماً في مسرح حياتنا الاجتماعية بشكل عام والعاطفية على وجه الخصوص، إذْ كانت توصل رسائل قلوبنا لمن نحب ونعشق، وتأتي الينا برسائل القلوب التي تحبنا وتعشقنا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إنَّ (ساعي البريد)، هنا، كما يريد له الشاعر- الراوي- الممثل-المخرج- المنتج يحيى السماوي، يضطلع بمهمة إيصال الرسائل الجماليَّة التي تنتج لنا حياةً عطريَّة أو ثمريَّة، تجعلنا نشعر بالجمال ونتوّجه بالشكر والعرفان للرحمن العظيم الذي خلق كلَّ هذا الجمال بكلِّ تجليَّاتهِ المسافاتيّة، فـ (ساعي البريد) هنا يضطلع بدور مسافاتي جمعي، إذ تكون شخصيته فرديّة، لكن فعلها جمعي يتمثل بـ (الرياح)، والفعل الجمالي هنا هو فعل خالق ومنتج لحياة جديدة، فالدور التلقيحي للرياح وهي تجمع بين (المياسم) و(التويجات) وهي شخصيات تشارك لأول مرة في المشهد الأخير من مشاهد مسرح القصيدة:

- المياسم: شخصية إيكولوجية تنتمي لعالم الورد.

-التويجات: شخصية إيكولوجية تنتمي لعالم الورد أيضاً.

إنَّ الفعل الجماليّ لعملية التلقيح تشارك أو تشترك به الشخصيات الثلاث: (الرياح، المياسم، والتويجات)، والشاعر هنا يشتغل بوعي كبير على البنية النحوية للمفردات، حيث جعل منها شخصيات جماعية(الجمع) وليست فردية(المفرد)، لأن (الحديقة) وإن كانت شخصية فردية لكن تكوينها وبنيتها جماعية، بمعنى إن (الحديقة) منتج مسافاتي، أي تتكوّن أو تتشكّل بنيتها الجماليَّة من عدة مسافات، ولهذا يمكننا، وحسب نظريتنا المسافاتيَّة، أن نعتبر (الحديقة) كائناً جمعيَّاً مسافاتيّاً، حيث إنّ فعل التلقيح أنتجته شخصيات جماعية: (الرياح، المياسم، التويجات)، وبالنتيجة أنتج لنا (الحديقة) التي لا تتشكّل بزهرة أو وردة واحدة، بل بفعلٍ جماعيّ لزهرات أو وردات عديدة.

- مسافة الخاتمة:

من هنا، وتأسيساً على كل ما تقدم، نرى بأنَّ الشاعر الكبير يحيى السماوي يريدنا، من خلال البنية الدراميّة والجماليّة لمسرح قصيدته، أن ندركَ بإنَّ الفعل الجماعيّ الذي تشترك به شخصيات إيكولوجية وإنسانية سينتج لنا حديقة، والحديقة هي: الحبيبة (حبيبة الشاعر التي تعطى حياته عطراً عاطفيّاً بحضورها الورديّ في حلّهِ وترحاله)، وهي المدينة-الأم (السماوة التي يريد لها أن تكون حديقة غنّاء على الدوام)، وهي الوطن الحبيب(العراق: حديقة وجوده الإنسانيّ والشعريّ الذي شكّل هويته الطبيعية والإحتجاجيّة بوصفه إنساناً وشاعراً).

إنَّ الشاعر هنا، ينبّه جمهور مسرح قصيدته لأهمية الدور الإيكولوجي الذي تلعبه تلك الشخصيات وإسقاطاته الجماليَّة على الواقع الإنسانيّ، فهي شخصيّات مهمّة تؤدّي أدوارها الدراميّة والجماليّة، بفعل طبيعيّ أو إحتجاجيّ، ليس فوق خشبة مسرح النص الشعري السماويّ (نسبة للشاعر يحيى السماوي) فحسب، بل فوق خشبة مسرح الحياة.

***

بقلم: د. مسلم الطعان

 

عندما انتهيت من قراءة قصة "موعد ترجمة"، أثارت في نفسي تعجبًا عميقًا، فقد كانت القصة شيقة للغاية ودفعتني لأقول بالعراقي: "تخبّل"! لم أكن أعرف من كاتبها آنذاك، لكنها أثرت فيّ بشكل لم أتوقعه. لذا، كتبت رأيي الصريح في رسالة إلكترونية إلى الدكتور زهير ياسين شليبه، مشيرة إلى أن القصة، على الرغم من بساطتها كما تبدو من عنوانها، تجسد أسلوبًا ساخرًا وشيقًا وتصويرًا وسردًا بارعًا لأنها غير تقليدية. القصة تصور حدثًا واحدًا يعكس قضايا اجتماعية ونفسية وإنسانية بلغة مكثفة ومشوقة، حيث يلتقي القارئ بشخصيات متنوعة مثل الشيخ المغربي والشاب الدنماركي موظف القطار، والعجائز الدنماركيات، وخالته ووالدته وجدته اللاتي يستحضرهن من خلال ذكرياته عنهن. الشخصيات المتنوعة في القصة تمثل نسيجًا اجتماعيًا غنيًا، تمكن الكاتب من استكشاف تعقيدات الحياة والثقافة بطريقة تلامس إحساساتهم بعمق. من خلال الذكريات والمونولوجات، يتجول الراوي بنا في عوالمهم، كاشفًا عن التحديات اليومية والأوضاع السياسية بأسلوب يشبه تقنيات التصوير السينمائي. خلال قراءتي، شعرت كأني أخاطب زهير ياسين شليبه وجهًا لوجه، مؤكدة أن مؤلف القصة متمكن بشكل ملحوظ من فن كتابة القصة القصيرة، محددًا بدقة الزمان والمكان والشخصيات. بطل القصة، الذي يحاول بشتى الطرق الوصول إلى موعد الترجمة بدون تأخير، ينقلنا عبر معاناته من الأرق والإرهاق بطريقة تجعل القارئ يتعاطف معه بشدة. وصوله في النهاية إلى البلدية بلا موعد مسبق كما تهيّأ له، لكن ليجد نفسه مطلوبًا لترجمة أخرى حالة اضطرارية، هو تذكير بأن الصدف أحيانًا تقود إلى مسارات غير متوقعة. هذا الحدث يكشف عن المفارقة الرائعة في الحياة وكيف يمكن أن تتحول اللحظات العادية إلى نقاط تحول كبرى. القصة، بكل ما فيها من أحداث وتفاصيل وتصوير حيوي، لم تكن مجرد تسلية بل درسًا في التعاطف والفهم المتبادل من خلال أحاديثه الشيقة مع الشيخ بالدارجة المغربية ومزاحه معه ونظراته للعجائز الدنماركيات. أخيرًا، أشكر زهير ياسين شليبه على هذه التجربة الأدبية الغنية التي أثرت فيّ عميقًا وأكدت لي مرة أخرى أن الكتابة ليست فقط فنًا بل جسرًا يعبر به الإنسان إلى قلوب الآخرين وعقولهم. "موعد ترجمة" لم تكن مجرد رحلة عبر الصفحات، بل كانت رحلة عبر النفس والزمان، تخللتها طيات من التفكير والعبرات التي لا تُنسى. من الجدير بالذكر أن "موعد ترجمة" لم تكن مجرد قصة تتناول الأحداث اليومية، بل كانت عملاً أدبيًا يستكشف العمق النفسي والثقافي للشخصيات بطريقة تدعو القارئ للتفكير والتأمل. الطريقة التي تتعامل بها القصة مع موضوعات مثل الهوية، الانتماء، وتقاطع الثقافات قدمت لي نظرة متعمقة عن كيفية تأثير الثقافة في تشكيل الذات. كانت هذه الجوانب بمثابة جسور تربط بين عالمي الخاص والعوالم المعروضة في النص. في كل مرة كنت أتأمل في الحوارات والوصف الدقيق للأماكن والأشخاص، كنت أشعر بأن الكاتب ينقلنا، نحن القراء، إلى مركز الحدث، ليس فقط كمراقبين بل كمشاركين فعالين في السرد. هذه التقنية السردية لا تسمح للمرء بأن يظل محايدًا؛ بل تجبره على التفاعل مع الأحداث والشخصيات، مما يعزز الاتصال العاطفي مع القصة. التفاصيل الثرية والمشاهد المصورة كانت تعكس ليس فقط المهارة الأدبية للكاتب ولكن أيضًا قدرته على استخدام اللغة كأداة للتعبير عن مجموعة معقدة من المشاعر والأفكار. كل جملة كانت تبني وتضيف إلى الصورة الكبرى، مما جعل النهاية، على الرغم من بساطتها الظاهرية، تحمل وزنًا عاطفيًا وفكريًا كبيرًا. هذا التأثير العميق للقصة عليّ لم يكن متوقعًا، لكنه ترك في نفسي أثرًا لا يُمحى. القصة، بتناقضاتها وتقلباتها، كانت تعكس الحياة نفسها، مع كل تعقيداتها وجمالها. مما جعلني أتأمل في الدور الذي يلعبه الفن والأدب في تشكيل تفكيرنا وإدراكنا للعالم من حولنا. بعد قراءتي لهذه القصة، أصبحت أكثر تقديرًا للقصص القصيرة كوسيلة لاستكشاف القضايا الإنسانية العميقة في سياقات مكثفة وموجزة. إنها تذكير بأن الأدب لا يحتاج إلى الإطالة ليكون مؤثرًا؛ بل يمكن للكلمات المحسوبة والمشاهد المنتقاة بعناية أن تحرك العقل والروح على حد سواء.

والآن لنقرأ ماذا يقول كاتب قصة "موعد ترجمة" الدكتور زهير ياسين شليبه:

صحيح، انا ارسلتها لك مدعيًا انها لشخص آخر معجب بكل ما يكتبه، قلت عنه باللهجة العراقية ساخراً "كلمَن نغفته بحلقه حلوه.

وشرحتُ معناه، يعني، يصعب على المرء أحياناً ان يرى عيوبَه!

كتبتُ قصة "موعد ترجمة" بدون التفكير بأي خطة مسبقة للكتابة! مثل رسّام يبدأ برسم لوحته، يضع الألوان عليها، الوجوه، المكان، الزمان، ثم يقوم بتشكيلها، يتركها يومين ثلاثة، اشهر، سنة، عدة سنين، حتى بعد نشرها مختصرة، يعود إليها، يتعمّق بها، يكتب بإسهاب كموسيقي يعزف الكمان، بالذات الكمان!

ليس فيها احداث، مجرد حكي بحكي، سرد، لكنه مليء بتنوع الزمان والمكان من خلال الناستولجيا، العودة إلى أهله، والدته، خالتها، ابنة عمها التي هي خالته أيضًا!! كيف حدث ذلك؟ امرأة عجوز خضراء العينين، يقارنها بالأوروبيات المتزينات بأبهى الملابس بينما هي تلبس الأسود دوماً! يستحضرها في خياله ويدعها تخرج معهن، تحدثهن بالإشارات عن زوجها او طليقها، تقول لهن: حمار! بالإشارات طبعًا!

والسارد الشارد الراوي (صورة الكاتب) يتطلع اليهن من نافذة القطار قلقًا على خالته!

نجد هنا عدة مستويات من شخصيات نسائية! وطبعًا يقابلها الأمر نفسه من حيث اللغة: الإشارات! واللهجات العراقية في مونولوج عن امّه والمغربية في محاوراته مع الشيخ المغربي والفصحى وطبعًا اللغة الدنمركية عندما يتحدث مع موظف القطار وكتب الترجمة والبلدية!

السخرية والتهكم جنبًا الى جنب مع حالك القلق وحركة القطار والناس الرائحين والغادين في ممر القاطرة وتغير الوقت ومراقبته باللحظات خوفًا من التأخر عن الموعد المقرر، كلها عناصر شد وجذب مقصودة من الكاتب في السرد المليء بتفصيلات قد تتطلب المزيد من التركيز. هذه القصة ليست قصيرة تمامًا، فهي اطول من القصيرة نوعما، إنها الفصل الاول لرواية قد تُكتب في المستقبل!

***

زكية خيرهم

 

كلما تقدم الإنسان في السن ازداد انغماساً في الذكريات عن الطفولة والأصدقاء، والحب والأماكن التي كان فيها سعيداً. يبدو أن الحاضر يتعبه، ويريد الهروب منه. ماذا عن المستقبل؟ من يدري كيف سيكون الأمر. الذكريات واضحة ومشرقة، عند السفر إلى الماضي، نميل إلى خداع أنفسنا قليلاً وتزيين بعض الأشياء، ولا نستعيد في ذاكرتنا إلا الأشياء الجيدة والمبهجة، لأن الزمن محا كل الألم، لذلك عندما يواجهنا أي مشكلة في الحاضر، نعود إلى الذكريات، ونقنع أنفسنا بأن الحياة كانت أفضل في السابق، لكن هل كان الأمر كذلك حقاً، أم أننا نسينا الأشياء السيئة فحسب؟ كل شيء نسبي. يكفي تقديم بعض الحجج وسوف تتلاشى الألوان الوردية للذكريات على الفور.

السبب الذي يجعلنا نميل إلى خداع أنفسنا في ذكرياتنا يكمن في عواطفنا. إن علاقتنا بزمان أو مكان أو شخص ما تمنحنا إحساساً بالقرب الذي نحتاجه في الأوقات الصعبة. إنها مثل «حبة مهدئة» في لحظات الاكتئاب. الذكرى مثل «التربيتة» اللطيفة على الكتف، تعيدنا لفترة وجيزة إلى حالة من الهدوء والسكينة. لكن كيف نتفاعل مع الشعور بأن العالم قد تغير، وأن كل شيء ليس كما كان من قبل؟ ماذا يحدث عندما ندرك أن مستقبلنا قد سرق منا؟ هل ندخل إذن ملجأ الماضي؟ هل يمكننا اختيار ماضينا وماضي البلد الذي نعيش فيه؟ الموضوع أرضً خصبة للاستكشاف الإبداعي، وقد تداوله الكتّاب، لعدة قرون. وكتاب مارسيل بروست «البحث عن الزمن الضائع» ربما كان أعظم محاولة لتقييم الحياة الماضية. وبعد مئة عام ونيف يأتي كاتب بلغاري موهوب ليكون نقيضاً لبروست في تقييم الماضي.

غيورغي غوسبودينوف كاتب روائي ومسرحي وشاعر وناقد أدبي بلغاري، من مواليد 7 يناير/كانون الثاني 1968، تخرج في كلية فقه اللغة في جامعة صوفيا. ترجمت رواياته الثلاث إلى الإنكليزية. وهو الكاتب البلغاري الأكثر ترجمة منذ سقوط النظام الشيوعي. وحازت روايته الأخيرة «ملجأ الزمن» جائزة مان بوكر الدولية لعام 2023. وعلى عكس جائزة البوكر الأصلية، التي تُمنح للروايات المكتوبة باللغة الإنكليزية، تُمنح جائزة البوكر الدولية للأعمال الروائية المترجمة إلى الإنكليزية من اللغات الأخرى. وهذه هي المرة الأولى التي تفوز بها رواية بلغارية. وعلى الرغم من تركيزها الواضح على الماضي، إلا أنها تأتي في الوقت المناسب تماما. قالت الكاتبة المغربية/ الفرنسية ليلى سليماني رئيسة لجنة تحكيم جائزة مان بوكر الدولية: «الرواية الفائزة «ملجأ الزمن» رائعة ومليئة بالسخرية والكآبة. هذا عمل عميق يتناول سؤالا حديثا جدا: ماذا يحدث لنا عندما تتلاشى ذكرياتنا؟ لقد تمكن غيورغي غوسبودينوف بشكل مذهل من التعامل مع المصائر الفردية والجماعية، وكان هذا التوازن المعقد بين الشخصي والعالمي، هو الذي أقنعنا وأثر فينا. كتبت هذه الرواية بدقة، وهي تعزز سمعة الكاتب كواحد من الكتّاب الذين لا غنى عنهم في عصرنا، وصوت رئيسي في الأدب العالمي».

وقال غوسبودينوف بعد حصوله على الجائزة: «الاعتقاد الشائع أن الموضوعات الكبيرة مخصصة للآداب الكبيرة، أو الآداب المكتوبة باللغات الواسعة الانتشار، في حين يتم تجاهل اللغات الصغيرة، التي تبقى محلية وغريبة. جائزة مان بوكر الدولية تغير الوضع الراهن، وهذا مهم للغاية». وصرح في مقابلة مع صحيفة بلغارية: «بسبب المأساة التي تتكشف في أوكرانيا، فإننا نسمع الآن المزيد من القصص من البلقان وأوروبا الشرقية».

تتكون الرواية أساسا من تأملات وذكريات، حول مراكز «العلاج الزمني» لطب الشيخوخة النفسي، التي تعالج المرضى الذين يعانون من مرض الزهايمر، وغيره من الأمراض المرتبطة بفقدان الذاكرة بشكل أساسي. وتتناول الرواية مشكلة عدم التوافق بين الزمن الذاتي والموضوعي، والزمن الفردي والاجتماعي، وعلاقة الإنسان والمجتمع بماضيهما، وتثير موضوعا وثيق الصلة بعصرنا – شيخوخة سكان الأرض. حيث يشكل كبار السن نسبة متزايدة من التركيبة العمرية والجنسية لسكان البلدان المتقدمة، ويواجهون بشكل متزايد الخرف وغيره من أمراض الشيخوخة. الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية هما، الراوي وصديقه غوستن الطبيب النفسي الذي يقرر فتح «مركز صحي» للمصابين بمرض الزهايمر في زيوريخ. هناك يخطط لعلاج المرضى بطريقة غير عادية – بإعادتهم إلى الماضي. يعتزم غوستن خلق أجواء الزمن الذي عاشوا فيه وإعادة إنشاء عالم قريب بصريا من كل عقد من عقود القرن العشرين في أجنحة المركز: الأثاث والملابس، وماركات معينة من السجائر، وأغطية المصابيح، وورق الحائط، ومجلات الأرشيف. وغيرها من العناصر الداخلية المميزة الفريدة من نوعها لكل عصر. وعلى هذا النحو تسمح الملاجئ العلاجية للمرضى بالعيش في محيطهم السابق الآمن. «في يوم من الأيام، سوف يكتسب هذا العمل زخماً حقيقياً – يقول المعالج غوستن للكاتب الراوي – وسنقوم بإنشاء هذه المراكز أو المصحات في بلدان مختلفة. الماضي هو أيضا ظاهرة محلية. ستكون هناك منازل من سنوات مختلفة. ستكون لدينا، يوما ما، أحياء صغيرة في كل مكان، ثمّ مدن صغيرة، وربما حتى دولة بأكملها للمرضى الذين يعانون من ضعف الذاكرة، ومرض الزهايمر، والخرف، ولجميع أولئك الذين يعيشون بالفعل في حاضر ماضيهم». وفقا للحبكة، أثبتت الدراسات أن هذه الطريقة لعلاج مرض الزهايمر تعطي نتائج جيدة وتسمح حتى بالشفاء. المركز الصحي ليس مجرد مكان يعالج فيه غوستن المرضى؛ إنه أيضا الفكرة المثالية للراوي لاستكشاف القرن العشرين في أوروبا، فهو مكلف بجمع الأشياء التي كانت تستعمل في ذلك القرن، ويسافر عبر البلدان بحثا عنها.

يصل ضابط الشرطة السرية السابق مع رجل كان ضحيته ذات يوم، يعاني الآن من الخرف. لقد أصبح ضابط الشرطة ذاكرته الاصطناعية، حيث يعيد لحظات السعادة إلى الرجل الذي اضطهده ذات يوم وأبلغ عنه. في إحدى النكات السوداء العديدة في الكتاب، يجد مريض روماني العزاء من خلال تذكر ليس ما عاشه، بل ما تخيله: الحياة في الولايات المتحدة. الحنين لا يتعلق بما كان لديك، بل بذكرى ما كنت تريده: شيك بأثر رجعي من بنك غير موجود، يُدفع دائماً بطريقة أو بأخرى. بعض المرضى لديهم ذكريات من الأفضل تركها دون استعادتها: في إحدى الحالات المروعة، يعالج غوستن امرأة لا تتحمل أن تكون بالقرب من الحمامات. يكتشف أنها ناجية من الهولوكوست، ما دفعه إلى التفكير في أن الذاكرة ليست جيدة في حد ذاتها، وأن النوع الصحيح من النسيان ضروري أيضا من الناحية العلاجية. يكتب غوستن: «أنه كلما زاد الماضي، ضعفت ذاكرتنا».

بدأ أشخاص أصحاء في مراجعة المركز للعيش في الماضي والخروج من الحياة اليومية الصعبة – المستقبل لم يعد يجذب أي شخص، الجميع يريد العودة إلى الماضي. وسرعان ما أصبحت فكرة «الشفاء بالماضي» شائعة جدا لدرجة أن فروع مركز غوستن تفتح في العديد من المدن الأوروبية الكبرى وتبث محطة إذاعية أيامًا كاملة من عقود محددة. ويتخيل غوستن مدنا وبلدات محددة في عصور معينة. وسرعان ما تريد بلدان بأكملها محاكاة فكرته. وفي مختلف أنحاء أوروبا، تروج الأحزاب السياسية لعقود مختلفة في تاريخها الوطني. وتجري الاستفتاءات بالفعل، وتختار البلدان بجدية العقد الذي ترغب العيش فيه في المستقبل، ويصبح العالم مكانا أكثر عبثية مما كان عليه من قبل. يصبح التمييز بين الماضي والذاكرة مهما في وقت لاحق من الرواية، عندما يتم اختطاف فكرة غوستن – كما كان من المفترض أن يحدث دائما – من قبل السياسيين.

ففي بلغاريا مثلاً، يصطدم الاشتراكيون الذين يريدون إعادة إحياء حقبة الستينيات والسبعينيات بالقوميين الذين يتفاخرون بانتصارهم على العثمانيين في عام 1876. إن استعادة المجد الماضي وسط فقدان الذاكرة الجماعي يشكل منجماً ذهبياً للمحتالين مثل صديق الراوي القديم ديمبي، الذي يجهز جثة غيورغي دميتروف المحنطة، أول زعيم شيوعي في بلغاريا، ليلوح بها لحشد من المعجبين. يجد غوسبودينوف الفكاهة في الكآبة، حيث تثبت أوروبا، مرة أخرى، أن معرفة التاريخ ليست عائقا أمام تكراره. وهو يستمتع بالصور النمطية الوطنية: «إذا لم تتمكن الدول الاسكندنافية من تحديد أي فتراتها السعيدة تختار، فإن رومانيا أيضا تعاني من الشك، لكن لأسباب معاكسة». إنه أمر مضحك وسخيف، لكنه مخيف أيضا، لأنه حتى عندما يلعب غوسبودينوف بالفكرة باعتبارها خيالا، يبدأ القارئ في التعرف على شيء قريب منه. وقد كتب المؤلف «ملجأ الزمن» في الفترة بين استفتاء الخروج البريطاني من بريكست والغزو الروسي لأوكرانيا، وكلاهما يمثل بطريقته الخاصة استخدام الحنين كسلاح، واختيار عصور محددة في النظام العالمي القديم للمشفى الزمني. هذه الرواية لعبة فكرية ذكية عالية المستوى مع القليل من الاستثمار العاطفي، لأن غوسبودينوف كاتب يتمتع بطاقة كبيرة ومهارة عالية. يرتبط الراوي بعلاقة وثيقة مع غوسبودينوف نفسه: بلغاري، ولد في عام 1968، تظل نهاية الشيوعية بالنسبة إليه كما في هذه الرواية صورة شبحية، نقطة التقاء بين الماضي والحاضر. إن عاطفته تجاه تلك الفترة صادقة، لكنها خالية من الأوهام. يمكنه استخلاص شخصيات ذات أبعاد كاملة من تفاصيل ذكرياتهم المتناثرة. إن انتقالاته – بين الفكاهة والحزن، والظرف العبثي والمأساة الصارخة، والشفقة والملاحظة الساخرة – ليست مزعجة أبدا.

طرأت فكرة الرواية في ذهن غوسبودينوف قبل خمسة عشر عاما. وكما قال للجنة بوكر، فقد أدرك فجأة أن الماضي يمكن أن يصبح «وحشاً خاصاً» وأن العودة الجماعية إليه عديمة الجدوى: «كانت رغبتي في كتابة هذه الرواية تنبع من شعوري بأن شيئا ما قد حدث خطأً في سيرورة الزمن. كان هناك قلق في الهواء، ويبدو أنه يمكن الشعور به جسديا». كان غوسبودينوف منزعجا من الانقسام في العالم، والشعبوية المتزايدة، وإصرار الأوروبيين والأمريكيين على «الماضي العظيم». إن العودة إلى الماضي لا ترتبط فقط بعدم الرضا عن الحاضر، بل وأيضاً بالحاجة إلى التحكم في المستقبل. ولتحقيق هذه الغاية، قد تحاول الشعبوية العودة إلى ماضٍ مثالي لم يكن موجوداً قط، أو ابتكار تقاليد جديدة، أو استعادة شيء عفا عليه الزمن بشكل انتقائي ومشوه. ويتجلى هذا في الرواية في فصل «في بلد واحد» مع مثال بلغاريا. يقول غوسبودينوف: «لقد نشأت في نظام يروج لمستقبل زاهر في ظل الشيوعية. والآن تغيرت المخاطر، أولئك الذين باعوا «المستقبل المشرق» تحولوا الآن إلى شعبويين يبيعون «الماضي المشرق».. ولهذا السبب أردت أن أروي قصة «الاستفتاءات على الماضي» التي أجرتها جميع الدول الأوروبية. كيف يمكنك العيش مع نقص المعنى والمستقبل؟ ماذا سنفعل عندما يبدأ جائحة الماضي؟».

عنوان الرواية في حد ذاته يشير إلى «المأوى من الزمن» و»المأوى داخل الزمن». كلاهما جذاب، لكنه مستحيل. وإذا كان الحنين يبدو وكأنه مصدر غير ضار للمشاعر الممتعة، فإنه الآن يشبه على نحو متزايد أداة قوية وخطيرة للتلاعب. وبطبيعة الحال، تكمن وراء هذه المعالجات المثيرة درجة معينة من الخداع. ليست كل الذكريات المنسية هي ذكريات سعيدة. إن إعادة الناس بشكل مصطنع إلى الماضي، والسؤال الأوسع حول ما إذا كان هذا يجلب العزاء حقا، وما إذا كان الانغماس في الحنين علاجيا أم ضارا ــ هو السؤال المركزي في رواية غيورجي غوسبودينوف.

الفكرة الرئيسية

أصبح غيورغي غوسبودينوف نجما أدبياً إثر فوزه بجائزة مان بوكر الدولية، وأجرى مقابلات صحافية مع ممثلي الصحافة الغربية والبلغارية. وقال لصحيفة بلغارية: «إن رواية «ملجأ الزمن» في جوهرها هي استكشاف لعدم جدوى الخوض في الماضي. كما أثبت ذلك غزو بوتين لأوكرانيا المجاورة. أعتقد أن حرب بوتين هي حرب من أجل الماضي، فهو شغوف بالماضي. كانت أوكرانيا «أرضه» في الأربعينيات والخمسينيات من القرن، لكن المشكلة تكمن في أنك لا تستطيع العيش في الماضي، وهو يحاول جر الجميع معه إلى الماضي، وهذا أمر خطير للغاية على المستوى الأوروبي والعالمي». ويدعو غوسبودينوف إلى عدم التركيز على الحنين إلى الماضي على حساب القضايا المعاصرة. كتب غوسبودينوف «ملجأ الزمن» بعد عام 2016، الذي شهد التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ووصول ترامب إلى السلطة، ويوضح المؤلف أنه أراد تأليف كتاب يصف بدقة الأزمات التي تواجه العالم ويقول: «لقد نشأت في بلغاريا، التي كانت دولة شيوعية حتى عام 1989. أتذكر كيف وعدونا بمستقبل مشرق، ولم أرغب في أن يبيع أحد لابنتي قصة عن «الماضي المشرق»- لم أكن أؤمن بهذا البيان الفارغ.

يشعر المؤلف بالقلق إزاء الصعود المتزايد للشعبوية والقومية في أوروبا، خاصة في بلغاريا. أردت أن أكتب رواية ديستوبية تظهر ما قد يحدث في المستقبل القريب. إن الأدب الجيد وسيلة فعالة ومضادة للبروباغاندا التي تنشرها الحكومات، ومن المهم جداً «محاربة البروباغاندا بالأدب – وهو ما فعله العديد من الكتاب الأوروبيين الجيدين». عندما سئل عما يجعل الرواية ناجحة، قال غوسبودينوف مبتسماً: «ما لا يقتلني يجعلني كاتبا». التجربة الحياتية هي التي تجعلك كاتبا عظيما.

***

د. جودت هوشيار

 

(إن الكتابة لم تعد كتابة مغامرة وإنما صارت مغامرة كتابية).. جان ريكاردو(1932-2016):منظر الرواية الجديدة

يبدو لي أن أفضل مدخل لمقاربة رواية الاديبة والكاتبة والشاعرة باللغتين والترجمان زهرة حواشي  هي زاوية الخطاب في روايتها ابن العاقر. كيف حكت لنا قصة هذه العاقر؟ هل كانت مجرد سارد يروي مغامرة بإمكان أي إنسان أن يرويها ولا تميز إلا للمغامرة  أم أن الأديبة واعية بمغامرة الكتابة الروائية وما تقتضيه من إبداع يستلزم الإلمام بشرائط الحكي من خلال مسرحة الاحداث وعرضها لا قولها وسردها.

أولا: التقديم المادي والمعنوي

1: التقديم المادي

ابن العاقر رواية للكاتبة زهرة الحواشي. تقع في مائة وتسع وثلاثين صفحة. الطبعة الأولى بمطبعة الثقافية المنستير/ تونس.

2: التقديم المعنوي

أ- منطق الرواية:

جمعت ابن العاقر بين اسم الرواية وخصائصها من حيث موضوع عقر امرأة اسمها ربح وولادتها بعد تزوجها ثانية وما اكتنف مغامرة ربح الاجتماعية والوجودية حتى حبلت وولدت من جهة وشكل المسرحية وفصولها وهي بعدد خمسة هنا وعروضها من جهة أخرى.

إن العقرمشكلة اجتماعية صحية نفسية يمكن أن تكون رمزا للجفاف والجدب والمحل وكيف يمكن التغلب عليها بالصبر والحب والتسامح ذلك أن العقر ليس هو العقم...

ب- الشخصيات وعلاقة بعضها ببعض:

تزدحم الرواية بالشخصيات ويمكن تقسيمها حسب وظائفها حسب نماذج فلاديمير بروب والتي اختصرها غريماس (الجيرداس) في ثلاث علاقات الرغبة بين الذات والموضوع والتواصل بين المرسل والمرسل إليه والصراع بين المساعد والمعارض.

* الرغبة: رغبة ربح بنت الضاوي في الإنجاب من ابن عمها زوجها وحبيبها  لكن تلك الرغبة  منيت بالفشل. فكان تطليق زوجها لها. ثم تعلق ربح بالإنجاب دفعها إلى المغامرة بزواج ثان وتربية ربيب لها رضيع أحبته حبا جما وتمنت الحمل فكان لها ما أرادت.

* الصراع: لربح أحباء كثيرون أبوها الضاوي وأمها فاطمة وأخواتها زمردة وتبر وابن عمها زوجها الأول وعلي بلخمري زوجها الثاني والناجي ربيبها من أمينة زوج بلخمري الثانية وعمر ابن بلخمري من زوجته الأولى...ولربح باعتبارها الشخصية المحورية أعداء قليلون جدا أولهما العقر وثانيهما زوجة عمها أم طليقها التي يبدو أن لها يدا في عدم إنجاب ربح. ولم يكن الصراع قويا ولا متجسدا بل كان صراعا خفيا يدور في النفوس والأذهان أكثر منه متبلورا في الواقع والعيان.

* التواصل حوار بين ربح وأبيها وأمها وأخواتها ثم زوجها علي بلخمري وهو حوار تفاهم وتعاون وإمتاع ومؤانسة. فكثيرا ما كان الضاوي يغني لربح وكثيرا ما كانت ربح تغني للناجي وكثيرا ما غنت ربح في الأعراس وأمتعت وشتفت..

لكن الحوار يكاد يختفي بين ربح وحماتها زوجة عمها وبينها وبين ربح وطليقها حتى أن أسماءهما لم يذكرا فكان التواصل تسمية للشخوص وتكنية للوجود واستمتاعا بالحياة من ناحية وكان عدم التواصل ذكر لبعض السمات أو الصفات وسكوت عن الكلام المباح وإعدام لذكر ذوات من ناحية أخرى.

تبدو القصة المغامرة قصة عادية لا أهمية كبرى لها فليس فيها مخاطرات ولا أخطار ولا غرائب تشيب لها الولدان ولا عجائب تسحر الوجدان بل حكاية تكاد تكون عادية هذه الأيام ولكن ما الذي قد يجعلها رواية إبداعية ذات خصال وشأن؟

ثانيا: الخطاب الروائي

ونعني به الطريقة التي بواسطتها يجعلنا الراوي او الراوية نتعرف على أحداث القصة المغامرة.

وينقسم إلى مستويين المستوى التركيبي النحوي والمستوى الدلالي.

I. المستوى التركيبي النحوي

ويتكون من الزمن أي علاقة زمن القصة بزمن الخطاب وعلاقته ببناء النص ثم صيغ الخطاب أو السرد وتتحدث عن العلاقات بين الخطابات وكيفية اشتغالها( خطاب مسرود –معروض – منقول) وأخيرا الرؤية السردية أو التبئير أي الراوي وعلاقته بالسردي بوجه عام.

انبنى عنوان الرواية على المفارقة. فمن جهة ربح عاقر لما تنجب ومن جهة أخرى ابنها الناجي ربيبها الذي اتخذته ابنا ثم ابناها اللذان أنجبتهما من صلبها أي غير عاقر. فالقانون الذي يحكم هذه الرواية مبدئيا المفارقة والتباين وعدم الاتفاق أي الاختلاف. فهل ينطبق هذا القانون على بقية جسم الرواية؟ وما قيمته الفنية في تحقيق روائية الرواية وأدبيتها؟

1- الزمن:

لا توجد مطابقة بين الزمن التاريخي والزمن الروائي. فالرواية تنطلق أحداثها من فترة ما بعد طلاق ربح من ابن عمها وهي خمسينية . "ربح بنت الضاوي امرأة قمحية البشرة ...تلك الفتاة القادحة نشاطا ...تزوجت وكان عمرها ثلاثة وعشرين سنة من ابن عمها وعاشت معه ما يزيد عن عشر سنين  ولسوء حظها لم ينجبا..." (زهرة الحواشي، ابن العاقر(رواية) ، ط 1، مطبعة الثقافية بالمنستير، 2023، ص 7). ونضيف مدة الطلاق حوالي07 سنوات لتصبح مع انطلاق القصة خمسينية. بينما التسلسل التاريخي يفرض البداية من الولادة ثم النشأة والطفولة والشباب ثم الزواج والطلاق بسبب العقر ثم الزواج والإنجاب وخاتمة القصة.

لذلك اعتمدت الساردة التضمين والتسلسل والتناوب.

*التضمين: القصة الأم مغامرة ربح بنت الضاوي. تنطلق الرواية من حدث توقف ربح عند حالها وقد شارفت الخمسين وبدأت تيأس من الزواج والإنجاب فتتذكر صباها السعيد مع والديها ومعاناتها في زواجها الأول وطلاقها ومرارة عيشها اليوم تذكر الراوية:" بقيت ربح مع والديها واستمر بها كابوسها وقتا طويلا ثم تتكلم ربح " علاش مخاليق ربي الكل تولد من البقرة للنعجة للدجاجة للكلبة...لا نفعت معاي قوابل لا عزامة...توة أيست وبرد قلبي على الصغار" (زهرة الحواشي، ابن العاقر، ص 12).

*التسلسل: تندفع الأحداث أحيانا متتابعة في الزمن متسلسلة تسلسل التاريخ. تنطلق الأحداث إلى الأمام متسلسلة منذ إخبار زمردة أختها ربح بوفاة أمينة زوجة علي بلخمري وحثها على قبوله زوجا إن تقدم لها لتبدأ قصة الزواج بين الرفض فالتمنع فالقبول مرضعة لابنه فزوجة فمنجبة. وطبعا تتخلل هذه القصة الاجتماعية فالعاطفية فالغرامية تضمينات لأحداث وتناوب لها.

* التناوب: تسرد الرواية سفر علي بلخمري وزوجته ربح وربيبها الناجي وأبيها الضاوي إلى العاصمة قصد متابعة العناية بربح في حملها بعد عقر مديد فتصف الطريق من السرس إلى تونس مرورا بالروحية ومكثر وسليانة وجبل برقو زمن الاستقلال في بداياته فينقطع وصف الطريق لينفتح القص على زمن الاستعمار حين يتذكر الضاوي سفراته إلى الفحص في شبابه ليتاجر مع رفاق له في بيع الدجاج " الداندان" للفرنسيين. يقول السارد:" كانت السكك الحديدية تحاذي طريقهم فتذكر الضاوي كيف كان يمر بتلك الربوع ...ثم يقول الضاوي: الثنية حتى للفحص مشيتها ميات المرات قبل الاستقلال...كنت نا وجماعة صحابي ..نربو الدندان ونهبطوه في أقفاص ...ونقصدو ربي للفحص . كانوا فيها الفرنسيس والمعمرين يحبوا لحم الدندان ياسر" ( ابن العاقر، ص ص 122 و123).

إن توفر هذه الأنواع الثلاثة من الأزمنة شائع في الرواية ولكن فضل بعضها على البعض بتخير الأزمنة في الخطاب بعيدا عن تسلسلها في الخبر وهو ما يعرف بتقنية التخطيب من جهة و بإتقان تنويع الأزمنة وإدماجها في المتن الحكائي فترد سلسة منسجمة لا تصنع فيها ولا إسقاط من جهة أخرى. وهنا نجحت الكاتبة في حسن تضمين الأحداث من خلال مركزتها في شخصية محورية هي ربح. واكتفت ربح بسرد ما تعيشه وتجاوزت التعاقب التاريخي غير الإبداعي في الرواية باستخدام التذكر والاسترجاع فتتحدث عن طفولتها المرحة وشبابها المنكسر وكهولتها المضطربة. ثم تتخلص من ربقة الماضي والحنين لتمني النفس بانبثاق صباح جديد عبر الحلم والمنام استباقا للحاضر المحبط. فتكسر سلاسل الحاضر وأغلال الماضي القريب منذ خيبة الزواج والعقر لتتطلع إلى المستقبل عبر الرؤيا. لطالما كانت تحلم وخاصة بالظفر بحصاة لؤلؤة في نهر. وكبر هذا الحلم لما انتقلت إلى منزل علي بلخمري لترضع له ابنه يتيم الأم. وتكرر ذلك الحلم ليلة أرضعت الناجي " ثم فتحت يدها وبقيت تتأمل الحصاة وتمسحها ...فيزداد بريقها حتى صارت لؤلؤة ..واستفاق بها الحلم على صياح الديكة فأخذت تبحث عن لؤلؤتها في صدرها لتجد الرضيع في حضنها ..." ( ابن العاقر، ص 48).

ولا يخفى هنا حبكة الراوية وحنكتها ومهارة الصنعة في التصريح والتلميح بين الحصاة التي تحولت لؤلؤة في المنام ولما أفاقت وجدت لؤلؤتها في حضنها. أي أن الحلم بدأ يقدم بشائره ولو عن طريق الرمز وعبور الحلم.

إن ارتباط كافة أحداث الرواية بربح وانبثاق كافة الأحداث من ربح وأهلها وعالمها يشد معمار الرواية إلى هيكل صلب ومنبع ثر وصانع ماهر في الحكاية والغناء وتقدم الأحداث وتناوبها كما تشد خيوط إلى النول وتتعرج وتتفرع وترتفع محكمة الصنع في يد امرأة صناع تذكرنا بإحكام السرد لدى شهرزاد سيدة الحكي وأميرة البيان.وهنا مظهر كبير من مظاهر الأدبية ربحت الكاتبة رهانه.

فكيف جاءت صيغ السرد ؟

2- صيغ السرد:

وفيها نتعرف الطريقة التي بها يقدم الراوي القصة أو يعرضها. وتنقسم عامة إلى السرد المحكي telling)  ) والعرض (showing) والنقل (Reported speech). وتنبع أدبية الخطاب هنا من بناء عالم سردي خيالي يوازي أحداث القصة فيكسبها جمالية تتجاوز المباشرة الفجة والواقعية المبتذلة تسمى اليوم الجمالية الواقعية.

احتوت رواية العاقر على الحكي والعرض ونقل السرد أي بين التقريري والوصفي و بين الحكاية في تحركها والمشهد المسرحي الثابت في عرضه. فكانت هذه مفارقة الجنس الفني الذي سمته الكاتبة رواية بالرغم من أنها مسرحية أيضا. أو لعلها مزيج بينهما. وهنا مفارقة التكنية. هل نحن أمام جنس أدبي محدد التصنيف  يدعى رواية أم نحن أمام شكل أدبي يجمع الرواية بالمسرح والغناء.

لذلك نجد أنواعا من الخطاب المسرود وأصنافا من الخطاب المعروض والمنقول.

وهي إجمالا 7 أصناف (صيغة المسرود الذاتي وينبني على الاسترجاع وتذكر الماضي وصيغة الخطاب المعروض وفيه يتكلم المتكلم مباشرة إلى متلق مباشر والخطاب المعروض غير المباشر وصيغة المعروض الذاتي ويتميز بمحاورة ذاته عن شيء يحدث في الحاضر أما المنقول فنوعان منقول مباشر عندما ينقل غير المتكلم كلام غيره كما هو والمنقول غير المباشر حينما ينقل الخطاب المسرود بتصرف).

وبالعودة إلى ابن العاقر فلا نكاد نجد الصنف الأول أي المسرود الذاتي والمعروض الذاتي  وعلى العكس من ذلك تحضر  بقية الأصناف الخمسة التي يهيمن فيها السرد المعروض والمنقول مباشرا وغير مباشر.

مثل ذلك ربح تتذكر طفولتها "عاشت ربح سنوات من السعادة مع حبيبها ولكن نكد عيشها عدم الإنجاب.." (ابن العاقر، ص 8). فالاسترجاع هنا لا يمر عبرذات ربح وصوتها بل عبر صوت الراوية . وكذا أغلب الاسترجاعات.

والرواية في معظمها خطاب معروض أو منقول يتمحور حول ربح. ولا شك في أن طغيان الخطاب المعروض والمنقول يعكس رؤيا الكاتبة وجهة النظر أو التبئير ورؤيتها العالم. فما هي خصائص الرؤية السردية في ابن العاقر؟

3- الرؤية السردية أو التبئير:

ويهتم التبئير بالراوي وعلاقته بالعمل السردي. ويعرف تنظيريا بوجهة النظر والرؤية ( تودروف مثلا) والبؤرة  والتبئير(جرار جنيت مثلا)...

وتتجسد الرؤية السردية عمليا في التقديم البانورامي (الراوي مطلق المعرفة ) والتقديم المشهدي (تغيب الأحداث وتقدم الأحداث مباشرة للمتلقي) واللوحات الفنية (تركز الأحداث على ذهن القارىء أو إحدى الشخصيات). وقد قدم تودروف أصنافية في الغرض تتكون من الراوي العليم أو الرؤية من الخلف والراوي الشخصية أو الرؤية مع والراوي الشخصية من الخارج أو المحدود.

وحينما نطبق على روايتنا نلحظ بيسر هيمنة الراوي العليم. فالتعريف بربح وبحياتها العائلية وبقريتها " دشرتها" وتجارب الزواج والطلاق بل وأحلامها وحنينها كلها تمر عبر الراوي العليم يعرف كل شيء ويتدخل في كل شيء حتى في المنام يرافق ربح ويحيط  بهواجسها وأحلامها وكوابيسها وقد يسمح في بعض المرات بابتعاده القصير لتتكلم أو تبلغ موقفا.

كما يحضر التقديم المشهدي منفلتا إلى حين لتقديم حدث أو موقف أو مشهد وخاصة عندما يكون المشهد أغنية شعبية أو موقفا ملحميا.

مثال ذلك إتاحة السارد لربح الغناء. وكان ذلك عن طريق استراق علي بلخمري صوتها وهي تغني

تقول الساردة "وكان علي بلخمري يطرب لصوتها فيبقى خلف الباب. وكم كان يتأثر عندما تغني ربح:

وحش الصرا وبرودة

يا ولفتي وحش الصرا وبرودة

يا من عزم شرف على قمودة...

وقد تلجأ الساردة لاستغلال فرصة الحديث عن الزلاج وسقوط شهداء في معركة الزلاج سنة 1912 وإعدام الشاذلي بن عمر القطاري والمنوبي بن علي الخضراوي المعروف بالجرجار تستغل هذه الذكرى لتعرف بالجرجار وتعرض الأغنية الملحمية التي ظهرت بعد الإعدام

مناحة الجرجار

بر ي وإيجا ما ترد أخبار علجرجار

يا جماعة شوفو ما صار

القطاري معاه الجرجار..

آه يم خلوني نبكي بالغصة

آه لا إله إلا الله...

ولا تعدم رواية ابن العاقر الرؤية المصاحبة لكنها قليلة جدا إذا ما قورنت بالرؤية العليمة. لكنها تكاد تعدم الرؤية من الخارج.

انطلاقا من أصناف الرؤى السائدة في الرواية  وهي الرؤية من الخلف أساسا والرؤية "مع" نادرا فإن التبئير باعتباره الموئل السردي المركزي يعكس هيمنة الراوي وإمبرياليته. وهذا الاستنتاج يطابق غياب السردي الذاتي في محور صيغ السرد ويفسر طغيان السرد  المعروض والمنقول ويقر عدم توفق الكاتبة إلى إبداع السرد الكاشف للذوات وما يعتمل في وجدانها وما يتطلبه من قوة الخيال وثراء اللغة ونضح الصنعة وما يتيحه من تعدد الأصوات وفرادتها. وهي نواقص تتجاوز بتعميق التجريب.

قصرت الكاتبة في زرد سرد متخيل ذاتي حر ينطق به الشخوص فيشعروننا أننا أمام كائنات حية تعيش وتحلم وتتألم وتتشوق وتعشق وتكره كأنها كائنات دموية تنضج بالحياة وليست دمى حبرية تحتاج أكسير الحياة . ومع ذلك وفقت الكاتبة في حبك الأزمنة وتوظيفه إبداعيا من خلال استخدام الحلم والذاكرة.

فكيف انعكس التميز في البناء الحكائي والضعف المسجل في صيغ السرد ورؤاه على البعد الدلالي في رواية ابن العاقر؟ أو كيف تنبني الدلالة ونستحصل المعنى أمام مفارقة الخصب والعقر؟

II. المستوى الدلالي التدلالي

ويشمل المكونات الأساسية في المتن الروائي من عنونة وعتبات وقضايا/ تيمات مصرح بها أومسكوت عنها والتي يسميها جيرار جنيت "المتعاليات النصية" في كتابه أطراس وكيفية تصويرها للمفارقات  وقيمتها الجمالية وميزتها الشعرية ، " أدبية الرواية"...

أولا: مفارقة العنوان

يقوم العنوان على مفارقة بين العقر والإنجاب. والمفترض في العنوان أن يكون وليد اختيار عميق هادف وليس عملا اعتباطيا. فالعنوان مرآة العمل الفني ووجهه وواجهته إن أحسنا اختياره أفلحنا وإن تعاملنا معه بسذاجة خبنا. ولذلك نشأ علم كامل في أروبا مؤخرا وتطور ليبلغ أوجه اليوم تحت اسم العنونة La titrologie) ).

يذهب في روع القارىء لعنوان ابن العاقر أن في الأمر تناقضا لا مفارقة. كيف للعاقر أن تنجب؟

غير أن بالعودة إلى المعجم أول درجات الكتابة والتفسير اللغوي سرعان ما تتبدد غيوم المقابلة لتتجلى مفارقة عجيبة لغوية ودلالية إذ تفرق اللغة العربية بين العاقر والعقيم. العقيم من العقم مدارهما على الجدب وعدم الخصوبة و عدم الإثمار والإمطار والإنجاب والموت بينما العقر من الجرح والقطع والذبح فنقول انعقر البعير بمعنى الجرح والذبح. ونقول اعقر الله رحم المرأة أصابها بداء في رحمها فلم تحمل. هنا نتبين الفرق الكبير بين العقم المؤذن بالجدب والهلاك وعدم الإنجاب والموت والعقر الدال على عقم جزئي بل عرضي يمكن تجاوزه والنجاة والحياة بالمداواة والرعاية...

فهل قصدت الكاتبة من خلال روايتها ابن العاقر حال السرس موطن الحكاية وتونس الإطار الأكبر

للسرس بعد الاستقلال وما أصابها من الجراحات والخيبات والقطائع مع التاريخ الوطني النضالي والأصالة التاريخية والثقافية والحضارية مثلت كلها مأزقا أودى بها إلى عقر كدنا نعتبره عقما لولا أن الكاتبة استدركت بأن قلبت الميم أولى حروف الموت راء أولى حروف الرواء والحياة فانتقلنا من ظلمات الجدب والممات إلى ممكنات الخصب والإنجاب والحياة إلى أغاني الحياة...

قد يكون. اعتنت الكاتبة بعتبات النص فوصفت ابن العاقر بالرواية. وهو تنصيص توجيهي قد لا ينطبق بالضبط على نصها ابن العاقر.. فحتى المعيار الكمي تعد ابن العاقر 139 صفحة لايعد محددا حاسما فبإمكان القصة أن تقارب هذا الكم وقد تتجاوزه. وقسمت نصها إلى خمسة فصول. وهو تقسيم أنسب إلى المسرحية. وجمعت ابن العاقر بين السرد والمشاهد المسرحية والمواقف الغنائية والملحمية. فهي قصة غنائية هجينة ليست بالرواية ولا بالمسرحية. وهي رواية بالاتفاق. لكن هذا التنوع الأجناسي في رواية ابن العاقر وتعدد الأصوات لتعدد المتكلمين أخصب الرواية وأغناها لتزاحم النصوص المتعالية صلبها.

ثانيا: مفارقة الجدب والخصب والموت والحياة

لاحظنا في بنية الرواية جمعها بين الرواية والمسرحية بين الحكي والإخبار وبين العرض ونقل المواقف والأشعار وهي ثنائية السرد والعرض ثنائية الماضي والحاضر والميت والحي تنعكس دلاليا في نوعية الرواية خبرا وخطابا.

قصة ربح امراة خمسينية تزوجت ابن عمها عن حب ووفقا للتقاليد فابنة العم لابن عمها يحل له خطفها من الهودج إن زوجت لغيره كما استقر في التراث الشعبي. لكن عدم إنجاب ربح كان حاسما في تطليق ابن عمها الذي لم تسمه الراوية ولحماتها دور خطير في حصول الطلاق.

تأتي اختها زمردة لتعرض عليها الزواج من علي بلخمري الذي فقد زوجته بعد إنجابها الناجي الذي يحتاج إلى مرضعة.

بعد رفض وتمنع تقبل ربح المغامرة كمرضعة للناجي لا زوجة لأبيه لكن حسن معاشرة بلخمري من جهة وتحريض أختها زمردة على اغتنام ربح كهولتها ويسر زوجها دفعاها لإتمام الزواج.

تبدو الأحداث هنا عادية لكن تعلق ربح بالرضيع وإخلاصها له وعنايته الفائقة به وحبها الخرافي له جعلها تحن إلى الحمل والإنجاب والعلاج بعيدا عن دجل الدجالين ورقيات الأفاقين مثلما حصل لها في زواجها الأول. وما حصل كان عجبا عجابا كيف تقمصت ربح دور الحامل وعاشت الدور وتقلبت في الفراش تكور بطنها بأقمشة مذكرة إيانا بتقمصات أبطال كافكا في روايته الشهيرة المسخ مع فرق جوهري فإذ تحول فيه البطل الكافكي إلى حشرة صرار فإن تحول ربح من العقر القريب من العقم إلى حمل حقيقي بعد عقر وحمل كاذب..هنا دعوة قوية من الراوية إلى ضرورة مقاومة العقر والجدب بالحب والصبر والإرادة وصنع القدر لا انتظار السانحات...إذا الشعب يوما أراد الحياة ...فلا بد أن يستجيب القدر.

وتنجم مفارقة ثانية لصيقة بالأولى متصلة بمفارقة العلم والعمل والشعبذة والدجل. تصور الراوية ماساتها مع العقر خلال زواجها الأول من ابن عمها. وكيف كانت تجبر على التردد على المشعوذين الدجالين والمتطببين ليصفوا لها أدوية غيرنافعة ويعطوها حروزا بمثابة كتيبات شفاء غير مجدية. فكانت النتيجة الفشل في الإنجاب فالطلاق. تقول الساردة:" وقد أخذها زوجها عديد المرات إلى أحد العزامين المشهورين ...يسلمها مكاتيب صغيرة مكتوبة بماء الصمغ ... مع "حروز" تضعها تحت وسادتها أو تعلقها في ثيابها. لكن لم يجد كل ذلك نفعا" (ابن العاقر، ص 11).

بينما زواج ربح الثاني من بلخمري ورعايتها لابنه الناجي وتعلقها به كل ذلك شجعها على حب الإنجاب فسهرت من أجله وتعلقت همتها به وطلبته بتمثيل دور الحامل وحب بلخمري حتى أدركته

ولكن نجاح الحمل والولادة لم يتما إلا بتدخل الطبيب بتشخيص صعوبة الحمل لدى العاقر ربح ومعالجة المعيقات بالأدوية اللازمة جعلا قضية الإنجاب ممكنة. وهكذا زال عقر ربح بطلب الأسباب من رغبة فيه ومعاشرة لزوج أحبته بالمطاولة والتجريب واختارته بالعقل والتدبير على عكس زواجها بابن عمها على مقتضى التقليد ثم لما أرادت الإنجاب قصدت الطبيب رمز العلم لا المشعوذ رمز الجهل والتخلف فكان لها ما أرادت وغادرت العقر والعقم إلى الولادة والخصب.

ويتخذ الصراع بين العقر والإنجاب بعدا ثقافيا في مراوحة الكاتبة بين الفصحى والتي تستخدمها في الحكي والعامية التونسية الريفية الفلاحية من أعماق السرس والشمال الغربي وعموم تونس في الستينات والتي تستخدمها الكاتبة في نقل مواقف الشخصيات وحواراتهم الداخلية أو الخارجية.

فكأنما الفصحى للتاريخ والسرد أي البونوراما والعامية للحوار ونقل بواطن النفوس فهي لغة المسرحة والدراما. مثال ذلك: "كانت كثيرا ما تنظر إلى الحيوانات الصغيرة ويغلب عليها الحزن. "علاش مخاليق ربي الكل تولد م البقرة للنعجة للدجاجة للكلبة حتى الخنافيس تولد ونا ما نولدش" ( ولد العاقر، ص 12).

ولقد تكررت هذه الخاصية في معظم الرواية. وهي ميزة إيجابية تقوي السمة الإبداعية للرواية فترتقي بها من سرد الكاتبة الأحداث إلى صنع الشخصيات بأنفسهم لها. وهذا ما كان نوه به الروائي الأمريكي هنري جيمس في دعوته "إلى ضرورة مسرحة الحدث وعرضه لا إلى قوله وسرده بمعنى أن على القصة أن تحكي ذاتها لا أن يحكيها المؤلف" .

ولكن السؤال هل تنجع المزاوجة بين الفصحى والعامية في تحقيق أعلى مراقي الإبداع؟ وهل تصلح الفصحى للسرد والعامية للمسرح والمسرحة دائما؟ بصفة أخرى كيف نوظف اللغة ودرجاتها في العمل الإبداعي؟  أعطت الكاتبة إجابة وهي الفصحى للقص والعامية للمسرحة. وهي إحدى المقاربات الممكنة ولكن ما خصائص اللغة الفصحى وميزات العامية المختارة؟ في الفصحى والعامية أبعاد جمالية إبداعية لكن تخير العبارات والكلمات ليس أمرا هينا فهو لا يقل قيمة عن تخير العناوين.

استمتعنا بنصوص في العربية الفصحى من إبداع الكاتبة حضر فيها الجهد الشخصي لزهرة الحواشي  وخصائص نصوص إبداعية مشهورة مسجلين ظاهرة التناص الأثيرة. مثال ذلك  حينما تتذكر طفولتها مع أبيها الضاوي: "وقد قضت معه طفولتها البسيطة والسعيدة بين المروج الخضر والجداول المنسابة حين كانت ترافقه للمرعى وتستمع إلى صوته البديع وهو يردد الأهازيج العذبة" ( ابن العاقر، ص9)

ثم " لكنها عادت منكسرة الجناحين" ( ابن العاقر، ص 10). طبعا نلحظ أسلوب الكاتبة ونصوص الشابي وحسين هيكل وجبران خليل جبران...

وشنفتنا الراوية بعرض قصائد من الشعر الشعبي الذي تتغنى به الأرياف والمدن في أغراض الغزل

والحب والحرب والملاحم البطولية. مثل " ياربح يا نجمة الصبح لو كان منك ياسر"

أو فاجعة إعدام القطاري والجرجار......

مناحة الجرجار

بر ي وإيجا ما ترد أخبار علجرجار

يا جماعة شوفو ما صار

القطاري معاه الجرجار..

آه يم خلوني نبكي بالغصة

آه لا إله إلا الله..

وهي قصائد شعبية كانت منتشرة في ربوع الشمال الغربي وربما في أغلب البلاد التونسية أحسنت الكاتبة استثمارها فأدرجتها في سياق وصف شخصية أو ذكر حدث وطني وذكرتنا بها حفظا للذاكرة الجماعية واعتزازا بالتراث الشعبي صنو التراث الفصيح.

وفي هذا الحرص على استذكار التراث الغنائي والملحمي تشبث بالهوية الخصبة لتنوع مكوناتها وأبعادها وتحذير من الجحود والتجاهل والقطيعة وهي كلها عبارات مرادفة للعقر إن استطال ولم يعالج أو تتوفر العزيمة للتغلب عليه استحال عقما.

وقد سجل تحاور النصوص العامية والفصحى والادبية والتاريخية والغنائية والملحمية  تناصا او " تفاعلا نصيا" على حد تعبير سيد يقطين في كتابه انفتاح النص الروائي يدلل على تميز النص الجامع أو الرواية وفرادتها.يقول جرار جنيت في مدخل على جامع النص:" ليس النص هو موضوع الشعرية بل جامع النص أي مجموع الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص...". حبلت رواية ابن العاقر بالنصوص المختلفة والمتنوعة شعرا ونثرا وتاريخا ومسرحا وملاحم ومشاهد واكتظت بالأصوات عامية وفصيحة عالمة وشعبية معاصرة وتاريخية عريقة. نلمح حضور تلك النصوص مجردة أو مضمنة أو مقتبسة ولكنها مغيبة بشكل ما. وهي حاضرة في غيابها. فلئن كان الغياب فقرا وعقرا ومحلا فإن شظاياها وأطيافها وشخوص بعضها يوثث مائدة زاخرة بالأطعمة والفواكه ووليمة دسمة تعلن عن الخصوبة والغنى وترسم سجادا مطرزا بشتى الأشكال والألوان وتغري الأنوف بأطايب العطور والعود والبخور.

ولقد اختارت الكاتبة نهاية طريفة لمثل هذه المفارقات والمنسلة للصراعات. لقد اختارت التسامح حلا ممكنا للأحقاد والنزاعات والكراهية الناجمة عن النزاع حول الميراث والثروات ولم تختر الحرب والسجال والقتل والثارات. وهي أمراض اجتماعية إن لم نوفق في معالجتها أهلكنا الضرع والنسل وحققنا العقر المؤدي حتما إلى العقم والمحل والهلاك.

فلقد اكتشفت ربح كيد عمر لأبيه وسرقته لأمواله وترصده لسرقة العقود للاستحواذ على الأرض والميراث دون إخوته من ربح. وعوض أن توغر ربح صدر زوجها بلخمري على ابنه عمر من زوجته الأولى وتؤجج الكراهية والحقد بسبب الإرث خاصة وقد ظلم الورثة وخاصة ابنه عمر  "وميز عنهم ربح اعترافا لها بجميلها مع الناجي" (ابن العاقر، ص 138) فإن ربح اختارت العدل والتسامح حلا وعنوانا للحياة. فطلبت من زوجها علي أن يعدل وينصف عمر رغم حقده على أبيه. خاطبته قائلة:" نعرف اللي أنت وعمر ولدك ماكمش متفاهمين لكن هو يتيم ووحداني ما كانش عنده خيوة ذكورة...نا ما ش نتنازل ليه على بايي في الأرض وغيرها. نهار آخر ما يلقو كان خوهم الكبير"

ولم يكن من الأب علي بلخمري إلا أن يصفح عن ابنه عمر" وأمام نبل مشاعر ربح ورجاحة عقلها ازدادت معزتها عند زوجها وصفح عن ذنب ابنه ...وقد استعاد علاقته مع أبيه وأسرته".

وهكذا توفق الكاتبة إلى حل أزمة العقر وما تشي به من عقم وتستبعد كافة حلول العنف والقوة والكراهية والحقد وتختار التسامح .

التسامح قلب يسع المفارقات ويتفهم الاختلافات ويتسامى عن الإساءات والتعديات ويدعو إلى التعايش والتكامل والتجاوز عن الصغائر من أجل هزم العقر والجدب والمحل والسعي المخلص إلى طي صفائح البغضاء القديمة وفتح صحائف أخلاق التسامح والقيم العليا ومجالات العلم والعمل والإرادة والمحبة والعيش المشترك بين أبناء الشعب الواحد والأمة الواحدة ضد كافة أشكال العدوان الأجنبي والهيمنة الاستعمارية والعنصرية في مجتمع حر وعالم متضامن مع الحق.

الــخــاتـمـــة

ابن العاقر للروائية والشاعرة والترجمان زهرة حواشي جنس بديع يجمع بين الرواية والمسرح والغناء فهي أقرب إلى رواية غنائية تصور ربوع تونس الخضراء بالشمال الغربي عامة والسرس والدهماني والروحية والكاف خاصة زمن الاستقلال وما قبله وما بعده بقليل. فترة تحول كبرى شهدتها تونس والمغرب العربي والوطن العربي والعالم. فترة الاستقلالات على حد تعبير المغربي علي أومليل والديكولونيالية حسب فرانز فانون (1925-1961) الفرنسي المارتينيكي وإيمي سيزار(1913-2008) أستاذ فانون ومواطنه. تروي قصة امراة كهلة عرفت العقر في زواجها الأول من ابن عمها فطلقها فتزوجت أحد جيرانها فأنجبت. هي حكاية عجيبة بعض الشيء لأنها تتحدث عن عقر امراة ثم إنجابها. ولكن العجيب حقا كيف حكت الراوية القصة؟ أي كيف جاء خطاب الرواية؟

تكون خطاب الرواية ككل رواية من مستوى تركيبي نحوي ومستوى دلالي تاويلي.

ويتفرع المستوى التركيبي النحوي إلى صيغ الزمن وصيغ السرد والتبئير.

تميزت الرواية بتخطيب الزمن (اختيار ازمنة بعينها وتوزيعها) في مخالفة للزمن التاريخي وربطه بالراوية العليمة مما سمح بالتلاعب بالأحداث والتصرف فيها وعرض لوحات غنائية ومشاهد درامية ومواقف بطولية تخلد الحركة الوطنية فسمعنا أصواتا متعددة لفاعلين كثيرين تسجل الحوارية الباختية وتجسد أشكالا من  المناص أو العتبات والتناص وألوانا من التسلسل والتناوب والتضمين في كف راوية عليمة تدير خذروف الحكي وتهيمن على الإخبار فتتجاور البانوراما والمشهدية وتتنافس القصة مع المسرح والماضي مع الحاضر وهو ما ينقلنا إلى المستوى الدلالي التدلالي الذي ينهض على متوالية من المفارقات أولها العنوان ابن العاقر ليتناسل في مفارقات الجدب والخصب والعلم والجهل والفصحى والعامية والثارات والتجاوز لتفصح الرواية عن تصوير مشكلة اجتماعية صحية نفسية ثقافية فكرية حضارية منطلقها ربح والشمال الغربي في تونس زمن الاستقلالات ومنتهاها تونس والعرب والعالم الثالث في صراعه بين عقره الناجم عن الماضي والاستعمار وتطلعه إلى الاستقلال الحضاري. وهنا قدمت الكاتبة زهرة التسامح والعلم والإرادة حلا للخلاص والتغلب على كافة أشكال العقر والعجز.

رواية ابن العاقر رواية غنائية اجتماعية واعدة نجحت في تشخيص المشكلة أي العقر وتقديم الحل أي العلم والتسامح ولكنها مطالبة بتعميق الجوانب الفنية لاسيما صيغ السرد وتحرير الشخصيات.

***

تقديم: د. كمال الساكري

د. محمد حلمي الريشة

ننطلق نحو البنية النصّية، وقد اختلفوا على تعريف النصّ، ولكن بما أنّنا مع البنية النصّية، فالوظائف التي نقصدها هي في الدائرة التعدّدية، وخصوصاً إذا ربطنا التأويل بالوظائف، ويكون للاستدلال أيضاً مساحة في التجلّي الكتابي، فالترابط النصّي وإن اعتمد على بعض المعايير التي يذكرها بعض النقاد، ولكن في الوقت نفسه يكون لمعيار المعنى والسياق اللغوي الأثر الأعم في النصّ الشعري، فالهزة الموازية للترابط النصّي، بين النصّ والنصّية، هي البنية التي تُملأ بالمعاني المختلفة من جهة، والسياق اللغوي الذي يعتمد الاختلاف الفلسفي من جهة أخرى، والكثير من الشعراء يهتمّون بهذه البنية، حيث تشكّل القاسم المشترك الأعظم بين المعنى النصّي والمتلقي، وكذلك بين المعنى النصّي والمقام؛ ومن هنا يكونون الرافد الأعلى للبنية النصّية وتأويلاتها التي تعتمد المعنى النصّي.

يميل النصّ الشعري عادة إلى التأويل من خلال الصور الشعرية والتي تكون متناسبة مع المعاني الممتلئة، فهي تلك الدوال التي تقرأ باتجاهات عديدة والتي علاقتها التأويلية بينها وبين اللغة التواصلية، حيث أنّ التركيبات التي تحدث في النصّ الشعري، هي تركيبات لغوية قبل كلّ شيء، لذلك يكون الأداء التأويلي دوراً أوّليّاً للفهم، وإذا دققنا أكثر فإنّ المفاهيم تختلف عن التأويل.

إنّ أقصر علاقة تأويلية هي؛ بين الباث (الشاعر) وبين النصّ، وبما أنّ الباث يعتمد على الحركة الذاتية في المقاربات النصّية فيكون للذات تأويلاتها، أي أنّ الذات تكون ذاتاً تأويلية، حالها حال عندما نقول (ذاتاً شعرية، أو ذاتاً رمزية)؛ ومن هنا يبدأ التكيّف الذاتي حيث يكون للذات خاصّية تأويلية وعلى الأرجح تكون ذات علاقات رمزية من خلال المقاربات، حيث أنّ تشكيل الوظائف هدفها الإنتاج النصّي. (تعنى المقاربة موضوع البحث بحدثٍ جوهريّ يحمل دوماً بصمة ما يكون وشيكَ الحدوث أسوةً بقنبلة موقوتةٍ؛ كالعنوان " القنبلة الثالثة " 1).

إنّ البنى الوظيفية التي اعتمدها الشاعر الفلسطيني د. محمد حلمي الريشة، هي التي تقودنا إلى البنى التركيبية من خلال حركة الدلالة في النصّ من جهة ومن خلال انتقاء الممكنات من جهة أخرى، فعندما نعتمد البنية الرمزية، فسوف نكون في منطقة ذات مساحة واسعة، وعندما نكون في منطقة الخيال كبنية تواصلية للخروج من الواقع، فسوف نكون بمناطق علائقية بين المنحى الداخلي للنصّ والمقام.

(9)

تشبهين الحبّ جيداً؛ قلق القلبِ..

 توتّر الروحِ.. رجفةُ الجسدِ..

*

خوفُ الغيابِ.. سهر الظنّ..

هزّة الشكّ.. نظرة الغيرةِ.. مللُ

*

الأملِ.. ألست من علّم الشاعرَ

أوّل الكائنات الجميلة – هذا المعجم؟

**

بيان: ما يشبه بيان الشاعر لقصيدته – ص 1308 – الأعمال الجزء الرابع.

بيانات الشعر تختلف من شاعر إلى آخر، فبيان الماغوط مثلاً موقعاً بشفاه الجياع، وبيان سركون بولص يدعو الجلاد للعودة إلى قريته، لأنّ هذه المهنة تمّت إزالتها، وبيان جان دمو؛ العزلة، وبيان فوزي كريم، ذلك الشاعر الذي يرفع يده احتجاجاً؛ نبقى مع بيان الشاعر الفلسطيني الدكتور محمد حلمي الريشة، أو ما يشبه البيان، مثلما نقول: ما يشبه ملاقاة النصّ مع من بثه.

تشبهين الحبّ جيداً؛ قلق القلبِ.. توتّر الروحِ.. رجفةُ الجسدِ.. + خوفُ الغيابِ.. سهر الظنّ.. هزّة الشكّ.. نظرة الغيرةِ.. مللُ + الأملِ.. ألست من علّم الشاعرَ – أوّل الكائنات الجميلة – هذا + المعجم؟

ما نلاحظه من خلال النصّ، أنّ الوظائف التأسيسية تتعدّد، فهناك التشبيه (تشبهين الحبّ جيداً)؛ ومن خلال التشبيه العائد لنظرية الاستعارة، ينطلق الشاعر في وظيفته التواصلية لبناء النصّ، فقد رسم مطلعاً تشبيهياً واحداً، وألحقه بمتابعات وكوامن واستعارات وبعض المسمّيات وذلك بما رسمته الذات الحقيقية وحسب معتقدها النصّي.

سنكون مع عدّة عناوين نافذة ممّا قدمه الشاعر الفلسطيني د. محمد حلمي الريشة وأعماله الشعرية (الجزء الرابع) ومن خلالها نعتمد التواصل الفنّي ووضعية المناطق الوظيفية في النصّ المكتوب، ومنها: الاختلاف والاختلاف اللامشروط، القيمة الرمزية، الوظيفة الدلالية، (من خلال اللغة) والمستوى البنيوي في النصّ.

ومن خلال البنى التواصليّة لدينا أهمّ بنية تواكب النصّ الشعري وهي البنية الذاتية، والتي تكون عادة وظيفة تداوليّة مركزيّة وذلك من خلال ما تطرحه من أفعال حركيّة وتموضعيّة وانتقاليّة، ومن خلال الذات أيضاً نحصل على الرمز التوضيحي والرمز الغامض.

الاختلاف والاختلاف اللامشروط

هناك بعض الاختلافات اللغوية تفرض على الباث أن يكون مستجيباً لها، وهي تلك الاختلافات التي تعني لنا؛ المعنوية المجرّدة، والمادية المحسوسة، ولكن في الوقت نفسه لا نستبعد اللامرئيّة ضمن المحسوس الذاتي، فالتخييل الذي يقصده الشاعر ليس من الضروري أن يكون ماديّاً، لذلك عندما نؤكد على لغة الاختلاف المشروطة، نعتبرها لغة التخييل التي تتداخل في النصّ الشعري عندما يكون للتلقائية مساحة واسعة في الخلق النصّي.

إنّ التلقائيّة الكتابيّة هي التي تقودنا إلى الاختلاف اللامشروط، فعندما يخلق الشاعر نصّاً، أو يؤسّسه، أو يبنيه بعد نسفه، كلّ هذه المهام تؤدي إلى اللاشرطية، وذلك من خلال الكتابة واللغة والمعاني، فاختلاف المعاني يعتمد على الاختلاف اللغوي، والشعرية تواكب القصدية في النسيج القولي، أو يكون للقول المتقدّم خاصيّة وإنجازاً تأثيريّاً (كلّ عمل لغويّ هو اجتماع عمل قوليّ وعمل في القول وعمل تأثير في القول. 2).

احتمال

قطنُ الغيمِ

يحملُ قلبَ عاشقٍ

ولا يحملُ قمراً

وميض

في عتمة الخريف

تكفي زهرة ياسمين

كي تضيئه حديقة

بكاء

لو أيّ شيءٍ.. لو كلّ شيءٍ

لن يُجفّف دمعةَ الوردةِ

التي سالت من عينيّ

**

من قصيدة: غيمةٌ تصعد لأعلى

تظهر المفردة المركّبة نتيجة من نتائج التواصل الكتابي، فالتعدّديّة التي نعتني بها، هي تعدّدية المعاني المختلفة، والتي تظهر من خلال تعدّدية لغة الاختلاف، مثلا: الرمزي يؤدّي إلى السريالي، والرمزية تؤدّي إلى الصوفية، وكذلك السريالية تؤدي إلى الذات الحقيقية، وهي المبدأ الأوّل للخلق النصّي وإنجاب اللغة من جهة وميولها إلى عالم غير واقعي من جهة أخرى، حيث أنّ للخيال مساحته الواسعة في المختلف الذي يفرض ماهيته في توليد النصّ.

احتمال = قطنُ الغيمِ + يحملُ قلبَ عاشقٍ + ولا يحملُ قمراً

وميض = في عتمة الخريف + تكفي زهرة ياسمين + كي تضيئه حديقة

بكاء = لو أيّ شيءٍ.. لو كلّ شيءٍ + لن يُجفّف دمعةَ الوردةِ + التي سالت من عينيّ

إن التدخلات التي تحدث بين المقطعية، هي العلاقة المفترضة، بين المسلك التواصلي (الفلسفي) والمسلك النصّي، حيث أن تجميع النصوص بعناوين مختلفة وهي عبارة عن مقاطع قصيرة، تثير أسئلة من خلال ثنائية الدال والمدلول؛ ففي الوجه الأوّل للنصّ تشبيه الشيء القولي، فقد كان الغيم أبيض، وهو يحمل لون القطن؛ فالماهية التي طرحها الشاعر، هي المحتوى اللغوي في منطقة البنية الاستعارية، والذي واجهنا هو قلب العاشق.

أما في الوجه الثاني للقول المتحوّل، فهو تحقيق القول، وقد وظف الإشارة كدلالة فعّالة في النصّ المكتوب، وذلك من خلال إشارته لزهرة الياسمين.

تواصل الشاعر مع الوجه الثالث للقول من خلال الأشياء وتحوّلاتها، فالشيء المنظور والذي لا يصاب بالحركة، جعل منه حركة فعلية انتقالية؛ فالانتقال الذي حصل كان من دمعة الوردة إلى دمعة العين.

اختلفتْ لدينا الأشياء بدون شروط تُذكر وذلك من خلال حركة الدوال من جهة وتحوّلات المعاني من جهة أخرى، فقد كان نظام الاستعارة هو الذي واكبنا في المنظور النصّي.

من خلال دائرة الاختلاف والاختلاف اللامشروط، سوف نكون مع بعض العنوانات المهمّة والتي تقودنا إلى الانزياح اللغوي من جهة وإلى المراوغة اللغوية من جهة أخرى، حيث أنّ العنصرين يتشكّلان ضمن مفاتيح النصّ وتأسيسه الخلاق:

المقاربات القولية في دائرة الاختلاف... الدلالات القصدية

لا تعني القصدية (Intentionality) ما يقصده المرء أو الباث من نوايا ومعاني مباشرة، بل تقودنا هذه المفردة إلى ظاهرة عامة ضمن المنحى الدلالي، لذلك عندما نكون في هذه المنطقة، تكون الدلالة بوجهيها اللغوي وانزياحها وما تتضمّن الدلالة من معاني مضمرة أو إيحائية.

المقاربات القولية في دائرة الاختلاف

هناك التغلب النفسي على القول المسموع، ولكن بما أنّنا مع القول الكتابي، فنستطيع أن نكون في دائرة الاختلاف اللغوي من جهة واختلاف المعاني وتناقضاتها من جهة أخرى. ومن خلال اللغة المكتوبة وفنّيتها تتم ترجمة القول القصدي من خلال الدلالة التتابعية. (إنّ اللغة المكتوبة تفرض هي وحدها تقطيع كلّ مرسلة تقطيعا نظامياً وواعياً إلى وحدات خطّية متمايزة " وذلك مهما كان النمط المعتمد لتمثيل هذا التقطيع " 3).

عند تكوين سلطة القول، تكون دائرة الاختلاف اللغوي أهمّ علاقة تغزو النصّ الشعري، ومن خلال هذه العلاقة النصّية، تظهر علاقات أخرى، مثلا العلاقات الرمزية والعلاقات الخيالية ويكون للتّخييل حكماً كتابياً مرافقاً للجملة الشعرية في العديد من الأماكن، إلا إذا سقط النصّ في التقريرية.

انتباهة

ورقةُ القلق انتبهت

حين سال عنها

بلور الرّهزِ

هديلٌ

منَ استواءِ أخرى

تهدلُ ورقاءُ رغبتي

على أيكِ عمقها

إيقاع

سائراً في بستان الفتنة

يسّاقط عليّ شرراً

إيقاع عري الثمر

**

من قصيدة: كقيثارة تشعل أصابعي – ص 1320

يختلف القول عن قول آخر، فالقول الذي يلازم الحدث، قول سببي؛ أي أنّ كتابة القول وترجمته في شعرية النصّ، تعني بأنّ هناك حدثاً ما قد رافق القول، ولهذا السبب يكون التفاعل الفعلي للنصّ من خلال المؤثرات من جهة ومن خلال الانفعال القولي من جهة أخرى.

إنّ الاختلاف الذي يجانس ماهيّة النصّ أيضاً، هو التصوّر المختلف لتلك الأشياء المرصودة من جهة، والتصوّرات الابتكارية من جهة أخرى، فيستطيع الشاعر أن يبتكر أحاديث وأحداثاً مثيرة للجدل من خلال التصوّرات والتخييل أيضاً.

انتباهة = ورقةُ القلق انتبهت + حين سال عنها + بلور الرّهزِ

هديلٌ = منَ استواءِ أخرى + تهدلُ ورقاءُ رغبتي + على أيكِ عمقها

إيقاع = سائراً في بستان الفتنة + يسّاقط عليّ شرراً + إيقاع عري الثمر

من المغامرات الكتابية، ظاهرة الانزياح اللغوي داخل النصّ، ويكون لعلاقة المعنى المغامرة الفسيحة في الداخل النصّي، ليتحوّل هذا التصوّر إلى مدار تواصلي مع الجمل النصّية.

لو تفحصنا النصوص الثلاثة لوجدنا أنّها توحي للمتلقي بأنّها نصوص معرفية، ولكنّها ليست كذلك، فقد أسّست لها قاعدة وظيفية أدّت إلى علاقات من التواصل، ومنها التواصل الدلالي؛ فالانتقال الذي أجراه الشاعر الفلسطيني الدكتور محمد حلمي الريشة، انتقال من مفهوم الكلمات وتركيبها إلى طاقة خلاقة، ومن هنا يكون للانزياح الكتابي ظهور معاني جديدة، مكرّسة في شكل ممارسة أسلوبية.

انتبهَ القلق وذلك من خلال ورقة (ورقة القلق)، أمّا الهديل فهو صوت الحمام، ومن هذه الحمامة التي استعارها الشاعر لتكون صورة ذهنية مرسومة على ورقة خارج القلق؟

إذا أخذنا مبدأ الوضوح كما هو مرسوم أمامنا من مفردات كمطالع نصّية (انتباهة، هديل وإيقاع) نلاحظ تطابق الدال والمدلول، ولكن إذا سرنا بمبدأ:

الانزياح   ←  الوضوح.

فالأوّل (تطابق الدال والمدلول) من خلال الاستبدال، والثانية يؤدي إلى مهمّته من خلال الاستعارة.

لا معنى يطفح من كوب الضوء

هنا ظلّ يتمطّى فزِعاً

فوق

خطاهُ

أنَا شئتُ، ولكن ما شئتَ

أقمتَ خباءً مختفياً بنسيج فراغٍ

ذاقتني أشربةُ الوهمِ سدىً

خذ جسداً مرّاً كي تنجو روحي

دع ألقاً يتسلّق بلورَ إنائي

طوّقْ أبخرتي

سُلّمُ وقتي أعوادُ ثقابٍ

يشتعل دخان في لوثة صمتي

**

من قصيدة: خذ جسداً مرّاً كي تنجو روحي – ص 1342

تعتبر القوّة القولية، ظاهرة فعليّة عندما تكون مسندة إلى قولٍ علائقي، ومنها، التعلّق الكتابي النصّي، كدائرة كتابيّة شعريّة تدور بين العلاقات النصّية الممكنة في الخارج النصّي، باعتبار أنّ الداخل النصّي ذو علاقات داخليّة؛ وهي تلك الشبكة المسنودة بالفعل الحركيّ القوليّ من جهةٍ، والقوّة اللغويّة القوليّة من جهة أخرى، ويكون للنموذج السببي تفسيراً لبعض العلاقات المختلفة، حيث تؤدّي إلى اختلافات في المعنى كما يصحبها اختلافات في اللغة.

لا معنى يطفح من كوب الضوء + هنا ظلّ يتمطّى فزِعاً + فوق + خطاهُ + أنَا شئتُ، ولكن ما شئتَ +

أقمتَ خباءً مختفياً بنسيج فراغٍ + ذاقتني أشربةُ الوهمِ سدىً + خذ جسداً مرّاً كي تنجو روحي + دع ألقاً يتسلّق بلورَ إنائي + طوّقْ أبخرتي + سُلّمُ وقتي أعوادُ ثقابٍ + يشتعل دخان في لوثة صمتي

تختلف إحالة المعنى عن الإحالة المرجعية، فالذي نلاحظه أن الدلالة النصّية تمتدّ إلى خارج النصّ، وهي تنشغل بالعلاقات النصّية لكي يكون للمعنى ظهوره بدلاً من اختفائه، وعلاقاته مع الدلالة اللغوية، بدلاً من شحناته بمبدأ الاستعارة. ولا نستطيع أن نتجاوز الاستعارة في النصّ الشعري، فهي متواجدة من خلال الواقع الإدراكي ومن خلال التصوّرات.

تختلف اللغة لدى الشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة، عندما يقودنا إلى أيقوناته التواصلية، فتارة نلاحظ أن الأفعال الحركية تواكب النصّ، وتارة أخرى يلجأ إلى أفعال الكلام، وفي الحالتين يدغم المعنى المباشر ويعتني بالمعنى النصّي الداخلي – الخارجي، فللأوّل هناك حالات من التركيب فقدت المفردات معانيها الأعجمية، وفي الثانية يجعلنا نكون في منظور الاستعارة والتي هي بؤرة الاختلاف اللغوي.

لدى الشاعر الضوء على هيئة كوب، بينما في الجملة الثانية بدلاً من الوصف يستعمل التبليغ عن الظلّ (هنا ظلّ) وهي الإشارة التي منحها دلالة في المعنى، وإنّ مساحة الفراغ الذي أطلقه غير قياسية، حيث إنّه يشكّل وظيفة تكوينية تساعدنا على تخطي المعنى والاعتناء بدلالتها من جهة، ودلالة اللغة من جهة أخرى.

الدلالات القصدية (4)

ليس هناك اختلاف مشروط عندما نكون في التتابع الدلالي، فالكتابة النصّية للشعر، هي الخلق النصّي القصدي، أي أنّ الدلالة العامة هي التي تحمل النوايا، ومن هنا يتمّ الفصل بين الدلالات، ومنها الدلالة الحركيّة والتي تولد من خلال حركة الأفعال وانتقالاتها، ومنها الدلالة البنيوية، والتي تقودنا إلى البناء النصّي، ونسف العلاقات التي لا تخدم النصّ، لذلك أكّد دريدا على الهدم والبناء، ولكن في الوقت نفسه إنّ الدلالة اللغوية تساعدنا على التشييد والبناء، فنسف النصّ بشكل كلّي يعيدنا إلى خلق جديد ومعاني قد نحتاجها.

إنّ لأفعال الكلام حركة فعليّة في الإنتاج النصّي المنطوق والمكتوب، وهي تجعلنا في منطقة الأفعال اللغويّة غير المباشرة، وهذا ما تتركه من آثار على البناء النصّي يلمسها المتلقي من خلال الحالات النفسيّة التي يواجهها في بعض الأحيان.

نستطيع أن نكون أيضاً في دائرة الدلالة القولية؛ فالعلاقة التي يفرضها العمل النصّي، هي تلك العلاقة بين القول القصدي والذي يعني لنا المنطوق أوّلاً، والدلالة القصدية والتي تعني العمل بالقول من خلال النصّ المكتوب.

عطشٌ موّالي

سارتْني الخطوةُ نحو جنانٍ تعزفني

كم لحناً أتشهّى؟

كم ساقاً أتخايلُ كي أصلَ الشهقة ملء هواي؟

هي حرّ الحاءِ

وليلُ اللامِ

ووصْلُ الواوِ

ومسكُ الميمِ

تنبّه..

خَصري مسدولٌ أعلا / كَ

كفاكَ ستائرُ زوبعة تطرف عيْني

**

من قصيدة: كم ساقاً أتخايلُ كي أصلَ الشهقةَ؟ - ص 1345

عندما نكون في دائرة الأفعال (الحركية، الانتقالية، التموضعية وأفعال الكلام) فنحن في منطقة – التعبيرات المرجعية – أي أنّ نظام الإشارة قد تداوله النصّ من خلال التعبير النصّي، ومن هنا يكون لدلالة المعنى الامتداد أوّلا ومن ثمّ التموضع حسب موقعها التموضعي في النصّ المكتوب.

إنّ الخطوة التي أرادها، هي الخطوة الأولى، وذلك لتواجد علاقات الأسئلة التي أثارها الشاعر وهو يقودنا بين اشتهاء اللحن، وبين الشهقة الحَنجرية، وفي هذه الإحالة تكون الدلالة قد تحوّلت إلى ارتداد للمعنى من جهة وإلى شروط تحقيقها من خلال الإشارة من جهة أخرى. وعندما يضعنا الشاعر أمام بعض الرموز التوضيحية فإنّه يندفع إلى الفعل الكلامي (تنبّه)، حيث يعطي المرجعية لمعناه الجذري لكي يكون نقطة متقاطعة مع الرموز الإشارية.

أدخلُ لغةً من قطرٍ مرّ

يحتكّ حريرُ الحرفِ بضلعِ حنيني

ما أشقى الدمعةَ يابسةَ الملحِ

كأنّ يداً تلهو بكراتٍ جامدةٍ / ترتجّ جذوري

كنْ قوسَ الضفةِ

حضنَ المرفأ

رملَ المقعدِ

حِبرَ الغيبوبةِ

رائحةَ المرمرِ

أنسجُ أعشاباً لوميض الصدفةِ

**

من قصيدة: كم ساقاً أتخايلُ كي أصلَ الشهقةَ؟ - ص 1345

محور التتابع الدلالي: ونعني به العلاقات التي تربط الجمل ببعضها، فقد اعتمد الشاعر د. محمد حلمي الريشة على علاقات داخلية نصّية، وهي المحور الإشاري الذي اعتمده في العلاقات بين الجمل الامتدادية بحيث أنّ كلّ جملة من الجمل كانت تتابع اللاحق وتكون مكملة للجملة السابقة؛ فهناك التقطيع للجمل على انفرادها، وهناك الوحدات اللغوية، وهناك الإشارات التي تدخل ضمن المنظومة النصّية.

(بخصوص السؤال الدلالي: ماهي المقولات الدلالية؟ يمكن إيراد الأجوبة التالية. أوّلاً، يمكن تعيين المقولات الدلالية من الناحية الوجودية بمقابلتها بذوات/ ماهيات العالم الخارجي المتمثلة في الأشياء things والخصائص properties والأحداث events والمحلات places والوقائع facts، علماً بأنّ هذه العناصر لا يمكن أن تختزل باستبدال أحدها بالآخر. 5).

أدخلُ لغةً من قطرٍ مرّ + يحتكّ حريرُ الحرفِ بضلعِ حنيني + ما أشقى الدمعةَ يابسةَ الملحِ + كأنّ يداً تلهو بكراتٍ جامدةٍ / ترتجّ جذوري + كنْ قوسَ الضفةِ + حضنَ المرفأ + رملَ المقعدِ + حِبرَ الغيبوبةِ+

رائحةَ المرمرِ + أنسجُ أعشاباً لوميض الصدفةِ

من خلال ما رسمه الشاعر تتابع سياقي يؤدّي إلى تتابع دلالي أيضاً وقد جعل من الكلمة كائناً حركيّاً، وكلّ كائن يحتاج إلى أدواتٍ تحرّكه؛ ومن هنا نلاحظ:

حدود الاستدلال وملاحقة السياق الدلالي: أدخلُ لغةً من قطرٍ مرّ + يحتكّ حريرُ الحرفِ بضلعِ حنيني = عندما تكون اللغة من كلمات مركّبة وهو (النصّ) فالكلمة تكون من حروف مصفوفة لتكوين كلمة، وقد جعل عامل الاستدلال هو الاشتقاق من هذه الكلمات.

بناء الجملة تتابعية: كأن تكون تفسيراً لسابقتها، والسابق يلاحق اللاحق... ما أشقى الدمعةَ يابسةَ الملحِ + كأنّ يداً تلهو بكراتٍ جامدةٍ / ترتجّ جذوري= النتيجة هنا تفسيرية وهي تلاحق الاستدلال.

الفعل الكلامي بين التنبيه والنداء: كنْ قوسَ الضفةِ + حضنَ المرفأ + رملَ المقعدِ = بدأ الشاعر بفعل كلامي ( 6 ) وانتهى بفعل يمثل الـ (أنا) من خلال الفعل الحركي الدال (أنسجُ).

نستنتج ممّا قدمه الشاعر الفلسطيني د. محمد حلمي الريشة، بأنّ لغته الشعرية غير تقليدية من جهة، وأسلوبية التعاطي مع الأفعال وتكوين الجمل الشعرية ذات اختلافات دائمة من جهة أخرى. ومن خلال مبدأ التفعيل القولي الواضح والقولي الضمني، نلاحظ أنّ هناك علاقات بين المقولة والمقصودة، وبين المقروءة والمكتوبة؛ وهناك تقابلات أيضاً فتكون القصدية مخالفة للقولية، والعكس صحيح، فالذي نريد توصيله هو عملية الإثبات النصّي من خلال عدّة أبنية.

القيمة الرمزية.. التوظيف والأبعاد

إنّ وجوه الرمزية متعدّدة، وطالما أنّها ثياب للغة الشعرية التي ترافقنا، إذن هي المنحى الفلسفي الذي يرافق النصّ، والوجود الحتمي في النصّية يفرض علينا أن نكون على المعرفة الجزئية للنصّ للوصول إلى المعرفة الشمولية، فالمنظور الخارجي للنصّ يمنحنا المساحة الشمولية، ولكن في الوقت نفسه عندما نكون في التقطيع النصّي فنحن في مناطق من الحتميّة النصّية.

المحاولة التي نحن في صددها، هي التوظيف أكثر من التجميع، والأبعاد النصّية وملازمتها للرمزيّة أكثر مما يكون؛ حتى تصل الغاية الكتابيّة حدّ الغموض، ومن هنا ندخل أيضاً الخيال الرمزي والذي يدفع النصّ إلى تحوّلات وتغييرات في النصّ المكتوب.

من حيث اللاوعي تتجه الكتابة من خلال (الذات الرامزة) إلى العبارات والجمل التي تلتزم بالجماليّة الرمزيّة، وتكون ماسحة الخيال نصب عين الشاعر عندما يكون في هذه المنطقة والتي هي ذات علاقة مع العوامل النفسية (وانطلاقا من هذه المسلمة فإنّ مفهوم الرمز يتلقى عند فرويد تحويلا مضاعفاً يستجيب له منهج مضاعف أوضحه بمهارة رولان دالبييز Dalbiez في الفرويدية: منهج التداعي أو الترابط والمنهج الرمزي. 7).

إنّ الشاعر الفلسطيني الدكتور محمد حلمي الريشة؛ يقودنا عبر جمل وتركيبات اعتمدت الرمزيّة وكان الإيحاء منبراً من منابر المعرفة وخطوطه الظاهرة، تحليلية تلتزم بتراكيب الجمل بكلّ تأكيد.

القمرُ يحتكُ بالقمر ناعماً

حتى الغبارُ الوحشيّ

يُمكن إزالته بهدوءٍ

*

معظمُ الثمارِ تنضجُ في الصّيفِ

ثلاثةُ فصولٍ تُتقن تَعبها

لأجل ثمرةٍ واحدةٍ

*

"إنّ كلّ منْ ينظرُ إلى امرأةٍ ليشتهيها

فقد زنى بها في قلبه"

وإن نظرتْ هيَ؟

**

من قصيدة: تنزلُ لي سياج حقلها.. وتشرّدني – ص 1350

ينطلق الرمز عادة لتمثيل الأشياء الأخرى، يزيلها ويحلّ محلّها، أي أنّه يكون تمثيلا لأفكارٍ غايته الجاذبية والاندماج مع الفعل التأثيري لكي يعطي صورة جمالية حاله حال الاستعارة حيث يكون طبيعة إدراكية، وكذلك الرمز يكون طبيعة حسّية فيتآلف مع المدلول.

إنّ الصياغة الرمزية ذات علاقة مع الإيحاء لذا فإنّ الرمزية تصبح ذات صياغة إيحائية ولا نستغني عن الإشارات التي تمثل الأبعاد الرمزية عندما ننظر إلى الأشياء، وذلك لغرض تقريبها من جهة، ولتوظيفها كدلالاتٍ رمزيةٍ من جهةٍ ثانية.

القمرُ يحتكُ بالقمر ناعماً + حتى الغبارُ الوحشيّ + يُمكن إزالته بهدوءٍ

معظمُ الثمارِ تنضجُ في الصّيفِ + ثلاثةُ فصولٍ تُتقن تَعبها + لأجل ثمرةٍ واحدةٍ

"إنّ كلّ منْ ينظرُ إلى امرأةٍ ليشتهيها + فقد زنى بها في قلبه" + وإن نظرتْ هيَ؟

إن القيمة الرمزية تظهر وتتبيّن من الداخل النصّي وليس هناك قيمة إضافية خارج النصّ، لذلك فالرمز يعتمد الإيحاء في بعض الجمل الشعرية، حيث هناك الحقيقي والخيالي، وعموماً عندما يبدع الشاعر يبتكر رموزه الخاصة كما لدى الشاعر الفلسطيني الدكتور محمد حلمي الريشة، حيث أنّه يقودنا إلى الممكنات التي ظهرت من الذات الحقيقية؛ إذن معظم المفردات هي عبارة عن رموز خاصة يوجدها الشاعر.

مثلاً: القمر، الغبار الوحشي، والإشارة إلى الثمار والمرأة، حيث أنّ الإشارة تدلّ على رمزية، ومن هنا يكتسب الرمز دلالته من ذاته، وهي الخصوصية الضرورية وقد تقودنا هذه الخصوصية إلى الغموض أيضاً. و(الصياغة الرمزية صياغة إيحائية، والإيحاء فيها مرهون بأمرين: أولهما: قدرة الشاعر على تمثيل أفكاره ومشاعره في صور وأوضاع ذات أصل مادي، وتتجرّد هذه الصور من بعض خصائصها الحسّية المعهودة بحيث تومئ إلى المراد ولا توصفه، وتثيره ولا تسمّيه. وثانيهما: استغلال الموسيقى الشعرية في خلق مناخ نفسي تقصر عنه اللغة بدلالاتها الوضعية الضيّقة. 8).

***

علاء حمد - عراقي مقيم في الدنمارك

.....................

المصــــــــــادر

1- جنوح الفلاسفة الشعري - ص 336 – تأليف: كريستيان دوميه – ترجمة: ريتا خطار – مراجعة: جوزيف شريم – المنظمة العربية للترجمة، بيروت – لبنان.

2- دائرة الأعمال اللغوية، مراجعات ومقترحات – فرضية التقسيم الثلاثي - ص 10 – تأليف شكري المبخوت – دار الكتاب الجديد المتحدة 2010.

3- فلسفة اللغة – ص 108 – تأليف: سيلفان أورو.. جاك ديشان.. جمال كولوغلي – ترجمة: د. بسام بركة – مراجعة: ميشال زكريا – المنظمة العربية للترجمة.. بيروت... لبنان.

4- وهي بتلك التناقضات مفهوم فلسفي أفرزته الفلسفة المعاصرة باعتبارها الأساس الإبتستولوموجي العام الذي لا يحيد عن فكرة القصد والمعنى على حدّ تعبير (جلبرت رايل (Gilbert Ryle؛ وأوجدته فيما بعد تيارات تقف على علاقة النشاط اللغوي بمستعمليه ونظريات كانت مصبّ اهتمام فلاسفة من أمثال: فتجنشتين Wittgenstein وأستن Austin وسيرل Searle وجرايس Grice هذا الأخير الذي أعطى المتكلمين ومقاصدهم مكانة محورية عند تفسير المعنى فهو يعتبر أنّ كلّ حدث سواء كان لغويّاً أو غير لغويّ يحتوي على دلالة وراءها قصد قد يكون حقيقياً أو غير حقيقيّ لأنّ منتج الخطاب يخفي مقاصده ليقوم المتلقي بتأويله وفق استراتيجيّة خاصّة تصل إلى القصد أو تتجاوزه. – مجلة إشكالات في اللغة والأدب – القصدية وأثرها في توجيه الخطاب الشعري – ص 170 – المجلد 8 العدد 1 لسنة 2019 – وسام مرزوقي وقوتال فضيلة.

5- البنيات التركيبية والبنيات الدلالية – المقولات الدلالية ص 15 – جوست زفارت – ترجمة: الدكتور عبد الواحد خيري – دار الحوار للنشر والتوزيع – سورية، اللاذقية – طبعة 1 2008.

6- لقد أصبح مفهوم الفعل الكلامي نواة مركزية، في الكثير من الأعمال التداولية، وفحواه أنّه كلّ ملفوظ ينهض على نظام شكلي دلالي إنجازي تأثيري، ويعد نشاطاً ماديّاً نحوياً يتوسّل بأفعال قولية إلى تحقيق أغراض إنجازية، كالطلب والوعد والوعيد، وغايات تأثيرية تخصّ ردود فعل المتلقي، كالرفض والقبول، ومن ثمّ فهو يطمح إلى أن يكون فعلا تأثيريّاً، أي يطمح إلى التأثير في المخاطَب، اجتماعيّاً أو مؤسساتيّاً، ومن ثم إنجاز شيء ما. – التداولية عند العلماء العرب، دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في تراث اللسان العربي، من تأليف: مسعود صحراوي – ص ص 54، 55 – دار التنوير للنشر والتوزيع، الجزائر – ط1 2008م.

7- الخيال الرمزي، الترميزات التحويلية – ص 44 – جلبير دوران – ترجمة: علي المصري – ط1 1991م – المؤسّسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت، لبنان.

8- كتاب الرمز والرمزية في الشعر المعاصر -الصياغة الرمزية في الشعر العربي المعاصر – ص 303 – تأليف: د. محمد فتوح أحمد، أستاذ الدراسات الأدبية المساعدة، كلية دار العلوم، القاهرة – ط3 1984م طبع دار المعارف.

صدرت العام 2020 عن دار فضاءات للنشر والتوزيع –عمّان رواية"هناك في شيكاغو" وهي باكورة أعمال الروائية الفلسطينية هناء عبيد والمقيمة في شيكاغو.

تبدأ الكاتبة روايتها من عمّان لتنتقل بعدها ومعها إلى هناك في شيكاغو ثم تعود لتحُطّ الرحال في عمّان مرة أخرى. أمّا الشخصية الرئيسة في هذه الرواية فهي الساردة نسرين الفتاة الفلسطينية التي ولدت في القدس وهُجرت مع أهلها لتقيم في الأردن.

اعتمدت الكاتبة في هذه الرواية تقنية تعدد الرواة أو الأصوات بحيث أفردت لكل شخص من شخوصها المساحة اللازمة له للبوح بما يشعر وتبيان رؤيته للأمر المتعلق به. وهذا ما يجعل الرواية أكثر التصاقًا بالمتلقي لأن الأحداث التي تُذكَر جاءت على لسان أصحابها دون تدخل من السارد، كما ان تعدد الرواة في الرواية يعطيها نكهة خاصة تبعدك عن الملل الذي يُحدثه السرد لو كان على لسان راوٍ واحد. فالراوي الأحادي السرد والكلام والرؤية، يحرم الشخصيات من قول ما تريد بشكل عفوي.

تشيرالرواية إلى بداية نشوء حال من الحبّ والمودّة بين البطلة نسرين والشاب ثائر علاقة إنتهت قبل أن تبدأ نتيجة عدم إفصاح والدها عن سبب رفضه لثائرالذي إلتقى صدفة بنسرين في معرض للكتب في عمّان، وتسابقا لإلتقاط آخر نسخة من ديوان محمود درويش. وهنا نسأل لماذا إستحضرت الكاتبة شخصية محمود درويش لتكون مدخلًا لبداية أحداث روايتها؟. فيأتينا الردّ على لسان نسرين عندما سُئِلت عن سبب إختيارها لأعماله فتقول:" ربّما لأنّي أتوق أن أُحلّق بعيداً نحو الوطن لأعانق دحنون براري القدس ولأتذكّر طفولتي الشقيّة أو ربّما إشتقت إلى حلوى جدّتي المخبأة بجيب ثوبها المطرّز"(ص19). وكأنّها تريد القول أن محمود درويش هو الأيقونة الذي بأعماله أصبح مرادفًا للوطن فمن يشتاق لرؤية  فلسطين فإنه يراها في هذه الأعمال.4111 هناء عبيد

في هذه الرواية وفي أكثر من موضع  يظهر جليًا التعلق بفلسطين أرض الآباء والأجداد، فمثلاً تصف نسرين والدها بأنّه "هو القدس بنورها وشعاعها، وهو الذاكرة التي لا تخبو بين طيّات الأزمنة المتقلبة، إنّه الأرض الموسومة في القلب وفي يديه ترتسم خريطة مدينتي"(ص28). وفي موضع آخر وتحديدا في الصفحة(98)، تبث ما يختلج في صدرها من حنين إلى الوطن السليب ففي رسالتها أو مناجاتها المتخيلة مع حبيبها ثائر تقول:"إشتقت لرائحة برتقال حيفا وشمس القدس وتراتيل شيوخ الأقصى، إشتقت إلى القدس العتيقة". وحتّى عندما هاجرت إلى شيكاغو حملت في حقيبتها نسخة من القرآن الذي كان والدها يقرأ به إضافة إلى سجادة صلاة أمها وثوبها المطرّز ناهيك عن الكوفية الفلسطينية (66).

... في معرض حديثها عن والدها المتوفي تُقدّم لنا نسرين صورة شاعرية مفعمة بالعواطف الإنسانية حيث تقول :"لماذا يختار الموت كل شيء جميل؟ الآن فقط عرفت معنى الموت الذي هو ليس لمن يغادرنا بل الموت لنا نحن حينما نتتبع خطوات من غادرنا ونعانق ملابسهم التي إلتصقت بهم يومًا"(ص46).

القضية الأساس في رواية "هناك في شيكاغو" والتي حاولت الكاتبة الإضاءة عليها هي مسألة الهجرة والإغتراب سواء الهجرة الطوعية او القسرية . مشيرة إلى نوع من الصراع الداخلي الذي يعصف بالمهاجر الذي إنسلخ عن موطنه وحنينه الدائم له، لذا نجده عندما يرحل يختار مدنًا يقطنها من تعطّر برائحة الوطن.

إمتازت الرواية بأسلوبها السّردي والمتناسق كما أن اللغة الشعرية والمحسنات البلاغية لم تغب عنها، وأيضا جماليات الوصف ودقته. ومع ان معظم فصولها كُتبت باللغة الفصحى إلا أن الكاتبة ولإضفاء نوع من المصداقية والواقعية كانت تلجأ إلى اللغة المحكية وخاصة في جلسات الدردشة او الثرثرة للنسوة الفلسطينيات خلال إجتماعهن، أو في اللقاءات الثنائية التي تجمع بينهم وهذا برأيي يُضفي على مثل هذه الجلسات والحوارات صدقية لا بأس بها ويبعدها عن أي تكلف.ولقد أتقنت الكاتبة رسم البناء الدرامي لروايتها وزينتها بلمسات او شذرات من اجناس أدبية متنوعة حيث نجد فيها الكثير مما يمكن إعتباره بأدب السيرة وبعضا من الأدب السياسي المقاوم، وايضا القليل من أدب الرحلات ناهيك عن إشارة ولو بسيطة إلى نوع من أدب الرسائل الذى تجلى في الرسائل المفترضة او المناجاة التي لجأت إليها نسرين لترجمة عواطفها وإشتياقها لحبيبها ثائر.وسنحاول الإضاءة ولو لماما على بعض ما حملته هذه الرواية من إشارات ومدلولات.

- في الأدب السياسي المقاوم قدمت لنا الرواية شخصية ثائر بأنه الشاب الفلسطيني الذي يشارك في المظاهرات المناهضة للإحتلال، وهذا ما أدى إلى بتر إصبع يده اليمنى نتيجة رصاصة مطاطية أصابته، ورأت نسرين في هذا الإصبع انه بمثابة المطرقة التي تدقّ الضّمائر التي إندثرت لتوقظها وتعيدها إلى رشدها.(ص27).

وخلال تواجدها في شيكاغو واللقاء الذي جمعها بالمرأة اليهودية مادلين الذي يدرس إبنها في حيفا  رأت صورته وكان مستلقيًا على رمال شاطئها، تشعر نسرين بالغيظ  لعدم إستطاعتها الإستلقاء على رمال بلادها بينما "غريب الدّاريفترش رمالها"، وفي معرض ردّها على مادلين لإثبات أحقية الفلسطيني بأرضه وتشبثه بتراثه  تقول في الصفحة( 108):" هل نحن سراب ؟ لو نبشتِ القبور لوجدتِ عظام أجدادنا من آلاف السنين، ومن يتنازل عن شيء صغيرسيتنازل عن الأكبر منه، فالأرض لنا وتراثنا سنحتفظ به إلى آخر العمر".

كما ان السلام وما يروج له كان حاضرا في نقاشاتهما، فمن منّا لا يعشق السلام –تقول نسرين- لكن هل السلام يعني تشريد شعب من أراضيه؟ وهل السلام يعني أن يعيش شعب بأكمله بالمخيمات محرومًا من العودة إلى أرضه؟"(109).

في موضع آخر لخصّت نسرين حال المدن الفلسطينية وعذاباتها عندما قالت لزميلها في الكليّة:" مدينتي تبكي بؤسها، تبكي أهلها التائهين في المنافي وأروقة الغُربة، مدينتي تستجدي نخوة من خطفتهم أضواء الكراسي وبريق المعادن"(105).

لم تغفل الكاتبة الدور المهم والمشبوه  للإعلام الممسوك من قبل الأقوياء ومدى مساهمته في طمس الحقائق وتزوير التاريخ، فمعظم الإعلام لا ينقل حقيقة ما يتعرض له الأبرياء الذين يقتلون يوميًا بأيدي بطش الصهاينة،حتَى أن  هذا النوع من الإعلام استطاع إقناع هيما الهندية صديقة نسرين بأن فلسطين هي أرض لليهود ولهم الحق بالعيش فيها ولا تفقه شيئًا عن الفلسطينيين سوى أنهم مجرد قتلة إرهابيين.(161).

كما أن الكاتبة وإستنادا على قصة سعيد النحّاس واللغط الذي رافق مقتله حيث ان الكثير من الناس يعتبرونه خائنا ومتعاملا مع العدّو لتكشف حقيقة براءته أخيرا، لقد ارادت الكاتبة ربما من خلال إثارة هذه القضية القول أن هناك قلة قليلة من الفلسطينيين - هذا إن وجدت- إنحرفت عن مسارها وإنجرفت في تيار العمالة وبالتالي لا يمكن التعميم كما تقول أم حسين: "الخونة موجودين وين مكان بس قلال، في كلّ بلد الصّالح والطّالح، لكن الصّالح دايمًا هو الباقي، ما في بيت في فلسطين إلّا وفيه بطل يا استشهد او انأسر أو نُفِيَ خارج بلده حتّى أطفالها أبطال.(209).

- أمّا فيما يشبه أدب السيرة  فلا يحتاج القارىء لبذل الجهد ليستشرف ان في هذه الرواية بشكل أو بآخر بعضاً من ملامح السيرة الذاتية للكاتبة سيما وانها الفلسطينية المقيمة في شيكاغو وهذا ما مكّنها من تقديم رواية مكتملة الأركان فيما يخص اليوميات المعاشة للمهاجرين وتحديدا الفلسطينيين منهم، وكانت المرأة حاضرة في هذه الرواية بنماذج متنوعة، فإلى جانب الساردة نسرين– والتي هي إمرأة- حضرت كل من الفلسطينيات المهاجرات فاتن،سهاد،أم لطفي، حنين، إم حسين وغيرهنّ من جنسيات أخرى. وقد قدّمت كل منهنَّ رؤيتها وخيباتها في -أرض الأحلام المزيفة- بلاد الإغتراب. كما أظهرت الرواية المعاناة والضياع الذي يعصف بالأسر العربية هناك نتيجة لظروف الحياة القاسية حينا ومغرياتها وأحلامها حينا آخر، وكيف أنّ الحاجة أو الرغبة في الحصول على الجنسية او الإقامة الدائمة في أميركا غالبًا ما تكون سببًا رئيسيا في تفكك الأسر والعائلات وتشتتها، فهذه فاتن التي هاجرت مع زوجها إلى أميركا ظنًا منهم أنّ الحلم سيتحقّق هناك، لتكتشف بعد ذلك ان الحلم بقي هو الآخر "هناك" من حيث أتت وأصبحت حياتها الزوجية في مهب الريح بعد أن راودت زوجها هاني فكرة الزواج من سيدة أميركية بغية الحصول على الجنسية. ولم تكن أم لطفي القادمة من الخليل بأفضل  حال من فاتن، إذ انها هاجرت مع زوجها إلى شيكاغو وبدأت تعمل في تجهيز المأكولات الفلسطينية والعربية لتبيعها للزبائن،  وفي النهاية تزوج زوجها أبو لطفي من إمرأة أميركية تصغره بعشرات السنين.

يستطيع القارىء أن يلمس مدى التخبط والضياع الذي تعيشه الأسر العربية المهاجرة وكأنه صراع الهوية المفقودة أو البحث عن الذات، فبالرغم من رغد العيش النسبي في المهجر إلاّ انّ الحنين لا زال مرافقًا لمن إقتلع من أرضه ووطنه، وقد عبّرت نسرين عن هذا بالقول:"موجعة آلامنا حتّى لو طالنا بعض من رغد ورفاهية عيش،الحزن يسكننا منذ أن ولدنا، بعضنا ولد في أرض الجذورلكنه يعيش المنافي والتّشّرُد فبات من الصّعب أن ينعم بدفء حقيقي. وقد لخصّت أم لطفي هذا التخبط بقولها:" مجنون اللّي بترك أرضه عشان يلحق سراب، اللّي بطلع من داره متل الضّرس اللّي ينخلع بترك وراه وجع كبير من أوّل ما خطّت رجلي على تراب هالبلد وأنا قلبي مقبوض (130).

الرواية في بعض فصولها لامست "أدب الرّحلات" دون الغوص بكافة عناصره،  نظرًا لإقتصارالكاتبة على وصفها لبعض الأماكن السياحيّة  وتحديدا للأماكن التي قُيض لها زيارتها مثل: ديربورن وهي أشبه بمدينة عربيّة بكل مواصفاتها وتعتبر بحق عاصمة العرب في أميركا لكثافة الجاليات العربية فيها، ويبدو أنّ الكاتبة لم تنسَ كونها مهندسة لذا نجدها تحدثنا عن زيارتها إلي بيت أشهر معماري عرفته شيكاغو وهو فرانك لويد رايت، كما ذكرت أيضا حديقة البتانج جاردن، وأجادت في وصف مدينة شيكاغو وشارع هارلم الذي تكثر فيه المتاجر العربية، ثم عرجّت لتصف لنا نافورة باكنغهام وبحيرة ميتشغان المترامية والمنتمية إلى أربع ولايات أميركية. هذا الوصف الموجز قدَّم ولو نذر يسير من المعلومات لمن لا يعرف شيكاغو التي إحترقت العام 1871 بسبب بقرة رفست الفانوس في الحظيرة.

ختاما لا بد من التطرق لعنوان الرواية "هناك في شيكاغو" بالرغم من انها تروي يوميات  جرت في شيكاغو وبلسان قاطنيها، يبدو ان الصراع النفسي والبحث عن الذات كان الهاجس المهيمن على كافة شخوص الرواية سيما الفلسطينيين منهم، لذا فإن الفلسطيني المهاجر لم يشعر يومًا بالإنتماء  إلى هذا البلد الغريب وبقى منجذبًا إلى بلده الأم فلسطين، فإذا كان الجسد موجود "هناك" في شيكاغو فلا تزال الروح تنزع نحو الجذور باتجاه هنا فلسطين. لذا كانت نهاية الرواية ذات دلالات عميقة ومعبرة حين قررت نسرين بعد تخرجها العودة إلى الأردن توأم بلدها وجاره الأقرب وهي تأمل أن يكون حبيبها ثائر بانتظارها. نهاية تشير بشكل أو بآخر إلى أن العودة إلى أرض الوطن هي حق لا بُدَّ منه كيف لا وهو يشكل حلم كل فلسطيني خارج أرضه.

"هناك في شيكاغو" رواية جديرة بالقراءة والإقتناء ولا شك ستشكل إضافة للأدب العربي والفلسطيني، فمبارك للأديبة هذا الإصدار وإلى المزيد من الإبداع والتألق.

***

عفيف قاووق – لبنان

في جميع روايات جين أوستن، تلعب النساء دورا مركزيا ومعقدا. الشخصيات النسائية في روايات أوستن هي أفراد متعددو الأوجه يتنقلون بين المعايير والتوقعات المجتمعية لإنجلترا في عصر ريجنسي. هؤلاء النساء لسن مجرد متفرجات سلبيات في حياتهن الخاصة، بل يشاركن بنشاط في تشكيل مصائرهن. في هذا المقال، سوف نستكشف تصوير النساء في روايات أوستن، مع التركيز على أمثلة محددة تسلط الضوء على ذكاء وذكاء ومرونة وقوة شخصياتها النسائية.

إحدى أكثر الشخصيات شهرة في روايات أوستن هي إليزابيث بينيت من "كبرياء وتحامل". إليزابيث حادة الذكاء ومستقلة ولا تخشى التعبير عن رأيها. على الرغم من الضغوط للزواج من أجل الأمان المالي، ترفض إليزابيث الاكتفاء بزوج بلا حب وتتمسك بالحب الحقيقي. يتجلى هذا في رفضها لعرض السيد كولينز، حيث إنها تقدر السعادة الشخصية والتوافق العاطفي على المكانة الاجتماعية.

في رواية "العقل والعاطفة"، تصور أوستن الشخصيتين المتناقضتين للأخوات داشوود، إلينور وماريان. إلينور عقلانية وعملية ومتحفظة، في حين أن ماريان عاطفية ومندفعة وعاطفية. تتغلب الأختان على تحديات الحب والانكسار، لكنهما من خلال مرونتهما ونموهما تجدان السعادة في النهاية. تتعلم إلينور التعبير عن مشاعرها بشكل أكثر انفتاحا، في حين تتعلم ماريان تعديل مُثُلها الرومانسية بالبراجماتية.

في رواية "إيما"، تُعَد الشخصية الرئيسية إيما وودهاوس بطلة معقدة ومعيبة. إيما ذكية وساحرة وحسنة النية، لكن ميلها للتدخل في حياة الآخرين غالبا ما يؤدي إلى عواقب غير مقصودة. على الرغم من أخطائها، تخضع إيما لرحلة اكتشاف الذات وتتعلم دروسا قيمة حول التواضع والتعاطف وأهمية العلاقات الصادقة. يُجسد تحولها إيمان أوستن بقوة التأمل الذاتي والنمو الشخصي.

في رواية "إقناع"، تظهر آن إليوت بطلة هادئة ومنطوية على ذاتها تحملت لفترة طويلة ثقل الندم في الماضي والحب المفقود. وعلى الرغم من توقعات المجتمع وضغوط الأسرة، تظل آن ثابتة في قناعاتها وتظل وفية لشعورها بالنزاهة. وعندما تلتقي بحبها السابق، الكابتن وينتوورث، تظهر آن الشجاعة والمرونة وهي تتنقل بين تعقيدات الفرص الثانية والحب المتجدد.

و في رواية "دير نورثانجر"، تظهر كاثرين مورلاند كشابة ساذجة ومبدعة تنجذب إلى عالم الروايات القوطية والخيالات الرومانسية. ومن خلال تجاربها في دير نورثانجر، تتعلم كاثرين التمييز بين الواقع والخيال، والتنقل بين فخاخ الثقة في غير محلها والمظاهر المضللة. تسلط رحلة كاثرين في اكتشاف الذات والنضج الضوء على إيمان أوستن بأهمية تهدئة المثالية الشبابية بالحكمة والتمييز.

في رواية "مانسفيلد بارك"، تظهر فاني برايس بطلة هادئة ويقظة تكافح لتأكيد نفسها في أسرة يهيمن عليها أقاربها الأكثر ثراء وثقة بالنفس. وعلى الرغم من خلفيتها المتواضعة، تتمتع فاني بحس قوي بالنزاهة الأخلاقية والمرونة التي تمكنها من تحمل الضغوط والإغراءات المحيطة بها. ويتجلى ثبات فاني وقوتها الأخلاقية في رفضها الزواج من هنري كروفورد، على الرغم من إمكانية تحقيق الأمن المالي والتقدم الاجتماعي.

في رواية "إيما"، تعمل شخصية هارييت سميث كشخصية مضادة لإيما وودهاوس. هارييت ساذجة وقابلة للتأثر ويسهل تأثرها بالآخرين، وخاصة إيما. وعلى الرغم من عيوبها ونقاط ضعفها، تظهر هارييت الولاء واللطف والروح الكريمة التي تجعلها في النهاية محبوبة لدى القراء. ويجسد نمو هارييت واكتشافها لذاتها إيمان أوستن بالقوة التحويلية للصداقة والإرشاد والتضامن الأنثوي.

في رواية "العقل والعاطفة"، كانت شخصية السيدة جينينجز سيدة مرحة وثرثارة تقدم تسلية كوميدية وتعليقات اجتماعية. كانت السيدة جينينجز صريحة ووقحة ولا تعتذر عن نفسها، حيث كانت تتحدى توقعات المجتمع وتتحدى المعايير التقليدية للأنوثة. وعلى الرغم من عيوبها وغرائبها، تجسد السيدة جينينجز روح المرونة والقدرة على التكيف والفكاهة في مواجهة الشدائد.

في رواية "كبرياء وتحامل"، كانت شخصية السيدة كاثرين دي بورغ أرستقراطية فخورة ومتسلطة تجسد التمييز الطبقي الصارم والتسلسلات الهرمية الاجتماعية في إنجلترا في عصر ريجنسي. كانت السيدة كاثرين حازمة ومتلاعبة ومتعالية، حيث استخدمت مكانتها من الثروة والامتياز للسيطرة والتأثير على الآخرين.

***

محمد عبد الكريم يوسف

قراءة نقدية للرواية "خوف" للكاتب السعودي أسامة المسلم.

الرواية هامة ورائعة. خصائصها الفنية جذابة للغاية بفعل إتقان اختيار القوى الفاعلية والشخصيات والبنية العاملة في سرد الأحداث من بدايتها إلى آخرها. دلالاتها تلامس الجوانب النفسية والثقافية والاجتماعية والسياسية (الفردية والجماعية) في المجتمع السعودي بشكل خاص والمجتمعات العربية والمغاربية بشكل عام. السارد، الشخصية الرئيسة في الرواية، نموذج خاص لمواطن سعودي عاش، في مرحلة الكسب المعرفي والتربوي المبكر، أنوار حضارة عظمى في التاريخ المعاصر (أمريكا). لقد ترأست هذه الأخيرة القطب الغربي المتصارع مع القطب الشرقي بقيادة الإتحاد السوفياتي زمن الحرب العالمية الباردة في العشرية الأخيرة من القرن العشرين. إنه الزمن السياسي العالمي الصعب، الذي توج في مرحلته الأولى بالإعلان عن النظام العالمي الجديد في بداية التسعينات (مباشرة بعد هدم جدار برلين)، وفي مرحلته الثانية باستراتيجية إعادة بناء المشرق العربي الإسلامي بمنطق الفوضى الهدامة اقتباسا من شعار المرحلة: "توحيد مقومات الإنسان الليبرالي العالمي".

لقد توج الاستثمار في تقنيات السرد وخصائصه الفنية (انتقاء وحركية القوى الفاعلة في الرواية وشخصياتها وتفاصيل تحولات حالاتهم النفسية والاجتماعية، واختيار أمكنة وأزمنة وقوع الأحداث) بإتمام رسم مقومات لوحة تشكيلية معبرة عن الفئوية والخنق المبكر لنبوغ العقل العربي بسبب التخلف الثقافي الذي ابعد الوجود البشري في المنطقة عن الطبيعة وما تتطلبه من بحوث علمية يومية لاستغلال خيراتها في إطار التنمية المستدامة. لقد استحقت الرواية بمقاصدها وتقنيات سردها أن تصنف ضمن روائع الإبداعات الأدبية والفنون التعبيرية السردية لأدباء الجيل الثالث العربي في القرن العشرين (1960-1990 ميلادية). لقد جسدت بنجاح تفاعلات الحياة اليومية ومشكلاتها المنهكة لوجود شعوب المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج. لقد التقطت فصول الرواية باحترافية عالية تفاصيل تردي الحياة الثقافية الواقعية وتأثيراتها على مصير الأمة العربية. توالي المشاهد وجاذبيتها تستحق أن تتحول إلى فيلم مطول بأحداث مترابطة ذات دلالات تجسد واقع شعوب المنطقة. لقد عبرت كذلك فصولها عن قدرة هائلة على التقاط تفاصيل الحياة بلقطات لحظية تعكس تدجين العقول واعتقالها الثقافي وهي خارجة عن أسوار السجون الرسمية. لقد طرحت الإشكالية المحورية في المقدمة بمنهجية تجعل القارئ يفكر في الفرضيات منذ البداية. كما أبدع الكاتب في وصف وسرد الوقائع التي ميزت الشخصية الرئيسة في الرواية مبرزا سماتها الفيزيائية والنفسية والاجتماعية المتطورة في الزمن بارتباط وثيق مع المكان، مقدما للقارئ شخصية معقدة الأبعاد، عاكسة الأزمات الاجتماعية والنفسية التي يعيشها أبناء الوطن العربي الإسلامي في ساعات حياتهم اليومية.

منذ البداية توالت الفرضيات على عقل القارئ محفزة إياه لاستحضار الإشكالات المطروحة في حياة المجتمعات العربية، والتي نذكر من أبرزها:

- معاناة النبوغ المبكر للعقل الفردي عربيا واصطداماته بواقع مجتمعه.

- الفئوية والمنطق السياسي لقيادة القطيع وسؤال تنويره في الفترات التاريخية الانتقالية.

- منطق تكيف "المتنورين" مع متاهات الظلام والعتمات المقاومة للتغيير.

- ماضي وحاضر ومستقبل العيش المشترك عربيا.

- ..... إلخ.

للإجابة على الأسئلة المطروحة، والتي أتعبت تفكير المثقفين العرب منذ حصول الأقطار العربية عن استقلالها وبداية النقاشات في شأن الخروج من التخلف وقضايا النهضة، تمكن الكاتب من ترصيص أجزاء المتن الحكائي لفصول روايته معتمدا خطاطة سردية تجعل القارئ يرتبط بقوة بمتوالياتها ومقاطعها بدء من وضعية البداية الديناميكية، مرورا بوضعية الوسط وسيرورات التحولات وعناصرها المخلة وتطورها وعوامل انفراجها، ووصولا إلى وضعية النهاية التي تزرع الأمل في تجاوز وضعية البداية (تفاوض السارد مع الرجل الأنيق).

لقد تأطرت أحداث الرواية في فضاء أربع أمكنة. المكان الأول هو الولايات المتحدة الأمريكية (فضاء التنشئة الطفولية للسارد)، والثاني هو المملكة العربية السعودية (المكان الرئيس)، والثالث هو البلد الخليجي (اليمن) والرابع هو الأطلس.

المكان الرئيس في الرواية، كما جاء في مقدمتها، هو تراب قبائل المملكة العربية السعودية. استمرت وقائع أحداث الرواية متجاذبة زمنيا وجغرافيا لتمتد إلى الخليج (اليمن) والأطلس. اقتباسا عن موقع ويكيبيديا، الْمَمْلَكَة العَرَبيَّة السُّعُودِيَّة تعد من أكبر الدول العربية في الشرق الأوسط الواقعة تحديدا في الجنوب الغربي من قارة آسيا، وتشكل الجزء الأكبر من شبه الجزيرة العربية. حكمتها أسرة آل سعود منذ تأسيس إمارة الدرعية. تصارعت مع الكيانين العثماني والمصري إلى أن سلم عبد الله نفسه سنة 1816 ميلادية حقنا للدماء.

جاهد ملوك السعودية في مجالي توحيد القبائل وتوعيتهم وتحديث ثقافاتهم من جهة، ومواجهة الحملات والأطماع الأجنبية العثمانية والمصرية من جهة أخرى. تاريخ الملوك زاخر بالغارات المتواصلة لإخضاع القبائل. المحاولات العسكرية لضم الرياض كنموذج دام سبعة وعشرين عاما من الاقتتال. شبت معارك ضارية مع شريف مكة. تم اغتيال الملك عبد العزيز سنة 1803 ميلادية. تولى الحكم بعده ابنه سعود الكبير، وأخضع المدينة المنورة بحيث هدم العديد من الأضرحة. عاش الملوك التوتر والصراع في عهود المملكة العربية السعودية الأولى والثانية والثالثة. العهد الأول كان جد صعب ومعقد ثقافيا وسياسيا. قامت الدولة السعودية الأولى في الفترة 1727-1818 بعد أن كانت شبه الجزيرة العربية في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي تعيش حالة من التفكك وانعدام الأمن، مما جعلها تتحول إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، إضافة إلى انتشار البدع والخرافات، فَمَهَّدَ هذا الأمر لعقد تحالف بين أمير الدرعية محمد بن سعود وبين محمد بن عبد الوهاب. عمل هذا الأخير على نشر دعوته بغية توحيد هذه المناطق وإخراجها من حالة التدهور السياسي والاجتماعي.

من الناحية الزمنية، تم تسجيل استمرار الجهد لتوحيد البلاد ومواجهة الأطماع الخارجية وتنمية البلاد وإخراجها من تخلفها الثقافي والاقتصادي والاجتماعي إلى أن استطاع الملك عبد العزيز آل سعود من توحيد كل المناطق تحت سلطة المملكة بشكلها الحديث (عبد العزيز، فيصل، خالد، فهد، عبد الله، ....). وهنا لا بد من الانتباه أن تاريخ ولادة السارد وإرسال أبيه إلى أمريكا لاستكمال دراسته تم في عهد الملك خالد، والذي تزامن مع انطلاق النهضة التعليمية في البلاد. أما عن توقيت غزارة الإبداع الروائي لأسامة المسلم فقد تزامن مع حكم الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده محمد بن سلمان آل سعود والاستراتيجية التنموية 2030 للمملكة العربية السعودية.

اعتمد الكاتب أكثر على الزمن الواقعي من خلال حضور مجموعة من المؤشرات الزمنية الواقعية الدالة عليه مثل: مكان الولادة، الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، الالتحاق بالبلد الخليجي، شد الرحال إلى الأطلس، ...... إضافة إلى توظيفه لزمن الماضي في السرد مستخدما الزمن المضارع لخلق الدينامية في تحولات وتوالي الأحداث. الغرض من الاستثمار في هذا المنطق الزمني هو بلا شك إيهام القارئ بواقعية أحداث الرواية وضمان الطابع المنطقي لتسلسلها. اعتمد الكاتب كذلك في عدة مقاطع الزمن الاسترجاعي لتذكر الأحداث السابقة وتثبيت ارتباطاتها. كما وظف الزمن الاستباقي لتوقع الأحداث المستقبلية والمتعلقة بمصير الأمة العربية زمن التقلبات الكونية السريعة والخطيرة المهددة لسيادات الأقطار العربية.

أما الزمن النفسي في الرواية، فيمكن وصفه بالمتسارع. كلما دخل السارد في محنة، كان يتسارع مع الزمن من أجل الخروج منها. توالت المحن عاكسة الأزمة النفسية والاجتماعية والثقافية التي تعيشها الشخصية الرئيسة. إنه الزمن الذي جعل الكاتب يلجأ للرؤية من الخلف في السرد. إنه يعرف أحداث القصة وأحاسيس الشخصيات ومشاعرهم الدفينة وهواجسهم وما يفكرون فيه.

المتن السردي متراص في مكوناته من البداية إلى النهاية. لقد أبدع الكاتب في بلورة وتصميم احداث الرواية بشكل منظم ضامنا تناميها وتشويقها. ميله للواقعية واضطراره لخندقة الأحداث في فضاء الفانتازيا أضفى على الرواية جمالية عالية. إنه الاعتبار الذي رفع من وقعها وتأثيرها على نفسية الشباب واليافعين الذين نشأوا في عالم السرعة والتكنولوجيا ومزايا ومخاطر اقتراب إلغاء الحدود ما بين عالم الروبوتات وعالم الإنس وربما مع عوالم أخرى ومخلوقات أخرى نجهلها في الوقت الراهن.

أما بالنسبة للحوار، فقد شكل العمود الفقري للرواية للتعريف بمواقف الشخصيات وأحاسيسهم وعلاقاتهم، ولتكسير رتابة السرد، ودعم إرادة الكاتب في الرفع من مستوى التشويق من مقدمة الجزء الأول إلى خاتمة الجزء الثالث. لقد انتهج تقنيات السرد المطلوبة لتجسيد واقعية الأحداث، والاسهام في تنامي الصراع والرفع من تأثير القارئ بعواقبه ومآلاته. كما استثمر في الوصف وحوله إلى ركيزة مصاحبة لتقوية جاذبية الرواية بتقريب الشخصيات والأماكن والمشاهد من القارئ.

إجمالا، لقد منحت القوى الفاعلة للرواية وهجا عاليا. لقد أدت أدوارا عاملية مختلفة مجسدة علاقات الإرسال والرغبة والصراع. السارد لم يجد لنفسه منفذا زمن طفولته في الواقع المعاش للطفولة السعودية. لم يكن كبقية الأطفال الذين يلعبون الكرة بشغف في الشارع أو يركبون دراجاتهم متنقلين من زقاق لآخر. بتأثير من نمط عيش أسرته، ونتيجة لتراكمات مرحلة تنشئته الطفولية، لم ينتصر لخيار العامة. كان له عالمه الخاص. لم يقتنع بفكرة جمع الخبرات عن طريق الممارسة والاحتكاك المباشر مع أقرانه في الشارع. أحدث وقفه منبهة في الفصول الأولى من الجزء الأول لروايته مانحا التميز للعنوان "اليوم الذي غير حياتي". لقد أهدى للطفولة والشباب دليلا (أساسه القراءة) لضمان استمرارية وفاعلية النبوغ المبكر للعقل الفردي والرفع من قدرته على التكيف والفعل البناء بهدف التغيير داخل أوطان الانتماء زمن التقلبات الكونية التي لا ترحم.

***

الحسين بوخرطة

 

أوّل ما يدهشك في مطلع رواية (عباءة غنيمة) للروائية الكويتية عائشة عدنان المحمود، إنه مكتظٌّ بالأسئلة عن المكان وانتماء الراوي المتكلم، في أغلب فصول الرواية ومقاطعها، إليه. وهنا يتبادر إلى ذهن القارئ الراصد، هل مجريات الرواية تجيب عن تلك الأسئلة أم تجعل ذهن القارئ محملاً بها، مستشفّاً إجاباتها بين السطور. لن نقتنع بأنّ الحدث الأول في الرواية

وهو لقاءٌ صحفيٌّ بين الراوي المتكلم، الذي سنكتشف لاحقاً بأنّ اسمه فيصل وصحفيٍّ شاب، فيسأله الأخير: هل تحبُّ الفريج، لن نقتنع بأنه الإجابة الكاملة عن تساؤلات المطلع، بالرغم من أنه ليس سؤالاً بسيطاً بحسب منطوقه، بل هو يمتدّ إلى آمادٍ أبعد عن قضية حبّ الفريج، كما يجيب الراوي نعم، أحبّ الفريج وأحبُّ أهله، أقصد: أحبُّ أهلي. الرواية:

ص10.

إستكشاف الحداثة

جرى اللقاء في تموز 1990، وهذا يسحب الذاكرة إلى الشهر الذي سبق حدث غزو الكويت، في عهد النظام العراقي المباد، في 2 آب 1990، في هذا القسم المعنون مدينة قاصية، ضمن الفصل الأول من الرواية، استكشاف من كان خارج الكويت الوطن وعاد إليه، حيث الانبهار بحداثة المدينة في

جميع النواحي، كما هنا تصويرٌ لأجواء الترف التي يعيشها الراوي المتكلم، في البيت والمكتب والسيارة الحديثة والشاليه والقارب البحري الضخم، هنا إشادةٌ بكلِّ ما هو إيجابي، ضمن تصوّرات الراوي عن المكان، حتى أجواء الحرية التي كفلها الدستور الكويتي، هي بالتأكيد تتعشّق مع حبّ المكان والانتماء اليه. في القسم المعنون؛ سواد، ضمن الفصل الأول نفسه،

إدراج لتداعيات ذاكرة الراوي المتكلّم في يوم حدث غزو الكويت، فعندما أرسى زورقه في المنصّة البحريّة، ومضى نحو سيارته، وجال فيها الشوارع، لاحظ أسراباً سوداً، ينتشرون مع آلياتهم الثقيلة.

دلالاتٌ رمزية

وهنا يحصل قطعٌ زمني، بالعودة إلى البدايات، أو بالأحرى بدء سيرة حياة بطل الرواية فيصل، وهناك دلالاتٌ رمزيةٌ كبيرةٌ فجّرتها ولادة فيصل، منها سياسية، حيث تعمدت الروائية عائشة المحمود إلى توأمة حدث الولادة بحدث نكبة فلسطين في 15 مايو عام 1948، وهي نكبةٌ قوميةٌ كبيرة، كان والده غازي، متابعاً لما يدور من أحداث، ومنها اجتماعية حيث النكبة العامة عادلها فرحٌ شخصيٌّ غيرُ عادي بولادة فيصل في اليوم نفسه. وهناك، مثلاً حدث العدوان الثلاثي على مصر عام 1956  حيث كان فيصل رفقة أخيه الكبير عبد العزيز لشراء الخبز الخاص بفطور يوم الجمعة وأثناء عودتهما، يجدان ابن عمهما سعود مقرفصاً أمام باب بيته وهو يبكي، وحين يسألانه يجيب؛ مصر... طقّوها الإنجليز: ص54، حينها كان فيصل يجهل ما يقوله الكبار عن هذا العدوان.

وتنبثق هنا بعد أكثر من خمسين صفحة من الرواية، غنيمة، المرأة الغريبة، بعباءتها التي لا تستر كامل جسدها، كما يلحظ فيصل على أمه فأرعبت فيصل وعمره ما زال ثمانية أعوام، وتستمر بملاحقته في كل مكان، الأمر الذي يمكن تأويله على أنها كابوسٌ يرمز إلى الشقاءات التي سيواجهها فيصل طوال حياته، ومن ثم استشهاده في صبيحة 2 أغسطس 1990، لذا

يمكن القول أن تسمية الرواية ب (عباءة غنيمة) هي معادلٌ موضوعيٌّ لسيرورة حياة فيصل، وكذلك أحداث الكويت خاصةً والأمة العربية عامةً وقضيتها الرئيسة فلسطين.

ذكورةٌ وأنوثة

الرواية رصدٌ دائمٌ لتشكلات الوعي لدى فيصل، بعد أن دخل عالم المراهقة، فتثير الروائية عائشة المحمود، قضية الذكورة ومضادّتها الأنوثة، عند فيصل وبدور، التي تكبره بسنوات، فهو يحاول إثبات رجولته، كيلا يُقالَ له من قبل نظرائه جبان، وهنا المجتمع المحيط كله يدعم إنماء هذا الحسّ الرجولي، وفي الوقت نفسه يدعم إحباط الهاجس الأنثوي عند بدور، خشيةً من عواقب ترك هذا الهاجس ينمو، ويمضي في دروبٍ محظورةٍ من قبل المجتمع الذكوري، خاصةً فيصل الذي يشعر من خلالها أنّه ذو أطوارٍ غريبة، فيتعاطف مع الهاجس الأنثوي لدى بدور، ويعرف أنها تفتقد (فهد) وتميل إليه، وهو من أقارب العائلة، وحين ابتعد عنها بالعودة إلى دارهم، بعد انقضاء فصل الأمطار، وحلول الربيع، بدت عليها ملامح الذبول والحزن، والسبب لا يعرفه سوى فيصل.

دمجُ الخاص بالعام

ما يميّز الرواية، إن كاتبتها عائشة المحمود، نجحت على مسار جميع صفحات الرواية في الدمج الرائع بين الخاص والعام، وشواهدنا على كثيرة، ذكرناها في مقاطع الفصل الأول، حيث أن الرواية مقسّمةٌ إلى ثلاثة فصول، وفي الفصل الثاني المفتتح بمقطع معنون ب "يوم صار لي وطن" يسرد الراوي المتكلم والمشارك أيضاً، مجريات الليلة، التي تم فيها إعلاء طقوس الفرح بزواج فاطمة بنت خالة فيصل، تشابك معها إعلان استقلال دولة الكويت بعد إلغاء اتفاقية الحماية البريطانية، أكثرُ من فرح بذلك غازي، بوصفه من الجيل القديم، فهو يدوّن في دفتر مذكراته كلَّ الأحداث الفارقة التي يمرُّ بها وطنه، وبالنسبة لفيصل، مع تنامي إدراكه، أدرك سرَّ سعادة أبيه، وذلك راجعٌ إلى حسِّه الوطني، وإذا كان فيصل يمثّل الجيل الجديد، فإن سنوات عمره الثانية والأربعين تقريباً، تمثّل سيرة نهوض الكويت، كدولةٍ حديثةٍ بعد الطفرة النفطية، وهنا نعود إلى القول بنجاح الروائية عائشة المحمود في دمج الخاص بالعام والانتقالات الزمنية والتحولات المكانية غير الاعتباطية، كما نرصد الذاكرة التدوينية للأب غازي، متمثلةً بحزنه الكبير عن محاولة بلدٍ مجاور، يقصد به العراق، اعتبار الكويت جزءاً منه، في بدايات ستينيات القرن الماضي، كما دوّن، بحزن، انفصام الوحدة بين مصر وسوريا. مدوّنات غازي تقابلها تنامي الوعي الشفهي لفيصل، الروائية عائشة المحمود عبر سرديات الراوي المتكلم أكّدت ضرورة التفاعل بين الجيلين القديم والجديد، بين الآباء والأبناء، لجهة قوة الحّس الوطني للجيل القديم لأنه عانى الكثير من ويلات الهيمنة الأجنبية، لذا كان فيصل فخوراً بأبيه، فيقول عنه:" في الوقت القليل جداً الذي يقضيه في المنزل كان يغلق على نفسه باب المكتب المتطرّف

بالساعات الطوال ليكتب ويدوّن ويقرأ ويعيد ترتيب خارطة المقبل على وطنه"ص 86 .

لغةٌ شاعرية

لا يخلو مقطع في الرواية من أحداثِ تشدّ القارئ إليها، عبر لغةٍ شاعريةٍ بصمتْ نجاح عائشة المحمود في تعشيق روايتها بالسرد والشعر معاً، فعلى مستوى الاهتمام المكاني، أولاً: سرور فيصل بانتقال أسرة الأستاذ ناظم مدرس اللغة العربية في الثانوية، بجوار بيتهم، هذا التجاور أسهم في تنمية وعي فيصل عبر مكتبة ناظم الكبيرة ، ثانياً: تأثّر فيصل بالقضية   الفلسطينية، عبر سرديّات ناظم له بشأن ما جرى لهم من تهجير عن بلدتهم يافا، وعن أمّه التي أبت أن تأتي معهم، كي تبقى هناك. وعلى المستوى الاجتماعي: زواج بدور، التي يعزّها فيصل كثيراً، وذهاب عبد العزيز إلى القاهرة للدراسة الجامعية هناك، وكذلك هناك من يسعى لخطف غازي من زوجته الأصيلة مريم، ألا وهي الخادمة أمينة، ويبدو أن الأب غازي، كأيِّ أبٍ شرقي لا يرفض تعدّد الزوجات وهذا ما سيحصل.

تحوّلاتٌ مكانية

الانتقالات المكانية في الرواية أضفت عليها عنصر تشويق يجعل القارئ مفتوناً برحلة بطل الرواية إلى بيروت لغرض الدراسة، الروائية عائشة المحمود نجحت في تزويدنا بانطباعٍ بارعٍ جداً عن بيروت الستينيات، بحسب التاريخ الزمني الُمرفق مع المقطع المعنون ب "نحو الشرق " سنة 1966، فبطل الراوية وراويها المتكلم أحسَّ ببونٍ شاسعٍ بين ما كان عليه وبين وما أصبح فيه، حيث يقول: كان الفارق المشاعري الفاصل بين فريجنا وساحل بيروت يشكّل هوّةً جامحةً من الاختلافات القادرة على دفع الواحد منّا إلى التشكّل: "ص98،

ويمضي السارد في الإفصاح عن كلِّ التشكّلات الجديدة، لدرجة أنه أصبحَ فيصلاً جديداً. هذه التشكّلات ساعدت على إنمائها أجواء الحرية في بيروت، حيث أصبحت له نخبةٌ من الأصدقاء، يتناقشون فيما بينهم، بأدقّ التفاصيل في السياسة ومجريات الأحداث في العالم العربي.

سياسةٌ وحب

ويمكن القول إن هناك شقّين من التحوّلات عصفت بفيصل في بيروت، وجعلت منه إنساناً مختلفاً جذرياً: الشقُّ الأوّل سياسي، حيث اندفع عن قناعةِ عميقةٍ في الانتماء إلى تيار القوميين العرب، التيار الذي وُلد من رحم نكبة فلسطين، أي تزامن مع ولادته، والثاني: عاطفي، حيث عاش لأوّل مرّةٍ قصّةَ حبٍ عاصفةٍ مع أستاذته لين، تسردها الروائية بفيضٍ كاملٍ من

التشويق والذهاب بمغامرة الحبّ إلى أقصاها، بعيداً عن كلّ الشائعات والحواجز. ما أضفى على قصّة حبّ فيصل ولين جماليّتها، هو ذلك التحرّر الكاملُ لهذه المرأة التي تنتمي عائلتها إلى تيارٍ سياسيٍّ متنفذٍ في سوريا. التعلّق الكلّي بلين، أفضى بفيصل أخيراً إلى العطب، بعد أن اختفتْ كلياً، بحث عنها في كلّ مكان، بعد أن انتقلت إلى باريس خلال أعوام الحرب

الأهلية في لبنان. لم يعثرْ لها على أيّ أثر، فقفل راجعاً إلى بلاده، يضمّد جراحه هناك، حيث ازداد نفوذ أبيه وأخيه تجارياً وسياسياً، وانتقلت العائلة إلى إحدى الضواحي الحديث في الكويت العاصمة، عاد إلى النكسات، رغم الجناح المستقل له في بيت مكون من ثلاثة طوابق، النكسة الكبيرة هو زواج

غازي من الخادمة أمينة، ما قصم ظهر الزوجة الوفية مريم، زدْ على ذلك أن امينة أنجبت له ذرّيّة، ولكنّها كانت بنتاً جميلة، بالرغم من كلِّ شيءٍ أصبحت محبوبةً من الجميع. البعد السياسي في الرواية واضحٌ جداً، وهناك إشارات بارزة إلى التداول، بحريةٍ، في شؤون الانتخابات البرلمانية، وأزمة

سوق المناخ، وهناك جنوحٌ إلى الاتجاه القومي حيث قضية فلسطين، سها ابنة أمينة، تكبر، وينمو وعيها السياسي، وحين تتعرف على شابِّ فلسطيني في الجوار، يتزوجان رغم معارضة غازي ومريم، ويعيشان في أميركا.

نهاية الرواية كانت صادمةً جداً، حيث كانت حياة فيصل بين كماشتين، ولادته: انبثاق الكيان الصهيوني، ومماته أثناء الغزو العراقي للكويت، فاشتدّتْ عزيمته، وتنكّب بسلاح البندقية، ليقولَ كلمة الرفض لهذا الغزو، بالمقاومة ومن ثم الاستشهاد.

صدرت الرواية عن دار الساقي للنشر –بيروت عام 2022، تشغل الأستاذة عائشة عدنان المحمود اليوم منصب الأمين العام المساعد لقطاع الثقافة بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب في الكويت، وقد سبق أن صدر لها، في الرواية ؛وطن مزوَّر، وفي القصة القصيرة ؛آخر إنذار، وفى أدب الرحلات؛ في حضرة السيد فوجي سان.. مشاهدات سائحة في اليابان.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

كان الهايكو الإستوني التقليدي حاضرا قبل عام 1960، ولكنه شهد تطورا ملحوظا شكلا ومضمونا منذ الستينيات من القرن الماضي، وهذا ما ذهبت اليه الدكتورة (كاتي ليندستروم) من قسم تاريخ العلوم والتكنولوجيا والبيئة في المعهد الملكي في (ستوكهولم – السويد) من خلال مقالها القيم بعنوان (منظور واسع للهايكو الإستوني مقارنة بأصوله اليابانية)، وقد إستندت في تحليلها إلى قصائد الهايكو المنشورة في مجلة (لومينج) الأدبية للفترة (1963 – 1998). ويعتبر الشاعر والكاتب والمترجم والمحرر(أندريس إيهين) (1940 – 2011) من أبرز رواد هذا الشعر باللغة الإستونية في القرن المذكور، وكان قد نشر في ايرلندا مجموعة هايكو ثنائية اللغة (الإستونية – الإنكليزية) بعنوان (موس بيتل سوالو) 2005. وهو مدرج في قائمة الشعراء الأكثر إبداعا في أوروبا لعام 2010، ومن أعماله أيضا (بلوط الذئب 1968، دع الطائر يثرثر في الخارج 1977). أما (فيليكس تامي) و(أرفو أنتونوفيتش ميتس) (1937 – 1997) فقد كتبا الهايكو باللغة الروسية. ولد (ميتس) في (تالين) الإستونية وعاش في موسكو معظم الوقت، وتلقى تعليمه هناك في (معهد مكتبة لينينغراد) و(معهد مكسيم غوركي للأدب). عمل محررا في بعض المجلات الأدبية. نشر أربع مجموعات شعرية. له قصائد مترجمة إلى الإنكليزية والهولندية والهندية والصربية والسويدية وغيرها. من أعماله (أحجار تالين 1989، الحلقات السنوية 1992، قصائد 1995، في غابات الخريف 2006). ترجم الشعر الإستوني إلى اللغة الروسية.

وقد ظهر (الهايكو الإستوني) المتكون من ثلاثة أسطر لأول مرة في عام 2009، ولكن ب ( 4 - 6 - 4) مقاطع مقابل (5 – 7 – 5) للهايكو الياباني (ينظر: إلسي ليهيستي، الإدراك الصوتي لشكل الهايكو في الشعر الإستوني مقارنة بالياباني). ويعتبر الشاعر والفنان والناشر ومصمم الجرافيك (أسكو كوناب) (تولد 1971 تارتو) من أبرز رواده، وقد نشر في عام 2010 مجموعة هايكو مشتركة باللغة الإستونية مع (يورغن روست) و(كارل مارتن سينيجارف) (تولد 1971 تالين) تحت عنوان (الهايكوالإستوني). وله أيضا عدة مجموعات شعرية. أما (سينيجاريف) فهو خريج جامعة (تارتو)، ويحمل شهادة في فقه اللغة الإستونية. كتب الشعر في سن مبكرة، ونشر مجموعته الشعرية الأولى وهو في ال (17) من العمر. ساهم في مجموعات شعرية مشتركة. أصدر مع الصحفي (يوري بينو) رواية موجهة للأولاد. كان رئيسا لاتحاد الكتاب في إستونيا للفترة (2007 – 2016).

ومن شعراء الهايكو أيضا (يوري تالفيت)، وهو أديب وأكاديمي معروف، ولد عام 1945 (بارنو). حاصل على شهادة في فقه اللغة الإنكليزية من جامعة (بارنو)، وعلى شهادة الدكتوراه حول الرواية الاسبانية. رئيس تحرير مجلة (الدراسات الأدبية الدولية). ترجم من الاسبانية إلى الإستونية ل (كيفيدو، كالديرون، ر. غوميز دي لا سيرنا) ول (غارسيا ماركيز، فارغاس يوسا وغيرهما) من أمريكا اللاتينية. ترجم إلى اللغة الإنكليزية للشاعر الإستوني الكبير (يوهان ليف) بالاشتراك مع الشاعر المعروف (هارفي ل. هيكس). 

 وفي عام 2011 نظمت أول مسابقة للهايكو باللغة اللإستونية على هامش معرض (هلسنكي) للكتاب الذي أقيم خلال الفترة (27 – 30 تشرين الأول). وكان لإستونيا مركز الصدارة في المعرض المذكور حيث شهد عرض مجموعة واسعة من الاعمال الأدبية والثقافية والفنية والعلمية الإستونية. مع حضور واسع للشخصيات الأدبية والفنية الإستونية الكبيرة.

نماذج من الهايكو الإستوني (مترجمة عن الإنكليزية):

1

- أندريس إيهين  

غيوم بيضاء صوفية الشكل

تغدو أكثر بياضا

بعد أن حلقت البجعات بجانبها

*

في الحقل الذي أزهر فيه الخشخاش

نقيض العقبان

خريف وشيك

*

مستلهمة من أغنية العندليب

شرعت الضفادع تغني منقنقة

بحيوية بالغة

2

– أرفو ميتس

رياح عاصفة

نحن في قلب عاصفة ثلجية ذهبية اللون

أوراق الشجر الصفراء المتساقطة

***

بنيامين يوخنا دانيال

...........................

1 – Dr. Kati Lindstrom، A broad Perspective on Estonian haiku as compared to its Japanese origins. https: // www. researchgate. net

2 – A History of Haiku in Bosnia – Herzegovina، Estonia and Macedonia. www. thehaikufoundation. org

3 – Estonia haiku. https: // en. Wikipedia. org

4 – Ilse Lehiste، The Phonetic realization of the haiku from in Estonian poetry، compared to Japanese. https: // www. degruyer. com

5 – Kati Lindstrom، Author، landscape and communication in Estonian haiku. https: // philpapers. org

6 – Juri Tavet. https: // estlit. ee

7 – Karl Martin Sinijarv. https: // www. estonianliteraturecenre. ee

8 – Arvo Mets. Wikipedia. https: // Wikipedia.org

السياق الموقفي ومونتاج الوحدات السياقية، الفصل الأول، المبحث (3)

توطئة: قد نفهم إفتراضا بأن مؤشرات رواية (حياة الكاتب السرية) للكاتب الفرنسي هيوم ميسو، ذات وحدات تختلف عن مستويات البناء الروائي التقليدي، وقد يخص هذا المجال من اختلاف طبيعة مؤثثات الرواية، في كونها تمارس نشاطا حيويا بمحتوى تقانة الوحدات واللقطات والمشاهد العامة والخاصة، تندرا حاسما بجملة أوجه توافقات (المونتاج السينمائي-،السياق الوحداتي المبئر- التشكيل الموقفي المترابط) إشباعا للنص وآلياته بذلك المحتمل من التماسك والترابط اللذان يوفران ذروة خاصة ومخصوصة من مسافة وحجم ظرفية الأنتقالات الزمنية والمكانية والشخوصية الصاعدة تبئيرا بجملة مفترضات تكثيفية لأحداث الزمن الروائي.

- النص الروائي وتراتيبية الاجتزاء اللقطاتي:

يمتد السرد في بنيات فصول الرواية الى ذلك النوع من الاستباق الداخلي (التكميلي - الاستقرائي) بلوغا بهما الى شواهد مونتاجية امتهنت حضور المحاور الشخوصية بصور الإشارات الاستباقية التي بات يقدمها السرد في محمول الأحداث المحكية، كطبيعة تبلغ ذروتها الى غايات مكشوفة ومضمرة بالشد المونتاجي المحصل من خلال حقيقة الاحوال السياقية الجارية على مستوى السرد المتصل:  (كان القلق الشديد يتأكل ناثان فاولز من الداخل ./ص52الرواية) نجد هنا أن محتوى اللقطة حلت في ما يشبه العنصر التأشيري -السياقي، الذي يشكل بذاته حراكا داخليا يفيد زمن حصول (اللقطة المتوسطة) توافقا بالناتج الإحساسي الذي يشتمل عليه محور الشخصية، وهو بوصفه الوقع الاولي في وحدة المحتوى لوحدة محمول النص التأشيرية بوجوب خضوع طبيعة اللقطة الى حالة تمظهرية تمظهرا مرتبطا بجملة هواجس داخلية أو خارجية، ولكنها في الآن نفسه تؤشر بذاتها نحو إنطلاقة سياقية مشروطة بوازعات معادلية ذاتية لا يمكنها تجاوز محتوى الحجم  اللقطاتي في الحال التمثيلي: (كان يجلس في كنبه ويرفع قدمه اليمنى المثبته بالجص على مقعد منخفض .. كان مشوش لتفكير- فكلبه برونكو، الكائن الوحيد الذي يهمه وجوده على هذه الأرض./ص52،الرواية)

1- السياق الإشاري وبنية التركيز الاستباقي: 

لعل من الصعوبة الدارجة في الكتابة الروائية، إنشاء جملة ما خارج مقصدية الرابطة الإتصالية في محددات (السياق -الرسالة- المرسل - قناة الاتصال - شيفرة تولد إرسالي) ومن هنا لعلنا في حالة المحور الشخوصي التمثل بوظيفة اللقطة، جعلنا نعاين حساسية جملة الوحدة السابقة (الكائن لوحيد الذي يهمه وجوده على هذه الأرض) بما يشكل المعنى القار بأن المحورالشخوصي على اهلية كفاءية تامة في عدم توافر الانموذج الذي يعنيه تماما كعلاقة حميمة مع اي نوع بشري اخر، سوى ذلك الكلب الذي هو خارج مؤشرات حقيقة محاور الرواية الفعلية والعضوية، ولكن المؤلف ميسو إراد من وراء ذلك إظهار كون ناثان هو بذاته شخصية تدعي لذاتها مهجورية الصلات والأواصر مع كل ما هو خارج حدود قلعته الحصينه، لذا فهذه الأمر بذاته هو من الاختزال في حق حكاية ناثان وهو يمارس مع نفسه حياة عدوانية القالب والقبول، إذ تحكمها من جهة ما محنة انتكاسية ونفسية مريرة والضيق صدرا بالاخر المجتمعي (في الليلة السابقة اتصل ناثان بجاسر فان ويك وكيله الادبي من نيويورك، وصلة الوصل الاساسية التي تربطه بالعالم الخارجي /ص52،الرواية) هاهنا نتعرف على أهمية هذه الحدة التأشيرية الواردة في النص، ما راح يعزز من خلالها اعتقادنا بأن ناثان ذو طوية عزلوية تدعوا الى الريبة والشك، وأحيانا الى الاقرار بالسؤال المطروح هنا:  ما الذي يجعل من هذا الكاتب الشهير يقع بصورة فجائية فريسة الى حياة عدمية متقلبة في المزاج ورصانة النفس والمتروكية الكاملة لممارسة عوالمه الكتابية التي لا غنى للكاتب دونها؟  ألربما يكون مريضا أو مستاءا من جراء حدوث حالة مستعصية على وضعه التفسي، وبخاصة جانبه العضوي من أوضاع سلامة جسده، أو لربما هو مأزوما في ذاته بطريقة يصعب علينا تحصيل مفادها القضوي بدءا في حيثيات الرواية الاولى في استلالاتها الاولية؟

معنى ذلك أن المحور ناثان فاولز عبارة عن فرضية في حالاته المتشعبة في الانتاج الدلائلي، اي بوصفه  مصدرا مرجحا حول حياته ومجمل حالاته المعروفة في النص، لكنه بذاته يشكل إنتاج حالة سياقية تتمثل في كونها دليلا على أوجه سننية ما نخترق الواقع الحاصل في مجريات النص، تلقيا محيرا معقدا في أدلة أحواله التحيينية: (أيقظ رنين الهاتف الجداري فاولز من سباته. لم يكن الروائي يملك هاتفا محمولا أو بريدا إلكترونيا أو حاسوبا./ص٥٣ الرواية) كما وضحت بادئ ذي بدء المقدمات الروائية الخاصة بشخصية ناثان - قد لا يستنتج من خلالها سوى جملة أشكال دينامية مفترضة- قد لا تقدم بدورها للواقع النصي سوى تصورات وتكهنات مؤشرية تدعو الى الاعتقاد في كون هذه الشخصية تعاني من حالات ذهانية قد يجوز ان تكون بسبب كونه كاتبا مرموقا، أو أنه يجاهد بضع حالات نرجسية احدثتها نجوميته الادبية في مرحلة مبكرة من انتاجه الروائي. ولكن هل ياترى بالامكان القول بأنه يكابد حالات خاصة ن مهزومية الكاتب من انتاجه الروائي القادم، لا شك في ذلك، بخاصة وأن اغلب الكتاب يعيشون مراحل متحفظه من نصوصهم المستقبليه والخوف والقلق منها إن لم تكن في المستوى المطلوب وفقا لحصيلة رواياتهم القديمة . لعلنا ونحن نطالع طبيعة التركيبة في حياة ناثان فاولز، لاحظنا ثمة حالة انتقالية في الاحداث الروائية التي تخص وضعه كمحورا فاعلا، فإذا افترضنا ذلك فما نوع هذه الانتقالات السردية التي تضمرها لنا تمثيلات شخصية مأزومة على نحو ما من حالات الخصوصية الموضوعية التي تعرفنا إياها مدارات الاحداث الصاعدة بالنمو السردي والتبئيري، إذا انها جاءت على هيئة (تزاحم إشارات- علامات) إستكمالا لتداخل حدود سردية جعلت توضحها حالات إنتاجية خاصة بالوحدات الموازية من علاقات المواقع المحورية في الواقع النصي.

2- آليات المستنتج في عين الإنتاج التصادفي:

علمنا أن سيرورة الاستدلال قد تأتي غالبا، أما عن طريق المنتج التتابعي وناتجه القابل بالضرورة لكل امكانيات الإمتداد الدلالي المرتبط بنوعيات الحدوث المشيد، أو من خلال دمج سمة دلالية تصادفية ملموسة في أوجه مؤشر قضوي، يحرض على المنتج سببا من جهة الاحاطة وقيد التفعيل للنواة النصية. قلنا علمنا سلفا من خلال حكاية الاحداث بأن: (كان فاولز يتنقل متكئا على عكازيه، ويدور حول نفسه كأسد محتجز في قفص، كما كان يتناول مضادات التخثر لتجنب الإصابة بجلطة - لم يكن يجيب قط على الاتصالات التي ترده، بل كان يترك المجيب الآلي في الطابق العلوي يتولى المهمة ./ص53 الرواية) ما معنى هذه الوحدات من اللقطة أو المشهد ؟ أو بالاحرى هل لها معنى ما يختص بأختفاء الكلب دالا في جهة ما من اهتمامات المحور الشخوصي ؟ . قد تكون الإجابة عنها، في حكم كونها سياقية مع غيرها من اللقطات، بخاصة ما يتعلق وجانب الخاص من حياة فاولز ومدى الصدمة التي اعتاشها من خلال غياب كلبه، ولكن هل هذا كل ما يعنيه الامر في شأن ورود مثل هذه السياقات، كحالات (يدور حول نفسه - يتناول مضادات التخثر - لم يكن يجيب قط على الاتصالات - المجيب الآلي يتولى المهمات) لا شك أن هذه المؤشرات تمتلك أدلتها السياقية، كذلك تمتلك علاماتها الفعلية بالنسبة لحقيقة الدليل التحققي في حالات المحور الشخوصي المركزي -دليلا مضمرا- وبوصفه علاقة ضرورية ترتبط بموضوعة علامات الحكي . أقول أن عملية المجاورة في سنن الأدلة السياقية اللاحقة والسابقة ما هي الإ عملية العثور على: (-لدي خبر سار لك ياناثان:  لقد وجدنا برونكو؟) هذا بدوره ما راح يعزز صلات الاعمال المهملة من قبل المحور في عدم ردوده على الإتصالات، ناهيك عن كونه لم يكن مهتما اعتبارا بوسائل الهواتف اصلا، وحتى قبل حادثة ضياع الكلب. إذن الانساق الاولية للتواصل هي اساسا لم تكن مرحبا بها في مجال اهتمامات فاولز، ذلك ما يرشح حقيقة مهجورية المحور للزمن والمكان والشخوص الخارج حدود قلعته . لعل ما اثار اهتمامنا بطريقة غير مألوفة هو: (أين عثر عليه؟ رأته امرأ ة شابة على الطريق بالقرب من شبه جزيرة صوفيا واقتادته الى إدز كورنر؟ . شعر ناثان بانها مكيدة مدبرة . كانت شبه الجزيرة تقع في الطريق الآخر من بومون؟ ماذا لو كانت هذه المرأة قد خطفت كلبه لكي تتمكن من الوصول إليه؟) تأتي مجموعة هذه الاسئلة الحوارية الدائرة بين ناثان ووكيله الأدبي في مرتبة المؤول المباشر، وترتبط من جهة ما بذلك المفعول المضمر لدخيلة ناثان المنتج لكل هذه المؤولات، ولذلك لا تخلو هذه الاسئلة من التفعيل النواتي في ربط الوقائع بالاسباب، بل لربما هي تمثيلات إنتاجية تبريرية تتطلب ربطا محايثا لكافة التحيينات والمعطيات المخمنة، بخاصة وان هناك حادثة قد يحصيها ناثان بوصفها تجربة اخفاقية منتحلة من قبل تلك الصحافية التي تمكنت من فتح محاورة مع ناثان في مطلع الثمانينات، اي كمحادثة خارج حدود الاضواء والاصداء الاعلامية، فكشفت هذه الصحافية عن تفاصيل دقيقة ومؤثرة كان فاولز يعدها ضمن هتك الاسرار والخصوصيات الشخصية له، وما حدث إن تم تحويل تلك المحادثة الى مقال حواري قامت بنشره تلك الصحافية في إحدى الصحف الأمريكية، وهذه الامر بدوره ما آثار حفيظت ناثان ومنذ يومها غدا مكرها للعناصر العاملة في الصحافة، خصوصا انه كان يؤثر لذاته حياتا سرية في حصن قلعته المنيعة: (- من هذه المرأة بالضبط ؟ - ما تيلد موني، انها سويسرية قصدت الجزيرة في إجازة ..إستأجرت غرفة في النزل بالقرب من دير راهبات البيند يكتين، وهي صحافية في صحيفة - لوتان-) لا شك أن العوامل السردية تشتغل في مساحة الحوار إستباقا وإقترانا لا يفارقان تلك الخيوط الصاعدة في منظومة الحبكة، ولو في حدود ممكنة من المقاربة والكشف المعقد . إذن من الحكمة ألا يبد ناثان ظهورا امام واجهات وناصيات الإعلام وذباب الصحافة، ولكن لماذا كل هذه التحفظات ؟ أهو الغرور المفرط؟ أو هو القلق من المطالبة بكتابة رواية جديدة؟ أم أن هناك حالة مضمرة تشي بعقدة ناثان الملغزة، وهل فعلا ان ناثان مصابا بقهرية الخوف من الكتابة. ولنتذكر قيلا مما قاله فاولز سابقا عشية ذلك اللقاء الاول مع رفاييل في ضيعة منزل ناثان: (حياة الكاتب هي الشيء الاقل روعة في العالم، تنهد فاولز ..أنت تعيش كالأحياء الاموات، وحيدا منقطعا عن العالم  تبقى في ثوب النوم طوال النهار وتؤذي عينيك مسمرا أمام الشاشة وأنت تتناول البيتزا الباردة./ص47 الرواية) قد يشكل مثل هذه الاعتراف من فاولز نفسه الى رفاييل حالة فرارية من  مشروع حياة المؤلف، لذا بدت إجوبته شاذه من نوعها النادر، وقد يجعلنا مثل الامر الاعتقاد بأن فاولز يتجشم عبء عقدة مضمرة في إحدى مستويات حياته الصراعية مع اسراره ومبرراته اللامقنعة تماما، ولكننا على أية حال لا نريد أن نعلم مستوى  الانتكاسة في تفاصيل حياته الشخصية، بقدر ما نحاول التعرف بدرجة ما من الوضوح ومعرفة ما سبب درجة الانقلاب في حياته الثقافية والأدبية . لعل الروائي الفرنسي غيوم ميسو أربك القارئ في سلم توقعاته نوعا ما، بخاصة وأن مستوى انسحاب شخصية الكاتب من  عالمه التأليفي لا تحدث بصورة فجائية، دون مقدمات وتجليات تمهيدية معروفة في رحلة مبررة في الانسلاخ عن دلالات ذلك العزوف الغرائبي . ما بين عناية رفاييل بمستوى كونه ذلك المكتبي الناشط في بيع المزيد من الروايات عبر مشغله لدى أودبير: (إنها الظهيرة بعد جدال دام عشرين دقيقة، نمكنت من بيع نسخة من كتاب الياباني تانيغوتشي، فابتسمت، والحال انه وفي أقل من شهر تمكنت من تغيير المكتبة - لابد لي هنا من الاعتراف بأن المكتبي كان له الفضل بذلك لأنه منحني الحرية المطلقة، كان يدعني وشأني في المكتبة التي لم يكن يتردد إليها إلا نادرا، كما انه لم يكن يخرج من شقته في الطابق الأول سوى ليذهب ويشرب بعض كؤوس خمر في الساحة ./ص55 الرواية)

لعل هناك معطيات غريبة بدت مشتركة بين ثنائية الشخصيتين (فاولز - أوديبير) فالشخصيتين تشكلان حالة متقاربة نسبيا في مجلى الملغز والمرمز وبعض الاطوار النفسانية التي تترتب من حيث موقع الطابع والهيئة، وكأن هناك خيطا ما يتجاذب الطرفين من بعيد.ففاولز مشحون بصبغة غرائبية تقارب طبع ما عليه حال أوديبير من حيث كونه شخصية منزوعة من شروطها التي تستوجب أن يكون عليه حالها، في حين يربط رفاييل بين الطرفين كحلقة وصل وكعلاقة تتم في حدود مبهمة لا يسمح سياقنا الحالي الكشف عنها إلا في حدود ظرفها الموضوعي الخاص من زمن الرواية .

- المؤلف المفترض لسيرة فاولز السرية:

لا شك أن طبيعة المنظور السردي في رواية (حياة الكاتب السرية) تشكل حدا متناوبا عبر تشكلات من أشكال وثنائية (الراوي- الشاهد) فالروائي ميسو قام بتحديث اللالية الحدثية عبر جملة تقديمين مختلفين، الأول منهما (بانورامي؟) ذو وظيفة تصويرية يتكئ على (العرض الذاتي للمسرود- المسرود الذاتي للموضوعة) والاخر أضحى مشهدي ذو صفة حوارية، وقد عزز ميسو هاتين الطريقتين بتقنيات (سياقية:  يوميات-مذكرات- حوادث قتل - معطيات ووقائع متواترة) وتبرز عناية الروائي غيوم ميسو بالوحدات السردية الأكثر ملازمة الى فضاءات وأزمنة قابلة للتفتيت والتشظي، وهذا ما جعل الخطاب في الرواية كمقاربة متوارية ومضمرة لأحوال حكاية (المؤلف المفترض؟) الذي هو ذاته تماهيا بين (المؤلف الحقيقي + المؤلف المفترض) حيث تظهر لنا ثمة وحدات تؤشر لذاتها قناعة خاصة في كون الشخصية رفاييل هو من يكتب الرواية حينا، ومن جهة اخرى يطل لنا صوت المؤلف المركزي حينا ليقول: (لم أحرز اي تقدم يذكر في مشروعي حول لغز ناثان فاولز الذي اطلقت عليه اسم حياة الكاتب السرية).

1- الفضاء الخارجي ومسافة الفرادة في الموصوف: 

تتمحور عبر دلالات (الفضاء الخارجي) تلك المتعلقات المرتكزه في (الواقع- الوقائع) لتتجلى منهما علاقة حيادية بين الذات الساردة التي تحكي بضمير الأنا العليم وتصف بلغة محايدة. فالذات الشخوصية المتمثلة ب(رفاييل) بدت متعاطفة ومغامرة مع دوافع احداث الجزيرة، فيما نجد طبيعة الملفوظات راحت تكتسب ابعادا وصفية بالغة، مستهدفا بذلك الرصد الٱخباري لمجريات الوقائع اليومية: (بدا المكتبي قلقا .. منذ عشر دقائق، انتشرت إشاعة لا تصدق في الساحة .. أكتشف متنزهان هولنديان جثة على شاطئ تريستانا بيتش، وهو الشاطئ الوحيد على الساحل الجنوبي الغربي للجزيرة .. المكان خلاب ولكنه خطير، ففي العام ١1990 قتل مراهقان كانا يلعبان من المنحدرات، كان حادثا مروعا صدم سكان الجزيرة وهو مشاعرهم /.ص57 الرواية)

- تعليق القراءة: 

لعل دور السياق في معنى الوحدات السردية لها ذلك الترابط والتماسك عبر تفعيل عاملي (حكاية- علاقة- دلالة) وإذا قمنا بتقصي زمن ومكان الوحدات في الاجزاء الروائية، لوجدنا كونها عبارة عن (سياق موقفي- تراتيبية سياق) إقترانا بذلك الادراك الوقائعي الذي غدا يؤسسس دلالات تتجاوب وتتلاحم مع نمو تزامن الترابط والتماسك في موضوعة الرواية ومشخصاتها وأوصافها الاكثر تحولا في زمنية اللقطات والمشاهد وتراتب الموصولات التشاكلية والتمثيلية في روح المعطيات المضمنة والضمتية والاكثر إيغالا في إجرائية التحفظ في الموارد والمصادر المخصوصة في حجب مواقع التفاصيل الروائية.

***

حيدر عبدالرضا – ناقد وكاتب عراقي

بقلم: بي بي غرانت

ترجمة محمد عبد الكريم يوسف

***

تتحدد كل شخصية تقريبا في رواية لوليتا من خلال ميولها الجنسية، ولكن نادرا ما تشارك أي شخصية في أنشطة جنسية تقليدية. إن ميل هومبرت الجنسي إلى الأطفال يمنعه من إقامة علاقات جنسية مناسبة مع النساء؛ ولوليتا، باعتبارها موضوع شهوته، غير قادرة على استكشاف ميولها الجنسية بشكل طبيعي وتختار شريكها الجنسي التالي بشكل سيئ، فتقع في حب كويلتي، وهو متحرش آخر بالأطفال ومصور إباحي أيضا. إن قصتهما ليست سعيدة: إذ يُقتَل كويلتي؛ ويُسجن قاتله؛ وتنتهي ضحيتهما بالزواج والحمل في سن السابعة عشرة، ثم تموت أثناء الولادة. ومن خلال تقديم معرض غير طبيعي للشخصيات وقصة تنتهي بمثل هذه النغمة القاتمة العقيمة، يبدو أن نابوكوف يوحي بشيء ما حول طبيعة الجنس والمسؤولية الأخلاقية.

ويتتبع هومبرت مصدر ميله الجنسي إلى الأطفال إلى "قصة حب غير مكتملة في مرحلة الطفولة" مع "الطفلة الأولى"، آنا بيل لي. وبالتالي، فهو يقع في أسر الحوريات، اللواتي يغرين الفتيات جنسيا "بين سن التاسعة والرابعة عشرة". وهذا يجعله غير قادر على إقامة علاقات جنسية طبيعية مع النساء البالغات؛ وأي متعة يحصل عليها تعتمد على مدى تشابههن بالفتيات الصغيرات. وتستميله مونيك لأن "جسدها الصغير... لا يزال يحتفظ بشيء من الطفولة"؛ وينجذب إلى فاليريا بسبب "تقليدها لفتاة صغيرة"؛ ومن أجل ممارسة الجنس مع شارلوت، "يستحضر الطفلة بينما يداعب الأم"؛ وبعد أن تتركه لوليتا، يواعد ريتا، التي تتمتع بجسد "ما قبل البلوغ". ومن خلال اشتهائه للفتيات الصغيرات، ينتهك همبرت أحد أقوى المحرمات في المجتمع الغربي، لذا فهو يحاول إثبات أن هذه المحرمات نسبية. كما يحاول إعادة تعريف مفهوم ما يعنيه أن تكون "طبيعيا" جنسيا وقلب الصورة التقليدية للمتحرشين بالأطفال، بحجة أن "أغلبية مرتكبي الجرائم الجنسية... "إنهم غير مؤذيين، وغير مؤهلين، وسلبيين، وخجولين". في الواقع، إنه لا ينتمي إلى أي من هذه الصفات. ومشاعره تجاه لوليتا مشكوك فيها أيضا. قد يزعم أنه "غير مهتم بما يسمى "الجنس" على الإطلاق" وأن الانجذاب الذي يشعر به تجاهها يتجاوز مثل هذا الابتذال، لكن الجملة الأولى في الرواية تشير إلى أن الجوانب الجنسية لهوسه مهمة بقدر أهمية الجوانب العاطفية: لوليتا ليست فقط "نور حياته"، بل هي أيضا "نار خاصرته" - أي مصدر إثارته الجنسية.

تتضمن أول تجربة للوليتا مع الجماع شخصا في فئتها العمرية: تشارلي هولمز البالغ من العمر 13 عاما. على الرغم من أنه يتمتع "بقدر من الجاذبية الجنسية مثل الجزر النيئ"، إلا أنها تجده "ممتعا نوعا ما".

لا يمكن قول الشيء نفسه عن علاقتها الجنسية مع همبرت، الذي يبلغ من العمر 37 عاما عندما التقيا: حتى لو بدأت الجماع، كما يدعي همبرت، فإن مشاعرها تتحول بمرور الوقت من "الفضول المتهور" إلى "الاشمئزاز الممتع" إلى "الاشمئزاز الصريح"؛ في الواقع، ردا على افتقارها المعتاد للاستجابة، أطلق عليها همبرت لقب "الفتاة التي لا تقاوم". "الأميرة الباردة".

في البداية، يواجه همبرت صعوبة في إقناع لوليتا بممارسة الجنس، ولكن بمجرد أن تبدأ في إدراك مدى قوتها عليه، تبدأ في ممارسة البغاء من أجل كسب مصروف الجيب. كما تستخدم الجنس كشكل من أشكال التهديد: عندما تتجادل مع همبرت، قالت إنها ستنام مع أول شخص يطلب منها ذلك. سرعان ما ينفصل الجنس عن الشعور بلوليتا، ومن المزعج كيف تصبح غير مبالية بهذا الأمر. ومن عجيب المفارقات أن مديرة المدرسة برات تعتقد أن لوليتا "غير مهتمة بشكل مرضي بالمسائل الجنسية": الحقيقة هي أن نموها الجنسي تضرر بشكل لا يمكن إصلاحه بسبب علاقتها بهومبرت. في الارتباط بكويلتي، تعتقد أن ظروفها ستتحسن، لكن كويلتي لديه تعاطف أقل من همبرت، ويطردها عندما ترفض التمثيل في أحد أفلامه الإباحية.

إن كويلتي يلعب دور بطل لوليتا، الذي "أنقذها من منحرف وحشي"، ولكنه ليس أفضل منه، لأنه هو أيضا يعاملها كشيء جنسي. ومثله كمثل همبرت، فإن كويلتي "مجنون تماما في الأمور الجنسية"، ولكن حقيقة كونه "عاجزا تقريبا" تعني ضمنا أن الجنس بالنسبة له رياضة عقيمة وتلصصية.

ولهذا السبب، يعتقد بعض القراء أنه يجسد الجانب المنحط من همبرت (وحش بلا ضمير)، ويزعمون أنه عندما يقتل همبرت كويلتي، فإنه يدمر رمزيا ذاته الشريرة.

ومع ذلك، فإن كلا الرجلين لا يمكن إصلاحه. ففي لقائهما الأخير، عندما سأل همبرت لوليتا عن الأفعال الجنسية التي حاول كويلتي إقناعها بالمشاركة فيها، كانت إجابتها غامضة: "أشياء غريبة وقذرة ومبتكرة". وقد ضغط عليها للحصول على إجابة دقيقة، لكنها "رفضت الخوض في التفاصيل مع ذلك الطفل داخلها". إن ترددها يعكس رغبتها في حماية نقاء طفلها الذي لم يولد بعد: إن مجرد الحديث عن هذه الأفعال القذرة من شأنه أن ينال من براءته. وكما اتضح، فإن طفلها يموت معها أثناء الولادة، وهو رمز مؤثر لكيفية إعاقة براءة لوليتا ونموها بسبب هوس همبرت الجنسي. ويبدو أن هذا يشير إلى أن ممارسة الجنس بدون حب، وبدون الشعور بالأخلاق والمسؤولية، كما يعترف همبرت أخيرا، ليست ممارسة جنسية.

***

....................

المصدر:

Encyclopedia of Themes in Literature, Copyright © 2011 by Jennifer McClinton-Temple, Facts On File, Inc.,  SEX AND SEXUALITY in Lolita P. B. Grant p 817

كوميديا سوداء في سيرة فوتوغرافي

يفاجئنا الروائي العراقي أزهر جرجيس في روايته "حجر السعادة" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية عام 2023، بمحاولة اغتيال  فوتوغرافي مغمور، لكنَّ المحاولة لم تتمْ،  كما يهجس القارئ، بدليل أنَّ الراوي، يُظهر أنَّ كل شيءٍ على ما يرام بعد طلوع النهار، فهل هو كابوسٌ له خلفيات معينة، في سيرة حياة الراوي المشارك والشخصية الرئيسة في الرواية "كمال"، حيث يبدو لمن يكمل قراءتها بأنها سيرة حياة  فوتوغرافي منذ طفولته ولغاية شيخوخته، وفيها تسليط أضواءٍ على الحياة العراقية خلال سني عمر بطل الرواية منذ خمسينيات القرن الماضي ولغاية أواخر العقد الثاني من قرننا الحالي.

قسّم جرجيس روايته إلى فصولٍ قصيرة، ولذلك بلغ عددها 32 فصلاً، كلُّ فصلٍ له عنوان، مستمدٌّ من الحدث الرئيس فيه. نعتقد أنَّ قِصَر الفصول في رواية يبلغ عدد صفحاتها 314 من القطع المتوسط، يمنح القارئ تشويقاً، لكي يعرف ما يحدث في الفصل التالي، زدْ على أنّها استراحةٌ قصيرةٌ للقارئ، كي يتأمّل ما حدث في كلّ فصل، وخلق ارتباطاتٍ في مسلسل الأحداث بحسب الرؤية القرائية لكلِّ قارئ.

عودةٌ إلى البدايات

يعود كمال عبر "الفلاش باك" إلى طفولته في حارة الميّاسة في مدينة الموصل، عندما كان عمره ثمانية أعوام، يروي معاناته، بين أب ٍقاسٍ وعاطلٍ وخمّار، وزوجة أبِ لا تعامله بالحسنى كما تعامل أخاه الصغير، فهو ابنها، بينما هو وأخته جانيت من زوجة أبيهما السابقة، أي والدتهما. جانيت تعمل على حياكة (ليف) الحمّام وصنع مكانس القش، وتذهب الزوجة ومعها كمال الذي يحمل البضاعة، فتبيعها لتشتري بها متطلبات البيت، لكنها تستكثر على كمال شراء قطعة (زلابية)، فيضطر إلى سرقتها ، لكن الزوجة الماكرة تفضح ذلك الأمر عند أبيه، الذي يعذّبه بقسوةٍ شديدة، ويحرّم عليه دخول البيت، فيضطرَّ إلى المضي بعيداً، إلى ما يسمّى خرافةً (بستان الجن). ويتكرَّر هروبه من البيت، المرة الثانية، يفلح في الفرار إلى بغداد، عندما اتّهم بإغراق أخيه في النهر.

قبل هروبه النهائي إلى بغداد، لجأ إلى البستان، فعثر بين العشب، حيث جلس، على حجرٍ أزرق  لامع مثقوب، وهنا تأمّل فيه أن يكون حجر نجاته من كل ما هو فيه، وفي سياق الأحداث أفاده الحجر، في حالتين، استعادة النطق، وإزالة التأتاة نتيجة  إحدى حالات التعنيف القاسية من قبل أبيه، والحالة الثانية استعادة الهدوء الداخلي، بعد حالات التوتر التي لا تُعدُّ ولا تحصى، من تلك التي مرّ بها كمال في حياته، تتمُّ الحالتان، بعد أن يلتقم فم كمال الحجر من جميع جوانبه، وبعد شعوره بزوال الحالة الشاذّة، خَلُص إلى أنَّ هذا الحجر، سيعيد إليه السعادة الداخلية، ومن هنا سمّى جرجيس روايته "حجر السعادة"، ولذا علّقه كمال في رقبته كتعويذة.

ومن هنا نستنتج استثمار جرجيس في روايته  للميثولوجيا، وكأنّ المصائب والتعاسات التي مرّ فيها بطل الرواية، لا تُزاح إلاّ بمعجزات .

ملاذ الفوتوغراف

عشق كمال للتصوير، هو الذي جعل حياته تستمرّ في بغداد، حين يتعرّف على المصوّر خليل، صاحب استوديو  في شارع الرشيد وسط بغداد، وقبلها كان يعيش حياة تسكعٍ ينخر جسده الجوع، ممتهناً أعمالاً مختلفة، بين لصوصيةٍ أًرغم عليها مقابل إيوائه وإطعامه من قبل رجل يدّعي التديّن، كما عمل عتّالاً وصباغ أحذية. يجد كمال نفسه في مستشفى بعد أن طعنه متشرّدٌ مجنون، في خاصرته، أجريت له عملية رفع كلية، وبما أنّه بلا مأوى، يؤويه العم خليل في بيته، ومن ثمّ في شقة  أعلى الاستوديو، وأهدى له كاميرا، فانطلق يمارس التصوير، وهو سعيدٌ بتطورات حياته الجديدة، كما أصبح له صديقٌ في مثل سنّه يعمل في مطبعة، بعد أن يموت العم خليل تأثراً بوفاة زوجته، التي يُحب، ترك وصيةً له عند صديقه فوزي المطبعجي، مالك مطبعة السلام، والد حبيبته نادية، الذي رفض هو وزوجته، اقتران ابنتهما به، فيزوجانها لابن عمها رجل الأعمال المقيم بين بغداد ولندن. الوصية وثيقةٌ دامغةٌ على أنّ كمال أصبح المالك الشرعي للاستوديو. فأصبحتْ له ملكية خاصة به.

هذه هي  أيام كمال، تمضي بين مدٍّ وجزر، بين أيام سعادةٍ، وأيام بؤس، وكذلك نحن العراقيين عامة، والبشرية جمعاء، هي رواية إنسانية، تمثلنا، حين يغدو العيش بكرامة، الهدف الرئيس، نتيجةً لكلّ ما قد  يقاسيه الناس، وليس كمال وحده، من ذل.

حروب.. حروب

باشتعال لهيب الحرب العراقية – الإيرانية، يكون كمال قد بلغ سن السادسة والعشرين، يروي كمال أجواء الحرب حينذاك، وللمفارقة أنه شكر المشرّد حيث كان السبب، في رفع إحدى كليتيه وإعفائه من الخدمة العسكرية.

كما يروي كمال بسخريةٍ سوداء ما جرى في أثناء الاحتلال الاميركي للعراق 2003، كان يتابع الأخبار وهو رابضٌ في البيت، الذي انتقل إليه في منتصف التسعينيات، بعد الفوضى التي سادت شارع الرشيد آنذاك، إذ أصبح غير قابلٍ للسكن، البيت يقع في محلةٍ شعبيةٍ في أطراف بغداد، لكنه شاهد صورةً مصغرةً عن أحداث النهب والسلب في ذلك العام، بطلها جاره "طزّون"، وكان في العهد البائد لصاً وقاتلاً. إذ جاء بسيارة حمل فيها مواد منهوبة، قبض عليها في اليوم التالي مبلغاً كبيراً، وحدث أن اختفى "طزّون" في اليوم التالي، وبعد فترة من الزمن، ظهر بمظهرٍ مختلفٍ واسمٍ مختلف، ظهر على أنه شخصيةٌ متنفذةٌ له حراسه الشخصيون.

يريد الراوي العليم القول من خلال الحوادث التي يمرّ بها كلَّ يومٍ في بغداد، بأنّ الاستثناء في حياتنا العراقية أصبح قاعدة،  فيصف بغداد في شتاء 2018  بأنها" مدينة الحواجز الأمنية  والاختناقات المرورية. ستشعر وأنت تقود وسط الزحام بأنك قادمٌ من الصين على ظهر ناقةٍ عرجاء": الرواية ص241.  كما حدث أن صدمت سيارة حديثة آخر موديل، سيارته البيجو القديمة، فحدث عراكٌ بينه وبين شابٍ طويلٍ مفتول العضلات، يضع مسدساً في حزامه، فضّهما بعض الحاضرين، لكن الشاب هدّد  كمال بأنه سيقتله حتماً في يومٍ من الأيام.

أحسَّ كمال، بأنَّ العد التنازلي لحياته قد بدأ، وهذا يعطينا إحساساً بأنّ نهاية  أحداث الرواية باتت وشيكة، اعتباراً من الفصل السابع والعشرين، فالأمور  تسير من سيّئٍ إلى أسوأ، كأنما هناك  أيدٍ خفية، تحيك المكائد له. رغم الانحدار السيئ، كان كمال يلتقط كلَّ ما هو إيجابي في الحياة العراقية  ليعزّزَ الأمل بالنفوس :" مرّ أصحاب الستر الخضراء. كانوا يزيحون الأكياس والحجارة عن حواشي الطريق وممرات الصرف الصحي، فتناولتُ الكاميرا وعمدتُ إلى توثيق ما يصنعون": ص 203 .

ظلّ كمال يتأمل متسائلاً: لماذا عليه أن يموت  قتيلاً، وليس موتاً طبيعياً،  مندهشاً بأنَّ الموت الطبيعي على السرير أصبح نادراً . ولكنَّ محاولة اغتياله تمّتْ  بأربع رصاصات، بعد أن كانَت في مطلع الرواية طيفاً أسود. ظنَّ القاتل الماجور بأنه مات، ولكنَّ معجزةً حدثت بنقله سريعاً بسيارة إسعاف إلى المستشفى ومعه نادية، التي غفر لها خذلانها له، فظلَّت تلازمه، وحين تعافى تدريجياً، أخرجته من المستشفى إلى متحف السلام، الذي صودرَ من أبيها أيام العهد المباد، وأعادته بإرادتها الحديدية وكتاباتها بإسمٍ مستعار. قرر كمال بعد معافاته تدريجياً الانتقام، وكانت نادية تثنيه عن ذلك إلاّ أنَّهُ أصر، ولكنّه بعد ليلةٍ حميميةٍ معها، ظلَّ نائماً وحين استيقظ، بدأ يضحك، وحين سألته، قال لها: "- طلع النهار ولم انتقم!":ص316. في الدلالة على أنَّ حبَّ الحياة الجميلة أسمى وأغلى وأجمل من  سلسلةِ الانتقامات التي لن تنتهي.

***

باقر صاحب – أديب وناقد عراقي

 

إن التأمل في بساطة أسلوب رواية الأديب أسامة المسلم "خوف" تدفع القارئ، بعد إنهاء قراءة أجزائها الثلاثة، إلى التأمل باستحضار الهوية الحضارية ما بين دول العالم المتقدم بشقيه الغربي (أمريكا وأوروبا) والشرقي (روسيا والصين) والعالمين العربي والمغاربي.

لقد ترسخ عند الأفراد والجماعات في العالم الأول تاريخ الفكر الفلسفي وتطوراته عبر العصور، بحيث برزت في العصر الحديث الأدوار الريادية للتاريخانية في تنوير الشعوب وحسم تفوقها العالمي. لقد توفرت كل الشروط الثقافية والمعرفية التي مكنت شعوب هذه الدول من خلق القطيعة المنشودة النافعة مع ظلمات الماضي خلال القرنين 15 و 16، ليتم خلال القرنين 17 و 18 إعلان النجاح الغربي في المرور إلى الأنسنة وتحويل الإنسان إلى مركز الكون، وترسيخ الاعتقاد الشعبي بمزايا التنوع الثقافي والانفتاح على ثقافات الآخر.

أما في عالمنا العربي والمغاربي (الثاني)، كان موعد إصابته بداء فقدان القدرة على جعل الفلسفة والتاريخ والعلم أساس الوجود الحضاري مبكرا، ليصطدم في مطلع الألفية الثالثة بتهديدات النهاية من جهة ورهان استحقاق التموقع كونيا من جهة أخرى. عاش هذا العالم نبوغا فكريا وفلسفيا وعلميا في القرون الأولى الموالية لظهور الإسلام. امتزجت السياسة بالثقافة، وتم تهميش التفكير الفلسفي، وبقيت الشعوب مرتبطة بالميتافيزيقا والسماء تاركة الطبيعة وعلومها للغرب.

تميز القرنان 15 و 16 الميلاديين باشتداد المد الإسلامي وبداية التدخل الأوروبي. لقد شكلت المرحلة امتحانا لقياس موازين القوى في العالم. مر العالم الغربي من مفهوم "الانسان الكائن الثقافي المالك للطبيعة" في وقت استمرت الهوة في الاتساع ما بين الشعوب العربية والمغاربية ومقومات التنوير الثقافي كأساس لطلب الكلمة على مستوى هياكل اتخاذ القرار الكوني.

بطل رواية "خوف" شاب من مواليد السبعينات. عاش طفولته الأولى بأمريكا. تشبع بمآلات ارتباط الفلسفة والتاريخ والحكمة والقوة بدولة العم سام. تشرب بعد ذلك عن طريق الإعلام بمعاني ودلالات إعلان النظام العالمي الجديد من طرف الرئيس بوش الابن. عاد إلى بلاده، وعمره لا يتجاوز سبع سنوات،  فانغمس في عالم غريب لا زالت أوضاعه الثقافية وكـأنها مشابهة للأوضاع بالغرب ما قبل القرن 15. هاجس التكيف مع الأوضاع الجديدة المتخلفة جعله يسرد علينا أحداث ثلاثة أجزاء من روايته جاعلا القارئ يبحر في عوالم الإنس والجن والشياطين. استحضر تاريخ الأمة العربية الإسلامية، وتحدث عن المدونات الشعبية بشقيها النافع والمضر، مبعثا الأمل في نفوس الشباب واليافعين في تحقيق الذات بمنطق جديد. إنه المنطق الذي يفرض الحفاظ على الهوية العقلانية للأمة من خلال الغوص في تحليل وعقلنة التراث، والانفتاح بذكاء وسلمية على تاريخ الحضارات والأمم.

بطل الرواية، الذي اتخذ لنفسه اسم "خوف"، هو نموذج حياة النخب العربية والمغاربية التي استوعبت ارتباطات التنمية بالتنوير والفلسفة والتاريخ والعلوم المختلفة، لكنها وجدت نفسها مقوقعة سياسيا وثقافيا في فضاءات فعل جد ضيقة. وجدت نفسها كذلك مضطرة إلى التعبير أدبيا عن هذا الواقع بالتعاطي للفانتازيا.

***

الحسين بوخرطة

تقديم لرواية الأديب محمد سيف المفتي

1- توطئة: رقصة داكنة.. هي فعلا.. داكنة.. في تحرّكاتها، واهتزازاتها، تمايلها، والتواءاتها، كنت أنتظر الرّقصة منذ الأسطر الأولى، إمّا للرّقص، أو لمعرفة سبب القتامة فيها.. وبقِيتُ طوال الرّواية أترصّد مشهدها بين الأسطر، لكنْ هذه الرّقصة دوّختنا، من خلال السّرد المفصّل، الدّقيق فيها وأسلوبها الفنّي الرّشيق، الجميل، بخبرة واحتراف من كاتبها، فقد كان يأخذنا معه مرّة إلى زمن الماضي..، بكلّ مسافاته، وأخرى يُعيدنا إلى زمن الحاضر شكلا ومضمونا، قلبا وقالبا، يحدّثنا عن حاضره، وحاضر شخصياته التي برع في رسمها وانتقائها ووصفها، من أرشيف ذكريات طفولته، ومن صنع خياله الخصب، فكان يسحبنا تارة إلى داخل الفضاءات المغلقة، الضّيّقة، وتارة أخرى يحملنا إلى عالمه الخارجي والمساحات المفتوحة، الشّاسعة، وأحيانا يُلقي بنا في حضن الحبّ والدّفء والحنان، ومرّات يرمي بنا في زنزانة، أو في الحفر، بين رائحة الموت ومخالب الحقد والتّوحّش وسخرية الأقدار المضحكة المبكية،.. فكنّا نتتبّعه بأسف وشغف، نقتفي أثر إبداعه في رسم الخيال، وكأنّنا نشاهد فيلما سينمائيا طويلا مرعبا..

2- التعريف بالكاتب:

 الأستاذ محمد سيف المفتي كاتب عراقي، - من محافظة الموصل، مقيم بأوسلو النّرويجية منذ قرابة الثّلاثة عقود ( 1997) رجل أعمال سابقا بالعراق من 1991- 1997 - مهندس زراعي خرّيج كليّة الزّراعة في الموصل 1987 - ماجستير الثّروة السّمكيّة من جامعة علوم الحياة في النّرويج 2006. - مترجم معتمد من المعهد العالي في أوسلو 2015 - مشارك في عدّة دورات في مجال حوار الثّقافات من 2000- 2019 - بكالوريوس في التّرجمة الفوريّة من جامعة النّرويج 2022 - مترجم ومحاضر في عدّة منابر محليّة ودوليّة منها وزارة الخارجيّة النّرويجيّة من 2000 إلى 2024 * الاهتمامات : - رئيس منتدى الحضارات 1997- 1999 في Sunndalsøra - عضو في لجنة احتفالات اليوم الوطني النّرويجيّة 1998 - عضو في اللّجنة الخارجيّة لحزب العمّال النّرويجي في البرلمان 2003 - عضو مجلس في بلدية ايدسفولد 2003- 2006 - عضو مجلس بلدية اوبلكورد 2018 - رئيس مجلس إدارة منظمة "كلّنا معا النرويجية" 2017 - رئيس منظمة U-Turn النّرويجيّة 2019- 2024 - عضو في منظّمة قلم النّرويجيّة - عضو في مؤسّسة الكُتّاب النّرويجيبن * مؤلفاته: - الجمال العربية على الثّلوج القطبية. رواية. القاهرة 2007 - ظالمايا. رواية. عمان 2015 - رقصة حالكة أو داكنة. رواية صدرت باللغة النّرويجية سنة 2023 وترجمت إلى العربية سنة 2024 - له مقالات متعددة نشرت في جرائد ومجلات ومواقع إلكترونية عربية ونرويجية.

3- التّقديم المادّي والعام للرّواية:

 وصلتْ إليّ "رقصة داكنة" في نسخة "ب د ف" في أواخر شهر رمضان (مارس) 2024، عن طريق الصّديق الأديب حسن السليفاني المقيم في مدينة دهوك، ولأنّها من الحجم الكبير تعذّر عليّ قراءتها في تلك الأيّام بسبب ضيق الوقت والتزاماتي السّابقة، فكنت أسرق من وقت لآخر، بعض الصّفحات من ال 456 صفحة.. وكم أسعد حين أقرأ منها ما يفوق العشرين،.. غالبا ما تكون حصص المطالعة عندي في وقت متأخّر من الليل بعد نوم الجميع إلى حين أذان صلاة الفجر، أو في الصّباح قبل استيقاظ العائلة.. أحيانا تغلبني المشاغل لفترة وعندما أعود للمطالعة أضطرّ للرّجوع إلى الوراء لتذكّر الأحداث وللحافظة على تسلسلها في مخيّلتي.. رواية "رقصة داكنة"، شدّت انتباهي.. جعلتني أصرّ على قراءتها حتى آخر سطر فيها.. لمدّة طالت نسبيّا، ذكرت الأسباب، زيادة على ذلك استئنافي للنّشاط بنادي الأدب الذي أديره بالعاصمة تونس، بعد شهر رمضان وعيد الفطر، وهذا هاجس آخر يأخذ منّي ومن وقتي الكثير.. تدور أحداث الرّواية في أمكنة عديدة، أهمّها الموصل، دهوك، أوسلو، ويتفرّع مسرى أحداثها إلى داخل البيوت، والغرف، الشوارع والنهج ومكاتب العمل،. أماكن خاصّة وعامّة، ساحات ومساجد، لم يغفل السّارد عن شاردة أو واردة.. " رقصة داكنة أو حالكة" كما أراد تسميتها الأديب محمد سيف المفتي أراها رواية من روايات السّير الذاتية، الفردي، والجماعي، هي سيرة وطن وشعب وانتماء..، جمعت الحقيقة بالخيال، وربما كانت الغلبة فيها للأحداث الحقيقيّة، من خلال السّرد الفاضح والكاشف للواقع، المعرّي لسياسة الحلفاء والسياسة الداخلية ولجماعة داعش الذين لم يدمّروا الموصل والعراق فقط، بل دمّروا وخرّبوا عالما وشعوبا وعقولا، غرزوا سيوفهم في صدور الأبرياء، وجّهوا طعناتهم في ظهورهم، بثْوا سمومهم باسم الدين في فكر الشباب بدءا بالأطفال، اشتغلوا على غسل الأدمغة بطريقة احترافية لم يكتشفها حتى من قاتل داعش، ما جعل العالم والشّعوب العربية ترزح إلى يومنا هذا تحت هذا الفكر الدّيني المتطرّف والتّيار الإرهابيّ الخطير، المدمّر للإنسانيّة والحضارات والثّقافات والسّالب للهويّة العربيّة بما فيها من تراث وأصالة وتقدّم وازدهار وما تمتلكه من ثروات بيئيّة وبنيويّة وثقافيّة.. ولنا عظيم الشّرف أن نفخر وأن لا نشعر بالنّقص والتْخلف إزاء هذه الدّول المتغطرسة، المهيمنة.. الرّواية أزاحت السّتار عن عدّة حقائق، سلختها، بيّنت غايتها وغرض الفكر الدّاعشيّ، السّارد تناول فيها بدل القضيّة ألف قضيّة..، قضيّة تصبّ في قضيّة..، أوّلها كذبة الدّين وادّعاء الدّاعشيّين إعادة نشر الإسلام، تصحيحه وإصلاحه، بأسلوب همجيّ، سخيف، مذهبهم القتل والذّبح، التّعذيب والسّلخ، الشّنق، التّخويف والتّرويع، للسّيطرة على الحكم والتّمتّع بخيرات وثروات البلاد، والتّصرّف في جميع المنشآت الاقتصاديّة شأنهم شأن كل الطامعين بالسلطة،.. ثانيها، قضيّة المرأة، بصفتها أنثى، نعتها بالعورة، ناقصة عقل، ودين.. صالحة للفراش، والنّكاح، يحرّم الحلال ويحلّل الحرام،.. لفائدتهم ولقضاء مآربهم، والتمسّك بزمام الحكم والقضاء..، ثالثا، قضيّة التّعليم، احتلالهم للمدارس والجامعات، جعلها أوكارا لهم ولأسلحتهم، مناطق ملغّمة لا يمكن عبورها أو اجتيازها، تشويه فكر الأطفال والشّباب، تنشئتهم على الكره والحقد، شرب دم أخيه في انتشاء، تجريدهم من مشاعر الإنسانية، تجهيلهم فكريّا ودينيا وعاطفيا، وخلق مجتمع ثائر، متوحّش، مسلوب العقل، يعمل لصالحهم شبيها بآلة الرّوبو،.. رابعا، قضيّة التّراث، العمل على سحقه ومحوه، من خلال ضرب وتدمير المواقع الأثريّة، سرقة الكنوز والآثار الثّمينة، بيعها لدول الغرب، تهريبها، بعلّة الحرام والحلال، تهشيم وإتلاف ما تبقّى.. بنيّة بتر الأصول وقتل الجذور..، خامسا، قضيّة التّهريب للمواد الاقتصادية، والغذائية..، سادسا، قضيّة التّجارة بالأعضاء،.. سابعا، قضيّة التّجسّس على خصوصيّات البلد، بيع الذّمة، قتل الضمير والعمل لحساب الأقوياء والغرباء ومع العملاء من الغرب..، ثامنا، قضية الرّشوة، والارتشاء، تاسعا، قضيّة الهجرة الغير شرعية، وتهجير الأدمغة والعملة الصّعبة.. عاشرا، قضية الحبّ والتّفرقة بين الأزواج والعائلة وغرز مخالب الشكّ بين أفراد الأسرة، وزعزعة الثّقة فيما بينهم..، قضية، موت الحبّ والجمال..، تشويه البيئة، تدمير الكائنات، مثل النبات والحيوان، وهنا أسوق مثالا لزهرة عباد الشمس التي تحيا بفضل الحبّ والرّعاية وتذبل وتموت حالما تطالها يد الغدر، وتصلها يد الإنسان العابثة.. حقْا،هي رواية حُبِكت ببراعة الرّاوي، وبذكاء، جعلنا نشاركه رقصته السّوداويّة، المؤلمة والحزينة، بدل أن نرقص رقصة زوربا الصّوفية الجميلة ونحلّق في سموات وردية،.. هذه الرواية، عشت كلّ أحداثها كأنّني طرف في السّرد.. أبكي لبكائهم، أضحك لضحكم، أتوجّع لوجعهم، أفزع لفزعهم،.. ربْما أطلتُ الشّرح، لكن، مع ذلك سأجتهد لأكون حريصة على ترك عنصر التّشويق في الرّواية، ومعرفة مضمونها وأغوارها، من خلال فصولها العديدة وخاصّة نهايتها المخاتلة، كانت صدمة لنا نحن القرّاء ورجّة للرّاوي، (الشخصية سيف.. ) فقد عبث السّارد بمخيّلتنا، أوهمنا بالفرح، جعلنا نرقص، وننتظر التّكريم والمكافأة، فإذا بنا نرقص أسفا، رقصة الذّئب.. يوم عرسه تهطل المطر، فكانت الرقصة حالكة، تألّمنا لألم الرّاوي، شعرنا بالخيبة التي تجرّع مرّها بمفرده، حتى رفيقة دربه زوجته دانا التي كانت تسنده خاب ظنّها هي الأخرى بعد أن رافقته إلى حفل تكريمه لمشاركته الحلم والفرح والرّقص،.. هذا ما جعل الراوي سيف يكتم غيظه، يبتلع غصّته، ويترك الأمور للتّأويلات.. وللقارئ..

2- عتبة العنوان:

جملة اسمية بسيطة تتكون من مبتدأ وخبر. كلمتان متضادتان، الأولى تدلّ على الفرح والزّهوُ هي "الرّقص" فهل يرقص الإنسان عندما يكون يائسا، أو تعتريه صدمة أو موجة من الأسى، أو تجده في غيبوبة وفقدان وعي؟ الثّانية "داكنة" تُفيد القتامة والحزن والألم، فالمشاعر حالكة السّواد بسبب انكسار القلب.. في ذات الوقت المفردة الأولى تعني الحركة والنّشاط والحيويّة، "'رقصة"، والرّقص يُشاهد بالعين، من خلال تحرّكات الجسد وانفعالاته، اهتزازه، تمايله، ووضع الأقدام، تنقّلها، وقد يصحب الرّقصَ إيقاع معيّن، وصوت دبكة الحذاء ونقر الأقدام، فتتوفّر في هذا المشهد (الرّقص) حاستيّ البصر والسّمع.. أمّا كلمة داكنة أو حالكة هي حالة ولون، لون اللّيل، ولون السّماء في حالة تلبّدها بالغيوم والسّحب.. فهل للرّقص لون؟ ألاحظ أنّ الكاتب وظّف تقنية المشاهدة (البصر: حركة ولون) بالعين الفاحصة، الثّاقبة ليسرد هذه الأحداث، كأنّه يريد القول أنّه شاهد عيان على كلّ فصول الرّواية.. هذا ما جعل وصفه دقيقا من خلال اشتغاله على التّفاصيل الملمّة بالأحداث من كلّ الجهات والاتّجاهات والوِجهات فلا مجال للتّشكيك أو للتّخمين أو النّقاش.. عتبة الإهداء يهدي الكاتب محمد سيف المفتي روايته: - لزوجته زهراء المفتي، يذكرها بالاسم، شاكرا صبرها معه وتحمّلها لنزقه أثناء الكتابة لمدة سبع سنوات، كان يكتب ويمسح وكانت هي تشجّعه على إعادة الكرّة في كلّ مرّة وتقول: " لا تهتمّ لنبدأ من جديد" - لكلّ من غيّبتهم القسوة سواء الموت أو الفقد، وبالتّحديد لابن أخته "علي" الذي سرقته داعش.. والذي مازالت روحه تسكن وجدانه.. عتبة التّنويه: في أقلّ من ثلاثة أسطر ذكر الكاتب محمد سيف المفتي هذا التّنويه ولا أدري ما غايته من ذلك، هل لتشتيت ذهن القارئ، أو لجعله يعود للتّاريخ وربط الواقع بأحداث الرّواية كي يقترب من الحقيقة أكثر ويميْز الخيال منها عن الحقيقة، إذ قال: - أودّ أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ الكثير من الشّخصيات والأحداث خياليّة لكن كنقطة انطلاق، فإنّ هذه الرّواية مبنيّة على أحداث وشخصيّات حقيقيّة " لماذا هذا الخلط؟ ولماذا هذا التّشويش على ذهن القارئ؟ لماذا لم يتركه يجتهد بنفسه ويقول إذا كانت الرواية مزيجا بين الحقيقة والخيال أم لا؟ هذا التّنويه يؤكّد أنّ الرّواية تتضمّن شخصيّات وأحداثا خيالية.. وأخرى حقيقية.. فيا ترى أيّ منها الخيالي، وأيّ منها الحقيقيّ؟ ملاحظة أولى: التّواريخ المذكورة في الرّواية حقيقيّة، والأماكن التي جرت بها الأحداث حقيقيّة، بعض الأسماء أيضا حقيقيّة، مثل اسم شخصية السّارد "سيف" ومكان إقامته وعمله "النرويج"، وذكر تعب ومؤازرة زوجته الزهراء له في الإهداء.. وكذلك كانت تفعل دانا الزوجة في الرواية..، كانت رفيقته في السفر، تحمّلته بكل انفعالاته وهي في دهوك رغم انشغاله عنها بفضّ مشاكل الآخرين، شاركته أحزانه، أصرّت أن تكون حاضرة في الحفل يوم تكريمه لتشاركه الفرح( آخر الرواية).. فهل هذا التّناص صدفة أم مقصودا..؟ ملاحظة ثانية في نصّ الإهداء أطلق على ابن اخته اسم "عليّ" وقال سرقته داعش، نجده في الرّواية يتحدّث عنه بحبّ وألم وأعطاه اسم "أنيس" ويقول أنّ داعش خطفته أيضا.. إذن، يمكن الجزم أنّ الرّواية واقعيّة أكثر منها خياليّة بنسبة مئوية كبيرة بتصرّف واجتهاد وبإقحام بعض التّغيير في سير الأحداث وأسماء الشّخصيات، احتراما للخصوصيٍات، وربما لتوخّي الحذر من المخابرات والملاحقة لا أدري بالضبط، خصوصا أنها رواية تقشّر حقيقة داعش ونواياهم الخفية ومن معهم ومن وراء صناعتهم وتواجدهم.. والاهم استراتيجياتهم في صناعة الخبر وطرقهم في التي خدعت العالم بما فيها الجيش الأمريكي، و عتبة الشخصيات ومضمون الرّواية: تعدّدت الشّخصيات في الرّواية من خلال تناسل الأحداث وتواترها وتقدّمها في السّرد، فكانت الأسماء تتوالى، بحسب ارتباطاتها بالأمكنة والأزمنة، وعلاقة بعضها ببعض، ولا يغيب عنّا أن الأحداث جرت في مدينة الموصل على إثر استيلاء داعش عليها في شهر جويلية 2014 وقد وصف الرّاوي سيف ذلك اليوم ب" تسونامي الإرهاب" ( 10/ 07/ 2014) كما ذكّر بموضوع مهمّ حدث، يتمثّل في رغبة والده القاضي لإرسال ابنه يونس إلى لندن لمواصلة الدّراسة سنة 1977 لكنّ والدته عارضت ذلك القرار.. * في الرّواية إذن، جانب كبير من الحقيقة يمكن القول أنّها رواية تسجيليّة.. تجمع بين أدب اليوميّات وأدب الرّحلة والحرب، توثّق الواقع، ويتوفّر فيها ما يُشبه المقال الصّحفي، أو التّقرير البوليسي، والمخابراتي.. الشّيء الوحيد الذي جعل هذا المُنجز ينحو إلى جنس الرّواية هو عامل التّخييل الذي أقحمه ووظّفه وضمّنه وأثرى به الأحداث بذلك الأسلوب والتّشويق والتّضليل في السّرد.. ونجد أيضا الكاتب يعطي الهوية لعدّة شخصيات (الاسم، الصّفة، الملامح، تاريخ الولادة، عنوان الإقامة،. ) ويتحدث عن حالات الإرهاب التي وقعت في الموصل من ذلك ثورة الإرهابيين في افريل 2014.. ويُسمّي المساجد والأنهج والأحياء والمكاتب والجامعات المتواجدة فيها، والتي اتّخذت من بعضها داعش مراكز لقيادتهم ومعاقل لتنظيم الدّولة الإسلامية.. * كما ذكر بعض الأحزاب والتنظيمات باسمها.. وهذا يطول شرحه، فأترك أمره للقارئ.. * ذكر في الرواية سنة زواجه من دانا، 1998 وهذا يأتي بعد هجرته في الواقع واستقراره بالنّرويج بسنة.. * ذكر اسم الزّعيم "مسعود البارزاني" في كوردستان الذي أمر بفتح الحدود في وجه اللاّجئين من الموصل هربا من الموت على يد داعش المتوحّش.. وهذا توظيف للحقيقة ومزجها بالخيال.. فمدينة دهوك والسّليمانية وعدّة مدن في كوردستان كانت أرضَ أمان لأغلبِ العراقيين.. لا أطيل.. الأمثلة عديدة.. والسّرد غزير وثريّ دليل على ثقافة وخصوبة ذهن الكاتب المليء بالوقائع والحقائق، ما جعل روايته تنحو للخيال.. غير أنّ الحقيقة أبشع بكثير لو نعترف ونقرّ بذلك.. الخاتمة رواية رقصة داكنة، هي بمثابة الكابوس في حدّ ذاتها، هنا، لا أعني أنّها مخيفة بل لأنّ أحداثها أليمة وبشعة، تخلّف ندوبا وخدوشا في نفسيّة القارئ بسبب ما اقترفته داعش من بشاعة في حقّ المدنيين والأبرياء، وسلب راحهم وحريّتهم وحرمانهم من الهدوء، وحقّ العيش في سلام، والتّنقل إلى العمل في أمان..، فترة حسّاسة جدّا وعنيفة، عاشها العالم بأسره، خاصّة مدينة الموصل والشّعب العراقي، الذي ذهب ضحيّتهم شهداء كثيرون، بكذبة الدّين والفتح وإعادة تصحيح الإسلام وباستغلال سذاجة العقول.. وما داعش في الحقيقة إلاّ صناعة غربيّة اتّفق عليها هؤلاء الأقوياء لتدمير الشّعوب العربيّة وتفكيك صفوفهم وتشتيت وحدتهم، لاغتصاب ثرواتهم ونهب تراثهم.. والكلّ شاهد على ما اقترفوه من فظاعة وفساد، وكاشف لحقيقتهم.. وتبقى الأسئلة في أذهاننا كثيرة: - إلى أيّ مدى نجح هؤلاء.. في تدمير البلدان العربيّة والتّلاعب بهشاشة عقول النّاس البسطاء وتدمير نفسيّات أسر بحالها من خلال اتْخاذهم نهج التّرويع والقتل والذّبح والخطف..؟ وهل صحيح ما نوه اليه الروائي بأن العالم كسب حربا وخسر السلام، وهل صحيح أن داعش قتلت وبقي الفكر الداعشي حيا؟

- هل فكرة القضاء على داعش واستعادة المدن والبلاد، هي انتصار حقيقيّ عليهم..؟ أم هي مجرّد وهم، وتراهم نجحوا في ترك دناستهم ونجاستهم في عقول الأجيال القادمة، كالأطفال والشّباب الذين نجدهم قد نفروا المدارس وعافوا الثّقافة وتعلّقوا بالأوهام والسّراب فكان مصيرهم الضّياع والضّلال والتّفكير في الهجرة والهروب من أوطانهم، بدل أن يجتهدوا ويتعلّموا ويعملوا في سبيل النّهوض من مستنقع الجهل الذي سقطوا فيه؟ - كيف يكون العلاج لمثل هذه الظاهرة والتّصدّي للفكر الداعشي الذي سكن العظام والأوصال، فباتت الشّعوب العربيّة بأسرها مريضة، كسيحة..؟ - كيف نقي أبناءنا من هذا الوباء كي يتعافوا منه ويبدؤون حياة ورديّة جديدة، يكون الرّقص فيها تعبيرا عن الفرحة والانتشاء للروح والعقل والجسد..؟

***

سونيا عبد اللطيف – تونس

 18/ 05/ 2024

غلوريا نايلور في سطور:

كانت غلوريا نايلور مؤلفة أمريكية أفريقية مؤثرة معروفة بتصويرها الثاقب والقوي للنساء الأمريكيات من أصل أفريقي في الأدب. غالبًا ما استكشفت أعمال نايلور موضوعات العرق والجنس والهوية، وألقت الضوء على نضالات وانتصارات النساء الأمريكيات من أصل أفريقي في المجتمع. ولدت نايلور في مدينة نيويورك عام 1950، ونشأت في عائلة من الطبقة العاملة وواجهت العديد من التحديات طوال حياتها والتي ألهمت كتاباتها لاحقا.

نُشرت أشهر أعمال نايلور، "نساء بروستر بليس"، عام 1982 وفازت بجائزة الكتاب الوطني لأول رواية. تحكي الرواية قصص سبع نساء أمريكيات من أصل أفريقي يعشن في مشروع إسكان في مدينة خيالية، وكل واحدة منهن تكافح مع نضالاتها الشخصية ومواجهاتها مع العنصرية والتمييز المنهجي. من خلال سردها القصصي الحي والمقنع، لفتت نايلور الانتباه إلى تعقيدات ومرونة النساء الأمريكيات من أصل أفريقي، وأعطت صوتًا لتجاربهن وألقت الضوء على تقاطعات العرق والجنس والطبقة.

بالإضافة إلى "نساء بريوستر بليس"، كتبت نايلور العديد من الأعمال الأخرى التي نالت استحسان النقاد، بما في ذلك "ليندن هيلز" و"ماما داي" و"بيلي كافيه". وقد حظيت كتاباتها بالثناء لتطورها الغني في الشخصيات ونثرها الغنائي وتعليقها الثاقب على القضايا الاجتماعية. كما تناولت أعمال نايلور التراث الأفريقي الأمريكي والفولكلور والروحانية، مستفيدة من موضوعات التقاليد والمجتمع والمرونة لنسج سرديات مستنيرة ومؤثرة عاطفيا.

خلال مسيرتها المهنية، تلقت نايلور العديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة الكتاب الأمريكي ومنحة جوجنهايم. كما كانت معلمة مخلصة، حيث قامت بتدريس الكتابة الإبداعية في العديد من الجامعات وتوجيه الكتاب الطموحين. إن تأثير نايلور على الأدب والثقافة الأمريكية الأفريقية لا يمكن إنكاره، حيث لا تزال أعمالها موضع دراسة واحتفال بسبب رؤاها العميقة للتجربة الأمريكية الأفريقية.

كانت غلوريا نايلور مؤلفة رائدة تحدت أعمالها الأعراف المجتمعية وأعطت صوتًا للمجتمعات المهمشة، وخاصة النساء الأمريكيات من أصل أفريقي. ومن خلال سردها القصصي القوي وتعليقاتها الثاقبة، فتحت نايلور الأبواب أمام الأجيال القادمة من الكتاب لاستكشاف العرق والجنس والهوية في أعمالهم. ولا يزال إرثها يلهم القراء والكتاب على حد سواء، ويشكل شهادة على القوة الدائمة للأدب في إثارة الفكر واستحضار المشاعر وإحداث التغيير.

المجتمع في رواية "نساء بروستر بليس":

في رواية "نساء بروستر بليس" للكاتبة جلوريا نايلور، يلعب موضوع المجتمع دورا مهما في تشكيل حياة الشخصيات. تشكل نساء بروستر بليس، وهو حي خيالي في وسط المدينة، مجتمعًا متماسكا يوفر الدعم والصداقة والشعور بالانتماء في مواجهة الشدائد.

يأتي سكان بروستر بليس من خلفيات متنوعة ويواجهون تحديات مختلفة، لكنهم متحدون من خلال شعور مشترك بالمجتمع. من خلال تفاعلاتهم مع بعضهم البعض، فإنهم يخلقون شبكة من الروابط الاجتماعية التي تساعدهم على التعامل مع صعوبات الحياة الحضرية. سواء كان ذلك من خلال مشاركة وجبة أو تقديم أذن صاغية أو توفير كتف للبكاء عليها، تعتمد نساء بروستر بليس على بعضهن البعض من أجل الراحة والرفقة.

يتجلى الشعور بالمجتمع في بروستر بليس بشكل خاص في الطرق التي تتجمع بها النساء للاحتفال بالأحداث المهمة والحداد على الخسائر. عندما يتوفى أحدهن، يجتمع سكان بروستر بليس لتقديم احتراماتهم وتقديم التعازي للأسرة الحزينة. إن هذا الشعور بالتضامن في أوقات الحزن يسلط الضوء على أهمية المجتمع في تقديم الدعم العاطفي والتفاهم.

تجد نساء بروستر بليس القوة أيضا في جهودهن الجماعية لمقاومة القوى القمعية التي تسعى إلى تقويض شعورهن بالمجتمع. سواء كان ذلك من خلال الوقوف في وجه الشركاء المسيئين، أو المطالبة بظروف معيشية أفضل، أو النضال ضد الظلم الاجتماعي، فإن نساء بروستر بليس يتحدن معا لتأكيد وكالتهم والمطالبة بالاحترام.

على الرغم من التحديات التي يواجهنها، تجد نساء بروستر بليس العزاء والقوة في شعورهن بالمجتمع. يستفدن من تجاربهن الجماعية وتاريخهن المشترك للتنقل عبر تعقيدات الحياة الحضرية وإيجاد طرق لرفع معنويات بعضهن البعض. هذا الشعور بالمجتمع هو مصدر تمكين يمكّنهن من المثابرة في مواجهة الشدائد.

من نواحٍ عديدة، تعمل نساء بروستر بليس كعالم مصغر لديناميكيات مجتمعية أكبر، تعكس أهمية المجتمع في تعزيز المرونة والتضامن. من خلال تفاعلاتهن وعلاقاتهن، يظهرن قوة الارتباط الإنساني في التغلب على الصعوبات وإيجاد شعور بالهدف والانتماء.

إن موضوع المجتمع في "نساء بروستر بليس" بمثابة تذكير بالإمكانات التحويلية للعمل الجماعي والدعم المتبادل. فمن خلال التجمع معا ودعم بعضنا البعض، يتمكن سكان بروستر بليس من التغلب على التحديات التي يواجهونها وخلق شعور بالوطن والانتماء وسط عالم قاس لا يرحم.

تُظهر نساء بروستر بليس أن المجتمع ليس مجرد موقع جغرافي أو مجموعة من الأفراد، بل مجموعة مشتركة من القيم والمعتقدات التي تربط الناس معا بطرق ذات مغزى. ومن خلال مرونتهن وتضامنهن وإحساسهن بالمجتمع، يُظهِرن قوة الارتباط الإنساني في التغلب على الشدائد وإيجاد القوة في مواجهة الصعوبات.

تسلط "نساء بروستر بليس" الضوء على أهمية المجتمع في تشكيل حياة الأفراد وتعزيز المرونة في مواجهة الشدائد. ومن خلال تجاربهن المشتركة، وروابط الصداقة، والجهود الجماعية لمقاومة القمع، تُظهِر نساء بروستر بليس القوة التحويلية للمجتمع في خلق شعور بالانتماء وتمكين الذات.

***

محمد عبد الكريم يوسف

....................

لمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى الرواية

NayLor, GLoria The Women of  Brewster Place (1982)

قَصيدةُ النثرِ لَيْسَتْ فَوضى لُغويةً بلا وزن ولا قافية، وإنَّما هي تَكثيفٌ وُجودي للمَعنى الشِّعْرِي على الصعيدَيْن النَّفْسِي والاجتماعي، وتَجميعٌ لِشَظايا مُوسيقى اللغةِ في صُوَرٍ فَنِّية عابرةٍ للتَّجنيس، وكاسرةٍ للقوالبِ الجاهزةِ والأنماطِ المُعَدَّة مُسْبَقًا، وتَوليدٌ للإيقاعِ الإبداعي في داخلِ الألفاظِ الوَهَّاجَةِ والتعابيرِ المُدْهِشَةِ . وهذه المَنظومةُ المُعَقَّدَةُ لُغَوِيًّا، والمُرَكَّبَةُ شِعْرِيًّا، تَهْدِف إلى اكتشافِ العناصر الفكرية المَقموعة في العلاقات الاجتماعية، واستخراجِ القِيَمِ المَعرفية المَنْسِيَّة في التجارب الحياتية، وابتكارِ أنظمة شِعْرية مُتَحَرِّرَة مِنَ قُيود المَواضيع المُسْتَهْلَكَةِ، والخَصائصِ اللغوية الشَّكلية المُبْتَذَلَة التي فَقَدَتْ تأثيرَها بسبب كَثرة استعمالها .

وقَصيدةُ النثرِ انعكاسٌ لِرُؤيةِ الشاعرِ للوُجودِ شَكْلًا ومَضمونًا، وإعادةُ صِياغةٍ للقوانين الحاكمة على مصادر الإلهام الشِّعْري، بِحَيْث تُصبح مُوسيقى اللغةِ نُقْطَةَ التوازنِ بَيْنَ وُضُوحِ الألفاظِ المُتدفقةِ أفقيًّا وعموديًّا، وبَيْنَ غُموضِ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُتَفَجِّرَة وَعْيًا وإدراكًا، وتُصبح العلاقةُ بَيْنَ الألفاظِ والمَعَاني تَجديدًا مُستمرًّا للعلاقةِ بَيْنَ الشاعرِ ونَفْسِه مِن جِهة، وبَيْن الشاعرِ ونَصِّهِ مِن جِهةٍ أُخْرَى، باعتبار أنَّ الشاعرَ هُوَ الرُّوحُ الساكنةُ في جَسَدِ اللغةِ، والتَّجسيدُ الحقيقي لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع .

وإذا كانَ الإبداعُ الشِّعْرِي سُلطةً مركزية قائمة بذاتها، فَإنَّ قصيدةَ النثر هُوِيَّةٌ رمزية مُستقلة بِنَفْسِهَا، واندماجُ السُّلطةِ معَ الهُوِيَّةِ في النَّسَقِ الشِّعْرِي الذي يَتَوَالَد مِن نَفْسِه يَجْعَل زَمَنَ المَشاعرِ والأحاسيسِ كائنًا حَيًّا قادرًا على استلهامِ التُّراثِ وتجاوزِه، ويَجْعَل رُوحَ اللغةِ كِيَانًا حُرًّا قادرًا على صَهْرِ المَاضِي والحاضرِ في بَوْتَقَةِ المُسْتَقْبَلِ . وهذا يَعْنِي انفتاحَ الزَّمَنِ في العلاقاتِ اللغويةِ بشكل مُطْلَق، مِمَّا يُولِّد وَعْيًا شِعْرِيًّا خَاصًّا بِتَحليلِ عَناصرِ الواقعِ، وتَغييرِ زَوَايا الرُّؤيةِ لتفاصيل الحياة .

وكُلَّمَا وَسَّعَت اللغةُ حُدودَ الزمنِ دَاخِلَ الهُوِيَّةِ الرَّمزيةِ والتُّراثِ المَعرفيِّ والذاتِ الإنسانية، اتَّسَعَ الوَعْيُ الشِّعْري للتجاربِ الحياتية إنسانيًّا وإبداعيًّا، وهذا الاتِّسَاعُ سَيُصبح معَ مُرور الوقت تاريخًا جديدًا لِرُوحِ اللغةِ في جَسَدِ المُجتمع، ومُتَجَدِّدًا في مُوسيقى اللغةِ، ومُسْتَقِرًّا في مَصادرِ الإلهامِ الشِّعْرِيِّ، ومُكْتَفِيًا بِذاته مَعْنًى ومَبْنًى . وإذا كانَ التاريخُ لا يَنفصل عَن الوَعْي، فَإنَّ اللغة لا تَنفصل عَن الحُلْمِ . وهذا الترابطُ بَين هذه التراكيب الوُجودية سَيُكَوِّن فَضَاءاتٍ جديدة لقصيدة النثر .

إنَّ الوَعْي الذي تُولِّده قصيدةُ النثرِ يُمثِّل مَنظومةً مِن الأسئلة الوجودية التي يَتِمُّ طَرْحُها على إفرازاتِ الماضي والحاضرِ معًا، مِن أجْلِ حماية المَعنى الشِّعْري مِنَ القَطيعةِ بَيْنَ الروابطِ النَّفْسِيَّةِ والعَلاقاتِ الاجتماعية، وهذا مِن شأنه تَكريسُ الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُدْهِشَةِ في الماضي الذي لا يَمْضِي، والحاضرِ الواقعِ تحت ضغط النظام الاستهلاكي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى دَمْجِ ثَورةِ الشِّعْرِ في كَينونةِ الزَّمَنِ، وتَحويلِ البُنى الاجتماعية المادية إلى هياكل شِعْرِيَّة مَعنوية، تَمتلك القُدرةَ على التواصل معَ الأجناس الأدبية كُلِّهَا، باعتبار أن الأدبَ والزمنَ نظامان مَفتوحان عَلى كَافَّةِ الأشكالِ والاحتمالاتِ .

وقَصيدةُ النثر لَيْسَتْ تاريخًا قائمًا بذاته فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا جُغرافيا رمزية تُوظِّف الخِطَابَ التاريخي في فَلسفةِ اللغةِ التي تَؤُول إلى فَن تَعبيري عَن القِيمةِ الإنسانيةِ للحياةِ، والبُنيةِ الشِّعْرِيَّةِ الكامنةِ في عَناصرِ الوُجودِ وأنسجةِ المُجتمعِ . والترابطُ الوثيقُ بَيْنَ فَلسفةِ اللغةِ والفَنِّ التَّعبيريِّ يُؤَدِّي إلى صِناعةِ أساليب لُغَوية جديدة تُعيد بِنَاءَ الوظيفةِ الشِّعْريةِ على كَينونةِ الزَّمَنِ، وتُعيد صِياغةَ العَلاقاتِ الاجتماعية إنسانيًّا ورمزيًّا . وهذه الإعادةُ المُزْدَوَجَةُ تُسَاهِم في إدخالِ مَصادرِ المَعرفةِ في التجاربِ الحياتية، وإخراجِ التياراتِ الشِّعْريةِ مِن إطارِ تَقديسِ الماضي والجُمودِ على التُّراث، مِمَّا يَقُود إلى إعادةِ تعريفِ وَظيفةِ قَصيدةِ النثر باعتبارها انقلابًا لُغَوِيًّا على القوالبِ الجاهزةِ والأشكالِ المُسْتَهْلَكَةِ . وكُلُّ عمليةِ إعادة تَعريف على المُسْتَوَيَيْن الشِّعْري واللغوي هِيَ بالضَّرورةِ تَجديدٌ في تِقْنِيَّات الكِتابةِ، وتَوسيعٌ لِحُدودِ الأجناسِ الأدبية، حَتَّى تَشْمَل الأفكارَ المَقموعةَ، والأحلامَ المَكبوتةَ، والأزمنةَ المَنْسِيَّة، والأشياءَ المَسكوت عنها .

إنَّ الإلهامَ الشِّعْري داخلَ قَصيدةِ النثرِ لَيْسَ انتظارًا لِمَا لا يَأتي، بَلْ هُوَ صِناعةٌ دائمةٌ للألفاظِ والمَعَاني، وإشراقٌ مُستمر في التجارب الحياتية كَمًّا وكَيْفًا، وتَوْليدٌ مُتَوَاصِل للصُّوَرِ الفَنِّية المُدْهِشَة. والشاعرُ الحقيقيُّ لا يَنتظر مَجِيءَ الأنساقِ اللغويةِ، وإنَّما يَندفع باتِّجَاهها، ويَقتحمها، ويَندمج مَعَهَا، ويَنقلب عليها، مِن أجْلِ تَجميعِ شَظايا الانفجارِ الشِّعْري في العَواطفِ الإنسانية المُتأجِّجة، والحِفاظِ على دِيناميَّة قَصيدة النثر في ظِلِّ ضَغْطِ الهُوِيَّةِ على الذات، وضَغْطِ التُّراثِ على الحاضر. وهذا الأمرُ شديدُ الأهمية، لأنَّه يَمْنَح التكثيفَ الوُجودي للمَعنى الشِّعْري شرعيةً أخلاقيةً، وسُلطةً اجتماعيةً، وقُدرةً على اقتحامِ أعماقِ الشاعرِ في رِحلةِ البَحْثِ عَن الحُلْمِ بَيْنَ الأنقاضِ .

وإذا كانَ الشاعرُ مُهَاجِرًا أبديًّا إلى أعماقِه وذِكْرَياته، فَإنَّ قصيدة النثر مُسافرة أبدية إلى رُوحِ اللغةِ وفلسفتها . وهذه الحَركةُ الشِّعْرية الدؤوبة النابضة بالحَيَاةِ والحُرِّيةِ تَمْنَع كَينونةَ الزَّمَنِ مِنَ التَّحَوُّلِ إلى أُسطوانة مَشروخة، وبالتالي يُصبح الزَّمَنُ تَيَّارًا للوَعْي، وفَضَاءً إبداعيًّا، ولَيْسَ سِجْنًا للإبداع .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

أدي بن آدب أنموذجا

مما لا شك فيه أن العلاقة بين مشرق الوطن العربي ومغربه كانت ولا زالت دون مستوى الطموح كثيرا، ولا زالت شبه القطيعة المصطنعة تتحكم بعلاقاتهم مع بعضهم، ولاسيما منها الدول التي تموضعت على أطراف الوطن الكبير، مثل موريتانيا  وأخواتها، وهذا ليس في الحياة العامة وحدها، ولا في التواصل المجتمعي وحده، بل امتد إلى التجارة والأدب والتعاون العلمي والإنساني والسياحة والتبادل الثقافي والمعرفي والأعمال المشتركة، وهي بمجموعها نشاطات فكرية ومالية وحدها قادرة على كسر هذا التابو المصطنع، أو الذي فرضته الظروف، ونظرا لصعوبة التوفيق بين هذه المطالب الصعبة .

وبسبب تعارض المصالح والاختلاف الأيديولوجي السياسي أرى أن كسر مثل هذا التابو لا يتم بأساليب تقليدية بل يحتاج عادة إلى ثورة تواصلية، من أولى قواعدها التخلي عن الرؤية المناطقية الضيقة، وفصل السياسة عن التفاعل الحياتي اليومي، وتقليل استخدام اللغة المحكية والتكلم والكتابة بدلا عن ذلك باللغة الفصحى التي يفهمها الجميع، ومن المؤكد أن طيب النوايا وحسن الدواخل والشفافية ستكون جزء مهما من هذه المعادلة التي أصبح أمر تحقيقها اليوم أيسر من شربة ماء، بشرط أن يتولى الكبار تنفيذ هذه المهمة ونشرها في مجتمعاتهم.

وإذا كانت المواصلات السيئة والاتصالات المتخلفة والأوضاع الاقتصادية الصعبة والواقع السياسي المضطرب، والأحكام القبائلية الفاشية حجر العثرة الذي أعاق التواصل فيما مضى، أو كان الوضع العام المضطرب الحساس في هذا البلد أو ذاك أحد المحاذير التي تصرف البال عن أي نوع من أنواع التواصل، أو كان اختلاف المناهج السياسية المعلنة دافعا للتباعد(1)، فإن استمرار القطيعة إلى الآن، بعد انحسار العواصف، وهدوء الأوضاع، واستتباب الأمن، فضلا عن وجود العنصر الأكثر أهمية وهي شبكات التواصل الاجتماعي، والانفتاح السياحي، والتعاون والتعاطي والتبادل الكوني الشامل، مع كل هذا يبدو استمرار القطيعة أمرا غير مقبول ولا مستساغ بالمرة، فالعالم يتحول يوما بعد آخر إلى قرية كونية، كانت حتى الأمس القريب كبيرة نوعا ما، ولكنها تقلصت اليوم وأصبحت في منتهى الصغر، ينطبق عليها المثل الشعبي الدارج في العراق (احنا ولد الكُرَيَّه كلمن يعرف أُخَيَّه)، "نحن أبناء القُرَيَّة (مصغر قرية) كل واحد منا يعرف أُخَيه (مصغر أخِيه)" للتدليل على وجود المشتركات العظمى التي فرضها التقارب بين الشعوب.

من أجواء هذا التنائي وبسبب مخرجاته كانت العلاقة بين العراق وموريتانيا قد تعرضت لبعض المواقف السياسية التي أسهمت في تباعد البلدين عن بعضهما بشكل غير مستساغ ولا مقبول، ومع ذلك شاءت الأقدار أن أتعرف على قامة أكاديمية وأدبية مائزة ومؤثرة في محيطها المورتاني والمغاربي، هو الأستاذ الدكتور أدي ود آدب، الأكاديمي والشاعر والناثر والناقد والإنسان، فأتيحت لي فرصة الاطلاع على بعض كنوز الثقافة المغاربية من خلاله، ولاسيما وأن الأخ الدكتور بدا لي من خلال نتاجه الفكري والأدبي نموذجا حقيقيا للمثقف العربي، إذ كان كريما معي، فأهداني أغلب مؤلفاته؛ التي وجدت فيها تنوعا وتميزا وتفردا وجمالا أخاذا يسر اللب ويشرح القلب ويذكي السعادة في الروح.

المؤسف في الأمر أنه رغم هذا العطاء الثَّرّ وتنوعه المحبب، ورغم الشهرة المغاربية الواسعة التي حظي بها الدكتور أدي، والتي ترجمتها الجوائز العديدة التي تحصل عليها، مثل: المركز الأول شعريا في مسابقة برنامج سهرة الشهر بالإذاعة الوطنية 1985، والمركز الأول في جائزة الإبداع الأدبي، بجامعة محمد الخامس - الرباط2006، والمركز الأول في المهرجان الدولي للشعر والزجل، بالدار البيضاء، مرتين:2007و2009، والمركز الثاني في مسابقة شاعر الرسول التي نظمتها التلفزة الموريتانية 2010، والفوز-أيضا- في مسابقة قصيدة اللغة العربية المنظمة من طرف "مجلس اللسان العربي بموريتانيا" 2017، إلا أنه كاد أن يكون مجهولا في مشرق الأمة، وهذا ليس لقصور في نتاجه، وإنما لقصور في انفتاح مهرجاناتنا على عموم بلدان الوطن العربي الكبير واكتفائها ببعض الوجوه التي تتكرر سنويا، فعند اطلاعي على سيرته لم أجد دليلا واحدا على تعاون يذكر، سوى فوزه بالمركز الخامس في مسابقة أمير الشعراء بأبوظبي عام 2008. وقبالة ذلك تجد ذكره ضبابيا في مشرقنا.

لهذا السبب وربما لأسباب أخرى كنت حينما يجمعنا مجلس السمر أحدث زملائي وأصدقائي عنه، وهم نقاد وأكاديميون ومثقفون وأدباء، وأتحدث لهم عنه شخصيا وعن منجزه الفكري والأدبي، فلا أجد بينهم من يعرفه أو يقرأ له، وهذا يترجم مقدار التعتيم الذي نمارسه طواعية على علاقاتنا ببعضنا، رغم أننا انفتحنا على الآخر الغربي بلا قيود، فأنتج لنا هذا التنائي الذي يوجع الروح بعدا فكريا وثقافيا أيضا، إذ يندر أن تجد أديبا من مغرب الوطن مدعوا لحضور المؤتمرات والمهرجانات الثقافية التي تقام في المشرق رغم كثرتها.

شجعني جهل زملائي وجمال ما أنتجه يراع الدكتور أدي على المضي في البحث والتقصي أكثر وأكثر عن هذه الشخصية المجهولة في مشرق العرب والمشهورة جدا في مغربهم، مثلما يتضح من تبني دور النشر الجزائرية والمغربية طباعة وتوزيع أعماله، شخصت ذلك بعد أن وجدته أديبا لا يشق له غبار ولا يمكن تجاوزه، أديبا ذو عطاء متنوع يمازج بين الشعر والنثر والنقد والتاريخ الأدبي والتراجم والسير والصحافة أيضا، أو مثلما يفهم من سيرته الذاتية العطرة "شاعر وباحث أكاديمي، وناقد، وخبير لغوي موريتاني"؛ يوثق معلوماته من خلال سلسلة كتب متنوعة، أصدرها فحظيت بالتقدير والترحاب.

وأنا واقعا كنت قد نويت بداية أن أكتب عن إحدى منصات تجربته نقدا أدبيا تخصصيا مثل أي نقد متداول وشائع، ولكني عزفت عن هذه الفكرة لأني أعدها تقليدية خالية من التجديد؛ لأكتب عوضا عنه ما يمكنني من خلاله أن أقدم الدكتور أدي إلى المواطن المشرقي على طبق من معرفة، لأني أيقنت أن كتابتي هذه ستكون عتبة موضوع التعارف؛ الذي سينتج كتابات أخرى يتناول فيها النقاد أعماله وأعمال زملائه شعراء موريتانيا بلد المليون شاعر.

وللتهيؤ لمثل هذا الأمر وخلال مرحلة الإعداد للكتابة عنه، تنقلت بين صفحات ما أهداه إليَّ لألُم ولو بصورة أولية بفكرة مركزة عن منهجيته وأسلوبيته والمعلن والمضمر فيها. فكان أول ما جلب انتباهي اهتمامه الكبير بالكل، وترفعه عن الاهتمام بنفسه، فهو كتب عن النقد الأدبي موضوعا للمقاومة بين المشرق والمغرب، وكتب عن الشعر الحساني والشعر العربي وصل الفصل ونسب الأدب، وكتب عن المفاضلات في الأدب الأندلسي الذهنية والأنساق، وكتب عن عمود الغرابة في الادب الاندلسي (نظرية الأعمدة المتناسخة)، وهي جميعها موضوعات ثقافية عامة قد لا تظهر من خلالها أي مؤشرات لشخصية الكاتب، بقدر كونها محاولة لبيان رؤى فاحصة مدققة في مواضيع معينة، وهو ما يتضح من قوله: "أهدي رؤيتي حول رحلة الإبداع الأدبي العربي الحتمية، من عمود الألفة إلى عمود الغرابة، انطلاقا من نظرية نقدية تؤمن بأن لا وجود لعمود أدبي واحد، بل هناك أعمدة أدبية عديدة، ينسخ لاحقُها سابقَها، اقتضتها نواميس التطور الكونية، وماهية مفهوم الإبداع(2).

ثم اهتم بشيء آخر، أجده حتى وإن كانت له خصوصيته النسبية الترابطية بشخصه، إلا أن الكتابة عنه تدخل نفس مضمار الاهتمام بالآخر، إذ كتب عن ( أهل آدب)، فكتب عن الشيخ أحمد بن آدب، وكتب عن المقاومة الأخلاقية في أدبيات أسرة أهل آدب، وكتب عن خنساء شنقيط خديجة (ديه) بنت سيدي ولد آدب، وكتب عن (سيدي) ولد آدب رمز الفتى الكنتي، فارس المدفع والقلم، وأسرة "أهل آدب" سلالة الشعر وبيت القصيد، وهو بالتالي وزع اهتمامه في جهات يرى أن إشهار أصلها أهم من كتابته عن نفسه وعن منجزه وهذا إيثار لا تجده سوى لدى الكبار.!

المهم أن الدكتور أدِّي كان قد أشار إلى هذه العلاقة في محاولة منه لتوضيح البناء الرؤيوي بالقول: "حين أقتحمُ مقاربة سر العلاقة بين عائلتي "أهل آدب"، وبين الشعر

خصوصا، والأدب عموما، فليس دافعي لذلك تمجيد الذات، ولا الافتخار بالعروق الضاربة، في هذا الإرث الثقافي الكبير، بقدر ما أعدُّ دافعي علميا بحتا، وأداء لواجب وطني وأخلاقي مُلْزِم (3).

وأنا واقعيا حينما قرأت قوله هذا، أيقنت أن الرجل طالب علم وساعٍ إلى معرفةٍ شمولية، حتى لو أهمل خصوصياته الشخصية، وهذه من سيماء العلماء ومناهج العلياء، لا يعرف معناها المتصنعون والأدعياء.

في معمعة تداعي الأحداث والانشغال بتمجيد الآخر، كانت للدكتور وقفات لا ليتحدث من خلالها عن نفسه، خروجا على سياقات ما أعتاد عليه، وإنما هي نفثات روح شفيفة جاءت لتصب في نفس وادي العطاء للآخر، لكن من جهة أخرى ومن طريق آخر، فهو لأنه شاعر مجيد، وغزير الإنتاج، أراد أن يسعد الناس بجميل ما سيقرئونه من شعر من خلال تَوَزُّعِه بين مجموعة دواوين ودراسات شعرية منها:

صلوات القوافي

بصمة روحي

فلسطين القصيدة

وطني على كتفي

وجوه كتبتني

وهي المحطة التي سنتوقف عندها لنتحدث عن أدي شاعرا ولاسيما بعد أن لمست أنه وظف هذه الشاعرية لتبهج الغير أكثر مما هي دعاية لنفسه.

آدي شاعرا:

هناك ثمانية دواوين شعرية تطرز تاريخ شاعرنا وأديبنا الدكتور أدي ود آدب، امتدت على مساحة زمنية من عام 2009 ولغاية عام 2022 وكانت ثمرتها تبني وزارة الثقافة الجزائرية عام 2009 إصدار مجموعتين من أعماله، كانت الأولى بعنوان: "رحلة بين الحاء والباء"، وهي سباحة في أعماق بحر الحب المقدس، ضد تيار عولمة الكراهية والحب المدنس، وكأنه أراد التبشير بثقافة التقارب التي تحدثنا عنها، والثانية بعنوان: "تأبط أوراقا، ويجد الباحث والقاري في أعماق هذه المجموعة نوعا من المحاولات الجادة لصعلكة ثورة المُثُل شعريا وفكريا، بسلاح القلم والورق. وبرأيي أن مجرد هذا العمل المشترك بين الشاعر الموريتاني والوزارة الجزائرية على بساطته يؤكد وجود التعاون الأدبي والفكري بين بلدان المغرب على خلاف ما هو عليه مع بلدان المشرق.

تأكيدا لهذه الجنبة المهمة نجد مؤسسة "آفاق للدراسات والنشر والاتصال" وهي مؤسسة مقرها بمدينة مراكش في المملكة المغربية قد أصدرت له عدة دواوين، منها: ديوان "بصمة روحي" 2018، وهو سعي للاستثمار في مقومات التميز الإبداعي، واستقلالية الشخص والنص.

وديوان "صلوات القوافي 2022، وهو شعر في المديح النبوي رددته تراتيل الروح في محرابها، معراجا إلى سدرة منتهى المديح.

ثم ديوان "وجوه كتبتني 2022، وهو ديوان ضمَّ مجموعة قصائد كتبها الشاعر تخليدا لوجوه شخصيات وشمت أثرا عميقا لا ينمحي في الوجدان.

تلاه ديوان "فلسطين القصيدة"، وهو ديوان يعتبر نشيدا في الدعوة إلى تشييد للوطن الفلسطيني، "فوق بحر القصيد، استيطانا في الروح".

تلاه في العام نفسه صدور ديوان "وطني على كتفي، وهو نشيد كاهلٍ مثقل بوطن شخصي، يهاجر في شاعر هُجِّر عنه.

وتلاه ديوان "خرائط الوجع، وهو سَفَرٌ في المواجع العربية، التي تلوّن الأطلس الكبير بلون الدم والرماد.

والذي أراه أن هذه المجموعة من الأعمال الشعرية (دواوين وقصائد) يجب أن تحظى باهتمام النقاد المشرقيين وعنايتهم لما تنضوي عليه من تنوع وموضوعية وتنوع في الغايات والرؤى والأهداف، وستكون الكتابة عنها تجربة جديدة خوضها ممتع ونشرها نافع.

شاعراً أكاديميا

استغل الشاعر الدكتور آدي ود أدب امتلاكه ثلاث ثيمات قيمية ارتكازية مهمة هي كونه:

- أكاديميا من حيث الدراسة والعمل، إذ حصل على الدكتوراه في الأدب الأندلسي من جامعة محمد الخامس بالمغرب سنة 2011م بتقدير امتياز، وعمل أستاذا منتدبا للغة العربية وآدابها في جامعة قطر خلال المدة 2014-2015م، وأستاذا متعاونا بجامعة محمد الخامس بالمغرب خلال المدة 2008-2010م، وأستاذا للغة العربية بالتعليم الثانوي في موريتانيا (1991-2002م)؛ كما عمل عضوا في فريق الدوحة للمعالجة المعجمية بـمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية 2015-2017م قبل أن يلتحق رسميا بالفريق المركزي للمعجم في أكتوبر 2017 خبيرا لغويا. وهو تخصص ينمي القدرات الذاتية ويحسن الذائقة ويضع صاحبه على أعتاب دنيا الأدب ولاسيما الشعر قديمه وحديثه، ويفتح كونة لتعاون القطبين المشرقي والمغربي في بعض محطاته، أجدها دون الحاجة والمطلب والمراد.

- كاتبا صحفيا بارزا. ومدققا وخبيرا لغويا، وهذا ما جعله على احتكاك مباشر لا بالأحداث وحدها بل وبصانعيها أيضا والتعامل معهم وفق رؤية فنية تحتاج إلى انتقاء المفردات بلباقة ودبلوماسية.

- محكما اعتمده "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- بالدوحة - فرع بيروت"، مما أتاح له تنمية قدراته الثقافية والعلمية، ومنحه مقدرة على تحكيم الضمير بدل العواطف والميول، وهي مهمة لا يجيدها ولا يقدر على أدائها سوى قلة من الناس. وقد نجح شاعرنا ليكون محكما مقبول الرأي في بعض بحوث المركز الأدبية المعدة للنشر. فضلا عن ذلك تعاون مع "مركز الجزيرة للدراسات" بالدوحة، أكثر من مرة، في تدقيق بعض منشورات المركز. وغير هذا وذاك اعتمد محكما في لجان تحكيم أدبية عديدة. وهي إضافة قلما تتاح لشاعر، تنماز بكونها تعمل على تهذيب تعامل الشاعر مع المفردة لأنه مسؤول عن تقويم مفردات غيره. وقد استغل الدكتور أدي كل هذه المتاحات لينتج مجموعة مهمة من الدراسات التخصصية

أكاديميا باحثا:

مزايا عديدة وبعضها فريدة، تجمعت في شخصٍ مرهفَ الإحساس، نقي السيرة، واسع البصيرة، مزايا قلما يتاح لشخص أن يجمع بينها في شِعب واحد، فخلقت منه مبدعا متنوع العطاء، ينماز عطاؤه بالثراء، وكانت المؤلفات والبحوث التخصصية المحكمة جزءً من هذا الثراء، فهو في دوامة العمل الفكري أنتج مؤلفات عديدة ومتنوعة، نشر له منها - حتى الآن - 11 كتابا، هي على التوالي:

1- "الإيقاع في المقامات اللزومية للسرقسطي"، صدر عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، عام: 2006 م. وينضوي هذا الكتاب على فكرة تجاوز دراسة الإيقاع في الأدب من الشعر، إلى النثر أيضا، بين صوت المعنى خارجيا، ومعنى الصوت داخليا.

2- "المفاضلات في الأدب الأندلسي/الذهنية والأنساق"، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، عام: 2015م. والكتاب أطروحة كبيرة حاولتْ أن تنتظم – نسقيا – للم شتات الوجود الأندلسي المفقود؛ بيانا، ومكانا، وزمانا، وأنسانا، وإيمانا، وعرفانا، من منظور فكرة "المفاضلات" الحافزة إلى التميز الإبداعي في جميع تلك الأبعاد.

3- "تأويل رؤياي: أطروحات صغيرة في الأدب والثقافة"، وقد صدر هذا المؤلف عن مؤسسة آفاق، مراكش، المملكة المغربية، 2019م، وهو عبارة عن مجموعة مقالات تخصصية بلغ عددها حوالي 150 مقالا، هي سيرة قلم يهوى السباحة في أعماق الأطاريح الثقافية والأدبية، مهما ضاقت المساحة، وقلت الحروف.

4- سلسلة "أدبيات أهل آدب"، وهي سلسلة كتب تضم خمسة مؤلفات صدرت جميعها عام 2020م عن مؤسسة آفاق المغربية، وهي:

أـ ارتياد لمناطق مجهولة، من التراث الثقافي والأدبي الموريتاني، ومحاولة لكتابة سير شخوص ونصوص، انحسر دونها التدوين.

ب ـ أسرة أهل آدب: سلالة الشعر وبيت القصيد. والكتاب رسم لمسار رحلة جينات الشعر، في أجيال هذه الأسرة عبر قرنين ونيف.

ج ـ المقاومة الأخلاقية في أدبيات أهل آدب، وقد حاول المؤلف في هذا الكتاب تتبع بعض تجليات التربية الأخلاقية في سلالة أهل أدب.

د ـ سيدي ولد آدب: رمز الفتى الكنتي، فارس المدفع والقلم. هذا الكتاب محاولة لإنشاء سيرة فارس، وشاعر، وعالم، لم يكتب عنه أهله، ولا وطنه.

هـ ـ الشيخ أحمد بن آدب: شيخ المشايخ وقطب الشعراء. وهو الآخر كتاب لبناء سيرة جديدة لشخصية جمعت المشيخة الاجتماعية، والدينية، والشعرية.

و ـ خديجة "دَيَّه" بنت سيدي بن آدب: خنساء شنقيط. وينماز هذا الكتاب بكونه محاولة بعث لخنساء شنقيطية من هذه السلالة الشاعرة، عزفت نشيد الأمل والألم.

5ـ عمود الغرابة في الأدب الأندلسي، (نظرية الأعمدة المتناسخة)، كتاب البديع في وصف الربيع، لأبي الوليد الحميري، أنموذجا. صدر عن مؤسسة آفاق، المملكة المغربية عام 2022م. وهذا الكتاب أطروحة تقوم على نفي "العمود" الشعري الأدبي الواحد، وتؤسس لنظرية "الأعمدة المتناسخة"، حسب تغير الذائقة الأدبية عبر العصور، انطلاقا من "عمود الألفة" التقليدي، إلى "عمود الغرابة" الأندلسي الجديد المتجدد، المنبني - في إغرابه - على: مفارقة المألوف إبداعا، والإحكام والإتقان والتجميل صناعة، والانفعال والإعجاب والاستغراب تلقيا.

6ـ النقد الأدبي: موضوعا للمقامة بين المشرق والمغرب. صدر عن مؤسسة آفاق، عام 2022م. وهو بحث يتجاوز النقد الاجتماعي المألوف موضوعا للخطاب المقامي، إلى ترصُّد النقد الأدبي، المنبثة قضاياه الجوهرية في مقامات أشهر مقاميَّيْن مشرقييْن: الحريري، والبديع الهمذاني، وأشهر مقاميِّيْن مغاربييْن: أبي الطاهر السرقسطي الأندلسي، وابن شرف القيرواني.

7ـ الشعر الحساني والشعر العربي، وصل الفصل.. نسب الأدب. صدر عن مؤسسة آفاق، 2022م. وهو محاولة لجرّ الدراسات الأدبية الأكاديمية الفصحى في موريتانيا، الى معمعان الشعر الشعبي "الحساني"، تجسيرا لهوة الفصل بين الشعرين والأدبين، وتحقيقا لنسب الأدب بينهما، فالشعر شعر بغض النظر عن اللغة التي كتب بها، فصيحة، أو دارجة.

أما في مجال البحوث التخصصية المحكمة فقد صدرت له العديد من البحوث، في الأدب العربي بشكل عام، والأندلسي بشكل خاص، والموريتاني بصورة أخص، ونشرت في مجلات محكمة.

وبالتالي أجزم بدون شك أو ريب أننا نقف أمام قامة علمية أدبية شامخة ذات تجربة ثرة وعلم غزير، وأننا لا نُعفى من التقصير إذا لم نولي هذه التجربة اهتماما كبيرا على مستوى الدراسات النقدية أو الدراسات الأكاديمية التخصصية (من متطلبات نيل درجتي الدكتوراه والماجستير فضلا عن بحوث الترقية العلمية، وبحوث التخرج لنيل درجة البكالوريوس).

إن وجود الأعم الأغلب من مؤلفات ومجاميع الدكتور أدي ود أدب لديَّ يعد فرصة إضافية لتيسير أمر من يريد أن يسعى في تنفيذ هذا المقترح، وأنا على استعداد لتزويدهم بها عند الطلب، فضلا عن ذلك أرى الدكتور على استعداد تام للتعاون مع أي طالب علم أو أديب ناقد بالصورة والشكل الذي يعجبهم.

بقيت نقطتان أود الإشارة إليهما رغم أنهما لا تلتقيان مع هذا السرد إلا من خلال جزئيات بسيطة:

النقطة الأولى: هي مهمة عمل (الدبلوماسية الشعبية) لتقريب رؤى الشعوب العربية التي تبنتها (رابطة المجالس البغدادية الثقافية)(4)، بعد أن فشلت الدبلوماسية الرسمية المؤدلجة والتي تتحكم بها المناهج السياسية في تحقيق هذا التلاقي، إذ قامت الرابطة سعيا منها لتوثيق عرى الإخوة بين الشعوب العربية بتنظيم سفرات مقننة لوفود من علمائها ومفكريها وأكاديمييها وباحثيها وفنانيها وشعرائها إلى دول عربية عديدة مثل: مصر، تونس، سلطنة عمان، لبنان، سوريا وغيرها، وقد نجحت في استقطاب أنموذجات مشابهة لتوجهات أعضائها من الطرف الآخر، أسهمت في إقامة علاقات متينة مع مقابلها، فحققت نقلة كبيرة في علاقات الشعوب العربية ببعضها، وكلنا أمل أن تتاح لنا فرصة زيارة موريتانيا والمملكة المغربية لتحقيق اللقاء العربي المنشود.

النقطة الثانية: لمستُ من خلال المشاريع الشعرية العربية المشتركة الثلاث التي أنجزتها بالتعاون مع بعض الأصدقاء مثل "قصيدة وطن"، التي انجزتها بالتعاون مع الشاعر العراقي المغترب ضياء تريكو صكر، وهي قصيدة مشتركة من وزن واحد وروي واحد، اشترك بكتابتها 173 شاعرا من 15 بلدا عربيا، وقصيدة "جرح وطن"، التي أنجزتها بالتعاون مع الشاعر العراقي الدكتور علي الطائي، وهي مشابهة للأولى ولكن عدد الشعراء بلغ أكثر من 180 شاعرا من 16 بلدا عربيا، ومجموعة "هذا العراق" الشعرية المشتركة التي أنجزتها بالتعاون مع الدكتور علي الطائي أيضا، والتي اشترك بكتابتها 388 شاعرا من 17 بلدا عربيا، أن هناك رغبة جامحة لدى شعراء الأمة ليتعاونوا فيما بينهم في أي عمل بنائي صادق، لكن عدد المشاركين من بلدان المغرب العربي كان متفاوتا من بلد لآخر، ففي الوقت الذي اشترك فيه 20 شاعرا جزائريا، وعشرة شعراء تونسيين، نجد هناك 6 شعراء مغاربة، وشاعرا موريتانيا واحدا هو الدكتور آدي ود أدب مع أن موريتانيا تسمى بلد المليون شاعر.! وهذا بالتأكيد بسبب ضعف التواصل بين المشرق والمغرب، ولذا أحث الباحثين والكتاب والأدباء العراقيين على تجربة التواصل مع مقابليهم في مغربنا العربي، وذلك ليس بالأمر الصعب في ظرفنا الراهن.

***

الدكتور صالح الطائي - باحث في الفكر الديني ومقارنة الأديان، وشاعر وناقد، أصدر 86 كتابا.

........................

الهوامش

(1) كان العراق قد قطع علاقاته الدبلوماسية مع موريتانيا في شباط من عام 1999م، وبقيت العلاقات متوقفة لسنوات عديدة؛ حيث أعيدت في أيلول عام 2012، لكنها لا زالت دون مستوى الطموح العربي والإنساني.

(2) عمود الغرابة في الدب الأندلسي (نظرية الأعمدة المتناسخة) كتاب البديع في وصف الربيع لأبي الوليد الحميري أنموذجا، مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال، مراكش ـ المغرب، 1444هـ ـ 2022م، صفحة الإهداء.

(3) أسرة أهل آدب سلالة الشعر وبيت القصيد، مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال، الداوديات، مراكش ـ المغرب، ص14.

(4) رابطة المجالس البغدادية الثقافية، رابطة مستقلة ذاتية التمويل ذاتي، لا ترتبط بأي جهة سياسية أو دينية، تضم أعضاء تخصصيين من كل الطيف العراقي، وتعمل على تمتين علاقات الشعوب العربية ببعضها من خلال اللقاء المباشر والتعاون.

توطئة: أن يجترح الشعر، في غمرة انحرافاته المتمركزة أساسا في الروح العاطفية، والميولات الرومانسية، ويشقّ له توجها يتأسس في الأصل، على رؤى أكثر تحرّرا وانقلابا على واقع اضطهاد الشعوب، فهذا ليس من قبيل الصدفة، بقدر ما هو ثقافة تتماهى مع الحداثوي وتنغمس في حيثياته ومضامينه.

مثلما تعكس استشكالا بحجم تحوّل المنظومة المفاهيمية، لدى جيل تبدّل بالكامل.

وهي منظومة مرتبطة بالهوية وأولويات وجودية وحضارية أخرى.

من هنا، نجد ثورات ما يسمّى ب” الربيع العربي” وقد خصّبت إلى حدّ بعيد مثل هذه البؤر الانقلابية في مجالات عدّة، أبرزها التوجه الثقافي، ما أدّى إلى اصطباغ المشهد الإبداعي بتيارات تتبنّى البعد الثوري، وإن اختلفت وتنوّعت قوالبها،وتعدّدت تمظهراتها، لكن يبقى المضمون واحدا موحّدا: الانتصاف للكرامة العربية.

من منطلق سياسي، لم يك أحد يتوقع أن يحدث هذا، بعد التطبيع الكبير الذي عرفه تاريخ العلاقة ما بين الشعوب العربية وحكّامها.

لا أحد يستطيع إنكار التضحية التي قام بها، البوعزيزي، حتّى ولو سلّمنا أنه أراد ردّ الاعتبار لنفسه فقط، وربما قد يكون غائبا أو مغيبا عنه الحسّ الثوري، قبل وأثناء وضع حدّ لحياته، بتلك الطريقة الجنائزية التي هزّت العالم العربي، بدرجة أولى، وولّدت تعاطفا كبيرا، ونفخت في غيرة المواطن المسحوق المغلوب على أمره، ودفعت به إلى الانتفاض ضد الآلة القمعية، وشتى أشكال الاستعباد والاضطهاد والغطرسة المخزنية.

مثل البوعزيزي الشرارة الأولى، لنزيف جماهيري خانه النضج بما يكفي، لسدّ الطريق على المتاجرين وسماسرة السياسة الذي ركبوا في الأخير على ما يمكن أن نسميه ـــ تجاوزا ــ مكاسب الثورة.

أو هذه الثورات التي اندلعت في بعض الدول العربية، تونس البدء، وتمّ احتواؤها بشكل ذكي في باقي البلدان.

الموازي لذلك، هو مثل هذه التيارات الإبداعية، والتي يعنينا منها، الشعر، قبل أي شيء آخر، وله تشعّبات في ذلك، بالطبع، ما لفت انتباهي على نحو خاص، منها، هو ما أطلق عليه ” الميليشيا الثقافية ” في العراق.

العديد من الأقلام كتبت عن هذه الثورات، ولكن قلة فقط من المبدعين الذين استطاعوا فهم تلك الحقبة فهما صحيحا، واستوعبوا تداعياتها استيعابا سليما متحرّرا من هيمنة وسلطة الإيديولوجي.

ومما لاشك فيه أن الشعر الذي ركّز على جوانب رسالية نابضة بالهمّ الإنساني وانشغالاته، وأنصتت متونه إلى الأسئلة الهوياتية والوجودية، في عمقها، هو الشعر الذي يمكن القول أنه اختزل تلك المرحلة وما عقبها من تحديات، كي يعطى، أو بالأحرى، يرسم أفقا لتيار جديد يشاكس بالهاجس الإنساني، ويُشرع عوالم خفية الكائن العربي المطعون في كرامته، على المصراعين، ويعرّيها جملة وتفصيلا.

من هؤلاء، الشاعر التونسي المبدع، ونحن نطالع له ديوانه الموسوم ” سفر البوعزيزي” الذي يوقّع تجربة جديدة ومغايرة متمحورة على الابتكار في اللغة والصورة والرؤية.

إنها تيمة الحلم كنافذة لخلاص الكائن والعالم، تتوسل مثل هذا الخطاب المتشبّع بروح الثورة، محتلّة منزلة المابين، فلا هي بالفلسفية المحضة، ولا هي بالخارطة أو الجغرافية الإبداعية المرتكنة إلى إيقاعات الصوفي، ولكنها في المقابل برزخية تؤاخي ما بين الحلمية والواقعية، مراهنة على عمق المتون وطفوها على معمارية بسيطة وسلسة، تُترجمها تقنية السهل الممتنع.

إن هذه المجموعة التي بين أيدينا، قيد الدرس، تقدّم أفقا شعريا متساميا على مفهوم القضية، بل وفاضحا في الكثير من المحطات، زيف ما انطوت عليه شعريات القضية من تعتيمات وتضليل.

سخّرت لهذا التيار الشعري المفاخر برائد الثورات العربية، ذلكم الشاب التونسي الذي قدمّ نفسه قربانا لاعتبارات سالف ذكرها، وبدوافع في صلبها الإنساني الحارق، العديد من الآليات الخطابية الحجاجية القائمة على وعي متوهج بالواقع.

وقد استخدمت لهذا الغرض جملة من الدوال سوف نجردها تباعا في هذه الورقة التي نحاول من خلالها تقريب المتلقي من ملامح موجة إبداعية استثنائية استطاعت تعرية عالم السلبية والنقصان.

مفهوم الانتماء

في بناء عوالم مثل هذا التيار الشعري الذي تمخض عن هزائم نفسية قبل أن تكون مادية، وشكّل صدمة ثانية لجيل البوعزيزي وما بعده، حينما أتت خيانة الثورة وغدرها، على هذا المقاس وبهذا الاستسهال وعد النضج، الذي مكّن لتجار الإيديولوجي والساسة السماسرة، وخوّل لهم ما يعتقدونه انتصارا لجيل طعن في حريته وكرامته وحياتيه، وسائر ما هو تحت سقف الكمالية الحضارية والوجودية التي يحظى بها غير العربي في بقاع وربوع أخرى.

لأنه في الأصل خسّة ولصوصية كرّست لضرب مخزني جديد، أرخى بأبجديات خادعة بأشكالها فقط، فيما الروح باقية وضاجة بنبرة قشيبها ومتقادمها.

هوان وذل وخنوع وتبعية عربية، بلبوس جديد، راح العربي المسحوق يدفع ضرائبها أكثر فأكثر، بحيث يضرب في هويته وكرامته وحريته وثقافته ووجوده.

نقف عند حدود تفجير أسئلة الجذر، في الكثير من نصوص الديوان، على سبيل المثال لا الحصر، قصيدة ” تذكرت البداية ” التي يقول فيها:

أمد الكون في ألفي ويائي

وأبسطه وأحقنه دمائي

وأشربه بلا مزج

قراحا

شراب الضوء يشرب دون ماء

وأدعو أن يصار إلى قصيدي

فيشرب

أو يعلّق في البهاء

أدير الكأس لا أدري لماذا ؟{1}.

ونص ” البيت “، نقرأ بعضا من طقوسه الهامسة، إذ يقول نصر:

إلا الكلام.ستأتي النجوم إلى هذه الدار.سوف يعرّش نبت الصباحات فوق الصحيفة أو فوق لوح المرافع.سوف تهز الغيوم برانيسها كي تبلل جير البيوت وجلّيزها. والعصافير سوف تعد منازلها في خصاص السقوف.ونهر القصيدة سوف يعود بأمطاره وأسراره، ويعود الحمام. ” أنا هكذا “لت للأصدقاء{2}.

إنه بيت الخلود المهدى إلى الشاعر محمد النجار، وطبعا، فروح شاعر مبدع كنصر سامي،لا يمكن أن تختزل من أسرار الصداقات والعلاقات، سوى ما هو موغل في الإنساني، وأكثر من ذلك مذبوح في الهوية والانتماء.

أن تستحضر شاعرا في نصوصك وتحتفي به، على هذا النحو من المشاكسات المتاخمة لجرح في العروبة لم يزل ينز، ذلكم هو التمكن واليقظة والاستبصار الراسم لقول شعري تعرف من خلاله وعبره الذات متاهات وتعالقات الإيديولوجي والاجتماعي، في كثير من نقاط التقاطع والتوازي، حدّا يدمي كرامة العربي ويذكره ببيته المغتصب، وفوق ذلك حلمه المسروق وثورته المجهضة.

قس على ذلك العديد من النصوص التي تستنطق الهوياتي، وتحاصر بأسئلة المنبت أو الجذر، مثل نص ” لي سماء في السماء “، إلخ…

ذاكرة المكان

تبدو سلطة المكان في نصوص نصر جلية، وواضحة المعالم، متلوّنة المتون، كونها جزء لا يتجزأ من تصور عام والج في روح الانتماء والانشغال بدوائرها.

من تمّ، هذه التجليات لذاكرة الأمكنة في شعريات الثورة وما بعدها، لما لها من قدسية ورمزية، أي هذه الأماكن، ووظائف ضمنية تغذي الطرح الثوري الانقلابي في الواقع والنص وشتّى المناحي الاجتماعية والحياتية والثقافية.

ولأن الطفولة البعيدة، أيضا ذاكرة، على نحو راسم لتشاكل واسترسال في توليفة نستشف عبر الديوان كيف أنتجها هذا المزج ما بين حلمية الواقعي وواقعية الأسطوري، تأسيسا على إقحامات واستحضارات صارخة بالرموز على نطاق أوسع، وفي مضمار تاريخانية محتفية بالانساني، ومنسبة للمشترك، كما أنها مدغدغة بتقنيات تمرير الموروث بما هو ماضوية واستغراق في الذاكرة، قابل لإنتاج جديد وصياغات مغايرة، تتيح التملص من سلطة الغابر وسطوة الذاكراتي.

هناك نصوص كثيرة تعكس هذه التوجهات، نذكر منها الآتي، قصيدة ” فوضى على باب القيامة ” باعتبارها فسيفساء كلامية شفّت كثيرا عن حقول الطفولة والذاكرة وقدسية المكان، بما يشد إلى تلوينات التوأمة ما بين الطفولي والمكان على تعدداته وتناسلاته الذاكراتية، نقتطف للشاعر هذه الأبيات:

أودع في الشموس البيض عمري

وأجمعه نجوما أو رذاذا

وأفتح فكرتي وطنا

وأعطي لهذي أضلعي

ودمي لهذا

ولا أدري أتفهمني حروفي بحق

أم تبادلني لذاذتها غصبا

لتدفع في دمائي هجيرا لا يطاق ولا يحاذي

أفكّر في غدي

وأنا عليم بأن الشعر منذور لهذا

فهذي الشمس تطلع

حين ترمي حروفي في دم الأكوان{3}.

ملفت هذا الكرم الشعري الذي يفتح أوراق كثير ممن أثروا بتجاربهم الإبداعية المناهضة للسلبية والنقصان والديكتاتوريات الأيديولوجية والمدبجة بحس نضالي ومقاومة شرسة، إبداعيا، لجميع مظاهر الاحتلال والاستعمار.

أشعار تُهدى إلى اسم وارف تسلّح بشعر القضية وأبدع فيه قبل أن يُسربله بفوقية للمشترك الإنساني، بما هو آيات خالدة لن ولم تنسى، أو تعتريها عوامل التعرية والتجاوزات.

شاعر القضية الفلسطينية الأول، محمود درويش

وهنا تصهل المسافة ما بين إبداع القضية وإبداع الثورة، كما أراد لها نصر، معتمدا إيقاعات للفوضوية البانية، وكأنه يؤسس لمنطق منفلت مسعف في ترتيب أوراق الزمن العربي، من جديد، ومعاودة الحسابات، بعد كل هذه الخسائر والهزائم المتكررة.

إنها تجليات ثقافية جديدة تعصف بها ملامح شعريات انبثقت من رحم الثورة المخذولة، تماما مثلما أسلفنا.

فيما نص ” معلّقة القصبة ” والمُهدى إلى نزهاء المسؤولية السياسية الذي حافظوا على أياديهم نظيفة، دون أن يسيل لعابهم إلى البريق السلطوي المستنسخ لروح مخزنية جديدة، ولم يقع في فخّ المكاسب الناهضة على موت الضمير واختناق صوت العقل.

يقول نصر:

صنع التّاريخ

لم يقبل عطايا

حين هزّ العرش واجتثّ الزوايا

ذاك شعبي الحر

ذاك التونسيّ

من أضافت آيه إلى المجد آية

من تأذّى حين كان الليل أعمى

من رأى ضوءا فغالته المنايا

صنع التّاريخ حقّا،

لا مجازا

وأشاع الشمس في ليل البرايا

كل نجم فيه من أضوائنا.

عرق يضخّ الدّم في كل الثنايا

نحن آمال الشعوب الآن

فينا يبصرون المجد

بل نحن المرايا[4].

إضافة إلى نصوص أخرى تخط ذات المسار، وتجذب إلى سماوات السفر في الجوانب الأكثر إشراقا من ثورة انطلقت بريئة ولكن سرعان ما أفسدتها وزايدت عليها وساومت في بعض مكاسبها، التكالبات والأنانيات السياسية، نصوص من قبيل ” قبر من رماد “، ” قبضة عشب من أجل ياسمين “،”شرفة في القاع “.

إذ الجميل في المجموعة، أنها سفر في الإنساني، يزدان بسيرة بطل حقيقي أجبره جور الوطن، وشعور المغترب في بيته، على تفجير ثورة الكرامة والحرية والخبز، فكانت التضحية التي أدخلته عالم الرمزية والخلود، حدّا تكشّفت له آفاق الإبداع الشعري العاقّ بمعنى ما من المعاني المفتية بها ضرورات تاريخية معينة، يواكبه نزيف الانتقال من صور إبداع القضية خاصة بعدما اكتشفت بعض أقنعتها، واتّهمت من قبل كثيرين، كونها أوقعت كذلك، في براثن التكالب على نزر المكاسب وقمع النبض الثوري في أولى تباشيره، سارقة بذلك حلم جيل كامل، ما أن صدق مرحلة جديدة وواعدة ومنصفة، تحترم حريته وعدالته وكرامته، وتعتبر هويته وترا حساسا وخطا أحمر لا يقبل المزايدات الرخيصة.

يقول أيضا:

… أحدّثها،

اسقّي الليل في أهدابها

مطرا، وأرميها سماوات

على هذي الجحيمات الطويلة.

أما بويب،

فشرفته في القاع يعرفها دمي

في القاع، أي في القاع،

حيث أسكن يا جميلة.

حيث تولد فكرتي بيضاء

لكن السكاكين الصقيلة

تمرّ من خلل السواد

وتستبيح الضوء

أبصر فجأة عدما يطلّ،أرى رحيلا

يسلّمني إلى رحيل.

وموتا إلى موت.

عدا عينيك، إنهما يسافران

ويفتحان بأحرفي وطنا بديلا{5}.

وإذن… في معنى وصور الوطن البديل أو الموازي، الذي تبنيه الثورة الإبداعية اللائقة بتضحيات رمز اسمه البوعزيزي، كشخصية تاريخية، شهيد أولى الثورات العربية.

وما إسقاط أو إحالة المشهد إلى حضور رمزي لأبرز أقلام النيوكلاسيكية الشعرية العربية، بدر شاكر السياب إلاّ قيمة أخرى تمت إضافتها بعناية ودقة وحرص، إلى ما من شأنه أن يذكي قداسة البوعزيزي، ويزرع روحا صافية، أو يضخ دماء جديدة في الشعرية العربية الحديثة، وهذا ما قدّمته وتحاول أن تقدّمه هذه الموجة الجديدة الوافدة بأحاسيس للتجديف في الواقعي بوصفه مرايا للأسطوري، والعكس بالعكس تماما، راسمة بثقة وتمذهبات بعد حداثية، مناخات للتشكيك في القضية والثورة، ما دامتا أخضعتا واحتواهما الإيديولوجي الغارق في أقنعته وزيفه، كي تظل في الأخير سيرة استشهاد البوعزيزي، منعطفا تاريخيا خطف العبور في أفلاكه، فجرا ثوريا،سرعان ما انطفأ، لتخلد رمزيته وضمنيته وإشراقات حمولته التي تتلاقح ضمن عوالمها تعاليم العروبة ووصايا هوية الكائن الراعية للمشترك الإنساني، قبل أي شيء آخر.

بذلك يكون ” سفر البوعزيزي ” فجر ثورة، خذلتها الإيديولوجيات المزيفة، وأقبرتها الأنانيات السياسية ونفعيات الماسونية الرخيصة.

ويقول كذلك:

وطني كعادته يريد ولا يريد ويستزيد من الصلاة كي يعيد حياته.بالرفض أحيانا وبالتّحنان يملأ كوبه ذاك المقدّس بالدموع لوحده حتى يرضّع ياسمينا في حديقة بيته ويمدّ نهرا في العروق لكي يهيّئ للعروق فراشا. ويقول للنقط الصغيرة فوق حرف الشّين صيري غيمة ثم املئي بيت الشعوب بما تحب وما تريد.قطّريني فوقها لأكون عطرا.ذوّبيني في الفضاء لكي ألامس صدرها. كوّني منّي الندى ثم انثريني حولها{6}.

من هنا إعجاز الحرف الذي تنبري له أوطانا موازية مشتهاة، وليست في سوى أخيلة الشعراء، وفق شاكلة محرّضة على الفعل الإبداعي المتلاعب بالأزمنة، بحيث يرتب الذاكرة ويستغرق في تأملات الآني ويستشرف الغد.

عوالم الأسطورة والرموز والموروث

يحوي الديوان متوالية من القصائد التي تهيمن على معماريتها استعمالات الغرائبي، ودائما على نحو يخدم الغرض العام الذي تمّت كتابة المجموعة لأجله، فتح صفحات بطل عربي كبير، يمثل استشهاده انقلابا في التاريخ العربي المرير وما انطوى عليه من تقاطعات للسياسي والمجتمعي والديني، هذا السفر البرزخي الذي تقترحه المجموعة ضمن عوالم منذورة لجملة من الآليات والإمكانات الإبداعية، صانعة لتحول كبير ومهم على مستويات متعددة في القول الشعري أو البوح المتمرد الذي يقدّس الثورة كما رمى بذرتها إنسان استثنائي يدعى البوعزيزي.

ممّا أثرى إيقاعات الفعل الشعري، وصبغها بمتون عميقة تذود عن السيرة الإنسانية، وفق حدود المنطق الثوري المشروع.

بحيث يبرز الانشداد إلى لبنة جوهرية، أفصحت عن منبت الثورة، وعبّرت عن حيثياته بوضوح، وفصلت فيه، بلغة تصويرية واعية وواثقة تطور المعنى وتسخّره للمفردة، وليس العكس.

وهنا تظهر قدرة الشاعر وتمكّنه من أدواته، كما عمق وعيه بالأزمة، ما سهل عليه تفجير أسئلة الهوية والتقاطعات الإيديولوجية والاجتماعية والعقدية، في بعدين: نفسي وعقلي.

يزدهر مثل هذا التوجه في تراكمية تذكيها إغراءات هذا السفر، سفر البوعزيزي، متزملا بوجه آخر، وجه السيرة النابضة بالضمير الجمعي.

هذا السفر والذي هو بمثابة دينامو للسّيري مثلما يشدو به الهمّ الجماهيري، محققا وحدة وتجاورا في المشترك.

وهكذا انبثقت ثورة الحرية والكرامة والخبز، بفضل شاب يتحوّل إلى رمز وذاكرة حية، يعود إليها الشعر كل حين، وتؤوب إليها القصائد منفّسة عن الجرح العربي العميق، مصرّحة بأن الإيديولوجي هو المتهم، كي يبقى، بالتالي، البوعزيزي، أو بالأحرى تخلد رمزيته، فوق هذا الجرح وفوق هذه الثورة المخذولة وفوق الحلم العربي المسروق.

المهم أن وصايا نصر من خلال سفر البوعزيزي، تظل واضحة وصريحة، ومنبّهة إلى أخطاء التاريخ العربي وثغراته، ومدافعة عن حلم عربي آخر مشروع، بعيد عن المزايدات والمكاسب التي قد يصنعها التحالف السياسي والعقدي والمجتمعي.

ثمة الكثير من النصوص المفضية إلى دهاليز الأسطوري، والمدغدغة بأسراره وإسقاطاته على راهن عربي مقنّع خان ثورة الأحرار وقطف مكاسبها.

نذكر قصيدة  ” سيعود يوما طائر الفينيق”، مطالعين قدرة الشعر على استنطاق الذاكرتي المثقل بأوهام الزعامة وأنانيات السلطوي، بما يفيد التاريخ الإنساني المكرور والمنتج لمختلف أشكال الاستعباد والقمع والاضطهاد، كي يظل الحلم هو الخيار أو البوابة الوحيدة لمؤانسات الاغتراب الروحي، وتضميد السيكولوجية المنهزمة أمام غطرسة الحكام وساديتهم.

يقول الشاعر التونسي نصر سامي:

لكنني أرتدّ أحمل عزلتي وقصيدتي. هو هكذا. صحراؤه خضراء والموت طير قادم من أجلها. ” ليكن صباحك رائعا يا خوف”. ولتكن أنهار حزنك جنة، لأبيع وهما للصغار وللفراش وأعدّ نهرا للغزال وللغزالة كي يناما في هدوء وأهيئ الكلمات كي تستقبل الآتي وتلقي فوقه في الليل بردتها. هو هكذا. في أرضه شجر النهايات القديمة يطرح الآن الحروف ويملأ الدنيا بماء الليل. وفي السماء، سماء وحدته التي أسرى بها الوهم القديم إلى قصيدته، رأيت باب النجم مفتوحا ورأيت أشرعة تهزّ الغيم ورأيت مدينة تنسلّ من أضلاعه وتمدّ في ليل الكلام ضياءها.’ لم يستطع أحد هنا نسيانه{7}.

إنّه النسيان المستحيل، أي الذاكرة الحية الرافلة بحضور الكائن في رمزيته، ودوما يتمّ تشبيه الشعر بالضوء الذي يسري في عالم السلبية والنقصان، كي يضيء جوانب العتمة، ويجود بالسّحر أو الجمال والمعرفة المتوقف عليهما خلاص الكائن والكون.

في ذلك انتقال من حالة الانشغال بالهم الشخصي العفوي وغير المقصود، إلى حالات الشّعبوية المستقطرة من هواجس الإنساني والمعتصرة روحها من فراديس انتساب شمولي إلى شجرة الإنسانية الخالدة.

حقا وصدقا، مثل البوعزيزي، لا ينسى وستظل تضحيته منقوشة في الذاكرة والوعي العربي،ما استفرد وشذّ وغرّد على هواه حاكم من الزعماء العرب، الذين طالما خنقوا شعوبهم بسوط المخزنية المقيتة.

لدينا حلم، على حدّ تعبير الشاعر نصر سامي، وسقف هذا الحلم هو وهم الكتابة ومقامرات السفر في متاهاتها، لحين بزوغ فجر جديد، ينتظره البوعزيزي مختزلة فيه، وهو فارس برزخيته، أحلام الشعوب العربية المقموعة، فجرا ينصف التضحية الجسيمة لذاك الفتى العربي المرعب برمزيته.

وهناك نصوص تعتمد إقحامات رمزية، وتنخرط في عوالمها، حدّ السحر وأسر الذائقة والعقل على حدّ سواء، نطالع للشاعر بعض الطقوس منها في قصائد قوية قوة رمز هذه المأدبة الشعرية، وهو يرقد هنا/ هنالك في عزّ برزخي هو مفخرة لكل عربي ممسوس في هويته وحريته وكرامته، يقول:

بردى معي. لا أفهم الآن الممات ولا أرى إلا الحياة تمرّ في جسدي وتفتح في الردى بيتا وفي بلدي. من أين يأتيك الردى وأنت يا بردى من صنعت المجد للأحياء وأنت أنت الضوء في هذا المدى المزروع بالألغام وأنت أنت الريح تزرع صوتنا شجرا وتمنح للندى في حلمنا الرواح والجسد.

وآه يا بردى. لا ماء في الأرجاء غير الدمع يا بردى. والحزن نفس الحزن يكبر في أغانينا وفي دمنا. يحتلّ كل الأبيض الممتدّ فينا{8}.

إنما يستمدّ الكائن براءته من هذا البياض الممتد والذي هو في الأصل شعر، يبارك كل الثورات عبر التاريخ الإنساني، على استرسال صفحاته وانسدال فصوله، كي يدين الجور والقمع ونعرات الشيطنة، وكلّ عقوق يقود إلى خراب العالم وتدمير نفسية الكائن واغتيال أحلامه.

سفر جلجامش وضع نهايته كشف السّر، إكسير الحياة، ليكون خلود هذا الرمز في الذاكرة الإنسانية ساطعا وقويا، ولكن ليس بسطوع وقوة الكائن العربي الذي تراكمت عليه الخيبات والهزائم والانكسارات التي لا يمكن تحمّلها أو استساغة سيناريوهات تخيّلها حتى.

لذلك كانت المعادلة هنا دامغة بعناوينها ومضامينها، وأيضا بعمقها الإنساني ومتجذّرة في هويتها العربية، وهذا هو سر البياض الممتد والقابل للعديد من التأويلات، إنه واقع ينشد مثاليته ولا يتأتى بغير النبش في سيرة البوعزيزي ومساءلة سفره السرمدي.

ذلك حين تغوص شعرية تيار إبداعي جديد في حقول تجاذبات ضدّية، كي ترعى وبشراسة الخطاب الإنساني في الروح العربية الأبية، واستقصاءات فانتازية موغلة في المفارقات، بما يضع شعر الثورة على تنوع تجلياته، فوق القداسة والحياة، ويظهره على انه موتا بمعنى الحياة، وغيابا بمعنى الحضور، وفوضوية بمعنى الترتيب وهدما بمعنى البناء.

يحاكي الخبز في ثقافة الشعوب العربية المقموعة، عشبة الخلود هناك، في عوالم جلجامش، لدى نجد أن ما منح طابع الرمزية المتفوقة فيما يتعلّق بالحالة ” البوعزيزية” نسبة إلى عريس الثورة العربية، البوعزيزي، إذا شئنا، هو صرخة من هذا النوع، وهي صرخة تحرج أساسيات أو ضرورات الحياة، بينما هناك، لدى جلجامش، وما تتوقف عليه ملحمته من تمثلات، تمت مسرحتها على مستوى كمالي صرف، وهنا يكمن عمق الحالة الإنسانية الأولى ما اقتضى هذا الإسقاط الثانوي الذي مثل في الحقيقة شرف إضافة.

إنها موسوعية عالم البوعزيزي وهو يطفو على ما عداه من مثاليات، وقد أفلح الشاعر نصر سامي، في ترجمة هذا الإحساس وتمرير الحمولة الجمالية والمعرفية والتراثية الدالة عليه.

فضلا عن نصوص الاعتناء بالموروث، هنا، وكيف أنها لم تستنسخ الذات الشاعرة، بقدر ما طبعتها بولادات ثانية، مزهوة بإيقاعات الاستحداث والخلق والابتكار في المعجم والصور.

نأخذ مثلا نص ” في ظل مرثية أبي لؤي الهذلي ” وما تثرثر به من انزياحات للجنائزية والمأساوية المتبّلة للمشهد البوعزيزي، الواخز بتفاصيل الإنساني والراشق بنثار تجليات حالاته.

نطالع له كذلك البعض من طقوس الاتكاء على الموروث والنهل من خزائنه في سياق عربي محض تتقاذفه التأثيرات الخارجية وتنغّص على أجوائه لوثة الموالاة ومعرّة التبعية.

يقول:

قالت: ” نعم، لي في الجوار مراجع. سأمر يوم الأربعاء. أحب أن ألقاك”. وسألت في سرّي: لماذا الأربعاء؟ من أجل إيقاع القصيدة ربما ؟ من أجل ثلج لم يزل معلقا في روح هذا العالم المدفون في الظلماء؟ أم من أجل محو لم يزل معلقا في مرثيات الموت يدفعه الهواء؟

يمرّ الوقت موتورا معنّى. أسمع الموتى يفرّغون ويملؤون. وأرى الدواب تئن تحت السّوط بكماء لا تدري. وأسمع في نداء الباعة المتجولين البؤس والمرض المحاط بفضة بيضاء هي الستر والخوف من غليان هذا الوقت والقبول بما تبقّى من فتات موائد الغليان. لا أريد من الرياح قصيدة. مثلي يسافر في الريح قصيدة مغموسة في العطر ينسجها الضياء. والضوء أسود لا يزال، والنجم أسود، وكل شجيرة في غاب ذاكرتي هنا سوداء. حتى السماء فإن السم مازجها حتى تسمّم في أعماقها الماء{9}.

وهذا بيت القصيد، نصر سامي من خلال حضور البوعزيزي وانثيال رمزيته لسائر مشاهد الجنائزية والمرثاة في راهن عربي دموي مضطرب ومهزوز، محض ارتقاء بالكائن إلى مستوى القصيدة الكونية المترنّمة بالمشترك الإنساني.

الشعر هو النور الذي يسري في عروق عالم مطفأ، فينير التوجه الآدمي المتعثّر، والمحاصر بإملاءات البهيمية والشيطنة، مقابل تنويم مشاتل النوراني والجمال في النفس البشرية الضعيفة أصلا، مع أنها توّاقة في الغالب، إلى الكمال، منجذبة إلى سماواته.

إنها كتابة البياض التي تكرّم البوعزيزي، وتكتب غيابه حضورا مشرقا متوهجا. وتلعن المزايدات السياسة التي أفسدت كل شيء، وجنت على تضحية البوعزيزي التاريخية.

شعرية المقدس

إن التناص مع المقدس، يمنح لأنساق هذه المجموعة إشعاعا وأفقا لجمال استغراق القاموس الديني، بما يصون روح الابتكار في اللغة والتجديد فيها، حظوظا تجعل الرسالة المفخخة بالحس الثوري، أجمل وأقوى.

يتمّ استثمار المعطى الديني، على نحو يباغت البياضات في محطات عديدة، فتحصل الخيانة التي تسمو بكتابة الغياب، إلى مستوى الرمزية التي تنسج طقوسيات جرد سيرة البوعزيزي، وتمجيد السفر في عوالمه إلى الآخر.

تلك كتابة الغياب بمعنى الحضور، لا نمتلك سوى تفعيل تفاصيلها والمناورة بفصولها، بغية مغازلة واقع الخيبة والعدم الذي خلّف فشل الثورات العربية، بعد أن راهن على شرارتها الأولى، كل عربي مطعون في كرامته وهويته.

مثلا، في قصيدة ” المدثر ” نلمس إحالات الطهارة الروحية، والتي تفيد من نواحي أخرى تيمة النبوءة، وهنا ترخي بثقلها دوال مثل هذه المفردة التي لها قواسمها المشتركة، بالطبع مع الشعر كأصل للفنون.

ينضاف إلى النبي والشاعر، الثوري كمخلّص للبشرية والعالم.

نقتطف من هذه القصيدة الجميلة، الاقتباسات التالية:

أتذكّر روحي وهي تحدّق في آيات الرحمن قرب شجيرات الزيتون تقوم بفرش مصلّى. أهمّ بتقبيل الأرض تحت الساقين العاريتين الرائعتين الحاملتين لإحدى أجمل أسطورات الأرض: أمي، تلك المخلوقة من أنوار، تلك المشغولة بالياقوت والأطيار. تلك الليل حين تمدّ يديها ألف نهار، تلك الجنات جميعا منها تغار، تلك اللغة الملأى بالأسرار. أتذكر قلبي وهو يطير إليها. حلم هذا حلم. أبكي وحدي في ظلماء الليل. جسدي حجر لكن روحي غيم، وأنا أتدفق في ساعات الشوق أمي الناي ناي الله وقد جسده في كلمات، أمي نور يتدفّق كالأنهار ويهدي كالآيات، أمي تاريخ حنان لم تعرفه لغات الأرض ولم تعرفه حياة، أترقرق أنوارا أتشظى تخرج من شفتيّ زهور الليل. وأرى حولي كتبي، متناثرة كقبور تنتظر الحفّار، وأصرخ: ” لو هذه الأرض تفاحة في فمي، لقضمت قضمت قضمت إلى أن تسيل الدماء وينهل عارض برق “. أنا هكذا، لغتي وطني{10}.

في ارتباط هذا السفر بمنظومة مفاهيمية من القداسة والسمو بمكان، الانتماء، الأم، الأرض، اللغة، وهلم جرا، تكون هذه الشعرية قد اختطت مسارا استثنائيا، يسجل حضور ا محايثا  للكينونة المتمردة والثائرة، ويعطي انطباعا بجدوى الشعر في هذا الدومين الزاخر بأسلوبية إبداع الغياب الذي يعنيه الحضور الرمزي، وتلوّن تجاويفه ملامح الأنا المتسربلة بالضمير الجمعي والهامسة بصوت ” النحن”.

إن مجارات المقدس في نظير هذه الشعرية، التي استطاعت من خلالها الذات الشاعرة، تأجيج الفعل التواصلي والارتقاء به إلى أعلى نقاط إشباع الذائقة وتغذية الذهن، على حدّ سواء، تبعا لفصول رسم أحاسيس لاختزال هذا الجرح التاريخي المقيم في الذات، خارج النص والمعنى الذي يبحث عنه هذا العربي المطعون في حريته وكرامته وأبسط حقوقه.

لهي مجارات واعية وواثقة وراصدة للأزمة في عمقها وتشعّباتها وخطورتها، ذلك حين تغتصب خياناتنا البياض، حتّى ليغدو الإبداع مرادفا للوهم الذي نراوغ به وجوديتنا، ونحن نقاوم الجور الإيديولوجي، ملزمون باتخاذ الحيطة والحذر في عبورنا الآثم.

من خلال القصيدة، نتهم ذواتنا، وفي المجمل نحمّل التاريخ أخطاءنا، ولكن يأتي الشعر الحقيقي، يجيء من ينابيع الحس الثوري، وأدغال الأصوات المتمردة التي لا تهادن، محاولا التصحيح والتقويم.

خلاصة

في اعتقادي، الشعر الذي لا يختزل مرحلته ويحتويها بالتمام، لا يمكن التعويل عليه، ولعل ما كتبه هذا التيار الجديد احتفاء برواد الثورة، خير دليل على ما ذهبت إليه.

في أفق تخليق الشعري للإيديولوجي، والعكس بالعكس تماما، ولكن مع كامل التعرية والفضح.

بإمكاننا القول أن هناك ثلة حققت مصداقية وراكمت تجاربا في هذا، وما بصمه الشاعر التونسي نصر سامي المكتوي بواقع خذلان الثورة، كأي عربي حرّ قدره أن يصرخ ملء الثغر، في الظل، حالما ومستشرفا ومسلحا بنبوءاته.

وظف نصر جملة من الإمكانات، بحيث استطاع الانخراط في تيار شعري مثلت الثورية وقوده الأساس، فكان أن أمتع ضمن حدود هذا السفر الوارف بمثاليته وضمنيته ورمزيته الآسرة.

سفر البوعزيزي، كعلامة فارقة في المشهد الشعري العربي الحديث، كون الذات الشاعرة داخل مثل هذه السراديب، لم تغتر بغير خيانات البياض، وكتابة الغياب، ثأرا للإنساني في كائنية مجبولة على ثقافة التمرد، إنشادا للخلاص من قبضة التاريخ المخزني الطويل الضاغط بماسونية سدنته وساسته الحمقى.

***

أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

...................

هامش:

(1) مقتطف من نص ” تذكرت البداية”، صفحة 19.

(2) مقتطف من نص ” البيت “، صفحة 26/27.

[3] مقتطف من نص “، فوضى على باب القيامة ” صفحة57.

[4]مقتطف من نص ” معلّقة القصبة “، صفحة 129/130.

[5]مقتطف من نص ” شرفة في القاع “، صفحة 221/222.

[6]مقتطف من نص ” يصير نجما خلف ثورته “، صفحة 125.

[7]مقتطف من نص ” سيعود يوما طائر الفينيق “، صفحة 80.

[8] مقتطف من نص ” جلجامش “، صفحة 113.

[9]مقتطف من نص ” في ظل مرثية أبي ذؤيب الهذلي “، صفحة 197.

[10]مقتطف من نص ” المدثر” صفحة 83/84.

المبحث (1): فضاءات الصورة المؤنسنة وأسطرة الدال الصوري

توطئة: لعل مصطلح الشعرية منذ أن أطلق أرسطو على كتابة الذي يحدد الأنواع الأدبية ويصنفها ويردها إلى خصوصية عواملية تختص بها (البويطيقا) فيما ظلت هذه الشعرية حديثا رائجا في مصطلحات الشكلاتيون الروس، وصوﻻ إلى كونها تعني في ما تعنيه ذلك المجال النوعي المتميز للعلم الصوري الذي يكشف قضية كون الشعر شعرا، وبالتالي تغدو الشعرية كوسيلة تقانية في منحاها الأكثر تحقيقا في صياغة حاﻻت الأشياء ضمن مرسلات لفظوية وتلفظية تخرج محكومية الدال إلى القولي من حدوده السياقية اللغوية إلى جملة خصائص نوعية من الكشوفات الجوهرية والظاهرة من تحت عباءة المعنى العلائقي المجدول في أفق خصائص وظائفية تهتم بالكيفية عدوﻻ من الوافرة الكمية في معالجات اللغة الأدبية النمطية. وعلى هذا النحو وجدنا في تجربة مجموعة (قارة الأوبئة) للشاعر العراقي القدير فوزي كريم، ذلك المجال الوظائفي للدال فاعلا، وهو يعالج شكلا من اللغة الشعرية التي تتبنى العلامات والإشارات والتوصيفات، مجال معطيا للملفوظ الدوالي رسما تشكيليا راح يؤسطر مواضع والاحوال الأزمنة والأمكنة والذوات والذاكرة،ضمن حدود شعرية جعلت من أداتها بالوظيفة الشعرية ﻻ في أشكال القصيدة البنائية فحسب، ذلك الابتعاد عن تمثيلات الخطاب الشعري الواهن للقصيدة النمطية، امتدادا تفاصيليا لها نحو وصف الأشياء في نطاق تلك اللغة والقدرة الإمكانية التي تختص بها مقادير ومعايير البنيات المطولة من شعرية الأساليب الأنزياحية في ملامسة الممكن والجوهري من جماليات (شعرية الصورة المؤنسنة) لذا جاءت ملفوظات (قارات الأوبئة) ضمن نفسها الملحمي وكأنها الدﻻلة الكلية التي تغطي محمل اشتغاﻻت عوالم كينونة الذوات المضمرة والظاهرة في إبعاد المقطوعات الشعرية الواصفة: 

- البنية الصورية وآليات صفة التشكيل

لعل ترتيب آليات الملفوظ الشعري في فصول بنيات قصيدة (قارات الأوبئة) تستأثر لذاتها ذلك البناء الإحالي الذي يعد بذاته المركبة انعكاسا لمعادﻻت إمكانية ذات إطﻻقة خيالية ممسرحة بروح الموصوف والواقعة الاحوالية المتصلة في مدار زمنية تصاعدية مقرونة بخواصية (الإكتفاء - الاقتطاع - سياق ادائي) وذلك تبعا إلى أن الواقعة الشعرية في الزمن المجمل النصي، تفرض ممهدات دﻻلية تتجاوز من خﻻلها (سردية - شعرية) تتعاشان من خلال واصلات تصويرية - حسية، لها خصوصية التعويض عن بدائل غياب المحفوظ الجودي، بعيدا عن نبرة فجائعية رثة من شأنها تفجيع الاتساق التشكيلي في سلم النص بأي حالة دخيلة من شأنها قلب الاستعانة بالرموز إلى فجيعة رثائية فجة:

قنوات تحفرها الأمطار..

منعطفات بيوت متراصة كأقراص الخبز

شبابيك مهترئة كالمناخل

أبواب تكتم أنفاسها أمام طارق الليل

أسلاك كهرباء تئز بفعل القوى المكبوحة

للرغبات الطرية ./ص ٧ 

١- مستوى التلفظ بين مرآة السرد وضمير شعرية الفاعل:

إن القارىء إلى مستهل المقاطع الأولى من زمن تصديرات النص، راح يتسلم ثمة مراويات تستثمر من السرد الكثير من السعة والامتداد في التوصيف القصصي، غير إن السارد - الفاعل، بدا وكأنه ذلك الاستمداد الخارجي في حاﻻت شهودية خاصة من الأداء والتواصل الاستدعائي إلى سلسلة افعال ومسميات تتمظهر من خلالها أحوال (زمنية - مكانية - تشكيلية) وصوﻻ إلى ذلك الحلوص في بعث الأشياء في حدود مكوناتها النواتية المراوية: (قنوات تحفرها الأمطار . . منعطفات بيوت متراصة كأقراص الخبز) لعل مستوى الاستباقي في موارد جملتي (منعطفات بيوت = كأقراص الخبز) تستنزف في المدار الذاكراتي ذلك التوليد الخاص ب (الجدة - انتظار عودة الأب - الأم التي ترتقب عودة ولدها من الحرب) وهكذا راح الشاعر بحمل متهلات نصه، دوالا لها كل الصلة والتقارب من تواريخ قديمة لها رائحة ونكهة محطات القطارات الصاعدة والساكنة فوق مدارجها الحديدية، عرباتها مشرعة الابواب (أبواب تكتم أنفاسها أمام طارق الليل) لعل الشاعر يظل فيمفعول دواله إلى جملة من الرؤية الأكثر ذروية من مسافة احكام وجود المسافات اللامة للغياب الخاص للأشياء، رغم زمن وجودها الوقائعي، ولكن هناك زوايا زاخرة بالجذب والفقدان (شبابيك متهرئة كالمناخل) وما يزيد من حجم أداة التشبيه فإن حاﻻت الأشياء في مغامرة ركونية قصية في أبعادها المتغايرة، ورغم ذلك فلا تفارقها حاضنات المألوفية ودﻻلتها السخية في سجلات الظراب التكويني. الشاعر يبث الإشارات والعلامات والرموز، والقارئ يستلطف دفء الزوايا وحرارة رغيف الخبز من جدران التنور . ربما الشاعر يواجه مصيرا مترديا في(اسلاك كهرباء تهتز) ها هنا تكمن الإشارة إلى حالة خاصة من المكبوت والضغط الذي راح يتماهى مع أطروحة ركون الرغبات (القوى المكبوحة - للرغبات الطرية) لذا فإن الجملة اللاحقة راحت تلوح لنا بمدى تفعيل الوازع التقييدي والضغوطي للذوات، عندما راح جملة اللاحق تخبرنا (أزفة معقودة كظفيرة المحارب) إذن إن مجموع الجمل الشعرية الواردة تدلل على هوية قاهرة وكامنة، جعلت تحاكي تلك الأوضاع المدلولية المليئة ب (الرموز المقنعة)وصوﻻ إلى دﻻﻻت تتناسب وتتشاطر مع محكيات الساردة الشعري الذاتانية.

٢ - العينات المؤسطرة في الحسن الفجائعي المشكل:

إن حاﻻت الوقائع المؤسطرة في مجاﻻت قصيدة الشاعر تشف لها دربا أليما في حدود (الرمز - الأسطورة - القناع)كأساليب نفسانية تشي من وراءها أحاسيس نادرة من الاظافة والمغايرة في النوع والمجاورة ومعاينة دال النتيجة . فالشاعر فوزي كريم يستشعر (الاوضاع الدوالية) بحسب مقادير رؤيته الصورية المعادلة، لذا فإننا نجد صوته بما هي معا في الرؤية والتشكيل: 

دجلة يلامس البشرة بالملاحم

وبعضا الساحر يكشف عن المعدن الزائف

للأيام المتﻻحقة !

أسماك تتقفز إلى المتطلعين وتختفي ررؤوسها

المدببة في ثنيات ثيابهم وهناك تمطر بيوضها

وتستلم للنيران . /ص٨ 

إن المقاطع الشعرية ها هنا تؤول إلى دﻻﻻت كبرى من طبيعة (أحداث النص) فهي عبارة عن حاﻻت صورية تعبر عن التعدد في المحنة والتي راح الشاعر يؤلها كمعادﻻت موضوعية تستأثر لذاتها من خلال خطاب الإيحاء والرمز، كشفا عن وقائع تعددت في إطارها التحوﻻت للذات والكينونة التي ظهرت أشكالها رؤى الحرب والموت في حياة في حياة شروط قهرية من رسومية الإيحاء بالقصد (دجلة يلامس البشرة بالملاحم .. وبعصا الساحر يكشف عن المعدن الزائف .. للايام المتلاحقة) لذا فإن المحصلة التميزية لنهر دجلة كونه تمثيلا يلامس حقائق ضمن قوى مرجعية اصيلة، لذا فإن قضية بلاغات الحرب هي من الأمور التي تخدش الحياء لكونها نافذة في الانفلات حول تحرير الاصفاد من الاصفاد (يكشف عن المعدن الزائف للايام المتلاحقة) فيما تبقى امثيلات دوال الاسماك اختلاكا بذلك المحتمل الذي يجعل من عنف الموت سبيلا إلى فرار الاسماك من مواضعها إلى (وتخفي رؤوسها المدببة في ثنايا ثيابهم) فيما تستقر خلف الثياب للجنود القتلى دون أن يقادرها إحساسها بالأمان من اهاويل الموت فتبيض يرقاتها فوق ندوب الموت المحفورة في اجساد الجنود القتلى: (وهناك تمطر بيوضها وتستلم للنيران) .

- تعليق القراءة:

إن الابداع في نص (قارات الأوبئة) هو حلم ورؤية الاضداد من الذات الشعرية فالشاعر يتقصد خطابا وتخييلا مكبلا بجوار التصادمات مع واقع السلطة القائمة في البلاد حينذاك، لذا فإن (قارات الأوبئة) هي النافذة التي من خلالها يطالع الشاعر ويكتب عالمه الحسي معبرا باللاشعور واللاوعي ولكن بالمحتمل اليقيني الراسخ حول مدى قذارة هذه القارة المليئة بالابعاد النفسية المقهورة والكظيمة وهي تعاين آخر سقوطات أحلامها الاحوالية فوق مسطحات المستنقعات والمنعطفات المتخللة بانتهاء ونهايات الابعاد الذواتية المرسومة قهرا وكمدا عبر (فضاء الصورة المؤنسنة وأسطرة الدال الصوري) لذا تبقى احلام الشاعر اللاشعورية تسبر غورا في تأويل قارته المنسية إلا من بلاغة غبار الموتى وقذارات (أمواج تنبش رائحة الروث) .

***

حيدر عبد الرضا – ناقد وكاتب عراقي

 

إن دخول الهايكو إلى الثقافة الرومانية وأدبها ذو عمر طويل، ويعود ذلك إلى بداية القرن العشرين، وإلى عام 1902 على وجه التحديد، عندما بدأت العلاقة الدبلوماسية بين اليابان ورومانيا بعد مباحثات غير رسمية أجريت في (فينا – النمسا)، أثمرت عن إنشاء مفوضية رومانية في (طوكيو) عام 1921، ومفوضية يابانية في (بوخارست) عام 1922. علما تشير بعض المصادر إلى قيام الكاتب والعالم الروماني (بوجدان بيتريسيكو هاديو) (1838 – 1907) الذي كان يشغل منصب مدير أرشيف الدولة) بترجمة بعض نصوص التانكا المهداة من الأمير الياباني (نيغاتا نو إيتو) إلى الأمير الروماني (كارول الأول) (1839 – 1914) الذي توج ملكا بعدها (1881 – 1914).

نشرت مجلة (إيفينمينتول ليتارار – الحدث الادبي) الرومانية أول دراسة حول التانكا والهايكو في عام 1904، وكانت بقلم (آي. سيبريان). وفي عام 1911 نشر الشاعر (ألكساندرو فلاهو) (1858 – 1919) مقالة قيمة حول نفس الموضوع، وقد تضمنت بعض النماذج الشعرية المترجمة عن اللغة الفرنسية. وكانت مقالته المذكورة بعنوان (الشعر الياباني) الواردة في كتابه (بجوار المدفأة) . كما ترجم الشاعر(جورج فويفديكا) (1893 – 1962) عن اللغة الألمانية مجموعة تانكا يابانية تحت عنوان (الزهور الشرقية 1919). وهناك ترجمات عن الألمانية والفرنسية ل (ترايان تشيلاربو) الذي تلقى تعليمة في روما – إيطاليا، وقد جاء في مقدمة كتابه (الروح اليابانية) (ما من تأثير غربي، الإيحاء بشكل أساسي أكثر من التفصيل). وأيضا ل (أليكساندرو تي. ستاماتياد) و(دان كونستانتينيسكو) و(إيون أكسان) و(أوريل رو). كما كان ل (إيوان تيمو) (1890 – 1969) و(جورجي باجوليسكو) (1886 – 1963) الدور الكبير في نشر هذا النوع الشعري في رومانيا. وبحسب الباحث (فلورين فاسيليو) مؤلف كتاب (قصيدة الهايكو في رومانيا) الصادر في عام 2001: (إن الترجمات قد نأت بنفسها بشكل دلالي عن القصيدة الاصلية من خلال إستخدام المعجم الدلالي، لأنها تمت بإستخدام مختارات باللغات الفرنسية والألمانية والإنكليزية كمصادر معتمدة، مترجمة بدورها عن اليابانية).

أما أول قصيدة هايكو كتبت باللغة الرومانية فكانت بقلم الشاعر (ألكساندرو ماسيدونسكي)، وكان ذلك في عام 1920. وفي عام 1935 نشر الشاعر والقاص والكاتب المسرحي الروماني المعروف (ألكسندرو تيودور ستاماتياد) (1885 – 1956) إضمامة صغيرة قريبة الشبه بالهايكو إلى حد بعيد، ومتكونة من (12) قصيدة، وكان قد ترجم أيضا ل (شارل بودلير، أوسكار وايلد، إدغار آلان بو، عمرالخيام). أما الشاعر (إيون بيلات) (1891 – 1945) الذي تلقى تعليمه في باريس، فهو مبتكر قصيدة السطر الواحد في الشعر الروماني، وقد اعتبرها النقاد مأخوذة من الهايكو أو مرتبطة به إلى حد ما. وقد كتب عنها الشاعر نفسه (لا ينبغي إعتبار القصيدة المكونة من سطر واحد قصيدة يونانية أو الروباي الفارسي أو الهايكو الياباني). ومن الرواد أيضا (مارين سوريسكو) و(نيتشيتا ستانيسكو) و(ماريا بانو) (1914 – 1999) و(فيرجيل تيودوريسكو) (1909 – 1987) و(جورج توموزي) (1936 – 1997) و(سيزار بالتاج) (1937 – 1997) و(بيتر غيلميز) (1932 – 2001) و(تيفان أوغستين) (1922 – 2002). ذكرت الباحثة (أناستازيا دوميترو) في بحثها القيم (التداخل الشعري بين الشعر الياباني والشعر الروماني) المنشور في عدد يوم 18 تشرين الثاني 2013 من مجلة (هايكو): (لقد ساهم كل من إيون بيلات وترايان تشيلاريو وآل تي ستاماتياد بشكل كبير في تعرفنا على التانكا والهايكو، بالإضافة إلى غيرهم). أما بخصوص (إيون بيلات) فقد كتبت (يتمتع إيون بيلات بالمعلومات، والحساسية تجاه الدقة التشكيلية، وهذا ما يراه الناقد جورج كالينسكو أيضا. وبحسب سيربان سيوكوليسكو، فقد قرأ بيلات لجميع الشعراء القدامى والجدد، ومن العصور القديمة حتى اليوم، ومن جميع أنحاء العالم).

وتمثل الفترة اللاحقة لعام 1989 المرحلة الذهبية الحقيقية والخصبة في تاريخ الهايكو الروماني. وهو العام الذي تغير فيه النظام السياسي. علما نشر الباحث (فلورين فاسيليو) المهتم بتاريخ الهايكو الروماني في نفس العام وبالتعاون مع زميله (براندوا ستيسيوك) كتابا قيما حمل عنوان (العلاقات الغنائية: كوكبة هايكو). ثم أصدر في العام الذي يليه أي 1990 أول مجلة معنية بالهايكو في رومانيا، وضمت هيئة تحريرها أسماء بارزة، مثل (مارين سوريسكو، إيون أكسان، أوريل رو، ستيفان أوغست دويناش، غابرييل ستانيسكو). وكانت تصدر كل ثلاثة أشهر وب (8000) نسخة ورقية، لتصدر بعدها كنصف سنوية وب (1000) نسخة فقط. كما أنشأ (فاسيليو) في عام 1992 دار نشر مستقلة أسماها (هايكو) أيضا لنشر مجموعات الهايكو وبثلاث لغات (الرومانية والإنكليزية والفرنسية). كما أنشأت الشاعرة الرومانية (كورنيليا أتاناسيو) دار نشر أخرى على نفس الشاكلة (إيديتورا أتار). وقد تولت مهمة نشر مجموعات هايكو من تأليفها، وأيضا ل (جول كوهن بوتيا وفاسيلي مولدوفان) وغيرهما.

 وقد شهد عام 1991 ظهور (جمعية الهايكو الرومانية)، ومن أوائل الأعضاء فيها: (إيكاترينا زازو نياغوي)، وهي شاعرة هايكو. ولدت عام 1956 (براهوفا). نشرت قصائدها في (الباتروس، أساهي، عالم اليوم، أصداف البحر، الاقحوان، هيرالد تربيون، كونستانزا هايكو) وغيرها. عضوة في جمعية الهايكو الرومانية. عضوة في جمعية الهايكو العالمية – اليابان. صدر لها (زهور الريح 2012). أدرجت في قائمة الشعراء ال 100 الأكثر إبداعا في أوروبا 2010. و(فالنتين نيكولينوف)، وهو كاتب وقاص وروائي وشاعر هايكو. ولد عام 1945 (بوخارست). حاصل على شهادة في الهندسة من معهد الفنون التطبيقية في (كلوج نابوكا) 1972. بدأ الكتابة منذ عام 1965. عضو جمعية الهايكو الرومانية. رئيس تحرير المجلة الثقافية الرومانية اليابانية. و(أميليا ستانيسكو)، وهي أكاديمية وكاتبة وشاعرة. ولدت عام 1974. حاصلة على شهادة في فقه اللغة تخصص روماني – فرنسي كلية الآداب وااللاهوت - جامعة أوفيديوس. عضوة في اتحاد الكتاب الرومان ورابطة بافاريا الألمانية. أصدرت ستة كتب غنائية. حاصلة على شهادة الماجستير في اللغة الفرنسية من جامعة (كونستانزا) والدكتوراه في فقه اللغة. حاصلة على جائزة كتاب الشعر 2005 والجائزة الأولى للشعر في مسابقة الشعر والنثر 1992 التي نظمتها مجلة (ديناميس).

 وتوجد أيضا (جمعية كونستانتا هايكو) التي شهدت النور في عام 1992 على يد (إيون كودريسكو)، بالإضافة إلى العديد من الجمعيات والدوائر المحلية. و(أيون كودريسكو) شاعر ورسام وأكاديمي ومحرر وناشر. ولد عام 1951 (كوبادين). حاصل على شهادة الدكتوراه في الفنون البصرية من الجامعة الوطنية للفنون في بوخارست. بدأ بنشر الهايكو في 1992. ترجمت قصائدة إلى عدة لغات. عضو في عدة منظمات معنية بالهايكو. منح العديد من الجوائز، ومنها: جائزة متحف هايكو للادب (طوكيو) 1991 وجائزة جمعية كونستانزا للهايكو 1992 وجائزة مدينة ناغويا للهايكو (اليابان) وجائزة من مسابقة كوساماكورا الدولية للهايكو – اليابان 1998 وجائزة جمعية الهايكو الكرواتية 1995 والجائزة الخاصة لجمعية الهايكو الامريكية 1992، 1994، 1996، 2022 وغيرها كثيرة. من كتبه (رحلة هيغا 2020)، (الفرشاة المتجولة 2020) و(شيء من لا شيء 2020) و(الزهور غير المباعة – مشترك 1995). يقول عن الهايكو (إن كتابة قصيدة الهايكو مثل رسم لوحة بالحبر أو لوحة مائية. إذ لكل كلمة قوة ضربة من الفرشاة.. من خلال الهايكو إكتشفت الرينكو والهايبون والهايغا. لرسم لوحة أو كتابة قصيدة، نحتاج إلى الانسجام والتباين والإيقاع واللهجات والأفكار والعاطفة).

و هناك مجلة رومانية معنية بنشر شعر الهايكو وغيره تحمل عنوان (الباتروس – ثنائية اللغة) التي نشرت الهايكو والسنريو وهايبون والرينكا والتانكا وغيرها، وقد صدر عددها الأول في عام 1992 وعددها الأخير في عام 2001، وقد ترأست تحريرها الشاعرة (لورا فاسيانو)، وهي كاتبة مقالات. ولدت عام 1948 (بوكو). خريجة كلية فقه اللغة في المعهد التربوي في (كونستانتا)، وخريجة كلية الفقه في (بوخارست). عملت في التعليم. شاركت في مهرجانات الهايكو للفترة 1992 – 1994، وفي مؤتمر الهايكو الأوروبي الأول 2003.

ثم صدرت بعدها مجلة (الهايكو) التي شهدت النور في عام 2004 على نفس المنوال. أما (ماريوس شيلارو) فقد تولى إدارة عدة دور نشر، وحرر مطبوعات ثقافية في مدينة (تاش)، وهو شاعر وكاتب وناقد ومحرر ومترجم وروائي غزير الإنتاج معروف عالميا. ولد عام 1961 (نغريستي فاسلوي). من مؤلفاته (طريقة أخرى للأنتحار، عشاق الوهم، مستأجر الوقت، الحاضر قادم، حياة فاوست الأخرى، عندما يستقر الحاضر، التاريخ والشعر في الثقافة العربية، لون الصمت، الوهم والتناقض، نحو شفاه السماء. له أعمال منشورة في اليابان وإيرلندا والنمسا.

و هناك أيضا مجلة (الحديقة المسحورة) للهايكو التي أسستها (ستيليانا كريستينا فويكو) في رومانيا بتاريخ 25 آذار 2023. و هي رسامة ومصورة وشاعرة هايكو وتانكا ومحررة. ولدت عام 1987. تعيش في (بلوييستي). بدأت بكتابة الشعر منذ أيام الدراسة الثانوية. تحمل شهادة في علم التحكم الآلي الاقتصادي والإحصاء والمعلوماتية من جامعة البترول والغاز في (بلوييستي). حاصلة على شهادة الماجستير في قواعد بيانات دعم الاعمال من نفس الجامعة 2012. منحت عدة جوائز شعرية، ومنها الجائزة الأولى في مسابقة البرقوق البري للهايكو 2015 وإشادة في مسابقة (اد آي أي) للهايكو في نسختها ال15 / 2013. أدرجت في قائمة الشعراء ال 100 الأكثر ابداعا في أوروبا لأكثر من مرة.

كما توجد مجموعة كوكاي الرومانية التي يترأسها الشاعر والمترجم والمحرر (كورنييلو ترايان أتاناسيو). ولها مدونة باللغة الرومانية شهدت النور في عام 2007. وتقوم بإجراء المسابقات الشعرية، وقد أجرت أول مسابقة شعرية لها في 1 نيسان 2007. وتنشر الهايكو الروماني والأجنبي من مختلف بلدان العالم، مع إجراء المقابلات وإستطلاع الآراء، وعرض الكتب والمطبوعات الوطنية والأجنبية المتعلقة بالهايكو، وتقديم التعليمات والارشادات الضرورية لكتابة الهايكو، وعرض التحليلات والمقارنات لقصائد الهايكو ونشر مختلف المقالات، ونشر المجموعات والمجلدات الشعرية الشخصية والمشتركة للشعراء الرومان. مع وجود نسخة باللغة الإنكليزية موجهة للأشخاص الذين لا يجيدون الرومانية.

أما (أتاناسيو) فهو شاعر غزير الإنتاج، من أعماله (البحث عن النغمة: هايكو 2020) و(السماء الصافية فوق الغيوم). يقول عن الهايكو (يمثل نص الهايكو الجزء المرئي من جبل جليدي عائم فوق الماء، في حين أن الجزء الأكبر والاعمق من القصيدة – الصورة والاقتراحات والتلميحات والرموز – سيكون تحت مستوى سطح الماء. إن الهايكو كفضاء ثلاثي الابعاد، مثل جسم هندسي الشكل، حيث يكون النص خطيا والصور مسطحة، ويتم إنتاج الحجم بواسطة نوع من التخمير لأنزيمات النمو المرشوش في النص، مثل إضافة غبار المخبوزات إلى العجينة). وهو يرى (إن مستقبل شعر الهايكو في رومانيا إنما هو مستقبل الأشخاص الذين سيتذوقونه ويقرأونه ويكتبونه. إذا فعلوا ذلك بتفان وإخلاص، فسوف يكون هناك دوما مجتمع سيقدر ذلك دوما). كما يترأس (كورنييلو) تحرير أول مجلة هايكو رومانية على الشبكة العنكبوتية تحت إسم (يوروبيا)، ويعمل فيها (إيوانا دينيسكو، دان دومان، إياديكو جوفيرديانو، مانويلا دراغوميريسكو، كليليا إيفريم، سورين توما بوك) وغيرهم.

 أما أول مسابقة هايكو دولية أقيمت في رومانيا فكانت في عام 2003 تحت رعاية مجلة هايكو وبمبادرة من (فالنتين نيكوليشوف). كذلك تقوم (جمعية الهايكو الرومانية) بتنظيم مسابقة هايكو شهرية على الشبكة العنكبوتية وتنشر القصائد الفائزة على نحو منظم. وهناك مسابقة كونستانتا الدولية للهايكو الذي تنظمه (جمعية هايكو كونستانتا)، وقد أجريت في عام 2021 تحت عنوان (البحر الهائج)، تخليدا لذكرى مأساة (فوكوشيما) في 11 آذار 2011. وقد تكونت لجنة التحكيم فيها (للكبار) من (نيكول بوتييه، جوليا راليا، جان أنتونيتي، فلورين جريجوريو، فاسيلي مولدوفان) ولجنة التحكيم (للأطفال) من (دانييلا فارفارا، فيرجينيا بوبيسكو، فاسيلي كونيوشب ميستشانو، كاميليا سوسيو، أناستازيا دوميترو). وقد فازت بالجائزة الأولى الشاعرة الرومانية (ميريلا برايليان)، والشاعر البولندي (كرزيستوف كوكوت) بالجائزة الثانية، والشاعر الروماني (ميرسيا مولدوفان) بالجائزة الثالثة. اما (ميريلا برايليان) فهي شاعرة هايكو، تعيش في مدينة (ياش). خبيرة في التراث الثقافي. أدرجت في قائمة الشعراء ال 100 الأكثر إبداعا في أوروبا 2020 – 2021. منحت عدة جوائز شعرية. أصدرت مجموعة هايكو متكونة من (150) قصيدة هايكو بعنوان (المحك). عضوة في جمعية الهايكو الرومانية وجمعية الهايكو الفرنسية. لها قصائد مترجمة إلى الفرنسية، وأخرى إلى اليابانية من قبل (هيدينوري هيروتا). وأما (ميرسيا مولدوفان) فهو شاعر هايكو غزير الإنتاج. يعيش في مدينة (جيبو). أدرج في قائمة الشعراء ال 100 الأكثر إبداعا وعطاء في أوروبا لعام 2022. ينشر قصائده في الصحف والمجلات والمواقع العالمية المعنية بالهايكو. إشترك في العديد مسابقات الهايكو وفاز فيها بجوائز. ترجمت الكثير من قصائده إلى عدة لغات.

و أيضا مسابقة شحذ قلم الرصاص الأخضر المجراة باللغة الإنكليزية عبر الشبكة العنكبوتية – الانترنيت منذ عام 2012، وقد أسسها (كورنيليو ترايان أتاناسيو). وهي تستقبل أكثر من (200) مشاركة من مختلف بلدان العالم في كل مرة. وقد أعلنت نتائج المسابقة في شهر نيسان الماضي 2024، وفازت بالمركز الأول الشاعرة الكندية (ديبي سترينج) بالاشتراك مع الشاعر المالطي (بول كالوس – مكرر). أما المركز الثاني فكان من نصيب الشاعر الأمريكي (إدوارد هادلستون)، والمركز الثالث من نصيب الشاعر الهندي (راجانديب جارج). مع تنويهات مشرفة لكل من (ناديجدا كوستادينوفا – بلغاريا، توم بيروفيتش – الولايات المتحدة الامريكية، كيري جي هيكمان – الولايات المتحدة الامريكية، ناديا ياشمينيكا – كرواتيا، جافين أوستن – استراليا، ياسمينة بوتنارو – رومانيا. إن (إدوارد تارا) هو أمين مسابقة شحذ قلم الرصاص الأخضر للهايكو منذ 2012، شاعر هايكو وتانكا ورينغا. ولد عام 1969 (ياش). مدرس رياضيات. عضو جمعية الهايكو الرومانية منذ 1991. حائز على عدد كبير من الجوائز والتكريمات (أكثر من 100 جائزة). منها الجائزة الاول في مسابقة الهايكو بالانكليزية اليابانية – الأوروبية 2010 والجائزة الثانية في مسابقة ريسوبوكس الدولية للهايكو 2019 والجائزة الأولى في مسابقة آيريس الدولية للهايكو. أصدر مع الشاعرة (كلارا توما) مجموعة هايكو تحت عنوان (هذا الهايكو !) 2022. وقد نشرت (إيرينا آنا دروبوت) دراسة قيمة عنه بعنوان (أسلوب قصائد الهايكو لدى إدوارد تارا) في العدد (30 / 2022) من مجلة (الدراسات الأدبية الرومانية).

و كان لشعراء الهايكو الرومان مشاركات كثيرة ومتميزة في العديد من المسابقات والفعاليات الشعرية الدولية والوطنية التي حصدوا بموجبها العديد من الجوائز، نذكر منها: مسابقة كوساماكورا الدولية للهايكو – اليابان ومسابقة البرقوق البري للهايكو ومسابقة الهايكو اليابانية – الأوروبية بالانكليزية ومسابقة ريسوبوكس الدولية للهايكو ومسابقة آيريس الدولية للهايكو ومسابقة ماينيتشي للهايكو ومسابقة كوكاي الدولية للهايكو ومسابقة أكيتا الدولية للهايكو ومهرجان كاثرين مانسفيلد الدولي للهايكو عبر الانترنيت ومسابقة ماينيتشي الدولية للهايكو (ينظر: إيرينا آنا دروبوت، مسابقات الهايكو باللغة الإنكليزية على الانترنيت – نظرة عامة، العدد 2 / 2016 من مجلة الممر الثقافي بين الشرق والغرب، ص ص 186 – 204). ومن هؤلاء الشعراء (دان يوليان)، وهو شاعر هايكو معروف. ولد عام 1955 (أوبيرسيا أولت)، ويعيش في (بوخارست). باحث أول في علوم وهندسة المواد. عضو في مجموعة كوكاي الرومانية منذ عام 2011. أدرجضمن قائمة شعراء الهايكو ال 100 الأكثر إبداعا في أوروبا. حائز على العديد من الجوائز، ومنها جائزة آنا روس – مسابقة كونستانتا الدولية للهايكو 2020 والجائزة الأولى في مسابقة مجلة هايكو الرومانية 2020 والجائزة الأولى في مسابقة كوكاي – النسخة الهندية 25 / 2018 والجائزة الأولى في مسابقة كوكاي الهندية 2015. ترجمت قصائده إلى عدة لغات حية. وأيضا (ماريا تيرينسكو - ماريا كونستانتا أوريليا)، وهي شاعرة هايكو وهايبون. ولدت عام 1949 في (ساسيل ماراموريس). خريجة كلية الرياضيات والميكانيكا – جامعة بابس بولياي (كلوج نابوكا). عملت في التعليم. نشرت أربعة مجلدات من الهايكو ومجلد واحد من الهايبون. إشتركت في مسابقات شعرية عديدة في الهند ورومانيا واليابان وفرنسا، ومنحت عدة جوائز وكرمت أكثر من مرة. منها الجائزة الثانية في مسابقة الهايكو الكرواتية 2013. و(فلورنتينا لوريدانا داليان)، وهي كاتبة وشاعرة. ولدت عام 1968 في (بوخارست) وتعيش في (سلوبوزيا). مهندسة كيميائية. نشرت قصائدها في رومانيا وكرواتيا ولبنان ومقدونيا واليابان واسبانيا. حاصلة على تنويه في مسابقة الهايكو اليابان – الاتحاد الأوروبي. عضوة في جمعية الهايكو الرومانية وغيرها. ترجم لها (هيدينوري هيروتا) إلى اليابانية. و(أوبريكا باديانو)، وهي كاتبة وشاعرة. ترجم لها (هيدينوري هيروتا) إلى اليابانية. كما ترجم لها (فاسيلي مولدوفان) إلى الإنكليزية. نشرت الكثير من قصائدها في الصحف والمجلات والمواقع المعنية بالهايكو، واشتركت بعدة مسابقات شعرية. و(ميهاي مولدوفيانو – ميركو)، وهو شاعر هايكو ومصور. نشر قصائده في مختلف الصحف والمجلات والمواقع المعنية بالهايكو. إشترك بمسابقات شعرية وتم الإشادة بقصائده. له قصائد مترجمة إلى بعض اللغات الأجنبية. و(لافانا كراي)، وهي محررة ومصورة فوتوغرافية وشاعرة هايكو وتانكا . تعيش في مدينة (إياسي). نشرت ثلاثة كتب هايكو مصورة ومجموعة تانكا. أحدها بعنوان (ريسبيرو – هايكو – إيديتورا بيم، ياسي، رومانيا 2020). والثاني بعنوان (تيمبو روباتو – هايكو 2020). ترجم لها (هيدونوري هيروتا) إلى اليابانية. نظمت عدة معارض فنية. محررة في مجلة (هايغا). وقد منحت منحت عدة جوائز. و(ماجدالينا دايل)، وهي شاعرة هايكو وتانكا ومحررة وكاتبة. ولدت عام 1953. تعيش في (بوخارست). نشرت قصائدها داخل وخارج رومانيا. صدرت لها مجموعة هايكو واحدة وثلاث مجموعات تانكا، بالإضافة إلى أشكال شعرية أخرى. عضوة في جمعية الهايكو الرومانية وجمعية الهايكو العالمية. و(منى يوردان)، وهي شاعرة هايكو تعيش في (بوخارست). لها قصائد مترجمة إلى بعض اللغات الحية كالفرنسية. كما ترجم لها (هيدونوري هيروتا) إلى اليابانية. اشتركت في مسابقات هايكو وطنية ودولية. و(فاسيلي مولدوفان)، وهو من مواليد عام 1949. ساهم في تأسيس جمعية الهايكو الرومانية، ورئيس مجلس ادارتها للفترة 2001 – 2009. نشر خمس مجموعات هايكو، منها (عبر الالآم، وجه القمر غير المرئي، سفينة نوح). و(فلورين غولبان)، وهو كاتب وشاعر ومحرر. ولد عام 1975 (ترانسلفانيا)، ويعيش في بوخارست. أصدر ثلاث مجموعات شعرية. وردت أعماله في العديد من الكتب المشتركة. يهوى موسيقى الروك. عضو في جمعية الهايكو الرومانية وغيرها. ترجم له (هيدينوري هيروتا) إلى اليابانية. و(ماريانا توناس)، وهي شاعرة هايكو. ولدت عام 1954. تعيش في مدينة (برايلا . مدرسة فنون جميلة. بدأت بنشر أعمالها منذ عام 1968.)

كما يتم تدريس شعر الهايكو في العديد من المدارس والكليات والمعاهد في رومانيا، وتقام له الورش والفعاليات الموجهة للطلاب في مختلف المراحل الدراسية من أجل نشر الوعي بالهايكو بين هؤلاء، وتشجيعهم على كتابته، والمشاركة في مسابقات ومهرجانات الهايكو الدولية، مع نشر قصائدهم ورسوماتهم في كتيبات مستقلة تشجيعا لهم، وتقديم الهدايا والمكافآت النقدية الرمزية لهم. وكان للشاعر (إيوان غوبودين) الدور الكبير في هذا المجال. ومن هذه المسابقات مسابقة مؤسسة (جي أي إل) التي أجرتها في نسختها ال 13 في عام 2013 – 2014 بمشاركة (19000) نص لاطفال من (34) دولة. وأيضا مسابقة متحف (ياماديرا باشو التذكاري) لهايكو الطلاب. وقد شارك الأطفال الرومان فيهما بالعديد من نصوص الهايكو. وأيضا مهرجان (كاثرين مانسفيلد الدولي للهايكو – فئة الصغار) عبر الانترنيت الذي أقيم مؤخرا وللفترة 15 تموز – 15 أيلول 2023، وقد فاز فيه (أندريا ليبادوكا – 14 سنة) بالمركز الثالث و(سيبي سيوبيكا – 11 سنة) بالمركز الثاني مشترك مع إشادة ل (تيو كونتاك – 13 سنة). ومسابقة الهايكو العالمية للأطفال في نسختها الثامنة عشر 2023 – 2024، والتي أعلن عن شروطها مؤخرا، ومنها أن يكون عمر المتقدم 15 عاما أو أقل إعتبارا من 15 كانون الثاني 2024. أما مسابقة (نيكولاس أ. فيرجيليو التذكارية للهايكو والسينريو 2024) فكانت حصة الأسد فيها من نصيب الأطفال الرومان (تيو كونتاك وماريا نيغرون وإيدي بارفو).

 - تيو كونتاك (الصف السابع) عن القصيدة التالية

يمد الربيع

صندوق الأقلام الملونة

الذي لم تستخمه البتة

 ماريا نيغروت (الصف السابع) عن القصيدة التالية -

يوم القمر...

لم تزل أمي بحاجة

لمن يتبرع لها بالدم

 إيدي بارفو (الصف السابع) عن القصيدة التالية -

ليلة يسود فيها السكون

غصن من شجرة الكرز

يصطدم بالقمر

أما الدكتور (رادو سيربان)، وهو دبلوماسي وشاعر وإقتصادي وسفير رومانيا السابق في اليابان، فقد كان له الدور الكبير في نشر الهايكو في رومانيا مع تعريف الشعب الياباني بالهايكو الروماني. ولد عام 1951. حاصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من أكاديمية الدراسات الاقتصادية. نشر أكثر من (30) كتابا، منها (6) مجموعات هايكو بالرومانية و(3) مجموعات هايكو بالانكليزية. منها (بلسم الروح 2012) و(نافذة التناغمات 2014) و(لقطات شعرية 2017) و(تأملات 2018). أصدر مع (فاسيلي بوينارو) مجموعة (تأملات 2018) و(في الهايكو). عضو في جمعية الهايكو الرومانية.

***

بنيامين يوخنا دانيال

.......................

1 – Anastasia Dumitru، Poetic Interference Japanese Poetry VS Romanian Poetry. https: // revistahaiku. blogspot. com

2 - Marcel Mitrasca، Japan in Romanian Books Before World War Two. https: // eprints. lib. hokudai. ac. jp

3 – Haiku from Romanian Haiku Group (6). https: // akitahaiku. com

4 – Haiku from Romanian Haiku Group (11). https: // akitahaiku. com

5 – Haiku in Romania. https: // www. thehaikufoundation. org

6 – A History of Haiku in Romania. https: // www. thehaikufoundation.org

7 – Haiku in Romania، from the Orient towards. https: // notabene – bg. org

8 – Tag: the Romanian Haiku Society. https: // akitahaiku. com

9 – Al. T. Stamatiad. https: // en. Wikipedia. org

10 – Haiku World of Patricia Lidia in Romania. https: // akitahaiku

. com

11 – Becoming a Haiku Poet in Romania. https: // www. graceguts. com

12 – Submission Guidelines I World Children’s Haiku Contest. www. jal. foundation. or. jp

13 – HIS International Haiku Competition 2013 Results. https: // irishhaiku. com

14 – Caribbean Kigo Kukai: 2010. https: // www.. caribbeankigokukai. blogspot. com

15 – Irina Ana Drobot، Zen Buddhism، Taoism And Shintoism in Romanian Authors. https: // www. ceeol. com

16 – Radu Serban، Haiku in Romania. https: // www. edituraecou. ro

17 – Irina Ana Drebot، What Could We Understand by Translation ?. https: // www. intechopen.com

 18 – Journal of Romania Literary Studies. https: // www. ceeol. com

ثمة سؤال يفرض نفسه منذ سنة 1988 سنة حصول الأديب الروائي نجيب محفوظ على جائزة نوبل، وهي الجائزة اليتيمة في مصر القيمية والمعرفية وكما يقال مصر أم الدنيا، ولم تتكرر وتحصل لأديب قبلهُ أوبعده !

لماذا مُنح نجيب جائزة نوبل؟

- مُنح محفوظ الجائزة بأستحقاقاتهِ العلمية والمنطقية والموضوعية بمهنية أحترافية واقعية تشهد لهُ غزارة نتاجاته المعرفية والقيمية الناطقة بالأنسنة.

-لم يعد نجيب محفوظ كاتباً متميزاًعميق الصلة بمجتمعهِ بقضاياه وتحولاتهِ بل أصبح عظيماً بنظر العديد من أعمدة الأدب والثقافة الأنسانية على مساحة كوكبنا الجميل وحيث الأعلام العالمي الذي أقتحم (عالم نجيب محفوظ) بمانشيست جريدة اللومانتيي ألواسعة الأنتشار} الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي والتي دعتهُ في ثمانينات القرن الماضي قائلة: {صباح الخير يا ملك الرواية }!؟

- إن كتابة الرواية فن من فنون الكتابة تضاف لها الموهبة ولا تتوقف على هذه الأسس فقد أضاف لها نجيب محفوظ التجديد خصوصا  شخصنتهُ المعصرنة.

- فهو العزيز في زمن الجدب صاغ للأدب العربي والعالمي مفهوم الحداثة ببراعة فائقة بناءً ومادة وتكنولوجية مع مقاربات في التطور الجمعي السوسيولوجي للوصول إلى أعادة بناء الأنسان المصري الحداثوي بأقحامهِ في العولمة الرقمية الحديثة ويجعل لهُ رافعة واحدة هو: (التعليم).

- وحصل محفوظ على كاريزمية واسعة ومدهشة محلية وأقليمية وعالمية بسر كسب اليمين والوسط واليسار والقديم والحديث.

-  تمكن من فك شفرة كارل ماركس في التغييربتفهمهِ الفلسفي العميق لضرورة ظهور "الشعوربثقافة الوعي والأدراك" بتردي الوضع الطبقي أولاً ثُمَ السير الطوعي الثوري في سكة الألف ميل للوصول بمصر إلى مصافي العالم المتحضر وتوازيها.

- فقد شغل ذكرهُ الأمة الأدبية والثقافية بعالمهِ الروائي والحكاواتي المتسم بسيمياء رموزهِ وشفراتهِ المراوغة والتي غدتْ نسغها الصاعد للسفر التراثي لعصرنا الحاضر بهيئة طوفان معرفي ثر وثري لا ينضب من الأعمال الرصينة ذات الشفافية العالية الصاعدة لسفر الأمة الثقافي.

- ولآن أسلوبهُ يجمع بين الحدث التأريخي والقصصي الشعبية والواقعية، ولآن عالم محفوظ يضمُ بين جنباتهِ عدة مدارس في آنٍ واحد فهو ينحومن الواقعية النقدية إلى الواقعية الوجودية ثُمَ إلى الواقعية الأشتراكية أضافة إلى تزويق الرواية بجماليات السريالية.

- فهو متحف موسوعي يجمع أتجاهات النقد الأدبي التأريخية والبنيوية كما تحتوي رواية "أولاد حارتنا" بالذات على مفارقات تظهر ما بين التنوع والتكرار والتضارب وتناقض الأضداد فهوقدم لنا نموذج فكري حديث مختوم عولمة وحداثة والذي سماهُ الناقد الراحل الدكتور الطبيب حسين سرمك حسن بنقد النقد.

- وجدتُ ثيمات الأنسنة والكفائة الأدبية في جميع رواياته خاصة أولاد حارتنا والحرافيش ومقارباته من الأنسان المصري وهو يطحن بماكنة الصراع الطبقي.

- تمكن من أن يجعل من الكلمات (كائن حي) عجز الأدباء المعاصرون مجاراتهِ.

- أكد في روايته أولاد حارتنا (ثيمة الحارة)التي توازي جغرافية العالم ولكنها الحقيقة تدور الأحداث بدراميتها الموجعة على أرض الكنانة مصر أم الدنيا.

- فهو كاتب البرجوازية الصغيرة والفقيرة المعدمة التي تكافح لأجل البقاء ولآجل أثبات وجودها وهو أكثر فهماً للطبقة الوسطى وأقدرهم تعبيراً عن مشاكلها وكشف واقعها الطبقي  بملاحظة حركة التأريخ التطورية الحتمية، فهو {ديمقراطي تقدمي في مجتمع شرقي غيبي.

ملخص القصة

تبدأ ببطل الرواية (الجبلاوي) كان شخصاً عنيفاً صلباً متسلطاً ومزواجا لهُ الكثير من النساء – وهنا عقدة الرواية في أحتدام الجدل بين الأوساط الدينية بأن محفوظ يقصد بالجبلاوي الذات الألهية لذا كفروا الكاتب ومنعوا نشر الرواية، وتعرض لحادثة أغتيالٍ فاشلة في 14 تموز1994 من جانب أنصار التيار الديني المتطرف.

وحسب أعتقادي الفكري وقراءاتي المتعددة للرواية وفي أزمنة مختلفة: أرى أن محفوظ يقصد بالبطل رمزيا بالحكومات المستبدة الذين حكموا مصر الفراعنة والمماليك والأتراك والأسرة الفاروقية وعساكر أنقلاب تموز، أما الأخوة عباس وجليل ورضوان – عدا أدريس – يمثلون الطبقة الضعيفة والمستلبة في المجتمع المصري. أنتهج فيها أسلوباً رمزياً يختلف عن أسلوبه الواقعي، فهو ينحو في هذه الرواية جاهداً على أبرازالقيم الأنسانية التي نادى بها الأنبياء كالعدل والحق والسعادة الروحية، ونظرية العقد الأجتماعي لروسو وربما أعتبرتْهُ نقداً مبطناً لبعض ممارسات عساكر الثورة والنظام الأجتماعي الذي كان قائماً.

وعلى العموم كانت أكثرجدلاً من حيث المضمون بين الأوساط الدينية بالذات، حاول الكاتب أن يصوّرالرواية بعرض تراجيدي مأساوي للفقراء والمعدمين ومدى الظلم الذي لحق بهم وبالبشرية عموماً منذ طرد آدم من الجنة وحتى اليوم حيث الأشرار يعيثون فساداً في الأرض ويستبدون ويستعبدون الضعفاء وقد غلقوا أبواب الأمل أمام الطبقات المسحوقة أن تتمتع من نصيبها في الحياة.

سلط ضوءاً على العبودية والقهر مبيناً وبجرأة فائقة حركة التأريخ في الصراع الطبقي للمجتمع المصري الذي يعيش الخوف والجوع ووضوح الفروق الطبقية بشكل مذهل ورهيب، ووضحها محفوظ ببراعة بليغة وهو يحرك خيوط شخوص الرواية في توزيع الأرث من قبل رب الأسرة بصورةٍ غير عادلة تكتنفها الأنتقائية والأزدواجية والتحيّزْ والتعسف بأعطاء الحظ الأوفر ل (أدهم) والذي يقصد به آدم وحرمان (أدريس) الذي يقصد به أبليس، وبهذه الرمزية وهي الصفة المتعارف عليها عند الحكومات المستبدة، وهي أدانة للنظم الشمولية والدكتاتورية.

 وأنهُ لم ينتقص من الدين ورموزه ولا من ثوابته ومسلماته الفكرية بل هو أستعملها كماشة نار في تقليب الحوادث المأساوية على مساحة جغرافية مصر والعالم العربي، وما كانت حكاية (عرفة) في نهاية الرواية والتي رسم له شخصية معرفية وموسوعية لكي يجلب أنتباه القاريء والمتلقي بأن رافعة التغيير تكمن في (التعليم والمعرفة القيمية) الذي يمثله (عرفه) وجعل العلم البلسم الشافي والطريق القويم ألى " أولاد الحارة " في النهوض من كبوتهم، ولعل أهم شاهد على عدم تعرضه للأديان وبالذات الدين الأسلامي هو ما جاء في الصفحة 583 من الرواية (---الدين الذي هو منبع قيم الخير والعلم الذي هو أداة التقدم والنهضة في حاضرنا ومستقبلنا).

  وكان يرى أن الدين قد أُستغلّ ووظّف توظيفاً خاطئاً أدى ألى شقاء الأنسان كما رأينا في سطوة الكنيسة في القرون الوسطى والفتوحات الأسلامية في القرون الماضية وتعسف الدولتين الأموية والعباسية وعبث ولصوصية الدين الراديكالي بعد 2003.

وأعتقد بأن أتهام محفوظ بالزندقة والألحاد هو محض أفتراء على الرجل حسداً وغيرة لنجوميته الأدبية المتألقة وهو الأديب العربي الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل في الأداب ونتاجاته الثرة التي وصلت ألى أكثر من خمسين بين روايات وقصص وبحوث ونقد، وسوف أفند بطلان هذا الأتهام الظالم بأن محفوظ في مجمل سير الرواية آمن بموت جبلاوي، وهل تموت الآلهة؟؟؟وكذا بطله العلامة (عرفه) مات وفنى كجسد وبقيت معارفه شاخصة ألى الأبد، وهنا أتكأ محفوظ على ركيزتين في أحترام الثوابت الدينية وهما { الخلود لله والموت والفناء للبشر وركيزة العلم }، وثم أصطفاف أعداء الرجل من رجال الدين والأزهريين والمد الأخواني ووعاظ السلاطين وجماعة الوفد وعساكر الثورة البورجوازية ورجال الحقبة الملكية التي عاصرها الكاتب والذين أخضعوا مصر للمستعمر، وهو الذي سفّه آراء من أعتقد ويعتقد أن الأمور سوف تتغيّرْبعد ثورة 1952 معلناً حقيقة تأريخية (أن صنماً هُدم ليبنى صنماً آخر أو بعبارة أدق ذهب الظالم وبقي الظلم) وعرض بشكلٍ جزئي سلبيات نظرية الحق الألهي في فرض عبودية بطل الرواية الجبلاوي على أسرته وهي رموز تشبيهية لدكتاتوريات حكام العرب قديما وحديثا، وأن تشبيهات الكاتب لشخوص الرواية بالرموز الدينية قد خدم النص والفكرة التي أنشيء من أجلها المتن.

أخيراً/ لقد آن الأوان لأولاد هذه الحارة أن يعرفوا سر ضعفهم وخنوعهم وأن يثوروا لكرامتهم وكبريائهم وأن يلقوا بالتخلف والجهل والأنقياد والعبودية بعيداً، هذه هي الروح التي تبنتها الرواية " أولاد حارتنا " فهو لم يدعو للحرب بل للحوار والسلم لذا أنهُ أستحق جائزة نوبل.

وأن الرواية تبشر بيومٍ يستطيع فيه الأنسان أن ينتصر على السلطة الغاشمة وأدواتها الفتوات والبلطجية وعاظ السلاطين والجهل وكانت آخر كلمات الرواية والتي حركت مشاعري وأحاسيسي من الأعماق { --- لكن الناس تحملوا البغي ولاذوا بالصبر وأستمسكوا بالأمل وكانوا كلما أضرّ بهم العنف قالوا لابد للظلم من آخر ولليل من نهار

  ***

عبد الجبار نوري

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

حزيران 2024

.........................

هوامش البحث

- جبرا أبراهيم جبرا – الأسطورة والرمز – ترجمة – بغداد 1973 ص 258 -نت

-سليمان الشطي – الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ- الكويت 1976 ص29

- لويس عوض – دراسات في النقد والأدب – القاهرة ص 345 – ص346

- احمد ابراهيم الهواري - مصادر نقد الرواية في الادب العربي الحديث – القاهرة 1979.

- ادور الخراط – عالم نجيب محفوظ –مجلة المجلة 1963 – ص 37

مقدّمة: "حيفا النّائمة"، هي قصيدة للأديب نايف خوري، الذي عُرِفَ ككاتب وإعلامي أكثر من كونه شاعرا، إلا أنّ هذه القصيدة تعدّ من أجمل ما كتب من أشعار، فهي تأخذنا في رحلة عبر مدينة حيفا، مستكشفة جمالها وتاريخها، تحيطها بنظرة فلسفيّة تجسّد من خلالها تجربة اللّجوء والتمزّق بين الوطن الأمّ والغربة، وتتأمّل معنى الحياة والموت. يعبّر فيها خوري عن أحاسيسه تجاه وطنه ومدينته، الّتي تُطلّ علينا كقطعة فنيّة حيّة، تتراقص على أوتار الكلمات وتتسنّم ذرى الكرمل شامخة كملكة متوّجة، تَتدلّى أطراف ثوبها الأخضر على سفوح الجبال، متوسّطة بين شلّالات من الضّوء الذهبيّ تغمرها شمس الصّباح، وتتناغم فيها الألوان والصّور بانسجام، وفي المساء، يتراقص ضوء القمر على أمواج بحرها؛ لينير طريق السفن العائدة إلى ميناء الأمان "الوطن".  وخلال الوصف، يتصوّر القارئ نفسه يتجوّل في شوارع المدينة، يستنشق عبق التاريخ من أزقّتها الضيقة، ويسمع أصوات النّاس وضحكات الأطفال في السّاحات والشّوارع.

هكذا، يرسم خوري لوحة حيفا النّائمة بألوان هادئة، حيث تغفو المدينة تحت سفح الكرمل، وتضيء مصابيح العتمة دروب العمال في رحلتهم الصباحيّة.

ينطلق الجرو باحثا عن طعام، بينما يحلّق العصفور كالسّهم لالتقاط حبوب رزقه. توقظ النّسمات حيفا مع حركة المصانع وازدحام الشّوارع، فيصحو الطلّاب على ابتسامات الفرح، بينما تصبح المدينة كالموجة التي نمت في عمق البحر، لتطل على رمال الشّاطئ وتغسل أقدام العجوز الصيّاد.

تتقدّم سفينة نحو مينا السّلام، ويسدل اللّيل ستائره على البيوت. أمّا الفجر فيبعد العتمة عن الدّروب لتشرق الشّمس على قبة عباس الذهبية، فتحيي جمالا ورمزا أصبح تاجا، وتصلّي الأمّ كي لا تنام حيفا مرّة أخرى.

أسلوب الكتابة: تتميز القصيدة بأسلوبها السهل الممتنع، الممزوج بالصّور الشعريّة المختلفة. يستخدم خوري لغة بسيطة واضحة، ما يجعلها سهلة الفهم على القارئ العادي.

الأسلوب الفلسفي:

تتضمّن القصيدة العديد من التأمّلات الفلسفيّة حول معنى الحياة والموت والزّمن والذّاكرة. يتساءل خوري عن مصير حيفا ومستقبلها، فيحرّك النّقاش حول عبثيّة الحياة تحت الظّلم، والتّناقضات بين جمال المدينة والاحتلال والأمل في العودة، واليأس من الواقع، كما يثير التّساؤلات حول معنى الوجود والهويّة في ظلّ فقدان الوطن، فحيفا النّائمة هي رمز للوطن الّذي تمّ سلبه، وأفقد أهله الإحساس بالأمان والاستقرار، وجعلهم يعيشون في حالة من الغربة والضّياع والتّشتّت.

رحلة عبر اللّاوعي:

تقدّم القصيدة رحلة عبر اللّاوعي، تتيح للقارئ استكشاف مكنونات النّفس البشريّة، وتعبّر عن رغبة الشّاعر في تحرير اللّاوعي من قيوده والوصول إلى عوالم جديدة من خلاله، فحيفا النّائمة هي رمز للذّاكرة المفقودة والأحلام المكبوتة، وهي رمز لحالة الوعي المغلقة، الذي يصبح فيها الفرد غير مدرك لما يحدث حوله، فيغدو محاصرا في أفكاره ومشاعره.

تشير مصابيح العتمة إلى الأفكار والمشاعر المخفيّة في اللاوعي، بينما يجسّد الجرو والعصفور الحاجات الأساسيّة والرّغبات الغريزيّة، تصبح موجة البحر رمزا للّاوعيّ الدّيناميكيّ، بينما يمثّل العجوز الحكمة والخبرة، ويعبّر حنين الأمّ إلى الماضي عن تأثير التّجارب السابقة على اللّاوعي، بينما يغدو الدّعاء من أجل حيفا رمزا للرّغبة في تحرير اللّاوعي من أغلاله.

الموضوع:

تصوّر القصيدة مدينة حيفا من خلال وصف جمالها وسحرها ونشاطها اليوميّ، كما تقدّم رحلة عبر المدينة من خلال وصفها في مختلف أوقات النّهار، مبرزّة مفارقات الحياة بين السّكون والحركة، والظّلام والنّور، والأمل واليأس. تشير إلى صمود شعبنا في وجه الظّلم والتّشريد، وتعبّر عن إيمانه الرّاسخ بمستقبل أفضل، وتؤكّد على أهميّة الوحدة والتمسّك بالأرض والهويّة.

يعايش الشّاعر صراعا داخليّا بين رغبته في التمسّك بذاكرة الوطن المفقود، وبين شعوره بالإحباط من واقعه الحاضر، يجد نفسه محاصرا بين الماضي والحاضر، غير قادر على التحرّر من أسر الذّاكرة، ولا على التكيّف مع واقع لا ينتمي إليه، فيعبّر عن صرخته المدوّية في وجه الظّلم والقهر، وينادي بالحريّة والعدالة؛ ليذكّرنا أنّ الوجود الإنسانيّ لا معنى له دون الشّعور بالانتماء والهويّة، وأنّ فقدان الوطن مأساة إنسانيّة حقيقيّة. وبهذا يشارك تجربته الشخصيّة مع قرّائه، ويدعوهم إلى التأمّل في معنى الوجود الإنسانيّ في ظلّ الظّروف القاسية التي نعيشها.

رحلة عبر حيفا النّائمة، تأمّلات في دورة الحياة والأمل:

تُستهلّ القصيدة برسم لوحة ساحرة لحيفا الغارقة في سباتها العميق، تضيئها مصابيح خافتة كأنّها نجوم تتلألأ في سماء اللّيل، هذه المصابيح ليست مجرّد مصدر إضاءة، بل هي رمز للأمل والتّفاؤل، وإشارة إلى استمرار الحياة رغم الظّلام.

مع حلول الفجر، ينطلق العمال في رحلة يوميّة شاقّة، يحملون على أكتافهم أعباء الحياة وطموح لا ينطفئ، وشموع أمل تضيء دروبهم. يمثّل غريدهم كالسّهم مثابرة لا تقهر، وسعيا دؤوبا لتحقيق الأحلام.

تستيقظ المدينة مع النّسيم العليل وحركة المصانع وزحام الشّوارع، لتنبض بالحياة من جديد؛ فيبتسم طلاب المدارس لبعضهم البعض، ويتبادلون مشاعر الفرح والأمل، كأنّهم يرون في وجوه أصدقائهم انعكاسا لمستقبل واعد.

تشبّه القصيدة حيفا بموجة بحر هادئة غرقت في أعماق اللّيل، ثم أفاقت على رمال الشّاطئ، حاملة معها رسالة من الأمل والتّجديد. يقف العجوز على الشّاطئ، صامدا شامخا كالجيل السّابق من أجدادنا، يلقي صنّارته لاصطياد رزقه، بينما تتّجه سفينتة نحو ميناء الاطمئنان والأمان، حاملة معها أحلاما بالخلاص والحريّة. وبين هبوط اللّيل وطلوع الفجر تسدل حيفا ستائرها على بيوتها، وتشرق الشّمس على قبّة عبّاس الذّهبيّة؛ لتلف المدينة بتاج الجمال.

تُختَتَم القصيدة بالحزن وحنين أمّ الشّاعر إلى قرية "إقرث"، التي هُجِّرت منها عائلتها عام 1948م، تناجي الله ألّا تنام حيفا ثانية، خوفا من عودة الظّلام والظّلم.

الأسلوب السرديّ: يتّخذ خوري أسلوبا سرديّا يروي فيه حكايته مع حيفا، فيخلق شعورا بالارتباط مع المدينة والانتماء إليها، ويضفي شعورا بالواقعيّة.

يثير هذا الأسلوب مشاعر الحنين إلى الماضي، والإحساس بالفقدان، وكذلك الرّجاء بمستقبل أفضل. يقدّم الشّاعر مدينته كشخصيّة رئيسة، وكيان حيّ له مشاعره وأحلامه "الأنسنة". أمّا الرّاوي فهو المتكلّم الذاتيّ، أي الشّاعر الذي يفصح عن مشاعره وأفكاره تجاه حيفا.

الزّمن: تتناول القصيدة زمنيين يلعبان دورا هامّا، زمن الذّكريات والحياة قبل النّكبة. وزمن كتابة القصيدة، وهو الزّمن الحاضر.

اللّغة والأسلوب الفنّي: اعتمد الشّاعر لغة غنيّة بالصّور البلاغيّة الجميلة، وأسلوبا مباشرا وصادقا، ليمنح القصيدة شعورا بالقوّة والتّأثير. وظّف العديد من الرّموز الّتي تضفي عمقا فلسفيّا مثل البحر والرمال والشّمس.

وظّف أيضا تقنيّة التّشبيه والاستعارة، وقارن حيفا النّائمة بالعديد من الأشياء، مثل:

- العروس الجميلة: "حيفا نائمةٌ كالعروسِ الجميلةِ".

- الطّفلة الصّغيرة: "تُغني حيفا نائمةً أغنيةَ الأطفالِ".

- البحر الهادئ: "تنامُ حيفا على صدرِ البحر".

تساعد هذه التّشبيهات على خلق صور حيّة للمدينة في ذهن القارئ، وصبغتها بالجمال والهدوء.

تشبيهات معبّرة أخرى مثل:

- "حيفا الحالمة كَمَوْجَةِ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ" - يشبّه الشّاعر حيفا بموجة بحر هادئة.

- "شمَالًا، جَنوبًا.. تَتَلَألَأُ مَصَابِيحُ العَتْمَةِ تُنِيرُ دُرُوبَ العُمّالِ فِي السّيّارَةِ"، يشبّه مصابيح حيفا بالنّجوم التي تنير دروب العمّال.

- "وَغِرِّيدٌ كَالسَّهمِ يَلتَقِطُ حُبُوبَهُ"، يشبّه تغريد العصفور بسهمٍ يبحث عن طعامه؛ ليمنح القصيدة شعورا بالحركة والنّشاط.

- "بَينَ اللّيلِ وَهُوَ يَشُدُّ سَتَائِرَهُ عَلَى البُيُوتِ وَالفَجرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ"، يشبّه اللّيل بالسّتار الّذي يغطّي البيوت، والفجر بالضّوء الذي يزيل الظّلام، فيكسو القصيدة بالتّباينات.

الاستعارة: "تَصَلّيِ، أَلَا تَنَامَ حَيفَا ثَانِيَةً" – يصف الشّاعر دعاء الأمّ لحيفا ألّا تنام ثانية بالصّلاة، ما يكسب القصيدة شعورا بالرّوحانيّة والقداسة.

"حَيفَا النّائِمَةُ تَصحُو مَعَ النّسَمَاتِ، مَعَ حَرَكَةِ المَصَانِعِ، وَازدِحَامِ الشَّوَارِعِ" - يشبّه حيفا بالشّخص الذي يستيقظ مع حركة الحياة، ليصبغ القصيدة بالطّاقة والحركة والفعاليّة والاندفاع والحماسة.

"وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ، وَتُصَلّيِ، أَلَا تَنَامَ حَيفَا ثَانِيَةً" - يصوّر خوري حنين أمّه إلى قريتها المهجّرة بالشّاغل الّذي يشغلها، ما يضفي على الأبيات لمسة من الحزن والألم والحسرة على ضياع الوطن، يعبّر عن مشاعرها من خلال استخدام الأفعال المضارعة: "تنشغل، تصلّي"، مستخدما الصّور الحسيّة لإيصال ذلك بشكل أوضح وأعمق، فهي تلوّن أيّامها بذكرى الأحبّاء والمكان، تحنّ إلى أرضها وهوائها وشمسها، وإلى بيتها الذي هجرَته قسرا، تتذكّر الأيّام الماضية، فتتولّد في نفسها دمعة حارّة تسقط بصمت وألم، تبحث عن رجاء آخر، لكنّ الواقع قاسٍ والمستقبل غامض، فتتحلّى بالصّبر والإيمان، وتصلّي.

الإيقاع:

يعدّ الإيقاع المتنوّع أحد أهمّ العناصر المُشكِّلة لهذه القصيدة، فهو سريع في بعض الأجزاء، وهادئ في أجزاء أخرى، ما يساعد على إيصال المشاعر والأفكار بشكل مؤثّر، ويمنح الشّعور بالتّناغم.

الإيقاع السّريع:

استُخدم في بعض الأجزاء لخلق شعور بالإثارة، ولمحاكاة حركة الحياة وحيويّتها:

- "انْطَلَقُوا فَجْرًا مَعَ المُقَاوِلِ، يَحمِلُونَ صُرَّةَ الزَادِ وَالجُهْدِ، يَنفُثُونَ دُخَّانَ أنْفَاسِهِم".

- "طَلَّابُ المَدَارِسِ يَتَثَاءَبُونَ وَيَبْتَسِمُونَ بِمُلاقَاةِ الفَرَحِ فِي وُجُوهِ رِفَاقِهِم".

- "بَينَ اللَيْلِ وَهُوَ يَشُدُّ سَتَائِرَهُ عَلَى البُيُوتِ وَالفَجْرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ".

الإيقاع الهادئ: استُخدم في بعض الأجزاء؛ لخلق شعور بالسّكينة والاسترخاء، ولإيصال المشاعر الحزينة أو المتأمّلة، وإضفاء الشّعور بالهدوء والجمال، مثل:

- "حَيفَا النّائِمَةُ، حَيفَا الرّابِضَةُ عَلَى سُفُوحِ الكَرْمِلِ".

- "وَغِرِّيدٌ كَالسَّهْمِ يَلتَقِطُ حُبُوبَهُ".

- "وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ".

أمّا التنوّع في الإيقاع؛ فيمنح التّناغم والتّوافق لأبيات القصيدة، وينبّه القارئ لما يقرأ.

أمثلة أخرى على التنوّع في الإيقاع:

- استخدام المقاطع القصيرة والطّويلة بشكل متناوب.

- استخدام التكرار في بعض الأبيات، واستخدام التّقطيع في أبيات أخرى.

القافية:

غير موجودة، ما يضفي على القصيدة شعورا بالحريّة والتلقائيّة، ويساعد على إظهار المشاعر الحقيقيّة للشّاعر.

الوطنيّة والأبعاد السياسيّة: تقدّم القصيدة رمزيّة عميقة عن الصّراع السياسيّ الذي نعيشه، تظهر صمود النّاس وتمسكهم بالأرض والهويّة.

- "حَيفَا الرّابِضَةُ عَلَى سُفُوحِ الكَرْمِلِ" - يُعبّر الشّاعر عن حبّه لحيفا، وعن فخره بجمالها وتاريخها، مشيرا إلى الصّراع عليها، يصفها بالرّابضة؛ للدّلالة على صمودها، والتمسّك بسفوح الكرمل، والأرض.

- تظهر مشاعر الاستياء لدى الشّاعر المسكون بالحزن بسبب التّهجير حيث يقول: "وَغِرِّيدٌ كَالسَّهْمِ يَلتَقِطُ حُبُوبَهُ".

- لتمثيل الصّراع، وظِّفت بعض الصّور مثل: "مَوْجَةُ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ / أَفَاقَتْ عَلَى رِمَالِ الشّاطِئ".

- يرمز "البحر" إلى وحدة الشّعب وترابطه، حيث يقول: "تَتَقَدَّمُ سَفِينَةٌ نَحوَ مِينَاءِ الاطْمِئْنَان". ويقول: "وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ / وَتُصَلّيِ، أَلَا تَنَامَ حَيفَا ثَانِيَةً".

التّفاؤل والأمل بالمستقبل: على الرّغم من الصعوبات والتحدّيات، إلّا أنّ القصيدة تظهر شعورا بالأمل بالمستقبل، الأمر الذي يلامس شتّى مشاعر الإنسان، من الحنين إلى الماضي والأمل في العودة، إلى اليأس من الواقع في ظلّ فقدان الوطن، إلى تمسّك النّاس بهويّتهم وثقافتهم.

يرمز "الفجر" إلى بداية جديدة، حيث يقول: "وَالفَجْرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ".

"مَوْجَةُ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ، أَفَاقَتْ عَلَى رِمَالِ الشّاطِئِ".

"تَصحُو حَيفَا، تَنبِضُ الأحْيَاءُ وَالحَارَاتُ، وَتُشرِقُ شَمْسٌ عَلَى قُبَّةِ عَبّاسٍ الذَّهَبِيّةِ لِتُحيِيِ جَمَالًا وَرَمزًا أَصبَحَ تَاجًا".

يُعبّر الشّاعر عن أمله في عودة حيفا إلى سابق عهدها، لتصبح رمزا للأمل والتّجديد، فهي رمز للوطن الجميل، تغفو تحت وطأة الاحتلال، تاركة خلفها جروحا عميقة في نفوس أبنائها.

وظّفت الرمزيّة في هذه الأبيات بشكل بارع لإيصال الرّسالة بشكل مؤثّر، ونذكر بعض الأمثلة على ذلك:

الموجة: ترمز إلى حلم العودة، للحياة والتجدّد، فالموجة التي نامت في عمق البحر قد غابت، لكنّها موجودة ومستمرّة، ما يشير إلى عودتها من جديد. أمّا الشّاطئ فيرمز للأمل والخلاص.

التّاج: يرمز للجمال والسّيادة، سيادة الوطن.

كما يعبّر الشاعر عن تفاؤله بمستقبل العمّال، وعن إيمانه بقدرتهم على بناء مستقبلهم. "شَمَالًا، جَنوبًا.. تَتَلَألَأُ مَصَابِيحُ العَتْمَةِ تُنِيرُ دُرُوبَ العُمّالِ فِي السّيّارَةِ".

"طَلَّابُ المَدَارِسِ يَتَثَاءَبُونَ وَيَبْتَسِمُونَ بِمُلاقَاةِ الفَرَحِ فِي وُجُوهِ رِفَاقِهِم" – وهنا تفاؤل واضح بمستقبل الطلّاب، وإيمان بقدرتهم على تحقيق أحلامهم.

"حيفا النّائمة" قصيدة وصف: تصنّف هذه القصيدة ضمن قصائد "الوصف"، وذلك بتركيزها على وصف الأشياء والأماكن والأشخاص وأحوال المدينة، استخدمت فيها الصّور البلاغيّة، مثل التّشبيه والاستعارة والكناية؛ وذلك لإضفاء لمسة من الجمال على الوصف.

وصفت حيفا النّائمة تحت سماء مظلمة، ووصفت حركة العمال في الصّباح. كما وصفت المدينة في مختلف أوقات النّهار، ما جسّد روحها بأسلوب مباشر.

وصفت الحياة اليوميّة لسكّانها من عمّال يذهبون إلى عملهم، وطلّاب يذهبون إلى مدارسهم، وصيادين يلقون شباكهم في البحر، الأمر الذي يثير مشاعر القارئ ويحرّك خياله، ويقدّم معلومات عن الشيّء الموصوف.

حيفا النّائمة: رمزيّة فلسفيّة وشعريّة:

حيفا: مدينة عريقة تقع على ساحل البحر المتوسط، عرفت عبر التّاريخ بنشاطها وتنوّعها الثّقافيّ. قد يبدو وصف مدينة نابضة بالحياة مثل حيفا بـ "النّائمة" تناقضا غريبا، لكنّه يحمل في طيّاته دلالات فلسفيّة وشعريّة عميقة.

فلسفيا: يرمز "النّوم" إلى الموت، فحيفا كأيّ مدينة أخرى شهدت على مرور الزّمن، تغيّر الأجيال ورحيل أحبّائها. قد يرمز "النّوم" أيضا إلى لحظة من الهدوء والسّكون بعد صخب الحياة وصراعاتها، فحيفا عانت عبر تاريخها، لكنها ظلّت صامدة شامخة. وقد يشير "النّوم" إلى فترة راحة استعدادا لنهضة جديدة، فحيفا مدينة حيويّة لا تتوقّف عن التطوّر.

شعريا: تصبغ صفة "النّائمة" مدينة حيفا بالجمال، كجمال حسناء نائمة، ويشير "النّوم" إلى هالة من الغموض والسحر، يثير فضول القارئ لمعرفة المزيد عن أسرار المدينة. يشير أيضا إلى الرومانسيّة والحنين، ويثير مشاعر الحبّ والانتماء لدى المتلقّي.

يعدّ وصف حيفا بـ "النائمة" تناقضا غنيّا، يثري القصيدة ويضفي عليها أبعادا جديدة ودلالات عدّة، فمن خلاله يمكن تأمّل حال المدينة من منظور مختلف، واكتشاف تنوّعها وجمالها وعمقها. وصفها بالنّائمة لا يتنافى مع حقيقتها، فهي كأيّ مدينة حيّة، لها أوقات من الهدوء والسّكون، وأوقات أخرى من الانطلاق والنّشاط، ولها أسرارها وأحلامها التي تبوح بها.

"أمّا البيت "وَمَقَاهِي البَحَّارَةِ وَالسَّاهِرِينَ" فيمثّل تناقضات الحياة في المدينة، فبينما تغفو حيفا، تضيء مقاهيها حياة البحّارة والسّاهرين، مُشكّلة رمزا للرّحيل والهروب من الواقع، والبحث عن حياة جديدة. ورمزا للأرق والقلق والتّفكير في الماضي والمستقبل.

هذه المقاهي هي ملتقى للتّواصل بين النّاس، وهي تصوّر التناقض بين الفرح والحزن، الحياة والموت. يشير وجودها إلى استمرار الحياة في المدينة، بينما يمثل روّادها تنوّع المجتمع الحيفاويّ من بحّارة وساهرين. واستخدام كلمة "مقاهي" بدلا من "قهوة" يعطي جمالا ورونقا، كما يضفي ضمير الجمع "البحّارة والسّاهرين" شعورا بالاتّساع والكثافة، ويزيد استخدام حرف الراء في "البحّارة والسّاهرين" من موسيقى البيت.

حيفا النّائمة، أنسنة المدينة: تعدّ الأنسنة من أهم الأساليب الأدبيّة الّتي تستخدم لخلق شعور بالتّعاطف والتّواصل بين القارئ والنّص. تضفي الأنسنة على النّص لمسة من الرومانسيّة والحنين، وتثير مشاعر الحبّ والانتماء. وعندما نقول: "حيفا نائمةٌ كالعروسِ الجميلةِ"، نضفي على المدينة صفات إنسانيّة، مثل الجمال والأنوثة.

يساعدنا وصف حيفا بالنّائمة كأنثى على تخيّل المدينة بشكل أوضح، فعندما نعطي صفات إنسانيّة على شيء ما، يصبح من السّهل علينا تخيله وفهمه، وعندما نرى مدينة جميلة نائمة، نشعر بالتّعاطف معها ونرغب في حمايتها.

إليكم الأمثلة على الأنسنة في القصيدة:

- "حَيفَا النّائِمَةُ"، تشبيه المدينة بالمرأة النّائمة.

- "حَيفَا الرّابِضَةُ عَلَى سُفُوحِ الكَرْمِل"، تشبيه المدينة بالإنسان الرّاقد على الأرض.

- "تَتَلَألَأُ مَصَابِيحُ العَتْمَة"، إضفاء صفة التلألؤ على المصابيح، وهي صفة إنسانيّة.

- "تُنِيرُ دُرُوبَ العُمّالِ فِي السّيّارَةِ"، تشبيه المصابيح بإنسان يُنير الطريق للعمال.

- "وَجَروٌ يَستَغِيثُ بِمَن يُطْعِمُهُ"، إضفاء صفة الاستغاثة على الكلب، وهي صفة إنسانيّة.

- "مَوْجَةُ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ / أَفَاقَتْ عَلَى رِمَالِ الشّاطِئِ"، تشبيه الموجة بالإنسان النّائم ثم المستيقظ.

- "وَالفَجْرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ"، تشبيه الفجر بإنسان يزيل الظّلام عن الطّرق.

- "تَصحُو حَيفَا، تَنبِضُ الأحْيَاءُ وَالحَارَاتُ"، تشبيه المدينة بالإنسان الذي يستيقظ وتنبض فيه الحياة.

- "وَتُشرِقُ شَمْسٌ عَلَى قُبَّةِ عَبّاسٍ الذَّهَبِيّةِ / لِتُحيِيِ جَمَالًا وَرَمزًا أَصبَحَ تَاجًا"، تشبيه الشّمس بالإنسان الذي يُحيي الجمال.

الحنين: يخلق الحنين في هذه القصيدة شعورا بالارتباط بالمدينة، فعندما يتذكّر القارئ ذكرياته الجميلة في حيفا، فإنّه يتأمّل معنى الحياة وتغيّرها، يشعر بارتباط عاطفيّ قويّ مع المدينة، يفكّر فيها فيشعر بالحنين إلى الماضي ويشتاق إلى العودة إليها.

- "وَغَرِيبٌ يَستَغِيثُ بِمَن يُطْعِمُهُ" - يُعبّر الشّاعر عن حنين الغريب إلى وطنه، وعن حاجته إلى المساعدة.

- "وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ" - يُعبّر هنا عن حنين أمّه إلى قريتها الأصليّة الّتي هُجّرت منها عام م1948.

- وصفت حيفا بالمدينة القديمة: "حيفا مدينةٌ قديمةٌ عريقةٌ"، وفي هذا تذكير بالماضي الجميل: "أذكرُ أيامَ طفولتي في حيفا".

- الشعور بالفقدان: "أفتقدُ حيفا وأهلَها".

ختاما:

تعدّ هذه القصيدة نموذجا لقصيدة الوصف، فهي لوحة شعريّة حيّة تجسّد روح المدينة وتثير مشاعر القارئ، تعبّر عن إحساس الشّاعر تجاه مدينته ووطنه، من حبّ وفخر، وحزن على ما حلّ بها من مآسي.

وإليكم قصيدة حيفا النّائمة لمبدعها الأستاذ نايف خوري.

***

صباح بشير - كاتبة وناقدة

...................

حَيفَا النّائِمَة / نايف خوري

حَيفَا الرّابِضَةُ عَلَى سُفُوحِ الكَرْمِلِ

شَمَالًا، جَنوبًا.. تَتَلَألَأُ مَصَابِيحُ العَتْمَةِ

تُنِيرُ دُرُوبَ العُمّالِ فِي السّيّارَةِ..

انْطَلَقُوا فَجْرًا مَعَ المُقَاوِلِ

يَحمِلُونَ صُرَّةَ الزَادِ وَالجُهْدِ

يَنفُثُونَ دُخَّانَ أنْفَاسِهِم

وَجَروٌ يَستَغِيثُ بِمَن يُطْعِمُهُ..

وَغِرِّيدٌ كَالسَّهْمِ يَلتَقِطُ حُبُوبَهُ..

حَيفَا النّائِمَةُ..

تَصحُو مَعَ النّسَمَاتِ

مَعَ حَرَكَةِ المَصَانِعِ

وَازدِحَامِ الشَّوَارِعِ.

طَلَّابُ المَدَارِسِ يَتَثَاءَبُونَ

وَيَبْتَسِمُونَ بِمُلاقَاةِ الفَرَحِ

فِي وُجُوهِ رِفَاقِهِم..

حَيفَا الحَالِمَةُ..

مَوْجَةُ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ

أَفَاقَتْ عَلَى رِمَالِ الشّاطِئِ

وَغَسَلَت أَقدَامَ عَجُوزٍ يُلقِي صِنَّارَتَهُ لِلصّيْدِ.

تَتَقَدَّمُ سَفِينَةٌ نَحوَ مِينَاءِ الاطْمِئْنَانِ

وَمَقَاهِي البَحَّارَةِ وَالسَّاهِرِينَ..

بَينَ اللَيْلِ وَهُوَ يَشُدُّ سَتَائِرَهُ عَلَى البُيُوتِ

وَالفَجْرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ

تَصحُو حَيفَا، تَنبِضُ الأحْيَاءُ وَالحَارَاتُ

وَتُشرِقُ شَمْسٌ عَلَى قُبَّةِ عَبّاسٍ الذَّهَبِيّةِ

لِتُحيِيِ جَمَالًا وَرَمزًا أَصبَحَ تَاجًا..

وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ

وَتُصَلّيِ، أَلَا تَنَامَ حَيفَا ثَانِيَةً.

قراءة نقدية عمودية لرواية "خوف" للكاتب السعودي أسامة المسلم

قبل أن أمكنك عزيزي المتتبع للشأن الثقافي والإبداعي والعلمي العربي والمغاربي من قراءات تفصيلية لرواية "خوف" بأجزائها الثلاثة، انتصرت للحاجة المنهجية بتصدير هذه القراءة بمقالين أولين كتقديم، الأول لتحديد السياق الفكري للرواية عنونته ب"القراءة العمودية"، والثاني للحديث عن تقنيات السرد والمتن الحكائي عند الأديب أسامة المسلم (المقال المقبل).

إن الاستثمار الثقافي الجاد في إبراز تراث قيم المجتمعين العربي والمغاربي منذ زمن الجاهلية، تحول اليوم مع كتاب مواليد السبعينات، وعلى رأسهم الأديب السعودي أسامة المسلم، إلى انشغال قوي للشباب.

لقد تأكد اليوم أن الوقت لا يرحم، وأن العرب والمغاربيين لن ينصاعوا يوما لشعار " الإنسان الليبرالي العالمي الوحيد" الذي روجته قوى النظام العالمي الجديد زمن العولمة أو خلال الزمن التاريخي الذي سمي تعسفا ب "زمن ما بعد الحداثة".

نفس الانشغال نجده مجسدا في الكتب الفكرية لعباقرة القرن العشرين والواحد والعشرين وعلى رأسهم المرحوم محمد عابد الجابري، والدكتور عبد الله العروي، والدكتور طه عبد الرحمان، والدكتور ماجد الغرباوي .... إنه الانشغال الذي استثمر بجدية وإرادة هائلتين في دراسة وتحليل وتقييم التراث الفلسفي العالمي، الذي ركز رواده على إبراز الأدوار الريادية التي جسدها كل من ابن رشد وابن خلدون ومحي الدين ابن عربي وغيرهم في تطور الحضارة العربية وتطور الفكر الفلسفي الكوني.

هذا النمط الأدبي الروائي الجديد (الأجزاء الثلاثة لرواية خوف كنموذج) يشكل اليوم الجسر القوي بين الفكر والمجتمع بتقنية وعبقرية أدبيتين جديدتين تحولتا إلى تجربة إبداعية مؤثرة نظرا لأهمية المضمون وتشربه السريع من طرف الأجيال الصاعدة. في هذا الشأن، ومن خلال حواراتي ونقاشاتي مع الدكتور علي القاسمي، كان دائما يلح على البساطة في الأسلوب والعمق في المعنى والدلالة. كما استنتجت من فترة الصداقة التي ربطتني معه أنه كان يعتبر المثلث "الرباط، وبغداد والرياض" القلب النابض للحضارة العربية والمغاربية في الماضي والحاضر، والمجال الترابي الخصب ثقافيا والأنسب جغرافيا الذي سيمكن شعوب المنطقة برمتها من طلب الكلمة للتعبير عن الذات كونيا.

نفس الحرص على مقاومة منطق المنتصر الغربي، بجوانبه المصلحية والسياسية الواضحة، نجده كذلك في الشرق. لقد رفعت على أنقاضه ومتناقضاته شعارات موازية كشعار "الحضارة الأوراسية"، وشعار "الحضارة الصينية"، وشعار "الحضارة الهندية"، وشعار "الحضارة اليابانية"......

دروس ودلالات وعبر كتابات الأديب السعودي أسامة المسلم، وكتابات الدكتور العراقي علي القاسمي، وكتابي الذي خصصته لنقد مجموعته القصصية "أوان الرحيل" تحت عنوان "سراديب الموت"، استثمرت في حيز كبير منها في "التراث العربي والمغاربي". روايات أسامة انغمست حتى في التاريخ العربي الجاهلي. فعبارة "النقد المبني على الشخصية" تم اختيارها بعناية تامة. للعرب تاريخ شخصية بمروءة نسائية ورجالية وقيم ومبادئ وأسس حياة لا تقاس في تاريخ البشرية. فحتى المعارف المحلية التراثية (مدونات عمار كنموذج) يمثل حيز هام منها ثروة قيمية وسلوكية تاريخية ومكون هام من شخصية إنسان المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط. إحياء النافع منها يعد اليوم واجبا على كل المثقفين لتوثيق الروابط العقلانية ما بين الماضي والحاضر والمستقبل. فحتى التأمل في الواقع الأمريكي (دولة بتاريخ لا يتجاوز 200 سنة)، كحاضر امتزجت فيه مجموعة من مقومات شخصيات عدة أقطار وأمم مهاجرة، جدير بالتأمل (نموذج غربلة وانتقاء للتراث الثقافي لعدة أجناس بشرية تحت غطاء النمط الديمقراطي الليبرالي). إنه النمط المؤسساتي والثقافي والسياسي الذي عاش فيه بطل الرواية السنوات الست الأولى من حياته.

فعقلانية التحكم في الخوف في حياة الإنسان عند أسامة المسلم يقابلها واجب تحقيق شروط الشجاعة والاطمئنان في استقبال الموت عند علي القاسمي. إن مواجهة غطرسة الخوف غير المبرر عقلانيا، ككابح للجرأة والإبداع والمناوئ لعزائم الغوص في عالم كشف أسرار الكون، يجب أن يوازيها الاستعداد التام للإنسان العربي والمغاربي للوفاء الصادق لأمانة استخلافه في الأرض بإبداع نسق منتج لتدبير وقته بجعل الزمن المخصص للترفيه والترويح على النفس آلية للرفع من مردودية عمله اليومي.

***

الحسين بوخرطة

بقلم: نيشيا كرونيستر

ترجمة: وإعداد صالح الرزوق

***

بالنسبة لجيني إيربينبيك لا شيء يدوم إلى الأبد، لا المنزل، ولا الطقوس التي تربطنا بالأجيال السابقة، ولا حتى الموت. حتى أسلوب كتابتها يؤمن بعدم الثبات.

في أعمالها، تختفي الأشياء. الناس يختفون. المعرفة تختفي. وكذلك تتلاشى بمرور الوقت الطقوس والعادات، والممارسات التي تهدف إلى الحد من تآكل الثقافة وربطنا بماضينا. وموضوعات أعمال إيربينبيك معقدة، ومكثفة تاريخيًا، وغنية ماديًا، ومع ذلك لا يستمر في أعمالها سوى عدم الثبات - أو الفكرة البسيطة المتمثلة في اختفاء الأشياء. من أفضل من جيني إيربينبيك  في الكتابة عن الاختفاء النهائي لكل الأشياء، حتى تلك التي تبدو أكثر ثباتًا بالنسبة لنا؟. عندما توحدت ألمانيا في عام 1990، كانت شابة بالغة، وشهدت مع اندماج الشرق بالغرب التفكك السريع لدولتها ومحو الكثير من ثقافتها. لذلك بالنسبة لها، لا شيء يدوم، لا الوطن، ولا الدولة، ولا حتى الذاكرة.

ينظر العديد من كتاب القرن الحادي والعشرين الألمان إلى القرن السابق نظرة تاريخية، ويعبرون عنها بروايات عن أفراد أو عوائل.  ولا يبذ في هذا المجال جيني إربنبيك. حاز عملها الأدبي الأول، وهو رواية قصيرة بعنوان " قصة الطفلة العجوز" (1999)، على إعجاب النقاد لأنها قدمت المانيا الشرقية بصورة بيت تحيا فيه جماعة. و"قصة الطفلة العجوز" هي قصة فتاة تقف وحيدة في زاوية الشارع وليس لديها سوى الملابس التي ترتديها وفي يدها دلو فارغ. يمكن القول إنها لوحة اجتماعية فارغة، فالفتاة لا تستطيع أن تتذكر من هي أو من أين أتت؛ وكل ما تعرفه أن عمرها أربعة عشر عامًا. ولا تجد السلطات طريقة مناسبة للتصرف معها،  وفي النتيجة تجد لها مأوى في منزل للأطفال، وهناك تصل بسرعة إلى أسفل السلم الاجتماعي بسبب مشكلة جسدية ولافتقارها إلى المهارات الاجتماعية. وتحاول جهدها أن تنتمب إلى نظام المنزل، وتقبل بفارغ الصبر مكانها المتدني، فهو المكان الأكثر أمانًا في أي نظام اجتماعي لأنه لا يحتاج لمن يدافع عنه. وهي تعرف ما يوجد خارج أسوار المدرسة. ومع أن الآخرين يسعون إلى لحرية، تستمتع هي بنظام المدرسة الذي يمكن التنبؤ به.  ولا شك أن هناك شيئًا غير مفهوم بشأن هذه الفتاة، التي يبدو أنها عاجزة عن الإحساس بذاتها والسيطرة على جسدها المعوق. ولا نعلم حتى النهاية العجيبة للرواية أنها تحمل سرًا: فهي ليست في الرابعة عشرة من عمرها فعلا، ولكنها تبلغ في الواقع ثلاثين عامًا. وهي امرأة اختارت أن تلوذ بأمان واستقرار مؤسسة للأطفال.

تشير "قصة الطفلة العجوز" إلى أحداث مر بها التاريخ الثقافي والأدبي الألماني، وخاصة اللقيط كاسبار هاوزر من القرن التاسع عشر وأوسكار ماتسيرات من أعمال غونتر غراس، الذي تأخر نموه على نحو معروف في الرواية المشهورة "طبل الصفيح". كما هو الحال في رواية غراس، لاحظ النقاد الرمز السياسي في قصة إيربينبيك. بعد توحيد ألمانيا الشرقية والغربية، وجد العديد من الشرقيين السابقين أنفسهم عاطلين عن العمل، عدا عن إلغاء مؤهلاتهم المهنية، ونتيجة لذلك، أصبحوا معوزين اقتصاديا، ومحرومين من الهياكل الاجتماعية التي كانت تخفف من حدة الفقر في النظام الاشتراكي. وبعد أن خذلتهم سياسات الوحدة الألمانية واقتصادها، بدت لهم الحرية الموعودة خدعة قاسية. ولا سيما للكثيرين الذين لم يتمكنوا من تأمين تكاليف الحياة في النظام الرأسمالي الجديد. وبحلول أواخر التسعينات، رغب الكثيرون في العودة إلى أيام جمهورية ألمانيا الديمقراطية، ورأى النقاد أن "الطفل الكبير" لإيربيينبيك تعبير عن هذه الرغبة. ورأى نقاد آخرون أن الفتاة نفسها رمز للشرق، فقد ظهرت فجأة على مسرح السياسة الغربية  دون أن تفهم النظام الاجتماعي الجديد. وكانت ألمانيا الشرقية، في ظل النظام الجديد، مثل الطفلة العجوز، محرجة، و"مقزمة" اقتصادياً وسياسياً.

وألقت روايتاها اللاحقتان "الزيارة" (2008) و" نهاية الأيام" (2012)، نظرة أطول على القرن العشرين. تصور "الزيارة" منزلاً وقطعة أرض تتغير ملكيتها ثلاث مرات على مدار قرن. وتجري فيها أحداث تاريخية واسعة النطاق تغطي جزءا من تاريخ المنزل، ومصائر أربع عائلات ارتبطت به. تبدأ الرواية، في مطلع القرن العشرين، حينما كانت الأرض الواقعة على ضفاف البحيرة في براندنبورغ مهرا لزواج بين الجيران وبهدف تعزيز الثروة.  ولكن عندما تصاب كلارا ابنة مالك الأرض بالجنون ولا تستطيع الزواج، يبيع والدها الأرض لمهندس معماري. تؤدي الصفقة إلى انتحار كلارا، وتعتبر حادثة الموت رمزا يدل على مرور النظام الاجتماعي القديم مع ظهور النظام الرأسمالي الحديث. عمد المهندس المعماري لبناء منزل على تلك الأرض في ثلاثينات القرن الماضي ووسع ممتلكاته عن طريق شراء الأرض المجاورة، بالإضافة إلى مرسى قوارب خاص بها وممر يساعد على الوصول إلى المياه، وبسعر يفرضه على المالكين اليهود الذين يحاولون جمع الأموال للفرار من ألمانيا. ثم نرى أنفسنا نشاهد دوريس، طفلة من المنزل المجاور، وهي تختبئ من النازيين في خزانة مظلمة في الحي اليهودي في وارسو، ولكن يتم القبض عليها وتواجه موتًا مروعًا. وأثناء الموت كانت ذاكرتها عن تلك البحيرة وعن المناظر الطبيعية في ألمانيا هي راحتها الوحيدة. ونشاهد أيضا اغتصاب زوجة المهندس المعماري على يد ضابط روسي في المنزل في نهاية الحرب، وبعد ذلك نشاهد المهندس المعماري وهو يخفي متعلقات العائلة الثمينة في الفناء قبل أن يهرب إلى الغرب في الخمسينات. ونتتبع أفكار امرأة حصلت جدتها على المنزل من حكومة ألمانيا الشرقية بعد عودتها من منفاها الروسي الذي عاشت فيه خلال الفترة النازية. والآن يتوجب عليها أن تناضل من أجل الاحتفاظ به بعد توحيد ألمانيا، بعد تقدم عائلة المهندس المعماري بمطالبة لاسترداده، ولكنها تخس  في خاتمة المطاف معركتها.

هذه الحكاية الأخيرة مقتبسة، كما هو معروف، من تاريخ عائلة إيربينبيك، وهي تعبر عن المرارة التي خلفها فقدان منزل جدتها الواقع على ضفاف البحيرة في براندنبورغ، مكان ذكريات الطفولة السعيدة. عنوان الرواية Heimsuchung وترجمته الرائعة سوزان بيرنوفسكي إلى الإنكليزية "الزيارة". ولكن "الزيارة" في هذا السياق تعني "الاستحواذ"، ويمكن للمرء أيضًا تقسيم العنوان الألماني المركب إلى "هايم" (الوطن) و"سوشينغ" " (أن تبحث). والواقع أن المنزل يمثل الأمرين: الحنين إلى وطن لم يعد موجوداً، وأيضاً الطريقة التي تستحوذ بها على ألمانيا الأحداث العنيفة التي شهدها القرن العشرون. ونحن القراء، نأخذ دور  أشباح، لنشاهد هذه الأحداث من مسافة صامتة وبجدول زمني يتجاوز القدرات البشرية. تروي المقدمة تاريخًا بطيئا طوله آلاف السنين تزحف فيه الجبال الجليدية التي تتشكل منها التلال والبحيرة، وتتابع الخاتمة تفاصيل هدم المنزل واستعادة المناظر الطبيعية، ولو لفترة وجيزة. إن الأنشطة البشرية في القرن العشرين ليست سوى نقطة صغيرة في تاريخ الأرض الطويل وفي مسيرة الزمن الزاحف إلى الأمام. هذا الصراع بين الأنشطة البشرية التي يعمى عنها الزمن وبين الضرورة الوجودية  لحاضر الأفراد، شيء تبرع به إيربينبيك من خلال رصد التحولات البانورامية وبالتلاعب بالمسافة، وبتقريب المشاهد.

في الرواية التالية "نهاية الزمان" تقدم القرن العشرين من وجهة نظر مختلفة تمامًا عن "الزيارة". بدلاً من الحفاظ على التركيز المكثف على مكان واحد، تتبع شخصية مركزية أُجبرت على الهجرة بشكل متكرر على مدار القرن. بطلة الرواية هي امرأة من يهودية من أوروبا الشرقية، وبالتالي فإن الرواية تتابع أحداث القرن العشرين من خلال الصعوبات والتحديات التي واجهتها هذه المرأة اليهودية. وقد عانت بدرجات متفاوتة من مشكلة الاندماج بالمجتمع حسب ظروف حياتها الخاصة - في غاليسيا البولونية في مطلع القرن، وفيينا أثناء صعود الفاشية، وروسيا خلال الحقبة النازية، وألمانيا الشرقية في فترة ما بعد الحرب، وأخيرًا برلين، بعد التوحيد – وبذلك تسلط الضوء على الوضع غير المستقر لمن يعيش على هوامش المجتمع. يشعر القارئ في "الزيارة" بمسافة شبحية تفصله عن أحداث الرواية، لكن "نهاية الزمان"  تشد القارئ، وتصور صدمات القرن العشرين من خلال التقارب الحميم مع شخصيات الرواية.

في هذه الرواية، ليس المكان فقط، بل الزمان أيضًا، له معنى خاص. تتابع الرواية خمس نسخ مختلفة من حياة وموت الشخصية المركزية، الفتاة/المرأة التي تبقى بدون اسم حتى نهاية الرواية. يركز الكتاب الأول على حداد عائلة مات رضيعتها البالغة من العمر ثمانية أشهر أثناء نومها، وكل كتاب من الكتب التالية للرواية يسبقه فاصل أو سيناريو من نوع "ماذا لو"، فالموت ينقلب على نفسه، ويطول أمد الحياة، حياة الطفلة. في الكتاب الثاني، تكبر الطفلة وتصبح فتاة تعاني من المجاعة والبرد في فيينا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وتدفعها حاجتها إلى أن تصبح ناشطة سياسية. لكنها تنتحر مع عشيقها. في الكتاب الثالث، تصبح شيوعية شابة ثورية تنتقل إلى أوفة ثم إلى موسكو، وتبدأ الكتابة في مجلة باللغة الألمانية. ولكن عندما يتم الاشتباه أنها تروتسكية، يقبض عليها وتقتل في معسكر اعتقال. في الكتاب الرابع، تصبح مؤلفة مشهورة تهاجر إلى ألمانيا الشرقية للمساعدة في تشكيل الوعي الثقافي للدولة الشيوعية الجديدة لكنها تموت في حادث محض بالسقوط على السلالم. في الكتاب الخامس، تكبر وتصبح امرأة مسنة تعيش حقبة ما بعد التوحيد في دار للمسنين مع آخرين من جيلها، ولكن لا أحد يسمع ما لديهم من قصص عن القرن العشرين في ألمانيا بسبب التدهور العقلي والموت، وبسبب تراجع الوعي بين الشباب، وقلة الاهتمام. 

في أعمال إيربنبيك، يعتبر القرن العشرون حقل ألغام لا يمكن النجاة منه إلا بالحظ والصدفة، ويحفر حقل الألغام هذا أيضًا أثلاما عميقة في الذاكرة بين الأجيال. نظرًا لأن السرد يأخذ في كل كتاب منعطفا مختلفا وفقًا لسيناريوهات متعددة من نوع "ماذا لو"، تمر أجزاء معينة من المعلومات والطقوس والقصص العائلية من فصل إلى فصل لاحق، بينما تختفي أجزاء غيرها. ويبدو أنه لا يوجد استمرارية ملموسة إلا في الممتلكات والإرث العائلي. ومع ذلك يضيع معنى هذه الآثار عندما لا تتمكن الأجيال اللاحقة من التعرف عليها.

يكمن تفرد إيربينبيك في تجربتها مع الشكل، ولكن أيضًا في الطريقة التي تصور بها الزمن. فهو دائري وخطي، وغير منتظم في الوتيرة والاتجاه. في "الزيارة"، البستاني هو الشخصية الوحيدة المرتبطة بالمنزل باستمرار، وهو شخصية ذات صفة أسطورية. لا أحد يعرف من أين أتى أو المدة التي قضاها هناك. سنة بعد سنة، يقوم بزراعة وإزالة الأعشاب الضارة وإزالة الأشجار وإضافة الحواجز، والقيام بالعمل الموسمي وهو التنسيق والتقليم من أجل راحة الذين يسكنون المنزل. ويظهر مرارًا وتكرارًا بين الفصول، وبالتالي يكسر تقدم الزمن في الرواية بعمله الدوري. في "نهاية الزمان"، الزمن ليس خطيًا فقط، مع أنه يؤرخ للقرن العشرين، ولا دوريًا، لأن دورات الحياة تتكرر عبر الأجيال؛ ولكنه أيضا يقبل الانقلاب على نفسه، وتتم إعادة بطلة الرواية إلى الحياة بشكل متكرر. بالنسبة لإيربينبيك، لا شيء يدوم إلى الأبد، لا المنزل، ولا الطقوس التي تربطنا بالأجيال السابقة، ولا حتى الموت. حتى أسلوب كتابتها يعاني من عدم الثبات. وله طراز موسيقيي. فهو إيقاعي ودوري. ولا تتكرر الأفكار المهيمنة في عمل واحد فقط، ولكن في جميع أعمالها. وتبقى دائما  أصداء: تتكرر العناصر التي تظهر بقوة في بداية رواياتها، ولكنها تتضاءل قليلاً في كل مرة حتى تتلاشى تمامًا في النهاية. والصمت مهم بالنسبة لإربينبيك، كما هو الحال في الموسيقى، والفواصل بين الكلمات لا تقل أهمية عن الكلام الذي يقال. ولذلك علينا أن ننتبه إلى ما هو غير موجود، والذي يختفي.

ولكن عندما نعتقد أنه يمكننا قول شيء محدد حول موضوعات إربينبيك الرئيسية - حول العلاقة بين عدم الثبات والاختفاء والخسارة في أعمالها - فإنها تغير وجهة نظرنا مرة أخرى، مما يعطي عدم الثبات اتجاها متفائلاً في روايتها "اذهب، مضى، غاب" Go، Went، Gone 2015. ريتشارد، بطل الرواية، أستاذ فخري للكلاسيكيات، وأصبح أرمل، ومع فقدان زوجته وانتهاء عمله رسميًا، أصبح لديه الآن الوقت متاح، ولكنه لا يحدد اتجاهه. يفكر في موته الوشيك، مدفوعًا جزئيًا بمنظره البحيرة القريبة من فناء منزله، حيث غرق رجل مؤخرًا ولم يتم انتشال جثته. كما هو الحال في بقية نصوص إيربينبيك، الموت حاضر دائمًا، تحت السطح مباشرةً. في بداية "اذهب، مضى، غاب"، يركز ريتشارد على ما اختفى، ولكن في يوم من الأيام تظهر له أشياء جديدة. بعد وصوله إلى منزله بعد زيارة أحد الحفريات الأثرية التي شارك بها أحد الأصدقاء والتي كشفت عن ممرات تحت الأرض أسفل ما يعرف الآن باسم ألكسندربلاتز، يرى في نشرة الأخبار المسائية أن اللاجئين الأفارقة تجمعوا أمام مجلس مدينة برلين، مضربين عن الطعام، في محاولة يائسة لتلقي المساعدة من الحكومة.  يشعر ريتشارد بالانزعاج لعدم رؤيتهم عندما مر من ذلك الموقع في وقت سابق من ذلك اليوم. وعقد العزم على معرفة المزيد، وقام بزيارتهم، وسرعان ما كرس نفسه للمساعدة. فعمله مقسم بين مساعدة بعض اللاجئين للتعامل مع النظام، وإعطاء دروس للعزف على البيانو، وشراء  أرض في غانا لأم شخص آخر (وهي ليست صفقة شراء صغيرة)، وفي النهاية يستضيف بعض اللاجئين ليعيشوا معه، ويوفر سكنًا للآخرين، لحين وقت حفلة عيد الميلاد.

يفهم ريتشارد محنة اللاجئين، ويسمع قصص هجرتهم المروعة، ويكافح ضد النظام البيروقراطي الذي وجدوا أنفسهم فيه، ونشاركهم نحن القراء في هذه الإجراءات.  رواية إيربينبيك تتويج لبحث شامل، ومقابلات مع اللاجئين في ألمانيا، ودراسة مكثفة لقانون الهجرة الأوروبي، وأثر الإجراءات التي اتخذتها إيربنبيك نفسها لمساعدة اللاجئين، وتوفر كلها نظرة ثاقبة على نظام اللجوء البيروقراطي الغامض في ألمانيا وفي أوروبا مع تأمل في حياة النازحين الصعبة. يفسح موضوع الاختفاء المجال للرؤية والتنوير، وفي كلمة الشكر والتقدير التي كتبتها إيربينبيك، تدل القارئ  كيف يتبرع للمنظمات التي تخدم اللاجئين.

كان القرن العشرون وفقًا لأعمال إيربنبيك عصر الخسارة والنزوح، لكن في "اذهب، مضى، غاب" روح التفاؤل العملي. إن إيمان إربنبيك الدائم بعدم الثبات هو على وجه التحديد ما يغذي هذا الأمل. ومع أن عدم الثبات يمكن أن يعني الموت والخسارة والانفصال عن التقاليد، فإنه يحمل أيضًا إمكانية التغيير الإيجابي. ترى إيربينبينك بعد أن شهدت تغيرًا اجتماعيًا سريعًا لتفكك دولتها، مدى عدم استقرار المؤسسات، وأخطاء ما نعتقد أنه راسخ إلى الأبد. وبسبب تاريخ عائلتها، فهي تدرك جيدًا مدى هشاشة الاستقرار. لا شيء دائم، لا القوانين، ولا الأمن الشخصي، ولا حتى الحدود، السياسية د التي تفصل بيننا وبينهم. في كتابها "اذهب، مضى، غاب"، تبين لنا أن عدم الثبات يجب أن يحدد طريقة استجابتنا للمحرومين في عالمنا. فإذا فتحنا أعيننا وقدمنا ما في وسعنا من مساعدة، فربما نتمكن من أن نصبح قوة ضد ذلك النوع من الخسارة والنزوح الذي ميز القرن العشرين.

مانهاتن، كانساس

***

......................

نيكيا كرونيستر Necia Chronister أكاديمية من جامعة ولاية كانساس، ومحررة مجلة "دراسات في أدب القرن العشرين والحادي والعشرين" . من أهم أعمالها "نزاع أهلي" 2022. وهو عن مصير قانون الملكية في دولة ألمانيا الشرقية السابقة.

 *ملاحظة تمت الاستفادة من برامج الذكاء الصناعي في تنسيق وترتيب الترجمة.

 

(يا امرأةً زفـيـرُها أريجُ زُعـفـران).. أنموذجاً

يا امرأةً زفـيـرُها أريجُ زُعـفـران

مـشـى بـيَ الـلـيـلُ الـى الـفـراتِ

قـبـلَ مـوعـدِ الأذانْ

**

الـى صـلاةِ الـفـجـرِ ..

وحـدي

وبـقـايـا مـن رذاذ الـقـمـرِ الـنـعـسـانْ

**

ودمـعـةٌ خـبـيـئـةٌ ـ وربـمـا قـهـقـهـةٌ صـامـتـةٌ ـ

تـخـثَّـرتْ مـا بـيـن أهـدابـيَ

والأجـفـانْ

**

وبـيـتُ شـعـرٍ واحـدٍ

حـاولـتُ أنْ أُكـمِـلَـهُ قـصـيـدةً ..

فـأعـلـنـتْ عـصـيـانَـهـا علـيَّ أبـجَـدِيَّـتـي

وأبـحُـرُ الـعـروضِ والـبـيـانْ

**

لأُكـمِـلَ الـبـيـتَ الـيـتـيـمَ الـمُـسـتَـبـى

عـن الـمـشـوقِ الـسـومـريِّ

عـاد بـعـدَ غـربـةٍ طـويـلـةٍ

فـلـم يـجـدْ جَـنَّـتَـهُ الأرضـيـةَ

**

مُـفـتِّـشًــا فـي الـلازمـانِ عـن غـدي

فـلـم أجـدْ

إلآ بـقـايـا جُـثَّـةِ الـمـكـانْ

**

فـي شـبـهِ تـابـوتٍ مـن الـرَّمـادِ

تـذروهُ ريـاحُ الـغـدرِ والـجـحـودِ

والـخـذلانْ

**

والـحُـلُـمَ الـبـسـتـانْ:

**

أودَعَـهُ عـنـدَ خـؤونٍ جـاحـدٍ

كـان يـظـنُّـهُ مـلاكـاً

قـبـلَ أنْ يـكـتـشـفَ الـمـارقَ فـي خَـبـيـثِ أصـغـرَيـهِ

والـشـيـطـانْ

**

مـشـى بـيَ الـلـيـلُ وحـيـدًا ..

سـاعـةٌ مَـرَّتْ عـلـى حـفـيـدِ أنـكـيـدو ..

وسـاعـتـانْ

**

والـسـومـريُّ الـحـالِـمُ الـمـغـدورُ فـي فِـردوسِـهِ

لـمّـا يـعـدْ يـمـلـكُ مـن تـنُّـورِهِ

غيـرَ رمـادِ الـيـأسِ والـدخـانْ

**

لا الـمـاءُ .. لا الـخـضرةُ .. (**)

لا الـحِـسـانُ .. لا الـلـؤُلـؤُ ..

لا الـمـرجـانْ

**

لا الـسـنـدسُ / الإسـتـبـرقُ / الـزنـبـقُ

لا الـريـحـانْ

**

ولا جـواري مـلـكِ الـمـلـوكِ " هـارونَ "

ولا كـنـوزُ " قـارونَ " ..

ولا تـاجٌ وصـولـجـانْ

**

يـمـكِـنْ أنْ تُـحَـرِّكَ الـمـيـاهَ

فـي أنـهـاريَ الـظـمـيـئـةِ الـشـطـآنْ

**

إلآكِ يـا صـوفـيّـةَ الـلـذاتِ ..

يأطـاهـرةَ الآثـامِ ..

يـا مـائـيَّـةَ الـنـيـرانْ

**

يا امـرأةً

زفـيـرُهـا أريـجُ زعـفـرانْ:

**

جـمـيـعُ مـا خـسـرتُـهُ صـار رِبـاحًـا ..

وبـخـورًا صـارَ مُـذْ دخَـلـتِ فـي مـحرابـيَ

الـدُّخـانْ

**

أنـا وأنـتِ والـفـراتُ

الآنْ:

**

نـوقِـظُ فـي بـاديـةِ الـسـمـاوةِ الـعـشـبَ

نـقـودُ نـحـوهـا الأمـطـارَ والأنـهـارَ

والـغـدرانْ

**

نـنـشُّ عـن غـزلانِ " أوروكَ " ذئـابَ الـغـدرِ

والأحـزانْ

**

كـلُّ خـؤونٍ لـلأمـانـاتِ :

لـئـيـمٌ / مـارقٌ / مُـبـتـَـذَلٌ / جَـبـانْ

**

واسـتـطـرَدَتْ سـيـدةُ الـنـسـاءِ فـي "أوروك ":

إنَّ الـبـحـرَ لا يُـغـوي الـفـراشـاتِ

فـإنَّ قـطـرةً واحـدةً مـن الـنـدى

تُـطفـئ مـا يـعـجـزُ عـن أطفـائِـهِ الـبـحـرُ مـن الـنـيـرانْ

**

هـل يـمـلـكُ الـعـصـفـورُ مـن غـابـاتِ "أوروكَ "

سـوى مـا يَـسَـعُ الـعُـشَّ مـن الأغـصـانْ؟

**

مَـجـدُكَ فـي الـعـشـقِ

وفـي الـقـصـيـدةِ الـبـيـضـاءِ

كُـنْ مـثـلـي:

فـقـد هَـبَـطـتُ مـن عـرش ســمـاواتـي الـى أرضِـكَ

فـلـنُـشـدْ إذنْ

مـمـلـكـةَ الـفـراشـةِ / الـوردةِ ..

والـحـمـامـةِ / الـهـديـلِ ..

والـرَّبـابـةِ الـنـاسـكـةِ الألـحـانْ

**

مـا ضـاعَ قـد ضـاعَ

فـإنَّ الـنـهـرَ لـن يـعـودَ لـلـغـيـمـةِ ..

والآهـاتِ لـن تـعـودَ لـلـصـدورِ ..

والـدمـوعَ لا يُـمـكـنُ أنْ تـعـودَ لـلـعـيـونِ ..

والـرَّمـادَ لـنْ يُـبـعـثَ مـن تَـنُّـورِهِ أفـنـانْ.

***

القراءة

هناك الكثير من الدراسات النقدية التي تناولت قضايا الشعر العربي المعاصر، خاصة تلك الدراسات التي استأثرت بموضوع الصورة الشعرية، وما يتعلق بمفهومها ووظائفها وأنماطها، التي عدت من أهم القضايا تداولاً في دراسـة النص الشعري المعاصر، كونها تتحكم في شعرية النص، حتى أصبحت من أولويات مقوماته الفنية، وجزءاً لا يتجزأ منه، بل شكلت (البنية المركزية للشعر)، "رينيه، وارين، نظرية الأدب، ص 193"، وعلامة فارقة في قصيدة النثر، جنباً إلى جنب مع ما تسلل إلى قصيدة النثر من مدارس فلسفية وصوفية وعلم النفس ونظريات فرويد في (الوعي واللاوعى)، فهي إحدى دوال الحداثة الشعرية، بما تمتلكه من عناصر دهشة وانزياح وخيال ومعنى، تسهم في البناء الفني لأي نص شعري حداثي.

لقد تجاوزت الدراسات النقدية المعاصرة المفهوم البصري للصورة، الى (دلالات متعددة، أهمها : الصورة الذهنية، والصورة بوصفها مجازاً، ثم الصورة بوصفها أنماطاً تجسد رؤية رمزية أو حقيقية أو حدسية)،"جابر عصفور، نورمان فريدمان، الصورة الفنية، مجلة الأدب المعاصر، ع16،ص31". فهناك من يرى أن الصورة لا تقتصر على الدلالة البصرية وإنما لها محتوى فكري، خضعت إلى تحولات من الوضوح والمباشرة إلى التعقيد والغموض.

كان لشعراء الحداثة اهتمامهم بالصورة الفنية وطريقة تشكيلها وبنائها،حتى قيل عنها (لا يكون الشعر شعراً إلا بها)، بل اعتبرها البعض من النقاد بمثابة المحور الذي تبنى عليه القصيدة المعاصرة، وعدوها (جوهر القصيدة بصورة عامة)، بل إن البعض ذهب إلى (أن القصيدة برمتها هي صورة مستعارة)، لأن وظيفة الصورة هي أن تجسد الجوانب النفسية والذهنية والشعورية للشاعر.

إذاً الصورة الشعرية سمة أسلوبية يتميز بها الشعراء، حتى غدت واحدة من أبرز الأدواتهم التي يستخدمونها في بناء نصوصهم الشعرية، التي تجسد أفكارهم وتصوراتهم وانفعالاتهم.

فهي إحدى الأسس المؤثرة في بنية النص الشعري، التي تتسم بإلايجاز والمجاز والتكثيف والكناية والتشبيه والاستعارة، إضافة الى مكوناتها الأساسية من (لغة، وخيال، وعاطفة)، الثالوث الذي شكل مصادر الصورة الشعرية، وما تمثله من جمالية وقوة دلالة، و(تعبير عن حالة نفسية معينة يعانيها الشّاعر إزاء موقف معين من مواقفه مع الحياة)، "محمد زكي العشماوي، قضايا النقد الأدبي،ص 108". وتجسيد لذات الشاعر وتجاربه وإبداعه الفني ومرآة تعكس انفعاله وعاطفته وكل ما يتصل به.

إن الصورة الشعرية تمثل الاختزال والتكثيف اللغوي، الدالة على عمق التجربة الشعرية للشاعر، لأن في هذه الصورة تكتمل المعاني النفسية والتعبيرية لهذه التجربة، وأهميتها في النص الشعري ك (إحدى الوسائل الشعورية التي يستخدمها الشعراء في التعبير عما يريدون)، "تشارلتون، فنون الأدب، ص 89"، فهي من أهم مرتكزات بنية النص الشعري، وليس زينة بلاغية أو تشكيلاً زخرفياً يشكلها الشاعر، يمكن الاستغناء عنها، بل جزء من النص وتتناغم مع أجزائه ومكوناته الأخرى، وبؤرة دلالات لغوية وذهنية ونفسية، ورمزية، وطاقة شعورية يتولد عنها النص، وتحقق وحدته.

فالصورة الشعرية جوهر الشعر بكل أدواته الفنية المؤثرة، وركناً اساسياً في النص الشعري، ومرآة عاكسة لتجربة الشاعر، تظهر قدرته على إبرازها -الصورة الشعرية‐ بكل أبعادها وملامحها القائمة على اللغة الشعرية التي تتشكل منها، والتي تؤثر في تشكل النص وفتح مغاليقه، وتحرير اللغة من معجميتها.

لقد اكتسبت الصورة الشعرية أبعاداً ذهنية ورمزية، فهي ذات بعد ذهني تقوم على أسس نفسية ذاتية وخيال له (القدرة على تكوين صورة ذهنية لأشياء غابت عن متناول الحس)، "جابر عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، ص 13". والمقصود هنا بالصورة الذهنية، الصورة العقلية، التي تتكون من عناصر عقلية مجردة، وفضائها فضاء نفسي ذهني، جامع للصورة الرمزية والتجريدية. فكلمة الذهنية تشير إلى الذهن أي العقل والفهم، أي فهم الشيء وتصوره، فهي (تمخر عباب المعنى أي قابلة للتأويل والتفسير ولها أبعاد فلسفية)، ذات بنية تراكمية معرفية وشحنات عاطفية وأبعاد نفسية، وقدرة تفاعل عناصر المعرفة والإدراك فيها لسبر أغوارها، حتى تكتمل في ذهن الشاعر لأن الصورة الذهنية هي (مجموعة الانطباعات التي تتكون في الذهن)، (ويكيبيديا). أما عند علماء النفس (يشترك الإنسان ‏في تكوينها في عقله الواعي ثم تتسلل إلى العقل الباطن).

إن دراسة الصورة الشعرية عند أي شاعر، ليست بالأمر السهل، وفي دراستنا هذه سوف نسلط الضوء على الصورة الشعرية وتراكيبها اللغوية والرمزية في نص الشاعر "يحيى السماوي"، كنموذج من نماذج شعره الذي أعطى اهتماماً متزايداً للصورة الشعرية من بين الشعراء، حتى صارت قضية محورية وعلامة بارزة في أسلوبه الشعري، فهو يستفز القارئ على قراءتها قراءة بصرية وذهنية تأملية، لإنها تعبر عنه. ففي نصوص الشاعر "السماوي" نجد الكثير من تمظهرات الصور الذهنية الذي شكل عناصرها من (شخوص وأماكن وأحداث)، فكان اختيار الشاعر "السماوي" للصورة الذهنية ينبع من تأثيرها في تشكيل النص ولغة النص، التي تستند على الانفعال (بكونها التركيبة الفنية النفسية النابعة من حاجة إبداعية وجدانية متناغمة يتخذها الشاعر أداة للتعبير الوجداني أو النفسي)، "نعيم الباقي، تطور الصورة الفنية في الشعر العربي، ص239".

نص الشاعر "يحيى السماوي" (ومضات لغوية)، ذات صور فنية ودلالات ذهنية، تجمع ما بين المعنى الحسي والمعنى الذهني، وهذه الومضات لا تخرج عن إطار الصورة الذهنية المشبعة بتأملات وهواجس يصل بها الشاعر "السماوي" إلى ذروة المتعة الشعرية من خلال مخزونه المعرفي ومنظوره الجمالي، كصور إيقونية فيها الكثير من الإثارة والإدهاش.

لقد كسر الشاعر "السماوي" نظام الكتابة المألوف، فالبناء الكلي للنص جاء من خلال الصور القصيرة جداً المختزلة ذات البناء الفني والتكثيف الدلالي والإيحاء والإدراك الحسي، محملة بدلالات كثيرة تثير إحساس المتلقي، هذا الكم من الومضات يمكن أن نطلق عليه تسميت (القصيدة الصورة)، الذي يوجدها خيال الشاعر كوسيلة للتوصل الى الصورة الذهنية، التي تتيح للشاعر رؤية أشياء لم تُرى من قبل، لأن خيال الشاعر يمكن (أن يفكك العالم كله ويجمع أجزاءه وينظمها، ويخلق منها عالماً جديداً بمقتضى قوانين تنبعث من أعماق النفس)،"عبد الغفار مكاوى، ثورة الشعر الحديث، ص96، ص97". فالشاعر "السماوي" شاعر واسع الخيال، متفتح الذهن، متمرد جريء، يثير بومضاته الشعرية انفعالات نفسية إنسانية، تغني نصه الشعري بتنوع رؤاه الشعرية، ذات الدلالات التي تنم عن رؤيته الواقعية لمشكلات مجتمعه، بتلاوين انفعالية واغترابية، كحكايات شعرية يرويها، لإيصال ما يريد قوله، فهو يمتلك القوة التعبيرية المكتنزة بطاقة شعورية، وتكثيف دلالي إيحائي ورمزي في خطابه الشعري، حيث استطاع أن يتجنب التقريرية والمباشرة في نصوصه الشعرية، من خلال الرمزية والانزياحات اللغوية، التي وظفها في تحويل الصورة البصرية الى صورة ذهنية مفعة بالجمال، من خلال استخدام أدواته الرمزية، فهو شاعر يمتلك التجربة الثرية واللغة الرمزية المعبرة التي تتعامل تعاملاً صوفياً مع اللغة، فيرسم إيقونات شعرية معبرة عن حالات إنسانية مفعمة بالمشاعر والأحاسيس.

نلاحظ في النص تراتبية الصور الذهنية حتى نهاية النص، تجمع بين الواقع والخيال، وبين المعقول واللامعقول، حيث أضفت الطابع الحداثي على نصه الشعري، فنرى كل ألفاظ النص هي ألفاظ رمزية لها دلالات عميقة ومقصودة في ذهن الشاعر ووعيه، يأخذها من السياق الذي تنتمي إليه.

الرمزية في نص الشاعر "السماوي" أحدى مكونات البناء الفني والفكري والجمالي للنص، وأسلوب من أساليب أدائه الفني، فالرمز في الشعر حسب تعبير "مارتن هايدغر" (يجعل المعنى ملتصقاً بالكينونة الأصيلة لا بالكينونة المزيفة)، فالشاعر عندما ينسج صورته الذهنية فهو يتكئ على رموز واستعارات وتشبيهات، وانزياحات لغوية تتجاوز المالوف وتحقق الدهشة وغيرها من الأدوات، فهو (يتيح لنا أن نتأمل شيئاً آخر وراء النص. هو قبل كل شيء، معنى خفي وإيحاء)، "أدونيس، زمن الشعر، ص 160".

النص الذي بين أيدينا عبارة عن (صور جزئية تخلق حالة تكون شبيهة بالحالة الصوفية)، نص يزخر بأشكال الصور الشعرية، أتكئ الشاعر في أنتاجه على أهم محاور هذه الصور ألا وهي الصور الذهنية الذي وظف فيها الكثير من الأدوات والمعاني الشعرية، وقراءتنا هي محاولة لفهم الصورة الذهنية لدى الشاعر "السماوي" الذي لا يهدف إلى مطابقة الواقع بما يدل عليه من تعبيرات، إنما (يستعمل الصور ليعبر عن حالات غامضة لا يستطاع بلوغها مباشرة أو من أجل أن تنقل الدلالة الحقة لما يجده الشاعر)، "مصطفى ناصف، الصورة الأدبية، ص217". فالصورة الذهنية أداة الشاعر ومرآة عاكسة لأسلوبه الشعري، وبراعته وسعة خياله وتأثيره النفسي، لأنها ترتبط بالمعاني الذهنية العقلية. فالصورة التي يشكلها الذهن، لم تكن نتاج محاكات للواقع، بل هي حالة ذهنية، مرتبطة بالأحساس، تُرسم ضمن أبعاد ودلالات معينة، فتكون (صورة غير واقعية، وإن كانت منتزعة من الواقع)، "د. عز الدين اسماعيل، الشعر العربي المعاصر، ص 10". لأن الصورة الذهنية تضع المتلقي في وضع المقارنة مع محيطه الواقعي، فهناك فارق بين الصورة الحسية والصورة التي يرسمها الخيال كبديل عن الوجود الواقعي، (حسية وذهنية) تعكس رؤى الشعراء الفكرية وعواطفهم، وتثري تجاربهم الشعرية.

فهي عند الشاعر "السماوي" لا تطرح بشكل اعتباطي، وإنما كخيار جمالي وتقني وفني، لأنها صورة لأفكاره نابعة من ذاته ومن لاوعيه، ومن خلالها تتم عملية تبادل المشاعر والأفكار بينه وبين المتلقي، وعلى المتلقي أن يتأمل ويبحث ويحلل فتكون قراءته قراءة واعية من أجل كشف المعنى الخفي ما وراء النص، والغوص في أعماقه وسبر أغواره واستنباط دلالاته، والانتقال به من مستوى حسي إلى مستوى ذهني، وفق مخزونه المعرفي ومنظوره الجمالي.

لقد أوجد الشاعر صوراً شعرية غير مألوفة، يلفها الغموض الكثيف، تدور في عوالم منغلقة، تتماشى مع متغيرات مفهوم الشعر في ظل مفهوم ما بعد الحداثة، وفلسفتها ورؤاها المتعددة، لأن الشاعر وظيفته (الوصول إلى المجهول برؤية مالا يرى وسماع ما لا يسمع)، رؤية يتجاوز بها حدود الأبعاد النفسية والفلسفية.

تشتمل بنية الصورة الفنية في نص الشاعر "السماوي" على صور متعددة، حيث أقام نصوصه على بنـاء صـوري أسطوري، كتعبير فني وفكري في النص المعاصر، ومكون رمزي وظفه توظيفاً جمالياً وإيحائياً ودلالياً، يمده بالانزياحات التي تخدم النص، بعيداً عن المباشرة والتصريح، كذلك يولد الرمز تكثيف في بنية اللغة الشعرية، وتعميق دلالتها الفنية، لأن تكثيف بنية اللغة الشعرية، كما يرى "جان كوهن" تنبع من وظيفة الصورة (فالشعرية هي تكثيفية اللغة، والكلمة الشعرية لا تُغير محتوى المعنى وإنّما تُغير شكله)، "جون كوهن، اللغة العليا: النظرية الشعرية، ص145".

أتخذ الشاعر "السماوي" في الكثير من نصوصه، الأسطورة شكلاً رمزياً، ونمطاً فنياً يصوغ من خلاله رؤاه الفنية، وينمي تجاربه الشعرية، لأن توظيف الرمز الأسطوري في النص كما يقول الشاعر الإنكليزي "ت. س. اليوت" (إفضل ما في عمل الشاعر، وأكثر ما في أجزاء هذا العمل أصالة وتفرداً، هي تلك التي يثبت فيها أسلافه الراحلين). وفي نص الشاعر السومري "يحيى السماوي" يخضع الرمز الأسطوري السومري كمعادل موضوعي له، ومركز خيال يقوم على رؤية جمالية، يمرر من خلالها رؤياه الشعرية، فالرمز الأسطوري ستار يتوارى خلفه الشاعر، لخلق رؤيا جديدة، ذات محمولات دلالية تعبر عن الواقع الحاضر.

شكل الشاعر "يحيى السماوي" رمزه الأسطوري وفق تصور خيالي، في إطار رؤية جديدة، استخدمها في استثارة المخزون العاطفي والنفسي في وجدان القارئ، لأن الشاعر يعتمد في وضع صورته الشعرية على خيال وثقافة القارئ فى فهم أجزاء الصورة، لأن هناك من يرى أن (الصورة لا تقتصر على الدلالة البصرية وإنما لها محتوى فكري)، نتيجة الأثر الذي تركته المذاهب الرمزية، والسريالية وغيرها، في بناء الصورة.

وأخيراً إخترنا عينة من نصوص الشاعر "يحيى السماوي" في قراءتنا النقدية، وهو نص (يا امرأةً زفـيـرُها أريجُ زُعـفـران) النص الذي شكل فضاءً شعرياً لأثارت المتخيل الذهني عند القارئ لغرض استنطاق الصورة الذهنية الذي يمكن أن يكون لها تأثير على العقل الباطن أو اللاوعي، إذاً سوف نكتفي بهذا القدر من القراءة كي نخرج بقيمة جمالية لنص الشاعر السومري "يحيى السماوي".

***

بقلم / حسين عجيل الساعدي

للمواضيع والقضايا منطقها الذي تستمد منه فعلها، فتجعلنا نرشف بقوة إيحاءاتها، هذا ما يمكن قوله حول " الموت في لندن " للقاص المتميز " مأمون أحمد مصطفى "، التي تمتد على مساحة أرضية ساخنة تتراوح بين " أفعى من نوع آخر " وحتى يوم من أيام المخيم، الصادرة عن دار كنعان للدراسات والنشر " عام 2010، والتي حملت في مجملها إشارات ودلالات حميمة مثقلة بالمعاني التي أبرزها القلق، والوجع، ولذعة الاغتراب متكئة على وصف دقيق مشحون برصد أدق يعانق الأفق الغوغولي بشكل واضح، وما يعنيه جدل الأسئلة المبطنة المطروحة بلغة رشيقة دون رطانة، عوضت غياب الوطن، والبعد الإبعاد عنه بإعادة المعنى المشرق إليه، وان كان الفاعل في جملة النصوص افتقد الإحساس المادي بالمواطنة، رغم امتلاكه لرمزيتها التي حملت العديد من الوخزات، والشحن المتمكن وان كان بدون ادلجة.

منذ البداية تتداخل الصور والإشارات في قصته " أفعى من نوع آخر "التقليديه التي اجتاحت النص بقوة، وأيضا حالة الحلم التي استحضرت حنان الأم ووجعها كرائحة نافذة، لذيذة تتناقض مع أي رائحة.

" تنشق رائحة غير رائحة ملابسها، غير رائحة عرقها، غير رائحة أمومتها المعهودة، رائحة تفوح من مساماتها لأول مرة، مميزة، ذات نكهة خاصة، لم يستطع أن يحدد نكهتها بادئ الأمر، لكن لحظة أن هوت البندقية على رأسه، انتشرت الرائحة لتغطيه كله، رائحة تراب معذب، يضخ شوقا" ص8.

هذا التوحد الصوفي بين الأم الحلم الوطن عوض القاص فقدانه المادي باللغة، وإعادة المعنى إلى موطنه، وهي في بعض جوانبها تلتقي مع قصة " ولادة " التي تعبر عن تصدي الجسد المغلول للفاشية الصهيونية التي تلبس ما هو أسوأ من محاكم تفتيش القرون الوسطى، والتي لا يسفهها سوى صمود الأم الأرض الشجرة التي رغم العذاب لم ولن تنكسر.

" أنت لا تريدين أن تريهم انكسارك وتلهفك، وهذا أروع ما فيك هذه الليلة، كابري ما استطعت، اضربيهم بسياط صبرك، ودعي الألم يدمي قلبك دون أن يروه " ص 110- 111.

وإذا كان القاص دخل عمق ملامح علاقة الأشياء بأشيائها كمصطلح ابستمولوجي متميز جعل " النصية " في قصة " المدينة " ملاذا ينفي عن البطل الفرد المجموع الحلم شعور الاغتراب، فهو يقدم مسروديته حينما يبرز في إحساسه بالوطن المستلب مستوى من الإحباط.

كما أن الإحساس بالتناغم بين معطيات النصوص في الشكل النهائي بدأ يوهمنا بتشكيل عالم مفقود، هو لدى الكاتب تدليلا مباشرا على إحساسه ذاك الذي راح يكونه أو يعيد تشكيله من خلال بنائه الفني.

في قصته المدينة تتوحد المرأة بالمدينة المكان، تلبس ملامحها، لتشكل الجغرافيا المكانية طرفا أصيلا في بنيان العمل. فعالم النصوص ليس مجرد الإطار المكاني للحركة، لكنه احد العوامل الواقعية التي أخذت عالم النصوص إلى العالم العياني.

عناصر المكان هنا محدودة بدقة بالغة يحتضنها طوفان من التساؤلات، والنقاط البشرية، وفسيفساء الحياة " الكرمية طول كرم ".

" استبد جمالها بي، امتلكني، استثار روحي، شهوتي للحياة، دخل طوفان عارم بأعماقي، فأدركت يقينا بان هذه المدينة مزروعة بقلبي وعقلي، وانها حين تتعرى كل صباح لتمتص أشعة الشمس، إنما تتعرى لي، لي أنا، أنا وحدي ". ص28. هنا تتسرب طقوس الحياة من الجغرافيا لتخلل بنيان القصة، فتشكل عمقها الخفي، (الحياة اليومية المقهى حركة الشارع الحراك الحياتي الرجل الذي تتأسف المدينة لموته)، إنها الممارسات الداخلية التي تمتد من الموت (الرجل صاحب الكلب) وحتى الاحتفاء بالتفاصيل الصغيرة للمناسبات الإنسانية، (فسيفساء الحياة اليومية)، فلا يصبح الإنسان تجريدا أو تهويما أو تعميما، وإنما وجود يتفرس بعمق في التاريخ والجغرافيا دون أن يخضع الأول - في حالة القاص ورؤاه - للثانية.

من العسير دفع قصته " الموت في لندن " المهداة إلى لينا أبو الرب، بكلمة واحدة ( رومانسية واقعية ملحمية )، لكن من السهل أن نعترف بمدى الاتساع الهائل للتعبير عنها، وانسحابها على العديد من الأشكال والمستويات البنائية المحتملة، فالصراع النفسي الذي ينتاب أسرة مريض السرطان التائهة في صحراء الذهول التي لا اثر للسراب فيها، حيث غزو الغربة لهم، هي حالة مواطنة معذبة، ووطئ أكثر عذابا، إنها نسيج كياني متضاد، متناقض، ملتو أيضا (والدقائق ثقيلة، تزحف كسلحفاة هرمة أعياها التعب، وأضناها المرض)ص55، وطن ينتابه العذاب بسبب التناقض الذي يعايشه، ويستقرئه الناس دون رغبة منهم، (وبدأت بالتردد اليومي على ذلك الطابق، فاكتشفت معنى التناقض، عرفته عن قرب، كان واضحا جليا في الوجوه التي تنتظر نهايتها) المتناقضة بين النهنهة والدموع، وأحاديث المستقبل والموت.

هذا التحليق الحزين للمريض على سرير المرض ينتهي برؤية فادحة بين الوحدة والتوحد من جانب، وبداية العمل عبر نهاية رحلة سابقة للفشل، ونهاية أخرى ممتدة على طول جسد النص من الناحية الأخرى، وكأنها تشي برحلة أخرى نقيضة، شاراتها تحمل وجه الحرية والفرح والبراءة، فيما يضخ الجزء الثاني وجه العزلة والعجز.

(وفي عيني كانت آية وهي ترتدي ثوب زفاف ابيض، وحيدة، ليس هناك من يمسك ذراعها، وفي عيني أمها، صورة الدكتور مجدي وهو يتقيأ الدنيا تمسكا بها وخوفا من الموت، والموسيقا تصدح، واثنتان، اثنتان فقط لا تسمعانها، لا تحسان بنغماتها، آية وأمها). ص62.

تبرز قصته " تيه " منذ البداية ملامح القتل والترويع المعلق بالخوف الذي ينتابه، والذي يبرره العذاب الإنساني الذي يصفع الصمت اللاذع الذي توسوس به قصته " ضجيج الصمت "، بما تحمله من إحالات يثقلها الكاتب، يطلقها، ثم يرسلها للمتلقي ليصل إلى فضيلة الموت كقيمة حقيقية تذكره بوجودية " كولن ولسون " وأحيانا وجودية " سارتر" المطلقة.

في هذه القصة المتميزة، كراهية للانحطاط اليومي، وهجاء مر للابتذال، وسخط على السلبية والرذيلة، وعطش موغل في رغبته التمسك بالتحقق الإنساني الكامل، هو صوت الرفض من اجل الحقيقي، وصوت الهدم من اجل البناء الصحي، والنفي من اجل الإثبات، ولكي ينتقل الإنسان الحر من خانة المفعول إلى موقع الفاعل الجاد والملتزم ... (سأذكرك وأنت تبحث هناك عن شيء تأكله، ولن أنساك مطلقا، هل تدري أني سأفكر فيك عندئذ؟ ربما زرعت فوقك شجرة، ستغوص جذورها ممزقة أحشائك، ساحبة كل ما فيك غذاء لها) ص76. ليكتمل هذا المشهد بحالة غرائبية شكلت قفلة الحلم في هذا النص الجميل، مما يدفع باستنطاقات كثيرة متداخلة أبرزها السخرية من كل شيء ... (يضحك ملء شدقيه، نظرت ليدي فإذا بمعصمي ينزف، هو يضحك ومعصمي ينزف، هو يضحك ومعصمي ينزف ص77.)

في قصته " ضياع " يتقيأ الكاتب القيم البائدة التي تصدمه، ويصطدم بها، ويواجهها في كل مكان، رغم انه (يحاول أن يوجد الصلة بين وجوده، وبين هذه الرائحة، لكنه كان دائما يفشل، فالخليط " القيء " كما هو متيقن جزء منه، من ذاته، ومكون أساسي داخل تركيبته الصعبة)، انه الرفض المطلق لكل شيء، الرفض الذي يدفعنا للتساؤل فيما إذا (كان متقزز فعلا حين غيب الخليط في جوف المغسلة، فشل كعادته في الحصول على إجابة، فقط فشل) ص81. خاصة وأنه رأى (القيء يغطي مساحات الأفق كلها )82، (ويستجمع صورة المدينة وهي تغوص بعجز متناه في جنون عاصفة من القيء، لكنه فشل في ذلك )82.

الفرز المبطن هنا نوع من الخلاص، اتخذ شكل التأرجح بين الرمل ولزوجة الماء، هو خلاص، وفي نفس الوقت بحث عما يضفي هذا الخلاص، انه فرار الخلاص إلى الغربة والبعد عن الوطن، الغربة المرادفة للأنين، الألم والوحشة التي تحتضنها أشياء العالم، ولكنها في نفس الوقت شرط العثور على النفي الذي يمنح السكينة والوعي، والذي عالجه جدل الأسئلة:

-" فكر في هذا الأمر وسأل ذاته: ما الذي يربطني بهذا الوجود"85.

-" تذكر حلمه، وعاد من فوره ليدور في دائرة فراغ، داخل فراغ". 90

في قصته " ورم " ملامح حادة تجتاح المكان بتحفز مفترس، يدقق في تفاصيل التفاصيل، في محالة تلف المسافة بين الغربة والوطن تحت إبطها، لتصفع الاغتراب وحياة الغربة أو رقمية الإنسان، عبر حقن الحفيدة بتفاصيل المكان (الوطن المكان والمكان الوطن) ليسترجع التاريخ والتراب رائحته وصحته، لأنها الإيمان الحقيقي الذي يعانق رائحة الوالدين (رائحة إيمان تتداخل وتشتبك مع رائحة أمي وأبي )103.

يتحدث الكاتب في قصة ولادة، عن التعذيب، ودورات الوجع التي لا تنتهي، ورغم أن الواقع الممارس في السجون أقوى من الوصف الذي ابتدعته القصة، إلا أن جمالية هذا النص برز في عمقه الصوفي الذي يعطي السجين عوالم جديدة من المعرفة والتأويل واستحلاب المعاني الجديدة وأبرزها " رؤية الله العودة إلى الله " 117، حيث يتحول السجين إلى قطعة من اللذة اللذيذة، اللذة المشحونة بالنصر الحقيقي، الذي يتقمصه، وهو يتقمص عظماء التاريخ في لحظة واحدة.

في نصوص هذه المجموعة تلمسنا ملامح عدة، دون إشارة فعلية للزمان والمكان بشكله المنفصل، فالحالة حضور وغياب يرفع راية، زمكانية، موحدة، ترفعها قراءة تأثرية لكتابة مغايرة تكشف قناعات هذه النصوص، ربما دون دراية من الكاتب ذاته، فالبطل في معظم هذه النصوص هو المكان الذي شكل هاجسا للكاتب منذ البداية، أكد ذلك الصور المكررة وتشابه المواقف الذي جعلها وكأنها قيمة واحدة مأخوذة  بالحلم والحرية والعدالة الحقيقية، والتي حملت جملة من الأشواق والتوق الذي لا يمكن تحققه في وطن السادة والعبيد، والمستعمروالمستعمر، أو الحضور والغياب، فالبطل الواحد الذي يشكل عقدا لجملة النصوص محكوم بالعزلة المريرة، والوحدة الموحشة، والانكفاء، انه عدم القبول بالواقع الراهن، والعطش إلى الحياة الكاملة، ودوام الحلم بها، برغم عدم القدرة على تحقيقها.

في جملة هذه النصوص، نرى انها اتكأت على جملة من الأبعاد التي استطعنا استحلابها.

1- البعد النفسي:

في هذه النصوص برز الانفصال المفضي إلى الغربة نتيجة لازمة، ووضعية عامة بائسة تشمل كل شيء، وضعيته تقتحم الداخل الإنساني، فتصيبه بالانحطاط والخيبة والتشوه، وتحول الملكات الأساسية إلى زوائد مميتة تبعث على الاشمئزاز والتقزز، وتجعل الإنسان ينحط، يترهل، ويبتذل، وتنطفئ فيه الطاقة والحرارة، فلا تبقى وسط الزحام المختلط سوى الهمهمات، انه التواطؤ بين الرفض القائم، والقبول الدائم.. " تقدم طفل صغير، شق الحشود، فوجد المدينة تنظر إلى جسد مكوم فوق القيء، جثة هامدة لا حراك فيها، يعلوها الذباب والبعوض، وتنهش جوانبها الجرذان المنتشرة هنا وهناك في المدينة " 91.

2- البعد الأمومي:

يبرز البعد الامومي هنا في حميمية المكان، الذي يؤكد أن أزمة الكاتب هنا أزمة مكانية، فرغم تركيز الكاتب على الشخصية المهاجرة دوما، إلا أن مفردات النصوص وصور حالات أبطالها، تحول في غالبها بيننا وبين الشعور بان هناك غربة تباعد بين البطل ووطنه، بل إن هناك مناطق افتراق بينه وبين المكان، ذلك أن الحدث النصي يتشكل فيها بين جملة من الاستنطاقات للمكان والذاكرة معا كما في قصص " أفعى من نوع آخر" و " الموت في لندن "، (لقد زرعت في رحمها حدثا لا يصنعه إلا الرجال)10، ( ولكني كنت واثقة، نعم واثقة، فانا اعرف بحاستي انك قادم، أنا أم، والأم تعرف كيف تتحرك الأجنة في الرحم )9.

3- البعد الموقفي (الوطني الاجتماعي)

ويبرز ذلك بشكل جيد في وصف النصوص لملامح الحياة اليومية في الأرض والوطن، وهنا صورة جلية لعمق الارتباط الوجداني للكاتب، فهو الغائب الحاضر، هو الثابت على الأرض وخميرتها التي تشكل العبر والصمود، وترفض الحياة الدوغماتية المتكلسة والرقمية، (ودار المفتاح بالقفل باكرا، نودي برقمه)11.

4- البعد الفلسفي الطقوسي:

هنا ملامح كثيرة شكلت جدل الأسئلة، وما تثيره من أمور برزت في قصته " تيه "، حيث يناقش الكاتب فلسفة التوحد، كعامل ايجابي، وليس كفعل مرضي، ربما ليهرب مما يعانيه كي يعيش عالمه الخاص والمفترض، كذلك حوار الأرواح، لقد وضح الكاتب كيف أن رؤيته لله أنقذته من عذاب المحيط والمزبلة التي يعيش فيها، والتي يشمها ويحس بها، وهنا يبرز التداخل الواضح بين هذا البعد، والبعد النفسي وكأنهما صنوان. (وجد نفسه يتنسم رائحة ما، وجلده متماسك، غير قابل للتساقط، لكن الرائحة غريبة، لا، ليست غريبة، هي معهودة، ولكن من أين تبعث بأنفاسها؟

وحين وضع رأسه بين كفيه، عرف مصدر الرائحة، فهو يجلس على مزبلة، تفوح رائحتها فتدخل بأعماقه، والديدان تزحف مزهوة على ساعديه وقدميه.

لماذا أنا وسط المزبلة؟

أجابته نفسه:

لأنك هنا تستطيع أن تشم وتحس).67

وأخيرا:

لا يسعنا القول سوى أننا استطعنا أن نتلمس من خلال هذه النصوص الإبداعية، وعبر سبيل بلاغي دون رطانة، الجدار الواقع بين الخاص والعام، وتفعيل مناطق الذاكرة بكثير من الحميمية التي تتواصل عبر إبداع المعنى من خلال إبداع الماضي الحاضر، الغياب الحضور، الفردانية والتوحد لكاتب لم يستطع خداع حواسه، وبهدف ترك المستقبل كفعل ورؤية بين يدي المتلقي. ورغم بعض الهنات التي تمثلت في الصور الوصفية لحالات العذاب اليومي التي يراها البعض أمورا تقليدية، ورغم اللغة الواقعية التي تجاوزتها قوانين الحداثة وتطور علم اللغة، رغم مناسبتها هنا لموضوعاتها المطروحة، إلا أن الكاتب نجح بشكل جيد وموفق في إبقاء الوطن كما هو دائما، الخيط السميك الذي يلملم أشلاء الكتابة والحلم الجميل، فالكلمة الموحية المتشظية، والجمل القصيرة المتدفقة والمتدافعة، عبر استاتيكيا النصوص، ظلت وظل الكاتب عبرها يصفع السخف والانحطاط، والرذيلة، رغم العديد من الانهيارات، وكأنه يرى ما لا يرى، وهو ما يحسب للكاتب بحق.

***

د. خليل حسونة

8-6-2010

...................

* الصورة للأديب مأمون احمد مصطفى

 

توطئة: لعل فعل المتابعة القرائية للفصول اللاحقة من أفعال المسرود الروائي في دﻻﻻت رواية (العمى) يرشدنا إلى جملة بنيات ممتلئة بالقواسم المسرودة وحدود الميل إلى مركزية (الاصوات المتمحورة) إستكماﻻ إرساليا - تناوبيا وتفويضيا - الى مهام السارد العليم في بث مجتزءات العوامل المسرودة بالتفصيل التحليلي الذي بات يتحرى جزيئات وكليات الملخصات في زمن المقابلات الحدوثية المحسومة من قبل عرض المسرود، كوسيلة لإحياء وظائف مديدة ومتماهية بالكشف واللاكشف عن مديات العوامل الشخوصية عبر متابعاتها وتعاقباتها (الشمولية - الآنية) في مجمل مساحة متينة متواصلة ما بين (اللحظة الإجمالية) وتلك الأوضاع التي أختارتها الأحداث في الكشف عن جزيئات (آنية) متراوحة ما بين (صوت السارد = الإشارات اللامتناهية) خلوصا بالاحداث نحو مغامرات تسيرها مسكونية (الماضي - الآتي) دون كمولية الإحساس بأن ما يحدث ما هو إلا (الدال المضاد ؟) لأوضاع وجهات حكومية غير معبر عنها عبر السرد والمسرود إلا بتلك الإشارات المتكونة من ثنائية (الشمولية = الآنية) إذ أن النوع الاول يتلخص اساسا في حاﻻت إدراكية مجملة لابعاد مرمزة، فيما تتلخص غائية أفعال العناصر المتكونة من (صوت السارد = أصوات الشخوص المسرودة) في القيمة الادنى من الكشف عن أحوال ما يحدث وما جرى عليه حال تراجيديا العماء في مواطن المتقلين في مشفى الأمراض العقلية المحوط بمواقع حصينة من افراد العساكر القتلة.

- المتن الحكائي ومسرحة الصراع الشخوصي:

أن الملاحظ في مشاهد الفصول الروائية الصاعدة من النص، ثمة بروز لمستوى مهيمنة مغامراتية تنقسم بين أوضاع الشخوص المحتجزين في ذلك المشفى وكيفية مقتضى عملية نجاتهم المسلبة من قبل حصون ذلك المشفى الكابوسي. في الحقيقة كما علمنا أن أحد الجنود المكلفين بالحراسة المشددة على ذلك المشفى قد تم اطلاق بعض من العيارات النارية على أحد ممن قامت الجهات المسؤولة بأحتجازه،وهو ذلك الفرد الذي قام بسرقة سيارة الرجل الذي اصابته الجانحة الاولى من العماء في بداية الرواية،الامر الذي غدا يكشف لنا عن مدى مظلومية هذا القتيل في حدود سياق الواقعة الحديثة من المسرود،لاظهاره لنا كونه فردا راح ضحية ذلك العدوان الذي تحرك آلياته كفة السلطة الباطشة في مستوى معين من الصورة الشمولية للحكومات :(كانت زوجة الطبيب هي الوحيدة التي تعرف الحالة البشعة لجثة الرجل المتوفى، كان الوجه والجمجمة قد تحطمها وأصبحا كسرا بفعل طلقات البندقية. / ص113 الرواية) طبعا من المعروف في الأحداث الروائية أن موجهات الموضوعة تنصب في آفاق من الثيمات التي يمكن لنا تسميتها (البراءة من الذنب - الاشباع بالذنب) فلعل هذه الزوجة للطبيب في موقع يؤجل عنها ذلك الداء النفسي المسمى ب (العمى القلبي) ذلك لأسبابا لم تطرحها الرواية ولو في الاجزاء المضمرة من مرجحاتها الشهودية الخاصة، لذا صرنا نعلم أن كل المصابين بهذا الداء النفسي،هم من اصحاب الرذائل، ذلك لبيان ما قامت به مرتبطات الأحداث الروائية في سيرورة كل حالة شخوصية مصابة بهذا العمى، إذن هذا العمى لا يتركز في ظاهرة فساد السلطة تحديدا، بل أنه مؤشرا معادلا على فساد الضمائر لدى الأوضاع الخاصة من الأفراد سيكولوجيا مما جعلنا ننظر إلى أولئك المصابين على أنهم حاﻻت آنية طرحتها مؤسسة السواد الشمولية في الآلية الحكومية. ان دراسة رواية (العمى) عبر علاقاتها مستوياتها السايكولوجية طافحة بظواهر نفسية مضطربة، مما جعلها تؤشر في مداليلها عن مدى الاحراج الذي وضعتهم فيه المؤسسة الحكومية من تفشي فساد الضمائر ومؤشرات دخائل النفس التي ما زالت قائمة بانفعاﻻتها مع الغرائز وحب المال والجشع في الحصول على ادنى علامات اللاشعور بالحرج من فعل الرذائل.على هذا النحو وجدنا رواية (العمى) تركز ملامح افرادها الفيزيولجية عبر مكونات بعيدة وقريبة من دﻻلة (العمى) الشمولي والآني، ابرازا كبيرا إلى مصدر الخيوط الناسجة لهذا العمى الذي تفشى في إرادات مزيفة من الفواعل الشخوصية: (إذ كيف يمكن أن نقارن بين سرقة سيارة وحياة الرجل الذي سرقها، وبخاصة إذا اخذنا بنظر الاعتبار الحالة المزرية لجثته. / ص117 الرواية) أن القسط الاوفر من مسرود موضوعة وفكرة الرواية، تتلخص في حدود معادﻻت نفسية خاصة، لذا نراها رواية بالمستوى الامثل والأخير من معالجة (الصراعات التطهيرية) للفرد والافراد، فضلا عن الإشارات إلى مدى انحدارية ما عليه حال السلطة الحكومية من مشروعية نفعية ونرجسية تستعرض مكوناتها وتمفصلاتها المؤسساتية ليس لغاية عميقة في بناء الفرد، إنما لانتزاعه من موضعه الطبيعي، وجه في مهاترات لا نهاية لها من العوائق.

تعليق القراءة

إن القارىء والدارس لروايتي(العمى -انقطاعات الموت) لربما يعاين حجم وفرادة أطروحة التجربة للصنعة الروائية خصوصا في رواية (انقطاعات الموت) ورواية (العمى) كما  إن الفردية والخصوصية الأدائية في أدوات وخيال هذا الروائي الفذ، عكست ذاتها في جميع أعماله المكثفة ذات الأغراض الدﻻلية التي تتطلب من الناقد بعدا ﻻ تتوافر فيه أدنى مثالب الاسقاطية والعابرية في قراءة وتمحيص المنجز.. لذا فإننا من خلال دراستنا لعوالم ساراماغو وجدنا تفردية ابعاد التصور والاختلاف في تشكيل مؤثثات الرواية عبر كافة مستوياتها الجمالية والدﻻلية والتقانية والتكنيكية المتماسة مع أعلى مستويات الصياغة الروائية ل (مملكة المسرود) الضامنة ل (الشمولية) و(الآنية) المتواترة عبر مسارات من الصلات بالمجتمع والفرد والسلطات المملوكية في كيانها الترابطي مع انقطاعات الموت وتضادات مفارقة العمى في  الحدود الملموسة واللاملموسة في نقاط رمزية وإحالية وانزياحية في الطابع والتطبع وخلوصية مقاصد المعنى المضمر.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

 

(الكشف عن الكامن في زنازين الصمت)

ترتكز رواية "حبانجي" للروائي السوري نصار الحسن علي عدة محاور تتداخل ضمن الإيقاع الحياتي لمدينة "الحسكة" السورية، بما لها من خصوصية ذات نمط عشائري يعزز سمة الانغلاق التي يعاني منها المجتمع عمومًا ضمن نظام الحزب الواحد، اختارها الكاتب لتكون مسرح الأحداث من قبل انتقال الراوي (الشخصية المحورية) ووالدته إلى مدينة انتمائه العائلي، حيث يمتلك والده المتوفى مكتبه كمحامٍ معروف وصاحب مكانة اجتماعية مرموقة، رغم ذلك يعمل البطل لدى مكتب صديق والده كي يكتسب الخبرة اللازمة لممارسة المهنة، حيث يطَلع على حقائق يومية ذات طابع سياسي مضطرب، رغم ما يبدو عليه من استقرار، وعلى مختلف الأصعدة داخل بلد تتعدد مشاربه الفكرية والقومية والدينية والمذهبية في قبضة سلطوية تسود كل شيء وتؤسس لإشاعة فكر الخضوع التام منذ الصغر عبر شعارات سياسية يرددها الجميع في كافة المجالات، تجديدًا لعهد الولاء المطلق، ودون أدنى التفاتة لما يحصل خارج إيقاع النظام الذي أوجدَ شخصية "حبانجي"، وفي المقابل لا بد من ظهور شخصية "صفاء درويش" بكل ما تمثله كل منهما من تضاد داخل منظومة من الأوامر والنواهي (المؤَدلجة).

"نحن نتشبث بالحياة أكثر ممن سقط، ولا زلنا نسمع صرخاته التي يتقصد أولئك أن يُسمعونا إياها؛ لنعطيهم أكثر، ويستمر التسلق والنهش في أجسادنا الضامرة بالتيه المستدام" ص117

صراع خفي ومستمر بين السلطة والشعب معتاد الانقياد، ورغم ذلك لا يتجرد نزعات  التمرد تمامًا، وإن جاء عبر شخصية المحامية الشابة، أيقونة الحرية والعدالة المرفرفة فوق الجميع، بغض النظر عن المناصب الحزبية والعلاقات المتشعبة نحو قمة الهرم السلطوي ومكائد التقارير الأمنية وقِدَم الأعراف العشائرية، فانتهت إلى ضحية حادث دهس بسيارة مارقة دون أن يعاقب الجاني ومن يقف خلفه، فالقضية تبدو عادية جدًا ولا تدعو إلى الكثير من البحث والتقصي، خاصة مع وجود زوج لا يأبه سوى بأخذ التعويض، مع أنه هو ذاته كان يمثل آلة ضغط تقليدية ضمن أعراف اجتماعية تصادر حق المرأة في أخذ مكانتها الحقيقية التي تستحقها، وفي الجانب الآخر تقف شخصية متملقة ومتسلطة في آنٍ واحد، تحمل كل الصفات التي تفرزها الثورات التي تؤسس للأنظمة الديكتاتورية عادةً، مخلب ضمن الكثير من مخالب البيروقراطية الحزبية ذات السيادة والنفوذ المتحكم بمصائر الكثيرين من ذوي المؤهلات والمناصب المرموقة، بمن فيهم القضاة الذين ألفوا الوساطة والمحسوبية كي لا يتحولوا إلى متهمين أو ضحايا بدورهم.

"أيُ عالم مجنون هذا الذي  نعيش فيه؟ غبي ونجس يمتلك كل القرارات المهمة، فقط لأنه أداة طيعة، ويزرع الخوف أينما حل... الخوف غير المبرر هو مَن أودى بنا إلى قعر الظلام والتهلكة، وكذلك السلبية المقرفة التي ترسخت فينا" ص 123

دوامة من التخبط والانكسار، يجد البطل نفسه أسيرها، وإن كانت لا تمسه بشكل مباشر، فهو ابن طبقة ميسورة الحال، ومن ناحية أخرى نشأ على سياسة تدجين العقول في المدارس، وما كانت قراءاته لأوراق القتيلة الخاصة، والتي تمثل بحد ذاتها وسيلة فضفضة لا جدوى منها داخل زنازين الصمت المُهَيمن على الجميع، إلا بدافع الفضول، نظرًا لما عرفه عن طبيعة علاقتها بوالده، كما لو أنها من ضمن إرثه الفكري والعبء المتناقل من كاهل جيل إلى آخر دون الوصول إلى جهة الخلاص، بينما تستمر سيارة (السلطة) المارقة في دهس أحلام ومستقبل بلادٍ بأسرها، فظل أسير الجمود ضمن الإطار التقليدي المحافظ على الأمن والاستقرار المهني والعائلي، خاصة وأنه الوحيد من بين أخوته الذي لم يضطر إلى السفر والإقامة في الخارج، مما جعله المسؤول بشكلٍ ما عن والدته التي تحلم ذات الحلم التقليدي لدى كل الأمهات؛ زواج ابنها كي تتكرر ذات الدورة الحياتية البعيدة عن خطر التعاطي بأي فكر يحيد عن الطريق المرسوم منذ الصغر، وخاصة كل ما يجنح نحو بلوى السياسة ولو من بعيد، دون أن تعرف أن ذلك الحلم البسيط لم يعُد يتلاءم مع طبيعة الشخصية الجديدة التي آل إليها ولدها الشاب، دون دراية منه هو أيضًا.

كثيرًا ما صار يقترن الجنس بالسياسة لدينا، ونجد مثل هذا المدلول في الكثير من النصوص الأدبية، لكن تبقى طريقة التناول موضع تباين من نص لآخر، والجنس في هذه الرواية ظل مُحتجبًا عن سياق السرد ليتجلى في النهاية رمزًا لما يتوارى خلف الكواليس، خارج دائرة الضوء التي تضم فقط ملامح الرهبة المطلة على العامة، بينما تتخفى الدعارة في أروقة المحاكم، داخل غرف مغلقة تكشف عن الكثير من الخبايا والزيف المتفرق بين أضابير القضايا المتشبثة بالرشى والمحسوبية والعلاقات المتوارية عن العيون، حيث تكتمل أبعاد الصورة الممنوعة عن الظهور للعلن إلا بعد إضافة رتوش جمالية تفرضها الأحكام الاستبدادية الماضية في انتهاج سياسة الخوف من الخطر المحدِق من قبَل أعداء الداخل والخارج.

الجنس أيضًا يقبع ضمن الأفلام الإباحية لفتيات يتم تسويق أجسادهن، دون علم منهن، وكأن هذا ما تبقى من أحلام وآمال ثوراتنا العملاقة الساعية دومًا إلى كرامة وحرية الشعوب التي عانت طويلًا من قهر الاستعمار والرجعية…

تجارة الدعارة ارتدت نحو الداخل، ضاقت حلقة (الخفايا) تلك على المحامي الشاب حتى احتوته بالكامل، كنوع من الهروب من هزائم وانكسارات الواقع المستباح من قبَل أعوان السلطة وأبواقها وأذنابها المستمرة في إتباع عقوبة (السحق) لكل جانح عن القطيع، لا سيما وأنه من ضمن طبقة تأخذ بالانحسار شيئًا فشيئا تحت وطأة الإقصاء والتهميش، فتحول الجنس لدى المثقف الشاب إلى إدمان يشبه إلى حد ما إدمان المخدرات والخمور، وكذلك الأفكار المتطرفة التي يلجأ إليها الكثير من الشباب كي يُحلِقوا خارج أسوار السلطات الحاكمة التي لا تهتم إلا بترسيخ الوضع القائم أكثر فأكثر، فالمهم هو الحفاظ على مكتسبات القصور السيادية المنيعة، وبذات ستار الشعارات المتسترة على مختلف الممارسات السادية بفعل شهوانية الطغيان.

"أن الحالة التي وُضعنا فيها ليست الموت، وإنما العجز عن الإتيان بما تمليه علينا إرادتنا، حينما تكون حرة" ص 221

التناقضات التي ألجأت الشخصية المحورية إلى غلواء الجنس، كرد فعل إزاء عجزه كمثقف ورجل قانون عن إحداث أي تغيير في مجري العدالة التي درسها لسنوات، هي ذاتها التي ألقته إلى غياهب الغيبوبة، ليجد نفسه في مواجهة نكبة فقدان وعجز من نوع آخر استولى على نصف جسده، تلاحقَ له الأخوة البِعاد عن كل ما يحصل داخل (معتقل) الوطن كي لا يرتهنوا لأقفاص التدجين أكثر فأكثر، فصار أحدهم رسامًا مبدعًا، ربما لو لم يتسكع في بلاد الغربة وظل يدور في فلَك لوحات المناسبات الوطنية لمّا استطاع التحليق برسوماته في كل مكان، مع ذلك الرسام الحُر استطاع البطل استعادة توازن خطاه التي عانت الكثير من التيه والتخبط في سوح بلاده، فما وجدَ أمامه من حل غير أن يلتئم شمل ما تبقى من العائلة، لكن ليس في البيت الذي ضمهم صغارًا، إنما خارج الوطن الذي يظل كل يوم يشهد ولادة "حبانجي" جديد.

***

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

29 ـ 12 ـ 2023

الموقف السلبي للروائي الفرنسي الأشهر ميشيل ويلبيك من الإسلام والمسلمين ليس جديدًا. في روايته "المنصة" الصادرة عام 2001، قام بتمجيد السياحة الجنسية في جنوب شرق آسيا وإضفاء الطابع الشعري عليها- حيث خلقت الشخصيات الرئيسية في الرواية منتجعًا جنسيًا مثاليًا، نوعًا من واحة سماوية من السعادة الصادقة والشهوانية النقية، القادرة على شفاء الغرب المتجمد في حالة من عدم الإحساس الكئيب.

لكن في النهاية، قامت مجموعة من الأصوليين الإسلاميين المسلحين بتدمير المنتجع. وفي شكل مجازي، تنبأ الكاتب بموت أفضل الأشياء الحقيقية والحية التي بقيت في الثقافة الغربية على أيدي المسلمين الأصوليين.

وفي رواية "الخضوع" (2015)، ينتقل ويلبيك من الاستعارات إلى التنبؤات الأكثر تحديدًا. خلال الانتخابات الرئاسية، وخوفًا من فوز المرشحة اليمينية مارين لوبان، تتحالف الأحزاب اليسارية مع الحزب الإسلامي، ويسفر هذا التحالف عن فوز المرشح المسلم.

بعد أن وصل المسلمون إلى السلطة، أدخلوا الشريعة الإسلامية في البلاد، ومنعوا النساء من ارتداء السراويل، وأباحوا تعدد الزوجات، وخصخصوا جامعة السوربون، وطردوا المعلمين غير المسلمين منها– باختصار، حوّلوا فرنسا إلى دولة إسلامية كاملة. يسارع العديد من المثقفين إلى اعتناق دين الغزاة (من أجل تأمين حياة مهنية ناجحة، ووصول قانوني إلى أجساد الشابات)، في حين يصبح أولئك الذين يلتزمون بالقيم الفرنسية التقليدية أقلية تعيسة ومعرضة للتمييز في بلادهم.

إن مغالاة ويلبيك في مناهضة الإسلام يكمن على السطح، ولكن من الواضح أن موقف الكاتب لا يقتصر عليه وحده بل يشمل أيضًا اليمين المتطرف في أوروبا. والحقيقة هي أن أسلمة الغرب في نظر هؤلاء المعادين للإسلام، لا تشكل خطرًا مستقلاً على أوروبا، بقدر ما هي عرض من أعراض الانحلال الداخلي لها وفساد ثقافتها. وعلى غرار الفيلسوف أوسفالد شبينغلر، الذي أعلن مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى عن الانحدار الوشيك لأوروبا وانتصار الحضارات الشابة والمتعطشة للدماء والحيوية، يرى ويلبيك علامات تراجع الغرب في كل شيء. ويزعم إن استبدال المسلمين بالسكان الأصليين في أوروبا هو أحد أسباب هذا التراجع، وربما السبب الرئيسي، ولكنه بالتأكيد ليس الوحيد: فهو نتيجة للمرض، وليس سببًا له.

بعد سنوات من الإساءة للإسلام والمسلمين في أعماله والتصريحات الصحفية العنصرية قدّم ويلبيك مؤخرًا، اعتذاره للجالية المسلمة في فرنسا.

ففي نوفمبر الماضي قال ويلبيك خلال مقابلة مع الفيلسوف اليساري الفرنسي ميشيل أونفراي إن "رغبة الفرنسيين الأصليين، كما يقولون، ليست في أن يندمج المسلمون، بل أن يتوقفوا عن سرقتهم ومهاجمتهم. وإلا فهناك حل آخر: أن يغادروا. واعترف ويلبيك لاحقًا خلال حفل خصص لتقديم كتابه الجديد "بضعة أشهر في حياتي" أنه انجذب خلال مقابلته مع ميشال أونفراي إلى نوع من "الغباء الجماعي. وأضاف الكاتب أن "هناك خطابًا خاطئًا يربط بين الإسلام والانحراف رغم أنهما خطان متوازيان لا يلتقيان أبدًا، والمهمة الآن قد تكون محاربة الثاني، لا التضييق على الأول لأن ممارسة الشخص عقيدته الدينية بشكل دؤوب لا تؤدي إلى الانحراف وإنما المنحرفون يتذرعون فقط بغطاء الدين.

 مرض القارة العجوز

أوروبا، بحسب ويلبيك، تموت من الشيخوخة والتعب، يحتلها الغرباء، لأن الضحية لا يملك القوة ولا الإرادة للمقاومة، ونهايتها محددة سلفًا، وأفضل ما يمكن فعله هو تأخير التراجع المحتوم الذي لا مفر منه.

وفي هذا السياق ينبغي تفسير تصريحات ويلبيك بشأن أوكرانيا، التي أدلى بها الكاتب في أثناء نفس المقابلة مع ميشيل أونفراي لمجلة الجبهة الشعبية، واصفًا روسيا بأنها "ليست جارة، بل عشيقة سابقة" لأوكرانيا، وعارض علنًا مساعدة الدول الغربية للأخيرة، محملا اللوم فيما يحدث على الأمريكيين، الذين، بحسب الكاتب، "يحبون تنظيم الحروب، ويفضلون تمويلها بدلاً من المشاركة فيها بشكل مباشر. إن الحرب الحالية هي مسألة داخلية تخص "الاتحاد السوفييتي السابق" ولا ينبغي للغرب أن يتدخل فيها. النقطة المهمة ليست أن الكاتب يدعم بوتين أو يتعاطف مع أفكار "إزالة النازية" - بل إن الغرب النازف، وفقًا لويلبيك، ليس لديه الموارد اللازمة للمشاركة في صراع لا يرتبط به مباشرة ولا يشكل تهديدًا مباشرًا له.

ومع ذلك، فإن فكرة انحدار أوروبا، التي كان ويلبيك مفتونًا بها على مدار العشرين عامًا الماضية، وكراهية البشر يشكلان أساس فلسفة الكاتب، وهي سمة مميزة لبعض أجزاء العالم الفكري الغربي.

و في روايته الثانية "الجسيمات الأولية" كتب ويلبيك، إن مستقبل البشرية جمعاء بما فيها سكان أوروبا قاتم: نحن جميعًا محكوم علينا بالهلاك. ستأتي النهاية المأساوية بالنسبة للبعض مبكرًا، وبالنسبة للآخرين بعد ذلك بقليل". سيتم بسهولة استبدال نوع مصطنع جديد من المخلوقات الخالية من النشاط الجنسي والعدوان، والسمات الشخصية بالإنسانية الغارقة في اللامبالاة والنفاق والملل اليائس والقسوة التي لا مثيل لها. ويتم هذا الاستبدال على مستوى الكرة الأرضية ومن دون مشاركة المسلمين فيه. وقد طور يلبيك نفس الفكرة في رواية "إمكانات الجزيرة".

لكن رواية الكاتب الجديدة «إبادة»، تعود خطوتين إلى الوراء، إن جاز التعبير، من قداس مثير للشفقة على الجنس البشري بأسره، مرورًا بالوداع الهستيري والمرير للحضارة الأوروبية، إلى رثاء حياة إنسانية واحدة - مؤثرة ولا تقدر بثمن وفي الوقت نفسه سخيفة ولا معنى له..

جمع ويلبيك في "الـ"إبادة " وتحت غطاء واحد مجموعة كاملة من العلل الأكثر إثارة في عصرنا - من التقسيم الطبقي الكارثي للثروة إلى أزمة اللاجئين، ومن البيروقراطية اللاإنسانية للطب إلى مشاكل الإعلام، ومن الركود السياسي اليائس إلى النخبوية والفساد. وعلى عكس عادته، يبني من هذه المواد ليس دراما صاخبة، بل مأساة هادئة لرجل صغير، مؤثرة في تفاهتها.

على عكس العديد من نجوم الأدب الذين يحرصون على تفردهم، غذى ويلبيك طوال حياته المهنية، نمطيته باستمرار، مما يمنحه، في رأيه، الحق في التحدث نيابة عن الرجل الفرنسي العادي والتعبير بالكلمات عن ادعاءاته ومخاوفه ورغباته غير الواضحة. . وعلى الرغم من كل التطرف الواضح، فإن آراء ويلبيك، في الواقع، ليست بعيدة كل البعد عن رأي الرجل الفرنسي العادي في الشارع، الذي يتذمر من أن فرنسا ليست هي نفسها اليوم، وغير راضٍ عن هيمنة المهاجرين ولامبالاة الدولة.

وهذه الديناميكية ليست من قبيل المصادفة ـ ذلك أن رجل الشارع الذي يزعم ويلبيك أنه ينقل رأيه، أصبح اليوم أعلى صوتًا على نحو متزايد في مطالبة الحكومة بموقف شخصي تجاهه. ولكنه لا يلقى أي استجابة: الطبقة السياسية تتجاهل بنجاح ويلبيك نفسه (على الرغم من ثقله الشعبي الكبير) والمطلب الشعبي الذي يجسده – في الأقل، هكذا يرى الكاتب نفسه الوضع الحالي في فرنسا.

لذا فإنًّ قادة التجمع الوطني اليميني، الذين لم يدعموا ويلبيك في ادعاءاته، خذلوا "الفرنسيين العاديين"، حسب رأيه، ومع ذلك، فإنه لم يتوقع منهم شيئًا مختلفًا. وليس من قبيل المصادفة أن يتحدث الكاتب عن اليمين المتطرف بسخرية لاذعة. تبدأ الرواية كقصة إثارة سياسية: تقوم مجموعة مجهولة من النشطاء بنشر مقطع فيديو تم انتاجه ببراعة. يتم فيه إعدام وزير الاقتصاد والمال برونو، السياسي الأكثر نفوذًا في فرنسا وضامن استقرارها الاقتصادي، إن لم يكن ازدهارها.

الهجوم الإرهابي الافتراضي تتبعه هجمات إرهابية حقيقية، مدبرة ببراعة، في البداية غير دموية، ثم دموية. يبدو أن وراء هذه الأحداث قوى تدفع فرنسا إلى الحرب الاقتصادية مع الصين، وتعارض أيضا القتل الرحيم والتلقيح الاصطناعي وغيرها من الابتكارات الليبرالية، ولكنها في الوقت نفسه ليست غريبة على السحر والتنجيم. وعشية الانتخابات الرئاسية (هذا هو الوقت الذي تتكشف فيه أحداث الرواية)، تتخذ خطاباتهم لهجة مشؤومة بشكل خاص.

الشخصية الرئيسية في "إبادة"، مسؤول في منتصف العمر يدعى بول رايزون، وهو موظف مرموق في وزارة الاقتصاد والمال، وصديق مقرب من الوزير يجد نفسه منجذبًا إلى هذه القصة المذهلة والخطيرة برمتها. يجب عليه أن ينضم مع رئيسه إلى السباق)، وفي الوقت نفسه يشارك في البحث عن الإرهابيين الغامضين.

لا يحرم ويلبيك نفسه من متعة السخرية من السياسيين الفرنسيين - وهذا لا ينطبق فقط على "التجمع الوطني" الذي سبق ذكره، ولكن أيضًا على الطيف السياسي بأكمله في البلاد. ومن الجدير بالذكر، أن فرنسا في رواية" إبادة" تتبع إلى حد ما مسار روسيا. يخطط الرئيس ذو الكاريزما والشعبية، الذي قضى بالفعل فترتين مسموح بهما في قصر الإليزيه، لترشيح "بديل" باهت بشكل واضح من حزبه مكانه، حتى يتمكن من بعده من العودة منتصرًا إلى الرئاسة – ويتم تنفيذ هذه الخطة بنجاح. وبشكل عام، يظهر ويلبيك عمل السلطات الفرنسية بأكمله على أنه مزيج غريب - ولكن في نفس الوقت واقعي للغاية - من السخرية والعبثية.

ومع ذلك، سرعان ما تتراجع المكونات السياسية والبوليسية في الرواية إلى الهامش، وتضيع في تقلبات حياة بول نفسه وعائلته. أب مشلول، وزوجة أب مضحية لا عزاء لها، وأخ أصغر فاشل وحياته الشخصية الصعبة، وأخت كاثوليكية وزوجها، وكاتب عدل طيب القلب قريب من المتطرفين اليمينيين، ولكن الأهم من ذلك، التغير الذي حصل في حياة البطل حيث دبت الحرارة في سلوك زوجته برودينس، بعد عشر سنوات من العلاقة الفاترة. وهذا يحل محل ما بدا مهما بالنسبة إليه من قبل. بعد أن غادر مقر الحملة بسبب فضيحة غبية، يدرك بول بارتياح مفاجئ أن المحتوى الرئيسي لحياته أصبح الآن الحياة نفسها، المنسوجة من التواصل مع المقربين منه، والفرح الهادئ، والطعام اللذيذ، والجنس، والخسارة والمرض..

لا شك أن موضوع تراجع الغرب لا يختفي تمامًا من رواية ميشيل ويلبيك. لا تزال جميع علامات تراجع الحضارة الأوروبية موجودة، لكنها هذه المرة بمثابة خلفية للدراما الإنسانية التي تتكشف على خشبة المسرح - وهو نوع من التناظرية للمناظر الطبيعية الخريفية أو الموسيقى الرثائية خلف الكواليس. وبدلاً من «رواية الأفكار» المعتادة، يقدم ويلبيك للقارئ، في روايته الجديدة ربما للمرة الأولى في مسيرته الكتابية، «رواية عن الناس. وينتقل مما هو سياسي واجتماعي الى ما هو عائلي وفردي.

بطبيعة الحال، فإن التأكيد على أن الأدب العظيم في عصرنا يبتعد عن الموضوعات الكبيرة سيكون عاما للغاية وبالتالي غير دقيق. ومع ذلك، يبدو أن هناك اتجاهًا معينًا آخذ في الظهور. التخلي عن المنصة لمتحدثين آخرين - نشيطين للغاية وحتى مزعجين. الكتّاب الأكثر حساسية للمزاج العام، بما فيهم ويلبيك، يبتعدون عن مشكلات علم الاجتماع والسياسة ويعودون إلى المستوى "الإنساني". وحتى عندما يتحدثون عن ما هو عالمي، فإنهم يبرزون على نحو متزايد إلى المقدمة دراما فرد معين، وليس دراما فرنسا بأكملها، أو أمريكا بأكملها، أو العالم بأسره.

تنتقل الثقافة اليوم بشكل عام والأدب خصوصًا، من جلد الرذائل إلى شفاء الجروح. وتصبح الرقة والتفاهم أكثر قيمة من السخرية والشك الشامل. ميشيل ويلبيك، حفار قبور متمرس للحضارة الأوروبية، يستجيب لهذا الطلب الذي لم تتم صياغته بالكامل بعد، ولكنه موثوق به، في روايته الجديدة ينتقل إلى مهمة أكثر تواضعًا، ولكن أيضا أكثر إنسانية: البكاء على شخص معين.

***

د. جودت هوشيار

حروف تجرك على جسر الألوان، بين البداية والنهاية، تأخذك سيراً على العقول والقلوب وبلا طريق، تروي عمرك بلغة الألم، ثم تعلمك الرقص على المرافئ، بين التلال وفوق الجبال، تفتح لك كفيها لتلملم انهيار الوجوه من حولك، وتحرر ليلك من وداع قديم ؛ تفك أزرار النار بعود ثقاب، ليشتعل سعيرها في الصدور، وكاتبها يرتب الزمن في صرير حبره القادم مع الريح، ينثره بين روابي السطور، ويبقى الصباح واقفاً على جناحيها، يطرق كل الأبواب، حيث تجري الحياة بتفاصيلها المرهقة على موائد الزمن .

- " ولادة قيصرية " رواية الدكتور "وليد خالدي"، الصادرة عن دار متون المثقف للنشر والتوزيع / القاهرة، عام 2023، تأخذك،بداية، من عنوانها وصورة غلافها، إلى عالم التساؤلات: ماعلاقة الولادة القيصرية بصورة تلك المدينة وبيوتها وآثارها وبقايا من جدرانها ونوافذها؟ في اي بيت منها ستكون الولادة؟ وأية ولادة هذه التي ستكون تحت مبضع الجراح وأوجاع مابعد الولادة؟، من هو ذاك المولود القادم؟ ما نوعه، وما شكله؟، أية حاضنة ستحضنه؟ وكيف سيكون؟ أم أنه ترميز لغد سيأتي بعد نزيف وجراحة وأوجاع؟، وماعلاقة ماورد على الغلاف الخلفي للرواية؟ وما دلالة ذاك النص الذي ورد فيه:

" يتساءل بلا كلل ...!

يتساءل بقلب ثائر وحانق، وجبينه ينضح بالعرق، رمى بكامل ثقله مسنداً ظهره إلى جذع شجرة .. !!

ولكن الوساوس في جنح الظلام مزقت قلبه حتى ذاب كالجليد .. !

يسأل التاريخ التاريخ اولا، ثم يسأل نفسه ثانية، بل العشرات من الأسئلة تتدفق على شفتيه، حرة سليلة بلا تمحيص ولا رقابة .. ماالذي يريده الأسد الأبيض بعودته؟!

أتراه اشتهى الأيام التي خلت، بعدما رحل خلسة، منذ أعوام مضت، عفا الدهر    عنها، أم يطمح لإسماعنا صوت زئيره مجددا، لنتبرع بما تبقى من الدم، بدون ترخيص أو مقابل؟ ... ولم يفكر بنرجسية متعالية؟ . لم يفسر هدوءنا بالضعف والعجز وعدم المقدرة على المواجهة، حتى تسوّل له نفسه ذلك؟."

- نفتح الرواية لنقرأ إهداء قدمه الكاتب:

" إلى كل من تعبق روحه مسكاً وعنبراً ..

إلى كل من علمه حرفاً، إلى أبويه، زوجته، أولاده، أغلى الناس، وإلى رفيق دربه: " بو خليفة عبدالله " ...".

- ثم مقدمة تحمل أقوالا لمشاهير، ربما هي مفاتيح أبواب هذه الرواية:

"- "عبد الرحمن منيف ": "قد أكون تافهاً بنظركم، لايهم، ولكن في داخلي صوتاً صغيراً اطرب له، وأحب أن أسمعه دائما، وهذا الصوت يقول لي باستمرار: ارفض هذا العالم المجوس التافه، ولاتندمج به، وإن استطعت يجب أن تساهم بتغييره ."

- " جبران خليل جبران ": " في قلب كل شتاء ربيع يختلج،ووراء كل نقاب كل ليل فجر يبتسم ".

- " ديل كارنيجي ": " لاتحاول البحث عن حلم خذلك، وحاول أن تجعل من حالة الانكسار بداية حلم جديد ".

- " أدهم الشرقاوي ": " إما أن تقاوم أو تتظاهر بأنك تقاوم .. لكن لاتنحن أبدأ ".

- " ويليام شكسبير ": " وفي النهاية يرحلون جميعا.. وتبقى لك نفسك التي قتلتها من أجلهم ".

-" شمس الدين التبريزي ": " واسأل نفسك مع شروق الشمس متى ستشرق انت؟".

- نتابع لنتعرف على الأستاذ " نعيم "، بطل الرواية ومحرك أحداثها ؛ ونتعرف على كل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية التي عاش في ظلها، فراح يرسم نفسه بين الواقع والحلم، يغتاله الوجع ويخطفه الهم، يبتلع نشرات الأخبار وضجيج الشوارع،صباح مساء، باحثاً عن مواثيق الحياة، متمرداً على دساتير وقوانين غريبة عنه وعن محيطه ؛ يرثي الماضي والحاضر، يغفو على وسادة من دبابيس، ويستيقظ على جراح ودموع أطفال وشباب .. منهم من أصابته تخمة الحزن والضياع، فتاه في منافي الغربة والوطن ؛ ومنهم من تنكر لأصله وذاته وسخر ونسي من كانوا قدوة له ومثلا ؛ فيصفهم في قوله:

-ص 21 .." يشتكي حرقة الطيور المهاجرة التي تختفي في الأفق، تتنزل على رأسها أنواع الوقائع العجيبة، مشدودة بحبال في غاية الدقة، وبحركة غير مرئية، وهو في أمس الحاجة إلى إجراء مقابلة صحفية، غير ان عدسات الكاميرا تمل التفاصيل والإسهاب في الكلام،وترى العائدة زهيدة الثمن، والإغراء فاقداً للفاعلية ولفت الانتباه، فتلتصق بها تهمة خيانة الوطن، وفي الجهة المجاورة غربان تحلق في أجواء ناعمة تضحك بخبث ".

- ص 24.. " ثم أردفها: حتى كلمة الله جردتموها من بهائها، وألبستموها شبحا مخيفا بأصواتكم المرعبة، ألا تستحون من " بلال بن رباح "؟!.."،( ذاك الصحابي الجليل الذي عُذب في الله تعالى بعد إسلامه على يديّ أبي جهل وامية بني خلف، وكان على ذلك صابرا محتسبا، يقول: أحدٌ أحد) .

- ويستمر الكاتب بلسان الأستاذ " نعيم "، ويداه تتقن السفر على جسد الكلمات، يرسم معاناته في أزقة العمر، وخيالاته التي تنفجر صورها بصمت في عينيه، وحروفه ولغته التي صارت منفاه وربطته بالوجع والعذاب، مسجونا على فراش مرضه كطائر في قفص وديدان الوقت تنهش هويته وتتسلى بقضم ماتبقى من أحلامه ؛ يفكر بما مضى، وماهو كائن، لايخشى الموت، بل يخاف على الوطن، على شبابه التائه وكل ما يمر به من أزمات نفسية واجتماعية في وطن يعاني الويلات والحروب والتمزق والانقسام، ويتغلغل فيه الحقد والطمع والكراهية والغدر في ظل ظروف سياسية واقتصادية وإنسانية تهدد وجود الإنسان والإنسانية فيه ....

-ص26.." يقرأ (محمد الماغوط ): " إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى.. الخسارة الكبرى هو مايموت فينا ونحن إحياء " .

_" الكل متفقون على بيع كل شيء ولكنهم مختلفون على الأسعار ".

- لم تكن الجزائر وحدها حاضرة في عالم الأستاذ " نعيم "، بل حمل هموم وطنه العربي الكبير بكل قضاياه وصراعاته وأحواله ؛ نقرأ مثلا:

-ص43.. " .. فالمعركة طال عهدنا بها أكثر مما نتصور، فقد شردت كل فكرة،سبحت في البهو الفسيح، ف تحتَ كل ملف انطوت صفائحه في الزمن الماضي، و هاهي الآن كسيحة مقعدة، تطلب يد المساعدة، ولكن جذوة الطلب مصفدة الأيادي...".

-ص104.." وشارون وحاشيته في اجتماعات مغلقة مع جامعة الدول العربية، يدرسون ملف مكافحة الإرهاب، وقضية المصالحة الوطنية، وفي هذا السياق اتفق الطرفان على تعزيز العلاقات ..! وسوريا في اوج ريعان شبابها تفكر بالانتحار، وما طفقت العزلة تلبسها الشيخوخة المبكرة، وتهرم في ظروف غامضة ليتهاوى طودها، وتلفظ أنفاسها الأخيرة، والقافلة والموكب يمران مر السحاب عن يمينها وعن شمالها، ومن فوقها ومن تحتها .......".

- أما رسالته هو والدكتورة " ريم " إلى مؤسسة الشروق T.V. للإعلام والنشر:

- ص98 ...."إن القصر القديم بدأ يشيخ، ويتنازل عن كبريائه، ليدخل في الأبجديات الغامضة، فالأصوات التي تحيط به أبت أن ترسم على شفتيها معالمه الجغرافية، والرمال الناعمة فقدت ثلث جمالها الأخاذ المبهر، وكل احساس مرهف وذوق فني أصيل والطوباويات المترهلة، شاحت في وجهها كل صيانة، والعين لم تعد تبصر تلك اللوحة الفسيفسائية؛ للزخرفة التي تأسرك بسحرها، وهي تملأ ضواحيها .. آه، تصدعات وشقوق، صرفت القلوب لتتحول إلى كومة من القش، ترزح تحت نير التهميش واللا مبالاة..

كانوا على موعد مع المغتربين، وظلت بعض المسائل معلقة في حارتنا، يضحك المرء لتفاهة مضمونها، ومما يزيد من سفاهتها، تقمصها شخصيات ذات إيقاعات أجنبية، سحرتها بنغمتها الحديثة، محملة بباقة وردية آتية من مكان نجهله ؛ أنستهم انغامهم التراثية، و رأوها على أنها غراميات باهته، بالية، تنأى عن الحضارة.... " .-خاتمة .....

" ولادة قيصرية " رواية تعج بالثيمات المتنوعة والأفكار الخلّاقة والدلالات الفاضحة لواقع مُرّ تحياه الإنسانية ؛ استطاع، من خلالها، الدكتور " وليد خالدي "، وبكل مهارة وإبداع، أن يصور هذا الواقع وكل ما أثرعليه، وتأثر به ؛ مستخدما لغة الإيحاء والترميز _ في الشعر والنثر معا _ في عالم يضج بالتساؤلات والجري خلف إظهار الحقيقة والبحث عن طرق الخلاص، نقرأ مثلا:

-ص70_71 ..." .... كنت أحاول التغاضي عن العيوب، والامتناع عن التشهير بها، ولكن فداحة المشهد تفيض كنهر جارف، ذكرتني بأغنية أجنبية، تشبه سرب الطيور المهاجرة في ملامحها المتعبة بالتساؤلات الحارة:

ماذا عن شروق الشمس؟

ماذا عن المطر؟

وماذا عن كل الأشياء

التي قلت أننا سنجنيها؟

ماذا عن ميادين القتال؟

هل هناك وقت؟

وماذا عن كل الأشياء؟

التي قلت أنها لكم ولي؟

هل سبق ووقفت لحظة تتأمل؟

كل الدماء التي سفكناها من قبل؟

هل وقفت لحظة تتأمل؟

لهذه الأرض الباكية او تلك الشواطئ الدامعة؟

ماهذا الذي فعلناه بعالمنا؟

وماذا عن كل السلام؟

الذي وعدت به ابنك الوحيد؟

ماذا عن حدائق الزهور؟

ماذا عن كل الأحلام؟

وكل الأطفال القتلى والحروب؟ ........ " .

- كذلك، عندما أشار ل " وسيم الأصلع " ب (الأسد الأبيض)؛ ورمزية ما تقوله له أمه:

-ص82 ... " هذه الدندنة التي تعشقها المحافل الدولية، وتزكي صاحبها، وتجعله على رؤوس الخلائق...! ويظل عيداً تتوارثه الأجيال ".

-وهكذا، استطاع " وليد خالدي "، الإمساك بيد قارئه، يقوده بين سطوره، مع شخصياته التي اختار لها أسماء ذات دلالات عميقة في التاريخ، وحاضرة في عالمنا الحاضر، التكنولوجي والتقني المتمازج بحضارة الآخر ؛ يتألم للجانب السلبي من هذا التثاقف الذي قاد الأمة لهذا الواقع، وجعلها تغرق في بحور الوهم واليأس والضياع وفقدان الهوية، نقرأ:

-ص208 ..." الحاضر حولناه إلى كومة من الصيغ والتراكيب التي لا دلالة لها، وقدمناه إلى غيرنا نسخة مشوهة، ملبدة بالغيوم والحجب.... أنصتنا لساعات طوال إلى أحاديثهم الرنانة، فاستقطبت كمّاً هائلا من المعجبين، يصعب على المعارضين اختراق حواجزه، وقفنا على تلة نترقب المكان بمنظار من بعيد ؛ رويدا رويدا أبصرنا الطربوش والعمامة يتنحيان جانباً ليفسحا المجال للقبعة لاعتلاء العرش، فبات الطربوش والعمامة مع كل انبلاج فجر يتعرضان للإعدام من قبل عائلاتهم، تحت وقع شمس صباح ملتهبة ...".

- وفي النهاية، وبعد رحلة الألم الطويلة، وهذا المخاض الطويل الذي رسمه " وليد خالدي "، على أوراق سكنتها الشياطين، عكست أوجاع الأستاذ " نعيم " ورفاقه، وطلبته، وأبناء وطنه، وإنسانيته ؛ تارة يحاورهم، وتارة يحاور نفسه، يحلم ويتخيل، يرسم ويخطط ويتمرد، يثور ويقاوم، ولا تخمد ناره حتى في غيبوبته، وهو يخضع لعمل جراحي جراء عسر في الهضم، ليستيقظ أخيرا على ولادة قيصرية، ولد فيها الأمل بالغد ؛ أشرقت روحه من جديد، واحتضنت الآمال مولوده الجديد:

-ص 209- 210 ...." وماهي إلا دقائق قليلة، كان من خلالها يحاول رسم خطة جديدة لحياته ؛ حتى استفاق من غفوته تعلوه ابتسامة مشرقة نابضة، وصرخة مدوية من الأعماق، مدججة بلحظات الانعتاق، هنا انتابه إحساس شديد دفعه إلى أن يزيل عن كاهله كل الأفكار العالقة التي توسدت جسده حيناً من الدهر .....

وأخيراً ... " تتمدد في محاضنها الآمال المتجددة، مع نزول كل قطرة من عرق ..!!".

*** 

الشاعرة والناقدة السورية باسمة العوام

الشاعرة تملك لون شعري مختلف عن المألوف، واسلوب متميز في اللغة الشعرية بين التشديد والليونة الشفافة، تجمعها في بوتقة واحدة، في الخلق والتكوين النص الشعري من حيث (الصياغة والتعبير والرؤية الفكرية) أي تنطق وتتكلم من مشاعرها ووجدانها الداخلي، في خلطة كيميائية، نتيجة صراعات ناشبة بين الداخل والخارج، أو أنها إفرازات مديات الحياة والواقع والوجود، إن تكون المرأة في حالة حذرة، متهيئة نفسياً لكل حادث وطارئ. ولهذا نجد زفيرها الشعري منطلقاً من أعماق احاسيسها الوجدانية، بالبوح العاصف في الخيال والتصور والرؤى، في انفعالاتها العاطفية الملتهبة، امرأة لن تساوم على كيانها ووجودها، حتى في حالة الحب والعشق، نتيجة تقلبات مفردات الحياة، التي هي في صراع دائم على البقاء، لذلك ترتقي الى مستوى التحديات للمرأة، وهي تجد نفسها في عواصف هائجة في الانتهاك وسلب انسانيتها وتهميش فعلها. ومن هذا المنطلق نجد صيغة النص الشعري، هو متفجر من الداخل ويطفو على السطح، بكل التحديات والمواجهة، إنها باختصار امرأة فعل ورد فعل، وغير مسكونة لحالة الانصياع والتخاذل، بل تجد انها نداً قوياً في المجابهة والتحدي والتمرد، هذه القيمة المستخلصة في أسلوبها الشعري في قصائد المجموعة الشعرية، تضعنا أمام حالة صراع بين قطبين، في عملية إفراغ بما يجيش ويغلى في داخلها، امرأة صعبة وعصية ومتمردة، ولكنها في نفس الوقت عاطفية و حالمة بالحب كالفراشة، انها على مستوى الفعل، في المواجهة والتحدي والتمرد، انها باختصار شديد تحرص ان تملك كيان ووجود مستقل، ويتأهب لكل حادث حديث، والنص الشعري هو وسيلة للتعبير عن نفسها و جوانحها الداخلية بين امرأة متمردة، امرأة حالمة، انها تحلق في المنظور الشعري بين الطرفي الصراع ، كأنها تحلق في السماء الشعرية بجناحين مختلفين تماماً عن بعضهما البعض في المعادلة الحياتية، أو أنها مشطورة بين قطبين، ففي حلة الوجع نجد التشاؤم يغلف روحها ومعاناتها.4037 سمرقند الجابري

عن أيّ وجعٍ تتحدثُ؟

وكلّ قصةٍ مغمسةٍ بالدمِ،

أفركُها بينَ أصابِعي

بعكس عقاربِ الساعةِ

بكُلِ صَبرٍ، وبرودةِ أعصابٍ.

ورُبما... أغني،

وأنا أكِّورُ أوجاع الشهرِ الماضي،

أو كوابيسَ الشهرِ الاخيرِ من عامٍ ولّى.

كراتٌ ملونةٌ،

بحجمِ ليمونةٍ خضراءَ.

لكنها في حالة التفاؤل، نجدها امرأة اخرى من مطر الحب والعشق، امرأة عاطفية من الحرير العاطفة، أو في داخلها إمرأة اخرى رقيقة وحالمة في عشب العشق والعشاق.

إنها تمطر الان،

أيها العشاقُ...

تذكروا حبيباتَكم برسالةٍ

إبعثوا لهنَّ رابطاً لأغنيةٍ ساحرةً

مع عبارةٍ جميلةٍ

مع أمنيةِ أن (تظلّا معاً)

أو عبارة اعتذارٍ عن كلمةٍ جارحةٍ

سقطت سهوا ذاتَ يومٍ

أيها العشاقُ...

إنكم تخطؤون في حقِّنا دائِماً

ونسامحكم

يا صديقي المطرُ

أطِل هطولَكَ

كي تمنحَهُم فرصة أخرى

للمرةِ الألفِ..

هذا التناقض المتوتر يجعلها في حالة يقظة دائمة، لأنها مسكونة في امرأة اخرى في داخلها، إمرأة من نار، تصرخ وتخاف وتخشى منها بحذر، تتمرد عليها،تلعب بها بين النار الملتهبة، والماء البارد الذي يطفيء غليانها وترقص لها كالغجرية، تحاول ان تداعبها وتبتسم لها، خشية من تتفجر نزواتها الحادة.

إمرأة من نار تَجلدني

تعـوي في أعماقي منتفضة

تُخرجُ أصابعَها من أنفي

وتَجري راكضة للغابـة

لا أتبعها،

لا أقـفُ بوجهِ زئيرِ اللبوة

أقفٌ متفرجةً على خدوشِ أظافرها في الصخر

أبتسمُ بخبثٍ حين أراها تسّبُ أباهم

أو ترقص كالغجرية،

حين يفارقها وجهك

أخاف تلك المرأة التي أكبتها

أحدثها برفق،

إمرأة متأهبة لكل الاحتمالات السيئة والاسوأ، من أجل حقها في الحياة والحب، ترفض الغيوم السوداء قبل هبوطها،انها في حالة تأزم كالحياة المتأزمة بذاتها، كحالة بغداد المأزومة، كالنساء المضنيات في شقاء الحياة وعسرها، كالأمهات المخلوقات من ماء الكوثر، تحب الوجوه التي يحبها الله، نجت من الموت خمس مرات، لتعود لحقها في الحياة والحب.

أهنئ نفسي،

فلقد نجوت من الموت خمس مرات

وعدت لحياة من حقي

صرت، أتنبأ بالحب

وأقبلُ الغيماتَ قبلَ هطولِها

وأمازحَ أطفالاً ليسوا لي

وأشعرُ بالأشياءِ قبلَ حدوثِها.

فأنا يا بغداد...

أعرفُ حكايا عن النساءِ المضيئاتِ

عن الأمهاتِ المخلوقاتِ من ماءِ الكوثرِ

وأعرفُ من بعيدٍ،

الوجوهَ التي يُحبُها الله.

انها امرأة عصية ومتمردة، كأنها في حالة استنفار شديد، أو حالة حرب، في رأسها معسكر تدريب وجنود ثائرون، ونساء كادحات،

في رأسي دائِماً...

معسكرُ تدريبٍ،

وجنودُ ثائرون

نساءُ كادِحاتٌ

وأطفالٌ يتشاجروَن بوقاحة

عجائزَ يعرفِن عن ظهرِ قلبٍ،

كل حكايا الحياة.

أما وجهي...

ليس سوى تخطيطٍ سريعٍ

لإمرأةٍ متمردةٍ.

لكن من جهة اخرى نجدها امرأة عاطفية حالمة، كالفراشة تلعب بين أزهار الحب، تتشاجر كالساسة، وتتصالح كالعصافير، وتلعب كالطفلة البريئة، ترتبك وتخاف، أي أنها عاشقة من حرير الحب.

نتشاجرُ كالساسةِ،

نتصالحُ كالعصافيرِ،

نفكرُ ببعضِنا كالأمهاتِ،

نذهبُ للسيِنما كالأصدقاءِ،

نلعبُ سويةً كالأرانبِ،

نرتبكُ من الحبِ كالأطفالِ،

***

جمعة عبدالله

 

شعرية الفروقات الدالة ومكابدة مساحة التعيينات

توطئة: لعل من اللافت في ضرورة قراءة وبحث وتمحيص شعرية تجربة الشاعر الاسباني الفذ فدريكو غارسيا لوركا، وتحديدا من خلال جملة تمفصلات قصيدته موضع بحثنا (اغنية غجرية) أنموذجا لما تتسم به من الاوضاع الدوالية والدلالية في متن النص من حساسية نوعية في عضوية مركبات (تكرارية اللفظ_ إيقاع المنحى الصوتي _ خطاب الانا - حديث التخاطب- غيرية الموصوف- ذاتية التشكيل) سبرا الى متواليات تغدو حينا متطابقة في القيمة المعللة للتسمية، واخرى لا تنفك حينا عن كونها محض إحاسيس ورؤى توصيفية .

- تعددية الأحوال وتقاطع محاور المشار إليه:

ما أود أن اتحقق منه في مواضع قصيدة (أغنية غجرية) هو ذلك التعدد في أوجه مسار الأحوال التلفظية التي تتجاوز ما يوحي به من خصائص في التسمية للاشياء من قبل جهة (الفاعل التذويتي) اي ذلك الفاعل المكرس في حيثيات صورة تداخلية نسقية في هوية المكون التلفظي، لذا فإن علاقات هذا الفاعل تختص في جعل للاشياء مسمياتها واطوارها، كأنه بذلك الفاعل الذي يساق من قبل وصولات وصور حسية ضمنية ناتجة عن نسيج الذات الثانية للشاعر، وربما يمكننا توصيفه ب(الفاعل المتخيل) تكاملا مع حيثيات الصورة الأولية من أفعال وأقوال الشاعر تواصلا تقديريا مرتبطا بالتركيز والأحتواء التصوري الٱني والبعدي المجمل في الٱن نفسه من العملية القولية في مشاغل النص .

١- بناءات معادلة وقائع توفيقية:

تتمثل انطباعات وتصورات حالات القصيدة ضمن علاقات متجانسة وغير مشخصة في الحد الادنى من الواقعة الصورية والإمكانية والممكنة في استيعاب اسقاطات الدال الاختباري، اي أن هناك حالات أولية في مقاطع النص الاولى بدت من خلالها الاقتراحات المتضافرة في محاولة ما في بث الموصول الدوالي في ايسر الطرق والوسائل من الاجمال والارتجال في ما لا يمس حقيقة زمن الحال والتدرج المناسب في نمو ملاءمة ظهورية في حاصلية الصيغة المتجانسة من البوح:

خضراء..

خضراء..

أريدك خضراء، فالرياح

خضر، وخضر هي الغصون./ص11

نتبين من خلال مطالع هذه المقاطع التكراربة، بأن زمن الملفوظ ذات وتيرة توكيدية بالدال والدليل، مما جعل (خضراء.. خضراء) حدوثا إيقاعيا يتطرق الى زمن معنون في معالجة الخلوص بالتملك الإرادي (أريدك ؟)، ولكن الفاعل الذاتي، لا ينفك في معاودة للمزيد من التحقق التصوري (فالرياح خضر - وخضر هي الغصون) ولانعلم ما مدى حقيقة هذا النزوع اللوني بالحدوث الدوالي، ربما من جهة ما هو متوالية متكثرة بالامثولة الإنشادية، أو انها حالة قناعية ملازمة لمظهر توصيفي مرتجل، وقد تكون أحوالا معادلية في مرصود وقصد الموضوعة في مرٱة ذاتية الشاعر نفسه، ولو اعتبرنا هذا النزوع اللوني حالة نسبية من قيمة هامشية الدلالة، لما تركت هذه الصفة اللونية مساحة تتعدى عتبات العلاقة الأولية للنص نفسه، لتؤسسس لذاتها مشهدية تتكون من إقرارية خاصة من زمن الحال التوالدي في محاور النص . ولكننا عند متابعة المقاطع اللاحقة من النص، قد نعاين تحاورات جديدة عبر مساحة اللوحة الشعرية تتابعا:

والسفينة في العباب تلمحها العيون

والخيول ترتعي كلأ التلال

طوقت خصرها الظلال

وهي ماتزال

في الشرفة تحلم/ص11

لو دققنا في احياز علاقات محاور الدوال في رقعة إحساس المتخيل التشكيلي، لوجدنا معطيات صورية هامة في محمل أبعاد اللوحة الشعرية للنص، فمثالا هناك مفردات جاءت بحدود حالة كفيلة بجعل وظيفة خطاب الدال، تتشكل وتتمحور في وجودات تشكيلية صرفة من قيمة حركية تشتغل بخلفية وظيفة بناء اللوحة، لذا فإن السبب في مثل قولنا هذا، هو ما ترجحه جملة التعالقات الجزئية والكلية من حفظ (المساحة _ زاوية الرؤية_ حصرية الزمن السكوني) اي ان الصورة كعنصر تشييدي، هي الغالبة على وظيفة الملفوظ الحركي في الخطاب وللمد الدوالي (السفينة في العباب تلمحها العيون - والخيول ترتعي كلأ التلال) الكشف هاهنا يوحي لنا بحضور حالاتي (حسية ضمنية - نقطة مشهدية) ومن المتوقع أن تكون نقطة إنطلاق لدلالة تأسيسية ذا هيمنة فضائية سكونية الطابع والزمن والشكل والبنية الأحداثية.

2- اللاكينونة في برهنة الفاعل الحضوري:

لعل المطروح الشعري في قصيدة (أغنية غجرية) يتبنى ذلك الإجراء والتحديد بين (نقطة التلفظ) ونعني بذلك الإجراء المتحكم في إثبات حضورية الٱخر عبر هويته أو كيفيته أو دخوله في زمن أطروحة الكينونة المحددة، لذا فالملفوظ عبر تبلوراته لا يعكس سوى وظائف (خارجية) أو ربما هي حالات قصوى، يتبلور مصدرها من خلال (الوجود - اللاوجود / الوجود - فرضية مضللة) وعلى هذا النحو فإن فعل الدوال في احياز النص متوافقة من ناحية (زمن سكوني؟) ومتعارضة من ناحية كونها مقولات افعال حضورية حاسمة في وجودها الذاتي والفعلي: (وهي ماتزال - في الشرفة تحلم؟) ولعلنا نملك الى إعادة زمن واقعة (وهي ماتزال؟) الى وضعية خارج الفعل الكينوني، كوحدة مقصية ومنفصلة، وذلك بدءا من جملة العنونة المركزية الدالة (أغنية غجرية) أي أن حالات التجربة في ممكنات القصد الدلالي، لا تتعدى ذلك الحيز من وجود موقع تلفظ أو رؤية في نظر تبادل محوري وصوري . فالرائي يتصور - شيئا- عبر موقعه المتشظى والمتناثر، فهو بمرويه يعبر عن وجودا شيئيا، أكثر افقا وتوقعا بصريا، لذا فتتعدى مهمته حرفية الحضور الحاضري (العيني) في كونه مجسدا محددا ذا طبيعة قرائنية، ذلك لأن حيزه الساردي تشغله جملة تقييدات موصوفة وسكونية في المقدار والمواضعة والانعكاس والقصد :(باتت تحدق فيها من حولها الأشياء - ولكنها لا تستطيع تبادلها النظر) اي أن وجود المرئي يظل غير محددا، ولكنه حالة انعكاس لهيئة حيادية ليست بحجم اسباب موضوعة الأشياء من حولها، لذا فهي موصوفة بدقة (الرائي الفاعل) بحرية أكيدة ومعززة، ولكنها مقرونة داخل افعال تتعدى فعلية الحدوث والسطوح الوقائعي، فتظل في ذاتها كفاصلة هلامية بين ما ترى -تصدرا- وما تقوله عين الرائي توصيفا وإعادة رؤية في حدوثات واهمة.

3- طابعية سياق التكرار وانطباع الوحدة الحلمية:

يمضي لوركا في متواليات بنيات قصيدته نحو توصيف مؤولات خاصة للأمكنة والأحوال والذوات المتشيئة عبر محفوظها وصورها الاكثر غورا في حيوات الاكوان الكائنية الكامنة في اللاثوابت من احياز لغة الاشياء وأستعارتها المتحولة في حيثيات (طابع سياقية التكرار؟) وحركية (انطباع الوحدات الحلمية) من خلال متخيلها التأملي العاج بأقصى حالات الوصف للأكوان المتوالية في شفراتها وشذراتها الحالمة بطفولة وصبا كينونة التقاويم الطقوسية للزمن الحاف ب(أغنية غجرية):

جسمها أخضر، الذوائب خضراء

وفي عينيها تلمع الفضة والزمهرير

خضراء، خضراء، أريدك خضراء/ص11

إذ لا شك إطلاقا أن تنطوي القيمة اللونية المتعدية تتابعا في صيغة ملفوظها المتوال (خضراء .. خضراء) ضمن صفة تذويتية عالية الرمزية، إذ انها تتمركز من خلالها الذات الساردة حول تنفصلات ٱنويتها وبعديتها الغيرية بوصفهما بديلان عن إرهاصاتها المتوارية عن مواجهة (الزمن - الذاتية الخطية) لذا تنتهي وتبتدئ دوالية الصور والتشكلات الوضعية عبر أحوالها باللجوء الوصفي بالمخصوص اللامحدد (أريدك خضراء) إذ على ما يبدو عليه حال الجملة الواردة اعلاه، أن الشاعر يلوح نحو نقطة تذويتية لا يحكمها التخصيص في نوعه الأحوالي المحدد، بل انها حلت في صيغة (الاخر - الغائب) إستكمالا للاستجابة في مراسمها التماثلية المتولدة عن جملة إضافات الفضاء النصي (وبينما القمر، قمر الغجر، يلعب ضوءه اللأ لاء) لعل هذه الجملة تلخص لنا في رحاب كون الشاعر ما كان من وراء إحالات قصيدته، إذا انه كان يتقصد هدفا مدلوليا كليا، ولا يخصص من جهة ما محددة لدالا مركزا في محوريته الوظيفية.

- تعليق القراءة:

لعل عنف النص الشعري يتلخص في سبل علاقاته اللفظية والجمالية والدلالية، ولا يمكننا بأي حال من الاحوال اغفال ما لقصيدة لوركا موضع بحثنا، من تعيينات تتناول حمولات ومقادير تم انتقاءها بمقتضيات وظائف علامية تبلغ في مستوى خطابها الشعري أعلى مستويات النفوذ الدلالي والجمالي، دون أن أميل الى دحض ما للشاعر من تجارب شاسعة من الجواهر المدلولية والايحائية والقصديات التي تحددها قصيدته الاكثر سبيلا الى (شعرية الفروق الاحوالية) التي تصارع وتجتهد في مغايرة الاوضاع في دلالات التسمية للأشياء وطقوسها التحقيقية النوعية:

- أيها الصديق

أود لو بادلتك هذا الحصان

ببيتك ومخزن الغلال،

أن أطرح سرجي لقاء مرٱتك الجلواء

وأقايض غمد مديتي بالبساط /.ص13

لعل القارئ الى موجهات وتمركزات المد الدوالي، يكتشف أن في متن النص عدة تقانات ملفوظية وضمائرية، تأخذ دورها في بث اللقطات المدعومة بضمير (المخاطب-جهة الغائب) لتشكل في ذاتها ذاتية المروى، تعليقا في مدار افعال لجوئية، غاية في الكشف عن مدى مأزومية الذات الساردة، فهو اي -الفاعل المتخيل- يلوح لنا عبر دلالات فقدانية راحت تضج بها الدوال، إستكمالا لجدوى حوارية ومقاربة حالات تصورية لا تفارقها رؤى اضمحلال الشخصانية في حكاية اغنيته الغجرية الممنوحة في اوجه موصلات الاكتفاء بنواتية (لاخر- الغائب) بديلا حتميا ونهائيا لفراغ أو عدمية الانكشاف الحضوري الفعلي للأنا الشاعرة:

- أيها الصديق، أتمنى لو أموت

ميتة محترمة في بيتي على سرير

-على سرير من الحديد، أامكن

مغطى بالبياضات، ناصعة، مسواة،

أفلا ترى هذه الطعنة النجلاء

من ضلعي الى حبل الوريد؟.ص13

لا شك أن ٱليات جملة استنزفات الفاعل المتكلم، لا تعرب لنا عن مقدمات قصدية من شأنها الأخذ بزمام الملتبس أو الإشكالي من ظرفيات مناجاة الفاعل نفسه، ولكننا نعاين حزمة إضمارات مرمزة بغلاف اللغة والاستعارة وسائل متخفية من عين منظومة الحال الشعري، فما حقيقة طلاسم لوركا عبر صوت فاعله الشعري هل يود من خلال هذا الصوت الافعالي، التلويح لنا بأن جملة تشكيلات حضوره الٱنوي، هو ما يشكل بذاته الاستمرارية المؤلمة في تجليات الكائن البوهيمي شعريا#؟ وعلى هذا النحو وغيره، جعلت تقودنا سلسلة الافعال المرسلة في مبثوثات المتن، وكأنها حالات تأبينية مخصوصة حول مصرع تلك الصبية الغجرية:

نبئني . أين هي؟ نبئني أيها الصديق

أين تلك الصبية -خير صبايانا؟

كم مرة بقيت منك على انتظار

ما أطول ما انتظرتك، وباتت في رجاء

بوجهها الندى وذوائبها السود./ص15

تمثل إضاءات هذه المقاطع مرحلة انفراجية ما من اسرار واسباب ملحمة القصيدة . فهي بذاتها تشكل ذلك المدى من حوارية (المخاطب لذاته-مونولج) ب(أيها الصديق) تواصلا مع زمن صوتي (الشاعر - الفاعل التصوري) لذا فهي اللحظة الاسترجاعية التي راحت تتداخل بمنطق ٱخر من خارجها وداخلها - اي ان لوركا عبر متنه الشعري، جعل من صوته تفصيلا مدمجا بحساسية المخاطبة لذلك الصديق، في حين ليس هناك من ثوابت راسخة في محكومية كون لهذا الصديق وجودا بالانفراد والارتباط والمؤول، كذلك ما تعكسه ذاكرة الشاعر التي لا تتخطى حدود الوصف في سياق (شعرية الفروق) المكرسة عبر سلسة من الاختلافية والمغايرة بين مقطعية وأخرى من القول الصوري، لذا فيمكننا القول عنها ب(مكابدة مساحة المسميات؟) خلوصا لكون أن القصيدة لا تكشف وظائف الدوال عبر مسمياتها (الذاتية - الاحوالية- المكانية- الزمنية - الظرفية - الغيرية) بل انها تقترح شخصانيات مسمياتية تعاكس حقيقة وهوية التعيينات والمخصوصيات المرادة في استجابة الموضوعة الشعرية:

تترنح جثة الغجرية

جسدها اخضر، والذوائب خضراء

وعيناها التماع من فضة كالجليد.

بهذا المعنى المرمز في خانة مسرحة الدال الشيفراتي، تدفعنا غائيات باطنية الالتحام اللفظي نحو مقاربة ميلودرامية لحكاية (أغنية غجرية) وليس لكونها أغنية، سوى لمحكومها الدلالي ذا الاوضاع التشكيلية في رحاب نسق (الصوت- الإيقاع - ٱفاق الرؤية) المرتبطة بهوية سيرة (الذات - المكان - الزمن - الطقس) وهذه العناصر في مجموعها ممهدة بذلك التوصيف الملازم (خضراء .. خضراء) مخاطبا جانبا من جوانب تجليات الرؤى والاحوال التي يكتنزهما تخصيص مجال أغنيات تفتعلها الذات الساردة في باحة شرفتها وحلمها القصي بعيدا .. بعيدا في أكوان الاحتمالات والخيالات التي تعاين وحدها مصائرية تلك الهيئة الغجرية المميتة في مخزون الذاكرة ومحمولات الدال بالدال تحقيقا حلميا في فضاءات القصيدة العابرة للمخصوص والنوع والزمن كينونة الذات الساردة في غروب شرفتها الخضراء.

***

حيدر عبد الرضا

 

توطئة:  ﻻ شك في أن وظائفية الإشارات وسياقات الإحاﻻت مقرونتان ضمن (هوية النص: الحد الأدنى من الأخبار - الحد الأعلى من المروي إليه بالحكي) وهذه المؤشرات اﻻنفصالية والالتحامية، ﻻ تظهر لنا  بملامح ومستوى الأداء الافعالي السردي إلا في متواليات الفصول الروائية التي تتخذ، إلا من طبيعة تكنيكية خاصية تشغلها ظواهر متفاوتة ومتباينة من حقيقة مستويات النص التوسعية المترابطة عبر منظومة مقاييس خارجة وداخلة في تحوﻻت الزمن والعلاقة الفنية حيال الثابت واللاثبات في مرسلات الحد الأدنى من الاخبار تجردا وخروجا نحو خصائص علائقية حاسمة من (الحد الأدنى) في عواملية (المروي إليه بالحكي) لذا فإن الافتراض الحاسم في وصلات مقومات الحد الإخباري في السرد، هي مقادير ﻻ تحصى من مرجعيات النص نفسه في حدود دائرة ومساحة وصولية ما، فيما تذهب الحدود العلوية من السرد المروى إليه تلفظا ضمن مواقع وسمات دقيقة من مجاﻻت الطابع المروى إلى جملة جهات شخوصية تتأرجح بين (السيرذاتي - المرجع النصي - الرواية) ولذلك جاءتنا متمايزات حيوات المحور الشخوصي مقاربة إلى هوية تعديل خصائص (السيرذاتية=بنية المروى إليه ساردا) وبهذه الإمكانية تتضح لنا خصائص دﻻﻻت رواية (ليون الافريقي) منظورا إليها على أنها (سيرة ذاتية - الزمن - المكان - الشخصية) صعودا نحو فرز النوازع المتعلقة بالهوية ومدى الفهم لهذه النوازع في اشد ظروفها اﻻستثنائية المتصلة بحركية الأنا التأليفية في الرواية .

- الحبكة الترحالية وقضوية الاحوال المحققة

إن طبيعة الإشكالية في حدوثات الخطاب الروائي في رواية (ليون الافريقي) تتجاوز مرجعيات عديدة في واقع الخاصية السياقية للمرجع النصي نفسه، لذا تواجهنا تعارضات وتوقفات ﻻ يمكن قبولها إﻻ في مستوى (رؤية المنظور المغاير) للمظهر المرجعي في حيثيات أسلوب تصوير وتوصيف الشخوص والمحددات الزمنية والمكانية الحادثة في مبثوث صوت المروى  إليه ساردا . غير أننا وبعد مراحل مرويات عديدة من زمن اسفار المحور الشخوصي، ﻻحظنا أن المؤلف معلوف راح يختلق حدودا تطابقية تستأثر من زمن (الرائي) تأسيسا جماليا اخاذا في مروية الأكثر تشخيصا ونوعية  حدود السياق المتعين في المدونة التأريخية، وتجدر اﻻشارة هنا، إلى أن مروي (المؤلف - الرائي = الراوي) يقع في عملية خاصة من (المروي - المرهون - سردا) لذا يبقى التصنيف الاستثنائي للراوي كهيئة شهودية تتعدى مفارقة القيمة الحاصلة من (رؤية = رائي) امتدادا نحو عمق صيغتين للراو في غاية الدقة والمحكومية، الصيغة الأولى (الأدنى من الأخبار) والصيغة الثانية (الحد من الأعلى من المروي إليه بالحكي) أي كما أن الأمر لو كان مقتضى قولنا (الراوي = الشاهد = صوغ مكونات = مروية) وعلى هذا النحو يمكننا إستعادة مقصودية قولنا السابق ب (الرائي) ذلك لكون المحور عبر مراحله وعقوده العمرية الصغرى،كان ذا يرى ويروي في حدود كمن يشاهد حلما في حالة نوم، وعلى هذا صرنا في مباحثنا الجديدة نطلق عليه تسمية (الراوي = الشاهد) كحال هذه الوحدات من النص نفسه:  (وهكذا وجدتني فجأة معهودا إلي بسفارة - انا الذي لم يكن قد اتم أعوامه السبعة عشر ./ ص209 الرواية) فلو افترضنا جزما من جهة ما بأن مغزى التقييد بالزمن محكوما بالحكي كحالة تتابعية لحادثة وحدوثا، فما الجدوى من الاجزاء العلوية من مستهل كل فصل التي يحدد بها مدى التحوﻻت في زمن وقائع التاريخ ومعالجات الأوضاع في الرواية،فهل يمكن قراءة هذه المحددات من ناحية كيفية تم ادماجها في البنية السردية اللاحقة من التفعيل وعوامل المواضع المحكية كمرويات أدائية محققة من السارد والشاهد معا؟.

1- التمايزات بين خطاب شخصية وووقفات السارد الشهودي:

يتأسس المستوى السردي في رواية (ليون الافريقي) عبر تقانات عديدة، أولها تقنية اﻻسترجاع على لسان السارد المشارك - كلي المعرفة - يعود السرد  في فصل (عام تومبكتو) على حدود استرجاعية تتشكل -رويا- يتسق ومتعلقات العروج إلى: (طبلبالة الواقعة في قلب الصحراء نميدية على بعد ثلاثمئة ميل من الاطلس ومئتي ميل جنوبي سجلماسة./ص208 الرواية) وتخبرنا الرواية على حال لسان الشخصية ليون،كونها بقعة صحراوية شحيحة المياه والصيد . وتبرز عناية المؤلف الضمني بصوته اﻻسترجاعي للتبئير الداخلي، ذلك عروجا بالقدر الذي يريده المؤلف من حاﻻت استرجاعية لغرناطة، وكيفية تعلق طرح الموضوع كفكرة غير بعيدة من حاﻻت استباقية تتعلق بحياة شخصية الخال: (منذ العشية الأولى شرع خالي يحدثني عن غرناطة، قليلاً كما فعل أبي قبل بضع سنوات، وربما كان لمرض أحدهما ووهن الآخر الأثر نفسه./208 الرواية) لربما هذه الوحدات جاءت بمعنى (استباقي = استرجاعي) فيما يتأكد من خلالها ذلك المعنى الخاص من الالتفاتة المرتبطة ب(التبئير الشخصي - تداعيات رؤية -- علامة تنصيص) فعندما ينهض الاسترجاع في حدود ذكر تعلقات حقيقة ماضوية، ﻻ بد من أن هناك واصلة تستبق (موضع التبئير = موضع مبأر) عوضا عن ذلك هناك ممكنات خاصة تشيع بحصول نقطة التحول المكاني:  (وإذ وصلت إلى المدينة وأسمها -- اورزازات -  على ما أظن قيل أن السيد يصطاد السبع في الجبال المجاورة، وأنه أصدر التعليمات بأن انظم إليه. / ص209 الرواية).

- تعليق القراءة: 

إن عملية الاحتكام إلى الميثاق الروائي في عقود وحقب واسعة الامتداد لرواية (ليون الافريقي) ﻻ تعتمد بذلك القصد المرجعي ككتابة سيرة رواية تاريخية،بقدر ما راحت تحتكلم على مستحدثات الحكاية الروائية المشيدة على تمظهرات اشكال خطابية مستأثرة بلغات دﻻﻻت الشخوص والفضاءات والأزمنة، ولو أردنا تغطية كاملة للرواية،لما وجدنا غير تلك التمثيلات الكفيلةالتي تتشخص منها مسارات التشكل المرجعي - الحكائي، وانعراجاتها ضمن واصلات عبورية في الزمن والحقب التأريخية الواسعة الامتداد، خلوصا إلى اظهار مأزومية واقع الهوية الشخوصية لدى المحور الشخوصي، كما وتبقى مجمل اﻻحداث الروائية عبارة عن محموﻻت سياقية تتجه نحو خلق جدلية علائقية حادقة بين الفعل  الروائي والكينونة التأريخية الأكثر تأويلا في مشغل استراتيجية الكتابة الروائية.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

 

يعتبر (أفرانيو بيكسوتو) (1876 – 1947)  من أبرز رواد شعر الهايكو البرازيلي (طبيب وأكاديمي وكاتب وروائي وشاعر)، ويعزى له الفضل الكبير في إدخال شعر الهايكو إلى البرازيل الذي لم يكن معروفا في هذا البلد على نحو كاف قبل عام 1919، وهو العام الذي نشر فيه (أفرانيو) مجموعة شعرية متكونة من (1000) قصيدة رباعية وهايكو. علما كان قد زار قبلها عدة دول أوروبية خلال الفترة 1904 – 1906 لإكتساب المعرفة والاطلاع على الثقافات المختلفة. وهذا ما ذهب اليه الكاتب وشاعر الهايكو البرازيلي (خورخي فونسيكا جونيور) (1912 – 1985). نشر (أفرانيو) أكثر من (30) كتابا، منها (روزا ميستيكا 1900 وترفاس برازيليراس 1919 وهيستوريا دا ليتراتورا برازيليرا 1930 وميسانجاس 1931). وهو مؤسس (الاكاديمية البرازيلية لفقه اللغة)، وكان عضوا في الاكاديمية البرازيلية للآداب. 

 وكانت قد صدرت عدة كتب عن اليابان والثقافة اليابانية قبل هذا التاريخ، مثل (من فرنسا إلى اليابان 1879) ل (فرانسيسكو أنطونيو دي ألميدا) و(في اليابان، بعيدا الشرق – اليابان، رسائل يابانية، مذكرات قنصل في اليابان) ل (أوليفيرا ليما ولويز غيماريش فيلهو ومانويل جاسينتو فيريرا دا كونتا) وغيرهم، مثل (وينسيسلاو دي مورايس) (1854 – 1929) الذي الف عدة كتب قيمة عن الثقافة اليابانية، وبالانكليزية والبرازيلية، وقد أشاد به (والدوميرو سيكويرا جونيور) في كتابه (420 قصيدة هايكو) الصادر في عام 1981. أما طالب الطب البرازيلي (بول لويس كوتشود) (1879 – 1959) فقد سافر إلى اليابان في عام 1904 لدراسة اللغة والادب، وعند عودته إلى البرازيل في عام 1905 نشر كتابا بعنوان (على إمتداد طريق المياه) الذي تضمن ترجمة ل (72) قصيدة يابانية.                                                                        

وهنا لابد من الإشارة إلى موجة الهجرة للأشخاص من اليابان إلى البرازيل في بداية القرن العشرين، ووصول السفينة المسماة (كاساتو مارو) إلى ميناء (سانتوس) الواقع في ولاية (ساو باولو) البرازيلية بتاريخ 18 حزيران 1908، وعلى متنها (781) مهاجرا متعاقدا، بعد (50) يوما من الإبحار، وقطع مسافة (12) الف ميل بحري تقريبا. وعليه أعتبرت هذه السفينة رمزا للجالية اليابانية في البرازيل. وكان من بين هؤلاء شاعر الهايكو الياباني (أويتسوها شوهي – هيوكوتسو) (1876 – 1935) صاحب أول هايكو ياباني يتم تأليفه في البرازيل بحسب بعض المصادر. ثم برز أيضا (إيشيرو كيمورا – كيسيكي) (1867 – 1938) و(كينجيرو ساتو – نينبوكو) (1898 – 1979) وكان لهما التأثير الكبير في نشر الهايكو الياباني في البرازيل. أما (كيمورا كيسيكي) و(إيوانامي كيكوجي) فقد أصدرا في البرازيل (أوكابو 1931) المجلة الأولى المعنية بنشر الهايكو والتانكا، وكان ذلك بتشجيع ورعاية من (نينبوكو).                                                                                             

أما هيلينا كولودي (1912 – 2004) فهي أول شاعرة هايكو برازيلية. درست الرسم والموسيقى. عملت في التعليم. تعرضت في البداية إلى نقد شديد لإفتقار قصائدها إلى القافية وغيره. كتبت الشعر وهي في سن ال 12، ونشرت أول قصيدة لها بعد أربع سنوات. نشرت مجموعة هايكو تحت عنوان (كانتيكو) عام 1941، ثم (15) كتابا في مختلف الفنون الأدبية. إرتبطت بعلاقة صداقة وطيدة مع الكاتب والشاعر (كارلوس دروموند دي أندرادي) (1902 – 1987) الذي يعتبره بعض النقاد أعظم شاعر برازيلي على الاطلاق، ومع الشاعرو الصحفي والكاتب والروائي والناقد  (باولو ليمينسكي فيلهو) (1944 – 1989)، وكان من عشاق الهايكو. منحت عدة جوائز وأوسمة. منحتها الجالية اليابانية في (كوريتيبا) في عام 1993 لقب (ريكا – عطر الشعر). منحت شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة (بارانا الفيدرالية) 2003. تم إستحداث (مسابقة هيلينا كولودي الشعرية الوطنية) في عام 1988 تكريما لها. انتخبت رئيسة لأكاديمية باراناينسي للآداب في عام 1991. من مؤلفاتها (السمفونية اللامنتهية، لوز لا ينتهي، رحلة في المرآة، قصائد الحب المستحيل، ظل النهر وقصائد مختارة).                                                                                

نماذج من الهايكو البرازيلي (مترجمة عن الإنكليزية):

1

– فانيس زيمرمان

رياح صيفية –

ثمة كتاب هايكو

ملقى بين الركام

*

جد ياباني

جالس على مقعد الجنينة –

نظرة مبهمة...

*

صورة عتيقة –

ابتسامة الجد

على وجه الحفيد

*

نذير الشتاء -

ثمة ثلاث أوراق

على غصن شجرة الكرز

2

– موريسيو دي أوليفيرا

صباح ربيعي –

زوجان من الطيور

يتبادلان القبل بالمنقار

3

– رينيو دو أمارال بيرني

ينظر المزارع إلى السماء

و يده مطوية

ناشدا المطر

4

– ساندرا لوريتا

ثمة دفء وشمس وبحر

في الأراضي البرازيلية

الأيام المطيرة

5

– سيرجيو ميلاميتو

مرآة وأنا...

هناك صبي

يحدق في وجه رجل عجوز

6

– روزا كليمنت

يعثر الكلب السائب

على سيارة تسير

ليطاردها

*

نافذة القطار

يجري الجدار الحجري

للنفق

*

ليلة عاصفة

تعود مظلتي للبيت

قبلي

*

تأليف قصيدة هايكو

ريح مفاجئة

تصفق الباب

(الجائزة الأولى في مسابقة فلاديمير ديفيدي للهايكو 2018)

7

– فيفيان سي موراليتي

صعود ونزول

لأنثى طائر الرفراف

فراخ بحاجة للطعام

8

– جوليو أفرانيو بيكسوتو

يغني الطائر المحاكي نفس الاغنية*

مرارا وتكرارا:

لا يتعب هذا الجميل

*

طائرة

تبحث عن الوقود

آه ! ما هي إلا بعوضة

*

بتلة الزنبق هذه

تروم أن تدير لي ظهرها

دوما

***

بنيامين يوخنا دانيال

..................

* الطائر المحاكي: أو الطائر المقلد. طائر يقلد أصوات مختلف الطيور وبعض الحشرات والبرمائيات. منه 17 نوعا، مثل سوكورو والغالاباغوس وسان كريستوبال.

1 – Brazil، Afranio Peixoto. https: // livinghaikuanthology. com

2 – In the Origins of Brazilian Haiku – Guilherme de Almeida. https: // papers. iafor. org

3 – Rosa Clement، A History of Brazilian haiku. https: // www. thehaikufoundation. org

4 – Haiku in languages other than Japanese. https: // en. wikiperdia. org

 5 – The results pf the 3rd haiku contest on theme Gourds – Tri rijeke. https: // tri – rijeke – haiku. hr

6 – European Kukai – Rssing. com. https: // kukai2. rssing. com

7 – Masayuki Fukasawa، Takahama Kyoshi and immigrant Sato Nenpaku. https: // discivernikkei. org

8 – Columns ‘ The Ship Kasato – maru، 100 years of Japanese … . https: // www. ndi. go. jp

9 – The IAFOR Vladimir Devide Haiku Aword 2018. https: // iaforhaikuaward. org

10 – Columns ‘ Japanese emigrants to Brazil and haiku. https: // www. ndi. go. jp

قدمت الناقدة الجزائرية والأستاذة بجامعة سوق أهراس أ. د. سليمة لوكام للساحة النقدية العربية والجزائرية على وجه الخصوص العديد من المؤلفات المهمة منها: تلقي السرديات في النقد الغاربي، سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كتابات الفرنكوفونيين العرب، الآخر في الثقافة والأدب حضور واستحضار، متون وهوامش، وآخرها كتاب "سرد ونقد"، وكتاب :كتابة الرواية الجزائرية باللغة العربية والفرنسية" ..

في كتابها الصادر عن دار سحر للنشر، قدمت الباحثة دراسات مختلفة في السرد والنقد، وقد حاولت أن أجد الخيط الرابط بينها رغم أنها تركت عنوانه على إطلاقيته معبرا عن تجاوزه وعدم خضوعه للاتحديد ربما من أجل الخروج من مأزق التصنيف والتوصيف، أو من أجل تحفيز المتلقي لدخول عوالمها القائمة على التعدد وكأنها تخاطب العقول قبل الأذواق، وترفض أن ينغلق الباحث على تخصص بعينه، لذلك تدعوه لأن يخوض مغامرة النبش في كل الخطابات على تغايرها واختلافها ..، وهذا ما يصنع مع جملة مزايا فرادته وتمايزه..، بل حتى ورود اللفظتين في صيغة إنكار ـ دون ألف التعريف ـ يشي بالاحتمالية ويغامر بالسؤال عن المبتغى :أي سرد؟ وأي نقد؟، تحفيزا للقارئ حتى يعيش مغامرة القراءة، وبصيغة أخرى، ينطلق من سؤال مضمر :كيف تحيا قارئا؟أو كيف تؤسس لدهشة القراءة ورحلة التأويل؟.

فعن قراءة النصوص السردية أشارت في مقدمة كتابها أن بعض النقاد حينما استعاروا المناهج، أخذوا منها ما أعانهم على قراءتها، والكشف عن دلالاتها المغيبة، بينما أغرق البعض في النزعة المدرسية التي تعول على تطبيق القواعد، وتبرر ذلك بقولها:"ليصل الجميع إلى النتيجة نفسها التي تقيم الدليل على نجاح النظرية، فكان أن ماخلصت إليه تلك الدراسات أشبه بالقوالب الجاهزة المفرغة من المتعة التي نستمرئها عند مطالعاتنا للقراءات النقدية التي تنبري لفتح النصوص لا إغلاقها، وتحسس ملامح شعريتها لا تكليسها"ص6.

وكأنها هنا تركز على العلاقة الحميمية بين النص وقارئه، وتتجاوز المناهج بعدتها الإجرائية الصارمة، التي لا تجد فيها مايحقق المتعة ولا ما يستكشف أسرار النص، لذلك تطالب بنوع من الحوارية التي تنفتح على المتعدد وترفض الوصاية النقدية أو الفكرية ..، ولربما لون العنوان يحمل دلالة الحميمية، وتقديم اسم الناقدة عليه بخلاف ما عهدناه يشرعنها ويؤكد مركزية القارئ، رغم أني أجدها أحيانا تحاول مغالبة تخصصها الدقيق فيغالبها حينما تستخدم بعض المصطلحات النخبوية المتعلقة بالسرد وإجراءاته في قراءة بعض النصوص.

موضوعات متعددة تناولها الكتاب :نماذج عن الخطاب الاستشراقي، رواية المرأة في الألفية الثالثة، سرد الآخر، المنجز السردي والنقدي الفلسطيني، سرد الخيال العلمي ونقده...

تبدو النبرة الاحتجاجية والاعتراضية في خطاباتها النقدية لكنها ترتكز على العقلانية التي لا تخرج بها إلى دائرة الانفعال، وإنما تسمها بالهدوء والموضوعية وتبرئها من التحيز، نورد مثالا عن ذلك فيما كتبته في صيغة اعتراض عن رواية الخيال العلمي، إذ يلخص الاقتباس الذي سنورده رؤيتها التي تتحفظ على ارتياد عوالم إبداعية لم يحن وقتها بعد في ظل هذا الراهن الموبوء فقط بدافع الاستعارة واللهاث وراء المنجز الغيري في محاولة للحاق به وإن على المستوى الإبداعي فقط :"وقد جرت هذه الخصيصة الرواية لأن تطأ مواطن قصية، أو خروجها من دائرة ما تتعاطاه من تيمات تتناغم مع المعطيات الفكرية والحضارية والثقافية القائمة أو الممكنة، إلى فضاءات تبدو أنها غير مؤهلة بعد لاحتواء محكيات روائية تمعن في التحليق بعيدا عما يمكن أن يشغل، حقيقة روائيا عربيا في ظل سياقات خاصة تؤطر رؤيته للعالم والأشياء، وأيضا ما يحتمل أن يشكل أفق انتظار القارئ العربي"ص133.

فمثلا عن الاستشراق وتحت عنوان "الرواية العربية استشراق ونقد " قسمته إلى عنوانين:رؤية استشراقية فرنسية للرواية العربية:بين جاك بيرك وأندريه ميكال ـ رواية المرأة العربية في الألفية الثالثة:تثبيت حضور أم تأسيس لاختلاف.

ففي: رؤية استشراقية فرنسية للرواية العربية:بين جاك بيرك وأندريه ميكال" أرادت أن تفكك خطاب الاستشراق المعاصر وان تكشف عن تناقضاته ومضمراته،

لقد ركزت الناقدة على جاك بيرك الذي وجدت أنه رفض مسمى المستشرق مفضلا عليه اسم المعرب، لأن الأول ذو حمولة إيديولوجية تؤكد المركزية الأوروبية، هذا ويفضل أنه يعرف نفسه بأنه "عابر الضفتين"، وقد ذكرني ذلك بمقال كان قد كتبه عبد الكريم الخطيبي عام 1976 عن هذا المستشرق الذي كان موظفا ساميا للاستعمار بعنوان"الاستشراق الضال عن السبيل" وقتها كانت المغرب تعيش الكثير من الأحداث منها محاولة تصفية الاستعمار وبناء الهوية ..، وهذا المقال يمكن إدراجه تحت ما يسمى النقد المزدوج، حيث يفترض نبل هدف الاستشراق والمتمثل في إقامة علاقة بين الشرق والغرب قائمة على قوانين الضيافة، لذلك فهو يبرئه من تهمة أنه وريث الإيديولوجيا الكولونيالية بل يعتبره، على العكس من ذلك، "منظرًا" لتصفية الاستعمار أكثر خطرًا من فرانز فانون..

رغم ذلك نجد الأستاذة لوكام لا تطمئن للجاهز وإنما تبحث في مضمرات خطابه، حيث تتبدى نية مغايرة لما يظهره نصه، ففي مقدمته لترجمة دراسة ندى طوميش حول الرواية عاد إلى الفترة الهيلينية والقبطية وفي الفترة الإسلامية اكتفى بالحديث عن المذهب الشافعي والفترة المملوكية، ترتاب الباحثة في نصوصه، حيث تورد مقتطفا من حديثه حينما قال:"إلى زمن قريب منا، زمن اللقيا المتوسطية فيما بين الحربين، التي تدين بطبيعتها وبطاقتها المرجعية إلى ثقافات قارتين أو ثلاث قارات في آن واحد"ص16، لذا تتساءل عن سبب عودته إلى تاريخ مصر القديم رغم أن المؤلفة لم تتحدث عنه وإنما بدأت دراستها من عصر النهضة.

لقد خلصت الباحثة إلى ميل المستشرق إلى فكرة الالتقاء والتقاطع أو "مكان التلاقي" بعد الغياب، إذ تجد أن ذلك يجعل منه مستشرقا لا يقرأ الحاضر أو يعنى بالماضي القريب فقط وإنما ينبش في التاريخ باحثا عن المرجعيات، ويعود إلى الأصول، حيث أدرك أن هناك ارتباط بين ثقافة العالم العربي الإسلامي والماضي القريب والبعيد، وتقول بخصوص ميله الواضح عن هدف الدراسة الأصلية :"كنا ننتظر بعد ذلك أن يمضي بيرك للحديث عن هذا الإبداع الأدبي النثري، لكننا ألفناه ينصرف إلى إضاءة تاريخية اجتماعية لا تدعو للاستغراب بقدر ما تحفز على الرغبة في تقصي أنحاء النظر في هذه الرؤية الخاصة"17.

انشغلت الناقدة بنقد العديد من الأفكار الاستشراقية التي نقلها النقاد العرب فيما بعد وعوملت على أساس أنها من البديهيات، فالانتقاء واضح والتحيز للغرب واضح في خطاب بيرك، الذي اعتبر النهضة هي التي جلبت الحركية إلى مصر ومعها رجال الثقافة والمعرفة، حيث اعتبر حديث عيسى بن هشام أولى ثمرات هذا التلاقح، وفي ذلك حسب الباحثة إغفال لدور البعثات المصرية إلى أوربا وخاصة فرنسا.إذ تم التركيز على الطرح السوسيولوجي التاريخي، تقول:"ارتكزت قراءة بيرك على مايصنع الأدب، والجنس الأدبي، أكثر من الجنس الأدبي نفسه، فلم يجرؤ على التطرق لإرهاصات الرواية، أو كيف تشكل جنس الرواية مالم يقدم السياقات التاريخية التي أحاطت والعوامل السياسية التي أسعفت..".

وتؤكد على انتقائيته وتحيزه من خلال بعض المقاطع التي تبدي تنكرا واضحا لأن تكون الرواية العربية المعاصرة امتدادا للتراث أي للمحكيات العربية القديمة .

أما عن أندريه ميكيل بينت أنه في مقاله "الرواية العربية المعاصرة" "حاول فيه أن يربط بين الرواية والحداثة، والرواية والشرط التاريخي، والرواية والتراث الحكائي العربي، أو ما يسميه التقاليد"ص22.بعد رصد نقاط التقاطع بين المستشرقين تنتهي الناقدة إلى أن هناك نقطة اختلاف بينهما في تعاطيهما مع الأدب العربي، إذ تجد أن كلام ميكال فيه من الوصاية والتعالي المركزي الأوروبي الذي يبتعد به عن الموضوعية ويعمق من الهوة بينه وبين الشرق، تقول:"ويشير الى حضور المؤثرات الأجنبية بعيدا عن الرؤية الاستشرافية الممعنة في التعالي، بل إننا على العكس من ذلك نجد نوعا من الحنين إلى تاريخ هذا الشرق الذي ولد بين أحضانه، ورأى النور على أرضه"ص24.

لكن بعد قراءتي لهذا النبش وجدتني أتساءل :إن كان المستشرقان قد سقطا في الفخ ذاته، وهو فخ التحيز، ولم يستطيعا التحرر من مرجعياتهما في قراءة التراث والأدب العربي الحديث والمعاصر، فلماذا تنتصر الأستاذة للأول وقد وقفت على الكثير من المضمرات التي تدل على إظهاره عكس ما يخفيه ؟هل فعلا كان الأول أكثر موضوعية وتحررا من المركزية الغربية كما تقول ؟، قرأت مقالا بعنوان حديث المستشرق الفرنسي للدكتور أحمد شتيوي يقول فيه أنه تظاهر فقط بالدفاع عن النص القرآني والتراثي، في حين يذهب البعض إلى اعتباره مجرد محب للعرب وليس مستشرقا، وبين الرأيين يظل الرهان قائما على القراءة والنبش عميقا.

في دراستها"رواية المرأة العربية في الألفية الثالثة ـ تثبيت حضور أم تأسيس لاختلاف؟

اعتمدت على تحقيب يتمثل في:الألفية الثالثة والروائيات المخضرمات "من كتبن بين نهايات القرن الماضي والألفية الثالثة" ـ الألفية الثالثة والروائيات النسويات ـ الألفية الثالثة وروائيات الأكثر مبيعا، وجدته تحقيبا بارعا ينم عن وعي نقدي، عن المثال الأخير تجد أن رواياتها لا تتميز بكثافة المعنى ولا بغزارة الرمز، فهي تركز على الحكي لذلك لا تهم غير الشباب لأنها تهتم بالتجارب العاطفية والإنسانية، تتميز بعناوين مغرية، تهتم كاتباته بأن تكون رواياتهن أكثر مبيعا فقط، وبعدد طبعاتها، كروايات خولة حمدي ...، ورغم أني أتفق معها إلى حد بعيد لكن أجدني أتحفظ على هذا الرأي حينما يتعلق الأمر ببعض رواياتها مثل :غربة الياسمين التي انشغلت فيها بقضايا المرأة ..، إضافة إلى قضايا المغتربين العرب... ورواية أين المفر التي نجد فيها تمثيلات للربيع العربي ..

ما وددت قوله في الأخير أن ما وجدته في قراءة الأستاذة عقلانية هادئة بعيدا عن الجزم واليقينية والنزعة الوثوقية، وكأن بها تنتصر لحوار معرفي بعيدا عن أحادية التفكير، فهي لا ترغب في أن تقنع القارئ أو تمارس عليه الوصاية بقدر ماتريد أن تشرع له أبواب التأويل وتحفزه على الاختلاف والاستنطاق، ولربما لون غلاف الكتاب ينزع إلى هذا التوصيف، فالأزرق السماوي في علم النفس يدل على الهدوء أثناء تقديم القراءة، وهو ماتفضله قناعة وممارسة.

***

بقلم: د. غزلان هاشمي

خمس لوحات مرسومةٍ بالكلمات، تستثمرها القراءة - لخلق مجاورات لتلك النصوص. إذ صممها الشّاعر موفق السّواد - وهو رسامُ آثار يستلهم شعريته كثيراً من ذلك الفن. فأبرز مايولع به تحويل أساطير اليوميّ والمعاش، الى إبتكارات على البياض.... تتمركز فكرة الحنين عندهُ ومهما حلقَ بخياله وأبتعد عنها - يعودُ متواصلاً مع ذلك الشّغف.

مروراً بـ(رفحاء) عندما كتبَ رواية عن لوعة الرمل... حطَّ به الرحال في أرض المنخفضات بلاد (إسبينوزا) -كان ذلك قبل سنوات، ولأنَّ المنفى يمنح الغربة بالمجان - إنطبع ماهو غريب وسرياليّ في مخيلته. التمرد عنده قليل الفوضى وخفيض الصوت، أي أنّه يُهندم العنف بالهمس.... شاعر تفاصيل لكنّه يأخذها الى العام إذ يطرزها بالحنين الجارف - فكلّ تمركز في الخاص، يحرمُ التهويم في العوالم. يتوضح التحويل عنده هكذا: نقل الحسيّ المنسجم الى فنطازيّ مشوش.... يعتمد موفق دائماً على إستحداث فكرة يُلبسها لغة مأنوسة - غير فضفاضة بفضائل الحذف بعيدة عن التجريد... ما معناه أنّ قصيدته متفكرة تعتمد على التغريب والفنطازيا - وشعريته ترجمة عذبة عن طفولة عاشت أحلام الماء، في الجنوب الرافدينيّ ذلك العتيد الذي زرع أقداره على الضفاف.

يكتب السّواد باللغة الهولنديّة وله حضورٌ مميز - فشعره مصنف في إنطولوجيات تلك اللغة، وله كتاب وحيد في العربيّة عنوانه (أسرة الفتنة)... لاتميل قصيدته الى الهايكو، لامن قريب ولابعيد - بينما يمكن العثور في فضائها، على شذرات ثرية.... أما السّرد فمقطعٌ وخاضع لمشيئة المونتاج. في اللوحات الخمس التي إخترتها - الزمان جسدٌ مُعنّى يدون أوجاعه في المنفى، أما المكان فهو استلهام المشّرق بمكنوناته الباذخة - أليس الشّرق (مهد البشريّة)؟

1- حَيرة الكرسيّ:

تُمحى الكثير من التفاصيل - بعد أنْ يتحوّل الكرسيّ الى عاشق مُتلبّك، لجلوسها على أضلاعه.... يرسمُ شاعرنا بورتريت الجلوس والارتباك، نظرة مصوبة الى الخشب المرتعش - عندما يسيحُ الجسد بأقمار على محنته، أما الناظر فهو أسير الخيزران.

من زاوية الإيكولوجيا (أعني النقد البيئي)، فالإحصاء هكذا: (الخيزران الصُّلب - نعومة ثملة- أفق يتلاشى - عتمتها البيضاء تتآخى في ودَ مفتوح).

شاهدة الشّعريّ في النص: (أنا الذي أحملُ قلباً أعزل).

[ يَظهرُ الخيزرانُ الصُّلب وهو يتطامنُ تحتها - نعومةٌ ثَملةٌ وهي حينما تتقدمُ الى الأمام أو تتراجعُ الى الوراء - يَفسحُ في المجال لأفقٍ تتلاشى فيه الأبعاد وتزول - عتمتها البيضاء تتآخى في ودّ مفتوح مع إهابِ الخيزران القمريّ أحياناً --- يذهبُ الخيزران الى محاقهِ مبكراً - فيما يكشفُ الجسدُ عن أقمارهِ الخبيئة - أبقى أنا الذي أحملُ قلباً أعزل أسيرَ الخيزران الصّلب ونعومتهِ الثّملة]

2 – مَظانّ:

أكثر من غيبةٍ صغرى يُخطفُ الغائب قلوبنا، بغيبات متقطعة في اليوم الواحد. الشّاعر يترقبُ ظهور طائر قرب النافذة - تلك مشهديّة النص، ربّما الغائب هو طائرٌ لايسمعُ إصطفاق جناحيه- هنا فعل الرّيح المرعب في إلتهام الإصطفاق والتغاريد.

الإيكولوجيا: (المخلّص - الرّيح- الطّائر - النافذة - التغريدات).

الشّذرة: (الرّيح دائماً تلتهمُ تغاريده).

شاهدة الشّعريّ في النص: (ثمة طائر يغالبُ الرّيح قبالة نافذتي).

[انا هنا أنتظرُ شيئاً غائماً وغير مؤكد - يبدو كثيفاً في الإيحاء بأنّهُ غير موجود وقائم مثل مؤمنٍ تسكنهُ فكرة عودةِ المخلّص من مَظانّ غيابه. وما يجمعني بذاك المؤمن هو الرهانُ على أنَّ الغائبَ سيعودُ من غيبته - ولكنْ مايباعدني عنه هو الوضوحُ واليقين لديه ونقيضُ ذلك ماعندي - ثمة طائرٌ يغالبُ الرّيح قبالة نافذتي - وأنا أنظرُ اليّه بلا إكتراث إصطفاقُ جناحيه لايُسمع الرّيح الرّيح دائماً ماتلتهمُ تغاريده  وإصطفاق جناحيه].

3 - قصيدة المنزل:

الإيكولوجيا تملّأ الفضاء: (الأشياء - يديّ - فناء البيت - اللّمعان - الجسد - باحة هادئة - كرات ملوّنة - أغنية طيعة).

مايجعل النص متحركاً هو تأثير الأفعال: (أمدّدُ الأشياء - أريدُ له باحة - تتقافز تحت قدميه - يجلسُ هناك)... لاستمرار سريان الإيقاع تم تكرار لازمة الفعل (أريدُ) ثلاث مرات.

الفكرةُ أنَّ الجسد يعود طفلاً - فالراوي يقوم بتلقينه بعض الحيل، كي يبعده عن فداحة العدم - فالهدفُ إعادة ترتيب الأشياء.

الشّذرة: (أمدّدُ الأشياء بين يديّ في فناء البيت).

شاهدة الشّعريٌ في النص: (حين يجلس هناك في العدم).

[أريدُ ببساطةٍ مفرطة أنْ أمدّد الأشياء بين يدي - في فناء البيت - كي أعرف سبب لمعانها

أريدُ لهذا الجسد الممسك بظلالهِ أنْ يعاود شهيقه في الإختصار والتلاشي أريدُ له باحة هادئة وكرات ملوّنة

تتقافزُ تحت قدميه واغنية طيّعة حين يجلسُ هناك بعيداً بعيداً في العدم ويعيدُ سيرتهُ الأولى  في التهجّي وطرق اللعثمة].

4 – خُدعة:

الخِداعُ حربٌ طاحنة رداً على تجهم النظرة - عندما يصنعُ المتوّجس حصانه الخشبيّ - حَصيلةٌ مرّة تتسبب بكارثة على الفور.

ماذا نتأمّل من وقفة المتجهم - بينما لاتنقشع غيماته الدّاكنة عن نجمته الأثيرة. (سيدة السّطوع تلك النجمة الزرقاء تدعى بالشّاردة Blue Straggler) ---- نص الخُدعة يستعرض أمامنا الشّكوك والأوهام -تتناهبه الهواجس لتقدمه فريسة لحرب وهمية - يقول عبد اللّطيف اللعبيّ: (الشّاعر جاسوس المشاعر)

يمكن تثبيت عناصر الطبيعة حسب السّياق لتلافي التكرار - وأهمها: (نجمتيّ الزرقاء - حصان خشبيّ - طروادة).

الشّذرة: (لا أمل في إلتفاتة عابثة منك).

شاهدة الشّعريّ في النص: (ثمة طروادة دائماً).

[في اللحظة التي ظننتُ فيها أنْ لا أمل في التفاتة عابثة منك الى هذا الكائن  الأكثر هشاشة وتقصفاً  أذ إنتظرتُ وإنتظرتُ وإنتظرت دون أنْ تكشف غيومك عن نجمتيّ الزرقاء  قررتُ أنْ أصنع حصاني أنا الآخر  كما فعل الأثينيون فثمة طروادة دائماً]

5 - في لوحةِ پول كلي:

معظم لوحات السّواد تميل الى البياض - لأنّها بقايا الأثر في الجدران. اما عن (پول كلي) فهو رسامٌ مفكر مولعٌ بأجواء الشّرق..... النّص تجاور الشّعري مع حقل الرسم - ما ابتكره الشّاعر ترجمة عن لوحته المفترضة - التي رسمها في خياله تحت تأثير عوالم (كلي) - أي أنَّ موفقاً هو من رسم السّلك الفضيّ وليس الأخر.

مفردات البيئة: (سلالم عالية - سلك فضيّ - رجل واقف - المثلثات الصفراء - الظّلال البعيدة).

الشّذرة: (يمشي على دهشة السّؤال)

شاهدة الشعريّ في النص: (صوته الذي يأتي مغموراً في السّكون)

[سلالم عالية  وآلةٌ فادحة تهرسُ الضّوء رجلٌ يقفُ الى جوارها يصنعُ سلكاً فضيّاً  ويمشي على دهشةِ السؤال

الدوائر الخافتة التي تظهر في الظّلال البعيدة  هي صوتهُ الذي يأتي  مغموراً بالسّكون]

6- في تجربة الشّاعر المبتكر - أعني عالمه الخاص

- هناك مستويات في شعره - ليست مُزاحة كلّها وقوية لكنّها مهمة كجسور لعمارة النص... تحدث الفسفرة في النص المتحرك متمثلة بفنّ (الإيبيغرام) - توهج البيت الواحد قد نسمي الطاقة المشعة تلك: (الإنزياح الماكر) - اذ يتحقق ذلك بفعالية البيت الممغنط (يمشي على دهشة السّؤال).

يمشي فعل حسيّ وشائع - دهشة مجردة أما دهشة السّؤال فأكثر تجريدا - معنى هذا أنَّ الحسيّ يسيرُ على سكة التجريد - وهو ابتكار خاص وغريب.

مايزال الحنين يرسم معظم الفضاء الشّعري - حتى لو جرفنا الى أحياز سرياليّة - من قامت بذلك تعبيريّة أخّاذة كافية ومقنعة --- لا أدري هذه الألعاب جاءت من تأمّلات قارئ - لا يضع الشّروط النقديّة حاجزاً في طريقه - في حرارة السّعي لا أحد يجزم متى سنصلُ الى النّبع؟

***

عادل مردان

في المثقف اليوم