شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

مدهش حقاً ردود الفعل في لبنان، بعد إعلان موت الفنان الكبير زياد الرحباني، ومدهش أكثر ردود أفعال المجتمع العربي برمته، وبضمنه النخب العربية. مدهش لبنانياً، لإن زياد، على عظمة إنجازاته، لم يتمكن من تغيير أيّاً من المعادلات في لبنان لا على الصعيد السياسي، ولا الاجتماعي ولا حتى الفني. فعلى المستوى السياسي والاجتماعي، ذكر زياد، فيما ذكر، أنه لا يريد تغيير المجتمع أو البلد، لكنه بالمقابل، لا يريد البلد أن يغيّره. هذا التعبير الاخير هو أساس ما سأبحث به.

كيف أستطاع هذا الرجل النزول بفيروز، الاميرة الحالمة ذات الرداء الأبيض الناصع والنائمة بين السحاب، الى الشارع البيروتي بإكتضاضاته، وبلغته، وشتائمه؟  ربما لأن زياد لم ينتمي الى ذلك العالم الحالم، فهو المتمرد والثائر والواعي المنغمس بمشاكل مجتمعه ومشاكل بلده. لكنه لم يتمكن من ان يحوّل تمرده الى ثورة إجتماعية تجعل من التغيير المنشود ممكناً، إنما جعل مشروع حياته ان يعمق ويطور من وعي المجتمع بهدف تثويره عن طريق فنه، في الموسيقى، في الاغنية، في المسرح حيث الكلمة والحدث والنكتة تزيد من إرتباط الجمهور حزناً تارة ومرح تارة أخرى.

زياد، العازف والملحن والمؤلف الموسيقي والكاتب المسرحي، والصحفي المشاكس، هو أحد أبرز الأسماء في مجالي الثقافة والفن في العالم العربي، ولأنه حالة فكرية وفنية متفردة لتحفيز الوعي، فقد كان رمزًا للإبداع الحرّ والفكر النقدي في سياق المجتمعات العربية.

تاريخيًا، وظّف زياد الرحباني الموسيقى والفن كأدوات فعالة لمواجهة التحديات، خاصة في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي واجهت لبنان. فقد عمل في فترة غياب الدولة على طرح أسئلة عميقة حول الهوية والحقوق والحرية. كانت أعماله تمثل صرخات في ظل الصمت السائد، حيث سعى إلى إبراز صوت المهمشين والمستضعفين. فمن خلال مسرحياته وأغانيه، كلاماً ولحناً، أعطى صوتًا لمن لا صوت لهم، مما ساهم في تعزيز الوعي الاجتماعي والتنبه للخلل الحاصل في العدالة الإجتماعية.

استطاع زياد أن يخلق عالمًا فنيًا يعبّر عن واقع الحياة في لبنان، محولًا الألم إلى فن. هذا التحويل يأتي من فهمه العميق للبيئة الاجتماعية والسياسية التي تعيشها البلاد. فالفنان لا يكون مجرد مبدع، بل يتجاوز ذلك إلى كونه مؤرخًا وشاهدًا منغمساً في الأحداث، ما يعكس أهمية وجوده في زمن غياب الدولة. ففي ظل الفوضى السياسية والحروب والغموض، كانت أعمال زياد توفر ملاذًا للتفكير والإلهام، وتفتح الحوار حول القضايا الحساسة، مما يجعل منها وسيلة لتعزيز الوعي العام.

إن غياب زياد يكشف تساؤلاً جوهرياً، هل من الممكن ان ينبثق نموذج آخر لزياد في المجتمعات العربية؟ والواقع يفضح تمترس هذه المجتمعات خلف سياقات سياسية وإجتماعية مختلفة تجعل الفكر والفن فيها محاصراً أو مقيداً. فغياب المساحة الحرة للتعبير، والهواجس اليومية من الرقابة، قد يعيق الفنان الموهوب عن تقديم إنجازات مشابهة، ولو بقدر ما، لتلك التي قدمها زياد. بينما عُرف لبنان بنوع من الحرية الثقافية والفنية التي تتيح للفنانين الاندماج في نقاشات مجتمعية بشكل أكثر انفتاحًا.

لهذا، فإن زياد الرحباني يمثل حالة نادرة من الإبداع والتحفيز للوعي في ظل ظروف تاريخية معينة. إذ يعكس نجاحه أهمية الحرية الثقافية، ويؤكد كيف يمكن للفن أن يكون نقطة انطلاق للتغيير الاجتماعي والوعي السياسي. ولكن الأهم هو أن يتردد صدى تجربته وبصمته في المجتمعات العربية الأخرى من خلال تعزيز حرية التعبير وتقبل الاختلاف، حتى يتحقق التحفيز المنشود. وفي الأخير، يظل زياد رحلة إستثنائية ملهمة للفنانين والمثقفين، ليس فقط بموهبته، ولكن أيضًا بفلسفته القوية التي تجعل من الفن وسيلة للتمرد على الحاضر وأداة فعّالة للتغيير.

***

علي ماجد شبو

 

عندما بلغة قرار الامبراطور نيرون بأن عليه أن يقتل نفسه، تلقى الأمر بهدوء، تحدث إلى بعض اصدقائه قائلاً:" دعونا نهيء عقولنا لنهاية حياتنا. دعونا لا نؤجل أي شيء. إن من يضع اللمسات الأخيرة على حياته كل يوم، سيكفيه الوقت ويزيد".

في ذلك الوقت، كان سينيكا في منتصف الستينيات من عمره، بدأ يشعر بآلام الشيخوخة، كتب في واحدة من رسائله إن:" الشيخوخة المفرطة أشبه بمرض مزمن لا يتعافى منه احد أبداً، وعندما يتدهور الجسم بشدة، يصبح الأمر أشبه بسفينة يتسرب منها الماء يوما بعد ىخر".

عرف عن سينيكا مواهبه المتعددة، كان سياسيا وكاتبا مسرحيا ورجل اعمال ناجح وفيلسوف، محباً للحياة، يرى ان مشكلة الإنسان لا تكمن في قصر حياته، بل في استعماله السيئ للوقت. يجب أن لا نغضب لأن الحياة قصيرة:" الحياة طويلة بما يكفي، وقد مُنحنا حصة الأسد منها لتحقيق اسمى النجاحات لو قمنا باستثمارها بشكل جيد " – سينيكا هل الحياة قصيرة حقاً ترجمة غدير فياض - إذن الحياة طويلة بالقدر الكافي لنحقق الكثير من الأعمال إذا قمنا بالاختيارات المناسبة، إذا لم تضيعها في الأمور التافهة.. أن تكون فاقدا للسيطرة و منجرفا مع الأحداث دون أن يكون لك الوقت لتعيش تجارب ذات قيمة و دلالة هو امر مختلف تماماً عن العيش الحقيقي، إن الحلم بعيش حقيقي في العالم، ليس في استبداله بعالم خيالي تماماً، إنما السكن فيه كبشر، وسواء لبى العالم رغبتنا ام لم يلبيها، فاننا سنكتشف الواقع المستقل بقوانينه الخاصة والغريبة.

عاش سينيكا حياة مليئة بالمغامرات من جهة والتأمل من جهة أخرى، في الاربعين من عمره اتهم بإقامة علاقة بأخت الإمبراطور غايوس، فتم ارساله إلى المنفى في كورسيكا لثماني سنوات هناك تفرغ لكتابة بعض رسائله عن الحياة والموت والخوف ومتعة الفلسفة وصراع الفضيلة والمتعة، بعد ثماني سنوات يتم استدعاؤه لروما كمعلم لنيرون الذي كان عمره أنداك 12 سنة، بعد ذلك يصبح سيينكا المستشار السياسي للإمبراطور" نيرون، وبسبب مزاج نيرون كان سينيكا يعرف ان ايامه في القصر معدودة، حاول ان يتقاعد متذرعاً بسوء حالته الصحية وشيخوخته، وفي النهاية وافق نيرون على اعفاءه من منصبه، غير ان فترة الراحة كانت قصيرة، حيث اقنع بعض الحاشية الامبراطور بأن سينيكا ضالع في مؤامرة ضده. وفي العام 65 م ارسل نيرون عددا من ضباطه ليبلغوا سينيكا ان عليه الموت، لم ينزعج من القرار قال لاصدقائه:" أترك لكم الشيء الوحيد الذي بقي لي، وهو أفضل ممتلكاتي: طريقة حياتي. إذ تذكرتموها، فإن صداقتكم المخلصة ستكون من الانجازات الفضيلة "، بعدها عانق زوجته وطلب منها بأن تُقصر فترة حدادها، وان تتعزي بمصابها، بالحياة التي قضياها معاً، لكنها اصرت أن تموت معه، لم يعارض سينيكا قرارها، كان يخاف ان تعامل بعده بطريقة سيئة خاطبها قائلاً:" ما أردته لك كان العزاء في الحياة، ولكنك تفضلين الموت والمجد. لن امنعك من ضرب مثال عظيم كهذا. لنا أن نموت بعزيمة متساوية، ولكن هدفك هو الأنبل " – رسائل من المنفى ترجمة الطيب الحصني -.

يكتب سايمون كريتشلي ان:" وفاة سينيكا اختلط فيها الضحك بالتراجيدي اكثر من كونها مينة بطولية " – كتاب الفلاسفة الموتى ترجمة ابراهيم الكلثم –، فقد شق سينيكا ذراعيه بخنجر لتبدأ عملية الموت الشاقة والغريبة، ويذكر المؤرخ الروماني ناسيتوس ان سينيكا لم يمت من النزيف بسبب " جسده الضعيف الذي لم يلفظ سوى القليل من الدم "، فقطع شرايين رجليه، وبعد ان ارهقه الألم، طلب السم، نفس السم الذي قدم الى سقراط فشربه، لكن الموت رفض بعناد ان ينهي حياته، وفي النهاية وضع في حوض ساخن ليختنق بالبخار.

كتب سينيكا ذات يوم ان المرء يعيش عيشة رديئة إذا لم يعرف حقيقة الموت، أن اهم الامور هو التحضر للموت، أن تكون شجاعاً، كانت وصية ابيقور لتلامذته:" "تدربوا على الموت"، وهي ممارسة شجعها سينيكا نفسه. بالنسبة لسينيكا كان الموت "الخوف الأكبر"، لكن بمجرد أن يتعلم المرء كيفية التغلب عليه، يتلاشى الخوف من أي شيء آخر:" إذا لم تتذكر أن وقتك محدود ومنتهي، فمن المرجح أن تأخذ الأمور على محمل الجد" – رسائل سينيكا الرواقية ترجمة اميل المعلوف -

أن الشعور بان الموت قد يأتي فجأةً وفي أي لحظة، يمنح الإنسان شعورٌ كبير بالإمتنان للوقت الذي تقضيه مع من تحبهم. وكما أوصى سينيكا:" فلنستمتع بشغفٍ بأصدقائنا وأحبائنا الآن، ما داموا معنا ".

يرى سينيكا ان الحياة الكريمة، والعيش الكريم يعني الموت الكريم أيضاً. أن الموت الكريم يتميز بالسلام النفسي، وقلة الشكوى، والامتنان للحياة التي عشناها. بمعنى آخر، الموت الكريم، باعتباره الفعل الأخير في الحياة، يتميز بالقبول والامتنان، كما أن امتلاك فلسفة حقيقية للحياة، والعمل على بناء شخصية سليمة، يسمح للإنسان بالموت دون أي شعور بالندم:" هل تعرف يا لوتشليوس، أنه جميل أن ننتصر على قرطاجة، ولكن أجمل أن ننتصر على الموت. صدقني ان الموت ليس مخيفاً لكي يجعلنا نخاف منه " – رسائل الى لوتشليوس ترجمة اميل معلوف -.

 ولد سينيكا عام " 4 " قبل الميلاد في قرطبة جنوب إسبانيا، كان الابن الثاني لعائلة ثرية. والده، (سينيكا الأكبر) عمل معلماً للبلاغة، كانت والدته، ذات شخصية قوية اثرت كثيرا على ابنها، في العاشرة من عمره سافر مع احدى عماته إلى روما، وهناك تدرب كخطيب وتلقى تعليمه الفلسفي، كان سينيكا ضعيف البنية يعاني من الامراض مما اضطره الى طلب العلاج في مصر التي قضى فيها اكثر من عامين، تعرف خلالها على الفلسفات الشرقية، ليعود الى روما عام " 31 م "، حيث تبدأ مسيرته في السياسة والقانون، وليصبح واحداً من ابرز المحاميين، لكن سرعان ما وقع في خلاف مع الإمبراطور كاليغولا، الذي كان ينوي اصدار امر بقتله لولا تدخل احدى النساء التي توسلت للعفو عنه بشرط أن يترك مهنة المحامات، فعاد لدرسة الفلسفة وكان آنذاك متحمساً لتعاليم الفلاسفة الكلبيين، بعدها كرس نفسه لدراسة الفلسفة الرواقية والكتابة فيها. يعتبر سينيكا من اشهر الكتاب والمفكرين الرومان الذين شرحوا في مؤلفاتهم المذهب الرواقي الذي كان سائداً في عصره وتضم اعماله ثلاث مجموعات: المجموعة الاولى تتكون من اثني عشر كتابا تحت عنوان المحاورات. ومنها " عن الغضب " و " عن وقت الفراغ " و " عن الحياة السعيدة ". والمجموعة الثانية تضم اربعة اعمال نثرية. والمجموعة الثالثة تضم رسائله. وفي مجال المسرح لديه عشرة اعمال مسرحية ترجمت العديد منها الى العربية.. يصف سينيكا الرواقيين بانهم " اهلنا "، وقد ركز في تطبيق المبادئ الاخلاقية الرواقية على حياته وحياة الآخرين، والتساؤل الذي هيمن على كتاباته هو: كيف يعيش المرء حياة خيرة وسعيدة ؟ حيث كان يرى ان السعي للفضيلة والسعادة مسعى بطولي يقوم به الإنسان.

شهد سينيكا في حياته كوارث عديدة ومآسيَ شخصية، كان يهيئ نفسه كي يعمل في السياسة، لكنه في اوائل حياته اصيب بالسل، حيث بقى طريح الفراش، ما أدى الى تفرغه للقراءة واطلاعه على كتب ارسطو، فنراه يكتب "ادين بحياتي للفلسفة"، وكان الفيلسوف الروماني يرى ان المشكلة ليست في قصر الحياة، بل في الاستعمال السيئ للوقت الذي نتوفر عليه، يكتب دو بوتون: " يجب أن لا نغضب لأن الحياة قصيرة و لكن يجب عوضا عن ذلك أن نستفيد من كل الوقت المتوفر، أشار إلى انه يمكن لبعض الناس هدر آلاف السنين بنفس السهولة التي يضيعون بها سنوات حياتهم، وحتى لحظتها سيشتكون بأن الحياة هي قصيرة جدا. في الواقع الحياة طويلة بالقدر الكافي لنحقق الكثير من الأعمال إذا قمنا بالاختيارات المناسبة، إذا لم نضيعها في الأمور التافهة " –عزاءات الفلسفة ترجمة يزن الحاج -.

كان سينيكا قد كتب أننا يجب أن نبدأ كل يوم من خلال التفكير بعمق في كل عذاب يمكن أن تلحقه الحياة بنا، وهو يطالنا بأن نفكر في كل شيء، ونتوقع كل شيء، وكان الهدف الأسمى للفيلسوف الشهير، هو العيش في ظل الفلسفة التي وجد فيها عزاءً في مواجهة المحن التي مر بها والتي انتهت باصدار الامبراطور نيرون امرا بان يموت الفيلسوف المشاغب. يخبرنا هيغل وهو يكتب مقالاً يبدي فيه إعجابه بالفيلسوف الروماني، ان سينيكا لم يرضخ للحظات الضعف المعتادة، اذ واجه الواقع عبر موته حيث اسهم في خلق ربط دائم بين جوهر كلمة "فلسفة" ومقاربة هادئة للواقع الكارثي الذي يحيط به..هكذا تتحول الفلسفة الى عزاء في اصعب المحن.

رفع سينيكا لواء العقل، فنراه يكتب لأحد أصدقائه طلباً منه نصيحة لمواجهة مشكلة كبيرة: حالما نتعامل بعقلانية مع ما سيحدث، حتى لو لم تتحقق رغباتنا، سندرك على نحو كبير إن المشكلات الضمنية أصغر من حالات القلق التي تولدها". ويرى سينيكا أن الوصول الى الحكمة‏، ‏ هو ألا نحاول أن نصعب الأوضاع السلبية عن طريق ردود فعل من الغضب والاشفاق على الذات والمرارة والقلق‏، ‏ وأن نحاول تنمية قدرة العقل في كشف الواقع، أن في استطاعة الإنسان أن يشعر بالسعادة حين يتمكن من استخدام عقله في الوقت المناسب، ومن خلال العقل يستطيع الإنسان أن"يُحلق فيه بين النجوم".

عام 58 كتب سينيكا مقالته " عن الحياة السعيدة"، وكانت موجهة لشقيقه الأكبر" غاليون"، حيث يبدأ المقالة بمخاطبة شقيقه قائلاً: اخي غاليو، الجميع يرغب في أن يعيش سعيداً، ولكن حينما يقبل ما يجعل الحياة كذلك، فانهم يعمهون، ويصعب ان يبلغها المتعجل وهو يهرول نحوها، ويتخلى عنها الىخر إذا فقد الطريق، حيث يقوده في الاتجاه المعاكس، وتُبيقه ثمرة عجله في فُرقة أعظم. وعلينا أن نخطط لمعالجة ما نسعى اليه اولاً، ومن ثم علينا أن نلتفت للطريق لنصيبه حثيثاً، ويمكننا التعلم عليه، طالما أنه الطريق الحق، فكم من الخطى مشيناها كل يوم، وكم تقاربنا نحو الشيء الذي تدفهنا إليه الرغبة الطبيعية " - محاورات السعادة والشقاء ترجمة حمادة احمد علي -

كان سينيكا قد كتب أننا يجب أن نبدأ كل يوم من خلال التفكير بعمق في كل عذاب يمكن أن تلحقه الحياة بنا، وهو يطالنا بأن نفكر في كل شيء، ونتوقع كل شيء. كان الهدف الأسمى للفيلسوف الشهير، هو العيش في ظل الفلسفة التي وجد فيها عزاءً في مواجهة المحن التي مر بها والتي انتهت باصدار الامبراطور نيرون امراً بان يقتل الفيلسوف المشاغب " سينيكا " نفسه على الفور. يخبرنا الفيلسوف الالماني هيغل وهو يكتب مقالاً يبدي فيه إعجابه بالفيلسوف الروماني، ان سينيكا لم يرضخ للحظات الضعف المعتادة، اذ واجه الواقع عبر موته.

لماذا لا نقول أن الحياة السعيدة تتكون من عقل حر، مستقيم، شجاع، ثابت، خارج تأثير الخوف أو الرغبة، عقل يعتقد أنه لا يوجد شيء جيد سوى الفضيلة، ولا يوجد شيء سيئ سوى الفساد، ويعتبر كل شيء آخر كتلة من الضوضاء في الخلفية التي لا يمكنها أن تضيف أو تأخذ أي شيء من سعادة حياتنا، ولكنها تأتي وتذهب دون أن تزيد أو تقلل من أعظم الخير؟

أنت تكرس نفسك للملذات، وأنا أتحقق منها؛ أنت تنغمس في المتعة، وأنا أستخدمها؛ أنت تعتقد أنها الخير الأعظم، وأنا لا أعتقد حتى أنها جيدة: من أجل المتعة أنا لا أفعل شيئًا، وأنت تفعل كل شيء.

إن الحياة السعيدة هي تلك التي تتوافق مع طبيعتنا، ولا يمكن أن تتحقق إلا إذا كان العقل سليماً وجريئاً وقوياً، ويتحمل كل شيء بشجاعة. فالإنسان السعيد إذن هو من يمتلك الحكم الصائب في كل شيء: إنه سعيد من يكون في أحواله الحالية، مهما كانت، راضيًا ومتقبلاً لظروف حياته. إنه سعيد من يرشده عقله إلى تدبير شؤونه.

في هذه المناقشة مع اخيه غاليون، يُرسي سينيكا أساسيات السعادة، وما هو طريق السعادة، وكيفية التعامل مع اللذة، وكيفية ممارسة الفضيلة، وكيفية الاستمتاع بالمال الذي قد يأتي إليك، والأهم من ذلك كله، كيفية تفهم نفسك، واخص لنا سينيكا أساسيات السعادة بالنقاط التالية:

1- ليس عليك أن تذهب بعيدًا للعثور على السعادة، السعادة قريبةٌ منا. عندما تتوقف عن القلق والانفعال بالأمور التافهة، ستنعم بالحرية والهدوء باستمرار. لا تنجرف وراء الملذات العابرة. تصرف بما يتوافق مع طبيعتك البشرية. هذا يعني ثلاثة أمور:

2- حافظ على عقلك جريئًا وقويًا، تحمل الأمور بشجاعة عندما تكون هناك حاجة لذلك، اعتني بجسمك ومظهرك، ولكن لا تهتم به بشكل مفرط.

3- ما هو جيد يأتي من عقلك وليس من الخارج. حافظ على عقلك حرًا، هادئًا، وثابتًا. لا تنجرف وراء الألم أو المتعة.

4- تعامل مع ما هو واضح أمامك، ولا تدع الخوف أو الأمل أو الرغبات تسيطر عليك. كن راضيًا بالحاضر.

5- كن مخلصًا في السعي وراء الفضيلة. اعتنِ بجسدك وبممتلكاتك "الجميلة". لكن لا تدعها تتحكم بك. تذكر أن اللذة تنبع من الفضيلة، وليس العكس.

6- لا يأتي البهجة من اللذة المفرطة، بل من الاستمتاع المعتدل بها. لا يمكنك مواجهة تحديات الحياة بالانغماس في اللذة المفرطة. تجنب الملذات الفاسدة كالتكبر والتباهي والإهانة والكسل. عندما تكون أسيرًا للمتعة، تؤجل أمورًا أخرى وتستبدل الحرية بالمتعة. عندما تتخذ المعرفة (الفضيلة) دليلًا لك بدلًا من المتعة، لن تحتاج إلى شيء، وستكون حرًا ولن تواجه أي مصيبة.

7- أدخل المال إلى منزلك، وليس إلى قلبك. ليس عليك أن تتوقف عن الاستمتاع بالأشياء المادية ما دمت لا تتعلق بها. لستَ محكومًا عليك بالفقر. لكن اكسب بشرف وتشارك مع الآخرين. يمكن استخدام الثروة لأغراض نافعة، ولذلك لها قيمة. لكن تأكد من أنك تملك ثروتك، ولن تملكك. المال مرغوب فيه، لكنه ليس "سلعة".

8- المال لا يجعلك مهمًا، والفقر لا يقلل من شأنك. لا تُهمّك تقلبات الحياة. اعتدل في رغباتك، لا تكبت أحزانك. في فقرك، كافح. في غنىً، كن لطيفًا. لا تتعلق بالثروة. لا تُبالِ بإهانات الآخرين.

9- لا تنتقد الآخرين، بل افهم نفسك.بدلاً من انتقاد الآخرين، حاول أن تفهم كيف يدور عقلك ويدور حول بعض الأعاصير وكيف تتناوب بين الأمل واليأس.

10- جهز نفسك للمصائب. قد يصيبك سوء الحظ في أي لحظة. كن مستعدًا.

إذن السعادة الحقيقية من وجهة نظر سينيكا هي الشعور بالرفاهية والرضا بعد فعل الصواب، وهو ما تقتضيه الفضيلة. مواجهة الشدائد والالتزام بالمبادئ مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالسعادة:"إن المتعة ليست مكافأة أو سبباً للفضيلة، بل تأتي بالإضافة إليها؛ ولا نختار الفضيلة لأنها تمنحنا المتعة، لكنها تمنحنا المتعة أيضًا إذا اخترناها" – محاورات السعادة والشقاء ترجمة حمادة احمد علي –

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

الكتابة عن الزعيم المصري جمال عبد الناصر صعبة رغم توفر المصادر، وتكمن صعوبتها في النزاع حوله، فأي محاولة لرسم صورة له لن تَمر دون نزاع وجدال، فالمهمة عسيرة جداً لمن يريد أن يلتزم درباً وسطاً بين من يُبجّل عبد الناصر، وبين من يبحث عن مثالبه وعيوبه (1)، فعبد الناصر كما وصفه الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري "عظيم المجد والأخطاء" (2). سنحاول تقديم صورة موضوعية عنه ما استطعنا، وسنركز على الجانب السياسي بصورة مكثفة. ستكون خطتنا وفق ما يلي:

1ـ نشأة عبد الناصر وقيام الثورة.

2ـ ترتيب الجبهة الداخلية.

3ـ الجبهة الخارجية.

النشأة وقيام الثورة:

وُلِدَ جمال في قرية بني مُر قرب أسيوط في 15 يناير 1918 من أب ينحدر من أسرة فلاحية وأم كانت ابنة لأحد تجار الفحم المنحدرين أيضاً من أسرة فلاحية (3)، وقد جاء ميلاده في ظل مرحلة اتسمت بنهوض البورجوازية المصرية الحديثة التي نشأت على انقاض البورجوازية القديمة المؤلفة من كبار التجار ومشايخ الأزهر والسادة والأشراف (4).

نُقل والده الذي كان موظفاً في البريد الى أسيوط عام 1921، ثم الى عدة مدن صغيرة، وقد سَلّمَ ابنه الطفل جمال الى عمه خليل حسين في القاهرة، فبدأ جمال يتبادل مع والدته مراسلة طويلة مليئة بمشاعر الحب، ولكنها فارقت الحياة عام 1926، فعرف جمال لأول مرة معنى الصدمة (5)، وكانت ضربة قاصمة تركت عليه بصماتها التي لا تُمحى (6)، وقبل أن ينقضي عام على وفاة أمه، كان أبوه قد تزوج، ولا يشك فاتيكيوتس بأن علاقة جمال بأبيه وإخوته كانت واهية الأواصر، وأن زوجة الأب كانت سبباً للخلافات المتكررة التي نشبت بين جمال وأبيه (7).

كان جمال الشاب كالكثير من الطلبة المصريين آنذاك، فقد اعتبر ان معاهدة 1936 مع البريطانيين خيانة للقومية المصرية، وكان قد اشترك في العام السابق للمعاهدة في مظاهرات طافت الشوارع تطالب بجلاء القوات البريطانية، وقد أطلقت الأخيرة النار على مجموعة من المتظاهرين فقتلت أحدهم، فما كان من جمال بحكم أنه رئيساً لرابطة الثانوي، إلا أن نظّم مظاهرة احتجاج في الميدان الممتد على طول ثكنات الجيش البريطاني، وقد قُتل طالبان آخران وأُصيب جمال نفسه برصاصة في جبهته (8).

يقول أنتوني ناتنك بأن جمال قد أصبح وطنياً متحمساً ولم يناهز العشرين من عمره، وتسنى له أن يبلغ مرحلة التعبير الناضج بفضل قراءاته المستفيضة لفلاسفة أمثال فولتير وروسو وديكنز، وسِيَر الاسكندر الأكبر ويوليوس قيصر ونابليون وغاندي (9). وقد أثرت كتابات عباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم به، لدرجة أن أهدى كتابه "فلسفة الثورة" لهما فيما بعد (10). وترى الدكتورة مارلين نصر بأن جمال قد كوّن لنفسه من خلال قراءاته ركيزة ثقافية وعلمية متينة في الفترة الممتدة بين 1936 و1946، وقد أحصت 75 كتاباً ذي قيمة علمية قد اطلع عليها (11).

تخرج جمال من الثانوية بعد ان اعتُقل عدة أشهر عام 1936، واختار طريق حياته، فقد كان يحلم بأن يكون ضابطاً، وعندما مثُل أمام لجنة القبول في المدرسة الحربية سألوه: اسمه وعمل أبيه؟ ماذا يملكون؟ هل اشترك في المظاهرات؟ فلم يُقبًل (12).

دخل بعدها لكلية الحقوق، وأمضى نصف عام دراسي فيها، لكن الحلم العسكري لم يفارقه، وفي مارس 1937 تناهى الى سمعه بأن وزير الحربية ينوي امتحان دفعة جديدة من المرشحين للأكاديمية العسكرية، فقام بزيارة اللواء إبراهيم خيري وكيل وزارة الحربية بمنزله في مغامرة خطيرة كما ذكر ناتنك، اذ كان من الممكن أن يُطرد فوراً، بيد ان هذه المغامرة قد تكللت بالنجاح، ووافق خيري على تأييد ترشيحه (13).

يرى عزيز السيد جاسم بأن قبول جمال لا يمكن أن يُعزى الى الوساطة فقط، وذلك لأن حزب الوفد كان قد هيأ المناسبة الإيجابية لقبول أبناء الفلاحين والطبقات الوسطى في الكلية الحربية، وأن وزير الحربية كان وفدياً (14).

كان جمال عسكرياً مثقفاً خلافاً لنماذج العسكريين التقليديين والعاملين في البطانات الملكية، فأمضى معظم وقته يلتهم محتويات المكتبة العسكرية، اذ لم يواصل قراءة المؤلفات العسكرية وكتب التاريخ السياسي فقط، بل أظهر اهتماماً بالغاً بمشكلات العالم العربي ودرس اللغة الإنكليزية (15).

لم تحدث ثورة يوليو 1952 في الفراغ، بل كانت حصيلة ظروف موضوعية نضجت في مصر، وقد وصل النظام الملكي لدرجة كبيرة من الهشاشة والضعف (16). فبعد أن تولى فاروق سلطاته الدستورية في يوليو 1937، بدأت مرحلة التوهج بالنسبة اليه، اذ نجح خلالها في دعم مكانته مما اسفر عن نتائج إيجابية سُجلت لصالحه. ولكنه تحوّل ابتداء من أكتوبر 1944 وهو تاريخ الإقالة الملكية الثانية للوزارة الوفدية، الى مرحلة الآخر التي جرت في روافدها مياه كثيرة غير صالحة، فاختلفت صورة فاروق ووصل الى الهاوية في 1952 (17).

أُسّست اللجنة التأسيسية لحركة الضباط الأحرار في عام 1949 ـ وهو العام الذي رجع فيه الجيش المصري جريحاً ومطعوناً بسبب الهزيمة في فلسطين (18) ـ من خمسة أفراد: جمال عبد الناصر ـ خالد محيي الدين ـ كمال الدين حسين ـ عبد المنعم رؤوف، وقد أظهر عبد الناصر حنكته السياسية في المحافظة على وشائج الصلة مع مختلف الجماعات والأطراف (19). وتوالى صدور منشورات الضباط الأحرار، وكانت معظم هذه المنشورات بقلم الضباط اليساريين كخالد محيي الدين، ومنذ أن صدرت هذه المنشورات توقفت القوى السياسية عن اصدار منشورات خاصة بها في اعلان عن نوع من الوحدة التنظيمية (20).

كانت انتخابات نادي الضباط بداية المواجهة العلنية والصريحة بين الملك والضباط الأحرار، فقد أراد الملك أن يفرض حسين سري عامر على مجلس إدارة النادي، فاجتمع الضباط وقرروا أن تُجرى الانتخابات في 3 يناير 1952، وتمت الانتخابات فعلاً وحصل محمد نجيب مُرشح الضباط الأحرار على أغلبية ساحقة من الأصوات (21). يقول نجيب:

كانت انتخابات نادي الضباط المظهر العلني لحركتنا السرية، والاختبار الديمقراطي لإرادة ضباط الجيش (22).

قام الجيش بحركته في 23 يوليو 1952، وكانت العجلة والسرعة هما الطابع السائد للحركة، وتوقعوا النجاح بنسبة 10% (23)، وقد اتفقت الروايات على أن الضابط اليساري يوسف صديق كان بطل ليلة الثورة بلا منازع (24)، ليسقط النظام الملكي كما تتساقط أوراق الخريف، وكانت ظاهرة عدم المقاومة تعني أن الحكم كان غريباً في الوطن لا أمل له ولا أصدقاء (25)، وهذه الظاهرة هي الجواب الأمثل على اندهاش فاتيكيوتس من سرعة استيلاء الضباط الأحرار على الحكم بعد ثلاث سنوات فقط من تشكيل تنظيمهم (26).

أثارت سرعة سقوط نظام فاروق التساؤل عند الكثيرين، فلم تتدخل القوات البريطانية لأن الولايات المتحدة كانت ضد هذا التدخل، وهذا ما اعطى الانطباع بأن حركة الضباط كانت قريبة من الأمريكان (27). يقول الدكتور كمال خلف الطويل:

سال حبر كثير حول صلة ثورة يوليو بالولايات المتحدة، سواء عشية الانقلاب أم غداته أم بعده بسنين، وكذا لجهة وجود هذه العلاقة قبله ثم طبيعتها خلاله وماهيتها بعده، ليغدو استجلاء وقائع ما دار في تلك الفترة ضرورةً فهمِ لحقبة مؤسّسة من تاريخ العرب الحديث رفعت عنها غشاوة اللبس وبرقع النور (28).

يرجع هذا الى كتاب مايلز كوبلاند "لعبة الأمم"، وهو ـ برأي محمد حسنين هيكل ـ حاول أن يبيع نفسه لثورة يوليو فرفضت الثورة، فأصدر كتابه وهدفه التشكيك بها (29). ونحن بدورنا لا نجد أن علاقة الضباط الأحرار بالولايات المتحدة تُعد "كشفاً جديداً"! فقد أفصح الضباط عن ذلك في كتاباتهم، يقول أنور السادات بأن اسم الولايات المتحدة آنذاك، كان يختلف بعض الشيء عن بريطانيا، وقد انعقدت صداقة حقيقية بين ضباط الثورة والسفير الأمريكي، والذي كان مخلصاً حقاً (30). ويقول أحمد حمروش بأن كوبلاند يحاول الإيحاء بأن عبد الناصر كان على اتصال بكيرميت روزفلت، لكنه لا يوجد دليل واحد على أنه قد اتصل به شخصياً قبل الحركة، ويقطع بأن الأمريكيين قد وجدوا في نشاط الضباط السري بعض ما يحقق أهدافهم في المنطقة، ولكنهم لم يستطيعوا أبداً أن يسيطروا عليه، ليخلص حمروش الى أن الضباط الأحرار لم يرتبطوا عضوياً بالأمريكان، بدليل أنهم لم تكن لديهم خطة عمل ولم يُحددوا تصوراً لحركتهم (31). ويشير الطويل الى نقطة مهمة جداً، فالإرشيف الأمريكي خالٍ من أي إشارة عن لقاء روزفلت بعبد الناصر كما زعم كوبلاند (32).

وبرأينا أن تعامل الضباط الأحرار مع الولايات المتحدة آنذاك كان "براغماتياً"، فقد اكتسبوا حياديتها تجاه خططهم للاستيلاء على السلطة (33). وها هو الصحفي السوفيتي أجاريشيف يرى بأن ضباط الثورة قد قاموا بأداء اللعبة الخطرة مع السفارة الأمريكية بمهارة لدرجة أن فشل السفير كافري في أول مرة من تأريخه، مع ان سجله حافل بالإنقلابات في أمريكا اللاتينية (34).

ترتيب الجبهة الداخلية:

هل كان اللواء محمد نجيب قائداً فعلياً للثورة؟ سؤال لا بُدّ منه قبل الخوض في النزاع بينه وبين عبد الناصر، والذي أدى الى انتصار الأخير، يقول هيكل:

لم يكن نجيب أبداً قائداً فعلياً للثورة، ومنذ 23 يوليو 1952 الى حين استقالته لم يشترك نجيب في أكثر من اجتماع أو اثنين لمجلس قيادة الثورة (35).

وقد عارض السادات تعيين قائد مُسنٍ للثورة وأبدى تخوفه الشديد من تسلّم رجل غريب لقيادتها (36). ويرى السيد جاسم بأن نجيب هو قناع الثورة الذي اختاره عبد الناصر (37). وينقل أجاريشيف نصاً في غاية الأهمية عن عبد الناصر:

أمرت أن لا يُذاع اسم أي شخص ما عدا نجيب، أردتُ أن يكون الضوء كله مسلطاً عليه، والسبب الرئيسي لإصداري هذا الأمر انني لم أكن أريد انشقاقاً في صفوف الضباط الأحرار، كنا جميعاً في الثانية والثلاثين أو الثالثة والثلاثين، وكنا كلنا متساوين في الرتب تقريباً، وكنت أعلم ان البريطانيين وأعداءنا في الداخل سيحاولون استعداء كل واحد منا على الآخر، هذا اذا ما اتحنا لهم الفرصة، ولكن اذا حكّمنا عقلنا وجعلنا رجلاً أكبر منا مثل نجيب الرئيس الأسمى فإننا سنحافظ على وحدتنا (38).

ويقول نجيب: ورغم أني كنت محسوباً من ناحية السن والرتبة على كبار الضباط، إلا أني كنت منجذباً دائماً الى صغار الضباط، أجد فيهم التوهج الذي كان يخبو في صدور أبناء جيلنا (39). ونتيجة لذلك فقد أصبح نجيب قائداً للثورة في نظر القوى الغربية وزعماء السياسة وأبناء الطبقة الاقطاعية (40).

كان لا بُدّ من الصِدَام عاجلاً أم آجلاً، فهذا هو منطق التاريخ، ويرى عودة بطرس عودة بأن نجيب لم يكن شخصاً ثورياً ولم تكن لديه أفكاراً تقدمية، بل ان الثورة كانت مفاجأة له! (41). ويذكر الدكتور عبد العظيم رمضان بأنه قد أظهر كراهية لكلمة الثورة وفضّل عليها كلمة "النهضة"، بل وأعلن محاربة كل شيء يرمي الى أي تغيير فجائي قدر المستطاع، ليقوم طه حسين بالرد عليه (42). وقد عارض نجيب "الإصلاح الزراعي"، إذ لم يُرد الطفرة، وكان في رأيه ان يتم إعادة توزيع الأرض تدريجياً بفرض ضرائب تصاعدية، ولم يُرد اثارة العداوة بين أصحاب الأرض القدامى والفلاحين المالكين الجدد للأرض (43).

تمتع نجيب بشعبية كبيرة، فقد كان رئيساً صورياً، أما الزعيم الحقيقي أي عبد الناصر فلم يتمتع بذلك بعد مرور عام على الثورة، وقد تصوّر نجيب نفسه حاكماً دستورياً لمصر، وكان يرغب بإعادة الحياة البرلمانية في أقرب فرصة ممكنة، وكان يعتقد بأن عبد الناصر ورفاقه الشُبان على درجة كبيرة من التهور وصلابة الرأي، لكنه وافق على بعض سياساتهم كالإصلاح الزراعي (44).

ظهر نجيب مُدافعاً عن الديموقراطية، في حين ظهر عبد الناصر معادياً لها، والحال أن عبد الناصر كان الوحيد في مجلس قيادة الثورة رافضاً للدكتاتورية ومتشبثاً بالديموقراطية الى الحد الذي اعلن فيه استقالته بسبب وقوف الأكثرية الى جانب الدكتاتورية السياسية (45).

السؤال الآن: هل كان نجيب يملك الحنكة اللازمة للانتصار في هذا الصراع؟ أثبت الواقع شيئاً آخر، فنجيب كان طيّباً سمِحاً، ولكنه كان ساذجاً جداً! فقد ذكر بأنه قد ارتكب خطأً جسيماً، فعندما بلغه بأن خالد محيي الدين وثروت عكاشة غير راضيين عن تصرفات عبد الناصر الذي بدأ ينفرد بنفوذه ويُشكّل قوة خاصة داخل المجلس، أحس نجيب بأن فخّاً يُنصَب له، ففجر الموقف وروى القصة كاملة في أحد اجتماعات المجلس! يقول:

وكانت صدمتي شديدة عندما تبيّنت ان ذلك لم يكن اتفاقاً مُدبراً بينهم، وأن صراحتي قد وضعت خالد وثروت في موقف حرج (46).

ولا يمكن اعفاء نجيب من بعض الأحداث التي شارك فيها، فعندما قامت حادثة كفر الدوار بعد مظاهرة احتجاج قام بها عمال شركة مصر للغزل والنسيج والبالغ عددهم عشرة آلاف عامل، والتي تصدّى لها الجيش برعونة شديدة، كانت المحاكمة سافرة في عدوانها على حقوق المتهمين، وقد صدر حكم الإعدام بحق مصطفى خميس ومحمد البقري (47). فما الذي يرويه نجيب هنا؟

يقول بأن حادث كفر الدوار قد هزّه من الأعماق، ويروي قصة حضور خميس الى مكتبه:

دخل ثابتاً وعندما رجوته أن يذكر لي عما اذا كان أحد قد حرضه لأجد مبرراً لتخفيف الحكم عليه، أجاب في شجاعة بأنه لا هيئة ولا انساناً من ورائه وأنه لم يرتكب ما يبرر الإعدام، وامتد الحوار بيننا نصف ساعة طلبت له فنجاناً من الشاي، وكنت ألح عليه كما لو كان قريباً أو أخاً عزيزاً، ولكن دون فائدة فقد كان صاحب مبدأ لم يخنه حتى في الفرصة الأخيرة لنجاته، وخرج خميس من مكتبي وقد أثقل الحزن قلبي بعد أن صدّقت على الحكم (48).

وما يستدعي الدهشة هنا، أن نجيب "الديموقراطي" قد صدّقَ على حكم الإعدام، أما عبد الناصر "الدكتاتور" فقد كان معارضاً لإعدام خميس والبقري ومعه خالد محيي الدين ويوسف صديق (49).

وقام نجيب بتوقيع قرار باعتقال 64 سياسياً دون الرجوع الى علي ماهر رئيس الوزراء (50)، ولكن الأمر الكبير والخطير هو ترقية عبد الحكيم عامر من صاغ الى لواء، فقد ثار نجيب ثورة عنيفة معارضاً هذا الاجراء، ولكنه وقّعه أخيراً، فتمت ترقية عامر الى لواء وتعيينه قائداً عاماً للقوات المسلحة، ويعترف نجيب بأن هذا كان خطأه الكبير (51).

كان نجيب من وجهة نظرنا بين خيارين، إما أن يستمر في المواجهة مع ما تتطلبه من حنكة وتأييد عسكري قوي، أو الاستقالة، ولكن أن يبقى متأرجحاً بينهما ومعتمداً على التأييد الشعبي الساحق له، والذي لن يُغني شيئاً في حسم السباق الى السلطة (52)، فهذا ما عجّل بنهايته. ولا نريد أن نقسو عليه كما قسى رمضان عندما قال بأن ايمان نجيب بالديموقراطية قد ارتد اليه شيئاً فشيئاً بعد ان تبخرت أحلامه في الزعامة (53)، أو كما ذكر كمال رفعت بأن نجيب قد حاول باستمرار تفجير الأزمات وإيصالها الى الشارع موهماً الجماهير أنه نصير للديموقراطية (54).

ولكن الحقيقة أن هذه الأزمة هي التي حددت مصير ثورة يوليو بعد ان كانت تتأرجح بين الفناء والبقاء، وقد كانت عودة الديموقراطية البورجوازية تسمح بعودة القديم (55)، فالحديث عن الدستور والانتخابات كان يعني إعادة حزب الوفد الى السلطة (56). ولم تكن أزمة مارس 1954 صراعاً بين نجيب وعبد الناصر، بل كانت صراعاً بين القديم والجديد وبين الثورة والثورة المضادة (57). ولقد جاءت محاولة الاخوان المسلمين لاغتيال عبد الناصر كنهاية لهذا الصراع الذي انتهى بعزل نجيب، وتمكن عبد الناصر من قمع اعتى خصومه، أي الاخوان المسلمين (58).

الجبهة الخارجية:

حدّدت الثورة هدفها من اليوم الأول بضرورة انسحاب القوات البريطانية من مصر انسحاباً كاملاً ليتحقق للبلاد استقلالها، وكان عبد الناصر يؤمن ايماناً كاملاً بأنه لا قِبَل لمصر على مواجهة الجيوش البريطانية في حرب نظامية، ولكن بمقدورها ان تجعل اقامتهم على فوهة بركان، وقد اتبع عدة طرق في هذه المواجهة وكانت أكثرها فاعلية واقتصاداً هي اللعب على نفسية الخصم في منطقة القناة (59). وكان الفدائيون المصريون يقومون بعملياتهم الجريئة ضد المعسكرات البريطانية، ووصلت الحالة بالقيادة البريطانية عقب اختفاء جندي بريطاني الى ان قدمت انذاراً للحكومة المصرية، وقد رفضته الأخيرة، مما دفع بريطانيا الى استئناف المفاوضات (60).

وفي 19 أكتوبر 1954 عُقد الاتفاق النهائي التفصيلي المتضمن تنظيم عملية جلاء القوات البريطانية، ويتم الجلاء في 13 يونيو 1956، ويشير عبد الرحمن الرافعي: لم يكن الجلاء متفقاً عليه في معاهدة 1936 كما زعم الواهمون (61).

يتعرض أمين هويدي لمسألة مهمة:

هذه أولى الحروب التي خاضها شعب مصر تحت قيادة عبد الناصر، والتي لا يتحدث عنها أحد على الاطلاق وتكاد ان تحجبها ستائر كثيفة من النسيان رغماً عن أهميتها وخطورتها، حرب كان هدفها تحقيق استقلال مصر الذي كان الشغل الشاغل للحركات الوطنية لمدة قرن (62).

عندما قامت الثورة كان من اهم أهدافها تقوية الجيش وتزويده بالسلاح، فاستنجدت بالغرب للحصول على الأسلحة الثقيلة، فكانت تلقى مراوغة وصدوداً وشروطاً ثقيلة لا تتفق مع كرامة البلد واستقلاله، وقد أعلنت الخارجية الأمريكية انها توزع صادراتها من السلاح بين الدول العربية وإسرائيل بالتساوي! مع انها كانت تُغدق السلاح على الأخيرة وتمنحها المعونات المالية وتمنع السلاح عن الدول العربية (63). فلم ترَ الثورة بُدّاً من التزود بالأسلحة الثقيلة من المعسكر الشرقي، فوقعت مصر في سبتمبر 1955 اتفاقاً تجارياً مع تشيكوسلوفاكيا على توريد ما طلبته مصر من السلاح بدون قيد أو شرط، فكان عقد هذه الصفقة ـ برأي الرافعي ـ دليلاً على شجاعة منقطة النظير، فقد تم عقدها والجيش البريطاني موجود على أرض مصر (64). فأصبح عبد الناصر بعد هذه الصفقة معبود الجماهير العربية كما ذكر جاك دومال، وهي بنظره صفقة تجارية هائلة (65).

ونتيجة للتقرب من المعسكر الاشتراكي، قامت الولايات المتحدة لاحقاً مُمثّلَةً بوزير خارجيتها جون فوستر دالاس بسحب عرضها بتمويل السد العالي وبوحشية (66)، فما كان من عبد الناصر الاّ الرد على إهانة دالاس بقراره التاريخي بتأميم قناة السويس(67)، والذي أعلنه في خطابه بالإسكندرية يوم 26 يوليو 1956، وجاء الدعم السوفيتي بأن القناة ملك لمصر وإن تأميمها اجراء قانوني عادي لصالح اقتصادها (68). وأدى هذا القرار الى أن قامت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بعدوان ثلاثي على مصر، مع ان هويدي يرى بأن التأميم لم يكن داعياً للحرب، ويرى أن الدول الثلاثة قد اتفقت على العدوان للقضاء على عبد الناصر، ولكن دوافعها متعددة ومختلفة (69). فبريطانيا وفرنسا كانتا تملكان معظم اسهم الشركة وامتياز ينتهي في 1968، وأوضح موشي ديان بأن من مصلحة إسرائيل المشاركة في الحرب (70).

قرر عبد الناصر مواجهة العدوان، ولكن صلاح سالم أصابه الانهيار واقترح على عبد الناصر تسليم نفسه الى السفارة البريطانية لكي يُجنّب مصر دماراً هائلاً، فأجابه عبد الناصر بأنه لا يعتقد بأن البريطانيين يريدونه شخصياً وعليه فلن يستسلم ويُفضل التضحية بنفسه (71).

قام المصريون بالدفاع عن بلدهم، ويتطرّق حمروش لمسألة مهمة جداً، فقد كان الشيوعيون المصريون من أوائل الذين بادروا للدفاع عن بور سعيد والاشتراك في المقاومة الشعبية، ولم يفرضوا سيطرتهم كما ادعى هيكل (72).

هدّد الاتحاد السوفيتي بضرب لندن وباريس بالصواريخ وبتدمير إسرائيل ان لم يتوقف العدوان، فما كان من الولايات المتحدة إلا أن تضغط على حلفائها لإيقاف الحرب (73).

آمن عبد الناصر بالقومية العربية، ويرى فاتيكيوتس بأن هذا الأمر طريق كل قائد لمصر وليس عبد الناصر وحده (74). وعندما نتطرّق الى الوحدة المصرية السورية، نجد ان عبد الناصر قد كان متحفظاً عليها كما ذكر صلاح البيطار (75)، فالجيش السوري هو الذي لعب دوراً قيادياً في الوحدة مع مصر خوفاً من تفاقم الصراعات داخل الجيش والأحزاب (76)، فقد قررت مجموعة من الضباط السوريين مستهل 1958 العمل على فرض الوحدة وطلبوا من عبد الناصر الموافقة الفورية، وكانت هذه المجموعة تضم عشرين ضابطاً من بينهم عفيف البزري وعبد الحميد السراج، فذهب الأخير مع زملائه الى القاهرة وأصروا على الوحدة حتى لو سُجنوا (77)، وقد تأسّف عبد الناصر للوفد السوري لأنه لا يقبل التعامل الا مع حكومة شرعية، وقد فوجئ الرئيس شكري القوتلي عندما علم بسفر الضباط الى القاهرة، وأدرك ان الموقف سيفلت من يده ان وقف معارضاً للوحدة، فوافق على سفر وزير الخارجية صلاح البيطار الى القاهرة. وقد وضع عبد الناصر شروطاً لإقامة الوحدة:

أن يجري اسفتاء شعبي عليها في مصر وسوريا، ويتوقف النشاط الحزبي السوري وتقوم كل الأحزاب بحل نفسها، ويتوقف تدخل الجيش في السياسة تماماً (78). تمت الموافقة وأعلن عبد الناصر والقوتلي عن الوحدة في الأول من شباط 1958 في القاهرة (79).

حصلت الوحدة مع سوريا بسبب الشعبية الهائلة لعبد الناصر، وقد قال عبد الناصر للصحفي الفرنسي بنوا ميشان عندما سأله عن الوحدة: أنا لستُ فاتحاً، أنا كما تقولون بالفرنسية "مغناطيس" (80).

رفضت القوى الغربية بطبيعة الحال الوحدة، وقد أفصحت وثيقة بريطانية على القبول بها ثم العمل على تخريبها، ورأى دالاس بأن الوحدة خطر على مصالح الولايات المتحدة وأنها ستُدعم أي مبادرة عربية ضدها (81). أما الحزب الشيوعي السوري فقد أيّد الوحدة مع مصر، بل ان خالد بكداش قد صَرّحَ بأن: تحليل الوضع في العالم العربي على أساس الماركسية اللينينية يؤدي حتماً الى اعتناق الوحدة العربية (82)، ولكنه رفض حَلّ الحزب أثناء الوحدة (83)، وهذا ما أدى الى مشاكل تعرّضَ فيها الشيوعيون لضربات كبيرة أبرزها مقتل المناضل فرج الله الحلو، ويصفه بكداش بالرفيق الممتاز جداً، الهادىء الدؤوب الشجاع، والذي اعتُقل وعُذّب، ثم ذُوّبَ جسده بالأسيد (84). ويرى حمروش بأن مقتل الحلو من أشد جرائم رجال السراج وزير داخلية الإقليم السوري (85)، وقد أدلى السراج برأيه فقال:

كان الحلو معروفاً بإصابته القلبية ولم نقصد قتله، ما حدث ان الخشونة البدنية التي واجهها كانت كافية لوفاته، وعندما علمت بتذويب جسده قدّمت استقالتي فوراً لعبد الناصر (86). وقد أدلى معاون السراج عبد الوهاب الخطيب بشهادته فقال: لا علم لعبد الناصر بما جرى للحلو، ولا علم للسرّاج أيضاً (87).

ولكن رغم كل هذا نجد بكداش يقول:

على الرغم من الذي عاناه حزبنا أيام الوحدة فإننا نعطي عبد الناصر حقه، فعندما علمت بموته عام 1970 قلت: لَه يا أبا خالد، ليس وقت موتك الآن (88).

انتهت تجربة الوحدة في سبتمبر 1961، فكانت أول هزيمة سياسية لعبد الناصر بعد سنوات صعود خارقة (89)، وقد اعترف عبد الناصر بعدها بأن حَلّ الأحزاب السورية على اختلاف مشاربها كان قراراً خاطئاً (90).

عندما قامت ثورة 14 تموز 1958 في العراق، كان عبد الناصر داعماً لها وبشدة، فعندما سمع بها كان في زيارة ليوغوسلافيا، فقطع زيارته وتوجه سراً الى موسكو للتعرف على موقفها، ورفض النزول في بغداد لأنه يوم للعراقيين وحدهم، وفي دمشق أعلن بأن أي عدوان على العراق يُعتبر عدواناً على الجمهورية العربية المتحدة (91). ولكن الموقف تغيّر بعد الخلاف بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، ليلتزم عبد الناصر جانب عارف والقوميين، مع انه قد نصح العراقيين بعدم التسرع بالوحدة (92)، ولكن القوميين والبعثيين في العراق أثبتوا أنهم ملكيين أكثر من الملك، وهذا ما قاد الى الانقلاب الدموي في 1963، وهو موقف لا نغفره لعبد الناصر. وكان قرار نفض اليد من الزعيم قاسم بعد 1960 غير حكيم كما أشار الطويل (93).

وعندما قامت الثورة في اليمن عام 1962 ضد حكم الامامة الرجعي، وقفت السعودية موقفاً عدائياً منها، وأمدت النظام المهزوم بالمال والسلاح لمقاومة الثورة الوليدة، فما كان من النظام الثوري الا أن يطلب مساعدة مصر، فوافقت القاهرة على مساعدة محدودة بما ينسجم مع فكرة القومية العربية، ولكن عندما تزايد التدخل الأجنبي من السعودية والولايات المتحدة وبريطانيا، قامت مصر بمضاعفة قواتها (94)، وهذا ما أدى الى استنزاف قوتها في المستنقع اليمني. ولكن حمروش يرى بأن رفض مصر معاونة ثورة اليمن أمراً غير مقبول ولا وارد سياسياً، فقد فزعت الامبريالية من ظهور عبد الناصر في الجزيرة العربية ليُطوق النظام السعودي، وأن القول بأن ثورة اليمن قد كبّدت مصر خسائر اقتصادية كبيرة هو قول فيه مبالغة كبيرة، وأن ملحمة القوات المصرية في اليمن من اعظم امجاد ثورة يوليو (95). وفي إشارة دقيقة لهويدي، أن البعض يتحدث عن تدخل مصر في اليمن ولا يتحدث اطلاقاً عن التدخل السعودي! مع الفارق الكبير بينهما (96).

تلقّى عبد الناصر ضربة هائلة في 5 حزيران 1967 عندما قامت القوات الإسرائيلية بقيادة موردخاي هود بهجوم على القوة الجوية المصرية نتج عنه تدمير 309 طائرة من أصل 340 (97)، وقد أدى موشي ديان وزير الدفاع دوراً كبيراً في هذا الانتصار (98). وقد كانت لعبد الناصر الشجاعة على تحمّل المسؤولية أمام الناس (99)، فأعلن مساء 9 يوليو تخليه عن الرئاسة لزكريا محيي الدين، ولكن خرجت المظاهرات رافضة لهذا الاجراء ومطالبة ببقائه في السلطة (100)، وعليه فلم تستطع الهزيمة رغم فداحتها من ان تقتلع عبد الناصر من مكانه أو تهدم نظامه (101). وقد أثار هذا الانتصار الإسرائيلي الساحق استفهاماً في محله:

هل من الممكن أن تنجح إسرائيل بعيداً عن الدعم الأمريكي؟ إذ يورد هيكل بأن طائرات أمريكية تحلّق في الأجواء المصرية أثناء معارك سيناء (102)، بينما يرى وليم كوانت بأنه لا وجود لتواطؤ أمريكي إسرائيلي في هذه المعركة (103).

أطلق عبد الناصر بعد هذه الهزيمة الكبيرة حرب الاستنزاف ضد إسرائيل بمساعدة سوفيتية عظيمة (104)، وقد استمرت الى عام 1970 بقبوله مبادرة روجرز والتي كانت دفناً لجزء كبير من تاريخه بحسب السيد جاسم (105)، مع اننا نرى ضرورة أخذ الظروف المحيطة به قبل أن نحكم على خطوته، إذ يرى أجاريشيف بأن قبول المشروع كان ضرورة حتمية لالتقاط الأنفاس (106). ليرحل عبد الناصر في خريف العمر 52 عام كمقاتل في اشد اللحظات التاريخية توتراً ومأساوية (107)، رحل ولم يترك شيئاً من الممتلكات والأموال، فقد كان عازفاً عن حياة الترف والبذخ، بل ويزدري هذا النمط من العيش (108).

حقّق عبد الناصر إنجازات كبيرة في الزراعة والصناعة والتعليم (109)، ولكنه لم يحقق أي تقدم في المجال السياسي (110)، وهناك من يرى انتماء عبد الناصر الى الخط الذي يعطي الأولوية لمشكلة التحرر قبل مشكلة الديموقراطية (111). واللافت للنظر هنا أن الشيوعيين المصريين قد تمسكوا بالناصرية ودافعوا عنها بعد رحيل قائدها (112) رغم الضربات العنيفة التي تلقوها منه، ورغم أنه قد اعلن عن السير في الطريق الاشتراكي ولكن بغياب الاشتراكيين الحقيقيين في عملية مستحيلة (113). وهذا يعني بأن الشيوعيين يُقدّمون العامل الموضوعي على العامل الذاتي في سلوك نادر.

النتيجة التي ننتهي اليها بعد هذه الجولة البحثية:

كان عبد الناصر علامة عربية فارقة في القرن العشرين، إذ كان بطلاً قومياً فجّر ثورة عظيمة في المنطقة، وحارب الامبريالية وكيانها الذي زرعته في قلب الأمة العربية بعزم لا يلين، ولكنه ارتكب أخطاء كثيرة، وهو أمر وارد بمقياس البشر، نقول بهذا بعيداً عن التبرير، فهو عظيم المجد والأخطاء كما ذكر الجواهري الكبير.

***

معاذ محمد رمضان "باحث تأريخي"

......................

الهوامش:

1ـ فاتيكيوتس: جمال عبد الناصر وجيله، ترجمة: أحمد نبيل اللهيب، ط1 مصر مدارات للأبحاث والنشر 2025 ص21

2ـ لويس عوض: أقنعة الناصرية السبعة، ط1 مصر مركز المحروسة 2014 ص8

3ـ أجاريشيف: جمال عبد الناصر، ترجمة: سامي عمارة، موسكو دار التقدم 1983 ص4 و5

4ـ عزيز السيد جاسم: مقتل جمال عبد الناصر، ط1 بغداد دار آفاق عربية 1985 ص10

5ـ جاك دومال وماري لوروا: جمال عبد الناصر، ترجمة: ريمون نشاطي، تقديم: كمال جنبلاط، ط5 بيروت دار الآداب 1979 ص46 و47

6ـ أجاريشيف ص9

7ـ فاتيكيوتس ص30

8ـ انتوني ناتنك: ناصر، ترجمة: شاكر إبراهيم سعيد، ط1 بيروت القاهرة، مكتبة الهلال ومكتبة مدبولي 1958 ص37

9ـ ناتنك ص30

10ـ فاتيكيوتس ص36 و37

11ـ مارلين نصر: التصور القومي العربي في فكر جمال عبد الناصر 1952 ـ 1970 دراسة في علم المفردات والدلالة، ط2 القاهرة دار المستقبل العربي 1983 ص96

12ـ اجاريشيف ص16 و17

13ـ ناتنك ص39

14ـ جاسم ص24

15ـ جاسم ص25، ناتنك ص39

16ـ محمد حسنين هيكل: سقوط نظام! ط3 مصر دار الشروق 2008

17ـ لطفية محمد سالم: فاروق الأول وعرش مصر 1920 ـ 1965، ط2 مصر دار الشروق 2007 ص43 و133

18ـ أحمد حمروش: مصر والعسكريون ج1، بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1974 ص145

19ـ فاتيكيوتس ص140 و141

20ـ حمروش ج1 ص147 و148

21ـ حمروش ص165

22ـ محمد نجيب: كلمتي للتاريخ، ط3 مصر المكتب المصري الحديث 2011 ص25

23ـ حمروش ج1 ص197

24ـ محمد توفيق الأزهري: البكباشي يوسف صديق منقذ ثورة يوليو، تحقيق وتقديم: محمود توفيق ط1 القاهرة مكتبة مدبولي 2000 ص48

25ـ ثورة 23 يوليو 1952 القصة الكاملة بأقلام الضباط الأحرار، اعداد: ناصر جرجيس ط1 بغداد المكتبة العالمية 1985 ص47

26ـ فاتيكيوتس ص146

27ـ فؤاد مطر: بصراحة عن عبد الناصر، ط4 دار القضايا ص52

28ـ كمال خلف الطويل: عبد الناصر كما حكم ج1، ط1 بيروت مركز دراسات الوحدة العربية 2024 ص49

29ـ مطر ص53

30ـ أنور السادات: ياولدي هذا عمك جمال، مكتبة العرفان ص67 و69

31ـ حمروش ج1 ص187 و188

32ـ الطويل ج1 ص50

33ـ فاتيكيوتس ص145

34ـ اجاريشيف ص78 و79

35ـ مطر ص41

36ـ السادات ص50

37ـ جاسم ص117

38ـ اجاريشيف ص73

39ـ نجيب ص20

40ـ عودة بطرس عودة: عبد الناصر والاستعمار العالمي ط1 بيروت مطابع الكفاح 1975 ص43

41ـ عودة ص44

42ـ عبد العظيم رمضان: عبد الناصر وأزمة مارس، مكتبة روز اليوسف ص13

43ـ نجيب ص128

44ـ ناتنك ص85 و86

45ـ جاسم ص117

46ـ نجيب ص73 و74

47ـ حمروش ج1 ص286 و287

48ـ نجيب ص52 و53

49ـ حمروش ج1 ص288، رمضان ص81

50ـ نجيب ص56

51ـ نجيب ص76 و77 و78

52ـ فاتيكيوتس ص185

53ـ رمضان ص164

54ـ أحمد حمروش: شهود ثورة يوليو ج4، ط1 بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1977 ص323

55ـ رمضان ص5 و99

56ـ أنور عبد الملك: المجتمع المصري والجيش 1952 ـ 1967، ط1 مصر مركز المحروسة 1998 ص145

57ـ حمروش ج4 ص321

58ـ فاتيكيوتس ص190

59ـ أمين هويدي: حروب عبد الناصر، ط2 بيروت دار الطليعة 1979 ص18 و32

60ـ هويدي ص37

61ـ عبد الرحمن الرافعي: ثورة 23 يوليو 1952 / تاريخنا القومي في سبع سنوات 1952 ـ 1959، القاهرة مكتبة الأسرة 2017 ص219 و224 و228

62ـ هويدي ص42 و43

63ـ الرافعي ص197

64ـ الرافعي ص198 و202

65ـ دومال ص98

66ـ دومال ص99، محمد حسنين هيكل: ملفات السويس، ط1 القاهرة مركز الأهرام 1986 ص450، محمد حسنين هيكل: عبد الناصر والعالم، بيروت دار النهار 1972 ص103

67ـ هيكل: عبد الناصر والعالم ص104

68ـ هيكل: ملفات السويس ص464 و468

69ـ هويدي ص52 و53 و54

70ـ آيات ربيع جابر اللامي: موشي ديان ودوره العسكري والسياسي في إسرائيل 1959 ـ 1980، رسالة ماجستير غير منشورة كلية التربية جامعة كربلاء 2022 ص39

71ـ هيكل: عبد الناصر والعالم ص163 و164 أما ناتنك فيضع عبد الحكيم عامر معه في هذا الاقتراح ص203 وقد أدرك صلاح سالم خطأه بعدها وحارب، والمثير أن عبد الناصر لم يعاقبه، بخلاف صدام حسين الذي قام بإعدام وزير الصحة الدكتور رياض إبراهيم لأنه اقترح ان يتنازل صدام عن الرئاسة لأحمد حسن البكر في عام 1982، يُنظر:

ماريون فاروق سلوغلت وبيتر سلوغلت: من الثورة الى الدكتاتورية ـ العراق منذ 1958، ترجمة: مالك النبراسي، العراق منشورات الجمل 2003 ص345

72ـ أحمد حمروش: مجتمع جمال عبد الناصر ج2، بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1975 ص116

73ـ ناصر زيدان: دور روسيا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ط2 بيروت الدار العربية للعلوم ناشرون 2013 ص116

74ـ فاتيكيوتس ص331

75ـ أحمد حمروش: عبد الناصر والعرب ج3 القاهرة مكتبة مدبولي ص47

76ـ الوحدة المصرية السورية 1958 في الوثائق السرية البريطانية، تحقيق واعداد وترجمة: وليد محمد الأعظمي، بغداد المكتبة العالمية 1990 ص6

77ـ ناتنك ص252 و255

78ـ محمد حسنين هيكل: سنوات الغليان، ط1 القاهرة دار الشروق 2004 ص316 و319

79ـ الوحدة ص7

80ـ حمروش ج3 ص50

81ـ الوحدة ص26 و27

82ـ الوحدة ص16، حمروش ج3 ص53

83ـ خالد بكداش يتحدث، اعداد وحوار: عماد ندّاف، دمشق 1993 ص37

84ـ بكداش ص38

85ـ حمروش ج3 ص73

86ـ الطويل ج2 ص752

87ـ الطويل ص754

88ـ بكداش ص38

89ـ أحمد حمروش: خريف عبد الناصر ج5، ط1 بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1978 ص56

90ـ حمروش ج3 ص122

91ـ ليث الزبيدي: ثورة 14 تموز في العراق، ط2 بغداد اليقظة العربية 1981 ص207 و208

92ـ هيكل: سنوات الغليان ص393

93ـ الطويل ج1 ص46

94ـ هويدي ص123 الى 130

95ـ حمروش ج3 ص266 الى 269

96ـ هويدي ص127

97ـ حاييم هرزوج: الحرب العربية الإسرائيلية 1948 ـ 1982، ترجمة: بدر الرفاعي، ط1 القاهرة سينا للنشر 1993 ص178

98ـ اللامي ص101

99ـ محمد حسنين هيكل: الانفجار 1967، ط2 القاهرة دار الشروق 2010 ص10

100ـ ناتنك ص477 و479

101ـ حمروش ج5 ص176

102ـ هيكل: الانفجار ص810

103ـ وليم كوانت: عملية السلام ـ الدبلوماسية الأمريكية والنزاع العربي الإسرائيلي منذ 1967، ط1 القاهرة مركز الأهرام 1994 ص63

104ـ يوسف صايغ وآخرون: حرب الاستنزاف، دراسات 5، بيروت دار القدس

105ـ جاسم ص246

106ـ اجاريشيف ص174

107ـ حمروش ج5 ص7

108ـ فاتيكيوتس ص424

109ـ حمروش ج5 ص384

110ـ ناتنك ص530

111ـ عصمت سيف الدولة: هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً؟ ط1 بيروت دار المسيرة 1977 ص73

112ـ جاسم ص186

113ـ عبد الملك ص38

من الصدف النادرة التي أضفت رمزية على تموز بأن تكون ولادة ووفاة الشاعر محمد مهدي الجواهري في هذا الشهر، وُلد في مدينة النجف الأشرف في السادس والعشرين من تموز عام 1899، وتوفي في دمشق في السابع والعشرين من تموز عام 1997، ليغلق حياته بعد نحو قرن من الإبداع والنضال الشعري.

يُعد الجواهري من أبرز رموز الشعر العربي المعاصر، وأحد أعمدة الأدب في العراق والعالم العربي، لُقب بـ "شاعر العرب الأكبر"، وهي مكانة كبيرة جاءت نتيجة تراكم إبداعي هائل، وموهبة فذة، ورؤية فكرية وإنسانية متقدمة. امتلك ناصية اللغة العربية وتمكن من أدوات الشعر الكلاسيكي حتى صار شعره امتداداً طبيعياً لتراث كبار الشعراء من أمثال المتنبي والمعري وأبي تمام وغيرهم من فحول الشعراء، لكنه امتاز عنهم بأنه طبع هذا التراث بطابع العصر، وجعله منبراً لقضايا الإنسان والوطن.

يرى الأديب حسين مروة، أن الجواهري ينتزع مكانه انتزاعاً خارج سربه في تلك السلسلة المخضرمة، لنراه في مكان الطليعة بين كبار أدبائنا المعاصرين ويرتفع شعره من حيث القيمة الفنية الجمالية إلى مستوى الوعي الناضج الذي يدرك هدفه بدقة.

اتخذ الجواهري مواقف وطنية جريئة ومعارضة للحكم الملكي في العراق، كان صريحاً في نقده اللاذع للفساد السياسي والاجتماعي والاستبداد الذي شاع في عهد النظام الملكي. هاجم الطبقة الحاكمة التي كانت تنهب خيرات العراق بينما يعاني الشعب من الفقر والظلم، وقد عبّر عن تلك المواقف الجريئة بوضوح في شعره، عكس مشاعر الحزن والأسى لدى الناس لما آل إليه حال العراق في ظل الحكم الملكي قائلاً:

يا دجلة الخير! يا أم البساتينِ      ما لي أراكِ كأنكِ لا تسرّينِ

رغم المكانة الرفيعة التي حظي بها الجواهري خلال حقبة العهد الملكي لكنه انحاز إلى صفوف العمال والفلاحين والكادحين، منتقداً هيمنة الاقطاع وأصحاب النفوذ على مقدّرات البلاد، رافضاً التبعية للاستعمار البريطاني. له مواقف مشرفة من قضايا الشعب الوطنية، على سبيل المثال وثبة كانون 1948، التي سقط خلالها شهداء، منهم شقيقه جعفر، الذي رثاه بقصيدته الشهيرة التي أصبحت رمزاً للمقاومة الشعبية:

أتعلمُ أم أنتَ لا تعلمُ       بأنّ جراحَ الضحايا فمُ

وبسبب مواقفه المتشنجة تعرض للمضايقات، وأُجبر على ترك العراق مرات عديدة، لا سيما في عهد نوري السعيد، بعد أن خضع شعره للرقابة، لكنه لم يتراجع عن التعبير عن قناعاته، واستمر في مساعيه الوطنية في بث وتشكيل الوعي السياسي والثقافي لدى الجماهير في مواجهة الاستبداد الملكي بحيث أصبحت قصائده تُلقى في المظاهرات والمناسبات الوطنية.1709 jawahry

وفي الخمسينات من القرن الماضي مرَّ العراق بظروف صعبة وخطرة على سياسة البلد ومستقبله، فقد أسكت نوري السعيد السياسيين والكُتاب والمواطنين بإجراءات تعسفية لم يسبق لها مثيل، وتحول العراق إلى‏ سجن كبير، واشتد الظلم، وانتشر الفقر، فركز الجواهري على أحوال العراق الاقتصادية، والحالة المزرية التي يعيشها الفقراء، داعياً باسلوبه الساخر الجموع الجائعة والمضطهدة الإقلاع عن حالة الاسترخاء التي تغريهم بها الفئات الحاكمة:

نـامي  جـيــاعَ الـشَّــعـبِ  نـامي     حـرسَـــتْـكِ  آلـِـهــــةُ الـطَّـعـامِ

نـامي  فــانْ  لـــم  تـشـبَــعـي      مِـن  يَـقْـظَــةٍ   فــمِـنَ  الـمـنـام

نـامي  عـلى  زُبـــــد الوعـود     يُــدافُ  في  عَســــلِ  الـكـلام

كانت قصائده منصة للنضال السياسي والاجتماعي، واجه بها الاستعمار، وندد بالظلم، ودافع عن الحرية والعدالة. عاش معظم حياته في خضم تحولات العراق الكبرى، في العهدين الملكي والجمهوري، فكان شاهداً وفاعلاً في أحداثها، من خلال قوة وتأثير الكلمة الشعرية التي زلزلت المنابر وحركت مشاعر الناس في ميادين النضال.

وبعد ثورة 14 تموز 1958، شهد العراق حراكاً فكرياً وسياسياً واسعاً، وكانت النخبة المثقفة، لا سيما الأدباء، تطمح لتأسيس كيان يمثل صوتهم ويدافع عن حقوقهم المهنية والثقافية. فبرزت الحاجة لتأسيس كيان أدبي يمثل تطلعات الأدباء، ويعيد الاعتبار لدور المثقف في بناء الدولة الجديدة، هنا برز دور الجواهري، أحد أبرز الوجوه الثقافية والشعرية التي امتلكت ليس فقط الحضور الأدبي، بل أيضاً النفوذ الرمزي والشخصية القيادية القادرة على توحيد الصف، فبادر إلى الدعوة لعقد مؤتمر موسع للأدباء في بغداد ليكون أداة للنضال الثقافي المساهم في تنوير المجتمع.

ترأس الجواهري المؤتمر التأسيسي الأول لاتحاد الأدباء العراقيين، الذي ضم أدباء من مختلف التوجهات الفكرية والسياسية، وتمخض عنه تأسيس الاتحاد عام 1959، كأول منظمة ثقافية أدبية عراقية تجمع الشعراء والروائيين والنقاد تحت مظلة واحدة. أصبح الجواهري أول رئيس لاتحاد الأدباء العراقيين، هذه المكانة شغلها بكفاءة وشجاعة، مستنداً إلى رمزيته وشعبيته، ووقوفه إلى جانب قضايا الأدباء في الحقوق وحرية التعبير ضد القمع السياسي والدفاع عن الكلمة الحرة وتفعيل النشاطات الأدبية والثقافية وتمثيل العراق في المحافل الأدبية العربية والدولية.

كان الجواهري من أبرز المؤيدين للثورة، وقد رحّب بها بحرارة، لأنها مثّلت، من وجهة نظره، خلاصاً من الاستبداد الملكي والطبقي، وفتحت آفاقاً جديدة لحكم وطني يتطلع إلى العدالة الاجتماعية. وكان موقفه من الزعيم عبد الكريم قاسم يتراوح بين التأييد الحذر في البداية، ثم التوتر والاختلاف لاحقاً. كتب في تلك الفترة قصائد تمجّد الثورة، وألقى في مناسباتها قصائد ملحمية أمام الجماهير المحتشدة، وكان يُنظر إليه حينها كأحد أبرز الأصوات التي أعطت للثورة شرعية أدبية وشعبية.

كانت علاقته مع الزعيم عبد الكريم ودية ومحترمة، وقد كرّمه بمنصب رسمي بتولي رئاسة اتحاد الأدباء العراقيين، وأسّس جريدة "الرأي العام"، التي كانت تعبّر عن أفكاره الحرة. ورغم هذا التقارب، بدأ الجواهري يعبّر عن تحفّظه وانتقاداته للسياسة العامة في العراق، لا سيما بما يتعلق بالتضييق على الحريات، وتراجع بعض مكتسبات الثورة، وازدياد النزعة الفردية في الحكم.

ونتيجة لتصاعدة نبرة انتقاداته، وتوتر علاقته مع السلطة، غادر العراق عام 1961 إلى براغ، حيث عاش سنوات طويلة في المنفى. لم يكن الجواهري من خصوم عبد الكريم قاسم الأيديولوجيين، لكنه عبّر عن خيبة أمل كبيرة من الصراعات السياسية، وتراجع الحريات، ما جعله يعارض السلطة من موقع المثقف الوطني، لا من موقع الخصومة السياسية.

هناك تساؤل مشروع يدور في أذهان الكثير من الناس، هل الجواهري شاعر مناسبات؟ تطالعنا الحقائق التاريخية بأن أكثر الوقائع تشير بأنه كان يبحث عن المناسبة ليقول ما في مخيلته، ولذلك كان شعره يأتي متفجراً، وكأنه قد تهيأ لها منذ زمن طويل، فالمناسبة منطلق ليس أكثر، وقد ينسى المرثي أو الممدوح أو المكرم، وقد يقول فيهم ما لا يرغبون فيه، وقد يصل الأمر إلى حدّ التعارض، وفي كل الحالات يبقى الامر واحداً لدى الشاعر، لقد قال ما يريد، وليأت بعد ذلك الطوفان.

يرى الأديب زهير الجزائري بأن هناك سؤالاً يفرض نفسه، مَنْ هو الجواهري في مواجهة السلطة؟ أهو الذي كتب أكثر من (48) قصيدة في مديح الحكام، تسع منها في مدح الملك فيصل الأول، أم هو الذي وقف وسط جمهور الوثبة ليحرضهم على تقحم رصاص الحاكمين لـ (يغري الوليد بشتمهم والحاجبا)، وهو الذي عاش أكثر من نصف عمره الإبداعي في المنفى بسبب موقفه من الحكام ملكياً كان أم جمهورياً ؟ إن الأمر أكثر تعقيداً من وضع الجواهري في واحدة من الخانتين: مداح الحاكمين أم محرض عليهم؟.

تفرد وتميز الجواهري عن غيره من الشعراء بعدة خصائص جعلته علماً بارزاً، حافظ على البنية العمودية التقليدية للشعر العربي، لكنه ضخ فيها دماء جديدة من حيث الموسيقى والإيقاع، امتاز شعره بقوة الاسلوب وجزالة الألفاظ، وُصف بأنه "آخر فرسان القافية العربية".

امتاز شعره بصدق التجربة، كانت قصائده انعكاساً مباشراً لما يعيشه ويشعر به من الغربة والمنفى إلى الحنين للأرض. كتب أكثر من سبعين عاماً، ونُشر له عدداً من الدواوين والمقالات، حتى جمع شعره في ديوان ضخم من عدة مجلدات، وكان حتى سنواته الأخيرة قادراً على نظم الشعر بقوة وبلاغة لافتة.

يبقى الجواهري شاهداً حياً على قدرة الشعر العربي على التعبير عن أشد اللحظات تعقيداً في التاريخ، وعلى تماهي الكلمة مع الموقف، وقد أطلقت مؤسسات ثقافية عراقية وعربية اسمه على مراكز أدبية وجوائز شعرية، تخليداً لإرثه الكبير. وفي كل تموز تمرّ ذكراه حاملةً عبق الكلمات التي صاغها، والقصائد التي أنشدها في المحافل الكبرى، ليبقى صوته خالداً في ذاكرة الثقافية العراقية والعربية، وشخصية تفخر بها الأجيال.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

ثمة منعطفات ومحطات مهمة في حياة رشدي العامل لم تعد خفية أو مجهولة لدى الناقد الأدبي والمتابع لآثاره الإبداعية، أو سيرته الشخصية. إلا انها جميعا تستحق التوقف والدراسة، منها اختياره الواعي للعمل في الصحافة، بناءً على انخراطه في العمل السياسي منذ سنوات شبابه الأولى، وجد في الصحافة الفضاء الأوسع للكشف عن موهبته المبكرة في الكتابة السياسية والتعبير عن أفكاره التي تبناها بدراية العارف، فتوثقت صلته بقرائه ومتابعيه على صفحات الجرائد الوطنية (الأهالي، الراي العام) ومن ثم مجلة 14 تموز، والأديب العراقي، وصحف اليسار في مراحل لاحقة.

اكتست تجربة رشدي الصحفية بوضوح الرؤية وصدق المضمون وصلابة الموقف في خضم المعترك السياسي والثقافي، فأضحى علامة مميزة في حركة الشعر العراقي الحديث، ورائداً مبدعاً في كتابة القصيدة الغنائية الجديدة، ومناضلاً باسلاً في مواجهة التسلط والقمع وممارسات الديكتاتورية بأساليبها كافة.

ذاك هو عالم رشدي العامل الفسيح الذي أطل من خلاله كشاعر وكاتب سياسي لامع، يكتب العمود اليومي محللاً للأحداث السياسية اليومية، ومتابعاً ومراقباً حاذقاً لها، بنظره الثاقب الممتلئ بحس إنساني، تعززه لغة أدبية رشيقة في التعبير الصادق عن الموضوع، والقدرة على الكشف والادهاش.

العامل يكتب بلغة العارف بسر الكلمات، المحترف، المرتكز على أرضية فكرية راسخة، منحته القدرة على فهم حركة التاريخ بنظرة جدلية كانت تستوعب معطيات العصر ولغته آنذاك، كانت تلك عدّته وأدواته التي مكّنته من الوقوف في المقدّمة دائماً.

عرفت رشدي العامل* شاعراً منذ عام 1959، بعد أن قرأت له بعض القصائد التي ينشرها في الصحافة العراقية حينذاك، عام 1970 كان نقطة التحول في العلاقة مع رشدي، إذ جمعنا مبنى جريدة (الفكر الجديد) الأسبوعية، ومن ثم جريدة (طريق الشعب) اليومية. كان وجود (أبو علي) في مبنى الجريدة بيننا عاملاً في إشاعة أجواء المحبّة بين العاملين فيها، لحيوية وحماس يتميز بهما، وأريحية لا يجيدها غيره، ومشاكسة يواجه بها خصومه عند الحاجة، لا ينافسه في الموهبة سوى الكاتب "شمران الياسري"، حين يتباريان في تخطي المحذور والخطوط الحمر التي يفرضها "الحزب الحليف"!

كان من الطبيعي أن يخوض رشدي غمار هذه التجاذبات السياسية والفكرية، غالباً ما يعبّر عنها في الحوار والنقاش والجدل خارج صفحات الجريدة، مؤمناً وملتزماً بنهجه الفكري، ومتبنياته السياسة وقناعاته الخاصة التي عبّر في أوراقه الخاصة بالقول:

"أستطيع أن أسجل بكل ثقة ان اختياراتي ظلت دائماً تتميز بنوع من الوضوح والقناعة والوعي، إن النار البطيئة، النار الهادئة تنضج الطعام بشكل أفضل.

لقد حرصت فيما بعد، وأنا أقوم بدوري داعية من دواعي الفكر التقدمي، على مساعدة الناس الذين ألتقيهم، بحكم عملي السياسي، أو المهني."

شغل رشدي مسؤولية الشؤون العربية والدولية في "طريق الشعب"، هذا الرجل الطافح بالشعر، على الرغم من انصرافه لعمله المهني، يظل يراقب عن قرب، بعينين لامعتين ما يفعله زملاؤه في صفحة "ثقافة" الحافلة بما هو جديد في الأدب والمعرفة.

العمود الأول من الصفحة الثانية يذيل بتوقيع (أبو علي)، هو ميدانه الحقيقي وفارسه الأول، كان محاطاً بجيل من الصحفيين : إبراهيم الحريري، فالح عبد الجبار، منعم الأعسم، يحيى علوان، صادق البلادي، مصطفى عبود، عدنان حسين، هؤلاء وغيرهم نهلوا من خبرته وتجربته الإبداعية، البعض دخل الجريدة من باب (الأدب) ثم انصرفوا للشأن السياسي.

خاض رشدي العامل تحدياً مهنياً صعباً، إذ كان يراهن بذكائه الصحفي، وموهبته المتفردة، أن يوظف خبرات هذه الجمهرة من الأدباء لصالح الكتابة السياسية، وتحليل الحدث، بلغة جميلة ورشيقة، وعبارة رصينة، ورؤية واضحة، نجحت التجربة بولادة جيل آخر من كتّاب السياسة، نضجت بمرور الأيام والسنين، وتمكنت تلك الأسماء أن تجد موقعها الفكري والمهني بجدارة، يشار للبعض ككتاب من الطراز المتقدم.

كان لدى العامل شعور بالغبطة والانتشاء وهو يوزع محبته على زملاء المهنة، كان أقرب إلى صحبة الشباب منهم، على الدوام يجد نفسه بينهم، لأنه يمتلك عنفوانهم وتمردهم، وتطلعهم للحداثة والتجديد، ورشدي يمتلك المهارة أن يحتوي هذه المجاميع من دون استثناء. في صبواته وخلجاته يجد ندمائه في هؤلاء، يعيش فرحاً غامراً بوجوده معهم.

تجتمع فيه نقائض متعددة: الضحك والبكاء، القوة والضعف، الصمت والإشهار، الحزن والفرح، الغضب والحلم، حتى غضبه كان ليناً ولذيذاً، لا يترك مجالاً للغصّة أو الجفاء، كل شيء لديه هيّن وسهل، ينتهي بضحكة مجلجلة يتفرد بها، تكشف عن أسنان نخرها النيكوتين بوقت مبكر أو تهدّم بعضها وهو في عمر الشباب.

تابع رشدي العامل أحداثاً ساخنة وقعت في سبعينات القرن الماضي، كتب عنها بعناية واهتمام لا مثيل لهما، أثبت من خلالها مهاراته العالية في رصدها، واستشراف نتائجها، أخص بالذكر: الانقلاب العسكري في تشيلي، الانقلاب الدموي في السودان، الصراع السياسي في البرتغال، عمليات تصفية المقاومة الفلسطينية في لبنان والدور التأمري للنظام السوري فيها، التحولات الفكرية في الأحزاب الشيوعية الأوربية، الانتخابات الرئاسية في فرنسا، تداعيات إلغاء اتفاقية الجزائر عام 1975.

من أين لرشدي كل هذه المواهب؟ وهو الذي يقول: ليس هناك أي بديل عن الشعر. انه النافذة الوحيدة، وهو طريق النجاة الممكن من الجنون.

عن هذا التساؤل يجيب رشدي: ستظل مهمتي الأولى هي الكتابة، والكتابة نوع من الثرثرة الثمينة التي لا يجيدها كل الناس، هل يجيدها الشعراء إذن؟

كنا نتطلع إليه، ننتظره بلهفة في مطبعة الرواد، نحن العاملين في القسم الفني للجريدة، حيث المراحل الأخيرة في صدور الجريدة لليوم التالي. يبدأ رشدي شوطاً جديداً من العمل حتى ساعات متأخرة من الليل.

يتحول الليل إلى عمل ومن ثم غناء، ننصرف بعد كل ساعات السهر والعناء، نجوب شوارع بغداد، نلقي متاعبنا في جمعية التشكيليين، أو نادي التعارف، نستريح عند (أبو يونان)، او عند توفيق الخياط (ابو ندى)،وعلى بعد خطوات منه نروي عطشنا بـ (الدرافت) الجديد.

وبغداد لا تنام، إنها كائن له ما للكائن الحي من عروق وعيون ووجه وجدائل، له أيضاً ما للكائن الحي من ميلاد وطفولة وشباب وكهولة، غير انها تختلف عن الكائنات الحيّة أنها لا تموت.

في الهزيع الأخير من الليل ينحدر رشدي هادئاً وواثقاً إلى بوابة (حديقة أبو علي) من دون أن يخفي مخاوفاً وقلقاً كنا نرقبه في عينيه اللتين بدأتا بالذبول، لم يعبر رشدي عن هذه المخاوف بالكلام، لكن ثمة شيء من الحزن والألم ومشاعر بالترقب لما تخفيه الأيام، كان يصمت، ويصحو ثم ينحب:

آه يا غابة النخيل القديمة

يا حقول الصمت والوداعة والانتصار والأحلام

لقد ترقبنا أن تتحول أرضك وجزرك وبساتينك

إلى مرابع للانتجاع والاصطياف،

وها هم يحولونك إلى منفى.

***

د. جمال العتابي

..............................

* هو رشدي بن أحمد جواد العامل، ولد في بلدة "عانة" غرب الأنبار.، أكمل دراسته الثانوية في مدينة الرمادي وتخرج في كلية الآداب ـ جامعة بغداد عام 1962.

* مُرسل البورتريه للصديق الفنان فيصل لعيبي

المقدمة: حين خطّ قلمي صفحات من ذكرياتٍ وشهادات تناقلها والديَّ عن ابن عمتهما، البطل الأسطورة سلام عادل* لم أكن أدرك أنني أفتح بابًا يُفضي إلى عالم منسي من الضوء والوجدان، عالمٍ خفيٍّ تجسّدت فيه البطولة في هيئة إنسان، لا شعار. كانت تلك الشهادات التي شربتْها ذاكرتنا العائلية عبر الحكايات، كنوزًا من المعاني والملامح الإنسانية التي قلّما تناولها التأريخ في سيرته، والتي حين نُشرت، وجدت في القلوب صدى طيبًا، أشعل في نفسي شوقًا لا ينطفئ للغوص أعمق في هذا الجانب المنسي من حياة رجل لم يكن بطلاً في ساحة النضال فحسب، بل كان كذلك إنسانًا استثنائيًا في نقائه، في خلقه، وفي حضوره النبيل. أتذكّر كيف كان والديَّ، وهم يسردون لنا ذكرياتهم عنه، يعتصرهم الحنين ويتوهّج في صوتهم الفخر والاعتزاز.

من تلك اللحظة، بدأ في داخلي شعور لم يخفت، أن هذه القامة لم تكن مجرد مناضل صلب، بل روحًا مجبولة على التضحية والسمو، أن النضال في حياته لم يكن قناعًا، بل امتدادًا لطينته الأولى. فدفعني ذلك، بعد أن لاقت كتاباتي السابقة عنه استحسانًا، إلى التوغل في مسارات سيرته، لا من بوابة السياسة كما وثقها الاخرون، بل من باب القلب، حيث تتجلّى الإنسانية، انسانيته في أسمى صورها.

اعتمدتُ في هذه الرحلة على أهم المصادر، وهو ما وثقته زوجته ورفيقة دربه، ثمينة ناجي يوسف، ذلك المرجع الموثوق والدقيق والمستند الى مراجع وشهادات ووثائق تأريخية لا لبس فيها، أغنت الرؤية وساعدتني في إعادة تشكيل الصورة، لا كسيرة لبطل سياسي كما كتب عنه الكثير فحسب، بل كإنسان عاشق للحق، نقيّ اليد، طيّب السريرَة.

ما أرجوه من هذا العمل ليس توثيقًا جامدًا، بل فعل وفاء، وفاء لروح سلام عادل الانسان الذي ظلّ، حتى لحظاته الأخيرة، حاملًا راية الكرامة، شامخًا في وجه الظلم. ووفاء لروح والديَّ، اللذين حملا إلينا حكايته، لا كحدثٍ عابر، بل كإرثٍ من المجد، نسجاه بخيوط البساطة والمحبة، فصار جزءًا من كياننا، من ذاكرتنا، ومن الحلم الذي لم يبهت رغم تقادم السنين.

هذه محاولة متواضعة، صادرة من قلبٍ ممتن، ومن ضميرٍ لا يزال مؤمنًا بأن أعظم النضالات تبدأ من أن يكون الإنسان إنسانًا.

(1): سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة

ليس ما بين دفّتي كتاب "سلام عادل: سيرة مناضل"** سيرة لرجلٍ عاديٍّ مرّ في تاريخ العراق، ولا هو تسلسل لأحداث حياة قائد سياسيّ فحسب، بل هو سفرٌ حيٌّ لأسطورة من لحم ودم، كُتبت تفاصيلها بمداد الألم، وشُكّلت ملامحها بنحت التجربة القاسية، وارتوت من معين الفكرة المتقدة بالإيمان، وانصهرت في أتون معاناة لا يخففها إلا الحلم بغدٍ حرّ.

حين يبدأ القارئ رحلته بين دفتي الكتاب، كما فعلتُ، يكتشف كم هو ضئيل ما يعرفه عن سلام عادل، ذاك الاسم الذي ارتبط في ذاكرة العراق بدم الشهداء وصلابة الموقف. لا يُعرف عنه سوى ما تسرب من وجع: سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي منذ حزيران 1955، وواحد من شهداء الانقلاب الأسود في 8 شباط 1963، حيث اعتُقل في 19 شباط، واستُشهد في السادس من آذار في دهاليز "قصر النهاية"، بعد تعذيب وحشي يفوق التصور، ارتكبته أيادٍ غارقة في فاشيتها.

الكتاب لا يسرد فصول حياة سلام عادل فقط، بل يؤرّخ لمرحلة كاملة من تاريخ الحركة الوطنية العراقية، من خلال تتبع خطى هذا الرجل الذي لم يكن مجرد قائد، بل كان روح حزبٍ، وقلب وطنٍ نابض بالمقاومة.

سلام عادل – أو حسين أحمد الرضي كما وُلد في النجف عام 1922 – لم يكن مجرّد رجل حزبيّ شغل منصب سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. بل هو روح ملتصقة بجذور الأرض، وجسد وُلد من رحم الفقر، من بيتٍ ضيّق يضجّ بالأطفال، لكنه متّسع بالكرامة، ومن دكانٍ متهالك ومطحنةٍ يملؤها غبار الطحين، حيث خُبزت الطفولة بالتعب، وعُجنت القيم بعرق الشقاء.

يبدأ الكتاب كلوحة حية تنبض بالتفاصيل: هنا لا نقرأ، بل نرى ونلمس ونشمُّ زمنًا كان سلام عادل أحد صانعيه. نغوص في ملامح الإنسان، قبل أن نشهد انبثاق القائد، نكتشف منذ الصفحات الأولى كيف كان الصمت رفيق طفولته، لا صمتَ البلادة، بل صمتَ التحديق العميق في أحوال الناس، في وجوههم المُغبرة، وأكفّهم المشققة.

من بين إخوةٍ لم يتسنَّ لهم جميعاً متابعة الدراسة، كان هو الوحيد الذي أكمل تعليمه المتوسط، والتحق بدار المعلمين في بغداد، وتخرّج عام 1943، حاملاً شهادة وأفقًا واسعًا فتح له بوّابة الوعي، هناك حيث التقى بشعلة الحزب الشيوعي لأوّل مرّة.

في عام 1944، عُيّن معلّمًا في مدينة الديوانية، وهناك بدأت رحلته الفعلية. لم يكن المعلّم الشاب مجرّد موظف يتلو دروسه، بل كان بوصلةً فكرية وروحية، يجمع بين الخط الجميل والريشة الحساسة، بين المسرح والكلمة، وبين الجَمال كقيمة نضالية والفنّ كأداة وعي.

كان يؤمن أن التعليم ليس مهنة، بل رسالة تحررية. وحين طلب من تلميذاته رسم مشهد "العيد"، انقسمت الرسومات بين أطفال الفقراء اللواتي رسمْنَ ملابس بسيطة وألعابًا من ورق، وبين بنات الأغنياء برسومات تفيض بالحلويات وبالدمى والملابس المزركشة. لم يعلّق بكلمة، بل اكتفى بعرض اللوحات جميعًا في معرض المدرسة، مُطلقًا أولى صرخاته الطبقية من دون صوت.

في ركن آخر من حياته، برز المسرح كأداة مقاومة؛ كان يُخرج العروض المدرسية، يُعدّ النصوص، ويضع الماكياج، ويوزّع الأدوار كمن يُخرّج أمّة بأكملها من الظلمة. لم يكن المسرح عنده زينةً مدرسية، بل أداة لبناء وعي جماهيري، وكان لا يتردّد في إشراك الفتيات والبنين على حدّ سواء، متحديًا أعرافًا اجتماعية متزمتة، لكنه كان يربّي من خلال الفعل لا الخطاب.

وهذا ما تحكيه رفيقته وزوجته "ثمينة ناجي يوسف"، حين تصف دخوله لأول مرة إلى صف البنات لتعليم مادة الرسم: لم يكن بحاجة إلى كلمات ليترك أثرًا، فكان حضوره وحده كافيًا لبثّ الاحترام، بحزمه العطوف، ووقاره المتواضع.

وعبر حادثة طريفة من طفولته – حين شُجَّ رأسه في إحدى اللعب – نكتشف نواة أخلاقية متجذّرة: فقد أبى أن يُفشي اسم الطفل المعتدي، رغم الضغوط، مبرهنًا على شخصية لا تُفرّط بالوعد، ولا تخون سرًا، وهو ما سيبقى طابعًا له حتى في أسوأ لحظات تعذيبه لاحقًا.

لم يكن النضال حلماً مؤجلاً لديه، بل حياة عاشها بكل انسانيتها وجوارحها. في عام 1946، فصل من وظيفته على يد مدير الأمن العام بهجت العطية، بعد أن كشفت السلطات عن نشاطه السياسي. لم ينكسر، بل واجه الحياة بشموخ: قال ببساطة متحدية: "لن أموت من الجوع... سأبيع لبنًا على الجسر". وفتح كشكًا لبيع الكبدة، ثم الكبة، ثم عمل مفتشًا على باصات النقل، ففُصل ثانية لنشاطه النقابي، ثم عاد إلى التعليم في مدرسة خاصة، ومنها إلى مدرسة التطبيقات.

كان كل باب يُغلق أمامه، يفتح بابًا آخر بإرادته التي لا تكلّ، فكان يُجسّد فعلاً فكرة: أن المناضل لا يُهزم مهما تغيرت الظروف.

في عام 1949، وبعد إحدى المظاهرات، حكم عليه بثلاث سنوات في "نقرة السلمان"، تبعتها سنتان من الإقامة الجبرية. وبعد خروجه عام 1953، لم ينتظر انتهاء محكوميته، بل فرّ من الرقابة، والتحق بالحزب في البصرة، مسؤولاً عن المنطقة الجنوبية، وهناك اقتضت ظروفه أن يتزوج ليستأجر بيتاً، فاقترن بالرفيقة ثمينة، المرأة التي رافقته حتى النهاية، والتي دونت سيرته بقلب عاشق وعين المؤرخ.

حين تقدم لخطبتها، لم يتحدث عن نضاله ولا عن تضحياته، بل قال بثقة فطرية: "أنا من بيت محترم، من عائلة أعتز بسمعتها". كان يدرك أن النَسَب الحقيقي ليس في الدم، بل في السلوك، وأن الشرف لا يُطلب بالتاريخ ولا يرى في النضال، بل امتدادًا طبيعيًا لشرف البيت.

عام 1955، اختير سكرتيرًا للحزب، في لحظة انتقالٍ ليست تنظيمية فقط، بل روحيّة أيضًا: من صفوف المعلمين إلى صدارة التنظيم، من تدريس الخط والرسم إلى وضع الخطط ورسم التوجهات لبناء الفكر الثوري. غير أن الجمال لم يغادر روحه قط، بل رافقه حتى في عتمات السجون، وحتى وهو يُعلَّق من ساقيه وتُقتلع عيناه في دهاليز قصر النهاية.

لقد كان إنسانًا في أقصى درجات النبل، يحب عائلته كما يحب الوطن، ويتحدث إلى أطفاله بنفس الحنان الذي يخاطب به الجماهير. في روايات زوجته، نلمح كم كان حريصًا على عائلته واطفاله، رغم انشغاله المطلق بالنضال والعمل السري.

كان يرى في الجماهير ليست جمهورًا مؤقتًا، بل الحاضنة الأصلية للتغيير، ورفض النظرة الفوقية أو البطولية الفردية. كان يؤمن بالقيادة الجماعية، ودفع ثمن مواقفه عندما نُقل إلى الفرات الأوسط "قبل انتخابه سكرتيرًا للحزب"، لكنه لم يتوقف، بل اندمج مع الفلاحين والمنظمات المدنية، في تجربة نضالية أعادت الحزب إلى خطّه الجماهيري.

إن وعيه السياسي لم يكن مستوردًا، بل نابعًا من صميم التجربة الشعبية. لم يُغره المنصب، ولم يُضلله المجد، بل ظل ذلك الإنسان الذي يكتب لافتة بخطّه ليزيّن بها محل بائع كبدة، ويعلّم تلميذةً كيف تُمزج في رسمة واحدة بين حزن العيد وفرحة الأمل.

سلام عادل لم يكن صوتًا للطبقة العاملة فحسب، بل ضميرها الحي، وظلّ حاضرًا في وجدان العراقيين، لا كشهيد فقط، بل كرمزٍ عاش ومات للناس.

لقد أحبّ الحياة، ولذلك قاوم الموت. أحبّ الجمال، فكان جماله فعلًا سياسيًا. أحبّ الوطن، فكان وجه الوطن آخر ما رآه حين اقتلع الجلادون عينيه.

وها هو، بعد كل هذه السنوات، لا يزال حيًا في دفاتر التلاميذ، وفي ذكريات الرفاق، وفي ضمير وطنٍ لا يزال يبحث عن حريته.

هذه الصفحات ليست تأريخًا فقط، بل بيانٌ إنسانيٌّ يُعلّمنا أن البطولة الحقة لا تصنعها الهتافات، بل يُصنعها رجالٌ يعبرون الحياة كشموع، تذوب لتنير، وتموت لتُحيا في وجدان الناس.

يتبع...

***

سعاد الراعي

..........................

*عنوان المقال الذي نشر في بعض الصحف الالكترونية "ابن العمة سلام عادل.. الأسطورة المتخفية التي مشت على حافة المستحيل"

https://www.almothaqaf.com/memoir02/981915

- الشهيد سلام عادل كان سكرتيراً للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي منذ حزيران 1955، وأنه أعتقل في 19 شباط 1963 بعد انقلاب 8 شباط 1963 الأسود الذي قام به حزب البعث والقوميون وأنه أستشهد في 6 آذار 1963 في قصر النهاية ببغداد وأنه تعرض لتعذيب شديد تقشعر له الأبدان على يد المجرمين الفاشست من الحرس القومي حيث شوّه جسده ولم يعد من السهل التعرف عليه، فقد فقئت عيناه وكانت الدماء تنزف منهما ومن أذنيه ويتدلى اللحم من يديه المقطوعتين وكُسرت عظامه وقطعت بآلة جارحة عضلات ساقيه وأصابع يديه وقُتل معه بعد الانقلاب آلاف الرفاق الشيوعيين والديمقراطيين والعديد من قادة الحزب منهم الرفاق محمد حسين أبو العيس وحسن عوينة وجمال الحيدري وجورج تللو .

ـ اسم سلام عادل الرسمي هو "حسين احمد الموسوي".. عرف باسم شائع هو حسين الرضي: ونقلا عن والديَّ، ان الرضي كنية أطلقها المرحوم والده عليه منذ صباه، تيمنًا بأخلاقه الحميدة. ويقال أيضًا انه كان لقبًا أطلقه هو على نفسه تيمنًا بالشريف الرضي حفيد الامام موسى الكاظم والذي كان يحفظ اشعاره ويرددها منذ صباه، وقد أصبح هذا اللقب عزيزًا على قلبه فرافقة طيلة حياته.. وحمله أبنائه الثلاثة من بعده.

** "كتاب سلام عادل سيرة مناضل تأليف ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد" من جزئين، الطبعة الأولى 2001 دار المدى للثقافة والنشر

 

في الثانية والنصف من بعد ظهر يوم الثاني عشر من تشرين الثاني عام 1961، قرّر عدد من الجنود نقل جثمان رجل توفّي قبل ستة أيام بمرض سرطان الدم عبر الحدود الجزائرية التونسية، كانت تحرسهم مجموعة من قوات (جبهة التحرير الجزائرية)، حيث تم دفنه بهدوء.

كان فرانز فانون المولود في العشرين من تموز عام 1925 في إحدى جزر المارتينيك التابعة لفرنسا قد توفي في إحدى مستشفيات واشنطن، فتقرر نقله إلى تونس، ومن بعدها إلى الجزائر التي حارب من أجل استقلالها.

فرانز فانون، هو الابن الخامس لأسرة كاريبية أفريقية من ثمانية أشخاص، مات اثنان منهم في الصغر، بما في ذلك أخته غابرييل التي كان فرانز قريباً جداً منها، والده فيليكس كازيمير فانون، من أصل أفريقي، والأمّ من أصول فرنسية، كان الأب موظفاً في الجمارك، بينما افتتحت الأمّ متجراً صغيراً للبضائع، وقد تمكنت العائلة من أن تُدخل أبناءها في المدرسة الفرنسية الخاصة، هناك سيعجب الطالب فرانز بالمعلم الشاعر (إيميه سيزير) الذي كان واحداً من أهمّ الاصوات الشعرية التي ندّدت بالعنصرية ضد السود.

في تلك السنوات يتفرغ فرانز فانون للقراءة، منتقلاً من أعمال لامارتين، إلى أعمال جان جوك روسو، تسحره رواية البؤساء لفكتور هيجو، فيكتب عنها دراسة قصيرة ينشرها في مجلة (المدرسة)، عندما بلغ الثامنة عشرة من عمره يغادر جزر المارتينيك لينضم إلى القوات الفرنسية الحرة. في عام 1944 أصيب بجروح طفيفة، فتمّ نقله إلى نورماندي، عام 1945 يعود إلى جزر المارتينيك، بناء على طلب معلمه إيميه سيزير الذي قرر أن يخوض الانتخابات ضمن صفوف الحزب الشيوعي، يكمل فانون دراسته، بعدها يسافر إلى فرنسا لدراسة الطبّ النفسي، وفي نفس الوقت كان منشغلاً بدراسة الفلسفة، حيث قرأ كيركغارد وهيغل ولينين وهايدغر وسارتر، واهتم بشكل خاص بماركس الذي وجد في كتاباته إصراراً على أن الثورة ليس في وسعها أن تستمد أشعارها من الماضي، وإنما من المستقبل وحده. وسيعلق فانون على عبارة ماركس فيكتب مقالاً يقول فيه: «أن أولئك الرجال وحدهم من الزنوج والبيض الذين يرفضون أن يسمحوا لأنفسهم بالتقوقع داخل برج الماضي المتجسد، هم الذين لا يستعبدون»، وأيضاً كان يتابع حركات التحرر في العالم وهي تخوض معركتها من أجل الاستقلال، وأثارت اهتمامه قضية المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، وكيف أن الاستعمار يخوض حرباً لا إنسانية غايتها طمس الهوية الحقيقية لهذه الشعوب، وكانت حصيلة كل هذه المواقف والقراءة والانتماء إلى اليسار الفرنسي هي كتابه الأول، (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء)، الذي لم يجد له في البداية ناشراً، فأكثر دور النشر اعتبرت مقالاته مجرد مقالات منفعلة، لكنّ الحظ يسعفه أخيراً بالعثور على ناشرٍ معادٍ للاستعمار الفرنسي، ليصدر الكتاب عام 1952.قبل هذا التاريخ كان فرانز فانون يكرس نشاطه لمبدأ الاتحاد بين الرجل الابيض والرجل الأسود، لكنه سيتخلى عن أحلامه في الاتحاد عندما يدرك أن الرجل الأبيض يعني بالاتحاد «أن تصبح مثلي»، وفي المقابل فأن الرجل الأبيض مقتنع بأن الرجل الأسود يستحيل أن يصبح مثله، كما يستحيل أن يصبح على قدر مماثل في المستوى، وبعد ما يقارب العشرين عاماً سيكتب الروائي جيمس بالدوين: «أنّه ليس ثمة سبب يدعوك إلى أن تحاول أن تصبح كالرجل الأبيض، كما أنّه ليس ثمة أساس لافتراضهم الوقح بأن عليهم أوّلاً أن يقبلوك» . كان كتاب (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء)، في الأصل أطروحة دكتوراه قدّمها فانون إلى جامعة ليون في فرنسا بعنوان (مقال عن فكّ ارتباط السود)، وفيها يرد فانون على العنصرية التي عانى منها أثناء دراسته للطب النفسي والطب في جامعة ليون، لكن الاطروحة ستُرفض من قبل الجامعة، فيقرر أن يطبعها في كتاب، رفضت معظم دور النشر طباعته إلى أن تبناه «فرانسيس جانسون» والذي كان يعمل آنذاك مديراً لتحرير مجلة الأزمنة الحديثة التي يصدرها جان بول سارتر، وفي الوقت نفسه رئيساً لجمعية تدعم استقلال الجزائر، وقد اختار جانسون عنوان (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء) لكتاب فانون، وكتب المقدمة له. والكتاب يسلط الضوء على حيرة فرانز فانون، فقد كان أمامه ثمة طريق، فإما أن يعمل بكل الوسائل على أن يصبح رجلاً أبيضَ ينتمي إلى المجتمع الفرنسي، أو التأكيد على تفوق القيم الزنجية والرفض المطلق للقيم البيضاء. وصف فانون في الكتاب المعاملة غير العادلة للسود في فرنسا وكيفية رفضهم البيض. كان لدى السود أيضاً شعور بالدونية عند مواجهة البيض. اعتقد فانون أنّه على الرغم من أنّهم يستطيعون التحدث بالفرنسية، إلّا أنّهم لا يستطيعون الاندماج الكامل في بيئتهم البيضاء.

بعد اندلاع الثورة الجزائرية في نوفمبر عام 1954، التحق فانون بجبهة التحرير الوطنية، وقام برحلات مكثفة عبر الجزائر، خاصة في منطقة القبائل، لدراسة الحياة الثقافية والنفسية للجزائريين، وبسبب نشاطاته المؤيّدة لاستقلال الجزائر، قررت السلطات الفرنسية طرده من الجزائر ليستقر في تونس حيث ساهم بالكتابة بانتظام خلال سنوات 1957-1960 في جريدة (المجاهد)، الناطقة آنذاك باسم جبهة التحرير الوطني الجزائرية. في الرسالة التي وجهها فانون إلى السلطات الفرنسية بعد رحيله عن الجزائر يكتب عن الأوضاع في هذه البلاد: «لما يقرب من ثلاث سنوات وضعتُ نفسي وبشكل كامل في خدمة هذا البلد وسكانه. لم أوفر جهداً ولا اهتماماً. ولكن ما جدوى الحماس والتفاني إن كان الواقع اليومي مجرّد نسيج من الأكاذيب والخسة وازدراء الإنسان؟ وإن كان الطبّ النفسي هو الأداة الطبية التي تهدف إلى تمكين الإنسان من تجاوز غربته في البيئة المحيطة به، فعليّ أن أوكد أن العربي غريب بشكل دائم في بلاده، يعيش في حالة من الاغتراب المطلق. لشهور عدة كان ضميري موقعاً لسجال لا يغتفر، انتهى بالعزم على ألّا أيأس من الإنسان، أي ألّا أفقد الأمل في نفسي"

كتب فرانز فانون عدداً من الكتب أشهرها (بشرة سوداء أقنعة بيضاء)، و (العام الخامس للثورة الجزائرية) و (معذبو الأرض)، كان آخرها كتاب (لأجل الثورة الأفريقية) الذي نُشر بعد وفاته.

كان فرانز فانون بعد أن علم بإصابته بمرض سرطان الدم قد طلب من صديقه فرانسيس جانسون أن يقنع جان بول سارتر في أن يكتب مقدمة لكتابه (معذّبو الأرض)، وقد تم عقد لقاء بين سارتر وفانون في روما بعيداً عن أعين المخابرات الفرنسية. ويذكر فانون في ما بعد أن سارتر لم يتوقف عن قراءة الكتاب: «كان سارتر في تلك اللحظات عبارة عن طائرة انطلقت في الأجواء العالية. انشغل بكتابة المقدمة طوال الليل فيما كانت سيمون دي بوفوار تطبع ما يكتبه سارتر، واستمرت على هذه الحال إلى أن طلع الفجر». كتب سارتر 120 صفحة بأكملها دفعة واحدة. وتذكر سيمون دي بوفوار أن سارتر انجذب إلى فرانز فانون وأحب شخصيته، حتى أن جانسون يعلق أنّه لم ير سارتر مفتوناً بأحد مثلما فتن بفانون.

يكتب سارتر في تقديمه لكتاب فرانز فانون (معذبو الأرض)- نرجمة سامي الدروبي وجمال الاتاسي - : " افتحوا أيها الأوربيون هذا الكتاب وادخلوا فيه، فبعد بضع خطى تخطونها في الظلام، سترون أجانب مجتمعين حول نار، فاقتربوا منهم واصغوا: إنّهم يناقشون المصير الذي يرصدونه لمواقعكم التجارية وللمرتزقة الذين يدافعون عنها، وقد يرونكم، ولكنهم سيستمرون في التحدث في ما بينهم، سوف تشعرون وأنتم على مسافة محترمة، لأنكم متخفّون في الظلام، ترتعدون. وفي هذه الظلمات التي سينبثق منها فجر جديد ستكونون أنتم الأشباح" .

تبنّى سارتر حجج فانون عن النضال، ومنها أن الثورة ضدّ المستعمر يجب أن تكون عنيفة، لا لأن العنف يجب أن يكون هدفاً، بل لأنه يساعد الشعوب المستعمرة على التخلص من الاضطهاد وصياغة هوية جديدة، كان فانون يرى في العنف عاملاً أساسياً في التغيير دون أن يمجده. وكان سارتر يرى في العنف فعلاً نيتشوياً من أفعال إعادة صياغة الذات، وقد قارنه بوحشية المستعمر.

مارس سارتر تأثيراً كبيراً على فرانز فانون منذ أن قرأ مقالته (أورفيوس الأسود) التي كتبها سارتر كمقدمة لكتاب الشاعر السنغالي الشهير (ليوبولد سنغور)، وفيها يؤكد أن الكاتب الاوربي لم يعد بقادر على تقييم العالم والسيطرة عليه: " ينظر هؤلاء الرجال السود إلينا، وترتد نظرتنا إلى أعيننا، فتضيء المشاعل السوداء بدورها العالم، وليست رؤوسنا البيضاء أكثر من فوانيس صينية تتأرجح في مهب الريح" . . اكتشف فرانز فانون الوجوديّة أثناء دراسته الجامعية، وبتأثير من الكاتب الروائي الأمريكي (ريتشارد رايت) الذي كان يسلط الضوء في رواياته على المآسي التي يعاني منها السود بسبب التفرقة العنصرية، وكان فانون قد قرأ رواية رايت (ابن البلد) المنشورة عام 1940 التي يجسد فيها حياة صبي أسود يشعر في كل لحظة أن المجتمع يتأمر ضده بهدف القضاء عليه نهائياً، وليس هناك من دافع للسلوك العدائي ضد الصبي سوى لونه الأسود.

كان فرانز فانون يحاول أن يقتفي أثر سارتر، لكنه بالمقابل أراد أن يتعالى على فكرته عن الروح الزنجية، وكان يرى أنّه يواجه عالماً عبثياً لا يقيم وزناً لشهادته العلمية وأفكاره، بقدر ما يقيم وزناً للون بشرته، تأثر فانون بفكرة الحرية عند سارتر، ونجده في كتابه (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء)، وجوديّاً خالصاً يستكشف: «التجربة الحية لشعب أسود تَلبّس بدور الآخر في عالم يهيمن عليه البيض»( ).

تكمن أهمية تعاون سارتر وفانون في إدراكهما للعنف الهائل والألم الذي يلحقه الأقوياء اقتصادياً وسياسياً بالأقل منهم حظاً، وعلى وجه الخصوص، المستعمَرين. جادل سارتر والبير كامو وسيمون دي بوفوار في كتاباتهم أن المواطنين الفرنسيين الذين اختاروا الاختباء في منازلهم وحماية عائلاتهم بدلاً من الانخراط في أعمال مقاومة عنيفة تجاه النازيين، لم يكونوا في الواقع أكثر من النازيين أنفسهم.

إن مقدمة سارتر لكتاب (معذبو الأرض)، لا يزال لها صدى قوي في عصر العولمة، وينبغي أن تدفع أصحاب الامتيازات في أمريكا وأوروبا إلى إجراء جرد دقيق لإنسانيتهم وأخلاقهم تجاه المستضعفين.

يكتب إيميه سيزير في رثاء تلميذه فرانز فانون: «إن كتابه (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء) هو الكتاب الحاسم بشأن العواقب الإنسانية للاستعمار والعنصرية، في حين أن كتابه (معذبو الارض) يعتبر مفتاح إزالة الاستعمار" .

انطلق فانون في تصوره ككاتب للثورة من الإيمان بأن الثورة تحمل إلى النفوس الحرية، ويستطيع المجتمع من خلالها التحرر من الجمود والتخلف، وفي كتابه (معذبو الارض) يحلل سيرورة العنف في النظام الاستعماري، فيعتبر أن العنف يتطور بالأصل من عنف يضرب فيه الاستعمار جماعة أساسية، وهو نفس المعنى الذي كتبه سارتر في مقدمة كتاب البير ميمي (صورة المستعمر): «لقد كان الغزو بالعنف والاستغلال والضغط، من خلال الحضور الوحشي للجيش، لقد رفض المستعمر حقوق الإنسان من خلال التعذيب، الفقر، الحرمان، والأمية. إنّها حالة ما دون إنسانية " .

ستثير سيرة فانون ومواقفه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي يكتب: «إن جميع كتابات فرانز فانون حول الاستعمار تظهر درجة ما من التأثر بأفكار ماركس وسارتر" .

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

ترجع معرفتي بالدكتورة أميرة حلمى مطر أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة المصرية (1930 – 2025) منذ عام 1989 حين كانت تدرس لي مقرر مصادر الفلسفة اليونانية، وخلال تدريسها لنا أمام أستاذة متميزة لأستاذة أكاديمية، تختلف عن أساتذة كثيرين غيرها من الأساتذة، أستاذة تتوفر فيها سمات ومقومات وأبعاد، تنتزع بذاتها الاحترام وتفرضه، وتستأهل التقدير وتثير الإعجاب، وتغرس في النفوس حبا تخامره رهبة، وأملا يواكبه شعور بالتفائل، وانتماءً بصاحبه شعور بالزهو بالتدريس علي يديها .

وقد كثرت لقاءاتي بها خلال المحاضرات، وهنا اكتشفت بعدا آخر في شخصية الدكتورة أميرة مطر، حيث كنت أشعر في حضرتها دون ثالث لنا بالأم الحانية والأستاذة القديرة، لم تفرض علينا في تدريسها توجها معينا، ولم تستبد برأي، ولم تلزمنا بوجهة نظر خاصة، وإنما تحاور وتناقش وتوجه بجدية وصدق، وتفتح أمامنا أفاقاً جديدة، وتعرض آراءها وأفكارها ورؤاها، ثم تترك لنا حرية الاختيار .

لقد كانت له فوق ذلك ومعه، تواضع وحنو يذهبان عني كل رهبة دون افتقاد الاحترام والهيبة ويشجعاني علي طرح المزيد من الاستفسارات والتساؤلات، مما يطيل الحوار معها، ولم ألحظ منها قط ضيقاً أو امتعاضا أو مللا، ولا استعلاء وتكبرا، ولا أسمع منها إلا كلمات التشجيع بما يعزز الأمل عندي ويبعثني علي مضاعفة الجهد وبذل أقصي ما في الوسع عن رضي واقتنع .

وفي الأسبوع الماضي وافتها المنية وذلك عن عمر ناهز 95 عاما، وذلك حسب ما نشره الكاتب والناقد الأدبي شعبان يوسف والذي قال في منشور له عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي: الدكتورة أميرة حلمي مطر، أستاذة الفلسفة وداعًا، هكذا فقد بيت الفلسفة المصري والعربي ركنًا متينًا وعظيما، كان وسيظل مشتعلًا دائمًا".

رحلت عن عالمنا أميرة الفلسفة تاركة وراءها إرثًا فكريًا خالدًا ومسيرة علمية حافلة بالعطاء والتنوير. لم تكن الدكتورة أميرة مجرد أكاديمية بارزة، بل كانت منارة للعلم، وفيلسوفة عميقة الفكر، ومربية أجيال، ونموذجًا للمرأة المصرية والعربية التى جمعت بين رصانة البحث العلمى وعمق التأمل الفلسفى ورهافة الحس الإنسانى.

قدّمت أميرة الفلسفة معظم مؤلفاتها في سياق أكاديمي موجه للطلبة والمتخصصين في حقول الفلسفة والعلوم الاجتماعية والآداب، ومنها "الفلسفة اليونانية: تاريخها ومشكلاتها" (مكتبة بستان المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، 1988)، و"عن القيم والعقل في الفلسفة والحضارة" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010). بالإضافة إلى ترجماتها المتعددة التي صدرت منذ الستينيات، ومن بينها: "الفكر الإسلامي وتراث اليونان"، و"جمهورية أفلاطون، مكتبة الأسرة"، و"محاورتا ثياتيتوس وفايدروس أو عن العلم والجمال".

كانت الدكتورة أميرة حلمي مطر والتي ولدت في عام 1930 أستاذة جامعية في الفلسفة مصرية، وقد حصلت على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة القاهرة، ولها عدة دراسات وأبحاث وترجمات في الفلسفة، كما حازت على جوائز عديدة منها جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافية في عام 1985.

وتنتمي الدكتورة أميرة حلمي مطر، لأسرة عريقة في العلم، كان والدها من أوائل المهندسين في مجال الهندسة الكيميائيّة حاصلاً على شهادة الدكتوراه من جامعة مانشستر بإنجلترا، التحقتْ بآداب القاهرة عام 1948 وتخرّجت الأولى على دفعتها بحصولها على الليسانس الممتازة من قسم الفلسفة عام 1952، عيّنت مُعيدة بنفس القسم عام 1955، ثم حصلت على دبلوم الماجستير في العلوم السياسيّة، وبعد حصولها على شهادة الدكتوراه واصلت عطاءها العلمي بقسم الفلسفة في جامعة القاهرة وحصلت على الأستاذيّة في السبعينات.

تولّت الدكتورة أميرة رئاسة قسم الفلسفة لفترات متعدّدة وأشرفت على العديد من الرسائل الجامعيّة وحصلتْ على جوائز الدولة التشجيعيّة والتفوّق وعلى وسام الامتياز من الدرجة الأولى لمجموع أعمالها العلميّة، تتقنُ اللغة اليونانيّة القديمة واليونانيّة والفرنسيّة والانجليزيّة، تعتني بقراءة الشعر وسماع الموسيقى الكلاسيكيّة وتتذوق الفنون التشكيليّة ويشكّل الفنّ عندها وبجميع أشكاله جانبا هامّاً وأساسيّا من هواياتها، درّستْ في كثير من الجامعات العربيّة كجامعة قطر، السعوديّة، الإمارات العربيّة المتّحدة وجامعة بغداد، وهي على صلة وثيقة بالجمعياّت الفلسفية في العالم وعضوة في بعض المؤسّسات الفكريّة في اليونان وفي جَمْعيتها الفلسفيّة.

تخصصت الدكتورة أميرة فى الفلسفة اليونانية والفلسفة الجمالية، وهما مجالان يتطلبان فهمًا عميقًا للتاريخ الفكرى الغربى، وقدرة على الربط بين النصوص الفلسفية الكلاسيكية والتحديات المعاصرة. فى الفلسفة اليونانية كانت مرجعًا لا يضاهى، فقد كرست جزءًا كبيرًا من حياتها لدراسة أعمال الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون وأرسطو، وقدمت تحليلات جديدة ومبتكرة لنظرياتهما ما أسهم فى إثراء فهمنا لهذه الحقبة الذهبية من الفكر البشرى. كانت قادرة على إحياء النصوص القديمة وجعلها ذات صلة بالنقاشات الفلسفية الحديثة، ما يعكس سعة اطلاعها وعمق بصيرتها.

أما فى مجال الفلسفة الجمالية فقد كانت الدكتورة أميرة رائدة بمعنى الكلمة، إذ فتحت آفاقًا جديدة للدراسة والبحث فى العالم العربى، وقدمت مقاربات فريدة لتحليل الفن والجمال من منظور فلسفى عميق. كتاباتها فى هذا المجال لم تكن مجرد شروحات نظرية، بل كانت دعوة للتأمل فى جوهر التجربة الجمالية وأثرها على الوعى الإنسانى، ما جعلها مرجعًا أساسيًا لكل مهتم بالفن والفلسفة. لقد أسست لمدرسة فكرية خاصة بها فى هذا المجال، وألهمت أجيالًا من الباحثين للسير على خطاها.

وتنتمي الأميرة إلى رعيل المفكّرات المصريات اللواتي يُشهد لهنّ بالموهبة والكتابات النوعيّة في مجال الفلسفة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، لقد قدّمت إنتاجاً قيّما متفرّداً في الفكر بشكل عام وفي الفلسفة اليونانيّة والجماليّة والسياسيّة بشكل خاصّ.

كانت تؤمن بأن الفلسفة ليست مجرد معلومات تحفظ، بل هى منهج حياة وطريقة للتفكير، ما انعكس على تأثيرها العميق فى طلابها الذين حملوا على عاتقهم مسئولية مواصلة مسيرتها الفكرية.

وكانت الدكتورة أميرة شخصية عامة مؤثرة، شاركت بفاعلية فى الحياة الثقافية والفكرية المصرية والعربية. كانت آراؤها وأفكارها تُحترم وتُقدر، وكانت تُدعى للمشاركة فى المؤتمرات والندوات الفكرية، حيث كانت تثرى النقاشات بعمق رؤيتها ورصانة طرحها. وكانت تتميز بشجاعة فكرية نادرة، وقدرة على التعبير عن آرائها بوضوح وصراحة، حتى لو كانت هذه الآراء تخالف السائد، إيمانًا منها بأن الفكر لا يزدهر إلا فى بيئة من حرية التعبير والتفكير النقدى. لقد كانت مثالًا يحتذى به فى الالتزام بقضايا الفكر والمجتمع، وتكريس حياتها للارتقاء بالوعى الفلسفى والثقافى.

رحيلها يمثل خسارة كبيرة ليس فقط لأقسام الفلسفة فى جامعات مصر، ولكن للثقافة العربية بأكملها. ستبقى أعمالها وكتاباتها مرجعًا أساسيًا للباحثين والطلاب، وستظل ذكراها العطرة مصدر إلهام لكل من يسعى إلى العلم والتنوير. نعزى أنفسنا وجميع محبيها وطلابها وأسرتها فى هذا المصاب الجلل، ونسأل الله أن يتغمدها بواسع رحمته ويسكنها فسيح جناته، وأن يلهم أهلها وذويها الصبر والسلوان.

رحم الله الدكتورة أميرة الفلسفة، الذي صدق فيها قول الشاعر: وليس موت امرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه إذا يعزوه فقدان في كل يوم ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

***

دكتور محمود محمد علي - مفكر مصري

صحيحٌ لكلّ فصل من فصول السنة طقوسٌ مميّزة في الاستجمام، ولكنّ فصل الصيف له نواميس خاصة في القراءة والسفر والدّعة، فهو الفصل الذي يجعلني في حِلّ من التزامات الشغل وضوابطه. ولهذا أرى الصيف إغواء بالرحيل في الكتب، والرحيل في الجغرافيا أيضا، وكلاهما عندي انعتاق. وقد يقول قائل لكلّ فصل قراءاته ولكلّ موسم آدابه، ولكن في عرفي لا ارتباط للفصول والمواسم بنوعية القراءة. ولذلك أتحيّرُ من مكتبات إيطاليا، حين توزع أشهر السنة وفصولها على نوعيات مخصّصة من الكتب والمؤلفات، تُعرض دوريا على القراء. فهناك موسم لكتب الفاشية، وآخر لكتب الشواه (المحرقة)، وثالث لشواغل السياسة الداخلية واستتباعاتها الدولية، وغيرها من تدفقات النشر المرتبطة بالأحداث والوقائع التي تشغل الرأي العام؛ وضمن سياق دورة الماركتينغ تلك، هناك كتب الكلاسيكيات التي تعود دوريا تبعًا للفصول والمواسم، وكأنّ أصحابها يبعثون من مراقدهم من جديد. في حين ثمة كتّاب أحياء يُدفعون قسرًا إلى الواجهة وبإلحاح لغرض تكريسهم. أُدرك جيدا اشتغال ماكينة النشر في الخلف التي تُظهر من تريد وتحجب من تريد، ولكن ذلك حديث آخر عن صناعة النجوم في الفكر الآداب.

أعود إلى عُرف القراءة لديّ، غالبا على مدار السنة ما أنتهز فرصة المطالعة كلّما وجدت متّسعا من الوقت خارج ضوابط التدريس، وإن كان الشغل لديّ بدوره على صلة وثيقة بالقراءة ومتابعة الجديد، ولكن في هذا الجانب القراءة هي نوع من الفعل الإلزامي. وعلى العموم في تقليد القراءة معي ثمة ضربان من القراءة: إحداهما إلزامية على صلة بالدرس والبحث والترجمة والكتابة، والأخرى اختيارية للمتعة والانعتاق، أي لأدنوَ من فهم العالم والترويح عن النفس. فلست من صنف جمّاعي الكتب وتكديس الوثائق، للفرجة أو للتخزين أو للاستعراض، بل أحاول أن أَلْتهم في التوّ ما تقع عليه يديّ ولا أعرف للادّخار في ذلك سبيلا.

وكما هو الصيف إغواء بالرحيل في الكتب والقراءة الماتعة، هو أيضا إغواء بالرحيل في الجغرافيا لدى شقّ آخر من السائحين والحالمين، وكأنّ في الرحيل شفاء للروح من فَقْد دفين في الذات، يلازمها منذ مراحل الطفولة الأولى. ولعلّ الرحيل فيما دأبتُ عليه، فرصة للانبعاث والتعمّد ثانية، وذلك منذ أن هجرت مرابع الطفولة واخترت روما مقاما. ولا أسمّي مقامي الروماني دار الهجرة، أو مقام الاغتراب، أو بلد المنفى، كما يقول البعض، لأنني حين أخلو بنفسي لا أجد شيئا من ذلك الإحساس، ربما لأني في علاقتي بالمقام والرحيل على مذهب ذلك الرجل الذي يرى "أنّ من يجد وطنه حلوًا ليس إلا عاطفيا مبتدئا، وأما من يجد في كل أرض أرضه فهو إنسان صلب، ووحده الذي بلغ الكمال هو الذي يكون العالم كلّه، بالنسبة إليه، كالبلد الغريب".

فما من شك أنّ الترحال يؤجّج شهيّةَ الكتابة لدى العديد من المبدعين، بما يخلّفه الاشتباك بأحوال وأوضاع جديدة، من تزاحم للأفكار وتدفق للمشاعر في ذهن المبدع وعواطفه الجياشة. ولذلك صاغ كثير من الكتّاب والشعراء والفنانين أعمالا في منتهى الروعة، في السابق والحاضر، ضمن ما يعرف بأدب الرحلة أو الأعمال الاستكشافية. حالة الفوران تلك أَلمّت بي في المراحل الأولى من حلولي بإيطاليا. أتيتُ من أوساط قروية في تونس ومن جامعة تاريخية، "الزيتونة"، قضيت فيها زهاء العقد دراسة وبحثا. فكانت المقارنات والموازنات تكتظّ في ذهني جراء التحول الجديد التي بتّ أعيشه والنموذج المتجذّر الماثل في اللاوعي في شخصي. لتغدو النظرة إلى إيطاليا لاحقا، وإلى الغرب عموما، أكثر تريّثا، وأقلّ انفعالا، وأدنى توهّجا بعد أن صرت جزءا من الغرب، وقد مرّ على مقامي فيه ما يناهز الثلاثة عقود. لكن في أجواء الترحال والتحول والدراسة والتدريس في إيطاليا، تنبّهتُ إلى أنّ ثمة إدراكا آخر ووعيا آخر ما كنت أتنبّه إليهما حين كنت أعيش داخل ثقافتي العربية وفي أوضاع سوسيولوجية بسيطة، ألا وهي القدرات الهائلة التي بحوزة الغرب للتحكم بالعالم، ليس فقط في مساراته السياسية وأحواله الاقتصادية، بل في أنماط تفكيره وصناعة أذواقه، ولعلّه الدرس الأعمق الذي وعيته بالتدرّج. أعود إلى الورى ثانية لأعي مزية الترحال والأسفار والهجرة.

تُحدّثنا الروايات الأولى للتطورات العلمية في الغرب أنّ الأُسر النبيلة، منذ بدايات القرن السابع عشر،كانت غالبا ما تحرص على حثّ أبنائها على خوض غمار الرحلة والشغف بالأسفار كتدريب على الاندفاع والإقدام والقيادة، بالاطّلاع على تجارب الأغيار وأشكال عيشهم. ولذلك كان جلّ الرحالة الغربيين الأوائل نحو البلاد العربية، سواء من النساء أو الرجال، من أُسر من علية القوم. القائمة طويلة في هذا، المؤرخة جيرترود بيل التي أسهمت في تأسيس متحف بغداد سنة 1923 وقد تم تدشينه خلال العام 1927، والمستشرق الأمير ليونه كايتاني (1869-1935) مؤلف الأعمال الموسوعية "دراسات التاريخ الشرقي" و"حوليات الإسلام" وغيرهما كثير. كانت الأسر الأرستقراطية في الغرب تحرص على تقليد الرحلة في أوساطها، وترى في السفر تدريبا مفيدا على مجابهة الصعاب وتعزيز مكتسبات الوجاهة المعنوية والرمزية لديها، وبالتالي تسعى جاهدة إلى غرس تقليد التشوف بعيدا في نفوس أبنائها.

 فكانت قوافل الشبان والشابات ممن يتحدّرون من البرجوازية الصاعدة، يخوضون جولات كبرى بين آثار روما وصقلية واليونان، ويبلغ نفرٌ منهم الحواضر العربية القديمة: قرطاجة، ولبدة، وشحّات (قورينة)، وأهرامات مصر، والقدس، وتدمر، وبابل، ومنهم من تستهويهم الصحراء الكبرى في شمال إفريقيا أو صحراء الجزيرة العربية وأهوالهما الغرائبية في المخيال الغربي.

في مؤلّف بعنوان "الرحالة العرب في القرون الوسطى" صدر في ميلانو (2021) للإيطالية آنّا ماريا مارتيللي، تُبيّن الباحثة أنّ تطوّرَ فنّ الرحلة لدى العرب ترافقَ مع تمدّد الإسلام، وكان لعامل أداء فريضة الحجّ دورٌ بارز في تحفيز المسلمين على التنقل والسفر. ولكن الرحلة في التقليد العربي ما كانت محصورة بالحجّ، بل جاءت العديد من الرحلات مرتبطة باستكشاف الآفاق البعيدة وبغرض البحث العلمي، ولا سيّما الرحلات المتّصلة بجمْع الحديث النبوي. لكن الرحلة إلى أطراف العالم الإسلامي، جاءت أيضا بدافع نشر المذهب وترويج الرأي المغاير، فقد تخلّل تاريخ الإسلام المبكر رحيل عائلات سياسية وتلاميذ مدارس فقهية وكلامية، بغرض نشر آرائها في الأقاليم النائية، وهو حال المذاهب الفقهية والكلامية والطرق الصوفية التي تمدّدت وانتشرت في نواح نائية مشرقا ومغربا.

وجرّاء هذا الولع المتأصّل لدى العرب بفنّ الرحلة، تشكّلت تقاليد وعوائد في شتى الأصقاع. إذ تخضع العملية إلى نظام داخلي مراعى، يتغيّر بحسب المسار والمناخ، فضلا عن المحطّات التي يحطّ بها الرحالة والتي عادة ما تكون خانات أو تكايا وزوايا أو أماكن وفادة داخل الرباطات الحدودية. هذا وقد تكون الرحلة برّية في مجملها، وقد تكون بحرية في جزء منها كما كان يخوضها أهالي بلاد المغرب والأندلس، حين ينزلون بالإسكندرية ثم يُكملون طريقهم برًّا نحو البقاع المقدّسة.

وعلى المستوى الغربي كانت فورة العقلنة والشغف بالبحث العلمي دافعين لخوض العديد من المغامرات مع كثير من الرحالة والباحثين. فقد كان السعي لاكتشاف العالم، ومن ثَمّ ضبط القواعد في شتى المعارف والعلوم الناشئة حافزا للرحلة وارتياد الآفاق البعيدة ورصد الشعوب ومعاينة الآثار. عبّر عن هذا التحفز والنفور من الانطواء جيمس كليفورد بقوله "إذا كنّا نريد صياغة حقائق على هوانا فالأحرى أن نمكث في البيت".

***

د. عزالدّين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما- إيطاليا

 

الواقعيّة السحريّة: أن تحلم ليلاً أنّك تتجوّل فى حديقة وفى الصّباح تجد فى يدك وردة!

"الواقعيّة السحريّة أن تحلم ليلاً أنّك تتجوّل فى حديقة وفى الصّباح تجد فى يدك وردة"! هذه العبارة السحرية التي عرّف بها ذات يومٍ خورخي لويس بورخيس ظاهرة الواقعية السحرية فى أدب أمريكا اللاتينية عندما سُئل عن معناها وفحواها ..! صادف يوم 14 من شهر يونيو الفارط 2025 الذّكرى 39 لرحيل هذا الكاتب الأرجنتيني الذائع الصّيت الذي يُعتبر أحد أقطاب الأدب الأمريكي الكبار فى أمريكا اللاّتينية الذي وُلد في 24 أغسطس 1899 ، والمتوفّى عن سنٍ تناهز 87 عاماً فى 14 يونيو 1986.

أرمة بورخيس تتحدّث عن زوجها

أكبر احتفاء كان قد نُظّم في إسبانيا لهذا الكاتب الفذّ أقيم ضمن فعاليات ندوة دولية انعقدت في العاصمة الإسبانية مدريد في ذكرى رحيله تحت عنوان «الكتاب مثل الكون»، كانت أرملة الكاتب الرّاحل ماريا كوداما من ( 10 مارس 1933- 26 مارس2023) قد شاركت فيها بعرضٍ ضافٍ قامت خلاله بتحليل دقيق لعلاقة بورخيس الحميمة بعالم الكتب والمكتبات، نظراً لمزاولته مهنة مدير للمكتبة الوطنية فيعاصمة بلاده الأرجنتين بوينس أيريس في مقتبل عمره، كما سلّطت الأضواءَ على المعايشات التي تسنّى لزوجها من جرّائها خلق "عوالم مكتبيّة فسيحة "خاصة به في العديد من أعماله حتى أصبح هذا الهاجس عنده رمزاً كلاسيكيّاً للثقافة المعاصرة، وتعرّضت كوداما - التي كانت ترأس «المؤسّسة الدولية خورخي لويس بورخيس» - فى هذه الندوة إلى مذكّراتها التي تفصح فيها عن حياتها الخاصّة وسفرياتها مع بورخيس ، كما تتضمّن مذكّراتها العديد من الأخبار، والأسرار،والطرائف التي لم يسبق نشرها حول بورخيس من قبل.

و كانت كوداما تعتب في كل مناسبة على النقّاد الذين تطاولوا أو تهجّموا عليها أو على زوجها بعد رحيله، وقالت إنّ مذكّراتها تسلّط الأضواء الكاشفة على كل ما كان مُبهماً ومجهولاً في حياة بورخيس، ذلك أنّ العديد من الناس والكتّاب والنقاد قد نشروا غيرَ قليل من الأكاذيب والإفتراءات والمبالغات حوله.

كما أكّدت ماريا كوداما في هذا القبيل كذلك: «إنّ نشر هذه المذكّرات جاء نتيجة المعاناة التي كانت تشعر بها حيث سبّب لها كلّ ما نُشر حول بورخيس حزناً عميقاً، وقلقاً مفرطاً وصل بها حدّ الاكتئاب، بل أنّ كلّ تلك الأكاذيب الملفّقة أصابتها بالدهشة، من طرف هؤلاء الذين يطلقون الكلام على عواهنه، حتى لو لم يتعرّفوا قطّ على بورخيس، على الرّغم من أنّ زوجها لم ينظر قطّ بعين الازدراء أو الاحتقار أو الاستصغار نحو أيّ كاتب أو أيّ عمل أدبي، بل إنّه كان يكنّ الاحترام للجميع، حتى إن لم يتعاطف مع بعض هؤلاء الكتّاب الذين كان لا يتورّع من انتقاد بعضهم، ذلك أنّ النقد عنده كان يعني ضرباً من «المرح» نظراً لطبعه الذي يميل إلى السّخرية ، حيث كان يطبّق ذلك حتى على نفسه وعلى أعماله.!.

الضّرير الذي أضاء العالم

تعرّضت ماريا كوداما على وجه الخصوص إلى المرحلة التي كان فيها بورخيس مديراً للمكتبة الوطنية في العاصمة الأرجنتينيّة، بوينس أيريس، وعلاقته الحميمة مع مكتبته الخاصّة، ومع الكتب بشكل عام ، فضلاً عن صلاته وآرائه حول العديد من المؤلفين والكتّاب أمثال كيبلينغ، وايلد، سيرفانتيس، كيبيدو، شكسبير، شوبنهاور، وسواهم من الكتّاب والمُبدعين الآخرين الذين كان بورخيس يبدي نوعاً من التعاطف معهم، والاعجاب بهم. وأكّدت أرملة بورخيس أنّ زوجها ظلّ يقتني الكتب بنوعٍ من الهوس، حتى بعد مرحلة إصابته بالعَمى، بل إنّه خلّد اسمَ المكتبة في إحدى أشهر قصصه القصيرة وهي بعنوان «مكتبة بابل»، ولقد كتب العديد من النصوص عن الكتب والكتّاب والمكتبات طول حياته، وقد أشاد غيرُ قليل من النقّاد من مختلف بلدان العالم بإبداع هذا الكاتب الرّائع الذي بدأ حياته «كُتْبيّاً» بسيطاً ،وعلى الرّغم من عاهة العَمى التي أصابته في شرخ عمره أمكنه أن ينير عوالمَ المُبصرين، وأن يستضيئ القومُ به، وبأدبه وإبداعاته الوضّاءة .

تقول ماريا كوداما: «إنّ بورخيس أشاد في كتابه «المتآمرون» بطيبة الناس، وسجاياهم الفطرية، خاصّة بعد الفترة التي عاش فيها في جنيف التي أقام فيها عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، وكان بورخيس يؤكّد أنّ هذا البلد كان مثالاً فريداً التعايش والتسامح لتعدّد اللغات التي يتحدّثها الناس به، وكثرة دياناته، ففي هذا البلد تُحترم الفوارق من دون مَحْوها أو العمل على إذابتها، لقد لمس بورخيس بنفسه في هذا البلد كيف يحترم الناس اللاّجئين، والمُغتربين حيث ترك ذلك فيه أثراً بليغاً.

وكانت أرملة بورخيس كوداما قد صرّحت في السياق نفسه: "بأنّ بورخيس لو كان على قيد الحياة اليوم لحظي بالتقدير نفسه الذي أولاه إيّاه قرّاؤه، والمعجبون به وبأدبه في حياته، فبالإضافة إلى عبقريته الإبداعية كان رجلًا وفيّاً لمبادئه، مخلصاً لأفكاره". وتضيف: " إنّ هذا ناتج عن كون الناس يعترفون بجانب الصّدق في إبداعاته الأدبية أو بالنسبة لمسيرة حياته". فبورخيس تعرّض لهجوم عنيف لمناهضته للبيرونية، وقد حرموه من عمله الوظيفي خلال العهد البيروني، أي خلال حكم خوان دومينغو بيرون (1945-1955)، كما أنّ آراءه في بينوشيه جعلت الأكاديمية السويدية تحرمه كذلك من جائزة نوبل في الآداب، وهو الأديب العالمي الذي يحظى باحترام مختلف الأوساط الأدبية في مختلف أنحاء المعمور. وتضيف كوداما: «هذه الصّراحة التي تميّز بها بورخيس حرمته من العديد من الفرص المماثلة".

وكانت ماريا كوداما قد تعرّفت على بورخيس في سنّ المراهقة، إذ لم يكن عمرها يتجاوز الثالثة عشرة، ذلك أنّ أباها وهو كيماوي ياباني كان صديقاً للكاتب، وعندما ماتت والدة بورخيس حلّت كوداما محلّها، حيث تفرّغت إلى نسخ، وكتابة ما يمليه عليها بورخيس من أعمال أدبية حيث كان قد أصيب بالعمى منذ 1950 وصارت ترافقه في رحلاته وسفرياته وتجواله .

وفى شهر ابريل 1985 تمّ زواج بورخيس بماريا كوداما حيث كان عمره 85 سنة، في حين لم يكن عمرها يتجاوز الواحدة والأربعين، وفارق السنّ بينهما أفسح المجال للعديد من التعليقات من كلّ نوع، ليس فقط من طرف الناس، أو الكتّاب أو النقّاد، بل حتى من طرف وسائل الإعلام ، إلاّ أنّ بورخيس وكوداما كانا يستقبلان هذه التهجّمات بنوع من الهدوء واللاّمبالاة، وقد وقفا بالمرصاد لألسنة السّوء التي تحوّلت عند موت الكاتب إلى «كتب ملتهبة» حول العلاقة التي تجمع بينهما، كما كانت هناك خلافات، ونزاعات بشأن إرث بورخيس، حيث ما فتئت الانتقادات اللاّذعة والتهجّمات الشديدة توجّه إلى ماريا كوداما إلى اليوم، من مختلف الجهات داخل بلدها الأرجنتين وخارجها.

متاهات بورخيّة

تتميّز هذه المرأة التي لم تكن تستقرّ بمكان، والتي لم تفتأ - قيد حياتها- تسافر من بلد إلى آخر بحماس متوقّد ونشاط متواصل وهي تلقي المحاضرات بدون انقطاع حول أعمال زوجها الواسعة والغزيرة، بسحر خاص، وجاذبية لا تقاوم، فبالإضافة إلى نشاطها ككاتبة قامت بالإشراف التام على بناء حديقة في بوينس أيريس أطلق عليها «متاهات بورخية»، حيث كانت قد تلقت «مؤسّسة بورخيس» في شكل هدية تصميما لهذا المشروع المستوحى من أعمال بورخيس، وهو من وضع راندال كواطي، الذي كان يعمل دبلوماسياً لبريطانيا في بوينس أيريس، كما قامت ماريا كوداما بدون كلل بإجراء اتصالات مع بلدية العاصمة الأرجنتينية في هذا الشان، وعملت بنشاط منقطع النظير على غرس الأشجار التي أحيطت «بمنتزه بورخيس» كما عملت أيضاً على إعداد وتنظيم، ندوات كبيرة متعدّدة لعلماء اللغة الإسبانية سلطت فيها الأضواء على أعمال بورخيس الإبداعية، التي تمّ تنظيمها في الأرجنتين وفي بعض بلدان أمريكا اللاتينية، وأوروبّا، كما عملت على إصدار الأعمال الكاملة لبورخيس بعد أن أضيفت إليها جميع التعديلات والتنقيحات التي قام بها الكاتب نفسه قبيل رحيله. كما قامت مع العديد من الجهات التي تُعنى ببورخيس وبأعماله على إعداد مشاريع وأنشطة أدبية أخرى موازية، كوضع باقات من الورود، والقصائد على واجهات السيارات في مناسبات عيد ميلاد بورخيس الذي يصادف 24 أغسطس من كلّ عام. وتنظيم ندوات دراسية في تواريخ متفاوتة، وأماكن مختلفة حول بورخيس وأدبه، بمشاركة العديد من الأساتذة الجامعيين والباحثين والمهتمّين والمتتبّعين لأعمال هذا الكاتب الكبير.

وتشير أرملة صاحب «الألف»: «لقد صنّفوا بورخيس كسّيد فيكتوري، يتحدّث عن متاهات ونُمر ومرايا، إلاّ أنه كان شخصاً لطيفاً خفيفَ الرّوح ومغامراً. «وتضيف»: كانت أمنيته وحلمه أن يعيش في زورق في مجرى غياب نهر التامسيس، إلاّ أنه عندما تزوّجها جعلته يتخلّى عن هذه الفكرة بعد أن حدّثته عن المخاطر التي قد تعتريها، كما أنه كان يستقبل العديدَ من الكتّاب والنقاد والطلبة والمعجبين به.

وتشير الناقدة فيكتوريا أسوردوي إلى أنّ غاية كوداما من نشاطها المتواصل على رأس مؤسّسة بورخيس كانت هي الاستمرار في إعلاء الشّعار الذي سبق أن رفعته وتبنّته منذ رحيل زوجها، وهو إخلاصها الدائم لهذا الرّجل الذي لا تفتأ تصفه في كل مناسبة بأنه كان ذا حساسية مفرطة، حيث عانى بسبب ذلك الكثير، إلاّ أنه أمكنه دائماً إنقاذ أعماله من المشاكل اليومية ومن صروف الدهر ونوائبه » . لم يفتأ العالمُ حتى اليوم يعمل على اكتشاف وتقييم أعمال ذلك المبدع الأرجنتيني الذي حُرم نعمة البصر، ولكنّه وُهب بالمقابل بصيرة نافذة ثاقبة، والذي يذكّرنا عندما نقرأ له ببشّار والمعرّي وأبي عليّ البصير، وطه حسين، ويوسف الدجوى، وإبراهيم الإيباري، ومحمد المعداوي، ومحمد حسنين البولاقي (والد أحمد حسنين باشا) وسواهم.

تقول كوداما: إنّ عفّة بورخيس واحترامه للآخرين جعل أدبه يتّسم بالعمق والشفافية والصدق، حيث جعل من هذه الأعمال بحثاً دائماً عن كنه الإنسان وماهيته، وقد أدخلت هذه الاعمال السّرور والفضول والمتعة والتطلّع في قلوب وعقول القرّاء في مختلف أنحاء العالم على تفاوت أعمارهم ، وما يزال تأثيرها يتعاظم على مرّ السنين، ليس فقط في اللغة الإسبانية التي كتب بها هذه الأعمال، بل في مختلف اللغات التي نقل إليها هذا الأدب وفي مقدّمتها اللغة العربية.

آخر كلمات بورخيس

ما هي آخر الكلمات التي أملاها الكاتب خورخي لويس بورخيس قبيل وفاته في جنيف على زوجته كوداما؟ لقد كان الجواب عن هذا السؤال حتى الآن سرّاً محفوظاً من طرف هذه المرأة التي وهبت حياتها لبورخيس، إلاّ أنّ مطبوعاً تحت عنوان «آخر تقديم لبورخيس» كان قد صدر في بوينس أيريس بعد وفاته أثار جدالاً حادّاً بين قرّاء بورخيس ونقاده والمعجبين به.

بادرت ماريا كوداما على إثر ذلك إلى توجيه مجموعة من الرّسائل إلى مختلف الجرائد والمجلات الارجنتينية توضّح فيها ما يلي: «أريد ان أنبّه القرّاء إلى مدى الزّيف الذي ينطوي عليه هذا العنوان: «آخر تقديم لبورخيس» إذ حسب أرملة الكاتب فإنّ آخر تمهيد أو تقديم كان قد كتبه الكاتب هو المتعلق بالطبعة الفرنسية لأعماله الكاملة ضمن السلسلة «بليار» عن دار النشر الفرنسية المعروفة «غاليمار».

وتؤكّد كوداما أنّ بورخيس كان قد أملى عليها هذا التقديم، إلا أنه لم يتمكّن من إنهائه وإتمامه، وتضيف كوداما: «إن ناشر هذه الأعمال الكاملة وهو الفرنسي "جان بيير بيرنيس" شرح كيف أنّ هذا هو بالفعل آخر تقديم كتبه بورخيس في حياته، والذي ظهر أو أدرج فيما بعد ضمن الأعمال الكاملة إياها. لماذا إذن وكيف ظهر النصّ الأرجنتيني الذي سبّب في إثارة هذا النقاش بين النقاد والمثقفين والمعجبين والمتخصصين في بورخيس؟ الواقع أنّ هذا الكتاب يضمّ 11 قصة لبورخيس. وفي التقديم المختصر الذي وضعه لهذا الكتاب يشير إلى أنّ 9 من الأعمال المُدرجة في هذا الكتاب هي من أجمل منتقيات إنتاجه الأدبي، ومن ثمّ تشكّ ماريا كوداما بالتالي في صحّة ومصداقية هذا التقديم الذي يشير بورخيس فيه: «لقد خامرني الشكّ ذات يوم بكون الأعمال الكاملة إنمّا هي خطأ ذو أصل تجاري أو احترافي، فأيّ رجل له الحقّ في أن يستمع إلى حكم النقاد حول أنصع صفحاته، وليس فقط حول تسليات وشطحات قلمه أو رسائله العرضية، إنّني أريد أن أتصوّر أحكام النقاد حول النصوص التسعة بالذات الموالية وليس حول صدى تلك القصص في الذاكرة".

كلمات بورخيس المنسيّة

قال بورخيس:

ليس من حقّ أحدٍ

أن ينتقصَ بالدّموع أو العتاب

من شأن هذا الاعتراف البارع

بالتفوّق والمهارة

حيث منحني الله

بسخريةٍ رائعة

وفي الوقت ذاته

الكتبَ والليلَ..!

***

د. السّفير محمّد محمّد الخطّابي

كاتب وباحث ومترجم من المغرب

 

يُعدّ فن الزخرفة محاكاةً للصور الفكرية ذات الطابع المثالي، المنتمية إلى مستويات الرمز في أعمال الفنان والباحث محمد لقمان الخواجة، الذي عرفته من خلال زياراته المتواصلة لربوع مدينة الحلة العريقة، ومكتبته العامرة التي تقع قرب مكتبة الدكتور عبد الرضا عوض، والتي تنبعث منها نفحات التاريخ والفن والأدب.

وُلد لقمان عام 1957، وحصل على شهادة الدبلوم في الفنون الجميلة، والبكالوريوس في اللغة العربية، والماجستير في النقد. وقد اهتم بكتابة الشعر والزخرفة الإسلامية، وأبدع في هذا الفن حتى أُطلق عليه لقب "الزخرفة اللقمانية". صدر له أكثر من (17) مؤلفًا في مجالات الفن والأدب والرواية، من بينها: روايتان: الكاهنة، وأطروحة معلم ، الحنين إلى الواقعية... تشكيلي، لغة النقد وقراءة الصورة (كتابان في النقد ونقد النقد) كوين كولاج، وهو عمل تشكيلي يُعنى بصناعة اللوحة من النفايات، ديوان شعر بعنوان وشل الذكريات

أسهم لقمان في إنتاج تركيبات ووحدات زخرفية تزيّن اللوحات وتغلفها بأشكال مجردة متنوعة في الأسلوب والأداء، تمنح نتاجات الفن الإسلامي، ومنها فن الزخرفة، دلالات رمزية وطابعًا روحانيًا يحتفي بمجموعة من المفاهيم القرآنية واللغوية والفلسفية. هذه التكوينات تركّز على جماليات الترميز والتركيب والتزويق، وهي منفّذة على صفحات مؤلفاته بحرفية عالية.

وقد أشاد الدكتور أسعد يحيى مسلم بأعمال لقمان التجريبية الإبداعية، وبالرؤية النقدية التي يحملها، قائلاً:" هو فنان تشكيلي وناقد بصري معروف برؤيته الجمالية الخاصة، التي تستند إلى فهم معمّق للتراث الفني، وتوظيفه في سياقات حداثوية تتقاطع فيها الثقافة والتاريخ والهوية. حيث يرتكز مفهوم التوليدية في الزخرفة عند الخواجة على مبدأ شبيه بما طرحه نعوم تشومسكي في التوليدية اللغوية."

أما الدكتور محمد علي علوان فقد اعتبر أن جهد لقمان الفني في مجال الزخرفة:" يحقق نوعًا من المواءمة الجمالية بين ابتكار الوحدة الزخرفية وتضمينها صورًا بصرية تتنافذ مع فن الرسم، في إطار تشييد شكل ومبنى جديدين لتلك الوحدة. وقد أخذ منها الخواجة ربع مساحتها كباعث لتغيير نمطية الصورة الزخرفية، وكشف صلاتها الحميمية مع الأثر التعبيري الذي تحمله... لذلك فإن التكوينات الزخرفية المتولدة هي ملامسة فعلية لإعادة صياغة الشكل الأصلي للوحدة الزخرفية في قوالب زخرفية جديدة، لا تخلو من أنظمة اشتغال معاصر، خصوصًا مع تكثيف البعد البصري للمنجز الزخرفي الجديد."

في كتابه الجديد (السياقات التوليدية في الزخرفة)، الصادر عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل بالاشتراك مع دار سما للطباعة والنشر والتوزيع، في (284) صفحة من القطع الوزيري، والمزين بعشرات اللوحات الزخرفية، يأخذنا محمد لقمان الخواجة في رحلة بصرية بحثية ثاقبة داخل عوالم الزخرفة، مستندًا إلى بنية معرفية تعبر عن أشكال ثقافية رمزية. حيث يرتكز على مبدأ التوليدية اللغوية كوحدة بنائية، من خلال سلسلة من التدوير والتركيب الزخرفي التي ينتج عنها عمل بصري زخرفي خاص يحمل بصمته.

توشحت العديد من أعمال الأستاذ لقمان بعناصر زخرفية هندسية متنوعة. وتأتي أهمية تصاميمه من جماليات المفتتحات البصرية الأولية لأي مخطوط إسلامي، الذي يهتم بالجانب التقني والأدائي والفني، فضلاً عن أهمية بعض أنظمة التكوين الزخرفي، وما تحويه من أسس تصميمية تهدف إلى تكوين وحدات زخرفية مفاهيمية بأشكال مجردة، تعتمد على قواعد وصيغ رياضية مستوحاة من البيئة الطبيعية، وجماليات التناظر، والتشابك، والتجانس، والتزويق، بطابع رمزي عميق.

تُعد أعمال لقمان الزخرفية وسيلة تجميلية تعكس رغبة داخلية في الحياة المفعمة بالجمال والزينة، تمظهرت عبر أشكال هندسية كالدوائر والمثلثات والمربعات، أو من خلال الخط العربي المشبع بالمعاني الأدبية والدينية، باستخدام الحروف والكلمات والآيات القرآنية. كل هذه العناصر المختلفة يوظفها الفنان القدير لقمان الخواجة في تصاميمه الزخرفية وفق نظام خاص، قائم على التداخل والتكرار والتناظر، بصورة منتظمة ومتناسبة من حيث الوضعية، والحجم، والكثافة، والتوزيع، وملء الفراغ، حتى تتحول كل المساحات إلى إطارٍ بصريّ زاخر بالمتعة التصويرية، يشع جمالًا وجاذبية، ويبعث في المتأمل لذة روحية وبصرية معًا.

لجأ لقمان بحسّه الفني الرفيع إلى توظيف الأشكال الرمزية المرئية وتطويعها في خدمة نشاطه الإبداعي الزخرفي، على نحو يجعل العمل الفني مجالًا لا متناهيًا للرؤية والتأمل. وتتميّز الزخرفة "اللقمانية" بقدرتها على نقل قدر كبير من الدلالات والمعاني الوجدانية التي تنبض بها الصورة، بهدف الاقتراب أكثر من الجمال في شكله ومستواه الروحي. ولهذا، يبقى عمل الفنان لقمان الزخرفي، في المنظور الإسلامي، كغيره من الفنون، قائمًا على المعرفة الحسية أكثر من كونه معرفة حدسية أو روحية خالصة.

يعود تاريخ نشأة فن الزخرفة إلى بدايات الإنسان في الكهوف، حين نقشها على أوانيه بأشكال هندسية بسيطة. ثم انتقل هذا الفن إلى الحضارات المختلفة، وكانت بداية الزخرفة الإسلامية مع الخليفة عبد الملك بن مروان، أحد أوائل الحكّام الذين اهتموا بتطوير هذا الفن، حيث قام بإضفاء الزخارف الإسلامية على قبة الصخرة في القدس الشريف، فجعلها نموذجًا معماريًا فريدًا يعكس فلسفة الفن الإسلامي في تلك الحقبة. وفي العصر العباسي بلغ العمل الزخرفي ذروته، وتواصل تطوره في العصرين المملوكي والعثماني، حيث امتزجت الزخرفة مع عناصر معمارية وفنية أخرى، فصارت علامة مميزة من علامات حضارة الإسلام وفنونه البصرية.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

بقلم: ديبا بهاشتي

ترجمة: د. محمد غنيم

***

تقديم: المجموعة القصصية الفائزة الفائزة بجائزة البوكر للسرد المترجم الى الانجليزية لعام 2025 مصباح القلب للكاتبة الهندية المسلمة: بانو مشتاق هى أول مجموعة قصصية تفوز بهذه الجائزة، ومن ثم تعد سابقة فى تاريخ الجائزة حيث تمنح للسرد الروائي لا للقصص القصير، ولعل هذا يشي بالقيمة الفنية لهذه المجموعة من القصص . تعكس القصص في هذه المجموعة حياة مشتاق كصحفية ومحامية، مع تركيز واضح على حقوق النساء ومقاومة الظلم الطبقي والديني في إقليمها.وقد صرّح ماكس بورتر رئيس لجنة تحكيم البوكر الدولية بأن القصص، على الرغم من كونها نسوية وتتضمن "سردًا مذهلًا عن أنظمة أبوية ومقاومة لها"، إلا أنها بالدرجة الأولى "حكايات جميلة عن الحياة اليومية، لا سيما حياة النساء".أما صحيفة الغارديان فقد علّقت بأن "النبرة تتفاوت بين الهادئة والهزلية، لكن الرؤية متسقة"، ووصفت المجموعة بأنها "رائعة". أما المترجمة الهندية أيضا وصديقة الكاتبة التى قامت بنقل القصص الى اللغة الانجليزية فكتبت عن بانو مشتاق الابداعية وعن تجربتها فى الترجمة من لغة محلية لها سماتها المميزة إلى لغة أخرى عالمية – الانجليزية .

***

د. محمد غنيم

........................

بانو مشتاق كاتبة متمردة

بقلم: ديبا بهاشتي

ترجمة: د. محمد غنيم

***

يمكن اختصار مسيرة بانو مشتاق بأكملها، سواء ككاتبة أو كصحفية ومحامية وناشطة، في كلمة كانادية واحدة: "باندايا"."باندايا" تعني المُعارضة، التمرد، الاحتجاج، مقاومة السلطة، الثورة وما يتصل بها من أفكار. اجمعها مع كلمة "ساهيتيا" التي تعني الأدب، لتحصل على اسم حركة أدبية قصيرة العمر لكنها شديدة التأثير في اللغة الكانادية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.بدأ أدب الباندايا كفعل احتجاجي ضد هيمنة كتابات الطبقات العليا التي كان يقودها الذكور في الغالب، والتي كانت تُنشر وتُحتفى بها آنذاك. حثت الحركة النساء، والداليت (المنبوذون)، والأقليات الاجتماعية والدينية الأخرى على رواية القصص من داخل تجاربهم الحياتية وبالكانادية التي يتحدثونها. من بين اللهجات الكانادية العديدة الموجودة، كانت لغتهم تُرفض وتُعدّ "عامية" أو "فلكلورية"، على النقيض من "لهجة النخبة" القادمة من منطقة ميسورو، والتي لا تزال تُستخدم على نطاق واسع في الثقافة الشعبية.

نشأت بانو في أسرة تقدمية، وتلقّت تعليمها بلغة الكانادا، وليس بالأوردو كما كان شائعًا لدى المسلمين آنذاك. وقد تفتّحت وعيها خلال عقود أصبحت فيها فكرة "الخاص هو السياسي" موضوعًا محوريًا في الفكر النقدي. كتبت أثناء وبعد حركة باندايا، واتجهت أعمالها بوعي بعيدًا عن ما تسميه كليشيهات "فتى يلتقي فتاة" في الأدب الرومانسي، وبدلًا من ذلك، سعت إلى خلق سرديات تنتقد النظام الأبوي وتقاليده وممارساته المنافقة. وبينما ظهرت العديد من الكاتبات المتأثرات بالمشهد الأدبي والسياسي في الثمانينيات، تبقى بانو واحدة من القليلات اللواتي واصلن الكتابة بانتظام على مدار العقود التالية.

مدينة حسن، الواقعة في السهول جنوب غرب ولاية كارناتاكا، حيث قضت بانو معظم حياتها، ومدينة ماديكيري، الواقعة في سلسلة جبال الغات الغربية، حيث وُلدتُ وأقيم اليوم مجددًا، لا تبعد إحداهما عن الأخرى سوى مئة كيلومتر تقريبًا. كلتاهما مدينتان صغيرتان، مليئتان بسمات لغوية واجتماعية مميزة، وبميلٍ سياسي محافظ، وهي سمات شائعة في المدن الهندية الصغيرة.

في منزلها، تتحدث بانو بلغة دَكني، التي تُعدّ أحيانًا — خطأً — لهجة من الأوردو، لكنها في الحقيقة مزيج من الفارسية والدلهوية والماراثية والكانادا والتيلوغو. أما لغة الكانادا فهي أداة بانو في العمل، وهي اللغة التي تصادفها في الشارع. مع ذلك، فإن الكانادا التي تتحدث بها بانو، وتلك التي نشأتُ عليها أنا — المتأثرة إلى حد كبير بلكنات المناطق الساحلية ولهجة هافياكا الخاصة بالطبقة الاجتماعية التي أنتمي إليها — تختلفان كثيرًا. وبيننا، نتحدث أيضًا أكثر من نصف دزينة من اللغات الأخرى، كثيرٌ منها يتسلّل إلى أحاديثنا وكتاباتنا بشكل طبيعي. في قصص بانو، هذا التبديل اللغوي بين ثلاث أو أربع لغات نتعامل معها يوميًا ينتج مزيجًا ساحرًا من: الكانادية، والأردية، والعربية، والداخني، بالإضافة إلى كانادية كما تتحدثها مجتمعات معينة في مناطق محددة من منطقة حسن.

هذا التعدد اللغوي ليس أمرًا نادرًا أو استثنائيًا لكثير من الهنود، كما أنه لا يرتبط بالضرورة بالطائفة أو الطبقة أو التعليم أو الجماعة، وهي الهويات التي تحدد، في المقابل، كل جانب من جوانب الامتيازات الخاصة والحياة العامة في البلاد. حين بدأت العمل على ترجمة قصص بانو، وجدت نفسي أواجه سؤالًا جوهريًا: ما الذي سيكون عليه هذا المشروع؟ هندوسية سابقة ومن الطبقة العليا تترجم صوتًا ينتمي إلى أقلية دينية، إلى لغة مشتركة غريبة عن كلينا. سيكون من المجحف اختزال أعمال بانو في هويتها الدينية، إذ إن قصصها تتجاوز حدود الإيمان وتقاليده الثقافية. ومع ذلك، في الهند اليوم — حيث انزلقت السياسة اليمينية المتطرفة خلال العقد الماضي بشكل خطير إلى أيديولوجية الأغلبية بقيادة الهندوتفا، وإلى الكراهية والاضطهاد الشديد للأقليات (وهي أشكال من العنف تتكرّر في بلدان كثيرة حول العالم، وإن كنا نميل إلى نسيان ذلك) — من الضروري الإشارة إلى السياق الذي تعيش وتكتب فيه بانو. وبالطبع، لا يُشترط أن يكون المترجم من الخلفية نفسها التي ينتمي إليها الكاتب، لكنني شعرت أن من المهم الاعتراف باختلافاتنا، وبمواقعنا وامتيازاتنا المختلفة، واستخدام هذا الوعي كأساسٍ لأكون أكثر مسؤولية وحساسية في الترجمة.

ومع ذلك، أختار أن أعزو جرأتي - أو قل تهوري - في ترجمة أعمال بانو إلى شيء قالته لي ذات مرة: إنها لا ترى نفسها كاتبة تُختزل في تصوير نمط واحد من النساء ينتمين إلى مجتمع بعينه، فالقهر الذي تواجهه النساء – وإن اختلفت تفاصيله – هو جوهر ما تكتب عنه. هذه الأُخوّة التي تجمع كل من عرفن أنفسنا كنساء، هي الوسادة التي أستند إليها في ترجمة نصوصها. آليات التكيف التي نبتكرها، والحلول التي نجدها، والتعديلات التي نجريها حول الرجال – كلها استراتيجيات بقاء تُغذّى عبر الأجيال. قد تختلف التفاصيل، لكن الجوهر يظل واحدًا: مقاومة السيطرة، "التدجين"، أو منعنا من استكشاف طاقاتنا الكاملة. نحن نؤمن – أنا وبانو – أن هذه التجارب يعاد إنتاجها في كل مكان بالعالم. بعضنا يخطو على كرات الفحم المتّقدة ليشقّ لنفسه طريقًا. بعضنا يتعلّم كيف يعيش قريبا من النار. لكن لا أحد منّا يخرج من هذه التجربة بلا ندوب.

لغة الكانادا، شأنها شأن العديد من اللغات التي ظلت مستخدمة لأكثر من ألف عام، تحمل في طياتها تقليدًا ثريًا وحيويًا من السرد الشفهي. ويمكن رؤية هذا الإرث بوضوح في قصص بانو، حيث تمزج الأزمنة الزمنية باستمرار، وتتوقف فجأة، وتُقحم ملاحظة أو مونولوجًا وسط حوار، وكأنها تجلس أمامك مباشرة.والكانادا، مثل العديد من اللغات الهندية الأخرى، لغة غنية بالتعابير والأمثال والعبارات التي لا تبدو فقط شاعريّة في نغمتها، بل تضفي أيضًا طابعًا مسرحيًا محببًا على الكلام اليومي. هنا، يُعدّ الكلام أداءً جسديًا تقريبًا، بل موسيقيًا في بعض الأحيان، حيث يعتمد معنى الكلمة بقدر ما يعتمد على المعلومات التي تنقلها، على هافا-بهافا — أي الإيماءات والتعابير — وعلى النبرة وطريقة الإلقاء. لقد حاولت قدر الإمكان الحفاظ على هذا الإحساس في الترجمة، بحيث لا أجعل الجمل وتوقفاتها المفاجئة أو تعرجاتها تبدو نافرة بصريًا على الصفحة. على سبيل المثال، فإن المبالغة (كأن يُقال: "دعه يتزوج ألف مرة") وتكرار الكلمات ("متألّق متألّق" أو "ينقط ينقط") أمرٌ شائع في الكلام اليومي. وأنا أؤمن بأنها تضيف قدرًا لذيذًا من الدراما إلى المحادثة، ولهذا اخترت أن أحتفظ بهذه السمات الغريبة الجميلة في النسخة الإنجليزية أيضًا.

من الجدير بالذكر أن الترجمة ليست مجرد استبدال كلمات بلغة ما بما يقابلها في لغة أخرى؛ فكل لغة، بما تحمله من تعابير اصطلاحية وأعراف في الكلام، تنقل معها قدرًا كبيرًا من المعرفة الثقافية التي كثيرًا ما تحتاج بدورها إلى "ترجمة".على سبيل المثال، في قصة "ألواح حجرية لقصر شيستا"، تتحدث شيستا إلى صديقتها الجديدة زينات عن زوجها افتخار. لكنها لا تستخدم عبارة "زوجي" أو تناديه باسمه، بل تشير إليه بقولها: "أخوكي البهاي صاحب" [أي: "أخوكِ الكبير"]. زينات ليست قريبة لافتخار من الناحية البيولوجية — بل إنهما التقيا لتوهما — لكن هذه الإشارة ترحّب بزينات فورًا كفرد من العائلة، وبالفعل تُستقبل بحفاوة. هذه العبارة تحمل دلالات ثقافية كثيرة: إذ في البيوت المحافظة، لا تنادي النساء أزواجهن عادةً بأسمائهم، بل يشِرن إليهم عبر علاقتهم بالمُخاطَب (كما في "أخوك")، أو يستخدمن كلمات معينة مثل "ري" عند الحديث المباشر إليهم. كذلك، لا يُنادى الكبار عادةً بأسمائهم دون أن تُضاف لاحقة تدل على علاقة قرابة محترمة مثل: عم، خال، أخ أكبر، أخت كبرى، إلى آخره (وفي هذا المثال: "صاحب"). تُظهر هذه الأعراف قدرًا من الاحترام، نعم، لكنها أيضًا تؤدي وظيفة ثقافية: إذ تخلق مساحة لشخص جديد ضمن العائلة، وتضمه إلى دائرة الألفة من خلال نسج هذه العلاقات اللغوية. فهي تُشير إلى أن القرابة لا تُبنى فقط على رابطة الدم أو الزواج، وتُعزّز الفكرة السائدة في المجتمعات الأسرية مثل الهند بأن كل شخص ينتمي إلى جماعة، وهو ما يخفّف من حدّة مفاهيم "الفردانية" و"الهوية الشخصية" الوافدة. لقد جعل مراعاة هذه التقاليد الاجتماعية والثقافية من ترجمة القصص — التي تمتلئ بطبقات متعددة من العلاقات — تحديًا حقيقيًا، لكنه أيضًا فرصة جميلة للتأمل في ممارسات نعيشها ونتعامل معها وكأنها بديهيات. ومن أجل الحفاظ على نكهة كل علاقة كما وردت في الأصل، سواء استخدمت بانو المقابل الكانادي أو الأردي، فقد اخترتُ أن أحتفظ بكل مصطلح على حاله، بدلًا من تسويته في الترجمة بعبارة عامة مثل "عمة" أو "عم".

على الرغم من أن اللغة الكانادية لغة رئيسية يتحدث بها نحو 65 مليون نسمة، إلا أن وجودها في العالم الرقمي يشبه أرضاً بكراً مقارنةً بالأردية والعربية. فالكلمات التي يمكن البحث عنها عبر "جوجل" في صيغة نقل الحروف قليلة جداً. لذا، عند كتابتها بالإنجليزية، اخترت أحياناً ما يقترب من نطقها الأصلي، وأحيانًا أختار الشكل الأرجح بناءً على الموارد القليلة المتاحة على الإنترنت. على سبيل المثال، نقلت كلمة "خبز مسطح" كـ"روتّيس" وليس "روتيس" الأكثر شيوعاً، لأن الأخيرة تعكس لهجة شمال الهند. وينطبق الأمر ذاته على "لونغي" و"بانشي" بدلاً من "دوتي". إذ إن التسمية الأولى أكثر محلية ودقة.

أما عند نقل الكلمات من الأردية أو العربية، فقد واجهت خيارات عديدة، واتبعت المنطق نفسه. فكلمات مثل "قرآن" و"جماعة" حافظت على ألف المد (’) احتراماً للوقفة الصوتية المميزة في نطق الناطقين الأصليين. بينما ينقل متحدثو الداخني، بمن فيهم بانو، حرف "القاف" كـ"خ" بسبب اختلاف بسيط في النطق. وهكذا، نُقلت كلمة "مقبرة المسلمين" كـ"خاباريستان" وليس "قاباريستان" كما هو شائع.

بعيدًا عن الجدل العقيم حول ما يُفقد ويُكتسب في الترجمة، يسعدني أن أقول إن لغة الكانادا قد وجدت، من خلال هذه المجموعة، قرّاءً جدداً . لقد اتخذت قرارًا واعيًا بعدم استخدام الخط المائل للكلمات الكانادية والأردية والعربية التي حافظت على شكلها الأصلي في النص الإنجليزي. فالخط المائل لا يشوش على القارئ بصريًا فحسب، بل ويعلن عن الكلمات وكأنها غريبة مستوردة من لغة أخرى، يجعلها تبدو دخيلة وغير مألوفة للإنجليزية. من خلال الامتناع عن استخدام الخط المائل، آمل أن يتمكّن القارئ من استقبال هذه الكلمات بلا عوائق، وربما، أثناء انسيابه مع النص، يتعلم كلمة أو اثنتين بلغة أخرى. الأمر نفسه ينطبق على الهوامش التفسيرية – فهي غير موجودة هنا.

(انتهى)

***

......................

الكاتبة: ديبا بهاشتي / Deepa Bhasthi (مواليد ١٩٨٣) كاتبة ومترجمة وصحفية هندية من ولاية كارناتاكا الجنوبية. نالت شهرة عالمية لترجمتها مجموعة القصص القصيرة "مصباح القلب" للكاتبة بانو مشتاق، والتي أصبحت بفضلها، في عام ٢٠٢٥، أول مترجمة هندية تفوز بجائزة بوكر الدولية.

وُلدت ديبا بهاشتي في ماديكيري، كارناتاكا عام 1983. وتنسب حبها للأدب إلى جدها لأبيها الذي توفي قبل ستة أشهر من ولادها وترك لها مجموعة واسعة من الكتب، بما في ذلك أعمال مهمة من الكلاسيكيات الروسية.

تخصصت بهاشتي خلال مسيرتها الصحفية في الصحافة الفنية، وأصبحت في النهاية كاتبة عمود والمحررة المؤسسة لمجلة "ذا فوراجر" التي تستكشف الأهمية السياسية للطعام. في عام 2016، تعاونت مع ثلاثة مبدعين آخرين لتأسيس "فوراجر كولكتيف"، الذي يدرس قضايا اجتماعية مثل الاقتصاد والسياسة والثقافة من خلال عدسة الطعام. بعد بضع سنوات، عادت إلى مسقط رأسها في ماديكيري مع زوجها الفنان والمزارع تشيتيرا سوجان نانايا، حيث يعيشان حياة هادئة في مزرعة مع خمسة كلاب.

اكتسبت ديبا بهاشتي اعترافًا دوليًا لعملها في الترجمة الأدبية. فترجمتها الإنجليزية لمجموعة القصص القصيرة "مصباح القلب" لبانو مشتاق، التي أنجزتها خلال أربعة أشهر من العمل المكثف، أكسبتها والمؤلفة جائزة البوكر الدولية عام 2025 أشادت لجنة التحكيم بالترجمة ووصفتها بأنها "شيء جديد بحق"، وترجمة راديكالية "تتحدى وتوسع فهمنا للترجمة". في ترجماتها، تتبع بهاستي منهجًا تصفه بأنه "الترجمة بلهجة"، حيث تحتفظ نصوصها عمدًا بالخصائص الثقافية والتاريخية للغة الأصلية لضمان الأصالة بالإضافة إلى أعمال مشتاق، ترجمت أيضًا كتابات مؤلفين بارزين مثل كوداجينا جورامّا، الرائدة النسوية في الأدب الكنادي، وكوتا شيفاراما كارانث. إلى جانب عملها كمترجمة، تُعد بهاستي أيضًا مؤلفة كتب أطفال. فقد نُشر كتابها "تشامبي وشجرة التين" عام 2025 .

(نقلا عن أخبار الأدب المصرية – النسخة الورقية 13يوليو 2025)

 

يُعْتَبَر الشاعرُ العِراقيُّ بَدْر شَاكِر السَّيَّاب (1926 - 1964)، مِنْ أبرزِ الشُّعَراءِ العَرَبِ في القَرْنِ العِشرين، وأحَدَ مُؤسِّسي الشِّعْر الحُر في الأدب العربيِّ. وُلِدَ في قَريةِ جيكور بالبَصْرَة. فَقَدَ وَالِدَتَه في سِنِّ السادسة، وَتَرَكَ ذلك أثرًا عميقًا في حياته، فذاقَ مَرارةَ اليُتْمِ طِيلة حَياته، وفي مَرحلةِ طُفولته عانى مِنْ عُقدةِ المَرَضِ وضَعْفِ الجِسْمِ.

كانَ السَّيَّابُ ضئيلًا، نَاحِلَ الجِسْم، قَصِيرَ القَامَةِ، ذا مَلابس فَضْفاضة. وَصَفَه الدُّكتور إحسان عَبَّاس بِقَوْلِه: (غُلام ضَاوٍ نَحِيل كأنَّه قَصَبَة، رُكِّبَ رَأسُه المُستدير كَحَبَّةِ الحَنْظَل، عَلى عُنُقٍ دقيقة تَمِيل إلى الطُّول، وعلى جَانِبَي الرَّأس أُذُنَان كبيرتان، وتحت الجبهة المُستعرضة التي تَنْزِل في تَحَدُّبٍ مُتَدَرِّج أَنْفٌ كبير يَصْرِفُكَ عَنْ تأمُّلِه أوْ تأمُّلِ العَيْنَيْنِ الصَّغِيرَتَيْن العَادِيَّتَيْن عَلى جَانِبَيْه فَمٌ وَاسِع، تَبْرُز الضَّبَّةُ العُلْيا مِنْه وَمِنْ فَوْقِهَا الشَّفَة بُرُوزًا يَجْعَل انطباقَ الشَّفَتَيْن فَوْقَ صَفَّي الأسنان كَأنَّه عَمَلٌ اقتساري، وَتَنْظُر مَرَّةً أُخْرَى إلى هذا الوجه الحِنْطِيِّ، فَتُدْرِك أنَّ هُناك اضطرابًا في التَّنَاسُبِ بَيْنَ الفَكِّ السُّفْلِيِّ الذي يَقِفُ عِند الذَّقْنِ كأنَّه بَقِيَّة عَلامَة استفهام مَبْتُورة، وَبَيْنَ الوَجْنَتَيْن الناتئتَيْن، وكأنَّهما بِدايتان لِعَلامَتَي استفهام أُخْرَيَيْن قَد انْزَلَقَتَا مِنْ مَوْضِعَيْهِمَا الطَّبِيعِيَّيْن) [بدر شاكر السياب، دراسة في حياته وشِعْرِه، 1969، ص 25 ].

نَتيجة الفَقْرِ المُدْقِعِ الذي عَاشَه السيابُ في صِغَرِه، عانى مِنْ فَقْر دَم ناشئ عَنْ سُوءِ التَّغذية، كما ساهمَ مَرَضُ السُّلِّ الذي أُصِيبَ بِهِ في شَبَابِه في نُحُولِ جَسَدِه.

في عام 1961، بدأتْ صِحَّةُ السياب بالتَّدهور، حَيْثُ بدأ يَشعُر بِثِقَلٍ في الحَرَكَةِ ـ وأخذَ الألمُ يَزداد في أسفلِ ظَهْرِه، ثُمَّ ظَهَرَتْ بعد ذلك حالةُ الضُّمور في جَسَدِه وقَدَمَيْه، وَتَمَّ تَشْخِيصُهُ بمرضِ التَّصَلُّبِ الجانبيِّ الضُّموري، وظَلَّ يَنْتَقِل بَين بغداد وبيروت وباريس ولندن للعِلاج بِلا فائدة.

فَقَدَ السيابُ قُدْرَتَه على الحَرَكَةِ والتَّنَقُّلِ، وعَانى مِنَ الشَّلَلِ، مِمَّا جَعَلَه يَشْعُر بالكآبةِ والحُزْنِ العَمِيقِ، وَسَيْطَرَ عَلَيْهِ هَاجِسُ المَوْتِ، وَظَهَرَتْ آثارُ مُعَاناته مِنَ المَرَضِ في شِعْرِه.

يَقُول السياب: (آهِ لَعَلَّ رُوحًا في الرِّياح / هَامَتْ تَمُرُّ على المَرَافِئِ أوْ مَحَطَّاتِ القِطَار / لِتُسَائِلَ الغُرباءَ عَنِّي / عَنْ غَريبٍ أمْسِ راح / يَمْشِي على قَدَمَيْن / وَهُوَ اليَوْمَ يَزْحَفُ في انكسار / هِيَ رُوحُ أُمِّي هَزَّهَا الحُبُّ العَمِيق/ حُبُّ الأُمُومَةِ فَهِيَ تَبْكي / آهِ يا وَلَدِي البعيدَ عَن الدِّيار / وَيْلاه! كَيْفَ تَعُودُ وَحْدَكَ لا دَلِيلَ ولا رفيق) [قصيدة/ الباب تَقْرَعُهُ الرِّياح، لندن، 13/3/1963].

انتقلَ السيابُ إلى المُستشفى الأميريِّ في دَولةِ الكويت لِتَلَقِّي العِلاج، حَيْثُ قامتْ برعايته، وأنفقتْ عَلَيْه خِلال مُدَّة عِلاجه، إلا أنَّ المَرَضَ لَمْ يُمْهِلْه، فَتُوُفِّيَ عام 1964، عَنْ عُمر يُناهز الثامنة والثلاثين. وَنُقِلَ إلى قَريته جيكور، وَشَيَّعَه عدد قليل مِنْ أهْلِهِ وأبناءِ قَريته، وَدُفِنَ في مَقبرةِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ بالزُّبَيْر في البَصْرَةِ جَنُوب العِراق.

وَيُعَدُّ الشاعرُ الإنجليزيُّ ألكسندر بوب (1688 - 1744) أحدَ أبرز شُعراء القرن الثامن عَشَر في إنجلترا، وَهُوَ مَعروفٌ بمهاراته في كِتابةِ القصائدِ الساخرة والأعمالِ الفلسفية، واشْتُهِرَ بأبياته الشِّعْرية البُطولية، وتَرجمته لأعمال الشاعر الإغريقي هوميروس. وَهُوَ ثالث كاتب يَتِمُّ الاقتباس مِنْهُ في قاموس أكسفورد للاقتباسات، بَعْد شكسبير وألفريد تنيسون.

عانى بوب مِنَ التَّمييز الدِّينيِّ بسبب انتمائه إلى الكاثوليك، في وقت كان الكاثوليك لا يَزَالون مُضْطَهَدِين في إنجلترا. وَقَدْ تأثَّرَ بقانون العقوبات المعمول به في ذلك الوقت، والمأخوذ مِنْ كَنيسةِ إنجلترا، التي حَظَرَتْ على الكاثوليك التدريسَ ودُخولَ الجامعاتِ والوظائفَ العَامَّة.

وأيضًا، عانى بوب مِنْ مُشكلات صِحية عديدة في سِنِّ الثانية عَشْرَة، مِثْل مَرَض " بوت "، وَهُوَ نَوع مِنَ السُّلِّ يُصيبُ العِظَامَ، والذي شَوَّهَ بُنيته الجِسمية، وَجَعَلَه يَتوقَّف عَن النُّمُوِّ، وتَرَكَه أحْدَب. وَتَسَبَّبَ مَرَضُ السُّلِّ بِمُشكلات صِحية أُخْرَى، بما في ذلك صُعوبات في التَّنَفُّسِ، والحُمَّى الشديدة، والتهاب العُيون، وآلام البَطن.وَلَمْ يَتجاوز طُولُه 1.37 مِتْرًا. وَقَدْ عَرَّضَه مَظْهَرُه الجَسَدِيُّ لِسُخريةِ أعدائه. وكانَ مَعزولًا عَن المُجتمع، لأنَّه كاثوليكي، وزادتْ صِحته السَّيئة مِنْ عُزلته أكثر، فَلَمْ يَتَزَوَّجْ، ولكنْ كانَ لَدَيْهِ الكثير مِنَ الصَّديقات، وكانَ يَكتب لَهُنَّ رسائل ظريفة.

أُصِيبَ بوب بإعاقة جسدية دائمة، وكانَ أحْدَبَ الظَّهْر، ويَحْتاج إلى رِعاية صِحية يَومية. وغالبًا مَا تُعْزَى طبيعته سريعة الغضب وعدم شَعْبيته في الصِّحَافة إلى ثلاثة عوامل: انتماؤه إلى أقلية دِينية، وَضَعْف جِسْمِه، واستبعاده مِنَ التعليم الرَّسمي.

ساهمَ مَرَضُ بوب في تشاؤمِه، وسَوْداويةِ مِزَاجِه، وَوُجودِ النَّغْمَةِ الحَزينة في بعضِ أشعاره، وقَدْ ثَقَّفَ نَفْسَه إلى حَد كبير، وظَهَرَتْ بَراعته في النَّظْمِ في وَقْت مُبكِّر في قَصائده الرَّعَوِيَّة، وَتَعْكِسُ كِتاباتُه رُوحَ عَصْرِهِ الواثقِ بِنَفْسِه وحَضارته وتَمَدُّنه. ويُمكِن مُلاحظة الفرق الكبير بَين أشعاره الأُولَى المُتفائلة، وأشعارِه الأخيرة المُتشائمة. وكانَ شديدَ الاهتمامِ بِجَمَالِ الألفاظِ، ويَنظُر إلى لُغةِ الشِّعْرِ على أنَّها مُتَفَوِّقَة تَسْمُو على لُغةِ العَامَّة، وَلَوْ أدَّى ذلك إلى جَعْلِها لُغَةً مُتكلِّفة مَليئة بالمُبَالَغَات. وكانَ المُتَحَدِّثَ بلسانِ عَصْرِه، والناقدَ القاسي لَه، في آنٍ مَعًا.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

ماذا يبقى من الفيلسوف حين يرحل؟ أتبقى كتبه حروفًا جامدة على ورق أصفر، أم تتحول أفكاره إلى كائنات حية تسكن عقول تلاميذه؟ وهل الموت نهاية للمفكر حقًا، أم أنه تحول من الوجود المادي إلى الوجود الفكري الخالص؟ هذه الأسئلة الوجودية تفرض نفسها بقوة مع رحيل الأستاذ الدكتور حسن عبد الحميد، ذلك العقل المصري الذي جسد بمسيرته معنى "الفيلسوف المعلم" الذي لم يكتف ببناء نظريات مجردة، بل أسس مدرسة فكرية حية تنبض في تلاميذه من أمثال الدكتور أحمد فاروق. يشكل رحيله تغيبًا لرؤية فريدة في فهم العلاقة بين المنطق والواقع، بين التراث الفلسفي العربي والحداثة الأوروبية.

من الصعيد إلى السوربون

ولد الدكتور حسن عبد الحميد عام 1940 في قرية الحريزات بمحافظة سوهاج، في بيئة زراعية بسيطة لم تكن تبدو مهيأة لاستقبال فيلسوف مستقبلي. لكن القدر كان يخبئ له مسارًا مختلفًا. بعد حصوله على درجة الليسانس من جامعة عين شمس، سافر في بعثة إلى فرنسا لدراسة المنطق وفلسفة العلوم في جامعة السوربون العريقة، حيث قضى هناك أكثر من عقد كامل (1964-1975)،

في فرنسا، عمل حسن عبد الحميد باحثًا في المركز القومي الفرنسي للبحث العلمي (CNRS) من 1968 إلى 1973، وهي فترة غنية شكلت وعيه الفلسفي. هناك تعرف على تيارات الفكر الفرنسي الحديث، وتأثر بشكل خاص بفلاسفة مثل جاستون باشلار وجان بياجيه وروبير بلانشيه، الذين قدموا رؤية نقدية للأبستمولوجيا تختلف عن المدرسة الوضعية المنطقية السائدة آنذاك، هذه التجربة العميقة مع الفلسفة الغربية لم تقطع صلته بجذوره العربية، بل على العكس، زودته بأدوات جديدة لإعادة قراءة التراث الفلسفي الإسلامي.

العودة والبناء

عندما عاد الدكتور حسن عبد الحميد إلى مصر، حمل معه رؤية جديدة للمنطق وفلسفة العلوم. رسالته الدكتوراه التي حملت عنوان "منطق الاستدلالات القانونية" كانت إشارة مبكرة إلى اهتمامه بالجوانب التطبيقية للمنطق، بعيدًا عن التجريد النظري المحض،

في جامعة عين شمس، بدأ عبد الحميد مسيرته الأكاديمية التي استمرت عقودًا، تدرج خلالها من مدرس إلى أستاذ مساعد ثم أستاذ كرسي. لكن دوره لم يقتصر على التدريس الرسمي، فقد كان -كما يصفه تلميذه الدكتور محمود محمد علي- يتمتع بـ"أسلوب مفيد وشيق، يتعامل مع تلاميذه كأنداد له، وليسوا مجرد طلبة يتلقون العلم على يديه". هذا التواضع الفكري المصحوب بعمق معرفي جعل منه معلمًا استثنائيًا، ترك تأثيرًا كبيرًا على أجيال من دارسي الفلسفة في مصر والعالم العربي.

بين التراث والحداثة

مسيرة الدكتور حسن عبد الحميد لم تكن سهلة أو خالية من التحديات. واجه كغيره من المفكرين العرب إشكالية العلاقة بين التراث الفلسفي الإسلامي والمنطق الحديث. في وقت كان فيه الكثيرون إما منغلقين على التراث رافضين كل جديد، أو منبهرين بالغرب رافضين كل قديم، حاول عبد الحميد تأسيس رؤية نقدية توافقية.

من أهم معاركه الفكرية دفاعه عن "المنطق الإشراقي" للسهروردي المقتول، حيث رأى أن هناك تقاطعات بين هذا المنطق وبين بعض تيارات المنطق الحديث، كما خاض معركة أخرى في الدفاع عن دور المنطق في الفقه الإسلامي، خاصة عند الأشاعرة، معتبرًا أن هناك علاقة عضوية بين المنهجين لم تُدرس بشكل كافٍ في التراث العربي الإسلامي،

بين التأليف والترجمة

ترك الدكتور حسن عبد الحميد إرثًا فكريًا غنيًا، وإن كان -للأسف- غير معروف بالقدر الكافي خارج الأوساط الأكاديمية المتخصصة. من بين أعماله البارزة:

1. دراسات في المنطق متعدد القيم: حيث حاول فيها الربط بين المنطق الحديث والتراث المنطقي العربي،

2. المنطق الصوري القديم بين الأصالة والمعاصرة: دراسة نقدية للمنطق الأرسطي في ضوء التطورات الحديثة،

3. العلاقة بين المنطق والتصوف: حيث تناول فيها تجربة السهروردي المقتول كنموذج للتفاعل الخلاق بين المنطق والتصوف،

كما ترجم كتاب "البصيرة والفهم: دراسة في أهداف العلم" لستيفن تولمن، مقدمًا للقارئ العربي أحد أهم أعمال فلسفة العلوم المعاصرة،

الأسلوب والرؤية

تميز أسلوب الدكتور حسن عبد الحميد -كما يصفه تلاميذه- بـ"الهيبة والوقار التي كانت تكسو ملامحه الشخصية الظاهرة، وتكشف عن باطن ثري، يعمر بإيمان قوي، وثقة بالنفس، وعاطفة جياشة، وسريرة نقية، وقلب صاف عن الأحقاد "، هذه الصفات انعكست على منهجه الفلسفي الذي جمع بين الدقة المنطقية والعمق الإنساني.

في محاضراته، كان عبد الحميد يرفض التلقين، ويشجع تلاميذه على إبداء آرائهم بحرية، حتى لو اختلفت مع آرائه. يقول الدكتور أحمد فاروق  في وصفه: "من فرط أدبه العظيم أنه كان يدلي برأيه من غير ما إصرار على صحته، وكنت أراه يفصح عن وجهة نظره السديدة في الوقت الذي يطالبك فيه إبداء وجهة نظرك بكل صراحة ووضوح"،

التأثير والتلاميذ

ربما يكون أعظم إنجازات الفيلسوف الحقيقي هو تلاميذه الذين يحملون فكره ويطورونه. في حالة الدكتور حسن عبد الحميد، كان من بين تلاميذه البارزين الدكتور أحمد فاروق، والدكتور عصام بيومي  والدكتور هاني مبارز،

هؤلاء التلاميذ لم يكونوا مجرد ناقلين لأفكار أستاذهم، بل طوروا رؤى جديدة مستلهمة من الأساس الذي وضعه. ففي الوقت الذي ركز فيه عبد الحميد على المنطق وفلسفة العلوم، توسع تلاميذه في مجالات أخرى مثل فلسفة السياسة وحروب الجيل الرابع والخامس، لكنهم حافظوا على الروح النقدية والمنهجية الدقيقة التي غرسها فيهم،

الرحيل والبقاء

اليوم، وقد رحل الجسد، تبقى الأسئلة التي أثارها الدكتور حسن عبد الحميد حية في كتبه ومحاضراته وتلاميذه. رحيله يذكرنا بأن الفيلسوف الحقيقي لا يموت تمامًا، لأن أفكاره تظل تحاور الأجيال اللاحقة. لقد كان عبد الحميد نموذجًا نادرًا للفيلسوف المعلم الذي لم يكتف بالتنظير، بل ساهم في بناء عقول قادرة على التفكير النقدي الخلاق.

في زمن تطغو فيه الصورة على الجوهر، والسرعة على العمق، يصبح فقدان مثل هذه العقول خسارة مضاعفة. لكنّ التعويض الوحيد عن هذه الخسارة هو مواصلة القراءة لأعماله، وإعادة اكتشافها، ونقلها إلى أجيال جديدة ربما تكون أكثر حاجة إليها اليوم مما كانت عليه الأجيال السابقة.

رحل الفيلسوف، لكن فلسفته باقية. غاب الرجل، لكن أسئلته مازالت حاضرة. وهذا ربما هو أصدق تعريف للخلود.

***

د. عبد السلام فاروق

 

دهشة التعلم الأولى، دهشة اكتشاف عالم جديد من أنقى اللحظات الإنسانية، شعور بالخوف والفرح البريء مع إحساس خفي بأن الحياة ستبدأ من هنا، من لحظة تصفح الكتاب، حيث تبدأ الأسئلة عن الحروف والصور ورائحة الورق في صفحات كراسات الصفوف الأولى للدراسة الابتدائية،  من بينها مطبوع لا يشبه سواه: (الأطلس العراقي) بألوانه الزاهية وطباعته المحكمة الأنيقة، وإن أسعفتني الذاكرة، أنه مطبوع في أرقى المطابع الهولندية، عنوان الغلاف بخط الرقعة الجميل على شكل قوس، أشرف على إعداده  أساتذة متخصصون في الجغرافية، نجم الاطرقچي وأحمد المهنا. كان الأطلس بوابة إلى عوالم بعيدة.. إلى أسماء تشبه الطلاسم، أرددها كتعاويذ مقدّسة، كلما أتصفح أوراقه يخيل إليّ أني أطوف العالم وحدي، صرت أرى في الخرائط أرواحاً لا خطوطاً صماء، كل خريطة كانت تحمل وجهاً مستتراً، استدرجها إلى خيالي، كلغزٍ مرسوم على الورق. كانت نافذتي الاولى نحو المجهول، لا أعرف (كراچي) وعواصم الدنيا، لكنني أحدّق فيها كلما تصفحت الأطلس، لا أعرف ماذا وراء جبال زاگروس، فألمسها بطرف أصبعي، فأشعر أنها تعرفني. كبرتُ وكبرت معي دهشتي بالألوان، لازمني الشغف بالأمكنة، وتأمل الخرائط وأشكال التقسيمات الحدودية، فتحول، كلما تقدمت السنين إلى منهج وتوجّه ودراسة لعلم الجغرافية في المراحل الجامعية الأولى، كانت محصّلتها، كتابان عن الأمكنة: (داخل المكان.. المكان روح ومعنى) و(ضفاف المدن). يومها لم أقرأ قصة الحكّاء الأرجنتيني لويس بورخيس "امبراطورية الخرائط" بوصفها مفارقة ساخرة، وحكاية فلسفية تشير إلى عبثية المبالغة في التفاصيل.

أدركت لاحقاً أن خرائط الدول نتاج تاريخي وجغرافي وسياسي، تمنح الدول - أية دولة - حدودها وشكلها المختلف مع البلدان الأخرى، هذا الشكل يثير أسئلة عديدة، من بينها: هل توجد خرائط بلدان جميلة وأخرى مشوّهة؟ هل لها امتدادات غريبة أو نتوءات؟ بعض الأشكال تبدو أنيقة، متوازنة، متناغمة، في حين أن خرائط دول أخرى توصف بأنها مشوشة، غير متناسقة، أو مجزأة.

الحقيقة المؤكدة هي أن كل الحدود، لم ترسمها أيادي الشعوب، بل صنعتها إرادات استعمارية على وفق ما تشاء، على وفق مصالحها وقوة نفوذها، هي لا تعبّر على الأغلب عن الواقع الإثني أو الثقافي والاجتماعيّ بشكل دقيق، بل كانت سبباً وراء العديد من الصراعات والحروب الطويلة بين البلدان.  في ظل ظروف معقدة واتفاقات ومؤامرات دولية لم تأخذ بنظر الاعتبار مصالح الشعوب. بينما تحمل الخريطة أبعادًا جمالية وثقافية ومعرفية بعيداً عن وظيفتها السياسية، يجعلها أكثر من مجرد أداة ترسيم، أو وسيلة لتحديد الأماكن وتراتبيتها، بل هي طريقة لرؤية العالم، العلاقات بين الأشياء، المساحات، فضلاً عن جمالياتها الخطية والهندسية وإشاراتها الرمزية.

هذه العناصر مجتمعة تجعل منها عملاً بصرياً، هناك من ينظر إليها كوسيلة لتأمل فكرة المكان والانتماء، وتصبح رمزاً للوحدة، تعلّق في الساحات والمكاتب وجدران المدارس، ويلجأ المصممون بإفراط إلى توظيفها كعنصر أساس في تصميم (لوغوات)، الدوائر الرسمية والمنظمات والمؤسسات، ما يفقد قيمتها الجمالية والرمزية.

ثمة حوار نفسي وثقافي تخلقه الخريطة، وندوب تاريخية تعبّر عن تمزقات داخلية: إثنية، اجتماعية، ثقافية، سياسيّة، الخرائط ليست صامتة، كل خريطة تقول شيئاً: تلمّح، تهمس، تصرخ أحياناً، تبدو على الورق أكثر من خطوط مرسومة، هي أبعد من ذلك : مخلوقات، أجساد، هياكل، نرى وجوهاً من دون ملامح، وملامح بلا هوية. هذه التأويلات الرمزية لشكل الخرائط هي في جوهرها قراءة مجازية أكثر من ملاحظة جغرافية موضوعية. بعض الخرائط تشبه الطير، خريطة الصين تبدو كامرأة حبلى، وثالثة مثل سيف مكسور، أو دودة شريطية، أو كف ترتجف، خريطة العراق تثير شعوراً بالاتزان، جسد متناسق يخترقه نهران يتحدثان عن تاريخ وحضارات ودماء سالت على ضفافهما، وممالك انطوت.

ايران في خريطتها تذكرك ب ( سنام) جمل تضخم  خارج حدود المألوف، برأس قط يراقب بعيون نصف مغمضة، مستعد للوثوب، تركيا بخريطتها المستطيلة وامتدادها العرضي يوحي باسترخاء المحتل المتغطرس ، داخلها يخفي أشياءً متعرجة، خريطة سوريا جميلة متوازنة،لا نتوء نشاز فيها، سوى إبهام ممتد نحو الشمال، لكن الجمال فيها مهدد، خرائط دول عربية ( مصر، ليبيا، الجزائر) تبدو كأشكال هندسية وخطوط مستقيمة، مرسومة بمسطرة على عَجٓل، لبنان صغيرة نحيلة، تشبه سبابة تشير إلى البحر، ليس بمقدورها صد العواصف والأمواج، بالكاد تُرى وسط العالم بنظر الجغرافيا، وفي عيون التاريخ لبنان أكبر من حجمها ألف مرة، لكنه لا يستطيع ان يوسع رقعته، بل مزّقه الغزاة وعبثوا في أمنه. خريطة فلسطين أكثر الخرائط تمثيلاً في الرسم، وظفها الفنانون كعنصر بصري مشحون بالعاطفة والاحتجاج، الشكل: إمرأة مقطوعة الرأس، تدير ظهرها إلى العرب والجسد متكىء على خط وهمي مستقيم، وجهته نحو الساحل، يقول عن نفسه: لست مثالياً لكنني حقيقة مجروحة في مواجهة التقسيم والتسويات المرحلية. الخرائط لغة صامتة لكنها تبوح بالكثير، وللبلدان لغة حوار مع خرائطها. قدر بعضها أن تكون أشبه بشريط ممدود على الأرض (تشيلي في امريكا اللاتينية، ارتيريا في أفريقيا)، وأخرى تزحف بدل أن تمشي، إيطاليا تشبه حذاءً بكعب عال يخوض مياه البحر المتوسط، الصومال ذراع تمتد، أو منقار نسر، الأردن تبدو كقبضة سلاح موجه نحو الشرق، وخارطة الهند كضرع بقرة حلوب يتدلّى نحو المحيط.

هنا في هذا التشبيه تتداخل المعاني بين الشكل الجغرافي. والواقع الإجتماعي والاقتصادي. لا يمكن لهذا التشبيهات بالطبع ان تستثمر كصور بلاغية تعكس توتراً أو موقفاً معيناً. وفي جغرافيا الأقدار لا تتساوى البلدان، ثمة من تشهق بالماء، تهبط على شواطئها السفن بلا استئذان، وأخرى محاصرة تسعى للنجاة من اليابسة، لا باب ولا كوّة صغيرة نحو الفضاء وأفق البحار. قدر البلدان أن تتناثر جزراً في المحيطات كالأحلام، منها ما يكتفي بعزلته أو ينام. ومنها ما يعاد رسمه كلّما شاء الأقوياء.

***

د. جمال العتابي

 

مرت امس - السادس من تموز - ذكرى رحيل الكاتب الفرنسي كلود سيمون والذى يعتبر من أشهر الكتاب الفرنسيين لكونه حصل على جائزة نوبل للاداب عام 1985 وقد أنتج عددا من أبرز نماذج الرواية الفرنسية الجديدة تمثلت في رواياته التي ظهرت في خمسينيات القرن العشرين. يعترف بان رواياته تدور حول حياته التي يعيشها، فهو عندما يريد الكتابة يكتب عن حياته ذاتها دون تركيز على تقديم درس معين للقارئ،

ولد كلود سيمون في عام 1913 في مدغشقر. قتل والده في الحرب، بعد اقل من سنة على ميلاده ، وماتت أمه عندما كان في الحادية عشرة من عمره، تم ارساله الى مدرسة دينية ذات نظام صارم، يعترف ان اليتم في سن مبكرة لم يؤثر عليه كثيرا، فقد عاش طفولة سعيدة في ظل رعاية عمه وعمته، حاول ان يدرس الرسم، لكنه قطع دراسته للاشتراك في الحرب الأهلية الاسبانية الى جانب الجمهوريين، وسيسخر من موقفه هذا فيما بعد ليكتب:" لم أقاتل وصلت إلى برشلونة في ايلول عام 1936 حاولت أن أكون متفرجا أكثر من كوني ممثلا في الكوميديا التي تلعب في العالم". قال إنه اتجه إلى الكتابة لأنه رأى أنها ستكون أسهل من الرسم ومن الثورة ضد الاوضاع البائسة التي تعيشها البشرية،هرب من معسكر الاسر الالماني حيث كان جنديا في فصيل سلاح الفرسان الفرنسي:" تمكنت من الركوب في قطار للسجناء كان الألمان ينقلونهم الاسرى في الشتاء. كان المعسكر سيئ الحراسة. فهربت في وضح النهار، بأن انسللت من بين جنديين ألمانيين داخل إلى الغابة. ومن هناك، ظللت متخفيا طول الطريق إلى أن وصلت إلى خط الحدود "، يكتب اولى روايته اثناء الحرب وكانت حسب رأيه رواية تقليدية: " كنت اقول مع نفسي بان هناك قصة ما علي سردها "،يكتشف فيما بعد ان الكتابة ليست مجرد وسيلة للتعبير، وانما وسيلة للبحث:" اصبحت فيما بعد اكتب كي اكتشف كل ما يمكن ان يقال "

روايته الاولى " المخادع " كتبها عام 1941 لكنها نشرت بعد الحرب، قال النقاد عنها بان تاثير رواية " الغريب " لالبير كامو كان واضحا عليها، لكنه ينفي اي علاقة له بادب كامو، فقد أعتبر كتابات كامو وسارتر تافهة:" أهم ما تتصف به كتابات سارتر أنها كاذبة وحاقدة. ولو أن لي أن أعترف بأي تأثيرات فهي تأثيرات دوستويفسكي، وتشيخوف، وجويس، وبروست، وفوكنر"، يكتب ببطأ بالغ:" قبل الكتابة أدوّن القليل جدا من الملاحظات"، اهتم بالكتابة عن الجنس، لكنه يسخر من الجنس الذي يكتب عنه العديد من الروائيين:" نقطة الضعف الكبرى في أغلب الروايات أنها تصوّر شخصيات عادية، دمى بلا أعمدة فقرية وبلا أعماق، وتكون الأفعال الجنسية بالنسبة لهم مجرد أشياء تقع، فتبدو لهذه السبب مفككة، ما يهمني أنا هو أن يأتي وصف المشاهد الجنسية في سياق مشاهد أخرى، مشاهد غير جنسية مثلما يحدث في الحياة "،،يعترف كلود سيمون بان كتابة الروايات ليست حرفة: الفن لا قواعد فيه. بل هو على العكس من ذلك، مسألة كسر للقواعد في أغلب الحالات "،

يصف النقد روايات كلود سيمون بانها صعبة على القارئ العادي يقول:" اني لا اؤمن بالقول ان رواياتي صعبة، واعتقد بان هذا القول غير واقعي ومجحف بحق الرواية الحديثة، ان اي نص يشكل قضية ما يختلف فهمها من قارئ لآخر، فهناك عدة معاني للكلمة الواحدة، لذا فان كل قارئ سيعطي معنى خاصا لكل كلمة توجد في الرواية "،

تؤكد سيرة حياة كلود سيمون انه لم يهمل المشاكل الكبرى التي مر بها العالم، فقد شارك في الحرب وسجن واسر وعانى من الجوع والعمل الشاق وطالب باستقلال الجزائر وشجب بشدة الحرب الفيتنامية:" رواياتي تعكس هذه التجربة بشكل واضح، فقد صورت العالم الحالي والمجتمع الحالي في رواياتي، واني اعتقد بان الطريقة الوحيدة لمساهمة الكاتب في هذه الحركة المستمرة في العالم الذي نعيش فيه تكمن في مساهمته اولا في الثورة داخل الميدان الذي يهمه، اي داخل الادب " – من حوار نشرته مجلة اسفار –

نشر كلود سيمون ما يقارب الـ " 25 " رواية،، يخبرنا انه يمارس الرسم من خلال الرواية وقد وصفته لجنة جائزة نوبل وهي تمنحه الجائزة بانه:" يصف في رواياته الوضع البشري باسلوب الرسام الملهم الذي يمتلك احساسا عميقا بالزمن، ويسخر فنه لوصف شيء يعيش في خلجت انفسنا شئنا ام ابينا، سواء فهمناه ام لم نفهمه، سواء امنا بذلك ام لم نؤمن "،

عاش كلود سيمون " 91" عاما - توفي في السادس من تموز عام 2005 -.لكنه ظل يصر على ان العمر خدعة، وان الموت يتربص بالانسان في كل لحظة،

يتكون عالم كلود سيمون من الشخوص التي لا تشكل فردانية في ذاته، ومن الموضوعات التي تبدو غير مهمة عقيمة، بل من خلال تلك العناصر التي تشرّح تاريخ البشر العام، وفوضاه العارمة وسوداويته، وضغائنه التي تنتهي غالبا بالحروب العبثية، إن الحرب هي التي جعلت كلود سيمون يتوغل في تشريح النفس البشرية، ويؤكد النقاد ان الحرب هي شخصيته الروائية الوحيدة في اعمالها، بعنادها وجنونها.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

بقلم: ليندا جوردان تاكر وبيوتي براج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

نجوجي واثيونجو

يُعد نجوجي واثيونجو كاتبًا كينيًا بارزًا، وناشطًا ثقافيًا، وأكاديميًا، عُرف بإسهاماته المؤثرة في الأدب والخطاب السياسي. وُلِد في 5 يناير 1938 في قرية كاميرييثو في كينيا، ونشأ في سياق يتسم بالقمع الاستعماري والمحن الشخصية، بما في ذلك آثار انتفاضة الماو ماو. بدأت مسيرته الأدبية في ستينيات القرن العشرين، وسرعان ما نال التقدير على رواياته ومسرحياته التي تتناول تعقيدات الهوية، والاستعمار، والنضال من أجل الحرية الثقافية.

على مدار مسيرته الأدبية، شدد نجوجي على أهمية الكتابة باللغات الأم، ودافع بقوة عن لغة الجيكويو بوصفها وسيلة لاستعادة التراث الثقافي. وتعكس أعماله، مثل لا تبكِ يا طفل، والنهر بيننا، وساحر الغراب، موضوعات عميقة من قبيل الصراع بين الأجيال، وتأثير الاستعمار، والسعي إلى العدالة الاجتماعية في كينيا. وقد أدى نشاطه السياسي إلى سجنه عام 1977 لأسباب سياسية، وبعدها دخل في فترة من المنفى استمر خلالها في الكتابة وإلقاء المحاضرات على المستوى العالمي.

حظيت إنجازاته الأدبية بالعديد من الجوائز والتكريمات، مما يبرز دوره كشخصية محورية في الأدب الأفريقي وصوتًا للمجتمعات المهمشة. يظل استكشافه للتقاطع بين اللغة والسياسة والهوية أمرًا بالغ الأهمية لفهم ماضي كينيا وحاضرها. واليوم، لا يزال نجوجي يواصل الكتابة والتواصل مع الجماهير العالمية، داعيًا إلى أهمية اللغات والثقافات الأفريقية في السرديات المعاصرة.

تاريخ الميلاد: 5 يناير 1938

مكان الميلاد: قرية كاميريثو، قرب ليمورو، كينيا

السيرة الذاتية

نجوجي واثيونجو عضو في قبيلة الجيكويو الكينية. وُلد باسم جيمس ثيونجو نجوجي في قرية كاميريثو، بالقرب من ليمورو في كينيا، في 5 يناير 1938، لوالديه ثيونجو وا ندوتشو ووانجيكا وا نجوجي، حيث كان الطفل الخامس للزوجة الثالثة من بين أربع زوجات لأبيه. عاش لفترة في منزل يضم ما يقارب ثلاثين طفلاً. كان والده مزارعًا مستأجرًا، وعانت العائلة من الفقر. انفصل والداه عندما كان في الثامنة من عمره تقريبًا، فعاش بعدها مع والدته وإخوته الستة. لم تتحول عائلته إلى المسيحية، ولم تمارس الطقوس الدينية التقليدية لقبيلة الجيكويو بسبب تشكك والده الديني. في صغره، اعتنق نجوجي المسيحية لفترة، لكنه تخلّى عنها لاحقًا.

فى الفترة من 1952 إلى 1956، دعا "جيش الأرض والحرية" (الذي أطلق عليه المستوطنون الاستعماريون اسم "الماو ماو") إلى المقاومة المسلحة ضد الهيمنة البريطانية، مما دفع حكومة كينيا البريطانية إلى إعلان حالة الطوارئ. تأثرت عائلة نجوجي بهذه الأحداث التاريخية، حيث كان أحد إخوته مقاتلاً في صفوف المقاومة، مما أدى إلى سجن والدته وتعذيبها لثلاثة أشهر. عند عودته من فصله الدراسي الأول في المدرسة الثانوية، وجد نجوجي منزله وقريته وقد دُمرا بالكامل على يد قوات مكافحة التمرد التابعة للحكومة الاستعمارية. ومع ذلك، تمكّن من مواصلة تعليمه رغم حالة الطوارئ التي كانت تعيشها البلاد.

تلقى نجوجي تعليمه الأولي في مدرسة ابتدائية إرسالية، حيث تعلّم اللغة الإنجليزية، ثم انتقل إلى مدرسة يديرها قوميون من قبيلة الجيكويو، والتي كانت تُدرّس للطلاب الأغاني والأدب والرقصات الكينية كجزء من مقاومة الثقافة والدين الاستعماريين. وعندما أُغلقت تلك المدرسة، حصل على مقعد في مدرسة أليانس الثانوية المرموقة في كيكويو، والتي قال عنها لاحقًا إنها كانت تُدرّب الطلاب الأفارقة المتفوقين لخدمة الإمبراطورية البريطانية دون مساءلة. في ذلك الوقت، حذره مسؤولو المدرسة من صراحته في مناقشة القضايا السياسية. إلا أن فترة دراسته في أليانس هي التي عمّقت اهتمامه المبكر بالأدب والكتابة.

بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، التحق نجوجي بجامعة ماكيريري في كامبالا، أوغندا، حيث تخرج عام ١٩٦٤ بمرتبة الشرف في اللغة الإنجليزية. وخلال دراسته الجامعية، بدأ نجوجي مسيرته الأدبية في فترة إنتاجية مبهرة. كتب روايتين، وثلاث مسرحيات من فصل واحد، ومسرحية كاملة، وعدة قصص قصيرة. نُشرت هذه القصص لاحقًا، على التوالي، تحت عناوين: "لا تبك يا طفل" (١٩٦٤)، و"النهر بيننا" (١٩٦٥)، و"غدًا في هذا الوقت: ثلاث مسرحيات" (طبعة ١٩٧٠)، و"الناسك الأسود" (طبعة ١٩٦٢، وطبعة ١٩٦٨)، و"حيوات سرية وقصص أخرى" (١٩٧٥). وفي عام ١٩٦٥، فازت روايته "لا تبك يا طفل" بجوائز من مهرجان داكار للفنون الزنجية في السنغال، ومن مكتب أدب شرق أفريقيا.

بعد إتمامه دراسته الجامعية وقبل بدء دراساته العليا في إنجلترا، عمل نجوجي مراسلًا وكاتب عمود في صحيفة "ديلي نيشن" في نيروبي. وفي جامعة ليدز في يوركشاير، إنجلترا، أثناء دراسته لنيل درجة الماجستير في الأدب الكاريبي، كتب نجوجي رواية "حبة قمح" (1967)، وانهمك في قراءة النظريات السياسية والاقتصادية. عاد نجوجي إلى أفريقيا عام 1967 دون أن يحصل على درجة الماجستير، فقبل منصب محاضر في اللغة الإنجليزية في كلية نيروبي الجامعية. وهناك، لعب دورًا محوريًا في استبدال قسم اللغة الإنجليزية بقسمي الأدب الأفريقي واللغات الأفريقية. في عام 1969، عندما أضرب الطلاب احتجاجًا على السياسات القمعية في الجامعة، استقال نجوجي دعمًا لهم، وقبِل زمالة دراسية في جامعة ماكيريري. في ذلك الوقت، قرر التوقف عن استخدام اسمه المسيحي، جيمس نجوجي، لأنه لم يعد يعتبر نفسه مسيحيًا. بعد أن أكمل زمالته في جامعة ماكيريري، تولى نجوجي منصب أستاذ زائر في الأدب الأفريقي بجامعة نورث وسترن في إيفانستون، إلينوي. وخلال دراسته في نورث وسترن، بدأ نجوجي كتابة رواية "بتلات الدم" (1977). وعندما عاد نجوجي إلى كينيا عام 1971، أصبح محاضرًا أول، ثم رئيسًا لقسم الأدب في كلية جامعة نيروبي. كتب مع ميسيري جيثاي-موجو مسرحية "محاكمة ديدان كيماثي" (عُرضت 1974، نُشرت 1976).

في عام 1976، وفي محاولة لمشاركة ما تعلمه مع السكان المحليين، أصبح نجوجي رئيسًا للجنة الثقافية لمركز التعليم المجتمعي لقرية كاميريثو، بالقرب من مسقط رأسه. وهناك تم إنتاج مسرحيته التالية، وهناك، كتب نجوجي بالتعاون مع نجوجي وا ميريي مسرحيته التالية التي قُدمت في مسرح يتسع لألفي متفرج، وقد بناه القرويون المحليون بأنفسهم. حملت المسرحية عنوان Ngaahika Ndeenda (عُرضت عام 1977، نُشرت عام 1980؛ سأتزوج عندما أريد، 1982)، وكانت نقدًا سياسيًا لاذعًا للمجتمع الكيني في مرحلة ما بعد الاستعمار، كما هاجمت آثار المسيحية في البلاد. وقد اعتبرت السلطات المسرحية تهديدًا سياسيًا، لذا تم اعتقال نجوجي في ديسمبر 1977 وزُج به في سجن كاميتي شديد الحراسة بالقرب من نيروبي، حيث أمضى عامًا كاملًا كسجين سياسي، دون أن يُعرض على المحاكمة أو تُقدّم له أي تهمة رسمية أو تفسير لاعتقاله.

أثناء سجنه، كتب نجوجي كتب نجوجي كتاب "معتقل: مذكرات كاتب في السجن"   ورواية   "الشيطان على الصليب"  حيث كتب هذين العملين على ورق المرحاض قبلد أن تصادرهما السلطات ثم تعيدهما إليه لاحقًا. وعندما أُطلق سراحه عام 1978 في عفو عام عقب وفاة الرئيس جومو كينياتا، كان قد فقد وظيفته في الجامعة، وبدا فعليًا أنه أصبح لايصلح للوظيفة. قضى نجوجي العامين التاليين في تأليف كتابه:  "العودة إلى الوطن: مقالات عن الأدب والثقافة والسياسة في أفريقيا والكاريبي" (1978) وترجمة الشيطان على الصليب من لغة الكيكويو إلى الإنجليزية، وكتابة مجموعة مقالات أخرى بعنوان الكتّاب في السياسة (1981)، والتي وسّع فيها أفكاره السياسية والأدبية والاجتماعية. كما واصل مشاركته في مركز كاميريثو التعليمي المجتمعي، حيث كتب مسرحية جديدة. وعلى الرغم من أن البروفات كانت علنية وشهدها عدد كبير من الناس، قامت الحكومة في عام 1982 بمنع عرض المسرحية، وحظرت فرقة المسرح، ودمّرت المسرح القروي.

في عام 1982، وبينما كان نجوجي في لندن لأسباب مهنية، وقع انقلاب فاشل في كينيا. وقد أدت القيود الحكومية اللاحقة إلى زيادة مخاوف نجوجي من التعرض لمزيد من الانتقام، ومن ثم منعته من العودة إلى وطنه. وقد أدى هذا إلى فصله عن زوجته الأولى وأطفاله، الذين تعرضوا لسوء المعاملة من قبل السلطات في غيابه. في عام 1986، نشر كتاب: " تفكيك الاستعمار الذهني: سياسة اللغة في الأدب الإفريقي"، وهو مجموعة من محاضراته التي ألقاها في جامعة أوكلاند بنيوزيلندا.وصرّح حينها بأن هذا سيكون آخر كتاب إبداعي له يُكتب بالإنجليزية؛ ومنذ ذلك الحين قرر أن يكتب فقط بلغته الأم، الكيكويو. وفي العام نفسه، نشر روايته الثانية المكتوبة بالكيكويو، ماتيغاري ما نْجيروينغي (ماتيغاري، 1989)، والتي تمت مصادرتها وحظرها في كينيا. كما صدرت له في العام نفسه أيضًا كتابا "أمي، غنِّ لي" و"الكتابة ضد الاستعمار الجديد". في عام 1989، بدأ المؤلف الكيني المنفي العمل كمدرس لمدة ثلاث سنوات في جامعة ييل، وفي عام 1993 قبل وظيفة في جامعة نيويورك.

في تلك الفترة، نشر نجوجي أيضًا سلسلة من كتب الأطفال تتناول شخصية نجامبا نيني: "نجامبا نيني والحافلة الطائرة" (1986)، و"نجامبا نيني والزعيم القاسي" (1988)، و"مسدس نجامبا نيني" (1990).

في التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين، واصل نجوجي إنتاج الروايات ونشر أفكاره حول دور الكاتب. في عام 1993، نشر كتاب "تحريك المركز: النضال من أجل الحريات الثقافية". تبع ذلك نشر كتاب "نقاط القلم، ونقاط البندقية، والأحلام: نحو نظرية نقدية للفنون والدولة في أفريقيا" عام 1998، استنادًا إلى سلسلة محاضرات ألقاها في جامعة أكسفورد عام 1996. وفي عام 2004، نُشرت رواية أخرى بعنوان "موروجي وا كاغوغو"، وظهرت ترجمتها الإنجليزية بعد عامين بعنوان "ساحر الغراب"

أثناء عمله كأستاذ للأدب المقارن ودراسات الأداء في جامعة نيويورك، أسس نجوجي مجلة "موتيري" الناطقة بلغة الجيكويو. ثم واصل سعيه لتعزيز الحوار بين اللغات ومجتمعاتها، من خلال عمله أستاذًا للأدب الإنجليزي والأدب المقارن، ومديرًا مؤسسًا للمركز الدولي للكتابة والترجمة في جامعة كاليفورنيا، إرفاين.

نال نجوجي، بفضل جهوده ككاتب وناشط اجتماعي، العديد من الأوسمة والجوائز، منها جائزة زورا نيل هيرستون-بول روبسون من مجلس الدراسات السوداء (1993)، وجائزة فونلون-نيكولز للتميز الفني وحقوق الإنسان (1996)، وجائزة نونينو الدولية للأدب (2001)، وجائزة إريك ماريا ريمارك للسلام (2019)، وجائزة كاتالونيا الدولية (2020). كما حصل على دكتوراه فخرية من أكثر من اثنتي عشرة كلية وجامعة، وانضم إلى الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم.

في عام 2004، وبعد اثنين وعشرين عامًا من المنفى، مكّنته الظروف السياسية المتغيرة في كينيا من العودة إلى موطنه الأصلي في زيارة استمرت شهرًا. ورغم الترحيب الحار الذي لاقاه، تعرض نغوجي لهجوم من لصوص، واغتُصبت زوجته الثانية، وهي حادثة اختارا لاحقًا الكشف عنها علنًا. عاد لزيارة أخرى في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

كانت فترة أوائل القرن العشرين فترةً مثمرةً لنجوجي، الذي نشر كتابًا تقريبًا كل عام بدءًا من عام 2009. في كتابه شيء ممزق وجديد: النهضة الأفريقية (2009)، يستكشف تاريخ الاستعمار الأوروبي لأفريقيا وتأثيراته الاقتصادية واللغوية والثقافية. يحتوي كتابه باسم الأم: تأملات حول الكتاب والإمبراطورية (2013) على مقالاته حول الإمبريالية والاستقلال والنيوليبرالية وأعمال الكتاب الأفارقة والكاريبيين. في العولمة النقدية: النظرية وسياسة المعرفة (2014)، يناقش نجوجي موضوعات مثل اللغة والسياسة، والتقاليد الشفوية، والهيمنة الثقافية في التعليم. أما المجموعة الاستعادية تأمين القاعدة، وإظهار أفريقيا للعالم التي نُشرت عام 2016، فهي تضم ثلاثة عقود من مقالات نجوجي.

كتب نجوجي أيضًا العديد من المذكرات بدءًا من طفولته خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها في كتاب "أحلام في زمن الحرب" (2011). يروي كتاب "في بيت المترجم" (2015) قصة شبابه في ظل حركة الأرض والحرية، بينما يستذكر كتاب "ميلاد ناسج الأحلام: صحوة كاتب" (2016) سنوات دراسته الجامعية، وحالة الطوارئ التي سبقت ذلك، وانفصال والديه. في عام 2018، نُشرت نسخة محدثة ومختصرة من مذكراته في السجن بعنوان "محتجز" بعنوان "مصارعة الشيطان" وظهرت لأول مرة في الولايات المتحدة.

واصل نجوجي الكتابة وإلقاء القراءات والظهور المتكرر في مهرجانات الكتب حول العالم حتى عشرينيات القرن الحادي والعشرين. شهد عام 2020 نشر ترجمته الإنجليزية لرواية "التسعة المثاليون: ملحمة جيكويو ومومبي"، وهي روايته الملحمية بلغة جيكويو المستوحاة من الأساطير. حقق الكتاب إنجازًا تاريخيًا بإدراجه ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر الدولية المرموقة، مسجلًا بذلك أول ترشيح لعمل مكتوب بلغة أفريقية.

ظل نجوجي لفترة طويلة من حياته مناصرًا لفكرة كتابة الأفارقة بلغاتهم الأفريقية الأصلية بدلًا من الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرها من اللغات الأوروبية. ومنذ عام 1977، تناول هذا الموضوع في مناسبات عديدة خلال محاضراته وندواته. وفي عام 2023، أصدر كتابًا بعنوان "لغة اللغات" يضم مجموعة من محاضراته حول هذا الموضوع في الفترة ما بين عامي 2000 و2019.

التحليل

الصراع الحتمي بين شعوب كينيا وطرقهم القبلية من جهة، والثقافة والدين والسياسة المستوردة من المستعمرين من جهة أخرى، هو موضوع معظم أعمال نغوغي وا ثيونغو. تُعد أهمية استعادة الأرض، التي لا تحمل فقط قيمة اقتصادية بل وروحية أيضًا للشعب الأصلي، واحدة من المواضيع المتكررة في كتاباته. يصور نغوغي العواقب المدمرة للإمبريالية على المستويات الوطنية والمحلية والشخصية. تظهر بعض أشد تأثيرات تغلغل الثقافة البيضاء في تفكك العلاقات الأسرية والصداقات. غالبًا ما تدور رواياته في قرى صغيرة ترمز بشكل مجازي إلى قارة أفريقيا بأسرها في نضالها من أجل الاستقلال والهوية. وبالمثل، تمثل الأسر المفككة والصداقات المقطوعة في أعماله تفكك مجتمع الغيكويو. رؤية نغوغي سياسية إلى حد بعيد؛ فقد كانت أعماله الروائية المبكرة محافظة، ثم أصبحت أكثر ليبرالية وتطرفًا، لكنه في مراحل لاحقة من مسيرته أعرب عن آراء أكثر اعتدالًا.

تُعدّ قدسية التراب جوهر الوعي الكيني، وبالتالي جوهر أدب نجوجي. فقد وهب الخالق، مورونجو، الأرض لأول رجل وامرأة، جيكويو ومومبي، وأمرهما بحكمها وزراعتها. وتظل هذه الأسطورة، التي تُصوّر الأرض رمزًا للثقة المقدسة، دائمًا في خلفية أدب نغوجي، بل وفي طليعته في كثير من الأحيان. فعندما يستولي الأجانب على الأرض، لا يُشرّد الكينيون ويُدمّرون ماليًا فحسب، بل يُعزلون أيضًا عن إلههم وميراثهم الروحي.

معظم شخصيات نجوجي تشعر بضرورة استعادة الأرض، لكنها غير متفقة على كيفية تحقيق ذلك. الجيل الأكبر يستند إلى النبوءة التي تقول إن قائدًا سينبعث من التلال ليحرر الناس من العبودية، لذا هم مستعدون للانتظار حتى يأتي ذلك المخلص. أما الجيل الأصغر فهو أقل صبرًا وأكثر تشددًا في الموقف. يصوّر نجوجي صراعات الأجيال والتأثير المدمر لهذا الانقسام على مقاومتهم للمستعمرين. هذا الانقسام يثقل أيضًا كاهل العلاقات الأسرية والصداقة. في رواية لا تبكِ يا طفل، يظهر الصراع بين الأجيال في العلاقات المأساوية المحطمة بين نغوثو وبورو، الأب وابنه. مصدر آخر للصراع يأتي من أولئك السكان الأصليين، مثل جوشوا في رواية النهر بيننا، الذين يعتنقون الدين والعادات الغربية، فينبذون قومهم ويدينون أساليبهم .

يُعدّ تأثير الاستعمار على أساليب الحياة التقليدية موضوعًا رئيسيًا آخر في روايات نغوجي. ويدور الصراع بين السكان الأصليين الملتزمين بعادة قبلية مهمة والمبشرين المسيحيين المعارضين لهذه الممارسة في جوهر رواية "النهر الفاصل". لا يفهم المبشرون أهمية طقوس الختان كوسيلةٍ يُمكّن الشباب والشابات من تحقيق مكانةٍ كاملةٍ في القبيلة وتلقّي معارف قبلية سرية. يعارض نغوجي هذه الطقوس، ولكنه يعارض أيضًا إدانة المسيحيين لها، ويجعلها رمزًا آسرًا لصراع الثقافات. يصوّر نغوجي الطرق التي يعاقب بها المستعمرون الكينيين عند تعارض الأيديولوجيات الأصلية والغربية؛ على سبيل المثال، يرفض المبشرون في الرواية توفير التعليم للشباب المختونين. في روايات نغوجي المبكرة يُعد التعليم مفتاحًا لحل مشاكل كينيا، لذا فإن حرمان الأطفال من التعليم يمثل ضربة شديدة، رغم أن التعليم الذي يقدمه المبشرون يحمل جانبًا دينيًا مكثفًا. لذلك، يحذر والد واياكي في النهر بيننا ابنه باستمرار من ضرورة تلقي تعليم الرجل الأبيض، لكنه ينصحه أيضًا بالابتعاد عن طرقه ودينه.

يُجسّد مشهد المدرسة التبشيرية موضوعًا آخر من مواضيع نجوجي، وهو الدور الاستغلالي للمسيحية في كينيا. يعتقد نجوجي أن المسيحية قد خدمت غرض التوسع الاستعماري ومحو الثقافات الأصلية، وغالبًا ما تُصوَّر شخصياته المسيحية على أنها جامدة وغير كريمة، إن لم تكن عديمة الضمير تمامًا. في مسرحية "سأتزوج متى شئت"، يصور نجوجي رجل أعمال مسيحيًا ثريًا يستغل الدين والكنيسة لخداع مزارع وسرقة أرضه. على الرغم من معارضته للدين، غالبًا ما يستخدم نجوجي الرمزية المسيحية في رواياته لأنها مرجع معروف ومفيد للقراء. لا يعارض نجوجي المسيحية فحسب، بل يعارض أيضًا جميع الديانات غير الأفريقية في كينيا، بما في ذلك الإسلام.

تتسم رؤية نجوجي بالتوازن والواقعية في تعامله مع مشكلات كينيا. فبالإضافة إلى تصويره لقمع المستوطنين البريطانيين، يتناول بجرأة ونزاهة نقاط الضعف لدى السكان الأصليين التي تعيق قدرتهم على تحرير أنفسهم من سيطرة البيض المغتصبين. يصور نجوجي القبلية، والمسيحية المخلصية، والشك الذاتي، والسذاجة كأبرز المشكلات التي تواجه الشعب.  تقف القبلية في طريق وحدة أكبر وأكثر فعالية سياسياً. إن الشك الذاتي يشل أولئك الذين يمكن أن يكونوا قادة؛ ومن ناحية أخرى، هناك أولئك الذين لديهم رؤى لأنفسهم على أنهم مسيح. إن السذاجة قاتلة لقيادة أولئك الذين يستقرون على قضية واحدة، مثل التعليم، كنقطة تجمع للحرية. في خيال نغوجي، لا يكون التعليم فعالاً إلا عندما يقترن بالعمل السياسي. حتى أولئك الذين يتخذون إجراءً قد يخلقون عواقب غير متوقعة؛ على سبيل المثال، يصوّر نجوجي جماعة الماو-ماو على أنها ذات تأثير مدمر على تماسك الأسرة. كما يُقلق نجوجي اضطهاد المرأة في مجتمع الجيكويو، ويعالج هذا الموضوع بشكل متكرر في كتاباته.

في الواقع، بدءًا من رواية الشيطان على الصليب (Devil on the Cross)، تظهر تغيّرات دقيقة لكنها مهمة في معالجة شخصية المرأة، وكذلك في التمثيلات الرمزية للجسد، ووجهات النظر حول مصادر القمع، وأساليب السرد في روايات نجوجي. إذ لم تعد المرأة مجرد شخصية ثانوية أو ضحية فقط، بل أصبحت بطلة في نصوصه. فبالإضافة إلى إبراز بطلات، تولي كلٌّ من روايتي "الشيطان على الصليب" و"ساحر الغراب" اهتمامًا متواصلًا بالمشاكل الاجتماعية، كالضرب والاستغلال الجنسي، التي تُبتلى بها النساء. مع ذلك، لا تُصوَّر النساء كضحايا فحسب. ففي "الشيطان على الصليب"، تتمكن وارينجا من الدفاع عن نفسها وعن الآخرين. وبالمثل، في "ساحر الغراب"، تُنشئ نياويرا محكمة نسائية للنظر في قضايا ضرب الزوجات.

على الرغم من أن رؤية نجوجي الفنية كانت دائمًا تدعو إلى الوحدة، إلا أن أعماله اللاحقة تقدم هذا التوجه الجماعي باعتباره ترياقًا لثقافة الخوف. إن تحدي هذه الثقافة أمر بالغ الأهمية، لأنها -جزئيًا- ما يكبح احتجاج الشعوب. وينعكس هذا التحول في التركيز على القيادة الفاسدة التي تغذي ثقافة الخوف من خلال التركيز على الأجساد المشوهة والمُعدّلة للنخب الأفريقية. فبينما كانت بطون المستوطنين المتدلية في أعماله المبكرة ترمز إلى فسادهم، أصبحت البطون الضخمة في روايتي "الشيطان على الصليب" و"ساحر الغراب" مرتبطة بالنخبة الأفريقية كعلامة على فسادهم ايضا .وفي "ساحر الغراب"، يتم استغلال فكرة التعديل الجسدي الذاتي التي ظهرت في "الشيطان على الصليب" لكشف التواطؤ المتعمد الذي يعزوه نجوجي إلى هذه الطبقة من الكينيين. فمن خلال تشويه أجسادهم طواعيةً، يصبح النخبويون تجسيدًا مرئيًا لانحطاطهم الأخلاقي واستعدادهم لتشويه هويتهم ووطنهم في سعيهم وراء السلطة والثروة. وهكذا، لا ينتقد نجوجي الفساد السياسي فحسب، بل يكشف أيضًا كيف يصبح القمع داخليًا، حيث يتبنى المضطهدون نفس الأدوات الاستعمارية التي استُخدِمت ضدهم ذات يوم.

بالإضافة إلى ذلك، في رواية "ساحر الغراب"، يتمركز دور الراوي كشخصية محورية في السرد. فجزء كبير من الرواية يُعرض من خلال منظور شخصية أريجايجاي جاثيري، المعروف اختصارًا بـ "أ. ج." في بداية الرواية، كان أ. ج. شرطيًا، لكنه مع تطور الأحداث يصبح راوي قصص متجول يعتمد على سرد حكاياته لكسب رزقه. هذا التحول من ممثل للدولة إلى راوي يحتفي بانتصار ساحر الغرب على الدولة يوضح رؤية نجوجي لدور الفنان في المجتمع. لا يحتفي أ. ج. بانتصار الساحر على الدولة فحسب، بل يُذكّر القارئ طوال الرواية بقيمة تعدد وجهات النظر حول الأحداث نفسها. تُشير كل هذه التغييرات مجتمعةً إلى التزام نجوجي المستمر بالفن كأداة لشرح التجارب الاجتماعية للمهمّشين وتنشيطها واستكشافها، وبالتالي إثراء الوعي الإنساني.

لا تبكِ يا طفل (رواية )

تاريخ النشر الأول: 1964

تدور أحداث الرواية حول عائلة تنغمس في دوامة الاضطرابات خلال حالة الطوارئ التي شهدتها كينيا في خمسينيات القرن العشرين.

تُعد "لا تبكِ يا طفل" ثاني رواية يكتبها نجوجي، لكنها أول رواية تنشر له. تدور أحداث الرواية في كينيا خلال الخمسينيات المضطربة، وتحكي قصة عائلة وكيف تأثرت هذه العائلة بالصراع العلني بين السكان الأصليين والمستعمرين. في بداية الرواية، تبدو العائلة فقيرة لكنها سعيدة ومتماسكة، لكن الأحداث تتتبع تفككها تدريجياً. البطل، نجوروجي، طفل صغير يحلم بالتعليم ويشعر بفرح غامر عندما يُقبل في المدرسة التبشيرية. أما والده، نجوثو، فهو مزارع يعمل في أرض يملكها جاكوبو، مزارع أفريقي ثري. يعمل نجوثو لدى البريطاني السيد هاولاندز في مزرعة شاي تقع على أرض أجداده، منتظراً بصبر تحقيق النبوءة التي ستخلص شعبه من الظلم. بينما يعود ابنه الأكبر، بورو، من خدمته العسكرية في الحرب العالمية الثانية وهو ممتلئ بالمرارة وخيبة الأمل، بعد أن رأى بوحشية الرجل الأبيض عن كثب.

يكره بورو سلبية والده، ولإرضائه، ينخرط نجوثو في إضراب ويقود هجوماً على جاكوبو الذي يحاول قمع المضربين. ونتيجةً لذلك، يفقد نجوثو عمله. يصبح بورو قائداً للمقاومة المسلحة وناشطاً سياسياً ينتهي به المطاف بقتل هاولاندز وجاكوبو. ورغم إلقاء القبض على بورو والحكم عليه بالإعدام، يعترف نجوثو بقتل جاكوبو، فيُعذَب حتى الموت. أما نجوروجي، الذي أصبح في التاسعة عشرة من عمره، فيُعتقل ظلماً بتهمة التواطؤ مع والده، ويُعذَب هو الآخر، كما يُحرم من أحلامه بالتعليم. تنتهي الرواية بمحاولة نجوروجي الانتحار شنقاً، لكن بينما يقف تحت الشجرة حاملاً الحبل، تصل أمه بحثاً عنه وتعيده إلى البيت.

تعكس هذه الرواية آثار انتفاضة "ماو ماو" على القرويين العاديين. تمثل الشخصيات الرئيسية القوى الاجتماعية المتصارعة خلال حالة الطوارئ في كينيا: السيد هاولاندز، المزارع البريطاني الذي يعمل ضابطاً في المنطقة، ويقمع الانتفاضة بوحشية. وجاكوبو، المتعاون القاسي مع الحكومة الاستعمارية. أما بورو فيمثل جيل الشباب الكيني الذي لا يشارك صبر الأجيال الأكبر (ممثلةً بوالده)، بل يسعى للإطاحة بالحكومة الاستعمارية بأي وسيلة، حتى ولو  العنف. بينما يجسد نجوثو معاناة الفلاحين الجيكويو المعدمين والمحرومين من حقوقهم. ويمثل نجوروجي القرويين الأبرياء الذين تدمر حياتهم أحداث خارجة عن إرادتهم. فهو يحلم بدور البطل المنقذ، متأملاً قصة داوود وجوليات، لكنه يكتشف قسوة الواقع.

تظهر الرواية كيف أن الحكومة الاستعمارية وحشية بلا رحمة، وهي المسؤولة عن تفكك عائلة نجوثو والمجتمع الأكبر الذي تمثله. لكن انتفاضة "ماو ماو" أيضاً، بتمسكها بالعنف المحض، تساهم في معاناة الجيكويو، مما يجعل الصراع أكثر تعقيداً من مجرد صراع بين الخير والشر.

النهر بيننا (رواية)

تاريخ النشر الأول: 1965

يفشل زعيم شاب من الجيكويو في توحيد شعبه المنقسم بسبب الصراعات القبلية.

كُتبت رواية "النهر بيننا" للمشاركة في مسابقة أدبية شارك فيها نجوجي أثناء دراسته الجامعية، حيث فازت بالجائزة الأولى. تدور أحداث الرواية قبل حوالي خمسة وعشرين عاماً من أحداث رواية "لا تبكِ يا طفل". وتصور الرواية، التي تقع أحداثها في أراضي الجيكويو، الصراع بين أبناء السكان الأصليين في مناطق كامينو وماكيو، الذين تختلف آراؤهم حول وجود الرجل الأبيض. يتجسد هذا الصراع بين التقليديين بقيادة كابونيي، والمعتنقين للمسيحية والتفكير الغربي بقيادة جوشوا.

بينما يرى البطل واياكي بعض الإيجابيات في كل من التقاليد القبلية والتفكير الغربي، إلا أنه لا يتبنى أي منهما بالكامل، مما يجعله عرضةً لسحب الحبل من كلا الطرفين بينما يحاول تعليم شعبه. والده، تشيجي، الذي يعتقد أن ابنه هو المسيح المنتظر وفقاً للنبوءة، يرسل واياكي إلى المدرسة التبشيرية ليتعلم كل ما يمكنه من حكمة الرجل الأبيض، لكنه يحذره من أن يبقى وفياً لشعبه وتقاليدهم.

يأخذ واياكي مكانه كعضو بالغ في القبيلة عندما يشارك في طقوس الختان. تعارض المدرسة التبشيرية هذه الطقوس بشدة، وعندما تموت صديقته موثوني بسبب عدوى بعد ختانها، ترفض المدرسة السماح للطلاب المختونين بحضور المزيد من الدروس. يعود واياكي إلى التلال ويؤسس مدارسه الخاصة. حماسه الكبير للتعليم يكسبه احترام ومحبة شعبه، الذين يرون فيه منقذهم من سيطرة وهيمنة الاستعمار.

يقع واياكي في حب نيامبورا، ابنة جوشوا، الذي اعتنق المسيحية وتخلى عن عادات قبيلته، وخاصةً طقوس ختان النساء.الفتاة المتوفاة، موثوني، كانت أخت نيامبورا، التي عانت من صراع داخلي بين رغبتها في أن تكون مسيحية و الانتماء إلى جيكويو في آن واحد. كان جوشوا قد منعها من المشاركة في الطقوس، لكنها عصت أوامره لكي تظل جزءاً من القبيلة. جوشوا أبٌ وقائدٌ متعصبٌ لا يلين ولا يتراجع.

القوة السياسية الأخرى التي يجب أخذها في الاعتبار هي "كياما"، المنظمة المتشددة المكرسة لحماية التقاليد القبلية. تطلب "كياما" قسم ولاء للحفاظ على نقاء القبيلة. ويصبح واياكي عرضة لانتقاد "كياما" بسبب سذاجته السياسية؛ فهو يفكر فقط في التعليم كمفتاح لمساعدة شعب الجيكويو، وليس في العمل السياسي. ونقطة ضعفه الأخرى هي حبه لنيامبورا. يُشاهد معها ويصر على عدم إنكار مشاعره تجاهها، مما يؤدي إلى تقديمهما معاً إلى "كياما" للمحاكمة. خصم واياكي وزعيم "كياما" هو كابونيي، الذي استغل نفوذه لتوجيه المنظمة ضد واياكي. ومن المتوقع أن يُحكم على واياكي ونيامبورا بالإعدام.

الفكرة الأساسية في رواية "النهر بيننا" هي دور التعليم والنشاط السياسي في حركة المقاومة. إن استجابة واياكي المثالية لاحتياجات الشعب تمنحهم فقط جزءاً مما يحتاجون إليه منه. فهم بحاجة إلى التعليم الذي يقدمه لأطفالهم، لكنهم يحتاجون أيضاً إلى عمل سياسي حاسم، وهو ما يبدو أن واياكي -المشغول بمدارسه وبحب نيامبورا- غير مدرك أنه بهذا يفشل في النهاية في خدمة شعبه ويضع نفسه في موضع الخطر. ومثل نجوروجي في رواية "لا تبك يا طفل"، لديه رؤية مسيحية لنفسه، لكنه لا يستطيع تحقيقها.

ساحر الغراب (رواية)

تاريخ النشر الأول: (باللغة الجيكوية  2004) / (الترجمة الإنجليزية: 2006)

رجل عادي يصبح بالصدفة "ساحر الغراب"، ويتحول دون قصد إلى رمز لمقاومة الشعب ضد حاكم مستبد.

تعكس رواية "ساحر الغراب" التحولات السياسية العالمية منذ أن بدأ نجوجي الكتابة. ولأنها تحاول تقديم سرد تاريخي، تضم الرواية شخصيات عديدة. ومع ذلك، فإن جميع الأحداث التي تدور في جمهورية أبوريريا الحرة (دولة خيالية) ترتبط بطريقة ما بأربع شخصيات رئيسية: كاميتي وا كاريميري (الرجل الذي سيعرف لاحقاً باسم ساحر الغراب)، وجراس نياويرا (رئيسة حركة صوت الشعب)، والحاكم المستبد للبلاد (المعروف ببساطة باسم "الحاكم")، وتايتس تاجاريكا (رجل أعمال ثم وزير، وأخيراً خليفة الحاكم).

يتحالف كاميتي ونيويرا في معارضة سعي الحاكم المتعطش للتمجيد الشخصي على حساب رفاهية المواطنين. يتجسد هذا السعي في محاولة الحاكم الحصول على قرض من البنك العالمي لبناء أطول ناطحة سحاب في العالم كـ"نصب تذكاري" له تحت اسم "مسيرة إلى الجنة"، في وقت يعاني فيه الشعب من بطالة جماعية. ورغم أن كاميتي ونيويرا ينتصران بمعنى أنهما يتفاديان الاعتقال وينجوان من محاولات الاغتيال، ويوسعان نطاق حركة صوت الشعب، فإن الرواية تنتهي بنجاحهما كتناقض صارخ مع بدء دورة جديدة من الاستغلال. فالحاكم يُخلَف بواسطة تاجاريكا (الذي أصبح يعرف الآن باسم الإمبراطور تيتوس فلافيوس فيسباسيانوس وايت هيد)، ويتم الحصول على القروض من البنك العالمي، وتتحول خطط "مسيرة إلى الجنة" إلى بناء مدرج روماني حديث تكريماً للإمبراطور الجديد.

في هذه الرواية، تتراجع الموضوعات المركزية لأعمال نجوجي المبكرة (مثل الصراع بين الأجيال، والتعليم كوسيلة للتقدم الاجتماعي، وأنماط الحياة التقليدية)، وبدلاً من ذلك، يُركّز على وصف مركزية الرأسمالية في الحياة المعاصرة. إضافةً إلى ذلك، ينتقل الكاتب من كينيا كمكان رئيسي إلى مكان خيالي يُراد منه تمثيل الدول الأفريقية في فترة ما بعد الاستعمار بشكل عام. فجمهورية أبوريريا الحرة تُستخدم لتوضيح الآليات التي تنخرط بها العديد من الدول ما بعد الاستعمار في الاقتصاد العالمي، وهي الفكرة التي تطلق عليها الرواية اسم ""الشراكة" (مزيج من الشركة والمستعمرة).

ورغم أن نجوجي يرى أن تعاون النخبة مع هذه الآليات يقوض رفاهية الأمة والجماهير، إلا أنه يقدم هذا النقد بسخرية لاذعة. فجشع الحاكم، مثلاً، يُرمز إليه بالمرض الذي يعاني منه خلال معظم أحداث الرواية – تورم جسدي غامض ومتناسب يُطلق عليه الأطباء اسم "التضخم الذاتي" (SIE)، بل ويقومون حتى بتسجيله كعلامة تجارية! هذه الاستعارة الساخرة تكشف كيف تحوّلت الأمراض الاجتماعية إلى سلع قابلة للتسويق في ظل النظام الرأسمالي العالمي. يُظهر هذا التحول الجذري في أعمال نجوجي انتقاله من الاهتمام بالقضايا المحلية إلى تحليل الأنظمة العالمية، مع الحفاظ على رؤيته النقدية الثاقبة. فـ"الكوربروني" ليست مجرد مفهوم خيالي، بل هي تشخيص دقيق للعلاقة غير المتكافئة بين الدول الأفريقية والمراكز الرأسمالية العالمية، حيث تُستبدل الهيمنة الاستعمارية المباشرة بهيمنة اقتصادية أكثر خبثاً.

يستكشف نجوجي في رواية "ساحر الغراب"، مجموعة جديدة من الموضوعات. فيتحول التركيز من الهوية المحلية إلى ديناميكيات التبادل العالمي (الإيجابية والسلبية). وتكشف الرواية كيف يشكل التوسع الرأسمالي والحكومات الفاسدة عوائق أمام العدالة الاجتماعية في العديد من دول ما بعد الاستعمار، وتُبرز أهمية تحدي الحكم الاستبدادي، حتى وإن كان النجاح محدودًا أو مشوبًا بالتحفظات.

محاكمة ديدان كيماثي (مسرحية)

تاريخ العرض الأول: 1974 (تاريخ النشر الأول: 1976)

تُقدِّم المسرحية إعادة تخيل مبتكرة لمحاكمة زعيم حركة "ماو ماو"، مدمجةً مع مشاهد من مسيرته ومن تاريخ كينيا.

كُتِبَت "محاكمة ديدان كيماثي" بالتعاون مع ميسيري جيثاي-موغو، كردّ من نجوجي على الكتابات الاستعمارية عن حركة "ماو ماو"، التي صورت الحركة وقائدها ديدان كيماثي تقليديًا على أنهم مضطربون عقليًا ووحشيون. اختار نجوجي وزميله مواجهة هذه الصورة من خلال تقديم صورة لكيماثي كرجل شجاع ملتزم، كما رآه فلاحو كينيا وعمالها.

أُلقي القبض على كيماثي وحُوكم عام ١٩٥٦. لم يحاول الكاتبان إعادة إنشاء المحاكمة بطريقة واقعية. فبدلاً من سرد درامي محكم، تتكون الحبكة من حلقات منفصلة لكنها مرتبطة موضوعياً. تتخلل مشاهد المحكمة مشاهد أخرى تصوّر فصولاً من تاريخ كينيا خلال المئتي عام السابقة، ومشاهد لكينويين يحاولون مساعدة كيماثي على الهروب، ومشاهد لتفاعلات كيماثي مع المقاتلين، ومشاهد له في السجن، ومشاهد لتعذيبه. تتضمن المسرحية أغاني ورقصات من قبيلة جيكويو، وحتى التمثيل الصامت (الميم).

من خلال هذه المسرحية، يعيد نجوجي قراءة التاريخ لتصحيحه ومحو الأكاذيب التي روّجها الاستعمار عمدًا، ساعيًا بذلك إلى مساعدة بلاده في التحرر من إرث القمع. وبهذا تعد المسرحية جزءًا من مشروعه الأكبر لاستعادة السرد التاريخي الأفريقي من قبضة الرواية الاستعمارية، حيث يتحول كيماثي من "مجرم" في السجلات البريطانية إلى بطل شعبي يقاوم الظلم.

ملخص موجز:

تُصوّر أعمال نجوجي وا ثيونجو كينيا في حقبة ما قبل الاستعمار، وفي حقبة الاستعمار، وبعد الاستقلال. كما يُصوّر وا ثيونجو ببراعة الآثار المدمرة للإمبريالية على السكان الأصليين،، سواء في الصراعات بين الثقافات أو الصراع الذي تنشئه الإمبريالية داخل الثقافة الأصلية نفسها. في أعمال نجوجي الروائية، بمجرد أن يتحرر الكينيون من هيمنة المستعمرين البيض ويستعيدوا عهدهم المقدس — الأرض — يجب عليهم بعد ذلك مواجهة المشاكل التي تصاحب الاستقلال. هناك صراع ومعاناة كبيرة في أعمال نجوجي، ولا يكون الأمل دائماً متوازناً معها بشكل واضح.

***

...................

قائمة المراجع

1.  بيسشوف، جاكي. " الكاتب الكيني نجوجي واثيونجو يُكرَّم لكتابته المتحمسة بلغته الأم." كواترز (Quartz)، 30 آذار/مارس 2021،

qz.com/africa/1990528/international-booker-prize-longlists-ngugi-wa-thiongo-and-david-diop. تم الدخول في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2024.

2.  كانتالوبو، تشارلز، محرر. نجوجي واثيونجو: نصوص وسياقات. منشورات جامعة إدنبرة، 1997.

3.  كوك، ديفيد، ومايكل أوكينيمكيبي. نجوجي واثيونجو: استكشاف لأعماله. هاينمان، 1997.

4.  جيكاندي، سايمون. نجوجي واثيونجو. منشورات جامعة كامبريدج، 2001.

5.  كيلاَم، ج. د. مقدمة إلى كتابات نجوجي. هاينمان، 1980.

6.  كيلاَم، ج. د. نجوجي واثيونجو." في أدب شرق ووسط أفريقيا. هاينمان، 1984.

7.  لوفزي، أوليفر. نجوجي واثيونجو. توين، 2000.

8.  مور، جيرالد. نجوجي واثيونجو: نحو أوهورو." في اثنا عشر كاتبًا أفريقيًا. منشورات جامعة إنديانا، 1980.

9.  نازاريث، بيتر، محرر. مقالات نقدية عن نجوجي واثيونجو. توين، 2000.

10.     ندغيريغي، غيسينغيري. مسرح نجوجي واثيونجو وتجربة مسرح كامييريثو الشعبي. منشورات إفريقيا العالمية، 2000.

11.     نجوجي واثيونجو. "'لقد كان تحدياً': مقابلة مع نغوجي واثيونغو." مقابلة أجراها نيل مونشي. فايننشال تايمز، 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2016،

www.ft.com/content/5305acae-aa82-11e6-9cb3-bb8207902122?mhq5j=e6. تم الدخول في 15 تشرين الأول/أكتوبر 2024.

12.     باركر، مايكل، وروجر ستاركي، محرران. آداب ما بعد الاستعمار: أتشيبي، نغوجي، ديزاي، والكوت. مطبعة سانت مارتين، 1995.

13.     "ملف عن ناشط أدبي واجتماعي." Ngũgĩ wa Thiong’o، 2018،

ngugiwathiongo.com/about. تم الدخول في 2 أيلول/سبتمبر 2021.

14.     عدد خاص من مجلة الأبحاث في الأدب الإفريقي، المجلد 16، العدد 2، 1985.

15.     شارما، جوفيند نارين. "الاشتراكية والحضارة: التقليدية الثورية لدى نجوجي واثيونجو." أرييل، العدد 19، نيسان/أبريل 1988، الصفحات 21–30.

16.     سيشيرمان، كارول. نجوجي واثيونجو: ببليوغرافيا للمصادر الأولية والثانوية، 1957-1987. هانز زيل، 1989.

17.     ويليامز، باتريك. نجوجي واثيونجو. منشورات جامعة مانشستر، 2000.

رابط المقال:

https://www.ebsco.com/research-starters/literature-and-writing/ngugi-wa-thiongo

هل يعقل أن تصدق الحقيقة فجأة، فتبثها امرأة إنجليزية تحتضر في صحراء الصعيد؟ هل يعقل أن تكون شهادة غريبة عجوز مريضة أصدق من زعيق مؤرخي القصور وتهليل مثقفي الاستنارة المزعومة؟

هذه "رسائل من مصر" لليدي دوف جوردون - التي وثقت سبعَ سنوات (١٨٦٢–١٨٦٩) بين أحضان الفلاحين والعبيد - ليست أدب رحلات فحسب، بل هي قنبلة أخلاقية تفجر كل الأوهام التي نسجها الخديوي إسماعيل وأعوانه عن "عصر الذهب". إنها سِفر مر يكشف كيف تتحول الحضارة إلى آلة سحق للبشر تحت شعارات التحديث!

سمعنا كثيرًا عن "مصر الحديثة" التي بناها الخديوي: قناة السويس، والأوبرا، وشوارع القاهرة الفارهة. لكن جوردون، من كوخها المتواضع في الأقصر، ترى ما لم تره عيون المؤرخين: ترى جثث الفلاحين تلقى في ترع السخرة، وأطفال الصعيد يُباعون في أسواق النخاسة بعد ثورة دموية، وحميرَ الفقراء تجبى ضريبة لتمويل حفلات الأوبرا!

أليس من العار أن نكتشف اليوم، بعد قرن ونصف، أن كاتبتنا الإنجليزية رأت في المصريين إخوة يستحقون العدل، بينما رآهم حكامُهم أرقامًا في سجلات الجباية؟ أليس من المأساة أن تكشف لنا رسائلُها أن التسامحَ الديني الذي ننشده اليوم كأنه طوبى، كان واقعًا حيًا في قرى الصعيد قبل أن تفسده سياسات "المستنيرين"؟

إنني أقولها صريحة:

هذا الكتاب يحاكمنا قبل أن يحاكم التاريخ! يحاكم صمتَنا عن جرائم الماضي التي تكرر نفسها اليوم بثياب جديدة. يحاكِم انبهارَنا بأوهام التقدم المبني على عظام المقهورين. يحاكم جهلنا بقيم شعبنا التي احتضنت غريبةً تحتضر، فصارت "نورًا على نور" في قلوب البسطاء.

فلنقرأ هذه الرسائل إذن، لا كوثائق تاريخية فحسب، بل كمرآة تكشف عوراتِ الحاضر، وكصرخة توقظ ضمائرَنا النائمةَ على تراث من الظلم نرفض الاعترافَ به!

كيف لنا أن نصلح حاضرًا، إذا كنا نخجل من حقيقة ماضينا؟ وكيف نسترد إنسانيتَنا، إذا ظللنا نقدس سيفَ المستبد لمجرد أنه صقل حكمَه بشعارات براقة؟

ما أكثر ما كتب الغرب عن الشرق، وما أندر أن ينصف كاتب غربي الشرق! فإذا صادفت عملًا يخرجك من سجن الاستشراق وقيود التمركز الحضاري، فاعلم أنك أمام ظاهرة تستحق التأمل. "رسائل من مصر" لليدي دوف جوردون (١٨٦٢–١٨٦٩) - التي نقلها إلى العربية الروائي إبراهيم عبد المجيد - هي شهادة إنسانيةٌ نادرة تكشف ما أخفاه المؤرخون الرسميون عن معاناة الشعب المصري تحت حكم الخديوي إسماعيل، "المستنير" في عيون أوروبا، "المستبد" في عيون المصريين.

جاءت هذه الأديبة الإنجليزية، صاحبة الصالون الأدبي في لندن، إلى مصر منهكة بمرض السل، تبحث عن شفاء الجسد، فوجدت شفاء الروح في كرم المصريين وبساطتهم. لم تكن كسائر المستشرقين تبحث عن الغرائب لتبهر قراءها، بل أقامت في "بيت فرنسا" بالأقصر، وتعلمت العربية، واختلطت بالفلاحين والخدم والعبيد، فصارت جزءًا من نسيجهم الاجتماعي. لقد دفن جسدها في تراب مصر عام ١٨٦٩، لكنها دفنت قلبَها في رسائل كتبتها بحب قبل الرحيل.

صوت البسطاء

هذه الرسائل - التي بلغت ١٣١ رسالة - تنتزع التاريخ من بروج المؤرخين الرسميين لتسلمه للشعب: الفلاح المقهور: تصف كيف جرد الفلاح من قوت أطفاله لدفع ضرائب باهظة فرضها الخديوي لتمويل مشاريعه الفارهة. حتى الحمير لم تسلم من الضرائب!

- السخرة في قناة السويس: بينما تزين الكتب الأوروبية "بطولات" ديليسبس، تكشف جوردون أن آلاف المصريين مسخوا عبيدًا في حفر القناة، يسقطون موتى كالذباب.

- ثورة أحمد الطيب: تروي كيف قمعت ثورة الصعيد بوحشية: بُقِرَت بطون الحوامل، وبيعت الفتيات في أسواق النخاسة، ونفي الرجال إلى "فازوغلي" بالسودان. كل هذا تحت عين الخديوي "المتحضر"!

"إن المصريين طلبوا مني أن أكون صوتهم في أوروبا.. لقد صرخوا: ليحكمنا الإنجليز ويخلصونا من ظلم الأتراك!"

أبكاني- كما أبكى المترجم إبراهيم عبد المجيد- وصفها للعلاقة بين الأقباط والمسلمين في الصعيد: الأعياد المشتركة حيث كان المسلمون يشاركون إخوانهم الأقباط أعيادهم، والعكس صحيح، في مشهد يذكرنا بـ"ألفة" الجبرتي. والموالد التي كانت ملتقى الجميع ففي مولد "سيدي أبو الحجاج" بالأقصر و"سيدي عبد الرحيم القنائي" بقنا، كانت الأرواح تتصافح فوق الفوارق. النقد الجريء: ترفض جوردون مقولةَ "المسلمون لا يحبون الأقباط" وتقول: "هذا لم أشهده في حياتي بينهم".

حكيمة الصعيد وأم المهمشين

لقد تجاوزت دور الرحالة إلى دور المنقذ: طبيبة بلا شهادة: كانت تعالج الفقراء بالأعشاب من أمراض الدوسنتاريا والربو، بعد أن فقدوا الثقة في "أطباء الحكومة".

- ملاذ العبيد: اشترت عبيدًا يتوسلونها للخلاص من ظلم أسيادهم، فأعتقتهم وعلمتهم، وأحبوها حتى دعوا لها في الصلوات.

- هدايا الفلاحين: لم يأتها الفلاحون فارغي الأيدي، بل قدموا لها زبدَهم وخضارَهم وفطيرَهم، كرمز للتبادل الإنساني لا للاستعلاء الاستعماري.

المستشرقة التي فضحت الاستشراق!

ناقشت جوردون بعمق التناقض بين حقيقة مصر وصورتها في أدب الرحالة: هجوم على المستشرقين فهي ترى أنهم سطحوا الشرق وتعصبوا ضد المصريين، وتستثني فقط إدوارد وليم لين (صاحب "عادات المصريين المحدثين"). كما قاموا بالسرقة باسم علم الآثار إذ تكشف كيف نهب الأثريون الأوروبيون آثار مصر، مثل بيلزوني ومارييت باشا، تحت سمع الحكومة وبصرها. كما أنها ترفض الصورة الاستشراقية عن المرأة المصرية "الحريم"، وتصف حضورها القوي في الأفراح ورقصها كتعبير عن حريتها الدفينة.

الرسائل المحذوفة!

يكشف المترجم الروائي إبراهيم عبد المجيد أن ابنتها جانيت روس (مراسلة التايمز) حذفت في الطبعة الأولى كل ما يشي بـ"خصوصية أسرية" أو انتقاد لاذع للخديوي. لكن الحفيد نشرها بعد ٦٠ عامًا، فظهرت: أن الخديوي ليس "مستنيرًا": تصف سياساته بأنها "أقرب إلى الجنون"، وتتنبأ بسقوطه بسبب الديون والفساد. نداء للضمير الأوروبي: "لو رأى الإنجليز كيف يجلد الفلاحون لدفع الضرائب، لامتلأت قلوبهم غضبًا!". إدانة للعنف الرسمي تسجل أسماء القرى التي دُمِّرت وأعداد الضحايا الذين صاروا "أرقامًا منسية".

لماذا نقرأ "رسائل من مصر" اليوم؟

لأنها تذكرنا بأن "المستنيرين" قد يكونون قتلة شعوب، وأن البسطاء هم حماة الإنسانية. ولأنها توقظ فينا سؤالًا مريرًا: لماذا صار التسامح الديني الذي وصفته جوردون في القرن التاسع عشر أحاديث تراث في القرن الحادي والعشرين؟

***

د. عبد السلام فاروق

في مهرجان الجواهري الأول الذي احتضنته جبال السليمانية وسهول أربيل، حيث كان الشعر لغة مشتركة بين العرب والأكراد، التقيت فوزي كريم لأول مرة. كان المهرجان، الذي أشرف عليه المثقف العراقي البارز فخري كريم، بمثابة واحة ثقافية في زمن كان العراق يئن تحت وطأة الحروب والعقوبات. لم تكن معرفتنا بحاجة إلى مقدمات طويلة، فكأن الروح كانت تعرف بعضها قبل أن تلتقي الأجساد. صرت أنا وهو والشاعر المغربي ياسين عدنان، ثلاثية لا تفترق، نتنقل بين جلسات المهرجان وندواته، نتبادل الأحلام والأسئلة، وكأن الزمن قد توقف ليسمح لنا بأن نعيش في فقاعة من الجمال والفكر. 

كان فوزي كريم مختلفا عن كل من قابلت من الشعراء والنقاد. لم يكن يرفع صوته، ولا يتكئ على شعارات جوفاء، بل كان حديثه يشبه نهرا هادئا يحمل في أعماقه كنوز المعرفة والصدق. أهداني نسخة من كتابه النقدي "ثياب الإمبراطور"، وكتب عليها إهداء رقيقا بخطه المنمق: "إلى أخي المثقف والصحفي المصري والعربي... فلان". ذلك الإهداء البسيط كان بمثابة عقد صداقة روحية استمرت لسنوات، حتى بعد انتهاء المهرجان، حين كنا نتبادل الرسائل والمقالات قبل أن يغزو الإنترنت عالمنا. 

 "ثياب الإمبراطور" 

لم يكن كتاب "ثياب الإمبراطور" مجرد كتاب نقدي، بل كان زلزالا هز أركان المشهد الأدبي العربي. في هذا الكتاب، الذي صدر عام 2000 عن دار المدى، حمل فوزي كريم مطرقة الناقد الصادق ليكسر بها أصنام الحداثة الزائفة، ويكشف عن عري الشعر العربي الحديث. 

قسم فوزي كريم الشعر العربي إلى صنفين: 

- شعر الراية: وهو الشعر الذي يلهث وراء اللغة الباذخة والصور المتكلفة، لكنه فارغ من التجربة الإنسانية الحقيقية. شعر يقلد نفسه، ويكرر الماضي دون روح، كأنه راية ترفع لأجل الراية نفسها. 

- شعر المتاهة: وهو الشعر الذي ينبع من وجع الإنسان، من أسئلته الوجودية، من بحثه عن معنى في عالم يزداد عبثية. هنا يتحول الشاعر إلى مستكشف يجوب متاهة الذات والكون، لا إلى خطيب يرفع شعارات. 

بهذا التقسيم، ضرب فوزي كريم على وتر حساس في الثقافة العربية: وتر "المقدس الأدبي". فكثير من النصوص التي يجلها النقاد ليست سوى أقنعة فارغة، وكثير من الشعراء الذين يتبوؤون مناصب عالية ليسوا سوى "عرابين" لخطابات مكررة. 

 الحداثة الخادعة 

انتقد فوزي كريم ما سماه "مرايا الحداثة الخادعة"، وهي تلك الأساليب التي يتخذها بعض الشعراء والنقاد لتبرير خواء نصوصهم. هؤلاء يهربون من الوضوح إلى الغموض المفتعل، ومن المعنى إلى اللغو، وكأنهم يخشون أن يكشف القارئ عن عري أفكارهم. 

لقد كان فوزي كريم صريحا إلى حد القسوة حين وصف بعض رواد الحداثة، مثل أدونيس، بأنهم يمارسون "التدليس" على القارئ باسم التجديد. وكان يعتبر أن كثيرا من الشعر الطليعي لم يكن سوى "خطى بائسة تخوض في وحل إيهامها". 

 لماذا أغضب الكتاب النخبة الثقافية؟ 

لأنه كان صادقا. والصدق في عالمنا العربي جريمة لا تغتفر. لقد كشف زيف العديد من "الأصنام" الأدبية، وفضح الحشو اللغوي الذي يقدم على أنه إبداع. كان يقول ما يعتقده دون مجاملة، وهذا ما جعل الكثيرين يحاربونه، ليس بالحجج، بل بالتجاهل والتهميش.  

في تلك الأيام الخمسة عشر التي قضيتها معه في كردستان، لم أر فيه ذلك الناقد المتشدد الذي يظهر في كتاباته، بل رأيت إنسانا بسيطا، عميقا، يمتلك روحا شفافة كالنسيم. كان يحب الموسيقى الكلاسيكية، ويسمعها كأنها صلاة، وكان يكتب الشعر كأنه يترنم بصوت خافت لا يسمعه إلا من كان له قلب واع أو أذن مصغية. 

كان فوزي كريم يؤمن بأن الشعر الحقيقي هو ذلك الذي ينبع من معاناة الإنسان، لا من صراع الأفكار. وكان يرفض أن يتحول الأدب إلى ساحة للصراعات الأيديولوجية، كما كان حال الكثير من الأدباء في ستينيات القرن الماضي، الذين حولوا قصيدتهم إلى "بالونات للتجريب اللفظي والذهني". 

 العزلة والرحيل

في سنواته الأخيرة، اختار فوزي كريم العزلة عن صخب المشهد الثقافي، لأنه أدرك أن الزمن لم يعد زمنه. لقد رحل عن عالم يمجد "المثقف المهرج"، ويكافئ السطحيين، ويهمش العقول النقدية الحقيقية. 

لكنه رحل وهو يعرف أن شراعه لم يضع. فالكلمات الحقيقية لا تموت، والأفكار الجريئة لا تدفن. لقد ترك لنا إرثا يشبه المنارة في عتمة الثقافة العربية: نور لمن يريد أن يبصر، وصوت لمن يريد أن يسمع، وصرخة لمن يريد أن يستيقظ. 

وداعا أيها الشاعر الذي لم يخن كلمته.  وداعا أيها الناقد الذي لم يخش سطوة الأصنام. 

وداعا أيها الإنسان. 

فإنك لم ترحل، بل صرت شراعا أبديا في بحر الثقافة، يرشد الضالين إلى شاطئ الحقيقة.

***

د. عبد السلام فاروق

 

عندما عزمت " شذى فرج عبو آل نعمان" على توثيق سيرة أبيها الفنان عادت إلى ما ورثت عنه من أعمال فنية، وملفات ووثائق، فضلاً عن مئات الصور والذكريات، والمعلومات والدراسات المتوفرة في المكتبات والمراجع العراقية والعربية. وهي بذلك قدمت جهداً رائعاً ونبيلاً يحمل قدراً كبيراً من الوفاء النادر لأبيها الفنان والإنسان، ولمنجزه الفني الثّر عبر كتابها " فرج عبو.. الملفات المنسية من السيرة الذاتية" الصادر عن دار نشر " سطور" البغدادية عام 2024

ولد  عبّو في الموصل عام 1921، كان والده صياداً ماهراً للنسور، ومقاتلاً في الحرب العالمية الأولى، كان خلال سنين طفولته ملتزماً بالذهاب إلى الكنيسة أيام الآحاد في ناحية "القوش"، يحضر الدروس الدينية، والفعاليات الثقافية ودروس اللغة السريانية التي لم يتمكن منها في طفولته، على الرغم من إجادته لأربع لغات عالمية لاحقاً.

تابع باهتمام الأعمال الفنية والرسوم والمنحوتات ذات الموضوعات الدينية على جدران الكنائس والأديرة، كانت البداية الأولى للدهشة والتعرف على الفن العالمي ومبدعيه، فتعرف على الفنان الأسباني الشهير" موريللو 1618 ـ 1682" فنضجت ذائقته الفنية وزاد من شغفه ورغبته في استطلاع هذا العالم الفسيح. تخرج  من ابتدائية الطاهرة في الموصل، ثم التحق بمتوسطة الموصل، ثم ثانوية أربيل، شارك في أول معرض مع فنانين محترفين أمثال الفنان عاصم حافظ، الذي أصبح قدوة ومعلماً في حياة الطالب فرج الذي فاز بالمركز الأول.

انتقل عبّو إلى الإعدادية المركزية في بغداد وتخرج منها عام 1939، حينها تعرف على رواد الفن العراقي الأوائل ومنهم: فائق حسن، جواد سليم بعد عودتهما من الدراسة في أوربا، استضافه فائق في منزله وتعرف عليه واطلعه على أعماله، ونشأت بينهما صداقة متينة ومميزة امتدت لأواخر أيامه.

من المفارقات الجميلة أن أول تعيين له بعد تخرجه من الثانوية كان في دائرة الأنواء الجوية في الديوانية، بيد أنه ترك العمل ليلتحق بالكادر التدريسي في ثانوية الحلة عام 1947 لتدريس مادة "الرسم"، قبل ذلك كان إلى جانب الفنانين: أكرم شكري وعيسى حنا تقدموا لتشكيل تجمع تحت مسمى" جمعية الفنانين التشكيلية ومحبي الفن" وتمت الموافقة على ذلك عام 1941. فضلاً عن ذلك أحب التمثيل وأخرج عدداً من المسرحيات لشكسبير وموليير، كما مثّل فيهما، كما انه جرّب كتابة القصة القصيرة. وكانت الموسيقى من أولى هواياته، مستمعاً للأسطوانات والأشرطة كطقس يومي يمارسه أثناء ممارسته الرسم.1621 abbo

درس الفن في جامعة حلوان المصرية 1947 ثم رجع إلى بغداد للتدريس في ثانوية الأعظمية لبضع سنوات، عاد بعدها لإكمال دراسته العليا في معاهد إيطاليا الفنية عام 1954. التحق بمعهد الفنون الجميلة مدرساً، وتوطدت علاقته بالفنان جواد سليم فانتمى إلى جماعة بغداد للفن الحديث.

يُعد فرج عبو واحدًا من أبرز رواد الفن التشكيلي العراقي في القرن العشرين، ومن الشخصيات المحورية في تكوين ملامح الحداثة البصرية العراقية. جمع في أعماله بين التأصيل للهوية الحضارية العراقية والانفتاح على أساليب الفن الحديث الغربي، مما جعله رمزًا للتجريب والانتماء في آن واحد.

امتاز بأسلوب تعبيري حداثي، لكنه ارتكز على مرجعيات تراثية واضحة، لاسيما في استلهامه للعناصر البصرية المستمدة من الفنون الإسلامية والرافدينية، مثل الزخارف الهندسية، والألوان المستوحاة من بيئة العراق، وخصوصًا من الحياة الشعبية والأسواق المحلية.

لم يكن التراث لديه مجرد حنين إلى الماضي، بل كان وسيلة لإنتاج خطاب بصري معاصر ذي جذور محلية. كان دائم البحث عن صيغة فنية قادرة على تمثيل روح العراق من خلال تكوينات تشكيلية حديثة. فهو من أوائل الفنانين الذين تبنوا ضرورة المزج بين الأصالة والحداثة، بين المحلي والعالمي.

أثبت عبّو دوره كفنان أكاديمي إلى جانب ممارسته الرسم كإبداع ولغة فنية جمالية من خلال دوره كمؤسس لهذا الفن، ومشاركته الحيوية في تعميمه وتثبيته في الحياة الاجتماعية اليومية لبلده العراق، لما يحمله هذا اللون الفني من قيمة حضارية ومشاعر إنسانية عالية. بوصفه أستاذًا أكاديميًا، ترك أثرًا بالغًا على الحركة التشكيلية العراقية من خلال تدريسه وتأليفه، حيث ألّف كتبًا ومقالات حول اللون، والهوية، وتحليل العمل الفني، وكتابه المهم "اللون في الفن"

يُحسب له جرأته في خوض التجارب الفنية يجمع بين التقنيات الغربية والروح الشرقية، لكنه أحيانًا وقع في إشكالية التوفيق الصعب بين الشكل والمضمون. ففي بعض أعماله، تطغى الزخرفة على البُعد التعبيري، ما يجعل العمل قريبًا من الزينة أكثر من كونه خطابًا بصريًا نقديًا، لجأ إلى البساطة والبدائية في اللون، يرسم أحياناً بعفوية الطفل، وبعقلية ناضجة مدركة لما يفعله.

ومع ذلك، فإن الفنان يُعد من أوائل من اشتغلوا على مفهوم “الهوية البصرية” في الفن التشكيلي العراقي، وهو بذلك أسهم في تأسيس خطاب ثقافي بصري ظل حاضرًا في أعمال الأجيال اللاحقة، خاصة أولئك الذين سعوا إلى محاكاة البيئة العراقية لا كرمز، بل كمصدر بصري عضوي. يقول عنه الناقد جبرا إبراهيم جبرا: استمر فرج عبو في اتجاه كان محتوماً أن ينتهي بشكل ما بنوع من أنواع التجريد، لكن اقتحامه للون والشكل النقي منح عمله الطاقة والقوة، كل لوحة هي محاولة متجددة للتأقلم مع مزلج الضوء لجو معين. غير انه يفترض في التجريد سمة إنسانية خاصة، يمتلك فيه الفكرة الأساسية في أن للفن تمجيداً حسياً للحياة كما يقول الناقد عادل كامل.

يشكل فرج علامة فارقة في مسار الفن التشكيلي العراقي الحديث. لقد أسهم بعمق في خلق توازن بين البحث الجمالي والانتماء الثقافي. وإلى اليوم، ما تزال أعماله تثير تساؤلات حول معنى الأصالة والحداثة، وحول الدور الذي يلعبه الفنان في إعادة تشكيل الوعي الجمعي من خلال اللون، الشكل، والموروث

اعتمد في تجربته الفنية على رؤية تقوم على تحليل اللون والفراغ والرمز كعناصر أساسية في العمل الفني، فكان يؤمن أن اللوحة ليست محاكاة للواقع بقدر ما هي بناء تشكيلي ذي هوية وخصوصية. مزج بين خبرته الأكاديمية في إيطاليا وفهمه العميق للفن العربي والإسلامي والرافديني، استخدام اللون بوصفه كيانًا تعبيريًا مستقلًا، وليس مجرّد أداة تلوين.

ترك الفنان عبّو بصمة واضحة في تكوين ذائقة جديدة داخل الفن العراقي وتأسيس جيل من الفنانين التقدميين الذين تعاملوا مع التراث كأداة تفكيك لا تقديس،

دمج النظرية بالممارسة، واستطاع أن يؤثر بعمق في جيل من الفنانين الذين أصبحوا لاحقًا أسماء بارزة في الفن العراقي. حملوا روح التوازن بين الحداثة والهوية المحلية في تجاربهم.

لقد أغنى  من خلال بحثه الشاق المدرسة البغدادية المعاصرة، وجماعة بغداد للفن الحديث بمعطياته الفنية، وكان مثالاً رائعاً لها في استلهام الموروث طيلة سنوات حياته التي انتهت في 5 آذار 1984.

***

د. جمال العتابي

 

لم تكن قصص الحب غريبة عن عباس محمود العقاد، فقد وقع في شباك الحب اكثر من مرة، كانت أولى تجاربه العاطفية مع الاديبة مي زيادة التي رمز لها العقاد في قصته الوحيدة " سارة " وفي شعره بـ " هند " التقى بها المرّة الاولى في صالونها الأدبي الذي كان يعقد كل يوم ثلاثاء، كان حينها أصغر الزوار سنا لم يتجاوز السابعة والعشرين وكانت مي في الحادية والعشرين، وهناك العديد من الرسائل المتبادلة ما بين العقاد وميّ والتي تؤكد حبه لهذه الأديبة المتميزة .‏ويخبرنا العقاد في روايته سارة انه أحب هند قبل سارة وكان حبه لها كما جاء في احدى مقالاته خالصا للروح والوجدان وكان حبه لسارة مستغرقا شاملا للروح والجسد، كان المرأتان على طرفي نقيض، ويصفهما بقوله :" اذا كانت سارة قد خلقت ونبتت في ساحة الطبيعة، فهند قد خلقت راهبة في دير، الاولى مشغولة بتنظيم القيود، وهذه مشغولة بأن تصوغ حولها أكثر مما استطاعت من قيود ثم توشيها بطلاء الذهب وترصعها بفرائد الجواهر "، لم يرتبط مع هند – مي زيادة – بعهد، وانما كان يطوف حولها، المرّة الوحيدة التي اقترب منها كانت قبل أن تسافر، إلى إيطاليا حيث استطاع ان يلمس يدها ويقبلها . وكان يبث من خلال رسائل لها سطور الشوق والوجد والأمل، ويلتقي بها فتزداد حيرته وتساوره الشكوك شأن كل محب عاشق. بعد أن انتهت قصة سارة وفي عام 1940 تعرف العقاد على فتاة سمراء جميلة تدعى "هنومة خليل"، فوقع في حبها، وكان هو في الخمسين من عمره وهي في العشرين، وقد أدرك العقاد من البداية أن هذا الفارق الكبير في العمر لا يتيح لهذا الحب أن يستمر أو يستقر، ومع ذلك فقد عاش في ظل هذا الحب سنوات عديدة ذاق فيها السعادة. لكن ما كان يخشاه العقاد فقد حدث، حين تعرفت هذه الحبيبة إلى النجم السينمائي أحمد سالم، فاختطفها فورا للعمل في السينما وتزوجها بعد ذلك، وسرعان ما أصبحت نجمة مشهورة هي الفنانة مديحة يسري.

كان يخرج كل يوم من بيته وقد أحكم طربوشه فوق رأسه يرتدي (جاكتة) غريبة وطويلة جدا، لم تعرف المكواة، يمشي محنيا الى الأمام وكان بعض الناس يعرفون فيشيرون إليه ويقولون: العقاد، لكنه لايأبه للإشارات ولا لكلمات التحية، ويرى ان المجاملات تأخذ من وقته الكثير، فهو رجل فكر، صحيح إنه لم يتخصص في أي شيء، لكنه يقرأ أي شيء، لأنه يكتب في كل شيء ومن بين الموضوعات التي أثارت اهتمامه موضوعة المرأة، جرب العقاد في حياته التي ناهزت 75عاماً – ولد في الثامن والعشرين من حزيران عام 1889 وتوفي في الثالث عشر من عام 1964 – اكثر من مرة وعبر عن أحاسيسه في تلك التجارب فاصبحت أحاديثه عنها اشبه بنظرية فلسفية متكاملة الأبعاد، فهو يؤمن بان الحب بالنسبة للرجل رياضة لسد الفراغ وسكن من جهاد " والذي يتأمل ماكتبه العقاد في شعره ومقالاته وكتبه  يستطيع أن يحدد تجربتين عاطفيتين ذات ملامح واضحة، والى جوارهما عدة تجارب تختلف قوة وضعفا .

احتلت المرأة عناوين الكثير من كتب ومقالات العقاد، وقد وضّح العقاد رأيه في عمل المرأة معتبراً أن عملها الأساس هو حفاظها على بيتها وأولادها وتربية النشء، فقال ضمن سؤال وجّه إليه - ماذا يحسن أن تستبقي المرأة الشرقية من أخلاقها التقليدية: " يجب أن تظل المرأة الشرقية كما كانت في كل عصر ملكة البيت الحاكمة المحكومة يسكن إليها الرجل من متاعب الحياة ولا يزال عندها - صغيراً كان أو كبيراً- طفلا لاعبا يأوي منها إلى صدر الأمومة الرفيق وأحضانها الناعمة رضيعا ويافعا وفتى وكهلا إلى أن يشيخ ويفنى، ويستدعي ذلك أن تعيش هي في ظله وتعتمد في شؤون العالم الخارجية عليه".

عام 1910 قرأ العقاد كتابات الفيلسوف الالماني شوبنهور، وقد وجدت اراء فيلسوف التشاؤم عن المرأة والزواج صدى في نفس العقاد الشاب، فهو يشعر انه مثل شوبنهور ما من امرأة اهتمت به، واذا كان الزواج كما يقول شوبنهور هو " دَّين في الشباب نسدده في سن الكهولة "، فإن العقاد كان حذراً من أن يقع فريسة ذلك الدَّين، وحسب ما هو معروف عن سيرة حياة شوبنهور، إن علاقته مع النساء اقتصرت على حكايتين، ففي العام 1821 يقع في غرام كارولين ميدون وكانت مطربة في التاسعة عشرة من عمرها، استمرت العلاقة بينهما عشر سنوات متقطعة، رفض أن يتوج هذه العلاقة بالزواج :"ان تتزوج يعني فعل كل ما يمكن ليصبح كل طرف موضع اشمئزاز الآخر"، الحكاية الغرامية الثانية كانت مع خادمة تعمل عنده، لكنه يتركها ذات يوم ويهرب ...ولأنه لم يكن يهتم بما يجري حوله نجده لا يولي اهتماماً للجنس او الرغبة بالنساء، الجنس "لاتدفعني للضحك" . يقول لأحد مقربيه :" الجنس أعظم بلاء، فمع ظهور الغريزة الجنسية، ظهر القلق والسوداوية في الوعي أيضا، ونبتت في الحياة الهموم والمصاعب، ذلك لأن أصل الحياة الجديدة يرتبط باشباع أشد ميولنا سطوة وأكثر رغباتنا عنفا، بتعبير أوضح ان الحياة بكل ما فيها من احتياجات وأعباء وآلام ستبدأ من جديد وستعاش مرة اخرى بسبب هذا الذي يسمى الجنس".

يرى العقاد أن التناقض صفة أصيلة في أي امرأة، فاللذة والألم نقيضان في الكائن الحي عامة، لكن المرأة تجمع بينهما اضطرارًا، فأسعد لحظاتها هي الساعة التي تحقق أنوثتها الخالدة وأمومتها المشتهاة، وهي ساعة الولادة، فهي تفرح لأنها أنجبت ولكنها تكون أشد ساعات الألم والوجع في جسد الأم، الطريح بين الموت والحياة.

قال العقاد الذي وضع نحو 102 كتاب في روايته سارة : " كانت شكوكا مريرة لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض وكل حلاوات الحياة، كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدا رويدا وما يزال ينطبق وينطبق حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار، وكثيرا ما ينتزع ذلك السجن المظلم طبيعة الهرة اللئيمة في مداعبة الفريسة قبل التهامها فينفرج وينفرج حتى يتسع اتساع الفضاء بين الأرض والسماء ثم ينطبق دفعة واحدة حتى لا يمتد فيه طول ولا عرض ولا مكان للتحول والانحراف" .

 ويستمر العقاد في وصف حال الشك التي اعترته خلال حبه لسارة فيبلغ الشأن في رسم الصورة وتصوير ذلك الإحساس حيث قال: " ألم لا نظير له في آلام النفوس والعقول، وحيرة لا تضارعها حيرة في الإحساس والتخمين، وأقرب ما كان يشبه به هذه الحيرة حال الأب المستريب الذي يشك في وليد منسوب إليه هل هو ابنه أم هو ابن غيره، هل هو رمز الحب والعطف والصدق والوفاء، أم هو رمز الخداع والخيانة والاستغفال والاحتقار، هل هو مخدوع في عطفه عليه أم هو مخدوع في نفوره منه؟ وكيف يفصل في هذين الخداعين؟ وكيف يطيق الصبر على واحد منها وكلاهما لا يطاق؟ "

ويمكن القول إن المرأة التي دخلت قلب العقاد في بداية حياته امرأة مجهولة أو أكثر من امرأة مجهولة رآها في أسوان حيث ولد أو في الزقازيق، حيث تنقل فيهما للعمل وبدأ رحلته في عالم الوظيفة شابا يافعا لم يتجاوز العشرين من عمره. ولهذا نجد لديه  فلسفة خاصة في الحب . فالحب عنده فيه " الاعتياد" وفيه شيء من الأنانية حتى لو أقدم صاحبه على التضحية من أجل من يحب، فالأنانية تبدو واضحة لأن المحب لا يتنازل عن محبوبه ولا يقبل أن يكون لشخص آخر. وفي الحب أيضا شيء من الغرور لاعتقاد المحبوب بأن إنسانا آخر يفضله على غيره من الناس واختاره هو فقط ورضى بألا يرتبط بأحد غيره. وبسبب تعمق العقاد في دراسات علم النفس فإنه يشير إلى أن الحب فيه ما يطلق عليه علماء النفس " التناقض الوجداني" أي الحب والشغف والوجه الآخر هو درجة من درجات الضيق "لأن المحب يعاني من الشعور بأنه أسير ومقيد بقيوده وعاجز عن الإفلات من قيوده وقد تعمى الأبصار في الحب كما تعمى في القضاء والقدر وقد يحاول المرء أن يهرب من هذا الحب فيجد نفسه يقترب بدلاً من أن يبتعد، ومن حالات المحبين الإنكار فينكر الإنسان أنه وقع في الحب كما ينكر السكران أنه سكران والأمر يتلخص عند العقاد في أن الحب يملك الإنسان ولا يملكه الإنسان. وفي تحليل العقاد لعاطفة الحب يرى إن فيه عواطف كثيرة وليس عاطفة واحدة، ففيه من حنان الأبوة ومن مودة الصديق ومن خيال الحالم وفيه من الصدق والوهم ومن الأثرة والإيثار ومن حرية الإرادة والاضطرار ومن الغرور والهوان وفيه كل ما يطرأ على النفوس في مختلف الأوقات والأحوال".

وحين سئل العقاد عن تعريف للحب أجاب بأنه من الصعوبة تعريفه تعريفا جامعا مانعا، ولكن يمكن تعريفه عن طريق النفي فالحب ليس هو الغريزة لأن الغريزة لا تعرف الاختيار والحب ليس الشهوة لأن الإنسان قد يشتهي دون أن يحب وقد يحب وتنتهي الشهوة بالقضاء على الحب.

والحب ليس الصداقة لأن الصداقة تكون أقوى ما تكون بين اثنين من جنس واحد، والحب لا يأتي بالاختيار لأن الإنسان قد يحب قبل أن يشعر بأنه يحب ودون أن يفكر في الاختيار والانتقاء.والحب ليس الرحمة لأن المحب قد يكون قاسيا مع حبيبه عامدا أو غير عامد، وقد يقبل منه العذاب مع الاقتراب ولا يقبل الرحمة مع الفراق.

ويتساءل العقاد كيف يجمع الحب أحيانا بين اثنين لا يخطر على البال أنهما يجتمعان والجواب عنده لأن القلوب أقرب إلى التناسب والتجاوب فإذا تجاوبت القلوب نجد اثنين ينظران إلى الدنيا وإلى الحياة بعين واحدة.

وقد يحدث اختلاف السن لكن ذلك لا يمثل مانعا لحاجة نفس منهما إلى عطف الأبوة وطمأنينة التجربة ويقابلها حاجة النفس الأخرى إلى دفء العاطفة وإلى الرعاية فيقع التبادل في احتياجات اثنين مختلفين ويحد بينهما.

وأخيرا يلخص العقاد فلسفته حين سئل: هل الحب أمنية تشتهيها أم هو حالة تتقيها فأجاب إنه مصيدة فإذا أحببت من لا يحبك فهو أمنية تشتهيها وإذا أحببت من يحبك فهذه هبة سماوية فالحب هبة من الله.

قاصدا بذلك أن القلب الذي لا ينبض بالحب يشبه الصخر الذي لا حياة فيه ولا روح، والقلب الذي لا تحرقه لوعة الحب هو مجرد حجر أملس لا يعرف لغة المشاعر، والتاريخ يؤكد دائما ويؤيد أن الحب لم يفرق يوما بين شاب لاه وشيخ معمم، أو بين قائد عسكري يقود الجيوش وآخر يعيش في أبراج من الخيال والوهم.

ويكتب العقاد " الحب مزرعة ينبت فيها الوهم ومدينة تستوطنها الشكوك " ويؤمن العقاد بان الغيرة وليدة الحب، وان المرأة اكثر شقاء في غيرتها من الرجل لانها أحوج الى الحب، واخوف عليه من الفقد والهجران، ولأنها اميل الى الاستسلام وأسرع الى الادبار، ولان طبيعة احاسيسها تؤكد فاعلية الغيرة في نفسها، ويذهب العقاد الى القول بأن المرأة أقل هياما في الحب من الرجل مستنداً في ذلك الى اراء شوبنهور التي كان يعشقه، والعقاد شديد الحرص على التمييز بين الحب والجنس، فالحب عنده عالم من المعاني التي تطلق من أسر المادة والحب كل ما يملي للنفس في الشعور بالحرية الموزونة وكل ما يجنبها الشعور بالامتناع والتقييد، أما الجنس فانه شديد الالتصاق بالجسد والمادة ومن ثمة لايمكن أن تكون الغريزة الجنسية نفسها تستعين بالحب لتفضيل انثى على انثى، ولايمكن كذلك ان تكون الغريزة الجنسية هي الحب لأن الغريزة واحدة والحب أشكال وألوان ويُعرف الحب بانه اندفاع روح الى روح وخلاصة فلسفته عنه انه قضاء وقدر فهو يرى اننا لانحب حين نختار، ولانختار حين نحب .

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

..............................

* الصورة للعقاد مع الممثلة الشهيرة هند رستم التي اجرت معه حوار صحفي

 

ما يسجله تاريخ المدنية في العراق، والثقافة والفن والعمارة على وجه الخصوص من مآثر انها كانت تتلمس الطريق نحو الحداثة والتجديد، وتبحث في مطلع الخمسينات عن آفاق جديدة للحياة، على يد نخبة من المثقفين والفنانين والمعماريين، ثمة نبرة مضيئة بدأت تنمو وتنتشر، كانت المقدمات لتيار او حركة تأصل في قادم الأيام، نشير بهذا الصدد إلى خالد القصاب وقتيبة الشيخ نوري، ومهدي مرتضى ومصطفى نصرت. سانحة أمين زكي، كمال السامرائي، ثم علاء بشير.

في متدارك هذا الإيقاع، ثمة أطباء آخرون من جيل آخر، لكنه امتداد للأول يشيدون نماذجهم بقدر كبير من الموهبة وأنساق جديدة. ومع أن النظرة العابرة لا يمكن أن تستقصي كل أبعاد تجاربهم، ولا تستطيع أن تقع على حرارة الإخلاص التي تشعّ منها، إلا أنها تستطيع أن تؤكد حقيقة هي أن هؤلاء لا يبتعدوا عن نوازعهم الإنسانية والجمالية. حيدر علي استشاري أمراض عصبية عراقي، أحد رموز الجيل الجديد، ناجح في مهنته واختصاصه، هناك أكثر من دليل: دوره الأكاديمي والعلمي المتميز، تمكنه من كسب ثقة مرضاه، موثوق في تشخيصاته وأحكامه، عيادته لا تفرغ من المراجعين، لا لأنهم كثر وحسب، بل لأنهم يعرفون أنهم يقصدون طبيباً من كينونة خاصة. في حوار ممتع وجميل، أبدأ معه بالسؤال:

لماذا لم تكن رياضياً يا صديقي؟

ـ ولماذا هذا السؤال من جنابك؟ يجيبني على الفور.

ـ لأنك تمتلك طولاً فارعاً، وجسداً رشيقاً ومرناً، هذه المواصفات كانت تؤهلك أن تكون لاعب سلة أو طائرة من الطراز الأول، أو أحد أبطال ألعاب القوى. وما دمت تمتلك العديد من المواهب، فما المانع أن تكون نجماً رياضياً؟ يضحك حيدر بابتسامة عريضة، ثم يعقب بالقول:

ـ نعم كان ممكناً أن يحصل ذلك لو كان معلم الرياضة في مدرستنا ذكياً يبحث بعناية عن مواهب طلابه. لا تنس يا صديقي ان عمر البطولات في هذا الميدان قصير، والنجومية تبدأ بالخفوت بعد الأربعين. الشيء الذي أتأسف عليه انني لم أتعلم العزف على آلة موسيقية، حاولت، ولم أستمر. وجدت بديلاً افضل في متابعتي للموسيقى العالمية واستمتاعي بسمفونيات عباقرة الموسيقى الكلاسيكية

ـ لك كل الحق، أتفهم تبريراتك!

ما أن تخطو عتبة منزله العامر حتى تدرك أنك لا تزور طبيب أعصاب، بل تدخل عالماً من الدهشة والجمال، كنا نتحاور، نضع الخطوط العريضة لمحاضرة يقدمها عبر منصة "حوار التنوير" عن علاقة الابداع بوظائف الدماغ. كنت قد شاركته إدارة المحاضرة. تساءلت وأنا أراقب انعكاس الضوء على زجاج واجهة المنزل:

ـ من صمم هذا البيت؟

أجابني بابتسامة هادئة، وعينين تتفحصان ملامح وجهي تقرأ ما فيه من أسئلة قبل أن أنطقها.

ـ أنا كنت أرسم مخططه في ليال طويلة، انظر لهذا الدرج من مكتبتي، انه يضم عشرات الكتب في الهندسة المعمارية، راجعت أغلبها، وكانت هذه النتيجة كما ترى. ثم يتابع الحديث: لا شيء يداوي الإرهاق مثل خطوط هندسية متوازية. هذا التدخل من (جنابي) في التصميم كان يزعج المهندسة المشرفة  انعام البزاز بالطبع، وكثيراً ما تعلن عن رغبتها في ترك العمل، حين تجد من يقف إلى جانبها في البيت ويؤيدها، وهي زوجتي "رشا" الطبيبة في اختصاص آخر، حين تختصر الحوارات بعبارة واحدة مكثفة لتخاطبني: (أنت هوايه تتفلسف)! السيدة البزاز استاذة متخصصة في الهندسة المعمارية في جامعة  بغداد، اتصلت بها  فعلاً وحكت لي اشياء كثيرة عن التصميم، وعن إعجابها بالأفق الواسع لعقل حيدر.

تساءلت مع نفسي، هذا الطبيب، أيعقل أن يكون ذاته من يعالج الدماغ، ويبحث في اضطراباته؟ ولديه مشاركات واسعة في المؤتمرات العلمية، وبحوث ودراسات علمية في اختصاصه منشورة في المجلات العالمية، فضلاً عن دوره الأكاديمي، واشرافه على طلبة الدراسات العليا في المجال ذاته. قبل لحظات أدرك حيرتي وهو يراقب حركة رأسي وعيوني التي كانت تبحث عن سر، عاجلني بالقول: كل شيء موزون في الطب، أما في الفن فهناك فسحة للدهشة والخيال، أنا أحتاج كليهما.

كنت أنصت إليه بانشداد حين كان يتحدث عن وجهه الآخر الذي يحمل ملامح ذلك الزمن الذي كان فيه الطبيب فيلسوفاً، والمفكر مهندساً، والمثقف قارئاً للتراث. جلس يحدثني عن الجاحظ وكأنه التقاه بالأمس، وعن أبي حيان، وعن المتنبي كما لو كانا يتبادلان الشعر في مقهى عباسي. يتحدث بلغة سليمة، لا يخطأ في قواعدها، كان للأب مدرس اللغة في ثانويات العراق، دور في تمكن ولده من اللغة. وحين يسافر حيدر، تسافر معه الروايات، لا تفارقه الكتب حتى في المطارات والمقاهي، يتخذ من المطولات السردية زاداً لمسافات السفر الطويلة، لا يقرأ الأدب العالمي كهاوٍ، بل كمن يبحث عن إشارات الحياة لدى الشعوب الأخرى، في روايات الكتّاب الروس، وكتاب أمريكا اللاتينية، تلك الإشارات التي لا تقاس بالنبض، بل بالدهشة التي تشبه لمسة طبيب على عصب متهيج. قرأ الأدب العراقي والرواية فيه، قراءة رصينة ومتأنية، يتابع آخر ما يصدر من روايات لكتاب عراقيين، يفكك شفراتها ويحل رموزها بأدوات الناقد المتمرس. أذكر أني وجهت له دعوة لحضور جلسة احتفاء بروايتي (منازل العطراني) في قاعة اتحاد الادباء، حضوره كان مفاجأة لي حقاً، لم اتوقعها في زحمة التزاماته. في نهاية الجلسة، شكرته بالطبع، ثم قال: كنت قرأت نصف الرواية، وعزمت على الحضور، فقررت إكمال قراءتها منذ الساعة السادسة صباحاً هذا اليوم، انا لست مع حضور لا يحمل معنى. كان حيدر يحدثني عن دافنشي وكأنه زميل له في الكلية، وعن رسامين عالميين من عصر النهضة، يتحدث عن أعمالهم بلغة العارف المتخصص، وعن مدارس الفن وأساليب الفنانين في الرسم. أبو زيد عاشق للجمال، زائر محترف لمتاحف العالم، يقضي معظم ساعات زياراته فيها، أولاده يصيحون (الداد) من تبديد الوقت والمبالغة في التجوال في أروقة المتاحف، فيتركهم لحالهم! لا يفلت من ذاكرته اسم فنان، ولا تسقط من دفتره سيرة لوحة، يعرف تاريخ حركة الفن التشكيلي العالمي كما يعرف مسارات عروق الجهاز العصبي، وتلافيف الدماغ، له عين قنّاص تلتقط الجمال في أدق التفاصيل: في اللون، والحركة، والفضاء. وتناغم الظل والضوء، يقتني الاعمال الفنية، لا كوسيلة لتزيين الجدران، بل ليقيم حواراً معها، عشرات من اللوحات لرسامين عراقيين ينتمون لمدراس فنية مختلفة، يتحدث عنها كناقد تشكيلي من الطراز الأول. جدران المنزل ميدان فسيح للإبداع والجمال، فيها ما يثير دهشة العارف ويطيل وقفة المتأمل أمام التكوينات المدهشة. فلكل واحدة منها قصة وتروي حكاية. كان يمكن أن يكتفي حيدر علي بمهنته واختصاصه المعقّد محاطاً بأدعية مرضاه وابتهالاتهم، لكنه اختار أن يكون ثرياً بمعرفته على خطى الأطباء: تشيخوف، ميخائيل نعيمة، أن يقيم علاقة مع ابن رشد وسيجموند فرويد، والحلّاج، يتبادل الحوار مع ماتيس وهنري مور، ويضع لمسة في كل ما يصنع. الطريف في حياة الطبيب حيدر انه يمارس اختصاصه محاطاً يومياُ بعشرات المرضى المتوترين، الذين يعانون من انهيارات عصبية، يستقبل قلق ومخاوف وتوترات المدينة كلها، كأنه راهب في معبد بوذي في أقصى حالات الهدوء.

ـ كيف تفعل ذلك يا أبا زيد؟ سألته مرة، لم يغير نبرة صوته، وقال وهو يشير إلى رأسه: عندما ترى القلق كل يوم تحت المجهر، يصبح صغيراً جداً.

تلك الحكمة تعلمتها منه، انه يتعامل مع العصب، أصل الانفعال، ويخرج منه غير منفعل، هادئاً، مطمئناً، كمن يأكل الفلفل الحار من دون أن تسيل دموعه. قد يشعر مريضه أن رأسه على وشك الانفجار، بينما هو يتناول رشفة قهوة بهدوء، ويقول:

التوتر طبيعي...فقط لا تدعه يقود السيارة!

حيدر علي، تجسيد لشخصية نادرة، اختار أن يكون حارساً للدماغ والخلايا العصبية في جسم الإنسان. يمارس اختصاصه بيد خبيرة، يعالج مرضاه بروحه المفعمة بالجمال، هو أحد أولئك القلّة الذين لا يغويهم المال والشهرة، يمضي نحو النواميس الأزلية في الحياة كي يستمر دفق الزمن نحو المستقبل، انه كمن يكشف العلّة، ويصف الدواء، ويطمئن المريض بأنه سيحيا حياة رغيدة، لتلوح على شفتيه ابتسامة الرضا. هو تجربة تشعّ فضيلة وأملاً ليس بوسع المرء ان يتجاهل دورها الإنساني والجمالي، حياته حافلة بمعاني السخاء، خصبة، غنية، صدق في العواطف، فضاء مفتوح الى النور والقيم النبيلة

***

د. جمال العتابي

 

‏ ‏حين أصدر كولن ولسون كتابة الأول والأشهر" اللامنتمي" عام 1956 كان في الرابعة والعشرين – ولد في السادس والعشرين من حزيران عام 1931 - وهو الكتاب الذي جلب له المال والشهرة العريضة و تُرجم إلى مختلف لغات العالم. في ذلك الوقت أبدى عدد من النقاد الإنكليز ازدراءهم واستخفافهم بـ (الجهد) الذي بذله المؤلف واعتبروا جهده مجرد سياحة في سير ونتاجات قادة الفكر الأوروبي ودراسته مصادر وينابيع الفلسفات. ومحاولته إيجاد روابط بين سير هؤلاء المفكرين وما قدموه من نتاج، لكن القراء ضربوا بالحائط بكل صرخات النقاد ليضعوا الكتاب لسنوات على عرش الكتب الأكثر شهرة ومبيعا وليتحول صاحبه إلى واحد من أبرز نجوم المجتمع البريطاني.

‏كان الكتاب قد كتب في إحدى قاعات المطالعة بالمتحف البريطاني، عندما كان ينام على فراش متنقل في شارع هامبستيد هيث. كان ابناً لعامل في أحد مصانع الاحذية الصغيرة، تمنى الاب ان يصبح ملاكما، وهي نفس الامنية التي راودت الابن فيما بعد لينتقم من العالم بـ " اللكمات ". عاش في بيئة فقيرة، وكانت والدته تحدثهم عن الفقر الذي عاشت فيه عندما كانت طفلة:" كانت روايات والدتي عن اوضاع عائلتها الفقيرة تيدو لي رومانتيكية للغاية وجعلتنا انا واخي نتذوق طعم الرضا والقناعة لكوننا ولدنا في كنف اب يعمل بثلاث جنيهات اسبوعيا " – حلم غابة ما ترجمة لطفية الدليمي -.

‏ولد كولن هنري ويلسون في السادس والعشرين من حزيران عام 1931 في مدينة ليستر، تعلق بوالدته التي كانت تقرا الكتب " بنهم "، وتلخص الكتب لابنائها، مولعة بقراءة روايات " د.ج.لورنس " والاخوات برونتي. يتذكر ان علاقته بالكتب نشأت عندما سمع من والدته ذات يوم تلخيصا مثيرا لرواية اميل برونتي " مرتفعات وذرينغ "، في العاشرة من عمره يعثر على كتاب في الفلك يجعله يقرر ان يُصبح عالما، مما دفع والدته ان تهديه عدة كيمائية رخيصة الثمن لتنمية مواهبه:" حصل انني عندما اكتشفت العلم وانا في الحادية عشرة بالضبط شعرت بفجوة نفسية متعاظمة بيني وبين الناس حولي؟، واندفعت في الحلم بيوم يرتقي فيه الانسان ليكون كالالهة كما حلم ويلز في بعض كتاباته " – حلم غاية ما ترجمة لطفية الدليمي -

‏عثر على كتب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه وهو في الثالثة عشرة من عمره، عندما رأى ذات يوم كتاب في المكتبة بعنوان " إرادة القوة "، ايقن انه وجد من يأخذ بيده الى عالم " العدمية ". في ذلك الوقت كان الشاب المراهق يؤمن أن الوصول الى الحقيقة يمر عبر الاكتئاب والشقاء، وكان نيتشه دليله: " اكتشفت أن الذي ساق الناس في الحقيقة كان إرادة القوة " – الكتب في حياتي ترجمة حسين شوفي – يسحره كلام نيتشه عن قوة الإرادة التي هي الدافع الانساني الاساسي.

‏في تلك السنوات لاحظت امه ان ابنها المراهق يغلق عليه غرفته كل مساء ليغرق في قراءة الكتب التي كان يستعيرها من المكتبة.. كان قد تملكه احساس بعبثية الحياة التي يعيشها الانسان دون ان يدرك حقيقية الهوة التي تحت اقدامه " يكتب في سيرته الفكرية ان شعورا بكره الجنس البشري قد تملكه، وراودته افكار نيتشه حول الناس الضعفاء والمرضى وضرورة أن يحل محلهم أناس يتمتعون بالعقل السليم وقوة الجسد:" شعرت ان القديس الحقيقي جدير بان لا يكون محبا للبشرية، وإنما هذا الرجل الذي يريد ان يرى انقضاء عصر البشر وان يحل محلهم نوع من المخلوقات اقل عقما وغباء "

‏في مقدمة كتابه سقوط الحضارة يكتب كولن ويلسون:" لقد كان في كتاب اللامنتمي شيء من الاعترافات الخاصة بتأريخي الشخصي، وذلك واضح لأنني انفقت معظم صفحات الكتاب محاولا ان اعثر في الاشخاص الآخرين على ما يبرهن على معتقداتي، وكان ولسون يؤمن ان كتابه اللامنتمي سيكون " هو الارض الخراب للخمسينات، وينبغي ان يكون اهم الكتب التي تصدر في جيله "، ويصر على ان اللامنتمي يريد ان يكون وجوديا حرا ومتفائلا، ولهذا يجد ويلسون ان جميع الناس يجب ان يكونوا لامنتمين ويؤكد انه لا يهدف الى:" ايجاد حل صحيح كامل لمشاكل اللامنتمي، وانما اهدف الى بيان ان مثل هذه الحلول، والمحاولات التي بذلت في سبيلها موجودة فعلا ".

‏تكتب ساره بكول ان كولن ويلسون:" بجرأته الوقحة وسماجته الكيركغاردية وفرديته المتقدة، يجسد روح التمرد الوجودي في اواخر خمسينيات القرن العشرين اكثر من اي شخص آخر – على مقهى الوجودية ترجمة حسام نايل –

‏في الخامس من كانون الاول عام 2013 تنشر صحيفة الغارديان خبر رحيل صاحب كتاب " اللامنتمي "، واصفة كولن ولسون بانه "العبقرية الأدبية الرئيسة في قرننا.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

عندما يذكر اسم رؤوف عباس حامد، لا يسع المرء إلا أن يقف إجلالًا أمام سيرة علمية حافلة بالعطاء، وأمام منهج تاريخي حول الوثيقة إلى حكاية إنسانية، والماضي إلى درس حي يُقرأ بوعي الحاضر. كان رجلًا يعرف أن التاريخ ليس مجرد أحداث مضت، بل هو وعي مستمر، وسؤال لا ينتهي عن الإنسان ومصيره.

ولعلني هنا، كقارئ لأعماله، لا أملك إلا أن أعترف بدين شخصي لهذا الرجل؛ فلقد كانت كتاباته - بصرامتها العلمية وجرأتها النقدية - بمثابة الباب الذي ولجت منه إلى عالم التاريخ، لا كسرد جامد، بل كحوار دائم بين الماضي والحاضر. علمني أن المؤرخ الحق ليس من يحفظ التواريخ، بل من يقرأها بقلب المفكر وعين الناقد.

اليوم، ونحن نستذكر ذكرى رحيله، لا نكتب عن مجرد ذكرى، بل عن إرث لا يموت، وعن بصمة ظلت محفورة في جدار الوعي المصري والعربي. فلتكن هذه الكلمات وفاء لرجل لم يبخل بعلمه، ولم يخش الحقيقة، وظل حتى آخر أيامه شاهدًا على أن التاريخ - حين يكتب بضمير - يصبح ضمير الأمة.

في السادس والعشرين من يونيو عام 2008، غربت شمس من ألمع شموس الفكر التاريخي في مصر والعالم العربي، الدكتور رءوف عباس حامد، تاركًا وراءه إرثًا علميًا يضاهي أعظم ما أنتجته العقول الباحثة في صرح المعرفة الإنسانية. لقد كان رحيله خسارة فادحة للحقل الأكاديمي المصري والعربي، إذ لم يكن مجرد أستاذ جامعي، بل كان مدرسة كاملة في التاريخ الاجتماعي، تخرج على يديه جيل من المؤرخين الذين حملوا مشعل منهجه العلمي الدقيق ورؤيته التحليلية الثاقبة.

 من كتاب القرية إلى قمة الأكاديمية

وُلد رءوف عباس حامد عام 1939 في محافظة بورسعيد، تلك المدينة التي شهدت بطولات شعبنا في مواجهة العدوان الثلاثي. لكن القدر قاده إلى القاهرة عام 1943 ليعيش مع جدته، وهناك تلقى تعليمه الأولي في أحد الكتاتيب، حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب، وهي اللبنات الأولى التي شكّلت وعيه المنهجي الدقيق. ثم انتقل إلى مدارس حي شبرا، ذلك الحي الشعبي الذي كان -ولا يزال- يختزل روح القاهرة وتنوعها الاجتماعي والثقافي.

التحق بكلية الآداب بجامعة عين شمس، وتخصص في دراسة التاريخ، حيث حصل على الليسانس عام 1961، ثم الماجستير عام 1966، وصولاً إلى الدكتوراه عام 1971. هذه المسيرة الأكاديمية المتأنية تكشف عن مثابرة علمية نادرة، وعن رغبة حقيقية في التأسيس المعرفي الرصين، لا في مجرد الحصول على الشهادات.

 بين الجامعة المصرية والعالمية

تدرج الدكتور رءوف عباس في السلك الأكاديمي بجامعة القاهرة حتى وصل إلى قمة الهرم الأكاديمي كأستاذ للتاريخ الحديث، ثم رئيسًا لقسم التاريخ. لكن تأثيره لم يقتصر على جدران جامعة القاهرة، بل امتد إلى أرقى الجامعات العالمية، حيث عمل أستاذًا زائرًا في جامعات طوكيو بالسوربون بباريس، وكييل وإسن وهامبورج وفرايبورج بألمانيا، وكاليفورنيا وستانفورد وجورجيا بالولايات المتحدة، بالإضافة إلى الجامعة الأمريكية بالقاهرة وجامعات قطر والإمارات.

هذه التجربة الدولية الواسعة جعلت منه مؤرخًا عالميًا بامتياز، قادرًا على رؤية التاريخ المصري في سياقه العالمي، وعلى تقديم التاريخ العالمي للقارئ العربي بأسلوب علمي رصين. لقد كان جسرًا حقيقيًا بين المدرسة التاريخية المصرية والمدارس التاريخية العالمية، خاصة اليابانية منها التي أولى لها اهتمامًا خاصًا، فترجم بعض أعمالها إلى العربية وكتب عن التاريخ الياباني بمنهجية عميقة.

التاريخ الاجتماعي كرؤية للعالم

كان الدكتور رءوف عباس حامد صاحب مدرسة متميزة في التاريخ الاجتماعي، مدرسة لم تكن مجرد تخصص أكاديمي، بل كانت رؤيةً للعالم وللفعل الإنساني في سياقه المجتمعي. لقد آمن بأن التاريخ ليس سردًا للأحداث السياسية والعسكرية فحسب، بل هو بالأساس دراسةٌ للبنى الاجتماعية والاقتصادية التي تشكّل وعي الأفراد والجماعات وتحدد خياراتهم.

في أبحاثه مثل "حزب الفلاح الاشتراكي 1938-1952" و"استقرار الملكية الفردية للأرض الزراعية" و"التطور الاقتصادي الاجتماعي في مصر وتفاقم المسألة الاجتماعية (1919-1952)"، كشف الدكتور رءوف عن الجذور الاجتماعية العميقة للتحولات السياسية في مصر الحديثة. لقد كان يرى أن التاريخ الحقيقي ليس تاريخ الملوك والرؤساء، بل تاريخ الشعب في نضاله اليومي من أجل الخبز والكرامة.

موسوعية نادرة

ترك الدكتور رءوف عباس حامد إنتاجًا علميًا غزيرًا باللغتين العربية والإنجليزية، يشمل التأليف والتحرير والترجمة. من بين مؤلفاته "جماعة النهضة القومية" و"جامعة القاهرة.. ماضيها وحاضرها" و"شخصيات مصرية في عيون أمريكية". أما في مجال الترجمة، فقد نقل إلى العربية أعمالًا مهمة مثل "يوميات هيروشيما" و"اللورد كرومر" و"دراسات في تطور الرأسمالية" و"توجهات بريطانية-شرقية".

هذه الموسوعية في الإنتاج العلمي تعكس تنوعًا ثقافيًا نادرًا، وقدرةً فائقةً على الجمع بين التخصص الدقيق والرؤية الشمولية. لقد كان الدكتور رءوف يرفض أن يحبس نفسه في زنزانة التخصص الضيق، فتاريخ الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة كان كلًّا متكاملاً في رؤيته.

بصمات خالدة

لا يمكن اختزال إنجازات الدكتور رءوف عباس حامد في مؤلفاته وأبحاثه فقط، بل تكمن أهميته الحقيقية في الجيل الذي ربّاه من الباحثين والمؤرخين الذين حملوا منهجه ونشروه في مصر والعالم العربي وحتى في اليابان وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة. لقد كان مؤمنًا بأن رسالة المؤرخ لا تكتمل إلا بنقل المعرفة إلى الأجيال التالية، فلم يبخل بعلمه على أحد، وكان دائم التشجيع للباحثين الشباب.

على المستوى الشخصي، كان لكتابات الدكتور رءوف عباس تأثير بالغ في تكويني الفكري. أذكر حين قرأت لأول مرة بحثه "ملاحظات منهجية حول كتابة تاريخ مصر" المنشور في مجلة فكر عام 1985، كيف فتح عيني على ضرورة القراءة النقدية للتاريخ، وعلى أهمية التشكيك في الروايات الجاهزة والمكرسة. لقد علمني أن المؤرخ الحقيقي ليس مجرد ناقل للأحداث، بل هو باحثٌ عن الحقيقة بشجاعة ونزاهة.

تقدير مستحق

حصل الدكتور رءوف عباس على العديد من الجوائز والتكريم، منها وسام الفنون والعلوم من الطبقة الأولى عام 1983، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 2000. لكن أعظم تكريم له يظل ذلك الذي يحمله تلاميذه ومحبوه في قلوبهم وعقولهم، التكريم الذي لا يزول بزوال الجوائز والميداليات.

 الرحيل والخلود

في 26 يونيو 2008، رحل الدكتور رءوف عباس جسديًا، لكنه بقي حيًا في مؤلفاته، وفي تلاميذه، وفي مدرسته التاريخية التي ما زالت تثري الحياة الفكرية في مصر والعالم العربي. لقد كان بحق أحد عمالقة الفكر التاريخي في القرن العشرين، الذي جمع بين عمق البحث الأكاديمي ورسالة المثقف المنخرط في هموم أمته.

اليوم، ونحن نستذكر ذكرى رحيله، نؤكد أن أفضل تكريم له هو مواصلة مسيرته العلمية، والحفاظ على منهجه النقدي في قراءة التاريخ، والسير على دربه في البحث عن الحقيقة بشجاعة ونزاهة. رحم الله الدكتور رءوف عباس حامد، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه خيرًا عن العلم والعلماء.

***

د. عبد السلام فاروق

تحيل كلمتي اليوم، في هذه اللحظة التي تجسد قيمة سلوكية واعتبارية خاصة، والتي أسجلها دون الوقوف على معيارية أو أي مقياس تقييمي خارج المألوف، إلى ما يشبه حالة انضباط أو مصدر إلهام يتمثل صفات القدوة والإسوة التي يتسنن بها، في عالم يتعرى من كل شيء، ويلفظ كل شيء ويسترخص كل شيء.

فالحديث عن سيدة من طينة الدكتورة فاطمة حسيني، لا يمكن تنظيره من زاوية التحديد أو الارتهان على الاستعارة الكلامية وتوتير العبارات والانفعال معها وبها، بل يقتضي من ضمن ما تقتضيه الأدبيات العامة من الإخلاص للمنجز العلمي والثقافي والإنساني، وتحويط كل ذلك بما يرى من مسائل السلوك، وقيمتها الأخلاقية، وتعدد تصريفها في المجتمع المعرفي، وفهمها ورؤيتها للعالم.

وأعتقد جازما أن قلمي لن يسعفني أبدا، في تعميق هذه التنويعات البرهانية، والمؤسسات الواجبية، بسبب ضيق الوقت، ومفاجأتي بتحديد موعد لقاء التكريم هذا، في ظروف تستهلك الطاقة وروح قتالية الطقس، وأشياء أخرى، لن تمنعني على الأقل، في:

أولا: تثمين هذه المبادرة النبيلة، التي جعلت من لحظة الاحتفاء بشخصية عظيمة، تكرس لدى المنظمين، العقل الأخلاقي العالم المقتدر، بقوتها المنطقية الهادئة، وروحها المنظورة التي تعتمد على الحس السليم، والرغبة الصادقة في بلوغ الصنعة القولية والبحثية من دون تعقيد أو ادعاء، وحضور نسقها مؤثرًا، ومحط اهتمام أهل التخصص في التربية والبيداغوجيا وعلوم اللغة ومتجاوراتها في الفكر والثقافة.

ثانيا: تتسق مبادرة الاحتفاء بتجربة الدكتورة فاطمة حسيني الرائدة، مع منهجيتها في توظيف دراسة علوم اللغة من منظور مساهماتها في القضايا التربوية وعلاقتها باللغة والتحيزات الثقافية، والتي تتطلب التفكير في الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها للتعليم نفسه والعمل في هذا المجال أن "يستحضر" اللغة، وهي قدرة بشرية بامتياز، وتحقيقها في لغة الضاد إحدى أهم مقوماتها. كما هو الحال بالنسبة للتمييز بين المعرفة التي أنتجتها علوم اللغة والتي تسمح لإلقاء الضوء على الظواهر والعمليات التعليمية، والتطورات النظرية التي يمكن أن تكون بمثابة مؤطرات مرجعية للبحوث التربوية أو للتجديدات المنهجية والتعليمية داخل برامج التدريس؛ وهو ما دأبت الدكتورة حسيني على مطارحته واستئثار أسئلته، موطنة لقولها الصريح، أنه لا يزال من الضروري التمييز بين الأشياء التي تم بناؤها والعمل عليها من خلال علوم اللغة مثل اكتساب اللغات الأجنبية والقراءة والتهجئة.

ثالثا: تنبثق فكرة العطاء لدى الدكتورة حسيني، من كونها تعبر جسر كونية اللغة، عبر فعل يسمو إلى قيمة "المنح الظاهرة"، تماما كما أوردها ابن عربي في "فصوص الحكم"، أنها تأتي " على أيدي العباد وعلى غير أيديهم على قسمين: منها ما يكون عطايا ذاتية وعطايا أسمائية وتتميز عند أهل الأذواق، كما أن منها ما يكون عن سؤال في مُعين وعن سؤال غير مُعين. ومنها ما لا يكون عن سؤال. سواء كانت الأعطية ذاتية أو أسمائية". وحري بنا هنا، أن نغرف من معرفة هذه المنح الظاهرة، الذاتي والأسمائية، كليهما ينفذان في جوهر ما تسعى إليه مكرمتنا، في استنهاض الهمم وحشدها واستنفارها، من أجل التعبئة لنصرة اللغة العربية، بتعليمها ونشرها خارج أوطانها، وبذل الوكد وغاية الجهد من أجل تمكينها على الخارطة اللغوية الوطنية الدولية، واستعمالها على أوسع نطاق، واستشراف مستقبلها في هذا العالم المتحول الذي نعيشه.

وهذا لعمري من أبلغ وأجود العلوم وأرقاها، وأنجعها في بناء الحضارة والعمران، وتكريم وتقدير الإنسان.

رابعا: يجود الزمان بمثل درر هذا الجيل الذهبي، من علماء اللغة العربية ومباهج تعليمها ومناهجها المعاصرة ومساراتها المعرفية المتعددة، وانبثاقها عن وعي راهني يستقصي أسئلتها ويفكك تجاويفها وامتداداتها، ويستحضر مثلها وأثرها في الذائقة والوجدان، ويقاوم أخابيل وأحابيل تشكيمها وإذلالها وتطويعها فيما لا أصل ولا فصل.

والباحثة المقتدرة فاطمة حسيني، تحارب على أكثر من واجهة، في هذا المرصد الاستراتيجي تحديدا، واجهة البحث العلمي والأكاديمي، وقد حققت فيه نبوغا لافتا وامتدادا تنويريا رائدا وتوسعا فكريا متواصلا. وواجهة العمل الجمعوي التطوعي، الذي تستنصر فيه الدكتورة حسيني، قوامة النحث على الصخر، والمواكبة الصيرورية لقضايا اللغة العربية وأسئلتها الحرجة، والجرأة في مطارحة البدائل والتأسيسات الميدانية لحلول النص والعقل ومنطق العمل.

وقد خبرت معدنها عن قرب وبصيرة، حيث عملنا ولا زلنا نعمل معا، داخل مؤسستين استراتيجيتين هامتين: الأولى وطنية وهي الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية، التي تعد مرجعا ثقافيا وسوسيولوجيا مهما داخل مشهدنا الثقافي واللغوي الوطني بتقاطعاته المؤسساتية واستتتباعاته الفلسفية والسياسية والاجتماعية.

والمؤسسة الثانية، هو المجلس الأعلى للغة العربية بأفريقيا، الذي نفتخر بالانتماء إلى هيئته الإدارية العامة والذي يوجد مقره بأنجامينا بدولة تشاد، والذي يعد إطارا قاريا مهما للتعريف باللغة العربية ونشرها وتعليمها وتطوير أدوات الاشتغال بمنظوماتها ومناهجها المتحولة.

لا أريد أن ازيد على كل ما ذكرت، سوى أن مناسبة الاحتفاء بالدكتور فاطمة حسيني، كإحدى أهم عالمات الحقل التربوي واللغوي ببلادنا، هي مناسبة لاستعادة زخم ثقافة المحبة والاحترام الذي ما اانفكت عراه المقطوعة تنزف في مجتمع شارد منحول، ولعل الذي يفعله رواد الناقد في هذه الكوة النورانية الضيقة، لمثال يحتذى به في تصحيح التاريخ وتأسيس الموقف وتبليغه لمن في قلبه شيء من حتى .

***

د مصطفى غَلــــمان

..................

* نص الكلمة التي ألقيت في حفل تكريم الدكتورة فاطمة حسيني، خلال الندوة العلمية الوطنية التي نظمها مركز الناقد بكلية اللغة العربية في موضوع "تعليم اللغة العربية وتعلمها لغة ثانية في ضوء المستجدات الحديثة" يوم السبت 21 يونيو 2025.

أحتفظ في ذاكرتي، كما لو كانت صندوقًا سريًّا قديمًا، بمجموعة من الحكايات التي تسكنها القداسة. كانت تُروى لي ولإخوتي بصوتٍ مشحونٍ بالفخر، يتردد على لسان والديّ، عن ابن عمّتيهما حسين، الرجل الذي لم يكن شخصًا عابرًا في الحياة، بل ملحمة نضال تمشي على قدمين… حسين أحمد الموسوي، المعروف بين رفاقه باسمٍ خلّده التاريخ: سلام عادل*.

لم يكن سلام عادل بطلاً بمقاييس العاديين، بل تجسيدًا لحكمة الشجاعة ومكر الذكاء في آن. رجل يتقن فنّ التخفي كما يتقنه الضباب حين يلامس عيون الناظرين، ثم يتوارى كأن لم يكن. كان سيد الأقنعة، يُبدّل ملامحه ببراعة ساحرٍ من وقت لآخر، فلا تعرفه عين، ولا تلتقطه ذاكرة. هو الشخص الذي يظهر في كل مرة بهيئة جديدة: راعٍ بسيط، بدويّ حافٍ، شيخ أحدب، متسول أبكم، أو حتى أعرج مبتلى… وكان لكل هيئةٍ اسمٌ سريٌّ تتداوله الأسرة خفية، وكان "المعيدي" أكثر الأسماء شيوعًا حين يُبشّرون والدته بقدومه وخاصة حين لا تكون في البيت او عند الجيران.

أتذكر كيف كانت والدتي وهي تسرد لنا ذكرياتها، باعتزاز يعتصره الحنين، أن حسين طرق بابهم ذات مساء، في، هيئة متسوّل أنهكه الجوع وأذلّه العطش، بثياب بالية ونظرات تائهة لا يكاد يُعرف لها ملامح. رقّ له قلبهم، فأطعموه ما تيسّر من زاد، وسقوه من ماء الكرامة ما يُذهب الظمأ ويُنعش القلب، دون أن يدروا أنهم أمام فلذة كبدهم. وحين امتلأ جوفه وشكرهم بصوت خفيض، بدأ ينزع أردية التخفي، قطعةً تلو الأخرى، وإذا بالدهشة تنفجر في المكان كبرقٍ مباغت... لقد كان هو، حسينهم.

تواصل والدتي ذكرياتها عن ابن العمة، وهي التي كانت ابنة العاشرة آنذاك، كيف كانت بتكليفٍ وارشاد منه تمرّ بين حشود رجال الأمن، تخفي الرسائل في أرغفة الخبز، أو تخبئ المناشير تحت عباءتها السوداء ماضية بخطى الطفولة الجريئة وبراءتها حاجبة عن أعين الرقباء مهمتها لتنفيذ وإيصال ما كلفت به، ولتعود بعدها باسمة العينين.. وهي ترى ابتسامة ابن عمتها الرضية والمشجعة، وهي لم تكن تدري يومها أن خطواتها الصغيرة تلك، كانت تسهم في بناء حلمٍ كبير.

أما والدي، فكان يستعيد، بابتسامةٍ ممزوجة بالحنين، كيف كلّفه حسين بمهامٍ بسيطة لا تثير الشبهات. كان يروي لنا، بفخر، حادثة وقعت في أحد أيام الصيف الملتهبة في سوق السراي بالنجف الأشرف. لم يكن عليه سوى أن يصرخ بجملة واحدة: "يسقط الاستعمار"، ثم يدخل محل عمله بهدوء. لم تكن الجملة عادية، بل كانت شيفرة الانفجار. وما إن نطق بها، حتى امتلأ السوق والطرقات من حوله بأكبر تظاهرة شهدتها المدينة.

ان أكثر ما خلّده ابن عمتهما حسين/ سلام عادل في ذاكرتهما، تلك الحادثة التي لا تنسى والتي حُفرت في ذاكرتي إلى الأبد.. تلك الحادثة في زقاق ضيّق لا منفذ له، حين اجتمع سلام عادل برفاقه لأمر حزبيّ عاجل، فحاصرهم رجال الأمن بعد وشاية مؤكدة بمكانهم. لم يكن ثمّة مخرج، لكن عبقريّ التخفي لم يَخذله حدسه. خلع ملابسه، عفرها بتراب البيت وأوساخه، ثم ارتداها مجددًا كمن خرج من قاع البؤس، يترنح كمتسول اخرق. تقدّم نحو رجال الأمن، يمدّ يده المرتجفة طلبًا للصدقة، لينهره أحدهم قائلاً: "ابتعد من هنا أيها المجنون!"… دون ان يعلموا أنهم قد طردوا للتوّ ذات الرجل الذي جاؤوا لاعتقاله.

وفي مرةٍ أخرى، سمعت والدي يروي كيف تنكّر في زيّ عجوز ضرير، وجلس عند مدخل الجامع الكبير، يمسك مسبحة ويهز رأسه كأنه غارق في الذكر. لم يكن هناك ليتعبد، بل ليراقب مداخل الحي ويوصل رسائل خفية تحت عتبات الأبواب. أتى رجال الأمن مرارًا يفتّشون الأزقة، ووقف أحدهم فوق رأسه يحدّق فيه طويلاً، قبل أن يهزّ كتفيه ويمضي. بعد أيام، وصلت الأخبار: لقد نجا خمسة من رفاقه من كمين محكم، فقط لأن حسين كان عينهم المبصرة، وهم لا يعلمون.

وذات مساء، انتشر خبر عن "أحد أخطر الشيوعيين" المتخفّين في كربلاء، وكانت الحملة الأمنية على أشدّها للإيقاع به بأي ثمن. خرج حسين من أحد البيوت، مرتديًا زيّ "مُلّه" معمّم، وقد شدّ على خصره حزامًا عريضا من القماش يخبّئ بين طياته المنشورات وآخر التوجيهات للرفاق. دخل وسط حشدٍ من المعزين في مجلس عزاء، وجلس بقرب رجل دين معروف، وأخذ يردّد الأدعية كأنه وُلد في هذا الثوب. في اليوم التالي، انتشرت المنشورات في كربلاء كما لو أن الهواء نفسه كان يوزّعها، وانسحب حسين كما جاء، دون أثر.

ومن ملامح أسطورته أيضًا، أنه حضر باسمه وهويته، بلا قناع ولا تمويه، إحدى المؤتمرات الشيوعية الدولية في موسكو. لاحظ أن أحد المصوّرين يُصرّ على تركيز عدسته عليه دون سواه، فاقترب منه بهدوء وقال له: "أنا أيضًا أريد أن أجرّب التصوير، دعني أراك من عدستك." أخذ الكاميرا، فتحها أمام الجميع، أخرج الفيلم، ثم أعادها إليه قائلاً: "أعرف جيدًا ما غرضك… والآن، عد إلى أسيادك.

 كان حسين يعرف متى يصبح ظلًّا، ومتى يتحوّل إلى ضوء. لم يكن يهرب، بل يختفي ليعود أقوى، أنشط وأذكى. في كل مرة يتوارى، كان يخلق فرصةً جديدة للنضال، وكل مراوغة كانت فخًا يُنصب للعدو، لا خلاصًا فرديًّا.

هكذا كان سلام عادل، رجلًا يتنقّل بين الظلّ والضوء، يبني مجدًا في صمت، ويحترف المراوغة بعبقرية لا تمنحها إلا التجربة والولاء. في نظر والديَّ، لم يكن مجرد اخ او ابن عمة، بل كان الوعد المتحقق، والقصيدة التي كُتبت بالدم لا بالحبر، والأسطورة التي لم تنتهِ بانتهاء فصولها، بل بقيت متقدة في الذاكرة، حيّة في الوجدان، تتردّد كلما ذُكر الوطن أو النضال أو المعنى الحقيقي للبطولة.

في زمنٍ تُختزل فيه البطولات في الكلمات، يبقى سلام عادل شاهدًا على بطولةٍ لا تتطلّب منبرًا، بل تتجلّى في فعلٍ حقيقيّ، في ذكاءٍ نادر، في شجاعةٍ لا تعرف الانكسار، وفي حكاياتٍ رواها والدان بسيطان، لكنهما حملا إرثًا من المجد لا يبهت. وكأن البطولة لا تعرف الموت ما دام هنالك من يرويها.

سلام عادل… لم يكن مجرّد رجل. بل كان سؤالًا كبيرًا عن الحرية، عن الشجاعة، عن معنى أن تحيا مقاتلًا، وتموت واقفًا حتى الرمق الأخير.

في زمنٍ تهاوت فيه المعاني، سيبقى هو… المعنى.

***

سعاد الراعي

............................

* عمة والديَّ "مكية"/ ام سلام عادل

* اسم سلام عادل الرسمي هو "حسين احمد الموسوي".. عرف باسم شائع هو حسين الرضي: ونقلا عن والديَّ، ان الرضي كنية أطلقها المرحوم والده عليه منذ صباه، تيمنًا بأخلاقه الحميدة. ويقال أيضًا انه كان لقبًا أطلقه هو على نفسه تيمنًا بالشريف الرضي حفيد الامام موسى الكاظم، وقد أصبح هذا اللقب عزيزًا على قلبه فرافقة طيلة حياته.. وحمله أبنائه الثلاثة من بعده 

قراءة في عقل مفكر التحرر من الاستبداد

انجب الوسط الديني والمعرفي الشيعي شخصيات مهمة وفاعلة وصانعة للتاريخ، وقد حفل كل عصر بنموذج خاص له إنجازه التاريخي ومن ذلك – للمثال فقط – العلامة ابن المطهر الحلي(726هج) والشيخ محمد اكمل البهبهاني (1206)الذي اسقط الخيار الاخباري والاتجاه السلفي الشيعي فقد خلص الفكر الشيعي من أي نزعة سلفية واذا حصلت فهي لاتحمل في ثنياها عنفا تكفيريا

والخراساني من هؤلاء الافذاذ الذين افرزتهم التجربة الشيعية وهو من اصل أفغاني من هرات ولد عام 1839 م في مدينة مشهد الإيرانية وفيها درس المقدمات الأولى للعلوم الشرعية وبعد اتمامها توجه الى النجف الاشرف حاضرة التشيع التاريخية الكبرى عام 1861 م وانخرط في حلقات درسها ثم انتقل الى سامراء وبقي فيها وتتلمذ على افذاذ كثيرون مثل العالم المميز هادي السبزواري ومحمد حسن الشيرازي ومرتضى الانصاري وغيرهم من العلماء المجددين

وبعد وفاة استاذه الشيرازي – صاحب فتوى التنباك – تسلم كرسي التدريس وتفوق في حقل دراسات المنهج – أصول الفقه – وقد قام بالتدريس أربعين عاما وتخرج من تحت يده عشرات الفقهاء والمجتهدين ومن أبرزهم: المنظر الكبير محمد حسين النائيني، وأبو الحسن الأصفهاني، وضياء الدين العراقي، وعبد الكريم الحائري اليزدي، وحسين الطباطبائي البروجردي، ومحمد حسين كاشف الغطاء. ومحسن الحكيم ومحمد جواد البلاغي ومحمد حسين الاصفهاني ومحسن الأمين العاملي واخرون كلهم ذو شان وقد كتب متنا درسيا اسماه كفاية الأصول – وصار متنا للتدريس في حلقات االاجتهاد وتمتعت الكفاية بعدة شروح وعلق عليها عدد اكبر من الشراح ولايزال كتاب الكفاية متنا درسيا ومقررا علميا لا ينافسه كتاب وكانت الكفاية الى جانب كتب أخرى كلها مهمة منها

 حواشي على "الرسائل" و"المكاسب" للشيخ الأنصاري، وعلى "الأسفار" و"المنظومة" للعلامة الشيرازي والسبزواري على التوالي. ومن مؤلفاته "تكملة التبصرة" و"رسالة في الطلاق" و"رسالة في العدالة" و"رسالة في الوقف" و"رسالة في الرضاع" و"روح المعاني في تلخيص نجاة العباد" و"روح الحياة في تلخيص نجاة العباد" و"اللمعات النيرة في شرح تكملة التبصرة" و"الفوائد الأصولية والفقهية". وقد تقلد مهام المرجعية الشيعية كان الآخوند حامياً البلاد الاسلامية من الغزو الاجبني الاستعماري، ففي عام 1911م أصدر فتوى بالجهاد ضد الجيوش الايطالية الزاحفة على طرابلس الغرب وحينما اقتحمت القوات الروسية ولاية خراسان (مشهد) إنتفض الخراساني في وجه الغزاة فأبرق قائلاً: " لئن لم تنسحب جيوشكم من خراسان لأصرخن في العالم الإسلامي صرخة" .وما أن وصلت هذه البرقية إلى الغزاة حتى سحب الروس جيوشهم من خراسان.

  ويعد الشيخ الخراساني اصلب من دافع عن إقامة الدولة الدستورية البرلمانية (المشروطة) ولا يعاب على من يقول بانه المفكر المؤسس للمدرسة الفقهية المميزة في مجال الفقه السياسي الذي كان مغيبا لقرون ومؤسس مدرسة أصولية لها منهجها وتلاميذها الذي صاروا فيما بعد مراجع تقليد ومجتهدون بارزون لكن المؤسف انه وتلاميذه لم ينظموا اراءه على وفق سياق فكري ممنهج وربما ساعد على ضياع بعض جهده موقف المحافظين من الحركة الدستورية وتمكن الاستبداد وذلك فاني اعتقد بانه لا يمكن ان نفهم الثورة الدستورية في الفقه الشيعي والاحاطة بها من دون التعرف على مدرسة الخراساني الأصولية والفكرية

بعض اراء الخراساني

1-  يرى الخراساني ان الولاية العامة المطلقة لله فقط اما ولاية النبي والائمة فهي مقيدة بالكليات، وسيرتهم تنبيء انهم جميعا كانوا يراعون دوما الحدود الشرعية ومن ذلك شانهم الشخصي وهذا يعني ان الحاكمية للتصور الإسلامي للسلطة وضرورة الالتزام بالقواعد القرانية الدستورية (1) بخلاف الانصاري الذي يقر بالولاية المطلقة للنبي والائمة ولا يرى استقلال غيرهم بها الا باذنهم ولكن الاذن يجب ان يكون بدليل قطعي وقد تابعه النائيني مخافا استاذه الخراساني

2-  وعليه فان أي حكومة بعد حكومة النبي والامام علي لم تكن حكومة شرعية بحكومة بعد الائمة فان شرط الشرعية العدالة وعنده ان العدالة تتحقق بالعقل الجمعي والرقابة وفصل السلطات

3-  لا يرى الخراساني اية مشروعية اصلية او تنزلية للمتغلب ذي الشوكة ولو اذن له الفقيه وهنا يخالفه تلميذه النائيني

4-  لا يرى ترتب اثر على الخبر الواحد ليس فقط في القضايا الشرعية الكلية انما حتى في القضايا التاريخية

5- اعطى تنظيرا في جواز الجمع بين القيادة المجتمعية والامامه الفقهية

6-  حصر التقليد بالمرجع الحي

7-  أجاز منهجية الجمع بين العقل والعرفان وطالب ان يدرس الفقه من خلال الفلسفة وعرفانيات الايمان

8-  شجع الاهتمام بالمسائل الاجتماعية واهم شرط للمقلد ان يفهم في القضايا المعاصرة ولديه القدرة للإفادة من عموم المعرفة

9-  المجتهد اذا بذل جهده ولم يصل الى نتيجة فعليه التوقف

10- ان الشهرة الفتوائية ليست حجة مستقلة بل هي قرينة على دليل معتبر

11- اختار في مجال التعارض التخيير فيما لم يقم دليل على الراجح

12- الاجماع المنقول ليس حجة مستقلة بل هو أيضا قرينة معززة

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

 

نحو الذكرى الثلاثين بعد المئة لميلاده

لو ذهب أحدنا إلى أي شارع بأي مدينة في روسيا وسأل أحد المارة: من هو أحبّ الشعراء لديك، لأجاب دون تردد: سيرغي يسينين. نعم سيرغي يسينين بفضل أشعاره التي تلامس الروح، يعتبر أقرب الشعراء والكتاب إلى قلوب القراء الروس، بين الذين تركوا إرثا عظيما لأبناء هذا المجتمع، في القرن العشرين، من الشعراء والكتاب في روسيا.

في أواخر شهر أيلول وبداية شهر أكتوبر من كل عام يحتفل المجتمع الروسي على المستويين الشعبي والأكاديمي بعيد ميلاد سيرغي يسينين، حيث تعقد الندوات، وتقام المنتديات، والمُسابقات في الوسط الأكاديمي، إلى جانب حفلات الموسيقى والفن الشعبي في كل من ريازان، وكونستانتينوفو وموسكو العاصمة، وباقي المدن الروسية. ولد الولد سيرغي في أسرة الرجل الفلاح الكساندر، في بلدة كونستاتينوفو التابعة لمحافظة ريازان، وذلك في 21 أيلول عام 1895 حسب التقويم القديم (أي في الثالث من أكتوبر لذلك العام حسب التقويم الجديد)، وتوفاه الله في 28 كانون أول عام 1925

ورغم قصر عمر الشاعر الشاب في مفهومنا المعاصر، إلا أنه قد ترك إرثا أدبيا كبيرا للمكتبة الروسية، وللأدب العالمي، وللمكتبات العالمية. من هنا جاء اهتمام الباحثين والدارسين بتركة هذا الرجل، لا غرابة أن يقوم زملاء لنا محترمون بترجمة العديد من أشعاره وقصصه، نذكر منهم حسب الشيخ جعفر، وثائر زين الدين، وعبدالله عيسى، وأيمن أبو الشعر، وزهير ياسين شليبة. نحن اليوم لا نقدم دراسة عن نتاج هذا الشاعر الفذ، بل نقدم مجموعة من أشعاره، التي اتصفت بالجمال، والرقة، والرومانسية، وخاصة في وصف الطبيعة الروسية، والبيئة الروسية، إذ نشارك أبناء المجتمع الروسي بهذا الاحتفال العظيم بمناسبة ولادة قامة محترمة، وشخصية فذة. سوف يقام مؤتمر أكاديمي عالمي بهذه المناسبة، المؤتمر سوف يعقد جلساته بدءا من الخامس عشر من أكتوبر- وحتى الثامن عشر من نفس الشهر، وعلى مراحل − اليوم الأول في موسكو، والثاني في ريازان، والثالث في كونستانتينوفو، والرابع في موقع المدرسة التي درس فيها سيرغي يسينين. نالني الشرف أنني منذ عدة أعوام أشارك بهذه الفعالية، وهذه السنة ليست استثناء.

إليكم هذه المجموعة من أشعار يسينين، قمت بنقلها الى العربية من النص الروسي.

«Вот уж вечер. Роса…»

ها قد حَلَّ المَساء

ها قد حل المَساء. قطرات ُالندى

تلتمع فوقَ نباتِ القرّاصْ

أقفُ قرَب َ الطريق،

متكئا الى صَفصافةٍ .

**

ضوءُ القمر يَسطعُ كالنهار

أراهُ يُضيء َسَطحَ بَيتِنا.

غناءُ البُلبُل ِ يُدغدِغ مَسامِعي

تصِلُ نغماتهُ من بَعيدْ.

**

غبطة، ودفء ٌ،

كأني جالس قربَ الموقِدِ في الشتاء.

أما شجراتُ البتولا

أراها تنتصِبُ كشموع كبيرةٍ .

**

هناك في البعد خلفََ النهر،

عندَ حُدودِ الغابةِ،

يتراءى لي حارسٌ هَدّهُ النعاسْ،

ينقرُ بعصا خشبية قاسية.

***

1910

Ночь

«Усталый день склонился к ночи …»

" الليلُ "

هذا هو النهارُ التعبُ يَميلُ نحو الغروب،

فقد هدأت تلك الموجَة الضّجوجْ،

والشّمسُ قد انطفأتْ، وفوق العالم

يَسبَح قمَرٌ غارقٌ في أفكاره.

وهذا هو الوادي الهادي ينصِت ُ

لخرير الجَدوَل ِ المُسالم.

أما أشجارُ الغابةِ المُعتمة فقد انحنتْ بنوم خفيفْ

بينما العَندليبُ يُهدهِدُها بصوتِهِ الناعِم.

والنهرُ يُصدر رقرقة ناعمة،

وُيوَشوشُ مداعِبا ضفتيه.

ومن فوق مياهِ النهر تسمَع ُ

خشخشة ُسيقان القصَبِ الهادئةِ، المَرحة.

***

1912-    1910

Ночь «Тихо дремлет река…»

ها هو الليلُ قد هجع

النهرُ يغفو بنومه الهادي،

والغابة المعتمة قد لفها الصَّمتْ.

العندليبُ توقفَ عن الغِناء،

و(طائرُ المرعة) لا يرسِلُ صيحاتِه العجيبة.

**

ها هو الليلُ قد هجع، وعمَّ السّكون

لا يُسمَعُ سوى خرير الجَدوَل ِ

أما القمرُ

فراحَ يُلوّن هذا العالم بنورهِ اللجَينيّ.

**

الجداولُ تزيّنت بلونها الفضي

والنهرُ عقدٌ جميلٌ، رائعْ

أمّا وُرَيقاتُ العشبِ فتعكسُ ذلك الضوءَ

في تلكَ السّهوب الرّيانة.

**

ها هو الليلُ قد هَجَعْ وعمَّ السّكونْ.

ما أروعَكِ أيتها الطبيعة النائمة،

فالقمرُ لا يتوقفُ

عن نثر جواهره الثمينة .

***

1911 - 1912

С добрым утром!

نهارُكم سَعيدْ

وَسِنَتِ النجومُ ذاتُ اللون الذهبي

واهتزّت مِرآة ُ الماء في خور النهر

وانبلج َ الصّبحُ وأضاءَ ذلك الخليج

واحمرّ الأفقُ الجَميلُ في السّماءْ.

**

أشجارُ البتولا النعسانة بابتِِسامَة ٍ تعانِقُ الصّباحْ

وتلوّحُ بضفائرَ من حَريرْ

ويُسمَعُ صَوتُ عَراجينها الخضراء ْ

وتلتمعُ حَبات ُ الندى ذاتُ اللون الفِضي .

**

هناكَ عِندَ السّياج اعشوشبَ المَكانُ بنباتاتِ القرّاص

هاهي تزينت بثوبها الجَميل بلون الصّدَف

وراحتْ تتمايَلُ وَهي توشوشُ بخفة:

" نهارُكُم سَعيد ْ " .

***

1914

«Прощай родная пуща…»

وداعاً يا غابتي الغالية

وداعاً يا غابتي الغالية،

أعذرني أيها النبع الذهبي.

تندفعُ وتسبحُ الغيومُ.

آه أيها الشعاعُ، الذي يشبه سكة المِحراث.

**

تألق أيها اليومُ الصّافي،

أما أنا فيملأ قلبيَ الحزنُ.

سوف لا أحملُ بعدَ اليوم

في جزمتي خنجرا.

**

ولن أنامَ في العَراء برفقةِ مُهري

في الليالي القاسيَة ِ الباردة،

ولن تسمَعَ صوتي الضّاحكَ

تلكَ السّماواتُ في الغاباتْ.

**

لا أحدٌ يتفادى العاصِفة،

ولا أحدٌ لا ينالهُ ألمُ الفقدان،

كي يَدقّ أبوابَ السّماء المَجهولة

في تلك الزّرقة ِ اللازورديّة.

***

1916

«Гаснут красные крылья заката…»

انطفأتْ أجنِحَة الغروبِ

ها هي أجنِحَة ُ الغروبِ الحَمراءُ قد انطفأتْ،

والسياجُ يغفو في ظلّ هذا الضّبابْ.

لا تحزني يا عزبتي البَيضاءُ،

بسَبَبِ هِجرَةِ المَحبوبِ .

**

ها هو الهلالُ يُنظفُ أطرافه ُ التي غطتها الزرقة ُ

على جوانِبِ سَطح ِ بيتِنا المَصنوع ِ من القش.

لم أركضْ خلفها، لم أخرجْ لوداعِها،

ولم أرافقها حتى الكداديس ِ العاليةِ.

**

أعرف ُ أن السّنينَ سَتمحو هذا القلقْ.

وهذا الألمُ سَيزولُ معَ الأيامْ .

إنها تحتفظُ بثغرها و روحِها البريئة ِ

لأجل ِ ذلكَ الرّجل الغريب .ْ

**

ليسَ من سِماتِ الرّجال ِ اللهاثُ خلفَ السّعادَةِ،

إنّ أصحابَ النفوسِ ِ الأبية يَعيشون َ لأنهم أقوياءْ.

أمّا ذاكَ الغريبُ فسَوفَ يَعجُنها ويرميها،

مثلما ترمى الكدانة ُالتي أكلتها الرّطوبَة .

**

لستُ مُتشائما تجاه ما هو قادم من الأيام،

سوف تأتي الثلجاتُ القاسِيَة ْ.

وتعودُ حينها إلى دِيارنا

كي تجدَ مكاناً دافِئا لطفلِها الصّغيرْ.

**

عندَها سَتخلعُ فروتها وتحلُ شالها،

وتجلِسُ جانبي قربَ الموقدِ.

وتقولُ بصوتٍ لطيفٍ وهادي:

هذا الوَليدُ يُشبِهُك َ.

***

1916

«Разбуди меня завтра рано…»

أيقظيني غداً باكرًا

أيقظيني غداً باكرًا،

يا أمّي الصّبورْ،

سوف أذهَبُ إلى ما بَعدَ التلةِ قربَ الطريقْ

كي أستقبلَ ضَيفنا الغالي.

**

لقد رأيتُ اليومَ في الغابَة ِ

أثرَعَجَلاتٍ عَريضة ٍ تركتْ بصماتِها على المرج.

وتحتَ قبة ٍ من الغمام

كانت الريحُ تلاعِبُ قوسَ عَرَبتهِ الذهبيّ.

**

عندَ الفجر غدًا سَيَجيءُ إلينا مُسرعاً

وَ سَيَختفي حينها القمَرُ مثلما تخبأ قبّعة تحتَ شُجَيرَة ٍ،

ومُهرتهُ الشقرا بهذا السّهل

ستلوّحُ بذيلها الأحْمَرْ .

**

أيقظيني غدًا باكرًا،

واشعلي الضّوءَ في الغرفة ِ الوسطى،

يقولون بأنّي قريبًا

سَأصبحُ شاعرًا روسيًا مشهورًا.

**

سوفَ تتغنى بك وبالضيف أشعاري،

سأذكرُ الدّيك َ والمدفأة َوَسَقفَ بيتِنا الغالي ...

وسَينسَكِبُ حَليبُ بَقرتِكِ الشقرا

على كلماتي وأوراقي وأفكاري.

***

1917

***

بقلم الدكتور إسماعيل مكارم

........................

هوامش ومصادر:

1.Есенин С. А. Собрание сочинений в двух томах.

Том 2. – Москва.1990. −384 с.

2.Есенин С. А. Собрание сочинений в двух томах.

Том 1. – Москва.1991. −480 с.

بقلم: أ. ي. هوتشنر

ترجمة: صالح الرزوق

***

في بدايات حزيران عام 1961، وفي طريق عودتي من هوليوود إلى نيويورك، استقليت طائرة توقفت في مينابوليس. ومن هناك استأجرت سيارة وقدتها مسافة تسعين ميلا إلى مستشفى القديسة ماري في روشيستر. كان صديقي المقرب أرنست همنغواي، للمرة الثانية، مريضا في قسم الصحة النفسية، وبرعاية دكاترة من مصحة مايو المجاورة. وكنت قد زرته في السابق خلال أول احتجاز له، وأنا في طريقي إلى هوليوود، قبل عدة أسابيع. كان غير مسموح لأرنست في الأسابيع الست الماضية إجراء أو استلام مخابرات هاتفية، أو الاجتماع بالزوار، ولا حتى ماري زوجته، لأنه كان عرضة للعلاج بسلسلة الصدمات الكهربائية ECT. والآن هو في وقت الاستراحة قبل مواصلة سلسلة أخرى منها. ولذلك سمح له أطباء مصحة مايو بإجراء المكالمات وأتاحوا له وقتا للزيارة. لم يكن في مصحة مايو تجهيزات لنقول إنها مستشفى. ولكن هناك جناح في مستشفى القديسة ماري الكائن في روشيستر، وتديره راهبات قديرات، تسمحن لأطباء المصحة بمعالجة المرضى الذين تستقبلهن للعلاج. حينها كانت الصدمة الكهربائية تستعمل دون رادع، ويتم إسقاط التيار الكهربائي على دماغ المريض بدون الاستفادة من أي مخدر، باستثناء قطعة من الخشب توضع بين أسنانه حينما يصارع الألم الفظيع. حدد أطباء مايو أن أرنست يعاني منالسأم، ووصفوا له ECT في محاولة لتصحيح وضعه.

توجد عدة تفسيرات غير موثوقة لتدهور حالته في تلك الأوقات: أنه مصاب بسرطان حاد أو مشاكل مالية. وأنه تشاحن مع ماري. وكلها ليست صحيحة. وكما يعلم أصدقاؤه المقربون كان يعاني من الكآبة والبارانويا لعدة سنوات مضت من حياته. ولكن لم يتم التعرف على جذور هذه المعاناة، لو أنه بالإمكان التعرف عليها. وبمحاولة لإعادته إلى توازنه عمدت إلى مساعدته في التغلب على أشكال الرهاب التي تخنقه، ولكن كلما تقدمنا قليلا يتبين أنه خداع مؤقت. وكذلك بذلت جهدي لأنقذه من البيئة الهدامة ورتبت رحلة سياحية طويلة لكل أماكن صيد السمك في أرجاء العالم والتي كان يهواها، ولكنه تراجع في ليلة المغادرة. وحينما ألحت عليه ماري لزيارة طبيب نفسي قال: يا للجحيم. كلا. فقد كان لديه طبيبه النفسي، وهو طابعة كورونا.

كنت أقابل أرنست مرارا وتكرارا لمدة ثلاثين عاما هي عمر صداقتنا. وقمت بتحويل العديد من قصصه ورواياته إلى تمثيليات تلفزيونية خاصة، وللمسرح والسينما. وقمنا بمغامرات مشتركة في فرنسا وإيطاليا وكوبا والمكسيك وإسبانيا. وفي الصيف الذي سبق بداية هلوساته استمتعنا معا بسياحة شملت ساحات مصارعة الثيران المشهورة في عدة مدن إسبانية. وهناك انعقدت منافسات ثنائية بين أهم مصارعي الثيران في إسبانيا ومنهم أسماء عظماء- منهم الأقارب أنتونيو أوردينيز ولويس ميغيل دومينيغان - (كانت المصارعة المميتة بين متنافسين وليس كالمعتاد ثلاثة)، وكان أرنست هو المدير. في واحدة من تلك المدن، وهي كويداد ريل، ألبسني أنتونيو أحد ثيابه الخاصة بالمصارعة، وأعطاني اسم إلبيكاس (ذو النمش). وحضني أرنست للدخول إلى حلقة الثيران كمرجح (الماتادور الثالث الذي يقاتل الثور فقط إذا تعرض المصارعان المشاركان لجرح وعجز)، ولأشارك مع المصارعين العظيمين. وبما أنه كان مديري توجب علي، كبانديريرو، تقديم عرض إجباري أمام الجمهور، ولكن أخبرني أرنست أن لا أبتعد عن أنتونيو، والذي ساعدني سرا في جر الثور للهجوم عليه.

كانت حماسة أرنست للحياة معدية. في تموز عام 1959 احتفلنا في شوريانا، قرية في التلال فوق مالقة، بعيد ميلاد أرنست الستين، وأقمنا حفلة رائعة، استمرت ليومين. بذلت ماري جهدها في الحفلة. فقد شعرت أن أعياد ميلاد أرنست السابقة، وبسبب عدم تعاونه، كانت تبدو مثل استراحة وليس احتفالا، وقررت أن تعوض بهذه الحفلة كل ما سبقها. ونجحت بذلك.

أحضرت الشامبانيا من باريس، والطعام الصيني من لندن، والبكالو أ لا فيسكانيا (حساء سمك القد بطريقة الباسك) من مدريد، والألعاب النارية من كرنفال متجول، وخبير الألعاب النارية من فلنسيا (قلعة الألعاب النارية)، وراقصي فلامنغو من مالقة، وموسيقيين من تورمولينوس. جاء المحتفلون من كل مكان، ومن بينهم مهراجا جينبور ومعه قرينته وأبناؤه، ومهراجا كوش بيهار وزوجته، والجنرال سي بي “بيوك” لانهام من واشنطن العاصة (كان يقود الجيش في معركة هورتيغين فوريست، وقد انضم إليهم أرنست بأعمال مكتبية في الحرب العالمية الثانية)، السفير والسيدة دافيد بروس، القادم بالطائرة من بون، وعدد من نبلاء مدريد، وعدد من رفاق أرنست الذين كانوا برفقته قديما في باريس. أبهج أرنست نفسه كثيرا. وفي كوخ إطلاق النار، استعمل بارودة قديمة بالية ليطلق على أعقاب سجائر من فم مهراجا كوش بيهار وأنتونيو أوردونيز، ماتادور إسبانيا الأول. عبر من فوق خط متعرج وأسعده فتح كومة من الهدايا وهو يرفعها عاليا ليراها الجميع.

وظهرت أخبار الحفلة حينما أطلق المشرف على الألعاب النارية، القادم من فلنسيا، تيارا من المقذوفات العملاقة، التي سقطت على قمة شجرة نخيل ملكية قرب البيت، فأشعلت النار بالشجرة. استنفر قسم الإطفاء في مالقة. وكانت سيارة الإطفاء تشبه فقرة من كوميديا لاك سينيت، ومثلها رجال الإطفاء الذين أحاطوا بالشجرة، وأطفأوا النار، وعلى الفور ضمهم أرنست إلى الحفلة. وطيلة بقية الليلة، ارتدى أرنست خوذة قائد فرقة الإطفاء المعدنية، وشغل أنتونيو محرك سيارة الإطفاء وقادها حول المكان، وكان أرنست بجانبه بينما البوق يصفر.

تصادفت نهاية ذلك الصيف مع آخر الأوقات الطيبة.

في السنة التالية لاحظت تبدلات حادة ومبهمة في هيئة أرنست. نها عجزه المهين في كتابة “الصيف الخطير” لمجلة لايف، ولأول مرة بعد وجوده هناك، لم يشارك بصيد الحبارى السنوي قرب بيته في كيتشوم، أيداهو. وإ صراره المفاجئ أن تلك الحقول التي يصطاد فيها دائما أصبحت مغلقة. وبتطور هذه البارانويا أصبح مقتنعا أن سيارته وبيته تحت رقابة الإف بي آي وأن عملاء آي آر إس <خدمة الاستثمارات الدولية> يراقبون حسابه المصرفي.

وفي آخر زيارة لي إلى كيشتوم، وقبل أن أغادر، رافقت ماري وأرنست ليلا إلى العشاء. وكان يبدو أنه يستمتع بوقته، وفجأة توتر وأملى علينا همسا بضرورة مغادرة المطعم فورا. سألته ماري عن الدواعي.

قال: عميلان من الإف بي آي في البار، هذه هي الدواعي.

استوقفتني ماري لاحقا في تلك الليلة. كانت مشتتة كثيرا. كان أرنست ينفق يوميا ساعات طويلة مع مخطوطة في محاولة لإعادة كتابة نتاجه الباريسي، ولكنه كان عاجزا. يقلب الصفحات فقط. وأشار عدة مرات أنه ينوي إلحاق الضرر بنفسه وأحيانا كان يقف قرب خزانة البواريد وبيده إحدى بنادقه وهو يحدق من النافذة. وبعد عدة فحوص نصحه طبيبه في كيتشوم بالدخول في قسم الصحة النفسية لمصحة القديسة ماري، باسم مستعار، وهناك أجرى عليه أطباء مايو سلسلة فحوصات ECT. ثم خابرني من صالة الهاتف وكانت أمام غرفته. كان يبدو متحكما بنفسه، ولكن فهمت من صوته أنه لا ينتمي لذلك لمكان وإن لم يعبر عن رأيه. لكن لم تتغير أوهامه ولم تخف: برأيه أن غرفته مراقبة، وهاتفه عرضة للتجسس ويشك أن أحد الموجودين عميل فدرالي. وأملت أن علاجه سيقلل من إحساسه بالظلم، ولكن لسوء الحظ، أكدت المكالمة، إن أكدت أي شيء، أن حالته تتفاقم. وبعد عدة فحوصات ECT، وعدة مقابلات مع الأطباء النفسيين، قمت بزيارته لأول مرة، وأنا في طريقي إلى هوليوود، آملا ثانية أنه أقل تأثرا بأوهامه، ولكن، كلا، كانت نفس الهلاوس تتقمصه.

ولم أستوعب كيف قرر أطباء مايو إطلاق أرنست سريعا بعد زيارتي. فقد كالمني وأنا في هوليوود قائلا إنه مسرور بعودته إلى كيشتوم وإلى عمله. وقال إنه خرج للصيد في اليوم التالي لعودته، والآن يوجد ثماني بطات برية، وبطتا صليب، معلقات فوق كومة الحطب، أمام نافذته في كيتشوم. لكن حياته المنزلية كانت قصيرة. في الواقع سرعان ما عاودته مخاوفه وبدرجة أسوأ. وحاول الانتحار مرتين ببارودة من خزانة بواريده، ولم يتوقف إلا بعد استعمال القوة معه. وخلال رحلة العودة بالطائرة إلى مصحة القديسة ماري، ومع أنه كان تحت التخدير، حاول القفز من الطائرة. وحينما توقفوا في كاسبر، في وايومنغ، للصيانة، حاول أن يقترب من مروحة دافعة وهي تدور.

**

حين وصلت إلى مشارف روشيستر بسيارة الشيفي المستأجرة في ذلك اليوم من حزيران عام 1961، كان القلق قد بلغ ذروته على حالة أرنست. وأملت أن يكون الرهاب قد تلاشى، أو على الأقل خفت قبضته، بعد آخر جولة علاج بالصدمة ECT بالإضافة للجلسات المتسارعة مع طاقم مايو للصحة النفسية. حجزت غرفة في فندقي، وتوجهت مباشرة إلى المستشفى. فتحت رئيسة الممرضات باب غرفة أرنست بمفتاحها، شيء مروع. كانت الغرفة صغيرة، ولكن مزودة بنافذة كبيرة سمحت بدخول شلال غزير من الضوء. لا توجد زهور والجدران عارية. وعلى طاولة بجانب السرير ثلاث كتب مكومة. وبعد الطاولة كرسي معدني بمسند ظهر مستقيم. وعلى النافذة قضبان معدنية أفقية. كان أرنست يواجه النافذة، ظهره للباب، ويقف أمام طاولة المستشفى المرفوعة لتحل محل منضدة الكتابة. وكان يرتدي ثوب حمامه الأحمر الصوفي (عمدته ماري باسم “ثوب الإمبراطور”). وكان مثبتا بحزام جلدي متهالك، وله قفل كبير حمل عبارة بالألمانية تقول “الله معنا”، وهو حزام انتشله من جندي ألماني ميت أثناء معركة دارت داخل غابة هورتغن في الحرب العالمية الثانية. وكان يرتدي نعلا هنديا مفضلا لديه، ويضع على عينيه عصابة تنس بيضاء مغبرة. وكانت لحيته مشعثة وفقد قدرا مهما من وزنه.

قالت الممرضة: سيد همنغواي. وصل ضيفك.

التفت أرنست. استمرت النظرة المصدومة على وجهه لدقيقة ثم تلاشت بابتسامة عريضة تدل على تواصله معي. وجاء ليحييني. تخلص من كمامته. وتشابكت أذرعنا بتحية إسبانية. ووضع كل منا إبهامه على ظهر الآخر. كان سعيدا تماما بمجيئي. وبدا أنه منسجم، كما لو أن الرجل الذي اختفى والرجل الواقف أمامي هو مجرد علامة تشير لما كان عليه من قبل.

قال: حسنا. هوتش. أهلا بك إلى الأرض المجهولة. حيث يسجنونك ويغلقون الباب عليك ولا يملكون مثقال ذرة من الثقة بك.

كانت الممرضة واقفة في مدخل الباب.

قدمني أرنست بقوله: يا ممرضة سوزان. هذا هو ألبيكاس. مصارع الثيران المشهور. ويا بيكاس. هذه سوزان التي تمسك بيدها مفتاح قلبي.

ضحك كلانا.

قدمت لها علبة كافيار أتيت بها من أجل أرنست، لتضعها في الثلاجة. جلست أنا وأرنست لبعض الوقت، هو على السرير، وأنا على الكرسي، وفي البداية توقعت أنه يقف على أرض صلبة، ولكن روعني بعودته لتكرار بؤسه السابق متوهما أن الغرفة مراقبة. والهاتف وراء الباب. وأضاف شكاوى الجوع. واتهم مصرفه، ومحاميه، وطبيبه في كيشتوم، وكل الولكلاء الذين مروا عليه في حياته. ثم انتقل إلى الشكوى من سوء الثياب المقدمة له، والتطرف بضرائب يتخيلها. وكان هناك الكثير من التكرار.

نهضت. وفي ذهني تخليصه من هذه الفجائع التي عاودته منذ زرته في عزلته السابقة. من الواضح أن العلاج بالصدمات ECT لم يؤثر به. ذهبت إلى المنضدة وسألته ماذا كان يكتب.

قال: “باريس”.

وكان يشير إلى انطباعاته عن باريس، وبعض الأشخاص، الذين التقى بهم، حينما كان يعيش هناك برفقة هادلي أولى زوجاته. وذلك في بواكير العشرينات.

سألته: “وكيف ترى ما تكتب؟”.

“هذا أسوأ ما لدي. لا يمكنني الانتهاء من الكتاب. لا أستطيع. كنت وراء هذه الطاولة اللعينة يوما بعد يوم بإثر يوم. وكل ما أحتاج له.... ربما جملة. ربما أكثر. لا أعلم. ولكن لا يمكنني إنجازه. ولا أي جزء منه. هل تفهمني؟. كاتبت سكريبنر من أجل الكتاب. وهو في برنامج الخريف. ولكن لا يمكنني خربشة المزيد”.

سألته إن كانت هذه مخطوطات دونها في ريتز، الفقرات التي سبق لي وأن قرأتها. قال هي بعينها. بالإضافة لمقطوعة جديدة وهي تعنيه أكثر من سواها. قلت له: ولكن تلك المخطوطات عن باريس رائعة ويأمل كل كاتب بتدوين مثلها.

في إحدى رحلاتنا إلى باريس، حينما كنا نقيم في ريتز (حينما فازت نقابتنا هيمهوتش في سباق قفز على الحواجز في أتويل والذي بلغت جوائزه 27 - 1). وفي أحد الأيام تناولنا الغداء مع شارلز ريتز، الذي حل محل والده سيزار. شارلز أخبر أرنست أنه في أثناء ترميم المستودع، اكتشفوا خزانة من طراز لويس فيتون. وكان أرنست قد أودعها هناك منذ الثلاثينات. وهي خزانة صنعها فيتون نفسه لأجل أرنست، وسره أن تعود إليه. فتحناها في مكتب شارلز، وبين عدة أشياء مدفونة فيها، وجدنا عددا من دفاتر مدرسية كتب فيها أرنست عن باريس في العشرينات وعن أشخاص تعرف عليهم في سنوات مبكرة له هناك. وقد أعطاني أرنست بعض المقطوعات للقراءة: وكانت رائعة، وشاعرية، ومؤثرة، وجريئة، وخالدة ولم يكتب أحد مثلها عن باريس، ولا عن مجتمع فترة الثلاثينات البديعة الذين عاصروا أرنست.

بعد نقرات على الباب دخلت الممرضة سوزان، وأخبرت أرنست أن الأطباء يطلبونه لإجرء فحوصات لن تستغرق طويلا. حمل أرنست طرحية من الورق من بين الأوراق التي ارتجلها على المنضدة، وقدمها لي لأقرأها ريثما يعود. وقال لي إنني لم أطلع على هذا الفصل، وهو آخر فصل في الكتاب. الفصل المعول عليه.

**

سحبت الكرسي نحو النافذة لقراءة المخطوطة المدونة بخط اليد والتي تركها أرنست معي. العنوان “لا نهاية لباريس على الإطلاق”. وكانت مختلفة عن بقية التدوينات التي قرأتها في ريتز، والتي ركزت على أحياء باريسية وعن الأشخاص الذين تعرف عليهم أرنست في حينه: ومن بينهم غيرترود شتاين، سيلفيا بيش (بائعة كتب وناشرة أمريكية)، فورد مادوكس فورد، عزرا باوند، سكوت فيتزجرالد.

هذه الفقرة التي كنت اقرأها كانت هي الخاتمة المأمولة: وما جعلها مختلفة أنها مكتوبة كتذكير بأيام كفاحه المبكر ولكن الرائعة في باريس ومرثية للطريقة التي انتهت بها، وأسبابها. وإجمالا كانت إعلانا حماسيا عن حبه لزوجته الأولى، هاردلي، وذكرياته عنها حينما كانا في الطابق الرابع في منطقة رو كاردينال ليمون، ثم ذكرياتها في المكان الذي أقاما فيه مع ابنهما الرضيع، بومبي، في 113 رو نوتردام دي شامب، في الطابق الثاني، فوق منشرة الباحة، وكيف كانت هاردلي د تعزف بالبيانو القديم، الذي استأجره أرنست لأجلها، وهي ملفوفة بالبلوزة، وذلك في قبو خانق من متجر حلويات محلي.

في التدوينة كشف أرنست أيضا عن مغامرات التزلج مع هاردلي: في سكورن التابعة لفورالبيرغ النمساوية. وهناك تعلم كلاهما التزلج. حيث كان لغرف فندق توبي نوافذ كبيرة، وأسرة كبيرة، مع أغطية جيدة، وملاءات من الريش. هذا غير الفطور الرائع الذي يشمل أكواب قهوة كبيرة، وخبزا طازجا، وفواكه محفوظة، وبيضا، وشرائح خنزير ممتازة. ثم انتقل إلى فندق مادلين إيرهوس، الفندق القديم الجميل حيث كانا ينامان متجاورين معا في سرير عريض تحت لحاف من الريش، والنافذة مفتوحة، والنجوم قريبة.

وفي منتصف التدوينة، توقف أرنست عند السنوات الرومنسية المبكرة برفقة هاردلي، حين كانا فقيرين جدا، ولكن بمنتهى السعادة. ووصف ما يحدث لحياتهما المثالية كلما يظهر الأغنياء بالصورة، فيطاردون سمك الغزالة. ولكنه لم يسهب بتعريف لا الأغنياء ولا السمكة. وكتب أرنست يقول: حينما يوجد اثنان عاشقان ينجذب الناس لهم، ولكنه هو وهاردلي كانا ساذجين ولا يعرفان كيف يحميان نفسيهما. اعترف أرنست المفتون بهؤلاء الأغنياء، أنه كان غبيا مثل كلب الصيد الذي يرافق أي شخص لديه بارودة.

والأهم كان هناك امرأة عازبة غنية، وقد أعجبت بأرنست، وصاحبت هاردلي، وتغلغلت في حياتهما حتى حصل الطلاق. واعترف أرنست أنه وقع تحت تأثير إغراء هاتين المرأتين بنفس الوقت، وأنه حالفه الحظ السيء لأنه وقع بحب الاثنتين.

وقبل أن ينهي حياته، كان يهمه أن تفسر كلماته الأخيرة الألم الذي تسبب به لنفسه لأنه سمح للحب الوحيد الحقيقي في حياته أن يضيع من يده. و قد شيطنه طيلة حياته، تراجيديا حب اثنتين في وقت واحد. وبعد أن اقترب من موته في حادث سقوط طائرة قرر أن يعيش مجددا فترة العشرينات الضارة التي استهلكته وأفنت قواه. فسافر أولا إلى باريس، وخفف من متعة نشر أولى رواياته “الشمس تشرق أيضا”. وعاش أرنست تلك السنوات كلما وصفها لي، وأخبرني عنها، وهكذا وجد شيئا للخاتمة. ولكن هناك سنوات من حياته، لا يمكن أن تعكس فيها التراجيديا،د، وكأنها تراجيديا لا يسعنا تجاوزها، ليس بالشهرة ولا بالتكرار ولا بمكاسب العبقرية.

قرأت الفصل مرتين، وتركته كي يستقر في ذهني، بينما أرنست مشغول بمقابلة الطبيب. لتلخيص سنواته في باريس - الناس والأماكن والخسارات والانتصارات والانجازات وخيبات الأمل - وذكرياته المتبادلة مع هادلي - أدهشني أنه حذف الكثير من الحكايات الضرورية، مثل تعليق زواجه لمائة يوم، والذي أخبرني عنه في إحدى المناسبات. ربما كان هذا من فعل ذهنه الشكاك وكفاحه المستميت لكتابة تفاصيل كاملة وقسرية، أو ربما كان ينوي أن أكون الشاهد على تفاصيل حبه التراجيدي لامرأتين بوقت واحد، وهي مشكلة لم يتمكن من تخليص نفسه منها.

***

.........................

أرون إدوارد هوشنر A E Hotchner كاتب ومحرر وناشر ومسرحي أمريكي. له عدة مؤلفات عن صديقه أرنست همنغواي. منها: بابا همنغواي 1966، بابا همنغواي: البهجة والأحزان 1983، همنغواي وعالمه 1989، همنغواي عاشقا 2015.....

لا يخفى لمن يواكب الإعلام المرئي في العصر الراهن، ما يشهدُهُ من تنامٍ واسع للقنوات الفضائية المختلفة في توجّهاتها السياسية والثقافية، وليكن الكلام منحصرًا عن الإعلام المرئي العراقي، بوصفهِ أنموذجًا عن الإعلام المرئي العربي بصورة عامة، ولأن الكاتب ينتمي إلى العراق، فمن الطبيعي أن يشدّ اهتمامه إعلام بلده بالدرجة الأساس؛ لقرب اهتمامات هذا الإعلام من اهتمامات الكاتب لهذه المقالة، بما يتداوله من قضايا وإشكالات تخصُّ الشأن العراقي اليومي في مختلف المجالات.

وإذا اقتربنا من الإعلام المرئي العراقي، وجدناه - بغضِّ النظر عن التوجّهات التي تدير دفّة تلكم القنوات، لا يصل إلينا، إلا عبر الإعلاميين/ الإعلاميات فيه، وهنا يتفاوت أداؤهم من حيث التأثير في المتلقي، بما يملكونه من خبراتٍ تؤهِّلُهم لأن يكونوا مُؤثِّرين في نسبة المشاهدة لقناة دون أخرى، بما أدّى إلى تفاوت أجورهم بحسب ما يُحققه بعضهم من (شهرةٍ/ طشَّةٍ) للقناة التي يعملون فيها، أو انتقال بعضهم من قناةٍ لأخرى بحسب ما له من ثقلٍ يتمثّل بتأثيره - بغضِّ النظر عن نوع ذلك التأثير أو السبب الذي يدفع ذلك الإعلامي للانتقال - على المتلقّي، فيتابعه من قناةٍ لأخرى، بالضبط مثلما نسمع أن اللاعب الفلاني المشهور بأدائه المميز، انتقل من فريق كُروي إلى فريقٍ آخر بحسب العقد المغري الذي أبرمه مع مديري ذلك الفريق، وبما يأملُه كادر هذا الفريق من تحقيق نجاحاتٍ على يد هذا اللاعب. وكلا الأمرين مقرونان بنجاح ذلك المُؤثِّر وتميُّزِهِ عن أقرانه. وبما أن حديثنا عن الإعلام المرئي العراقي بخاصّة والعربي بعامّة، وجدنا ثمّة طريقين يؤدِّي كُلٌّ منهما إلى الشُهرة: الأوّل، حين يكون الإعلاميُّ هادفًا/ مُحلِّقًا في محتواه: السياسي، الثقافي، الرياضي، الترفيهي... الخ والآخر، حين يكون الإعلاميُّ هابطًا في محتواه أيًّا كان مضمونُ ذلك المُحتوى. ومعلومٌ أن التحليق أو الهبوط صفتان نسبيّتان يُقرِّرهما الذوقُ العُرفيُّ العام لمجتمع من المجتمعات، بمعنى أنه لا حاجة بنا إلى أن نُشخِّص - بالتفصيلِ المُمِلِّ - ما هو المُحلِّق الهادفِ من المحتوى عن الهابطِ منه، ومن هذه النقطة أستطيع القول بكل ثقة: إنَّ ما يُقدِّمُهُ "علي وجيه" وثلّةٌ قليلةٌ من الإعلاميين العراقيّين في بعض القنوات الفضائية، يُصنَّفُ ضمن الإعلام الهادف الذي يُراعي الذوق العام، بل يرتفعُ به لما هو أفضل، بما يُقدِّمُهُ من مادّةٍ ثقافيّةٍ غزيرةٍ أجدُ في بعض جُرعاتها قد لا يُطيقُهُ الكثير من المُتلقّين ذي الثقافة المتوسِّطة، أو الذين انبنت ثقافتهم من البيئة المحيطة بهم، وما تلقَّفوه من معارف أوّلية في المدارس والثانويات، ولا يخفى أن أكثر المناهج الدراسية - سواءٌ أكانت في زمن النظام السابق أم كانت في النظام الحالي - تُراعي المستوى العُمري، فلا تجد إلا الصورة التي تتّفق ورؤية واضعي تلك المناهج ومن ورائهم إرادة النظام السياسي الذي يُدير دفّة العملية التعليمية برُمّتها، الأمر الذي أتاح لكثيرٍ من منتقدي "علي وجيه" أنْ ينالوا منه بأساليب تختلف وثقافة كلٍّ منهم، ساعدهم على ذلك الانتقاد ما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي من حريةٍ في النشر والتعليق آلت إلى ما يشبه الفوضى غير الخلّاقة، تلك التي قال عنها السيميائي الإيطالي "أمبرتو إيكو" قبيل وفاته وهو يشهد هذه الظاهرة في العالم أجمع، "إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالقٍ من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء" مع أنّه في أكثر ما يُدليه من آراء إنما يستمدُّها من مصادر متنوّعة سواءٌ أكانت كتبًا لتلكم الشخصيات الثقافية التي يتحدث عنها، أو لمُجايليهم من نُقّاد أو باحثين أو شعراء وثّقوا تلك الأحداث والمواقف، أم كانت صحفًا، أو غيرها من الوثائق التي يعود إليها، وهذا جيِّدٌ بالنسبةِ لإعلاميٍّ يعيشُ عصر الاستسهال بكلِّ معانيه، إذ لم ينجرف مثل غيره من إعلاميين يستسهلون التقاط المعلومة من هنا وهناك، بما يُدلِّل على تميُّزه، ناهيك عن استشعاره مسؤولية الإعلام الثقافيِّ المُحايد، وأثره الفاعلِ في بناء وعي المجتمع على ثوابت صحيحة بعيدة عمّا يُمليه إعلام السلطة من إرادات تنأى بالحيادية في نقل المعلومة، أو توجِّهه بما يتّفق وقناعتها.

لم يكن "علي وجيه" إعلاميًّا فحسب، بل شاعرا أيضًا، وابنُ شاعرٍ وإعلاميٍّ أيضًا، وهو الأديب والمقالي "وجيه عباس" المميّز بكتاباته الساخرة، فضلا عما صدر له من كتابات تخص العروض أو التصوّف، والابن كما قيل: "على سرِّ أبيه" بل يمكن أن أزعم أنّه فاقه في تنوّع الاهتمامات الثقافيّة، وقد كنتُ متابعًا لما ينشرُهُ على صفحته الشخصية على منصّة الفيسبوك، منذ أكثر من عشرة سنوات، لم ينشر خلالها - ما عدا الأمور الشخصية من طريفةٍ عابرة، أو رثاءٍ موجعٍ لصديق، أو مداعبةٍ إخوانيةٍ لأحد المقرّبين منه، أو.. أو .. الخ من شؤون شخصية - إلا المحتوى الثقافيِّ الهادف من إشادةٍ بشاعرٍ مهمٍّ وقوفًا على مكامن الجمال في هذا النصِّ الشعريِّ أو ذلك اللفظ من تلك القصيدة، أو مُعرِّفًا بشاعرٍ يافعٍ من الشباب؛ لما وجد في نصوصهِ من أماراتٍ إبداعيّةٍ تدلّ على تميُّزِهِ المُستحقِّ، والحال نفسه مع القُصّاص والروائيين، وقوفًا على متونهم السرديّةِ، مؤشِّرا فيها مواطن الجمال بما استحسنه من أسلوبٍ عن آخر تميّزَ به هذا القاصُّ أو ذلك الروائيُّ - والكلام في المورد السابق وهنا أيضًا ينطبق على النساء منهنّ - أو يُشمِّر عن ساعدِهِ حين يُعلَن عن وفاةِ أحد الذين أُعجِبَ فيهم من أهل الفن والأدب والثقافة والفكر، إذ تكون لديه تلك الوفاة مناسبةً لإطلاق عنان قلمه في الحديث عن أدبه ومكانته في المشهد الأدبي بعامّة، مع شيءٍ من الذكريات التي كانت له مع صاحب الذكرى.. ولعل اهتمامه بفنونٍ تشكيليةٍ أخرى يقف "الرسم" في أوّل قائمة اهتماماته، بالحديث عن أعلامه وخصوصيّة كل مدرسة عن الأخرى، رافق ذلك محاولاته في هذا الميدان، بما دفعه في السنوات الأخيرة أن يُصمِّمَ بعض أغلفة مجموعاته النثرية، وصولا إلى افتتاح معرضه الشخصي قبل سنةٍ أو أكثر. ومع ذلك كلّه كان لا يكلُّ بالتعريف عن الكتب المهمّة في مختلف المجالات الثقافية، بيانًا لقيمة محتواها وفرادته، أو لتميز كتّابها في ذلك الفن، أو ذلك المجال الذي طرقوه، أو مُعرِّفًا بطبعات مهمة من هذا الكتاب أو ذلك الديوان؛ لما فيها من إضافات، أو استدراكات، أو تعليقات من قبل المحقق أو المؤلف، كلُّ ذلك وغيرُهُ كثيرٌ يجدُهُ المتصفِّح على صفحته عبر هذه المنصّة الافتراضية، بما يُضيف معلومةً، أو يُصحّح ما قرَّ من أفكار أو معلومات عن هذا النص أو ذلك الشاعر أو ذلك الفنّان، بما يجعل صفحته منبرًا ثقافيًّا مهمًّا بهذا التنوّعِ الموزائيكي الذي تميّز فيه "علي وجيه" عن أقرانه من الشعراء، وقد لا يفوتنا اهتمامُهُ أيضًا بالفلكلور الشعبي، والوقوف على كلمات اغنية، أو لحن من الألحان، أو مقامٍ من المقامات، أو زيٍّ من الأزياء، أو شاعرٍ من شعراء اللهجة المحكيّة "الدارجة" بما يكسر نمطَ الرتابةِ فيها عبر هذه الخلطة الثقافية من نخبويٍ ارستقراطيٍّ إلى شعبويٍّ عموميٍّ في مرجعياته، تنصهر كلُّها في بودقة صفحته عاكسةً لنا مدى ثرائه الثقافي والمعرفي الذي لا أجد نصفه أو ربعه عند بعض من يحمل شهادة الدكتوراه..! ناهيك عن مناشطه الثقافية التي يعلن عنها من خلال صفحته، ومشاركاته في بعض المهرجانات أو الملتقيات الأدبية، بقراءة لنصوصه الشعرية، أو تقديمه لأحد الأدباء والحديث عن تجربته، أو حتى في مشاركته مجموعةً من المثقفين بتصوير بعض الكتب الثقافية المفقودة ورفعها على بعض المواقع لإتاحتها للقراءة من قبل من لا يستطيع العثور عليها.

تابعتُ برنامجًا له قبل أكثر من خمس سنوات، على أحد القنوات الفضائية، كاسرًا فيه نمط الرتابة، بخروجه عن "نسق الاستوديو" في جلوسه على طاولة من مقهىً قريب من أحد الشوارع، يضع عليها حزمةً من الكتب لمُؤلِّفٍ عراقي في كل حلقة، متناولاً جهده الإبداعي المتنوِّع في كل كتابٍ من تلك الكتب التي ألّفها، ففي حلقةٍ من الحلَقات تحدّث فيها عن الشاعر العراقي فوزي كريم، وهكذا في كل حلقةٍ يسلّط الضوء على شخصية مبدعة من الوسط الثقافي معرِّفًا بمنجزها، وهي فكرةٌ لم أجد من سبقه إليها؛ لكونها تتطلّب درايةً وإلمامًا من صاحبها يؤهِّلهُ للحديث عن منجز فلان أو فلان من الأدباء أو المفكرين، بما يُحسبُ له من تميُّزٍ بين لِداتهِ وأقرانه من مُقدِّمي البرامج، ممن يفتقر إلى هذه الموسوعيّة في الاهتمامات الثقافية، بله قد لا تجد سواهم أيضًا ممّن تضطمُّ جوانحُهُم على مختلف هذه الاهتمامات، وكاتبُ هذه السطور - على سبيل المثال - يشدُّ اهتمامَهُ من منجز فوزي كريم شعرُهُ ونقدُهُ ومذكّراتُهُ عن جيل الستّينات، أما ما كتبه في الموسيقا أو الرسم، فهذا ما لا ينشدُّ إليه؛ لفقرِ مؤهِّلاته في تينك المجالين.

وفي برنامجٍ له قبل سنةٍ أو أكثر، ظهر لنا في برنامج "صالون علي وجيه" منتقيًا أسماءً مهمّة في مختلف المجالات الثقافية والفكريّة في استضافته لهم، والحوار معهم عن منجزهم أو سيرتهم، قد لا يتّفق البعض مع ما طرحه بعض أولئك الضيوف، وهذا الأمر يكشف تنوّع الاهتمامات لا عند الإعلامي مقدِّم البرنامج، بل عند المتلقّي الذي ينبغي مراعاة ذائقة الجميع؛ لأجل أن يشد مثل ذلك البرنامج اهتمام مختلف التوجّهات والاهتمامات، وبهذا يبرهن على تميّزه بمشاهداته الكثير، مثلما نسمع في بعض المواقع الثقافية حديثًا عن الكتاب الأكثر مقروئية.

أما في برنامج "كتاب مسموع" فكان "علي وجيه" ضيفًا فيه، وهي ليست المرة الأولى التي يُستضاف فيها في برنامج على قناة فضائية أو "بودكاست" على يوتيوب، ولكن ما يميز هذا البرنامج على غيره من البرامج التي استضافَ فيها أو استُضيف فيها، أنه استمرّ على حلقات، على نسق برنامج "شاهد على العصر" الشهير على قناة الجزيرة يستضيف فيها الإعلامي "أحمد منصور" شخصيات مؤثِّرةً عملت في الشأن السياسي. وهنا كان للضيف "علي وجيه" أن يستعرض مسيرة الثقافة العراقية في قرنٍ كامل، ومعلومٌ أنه مهما توسَّعَ في إيراد التفاصيل وذكر الشواهد، والتلبُّث وقوفًا على بعض الأسماء المهمّة في المشهد الثقافي العراقي في العقودِ المُنصرمة منه، تبقى هنالك تفاصيل قد لا يسع الضيفُ الحديثَ عنها، أو لم يُحِط بها خُبرًا، فمثل هذه الإحاطة الكاملة قد لا نجدُها في موسوعاتٍ أعدّها مُتخصِّصون، بل أكثر من ذلك أن الإحاطةَ بمُنجز شاعرٍ مثل الجواهري وما له علاقة بشخصه من مواقف وآراء وأحداث، لا يمكن أن نجدها عند الذين كتبوا عن الجواهري كتبًا ودراسات، فمن الطبيعي جدًّا أنْ نتقبّلَ ما يطرحه "علي وجيه" من حديثٍ حول الجواهري قد يشوب بعضًا منه القصور في بيان ما يستحقه من تسويغٍ له في موقف صدر عن الشاعر، أو بيان الظرف الموضوعي الذي صدر عنه مثل ذلك الموقف أو تلك القصيدة، وهكذا الحال ينطبق في تطرّقه للحديث عن الرُّصافيِّ أو السيّاب أو عبد الرزاق عبد الواحد أو غيرهم من شعراء توقّف عندهم، أو تشكيليين تحدّثَ عن منجزهم وأثره في المشهد الثقافي العراقي، في الحلقات الأخيرة من هذا البرنامج، وهذا لا يعني ذلك إدانة هذا الجهد الذي يُبذل في سبيل إشاعة المعرفة وتقزيم شأن باذلِ ذلك الجهد، أو انتهاك خصوصيته الأُسريّة في الإساءة لوالده، أو لأرحامه من قريبٍ أو بعيد، في الوقت نفسه لا بأس من بيان ما لم يُذكر من معلومات، أو ما أغفله الضيف عن غير قصد، فقد أشار في أوّل حلقةٍ من ذلك البرنامج، أنّه يُخاطب الشباب ممّن لم يشهدوا تلك التفاصيل التي تخصّ الثقافة العراقية وما طرأ عليها من تحوّلات خلال قرنٍ كامل، مستفيدًا من المصادر والمراجع التي اطّلع عليها، وإلا فهي أحداث لم يشهدها بنفسه، وهذا لعمري سبيل النقد الهادف والبناء في تقويمه جهد الآخرين، ومن قرأ ما كتبه الراحل د. علي جواد الطاهر في كتابه "فوات المؤلِّفين" وملاحقاته لمؤلِّفين أعلام أغفلوا عن جهل أو قصد بعض ما لا يمكن السكوت عليه، يتأكّد أن للنقد لغتَه وأساليبَه وأهله المتخصِّصين فيه، بوصفه علمًا غايته الدِقّة وتصويب الأخطاء، وليس النيل والطعن بمن وقعَ في تلكم الأخطاء أو الأوهام.

وهنا من باب الإنصاف أن يُشيد كلُّ مثقفٍ بالجهد المبذول من قبل الإعلامي والشاعر والفنان "علي وجيه" بلحاظ - وهذا التعبير مستفاد من مدوّنات أصول الفقه - ما نشاهدُهُ من سطوةٍ لا أشَدَّ منها للإعلام الهابط ومُموِّليه، والمتهافتين على أعتابه، واللاهثين وراء مشاهدة مقاطعه التي لا تبُثُّ غير السُموم الطائفية، أو القيم البعيدة عن ثقافة هذا المجتمع، التي من شأنها تسويغ انتهاكها فيما بعد، أو الخوض فيما لا نفع فيه للمُشاهد من تفاهات ورقاعات، وإلا فوضعُ العصيِّ في عجلات الإعلام الهادف، لا يعني إلا تشجيعًا للإعلام الهابط بطريقةٍ غير مباشرة..

***

د. وسام حسين العبيدي

السرقات في مجتمعنا لم تكن مقصورة على الاموال كما يحدث الان لاموال الدولة التي يغرف منها من هب ودب ليصبح بين ليلة وضحاها غنيا يملك ثروة طائلة فيتحول من مفلس نكرة الى صاحب عمارة وتجارة يعرفه القاصي والداني .

هناك سرقات من نوع آخر، سرقات أدبية فيما مضى من عصور ومازالت مستمرة حتى اليوم في غياب قوانين تحمي الحقوق الفكرية وحقوق النشر للفنانين والادباء والشعراء ممن لايستطيعون كسب لقمة الخبز من نتاجهم الفكري وابداعهم لان المشرع القانوني في ديارنا لا يستطيع رؤية ما في الفكر من جوهر مادي، وبسبب جهله لا يفقه في الخيال والافكار وانما يفقه في الشعير والخيار، فيحكم على من يخالف او من يسرق ما تطاله يده، ويجيز قطع يد السارق، او صلم أذن من يتجاوز على لصوص البلاد من قطط سمان وكلاب، ويترك عقاب من يسرق الافكار والابداع .

من بين السرقات الادبية الشهيرة سرقة صندوق الشاعر الشيخ محمد علي اليعقوبي صاحب كتاب البابليات*.

نشرالاديب توفيق الفكيكي مقالا في جريدة الهاتف / النجف عدد 139 سنة 1357هجرية بعنوان صندوق اليعقوبي، ذكر فيه ان الصندوق يحوي مجموعة من المخطوطات النفيسة والدواوين الشعرية الرائعة غير المطبوعة. وشبه هذا الصندوق بالمقبرة لتلك الطائفة من رجال الادب الذين منع اليعقوبي تراجمهم وآثارهم من أن تـتـنشق الهواء النقي وتنعم بالحرية .(1)

ثم نشر مقالا ثانيا حول الموضوع واحتكم الى الاديب الشيخ جعفر النقدي ليحكم على اليعقوبي حكما ادبيا جزاء حجزه لهؤلاء الاعلام والتعتيم على ابداعهم.

كما نشر في جريدة الهاتف مقالا ثالثا تحدث فيه عن الصندوق والكنوز الشعرية التي تعود لما يقرب من مائة شاعر من بينهم صفي الدين الحلي وشعراء آل القزويني وابن بطريق وابن جيا وعدد كبير من فحول الشعراء .

دخل على الموضوع جعفر الخليلي - صاحب جريدة الهاتف - فنشر مقالا افتتاحيا علق فيه على مقال الفكيكي وطالب اليعقوبي ان يُخرج كنوزه من الصندوق، وأن لم يتمكن من نشره في كتاب فلينشرها على حلقات في الجرائد.

ونشر الاستاذ محمد الخليل مقالا في جريدة الهاتف أيضا حول صندوق اليعقوبي وعلل عدم نشر اليعقوبي لمحتويات صندوقه لكساد سوق الادب وعدم دعم الموسرين للمشاريع الادبية.

اليعقوبي1565 yaghobi

ولد في النجف الاشرف في منتصف شهر رمضان عام 1313 هـ وبسبب انتقال اسرته الى الحلة الفيحاء نشأ محمد علي في مدينة الحلة وتعلم في الكتاب قراءة القرآن الكريم كما تعلم الكتابة ونسخ الخط و درس النحو والصرف والمعاني والبديع ...على يد والده وزاد اهتمامه بالادب فأخذ يختلف الى محافل العلماء واندية الادباء ورعاه السيد محمد القزويني وغمره بعطفه بعد أن رحل والده الى الدنيا الآخرة سنة 1329 هـ .

كتب عنه العلامة نور الدين شرف الدين في مجلة العرفان التي تصدر في صيدا لبنان، في العدد السابع / حزيران 1951 : "الشيخ محمد علي اليعقوبي عميد الرابطة الادبية في النجف الاشرف، أديب لامع، وخطيب من خطباء المنبر الحسيني المبرزين يحتل مكانة سامية عند الخاصة والعامة."

البابليات

البابليات كتاب يؤرخ لشعراء الحلة، جاء في مقدمته للكتاب " رتبنا الكتاب على حسب القرون . فابتدأنا بذكر شعراء الحلة الفيحاء في اوائل القرن السادس - مبدأ تأسيسها- وماشينا القرون التي تليه بالتسلسل، وهو يقع في ثلاثة اجزاء يضم في اولها ترجمة ستين شاعرا الى نهاية القرن الثاني عشر، والجزآن الاخران يحتويان على تراجم القرنين الثالث عشر والرابع عشر و أفردنا لكل منهما جزءا يضم الادباء الذين نبغوا فيه، وجل القسم الثالث ممن ادركنا عصرهم، وأخذنا تاريخ حياتهم منهم."

صندوق اليعقوبي شعرا

نظم الشيخ محمد حسن حيدر قصيدة رائعة حول الصندوق نشرها في جريدة الهاتف. ونشر الشيخ النقدي مقالا مسهبا في جريدة الهاتف تعرض فيه الى قضية صندوق اليعقوبي والاحتكام اليه بامر الصندوق الذي اخفاه اليعقوبي، وبين الشيخ النقدي وجوب احضار اليعقوبي ومثوله امامه لسماع دفاعه قبل الحكم عليه، فاجتمع به وتعهد اليعقوبي بنشر ما في الصندوق على صفحات الصحف، وارتجل اليعقوبي شعرا :

قالوا أذاع الذي ما زلت تخبؤه // " توفيق" قلت لهم من حسن توفيقي

قد جاء يبحث عن "صندوق" مكتبتي // وإن في الصدر عندي ألف " صندوق"

فازاح اليعقوبي الستار عن صندوقه وبدأ بنشر ما يحويه من فرائد .

وكان الفكيكي قد نسخ بعض المواد من صندوق اليعقوبي باجازة منه، وأخذ من البابليات ما أراد، ويقول زارني الاديب على الخاقاني (علي الشرقي) وطلب أن يستعير ما لدي من البابليات ليلة واحدة، ورغم اني اخذت عليه المواثيق أن لا ينسخها الا انه نكث العهد ونشر ترجمة ابن عوض في مجلته "البيان " فوجدته مطابقا لما عندي من الذي نسخته من صندوق اليعقوبي .

واستغرب الاستاذ دعبل صاحب جريدة النبأ هذه السرقة فنشر مقالا في العدد الصادر في 8 /1/ 1951يستنكر فيه انتحال الخاقاني هذا، ثم يعجب من كون القوانين لاتضع عقابا لهذه الجرائم التي لا تقل عن جريمة سراق المال " سراق الدمى والحلل.

نموذج من البابليات

من قصيدة للاديب السيد جعفر كمال الدين الحلي النجفي

أدر المدامة وابتدي برفاقي // بوركت يا ساقي الطلا من ساقي

فاشرب وعانقني عناق مودة // لاخير في شرب بغير عناق

لله مجلسـنا ونـحـن بـلـذة  // في خير ندمان وخير رفاق

اخوان صدق للمنادمة التقوا // لاشـيـب ذياك اللـقا بفراق

والورد عبق نشره فحسبته // أنفاس (هاد) طيب الاخلاق (2)

***

د. مؤيد عبد الستار

..................

* اليعقوبي، محمد علي، البابليات، المجلد الثاني، دار البيان، 1373 هـ

1- البابليات ص 234

2-البابليات ص 19

في غيابٍ يشبه اكتمال القصيدة، رحل نغوجي واثيونغو. لم يغادرنا كجسد، بل كأسطورةٍ تقرأ علينا وصيتها الأخيرة، لا بالحزن، بل بالحروف التي لم تتعب يومًا من حمل المعنى على أكتافها.

رحل من لا يليق به الرثاء الذي يُعفي اللغة من وجعها، رحل من يستحق أن يُكتب عنه كما تُكتب ملحمةُ مقاومةٍ خرجت من رحم اللغة الأم، وسكنت التاريخ حتى صارت جزءًا من جغرافيا الضمير.

ثمة جائزة لم تكن له، لكنها لن تفلت من ظله أبدًا. جائزة يُمنحها العالم لأولئك الذين تعلّموا كيف يكتبون، لا لأولئك الذين يُخضِعون الكتابة لفعلٍ يعيد تشكيل التوازن بين السلطة والمعنى.

نغوجي واثيونغو، الكاتب الكيني الذي لم يحصل على جائزة نوبل، لأنه ببساطة لم يكن “لطيفًا بما يكفي مع الاستعمار”، لم يُتقن لعبة الأبواب الخلفية، ولا ارتدى البدلات ذات الطابع السويدي.

ظلّ يكتب بلغته الأم، ويُعلن أن اللغة نفسها حقلُ معركة وفعل مقاومة، وأن الحرف حين يُستعار من سجّانه، لا يحرّر.

واثيونغو لم يكن مرشحًا لجائزة نوبل. بل كان امتحانًا لها.

في كل عام، كانت تمرّ الجائزة من أمام اسمه كما تمرّ جحافل المارينز من فوق جثث الأطفال: بنظرة غير مُكترثة. لكن السؤال لا يزال قائمًا وسيظل: ماذا لو كانت لجنة نوبل هي من تحتاج إلى واثيونغو لتنال شرف الأخلاق؟

وفي عمق المشهد، لا يتعلق الأمر بجائزة أدبية، بل بجهاز رمزي للهيمنة.

إن نوبل ليست محض تكريم، بل شكل ناعم من “تأميم العبقرية” باسم التوافق الغربي.

نعم، لقد مُنحت جائزة نوبل أحيانًا لمن يستحقها، كغابرييل غارسيا ماركيز، وكنزابورو أوي، لكن ذلك لم يكن سوى محاولة لتجميل اختلال المعايير بطلاء أخلاقي شفاف.

فقد جاءت بعض الجوائز وكأنها اعتذار غير معلن لمن تم استثناؤهم سابقًا، لا بوصفها تكريمًا لكتابةٍ تقلب البنية، بل بوصفها آلية لتخفيف الضغط عن سرديةٍ بدأت تتصدّع.

لقد كانت الجائزة، أحيانًا، تُمنح لا لمن تُبهر كتابته، بل لمن صار تجاهله أكثر فداحة من منحه.

وهكذا، لم تكن بعض التكريمات احتفاءً بذروة الإبداع، بل سترًا ضروريًا لفشل المؤسسة في إقصاء من لم يخضعوا لمنطقها.

فهي مؤسسة تصنع الكُتّاب الذين يمكن أن يُسَوّقوا كجزء من سردية الإنسان العالمي، بينما تُقصي أولئك الذين يجرحون هذه السردية بلغتهم، بتاريخهم، بمراراتهم الحارقة.

لم تكن أعنف إدانة لجائزة نوبل صادرة عن المنفيين من قائمتها، بل عن أحد الذين كُتب اسمهم عليها ورفض أن يُوقّع.

حين رفض جان بول سارتر الجائزة عام 1964، لم يكن يتهرّب من التكريم، بل كان يقاومه بوصفه شكلًا ناعمًا من الهيمنة الرمزية.

كان يعرف أن الاعتراف، حين يأتي من بنيةٍ هو ذاته يُسائلها، يتحوّل إلى فخّ أخلاقي: يصير التتويج تجميلًا، وأن الكاتب، حين يقبل التتويج، يسلّم بسلطة المؤسسة، رفضها سارتر، وظلّ وفيًا لدوره: كاتب يكتب من خارج النسق، لا من أعلاه.

وفي امتداد لهذا الرفض، لم يكن واثيونغو مرشّحًا، بل شاهدًا على هشاشة ما لا يُمنح.

واثيونغو لم يكن يتقن لعبة التسويق، بل كان يعيد بناء المعنى من شظايا الاستعمار.

إنه ابن الأرض التي خُنقت مرارًا تحت خيمة الإمبراطورية، لكنه ظلّ يكتب كما يُكتب الأمل في مذكرات الأسرى.

لم يقايض المنفى بالمصافحة، ولا المقصلة بالتصفيق. ظلّ يجرّ لغته من فم المستعمر، ثم يعيد تركيبها لتقول ما لا يقال: “الكتابة ليست هواية، بل ساحة حرب تُخاض ضد الجهل والاستلاب”.

في روايته “تويجات الدم”، لم يكن يصنع شخصيات بل يُعرّي أنظمة.

مدينته الروائية، "إل مورج"، ليست مدينة خيالية، بل صدىً لما تبقى من كينيا المُعاد استعمارها بالعابرة للقارات….، وتحوّلت فيها الأحلام إلى مقابر بيضاء تُدار من مكاتب النخبة.

“من السهل أن تُخرس صوت رجل. لكن الأصعب أن تخرس صدى صوته حين يمتزج بصوت الأرض.”

وحين كتب “شيطان على الصليب”، لم يكن يستعير المجاز، بل يزرعه في صدر كل قارئ.

جعل من بطلاته نساءً لا يشبهن أيقونات التحرّر الغربي، وإنما نساءً ينهضن من قعر الألم، يركضن عكس الاتجاه، ويصرخن بلغتهن الأم: “لن نُباع مرتين، لا للبيض ولا لنسخهم السمراء.”

كل شيء في سيرة واثيونغو يشي بعظمة بلا تزييف.

هو الرجل الذي سُجن لأنه كتب مسرحية بلغة الكيكويو، فحوّل السجن إلى فصل من فصول المقاومة.

وحين نُفي، لم يهجر بلاده، بل حملها معه في لغته. وهو القائل:

“المنفى ليس أن تغادر الأرض، بل أن تغادرك اللغة.”

قال عنه المؤلف والمفكر الجنوب أفريقي مبوليليو مزاماني: إن نغوجي “أعاد تعريف ما تعنيه الكتابة في زمن ما بعد الاستعمار… لقد كسر هيبة اللغة الإنجليزية حين جعل من كيكويو مرآة للفكر النقدي، لا للفولكلور.”

أما تشيماماندا أديتشي، فاعتبرته “الأب الروحي للكتابة المناضلة في إفريقيا… الذي فهم مبكرًا أن الرواية ليست مكانًا لعرض الأزياء، بل لعرض الجراح.”

حتى الكاتب البريطاني جون بيرغر قال عنه: “نغوجي لا يكتب ضد الغرب، بل يكتب من موقع آخر كليًا… موقعٍ لا يعترف بأن المركز هو أوروبا.”

فهل تحتاج نوبل إلى واثيونغو لتتطهّر؟

أم أن واثيونغو أكبر من أن تُمنَح له جائزة تستمدّ قيمتها من النظام الذي حارب وجوده؟

إنها المفارقة التي لا تهدأ: رجلٌ يكتب كما يُكتب اللهب، ويُمنح الآخرون الجوائز لأنهم كتبوا كما تُكتب البلاغات الخالية من الألم، المصممة لإرضاء العابرين.

ولأننا أبناء اللغات الجريحة، نعرف جيدًا أن واثيونغو لا ينتظر جائزة.

ينتظر فقط أن تُقرأ كتبه لا على موائد النخبة، بل في فصولٍ مدرسية، على ألواحٍ خشبية، حيث لم تُمحَ آثار المستعمر بعد، لكن الأمل لا يزال يتهجّى الكلمات الجديدة.

في النهاية، لا نُكرم واثيونغو بمنحه جائزة نوبل. بل نُكرم نوبل لو أنها منحته.

وهو، في كل الأحوال، قد كتب اسمه في التاريخ بطريقة أعظم من التصفيق: كتبه بالنار.

رحل نغوجي واثيونغو… وبقيت كتبه تحفر في وعي القارئ ما لم تقدر عليه لجان التحكيم.

***

إبراهيم برسي

كنت قد قلت أن النجف هي "خدّ العذراء" و"شقائق النعمان" و"الغري"، وهي موسوعة غنية ومتنوّعة تحكي الحضارة والثقافة والتاريخ والفلسفة والدين والأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، وفوق كلّ ذلك الجمال والحسن والخيلاء.

كلّ شيء في النجف مثل كتاب له تاريخ وله فلسفة وله أسلوب وله معنى. والنجف دائمًا ما تتكلّم، تنطق وتقول. رأيها مسموع حتى وإن كان مقموعًا، وحين تسكت وتضطرّ إلى كظم غيظها، فهي تتحدّث وتعاند، ليس بالمجاهرة فحسب، بل بالصمت أيضًا.

المدينة على الرغم من عروبتها الباهرة ولغتها العربية الفاتنة، هي في الآن ذاته ملتقى لغات وجنسيات وأعراق وأعراف وتقاليد وأزياء، اجتمعت لتشكّل هارموني يعزف سيمفونية الحياة المائزة الرائزة. إنها موزائيك ملوّن لفسيفساء اجتماعية بهندسة محبّبة أقرب إلى التجانس والائتلاف، بقدر ما تحمل من تعارضات وتناقضات.

والنجف مدينة حانية، ليس على أبنائها فحسب، حتى وإن عقّوا قليلًا، بل على سكانها وقاطنيها، فكثير من أعيانها ومرجعياتها الدينية، ومن أقاموا فيها، اعتبروا أنفسهم ينتمون إليها ولم يُعرفوا بغيرها. وهكذا كانت معهم متسامحة، إلّا على من أراد امتهان كرامتها، فسيكون غضبها كالإعصار، دون انتقام أو ثأر أو كيدية.

إنها مدينة جامعة يتجاور فيها الأضداد، القديم والجديد، الريف والمدينة، البادية والحضر، القدامة والحداثة، الأصالة والمعاصرة، وباستعارة من السيد مصطفى جمال الدين في كتابه "الديوان": إنها مدينة الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق. ولعلّ الجواهري الكبير كان قد شخّص هذه الحالة في قصيدته البائية التي يعتبر التناقض من طبيعة الأشياء وفيه تنبجس الحقيقة:

ولم أر في الضدائد من نقيضٍ / إلى ضدٍ نقيضٍ من ضريبِ

يا عودةً للدار ما أقساها

حاولت أن أفهم المدينة بعد عودتي من المنفى. هي كبرت واتّسعت وازدحمت وتنوّعت واختلفت، وأنا كبرت وتعبت وشغلتني الهموم وتبخّرت الكثير من أحلامي، بل وجدْت بعضها على قارعة الطريق يعبث فيها من لا يستحق.

توقّفت طويلًا عند جمال النجف الحزين، استعدت ذاكرتها وذاكرتي، تلك التي كانت تتشكّل مثل طبقات أركيولوجية لدرجة يمكنك لمسها وتحسّسها بقدر ما يمكنك تخيّلها وتصوّرها. خاطبت نفسي قائلًا: النجف هي كلّ ما ترَكتهُ روحك أو في روحك من ذاكرة وذكرى واستذكار، لذلك بقيت أردّد مع الشاعر أحمد الصافي النجفي:

يا عودةً للدار ما أقساها / أسمع بغداد ولا أراها

وهو ما كنت أفكّر فيه دائمًا، فما ينطبق على بغداد ينطبق بدرجة أكبر على النجف بالنسبة لي.

حسبتُ أن النجف واحدة موحدة بمحلاتها الأربعة: العمارة، الحويش، البراق والمشراق، كما اكتنزتها ذاكرتي، وإذا بها تصبح مدينة شاسعة مترامية الأطراف بعد أن كانت تضمّ ما داخل السور، فأصبحت تضمّ ما خارجه، ممتدّةً إلى الكوفة وما بعدها وإلى الحيرة وأبو صخير وما بعدهما، دون أن ننسى توسعها باتجاه الصحراء. هكذا شكّلت النجف مجتمعًا جاذبًا من داخل العراق ومن خارجه، وإن بقيت ثمة حدود بين الأصلاء والمقيمين وأهل المدينة والوافدين، لكن الجميع امتزجوا في بوتقة النجف.

السور العتيد

أتذكّر سور النجف الجميل، حيث كنتُ يوميًا وعلى مدار ست سنوات أمشي بجواره، ذهابًا وإيابًا إلى مدرستي السلام قادمًا من عگد السلام، وبعدها حين كنّا نمارس هواية لعبة كرة القدم خلف السور متجاوزين مقبرة الغري الشهيرة، بعد انتقالنا من الطارات قرب بحر النجف، وهي أكبر مقبرة في العالم، لينفتح عالمنا الخاص ليس رياضيًا فحسب، بل عالم الشعر والأدب، حيث اعتدنا على ممارسة هواية تقريظ الشعر أو المطاردات الشعرية.

ولسور النجف حكاية استذكرتها بعد مناقشة حامية مع ابنتي المحامية سوسن في مساء أحد الأيام، بعد وضع اليد على أموال المودعين في بنوك بيروت العام 2019، وقد جاءت عليها في مداخلتها عني عند تكريمي في الكويت / أربيل من جانب الشاعرة المبدعة سعاد الصباح (2024)، بقولها: فإذا بأبي يستيقظ صباحًا ليردّد وهو في مرح غامر ومزاج رائق ما كان يسمعه من أحد معارفه في السور العتيد "I am happy I am poor ...مفلس وقاعد بالسور..." هكذا قالت: أراد والدي أن نجد الفرح في كل المواقف مهما كانت غير سارة، بل وحزينة، وأن ننظر إلى الجانب المشرق من الأشياء.

وأستكمل حكايتي عن سور النجف، الذي كان درعًا لحماية المدينة من هجمات "الغزاة" و"الغرباء"، فقد ظلّت علاقتي به وطيدة كلّ فترة فتوّتي، وإن تهدّم أغلبه حينها، ففي الخمسينيات انخرطنا كأشبال، كما كان يُطلق علينا، في فريق الاتحاد "اليساري"، الذي ترأسه عبد الرضا فياض، قبل أن يُحكم عليه بالسجن لمدّة عام بتهمة الشيوعية، وقضى بعدها عامًا تحت المراقبة (1957)، والطريف أنه أصبح لاحقًا ممثلًا لتيار السيّد مقتدى الصدر في ديالى، وكان أصدقاء لنا من القوميين يمارسون ذات الهوايات في فريق فيصل، حيث نتبادل الأدوار أحيانًا وندخل في مسابقات كرة القدم، وهي أقرب إلى الجدالات الفكرية والسياسية، فإذا انتصر فريق الاتحاد ونحن أشباله اعتبرناه انتصارًا لليسار، وإذا انتصر فريق فيصل كان يعني انتصارًا للقوميين. كان ذلك قبل أن تفرّق ثورة 14 تموز / يوليو 1958 الناس وتقسّم المجتمع العراقي إلى معسكرات متناحرة، حيث أصبح العنف المقيّد، وفيما بعد العنف المبدّد، مهيمنًا عليه.

كان للجمال معنى ومبنى وهويّة، وهو ما كنت أراه في النجف القديمة، ويا حسرتاه، فقد خرّبها الجهل والأذواق البدائية والمصالح الأنانية، حيث جرى تهديم الكثير من المباني التراثية والتاريخية، وأقيم بدلًا عنها البنايات الإسمنتية الخالية من أية روح بحجة الحداثة والتقدّم، ولا علاقة لها بذلك، فالبساطة والدفء والمحبة كانت سمة المدينة وأسواقها وحاراتها وأزقتها ومدارسها، حيث يتوسّطها الصحن الشريف، رئة المدينة بأبوابه الأربعة، باب القبلة وباب العمارة وباب الطوسي وباب الساعة، ويقتسمها السوق الكبير ابتداءً من الميدان وحتى الصحن الشريف.

النجف لا تمنح الطمأنينة والصفاء الروحي لسكانها فحسب، بل تمنحه للقادمين والزائرين، كلّ ذلك دون منّة أو فضل، وإنما تفعل ذلك بكرم أخلاقي ومروءة إنسانية اعتزازًا بشموخها وكبريائها، مثلما هو علو منائرها وزهو قبتها الذهبية.

في النجف تحتشد عوالم وأزمنة متعدّدة ومتنوّعة، وثمة رمزية تروي سردية زمن مضى بحيوات أهله، لكنه ما يزال شاخصًا على الرغم من محاولات تجريفه وجعله لا مرئيًا، لكن الجدل ظلّ واحدًا من مكوّناتها الأساسية، ويشكّل مصدر حيويّتها بتناقضاته المتعارضة والمؤتلفة.

كل تلك النجف، التي احتفت بي واحتفيت بها، كانت حاضرة في المجلس الثقافي والاجتماعي لآل سميسم في يوم رمضاني روحاني ربيعي (5 آذار / مارس 2025) قُبيل عيد ميلادي الثمانين (21 آذار / مارس)، مثلما كان الحضور معطرًا وزاهرًا ومتنوعًا، شمل الحوزة العلمية والمراجع الدينية وشيوخ العشائر ووجهاء النجف ومثقفيها ونخبة لامعة من خيرة مثقفي العراق وأدبائه وصحفيّيه وأكاديمييه من العرب والكرد ومن داخل العراق وخارجه.

***

عبد الحسين شعبان - مفكّر وأكاديمي

في الثامن والعشرين مايو (أيار) 2025 م انطفأت شمعة أدبيّة من شموع النضال الإفريقي بعيدا عن وطنه (كينيا) ومسقط رأسه، فقدت الساحة الإفريقيّة وفُجعت الإنسانيّة بغياب قلم مناضل إفريقيّ وإنسانيّ، لم يرتدّ له طرف يوما من أجل رفع راية الثقافة الإفريقيّة، إنّه الأديب العالمي والروائي الكبير والمناضل الإفريقي، نغوغي واثيونغو (من مواليد 5 يناير1938 م) بعد عقود زاخرة بالنضال والكفاح والمقاومة، خاضها الكاتب الكيني في بلده، ضدّ الاحتلال البريطاني، وضدّ الاستبداد، بحثا عن حريّة الرأي والكلمة الحرّة، لقد خلّف وراءه فراغا نعته ابنته قبل أيام بعبارات عبّرت فيها عن فخرها واعتزازها بأبيها، قائلة: (عاش حياة زاخرة بالعطاء، وخاض معركته بشجاعة وإباء، وكما كانت رغبته الأخيرة، فلنحتفل بحياته وأعماله التي تركها إرثا خالدا، بفرح وحزن، نحن فخورون)،

لقد استطاع، وكان له الشرف، أن يسخّر قلمه الحرّ من أجل تحرير العقل الإفريقي من هيمنة الثقافة الغربية والمركزيّة الأوروبيّة، ومواجهة العولمة الثقافيّة وفضح النخب الحاكمة، رغم فصول حياته المتأرجحة بين السجن في وطنه، والغربة في منفاه الاختياري في الولايات المتحدة الأمريكية،

لم يكن الأديب نغوغي واثيونغو، مجرّد كاتب يبحث عن موضع قدم بين الأدباء المرموقين في إفريقيا والعالم لنيل حظا من الشهرة، بل كان يحمل عقلا حرّا ومفكّرا ونيّرا وساعيا إلى التغيير والانعتاق من الجهل والتخلّف اللذين خلّفهما المستدمر البريطاني في بلده كينيا وقارته إفريقيا، بدءا من الدؤوب إلى استرجاع لغته الأم " الكيكويونية " التي حلّت محلها اللغة الانجليزية – من أجل المحافظة على الذاكرة القومية والهويّة الثقافية ، ورأى أنّ الاستعمار اللغوي، لا يقلّ خطورة وبشاعة عن استعمار الأرض، حيث قال: (إنّ استعمار إفريقيا بدأ بسرقة الأرض، ثم سرقة الذاكرة عبر اللغة)،

لقد سخّرالكاتب الكبير نغومي واثيونغو قلمه وفكره ونضاله من أجل تحرير العقل الإفريقي وتصفية استعمار العقل، بإبراز دور المثقف الإفريقي ووضعه أمام مسؤولياته التاريخية والثقافيّة، كما وقف بحزم في وجه النخب الإفريقيّة التي قلّدت النموذج الغربي، ودعا، دون هوادة طوال مسيرته الإبداعيّة إلى وجوب إزاحة الهيمنة الفكرية الغربيّة من مركزيّة التاريخ والثقافة، ووجوب تفكيك فكرة تفوّق الثقافة الأوروبية عبر نقد نظريات كانط وهيغل، ورغم معاناته من غياهب السجن وآلام الغربة والبعد عن عشيرته ووطنه وبني جلدته بعد هجرته إلى أمريكا، فقد بقيّ وفيّا لمبادئه وقيّمه الوطنيّة، راسخا ومحافظا على مباديء الانتماء من أجل نهضة ثقافيّة تعيد ربط الأفارقة بجذورهم الأصيلة، كما سعى، من خلال رواياته وقصصه ومقالاته وحواراته، إلى ترسيخ فكرة، كتابة التاريخ الإفريقي من منظور إفريقي، وجعل الأدب وسيلة فعّالة لمواجهة العولمة الثقافيّة،

وعاد نغوغي واثيونغو إلى الكتابة بلغته القومية "الكيكويونية " بعدما كتب رواياته ومسرحياته وقصصه القصيرة ومقالاته بالإنجليزية، لغة المستعمر التي منحته العالمية - وأعطاها بعدا مركزيا في إبداعاته، ورأى أنّ اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي حاملة الثقافة والتاريخ والذاكرة وأوجه التفكير وعنوان الهويّة، عاد من منفاه اللغوي إلى أحضان لغته الأم، لوضع حدّ لشتات الذاكرة، وترميم الهويّة الإفريقيّة، والدعوة إلى نهضة ثقافيّة تعيد ربط الأفارقة بجذورهم الأصيلة، وقد سعى الاستعمار الأوروبي إلى تشتيت الهويّة الإفريقية، من خلال القضاء على اللغات الإفريقيّة ولهجاتها أو تهميشها وتشويه التاريخ الإفريقي من منبر المدرسة الاستعمارية الكولونيالية، القائمة على فكرة التفوّق الأروربي المستمدّة من نظريات هيغل وكانط، وقد حارب المستعمر الأوروبي اللغات الأم لصالح لغته بالحديد والنار لمحو الذاكرة الإفريقيّة، وهو سلوك مشين وقاهر لرفض إنسانيّة الفرد الإفريقي، إنّ مرافعة بعض النخب الإفريقيّة المستلبة، السياسية منها والثقافية، لصالح لغة المستعمر، بعد نجاح الحركات التحرريّة في تحقيق الاستقلال خيانة للضمير الوطني الإفريقي ولشهداء الحريّة والإنسانيّة.

***

بقلم: علي فضيل العربي

........................

هامش:

هاجر واثيونغو إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد تعرضه للسجن في بلاده ما يربو على العام، حيث عمل بالتدريس في جامعة بيل بضع سنين، ثم عمل أستاذا للأدب المقارن وأستاذا لدراسة الأداء في جامعة نيويورك وأستاذا بجامعة كاليفورنيا في إرفاين ومديرا للمركز الدولي للكتابة والترجمة بالجامعة، عضو اللأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم،

من أهم أعماله:

لا تبك أيّها الطفل (رواية 1964)

النهر الفاصل (رواية 1965)

حبة حنطة (رواية 1967)

بتلات الدم (رواية 1977)

شيطان على الصليب (رواية 1982)

التكريمات:

الجائزة الذولية لكاتالونيا 2020

الدكتوراه الفخرية من جامعة أوكلاند 2005

الدكتوراه الفحرية من جامعة بايرويت،

جائزة نونينو الدولية 2001

جائزة لوتس للأدب 1973

جائزة بارك كيونغ ـ ني 2016

وصل إلى القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر الدولية 2009

ظهر اسم نغوني واثيونغو عدة مرات في قوائم المرشحين لجائزة نوبل في الآداب،

***

بقلم: علي فضيل العربي

نواصل في هذا الجزء من المقالة مناقشة ما أثير حول قومية الشاعر العراقي الراحل محمد مهدي الجواهري عبر منهجيتنا المزدوجة والتي تعتمد التحليل النقدي المنهجي والتوثيق التأريخي. وسأبدأ بهذا التصحيح فقد ذكرت في الجزء الأول من المقالة أن الكاتب جعفر الخليلي "خلد مأساة المُهَجَّرين العراقيين الفرس والكرد الفيلية من العراق في عهد النظام السابق. وحكى هو شخصياً عن مأساته العائلية وتهجيره من بلده العراق وكيف افترس ذئب والدته العجوز في البرية وهم منفيون على الحدود بين العراق وإيران في رواية بعنوان "قرى الجن". والصحيح أن ذلك الحدث ورد ذكره في رواية "سلاما يا غريب" لابن أخيه عبد الغني الخليلي والصادرة سنة 2002، وليس في رواية "قرى الجن" لعمه جعفر الخليلي.

وثيقة نجفية مهمة: وبالعودة إلى جذور عائلة الجواهري نسجل أن الأكيد، والموثق تماما هو أن جذور هذه العائلة القديمة تعود إلى مدينة أصفهان وسط إيران. ولكن الوثيقة التي بين أيدينا لا تتكلم عن أصولها القومية إنْ كانت فارسية أو عربية مع أن الوجود العربي في تلك والعهود وخاصة في العهد العباسي كان كثيفا جدا ويشكل الغالبية السكانية في بعض المناطق كإقليم خراسان وفي الجنوب. لنقرأ ما كُتب في سيرة مبتكر لقب "الجواهري" الشيخ محمد حسن بن باقر المعروف بصاحب الجواهر، على صفحة وكالة أنباء الحوزة العلمية في النجف الأشرف (واحة – بلا رقم أو تأريخ نشر)، ونقرأ: "لم ترد معلومات عن سنة ولادته بالتحديد، لكن الشواهد والقرائن تشير إلى أنّه ولد 1202 هـ (تقريبا 1787م) في النجف، وهناك أقوال أخرى في هذا المجال...". وعن نسبه نقرأ : "هو الشيخ محمد حسن بن باقر بن عبد الرحيم بن محمد بن عبد الرحيم الشريف الأصفهاني، كان أجداده يعيشون في أصفهان، وقد غادر جده الثالث الشيخ عبد الرحيم الشريف مدينة أصفهان، وتوّجه إلى النجف وأقام فيها. وأبوه محمد باقر النجفي، وأمه من أحفاد الشيخ أبو الحسن الفتوني العاملي، وينحدر نسبها إلى السادة العذاريين المعروفين بآل حجاب وهي أسرة علمية، فالشيخ محمد حسن كان نقطة التقاء الأسر العلمية من جهة الآباء والأمهات".

إذن علاقة العائلة الجواهرية بجبل عامل في لبنان هي علاقة مصاهرة فمن هناك جاءت أم الشيخ حسن الجواهري العلوية العذارية. ولكننا ينبغي أن نتساءل عن لقب اللافت "الشريف" الوارد في سلسلة نسب الشيخ فما المقصود به؛ هل هي إشارة محتملة إلى نسب هاشمي كما دأب الشرفاء في الجزيرة العربية والمغرب العربي وشرقي مصر على استعمال كلمة الشريف لتكون خاصة بهم؟ لا نرجح ذلك لأنها لو كانت تعني النسب الهاشمي لفاخَرَ به أفراد العائلة الجواهرية ولما تخلوا عنه.

وقد أفادني الأستاذ الشاعر محمد الأمين الكرخي بهذا الخصوص بالمقتبس التالي الذي يؤكد ترجيحي السالف: "آل شريف من الأسر العلمية الشيعية القديمة في أصفهان والنجف. تنحدر هذه الطائفة من ذرية آغا عبد الرحيم شريف الكبير، من كبار علماء الإمامية في أوائل القرن الثاني عشر الهجري، الذي هاجر من أصفهان إلى النجف الأشرف واتخذها مسكنًا دائماً له. وتعتبر أسرة آل الجواهري فرعاً من هذه السلسلة. يصف الشيخ جعفر محبوبة هذه الأسرة قائلاً: "من الأسر العلمية المشهورة القديمة التي ينتهي نسبها وأجداد الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر إليها، ولهم مصاهرة شريفة مع السادات الخاتون آباديين، ولقب الشريف اشتهر على هذه السلسلة بسبب هذا الزواج/ گروه نويسندگان، (1391) دائرة المعارف تشيع، تهران: حکمت، چاپ اول".

هل الجواهري إيراني وليس فارسيا؟ إن ما قيل عن وجود عائلة الجواهري في إيران لخمسة قرون قادمة من جبل عامل في لبنان، يمكن أن يؤخذ بجدية في ضوء ما يقدم من وثائق وأدلة تؤكده. أما في حال عدم وجود وثائق وأدلة كهذه، فيمكن أن نتعامل مع ما قيل كفرضية قد تصح وقد لا تصح. فإذا صحت يمكن لنا، من منطلق مبادئ المواطنة الحديثة، أن نعتبر القدوم من جبل عامل في لبنان وما يترتب عليه من عروبة الأصل، ومن ثم الإقامة لخمسة قرون في إيران، وبحساب الأجيال (حيث الجيل يساوي 33 عاما) تكون العائلة قد عاشت في إيران لخمسة عشر جيلا، وبهذا تكون قد اكتسبت المواطنة والهوية الإيرانية وليس القومية الفارسية. وبهذا المعنى يكون الجواهري من أصول إيرانية شأنه شأن الملايين من العرب الإيرانيين في إقليم عربستان "خوزستان" اليوم.

حين سُئل الشاعر محمد مهدي الجواهري نفسه ذات مرة سؤلاً مباشراً إنْ كان إيرانيا قال: "أنا لو كنت من أمة فارس لافتخرت بذلك". وهو هنا ينفي كونه من أمة فارس ولكنه يفتخر بالانتماء إليها لو صح عنده. وهذا كلامه هو، ولا ينبغي لنا نقدياً أن نسلم به حرفياً، فلماذا توقف المتحدث عند النفي ولم يفتخر بأصله العربي مباشرة لوكان عربيا؟ أعني لماذا لم يجب مثلا بالقول: لا، أنا لستُ فارسياً رغم إنني افتخر بأمة فارس ولكنني عربي؟ فالسؤال المكرر بصيغة أخرى هنا هو؛ لماذا لم يصرح الجواهري بنسبه العربي أبدا في أي مناسبة كانت؟ لماذا لم نجد أية إشارة إلى عروبة نسبه أو سلسلة آبائه كما هي الحال مع شعراء وأعلام عراقيين آخرين قدماء ومحدثين لعل من أبرزهم الشاعر العراقي الفراتي صفي الدين الحلي المولود في القرن الثالث عشر (1277) بحاضرة الحلة عاصمة الإمارة الأسدية المزيدية فنسبه معلن ومعروف فهو صفي الدين عبد العزيز بن سرايا بن علي بن أبي القاسم السنبسي الطائي؟

خلاصات: وعليه، أعتقد أن مسألة عراقية الشاعر الجواهري ليست موضع تشكيك أو قدح، فهي صفة أكيدة وأصيلة له وفيه، أما الأصل القومي له أو لغيره سواء كان فارسيا أو عربيا أو غير ذلك، فهو مسألة شخصية بحتة، شأنها شأن المذهب والدين، ولا ينبغي أن تهم أحدا سوى حاملها والمؤرخين والنقاد الذين يتصدون لكتابة سيرته أو أبحاث عنه. وصاحب الشأن هو مَن يمكنه ويحق له أن يؤكدها أو ينفيها كمعلومة، ومن حقنا نحن أن نبحثها نقدياً في محاولة لمقاربة الحقيقة بغض النظر عما يقوله هو وفي ضوء المنهج البحثي العلمي وما يتوفر من وثائق صحيحة.

بمعنى إننا حين نتناول الأصل القومي لشخصية مشهورة وعامة من وجهة نظر نقدية وتأريخية فينبغي أن نتناولها بما يتوفر حولها من أدلة وإثباتات ملموسة مساندة أو نافية ومناقشتها بحياد وموضوعية بغض النظر عما يقوله الشخص المعنى بالبحث سواء كان شاعرا أو لم يكن. والحال إنَّ الشاعر الجواهري لم يقل عنه نفسه إنه من أصول عربية، ولم تكن قضية الأصل القومي آنذاك في النصف الأول من القرن الماضي في العراق قضية ملحة وذات أهمية كبيرة، بل قال إنه شاعر عراقي يفخر بكونه شاعر العرب الأكبر. وقد قرأت الكثير مما كتبه الجواهري أو ما كتب عنه فلم يرد في ما قرأت أنه قال إنه عربي الأصل، وأرجو ممن لديه ما يفيد العكس أن يقدمه لنا مشكوراً مع التوثيق الأكاديمي الدقيق إن أمكن ذلك، وسأنشر ملحقاً بكل ما وصلني وسيصلني من تعقيبات وإضافات بعضها من أحد أفراد عائلة الشاعر وأصدقاء آخرين قريبا.

وكخلاصة، وعذرا للتكرار أقول: الجواهري شاعر عراقي عظيم أولا، وهو من أصول إيرانية بدليل عيش أجداده في إيران لخمسة قرون، وهذا معترف به من قبل أسرته وموثق. أما بالنسبة لأصله القومي إن كان فارسياً أو غير فارسي فليس لدينا - في الوقت الحاضر على الأقل - وسيلة علمية مضبوطة للتأكد منها في غياب أي دليل وثائقي رصين ومعترف به، فحتى التحليل الجيني الوراثي لا يمكن أن يثبت فارسيته في منطقة شهدت اختلاطا قومياً هائلاً وحضوراً قبلياً عربياً كثيفاً في القرون الخوالي التي تلت انهيار الإمبراطورية الفارسية الساسانية وقيام الإمبراطورية العربية الإسلامية. أما الفرق بين الإيرانية والفارسية فهو أن الإيرانية نسبة إلى بلد يدعى إيران تعامل كجنسية وهي نسبة ممكنة وثابتة وتشمل الفارسي وغير الفارسي. وجذور الجواهري عندي إيرانية لا شك في ذلك، وهو ليس عربياً على الأرجح وليس بالقطع بانتظار أن يظهر دليل جديد يؤكد فارسيته أو لا يؤكدها مستقبلا.

الشطب على عروبة العراق والدفاع عن عروبة الجواهري: وأخيرا، فإنَّ من المستهجن حقا، أن ينبري بعض إعلاميي أحزاب الفساد والقنوات التلفزيونية التجارية في العراق، ممن يكررون المعلومات والمقولات القديمة والتي تهرأت من كثرة استعمالها، للدفاع عن عروبة الجواهري أو غيره من "أعلام طائفتهم الأكبر" مع ان بعضهم من السلفيين المتعصبين يكفر الجواهري أو يفسقه في ضوء ما عرف عن حياته اليومية المتحررة، ولكنهم يخرسون تماماً ويبتلعون ألسنتهم طوعاً حين يشطب ساستهم الطائفيون على عروبة العراق، العراق العريق؛ موطن الجزيريين "الساميين" الأوائل منذ الأكاديين وحتى العرب العباسيين الذين أشادوا أعظم إمبراطورية عربية إسلامية عاصمتها بغداد في منتصف القرن الثامن الميلادي وظلت قائمة حتى عام 1258م، ليُعلوا من شأن هوياتهم الفرعية الطائفية أو العشائرية حين شطبوا عليها في دستور سنَّته مجموعة من الساسة الهواة والجهلة بالفقه الدستوري ورجال الدين الكسالى، فاعتبروا العراق بلدا متعدد القوميات، رغم أن نسبة العرب فيه تفوق 85 بالمائة، في حين لا تصل نسبة الفرس في إيران إلى 50 بالمائة ومع ذلك فهوية إيران فارسية يدافع عنها الجميع، ولا تصل نسبة الأتراك في تركيا إلى 65 بالمائة ومع ذلك فهوية تركيا تركية طورانية غير قابلة للتنوع والمشاركة!

إن الكتبة ذوي النزوع الفئوي والطائفي الذين يشنعون على المدافعين عن هوية العراق الحضارية العربية ويتهمونهم بأنهم بعثيون و"قومجية"، يريدون أن يقزِّموا تاريخ العراق الألفي العظيم ويجعلوه تأريخاً لطائفتهم الأكبر فقط، وأعلام العراق البارزين أعلاماً لطائفتهم الأكبر حصراً، ويقدحون في المقابل بالرموز العراقية التي تنتسب للطوائف الأخرى بعيدا عن أية منهجية علمية نقدية رصينة وموثقة طالما ظلوا يتمتعون بالمال السحت الذي انتهبوه من أفواه فقراء العراق من جميع الطوائف والقوميات باسم المحاصصة الطائفية والعرقية والوجاهة الفقاعية تحت ظلال الهيمنة الأميركية! وهؤلاء كما قلنا هو الوجه الآخر للطائفيين من الجهة المقابلة الذين مثلهم ساطع الحصري فشككوا بعراقية الجواهري وحاربوه طويلا!

فليرقد الجواهري العراقي الخالد، شاعر العرب الأكبر، بسلام، فأصله وفصله قد ترسخ في جمالية شعره وفي حب العراقيين والعرب له وهذا يكفيه فخرا.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

كان أول لقاء لي بالدكتور عناد غزوان اسماعيل في سبعينيات القرن الماضي. كنت يومها أقدّم برنامجا اذاعيا بعنوان (كبار) انتقي فيه من تعدى الخمسين لأوثق اهم اعماله في مختلف المجالات (محمد جواد اموري مثلا في الفن وتوثيق لحكاية قصيدة مرينه بيكم حمد). واخترت الدكتور عناد غزوان بوصفه اديبا وابرز مؤسسي النقد الحديث في العراق، بداتها بطفولته في الديوانية التي يعتز بها.. الى حصوله على الدكتوراه من جامعة (درم) في بريطانيا، الى المراكز التي تولاها في الجامعات العراقية.

ابهرني بطلاقته، واسترساله، وغزارة ثقافته.. وكنت لا استطيع مجاراته. بدأت الحوار معه تقليديا فعرفت انه ابن (الديوانية).. ولد فيها عام 1934، وتعلم العربية والقرآن الكريم في كتاتيبها، ثم تهيأت له فرصة الدراسة في دار المعلمين العليا. ولأنه كان متفوقا على اقرانه فأنه أرسل ببعثة دراسية إلى جامعة رونك بانكلتراعام 1959ليعود منها بشهادة الدكتوراه في الادب العربي من جامعة (درم) بانكلترا عام 1963.

وعناد.. الناقد والمفكر والمؤلف والمترجم.. عراقي أصيل. كتب عنه الكاتب والناقد الدكتور عقيل مهدي يوسف بان الدكتور عناد (استطاع بكفاءة قيادية للدرس الأكاديمي أن يطرح أنموذجاً للأستاذ الجامعي الأصيل، الذي يقرن المعرفة بالعمل، والسلوك الملتزم الجاد، واحترام الذات والآخر في سبيل الوصول إلى (مشهدية) معاصرة يرصّنها بآرائه، المدروسة وبتراجمه الثرية المحدثة لدى أدباء وكتاب ونقاد أجانب ينتقيها بتحسب منهجي، وضرورة تمليها عليه مواقفه التخصصية وأفكاره النقدية، ورؤيته الخلاقة، ضمن سلسلة تتواصل حلقاتها في خطة بحث متكاملة، لتكون خلاصتها ومغزاها فتح (حوارات) أكاديمية مع نخبة متعلمة مثقفة في الحرم الجامعي ومراكز البحوث ومؤسسات الترجمة وحلقات الأدباء والفنانين، و مع عموم القراء عبر الصحافة والوسائط المرئية والمسموعة.).

ترك عناد مؤلفات وترجمات ستبقى مقروءة، بينها:

(1) الشعر والفكر المعاصر، 1974م.

(2) مكانة القصيدة العربية بين النقاد والرواة العرب 1967م.

(3) خمسة مداخل إلى النقد الأدبي، مترجم بالاشتراك مع جعفر صادق الخليلي 1981.‏

(4) نقد الشعر في العراق بين التأثرية والمنهجية 1985.

(5) آفاق في الادب والنقد 1990

(6) أصداء 2000

(7) أسفار في النقد والترجمة 2006

(8) خمسة مداخل إلى النقد الأدبي، مترجم بالاشتراك مع جعفر صادق الخليلي 1981.‏

جامعة صنعاء

كانت اجمل (صحبة) جمعتني بعناد يوم ذهبنا معا الى اليمن. كان ذلك عام 1998 تلبية لدعوة من جامعة صنعاء وبقينا فيها اربعة اشهر.التحقت انا بقسم علم النفس (دراسات عليا) والتحق هو بقسم اللغة العربية. وكنا ننام في مكان واحد هو دار الضيافة التابعة للجامعة.. ونتحدث في صنعاء براحتنا عن العراق بما نخشى قوله في بغداد، ونتحدث في ليالينا عن الأدب. ولما وجدت انه يميل الى الشعر اكثر من ميله الى النصوص النثرية والسردية، فاننا سهرنا ليلة مع المتنبي.. هو يحلله نقديا وانا احلله سيكولوجيا.. نشرت في حينها بجريدة الجمهورية اليمنية.

كانت لعناد لقاءات علمية مميزة بجامعة صنعاء، ابرزها انه القى محاضرة على اساتذة الجامعة وطلبتها ادهشت الحاضرين.. ليست فقط لبلاغتها ولكن لصوته الأذاعي المميز وطريقة القائه ايضا. ومن جميل اخلاقه انه حضر لي محاضرة بقسم علم النفس حضرها عميد واساتذة كلية التربية، فاشاد بي.. وجاءه الرد من عميد الكلية: دكتور عناد.. لو لم تكونا عالمين مميزين لما وجهت لكما الجامعة دعوة (استاذ زائر) وتشرفت باقامتكم لأشهر.

وكانت لي فيها ذكريات جميلة عن اساتذتها الأفاضل وطلبتها الملتزمين بالأخلاق العربية الأصيلة.. بينها ان طالبة كانت تأتيني الى مكتبي.. ولأنها محجبة فأنني كنت اسالها عن اسمها.. وفي احد الأيام جلست ومدت يدها على ورده حاكتها علي يمينها وقالت: دي عملتها على شانك حتى لا تسألني بعد عن اسمي.. وذكريات اخرى عن سهرة (للأستمتاع بالقات!).. الذي يسمى (شاي العرب) وهو نبات اخضر مخدر يتعاطاه اخوتنا اليمينيون في المناسبات والايام العادية، ولا يحاسب عليه القانون.

وتمر سنوات اخرى ويسقط النظام، وينتخب عناد رئيسا لاتحاد الادباء ودعاني لالقاء محاضرة كانت هي الاولى لي فيه،  وبقينا بكلية الآداب هو بقسم اللغة العربية وانا بقسم علم النفس نلتقي بين الحين والآخر، وما تزال بعض مشاهد اللقاء في الذاكرة، لاسيما تلك (المحلاّة) بالنكتة التي يجيدها.

يوم رفعنا تابوته

افجعني خبر موت عناد، فاسرعت لأصل بيته مبكرا في مدينة الشعب. كان مسجى في تابوته تعلو وجهه ابتسامة لا تفارقه استحضرت لحظتها نكاته يوم كنا معا استاذين زائرين بجامعة صنعاء.

كنا بداخل الغرفة ستة.. نرفع التابوت مكبرين ونعيده مهللين مغردين بدموع احبة مفجوعين.

وحين حانت لحظة التشييع واكتمل المشيعون، اتصلت بمستشار وزارة الثقافة الصديق الراحل كامل شياع، لأبلغه بضرورة الحضور ممثلا لوزارة الثقافة، وكان يومها الأمن مفقودا في بغداد وخطر جدا على شخصية مستدهفة مثله.

بعد اقل من ساعة وصل كامل ليشارك في موكب التشييع.. رغم انه ما كانت له صلة معرفة شخصية بالعالم الكبير عناد غزوان.. وودعنا عالما كبيرا اعطاه حقه الدكتور عقيل مهدي يوسف بمقالة له بجريدة الصباح حملت عنوان (الاستاذ الدكتور عناد غزوان انموذجا اكاديميا رصينا).

القادسية تكرّم عناد

في العام 2022 دعتني رئاسة جامعة القادسية لالقاء مجموعة محاضرات في عدد من كلياتها. دخلت الجامعة فرأيت نصبا كبيرا يتوسط حرمها مكتوبا تحته (الدكتور عناد غزوان 1934 - 2004).. قلت للسائق: توقف من فضلك.. نزلت.. سلمت عليه والدمعة تلوج بالعين، وشكرت رئيس الجامعة الدكتور كاظم جبر على تكريم عالم من طراز رفيع نشأ في مدينتها، وتمنيت على الجامعات العراقية ان تحتذي بهذا التقليد بما يليق بعلماء العراق.

لك الذكر الطيب ابا معتز وستبقى في الذاكرة مهما طال الزمن.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

توفي عن عمر يناهز 87 عامًا

كتب: ألن كويل

ترجمة: علي حمدان

***

توفي نجوجي وا ثيونغو، الروائي والكاتب المسرحي وصاحب المذكرات الرائعة الذي استكشفت كتاباته الظلم والغموض الذي أحدثه الاستعمار في وطنه كينيا بقدر ما استكشفت أخطاء النخبة في فترة ما بعد الاستعمار، والذي قاد حملة عاطفية لحث المؤلفين الأفارقة على تجنب لغات المحتلين الأجانب، يوم الأربعاء في بوفورد بولاية جورجيا. كان عمره 87 عامًا.

غالبًا ما كان يُرشَّح للفوز بجائزة نوبل، وقد أمضى السيد نغوجي (يُنطق غو-غي) سنواتٍ طويلة في المنفى هربًا من غضب الحكومة التي انتقدها. ولعقودٍ من الزمن، درَّس الأدب المقارن واللغة الإنجليزية كأستاذ في جامعة كاليفورنيا، إيرفين. وقد ألهمت أعماله أجيالًا متعاقبة من الكُتّاب الأفارقة، إلى جانب معاصريه من أمثال تشينوا أتشيبي وولي سوينكا، وكلاهما من نيجيريا.

حظيت أعماله الأدبية بإشادة حماسية، بدءًا بروايته الأولى "لا تبك يا بني" عام ١٩٦٤. تدور أحداث الرواية حول شقيقين كينيين تواجه عائلتهما تحديات ثورة الماو ماو ضد الحكم البريطاني. وقد وُصفت الرواية بأنها أول رواية بارزة باللغة الإنجليزية لمؤلف من شرق أفريقيا.

على النقيض من ذلك، تُعتبر رواية "الشيطان على الصليب"، المنشورة عام ١٩٨٠، والتي كُتبت بلغته الأم "كايتاني موثارابا-إيني"، أول رواية حديثة باللغة الجيكويو، التي يتحدث بها الكيكويو، أكبر جماعة عرقية في البلاد. تدور أحداث الرواية حول لصوص يتنافسون على السلطة بسرقة الناس، هذه الرواية قد دفعت السيد نغوجي إلى مسيرة مهنية في الكتابة بلغته الأم، ثم ترجمة أعماله إلى الإنجليزية.

كتب رواية "الشيطان على الصليب" على ورق تواليت السجن أثناء احتجازه لدى السلطات الكينية لمدة عام دون محاكمة بسبب مسرحية ألّفها. وفي مقالٍ له في مجلة نيويورك تايمز للكتب عام ٢٠١٨، وصف الكاتب أرييل دورفمان الكتاب بأنه "سردٌ للإغراءات الشيطانية التي واجهها والحيل التي استُخدمت لإحباط سجّانيه وهو يكتب ليلةً بعد ليلة في زنزانته". وأضاف السيد دورفمان أن الرواية "تُظهر إتقان نغوجي التام لحرفته".

تزامنت حياة السيد نغوجي وكتاباته مع بوادر التحرر في شرق أفريقيا الخاضعة للإدارة البريطانية. عاش في أوغندا، التي نالت استقلالها عام ١٩٦٢، وفي كينيا، قبل استقلالها عام ١٩٦٣ وبعده. كانت حياة حافلة بتفاصيل وتحولات حقبة تاريخية اتسمت بما وصفه رئيس الوزراء البريطاني، هارولد ماكميلان، عام ١٩٦٠ بـ"رياح التغيير".

بينما تلقى السيد نغوجي تعليمه في مدرسة التحالف الثانوية الكينية التي تديرها بريطانيا، وهي مؤسسة مرموقة صُممت لتكوين نخبة أفريقية على غرار المستعمرين، شارك أفراد آخرون من عائلته في انتفاضة الماو ماو ضد هؤلاء الغرباء أنفسهم. أصبح أحد الإخوة مناضلا من أجل الحرية ضد البريطانيين، بينما قُتل شقيق آخر رميًا بالرصاص.

عندما عاد السيد نغوجي إلى منزله من أليانس لأول مرة، وجد أن قريته قد دُمرت، وحُشر سكانها في ما يُسمى بقرية محمية أنشأتها السلطات البريطانية لتعزيز سيطرتها على رعاياها المستعمرين. كتب في مذكراته "في منزل المترجم" المنشورة عام ٢٠١٢: "يبدو سياج الأوراق الرمادية الذي زرعناه كما هو، لكن خلفه مسكننا عبارة عن أنقاض من الطين الجاف المحروق، وشظايا الخشب، والعشب. كوخ أمي ومنزل أخي المبني على ركائز خشبية قد سُوّيا بالأرض. منزلي، الذي انطلقت منه إلى أليانس قبل ثلاثة أشهر، لم يعد موجودًا".

لكن الاستعمار لم يكن سوى جانب واحد من مسار حياته، الذي اتسم في معظمه بالعنف. دفعته تجربة الاعتقال إلى البحث عن منفى عام ١٩٨٢، بدايةً في بريطانيا، ثم في الولايات المتحدة.

لكن عند عودته إلى كينيا عام ٢٠٠٤، وقع هو وعائلته ضحية هجومٍ مروع. اقتحم متسللون شقةً كانوا يقيمون فيها، وهاجموا السيد نغوجي واغتصبوا زوجته نجيري. يُرجَّح أن هذه الحادثة كانت بدافع الانتقام من قبل  أعدائه، لكنها عكست أيضًا الإجرام الذي ازدهر خلال استقلال كينيا الفاسد.

قال السيد نغوجي لصحيفة الغارديان عام ٢٠٠٦: "لم تكن عملية سرقة بسيطة، بل كانت سياسية، سواء من قِبَل فلول النظام القديم أو جزء من الدولة الجديدة خارج التيار الرئيسي. كانوا يتسكعون كما لو كانوا ينتظرون أمرًا ما، وكان الهدف من الأمر برمته إذلالنا، إن لم يكن القضاء علينا".

في الواقع، كان عمل السيد نغوجي متشابكًا بشدة مع سياسات تلك الحقبة، ولعب تفكيره حول التأثير البعيد المدى للإمبريالية على الحساسيات الأفريقية دورًا محوريًا في نقاش أوسع نطاقًا. في عام ١٩٨٦، نشر مجموعة مقالات بعنوان "تفكيك استعمار العقل"، والتي تتبعت ما وصفه بأنه نية استعمارية كارثية لإحلال لغة المحتل محل لغات السكان الأصليين، وذلك لترسيخ الاستعباد الفكري للمستعمَرين.

في عام ٢٠٢٣، تساءل كاري باراكا، الكاتب الكيني الذي أجرى مقابلة مع السيد نغوجي لصحيفة الغارديان، عما إذا كانت "الإنجليزية الكينية أو الإنجليزية النيجيرية" قد أصبحتا "لغتين محليتين". رفض السيد نغوجي هذه الفكرة.

أجاب: "يبدو الأمر وكأن المستعبدين يفرحون لأن لغتهم هي نسخة محلية من الاستعباد. الإنجليزية ليست لغة أفريقية، والفرنسية ليست كذلك، والإسبانية ليست كذلك. الإنجليزية الكينية أو النيجيرية هراء. هذا مثال على الشذوذ المُسَوَّغ. محاولة المستعمَر ادعاء لغة المستعمِر دليل على نجاح الاستعباد. إنه أمر مُحرج للغاية".

عندما سُئل عما إذا كان هناك ما يُسمى "مستعمرًا صالحًا"، نفى هذه الفكرة. وقال: "لا يهم إن كنت تحمل سلاحًا أو كتابًا مقدسًا، فأنت تظل مستعمرًا". وأضاف: "بالطبع، أُفضّل مواجهة المستعمر حاملًا الكتاب المقدس على مواجهة المستعمر حاملًا السلاح، ولكن في النهاية، كلا من حاملي الكتاب المقدس وحاملي السلاح يُناديان بالشيء نفسه".

وُلِد السيد نغوجي في 5 يناير/كانون الثاني 1938، في منطقة ليمورو، شمال نيروبي، العاصمة الكينية، التي كانت آنذاك تحت الحكم الاستعماري البريطاني. نشأ في عائلة ريفية كبيرة، وهو ابن لأب متعدد الزوجات، وثالث زوجاته الأربع، وانجيكو وا نغوجي، التي شجعته على السعي للحصول على تعليم جيد.

في سنواته الأولى، اهتزت كينيا بانتفاضة ضد الاستعمار، أطلقت عليها السلطات البريطانية اسم "ثورة الماو ماو". قال السيد نغوجي إن هذا الاسم مُضلِّلٌ، مُصمَّمٌ للتقليل من شأن أهداف التمرد في تأمين الأرض والحرية للشعب الكيني، وتشتيت الانتباه عنها. وأضاف أن الاسم الحقيقي للمتمردين هو "جيش الأرض والحرية".

مثل العديد من العائلات الكينية، كانت علاقته مع المتمردين الذين يقاتلون الحكم البريطاني غامضة.

كان الأخ الأكبر، غود والاس، مناضلاً من أجل الحرية. أما الأخ الآخر، كاباي، فقد انحاز إلى البريطانيين، وكان الثالث، تومبو، مخبراً للشرطة - وهو نشاط ألهم رواية "حبة قمح"، ثالث روايات السيد نغوجي. أما الأخ الآخر، جيتوغو، فقد قُتل برصاصة في ظهره على يد القوات البريطانية بعد أن رفض التوقف عندما أُمر بذلك لأنه كان أصمًا.

بعد دراسته في أليانس، التحق السيد نغوجي بجامعة ماكاريري في أوغندا المجاورة، والتي كانت آنذاك مركزًا ثقافيًا وفكريًا لأفريقيا الناشئة ذات الدول المستقلة. وفي ماكاريري، بدأ بروزه ككاتب. وقد سجل هذه الفترة من حياته في مذكرات بعنوان "ميلاد حائك الأحلام"، نُشرت عام ٢٠١٦.

وفي مقال لها في مجلة تايمز بوك ريفيو، قالت الكاتبة البريطانية ميشيلا رونج إن رواية "ميلاد ناسج الأحلام" أظهرت للسيد نجوجي كيف وجد "صوته الإبداعي كما وجدت القارة حريتها".

كتبت: "إن القناعات التي يُكوّنها ستدوم مدى الحياة: السعي وراء الكرامة الأفريقية وتحقيق الذات، ورفض الهيمنة الغربية، ودعوةٌ مُلهمة للأفارقة لسرد قصصهم بلغاتهم الأصلية". وقد شكّلت بعض هذه التصورات أساس أعماله، بما في ذلك عمله الشهير "بتلات الدم" (1977)، الذي ألقى ضوءًا ساطعًا على حقبة ما بعد الاستعمار.

ظل السيد نغوجي يحمل اسم معموديته الغربي، جيمس نغوجي، حتى بعد نشر كتابه "حبة قمح" عام ١٩٦٧. وبحلول عام ١٩٧٠، كان قد اتخذ اسم نغوجي وا تيونغو تعبيرًا عن تراثه وهويته الأفريقية، تماشيًا مع قراره الكتابة بلغته الأم فقط. ترجم معظم أعماله من لغة الجيكويو إلى الإنجليزية، محققًا بذلك انتشارًا واسعًا.

كان قراره بالكتابة بلغة الجيكويو حاسمًا في مسار إنتاجه اللاحق.في عام ١٩٧٧، شارك في تأليف مسرحية "نجاهيكا نديندا"، وهي دراما بلغة الجيكويو بعنوان "سأتزوج متى شئت" مع الكاتب نغوجي وا ميري. عُرضت المسرحية في مسرح شعبي مفتوح، وشارك فيها كينيون عاديون. وحققت المسرحية نجاحًا باهرًا لمدة ستة أسابيع، لكن السلطات قررت هدم المسرح وسجن المؤلف دون محاكمة.

كانت تلك بداية العام الذي ألّف فيه السيد نغوجي رواية "الشيطان على الصليب" على ورق التواليت. كما أثمر سجنه عن يوميات سجن، نُشرت عام ١٩٨٠ بعنوان "معتقل"، مما عزز مكانته ككاتب وناشط يسعى إلى تعزيز شعور أفريقيا بحريتها.

بعد إطلاق سراحه ورحلته إلى المنفى، كان السيد نغوجي زائرًا نادرًا لكينيا، حيث ازدهرت شهرته العالمية.

مع رواية "ساحر الغراب"، الصادرة باللغة الإنجليزية عام ٢٠٠٦، والتي تدور أحداثها في أرض أفريقية خيالية تُدعى أبوريريا، حلّقَ السيد نغوجي فوق القارة الأفريقية بأكملها، واستنشق الروائح الكريهة المتصاعدة في الهواء، كما قال جيف تورنتين في مراجعة لصحيفة التايمز. لكنه أضاف: "من ذلك الارتفاع، يمكنه أيضًا أن يرى بوادر أمل أكبر: حشود غفيرة تتجمع، تتشارك قصص النصر، وتُلقي التعاويذ".

***

........................

* نيويورك تايمز بتصرف

يعدّ جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي.. اشهر شاعرين على المستوى العراقي والعربي في زمانهما.. النصف الأول من القرن العشرين. والجميل انهما ولدا وتوفيا في زمنين متقاربين، فالزهاوي ولد وتوفى في (1863-1936) والرصافي ولد وتوفى في (1875- 1945). وعاشا عمرين متقاربين ايضا، الزهاوي (73) سنة، والرصافي (70) سنة!.. وكلاهما من اصول كردية. والاغرب ان الزهاوي لم يلد والرصافي لم يخلف ايضا!.

والرصافي والزهاوي.. فيلسوفان ايضا، وكلاهما شغل مسؤوليات سياسية وثقافية وصحفية وتربوية، وكلاهما يعدّان شاعران متمردان على المفاهيم العقائدية والفهم الخاطيء للدين في قضايا اجتماعية مثل تحرير المرأة.. فضلا عن تمردهما على الاحتلالين التركي والانجليزي.

ويمتاز الزهاوي بأنه كان له اكثر من مجلس يحفل بأهل العلم والأدب، أحدها في مقهى الشط، وآخر يقيمه عصر كل يوم في قهوة رشيد حميد في الباب الشرقي من بغداد، وثالث اتخذه بآخر أيامه في مقهى أمين بشارع الرشيد وعرفت هذه القهوة فيما بعد بمقهى الزهاوي.. يلتقي فيه كبار الشعراء والأدباء، كانت مجالسه لا تخلو من أدب ومساجلة ونكات ومداعبات شعرية.. ويذكر معاصروه بأن للزهاوي كانت كلمة الفصل عند كل مناقشة ومناظرة. وفيه والرصافي قال عنهما الشيخ إبراهيم أفندي الراوي:

(مقال صحيح إن في الشعر حكمة وما كل شعر في الحقيقة محكم

وأشعر أهل الأرض عندي بلا مرا جميل الزهاوي والرصافي المقدم)

والتساؤل:

ما دام كلاهما بهذه المواصفات الراقية.. فلماذا هما ضدان نقيضان؟!

الجواب.. سيكولوجي خالص!.. نحدده بثلاثة،

الأول: حسد.. وظيفي. فالرصافي يحسد الزهاوي لأنه اختير نائبا في مجلس المبعوثان العثماني، ونائبا في مجلس النواب ثم عين في مجلس الأعيان.

والثاني: التنافس الشعري. تتحكم بالشعراء الكبار سيكولوجيا الصراع في التنافس على القمّة في الموهبة الشعرية. فالزهاوي وجد في الرصافي منافسا يمتلك موهبة في الشعر يراها أبلغ من موهبته. دليل ذلك أن رفائيل بطي يذكر في كتابه (ذاكره عراقية) موقفا طريفا (مضحكا) ان الزهاوي اشترط لتنظيم قصيدة يتلوها في حفلة التكريم لعبد العزيز الثعالبي ان لا ينشد الرصافي شيئا في الحفلة.

والثالث: تضاد في تركيبة الشخصية.. فالرصافي يوصف بانه شجاع في معارضته للسلطة وأنه كريم، فيما يوصف الزهاوي بانه جبان في موقفه من الحكومة.ومع ذلك، فانه كان وطنيا، فحين قامت السلطة بالقاء الأحرار في السجون ومن ثم تنفيذ أحكام الإعدام بهم.. نظم قصيدة في تحيّة الشهداء مطلعها:

(على كل عود صاحب وخليل وفي كل بيت رنة وعويل).

الغيرة عند الشعراء.. غلاّبه!

مع ان الغيرة تحمل مشاعر الكراهية الناجمة عن حسد شخص آخر ينافسه في مال، مركز وظيفي، موهبة.. فان شاعرنا الزهاوي انشد في الحفل الكبير للترحيب بالرصافي لمناسبة عودته الى بغداد بعد نفيه بسبب هجومه على النجليز والحكومة في قصيدة طويلة قال فيها:

لقد عاد معروف أخي بعد غيبة

فأهلاً برب الفضل والأدب الوفر

كلانا يريد الحق فيما يقوله

وإني وإياه إلى غاية نجري

فخذ بيدي اللهمّ في كل دعوة

وهذا أخي معروف اشدد به أزري.

فهو بدأها بأن وصف معروف بـ(اخي).. وساوى بينه ومعروف بأن كليهما يجريان لغاية واحدة، الا انه جعل من نفسه هو (القائد) لتحقيق تلك الغاية ومعروف سنده!، ما يعني ان الغيرة غلاّبه عند الشعراء مهما كانوا عظماء. ورغم ان بيته الأخير أثار اعصاب المحتفى، لكن الرصافي صبر وأظهر حلمه.

تضّخم الأنا مقابل حب الأنا

لدينا مصطلحان سيكولوجيا يخصان (أنا) الشخص هما تضخم الأنا و حب الأنا نوجز صفاتهما بالاتي:

يعني " تضخّم الأنا " حالة عصابية " مرضيه " تجمع صفات في " توليفة " من ثلاث شخصيات مختلفة هي: النرجسية والتسلطية والاحتوائية. فهي تأخذ من الشخصية النرجسية حاجتها القسرية إلى الإعجاب، ز ان يكون المميز الأبرز بعيون جماعته، والتظاهر بامتلاكه قدرات فريدة لا يمتلكها منافسوه.

ويأخذ من الشخصية التسلطية، انفعالاتها الغاضبة واندفاعيتها، وتصنيفها الناس بثنائية الأصدقاء مقابل الأعداء، وتصرفها بالتعالي والعجرفة نحو من هم أقل منه منزلة. وتأخذ من الشخصية الاحتوائية السعي إلى السيطرة على الآخرين واحتواء وجودهم المعنوي وأفكارهم.

ولقد تبين ان معظم هذه الصفات تنطبق على شخصية الشاعر الزهاوي، فهو باعتراف من عاصروه (يعتبر نفسه ملكا يجلس على عرش الشعر والثقافة). وعنه يقول الدكتور ناصر الحاني " ان الزهاوي كان واسع الخيال وشديد الحساسية كما كان شديد الاعتداد بنفسه وكثير الاعجاب بشعره ولذلك كان ينفعل من الانتقاد ويعتبره بمثابة الاضطهاد وكان يعتقد انه ضائع ومضطهد في بلاده حتى انه كان يتوهم احيانا ان حياته معرضة للخطر."

اما الرصافي فهو يمتاز بـ(حب الأنا).. ويعني سيكولوجيا ذلك الذي يعتز بقدراته ومواهبه ويعمل على تطويرها وتنميتها دون التعالي على الآخرين او التقليل من قيمهم الأعتبارية ، وهذا ما اتصف به الرصافي.

الطيبة.. غلاّبة!

تقدم لنا حكاية اشهر شاعرين نقيضين ضدين ان طيبة القلوب تهزم الحسد والتنافس. فحين توفي الزهاوي (23 شباط 1936) كان الرصافي في طليعة المشيعين وبكى بشدة، وارتجل قائلا:

أيها الفيلسوف قد عشت مضنى

مثل ميت وصرت بالموت حيا

فيما كانت نهاية حياة الرصافي في حال آخر، اذ يذكر الدكتور يوسف عز الدين "ان الرصافي لم ينل ما كان يطمح اليه في وظيفة تعادل مكانته الادبية الكبيرة واحس بالظلم الكبير في الحياة والعمل والاهمال في المكانة الاجتماعية فاضطربت حياته واهتزت اماله وقاسى نفسيا واضطرب روحيا".والمؤسف ان نهاية حياته كانت مؤلمة جدا، فقد مات فقيرا معدما، فبرغم انه كان عضوا في البرلمان العراقي فانه عمل في نهاية حياته في محل لبيع التبغ في بغداد وتوفىَ بدارهِ في محلة السفينة في الأعظمية في (16 آذار 1945) وشيع بموكب مهيب سار فيهِ الأدباء والأعيان ورجال الصحافة ودفن في مقبرة الخيزران.. يذكرنا بما قاله الزهاوي:

(انهم لا يرون من قومهم برّا ولا تقديرا وهم احياء

واذا ما لقوا الردى فعليهم يكثر الحزن والبكاء

تلك اخلاقهم وقد ورثتها سننا من ابائنا الابناء)

وهذا ما هو حاصل الآن.. ليس فقط لكبار الأدباء والشعراء، بل ولكبار المفكرين والعلماء ايضا!.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

بعد قرن من إصدار رواية "مدام دالاوي"

مسوَّدة رواية "مدام دالاوي": كيف بدأت فرجينيا وولف تحفتها الأدبية

"يجب أن يكون هناك شيء من المتعة–"

بقلم: مارك هَاسي

ترجمة: د. محمد غنيم

***

كانت فرجينيا وولف كاتبة فوضوية. فمسوداتها التي لا تزال باقية كثيرًا ما تحمل بقع رماد السجائر أو آثار أقدام كلب. أما الطاولات الخشبية الكبيرة التي كانت تفضل استخدامها في غرف الكتابة، فكانت مغطاة بالمخطوطات، وزجاجات الحبر، ومنفضات السجائر المملوءة، والدفاتر التي كانت تصنعها بنفسها، حيث كانت ترسم هامشًا على كل صفحة بقلم أزرق سميك. لكنها لم تكن تكتب على الطاولة، بل كانت تجلس كل صباح على كرسي واطئ، وتضع على ركبتيها لوحًا ثبتت عليه حامل حبر، لتسند عليه الدفتر الذي تكتب فيه مسوداتها. وكانت تتابع سير عملها بتأريخ ما كتبته كل يوم، وأحيانًا تُحصي عدد الكلمات التي كتبتها، وتُسجّل المكان الذي كانت فيه حين كتبت مقطعًا معينًا.

وفي فترة بعد الظهر، كانت تقوم بطباعة ما كتبته يدويًا في الصباح، ثم تراجعه يدويًا، قبل أن تعيد طباعته حتى تصبح الصفحات جاهزة لإرسالها إلى كاتبة طابعة محترفة ومنها إلى المطبعة. وكانت تواصل التنقيح حتى في مرحلة بروفات الطباعة – وهو امتياز أتاحه لها كونها ناشرة نفسها.

كانت فرجينيا وولف كاتبة فوضوية

كانت حياة ليونارد وفرجينيا وولف تسير وفق إيقاع تحدده أعمالهما وتنقلاتهما بين منازلهما في لندن ومنزلهما الريفي. كُتبت رواية مدام دالاوي في ثلاثة أماكن: منزل "مونكز هاوس" في قرية رودميل بمقاطعة سَسِكس، و"هوغارث هاوس" في شارع بارادايس في ريتشموند، و52 ميدان تافيستوك في منطقة بلومزبري. قبل سنوات من أن تستقر هي أو أختها في منازلهما الريفية في سَسِكس، كانت فرجينيا تتخيل لڤانيسا ملاذًا ريفيًا فيه "كوخ صغير بين الأشجار عند أسفل الحديقة". في ذلك الكوخ المتخيَّل، كانت فرجينيا تأمل أن يكون لها غرفة فيها طاولة وكتب ومرآة و"خزانة عجيبة مليئة بالأدراج الصغيرة" يفتّش فيها أطفال أختها عن الأسرار.

لم تمتلك وولف غرفة في بيت أختها قط، لكن في صيف عام 1921 كانت في غاية السعادة حين كتبت أن ليونارد وهي يقومان بتحويل سقيفة أدوات في "مونكز هاوس" إلى غرفة في الحديقة. كانت ستُزوّد بنافذة كبيرة تطل على المروج الممتدة في "ساوث داونز" وصولًا إلى جبل كابورن. وفي تلك الغرفة بالحديقة، في أغسطس 1922، كتبت وولف في يومياتها بعض الخطط للعمل الذي كانت تأمل إنجازه في ذلك الصيف قبل العودة إلى ريتشموند في الخريف. وفي الخامس من أكتوبر، عادت هي وليونارد إلى لندن بالقطار من بلدة لويس، وفي اليوم التالي فتحت صفحة جديدة في أحد الدفاتر التي كانت قد صاغت فيها روايتها الثالثة غرفة يعقوب، لتدوّن بعض الأفكار عن "كتاب ربما يُسمّى في البيت أو الحفلة".

كانت غرفة يعقوب على وشك أن تُنشر، لكن ذهن وولف كان مليئًا بأفكار لروايتها التالية. كانت تنوي أن تكون كتابًا قصيرًا ينتهي بحفلة. أما الفصل الأول، فسيستند إلى قصة انتهت لتوّها من كتابتها بعنوان "مدام دالاوي في شارع بوند". وكانت ترى أنه يمكن أن تليها قصة أخرى كانت تعمل عليها، بعنوان "رئيس الوزراء".

ولكن، إن كان كتّاب الحداثة قد علمونا شيئًا، فهو أن تجربتنا للزمن نادرًا ما تكون خطية؛ فأسفل كل لحظة حاضرة، تجري تيارات الذاكرة بعمق. وولف نفسها كتبت أن الحياة "ليست سلسلة من مصابيح الغاز مرتبة ترتيبًا متماثلًا"، بل أقرب إلى "هالة مضيئة... تحيط بنا من لحظة الوعي الأولى إلى آخره". لذا، على الرغم من أن هذا المخطط في دفترها يمثل بداية تخطيطها لروايتها المقبلة، وتجميعًا للأفكار التي ظلت تتخمر في ذهنها لبعض الوقت، فإن من غير الدقيق اعتبار ذلك بداية رواية مدام دالاوي.

يمكننا تحديد العديد من المصادر التي ساهمت في تشكيل العالم الذي خلقته وولف في روايتها الرابعة، لكن لا يمكن الإشارة إلى إلهام أصلي محدد. فالشخصيات التي تسكن لندن في يوم من أيام يونيو عام 1923 – اليوم الذي تقيم فيه كلاريسا دالاوي حفلة وينهي فيه سيبتيموس وارن سميث حياته – خرجت من خيال الكاتبة، مُتشبعة بذكرياتها عن نشأتها في كنسينجتون، وعن تجربة الحرب العالمية الأولى، وعن انكساراتها النفسية، بل وحتى، كما تقول كلاريسا في الرواية، عن "أناس لم تتحدث إليهم قط، امرأة في الشارع، رجل خلف منضدة – بل وحتى الأشجار أو الحظائر."

في الوقت الذي بدأت فيه رواية مدام دالاوي تتبلور، لم يكن قد مضى سوى وقت قصير على بدء فرجينيا وولف في الشعور بالثقة ككاتبة، رغم أنها كانت تمارس الكتابة منذ عقدين. فعندما قرأ ليونارد المسوّدة المطبوعة لرواية غرفة يعقوب في أحد أيام صيف عام 1922، قال لها إنها "عمل عبقري." وكتبت هي في يومياتها أنها أخيرًا اكتشفت "كيف أبدأ (في سن الأربعين) قول شيء بصوتي الخاص."

وبعد غرفة يعقوب، شعرت فرجينا وولف أنها قادرة على الاستمرار في الكتابة دون الحاجة إلى الإطراء. كانت متحمّسة لتحدي تحويل القصص القصيرة التجريبية التي بدأت تكتبها منذ عام 1917 إلى شكل روائي أطول، وقد بيّنت لها غرفة يعقوب كيف يمكنها القيام بذلك.

وكتبت هي في يومياتها أنها أخيرًا اكتشفت " كيف أبدأ (في سن الأربعين) قول شيء بصوتي الخاص."

عندما فكرت فى كتابة غرفة يعقوب عام 1920، كانت وولف قد نشرت بالفعل روايتين تُعدّان تقليديتين إلى حدّ ما (رغم أن الحبكة الظاهرية حول الزواج في روايتها الأولى الخروج في رحلة تخرج عن مسارها بسبب الوفاة المبكرة لبطلتها)، بالإضافة إلى عشرات المقالات والمراجعات، وكانت أيضًا الشريكة المؤسسة لمطبعة "هوجارث برس". أطلقت فرجينيا وليونارد المطبعة بمنشور صغير يحتوي على قصة لكل منهما: "العلامة على الجدار" لفرجينيا، و"ثلاثة يهود" لليونارد.

وبينما كانت تبدأ في التفكير بالعمل الذي سيصبح لاحقًا غرفة يعقوب، كانت وولف تعيد قراءة روايتيها الأولى والثانية، إذ كان ناشر أمريكي قد وافق للتو على إصدار الروايتين في الولايات المتحدة (وكانتا قد نُشرتا في بريطانيا من قبل دار "داكوورث"، وهي الدار التي أسسها أخوها غير الشقيق جيرالد). وطلبت من أصدقائها أن ينبهوها إلى أية أخطاء مطبعية قبل أن تُرسل الكتابين إلى أمريكا. وقد أسعدها تعليق ليتون ستراشي حين قال، بعد إعادة قراءته الخروج في رحلة، إنه وجدها "رائعة للغاية"، وأعجبه على وجه الخصوص "سُخريتك من آل دالاوي".

تظهر كلاريسا دالاوي، أشهر شخصيات وولف، بشكل عابر لكنه لافت للنظر في رواية الخروج في رحلة، حيث تبدو شخصية ساحرة ترافق زوجها السياسي ريتشارد على متن سفينة تجارية متجهة إلى أمريكا الجنوبية. كشفت وولف لشقيقتها فانيسا بيل أن كلاريسا مستوحاة من صديقة لهما في الصبا تُدعى كيتي ماكسي (المعروفة قبل الزواج باسم لوشينجتون).وقد ذكرت وولف في مذكّراتها كيف أن مائدة الشاي في بيت والديها الشاهق في 22 شارع هايد بارك جيت كانت "مُفعمة بسيل آسر من الجمال الأنثوي"، وكانت كيتي لوشينجتون بلا شك "النموذج الأكمل للظرافة والرقة والسحر والتميز".

كانت كيتي من بين الذين رفضوا انتقال الأخوين ستيفن الصغيرين إلى بلومزبري عام ١٩٠٤ بعد وفاة والدهم، الأديب البارز في أواخر العصر الفيكتوري، السير ليزلي ستيفن.  وعبر الأحاديث المتناقلة، سمعت وولف أن كيتي لم تُعجب بروايتها الثانية "ليل ونهار" — وهو أمر رأى فيه ليونارد بسخرية مديحًا لا بأس به.

جاء نص صفحة الدفتر كما يلي:

6 أكتوبر 1922. أفكار حول بدء كتاب قد يُدعى، ربما، في البيت أو الحفلة:

سيكون هذا كتابًا قصيرًا يتألف من ستة أو سبعة فصول، كل فصل مكتمل بذاته، ومع ذلك لا بد من وجود نوع من الاندماج. ويجب أن تتقاطع جميعها عند الحفلة في النهاية.

فكرتي هي أن أضم بعض الشخصيات البارزة جدًا [ ] مثل مدام دالاوي: ثم أن أُدرج فواصل من التأمل، أو التفكير، أو استطرادات قصيرة (يجب أن تكون مترابطة منطقيًا مع البقية) كلها مضغوطة، ولكن دون فجاجة أو انقطاع مفاجئ.

قد تكون الفصول على النحو التالي..

1.  مدام دالاوي في شارع بوند.

2.  رئيس الوزراء.

3.  الأجداد.

4.  حوار.

5.  العجائز.

6.  منزل ريفي؟

7.  زهور مقطوفة.

8.  الحفلة.

فصل واحد على الأقل، يُفترض إنجازه في غضون شهر تقريبًا: لكن هذه الخطة ينبغي أن تتيح صفحات قصيرة جدًا: فواصل، لا فصول كاملة. يجب أن يكون هناك شيء من المتعة –"

***

..........................

* كتاب" مدام دالاوي: سيرة رواية " من تأليف مارك هَاسي سيصدر عن منشورات جامعة مانشستر في 8 يوليو  2025

الكاتب: مارك هاسي/Mark hussey: مارك هاسي أستاذ فخري متميز للغة الإنجليزية في جامعة بيس بنيويورك. وهو المحرر المؤسس لمجلة وولف للدراسات السنوية، والمحرر العام لطبعة هاركورت المشروحة لأعمال فرجينيا وولف، التي حرر فيها كتاب "إلى الفنار". من بين منشوراته الأخيرة: كليف بيل ونشأة الحداثة (2022) وثقافات الطباعة في الحداثة (بالتعاون مع فاي هاميل، 2016).

رابط المقال:

https://lithub.com/drafting-mrs-dalloway-how-virginia-woolf-started-her-masterpiece?utm_source=Klaviyo&utm_medium=campaign&utm_id=01JVDGF55ZHQQQE28NEK6V8VQR&_kx=_eGnyKxvjY2rMrVvfreS1xdg_SmcF30VCoAeDX7bLW_r_9jh1wKtlgq1-Wn30M41.U5D8ER

عن 87 عاما رحل، أمس الأربعاء، الكاتب الكيني نغوجي وا ثيونغو، صاحب الملحمة الروائية تويجات الدم التي ترجمها الى العربية سعدي يوسف، وكان من المتوقع أن يفوز نغوجي بجائزة نوبل في الأدب، لكن الجائزة في كل عام تترك معجبيه يشعرون بالأسى والاستغراب وهم يشاهدون الجائزة الكبرى تفلت من بين أصابعه. في واحدة من السنوات توقع الجميع ان يحصل نغوجي على الجائزة، لم يكن هناك منافساً له، وقد انتظرت مجموعة من الصحفيين أمام منزله. وعندما لم يفز، خرج الى الصجفيين ليواسيهم ويفدم له الشاي والكعك.

في السنوات الاخيرة من حياته خيم الموت على نغوجي وا ثيونغو، تم تشخيص إصابته بسرطان البروستاتا، والذي نجا منه، على الرغم من توقعات الاطباء التي أعطته ثلاثة أشهر للعيش. قال انه أضاف السرطان إلى القائمة الطويلة من الصراعات التي تغلب عليها.في عام 2019، خضع لعملية جراحية في القلب، و في نفس العامبدأ يعاني من الفشل الكلوي الذي اودى بحياة احد اخوته. قال ان القصة القصيرة تستهويه جدا، فاول اعمالة الادبية مجموعة قصصية بعنوان "دقائق المجد"، التي اعتبرها النقاد نوع من "السيرة الذاتية الأدبية".

عندما كان نغوجي طالبًا جامعيًا في أوغندا في أوائل الستينيات، كان من كبار المعجبين بالكاتب النيجيري تشينوا أتشيبي صاحب الرواية الشهيرة " الاشياء تتداعى ": " في أحد الأيام التقىت أتشيبي كنت شديد الفرح لدرجة أنني لم اكن اعرف ماذا افعل.يضيف نجوجي: "قلت له لقد كتبت قصة قصيرة - هل ترغب في النظر إليها؟" قال: "نعم! هل لديك؟" وبالطبع لم يكن معي الأمر، لمجرد أنني لم أكتب كتابًا، وفي تلك الليلة عدت إلى البيت، واضطررت لتلفيق ما يسمى بالقصة ".، بعد سنوات سيرسل تشينوا أتشيبي مخطوطة رواية نغوجي الأولى " لا تبكِ ايها الطفل " – ترجمتها الى العربية امينة الحسن – الى ناشره الانكليزي لتصدر عام 1964 ونحظى باشادة النقاد، وستصفه صحيفة التايمز البريطانية بانه "واحد من كُتّاب أفريقيا المعاصرين".

تاخذتا اعمال نجوجي وا ثيونغو القصصية والروائية لنتعرف على الواقع القاسي لحياة القرية من خلال التغييرات التي جاءت مع نهاية الحكم الاستعماري البريطاني لكينيا، كان يأمل ان يتحول الاستقلال الى حياة جديدة: "لقد أصبح مجيء الاستقلال وعدًا بحياة أفضل من أجل الجميع، ليس فقط عدد قليل من الناس، ولكن بالنسبة للجميع، لكن بعد الاستقلال، بدأت أرى أن هناك نوعًا من الاختلاف بين التوقع والواقع. وحاولت أن أوضح ذلك في قصصي القصيرة".

في معظم اعماله الروائية والقصصية يطرح نغوجي موضوعة الاتصال بالأرض التي نجدها في معظم اعماله كانت روايات نجوجي التي كتبها في البداية بالانكليزية غالباً ما تنتقد الاوضاع في كينيا ما بعد الاستعمار وحكامها. لكنه يقول إنه ما ان كتب بلغته الأم حتى تم تهديده واعتقاله: " المسرحية الأولى التي كتبتها بلغتي الأم، وضعت بسببها في سجن شديد الحراسة، ليس من قبل حكومة استعمارية، بل من قبل حكومة أفريقية تدعي انها وطنية ".، أثناء وجوده في السجن، كتب نغوجي روايته الأولى بلغته المحلية، وقد كتب الرواية على ورق التواليت حيث كان ممنوع عليه ادخال الورق والاقلام الى السجن: " ورق التواليت الذي كنت استخدمه في الكتابة لم يكن من النوع اللطيف الذي نشاهده في التلفزيون، لذلك كانت الكتابة عليه صعبة للغاية "، بعد خروجه من السجن، ذهب نغوجي إلى المنفى، حيث عاش أولاً في إنكلترا ثم في الولايات المتحدة حتى رحيله، رفض ان يمنح الجنسية الامريكية قال للصحفيين ذات يوم: " لا أريد أن أفقد جنسيتي الكينية. أحب أمريكا، ويعجبني تمثيل جميع الطوائف والأديان تقريبًا في العالم هنا بشكل أو بآخر. أُعجب بانفتاحها، وبتوازناتها. لكنني لا أحب الإمبريالية الأمريكية ودورها في العالم. أجد معاملة الأمريكيين من أصل أفريقي هنا، والسود عمومًا، مُقلقة للغاية ".

رغم أنه لم يعيش في كينيا منذ مدة طويلة، إلا أنه ما زال يكتب عنها، يقول إن العيش في المنفى نوع مختلف من السجن: " السجن مثل المنفى الداخلي والنفي مثل السجن الخارجي، وكلاهما يمثلان نفس التحديات. كيف تتواصل مع الأشخاص الذين انفصلت عنهم؟ في السجن كتبت رواية وفي المنفى أحاول أن أفعل نفس الشيء، لمحاولة الاتصال بكينيا، من خلال مخيلتي، من خلال كتابتي ".

أما بالنسبة لجائزة نوبل التي يسميها المراوغة، فإن نغوجي يجدها أكثر تسلية من أي شيء آخر. إنه مهتم أكثر بما يسميه "نوبل القلب": "عندما أذهب إلى مكان، وألتقي بشخص ما، ويخبرني أن روايتك أو قصتك القصيرة أثرت في حياتي، هذه لحظة خاصة للغاية عندما أشعر انني كاتب مؤثر في الناس فاقول لنفسي، كان الأمر يستحق ذلك، هذا ما أسميه نوبل القلب، وأنا أقدر ذلك حقًا، " ويضيف: " اهمية نوبل القلب هو أن كل كاتب يمكن أن يحصل عليها، نعم؟"

وُلد نعوجي في عام 1938، وهو ابن مزارع مستأجر في كينيا التي كانت تحتلها بريطانيا، اطلق نداءه المهم الذي قال فيه إن على الأفارقة أن يكتبوا بلغاتهم الأم كجزء من حملة التحرر من القيود العقلية للاستعمار.كان قرار نجوجي بالابتعاد عن اللغة الإنكيزية قرارًا شجاعًا بالنسبة لكاتب ينحدر من إفريقيا، وهي قارة غالباً ما كانت تعتبر غير مهمة بالنسبة للعالم ولغاتها غير مفهومة. كان من الممكن أن يؤدي قراره هذا إلى اختفائه من المسرح الادبي العالمي، ولكنه بدلاً من ذلك عزز سمعته ككاتب من الطراز الاول: "نحن ملتزمون بشدة بقوميتنا المناهضة للاستعمار، وهذا أمر مهم بالنسبة لنا، ولكن الجيل الأصغر سناً تجده لا يحصر شخصياته بالضرورة في إفريقيا. إنهم سعداء جدًا بإحضار شخصيات من أعراق أخرى، وهكذا... هذا أمر جيد لأنهم يكبرون في عالم متعدد الثقافات. "

كتب نغوجي ثلاثة مجلدات من المذكرات، عائدًا إلى الفترات التي غطاها في رواياته. الأولى، "أحلام في زمن الحرب" – ترجمتها الى العربية الروائية لطفية الدليمي ونشرت متسلسلة في صحيفة المدى - تبدأ بأجداده خلال مؤتمر برلين في عام 1885 عندما قسمت البلدان الأوروبية إفريقيا بينها، ثم تحكي عن طفولته كمزارع بلا أرض. أما الجزء الثاني،  فيتحدث فيه عن سنواته في مدرسة داخلية تديرها بريطانيا بالقرب من نيروبي وكيف تم هدم منزل عائلته وسجن شقيقه في معسكر اعتقال بريطاني. يروي المجلد الثالث، "ولادة حلم"، السنوات الأربع التي قضاها في جامعة ماكيريري في أوغندا عندما اقتربت كينيا من الاستقلال وبدأ نجوجي في كتابة أعماله الأولى في الأدب.

يؤمن نغوجي ان " الكائنات البشرية تعارض الاعتراف باي مخطط في الوجود، وهو يرى ان الحوادث في حياته جاءت ضمن تسلسل مترابط، وهي التي حتمت عليه ان يقبل تحمل المسؤولية تجاه شعبه، وان لا يخاف من هذه المسؤولية ويؤكد " ان الاشياء التي حدثت في الماضي يجب ان تبقى في الماضي، فالمهم هو المستقبل "، ولكن نغوجي لايريدنا ان نهرب من الماضي بهذه السهولة، بل ان نعيش بدلا عن الضياع والفشل الذي يريد الماضي من خلاله ان يحول الحاضر الى سراب.

يرحل من بين جميع الكتاب بعد ان خذلته جائزة نوبل جائزة نوبل، إلا ان صوته سيقى الأكثر وضوحاً مثلما كتب هو نفسه عام 2005: "الكلمات المكتوبة يمكن أن تُغني أيضًا".

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

الصفحة 1 من 3

في المثقف اليوم