نصوص أدبية

نصوص أدبية

– إلى أين أنت ذاهب ؟ ألا تخشى شيئًا أيها الشاب .. إرجع إلى بيتك فورًا إرجع …

كان ذلك المساء قد تحدر من وراء الكثبان الرملية، التي بانت بلون العقيق اليماني القديم وهو يضفي مسحة من الجمال يصعب وصفها وخاصة حين يمتزج اللون البرتقالي المحْمَرْ للشمس وهي تختفي بين تلال الرمال المتموجة كالأفعى..

– ولكن، لماذا ياعم ؟

– إشششش، أسكت، لكي لا تسمعك أيها الأبله .. فهي في هذا الوقت تخرج .. لتجفف شعرها وتمشطه على حافة ذلك البئر.. ولكن ما ان تسمع دوي العجلات حتى تختفي في القعر .

– عن أية عجلات تتحدث، وعن أية فتاة تخرج لتجفف شعرها … قاطعه ..

– أسكت، ألا تسمع الدوي يقترب، إنها عجلات تدور وتلف ذهابًا وإيابًا نحو البئر، إنها لا تكف عن الدوران، ومن الصعب أن تعرف الأتجاهات من كثرة الخطوط والتقاطعات.. ولكن بحدسي أعرف من أين تبزغ الشمس وإلى أين تغرب .. أسمع جيدا أيها الشاب، في الليل تبدأ العربات تسير تحت جنح الظلام بسبب حرارة الرمل عند الظهيرة .. ولكنك لا تراها، رغم أنها تحمل فوانيس معلقة تتأرجح لتنير الطريق إلى البئر.. وفي الصباح لا ترى هناك سوى خطوط العجلات تتقاطع ورائحة نفاذة مقرفة سرعان ما تتناثر بفعل الرياح، ولكنك لا تعرف من أين جاءت وإلى أين ذهبت .. إنها محنة التيه في صحراء الذاكرة حين تغيب عنها الحقائق وتتجسدها الأشباح التي تحوم ليلاً حول البئر.

وقبل أن يفتح فمه ليسأل …

– إياك يابني أن تذهب إلى هناك، إياك ؟

وتابع يقول .. في الحقيقة أريد أن أهمس في اذنك .. عند الصباح لن ترى شيئا هناك سوى هالة تتحلق فوق الآبار لونها أبيض مغبر، وفي الليل لا ترى في السماء أثرًا للنجوم .. وإذا أردت أن تراها .. فهي تخرج عند الشفق وقبل الغسق تجفف شعرها وتمشطه لبضع دقائق ثم تختفي في القعر.!!

صعق الشاب وهو يستمع بدهشة عن عجلات ترسم خطوطا على الرمال وحورية تخرج من البئر لتمشط شعرها وهالة تحجب نجوم السماء في الليل.. وتساءل ..

– نعم فهمت ما تعنيه أيها العم … وقبل أن يكمل ..

– لا، إنك لم تفهم شيئًا أبدًا مما قلت .

– ولكن، كيف عرفت ذلك بحق السماء ؟

– لقد عرفت من شرودك ومن عينيك .. إنك أساسًا لم تكن معي لتفهم .. وعلى أي حال، هل تريد أن تفهم ؟

– نعم أريد أن أفهم، ولكن، قل لي ماذا تقصد بأن ألتزم الصمت وأن لا أجعلها تفزع وتختفي في جوف البئر.؟

– وهل تريد فعلاً أن تقترب منها؟

– نعم، أريد أن أراها وهي تجفف شعرها؟

– وهل أنت شغوف لرؤيتها ؟

– نعم ..!!

– ولكن، قد لا تكون جميلة .. قد تكون في هيئة لا تطاق؟

– ألم ترها أنت من قبل؟

– رأيت شبحها فقط ثم اختفى حين بدأ دوي العجلات يقترب.!!

– يقولون، وقبل أن يكمل …

– من هم ؟

– وجهاء القوم هناك .. أن هذا البئر قد ألقيت فيه الكثير من الجثث، حتى أن دماؤهم القانية طفحت وراحت تنساح بين الوديان والكثبان، وتلقفتها الرمال وابتلعتها في جوفها ولم يعد لها من أثر.. ولكن البئر ظل ساكنًا بالدماء القانية ثم تحول لونها إلى اللون الأسود، ومع ذلك قيل أنها تخرج لتجفف شعرها الفاحم كالليل البهيم .. هل فهمت ؟

أطرق رأسه إلى الأرض وأخذ يعبث بإصبعه في الرمال دون أن ينبس بكلمه …

– أاااه، ياإلهي، إنك لم تفهم شيئًا مما قلت .. لماذا يا بني، ماذا جرى لك؟

– فهمت ما ترمي إليه يا عم، ولكن أود أن أسألك هل العجلات التي تأتي مزدحمة صوب البئر تحمل براميل فارغة أم إنها عجلات فارغه لا تحمل غير الصرير؟

– الآن، أدخلت أصبعك في جحر الأفعى !!

– ولماذا تحتسب إن الأشارة هنا مخاطرة؟

– أسكت من فضلك أسكت .. لقد ظهرت الآن، دعها تكمل، ولم يتبق على هبوط الليل سوى دقائق معدودات قبل أن يقترب صرير العجلات لملء البراميل .. إن حارسة البئر لا تستطيع منعهم .. هل تعلم انهم لصوص محترفون.. يكتسحون الأسوار دون إعتراض .. قل لي، هل تعرف من دبر رمي جثث القتلى في قعر البئر طيلة هذه السنين الطوال حتى قبل أن تولد أنت وأنا ومن قبلنا، وهل تعلم متى تكف العجلات عن الصرير والدوران ليل نهار حول البئر؟!

– أعرف إنك بدأت تفهم، نعم، حين يختفي اللون الأسود من ذلك البئر؟

– ولكن كيف تعرف أن البئر لم يعد فيه شيئًا سوى الصدى وصفير الريح؟

– نعم، أعرف حين لمْ تعد جنية البئر تخرج لتجفف شعرها عند مغيب الشمس .

***

قصة قصيرة: د. جودت العاني

05/12/2023

 

يمتلك العالم الفضاء الشاسع، وأمتلك أنا حريتي هكذا علمتني الايام وانا أجوب فضاءات بلد الضباب.. لندن التي لم اكن اتخيلها إلا من خلال عيون أناسها، فبعد ان طفت الشوارع وميادين الساحات المليئة بالاشجار والاحراش والكثير من أصائص الزهور التي اجدها على الكثير من الشرفات، لاح لي شرفة جذبتني زهور اصائصها المنسقة بشكل يريح النفس مما دفعني للفضول كي أرى صاحبها او صاحبتها فلابد انه شخص مرهف الاحساس، فعمدت الى الركون على حافة سياج الشرفة انظر بحذر لربما صاحبها يمتلك قط أو كلب مدلل يفقد عقله حين يراني فيلتهمني.. على اية حال لحظات وانا اقترب شيئا فشيئا من الاصائص وجدت ان باب الشرفة مفتوح وهناك ليس بالبعيد عنها اريكة تجلس عليها سيدة تمسك كما يبدو لي كتاب بيد ومسبحة بيد أخرى.. فجأة ادركت انها ليس من أهل لندن، لابد انها عربية من خلال ما ترتديه، لقد أرتني الحياة حتى حين كنت صغيرة وأنا اجوب الاجواء مع أمي اشاهدهم يختلفون كثيرا عمن يعيشون ارض هذه البقعة من الارض.. لست هنا بصدد التمييز لكني شعرت أني وجدت ضالتي هكذا قالت لي نفسي..فنزلت بعد ان تأكدت ان هذه السيدة لا تمتلك اي حيوان أليف يمكن ان ينجس بيئتها النظيفة.. لا تستغربوا فإن الله جعلنا ندرك ونحس ونعلم لكن لا مجال للتحاور مع البشر إلا من خلال التعاطف او الإيحاء.. كما اوحى للنمل والنحل من قبل.. فليس معضلة او امر صعب..

شاءت الاقدار ان تنهض هذه السيدة وتتجه الى الشرفة، فطرت من امامها خوفا.. فوجدتها تتطلع لي بحنو ورغبة في التقرب مني.. ابتعدت في اجواء محيط شرفتها انظر الى ما تفعله، فوجدتها تمسك بابريق الماء تسقي الزهور التي كانت متراصة بشكل جميل وحسب الالوان منها الاحمر، البنفسجي ،الارزق والاصفر والابيض بدا لي انها في وسط عالم صنعته لنفسها كي تحياه عبقا مغاير لما تشمه من روائح مقرفة نتيجة عوادم السيارات المارة او من رطوبة الجو وبخار مجاري المياه الاسنة.. اعجبني تصرفها حين خرجت الى الشرفة كانت قد لبست الكمامة.. هذا يعني انها انسانة واعية هكذا عرفت عن العرب انهمم اناس يتطهرون في اوقات خمس كي يعبدوا الله الخالق.. لهم تسبيحهم كما لنا نحن معشر الطير والشجر والصخر وكل ما يمكن الانسان ان لا يتخيله هو يسبح لله.. سيدة يشع العطر منها كما يشع من الزهور حتى اني ما عدت اميز بين عطرها الذي ترتديه وعطور الزهور التي تعتني فيها بشكل يغريني لان اقترب واعايشها..

الغريب انها كانت تلاحظني وتحركاتي دون ان تشعرني بذلك، وسرعان ما وجدتها تضع لي صحن ممتلئ بالماء وبعض حبات من الرز.. لا تسألوني كيف اعرف ذلك؟ لاني اعرفه بالغريزة فعالمنا ايضا فيه انواع الاطايب او هكذا خُلقنا لا نأكل سوى الطيب من الطعام..

اسابيع مرت وانا في كل صباح اراها تطل مشرقة كما الشمس حين تفتح شباك شرفتها وبيدها قطعة من قماش فتقوم بمسح سطح ورق الزهور بعناية فائقة تمسح الندى كأنها دموع فاضت لمعاناة ما.. تعاملهم مثل اطفالها..لربما لأكثر من نصف ساعة او أكثر كنت انا قد تعودت على كرم ما تجود به ويزداد في كل مرة حتى تجرأت ودخلت فضاء بيتها فاستقريت الى نفس حافة الاريكة التي تجلس عليها لتشاهد ضوء الحياة وهي تناجي ربها الذي تعبد من خلال مسبحتها والادعية التي ترددها.. يا الله!! ما اجمل الانسان المؤمن بالله الممسبح له الذي يعترف بأنه مخلوق من أجل سبب لا تعلمه نفسه لكن بالتأكيد يعلمه من خلق تلك النفس.. الكثير من المرات اكون حزينة لأني اراها تتألم لما تعانيه من مرض علمت بذلك فلم امتلك سوى الدعاء لله، شكل يدفع انينها بي الى ان اطير احلق الى السماء ارجو من الله ان يرحمها ويخفف عنها بما تكرمني وبما تكرم تلك الزهور من عناية.. فكل ما تقوم به يجازيها الله عليه.. احببتها حتى بت اتجول في منزلها واغيضها في بعض المرات لكنها تعاملني بشكل ودود احببتها كثيرا حتى الزهور في تلك الاصائص قالت لي في ذات مساء، كنت قد تسللت اليها لاشم عبق انفاسها دون ان اشعر سيدتي .. نعم باتت سيدتي التي اعشق وهي تشرب فنجان القهوة التي تعده بنفسها بتؤدة ثم تجلس قبالة الشرفة بل في وسطها وهي تناجي ربها في قلبها.. يا الله ما اعظم صبرها ورضاها بقضاء الله وقدره.. ها انا اليوم وبعد عام ونصف برفقتها لم اجدها تغضب او تتململ، أو تسب او تشتم او رافضة معارضة قدرها.. بل مُسَلَمَة لخالقها بحمد وشكر، قانعة بإختبار الله لها احوالها، ما يريح نفسي اني احببت ان أصنع اسرتي الى جانبها كي تحظى بالطمأنينة فوجدت اصيص فارغ لم تستخدمه في شيء، فعمدت الى تهيئة عشي مع من احببت ان يكون رفيق حياتي.. الى ان فاجأتها وانا اجلس على افراخي.. رأيت السعادة على محياها وازداد اهتمامها بي وعنايتها لي.. فحدثتني الزهور وحتى الاصائص اننا نعيش حلم الحياة جنة بعيون سيدة مسلمة كأنها آية من تلك الآيات التي يصنعها الله كي تكون علامات واشارات ان الخير والسلام برغم الغربة وعذابها وفراق من نحب ضريبة لغاية لا يعلمها سوى من خلقنا بإرادته ووضع لنا الوسائل الغير محرمة للوصول الى الغايات التي من شأنها أن تجعل الحياة عالما مسالما رغم اشباح الوحدة ووساوس الشياطين، لكن أين للشيطان ان يجوب أناس تتطيبوا بعبق إلهي مرسل بنبي الرحمة وآل بيته الطيبين الطاهرين.

***

عبد الجبار الحمدي

فــي الـعَـدل،ِ تــزدهـرُ الأقــوامُ والأمـمُ

وفــي خُـطى الصَفْـوةِ، البغضاءُ تـنهـزِمُ

*

لاطـائـفـيّــة، لا تــفــريــقَ فــــي زمَــنٍ

قــد كـان رأيـُك، فـيــه الحَـسْـمُ والحَـكَـمُ

*

فـــي قـولِـك: الناسُ صِـنـفـان فـإمـا أخٌ

فـي الدِّينِ، أو فـي صفات الخَـلْقِ يَـتَّـسِـمُ

*

مـواقِــفٌ، شَــهـد الــتاريـــخُ رِفْــعَـتَـهـا

وخــلّـدَتْـهــا، بــقـرطـاسٍ لـهـا، الـقِــيَـمُ

*

لمّـا فـدَيْـتَ رســولَ الـلـه، مُــلـتَـحِــفــا

تصدّعَ الـقـومُ، حـــتى بــانَ مَــكـرُهُـمُ

*

وكــنــتَ، لـلخـلـفـاء الـراشــديـن، يَـداً

وناصراً، حــين تُـسْـتَـدعى بــك، الهِمَمُ

*

آنَـسْــتَ بــيـن قُــلـوب الـمســلـميـن، بما

أوصـى بــه الـلـهُ، لا زَيـْـفٌ ولا وَهَــمُ

*

مـــا دارَ طـرْفُــكَ، إلّا الـحَـقُ هـاجِـسُـهُ

والحـقُ صِنْـوُكَ، مـوصولٌ بـــه الـرَحِـمُ

*

لـلـتِّـبْـرِ أمْـنِــيــةٌ، فــــي أنْ تُــقَــلِــبَــه

يَــداك، حــيـث تَـباهـى الـسـيفُ والـقـلـمُ

*

حــتى السِــراجُ بـبـيـت الـمال صار لــه

حديثُ حــــقٍ، بـــه الأمـثـالُ تُـــخـتَــتَـمُ

*

أكــرَمْـتَ كــلَّ يـَـدٍ، الـعَـوْزُ ألجَـأهــا

حــتى وأنــت تُـصَلـي، نالـهـا الـكَــرَمُ

*

والـمَعْـنَـويَّـةُ قـــد فَــعَّـلــتَ هــاجِسَـهــا

فـي نَـفْـسِ مَـن قـد غزاهُ الوَهْـنُ والهَـرَمُ:

*

فـكان عـدلك، فــي قــوْمِ الـمسـيـح لـــه

صدىً يُــعـززُ فـــي الأخــلاق نهْـجَهُـمُ

*

لــِذي الـفــقـار اقــتـِرانٌ فــيــك، أرَّخَــهُ

مـا كـلُّ سـَــيـفٍ، بــه الهاماتُ تَــنْهَـدِمُ

*

بـه، قطعتَ جــذورَ الشِـركِ، مُـرتَـجِـزاً

واسـتسـلمَ الخَـصمُ، لا ســيـفٌ ولا عَـلـمُ

*

تَــزلزَلَ الخَـصمُ، فـــي (بَـدرٍ) وأرَّقَـهُـم

قـبـل الطِعـانِ فـتىً، فـانهـارَ عَــزمُــهُـمُ

*

طـيّـبتَ نَــفْــسَ رســول الله، حـيـن دعـا

في (خندق) الحَـسْـمِ، حيثُ الحربُ تَحتدِمُ

*

زَهْــوُ الـرؤوس تَـهـاوى بـَعـدَ مُـعـجِـزةٍ

بـ (بابِ خـيـبـرَ) أوْدَتْ، واخـتـفـتْ قـِـمَـمُ

*

إنّ الأنـاةَ ونــهْــجَ الحِـلـمِ، إنْ جُــمِـعَـتْ

كـما أشَــرْتَ، فـفـيـهــا الـعِــزُّ والــشمَـمُ

*

والصَّـمْتُ إنْ لاءَمَ الأجْواءَ، يَسْـمو بهـا

والـهَـذْرُ آخِـــرُه ... الإحْــبـاطُ والــنَـدَمُ

*

فـي سِــفْـرِ نَـهْـجِــك، للأجـيـال مَـدرسَــةٌ

تَـبْـني الـعُـقـولَ، وفــي أرجـائهــا نِـعَـمُ

*

الخُــلــدُ لــلــعـلــم، والآدابُ تَــصــحَــبـُـه

(أيـن الأسِـــرَّةُ،والـتـيـجـانُ)، والــخَــدَمُ

*

عَـقـلٌ بــلا أدبٍ، مِـثـلُ الشــجـاع بــلا

ســيـفٍ، وقــولـك هــذا مــنه نَـغْــتَــنِـمُ

*

بــلاغـة الـقـول، للـفـرســان مـوهـبـة

والمقـتـدون بـهــم يـسـمـو ســلـوكُـهُــمُ

*

بَـلغْـتَ فــــي صِـلةِ الأرحـام مَـرْتَــبَــةً

مَـن ســارَ سَــيْـرَك، لـم تَـعْـثـرْ به قَـدَمُ

*

طـمْأنْــتَ أنْــفُـــسَ أيــتـامٍ، جَـعـلـتَـهُــُم

يَــرَونَ فــيـك أبـاً، يـَـجْـلـي هُـمُـومَـهـُمُ

*

أوْصيْـتَ: أنْ يَسْـتَـشيرَ المرءُ مَنْ وثقتْ

بــهِ العُـقـولُ، ومَـنْ بالـرأي يـُــحــتَـرَمُ

*

لـمّا الخِـلافــةُ قــد حـيَّـتْـك قــلــتَ لـــهـم :

بــسـيرة المصطفى، الأجــواءُ تـنـسـجـمُ

*

ناديــتَ : إنّــي بــجُـلـبـابــي أتــيْــتُــكُــمُ

وفـــيـه أخـرُجُ، حيث الحــقُ والـنُـظُـمُ

*

اسْـتـهـدَفـوك بـبـيـت الــلـهِ، إذ غــدَروا

ما اسْـتمكـنوا منـك فـي حـربٍ، لها ضَرَمُ

*

إنّ الشــهـادةَ قـــد عَـــززّتَ رُتْـــبَــتَــهـــا

إذ قلتَ : فُــزْتُ، وفــــيما قُــلـتَــه قَـسَـمُ

*

العدلُ يَعْـلـو، فـطُـوبى لـلـذيـن سَــعَــوا

أنْ يَــقْــتَـدوا، لِــيَـزولَ الـظُـلْـمُ والـظـلَـَمُ

***

(من البسيط)

شعر عدنان عبد النبي البلداوي

حواريات الطب والأدب

دَعْنِي أُحَدِّثُ عَمَّا قِيلَ فِي العَرَبِ

يَا مَن تَأَرْجَحَ بَيْنَ الصِّدْقِ والرِّيَبِ

*

قَوْمي نِيَامٌ بِظِلِّ اليَأْسِ يُثْقِلُهُم

ذُلُّ الهَزيمَةِ فِي دَوّامَةِ العَطَبِ

*

مَا يَنْفَعُ الشِّعْرُ والْأَقْلامُ فِي وَطَنٍ

يَقْضي اسْتِعارًا كَفِعْلِ النّارِ بِالقَصَبِ

*

مَا يَنْفَعُ الصَّوْتُ والتَّهْريجُ فِي حَجَرٍ

أَوْ يَنْفَعُ الزَّهْوُ فِي أَرْحامِ ذِي الكُتُبِ

*

قَالُوا وَقَالُوا وَمَا زَالَتْ مَآثِرُنا

حَرْفًا تَمطَّى وَحرفًا صِيغَ مِنْ كَذِبِ

*

قَالُوا وَقَالُوا وَلَيْتَ الفِعْلَ دَيْدَنُنا

مَا فَرَّقَ القَوْمُ بَيْنَ الجِدِّ واللَّعِبِ

*

كُفّوا مَديحًا فَقَدْ مَلَّتْ قَرائِحُنا

وَمَلَّتِ الْعُودُ مِنْ طَنّانَةِ الطَّرَبِ

*

مَا أَنْتَ شَيْءٌ وَلَا واللَّهُ فِي مَلَأٍ

مَا صِرتَ شَيْئًا عَدَا مَا كَانَ مِنْ حَسَبِ

*

دَاءُ العُروبَةِ يَسْري فِيكَ مُذْ عُقِدَتْ

هَذِي النِّطَافُ، وَلَكِنْ دونَمَا غَضَبِ

*

كَانُوا وَكُنَّا ، وَهَذِي نَغْمَةٌ بَلِيَت

الصَّمْتُ أَمْثَلُ مِنْ نَفخٍ وَمِن لَجَبِ

*

هَلّا اعْتَذَرتَ مِنَ الأَيْتامِ فِي وَطَنٍ

مِنَ الضَّحَايَا إِذَا تُهْدَى إِلَى اللَّهَبِ

*

هَلّا نَظَرتَ شِفاهَ الطِّفْلِ إِذْ رَجَفَتْ

بَيْنَ الرُّفاتِ وَأَهْوَى الشَّيْخُ كَاَلحَطَبِ

*

تِلْكَ الوُجوهُ تَهَاوَتْ بَيْنَ حَيْرَتِها

حَتَّى أَصَابَتْ كِبارَ القَوْمِ بِالعَجَبِ

*

مَاذَا يَهِيجُكَ يَا ذَا البَأْسِ إِذْ صُدِعَتْ

مِنَّا القُلوبُ وَشِيبَ العَظْمُ بِالعَصَبِ

*

هَلْ أَرْعَبُوكَ بِقَتْلٍ؟ ذَاكَ مَقصَدُهمْ

خَارَتْ قُواكَ وَمَا أَعْذَرتَ فِي الطَّلَبِ

*

ظِلُّ الأَعاجِمِ يَبْقَى خَيْرَ مُرْتَكَنٍ

لِلْخَائِبِينَ، مَلَاذًا شِيدَ مِنْ كُثُبِ

*

أَنَّى غَضِبتُمْ، أَ غَيرُ المَوْتِ مَوْعِدُكُمْ؟

شَرُّ المَهالِكِ مَا كَانَتْ بِلَا سَبَبِ

*

فاخْتَرْ مِنَ المَوْتِ مَا تَحْيَا بِهِ أَبَدًا

عِنْدَ الكَريمِ فَغَيْرَ الخَيْرِ لَمْ يَهَبِ

*

صَمْتُ الكِبارِ إِذَا مَا فِتْنَةٌ صَدَحَتْ

عَارٌ عَلَيْهِمْ فَلَيْسَ الصَّمْتُ مِنْ ذَهَبِ

*

قُلتُم: صَبَرْنَا، وَعُقْبَى الصَّبْرِ مَرحمَةٌ

مَا نِلْتَ شَيْئًا وَفِي ذَا الأَمْرِ لَمْ تُصِبِ

*

صَبْرُ الكِبارِ عَلَى ضَيْمٍ وَمَنْقَصَةٍ

مِنَ الصَّغارِ بِغَيْرِ الذُّلِّ لَمْ يَـؤُبِ

*

صَبْرُ الحَكيمِ قَرارٌ صائِبٌ وَبِهِ

تَزْكُو النفوسُ وَتَبْدُو حِكْمَةُ الأَدَبِ

*

كَمْ قَدْ صَبْرَنا وَمَا نِيلَتْ مَطالِبُنا

حَتَّى وُطِئْنا مِنَ الأَقْرابِ والجُنُبِ

*

(صَكُّ المُرورِ) دَليلٌ فِي مَهَانَتِنَا

وَالأَعْجَمونَ كَأَهْلِ الدّارِ بِالرُّتَبِ

*

إِنِّي اشْتَفَيتُ فَلَا خَوْفٌ يُؤَرِّقُنِي

إِنِّي اكْتَفَيتُ مِنَ اَلْأَشْجانِ وَالكَأَبِ

*

لَا لَا تَلُمْنِي فَإِنِّي مِنْ أَسَى العَرَبِ

ذَابَ الفُؤادُ، فَصَمْتًا أَيُّهَا العَرَبي

***

بقلم: د.علي الطائي

أنت الآن وحدك

ووحدك الآن أنت

حجر في صحراء منسية، بلا أنس أو أنيس

موجة في نواة عاصفة مخنوقة بالملح

تطحنها الرياح ويفتتها الرذاذ

وردة يتيمة في جليد، تلفحها سوافي الثلوج

تجمدها البرودة، فيكسرها النباح

يحملها مجهول في قوس قزح

يواريها سُدًى عبثي الملامح

حولك الضباب والرماد والفراغ

الضياع والتيه والخواء

خلو وغياب وخلاء

كأنك بلا جذر، بلا جذع، وفرع وساق

بلا رجل أو ساعد، بلا زند ولا متن

ظِل يسير في ظلام

هكذا تقول عنك البوم يوم زواجها

وهكذا يوم رحيلها تعرفك الغربان

**

أنت الآن وحدك

بلا قلب بلا همس بلا صمت بلا صوت

ووحدك الآن أنت

بلا روح بلا خفق بلا ضحك بلا دمع

فيك تجتمع القرى والمدن

وفيك تتفرق عواصم، أبحر ومحيطات

مثل فضاء بلا سقف أو سماء

وفضاء يعوم يغوص يسقط يركض

يسبح يهرب يفر يقفز يثب

يحن يئن يرن يشتاق يتلهف يبتل

ينشف يتندى يتقلى يمطر يجف

يدور في فضاء من دوار

مثل حجر في مئذنة مهجورة في نواة زلزال

تضربها الشمس ويغشاها البعد، يمسكها الغياب

غادرها التوق مزقها الشوق هجرها الوجد

وكأنها حلم كامن في هواجس من رؤى مصفدة

صماء بكماء عمياء، بين صبر وصبار

بين نور تلاشى، اندثر، اندرس، باد

وبين نار ولهيب وأوار.

**

وأنت لوحدك

بين ذاتك وذاتك

بين أناك وأناك

تَلَمًس الشوك القادم من القادم

من الماضي والحاضر

الحاضر والماضي

بأنامل من عتاب حسرة ولوعة

كان عليك يوم كنت وحدك

أن تتقن كيف تعشق ذاتك

كيف تذوب في أناك

فذاتك ليس لها إلا ذاتك أنت

وأناك أنت ليس لها سوى أناك

حكمة الوجود فيك تناديك

تسألك أن تعتق الوحدة بالوحدة

تخلطها بصحارى الملح والرمل والثلج والصخر

بنكهة الصبر المحمول على ناقة خلوج

بشذا الشيح والحنظل

بمذاق شهد السدر والآس

برحيل الأغنيات من وتر النسيان

ببحة الناي بين أنياب الثغاء

**

أنت كنت هناك، وحدك

منذ البدء، قبل ميلاد الدنا

قبل نضوج الغابات والهواء والرحيل

بين حجب ظلمات ثلاث

كانت في حجب ظلمات ثلاث،

وفي حجب من حجب ظلمات

تمسك الغيب، تنقله، تزحزحه نحو المجهول

بأنامل من عجز مكلل، مجلل، مثقل بالعجز

مثل حبة رمل نفختها الآماد

خبأتها في قلب عاصفة، دوامة هوجاء

حشرتها في قطرات غيمة عابرة بين سدف من ظلام

أسقطتها في قاع محيط يمسكه الدخان

تحملها الشمس في بخارها، تسافر، تهاجر

تتلوى، تختنق، تشهق، تزفر، تضج، تطير، تحط

تضحك، تبكي، تفرح، تحزن، تيأس، تقنط، تزحف

تركض، تحبو، تقف، تُشل، تحن، تأمل، تسقط

في حبة ثلج يخطفها جليد مسكون بالصقيع

**

وحدك كنت

وحدك أنت الآن

ووحدك ستكون في كونك، يوم التكون

يوم التكوين، يوم انفجار البراكين

تهاوي الزلازل، غرق البحار والأنهار والمحيط

نقطة بيضاء في كفن أسود

نقطة سوداء في كفن أبيض

تتحرك، تتوالج، تتواشج، ترشح، تفيض

تنحسر، تنشف، تتيبس، تتحطم، تتشظى

تتلاشى، تتناثر، تتكسر، تتثنى، تتجعد

تتغضن، تتقصف، تتقصل، تتجزع، تتقطع

تلتحم، تلتصق، تشتد، تستد، تنتظم، تتصل

تقف بين حائطين واحد من نار والثاني من جليد

بين ربيع يبكي، وخريف ينوح، صيف يفح، وشتاء يزخ

رحيل عودة، وعودة رحيل

حضور في غياب، غياب في حضور

وكأنك خرافة، ترتجف حين تمسها الأسطورة

أو سحر، ينتفض من تعويذة

ضياع غير مرئي، سراب يخادع ذاته

ويخدع سرابا ينادي سرابا في السراب

لماذا تركت النجوم تختفي في جيب غيمة؟

ولماذا تركت روث الجمال يسافر بعاصفة رمل؟

وجلست تعد الكواكب، وتحصي الرياح

كأنك لم تقرأ حروف الوقت أو تتقن حوار الزمن

مع الموج المرفوع من الأعماق نحو الشمس

ولم تدرك زيز الظلام وهو يغني كالبجع أغنية الوداع

لم تدرك سر الحرف فوق شواهد القبور

سر الحزن فيها، معنى الرحيل من الذكريات

وجع اللحن وحنين الأغنيات

**

أنت الآن وحدك

تحمل رايات يومك الماضي

أشرعة يومك الذي أنت فيه

ورجفة يومك الموصوف بالغيب

مثل فريسة تطلق قوائمها للريح

تلتف، تلتوي، تنعطف، تتقوس، تدور

في عينيها يسكن الموت والحياة كتوأمين لا ينفصلان

تماما كما أنت بين ليل ونهار

أنت والليل، سكون على نصل هاوية تصعد نحو قمة

وقمة عمياء في قلب هاوية زرقاء تبحث عن سوادها

هنا قوس من نار وسخام ودخان وسناج

وهنا ماء مالح، أجاج، داكن، قاتل

بينهما نهار سريع الخطى

يدق جدار الحلم بناصية من شمع وصلصال

بيدك آفاق مفتوحة، آماد ممدودة، فضاءات مشحونة

وعلى شفتيك، تقف الأسئلة، ثقيلة، لزجة، دبقة

كيف؟ ومتى؟ أين، لماذا؟

كيف مزجت ذاتي بأناي؟

متى نبتت دالية في قلبي الصغير؟

أين رحلت بيوت النمل؟ وخلايا النحل؟

لماذا بقيت مع وحدتي وحيدا مع الوحدة؟

وحيدا يتوحد باللاشيء؟ بمجهول مهاجر في المجهول؟

كأنين ناي بكى ثغاء نعجة بين أنياب الذئاب

كذكر عنكبوت قادته شهوته نحو غلمة فاغتاله الشبق

**

رأيتك قديما، في تكون الحمأ المسنون

تحمل السنابل وهي خضراء، صفراء، ذهبية

تنثرها بين القلب وقرب الفؤاد

ترويها من الحلم المزروع في دماء الكبد

تغنيها وتنشدها، قصائد تحملها العواصف والرياح

تنثرها بين الرمش والجفن، صبايا من خيال مخصب بخيال

إناث من شهد مصفى، يذوب في النسيم

يٌلهب الذوق، يٌؤجج الخفي المتخفي فينا بالخفاء

يفتح نافذة التوق والشوق والمشتهى

يخض الغيب والمجهول، يرج السحر الكامن في النواة

يكوي بركان الإحساس ويصهر الشعور

نعم رأيتك، بين السواقي والروابي والسهول

حبة خردل يتيمة، خشخاشة بين ليمون وبرتقال

شوكة أسيرة بين حنون ودحنون

حيرة تتناسلها حيرة معتقة بحيرة

تطارد الوهم بالتيه، تلاحق الضلال بعُتُوّ وضياع

ترسم بالظلال نهاية الطريق المعبد بسؤال غابة عذراء

عن دوائر البداية في متاهات السيقان

وعن همسات الليل وسط هيبة السكون

وحشة الوحدة، رعب الهسيس، هول الحفيف

عن شبح انشق من حجر، انفلق من صخرة مبللة بالعتمة

بالعين رأيت ضربات قلبك معلقة بين فحيح ظلمة

وعواء دجن واقبه، مشلولة، كسيحة

تعضها نسمة دفعها غصن مجوف تسكنه الخنافس

يغزوه العفن وتدمره الطحالب.

**

لم تكن وحدك، هنا، وهنا، هناك، وهناك

في الشمال في الجنوب، بين الحدود وبين السدود

كنت أنت أنا، وأنا هو، وأنا أنت، وهو أنا، وأنا أنا

هناك أنت وأنا، نقطف اليأس من حقول الألم

أنا وهو نحصد اليتم من رحم قهر مخضب بالمحل والجدب

أنا وأنت نجني ثمار الذهول من خيوط الشمس

هو وأنا نرشح كما قلة الفخار في سهول البعث

عقم الولود وهي تئن من طنين النحل في العيون

أنا وأنا نفيض كالنهر في سحب مسحوبة من ودق مالح

قلت وقلنا، هتفت وهتفنا، صرخت وصرخنا،

صحت وصحنا، جلجلت وجلجلنا، عججت وعججنا

عليك كي تخرج من فم النملة، من جناح بعوضة

أن تتعلم أول حروف النطق والسمع والبصر والرؤى

أن توقن بأن اللغات كلها في الأرض وبين الكواكب

في المُهل، في التزحزح، في التردم، في الانهيار

في القبر، في البعث، في البرزخ، وما بينهما

وما قبلهما، وما بعدهما، وكل ما في الكل

أن تتقن لغة البحث عن النجاة كي تستطيع البقاء

البقاء على حافة خيط برق مولود من رعد

وعليك أن تتقن لغاتك القادمة من أناك، من ذاتك

فالعين رغم إبصارها يخدعها اللون

والصوت رغم دويه تخدعه الرياح

لكن الروح التي فيك

المعبأة بالحدس، المكتظة بالفراسة،

المحملة برائحة البداهة

لا تُخدع بالرياح والألوان، ولا يُقلدها الصدى

هي أنت وأنا، هي أنا وأنت، أنا وهو، وهو وأنا

هي أنا، وأنا وأنا.

**

مأمون أحمد مصطفى

 

1- في هذه الاونة

في هذه الاونة سنخلع جلودنا

ونتكيء على جدار من الرغبة

الموشاة بالزمرد وبالعقيق

فنحن ليس لدينا سوى بريق من

الامل الاخضر الخالي من مثالب

الشوك العوسج والحنظل وفي هذه

الزاوية من  العمر سنخلع كل عباءات

الخوف والمكر والخديعة عنا

كي نجلس تحت دالية الروح مبتسمين

**

2 - الامل المزدوج

الامل المزدوج هو ديدننا كما مرايا

الوقت الموشاة بعقيق الصبر والحكمة

فها هي عصافير الرغبة البيضاء تزقزق

في حقول احلامنا اذن فلنرفع ايدينا الى

قوس قزح الصباح والشفق الازرق

ونقول خاشعين ايها المطر ايها المطر

اهطل اهطل على نوافذ قلوبنا

**

3 - البهاء الاعرج

البهاء الاعرج لا يفيد احدا ولا يفيد

العصفور الهدهد والعندليب ولا يفيد

ايل الروض الفسيح وغزلان الحقول الخضراء

فالبهاء الاعرج البهاء الاعرج لا يفيد احدا

بل عنادل البريق الزمردي ستدخل قلوبنا

مغردة ومنشدة انشودة الكينونة الخضراء .

***

سالم الياس مدالو

لا بـأس مـن الـجـرائـم بـيـن وقـتٍ وآخـرَ

كـجـريـمـةِ عـدمِ تـعـطـيـري خِـزانـةِ فـسـاتـيـنـي ..

فـسـاتـيـنـي الـتـي تـنـادي فـيـكَ حـاسَّـة الـلـمـس ..

*

أنـا أُزيِّـنُ روحـي بـفـاكـهــةِ الـدنـيـا

لألـيـقَ بـشـفـتـيـك

بـعـد أنْ أدلـلـهـا بـشـفـتـيَّ الـمـحـتـرقـتـيـن

ولـسـانـي الـمُـرتـجـفِ الـمـسـكـيـن

*

مـنـذ زمـنٍ

وأنـا أخـبِّـئُ عـنـهـم سِـرَّ شـروقِ الـشـمـسِ

مـن نـحـرٍ مـرَّتْ بـهِ شـفـتـاك

*

ومـاذا عـن خـطِّ الإسـتـواءِ الـمـشـتـعـلِ حـول خـصـري؟

مـا الـذي تـعـرفـهُ عـن بـحـرِكَ حـيـن يـطـوّقُــه؟

وكـيـفَ تـكـبـرُ خـطـوطُ الـطـولِ والـعـرض

لـو اشـتـعـلـنـا كـثـيـرًا

حـيـن يـنـتـصـفُ الـلـيـلُ فـي مـداراتِ جـنـونـي؟

*

قـل لـلـنـهـارِ إنَّ الـقـنـدَ لـن تـفـيـق

ولـن تـقـولَ لأحـدٍ غـيـرِكَ لـمـاذا ..

فـهـذا الـبـركـانُ خـانَ الـنـارَ

حـيـن اســتـهـانَ بـحـبـكَ لـحـظـةَ بُـعـدٍ

دفـعَ الـتـوبـةَ بـالـقـبـلات!

*

يـداكَ أجـمـلُ حـيـن تُـغـمِـضُ جـفـونَـكَ

لـتـبـحـثَ عـن مـدنِ الـكـرَزِ الـتـي أُخـفـيـهـا!

فـلأنـنـي سـكـنـتُ فـيـكَ:

كـدتُ أنـسـى أنـنـي كـنـتُ يـومـًا

مـن سُـكّـانِ الـكـرةِ الأرضـيـة!

*

كـلـمـا سـألـونـي عـنـكَ

أُجـبـتُ:

إنـه مـاءٌ عـلـى مـاء!

***

سمرقند الجابري

تراقص الشنب

وتحته الخطب

*

هذا يقول غزّتي

و قال ذا النقب

*

الكل في ضجيجه

من دونما سبب

*

متى يكف غاصبٌ

أباد واغتصب!؟

*

متى يعود شعبنا

لموطن العرب!؟

*

متى نعيش فرحةً

و ينطفي اللهب!؟

*

متى على ديارنا

يثوى أبو لهب!؟

*

فقد رأينا طفلةً

مقطوعة العصب

*

تشكو إلى إلهها

أدمغة الخشب

*

ومن أتت بجيدها

تسير بالحطب

*

الكل يا عروبتي

يحكي على العرب

*

ولا أرى من بينهم

من يحسن الأدب

*

يسطّرون فوقهم

مختلف الرتب

*

لا يطلقون طلقةً

في صدر من غصب

*

يطبّعون كلما

يُعطى لهم ذهب

*

وكل من تهزّه

غيرته أنتحب!

***

رعد الدخيلي

 

قبالة الحقول المخضرة وقفت

كأن طللا بها يسكنني  حد التلف

تغريني فتنتها بقول الشعر

يغريني صمتها بالسفر

هنا بين أحضانها الحالمة

نمت أحلامي  كزهر اللوز

هنا بين ضفافها المطلة على النهر

تعلمت السفر كغيمة خلف أسراب الطيور

هنا بين وهادها وأغصانها المورقة

تدفقت حروفي  ورؤاي كينابيع الماء

فسرت خلفها هائما

كأني عاشق شردته

بساتين النعناع

وحقول القمح

وأشجار التين والتفاح

وحكايا الجدات

فكيف أنسى  ضفافا علمتني

سحر القول وبلاغة الشعر

وكانت داليتها المخضرة

قطفوها دانية

تظلل  الفؤاد ومياه النهر.

***

عبد الرزاق اسطيطو

تظل جوالة في الحي من مطلع الفجرالى غروب الشمس،عنها لا يغيب مار عن نظر، حافية بلا نعل يستر لها قدما أو يقيها صلابة الأرض في قيظ او وحولها في شتاء، ساقان قصيران كقصبتي المكانس غطاهما الوسخ و الوحل وقد تشقق على القدمين كمعدن غاسول الشعر في سطوح النساء الفاسيات حين يجف من ماء. كل ظفر في قدمها كمخلاب نسر، ويل لمن حاول ان يتقرب منها بسوء او من قططها الثلاث بشر ما تحتضن وما يقتعد كتفيها فمخالب اليدين سلاحها قد تأتي على خد أو وجه بكامله..

تعرف الرائح والجاي، ساكن الحي القديم والوافد الجديد،تقرأ الوجوه بدءا من العينين بفراسة تدقق في شكل الوجه وكأنها تستبطنه، تذكر أسماء الجميع بالاسم واللقب والكنية بل منهم من تحتفظ له بسجل عن ماضيه..

لا يستطيع أي طفل ان يشاكسها بشر اومنها يتقرب بسوء، وصية من والديه، فالولية أم القطط كما يطلق عليها الصغار والكبار ربما جنية تتسيف في صورة آدمية..كم من طفل حاول مس احدى قططها بعنف فانصرع اواصابته حمى، ومنهم من غاب بلا اثر.. لكن بعض الأطفال كانت تعاملهم بغمزة من عينيها او بسمة تفتح لها فمها فتظهر لها بقايا أسنان نتوءات سوداء بعد ان تتدلى شفتها السفلى وكانها تنفك من حصار عن العليا..

اذا انزوت لاكل او راحة في أحد الأزقة أو الدروب لا يهمها ان ينكشف جسدها كلا اوبعضا، أن تواري سوءة أو تتركها بلا ستر فهذا ممالا يدخل في قيمها ولا اهتمامها؛ فلا احد قد يقترب من جنية وسخة نتنة تحرسها قطط ثلاث، روائح لا توقر انفا، وقربتان متدليتان من صدرها كبالونات هواء قد انسحب منهما

 ريح، اما الفخدان فهما امتداد لقصبتي الساقين لا اثر فيهما لعضلة أولحم، مجرد أخاديد قد غطاها التراب بعضها فوق بعض، عظمان كساهما جلد بني وسخ موحل..

لا تمد يدا بسؤال لاي عابر لكن قد تقف بباب دكان فتُقضى لها حاجة بغير سؤال ولا تأخد الا ماكانت في حاجة اليه..

حين ضاع احد أبناء الحي وطال غيابه قام الحي عن بكرة أبيه يبحث عن ابنه الضائع، طفل حسن الجسم سنيع، أبيض، رقيق اللون في عينيه حور..

قالوا خطفه "الطلْبَة" من يتنقلون بين الاحياء بحثا عن الكنوز، كما اتهموا المرأة أم القطط جوابة الحي بمسخه، وقالوا بقي في الكتاب مع الفقيه ولم يظهر له اثر.. حتى السلطة وبعد بحث دقيق حارت في كيفية غياب الطفل الوديع والذي ما ثبت ان اساء لأحد أو اقترف سوءا في غيره..

كادت أم الطفل أن تفقد عقلها،فهو وحيدها، وهو ما اسعدها به حظ بعد ان عنست ولم يكن من نصيبها غير عسكري فرنسي تزوجها بعد أن اشتغلت لديه خادمة وحملت بعد علاجات مكثفة من أطباء في مستشفيات مشهورة ونساء لهن تجربة في مجال الحمل والولادة بالعلاجات الشعبية.. فقد الطفل اباه قبل أن يرى النور في عملية فدائية وكان نصيبَ أمه بعد وضعها، البيتُ الذي تسكنه وذهبٌ منهوب كانت عينها عليه في صندوقة حديدية قد شق لها زوجها مكانا في صالون البيت قبل ان يغطيه بزليج بلدي في توهيم دقيق..

يئست المرأة من العثور على وحيدها فما تركت شرطة ولا دركا ولا عيونا من عيون السلطة الا توسلتها وأغدقت عليها مما خلفه زوجها لكن بلا نتيجة فالطفل قد تبخر، تبدد وله ضاع أثر..

طرقات خفيفات على الباب ذات ليلة خبا صحوها، تفتح الأم الباب واللهفة تطويها لتجد نفسها وجها لوجه امام أم القطط والتي لم يسبق لها أن طرقت باب أي بيت، ارتعبت المرأة خوفا لكن أم القطط دعَّتها جانبا ودخلت طالبة منها سد الباب خلفهما ؛ لم تنتظرأم القطط اذنا بل تقدمت وقد أمسكت يدها بذراع صاحبة البيت الى أن وصلتا البهو، جلست أم القطط وضغطت على يد المرأة لتجلس بجانبها:

ـ مالك مرعوبة؟.. لست شيطانا ولاغولا، أنا امرأة مثلك لكن لكل منا في الحياة فلسفة، وجهة ونظر.. ما وقع لك قد فرك صدري، خلفك وخلف من أوهموك بمساعدة كنت أتسقط أخبار ابنك..هو موجود حي يرزق لكن عجلي قبل ان يقع له ما حدث لغيره..

شهقت الام شهقة كادت تفقد معها روحها، فوضعت أم القطط كفها على فم الام وشرعت تقرأ بصوت أجش هو لصوت الذكورة أقرب

ومعايشهم وعواقبهم ليست في المشي على عوج

لتكن من السباق اذا ماجئت الى تلك الفرج

 تبادرين الآن الى كهف النسور،وسأكون خلفك لكن بعيدة عنك، قريبا من احدى المقابر ستجدين حفرة اشبه بكِناس الظبي تقتحمين الحفرة،لا تخافي فصاحبها غادر للبحث عن صيد جديد قبل ان يتخلص من طفلك، فكي الرباط عن ابنك وعودي من حيث أتيت،و أنا من سيقوم بالباقي..

ضجتان في يوم واحد قريبتان في الزمان بعيدتان في المكان:

حامل تضع مولودها ليلا لتفتقده صباحا..

 هو أول وضع لها، بفضله بعد أبيه قد عانقت الحياة وخرجت لتتنفس الدنيا بعد حياة بؤس وشقاء في حي هامشي، دخلت خادمة في بيت رجل أربعيني سافرت زوجته لزيارة طبيب نصحها به أخوها المقيم في بلاد المهجر لاجراء عملية جراحية حول انسداد في عنق رحمها بعد سنوات من العقم والخوف من الطلاق..

تعلق الزوج بالخادمة لجمالها فطلبها وبادر بالعقد عليها..

عادت الزوجة لتجد نفسها امام اختيارين : الطلاق او القبول بضرة، وأمام واقع الامر اشترطت السكن لوحدها وبعيدا عن سكنى ضرتها فلبى لها الزوج ما ارادت..

صدفة نسبية جعلت الزوجتان تحملان في نفس الشهر بل ويكون الوضع في نفس الأسبوع..

ظلت الزوجة الأولى بعد أن وضعت بنتا تتسقط أخبار ضرتها وقد استشاطت غضبا ونفثت الغيرة والحسد اثرها حين علمت ان مولود ضرتها الخادمة المعدمة ذكر قد يجعلها لدى الزوج أوْلى، وعنده حظية..

اغرت إحدى قريباتها برشوة معتبرة بالتسلل الى مستشفى الولادة وبدل ان تغير القريبة مولودا بآخر أخذت الذكر وسلمته للزوجة الأولى ومن هذه أخذت مولودتها ووضعتها في صندوقة قمامة بعيدا عن البيت..

احترقت أم الطفل حين افاقت لتجد سرير ابنها فارغا، سألت وأعادت السؤال فلا احد يشفي صدرها برد..

الحديث الذي كان يدور بين الممرضات ان المولود المفقود كان ذكرا وكانت له وحمة تميزه في فخده الأيمن..

قطط ثلاث تجوب المستشفى لم يسبق لأحد أن رأى مثلها، تموء بحدة وكانها تحس توترا غير مفهوم، ثم لا تلبث أن تغادر المستشفى لتحاصر إحداها سارقة المولود و عنها تأبى ان تبتعد رغم الركلات التي كانت تكيلها السارقة للقطة في حين أن قطة ثانية ظلت تلازم الوليد تلعق رأسه وبه تتمسح مثيرة قلق زوجة الأب التي احتارت في وجود قطتين في بيتها لاتعلم من أين تسللتا..

ـ "فأل سيء أن تتسلل هذه القطط الى بيتي وتلازم راس هذا الوليد"

تقبل أم القطط، ترافقها القطة الثالثة وقد اقتعدت على الكتف الأيمن لأمها وكأنها تراقب الاحداث من برج عال..

لم تحتج الشرطة وقتا طويلا لمعرفة الحقيقة بعد ان أخرجت أم القطط طفلة القمامة من تحت ردائها تضعها في سرير الوليد الذكر ثم تحمل المولود ذا الوحمة في فخده الأيمن، ولا تلبث أن تنسحب بوداع ونظرة حادة لسارقة الطفل وقد اضافت أم القطط بين أحضانها حملا غير قططها، مولودا ذكر أمه لهفة انتظار..

***

محمد الدرقاوي ـ المغرب

بلهاء وإن ادّعت خلاف ذلك

صرخة

ما أن أُطلقت

حتى

تربّص بها

خوف

جنته على خطوتها

مذ تمنته تحليقا

وغاب عن بالها

مكر

تلك الخيوط الواهنة...

لتتقاذفها العثرات

فخديعة

بعد خديعة

وكبوة

من بعد كبوة

ولا مآل لأنفاسها اللاهثة

سوى

هوة سحيقة

تتمتم ساخرة:

إيه أيتها

البلهاء

يا من تمنيته تحليقا

هلمّي

فأسلافك في الانتظار

***

إبتسام حاج زكي

 

جلست في حديقة وحدتي..

أرسم صورتكِ..

على رغوة فنجاني..

أرتشف مع القهوة رضابكِ..

وأتحسس تحت أسناني فصول خيبتي..

أتنفسكِ مع كل النسمات..

لعلها داعبت يوما من الأيام صفحة وجهكِ..!

وأرسم بالندى.. لوحة لشواطئ عينيك..

أحدق في الفنجان مقتفياً خطوطه..

ها قد.. وصلتُ الى مضارب شفتيكِ..

*

بدوي انا.. لا اعاقر خمرا..

سوى رشفات من قهوة..

حمّصتها يوماً بين أشجار" الغوطة" سرّا..

خبأتها بين الضلوع لموعد غربتي..

أرتشفها فوق صهوة غيابكِ ،

وأسبح في فنجانك وكأنه نهرٌ..

اجوب صحاري الوحشة ، ألتمسُ لجنوني عذرا ..

أنادي على صعاليكها ، فيجتمعون  من حولي  ..

لنغزوَ أقواماً مازالت تقتات مع الرمل غدرا..

وانا هناك.. خلف البحر ، وجبال الثلج..

اعتق قهوتي بين شفتيّ..

لتمدني من حلاوتها مرّا..!

تنتشي الروح ، فتردد ألحاناً..

تذكرني "بورد" حمص ، و خيبة "ليلى"

طيفكِ لم يزل  هاهنا .. تعشّق مخيلتي..

يردد قصائد حب كتبتها يوماً على جدران "مرج عذرا"

وأمنيات من نعيم أخاله سحرا..

**

سقط الفنجان من يدي..

تناثر من حولي كحلاً  بلون مقلتيكِ..

انحني ألملمه بأناملي..

فيشعُّ سنى وجهك من بين بقاياه كأنه فجرٌ..

أنتقي الكلمات ، وأهلوس بها مع العصافير ..

فيرجع صداها صامتاً ..

ولسان حالها : كن حذراً فان خريف عمرك

تأججت ناره جمرا..

***

جواد المدني

كانت سعادته لا توصف حين دخل المنزل وبلهفه ينادي (يمه.. يمه)، بين يديه قفص داخله طائر صغير، شكل الطائر وحجمه والزغب الذي يكسوه يدل على أنه قد فقس توا من البيضة؛ له منقار احمرٌ صغير معقوف نحو الأسفل، اشبه بمنقار. ببغاء..

دوما يعيد ويكرر سؤاله لي، لماذا لم تنجبي لي اختا او اخا، توقفنا عن الإنجاب لمرض أصاب والدك وبه توفاه الله، تاركا امك شابه متوشحه في السواد، جمحت رغباتها، وأدت احلامها قبل ان ترى النور...

من حينها لم تدخل السعادة منزلنا، لم افكر بالزواج من رجل اخر بعده.. ربما وجود ذلك الطائر سيمنح البيت حياة جديدة للمنزل ويخفف ولو قليلا من الوحشة والفراغ الكبير الذي لازمنا طويلا . سألته:

ـ لم جلبته صغيرا هكذا وحرمته من امه! ؟..

 ـ كي ينشأ اليفا غير مؤذ فلا أكون مضطرا لقضم منقاره الصغير حين يكبر، هكذا يتم تربيه هذه الأنواع من الطيور، إنه جميل جدا، سترين ذلك بنفسك حين ينبت له ريش ملون وذيل طويل، كما وانه يتميز بذكاء عرف به حين يكبر قليلا. انا على ثقة كبيرة انك ستحبينه و تعتادين على وجوده.

حين يكون ولدي خارج المنزل، كنت من يقوم بإطعامه ورعايته، لم تكن العملية سهلة، بل كان علي أن اخفف له قليلا من القمح المطحون مع الماء في أنبوبة زجاجية رفيعة برأس معقوف خصصت لهذا النوع من الطيور، أقدمها له كطفل رضيع متحاشية قدر الامكان لمس منقاره..كنت اشعر بمتعه كبيرة حين اقوم بذلك..

سريعا تمر الأيام، وتنقضي اربع أسابيع، صار بإمكان الصغير ان يلتقط الحب بمنقاره، و له نبت ريش بلون فيروزي جميل كساه وأعطاه شكلا مميزا، كانت له عينان دائريتان اكتحلت بهالة سوداء احاطت بهما ونظرات حاذقه ملفته لكل من ينظر اليها.. اعتاد الطائر ان يأكل من يدي وصار يميز شكلي جيدا و يحلق نحوي سريعا حين اترك له باب القفص مفتوحا ويحط على كتفي وكأنه يهمس بأذني ويود أن يقول لي شيئا، كنت حريصة على ان أعيده لمكانه حين انتهي من إطعامه، حرصا عليه من ان يطير للخارج سعيا وراء الحرية، او خوفا من أن يصبح وجبة دسمة للقط الذي كان يتربص به من خلف زجاج النافذة.

ذات صباح سمعت صوت اهتزاز وضربات قادمة من القفص!!..اسرعت نحوه كان الطائر مضطربا، يصفق بجناحيه وكأنه يحاول الخروج، ربما كان جائعا، احكمت غلق النوافذ وفتحت له باب القفص، طار مسرعا كعادته وحط فوق كتفي، وضعت له حفنه من حبوب الحنطة، حوَّل راسه نحوي ممتنعا عن الكل وراح يتسلل بقدمية الصغيرتين بين خصلات شعري، شعرت وكانه مازال صغيرا وبحاجه لامه، وفكرت ربما حين يكبر قليلا سيكون بحاجة الى زوجة، اطال المكوث ساكنا دون حراك، كلمته:

ـ (كوكو) ـ كما اطلقنا عليه ـ، هيا أخرج كفى لعبا!

حاول الاختباء اكثر ممتنعا عن الخروج، نجحت في سحبه واخراجه ثم إعادته الى القفص، في صباح اليوم التالي أخرجه ولدي من قفصه كي يطعمه ويلعب معه كما يفعل كل يوم قبل ان يذهب الى مدرسته، لفت نظري هدوئه! متسائلة: كيف لا يكون بهذا الهدوء حين أطعمه انا؟

ـ أمي ربما انك تخيفينه، ألا ترين كم هو لطيف!!؟؟..

 صمت وأكملت شرب الشاي. أصبح الطائر يشغل تفكيري حين بدأت تتكرر تلك الاشياء الغريبة التي يقوم بها، وخصوصا حين يزداد اضطرابه ساعيا للخروج من القفص كلما أحس بوجودي ولو من بعيد وكأن له انف كلب مسعور يشم به عطري.. قررت أن احكم اغلاق باب القفص بشريط كي لا يخرج لكن هالني ما رأيت! فقد حل الوثاق بمنقاره وطار نحوي كمن يباغتني وكأنه يستأنف هجوما على عدوه من جديد، حط على كتفي مخترقا خصلات شعري كما كان يفعل سابقا، الجلد من تحت شعري يقشعر، يواصل سيره نحو ظهري مخترقا الثوب الذي ارتديه، شعرت أن مخالبة الصغيرة أصبحت كمخالب نسر كبير راح يغرسها في ظهري بشدة، صرخت بشكل هستيري صرت ادور واقفز مذعورة وحدي في المنزل محاولة اخراجه، قوتي تركزت في يدي، أخلع ثيابي عن جسدي، كي اتخلص منه ثم نجحت في إمساكه، صرنا انا والطائر نحدق في أعين بعضنا، قبضت عليه بكفي ورميت به نحو الجدار، وقع مستلقيا على الأرض، حدث ذلك في طرفة عين!!.. راح يحرك قدمية بالهواء وينظر نحوي، بدت عيناه كعين بشر، ارتبكت لدرجة لم اعرف أينا قد هجم على الاخر انا ام الطائر، بعد أن هدأت وتأكدت من انه لم يعد يقوى على الحراك، اعدته بحذر الى مكانه واغلقت باب القفص عليه، قررت أن لا أخبر ولدي بشيء كي لا أتسبب بقلقه وحزنه، منذ ان حدث لي ما حدث أصبح الطائر قليل الحركة وقليل الطعام..

 شغل تفكير ولدي واحزنه حاله كثيرا متسائلا:

ـ امي الا تعلمين ماذا أصاب (كوكو)؟

ـ ومن أين لي ان اعرف ربما قد يكون مريضا..

 خيم الحزن والكأبة على ولدي، بعد مرور يومين وجدنا الطائر مستلقيا على ظهره متيبسا ميتا، وجحافل النمل تتقدم نحوه تغزو جسده...

كنت اسأل نفسي: هل كان يستحق نهايته أم مات مصابا بسوء ظن؟!!

***

القاصة: نضال البدري / العراق

 

أحياناً

يَقْرَؤني الدفترْ

بالمقلوبِ

ولا يتــــــــعثَّرْ!

*

أحياناً

يَبْحَثُ عن (لُقْمَةْ)

تَرْفَعهُ نيابةُ عن ضمَّةْ!

*

أحياناً

يُلْقي عصا العُمْرِ

في آخرِ

نُقطةِ حِبْرِ!

*

أحيانآ

كلبي يَنْهَقْ

وحماري يَنْبَحُ: أحمقْ!

*

أحياناً

تُجّــــارُ الدِّينْ

تَغْشَاهُمْ لَعْنة...أمينٰ!

*

أحياناً

يَمْنَعهُ مانعْ

حِفْظ النحوِ

بِنَعْتٍ (تابعْ)!

*

أحياناً

في المشفى تموتْ

دون عناية...دون تُخُوتْ

والأعجَبُ أن طواقِمَهُ

تَسْمَعُكَ.. تَرَاكَ وأنت تموتْ!

وعِلَّةُ ذلكَ يامَكبوتْ

أنكَ أغْبَرُ

ذو طِمْرَيْنِ...عَفِيفاً

لاتحمِلُ (مِحْفَظَةً حُبْلَى) ...

أويَحْمِلُكَ الكُوتْ!

*

أحياناً

يَنْتَفِضُ المَرْضَى!

*

أحياناً

في الغُرْبَةِ وطني

لا أقطُنَهُ...

بل يَقطُنني!

*

أحياناً

وطنـــــــــــــي يتمدَّدْ!

***

محمد ثابت السُّمَيْعي - اليمن

29/4/2024

دعنا سيدي

نوشم الحروف بحر نارْ

ونكف عن هدر

قسم وفيض

عارْ

فحياتي كسكون الأكواخ

لم تتغيرْ

*

في حديقتي زنبقة

تحبل خطيئة

تتكررْ

ووشما مدفونا يثأرْ

سأرحل...

وأحمل معي لهيب تُرْبها

تسند سماء فوقي تزأرْ

أسائل عتبات الموج

عن سرها المُضمرْ

أكتنز عويل الريح

وأغربل غضبي نايا

يستعير وشوم غجرية

لأبدأ العدَّ  من العشرة

حتى الصفر

*

دعنا سيدي

نوشم الحروف بحر نارْ

ونكف عن هدر

قسم وفيض

عارْ

ولتفك قيدي

ولتسرجْ معصمي ينبوع

اعتذارْ

ودمْعا يتهجَّى الخلاص

بانبهار

أين؟ أين سنيني العشرْ

حصنُ شوْكٍ وظل

بيدرْ

لعنة قدَّتْ منْ جسْر

ألمٍ مبعثرْ

لقَدْ مضى عمْري

في روضته الورد

انتحرْ

بل وكلُّ وجع فيه أَزْهرْ

فكيف كيف كنتُ

لعمري أهْدرْ؟

لقد سئمت تنهد البحارْ

وفتك الاطْوارْ

لقدْ غدوتَ حقلا مسمًّما

لا ترجى منْه الثمارْ

وسماء تحتضن طيرا أبابيل

ترمي أفقي

حجرا من نارْ

صدِّقني أنت في ميداني

خاسر

مهما تقنَّعتَ بطوق

انتصارْ

أفعالك تغتال الجمالْ

كما جيش التتارْ

تحوك منْ صدر المدارْ

خططا وتبني الاسْوارْ

فأين أنت بالغ بهذا الاصرارْ؟

ألا ترى أني أركن أنفاسي

حدَّ الانهيارْ

أنصهر كما الخناجرُ الصدئة

حدَّ الاندثارْ

أحرق جبين النهارْ

وأصطاد لوحات فان جوخ

من حانات مالها

قرارْ

يحتطبني سرُّك المضمرْ

تُنْبِت رسائلك القديمة

همجية الغجرْ

تنبعث من زواياها

روائحُ عفنه

كما المقابرْ

وهي تراقص أحذية مبلَّلَه

تتجسَّأ لغة العسكرْ

فكيف استطعتَ أنْ تطبخ

كلَّ هذا الحذرْ

وتدوزن أنغام الصَّهيل

وتقود شطآنك نحوي؟

الملائكة تقود حتفها

نحو الهجير

اعتكفتْ لملايين السنين

على سطور المنبرْ

تركتُ ورائي رسائلك خنجرا

يحتضرْ

***

لطيفة أثر رحمة الله

 

"الى سيدي أمير المؤمنين، إمام المتقين

علي بن أبي طالب عليه السلام"

***

عـذيــري أنَّ فـردَكَ لا يُــعَــدُّ

جَـمَـعـتَ الـمـكرمـاتِ وأنـتَ فـردُ

*

وحُـزتَ الـحسـنـيـيـنِ: وصِـيُّ طـهَ

ولــلأطـهــارِ أنــتَ: أبٌ وجَــدُّ

*

فـمَـنْ ـ إلآكَ ـ بـيـن الـخـلـقِ شـقَّـتْ

جــدارًا كـعــبــةٌ لـِـيُــهَــزَّ مَــهـــدُ؟

*

فـلـسـتُ بــمـادحٍ شــمـسـًا بـقَـولـي

تـفـيـضُ سـنـىً فطـبـعُ الـشمسِ رَفـدُ

*

ولا مَـدحـًا إذا فــاضــتْ حـروفـي

وقـلـبـي فـيـكَ قبلَ الـثـغـرِ يـشـدو

*

فـمـا مـعـنـى قـصـيـدي لـيس فـيـهِ

الـى مـيـلادِكَ الــقــدسـيِّ قــصــدُ؟

*

لأنـتَ الـشـمـسُ لـكـنْ لا غـروبٌ

وأنــتَ الـحَــدُّ لــكــنْ لا  تُـحَــدُّ

*

ولـيـسَ سـواكَ يُـرجـى يـومَ عُـسـرٍ

ومـا لِـســواكَ ســـيـفٌ لا  يُــرَدُّ

*

وأنـتَ الـبـحـرُ لـكـنْ دونَ جَــزرٍ

فـبـحـرُكَ وحـدَهُ فـي الـجَـزرِ مَــدُّ

*

وأنـتَ فـتى الـحـنـيـفِ الـلـيـسَ يُـعـلى

ومُــورِدُ عَــزمِــهِ إنْ عَـــزَّ وِردُ

*

وأنــتَ بَـرودُهُ إنْ شــبَّ جــمــرٌ

وأنــتَ لـهــيــبُــهُ إنْ ضـجَّ بَــردُ

*

وعِــيــدُكَ وحـدَهُ لـلـظـلـمِ وعــدٌ

وعـهـدُكُ وحــدَهُ لـلـعـدلِ عَـهــدُ

*

وأنـتَ مـن الــنـجـومِ تــمـامُ بَــدرٍ

فـهــلْ مـجـدٌ كـمـا مُـجِّـدتَ مَـجــدُ؟

*

وأنـتَ الـسَّـحُّ والـتسـكـابُ غـيـثـًا (2)

وغـيـرُكَ غــيــثُــهُ بــرقٌ ورعـدُ

*

وُلِـدتَ مُـطـهَّـرًا فـي خـيـرِ بـيـتٍ

وخـيـرُ الـخـلـقِ مـنـه عـلـيـكَ بُـرْدُ

*

فـمـنْ ـ إلآكَ ـ مُـبـغِــضُـهُ كـفـورٌ

وعُـقـبـى عـاشـقـيـكَ جَـنـىً وخُـلـدُ

*

كـفـاكَ مـن الـشـجـاعـةِ أنتَ مـنـهـا

كـمـا " حـاءٌ " إذا مـا خُـطَّ "حـمـدُ "

*

كـسـيـحُ الـخـطـوِ غـيـرُكَ خـوفَ حَـتـفٍ

وأنـتَ كــمــا  ســيـولُ الـسـفـحِ تـعـدو

*

وأنـتَ عـلـى الـضـعـيـفِ الـرفـقُ صِـرفـًا

وأنـــتَ عــلـى شـــدائــدِهــا  الأشـــدُّ

***

أبــا  الـفــقــراءِ: شــكـوى فـاطِـمِـيٍّ

تـــمــاثــلَ عـــنــدَهُ: تــاجٌ ولــحــدُ

*

ولـي عـذري إذا عَـجَـزتْ حــروفـي

وألـجَـأنـي الـى " الـضـلِّـيـلِ " قــصــدُ (3)

*

" ولـيـلٍ " طـالَ حـتى قـلـتُ: دهــرٌ (4)

وصــبــحٌ غـابَ حـتـى قــلــتُ: وأدُ

*

أعـاديــنــا لـهــمْ مِــنــا عـلـيــنــا

يــدٌ تـسـطـو وأخـرى تـســتــبــدُّ

*

مَـشـيـنـاهـا ومـا كُـتِـبــتْ عـلـيــنـا

خُطىً مـا زانـهـا فـي الـمـشيِ رُشــدُ

*

ومـا دالــتْ بــنــا الــدنـيـا ولـكـنْ

ربــابــنــةٌ تـــزوغُ ولا نـَــردُّ..!

*

تـصَهـيَـنَـتِ الـعـروبـةُ واسـتـجـارتْ

مـن الـسـبـيِ الــمُـذِلِّ مـهـا ودعــدُ!

*

فهُـم فـي الـقـولِ "حمزةُ" أو "حـسيـنٌ" (5)

وهم في الفعلِ "حـرمـلـةٌ" و"هـنـدُ"

*

إذا تـشـكـو الـسـقـامَ الصعـبَ روحٌ

فـلـيـس بـنـافـعِ فـي الـبُـرءِ جِــلــدُ

*

ولـيـس بـمُـحـرقٍ شـمـسًـا لـهـيـبٌ

ولـيـس بـمـوهِـن الأقـمـارِ سُـهـدُ

*

ولـيس بـســيِّـدٍ  مَـنْ سـاسَ قـومًـا

إذا لــلأجـنـبيِّ الــوغــدِ عــبــدُ

*

فـكـلُّ تـبـاعــدٍ فـي اللهِ قــربٌ

وكـلُّ تـقـاربٍ فـي الـجـاهِ بُــعــدُ

*

تـهـشَّـمَـتِ الـنـفـوسُ فلا نـفـيـسٌ

ودكَّ صــروحَـنـا شَــتَـتٌ وكـيــدُ

*

فـكـمْ من " مُـلجِـمٍ " أخـفـى حـسـامًـا (6)

يــسـيــرُ بـهِ الـى الأبــرارِ حــقــدُ

*

فـمـنـذُ شُـجِـجـتَ رأسـًــا والـرزايــا

عــلـى أيــامِــنـا بـالــرزءِ تـعــدو

*

تـعـطَّـلـتِ الـكـرامــةُ واسـتـجـارتْ

عـروبــتــنـا وشــلَّ الـعـزمَ قَــيــدُ

*

فـمـا نـفـعُ الـكـتـائِـبِ دون حـزمٍ

يــسـيــرُ بـهــا إذا مـا جَـدَّ جِــدُّ

*

فـيـا جـبـلَ الـشـهـامـةِ ذا زمـانٌ

رثـى فـيـهِ خـنـوعَ الـسـيـفِ غِـمـدُ

*

فَـجَـرَّبـنـا الـمُـجَـرَّبَ وهو لـصٌّ

فـبـيـنَ صـبـاحـنـا والـلـيـلِ سَــدُّ

*

أبـا الـفـقـراءِ مـا جـاعـتْ جـمـوعٌ

إذا الـحـادي بـمـا أوصَـيـتَ يـحـدو

*

إذا جـاعَ الـرغـيـفُ فـأنـتَ قـمـحٌ

وإنْ عَطِـشَ الـنـمـيـرُ فـأنـتَ وِردُ

*

فـكـنْ يـوم الـورودِ شـفـيـعَ صَـبٍّ

بــهِ لــلــقـائِـكَ الــقــدسـيِّ وَجــدُ.

***

يحيى السماوي

................

(1) ألقيتُ القصيدة في مهرجان الإمام علي  بن أبي طالب  " ع " للإبداع الشعري في دورته السادسة والذي عُقِد برعاية المكتبة المختصة في كانون الثاني عام 2024 في النجف الأشرف .

(2) السح: المطر الخفيف .. التسكاب: المطر الكثيف الشديد الهطول .

(3) الضليل: امرؤ القيس .

(4) إشارة الى قول امرئ القيس:

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي .

(5) حرملة: هو الملعون حرملة بن كاهل الأسدي قاتل عبد الله الرضيع ابن الإمام الحسين وأحد المشاركين في قتل العباس عليهما السلام .

هند: هي الملعونة هند بنت عتبة والملقبة بـ " آكلة الأكباد".

(6) ملجم: هو الملعون عبد الرحمن بن ملجم الذي اغتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .

 

الصمت..!!

كأني بها قد تمادتْ

على الصمتِ

كادتْ أنْ تصيرَ حصاناً مجنحْ ..

تطيرُ معَ الريح

عبرَ هذا الزمان الكسيح

أراقبُ سحنتها

وذاكَ الجمال الرصين

ولستُ أمزحْ..

غدتْ، تحرثُ الحقلَ

تسقي البساتينَ

وترسمُ للغيمِ أشكاله

تصبُ صباحاتها

ندىً عابقاً بالشذى

وقطعانها في السهلِ تمرحْ..

تلكَ قافيتي

وذاكَ نهاري

وتلكَ اغنيتي

وألحانها في اليمِ تسبحْ..

كأني أراها

عندَ خابية الزمان اللعين

تحتسي دمعها بصمتِ الحيارى

تنزُ دماؤها

في الهمِ تُسْفَحْ ..

وإني أشاكسُ نفسي

بقدحِ فؤادي

اغطي الهمومَ العوادي

ولستُ أبرحْ..

لعلي أراها بأحلامي الغافيات

نسيماً يراقصُ همسه

كالغيمِ يسرحْ..

نقياً بأشجانه

يشيعُ الجمالَ

كلاماً وهمساً، كغصنٍ مُقَدَحْ..

***

السفوح..!!

يا لهذا الجمال الرخيم

يا لتلك السفوح

وتلك الجروح

غدتْ أفواهها

من فرطِ إشهارها فاغرة..

تنزُ دماء تسيل

كأن لرجعها وقعٌ

تميدُ بها فكرة عاثرة..

تلك هي المحنة الجائرة..

على اعتابها

أبصر الصحو رائعاً

يبهج القلب

وبين حينٍ وحينْ

تداعبُ صحوها غيماتْ..

وما بينَ بينْ

تنداحُ من علوها نغماتْ..

ومن لحظها همساتْ..

لتمحو سنيناً من الهمِ في لحظاتْ..

يا فرح الدنيا

حينَ يغني القلب، تموت العبراتْ..

*  *  *

د. جودت العاني

01/ مايس /2024

ديكٌ يصيحُ ولا يَمَلُّ

وصخرةٌ تنكُرُ قُدوسَ المَطرِ

وأثمانُ دمٍ

ثَلاثينَ من فِضَّةٍ

على المَفارقِ تَنتَثِرُ

في داخلِه ثُعبانٌ يَجولُ

والنَّفسُ بالشَّرِّ تأتَمِرُ

بالأمسِ معي كانوا

وللمُعجِزات صَفَّقوا

واليوم وِزر مالم أفعل حمَّلوني

ولِحُكمِ إعدامي هلَّلوا

وذاك الَّذي بالأمسِ تقاسمَ جَسدي

وشرِب من دَمي كؤوساً مُترَعةً

عند طُلوعِ الفَجرِ

إلى قيافا سَلَّمَني

"من يأكلُ معي الخُبزَ

رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ "

عَجباً يَنكُرُني الصَّديقُ

وقاطِعُ طَريقٍ يُصدِّقُني

كَأنَّي ما مشيتُ على الماءِ

وما شفيتُ مَرضَاهُم

ولا أحييت مَوتَاهُم

ولا عُميانُهم أبصَروا

ببضعةِ دُريهماتٍ إلى الجَلَّادِ باعوني

ووسطَ أثَمَةٍ أَحْصَوني

ولي تُهماً من كُلِّ الألوانِ لَفَّقوا

"نفسي حَزينةٌ حتَّى المَوتِ"

"أهكذا ما قَدِرتُم أن تَسهروا معي ساعةً واحدةً ؟"

بالأمسِ أطعمتُهم خبزاً وسمكاً

واليوم هتفوا: اصلبوه اصلبوه

"من مِنكُم يُبَكِتُني على خطيئةٍ؟"

غَسلتُ أرجُلَهم

وصرتُ خادمَهُم

فأحكموا الوِثَاقَ حول عُنُقي

أنا النُّورُ وصَوتُ الحَقِ

لكِنَّهم أبداً ما عَرَفوني

وفي يومِ جُمعةٍ على خَشبةٍ رَفَعوني

"اقتسموا ثيابي فيما بينهم

وعلى لِباسي ألقوا قُرعةً "

أوصيتُهم أحبُّوا بعضَكُم

فأتقنوا الكُرهَ والحِقدَ اِمتهنوا

استباحوا مَقابرَ الأَجدادِ

وملايين المرَّات جسدي صلبوا

نشروا نيرانَهم

فوق رقابِ الأطفالِ

وبعثروا كّلَّ السَّلامِ الَّذي لَهُم تَركتُ

وسَقوا شَجرةَ الزَّيتونِ

ما تبقَّى مِن دَمي

طلبتُ منهم ألا يكنزوا

على الأرضِ مَالاً

فامتلكوا مَصارفَ

تكفي لِخزنِ كُلِّ أحزاني

وزادوا في جِراحاتي

وبي نَكَّلوا

غداً حين أعودُ

ماذا تريدون أن تكونوا

شُركاء نِعمةٍ

أَم مُستَحقي نِّقمَةٍ؟

ما أردتم سِوى ذَهباً ومَالاً

وأنا لا ذهباً أقتني

ولا مَالاً أمتلِكُ

لأنَّ مملَكتي

ما كانت يوماً من هذا العَالمِ

«أنتُم مِلحُ الأرضِ

وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ

فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟

***

جورج عازار

ستوكهولم السويد

 

عدت ذات مساء إلى بيتنا مسرورًا فرحًا، فاستقبلتني امي بابتسامة رضا ومحبة و.. تساؤل عيانيّ. قلت لها انني تعرّفت على انسان مهجّر مثل حالاتنا، صاحب دكان تذكاريات في وسط البلدة والله منعم ومفضل عليه. واصلت امي ابتسامتها، كأنما هي تطلب مني ان اوضح لها اكثر، فالقيت عليها محاضرة مطوّلة.. حاولت ان اوضح فيها ان هناك فارقا واتفاقا بيني وبينه، اما الفارق فانه يتمثل في انه في حوالي الخمسين من عمره.. متزوج من اجنبية، في حين انني في السابعة عشرة.. واعزب.. لكن إلى جانب هذا.. هناك ما هو مشترك بيننا، فهو يحب الفن ويمارس الرسم التشكيلي خفية وزهدا في الشهرة المزّيفة.. وانا احلم بان اكون كاتبا. اما ما يحيط بهذا كله ويتوّجه.. هو اننا نحن الاثنين من اللاجئين في بلادنا. استمعت امي الى محاضرتي باهتمام شديد، وقالت لي: انت من يوم يومك بتحب معاشرة الكبار.. بس انتبه ودير بالك. طمأنت امي. تناولت كتابا استرخي هناك قريبا مني وشرعت في قراءته، وعندما ابتدأ الظلام في الهبوط على بيتنا وعلى كتابي.. كان لا بد من أشعل القنديل واواصل القراءة.

بعد ايام توجّهت امي الارملة للعمل غسّالة في بيوت اليهود، فيما توجهت انا الى صديقي في دكانه، وقد كنت مستمعا له ومستمتعا به، حد انني احببت الا ينقضي الوقت، واقر ّان الجلوس اليه كان بمثابة قراءة اخرى في كتاب ذكي. ومضت أشهر وانا اتردّد على دكان صديقي ذاك، الى ان قال لي ذات جلسة إنه ينوي ان يسافر لزيارة اهل زوجته الأجنبية، فسألته عن الوقت الذي سيقضيه هناك، فرد ليس اقل من شهر.

بعد خمسة عشر يوما مررت بالقرب من دكانه ففوجئت به وقد جلس هناك في مدخلها على تنكته التاريخية العريقة، ووضع راسه بين يديه. ما إن رآني حتى هتف بي:

- جيت؟..

لم اجب ورددت عليه بنظرة متسائلة عن سبب عودته قبل انتهاء فترة رحلته المتوقعة.

-  هذه حكاية يطول شرحها..

أجابني وتلالٌ مشجّرةٌ بالحزن تطلّ من عينيه.

- ما الذي حدث؟.. هتفتُ به.

- ما حدث لا يتحمّله انسان. قال وهو ينظر إلى الفضاء الممتدّ امامنا في الشارع.

شعرت بنوع من الكرب، واجتاحتني حالة من القلق المشوب بحب الاستطلاع، ووجدتني ادخل في حالة من الصمت. بدا ان صديقي شعر بما شعرت به، فشرع في اغلاق دكانه، وأمسكني من يدي، لأجد نفسي إلى جانبه في سيارته، ولننطلق بالتالي إلى قريته المهجّرة الساكنة في روحه وقلبه.

اوقف سيارته بالقرب من عين الماء، الاثر الوحيد القائم من قريته. نزل من سيارته، سار وسرت وراءه، أمسك بزهرةِ نبتةٍ يابسةٍ وقذف بها إلى عصفور حلّق قريبًا.. طفرت دمعة إلى عينه، وقال لي:

-  لقد تدمّرت.. طرقت بابي نكبة اخرى.

ارسلت تجاهه نظرة متسائلة، في محاولة مني لتشجيعه على البوح وعدم قطع تسلسل أخيلته، فتجاهل نظرتي وسرح في فضاء قريته واشجارها وتمتم:

- لو بقينا هنا.. ما حدث كلّ هذا.

وجدتني اندفع هاتفا به:

- ما الذي حدث.. قلبي لا يتحمل أكثر.

- زوجتي رفضت العودة الى البلاد. قال كأنما هو يهوي بحمل ثقيل أرهق كاهله.

قال هذا وعاد يرسل نظرة إلى العصفور والزهرة. ويضيف:

- لقد فررت اوروبا كلها.. لا يوجد فيها لا زهرة ولا عصفور يشبهني.. خسارة..

ومدّ يده متحسّسًا ريش ذلك العصفور.. بحنو وحنان.

مضى الوقت بطيئا بين دمعة وذكرى.. ووجدته يتوجّه إليّ ونحن نستقل سيارته عائدين إلى ناصرتنا:

- انت بتحب كتابة القصص.. وبتحلم تكون كاتب.. صح؟

هتفت به دون ارادة مني:

- صح.

أضاف:

- انت بتحتاج لأجواء مريحة لكتابة القصص. صح؟

انتشيت:

- صح.

عندها نطق بما مهّد له:

- شو رايك تيجي انت وامك للسكن عندي.. بيتي كبير وبتسع النا كلنا.

اجتاحني شعورٌ حلوٌ، خاصة انني حلمت فعلا أن أغلب التهجير بالقصص، وها هي الفرصة تحين لأن أجد الوقت الكافي والنور الكافي للكتابة.

في طريق العودة الى بيتي، رحت أتصوّر ما سوف انعم به من راحة وهدوء بال، ووقت للكتابة، بل تصوّرت ان الله بعث لي أخيرًا ماري هاسكل*، في اهاب رجل فلسطيني لاجئ مثل حالاتي، واخذتُ امني نفسي بكتابة قصص تهز ّالعالم وتؤكد له ان طرد اهلي من قريتهم لم يقضِ عليهم وإنما فتح المجالَ بشكل أو بآخر.. لأن تزدهر في حديقتهم الف زهرة.. وغابة من الاحلام. تمنيت لو ان الطريق قصر لأصل إلى بيتنا في حي الصفافرة، بأسرع وقت ولأخبرها بنبأ الحلم الرائع الذي طرق اخيرًا ابواب حياتي وطموحي. عندما وصلت بيتنا، لم تكن أمي هناك.. استلقيت تحت شجرة الليمون في حاكورة بيتنا الفقير المتواضع. ونمت على حلمي الجميل. لأشعر بعد لحظات بيد امي تسوّي شعري وتطلب منّي ان ادخل إلى البيت لارتاح هناك. قبل ان انام اخبرت امي بما اقترحه علي صديقي المكلوم.. فسألتني وانت شو رايك، فقلبت سؤالها.. بالأول قولي انت. عندها غرست امي عينها في عيني.. فكرك في بيت في الدنيا ممكن يكون أفضل من بيتنا؟ عندها خجلت من امي ولم اعد الى اقتراح صديقي.. بتاتا.

***

قصة: ناجي ظاهر

....................

* ماري هاسكل الامريكية راعية جبران خليل جبران وداعمته في مسيرته الإبداعية الصعبة.

أريد لحظة الدهشة

في عمق التقاء تفاصيلنا الصغيرة

عندما أخبرتني إنك تقرأ

كتاباً لابن الفارض

ورأيته يطل علي بذات غلافه

الأزرق من تحت وسادتي

حينها وضعت درجة

جديدة في سلم

ارتقائنا نحو الهناك

حيث نلتقي

بلا مواعيد

بين دفتي

كتاب

بين

أبعاد صورة ما

بين

نغمة

و

أخرى

تتنزل

من حنجرة

مترفة

بارتعشات

مضيئة

حينما يغني

بوب مارلي

*

I wanna love you

And treat you right

I wanna love you

Every day and every night

*

ويسري صوته من نافذتك

ليروي فيني عطش اللحظة

وتصدح أوصالي

مع ويتني هيوستن

*

I will always love you

My darling, you,

*

أريد لحظة الدهشة

حينما تحدث الأرض السماء

بلغتنا

أنا

و

أنت

تعالي

فترقد

في

حجرها

غيمة

غيمة

أريد كل اللحظات التي تؤسس لعالم

لا يحتمل غثيان التكرار الباهت

وجمود الفكرة

أريد أن يصفق الورد

كلما اعتليت منصة القصيد

لتهديني نصاً

تبدأه بي

وتختمه بي

أن تكتبني

حبيبتي

أريدها

أحبها

أعشقها

بكل لغات الدنيا

نعم اعتمدني قصيدة بلا نهاية

لكي لا تكف الدهشة

عن مغازلتي

كل صباح

بقبلة

تمسك بي أكثر

واسمعْ

درويش

"وانتظرها

إلى أن يقول لك الليل لم يبق غيركما في الوجود، فخذها إلى موتك المشتهى وانتظرها"

*

ودعنا نرقص مع الفيتوري

ذاك الشاهق

*

"في حضرة من أهوى.. عبثت بي الأشواق

حدّقتُ بلا وجه.. ورقصت بلا ساق"

*

هي لحظات ستشكلنا

لوحة

والحب

جدار

للدهشة

هي

نظرة

من لوحة داڤينشي

تتبع وجهك

وتربك خط السير

إلى غير عيوني

اتبعها

وسافر

لحكايا

المدن

البعيدة

ووجوه

اللقاء

العديدة

في قصيدة

في كتاب

أو

في

مجاميع الغناء

وانتظرني

ليت شعري

أنا

كم لبثت

أشعل

الرؤيا

قناديلاً

وأطفو

فوق

بحر

الأمنيات

أبحث

عن

أصابعنا

التي

ترتل

الأشعار

وجعاً

ثم

لوناً

ساحراً

في سماء

اللحظات .

***

أريج محمد أحمد - السودان - مصر

25/4/2024

 

حينما يشتهى الضوءُ

أن يرسمَ لوحة

تتأهب الأشجار فترتدي جبّة الربيع

وتمشّط الجداول بريقها

فتغفو الألوان على غيمة

من حديث الصّباح

حينما يريد الضوء أن يكتبَ قصيدةً

يرسمُ في خيالاته جسرًا

يعانق ذاكرةُ الأزمان

فتضيء دروب الحب

وتُزهر الأماني

حكمةُ القصيدة

أن تنسجُ الأفكارُ من حريرِ اللغةِ

شاعرًا ينثرُ أحرفَهُ على صفحاتِ الأملِ

ويتأملُ في صمتِهِ:

هل يُستعادُ الذي أضاعته الروحُ في زحامِ العمر؟

هل تلتقي الأرواحُ ما بين سطرين

في لغزِ الوجودِ؟

ربما..

إنما..

حكمةُ القصيدةِ

حين تكشفُ الكلماتُ

عن وجهها للإلهامِ

تختفي الحروف..

وتبقى المعاني صامدة

في عروشِها !

حينما يسدل الضوء ثوبَه

تتلمسُ الظلماتِ قلبها

تتشابك الأفكار

على مسرح المعاني

بحثا عن معنى عميق أو رسالة خفية

تتماهى مع المصير.

و حينما يريد أن يخلّد قصيدتَهُ

يدّعي أنّها أسطورة

مازالت تُروى .

***

ريما آل كلزلي

مرتضي  العربيد النزق، الذي لا يرضى أو يقنع باللذة القليلة، ولا بالبهجة الضئيلة، أفنى عمره، وشبابه الزاهر، في مطاردة شهواتة التي لا تكاد تنقضي، وحال الشباب في السودان في تلك الفترة، كان لا يختلف كثيراً عن حال الشباب في المنطقة العربية، فكلهم لم يكن يعوزهم الرواء، ولا الخنا، ولا الرغبة الملحة،  ومرتضى الذي تخرج من كلية الهندسة بتقدير ممتاز، كان مقياس النجاح عنده، أن يظفر ويوفق إلى كل ما يريد، وأن يستمتع بمباهج الحياة في اسراف وغلو، وقد يكون السبب في ذلك، أنه لم يجد من يمنعة عن الفتنة، أو يعصمه عن الغواية، فقد نشأ يتيماً توفي أبواه وهو في ميعة الصبا الأغر، وتكفل خاله "خالد" المهندس المدني برعايته، وخالد "المدني" اللقب الذي توافق الناس على منادته به، نسبة للقسم الذي تخرج منه وبرع فيه، كان طموحه الناهض أن يحرر شباب قريته من قيود الماضي، لقد تأثر "المدني"بالحضارة الغربية، التي أطلع على ما فيها من ألوان الحياة، حينما كان طالباً في كلية الهندسة بأحد جامعات الاتحاد السوفيتي في ستينيات القرن المنصرم، وأراد بعد عودته أن يستأنف حياته الحرة المتهتكة، في قريته الواقعة على ضفاف النيل الأزرق، ولكنه لاقى ضروباً من المشقة، وألواناً من العنت، و"المدني" هذا كان لا يضيق بشيء مثل ضيقه من أعراف وتقاليد المجتمعات التقليدية، التي كانت تستهجن اللذة المحرمة، وتحصي على صاحبها الأنفاس، وتبث حوله العيون، لكل هذه الأسباب كان يستبد به الملل، ويسرع إليه الضجر، وينتظر بفارغ الصبر وظيفته التي يتأهب للنهوض بأعبائها الجسام، فقد تعلم من الغرب كيف يتفانى في أداء وظيفته، ويعرف قيمتها، ولايقصر في فرائضها، لقد سئم"المدني" من قريته، ومن بساتينها الممتدة، ورياضها الجميلة، لأنه يعيش على غير سجيته وسط أهله وعترته، فهو مضطر لهذا الاحتشام المتكلف، والوقار المستعار، ووالد المهندس خالد الذي كان أول شيء جرى على خاطره بعد عودة إبنه، هو أن يزوجه من بنت أخية، لذا كان ينتظر أن يثوب إلى ابنه شيء من الرشد، حتى يكمل له مراسم قرانه، فوالد"المدني" يرى أن الزواج عاملاً أساسياً في اصلاح ولده، وأن ولده سيحب بنته أخيه، وسيسعد بهذا الحب، وبهذا ستنتهي قصته مع العبث، وستسكن نزواته بعد حركة، وتخمد شهواته بعد نشاط، ولكن صولات " المدني" في الحق لم يوقفها إلا نسيس الموت، تزوج "المدني" من بنت عمه وهي صبية في الخامسة عشر، أو السادسةعشر من عمرها، ومضى بها إلى مقر عمله في الخرطوم، والصبية التي استولى عليها الخوف المروّع، من فكرة العيش بمعية بن عمها الذي كانت لا تعرف عنه إلا القليل، أدركت فيما بعد أنه وثيق الصلة بهذه الحركة الفكرية العنيفة، التي تلزم صاحبها بأن يزهد في العبادات والشعائر الدينية،  وهذه الحركة التي كانت تتراكم، وتتراكب، حتى غطت مساحات واسعة من أنحاء العالم، قد يعرف الناس من أمرها وقد ينكرون، ولكن" المدني" آمن بها، لأنها كانت تدفعة إلى الغضب الجامح، والسخط العنيف على الأنظمة الحاكمة، كما أنها كانت تذلل له شائك الحياة الاجتماعية التي تتعارض مع طريقته في الحياة، فهذه الحركة مزاج بين التمرد، والعهر، والمعارضة السياسية.

 وبعد الزواج عاد"المدني" على ما كان عليه، شديد العاطفة، قوي الكلف و الحس بالنساء، ولعل الزواج زاده شغفاً والحاحاً، فصار يكثر من مغامراته مع "الجنس اللطيف" وكأنه سيرتحل عن هذه الحياة في القريب العاجل، لقد كانت كل المشكلات التي تتألف منها حياته، كيف يضحي بالقليل من حريته التي يريد أن يحتفظ بها ما وسعه الاحتفاظ، لتتلائم مع الضروريات التي تقتضيها حياته الطارئة الجديدة التي تحيط به وتؤثر فيه، ولعل الشيء المحقق أنه أحسّ أن والده قد ورطه في هذه الخطوة التي تخالف طبيعته وحريته التي عبث الزواج بحدودها وآمالها، وفي الجانب الآخرأخذت"نفيسة" المشرقة النفس، المبسوطة الأسارير، تراقب زوجها الذي يتهيأ للنهوض

وتستطلع حركاته، ونفيسة كما نعلم قد نشأت في قرية على ألوان من العقائد، تقتضي من صاحبها الالتزام بها، مهما لاقى فيها من جهد وضيق، ومن أهم هذه المثل والعقائد طاعة زوجها، والصبر على علاته، وعدم النفوذ إلى دقائقه،  هذه الأشياء توشك أن تكون "ديناً" عند ممن هم على شاكلة نفيسة، لأجل ذلك كانت تستحي حتى من النظر إلى ملامح زوجها، ولم تحيط هي بتقاطيع وجهه، هل هي غائرة أم عميقة، إلا بعد فترة طويلة من عيشها معه في بيت الزوجية، ونفيسة التي لم تظفر من زوجها إلا بِشْرِ ما تظفر به الزوجات،  حرصت رغم معاناتها مع الخيانة، أن تقنع عقلها بأن حياتها مع "المدني" في جملتها وتفصيلها، كانت مزاجاً من الجمال والقبح، والسعادة والتعاسة، واللذة والألم، "فالمدني" الذي يألفها حقاً، ويحبها فعلاً، ولم تتغير عاطفته تجاهها مطلقاً، عجز أن يغل نزواته أو يقيدها، ونفيسة التي لم تترك خيانة "المدني" لها أي قسطاً من أمل، أو حظاً من عزاء، سعت أن تكبح من جماح زوجها، وتكفكف من غلوائه، ولما فشلت في مساعيها أخذت تضيق "بالمدني"، وتقسو عليه، ولا تلقاه إلا عابسة ساخطة، فضاق بها المدني، وأرسلها مع أولاده الصغار إلى قريته، وحرص على أن يأتي إليهم نهاية كل شهر، فيقضي معهم يومين أو ثلاثة، ثم يعود إلى الخرطوم التي يهيم فيها بكل ما هو جميل ورائع، ويظهر هذا الوله، وذاك التدله بأي امرأة يلقاها، ويتكلف هذا العشق الفاسد إلى أبعد حد، وينخرط في عوالمه وضروبه إلى أوسع مدى.

في هذا البيت الذي انصرفت سيدته عنه، نشأ مرتضي الذي سيقيم حياته على الخطيئة، ويعكف عليها حينما يكبر، مدللاً مرفهاً، وقد ساعده ثراء خاله، وحبه له، وعطفه عليه، ألا تقطب الدنيا جبينها عليه إلا بمقدار، وقد أكتسب مرتضى من هذا البيت باقة من الخصال التي أعانته على أن يشق طريقه في الحياة، وقد أسعفته هذه الخصال أن ينال جل ما أراد، فهو بخلاف هذه الابتسامة الساخرة التي ترتسم على محياه دائماً، كان نابها ذكياً مثل خاله"المدني"، وصاحب سحر طاغي، يستطيع أن يؤثل مكانته في القلوب، وسلطانه على النفوس، كما كان صاحبنا، صاحب حظ عظيم من الرقي، واللباقة، وخفة الظل، ومرتضى مثل خاله "المدني" في عشق النساء والافتتان بهن، فما يرى أي غادة هيفاء، في أي روضة فيحاء، إلا سعى لأن يوقعها في أسره، ويسمعها حديثه الماتع الذي يخلب الألباب، ويملأ أذناها بالوهم، والخيال، والأمل، في زواج قاصد، وبيت رفيع الدعائم، ولكن وعود هذه الشقي على كثرتها لم تستحيل إلى زواج سعيد، كانت مجرد وعود يستدرج بها قطيع الحسان إلى مخدعه، ولم يشقي مرتضى عقله، أو قلبه، أو ضميره، بمصير ضحيته التي يتحول حبها له إلى غضب عارم، ثم يغسل هذا الغضب العارم، دموع ساخنة لا يتوقف وكفها إلا في مشقة وجهد، ثم تنصرف بعد ذلك محزونة مستيئسة عنه، هكذا تمضي حياة مرتضى كما مضت حياة خاله "المدني" لا يحد حظها من الحركة، ونصيبها من النشاط، إلا علة طارئة تجبر هدير مخدعه على الخفوت، ومرتضى الذي كان يُكْبِر خاله "خالد المدني" ويُعْظِمه، أثار مرضه وهلاكه شططاً عليه، ودفعه لأن يظهر حزناً وأسى لا سابق عهد له به، ثم أخذت الأحداث تتلاقح، والخطوب تتدافع، ففي قريته والجموع ما زالت تترى معزية في فقد خاله، تناول مرتضى طعامه وهو كارهاً له، ومتبرماً به، فإذا بسيارة عسكرية، ينزل منها رجل قاسي الملامح، حاد الغضب، فظ الطباع، لا يعرف العار ولا يرضاه، يجر خلفه شقيقته وقريبتها، إنها "منى" الرائعة، العذبة، التي كانت تذيقه ألواناً من الدعة والنعيم في شقته التي استأجرها خصيصاً لفسقه وضلاله، ولكن ما أسرع ما ضاق بها هي وبنت خالتها "سلوى"، ولكن مهلاً، ترى ما هو سبب هذه الزيارة الكريمة التي أتحفوه بها؟ قطعاً هم لم يتجشموا المشاق، ويقطعوا كل تلك الرحلة المضنية من أجل إظهار الحزن واللوعة على فقد خاله، ومرتضى الذي كان يعتقد أن حياته ستمضي في هدوء شامل، وسلام كامل، أفسدت عليه "منى وسلوى" كل شيء، وأبغضت إليه كل شيء، وأحس شيئاً مما تحسه النفس وهي في مثل هذا الموقف العصيب الذي ناله فيه ما ناله من الضعة والصغار، لقد أحس مرتضى لأول مرة بالندم على حياته الناضبة، و داهمه احساس جامح بأنه يبغض خاله الراحل، ويسرف في بغضه، فهو من عبّدَ له هذا الطريق الحافل بالزيغ والآثام، وهو الذي جعل شره أكثر من خيره، لقد أسدلت "منى وسلوى" أطوار القبول والرضا عن حياته السابقة، وفتحن له أبواب التوبة، ومددن له من أسبابها، لقد اضطر مرتضى أمام توبيخ أسرته، وتهديد شقيق منى وسلوى أن يرضخ ويتزوج منهن، بعد علم بأن كلاهما حامل سفاحاً منه، وأخضعه شقيق" زوجتيه" لأن يوقع على مبلغ طائل من المال في مؤخر الصداق حتى لا يقدم على طلاقهن بعد وقت قصير.

ولم يرد مرتضى نفسه إلى الأمن، وقلبه إلى الطمأنينة طويلا، ليمضي في تلك التوبة التي سكت صوتها سريعا، لقد ترك مرتضى تلك الحياة التي ثقلت عليه، بعد أن أجبرته الظروف على الزواج، والزواج كان آخر شيء يطمح إليه، ترك مرتضى إذن منى وسلوى في قريته كما ترك خاله المدني نفيسة، وعاد لحياته السابقة، عاد لحريته المسرفة التي يبيح فيها كل لذة، ويمعن فيها في كل مجون، عاد الشقي كما كان يبتكر المعاني، ويتقن الأساليب، ويحسن الاختيار، ويعود نهاية كل شهر لزوجتيه وولديه، تماماً كما كان يفعل خاله "المدني" في حياته، والغريب أن مرتضى بعد أن طافت به هذه الخطوب، ورجع لحياته العابثة، أصبح أكثر قدرة على الحركة والاضطراب، وأميل إلى التروي والانتقاء، وأحرص على الاستمتاع بضروب الملذات في شره وعنف، وسار على هذا النهج حتى حضرته الوفاة، وطوته يد المنون.

***

د. الطيب النقر

 

لَا،

فَالْعَبَاءَةُ مَا تَزَالُ مُعَلَّقَةْ،

هذي،

وَتَبْدو كُلَّ فَرْضٍ مُشْرِقَةْ

*

في كُلِّ فَجْرٍ تَقْتَفي صَوْتَ الْأَذَانِ

تَظــلُّ فـي صَـادِ الصَّــلَاةِ مُـحَــدِّقَــةْ

*

تَرْنُو لَـهَا سَجَّادَةٌ،

أَوْ تُرْبَةٌ

كَــانَتْ تَـمَـــسُّ جَبينَهَا كَـــيْ تَعْتِقَهْ

*

أُمِّــــي تُــــرَدِّدُهَـــا الْــمَنَــاجِـــلُ كُــلَّمَـــا

رَفَّتْ بِكَـــفِّ الْكَــادِحينَ الْمِطْـرَقَةْ

*

كَانَتْ تَلُمُّ الْغَيْمَ،

تـُحْصي غَيْثَهُ،

وَبِهِ تُسَافِرُ لِلْفَلَاةِ لِتُنْفِقَهْ

*

أُمِّي لَيَذْكُرُهَا الْعِرَاقُ،

فَطَالَمَا

اتـَّحَــدَتْ بَقَايَاهَـــا لِتَحْمِــلَ بَيْرَقَهْ

*

الْأُمَّهَــاتُ صَهَرَنَ أَحْــزَانَ الْعِرَاقِ

وَصِغْنَ مِنْهَــا أَلْفَ بُشْرَى مُورِقَةْ

*

وَنَـحَتْنَ فَــــوْقَ الْمَــاءِ هَيْبَةَ فَــــارِسٍ

من نَضْرَةِ الْأَشْجَارِ يَـجْمَعُ فَيْلَقَهْ

*

وَنَسْجْنَ مِنْ قَصَبِ الْـجَنُوبِ حِكَايَةً

تُــرْوَى إِذَا مَــــا الْمَــوْجُ شَـــاكَسَ زَوْرَقَهْ

*

بِنْتُ الْعِرَاقِ مِنَ الثَّرَى ابْتَكَرَتْ حُروفاً

وَانْبَرَتْ لِلْمُسْتَحيلِ لِتَمْحَقَهْ

*

وَتُزَخْرِفُ الْمَعْنَى عَفَافاً،

يَزْدَهي

بِنُضَارِهِ شَوْقُ الْقُرَى الْمُتَـرَقْرِقَةْ

*

وَتُـجَدْوِلُ الطُّرُقَاتِ بِاسْمِ اللَّا انْتِمَاءِ

لِــــتَــتَّــقــــي شَــــــــرَّ الــظُّــنُــــونِ الضَّــيِّـقَــــةْ

*

تَنُّورُهَا الطِّينيُّ يَرْقَبُ كُحْلَ كُوخٍ

يَشْــــرَئِبُّ قُبَيْــلَ عُــــشِّ الــزَّقْــزَقَــةْ

*

أُمِّي *.

تُسَامِرُهَا مَوَاويلُ الرَّغيفِ

بِـحُضْنِ سَاقِيَةٍ تُـهَدْهِدُ زَنْبَقَةْ

*

أُمِّي تـَحُجُّ لَـهَا النُّجُومُ لِتَحْتَسي

مَــــاءَ الْـخُلُودِ بِكَفِّهَا الْمُتَصَدِّقَةْ

*

أُمِّي عَلَى الْكَلِمَاتِ روحُ صِفَاتِـهَا

تَطْفو،

وَحَفَّ بِـهَا السَّنَا كَيْ تَسْرِقَهْ

*

يَتَصَفَّحُ الصَّفْصَافُ سُـمْرَتَـهَا،

وَبِالْقُبُلَاتِ يَرْشُقُهَا الْخِضَابُ

لِتَرْشُقَهْ

*

يَتَضَــوَّعُ الرَّيـْحَــانُ مُبْتَهِلاً إِذَا

نَادَى بـَهَا مَاءُ الدِّلَاءِ لِتُهْرِقَهْ

*

وَإِذَا اسْتَجَارَ بـِهَا الْمَدَى مِـمَّا بَدَا

وَشَكَـــا عِنَــــادَ غُــيُــومِــــهِ الْمُتَفَــرِّقَـــةْ

*

وَصَفَتْ لَهُ عِشْقَ الْعِرَاقِ تـَميمَةً

لِـيَـعــودَ مَنْتَصِــراً عَــلَــى مَـــا أَرَّقَـــهْ

*

وَطَني الَّــذي قَصَدَ الْـحـُسَيْنُ تُــرَابَهُ

هَلْ يَسْتَطيعُ الْـحُرُّ أَلّا يَعْشَقَهْ؟

***

عبد الكريم الياسري

البصرة في آذار 2014

القصيدة منشورة في مجموعتي "حين يحتفل القصب"

 

نمضي على سنن الدهور ونعبرُ

حينا تجاملنا وحينا تغدرُ

*

لكننا مستسلمون لأمرها

فيما عبرناه وما لا نعبرُ.

*

عجبا نرى منها العجيب ونصبرُ

ونلوذ بالصمت الرهيب ونسكرُ

*

ونعاتب الايام بعد دوالها

لكنما الايام منا تضجرُ

*

نأتي إلى الأرضين دون إرادةٍ

ونعدُّ عمرًا فات وهو مبعثرُ

*

نرجو بقاءً لا لعمر زائف

ندري كتاب العمر يوما ينشرُ

*

يا أيها الدرب الطويل، أما عرف

ت حكايتي، أني إذن لمقصرُ

*

ألأنَّ شعري لم يصلك نحيبُهُ؟

ام أن في مغناي شدوًا يسحرُ

*

أدركت فيّ محبة لا تختفي

فظننت اني عاشق متهوّرُ

*

ارجوك لا ترمِ السهامَ بخافقي

فلقد رميت وذي سهامك تخبرُ

*

صرنا انا والجرح ظلينِ معا

ما أن يمر الحزنُ ظلي يكبرُ

*

وتعوًّدَ الدرب الطويل طرافتي

عجبا لجرحي، كيف مثلي يصبرُ

*

ها أنت تحمل ما حملت مرددًا

من ذا يعيدك يا زمان ويحضرُ

*

الموت اشقاني وأن لم يقترب

مني ولكن منه يشقى المخبرُ

*

عرج إلى روحي، فقد افزعتني

الهمُّ يأكلني وناريَ تسعرُ

*

هي لعبةُ الأيامِ ندري أنّها

لا بد يوما يلتقيك المحشرُ

***

د. جاسم الخالدي

لكن

كيف ذلك...؟!

وعبق

طهارتها

اكسير الحياة

*

يحق لها أن تفخر

وتضاهي

شموخ

نخلة باسقة

خطوة وئيدة

*

التبسّم

سلاحها العتيد

كلما قذفت بين خطوات قدميها

نفايات

توصف تعسّفا بالبشرية

*

تتشبث

بكل ما أوتيت من قوة

فحلمها

قاب شهقة أو أدنى

*

تسطع لناظريها

حقيقة

يُحاوَل تدليسها

آه يا فرج الله

القريب

***

ابتسام الحاج زكي/ العراق

 

من نُطفةِ التكوينْ

والتَخْليقِ والتحْليقِ

والطينِ الحزينْ

وفي مدى هذي الحياةْ

وعلى صدى هذا الزمانْ

أنا خُلِقْتُ محكوماً عليَّ

بلَعْنَةِ الشِعْرِ المُؤبَّدْ

وجَمْرَةِ الحُبِّ المُبَدَّدْ

وحِكْمَةِ الموتِ المُؤَكَّدْ

وعواصفِ الآلامِ والأحلامِ

والخساراتِ الثقيلةِ

والذكرياتِ المَريرةِ

وخَيْبةِ الوطنِ المُشَرِّدْ ،

وأنا المُشَرَّدُ

والمُجَرَّدْ

منْ ترابِهِ

وبساتينِهِ

ومنْ هوائهِ

ومنْ رافدِيْهْ

ومنْ حضنِ أُمي

التي لمْ تحْتَضِنْ

في غيابي

سوى صوري

في المنافي

وفي غُرْبَتي

وضياعيَ

الفادحِ

والجارحِ

والقاسي

حدَّ البكاءِ

والنحيبِ

والعويلْ

في ليلِ

البلادِ الغريبةِ

الخادعِ

والفاجعِ

والطويييييلْ

مثلَ أنفاسِ

جبلٍ ثلجيٍّ

في " أتلانتكِ "

الخوفِ

والمجهولِ

والغرقى

والدَمِ

والحيتانِ

والموتِ الثقييييييييلْ

***

سعد جاسم - كندا

 

لا دخلَ لي

إنها مهمتَك

بأن تسألَ ثيابي

التي تترنحُ بلا حياءٍ في خِزانتها ..

أو

تتقافزُ على حبالِ الغسيل!

ومهمتُكَ

أن تعرفَ أسبابَ غناءِ القاطرةِ

التي تحملُ زجاجاتِ عطري الفاتن

عندما قبّلتني أوَّلَ مـن أمس!

صارت كُتبي

تقفزُ كما لاعبو السيرك ..

صحونُ الدارِ ترقصُ الباليَه ..

وأنا أضحكُ ـ فجأةً ـ بلا سبب

في اجتماعات العمل السخيفة ..

أهزُّ كتفي للمرآةِ ..

أغمزُ لعصافيرِ شارعِنا المخبُولِ

وأشعرُ أني في كل زحامٍ

أكادُ أهمُّ بفتحِ البابِ

وأركضُ...أركضُ

كي أرمِي نفسي في النهرِ

وإذا انتصفَ الليل

أزغردُ فرحًا

وأغمُض عينيَّ على قبلتِكَ!

***

سمرقند الجابري

(*) من مجموعتي (رابط لأغنية ساحرة) منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق 2023.

بماذا كانت تفكر قبل أن تكتب رسالتها الأخيرة؟

 يقال بأن العقل يعلمك بموتك قبل أن يتوقف عن العمل بعد توقف القلب بثوانٍ معدودة. ترى مكانك محلقًا كطائر سنونو مهاجر، تغادر بلا جمهور، وبلا وجوه تبكيك. لم يفكر أحد أن يضع على قبرك وردةً، فهم متعبون من أجل البحث عنك في هذا الفراغ السخيّ. تمر سنون حياتك سريعًا كضباب يخترق أشجار صنوبر باردة فلا تستطيع عين كاميرا من التقاط صورة ثابتة. تموت " سحر سيف الدين " ولكن قبل هذا لابد أنها قد شاهدت نهرًا جاريًا يمر من تحت أقدامها، فقد كانت تفكر في الماء طوال ثلاثة أيام مضت. روحها رفعت قبل أن تبلل عطشها برشفة فتلاشى السراب في لحظة. ترهّلت كل أفكارها وأصيبت باليأس فعلا، حي لا أحد يسمع أنينهم المبدد في الظلام. كل ما فيها إلى جانب عائلتها المكونة من سبعة أشخاص تبعثروا في عرض الصحراء بعدما تاهوا فيها وانقطعت بهم السبل. تاركين حياة أخرى تمرح في قمصان معلقة في الخزانات، ورائحة بهارات على رف المطبخ، وبعضًا من قوارير العطر أوشكت على الانتهاء، وزجاجات ماء ليس لها غطاء، تبخرت في ثلاجة بيتهم المستأجر في مدينة " الفاشر " أما دجاجاتهم العشر فأوصوا بها جارتهم الكفيفة وصبي لها ترعاه. يعرفون بأنه ربما يسرقها ومع هذا تركوها له، وراحوا بكل أشواقهم وقدرهم الغريب ليعانقوا أبيهم وأخيهم ناصر اللذين مضى على استقرارهم في ليبيا أكثر من أريع سنوات طرزت بالصور والرسائل لا غير. الجثث الثمانية تبعثرت حتى احترقت جلودهم السمراء. فلم تقو ضباع الصحراء على مضغها حتى. على مقربة من سحر سمعت عظام أخيها آدم وهي تتكسر. آدم الذي حفر بيديه قبره كان يعاني من هشاشة العظام وأمراض أخرى نمت معه منذ ولادته. هي من كانت تشعل له ضوء الأباجورة وتحكي له عن الجدة " ريحانة " عن قصصها الخرافية، وعن أصناف الطعام الليبي الذي وعودوا بتذوقه حال وصولهم إلى مدينة " الكفرة " التي يتوجهون لها في الغد. كم بدا بريئاً تحت نور الأبجورة الخافت، بملامحه الجذابة وابتسامة الرضا تعلو شفتيه الممتلئتين. نام غارقا في أحلامه بعدما طبعت على جبينه قبلة. القبلة التي وشمت بها جلده اليابس وهو يموت أمامها نطقت باسم يحب أن ينادى به " دودي " وكان له وقع غريب في نفسه، بالكاد تعرفت على صوتها وهي تناديه فقد جف الماء في فمها. بعد خمسة أشهر من العثور على جثث العائلة المفقودة في الصحراء والذين قضوا من الجوع والعطش. تبين أن الأم " عرفة " ماتت منذ اليوم الثاني. في سلام تام نامت ولم تستيقظ بعدما هبط لديها السكري فلم تتذوق حلاوة عناق زوجها أو ابنها صلاح ولا حتى من كان معها في الرحلة المشؤومة. تلاها آدم الذي نادت عليه أخته سحر " دودي .. دودي " مرات عدة، وفي المرة الأخيرة صحا فزعاً وهو يسأل: " ماذا هناك؟ أأنتم بخير؟ " لم تتمكن من السيطرة على نفسها هذه المرة، ضحكت بصوت عالٍ وهي تقلب الهاتف الذي في يدها، تفرك عينيها المسهدتين، وتتعثر في خطواتها. يغمرها خوف وحشي وهي تلقى نظرة خاطفة على جثث من حولها. على ملابسهم التي طويت بعناية، وحقائبهم اللامعة، وأحلامهم الشاردة، وجوازات سفرهم التي لم يسافروا بها من قبل. في حين وعدت أمها فور عودتهم من ليبيا أن تحج معها إلى بيت الله الحرام هذا العام. نظرت إلى هداياهم التي تخلوا عن مصروفهم من أجلها. إلى هاتفها الساكن حيث لا إشارة تنطلق منه، نظرت وبددت وعودها في صرخة كبيرة. سألت نفسها عن مزاجها الذي تعكر بسبب زوجها الكسول وهي تسترق الوقت من أجل أخذ حمام سريع فهي لا تحب السفر إلا بعدما تغتسل وتتطيب بالبخور السوداني المعتق. أكانت الصحراء تستحق كل ذلك؟ ماذا عنه وهو يحيط ابنها الأوسط " عثمان " بذراعيه خوفًا عليه من أن يسقط في حفرة آدم. لقد بدت الصحراء الشاسعة كسجن بلا قضبان. كتمت مرة أخرى صرختها أثناء ما حملتهم سيارات الإسعاف. فقد فات الأوان، وحان أوان كتابة رسالتها الأخيرة التي سيجدونها في حقيبتها المعلقة في رقبتها الهزيلة. قبل ذلك كان لابد من الالتفات إلى أختها الكبرى " سلوى " التي كانت تنازع، بالكاد كانت ترى ظلها بعدما غمرتها الرمال. بدت كشعاع خارج من بؤبؤ قط في ليلة شديدة الظلمة. سلوى التي كانت تحلم بخطيبها عبدالقادر وهي تزف إلى سرير الليبي الغريب، في غرفة فندق مزروع على أطراف قرية نائية في أرخبيل واحات بلدة الجوف، سمعته سحر يدندن داخل الحمام بلغة غريبة وهو يستحم استعدادً لاستقبال عروسه. فضحكت بحسرة. أحست بأن سلوى تحلم وكأنها في فيلم قديم، متخيلة بأن خطيبها الوسيم سيخرج فجأة من وراء أحد أعمدة المرمر، وبيده سيجارة، لتتبعه بثوبها السوداني الذي يصدر حفيفاً كلما مس الأرض. فجأة ضحكت وهي تشم رائحة فمها التي أزعجتها، مررت لسانها على أسنانها الأمامية فتوقف. لجأت إلى حبة حلوى احتفظت بها في حقيبتها، وبمجرد أن مدت يدها تذكرت آدم الذي كان يحب الحلوى. فرمتها في حفرته الصغيرة بعدما زحفت على بطنها إليه، وحين وجدته قد مات فعلا لم تبك. اكتفت بالصراخ، لقد أحست بأنه لا ماء في جسدها، لقد ذبل بشكل رهيب. في أنفاسها الأخيرة تذكرت آخر كتاب قرأت فيه عبارة " لا تنظر في عيني جريح " المقلتان المتحجرتان تلتقطان انعكاس الخوف الذي غشاها بعدما أيقنت أنها آخر من يموت من عائلتها. لن تحدق في عيني أمها ولا سلوى ولا مصطفى ولا أبنائه الثلاثة. فهي تخاف أن ترى فيها سرًا قديمًا، أو ندبة أخفوها بحذق. ربما تدفعها الشفقة على نفسها فتمص أصابعهم التي فقدت أناملها من كثر ما أكلوا أظافرهم. تقول في نفسها وهي تخرج القلم من حقيبة مصطفى الشاعر المغمور: نبدو كمن ابتلع لحظات الرعب كلها. ونحن نخفي هلعًا داخل ثيابنا. لقد شهدت واحدًا من أبناء مصطفى وهو يأكل جربوعًا ميتًا، ما دعا والده إلى الإنزواء عند عجلة السيارة المقلوبة ويبكي طويلاً جراء فعلته. هو يعلم أن الخوف سيتسرب من سرَّته، ويهوي عليه بقبضته المؤجلة كلما غادر مقعده الدافئ، مخلّفًا وراءه بقع دم يابسة وثلاث غزالات لم يُغمض أحد أعينهم. ثمة رسالة كتبتها سحر، غمستهم في حوض ماء شربوا منه واغتسلوا وضحكوا كثيرًا بعدما أخرجتهم من حفرة واسعة في صحراء لا تلمع فيها إلا بضعة نجوم..

نص الرسالة

" إلى من يجد هذي الورقة.. هذا رقم أخي محمد سيف الدين.. استودعكم الله وسامحوني أنني لم أوصل أمي إليكم.. بابا وناصر بحبكم. ادعوا لينا بالرحمة وأهدونا قرآن واعملوا لينا سبيل مويه هنا "

***

بلقيس الملحم - شاعرة وقاصة من السعودية

...............................

* القصة مستوحاة من قصة مأساوية.. تم العثور على 8 جثث لأفراد عائلة سودانية في الصحراء الليبية قضوا نحبهم في عرض الصحراء عطشاً وجوعاً مع وصية مؤثرة من إحدى الضحايا بتاريخ 15 فبراير 2021

 

أجيد جلد الذات

بسوط النكت السمجة

من دفين الوجع أبدعها

وبملح الدمع أشكلها

هكذا أضمن انتشارها

بين أقراني من ذوي الخيبات

في وطن يجيد ترشيد الحرقة

ليبلغ الكمد محله

عربي أنا.....

أستمتع بالنوم في العراء

السماء خيمتي ....والنجوم ندماء

يوثقون لحظات احتراقي

الكلاب الضالة تدفيء ظهري

والقطط تشاكس نومي

وأنا أزاحمها في علبة الكرتون

حيث الصغار وانا ننتظر

ما تجود به الموائد المستديرة

من بقايا اللصوص المبجلة

*

عربي أنا.....

من قال أريد مستشفى او مدرسة

جامعة...او حتى مرحاضا

التبول على الجدران يشعرك بكينونتك

وموتك على الرصيف يمنحك هالة

في الهواتف العابرة ...

متسعافي جرائد الغد ....

وجنازة تليق ....على شاشة الفايسبوك

*

عربي أنا.....

أرضع حلمة العراء

كيما أصاب بالسمنة

أعجن الفراغ رغيفا

على أبنائي وأحفادي...أوزعه

ويبقى حق الجيران محفوظا

في جراب الحاوي

كيف لا وعشرون درهما

أخرجتنا من النماء

لنحتل مرتبة الهراء

*

عربي أنا......

لا حاجة لي بعلم أو كتاب

فشاشة التلفاز كفيلة بتعليمي

كيف يكون الرقص على الجراح

كيف بالجهل تضمن بطاقة انتماء

بالكي تخرس ضميرك

إن انتابته نوبة الوعي والدهاء

*

عربي أنا......

ومن مثلي تجاوز صبر أيوب

وأنا في الألفية الثالثة

مازلت أسكن الكهوف؟

بمحراث الانتظار أحرث المدى

على امتداد الأزمنة اشتل الامل

في عيون الغضب

عل مطرقة الجلاد تسقط يوما

ليتحرر الغيم المعتقل

على افق الزمان

يعود الأمان الهارب في كل الجهات

*

ها قد جرف النهر الحقيقة

اختنق الافق باللعنات

فاي مصالحة تعيد للوطن لغاته الضائعة

لتتحرر الانفاس الرقراقة

من قيود الصمت الثقيلة

لنردد على مرأى الماضي ومسمع الآتي

نشيد الخلاص؟

***

مالكة حبرشيد - المغرب

 

أنا ضوءُ المِصباحِ

يا فَراشتي

فمن حُدودي لا تقتربي

وعلى مَشارفِ الخَطرِ

أبداً لا تَحُومي

تَعالَي حين أخبو

أو عندما يعتريني وَهَنٌ

أو رُبَّما حينما يراودني النُّعاسُ

أنا على جناحيكِ السَاحرين

خطرٌ

في حُضني جمرٌ ونارٌ

وموتٌ وفناءٌ

رَقَصاتُك تُسيلُ لُعابي

فلا تُكثِري من فنونِ إغرائي

إن دَنَوتِ

أخشى أن تَختلَّ كُلُّ مَوازيني

ويَعتري بوصِلتي النِّسيانُ

لا تُبعثري أدراجَ الرِّياحِ

كُلَّ ابتهالاتي

ولا تَطمَعي في رَباطةِ جَأشي

ولا في بَريقِ أحداقي

أنا لَكِ المَوتُ الزُؤامُ

والبعدُ عني هو الحَياةُ

أنا الأضَّدادُ في دُنيا الخَياراتِ

حلوٌ ومرٌ

عِشقٌ وكُرهٌ

حصيفةً كُوني

فسذاجةٌ أن تُجازفي

في لُعبةِ المغامراتِ

غازلي كُلَّ الزُّهورِ

وارتاحي فوقَ كُلِّ الأغصَانِ

وتُراقَصي أمامَ عتباتِ السُّلطانِ

وداعِبي جَدائِلَ الأميراتِ

في القُصورِ

ولَكِن حَذارِ

أن يُثيرَ غَرائِزُك لَمَعاني

فالدُّخولُ إلى حُجراتي

أَسْرٌ من غير إطلاقِ سَراحٍ

مشروطٍ أو بغيرِ شروطٍ

هل رأيت أحداً

من العُشَّاقِ

يَتضَرُّعُ إليكِ

من أجل أن تَرحلي

ويناشدُكِ مُتوسلاً أن تَهجُري؟

أنا الوَلُوعُ الماقِتُ

والهائِمُ الباغضُ

أنا الفَخُّ لأَمالِكِ

وأنا الشَّركُ لأَحلامِكِ

هُمُودي هو الكَمينُ

وسَكينَتي لَونُ المَكيدةِ

نامي في عُيونِ القَمرِ

أو فوقَ وسَائِدِ السُّحُبِ

ولَكِن أبداً لا تَختَبِري

سِعَةَ صَدري

فتُطيحُ بِرِقَّةِ جَناحَيكِ

ذاتَ مرةٍ

ثُورةُ غَضبي

***

جورج عازار

ستوكهولم السويد

أتساءل ذات نهار عندما لمحت ورقة برتقال تتدحرج بإتجاه بركة حبر على الجانب الآخر من كومة الكتب المركونة على الطاولة....

أتساءل لماذا نحتاج إلى الإمساك بحفنة من الخيال حتى ننثرها على سفح كتاباتنا لنأتي بتلك الملامح العالقة داخلنا...

في هذه الصباحات التي تصنع من خيوط الشمس بدايات لفصل الحرائق...فصل رائحة الخبز والمطر والأبجديات المزهرة....

بعد الركود الحرفي الذي نخر في كتاباتي الشتوية والقحط الذي غزى مفرداتي في فصل البكاء...

كنت تسألني متى أقطع صيامي الكتابي وأخرج من معتكفي الحبري...؟

الآن حرفي يتمدد قليلاً كفراشة تخرج للحياة من شرنقتها.....

عندما كنت تكتب لي تقول في آخر السطر... إنك تعيد قراءة إمرأة المطر في كل مرة لمحاولة منك لنتشالي من مستنقع الضجر وإستحضار حرفي على قارعة الورق...

بهذه الأسطر التي تتدلى منها عناقيد حرف أخبرك إنني أشرع لكتابة نص يعيدني إلى ضجيج الحياة مرة أخرى.

***

مريم الشكيلية /سلطنة عمان....

عُرف زميلُنا الصحفي مشهور حبيب بحبه الطاغي للنساء، وبقدرته الفائقة في الاستحواذ على اهتمامهن، بل ومواعدتهن والخروج معهن، ولم يكن يميز بين فتاة ما زالت في بداية طريقها وبين امرأة متزوجة او مطلقة او ارملة، فكلهن لديه سواء، الامر الذي كان يثير حفيظتنا نحن زملاءه الصحفيين السبعة العاملين في الصحيفة، ويدفعنا الى حب المراقبة والاستطلاع، صحيح اننا كنا غير راضين عن فعائله تلك، الا اننا كنا في نفس الوقت نتساءل عما يفعله ليستحوذ عليهن منتقلا من واحدة الى اخرى، وحدث اننا سهرنا ليلة العيد الكبير، نحن العاملين في الصحيفة، حتى ساعة متأخرة من الليل، وامتدت بنا احاديث الغوى والهوى ، فاغتنمت الجو وسألته عما يفعله للنساء كي يكسب ثقتهن بتلك السهولة الواضحة، فهو ما ان تنتهي علاقته بإحداهن، بهذه الطريقة او تلك، حتى يشرع بأخرى. فابتسم وقال: شوف لكل امرأة يوجد مفتاح، انهن مثل الاقفال المغلقة، فاذا ما عثرت على مفتاح احداهن فإنها لن تلبث الا ان تستسلم لك.. ان عاجلا وان اجلا، وذكر عددا من الطرق الأخرى منها انه يحاول في المقابلة الاولى مع من يقع عليها الاختيار، يحاول بكل جهده ان يعرف مما تعاني، فيعرض عليها خدماته وينفذ وعوده لها غير عابئ بأية خسارة مالية.. فالمال غاد ورائح، اما كيف يقترب منها جسديا فقد ذكر انه في البداية يحاول ان يدفعها للضحك ليكسر جدار الخجل، فاذا ما امّنت له وضحكت.. او ظهر سنّها، فانك تكون قد اقتربت خطوة نحوها، اما الخطوة الاخيرة فهي ان تباغتها على حين غرة باقتطافك قبلة سريعة من عنقود خدها. وعندما اعربت عن استغرابي قال: لا تستغرب. الحكي احيانا لا ينفع، اضف الى هذا ان معظم فتياتنا ونسائنا، اذا لم يكن كلهن يخشين ان يبحن بأي اقتراب جسدي منهن، ثم ماذا ستقول الواحدة منهن لولي امرها.. ان فلانًا باسني؟ عندها ستعاقب اكثر وهو ما يجعلها تلجا الى الصمت.

تصرفات حبيب.. نا.. هذه، دفعتنا نحن زملاءه الصحفيين السبعة، لأن نفكر في تلقينه درسا واذا تطلب الامر اكثر، في حسن الاخلاق والابتعاد عن الاضرار ببنات الناس، فأخذنا ننتظر الفرصة المناسبة لتلقينه مثل هذا الدرس.. او الدروس، وكان ان انضم ذات يوم مستخدم بسيط وربما ساذج الى طاقم العاملين في الصحيفة، فوجدناها فرصة سانحة لمعرفة ما غمض او غاب من اخبار حبيب، وسألناه عما يطلبه مقابل خدمة بسيطة يقدّمها للجمع، فسارع الى القول رغيف فلافل من المحل في الطابق الاول، تحت مكاتب الصحيفة، ضحكنا يومها وسألناه عما اذا كان لا يهمه ان يعرف ما هي تلك الخدمة المطلوبة ام لا..، فرد علينا من طرفي شفتيه: بالأول رغيف الفلافل بعدها كل شيء يهون. عندها ايقنا اننا وجدنا الثغرة للحد من غي حبيب وتماديه على بنات العالم، فقدّمنا اول رغيف فلافل لزميلنا الساذج، ونحن نقول له: كل ما نطلبه منك هو ان تضع الزميل مشهور حبيب تحت المراقبة وان توافينا بأخباره اولا بأول. ابتسم ساذج الصحيفة وهو يرسل النا من طرف عينه نظرة الفاهم. قال هذه مقدور عليها.. وابتدأ المراقبة.

لم يمض سوى يوم واحد حتى جاءنا بالخبر المتوقع، ان حبيب يقف قبالة بيت قريب من مكاتب الصحيفة، صبيحة كل يوم، ينتظر ان يخرج رجل من بيته، وفور خروجه من هناك يدخل هو، وهل رأيت ماذا يفعل هناك؟ سألنا ساذج.. نا، فرد بأنفة عربية نعرفها اكثر من الجميع، ولوّ وشو بده يعمل.. وقال بخفر.. بعمل اللي بعمله الزلمة مع المرة. عندها ابتسمنا ونحن نشعر بمفاجأة حقيقية.. رغم اننا توقعنا مثل تلك الخبرية، قدمنا الى ساذج.. نا.. رغيف فلافل ساخنا يرتفع منها البخار، واجتمعنا لنفكر في ماذا بامكننا ان نفعل ازاء مثل ذاك الإدّ العظيم، وتوصلنا الى اننا يجب ان نضع حدا لتلك المهزلة والا نُمكّنها من التفاقم، منعا لمضاعفات قد لا تحمد عقباها. وكان ان اتفقنا على ان نطلب من ساذج.. نا.. ان يترقب خروج حبيب من بيت تلك المرأة وان يدخل اليها ويحذرها قائلا.. ان زوجها طلب منه ان يقوم بمراقبتها، وان ضميره لم يطاوعه فيتسبب في خراب بيتها.

ابتسم الساذج ومضى وهو يقول هذه تحتاج الى رغيفي فلافل، فوعدناه بثلاثة ارغفة، اذا ما نجح في مهمته تلك. دخل الساذج في اليوم التالي متهلّل الاسارير، وهو يقول انه ما ان حذر تلك المرأة.. كما اتفقنا معه، حتى امتقع وجهها، واغلقت باب بيتها مُقسمة انه لن يفتح الا لزوجها. للحق نقول اننا شككنا فيما قاله ذلك الساذج، غير اننا ما لبثنا ان صرفنا ذلك الشك مستبدلين اياه بالقين، اما كيف حصل ذلك، فقد رأينا زميلنا حبيب يدخل مكاتب الجريدة مبكرا على غير عادته في الفترة الاخيرة، وعلى وجهه علامات غضب وانكسار، وكان ان ادنيت فمي من اذنه لأساله عمّا به، فأرسل نظرة غاضبة نحوي، ولم يجب. عندها ايقنت ان علاقته بتلك المرأة قد انتهت.. وان عهد عبثه بها وببيتها.. قد ولى.

في الايام التالية تواصل ظهور الغضب على وجه حبيب، الا انه ما لبث بعد فترة، ان استعاد فرحه الهارب، فسألته عن السبب من منطلق المحبة والطمأنينة، فأرسل نحوي نظرة انتصار وتمتم قائلا: لقد غمزت الصنارة مجددا. واعترف انني حاولت ان اعرف منه المزيد، الا انه اصرّ على صمته، الأمر الذي دفعني إلى عقد اجتماع حضره الزملاء الموظفون السبعة.. زائد ساذج الجريدة، وكان ان جدّدنا فترة توكيل الساذج بتشديد المراقبة، غاب الساذج يومين وفي الثالث عاد ليقول لنا انه رأى حبيب.. نا.. برفقة صبية من جيل بناته، في الحرش القريب. وعندما طلبنا منه ان يُفصّل في القول.. رد قائلا: بستحي. عندها قدمنا اليه رغيف الفلافل المطلوب، وصرفناه للتداول في الحل، وكان اول ما اتفقنا عليه هو ان يقوم الساذج بمراقبة تلك الفتاة ووضعها تحت المجهر، وكما حصل في المرة السابقة، غاب الساذج يوما ونصف اليوم وجاب لنا الاخبار: الفتاة/ ضحية مشهور حبيب.. هذه المرة من عائلة محافظة، وعدد اخوتها ثلاثة، وهم معروفون بالشراسة وعدم التسامح مع من يقع بين ايديهم. بعد التشاور فيما بيننا، توصلنا هذه المرة الى انني سأقوم برقن مكتوب تحذيري نلتهب ومجهول التوقيع، اعلم فيه حبيبا بما علمنا به عن تلك الفتاة، وان اطلب من الساذج، ان يدزّه اليه بطريقة متقنة. فوعدني الساذج خيرا. بعد يومين دخل حبيب وهو يزفر مثل افعى زارطة، فأيقنت ان سهمَنا قد اصاب هذه المرة ايضا، وسالت حبيبا عما به، فنفر بي قائلا: عفّ عني.

دخل حبيب مجددا في حالة من الحزن، الا انه ما لبث ان خرج منها فرحا، وبالغ في فرحه فعزم كل موظفي الجريدة على اكلة فلافل مفتخرة، اكلنا الفلافل هذه المرة جماعة، وما ان انتهى العرض حتى غمزنا الساذج موحين اليه ان يجدد مراقبته، ولم يطُل انتظارُنا هذه المرة، فسرعان ما عاد الينا الساذج وعلى لسانه قصة مثيرة مفادها: ان حبيبنا يتردد على بيت امرأة مطلقة وام لسبعة شباب!! ما ان سمعنا هذا حتى انتابتنا حالة من القلق، وقبل ان نطلب من الساذج ان يقوم بأية مهمة تحذيرية، جاءنا يقول.. ان ابن تلك المطلقة قد داهم غرفة امه بعد دخول حبيب اليها، وانه قد صوّب نحو راسه مسدسه، قائلا له اما ان تقتل واما ان تعقد قرنك على امي، فاختار حبيب اهون الشرين.. وعقد قرانه على تلك المطلقة، تحت التهديد بالمسدس. ولم يكن امام حبيب من مفرّ، فدعانا الى عقد حفل عقد قرانه على تلك المطلقة، فاستجبنا لدعوته ورقصنا.. ورقص ساذج.. نا.. كما لم يرقص من قبل.. في حين توقف حبيب حائرا وغير مصدق ما حدث معه.

***

قصة: ناجي ظاهر

(نص من وحي قصيدة الشاعرة المبدعة جوانا احسان: ناقوط لا يجف)

تتحرين عن إيقاع

حارس الليل

وتسمعين صفارته

في ليلة باردة ..

**

والعاشق يتخفى في ظلال

الغيمة الشاردة..

فتصيرين في ليالي الشتاء

إمرأة ماردة ..

**

وتفر منك طقوس الهوى

وتبقين شاخصاً في الضباب

وأناك معلقٌ بالغياب

وتذوبين كقطعة سكر

في إناء معطر

والرذاذ يسيح

على زجاج النافذة ..

مقدرٌ ان يسيح

في لمحة واعدة ..

**

وقطرة الزنبقة ،

تعطر هذا الجمال الرخيم

وتمسي اشتياقا وهمسا وصبا

يلامس روحها في الشوق حبا

**

من يسرق هذا الشذى والاريج

من يقتفي أثر الضبية الشاردة..؟

**

وقطرتك الثالثة

رهان هذا الزمان

على العشق

فلا الشمس تمحو الزمان

ولا الزمان ينسى الهيام

ويمسحه دفعة واحدة ..

**

واللعنة ،

لا توقف انسياح الرذاذ

على الزجاج

ولا تمنع اريج الياسمين

ستجعل الشمس تذوب

في الليالي الباردة..

**

تظلين تنقطين الصفاء والنقاء

وتظل القطرة تسيح في المخيلة

وشذى القطرة في الزنبقة

وعلى سطح القرميد قطرات

لا يشغلها وهج الشمس.. !!

***

د. جودت العاني

27/ نيسان/ 2024

أتمنى ان انفض عني غبار السنين

وأعود طفلة  بضفائرها الجميلة

قلبها صاف وروحها ندية

لكني أوصيها ان لا تكبر

مثل دميتي

التي البستها ثوب حائط المبكى

كنت أحدثها عن قاربنا المثقوب

وعن كثبان الرمل المنسية

وعن وعود  مسيلمة

وهلوساته القديمة

ضاعت وعوده  بين محطات كثيرة

قلقة دميتي ... تبكي وأد فراشاتي

في أمسيات الغروب

وعصافير مملكتي التي حطت أكنانها بعيدا

كانت تغفو بأحضان تلك الشجرة

وكان مسيلمة  يعشقها هو الآخر

تغفو جفونه تحت ظلالها  مطمئنة

كانت الشجرة  تواسيه

وتسمع ثرثرته الدائمة

كانت تمسد شعره وهو يقبلها

قبلة عاشق محموم

يبحث عن عطرها وعن انفاسها

وفي ليلة ظلماء

طوقها برباط خيباته

وطواحين ذكرياتهم تغدو  كاذبة

كم نبيا يحتاج   لتصدقه

وقلبها   اختار اللارجعة

لن اطوي صفحة من كتابي

ولكن حرقه  هو الأجدى

مذ بكى مسيلمة ندما

ومذ فاضت  الوديان بدموع التماسيح

ومذ شهدت نبوءته تلك الشجرة

ومذ ادعى انه يصلي خاشعا

في  أماكن متعددة

وادعى انها أميرته للأبد

ثلاثون عاما ونيف  يتفيأ ظلالها

كنومة  ثعلب  حاصره  المطر

لكنه عمدا  تزحلق بتبوله

ومضى تاركا  عفنه تحت ظلها

رويدا رويدا انحنى جذعها

لكنها لم تسقط ...أبدا

***

سنية عبد عون رشو

تنهيدةٌ

ترسمُ انحناءات الرّيحِ

على أدراجِ الغفلةِ

نشيجٌ ..

يحشرجُ بكلِّ لغاتِ الوجعِ  !

وشياطينُ الدَّهاءِ

تسخرُ من همسِ الملائكةِ

وتتمادى في نزوحِ المعنى

من بوتقةِ الحرفِ

وتُدَحرجهُ عن جبينِ الغفلةِ !

كلُّ الملامحِ متشابهةٌ

في التّيهِ

لا تبحثُ عن بدائلَ !

انعدامُ الصّوتِ ..

ارتجافُ القصيدةِ ..

موتُ المجازِ ..

يتدحرجونَ عنوةً من مساماتهم

ويحتلّونَ مسافاتٍ هلاميّةً

في اللا جدوى

ونحنُ

نهاجرُ في حافلةِ الغيابِ

لنغرقَ بالهذيانِ

تحملُنا محطّاتٌ منسيّةٌ

وتَرْمينا

على قارعةِ الضّيقِ

الحربُ ..

دمَّرَتْ آلهةَ الحبِّ ..

وباتتْ فريسةً للوَجَعِ

نترَنَّحُ

بكلِّ أكاذيبِ الرُّوحِ

ونهذي بأشجارٍ قُطِعَتْ أغصانُها

ونامتْ

بأحضانِ الحرائقِ

لعدم ِ صلاحيَّة الصَّحوِ

يبكي الصَّحوُ

الأرقُ

والقلقُ

في زمنٍ كسيحٍ

أضاعَ الخُطى

في بوتقَةِ اليأسِ

نسيتُ .. كيفَ أرسمُ

ملامح قلبي

ونسيتُ عقلي

على حافةِ الجنونِ

حينَ تهشَّمتْ روحي

بكلِّ مفرداتِ اليأسِ

وبكلِّ الأفكارِ المحنَّطةِ

حين كُتِبَتْ تفاصيلُ الذّاكرةِ

وأُعيدتْ صياغتها

بالأكاذيبِ المُسَربلةِ

بالسَّلوى

تنبشُ رفاةَ الكونِ

ولا تعيدُ صياغتهُ

فتَنْثرهُ هباءً

على قارعَةِ التَّيه ..

***

سلام البهية السماوي

أيـنَ رَدُّ الـردِّ يـا نـسلَ القـرودِ

يا سـلـيلَ الـبغي مِنْ تـلكَ العُـهودِ**

*

أيُّـها الـسـفّاحُ مـا تُـدعى بـهِ

نَـتَـنُ الانـتانِ مِنْ صُـلبِ الـيهودِ

*

هـذه غَـــزّةُ مــا زِلـتَ بـها

خـاسـئًا تَـقـري هــلاكًا للـجـنودِ**

*

أيُّـها الـسـفّاحُ هـذا يـومُـكُمْ

لـعـنـةٌ فـيـهِ وصِـدقٌ للـوعــودِ

*

إنَّ وعـدَ اللهِ حـقٌّ فـابـشروا

بـهـلاكٍ وشـتـاتٍ كـالـجِــدودِ

*

مـا يـزالُ الـتِـيـهُ لـكنْ مـا بـهِ

غـيرَ مـوتٍ نـاطرٍ أهـلَ الـجـحودِ

*

فـطـعامُ الـمَـنِّ والـسـلوى غـدا

مِنْ صـواريخٍ أتى عِـبـرَ الـحـدودِ

*

أيـنَ ردُّ الـردِّ يـا سِــنخَ الـخـنا

إنّ يـومَ الحسـمِ في سـكبِ الـوقـودِ**

*

جُـرمُكُمْ أفـضى وهـذا مـا أرى

لِـمَــزيــدٍ مِـنْ دمــــاءٍ وصـمــودِ

*

إنَّ نَـصـرَ اللهِ آتٍ فـافـعــلـوا

مـا تـشاؤون وزيـدوا بـالـقــيـودِ

*

فـالـدماءُ الـطُهرُ طُـوفـانًا غـدَتْ

وهي غِـسـلـيـنٌ لِـظَـــلّامٍ حـقــودِ

*

لا لأمـريـكا ومَـنْ حـــالَـفَـها

قِـدرةُ الـتـغـيـير في هـذا الـوجـودِ

*

سُـنـنُ الـخـالـقِ تـجـري رغـمَهُـمْ

دونها كَمْ حاولوا وضعَ الـسـدودِ**

*

إنَّ يـومَ الـفصلِ هـذا قـدرٌ

لـسـرابٍ انتهت كـلُّ الـجهودٍ

*

فـكـيانُ الـبـغي حـتـمًـا زائـلٌ

قـدْ أتى الـطُـوفانُ مِنْ بـعـدِ الركـودِ

*

وبــهِ أنـهـى بـقـــايـا ســكـرةٍ

لـبـني صِـهـيونَ مِـنْ بـعـدِ الـرقـودِ

*

إنّ يــومَ الـفـصـلِ هــذا جـاحمٌ

وأدَ الـحُـــلـمَ وأيـــــامَ الـسَـعـودِ

*

ولـقـد أزرى بـمـيـزانِ الـقـوى

ومَـفـاهـيـمٍ غـدتْ فـوقَ الـسُـفـودِ**

*

يا بـني صهـيـونَ هـذا يـومُـكُـمْ

يــومُ عــادٍ إنْ نـسِـيـتُـمْ وثَـمُــودِ

***

الحاج عطا الحاج يوسف منصور

الدنمارك/ كوبنهاجن

الثلاثاء في 23 نيسان 2024

.....................

** تُـقري: أي تُطعم

** ينسِلُ: يُولدُ

** سِـنخ الخنا: أصل الرذيلة

** سُنن: جمع سُنة وهي الطريق

** السُـفود: جمع سِـفـد وهو سيخ من حديد لشي اللحم

نُكوص

تجاوزتُ السبعين، صارت سنيني كأحجدارِ الدومينو،  لا استطيع اللعبَ بها، وحدي.

**

حُب

تُوفيَ والدي، قرأتُ في دفاترهِ، جميعَ أسراري، لم يحدّثني عن أيّ منها، قَط.

**

ندَم

ارتكبتُ جريمةً، ذاتَ عُمْر، عندما أنقذتُ نفسي، أعرفُ ذلك الآن.

**

عجز

لقد مات، كانَ أعزَّ صديق، ما الذي فعلتُه، قرأتُ الفاتحة، تبّاً.

**

سلوى

نظرتُ في صوري القديمة، كل أصدقائي يحدّقون بي، لم يفعلوا ذلك من قبل.

**

آفة

إلتقانا بزّيّهِ المُرقّط، كأنّنا في مَجلسِ حَرب، أبلهاً، بليداً، مُجبَرٌ أن أُنصِت، لكلّ زمانٍ دولةٌ... وبِغال.

**

نَكَد

ماذا، أتظنّونَ أني مَجنون، لأني أنشأتُ حسابَ انستاجرام لقطّتي، الجميعُ يفعلُ ذلك، بلا وعي.

**

نسبية

إنّهُ ولَد، ولَد، صرخَ في غرفةِ الولادةِ ليلاً، لم يستيقظْ،  سوى أبيه.

**

انتكاسة

ذلك التائه، عادت اليهِ الذاكرة، فارغةً تماماً.

**

الزهايمر

تُرىٰ، ما الذي حدث، نادىٰ بأعلى صوته، وكان الجميعُ بقربه.

**

مؤاساة

أنتَ بأمان، قلتُها برفق، وضَعتُ يدي على كتِفه، وأنا أكثرُ خوفاً منه.

**

ذهول

طالما تساءلتُ، ما الذي يعنيهِ التفكيرُ بصوتٍ مرتفع، حتى رأيتُ امرأةً تناديني، بابتسامةٍ غامضة.

**

نفاق

لن ألتقطَ ورقةَ النقودِ من الأرض، فلا أنحني أبداً للمال، يالها من خدعة.

**

مرارة

رسموا خطّاً لا ينبغي تجاوزه، الجانبُ الآخرُ بلا خطوط، قصةً وطن.

**

اعتراف

أحبّ أن أتركَ آثاري على الثلج، وأنظر خلفي، ذلكَ ما أجيده، بلا أخطاء.

**

عادل الحنظل

يحدث أن تسير بغير أفق وبدون بوصلة كنت تملكها يومًا وأنت في البحر فوق ذلك المركب الذي وجدت نفسك فيه، تحدّد الاتجاهات إلى محيطات ومرافئ في مهمة العمل المنوطة إليك، زائرًا أو محاربًا فوق سفينة حربية تزور دول وجزر العالم الجميلة، تلك المهام محدّدة بدقة المسافات والوقت حتى الوصول.

لكن أيضًا يحدث أن يراك شخص وأنت تسير في طريقك لا يلتفت إليك أحدٌ. شبه تائه، بعيدًا عن الحاضر لا تعرف هدفك أو موضع قدمك في وسط هذا الشارع المزدحم بالمطاعم والكافيهات متوجهًا بنظرك إلى استقرار المكان المناسب. النادلات الأجنبيات واقفات أمامك، شبه انحناءات متواضعة، يرحبون بقدومك، تردّ بالمثل، هذا المشهد ربما استهوى إحدى النادلات التي ربما كانت تتابع خطواتك حتى تصل إليها.

شدّتني تلك الابتسامة الساحرة التي يمكن أن يقع أحد الرجال في حبّها، لكنها كانت الخطيئة عندما التوى كاحلي الأيمن بين الخطوة الأخيرة قبل الوصول. جاءت مسرعة تحاول مساعدتي في النهوض وبعض الألم يضرب كاحلي.

- سيدي: هل أنت بخير؟

- أعتقد ذلك.

- دعني أكلّم الإسعاف!

- لا داعي لذلك، فقط أريد الجلوس.

بينما كنت أنهض، وضعت يدي بيديها حتى استقام جسمي واضعًا راحة يدي على كتفها الأيمن.

- تفضّل، اجلس هنا. أين مصدر الألم؟

- إنه هنا، في الكاحل الأيمن.

- دعني أضع بعض الثلج، وسوف تشعر بالراحة.

وعندها عودتها نزعت الجورب الرمادي القطني الذي أرتديه، ووضعت الكيس البلاستك بداخله حبات الثلج التي تلمع كالنجوم.

تذكرت تلك المرأة التي أطلقت النكات والسخرية أمام الفيلسوف طاليس المالطي الذي تنبأ بحدوث كسوف للشمس قبل ألفين وخمسمئة عام قبل الميلاد: أنّى لك أن تعلم كلّ شيءٍ عن السماء يا طاليس، وأنت لا تستطيع أن ترى ما تحت قدميك؟ لماذا تبتسم وأنت بهذا الألم؟، تذكرت أحد الفلاسفة.

- يا إلهي، أنت في وجع وتتذكر هذا الفيلسوف؟!

أخبرتها بالقصة، فضحكت، لكنّها ما زالت ممسكة بكيس الثلج فوق كاحلي.

- اعذريني، وهذا ليس شأنك أن تقومي بمساعدتي، أقدّم اعتذاري.

- لا عليك سيّد ...؟،

- اسمي فؤاد، من السعودية. أنتِ امرأة طيبة.

- أنا كاترينا، من الفلبين.

- ربما لن أجد شخصًا ما يسعفني كما تعملي الآن.

- لا عليك، كنت أعمل في خدمة الطوارئ في بلدي، كما تعلم، ليس هناك أمان وظيفي، اضطررت أن أكون نادلة.

لقد قرأت مقالة جميلة، تتحدّث عن ثنائية الوعي لدى الإنسان، إذ يقول الكاتب: الإنسان لا يكفيه أن يوجد وحسب، فالوجود لا يعني الحياة، بل عليه أن يكافح من أن يبقى وأن يحقّق غايات أخرى.

- قبل أن أجيب، أشعر بالخجل وأنتِ كالقرفصاء متكئة على الرجل اليمنى.

- لا تهتم كثيرًا، أمارس الرياضة كلّ يوم بعد الانتهاء من الدوام. سوف أرفع كيس الثلج بعد قليل.

- يبدو عليك، سيّد فؤاد، كاتبًا أو فليسوفًا، للمرة الأولى أسمع هذا المصطلح "ثنائية الوعي"، أعتقد لديَّ ثلاثي ورباعي الوعي! - لماذا تضحك سيّد فؤاد؟

- لأنّها المرة التي أسمع بثلاثية الوعي.

- كيف تشعر الآن؟

- أعتقد أنّ الألم بدأ يختفي، يبدو أنّه انزلاق خفيف. لا أعلم كيف أعبّر عن شكري لك.

- لا عليك، هذا واجب إنساني، دعني أضع لك الجورب القطني الجميل وتنتهي الحالة.

- هل تعلمين أنّ لديك ابتسامة ساحرة وفاتنة آتية من الأعماق؟ أعتقد أنّها سحر اللحظات التي تحدّثنا فيها بطلاقة اللغة الإنجليزية التي تحدّثنا بها.

انكفأت قليلًا ثم اجتاح الخجل وجنتيها وبدأت أشعر بتأثير سحري عليها.

- آه! تذكرت سيّد فؤاد، لدينا جميع الأنواع من القهوة.

بين كسل غير مجادل، اختاري إحداهما.

ابتسمت، كأنّها تريد العودة بسرعة.

أثناء عودتها، اتضح أنّ حجم الكوب يصعب حمله بيد واحدة، من باب الدّعابة، قلت: هذا مثل "البانيو"، أستطيع أن أستحم فيه.

ضحكت بصوت عالٍ، والجميع ينظر فاعتذرت كثيرًا لما صدر منّي. وفي ترددها لسؤال كان عالقًا في ذهنها كما يبدو، قالت

- سيّد عامر، أعتقد أنني رأيتك في السناب شات.

- ربما.

- بل متأكدة. كنتَ تحمل كتابًا لكن لم أفقه ما كنت تقوله؟ يبدو أنك تتحدّث عن كتاب.

ابتسمت حينها ثم قهقهت قليلًا، بعيدًا عن المتطفّلين الذين يشاهدون اللقاء، هنيهة، قلت لها:

- تذكري، ربما شخصٌ آخر يشبهني.

- لا، أعتقد إنه أنتَ.

الفرحة كانت غامرة جدًا، إنّها المرة الأولى تحدث لي، وبما أنني سوف أكون بعد قليل في أسرة كتّاب وأدباء "البحرين"، وهي موقع هذه المحادثة.

- سوف أعود إليك سيّدي، هناك زبون قادم.

قبل عودتها ذهبتُ إلى السيارة وأنا أشعر بتحسّن أثناء المشي، التقطت الكتاب من فوق المقعد. بعد عودتها رأت الكتاب:

- هل هذا هو الكتاب؟

- يَسْ، أي نعم، بل متأكدة إنه هو، الكتاب ألوانه متميّزة، هذا ما استقرّ في ذهني.

ابتسمنا جميعًا.

- إذًا أنت مؤلف هذا الكتاب؟

أومأت برأسي لها بِيَسْ، أي نعم.

لم تصدّق خيالها وتذكرها، إنه لكِ آنسة؟،

- أنا كاترينا من دولة الفلبين.

ملأتُ لها الصفحة الأولى بالتوقيع واسمها والتاريخ.

- خذي، إنّها نسختك.

- لكن لا أستطيع فهم لغة الكتاب.

بدأت أشرح لها بإيجاز محتوى الرواية.

قالت: أهذا ما حصل؟ إنّها مؤلمة، لكنها سعيدة في نهايتها. في قراءتي المتعددة للروايات، كثيرًا ما نقرأ النهاية المأساوية، حقًّا أنا سعيدة بذلك، لكن تذكر، ما قاله جلال الدين الرومي: هناك كثير من الأمل، في غياب الأمل.

دُهشت وهي تذكر اسم ابن الرومي، فسألتها:

- هل تعرفينه؟

- نعم، أعرفه، بل العالم يعرفه.

الدهشة بدأت تكبر، يبدو أنّ ما نعرفه عن أنفسنا لا يُعتدّ به قياسًا أمام هذه الفتاة الجميلة والفعل المخجل الذي شعرت به، لقد محقت نفسي في استعلائية قليلة جدًا، لا دلالة لها فوق محور وجهي في الضبابية والانكسار الذي شعرت به!

- سيّدي، هل أنت هنا؟،

- يس... يس، آيام هير، كاترينا، أنا هنا، يبدو أنّ الحديث بدأ ينبض كالجنين في الشهر الثالث، هل تستطيعين الجلوس؟

- انظر إلى داخل المقهى، كان يبدو المدير مستمعًا جيّدًا لحالة النقاش.

سمعته يقول في دهشة: اخلعي تلك المريلة كاترينا، اجلسي معه، أنتِ بخير، سوف أكون معكم بعد قليل، أيّها الدوبامين.

لقد بدأت أشعر بالسعادة والتوازن بعد رحلة الأعباء والأحزان الأخيرة، إنه آلكسند آبرو من كوبا عازف البوق المشهور، إنه أكثر الفنانين البارزين في دولة كوبا، لكنه توقف الآن، زوجته بحرينية، تعرف عليها بعد قصة حب جميلة أثناء زيارتها لدولة كوبا، ما زال يحيي بعض الحفلات في البحرين والخليج.

لم يكن مدير المقهى إلّا فيلسوفًا آخر، اسمي آلكسند آبرو من دولة كوبا، إنّها صدفة أخرى سيّدي، كوبا بلد جميل، لقد زرت كوبا، لكن فقط ميناء قونتانموا في فترة الثمانينيات.

- وماذا تفعل في قونتانموا؟

- كنت عسكريًا بحريًا مبتعثًا من بلدي ومتدربًا فوق إحدى السفن العسكرية الأمريكية.

- عذرًا، ما اسمك؟

- اسمي فؤاد.

- وماذا يعني؟

- القلب.

- اسمٌ رومانسي جميل، لقد سمعت حديثك مع كاترينا، سوف يسعدني مرة أخرى أن نتحدّث عن كتابك، ما عنوانه؟

- "ابن العوّام".

أيقظني رنين الهاتف المحمول أثناء الحديث، نظرنا سويًا، إنه زميلي جعفر، أعتقد أنّني تأخرت، يجب أن أكون في أسرة الأدباء والكتّاب بعد قليل.

- كاترينا، آلكسند، سعيد برؤيتكم جميعًا، شكرًا لك كاترينا، وجودك معي كان مهمًّا في الساعتين التي تحدّثنا فيها، أراكم قريبًا. - مرحبًا جعفر، أنا قادم.

خطرت ببالها فكرة فقالت:

- سيّدي، قبل أن تغادر، هل تقبل أن أعرض هذا الكتاب في الفلبين والمساعدة في ترجمته إلى اللغة الإسبانية، لدينا قرّاء كثيرون. - طبعًا لا أمانع.

- إذًا اتفقنا.

تبادلنا أرقام التواصل، لكن قبل مغادرتها، قلت: إنْ حدث هذا، لك بعض المال من نقاط البيع.

ابتسمت قائلة: لا… سيّدي، إنّها هدية القدر لك. لقد تم دفع الحساب، انظر إنّها إشارة المدير.

رفعت راحة يدي بالشكر لهما جميعًا.

- سؤال أخير، هل تتذكرين اسم الرواية؟

- قالت بابتسامة عريضة: "ابن العوام" بلكنتها الفلبينية الإنجليزية.

صمت الجميع في القاعة وهم ينظرون إليَّ مندهشين: كاترينا ليست هنا سيّد فؤاد، أنت في مجلس الكتّاب والأدباء.

غادر الجميع اللقاء وهم يُردّدون جميعًا بصوت واحد: كاترينا...كاترينا...كاترينا. 

***

فؤاد الجشي

 

اتحرَّى عَنِّي بهذا الفجر البارد

أجدُني أتصيَّرُ لقطراتٍ ثلاث:

*

قطرةٌ تنزلِقُ على نافذةٍ ضبابيَّة

قطرةٌ تشفُّ بالزنبقة البيضاء

قطرةٌ تتجمَّدُ فوقَ القرميد الأحمر

*

أتحرَّى عَنْكَ بهذا الفجر البارد

أجدُك تمسحُ زجاجَ السيَّارة الضَّبابي

هكذا تمسَحُنِي أنا المُتبَلْوِّرة في القطرة الأولى

وبخِرقةٍ رطبة !

*

وأنايَ قد تصيرُ القطرة الثانية،

فأخافُ رَشْقاً..

لَوْ رَشَقَتْ يَدُكَ الزَّنبقة على صبيَّةٍ عابرة

*

وأنايَ قد تصيرُ القطرة الثالثة،

فأسيحُ عِشْقاً..

لَوْ حَنَّتْ الشَّمْسُ بنظرة إلى قرميد بيتِكَ

*

أتحرَّى عنَّا بعدَ ألفِ فجرٍ بارد

أجدُكَ علامةَ تعجُّب لَمْ تتعجَّبْ الحال

وأجدُنِي علامةَ استفهام بهذا السؤال :

كيفَ أنفلِتُ مِنْ لعنةِ الصَّيرورة إلى قطراتٍ ثلاث ؟

وبالرَّهافةِ أتقاطرُ فجراً على شيءٍ يخصُّكَ

كَـ زنبقةٍ بحديقتِكَ

أو نافذةٍ بسيارتِكَ

أو قرميد فوقَ بيتِكَ

عبثاً أحاولُ الجفافَ بآخرِ نُقطة

وأنا بنتُ الناقوط الشَّاعر نُقطة فَـ  نُقطة

*

*

30 / شباط / ألفين وَ أنايَ المُتقاطِرة

***

جوانا إحسان أبلحد

 

بين ذراعيكَ

تضمها ضميمَ

سنبلةَ لمنجل

‏أم أودعتها

‏جبال الحيرة مستلقيةً

‏على سرير سلطان الوَسن

‏واللّيل؟

يسامرُكَ سَعيرُ أبراجِ النّار

‏في لهاثكَ المحمومِ

فلا تَعدَّ المواقيت بين راحتيها

‏مثقالاً بعدَ مثقالٍ

‏كلّما حبِلَتِ الأرضُ

بالعيونِ الكاذباتِ على غصونِ أشجارها

‏ولا تقفْ

‏مثلَ طفلٍ علِقَ على مشاجب

نسيانه

‏رداءَ الصّبا مكللاً بمعطفِ

الكهولةِ

‏وبين يديه غفلة الينابيع وما تبقى

‏من عناقاتِ عشتروت

أمُّ الغواية والغاوياتِ

والْغيّ

مذ تفصّدت البراعمُ

على غصون أشجارها

وأنا أدعو الفصول

إلى صومعة ربيعنا الولهان بالورد

وأغنّي صخبَ أناشيدِكَ الغافيات على

الهُدُبِ

يابزوغَ العُقْلَةِ

على سِعافِ النخيلِ

والتينِ والزيتونِ وما تبقى من الشجر

‏أعتقْ

ذراعي لأرقصَ

‏فالرقصُ قيد المولوي وحُجَّتُه

يلبّى نداءَ روحهِ.

‏أغانيكَ العطشى يا مفصّد الكلماتِ

في شِعري

تندُّ

من ينابيعها خوابي الماء

الزلالِ

‏ومازالتْ تُناديكَ

بلسانِ الطير هامسةً

‏يا غَفولُ

‏أنتَ سيّد الخيالِ الجامحِ

‏في المتُون

وعلى الرّابياتِ الشاهقاتِ

والسُّحبِ.

***

ريما آل كلزلي

في نصوص اليوم