قضايا

ابتهال عبد الوهاب: نحن المنسيون

لسنا منسيين لأن أحدا نسي أسماءنا، بل لأن العالم لم يتعلم بعد كيف ينصت إلى ما لا يصرخ. النسيان هنا ليس فعل إهمال، بل نتيجة طبيعية لعالم لا يعترف إلا بما يعرض، ولا يصدق إلا ما ييستهلك، ولا يمنح الوجود شرعيته إلا لمن يجيد الأداء. أما نحن، فنقيم في منطقة رمادية بين الظهور والغياب؛ أحياء بلا احتفال، حاضرون بلا تمثيل، نمارس وجودنا كفعل داخلي لا يحتاج إلى شهود.

نحن لا نعاني الوحدة بوصفها نقصا في الآخرين، بل باعتبارها فائضا في الوعي. فكلما اتسعت الرؤية، ضاق الجمع، وكلما تعمق السؤال، تراجع القطيع.

 لسنا غرباء عن العالم، بل أكثر التصاقا به مما يحتمل؛ نلتقط هشاشته قبل أن تتجمد في وقائع، ونسمع أنينه قبل أن يتحول إلى خطاب. لهذا ننسحب إلى الصمت، لا هربا، بل حفاظا على ما تبقى من معنى لم تدنسه البلاغة الجوفاء.

نحن المنسيون لأننا لا نطلب الاعتراف، ولا نجيد التفاوض على ذواتنا. نعيش كما لو أن الوجود سؤال مفتوح لا إجابة نهائية له، وكأن الإنسان تجربة غير مكتملة لا يجوز اختزالها في دور أو تعريف. بين العبث والمعنى، بين الألم والوعي، اخترنا أن نقيم في المسافة، حيث لا يقين يريح، ولا وهم يخدر، بل صدق متعب، وحقيقة لا تقال إلا همسا.

 نمشي بخطى خفيفة كأننا نعتذر للرصيف عن ثقل أفكارنا، ونحمل في صدورنا قلوبا تعمل أكثر مما ينبغي، فتتعب أسرع مما ينبغي. لسنا حزانى بالمعنى الساذج للحزن، نحن فقط نرى أكثر؛ نرى الشقوق الصغيرة في جدران المعاني، ونسمع الصرير الخافت للأشياء حين تتكسر في صمت. لهذا نبدو متعبين، ولهذا نُنسى.

نحن أبناء الأسئلة التي لا تصلح للمجالس، وأحفاد الصمت الذي يحمل في داخله الكثير من الكلام. نحن أولئك الذين اعتادوا السهر دون سبب واضح.. من لا نملك مبررا للتأمل في السقف.. في السماء.. في متابعة أشكال النجوم.. وقد نخلق من أشكال السحاب رفقاء لنا.. نحن أصحاب الأدمغة العتيقة التي تفشل المهدئات في سكونها. نحن أولئك الذين يتعكر مزاجهم بكلمة عابرة.نحن أصحاب المزاج المتغير بشكل متواصل ونوبات البكاء والحزن المفاجئ

نحن أصحاب الأسئلة الوجودية التي لا إجابة لها.. من اعتادوا الصمت في أشد المواقف التي تستدعي الحديث.. نحن من لا تؤخذ كلماتنا على محمل الجد أبدا.. نحن من نخلق الحجج لنعتذر عن حضور الحفلات والتجمعات.. نحن أصدقاء الجميع ولا صديق لنا.. نحن أولئك الذين اتخذوا الموسيقى والكتب رفيقا لهم.. نحن كل الأشخاص الذين يسيرون في الشوارع وقت هطول المطر.. من يبكون في غرفتهم مساء ويستيقظون في الصباح كما لو أنهم لم يبكوا لساعات، نحن أصحاب الرسائل التي لم ترسل والوجع الذي لا ينطق والأمنيات التي لم تتحقق.. نحن المزيفين امام الناس والصادقين أمام أنفسهم.

نحن المنسيون لأننا لا نجيد التسويق لأوجاعنا، ولا نتقن لعب دور الضحية. نؤمن أن بعض الألم يفقد قيمته حين يستعرض، وأن بعض الجراح تشفى فقط حين تُترك في الظل. لذلك نتقن الصمت في اللحظات التي يتوجب فيها الكلام، لا عجزا، بل لأن الكلمات كثيرا ما تخون الحقيقة. نحن أصحاب العقول التي لا تنام، والقلوب التي تتعثر في التفاصيل الصغيرة: نبرة صوت، كلمة عابرة، نظرة غير مكتملة.

نحن المنسيون، لكننا لسنا فارغين. في داخلنا مدن كاملة لم ترسم على الخرائط، وأرواح تعرف كيف تكون مسالمة دون أن تكون ضعيفة. لا نؤذي أحدا لأننا نعرف شكل الألم حين سكن في إنسان. وحين يساء فهمنا نختار الصمت لا عجزا، بل وفاءا لصورة أعمق عن الكرامة. نحن لا نطلب أن يلتفت إلينا، يكفينا أن يترك لنا حق الوجود كما نحن: هشين بوعي، أقوياء بلا استعراض

نحن الوحيدون جدا، نعم، لكن وحدتنا ليست فراغا؛ إنها مساحة للتأمل، ومختبر للأسئلة، ومأوى للأحلام التي لم تجد لغة بعد. نحمل الوجع كمعرفة، والوحدة كاختبار، والحزن كحكمة وإن كنا الوحيدين جدا، فنحن وحدنا لأننا نرى أبعد، ونشعر أعمق، ونرفض أن نكون نسخا قابلة للاستهلاك. نحن الطفل الذي ما زال يسأل، وما زال يندهش، ومازال رغم كل شيء قادرا على الحلم

نحن المنسيون ولكننا لم نكن خارج التاريخ، بل كنا في طبقاته الخفية؛ في الشقوق التي يتسلل منها المعنى، وفي اللحظات التي يتكون فيها الوعي. وإن بدا أننا وحدنا، فذلك لأننا اخترنا طريقا لا يسلكه الكثيرون: طريق النظر إلى الداخل حين ينشغل الجميع بالخارج وطريق الصدق حين يصبح التزييف شرطا للقبول.

لم نخسر العالم، نحن فقط رفضنا أن نربحه بثمن ذواتنا. وحين تألمنا، لم نحمل الألم سلاحا، بل حولناه الي معرفة، وحين انكسرنا، لم نصرخ، بل تعلمنا كيف نقف على شظايانا دون أن نجرح أحدا

نحن المنسيون، لكننا شهود. شهود على هشاشة الإنسان، وعلى قسوة المعنى، وعلى جمال الروح حين تترك لتكون كما هي.

لسنا نهاية الحكاية، بل صوتها الخافت الذي يبقى بعد أن ينتهي التصفيق. وإذا كان العالم لا يرانا، فذلك لأنه ينظر بسرعة، أما نحن فنبقى… لأننا تعلمنا أن الوجود لا يحتاج إلى اعتراف بقدر ما يحتاج إلى صدق

نحن المنسيون، نعم، لكن في هذا النسيان تكمن حريتنا الأخيرة: أن نكون، لا كما يريد العالم، بل كما نريد نحن أن نكون نحن المنسيون.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

في المثقف اليوم