أقلام فكرية

أقلام فكرية

ذاعَ صيتُ (مدرسة التحليل النفسي) ورائدها الطبيب النمساوي (سجموند فرويد) في نوعية الموضوعات التي دار حولها البحث والاهتمام، فموضوعات من أمثال: الجنس، الأحلام، تحليل بنية الشخصية الإنسانية، ذات تماس مباشر وقوي وفعّال بالنسبة لطبيعة الجنس البشري. ويُعدُّ (القلق) من أهم الموضوعات الرئيسة التي ناقشها فرويد وأولى له اهتماماً بالغاً.

ففي كتابه عن (الكف والعرض والقلق)، المنشور لأول مرة في فيينا عام (1926)، انهمك فرويد بدراسة ظاهرة القلق التي كان يشاهدها بوضوح في معظم حالات الأمراض العصابية التي كان يعالجها، فحاول أن يعرف سبب هذا القلق. وقد لاحظ فرويد أن القلق الذي يشاهده في مرضاه هو عبارة عن خوف غامض، لكنه يختلف عن الخوف العادي، ولذلك ميز بين نوعين من القلق: القلق الموضوعي والقلق العصابي، فبينما الأول يعود إلى خطرٍ خارجي، كالخوف من حيوان مفترس، أكد فرويد على أن القلق العصابي هو خوفٌ غامضٌ غير مفهوم، ولا يستطيع الشخص الذي يشعر به أن يعرف سببه.

ونتيجةً لما تقدم، ارتبط الاهتمام بظاهرة القلق بوجهة نظر نفسية، كان سيجموند فرويد رائدها، لكن هناك من ناقش ظاهرة القلق كنوع من أنواع الانفعالات، وهي قراءة يمكن أن نعدّها من وجهة نظر فلسفية، وهي القراءة الوجودية لظاهرة القلق، وهي ما نودّ أن نسلّط الضوء عليها.

يختلف الوجوديون في استعمال مفهوم القلق، فكل من كيركيجارد، وهيدغر، وسارتر، يفهم القلق على نحو مختلف، مع ذلك فهناك تقارب وثيق بينهم، وقد اعتراف كل من هيدغر وسارتر بأن الفكرة مستمدة من كيركيجارد، حيث يقول هايدغر: إن من سار إلى أبعد مدى في تحليل مفهوم القلق هو سورن كيركيجارد، ويقابل سارتر بين أوصاف القلق عند كيركيجارد وهيدغر، فيقول: إنها لا تبدو لنا متناقضة، بل على العكس فكل وصف منها يتضمن الآخر. ويتفق هؤلاء الكتاب على أن القلق يكشف بطريقة خاصة عن الوضع الإنساني، فهو عند هيدغر: الطريقة الأساسية التي يجد بها المرء نفسه. ولا شك في أن النظر إلى القلق على أنه مفتاح أساسي لفهم الوجود البشري ينطوي ضمناً على تلك الرؤية الوجودية والفينومينولوجية للوجدان.

وبما أن كيركيجارد هو الرائد الأول في استعمال مفهوم القلق، يتحدث (جون ماكوري) في كتابه الشهير والموسوم بـ(الوجودية) عن ما يعنيه كيركيجارد بالقلق، على أن ماكوري يشير إلى أن الذي يطرحه كيركيجارد عن القلق ليس واضحاً... ويقدم كيركيجارد مفهوم القلق في سياق مناقشته لأصل الخطيئة، فما الذي يجعل الخطيئة ممكنة؟ وهي المداولة في سفر التكوين، إلا أن كيركيجارد يقدم وجهات نظر مخالفة، فيفهم منها على أنها تصف حادثة أو تطوراً في حياة الموجود البشري، وهو الانتقال من البراءة إلى الخطيئة، وحالة القلق هي التي تجعلها ممكنة. ويوصف هذا القلق بثلاثة طرق:

أ-هو ملازم لحالة البراءة، ويوضح كيركيجارد ذلك بمثال، وهو الجنس أو الجانب الجسدي في الفرد، فهناك ضيق يظهر في نشاط الجسد، ومن ثم يفقد المرء البراءة ويتغير وجوده تغيراً كيفياً.

ب-هو ملازم للحرية، والحرية تعني الإمكان، ويقول ماكوري في توضيح ذلك: الحرية بطبيعة ذاتها حبلى بالإمكان، وما يخبره المرء بوصفه القلق الأصلي هو تحرك الإمكان في أحشاء الحرية.

جـ-ملازمة القلق لتكوين الإنسان الخاص بوصفه جسداً ونفساً تجمعهما الروح، فطريقة تكوين الإنسان ذاتها تجعله معرضاً للتوتر، وهذا التوتر هو القلق، ومهمة الإنسان هي إنجاز مركب الجسد والنفس، وهي مهمة مشحونة بالقلق منذ بدايتها، وبهذا فالقلق خاصة تتسم بها الظاهرة البشرية، فالحيوان لا يعرف شيئاً عن القلق، لأن حياته جسدية خالصة، كذلك الملك لا يعرف شيئاً عن القلق لأن حياته عقلية خالصة،  أما الإنسان، فبضوء تركيبه من الثنائية المذكورة، فهو يعيش في ظل القلق.

أما هايدغر، فيذهب إلى أن ظاهرة القلق تقدم لنا واحدة من أبعد الإمكانات أثراً، وأعظمها أصالة في كشف الوجود. وإذا كان كيركيجارد قد ناقش مفهوم القلق من منطلق الخطيئة، فإن المنطلق الهايدغري لفهم مفهوم القلق يكمن في ما يسميه بـ السقوط، فما يحدث في حالة السقوط هو أن الموجود البشري يهرب من ذاته، فهو قد يفقد نفسه في وجود غير أصيل مع الآخر وهو ما يسمى بالـوهم، أو الاهتمام بشؤون عالم الأشياء، ومع ذلك فإن فرار المرء من ذاته يوحي هو نفسه بأن الموجود البشري قد يواجه نفسه بالفعل بطريقة ما.

ويشير هايدغر إلى أن ما يشعر المرء إزاءه بالقلق هو شيء غير متعين تماماً، وعلى ذلك فنحن لا نعرف ما الذي يجعلنا نقلق ولسنا نستطيع أن نشير إلى شيء محدد، فما يجعل القلق ينشأ هو: لا شيء، وهو لا يوجد في مكان، ومع ذلك فهو لصيق بنا إلى حد أنه يطغي علينا ويخنقنا، وهو ليس هذا الشيء الجزئي أو ذاك، وإنما هو العالم أو الوجود في العالم، وبالتالي، فإن حالة القلق تقدم لنا شيئاً يشبه الكشف الكلي للوضع البشري.

ويؤكد هايدغر على أن في حالة القلق، تتلاشى الأشياء الموجودة في العالم، ويدرك الموجود البشري أنه لا يمكن أن يجد نفسه في العالم، فيرتد إلى نفسه في حريته الفريدة وإمكانه، فالقلق إذن، يجعل الإنسان وجهاً لوجه أمام وجوده الحر من أجل إثبات أصالة وجوده. وكما رأى كيركيجارد في القلق مدخلاً للإيمان، فكذلك يرى هايدغر في القلق جانباً إيجابياً، حيث إنه يوقظنا من أوهامنا وأماننا الزائف، ويواجه الفرد بمسؤوليته، ويدعوه لإدراك وجوده الأصيل.

 أن وصف كيركيجارد للقلق في مواجهة ما يفتقر إليه المرء يجعل منه قلقاً إزاء الحرية، أما هايدغر فهو يدرس القلق بدلاً من ذلك على أنه رهبة العدم؛ هكذا يميز سارتر بين تفسيري القلق، ولكن، هل نجح سارتر في الوصول إلى فهم مركب للرأيين السالفين؟ يجيب ماكوري عن ذلك بقوله: إن المركب الذي صاغه سارتر يقع في إطار حركة جدلية دقيقة بين الحرية والعدم، فهو يبدأ بفكرة القلق عند كيركيجارد بوصفه دوار الحرية، وليس ذلك خوفاً يقع لي من شيء يحدث خارجاً عني، بل إن القلق بالأحرى: لأنني لا أثق في نفسي، وفي ردود فعلي الخاصة.

من هذا ينتهي سارتر إلى القول بأن الإنسان محكوماً عليه أن يكون حراً، فليست الحرية، إذن، حرية بسيطة على الإطلاق، وإنما هي حرية يثيرها ويقيدها المسؤولية، وفي ممارستي لهذه الحرية أخبر القلق، وفي استطاعتي أن أتجنب القلق بالالتجاء إلى أنماط الفعل المتعارف عليه، أو المعايير المألوفة للقيمة، لكن الثمن الذي أدفعه هو السقوط في الإيمان السيء، فسارتر مثل كيركيجارد وهايدغر، يرى القلق شيئاً ينبغي تحمله لا الفرار منه.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

تمهيد: ثيودور لودفيج فيزنجروند-أدورنو هو فيلسوف وعالم اجتماع وملحن وعالم موسيقى ألماني. ولد لأب من عائلة يهودية ألمانية، أوسكار ألكسندر فيزنغروند، تاجر، وأم فرنسية كاثوليكية ماريا كالفيلي أدورنو ديلا بيانا، مغنية. كان أدورنو طالبًا في مجال التأليف لدى ألبان بيرج، وهاجر مع ظهور النازية إلى إنجلترا ثم إلى الولايات المتحدة، حيث تعاون بشكل وثيق مع عمل معهد البحوث الاجتماعية الذي أسسه ماكس هوركهايمر، وكتب العديد من الأعمال الفلسفية. ويلعب دور المستشار الموسيقي لتوماس مان في روايته "الدكتور فاوستس". عاد إلى فرانكفورت في عام 1949، وأصبح أستاذًا جامعيًا، ومديرًا لمعهد البحوث الاجتماعية، ومن عام 1963 إلى عام 1967، رئيسًا للجمعية الاجتماعية الألمانية. عضو بارز (مع ماكس هوركهايمر) في مدرسة فرانكفورت، التي تحاول تحت شعار "النظرية النقدية" مواجهة التفكير الفلسفي والتاريخي والاجتماعي الألماني الكلاسيكي بالتعاليم المشتركة للماركسية والتحليل النفسي، وهو يكرس نفسه بشكل كبير لـ علم اجتماع الاستهلاك الثقافي والإبداع الفني، تحت تأثير وسائل الاتصال الجماهيري بشكل خاص، مع التركيز بشكل خاص على الموسيقى.

الترجمة

لقد طور أدورنو وغيره من منظري مدرسة فرانكفورت نظرية الاغتراب في فلسفة كارل ماركس وطبقها على السياقات الاجتماعية الثقافية. لقد انتقد التفسير الميكانيكي للماركسية باعتبارها "نظرية علمية"، والتي قدمها منظرو "المعتمدون" في الاتحاد السوفييتي. لقد زعم أدورنو أن الرأسمالية المتقدمة تختلف عن الرأسمالية المبكرة، وبالتالي فإن النظرية الماركسية القابلة للتطبيق على الرأسمالية المبكرة لا تنطبق على الرأسمالية المتقدمة. وعلاوة على ذلك، فقد أكد أن "تحويل" أو "تسليع" الحياة البشرية يجب أن يكون القضية الأساسية للماركسية. لقد تأثر أدورنو إلى حد كبير بتطبيق والتر بنيامين لفكر كارل ماركس. لقد زعم أدورنو، إلى جانب منظرين آخرين من مدرسة فرانكفورت مثل هوركهايمر وماركوز، أن الرأسمالية المتقدمة كانت قادرة على احتواء أو تصفية القوى التي من شأنها أن تؤدي إلى انهيارها وأن اللحظة الثورية، عندما كان من الممكن تحويلها إلى اشتراكية، قد مرت. لقد زعم أدورنو أن الرأسمالية أصبحت أكثر ترسخًا من خلال هجومها على الأساس الموضوعي للوعي الثوري ومن خلال تصفية الفردية التي كانت تشكل أساس الوعي النقدي. لقد ركزت أعمال أدورنو على الفن والأدب والموسيقى كمجالات رئيسية للنقد الحسي غير المباشر للثقافة الراسخة وأنماط التفكير المتحجرة.

الصناعة الثقافية

تهيمن الحجة، المعقدة والجدلية، على نظريته الجمالية وفلسفة الموسيقى الجديدة والعديد من أعماله الأخرى. إن صناعة الثقافة تُرى كساحة يتم فيها القضاء على الاتجاهات أو الإمكانات النقدية. وقد زعم أن صناعة الثقافة، التي تنتج وتوزع السلع الثقافية من خلال وسائل الإعلام الجماهيرية، تتلاعب بالسكان. وقد تم تحديد الثقافة الشعبية كسبب يجعل الناس سلبيين؛ فالملذات السهلة المتاحة من خلال استهلاك الثقافة الشعبية تجعل الناس مطيعين وراضين، بغض النظر عن مدى فظاعة ظروفهم الاقتصادية. إن الاختلافات بين السلع الثقافية تجعلها تبدو مختلفة، لكنها في الواقع مجرد اختلافات في نفس الموضوع. يتصور أدورنو هذه الظاهرة، الفردية الزائفة والشيء نفسه دائمًا. لقد رأى أدورنو أن هذه الثقافة المنتجة بكميات كبيرة تشكل خطرًا على الفنون الراقية الأكثر صعوبة. كما تزرع الصناعات الثقافية احتياجات زائفة؛ أي الاحتياجات التي تخلقها وتشبعها الرأسمالية. على النقيض من ذلك، فإن الاحتياجات الحقيقية هي الحرية، والإبداع، أو السعادة الحقيقية. ومع ذلك، انتقد البعض تقدير أدورنو العالي للفنون الراقية باعتباره نخبوية ثقافية. قام أدورنو ببعض الأعمال حول الثقافة الجماهيرية بالاشتراك مع هوركهايمر. لقد أثر عمله بشكل كبير على الخطاب الفكري حول الثقافة الشعبية والدراسات العلمية الثقافة الشعبية. في الوقت الذي بدأ فيه أدورنو الكتابة، كان هناك قلق هائل بين العديد من المثقفين فيما يتعلق بنتائج الثقافة الجماهيرية والإنتاج الجماهيري على شخصية الأفراد داخل الأمة. من خلال استكشاف آليات إنشاء الثقافة الجماهيرية، قدم أدورنو إطارًا أعطى مصطلحات محددة لما كان مصدر قلق أكثر عمومية. في ذلك الوقت، كان هذا يعتبر مهمًا بسبب الدور الذي لعبته الدولة في الإنتاج الثقافي؛ سمح تحليل أدورنو بنقد الثقافة الجماهيرية من اليسار والذي حقق التوازن مع نقد الثقافة الشعبية من اليمين. من كلا المنظورين - اليسار واليمين - كان يُنظر إلى طبيعة الإنتاج الثقافي على أنها جذر المشاكل الاجتماعية والأخلاقية الناتجة عن استهلاك الثقافة. ومع ذلك، بينما أكد النقد من اليمين على الانحطاط الأخلاقي المنسوب إلى التأثيرات العاطفية والعرقية داخل الثقافة الشعبية، تناول أدورنو المشكلة من منظور اجتماعي وتاريخي وسياسي واقتصادي.لقد هاجم أدورنو، إلى جانب غيره من المفكرين الرئيسيين في مدرسة فرانكفورت، الفلسفة الوضعية في العلوم الاجتماعية. وكان شديد القسوة بشكل خاص على المناهج التي ادعت أنها علمية وكمية، على الرغم من أن العمل الجماعي لمدرسة فرانكفورت، "الشخصية الاستبدادية"، الذي ظهر تحت اسم أدورنو كان أحد أكثر الدراسات التجريبية تأثيرًا في العلوم الاجتماعية في أمريكا لعقود من الزمان بعد نشره في عام 1950.

جدلية التنوير

في كتاب جدلية التنوير، الذي ألفه بالاشتراك مع ماكس هوركهايمر، قام أدورنو بفحص نقدي لمفاهيم الحداثة والعقلانية والتنوير من خلال توسيع نطاق نقده ليشمل الحضارة الحديثة المتجذرة في العصور القديمة. وكان هذا العمل بمثابة الأطروحة الفلسفية الرئيسية لمدرسة فرانكفورت. وفي هذا الكتاب، زعم أدورنو أن السبب النهائي للاغتراب لا يكمن في التناقض داخل أشكال الاقتصاد الرأسمالية أو الأسطورة المناهضة للتنوير المتمثلة في الشمولية، بل إن السبب النهائي للاغتراب يكمن في فكرة التنوير نفسها. وأكد أن المثل الأعلى للتنوير هو تحرير البشر من عبودية وسيطرة السحر والأسطورة والقوى غير العقلانية الأخرى التي تسببت في الخوف والرعب لدى الناس. بعبارة أخرى، فإن التنوير يعني التحرر من عوامل الهيمنة غير العقلانية هذه. كان يعتقد أن العقلانية، على النقيض من الأساطير غير العقلانية ومفاهيم السحر، هي العنصر الأساسي للسيطرة على العوامل غير العقلانية، وتحفيز التقدم، وعقلنة الحضارة. وبالتالي، تم بناء الحضارة الحديثة نتيجة للسعي إلى تحقيق المثل الأعلى للتنوير. ومع ذلك، فإن الحضارة الغربية الحديثة، التي كان من المفترض أن تكون تجسيدًا لمثل هذه العقلانية، أدت إلى ولادة أعمال إرهابية همجية مثل النازية والقتل الجماعي الذي ارتكبه ستالين. وتساءل أدورنو، وكذلك غيره من المثقفين، كيف يمكن لمثل هذه الدول الهمجية أن تنشأ في سياق الحداثة المبنية على المثل العليا للتنوير.

لم ير أدونو هذه الأعمال الإرهابية الشمولية على أنها تتعارض مع التنوير، أو رجوعًا إلى العقلانية القائمة على الأساطير والسحر. لقد زعم أن هذه العناصر غير العقلانية موجودة داخل أفكار التنوير نفسها. فما هو مفهوم التنوير؟ كان التنوير يعني عمومًا فكرة التقدم في القرن الثامن عشر، والتي حرر بها البرجوازيون أنفسهم من قيود الإقطاع في العصور الوسطى. واستعار أدورنو أفكار ماكس فيبر، وأعاد تعريف فكرة التنوير باعتبارها تحرير العالم من الأساطير، ووسعها كمبدأ عالمي يوجه تطور الحضارة الإنسانية. فما هو مصير التنوير؟ زعم أدورنو أن جوهر التنوير كان رغبة البشرية في السيطرة على الطبيعة. وحدد أنه في هذه العملية، أسست العقلانية الآلية الإنسان كموضوع للهيمنة وحولت الطبيعة إلى مجرد موضوع للهيمنة. ولكن التنوير (الهيمنة على الطبيعة) أدى إلى هيمنة العنصر الطبيعي الموجود داخل الذات في شكل الأخلاق. ولقد أدى هذا بالتالي إلى ولادة المجتمع باعتباره "الطبيعة الثانية"، وأدى إلى إخضاع الإنسان للآخرين، وفي النهاية أدى إلى إخضاع الإنسان للمجتمع الذي تم تأسيسه. كما زعم أدورنو أن التنوير كان يحتوي على عناصر همجية متأصلة فيه، وأوضح هذه النقطة باستخدام الأسطورة اليونانية، الأوديسة. فبالنسبة لأدورنو، كان التنوير يحتوي على عنصر أدى إلى تدميره الذاتي، وبالتالي جلب جنون النازية والستالينية والشمولية والشخصية التسلطية. كان العمل، الذي كتب بنبرة متشائمة، بمثابة نقد ذاتي للعقل والنظرية النقدية. وبعد هذا العمل، التزم هوركهايمر الصمت ووجد أدورنو أثرًا للأمل في الفنون. ثم تأمل لاحقًا في المنهجية الفلسفية لنظريته الثقافية النقدية وقدمها في "الجدلية السلبية".

"الأخلاقيات الدنيا"

كتب أدورنو كتابه "الأخلاقيات الدنيا"، وهو نص مهم في النظرية النقدية، أثناء الحرب العالمية الثانية، بينما كان المؤلف يعيش في المنفى في أميركا. وقد كتب في الأصل بمناسبة الذكرى الخمسين لميلاد ماكس هوركهايمر، المؤلف المشارك لكتاب "جدلية التنوير" لأدورنو. يستمد الكتاب عنوانه من كتاب "الأخلاق العظيمة"، وهو العمل الكلاسيكي لأرسطو في الأخلاق. وكما كتب أدورنو في المقدمة، فإن "المعرفة الحزينة" (وهي تلاعب بالألفاظ على كتاب نيتشه "المعرفة المبهجة") الذي يتناوله الكتاب هي "تعليم الحياة الطيبة"، وهو موضوع مركزي في كل من المصادر اليونانية والعبرية للفلسفة الغربية. واليوم، يؤكد أدورنو أن الحياة الطيبة الصادقة لم تعد ممكنة، لأننا نعيش في مجتمع غير إنساني. "الحياة لا تحيا"، هكذا يعلن الكتاب في افتتاحيته. ويوضح أدورنو هذا الأمر في سلسلة من التأملات القصيرة والأقوال المأثورة التي ينقسم إليها الكتاب، فينتقل من التجارب اليومية إلى رؤى مقلقة حول الاتجاهات العامة للمجتمع الصناعي المتأخر. وتشمل الموضوعات التي تمت مناقشتها الطبيعة التخريبية للألعاب، وخراب الأسرة، وسذاجة الصدق، وتدهور المحادثة، وظهور السحر، وتاريخ اللباقة. ويوضح أدورنو كيف أن أصغر التغييرات في السلوك اليومي تقف في علاقة مع أكثر الأحداث كارثية في القرن العشرين. ويعترف الكتاب بجذوره في "الحياة المدمرة" لمؤلفه، وهو واحد من العديد من المثقفين الذين دفعتهم الفاشية إلى المنفى، والذين، وفقًا لأدورنو، "تم تشويههم دون استثناء". ولكن كما تقول إحدى أقواله المأثورة، "الشظية في عينك هي أفضل عدسة مكبرة". وعلى هذا، وباعتبارها شظايا متبقية من مرآة الفلسفة المحطمة، فإن شظايا الكتاب تحاول تسليط الضوء على أدلة تشير إلى انحدار البشرية إلى اللاإنسانية في محيطها المباشر. إن كتاب "الأخلاق الدنيا" الذي يعتبر نوعاً من الفلسفة ما بعد الفلسفية التي تعمل ضد "الكل غير الحقيقي" للفلسفة ذاتها، يتمسك بقوة بالرؤية اليهودية المسيحية التنويرية للخلاص، والتي يعتبرها وجهة النظر الوحيدة الصالحة للتعامل مع عالم مضطرب للغاية. ومن خلال تسليط "الضوء المسيحي" للنقد على مشهد من السلبية المطلقة، يحاول أدورنو "إسقاط صورة سلبية لليوتوبيا".

الأساليب الاجتماعية لأدورنو

لأن أدورنو كان يعتقد أن علم الاجتماع يحتاج إلى أن يكون تأمليًا ونقديًا ذاتيًا، فقد اعتقد أن اللغة التي يستخدمها عالم الاجتماع، مثل لغة الشخص العادي، هي بناء سياسي إلى حد كبير يستخدم، غالبًا دون تفكير، المفاهيم التي تبنتها الطبقات المهيمنة والهياكل الاجتماعية (مثل مفهومنا عن "الانحراف" الذي يشمل كل من الأفراد المنحرفين حقًا و"المحتالين" الذين يعملون دون المعايير الاجتماعية لأنهم يفتقرون إلى رأس المال للعمل فوقها). وبالتالي، شعر أدورنو أن البشر في قمة المعهد (وكانوا جميعًا بشرًا) يحتاجون إلى أن يكونوا المصدر الأساسي للنظريات للتقييم والاختبار التجريبي، فضلاً عن الأشخاص الذين سيعالجون "الحقائق" المكتشفة... بما في ذلك مراجعة النظريات التي وجد أنها خاطئة. على سبيل المثال، في المقالات المنشورة في ألمانيا عن عودة أدورنو من الولايات المتحدة، والتي أعيد طبعها في مجموعة مقالات النماذج النقدية، أشاد أدورنو بالمساواة والانفتاح في المجتمع الأميركي استناداً إلى إقامته في نيويورك ومنطقة لوس أنجلوس بين عامي 1935 و1955. وقبل ذهابه إلى الولايات المتحدة، وكما يتبين في مقالته سيئة السمعة "عن موسيقى الجاز"، يبدو أن أدورنو كان يعتقد أن الولايات المتحدة كانت أرضاً قاحلة ثقافياً حيث تشكلت عقول الناس واستجاباتهم من خلال ما أسماه بوقاحة "موسيقى العبيد". وأخيراً، تأتي بعض الانتقادات الموجهة إلى أدورنو من أولئك الذين يشعرون بأنهم مجبرون على قراءة أعماله، أو القارئ العادي الذي يتوقع أن يجد معلقاً محايداً، عادة على قضايا الموسيقى. إن المشكلة تكمن إلى حد ما في الخلفية: فقد لاحظ كثيرون أن أدورنو لم يكن يتعاطف كثيراً مع القراء الذين لا يتمتعون بخلفية ثقافية واسعة النطاق، والتي تضمنت معرفة عميقة بالفلسفة الألمانية وتاريخ الأدب والموسيقى، فضلاً عن القدرة على الجدال انطلاقاً من "المبادئ الأولى". ويمكننا أن نجد مثالاً واحداً على الصدام بين الثقافة الفكرية وأساليب أدورنو في بول لازارسفيلد، عالم الاجتماع الأميركي الذي عمل معه أدورنو في منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، بعد فراره من هتلر. كما يروي رولف ويجرشاوس في كتابه "مدرسة فرانكفورت وتاريخها ونظرياتها وأهميتها السياسية" (معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا 1995): كان لازارسفيلد مدير مشروع ممول ومستوحى من ديفيد سارنوف (رئيس شركة راديو أمريكا)، وكان الهدف منه اكتشاف نوع الموسيقى التي يحبها مستمعو الراديو والسبل الكفيلة بتحسين "ذوقهم"، حتى تتمكن شركة راديو أمريكا من بث المزيد من الموسيقى الكلاسيكية بشكل مربح... ويبدو أن سارنوف كان مهتماً حقاً بالمستوى المتدني للذوق في عصر "خاصة من أجلك" وغيرها من الأغاني الناجحة المنسية، ولكنه كان بحاجة إلى ضمانات بأن تتمكن شركة راديو أمريكا من بث الأوبرا في فترة ما بعد الظهيرة من أيام السبت. ولكن لازارسفيلد واجه مشاكل مع أسلوب النثر في العمل الذي سلمه أدورنو وما اعتقده لازارسفيلد أنه عادة أدورنو في "الاستنتاجات المتسرعة" دون أن يكون على استعداد للقيام بالعمل الشاق المتمثل في جمع البيانات. ولكن يبدو أن أدورنو لم يكن متعجرفاً، بل كان يتمتع بشخصية كئيبة، ويروي لنا رولف ويجرشاوس حكاية لا تتناسب مع الصورة التي تشكلت عن شخص متغطرس متعصب: فقد لاحظ أن الكتّاب في مشروع أبحاث الراديو أعجبوا بما قاله أدورنو عن التأثير الفعلي لوسائل الإعلام الحديثة وفهموه. وربما استجابوا لتعليقات مماثلة لتلك التي وردت في كتاب "جدلية التنوير"، الذي كتبه أدورنو مع زميله المقرب ماكس هوركهايمر، والتي مفادها أن رواد السينما كانوا أقل انبهاراً بمحتوى حتى "أفلام الإثارة" في ذلك العصر، وهي الأفلام التي يشيد بها الآن خبراء هوليوود باعتبارها "فناً"، من انبهارهم بالراحة المكيفة في دور السينما. وهي الملاحظة التي انعكست في صناعة السينما في ذلك الوقت من خلال التعبير القائل بأن المرء يجد مكاناً جيداً لبيع الفشار ويبني حوله مسرحاً.

الموسيقى والإطار النظري لأدورنو

إن المنهج النظري لأدورنو وثيق الصلة بفهمه للموسيقى وتقنيات أرنولد شونبيرج وغيره من الملحنين المعاصرين غير النغمية (أقل من "الاثني عشر نغمة") (كان أدورنو قد درس التأليف لعدة سنوات مع ألبان بيرج)، والتي تحدت الطبيعة الهرمية للنغمة التقليدية في التأليف. فحتى لو كان "الكل غير صحيح"، فإننا بالنسبة لأدورنو نحتفظ بالقدرة على تكوين تصورات نقدية جزئية وإخضاعها للاختبار مع تقدمنا نحو وعي "أعلى". كان هذا الدور للوعي النقدي شاغلاً مشتركًا في المدرسة الفيينية الثانية قبل الحرب العالمية الثانية، وطالب الملحنين بالتعامل مع التقاليد باعتبارها مجموعة من المحرمات وليس مجموعة من التحف الفنية التي يجب تقليدها. وبالنسبة للملحن (الشاعر والفنان والفيلسوف) في هذا العصر، كان من المرجح أن يكون كل عمل فني أو فكر صادمًا أو صعب الفهم. إن الفن الجديد لم يكن ليتمكن من تحدي الافتراضات الثقافية السائدة إلا من خلال "عدم قبوله بشكل تآكلي" من قِبَل الحساسيات التجارية للطبقة المتوسطة. ويزعم أتباع أدورنو أنه يبدو أنه نجح في تحقيق الفكرة ذاتها التي مفادها أن المرء يستطيع أن يتخلى عن الملكة بينما يظل قادراً على تصنيف الظواهر الفنية والأخلاقية على مقياس مؤقت، ليس لأنه كان عاطفياً بشأن هذه القدرة، بل لأنه رأى أن الدافع نحو الكلية (سواء الكلية الستالينية أو الفاشية في عصره، أو العولمة التي تجتاح السوق اليوم) مشتق من القدرة على إصدار أحكام أخلاقية وفنية، والتي اعتبرها أدورنو، على غرار كانط، جزءاً من الطبيعة البشرية. وعلى هذا فإن طريقته (أو بالأحرى: الطريقة المضادة) كانت استخدام اللغة ومفاهيمها "الكبيرة" على نحو مؤقت وموسيقي، جزئياً لمعرفة ما إذا كانت "تبدو صحيحة" وتتناسب مع البيانات. على سبيل المثال، سؤاله في كتابه "الشخصية الاستبدادية". كان هذا العمل وغيره من الأعمال التي كتبها أثناء إقامته في كاليفورنيا يدور حول ما إذا كان من الممكن الحديث عن الاستبداد الأصولي الأميركي باعتباره مرتبطاً بالفاشية القارية دون أن نبدي تلميحاً زائفاً إلى الشمول الجزئي لـ"نظرية" مفادها أن الاستبداد الأميركي قد يجلب شكلاً مختلفاً من أشكال الفاشية في الولايات المتحدة، ولكنه أشد ضرراً أو أقل ضرراً. كان أدورنو مهتماً بأن يحتفظ علم الاجتماع الحقيقي بالتزامه بالحقيقة بما في ذلك الاستعداد للتطبيق الذاتي. واليوم، يمكن قراءة حياته باعتبارها احتجاجاً على ما أسماه "تحويل" استطلاعات الرأي السياسية إلى شيء مادي، فضلاً عن ثقافة تبدو وكأنها "مناهضة" للثقافة الراقية، وتنتج كل عام المزيد والمزيد من التحف الثقافية ذات الجودة الأقل، والتي يستهلكها "معجبوها" باشمئزاز، ويُنظَر إليها باعتبارها أشياء في حد ذاتها.

أدورنو ومنتقدوه

تشمل الانتقادات الموجهة لنظريات أدورنو ماركسيين آخرين. ومن بين المنتقدين الآخرين رالف داريندورف وكارل بوبر، والفلاسفة الوضعيين، والمحافظين الجدد، والعديد من الطلاب الذين شعروا بالإحباط من أسلوب أدورنو. ويتهم العديد من الماركسيين المنظرين النقديين بالزعم بأنهم يمتلكون التراث الفكري لكارل ماركس دون الشعور بالالتزام بتطبيق النظرية على العمل السياسي.

الانتقادات الماركسية

وفقًا لكتاب هورست مولر "نقد النظرية النقدية"، يفترض أدورنو أن الكلية عبارة عن نظام آلي. وهذا يتفق مع فكرة أدورنو عن المجتمع باعتباره نظامًا منظمًا ذاتيًا، يجب على المرء الهروب منه (ولكن لا يستطيع أحد الهروب منه). بالنسبة له، كان موجودًا، لكنه غير إنساني، بينما يجادل مولر ضد وجود مثل هذا النظام. في حجته، يزعم أن النظرية النقدية لا تقدم أي حل عملي للتغيير المجتمعي. ويخلص إلى أن يورجن هابرماس، على وجه الخصوص، ومدرسة فرانكفورت، على وجه العموم، أساءا فهم ماركس.

وصف الفيلسوف الماركسي جورج لوكاش أدورنو بأنه كان يقيم في "فندق جراند أبيس"، في مقدمة كتابه "نظرية الرواية" عام 1962. وقد فُهم هذا على أنه يعني أن لوكاش (الذي كان في ذلك الوقت يؤيد "الواقعية الاشتراكية" والماركسية في نظام ألمانيا الشرقية بشكل عام) ربط أدورنو بماركسية بدائية قديمة، كانت تستسلم لليأس، على الرغم من أسلوب الحياة البرجوازي المريح. لقد أقام جزء كبير من كبار المثقفين الألمان، ومنهم أدورنو، في "فندق جراند أبيس" الذي وصفته في سياق نقدي لشوبنهاور بأنه "فندق جميل مجهز بكل وسائل الراحة، على حافة الهاوية، العدم، العبث. والتأمل اليومي في الهاوية بين الوجبات الممتازة أو الترفيه الفني، لا يمكن إلا أن يزيد من الاستمتاع بالراحة الدقيقة المقدمة".

الانتقادات الوضعية

يتهم الفلاسفة الوضعيون أدورنو بالتنظير دون إخضاع نظرياته للاختبارات التجريبية، ويستندون في انتقادهم إلى مراجعة كارل بوبر للوضعية المنطقية حيث استبدل بوبر "قابلية التزييف" كمعيار للعلمية بمعيار "قابلية التحقق" الأصلي للمعنى الذي اقترحه  لوكاش آير وغيره من أصحاب المذهب الوضعي المنطقي الأوائل. وعلى وجه الخصوص، يطبق مفسرو كارل بوبر اختبار "قابلية التكذيب" على فكر أدورنو ويجدون أنه كان مراوغًا عندما قُدِّمت له أدلة مخالفة. ويتبع روبرت كورتز، مؤلف كتاب (الكتاب الأسود للرأسمالية)، خط فكر أدورنو.

نقد المحافظين الجدد

بالاعتماد على نقد الوضعيين، يسخر المحافظون الجدد من أدورنو باعتباره منظِّراً غير راغب في الخضوع للتزوير التجريبي، ويرون في تعقيد فكره مورداً لـ"الصواب السياسي" لتقديم مبررات مطولة لمخططات الهندسة الاجتماعية غير الجديرة بالاهتمام وغير الشفافة. ومع ذلك، يقدم أتباع ليو شتراوس نقداً أكثر تعقيداً، والذين يؤمنون أيضاً بتفسير الثقافة، وكثيراً ما يرددون صدى العديد من انتقادات أدورنو لسهولة الوصول نحوالفن. ويستند نقدهم إلى الطبيعة المناهضة للرأسمالية لتوجه أدورنو، حيث يزعمون أنه في حين قد تتكون الثقافة الجماهيرية من "الخبز والسيرك"، فإن هذه الأشياء ضرورية للوظيفة الاجتماعية وأن إزالتها أو تقليص أهميتها باعتبارها "أكاذيب مفيدة"، من شأنه أن يهدد استمرار عمل السوق والمجتمع، فضلاً عن الحقيقة الفلسفية العليا.

خاتمة: ردود أدورنو على منتقديه

يرد المدافعون عن أدورنو على منتقديه من أصحاب المذهب الوضعي والمحافظين الجدد بالإشارة إلى أبحاثه العددية والتجريبية المكثفة، ولا سيما "مقياس F" في عمله حول الميول الفاشية في الشخصيات الفردية في كتابه "الشخصية الاستبدادية". وفي الواقع، كان البحث الكمي باستخدام الاستبيانات وغيرها من أدوات عالم الاجتماع الحديث مستخدمًا بالكامل في معهد أدورنو للبحوث الاجتماعية. كما زعم أدورنو أن الشخصية الاستبدادية سوف تستخدم الثقافة واستهلاكها بطبيعة الحال لممارسة السيطرة الاجتماعية، ولكن مثل هذه السيطرة مهينة بطبيعتها لأولئك الذين يخضعون لها، وبدلاً من ذلك فإن مثل هذه الشخصيات سوف تعكس خوفها من فقدان السيطرة على المجتمع ككل. ولكن باعتباره رائداً في علم الاجتماع التأملي الذاتي الذي سبق قدرة بورديو على وضع تأثير التأمل في الاعتبار على الكائن المجتمعي، أدرك أدورنو أن بعض الانتقادات (بما في ذلك التعطيل المتعمد لفصوله الدراسية في الستينيات) لا يمكن الرد عليها أبداً في حوار بين أنداد إذا كان يعتقد على ما يبدو أن ما يعتقده علماء الإثنوغرافيا أو علماء الاجتماع السذج عن جوهر الإنسان يتغير دوماً بمرور الوقت.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

تعد الهوية من أكثر المفاهيم التي تضخمت بشأنها المقاربات ودراسات البحث عن معانيها، إلى درجة أن يقول المفكر الألماني الفرنسي ألفرد جروسر: " القليل من المفاهيم التي حظيت بالتضخيم الذي عرفه مفهوم الهوية". والسبب في ذلك يعود إلى تناثر هذا المفهوم في عدد من العلوم الإنسانية، وتداخله في سياقات فكرية .

إن الهوية مفهوم مركب ومعقد، ولا يوجد تعريف دقيق وشامل له، وقد تناول العلماء هذا المفهوم كل حسب تخصصه واتجاهه الفكري، وعلى الرغم من التطور الذي عرفه هذا المفهوم وتعدد المقاربات النظرية التي عاجلته، إلا أنه لم يحظى بتعريف شامل ودقيق.

والسؤال الآن: ما إشكالية الهوية في ضوء المعنى والدلالة والتاريخ؟

يتحدد مفهوم الهوية بناء على الدلالة اللغوية والفلسفية والسوسيولوجية والتاريخية لهذا المصطلح، ويقابل مصطلح الهوية بالعربي كلمة " identité" وidentity في الفرنسية والإنجليزية، وهو من أصل لاتيني ويعني: الشيء نفسه، أو الشيء الذي هو ما هو عليه، أي أن الشيء له الطبيعة نفسها التي للشيء الأخر، كما يعين هذا المصطلح في اللغة الفرنسية: مجموع المواصفات التي تجعل من شخص ما هو عينه شخص معروف أو متعين.

إذا بحثنا في معاجمنا العربية القديمة، فيندر تناول معنى الهوية وفق الاستعمال المعاصر، واستعمالاته في تلك المصادر تختلف عن المفهوم الحديث للهوية، فابن فارس يقول " الهوية موضع يهوى من عليه، أي يسقط . فالمعنى مختلف فهوى: جاءت في معنى السقوط من علو، ولا تدل على معناه اليوم، بينما جاء في المعجم الوسيط، ما هو أقرب للمتداول، وهو أن الهوية بضم الهاء، حقيقة الشيء أو الشخص التي تميزه عن غيره .

والهوية في اللغة العربية مصدر صناعي مركب من " هو " ضمير المفرد الغائب المعرف بأداة التعريف "ال" واللاحقة المتمثلة إلي "ي" المشددة وعلامة التأنيث، أي "ة"، وفي الفرنسية والإنجليزية واللاتينية يعين اللفظ iden أو id ضمير الإشارة للغائب بمعنى هو ذاته، ويستعمل هذا الضمبر للدلالة أحيانا على الاختصار وعدم التكرار عند الإشارة إلي شيء محدد. والكلمة المقابلة للفظ "الهوية " في اللغة الفرنسية هي لفظة "Identite "وهي من الأصل اللاتيني "Idem "الذي أنتج الصفة "Identicus"التي تفيد الشبيه والمماثل وتعارض ما هو مختلف ومتنوع.

وإذا كانت الهوية في اللغة العربية مشتقة من ضمير "هو " بإضافة ( الف، لام) التعريف والياء وتاء التأنيث أي الدلالة على ما يكون به الشيء هو نفسه لا غير، ويمتاز به من غيره أو ضده، فإن الفلاسفة يعتبرون أن لفظ الهوية مشتق من الهو كما تشتق الإنسانية من الإنسان، وأن هوية الشيء هو عينه كما قال أرسطو.

وقد نجم عن مركزية مفهوم الهوية تعدد في تجلياتها، لاسيما إذا احتكمنا إلى معيار الفكر الفلسفي حيث تشكل مفهوم الهوية العددية التي تطلق على الشيء من جهة ما هو واحد، ومن جهة كونه هو هو، والهوية الشخصية وتطلق على الشخص باعتباره يبقى هو هو رغم ما قد يطرأ عليه من تغييرات، وفي السياق نفسه يتنزل مفهوم الهوية الكيفية والهوية المنطقية.

وهنا يجب توضيح الفرق الكائن بين الهوية والغيرية، إذ هما متباينان وكلاهما في مقابل الآخر وضد العينية أي الذاتية التي هي من معاني الهوية . فالغيرية مشتقة من الغير وهو كون كل من الشيئين خلاف الآخر .

ومن هذا المنطلق بالذات جاء ذاك التحديد للهوية باعتبارها علامة تميز الفرد والمجموعة، إذ هي ما يتحدد نوعه وجنسه من خلال تعريف كل شخص أو كل مجتمع أو كل حضارة، إنها جملة من المكونات فيما يمكن تسميته لوضع الشخص في ثقافة معينة ومجتمع معين.

وتستعمل كلمة "هوية" في الأدبيات المعاصرة لأداء معنى كلمة "Identity "التي تعبر عن خاصية المطابقة" مطابقة الشيء لنفسه، أو مطابقته لمثيله، وفي المعاجم الحديثة فإن كلمة الهوية لا تخرج عن هذا المضمون، فهي حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة، المشتملة على صفاته الجوهرية، والتي تميزه عن غيره، وتسمى أيضا وحدة الذات، أي: خلوها من التناقضات والتشتت، كما نظر إليها البعض من هذه الزاوية على أنها:" مقولة تعبر عن تساوي وتماثل موضوع أو ظاهرة ما مع ذاته، أو تساوي موضوعات عديدة مع بعضها، فالموضوعان "أ" و"ب" يكونان متطابقين من حيث الهوية إذا وفقط، إذا كانت كل الصفات والعلاقات التي تميز (أ) مميزة أيضا للموضوع (ب) والعكس بالعكس.

إن مفهوم الهوية من ناحية الدلالة اللغوية هي كلمة مركبة من ضمير الغائب "هو" مضاف إليها ياء النسبية التي تتعلق بوجود الشيء المعين، كما هو في الواقع بخصائصه ومميزاته التي يعرف بها، وهناك من يستبدل بالهوية كلمة تتكون من ضمير المتكلم "‘أنا" مع ياء النسبة فتصبح "إنية" وهذه ما تكلم عنها ابن سينا، وإن الهوية أو "الإنية" بهذا المعنى هي اسم الكيان أو الوجود على حاله، أي وجود الشخص أو الشعب أو الأمة كما هي بناء على مقومات ومواصفات وخصائص معينة متكن من إدراك ومعرفة صاحب الهوية بعينه دون اشتباه مع أمثاله من الأشياء.

ويتداخل مفهوم الهوية مع ومفهوم الماهية، فالهوية لغويا أن يكون الشيء هو هو وليس غيره، وهو قائم على التطابق والاتساق في المنطق، والماهية أن يكون الشيء " ما هو" بزيادة حف الصلة " ما" على الضمير المنفصل هو، والمعنى واحد، قد يجعل البعض الماهية أكثر عمقا من " الهوية".

وكما يتداخل مفهوم الهوية مع مفهوم الماهية فإنه يتداخل أيضا مع مفهوم الجوهر، وتنتسب المفاهيم الثالثة إلي جذر معنوي واحد، لا إلي جذر لغوي، إلي مفهوم الأصل، وإذا كان مفهوما " الماهية" و" الهوية" مشتقين لغويا من نفس الجذر " هو" فإن الجوهر استعارة من علم المعادن من الجوهر النفيس، فالشيء جوهر أي غال، وهو في نفس الوقت لب الأشياء كالمعدن النفيس بالنسبة إلي باقي الأحجار، ومنها " جوهرة"، وقد استعارها الفلاسفة في تسمية كتبهم مثل " جواهر القرآن" للغزالي.

وفي التراث الفكري العربي تعريفات كثيرة لـ " الهوية" إذ عرفها "الجرجاني" بأنه الأمر المتعقل من حيث امتيازه من الأغيار. و" الهوية" عند "ابن رشد " تقال بالترادف على المعنى الذي يطلق عليه اسم الموجود، وعند "الفارابي" " هوية الشيء: عينه وتشخصه وخصوصيته ووجوده المتفرد له الذي لا يقع فيه إشراك".

إن مفهوم الهوية ينطلق في ثقافتنا العربية من الأخر »هو" وليس من " الأنا: فالإحساس بالذات في الثقافة العربية ينطلق من تحديد هوية الآخر، سواء أكان في الداخل أم في الخارج.

لقد فرضت كلمة الهوية نفسها كمصطلح فلسفي يدل على ما به يكون الشيء نفسه"، وهذا يفيد أن معنى الهوية في الاصطلاح الفلسفي العريب قد استقر ليدل على ما به الشيء هو هو بوصفه وجودا منفردا متميزا من غريه، وتستعمل كلمة هوية في الأدبيات المعاصرة لأداء معين identity-identité التي تعرب عن خاصية مطابقة الشيء لنفسه أو الاشتراك مع شيء أخر الصفات والخصائص عينها.

ويعرف المفكر الفرنسي " ألكيس ميكشيللي " الهوية أنها: منظومة متكاملة من المعطيات المادية والنفسية والمعنوية والاجتماعية تنطوي على نسق من عمليات التكامل المعرفي وتتميز بوحدتها اليت تتجسد في الروح الداخلية اليت تنطي على خاصية الإحساس بالهوية والشعور بها، فالهوية هي وحدة من المشاعر الداخلية التي تتمثل في الشعور بالاستمرارية والتمايز والديمومة والجهد المركزي، وهذا يعين أن الهوية هي وحدة من العناصر المادية والنفسية المتكاملة التي تجعل الشخص يتمايز مما سواه ويشعر بوحدته الذاتية.

هذا ما نجده في تعريف " جريماس " للهوية، بحسبه، فإن مفهوم الهوية هو ضد الغيرية مثل النفس ضد الآخر، الهوية مهمتها تعيين مبدأ الدوام الذي يسمح للفرد بأن يبقى هو نفسه، وأن يواصل في كينونته طوال فترة وجوده ... رغم التغيرات التي يتسبب فيها أو يتعرض لها، رغم تحولات أنماط وجوده والأدوار التي يقوم بها .

كما تعددت المقاربات النظرية في العلوم الاجتماعية حول الهوية فيرى " ماركس" وأتباعه أن وعي الأفراد وهوايتهم حوصلة للعلاقات الاجتماعية المادية، ولا يمكن أن تتغير هذه الهوية إلا بتغيير العلاقات الاجتماعية المادية السائدة ... ويذهب "إميل دوركايم" إلي أنه في داخل كل فرد مكونا ومعطيات جمعية تتمثل الضمير الجمعي، وهذا الضمير الجمعي هو النواة البانية للهوية الجمعية ويرى "ماكس فيبر" أن الأفراد هم من يبنون المجتمع.

كما يعرفها "رشاد عبد الله الشامي" أنها الشفرة التي يمكن للفرد عن طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، والتي عن طريقها يتعرف عليه الآخرون اعتباره منتميا إلى تلك الجماعة، وهي شفر ة تتجمع عناصرها العرقية على مدار تاريخ الجماعة (التاريخ) من خلال تراثها الإبداعي (الثقافة) وطابع حياتها (الواقع الاجتماعي)، بالإضافة إلى الرموز، الألحان، والعادات التي تنحصر قيمتها في أنها عناصر معلنة تجاه الجماعات الأخرى، وهي أيضا التي تميز أصحاب هوية ما مشتركة عن سائر الهويات."

وقد ورد مفهوم الهوية عند "عبد العزيز بن عثمان التويجري" : على أنها " القدر الثابت والجوهري، والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية الوطنية أو القومية طابعا تتميز به عن الشخصيات الوطنية والقومية الأخرى.

نعني بالهوية مجموع الخصائص التي تميز مجموعة بشرية عن غيرها، مثل الجمال والتاريخ والثقافة واللغة والقيم والمعتقدات والنظم السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من الثوابت والمتحركات التي تهيكل الكيان الفردي والجماعي.

إذن لا تتشكل الهويات من العدم أو الفراغ أنها حصيلة ديالكتيك اجتماعي وسيرورة إنبنائية باحثة عن التجانس والاندماج في إطار الجماعة، وهي إذ تنضج وتستكمل تشكلها، تستقر في الوعي الاجتماعي حاملة السمات الأساسية التي تميز الجماعة من غيرها، وهي سمات تتحدد ضمن علاقات التماثل والاختلاف وتعكس ارتباط الإنسان بالآخرين وتميزه منهم في الوقت نفسه، وهي بقدر ما تكون تعريفا للذات، تكون أيضا تعريفا تستدمجه الذات في علاقتها بالأخر حسب "تالكوت بارسونز" واستنادا إلى " إيميل دوركايم" و"جورج ميد".

ومن الناحية التاريخية تعتبر مقولة الهوية موضوعا للتفكير الفلسفي منذ أقدم العصور إلى الآن لأول مرة مع المنطق الأرسطي، وتم توظيفه منذ تلك اللحظة في السياقات العلمية المنطقية والرياضية بصفة خاصة،وفي السياقات الفلسفية بصفة عامة , وتداخلت مقاربتها مع مفاهيم عديدة كالجوهر، الماهية، الشخصية، الإنية، الذات وغيرها.

وفق هذا المنظور كانت بدايات التفكير في " الهوية" التي يرى "أرسطو" أنها تعبر عن شكل من أشكال الثبات المخالف للتغيير، فالهوية بحسب رأيه تعين أن الشيء (هو هو) لم يطرأ عليه أي تغيير وقد عرفت إشكالية الهوية وما يتداخل معها من مقولات حضورا متجددا في الخطاب الفلسفي منذ لحظة الفيلسوف اليوناني "سقراط" ومقولته الشهيرة " أعرف نفسك"، إلى لحظة "ديكارت" وإعلانه لمبدأ الكوجيتو " أنا أفكر إذن أنا موجود"، وصولا إلى الفلسفات الوجودية التي قاربت الإشكالية من منظور أسبقية الوجود على الماهية ونظرت للإنسان كمشروع ينجز بحرية ويكتمل بموته، فبحث "ديكارت" من خلال منهج الشك في حقيقة وجود الشيء قاده إلى مسلمات بخصوص هوية الشيء التي لا تتعلق بالجانب الخارجي أو الشكلي للشيء، والذي يمكن أن يدرك بالحواس، وإنما هوية الشيء بمثابة جوهره، تكمن في روحه التي لا تدرك إلا بالذهن، وفي هذا ينطلق "ديكارت" من عملية التفكري كعنصر أساسي تحدد طبيعة الكائن.

دون أن ننسى إسهامات المفكرين المسلمين في بحث موضوع الهوية لاسيما "ابن سينا"  في مؤلفه " رسالة الطير" الذي ابتكر مفهوما جديدا للدلالة بصورة أدق على مضمون الهوية وهو مفهوم الإنية، فهذا المفهوم الأخير الذي يؤكد الحضور- هنا (أنا)، بدل الغياب الذي يستفاد من الهوية- هناك (هو) .

كما يعرفها "الجرجاني" بقوله" الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق"، يشبه "الجرجاني" من خلال هذا النص الهوية بالنواة، واشتملا هذه الهوية على حقيقة الشيء وخصائصه الجوهرية كاشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق، هذه النواة التي تختزل جميع الخصائص الجوهرية للشجرة، ولا يمكنها إلا أن نتنج شجرة بنفس خصائص الشجرة التي انتزعت منها، وغير بعيد عن المعنى نجد "ابن حزم" يقول:" وحد الهوية هو أن كل ما لم يكن غير الشيء فهو بعينه، إذ ليس بين الهوية والغيرية وسيطة يعقلها أحد، فما خرج عن أحدمها دخل في الآخر.

أما "الفارابي" فيتناول الهوية بقوله" هوية الشيء وعينيته ووحدته وتشخصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له كل واحد، وقولنا أنه " هو" إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المتفرد له الذي لا يقع فيه اشتراك، وقال الهو هو معناه الوحدة والوجود فإذا قلنا زيد هو كاتب معناه زيد موجود كاتب.

وعرف مفهوم الهوية انتشارا مهولا، حيث اكتسح في بضعة عقود مجمل العلوم الإنسانية، وفرض نفسه في تحليل حقائق جد متنوعة وعلى الرغم من ذلك، فإنه من الصعب أن تجد تعريفا متوافقا عليه لـ " الهوية".

وقد قام عامل النفس، "إ-إريكسون "بدور مركزي في انتشار استخدام هذه الكلمة وتوسع شعبيتها في العلوم الإنسانية، وهو الذي صاغ تعبير" أزمة الهوية" عندما نشر كتابه "الطفولة والمجتمع" سنة 1950، وكذا كتابه الهوية ودورة الحياة في نفس السنة، وعقبها نشر كتاب المراهقة والأزمة. بحث عن الهوية سنة 1958.

في هذه المؤلفات الثلاثة (تحديدا) صاغ "إركسون "نظرية النمو السيكو-اجتماعي التي تقوم على الملاحظات العيادية لمرضى لكن انطلاقا من دراسة سير ذاتية لشخصيات مشهورة، من أمثال "مارتن لوثر، المهاتما غاندي، جورج برنارد شو؛ حيث يحتل مفهوم الهوية موقعا مركزيا، هكذا اكتسب هذا المفهوم مع "إركسون " عبارات وشهرة واسعة في جمال السيكولوجيا الفردية، كما درس " الاجتثاث الثقافي" للهنود الحمر المعرضين لموجة الحدث.

ولكن انتشار كلمة " الهوية" وتوسع استخدامها في علم الاجتماع بالولايات المتحدة كانا بقدر أكبر في الستينيات وخاصة مع بروز أزمة الأقليات، وأهمها الإفريقية، وقد قام مفكرو ما بعد الاستعمار، مثل إدوارد سعيد وجورج جيمس صاحب التراث المسروق، ومارتن برنال في رائعته عن " أثنيا – إفريقية سوادء"، ببحث الهويات الهجينة والمختلطة التي صنعها التاريخ الاستعماري.

ثم إن هذا الاستعمال توسع وانتشر بسرعة كبيرة، حيت صار من المستحيل أن نحدد المعنى الدقيق لكل استخدام خاص لمفهوم الهوية، كما ظهرت تعابير متعددة مثل " أزمة الهويات"، و"تركيب الهويات"، و" الهويات المتعددة".

وقد اكتسب مفهوم الهوية مكانة حاسمة ضمن مفردات علم الاجتماع وقاموسه وذلك بواسطة التفاعلية الرمزية، حيث تحدث الآباء المؤسسون لها وهم " تشارلز هورتون كولي وهيربرت ميد حتي سنوات الستينيات من القرن العشرين ... ولكن يبقى سؤال: كيف اقتحمت الهوية فلسفات العقل؟ وهذا ما نجيب عنه في المقال المقبل يإذن الله تعالى.

***

د. محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

.......................

المراجع:

1- القحطاني، مسفر: الهوية: المعني والدلالة وتأثيرها على نموذج القبيلة، مجلة جيل للعلوم الإنسانية، العدد 108، 2024.

2- مفيدة، خروبي: الهوية: قراءة في المفهوم والإقتراب النظري، مجلة المعيار، العدد الرابع، 2024.

 

يُنقل عن سقراط مقولته الشهيرة عند محاكمته قوله: "الحياة غير المدروسة لا تستحق العيش".

إنَّ التأمل في الذات والسعي لتعميق الوعي الفكري هي أدوات لعملية بناء الذات الإنسانية، ولا شكّ أن البحث عن الحقيقة يمثّل شرطًا أساسيًا في هذه المسيرة التي من أجلها خلق الإنسان. ووعي الذّات يراد منه الوقوف عند الأفكار والمشاعر والسلوكيات وفهم كيفية تأثيرها في ذات الفرد نفسه، أو على الآخرين (Tangney et al. ، 2007)1. فيكون معنى طَلَبُ الحقيقة مرتبط بالوعي الذاتي، فالحقيقة تمكّن الإنسان من فهم وإدراك مستوى القوة والضعف عنده، ومستوى تقبل الأخطاء، وأخذ العِبَر والدروس منها، وبالتالي التَّمكن، وَمِن خلالِ وَعيه الذّاتي المتقدّم، أن يكون بصيرًا بتشخيصه لكل ما حوله، وبالقرارات الصحيحة التي يتخذها، وبنوع ومستوى العلاقات الشخصية التي تربطه بالآخرين (جولمان، 1995)2.

ولا شكَّ أنّ الطريق نحو وَعي الحقيقة يكمن في تأصيل حالة التوافق بين المفاهيم الفكرية والواقع، بينما تشير الحقيقة الزائفة، والمعروفة أيضًا باسم الباطل، إلى المعلومات التي لا تتوافق مع الواقع، لذلك فإن معرفة الحقيقة وامتلاكها والحذر من الوقوع في الحقائق المزيّفة هو أمر بالغ الأهمية في عملية التكامل الإنساني وبناء الوعي الفردي على أسس القِيَم والمبادئ والمُثُل الإنسانية. ويؤكد علماء النفس، فيما يتعلّق بنظرية "التنافر المعرفي"، أن الأفراد يعانون من عدم الراحة النفسية عندما يكون لديهم مُعتقدات مُتشابكة، أو مواقف أو قِيَم مُتناقضة مع بعضها البعض؛ وأما الأفراد الذين يمتلكون أجزاءً من الحقيقة ويعملون على أساسها فهم أقل عرضة للوقوع في مستنقع التنافر المعرفي، وذلك لأنَّ معتقداتهم وأفكارهم وقيمهم وسلوكياتهم ستكون مستندة ومتوافقة مع الأسس والمباني التي تقوم عليها الحقيقة، وهي بالتالي أقرب للواقع.

تُعد معرفة الحقيقة وامتلاكها جانبًا مهمًا من جوانب بناء الذات لأنها تشكل أساس النمو والتطور الشخصي. ولأنَّ الحقيقة تشير إلى ما هو واقعي، بعيدًا عن الظنون والتخيّلات أو الاعتقادات الباطلة، فإنَّ معرفة الحقيقة وامتلاكها يعني الاعتراف أولًا بامتلاك واقعيّة أفكار ومشاعر وسلوكيات وخبرات الإنسان بنفسه، فضلاً عن العالم الخارجي من حوله. وهذا الأمر يتطلّب مستوى عالي من التأمل والجهد في البحث عن الحقيقة وقدرة ومصداقيّة وشجاعةً في المواجهة، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالقِيَم والمعتقدات ومدى ارتباطها وتأثيرها على الذّاتِ الإنسانية.

ولا يمكن المبالغة في ارتباط معرفة وامتلاك الحقيقة مع مستوى بناء الذات، فبدون الحقيقة قد يسقط الإنسان في فخّ اتخاذ القرارات المصيرية الخاطئة والتي تستند إلى افتراضات خاطئة، وتحيزات وأوهام زائفة، وبالنتيجة عرقلة مسيرة التكامل الفردي والمجتمعي.

والحقيقةُ غالبًا ما تكون مرتبطة بمفهوم الأصالة الإنسانيّة، والأصالة وجهٌ من أوجه الصدق مع النّفس، والصدق لا يكتمل إلا بِحَملِ القِيَم والمبادئ والمُثُل، وترجمة المفاهيم والمعتقدات إلى سلوكيات حميدة، وفيها يتطابق الباطن مع الظاهر؛ فالمستوى الذي يكون فيه الفرد صادقًا مع نفسه فإنّه يكون صادقًا مع الآخرين، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: 19]، وقال كذلك: ﴿ قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ﴾ [الأنعام: 104]. وَ مِنْ كَلاَمٍ وَرَدَ عَن عليّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قد وَصَّى بِهِ شُرَيْحَ بْنَ هَانِئٍ لَمَّا جَعَلَهُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ إِلَى اَلشَّامِ: " اِتَّقِ اَللَّهَ فِي كُلِّ مَسَاءٍ وَ صَبَاحٍ وَ خَفْ عَلَى نَفْسِكَ اَلدُّنْيَا اَلْغَرُورَ وَ لاَ تَأْمَنْهَا عَلَى حَالٍ وَ اِعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَرْدَعْ نَفْسَكَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا تُحِبُّ مَخَافَةَ مَكْرُوهِهِ سَمَتْ بِكَ اَلْأَهْوَاءُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ اَلضَّرَرِ فَكُنْ لِنَفْسِكَ مَانِعاً رَادِعاً وَ لِنَزْوَتِكَ عِنْدَ اَلْحَفِيظَةِ وَاقِماً قَامِعاً."3

ورُوِيَ فِي بَعْضِ اَلْأَخْبَارِ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ رَجُلٌ اِسْمُهُ مُجَاشِعٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ كَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ اَلْحَقِّ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مَعْرِفَةُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى مُوَافَقَةِ اَلْحَقِّ قَالَ مُخَالَفَةُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى رِضَاءِ اَلْحَقِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ سَخَطُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى وَصْلِ اَلْحَقِّ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ هِجْرَةُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى طَاعَةِ اَلْحَقِّ قَالَ عِصْيَانُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى ذِكْرِ اَلْحَقِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ نِسْيَانُ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى قُرْبِ اَلْحَقِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اَلتَّبَاعُدُ مِنَ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى أُنْسِ اَلْحَقِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اَلْوَحْشَةُ مِنَ اَلنَّفْسِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ فَكَيْفَ اَلطَّرِيقُ إِلَى ذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اَلاِسْتِعَانَةُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلنَّفْسِ4 .

لقد أكّد علم النفس على دور الحقيقة في بناء الذات والوعي البشري، وفي هذا السياق أكد عالم النفس ‘كارل روجرز‘ ، وهو أحد مؤسسي علم النفس الإنساني، بأن الوعي الذاتي شرط ضروري لنمو الشخصية وتطورها (روجرز ، 1951)5. وهذه الإشارة تُبيّن أهمية وأثر إدراك الحقيقة في النّفس الإنسانيّة، وهي بالتالي، خطوة ضرورية في عملية بناء الذات. ويجادل عالم النفس الأمريكي ‘أبراهام هارولد ماسلو‘، وهو صاحب اقتباس ماسلو في تحقيق الذات (التسلسل الهرمي للاحتياجات)، بأن تحقيق الذات وهو أعلى مستوى من الاحتياجات البشرية، والذي يتطلب فهماً عميقاً للذات وللعالم الخارجي (ماسلو، 1943)6. وكذلك ما ورد في كتاب "التغلب على معدل الذكاء: العلم الناشئ للذكاء القابل للتعلم" لعالم النفس المعرفي ‘ديفيد بيركنز‘ قوله: "يتطلب تعلم التفكير جيدًا تطوير عادات التفكير والوعي الذاتي والتصحيح الذاتي" (بيركنز، 1995 ، ص 16)7، فمن خلال معرفة وامتلاك بعض مراتب الحقيقة يستطيع الأفراد تعميق وعي الذّات، وبالتالي التمكّن من تطوير وتحسين القدرة على التفكير النقدي واتخاذ قرارات مستنيرة.

إنَّ المجتمعات التي تحمل قِيَمًا ومبادئ معوجّة ترى أفرادها يواجهون صعوبة في إدراك الحقيقة، وهذه الظاهرة يطلق عليها علماء الأعصاب اسم "التحيز التأكيدي"، والتي تحد من قدرة الإنسان على إدراك الحقيقة عن نفسه والعالم الذي يحيط به. ومع ذلك، تؤكد ورقة علمية، قام بها مجموعة من الباحثين، على الأثر والدور الفاعل في ممارسة التأمل واليقظة في التقليل أو الحدّ من ‘الانحياز التأكيدي‘ وتعميق الوعي الذاتي (لانجر وآخرون ، 2000)، وَمن جملة ما خَلُصت إليه هذه الورقة البحثية أن إدراك الحقيقة عن أنفسنا وعن العالم الخارجي يتطلب عملية تهيئة واستعداد وصدق في مواجهة التحيزات النفسيّة والغاء جميع أنواع التصورات المسبقة والتي لا تمتّ إلى الحقيقة بشيء8.

إنَّ لمعرفةِ الحقيقة والتّمسك بها إرتباط وثيق بزيادة ما يُعرف بـــ"الذّكاء العاطفي"، والذي ظهر لأول مرة في عام 1964، إلا أنَّ كتابات الصحفي ‘دانيال غولمان‘ في العام 1995 جَعَلت من هذا المصطلح أكثر شهرة9.

والذّكاء العاطفي يشير إلى قدرة الإنسان في التعرّف على مشاعره الشخصية والسيطرة عليها وامتلاكها وتنظيمها بشكل فاعل، وبالتالي التمكن من بناء علاقات أكثر عاطفية، وإرضائية، وذات أهداف عقلية، مع الآخرين. وفي هذا السياق تؤكد الفيلسوفة ‘مارثا نوسباوم‘ بأن إدراك الحقيقة يتضمن "إحساسًا واسعًا بالتعاطف ، والقدرة على فهم الآخر والتماهي معه" (نوسباوم ، 2010 ، ص 51). ومن هنا يتبين دَور امتلاك الحقيقة وأثره في تطوير الشعور بالرحمة والتفاهم لدى الأفراد، الأمر الذي ينعكس أيجابًا في تعميق العلاقات بين الأفراد وبناء مجتمع أكثر انسجامًا وتماسكًا.

 وهذا الأمر لا يُدرك إلا من خلال تنمية اليقظة الذهنية، والمراقبة الدقيقة للأفكار والسلوكيات والمشاعر، وعدم التعجّل في إصدار القرارت والأحكام، أو الانغماس الأعمى في الظنيّات، وهذا يعتبر أحد أهم المناهج التي تمكّن الإنسان من التعرف على الحقيقة وامتلاكها10.

رُوِيَ عن أمير المؤمنين عليّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أنَّه قال: " جَاهِدْ شَهْوَتَكَ وَ غَالِبْ غَضَبَكَ وَ خَالِفْ سُوءَ عَادَتِكَ تُزَكِّ نَفْسَكَ وَ تُكَمِّلْ عَقْلَكَ وَ تَسْتَكْمِلْ ثَوَابَ رَبِّكَ ."11

***

د. أكرم جلال

........................

المصادر

1. Tangney, J. P., Baumeister, R. F., & Boone, A. L. (2007). High self-control predicts good adjustment, less pathology, better grades, and interpersonal success. Journal of Personality, 72(2), 271–324.

2. Goleman, D. (1995). Emotional intelligence: Why it can matter more than IQ. Bantam.

3. نهج البلاغة، ج1، ص447. وبحار الأنوار، ج33، ص461.

4. عوالي اللئالي، ج1، ص246. وبحار الأنوار، ج67، ص72. ومستدرك الوسائل، ج11، ص138.

5. Rogers, C. R. (1951). Client-Centered Therapy: Its Current Practice, Implications and Theory.

6. Maslow, A. H. (1943). A Theory of Human Motivation.

7. Perkins, D. (1995). Outsmarting IQ: The Emerging Science of Learnable Intelligence. The Free Press.

8. Langer, E. J., Blank, A., & Chanowitz, B. (2000). The mindlessness of ostensibly thoughtful action: The role of "placebic" information in interpersonal interaction. Journal of Personality and Social Psychology, 79(5), 753–766.

9. Beldoch, Michael؛ Davitz، Joel Robert (1976). The communication of emotional meaning. Westport, Conn.: Greenwood Press. P 39.

10. Nussbaum, M. (2010). Not for Profit: Why Democracy Needs the Humanities. Princeton University Press.

11. غرر الحکم، ج1، ص338. وعیون الحکم، ج1، ص222.

اكتسبت فكرة اللامحدود أهمية كبيرة في الفلسفة والعلوم والاخلاق، فهي تتحدى فهمنا للواقع والوجود وحدود التفكير البشري. مفهوم اللامحدود او اللامتناهي infinity سحر الفلاسفة والرياضيين والثيولوجيين منذ العصور القديمة. فكرة الشيء اللامحدود واللامتناهي تتحدى الطريقة التي نفهم بها العالم وتثير أسألة عميقة حول الواقع والوجود ذاته. هذه الفكرة حفزت العديد من الفلاسفة على مر السنين وهي مستمرة في تحريض النقاش حول طبيعة الكون ومكاننا فيه. لكن ماذا نعني بالضبط باللامحدود؟

فلاسفة اليونان القدماء واللامحدود

كانت الأفكار اليونانية القديمة حول اللامحدود مثيرة لإهتمام الناس في ذلك الوقت. اليونانيون ناقشوا الفكرة بطرق لازالت تؤثر فينا حتى اليوم. لكن ماذا كانوا يعنون بفكرة الـ"اللامحدود"؟

أحد فلاسفة اليونان القدماء اناكسمندر قال ان الكون ذاته بلا حدود او "لانهائي". كان هناك شيء غير محدود (أطلق عليه اسم Apeiron) يتجاوز ما نستطيع رؤيته. هو اقترح ان الأشياء باستمرار تأتي من هذا العالم اللا محدود الى عالمنا ومن ثم تتحطم او تخرج من الوجود قبل ان تعود مرة اخرى – تشبه نظام تدوير كوني. في تلك الأثناء، كانت لفيثاغوروس رؤية مختلفة. هو فكّر حول اللامحدود في الرياضيات – خاصة عند دراسة الأعداد اللاعقلانية (أعداد لا يمكن كتابتها كنسبة). التفكير بالكسور العشرية اللامتناهية كان له تأثيرا مدهشا جدا على أذهان البعض. لاحقا حلل ارسطو كيفية فهمنا لـ اللامحدود وقسمه الى نوعين: لامحدود محتمل ولامحدود حقيقي. طبقا لارسطو، اللامحدود المحتمل يمكن ان يستمر الى الابد لكنه لم يتم بعد (كما في العد). وفي نفس الوقت، اللامحدود الحقيقي ليس له نهاية فعلية (هو صارع مع هذه الفكرة مفاهيميا).

زينون أحد تلامذة افلاطون جاء ببعض المفارقات التي بيّنت ان الحركة مستحيلة(1). هذه المفارقات كانت ألغازا صادمة للذهن حول الزمان والمكان وتجزئة الأشياء. انها جعلت الناس يتسائلون ان كان اللامحدود شيئا اخترعناه ذهنيا بدلا من ان يكون له وجود في العالم الواقعي. كلا هاتين الفكرتين حفزتا لاحقا على التفكير العميق من جانب الرياضيين والفلاسفة. الفكرتان جعلتا المرء يتسائل عن مقدار ما يستطيع فهمه حول كل شيء – مهما كان.

التفسيرات المدرسية والقرون الوسطى

خلال القرون الوسطى، استطلع الناس الثيولوجي لفهم اللامحدود. العلماء ربطوا هذه الفكرة بالمدرسية scholasticism بما في ذلك المفكرون الكبار مثل توما الاكويني. نظر الاكويني الى اللامحدود من خلال استكشاف الصفات الالهية. هو اعتقد ان الخيرية والقوة والمعرفة هي أجزاء لا محدودة من طبيعة الله. غير ان الأكويني اعتقد ايضا ان هناك اختلافا واضحا بين الاشياء اللامحدودة – مثل الله - وتلك المحدودة التي تشمل كل شيء نستطيع لمسه او رؤيته. طبقا للاكويني، حتى عندما يكون الكون كبيرا ومدهشا، فهو ليس له لا محدودية في جوهره. أفكار الاكويني ساعدت في توضيح كيف يمكن لـ إله لا متناهي خلق عالم محدود. أفكاره بيّنت للمسيحين في القرون الوسطى بان المرء يمكنه الايمان بكلا الشيئين في وقت واحد دون تناقض. حاول المفكرون عبر استعمال التفكير المنطقي المترافق مع نقاش حول الدين (المدرسية)، بذل اقصى الجهود آنذاك ولقرون لاحقة ليس فقط لفهم معنى المسيحية وانما ما يعنيه الوجود ذاته.

الفلاسفة المسلمون مثل الغزالي أغنى وجهات نظر مفكري القرون الوسطى. افكار الغزالي حول الخالق اللامحدود ونقده لما قبل الأبدية كانت محفزة للمفكرين الغربيين وعززت التفكير عميقا. الغزالي كتب بان الناس لا يستطيعون استعمال العقل ليفهموا بالضبط اشياءً لا متناهية. هو قال هذا في كل من الله والكون ذاته. بهذه المحادثات - حتى عندما لم يكن العلماء المسيحيين وجه لوجه مع الكتاب المسلمين، هم كافحوا مع فكرة اللامحدود في المطلق وطوروا سردا وضع تلك الفكرة في قلب الوجود الانساني والتجربة الروحية.

العقلانيون واللامحدود

كان لدى المفكرين العقلانيين اشياء جديدة حول اللامحدود. هم ربطوا اللامحدود بإحكام بكل من الله والكيفية التي تشكّل بها الواقع من خلال التفكير الشاق وباستعمال العقل وحده. الشخصية الأبرز هنا هو ديكارت. حيث صاغ عبارة "الجوهر اللامتناهي" والتي تطبق حسب قوله فقط على الله لأن الله فقط هو اللا محدود حقا. ديكارت جادل ايضا باننا نعرف هذا اوتوماتيكيا لأننا وُلدنا ومعنا فكرة الله سلفا في أذهاننا. من الطبيعي لنا التفكير بان هناك كائن يستمر للابد.

باروخ سبينوزا طور هذه الافكار الى مدى أبعد. هو اقترح بان الله فقط له صفات لامتناهية (كل واحدة منها تعبّر عن مظهر لطبيعته التي سوف لن تتلاشى او تتغير ابدا). في الحقيقة، طبقا لسبينوزا، كل شيء في الوجود يشكل جزءاً من هذا الجوهر اللامتناهي المنفرد. لذا، فان الله والكون متشابهان. هذه الطريقة في النظر للاشياء كانت جديدة تماما. انها كانت تعني رؤية الالوهية في كل مكان بدلا من ان تكون في السماء العليا فقط.

في تلك الأثناء، طرح ليبنز فكرة الـ monads – وهي وحدات اساسية غير قابلة للقسمة. طبقا لليبنز، هذه الوحدات كلها تعكس كامل الكون لكنها تقوم بهذا بانسجام تام لأن الله ذاته هو الذي رتّبها. هو ايضا جاء بالفرق بين اللامحدود الممكن واللامحدود الحقيقي: نحن البشر نتعامل مع الممكنات (كما في حالة استمرارنا بالحساب الى الابد) بينما الله فقط يمكنه تجسيد تام لـ لامحدود حقيقي.

بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة، لم يكن اللامحدود مفهوما رياضيا استُطلع من جانب مفكرين أذكياء. هم جعلوا الفكرة جزءاً من تفكيرهم الميتافيزيقي. ومن المهم جدا، انهم ربطوا اللامحدود بشكل لا ينفصم بالكيفية التي يكون بها الله تاما وفي كل مكان.

اللامحدود في عصر التنوير

في عصر التنوير، بدأ الناس التفكير حول اللامحدود بطرق جديدة. بدلا من رؤية اللامحدود فقط كفكرة دينية، هم بدأوا النظر اليها علميا وفلسفيا ايضا. عمانوئيل كانط جاء بشيء ما أسماه تناقضات "antinomies ". هذه التناقضات تحدث عندما نستخدم أذهاننا للذهاب الى ما وراء عمل الحواس (وهو ما يقوم به العقل). كانط قال ان هناك مشاكل منطقية في كل من التفكير بالكون كلامتناهي والتفكير به كمتناهي. فمثلا، لو نقول ان الكون يجب ان ينتهي في مكان ما، عندئذ السؤال هو ماذا يكمن وراء ذلك؟ لكن كيف يمكن لأذهاننا ان تستوعب اللانهائية لو قلنا انها تستمر الى الأبد؟ كانط اعتقد ان هذه الأنواع من الأسئلة تبيّن ان هناك حدودا للمنطق الانساني: نحن لا نستطيع تماما فهم اللامحدود لأنه ليس شيئا تستطيع حواسنا تصوره. لذا، بدلا من ان تكون حقيقة قائمة على التجربة (والتي أسماها كانط الواقع التجريبي)، هو اعتقد باللامحدود كفكرة اخترعناها لمساعدتنا في فهم الكون. هذا العصر ايضا شهد تعديلات مكثفة عندما استخدم المفكرون وبشكل متدرج هياكلا عددية وعلمية لفهم اللامحدود. مثال على هذا هو علم التفاضل والتكامل الذي تم اختراعه بواسطة نيوتن وليبنز. انه يستلزم كميات لا متناهية في الصغر أقرب الى الصفر دون الوصول اليه – لحل مشاكل حول التغيير المستمر.

هذه التطورات، ساعدت التنوير في نقل مفهوم اللامحدود الى ما وراء الميتافيزيقا وحدها. المفكرون يرون المفهوم كشيء حيوي لكل منْ يعمل في الرياضيات والعلوم.

الاستطلاعات الفلسفية الحديثة

في العصر الحديث، ابتعدت الاستطلاعات الفلسفية في اللامحدود عن النقاشات الميتافيزيقية الكلاسيكية، لتحتضن اتجاهات وجودية وفينومينولوجية. مفكرون مثل سارتر وادموند هسرل انتقلوا للتركيز من اللامحدود كمفهوم نظري الى مضامينه في التجربة الانسانية والوعي. جين بول سارتر الوجودي البارز تعامل مع اللامحدود من منظور الحرية الانسانية ولا محدودية الخيار. جادل سارتر ان الانسان كُتب عليه ان يكون حرا، بما يعني ان حجم الإمكانات وغياب الجوهر المقرر سلفا يلقي علينا مسؤولية لا محدودة عن أفعالنا. هذه اللامحدودية الوجودية تسلط الضوء على الإمكانات اللامتناهية التي تشكل وجودنا ومشروعنا الدائم للخلق الذاتي. في العصر الحديث، أصبح التركيز على ما تعنيه اللامتناهية لحياة الافراد (الوجودية) او كيفية التعامل معها (فينومينولوجيا).

سارتر نظر الى فكرة اللامحدود من حيث علاقتها بالحرية: كوننا نستطيع دائما عمل خيارات، ليست مقيدة بأي شيء. قال سارتر ان الناس "محكوم عليهم بالحرية" لأنه عندما يكون كل شيء ممكنا لك، انت عندئذ مسؤول عن كل شيء تقوم به. هذا المظهر اللامحدود ينظر في الكيفية التي تحدد بها الإمكانات اللامحدودة منْ نحن وكيف نخلق أنفسنا باستمرار.

أدموند هسرل، مؤسس الفينومينولوجي، عالج اللامحدود عبر فحص الآفاق اللامتناهية للوعي الانساني. طبقا لهسرل، الوعي دائما له هدف او قصد وهذا التوجيه يستمر الى ما لانهاية لأننا نمتلك تجارب ورؤى جديدة. هذه الفكرة تنطوي على ان الخبرة الذاتية يمكن ان تكون عميقة بلا حدود: هناك دائما الكثير لفهمه والتفكير فيه في كيفية ادراكنا للاشياء. الفيلسوف الفرنسي ايمانويل ليفيناس Emmanuel Levinas أدخل مفهوم المسؤولية اللامحدودة نحو الآخر. بالنسبة له، ان ارتباطنا الأخلاقي مع الآخرين يتطلب منا ان نستجيب بلا محدودية – واجب لا متناهي يذهب وراء الفهم او الحساب. هذا المنظور يتعارض بشكل صارخ مع الميتافيزيقا الكلاسيكية لأنه يتعامل مع اللامحدود ليس في تنظير مجرد وانما في كيفية ارتباطنا أخلاقيا ببعضنا البعض.

الرؤى المعاصرة لـ اللامحدود

في عالم اليوم، لم يعد اللامحدود فقط موضوعا لتأمل الفلاسفة. انه يدخل في الرياضيات والمنطق ايضا حيث الناس مثل الفيلسوف الامريكي هيلاري بوتنام استخدم فكرة الهياكل الرياضية اللامحدودة في دراسة قضايا في فلسفة الرياضيات وفلسفة الذهن. اللامحدود ايضا يلعب دورا في فرعين من الفيزياء الحديثة: الكوزمولوجي الذي يدرس الأسئلة المتعلقة بالكون ومكاننا فيه، وفيزياء الكوانتم التي تستكشف المظاهر الاساسية للواقع.

عندما يدرس علماء الكون مدى اتساع الكون مثلا، فان بعض الافكار التي يعملون بها لها أبعاد لامحدودة – او تقترح ان هناك أكوانا لا محدودة الى جانب كوننا. في فيزياء الكوانتم، اللامحدودات تظهر فوق المكان. انها استُعملت لحساب مدى احتمال تفاعل الجسيمات خلال ردات الفعل او تصف الارتباطات الشبحية بين عدة أجزاء لا محدودة لفضاءً فارغ. التكنلوجيا ايضا تستكشف مفهوم اللامحدود من خلال استكشافها لـ "إمكانات حسابية لامحدودة". مثال على هذا تطوير الحوسبة الكمومية. انها تستعمل مبادئ مثل التراكب والتشابك لتؤدي في نفس الوقت حسابات لامتناهية. لذا انها قد تزيد بشكل دراماتيكي كل من مقدرة الكومبيوتر وكيفية استعماله. هذا التعامل الحديث مع اللامحدودية يعرضها ليس فقط كشيء مجرد او فلسفي وانما كقوة حية تساعد في قيادة التحقيق العلمي والإبتكارات التكنلوجية.

***

حاتم حميد محسن

............................

* للمراجعة: The collector, 24Jan, 2025

الهوامش

(1) طبقا لزينون (430-490ق. م) اذا كان كل شيء في الوجود له مكان، فان هذا المكان هو ايضا له مكان، وهذا الاخير يحتاج ايضا الى مكان وهكذا تستمر السلسلة الى ما لانهاية (الفيزياء، ارسطو قسم 208). عرض زينون سلسلة من الحجج المنطقية في إثبات ان الحركة والتغيير والتعدد هي مستحيلة. من بين 40 حجة نُسبت الى زينون كانت هناك أربع مفارقات هامة تتعلق بموضوع الحركة ومنها مفارقة السهم ومفارقة السباق: في الاولى يرى زينون لكي تحدث الحركة يجب على الشيء ان يغيّر الموقع الذي يشغله، يعطي هنا مثالا عن السهم. في أية لحظة السهم لا يتحرك الى المكان الذي هو فيه، ولا الى المكان الذي هو ليس فيه. هو لا يمكنه التحرك الى المكان الذي هو ليس فيه لأنه لم يمر وقت كافي لكي يصل الى هناك، وهو لا يمكنه الحركة الى المكان الذي هو فيه لأنه موجود فيه سلفا، بكلمة اخرى، لا وجود لأي حركة هناك، فاذا كان كل شيء ساكنا في أي لحظة، والزمن مؤلف من لحظات عندئذ تكون الحركة مستحيلة. وفي مفارقة السباق يؤكد ايضا ان ليس هناك أية حركة لأن منْ يتحرك يجب ان يصل الى المنتصف قبل الوصول الى النهاية، ولكن قبل الوصول الى المنتصف لابد من الوصول الى منتصف نقطة المنتصف، وهذه الاخيرة لا يمكن بلوغها قبل الوصول الى منتصف منتصف النقطة الاولى وهكذا الى ما لانهاية. هو يعتقد بوجود عدد لا متناهي من نقاط الوسط بين أي موقعين ويتسائل كيف لنا عبور كل هذه الأعداد اللامتناهية للمواقع، وبهذا تكون الحركة مستحيلة. بمحاولة زينون نفي الحركة يكون قد أثبت لامحدودية المكان والزمان. لكن ارسطو انتقد مفارقات زينون قائلا بعدم وجوب افتراض ان مسار المتسابق يعتمد على أجزائه، لأن المسار موجود سلفا، والأجزاء تأسست من جانب المراقب، وكذلك أشار الى ان الخط لا يحتوي على نقاط غير قابلة للقسمة. غير ان هذا النقد تعرض بدوره الى نقد مضاد لكونه غير منسجم مع المستويات الحالية للتحليل وفرضياتها في اللامحدود الحقيقي.

 

في فترة من الفترات كان هناك اهتماماً كبيراً في الوصول إلى الحقيقة النهائية، وتبعاً لذلك كانت المباحث الميتافيزيقية تزدهر، كونها تدعي لنفسها إمكان الوصول إلى الحقيقة المطلقة. أما في المرحلة التي لا تهتم بوجود حقيقة نهائية، وهي مرحلة الوضعيين واللاادريين، فإن الميتافيزيقا تخبو وتتراجع، مع ذلك فمن المشكوك فيه أن يكون من الممكن أخذ تحريم الميتافيزيقا مأخذ الجد الكامل، ذلك لأن الذين ينكرون الميتافيزيقا، يمارسون نوعاً خاصاً بهم من الميتافيزيقا. فحتى النقودات التي وجهها (ديفد هيوم وكانت)، لم تكن بقصد القضاء على الميتافيزيقا، وإنما وضعا علامة استفهام كبيرة على هذا البحث الذي أصبح سيئ السمعة عند كثير من الناس. فقد استمر التأمل الميتافيزيقي على أشده في القرن التاسع عشر، فبرزت ما يسميه (جون ماكوري) بـ الميتافيزيقا الأكثر تواضعاً، وهي ميتافيزيقيا وصفية أكثر منها تأملية، كالتي ظهرت مع (وايتهد)، فهي تأخذ على عاتقها وصف أكثر المقولات عمومية التي يفهم عالمنا بواسطتها، كما تكتشف أعم شروط التجربة... ولقد أصبح بعض الفلاسفة الذين ينكرون إمكان قيام الميتافيزيقا النظرية على استعداد للتسليم بمشروعية ما أسماه (ماكوري) بالميتافيزيقا الأكثر تواضعاً.

وإن الفلاسفة الوجوديون يرفضون الميتافيزيقا النظرية التي تريد أن تحلّق في الأفاق البعيدة، على أساس أن الوجودي ينكر قدرة الفكر على إدراك الحقائق الواقعية العينية للوجود البشري وتنظيمها في مذهب عقلي شامل، فنرى وجودية (كيركجورد) ما هي إلا احتجاج على المذهب الميتافيزيقي لـ(هيغل)، وظل الوجوديون المتأخرون ضد الميتافيزيقا بهذا المعنى، ولكن إذا كان الوجوديون قد فقدوا الثقة في الميتافيزيقا العقلية فليس معنى ذلك أنهم يرفضون كل ميتافيزيقا، فبكون الموجود البشري هو الموضوع الرئيسي للوجوديين، فإن ذلك يستتبع إثارة أسئلة من النوع الميتافيزيقي.

ويستخدم بعض الوجوديين تعبير الميتافيزيقا عن عمد، للدلالة على تلك الأجزاء من فلسفاتهم التي تناقش أسئلة عامة حول مكانة الإنسان في العالم، ويتجنب وجوديون آخرون كلمة الميتافيزيقا، ولكننا نجدهم يستبدلون بها كلمة أخرى مثل الأنطولوجيا... ومن بين الذين يستخدمونها عن عمد هو (بردياييف)، ويذهب إلى أن (إيمانؤيل كانت) هو الذي جعل الميتافيزيقا الوجودية ممكنة، والميتافيزيقا التي يستعملها (بردياييف) هي ميتافيزيقا الذات، في مقابل ميتافيزيقا الموضوع، لكن هذا التعبير بحسب (ماكوري) تعبير مضلل، إذ قد يغرينا بأن نفهم الذات بوصفها ذاتاً مفكرة، في حين أن (بردياييف) يريد أن يؤكد على أن الميتافيزيقا عمل للإنسان ككل.

أما هيدغر فقد جعل من الأنطولوجيا مركز اهتمامه، إلا أن (ماكوري) يشير إلى أن هايدغر في كتاباته المبكرة، لا يكاد يميز ما بين الأنطولوجيا والميتافيزيقا، ففي كتابه ما الميتافيزيقا، يتخذ مشكلة العدم مثلاً توضيحياً للمشكلة الميتافيزيقية، ويبين ارتباطها الذي لا ينفصم بمشكلة الوجود، لكن هيدغر أصبح بمضي الوقت يميز بين البحث الأنطولوجي والميتافيزيقا، ويتحدث عن قهر الميتافيزيقا، فقد اهتمت الميتافيزيقا، كما يفهمها، بالموجودات بدلاً من الموجود بما هو كذلك، فعجزت عن بلوغ مستوى التفكير الأنطولوجي الحقيقي.

أما (كارل يسبرز)، فيرفض لفظي الميتافيزيقا والأنطولوجيا، لكن له ضرباً من الميتافيزيقا يسميه بـ (الأنطولوجيا الشاملة)، فموضوعها هو الشامل، أي الذي يشمل الذات والموضوع معاً، وينتهي (ماكوري) في كتابه الشهير (الوجودية) للتأكيد على ما قاله (رولاند جرمسلي): إن الحركة التي بدأت بهجوم عنيف على الميتافيزيقا الهيغلية، هي بصورة أخرى حركة ميتافيزيقية. ولو رجعنا في الزمن كثيراً، عند (ارسطو) تحديداً، سنجده ينبّه إلى ما تحدثنا به في هذا المقال، فالكلُّ -بحسبه- يتفلسف (الميتافيزيقا)، حتى أولئكم الذي يعادونها ويُعاندونها، فإنما يفعلون ذلك بضربٍ من ضروب التفلسف.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

اهداء إلى المحلل النفسي عبد الهادي الفقير مترجم أعمال لاكان

***

يعلمنا التحليل النفسي على لسان مؤسسه "سيجموند فرويد" أن كل شيء نفسي هو في المقام الأول لاشعوري – لاواعي، أما الخاصية الشعورية – الواعية فقد تظهر وقد لا تظهر " فرويد، حياتي والتحليل النفسي، ص 37" وهو بهذا استطاع أن يختلف مع الفلاسفة الذين كانوا لا يفرقون بين ما هو " شعوري – واعي" وما هو " نفسي" كما يقول فرويد. إذن التحليل النفسي أوجد هذا المفهوم وَعدهُ حجر الأساس في مفاهيم وأفكار التحليل النفسي وهو من أكتشافاته الأولى. يعلمنا التحليل النفسي أيضا كما يقول بول ريكور في العام 1949 ثمة في الفرويدية بالنسبة إلى الوجدانات الضعيفة، شيء ساحر يُعبر عنه نجاحها العالمي خير تعبير، فلسفة الإرادة، مستعرضًا على هذه الحتميات الداخلية التي تحكم في الأغلب سلوكنا "بيير داكو"، من هنا عرف بأن التحليل النفسي هو علم نفس الأعماق.

 درس التحليل النفسي الرغبات بأنواعها وبدأها في الرغبة بالعودة إلى رحم الأم، على نحو يسير شكلًا يتصف بأنه في منتهى الوضوح لدى بعض المرضى، وهذا الوضوح يقود من تَعمق في النفس البشرية بأساليب التحليل النفسي وهو أسلوب التداعي الحر – الطليق، وهي الوسيلة القادرة للنزول إلى عالم اللاشعور – اللاوعي، ويتفق معنا من عرف التحليل النفسي وزاول هذه المهنة الإنسانية والتي تعد مهنة من أكثر المهن صعوبة، وأكثرها إنسانية وروعة في نقل الشخص طالب التحليل إلى عالم السوية والتخلص من أدران بقايا التفكير وترسباته التي سببت له الأزمة النفسية، وكما عرفنا عبر هذه السنوات في دراسة التحليل النفسي بأن التحليل النفسي لا يهدف إلى الشفاء فحسب، بقدر ما يهدف إلى أن تمتد لابعاد الشخصية واعادة ترميمها عند الفرد نفسه بعد أو وضعه المُحلل " القائم بالعملية التحليلية " على الطريق في معرفة مواجهة ما سبب معاناته، وينزل به إلى أعماق النفس، إلى الجذور الأولى في تكوين ونشأة الصراع الذي أدى إلى العصاب، أو إلى الذهان.

تصدق المقولة التالية: إن المُحَللّ " طالب التحليل" يصارع دون وعي منه، لأنه تأثر بحكاية رويت له عندما كان صغيرًا " نص منقول" وهو التثبيت بعينه، ويرى العلامة " مصطفى زيور " أن التثبيت يضع علامة وقوف للنكوص، وهو يضعف القسم المتطور من الشخصية " زيور، في النفس، ص 141"

مما لاشك فيه أن المحلل النفسي الفرنسي " جاك لاكان " يعد من المحللين الذين أدخلوا التجديد في الفكر الفرويدي ونظرياته العميقة عن النفس التي عدت بأنها معركة اكتشاف الإنسان نفسه، وربما زادته عمقًا حينما سبر "لاكان" أغوار ما استطاع "سيجموند فرويد" وضع أسسه وترك الباب مفتوحًا لمن بعده في التعمق لذا كانت رؤية "لاكان" وما أحتوت من مداخل متنوعة ومختلفة عن معاصريه من علماء النفس في بداية القرن العشرين، ورغم أن البعض من المحللين النفسيين رفضوا هذا التجديد وما أدخله " لاكان "، وتستمر رؤية " لاكان " في إحداث هذا التجديد مستندًا في ذلك على استخدام اللغة كمؤثر في الجلسة العلاجية، فضلا عن إدخالها في كل رؤى التحليل النفسي عن معرفة عمق النفس، فقوله: وظيفة الكلمة، أو بتعبير أدق، هي وظيفة الدال أو وظيفة ذلك الجزء من السلسلة الصوتية الذي ننطق بها أو نسمعها، لذا فالإنسان نتاج للغة، ومع ذلك لا يمكننا أن نفهم كل هذا فهمًا صحيحًا ما لم نسلم بــ " وجود " رباط اساس بين الرغبة واللغة، وما لم تعرف الذات نفسها باعتبارها كائنًا متكلّما " فيليب شملا، لاكان واللغة".

يرى جاك لاكان بأن الرغبة هي رغبة في الاعتراف بالذات، كما عبرت عنها " بيتي ميلان" المحللة النفسية البرتغالية التي أجرت تحليلها مع لاكان في منتصف العقد السابع من القرن العشرين، حيث أسهم المحلل النفسي " عبد الهادي الفقير " في ترجمة بعض أعمال "جاك لاكان " مشكورًا، وتضيف أيضًا" بيتي ميلان " حادثة عندما كان يتكلم الشخص طالب التحليل مع محلله "لاكان" بأنه تحول أثناء الجلسة من اللغة الفرنسية إلى لغة الأم وهي البرتغالية فتركه "لاكان" يتحدث بكل طلاقة وحينها قال "لاكان" أن أهم شيء بالنسبة لي في تلك اللحظة ليس هو مضمون خطاب المُتحلل وما يتضمنه من مدلولات وإنما انتقال هذا الأخير من لغة إلى أخرى. وهو إن من يعلم قيمة اللغة لدى لاكان، هو الذي كثيرا ما كان يتحدث عن كنز اللغة.

يرى " جاك لاكان " أن لا اهمية من لا يفهم خطابه في المرة الأولى، حيث كان يركز على مفهوم الـ «nachträglich»، وهو مفهوم فرويدي يُترجم إلى الفرنسية بـ «الأثر الرجعي». يشير هذا المفهوم إلى أن بعض الأحداث لا يمكن فهمها إلا بعد وقوعها، وكانت ممارسة لاكان تعتمد على هذه الفكرة في سيميناراته كما في عمله العيادي.

أن اللغة عندما تتكوّن لدى الفرد، تكون وظيفتها هي تمثيل " حمل " الرغبة البشرية " شملا " ويضيف أيضًا إن الرغبات البشرية تتحقق دائمًا عبر موضوعات بديلة، أو عبر اللغة مرة أخرى، لكن الأمر المهم هو أن هذه الرغبات لا تعبر عن نفسها حيث تعتقد الذات ذلك، أي ضمن جُملٍ تصوغ طلبات، فإذا ما عَبّرت الرغبة عن نفسها ضمن اللغة، كان ذلك " بين السطور"، وتكون ممثّلة من طرف دوال تجهل الذات حتى أهميتها. وكما نعرف أن الذات تشكل جزء من النظام الرمزي، والنظام الرمزي عند "لاكان " هو القيم والقانون والسلطة وتقاليد المجتمع والاعراف السائدة فيه، والطقوس وثقافة المجتمع حيث تتشابك بصور عدة مع اللغة.

 كما يقول "لاكان " في تحليله للرسالة المسروقة أن اللغة هي ما يحدد الإنسان. وبامكاننا أن نقول أن نبرة الصوت عند أي منا تعطينا مؤشر ومعرفة عما يدور بداخل المتكلم، من نبرة تعبر عن الحب، أو الحسد، أو الاستهزاء، أو استهداف الفرد المقابل، فهي اللغة المحكية مفتاح لمعرفة ما يدور بداخل المتحدث، ما أعظم التحليل النفسي حينما يضع كشوفاته لمعرفة المتكلم، وما ترسب في داخله من ترسبات حتى شكلت بنيته، وبهذا يؤشر لنا صوته ونبرته تجاهنا أكبر مؤشر مهما حاول أن يصطنع التحكم بما في داخله من شعور تجاه المقابل، لغته ونبرة صوته تفضحه فضلا عن ما يبدو لنا من نميمة جسده بحركات غير مسيطر عليها. هكذا يتعلم الإنسان من نفسه وما يدور بها من عالم خفي مقره الرئيس هو اللاشعور – اللاوعي.

***

د. أسعد الامارة

في مثالية ساذجة يذهب هوسرل الى "ان الموضوع ليس معطى غفلا بل هو حقيقة تستمد معناها من القصد". في العبارة نجد بسهولة اول خطأ مثالي سطحي هو تغليب هوسرل اولوية وقبلية الوعي القصدي على بعدية الموضوع. وثانيا لايمتلك الموضوع المستقل انطولوجيا خاصيّة ان يكون (حقيقة) بل ان يكون الوعي الادراكي له (معرفة) ليست محايدة بل تغييرية. وهذا التفريق بين الحقيقة والمعرفة ليس على صعيد اختلاف المصطلح بين الاثنين فقط بل على صعيد المعنى المحتوى لكليهما.

الثابت في الادبيات الفلسفية ومثله في التفكير العلمي الذي لا يمكن تجاهله هي أن مصطلح (الحقيقة) يلتقي مع مصطلح (المعرفة) في أن كليهما مصطلحان نسبيان بمعنى هما سيرورتان تقبلان الاضافة التراكمية الكميّة والنوعية لكن ايضا باختلاف جوهري بينهما. فالتراكم الذي تتقبله الحقيقة هو قفزة نوعية ناسخة لما قبلها اما التراكم المعرفي فهو خبرة كميّة مضافة تعتمد ماقبلها ولا تلغيه.

كما أن الفرق بين الحقيقة انها مفهوم مطلق مثلما نقول الوجود هو مفهوم مطلق غير متعيّن بابعاد معرفية تجعل منه مصطلحا متفقا عليه فهو ليس موضوعا بل دلالة وكذا الحال مع الزمن. فالوجود يكون مصطلحا بمحتوياته الموجودية فيه فقط في حالات موجوديتها المستقلة انطولولوجيا داخل كليّة الوجود الذي هو مفهوم تبحث فيه الميتافيزيقا منهجا ماجعل نيتشة يسخر سخرية شديدة قوله ليس هناك شيء لاندركه لا بصفاته ولا بماهيته وندعوه الوجود.. وكذا فعل بعده هيدجر أنه لا شيء يدعى وجودا وكان يقصد مطلق الوجود كمفهوم وليس الموجود الانسان.

ليس غريبا أن نجد بالفلسفة مثل هذه المفاهيم التي نعتبرها متناقضة لا يقبلها العقل لكنها ليست بعيدة المصداقية التسليم بها. مثال آخر حينما الغى الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (العقل المعرفي) التجريدي كماهية خاصيتها التفكير وليس العقل البيولوجي. سرعان ما تلقف هذه المقولة الفيلسوف الانجليزي جلبرت رايل 1900- 1976 قائلا من السخرية الفلسفية أن نقر بوجود عقل انساني ابدا.

علما أن ديكارت في القرن السابع عشر سبق وقال العقل جوهر خالد خلود النفس وهو يقصد العقل المجرد الذي ماهيته التفكير وليس العقل البيولوجي عجينة الدماغ بتركيبة ما تحتويه الجمجمة. نفس الشيء تكرر مع التشكيك بوجود الزمن (المفهوم) عدا الدلالة المعرفية لملازمة الزمن للمكان. وابرز من أنكر حتى عدم حاجتنا ملازمة الدلالة الزمانية للمكان هو برجسون واجاز لنفسه الادراك المكاني في عدم تعالقه الافتراضي مع الزمن. ودبّت الحياة بالتشكيك بوجود الزمن على يد ثلاثة فلاسفة اميركان معاصرين ذهبوا نفس المنحى انكارهم وجود الزمن حتى كدلالة ادراكية للمكان. (لي مقالتان منشورتان اؤيد فيه هذه النظرية الفلسفية غير الفيزيائية علميا ان الزمن مفهوم مطلق لا يمكننا البرهنة اليقينية عليه خارج ملازمته الافتراضية الحيادية للمكان).

طبيعي ومهم أن نشير الى أن نظرية نكران الزمكان أي ملازمة الزمن للمكان ادراكيا في توليفة واحدة سوف تصطدم بعقبة كأداء لا يمكن تجاوزها بسهولة هي تاكيد النسبية العامة لانشتاين 1915 حين اكد توليفة الزمكان علميا فيزيائيا باكثر مما سبق لكانط وفلاسفة عديدين القول به.

واكثر من ذلك اضاف انشتاين في النسبية العامة الزمن بعدا رابعا لأبعاد المادة الثلاث الطول, العرض, الارتفاع, الزمن. بمعنى المادة اصبحت باربعة أبعاد ادراكبة بدلا من ثلاث. اذن من الممكن القول اننا بدلالة الابعاد الثلاث للمادة ندرك الزمن ليس مثل ادراكنا المادة بابعاد ثلاثة خالية من الزمن... البعد الرابع الذي اضافه انشتاين ليس تعسفيا بل فيزيائيا علميا على المادة في النسبية العامة التي لا يتوفر الى اليوم بديل تخطئتها او إدحاضها. لكن مشكلة ارتباط الزمن بابعاد المادة التي ندركها يفتح امامنا احتمال ادركنا الزمن موضوعا مستقلا واردا حسب نسبية انشتاين واضافته الزمن بعدا رابعا في تركيبة المادة وهو محال. الزمن ليس موضوعا للعقل.

اما حين تقول الوجود وتعني به الكليّة غير المتحققة وجودا فهو يكون مفهوما وليس مصطلحا متفقا عليه في حين تكون المعرفة (الابستمولوجيا) مصطلحا بحثيا متفقا عليه فهو مبحث علمي - عقلي. والسبب يعود لامكانية حصرنا المعرفة بابعاد فيزيائية او كيميائية او مادية بحثية وغيرها من تجربة علمية ومعادلات رياضية. وهذا لا ينطبق على الوجود الذي نعي تعيّنه الفيزيائي من خلال معرفتنا لمحتوياته الموجودية فقط.

ثم الوعي القصدي للاشياء والمواضيع حسب هوسرل واشياعه هو الوصول لهدف يتوخاه التفكيرالمسبّق قبل ادراك الموضوع او الوعي به حسب فهمنا تعبير هوسرل. أي أن المعنى برأينا على خلاف هوسرل ليس خاصّية معرفية موجودة بالوعي القصدي بل المعنى خاصية الشيء في وجوده المستقل بعالمنا الخارجي. وبغير الاقرار بهذه المسلمة الفلسفية تنتفي حاجتنا ادراك الاشياء والموضوعات لانها مكتفية ذاتيا بالمعنى ولا يضيف وعينا القصدي لها معرفة.

القصد أو القصدية في الوعي لا يحمل معنى قبليا يخلعه هو على موضوعه بل القصد يحمل خاصيّة البحث عن المعنى في مدركه الوجودي (الموضوع). هنا تتبيّن حقيقة الموضوع أنه ليس وسيلة ادراكية هادفة معرفية بل هو هدف بذاته بخلاف الوعي القصدي الذي هو وسيلة البحث عن المعنى في الموجود اي عن المعنى في موضوع تفكيره.. وليس في خلعه المعنى على مدركاته من الموضوعات.

طبعا هوسرل في منهجه الظاهراتي (الفينامينالوجيا) ومعه تلميذيه هيدجر وميرلوبونتي ذهبوا الى تبنّي الوعي القصدي الذي قال به برينتانو في معرض رده على الكوجيتو الديكارتي انا افكر.. وما يخص موضوعنا يعنى الموضوع في التفكير القصدي به قبل أن يكون (غفل) اصطدام الوعي به كموجود مستقل طاريء على التوقع الحدوث فهو موضوع صدفة سابق على التفكير القصدي به فهو بالتأكيد يكون غفلا كموضوع يحتويه عالمنا الخارجي..

اذا نحن سلمنا مع هوسرل بأن بعض الموضوعات ليست معطى غفلا عندها نسقط انفسنا في سذاجة فلسفية مثالية مغلوطة جدا هي أن كل مدركات العقل انما هي موجودات غير مادية ولا وجود لعالم خارجي يحتويها. فالموجودات المادية هي مواضيع (غفل) ليس بمحكومية ادراكنا لها بل بمحكومية وجودها المادي المستقل. والعقل لا يبحث عن مواضيعه الادراكية بنزعة وعيه القصدي. بل يبحث عن المعنى المعرفي بالمواضيع والاشياء المستقلة عنه. كذلك حين نقول مواضيع الخيال هي الاخرى ليست مواضيع غفلا وبذلك نلغي انتفاء مادية مواضيع الخيال اولا وهو اجتهاد يمكننا تمريره في تبرير ان اللاشعور الذي هو مصدر مواضيع المخيّلة ليس هو الاخر غفلا.

فالخيال وإن كان تداعيات انثيالاته الصورية بالذهن تسقطها المخيلة على التفكير العقلي الا أن الخيال لا وجود له بدون تفكير بموضوع حتى لو كان موضوع الخيال لا تنتظمه اللغة المحكومة بضابطي محدودية المعنى ومحدودية انتظام الكلمات في التعبير عن الصوت والمعنى الدال. حتى الصمت هو تفكير لغوي صورة ودلالة صوتية او غير صوتية لا يهم حين نريد الوصول الى حقيقة أن الخيال بلا موضوع هو هذيان من التفكير والاصوات غير المنضبطة بمعنى غير العاقلة في معرفتها اهمية واسلوب تعبير اللغة عن معنى قصدي تبتغي اللغة توصيله للمتلقي..

الوعي القصدي هو الشعور بالاتجاه المعرفي نحو هدف معيّن سبق التفكير به ذهنيا كموضوع. لذا يكون الشعور قرين الموضوع المحدد ماديا وليس قرين الموضوع (الغفل) الذي هو قرين اللاشعور الذي تفصح عنه تداعيات اللغة الحلمية في يقظة الخيال الشعوري. هنا علينا التمييز بين اللاشعور غير المسّيطر عليه في انتظام تداعيات الافصاح اللغوي عنه أي هو حالة من العصاب النفسي وليس اللاشعور المتمثّل في ابداعات لغة الاجناس الادبية التي تكون فيها مساحة المخيال اللاشعوري اكبر من مساحة تداعيات اللاشعور في لغة الكلام التداولي العادية. وهنا يكون المخيال في الاجناس الادبية مسيطرا عليه من قبل المبدع وسائبا في تداعيات الجنون الصوتية العشوائية التي لا معنى لها يؤطرها لا شكلا ولا محتوى.

متى يصح معنا القول الموضوع (غفلا) يحمل يحمل الوعي القصدي له معناه؟ حين يكون ادراكنا المواضيع بمحكومية محض الصدف لوجودها المستقل ولمباغتتها الوعي بالتفكير القصدي بها اي بمعرفتها. وهذه الصدف التي تلازم بعض المواضيع تنفي ان يكون الوعي القصدي التفكيري بالهدف يتم بالذهن قبل وجوده المادي المستقل بالعالم الخارجي كما تذهب له فينامينالوجيا هوسرل. والصدف الملازمة لبعض الموضوعات التي يستهدفها الوعي القصدي بالمعرفة عنها تؤكد (الغفل في حضورها) الذي يجعل من الصدفة اصدق تعبير عن الموضوع من الوعي القصدي الذي يتراجع دوره امام اسبقية الموضوع الغفل الذي يحمل معناه.

ثم هنالك زاوية نظر حول ان الصدف في تناول الادراك للموضوعات الغفل تخرج فاعلية العقل باختياره الموضوعات التي لها معنى. واذا افترضنا ان الوعي القصدي ينوب عن العقل الادراكي في الاختيار فهو يبطل التوجه نحو المواضيع الغفل التي تصبح كل ما يدركه العقل ليس صدفة ولا غفلا وهذه النظرة قاصرة بسبب ان العقل يدرك المواضيع التي تحكمها الصدف اكثر اهمية بكثير من الموضوعات التي تبدأ بالفكر وتنتهي بالموضوع في حكم الوعي القصدي باختياره مواضيع ليست غفلا ولا تحكمها صدفة وهذا غير منطقي. فوجود االموضوعات الغفل واصطدامنا غير المتوقع بها ادراكيا لا يمكننا نفيه ابدا من حياتنا المليئة بمثل تلك الموضوعات الغفل التي ترافقها الصدف وتفرض نفسها الوعي والتفكير بها.

فيورباخ وموضوعات الطبيعة

كان ولع فيورباخ الفيلسوف المادي اليساري المنشق عن هيجل بالطبيعة وصل مرحلة العبادة حد الهوس بها بعد وفاة هيجل فخرج هو ومعه ماركس وانجلز وشيلر وباور وشتراوس تجمعهم ادانة هيجل. وفي رسالة كتبها فيورباخ لابيه مخاطبا إياه اني تركت دراسة اللاهوت ليس ازدراءا به ولكن لأن الفلسفة والطبيعة وفرتا لي ما كنت اجد نفسي به. واصدر اهم كتابين له الاول (اصل الدين) والثني (جوهر المسيحية) ما سبب له تهمة الالحاد. حيث تملكته فكرة وحدة الوجود المادية الصوفية التأملية في تخليق الانسان لمعبوده انما يتم بعلاقة ميتافيزيقية تجمع بين الطبيعة والانسان.

طبعا رغم إعتراف ماركس بجميل فويرباخ الفلسفي انه اي ماركس اخذ من فويرباخ (ماديته) واخذ عن هيجل (ديالكتيكه) الواقف على راسه بالمقلوب بدلا من قدميه واعاده ماركس الى وضعه الطبيعي في صياغته النظرية المادية التاريخية والديالكتيك في المادة.الا ان ماركس هاجم فيورباخ بثلاثة اطروحات مجلدات طبعت ونشرت بعد وفاته. والسبب كان تحفظ ماركس من النزعة الدينية التي تملكت فيورباخ بنوع من صوفية مادية تختلف عن مذهب وحدة الوجود في الاديان ما جعل ماركس ينعته بالصوفي الميتافيزيقي المتأمل بعلاقة الانسان بالطبيعة.

لماذا هاجم ماركس في اطروحاته الثلاث كلا من هيجل وفيورباخ؟

الاسباب التي دعت ماركس الهجوم على ديالكتيك هيجل هي:

1. هيجل اعتبير الديالكتيك يتم يالذهن قبل الواقع. واسبقية الفكر على الواقع ماجعل ماركس يرد عليه ان الوجود سابق على الفكر. والديالكتيك الحاصل في المادة (صراع الاضداد) وفي التاريخ (الصراع الطبقي) هو الذي يقود الديالكتيك في الفكر وليس العكس.

2. الادهى من ذلك قول هيجل أن طبيعة العقل أي تركيبته البايولوجية هي جوهر طبيعي مزروع في الدماغ بالفطرة فيكون تفكير العقل ديالكتيكيا. وهذه الطبيعة الديالكتيكية الفطرية للعقل تنعكس على الواقع المادي وعلى التاريخ فيضفي عليهما حتمية حصول الديالكتيك في ظواهرهما المادية وغير المادية ممثلة بالبنى الفوقية. (تناولت هذا الخطأ لدى هيجل باكثر من مقال منشور لي على مواقع التواصل الاجتماعي كما هو موزع بمؤلفاتي).

ننتقل الان الى الاسباب التي دعت ماركس يكتب ثلاث اطروحات ضد فيورباخ:

1. ابتداع فيورباخ مادية تاريخية صوفية تأملية بنشأة الدين في تطويعه نزعته المادية ايجاد نوع من وحدة الوجود الصوفي.

2. اهتمام فيورباخ بأهمية الدين بحياة الانسان في بحثه الدائب عن اله يجده بالطبيعة او في الانسان ذاته رغم الحاد فيويرباخ الذي انكره بعض الفلاسفة واعتبروه بريء من وصمه به.

3. تطيّر ماركس من تاليف فويرباخ كتابين احدهما (اصل الدين) وكتاب (جوهر المسيحية) مركزا اهتمامه اي فيورباخ على ان علاقة الانسان بالطبيعة هما اللذان اخترعا الاله الذي هو الانسان بذاته.

ويرى فيورباخ بهذا المعنى الانسان هو الاله الذي يصنعه من خامة الطبيعة ويؤمن به معبودا متعاليا يحمل كل الصفات الجيدة التي يتمناها الانسان لنفسه ولا يستطيع ذلك كونها صفات متعالية مطلقة بالقياس لمحدودية الانسان كجوهر مادي كلي متناه. لذا فهو يخلعها على معبوده ليجده اعلى مرتبة في امتلاكه الخصائص التي يرتاح الانسان بعبادته لها ومحاولته تقمصّها . بمعنى مقولة شيلر كل شيء تجده مجتمعا بالانسان ولا تبحث عن شيء خارجه بمعنى هنا لدى شيلر تجد علاقة الانسان بالطبيعة وليس احتواء الطبيعة له كائنا من مجموع كائناتها فقط.

الماهية في الوجودية

انه لمن العبث الذي لا طائل وراءه الحديث عن موجود هو الانسان لا يمتلك ماهية ذاتية متعالقة في / مع وجوده كجوهر. اننا نجد مفارقة خارجة عن الفلسفة الوجودية التي اخرجت الذات وفصلتها عن الانسان كما واخرجت الماهية عن الموجود الانساني واعتبرته موضوعا ادراكيا خارج ضابط تلازم الماهية والوجود بما لا يمكن الفصل بينهما ابدا.

يبدو ان اسبينوزا كان له تاثيرا كبيرا بالفلسفة الوجودية. اكثر من تاثير بعض الفلاسفة المحسوبين عليها. فالوجودية حين نادت بارتياب شديد مقولتها (الوجود يسبق الماهية) نجد هناك من عكس المقولة في تراتيبية اولوية الماهية على الوجود من فلاسفة الوجودية انفسهم.

شن بعض الفلاسفة هجوما تشكيكيا على تلك المقولة لسارتر ان الوجود يسبق الماهية. فقد تردد جبرييل مارسيل الموافقة على تلك المقولة كي لا يخرج نفسه طواعية من الانتساب الى الوجودية والعودة الى مرجعيته اللاهوتية الدينية. وحاول راندال تخطئتها بقوله: (يجب ان ننهض بقوة ضد مقولة سارتر التي تقرر اسبقية الوجود على الماهية). ويعود راندال استعارة نفس المنحى الفلسفي الذي قال به سارتر ويكرره راندال في محاججة سارتر قوله (الانسان ببساطة هو ما يصنعه بنفسه بواسطة فعله وحريته). وهو ما قال به سارتر جوهر الانسان هو تصنيع الذات وخلقها المتسامي باستمرار لماهيته الموجودية الملازمة له.

لعل ابرز واقوى مواجهة لسارتر حول الماهية جاءت على لسان ل.لافيل قوله (لا معنى للوجود فينا الا لكي يسمح لنا بان نحقق "ماهية موضوعة سابقا" بل ان نحددها باختيارنا وبدلا من القول ان الماهية امكانية الوجود علينا القول ان الوجود امكانية الماهية). لتوضيح هذا الارباك المتداخل عن الماهية بالفلسفة الوجودية نقول:

- الماهية ليست معطى غفلا ولا هي موضوعة سابقة في الموجود. وانما هي سيرورة من الانتقالات الخبراتية للذات المستمدة من تجارب الحياة وعلاقة الانسان بالطبيعة والاله.

- حين نسف اسبينوزا الماركسية والفلسفة الوجودية قبل ظهورهما بقرون في مقولته (اننا بدلالة الماهية او الجوهر ندرك الوجود). فهو اي اسبينوزا سقط في الميتافيزيقا حينما إعتبر الجوهر او الماهية في الانسان والموجودات حسب مذهبه في وحدة الوجود يعود لجوهر الهي لانهائي كامل لا يمكنننا ادراكه. في حين صواب الماركسية والفلسفة الوجودية رغم الاختلاف الكبير بينهما فسّرا الماهية تفسيرا ماديا وليس لاهوتيا. وتبقى مقولة اسبينوزا اننا بدلالة الماهية ندرك الوجود غير صحيحة خارج مذهب وحدة الوجود الصوفية التي اقام فلسفته عليها.

- مقولة راندال الماهية موضوعة سابقة أي هي جوهر ذاتي ماهوي مكتف بذاته يصبح معنا من غير المتاح ولا المثير الاهتمام بالماهية انها سيرورة من تصنيع الذات لذاتها ليس بقواها الذاتية بل في تاثير المحيط واكتساب الخبرة من الحياة والطبيعة والعالم الخارجي.

- الاشكالية اللغوية الفلسفية التي ذكرناها وردت على لسان راندال (بدلا من القول الماهية امكانية الوجود علينا القول الوجود امكانية الماهية). العبارة صحيحة تماما من حيث مرجعية الوجود معطى ثابت والماهية سيرورة من التغييرات المتلاحقة. ونكرر قولنا انه من العبث البحث عن ماهية مستقلة عن الموجود الانسان. فالماهية هي الذات في حالة من السيرورة المتطورة باستمرار لذا يكون وعي الوجود سابق على الماهية قيد الانجاز مقولة فلسفية سليمة.

اسبينوزا والماهية في وحدة الوجود

لمن يرغب التمهيد لمصطلح مذهب وحدة الوجود انه مذهب صوفي تعنى به الفلسفة والاديان وخاصة الوثنية منها قبل التوحيدية نلخصه بعبارة قصيرة (كل شيء في الله والله في كل شيء). من المهم الاشارة الى ان الصوفية بالاسلام كانت متحفظة تجاه بعض منطلقات مفاهيم وحدة الوجود لسببين الاول الانزلاق نحو تشييء الله الذي تؤمن به الديانة المسيحية. والسبب الثاني توخي الحذر من الانزلاق نحو الوثنية الدينية التي تنكر وجود الخالق وتؤمن بمذهب وحدة الوجود. معظم فلاسفة الصوفية الاسلامية فقدوا حياتهم حينما انزلقوا من مذهب وحدة الوجود الى التشييء والحلول بالذات الالهية وهو محال واقعيا ولا حتى روحانيا كما جرى مع الحلاج والسهروردي الذين تم اعدامهما بوحشية.

الوجودية كما هو الحال مع الماركسية تطيرتا بشكل مروّع تجاه مقولة اسبينوزا بأن الجوهر الكلي الالهي الموزع في موجودات الوجود والطبيعة والعالم الخارجي هو التجسيد للفكر الالهي الذي يعطي الماهية اسبقية على الوجود. واننا بدلالة الماهية نفهم الوجود.

الوجودية لم تعط الموجود الانسان قيمة انطولوجية كما اراد ذلك هيدجر وكرس كتابه الشهير (الكينونة والزمن) لهذا المسعى. على خلاف سارتر الذي ذهب الى ان الوجود والمقصود به الموجود الانسان هو الحرية المطلقة. ومذهب وحدة الوجود لم تتعامل معه الوجودية كتفسير فلسفي منطقي يعطي الماهية اكثر مما تمتلكه حقيقة.

من أبرز الاشكاليات التي شتت الفكر الفلسفي في الوجودية هو انها لم تعط لا للوجود ولا للماهية استقلالية معرفية فلسفية ليس بمعنى الانفصال بل بمعنى العلاقة الاندماجية بينهما. فهي ترى بالانسان هو الحرية بالمفهوم المطلق المفتوح النهايات على تقديم الاسبقيات في غير تراتيبيتها المعروفة عنها كما حصل في موضوعنا علاقة الموجود بالماهية والاسبقية لمن؟ الحرية في الوجودية تجعل من الوجود بذاته خال من الحتمية الموجودية الواقعية انطولوجيا وكائن في مجتمع. وهذا ممثلا بتعبير سارتر الانسان عالم منغلق على ذاته.

***

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي

 

بقلم: ميشيل فوكو

ترجمة: علي حمدان

***

أولاً، أود أن أتحدث عن هذه السلطة الرعوية. لقد قيل في كثير من الأحيان أن المسيحية أوجدت مجموعة من القواعد الأخلاقية تختلف اختلافًا جوهريًا عن تلك التي كانت سائدة في العالم القديم. وعادة ما يتم التركيز بشكل أقل على حقيقة أنها اقترحت ونشرت علاقات سلطة جديدة في جميع أنحاء العالم القديم.

المسيحية هي الدين الوحيد الذي نظم نفسه ككنيسة. وعلى هذا النحو، فإنها تفترض من حيث المبدأ أن بعض الأفراد يمكنهم، من خلال صفتهم الدينية، أن يخدموا الآخرين ليس كأمراء أو قضاة أو أنبياء أو عرافين أو محسنين أو معلمين وما إلى ذلك، بل كقساوسة. ومع ذلك، فإن هذه الكلمة تشير إلى شكل خاص جدًا من أشكال السلطة.

1. إنها شكل من أشكال السلطة التي تهدف في نهاية المطاف إلى ضمان خلاص الفرد في العالم الآخر.

2. السلطة الرعوية ليست مجرد شكل من أشكال السلطة التي تأمر؛ بل يجب أن تكون مستعدة أيضًا للتضحية بنفسها من أجل حياة وخلاص القطيع. وهكذا، فهي تختلف عن السلطة الملكية، التي تطالب رعاياها بالتضحية من أجل إنقاذ العرش.

3. إنها شكل من أشكال السلطة التي لا تهتم فقط بالمجتمع بأكمله، بل بكل فرد على وجه الخصوص، طوال حياته.

4. وأخيرًا، لا يمكن ممارسة هذا الشكل من أشكال السلطة دون معرفة ما يدور في أذهان الناس، واستكشاف أرواحهم، وحملهم على الكشف عن أسرارهم الداخلية. إنها تعني معرفة الضمير والقدرة على توجيهه.

إن هذا الشكل من أشكال السلطة موجه نحو الخلاص (على النقيض من السلطة السياسية). انها تصالحية (على عكس مبدا السيادة)؛ وهي شكل من أشكال الفردانية (على النقيض من السلطة القانونية)؛ وهي متزامنة ومتواصلة مع الحياة؛ وهي مرتبطة بإنتاج الحقيقة - حقيقة الفرد نفسه.

ولكن كل هذا جزء من التاريخ، كما قد تقولون؛ إن السلطة الرعوية، إن لم تكن قد اختفت، فقد فقدت على الأقل الجزء الرئيسي من كفاءتها.

هذا صحيح، ولكنني أعتقد أنه ينبغي لنا أن نميز بين جانبين من جوانب السلطة الرعوية ــ بين المؤسسة الكنسية، التي توقفت أو على الأقل فقدت حيويتها منذ القرن الثامن عشر، ووظيفتها، التي انتشرت وتضاعفت خارج المؤسسة الكنسية.

لقد حدثت ظاهرة مهمة في حوالي القرن الثامن عشر ــ كانت توزيعًا جديدًا، وتنظيمًا جديدًا لهذا النوع من السلطة الفردية.

لا اعتقد انه ينبغي علينا اعتبار "الدولة الحديثة" ككيان تم تطويره فوق الافراد، متجاهلة ما هم عليه وحتى وجودهم ذاته، ولكن علي العكس، كهيكل معقد جدا، يمكن دمج الافراد فيه، بشرط واحد: ان يتم تشكيل هذه الفردية في شكل جديد وتقديمها لمجموعة من الأنماط المحددة.

 وبطريقة ما، يمكننا أن نرى الدولة كمصفوفة حديثة للفردانية أو شكل جديد من أشكال السلطة الرعوية. بضع كلمات أخرى حول هذه السلطة الرعوية الجديدة.

 1. قد نلاحظ تغييرًا في غاياتها. لم يعد الأمر يتعلق بقيادة الناس إلى خلاصهم في العالم الآخر بل بالأحرى بضمانة خلاصهم في هذا العالم. وفي هذا السياق، تأخذ كلمة "الخلاص" معاني مختلفة: الصحة، والرفاهية (أي الثروة الكافية، ومستوى المعيشة)، والأمن، والحماية من الحوادث. لقد حلت سلسلة من الأهداف "الدنيوية" محل الأهداف الدينية للرعاية التقليدية، وخاصة لأن الأخيرة، لأسباب مختلفة، اتبعت بشكل ثانوي عددًا معينًا من هذه الأهداف؛ علينا فقط أن نفكر في دور الطب ووظيفته الرفاهية التي ضمنتها الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية لفترة طويلة

 2. وفي الوقت نفسه، تزايد عدد المسؤولين عن السلطة الرعوية. وفي بعض الأحيان، كان هذا الشكل من السلطة يُمارس بواسطة جهاز الدولة أو، على أية حال، بواسطة مؤسسة عامة مثل الشرطة. (لا ينبغي لنا أن ننسى أنه في القرن الثامن عشر، لم يتم اختراع قوة الشرطة فقط للحفاظ على القانون والنظام، ولا لمساعدة الحكومات في نضالها ضد أعدائها، بل لضمان الإمدادات الحضرية، والنظافة، والصحة، والمعايير التي تعتبر ضرورية للحرف اليدوية والتجارة). وفي بعض الأحيان، كانت السلطة تُمارس من قبل المشاريع الخاصة، وجمعيات الرفاهية، والمحسنين، وبشكل عام من قبل المحسنين. ولكن المؤسسات القديمة، على سبيل المثال الأسرة، تم حشدها أيضًا في هذا الوقت لتولي وظائف رعوية. كما كانت تمارسها هياكل معقدة مثل الطب، والتي تضمنت مبادرات خاصة ببيع الخدمات على مبادئ اقتصاد السوق، ولكنها تضمنت أيضًا مؤسسات عامة مثل المستشفيات.

3. وأخيراً، أدى تكاثر أهداف السلطة الرعوية ووكلاءها إلى تركيز تطوير معرفة الإنسان حول دورين: الأول، عالمي وكمي، يتعلق بالسكان؛ والثاني، تحليلي، يتعلق بالفرد.

وهذا يعني أن السلطة ذات الطابع الرعوي، التي كانت مرتبطة على مدى قرون ـ لأكثر من ألف عام ـ بمؤسسة دينية محددة، انتشرت فجأة في الجسم الاجتماعي بأكمله؛ ووجدت الدعم في العديد من المؤسسات. وبدلاً من وجود سلطة رعوية وسلطة سياسية، مرتبطتين ببعضهما البعض إلى حد ما، والمتنافستين إلى حد ما، كان هناك "تكتيك" فرداني يميز سلسلة من السلطات: سلطات الأسرة، والطب، والطب النفسي، والتعليم، وأصحاب العمل.

في نهاية القرن الثامن عشر، كتب كانط، في إحدى الصحف الألمانية - برلينر موناتسكريفت - نصًا قصيرًا. كان العنوان "هل كان تنويرا؟" وكان لفترة طويلة، ولا يزال، يُعتبر عملاً ذا أهمية صغيرة نسبيًا.

ولكن لا يسعني إلا أن أجده مثيرا للاهتمام ومحيرا للغاية لأنها كانت المرة الأولى التي يقترح فيها فيلسوف كمهمة فلسفية تتبع ليس فقط النظام الميتافيزيقي أو أسس المعرفة العلمية ولكن أيضا في حدث تاريخي بل حدث تاريخي معاصر.

عندما سأل كانط في عام 1784، هل كان هذا هو التنوير؟، كان يعني، ما الذي يحدث الآن؟ ما الذي يحدث لنا؟ ما هو هذا العالم، هذه الفترة، هذه اللحظة المحددة التي نعيش فيها؟ أو بعبارة أخرى: ما نحن؟ كتنوير، كجزء من التنوير؟ قارن هذا بالسؤال الديكارتي: من أنا؟ أنا، باعتباري كائنًا فريدًا ولكنه عالمي وغير تاريخي؟ أنا، بالنسبة لديكارت، هو كل شخص، في أي مكان وفي أي لحظة؟

ولكن كانط يسأل شيئاً آخر: ما نحن؟ في لحظة محددة للغاية من التاريخ. ويبدو سؤال كانط بمثابة تحليل لكل منا ولحاضرنا.

أعتقد أن هذا الجانب من الفلسفة اكتسب أهمية متزايدة. هيجل، نيتشه....

 الجانب الآخر من "الفلسفة العالمية" لم يختف. ولكن مهمة الفلسفة كتحليل نقدي لعالمنا هي شيء يزداد أهمية. ولعل أكثر المشاكل الفلسفية يقيناً هي مشكلة الوقت الحاضر وما نحن عليه في هذه اللحظة بالذات.

ربما الهدف في الوقت الحاضر ليس اكتشاف ما نحن عليه، بل رفض ما نحن عليه. يتعين علينا أن نتخيل ونبني ما يمكن أن نكون عليه للتخلص من هذا النوع من "العقدة المزدوجة" السياسية، والتي تتمثل في الفردانية والشمولية المتزامنة لهياكل السلطة الحديثة

.إن النتيجة التي يمكن أن نخلص إليها هنا هي أن المشكلة السياسية والأخلاقية والاجتماعية والفلسفية التي نواجها اليوم لا تتلخص في محاولة تحرير الفرد من الدولة ومن مؤسساتها، بل في تحريرنا نحن أيضاً من الدولة ومن ذلك النوع من الفردية المرتبطة بالدولة. ويتعين علينا أن نعمل على تعزيز أشكال جديدة من الذاتية من خلال رفض هذا النوع من الفردية الذي فرض علينا منذ قرون عديدة.

***

..................

*هذا المقال كتبه مشيل فوكو كخاتمة لكتاب: ميشيل فوكو : ما وراء البنيوية والتأويلية بقلم هيربرت ال. ديفوس وبول رينبو. اصدار جامعة شيكاجو.

تمهيد: بدءًا من الفلسفة، من الممكن أن نفكر في الإبداع من منظور مختلف، خارج المقولات المعتادة للهندسة والإدارة. فمن خلال الفلسفة يمكننا أن ننظر إلى الإبداع باعتباره أكثر مسؤولية، وأكثر أخلاقية، وأكثر إنسانية، كما يمكن للفلسفة أن تكون علاجية ووقائية، وتطهيرية وعلاجية. هناك ثلاثة محاور مقترحة للتأمل. يهدف الأول إلى تحدي ماهية الإبداع وحتى تعريفه ذاته، باستخدام فلسفة غير قياسية؛ ويستخدم الثاني فينومينولوجيا هوسرلية لتحليل شامل لما ننجزه عندما نبتكر؛ ويؤكد الثالث على التمارين الفلسفية والروحية وضرورة تدريب المبدعين على رعاية الذات والتقنيات اللازمة للنظر في عواقب أفعالهم.

هل يدرك المبدعون أدوارهم؟ هل لا يسحقهم أسلوب التفكير المفرط في الرأسمالية والليبرالية المتطرفة في التعامل مع الإبداع؟ كيف تعيد الفلسفة التفكير في الابتكار والمبتكرين؟ وماهي فينومينولوجيا الإبداع؟

الفلسفة النقدية للابتكار والمبتكر

إن محاولة صياغة فلسفة تنتقد الابتكار والمبتكر ليست بالمهمة الهينة. فالابتكار والمبتكر مفهومان واسعان، ورغم أنهما لا يحملان معاني مختلفة، إلا أنهما يُفهَمان بشكل مختلف في اللغة المشتركة. وربما تكون هذه إحدى المشاكل التي نواجهها مع الابتكار ولماذا نحتاج إلى معالجته. ويبدو من الضروري الآن تحليل الابتكار والمبتكر من خلال النقد. إن النقد بالمعنى اليوناني للكلمة kritikē يعني فن التمييز. وينطبق هذا التمييز على الناس كما ينطبق على الأشياء والمفاهيم، ولهذا السبب فإن هذا الشكل من النقد هو الأنسب لجهودنا، حيث سيتم اختبار المفهوم والنظرية والانضباط. ومن الأهمية بمكان أن نعيد التفكير في الابتكار، ويصبح ذلك التزامًا وليس خيارًا إذا أردنا الحفاظ على حياة أصيلة. ويجب علينا أيضًا أن نسأل أنفسنا السؤال التالي: ماذا نريد لمستقبل البشرية؟ إذا كانت الإجابة هي الحفاظ على الإنسانية أو تقدمها، فلابد من إعادة النظر في الابتكار. وإلا فلن يكون هناك ما يمكن فعله، ولا ما يمكن التفكير فيه، فالابتكارات تسير بالفعل على الطريق الصحيح نحو تدمير الإنسانية والبيئة. وإذا كان لزاماً علينا إعادة التفكير في الابتكار، فذلك لأن الابتكار محصور في نظرية رأسمالية تأويلية، ولابد من استخراجه منها. فعلى مدى عقود من الزمان، تأثر الابتكار بثقافة، ورموز، وبيئة، ونظام بيئي أغرقته في طريقة من الوجود والسلوك جعلته جهازاً مخصصاً للإنتاج الاقتصادي فقط. وهذا التأويل يمنع الابتكار من التفكير: فكل ما يمكنه فعله هو العمل وأن يكون أداة للإنتاج. وإذا أردنا أن نحدد هذا التأويل، فلا تخشوا التأكيد على أنه رأسمالي في جوهره. ولمحاولة إعادة التفكير في الابتكار، نحتاج إلى صياغة أفكار خارج الصندوق. وعلى وجه التحديد، نحتاج إلى التفكير في الابتكار بعيون جديدة. وهذا من شأنه أن يساعدنا في إعادة تصميم الابتكار بهدف نهائي يتمثل في دمج المزيد من المسؤولية والأخلاق والإنسانية. إن التفكير في الابتكار بأساليبه الخاصة ومنهجية التفكيك القياسية لن يكون كافياً. فمن ناحية، تم ذلك بالفعل، ومن ناحية أخرى، هناك خطر يتمثل في أن هذا لا يسمح لنا بالتواجد في الحالة الذهنية اللازمة لإعادة البناء. بعبارة أخرى، إن قيود الابتكار هي من النوع الذي قد يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا أمر يمكن تصوره (أو إعادة التفكير فيه) بطريقة مستقلة وغير متحيزة، ولكن هذا ليس هو الحال. وبالتالي فمن الضروري (إعادة) التفكير في الابتكار باستخدام أدوات أكثر ملاءمة وتختلف عن الطريقة التي نفكر بها عادة في الابتكار، سواء فيما يتعلق بالهندسة أو الإدارة. ويكمن التحدي في التفكير في الابتكار، أو بالأحرى (إعادة) التفكير في الابتكار، من منظور فلسفي. أولاً، يجب علينا (إعادة) التفكير في استخدام فلسفات معينة، لأنها ليست كلها مناسبة للعمل الذي نرغب في القيام به. ثانياً، يجب مراجعة مصطلح "الفلسفة" نفسه للتأكد من ملاءمته. بعبارة أخرى، سنبقى مع أسئلة أكثر من الإجابات أكثر من مرة. ولهذا السبب فإن (إعادة) التفكير في الابتكار بين قوسين. ويعبر هذان القوسان عن الترقب والشك. فهل يمكننا حقاً إعادة التفكير في الابتكار؟ وهل أدواتنا وأساليبنا قوية بما يكفي لتحقيق ذلك؟ فضلاً عن ذلك، يتعين علينا أن نحمي عالمية الابتكار ومساعديه (الاقتصادات الرأسمالية والليبرالية والشركات والأنظمة السياسية)، الذين لا يريدون (إعادة) التفكير في الابتكار لأغراضهم الخاصة.

(إعادة) التفكير في الابتكار

إن الفرضية التي نطرحها هي أن الفلسفة ربما تكون مفيدة نظراً لخصائصها وأدواتها وتقنياتها وخبراتها. ومع ذلك، فإن "الفلسفة" المفردة عامة للغاية لأغراضنا، وخاصة أن "الفلسفة" تتألف في الواقع من "فلسفات" مختلفة، بنفس الطريقة التي يمكن بها الإشارة إلى "الابتكار" على أنه "ابتكارات" بشكل أكثر دقة. فيما يتعلق بالابتكار، تبدو ثلاث أفكار معينة ذات صلة خاصة بإعادة التفكير في الابتكار، وهي ثلاث فلسفات لا تستند إلى أسسها أو مناهجها وظهرت في أوقات مختلفة. إن التخصصات والتقنيات والأفكار الخاصة بالفلسفة غير القياسية، و الفينومينولوجيا ، والتمارين الروحية سوف تملي هيكل مساعينا. ويبدو أنها ذات صلة خاصة بتحقيق هدفنا المتمثل في "إعادة التفكير". وعلاوة على ذلك، نأمل أن تسمح لنا هذه المقترحات الثلاث "بتفكيك" و"التفكير" و"بناء" الابتكار من أجل مستقبل أفضل. إننا لابد وأن نكون واضحين: إن هذه المناهج لا تهدف إلى "تطوير" الابتكار و"الرضا" عن مبتكر جديد أكثر "فلسفة" أو "أخلاقية" أو حتى أكثر "مسؤولية" عند تنفيذ ابتكاراته والذي لن يشكك في الابتكار بطريقة وجودية. بل إن الهدف هنا هو (إعادة) التفكير في الابتكار نفسه، والتساؤل عن جوهره، ولهذا السبب نحتاج إلى فلسفات مثل تلك التي نقترح طرحها. إن (إعادة) التفكير في الابتكار لابد وأن يكون لها غاية حقيقية وملموسة. ولابد وأن نوجه أنفسنا نحو البراجماتية، أي المبدعين أنفسهم، سواء الحاليين أو المستقبليين.

أسس الابتكار غير القياسي

ما الذي قد تغطيه الفرضية الخاصة بالابتكار غير القياسي حقًا؟ إذا كان هناك تفكير ابتكاري غير قياسي، أي التركيز على تنظيم الأجهزة الحيوية دون تعديلات بسيطة على العمليات الحالية، فإن السحق سيكون غائبًا أو بطيئًا على أقل تقدير. إن هذا الاقتراح قد يبدو وكأنه يسد الفجوة في التفكير ويترك المجال للإبداع وخصائصه الأكثر هيمنة. إن فرضية الإبداع غير القياسي من شأنها أن تتجنب الهيمنة شبه البارمندية، والتي تقول بأن الوجود والتفكير هما نفس الشيء؛ فالإبداع اليوم هو الوجود، لأن التفكير غير موجود. إن الإبداع أكثر من الوجود، فهو الواقع، والتفكير لا يُذكَر على الإطلاق. والواقع أن الإبداع غير القياسي يجعل من الممكن أن ندخل أنفسنا في فجوات تجعل من المستحيل التغلب عليها، ولكن قبل كل شيء، يجعلنا نبدأ في لمحة طريق حيث يمكن للفكر أن يصبح ثقلاً موازناً للإبداع في الواقع. ومن ثم يستطيع نفس الشخص أن يستمر في الوجود والتفكير، ولكن هذه المرة من خلال الجمع بين الفعل والتفكير. وبعبارة أخرى، لا شك أن الفكر لابد وأن يتحد مع الإبداع، الذي أصبح مستبعداً منه اليوم. وهو في الواقع ارتباط بين الفعل والتفكير. فالأمر لا يتعلق بعدم "الفعل" بعد الآن، بل يتعلق بفعل الفكر، أو بالضمير، بعبارة أخرى. وهذا يعني أن الابتكار لا ينبغي أن يكون مجرد إقناع وتأكيد، بل ينبغي أن يتم تصوره وتطويره وتنفيذه وإطلاقه وتجربته بالحجج والتأملات، بالضمير والشكوك، بالأسئلة والفرضيات. إن وجود الابتكار غير القياسي يمكن أن يتخذ أشكالاً مختلفة في أماكن مختلفة. وبالتالي فمن الممكن أن نجعله نشطاً وأن نجعل من الممكن إزالة سلطة الابتكار الحالية. وبالتالي فإن استخدامه مهم بنفس القدر في كليات الطب، على سبيل المثال، كما هو الحال في مراكز البحث والتطوير، ووجوده له نفس القدر من الأهمية في المنظمات التجارية (أو غير التجارية) كما هو الحال في علوم الإدارة. يجب أن نجد أسس الابتكار غير القياسي في المجال الأكاديمي وكذلك في النظام البيئي العملي. يجب أن يجعل هذا الإسهام من الممكن التفكير في الابتكار بطريقة جديدة، والتفكير في كيفية الابتكار دون أن نكون مقيدين بالأساليب القديمة وغير الملائمة في الماضي، حتى نتمكن من الابتكار من أجل الصالح العام. للقيام بذلك، يجب أن ننتج نصوصًا ولغة مشتركة وتعاليم، لأن هذه هي المركبات للتغيير. إن المادة لا تزال في مرحلة الإنتاج والتطوير. وهنا نضع حجر الأساس. ويتعين علينا أن نضع في اعتبارنا ثلاث سمات عند التوصل إلى هذه المادة، وهي السمات التي تؤهل الممارسة غير الفلسفية التي نستولي عليها: الحرية، والصرامة، والعمومية. والحرية هي الركيزة الأساسية الأولى. ولابد أن تتم كل عمليات إعادة التفكير في الإبداع بحرية. وهذا من أجل تجنب التلاعب غير المبرر من جانب المنظمات ذات الدوافع الخفية، وكذلك النجاح في التفكير بشكل مستقل دون التأثر بتاريخ ثقيل للغاية ومشحون للغاية ويجعلنا نشك في إمكانية التشكيك فيه. وهذه الحرية في التعامل مع الإبداع سوف تسمح بظهور مواد جديدة تبشر بالابتكار غير التقليدي. وعلى هذا النحو، نستطيع أن نعيد تعريف الإبداع، ليس فقط من زاوية فلسفية، بل وأيضاً من منظور طبي، ومعماري، وعلمي، وفن، وتذوق الطعام، بدلاً من الجانب "التجاري" من الأمور على وجه الحصر. لقد وقعت الإبداعات في براثن الأنانية المتساهلة، وتعرضت لضغوط المساهمين، الذين لم ينظروا إليها إلا كوسيلة لتوليد الربح. وهذا أمر ضار للغاية لأن العديد من المبدعين حرصوا على تقديم مقترحات وحلول لصالح الصالح العام. ومع ذلك، فإن هذه الأقلية من المبدعين فقط، والنقد الذي نوجهه يتعلق بالأغلبية العظمى من المبدعين. وإذا ما أردنا أن نقارن بين فلسفة لارويل غير التقليدية وفلسفته، فإن توبيخ لارويل للفلسفة هو أنها لم تحقق أهدافها من خلال التفكير في نفسها فقط ومن خلال التظاهر فقط بالتفكير في الأشياء والموضوعات التي يفترض أنها تدرسها. وللخروج من هذا الموقف المشلول، كان عليه أن يطور طريقة للتفكير الجذري تتجاوز الفلسفة، حتى لو كانت الفلسفة هي مادتها الأساسية. وينطبق نفس الشيء على الإبداع، فهناك ضرورة لتجاوز منطقة الراحة بطريقة جذرية ومراقبة إنجازه. ولا يمكن أن يكون هذا عملاً مستقلاً. إن الإبداع لا بد وأن يتخذ شكلاً آخر ـ الإبداع غير التقليدي، ولابد وأن يشمل تخصصات أخرى وأن يحافظ على صرامة هدفه المتمثل في العمل من أجل الصالح العام والعناية بالبيئة المحيطة به.

فينومينولوجيا الإبداع

في تحليل هذه العناصر الأولى، لا يبدو أن الفينومينولوجيا تقدم السمات الضرورية التي تجعلها تعتبر مساراً لإعادة التفكير في الإبداع. فالبحث عن الحقيقة، والوصول إلى "الأشياء ذاتها"، وتحليل الخبرات، لا يبدو أنها عناصر واضحة لوصف الإبداع "الجديد". ولكن عندما ننظر عن كثب إلى عناصر الفينومينولوجيا ، وهي على وجه التحديد التشكيك في فهم المرء للعالم، والطلب على الدهشة، والتساؤل حول محيطنا، والهوس بالمعنى الواسع لفهم العالم، نستطيع أن نرى أن هذه العناصر تبدو أيضاً ذات صلة بإعادة التفكير في الإبداع. وهذا يصبح أكثر منطقية إذا ما تساءلنا أيضاً عن المبتكر، أي الفرد الذي يبتكر. من الذي يفاجأ؟ من الذي يرحب بالعالم؟ من أين يأتي هذا الوعي بالعالم وتحليله للخبرات؟ ان الإبداع بطبيعته عمل الإنسان، ومن خلاله يتم تطبيق الفينومينولوجيا. وربما يعود الأمر إلى المبتكر لكي يتوقف عن الإبداع، بل يركز على التعلم، وليس الإبداع بل العيش: بعبارة أخرى، أن يضع نفسه في موقف لا يقتصر على عقد عمل أو مكان عمل حيث يمكن للنشاط أن يستمر دون توقف أو حدود. إن طرح سؤال الفينومينولوجيا من أجل (إعادة) التفكير في الإبداع يعني أن نسأل ليس فقط أن معرفة الأشياء نفسها هي تمرين يمكن أن يساهم في تحسين الأشياء نفسها، بل وأيضًا أن الوصول إلى هذه المعرفة يتطلب أولاً معرفة كيفية طرح الأسئلة على الذات. بعبارة أخرى، يعني أن نسأل أنفسنا كيف نعرف. وبدلاً من التفكير في التأمل في تأثيرات الإبداع (الأداء أو العواقب أو الربح)، سيكون من الأفضل أن نسأل عن معرفة الإبداع. لماذا يوجد؟ هل يجب أن يوجد؟ ولكن أيضًا من الذي يولده؟ لماذا؟ ونتيجة لذلك، يمكننا التأثير على الظواهر. نقترح التوقف عند منهج الفينومينولوجيا ومراجعة تكوينه ونظرياته وطرق تطبيقه، والتعامل بشكل منهجي مع كل بُعد من أبعاده، لقياس المساهمة الممكنة في (إعادة) التفكير في الابتكار.

تمارين روحية للعالم المعاصر

لقد كانت الفلسفة منذ البداية تمريناً روحياً: ويتلخص التحدي الأساسي الذي تواجهه في تحدي الذات لمواجهة العقبات التي تعترض طريقها في الحياة على نحو أفضل. وعندما نمارس التمارين الروحية، فإنها تسمح لنا بالعناية بأرواحنا، وليس على نحو تحليلي نفسي، والذي، على الرغم من أنه مستوحى من تقنيات القدماء، لا يهتم عملياً إلا بالعصاب وتنشيط اللاوعي، ويرى أن أي اضطراب له أصل جنسي من خلال تقييد الرغبة الجنسية. إن التمارين الروحية تشبه الطب، مثل العلاج، لأنها تسمح لنا بالعيش بأفضل طريقة ممكنة؛ أو ربما بشكل أكثر دقة، بأقل قدر ممكن من الألم. ومن الواضح أن العناية بالذات ليست أنانية، بل إنها تتم بالتعاون مع المجتمع ومن خلاله ومن أجله. وإذا كانت هذه الممارسة مقتصرة في هذه القطعة على المبدعين، فإنها مع ذلك تشكل أهمية أساسية للجميع. إن التمارين الروحية التي مارسها الرواقيون والأبيقوريون والساكنيون تؤكد على الفلسفة الهلنستية والرومانية برمتها، سواء من الناحية النظرية أو العملية، حتى وإن كانت المسيحية قد تبنت هذه التمارين في بعض الأحيان، أو أساءت التعامل معها أو أساءت تفسيرها، كما ذكرنا آنفاً. لقد استمرت هذه التمارين لتطوير الروحانية إلى ما بعد العصور القديمة، ولقد كانت كلمات القدماء ذات انتشار عالمي. ومن السذاجة ألا نضع في الحسبان ضرورة هذه التمارين الروحية في عصرنا. وبصرف النظر عن المدرسة الفكرية (الرواقية، والأبيقورية، والساكنية)، فإن هذه المقترحات تتردد صداها مع الاحتياجات المعاصرة. وقد أبرز بيير هادو هذا الأمر بوضوح: "في رأيي، لا يزال نموذج الفلسفة القديمة سارياً، وهذا يعني أن البحث عن الحكمة قائم دائماً وممكن دائماً. وأود أن أقول فقط إن هناك، على ما يبدو لي، مواقف عالمية وجوهرية للإنسان عندما يسعى إلى الحكمة...". ومن الخطأ أن نقرأ بيير هادو فقط في مجال الفلسفة المحجوز. فالفلسفة ليست مخصصة للفلاسفة فقط. إن التمارين الروحية تحتاج إلى أن تكتسب موطئ قدم في الأحداث المعاصرة، والابتكار، مع عواقبه وتداعياته على الحياة اليومية، يشكل أرضاً خصبة ممتازة لهذا. إن قوة التمارين الروحية القديمة التي تجد نفسها حاضرة في عالمنا الحالي تتطلب منا على الأقل أن نكرمها باستخدامها. ولا توجد طريقة أفضل لاستخدامها من مواجهتها بأرضية معينة تبدو في الوقت الحالي في حاجة إلى بعض الحكمة.

إعادة التفكير في الابتكار باستخدام الفلسفة

إن العلاقة المتبادلة بين الفلسفة والأعمال ليست واضحة تمامًا، ومن المهم أن نتذكر أن الأعمال التجارية يجب أن تخدم الفلسفة، وليس العكس. النقطة الأساسية هي أننا نريد عالمًا أفضل وأكثر حكمة، والأعمال التجارية هي أداة يمكننا استخدامها. لفهم أفضل، انظر إلى الرواقية، وهي نوع من الفلسفة.في حين أن الرواقية هي فلسفة وجودية، إلا أنها مشهورة أيضًا بحكمتها، والتي تلخصت في أحاديث إبيكتيتوس. يستحضر إبيكتيتوس عمل الروح من خلال فصل وظائف الروح إلى ثلاثة مواضيع. الوظيفة الأولى هي انضباط الرغبة: التخلي عن الرغبة في ما لا يعتمد علينا. الوظيفة الثانية تتعلق بالعادات والفعل: عدم السماح للذات بالانجراف وراء الرغبات الفوضوية التي تضر بسلوك المرء، ولكن إظهار ضبط النفس. الوظيفة الثالثة تتوافق مع الاستخدام الصحيح للتمثيلات؛ إنها انضباط الاتفاق، أو أن نكون صادقين في كيفية استخدام أفكارنا وكلامنا في حكمنا.إن عرض الموضوعات الثلاثة يسلط الضوء على أنه يبدو من المستحيل التفكير في الرواقية دون تطبيق عملي. وبالنظر إلى أساتذة الرواقية، نرى أنهم منخرطون بشكل كبير في الحياة اليومية وفي الأعمال التجارية. ورث زينون الإيلي، مؤسس الرواقية، ثروة من والده. وكان سينيكا قاضيًا ومقرضًا ومعلمًا ومعلمًا خاصًا. وكان ماركوس أوريليوس إمبراطورًا. وكان شيشرون رجل دولة ومحاميًا متطوعًا ومالكًا للأراضي ورجل أعمال. في الرواقية، يتحد الفكر والفعل. لقد ربط الفلاسفة الرواقيون بسلاسة بين سعيهم إلى الحكمة والحياة اليومية. لذا، ألا ينبغي لنا أن نفكر بنفس الطريقة، أي أن نضع النظرية في الاعتبار ولكن أقدامنا ثابتة على الأرض؟ يبدو أن الابتكار مجال وثيق الصلة. فبسبب الابتكارات، تختفي أعداد الحيوانات وحتى الأنواع. ويؤدي التطور الشامل للتكنولوجيا والمنتجات إلى عواقب مباشرة على استنزاف الموارد الطبيعية. لا شك أن النشاط البشري أضر بالبيئة، وأن سعينا الدائم إلى النمو الاقتصادي والابتكار هو المسؤول في الغالب، بل وحتى الوحيد.أي نوع من التفكير الفلسفي يسمح لنا بامتلاك وجهة نظر رواقية بشأن هذه الموضوعات؟ ما هي الأفعال الفلسفية والتفكير الرواقي القادر على إحداث تغيير في النموذج البشري في مواجهة هذه التحديات؟ في مواجهة الأزمات التي صنعها الإنسان، ألا ينبغي لنا أن نتعلم أن نرغب في ما لا يعتمد علينا وما لا نعتمد عليه؟ ألا ينبغي لنا أن نتوقف عن السماح لأنفسنا بالانجراف واستعادة ضبط النفس؟ أخيرًا، ألا ينبغي لنا أن نكون أصليين عندما نتخذ القرارات؟ ولا ينبغي بأي حال من الأحوال استخدام الفلسفة لخدمة الأعمال. ومع ذلك، لا ينبغي لنا أيضًا تجاهل الفلسفة عند النظر في الحياة اليومية، وهي حياة مليئة بالاستهلاك، ووسائل الإعلام، والتنمية، والاستثمارات. يبدو العالم مختلفًا تمامًا عن العصور القديمة: إنه عالم الهواتف الذكية، والإنترنت، وألعاب الفيديو، والتكنولوجيا، والابتكار. ماذا يمكن للفلسفة أن تخبرنا عن هذه التحديات التي تؤثر على الجميع؟ تُظهر لنا الفلسفة الرواقية أن التعمق في الواقع، على سبيل المثال في المنظمات، يسمح لنا بفتح أعيننا والتساؤل عن سبب قيامنا بما نقوم به.

الفلسفة، المساعدة النهائية للابتكار

إن العالم الخيري الذي نطمح إليه لم يظهر بعد؛ فالمنظمات السياسية الدولية تواصل عقد القمم والمؤتمرات، لإنتاج الاتفاقيات والمعاهدات، بهدف الحد من العواقب السلبية للأنشطة البشرية في سياق النمو الاقتصادي. ولا يتم فعل أي شيء، لسبب بسيط: إن هذه المنظمات السياسية وحكومات البلدان لا تتمتع إلا بنفوذ نسبي على المنظمات الخاصة الضخمة التي تتمتع بقوة أكبر من قوة العديد من الدول. وعلاوة على ذلك، فإن وسائل الحد من الضرر غير كافية عندما يتعلق الأمر بإقناع الناخبين الذين يرفضون النظر في التغييرات الأساسية اللازمة. ومن وجهة نظر محلية أو قطاعية، فإن السلطات عفا عليها الزمن والقوانين واللوائح يتم اختطافها وإحباطها باستمرار، ناهيك عن حقيقة أن الابتكار يأتي في كثير من الأحيان قبل القانون. والغرامات، التي يمكن إحصاؤها بمليارات اليورو، ليست رادعة للشركات التي تكون إيراداتها أعلى بكثير في الأمد المتوسط أو الطويل. فكيف يمكننا أن نفعل الخير عندما لا يكون للتشريعات والتنظيمات والردع أي تأثير؟ ما هي الأداة التي ينبغي أن توضع في أيدي المبدعين حتى يعملوا من أجل الصالح العام مع الاهتمام بأنفسهم والآخرين؟

خاتمة

إن أساس الأطروحة التي تم تطويرها هنا هو أن الفلسفة يجب أن تلعب هذا الدور الخلاق. إن الفلسفة، التي لا تتحيز، وتسعى إلى الحكمة، وتسعى إلى فهم العالم والعناية به، تبدو وكأنها الملاذ الأخير لعالم أفضل. وفي حين يتم الاستهزاء بها في بعض الأحيان، وعدم الثقة بها، والسخرية منها، واعتبارها نظرية للغاية وعديمة الفائدة، فقد تثبت أنها المفتاح لمستقبلنا. لقد استمرت هذه المادة على مر الزمن وهي ضرورية لفهم التعقيد وأساسية لجعلنا نفكر فيما نقوم به. وسوف تثبت أساليبها ونظرياتها وخبراتها أنها مفيدة لحل المشاكل في عالم لا يستمع فيه أحد أو يُنصت إليه. إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ ننظر فيه إلى العقبات والصعوبات لفهم ما حدث، وما يحدث، وما سيحدث. تعرف الفلسفة كيف تتراجع خطوة إلى الوراء لتطرح الأسئلة، وتحل المشاكل، وتفك رموز التعقيد بحيث تكون مفهومة لأولئك الذين يبذلون الجهد. فأين الفلسفة من الابداع والابتكار والخلق في الفضاء الناطق بلغة الضاد؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.....................

المصدر

Xavier Pavie, Philosophie critique de l’innovation et de l’innovateur, ISTE édition, mars 2020.

بين المبدأ النهائي والتجربة الشاملة

تمهيد: "هناك القليل من الحقائق المطلقة"

***

يبدو معنى هذا المصطلح، منذ البداية، ملتبسًا وجدليًا بالضرورة. والمطلق هو المرتبط بالنسبي وضده، فهو بالتالي منفي. لكن المفهوم الذي تغيب عنه فكرة العلاقة يتم إزالته من القيود، ويتحرر من الاختلافات، وبالتالي يعين، بشكل إيجابي، المكتمل، والكمال. وبالتالي فإن هذا الغموض الدلالي ليس مسألة تردد في المفردات: فهو يشير ضمنا إلى صعوبة تفتتح الجدل الفلسفي الذي أثاره هذا المفهوم. هل المطلق له معنى أم لا، هل هو موجود أم لا؟ وبما أن المطلق يعني غير مشروط، مبدأ بلا مبدأ، فإن المطلق يصبح موضع تساؤل من خلال أي بحث عن الحقيقة، فإن كل نظام فلسفي يعبر عن مفهوم معين لها. في السياق اللاهوتي، فإن مسألة وجود الله أو غيابه، أو إثباته أو نفيه، هي التي تطرحها كلمة "مطلق". لكن في الوقت نفسه، بما أن المطلق يعني ما هو في ذاته، بشكل مستقل عن أي شيء آخر، فإن مشكلة الحرية، سواء كانت ملموسة أو وهمية، تطرح معها. فما دلالة المطلق؟ أين يكمن؟ وماهي تجلياته؟ وما قيمته؟

مفهوم المطلق

أصل الكلمة يردع الى الكلمة الإنجليزية absolute  والتي جاءت من الكلمة الفرنسية "absolut"، والتي نشأت من الكلمة اللاتينية "absolutus"، وهي صيغة الماضي من "absolvo"، وهي فعل، وتعني "التحرير، والإنهاء، والاكتمال"، و"الانفصال، والنقاء". كما يشير مصطلح المطلق إلى غير المشروط و/أو الاستقلال بالمعنى الأقوى. ويمكن أن يشمل أو يتداخل مع المعاني التي تنطوي عليها مفاهيم أخرى مثل اللانهائية، والشمولية، والكمال. وفي اللاهوت المسيحي، يُنظر إلى المطلق على أنه مرادف أو صفة أساسية لله، ويميز طبيعة أخرى لله مثل حبه وحقيقته وحكمته ووجوده (الحضور في كل مكان) ومعرفته (العلم بكل شيء) وقوته (القدرة المطلقة) وغيرها. فالحب المطلق، على سبيل المثال، يشير إلى حب غير مشروط على عكس الحب المشروط والمحدود. وعلى نحو مماثل، يمكن فهم المطلق أيضًا على أنه الكائن المطلق، أو سمة منه، في التقاليد الدينية الأخرى. لم يشرح الفلاسفة اليونانيون صراحةً المطلق، لكن فكرة المبدأ النهائي دفعت استفساراتهم إلى الأمام. بالإضافة إلى ذلك، في حين لم يستخدم الفلاسفة في العصور الوسطى مصطلح المطلق، كانت أفكارهم حول الله هي أول شرح صريح للمطلق. منذ ذلك الحين، كانت هناك العديد من التفسيرات للمطلق. من بين الفلاسفة الرئيسيين الذين تعاملوا مع المطلق المثاليون الألمان مثل شيلينج وكانط وهيجل، والفلاسفة البريطانيون مثل هربرت سبنسر وويليام هاملتون وبرنارد بوسانكيت وفرانسيس برادلي وتوماس هيل جرين، والفيلسوف المثالي الأمريكي جوشيا رويس.

القضايا المفاهيمية

يشير مصطلح absolute إلى كل ما هو خالٍ من أي شرط أو قيد، ومستقل عن أي عنصر أو عامل آخر. وكما هو الحال مع المفاهيم الأخرى مثل اللانهائي، والكمال، والأبدية، وغيرها، لا يمكن التعبير عن absolute إلا من خلال نفي المفاهيم المحدودة. إن الشيء المطلق، في حد ذاته، لا يمكن الوصول إليه بشكل مباشر أو فوري من خلال الإدراك البشري والخبرة والفهم. وبالتالي، فإن مفهوم المطلقية عادة ما يتم تعريفه من خلال نفي ما هو متاح مباشرة للمعرفة البشرية. الإدراك والفهم، بالمعنى المعتاد للمصطلح، هما حدث نسبي يفترض عناصر نسبية مثل موضوع المعرفة وموضوع المعرفة. إذا فُهم المصطلح المطلق بالمعنى الدقيق، فإنه يرفض النسبية المتأصلة في آلية الإدراك البشري والفهم واللغة. ناقش توما الأكويني كل من الصعوبات الوجودية والمعرفية والمنهجية في صياغة والوصول إلى معرفة ما هو مطلق والذي هو بحكم التعريف خارج أي شرط وقيود. شرح كانط، في نقده للعقل الخالص، حدود وشروط المعرفة البشرية والدور الذي تلعبه مفاهيم الحدود في الفهم البشري. كما طور حججًا فلسفية للدور الإيجابي لمفاهيم الحدود في الخطابات الأخلاقية. في اللاهوت والفلسفة المسيحية، يُفهم المطلق بالمعنى الدقيق من خلال استبعاد أي شكل من أشكال النسبية، مما يثير بدوره أسئلة حول شخصية الله. لكي يكون لله شخصية، يجب أن يكون موجودًا في علاقة مع كائنات أخرى؛ ومع ذلك، إذا كان الله مطلقًا، فإن ذلك يشكل مفارقة داخل الله أن يكون مطلقًا ونسبيًا للكائنات الأخرى. على سبيل المثال، أنكر سبينوزا شخصية الله وخلقه. لقد اقترح هيجل بدلاً من ذلك وجود الله في الخلق ووحدة الوجود بين الله والعالم. وكما حدث مع سبينوزا، حاول هيجل تفسير خلق العالم دون فكرة الخلق. طور هيجل مفهومًا وثنيًا للمطلق وعلاقته بالعالم الظاهري. إن مسألة نسبية الله وإطلاقيته تثير أسئلة حول طبيعة الله وعلاقاته بالبشر. لا يقبل معظم الفلاسفة المعاصرين التفسيرات الوثنية التي قدمها سبينوزا أو هيجل. وكما هو الحال في المثالية الألمانية، فإن مسألة المطلق/النسبي متشابكة أيضًا مع أسئلة التسامي والوجود. بعض النظريات المعاصرة مثل التوحيد المفتوح، على سبيل المثال، تقترب من هذه القضايا من منظور العلاقة الديناميكية والشخصية والنسبية لله مع البشر.

الفلسفة اليونانية القديمة

سعى الفلاسفة اليونانيون القدماء إلى الوصول إلى المبدأ العقلاني المطلق الذي يمكنه تفسير الظواهر الطبيعية والكونية والبشرية المتنوعة بشكل متسق وشامل. ورغم أن هؤلاء الفلاسفة الأوائل في تاريخ الفلسفة المعروفين باسم ما قبل سقراط لم يتركوا الكثير من المواد، فإن ما لدينا منهم يشير إلى أن مسألة المطلق، كمبدأ نهائي غير مشروط أو غير محدد، كانت حاضرة في استفساراتهم الفلسفية. على سبيل المثال، عرّف أنكسيماندر المبدأ المطلق بأنه "غير محدد" لأن أي شكل من أشكال التحديد هو مؤشر على التقييد والتكييف. وإذا كان المطلق نهائيًا حقًا، فيجب أن يكون خاليًا من أي تقييد. وبالتالي، فإن "غير المحدد" بالنسبة لأناكسيماندر إلهي وأبدي. حدد بارمنيدس المبدأ المطلق بـ "الوجود" أو حقيقة "الوجود". وزعم أن الحقيقة الوجودية "الوجود" هي أكثر السمات المشتركة عالمية أو أساسية لأي شيء موجود. سواء كان موضوعاً للفكر أو موضوعاً معرفياً أو أي شيء آخر، يجب أن يكون أي كائن "موجوداً" بطريقة ما حتى يكون قابلاً للتفكير. لذا فإن الحقيقة النهائية هي "أن يكون". ورغم أنه لم يستخدم مصطلح المطلق، فقد زعم بارمنيدس أن مفهوم الوجود هو الأسبقية النهائية ووصف الوجود أو "أن يكون" بأنه حقيقة مطلقة بمعنى أنه غير مشروط ومستقل. لقد حدد أفلاطون الخير، الذي وصفه بأنه موجود بشكل دائم بذاته في العالم غير المادي، باعتباره المبدأ النهائي. بالنسبة لأفلاطون، كان الخير مطلقاً. وزعم أن صلاحه قائم بذاته دون اللجوء إلى أي شيء آخر على الإطلاق. الخير هو بالأحرى ما يفترضه أي فكر أو عمل بشري أو أي ظواهر اجتماعية طبيعية. مع أفلاطون، أصبح مفهوم المطلق مفهوماً كمبدأ أخلاقي ومبدأ وجودي. لم يشرح أفلاطون، مثل غيره من الفلاسفة اليونانيين، مفهوم المطلق صراحةً، لكنه قدم ضمناً مفهوم المطلق في علم الوجود الأخلاقي الخاص به. لقد وضع أرسطو دراسة الله (اللاهوت) كأول فلسفة لأنها تتعامل مع "المحرك غير المتحرك" لكل الظواهر. وبالنسبة لأرسطو، كان المبدأ النهائي لابد وأن يكون ما هو غير مشروط ومستقل، أي ما ليس له أي شرط مسبق على الإطلاق.

الفلسفة في العصور الوسطى

على الرغم من أن مصطلح المطلق لم يكن جزءًا من الفلسفة في العصور الوسطى، فقد حددوا الله باعتباره المطلق وأدلوا بخطابات صريحة وفقًا لذلك حول المطلق. وفقًا للفلسفة في العصور الوسطى، فإن المعرفة البشرية والإدراك واللغات نسبية ومحدودة ومشروطة، في حين يتم تعريف المطلق من خلال نفي تلك القيود والشروط. وبالتالي، فإن معرفة المطلق ومناقشته وحتى وصفه أمر صعب بطبيعته. ليس الله غير قابل للوصول إليه من خلال الإدراك الحسي البشري فحسب، بل إن الإدراك في حد ذاته علاقة تفاعلية بين موضوع الإدراك وموضوعه. وبالمثل، فإن التفكير هو عملية تفاعلية بين موضوع التفكير وموضوعات الفكر. يعني المطلق بحكم التعريف نفي النسبية. إذن، كيف يمكن للبشر أن يقتربوا من مثل هذا الكائن المطلق؟

لقد كان توما الأكويني مدركًا تمامًا لهذه الصعوبات في معرفة المطلق ووصفه والاقتراب منه. لقد طور منهجيات للإجابة على هذه الأسئلة، والتي تضمنت الطريق السلبي، والطريق الإيجابي، والقياس. يزعم توما الأكويني أننا نستطيع أن نتنبأ بوجود الله بكلمات مثل الخير والحكمة. وبالتالي، يمكننا أن نقول "الله خير أو حكيم". ومع ذلك، فإن ما يفهمه البشر من "الخير" أو "الحكمة" مأخوذ بالكامل من تجاربهم الخاصة في العالم. المعرفة البشرية محدودة، ونسبية، وغير كاملة. وبالتالي، يجب أن تكون هذه المعرفة البشرية المحدودة مؤهلة أو مرفوضة (الطريق السلبي) من أجل تطبيقها بشكل صحيح على الله. والسؤال هو كيف يمكن تطبيق المعرفة المحدودة التي اكتسبها البشر من العالم على الله، الذي يتجاوز جميع أشكال القيود. يقترح توما الأكويني أنه عن طريق القياس، يمكننا نحن البشر المحدودين تطبيق معرفتنا البشرية المحدودة وغير الكاملة على إله متسام. عندما يتم تطبيق مصطلح المطلق على الوجود، يمكن فهم المطلق على أنه كائن جوهره هو الوجود. إذا كان وجود كائن يعتمد على الآخرين، فلا يمكن أن يكون مطلقًا. وبالتالي، تم وصف الله بأنه كائن فريد جوهره هو الوجود. استخدم أنسيلم كانتربري هذه الحجة في حجته الوجودية لوجود الله.

الفلسفة الحديثة

انتقل السؤال المتعلق بالمطلق إلى الفلسفة الحديثة. أعاد كانط صياغة عدم إمكانية معرفة الله، الذي ناقشه توما الأكويني، في نقده للعقل الخالص، وهو أحد أشهر الأطروحات المعرفية في تاريخ الفلسفة. حاول كانط تقديم شروط المعرفة البشرية والكشف عن حدود ما يمكن معرفته. زعم كانط أن محتوى المعرفة البشرية يتم توفيره من خلال كائن وأشكال أولية (الطريقة التي يتم بها تنظيم المحتويات) في العقل. لقد تحدث الناس دائمًا عن الوجود الضروري المطلق ، وبذلوا قصارى جهدهم، ليس فقط لفهم ما إذا كان من الممكن التفكير في شيء من هذا النوع وكيف، بل لإثبات وجوده... إذا قمت من خلال كلمة غير مشروط برفض جميع الشروط التي يتطلبها الذهن دائمًا من أجل اعتبار شيء ما ضروريًا، فهذا لا يقترب من تمكيني من فهم ما إذا كنت لا أزال أفكر في شيء ما من خلال مفهوم وجود ضروري غير مشروط، أو ربما لا أفكر في أي شيء على الإطلاق من خلاله. "كانط، نقد العقل الخالص، أ593. ومع ذلك، يميل العقل البشري إلى وضع غير المشروط في علاقة بأشياء (مشروطة) للتجارب الإنسانية. وبسبب هذا الميل المتأصل للعقل، فإن البشر يضعون غير المشروط مثل الله والروح والعالم. بالنسبة لكانط، فإن غير المشروط غير قابل للمعرفة من حيث المبدأ. في حين استبعد كانط غير المشروط (الله والروح والعالم) من عالم المعرفة، فقد جادل بضرورة وجود الله، وخلود الروح، والحرية في مجال الأخلاق. لدى البشر سبب عقلاني للاعتقاد بها باعتبارها الافتراض الأساسي للأخلاق، والذي أطلق عليه كانط "الإيمان العقلاني". عاد الفلاسفة الألمان بعد كانط مثل فيشته وشيلينج وهيجل، والمعروفين بالمثاليين الألمان، إلى الميتافيزيقيا المضاربة وطوروا نظريات مختلفة بناءً على فهمهم للمطلق. تم تبني مفهوم المطلق بعد ذلك في المثالية البريطانية الجديدة الهيجلية (على الرغم من عدم وجود جهاز هيجل المنطقي والجدلي المعقد)، حيث تلقى شرحًا شبه صوفي على يد برادلي. لقد تصور برادلي (وتبعه آخرون بما في ذلك تيموثي سبريج) المطلق كتجربة شاملة واحدة، على غرار شانكارا وأدفايتا فيدانتا. وعلى نحو مماثل، تصور جوشيا رويس في الولايات المتحدة المطلق باعتباره عالمًا موحدًا تشكل تجربته ما نعرفه باسم العالم "الخارجي".

القيم المطلقة

في التقاليد الدينية المختلفة، يُنسب مصطلح المطلق أيضًا إلى قيم وطبيعة مختلفة لله، أو الكائن المطلق، وللبشر. يتميز الحب المطلق بأنه حب غير مشروط، والذي يشكل غفرانًا غير مشروط، وعطاء غير مشروط دون توقع مكافأة أو فوائد، وخدمة من أجل الآخرين. تشمل بعض الأمثلة على الحب المطلق في التقاليد الدينية حب أغابي في المسيحية، والرحمة أو الشفقة في البوذية، إلخ. تم بناء الميتافيزيقيا الأفلاطونية على الوجود الأبدي للخير. يتم تأسيس صلاح الخير (الخير المطلق) من تلقاء نفسه دون اللجوء إلى أي شرط آخر. تفترض فلسفة كانط الأخلاقية أيضًا عدم اشتراط الخير. في التقاليد الدينية، يُفهم الحقيقة أيضًا على أنها صفة من صفات الله أو الكائن المطلق. غالبًا ما يتم تمييز الحقيقة المطلقة غير المشروطة عن الحقائق الطبيعية ويقال إن الأولى يمكن الوصول إليها بالإيمان أو الوحي.يمكن أيضًا وصف الإيمان في الدين بأنه غير مشروط. وصف الفيلسوف الدنماركي كيركيجارد الإيمان بأنه فعل يتجاوز التفكير العقلاني. إن الإيمان مطلوب للدخول في المجال الديني على وجه التحديد لأن الإيمان ينطوي على بعض العناصر غير المفهومة عقلانيًا والتزامًا وجوديًا. وإذا كانت الأديان كلها لديها مشروع مشترك، فهو بقدر ما تدعي كل منها الوصول إلى المطلق. ولكن تجدر الإشارة إلى أن الإنسان قد طور مفاهيم مختلفة للغاية عنه، في حين يبدو أن بساطة المفهوم تتطلب تفكيرًا متطابقًا مسبقًا، في إطار منطق أحادي. بالنسبة لأولئك الذين يريدون الحفاظ على نقائه ودقته، يظل المطلق نفيًا جذريًا لجميع العلاقات، ولا يمكن تغييره ومعارضته إلا من قبل دوغمائيين معينين يحاولون إعطائه شخصية محددة. لا يمكن التمييز بين اثنين أو أكثر من المطلقات. بيد أن المطلق يتكون من خلال النفي. هذا الاقتراح الأخير ليس سوى التطبيق المباشر للقاعدة الأولية لكل المعرفة التي لا تكون فعالة إلا إذا كانت متميزة وتتعلق، بالتالي، بما هو محدود ويسمح بتعريف نفسه، ومحدود بالمعارضة. لكن المعارضة الدقيقة هي علاقة محددة. إنكار جميع العلاقات، وبالتالي لا يمكن للمطلق أن يقبل تحديدًا معينًا، من بين أمور أخرى. بالتأكيد، لكن الاستنتاج غير مكتمل: بالضرورة فريد، ومطلق، مجرد من التمثيلات، ومن الصور المتعددة التي توفرها الأديان، وهو في حد ذاته يفلت من أي تعريف، ويستبعد الأسماء الإلهية، ولا يمكن استحضاره إلا من خلال سلسلة النفي غير المحددة. ان المطلق هو غير المشروط، غير المتكون، غير المحدد، الذي لا شكل له. لا يمكن لأي خطاب أن يفسره، ولا يهمه أي تفكير دقيق، إنه العدم الذي تستهلك فيه كل العزيمة. وبعيدًا عن الصيغ والطقوس، التي تشوه نقائه المجهول الوجه وغير المفهوم، فإن الإله الذي تستهدفه كل الأديان هو فقط المجهول الذي لا يمكن معرفته على الإطلاق. يحكم هذا المنطق البسيط والعنيد اللاهوت السلبي للصوفيين الأفلاطونيين المحدثين، المتوافق مع الفكر الهندي، والذي يتم تناوله من عصر إلى عصر. وهو لاهوت نقدي لأي تأكيد خاص على وجود الله، فهو يختزل العقائد والرمزية الدينية في نسبيتهما واحتمالية دعوتهما إلى الصمت، إلى الترحيب الصامت بما لا يوصف. الله ليس شيئًا ولا شخصًا. إن تسمية المطلق يعني ربط لغتنا به بشكل خادع، وإدراج ما هو غير مبال بها، مختلف تمامًا في فئاتنا. يعلمنا أفلوطين أن الواحد، وهو مصطلح يهدف إلى إنكار أي اختلاف داخلي عن المطلق الذي من شأنه أن يمنحه مكانة وطبيعة، لا يزال يؤسس في نظام الكمية ما هو بلا حدود خارج كل نظام.

خاتمة

المطلق هو شيء بلا حدود، صفة ليس لها قيود أو تحفظات. والمرادفات: هي الأساسي والمجموع و دون الفروق الدقيقة وهو ما يوجد بشكل مستقل عن أي شرط أو علاقة بأي شيء آخر ودون مقارنة ودون مراعاة الظروف، الوضعيات. ان المطلق يعني "منفصل" أو "مكتمل"، ومقابل النسبي، يشير هذا المصطلح إلى ما له سبب وجوده في ذاته، وبالتالي لا يحتاج إلى أي شيء آخر ليتم تصوره أو وجوده. في العصور الوسطى، أصبحت صفة "المطلق" اسمًا وكانت تُكتب بحرف كبير للحديث عن الله. المطلق إذن هو ما يعتمد عليه كل شيء. ومن هنا جاء استخدامه في السياسة لتعيين نظام ملكي يتمتع بسلطة غير محدودة. والمشكلة الكبرى التي يطرحها المطلق هي مشكلة معرفته الممكنة، إذ أن الإنسان الذي علمه محدود، لا يستطيع الوصول إليها حقا. وعلى الرغم من جهود الفلاسفة الألمان مثل فيشته أو شيلينج أو هيجل في التفكير فيها ورؤيتها كأساس أو مجمل المعرفة، إلا أنها تعتبر في الفكر العلمي المعاصر مرادفًا لما لا يمكن معرفته أو الحد الذي لا يمكن تجاوزه. لكن الا يجدر ان ننتقل من المطلق الى النسبي؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

كتب ايان بوكانان

ترجمة: علي حمدان

***

ما الذي دفع فوكو إلى القول بأن القرن العشرين سوف يُعرَف بـ"القرن الدولوزي"؟ يتأمل إيان بوكانان في عمل الفيلسوف الفرنسي وإرثه الدائم في مئوية دولوز بداية هذا العام.

إذا كنت لا تعرف الكثير عن الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925-1995)، فربما تتساءل لماذا كل هذه الضجة حول الذكرى المئوية لميلاده. ونظرًا لأنه يُعَد على نطاق واسع ــ ليس فقط بين ابرز الفلاسفة ــ بل أحد أهم المفكرين في القرن العشرين، فربما تتساءل أيضًا عما إذا كان عدم المعرفة يعني أنك كنت تعيش في الظل. من المؤكد أن هناك الكثير من الأسباب الوجيهة التي تجعلك تعرف من هو دولوز، حتى لو لم تكن مهتمًا بالفلسفة.

هذا القرن الدولوزي

إن السبب الرئيسي الذي يجعلك تضيف كتاباً أو عدة كتب من بين أكثر من عشرين كتاباً له (ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم الآن بعد أن بدأت عملية نسخ محاضراته وترجمتها ونشرها) إلى كومة الكتب على المنضدة الليلية هو حقيقة مفادها أن قِلة من المؤلفين يتحدثون عن القضايا الحاسمة في عصرنا بنفس الوضوح ونفس الإلحاح.

ولهذا السبب قال صديقه ميشيل فوكو، الفيلسوف الأكثر اقتباسا في العالم، إن القرن العشرين سوف يُعرف ذات يوم باسم قرن دولوز.

إرث دولوز اليوم

في ذلك الوقت (أوائل سبعينيات القرن العشرين)، لم يكن من الممكن أن يسمع عن دولوز سوى قِلة من الناس خارج المناطق المنعزلة في الحي اللاتيني، لذا كان الجمهور المستهدف هو "صندوق الرمل"، كما أطلق لويس ألتوسير، معلم فوكو السابق، على الوسط الفكري في باريس. لكن اليوم، بعد مرور قرن من الزمان على ولادته، وثلاثة عقود من وفاته، تُقرأ أعمال دولوز في جميع أنحاء العالم، ويمكن العثور على أعماله حتى في مكتبات المطارات (ربما لأنه، مثل آلان دو بوتون، كتب كتابًا عن بروست، وإن كان دون أن يدعي أنه قادر على إنقاذ حياة أي شخص.) من المفترض أن دولوز كان محقًا في اعتقاده أن فوكو كان يقصد ببساطة إثارة غضب بعض الناس وإضحاك الآخرين. ومع ذلك، بدأت هذه الملاحظة العابرة تبدو على نحو متزايد وكأنها تنبؤ دقيق.

الأيام الأولى: "الفلسفة الشعبية" وطريقة جديدة في الكتابة

برز دولوز إلى الأضواء في عام 1972 بكتابه "ضد أوديب: الرأسمالية والفصام"، وهو كتاب شارك في تأليفه مع صديقه فيليكس جواتاري، وهو ناشط سياسي ومدير في العيادة النفسية الخاصة في وادي لوار المعروفة باسم لا بورد، والتي أسسها جان أوري. ووصف المؤلفان الكتاب بأنه تمرين في "الفلسفة الشعبية"، رغم أنهما لم يشرحا حقًا ما يعنيه ذلك.

في كتابه السابق "الاختلاف والتكرار"، الذي نُشر لأول مرة في عام 1969، توقع دولوز أنه سيصبح من المستحيل قريبًا كتابة كتب فلسفية بالطريقة "القديمة". وفي كتابه "ضد أوديب"، عرض دولوز كيف تبدو الطريقة "الجديدة" في كتابة الفلسفة وأطلق نهجًا جديدًا للتفكير النقدي يسمى "التحليل الفصامي". تبعه تكملة بعنوان "ألف هضبة" في عام 1980. وتم النظر في إصدار مجلد ثالث، لكنه لم يكتمل أبدًا.

دولوز وغواتاري والتحليل الفصامي

يتناول التحليل الفصامي الخيوط التي نجدها عند ماركس وفرويد، ولكن على النقيض من أعمال المنظرين النقديين مثل أدورنو وهوركهايمر وماركوز، لا يمكن اعتباره اندماجًا لنظرياتهم أو عودة إلى أعمالهم. من فرويد يأخذ فكرة اللاوعي المنتج، الذي يولد واقعه الخاص، ولكنه يرفض عقدة أوديب ومعها فكرة الإخصاء باعتبارها الخوف الوجودي الفريد القادر على تفسير طبيعة المجتمع اليوم. من ماركس يأخذ فكرة مفادها أن الرأسمالية في بحثها عن أرباح أكبر على نحو متزايد تسعى باستمرار إلى تحقيق غايتها الخاصة، ولكنها تبدو دائمًا وكأنها تجد طريقة لتأجيل الكارثة. ويصف التحليل الفصامي كلا الاتجاهين - خلق واقع المرء، ومغازلة الكارثة - باعتبارهما انفصامًا في الشخصية، وبالتالي يتطلب شكلًا من أشكال التحليل الفصامي لفهم ما يجري اليوم.

الرأسمالية واللاوعي "كالة"

لقد سُكب الكثير من الحبر في محاولة لتعريف ما يعنيه دولوز وجواتاري بالتحليل الفصامي، سواء للدفاع عنه أو لإدانته، ولكن معظم الروايات حول كتاب "ضد أوديب" لا تقدم حقًا الكثير من الدعم لأنها تميل إلى التركيز على جوانبه غير الأساسية. صحيح أن كتاب "ضد أوديب" يبدو أنه يتحدى الوصف السهل، ولكن مفتاح فهمه واضح تمامًا من الصفحة الأولى .إن ادعاءه المركزي هو هذا: اللاوعي آلة، فهو يصنع الأشياء - الأحلام والأوهام والأعراض وما إلى ذلك - ويستهلكها (مستمدًا من ذلك فائدة معينة أو قيمة زائدة) والرأسمالية تعمل من خلال إدخال نفسها في هذه العملية وتحويلنا إلى مستهلكين لمنتجاتها.

الأفكار الراديكالية

إن ما يجعل عمل دولوز وغواتاري جذرياً إلى هذا الحد هو على وجه التحديد هذا التركيز على "الصنع" ــ باستثناء هايدغر ربما، كان أغلب الفلسفة الغربية في القرن العشرين يميل إلى التركيز على الاستهلاك. وكما زعم جيمسون في كتابه "الماركسية والشكل"، الذي ظهر قبل عام من كتاب "ضد أوديب"، فإن الفلسفة الغربية كثيراً ما تتصرف وكأن علاقتنا الأساسية بالأشياء هي علاقة التحديق بلا حراك وليس الاستخدام النشط، وهي حقيقة تعكس "وضعنا" في ظل الرأسمالية: فنحن نستهلك الأشياء، ولا نصنعها، ولا نفكر إلا قليلاً أو لا نفكر على الإطلاق في الظروف الحقيقية لتصنيعها (ورش العمل الاستغلالية، والتلوث، والاحتباس الحراري العالمي، وما إلى ذلك.) وفي عمل دولوز وغواتاري، تُصنع الأشياء أولاً وقبل كل شيء في العقل ولا يمكن استهلاكها كسلع إلا بقدر ما تستثمر فيها كل قوة الرغبة.

مفهوم جديد للرغبة

إن اللاوعي عبارة عن آلة، وبالتالي فإن الرغبة آلية، فهي تصنع واقعنا. وقد انحرفت هذه الطريقة في التفكير في الرغبة جذريًا عن الطريقتين السائدتين في التفكير في الرغبة في النصف الأخير من القرن العشرين:

1 - لقد انحرفت عن طريقة ألتوسير المذكورة أعلاه في تصور الرغبة باعتبارها شيئًا مخدوعا إلى الأبد، فهي لا تحصل أبدًا على ما تريده حقًا، بل تحصل فقط على ما تعتقد أنها تريده. وعلى النقيض من ذلك، زعموا أن الرغبة لا تُخدع أبدًا، فهي تعرف دائمًا بالضبط ما تريده، حتى عندما يكون ذلك غير مستساغ سياسيًا مثل الفاشية.

2 - لقد انحرفت عن لاكان - المفكر التحليلي النفسي السائد في تلك الفترة ونقطة المرجع التي لا تنضب لسلافوي جيجيك - الذي عرف الرغبة من حيث الافتقار - نريد ما لا نستطيع الحصول عليه بحيث عندما نحصل على ما نعتقد أننا نريده نشعر بالفراغ، وبالتالي لا يمكننا أبدًا تحقيق الرضا. في مواجهة هذه الطريقة السلبية في تصور الرغبة، اقترح دولوز وغواتاري نموذجًا يحدد الرغبة باعتبارها الوفرة.

إلى القرن القادم من دولوز

إن إرث دولوز غني، وما زلنا بعيدين كل البعد عن استغلال أعماقه. إن القراء الجدد يجدون صعوبة دائمًا في قراءة كتب مثل "ضد أوديب"، ولكنها تقدم تأثيرا قويا، وهي تستحق الاستمرار في قراءتها. أقول لهم فقط استمتعوا بالرحلة، ولا تقلقوا بشأن ما قد تعنيه كل هذه الأمور. بمجرد تسلقك لهذا الجبل، سوف تكون حريصًا على تسلق ما يقرب من عشرين قمة أخرى. لقد كنت حريصًا على ذلك!

***

...................

Ian Buchanan. Bloomsbury Academic. January 17, 2025.

 

انشغل الفكر العربي، الحديث والمعاصر، بإمكانية خلق مشروع يحمل على عاتقه الإجابة عن سؤال النهضة، ذلك السؤال الذي اختزله شكيب أرسلان في عنوانٍ لكتابٍ له أسماه: لماذا تقدم الغرب، وتأخر العرب المسلمون؟. على أن هذا السؤال، ليس هو بداية الإشكال، فالإشكال قائم منذ أواخر الدولة العثمانية، لكنه أول من طرحه بصورةٍ مركزة ودقيقة.

وقد اختلفت الإجابة عن هذا التساؤل، تبعاً لاختلاف الحركة المكانية والزمانية للمفكر، فضلاً عن السبب الإيديولوجي المحرك لمسار إجابة المفكر المتصدي للإجابة عن سؤال النهضة. ولا نريد البحث في إمكان الإجابة حول هذا الإشكال في الفكر العربي الحديث ورواد النهضة، بل ما نريده هو: معرفة المشاريع الفكرية في المرحلة النقدية العربية المعاصرة، وإسهاماتها في بلورة النتائج وطرحها من أجل التوصل إلى حلٍ لمثل هذا الإشكال العظيم، ذلك الإشكال الذي ما فتئ مفكرٌ من المفكرين إلا وكان شغله الشاغل، والذي يتمثل بالتالي: ما الحيلولة وراء دخول العرب في عصر الحداثة؟. أو ما هي العلل التي إذا ما عملنا على استيفائها، أن يدخل عرب اليوم لعصر الإزدهار والتقدم الذي يشهده العالم الغربي؟.

ونتيجة لتلك الإشكاليات، تعددت المشاريع الفكرية التي انهمك مؤلفوها في بلورة الأهداف التي من أجلها يمكن للفكر العربي المعاصر أن يشهد بزوغ فجر التنوير الذي بدأت شعلته بالتوهج أبان الفكر العربي الحديث، والذي نضج مع الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم من المفكرين.

فما انفكت هذه المشاريع بالظهور على ساحة الفكر المعاصر، وتعددت معالمها تبعاً لتعدد الرؤية المسبقة لحامل المشروع، على أساس أن الكاتب أو المؤلف ليس متحرراً من التراكمات الفكرية والإيديولوجية، وتتبدى هذه الرؤية أو المتبنيات في درجة الإنتماء إلى تيار معين، أو اختيار منهجٍ محدد، أو حتى إيديولوجيا دينية ومذهبية طائفية.

وما نود طرحه في هذا المقال، هو مناقشة أهم مشروعين في الفكر العربي المعاصر، وأكثرها إلفةً وافتراقاً في آن واحد، وهو مشروع الجابري ونقد العقل العربي، ومحمد أركون ومشروعه الموسوم بـ بنقد العقل الإسلامي.

يعتقد أركون إنّ الضرورة التي تُفرض علينا اليوم هي نقد العقل، وذلك من أجل استكشاف كل ما يتحكم بنشاط العقل ونتاجه من عوامل متفاعلة وقوى متصارعة وأهواء متضادة وتوترات داخل الذات أو خارجية عنها. أما الجابري فقد انطلق في قراءته الإبستمولوجية لواقع عصر النهضة، فانتهى إلى أنهم جميعاً نادوا بـإعداد الفكر القادر على حمل رسالة النهضة وإنجازها... ولكنهم لم يدركوا أو لم يعوا أن سلاح النقد يجب أن يسبقه ويرافقه نقد السلاح، لقد أغفلوا نقد العقل. ومن ثم فإن نقد العقل جزء أساسي وأولي من كل مشروع للنهضة.

يقول لكن أركون أخذ على الجابري بأنَّ الأخير قد تحاشى استخدام مفهوم (نقد العقل الإسلامي) واستبدله بـ (نقد العقل العربي) لكي يريح نفسه ويتجنب المشاكل والمسؤوليات... ومن ثم، فإن المشكلة المطروحة علينا اليوم وغداً هي مشكلة نقد العقل الإسلامي لأن العقل العربي نفسه هو عقل ديني، أو قل لم يتجاوز بعد المرحلة الدينية من الوجود. أما الجابري، فيبرر استعماله للعقل العربي في قوله: أنا أعتقد إن أي شيء يوصف بأنه (إسلامي) إلا ويحيل مباشرة إلى الإسلام كدين، وأنا لم يكن هدفي هو البحث في شيء اسمه (العقل الديني أو الإسلامي)، هناك ما يعرف بـ(الإسلام كحضارة")، أو (المعنى الحضاري لكلمة إسلام)، وهذا توصيف استشراقي... والذين يلاحظون عليّ تجنب عبارة (العقل الإسلامي) هم واقعون تــحــت تأثير هذا الفهم الاستشراقي للإسلام".

ونحن نتفق مع استخدام العقل الإسلامي بدلاً من العقل العربي، لأنه كما يقول الآلوسي، من المكابرة أن يقال إن العقل العربي شقَّ طريقه بنفسه غير متأثر بالدين أو بالنص الديني. وبالتالي فكيف يمكن أن تنتقد العقل العربي دون أن تنقد العقل الديني؟!. فنقد العقل اللاهوتي القروسطي المسيطر علينا منذ مئات السنين يشكل المهمة الكبرى للثقافة العربية بمجملها. وبدون القيام بهذا العمل فلا تحرير ولا خلاص. مع ذلك يقول أركون: هذا لا يعني أن الجابري لم يعمل شيئاً، فمحاولته مفيدة بدون شك، وهي من أهم المحاولات الموجودة في الساحة العربية، ولكنها لا تكفي ولا تشفي الغليل، ينبغي تجاوزها إلى ما هو أعمق منها وأبعد.

على إنّ  أركون لا يعني  بالعقل الإسلامي عقلاً خصوصياً، مميزاً أو قابلاً للفرز والتمييز لدى المسلمين عن غيرهم. وينبغي العلم بأن العقل البشري ليس إسلامياً ولا مسيحياً ولا كاثوليكياً ولا يهودياً، العقل البشري واحد في المطلق، ولكن ما يقصده أركون بالعقل الإسلامي، يتمثل في الكيفية التي ينظر فيها الإسلام إلى العقل، وكيف يستخدمه، فمثلاً العقل نفسه يمكن أن يستخدم للقيام بقراءة مختلفة من نص تأسيسي إلى آخر، وهذه القراءة تعطي نتائج مختلفة. وبالتالي فهو ملكة مشتركة لدى كل البشر، وإن التمييز أو الفرق كامن في النعت: أي إسلامي.

أما الجابري، فيقصد بالعقل العربي: أداة للإنتاج النظري، صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات، الثقافة التي تحمل معها تاريخ العرب الحضاري العام، وتعكس واقعهم أو تعبر عنه وعن طموحاتهم المستقبلية كما تحمل وتعكس وتعبر، في ذات الوقت، عن عوائق تقدمهم وأسباب تخلفهم الراهن.

ويفرق الجابري ما بين العقل المكوِّن الفاعل، والعقل المكوَّن السائد، وهي تفرقة مستلفة من لالاند، يقصد بالأول: النشاط الذهني الذي يقوم به الفكر حين البحث والدراسة والذي يصوغ المفاهيم ويقرر المبادئ، أما العقل المكوَّن، فهو مجموع المبادئ والقواعد التي نعتمدها في استدلالاتنا. وحين يتبنى الجابري هذا التمييز، يقول: إن ما نقصده بالعقل العربي هو العقل المكوَّن، أي جملة القواعد التي تقدمها الثقافة العربية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة، والتي تفرضها عليهم كنظام معرفي. أما العقل المكوِّن، فسيكون هو تلك الخاصية التي تميز الإنسان عن الحيوان، أي القوة الناطقة باصطلاح القدماء.

أما محمد أركون، فيفرق ما بين العقل الدوغمائي المنغلق، والعقل الاستطلاعي المنبثق. أما العقل الدوغمائي فلا يعتبره أركون من الظواهر الخاصة بتاريخ الفكر الإسلامي، بل هو قوة بنيوية تكوينية. وهو العقل الذي أغلق ما كان مفتوحاً منفتحاً. وحوّل ما كان يمكن التفكير فيه إلى ما لا يمكن التفكير فيه. ويعزو أركون هذا العقل إلى نزعة التقليد للمذاهب الأرثوذوكسية. أما العقل الآخر، وهو العقل الاستطلاعي أو المنبثق فيقصد به العقل الجديد الذي يطمح إلى التعرف على ما منع التفكير به وأقصي عن دائرة الاستطلاع والاكتشاف، ويلح هذا العقل على ما لا يمكن التفكير فيه وما لم يفكر به بعد. ويكافح هذا العقل على جميع الجبهات؛ وإنه لا ينحاز للغرب أو للشرق، إلى الدين أو الدنيا. ويعتمد هذا العقل على نظرية التنازع بين التأويلات، بدلاً من الدفاع عن طريقة واحدة في التأويل.

في الختام لنا أن نقول ، إنَّ أهمية هذين المفكرين تعود إلى أنهما اشتغلا على مفهوم العقل، وتكمن أهمية الاشتغال على العقل في أنه يشتمل على فهمٍ عام، أي إنه يشتغل على جميع ما يفرزه ويؤسسه، من هنا نفهم شمولية المشروعين. إلا أن الجابري يعمل على منطقة العقل العربي، في حين يشتغل أركون على منطقة العقل الإسلامي، ولا يمكن إطلاق سمة الأفضلية لمشروعٍ على مشروع، فلكلِ واحد منهم أدواته الخاصة ومناهجه المتبعة في تحصيل النتائج.

فقد آمن أركون بالعقل الإسلامي، كونه يتيح لنا التعامل مع إشكاليات أكثر، ومن ثم فإن المشكلة العويصة التي يُراد منّا حلها، تتمثل في إشكالية العقل الإسلامي وليس العربي فقط، أما الجابري، فقد استخدم العقل العربي، كونه قد أوضح بأن الاشتغال بالمعنى الإسلامي لا يحيل إلا إلى الدين، ولم يكن هذا ما يريده الجابري، على أن الجابري لم يخرج من منطقة الاشتغال الإسلامي، ولكنه أراد أن يبين القواعد التي تأسس عليها هذا العقل، وما أثر عليه الإسلام، بالوقت الذي أصرَّ في أركون على ضرورة التعرج إلى لحظة الإسلام الأولى، وهي اللحظة المتمثلة بالوحي.

ومن ثمَّ لا يمكن الفصل في الغاية التي يريد المفكران تأسيسها، فكلاهما يحاول أن يخترق بنية العقل، سواء كان هذا العقل عربياً، كما هو الحال مع الجابري، أو كان إسلاميا، كما تعامل معه أركون. على أن البنية تختلف لاختلاف النعتين، فالبنية العربية، هي بنية تشكلت ضمن محددات ثلاث، مرحلة البيان أو التدوين، ومرحلة العرفان الغنوص، والمرحلة البرهانية، والتي تمثل ازدهار العقل العربي. أما محددات العقل الإسلامي، فكما قلنا، يصرُّ أركون على الرجوع إلى لحظة الإسلام الأولى، لذلك اختار المحدد الأول لتلك البنية متمثلاً بالقرآن الكريم ونزول الوحي، لينتقل بعد ذلك إلى مرحلة الازدهار الكلاسيكية، ومن ثم المرحلة السكولائية، لينتهي إلى واقع النهضة في القرن التاسع عشر.

***

حيدر عبد السادة جودة

 

تمهيد: "من المفترض أن تتدخل دولة الرعاية لتصحيح الفوارق الاجتماعية، ومساعدة الأفراد الأكثر حرماناً. ولذلك فإن مهمتها هي استعادة المساواة عندما تكون أوجه عدم المساواة بين المواطنين كبيرة للغاية".

الكثير من الأفراد والناس والفئات والشرائح والطبقات والمجتمعات والجهات والدول والأقليات والأمم تعاني من الازدراء والتهميش والظلم والاستبعاد والسبب وراء تفشي هذه الآفات والرذائل والاختلالات هو غياب العدالة الاجتماعية وانعدام المساواة أمام القانون وفقدان الانتماء الهوياتي وغياب الاعتراف سواء من المركز السياسي الغني او من الجهة الحاكمة ذات النفوذ او من القوة الحضارية المهيمنة.

إذا ثبت أن تطبيق القانون ضروري لتحقيق العدالة داخل الدولة، ولكي يتمتع المواطنون بالمساواة الصورية، فإنه يثبت أنه غير كاف لتحقيق العدالة الحقيقية. إن مجموعة القوانين – مهما كانت ضرورية لجعل الحياة المجتمعية ممكنة – لا تقدم إلا مخططًا غير كامل للعدالة فيما يتعلق عدالة أكثر اكتمالًا تتعلق، بما يتجاوز العام، بمواقف معينة. فكيف يتم تحقيق العدالة؟ وهل يمكن للعدالة أن تتسامح مع اللامساواة؟

تطبيق القانون شرط ضروري لتحقيق المساواة داخل الدولة

العدالة باعتبارها مساواة شكلية

المساواة الرسمية تتوافق مع متطلبات المواطن. وفي الواقع، يرفض هذا الأخير الخضوع لقانون الدولة التي تفضل بعض هؤلاء الأعضاء مع الإفلات من العقاب على حساب الآخرين. ويجب على الدولة أن تضمن توازن الحقوق، وإلا تعرض النظام الاجتماعي للتهديد، إذ لا شيء يبرر أن تكون الدولة لمصلحة فئة قليلة من أعضائها فقط. ولذلك يهدف القانون إلى خلق مساحة من الحرية يتقاسمها الجميع بنفس الطريقة. إنها تضمن بقاء الجميع ضمن الحدود الممنوحة لهم وعدم التعدي على حريات الآخرين.

المساواة كمبدأ ولد من الجهل

إن المطالبة بالمساواة تنبع من حالة الجهل، لأنه من المستحيل تقييم الجدارة الفردية لتأسيس عدالة عادلة توزع الحقوق والواجبات حسب استحقاق كل شخص – وهذا هو معنى عدالة التوزيع الأرسطية – فنحن نختار عدالة توزيعية. مبدأ المساواة. يؤكد أفلاطون في كتابه السياسة (294 أ) على أن القانون يشكل الملاذ الأخير فيما يتعلق بالعدالة العليا التي يجسدها الملك الفيلسوف. بوجود علم حقيقي تحت تصرفه، سيكون قادرًا على تقييم مزايا كل شخص وإقامة عدالة عادلة. وفي غياب مثل هذا الرقم، يجب علينا أن نعقد العزم على اعتماد قوانين المساواة.

فضيلة العدالة

مما ستتكون هذه الميزة التي يحتفل بها الإنصاف؟ ولا شك في الموقف الفاضل. وبهذا نسمي السلوك الأخلاقي الذي يهتم بالقوانين ويحرص على احترامها لا خوفا من أي عقاب بل لأنه يعترف بقيمتها. لا يتعلق الأمر بالقيام بأفعال عادلة، أي تلك التي تتوافق مع القانون، بل يتعلق بكوننا عادلين. وبعبارة أخرى، فإن الفعل - كما يؤكد كانط في أسس ميتافيزيقا الأخلاق - يجب أن يتم من منطلق الواجب وليس وفقا للواجب. النية ليست هي نفسها. فمن ناحية، فإن القانون الأخلاقي هو الذي يملي السلوك الذي ينبغي اتخاذه، ومن ناحية أخرى، فإن المصلحة.

العدالة تتجاوز مجرد تطبيق القانون

عمومية القانون

فالقانون، لأنه ينطبق على أكبر عدد، لا يمكنه أن يشمل اللانهاية لمواقف معينة. في هذا الصدد، يعتبر دور القاضي حاسما لأنه متروك له لتكييف القانون مع موقف معين - يتحدث أرسطو بهذا المعنى عن موقف الحكمة الذي يفضل العدالة. ويجب على القاضي أن يسعى قدر الإمكان إلى قياس القصد الذي صاحب الفعل الإجرامي. ونرى أيضًا ظهور عدة درجات من تطبيق القانون. ويفرق أرسطو في كتابه فن الخطابة (1374 أ) بين الحظ السيئ الذي لا يدل على نية ولا حساب، والخطأ الذي يشير إلى فعل إرادي خال من أي نية ضارة، والجريمة التي تشير إلى نية خبيثة واضحة.

العدالة والحذر اللازم

يجب على القاضي أن يجسد العدالة، هذه الفضيلة التي تقودنا إلى النظر ليس فقط في الفعل نفسه، بل أيضًا في الظروف المحيطة به. وهذه الفضيلة وحدها هي التي يمكن أن تمنح المرونة لقانون لا يشكل إلا الإطار الذي يجب أن يتشكل من خلاله قرار القاضي. يصر جانكلفيتش في كتابه الفضائل والحب على ضرورة تفضيل الروح وليس النص فيما يتعلق بالقانون: «الإنصاف شامل، أي أنه يأخذ في الاعتبار جميع ظروف حالة ملموسة للحصول على أقصى استفادة. الحقيقة العامة والإنسانية حول هذه القضية، حتى لو كان عليها التضحية بالصرامة في سبيل هذه الحقيقة” (المجلد الثاني، الفصل 7).

حقوق الملكية كقيمة

إذا كان من غير الممكن أن يتم إصدار حكم بشكل مستقل عن أي اعتبار ملموس، فذلك لأن العدالة تبدو قيمة أساسية. وبدونها يتم التعرف على المجرم بفعلته، ولا يعود ينظر إليه كشخص بل يتبلور في فعله. إن الإنصاف يسلط الضوء على حرية الإنسان، وهذه الإمكانية غير المحددة للقيام بعمل أفضل. ولكن لماذا تتطلب العدالة أن تصاحب القانون؟ لا شك أن احترام الآخر كشخص واجب أخلاقي. هكذا يقول كانط، تدعونا الضرورة المطلقة إلى اعتبار الآخر دائمًا غاية، لتأكيد حريته، أي كرامته كذات واعية.

دوائر العدالة

العدالة هي أولاً وقبل كل شيء فضيلة التبادل والتوزيع. يتعلق الأمر بإعطاء الجميع ما يستحقون الحصول عليه وفقًا لمزاياهم أو عيوبهم: الحقوق أو الخيرات أو العقوبات. ومن ثم فهي مؤسسة تحكم في الجرائم والجنح. تنظم العدالة التبادلية التبادلات وفقا لنسبة رياضية: فالمصطلحان المتبادلان لهما نفس القيمة.

تنظم عدالة التوزيع عمليات التبادل وفقًا لنسبة هندسية: حيث يذهب أكبر التبرع إلى الأشخاص الأكثر استحقاقًا. فالعدالة الاجتماعية تمنح الجميع الوسائل الأساسية للبقاء والتقدم في المجتمع البشري. ولذلك، يجب عليها أن تعوض عن التفاوتات الأولية من خلال خلق ظروف العدالة. ان العدالة القمعية تتوافق مع النظام القضائي وتحدد العقوبات والمصادرات والحرمان وتطبيق الأحكام.

يمكن أن تكون عدم المساواة عادلة

إذا كانت العدالة هي فضيلة المشاركة العقلانية (التي يتم تنفيذها بشكل عادل)، فيمكننا في البداية أن نعتقد أنها تتكون من تقاسم الخير وفقًا لمبدأ المساواة الصارمة. ومع ذلك، يجب على العدالة أن تتسامح مع عدم المساواة، طالما أنها عادلة: فمن يساهم بأكبر قدر في مهمة ما يستحق الحصول على المزيد، كما يؤكد ميل. ومع ذلك، هل يجب أن تكافئ الجدارة الجهد أم الكفاءة فقط؟ والواقع أن تفضيل الخيار الأول لا يشجع أولئك الذين قد يكونون أكثر فعالية؛ وتفضيل الخيار الثاني يعني إعطاء ميزة اجتماعية لأولئك الذين يتمتعون بالفعل بميزة الموهبة.

يمكن لأوجه عدم المساواة أن تعود بالنفع على الجميع

ولضمان العدالة الاجتماعية، يدعونا راولز مع ذلك إلى الموافقة على بعض أوجه عدم المساواة إلى الحد الذي تكون فيه، على الرغم من كل شيء، ميزة للمجتمع ككل. فإذا كانت ثروة الأقلية تجعل من الممكن إنشاء البنية التحتية العامة (الرياضية أو الطبية، على سبيل المثال)، فإن ثروة القلة تصبح مفيدة للجميع. لكن مبدأ الاختلاف هذا لا ينبغي أن يدخل حيز التطبيق إلا بعد تحقيق مبدأ العدالة الأكبر.

القانون والحالة وشكل العدالة

العدالة هي نهاية التعسف، ووضع نفس القواعد للجميع، والاهتمام بالتناسب في العقوبة. يتزامن القانون مع اللحظة التي يتفق فيها الناس على قواعد مشتركة: سيتم الآن وضع القرارات والأفعال والعلاقات الذاتية تحت هذه القواعد. العدالة لا يمكن فصلها عن القوانين، وهذا ما يخبرنا به أصل مصطلح العدالة ("justus" في اللاتينية يعني "وفقًا للقانون"). يحتوي القانون على ما يسميه روسو "العالمية المزدوجة"، التي وحدها يمكنها ضمان العدالة: كونية الموضوع (القانون لا يشير إلى الناس كأفراد فرديين بل كمواطنين أو أشخاص مجردين)، وكونية الإرادة لأن إنشاء القانون ويجب أن تنبثق القواعد القانونية من الإرادة العامة. ويتميز القانون بحياده: فهو يفترض ويضمن إدخال طرف ثالث في حل النزاعات. وينطبق القانون بنفس الطريقة على الجميع دون استثناء: وهذا ما نسميه بالاستقلالية. تتميز القوانين بإمكانية الوصول إليها من قبل الجمهور، ويجب أن تكون معروفة للجميع ("لا ينبغي لأحد أن يجهل القانون"): هذا هو مبدأ علنية القوانين. ويحظر القانون استخدام القوة من قبل الأفراد. وبالتالي فإن الانتقام ليس عدالة لأنه يخدم العاطفة الفردية ويظل اعتباطيا. عندما يقدم القانون نفسه في شكل انتقام، يعتبر هيجل أنه جريمة جديدة تثير انتقامًا جديدًا ولم تعد تضمن العدالة.

أسس العدالة

1. أساس إلهي:

وفقا لأرسطو، لا يمكن تصور العدالة إلا على أساس الصداقة. هذه الصداقة هي شكل من أشكال الحد الأدنى من الاعتبار الذي يخلق رابطًا، ونقطة مجتمع، بين أولئك الذين يحكمون وأولئك المحكومين. تتضمن العدالة إنشاء نوع من العلاقة مع الآخرين يتجاوز المصلحة البحتة. وبالتالي لا توجد عدالة بين الآلة والحرفي، ولا بين السيد والعبد، العدالة على افتراض وجود مجتمع تجعله الصداقة ممكنًا. والتوحيدية الموجودة في الله أصل العدل والقانون. إن العدالة الإلهية تمثلها الأديان كنموذج وأساس لعدالة البشر الناقصة. حدثت فجوة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث شكك الكتاب والفلاسفة في الأساس الإلهي للعدالة.

2. أساس أخلاقي:

إن تباين القوانين حسب المكان والزمان يمكن أن يؤدي إلى تبني وجهة نظر نسبية. وهذا ما يعبر عنه باسكال بالصيغة: "الحقيقة في هذا الجانب من جبال البرانس، والخطأ وراءها". ومع ذلك، فإننا قادرون على إصدار حكم نقدي فيما يتعلق بالقانون أو بمعايير العدالة الفاشلة. ألا يخبرنا هذا أن العدالة لا يمكن تأسيسها ببساطة من خلال المؤسسات؟

سيسعى المنظرون المعاصرون للقانون الطبيعي إلى إثبات أن الفرد يمتلك عددًا معينًا من الحقوق غير القابلة للتصرف والتي يجب أن تلعب دور أساس القانون الوضعي. وهذه الحقوق متأصلة في كل إنسان كائنًا من كان: حق الحفظ، والحرية، وما إلى ذلك. وتتضمن المادة 2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر في 26 أغسطس 1789 جميع هذه الحقوق الطبيعية: "وهذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الظلم".يؤكد المؤلفون المعاصرون، مثل ليو شتراوس، على أهمية القانون الطبيعي حتى نتمكن من الحكم على قيمة قوانيننا المدنية على أساس معيار أعلى.

3. أساس سياسي:

أساس القانون نفسه: ترى الوضعية القانونية أنه لا توجد عدالة قانونية تسبق التعريف الدقيق للحقوق في النصوص القانونية، بل تختزل العدالة في القانون المؤسس بكل ضماناته، وتسمى هذه المدرسة الفكرية بالوضعية القانونية ، ويمثلها كيلسن أو بنثام.

غايات العدالة

1. فضيلة العدالة:

بالنسبة للفلاسفة القدماء، العدالة مرغوبة في حد ذاتها، لأنها تؤدي إلى أعلى خير إنساني (انظر تشبيه أفلاطون في الجمهورية بين انسجام أجزاء الروح وانسجام ما تم ذكره للتو). فالتعرض للظلم خير من ارتكابه، لأن النفس لا تفسد في الحالة الثانية. يوضح أرسطو أن فضيلة العدالة لا تنبع فقط من المؤسسات العادلة: بل إنها تعمل على تحسينها أيضًا. المدينة العادلة تولد العديد من الناس الصالحين: فالانسان الذي نشأ في ظل قوانين جيدة سيطور في النهاية ميلًا إلى الرغبة في التصرفات التي تفرضها القوانين.

2. الأمن والملكية والحرية:

بالنسبة للفكر الحديث، ليس على المؤسسات أن تجعل المواطنين فاضلين، بل أن تجعل التعايش بين الأفراد ممكنًا. وبدونها، سيكون الناس، الذين يسعى كل منهم لتحقيق مصلحته الشخصية، في حالة حرب دائمة (هوبز وليفياثان). ان هدف أي مجتمع مدني وإقامة العدالة، وفق السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، يهدف إلى ضمان حماية الملكية (لوك). ويحدد جون ستيوارت ميل الحرية الفردية باعتبارها الوظيفة الأساسية للعدالة: إذ يجب على الجميع أن يتمتعوا بأكبر قدر ممكن من الحرية، ما داموا لا يرتكبون أي خطأ ضد الآخرين.

3. المساواة:

يبدو أن الهدف النهائي للعدالة هو المساواة، ولكن بأي معنى بالضبط؟

يميز أرسطو بين نوعين من المساواة على أساس التمييز بين العدالة التصحيحية والعدالة التوزيعية. تتعلق المساواة الصارمة في العدالة التصحيحية بجميع المعاملات التي تتم في إطار خاص والعدالة الجنائية، التي تتعلق بإصلاح الأخطاء ومعاقبة المذنبين. تتعلق المساواة النسبية في عدالة التوزيع بمختلف السلع التي سيتم توزيعها داخل المدينة.والمشكلة المتبقية هي كيفية تحديد معايير التوزيع. وبالتالي فإن موقف المساواة يتطلب إعادة توزيع السلع مع الأخذ في الاعتبار الجدارة وعدم المساواة الاجتماعية.

كيفية تطوير بالعدالة

يجب الاعتناء بالسلطة القضائية من جهة الجودة والاستقلالية. يكون الدستور والقوانين قانونية عندما تصدر دون مخالفة للقواعد الشكلية للقانون التشريعي، ولكنها لا تكون مشروعة إلا إذا ضمنت حرية المواطنين وحقوقهم الأساسية: السلامة الجسدية، حرية الرأي، التعبير، الوعي، تكوين الجمعيات. الشرعية هي نوعية الشكل، والشرعية هي نوعية غرض السلطة القضائية. ويجب ألا تتركز السلطة في يد شخص واحد أو مؤسسة واحدة أو مجموعة واحدة. وعلى غرار مونتسكيو في كتابه روح القوانين، يجب تنظيم السلطة وفقا لتقسيم محكم: فالأفراد المسؤولون عن صياغة القوانين (السلطة التشريعية)، وأولئك الذين ينفذونها (السلطة التنفيذية)، وأولئك الذين يقمعون التجاوزات (السلطة القضائية) يجب أن يكونوا مستقلين. كما أن دور القضاة مهم للغاية، بهدف إقامة عدالة حقيقية. الحكم يأتي من نطق الكلام ، الحق الذي أعطى للحكم. ولذلك فهو يقول القانون، وينطق بالقانون. ويعني الحكم أحيانًا أيضًا تفسير القانون بطريقة يمكن من خلالها تطبيقه على الحالات غير المتوقعة بأفضل طريقة (أرسطو).

خاتمة

كيف تتجه الانسانية نحو عدالة اجتماعية أكبر؟ إن المطالبة بالتقدم نحو مجتمع أكثر عدالة تتم من خلال توزيع السلع وفي إطار التنفيذ الملموس للحقوق. ومن وجهة نظر اقتصادية واجتماعية، فإن إفقار جزء من سكان العالم، والتفاوتات الصارخة التي لا تزال تنمو في كل بلد، والتمييز على أساس الجنس أو الأصل العرقي، لم تختف بعد. يصبح السؤال هو معرفة كيف يجب على السلطات العامة والقانون الدولي والعمل الفردي اتخاذ تدابير فعالة يمكن الاعتراف بمشروعيتها من قبل جميع المواطنين. وتطرح العدالة الدولية مسألة نسبية المعايير وفقا للخيارات الأيديولوجية والدينية والسياسية والفلسفية لكل دولة. فهل يمكن تصور العدالة الدولية دون الحد الأدنى من سيادة القانون الذي يوحد الأمم؟.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

العقل والتفكير:  الانحياز للعقل دوما يجعل من كل شيء مادة. وتصبح مقولة هيجل صحيحة لاول وهلة قوله كل ماهو عقلي واقعي وكل ماهو واقعي عقلي. ولما كان من خصائص المادة الامتداد والشمولية يصبح كل ما يحس به العقل هو مادة. وهذا الاستنباط خاطيء بدليل ان كل الاحاسيس الداخلية التي يتلقاها العقل من جسم الانسان هي ايعازات اشباع بيولوجية غرائزية وليست مادة. عليه تكون مقولة هيجل كل ماهو واقعي عقلي ناقصة من حيث لا يمكن تعميمها على كل مدركات العقل بخاصة في مدركاته لمواضيع الخيال فهي ليست واقعية.

هذا المعنى يجعل الفيلسوف الفرنسي لامتري يذهب وجوب ارجاعنا ميتافيزيقا الروح للمادة. ويدين لامتري الفيلسوف الالماني عالم الرياضيات  المتديّن لايبنتيز قوله وجوب ارجاع المادة الى روح. مرجعية لايبنتيز تلتقي مرجعية باسكال محاولتهما تطويع المفاهيم الفلسفية لتبعية اللاهوت المسيحي. والاكثر غرابة أن كليهما باسكال ولايبنتيز غير تطرفه اللاهوتي يصنفان على انهما فيلسوفان وجوديان يتبعان الفلسفة الوجودية الغربية.

بضوء مستجدات اختراع الفلسفة لمبحث التحول اللغوي ونظرية المعنى وتصبح فلسفة اللغة الفلسفة الاولى بعد الهجوم الكاسح على مبحث الابستمولوجيا وازاحتها عن طريقها تماما منتصف القرن العشرين. قادت فلسفة اللغة اختراع نظرية السقوط في مركزية خيانة اللغة للمعنى وبالتالي أصبح تضليل العقل واردا جدا في عجزه التعبير اللغوي عن مدركاته لغويا تعبيرا صادقا.

لو نحن بضوء ما مر ذكره نحاول الوصول الى الحقيقة حول خيانة اللغة للمعنى نجد ان منطق تفكير العقل يقودنا الى ان خطا العقل بالتفكير يسبق خطا اللغة في التعبير. وخيانة اللغة للمعنى لا تسبق خيانة العقل للفكر. تضليل العقل لا يكون في تعبير ازدواجية خيانة اللغة للمعنى. بل في تضليل الحواس للعقل في تزويده بانطباعات اولية غير حقيقية ولا صادقة وقتية زائلة على حد تعبير ديفيد هيوم ما يجعل تشتيت تفكير العقل في التعبير اللغوي قاصرا في الالمام الكامل بمدركاته. هيوم اعتبر تجيير الانطباعات الاولية الصادرة عن احساسات العالم الخارجي كخزين معرفي للذهن هراءً والمعوّل عليه الافكار التي مصدرها العقل.

لو اجرينا مقارنة فسلجية وظائفية في الفرق بين العقل والذهن فنجد العقل هو مرادف بيولوجيا المخ. اما الذهن حتى وإن التقى بخاصية التفكير والوعي العقلي الا انه يبقى افتراض غير عضوي.

اسبينوزا والوجودية

يبدو أن اسبينوزا كان له تاثيرا قويا على الفلسفة الوجودية التي جاءت منتصف القرن العشرين. ويمكن القول ان تاثير اسبينوزا على الوجودية بعد قرنين من الزمان على ظهور الوجودية الحديثة كان اكثر نضجا من تاثير فلاسفة وجوديين انفسهم عاصروها او مهدّوا لبزوغها. فالوجودية حين قالت (الوجود يسبق الماهية) لم تسلم تلك المقولة من التشكيك بها رغم ان للعبارة مرجعية ثابتة في الادبيات الماركسية باختلاف مع الوجودية ان الماركسية انكرت وجود ماهيات او جواهر مستقلة او دفينة في الاشياء والموجودات في حين اجازت الوجودية لاحتمالية وجود الماهيات بالاشياء والموجودات في المقدمة يأتي الانسان انه ذات تمتلك ماهية مفروغ منها..

كينونة الموجود هي في المتعيّن المادي (الجسم) او شكل الشيء في صفاتهما الخارجية لكل منهما.. خطأ الوجودية المتناقض انها في غالبية مباحثها اعتبرت الماهية او الجوهر موضوعا للعقل وليس سيرورة ذاتية استبطانية دفينة لا يدركها العقل. بينما نجد اسبينوزا ذهب الى اختلاف جوهري متضاد مع الوجودية في اعتباره اولا الماهية ليست موضوعا للادراك العقلي وهو صحيح تماما. وثانيا اعتبر الماهية هي الخصائص للصفات الخارجية للموجود وهو خطأ سقط فيه ليس في التماهي مع الماركسية لكن باختلاف جوهري صادم للماركسية قوله اننا بدلالة الجوهر ندرك الوجود وبذلك ضرب الماركسية بمقتل في مقولتها الوجود يسبق الفكر وانكرت الماهية بالموجودات.

الوجودية لاحظت اسبينوزا يقول: الجوهر الكلي التام الالهي الذي لا يدركه العقل يسبق موجودات الوجود في الطبيعة وفي عالمنا الخارجي. هذا الجوهر الكلي الالهي حسب مذهب وحدة الوجود لدى اسبينوزا فقط وليس لدى الصوفية عامة هو جوهر موزع في موجودات الطبيعة وفي موجودات واشياء العالم الخارجي.

لذا والكلام لسبينوزا الفكر الالهي هو الذي يعطي الماهية اسبقية على الوجود سقوطه في ميتافيزيقا طوباوية. طبعا في عدم بذل ادنى تعب او مراجعة نجد اسبينوزا سقط مرتين في الميتافيزيقا الاول اعتباره الماهية في الموجودات هي التجزيئات الموزعة على الاشياء وكائنات الطبيعة من ضمنها الانسان. الثاني اعتباره الماهية الكلية الالهية بدلالتها نفهم الوجود. لسبب اذا سلمنا ان الخالق يمتلك ماهية فهذا تشييء له مرفوض في ادبيات اللاهوت والاديان. وتدارك اسبينوزا هذا الخلط حين تراجع وقال اننا لا ندرك الجوهر اوالماهية بالاشياء وموجودات الطبيعة ومن المحال ايضا ادركنا الماهية في الوجود الالهي وبذلك ارجع مذهب وحدة الوجود الى الميتافيزيقا كليّة.

وجودية سارتر لم تعط الموجود الانساني قيمة حقيقية واعتبرته طارئا على الوجود. على العكس من هيدجر الذي اراد في كتابه (الكينونة والزمان) اضفاء قيمة لانطولوجيا الانسان بدلالة الماهية والخصائص البيولوجية والصفات الخارجية وما يتعالق بها من الحرية والارادة والفعل. الوجود والاصح الموجود الذي هو الانسان لدى سارتر جوهره حرية مطلقة لا تحدها الكينونة الانطولوجية التي هي معطى موجودي طبيعي.

من المهم الاشارة الى ان مبدأ مذهب وحدة الوجود سواء في الصوفية عامة او لدى اسبينوزا خاصة نجد الوجودية لم تتعامل معه كمبحث فلسفي يستحق الاهتمام. ولم تذهب على أن الماهية لم تتعامل مع الوجود بتفسير منطقي يعطيها خاصية اكثر ممما تمتلكه في حقيقتها.

هذا الخلط في تفسير الماهية في الوجودية يجعلنا نوقن تماما العكس الصحيح انه من العبث الحديث عن موجود انساني لا يمتلك ماهيته. ومقولة سارتر (حقيقة الانسان انه موجود بلا جوهر) خطأ فلسفي اولا وثانيا يتعارض مع افكار سارتر اعتباره ماهية الانسان تصنيع ذاتي مستمر مدى الحياة وليس موضوعا ناجزا مستقلا للعقل. الانسان موجود ليس بصفاته الخارجية ولا الجسمانية فقط بل هو موجود في امتلاكه ماهية خاصة به وليست موضوعا لادراك.

من أبرز الاشكاليات التي شتت الفكر الفلسفي في الوجودية هو انها لم تعط لا الوجود ولا للماهية استقلالية معرفية فلسفية بل اكتفت القول ان كل شيء يناقض كل شيء والوجود الانساني هو الحرية. كما وجعلت من الوجود في ذاته خال من الموجودية الحتمية. عليه يكون الانسان عالم مغلق على نفسه موجود طاريء.

الفلسفة والحياة

من الحقائق التي لا ينفع معها نقاش مجد يقود لقناعة هو ان الفلسفة تجريد منطقي لا يلتزم حياة الانسان الي هي مصنع الحيوية البشرية على حد تعبير بيردائيف.. اكثر الهجمات شراسة على الفلسفة منطلقها الذي ذكرناه في عدم التزام الفلسفة بالانسان بمعنى ليس الانسان مبحثا فلسفيا بل الانسان كموجود يتقدم موجودات كل الوجود بخصائصه الذاتية. الانسان في مركزيته التي عبر عنها بروتوغوراس حوالي 400 سنة قبل الميلاد (الانسان مقياس كل شيء). لم تأخذ به لا الوجودية ولا البنيوية ولا جميع الفلسفات التي هاجمت كل معطيات الحداثة والعلوم في عصرنا.

معروف ان ماركس له مقولة شهيرة تقول: اكتفى الفلاسفة تفسير العالم واهملوا المطلوب مهمة واهمية تغييره. ما جعله يترك الفلسفة بما هي خاصية المنطق التجريدي اللغوي والاتجاه نحو دراسة الاقتصاد السياسي الذي بدوره اتخذ الصفة الايديولوجية السياسية الاشتراكية.. من المسلم به ان تاريخ الفلسفة كاملا لم يلتزم حياة الانسان فهي توازي الواقع ولا تقاطعه. النموذجان العصريان لهذا المنطلق هما بول ريكور في التاويلية وجاك دريدا في التفكيكية .

ومن الصعوبة مناقشة الافكار الوجودية او غيرها من الفلسفات بغير منطق الفلسفة اللغوي. فلغة الفلسفة تجريد يوازي العلم  والحياة. قد يتداخل معهما في جزئيات لكنه يختلف بمفارقة عنهم مفتوحة النهايات التنظيرية. الفلسفة نسق لغوي منطقي تجريدي لا هو بالعلم ولا هو ايديولوجيا سياسية. ولا هو يندرج في خانة الاجناس الادبية. هي ضرب من القول يدعى الفلسفة.

 والفكر في الفلسفة الوجودية فكر منفلت قائم على محاولة خلق توليفات من المتناقضات التي تجعل من وقائع الحياة مقلوبة تماما فيها الانسان ضائعا اين هو وما هو المطلوب منه واين الصح من الخطا جميعها علامات استفهام مفتوحة على اجابات ليس لها نهاية من اليقين حتى المصنوع فلسفيا.

في مقارنة سريعة نجد الوجودية فسفة ونزعة متطرفة في مرجعية الاتكاء على حربين عالميتين في قرن واحد وخروج انسان منهما محطم النفسية مشبع بآلام الكوارث والخراب والموت المجاني الموزع في كل مكان من اوربا الى اليابان شرقا وامريكا شمالا..

كان هجوم الوجودية وتلتها البنيوية على العقل بما هو منهج تبنى منهج العلم اكثر من الفلسفة لضرورات تاريخية واقعية. كان فرصة ذهبية القول كل شيء مضاد لكل شيء. الثوابت التي تبنتها تفكيكية دريدا بعد افول نجم الوجودية نهاية عقد الستينيات من القرن العشرين جعلت من الفلسفة قطوعات بحثية تعنى بالهوامش في تغييب اصل النص بعد استنفاد مباحث الوجود والابستمولوجيا ومباحث الاكسيولوجيا ذلك البريق من الاهتمام.

 الروح او الفكرة لدى هيجل

يصف جيل ديلوز الروح او الفكرة هي الحدس الابتدائي وليس كما قال بها هيجل على انها الروح المطلقة او العقل الكلي التي تحكم العالم والكون باجمعه. كما ردد هيجل ان ما هو خارج ادراك الفكرة الكلية الجامعة الشاملة لايبقى هناك ما يستحق البحث عنه وادراكه. كما تاثر جورج مور بمفهوم الروح المجرد عن المادة في اعتباره الروح خبرة مخزنة بالذات التي تعطي الروح طابعها الكوني الميتافيزيقي. حين تجعل خبرة الذات الروحية هي صفة تطبع الكون بالروحانية.

وللرد على هذه الافكار:

- المادة او الموجود من غير الانسان هي المدركات التي تسبق الوعي الادراكي بها ايا كانت وسيلته.

- الفكرة او الروح لدى هيجل في عبارته (العقل الكلي الذي يحكم الكون والعالم والطبيعة ولا يوجد اسمى منه) انما المقصود منه الله. وغموض تعبير هيجل انه يجد في الله وحدة وجود كلية ولم يستطع توضيح فكرته هذه سوى اسبينوزا حين قال كل شيء في الله، والله بكل شيء.

وحدة الوجود عند كل من اسبينوزا وهيجل هو ليس مذهبا صوفيا لاهوتيا ودينيا محلقا خارج الطبيعة. دليل ذلك ان هيجل يعتبر الروح المطلق التي تحكم الطبيعة والكوني هي (عقل) متعال يقع ما فوق كل شيء يدركه الانسان ام لم يدركه. ومطلق الروح او العقل عند هيجل هو الكلي الجامع. بينما اطلق اسبينوزا عليها انها الروح الكلية الجامعة (الجوهر) الازلي اللانهائي التام. الموزع الجواهر بكل شيء لكنه ليس جوهرا يدركه العقل. انه الجوهر الالهي الذي يجعل كل الموجودات في الطبيعة والعالم الخارجي تحمل دلالة وجوده لكن من غير قابلية الانسان ادراكه لا بالصفة ولا بالماهية. صفات المدركات الخارجية هي جواهر صفاتية الهية يمكننا ادراكها كصفات ولا يمكن ادراكنا لها كجواهر اي ماهيات في الموجودات.

اما عبارة جيل ديلوز الروح او الفكر- مصطلح هيجل -  هو الحدس الابتدائي فهي نوع من الصوفية الممتزجة بوحدة كلية ادراكية واحدة. وهي حدس روحاني معلق متعال تراسنتداليا لا تستطيع وضع اقدامها عن ارض الواقع. فتفقد بذلك الوسائل التي تكون بها طريقة صوفية متفردة.

راسل والجوهر العقلي

كتاب راسل (تحليل العقل) اصدره عام 1921 حاول فيه ان يهدم النظرية التقليدية القائلة بوجود جوهر عقلي قائم بذاته. او وعي منفصل مستقل يكمن فيما وراء الادراك الحسي، والتذكر، والادراك.

تعود النظرية التقليدية الفلسفية القائلة بوجود جوهر عقلي قائم بذاته الى ديكارت الذي صاغها بوضوح شديد معتمدا الثوابت التالية:

- العقل جوهر ماهيته التفكير

-  العقل جوهر معرفي ابستمولوجي

-  العقل جوهر خالد يلازم خلود النفس

ما عدا الفقرة الثالثة الفقرتان الاولى والثنية صحيحة علميا. اما بخصوص الوعي المنفصل المستقل الذي يكمن وراء الادراك الحسي والتذكر والادراك العقلي كما ورد في عبارة راسل فهي عبارة لا يدركها المنطق العلمي ولا الفلسفي للاسباب التالية:

-  الوعي هو وسيلة العقل ادراكه الاشياء والموجودات وموضوعات المخيلة. ومن المتعذر وجود وعي مستقل عن ارادة ومدركات العقل.

- الوعي خاصية عقلية وليس خاصية (تذكرية) فالاستذكار لوقائع حدثت بالماضي هي خاصية الذاكرة المرتبطة بالمخيال الشعوري. والوعي في هذه الحالة يكون لا زمني.

-  لا يوجد وعي يكمن خلف تغييب الادراك العقلي. مثل هذا الوعي الذي يلغي وصاية العقل عليه يكون بمثابة هراء لغوي لا دليل على امكانية حضوره.

- الوعي هو موضوع العقل وليس موضوع لما يدركه من اشياء وموجودات وموضوعات خيالية.

يقول راسل اذا اردنا للفلسفة ان تكون مبحثا موضوعيا نهدف منه فهم العالم وليس مجرد تفسيره بعيدا عن التزام حياة الانسان فلن يكون للاخلاق اي دور في نطاق مثل هذا المبحث النظري المجرد. وسعى راسل استبعاد الاخلاق بتعميم من دائرة البحث الفسفي الصرف. الحقيقة لا يمكن ضمان ان تكون الاخلاق كما يرغبها راسل في المجتمعات البشرية لا سابقا ولا حاليا ولا مستقبلا.  الانسان منذ بدء وجوده انثروربولوجيا كان يسعى لتوكيد انسانيته في الاخلاق ولم يفلح.

لا شك ان الفلسفة ليست مهتمة بالتزام حياة الانسان وفهم الحياة من اجل تغييرها وليس هدف تفسيرها فقط كما اراد ماركس. تعبير راسل هذا الذي لم يطلع عليه ماركس بالتاكيد ورفضه قبل قرن من الزمن على مقولة راسل الذي زار الاتحاد السوفييتي والتقى ستالين. في مقولته التي ثبتناها سابقا ان مهمة الفلسفة والعلماء والمفكرين هو فهم الحياة من اجل تغييرها لا من اجل تفسيرها. وحين سئل عن موقفه تجاه الفلسفة النفعية الذرائعية (البراجماتية الامريكية ) المخالفة لوجهة نظره تهرب من الاجابة الفلسفية ليقول البراجماتية فلسفة نذلة وخسيسة. علما ان الذرائعية الامريكية هي اقرب للعلم التجريبي منه لتجريد الفلسفة. في اعتمادها  صواب وصحة الافكار النظرية هو في عبورها فلترة التجريب العلمي والتطبيق الميداني بالحياة.

الحقيقة التي لا مزايدة عليها ان الماركسية كانت بالمحصلة النهائية ايديولوجيا سياسية قابلة للتطبيق من وجهة نظر التاكيد على صراع مصالح الطبقات. مثلها كانت البراجماتية بالمحصلة النهائية هي ايديولوجيا العقيدة الراسمالية التي ايضا لا تكتفي كما هي الماركسية في التنظير النظري المتسق ما يدخل تلك الافكار تجربة الاختبار في التطبيق. ويوجد قول لسامرز حين كان رئيسا لجامعة هارفارد التي تخرج العباقرة اني آخذ بخمسة اسطر قابلة للتطبيق في تحقيق المنفعة ولا آخذ بمجلدات من الكتب السردية التنظيرية.

حين نعت راسل الفلسفة الذرائعية الامريكية بالفلسفة النذلة الخسيسة كان حكمه عليها اخلاقيا بمنظوره الشخصي هو وليس بالمنظور الاخلاقي القيمي مجتمعيا الذي يسود المجتمع. بغض النظر ان النظام الراسمالي قبل اجراءات المراجعة والتصحيح عيه لم يكن لا انسانيا لدرجة الخسة والنذالة التي وصمها راسل بها وحكومته اقصد بريطانيا تعمل بها. من وجهة نظر شخصية بي اجد ان متغيرات الحياة نتيجة العوامل الذاتية والموضوعية هي التي قادت الايديولوجات وليس العكس. الايديولوجيا هي قهر الواقع في تطويعه دوغمائيا قسريا على استيعابها له.

الفلسفة البراجماتية التي اعتمدت الانسان راس مال الحياة. فهي نجحت في دول اوربا الراسمالية على صعيد التقدم العلمي ورفاهية الاستهلاك وتذويبها الفوارق الطبقية بين طبقة الراسماليين وطبقة العمال والمزارعين والكسبة وهو ما ذكره هربرت ماركوزة قبل انهيار الاتحاد السوفييتي القديم الذي خالف التوجه الاشتراكي الشيوعي في تغليبه اولوية مصالح المجتمع على متطلبات احتياجات الفرد هو اثمن راس مال. رب معترض يقول تجربة الصين المحسنة عن ايديولوجيا تجربة الاتحاد السوفييتي المنحل هي خير مثال على ان تغييرات الحياة تسحب وراءها ايديولوجيا السياسة. وهو ما نبّه له هربرت ماركوزة قوله صراع مصالح الطبقات في المجتمعات الراسمالية لم تعد قائمة لتكون حجر الاساس في تقويض النظام الراسمالي حين قام بتحديد ساعات العمل وتامين التعليم والضمان الصحي والتقاعد والمشاركة بالارباح وغيرها ماجعل النظام الراسمالي يتطاول على النظام لشيوعي على انه مجتمع الوفرة وتحقيق الحياة الكريمة للفرد والمجتمع لكن يبقى رغم كل هذه الهالة من المكتسبات للفرد والمجتمع في النظم الراسمالية تبقى تلك المجتمعات تكريس لا انساني في تجذير التفاوت الطبقي وافشاء نزعة الاستهلاك الآني في نسيان تحقيق الوجود الانساني الحقيقي للانسان.

***

علي محمد اليوسف

 

فلاسفة أمثال افلاطون وارسطو وسبينوزا وهيوم وكانط ونيتشة استطلعوا العاطفة كعنصر أساسي في تشكيل الأخلاق والطبيعة الانسانية. يمكن تعريف العاطفة كـ تقدير او مشاعر يحملها الانسان تجاه الآخر او الأشياء. انها موضوع شغل الفلاسفة منذ الاف السنين كونها تخاطب السلوك وجوهر التجربة الانسانية. لفهم الكيفية التي تنظر بها الفلسفة للعاطفة، سنحتاج للنظر الى نظرياتها حول المشاعر بشكل عام ودورها في حياة الانسان. هذا المقال يستطلع ما قاله ستة من أبرز الفلاسفة حول العاطفة، ذلك يتضمن تعريفهم لها ومكانها ضمن أنظمتهم الفلسفية الواسعة.

نظرة افلاطون للعاطفة

ترتبط رؤية افلاطون بإحكام بنظريته في الأشكال، التي ترى ان العالم المادي ما هو الا نسخة من الواقع اللامتغير. طبقا لإفلاطون، المعرفة الحقيقية والجمال يوجدان في ذلك العالم المتعالي، وان عواطفنا ما هي الاّ انعكاس لشغف أرواحنا نحو تلك المُثل التامة. ضمن نموذج افلاطون للروح الثلاثية (العاقلة، والروحانية والشهوانية)، جميع المظاهر الثلاثة لها دور تلعبه في حياتنا العاطفية. الجزء العقلاني يرغب باشياء مثل الحكمة والحقيقة، الجزء الروحاني يغطي المشاعر مثل الغضب والشجاعة. اما الجزء الشهواني يرغب بالمتع المادية.

لذا فان العاطفة يمكن النظر اليها كتفاعل بين هذه الأجزاء الثلاثة المختلفة للروح. شخص ما ربما يعشق التعلّم ذاته (العقل) وفي نفس الوقت يتحفز عاطفيا لشغف الانجاز (الروح)، في حين ان حاجته المادية (الشهوة) تعمل كقوة دافعة وراء السعي لما هو جيد وجميل. العاطفة لا يمكن هزيمتها. عندما نشعر بالعاطفة نحو شخص ما، فليس فقط بسبب ما يبدو عليه من جمال ينسجم مع صفاتنا وانما ايضا كإعجاب بصفاته الأخلاقية والفكرية، والتي تشير لشيء أعمق وهو الرغبة نحو الخير ذاته.

في حوار فايدروس لإفلاطون هو يتحدث عن الكيفية التي ينتقل بها الناس الى ما وراء الرغبة المجردة بالجنس او العلاقة مع شخص ما جميل المنظر، هم قد يبدأون الرغبة بالاتصال بالإله ايضا. العاطفة لها قوة تغيير لكل شيء. انها تستطيع السمو بنا بحيث تصبح أرواحنا أقرب مما في أي وقت مضى لكل من الحقيقة (التي تعني بالنسبة لافلاطون الله) والخير النهائي.

رؤية ارسطو للعاطفة

يعتقد ارسطو ان العواطف والافعال تأتي تحت مظلة المودة. عندما يتحدث عن العاطفة هو يقسمها الى نوعين: pathons (المشاعر) و praxis (الافعال). المشاعر هي حول كل  ما نشعر به سواء كنا سعداء، او في حالة غضب او في اي شيء اخر . الأفعال هي ما نقوم به اثناء تلك المشاعر. في اطار ارسطو الاخلاقي الاوسع، العاطفة تلعب جزءا كبيرا في تكوين كل من الفضيلة والحياة الجيدة eudaimonia. هو يقترح باننا لو نجحنا بادارة مشاعرنا بشكل صحيح، فهي ستكون مفيدة في ارشادنا للفعل الصحيح أخلاقيا.

مثال على ذلك الشعور بالغضب عند مواجهة اللاعدالة. ارسطو يقول ان الغضب المستعمل جيدا قد يحفزنا للاستجابة بإنصاف. فكرة "الإعتدال" او الوسط الذهبي هامة في أخلاق ارسطو حتى في موضوع المشاعر. طبقا لارسطو، هناك نقطة وسط بين امتلاك الكثير من الفضيلة وعدم امتلاك أي شيء منها. وهذا ينطبق على العاطفة ايضا. فمثلا، الشجاعة تعني ايجاد معنى بين التهور والجبن. ونفس الشيء بالنسبة للكرم، عندما يكون الانسان رقيقا جدا ويعطي كل ما يمتلكه، سينتهي به الامر بالفقر وبعدم الفائدة للآخرين. وبالعكس عندما لا يعطي شيئا ابدا فهو لايساهم بأي شيء ذو قيمة للمجتمع.

الكرم يكمن في الشعور بالمقدار الصحيح من العاطفة تجاه حاجات الآخرين والتصرف في ضوء ذلك. باختصار، طبقا لارسطو المشاعر المتوازنة اداة ضرورية من خلالها نطور صفات جيدة. كذلك، هو يعتقد ان غرس هذه العادات تجعل حياتنا أكثر متعة .

تصوّر سبينوزا للعاطفة

ادراك سبينوزا للعاطفة يُعد اساسيا لأطاره الميتافيزيقي الذي ينظر لكل شيء كجزء من جوهر واحد، عادة يساوي الطبيعة او الله. ضمن هذا المنظور الشمولي، تشير العاطفة الى كل من حالات الوجود والتحولات في ما بينها التي تحدث بالجسم والذهن اثناء تفاعلها مع القوى الخارجية. سبينوزا يميز بين العواطف النشطة والسلبية. الاولى تنبثق من طبيعتنا ومن العقلانية، بما يقودنا للشعور بالطاقة والرضا.

المشاعر السلبية، بالمقابل، هي تلك التي نمارسها لأنها مفروضة علينا من الخارج وهي عادة تسبب لنا المعاناة او التشويش. الشعور بالدنو بعد نكسة غير متوقعة ستُعد عاطفة سلبية طالما ان حالتنا العاطفية تُملى بعوامل خارجة عن ذاتها. فهم وتغيير هذه المشاعر هو هام لنصبح احرارا وعقلانيين. يعتقد سبينوزا اننا عبر تعلّم الاسباب المؤدية لمشاعرنا والكيفية التي يعمل بها العالم، نحن نستطيع الانتقال من امتلاك مشاعر سلبية الى امتلاك مشاعر نشطة. فمثلا، عندما نعرف ان الغضب يأتي من الشعور بالأذى، نحن يمكننا التفكير حول الموقف بشكل مختلف ولا نخضع لفورة الغضب  وربما نستجيب بعقلانية اكثر.

هذا التغيير يجعلنا أكثر استقلالية ونفكر بشكل افضل وهو ما يقود لما يسميه سبينوزا (الحرية الحقيقية). ومن خلال التمكن من ادارة عواطفنا، فاننا نتوافق مع الطريقة التي تفعل بها الطبيعة الاشياء. طريقتنا بالوجود تصبح اكثر حرية واقل تنافرا – تشبه تناغم ذات المرء مع كل شيء آخر.

اتجاه هيوم التجريبي في العاطفة

رؤية ديفد هيوم الى العاطفة، كتجريبي، هي انها تكمن في جوهر طبيعة الانسان والمعرفة. العواطف ليست افكارا ثانوية وانما هي تجارب أساسية تؤثر في الكيفية التي نرى بها ونتفاعل مع العالم، طبقا لهيوم، الحب، الكراهية، الفرح، الحزن هي أمثلة على المشاعر التي تقود تصرفاتنا. هيوم ايضا يفحص الطريقة التي تتصل بها العاطفة بالعقل. في نفس الوقت، العقل يغمرنا بالمعلومات حول العالم ويساعدنا على فهم نماذج السبب والنتيجة ، بما يمكننا من التنبؤ على سبيل المثال بان النار تحرق .

"العقل كان ويجب ان يكون فقط، عبدا للعواطف". هذا الادّعاء الشهير من جانب هيوم يعني ان العواطف تحركنا بدلا من ان تكون الافكار العقلانية وحدها المحفز لسلوكنا. نعم العقل يدخل الى اللعبة بمساعدتنا لفهم أحسن طريقة لإنجاز شيء ما نرغب به عاطفيا. هو لا يوفر بذاته تحفيزا بالطريقة التي تؤجج بها المشاعر السلوك. في فلسفة هيوم، العاطفة تشكل حجر الاساس لكل من الأحكام الاخلاقية والوحدة الاجتماعية. وبدلا من ان تتجذر العاطفة في العقل، هو يجادل اننا نعمل فروقات أخلاقية مرتكزة على كيفية شعورنا نتيجة للسلوكيات والافعال.

أحد هذه المشاعر هي التعاطف الذي يمكّننا من الارتباط بتجارب الآخرين وبناء اتصالات معهم. فمثلا، عندما نرى شخصا ما في محنة ونشعر بالتعاطف معه، نرى من الاخلاق مساعدته. هذا الفهم العاطفي المشترك يساعد في شد الجماعات الى بعضها، في النهاية الناس يتجهون بطبيعتهم نحو الاشياء التي تعزز رفاهية كل الاشخاص. يبيّن هيوم مدى عمق عواطفنا في الاخلاق والمجتمع عبر وضع العاطفة في صدارة ومركز طبيعة الانسان. هي ليست فقط عوامل هامة تستحق الدراسة، بل انها تضع اساسا لكل من الاطر الاخلاقية والتفاعلات الاجتماعية ذاتها.

تفسير كانط العقلاني للعاطفة

طريقة كانط في فهم العاطفة تتأثر بافكاره العقلانية. في فلسفة كانط الاخلاقية، العاطفة لها دور هام تلعبه مع انه ثانوي بالنسبة للعقل. يطرح كانط فرقا جوهريا بين الميول (الرغبات الطبيعية) والواجبات الاخلاقية (الافعال التي نقوم بها لاننا نرى انها صحيحة). طبقا لكانط، التصرف وفق الميول يكون في تضاد مع ما هو صحيح أخلاقيا لأن الميول هي مصلحة ذاتية واعتمادية (قد لا نحصل دائما على ما نريد). مساعدة صديق لأنه يجعلنا نشعر بالخير (ميول) ليس لها نفس القيمة الاخلاقية كمساعدته بسبب وجود شيء في داخلنا يقول " واجبك هو مساعدة اولئك الذين في محنة"، حتى عندما لا تحصل على أي فائدة من عمل كهذا.

الواجبات الاخلاقية تبرز من الاخلاق المطلقة التي هي قانون أخلاقي شامل ينطبق على كل شخص. في أخلاق كانط، الاحترام نوع خاص من العاطفة الاخلاقية التي تفيد كجسر بين رغباتنا والتزاماتنا. خلافا للمشاعر الاخرى، انه لاينشأ من الميول الشخصية وانما من الاعتراف بالقانون الاخلاقي في داخلنا، وانه يحفزنا للتصرف بناءً على التقديس لتلك المبادئ. رؤية شخص ما يتصرف بصدق ربما يولد احتراما داخلنا، وايضا يدفعنا لإنجاز واجباتنا. بهذه الطريقة، يدمج كانط العاطفة في نظامه الاخلاقي بينما يحافظ على سيادة العقلانية. كشعور عاطفي، الاحترام يؤكد ان ما نقوم به يتفق مع الواجب. ولهذا فهو يعزز الدور الذي تلعبه المبادئ العقلانية في ارشاد كيفية التصرف اخلاقيا.

نقد نيتشة للعاطفة

نيتشه له رؤية مختلفة للعاطفة عند مقارنتها بالرؤى التقليدية للاخلاق، خاصة تلك المرتكزة على المبادئ المسيحية. نيتشة استجوب المشاعر الاخلاقية الشائعة مثل الشفقة والعطف  لأنه اعتبرها تعبيرات عن الضعف الذي ينكر الحياة. هذه المشاعر كما يرى تحافظ على الاخلاق التي تحبط الازدهار والمتانة للكائن البشري. فمثلا، بدلا من ان تساعد الشفقة في تمكين الناس من التغلب على الصعوبات والنمو باستقلالية، فهي تعزز الاعتمادية.

في فلسفة نيتشة، يجد المرء فهما للعاطفة من منظور ارادة القوة التي وُصفت كقوة دافعة اساسية خلف كل افعال الانسان. انها ليست فقط نوع قديم من الدوافع وانما تنطوي على التأكيد وانتصار الذات. عواطف مثل الفخر والطموح وبعض انواع الحب يُعتقد انها تجليات للرغبة بالسلطة. هي تدفع الناس للبحث عن العظمة وادّعاء ذواتهم وايجاد هدف.

لو نظرنا الى عاطفة الفيلسوف في الحكمة، نجد انها تدفعه للبحث عن المعرفة وتحدّي الوضع القائم وإثبات فكره في كل مرة. نفس هذه الفكرة تنطبق على كيفية خلق القيم وهو مفهوم يراه نيتشة ذاتي ويحتاج الى إعادة تعريف مستمرة. هو يرى لو اننا لدينا عواطف قوية تؤكد الحياة، نستطيع الذهاب الى ما وراء الافكار التقليدية للصحيح والخطأ، ونصنع أخلاقنا الخاصة. نيتشه يقترح التفكير حول العواطف بطريقة جديدة. انها ليست شيئا ما نشعر به بقوة وانما ايضا مصدر لطاقة فعالة. هي تدعم الأصالة والثقة الذاتية والابتكارية وتساعدنا في إعادة التفكير بماهية القيم كلها.

اذاً ما هي العاطفة في الفلسفة؟

العاطفة هي فكرة معقدة نظر اليها الفلاسفة بطرق مختلفة. افلاطون يعتقد ان العاطفة تدفعنا نحو الاشياء الجيدة. ارسطو يرى ان المشاعر والتوازن بينها يخلق سلوكا جيدا. سبينوزا يفصل بين العواطف المفيدة وتلك المؤذية. هيوم يقول ان العاطفة هي الاساس في الحكم على الصحيح من الخطأ وفي الشعور بالارتباطات الاجتماعية مع الآخرين. كانط يضع الواجب العقلاني فوق اتّباع المشاعر لكنه لايزال يعتقد ان هناك شيء يسمى مشاعر أخلاقية او احترام نشعر به من الناحية الاخلاقية. نيتشه له وجهة نظر مختلفة تماما. هو ينتقد المعيار الأخلاقي للعواطف لكنه ايضا لديه أشياء ايجابية في تأكيده على وجود انواع معينة من المشاعر القوية لأنها يمكنها ان تقود النمو الشخصي وتخلق قيمة. بالنهاية، عندما يتحدث الفلاسفة حول العاطفة، هم يقصدون أكثر من مجرد شخص محبوب. هم يهتمون بالكيفية التي تشكل بها عواطفنا فهمنا واخلاقنا والوجود ذاته.

***

حاتم حميد محسن

..........................

المصدر:

The collector,Jan 10,2025

 

"كل المعرفة هي إجابة لسؤال".. غاستون باشلار

تهتم الفلسفة بمختلف التصورات التي يشكلها الانسان حول الكون ومن بين هذه التصورات نجد تصوراته حول الطبيعة والتي تم الاتفاق على تسميتها بالمعرفة العلمية ولكن هذه المعرفة العلمية اتخذت صبغة فلسفية حينما تراوحت بين النظري والتقني وبين الفكري والمادي وبين المثالي والواقعي . لقد انقسمت المعرفة العلمية من جهة المقاربة المنهجية للظواهر الى اتجاه عقلاني واتجاه تجريبي. فما الفرق بينهما؟ وماهي خصائص كل اتجاه؟ والى أي مدى نجحت الفلسفة في انتاج مغرفة علمية حقيقة بالعالم الخارجي؟

1- العلم منهج عقلاني

تعريف العلم

يشير العلم إلى ما يوحد العلوم في مطلب واحد. إلا أنها تحمل معنيين: مشترك في أحدهما، وفلسفي في الآخر. بالمعنى العام، العلم هو المعرفة (وبالمعنى الواسع، هناك علم صيد الأسماك بالذباب أو البستنة أو المربيات) العلم بمعناه الفلسفي هو حكم يتعلق بالعالم (الفيزياء) أو بمجموعة من الافتراضات المنطقية (الرياضيات) ويضع قوانين هذا المجال بطريقة تعتمد على التحقق و/أو التماسك. ولأنه ينشئ المعرفة، فلا ينبغي الخلط بين العلم والمعرفة، ولا مع المعرفة. المعرفة خاصة، والمعرفة عامة وذات نطاق عالمي؛ المعرفة لا توفر أسباب فعاليتها، المعرفة يتم تأسيسها من خلال البحث المتعمق في الأسباب؛ المعرفة ليس لها بالضرورة تطبيقات عملية، إذ يتم تنسيق المعرفة مع "التمثيل" المحتمل. وهكذا عرف الإغريق والساكسونيون والفايكنج أن المد والجزر موجود، وبالعادة، كان بإمكانهم توقعه جزئيًا. ولكن لم نتمكن من معرفة سبب المد والجزر إلا بعد ظهور نيوتن وظهور الرياضيات، وتمكنا من التنبؤ بها بدقة كافية لإنشاء تقويم. من الصعب أن نجد قاسماً مشتركاً لجميع العلوم، فموضوعاتها تختلف كثيراً. يمكن أن يتعلق الأمر بالكائنات الحية (علم الأحياء)، أو المجتمع (علم الاجتماع)، أو بنية الكون (الفيزياء الفلكية)، أو العلامات اللغوية (علم اللغة)، أو القياس الكمي للتكرارات وحدوثها (الإحصائيات والاحتمالات). إن الكثير من التنوع في موضوعات الدراسة يؤدي إلى مناهج منهجية متنوعة، ومن الممكن العثور على اتساق في المنهج العقلاني مما يجعل من الممكن تعريف العلم بتنوعه.

استنباط وتفسير الملاحظة

يتكون الحث من ملاحظة الحقائق لاستخراج قانون متكرر للسلوك. لكن الملاحظة ليست رؤية، فهي تتطلب انتشال النفس من خصوصيات الحساس لتأخذ بعين الاعتبار العناصر المشتركة والمتكررة فقط.

علم الاجتماع هو علم مراقبة السلوكيات المتكررة للرجال في المجتمع. كل واحد من هؤلاء الرجال يُنكر تفرده لصالح أخذ الأفواج في الاعتبار. إن علم الاجتماع، كما يقول دوركهايم، هو علم الملاحظة والفرضيات. لكن لا يمكن التحقق من الفرضيات من خلال بروتوكول تجريبي صارم، لأن الحقائق البشرية تعتمد على حرية الفاعلين، وهي غير قابلة للتكرار، وبالتالي غير قابلة للتجربة. ولذلك فهو ليس بروتوكولًا استنتاجيًا افتراضيًا، ولكنه عملية لتفسير تكرار السلوكيات المقاسة إحصائيًا. تعتمد العديد من العلوم الإنسانية على الأساليب العلمية في البحث التي تؤدي إلى تفسير النتائج، والتي تكون بطبيعة الحال موضع نقاش.

المنطق: الاستدلال الاستنتاجي

يستخلص المنطق الاستنتاجي استنتاجات من مبادئ أو مقدمات، ثم استنتاجات مرتبطة منطقيا.

لذلك، لا يمكن نشر الاستنباط، بالمعنى الدقيق للكلمة، إلا في العلوم الشكلية، والتي تسمى أيضًا العلوم البحتة، أو علوم الرمز، أو الإيديتيك (من الكلمة اليونانية eidos، الفكرة). وهكذا تستنتج الهندسة استنتاجات منطقية من المبادئ والمسلمات والبديهيات، لكنها لا تدعي وصف الواقع. فالعلم هنا يسعى فقط إلى إثبات التماسك الداخلي لمقترحاته. وفي سياق هذه العلوم، لا مكان للحدس، لأنه من كائن محدد، وغير مكتشف في الطبيعة، يتم بناء الاستدلال ونشره. وبالتالي، لا يمكننا التحقق من قيمة القضية إلا باستخدام البرهان، في النظام المبني بالعقل والذي نسميه "البديهيات". على سبيل المثال، بيان نظرية فيثاغورس يتمثل في الرجوع إلى جميع المراحل المنطقية التي سادت في إنشائها والقدرة على تفسير كل منها، من خلال إنشاء الرابط المنطقي الذي يربطها بالمرحلة السابقة لها، وصولا إلى البديهيات والمسلمات الهندسية التحقق: الاستدلال الافتراضي والاستنباطي

تعتمد العلوم التجريبية، والتي تسمى أيضًا العلوم الطبيعية، على مقاربة للواقع من خلال الاستدلال الافتراضي والاستنتاجي. يعتمد هذا النهج على التحقق التجريبي من فرضية تمت صياغتها حول الأسباب التي من شأنها أن تجعل من الممكن تفسير تسلسل الظواهر الطبيعية المرصودة. وبالتالي فإن الأمر يتعلق بالاعتماد على ملاحظة الواقع - ومن هنا تأتي أهمية الوسائل التقنية المتاحة - للتجريد منه، من خلال التحقق من صحة الفرضيات من خلال بروتوكول تجريبي وقياسها من خلال حساب البيانات المجمعة. العلوم التجريبية تشرع على الطبيعة، فهي تصدر "قوانين الطبيعة" التي تعتبر "حقيقية" ما لم يحدث ملاحظة مخالفة.

2- معايير العلمية

الأدلة والكونية

من الواضح انه ربما تكون "البدء" هي النقطة الأكثر حساسية في العلم، عليك أن تجد نقطة ثابتة "لرفع العالم" كما يقول أرخميدس مجازيًا عن الرافعة. إن دور البديهية هو أن تكون الحجر الأساس لهذا النهج. ولكن كما يشير إقليدس في كتابه العناصر، إذا كانت البديهية واضحة، فيجب قبول المسلمة ولا تفرض نفسها بأي حال من الأحوال على فهمنا. لذلك هناك شك أولي حول أسس العلم. في الهندسة، سيتم التشكيك في الأساسيات، مما سيؤدي إلى ظهور هندسة غير إقليدية، تختلف عن تلك التي يتم تدريسها في المدرسة، ولكنها متماسكة ومفيدة أحيانًا لفهم واقع معقد. ولذلك فمن الصعب الحفاظ على معيار الدليل، حتى في العلوم الاستدلالية، ما لم نعتمد على أفكار فطرية “واضحة ومتميزة”، كما يقترح ديكارت.

قيمة كونية-عالمية:

ما هي قيمة العلم hic et nunc (هنا والآن)؟ على العكس من ذلك، فإن المعيار الأكثر ديمومة للعلم هو تجريد نفسه من شروط معينة لإنشاء قانون صالح لجميع الأوقات، وفي جميع الأماكن، ولكل الناس، وهذا يعني قانون عالمي. إن القانون العلمي يحدد بطبيعة الحال سياق تطبيقه، ومجال تعريفه، ولكنه يعلن أيضًا عالميته ضمن هذا الإطار. ويبدو هذا المعيار بعيد المنال ليس فقط بالنسبة للعلوم الإنسانية، بل أيضا بالنسبة للعلوم التجريبية. وهكذا، تم دمج الجاذبية العالمية لنيوتن باعتبارها خصوصية محلية في نظرية النسبية العامة لأينشتاين. لذلك من المناسب الحديث عن هدف عالمي، وهو تعبير أكثر تواضعًا، ولكنه يجعل من الممكن شرح ديناميكيات تقدم العلم دون تقديس استنتاجاته أيديولوجيًا.

البساطة أو مبدأ الاقتصاد

إن ما يسمى غالبًا بشفرة أوكام يشير إلى مبدأ اقتصادي صاغه هذا المؤلف. إنها مسألة تفضيل دائمًا للتفسير الذي يحشد عددًا أقل من العناصر أو البديهيات أو المبادئ لنظرية أخرى، حتى لو كانت الأخيرة فعالة في الوصف، ولكنها أقل اقتصادا. وبهذا المعنى أيضًا نستخدم فكرة البساطة في العلم: فهي لا تشير أبدًا إلى سهولة إنشاء قانون أو فهمه، ولكنها تشير دائمًا إلى المبدأ الذي بموجبه يمكن للاقتصاد في الصياغة أن يجعل من الممكن نشر قوة كبيرة. الوضوح. وبالتالي، فإن E = MC2 هي صيغة بسيطة للغاية، حيث أن ثلاثة متغيرات (الكتلة والسرعة والمفهوم الرياضي للمربع) تجعل من الممكن تعريف الطاقة وقياس توافق الكتلة/الطاقة في الكون. ومن ناحية أخرى، لا أحد يدعي أن الصيغة سهلة التأسيس أو الفهم.

الطريقة والبروتوكول

العقل العلمي ليس استطراديًا ومتناقضًا، فهو يسعى إلى إجراء أبحاثه بدقة للوصول إلى اليقين. هذا المسعى المزدوج يقود العلوم البحتة إلى إنشاء طريقة للاستدلال، والعلوم الطبيعية إلى اتباع بروتوكول تجريبي. تم الكشف عن الطريقة بشكل ملحوظ من قبل أرسطو في أطروحته عن المنطق، الأورغانون، وكذلك من قبل ديكارت في الخطاب حول الطريقة. يعتمد البروتوكول التجريبي على مجموعة من الخطوات التي وصفها عالم وظائف الأعضاء كلود برنارد في إطار الاستدلال الافتراضي الاستنتاجي:

تجربة العالم، ومراقبة الطبيعة؛

افترض قانونًا من شأنه أن يفسر الملاحظة؛

قم بتجربة الفرضية من خلال "إجبار" الواقع على الاستجابة؛

قم بوضع فرضية أخرى إذا تم بطلان الأولى؛

قم بإجراء تجربة مضادة إذا تم التحقق من صحة الفرضية.

وتجدر الإشارة إلى أن التجربة موجودة في بداية البروتوكول، ثم يتم استبدالها بالتجريب، وهو أمر واقع خاضع للرقابة والإشراف. وأخيرا، لم يعد القانون ينتمي إلى الواقع، بل إلى العقلانية الإنسانية المطبقة على الواقع. لذلك، لا يتعلق الأمر بالرضا عن التجريبية، أي بما تسمح لنا التجربة باستنتاجه. وهكذا يعلن كلود برنارد في مقدمته لدراسة الطب التجريبي: "إن التجريبية زنزانة ضيقة وحقيرة لا يمكن للعقل المسجون أن يهرب منها إلا على أجنحة الفرضية". ويستخدم البروتوكول التجريبي في العديد من المجالات، وخاصة في صناعة الأدوية. عندما نختبر عقارًا ما، فإننا نراهن – فرضية – على أن الجزيء سيساعد الجسم على الدفاع عن نفسه، ثم نعطيه لمجموعة من المرضى – عينة تمثيلية – ونلاحظ النتائج – بطريقة ما، "إجبار" الواقع على الرد. إذا كانت النتائج إيجابية، يتم إعطاء مجموعة من المرضى علاجًا وهميًا (علاج بدون أي مكون نشط) ويتم طرح فعالية الدواء الوهمي من فعالية الدواء - التجارب المضادة. وهكذا، بافتراض أن الدواء فعال لـ 60% من المرضى وأن العلاج الوهمي فعال لـ 20% من المرضى الذين يعانون من نفس الحالة، فإننا نستنتج أن الدواء غير فعال إلى حد ما، حيث أنه فعال بنسبة 40% (60 - 20) .

قابلية التزوير او التفنيد

الخطوة الأكثر أهمية في البروتوكول التجريبي هي تلك التي غالباً ما يتم إهمالها من قبل عامة الناس: التجريب المضاد. وبدونها، من المستحيل معرفة ما إذا كانت الفرضية لم يتم دحضها من خلال القياسات التي تم إجراؤها، لذلك لا يعتبر أي استنتاج، حتى لو جاء من التجربة، قانونًا. ومن خلال اتباع هذه الفكرة نفسها، وضع كارل بوبر نظرية لمفهوم قابلية الدحض. لا يكون القانون علميًا إلا إذا كان قادرًا على تقديم تجربة قادرة على إبطاله.

3-التفكير في العلم: نظرية المعرفة

المعرفة أم النموذج؟

العلم يشرع وتقدمه يسمح لنا بزيادة معرفتنا. تتعارض هذه الأطروحة المطمئنة والساذجة مع الواقع التاريخي للعلم وتعقيد الأشياء. يجب علينا بعد ذلك أن نفكر في العلم نفسه، وليس فقط في موضوعاته البحثية. هذا هو دور نظرية المعرفة: التحقيق والتساؤل حول طرق تطوير المعرفة. وأشار هايدجر إلى أن العلم لا يعود إلى بروتوكولاته الخاصة. وأعلن بشكل جدلي: "العلم لا يفكر". بمعنى آخر، إنه يفكر، ويضع البروتوكولات، ويتبع الأساليب، لكنه لا يفكر بنفسه. يمكننا أن نفهم بسهولة الحاجة إلى نظرية المعرفة في مجال علوم الحياة. على عكس الفيزياء أو الرياضيات، التي يمكن تعريف كائناتها بشكل واضح، يدرس علم الأحياء مادة متحركة، تتغير باستمرار وتتفاعل مع بيئتها. ولذلك يبدو أنها تندرج تحت استثناء معين. وهذا هو السبب الذي يجعل الحياة تبدو وكأنها تستبعد أي قاعدة عامة، لأنها تتميز في جوهرها بأصالة غير قابلة للاختزال. وهكذا يؤكد كانغيليم أن “الذكاء لا يمكن تطبيقه على الحياة إلا من خلال الاعتراف بأصالة الحياة. ففكر الحي يجب أن يحمل فكرة الحي من الحي”. بمثال القنفذ الذي يعبر الطرق، يبين كانغيلهيم أن الكائن الحي الذي هو القنفذ لا يرى الطريق الذي بناه الناس على أنه مبني من قبل الناس ومن أجلهم، لأنه غريب عنه، ولا ينتمي إليه عالم. وبدون التفكير في الطريقة التي يفكر بها العلم في موضوعه، وهو الحي في هذه الحالة، يظل هذا الأخير بعيد المنال عن العلم مثل الطريق للقنفذ. لتأسيس علم للحياة، قد يكون من الضروري، كما هو الحال في أي علم، أن نفكر من حيث المنهج: ولكن عندما يتعلق الأمر بالحياة، فإن المنهج هو على وجه التحديد ما يطرح المشكلة. يقول كانغيليم بنكتة: "نحن نشك في أنه يكفي أن نكون ملائكة لدراسة الرياضيات، ولكن لدراسة علم الأحياء، حتى بمساعدة الذكاء، نحتاج أحيانًا إلى الشعور بالوحوش". بمعنى آخر، يجب علينا أولاً أن نرفض تطبيق مفاهيم ثابتة على الكائنات الحية بسبب طابعها الفريد. سنفضل بعد ذلك مفهوم "القانون"، الثابت والشامل والمؤكد، ومفهوم "النموذج" الذي يتطور ويترك مجالا لعدم التحديد. وهكذا، تم استبدال النظرية الثابتة، التي ترى أن جميع الأنواع خلقها الله بطريقة محددة وثابتة، بنموذج لامارك التطوري، الذي حل محله نموذج داروين، الذي تم دمجه في النموذج التطوري المعاصر.

التقدم أم الثورة؟

إن العلموية في القرن التاسع عشر، والتي تفترض أن العلوم التجريبية هي المعرفة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها وأنها قادرة على تفسير الواقع بشكل كامل، كانت مهداة بأمل بدائي: التقدم المستمر والتراكمي للمعرفة. هذا المفهوم للعلم يهمل حقيقة تطوره. نحن مدينون للفيلسوف وعالم المعرفة توماس كون بتفنيد هذه الخرافة على نطاق واسع. ويوضح، استنادا إلى أمثلة مأخوذة من تاريخ العلم، أنه لا يوجد تقدم في العلم، بل ثورات. ولذلك فإن العلم يتطور من خلال "قفزات"، وكل واحدة منها تنطوي على تغيير في النظرة إلى العالم. يبدأ المجتمع العلمي بتأسيس توحيد أولي للمعرفة في نموذج أولي يحدد "العلم الطبيعي"، أي مقبول بشكل عام من قبل أكبر عدد من الناس. ولكن يتم ملاحظة حقائق متضاربة، وحالات شاذة، مما يدعو إلى التشكيك في النموذج الأولي، على الرغم من الحفاظ عليه طالما أنه فعال. يتم استكشاف هذه الحالات الشاذة تحت ضغط القضايا التي غالبًا ما تكون خارجة عن العلم (الفلسفة والدين والاقتصاد). يؤدي هذا إلى التشكيك في النموذج القديم وظهور نموذج جديد يولد في حد ذاته مجالًا تجريبيًا جديدًا و/أو يعتمد على الأدوات المتوفرة مؤخرًا (التلسكوب الفلكي والمجهر). إن المواجهة بين النموذجين (القديم والجديد) تخلق أزمة العلم، وعندما يحل النموذج الاستثنائي (أي الجديد) محل نموذج العلم العادي (أي القديم)، فإننا نشهد ثورة علمية: تم قبول النموذج الاستثنائي أخيرًا كالمعتاد.

مفهوم الحقيقة العلمية

هناك تعريفان رئيسيان للحقيقة في العلم. تثبت العلوم البحتة أن العبارة صحيحة إذا كانت قابلة للتقرير ومتوافقة مع تماسك النظام، فهي بالتالي حقيقة متماسكة. تعتبر العلوم التجريبية أن قانون الطبيعة يكون صحيحًا عندما يتم إثباته عن طريق التجربة ولا يتعارض مع ملاحظات الواقع، فهو بالتالي حقيقة مطابقة.

لكن فكرة الحقيقة هذه ثابتة؛ لكن ما يوضحه توماس كون هو أن أي نموذج علمي سوف يحدث "ثورة" معه، وستحدث معه الحقائق التي ولّدها. لذا، بدلًا من الحديث عن الحقيقة في العلم، ربما يكون من الأفضل تبني المفهوم الذي يستخدمه بوبر متبعًا لايبنتز: التشابه. النظرية المشابهة هي نظرية قابلة للدحض، ويتم اختبارها، وتقاوم التناقض بشكل فعال. وتزداد درجة قابليتها للتحقق مع كل محاولة فاشلة للاستجواب. وميزة هذه الحقيقة هي اقتراح تعريف للحقيقة العلمية يأخذ في الاعتبار تطورها التاريخي، دون أن يؤدي إلى الشك أو عصر ما بعد الحقيقة العقيم.

تدريب العقل العلمي

بدلًا من التعامل مع العلم باعتباره مجالًا للمعرفة والأساليب والقوانين المشكلة، يمكننا أن نحاول التعامل مع تطور معرفتنا من خلال دراسة الأداء النفسي للعلماء، وخاصة الطريقة التي يتم بها تدريبهم.

يحدد باشلار، في كتابه تكوين العقل العلمي، الهدف الأساسي للعلم وتدريب عقل العالم: مكافحة الرأي. الرأي لا يفكر، ويفكر بشكل سيء، وإذا وصل إلى نتيجة يمكن التحقق منها، فهو بلا بناء عقلاني، وبلا قيمة تفسيرية. ومع ذلك، غالبًا ما يخضع العلماء لآراء تشكل، في سياق أبحاثهم، عائقًا معرفيًا كبيرًا. إنه أولاً وقبل كل شيء التأكيد على أنه لا يمكن للمرء أن يعرف إلا بناءً على المعرفة السابقة. إذن، المعرفة هي إجابة على سؤال: بدون هذه المرحلة من التساؤل، يستسلم الفكر لصالح الدوغمائية. وبالتالي فإن الأمر لا يتعلق بتفضيل الغريزة المحافظة، بل يتعلق بضمان سيادة الغريزة التكوينية للعلماء الشباب. يتحدث باشلار عن "الغريزة" لأنه يبدو له أن الفكرة العلمية تكون دائمًا، في البداية، محملة بالمؤثرات التي تعيق "نقطة التجريد الدقيقة".

4- مسؤولية العلم

العلم بلا وعي

إذا كان رابليه قد ذكر بالفعل أن "العلم بدون ضمير ليس سوى تدمير للروح"، فمنذ القرن العشرين بشكل خاص ظهرت مسألة الحد الأخلاقي للعلم. لقد كان من الضروري في المقام الأول وضع حد أخلاقي في إطار علم الأحياء، ولكن بما أن معرفة الذرة جعلت هيروشيما وتشرنوبيل وفوكوشيما ممكنة، فإن مسألة المسؤولية الأخلاقية تتعلق بجميع العلوم الطبيعية. كما تهتم العلوم البحتة، من خلال خوارزميات معالجة البيانات، بالتقاطع بين البيانات الضخمة، بالإضافة إلى زيادة المراقبة التي تسمح بها. العلم بمعناه الفلسفي هو حكم يتعلق بالعالم (الفيزياء) أو بمجموعة من الافتراضات المنطقية (الرياضيات) ويضع قوانين هذا المجال بطريقة تعتمد على التحقق و/أو التماسك. نحن نرى أن العلم ليس هو الذي يخضع للحكم الأخلاقي بقدر ما هو العلم التكنولوجي، الذي يتم تعريفه على أنه الوحدة بين المعرفة وتطوير التقنيات التي تعدل الطبيعة والمجتمع، دون التشكيك بشكل منهجي في موافقة المواطن .

مبدأ المسؤولية

لقد يبدو من الملح بعد ذلك أن نكون قادرين على اتباع مبدأ توجيهي يضع الحدود الأخلاقية للتنمية العلمية والتقنية. يسميه هانز جوناس "مبدأ المسؤولية". إنها تتكون أولاً من التمييز بين مجال الممكن ومجال المتحقق: كل ما يمكن خلقه ليس بالضرورة أن يكون موجودًا. وهذا يشكل تغييراً حقيقياً في علاقتنا بالعمل الإنساني. في الواقع، بدلًا من الإيمان الطائش بالتقدم، فإن الأمر يتعلق بانتقاد شروط إمكانية تحقيق هذا التقدم حتى يتوقف البشر عن كونهم "أسوأ عدو لأنفسهم"، وفقًا لكلمات جوناس. ترتبط صياغة مبدأ المسؤولية بالحتمية المطلقة عند كانط وتتلقى عدة تكرارات: "تصرف بحيث تكون آثار أفعالك متوافقة مع ديمومة حياة إنسانية أصيلة على الأرض" أو "متضمنًا في اختيارك تقديم التكامل المستقبلي". الإنسان كموضوع ثانوي لإرادتك. في نهاية المطاف، يتعلق الأمر دائمًا بالحكم على قيمة العلوم التكنولوجية بأسوأ ما يمكن أن تنتجه في المستقبل. وكثيراً ما نستخدم مبدأ المسؤولية كأساس لمبدأ الاحتياط، وهو القول بأن أسوأ ما يمكن، وفي حالة الشك، فالأفضل الامتناع. لكن الأمر يتعلق بجعل حقوق الأجيال القادمة مقدسة. ولذلك يجب أن نعترف بأن حد العلم، في تطبيقاته العملية، هو فكرة ميتافيزيقية، فكرة عن المقدس، والتي تتميز مع ذلك عن الدينية.

التدين العلمي

والتدين ليس غائبا تماما عن العلم، كما قد يوحي التمييز بين الاعتقاد والمعرفة. لكن التدين يمكن أن يأخذ معاني أخرى. ولذلك يرى أينشتاين أنه يجب على العالم أن يؤمن حتى يتمكن من تأسيس المعرفة. ولذلك فهو يتحمل مسؤولية هذا الاعتقاد البدائي الضروري لمنهجه. إن التدين المعني ليس مرتبطًا باحترام الطقوس أو ممارستها، ولا بالمراقبة الصارمة لمبادئ الحياة المتوافقة مع الوحي، ولا بالانتماء إلى الكنيسة. إنه يتألف من الإيمان بالنظام الكوني، وهو المبدأ المنظم للعالم. العالم مشبع بـ "الإعجاب الشديد بتناغم قوانين الطبيعة". ومع ذلك، فإن فكرة النظام أو الانسجام أو الكون في حد ذاتها ليست غير مبالية بتاريخ القيم الغربية. وهكذا يؤمن الباحث بالحقيقة كما سعى نيتشه إلى كشفها.

خاتمة

لقد سعت هذه المقاربة الفلسفية العلمية إلى تطوير الحساسية التاريخية والنظرة النقدية نحو تطوير العلوم الرياضية والفيزيائية. كما أنها خاضت في بعض القضايا الرئيسية في فلسفة المعرفة. كما تناولت مسألة أسس المعرفة في تاريخ العلم. نحن نستكشف العلاقة بين النهج العقلاني والنهج التجريبي للمعرفة العلمية للعالم المادي، ولا سيما من خلال دراسة تاريخ النظم العالمية في علم الفلك. واهتمت بدراسة المشكلات الفلسفية والاجتماعية التي يطرحها المنهج التجريبي والطرق التي يمكن من خلالها حل هذه المشكلات. فكيف تساعد هذه الابستيمولوجيا التاريخية على تنمية التفكير النقدي في الممارسة العلمية الفلسفية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

يُعتبر كتاب حفريات المعرفة بمثابة النموذج المصغر الذي تناول شرح وتفصيل منهج فوكو الحفري الأركيولوجي، والذي سبق أن تطرق له في كتاب الكلمات والاشياء (الحفر الاركيولوجي) حيث أعاد فيه قراءة وإكتشاف تاريخ المعرفة الغربية عبر الحقب الثلاث (عصر النهضة، العصر الكلاسيكي، العصر الحديث) وأهمية الخطاب السائد في كل  عصر من العصور الثلاث، والذي إستناداً عليه تتكون شكل المعرفة الخاصة بالفترة الزمنية المحددة- أي بكل عصر.

يؤكد فوكو أن التّاريخ المعرفي لا يُبنى عبر التراكم والتطور والتقدم الزمني، بل أنه يسير وفق إنفصالات وإنقطاعات تكون هي المسؤولة عن شكل المعارف السائدة في كل زمن، وذلك عن طريق إبستيم خاص بتلك الفترة.  ويعرف الأبستيم على أنه مجموعة القواعد والأدوات والمسلمات السائدة في وقت ما أو مجتمع ما، والتي تساهم في تشكيل المعرفة؛ ويتطرق فوكو بذلك إلى الوثائق التاريخية مؤكداً أن باحثي التاريخ التقليديين كانوا يتناولون الوثائق التاريخية للتأكد من وثوقية المعلومات وعن صحتها وخطئها ( المنهج التقليدي). أما فوكو فهو على خلاف ذلك حيث لا يجنح للتأويل إنما يحاول إستنطاق تلك الوثائق، وذلك من خلال تحليل الخطاب وفق شبكة من العلاقات التي كانت سائدة في الفترة التي عمد تحليلها، وبذلك نجد أن للخطابات دور رئيس في بناء المعرفة في أي عصر وبهذا فهو يقول : أنه لا يمكن قراءة أي عصر معرفي قراءة صحيحة مالم تتم معرفة الخطاب السائد في ذلك العصر، ويسعى فوكو دائماً لفضح العلاقة بين المعرفة والسلطة، مؤكداً أن إمتلاك الخطاب هو إمتلاك للسلطة.

لا ينظر فوكو للخطاب على أنه ظاهرة لغوية فحسب، و لايعير إهتماماً باللغة التي صيغ بها الخطاب، بقدر إهتمامه بالعبارات والإفادات التي يحتويها الخطاب، وينصب إهتمامه حول معرفة القواعد والشروط التي أنتجت الخطابات، و لماذا ظهرت هذه العبارة أو الإفادة تحديداً دون سواها، ولماذا اختفت هذه العبارات في هذا الخطاب وظهرت في الخطاب الذي يليه أو يسبقه. والخطاب لايقتصر على ماهو مكتوب أو ملفوظ فقط، بل يضم لذلك نمط الحياة، الثقافات السائدة، طريقة التفكير الخاصة بمجتمع معين أو عصر بعينه.

ويؤكد فوكو دائماً عن لامركزية الذات الفردية ولا يؤمن بها مشيراً إلى أن الأفراد مهما بلغوا من الذكاء فليسوا بقادرين على إبتكار أي شيء من عندهم، وإنما الخطاب السائد وتوافر عوامل محددة خاصة بكل عصر هي التي تساهم في تكوين المعرفة، أي أن الذات الفردية المبدعة لاتحظى بأهمية لديه، وأن المعرفة موجودة بمعزل عن البشر، فقط هنالك عوامل بعينها وظروف محددة ساهمت على ظهور نوع محدد من المعارف ، أي أن الذين سطرهم التاريخ كقادة ومفكرين ومبدعين محدثين  تغييرات فيه هم ليسوا سوى منتوج خطاب سائد، فلو لم يكتشف داروين في ذلك الوقت نظرية التطور، لظهر غيره وأكتشفها لأن العوامل والعناصر المساهمة في ذلك متوفرة لظهور هكذا نوع من العلوم، وهذا ماحدث فحينما كان يعمل داروين على نظرية الإنتخاب الطبيعي، كان صديق له قد توصل إلى ذات ماتوصل إليه في دولة أخرى، وكما داروين فكذلك  كارل ماركس فالخطاب السائد في ذلك العصر والظروف المعاشة بجانب عوامل أخرى، هي التي أدت لظهوره، وإن لم يكن هو بالتحديد من المؤكد شخص غيره، وبهذا فهو يرى أن الأفراد ليسوا منتجي للخطاب بل هم منتوجه وهو المسؤول عن تغيير طرائق التفكير والمعرفة بتغيره عبر الأزمنة فما كان سائدً في أفكار وخطاب ونمط حياة  في عصر النهضة أنتج معرفة تختلف كلياً عن تلك التي المعرفة التي تكونت في العصر الكلاسيكي وذلك وفق حدوث قطيعة معرفية أو إنفصال أدى لتشكل نمط تفكير مغاير تماماً عن العصر الذي سبقه. لتوضيح ذلك بمثال حينما تناول فوكو تاريخ الجنون في (كتاب الجنون في العصر الكلاسيكي) وجد أن مفهوم الجنون في كل عصر من العصور الثلاث تكون وفق أسس مختلفة، ففي عصر النهضة والذي كان يسيطر عليه الخطاب اللاهوتي الديني  كان يُنظر إلى الجنون على أنه على درجة من العقل، إذ كان ينظرون إلى الشخص المجنون على أنه بلغ مبلغاً من الحكمة والمعرفة جعلته يرتقي إلى درجة أعلى (الجنون) وبذلك كان يعامل المجنون بتقديس وإحترام ويتم التبرّك به عادةً، بغض النظر عن التصرفات التي قد تكون مشينة أحياناً، ولكنهم يرون أنه يعبر عن جزء من طبيعتهم المكبوتة.

وبالإنتقال الى العصر الكلاسيكي الذي يبدأ بديكارت، نرى أن النظرة إلى المجانيين تغيرت كلياً، فالخطاب السائد في ذلك العصر هو خطاب العقلانية، حيث وضع  الأنسان العاقل في إطار كوجيتو ديكارت ( أنا أفكر إذاً أنا موجود) وبالتالي فالمجنون شخص غير عاقل لأنه لا يفكر فهو إذاً ليس موجود، وكان سائدًا أن الشخص الذي يمتنع عن التفكير، إنما يعطل عقله بمحض إرادته ولذا فهو مجنون، لا فرق بينه وبين الحيوان الذي لا عقل له، لذلك بنيت بيوت الحجز الكبير (معتقلات المجانين) في أوربا ليودع فيها الحمقى والمجانيين، مع الإشارة إلى أن الايداع في تلك المعتقلات لم يكن على أساس طبي وإنما إستناداً لخطاب العقل الذي كان سائداً في العصر الكلاسيكي.

أما في العصر الحديث تغيير ذلك تماماً بظهور الطب العقلي والطب النفسي، وأصبح الجنون يتعامل معه وفق أسس طبية وعلمية، بخلاف ما ساد في العصرين، وبهذا يتضح جلياً المفارقة التاريخية في تاريخ الجنون وتشكّله عبر كل عصر بطريقة مختلفة وفق الخطاب السائد في الفترة المحددة، وكما ذكرت آنفاً فإن فوكو حينما يرغب في تحليل المعرفة في عصر ما، يعود للخطاب في ذلك العصر ويقوم بتحليله وفق شبكة من العلاقات التبادلية في المجالات المختلفة ( الادب ، السياسية، الفلسفة، الدين، الإقتصاد...الخ) فلتحليل الجنون في عصر ما ، يعود للخطاب الديني ليعرف ماكتب عنه، الخطاب الفلسفي، الخطاب الأدبي، الخطاب الإقتصادي... الخ وجميع  هذه الخطابات تترجم وتوضح كيف كان ينظر للجنون في ذلك الوقت مما قيل عنه أو كتب أو عرف.، وفي هذا يرى فوكو أن الممارسات الخطابية هي التي تحدد المعرفة، لذا لمعرفة تاريخ كل علم فإنه يجب العودة لما قيل عنه في مختلف الأوقات، وعلى هذا يؤكد فوكو أن العبارات أو الافادات التي قيلت قديماً وحديثاً تتناسق مع بعضها البعض وعلى هذا الأساس تنتج العلوم.

ويؤكد فوكو أن حفريات المعرفة لاتسعى إلى تحديد الخواطر والتماثُلات والموضوعات الأساسية التي تختفي وتظهر في الخطاب، بل يحدد الخطابات نفسها من حيث أنها ممارسة تحكمها قواعد معينة، ولا ينظر للخطاب على أنه وثيقة ولا يعتبره علامة أو إشارة تحيل إلى شيء أخر، ولا عنصراً مهما بلغ من الشفافية نكون ملزمين في الغالب بإختراق عتمته وضبابيته لنصل الى ماهو عميق وجوهري، بل تهتم بالخطاب بوصفه نُصباً أثرياً، فالحفريات ليست مبحث تأويلي، لكونها لاتسعى إلى اكتشاف خطاب آخر يتوارى خلف الخطاب المعين، وترفض أن تكون دراسة تبحث عن المعنى الحقيقي خلف المعنى الظاهر. وكما أنها لا تسعى إلى استكشاف مظاهر الاستمرار غير المحسوس الذي يربط بكيفية اتصالية الخطابات بما يسبقها أو مايحيط بها، ولا اللحظة التي تكوّن فيها الخطاب أو الصورة التي ظهر بها، بل تعمل على تحديد الخطابات في خصوصيتها، وإبراز كيف أن  القواعد التي تخضع لها تلك الخطابات، لا يمكن إرجاعها إلى أي شيء آخر، ينحصر في تتبع الخطابات من خلال مظاهرها الخارجية، من أجل الإحاطة واللإلمام بها بشكل أفضل، فالحفريات هدفها تحليل الفوارق والاختلافات الموجود بين صيغ الخطابات، وليس البحث عن صحت الأراء أو بطلانها.

ويقر فوكو أن الحفريات لا تسعى الى أن تبرز ماكان يفكر فيه البشر، أو ما شعروا ورغبوا به في اللحظة التي كانوا يصيغون فيها كتابات خطاباتهم، أي أنها لا تحاول أن تردد ما قيل، من خلال التعمق في ماهية وهوية الخطاب. كما أنها لن تكون قراءة تسمح بإستعادة النور البعيد في صفائه، النور الذي كان خافت قبل القراءة، بل هي وصف منظم للخطاب تجعل منه موضوع للتحليل الحفري، كما أنها لا تسعى أن تكون دراسة نفسية أو إجتماعية، ولاحتى بحثاً انثربولجي للإبداع يربط الحفريات بالإنسان، ولا أن تركز على الأثر وتعليّ من شأنه، وتحصر إهتمامها فيه، بل تسعى إلى تحديد أنماط وقواعد الممارسات الخطابية التي تحكم الأثار الفردية وتوجهها أحياناً توجيها كلياً، بحيث لا ينجو من هيمنتها شيء، لذا فإن التأكيد والإلحاح على دور الذات المبدعة وإعتبارها علة وجود الأثر ومبدأ الوحدة، أمر لا يعترف به المنهج الحفري لفوكو، فهو يجعل من الذات الفردية جزء من العوامل في الخطاب  التي ساهمت في إنتاج المعرفة، وذلك بتفاعلها مع محيطها، وبهذا فإن الذات الفردية ليست هي الجوهر الذي ينتج المعرفة.

***

مودة جمعة

بقلم: ميشيل فوكو

ترجمة: علي حمدان

***

كيف تمارس السلطة، وسؤال الذات؟

أود أن أقترح طريقة أخرى للمضي قدماً نحو اقتصاد جديد للعلاقات القائمة على السلطة، وهي طريقة أكثر تجريبية، وأكثر ارتباطاً بشكل مباشر بوضعنا الحالي، والتي تنطوي على المزيد من العلاقات بين النظرية والممارسة. وتتلخص هذه الطريقة في اتخاذ أشكال المقاومة ضد أشكال مختلفة من السلطة كنقطة انطلاق. وباستخدام استعارة أخرى، فإنها تتألف من استخدام هذه المقاومة كمحفز كيميائي من أجل تسليط الضوء على العلاقات القائمة على السلطة، وتحديد موقعها، ومعرفة نقطة تطبيقها والأساليب المستخدمة. وبدلاً من تحليل السلطة من منظور عقلانيتها الداخلية، تتكون من تحليل علاقات السلطة من خلال تناقض الاستراتيجيات.

على سبيل المثال، لمعرفة ما يعنيه مجتمعنا بالعقل السليم، ربما يتعين علينا أن نحقق فيما يحدث في مجال الجنون. وما نعنيه بالشرعية في مجال اللاشرعية. ولكي نفهم ماهية علاقات السلطة، ربما يتعين علينا أن نحقق في أشكال المقاومة والمحاولات التي تبذل لفصل هذه العلاقات.

 ولنبدأ بسلسلة من المعارضات التي نشأت على مدى السنوات القليلة الماضية: معارضة سلطة الرجال على النساء، وسلطة الآباء على الأبناء، وسلطة الطب النفسي على المرضى العقليين، وسلطة الطب على السكان، وسلطة الإدارة على أساليب حياة الناس. ولا يكفي أن نقول إن هذه صراعات ضد السلطة؛ بل يتعين علينا أن نحاول تحديد ما يجمع بينها بدقة أكبر.

1. إنها صراعات "متقاطعة"؛ أي أنها لا تقتصر على بلد واحد. وبطبيعة الحال، فإنها تتطور بسهولة أكبر وبدرجة أكبر في بلدان معينة، ولكنها لا تقتصر على شكل سياسي أو اقتصادي معين من أشكال الحكم.

2. والهدف من هذه الصراعات هو تأثيرات السلطة بحد ذاتها. على سبيل المثال، لا تُنتقد مهنة الطب في المقام الأول لأنها مؤسسة تهدف إلى تحقيق الربح، بل لأنها تمارس سلطة غير منضبطة على أجساد الناس، وصحتهم، وحياتهم، وموتهم

3. وهذه "نضالات فورية" لسببين. في مثل هذا النضال ينتقد الناس نماذج السلطة الأقرب إليهم، تلك التي تمارس تأثيرها على الأفراد. إنهم لا يبحثون عن "العدو الرئيسي" بل عن العدو المباشر. ولا يتوقعون أيضًا العثور على حل لمشكلتهم في تاريخ مستقبلي (أي التحرير والثورات ونهاية الصراع الطبقي). وبالمقارنة مع مقياس نظري للتفسيرات أو نظام ثوري يستقطب المؤرخ، فإنها نضالات فوضوية.

ولكن هذه ليست أكثر النقاط أصالة. ويبدو لي أن النقاط التالية أكثر تحديداً.

 4. إنها صراعات تشكك في وضع الفرد: فمن ناحية، تؤكد على الحق في الاختلاف، وتؤكد على كل ما يجعل الأفراد أفراداً حقيقيين. ومن ناحية أخرى، تهاجم كل ما يفرق الفرد، ويقطع روابطه مع الآخرين، ويقسم الحياة المجتمعية، ويجبر الفرد على التراجع عن ذاته، ويربطه بهويته الخاصة بطريقة مقيدة.

إن هذه الصراعات ليست لصالح أو ضد "الفرد" بالضبط، بل إنها صراعات ضد "حكم الفردانية".

5. إنها معارضة لتأثيرات السلطة المرتبطة بالمعرفة والكفاءة والمؤهلات: صراعات ضد امتيازات المعرفة. ولكنها أيضاً معارضة ضد السرية والتشويه والتمثيلات الغامضة المفروضة على الناس. لا يوجد شيء "علمي" في هذا (أي، عقيدة دوغمائية في قيمة المعرفة العلمية)، ولكنه ليس أيضًا رفضًا متشككًا أو نسبيًا لكل حقيقة مؤكدة. ما يتم التشكيك فيه هو الطريقة التي يتم بها تداول المعرفة ووظائفها، وعلاقاتها بالسلطة. باختصار، نظام السلطة المتعلق بالمعرفة.

 6. وأخيراً، يدور كل هذه الصراع الحالي حول السؤال: من نحن؟ إنها رفض لهذه التجريدات، من العنف الاقتصادي والإيديولوجي للدولة، الذي يتجاهل من نحن كأفراد، كما أنها رفض لمحاكم التفتيش العلمية أو الإدارية التي تحدد من يكون الفرد، وباختصار، فإن الهدف الرئيسي لهذه الصراعات ليس مهاجمة "هذه أو تلك" من مؤسسات السلطة، أو مجموعة، أو نخبة، أو طبقة بل مهاجمة تقنية، أو شكل من أشكال السلطة.

هذا الشكل من أشكال السلطة ينطبق على الحياة اليومية المباشرة التي تصنف الفرد، وتحدد هويته الفردية، وتربطه بهويته الخاصة، وتفرض عليه قانون الحقيقة الذي يجب أن يعترف به والذي يجب على الآخرين أن يعترفوا به فيه. إنه شكل من أشكال السلطة التي تجعل الأفراد خاضعين. وهناك معنيان لكلمة "خاضع": الخضوع لشخص آخر من خلال السيطرة والتبعية؛ والارتباط بهويته الخاصة من خلال وعي أو معرفة ذاتية. كلا المعنيين يشيران إلى شكل من أشكال السلطة الذي يستعبد ويجعل الانسان خاضعا.

وبشكل عام، يمكن القول إن هناك ثلاثة أنواع من النضال: ضد أشكال الهيمنة (العرقية والاجتماعية والدينية)؛ أو ضد أشكال الاستغلال التي تفصل الأفراد عما ينتجونه؛ أو ضد ما يربط الفرد بنفسه ويخضعه للآخرين بهذه الطريقة (النضالات ضد الخضوع، وضد أشكال التشيء والخضوع).

أعتقد أنه يمكنك أن تجد في التاريخ الكثير من الأمثلة على هذه الأنواع الثلاثة من النضالات الاجتماعية، إما معزولة عن بعضها البعض أو متشابكة. ولكن حتى عندما تكون متشابكة، فإن أحدها، في معظم الأحيان، هو الذي يسود. على سبيل المثال، في المجتمعات الإقطاعية، كانت النضالات ضد أشكال الهيمنة العرقية أو الاجتماعية سائدة، على الرغم من أن الاستغلال الاقتصادي قد كان له أهمية كبيرة بين أسباب الثورة.

في القرن التاسع عشر، برز النضال ضد الاستغلال إلى المقدمة. واليوم، أصبح النضال ضد أشكال الخضوع ــ ضد إخضاع الذات ــ أكثر أهمية، على الرغم من أن النضالات ضد أشكال الهيمنة والاستغلال لم تختف. بل على العكس تمامًا.

إنني أشك في أن هذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها مجتمعنا هذا النوع من الصراع. إن كل تلك الحركات التي حدثت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر والتي كان الإصلاح الديني تعبيرها الرئيسي ونتيجتها، ينبغي تحليلها باعتبارها أزمة كبرى للتجربة الغربية للذاتية وثورة ضد ذلك النوع من السلطة الدينية والأخلاقية التي أعطت شكلاً لهذه الذاتية خلال العصور الوسطى. إن الحاجة إلى المشاركة المباشرة في الحياة الروحية، وفي عمل الخلاص، وفي الحقيقة التي تكمن في الكتاب المقدس ـ كل ذلك كان صراعاً من أجل ذاتية جديدة.

إنني أعلم ما هي الاعتراضات التي يمكن تقديمها. يمكننا أن نقول إن كل أشكال الخضوع هي ظواهر مشتقة، وأنها مجرد عواقب لعمليات اقتصادية واجتماعية أخرى: قوى الإنتاج، والصراع الطبقي، والبنى الإيديولوجية التي تحدد شكل الذاتية.

من المؤكد أن آليات الخضوع لا يمكن دراستها خارج علاقتها بآليات الاستغلال والهيمنة، ولكنها لا تشكل مجرد "نهاية" لآليات أكثر جوهرية. بل إنها تقيم علاقات معقدة ودائرية مع أشكال أخرى. والسبب وراء ميل هذا النوع من الصراع إلى السيادة في مجتمعنا يرجع إلى حقيقة مفادها أنه منذ القرن السادس عشر، كان هناك شكل سياسي جديد للسلطة يتطور باستمرار. وهذا الهيكل السياسي الجديد، كما يعلم الجميع، هو الدولة. ولكن في أغلب الأحيان، يتم تصور الدولة باعتبارها نوعًا من السلطة السياسية التي تتجاهل الأفراد، وتنظر فقط إلى مصالح المجموع أو، كما ينبغي لي أن أقول، مصالح فئة أو مجموعة من المواطنين.

إن هذا صحيح تماماً. ولكنني أود أن أؤكد على حقيقة مفادها أن سلطة الدولة (وهذا أحد أسباب قوتها) هي شكل من أشكال السلطة الفردية والشمولية في الوقت نفسه. وأعتقد أنه لم يحدث قط في تاريخ المجتمعات البشرية ـ حتى في المجتمع الصيني القديم ـ أن حدث مثل هذا الجمع المعقد في نفس البنى السياسية بين تقنيات الفردانية وإجراءات الشمولية. ويرجع هذا إلى حقيقة مفادها أن الدولة الغربية الحديثة قد دمجت في شكل سياسي جديد تقنية سلطة قديمة نشأت في المؤسسات المسيحية. ويمكننا أن نطلق على تقنية السلطة هذه اسم السلطة الرعوية.

***

.....................

*هذا المقال كتبه مشيل فوكو كخاتمة لكتاب: ميشيل فوكو : ما وراء البنيوية والتأويلية بقلم هيربرت ال. ديفوس وبول رينبو. اصدار جامعة شيكاجو.

 

تمهيد: هناك أزمة ثقة في المجتمعات الغربية اليوم. ويأتي ذلك بعد عقود من الإيمان الراسخ بالتقدم. إنه أمر خطير ويتعلق بالابتكار التكنولوجي. وترتبط هذه الأزمة بالتوتر "الانهياري". لماذا يرتبط التقدم التكنولوجي المبهر بالخوف من المستقبل؟ فهل لا تزال تتكيف مع توقعات البشرية؟

إن المناقشات بين محبي التكنولوجيا وكارهي التكنولوجيا تسير على المسار الخاطئ لأن التقنية والتكنولوجيا مجرد وسيلة. يتم استخدامها لإنشاء أو القيام بالأشياء. إنهم ليسوا أكسيولوجيين. إن استخدامها هو الذي يمكن أن يسبب مشاكل. أقدم لكم وجهة نظر طبيب فرنسي مواطن إنساني لمقاربة جديدة للحضارة التكنولوجية. فماهي النظرة الأخرى لقيام منهج جديد للحضارة التكنولوجية؟

مفهوم التكنولوجيا

بالمعنى الأول هو دراسة وتدريس التقنيات. التقنية (أو "techne" - الفن أو الدراية) هي مجموعة من الوسائل. ويستخدم العمليات لتحقيق غاية. تستخدم التكنولوجيا التقنيات، وتضعها في تآزر. هذه التقنية أكثر بدائية وتجريبية. فالتكنولوجيا أكثر حداثة، وأكثر ارتباطا بالعلم، وأكثر تعقيدا. لقد قامت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر على الفحم والمعادن والمحرك البخاري. ثم جاءت الكهرباء والنفط والكيمياء والتصنيع والإنتاجية. هناك الآن عدة أنواع من التكنولوجيات: "التكنولوجيا العالية"، "التكنولوجيا الحيوية"، "التكنولوجيا الخضراء"، والعلوم التقنية التي لم تعد تنطبق فقط على الأدوات والآلات. ومن الجانب الفني هنا نأتي إلى الجانب التنظيمي، والاستراتيجي، والمفاهيم، و"الافتراضي". إن الفيزياء الفلكية، والطب، وتكنولوجيا النانو، والكم، والذكاء الاصطناعي هي في طليعة العلوم. مشاريع التقنيات المتقاربة لـتقنية النانو، وعلم الأحياء، والمعلومات، والإدراك تتنبأ بعالم في حالة تحول كامل مع نتائج غير مؤكدة، مما قد يزعج الأخلاق.

مكانة التكنولوجيا في عالمنا

منذ حوالي 10 سنوات، سيطرت التكنولوجيا، عبر الهواتف الذكية، على حياتنا اليومية بأكملها. جميع أنشطتنا "تعتمد على التكنولوجيا". بيئتنا تعتمد على التكنولوجيا: أصبحت أتمتة المنزل، والاتصال، والروبوتات، وتكنولوجيا المعلومات، أمرًا شائعًا. الشاشات في كل مكان. يتأثر أكثر من ثلاثة أرباع البشرية بالتقدم التقني. الأقمار الصناعية تقلص العالم. هذه التكنولوجيا عالمية وعابرة للأجيال وتخلق نموذجًا جديدًا في حياة البشر. عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا، لا شيء يوقف التقدم. يتغذى على نفسه. حتى لو كنا لا نعرف حقًا ما يتم استخدامه من أجله. وهذا ما يؤكد ذلك: "يتم استخدام الأساليب الأكثر كفاءة الناتجة عن مرحلة واحدة من التقدم التطوري لإنشاء المرحلة التالية": ريموند كورزويل، مدير الهندسة في جوجل. ومع ذلك، فإن الأسوأ ممكن، مع الطاقة النووية، والصناعة الكيميائية، والتلاعب الجيني، والكوارث البيئية، و"البيانات الضخمة"، والذكاء الاصطناعي، وفقدان الحكمة، وحتى العقل. العباقرة المتميزون مثل كورزويل، ، والجمهور الذي لا يشبع من التكنولوجيا المحبوبة، يخلقون مخاطر لعالمنا. وتزيد جماعات الضغط الصناعية التي تهتم بالربح الفوري أكثر من اهتمامها بالصالح العام، من هذه المخاطر. ويؤدي ضعف الأخلاقيات والافتقار إلى التنظيم العالمي إلى تفاقم هذا الوضع.

في المستقبل القريب، وبفضل براعة التكنولوجيا، لدينا لقاحات ضد كوفيد-19. نحن نبحث عن طرق لتقليل ثاني أكسيد الكربون، ولكن في الوقت الحالي، يبدو أن إعادة التشجير والاقتصاد في أنماط حياتنا وتقليل الاكتظاظ السكاني هي أفضل الطرق (بمساعدة الطاقات المتجددة والهائلة).

الحضارة وأسلوب الحياة

تتأثر جميع مناطق العالم بالتكنولوجيا الحديثة. إنها مسألة الطاقة الأولى. وسوف تصبح الحضارات موحدة من خلال ذلك. أصبحت أنماط الحياة "التكنولوجية" باهظة الثمن ومقيدة بشكل متزايد: استهلاك الطاقة، والخضوع المعرفي للآلات والشاشات، وفقدان التمييز والتعب، وتدمير الوظائف، وتعقيد الحياة اليومية (تعلم تقنيات جديدة، والتجريد من الإنسانية، والأتمتة). تعمل التكنولوجيا على تفاقم عدم المساواة من خلال اختيار أولئك الذين يعرفون كيفية استخدامها، والاستيلاء عليها وإثراء أنفسهم بها، ومن خلال التخلي عن الأضعف الذين تطغى عليهم التكنولوجيا أو تخيفهم. يوضح جيرالد برونر أن الوقت الذي تم تحريره بفضل التقدم التكنولوجي لم يتم استغلاله في التطور الدماغي، وذلك بسبب وفرة العرض المعلوماتي والمعرفي، مما يجذب العقل نحو الخوف، والإثارة، والألعاب، والجنس، والصراع ... أحلام اليقظة، والتفكير البطيء. ، والعقل والحكمة تتلاشى.

الفلسفة والتكنولوجيا

لقد عبر الفلاسفة عن آرائهم حول التكنولوجيا منذ القرن التاسع عشر، دون إحسان، مع الشك في تضييق الفكر الإنساني والعداء تجاه الفن والثقافة. منذ عام 1990، فشلوا في تحديد ماهية التكنولوجيا بوضوح، ولا في تقييم آثارها على حياتنا. بالنسبة لبرنارد ستيجلر، تنسى الفلسفة اليونانية مسألة التقنية عن طريق الابتعاد عن التقنية، هذا "الخارج" الذي من المفترض أن لا يساهم بأي شيء في المعرفة. في الواقع، أي فكر في التكنولوجيا يتجاوز حدود الفلسفة. التكنولوجيا ليست خارجية بل هي مكونة للإنسان. ومن خلال استخدامها الصناعي، الخاضع للسوق والنزعة الاستهلاكية والليبرالية، تصبح التكنولوجيا غاية في حد ذاتها، بعيدًا عن فائدتها الأساسية. يمكننا أن نتساءل عن أهمية فقدان المعنى ورؤية الهدف النهائي، الأمر الذي يسير جنبًا إلى جنب مع تراجع الدين في العالم الغربي. إن تسارع وتيرة الحياة الحديثة يضع الأفراد في حالة فورية حتمية لم تعد تترك مجالاً للتباعد والتفكير. غارقًا في العمل، ومنافسًا مفرط المعرفة، ومتوترًا، وقلقًا، ليس لدى العاقل بديل آخر سوى "الاستعداد للتفكير" و"الأمر التكنولوجي" الذي لا يعرف مبرره.

العقلانية والتكنولوجيا

العقلانية هي الحركة بالاستدلال نحو ما هو معقول، ثم عقلاني. لقد استوردها آدم سميث إلى الاقتصاد لتحسين البحث عن الأرباح وتوسيع الرأسمالية. لقد أصبح منتشرا في كل مكان، وهو ما أدانه ماكس فيبر من خلال عقلانية العمل العملي، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى "خيبة الأمل من العالم". ويشير أندرو فينبرغ إلى تأثير التكنولوجيا على الحياة الديمقراطية من خلال "الحتمية التكنولوجية"، التي تقود المجتمعات إلى تغييرات في الثقافة والقيم، وهي عالمية. كما يسلط الضوء على "مرونة التكنولوجيا"، القادرة على التكيف والتحول وفقا لتوقعات الناس واختياراتهم.

الذكاء الاصطناعي:

إنه هناك، ببياناته الضخمة، والخوارزميات، والتعلم الآلي، والبرمجة الذاتية. هناك التعرف البصري والأصوات واللغة والعواطف. الأنظمة الخبيرة قادرة على تفسير الصور، وقيادة المركبات، وتأليف السمفونيات، وهزيمة الإنسان في كل مباراة، وتقليد أصواتنا وجعله يقول أي شيء، وحل القضايا المعقدة ونمذجة المستقبل. وفي الصين يؤدي إلى جواز سفر المواطن مع نقاط مرتبطة بالسلوك الفردي. في الولايات المتحدة الأمريكية، يتم جمع وبيع معلوماتنا الحساسة.

ما بعد الإنسانية:

من مدرسة بيتنيك الفكرية، سيضع ماكس مور بدايات المفهوم حول تحسين جسم الإنسان من خلال العمليات التقنية. تبدأ رابطة ما بعد الإنسانية العالمية بيانها على النحو التالي: "قد يخضع الإنسان لتعديلات، مثل التجديد، وزيادة الذكاء بوسائل بيولوجية أو اصطناعية، وإلغاء المعاناة واستكشاف "الكون". فيما يلي بعض وجهات نظر ما بعد الإنسانية وفقًا لهذا الارتباط: الخلود، والواجهات بين الإنسان والآلة والدماغ والحاسوب، والتلاعب الجيني والاستنساخ، وتنزيل العقول، ونقل الفكر، واستعمار الفضاء نحو آلاف المجرات. شبكة من المستحيلات والشكوك التي تشكك في الصحة العقلية والمستوى العلمي والأخلاقي لمؤلفيها. الانطلاق من الإنسان العاقل، نحو الإنسان التكنولوجي، وصولاً إلى الإنسان الإله (بقلم نوح هراري)، عبر المتحولين جنسياً، ثم ما بعد الإنسانية، بدافع استغلال كل القوى التكنولوجية لتحويل الإنسان إلى إنسان خارق إلهي. وتشارك جوجل وأمازون وفيسبوك وغيرها. إليكم ما يجب أن يقوله الطبيب الإنساني ذو الخبرة لأنصار ما بعد الإنسانية:

الإنسان هو تتويج لرجعية كونية خطيرة. لقد غزا الأرض بفضل تقنيته وذكائه الجماعي وتنظيمه الاجتماعي. إنه يحمل في داخله متغيرات منها: إشباع الحاجات الحيوية، والمخاوف، والعدوانية، والجنس، والعواطف، والفضول، والخيال. ويتميز تاريخها الحديث بالتقدم التقني والعلمي، والانفجار الديموغرافي، والإثراء الجماعي السيئ التوزيع، والعنف والتعصب. تتأرجح التطورات الحالية بين التكنولوجيا الراكضة وفقدان التوجهات والمستقبل المقلق. تستفيد ما بعد الإنسانية من هذا لتزدهر.

إذا كان على الإنسان أن يتطور نحو "الرجل المعزز"، فإن ذلك لا يكون بالمصنوعات والآلات والتلاعبات الخارجية، بل بالعمل على نفسه للبحث عن الأفضل في نفسه وتطوير كل إمكاناته. فهو لا يحتاج إلى التخلي عن إنسانيته الموروثة من الطبيعة، بل على العكس من ذلك ليجد ارتباطه وهويته هناك.

إن العيش حياة صحية وطويلة أمر ممكن من خلال تطوير عوامل طول العمر، ومكافحة عوامل الخطر المعروفة، والاستفادة من التقدم الطبي في التكنولوجيا.

إن الزيادة في متوسط العمر المتوقع أمر واقع. يمكن تحسين الجودة. لكن الشيخوخة تعتمد أيضًا على عوامل اجتماعية وبيئية. ولتحسينها، يجب علينا أن نجعل احترام الحياة البشرية أولوية ثابتة وأن نستخلص العواقب الاجتماعية منه.

التفرد

بالنسبة لريموند كورزويل، فإن الذكاء الاصطناعي ونظام الكمبيوتر بأكمله سوف يتفوقان قريبًا على البشر في جميع المجالات، لدرجة أنهم سيضطرون إلى الاندماج معهم للبقاء على قيد الحياة.

التفرد هو مفهوم دون دليل علمي. يستحضر النبي التكنولوجي عالمًا افتراضيًا، خاليًا من الأجساد، حيث سيتم حوسبة الدماغ ونقله، وسوف يحوم الفكر في الكون نفسه تقنيًا. هذيان كورزويل لا نهاية له.

رفع القيود واللامعقول

يتم التسامح مع الأدلة على الأعطال الخطيرة، أو تجاهلها، أو حتى إنكارها. والإشارات إلى الأخلاق ضعيفة، خاصة وأنها تطارد التقدم. النوايا الحسنة مثل جريمة الإبادة البيئية لا تنتشر ولا توجد سلطة قادرة على تنفيذها. الصين تفعل ما تريد ولا تتورع عن ذلك. إنها تطور تقنياتها بحرية ولا تهتم بالبيئة إلا عندما تكون ضحية لأفعالها السيئة. العالم لا ينظم. وهذا ما يتحدث عنه برنارد ريميش في "الثورة التكنولوجية والعولمة وقانون براءات الاختراع". وينتهي به الأمر إلى "طرح سؤال حول ما إذا كنا لا نتحرك في نهاية المطاف نحو ازدواجية متزايدة للاقتصاد العالمي". لأن براءات الاختراع، التي تم إنشاؤها في البداية لحماية المخترعين، يتم الاستيلاء عليها من قبل الشركات الكبيرة التي تنفذ معظم الإبداع، مما يجعل جماهير البلدان التي لا تتمتع بقدرات إبداعية تذكر، أسيرة اتفاق تريبس. ولم تعد الولاية القضائية الدولية تنظم التوزيع الكوكبي للابتكار.لقد كشفت جائحة كوفيد-19 عن فشل منظمة الصحة العالمية، وضعف التضامن الدولي في الاندفاع نحو اللقاحات، وإفلات البلدان الملوثة من العقاب. الملوثون ليسوا قلقين. تكثر الأخبار الكاذبة والهجمات السيبرانية والمؤامرات. وبالتالي فإن العولمة المتحررة من القيود التنظيمية تطلق العنان للتقدم التكنولوجي المحموم والمربح وغير المعقول، حتى ولو ادعى أنه عقلاني. فالعقلانية ليست العقل، بل إنها أقل عقلانية، التي تتعلق بالوسط الذهبي بين كل التجاوزات، بما في ذلك التعصب والدوغمائية والربح والمخاطرة والجمود. فما هي آفاق الحضارة التكنولوجية؟

خاتمة

بالنسبة لكارل ماركس، كان التغلب على الرأسمالية يعني أيضًا إضفاء الطابع الديمقراطي على الأنظمة التقنية ووضعها تحت سيطرة العمال. وكان من شأن التكنولوجيا المتحررة من ضرورات الرأسمالية أن تجعل تطوراً مختلفاً ممكناً. لم يحدث شيء. إن عالمية الشكل التجاري سوف تعمل وفقاً لقوانينها الخاصة، مما يؤدي إلى "التشييء" ــ تجسيد الأفراد والأفكار. إننا نشهد اليوم تبدد شخصية العلاقات الإنسانية، وإخفاء الهوية في المناطق الحضرية، وانفصال لا مبالٍ عن العالم. يؤدي التشيؤ إلى فقدان "الذات" والأمل. وتؤدي الرأسمالية التكنولوجية الجديدة إلى تفاقم التوترات والمنافسات. عليك أن تمتثل للهدف المراد تحقيقه. الأداء يأتي قبل الناس. وينتهي بنا الأمر إلى تجسيد الذات. إن الفجوة تهدد بالاتساع بشكل خطير بين مدى التقدم التكنولوجي وتطور العقل. وتصبح التكنولوجيا أسطورة، يغذيها وهم المنفعة المطلقة للعلم وإضعاف الفكر الفلسفي. علاوة على ذلك، فإن المصالح الاقتصادية والمالية الكبرى معرضة للخطر، والإنسان راسخ في حضارة التكنولوجيا بحيث لا يمكنه إبطاء تقدمها الفوري. لكنه يتساءل عن مستقبل يحتكره الابتكار التكنولوجي الذي يحرمه من احتياجات أخرى مثل الطمأنينة واحترام الذات واحترام الآخرين، والتفكير البطيء والاتصال المنعش والنظيف بالطبيعة. الحتمية التكنولوجية ليست محظورة، والسيطرة الاجتماعية الديمقراطية على التقدم التقني ممكنة، لأن المستهلك هو الذي لديه إمكانية استخدام الابتكارات أو عدم استخدامها. من المرجح أن يكون للوباء تأثير إيجابي على السلوك الفردي. هناك مستقبل آخر ممكن، قادر على التوفيق بين النشاط الاقتصادي واحترام الطبيعة، ويمنح الجميع شيئًا للعيش فيه بسلام، وفي احترام وتقاسم متبادلين. ولابد أن يحدث هذا من خلال مبادرات شعبية قوية ومنظمة قادمة من "جماهير" أكثر ذكاءً واستنارة بين جماهير المستهلكين غير المبالين. سنحتاج إلى الحصول على لوائح تشريعية وأخلاقية، وإنهاء الحرب الاقتصادية والعودة إلى مجالات نشاط أكثر تقييدًا، مما يسمح بديمقراطية القرب والتعاون. في مواجهة الخطر البيئي وعدم كفاءة بعض طرق الحياة والفكر، سوف تسود الضرورة، ويجب أن تحدث تغييرات كبيرة لتجنب التدهور والانحطاط والصراعات وربما علم الأمور الأخيرة...لأن كل حضارة مقدر لها أن تختفي بمجرد أن لا تتكيف مع بيئتها. لقد طورت حضارة التكنولوجيا القوة والثروة. وفي أيدي الرأسمالية الجديدة، خلقت أيضًا ثلاثة مخاطر: فقدان الإنسانية (التشيؤ – ما بعد الإنسانية)، والقيم (التي حلت محلها النزعة الاستهلاكية ومذهب المتعة) وتدهور المحيط الحيوي. هل لا يزال بإمكان الإنسان أن يفعل شيئًا حيال ذلك؟ يمكن أن تساعد التكنولوجيا المستخدمة جيدًا والمتقنة. هناك إلحاح.  في النهاية، أعتقد أن البشر، على الرغم من عيوبهم، لديهم القدرة على إدارة هذه الحتمية الوشيكة، وآمل ألا يتم تأكيد رأي فريدريك نيتشه: "نحن جميعا نفضل تدمير الإنسانية على تراجع المعرفة!" (نيتشه. الفجر 1881). لكن المعرفة ليست المصدر الوحيد للسعادة. على كوكبنا، الإنسان مهدد فقط بنفسه (وبعض الفيروسات. حضارة التكنولوجيا: إلى أي مدى يجب أن نذهب؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

هناك 7000 لغة حول العالم تشكل سبعة آلاف طريقة مختلفة للتفكير بما حولنا. اللغة باعتبارها تمثيل رمزي للواقع، تشكل اطارا فريدا من الفهم والتصور للعالم الذي يحيط بنا. اليوم، كشف الدليل الآتي من اللسانيات المعرفية عن الدور المهم الذي تلعبه اللغة في صياغة أفكارنا وتصوراتنا.

ماهي النسبية اللغوية؟

النسبية اللغوية Linguistic relativity هي نظرية تزعم ان اللغة التي نتحدث بها تؤثر في الطريقة التي نفكر ونتصور بها حول العالم. وهي تسمى ايضا فرضية سابير – ورف Sapir-Whorf في النسبية اللغوية، كمصطلح جامع لمختلف النظريات التي تستطلع العلاقة بين اللغة والادراك. وفي الاتجاه المتطرف للنسبية اللغوية نجد نظرية الحتمية اللغوية التي تؤكد ان اللغة تقرر بشكل تام تفكيرنا. نظريات اخرى للنسبية اللغوية تميل للتأكيد على رؤية اكثر اعتدالا بشأن المدى الذي تؤثر فيه اللغة على تفكيرنا وتجاربنا. فكرة ان اللغة تؤثر على التفكير وُجدت قبل الصياغة الصارمة للنظرية في النقاشات الفلسفية والعلمية.

في وقت مبكر من القرن الثامن الميلادي، قال الامبراطور الروماني شارلمان charlemagne "ان تتحدث لغة ثانية يعني انك تمتلك روحا ثانية". وبينما يستمر النقاش حول مدى تأثير النظرية، لكن يبقى هناك القليل من الخلاف على ان اللغة تؤثر جوهريا على تفكيرنا بمختلف الأشكال.

كيف تطورت نظرية النسبية اللغوية؟

تطورت هذه النظرية من خلال أعمال فلاسفة اللسانيات المتميزين وعلماء الادراك. وعلى الرغم من ان البحث العلمي المنهجي في الموضوع نشأ في الخمسينات من القرن الماضي، لكن الافكار الاساسية لنظرية النسبية اللغوية تعود الى القرن التاسع عشر. الفيلسوف الالماني اللغوي فيلهلم فون هومبولتWilhelm von Humboldt كان اول مفكر يفترض بوضوح نظرية الحتمية اللغوية Linguistic determinism.

في كتابه (التباين اللغوي والتطور الفكري) جادل هومبولت بان "الانسان يعيش في العالم المحيط به بشكل أساسي، بل وحصريا كما تعرضه له اللغة"(Humboldt، 1836). وبعد مائة سنة، قام اللغوي البارز ادوارد سابير وتلميذه بنيامين لي ورف بمراجعة وتوسيع بحث هومبولت. عملهما كان مؤثرا جدا لدرجة اُطلق على نظرية النسبية اللغوية "فرضية سابير ورف".

كل من سابير وورف كانا مشككين بفكرة "العالم الواقعي" الذي يمكن ان يتعامل معه جميع الناس. طبقا لسابير، حتى أبسط أشكال التصور تُحكم بواسطة العادات اللغوية للجماعة، والتي بدورها تقدم خيارات معينة للتفسير. وبهذا فان كل لغة تمثل واقعا اجتماعيا متميزا وتشكل طريقة محددة للتعامل مع العالم. في عمله (مكانة اللغويات كعلم) جادل سابير بان "العوالم التي تعيش بها مختلف المجتمعات هي عوالم متميزة، ليست مجرد تسميات مختلفة لنفس العالم"(sapir، 1929).

بالاضافة الى ذلك، جادل ورف ان العالم المُدرك بالحواس هو تدفق مستمر للانطباعات التي نحللها وننظمها ذهنيا باستعمال اللغة. الأشكال المحددة من تنظيم وتفسير للبيانات من العالم الظاهري يتم تشفيرها في الأنظمة اللغوية لأذهاننا. وبهذا فان اللغة هي اتفاق اجتماعي ضمني ضمن الجماعة لإدراك او(تفسير) العالم بنفس الطريقة. فمثلا، عبر التحدث بالانجليزية، انت توافق على الاحتكاك بالعالم من خلال نماذج متأصلة في اللغة الانجليزية. لاحظ ورف في العلوم واللغويات، ان "كل المراقبين لم ينقادوا بنفس الدليل المادي لنفس صورة الكون"(Whorf، 1940).

هل هناك دليل تجريبي على النسبية اللغوية؟

أعداد هائلة من الدراسات أنتجت دليلا ميدانيا لنظرية النسبية اللغوية. العلماء رفضوا في البداية فرضية سابير- ورف مفضلين العالمية universalism – وهي النظرية القائلة بان اللغة والفكر متشابهان أصلاً في جميع الثقافات. في العقود الماضية، برز عدد متزايد من الأدلة الميدانية تدعم الادّعاءات في النسبية اللغوية. الباحثون في حقل اللغويات الإدراكية باشروا سلسلة من الدراسات حول الاختلافات ما بين الثقافات في الإدراك ووجدوا ان اللغة تؤثر على القدرات المعرفية الأساسية في الكائن البشري.

ليرا بوروديتسكي Lera Boroditsky كانت من أبرز الباحثين والتي أجرت (دراسة حالة) حول لغة كوك ثورو Kuuk Thaayorre التي يتم التخاطب بها في بعض مناطق استراليا. المتحدثون يستعملون الاتجاهات الاساسية (مثل شرق، غرب، شمال، جنوب) بدلا من كلمات مكانية نسبية مثل يسار ويمين. فمثلا، هم يقولون ان الملعقة جنوب غرب السكين. الاتجاهات الاساسية هي جزء مكمل للغتهم اليومية.

بوروديتسكي وجدت ان جميع المتحدثين بلغة كوك ثورو لديهم قدرات استثنائية ليبقوا موجّهين مكانيا في كل الاوقات والاماكن بطريقة لم يعتقد العلماء انها ممكنة بشريا. هي اوضحت ان لغتهم درّبت وطوّرت هذه المهارة المعرفية المهملة.

العديد من الدراسات حول فهم الوقت، القوة، السببية، اللون؟، وحتى النوع الاجتماعي، كانت صدى لإستنتاج بوروديتسكي: "اللغة تلعب دورا سببيا في صياغة التفكير" (بوروديتسكي، 2011). كل لغة توفر أدوات معرفية متفردة وتشكل طريقة مختلفة في تصوّر وفهم العالم.

السؤال هو: من بين 7000 لغة يتم التحدث بها حاليا، ماهي اللغة التي يحب المرء ان يرى بها هذا العالم؟

***

حاتم حميد محسن

"أنا مواطن العالم".. ديوجين الكلبي

تميز الإنسان عن سائر الكائنات الأخرى في طريقة معيشته، فالحيوانات تعيش على نمط واحد لا يعرف التقدم، أما الإنسان فيتطلع الى التقدم والارتقاء دائماً لوصول الى (المثل العليا) رغم ما تحيط به من مؤثرات وما تتجاذبه من شهوات ونقصد بالمثل العليا هي الأخلاق الممثلة بالخير والشر، الحق والباطل، الفضيلة والرذيلة، الى غير ذلك من الأمور التي بحثتها الفلسفة اليونانية التي تحررت من قيود الدين وعقدة الإله الجبار المتكبر الذي يدس أنفه في كل صغيرة وكبير على العكس من الفلسفة الإسلامية التي ظلت أسيرة الدين فلم تنزع جلبابه حتى تحولت الى فلسفة صوفية ترى إن الفضيلة العليا ما هي إلا الاتحاد بذات الله كي يصل الإنسان من خلال هذا الاتحاد الى صفة الكمال.

لقد مرت الفلسفة اليونانية بمراحل وتشعبت الى مذاهب، هذه المذاهب والمدارس ولدت من رحم الفلسفة الأم التي كان يمثلها طاليس وسقراط وأفلاطون وأرسطو.

ومن بين هذه المذاهـب الفلسفيـة " المذهـب الكلبـي " الذي أسـسه الفيلسوف اليوناني " انستاس " احد أتباع سقراط، غير إن " ديوجين " كان الشخصية الأكثر بروزاً في المذهب الكلبي وليس من المستغرب أن يكون الكلب مثلاً أعلى لمدرسة فلسفية شغلت حيزاً كبيراً من الزمان والمكان في العصور القديمة فهو معروف بالوفاء وليس في الحيوانات أشد حباً لصاحبه منه وهو أيقظ الحيوانات عيناً، وقد حفل التراث العربي بالعديد من الكتب التي الفت في الحيوان واختصت صفحات منها بالحديث عن الكلب مثل كتاب " الحيوان " للجاحظ و " حياة الحيوان " للدميري كما أشار أبو حيان التوحيدي في كتابه " الإتباع والمؤانسة " إليه.

ويبدو إن العالم البيولوجي الروسي " بافلوف " 1849 – 1936 قد آثر إلا أن يكون الكلب حقلاً لتجاربه عند دراسته للغدد الهضمية فقد أراد من خلال تجاربه أن يعرف كيف يفكر الكلب ومتى تم ذلك فسيعرف بافلوف كيف يفكر الإنسان سواء كان عالماً أو فيلسوفاً أو أديباً أو سياسياً، وهكذا اثبت بافلوف إن هناك أواصر بيولوجيـة بين الإنسـان والكلـب فيما أسمـاه بـ (الانعكـاس الشرطي) أو (الاستجابة الشرطية).

مزايا الفلسفة الكلبية:

حدد المذهب الكلبي خصائصه من خلال موقف رجاله من الأخلاق والقيم السائدة في عصرهم ومع ذلك فقد اختلف مؤرخو الفلسفة في تفسير هذه التسمية التي لحقت بهم فهناك ثلاثة آراء بهذا الصدد (الأول بقول إن أصحاب هذا المذهب كانوا يجتمعون في مكان اسمه (الكلب السريع)، والثاني يرى إن أتباع هذا المذهب كانوا ينبحون على الرذيلة كما ينبح الكلب الحارس عند الخطر، أما الرأي الثالث فمنسوب الى الفارابي في قوله عن الكلاب إنهم كانوا يرون إطراح الفرائض المفروضة عن الناس ومحبة أقاربهم وإخوانهم وبغض غيرهم من سائر الناس وإنما توجد هذا الخلق عند الكلاب فقط، وفي الأخلاق تفيد احتقار العرب والتقاليد والرأي العام ومرجع ذلك الى إن الكلبين الذين كانوا يشترطون للانضمام الى زمرتهم أن ينزل المريد عن مكانته الاجتماعية).

  " المعجم الفلسفي مراد وهبة ص553 – 554 "

ومعنى هذا أن يحتقر المريد نفسه ويسمى بذلك كلباً ويكون بذلك مبعث اعتزاز وفخر للعضو الجديد.

ومن مزايا هذا المذهب إن أتباعه يرون إن الآلهة منزهة عن الحاجة وخير الناس من تخلق بأخلاق الله فقلل من حاجاته جهد الطاقة وقنع بالقليل وتحمل الآلام واستهان بها واحتقر الغنى وزهد في اللذائذ. وان الفقر والعمل الشاق المؤلم وسوء السمعة أمور نافعة تسهل للإنسان تحصيل الفضيلة وتعينه على نيل الحرية، ومن أجل ذلك زهدوا في اللذائذ ولم يحترموا أعراف الناس ولا قوانين البلاد وإنما يحترمون ما تمليه عليهم الحكمة والعقل، ولما كانوا لا يحترمون عوائد الناس ويرتكبون ما يتحرج الناس من فعله من غير خشية ولا احتشام وكانوا في ذلك كالكلاب أطلق عليهم أهل زمانهم اسم (الكلبيين).

 "موسوعة احمد امين – مبادئ الفلسفة ص94"

 ديوجين الشخصية الأكثر بروزاً في المدرسة الكلبية:

يعد ديوجين 404 – 323 ق. م من ابرز رجال المذهب الكلبي ويعتبره المؤرخون أشهر زاهد متقشف في العالم القديم، بل إن البعض يذهب أكثر من هذا فاعتبروه نبياً شاد دينه على العقل، ويوصف بأنه كان يعيش على الخبز اليابس والماء والنبيذ فهي أهم مقومات حياته وقيل انه كان يسكن في برميل ويتجول نهاراً في شوارع أثينا وبيده مصباح موقد وإذا سئل عن سر هذا قال إنني ابحث عن الحقيقة، جاء ذكره في كتاب " معجم الفلاسفة المختصر " للدكتور خلف جراد: انه رفض كل شئ ما عدا الواقع المحسوس ودعا الى تحرير الإنسان من قيود الأسرة والمجتمع وأنكر تعدد الآلهة وجميع العبادات واعتبرها من اختراع الإنسان وزائدة عن حاجته ونجد ذكر لاسم ديوجين مبثوثاً في كتب الحكم مثل كتاب " مختار الحكم " لأبي الوفاء البشر بن فاتك يصفه قائلاً... " كان حكيم أهل زمانه وكان زاهداً لا مسكن له ولا مأوى، لا يمتنع عن الطعام إذا جاع عند من وجده، يحبه الناس بالحق وقد قنع بثوبين من الصوف فلم يزل ذلك حاله حتى فارق الدنيا... "

وبما انه ليس له بيت يسكن قيل له يوماً: لماذا لم تتخذ لك بيتاً تستريح فيه ؟ قال: وأنا إنما استرحت إذ ليس لي بيت، و سمي بالكلب لأنه لا يحتشم أحداً وحين قيل له لماذا سميت بالكلب ؟ قال: لأني أبصبص للأخيار واهرأ على الأشرار، وعندما أعيد عليه السؤال مرة أخرى قال: لأني انبح على الجهلاء وأتملق للحكماء وكان يقول: " إذا رأيت كلباً ترك صاحبه وتبعك فارجمه بالحجارة لأنه سوف يتركك كما ترك صاحبه... "

وقال ديوجين عن المرأة: إن المرأة هي أذى لا بد منه وعندما عاب قوم من المترفين على معيشته رد عليهم: " لو أردت أن أعيش عيشكم لقدرت، ولو أردتم ان تعيشوا عيشتي لم تقدروا.."

وهكذا كان ديوجين اقرب الى النبي الشرقي منعه الى الفيلسوف اليوناني فقد روي عنه كان يرتدي في عز الشتاء معطفاً ممزقاً، وكان يسكن في برميل ويتغذى على الخبز والماء وقد احتقر الأخلاق والأعراف والعقائد كما احتقر الأقوياء والأساتذة.

سئل مرة عن الوقت المناسب لتناول الغذاء فأجاب قائلاً حسب الحالة فحين يكون الإنسان غنياً فانه يأكل متى ما يريد وحين يكون فقيراً فعندما يستطيع.

وكان يستمني علناً أمام الناس وهو يقول: كم يكون المرء سعيداً لو انه يكفيه أن يفرك بطنه كي لا يعود يشعر بالجوع.  

وحين قابله لاسكندر وقال له: اطلب مني ما تريد وستحصل عليه، رد عليه ديوجين قائلاً: ابتعد أنت تحجب الشمس عني.

وحين سئل ما هو وطنه قال: أنا مواطن العالم.  

وختاماً فلم يكن أصحاب هذا المذهب إلا رجال عاديين فلاسفة كغيرهم، ليسوا طغاة أو جبابرة أو قادة فتوحات عسكرية أو مؤسسو إمبراطوريات بل كانوا أصحاب مبادئ وقيم احترموها وعاشوا في سياقاتها مختارين لا مجبرين لهذا فقد أزهروا في حدائق التاريخ الكبيرة فأصبحوا من الخالدين. 

***

غريب دوحي

 

"لم يتقاتل البشر؟"، إنه سؤال استشكالي، يتعالى مع واقع نظر السوسيولوجيا المعاصرة. بل إنه يكاد ينفضها من بٌعديها السلوكي الاجتماعي، والتوظيفي التاريخي ...

كان المفكر سينيشا مالشيفيتش قد أغار على سؤال التقاتل وارتداداته على بنية السلوك البشري، وأحاط بكل ما هو محاذر للغة التشخيص الآلي والتشبيك المفهومي "للتقاتل" كفضاء تأريخي للأحداث فقط، متوسلا حجم الفظاعات التي تتفكك بإزائها قيم الحرب وتداولياتها التاريخية والثقافية والأنثروبولوجية.

عالم الاجتماع الايرلندي مالشيفيتش، الذي انبرى في أبحاثه التي قارب معظمها موضوعات سوسيولوجيا الحرب والعنف، وتاريخية العنف، من أجل تأويل تعاظم العنف الحربي بين البشر، وتواصل تحطيم الأخلاق والقيم الاختلافية بين الأيديولوجيات والأنظمة السياسية المتعاركة، لا يخفي اجتراحه مفهوم "المقاتلة الاجتماعية"، الذي يتساوق و"القتال المباشر" المجاهر بالصفة العنفية والخرق الحربي المتنوع، مع ما يحملانه من استكشافات بنيوية للآليات العملية التي تساق ضمن المقاتلة الاجتماعية المذكورة.

ويرى مالشيفيتش، المبتكر لهذه النظرية المستحضرة لمجمل الديناميات المسببة للعنف الجسدي البشري، أن التأثيرات الصادمة والمركبة في آن واحد، وضمن سياقاتها المتغيرة زمكانيا وبالمرونة الواجدة للقتال الجسدي إياه، توفر حيزا تفكيريا واسعا لاستعراض مختلف السياقات والمرامي الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية لبنى القتال"، باعتباره ظاهرة اجتماعية تصوغها علاقات الإنسان، وتراكمات تلك العلاقات على مستوى التنظيم والتقاطع، ما ينتج عنه اختلافات وتشعبات، تناكفها "قابليات" ومنطقيات أخرى، منها ما هو إيديولوجي وآخر تنظميمي.

 ويدلل المفكر هذه الظاهرة بما أسماه " ظواهر الحرب والعنف والصراعات الإثنية والقومية، بالانهيار القاسي والكبير الذي شهدته يوغسلافيا خلال تسعينيات القرن الـ20 الماضي"، مسجلا مأساوية الحقبة العنيفة التي كرست وشائج جديدة لوظائف وأدوار البيولوجيا والسيكولوجيا والاقتصاد والأيديولوجيا، في تبيين إشكالية لما وصفه ب "معايشة الفرد تجربة القتال"، بالنظر إلى "الاستجابة العلائقية" القائمة بين تلاقي بنى وفاعلين وأحداث مختلفة داخل باراديجم الحرب العنيفة، وهو بذلك يستند إلى أن العلاقات الإنسانية لا تنشأ وتتفاعل بوساطة خصائص بيولوجية أو سيكولوجية أو خصائص أخرى ثابتة ومستقرّة، بل إنّها "تنشأ وتتولد من التفاعلات المتحركة بين منظمات اجتماعية محددة، وأطر أيديولوجية وعمليات تفاعل جزئية متصاعدة، مما يؤكد أن القتل والقتال لا يعبّران عن ممارسات موحّدة وثابتة ومستقرة ومتجاوزة للتاريخ وعابرة للثقافات، كما أنّها لا تقوم على أنماط ثابتة ولا تعتمد على أطر معروفة مستقرة، بل هي ظاهرة متنوعة ومتغيّرة ومتحركة ومتبدلة وسياقية"(*).

إن اقتفاء أثر السلم والحرب كثنائية فلسفية مشاعة، يفرض ضبطا مفهوميا لقياسات محايثة ومنذورة للتأويل والتبدل، كما هو الشأن بالنسبة للتنظيرات الفلسفية المجاوزة للحدود العقلانية، التي تراكم التوتير في المعنى والتشارك المواضعاتي، كفعل الشر الموصوف الذي يبرر معاشرة الخير والعدل، بنفس المعنى الذي يتلمس خيط السلم طريقه باتجاه العنف (لا يتحقق السلم إلا بإقامة العنف إذا عدمت الوسائل السلمية)، وهو ما تنبه إليه القديس أوغسطين الذي أقام جدارا بلويرا لما أسماه بالحرب العادلة"، منشغلا بصيرورة الحروب وجدواها في السنن والكونيات والحتميات الإنسانية، وتعدد قواها وظروفها وأشكالها، وصولا إلى قطائف السلام وانثيالاته. وكثيرًا ما وجدت الفلسفة أنه ولتحقيق السلم لا بد من اندلاع الحرب، فأوكلت للعنف إنهاء العنف. هكذا ارتبطت، فلسفيًّا، الحرب بالسلم، والعكس بالعكس.

لكن الحقيقة المرة في كل هذه المغايرة اللامحسومة، هو الافتتان بالحروب قدرا مقدورا، وصناعته بالإرادة والدربة والاقتداء، حيث يجرف التاريخ البشرية إلى ما يشبه حوائم الطاحونة ومتلاشياتها. يستثمر طاقة الإنسان، لتجريفه خارج المتاهة، ويعاود تدويره على نحو يصير متمثلا للأنماط المشكلة بالقسر لا المبادرة، والتعثر والاصطدام عوض الإبداع والديمومة؟.

لقد ظلت رؤى الحكماء والفلاسفة حول الحرب والمقاتلة، تتقاطع ولا تنصرف البتة إلى مكامنها في الروح والوجدان البشري المنكوس. بين من يعقر ميزابها بقيامة "السلام الأبدي" وتفكيره المستميت، من أجل الخلاص. ومن يعتبرها وجها من أوجه كتابة الموت نفاذا للحياة، وتحضرني في هذا السياق، اجتهادات كانط، الذي اقترح وضع نظام أو ميثاق أو عقد يقوم على التضامن. وكان قد كرس نظريته قبل ذلك في كتابه "نحو السلام الدائم"،  قبل أن يتراجع عنه، ويطالب بدولة عالمية ذات كيان سياسي تضامني مفصول عن السوبر لا تخضع للقوة المهيمنة، ولا تنزلق إلى هوة الظلم والقهر والاستعباد.

***

د. مصطفى غَلمان

......................

* "لم يتقاتل البشر؟" سينيشا مالسيفيتش، الشبكة العربية للأبحاث والنشر ط1 2024/ ص 127

1. هيجل وطبيعة العقل الجدلية

من خلال مقولة انجلز الدوغمائية ماركسيا اعتباره (قوانين الطبيعة) تعمل بشكل جدلي ديالكتيكي ذاتي بعيدا عن رغائب الانسان. قول انجلز هذا يوقعنا بمأزق ليس سهلا علينا التخلص منه. ماهي العلاقة التي تربط بين قوانين الطبيعة الثابتة وقوانين الديالكتيك المتغيرة؟. الاسبقية في التحكم بالطبيعة والمادة والتاريخ هي لمن؟ هل هي لقوانين الطبيعة ام لقوانين الديالكتيك؟.

أم هما متكاملان في التحكم بالمادة والتاريخ والانسان. لا يمكننا القول ان قوانين الطبيعة(الثابتة) هي نفسها قوانين الجدل الديالكتيكي (المتغيرة) وهما يعملان بخصائص ذاتية باختلاف خواص قوانين الطبيعة هي قوانين فيزيائية ثابتة. بينما قوانين الجدل الديالكتيكي هي قوانين تحكم التاريخ في سيرورة متغيرة ليست ثابتة. في تخطئتنا عبارة انجلز نقول قوانين الطبيعة العامة ثابتة فيزيائيا ولا تدخل في علاقة جدل ديالكتيكي مع ظواهر او قوانين هي من صنع علاقة الانسان بالطبيعة.. الديالكتيك المادي الجدلي في قوانينه الثلاث انما يقوم على ركيزة التضاد التي تحكمهما وتجمع بينهما المجانسة النوعية الواحدة زائدا الحركة الدائمية الدائبة لطرفي التضاد الجدلي. التضاد محكوم بزوال ما يسمى طرف السلب ليخلي الطريق امام الطرف الايجابي ان ياخذ دوره في استحداث الظاهرة الثالثة الجديدة نتيجة التضاد بين سالب وموجب.

هذا الخلط الذي بدأه انجلز قوله طبيعة قوانين الطبيعة محكومة بالجدل الديالكتيكي أوقع هيجل بخطا فلسفي فادح قوله (طبيعة العقل جدلية بالفطرة البايولوجية للانسان). وهذه الطبيعة الجدلية للعقل هي التي تحكمنا في تحليل كل مظاهر المادة والحياة والتاريخ بقوانين الجدل الثلاث. اولا وحدة وصراع الاضداد، ثانيا تحول الكم الى كيف (نوعي)، وثالثا قانون نفي النفي.

اعتقد انزلاق انجلز قوله قوانين الطبيعة هي ذات خصائص ديالكتيكية لا موجب الوقوف لتفنيد خطأها فهي ولدت ميتة بدوغماية فجّة واضحة.

اما بخصوص مقولة هيجل التي لا تقل ابتذالية فلسفية دوغمائية عن مقولة انجلز في مقولته طبيعة العقل الديالكتيكية بالفطرة هي التي تملي وتخلع على التاريخ والمادة طبيعتهما الجدلية المادية الديالكتيكية.

طبيعة العقل جدلية بايولوجيا بالفطرة هراء وخرافة فلسفية اطلقها هيجل. ولا يمكن لطبيعة العقل الجدلية هذه حسب تعبير هيجل ان تخلع على تفكيرنا ان كل شيء يتوجب تحليله ودراسته وفق منطق الديالكتيك. قوانين الجدل يحكمها التغيير الحاصل بكل شيء محكوم بالحركة والسيرورة المتقدمة فهي لا تلتقي قوانين الطبيعة الفيزيائية العامة الثابتة.

خصائص العقل البيولوجية تقوم على اشباع حاجات الجسم الغريزية والمكتسبة عن المحيط والمؤثرات الموضوعية والمعرفية التي مصدرها العالم الخارجي الطبيعة وموجوداتها. وتبقى علاقة اشباع الذات او العقل لمفاهيم اكسيولوجية مثل القيم والعواطف والغرائز الفطرية وغيرها تدخل في باب علاقة العقل بالجسم.

من المحال ان يشتغل العقل في جانب واحد من خصائصه المتعددة كي نقر بسذاجة مقولة هيجل العقل ذو طبيعة جدلية. ومن غير المنطقي ولا من المعقول ان تكون جميع عقول الناس مبرمجة طبيعيا بالفطرة في الخاصية الديالكتيكية.

فالفكر الصادر عن عقل شخص يفكر تفكيرا ماديا جدليا. لا يمكننا العثور على عشرات بل مئات وملايين العقول التي يجمعها خاصية الديالكتيك كطبيعة عقلية كما يرغب هيجل نمذجة العقول في بعد واحد من التفكير.

من جنبة اخرى ليس بمقدور العقل تخليقه واقعة الديالكتيك المادية. فالديالكتيك قانون محكوم بظروف موضوعية متغيرة وليست ثابتة وهي اشتراطات تحدث بمعزل عن تدخل ارادة الانسان بها. وطبيعة الجدل في العالم الخارجي هو الذي يجعل التفكير العقلي جدليا يكون ثانويا على الجدل الحاصل في الواقع ما يجعل الفكر الجدلي متماهيا تابعا لجدل الواقع في الاسبقية الاستقلالية عن الفكر.

من جانب آخر فالديالكتيك هو خاصية واقعية بينما الفكر الجدلي خاصية تجريدية لذا يكون من الصعب جدا تمرير مقولة هيجل طبيعة الفكر الجدلي للدماغ او العقل هي التي تملي الجدل الديالكتيكي على الواقع. لا يوجد جدل كما ذهب له ماركس على صعيد الفكر يسبق ويحكم الواقع جدليا في جل تجلياته وظوهره. الواقع لا يحكمه الجدل في كل الاوقات كما ولا هو حادث حاصل بارادة ذاتية للانسان في تحقيق رغائبه. الجدل في حال حصوله في التاريخ والمادة يكون مستقلا نهائيا عن تلبية رغائب الانسان. نعم ترافق عملية الجدل الحاصلة وقائعيا عوامل موضوعية مساعدة في مهمتها تسريع انجاز عملية الديالكتيك.

2. الفكر والواقع:

إذا كان هناك خاصية ينفرد بها الفكر تراسندتاليا (متعاليا) على الواقع فهي أنه يتطور ويتغير أسرع من التغييرات ألحادثة في واقع الحياة المادية وعالم الاشياء من حولنا في الطبيعة، بمعنى الفكر يدرك الموجودات بالوصاية العقلية عليها بما يجعل من هذا الاخير(الواقع بموجوداته) تابعا للفكر الذي يتقدمه في نفس الوقت الذي لا يمكن القفز من فوق حقيقة أن الواقع المادي للاشياء هو مصدر إلهام الفكر وسابق عليه وليس العكس. فالفكر لا يصدر من فراغ أي بلا موضوع مادي يدركه حسيّا او موضوع خيالي سابق عليه .

تبدو مفارقة متناقضة حين نقول الفكر يتقدم الواقع المادي في التقاطع مع/ والخروج على النظرة المادية ونسقط في تعبير مثالي حين نجد الافكار تجر الواقع وراءها على الدوام، في حين الحقيقة أن الواقع في موجوداته المستقلة أنطولوجيا هو محرك الفكر المحايث لذلك الواقع ماديا جدليا السابق على الفكرالمنتج لاستثارة وعي الادراك العقلي،، والأفكار في الوقت الذي تدخل جدليا(تكامليا معرفيا) مع موجودات الاشياء فهي تسابقها من أجل تغييرها وتطويرها بعد معرفتها وإدراكها عقليا، وتتطور هي ذاتيا أيضا بعلاقتها الجدلية مع تلك الموجودات. العلاقة بين المادة والفكر تكامل معرفي لكليهما في التقدم والتطور. لا يتطور الواقع من دون فكر نظري ولا يتقدم الفكر النظري بدوره من دون علاقته الترابطية بالواقع.

والافكار التي تحاول تغيير الواقع جدليا متخارجا مع موجوداته تتطور هي الأخرى في جدليتها المتعالقة بها.فوجود الشيء أو الموضوع المستقل ماديا أو خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل البايولوجي قبل الأفصاح عن وجوده المادي في عالم الاشياء بواسطة تعبير اللغة عنه كموجود في العالم الخارجي او موضوعا متخيّلا. الموجود يسبق الفكر لكنه لا يلزم العقل إدراكه.

الموجودات في العالم الخارجي لا قدرة لها الإفصاح عن نفسها دونما الإدراك العقلي لها والتعبير الفكري لغويا عنها. وكذا نفس الحال مع المواضيع المصنّعة خياليا. فنحن نفهم الصمت تفكيرا إستبطانيا داخليا ذاتيا ولا نفهمه تعبيرا لغويا تواصليا صوت ومعنى دلالي. صمت اللغة في ضروب الفنون والادب تواصل إيحائي تكون فيه لغة التعبير في حالة كمون مفهومي المعنى بمعزل عن خاصية ملازمة الصوت للغة.

وهذا يختلف عن صمت الانسان وإمتناعه التعبير عن تفكيره باللغة المكتوبة أو بالكلام في حال إدراكه أن لا فائدة من التعبير اللغوي . وتاكيد ذلك في تعبير لوفيدج فينجشتاين قوله حين نعجز التعبير بوضوح يكون الصمت أجدى.

ليس الواقع الوجودي للاشياء هو الإنعكاس الميكانيكي في تعبير الفكر واللغة عنه، وأنما الموجود بعد إدراكه حسّيا وعقليا يتم تخليقه ثانية بالعقل بما يطلق عليه كانط مقولات العقل. والاشياء التي يعمل العقل على تطويرها ينعكس هذا التطور الواقعي على الافكارالتعبيرية عنه فتتطور هي ايضا. بمعنى أن الواقع الذي يتطور بفاعلية الفكر يقوم هو الآخر بتطوير (ذاته) واقعيا ماديا ليبقى الفكر يتقدم الواقع في تخليقه له على الدوام ولا يتقدم عليه في أسبقية وجوده على الفكر..

3. عن اللغة ومصطلح ما فوق اللغة:

ما فوق اللغة مصطلح فلسفي له ثلاثة تشعبات:

الاول يطلق عليه الميتالغة بمعنى الفهم السبراناتيكي للغة الذي يعتمد الذكاء الصناعي في الريبوت وغير ذلك من تكنولوجيا متطورة. ويطلقون على هذه الميتالغة اللغة المافوق اللغة المتقدمة المتعالية ترانسدتاليا التي تتحدث عن لغة اخرى ادنى منها. مشتركات اللغات في غير صفات النحو والقواعد الذي يشكل هوية لغوية خاصة بكل لغة لا تمكننا من دمج تلك اللغات مع بعضها في وضع قواعد نحوية مشتركة تجمعها. هذا ما حاوله موريس هيرمان سكينر في نظريته السلوك اللفظي ونعوم جومسكي في التوليدية اللغوية.

الثاني ان مافوق اللغة هو اللغة التواصلية التي لا تحكمها ضوابط النحو والقواعد والصرف وغيرها. فهي لهجة فطرية خاصة بجماعة او قوم اكتسبت صفة هوية يتكلمها ويتواصل بها قوم من الاقوام.، ولم تكتسب اللهجة ضوابط المصطلح المتفق عليه على انها لغة خاصة تمتلك كل ضوابط وقواعد اللغة الخاصة بقوم من الاقوام او امة من الامم.

شرط اللغة هو المصطلح المتفق عليه في تثبيت نحوها وقواعدها الخاصة بها كي تمتلك هوية لغوية لقوم من الاقوام او مجتمع من المجتمعات. اما اللهجة او الكلام الشفاهي فهو وسيلة تواصل مجتمعية لا تمتلك قواعد ونحو لغة مدوّنة كما نجده عند الاقوام البدائية التي لم تكن تعرف التدوين والكتابة الصورية او الحروفية المتقدمة.

الثالث ان ما فوق اللغة هي اللهجات التواصلية لدى اقوام بدائية لم تكن تعرف التدوين. هذه اللهجات من الممكن ان تكون ما فوق لغة لكنها لا تمتلك الابجدية الحروفية المصطلحية المتفق عليها لتكون بعدها لغة تمتلك هوية خاصة بها.(تراجع مقالتنا ما فوق اللغة في العربية على كوكل وعلى نافذة نبأ العراقية).

الانسان يتكيف مع الطبيعة عندما يجد تفكيره لا يتعدى عالم ما يدركه حسيا. هل يعي الانسان تكيفه مع الطبيعة بارادة ووعي منها ام ان تكيّف الانسان مع تقلبات بعض ظواهر الطبيعة هي استجابة فطرية غريزية لديه؟.

الاحتمال الذي اميل اليه ان تطور ذكاء الانسان هو الذي اعطاه معنى التكيّف مع تقلبات ظواهر الطبيعة الذي رافقه انقراض انواع عديدة من الكائنات الحية من حيوان ونبات وبعض من سلالات بشرية تعود الى مراحل عصور تطور الانسان انثروبولوجيا. من حيث ان منهج دارون في اصل الانواع والبقاء للاصلح يعتمد تطور انثربولوجيا تاريخ الانسان وليس تطور الغرائز والفطرة البايولوجية للانواع في الطبيعة فقط.

نظرية داروين تقاطع في بعض حلقاتها حقائق العلم كما تقاطع ميتافيزيقا السرديات الدينية الكبرى. كما تقاطع الماركسية الحاضنة الاولى لافكار داروين. القوى الذاتية لتطور الانواع وبقاء الاصلح هو ناتج املاءات الطبيعة على الكائنات الحية. الطبيعة وبيولوجيا الانواع المرتكز الاساس في الداروينية.افضل الكتابات الفلسفية هي غير الزوبعة التي تثيرها بل هي النبيذ المعتق الذي خمّرته الاعوام الطويلة ليصبح بعدها تذوقا نخبويا فريدا.

اعجاز العقل يكمن في تفكيره اللغوي الصوري. بمعنى آخر العقل لا يفكر بالفكر المجرد الانفصالي عن الابجدية اللغوية فهذا محال. تفكير العقل ابجدية لغوية صورية صامتة وليس فكرا تجريديا متحررا من ابجدية اللغة. الفكر داخليا في (الجسم) وخارجيا في ادراكه العالم وموجودات الطبيعة والحياة هو لغة لها معنى محدد لموضوع. وهنا اعيد عبارة منسوبة للفيلسوف الاميركي سيلارز هي قمة ما توصلته فلسفة اللغة قوله (الوجود لغة). وهي تاكيد اننا لا ندرك اي شيء بالفكر وحده مجردا عن ملازمة الابجدية اللغوية له. وجود المادة ادراك لغوي للانسان وحضور مستقل في الطبيعة لا يمتلك التفكير ولا ملكة التعبير عن نفسه.

تفكير العقل صمتا لا يلغي ابجدية اللغة الصورية صوتا ومعنى كما هي في تعبير اللغة الصائتة عن مدركات العقل من الاشياء والمواضيع في العالم الخارجي. والفكر الذي يعمل على تطوير واقع الاشياء إنما هو الآخر يتطور في مجاراته تطورات الواقع ومجاوزته لتلك التطورات في تعاليه عليها بإستمرار... وفي الفرضية الخاطئة التي تقود الى نتيجة خطأ أيضا هي في إعتبار عملية إدراك الانسان للاشياء هو في سعيه مطابقة قوانينه المستحدثة لديه مع قوانين الاشياء في وجودها المادي المستقل قبل إدراكها وهو إفتراض وهمي غير حقيقي ولا يمكن الانسان فهم وتنظيم عوالمه الحياتية بهذا التنميط من التفكير السلبي مع إدراكاته لعوالم الاشياء في وجودها الطبيعي..

بل الادراك الحقيقي أن تدخل الاشياء المدركة مع الفكر في تكامل معرفي ثنائي متبادل يكسبهما كلاهما التغيير والتطور وبغير هذا الفهم معناه نفي أن يكون هناك فائدة من وعي الانسان لموجودات الطبيعة وإستحداث رؤيته وقوانينه الخاصة بها ..ألنتيجة التي يحرزها الفكر بالنهاية من هذه العملية هو أن تكون قوانين الفكر هي قوانين الاشياء في الواقع... بمعنى أصبح ما نمتلكه عن الاشياء من أفكار نتيجة مدركاتنا لها هو وحده الذي يعطي وجودها الحضوري الواقعي في حياتنا. مطابقة تفكيرنا للواقع لا يلغي حيازة الفكر خاصية تغيير ذلك الواقع.

تفكير العقل في وعيه القصدي لا يسعى مطابقة صحة افكاره مع مدركاته الواقعية بل في محاولته وضع تنظيرات فكرية في تغييرها. العقل الانساني يبحث عن الاجابة لماذا ندرك الاشياء؟ وليس كيف ندركها.؟

إن العقل وحده له الأسبقية في تحديد الوجود والفكرالمتعالق معه أن يكون ماديا أم مثاليا. واللغة تكون في هذه الحالة وعاء الفكر في تحديد نوع الوجود المادي أو المثالي المفصح عنه بتعبير اللغة. في عالم صنع الانسان لحياته في كل مناحيها بعلاقته بظواهر الطبيعة ومواضيعها، بمعنى أن وجود عالم الاشياء سابق على أدراك الانسان لها انطولوجيا، وتنظيم الانسان لوجود عالم الاشياء هو الحافز الاساس لأدراكه تلك الموجودات، والعامل الأهم أنه ينّظم مدركاته للاشياء التي هي بالنتيجة تنظيم حياته ووجوده، والفكر الانساني لا يعمل في فراغ وجودي مادي أوفي فراغ غير موضوعي متخيّل من الذاكرة ولا في تجريد ذهني يلغي مؤثرات علمية ومعرفية عديدة في فهم وبناء الحياة الانسانية...

اللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكير به ذهنيا واكتملت مهمة اعادة الوعي من العقل الى عالم الاشياء كفكر جديد بلغة جديدة وليس كوجود سابق مستقل في عالم الاشياء قبل ادراك العقل له. العقل لا يخلق موجودات الحياة القبلية بالفكر بل يخلق وسائل فهم وتفسير وعي تلك الحياة في إعطائها قيمة منظمة تخدم الانسان وتقدمه .

ايعازات العقل الارتدادية الانعكاسية الصادرة عنه بتوسيط الوعي والواردة اليه بواسطة منظومة الجهاز العصبي المرتبطة بالدماغ في تخليقه لمواضيع جرى تفكيره بها انما تتم  في تنفيذ اللغة او غير اللغة ايعازات العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي بفهم جديد عما كان عليه قبل ادراك العقل له، في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي بعد تخليقه عقليا. الوجود الادراكي الحسي او العقلي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

كل خارق لقوانين الطبيعة معجزة لا يستطيعها كل البشر ولا يتم ادراكها عقليا لتصبح وجودا بذاته. يمكن التسليم بها ايمانا قلبيا فقط. المنفعة او مبدا اللذة الابيقورية وفي الفلسفة البراجماتية الاميريكية هي جوهر انساني فطري غريزي .اي انها لا تحتاج اشتراط فلترتها التجريبية العملانية في تاكيد نفعها من عدمه كما تذهب له الذرائعية الامريكية.

المنفعة غريزة انفرادية يعزز انتشارها انها تعيش ضمن مجتمع. والمنفعة معرفة وسلوك تلازم الانسان كمثل تقاسيم وجهه. اعمال الانسان طيلة حياته هي سعي محموم مرتكزه برمجة الانسان لعقله من اجل تحقيق منفعة انفرادية من حيث طبيعة الانسان كائن إنتفاعي نفعي معا. والتضحية من اجل الاخرين ضرورة ملزمة وليس ارادة ذاتية متحررة. وحين يحب رجلا امراة على سبيل المثال انما يحبها بدافع اشباع لذته ومنفعته الغريزية وليس تلبية رغائب المرأة في العملية الجنسية.. القليل الذين يفكرون ممارسة العلاقة الحميمة تنتفي فيها السلطة الذكورية التسلطية على الارادة الانثوية المستضعفة. الحل في التكافؤ فقط.

عالمنا المعاصر اصبح مفهوما متفقا عليه يقوم على ثلاثة ركائز هي :اولا الشعور الواقعي هو أنه عالمنا الحقيقي الذي نحياه ولا يشترط ان يكون افضل العوالم كما ذهب له لايبنتيز في القرن الثامن عشر. كما لا يوجد عالما مثاليا لا ندركه هو الاسمى من عالمنا الذي نعيشه كما ذهب له افلاطون ونيتشة وبعض فلاسفة الوجودية. الركيزة الثانية لم يعد امام العالم التراجع عن منجزات العلم الواجبة التكيف معها لذا يكون العقل البوصلة الحقيقية الوحيدة في محاولة معرفتنا موضع اقدامنا. الركيزة الثالثة التفكير الصارم بعدم جنوح النزعات التدميرية والحربية بدل ترسيم مستقبل متعايش بسلام يحتضن الجميع بوئام المعيش بسعادة..

لم يعد امام عالمنا اليوم التعويض عن تازمات الحياة المتوالية في سلسلة متناسلة من الكوارث سوى دخول واقعنا الحقيقي بخطاب نافذ جريء. الخطابات الانانية الضيقة التي تلهث وراء الاستهلاك النخبوي لم تعد صالحة لعالمنا اليوم فقد انتهى زمن القضم من حافات تجسير العلاقات الانسانية وتراجع تاثيرها. اعتقد مقولة بروتاغوراس "الانسان مقياس كل شيء" صالحة الاستعمال.

من جملة فلاسفة عديدين انكروا العقل الانساني يبرز في الفلسفة الغربية المعاصرة الاسكتلندي ديفيد هيوم ليتبعه زميله الانجليزي جلبرت رايل 1900- 1976 الذي قال باصرار عنيد ليس هناك عقلا ولن يكون مستقبلا ابدا. الوعي هو الوسيلة الادراكية العقلية لفهم الواقع وتغييره. ولا علاقة جدلية بين الوعي والواقع، الوعي تجريد عقلي تصوري لا ينتجه الواقع. بل هو توسيط نقل مقولات العقل عن مدركاته الواقعية.

***

علي محمد اليوسف

بقلم: ميشيل فوكو

ترجمة: علي حمدان

***

كيف تمارس السلطة، وسؤال الذات؟

الأفكار التي أود مناقشتها هنا لا تمثل نظرية ولا منهجية. أود أن أقول، أولاً وقبل كل شيء، لم يكن هدف عملي خلال العشرين عامًا الماضية، لم يكن تحليل ظاهرة السلطة، ولا لوضع أساس لمثل هذا التحليل.

 لقد كان هدفي، بدلاً من ذلك، هو إنشاء تاريخ للأنماط المختلفة التي يتم بها تحويل البشر في ثقافتنا إلى ذوات، افراد. وقد تناولت أعمالي ثلاثة أنماط من التشييء التي تحول البشر إلى موضوع.

إن الأول هو أساليب البحث التي تحاول أن تمنح نفسها مكانة العلوم؛ على سبيل المثال، إضفاء طابع موضوعي على الذات المتحدثة في النحو العام، وعلم اللغة. أو مرة أخرى، في هذا النمط الأول، إضفاء طابع موضوعي على الذات المنتجة، الذات التي تعمل، في تحليل الثروة والاقتصاد. أو، في مثال ثالث، إضفاء طابع موضوعي على حقيقة كون المرء حيًا في التاريخ الطبيعي أو البيولوجيا.

في الجزء الثاني من عملي، درست موضوعية الذات فيما أسميه "ممارسات التقسيم". فالذات إما أن تكون موضوعية أو غير موضوعية. "إن الإنسان منقسم داخل نفسه أو منفصل عن الآخرين. وهذه العملية تجعله موضوعياً. ومن الأمثلة على ذلك المجنون والعاقل، والمريض والصحي، والمجرم و"الأولاد الصالحين".

وأخيراً، سعيت إلى دراسة ــ وهذا هو عملي الحالي ــ الطريقة التي يحول بها الإنسان نفسه إلى موضوع. على سبيل المثال، اخترت مجال الجنس ــ كيف تعلم الرجال أن يدركوا أنفسهم كموضوعات "للجنس".

وبالتالي، فإن الموضوع العام لبحثي ليس السلطة بل الذات نفسها.

لقد كنت مهتماً بمسألة السلطة. وسرعان ما تبين لي أن الذات البشرية، في حين أنها موضوعة في علاقات الإنتاج والدلالة، موضوعة أيضاً في علاقات السلطة التي تتسم بالتعقيد الشديد. وبدا لي أن التاريخ والنظرية الاقتصادية توفران أداة جيدة لعلاقات الإنتاج وأن علم اللغة وعلم العلامات يوفران أدوات لدراسة علاقات الدلالة؛ ولكن بالنسبة لعلاقات السلطة لم تكن لدينا أدوات للدراسة. ولم نلجأ إلا إلى طرق التفكير في السلطة استناداً إلى نماذج قانونية، أي: ما الذي يضفي الشرعية على السلطة؟ أو أننا لجأنا إلى طرق التفكير في السلطة استناداً إلى نماذج مؤسسية، أي: ما هي الدولة؟

ولذلك كان من الضروري توسيع أبعاد تعريف السلطة إذا أردنا استخدام هذا التعريف في دراسة موضوعية الذات.

هل نحتاج إلى نظرية للسلطة؟ بما أن النظرية تفترض موضوعية مسبقة، فلا يمكن تأكيدها كأساس للعمل التحليلي. ولكن هذا العمل التحليلي لا يمكن أن يستمر دون تصور مستمر. وهذا التصور يستلزم التفكير النقدي ـ والتحقق المستمر من صحة المعلومات.

إن أول شيء يتعين علينا التحقق منه هو ما أسميه "الاحتياجات المفاهيمية". أعني أن عملية التصور لا ينبغي أن ترتكز على نظرية للذات ـ فالذات التي يتم تصورها ليست هي المعيار الوحيد لعملية التصور الجيدة. يتعين علينا أن نعرف الظروف التاريخية التي تحفز تصورنا. ونحن في حاجة إلى وعي تاريخي بظروفنا الحالية. والشيء الثاني الذي يتعين علينا التحقق منه هو نوع الواقع الذي نتعامل معه.

لقد عبر أحد الكتاب في إحدى الصحف الفرنسية الشهيرة ذات مرة عن دهشته: "لماذا مفهوم السلطة يثار في أذهان كثير من الناس هذه الأيام؟ "هل هذا الموضوع مهم إلى هذه الدرجة؟ هل هو مستقل إلى الحد الذي يجعل من الممكن مناقشته دون الأخذ في الاعتبار المشاكل الأخرى؟"

إن دهشة هذا الكاتب تحيرني. وأنا أشك في افتراض أن هذا السؤال قد طرح للمرة الأولى في القرن العشرين. وعلى أية حال، فهو بالنسبة لنا ليس سؤالاً نظرياً فحسب، بل إنه جزء من تجربتنا. وأود أن أذكر هنا "شكلين مرضيين" فقط ـ هذين "المرضين اللذين يصيبان السلطة" ـ الفاشية والستالينية. ومن بين الأسباب العديدة التي تجعلهما محيرين للغاية بالنسبة لنا أنهما على الرغم من تفردهما التاريخي فإنهما ليستا أصليتين تماماً. فقد قاما باستخدام وتوسيع  نطاق الآليات الموجودة بالفعل في أغلب المجتمعات الأخرى. بل إنهما على الرغم من جنونهما الداخلي استخدما إلى حد كبير أفكار وأليات عقلانيتنا السياسية.

إن ما نحتاج إليه هو اقتصاد جديد للعلاقات القائمة على السلطة ـ ونستخدم كلمة "اقتصاد" بمعناها النظري والعملي. وبعبارة أخرى: منذ كانط، كان دور الفلسفة هو منع العقل من تجاوز حدود ما نراه في التجربة؛ ولكن منذ نفس اللحظة ـ أي منذ تطور الدولة الحديثة والإدارة السياسية للمجتمع ـ أصبح دور الفلسفة أيضاً هو مراقبة القوى المفرطة للعقلانية السياسية، وهو ما يشكل توقعاً مبالغا إلى حد ما.

إن الجميع يدركون مثل هذه الحقائق العادية. ولكن حقيقة كونها عادية لا تعني أنها غير موجودة. وما يتعين علينا أن نفعله مع الحقائق العادية هو أن نكتشف ـ أو نحاول أن نكتشف ـ أي مشكلة محددة وربما أصلية ترتبط بها.

إن العلاقة بين العقلنة والإفراط في استخدام القوة السياسية واضحة. ولا ينبغي لنا أن ننتظر البيروقراطية أو معسكرات الاعتقال حتى نعترف بوجود مثل هذه العلاقات. ولكن المشكلة هي: ماذا نفعل بمثل هذه الحقيقة الواضحة؟

هل نجرب العقلانية؟ في اعتقادي، لا شيء أكثر عقماً من هذا.

أولاً، لأن المجال لا علاقة له بالذنب أو البراءة. ثانياً، لأنه من غير المعقول أن نشير إلى العقلانية باعتبارها الكيان المعاكس للاعقلانية. أخيراً، لأن مثل هذه التجربة من شأنها أن توقعنا في فخ لعب الدور التعسفي والممل للعقلاني أو اللاعقلاني.

هل ينبغي لنا أن نحقق في هذا النوع من العقلانية الذي يبدو أنه خاص بثقافتنا الحديثة والذي نشأ في عصر التنوير؟

أعتقد أن هذا كان نهج بعض أعضاء مدرسة فرانكفورت. ولكن هدفي، مع ذلك، ليس بدء مناقشة لأعمالهم، على الرغم من أهميتها وقيمتها. بل إنني أقترح طريقة أخرى للتحقق في الروابط بين العقلنة والسلطة. وقد يكون من الحكمة ألا نأخذ عقلنة المجتمع أو الثقافة ككل، بل أن نحلل هذه العملية في عدة مجالات، كل منها بالإشارة إلى تجربة أساسية: الجنون، والمرض، والموت، والجريمة، والجنس، وما إلى ذلك.

أعتقد أن كلمة "العقلنة" خطيرة. ما علينا أن نفعله هو تحليل العقلانيات المحددة بدلاً من استحضار تقدم العقلنة بشكل عام.

هل نجرب العقل؟ في اعتقادي، لا شيء أكثر عقماً من هذا أولاً، لأن هذا المجال لا علاقة له بالذنب أو البراءة. ثانياً، لأنه من غير المعقول أن نشير إلى العقل باعتباره الكيان المعاكس للاعقلاني. أخيراً، لأن مثل هذه التجربة من شأنها أن توقعنا في فخ لعب الدور التعسفي والممل للعقلاني أو اللاعقلاني.

حتى وإن كانت مرحلة التنوير مرحلة بالغة الأهمية في تاريخنا وفي تطور التكنولوجيا السياسية، فإنني أعتقد أنه يتعين علينا أن نشير إلى عمليات أكثر بعداً إذا أردنا أن نفهم كيف وقعنا في فخ تاريخنا.

***

.....................

*هذا المقال كتبه مشيل فوكو كخاتمة لكتاب: ميشيل فوكو.. ما وراء البنيوية والتأويلية بقلم هيربرت ال. ديفوس وبول رينبو. اصدار جامعة شيكاجو.

 

احيانا يجد الانسان نفسه عالقا في تفكير ثنائي. هل نؤمن بالارواح ام نؤمن ان الروح هي نفس الدماغ؟ هل نؤمن باننا لدينا ارادة حرة ام ان كل شيء مقرر سلفا؟ هل انت شيوعي ام رأسمالي؟. هذه واحدة من أكبر النقاشات الفلسفية الثنائية المعاصرة بين التوحيديين التقليديين والملحدين التقليديين: هل انت تؤمن بالإله الخالق القدير ام انك تؤمن اننا نعيش في كون عبثي بلا إله؟ في أي جانب ستقف، هل مع الملحد ريتشارد دكنز ام مع البابا؟ هذه الخيارات امام كل فرد والقرار يعود  له.

غير انه في كل من هذه الحالات هناك مواقف صائبة تقع بين الحدّين المتطرفين. الفيلسوف فيليب جوف Philip Goff (1) استطلع المنطقة الوسطية في فلسفة الذهن، وبالذات الدفاع عن الروحانية الشاملة panpsychism، وهي الرؤية بان الوعي هو خاصية أساسية وشاملة في كل مكان من الكون. وفي كتاب جوف الأخير (لماذا؟ الغرض من الكون،2023) استطلع فيه المنطقة الوسطية المثيرة بين الشكلين التقليديين للايمان والالحاد.

في النهاية، يرى جوف ان كل جانب من طرفي النقاش حول الله لديه شيء من الصواب. الملحد يشير وهو على صواب الى صعوبة التسوية بين إله محب وقدير وما نراه من معاناة مرعبة في العالم. الجواب الأكثر شهرة من جانب الموحدين يستخدم الارادة الحرة، وهذا يوضح ان المعاناة ناتجة عن فعل الانسان – لكن ماذا عن المعاناة التي نجدها في العالم الطبيعي؟ ولماذا اختار الله خلق حياة ذكية من خلال عملية دموية للتطور تعتمد على الاختيار الطبيعي؟ غير ان هناك ايضا أشياء يصارع الملحد لتوضيحها. وهي التي نوقشت كثيرا – والتي تتحدى الإلحاد وهي الضبط الفيزيائي الدقيق للحياة – الإكتشاف المثير في العقود الأخيرة بان الثوابت الأساسية للفيزياء ملائمة تماما لدرجة تسمح بإمكانية الحياة. البعض يحاول توضيح هذا من حيث علاقته بالأكوان المتعددة: اذا كانت هناك أكوان كافية، عندئذ فان أحد هذه الاكوان سيقع عليه الحظ ويكون ملائما للحياة.

اعتقد جوف ان هذا هو الجواب الصحيح بالنسبة له. لكنه، اُقنع من جانب فلاسفة الاحتمالات بان المنطق الكامن وراء تفسير الأكوان المتعددة والضبط الدقيق للكون هو منطق ملتبس ومشوش بشكل خطير.

توضيح محدود

لاحظنا ان كلا الجانبين من نقاش مسألة الله لديه شيء ما يستطيع توضيحه وشيء لا يستطيع . لحسن الحظ، هناك فرضية يمكن ان تسد الفجوة لدى كلا الجانبين: إله خيّر بقوة محدودة.

التحدّي للتوحيدي التقليدي هو ان يوضح لماذا اختار الله خلق حياة ذكية من خلال عملية مروعة عبر الاختيار طبيعي بدلا من مجرد جلب الناس الى الوجود بشكل كامل في عالم يتمتع بالارادة الحرة ودون معاناة.  لكن اذا كان الله ليس لديه القدرة الكلية، فهو سيكون غير قادر على خلق حياة معقدة بهذا الشكل. ربما، على سبيل المثال، الله يستطيع فقط ان يبني من البساطة – وعليه فان الخيار الوحيد لخلق حياة ذكية كان خلق كون بواسطة نوع ملائم من الفيزياء تؤدي بالنهاية الى تطوره مع كل المعاناة التي ينطوي عليها. الله عرف ان الكون سيكون فوضويا وغير سار، ورغب بطريقة اخرى، لكنها كانت اما كذلك (فوضوية) او اللاخلق (العدم). ان افتراض "فرضية الله المحدود" يمكن ان يوضح كل من نواقص الكون وعدم احتمالية الاشياء الجيدة، مثل كون مضبوط بدقة fine-tuning. لذا بينما التوحيديون التقليديون والملحدون التقليديون يحاولون التعامل مع كل من المعاناة والضبط الدقيق، فان هذه الفرضية يمكن ان تقنع الاثنين معا بسهولة. لكن يبدو ان الميول والتحيزات في كلا الجانبين تحول دون الاعتراف  بذلك.

الجواب الذي يمكن الحصول عليه لهذه الحجة هو "لماذا لا يكون إله سيء بقدرة لا محدودة بدلا من إله جيد محدود القدرة؟"

درس جوف هذه الإمكانية بعمق في كتابه. لكن، بالنهاية، افتراض إله شر كلي القدرة مشابه لإفتراض إله خير كلي القدرة. وبدلا من السؤال، لماذا إله خير كلي يسمح بهذه المعاناة؟ ربما يسأل احد لماذا إله شر كلي القدرة يسمح بكل هذا الجمال، والسحر والخيرية التي نجدها في كوننا؟ (فكرة الإله الشرير عُرضت بشكل ملفت في كتاب الفيلسوف الانجليزي ستيفن لو "تحدّي الإله الشرير"، الذي يمكن الاطلاع عليه في اليوتيوب).

أمل معقول

هل يمكن للاعتقاد بإله محدود القدرة ان يعطي أملا بما بعد الحياة او بغرض نهائي للكون؟

يبدو من المعقول ذلك، لأن الإله المحب المحدود القدرة سيرغب بالحفاظ على أذهاننا الواعية بعد الموت، وسيرغب بنقلنا نحو عالم أفضل. عدم اليقين يكمن في ما اذا كان الإله المحدود القدرة  قادرا على القيام بهذه الأشياء . المؤيدون لفرضية الإله المحدود القدرة يعتقدون انه من المؤسف هناك عدة شرور في العالم لايستطيع الله منعها، وهذا يفسر لماذا توجد تلك الشرور. هذا يضع الحياة بعد الموت والغرض الكوني في خانة الأمل المعقول. انها اشياء قد يستطيع الله وقد لا يستطيع فعلها، ونحن لا نعرف أي خانة تقع ضمنها الحياة الأبدية والمعنى الكوني، لأننا لا نعرف مدى وطبيعة محدوديات الله.

لكن الأمل المعقول ليس عدما. لنأخذ مثالا، من المهم ان هناك حظا معقولا باننا سوف نتغلب على مشكلة تقلبات المناخ حتى عندما نكون غير متأكدين من ذلك. الحظ المعقول يمكن ان يخلق فرقا بين الأمل واليأس.

الإله المحدود القدرة قد يبدو غير منسجم مع الأديان التقليدية. لكن، في كتاب (أشياء سيئة تحدث للناس الجيدين،1981) عالج الحاخام هارولد كشر Harold Kushner مشكلة الشر عبر افتراض إله محدود، وكذلك المسيحيين اتخذوا خطوة مماثلة  في طريقتهم الثيولوجية حين تحفزوا بفلسفة (اللامسيحيين) للفريد نورث وايتهد.

 في الحقيقة، يعتقد جوف ان المسيحية تستفيد كثيرا لو كان الله له قدرة محدودة. دائما كان يرى من الصعب فهم لماذا كان على الله ان يصبح كائنا بشريا لكي يعطينا حياة خالدة. لكن اذا كان الله ليس عظيم القدرة، فان طرقا جديدة من الفهم ستفتح امامنا. فمثلا، ربما تكون المشكلة هي ان الإله الخالد وغير المادي يختلف تماما عنا نحن المخلوقات الزمنية المتجسدة، بحيث ان الطريقة الوحيدة التي يمكن ان يسمح بها الله لنا بالمشاركة في وجوده الخالد هي عن طريق دخول الله الكامل في وجودنا المؤقت – يصبح اكثر شبها بنا لكي نتمكن ان نصبح اكثر شبها به. في الحقيقة، توجد هناك سلفا تفسيرات للمسيحية كهذه، تُعرف بـ "النظرية التشاركية"، لكنها  ستكون اكثر سهولة في الفهم عندما تُقترن بفكرة الإله المحدود.

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) فيليب جوف فيلسوف مثالي بريطاني واستاذ في جامعة دورهام البريطانية. ركز في بحوثه على فلسفة الذهن والوعي.  

 

كنا قد كتبنا في السابق سلسلة من البحوث والدراسات حول نقد العقل الدعوي لم يكن هدفنا من كتابة هذه السلسة إذ ذاك إلا صياغة المفردات الثلاث: النقد، والتجديد، والإصلاح كمعالم بارزة لا بدّ منها لفهم الخطاب الديني، ومحاولة مواكبة المسيرة المستنيرة لعصرنا الذي نعيش فيه، وهو العصر الذي أضحى فيه التفكير في الدين بمثابة الهوس الذي أسفر عن التطرف والعنف والإرهاب؛ فعوض عن أن يكون التفكير في الدين أداة عمل ونشاط وحيوية وبناء، أصبح أداة إرهاب وكراهية ونفور وتدمير وفناء.

وعليه؛ فلا بدّ من تغيير في فهم الخطاب الديني فهماً مجدداً، ولا بد (أولاً) من نقد التوجُّهات التي ترتكز فيه على المناطق السوداء؛ لتنشرها بغير وجه حق عسفاً بين الناس.

ولا بدّ (ثانياً) من تجديد القوالب الجامدة بتجديد الأنفس القابلة للوازع الديني بمطلق الشعور، وبتجديد طرائق التفكير فيها، ولا بدّ من فهم أصول الدين فهماً يتماشى مع عالمية هذا الدين، ومع سماحته التي تجذب قلوب العالمين ولا تنفّرها من رحمة الله.

ولا بد (ثالثاً) من إصلاح العقم الديني الذي أصاب العقول فحَجَّرها عند زوايا ضيقة، ولا بدّ من تجديد الحماسة الروحيّة فيه؛ باستشعار القلوب والبصائر بقيمة التعلق بالملأ الأعلى على الحقيقة، وبالعمل الدائم في هذا الإطار وبهذا المضمون الذي يُرسل السكينة القلبية في قلوب العاملين.

ولم نكن في المقالات السالفة وأولها: عوائق تقدّم العقل العربي.

وثانيها: نقد العقل الدعوي. وثالثها: تجديد الخطاب الدعوي؛ ندور حول قضايا مفصولة عن واقع هذا العقل، ولم تكن بالقضايا المعزولة عن فهم ذلك الخطاب الديني؛ فقد ذكرنا في المقال الأول أداة هذا الخطاب متمثلة في اللغة فتجديدها ضربة لازب، ثم أردفنا هذا العائق أمام تقدّم العقل العربي بإصلاح جوانب النفس الإنسانية.

وفي المقال الثاني ركزنا على فكرة احتكار الحقيقة المطلقة، وقلنا إن مضمون “الاحتكار” نفسه هو مضمون يأتي ضد الحرية، وضد الإسلام، وضد العقل على التعميم. وفي المقال الثالث تناولنا “الفهم” كحيوية عقليّة ونشاط ذهني أعمق.

والمقصود بالفهم هو فهم الخطاب الإلهي بالأساس، وهذا يتطلب من صفاء القلب ولين الجانب ورهافة الحسّ وارتقاء الأذواق العليا بما عساه يوفر لصاحبه القدرة على استخدامه، ولا يمكن أن يقوم به ثلة مطموسة الذوق والبصيرة، مُجرّدة عن هذه المواهب والقدرات.

فلئن كنا في المقال السابق “تجديد الخطاب الدّعوي”، ذكرنا أن الفهم لا يتوقف على الحرفيّة، ولكنه يأخذ بالتأويل والتعميق، ولا يقدّم القشرة الظاهرة السطحية ويكتفي بها فقط، وضربنا مثالاً على “الفهم” بمورد من موارد ابن عربي لمعالجة مفهوم الرحمة؛ فإننا في هذا المقال نستكمل تلك الرؤية التذوقيّة للخطاب الديني عند أحد تلاميذه؛ وهو عبد الكريم الجيلي.        

فقريباً من مورد ابن عربي الذَوْقيِّ التبَصُّري، يُفَرِّق عبد الكريم الجيلي (ت 805 هـ) أحد تلاميذه في مجال الرحمة ومفهوماتها بين نوعين من الرحمة: الرحمة العامة. والرحمة الخاصّة؛ فالرحمة العامة هى التي تظهر في سائر الموجودات. والرحمة الخاصَّة هى التي يختص بها أهل السعادات وعنده أن: “الرحيم والرحمن اسمان مشتقان من الرحمة. ولكن الرحمن أعمَّ، والرحيم أخص وأتمُّ؛ فعموم الرحمن لظهور رحمته في سائر الموجودات، وخصوص الرحيم لاختصاص أهل السعادات به.

والجيلي هنا يتفق مع ابن عربي في أن:”كل موجود مرحوم”؛ فما عمَّ الرحمن رحمته إلا بظهور رحمته في سائر الموجودات، وهو المراد برحمة الامتنان عند ابن عربي. ثم إنّ هذه الرحمة تأتينا على سعة قدر الله لا سعة أقدارنا نحن؛ فنحن البشر لا نسع حتى رحمة أنفسنا بأنفسنا ولا نطيق في الغالب رحمة هذه النفس بإزاء نفسها فما بالك بغيرها؟ ولكن رحمة الله الواسعة هى أعرف بحاجة النفس إلى رحمة خالقها؛ لأنه هو الذي خلقها وأعطاها من الأمل في فضله ما يقرُّها على الثقة به وحسن الظن فيه سبحانه وتعالى.

ومن الرحمة الإلهية التي لا حدود تحدِّدها حدود العقول البشرية، ولا وصف يقتدر على تشخيصها: قوله صلى الله عليه وسلم من حديث الترمذي: قال الله تعالى:” يا ابن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السّماء ثم أستغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة”،

ثم ماذا؟

لقد جاء الإسلام رحمة للعالمين من لدن ربّ العالمين؛ فمن شاء أن يقيد هذه الرحمة بخصوصية إدراكه هو؛ فقد أراد أن يحجِّر واسعاً من عند الله ويضيق بتصوراته هو ما وسَّعه الله على عباده، ويتخذ من فهمه لدين الله منهجاً – معوجَّاً أو غير معوَجِّ !- يفرضه فرضاً مبالغاً فيه على خلق الله؛ ليظن، من بعدُ، ظناً ليس فيه يقين أنه هو المنهج الذي جاء به الله سبحانه، لا لشيء إلا ليحتكر الخطاب الإلهي وحده تعبيراً وتفكيراً وإلزاماً للناس تمهيداً لاحتكار الحقيقة ثم تملُّكها، وتخطئة؛ بل وتكفير من يرى رأياً غير رأيه أو يقول قولاً غير قوله، أو يُعَبِّر عن تلك الحقيقة بفهم غير فهمه ومعيار غير معياره؛ ولو أنه قال:” هذا فهمُ أُوتِيه رجل مسلم؛ فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه”؛ لكان أقرب إلى الحقيقة، وأصوب في التقدير والتفكير، وأرقى في لغة التعبير خطاباً غير محتكر ولا متعدّى ولا متجاوز ولا مملوك.

مثل هذا الرقي في التصور يدل على رقي في الإدراك؛ وهو من علامات المتحقق؛ إذُ المتحقق على الحقيقة – فيما يقول ابن عربي – هو الذي يدعو إلى الله على بصيرة؛ وهو الذي – كما روي الشعراني في طبقاته –:” لا يأتي بشرع جديد وإنما يأتي “بالفهم” الجديد في الكتاب والسنة”. ولتلحظ عبارة الفهم الجديد  هذه تجدها تعطي العقل دوره الذي يناط به ولا تبخسه حقه في التفكير والتعبير، وهما علامة التجديد الذي يدل في أول مقام على صاحبه رأياً ورؤية.

ومن هنا؛ من ذلك المعنى المفتوح لإدراك مفهوم الرحمة كما تقدَّم؛ وفوق ما تقدَّم، يمكننا القول مرة ثالثة بأن الإسلام جاء رحمة للعالمين. وهذه الرحمة للعالمين تشمل خلق الله جميعاً بغير استثناء فرقة ولا طائفة ولا مذهب ولا دين: في البوذية جزء من الإسلام، وفي اليهودية جزء من الإسلام، وفي المسيحية جزء من الإسلام، وفي الأديان غير الكتابية جزء من الإسلام؛ لأنها جميعاً قد مسَّت الحقيقة في جزء منها.

والإسلام هو الحقيقة الكبرى؛ والضخمة، والتامة، والشاملة؛ وهو هو الرحمة التي أرسلت في المطلق للعالمين: ”وَمَا أرْسَلْنَاكَ إلا رَحْمَةً للعَالَمِينَ”

وفكرة “التمام” لمكارم الأخلاق التي نضح بها حديث المصطفى، صلوات ربي وسلامه عليه، – على بساطتها ويسرها – هي من أصول فهم الإسلام للعقائد والأديان السابقة عليه، والإقرار بما لديها من مساس الحقيقة؛ في جزء منها لا في كلياتها، والاعتراف بوجود المكارم؛ أخلاقيّة عملية كانت أو عقائدية كبرى، ففي الحديث قوله؛ صلى الله عليه وسلم: ”إنما بعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق”؛ فكأنما هذه المكارم الخُلقية كانت موجودة في السابق، غير أنها في الوقت ذاته لم تكن كاملة، ولم تكن تامة، ولم تكن كلية شاملة يلمُّها مبدأ “التوحيد” ويضمُّها تحت لوائه. ومعنى كونها لم تكن تامة لا يلغي في السابق عدم وجودها.

وفي الحديث اعتراف بفضل السابق: أنهم كانوا أهل مكارم، وإنْ كانت لديهم ناقصة قاصرة ليست بتامة ولا شاملة. وما يُقالُ عن جانب الأخلاق يقالُ في نفس اللحظة الكاشفة لفكرة “التمام” هذه – على بساطتها ويسرها – عن العقائد الكبرى: التوحيد والعالم الآخر.

فالذي يفهم من ثمَّ هذا الجزء من أصحاب الديانات – كتابية كانت أو غير كتابية – يقبل الإسلام علي أنه حقيقة إلهيّة ضخمة وكبيرة، تخاطب الضمير وتستقر في السريرة بمقدار ما تخاطب كل وعي مفتوح لتلقِّي الحقيقة بما فيها من دعوة عالمية، ومن دين شامل لا يتقيد بقيود الحدود الجغرافية والحدود الفكرية والثقافية سواء.

والذي ينكر هذا الجزء من المنتسبين إلى الإسلام ينكر (أولاً) خلق الله، وينكر (ثانياً) تقدير الله على عبادة فيما قدّره على خلقه من عقائد وعبادات، وينكر (ثالثاً) هؤلاء الذين عرفوا الحقائق التي جاء الإسلام ليقرَّها في الضمائر والقلوب، وهو من بعدُ يدعو إلى الإسلام لا على بصيرة بل على جهالة؛ ليكون بمثل تلك الدعوة المغلقة يتبنَّاها، ديناً ضيقاً متحجّراً لا يعرف السماحة ولا يتسع لخلق الله ولا لعبادة الله الواحد الأحد. فليس هذا كله أو بعضه بداخل في تجديد العقل الدعوي لأن عنصر الأصالة فيه يأبى مثل هذا التضييق ويروم أنوار الهداية لبني الإنسان ولن يكون النور متاحاً، والدعوة مغلقة، والبصيرة مطموسة، والعقل مُعطل عن فريضة التفكير .

***

بقلم الأستاذ الدكتور مجدي إبراهيم

أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف جامعة أسوان

من أكثر المفاهيم التي اسيء فهمها في فلسفة افلاطون هو الحب الافلاطوني، حيث العبور الى ما وراء الفلسفة، واصبح يُستعمل بشكل واسع عبر الثقافات منحرفا اثناء العملية عن معناه الأصلي. اعتقد افلاطون ان الحب هو تحفيز يقود المرء لمحاولة معرفة وتأمل الجمال في ذاته. يحدث هذا من خلال عملية متدرجة تبدأ بتقدير مظهر الجمال الجسدي ثم الانتقال الى تقدير الجمال الروحي.

الانتقال عبر هذه الخطوات يصل ذروته في المعرفة العاطفية الخالصة والنزيهة لجوهر الجمال الذي هو غير قابل للفساد ومساوي دائما لذاته: معرفة فكرة الجمال.

المفهوم الحقيقي للحب الافلاطوني

هذا النوع من الحب عادة يُفسر كحب روحي بدلا من جسدي. البعض يذهب بعيدا ليسمي الحب الافلاطوني بـ "الحب المستحيل"، رغم انه أكثر تطرفا من تصوّر افلاطون . افلاطون يعرض وبشكل واضح الخطوط العريضة للحب الافلاطوني في "الندوة" symposium.

الندوة او "المأدبة" كانت احتفالا شائعا يجتمع فيه اليونانيون مع بعضهم ليحتفلوا ويناقشوا الأفكار. خلال الندوة المنعقدة في بيت الشاعر المأساوي أجاثون، وحيث يحضر أهم رجال اثينا البارزون بمن فيهم سقراط و يوسانياس وارستوفان والسيبياديس ليبدأوا النقاش الفلسفي حول الطبيعة الحقيقية للحب، ويعرض كل فيلسوف حجته الخاصة به.

بعد الإستماع لجميع اولئك الحاضرين، يأخذ سقراط الكلمة ويحكي ما كشفته له ديوتيما – كاهنة ابولو حول معنى الحب الافلاطوني: انه سلّم يتدرج فيه الحب عبر سلسلة من الخطوات للوصول الى الذروة "الفكرة العليا" supreme idea.

بالنسبة لإفلاطون، الحب ليس غاية في حد ذاته وانما فقط وسيلة لإنجاز هذا المفهوم الأسمى للجمال. أول خطوة هي مادية، الحواس تطلق العنان للآيروس (الحب الذي يأتي من خلال العيون ويجبر المرء للاقتراب من شخص ما). في هذه المرحلة، الحب هو جسدي. افلاطون في الحقيقة لا يرفض البُعد الجسدي للحب، كما يعتقد البعض بشكل خاطئ، بل هو مرحلة أساسية وضرورية لكي نصل الى الفكرة الأسمى.

في الخطوة الثانية، يذهب الشخص من النظر الى الجمال في جسم معين الى النظر الى الجمال في عدة أجسام، وبهذا يصوغ فكرة للجمال بعيدة عن الشك ويشجع البحث عن فكرة وراء هذا التصور.

الخطوة الثالثة هي الخطوة التي يتم فيها الانتقال من الجسد المادي الى جمال الروح. في هذه الحالة، يتعلم الشخص حب الروح رغم المظهر الجسدي للجمال.

في الخطوة الرابعة، يرفع سقراط الحب الى نطاق مختلف جدا حيث يدخل عالم الاخلاق. حب الارواح الجميلة يزيد الجمال الاخلاقي. في الخطوة الخامسة، سقراط ينتقل من قواعد السلوك الى المعرفة الجميلة مشيرا الى المؤسسات وحب الحكومة.

الخطوة السادسة تبدأ من المعرفة الجميلة وتستعمل العلوم لتصل الى المتعة في جمال المعرفة والفهم.

في المرحلة السابعة، تصل فكرة الجمال الى تناغم تام مع الكون. انها تنتقل من العالم الى الصنف الكوني (الجمال ذاته). في هذه المرحلة، يأخذ الجمال لون الرؤية او الكشف، مُمارس من خلال عدسة الفلسفة.

افلاطون وحبه المثالي

يرتبط حب افلاطون المثالي بفكرته عن العالم المثالي (عالم حيث كل شيء تام ،وفيه واقعنا المادي ليس الا  نسخة من صورة ذلك العالم المثالي). هذا يفسر لماذا مثال الحب الافلاطوني لايشير الى امتلاك حب يتعذر الحصول عليه وانما الى حب بمعنى انه خالد وواضح: شكل مثالي تام.

هذا الاطار مرتبط بشكل وثيق برمزية كهف افلاطون. الشخص الذي يأتي الى فكرة الجمال هو الشخص الذي نجح في الخروج من الكهف والنظر الى ضوء الشمس. ذلك الفرد انتقل من التجربة الاولية للحب الجسدي الذي يمكن مقارنته بمن هو موجود في الكهف، الى الوصول الى ممارسة الحقيقة الجميلة، المساوية لمغادرة الكهف الى العالم الخارجي.

***

حاتم حميد محسن

 

إن الدراما "الوجودية" التي يعيشها العالَم الحديث هي نتيجة لتحول كارثي حقيقي في مؤسساتنا وأساليب معتقداتنا. وهي تنافس في نطاقها وأهميتها، إن لم تكن تتجاوز، التحول الذي أحدثته "الثورة العلمية" في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وقليلون هم الذين ما زالوا يشككون ـ حتى وإن كانوا لا يدركون بعد ـ في النطاق الشامل والعالمي لهذه "الثورة العلمية الثانية". إن أنماطنا الأساسية في التفكير والعمل، والبنية المؤسساتية، والهوية الشخصية، والتنمية الاقتصادية، والعلاقة بالطبيعة، كل هذا يتطلب مراجعة جذرية إذا كان لنا أن نحافظ على الحياة البشرية على هذا الكوكب (وخارجه) ونزدهر. وعلى هذا فإننا نواجه عالماً تتعرض هياكله المعنوية وأسسه المؤسساتية المقابلة لها للتقويض، الأمر الذي ينذر بتحول ثوري. ولا شك أن هذا التحول، على الرغم من عدم وضوحه في الوقت الحاضر، لا بد وأن يكون جذرياً وشاملاً. ويقيم هذا العمل طبيعته بشكل نقدي، ويحدد هياكل رؤية عالمية بديلة، ثم يطور الخطوط العريضة للنظام الاجتماعي والمؤسساتي الذي يقترحه. ويختتم هذا الكتاب بمناقشة الاستراتيجيات العملية التي يمكننا من خلالها أن نأمل بشكل معقول في مواجهة التحديات التي تواجه الحضارة المعاصرة. فما هي الفلسفة الغربية؟ تشير الفلسفة الغربية إلى المفكرين والنظريات في أوروبا والولايات المتحدة. وقد شملت العديد من المناقشات في الميتافيزيقا ونظرية المعرفة والأخلاق والمنطق وما إلى ذلك. والمواقف في هذه المناقشات متباينة للغاية لدرجة أنه لا يوجد سوى القليل مما يمكن قوله عما يجمع بين الفلاسفة الغربيين خارج منطقتهم الأصلية. وبالتالي، لا توجد طريقة موجزة لبيان الفرق بين التقاليد الفلسفية الشرقية والغربية. يمكن تحديد الفلسفة الغربية من خلال مجموعة قانونية من المفكرين بالإضافة إلى بعض التمييزات والمفاهيم المتكررة. أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط جميعهم مفكرون غربيون. بالإضافة إلى وجود مجموعات متميزة من المفكرين، تأثرت الفلسفات الغربية والشرقية بأديان مختلفة. كانت الديانات التوحيدية، وخاصة المسيحية، أكثر تأثيرًا في الفلسفة الغربية، في حين كان للهندوسية والبوذية تأثير أكثر أهمية على الفلسفة الشرقية. فما هي خصائص الفلسفة الغربية؟ تتميز الفلسفة الغربية بمجموعة من المفكرين التقليديين بما في ذلك أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط، إلخ. كما تتميز أيضًا بتأثير الديانات التوحيدية، وخاصة المسيحية. وأخيرًا، غالبًا ما تعكس الفلسفة الغربية نظريات تؤكد على الشكلية والمفاهيم العالمية. فما هي أنواع الفلسفة الغربية؟ هناك العديد من الطرق للتمييز بين الأنواع المختلفة من الفلسفة الغربية. إحدى الطرق هي التاريخية، والتي تقسم التقليد إلى عصور مختلفة. تشمل هذه العصور الفلسفة القديمة وفلسفة عصر النهضة والفلسفة الحديثة والفلسفة المعاصرة. إن كتاب ديفيد سبرينتزن "نقد الفلسفة الغربية والنظرية الاجتماعية" هو عمل يحمل عنوانًا نثريًا مع طموحات واسعة. نُشر الكتاب في عام 2009، وهو جوهرة مخفية من التحليل الفلسفي الذي يقدم مخططًا لإعادة بناء المجتمع المعاصر. سبرينتزن أستاذ فخري للفلسفة في جامعة لونغ آيلاند وناشط سياسي مدى الحياة، أسس ائتلاف لونغ آيلاند التقدمي وترأسه لسنوات عديدة. في هذا العمل، يبرز الفيلسوف الناشط معرفته الفلسفية في حين يلمح إلى التطبيقات العملية لفلسفته في السياسة الاجتماعية. يلتزم سبرينتزن، الذي نشر نصين عن فلسفة ألبرت كامو، وهو باحث في فكر الفيلسوف الأمريكي جون ديوي، في هذا العمل بما لا يقل عن نقد وإعادة صياغة الأسس الميتافيزيقية للمجتمع الحديث. فكره واسع النطاق، ومع ذلك فهو يرتكز على مفهوم موحد. تركز أطروحته على الأخطاء الميتافيزيقية التي شكلت القيم والعادات الفكرية الحديثة. وبروح ديوي التي تراقبه من فوق كتفه، يزعم سبرينتزن أن الخطأ الأساسي الذي يبتلي الحياة الحديثة هو تفتت الأشياء والأفكار والخبرات التي ننخرط فيها. ومهما بدت الظواهر متمايزة ومستقلة عن بعضها البعض، يؤكد سبرينتزن أن نسيج الواقع موحد وأن كل الأشياء على المستويات اللاحقة مترابطة. إننا نعيش في سياق من النماذج الخاطئة، وطموح سبرينتزن هو تحويل الطريقة التي نقيم بها الواقع على أسسه بشكل جذري. يقول سبرينتزن:إن إحدى الأطروحات المركزية لهذا العمل هي أننا في خضم تحول ثقافي وميتافيزيقي عالمي لا يقل نطاقه عن التحول الذي بدأ في تحويل الثقافة الكوكبية قبل أربعة قرون. إن أنماط تفكيرنا وعملنا الأساسية، والهياكل المؤسساتية، والهوية الشخصية، والتنمية الاقتصادية، والعلاقة بالطبيعة، تتطلب كلها مراجعة جذرية إذا كان للحياة البشرية على هذا الكوكب (وخارجه) أن تبقى وتزدهر... ستكون مهمتي في هذا العمل تقييمًا نقديًا لملامح هذا التحول ثم تحديد هياكل الميتافيزيقيا البديلة ورسم إطار للنظام الاجتماعي والمؤسساتي الذي يقترحه. إن هذه المهمة، على أقل تقدير، شاملة، وليس من المستغرب أن يبدأ المؤلف أطروحته بالصراع بين النظرتين الدينيتين والعلميتين للعالم. ويؤكد سبرينتزن أن الدين لعب الوظيفة الضرورية المتمثلة في تزويد البشر بالشعور بالمعنى والمكان في واقع سخيف. فنحن كائنات أسطورية نجد المعنى داخل السرديات. والثورة العلمية، التي نشأت بالتنسيق مع البروتستانتية، تتعارض بشكل صارخ مع التفسيرات الدينية للواقع، واستبدلتها ببدائل، والتي على الرغم من خلق أسس الحداثة، فقد أبعدتنا جذريًا عن الطبيعة وشرعنت نظرة عالمية قائمة على الفردية المنعزلة والمنافسة والرأسمالية الجامحة والهيمنة على الآخرين. ويضمن مشروع سبرينتزن ضمناً الحاجة إلى إعادة بناء سرد محدث وملائم للنتائج التجريبية لعصرنا. ورغم أنه لا يستخدم هذا المصطلح، فإن الميتافيزيقيا التي يعتمدها سبرينتزن تقوم على فكرة مفادها أن الواقع وحدة عضوية، وأن النظر إلى أجزائه المكونة ككيانات مستقلة منفصلة عن بعضها البعض يشكل فهماً خاطئاً وتصوراً خاطئاً يؤدي إلى عواقب وخيمة. يطبق سبرينتزن هذا التحليل على مجموعة واسعة للغاية من الظواهر، بما في ذلك ثنائيات الذات والموضوع الموجودة في بنية الجملة والمنطق الأرسطي، والثنائية الديكارتية، والحتمية النيوتونية، مما يجعلنا نفتقر إلى الهدف. ومن أعظم اللحظات التي عايشها المؤلف هو الخطأ الذي نرتكبه في تأكيد الفردية الوجودية التي تضع الشخص خارج المجتمع وتتجاهل الديناميكيات الاجتماعية الشاملة التي تشكل الشخص، بما في ذلك شعورنا الذاتي بالفردية. وهنا يجد سبرينتزن حليفاً في ملاحظة كارل ماركس بأن الجوهر البشري هو "... مجموعة العلاقات الاجتماعية". إن أقوى تعبير عن الفردية يتم نشره اقتصادياً في السوق، والذي لا يرى بمنطقه الخاص أي إشباع أعلى من إشباع الذات المنعزلة. "إلى الحد الذي ننظر فيه إلى أنفسنا باعتبارنا أفراداً مغلفين بذاتهم في الأساس ــ "الانسان الاقتصادي" الذي يصفه الاقتصاديون بأنه يبحث دائماً عن "الرقم واحد" ــ إلى هذا الحد لا يصبح المجتمع سوى أداة عملية لاستراتيجية محسوبة، حيث يشكل الآخرون أدواتها الحالية والسوق الوسيلة الأساسية للتماسك الاجتماعي". الفردانية نوع من الاختزالية، التي تتلخص في الاختزال المغلوط للحقائق المعقدة إلى ظاهرة واحدة أو تفسير واحد. وتأخذه مناهضة الاختزالية التي يتبناها سبرينتزن إلى ما هو أبعد من عالم البشر إلى مجال الفيزياء الكمومية ومبدأ عدم اليقين الذي وضعه هايزنبرغ، حيث يجد تبريراً لظهور ظواهر جديدة لا تستطيع الحتمية الصارمة أو مفهوم الواقع المكون من أجزاء ذرية توفيرها أو تفسيرها. وهنا يقدم سبرينتزن مفهوم "الظواهر الناشئة" وهي تلك "التي لا يمكن تفسير طبيعتها وطريقة عملها بالكامل من خلال وصف سلوك أجزائها المكونة". الواقع معقد ومتعدد الطبقات. إن الأنظمة المختلفة تعمل ويمكن تفسيرها وفقاً لقوانينها الخاصة. ومع ذلك فإن القوانين التي تفسر الظواهر داخل الأنظمة لا تستطيع أن تقدم تفسيراً شاملاً عندما تتداخل الأنظمة أو تتداخل. وعلى هذا، وكما يلاحظ سبرينتزن، "... فمن الأفضل أن نفكر في الظواهر الناشئة باعتبارها عناصر من هياكل ناشئة تعبر عن الخصائص التنظيمية الفريدة والقوى التي تتمتع بها مجالات أو مستويات مميزة من الواقع". على سبيل المثال، "... إن الجاذبية تحدد شروط الحياة، ولا يمكن لأي حياة أن تنتهك قوانين الجاذبية، ولكن الجاذبية لا تحدد ما تفعله الكائنات الحية". أو على سبيل المثال، "إن اللغة... تتطلب من الخلايا الدماغية نقل الإشارات الكهربائية، ولكن لا يوجد لدى أي من هذه الخلايا لغة أو تفهمها". إن العلاقات بين هذه الأنظمة المتباينة هي التي تخلق "الحقول"، ومفهوم الحقول يشكل محوراً أساسياً في ميتافيزيقا سبرينتزن. فالحقول تؤدي إلى نشوء الواقع شبه المستقل للبنى الناشئة، كما توفر حلاً لما يعترف به سبرينتزن باعتباره المشكلة المستعصية حتى الآن المتمثلة في العلاقة بين الحرية والحتمية. ولإكمال تحليله، يناقش سبرينتزن تعقيد الوعي، الذي يشارك أيضاً في تحليل الحقول. ويلاحظ سبرينتزن: إن الوعي الذاتي ينطوي على قدرة الكائن الحي على أن يكون في نفس الوقت ــ في فعل واحد ــ كلاً من الذات والموضوع لوعيه الخاص: أن يكون موضوعاً "لذاته". وبالتالي فإننا نواجه حقلاً ناشئاً فريداً يتميز بالذاتية غير القابلة للاختزال والتواصل الاجتماعي، ولا يمكن اختزال أي منهما في الآخر. والوعي هو البنية الذاتية لتلك التجربة. والوعي الذاتي هو التنظيم الهادف لتلك التجربة حيث تضع نفسها داخل حقل المعنى الخاص بها. إن تجاربنا يمكن للآخرين معرفتها موضوعياً من الخارج، ولكنها تظل خاصة وغير قابلة للمعرفة ذاتياً. إن وجهة النظر الموضوعية لا تخبرنا بأي شيء عن المعنى الذاتي، أو القصد، أو حتى السلوك المحتمل للتجربة الناشئة إذا نظرنا إليها ذاتياً. إن حقيقة الأنظمة في علاقتها ببعضها البعض تؤدي إلى ظهور مجالات بحيث لا يمكن تفسير هذا الواقع الأوسع أو اختزاله إلى العناصر المكونة لأي نظام بمفرده. وهذا الفهم يفتح لنا الباب أمام الناشئ والجديد، وفيما يتعلق بالوعي، الحرية. كما أنه يعمل كأساس لفهم ميتافيزيقي جديد ينبغي أن يوجه تفكيرنا بينما نمضي قدماً. من خلال منهجه الذي يدحض الحتمية والاختزالية عبر مجموعة كاملة من الظواهر - المادية والاجتماعية والمعرفية - يزعم سبرينتزن "... أنه يقترح عدم كفاية تلك الطريقة الكلاسيكية في التفكير - التي نظمها أرسطو لأول مرة منذ أكثر من 2300 عام والتي سيطرت على الفكر الغربي منذ ذلك الحين - وأن يقدم إطاراً مفاهيمياً لإطار بديل يمكن استبداله به". قبل أن أشير إلى التطبيقات العملية لإعادة بناء سبرينتزن الميتافيزيقية، أعتقد أنه من المفيد للغاية أن نعود بإيجاز إلى مناقشته لمغالطة الفردية والطبيعة الاجتماعية المتناقضة للشخص البشري. هنا يظهر المؤلف في أبهى صوره. يبدأ فصله عن "الذات الشبكية" بصرخة حاشدة، "يجب أن يكون هناك شيء واحد واضح تمامًا الآن: الفردية هي عقيدة غير قابلة للدفاع عنها نظريًا ومدمرة اجتماعيًا. قد نطلق عليها المرض الاجتماعي للحداثة، فهي تشوه تمامًا أي قدرة على فهم العملية التي ينتج بها المجتمع الأفراد ويرعاهم حتى سن الرشد". بالنسبة لسبرينتزن، فإن الفردية هي "... ببساطة ذرية العالم الاجتماعي ..." يصبح هدف غضب سبرينتزن واضحًا عندما يقول، "إنها (أي الفردية) بمثابة مبرر ضيق لأنانية ضيقة تسعى إلى تحقيق الذات (غالبًا تعظيم الربح)". ورغم المغالطة الوجودية التي تعيب الفردية، فإن سبرينتزن يعترف بدورها التاريخي العميق كأداة دعائية تحررية في تحويل المجتمعات الجامدة المقيدة بالطبقات والقمعية وتحرير الأشخاص من حياة البؤس الدائم على أيدي المستبدين. ومع ذلك، يزعم سبرينتزن أن الوظيفة التاريخية للفردية لا ينبغي أن نخطئ في اعتبارها كافية من الناحية النظرية. ولا ينبغي لنا أن ننكر عواقبها الكارثية ونحن نمضي قدماً. في مناقشته لخطأ الفرد باعتباره سابقاً للمجتمع ومعارضاً له، يضع المؤلف التمييز الحاسم، كما أشرنا سابقاً، بين الفردية كفئة وجودية والقيمة الأخلاقية للفردية كصفة من صفات الشخصية. وهنا يستعير صراحةً من فكر جون ديوي ويستشهد بموافقة مارثا نوسباوم على ازدهار الإنسان باعتباره من بين الأهداف الاجتماعية الأكثر جدارة. والواقع أن المجتمع هو الذي يولد الفردية وهو أحد أكثر أغراض المجتمع قيمة. وهنا أجد إغفالاً في معالجة سبرينتزن للفردية. وبصفتي دارساً لحقوق الإنسان ومدافعاً قوياً عن الحريات المدنية، يبدو لي أن انتقاد سبرينتزن للفردية يستحق مناقشة تقاليد الحقوق في الغرب. فالديمقراطية الليبرالية، التي لا شك أنه يؤيدها، تتطلب الانتخابات الديمقراطية فضلاً عن احترام الحقوق التي يتمتع بها الأفراد. إن الفردية الوجودية كأساس للحقوق لها تاريخ طويل، وقد عبر عنها بشكل قوي كبار علماء التنوير مثل توماس هوبز، وجون لوك، وإيمانويل كانط. وفي الأزمنة الأخيرة، دارت مناقشات حول أساس حقوق الإنسان، بما في ذلك الحجج التي تثبت كيف أن الإنسانية، التي يمتلكها الأفراد، تؤدي إلى نشوء الحقوق. إن أطروحة سبرينتزن، التي تنكر الوضع المستقل للفردية بعيدًا عن طبيعتنا الاجتماعية، سوف تتعزز من خلال استجواب الموقف الذي دافع عنه هؤلاء الشخصيات الكلاسيكية، وهو ركيزة أساسية للفلسفة السياسية، والتي يزعم كثيرون أنها شرط أساسي لمجتمع حر ديمقراطي. وبينما يتجه نحو الاستنتاج، يطبق سبرينتزن تحليله الميتافيزيقي على حالة ومستقبل المجتمع الأمريكي. لقد أدى الالتزام بالفردية تاريخيًا إلى الاعتقاد بالتوسع غير المحدود، وخاصة الأسواق. لكن هذه الديناميكية استنفدت مسارها واستنفدت. ومن بين العواقب التراجع إلى الخصخصة، وتآكل المجتمع والشعور بالوحدة الناتج عن ذلك. إننا نعاني من "الاحتفال بالسلع"، وتضييق المعنى والغرض والأمل، من بين أمراض اجتماعية أخرى. إن حلول سبرينتزن، كما يوحي بذلك، شاملة. فهو يقدم التغييرات الفلسفية في الرؤية اللازمة لتوفير بقاء وازدهار المستقبل البشري، دون صياغة سياسات محددة. ومرة أخرى، فإن هدفه فلسفي وسياسي بالامتداد فقط. وهو يقدم خريطة بالتفاصيل التي يتعين على الآخرين استكمالها. ولكن رؤيته التي تنبثق من نقده واضحة، وهناك تلميحات لما قد يستلزمه المجتمع القائم على هذه الرؤية. نحن بحاجة إلى تحول في المعتقدات والممارسات والمؤسسات الاجتماعية والشخصية الفردية. ومن بين عناصر رؤيته ما يلي: يجب أن يكون النشاط الاقتصادي دائمًا تابعًا لتوفير الرفاهة البشرية الجماعية. يجب أن تكون الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية حقًا. الاستدامة البيئية، والمساواة في توفير الضروريات الأساسية والمساواة العرقية والجنسانية مطلوبة. واستنادًا إلى ديوي مرة أخرى، يجب علينا استخدام الذكاء وتجنب طرق التفكير العتيقة لمعالجة مشاكلنا. ولكن من أهم تطلعات سبرينتزن إحياء الديمقراطية، وهو ما يتم التعبير عنه بشكل عضوي من خلال إعادة تشكيل الحياة في الأحياء. ويتعين علينا أن نبتعد عن التركيز الحصري على المجال الخاص وأن ندرك كيف ينبغي للمصالح الخاصة المزعومة أن تخدم الصالح العام والصالح الخاص. وفي الختام، لا يطرح سبرينتزن فكرة اليوتوبيا، ولكنه يفتح لنا أبواب الاحتمالات. ونحن في احتياج إلى تجديد المثل العليا، والالتزام بالناشئ والجديد بالتناغم مع الأخلاق الطبيعية وخلاصات العلم. وهو يقدم تقييماً لحالتنا يتسم بالبعد والعمق والحكمة. ونقده جذري ورؤيته إنسانية. إن كتاب ديفيد سبرينتزن "نقد الفلسفة الغربية والنظرية الاجتماعية" يرقى إلى مستوى اسمه. وسوف يكافأ أولئك الذين يختارون اتباع فكر هذا الفيلسوف الماهر للغاية. فكيف يمكن توظيف النظرية الاجتماعية المعاصرة في عملية مراجعة جذرية ونقد عقلاني للفلسفة العربية الاسلامية؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

........................

المصدر

David Sprintzen, Critique of Western Philosophy and Social Theory Book © 2009

هل تراجعت اللغة كنسق نظامي مستقل في تعبيرها عن الوجود؟، وهل اصبحت جوهرا محايدا في فلسفة اللغة وتيارات فلاسفة التاويلية والتفكيكية والتحليلية في تعبير اللغة عن المعنى الدال وتراجعت مهمة التواصل المجتمعي الى مرتبة ثانوية في خلق عوالمها الموازية لعالم الواقع الحقيقي لا تقاطعه ولا تحتدم معه بصراع ولا تتلاشى فيه كتكوين تجديدي اضافي؟

هل تنازلت اللغة عن مهمتها في تحقيقها الإدراك الشيئي القائم على مطابقة الدال اللغوي مع المدلول الشيئي مطابقة تامة تجعل من المدركات الشيئية بديهيات معرفية لا تقبل التشكيك بها ولا تحتاج تجربة اثبات، بعدما إكتسبت تلك الاشياء البداهة الموجودية في مطابقة الدلالة اللغوية مع وجودها الشيئي زمكانيا.؟

فلسفة اللغة أدخلت مبحث اللغة في دوامة من المتناقضات التي إعتبرها فلاسفة اللغة وعلوم اللسانيات وفلاسفة مبدأ التحول اللغوي علي يد كل من فريجة ودي سوسير، وفلاسفة اللغة، ونظرية القراءة الجديدة وحفريات النص في تقصّي البحث عن فائض المعنى اللغوي.

المعنى غير المكتشف في ثنايا تداولية اللغة بمثابة محاولة عملية إنقاذ فاشلة لمباحث الفلسفة من تقليديتها الخاوية المفرغة في مرحلة الاحتضار والموت البطيء التي كانت تعانيه طيلة قرون طويلة في دورانها المتمركز حول الميتافيزيقا والمعرفة والوجود والطبيعة والعلاقات البينية بين تلك المباحث وغيرها. ما اقصده هنا هو تشخيص الاعتلال والمرض لا يعني إمكانية معالجة الشفاء منه كما حاولته تيارات ومدارس فلسفة اللغة والتحويل اللغوي بلوغه.

الحقيقة التي لا يمكن القفز من فوقها أن التيارات الفلسفية التي عمّت وسادت اوربا وامريكا بعد أفول نجم البنيوية التي رافقت بكل إمكاناتها طروحات مرحلة ما بعد الحداثة، لم تحقق الطموح الذي كانت تتوخاه من عملية التحول اللغوي وإعتماد علوم اللسانيات وفلسفة اللغة وما يتفرع عنها في محاولة إدخال فلسفة اللغة في كل مبحث فلسفي أو مبحث معرفي حتى وصل الحد تجاوزإدخال الفلسفة بعلوم الفيزياء الى إدخالها في علوم الرياضيات وباقي العلوم الطبيعية التي تمتلك خصائصها النوعية التي تقاطع منطق تجريد الفلسفة تماما. ليس في إختلاف شكلية التعبير اللغوي بين الفلسفة التي تعتمد اللغة الابجدية الصوتية، وبين العلوم الطبيعية التي يكون تعبيرها اللغوي هو علامات ورموز ما يسمى بالمعادلات الرياضية ونتاج التجربة المختبرية. إنما الإختلاف أبعد من ذلك حول إهتمامات ما يشغل التفكير العلمي في تقاطعه مع ما يشغل مباحث الفلسفة.

ولو نحن إستقصينا في جردة سريعة الإخفاقات التي رافقت فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ولم تنجز اليسير مما كان يمّثل طموحا مرتجى صدر عنها وأعلنت هي عنه، فلا البنيوية ولا التاويلية ولا حتى نهايات الوجودية الحديثة، ولا التفكيكية، ولا العدمية ولا التحليلية المنطقية الانجليزية جميعهم منفردين ولا حتى متداخلين لم يتمكنوا من إسعاف بعضهم البعض ولا إستطاعوا إنجاز ما كانوا يأملونه من توظيفات فلسفة اللغة وعلوم اللغة واللسانيات بما لا يمكن حصره من مباحث وقضايا كانت فلسفة اللغة على الدوام توازيها ولا تتقاطع أو تتداخل معها حينما كانت غارقة في مثالية إعتماد مركزية اللغة هي الحل السحري لمشاكل وقضايا الفلسفة المستعصية أو التي اصبحت بمرور الوقت ميئوس منها..

أغلب المطلعين على مباحث فلسفة اللغة يدركون جيدا أن المبدأ العام في المنطق النظري الذي طرحته فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات كان في تمام المقبولية والإقرار بحقيقة أن معنى اللغة أضاع على مباحث الفلسفة الوصول الى مثابات إرتكاز تجديدية لم تتحقق عبر تاريخها الطويل وبقيت مباحث الفلسفة التقليدية تراوح مكانها إجترارا تقليديا لا معنى له بات مركونا بالظل في غياب توافر ملء الفراغ التجديدي له. وقالوا مشكلة الفلسفة اولا واخيرا مشكلة تعبير اللغة القاصر في خيانتها المعنى.

فلسفة اللغة حديثا شطرت مباحث الفلسفة شطرين: الاول أن مباحث فلسفة اللغة هي ليست الابحار العميق في تقليب صفحات تتوخى تصحيح نحو اللغة وقواعدها التركيبية لإعطاء كمال المعنى باللغة المجردة عن كل قصدية قبلية سابقة تروم وصولها. والثاني وجدوا في مباحث فلسفة اللغة أنها لم تكن غاية بذاتها بل وسيلة تصحيح مسارات مباحث الفلسفة الغارقة في مستنقعات الإعادة والتكرار في مواضيع تتوزعها مباحث الوجود ومباحث الابستمولوجيا والمعارف، ومباحث القيم الاخلاقية. لذا نجد أول من تنبّه تحاشي هذا المنزلق الخطير هو الفلسفة البنيوية التي ركنت مباحث فلسفة اللغة جانبا بعد أن كانت ألسبّاقة الاولى في فتحها فضاءات فلسفة اللغة والمعنى على يدي سوسير وشتراوس وبياجيه، كما وركنت مباحث الفلسفة التقليدية كالابستمولوجيا. ثانيا لتقوم بطرق أبواب مباحث فلسفية لم تكن ذات إهتمام عند الفلاسفة طيلة قرون، كما نجد ذلك عند فوكو والتوسير ولاكان ودي سوسير وليفي شتراوس وباشلار وهكذا في اشتغالهم على مباحث فلسفية لا علاقة ترابطية تداخلية لها مع مركزية فلسفة وعلوم اللغة.

أبدأ بسؤال: هل فلسفة اللغة أغنت مباحث الفلسفة القديمة والحديثة التي جاءت بها؟ أم عملت على تشتيت إهتمامات الفلسفة في السير وراء تجريدات من الاشتغال على بنية اللغة كنصوص تتداولها الفلسفة بما هي لغة تشكيل علاماتي يتكوّن من (صوت ومعنى) مرتكزه نظام يتألف من نحو وقواعد وصرف خاص باللغة شكلا لا محتوى؟

أم أن فلسفة اللغة فتحت أبوابا بحثية فلسفية كانت موصدة ولم تحقق المرجو المطلوب منها حيث أضحى تراشق تهم خيانة اللغة وبراءة الفكر في أولويات مداخل مباحث الفلسفة اللغوية التي أصبحت في متراكمها الكمّي والنوعي متاهات من التجريد الذي جعل من اللغة إنفصالا تاما عن كل ما هو جدير بالإهتمام في الحياة والانسان والعقل ناهيك عن العلم بكل تجليّاته.

هنا ربما يساء الفهم أننا نطالب أن تكون مباحث فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ايديولوجيات تعبوية ملتزمة قضايا الانسان في حياته اليومية. من هذه النقطة الاخيرة نستعير كلمات بول ريكور في إدانتنا إنفصال اللغة عن الواقع الميداني، والمفارقة الغريبة هي أن بول ريكور هو الآخر كان يسبح في مغطس تضليل الفلسفة بإسم الإحتماء خلف فلسفة اللغة في تاويليته (الهورمنطيقا). لكنه ربما أراد ترقيع الفتق الفاصل بين اللغة والفلسفة بما أطلق عليه التاويلية أو الهورمنطيقا التي لم تغادر محكومية الإنقياد وراء فلسفة اللغة لها.

أمام حقيقة الاصطدام أن فلسفة اللغة أصبحت إنفصالا تاما عن التزامها التعبير عن الواقع الخارجي الحياتي للانسان، وصف بول ريكور فيلسوف التاويلية إدانته الفلسفة البنيوية التي خرج من تحت عباءتها قائلا ما معناه التفكير البنيوي النسقي في البنيوية كان يتخّبط في نمطيّة كليّة من التفكير في عالم اللغة الداخلي الذي يتخّطى جميع الاشتراطات المنهجية الذي ينشدها عالم الانسان الخارجي، عليه لم تعد اللغة بعدها توسيطا بين العقل والاشياء بل البحث عن تشكيل بنية عالم لغوي منفرد خاص باللغة وحدها.

. بهذه النظرة رفض بول ريكور الفكرة الأساسية التي كان دافع فينجشتين عنها بإلحاح حينما كان أحد اعضاء فلسفة المنطقية التحليلية حلقة اكسفورد في وجوب التعامل مع اللغة بوصفها صورة حياتية تنمو وتتطور من خلال طبيعتها المجتمعية، وفي وجوب جريان ينابيع اللغة في سريان دفق الحياة في سيرورتها الدائمية.

وكأنما كانت هذه الدعوة من فينجشتين هي تكفير عن ذنب إرتكبه وخرجت معالجته من بين يديه في كتيبه الصغير (مصنف منطقي فلسفي 1921). وحتى بول ريكور رغم إدانته الصحيحة للبنيوية فهو عجز عن إعطاء بديل عنها. بول ريكور في الهورمنطيقا سبق جميع التيارات الفلسفية السابقة عليه في رفضه إتجاهين فلسفيين رئيسيين أحدهما متمثلا بالفلسفة التي كانت تنادي في إصلاح معنى اللغة تمهيدا لإصلاح قضايا الفلسفة عامة في وضعها على سكة معالجتها قضايا فلسفية تكون فيها اللغة ليست بنية نسقية في تنظيم نفسها باستقلالية تامة عن عالم الانسان الخارجي.

والإتجاه الثاني أن اللغة كبنية تبني نفسها بنفسها كي لا تكون سلوكا نفسيا ولا نزوعا فطريا يسكن الفرد يتطور ذاتيا بمعزل أن يكون للمجتمع دورا تكامليا معه.، فأصبحت فلسفة اللغة لا علاقة لها مع وجوب معالجة قضايا إنسانية هي خارج تشكيل إستقلالية بناء نسق لغوي من التجريد لا يمكن تطبيقه ولو جزئيا على ضروب معرفية سوى ما جرى على مستوى نقد الادب كما فعل رولان بارت، وغيره من المتاثرين بفلسفة اللغة  قبل تفكيكية جاك دريدا ممن وجدوا في معالم التفكيكية وبعض موروثات البنيوية إمكانية أن تكون منهاجا تطبيقيا تجديديا في ضروب مناهج النقد الادبي كما فعل جيل ديلوز...

ربما يبدو مصادرة فكرية قولنا كان سعي بول ريكور تاسيس بنية لغوية هي إكتفاء لغوي ذاتي يقوم على إعتماد تطورات اللغة في مجمل التناقضات والاختلافات والفروقات القائمة داخل النظام اللغوي المستقل عن العالم الخارجي من منطلق كل شيء نجده باللغة... النسق اللغوي المكتفي ذاتيا الذي إخترعه ريكور ودريدا بفارق ليس جوهريا، هو خلق اغتراب لغوي إتعسّفي داخل نظام اللغة النسقي سيسيولوجيا ما جعل الفلسفة تدور في مناخات البحث عن التجديد الذي قفلته مباحث فلسفة اللغة الخالية من مضمونية شكل اللغة بما هي قواعد نحوية يكون البحث عن فائض المعنى هو المرتكز المتحول باستمرار في استرتيجية هدم نسق اللغة بما لا نهاية...

رغم أن البنيوية اشّرت وظيفة اللغة في فلسفة العقل ونظرية المعنى، أن وظيفة اللغة لم تعد تلك الوسيلة المعرفية لفهم الواقع والتعبير عن مشكلاته، وخرجت اللغة أن تكون وسيطا علائقيا بين الأفكار والاشياء. نجد بول ريكور شنّ هجوما على البنيوية من حيث أنها تعاملت مع اللغة خارج منطق اللغة في التعبير المستقل عن ذاتيتها كاداة توصيل المعنى بعيدا عن النسق البنيوي اللغوي المجرد المحكوم بضوابط واحكام اللغة. ولم يلبث ريكور ان سقط في المحذور الذي نبّه في ادانته استقلالية وتوازي اللغة مع الواقع والحياة والانسان.

فالبنيوية لم تحاول مسك تلابيب الواقع الخارجي وتوظيف نظرية المعنى في جعل علاقة اللغة بالواقع علاقة جدلية تخارجية معرفية مثمرة وليست منفصمة كما أرادت البنيوية وريكور ، ودريدا ذلك. البنيوية منذ بدايات دي سوسير عام 1905 لم تعمل على ترسيخ حيوية اللغة في ربطها بالواقع كما تبنّى فينجشتين هذا الطرح لاحقا قبيل وفاته، وكان تحذيره من انزلاق الفلسفة نحو انشاء بنيّة كليّة تجعل من اللغة اكتفاءا ذاتيا لا يؤثر بالواقع الخارجي ولا يتأثر به ويكون خطرا لم تتم معالجته.

ما عدا التماعات متناثرة تبنّاها جورج مور في دعوته من داخل الفلسفة المنطقية التحليلية الانجليزية الى أن يكون أصلاح قضايا الفلسفة إنما يكون في إصلاح نظام اللغة التي إنحرفت الفلسفة عموما به ودعا مور الى أهمية اللغة العادية المجتمعية في تطوير الفلسفة من جهة وتطوير مباحثها من جهة أخرى.

هذه الدعوة ذهبت أدراج الرياح في إصرار كلا من بيرتراند رسل أن تكون مباحث فلسفة اللغة تقوم على الرياضيات والمنطق حسب وصّية فريجة نصا وأقنع فينجشتين بذلك ايضا. وإهتمام راسل بمبحث الرياضيات بشكل استثنائي يوازي لابل يفوق إهتماماته الفلسفية والمنطقية ما جعله يتنقل في مؤلفاته من مبحث لآخرفي تنويعة بدت لبعض المهتمين بالفلسفة متناقضات فلسفية بالفكر وقع بها راسل . والى جانب ذلك برزت مدرستي التوليدية اللغوية الفطرية لدى نعوم جومسكي، وأخرى مناوئة لها أطلقت على نفسها فلسفة السلوك اللغوي اللفظي رائدها موريس سكينر، روادها ودعاتها هم الفلاسفة الاميركان حصرا نأتي على ذكرهم لاحقا .

طرح الباحث اللغوي عبد القادر البار تساؤلا هاما على صعيد إشكالية اللغة مع الفلسفة. قائلا: أين يوجد معنى اللغة؟ هل يوجد في أذهان البشر؟ أم يوجد في العالم الخارجي المشترك بينهم؟ وهل يمكن للمعنى أن يتكون وينمو خارج المكونات التقليدية الخاصة بما لا يمكن تجاوزه بسهولة ؟ نجد في محاولة فتح هذه المسالك الفلسفية أن نبدأ بالوعي كمفردة مفتاحية للدخول في معترك المداخلة فلسفيا مع اللغة ومنظومة العقل الادراكية بكل حلقاتها التي تبدا بالحواس وتنتهي بالقشرة الدماغية....

فالوعي يمكننا تصنيفه الحذر أنه حلقة في بايولوجيا منظومة العقل الادراكية ليست له ميزة فيزيائية غير تجريدية كما هو حال الفكر واللغة. والوعي الذي أصبح له فلسفة خاصة به. الوعي الذاتي أي تعبير ذهن الانسان عن مدركاته إنما يمتلك معان مستمدة من الاحساسات يمكن أن تكون إضافة نوعية تثري المعنى اللغوي في تعبيره.

في أغلب الاحيان لا يطابق معنى انطباعات الذهن معنى الموجود المادي في واقعه الاستقلالي، كون جوهر الذهن هوإنطباعات عشوائية خارجية  مصدرها الحواس وليس جوهر الذهن افكارا إكتسبت كامل اليقينية، فهل نلجأ الى تفعيل دور الوعي أن يكون وسطا بين المدرك المادي ومعنى التعبير اللغوي عنه؟

الوعي يتداخل جدليّا بينه وبين ما يمتلكه الذهن من معنى لم يأخذ حيّز التنفيذ الإفصاحي لغويا له، لذا يكون الوعي توسيط بين الذهن حامل الانطباعات المؤقتة، والمعنى الدلالي اللغوي عن الشيء المقصود. والوعي كما أشرنا هو خصيصة إدراكية ذاتية منفردة، بمعنى حينما نقول الوعي الجمعي أو الوعي المجتمعي فهذا لا يتحقق على صعيد التفكير المنفرد بل يتحقق على صعيد التوافق غير المعلن لمجموعة من الناس في التعبير عن قضية أو عن موضوع يجمعون عليه سواء أكان ماديا أو غير مادي معين.

وما يدركه الذهن من معنى هو إدراكات إنطباعية لتداعيات فارقته بسهولة. ألذهن ليس مستودعا لتخزين الانطباعات ولا حتى الافكار. والوعي لا يعمل في فراغ ولا يعّبر عن معنى غير قصدي يمكن التأكد منه. الذهن ليس ذاكرة من جهة، ولا هو عقل تفكيري ينوب عن العقل من جهة ثانية، واخيرا الذهن ليس مستودعا لتخزين الافكار فيه.

الوعي هو معنى لغوي وحلقة غير منظورة في منظومة العقل الإدراكية، هذه المنظومة الادراكية بعضها بايولوجي عضوي وظيفي مثل الحواس والجهاز العصبي ومحتويات تكوين الدماغ، وبعضها الآخر له مناطق عصبية مسؤولة عنه في القشرة الإمامية للدماغ، وهي في حقيقتها الإفصاحية بالدلالة إنما هي تعبيرات من الفهم الادراكي التجريدي مثل الاحساسات، الاحاسيس، الذهن، الذاكرة، المخيلة، الوعي، الادراك، الفكر، واللغة. والوعي لا يكون تعبيرا أفصاحيا ذاتيا عن اشياء خارجية مادية فقط وإنما الوعي يكون إستجابة إدراكية داخلية أيضا في التعبير عن النفس والعواطف والضمير والاخلاق والسلوك وغيرها.

الوعي مصطلح فلسفي تجريدي – بيولوجي الولادة غامض، والخوض في معتركه لا يسلم صاحبه من الأخطاء لكن مع هذا فالدراسات والابحاث الفلسفية العديدة بدأت التركيز على بسط الوعي كمبحث فلسفي يستحق الإهتمام الإستثنائي به.

ومنذ منتصف القرن العشرين حينما أصبحت فلسفة اللغة هي الفلسفة الاولى، نشأ الاهتمام الملتبس حول الوعي الفلسفي، وأكثر الفلاسفة إهتماما بالوعي هم الفلاسفة الاميركان المعاصرين يتقدمهم جون سيرل وريتشارد رورتي وسيلارز وكواين يسبقهم الانجليزي جلبرت رايل فيلسوف العقل...حين وجدوا في فلسفة العقل واللغة الارضية المناسبة للاهتمام بدراسة الوعي من الناحية الفلسفية إذ لم يروا مناسبا طغيان التحول اللغوي على مباحث الفلسفة في هيمنة الفلاسفة الفرنسيين على المشهد اوربيا ويبقى الفلاسفة الاميركان متفرجين، فعمدوا الى إستعارة مفهوم الوعي من عميد البراجماتية الامريكية وليم جيمس عالم النفس وفيلسوف الذرائعية الذي لخّص فهمه الوعي:

اولا الوعي يقوم على أساس أنه ليس جوهرا مستقلا بل هو وظيفة.

نزع صفة الجوهر عن الوعي في إعتباره وظيفة فقط لا يقلل من أهميته أنه حلقة إدراكية غير فيزيائية تعبر عن جوهر العقل الذي ليس هو ماهية مفكرة فقط، لذا فالوعي يستمد جوهره من العقل بإعتباره وظيفة ملحقة لا غنى للعقل عنها. فالوعي إفصاح ادراكي وسيلته التعبيرية الفكر واللغة.

رب تساؤل يقول مالفرق بين وظائف العقل والوعي والذهن والذاكرة، وهل بمكنة وإستطاعة الوعي الإنابة عن العقل بالوظيفة الإدراكية؟ لكي نجيب:

- الوعي لا يقوم بمهمة العقل التفكيرية بل هو الوسيلة لذلك.

- الوعي إستجابة ناقلة لردود أفعال العقل، وكذلك وظيفة ناقله لإنطباعات الذهن الى العقل.

- يشترك العقل والوعي بوسيلة الفكر واللغة في الافصاح التعبيري عن مدركاتهما.

- ما يدركه العقل يدركه الوعي بالضرورة، بفارق العقل جوهر كليّ والوعي جوهر وظيفي جزئي حلقة في منظومة العقل الادراكية.

- الصفة الثانية للوعي حسب وليم جيمس أن الوعي تجربة صرفة لا يمكن تجزئتها الى أفكار واشياء، والوعي ليس تجربة عقلية ولا طبيعية . وتعقيبنا عليه هو:

الوعي تجربة صرفة يمكن تجزئتها الى أفكار إدراكية لاشياء بإعتباره حلقة تابعة لمنظومة العقل الإدراكية. كل حلقة في منظومة العقل الادراكية هي جزء يمّثل نفسه بدلالة مرجعية العقل له، لكنه لا ينوب عن العقل في دلالة الادراك الكامل عن الاشياء منفردا.

الوعي هو فكر وإحساس عن شيء شأنه شأن ووظيفة كل حلقة إدراكية مرجعيتها العقل. وليم جيمس كونه عالم نفس وفيلسوف يريد أن يجعل الوعي إنطباع نفسي حين يصفه ليس تجربة عقلية ولا هو تجربة طبيعية.

لا يمكن الحكم على الوعي انه ليس تجربة عقلية ولا طبيعية وهو حلقة توسيط ادراكية للعقل. الوعي تجربة عقلية في مرجعية العقل له وليس هناك وعي يريد الافصاح عن ذاتيته من غير وصاية العقل عليه.نعت وليم جيمس الوعي انه ليس تجربة عقلية ولا طبيعية تعبير خاطيء بوضوح، فالوعي يستمد سمته العقلية من جوهر العقل الادراكي التفكيري الذي يرتبط به الوعي، ولا يمكن أن يكون للعقل مخرجات معرفية يصدرها العقل عن شيء لا يكون الوعي ناقلا لها.

قول وليم جيمس الوعي ليس تجربة طبيعية غير صحيحة، فالطبيعة وكل ما يدركه العقل يجري وفق تراتيبية نظامية طبيعية للعقل والوعي جزءا من العقل وليس طارئا منفصلا عنه. والوعي هو إدراك متعال على الطبيعة وليس ناتجا عنها بل عن الدماغ.كما هو شان العقل بعلاقته بالطبيعة هو جزء منها متعال بذكائه عنها..اذا إعتبرنا مع وليم جيمس الوعي ليس تجربة طبيعية بمعنى ليس تجربة فطرية مرتبطة بفطرية العقل الادراكي يحوزها الانسان كجزء من تكوين العقل في وظيفته غير الفيزيائية كون الوعي تجريد لغوي يحتوي الفكر التجريدي بينما العقل تجريد ناتج عن منظومة عضوية بايولوجية هي جزء من تكوين جسم الانسان تسمى العقل الوظيفي العضوي ومنظومة شبكة الاعصاب الناقلة والمستلمة للاحساسات والمثيرات خارج وداخل جسم الانسان...لا يشترط أن يكون ما هو طبيعي جزءا من الطبيعة ولا منقادا لها وهو ما ينطبق على الوعي كونه حلقة إستدلالية معرفية تطال كل موجود في الطبيعة ولا تكون جزءا منها.

***

- علي محمد اليوسف /الموصل

من الاساليب اعتمدها دائما هو اسلوب تحويل المقالة إلى بحث وفق المستقبل القريب، والحديث عن مقاربة بين برهان النفس الطائرة لابن سينا وتقنية الميتافيرس المعاصرة، يمكن أن يتحول إلى بحث في المستقبل.

‏وتكون أهمية هذه المقاربة للتاكيد على قوة وعمق الفلسفة الإسلامية، سيما ما تعلق بأفكار الفيلسوف العظيم ابن سينا.

ويمكننا أن نجد بعض أوجه التقارب الفلسفي بين الميتافيرس وبرهان النفس الطائرة لابن سينا، رغم اختلاف السياق التاريخي والفكري لكل منهما.

‏ان برهان النفس الطائرة يعد تنظيرا كبير الأهمية في الفكر الإسلامي، وهو يهدف إلى إثبات النفس الإنسانية، والبرهنة عليها ويهدف الى تحديد النفس البشرية ككيان مستقل عن الجسد.

‏ففي الوقت الذي يطلب ابن سينا من القارئ أن يتخيل إنسانًا خُلق فجأة مكتمل العقل والإدراك، معلقًا في الفراغ، معزولًا تمامًا عن أي إحساس جسدي (لا يرى، لا يسمع، لا يلمس، إلخ). لكنه بالرغم من غياب التواصل المادي مع العالم الخارجي، سيظل هذا الإنسان مدركًا لوجوده كذات مفكرة.

‏ولا أعلم كم هو الوقت الذي سيكشف لنا بشكل قاطع، من ان ديكارت استحوذ على هذه الفكرة، وقدمها في الكوجيتو بوصفها أحد اهم واجمل الأفكار الفلسفية على مر التاريخ الإنساني .

ان البرهان يركز على الوعي الذاتي كحقيقة أولى ومستقلة عن الجسد.

‏ولا شك من وجود تشابه بين الفكرتين، ولكن الأمر الآخر الأكثر مقاربة وتشابه، هو ذاك الذي يمكن مقارنته بين كل من برهان وحيلة الرجل الطائر وبين تقنية الميتافيرس .

وربما لا يشير مفهوم الميتافيرس بالمعنى الأوسع إلى العالم الافتراضي، بل قد تشير إلى الإنترنت ككل، بما في ذلك النطاق الكامل للواقع المعزز.

لان تقنية الميتافيرس تشير إلى عالم رقمي ثلاثي الأبعاد مترابط يحاكي الواقع ويساعد على التفاعل الاجتماعي والاقتصادي والترفيهي.

وكنت قد كتبت بحثا قبل سنوات عن مخاطر الامن الاجتماعي وفق انتشار الميتافيرس .

ويتكون الميتافرس من العديد من التقنيات مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز والذكاء الاصطناعي وتقنيات الويب وهو ليس نوعاً محدداً من التكنولوجيا لكنه مجموعة من التقنيات التي قادت البشرية إلى طريقة أفضل للتواصل والتعبير.

ويعود مصطلح الميتافيرس إلى ما قبل 31 عاماً عندما ابتكره الروائي نيل ستيفنسون عام 1992م في روايته «سنو كراش» التي تخيل فيها شخصيات افتراضية حية تلتقي في مبانٍ ثلاثية الأبعاد وغيرها من بيئات الواقع الافتراضي، وتتكون الكلمة من شقين الأول «meta» (بمعنى ما وراء أو الأكثر وصفاً) والثاني «Verse» (مُصَاغ من «Universe») وتفيد (ما وراء العالم). واعتمادًا على نفس الفكرة، يمكن للأشخاص من جميع أنحاء العالم أن يجتمعوا بشكل افتراضي لحضور حفل غنائي ما، تمامًا كما لو كانوا هناك.

اما مفهوم الواقع الافتراضي فانه يشير إلى تقنية تستخدم أنظمة الحواس، والهدف الاساسي فهو إنشاء العالم الرقمي المتكامل والذي يمكن أن يكون مكملًا للعالم الحقيقي للتفاعل الاجتماعي والاقتصادي، وكل ذلك ياتي لخلق بيئة افتراضية يمكن للمستخدمين التفاعل معها بشكل واقعي .

اما ما تعلق ببرهان الرجل الطائر لابن سينا فان البرهان يقوم على افتراض خلق الانسان دفعة واحدة، ثم طيرانه أو تعلقه في الهواء وتجرَّيده من المحسوسات والمعقولات، والنتيجة انه يستطع هذا الرجل أن يشعر بأي شيء من أعضائه الداخلية أو الخارجية، ولا يراها... لهذا سيظل يشعر ويعرف نفسه ولن يغفل عن ذاته. من ثم اعتمد ابن سينا على كل تلك البراهين التي تبرهن على وجود النفس، وبالفعل استطاع أن يستدل على وجودها وأقر بأنها مغايرة للجسم، فهي تستطيع البقاء من دون جسد، ولكنها مع ذلك في كل الأحوال لا توجد قبل الجسد بل هي تولد معه وتستمر، وبسبب عدم ارتباطها بالجسم واستطاعتها أن توجد منفصلة عن الجسد، فان كل ذلك جعلها تستطيع البقاء من دون الجسد بعد فنائه، وأرجأ طرق المعرفة في النفس إلى الإدراك والحواس الخمس.

ويلاحظ ان الوعي كجوهر مستقل: في كل من برهان ابن سينا وتقنية الميتافيرس، يمكنه أن يوجد بمعزل عن الجسد المادي.

اما الإدراك الداخلي والذي سيكون مقابل الإدراك الحسي: فكلاهما يعتمد على فكرة أن إدراك الذات لا يتطلب بالضرورة إدراكًا حسيًا مباشرًا بالعالم الخارجي.

كما ان الانفصال عن الجسد وفق تجربة الميتافيرس قد تتيح للإنسان تجربة التحرر من قيود الجسد المادي، وهو مفهوم يقارب فكرة ابن سينا عن النفس المستقلة.

لكن لاباس بايراد بعض الانتقادات حول هذا الموضوع، فالغاية الفلسفية لبرهان ابن سينا هو برهان فلسفي ميتافيزيقي يسعى لإثبات طبيعة النفس وخلودها، بينما الميتافيرس يشكل بيئة تقنية وتجريبية لا تهدف مباشرة إلى استكشاف قضايا فلسفية.

كما ان الوسيلة لبرهان ابن سينا تعتمد على التخيل العقلي البحت، بينما الميتافيرس يعتمد على تكنولوجيا متقدمة لتوليد تجارب حسية رقمية.

مع هذا يمكنا القول ان هناك تشابهًا عميقًا في الفكرة الجوهرية المتعلقة بإمكانية فصل الوعي عن التجربة الجسدية المباشرة. الميتافيرس يتيح نوعًا من برهان الرجل الطائر الحديث من خلال تكنولوجيا تجعل الإنسان يدرك ذاته في سياق مختلف عن جسده المادي. لكن في النهاية، يبقى برهان ابن سينا طرحًا فلسفيًا خالصًا، بينما الميتافيرس هو تطبيق تكنولوجي مع انعكاسات فلسفية محتملة.

***

ا. د. رحيم محمد الساعدي

نجري بمناسبة عيد الميلاد مونولوجا تقييميا حول عام 2024 من خلال معالجة مجموعة القضايا والمشاكل والازمات بطرح الأسئلة والاستفسارات والانتظارات والتوقعات الفكرية للسنة المقبلة 2025. لقد كان العام المنقضي عام التقدم التكنولوجي المتسارع وزمن التفكك الامبراطوري الامبريالي بامتياز ولكنه أيضا عام الحروب المدمرة وصعود اقصى اليمين المحافظ وتراجع اليسار والمبادئ الكونية والتنازلات القيمية المؤلمة.

1.ماهو أهم سؤال تقييمي يمكن ان يلخص مفهوميا ما جرى من أحداث حاسمة في سنة 2024؟

ما وقع في عام 2024 من أحداث تكنولوجية هامة وتغييرات سياسية حاسمة في المعمورة عامة وفي الوطن العربي بالخصوص قد يعجز الفكر الفلسفي المعاصر عن العثور عن المفاهيم المناسبة التي يمكنها التعبير عنها وقراءة التواريخ وصياغة التصورات. وذلك لأن هذه التغييرات مدمرة وكارثية ولأن الأحداث تبدو مرعبة ومزلزلة لكل المرجيعيات والأنساق ومنها ماهو طبيعي مناخي ومنها ماهو سياسي اقتصادي ومنها ماهو تاريخي ثقافي. وبالرغم من تزايد الحروب وتفاقمها في العالم والوطن العربي وفلسطين الجريحة الا أن الأزمة الصحية والتهديد البيئي والتغيرات المناخية وتراجع الموارد الغذائية والمائية والطاقوية للدول هو الذي يطرح نفسه بقوة على المشهد الاعلامي ويستدعي النقد والتأمل والتدبر. يبدو أننا في طور مغادرة زمن العولمة بعدما اكتوينا بنار توحشنا وفي اتجاه دخول عصر ميتا الحداثة البعدية ولقد شاركت بعض الباحثيين الايكولوجيين في التوصيف بأن البشرية تحيا في زمن الأنثربوسين.فكيف ستؤثر الفلسفة على التطور التكنولوجي بحيث تساعد البشرية على الرد على ظاهرة الأنثربوسين؟

2.عما يتساءل الفلاسفة اليوم؟

الفلسفة هي دراسة الوجود والمعرفة والقيم والعقل واللغة. بعبارة أخرى، إنها الاستكشاف الأكاديمي للأسئلة الكبرى في الحياة. إنها تخصص يمكن تطبيقه على أي مجال أو موضوع ويساعد في تطوير مهارات التفكير النقدي. الفلسفة هي واحدة من أقدم التخصصات في العالم، ويمكن تتبع تاريخها إلى اليونان القديمة. لا تزال أعمال أفلاطون وأرسطو، تُدرس وتُقرأ حتى اليوم. كان للفلسفة تأثير كبير على العديد من مجالات الحياة والمهن بما في ذلك الحقوق والفنون والعلوم والسياسة. ماهو متعارف عليه هو خوض الفلاسفة في مشاكل المعرفة بحثا عن الحقيقة واليقين ودراستهم للقيم ومعايير السلوك البشري ولكننا نراهم اليوم يعودون الى طرح قضايا تتعلق بمعنى الوجود في العالم ومستقبل الحياة على الكوكب وجعلوا من الطبيعة محور اهتمام متجدد في اتجاه مضاد للتصحر والتجمد ومن الصحة مجال للتنقيب الأركيولوجي والتشريح الطبي ومن الرقمي حقل استثمار ودعاية وترويج. لقد أصبحت مهمة الفلاسفة اليوم هي استكشاف الحياة الطيبة في ظل ما يعانيه الناس اليوم من شقاء الوعي وتعاسة الضمير وتراجيديا الفعل وآلام الجسد والشح المائي وندرة الغذاء والدواء وقلة الموارد الطبيعية. فما الذي يشكل حياة طيبة لسكان الارض على أية حال؟ و لماذا "يجب علينا أن نتخيل سيزيف سعيدًا" ؟

لقد كان ألبرت كامي يعتقد أن كل واحد من بني البشر يشبه سيزيف، حيث لا شيء مما يفعله أي منا له أهمية جوهرية، لأن الحياة ببساطة لا تحمل أي معنى جوهري. فنحن جميعًا نتدحرج وندحرج الصخور على تلالنا الخاصة. ومع ذلك، يمكننا اختيار إعطاء معنى لما نفعله. ففي نهاية المطاف، بالنسبة للوجوديين، نحن نقرر ما الذي نقدره، لذا عندما نلقي بأنفسنا في مهمة، تصبح مليئة بالمعنى -المعنى الذي نعطيه لها. كما تساعدنا الفلسفة على فهم الذات والعالم والغير وتعلمنا كيفية التشكيك في افتراضاتنا المسبقة. يعتبر الكثيرون بعض الأشياء أمرًا مسلمًا به دون التساؤل عن سبب إيماننا بها. من خلال استكشاف كيفية تشكيل الأفكار والمعتقدات وكيفية تطور هذا عبر التاريخ، يمكننا أن نبدأ في فهم إطار معتقداتنا الدينية وقناعاتنا المشتركة ونظرتنا المالوفة للعالم. قد تبدو الفلسفة نظريات مجردة، لكنها في الواقع ليست كذلك. ستساعد الناس على التساؤل وإيجاد إجابات وتوسيع الفكر والعالم. إن حالات العالم التي نعتبرها أمرًا مسلمًا به ليست واضحة عندما يتم التعمق فيها. بشكل عام، نعتقد أنها تساعدنا على التفكير خارج الصندوق وعدم جعلنا عالقًين في نفس الصور النمطية. كما يمكن للفلسفة أيضًا أن توفر إطارًا لاتخاذ القرارات الأخلاقية واستكشاف الأسئلة المهمة حول الحياة والموت والمعنى والغرض وتعمل على تطوير مهارات التفكير المنطقي والمجرد، والتي تعد ضرورية للنجاح في أي مجال. كما تساعد الفلسفة على معرفة كيف يجب أن تكون مواطنًا صالحا في هذا العالم المليء بالفساد وأن تعرف المسؤوليات وان تكون لديك العديد من الخيارات الأخلاقية وعلى اثراء الحياة الداخلية والعلاقات الاجتماعية.

3.ماهو الدور الذي تضطلع به التكنولوجيا في تغيير نمط حياة الإنسان واعادة تشكيل العالم؟

طلب روبرت نوزيك في كتابه "الفوضى والدولة واليوتوبيا" (1974) أن نتخيل أن العلماء طوروا الابتكار النهائي في الواقع الافتراضي، والمعروف باسم آلة التجربة. تسمح لك الآلة بالحصول على أي تجربة تريدها، طالما أردت - لمدة ساعة، أو يوم، أو عامين، أو حتى لبقية حياتك، ربما. سيرتاح جسدك بشكل مريح، تحت رعاية الممرضات، ويتغذى من خلال أنابيب التغذية. وفي الوقت نفسه، سيختبر عقلك أفضل ما يمكن أن يقدمه خيالك. يمكنك تحقيق الشهرة والثروة التي طالما أردتها، أو علاج السرطان، أو تسلق الجبال ببطولة - أيًا كان اختيارك. ولكن نوزيك يرتب الموقف بحيث تنسى أنك متصل بالآلة، وأن المحاكاة مكتملة إلى الحد الذي يجعلك تقتنع أثناء وجودك فيها بأن هذه التجارب تحدث بالفعل. وسوف تشعر بأن كل شيء حقيقي مثل التجارب التي تعيشها الآن، ولن يكون هناك أي وسيلة لمعرفة أنك في محاكاة. بعد ذلك يمنحك نوزيك خيارًا بين حياة كاملة داخل الآلة أو حياة خارجها. وقد رتب التجربة الفكرية بهذه الطريقة ليسأل عما إذا كانت المتعة هي الشيء الوحيد الذي نرغب فيه حقًا، لأنه أثناء وجود الشخص داخل الآلة يمكن أن يستمتع بقدر ما يتخيله من المتعة. ولكن نوزيك نفسه لم يكن مهتمًا بدخول الآلة مدى الحياة، وكان يعتقد أن معظمنا لن يهتم أيضًا، فقط لأن التجارب التي تمنحنا إياها لا تتوافق مع الواقع. لذا، على الرغم من أنك قد تشعر وكأنك تعيش علاقات ذات مغزى داخل الآلة، إلا أنك في العالم الحقيقي، مستلقٍ على سرير وتعيش تجارب محاكاة للوجود مع أشخاص غير موجودين. ولقد خلص نوزيك إلى أن الحقيقة هي أيضًا قيمة بالنسبة لنا لا يمكن استبدالها بالمتعة. إذا كان التأثير الفعلي على العالم الحقيقي مهمًا بالنسبة لك، فهذا شيء لن تتمكن آلة التجربة من منحه لك. إذا كنت من أتباع مبدأ اللذة - الشخص الذي يعتقد أن "الخير" يساوي "المتعة" - فإن مجرد الحصول على أي تجارب ممتعة ترغب فيها هو ما تريده أكثر من أي شيء آخر. في هذه الحالة، قد يكون من الصعب أن ترى سببًا لعدم دخولك إلى آلة التجربة. بعد كل شيء، ستسمح لك بتجربة أشياء لم يكن من الممكن أن تجربها أبدًا لولا ذلك. يجب التأكيد على الحاجة الملحة للأخلاقيات في صناعة التكنولوجيا ومع تزايد حضور التكنولوجيا في كل مجالات حياتنا وتجاوزها لحدود جديدة، فإنها تفرض العديد من المعضلات الأخلاقية الجديدة التي لا يمكننا حلها بدون الفلسفة. كما تتزايد المخاوف بشأن الحريات الشخصية والخصوصية والأخلاق والأسس التي تقوم عليها الاختراعات المستقبلية، وربما تكون الفلسفة هي التخصص الوحيد الذي يمكنه التعامل مع هذه المخاوف. في المشهد التكنولوجي الحالي، فإن الأسئلة الوحيدة التي تُطرح عند النظر في الابتكارات هي - هل هذا ممكن؟ وهل هو مربح؟ إن الأسئلة الأخلاقية غير موجودة، والقيود الوحيدة قانونية. وفي حين تفشل الأطر القانونية في معظم البلدان في مواكبة الابتكار التكنولوجي، فإن شركات التكنولوجيا تحتاج إلى القدرة على النظر إلى الداخل وتقييم المبررات - أو عدم وجودها - لمشاريعها. هذا هو السبب في أن المفكرين الرائدين يوصون شركات التكنولوجيا بتوظيف الفلاسفة لطرح الأسئلة الأخلاقية - وليس فقط الأسئلة التقنية والاقتصادية التي يستشيرون فيها الخبراء. ليس من المستبعد أن نعتقد أن شركات التكنولوجيا الكبرى قد ترغب في توظيف الفلاسفة في السنوات القادمة. لقد أصبحت أفضل الكليات على دراية بكيفية تغلغل التكنولوجيا في كل مجال في العالم المعاصر. وبناءً على ذلك، بدأت أفضل الكليات في دمج دورات التكنولوجيا لإعداد خريجيها للعالم الرقمي. في حين قد يعتقد الكثيرون في صناعة التكنولوجيا أن التكنولوجيا محايدة أو حتى حتمية، فإن الحقيقة هي أن علاقات القوة في المجتمع والسياق الثقافي تشكل التكنولوجيا، تمامًا المجتمع. وهذا يستلزم التفكير النقدي حول التكنولوجيا من جهة التشكل والتبعات. تؤكد النظرية النقدية للتكنولوجيا على إمكانية وجود تكوينات تكنولوجية أخرى تتوافق مع المبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية من خلال النظر في الجوانب الاجتماعية والسياسية للتكنولوجيا. تمنح أفضل الكليات منظورًا شاملاً حول الترابطات بين السياسة والاقتصاد والتاريخ والثقافة وتأثيرها الجماعي على التكنولوجيا.

4. كيف يعد الفيلسوف باحثا عن القيمة والمعنى في الثقافة وحارسا للعقلانية والمشروعية؟

في الفلسفة، غالبًا ما تقودنا الأسئلة غير المحلولة إلى إعادة التفكير في فهمنا للمجهول. هل يمكن لهذه الأسئلة نفسها أن تثير شعورًا أعمق بالدهشة وهل هذه هي القيمة النهائية التي تجلبها؟ تركز أبحاث الفلاسفة على الاعتراف بالجهل وتوسع رغبة الفضول ودور التساؤل في الفكر العقلاني المشروع. إن الفلاسفة يحبون أن يروا أنفسهم مفكرين ناقدين محايدين. ولكنهم قد ينجرفون في أفكارهم إلى حد الهوس بفكرة فلسفية أو عمل فلسفي. إن الفلسفة تولد في الدهشة، ولكن النظريات الفلسفية يمكن أن تصبح هي نفسها مصدراً للدهشة. وهي تفعل ذلك من خلال مساعدتنا على رؤية العالم وما كنا نعتقد أننا نعرفه بعيون مختلفة. فهي تمنحنا شعوراً بالأولوية: أي رؤية المألوف على أنه عجيب أو غريب، وكأننا نواجهه لأول مرة. ونحصل على هذا الشعور بالأولوية في المواقف الدنيوية، مثل عندما تبدو كلمة شائعة فجأة غريبة، أو عندما يبدو مشهد عادي فجأة غريباً. ويزرع بعض الفلاسفة هذا الشعور بالأولوية من خلال تشجيعنا على التفكير في غرابة المواقف التي نادراً ما نتوقف فيها للتأمل. ورغم أن الأفكار التي تثير اهتمام الفلاسفة لا تحرم عامة الناس من النوم في كثير من الأحيان، فإن كل فرد، بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية أو التعليم، يمر بلحظات من التأمل الهادئ والتعجب. ويتساءل فلاسفة آخرون عن الأعراف الاجتماعية. ورغم أن أعرافنا ومؤسساتنا تبدو وكأنها ثابتة، فإنها في الواقع ليست كذلك، ولدينا القدرة على تغييرها. ونرى هذا بوضوح في الفلسفة المعاصرة للنوع والعرق، ولكن أيضا في الأعمال القديمة. تُعلِّم الفلسفة التفكير النقدي من خلال تشجيع العقول على التشكيك في كل ما يتم تعليمهم إياها. ويتم تشجيع الناس على تطوير معتقداتهم الخاصة والتفكير بأنفسهم. هذه مهارة قيمة، خاصة في عالم أصبح من الصعب فيه التمييز بين الحقيقة والخيال. كما تُعلِّم الفلسفة كيفية الجدال بفعالية. وهذا مهم، لأنها تسمح للبشر بالدفاع عن معتقداتهم ضد الحجج المعارضة ويساعدهم على فهم آراء الآخرين بشكل أفضل. كما تتضمن الفلسفة بعض المهارات ذات القيمة الأعلى التي يكتسبها الناس معهم، على غرار مهارات الكتابة وفهم القراءة والتحدث والتعلم النشط والتعليم والتفكير النقدي وحل المشكلات المعقدة والفطنة الاجتماعية والحكمة الإيتيقية والتدبير الايكولوجي.

5. إلى أي حد يمكن اعتبار براغماتية الفلسفة الفردانية التملكية في مجتمعاتنا مشكلا حقيقيا؟

هناك انتشار لنزعة براغماتية فجة مبنية على ابيقورية حسية مضافا اليها نزعة حسية نفعية تفضي الى انتشار مشاعر انانية متمحورة حول الشخصية الفردانية ومنتشرة نرجسيا على الصعيد الواقع الاجتماعي. لكن الفلسفة مهمة للأعمال التقليدية والانشطة المتعلقة بالتمويل والإدارة وتعتبر وسيلة رائعة للنظر في المشاكل التي قد تؤثر على الشركات في المستقبل، مثل: القضايا الأخلاقية مثل المواطنة المؤسساتية أو ممارسات العمل غير العادلة. سوف تحتاج البشرية إلى رؤية سريعة للقضايا المعقدة، وتجميع الحجج المقنعة لصالح التملك الخاص أو ضد المقترحات المقدمة، وتصفية المعلومات ذات الصلة من غير ذات الصلة، والتحقق من اتساق وسلامة أوراق السياسات الاقتصادية، وتحديد المشاكل الحاسمة وتحديد القضايا التي لا تزال غير مفهومة بشكل جيد. كما أن الأسئلة المتعلقة بالتكنولوجيا، مثل ما إذا كان ينبغي السماح بالأتمتة لأنها يمكن أن تحل محل العمال البشريين بسهولة أكبر بكثير من ذي قبل. مع استمرار النمو في التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، نشهد قلقًا متزايدًا بشأن دور وأخلاقيات استخدام التكنولوجيا. لذلك، من المتوقع أن تنمو مجالات مثل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وقانون حقوق النشر والتمويل. في السنوات الأخيرة، كان هناك اتجاه متزايد لتطبيق التفكير الفلسفي في مجال الأعمال. فليس من النادر أن تدعو الشركات العالمية الفلاسفة، ويتم تقديم خدمات مبتكرة باستمرار في جميع أنحاء العالم من قبل الأفراد الذين درسوا الفلسفة. غالبًا ما يُنظر إلى الفلسفة على أنها مثال شائع لـ "التخصصات الأكاديمية غير العملية"، فلماذا تجتذب هذه الانشغالات الآن اهتمامًا كبيرًا في مجال المال وعالم الأعمال؟ إن الاستشارات الفلسفية هي محاولة لتطبيق المعرفة والفكر الفلسفي المتخصص في إدارة الأعمال والتنظيم، والتي اكتسبت بالفعل بعض الزخم في المجتمع الصناعي المتقدم. أثناء البحث في العديد من الشركات، تمت ملاحظة أن العديد منها عانت من قضايا مثل الافتقار إلى الوضوح في الأهداف المتوسطة إلى الطويلة الأجل وعدم اليقين بشأن كيفية تحسين المشاريع الحالية. إن المنهج النموذجي للتعامل مع هذه القضايا ينطوي بشكل عام على أنشطة مثل جمع الموظفين لتبادل الأفكار أو إجراء أبحاث تسويقية ونمذجة المنتجات بما يتماشى مع الاتجاهات. ولكن الاعتماد فقط على منهج عشوائي أو تكرار العصف الذهني والتجربة والخطأ العشوائي، يمكن أن يؤدي في النهاية إلى استنزاف الأموال والأفكار والمواهب. وعلاوة على ذلك، فإن الرضا عن الأفكار المؤقتة يعيق في كثير من الأحيان استكشاف القيمة الجوهرية، مما يجعل من الصعب خلق قيمة تدعم الأهداف المتوسطة إلى الطويلة الأجل. لنأخذ الأعمال التجارية كمثال. تخيل أن هناك بالفعل وفرة من المنتجات في العالم، وكل ما يحتاجه الناس متاح بسهولة. لم تعد الفكرة التقليدية القائلة بأن الأعمال التجارية تزدهر من خلال تلبية الطلب بالعرض قابلة للتطبيق. ومع ذلك، لا يزال يتعين علينا الاستمرار في بيع المنتجات من أجل العمل. في مثل هذه الحالة، ماذا ينبغي لنا أن نفعل؟ إذا كنت صاحب عمل، فقد تجيب بالقول إننا يجب أن نجري أبحاث تسويقية، ونحلل البيانات لفهم الاتجاهات، ونستثمر أكثر في العلاقات العامة. ومع ذلك، فإن العملاء لديهم بالفعل ما يريدون. وحتى لو تمكنا من الاستحواذ على حصة السوق من المنافسين، فهناك قيود على توسيع المبيعات. في مثل هذا السيناريو، ليس لدينا خيار سوى خلق وبيع قيمة جديدة. في الواقع، تدرك معظم الشركات بالفعل الحاجة إلى القيام بذلك. من المحتمل أن يكون الموظفون قد سمعوا مرارًا وتكرارًا من الإدارة أن التحدي الجديد للشركة هو خلق القيمة وأن الابتكار هو المطلوب. ومع ذلك، لماذا يكافحون لتحقيق هذا؟ قد يكون ذلك لأنهم لا يسعون حقًا إلى جوهر الأشياء. لهذا السبب أعتقد أن الانضباط الفلسفي يمكن أن يكون مهمًا. لذلك تساعد الفلسفة على الابتكار الاقتصادي وفي السنوات الأخيرة، كانت هناك جهود عديدة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي، لربط الفلسفة بالأعمال التجارية. وعلى وجه الخصوص، لا يمكن تجاهل الرابط بين شركات تكنولوجيا المعلومات في العالم المتقدم والفلسفة. ومن المعروف أن المؤسس المشارك لإنستغرام مايك كريجر ورائد الأعمال ريد هوفمان، المعروف عن لينكد إن، درسا الفلسفة في المؤسسات الأكاديمية. لقد أكملا بشكل خاص برنامج الأنظمة الرمزية في جامعة ستانفورد. في هذا البرنامج، يتم تعيين الفلسفة كدورة أساسية إلى جانب علوم الكمبيوتر. لقد نجح رواد الأعمال في مجال تكنولوجيا المعلومات الذين لديهم خلفية في الفلسفة في إنشاء منصات تشرك مئات الملايين من المستخدمين عبر الدول والثقافات. لا يوجد عدد قليل من الشركات التي توظف الفلاسفة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك شركة أبل، التي وظفت الفيلسوف السياسي جوشوا كوهين كفيلسوف داخلي. لم يتم الكشف رسميًا عن الطبيعة المحددة لدور كوهين، لكن الشركة تسعى إلى مبادرات مبتكرة يمكن أن تقلب أسس المجتمع وتنطوي على تطوير منصات جديدة تدعم المجتمع ككل. إنني أتصور أنهم استأجروا كوهين، المعروف بمناقشاته حول الديمقراطية التداولية وصنع القرار العام، للتنبؤ بكيفية تحقيق هذه المبادرات داخل الأنظمة السياسية، وتأثيرها المحتمل، وعمق اختراقها للتسلسلات الهرمية المجتمعية. كما توفر الفلسفة رؤى حول منهجيات الإدارة التنظيمية. على سبيل المثال، كشف عالم الإدارة إيكوجيرو نوناكا، المعروف بأبي إدارة المعرفة، أن نموذجه الخاص لعملية خلق المعرفة التنظيمية استوحى إلهامًا كبيرًا من مفهوم "التفاعل بين الأشخاص" في الفينومينولوجيا الهوسرلية، والتي تركز على تجربة وإدراك أحاسيس الذات والآخرين، فضلاً عن مفهوم "المعرفة الضمنية" الذي حدده الفيلسوف العلمي مايكل بولاني. قال بولاني: "يمكننا أن نعرف أكثر مما نستطيع أن نقول". ومع ذلك، لا يمكن التعبير عن الكثير من هذه المعرفة بالكلمات. على سبيل المثال، عندما تعلم طفلاً كيفية ركوب الدراجة، فمن السهل أن تقول له لفظياً: "امسك بمقود الدراجة بقوة واضغط على الدواسة للحفاظ على التوازن"، ولكن الإحساس الفعلي بالتوازن أثناء الحركة لا يُفهَم إلا من خلال التجارب الداخلية غير اللفظية للطفل. وليس من السهل نقل هذه المعرفة الضمنية إلى الآخرين. ففي عالم الأعمال، يمكن اعتبار المعرفة الفردية غير المعبر عنها، مثل تقنيات المبيعات الفريدة التي يتقنها مندوبو المبيعات ذوو الأداء العالي وحالة الآلات في المصنع التي لا يستطيع سوى مدير الإنتاج في الموقع أن يدركها، معرفة ضمنية. ويكمن التحدي في كيفية تجميع وتحويل الخبرات الحسية والذاتية وغير اللفظية للفرد إلى معرفة مدونة داخل منظمة الشركة. وفي استكشاف وممارسة هذا التحدي، تثبت الفلسفة وعلم الإدارة بالتأكيد ترابطهما. لذا فان الفلسفة مجال متعدد التخصصات و يُعتقد أيضًا أن شركة بيونتيك ، وهي شركة ألمانية للتكنولوجيا الحيوية اكتسبت شهرة واسعة لتطوير لقاح كوفيد-19 ، تدمج الفلسفة في قراراتها التجارية. مؤسسا الشركة هما أوزليم توريجي وأوغور شاهين، زوجان عالمان في الطب. في حين أن إنجازات كارل بوبر واسعة النطاق، يبدو أن ما أثر على شاهين هو موقفه من العقلانية النقدية. باختصار، يشير هذا المنظور إلى أنه لا توجد نظرية مثالية، وأن العلم ينطوي على الاستماع إلى انتقادات مختلفة وإجراء تصحيحات للاقتراب من الحقيقة. لقد زعم بوبر أن الفرضيات أو التكهنات الصحيحة والخاطئة يمكن أن تقربنا من الحقيقة، خطوة بخطوة، من خلال عملية الإشارة إلى أخطائها. "لقد صرح قائلاً: "إن دحض نظرية ما - أي الحل المؤقت لمشكلتنا - هو دائمًا خطوة إلى الأمام تقربنا من الحقيقة. وهذه هي الطريقة التي يمكننا بها التعلم من أخطائنا". في خضم الوباء العاجل في عام 2020، تواصل شاهين وآخرون مع شركة الأدوية العملاقة فايزر لبدء التعاون. لقد تبادلوا فرضيات جريئة مع الباحثين، واختبروا نظريات مختلفة، ونجحوا في تطوير لقاح جديد. في عالم اليوم، حيث تزداد الحاجة إلى التعاون بين الصناعات والمجالات بشكل متزايد، يبدو أن أهمية الموقف البوبري في ازدياد في مجال الأعمال. إن الفلسفة، في الأساس، تتعمق في جوهر موضوعاتها، سواء كانت أشياء أو نظريات، وتوضح الأسس التي تدعم مجالات مختلفة. لذلك، بطبيعتها، تمتد الفلسفة عبر مجالات متعددة. وبينما تم تكرار مصطلحات مثل "التعددية التخصصية" و"إعادة هيكلة التخصصات الأكاديمية"، فإن الفلسفة لا غنى عنها لربط ودمج مجالات الدراسة المختلفة، والواقع أن العديد من الدراسات متعددة التخصصات تنطوي على الفلاسفة. وهذا بارز بشكل خاص في أوروبا والولايات المتحدة، حيث يتخصص المشرف الأكاديمي في كل من الفيزياء الفلكية النظرية والفلسفة. وهناك العديد من الأفراد الذين تابعوا دراسات في مجالات متعددة التخصصات، بما في ذلك الفلسفة، لمعالجة القضايا المجتمعية المعقدة.ومن الأمثلة التي حظيت باهتمام دولي في السنوات الأخيرة ألينا بويكس، التي لعبت دورًا حاسمًا في الاستجابة لجائحة كوفيد-19 بصفتها رئيسة المجلس الألماني للأخلاقيات. وقبل تولي دور جلب المعرفة المتخصصة مثل نماذج العدوى والأخلاقيات الطبية لعامة الناس، حصلت في الأصل على درجة الدكتوراه في الطب ثم قدمت لاحقًا أطروحة تأهيل في الفلسفة. من خلال عبور مجالات متعددة، لا يتكيف الشخص مع تعقيد الأحداث فحسب، بل يكتشف أيضًا بشكل غير متوقع وجهات نظر جديدة. وفي الوقت نفسه، يمكن أن يؤدي هذا المنهج إلى إعادة تقييم القضايا المعاصرة في سياق المعرفة البشرية المتراكمة على مدى أكثر من ألفي عام أو حتى التقدم البشري بأكمله. يمكن أن تكون القيمة الناتجة عن الفلسفة عالمية كونية، وتتجاوز المناطق والعصور  الخاصة بها. لذلك، قد يكون من المفيد التخلص من المفهوم الخاطئ بأن الفلسفة غامضة وغير عملية، واستكشافها بدلاً من ذلك كتخصص أكاديمي يمكن تطبيقه لتحديد التحديات في مجال الأعمال.

6. كيف تكون فيلسوفا في العلم والتقنية وفي ذات الوقت تكون عالما وتقنيا في الفلسفة؟

يتناول الفيلسوف بالتحليل والنقد الحالة الحرجة التي تعيشها الفلسفة اليوم من خلال النظر في جانبين من جوانبها: الطريقة التي تمارس بها الفلسفة في الوقت الحاضر على نحو أكثر تقليدية (الاحترافية والتخصص المتزايدين) والتحديات الجديدة التي يتعين عليها مواجهتها لمواكبة السياق العلمي والثقافي والاجتماعي المتغير بشكل عام. ولكنه يسلط الضوء في ذات الوقت على بعض آفاق التقدم في ضوء ما يمكن اعتباره حتى الآن المهام المناسبة للبحث الفلسفي. ويتم تحديد مثل هذه المهام من خلال مسح تاريخي للشخصيات الأصلية للفلسفة وتقييم دوافعها النظرية. كما يتم التأكيد على أهمية تاريخ الفلسفة وضرورة تحقيق علاقة فاضلة بين التخصصات الفلسفية المختلفة لمقارنة مخاطر التخصص والاحتراف المفرطين.

اذا تم طرح السؤال "ماذا يمكن للمرء أن يفعل بالفلسفة؟" فإن مارتن هيدجر أقر بأن "عدم جدوى" الفلسفة يشكل جزءاً حميماً من طبيعتها، وأن المساهمة الفريدة والقوية التي قدمتها الفلسفة للحياة البشرية تكمن على وجه التحديد في عدم جدواها. ومع وضع أفكار هيدجر حول الفلسفة في الاعتبار، فسوف نعود إلى سؤال استخدام الفلسفة في محاولة لإظهار السبب الذي يجعل المطالبة بإثبات فائدة كل شيء تنتهي إلى إفقار مؤسف للحياة. إن السؤال حول ما يمكن للمرء أن يفعله بالفلسفة يُفهَم عادة من حيث تطبيقات مهنية محددة. ويسعى السؤال إلى معرفة نوع العمل الذي يمكن أن تقود إليه الفلسفة. ومن غير المستغرب أن تميل الإجابات على هذا السؤال إلى التوافق مع نفس التوقعات، مع تحديد فرص العمل والمهن التي يستعد لها احباء الفلسفة. وهناك منهج آخر مرتبط بهذا السؤال يركز على المهارات الفكرية التي تتطور في دراسة الفلسفة، مثل القدرة على الكتابة، وتحليل المشاكل، وبناء وتنظيم الحجج. فالفلسفة تقود المرء إلى تقدير أهمية الأسئلة؛ وتشجعه على التفكير بنفسه؛ وتعزز القدرة على فهم المشاكل من وجهات نظر متنوعة وعلى عدد من المستويات المختلفة. ويزعم هذا المنهج أن المهارات المكتسبة من خلال دراسة الفلسفة قيمة وقابلة للنقل. وهناك وجهة نظر أخرى تزعم أن الفلسفة، سواء كانت "تصنع الكثير من الخبز" من حيث إعداد الوظائف أو الحياة المهنية، تستخدم في المساهمة التي تقدمها للطريقة التي يعيش بها الإنسان حياته. إن ما يستطيع الإنسان أن يفعله بالفلسفة هو أن يعيش حياة إنسانية أكثر إثارة للاهتمام. وتعترف هذه الاستجابة بأن سبل عيش الإنسان، بالرغم من أهميتها، ليست المقياس الأساسي لمدى فائدته. لقد كان الفلاسفة منذ أمد بعيد هدفاً للنكات، من أريستوفان إلى رورتي، حيث صوروا الفلاسفة باعتبارهم مروجين لما هو عديم الفائدة. والخلاصة التي توصلت إليها هي أن النكات أصابت هدفاً حقيقياً للغاية. ولكن ما تغفله الفكاهة هو التفكير المتعمق في الأسباب التي تجعل عدم جدوى الفلسفة جزءاً من طبيعتها، ولماذا يشكل عدم الفائدة أهمية كبيرة في حياة الإنسان. إن الفلسفة حركة من الدهشة، ورغم أن هذا لا ينتج نتائج ومنتجات ملموسة مباشرة، فإنه يبقي البشر أحياء باعتبارهم مخلوقات من الممكنات والتساؤلات. وربما لا يؤدي الدفاع عن "عدم الفائدة" إلى دفع كثيرين إلى التخصص في الفلسفة؛ ولكن أملي أن يشجع هذا قِلة من الآخرين على اغتنام الفرصة الفلسفية عندما يسمعون السؤال التالي: "ماذا يمكنك أن تفعل بالفلسفة على أي حال؟". على هذا النحو لا تقف الفلسفة لتغيير العالم فحسب؛ بل قد تغير مسار حياة الذات ومعنى وجودها في العالم وعلاقاتها بالأغيار. إنها صناعة بشرية فكرية ذات قوة بقاء وإمكانيات غير عادية. بينما يُنسب إليها غالبًا تشكيل الحضارات العريقة ووضع أسس الثقافات العلمية، ولا يزال تأثيرها محسوسًا حتى اليوم، لكن لماذا تظل الفلسفة مهمة لنا جميعا في الأزمنة المستقبلية؟

7. ماهي مكانة الصحة والحياة في الاهتمام الإيتيقي الراهن بالأزمات الحدية والتداعيات الكارثية؟

للوهلة الأولى، قد تبدو الفلسفة والصحة وكأنهما مجالان غير مرتبطين. فالفلسفة غالباً ما تدرس الأسئلة المجردة والنظرية والمنطقية، وتبني حججاً تبدو منفصلة عن الاهتمامات اليومية لمعظم الناس، في حين يتعامل مجال الصحة والاستشارة مع الذاتية، أي تفاصيل الحياة اليومية. وعلى وجه الخصوص، تهتم الاستشارة بتنفيذ العلاجات القائمة على الأدلة والتي تم تخصيصها لتلبية الاحتياجات الفعلية للفرد. وبهذه الطريقة، تكون الاستشارة عملية للغاية وواقعية. ومع ذلك، فإن العلاقة بين هذين المجالين متشابكة أكثر مما قد يتصور المرء في البداية. ما أقترحه هو أن الفلسفة يمكن أن تفيد الصحة وتعزز الرفاهية. إن عملية التأمل في تجارب المرء، وهي جانب أساسي من الفلسفة العملية، تشكل أهمية بالغة للصحة. وتمكن الممارسات التأملية الأفراد من اكتساب نظرة ثاقبة لأفكارهم ومشاعرهم وسلوكياتهم، مما يسهل النمو الشخصي والتنظيم العاطفي. وترتبط هذه القدرة التأملية بممارسات اليقظة الذهنية، التي ثبت أنها تقلل من أعراض القلق والاكتئاب. علاوة على ذلك، فإن العلاج السردي، الذي ينطوي على استكشاف وإعادة تأليف القصص الشخصية، يعتمد على الأفكار الفلسفية حول الهوية والمعنى. ومن خلال فحص السرديات التي يعيشون بها، يمكن للفاعلين إعادة تشكيل فهمهم لأنفسهم وظروفهم، مما يؤدي إلى تغييرات إيجابية في صحتهم. باختصار، فإن الفلسفة والصحة مترابطتان بشكل عميق. وتقدم الحكمة العملية المستمدة من التأمل الفلسفي رؤى خصبة وأدوات قيمة للتنقل بين تحديات الحياة. من خلال دمج المفاهيم الفلسفية في الاستشارة، يمكن للأفراد اكتساب فهم أعمق لأنفسهم وتجاربهم، مما يعزز من صحتهم. ومع استمرار البحث في استكشاف التقاطعات بين هذه المجالات، أصبحت فوائد الفلسفة للصحة واضحة بشكل متزايد.

8. كيف أدى الحرص على تحويل الطبيعة إلى مجموعة أدوات إلى الفقدان المستمر للغايات؟

إن العلم- التقنية يشكل أحد أهم العناصر في حياتنا اليوم. فنحن نعتمد عليه بشكل كبير لأسباب شخصية ومهنية. ولكن العلم لا يستطيع أن يخبرنا ما الذي يجعل شيئاً ما صحيحاً أو خاطئاً. وفي جوهره، فإن الفلسفة العلمية التقنية هي السعي إلى معرفة ما هو صحيح ومفيد، وما يعنيه أن نعيش حياة ذات معنى وذات قيمة. وهذا أمر محظور على العلم- التقنية، لأنه يستطيع أن يخبرنا كيف تسير الأمور تجريبياً، ولكنه لا يستطيع أن يصف لنا كيف ينبغي لنا أن نعيش بشكل أحسن. وباختصار: يساعدنا العلم- التقنية على العيش لفترة أطول، في حين تساعد الفلسفة العلمية التقنية غالبية الانسانية على العيش بشكل أفضل. إن ممارسة التأمل الفلسفي ليست مهمة فقط للتقدم في البحث العلمي، بل إنها ضرورية للتنقل بنجاح في عالم تجذبنا فيه المسؤوليات والمعلومات والقوى المتنافسة في اتجاهات مختلفة. وهذا بالضبط ما فهمه الرسام وصانع المطبوعات الإسباني فرانسيسكو غويا عندما أنتج نقشه الشهير "نوم العقل ينتج وحوشًا"،. في تحليله لنقش غويا، يلاحظ الفيلسوف المعاصر سيمون بلاكبيرن في كتابه "فكر" أن "هناك دائمًا أشخاصًا يخبروننا بما نريده، وكيف سيوفرونه لنا، وما يجب أن نؤمن به"، ويتابع بقوة: "إن المعتقدات معدية، ويمكن للناس أن يجعلوا الآخرين مقتنعين بأي شيء تقريبًا. نحن عادة على استعداد للاعتقاد بأن طرقنا ومعتقداتنا وأدياننا وسياساتنا أفضل من طرقهم ومعتقداتهم وأديانهم وسياساتنا، أو أن الحقوق التي منحنا إياها الله تتفوق على حقوقهم أو أن مصالحنا تتطلب ضربات دفاعية أو استباقية ضدهم. في النهاية، الأفكار هي التي يقتل الناس من أجلها بعضهم البعض". إن الأفكار التي تدور حول ماهية الآخرين، أو من نحن، أو ما تتطلبه مصالحنا أو حقوقنا، هي التي تدفعنا إلى خوض الحروب، أو قمع الآخرين بضمير مرتاح، أو حتى الرضوخ في بعض الأحيان لقمع الآخرين لنا. ومع كل هذا الخطر، لابد من مواجهة هروب العقل لوقف الانتشار الخطير للمعلومات المضللة. إن التأمل الفكري يمكّننا من التراجع خطوة إلى الوراء، واليقظة تبلور رؤية وجهة نظرنا في أي موقف على أنها ربما تكون مشوهة أو عمياء، أو على الأقل لنرى ما إذا كان هناك حجة لتفضيل طرقنا، أو ما إذا كانت مجرد حجة ذاتية. ومن خلال نشر التفكير النقدي وصرامة الفلسفة، نصبح أقل عرضة للخداع أو الانجراف وراء أولئك الذين يشوهون تفكيرنا ـ عن قصد أو عن غير قصد. لذلك تتمتع الفلسفة بالقوة التحويلية التي تتمتع بها العلم التقنية. فإلى جانب توضيح المعرفة، فإن أعظم فلسفة ــ مثل أعظم العلوم ــ تتمتع بقوة تفسيرية هائلة قادرة على تحويل نظرتنا إلى العالم. فكما تطعن نظرية النسبية لألبرت أينشتاين في مفهومنا اليومي عن الزمن، فإن تشريح فريدريك نيتشه للأخلاق يتحدى مفاهيمنا اليومية عن "الخير" و"الشر"، كما يتحدى تحليل جون لوك للألوان فكرتنا ذاتها عما إذا كان الإدراك حقيقة أم لا، وتساعدنا تأملات لوكريتيوس الخالدة في الموت على التعامل مع فناءنا. إن العالم غير مؤكد، وتكمن قيمة الفلسفة على وجه التحديد في مواجهة هذا عدم اليقين ــ وفي إيجاد موطئ قدم للمعرفة والتقدم على الرغم منه. وكما يلخص برتراند راسل لأسباب أهمية الفلسفة: "إن الفلسفة يجب أن تُدرَس ليس من أجل أي إجابات محددة لأسئلتها، لأن أي إجابات محددة لا يمكن، كقاعدة عامة، أن تكون صحيحة، بل من أجل الأسئلة نفسها؛ لأن هذه الأسئلة توسع مفهومنا لما هو ممكن، وتثري خيالنا الفكري وتقلل من الثقة العقائدية التي تغلق العقل ضد التكهنات؛ ولكن قبل كل شيء لأن العقل، من خلال عظمة الكون التي تتأملها الفلسفة، يصبح عظيماً أيضاً، ويصبح قادراً على ذلك الاتحاد مع الكون الذي يشكل خيره الأسمى".

9. اذا كانت الآلة يمكن أن تحل محل الدماغ البشري في التفكير فماهي الرهانات الانثربولوجية من اعتماد الذكاء الاصطناعي؟

" الخيال المهجور بسبب العقل ينتج وحوشًا مستحيلة" غويا

إن الكثير من المخاوف والشكوك التي نشعر بها في حياتنا، بدءاً من التساؤل عما إذا كانت وظائفنا تمنحنا المعنى الذي نحتاج إليه، إلى عدم القدرة على تقبل الموت، كلها مشاكل فلسفية في الأساس. ولقد واجه الفلاسفة هذه المشاكل وقدموا لها أفكاراً عميقة للغاية لآلاف السنين. إن الانخراط بشكل نقدي في الحكمة الدائمة للفلسفة هو وسيلة رائعة لتثقيف أنفسنا بشأن المشاكل المتأصلة في الحالة الإنسانية، وكذلك مواجهة تلك المشاكل وتهدئة مخاوفنا وقلقنا الوجودي. من خلال الانخراط في أفكار المفكرين العظماء عبر التاريخ، نصبح قادرين على التفكير بأنفسنا - سواء كان ذلك في مسائل المعنى والوجود، أو كيفية صنع عالم أفضل، أو ببساطة معرفة ما يستحق السعي إليه في الحياة. طالما إن الحياة غير المدروسة لا تستحق أن نعيشها. فان التأمل الفلسفي هو البندقية التي تنطلق بنا من خوض الحياة وكأننا نمر فقط بالحركات، أو نعيش وفقًا لتوقعات الآخرين، أو نعيش وفقًا للمعايير التي لم نفكر فيها حقًا، ناهيك عن تأييدها. كما تفتح الفلسفة أعيننا على الطرق العديدة التي يمكننا أن نقضي بها حياتنا، وتولد التسامح تجاه أولئك الذين تختلف ممارساتهم عن ممارساتنا، وتوقظ دهشة الطفل وتقديره للغموض الهائل والفرصة الكامنة في قلب الوجود. الآن، قد يعتقد البعض أن بعض الأسئلة التي تتطرق إليها الفلسفة، مثل الطبيعة الأساسية للكون، أو ظهور الوعي، قد حلت محلها موضوعات علمية أكثر تخصصا. على سبيل المثال، يقف علماء الفيزياء في طليعة التحقيق في الطبيعة الأساسية للواقع. وعلى نحو مماثل، يقود علماء الأعصاب الطريق في الكشف عن أسرار الدماغ. ولكن الفلسفة ليست هنا للتنافس مع هذه المشاريع البحثية الرائعة، بل لتكملتها وتوضيحها وحتى توحيدها. على سبيل المثال، عندما يشارك علماء الفيزياء أحدث نماذجهم الرياضية التي تتنبأ بسلوك المادة، يسأل الفلاسفة، "حسنًا، إذن ماذا يخبرنا هذا السلوك عن الطبيعة الجوهرية للمادة نفسها؟ ما هي المادة؟ هل هي النزعة المادية، هل هي مظهر من مظاهر الوعي؟ - ولماذا يوجد أي من هذه الأشياء في المقام الأول؟" وبالمثل، عندما يحرز علماء الأعصاب تقدمًا في رسم خريطة الدماغ، يكون الفلاسفة على استعداد لاستيعاب العواقب التي تخلفها أحدث الأبحاث على مفاهيمنا للوعي والإرادة الحرة. وعلى نفس القدر من الأهمية، بينما يواصل علماء الكمبيوتر تطوير الذكاء الاصطناعي، يناقش الفلاسفة الآثار المترتبة على ذكاء الآلة المتنامي على المجتمع، ويشرحون المخاوف الأخلاقية والمعنوية الملحة المصاحبة له. مع تركيزها على الحجة والوضوح، تتمتع الفلسفة بقدرة خاصة على استئصال الافتراضات والتناقضات التي تكمن في صميم التفكير السليم، وتشحذ رؤيتنا للحقيقة، وإضفاء الأمن على أسس المعرفة في جميع مجالات البحث - وخاصة العلوم، التي تعمل كما تفعل على حدود ما نعرفه حول التكنولوجيا. لقد أصبحت التكنولوجيا موضوع اهتمام متزايد من جانب الفلاسفة. إن التأمل الفلسفي في التكنولوجيا يعرض مجموعة واسعة ومحيرة في بعض الأحيان من الأساليب البحثية وأساليب التفكير. يتم تسليط الضوء على تطور ثلاث مدارس في فلسفة التكنولوجيا. بناءً على المقدمات الشاملة لفكر كارل ماركس ومارتن هيدجر وجون ديوي حول التكنولوجيا، يمكن تقديم تاريخ التقنية وسرد متعمق للطريقة التي استجاب بها المفكرون في المدارس النقدية والفينومينولوجية والبراجماتية للقضايا والتحديات التي أثارتها أعمال مؤسسي هذه المدارس. إن التكنولوجيا في أي جانب تقريبًا من جوانب الحياة البشرية هي موضوع محتمل للمعالجة الفلسفية. بالإضافة إلى الفلاسفة الذين يسعون إلى هيكلة قيمة  لمجال لا يزال مزدهرًا، فإن المبحث مثير للاهتمام لأولئك الذين يعملون في الفلسفة التعليمية والتصميم الحسي للقيمة.

10. كيف يمكن أن نستشرف أحوال الحضارة الكونية والتداعيات الجارية في سنة 2025؟

" ليس الأمر أننا لدينا وقت قصير لنعيشه، بل إننا نضيع الكثير منه. فالحياة طويلة بما فيه الكفاية، وقد أعطينا قدراً سخياً كافياً لتحقيق أعلى الإنجازات إذا استثمرناها بشكل جيد." الرواقي سينيكا

يتراوح عمل الفلسفة اليوم بين صرخات الإنذار وآفاق التقدم وبين الاقدام على المخاطرة والتسلح بالأمل. فلماذا يتم اعتبار الفلسفة مهمة اليوم، وكيف يمكنها تحسين الحياة الانسانية على الكوكب الفائض بسكانه؟

تضمن الفلسفة بشكل أساسي التفكير الجاد في أسئلة الحياة الكبرى، بما في ذلك - كما ناقشنا ماهية الفلسفة، وكيف تعمل، بالإضافة إلى فروعها الأساسية - لماذا نحن هنا، وكيف يمكننا معرفة أي شيء عن العالم، وما هي الغاية من حياتنا. نحن نؤمن أن ممارسة الفلسفة التطبيقية هي الترياق لعالم مشبع بالمعلومات المفيدة والمعارف النافعة، وكلما زاد انخراط الناس في التجارب الهادفة، كلما كانت حياتهم أكثر إشباعًا. إن الطبيعة الإدمانية للعالم الرقمي، كمثال، تصيب الكثيرين منا. فالسيل المستمر من المعلومات يملأ مدى انتباهنا. ولكن الحياة محدودة، والأشياء التي نوليها اهتمامنا تحدد حياتنا. ومن الأهمية بمكان أن نتحرر من التيار المضطرب ونخرج للتنفس. إن خدمات البث المباشر تجعلنا نتابع حلقة أخرى، وأولئك منا الذين لديهم هواتف ذكية يفحصونها دون تفكير؛ ولكن الإكراه على المشاهدة، والتسوق، وتحديث موجزات الأخبار الخاصة بنا ــ كل هذا يمكن كبح جماحه من خلال التأمل في العالم من حولنا، ومكاننا داخله. فكيف يمكننا أن نقضي حياتنا على الأرض بأفضل شكل؟ ما الذي يحقق لنا السعادة؟ أليس الهدف الذي نرسمه؟ كيف ستؤثر الفلسفة على التطور التكنولوجي؟ وما هو العمل الفلسفي الذي يجب عليك القيام به إذا كنت تريد التأثير على معدل التطور التكنولوجي؟ إن هذه الأسئلة مرتبطة بأسئلة أكثر جوهرية. مثل: أي نوع من العمل الفلسفي ينبغي القيام به على الإطلاق؟ إذا كنت تريد التأثير بشكل إيجابي على العالم، فما نوع العمل الفلسفي الذي ينبغي لك القيام به؟ فما هو برنامج البحث الذي سيؤثر بعمق على مسار الحضارة؟ هناك اهتمام في نهاية المطاف بأسئلة وجودية مصيرية. ولكن إحدى الطرق لإحراز تقدم في هذه الأسئلة هي طرح أسئلة وصفية، وترك الأسئلة المعيارية جانبًا. بطبيعة الحال، هناك عمل مهم من الواضح أن الفلاسفة يقومون به بخلاف التأثير على معدل التطور التكنولوجي وفرملة العلم والوعظ الاخلاقي والارشاد السياسي. يتعلق الامر بإعطاء أمثلة للفلسفة المؤثرة، ثم التكهن بنوع العمل الأكثر وعدًا. إنني أعني بالتأثير أنه لابد وأن تكون هناك علاقة سببية بين العمل الفلسفي نفسه والتغيير في التكنولوجيا. إن السلاسل السببية للتطور التكنولوجي معقدة وتخمينية، ولكن لكي يكون شيء ما مؤثراً، فلابد وأن نكون على ثقة معقولة من أنه لعب دوراً غير تافه في السلسلة. ولاحظ أنه لابد وأن تكون هناك رؤى مستمدة من العمل الفلسفي نفسه، وليس اعتبارات أخرى تلعب الدور السببي. أقصد بالفلسفة نوع الفلسفة التي تحل المشاكل الوصفية. ولا أتحدث عن هذه الأنواع من الفلسفة: الفلسفة الأدائية، حيث يكون الهدف من الفلسفة هو طرح الأسئلة أو التعبير عن بعض الجماليات والفلسفة التاريخية والفلسفة الأخلاقية. الفلسفة هي شريك كل تخصص فكري جاد. وتظهر عندما يكون هناك ما يكفي من المعرفة حول مجال ما لجعل التقدم الجديد ممكناً، حتى وإن ظل هذا التقدم غير محقق لأن هناك حاجة إلى أساليب جديدة. يقدم الفلاسفة مفاهيم جديدة وتفسيرات جديدة وأسئلة أعيد تصورها لتوسيع مساحات الحل. توفر الفلسفة الأسس المفاهيمية للمعرفة النظرية. يمكنك التأثير على معدل النمو في اتجاهين: أسرع أو أبطأ. أعني بالتكنولوجيا الأشياء التي تأخذنا من القطع الأثرية والعمليات، من أجهزة الكمبيوتر واللقاحات والمجاهر والقنابل والمزيد. أنا لا أتحدث عن "التقنيات الاجتماعية" أو "التقنيات الثقافية"، مثل التصميمات المؤسسية أو إجراءات اتخاذ القرار الجماعي مثل الشركات والديمقراطية. أعني بالتنمية التغيير التكنولوجي. لا يجب أن يكون التغيير للأفضل، على الرغم من أنه سيكون أفضل إذا كان كذلك! فماهي الفلسفة المؤثرة؟ لقد أثرت بعض برامج البحث الفلسفية على معدل التطور التكنولوجي. ومن غير الواضح مدى تأثيرها، ولكنني  نحن على ثقة من أن بعض الأعمال الفلسفية كانت مهمة. وسنقدم ثلاثة أمثلة: الحوسبة، والاحتمالات، والفلسفة التنبؤية. الحوسبة لقد شارك العديد من الأشخاص في إنشاء أجهزة الكمبيوتر الحديثة. باباج، ولوفليس، وتورينج، وفون نيومان، والعديد غيرهم. والنص المؤسس لهندسة أجهزة الكمبيوتر الحديثة هو "المسودة الأولى " الذي كتبها فون نيومان وفريق تصميمه. ومع ذلك، فقد تم التأكيد على أن فون نيومان "أكد أن المفهوم الأساسي كان لتورينج". إن آلة تورينج التي ابتكرها آلان تورينج هي في الأساس تحليل مفاهيمي للحوسبة. ما هي الحوسبة؟ "تعتبر المشكلة الرياضية قابلة للحساب إذا كان من الممكن حلها من حيث المبدأ بواسطة جهاز حاسوبي". إن ما فعله تورينج هو أنه قدم لنا تجريدًا مفيدًا لجهاز الحوسبة. وبالإضافة إلى كونه نجاحًا فلسفيًا، فقد لعب هذا دورًا غير تافه في تطوير أجهزة الكمبيوتر. من غير الواضح إلى أي مدى لعب هذا النوع من العمل دورًا. ربما كان ذلك بسبب تسريع تطوير أجهزة الكمبيوتر لبضعة أيام فقط. وربما لم يتأثر فون نيومان نفسه بعمل تورينج. ومع ذلك، لاحظ أن المياه الفكرية التي تنفسها تورينج وفون نيومان وغيرهما كانت تتكون من أعمال من تقليد فلسفي ثري يعود إلى باسكال، بما في ذلك فريجه وجودل وهيلبرت. ومن المرجح أن النتائج التراكمية لهذا التقليد الفكري سرّعت تطوير أجهزة الكمبيوتر لسنوات، وربما حتى قرون. ولكن الأمر ليس واضحًا. فبالنسبة للعديد من الاختراعات، مثل حساب التفاضل والتكامل، يبدو أن المخترعين ربما سرّعوا التطوير لبضعة أعوام فقط، وربما أقل. ولكن هناك العديد من القطع الأثرية التي استغرق اختراعها قدراً مذهلاً من الوقت ــ وهو ما يشير إلى أن الاختراع والاكتشاف الفكري عادة ما يكونان صعبين للغاية وأن البشرية قد تمر قرون دون اكتشاف شيء سوف يتم تدريسه في نهاية المطاف للأطفال في سن ما قبل المدرسة من الأجيال القادمة. وبالعودة إلى الحوسبة، قد يعارض شخص ما هذا العمل ويقترح أنه ليس فلسفة، بل منطق أو علم حاسوب. وهذا الاعتراض دلالي، ولكنه يستحق المعالجة. أولاً، إن عمل تورينج يتجسد في التعريف السابق للفلسفة. فقد أجرى تورينج تحليلاً مفاهيمياً للحوسبة. والتحليل المفاهيمي هو الأساس الذي يقوم عليه ما يقوم به الفلاسفة. وثانياً، إنه قريب إلى حد كبير مما يقوم به الكثير من الفلاسفة المتخصصين في المنطق. وبطبيعة الحال، قد يعترض المرء بأن ما يقومون به ليس فلسفة أيضاً، ولكن في هذه المرحلة يصبح هذا الاعتراض دلالياً للغاية.

 اما الاحتمالية لقد أثر مفهومنا للاحتمالية على العديد من البرامج الفكرية، والأسواق المالية، والنماذج العلمية، والذكاء الاصطناعي. لقد كانت مهمة لعدد من المجالات، سواء من حيث وضع المعايير المعرفية، أو من حيث إثبات فائدتها للعمل نفسه، كما هو الحال في الذكاء الاصطناعي وعلم الأعصاب. في أوائل القرن التاسع عشر، طبق فرانك رامزي الاحتمالية على السؤال حول ما يلزم لكي تكون معتقدات الفاعل عقلانية وناجعة. لقد أثر تحليله على كيفية نمذجتنا للفاعلين في الاقتصاد وعلم النفس وعلوم الكمبيوتر حيث يقترب العمل على الحوسبة من المنطق، يقترب العمل الفلسفي في الاحتمالية من الرياضيات.

اما الفلسفة التنبؤية، فيمكن للمرء أن يؤثر على معدل التطور التكنولوجي من خلال الفلسفة التنبؤية. عمل حول الذكاء الفائق، هو نموذج لهذا. في عام 1997 كتب نيك بوستروم ورقة بحثية بعنوان "تنبؤات من الفلسفة؟ كيف يمكن للفلاسفة أن يجعلوا أنفسهم مفيدين؟". في هذه الورقة، يزعم أن هناك دورًا للفيلسوف الموسوعي. أي شخص يمكنه الجمع بين أعمال من عدد من المجالات، مثل الفلسفة والاقتصاد والفيزياء وعلم النفس والرياضيات والمزيد. في هذا المقال، يسلط بوستروم الضوء على الأنثروبولوجيا، ومفارقة فيرمي، والذكاء الفائق، والتطور البشري، والتحميل، وعلم الكونيات كمجالات للبحث الفلسفي المحتمل - المجالات التي عمل فيها منذ كتابة تلك الورقة. قال ويلفريد سيلارز: إن هدف الفلسفة، إذا ما صيغ على نحو تجريدي، هو فهم كيفية ترابط الأشياء بالمعنى الأوسع الممكن للمصطلح. وبشكل تقريبي، فإن هدف الفلسفة التنبؤية هو فهم كيفية ترابط الأشياء بالمعنى الأضيق للمصطلح، ومن أجل التوصل إلى تنبؤات مفيدة. ويمكنك أيضاً أن تفكر في هذا النوع من الفلسفة باعتباره "فلسفة عامة" أو "فلسفة متعددة المعارف"، ولكنني أفضل مصطلح الفلسفة التنبؤية لأنه يقول المزيد عن المنهجية. ورغم أنه يقترب من الجانب المعياري للأشياء، فإن كتاب توبي أورد "الهاوية" هو مثال حديث ممتاز لهذا العمل. ويهتم أورد بالمخاطر الوجودية التي تهدد البشرية. وهنا سؤال: ما هو احتمال تدمير الحضارة الإنسانية بسبب خطر الانقراض الطبيعي؟ قد يبدو هذا للوهلة الأولى سؤالاً تجريبياً بحتاً، وليس شيئاً قد يكون الفلاسفة مؤهلين للإجابة عليه. إن هذا المنظور يتجاهل حقيقة مفادها أن هناك الكثير من عدم اليقين هنا والأسئلة غير التافهة حول كيفية تقييم الاحتمال. هل تنظر إلى معدل انقراض الأنواع مثلنا؟ هل تشمل فقط الانقراضات الجماعية أم أن انقراض أي نوع مثلنا يجب أن يساهم في المعدل؟ هل تستنتج المعدل من حقيقة أننا لم ننقرض بعد؟ بطريقة ما، أرى هذا العمل مشابهًا للعمل الفلسفي حول احتمال وجود الله. المدخلات التجريبية مهمة للغاية (الحقائق حول الضبط الدقيق للكون على سبيل المثال)، ولكن هناك الكثير من عدم اليقين لدرجة أن الكثير من هذه القضايا تعتمد كثيرًا على المناقشات حول كيفية تحديد المسبقات، والمنطق حول الأنثروبولوجيا، وطبيعة الاحتمال والتفسير. لكي أكون واضحًا، أنا أتحدث عن العمل الاحتمالي من قبل أشخاص مثل سوينبورن وأوبي، وليس الحجج الوجودية. ليس من قبيل المصادفة تمامًا أن جون ليزلي كان مهتمًا بكل من المخاطر الوجودية وعلم الكونيات والمناظرات الدينية التقليدية. ان الفلسفة الواعدة هذه هي أنواع العمل الفلسفي الذي ينبغي أن ترغب في القيام به إذا كنت تريد التأثير على مسار التطور التكنولوجي: الفلسفة الصورية والفلسفة التنبؤية أمثلة الحساب والاحتمالية هي أمثلة للفلسفة المهمة. الذكاء الفائق، والهاوية، ونهاية العالم هي أمثلة للفلسفة التنبؤية. سأقول المزيد عن المنهجية واختيار المجال لهذين النوعين من الفلسفة. الفلسفة الصورية مع الصياغات، يكون العمل فلسفيًا بشكل أكثر وضوحًا. على الرغم من أنه كان يميل، ومن المرجح أن يستمر، على حدود المنطقية والرياضية والمفاهيمية. عندما ينجح الفلاسفة في صياغة مفهوم ما، فإن هذه الصياغات تساهم أحيانًا بشكل مباشر في تطوير التكنولوجيا أو قد تساهم بشكل غير مباشر من خلال تحسين قدراتنا المعرفية . هناك شيئان أهتم بهما هنا: المنهجية واختيار المجال. تعتمد المنهجية على أمثلة الحساب والاحتمالات. غالبًا ما تبدو الفلسفة هنا أكثر شبهاً بالرياضيات والمنطق وعلوم الكمبيوتر مما قد اعتاد عليه بعض الفلاسفة. ومن غير المستغرب أن يكون مجال الفلسفة الذي يقترب بشكل وثيق من هذا النمط من الفلسفة في الوقت الحالي هو نظرية المعرفة الصورية. الأساليب الصورية ليست كافية، بل يحتاج المرء إلى اختيار المجالات الواعدة. ما تقوم بإضفاء الطابع الصوري عليه مهم. لن يؤثر جزء كبير من نظرية المعرفة الصورية على تطوير التكنولوجيا ، لأنها تهدف إلى الإجابة على أسئلة لن تحدث إجاباتها أي فرق في المجالات الأخرى. هناك بعض السمات التي تميز هذا النوع من الفلسفة ومجالاتها والتي تزيد من احتمالية نجاح العمل: الرياضي أو المنطقي. وتشير السجلات التاريخية إلى أن هذا العمل أكثر أهمية للتطور التكنولوجي. يجيب العمل على الأسئلة الأساسية في مجال تاريخي معين. ويمكننا أن نتخيل رسمًا بيانيًا للمفاهيم، ويريد الفلاسفة تحليل المفاهيم الأكثر حداثة. يركز العمل على المشكلة. فإذا عرفنا الإجابة على سؤال أو كانت لدينا فكرة دقيقة عن مفهوم معين، فسوف يكون ذلك مفيدًا لحل المشكلات غير الفلسفية. يتم طرح طريقة العالم، بدلاً من تزوير الأطروحات الفلسفية. وهناك بعض الأمثلة المضادة المحتملة لهذا، ولكن الفلسفة التي تهم هي تقديم رؤية إيجابية للعالم يمكننا أن نفعل شيئًا به، وليس إسقاط إطار قائم. المجال نفسه مضاربي وناشئ نسبيًا. وهناك الكثير من عدم اليقين. المجالات التي قد يكون فيها الصياغة الصورية مفيدة هي: الفاعلون النموذجيون ونظرية القرار قد يكون العمل على مشاكل شبيهة بـ "نيوكومب" مهمًا لتطوير الذكاء الاصطناعي.

 السببية معظم ما قاله الفلاسفة الأكاديميون هنا ليس مفيدًا. لقد قام علماء الكمبيوتر والإحصائيون بمعظم العمل المهم حتى الآن، ولكن لا يوجد سبب يمنع علماء الكمبيوتر ذوي التوجه الفلسفي أو الفلاسفة ذوي التوجه الإحصائي من تقديم مساهمات مهمة هنا. أما فلسفة الفيزياء فهي الأعمال التي تبدو وكأنها ميتافيزيقيا الفيزياء. في حين أن التطور الثقافي من غير المرجح أن يحدث هذا العمل فرقًا كبيرًا في التكنولوجيا، ولكنه جديد بما يكفي بحيث يمكن للفلاسفة الاستمرار في تقديم مساهمات مهمة هنا. هناك أسئلة اجتماعية هنا حول سبب عدم تأثير عمل الفلاسفة على التطور الثقافي بشكل أكبر. علم الأحياء التطوري من غير المرجح أن يحدث فرقًا كبيرًا في التكنولوجيا، ولكن الأمر يستحق الذكر لأنه مجال يجب على العلماء أن يولوا فيه المزيد من الاهتمام للفلاسفة. ومن المؤسف أن نفس الفلاسفة الذين قدموا مساهمات مهمة ينشغلون أيضًا بقضايا لا تحدث أي فرق في الممارسة العلمية. نظرية المعلومات قد لا يكون هناك الكثير من العمل للقيام به هنا بعد الآن. الوعي من المرجح أن العمل على المشكلة الصعبة للوعي لا يهم في تطوير التكنولوجيا. ومع ذلك، فإن التفكير في كيفية إضفاء الطابع الصوري على الحالات الواعية، والمناقشات حول نظرية مساحة العمل العالمية ومنافسيها، أو المشكلة الفوقية قد يكون مهمًا. علم الأعصاب لقد قام كارل كارفر بعمل مثير للاهتمام هنا. أحد جوانب علم الأعصاب التي تجعله واعدًا للفلاسفة هو أنه لا أحد لديه أي فكرة عما يجري. بعض هذه المجالات واعدة أكثر بكثير من غيرها. إن احتمالية أن يؤدي أي برنامج بحثي فلسفي إلى مساهمات تؤثر على تطوير التكنولوجيا ضئيلة. هذا لا يعني بالطبع أن الجهد المبذول لا يستحق العناء.

 الفلسفة التنبؤية هناك بعض السمات لهذا النوع من الفلسفة ومجالاتها التي تزيد من احتمالية أن يكون العمل واعدًا للفلاسفة: يقترب العمل من المنطق والرياضيات والعلم. إنه نوع من الأشياء التي يمكنك تقريبًا أن تفلت بها خارج قسم الفلسفة. يأخذ المجال مدخلات من عدد من المجالات المختلفة. إن كونك موسوعيًا أو عامًا مطلوب لتقديم مساهمة. المجال مهمل نسبيًا. يركز العمل على المشكلة. إذا عرفنا إجابة سؤال أو كانت لدينا فكرة دقيقة عن مفهوم معين، فسيكون ذلك مفيدًا لحل المشكلات غير الفلسفية. هناك الكثير من عدم اليقين. قد يتم تحديد المواقف من خلال وجهات نظر دقيقة حول الاحتمالات والمنطق في ظل عدم اليقين. يحتوي العمل على أسئلة فلسفية وغير فلسفية في مركزه. كما يحلل العمل تاريخ التطور التكنولوجي والعلمي للحصول على دروس مفيدة في الحياة. هناك عدد من القضايا الواعدة هنا: المحاكاة والتحميل الرقمي تتمحور هذه القضايا حول أسئلة فلسفية وغير فلسفية، مما يجعل العمل واعدًا جدًا. علم الجينوم وتحرير الجينات إن عدم اليقين هنا يجعله واعدًا بشكل محتمل. اما المخاطر الوجودية فتتجسد في مطب الهاوية. يتضمن قسمًا للأبحاث المستقبلية المفيدة، والتي يجيب عليها المتخصصون العلميون بشكل أفضل، ولكن القليل منها يمكن للفلاسفة المساهمة فيه. الذكاء الاصطناعي والذكاء الفائق والجهود ذات الصلة والتفكير في التفكير الجيد. لقد تناول الفلاسفة وغير الفلاسفة هذا الأمر، ولكن لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به. ان دراسات التقدم تركز دراسات التحضر بشكل صريح على التقدم الصناعي الاقتصادي والتكنولوجي. ويعتبر فلاسفة العلوم مؤهلين بشكل خاص للمساهمة هنا. فلسفة العلوم لن يؤثر الكثير من فلاسفة العلوم مثل ميتافيزيقيا العلوم أو التاريخ الوصفي على علم مسار التكنولوجيا. ولكن بعضها قد يكون مفيدًا بالفعل. ومن الأمور الواعدة للغاية استخراج الدروس القابلة للتطبيق، وتحليل التصاميم المؤسساتية، والتوصل إلى أنظمة جديدة تغير من تطور العلوم والتكنولوجيا. اما فلسفة التطور التكنولوجي فهي الميتا العلوم الفلسفة والتي تهم الكل. ما هي أنواع الفلسفة التي دفعت بذرة التكنولوجيا إلى الأمام أو إلى الخلف؟ ما نوع الفلسفة التي ينبغي لنا أن نتبعها إذا أردنا أن نترك أثرًا على التكنولوجيا؟ من الجدير أن أكرر أنني لا أقترح أي إبطاء أو تسريع في معدل التكنولوجيا هو ما ينبغي للفلاسفة أن يفعلوه هو اكثر من ذلك او اقل بقليل. الفكرة الرئيسية، وهي أن الفلسفة قادرة على التأثير على تطور التكنولوجيا، تبدو صحيحة. ويمكن للفلاسفة، باعتبارهم مهندسين مفاهيميين، أن يكونوا أكثر طموحًا. لكن لماذا تكون في الفلسفة المعاصرة بعض الأسئلة ذات قيمة حتى عندما لا نستطيع العثور على إجابات لها؟ نأمل ان يتقلص نفوذ الأشرار في هذا العالم وتتقلص مساحة الالم ويسود العدل وتتسع دوائر الحرية والسلام.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

ثمة من يعتقد في محيطنا ومجتمعنا العربي الإسلامي بأن الفلسفة مجرد آراء لغو وكلام فارغ وخطاب نظري عديم الجدوى. فهل هذا صحيح؟ أليست الفلسفة تحتوي على جانب من المعقولية والاحتكام إلى الموضوعية، مستندة إلى منطق يدعمها؟ أليست الفلسفة شكلاً من أشكال التفاعل مع الوجود، الحياة والفكر؟ عندما يواجه الإنسان أزمات حقيقية تهدده بالخطر، من الذي يتساءل؟ إن الفيلسوف يدفعنا إلى التفكير في الكثير من المعاني التي قد نغفلها في عالمنا المعاصر. أليس من حقنا القول إن الإنسان المعاصر قد فقد صلته بذاته وبفكرة "هيراقليطية الحياة"؟ إذا لم تكن غاية الفلسفة هي فن العيش فما غايتها إذًا؟

لننظر في فلسفة القدماء، حيث لم تكن الفلسفة منعزلة عن حياتهم العملية. أليس من حقنا أن نقول إن الفلسفة كانت لديهم ممارسة علاجية؟ أليس من حقنا القول إننا نسينا ذواتنا ونسينا العيش في اللحظة الآنية بأسلوب فلسفي؟ هل غفلت مدارسنا وجامعاتنا عن التركيز على التكوين، بدلاً من التلقين، فيما يتعلق بهذه المادة؟

لقد كان الفيلسوف في العصر القديم يعد نفسه فيلسوفًا ليس لأنه يشيد خطابًا فلسفيًا، بل لأنه يعيش بطريقة فلسفية، وكان يُطلق لقب الفيلسوف على من يعيش حياة فلسفية حتى وإن لم يكن دارسًا أو أستاذًا. هكذا ركز الفيلسوف الفرنسي المعاصر بيير هادو على أن الفلسفة ليست مجرد نظرية أو أفكار مجردة، بل هي "طريقة حياة"، أو لنقل إنها ممارسة يومية تتعلق بكيفية عيش الإنسان وتحقيق ذاته. بالنسبة إليه، لم تكن مهمة الفيلسوف الأساسية هي تقديم معرفة موسوعية في شكل نسق من القضايا والمفاهيم التي تعكس على نحو تقريبي نسق العالم، بل كانت تهدف إلى تحويل شخصية الإنسان وتعليمه فن العيش والحياة الفلسفية.

ركزت دراستي عن بيير هادو على إشكالية تحويل الفلسفة من مجال نظري إلى مجال عملي، وكيفية تأثيرها على التفكير والسلوك لتوجيهنا نحو الرجوع الى الذات والتحرر من ما ألفناه في الحياة المعاصرة؛ من سرعة ونسيان الفكر والوجود.

كيف يمكن فهم الفلسفة بوصفها طريقة للعيش من خلال فلسفة بيير هادو؟

المفهوم القديم للفلسفة: قراءة بيير هادو لمحاورة "المأدبة"

تبدأ المحاورة بقصة رجل يدعى أبولودروس، وهو يتبادل أطراف الحديث مع غلوكون، الذي طلب منه أن يحكي له ما حدث في مأدبة أغاثون (الشاعر التراجيدي الذي أقام المأدبة في بيته)، إذ لم تكن القصة واضحة لغلوكون من رواية فينكس بن فيليب. أخبره أبولودروس أن اللقاء حدث في صغره، تحديدًا في السنة التي فاز فيها الشاعر أغاثون بجائزة عن أول "مأساة" له، وأضاف أن الشخص الذي أخبره بالقصة هو أريستيديموس (تلميذ سقراط) الذي حضر المأدبة برفقة سقراط، ثم بدأ يسرد عليه ما رواه له هذا التلميذ.

يحكي أريستيديموس كيف طلب منه سقراط، وهو في كامل أناقته، أن يذهب معه إلى مأدبة أغاثون. وصل أريستيديموس إلى بيت أغاثون، في حين اختار سقراط أن يمنح نفسه بعض الوقت للتأمل، لذا وصل متأخرًا إلى المأدبة. بعد ذلك، اقترح إريكسماخوس أن يكون موضوع النقاش حول الحب أو "إيروس"، الإله الذي لم يجد أحدهم الشجاعة الكافية لمدحه بما يستحق. فاتفق الجميع على مناقشة هذا الموضوع.

بينما ركز معظم الحضور على صفات إله الحب، اختار سقراط اتباع منهجه المعتاد في التساؤل والتهكم، فدفع أغاثون للتعبير عن موقفه، حيث بدأ أولاً بوصف طبيعة الحب، ثم انتقل إلى الحديث عن تأثيره وهباته. وقد جاء في وصفه: الحب إذًا صغير، وهو أيضًا مرهف الحس، رقيق الشعور، لا يحتمل الشدة، ولا يطيق المكروه(1). استأذن سقراط الحاضرين ليقول الحقيقة بطريقته الخاصة، وذلك ببناء مقدمات منطقية انطلاقًا من أسئلة وجهها لأغاثون. فقال: أن أسوق حديثًا بسيطًا أبسط فيه حقيقة الحب بألفاظه وعباراته من وحي الساعة، لا صنع فيها ولا عمل(2).

يمكن إجمال هذه المقدمات على النحو التالي:

المقدمة الأولى: إن المرء يحب ما ليس في إمكانه ولا يملكه(3).

المقدمة الثانية: وفقًا لأغاثون، الحب هو حب الجمال لا حب القبح(4).

النتيجة: ما دام الإيروس يسعى الى ما ينقصه، فإن الجمال ينقصه.

هكذا يبدأ سقراط ببسط نظريته حول الحب اعتمادًا على ما سمعه من معلمته ديوتيما. هذه الأخيرة ترفض تصنيف الحب كجميل أو قبيح، بل تراه وسطًا بين الاثنين: هو بين الكائن الفاني والمواد الأزلية(5). أي نصف إله ونصف إنسان. ثم تشرح ديوتيما، من خلال سرد أسطورة إيروس، طبيعة الحب، حيث تروي أنه ابن الغنى الذي أنجبته بينيا، إلهة الفقر. هكذا تتأرجح صفات الحب بين الغنى والفقر: الحب فقير دائمًا، لا تتوفر فيه صفات الرقة والجمال كما يظن البعض، خشن المظهر، حافي القدمين بلا مأوى، يرقد في العراء. تلك هي الصفات التي ورثها عن أمه. ومن أبيه، ورث السعي الدائم نحو الخير والجمال، والشغف بالحكمة، لكنه لا هو فانٍ ولا هو خالد(6).

تقول ديوتيما: الحقيقة أنه لا يمكن القول بأن الإله يحب الحكمة أو يرغب فيها، لأن الإله حكيم بالفعل. ينطبق هذا القول على الحكماء إذا وجدوا. أما الجاهل، فلا يحب الحكمة ولا يرغب فيها، لأن من ينقصه الجمال والخير والعلم يرضى عن نفسه كل الرضا، ولا يعتقد أنه ينقصه شيء على الإطلاق. ومن كان كذلك، لا يرغب فيما يعتقد أنه لا ينقصه (7).

يسأل سقراط ديوتيما: إذن، من يحبون الحكمة ويرغبون فيها ليسوا بحكماء ولا جهلة؟ فترد ديوتيما بأنهم في منزلة بين الاثنين: لا يوصفون بالحكمة ولا يوصفون بالجهل، والحب بينهم(8).

لكن الفيلسوف يدرك أيضًا أن الحكمة حالة مثالية لا سبيل إلى بلوغها بالنسبة لهذا الإنسان. تبدو الحياة اليومية كما ينظمها الناس أشبه بحالة جنون وغيبوبة وجهل بالواقع(9). وبذلك فإن الفيلسوف ليس هو الحكيم المطلق ولا الجاهل المطلق، بل هو مزيج من الاثنين، كما هو إيروس مزيج من الفناء والخلود.

يتضح مع بيير هادو أن الفيلسوف كائن "إيروسي". سقراط، على حد تعبير هادو: وإن لم يشبه أحدًا قط، نراه يتخذ الأوصاف الأسطورية لإيروس، أي أوصاف إيروس متصورًا كإسقاط لصورة سقراط(10). الفيلسوف ليس إنسانًا أحمق، بل هو الوسيط الذي يعرف بـ"محب الحكمة"؛ إن الحمقى لا يعون بعدم حكمتهم، لذلك لا يسعون إليها، عكس الفيلسوف الذي يعي افتقاده لها ويتطلع إليها باستمرار، ومن ثمة يتعذر تصنيفه، لا مأوى ولا سكن له، شأنه شأن إيروس وسقراط.(11)

لنتذكر فيثاغورس حينما رفض أن يُلقب بالحكيم، وقال: أنا لست حكيمًا، فالحكمة من اختصاص الآلهة. أنا فقط محب للحكمة. حينما تقول إنك حكيم، فإنك تزعم أنك بلغت قمة المعرفة. لكن سقراط، مثل إيروس، لا يطمئن إلى حالة معينة، بل يسعى دائمًا إلى المعرفة. إن سقراط يدرك بعمق أنه ليس ما ينبغي أن يكونه. وإنما من هذا الشعور بالانفصال والافتقار - يولد الحب (12).

إن الفيلسوف غريب. عاشق الحكمة، هذا العشق الغريب عن العالم، هو ما يجعل الفيلسوف غريبًا فيه. وهذا يعني الخروج عن المألوف أو القطيعة مع الحياة اليومية التي يعيشها الناس. الفيلسوف يختار أسلوبًا متفردًا في الحياة والعيش: الفلاسفة إذًا غرباء.. جنس منفصل(13).

يذكر سقراط بأنه كان يُدعى في المحاورات الأفلاطونية أتوبوس، أي المتعذر تصنيفه (غريب الأطوار)(14). وما يجعله كذلك هو حبه للحكمة التي تفسرها محاورة المأدبة. إذًا، فلسفة سقراط لم تكن منفصلة عن حياته، فقد كان فيلسوفًا بأسلوبه في العيش، وحواره، وتمسكه بمبادئه، حتى أن الأمر كلفه السخرية بل الموت حتى.

هكذا إذن يجب أن تفهم العلاقة بين النظرية والتطبيق في الفلسفة في هذه الفترة. لم تكن النظرية يُنظر إليها كغاية ذاتها، وإنما هي، بوضوح وحسم، في خدمة الممارسة(15) الحوار نفسه، بوصفه نشاطًا روحيًا، يعتبر خبرة أخلاقية ووجودية؛ ذلك أن فلسفة سقراط ليست هي التشييد المنعزل لمذهب معين، بل هي إيقاظ الوعي، والولوج إلى مستوى من الوجود لا يمكن بلوغه إلا في علاقة شخص بشخص(16).

الفلسفة، إذًا، في الحقبة الهلنستية واليونانية، كما قد رأينا، أخذت شكل أسلوب في الحياة؛ إن الفلسفة القديمة اتخذت هذا الطابع منذ سقراط تقريبًا.

أهمية الحوار السقراطي في بناء الدرس الفلسفي:

لا يخفى على أستاذ مادة الفلسفة أن من بين طرائق تدريس هذه المادة، وهي مستمدة من داخلها، نجد الطريقة السقراطية، أي الحوار الذي يكون بين الأستاذ والتلاميذ، وذلك عن طريق طرح مجموعة من الأسئلة الغرض منها استثارة تمثلاتهم حول القضية المطروحة. وهذا ما يعلمه لنا سقراط. يقول هادو عن سقراط: النداء الحي الذي يوقظ ضميرنا الأخلاقي. وينبغي ألا ننسى أن هذا النداء تردد في شكل محدد، هو الحوار(17).

إن الغرض من الاعتماد على الطريقة الحوارية في بناء الدرس الفلسفي هو جعْل التلميذ يسعى إلى بناء المعرفة من خلال ما سبق وأن تعرف عليه أو من خلال تمثلاته ومعارفه السابقة. وبالتالي، إذا كان سقراط يقول مرارًا وتكرارًا، لكل من يريد أن يستمع، إن الشيء الوحيد الذي يعرفه هو أنه لا يعرف شيئًا. غير أنه، مثل ذبابة خيل لا تعرف التعب، لم يكن يكل عن ملاحقة محدثيه بأسئلة تنسل أسئلة، لكي يدفعهم إلى الانتباه إلى أنفسهم ورعايتها (18). إن الأستاذ الناجح يمكن ان نسميه أيضا "ذبابة خيل" داخل الفصل لا يهدأ من طرح الأسئلة واستخراج المعرفة الحقيقية منهم، مثلما كان يفعل سقراط. هذا الأخير كان يجوب الشوارع والأزقة ويباشر الشباب بالأسئلة التي يكون الهدف منها مساعدتهم على استخراج الحقائق الكامنة في نفوسهم. ودور الفيلسوف، كما هو دور الأستاذ، هو استعادة تلك الحقائق الباطنية عن طريق عملية تسمى حسب سقراط "المنهج التوليدي" وذلك عن طريق طرح الأسئلة وتصنع الجهل.

حيث يظهر في هذه الأسئلة نمط ملحوظ للغاية: فالسؤال الأول يطلب به التعريف، ولذلك فهو لا يقبل أن يجاب عنه بنعم أو لا، بل يكون موضوع شك. أما الأسئلة التالية فتتطلب الإجابة بنعم أو لا، وغالبًا ما يكون واضحًا أي هذين الجوابين هو المطلوب. وبعد أن يحصل سقراط عن هذا الطريق على عدد من الإجابات غير المترابطة في الظاهر، يضعها في قياس كما يقول أرسطو، ليبين أنها تدحض إجابة مجيبه عن السؤال الأول. وحينئذ يطلب إلى المجيب أن يجد إجابة أخرى عن السؤال الأول، ثم يعالج الإجابة الثانية بالطريقة الأولى نفسها. ومن شأن هذا أن يظهر المجيب وكأنما هو يناقض نفسه ولا يعرف ما كان يظن أنه يعرفه (19).

إن الأستاذ هو الذي يطرح السؤال حول ما يعتقد التلميذ أنه يعرفه كالحرية، الحب، العدالة، والجمال... لكن من خلال أسئلته يورطهم، ويجعلهم في حيرة من أمرهم، بل ويساعدهم على بناء هذا التفكير النقدي من خلال هذا التوتر (الشك، الدهشة الفلسفية، السؤال...).

إن الديالكتيك، بالنسبة إلى هادو، يحمل المحاور على اكتشاف التناقضات في رأيه أو موقفه، إن ما يهم ليس الوصول إلى الحل، أي حل وضعية المشكلة، بل ما يهم هو الطريقة التي سلكناها من أجل الوصول إليه: العبرة ليست بحل مشكلة معينة، إنما هي بالطريق الذي نقطعه للوصول إلى الحل. طريق عبره يكون المحاور والتلميذ والقارئ فكرهم، ويجعلونه أجدر باكتشاف الحقيقة بنفسه(20).

هكذا يكون حل المشكلة أقل قيمة من الطريق الذي نقطعه معًا لكي نحلها. ليس المهم أن تجد الجواب على مشكلة ما قبل غيرك، بل أن تمارس، بأكبر كفاءة ممكنة، تطبيق منهج(21).

وبالتالي، هذا المنهج الفلسفي هو الذي يعطي للدرس قيمته. كما يمكن القول إن الكلام والحوار تعبير وإفصاح عن الفكر الحي في انسيابه، هو نقل مباشر لهذا الذي يكون في الروح. إنه أهم من فعل الكتابة نفسها، إذ إن هذه الأخيرة نسخة ثانية لا تفضي إلى هذا النقل المباشر بين الفكر والعالم. إن دورها يتجلى في حفظ هذا المخزون الشفهي، لكنها لا يمكن أن تقوم مقام الحوار، الذي يمنح للتلميذ فرصة الاعتراض على ذاته. فمن خلاله يسعى إلى فحص وانتقاء الحقيقي من الزائف والمغلوط، كما يمكنه من إدراك حدود معرفته وجهله ويمكن الأستاذ أيضًا من أن يكيف تدريسه وفق احتياجات التلميذ(22).

ونحن نتحدث عن الحوار وعن الكلمة المنطوقة، لا ننسى أن من بين الأسباب التي أدت بالحضارة الإغريقية إلى الانتقال من الميثوس إلى اللوغوس، حسب جون بيير فيرنان، عامل الكتابة؛ أي أن هذه الحضارة لم تعد تعتمد على الفعل الشفهي في نقل مخزون معارفها وإنتاجاتها، بل اعتمدت في التعبير عن أفكارها بواسطة الكتابة. بيد أنها لم تتخلَى عن العنصر الشفهي باعتباره يعطي للكلمة سحرها، إيقاعها، وتأثيرها على أذن المستمع أو المتلقي. إذ إن القراءة في العصر القديم كانت تعني عادة القراءة الجهرية، التي تبرز إيقاع العبارة وأصوات الكلمات (23).

الأمر يرتبط بنظام المكتوب وانسجام أفكاره، وهو ما يظهره فعل القراءة. إن هذه الظاهرة ليست غريبة على الأدب المكتوب بحيث إنه أيضًا يجب أن يكترث بالإيقاع والصوت(24). إن الحوار هو ما يضاد الدوغما. الحوار الأفلاطوني، بصفته تدريبًا ديالكتيكيًا، هو تدريب روحي قلبًا وقالبًا(25). أي انه، من وجهة نظر أفلاطون فكل تدريب ديالكتيكي، بالضبط لأنه تدريب على الفكر الخالص وخاضع لمتطلبات اللوغوس، فإنه يصرف النفس عن العالم الحسي، ويتيح لها أن تحول ذاتها تجاه الخير. إنه خط رحلة النفس تجاه المقدس(26).

إن الأستاذ هو من يصعد بتلاميذه من الرأي، أي من تصوراتهم، إلى حقيقة الشيء أو إلى معرفة الشيء، بناءً على مجموعة من الآليات الحجاجية والنقدية. لذلك يرى بيير هادو بأن التعليم الحقيقي شفاهي دائمًا. ولعلنا نذكر الفيلسوف سقراط الذي كان له موقف صارم من الكتابة، بل لم يرغب فيها حتى. وجه نقدًا لها باعتبارها ليست فنًا ولا تعليمًا. ومن يعتقد ذلك فهو رجل على قدر كبير من السذاجة(27).

إن سقراط، في محاورة فايدروس، يشبه الكتابة بالصورة المرسومة التي تبقى صامتة وجامدة مهما بدت لنا كما لو أنها كائنات حية. الكلام المكتوب تظنه يكاد كأنما يسري فيه الفكر، ولكنك إذا ما استجوبته بقصد استيضاح أمر ما، فإنه يكتفي بترديد نفس الشيء. وهناك أمر آخر هو أن الشيء بعد أن يكتب يظل ينتقل من اليمين إلى اليسار بغير مبالاة، فيُساق إلى من يفهمونه وإلى من لا يعنيهم منه شيء على السواء. وهو، فضلًا عن ذلك، لا يدري إلى من من الناس يتجه أو لا يتجه (28).

هذا الأمر لازم لمن اتخذ على عاتقه أن يسلك سبيل المعرفة الحقة، كما هو حال سقراط. إن المعرفة عنده حوار مع الآخر أو مع الذات، بيد أن هذا الحوار يلزم الإصغاء. إذن الحقيقة تتكلم بصوت يدعو إلى الإصغاء إليها، والتطهر من أوهام المعارف، ثم الارتقاء بالنفس والسمو بها إلى مقام الحقيقة. هذا الصعود هو ما نسميه الجدل، وهو الشكل الأرقى الذي سوف يتحدد أساسًا من خلال الفلسفة مع سقراط وأفلاطون. يأخذ الحوار الجدلي، هذا الشكل الديالكتيكي، طريق النفس إلى التحرر من المظاهر، والاندفاع بها إلى عالم المثل. أما الكتابة فهي لا تكاد تحظى بأية أهمية في تمارين السير بين عالم الآلهة وعالم الناس.

لهذا، لا يمكن اعتبار الفلسفة مجرد معلومات غير متصلة بالحياة، يمليها الأستاذ على التلميذ حتى ينساها ويطويها الزمن في خبر كان. كما لا يمكن أن نختزل الفلسفة في الجامعات والمدارس. قد يكون هذا الاختزال قتلًا لروح الفلسفة وجوهرها إذا وضعناها في هذه الصورة الضيقة وجعلناها تنحصر في موضع الكمية والمكان. هذا ما يعلمه لنا القدامى: كيف نجعل هذا النص الذي يقرأه أو يكتبه التلميذ يعنيه، ولا يتعارض مع الحياة، بل يدعوه إلى تأملها وعيشها. ففي التقليد الإغريقي، لم تكن المعرفة أو الحكمة مجرد معرفة نظرية خالصة بقدر ما كانت إتقانا للعمل Savoir faire وإجادة للعيش savoir vivre، وإننا نتعرف على أثر ذلك في طريقة حياة سقراط الفيلسوف، وليس في معرفته النظرية(29).

لذا يوضح بيير هادو أن النصوص التي كُتبت قديمًا كانت مرتبطة بالنشاط التعليمي يعكس جنسها الأدبي مناهج المدارس وطرائقها (30). إنها غير منعزلة عن الحياة. يتكون أحد التدريبات المعتبرة في المدارس من شرح: إما على نحو ديالكتيكي (على شكل أسئلة وأجوبة) أو على نحو خطابي؛ أي في حديث مستمر يطلق عليه "أطروحات" (theses)، أي مواقف نظرية معروضة في شكل أسئلة من قبيل: هل الموت شر؟ هل الرجل الحكيم يغضب على الإطلاق؟(31).

إن مثل هذه الأسئلة علينا أن نستعيد طرحها من جديد، الغاية منها هي إيقاظ سبات التلميذ وجعله ينخرط في بناء التعلمات. يحاول الأستاذ بذلك وضع وضعية مشكلة لا تتعارض مع الواقع المعيش للتلميذ. إن هذه المنهجية التي يسلكها الأستاذ في تدريسه لا تجعله مالكًا للمعرفة أو سيدًا لها، بل موجهًا ومساعدًا في بناء المعرفة مع التلاميذ. من شأن هذا أن يقدم تدريبًا على أحكام الكلمة المنطوقة وتدريبًا فلسفيًا قويمًا أيضًا (32).

وعليه، يعي التلميذ أن ما يقرأه من نصوص فلسفية ليست نصوصًا متعارضة مع واقعه. إن الأستاذ يكون مثل ذلك الشخص الذي صوّره أفلاطون في أمثولة الكهف، عندما تحرر من تلك الأغلال والقيود وبدأ يكتشف حقائق ويبني معرفة عليها. عليه أن يعود إلى الكهف لكي يحرر الآخرين أيضًا. الأستاذ هنا يحرر التلاميذ مما يؤمنون به من معتقدات وعادات وخرافات عن طريق هذا الجدل، أي إخضاع الأقوال والآراء للفحص من خلال فن الحوار.

لهذا السبب، على الأستاذ العاشق للحكمة أن يحمل على عاتقه رسالة مفادها أن الفلسفة هي تواصل مستمر معها. إن هذا هو، بالدرجة الأولى، تعبير عن عشق وصداقة للحكمة. يخرج التلميذ من ما تعود عليه من حفظ وتقليد وسكب ما تعلمه يوم الاختبار (مثل ما كان عليه الامر مع البيداغوجية الكلاسيكية) إلى إطار واسع يجعله يكتشف نفسه وحدود تفكيره من خلال الحوار الذي يجريه الأستاذ مع تلاميذه أو التلاميذ مع بعضهم البعض.

***

حفصة روان

..........................

* المراجع المعتمدة

(1): أفلاطون. المأدبة فلسفة الحب. ترجمة وليم الميري. أقلام عربية للنشر والتوزيع. 2019.  ص51

(2): المأدبة فلسفة الحب. ص56

(3): المأدبة فلسفة الحب. ص58

(4): المأدبة فلسفة الحب.ص59

(5): المأدبة فلسفة الحب.ص62

(6): المأدبة فلسفة الحب.ص63

(7): المأدبة فلسفة الحب.ص64

(8): المأدبة فلسفة الحب.64

(9): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة التدريبات الروحية من سقراط إلى فوكو. ترجمة عادل مصطفى. دار النشر هنداوي 2023. ص 36

(10): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص133

(11): pierre Hadot. Qu'c'est ce que la philosophie antique ?p81

(12): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص139

(13): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص34

(14): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص35

(15): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص38

(16): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص139

(17): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص73

(18): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص73

(19): الموسوعة الفلسفية المختصرة للدكتور زكي نجيب محمود، دار القلم بيروت-لبنان. ص260

(20): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص77

(21): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص77

(22): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص41

(23): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص40

(24): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص41

(25): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص78

(26): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص78

(27): محاورة فايدروس لأفلاطون. ترجمة اميرة حلمي مطر، دار غريب للطباعة 2000. ص108.

(28): محاورة فايدروس لأفلاطون. ص108

(29): pierre Hadot.Qu'est ce que la philosophie antique ? Page 77

(30): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص42

(31): بيير هادو. الفلسفة طريقة حياة. ص 42

(32): بيير هادو. الفلسفة طريق. حياة. ص42

اللغة: من غير المعقول والمقبول ان تكون اللغة رصفا لكلمات خالية من قصدية المعنى. فتعبير العقل باللغة لا ينتج ما لا معنى له. قصدية المعنى باللغة سابقة على شكلها الانتظامي صوت وشكل حروفي دال على معنى ضمن كلمات. والعقل واللغة تبطل فاعليتهما التفكيرية الادراكية عندما لا يكون هناك موضوعا لهما.

شكل الحرف اللغوي هو خاصية رمزية نحوية ما لم تكتمل بخاصية الصوت الذي هو المعنى. ومتى ما اكتسب شكل الحرف دلالة الصوت الخاص به نجده يتحرر من الرمزية ليصبح دلالة معنى تجريدي.

اشار جون سيرل فيلسوف العقل واللغة الامريكي الى تراتيبية علاقة ارتباط العقل باللغة بقوله هما يتوجهان الى الاشياء معا. العقل يتمثل الشيء ويقصده بالتزامن مع استحضار اللغة له. اي في التعبير عنه. ويعتبر جون سيرل هذا التزامن بين العقل واللغة تزامنا (آنيا).

في مداخلة مع هذه العبارة لجون سيرل أجد حقيقة اللغة غير الظاهراتية هي انها (لازمانية). ليس في إعتماد أن الآنية لحظة وقتية منحلة في تحقيب الزمن الارضي الى ماض وحاضر ومستقبل. (الآنية) حاضرا هي لحظة لا زمنية كما اشار ارسطو لذلك.

بل واذهب اكثر أن اللغة لازمانية لانها تعيش زمانا لا نهائيا ازليا غير محدود بحدود ادراكية ولا يقبل القسمة على نفسه او التجزيء. فالزمن واحد أينما وجد شيء في الكون يلازمه وليس ملازمة وقتية في الطبيعة الارضية وفي عالمنا الخارجي. عليه فأن الآنية لا تدرك بغير زمانية مغايرة لها حتى وإن كانت هي في حالة سيرورة من انحلال انتقالي من الحاضر كتحقيب وقتي الى سيرورة خارج الزمن النسبي الارضي.

لا زمانية اللغة الذي ذهبت له هو نابع من استحالة حضور لغة لا يزامنها الزمن وليس من عدم مزامنة وحضور الزمن في ملازمة معها.. قد يبدو كلامي متناقضا غير مقبول. لكن لو نحن أخذنا برأي جون سيرل علاقة اللغة بالزمن هو آنية وقتية حاضرا زائلة فهو يدرك جيدا أن الآنية هي تحقيب وقتي منحل متلاش وليست زمنية حاضرة بمفهوم الزمن بل في تحقيب الوقت ارضيا. الآنية حالة من الانحلال والتلاشي في كل من الماضي والمستقبل. بمعنى اكثر وضوحا وصرامة لا وجود لزمن يسمى الحاضر.

وحول إجابة سيرل حول سؤال الاسبقية التراتيبية بين العقل واللغة فهو أعطى اولوية العقل على بعدية اللغة. وكان مصيبا تماما. وحول علاقة الكلام باللغة فهو يحيلها الى وجوب فهم آلية ارتباط المخ او العقل باللغة بايولوجيا في دراسة فسلجة وعلاقة ارتباط الخلايا المخيّة بانتاجية اللغة. وأجد أن كل تعبير لغوي هو فلسفة تنتسب للعقل قبل انتسابها لخصائص اللغة. بمعنى العقل جوهر لغوي تجريدي وبايولوجي فيزيائي عضوي ايضا. لذا أجد بعض التحفظ بتمرير عبارة سيرل اللغة فرعا من فلسفة العقل بل اللغة هي تمُثل فلسفة العقل عن الوجود كاملة. مصداق ذلك تعبير سيلارز الوجود لغة. اروع عبارة تعبير فلسفي قرأتها لسيلارز عن ماهية اللغة وليس البحث في وظائفها.

بأي معيار نتكلم عن ما فوق اللغة؟

هل المعيار وجود لغة يدركها العقل ويتعامل مع الوجود بها ومن خلالها؟ هل ما فوق اللغة هي لغة فطرية أم مكتسبة من لغة قبلية سابقة عليها ويتبادلان التخارج بينهما أم لكل منهما له استقلاليته النحوية وضوابطها الخاصة بها؟ لا أعتقد ان ما فوق اللغة تستطيع الغاء اصلية وقبلية اللغة الام التي إنبثقت عنها. يوجد فرق كبير بين الاستعداد الفطري لاكتساب اللغة وبين القول بفطرية اللغة. الفيلسوف وعالم اللغات الامريكي في نظريته التوليدية نعوم جومسكي مّيز وأعطى تفريقا بين الاستعداد الفطري للغة وهو الارجح على أن تكون اللغة فطرة قبلية غير مكتسبة حتى في بداياتها عند الطفل.

واذا ما كانت اللغة حسب فلاسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى يعتبرون اللغة تضليل العقل في ازدواجيتها التعبير عن المعنى. فمن يكون اصدق تعبيرا واقعيا حقيقيا ملزما لنا اللغة أم ما فوق اللغة؟ هل اللغة منطق عقلي أم هي جملة قواعد وضوابط نحوية خاصة بها يتم استيلادها بتطور اللغة ذاتيا؟

اجد وهو رأي شخصي أن ما فوق اللغة هي استعداد فطري لاكتساب اللغة وتعلمها. من جنبة ثانية فالادراك العقلي الشيئي لموضوعاته في التعبير اللغوي عنها ليس هو المطابقة ما بين الدال والمدلول بل العقل لا يدرك ذاته بوسيلة شكل اللغة بل بالتفكير الاستبطاني المضموني المتعالق بشكلها الرمزي الحروفي المجرد. شكل يتالف من صوت ومعنى. وما لا تعّبر عنه اللغة لا يكون موضوعا للعقل باستثناء ما ذكرناه ادراك الفرد لذاته يكون صمتا تفكيريا لغويا. الادراك العقلي لأي شيء يتألف من موضوع ولغة تعبير عنه.

نظرية السلوك اللفظي

صاحب نظرية السلوك اللفظي هو بوريس فريدريك سكينر في القرن العشرين شغل كرسي تدريس الفلسفة في جامعة هارفارد. يعتبر سكينر بكتابه (السلوك اللفظي) عالم لغة ونفس وبذلك مهد الطريق امام فيلسوف وعالم اللغات نعوم جومسكي في اختراعه النظرية التوليدية باللغة. سكينر اراد تحويل السلوك الى تجارب تطبيقية في تعلم الطفل مفردات التعامل مع الحياة بوسيلة اللغة. سكينر يعتبر السلوك اللغوي هو كغيره من انواع السلوك يصدر عن شخص في مرجعية النفس والرغبة في التعبير عن موجوديته ضمن مجتمع يحتويه. كما يعتبر سكينر حسب نظريته في السلوك اللفظي أن اللغة لها وظيفة ذات معنى. فنحن نحاول على حد قوله بشتى الطرق أن ننشيء طفلا قادرا على التواصل لفظيا ويردد كلمات لها معنى. أعتقد توليدية جومسكي اللغوية أنكرت تعلم اللغة بسلوك مرجعيته علم النفس التي قال بها سكينر وليس تعلم اللغة استعداد فطري بايولوجي في اهمية تطور حنجرة الانسان واللسان لفرد يعيش في مجتمع.

التراتبية بين العقل والوجود والماهية

في عبارة للفلسفة الوجودية ان (الوجود يسبق الماهية) هنا المقصود بالوجود ليس مفهوم الوجود كمطلق خارج ادراك العقل لا موضوعا له ولا ادراك لماهيته. وإنما هنا في العبارة الوجود هو الموجود (الانسان). ولو حاولنا إجراء مقارنة تراتيبية اسبقية بين الوجود والماهية فاننا نجد دقة وصواب العبارة الوجود او الاصح الموجود يسبق الماهية. وجود الانسان يسبق ماهيته وتفكيره. يمكننا تلخيص الاشكالية التراتيبية بين الموجود الانسان وماهيته بكلمتين. الوجود هنا يقصد به التعبير عن الانسان كموجود (ثابت) والماهية سيرورة من التغيّر المستمر للذات.

الانسان وجوده الثابت هو معطى بالفطرة البايولوجية. بينما حقيقة الماهية كجوهر انساني باختلاف عن جميع الماهيات في موجودات واشياء العالم الخارجي، هي سيرورة من تصنيع الانسان لماهيته الذاتية المتعالية نحو الارقى باستمرار.. لهذا يكون الثبات في الانسان كموجود سابق على ماهيته المتغيرة كتصنيع ذاتي مستمر من سيرورة متطورة تلازم الانسان مدى الحياة..

واذا قلنا (العقل يسبق الماهية) فتكون العبارة حسب تحليلنا السابق في منتهى صواب ودقة التعبير. اما قولنا الجسد يسبق الماهية يكون بالقطع خطأ لا يمكننا تمريره حتى عند الانسان والسبب ان الجسد متعيّن انطولوجي ايضا ثابت موجودا وليس (ثباتا) ماهويا محال أن يكون. فالماهية كما اوضحنا ميزتها التغيير المستمر في مسار من السيرورة الخاضعة للذات والعقل.

الفرق الذي يساء تفسيره بين ثبات كينونة الانسان كموجود جسمانيا وليس ماهويا. والماهية الانسانية سيرورة بنائية للذات غير متوقفة مستمرة. التفسير القاصر هو الذي يعتبر الجسم ماهية!! مثلما تقول بابتذال غير مسيطر عليه النفس هي الجسم او الجسم ينوب عن تمثيله الذات.

ربما يتبادر للذهن تساؤل لماذا نعتبر جسم الانسان وماهيته وصفاته الخارجية هي دلالة واحدة في التعبير عن كينونته كموجود؟. ولا نعتبر جسم الحيوان كذلك؟ الحيوان لا يمتلك ماهية لان الماهية جوهر عقلي في وعي الذات لمجاوزة نفسها نحو الافضل في تراكم خبرة بنائية كما هي عند الانسان. بينما الحيوان لا يمتلك وعيا (لذاته) كي يقوم بتصنيع ماهية ذاتية خاصة به تطوريا نحو الارقى بحياته. لذا الحيوان جسم يعيش ليأكل. وليس كما يفعل الانسان بوعيه الذاتي في مشروع بناء. جسم الحيوان بصفاته الخارجية وغياب وعيه لذاته يترتب عليه يكون بالضرورة البايولوجية لوجوده كائنا بلا ماهية.

العقل خاصية الذكاء لديه هي في امتلاكه وعي ذاته وفي خاصية تصنيعه لذاته تطوريا نحو الافضل بالحياة في تكوين ماهيته. وعي الذات لدى الانسان يتمثل في وعيه الزمن ليس كمطلق كونيا ولو انه حتى بهذا التوصيف خطأ اذ مع نسبية انشتاين 1915 لم يبق مطلق زمني لا عند ارسطو ولا عند نيوتن. بل بقي وقت لازمني هو تحقيب ارضي يقوم على ملاحظة التغييرات المناخية وهو ما لا يمتلكه الحيوان.

ربما يعترض أحدهم متسائلا أن بعض الحيوانات تمتلك حاسة تنبؤية بحدوث بعض الظواهر الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات والاعاصير وغيرها قبل احساس الانسان بها. والرد على ذلك ان الحيوان صحيح يسبق الانسان في الخاصية التنبؤية للظواهر المدمرة التي تحدث بالطبيعة لكنه اي الحيوان يعجز مجاراة الانسان في وعيه التوقيت الزمني والتغيرات المناخية وحدوث الفصول الاربعة فيزيائيا وليس زمنيا التي اثبت علم الفيزياء الحديث ان تلك الظواهر لا تحدث بفعل تغيرات زمنية بل تحدث نتيجة تغيرات فيزيائية مناخية مصدرها دوران الارض حول نفسها وحول الشمس كذلك دوران القمر حول الشمس ومن احدى نتائج هذه الظاهرة الفيزيائية الثابتة ان جاذبية القمر هي وراء حدوث المد والجزر بالبحار. وكلها تحدث فيزيائيا خارج نسبية الزمن..

والعقل سواء في معناه البايولوجي كعضو يتسّيد كينونة الانسان كموجود خاصيته الماهوية التفكير حسب تعبير ديكارت. اعتبر ديكارت خلود العقل والنفس دلالة عن مصير واحد يجمع بينهما. توصيف ديكارت ان خاصية العقل التجريدي والبايولوجي معا هو خاصية قدرته التفكير بالتعبير عن الاشياء والموجودات كان تعبيرا فلسفيا غير دقيق يجانب التفلسف الصائب من حيث أن (ماهية) الانسان ليست هي (تفكيره) في التعبير اللغوي.

وكذلك كان ديكارت غير موفق فلسفيا في اعتباره العقل والنفس جوهرين خالدين. فهو لم يميّز بين العقل كعضو في تكوين جسم الانسان البايولوجي، وبين العقل كخاصية تفكير تجريدي بالتعبير عن الاشياء ومدركاته. فالخلود يكون حصرا بافكار العقل وليس في بايولوجيته الفانية بالموت الذي يطال جسم الانسان كاملا.

الشيء الاخر لم يميّز ديكارت بين النفس الفانية وبين الروح الخالدة. وقوله النفس جوهر خالد خطأ جسيم اذ النفس خاصية جسمانية بيولوجية قابلة للفناء الوجودي ولا ينتظرها خلود بعد فناء الانسان.

ولو نحن عدنا الى التراتيبية بين العقل والماهية في الاسبقية لمن؟ هل العقل يسبق الماهية أم الماهية تسبق العقل؟ واذا اخذنا المقايسة المعيارية بينهما في خاصية (الثبات) للعقل والسيرورة التغييرية(للماهية) لقلنا بلا تردد لحظة واحدة الاسبقية التراتيبية هي للعقل. اذ من الصعوبة تعيين محدودية للماهية التي هي تصنيع ذاتي متغير خلاف العقل بصورتيه البايولوجية وخاصيته التفكيرية.

الفكر والمادة

إذا كان هناك خاصية ينفرد بها الفكر تراسندتاليا (متعاليا) على الواقع فهي أنه يتطور ويتغير أسرع من التغييرات ألحادثة في واقع الحياة المادية وعالم الاشياء من حولنا في الطبيعة، بمعنى الفكر يدرك الموجودات بالوصاية العقلية عليها بما يجعل من هذا الاخير(الواقع بموجوداته) تابعا للفكر الذي يتقدمه في نفس الوقت الذي لا يمكن القفز من فوق حقيقة أن الواقع المادي للاشياء هو مصدر إلهام الفكر وسابق عليه وليس العكس. فالفكر لا يصدر من فراغ أي بلا موضوع يدركه حسيّا او خياليا سابقا عليه. تبدو مفارقة متناقضة حين نقول الفكر يتقدم الواقع المادي في التقاطع مع/ والخروج على النظرة المادية ونسقط في تعبير مثالي حين نجد الافكار تجر الواقع وراءها على الدوام، في حين الحقيقة أن الواقع في موجوداته المستقلة أنطولوجيا هو محرك الفكر المحايث له ماديا جدليا السابق على الفكر المنتج لاستثارة ادراكه العقلي، والأفكار في الوقت الذي تدخل جدليا (تكامليا معرفيا) مع موجودات الاشياء فهي تسابقها من أجل تغييرها وتطويرها بعد معرفتها وإدراكها عقليا، وتتطور هي ذاتيا أيضا بعلاقتها الجدلية مع تلك الموجودات. العلاقة بين المادة والفكر تكامل معرفي لكليهما في التقدم والتطور.

والافكار التي تحاول تغيير الواقع جدليا متخارجا مع موجوداته تتطور هي الأخرى في جدليتها المتعالقة بها. فوجود الشيء أو الموضوع المستقل ماديا أو خياليا يعالج من قبل الذهن فكريا في العقل البايولوجي قبل الأفصاح عن وجوده المادي في عالم الاشياء بواسطة تعبير اللغة عنه كموجود في العالم الخارجي او موضوعا متخيّلا. الموجود يسبق الفكر لكنه لا يلزم العقل إدراكه.

الموجودات في العالم الخارجي لا قدرة لها الإفصاح عن نفسها دونما الإدراك العقلي لها والتعبير الفكري لغويا عنها. وكذا نفس الحال مع المواضيع المصنّعة خياليا. فنحن نفهم الصمت تفكيرا إستبطانيا داخليا ذاتيا ولا نفهمه تعبيرا لغويا تواصليا صوت ومعنى دلالي. صمت اللغة في ضروب الفنون والادب تواصل إيحائي تكون فيه لغة التعبير في حالة كمون بمعزل عن خاصية ملازمة الصوت للغة. وهذا يختلف عن صمت الانسان وإمتناعه التعبير عن تفكيره باللغة المكتوبة أو بالكلام في حال إدراكه أن لا فائدة من التعبير اللغوي. وتاكيد ذلك في تعبير لوفيدج فينجشتاين قوله حين نعجز التعبير بوضوح يكون الصمت أجدى.

ليس الواقع الوجودي للاشياء هو الإنعكاس الميكانيكي في تعبير الفكر واللغة عنه، وأنما الموجود بعد إدراكه حسّيا وعقليا يتم تخليقه ثانية بالعقل بما يطلق عليه كانط مقولات العقل. والاشياء التي يعمل العقل على تطويرها ينعكس هذا التطور الواقعي على الأفكار التعبيرية عنها فتتطور هي ايضا. بمعنى أن الواقع الذي يتطور بفاعلية الفكر يقوم هو الآخر بتطوير (ذاته) واقعيا ماديا ليبقى الفكر يتقدم الواقع في تخليقه له على الدوام ولا يتقدم عليه في أسبقية وجوده على الفكر..

المعنى بين الفكر واللغة

هل يخطأ العقل بالتفكر قبل خطأ اللغة في نقلها تصورات العقل لموضوعات ادراكه؟ عبقرية اللغة سابقة على عبقرية الفكر رغم الخاصية التداخلية بين الفكر واللغة. عبقرية اللغة سابقة عبقرية الفكر رغم ان انتاجية العقل للفكر يسبق تعبير اللغة عنه. من المحال ان يستطيع العقل التفكير بغير اللغة. كما لا يستطيع العقل نقل تصوراته الادراكية باللغة التي من المحال الفصل بينها وبين الفكر وكلاهما انتاجية عقلية. وفي حالة الصمت اللغوي لا يمكننا تصور تراتبية اسبقية التفكير على اللغة.

اللغة ليست شكلا تعبيريا خاليا من مضمونه القصدي المعرفي الذي هو محتوى الشكل اللغوي. وتفترق اللغة عن الخيال التصوري العقلي اللغوي والتمايز الاختلافي في الدلالة بينهما متى ما اصبح موضوع الخيال واقعا ماديا.

خطأ اللغة هو خطأ تفكير العقل. وحين تكون حقيقة الفلسفة التي اشار لها التحليلين المنطقيين تتلخص مهمتها في توضيح قضايا العلم فهذا التقزيم التبعي للغة الفلسفة امام قضايا العلم غير كاف. الحقيقة التي يجب ان لا تقاس بالحجوم ما بين العلم واللغة تكون اللغة عامة ولغة الفلسفة خاصة اشمل من الاهتمام بقضايا العلم كي تؤكد حقيقتها الملتبسة امام العلم.

تحليل اللغة بعيدا عن التطرق الى مضامينها وحواملها يجعل من اللغة نسقا شكليا مستقلا عن الحياة وهذا ما اكده جورج مور وفينجشتين المتاخر. كلاهما اكدا اهمية مضمون ما تهدف له اللغة تعبيرا قبل شكل الصياغة اللغوية.

***

علي محمد اليوسف

 

ان مسألة إثبات او نفي وجود الله هي في الغالب مسألة عقل وغرض وليست مسألة تحقيق علمي. ما مطلوب هو منطق استنتاجي يحاول توضيح الله من خلال الاستدلال المنطقي، وعلاقة الله بالعالم. سيكون من الخطأ ان يقتصر البحث عن الحقيقة فقط بالوسائل التجريبية (العلم). ان الالحادية الحديثة حينما تصر على استخدام التجريبية كأداة في جميع أغراض المعرفة، فهي تمارس نفس القضية التي تتجاوز التجريبية طالما ان الله خارج الكون وليس فيه. وهذا يعني ان ذكاء الله ينعكس في خلقه لكنه لا يُدرك دائما او ممكن استعماله كدليل قابل للاثبات. ان ما قيل من جانب العديد من الثيولوجيين ايضا بحاجة لكي يُفهم جيدا: ان الله متميز كليا عن أي شيء يُستخدم لتصنيفه. في الحقيقة، يصف توما الاكويني الله في اللغة اللاتينية" totalliter aliter" بمعنى خارج قدرتنا على الفهم الكامل له. من الواضح ان محدوديات الانسان تجعل من الصعب اثبات او فهم الحقائق العليا. لحسن الحظ يمكننا البدء بوصف مظاهر الله القابلة للفهم بواسطة قدرات الانسان. على سبيل المثال، الله ذكاء تام خالص، لأنه اذا كان فقط ذكاء دون المستوى الأمثل، عندئذ سوف يكون متناهي وبالتالي ليس إلها، على الاقل في المعنى التقليدي التوحيدي.

بما ان الله ليس مجرد عقل خالص وانما هو اساس الوجود ذاته (وهو لا يمكن بالطبع تحليله كميا) وليس شيئا ماديا ضمن الكون، فان البحث عن دليل علمي مادي سيضر في نقاش وجود الله. عند التحقيق بوجوده، علينا ان ندع انفسنا نُقاد بالعقل والتفكير النقدي، ولا نُخدع باولئك الذين يرتكبون خطأ التصنيف في محاولة وضع الله في بيانات تجريبية.

لذلك، فان الغرض الرئيسي في هذا المقال هو بيان لماذا يجب ان نقبل الحجج العقلانية لوجود الله بدون أدلة تجريبية صارمة: اثبات وجود الله ليس من خلال عرض دليل علمي وانما من خلال اظهار وجوده عبر طرق مثل الحجج الاخلاقية والكونية والانطولوجية (1).

عندما يفشل العلم في إعطاء جواب قاطع لسؤال الله، عندئذ فان الملحدين الواثقين بالعلم عادة يتبنون الايمان الأعمى في موقفهم. وبما ان الاختبار العلمي هو الطريقة الخاطئة لمعالجة مسألة وجود الله او عدم وجوده، ومع اعطاء العقلانية حقها، فان التمسك بالايمان بعدم وجود الله هو عمل ارادي خالص. نوع من ايمان أعمى في تحدي المنطق والعقل. لكن عندما تُستعمل التحليلات العقلانية بدلا من ذلك، فان الملحد سيجد نفسه يعمل ضد الدليل الفلسفي والتاريخي الساحق لوجود الله. الناس احيانا يدّعون ان الفلسفة حقل دراسة "ميّت" تُعاد فيه المسائل القديمة بلا نهاية. وهذا الادّعاء خاطئ تماما.

مع تطور العلم والانسانيات، تطورت ايضا الفلسفة التي دمجت ما اشتقته من تلك التطورات. وعلى الرغم من ان البعض لايزال يعتبر الفلسفة مسعى بلا قيمة، فهي تبقى تنظر في سبب اهمية الاشياء. هناك قول قديم : العالِم يسأل الفيلسوف لماذا الفلسفة تهم. يجيب الفيلسوف بتوجيه سؤال للعالِم لماذا العلم يهم. وعندما يبدأ العالم بالإجابة، يقاطعه الفيلسوف بالقول "والآن نحن نعمل فلسفة".

 منذ التنوير، بدأ الفلاسفة بتفكيك الاشياء التي كانت في السابق اما يقينية او على الاقل نُظر اليها بنوع من الشك. هذا ليس تشويها لسمعة التنوير او للفترات المشابهة، والتي تستحق الثناء حقا لأنها أنتجت أساليب رائعة من التفكير النقدي. وكما في كل العصور، لم يكن ذلك بدون عيوب. التنوير في تعبيراته الراديكالية أنتج شكا متطرفا. هذه الممارسة المبالغ بها مترافقة مع التأكيد على الدليل التجريبي، قاد الى التخلي عن الايمان بالله وهو ما يمكن ان يسمى سبب غير كافي، لأن استعمال الشك المفرط لإثبات عدم وجود الله يجب ايضا ان يدحض التفكير الذي يصل بواسطته المرء لذلك الاستنتاج.

هذه الطرق المتطرفة والاستنتاجات اللاحقة أثارت مشكلة، لأن الله يمكن الجدال فيه بعقلانية وبشكل مقنع. لكن نتيجة لتغلغل العلموية الاحادية النظرة في الثقافة الغربية، فان احدى القضايا الكبرى التي يواجهها المؤمن اليوم هي ان الناس يبدو غير قادرين على قبول أي شيء لا ينطوي على برهان تجريبي على وجود الله. من المفارقة هنا انهم سوف يقبلون مثلا بحقائق الجمال او الاخلاق او بكلمات مثل "انا احبك" رغم ان هذه الاشياء لم يتم اثباتها تجريبيا ابدا.

الإلحاد ام اللاادرية؟

كل من ارسطو وافلاطون وبقية اليونانيين القدماء الذين وضعوا حجر الاساس للفلسفة اتخذوا اتجاها مختلفا، البعض كانوا اكثر شكا، آخرون اكثر تجريبية، ولايزال آخرون يهتمون بموضوعات عقلانية مثل الاخلاق او أشكال المعرفة. ولو تقدمنا الى العصور الوسطى سنجد شخصية مثل القديس توما الاكويني في الخلاصة اللاهوتية (1274)، والتي كانت رسالة فلسفية بقدر ما هي ثيولوجية. هو ربما كان ابرز شخصية مؤثرة في استخدام حجج مقنعة في وجود الله.

اللاادرية تبدو موقفا اكثر معقولية بالنظر الى ان عبء البرهان يقع على الملحد وليس على اللاادري. في بعض السيناريوهات، يقع عبء البرهان ايضا على المؤمن، ولكن على الاقل المؤمن لديه حجج ايجابية تُظهر وجود الله، بينما الملحد عليه مهمة يستحيل التعامل معها بنجاح في اتخاذ موقف ايجابي في عدم وجود شيء، ولهذا يتضح انه قادر فقط على الجدال ضد وجود الله المفترض سلفا. لكن يجب التوضيح ان الجدال ضد حجج وجود الله هي ليست نفس الشيء كاظهار عدم وجوده. الاخيرة حالة يكون تبنّيها أصعب بكثير طالما انها تتضمن على الاقل مهمة التصدي لكل حجة تُظهر وجوده بشكل معقول. رؤية الملحد الراسخة تتطلب دحضا صارما وهي رؤية يصعب فهمها بالنظر الى قرون من الادب حول هذا الموضوع. لكن اذا لم ينجح الملحد في تقديم هذا الدحض، عندئذ هو حقا لا يمكنه اعتبار نفسه ملحدا صادقا – أي، شخص ليس لديه ايمان قوي وظاهر. بل، هو لا ادري (والذي يعني شخص بدون معرفة بوجود او عدم وجود الله) – مالم يكن لديه استعداد لإتخاذ قفزة الايمان (ايمان بشيء يصعب الايمان به، ليس على اساس المنطق) للوصول الى إلحاده، الامر الذي يبدو مناقضا واكثر خطورة من قفزة الايمان للوصول الى موقف مضاد. في الحقيقة، يبدو ان الالحاد الايجابي يتطلب ايمان اكثر مما يتطلبه المؤمن بعقيدته. الالحاد الحقيقي او العقيدة الايجابية بعدم وجود إله (بمعنى، عقيدة بعدم وجود اله، مقابل عدم امتلاك عقيدة بان هناك اله) يفترض سلفا ان يعتبر المرء نفسه غير مقتنع وبشكل لا يقبل الجدل، بينما الايمان يتطلب فقط عقيدة بـ "حجم حبة خردل" (لوك 17:5-6).

لذا، فان المؤمن ليس لانه لديه برهان تجريبي او منطقي لوجود الله وانما هو اتخذ قفزة عقلانية نحو تلك العقيدة بالارتكاز على حجج ايجابية لله، وبهذا هو يعطي موافقة على الافتراض الذي هو في موقف جيد من الناحية الابستيمولوجية مقابل اولئك الذين لا يؤمنون فقط وبشكل أعمى.

وكملاحظة جانبية، نعتقد ان الناس يفضلون اعتبار انفسهم ملحدين عندما يميلون نحو عدم وجود الله، ويعتبرون انفسهم لاادريين عندما يكونون أقرب الى منتصف الطريق او لا قرار لديهم ولكن ليسو لا ادريين تجاه الحجج المؤيدة لله. هذا القرار في تسمية اولئك الذين ينقصهم فقط الايمان بالله كـ "ملحدين" بدلا من "لاادريين" هو ببساطة امر خاطئ. اذا كان شخص ما ليس لديه كفر ايجابي، اي، تجاهل و ترك الحجج المؤيدة لله بلا جواب، عندئذ عندما يهتم شخص ما بما يكفي ليكون صادق فكريا، فان الخيار الوحيد المتبقي هو الاعتراف على الأقل باحتمالية وجود إله – الامر الذي يضع الشخص في معسكر اللاادريين.

الحل

العقلانية هي الطريق الذي نقترب به من سؤال وجود الله من خلال عملية التساؤل والاستدلال. التجريبية ليست نفس الطريقة ويجب ان لا تُطبق عند محاولة اثبات او نفي وجود الله، طالما ان تصورا صادقا فكريا وشاملا لله يعرّفه كمتعالي على النظام الطبيعي، ينطلق منه بدلا من ان ينطلق هو منه، والتجريبية سوف دائما تأتي ناقصة عندما تسعى لنفي وجود كائن متجاوز، لأنها مقيدة بشكل صارم بدراسة النظام الطبيعي. لذلك، فان البرهان الايجابي على عدم وجود الله لا يمكن انجازه من خلال الطريقة العلمية. وجود الله او عدم وجوده يتم فحصه بدلا من ذلك من خلال مجال عقلاني خالص، او من خلال النظر في الدليل التاريخي – على سبيل المثال قيامة المسيح.

في كثير من الأحيان يقفز الباحثون – وربما عن طريق الخطأ وليس عبر اللانزاهة الفكرية – من التجريبية الى العقلانية، محاولين استعمال طريقة تجريبية للوصول الى استنتاج عقلاني خالص. وبينما التجريبية يمكن ان تخدم العملية العقلانية الى نقطة ما، مثل قفزة من الطريقة التجريبية الى استنتاج عقلاني خالص، فهي مشابهة لمحاولة استعمال الطحين والزبدة والسكر والبيض لبناء كومبيوتر. لكن عندما يعترف المرء بالنهاية بإلغاء التجريبية، فان اثبات عدم وجود الله من خلال العقلانية يمثل عبئا لا يطاق. وفي ضوء الدليل العقلاني، سيكون لدينا سؤال جديد: تؤمن ام لا تؤمن؟

يُعتقد ان الامر يتعلق بما اذا كان ينبغي لنا ان نؤمن او لا نؤمن بأهمية الاسباب المعطاة للايمان بالله. ولكن كما ذكر كيركيجارد، نحن مسموح لنا في استشارة ليس فقط الرأس وانما القلب ايضا.

يمكن القول ان جوزيف بريبر Josef Preper وهو من أبرز الثيولوجيين في القرن العشرين الذي قال "ان الحب هو الحقيقة المبسطة"، التي ليس فيها توضيح اساسي اكثر من الفكرة ذاتها. ان محاولة وصف خصائص كلمة "حب" يعني تعقيدها، لكن ماذا يعني الحب، ببساطة هو "انا اعتقد من الجيد انك موجود". الحب يراه معظم الناس انه يعطي معنى جوهري لحياتهم. الله وُصف كـ "حب" في 1 John 4:8:.

الكاردينال نيومان كتب رسالة سُميت مقالة في مساعدة قواعد الموافقة (1870) (2). هذه المقالة وصفت كيف يقوم الذهن طبيعيا بتجميع مذهل لكمية كبيرة من البيانات كل يوم، ويصل الى استنتاج عقلاني بدقة وفورية لا حاجة فيه لجهد فكري منسق من جانب الفرد. انها وسيلة كشفية مساعدة مفيدة وضرورية لبقائنا. مثلا: لو ان شخص ما يتلقى مكالمة اثناء العمل من رقم مجهول، والمتكلم يعرّف نفسه كضابط شرطة يعلن عن حصول مداهمة لمنزله ويذكر عنوانه، فان ذلك الشخص سيثق فورا بان المتصل هو حقا ضابط شرطة وانه يقول الحقيقة بدون أي برهان ايجابي لأي من هذه الاشياء. نيومان يسمي هذه الظاهرة من التوليف العقلاني الفوري بـ "حس استدلالي". Illative sense. انها عملية ننخرط بها يوميا. لماذا يكون الايمان بالله جسرا بعيد جدا في هذا الشأن، بينما نحن في الحقيقة نمارس هذا السلوك الفطري دائما وبانتظام؟.

السؤال هو حول ما اذا كنا سنسمح بالحقائق الواضحة للحب لتتردد فينا وتغمرنا بفهم مشابه لما نسميه "تبرير" لوجودنا – والذي في كثير من الاحيان هو ما نبحث عنه بقوة، سواء بمعرفة او بدون معرفة. انه استطلاع حقيقي هنا – فيما اذا كنا نعترف بحقيقة الحب العابرة – والخيار متروك لكل فرد لإعطاء جواب له. هل نؤمن بـ "الحب غير القابل للاثبات" او هل سنستمر في البحث عن جواب يمكن التحقق منه تجريبيا لسؤال لم يُطرح ابتداءً من جانب الرأس العقلاني بل بطريقة غير عقلانية احيانا او ما يمكن تسميته قلب فائق العقلانية super rational؟

***

حاتم حميد محسن

..............................

The return of God? A critique of pure Atheism, philosophy Now, Dec/Jan2025

(الكاتب الدكتور اندرو ليكودس، رئيس مؤسسة ليكودس للبحوث الثيولوجية، وهو محرر لستة كتب ومحاضر في جامعة توسون)

الهوامش

(1) الحجج الفلسفية الثلاث لإثبات وجود الله

1- الحجة الأخلاقية The moral Argument

هذه الحجة تؤكد ان الله هو التوضيح الأبرز الوحيد للاخلاق الموضوعية. تذهب الحجة كالتالي:

2- بدون إله لن يكون هناك اساس للاخلاق الموضوعية او للالتزامات الاخلاقية.2- لكن الاخلاق هي موضوعية – الاغتصاب والقتل والتعذيب جميعها خاطئة موضوعيا.3- لذلك لابد ان يكون هناك إله.

هذه الحجة تعتمد على كون الاخلاق صادقة موضوعيا وهو ما يعارضه الان العديد من الناس. انها ايضا عليها ان تبيّن كيف ان الله هو اساس للاخلاق. كذلك، انها تعتمد على عدم وجود اسس اخرى حيوية للموضوعية الاخلاقية. بدلا من ذلك، يمكن تحقيق نفس الدور بواسطة المثالية الافلاطونية. وهي الفكرة بان هناك وجود مستقل للمفاهيم الاخلاقية. لكن المثالية الافلاطونية فيها عدة مشاكل ايضا.

الحجة الكوزمولوجية The cosmological Argument

وهذه الحجة تسأل لماذا شيء ما يوجد بدلا من ان لا يوجد. انها تعالج وجود كائن هو ذاته سبب وراء الكون وهو الله. نسخة علم الكلام لهذه الحجة تذهب كالتالي: 1- كل شيء يأتي الى الوجود له سبب. 2- الكون جاء الى الوجود 3- لذلك فان الكون له سبب 4- لكي نتجنب العود اللانهائي فان هذا السبب يجب ان يكون كائنا موجودا بالضرورة 5- ذلك السبب يجب ان يكون الله 6- لذا فان الله موجود. المشكلة الرئيسية في الحجة الكونية هي اظهار لماذا يوجد الله بالضرورة. لماذا لايكون الكون صدفة اي غير ضروري.

3- الحجة الانطولوجية The ontological Argument

اول حجة انطولوجية في الغرب صاغها القديس انسلم عام 1078 حيث يعرّف الله "كائن لا يمكن تصوّر أعظم منه" ويجادل بان هذا الكائن يجب ان يوجد في الذهن، حتى لدى الشخص الذي ينكر وجود الله. ومن هنا هو يقترح بان الكائن الأعظم الموجود في الذهن يجب ان يكون ايضا موجود في الواقع، وبالتالي يكون الله موجودا.الحجج الانطولوجية تثق بفكرة مشكوك فيها بان تعريف الله ذاته يثبت انه موجود. لكن من الصعب تحديد الخطأ في هذا الاتجاه ان كان هناك خطأ.

(2) مقال في المساعدة في قواعد الموافقة هو الكتاب الشهير للثيولوجي نيومان John Henry Newman حول فلسفة الايمان والذي اكتمل العمل به عام 1870 بعد 20 عاما من العمل. كان هدف الكاتب بيان ان المعايير العلمية للدليل والموافقة هي ضيقة جدا ولا يمكن تطبيقها في الحياة الملموسة. هو جادل بان المنطق واستنتاجاته لايمكن نقلها لميدان القرارات في الحياة الواقعية. وبالتالي، من غير الملائم الحكم على صلاحية الموافقة على الايمان الملموس من خلال معايير المنطق التقليدية لأن منطق الورق لايتساوى مع المهمة. "المنطق فضفاض في كلا الطرفين"، بما يعني ان جميع عمليات المنطق في الاساس تعتمد على افتراضات مقيّدة وبهذا تكون غير قادرة على موائمة استنتاجاتها بدقة مع ظروف العالم الواقعي. هو كان مهتما بالدفاع عن الايمان كنتاج شرعي لفعالية الانسان العقلية – بمعنى ان الموافقة ليست معاكسة لطبيعة الانسان. هو كتب هذا الكتاب بالضد من التجريبية البريطانية التي قيّدت قوة وشرعية الموافقة فقط بالدليل المعروض. جون لوك وديفد هيوم وجون ستيوارت مل كانوا من أشهر التجريبيين الذين اشتبك نيومان معهم فلسفيا.

 

ولدت حركة التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر. وقد حصلت على اسم التنوير في إنجلترا و الأنوار Aufklärung في ألمانيا. وأشهر ممثليها، بالإضافة إلى عمانويل كانط، ومونتسكيو، وفولتير، ودينيس ديدرو، وجان لورون دالمبر، وجان جاك روسو، وباروخ سبينوزا وجون لوك وتوماس هوبز وديفيد هيوم. تتميز هذه الفترة، التي نسميها "عصر التنوير"، بالرغبة في التقدم في جميع المجالات: السياسية: التشكيك في الملكية المطلقة بالحق الإلهي، الدينية: انتقاد الخرافات والتعصب، الثقافية: الاهتمام المتجدد بالمعارف والعلوم. التكنولوجيا والقضايا الاجتماعية: تراجع الطبقة الأرستقراطية، وصعود البرجوازية. ويمكن تلخيص "برنامج" التنوير على النحو التالي: محاربة الجهل من خلال نشر المعرفة على نطاق واسع؛ وزيادة الثروة من خلال تطوير الزراعة والصناعة والحرف والمهن والتقنيات والأدوات والوسائل والفنون؛ العقل بديل للخرافة. الطبيعة والانسان مكان اللاهوت. ضمان استقلالية الأخلاق فيما يتعلق بالدين؛ جعل فكرة الله مستقلة عن أي دين معين؛ رفض الاستسلام لما يسمى بمراسيم العناية الإلهية. فكيف أجاب كانط عن سؤال ما الأنوار؟ والى أي مدى ترجم الجواب الذي اقترحه روح عصر الأنوار؟

  "ما هو التنوير؟ خروج الإنسان من أقليته التي هو مسؤول عنها. أقلية، أي عدم القدرة على استخدام فهمه (القدرة على التفكير) دون توجيه من الآخرين، أقلية هو مسؤول عنها، لأن السبب لا يكمن في خلل في الفهم بل في عدم القدرة على اتخاذ القرار والشجاعة في استخدامه دون توجيه من الآخرين (الجرأة في التفكير). تحلى بالشجاعة لاستخدام فهمك الخاص. هذا هو شعار التنوير. الكسل والجبن هما السببان اللذان يفسران لماذا هذا العدد الكبير من البشر، بعد أن حررتهم الطبيعة لفترة طويلة من (أي) اتجاه أجنبي، يظلون رغم ذلك عن طيب خاطر، طوال حياتهم، قاصرين، وأنه قد يكون من السهل على الآخرين أن يتظاهروا بأنهم قاصرون حراس السابقين. من السهل جدًا أن تكون قاصرًا! إذا كان لدي كتاب يخدم فهمي، ومدير يخدم ضميري، وطبيب يقرر نظامي الغذائي، وما إلى ذلك، فأنا حقًا لا أحتاج إلى الخوض في أي مشكلة بنفسي - حتى لا أحتاج إلى التفكير طالما أستطيع الدفع؛ سوف يعتني الآخرون بهذا العمل الممل جيدًا. أن الغالبية العظمى من البشر (بما في ذلك النوع الأضعف بأكمله) يعتبرون أيضًا هذه الخطوة للأمام نحو أغلبيتهم خطيرة جدًا، بصرف النظر عن كونها أمرًا مؤلمًا، فهذا ما يعمل الأوصياء بشكل جيد جدًا لتحقيقه (من باب اللطف) أخذوا على عاتقهم ممارسة القيادة العليا على البشرية. بعد أن جعلوا ماشيتهم غبية جدًا وحرصوا بعناية على عدم السماح لهذه المخلوقات المسالمة بالجرأة على اتخاذ أدنى خطوة خارج الحديقة حيث حبسوها. ويوضحون لهم المخاطر التي تهددهم إذا حاولوا المغامرة بالخارج بمفردهم. لكن، هذا الخطر ليس كبيرًا حقًا، لأنهم سيتعلمون المشي أخيرًا، بعد بضع مرات من السقوط؛ لكن حادثًا من هذا النوع يجعل المرء خجولًا، والخوف الناتج عنه عادة لا يشجع على المحاولة مرة أخرى. ولذلك يصعب على كل فرد على حدة أن يهرب من الأقلية التي تكاد تصبح طبيعة بالنسبة له. لقد استمتع بها جيدًا، وفي هذه اللحظة هو حقًا غير قادر على استخدام فهمه الخاص، لأنه لم يُسمح له أبدًا بتجربته. المؤسسات (المبادئ) والصيغ، هذه الأدوات الميكانيكية لاستخدام الكلام أو بالأحرى إساءة استخدام المواهب الطبيعية، هذه هي الأجراس التي تم لصقها على أقدام الأقلية التي تستمر. وحتى أي شخص يرفضها لن يتمكن إلا من القيام بقفزة غير ثابتة فوق أضيق الخنادق، لأنه غير معتاد على تحريك ساقيه بحرية. لذلك هناك عدد قليل جدًا ممن تمكنوا، من خلال عملهم الفكري، من الانفصال عن الأقلية والتمكن من السير بخطوة واثقة. لكن لكي يقوم الجمهور بتنوير نفسه، والدخول أكثر في عالم الإمكانية، فهذا أمر ممكن حتى طالما أعطيناه الحرية للقيام بذلك، وهو أمر لا مفر منه تقريبًا. لأننا سنجد دائمًا عددًا قليلًا من البشر الذين يفكرون بمفردهم، من بين الأوصياء المعتمدين (المعينين) للجماهير والذين، بعد أن تخلصوا من نير الأقلية (الخاصة بهم)، سوف ينشرون روح التقدير المعقول لذاتهم قيمة ودعوة كل انسان للتفكير بنفسه. دعونا نلاحظ على وجه الخصوص أن الجمهور الذي سبق أن وضعوه تحت هذا النير، يجبرهم على وضع أنفسهم تحته، بمجرد أن يتم تحريضهم على التمرد من قبل بعض حراسهم غير القادرين أنفسهم، فغرس التحيزات أمر ضار جدًا لأنهم في النهاية ينتقمون من مؤلفي الكتاب أو من أسلافهم. لذلك لا يمكن للجمهور الوصول إلى الأنوار إلا ببطء. قد تؤدي الثورة إلى سقوط الاستبداد الشخصي والقمع المهتم أو الطموح (الجشع والاستبدادي) ولكنها لا تؤدي أبدًا إلى إصلاح حقيقي لطريقة التفكير؛ بل على العكس من ذلك، ستظهر أحكام مسبقة جديدة من شأنها أن تخدم، بالإضافة إلى الأحكام المسبقة القديمة، الجماهير الغفيرة المحرومة من الفكر..." فماهي الأفكار التنويرية الجديدة التي تضمنها هذا المقال؟

يأخذ نص كانط جزءًا من هذا البرنامج: محاربة الجهل من خلال نشر المعرفة على نطاق واسع، واستبدال الخرافات بالعقل، وضمان استقلالية الأخلاق فيما يتعلق بالدين، وجعل فكرة الله مستقلة عن أي دين معين. مفاهيمها الأساسية هي: "الجرأة"، "الإنسانية"، "الحرية"، "عدم التحيز"، "الثورة"، "الاستبداد"، "الإصلاح"، "الحرية"، العقل، "الاستخدام الخاص للعقل"، "الاستخدام العام للعقل". "، "العلمي"، "التقدم"، "الحقوق المقدسة للإنسانية"، "الإرادة العامة"، "الاستبداد الديني"، "النقد". لذلك يعرّف كانط عصر التنوير بأنه "خروج الإنسان من أقليته"، وبالتالي انضمامه إلى الأغلبية. يشبّه كانط الإنسانية بالطفل الذي يُمنع من النضوج أو الذي يمنع نفسه من النضوج. يتمتع معظم الناس "بالقدرة على التفكير". يؤكد رينيه ديكارت، الذي يمكن اعتباره مع سبينوزا رائدًا لعصر التنوير، في خطاب حول المنهج أن الفطرة السليمة هي الشيء الأكثر انتشارًا في العالم. بالنسبة لكانط، ليست القدرة على التفكير هي ما هو محل شك (عجز العقل)، ولكن الشجاعة في استخدامه. من الأسهل أن أتصرف كقاصر بدلاً من أن أتصرف كشخص بالغ، لأن هذه الحالة لا تتطلب أي جهد خاص: كل ما علي فعله هو أن أترك نفسي تسترشد بالآخرين (نقول اليوم "الخبراء") الذين يعرفون أفضل مني ما أقوم به. يجب أن أفكر وماذا يجب أن أفعل. في الفقرة الثانية، يستخدم كانط صيغو عملية غالبًا ما توجد في كتابات مفكري التنوير: المفارقة: "أن الغالبية العظمى من البشر (بما في ذلك النوع الأضعف بأكمله)، يعتبرون أيضًا أن هذه الخطوة للأمام نحو أغلبيتهم خطيرة جدًا، بصرف النظر عن ذلك". وحقيقة أنه أمر مؤلم، هو ما أخذه الأوصياء الذين بلطف شديد (بدافع اللطف) على عاتقهم لممارسة التوجيه العالي لـ "السخرية، أو "مضاد العبارات" هو صيغة (عملية) بلاغية تتكون من قول عكس ما يعتقده المرء من خلال الإشارة ضمنًا إلى أنه لا يعني ما يقوله. على عكس الكذبة التي تعمل على إخفاء الحقيقة، فإن العبارة المضادة تعمل على كشفها بشكل أفضل من خلال التواطؤ مع القارئ "المستنير" الذي يعرف جيدًا أن حراس الإنسانية لا يستخدمونه بأي حال من الأحوال "من باب اللطف" للتخفيف عنه بجهد التفكير، ولكن، كما سيقول نيتشه، عن طريق "روح الاستياء" وممارسة "إرادتهم في السلطة". ويمكن أيضًا تفسير عبارة "بما في ذلك النوع الأضعف بأكمله" بطريقة إيجابية، باعتبارها انتقادًا للولاية التي يمارسها الرجال على النساء. إن النوع البشري بأكمله، وليس البشر فقط، هم الذين يجب أن يبلغوا سن الرشد. هذا ما فكر فيه وقال أوليمب دي غوج، الذي كان أول من طالب بـ”حقوق المرأة”. يمكننا أن نرى في اللوحة التي تمثل غرفة معيشة مدام جوفرين عددًا قليلاً من النساء (أربع في المجموع، وهو ليس كثيرًا، لكنه ليس شيئًا) من بين ممثلي عصر التنوير. يُظهر كانط، مثل إتيان دو لا بويتي، أن العبودية لا يعاني منها البشر فقط (بالمعنى العام للمصطلح)، ولكنها طوعية وأنها لن تستمر لفترة طويلة إذا لم يوافق الناس على ذلك . وبعد مقارنة البشر بالأطفال (القاصرين)، يقدم كانط مقارنة ثانية في الفقرة الثانية: بين البشر والحيوانات الأليفة. يحتوي هذا المقطع أيضًا على علامات سخرية: "بعد أن جعلوا ماشيتهم (المحلية) غبية للغاية، وبعد أن حرصوا بعناية على عدم السماح لهذه المخلوقات المسالمة بالجرأة على اتخاذ أدنى خطوة، خارج الحديقة حيث حبسوها، يظهرون لهم الأخطار التي تهددهم إذا حاولوا المغامرة بالذهاب الى الخارج بمفردهم..." هنا يتناول كانط الأطروحة التي قدمها في بداية النص: ليس بسبب ضعف اذهانهم أن البشر لا يجرؤون على استخدامها، ولكن بسبب الخوف. ويعمل أولياء أمورهم على تعزيز هذا الخوف. يوضح كانط أن البشر يبالغون في المخاطر التي يعرضون أنفسهم لها من خلال "الخروج من محيطهم". الأطفال أنفسهم، عندما يتعلمون المشي، غالباً ما يتعرضون لسقوط ليس له عواقب خطيرة. كما يصر كانط هنا على أهمية التجربة الشخصية: لا يمكن لأحد أن يفكر أو يسير في مكاننا. الحرية لها ثمن ولا يمكن لأحد أن يعفي الآخرين منه. لذلك يجب علينا أن نتغلب على الخوف من التفكير بأنفسنا وألا نسمح لأنفسنا بالإحباط بسبب "السقوط". ولا ينبغي للخوف الناتج أن يثنينا عن المحاولة مرة أخرى. ومن الصعب على كل فرد منفرداً أن يهرب من الأقلية لسببين:

أ) تميل حالة القاصر إلى أن تصبح عادة، "طبيعة ثانية"، لدرجة أنه أصبح غير قادر على استخدام فهمه الخاص.

ب) لم يسمح له أحد بتجربته. يؤكد كانط على حقيقة أن المؤسسات الإنسانية، والصيغ والمبادئ التي تنبثق عنها، تميل إلى معارضة استخدام الحرية الفردية، بنوع من الجاذبية الطبيعية. هذه المؤسسات وهذه الصيغ تأتي من الاستخدام السيئ للعقل. يمكننا مقارنة الفقرة الثالثة من النص برمز كهف أفلاطون، في الجمهورية، الكتاب السابع: الناس أسرى قيود الرأي ويجب عليهم بذل جهود مضنية لتحرير أنفسهم منها. لقد أوضح أفلاطون، كما يفعل كانط، أنهم راضون عن حالتهم لأنهم اعتادوا عليها وأن أي تغيير فيها هو مصدر إزعاج. وبالتالي فإن البشر الذين انتزعوا أنفسهم من حالة القصور (الذين حرروا أنفسهم) هم قليلون بالنسبة لكانط مثل أولئك الذين، في أسطورة الكهف، ابتعدوا عن الرأي (doxa) ليتجهوا نحو الأفكار والمثل والحقائق والمبادىء. ان الأسباب الداخلية للعبودية: هي الخوف، العادة، الامتثال... تجتمع عند كانط، كما عند أفلاطون، مع الأسباب الخارجية والمؤسسات والمبادئ، والأسباب الخارجية لعبودية الإنسان التي تعزز الأسباب الداخلية (اليوم سنتحدث عن "التغذية الراجعة" " كعملية تدجين). ان المؤسسات والمبادئ هي "أدوات ميكانيكية لاستخدام الكلام". كلمة "آلية" تعني عكس كلمة "مدروس"، حرة، شخصية. إن التصرف بطريقة ميكانيكية يعني تقليد الآخرين (عدم السعي إلى معرفة الذات)، وهو يعني الاستعباد للمؤسسات والمبادئ (سيتحدث فرويد عن جمود "الأنا العليا")، وهو يعني التكرار مثل الببغاء للأشياء. التعاليم، دون أن نتحمل عناء فحصها (اشتقاقيًا لتمريرها عبر منخل العقل). إن البشر الذين انتزعوا أنفسهم من حالة القاصرين قليلون العدد، ولكن يجب أن يكونوا، وفقًا لكانط، المرشدين الحقيقيين للإنسانية: "لأننا سنلتقي دائمًا بعدد قليل من البشر الذين يفكرون بمفردهم بين الأوصياء المرخصين (المعينين) ) من الجماهير والذين، بعد أن يتخلصوا من نير الأقلية، سينشرون روح التقدير المعقول لقيمتهم الخاصة ودعوة كل إنسان إلى التفكير بنفسه" (فقرة 4). فكما يجب أن نعلم الطفل المشي، فمن غير الممكن أن نفكر بأنفسنا؛ يجب أن نساعد، ليس من قبل المعلمين الذين يسعون إلى استعبادنا، ولكن من قبل المرشدين الذين يرغبون في تنويرنا. لقد تم تنوير هؤلاء المعلمين منطقيًا من قبل آخرين، ولا شك أن كانط يفكر في سلسلة طويلة من المفكرين الذين ميزوا تاريخ الفكر منذ بداياته في اليونان القديمة: فلاسفة مثل أفلاطون، ولكن أيضًا علماء الرياضيات وعلماء الهندسة مثل إقليدس أو فيثاغورس الذين سوف يستحضرهم في مقدمة الطبعة الثانية من نقد العقل الخالص. ولذلك فإن المفكرين والفلاسفة والعلماء لديهم مسؤولية داخل المجتمع، بل ومهمة تتمثل في مكافحة الخرافات والأحكام المسبقة، وتنوير الآخرين ومساعدتهم على الهروب من العبودية. لكن كانط كان حريصًا على الإشارة إلى أن تقدم عصر التنوير لا يحدث في يوم واحد، وأنه ثمرة تاريخ طويل وجهود متجددة باستمرار: "كما أن الجمهور لا يمكنه الوصول إلى الأنوار إلا ببطء". لا شك أن كانط، الذي كان معاصرًا للثورة الفرنسية، شعر بأن أحداثًا تاريخية مهمة كانت جارية، لكنه اعتقد أن الثورة السياسية لا تؤدي بالضرورة إلى تطور فكري وأخلاقي (إلى "إصلاح حقيقي لطريقة التفكير"). هكذا يقدم القسم 5 مفهومًا جديدًا: مفهوم الحرية: “الآن، بالنسبة لهذه التنويرات، لا يوجد شيء مطلوب سوى الحرية؛ وفي الواقع، الحرية الأكثر ضررًا من بين كل ما يمكن أن يحمل هذا الاسم، أي استخدام المرء لعقله بشكل عام  في المناطق." وسوف يميز أيضًا بين استخدامين للعقل: "الاستخدام الخاص" و"الاستخدام العام". "هناك سيد واحد فقط في العالم يقول: "فكر بقدر ما تريد وفي كل ما تريد، ولكن أطع!": يلمح كانط إلى "الاستبداد المستنير لفردريك الثاني ملك بروسيا ويذهب إلى حد تسمية عصر التنوير "قرن فريدريك". وسيشرح هذه الإشارة التي سنعود إليها في نهاية النص. يُجري كانط تمييزًا مهمًا للغاية ضمن مفهوم الحرية المُعرّف على أنه استخدام العقل، بين "الاستخدام الخاص" و"الاستخدام العام": "أنا أفهم من خلال الاستخدام العام لعقلنا ما نعتبره باحثًا أمامنا". لجمهور القراءة (المثقف) بأكمله... أنا أسمي الاستخدام الخاص هو ما يحق للمرء أن يفعله بعقله في منصب مدني أو وظيفة محددة موكلة إليه." يجب أن يكون الاستخدام العام لعقلنا حرًا، وهذه الحرية مفيدة لأنها "وحدها قادرة على جلب التنوير بين البشر". الاستخدام الخاص للعقل محدود بالضرورة بالضروريات المرتبطة بعمل المجتمع (الحفاظ على النظام الاجتماعي). «هنا لا يجوز العقل، بل هي مسألة طاعة». لا يجب على البشر، وفقًا لكانط، التشكيك في النظام الاجتماعي من خلال رفض الطاعة، لأن المجتمع يعمل كآلة يكون كل عضو فيها ترسًا. يتطلب أداء المجتمع "الإجماع المصطنع" وسلبية أعضائه (أو على الأقل جزء منهم) في الاستخدام الخاص لعقولهم. ومع ذلك، فإن نفس الشخص، بشرط أن يفعل ذلك بطريقة مناسبة ومدروسة، يمكنه الإدلاء بملاحظات علنية حول الاختلالات في المجتمع. يأخذ كانط مثال المواطن الذي يعتقد أن الضريبة غير عادلة. باعتباره شخصًا عاديًا، لا يحق له عدم دفع الضريبة، لكنه يستطيع أن ينتقد علنًا "الحماقة أو حتى الظلم الذي يترتب على مثل هذه الإملاءات". ويذكر أيضًا حالة الضابط الذي يجب عليه، أثناء ممارسة وظيفته، أن يطيع الأوامر الصادرة إليه، ولكن يمكنه، بصفته خبيرًا، أن ينتقد علنًا، كتابيًا أو بأي طريقة أخرى، أي خطأ في القيادة. سوف يتناول هنري ديفيد ثورو هذه المشكلة بعد قرن من الزمان، في أطروحته حول العصيان المدني التي يرفض فيها (دون أن يذكر كانط) التمييز الكانطي بين الاستخدام العام والاستخدام الخاص للعقل: للمواطن الحق، بل واجب، ألا يفعل ذلك. دفع الضرائب حتى تقوم دولة المرء بإلغاء الممارسة التي يختلف معها الشخص بشدة (في هذه الحالة العبودية). ويأخذ أيضًا مثال الكاهن الذي، كشخص عادي، ملزم بتعليم حقائق الكنيسة التي تم قبوله فيها، ولكن كعالم، "يتمتع بالحرية الكاملة، بل وأكثر من ذلك مهمة إيصال جميع أفكاره المدروسة وحسنة النية للجمهور حول ما هو غير صحيح في هذا الرمز وتقديم مشاريعه إليه بهدف تنظيم أفضل للأمر الديني والكنسي. كما استخدم كانط كلمة "رمز" وليس كلمة "الحقيقة" لاستحضار الحقائق الدينية. وفي الديانة الكاثوليكية، تسمى هذه العقيدة "عقيدة الرسل". نرى مدى ابتعاده عن فكرة الاعتقاد الأعمى أو حتى عن فكرة أن الفلسفة (العقل) يجب أن تكون بمثابة المساعد أو الخادم للاهوت. وفي كتيب آخر: الدين في حدود العقل، سوف يفضح كانط الفرضية التي بموجبها لا يمكن إجبار أي شخص على الإيمان بـ "الحقائق" التي تتعارض مع العقل. ان "المجتمع الكنسي" ليس له ما يبرره قانونًا في أداء القسم على رمز ثابت لأنه، بالنسبة لكانط، لا توجد "حقائق أبدية". ويضيف كانط، أنها ستكون "جريمة ضد الطبيعة البشرية" هدفها الأصلي هو تقدم التنوير، أي إمكانية اكتشاف أن ما نعتبره حقيقة في الوقت الحاضر يمكن اعتباره لاحقًا خطأ. إن "محك" كل ما يمكن أن يقرره شعب على شكل قانون يكمن في السؤال التالي: "هل يوافق الشعب على أن يمنح لنفسه مثل هذا القانون؟" وبعبارة أخرى، هل يوافق الشعب على أن يمنح لنفسه بحرية قانونًا يلزمه بالإيمان بحقيقة ثابتة؟ يجيب كانط بالنفي، وإلا "لفترة محددة وقصيرة، في انتظار قانون أفضل، بهدف إدخال نظام معين". وهنا نجد حرص كانط على التوفيق بين الحرية والنظام، ولكن الحرية هي التي يجب أن تسود. ان السلطة التشريعية للملك لا تأتي من الله (الملكية بالحق الإلهي)، ولكن من حقيقة أن "الملك يجمع الإرادة العامة للشعب في إرادة خاصة به". يقع "الاستبداد المستنير" في المنتصف بين ملكية الحق الإلهي التي نظر إليها بوسويه والنظام الجمهوري (أو الديمقراطي) الذي تكون فيه السيادة للشعب كما نظر إليها روسو في "العقد الاجتماعي". ليس على الملك التدخل في الشؤون الدينية: "شريطة أن يضمن أن أي تحسن حقيقي أو مفترض يتوافق مع النظام المدني، يمكنه بالنسبة للباقي أن يسمح لرعاياه بأن يفعلوا بمحض إرادتهم ما يجدون أنه من الضروري تحقيقه من أجلهم". إن خلاص نفوسهم ليس من شأنه، بل من شأنه أن يضمن ألا يمنع البعض بالقوة الآخرين من العمل لتحقيق هذا الخلاص والإسراع به بكل ما في وسعهم من قوة. هنا يضع كانط أسس ما نسميه اليوم "العلمانية"، أي مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة. ولذلك يرفض كانط مفهوم الملكية المطلقة للحق الإلهي كما تم تجسيده في فرنسا في القرن السابع عشر على يد الملك لويس الرابع عشر. «إن قيصر ليس فوق النحويين». : على الملك أن يثق بالمؤمنين والعلماء والفلاسفة والفنانين، وأن يمتنع عن التدخل في هذه المجالات التي، رغم أنه يملك السلطة العليا فيها، فإنه ليس بكفاءة أكبر منهم." إن الحرية الدينية، التي تشكل اهتماما أساسيا عند كانط، تتوافق، حسب رأيه، مع "الاستمرارية العامة" و"وحدة الشيء المشترك"، بمعنى آخر، يجب ألا نبني النظام الاجتماعي على الدين؛ يجب ألا يكون هناك "دين الدولة". إلى جانب الدين، هناك مجالات أخرى يمكن ويجب على البشر أن يمارسوا فيها حريتهم في الحكم وهي الفنون والعلوم. يجب على الملك أن يتدخل في هذين المجالين بشكل أقل من تدخله في الدين، تحت طائلة "إهانة" نفسه. ويمكن أن تمتد حرية الحكم إلى مجال تشريعات الدولة. "فقط من هو مستنير، لا يخاف الظل (الأشباح)، في حين أن لديه جيش كبير ومنضبط لضمان الهدوء العام، يمكنه أن يقول ما لا يمكن أن تجرؤ عليه دولة حرة: "فكر بقدر ما تريد وعلى أي شيء". "الرعايا الذين تحبهم، لكن تطيعهم!" إن الإشارة إلى "الجيش الكثير والمنضبط" تتيح لنا أن نفهم أنه من الواضح أنه فريدريك الثاني بروسيا، النموذج البارع لـ "الطاغية المستنير". "كل شيء تقريبًا متناقض في النظام الاجتماعي الذي يُنظر إليه ككل: فالدرجة الأعلى من الحرية المدنية تبدو مفيدة لحرية روح الشعب ومع ذلك تفرض عليها حدودًا لا يمكن التغلب عليها." "فكر بقدر ما تريد وفي أي موضوع تريده، ولكن أطع!" : حرية العقل للناس محدودة بواجب إطاعة القوانين. ان "الاستبداد المستنير": يتم تكثيف التناقض في هذا التناقض، لأنه الاستبداد: الحد من الحرية الخارجية، وواجب الانصياع للقوانين المعقولة التي يصدرها الملك "يجمع الإرادة العامة للشعب في إرادة خاصة به" وهو ما يسمح بالحرية الفكرية مع الحفاظ على النظام الاجتماعي. إن إمكانية التفكير الحر تنمي بذرة الفكر الحر وتؤثر تدريجياً على قدرة الناس على التصرف بحرية. ومن هذه اللحظة فصاعدا، لا يصبح الإنسان أكثر من مجرد ترس في الآلة الاجتماعية، وتجد الحكومة أنه من المربح أكثر أن تعامله بالكرامة التي يستحقها. لقد ميز أرسطو الوجود الممكن (أو النواة) عن الوجود الفعلي. البلوط، على سبيل المثال، هو البلوط "في الإمكانات" (أو البذرة"). لقد أطلقت الطبيعة (وليس الله) في الإنسان بذرة الفكر الحر. وتهدف هذه النواة إلى تجاوز آليات الغرائز، ثم الآليات الاجتماعية التي تميل إلى إبقاء الإنسان في حالة الطفولة والحيوانية. "هل نعيش حاليا في قرن مستنير؟" يسأل كانط. فيجيب: «لا، ولكن في قرن يتجه نحو التنوير». فكرة الوجهة الطبيعية للإنسان موجودة في كتاب آخر من عام 1784 بعنوان التاريخ العالمي من وجهة نظر سياسية عالمية: "أرادت الطبيعة أن يستمد الإنسان بالكامل من نفسه كل ما يتجاوز الترتيب الميكانيكي لوجوده الحيواني وأن يشارك فيه". ولا سعادة ولا كمال آخر غير تلك التي خلقها لنفسه، متحررًا من الغريزة، بعقله الخاص. كما عرّف كانط التنوير بأنه "خروج" للإنسان من أقليته، وباعتباره ممارسة حرة للعقل. وستكون شروط هذا التمرين موضوعا لثلاثة اشكال من النقد (نقد العقل المحض، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم) تجيب على الأسئلة الأساسية الثلاثة (الأسئلة التي تتلخص، عند كانط، في سؤال واحد: " ما هو الإنسان؟): ماذا يمكنني أن أعرف؟ (حدود العقل والشروط الشرعية لاستخدامه)، فماذا يجب علي أفعل – المبادئ العقلية للفعل الاخلاقي؟ ماذا يجوز لي أن آمل- الدين العقلاني والرجاء؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

تعبر المشاعر عن الفهم العاطفي للأشياء من حولنا. لما نحمله من أحاسيس ومواقف اتجاه الموضوعات.

وتعني الإنسانية القيم الأخلاقية والجوانب الإيجابية والقواسم المشتركة بين الناس التي تظهر فيها انسانيتهم وشعورهم الجميل اتجاه بعضهم باختلاف هذا الشعور لدى الافراد.

كما يرتبط الشعور الانساني بالجانب الأخلاقي والقيم العليا كالحق والخير والجمال، وهذا ما أكد عليه الفيلسوف ايمانويل كانط اذ رأى بأن الإنسانية هدف الاخلاق وأساس فكرة الواجب، لأن المفاهيم العليا هي التي تحدد المعنى الانساني للناس، وكون ما هو لا إنساني جزء من الإنسان، فالحق مضاد للباطل، والشر مضاد للخير، والقبيح مضاد للجمال، وهذا كان معنى الانسانية في تصورات الفكر الأولى.

إذ اخذ معنى الإنسانية الطلاق والشمول في الفهم، ولازال كذلك يتصوره الأغلب، ألا أننا نجد معناه متغير غير ثابت، ففي كل عصر معنى للإنسانية كونه مرتبط بالمشاعر، كذلك خاضع للعوامل الخارجية والظروف الداخلية لكل فرد، والبيئة والثقافة التي تسود في جغرافية ما، فالذي يرسم معالم الإنسانية ليس الإنسان، بل نسق و بنية تحكم العصر والمجتمع، قد يكون الدين، وقد تكون أيديولوجية، أو عادات وتقاليد، وقد تكون التكنولوجيا. لذلك نحن لا نملك مشاعرنا.

وقد ظهر مفهوم الإنسانية في القرن التاسع عشر للدلالة على منجزات وافكار عصر النهضة، وتقدم الإنسانية في العلوم والفن والأدب والجمال، لذلك ارتبطت معاني الإنسانية بالعلمانية والتقدم ورفض المعاني الدينية. لذلك كان ينظر لهذه الحركات نظرة ريب كون أن عقل الناس تعود على احتكار الدين لمعاني الحياة والفكر.

إذن فالمشاعر الإنسانية متصيره في المعنى، ويخضع فهمها للمعرفة والثقافة والسلطة، والحالة النفسية، وتظهر في كل ما نفعله ونتفاعل معه، فليست كل محبة ذات معنى انساني كما يفهما الأغلب، بل إن الكره جزء مهم من وجود الإنسان كونه كائن غريزي عاطفي في اختياراته ومشكلاته وتعامله مع الاخر، كما أن المحبة يمكن أن تختل انسانيتها عند ما تخضع للمجاملة والتعصب والأفكار المنحرفة. لذلك لجئ الإنسان إلى فهم ذاته وتحولاتها، وقلب كل ما هو لا إنساني إلى شيء إنساني من خلال الفنون والجماليات.

فالتساؤل الذي يمكن أن يطرح، ما الذي يُحدد المشاعر والسلوكيات بالمعنى الإنساني؟

ويمكن الاجابة عن ذلك، بأن المعنى الإنساني لا يمكن ان يحدد من خلال الفعل أو التفاعل بين الأنا والآخر، بل المعنى كامن في النية والدوافع الإنسانية، وعلى الرغم من أن تلك الدوافع ذاتية، ألا أنها تكتسب معناها العام من التفاعل معها من قبل المجتمع.

اذ تُرسم ملامح الإنسانية تحت سطوة سلطة المجتمع، فما اتفق عليه أنه إنساني فهو إنساني لمجتمع ما، وما اتفق عليه أنه لا إنساني فهو لا إنساني وخير دليل على ذلك ما يحدث حول أمر ما في منصات التواصل الاجتماعي، فالمعنى الإنساني يرتبط بالثقافة والهوية لا بالحقيقة، التي حددتها القيم العليا. وهذا ما أكده عالم الاجتماع والفيلسوف اوجست كونت بأن الإنسانية تشكل كائناً جماعياً يتطور مع الزمن.

وترى هلينا كرونين من خلال مشاركتها في كتاب (الانسانيون الجدد) من تحرير جون بروكمان، أن الطبيعة البشرية ثابتة، أنها طبيعة كلية، وغير متغيرة ومشتركة عند كل طفل يولد، بما يسري خلال كل تاريخ نوعنا، أما السلوك البشري الذي يتولد عن هذه الطبيعة فهو متباين ومتنوع إلى مالا نهاية، فإذا أردنا أن نغير سلوك ما، ما علينا إلا أن نغير البيئة. أذن طبيعة الإنسانية تنقسم إلى قسمين: فطرية وأخرى مكتسبة.

فالمعاني الإنسانية من كرم وإيثار واحترام وشجاعة وعفة وشرف معاني متفاوتة بين الناس والأمم بسبب طبيعة اختلاف تبني الأفكار والثقافات والهويات، كما أن التطور التكنولوجي والتواصل الرقمي سمح للناس بالتعرف على طبيعة تلك الاختلافات، واكتشاف أهم المشتركات بين الشعوب بعيداً عن السياسات والايديولوجيات، وهذا ما ظهرلنا في أزمة كورونا، وكذلك في القضية الفلسطينية.

فالإنسانية بالمعنى الأيديولوجي تعتمد السببية، وفي المعنى الديني تعتمد الأمور الصالحة، أما في عند الإنسان متجردا من كل فكر وهوية، فهي المشاعر الجمالية الخالصة.

***

كاظم لفتة جبر

والالتزامات التفاعلية بين الفكر التحليلي والفكر القاري

نقدم كتاب ويليام إيجينتون ومايك ساندبوت، التحول البراجماتي في الفلسفة: التفاعلات المعاصرة بين الفكر التحليلي والقاري، مطبعة جامعة ولاية نيويورك، 2004، 262 صفحة.إن أغلب المقالات في هذا المجلد جُمعت سابقاً في كتاب ساندبوت "نهضة البراجماتية" (2001). وقد تُرجمت هذه المقالات أو أعيد طبعها الآن، وفي بعض الحالات عدلها المؤلفون استجابةً للنوع نفسه من التبادل الذي حفز المجلد الأصلي والذي يأمل المجلد الحالي أن يستمر. ووفقاً لمقدمة المحررين فإن الكثير على المحك في التأكيد المتجدد الحالي على البراجماتية. فهي تبني جسوراً بين الفلسفة التحليلية والفلسفة القارية، وكذلك بين الفلسفة والنظرية الأدبية. كما أنها تطور حججاً ضد نظرية المعرفة التمثيلية، وفي القيام بذلك تبحث عن لغة مشتركة يمكن أن تخدم "فلسفة القرن القادم" "المسكونية" و"العابرة للقارات" وعابرة للتخصصات. إن الإمكانات المسكونية للبراجماتية الجديدة مبالغ فيها، كما يوضح هذا المجلد نفسه. إن بعض المزاعم الأساسية التي تطرحها هذه البراجماتية الجديدة قد تثير اهتمام عمداء الجامعات، وقد تزعج طلاب الدراسات العليا الذين يبدو أنهم مضطرون إلى الاختيار بين قراءة هيجل وهيدجر أو إتقان المنطق الرمزي. ومن غير المعقول أن يهتم المرء بالقيام بكلا الأمرين، حتى بالنسبة لهؤلاء الكتاب الجدد المسكونيين. ذلك أنهم يعترفون في النهاية بأنه على الرغم من كل الحديث عن بناء الجسور، فإن الانقسام بين الفلسفة "القارية" و"التحليلية" من غير المرجح أن يلتئم. ولكن ما يبرز هنا هو نقاش مثير للاهتمام ودقيق حول التوترات الداخلية والاتجاه المستقبلي للنقد البراجماتي للتمثيلية. إن الرؤية الموحدة في الخلفية هي رؤية ريتشارد رورتي، وفكره وجاذبيته الحالية بين الفلاسفة في ألمانيا يشكل العمود الفقري لهذه المجموعة. وباستثناء مساهمات هيلاري بوتنام، وآرثر فاين، وأنتيج جيملر، فإن كل المقالات الأخرى في هذا المجلد عبارة عن تعليقات متعاطفة إلى حد ما على أفكار رورتي. ويستعرض مقال رورتي نفسه انتقاداته المألوفة للفلسفة التحليلية ويحدد آماله في يوم يتم فيه التخلي عنها. ولن يتحقق ذلك اليوم من خلال حجة جديدة ضمن برامج البحث التي أنشأتها الفلسفة التحليلية؛ ولن تتمكن أي كمية من التأمل الدقيق والمفصل في وضع ادعاءات الواقعية العلمية، على سبيل المثال، من إنتاج "المآثر الخيالية العظيمة" المطلوبة للتقدم الفلسفي. وبدلاً من ذلك، فإن الفلاسفة "ينتظرون معلماً روحياً"، وهو ما يصر رورتي على أنه "أمر محترم تماماً". ولكن هذا ليس كل ما يفعلونه. إننا نستطيع أن نجد بالفعل إشارات إلى هذا المعلم الروحي في أعمال آرثر فاين، وروبرت براندون، ودونالد ديفيدسون. فهم يتفقون على أننا "لا ينبغي لنا أن نكون واقعيين ولا مناهضين للواقعية"، وبالنسبة لرورتي فإن هذا الإجماع يمثل "اختراقاً إلى عالم فلسفي جديد". بطبيعة الحال فإن العالم الفلسفي بالنسبة لفاين وبراندون وديفيدسون لا يتألف من الرفض السلبي المحض للمناقشات التقليدية حول الواقعية. بل إن كلاً من هؤلاء الفلاسفة يبين لنا، كل بطريقته الخاصة، كيف يمكننا أن نتصور التزاماتنا المعيارية تجاه عالم من الأشياء الموجودة دون الوقوع في النمط الديكارتي في وصف علاقتنا بهذا العالم. إن المعايير التي تحكم صحة ادعاءاتنا، بما في ذلك الادعاءات الوجودية، في العلم بقدر ما هي في اللاهوت، تنبع من الالتزامات المادية المتأصلة في ممارساتنا اللغوية، أو في التوافق الشامل لشبكة معتقداتنا. أو كما يزعم آرثر فاين في خطابه الرئاسي للجمعية الأميركية للطب النفسي، والذي أعيد طبعه في هذا المجلد، يمكننا أن نجد هذه المعايير في الموضوعية الضمنية في إجراءاتنا للتعامل مع منتجات الاستقصاء. وفي كل حالة، نستغني عن مشاكل نظرية المعرفة الديكارتية، حتى نتمكن من التخلص من الانشغال بتلك الأسماء الفلسفية التي يحب رورتي استخدامها بأحرف كبيرة من أجل التنديد بوضعها شبه الصوفي: الحقيقة، العالم، الواقع، الطريقة التي تكون عليها الأشياء حقًا، وما إلى ذلك. إن رورتي يحاول في كثير من الأحيان استخدام نقده البراجماتي للفلسفة التحليلية ليقترح ما يبدو وكأنه تغيير بسيط في الموضوع. فبدلاً من الحقيقة أو الواقعية، ينبغي للفلاسفة أن يهتموا أكثر بالليبرالية السياسية أو الضمائر المعذبة. ويوضح هذا المجلد أن قِلة من زملائه البراجماتيين الجدد على استعداد للتخلي عن انتقاد الموضوعات القديمة. ويوضح باري ألين السبب وراء ذلك. فهو يشير إلى أن الأمل ليس نقيض المعرفة ولا بديلاً عنها؛ بل على العكس من ذلك، فهو يحتاج إلى دعم المعرفة. ويشير ألين إلى أن اقتراح رورتي بالتخلي عن الأخيرة والتحول إلى الأولى يرتكز على انكماشيته العدوانية المفرطة فيما يتصل بموضوعات نظرية المعرفة التقليدية. وربما يكون ألين قد قرأ الكثير في المبالغة البلاغية، كما يشير لودفيج ناجل. ويشرح ناجل الانتقال من العقل إلى الأمل في كتاب رورتي وجيمس. ومن خلال التأكيد على "أولوية العملي"، تعمل البراجماتية على نقل البعد الموجه نحو المستقبل من التجربة الإنسانية إلى دائرة الضوء الفلسفية. إن النقطة هنا ليست أننا يجب أن نتوقف عن الحديث عن العقل وما يمكننا أن نعرفه، وأن نتحدث بدلاً من ذلك عن الأمل وما ينبغي لنا أن نفعله. بل إن البراجماتية تهدف إلى إظهار أن العقل والمعرفة يستندان إلى السلوك العملي، وبالتالي فإنهما يوجهان المستقبل بطبيعتهما ولا يمكن اختزالهما؛ وإذا فهمنا الأمر على النحو الصحيح فإننا نعتبرهما قريبين من الأمل. وبالتالي، وبصراحة شديدة، لا يمكننا أن نسعى إلى المعرفة دون وجود تصور ما لليوتوبيا في الخلفية. ولعل أولوية الجانب العملي تشكل الرابط الأعمق بين البراجماتية الأميركية وظاهراتية هيدجر التأويلية، لذا فإن مقال ناجل يفتح آفاق بناء جسر إلى القارة. وهو واحد من ثلاثة مقالات فقط في هذا المجلد تقوم بهذا على نحو فعال. إن جوهر ادعاء ألين، بأن البراجماتية الجديدة لابد وأن تبذل المزيد من الجهد لتبرير مواقفها الانكماشية إذا كانت تريد أن تكسب الحق في قلب الفلسفة الأنجلوفونية التقليدية رأساً على عقب، قد تطور بشكل أكثر دقة في المقالات التي كتبها ألبرشت ويلمر، وولفجانج ويلش، وجوزيف مارغوليس، وهيلاري بوتنام. فقد أعادوا الحقيقة والمعايير والتمثيلات والواقعية إلى مسرح البراجماتية الجديدة، وبالتالي سلطوا الضوء على مدى صعوبة قبول حتى أكثر المطالبات المركزية للبراجماتية الرورتية. في هذا الصدد يشير ويلمر، على غرار البراجماتيين المتعاليين الألمان مثل يورجن هابرماس وكارل أوتو آبل، إلى أن الحقيقة تشكل نقطة محورية في التحليل الفلسفي حتى بدون استخدام حرف كبير. ويهدف البراجماتيون إلى تحويل الأسئلة حول حقيقة الادعاء إلى أسئلة حول تبرير الادعاء، أو، على حد تعبير سيلارز وبراندون، إلى أسئلة حول الفضاء الاجتماعي للأسباب. وفي القيام بذلك، يؤيدون نظرية انكماشية للحقيقة. فالمحتوى المزعوم يكون صادقًا على وجه التحديد عندما يتم تأكيد هذا المحتوى وبالتالي يتم تبنيه في ممارسة تقديم وطلب الأسباب. وفي مواجهة هذا الموقف، يزعم ويلمر أن فكرة معايير التبرير تشير ضمناً إلى "ادعاءات حقيقة متجاوزة للسياق وعابرة للذات". ويشير ويلمر، مستعينًا بفيتجنشتاين، إلى أن بعض الادعاءات يجب أن تظل ثابتة حتى يتمكن مجتمع الباحثين من التساؤل أو الشك أو التبرير. إن هذا الثبات هو معياري، ولكن ليس بنفس الطريقة التي تحكم بها المعايير التي تحكم التبريرات داخل الإطار. إن بعض معايير الحقيقة المعصومة من الخطأ والمستقلة عن السياق تعمل كشرط لإمكانية وجود مساحة الأسباب، وبالتالي يجب أن تفترضها البراجماتية المتسقة. تفترض الانكماشية هذه المعايير، لكنها لا تستطيع التعبير عنها. في هذه الحجة، قد يقلل ويلمر من تقدير مرونة قابلية الخطأ الجزئية لرورتي ديفيدسون؛ في حين أن جميع معتقداتنا عرضة لإعادة نسج شبكة المعتقدات باستمرار، لا يمكننا تغييرها كلها دفعة واحدة. كما زعم فيتجنشتاين، لا يوجد شيء في المعتقد نفسه يحدد أنه ثابت؛ ما هي المعتقدات التي تصادف أنها ثابتة بالنسبة لثقافة ما تخبرنا بالكثير عن الثقافة، وليس المعتقدات. ومع ذلك، تُظهر ورقة ويلمر أن المشاكل التي تحاول البراجماتية تركها وراءها برفضها لنظريات المطابقة للحقيقة يمكن إعادة إنتاجها داخل الموقف البراجماتي. في حين يتفق رورتي وبراندون مع عكس هيجل لالتزامات كانط الموضوعية، يمكننا أن نقول إن ويلمر يعيد تقديم وجهة النظر الكانطية إلى المشهد البراجماتي. كما يحلل ولفجانج ويلش بنية ومكانة الحجج في كتابات رورتي. ومن المثير للاهتمام أن استنتاجه يتوازي بشكل عميق مع استنتاج ويلمر. تقدم براجماتية رورتي الجديدة نفسها باعتبارها "نوعًا من الكتابة" حيث يحل الإقناع الخطابي محل الحجة، لكن قوة خطاب رورتي المناهض للفلسفة تعني المعايير ذاتها التي تجعل الحجج التقليدية ممكنة. يميز ويلش بين مفهوم أساسي للحجة، يفترضه أسلوب رورتي "المناهض للحجة"، ومفهوم أكثر مرونة للحجج باعتبارها ألعابًا لغوية على غرار ليوتار. وفقًا للمفهوم الأساسي، لا يمكن أن تتم الحجج إلا على أساس مفردات مشتركة، وأساليب، ومعايير للأدلة، وما إلى ذلك. نظرًا لأن رورتي يريد منا التخلي عن المفردات الأساسية للفلسفة التمثيلية، فإنه يعتقد أنه لا جدوى من محاولة الجدال لصالح هذا التحول، لأن أي حجة من هذا القبيل ستكون ملتزمة بالأساس ذاته الذي تهدف إلى رفضه. بدلاً من ذلك، يجب علينا ببساطة التوصل إلى أوصاف جديدة دون افتراض أن مفرداتنا المتخيلة حديثًا أفضل بأي حال من الأحوال، أو نهائية. يشير ويلش إلى أن نموذج المحادثة التي أقرها رورتي لها بنيته الجدلية الخاصة، والتي تمكن "الحجة بين المفاهيم". قد لا تشترك الأوصاف الجديدة للبراجماتيين في الافتراضات الأساسية لوجهات النظر التمثيلية، لكن وجهتي النظر تشتركان بالتأكيد في بعض العناصر، مثل الالتزام بالاتساق والترابط، وبعض الهياكل المنطقية، وعدد قليل من مجالات المحتوى المشتركة. فلسفة المحادثة التي يتصورها رورتي ليست مجرد محادثة؛ إنها تستمر في استخدام العقل وتحركاتها البلاغية تروق للميل الفلسفي القياسي لاكتشاف الحقيقة بقوة الحجة الأفضل. إن أغلب ما يعاد إحياء البراجماتية يركز على المناقشات حول رفض الواقعية. وفي تطويره لمفهومه عن الواقعية الداخلية، ينتقد بوتنام رورتي بشدة لإصراره على ضرورة التخلي عن فكرة مفادها أن العلم قادر على "تصحيح" العالم. ويزعم بوتنام أن هذا يقود حتماً إلى النسبية، وهو يعارضها بمفهومه عن مفهوم محدود للحقيقة ينظم كل أشكال البحث. ويرد رورتي بأن بوتنام بذلك ينزلق إلى الوضعية العلمية التي يهدف منهجه البراجماتي إلى تجنبها. ويزعم جوزيف مارغوليس أن هذا الجمود هو نتيجة لتخلف ديكارتي في لغة الفلسفة الناطقة بالإنجليزية الحديثة. ويعجز رورتي وبوتنام عن تجاوز المواقف المتطرفة للوضعية والنسبية لأنهما يواصلان طرح النقطة باستخدام مفاهيم ديكارتية للذات والموضوع. وعلى وجه الخصوص، يربط كل من رورتي وبوتنام (وديفيدسون) أنفسهما بثنائية زائفة: فإما أن تكون الوسطاء (أو "الثالثيات") بين الوعي والواقع في علاقاتية، أو لا وجود لمثل هذه الأشياء على الإطلاق. وهذا يتجاهل خياراً ثالثاً مستمداً من الاستيلاء النقدي الذي قام به هيجل على الواقعية التجريبية التي صاغها كانط. فهناك وسطاء مفاهيميون، لكنهم لا يرتبطون بالواقع؛ بل إنهم يبنونه من خلال تحويل وعينا الواقعي التاريخي. ولا يتطرق مارغوليس إلى تفاصيل هذا الاقتراح هنا. بل يلفت اقتراحه الانتباه إلى وضع المصطلح الذي تبنته البراجماتية الجديدة: فإذا كنا نريد أن نهرب من افتراضات التمثيلية، فلابد وأن نتجنب لغتها أيضاً. وهذا يتطلب منا أن نولي هيجل قدراً أعظم من الاهتمام. إن مساهمة بوتنام في هذا المجلد لا تتعامل بشكل مباشر مع واقعيته الداخلية، ولكنها مع ذلك تشارك في التبادل المثمر بين الأوراق التي قدمها رورتي ومارغوليس وويلمر وويلش. يركز بوتنام على مفهوم الحقيقة في الادعاءات الأخلاقية ويطور وجهة نظر ويليام جيمس القائلة بأن مثل هذه الحقائق تأتي إلى العالم عندما يكون هناك شخصان أو أكثر، وبالتالي تخضع لمعايير تم تطويرها جماعيًا. بطبيعة الحال، يشكك ويلمر في إمكانية وجود معيار للحقيقة الجماعية. وتتلخص استجابة بوتنام البراجماتية في أنه يمكن للمرء أن يلتزم بالحديث عن الحقيقة في الأخلاق على أساس الإجماع الأخلاقي دون الحاجة إلى تأييد نظرية ميتافيزيقية للحقيقة باعتبارها إجماعًا. يبدو أنه حتى مفهوم الحد ليس ضروريًا لنا لمناقشة التأكيدات الأخلاقية على أنها صحيحة أو خاطئة بشكل عقلاني. ويتجه مايك ساندبوت وأنتجي جيملر إلى البعد التاريخي للبراجماتية الجديدة، بما يتجاوز جذورها الواضحة في البراجماتية الأمريكية. ويتتبع ساندبوت عناصر الكليات البراجماتية الجديدة ومناهضة التمثيل إلى لحظات مختلفة من "التحول اللغوي" من راسل إلى ديفيدسون، مسترشدين بتحليل رورتي نفسه لتاريخ الفلسفة الموجهة نحو اللغة. وليس من المستغرب أن يتبين أن فيتجنشتاين وكواين وسيلارز وديفيدسون هم أبطال هذه القصة المألوفة، التي تقدمها ساندبوت هنا للقراء الذين يأتون إلى البراجماتية الجديدة من تخصصات غير فلسفية. وتحلل جيملر أولوية الممارسة كما تظهر في تحليل هيجل للوعي الذاتي. وتثبت بشكل مقنع أن البراجماتية في هيجل أكثر من تلك التي يستمدها البراجماتيون الجدد الذين يزعمون أن عباءته، رورتي وبراندون، من كتاباته. إن رورتي يقتصر في تفسيره لهيجل على المزاعم التاريخية على نطاق واسع. أما براندون فينظر عن كثب إلى إصرار هيجل على الخارجية الجوهرية للمفاهيم ويستخدمها لتأسيس وجهة نظره القائلة بأن المحتوى المفاهيمي قد استنفد بسبب الالتزامات والحقوق الضمنية في الاستخدام المشترك للمفاهيم. ولكن جيملر يزعم أن التفكير بالنسبة لهيجل ليس مرتبطاً بالنشاط العملي فحسب؛ بل إنه في حد ذاته نشاط. ولا يمكن إدراك المعنى الكامل لرفض هيجل للتمثيلية إلا عندما نرى أن التفكير هو فعل وبالتالي يؤثر بشكل تكويني على بيئته. ويتجلى هذا بوضوح في تحليل هيجل للوعي الذاتي في جدلية السيد والعبد. إن عمل العبد ليس مجرد شرط مسبق للفكر المفاهيمي والوعي الذاتي؛ فالعمل هو التحول الواعي للبيئة، وهذا، بالنسبة لهيجل، هو بالفعل كل ما يتعلق بالفكر. وفي هذه النقطة على وجه التحديد نستطيع أن نقدر بشكل أفضل الاقتراح المثمر في مقال ويليام إيجينتون. يُظهِر إيجينتون نفسه باعتباره الممارس الأكثر إخلاصًا للبراجماتية الجديدة والمؤلف الوحيد في هذا المجلد الذي يأخذ مذكرات التحرير على محمل الجد. فهو يربط بين النظرية الأدبية، وينتقل بسلاسة من رورتي إلى لاكان، ومن دينيت إلى جيجيك؛ وهو يعتنق المبادئ الأساسية للبراجماتية الرورتية دون مزيد من المعاناة بشأن معايير الحقيقة المتعالية أو التمثيلات الديكارتية. علاوة على ذلك، فهو يمارس أسلوب رورتي. وبينما يكتب البراجماتيون الآخرون في هذا المجلد نثرًا أكاديميًا تقليديًا، فإن كتابات إيجينتون تقترب من صوت رورتي العامي، وإعادة وصفه غير الرسمية والسهلة على ما يبدو، وربطه المستمر بين الموقف الفلسفي والنظرة الشخصية ("نحن البراجماتيون" في رورتي، و"البراجماتيون مثلي" في إيجينتون). يزعم إيجنتون أن تفسير لاكان للرغبة من حيث المتعة يمكن أن يخدم في التغلب على "الرفض العقائدي" لرورتي لقبول تجارب الشخص الأول الجوهرية وغير القابلة للاختزال والتي لا يمكن وصفها وبالتالي، بالنسبة للاسميين مثل رورتي، خارج المخطط الفلسفي. يهدف إيجنتون إلى إعادة وصف ما لا يمكن وصفه من خلال تجاهل فشله في تحقيق مكانة لغوية وبدلاً من ذلك يتصوره، مع لاكان، كأحاسيس جسدية، واحمرار، وانفعالات. لكننا لسنا بحاجة إلى استدعاء لاكان لإثبات هذه النقطة. كما يوضح جيملر، فإن التركيز على الجسم النشط العامل كمكان للفكر هو العنصر المركزي لمناهضة التمثيل عند هيجل. وبالتالي، عند قراءة مقال إيجنتون بالتزامن مع جيملر، فإنه يخدم في التأكيد على ادعاء مارغوليس بأن البراجماتيين الجدد لم يتعلموا بعد وضع نقاطهم في مفردات تتجاهل حقًا لغة الموضوع والذات. ولكي يتجنب البراجماتيون الجدد المشاكل التي أثارها ويلمر وبوتنام ومارجوليس، فإنهم في حاجة إلى الحديث عن الفكر المجسد.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...................

المصدر

William Egginton and Mike Sandbothe (eds.), The Pragmatic Turn in Philosophy: Contemporary Engagements between Analytic and Continental Thought, SUNY Press, 2004, 262pp

تحضر الفكرة الدينية بشكل محوري في مختلف الحضارات القديمة ما قبل الحضارة الغربية الحديثة، والحضور هنا نقصد به المرجعيات التي تؤطر تصورات الإنسان عن ذاته وعن العالم وعن المخلوقات التي تحيط به ومختلف الظواهر الطبيعية. ففي القدم سادت العقلية الإحيائية نتيجة عجز الإنسان على فهم ماهية الظواهر الطبيعية، وعبد الشمس والقمر شكرا لهما على إزاحة ظلمة الليل، وهناك من عبد مخلوقات أخرى، مثل الكبش والبقر ومخلوقات أخرى...ولكن استلاب الإنسان الذي وقع فيه بعبادته لما يرى فيه أحقية العبادة في الطبيعة، لا يتوقف عند الطبيعة ذاتها؛ بل يتطلع إلى قوى غيبية من ورائها؛ بمعنى أنه يشرك الطبيعة وظواهرها ومختلف الأسماء التي لا سلطان لها عليه؛ في عبادة الخالق إما بوعي أو بدونه.[1]

فبالنظر إلى علم الآثار، فالإنسان والدين يشكلان ثنائية لا يمكن أن تفترق، فلا الإنسان في لحظة ما من تاريخ البشرية استغنى عن الدين وعاش دونه؛ إذ أينما حل الإنسان إلا ورافقه شيء يسمى بالمعتقد، ولا الدين بتجلياته ارتبط بمخلوق آخر غير الإنسان. ولهذا، فالدين والإنسان يشكلان جدلا لا غنى لأحدهما عن الآخر. وعليه، فلا غرابة في القول إن الإنسان كائن ديني بامتياز. وقد سادت الكثير من الآراء التي أرجعت أمر نشأت الدين إلى عوامل نفسية وعقلية ارتبطت بضعف الإنسان القديم الشيد من مختلف الظواهر الطبيعية، الأمر الذي شكل لديه شعور بعبادتها وإرضائها حتى يتقي شرها.

إلا أن "الدين لا يقوم على أساس وهمي ولا على عدد من الأفكار الخاطئة التي تم تكوينها في طفولة الإنسانية، بل إنه يقوم على أكثر الأسس صلابة في وجود الإنسان. إنه الوعي الباطني بالحقيقة. وأن كل اعتقاد ديني، إنما يقوم على اختبار نفسي للوحدة الكلية للوجود في وعي بالغيب [...] إن الدين هو الحالة المثلى للتوازن مع الكون، والعبادة كيفما كانت صيغتها، وإلى من أو ماذا يكون توجهها، هي معبر إلى البقاء في الحقيقة، وحالة وجود في الواحد، حالة الوجود الحق"؛[2] إذ بإمكاننا التمييز بشكل مجمل بين اتجاهين من الدين؛ الديانة التوحيدية، والديانة الوثنية.

يتضمن القرآن خطاطة لقصص الأنبياء والأمم الغابرة، وقد نقل إلينا طبيعة الجدل القائم على مر التاريخ بين رسل الله وأنبيائه ودعوتهم إلى عبادة الواحد الخالق، وبين مختلف تصورات أقوامهم الوثنية التي تنبني على معتقدات وممارسات تتفق على عبادة الطبيعة؛ فمشكلة الكثير منهم لا تكمن في إنكار الخالق والإعراض عنه، بل في اتخاذ الوثنية طريق مثلى إليه. فدور الأنبياء والرسل بالتتابع يتجلى في تجديد العهد والمنهاج الذي يسلكه الناس في معرفة الخالق، فمع مرور الزمن ونتيجة ما يطرأ على الإنسان من وقائع وأحداث تتسع رقعة الوثنية وتختلط بالتوحيد، ليظهر رسول أو نبي أو مصلح يدعو الناس إلى طريق الهدى. وتبعا لهذا السياق، جاءت دعوة إبراهيم وموسى وعيسى. وقد قص علينا القرآن مشكلة بني إسرائيل من بعد موسى؛ فمجيئ عيسى كان بغاية الهداية وإصلاح ما أفسده بني اسرائيل.

تعتقد المسيحية بكون اليهود متورطين في قتل المسيح، وهذا سبب رئيس في كره اليهود ونبذهم من لدن المسيحية ورجال الكنيسة، مما كان سببا في مآسي إنسانية داخل أوروبا؛ فالتاريخ يحفظ لنا محنة اليهود إلى جانب محنة المسلمين زمن محاكم التفتيش في الجزيرة الإيبيرية وقد طردوا منها، وكانت وجهتهم دول شمال إفريقيا، بعد سقوط الاندلس 1492م؛ ولم يستثنهم قرار طرد أحفاد المسلمين الذين عملت إسبانيا على تنصيرهم 1609م، الشاهد عندنا هنا هو أن اليهود كانوا منبوذين في أوروبا قبل القرن 15م، والسؤال كيف تجاوزت أوروبا معضلة كراهية اليهود؟

من البديهي أن فكرة الإصلاح الديني في أوروبا لها دور كبير في هذا الأمر، بالنظر إلى مواقف مارتن لوتر (-1546م)؛ فالجديد الذي جاء به لوتر يرتبط بدعوته رجال الدين المسيحيين بأن يحسنوا التعامل مع اليهود، بهدف تقريبهم من الديانة المسيحية وتحبيبها إليهمن ولكن موقف لوتر هذا موقف مبني على مصلحة مفادها العمل على مسيحية اليهود، فضلا على كون القراءة المباشرة للكتاب بشقيه (العهد القديم والعهد الجيد) جعلت لوتر يتبنى مواقف مخالفة للكنيسة المسحية في نظرتها وتعاملها مع اليهود، وقد اعتبرت دعوته حينها انقلابا على مواقف الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تنظر إلى اليهود على أنهم حملة لدم المسيح عيسى بعدما صلبوه.[3] فبالعودة إلى كتاب لوتر بعنوان: "عيسى ولد يهوديا" سنة 1523م نجد فيه مواقف تختلف عن الموقف التقليدي، فهو يرى أن اليهود هم أبناء الله وإن المسيحيين هم الغرباء.

صحيح أن لوتر يعود له الفضل في زرع فكرة الإصلاح الديني في المسيحية الأوروبية، ولكن المشكلة هنا عند لوتر تكمن في عودته لتراث ديني في حاجة إلى إصلاح يرتبط بتراث العهد القديم، وهو إرث يعتريه النقص من كل جانب ولا يرقى ليكون كتابا مفتوح على الوجود والإنسان فحاله "حال مؤلف جماعي يلخص الأعمال والعادات، القواعد والأعراف، الأمثال والأشعار، القصص والمواعظ، أو بكلمة واحدة هي موسوعة محمولة، مكتبة في كتاب، تلبي حاجات مجموعة من قبائل الرحل. تتكلم عن رب خاص بها، ملك مملوك لها تصوره، وهو يخاطب شعبه الذي تعاقد معه بعهد لا يفتأ يذكّر به ويحذّر من مغبة تجاهله أو نقضه. فلا يزيد التذكير أتباعه ومواليه إلا تنطّعاً وعقوقاً".[4]

الرهان في فكرة الإصلاح على (العهد القديم) المؤلف الجماعي بتعبير عبد الله العروي ورط فكرة الإصلاح به كان سببا من بين الأسباب الأساسية في ولادة تكتل وتحالف عنصري بين المسيحية واليهودية، تحت عباءة المذهب البروتستانتي، رغم أن مارتن لوثر في آخر أيامه كتب كتاب "اليهود وأكاذيبهم" وعبر فيه عن خيبة أمله من اليهود وأقر بالفشل في استقطابهم لعقيدته الجديدة. ولكن ثقته بنصوص العهد القديم، جعلته يرى أن دخول اليهود في الدين المسيحي لن يتم إلا عبر عودتهم إلى القدس؛ فعودة المسيح هناك كفيلة بدخولهم في الدين المسيحي، وهذا طموح مستقبلي قد يتحقق في نظر لوتر بطرد اليهود من العالم المسيحي[5]، قوله: "غريبة الغرائب أننا إلى اليوم لا نعلم السبب في حلول اليهود بيننا، وأي شيطان جلبهم إلينا. فنحن لم نأت بهم من بيت المقدس، وفوق كل ذلك لا أحد منا يأخذ بحُجُزاتهم اليوم ليقيموا عندنا وفي أرضنا، فالطرق السريعة مفتوحة لهم إلى أي مكان يريدون أن يرحلوا إليه، ويمكنهم الانتقال إلى بلدهم في أي وقت يشاءون. وإذا هم اختاروا الرحيل عنا، فنحن مستعدون أن نقدم إليهم حسن المعونة، حتى نتخلص منهم. فهم عبء ثقيل علينا في وطننا، بل هم أشبه بالوباء والطاعون، وما رأينا منهم إلا النكبات!"[6] وبهذا يكون لوتر من جهة يكره اليهود ومن جهة ثانية يرى فيهم آمال المستقبل لظهور وعودة المسيح، وقد تقوت بذرة العنصرية المسيحية اليهودية تجاه الآخر، في المذهب البروتستانتي بعد لوثر، بفعل عوامل متعددة من بينها انخراط الكثير من اليهود في تعزيز فكرة الإصلاح الديني. ومع الأسف لم تبد البروتستانتية قطيعة قوية مع فكرة النظر إلى اليهود وهجرتهم إلى القدس كأمل كبير في ظهور المسيح في بيت المقدس.

لا نقصد هنا أن العنصرية المسيحية تجاه اليهود قد انتهت بعد أفكار لوثر، بل بقيت داخل أوروبا، وقد ظهرت مشكلة العنصر والعرق اليهودي عند اندلاع فكرة العرق والقومية داخل أوروبا في القرن التاسع عشر، وظهرت مشكلة اليهود في أوروبا وامتدت حتى القرن العشرين، ولا نظن أنها حلت بالكامل؛ ففي عام 1896م، نشر تيودور هرتزل (يهودي) نشر النص الأساسيّ للصهيونيّة السياسيّة بكتاب تحت عنوان "الدولة اليهودية" وقد أكَّد في هذا الكتاب أن الحل الوحيد للمسألة اليهوديّة في أوروبا، هو تأسيس دولة لليهود. وقد تعززت القناعات الدينية البروتستانتية وتحولت إلى واقع سياسي مع وعد بلفور 1917م. فمشكلة اليهود مشكلة أوروبية بالأساس تم تصديرها إلى خارج أوروبا، بعد اختزال الديانة اليهودية في الصهيونية المتحالفة مع الأصولية البروتستانتية، مع العلم أن اليهود في بدء الأمر كانوا ضد الصهيونية والوطن القومي.[7] في هذا السياق، نفهم مقولة الرئيس الأمريكي بايدن في 18 اكتوبر "إن لم تكن إسرائيل لأوجدناها"، وهي مقولة تعود في جذورها للعقيدة البروتستانتية في الغرب. أما اليهود والديانة اليهودية في الحضارة الإسلامية، فلم تعترضها مشكلة عبر التاريخ الإسلامي.

ففكرة الإصلاح الديني في أوروبا كرست فكرة الهروب من مشكلة واقعية حينها لليهود، إلى مشكلة أخرى تشكلت عبر الزمن مفادها طرد اليهود وتهجيرهم إلى بيت المقدس، وهي فكرة تعود إلى مارتن لوتر (-1546م) وتنسجم مع قرار تهجير حفدة المسلمين من إسبانيا 1609م، وهذا يعني أن فكرة الطرد فكرة حاضرة ومتداولة في السياق الأوروبي حينها، وهي الفكرة نفسها التي جسدها اليهود في بيت المقدس وما حوله، وكذلك هي نفس الفكرة التي أقبل عليها الغرب في تعامله مع السكان الأصليين للقارة الأمريكية.

ليس هناك فكرة واضحة عن اليوم الآخر ويوم البعث في العهد القديم، بقدر ما هناك حديث مستفيض عن علاقة الإله وتحيزه لشعبه من بني إسرائيل، وحديث عن تاريخ وملاحم هذا الشعب وأنبيائه؛ فمجمل مدارات الخطاب في العهد القديم لا تفضي إلى الإيمان بعالم آخر، وقد توقف القرآن الكريم عند هذا الموضوع في حوار مع الكتاب المقدس في مواطن عديدة؛ وأنكر على اليهود عملية إخفاء وتغييب الحديث عن ما بعد هذا العالم، الشاهد عندنا هنا أن العهد القديم يحمل بين طياته بذور الإيمان بعالم واحد، وهو العالم الذي نحن فيه دون غيره من العوالم، وهي فكرة تجسدت مع الفكر المادي وفق الأيدلوجية الماركسية.

***

بقلم مولاي أحمد صابر

..............................

* نُشر في موقع مؤمنون بلا حدود أيضا

[1] قوله تعالى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)" (الزمر) صحيح بكون هذه الآية تنقل لنا وضع المشركين من العرب، فهم لا ينكرون الخالق بقدر ما يتقربون إليه من خلال ما يشكونه في عبادته.

[2] فراس السواح، دين الإنسان، بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، الطبعة الرابعة 2002 دار علاء الدين للنشر والتوزيع.ص.391

[3] القرآن له موقف آخر مفاده قوله تعالى: "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)" (النساء)

[4] العروي عبد الله، السنة والإصلاح، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-المغرب، ط I، 2008م، ص. 79

[5] مارتن لوتر؛ اليهود وأكاذيبهم (-1546م) ترجمة محمود النجيري، مكتبة النافذة، مصر، الطبعة الأولى 2007م ص.157

[6] نفسه؛ ص.113

[7] آلان دييكوف، الصهيونية المادية لم تجذب اليهود المتدينين في البداية، ترجمة، عز الدين عناية/ نقلا عن موقع:

https://alwatannews.net/ampArticle/494731

 

اهداء إلى الاستاذ هشام حسن

الاخصائي النفسي التحليلي في مصر

 ***

السلوك الذي نتحدث به أمام الآخرين هو اللاشعور – اللاوعي، وما نريد قوله تم صياغته بتحوير مقبول، إذن اللاشعور – اللاوعي يمتلك لغة يعبر بها الفرد عما خزن في تلك القارة الكبيرة التي أحتوت كل ذكرياتنا، وطفولتنا، والحوادث التي تم خزنها والأدهى من ذلك تم التثبيت عليها وأصبحت تمثلات " وكما تقول استاذتنا " نيفين زيور" يشير مفهوم التمثل إلى تصور أو مجموعة التصورات التي تتثبت عليها الرغبة خلال تاريخ الشخص وتدون في النفس بواسطتها، ونقول تعود هذه التمثلات بمختلف الانواع من الأفكار، الصور الطفلية، أو الصور من كل مرحلة من مراحل طفولتنا المبكرة، إنها رحلة الحياة في اللغة المحكية، وكما يقول " جاك لاكان " مجدد أفكار التحليل النفسي الفرويدي طلاقة اللغة المحكية، هي أن يدع طاقات اللاشعور – اللاوعي تتجسد في إيقاع جملة العارض، وأن يمنع القارئ من تشييد كيانات نظرية سابقة لأوانها على النص الذي يقرأه، وأن يجبره على التعاون معه تعاونًا تامًا في عمل اللغة الخلاق " البنيوية وما بعدها، جون ستروك، ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة الكويتية، العدد 206،  شباط 1996، ص 166" ويقول "لاكان " أيضًا نحن مسؤولون عن لا شعورنا – لا وعينا، الذات مسؤولة عن لا وعيها – لا شعورها؟ ونقول أننا كبتناه " الكبت"  هروبًا من عالم الواقع، عالم الحقيقة ولم نجد له منصرفًا مقبول إجتماعيًا بعد أن ضاقت النفس به " يضيف لنا جاك لاكان قوله : ان بعد الحقيقة، غامض وغير قابل للتفسير، ولا شيء يُمكن من ضبط ضرورته، لأن الإنسان يتعايش مع عدم الحقيقة " لاكان، الذهانات، ص 245 " فأرسلناه دون أن ندري إلى خفايا القارة المظلمة، مخزن الذكريات وهو اللاوعي – اللاشعور ويقول سيجموند فرويد : فالمكبوت مجرد جزء من اللاشعور – اللاوعي، ربما يعود بسلوك آخر، بصورة أخرى، بطاقة ربما متجددة بمختلف الأشكال، سلوك التعصب والتدين المفرط، سلوك العدوان، سلوك العنف الموجه للزوجة بعد أن تم تثبيته في مرحلة التعلق بالأم، فكانت الزوجة شبيهة لإمه، فرفضها لاشعوريًا، لا احد يشبه أمي، أو لدى أمرأة تعلقت بابيها فكانت العودة غير موفقة في السلوك، وبالأخص السلوك الجنسي ممن أقترنت به شريكًا لحياتها، فصدرت منها مختلف أنواع من السلوك، الفراش هو الحكم بينهما في الاتفاق، أو الإختلاف، والإختلاف هو سيد الموقف ونقول : لأن الزوج ليس كما هي صورة الأب التي تم تثبيتها، وتمثلها بعد ذلك. ويقول استاذ الاجيال العلامة " مصطفى زيور" التثبيت يضع علامة وقوف للنكوص، وهو يضعف القسم المتطور من الشخصية . ويقول " فرويد " الحق أن الفرد إبتداءًا من سن البلوغ، يتعين عليه أن يكرس نفسه لعمل خطير هو تحرير نفسه من والديه، والمقصود هنا سلطة الآثار التي تركت في أنفسنا وشكلت ما تركه فينا حتى بتنا ننوء بثقل هذه الآثار في تعاملنا مع  أقرب الناس لنا، وممن يشاركوننا في حياتنا اليومية المعاشة،  وكذلك يضيف  " مصطفى صفوان " قوله : الأب هو النقطة التي من خلالها يحكمُ الشخص على نفسه، كي يُقيم الفرد نفسه، يجب أن يبتعد عن نفسه حتى يتمكن من رؤية نفسه.

يقودنا كلام " جاك لاكان " قوله : نحن لا نتعافى لأننا نتذكر، هذا هو الصحيح تمامًا لأنه يؤرقنا في حياتنا ونحن في حالة الوعي، ويرهقنا هذا التذكر لما تم خزنه وكبته  في عالم اللاشعور – اللاوعي، وربما نستدعيه في مواقف الحياة اليومية منها النكتة الجارحة، أو الهفوة المقيتة، أو زلة اللسان، ويضيف لاكان لاستكمال النص قوله : نتذكر لأننا نتعافى، إذن وضعنا يدنا على ما يؤلمنا فالتذكر مرة ثانية هو معرفة ما يؤلمنا، لتبدأ معرفة جديدة وهي معالجة ما كان يؤلمنا وسماها سيجموند فرويد معرفةٌ  بمعرفة، وقالها " مصطفى زيور " إذا عرفت أستطعت .

وفي الختام نؤكد قول "سيجموند فرويد" بأن افتراض اللاشعور – اللاوعي ضروري ومشروع، أنه ضروري لأن معطيات الشعور – الوعي بالغة النقص، فبين الأصحاء وبين المرضى نجد من الأفعال العقلية ما لا يمكن تفسيرها إلا بافتراض وجود أفعال أخرى لا يقدم الشعور – الوعي البرهان على وجودها، ولا تضم فقط هذه الأفعال هفوات الأصحاء وأحلامهم وكل ما ينتمي إلى ما يوصف بالاغراض العقلية، أو الحواز لدى المرضى، بل خبرتنا اليومية الحميمة للغاية تضعنا أمام أفكار مفاجئة نجهل مصدرها، وأمام نتاج نشاطات عقلية لا نعرف كيف تأتت، ان جميع هذه الأفعال الشعورية – الواعية تظل غير مترابطة وغير مفهومة، إذا بقينا على اصرارنا أن كل فعل عقلي مفرد يصدر عنا يجب أن يكون في نطاق الخبرة الشعورية – الواعية، بينما على العكس من ذلك يسهل علينا بيان ترابطها إذا ما قبلنا الأخذ بما يجب استنتاجه من افتراض الأفعال اللاشعورية – اللاواعية " سيجموند فرويد، اللاشعور، ترجمة فرج احمد فرج"

***  

د. اسعد الامارة

في المثقف اليوم