أقلام فكرية

أقلام فكرية

مهداة إلى صديقي الاستاذ خالد قاسم الطيار في البصرة – العراق

يقول المحلل النفسي الفرنسي " جاك لاكان " لاتوجد كلمة لكل شيء، فإذن مانقوله أو نعبر عنه بكلمات ليس هو صلب المعنى، أو الفكرة، أو الرأي، أو اتجاه الفرد الحقيقي، أو الاعلام، أو الدبلوماسية، أو لغة السياسة التي تلف وتدور متلاعبة بالكلمات.

فالكلمة التي تقال لا تصلح لكل الأفكار، لكل شيء، أو لكل الجمل، أو لكل معنى، فقول " جاك لاكان " لا توجد كلمة لكل شيء، هو صحيح تمامًا لو تعمقنا في تلك الكلمات وعمق معناها، هو اللاوعي – اللاشعور منبع الأفكار وخزين الكلمات التي تقال، وهي في الاساس قيلت ولو على المستوى المتخيل، لم تظهر للعلن، ولا حتى إلى التلفظ، فاللفظ يعني كلمات، تساؤلنا هل هذه الكلمات تدل على عمق المعنى في الكلمة ؟ رغم أننا في اللغة العربية لدينا ما يسمى فقه اللغة، هو وجود أكثر من معنى للكلمة الواحدة ولكن نعيها " في وعينا " ونعرف معناها، وهذا ما لا أقصده، بل أقصد الكلمة التي تدل على أكثر من معنى، فصحيح تمامًا لا توجد كلمة لكل شيء، الكلمة تعبر عن الشيء بذاته، وليس كل ذوات الأشياء المقصودة، ونحن نعرف أن دوال الكلمة يأخذ معاني لا نهاية لها، ودلالات مختلفة، فالكلمة دال وهي تمثل الذات نحو دال آخر، وعلمنا "لاكان" أن الدال له الاسبقية على المدلول، والدال هو المكون الواعي واللاواعي للغة الدال في التحليل النفسي، وهو العنصر المهم في الكلام، فالكلمة دال متعدد الأبعاد حسب الموقف الملفوظ به، وخلاله، وأثناء التعبير عنه، فاللفظ يأخذ في الكلمة عدة مدلولات.

ولذا فعالم الكلمات يصنع عالم الأشياء، وهو أنه يحولها إلى حضور له معنى عندما تغيب الأشياء في الواقع، وهو ما دونته الدكتورة " نيفين زيور " في كتابها جاك لاكان وإعادة ابتداع التحليل النفسي.

التخييل بوصفه نوعًا من التفكير كما يقول فرويد، التخييل اللاواعي هو الطريقة التي يحاول بها الإنسان تنظيم رغباته في مواجهة نقصه، وهو يشكل جزءً أساسيًا من هويته النفسية بوساطة التخييل أيضًا، وقول " سارتر " إنه ليس سراب في الفعل التخيلي تتغذى الرغبة من نفسها، ونقول بكلمات محددة ولكن تحمل الكثير من المعاني التي تغيب عن الإدراك.

ان عمليه الفهم " التي هي جزء لا يتجزأ من بعد المتخيل اللاكانى" تختزل اللا-مألوف وترده إلى المألوف كما عبر عن ذلك " بوريس فينيك ".

يمكننا القول أن ثمة استخدامات للكلمة غير مناسبة أنتشرت وتحتاج قرارًا يعتمد على الاستدلال، وهذا يقودنا إلى بلاغة اللغة فربما يكون واسع جدًا، وربما ضيق جدًا فيقول " بول ريكور " التعريف الواسع جدًا هو التعريف الذي يجعل الوظيفة الرمزية كما هي الوظيفة العامة للوساطة التي يبنى فيها الفكر، الوعي، كل عوالمه ونقول أنه التخييل وهو عوالم الإدراك والقول، فالكلمة تحمل عدة معاني لا في النص، أو في عدد حروفها " ثلاثية الحروف، أو رباعية الحروف، أو خماسية الحروف " أو ذات معنى، أو غير ذات معنى، فهي تحمل دلالات وإن بدت غير ذات دلالة.

يقول " ريكور " في كتابه في التفسير محاولة في فرويد أن كلمة رمزي تبدو أنها مناسبة جدًا للدلالة على الأدوات الثقافية لإدراكنا الواقع فكريًا: اللغة، الدين، الفن، العلم، فمهمة فلسفة للأشكال الرمزية أن تكون الحَكَم في الادعات بالمطلق لكل وظيفة من الوظائف الرمزية والنقائض المتعددة لمفهوم الثقافة الذي ينجم منها. وهذا ما يقودنا مرة أخرى لوظيفة الكلمة متعددة المعاني لا في العلن، بل في ما تحمله من معانٍ أخرى لا تبدو ظاهرة في ما تحمله فيضيف " ريكور" فلنتقدم بعض التقدم في التحليل الدلالي للعلامة والرمز، ففي كل علامة ناقل حسي هو حامل الوظيفة الدالة التي تنتهي إلى أنها صالحة لشيء آخر. ولكنني لن أقول إنني أفسر العلامة الحسية عندما أفهم ما تقول. فالتفسير يُحال إلى بنية قصدية من الدرجة الثانية تفترض أن معنى أول يتكون حيث يكون شيء منشودًا بصفة أولى، ولكن حيث يحيل هذا الشيء إلى شيء آخر لا ينشده إلا هو. ونتفق مع " ريكور " في كتابه الآخر الاستعارة الحية حيث يقول هناك عدد غير محدود من السياقات حيث يكون ضروريًا إعادة خلق مدلول العبارة الاستعارية وذلك اعتمادًا على نيَّات" نية " المتحدَّث، فضلا عن نبرة الصوت، وإطار العبارة اللفظية والعمق التاريخي التي تتضافر في توضيح الاستعارة المستخدمة للكلمة وعمق معناها حتى وإن غاب عن التفسير، فيظهر ذلك في قلب دّلالة الكلمة نفسها في مواضع مختلفة. وإذا اتفقنا، أو أختلفنا في معنى الكلمات " فــ فريدناند دي سوسير" يرى أن هناك الكلام الحقيقي والكلام الكامن، فيقول نسمي مقطعًا ما كان كلامًا حقيقيًا، هو التوليفة من العناصر المحتواة في قطعة كلام متحقق، وهو مقابل للتوازي، أو الكلام الكامن، أو مجموعة العناصر المصاغة من قِبَل العقل ومحتواة فيه، أو النظام الذي يتخذ بموجبه العنصر وجودًا مجردًا وسط عناصر ممكنة اخرى.

إن الكلمة تحمل جانب نفسي، وهي في الآن عينه تُكونُ الفكرة، وتبدو واضحة في الصوت، أو الكلمة نفسها ولا نغالي اذا قلنا أن ثمة تقابلا بين الكلمة والفكرة التي تعبر عنها والصوت بنبراته، رغم أن البعض من علماء اللغة يعدون ذلك لا خلاف فيه حيث تكون الكلمة والفكرة والصوت متحدان في اذهاننا، وأعتقد أن هناك فروق ربما من الصعب لمسها أو تحسسها في الوضع الطبيعي، لكن تبدو واضحة عند بعض العصابيين " مرضى النفس " مثل الشخصيات الحوازية – الوسواسية، أو ربما من لديهم إضطرابات نفسجسمية – سيكوسوماتية، أو الشخصيات القلقة في مواقف الحياة غير المرنة، أو في حالات الوهن النفسي حيث إن طابع التوجس المأساوي يأتي من حقيقة أن العقل يجبر نفسه على إعادة انتاج الشيء الذي يخافه بكلمات تحمل أكثر من معنى رغم وضوحها، ويبدو ذلك بشكل أعمق وأوضح لدى الذهاني " مريض العقل " الفصام إنموذجًا، فهو يُحملْ الكلمة أكثر من بعدها الذي يقال، وما يُخفى خلفه من معاني وخبرات ربما مؤلمة، والمثل الشعبي المتداول هو خذ الحكمة من أفواه المجانين.

لدينا في اللغة العربية ما يعرف بفقه اللغة، وهو تعدد معاني الكلمة، حتى تصل الكلمة لاكثر من عشرين معنى لها، لا في القراءة الصامتة، بل في اللفظ والتلفظ، وربما نقول في صدى الكلمة حينما تنطق ومن الصعب على الأعاجم من غير العرب أن ينطق بها كما ينطق بها العربي، وهذا الرأي يقودنا إلى دراسة اللسان بجانبه اللغوي، وليس بجانبه النفسي، ويرى علماء اللغة بأن الجانب النفسي هو بكل بساطة الفكر أو الدلالة، ويذهب بشكل أعمق من تخصص في علم اللغة حيث وجد العشرات، بل المئات من الكلمة الشبيهة لها، ودليل آخر هو لغة النص القرآني الذي ينطبق عليه قول " لاكان " لا توجد كلمة لكل شيء. دعونا نبحر في النفس الإنسانية وما تقوله في كلمات منطوقة.   الكلمة طالما هي مرتبطة في اللاشعور – اللاوعي فهي لا تعبر عن كل المواقف، والمحادثات ويمكن تعميمها، حيث هي الشيء الذي يعطي معناه حسب ما يقال، ويخفي خلفه ما لايقال، وربما نتفق مع فيلسوف اللغة " لودفيج فتجنشتين ونختلف معه في الوقت نفسه حيث يرى كل ما يمكن التفكير فيه على الأطلاق، يُمكن التفكير فيه بوضوح، وكل ما يُمكن أن يقال، يُمكن قوله بوضوح، إلا إننا نتفق مع " جاك لاكان" حينما يقول انا دائمًا أقول الحقيقة، لكن ليس كل الحقيقة، لأننا وبكل بساطة لا نستطيع أن نقول كل شيء، هناك دائمًا شيء ما يتوارى خلف الكلمات، شيء يختبئ في الصمت، في الفجوات، وفي ما لا يقال. الحقيقة ليست في ما نقوله فقط، بل أيضًا فيما يتعذر علينا قوله، وأفضل ما نشاهده اليوم في عالمنا المعاصر هو لغة الاعلام وما يحمله من كلمات بها لف ودوران وغير وضوح في المعنى، والإنسان الساذج الذي يرى المعنى الظاهر من الكلمة دون أن يتمعن في باطن الكلمة وبعدها، والأخطر أيضًا في عالمنا اليوم هي ما تطرحه السياسة في كلمات محورة قابلة للفهم من عدة محاور، فالكلمة في التداول الدبلوماسي ليست هي الكلمة المقصودة، وهي قابلة للتأويل، وقابلة لفهم معنى آخر ربما أخفى صاحبها عمدًا أو بغير ذي قصد، ولا نخفي على الآخرين معلومة عن استخدام الكلمات في كلام ثقافات معينة مثل الثقافة الغربية حيث كل كلمة لا تدل على المعنى الواضح لما نطق بها، وعندما تسأل قائلها، يقول لك لماذا قصدت ذلك، وبينت المعنى الآخر، يجيب وبكل طلاقة وسهولة وحيلة باستخدام الكلمات، أنك لم تقل لي ما تريد لكي اصيغ ما تريده. في هذه الثقافات ومنها الغربية بالتحديد أنها تلون الكلمة بأشكال تحمل عدة مفاهيم ومعاني، وسابقًا علمونا في المدرسة الكلمة ومعناها، وهو درس من الثقافات الغربية التي وضعت أساس التربية والتعليم في البلدان التي استعمرتها، ولم نفهم حينها إن الكلمة ومعناها، ليس المقصود بالمعنى بالتحديد، وإنما الكلمة والعديد من المعنى، هذا المعنى يتغير حسب متطلبات دينامية النفس عبر اللاوعي – اللاشعور وهو أعمق خزين يحمله الإنسان فيعود بالكلمة محرفة، مشوهة مطلية بألوان ما يحمله الفرد من محبة أو حقد على الآخر فرد أو مجتمع أو شعب، فالكلمة هي السياسة اليوم، هي الاعلام، هي الثقافة التي يبثها فينا من يريد تغيير اتجاهاتنا نحو شيء ما. الكلمة لا تحمل معناها فقط، بل تحمل حقارتها أو حقدها أو تحيزها نحو ما ترغب تلك السياسة، أو إدارة الشعوب وتغيير إتجاهات الناس نحو موضوع معين، وهذا يجسد سياسة بعض الدول في التأثير بوساطة الكلمة على عقول البعض، وحتى الحرب رغم قساوتها تستخدم الدول المتحاربة الكلمة في التأثير النفسي على المعنويات، تُجمل المعنى بالكلمة فتقول احدى الدول التب بدأت الحرب على دولة أخرى هناك تفهم دولي لعملياتنا العسكرية ضد إيران، هذا النص بمجموعة الكلمات معتم، غير مفهوم، الكلمة فيها ذات أبعاد لا نهاية لها، تبقى هي الكلمة لا توجد لكل شيء.

***

د. اسعد الامارة

1.  تناولت سابقا باكثر من مقال متناقضات هيدجر المستترة خلف تعابير غامضة غير مفهومة لا قيمة فلسفية لها بخلاف الذين يرون الغراب صقرا.

عثرت مؤخرا على عبارة لهيدجر فاتني التعقيب عليها بمقالاتي الثمانية السابقة المنشورة لي عنه في مناقشة بعض ما ورد بكتابه الشهير (الكينونة والزمان) حيث يقول متفلسفا (الموجود هناك الديزاين الانسان هو ركض الموت الى العدم).

الموت في الفلسفة او بالعلم هو مرادف لفظي للعدم ولا فرق ان تقول موت او ان تقول عدما فانك بكلا المفردتين انما تقصد فناء الكائنات الحيّة بيولوجيا بما لا تدركه عقولنا من سبب ذلك ولا من كيفية. في مقدمة هذه الكائنات التي يطالها الفناء الارضي هو الانسان.

والموت والعدم هما دلالة متطابقة بالجوهر والصفات غير المدركة عقليا. فالشخص يعرف دلالة الموت انها دلالة العدم لكنه يعجز عن تفسير ماهية كل من المفردتين ماهو الموت وما هو العدم؟. اذن كيف يركض الموت نحو العدم وكلاهما دلالة فناء الكائنات الحية.؟ الموت والعدم تعبرّان عن مدلول واحد هو الفناء البيولوجي للكائنات الحية. الجمادات قد تهرم وتشيخ مثل الاثار لكن لا يطالها الموت.

لو نحن اعتبرنا الموت او العدم لافرق في التسمية ولا في الدلالة انه (ذات) وهو ليس بذات لسببين الاول الذات تدرك ذاتيتها وتعيها لانها تمتلك الحياة، وتعرف خاصية ذاتيتها بالتأمل العقلي لوجودها بحسب تعليل ديكارت الذات او العقل خاصية تفكيره هو اثبات وجوده الانطولوجي. وهذا لا ينطبق على الموت او العدم فالموت لا يدرك ذاتيته كما ولا تدرك عقولنا ان الموت يمتلك ذاتا يدركها تهرول نحو الفناء العدمي. الموت او الفناء ليس جزءا من الانسان بل هو جزء هام ومهم من الحياة.

والسبب الثاني ان الموت لا يمتلك ذاتا ولا كينونة ولا روح ندركها. الذات تدرك ذاتيتها ليس بالتفكير المجرد فقط وانما بالمغايرة الموجودية مع غيرها من موجودات الوجود في الطبيعة والعالم من حولنا..

لذا الموت او العدم هو اللاشيء الذي لا يدركه العقل بغير دلالة ناتج افنائه الكائنات الحية. اللاشيئية العدمية للعدم او الموت هو اللفظ الدلالي الذي يعجز العقل معرفته الماهوية بغير نتائجه الافنائية للاحياء. العدم او الموت لا يطال ما ليس له روح تعيش الحياة اي الموت لا يميت حجرا مثلا.

اذكر مقولة هيدجر الثانية الخاطئة قوله العدم لا يعدم نفسه اذ من البديهي اننا نعجز ان نقول الموت لا يميت نفسه كي لا نصبح اضحوكة كما فعل هيدجر. فاللاشيء(الموت – العدم) الذي لا يدركه العقل غير موجود إدراكا ليموت ونحن ندرك نتائجه في اعراض مفارقة الروح للجسم او بقائها فيه ميتا نعرفه بدلالة اعراض الموت الاخرى المعروفة في توقف جميع اجهزة بقاء الحياة بالجسم البايولوجي تعمل بدءا من توقف القلب فقدان الاحاسيس كافة توقف التنفس عدم الحركة فقدان الوعي الدماغي والحسي الجسمي الخ. وذلك لان العلم لم يتوصل لحد الان كيف يموت الكائن الحي وكيف تفارق الروح المزعومة الجسد اكثر من معرفة نتائجه التي يدركها العقل على انها لم تعد طبيعية تعيش الحياة كما نعيشها نحن؟

2.  اذا قلنا الحاضر وهم افتراضي لا زمني فهو لحظة لا زمنية منحلة لانه غير محدد بدلالة غيره من مدركات. والزمن هو الاخر وهم دلالة لا وجود ادراك عقلي لتحديد وجوده غير الدلالي في ملازمته لكل شيء لا نهائي ازلي سرمدي لا يقبل القسمة على نفسه ولا يتجزا ولا يوجد بالكون وعلى الارض زمانان اثنان مختلفان بالماهية والصفات احدهما نسبي على الارض والاخر مطلق كوني في الفضاء بعد اختراع انشتاين النسبية العامة 1915 فانعدم المطلق الزمني الذي قال به ارسطو واحتذاه اسحق نيوتن واصبح نسبيا. افكارنا التي نطلقها شفاهيا في لحظة من الحاضر لا تلبث ان تصبح بعد ثوان ماض بالدلالة الزمنية وليس التاريخية. الزمن الحاضر يختلف عن تاريخية وجود الاشياء في الافكار المعبّرة عنها.

صناعة البنية الفكرية والاجتماعية للحاضر الوهمي غير المتحقق ادراكيا يتوزعها ماض استذكاري تكون فيه الوقائع التاريخية في الماضي قد اكتسبت ثباتها. بتوثيق زمني لا يكتسب دلالته الحقيقية الا بملازمته التعريف بوقائع التاريخ الماضي.

الحاضر الزمني في حقيقته هو الماضي الزمني وليس التاريخي في لحظة سيرورته الانتقالية من انحلال الحاضر كلحظة زمنية وهمية الى ماض زمني.

كما ان الحاضر لا يصنع المستقبل لانه وجود زمني افتراضي غير موجود. لذا يكون المستقبل سيرورة تتشكل من ماض يعبر لحظة الحاضر الوهمية وتكون الوقائع التاريخية بالماضي سابقة على وجود الزمن. ارسطو ومن قبله افلاطون اكدا ان لحظة الحاضر وهم لا زمني حقيقي اي انه لا يدرك بدلالة شيئية ثابتة زمنيا مثل زمانية الماضي الثابتة تاريخيا وليس الثابتة زمانيا.

3. مذهب وحدة الوجود يكون مطلقا ميتافيزيقيا صوفيا يجمع بين الدين والطبيعة والفلسفة. مذهب وحدة الوجود يفقد حقيقة معناه في الصوفية التي يعتبرونها المتصوفة هي وسيلة تلاقي ذات الصوفي بالحلول الالهي النوراني وهو ما لا يتحقق بسبب عدم توفر مجانسة نوعية واحدة تجمع خصيصة الذات الصوفية الروحانية مع خصيصة الذات الالهية غير المدركة لا بالعقل ولا في ما وراء العقل اي في التجربة الروحية. بهذا المعنى تكون التجربة الصوفية روحانية تدور في فلك ذاتيتها الانسانوية التي تفترض حلولها التواصلي مع الذات الالهية وهي لم تغادر مادية وجودها الارضي.. فالذات الالهية لا تمتلك الروحانية البشرية المدركة صوفيا في مجانستها الروحانية الصوفية التي هي في كل حالات التجربة الصوفية لا تغادر مواقع اقدامها.

الذات الالهية لا تجانس الذات الروحية البشرية لا بالماهية ولا بالصفات لذا تبقى الذات الصوفية روحانية مرتبطة بالارض على خلاف الذات الالهية المرتبطة بنفسها بما لا يستطيع العقل ادراكها.

4. الموضعة اللغوية في تعبيرها التجريدي عن الاشياء هي ادخار معرفي بها وليس اضافة تكوينية لها. الموضعة هي تلك القراءات التاويلية التداولية للادرك المتطور تعيد وتضيف وتعدل التي هي في حقيقتها تجريد تعبيري لغوي عن تلك الاشياء المدركة.تساؤلنا هل الموضعة اللغوية المتعالقة بالفهم تكون معطيات مكتسبة قبلية عن ذالك الشيء ام هي معطيات فطرية عنها؟

لا يوجد افكار فطرية معرفية قبلية غير مكتسبة بالخبرة عن الاشياء. اما بالنسبة للزمكان فهو وعي العقل لفراغ احتوائي للاشياء يوجد باستقلالية. فهو اي الزمكان لا يدخل مع الاشياء التي يحتويها بعلاقة موضعة تعريفية بها. ولا يدخل بعلاقة جدلية ديالكتيكية او تكاملية معرفية معها بل يبقى احتواء الزمكان للاشياء حياديا كما هي علاقة الزمن الافتراضي في ملازمته وجود الاشياء. وتكون افصاحات العقل عن مدركاته من الاشياء التي يحتويها الزمكان هو الافصاح عن علاقات تلك الاشياء المادية البينية مع بعضها. وبهذا تكون الموضعة اللغوية تحت وصاية العقل مادية في علاقة تكامل معرفي. الشيء الاهم هو الاقرار بحقيقة ان المادة لا تتموضع مع غيرها من الاشياء بغير علاقة تجريدية لا تعي ذاتها ولا تدرك موضوعها.

5. نسب احدهم لافلاطون قوله: تكلم كي اراك. ونسب لدوستوفسكي قوله، تكلم كي اعرفك. وتساءل أيّا من التعبيرين صحيحا وترك الامر غير مكترث بالعثور على جواب فلسفي صحيح من متصفحي موقع التواصل الاجتماعي.

طبعا الاصح قول افلاطون اذا اعتبرنا الرؤية بمعنى المعرفة وليس بمعنى الابصار الحسي بالعينين وهو ما كان يقصده افلاطون. فالابصارهو ادراك الموجود وليس معرفته. اراد دوستوفسكي بعبارته معرفة المتكلم بكلامه قوله (تكلم كي اعرفك) كون كلام المتحدث اليه لا ينقل له صورته الشخصية وانما ينقل له افكاره التي تعرّف به لغويا. رؤية الشيء بابصاره النظري هو ادراكه الحسي فقط اي استلام الانطباعات الحسية المنقولة عن الحواس عنه وليس معرفته كماهية وجوهر وصفات وعلاقات بغيره. والادراك انطباع اولي مؤقت محكوم بالزوال في طريقه داخل المنظومة العقلية وصولا للدماغ. ادراك الشيء بالحواس مرحلة اولى في سلسلة تراتيبية منظومة العقل الادراكية، رؤية الشيء معناه ان تدركه بصفاته الخارجية الحسية ولا تشمل هذه الرؤية الادراكية الاولية معرفة الشيء بالماهية او الجوهر. المعرفة وعي اشمل من الادراك الحسي.

6. في البدء الادراك هو ليس الوعي بالشيء. ان تدرك الشيء بالحواس هو معرفة موجوديته كموضوع وتسمى هذه العملية المحسوسات في شكل الانطباعات الاولية. اما وعي الشيء او الموضوع فهو معرفة حقيقته عقليا وليس حسيّا فقط. دأب فلاسفة عديدون الى تقسيم الموجود المدرك كموضوع الى مظهر هو الصفات الخارجية له والى محتوى دفين يدعى الجوهر. وهو تشبيه مرادف لقولنا شكل الشيء ومحتواه.

وخلاصة القول ان مقولة لماذا لا يكون مضمون الشيء منفصلا عن قابلية ادراكه التي يمتلكها الموجود المادي الشيئي كينونة موحدة مستقلة؟ مقولة خاطئة وفرضية تعسفية تحاول وضع العربة امام الحصان لاسباب اوضحتها سابقا واوجزها بكلمات:

اولا قابلية الادراك هي كيفية وسيرورة تجمع بين المادة وادراكها كما هي وسيلة معرفية لا تمتلكها المدركات لاتموضعا ماديا فيها ولا تجريدا تعبيريا يصدر عنها. بل يمتلكها الحس والوعي العقلي لها فقط.

ثانيا مضمون الشيء لا يكون موضوعا لادراك قائم لوحده منفصلا عن موجوديته المادية الموحدة شكلا ومحتوى. المضمون يحتاج دائما لشكل يحتويه وبغير هذه الملازمة لا يمكننا تصور مضمون بلا شكل يحتويه. كما ولا يمكننا تصور شكلا خاليا من مضمون او محتوى دلالي عليه كما في مثال الرسوم الهندسية المجردة فالخطوط التي يتشكل منها الشكل الهندسي تحدد مضمونه الهندسي الذي ندركه للوهلة الاولى فارغا ما عدا محدداته المستقيمة. في أن يكون دلالة على مثلث او مستطيل او دائرة وهكذا. اي ان ابعاد اشكال الخطوط الهندسية المجردة اعطت للحيّز المكاني الذي احتوته مضمونا متفردا هندسيا. المثلث نقصده ادراكيا بالتسمية على اساس خطوطه الثلاث ونحن لا ندرك من الوهلة الاولى الادراكية ان للمثلث ثلاثة زوايا مقدارها 180 درجة احدها زاوية قائمة الا بمعرفة مضمون المثلث واستعمالاته وليس في ادركنا شكله التخطيطي كخطوط مجردة.

ثالثا الادراك لا يجزيء موضوع ادراكه الى شكل هو الصفات الخارجية والى مضمون او محتوى هو جوهره وماهيته. فالادراك هو وعي كينونة الشيء الموحد في كليته الكينونية الموجودية البائنة للادراك. ويكون معنا اعجاز عقلي ادراكي ان نتصور مضمونا لا يحتويه شكل يدركه العقل. وبالعكس ايضا استحالة ادراكية ان تجد شكلا مجردا بلا مضمون يحتويه يمكن للعقل ادراكه كموضوع.

رابعا الصفات الخارجية هي كينونة موجودية موحدة وليس من خاصية الادراك الحسي احتوائها على جوهر او مضمون يستقر خلفها. وعندما نقول امكانية ان يكون المضمون (موضوعا) لادراك فهي فرضية خاطئة فالمضمون لا يكون موضوعا لادراك لا يحتويه (شكل) الذي هو الصفات الخارجية للشيء. الادراك يدرك كينونة كليّة واحدة وليس اجزاءا متناثرة. بمعنى لا تدرك الصفات الخارجية لوحدها ويدرك الجوهر المحتجب خلف تلك الصفات لوحده هذا غير ممكن.

7. من مقولات بيركلي المثالية (وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك) وهي مقولة خاطئة كما نوضحه لاحقا..

وجود الشيء لا تحدده صفة ان يكون موضوعا لادراك. بل وجود الشيء موضوعا ندركه تاتي من خاصية موجوديته الانطولوجية التي يدركها الحس والعقل. وليس كما ذهب له بيركلي وجود الشيء هو قابليته ان يكون موضوعا لادراك.

كما ان خاصية ان يمتلك وجود الشيء قابلية ادراكه ليست صحيحة. فقابلية الادراك يحددها الحس والوعي بالشيء ولا تمتلكه الاشياء المدركة المستقلة ذاتيا. ولا يفرض الشيء قابلية ادراكه الزائفة على الحواس والعقل لتكون صفة به كموجود.

النقطة الاخيرة من يحدد ان يكون الموجود موضوعا لادراك؟ هل يحدد ذلك مضمونه (جوهره)؟ ام يحدده الشكل الخارجي في الصفات المدركة له؟. الحقيقة ان الشكل الخارجي او الصفات الخارجية للموجودات تجعل منها موضوعا ماديا تدركه الحواس والعقل. اما جوهر او ماهية اي شيء لا يكون موضوعا كونه لا يدرك بينما صفاته الخارجية تكون موضوعا.

الادراك الحسي لا يدرك مواضيعه لمعرفة مضامينها الجوهرية. فادراك الحواس ينحصر بالصفات الخارجية للشيء فقط. وادراك الشيء حسب بيركلي هو ادراك كينونة موجودية موحدة شكلا اي صفات خارجية وماهية اي جوهردفين. وهما كينونة غير قابلة للانفصال لانها بالانفصال الوهمي غير القابل تحقيقه تفقد وجودها الانطولوجي. خلاصة ماذكرناه بالضد من بيركلي يمكننا تلخيصه بنقطتين،

الاولى وجود الشيء لا تحدد قابلية ادراكه كموجود يمتلك قابلية ادراكه ذاتيا، بل قابلية الادراك تحدده الحواس والعقل. قابلية الادراك بالاشياء هو خاصية الحواس والوعي وليس قابلية الادراك موجودة في الموضوع الذي يدركه العقل والحواس.

الثانية وجود الشيء الحقيقي هو عندما يكون موضوعا يحتويه شكل ومضمون. فالحواس والعقل لا يدركان موضوعا لا وجود حقيقي واقعي له لا على صعيد المادة ولا على صعيد موضوعات الخيال.

8. يذهب فلاسفة الوضعية المنطقية التحليلية حلقة فينا بزعامة انشليك التي انحلت لتبعث نفسها في حلقة اكسفورد بلندن بزعامة بيرترانرسل. هؤلاء الفلاسفة يرون وظيفة الفلسفة الحقيقية هي (تحليل العلم) (وعماد هذا التحليل انما يكون في توضيح منطق اللغة في التعبير عن التراكيب العلمية التي تحوي الالفاظ والتعريفات لكي يتمكن الفيلسوف من تحليل الكلام ويفرغه ويجرده.) نقلا عن زكريا ابراهيم.

سنجد لدى كارناب تعارضا مع ما مر ذكره بالعبارة وهو احد فلاسفة الوضعية المنطقية التحليلية حلقة اكسفورد نجده يقول، لا علاقة بين لغة الفلسفة والعلم ولا يقع على عاتق اللغة توضيح وتحليل قضايا العلم. فالعلم له اختصاصاته التي يقوم عليها العلماء وليس الفلاسفة.

بهذا المعنى التحليلي الذي يجد حقيقة الفلسفة في تحليل وتوضيح قضايا العلم تكون الفلسفة ملحقا منطقيا تحليليا لقضايا العلم. نعتقد ان لغة العلم لا تحتاج دوما اللغة المعرفية الفلسفية او الفكرية عموما لتوضيح قضاياه. وحقيقة الفلسفة اللغوية انها نسق نمطي يفسر كل ما يصادفه من قضايا تهم حياتنا وعالمنا الخارجي والداخلي.

النسق اللغوي المنطقي للفلسفة يوازي قضايا العلم ولا يقاطعها. بل تعمد الفلسفة ملازمة قضايا العلم بمنهج معرفي هو التخارج المعرفي لكليهما. من الخطأ الفادح الاخذ بالمقولة الفلسفة هي ام كل العلوم.

اول ملاحظة يجب ابعادها عن تفكيرنا ان منطق الفلسفة لا يدخل بعلاقة ديالكتيك جدلي مع قضايا العلم حتى في نقد الفلسفة لتلك القضايا العلمية. واذا ما حاولنا افتراض تطابق لغتي الفلسفة والعلم من حيث تجمعهما تركيبة نحوية وقواعد وصرف وغير ذلك من ثوابت اللغة ونظامها الخاص بها في حين تكون غالبية لغة العلم هي معادلات رمزية تشمل الرياضيات والفيزياء والكيمياء وباقي العلوم الاخرى. ولا تتعامل مع السردية اللغوية الناقدة او الموضّحة.. علاقة لغة الفلسفة مع قضايا العلم هي لغة متابعة نقدية وتخارج معرفي متبادل للافكار بينهما.

النسق اللغوي الخاص بلغة معينة لا يتداخل ولا يتخارج معرفيا بحيادية متوازية لا تغني العلم ولا تغتني هي نفسها منه. مهمة توضيح اللغة لقضايا العلم التي اشار لها فلاسفة التحليلية المنطقية جعل من لغة الفلسفة تابعا يحمل حقيقة انه يقوم بتوضيح قضايا العلم وتحليلها وتبسيطها ولا اكثر من ذلك. نص الفلسفة يوازي سردية الدين وتجريبية العلم ولا يصطدم بهما.

على رحابة وشساعة رقعة تاريخ المنجزات العلمية الجبارة الهائلة فهي الى جانبها نشأ تاريخ الفلسفة البشرية الموغل بالقدم وتنوع قضاياه ومواضيعه ربما قبل البدايات العلمية. فالفلسفة ظهرت في الميتافيزيقا والانثروبولوجيا مثلا قبل التخصصات العلمية في بداياتها اكتشافات قوانين الطبيعة في الفيزياء..... وحين تكون حقيقة الفلسفة التي اشار لها التحليليون المنطقيون تتلخص مهمتها في توضيح قضايا العلم فهذا التقزيم التبعي للغة الفلسفة امام قضايا العلم التجريبي غير كاف. الحقيقة التي يجب ان لا تقاس بالحجوم مابين العلم واللغة هي اللغة عامة ولغة الفلسفة خاصة اشمل من الاهتمام بقضايا العلم كي تؤكد حقيقتها الملتبسة امام العلم.

تحليل اللغة بعيدا عن التطرق الى مضامينها وحواملها يجعل من اللغة نسقا شكليا مستقلا عن الحياة وهذا ما اكده جورج مور وفينجشتين المتاخر. كلاهما اكدا اهمية مضمون ما تهدف له اللغة تعبيرا قبل الاهتمام بشكل الصياغة اللغوية.

ماوراء اللغة الذي اشار له (آير) حسب ماتقوله الفلسفة ولا اعرف مصطلح (مافوق اللغة) الذي نحته سكينر صاحب نظرية السلوك اللفظي هما نفس المصطلح ام مختلفان؟ (كتبت مقالتين منشورتين عن مصطلح مافوق اللغة واجريت اسقاطا للمصطلح على لغتنا العربية فلقي اقبالا على كوكل ونافذة نبأ والعديد من المواقع المرموقة منها المثقف والحوار المتمدن). ماوراء اللغة التي اشار لها آير هي النسق اللغوي الذي يلاحق حمولات ومضامين قضايا معبرا عنها لغويا بعيدا عن التجنيس الادبي او الفلسفي في صياغاتها اللغوية.

الفلسفة ليست توضيحا لمنطق استقصاءات بعض قضايا العلم وتحليلها توضيحيا. الفلسفة ليست شارحة سردية توضيحية بل هي فعالية فكرية ناقدة تحكمها منظومة منطقية مهمتها اثارة سلسلة من التساؤلات المعقدة امام العلم وامام غالبية الوسائل المعرفية الاخرى..ليس مهما ان وظيفة الفلسفة تفسير الاستقصاءات العلمية بلغة الفلسفة. بل وظيفتها الحقيقية اثارة ما يجهله العلم او يحاول اهماله والعبور من فوقه. العلم عابر للفلسفة التي تحاول عدم التبعية والانجرار وراء العلم.

الشيء الذي نراه مهما ان العلم يتطور بقضاياه حتى في عدم ملازمة لغوية ناقدة لما يقوله وفي معزل عنها. فالعلم يشتغل بلغة المعادلات الرياضية والرموز وليس بلغة الفلسفة. كذلك الفلسفة وان كانت مركزيتها التعبيرية اللغة. لذا تستطيع المطاولة الزمنية ان تطرح قضايا فلسفية بعيدا عن اهتمامات العلم الاثيرة عنده.

اذا كانت اللغة مركزية في جميع اجناس التعبير عن الحياة والطبيعة وقضايا العلم والانسان. لكن مع هذا تحتفظ هذه المركزيات الاجناسية المعرفية ليس في اهمية استحالة محو ملازمة اللغة لما تريده. لكن من حيث ان اللغة ليست مهمتها مقتصرة في احادية (نقد وتوضيح وتحليل قضايا العلم) والا كانت الفلسفة اندمجت في هيكلية قضايا العلم منذ امد بعيد.

9. الحقيقة الانثروبولوجية خارج او داخل حقيقة الفلسفة او الابستمولوجيا والعلم مصطلح طوباوي وليس نسبيا فقط. كلما بحثت عنه وجدته سرابا خادعا لعقولنا. لذا حقيقة وجودنا الانثروبولوجي الذي نعيشه على كوكب الارض انما هي صيرورة دائبة الحركة لحقيقة وهمية لا نهائية غير مدركة كما لا يمكن الوصول لها. الفلسفة مهمتها البحث عن الحقيقة لكنها ليست حقيقة في جميع مباحثها. الفلسفة مجموعة من التساؤلات الادهاشية على طريق السعي لبلوغ مطلق الحقيقة الذي لايمكن تحققه.

كل حقائقنا العلمية والفلسفية وفي مختلف شؤون الانسانيات هي جميعها وهم الصيرورة الخادعة في مسار مطلق الحقيقة، ولا تتوفر لدينا حقائق منطقية ماثلة ندركها في تزامنها الابدي معنا. قد تذهب السذاجة بالبعض قولهم حقيقة الشيء هو في ادراك الدال والمدلول عن ذلك الشيء. اي حقيقة الشيء واقعيته هذا التعبير خاطيء.

اذا تمكنت نظرية الكوانتم الفيزيائية اثبات اننا نعيش موزعين روحيا على اكوان عديدة احدها هذا الكون المتخلق عن الانفجار العظيم حينها يصبح موت الانسان على كوكب الارض ليس فناءا بل خلود ابدي للروح.. ويصبح موت الانسان العوبة اذا مات الانسان هنا فانه سيذهب الى العيش في كون اخر، بمعنى الموت على الارض حياة ثانية تنبعث حيّة في كون اخر لا يضم الارض ولا المجرات ولا الحلزونيات الدودية المظلمة التي لا يعرف الانسان ماهي ومن اين امتلكت قابلية الجاذبية المذهلة التي لا تتصورها عقولنا. هذا الراي لا يعارض مفهوم خلود الانسان في الجنة والنار من الناحية الدينية. جاذبية الثقوب السوداء الفضائية لا يتصورها العقل البشري من حيث لا يمكن لاي شيء الافلات منها ولا حتى الجسيمات او الموجات الكهرومغناطيسية المشعة. قضية مستقبلية اخرى يواجهها الانسان بيولوجيا هو لماذا يموت الانسان وماهو سبب الموت سواء اكان مرضيا ام نتيجة حادث.؟ الانسان كائن بيولوجي محكوم بالشيخوخة والهرم ثم الموت ولا علاقة لهذه الانتقالات بحياة الانسان انها محكومة بالزمن. الزمن افتراض وهمي محايد في ادراكاتنا الاشياء.

10. السؤال طالما كانت الفلسفة تجريدا يماثل الالتقاء مع تجريدية اللغة والتي أيّد هذا التكامل كلا من هيدجر ومن بعده فوكو فماذا اضاف هذا التلاقي على صعيد البنية المضمونية بالنسبة لثيمة الالتزام بالفلسفة؟ ولماذا فشل هذا المسعى الذي عبّر عنه هيدجر وفوكو ان عوالم الشعر التجريدية وضعت بصمتها الجوهرية في تداعيات لغة اللاشعور في كل من لغة الشعر وتكاملها الوجودي الفلسفي مع لغة الجنون واعتبرا هذا التعبير الخارج على نظامية تحقيق المعنى اللغوي في التواصل هو اصدق تعبير عن عالمنا الزائف بكل شيء منها تعبير لغة الفلسفة في تضليلها العقل. واعتبرا حقيقة الوجود هو ما يمثله الجنون والشعر في تعبيرهما عن لغة تداعيات اللاشعور و تبشيرهما بعالم حقيقي جديد هو غير عالمنا الذي نعيشه..

وهذه الثنائية بين لغة الشعر السائبة بلا معنى تحت راية تقليد الحداثة الغربية، وهذاءات وغطرفة لغة المجانين في اصوات ايضا لامعنى لها في التزام نيتشة وهيدجر وفوكو الشاعر الالماني هولدرين. ان هذه النماذج من القول الفارغ بلا معنى في تفسيره المعلن والخفي هو الذي يمثل الوجود الحقيقي بما نطمح تحقيقه في ازاحة وجودنا الزائف الذي نعيشه بنفاق كاذب..... هذه دوغمائية في التعبير الفلسفي في محاولة تطويع الافكار المجردة تغييبها الواقع العياني الماثل.

تعقيب حول اعجاب نيتشة وهيدجر وفوكو بتجربة هولدرين الشعرية هو ان الشاعر الالماني هولدرين تحت وطأة هذا الانحراف الهستيري جاءت تجربته الشعرية في تقمص هولدرين حالة الجنون كي يصل اعماق الحفريات الدفينة في عالم الجنون وخرج بنتيجة أن تلبسه الجنون تماما. ما اثار تمجيدات نيتشة وهيدجر وفوكو لتجربة هولدرين في اثباته من خلال تجربته تقمص الجنون لا حقيقة العالم الذي نعيشه وعالم الجنون الذي لا نستطيع فهمه ربما يكون اصدق من عالمنا الذي نعيشه في كل شيء.

11. مفارقة لم اجد حلا لها حين تجد بعض المثقفين من الادباء والكتاب والمفكرين ملائكة في طروحاتهم على الورق وفي وسائل التواصل الاجتماعي. وهم في حقيقتهم الاجتماعية والثقافية منافقون لا يردعهم رادع اخلاقي ولا ضمير في تضليل المجتمع بكل الطرق والوسائل تؤرقهم الانانية والغيرة من المبدع المثقف الحقيقي.

12. لا تعظ الناس بما لا تتعظ انت به.

13. ليس جميلا ان تجد نفسك راهبا في مجالس العرس.

14.حقوق الشعوب العربية في الحرية والامان والاستقرار والعيش بكرامة لا تقع المطالبة بها والتضحية في سبيلها على عاتق شريحة مجتمعية من المضحين حتى بدمائهم ومستقبلهم السياسي. وبالضد منهم شرائح من المتفرجين على مآسي شعوبهم.

15. صناعة الطغاة في كل مجالات الحياة انما يكون ليس في قمع الحاكم وانما في تدجين الناس في افشاء الجهل والتضليل في تخريب وعي المجتمع بوسائل برمجة ايديولوجيا التخلف.

16. نقطة الصفر بحياة الانسان هي منعطف تجربة حينما يتساوى الفشل والنجاح في تفكيره وليس في سلوكه. ونقطة الصفر بداية معرفة.

17. ان يكون محاربة الفلسفة جهلا بها فهذا عيب الجاهل وليس عيب الفلسفة.

18. المثقف الذي يدور في طاحونة ايديولوجيا العداء لمن يخالفه الراي هو شخص يسبح عكس التيار ليس سعيا الحصول على ما يفيده بل لتوكيد حماقته بالتفكير.

19. من خلال تجربتي الثقافية وجدت العداء الاعمى لي يسبق معرفتي من انا.

20 من العبث ان يحزن الانسان على مجموع اخفاقاته بالحياة ولا ينهض بعد ان وجد جوانب القصور في أخطائه هو بحق نفسه وليس مناكدة الحياة له.

21. مذهب الحلول الصوفي بالذات الالهية باطل في وحدة الوجود اذ تنعدم المجانسة النوعية بين الخالق والمخلوق.

22. كتبت بالسياسة الوطنية الصادقة فانكرتني وانكرتها وكتبت عشر سنوات بالفلسفة فاحتضنتني واكرمتني حين وجدت نفسي بها.

23. لم اجد من خلال تجربتي والاطلاع على حياة بعض المبدعين العرب الذين يسبقون ازمنتهم فلم اجد مفكرا منهم ليس له من كثرة الاعداء ما لا يقاس بمناصريه داخل بلده.

24. ثمة عبارتين للقديس دي لاسوكا الاولى " الوعي هو نوع من التحرر من الواقع" والثانية " الزمن هو بعد سببي للزمكان " تعقيبي ان الوعي هو نوع من انواع التحرر من الواقع فقط. اما ان يكون الزمن سببا في الزمكان فهو تعبير فلسفي خاطيء بدليل ملازمة الزمن للمكان علاقة محايدة وليست علاقة سببية. اما الزمن يسبق الطبيعة والمكان فهي اطروحة تحتاج البرهنة عليها. وحسب افلاطون اننا بدلالة المكان نستطيع تنظيم عشوائية الزمن. بمعنى اسبقية المكان على الزمن.

25. ارى الوعي ليس نتاج الواقع بل هو تخليق عقلي بعدي على اسبقية وجود الواقع. والواقع الذي لا يدركه العقل لايدركه الوعي. وفي غياب موضوع تفكير العقل المادي او الخيالي لا يبقى معنى للوعي في تعطيل فاعلية العقل التفكيرية. الواقع لا يسجن الوعي كي يعمل على التحرر والخلاص منه. والوعي هو الوسيلة الادراكية العقلية لفهم الواقع ومعرفته.

26. لا علاقة تكاملية بين الوعي والواقع وليس هناك موضعة احدهما بالاخر. الوعي نتاج عقلي يختلف في علاقته بالواقع عن علاقة الحواس بالواقع فعلاقة الحواس بالواقع علاقة انطباعية وعلاقة الوعي بالواقع علاقة معرفية نتاج تفكير عقلي. كما برايي لا توجد علاقة جدلية بين الواقع والوعي بمعنى قانون الماركسية وحدة وصراع الاضداد بالمادة. المقصود بوحدة الاضداد هو تجانسها النوعي وهو شرط حدوث صراع الاضداد. الوعي توسيط نقل مقولات العقل الادراكية تجاه موضوعاته وموجودات عالمنا الخارجي.

27. الفلسفة تفكير لغوي منطقي تجريدي يحاول معرفة حقيقة الانسان والوجود.

28. كل معرفة خارج الموّرثات الجينية ال DNAهي مكتسبة وليست فطرية. وهناك استعداد فطري عند الطفل لتعلم اللغة ولا يمتلك ملكة فطرية لغوية.

29. الشعر هو اللاشعور اللغوي الذي ينظم منطق العقل وليس منطق ادراكات الحواس. والشعر الذي يمثّل الواقع بادراكات عقلية منطقية يخرج الشعر من خاصيته الشعرية في اعدامه فاعلية مخيّلة اللاشعور تكسيرها نسق اللغة.

30. ماقيمة صمتك حين تكون محتاجا الصراخ. آلام الحياة لا تحتاج حكمة الصمت الذي لا معنى له في بعض الاحيان. وليس كل انسان صالحا ترويضه في سيرك الاكاذيب. واحيانا يكون الصمت ابلغ في تمثيله الحقيقة الوحيدة في مواجهة زيف الحياة.

31. لعل هنري برجسون الفيلسوف الفرنسي الحاصل على جائزة نوبل بالادب هو من اشار الى اننا ندرك المكان بوظيفة الادراك العقلية البيولوجية منفصلة عن الزمان. بهذا المعنى يكون برجسون الغى زمكانية ادراكنا الوجود في منحيين الزمكان ليس مادة يدركها العقل. كما ولا هو فراغ احتوائي خارج ادراك العقل.

32. الزمن هو وعي الدلالة الادراكية والمعرفية للاشياء والموجودات والموضوعات. وهو افتراض وهمي فاقد برهان تحققه.

***

علي محمد اليوسف

 

تُعد الوجودية من الفلسفات العظيمة، لكن كيف يمكن لنا التفاعل مع افكارها اذا كنا لا نعتقد بموت الإله؟ لحسن الحظ هناك حل لما نريد بالضبط. الوجودية تبقى بالنسبة للشخص العادي منْ أشهر الفلسفات الجديرة بالقراءة والدراسة. الأسئلة التي تطرحها الوجودية والمشاكل التي تواجهها مثل الرغبة الحرة، والقلق، والبحث عن المعنى، هي ما نواجهه في حياتنا اليومية. وبينما قد لا تنجح الحلول التي تقدمها الوجودية مع كل شخص، فهي قد تكون فيها حلا عندما تحاول الإجابة على الدين. نيتشه صرح بموت الإله، سارتر وكامو وبوفوار جميعهم كانوا ملحدين، وكل ما يتصل بفلسفة العدم ايضا ينكر وجود الله.

بالنسبة للفرد الديني الذي يبحث عن راحة اضافية من القلق الوجودي ومنظور الوجوديين حول مشاكل الحياة الحديثة، يجد من الصعب العثور على أجوبة جيدة. لكن هناك مفكر وجودي جعل المسيحية أحدى المبادئ المركزية في فلسفته هو مؤسس الوجودية سورن كيركيجارد.

كان كيركيجارد فيلسوفا دانيماركيا وُلد في عائلة ثرية في كوبنهاغن في بداية القرن التاسع عشر. هو كان كاتبا غزير الانتاج استعمل اسماءً مستعارة لإستطلاع منظورات اخرى. غطى في عمله كل مجالات الفكر الوجودي: القلق، السخافة، الاصالة، اليأس، البحث عن المعنى، الفردية. لكن خلافا للملحدين الذين أعقبوه، هو وضع ايمانه في جوهر الحلول لمشكلة حياة الانسان. مثلما كان موت الإله عنصرا رئيسيا لنيتشه، كانت الحاجة الى الله أساسية لكيركيجارد. لنأتي الآن الى بعض رؤاه:

حول العثور على المعنى

يوافق كيركيجارد بان الحياة يمكن ان تكون سخيفة والمعنى قد يصعب العثور عليه. وبالضد من نيتشه الذي قال ان موت الاله هو سبب ذلك، كيركيجارد جادل بانه، في العصر الحالي، المعنى افرغ من المفاهيم بواسطة التجريد والميل للنظر الى الاشياء بعقلانية كبيرة. هو شكا من انه عاش في عصر نُظر فيه للناس كتعميمات حيث نُظر الى الرجل العاطفي كغير معتدل، وحيث معظم الناس يقبلون ذلك دون معارضة.

هو يدعونا لنعيش عاطفيا، وان نقلق كثيرا حول مشكلة عيش الحياة بدلا من محاولة الانسجام مع النظام الاجتماعي. فلسفته كلها تدور حول العيش بهذه الطريقة، حتى الى النقطة التي يكون فيها المراقب الخارجي غير قادر على فهم حوافزك. كيركيجارد اكتشف ايضا النقطة التي جرى التأكيد عليها من جانب الوجوديين اللاحقين، العقل والعلم يمكن ان يقولا الكثير عن الاشياء، لكنهما لايستطيعان ان يمنحا القيمة والمعنى للشيء. عليك ان تقوم بذلك. المعنى، القيمة، والهدف لايمكن اختزالهم لعنصر كمي، انه متروك للفرد ليتصرف بذاته ليقرر ما سيكون عليه معنى حياته. حلّه المفضل لايجاد المعنى هو عبر النظر الى الله واجراء قفزة الايمان. تلك القفزة وحدها، كما يقول، تقدم لنا المعنى والتوازن الصحيح كأشخاص.

حول العيش بحرية

نحن يجب ان نواجه العالم كأفراد، هكذا يخبرنا كيركيجارد. لكن هو يعلن اننا لكي نجسد أنفسنا بالكامل يجب على الفرد ان يدرك "القوة التي شكلته". نحن مُنحنا الضرورة الاخلاقية لنكتشف ونعيش كما نحن انفسنا، والله هو جزء أساسي من تلك الضرورة. كل يوم تُعرض علينا حقائق عن الحياة والإمكانات، ونحن يجب ان نتخذ خيارات. ان لا نختار هو ايضا خيار لكنه خيار سيء. حين نتجنب ان نجسد أنفسنا هذا هو يأس يعتبره كيركيجارد خطيئة. هو يحذرنا ايضا من القلق الذي يأتي مع اختيار المسار لحياتنا. بينما نحن يجب ان نختار، نحن لايمكن ابدا ان نتأكد اننا نختار بشكل صحيح، لأن "الحياة يمكن فهمها فقط رجوعا الى الوراء، لكنها يجب ان تُعاش قدما الى الامام". وفي نفس الطريقة، نحن امامنا امكانات لامتناهية، ماعدى تلك الحياة التي نختار عدم امتلاكها. هو يعبّر عن القلق الناجم عن الاضطرار الى اختيار عدم عيش بعض الامكانات بشكل رائع، "عندما تتزوج، انت سوف تندم، اذا لم تتزوج، انت سوف تندم ايضا، اذا تتزوج او لا تتزوج، انت سوف تندم في كلتا الحالتين، عندما تضحك على حماقات العالم، انت سوف تندم، وعندما تبكي عليها، انت سوف تندم على ذلك، سواء كنت تضحك على حماقات العالم او تبكي عليها، ..".

كما في نيتشه، كيركيجارد ايضا رأى امكانية "المعتقدات" isms في حل مشكلة المعنى في حياتنا. يركز كيركيجارد على فكرة الحياة "الاخلاقية" باعتبارها مهربا من اتخاذ قرار بشأن المعنى للذات. عبر اختيار أنظمة اجتماعية او اخلاقية للتشبث بها، يمكننا ان نجد المعنى في علاقاتنا بها بدلا من انفسنا. هو يرى هذا كامكانية للعديد من الناس لكنها ليست كحل مثالي لمشاكلنا.

أحد حلول كيركيجارد لمشكلة المعنى كانت صنف مسيحي للانسان الخارق قبل ان يخترعه نيتشه هو فارس الايمان knight of faith : فرد انتقل وراء الوثوق بالعقلانية الخارجية او "المعتقد" لتبرير حياته وتكريس نفسه بالكامل  لنداء أعلى. هذا النداء هو الله  ومثال كيركيجارد هو ابراهيم  ومريم(1).

هو يفهم ان طلبات الله ربما غير أخلاقية كالطلب من ابراهيم قتل ابنه. لكن فارس الايمان، يستمر في اهتماماته الاخلاقية السابقة، لأنه لكي تكون فارس ايمان يعني ان تكون وراء الخير والشر.

فوائد الوجودية لايجب ان تكون منفصلة تماما عن الفكرة المسيحية لله. ونفس الشيء، رؤى كيركيجارد لاتتطلب الالتزام باستخدام المسيحية. هو جادل بان "الوثني العاطفي" الذي يصلي لصنم كاذب هو أفضل من المسيحي الذي يعبد من مجرد العادة. حتى بالنسبة لاولئك الذين هم غير مسيحيين، من الممكن ان نفهم اكثر حول انفسنا والمشاكل التي نواجهها كبشر عبر دراسة الرؤية العالمية لكيركيجارد.

لاولئك الذين يرون مشكلة محتملة هنا. يلاحظ كيركيجارد في كتاب (خوف وارتعاش) بعض الطرق يجب استعمالها لتقرير من هم فرسان الايمان ومن هم فقط مرضى نفسيين. ونفس الشيء، بينما يمكن للفرسان ان يستوحوا من الله لعمل أشياء فظيعة وغريبة (مثل التضحية بالاطفال او اختراع الختان) من خلال حماس ديني، يؤكد كيركيجارد بان الفارس النموذجي سيكون متحفظا ونحن ربما لن نسمع عنه ابدا.

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهامش

(1) في فلسفة كير كيجارد، يمثل فارس الايمان أعلى أشكال الايمان، وقد تجسّد برغبة ابراهيم في التضحية بابنه اسحق. هذا الفرد يعمل قفزة ايمان، يقبل الطبيعة المتناقضة والسخيفة للعقيدة الدينية خاصة عندما تتعارض مع العادات الاخلاقية او التفكير المنطقي. فارس الايمان يؤمن بفكرة ان أي شيء ممكن مع الله حتى استعادة ما تم التخلي عنه سابقا من خلال الايمان وحده. فارس الايمان يعيش حياة سعيدة ومطمئنة، يؤمن حقا في المستحيل حتى في العالم المادي المحدود. هو يضع الله فوق كل شيء.

 

شذرة فلسفية

العقل ليس جوهرا منفصلا عن الجسم، وان الخصائص العقلية تابعة للخصائص الفيزيائية... (ويكيبيديا الموسوعة). بمعنى جوهر العقل في الوقت الذي يكون فيه تجريدا لغويا في التعبير عن موجودات عالمنا الخارجي فهو اي العقل خاصية فيزيائية بيولوجية في اشباعه احاسيس الجسد الغرائزية الفطرية داخليا.

بالحقيقة هذه العبارة المبتورة تعتبر العقل ليس جوهرا منفصلا عن الجسم، وإن الخصائص العقلية التفكيرية تابعة لخصائصه الوظيفية الفيزيائية (للعقل) كعضو بيولوجي في تكوين أعضاء الجسم الذي يحتويه.، هذه العبارة تختصر مجلدا من المناقشات الفلسفية المتناحرة والمتناطحة مع بعضها بلا جدوى. فخاصيتي العقل البايولوجية وخاصيته اللغوية الصورية التجريدية هما جوهر واحد لعقل واحد لا يمكننا تجزئته. الا في ناحيتين الاولى خاصيته البيولوجية المسؤولة عن الجسم كاملا وخاصيته الثانية أنه منتج التفكير التجريدي.

إذ دأبت مباحث الفلسفة منذ افلاطون وارسطو وديكارت إعتبار علاقة العقل بالجسم أنه – اي العقل - جوهر غير فيزيائي منفصل عن الجسم ماهيته التفكير. لكن ما يجب الوقوف عنده بالعبارة أن الخصائص العقلية التجريدية للعقل جوهر ماهيته التفكير هي علاقة تخارجية جدلية معرفية تكاملية مع الخصائص الفيزيائية للعقل على إعتباره عضو بايولوجي في جسم الانسان له وظائف فيزيائية اخرى خارج وداخل الجسم تتجاوز خاصية العقل جوهر ماهيته التفكير التجريدي المنفصل عن الجسم.

حسب النزعة المثنوية أو الثنائية (علاقة العقل بالجسم) التي ترى العقل جوهرا مستقلا عن الجسم. في حين خالفهم الرأي بعضا من أصحاب خصائص العقل البيولوجية الوظائفية الذين يرون فيها العقل جوهرا غير منفصل عن الجسم. هم أصحاب النزعة الواحدية أن العقل والجسم ليسا كيانين منفصلين إنما هما جوهر واحد في الإفصاح عن مدركات العالم الخارجي والعالم الداخلي للانسان. وتبّنى اسبينوزا هذا الرأي وبيركلي.

طرح افلاطون في وقت مبكر تعريفه العقل من وجهة نظر فلسفية تعتبر إبنة عصرها قبل تقدّم مباحث العلم في دراسة وظائف الأعضاء وفلسفة العقل المعاصرة. قوله العقل لا يمكن شرحه بمصطلحات الجسم الفيزيائية، أي بمعنى أراد افلاطون حصر العقل ضمن مباحث الفلسفة كتجريد منطقي لغوي بعيدا عن علم وظائف الاعضاء بيولوجيا التي تركن فلسفة العقل التجريدية جانبا.

بتعبير ربما يكون أكثر وضوحا أن العقل في الوقت الذي هو جوهر ماهيته ملكة التفكير، فهو بنفس الوقت عضو بايولوجي من أعضاء الجسم يقوم بفاعليات ما لا حصر لها تدخل ضمن خاصّية العقل الإدراكية ومسؤوليته المباشرة عن اشباع ردود افعال كل شيء يصدر عن الانسان من احاسيس وسلوك ومعرفة بالحياة والوجود خارج وداخل الجسم. بالحقيقة هذا الانقسام بين بنية العقل التجريدية الفكرية الفوقية بتعبير ماركسي، مع البنية الوظائفية البايولوجية التحتانية للعقل كعضو تحتويه الجمجمة في غير حصر جوهر العقل أنه تجريد تفكيري لغوي، يجعل من رأي أصحاب مذهب الواحدية في علاقة إرتباط العقل بالجسم من جهة وعلاقة عدم إنقسام العقل على نفسه – بايولوجيا وتجريدا- من جهة اخرى. تجعل من العقل ليس خاصّية لغوية إدراكية تجريدية يقف عندها، وأن العقل تكوين بايولوجي له وظائف علائقية وظائفية بالجسم بما لا يمكن حصره وهو يتجاوز تعريف العقل أنه خاصّية تفكيرية تجريدية غير مادية.

هذا الإنقسام الذاتي الافتراضي للعقل على نفسه يجمع خاصيتي التجريد - البيولوجيا يقوم على جدل من العلاقة التي تشبه علاقة جدل الفكر والمادة، وجدل الفكر واللغة. هناك خاصّية جدلية للعقل تقوم على جدلية الفكرمع الإدراك العقلي المادي من جهة، وجدل آخر يحكم علاقة العقل بالجسد بايولوجيا في إشباع غرائزه مثل غرائز الجنس وحاجته للطعام والنوم والعيش المؤنسن مع مجتمعه والطبيعة وكذلك اشباع حاجات النفس والعاطفة والاخلاق والضمير والوجدان والقيم..

شذرة فلسفية

بمجيء ديكارت في القرن السابع عشر أراد إعطاء العقل ميزة متعالية على مباحث الفلسفة فأوقع نفسه في خطأ لم يكن يتصوره تحت وطأة تطوير فهم افلاطون أن العقل تجريد لغوي لا يخضع لمنظومات العقل البيولوجية الادراكية.. فعمد افلاطون  إختصار ومصادرة الجدال البايولوجي حول العقل في تأكيده المنحى الفلسفي المنطقي للعقل انه جوهر منفصل عن الجسم ماهيته ملكة التفكيرفقط وأهمل عن قصد العقل كتكوين بيولوجي يرتبط بجسم الانسان...كما ينسب لديكارت قوله مؤيدا لما يسمى المثنوية (علاقة العقل بالجسم) " العقل غير محدود في إطاره الفيزيائي، فهو جسم غير مادي" نقلا عن ويكيبيديا الموسوعة.

يبدو لي على الأقل وجود تناقض بالعبارة فما هو فيزيائي يكون بالضرورة الماهوية ماديا وليس غير مادي. وكل فيزيائي مدرك حسيّا هو مادي، والتناقض الآخر حين يعتبر ديكارت العقل قدرة غير محدودة فيزيائيا لأنه غير مادي؟ قدرة العقل غير المحدودة فيزيائيا هي كون العقل يجمع خاصيتي الادراك الحسي التجريدي للاشياء في التعبيرعنها بالفكر واللغة. وهذا لا ينفي خاصيته الثانية التي هي العقل ماديته العضوية البيولوجية داخل تكوينات اعضاء الجسم يجعل من جوهر العقل انه فيزيائي بايولوجي وليس تجريدي لغوي فقط.. ما اراده ديكارت في انحيازه الى جوهر العقل تجريد هو التاكيد على خلود الافكار وفناء بيولوجيا العقل.

العقل سواء إعتبرناه عضوا ماديا بيولوجيا في جسم الانسان،أو إعتبرناه تجريدا إدراكيا لغويا لا يرتبط بالجسم ففي كلا الحالتين هي حالة إثبات فيزيائية العقل،وحالة تجريديته التفكيرية لا تغيّر من حقيقة جوهر العقل في حال كونه عضوا غير مادي أو يجمع الصفتين معا(المادية والتجريد) كما نقول نحن، ودليل ذلك العقل يجمع ثنائية التعبير التجريدي عن جميع الحالات الادراكية داخل الجسم وخارجه لا فرق. وبذا تنتفي حاجة تصنيف العقل ماديا فيزيائيا يحتويه الجسم تارة، وجوهر ماهيته التفكير منفصلا عن الجسم تارة أخرى. فالعقل موجود فيزيائي(بيولوجي) غير منفصل عن الجسم ماهيته التفكير والإستجابة لكل ردود الإفعال الصادرة عن مدركاته من الاشياء والموجودات في العالم والطبيعة. ومسؤول عن ردود الافعال الواردة اليه في ضرورة اشباع غرائز الانسان التي يحتاجها الجسد داخليا ايضا.

شذرة فلسفية

يعزى لديكارت أنه كان أول من أعطى العقل أسبقية ربطه بالوعي والادراك الذاتي. بمعنى ديكارت أراد تجريد العقل من خاصيته البايولوجية تماما التي تقود مسؤوليته الوظيفية خارجيا وداخليا في استجابته للمحسوسات في العالم الخارجي والاحاسيس الغرائزية الداخلية الصادرة عن اعضاء الجسم بالفطرة، فأوقع ديكارت نفسه في كمين لم يكن أمر تجاوزه سهلا هو إنكاره ان يكون العقل عضوا بايولوجيا يحتويه الجسم ويقوم بمهام وظيفية يعتمدها العلم تتجاوز الفهم الفلسفي المحدود أن العقل جوهر منفصل عن الجسم ماهيته التفكير المجرد فقط وهو خالد. بمعنى إستنسخ ديكارت مقولة افلاطون السابق ذكرها العقل ليس خاصية بيولوجية عضوية بل هو خاصية تفكيرية تجريدية فقط.. السبب بذلك ان افلاطون كان فيلسوفا وليس عالما في فسلجة وظائف الاعضاء، يدرس الطبيعة في موجوداتها وفي خصائصها ايضا وعلاقة الانسان بها. ديكارت ليس غفلا ان العقل البيولوجي غير خالد يفنى بفناء الجسم. كما وخطأ ديكارت الاكبر هو في إعتباره العقل جوهرا مستقلا عن الجسم والعقل خالد خلود النفس الانسانية، والحقيقة البايولوجية التي تحكم الكائن الحي يتقدمها الانسان، أنه لا يبقى جوهر مستقل خالد لا للعقل ولا للنفس بعد ممات الجسم وفنائه البايولوجي.. من الواضح ان ديكارت تجاوز عمدا او سهوا اهمية الفرق بين النفس والروح؟

ديكارت لم يكن خافيّا عليه تشريح العقل فسلجيا كعضو بايولوجي يمثل أحد أهم أعضاء جسم الانسان في تعامله مع مدركات العالم الخارجي والحياة، بدليل مقولته الفسلجية الخاطئة التي قال بها ديكارت عن الغدة الصنوبرية الموجودة وسط الدماغ انها مرتكز ومحور تفكيرنا. حيث إفترض ديكارت حتمية وجود مكان معيّن في الدماغ يجرى فيه تجميع المعلومات قبل إرسالها إلى العقل اللامادي في تعبير الفكر واللغة تجريديا. وكان المرشّح الأفضل لهذا المكان، بالنسبة لديكارت، هو الغدة الصنوبرية، وذلك لأنه رأى أنها الجزء الوحيد من الدماغ الذي يملك بنية واحدة، على عكس بقية الأجزاء التي تنقسم بين النصفين الأيمن والأيسر للدماغ.

يلاحظ هنا إصرار ديكارت مغالطة نفسه قوله ما معناه ان منظومة العقل الادراكية هو تجميع المعلومات وإرسالها الى العقل اللامادي ويقصد به العقل غير الفيزيائي غير العضوي بالجسم. وبهذا يريد ديكارت تأكيد فلسفته أن جوهر العقل تجريد تفكيري خالد فقط كما هي النفس خالدة. وهو العقل اللامادي الذي تهتم به الفلسفة كتجريد لغوي منطقي، وليس عقلا علميا يشمل وظائف الاعضاء وعلم النفس السلوكي. في حين الحقيقة العلمية والفلسفية تقول خاصية العقل انه جوهر فيزيائي بيولوجي قبل خاصيته ان يكون جوهرا تفكيريا لغويا تجريديا. الانسان مخلوق مادي قبل ان يكتسب ميزته اللغوية.

الحقيقة التي عبرها ديكارت عن قصد أن العقل جوهر واحد مادي بيولوجي وغير مادي تجريدي مفكرا معا، فهو في الحالتين العقل خاصيّة تجريدية إدراكية لغوية بنفس وقت هو خاصّية بيولوجية عضوية مسؤولة عن الجسم وخاصية لغوية تجريدية. ولا يمكن الفصل بينهما مطلقا. تماما كما في إستحالة الفصل بين الفكر واللغة. سيرة حياة ديكارت تشير الى أنه كان مولعا وممارسا لعلم وظائف الاعضاء وتشريح جسم الانسان إضافة الى ولعه بالرياضيات ومنجزات العلم وهذا يعطينا حقيقة أن ديكارت لم يكن فيلسوفا يتعامل مع مباحث الفلسفة كتجريد عقلي. بل يتعامل مع العقل كعضو بايولوجي يحتويه جسم الانسان كبقيّة أعضاء الجسم الحّي ماهيته التفكير التجريدي ولم يقل خصائصه البيولوجية الاخرى التي لاحصر لها..

ديكارت كان ملمّا الماما كاملا بأجزاء تكوين الدماغ وعمل الفص المّخي الايمن بإختلافه عن عمل الفص المّخي الايسر بالنسبة لجسم الانسان حيث تكون فعاليات عمل الفص المّخي الايمن مسؤولا عن الجهة اليسرى من الجسم طوليا، وعمل الفص المّخي الايسر مسؤولا عن وظائف النصف الأيمن من الجسم طوليا. وعندما يعطب الفص الايمن من الدماغ ينشل الجانب الايسر من جسم الانسان طوليا.

مع هذه المفارقة المعرفية العلمية المطلع عليها ديكارت جيدا علميا لكنا نجده أهمل وظيفة عمل الدماغ كعضو بايولوجي من تكوين جسم الانسان على حساب تركيزه على العقل بإعتباره لوغوس (عقل / خطاب) فلسفي تجريدي خالد كان معروفا تماما عند فلاسفة اليونان القدماء. ولم يكونوا عارفين تكوين العقل بايولوجيا كونه إختصاص علمي متقدم ظهر لاحقا بعد قرون من ظهور الفلسفة اليونانية التي تقوم على منطق العقل التجريدي اللغوي. ديكارت والعديد من الفلاسفة السابقين عليه لم يكونوا يعطون تمييزا واضحا بين العقل التجريدي الذي ماهيته التفكير وبين العقل البايولوجي (الدماغ) المسؤول عن إشباع كل إدراكات الانسان وسلوكه بالحياة ومحاولة فهم الطبيعة والوجود..عديدة هي المداخلات التي مركز دورانها العقل، فمثلا أصحاب ثنائية العقل والجسم الفلسفية تؤكد بداهة الفكر هو تجربة الوعي المجرّد عن المادة. وهي مقولة صحيحة إذا أخذنا الوعي هو تجريد لغوي يتبع تجريد العقل.

شذرة فلسفية

عمدت الفلسفة الهندوسية واليوغا منذ حوالي650عاما قبل الميلاد تقسيمهم العالم الى عقل وروح ومادة. بغض النظر عن مدى صّحة أو خطأ التقسيم الفلسفي الهندوسي، نطرح بشكل بسيط إشكالية العقل في علاقته بالنفس والروح، ثمة خطأ تداولي بادبيات الفلسفة إعتبارهم لفظة (النفس) مرادفا تطابقيا في التعبير عن معنى (الروح)، المعضلة الواضحة التي لا يصار الإعتراف بها أن مصطلحي النفس والروح كلاهما مصطلحان تجريديان منفصلان عن بعضهما في إرتباطهما بالعقل وجسم الانسان. يوجد من ينكر على العقل العاطفة والوجدان والضمير ويعزوها لاختصاصات علم النفس المنفصل عن وصاية بيولوجيا العقل.

وبضوء مرجعية هذا التعالق نقول أن النفس ليست هي الروح في دلالة ثنائية مختلفة المعنى وليس في دلالة مرادفة أحادية المعنى، ما نعني به النفس بعلاقتها بالعقل والجسم هي نفسها لفظة الروح في ترابطها بنفس العلاقة مع العقل والجسم. لكن يبقى التفريق بين النفس هي غير الروح قائما فرقا جوهريا لا يمكن إغفاله.

كما إعتبر ديكارت النفس أو والروح – بدون تفريق بينهما - جوهرا منفصلا تجريديا مرتبطا بالعقل والجسم، يشملهما خلود العقل كجوهر خالد حسب ديكارت. وهو خطأ بني على خطا سابق عليه في إعتبارهما النفس والروح جوهرين منفصلين عن العقل والجسم لا يقل فداحة من خطأ إعتبارهما جوهرا واحدا خالدا ملازما خلود العقل. الخالد من الانسان بعد الممات هو تجريد العقل اللغوي الفكري فقط. اما العقل البيولوجي- عجينة الدماغ- فمصيره الفناء بعد الممات البيولوجي للجسم. النفس هي مجموعة الخصائص والفعاليات والعواطف والضمير والسلوك المرتبط توضيحه بعلم النفس السلوكي، والنفس تشكيلات عاطفية شعورية ولاشعورية مبعثها الإحساسات في العالمين الداخلي والخارجي.. والنفس رغم أنها من ناحية الإدراك المرتبط بالعقل هي تجريد صرف قبل تحوّل المدركات الى سلوك وعواطف ومشاعر وعلاقات اجتماعية يجري التحقق منها في السلوك المرتبط بوصاية العقل عليها. الفرق بين عجز العقل التفريق بين العاطفة بمجموع تجلياتها وبين الروح الميتافيزيقية هو في استطاعة العقل التعامل مع تجليات النفس وعجزه التعامل مع ماهية الروح وماهي بالضبط؟ وما هو اثبات ملازمتها ومغادرتها الجسم؟ بالحياة وبعد الممات. العقل حقيقة تفكيرية في الوجود وفي الميتافيزيقا التي لا فائدة منها في استحالة وصول العقل لاثباتات ميتافيزيقية يمكن اعتمادها.

إذن النفس وارتباطات مباحثها بعلم النفس لا تمتلك إستقلالية جوهرية منفصلة عن العقل بيولوجيا ولا عن الجسم سلوكا ايضا، بل النفس هي فعالية خاصّة يمتلكها الانسان بتعالقها مع توجيهات ووصاية العقل عليها. وجميع إفصاحات النفس التي مررنا على ذكر بعضها لها إرتباط وثيق بعقل الجسم الحي غير الميّت.

كما أن ربط النفس باللاشعور يلغي عنها ويجرّدها أن تكون النفس وعيّا إدراكيا يتمّثله السلوك الواعي الشعوري في التعامل مع الحياة ويجردها من خاصية أن النفس وعي قصدي وسيلة تنفيذه السلوك. نعود التذكير بخطأ ديكارت قوله النفس جوهر خالد يلازم جوهر العقل بالخلود كليهما بعد فناء الجسم بعد موته. الحقيقة العلمية تقول ليس هناك من خلود للنفس ولا الروح ولا العقل البيولوجي الذي هو الدماغ بعد فناء الانسان بالموت. خلود الروح تقول به ميتافيزيقا ادبيات الاديان ولا تقول به الفلسفة ولا يقول بها العلم ايضا..

والروح التي ليس لها علاقة بالنفس، ولا بالعقل غير تعالقها الميتافيزيقي الديني غير المحسوم جدليا لا على مستوى العلم ولا على صعيد الدين ولا على صعيد الفلسفة أيضا، فالروح مصطلح ميتافيزيقي مبهم وغامض على صعيدي الدين والفلسفة وليس بمستطاعتهما تعريف ماهية الروح وأين يكون موضعها في الجسم أو على الاقل معرفة مصدرها ومن أي شيء تتشّكل، فالروح تسكن الجسد من غير إدراك عقلي لها لا بالماهية ولا بالصفات سوى الإتفاق على تعبير غائم أن الروح تفارق جسم الانسان بعد وفاة هذا الأخير سريريا. وادبيات الاديان تتعامل مع الروح أنها لا تعني النفس بمصطلح علم النفس كما يجري الخطأ بالفلسفة.

شذرة فلسفية

ننتقل الى إشكالية أخرى ما هي علاقة الذهن بالعقل؟ الرائج فلسفيا الذهن هو مصدر التفكير بمدركات الحواس وهو خطأ دارج متداول فلسفيا، في البدء علينا توضيح هل الذهن خاصّية تفكير بمعنى التوليد كما هي وظيفة الدماغ؟، أم الذهن خاصّية إدراك داخل منظومة العقل الإدراكية؟. الحقيقة الذهن هو حلقة إدراك في إستلامه الإنطباعات الواصلة اليه عبر الحواس. ولو إعتبرنا الذهن مركز تفكير وتفسير لمدركات الانطباعات الخارجية، لأصبح تنحية دور العقل في وصايته على عملية الادراك منذ بدايتها بالحواس وإنتهائها بالمخ التي هي جميعها فعالية تجريدية يقوم بها عقل مادي عضوي في جسم الانسان لاغية.

علاقة الذهن بالعقل التفكيري التجريدي هو حلقة في منظومة العقل الإدراكية وليست عضوا ماديا. وإعتبار الذهن ينوب عن وظيفة العقل بالتفكير خطأ لا يمكن تجاوزه. تفكير العقل خاصيّة دماغية وليس خاصية ذهنية. كما الذهن ليس خبرة معرفية مخزّنة بالذاكرة بل هو واسطة معرفية لنقل الانطباعات الاولية من الحواس لشبكة الاعصاب الناقلة لايعازات الحواس عن مدركات العالم الخارجي. اما العقل البيولوجي – الدماغ تحديدا - مع منظومة الاعصاب ومراكز وظائف عمل اجزاء خلايا التخصص في قشرة الدماغ فهي مخزن التجارب لعمل العقل او بالتحديد عمل الدماغ. الذهن كما هو ليس تفكيرا عقليا فهو ايضا لا علاقة له لا بالذاكرة ولا بالخيال.

ولو نحن إعتبرنا الذهن هو حلقة عضوية- اعتقد علم فسلجة الاعضاء اشّر الخلايا العصبية المسؤولة عن فعالية الذهن- التي ترتبط تحديدا بخلايا موجودة بقشرة الدماغ عبر شبكة منظومة الجهاز العصبي، لتوجب علينا التفريق البيولوجي بين تفكير العقل وتفكير الذهن... امام هذا الاستشكال نرى ما تقول به ويكيبديا الموسوعة " الفرق بين تفكير العقل وتفكير الذهن ان العقل هو القدرة على الادراك والتفكير والفهم. بينما الذهن فهو المكان الذي تتواجد فيه الافكار والمعلومات. العقل هو وظيفة للدماغ اما الذهن فهو المكان الذي تجري فيه العمليات العقلية وفقا لموقعه في خلايا الدماغ. بمعنى اوسع العقل هو القدرة على التفكير المنظم والممنهج، بينما الذهن هو المكان الذي يتم فيه الابداع والتفكير. العقل يتيح لنا ان نفكر بطريقة منطقية، وان نحل المشكلات وان نتخذ القرارات، اما الذهن فهو يتيح لنا التعبير عن افكارنا ونتخيل الاشياء وان نكون مبدعين." انتهى الاقتباس عن الموسوعة.

لا بد لي من تسجيل بعض الملاحظات:

- كان ذهب ديفيد هيوم الى ان الذهن واسطة نقل محسوسات الحواس الى الدماغ واطلق على هذه العملية نقل الذهن للانطباعات الاولية. كما اعتبر هيوم ويشاركه بيركلي ان تفكير الذهن هش ومتحلل وآني زائل بالقياس الى ناتج تفكير العقل.

- ورد في الموسوعة ان الذهن يضطلع بمهمة التعبير عن افكارنا وتخيّل الاشياء وابتكار الابداعات. واعتقد في هذا لبس تقريب ما يجري بالذهن مع ما يجري بالمخيلة وقدرة الانسان على خلق الابداعات. كما اشرنا سابقا تفكير الذهن لا علاقة له لا بالذاكرة ولا بالمخيّلة.

- ورد بعبارة الموسوعة ان الذهن هو مكان تخزين المعلومات فاين اصبحت مهمة الذاكرة؟ وارتباطها بالمخيلة المسؤولة عن تنظيم خلق الابداعات الفنية والادبية في مزج الشعور باللاشعور. والذاكرة هي مركز تجميع وتخزين المعلومات وليس الذهن كما ورد في الموسوعة.

- علاقة الذاكرة بالمخيال في انتاج الابداعات هو المعوّل عليه وليس تفكير الذهن المستقل عن تفكير الدماغ او العقل.

الحقيقة الفلسفية التي لا يمكن تجاوزها أن العقل الذي هو وظيفة الدماغ يحتوي الذهن ضمن منظومة الإدراك التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ . ولا يعني هذا استغناء العقل عن مهمته في أن ينوب الذهن الإستئثار بخاصّية التفكير العقلي وينوب عنه. وبذا يكون الذهن حلقة توصيلية في منظومة الادراك العقلي.

الذهن كما يصفه بيركلي وديفيد هيوم هو الحلقة الإدراكية التي تستلم الإنطباعات الخارجية الاولية المنقولة عن الحواس ونقلها الى العقل البيولوجي(الدماغ) عبر منظومة شبكة الجهاز العصبي بلا تغيير يطرأ على تلك الانطباعات. ونضيف الذهن ليس مصدر تفكير ينوب عن وعي العقل التفكير في إصداره مقولاته الفكرية التجريدية بتعبير اللغة عن المدركات، وهذه الخاصيّة العقلية لا يمتلكها الذهن كونه لا يستطيع التعبير عن مدركات الوجود خارجيا وداخليا دونما مرجعية العقل الخالص في مقولاته التي حصرها وأجملها كانط بإثنتي عشرة مقولة.

هناك مدرسة فيزيائية عقلية حديثة تعتمد النزعة العلمية تذهب أنه بالنهاية لا يوجد في عمل العقل غير العمليات الفيزيائية التي تقوم على الخاصّية البايولوجية للعقل، معتبرين كل الخصائص العقلية هي خصائص فيزيائية حتى تعبير اللغة التجريدي، سواء فهمنا العقل جوهرا مفكرا تجريديا أم إعتبرناه عضوا بايولوجيا في الجسم. وهي براينا فلسفة واقعية حقيقية صائبة.

بناءا عليه نقول أن الإحساسات الخارجية التي يدركها العقل عن العالم الخارجي إنما يكون رد الفعل العقلي عليها هو تجريد فكري، بينما تكون الأحاسيس التي تثيرها أجهزة الجسم الداخلية مثل الشعور بحاجة الجنس الغريزية او بالجوع أو العطش أو الالم أو الحزن الخ فيكون رد الفعل العقلي عليها عضويا داخليا سواء في إشباعها كغرائزبيولوجية أو في معالجتها كأعراض مرضية أو أحاسيس بيولوجية مصدرها أجهزة الجسم الداخلية العضوية وفي رد فعل الدماغ أشباعه غرائز الجسم...

شذرة فلسفية

تقاطع العقل والجسد: يذهب بعض العلماء والفلاسفة أن العقل لا يطابق رغبات الجسم ولا يطابق تلبية إحتياجات الجسم على الدوام،معتبرين إنفصال العقل عن الجسم حقيقة بيولوجية قائمة لا يمكن نكرانها. ما يرتّب فصل العقل عن الجسم ضرورة فك الإشكال القائم بينهما على أصعدة عديدة. من الأمور التي أجدها تفيد هذه الإشكالية من منطلق فلسفي فقط وليس من منطلق علمي ليس من إختصاصي:

- حاجات الجسم التي يحتاج بها ملازمة العقل في إشباعها تنقسم نوعين:

1. الاول حاجات المثيرات الناتجة عن عملية الادراك الخارجي مع موجودات العالم الخارجي والطبيعة والحياة.

2. الثاني حاجات إشباع النوازع الغريزية التي يحتاجها الجسم داخليا عبر إجهزته البيولوجية عن طريق ما تثيره من أحاسيس الجسم الداخلية مثل سد حاجة الجوع، العطش، الالم، الحزن، الفرح، النوم، الجنس الخ.

- السؤال الذي يثار بضوء ما ذكرناه أعلاه، هل هناك في كلتا الحالتين إشباع إحساسات الإدراكات الخارجية، وإشباع أحاسيس أجهزة الجسم الداخلية، حاجتهما الى مرجعية أخرى ذاتية أو غير ذاتية سوى العقل؟

بالتاكيد الجواب بالنفي، فجميع الإستشعارات الخارجية والداخلية الواصلة للجسم لا يستطيع الجسم تلبيتها دونما تكامل عمل العقل مع حركة الجسم، فلا العقل يستطيع إتخاذ الإجراءات اللازمة من دون حاجته لتنفيذ تلك الايعازات العقلية من قبل أعضاء الجسم في ملازمة ما يصدره العقل من ايعازات مطلوب تنفيذها. ولا الجسم يستطيع منفردا دون العقل القيام بتنفيذ ردود الأفعال لما يستشعره من احاسيس. .

- عليه لا يكون هناك حاجة أهمية مناقشة هل العقل جوهرا منفصلا عن الجسم أم لا ؟ كما ليس ذات أهمية مناقشة إختلاف حاجات الجسم بايولوجيا (فقط) عن تلبية حاجات العقل الادراكية التجريدية. لذا يتأكد ما سبق لنا ذكره أن العقل يمتلك خاصيتين أن يكون عضوا بيولوجيا بالجسم (دماغ ) في نفس وقت ملازمة صفته الادراكية أنه مركز التفكير المجرد في التعبير عن الاشياء المادية وغير المادية الخيالية والمبتكرة التي لا علاقة لها بالعالم الخارجي بوسيلة الفكر واللغة المجردتين. علما أن العقل في كل إستجاباته الادراكية الخارجية والداخلية إنما هي وعي تعبير تجريدي تمّثلي وتصّوري لغويا. الادراك الواعي جوهر لا مادي ماهيته نقل الاحساسات تجريديا عن اشياء وموجودات العالم الخارجي.

- لكن يبقى هناك إستدراك ضرورة التنويه له، هو إحتمال وارد جدا أن العقل يحتاج في إدارته إشباع حاجات الجسم تعتبر أساسية بالنسبة له، ثانوية بالنسبة للجسم، فالعقل بما يمتلكه من خاصيّات بيولوجية عضوية، وخواص تجريدية إدراكية وخيالية تكون أولوية مسؤوليته في إشباع حاجات الانسان برمّتها المادية منها، وغير المادية تقوم على عاتق مهام العقل منفردا دون الجسم أو معه، مثال ذلك أن العقل في المجال العلمي التخصصي لا يحتاج الجسم تنفيذ ما يرغبه الا في حركات إجرائية بسيطة مثل حركات اليدين والاحساسات الواردة خارجيا، نفس الشيء حين يحتاج العقل المخّيلة والذاكرة والإدراك الذهني الصرف، لانتاجية ابداعية يرومها في مجالات متعددة مثل الكتابة والتاليف في مختلف الاجناس الادبية والثقافية والفنية والفكر والمعرفة وضروب أخرى عديدة التي يتراجع فيها دور الجسم لإعطاء تقدم وأسبقية تفكير العقل وتداعيات اللاشعور القيام بتنفيذها.

شذرة فلسفية

هل معرفة عالمنا الخارجي تنفي واقعية ذلك العالم؟ ام العكس؟ وهل صحيح أن كل معرفة تستنفد نفسها حينما تكون محصورة بواقعية معرفتها؟ يقول شيلر ويؤيده دلتاي بذلك أنه لا يوجد غير ثلاثة مناهج معرفية هي معرفة استقرائية علمية، ومعرفة تنصب على الماهية، وثالثا منهج المعرفة الميتافيزيقية. هذا ليس موضوع مناقشتي لهذه الاطروحة حاليا.

كما يذهب شيلر ومعه دلتاي أن (العالم الخارجي وجود حقيقي، واذا كان كل موجود ينحصر في معرفته لما كانت لهذا الوجود "واقعية" لان الواقعية تصنع المقاومة في وجه مقاصدنا. وما يثبت الشيء هو الصدمة التي تحدثها لنا "المقاومة"). نقلا عن دكتور زكريا ابراهيم / كتابه دراسات في الفلسفة المعاصرة.

هذا التجريد الفلسفي العصّي على التلقي لا يمنعنا من تثبيت مايلي:

- يقر شيلر أن العالم الخارجي وجود حقيقي بمعنى أنه قابل للادرك حسيا وكذلك معرفته بإي منهج علمي متاح، وهذه المعرفة لا تنفي حقيقته الموجودية كينونة مستقلة. لا يصح التعميم ان موجودات العالم الخارجي تنتهي واقعيتها بمجرد الانتهاء من معرفتها التي تحدثها الصدمة التي مبعثها لنا المقاومة على حد تعبير شيلر. لا يشير شيلر ولا دلتاي توضيح علاقة ثلاث مفردات اقحمت مع بعضها إعتسافا غير فلسفي واضح. هي الواقعية والصدمة والمقاومة.

- معرفة العالم الخارجي طالما هو وجود حقيقي فهو يكون بالضرورة وجودا ماديا ولا يحتاج برهان اثباته الواقعي. وطالما موجوداته واقعية فلا تنحصر معرفتها الابستمولوجية بجانب فلسفي او بمنهج احادي. كما لا يمكن للمعرفة الادراكية في منهج الاستقراء العلمي تجريد موجودات العالم الخارجي من واقعيتها بعد استنفاد منهج الاستقراء العلمي معرفتها..

- موجودات عالمنا الخارجي هي موجودات حقيقية واقعية قابلة للمعرفة المنهجية. وليس لموجود بالمواصفات التي ذكرناه يستنفد واقعيته في تمام معرفته. ولا يوجد كما ذكرنا موجود تنحصر موجوديته في جانب معرفته المنهجية، التي تنفي واقعيته الموجودية امام المعرفة الادراكية للعقل.

- يذهب كانط الى أن العقل ليس كافيا للمعرفة ولا بد من توفر ما اسماه "مدخلات" نحصل عليها من العالم الخارجي لامتلاكنا المعرفة. وبدوري اجد المعرفة هي تراكم خبرة العقل في فهمه وتفسير الحياة والطبيعة والتعايش المتّكيف أو الاحتدامي المتصارع معها احيانا.

- لماذا كل موجود تتحدد موجوديته كمعرفة تنبعث عنه ما اطلق عليه شيلر" المقاومة" أية مقاومة يقصدها شيلر.؟ موجودات العالم الخارجي التي تمتلك خاصية انها تحمل معنى ادراكيا لغويا هي معطى للمعرفة ولا يحدث في خصيصته هذه انه يحمل معنى لا صدمة ولا مقاومة. عالمنا الخارجي بموجوداته المدركة معرفيا منهجيا علميا او غير علمي لا يمتلك وعيا ذاتيا مدّخرا في رفضه امتلاك مقاومة ذاتية طاردة لامكانية معرفته المتاحة لنا كموضوع.

- ما سبق واشار له فيلسوف اللغة لوفيدج فينجشتين أن تجريد موضوع الفلسفة لغويا من غير وضوح ملزم في المعنى يكون الصمت في هذي الحال أجدى. وإعتبر فينجشتين وأيده بشدة جورج مور عضو المنطقية الانجليزية حلقة اكسفورد بأن الوضوح الفلسفي اللغوي عامل اساسي في أن يكون للفلسفة وبخاصة فلسفة اللغة واللسانيات مستقبلا امام طغيان التقدم العلمي الذي يتهدد الفلسفة عامة.

- اخيرا رغم المآخذ السلبية على مقولة هيجل"كل ما هو واقعي هو عقلي وكل ما هو عقلي واقعي" تصبح المقولة الفلسفية صحيحة في اطلاقية مسلم بها لا تحتاج نقاشا يدحضها بضوء فهم شيلر ودلتاي لمعنى ان يكون عالمنا الخارجي بموجوداته واقعيا عقليا. بمعنى واقعية الموجود لا تحدده المعرفة به. بل يحدد واقعيته الادراك العقلي له وليس الصدمة التي تحدثها المقاومة المعرفية كما يذهب له شيلر.

شذرة فلسفية

لغة العقل: العقل هو تعبير اللغة عن معنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل صوريا تمثّليا لا تحضره وسيلة اللغة. ولا يوجد ادراك تصوّري عقلي لشيء يتم بلا تعبّير اللغة عنه . كي نفهم حقيقة العقل علينا التسليم بخاصيته الجوهرية التي هي ماهية التفكير المعرفي ولا يعقل العقل ما لا معنى له كما لا تستطيع اللغة التعبير عن شيء او موضوع لا يدركه العقل في معناه لغويا تفكيريا..العقل واللغة يتلازمان الاشتراك بوعي التعبير عن كل ماله معنى يكون موضوعا لادراك بالضرورة.

ان ندرك الشيء تفكيرا بلغة ابجدية صوتية ام بلغة صامتة فكلا التفكيرين هو ابجدية صورية تمّثلية واحدة لغوية يحكمها الصوت ودلالة المعنى للمفردة والجملة.. كل موجود في الطبيعة والعالم الخارجي ما لم تحتوه اللغة الصورية ويتمثله العقل لا يدرك العقل معناه ولا يعيه. ادراكات الحواس هي احساسات لغوية مجردة ينقلها الذهن للعقل لذا تكون انطباعات الذهن حسيّة تعيها اللغة ماديا. قلت بدءا العقل تفكير لغوي بينما ذهب سيلارز الامريكي قوله الوجود لغة واضيف انا العقل جوهر لغوي ولا معنى لوجود لاتعبّر عنه اللغة. العقل ماهيته التفكير اللغوي المجرد سواء اكان مصدر ادراكاته تكوينه البيولوجي (الدماغ) او سواء مرجعيته انه جوهر ماهيته تجريد مستقل في تعبيره اللغوي عن مدركاته الشيئية (لوغوس) أي خطاب.

في نفس الوقت الذي قال به هيجل الوجود هو الله وهي فكرة معنى لهوية الله.. واجد ان هذه التعبيرات واحدة في التعبير عن مفهوم واحد متداخل غير منفصل. أن العقل هو لغة معنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل لا تحضره اللغة تصوّريا ولا يوجد ادراك عقلي لشيء له معنى لا تعبّر عنه اللغة.

***

علي محمد اليوسف / الموصل

شذرة فلسفية

صحيح جدا ان الذات كخاصية انسانية يحتويها الديني ميتافيزيقيا، عندها تصبح الذات واقعا ماديا هامشيا في العمل المنتج الذي يمثل سلطة النفوذ المالي وملكية وسائل الانتاج.. لكن الاهم ان الذات تكتسب وعيها الطبيعي للاشياء سواء اكانت تحت وصاية الدين ام تحت وصاية وتسلط راس المال ووسائل الانتاج.

الذات لا يمكنها الانفصال عن الحياة والوجود المجتمعي في اسوأ الظروف والمراحل. وفي هذه الخاصيّة تتجنب الذات السقوط في الاغتراب الانفرادي بمضمونه السلبي في فقدان الانسان جوهر وجوده الاندماجي ضمن مجتمع منتج للحياة. الاغتراب الانعزالي الايجابي هو وعي قصدي محسوب البداية ومحسوب الوصول الى نهاية وهو ميزة غالبية الفلاسفة والعلماء والمتميزين من الكتاب في الاجناس الادبية.

لا تحقق الذات موجوديتها في ارتباطها بالديني الذي يحتويها في علاقة دائمية وحسب. بل تحقق الذات وجودها الانطولوجي السلوكي بالمغايرة الوجودية مع غيرها من غير وحدة المجانسة النوعية بين الذات وموجودات الطبيعة. تمايز الذات ضرورة وليست اختيارا. والا اصبحت الذات موجودة في كل شيء مادي تكوينيا وليست وعيا تجريديا في فهم الحياة. ثنائية الذات مع الروح والزمن هي علاقة يجمعها ميتافيزيقا المطلق ويفصلهما فقدان الانسان لحياتة بالممات. ولا يوجد ماهو روحي خالد ولا ماهو زمني غير ازلي خالد بفناء الانسان.

كما هي الذات وجود متحقق بوعي العقل الا انها تفقد انطولوجيتها الحسّية والادراكية في نهاية الانسان بالموت. مثلما لا يستطيع الانسان إثبات وجود الروح بالجسم قبل الممات فهو اعجز أكثر عندما يبحث عن مصير الروح التي غادرت الجسد بعد الممات.

شذرة فلسفية

الحداثة والعلمانية: في تفسيرنا العنوان يتوجب علينا توضيح العلاقة بينهما (الحداثة والعلمانية) هل هي علاقة جدلية ام علاقة تخارج معرفي تكاملي ام هي معرفة متوازية في توازي احدهما الاخر. العلمانية بداية هي الخروج من معطف الماقبل حداثي وتبلغ اوجها في الحداثة وتصل قمتها المتطرفة اكثر في ما بعد الحداثة..

العلمانية واقع معيش يكفل للانسان كرامته وتحفظ له كامل حقوقه بالحرية المسؤولة ديمقراطيا التي تقوم على جملة القوانين الوضعية التي ينتفع منها الانسان. الاستقلال في التضاد الافتعالي مابين العلمانية والدين ليست علاقة ديالكتيك نفي أحدهما في بقاء الاخر. لكن بينهما ترابط ميتافيزيقا الدين، وتاريخية منهج العلمانية التي تسود هيمنته على كل ما يتجنب الديني الخوض في معتركه وفي انقياده للعقل المادي.

ما يثبته العلم تجريبيا لا يخوض معتركه الدين. الحداثة لا تقاطع الديني كمقدس ولا تسعفه بالتكامل المعرفي معه ميتافيزيقيا. لذا يكون الاسلم ان يحكمهما الاثنين نوعا من التوازي الاستراتيجي الذي يحفظ الاستقلالية لكليهما. من الخطا التفكير ان منجزات العلم ستترك الجوانب الروحية النفسية يقررها الاستفراد التدين الوضعي ويقرّه مستقلا به وحده..

شذرة فلسفية

ورد في ويكيبيديا الموسوعة في دفاع هيجل عن الحاد اسبينوزا ما يلي" ان هوية الله مع الطبيعة تلغي فكرة الله. والاصح ان هذه الهوية تلغي الطبيعة. وبدلا من اتهام اسبينوزا بالالحاد ان لا يسمى بالالهية بل يسمى بالكونية او اللاطبيعية بحيث لا يكون للكون وجود في ذاته. لان كل ما يوجد انما يوجد في الله".

اجد في تعبير هيجل حول توضيح معنى مفهوم وحدة الوجود لدى اسبينوزا تحليلا دقيقا سليما في تفعيله العقل معرفة دلالة هوية الخالق. ويذهب بعض الفلاسفة ان اسبينوزا له من الاعتقاد بالله ما يكفي او يزيد ما يجعله بعيدا عن الالحاد. اسبينوزا انكر المعجزات الدينية ولم ينكر الدين.

هيجل حينما استعار فكرة (هوية الله) المتجانسة مع الطبيعة على انها تلغي فكرة الطبيعة كانت فكرة صائبة تنظيريا لكنها خاطئة واقعيا. هذا لا يعني ان اسبينوزا لم يفهم الفرق بين هوية الله في الطبيعة التي هي مرتكز فلسفته بوحدة الوجود. وبين هوية الله الميتافيزيقية في مرجعية ما تقوله الكتب المقدسة والمعجزات الدينية.. الطبيعة ادراك محدود غير كوني ولا نهائي لا يجوز الاستدلال به في الغاء هوية الله الميتافيزيقية غير المحدودة لا بالصفات ولا باللامتناهي ولا في كل مطلق لا تدركه عقولنا المحدودة..

شذرة تاسعة

وحدة الوجود في فلسفة هيجل واسبينوزا: مذهب وحدة الوجود عند اسبينوزا يشبه الى حد كبير وحدة الوجود عند هيجل بفارق نوعي كبير. وأكثر مما يشبه وحدة الوجود عند هنود ألمايا، ويقرّ هيجل أن اسبينوزا كان محّقا الى حد ما عندما تصّور المطلق جوهرا واحدا، لكن المطلق بالفهم الفلسفي الهيجلي أبعد ما يكون عن فهمه أنه جوهرالهي. لذا نجد وجوب معاملة الجوهر "ذاتا" وليس هناك شيء بالمطلق لا يكون عقليا، من الممكن معرفته وتصوره عقليا ..

وحدة الوجود عند اسبينوزا حين يلتقي مع فهم هيجل، فهذا مؤشر على وجود إختلاف جوهري كبير بينهما يصل مرحلة التضاد. أهمها بداية أن أسبينوزا يفهم وحدة الوجود فلسفيا بمرجعية لاهوت الإيمان الديني بالخالق خارج الإيمان بالمعجزات، في حين يعمد هيجل فهم وحدة الوجود من منطلق فلسفي مادي على صعيد الفكر لا ديني يقوم على وحدة الادراك الكليّة العقلية في نزعة واقعية لا ميتافيزيقية..

اسبينوزا يرى بالمطلق الأزلي الشامل الإلهي جوهرا لا يمكن إدراكه خالق غير مخلوق، بدلالته ندرك الجواهر الاخرى في الطبيعة والاشياء. بينما نجد النزعة العقلية لدى هيجل تذهب خلاف اسبينوزا أن الله والطبيعة والانسان والميتافيزيقا تقوم على فكرة مطلقة واحدة عقلية لا دينية تجد أنه لا يوجد شيء حتى الروح لا يطالها الإدراك العقلي. فكرة المطلق الهيجلية تجدها تمّثل مدركات موجودات الواقع في كل شيء يدركه العقل.

مفهوم الجوهر يختلف تماما بين الفيلسوفين، ونجد هيجل متناقضا مهزوزا في فهمه الجوهر الذي يقصده اسبينوزا ولا يؤمن به، حيث يقول هيجل: اسبينوزا على حق في إعتباره المطلق جوهرا لا يمكن إدراكه، ليعود ينقض قوله هذا أن المطلق لا يلتقي الجوهر وهو خال من جوهر لا يدركه العقل.. تناقض هيجل يتعدّى هنا مفهوم الجوهر في الوجود الى الفكرة المطلقة التي تطال فيها مركزية العقل كل شيء.

هيجل يرى المطلق هو الواقع الذي يدركه العقل. مطلق وحدة الوجود عند هيجل هو مطلق إدراك العقل لكل شيء يكون موضوعا لتفكير العقل به. الفكرة المطلقة عند هيجل لا يمكن تحديدها فهي الوجود والصيرورة وهي الكيف وهي الماهية وهي الطبيعة والفكرة الشاملة (العقل).

هيجل لا يؤمن بجوهر مثالي غير عيني غير مدرك لا على مستوى الطبيعة ولا على مستوى المطلق الكوني الالهي. لذا يدعو الى معاملة الجوهر "ذاتا" يمكن حدّها وإدراكها العقلي المباشر في التعامل معها، وهو خلاف صميمي بالإجهاز علىفلسفة اسبينوزا في وجود جوهر كليّ شامل متكامل نعرف الوجود كاملا بدلالته. حينما نعامل الجوهر (ذاتا) كما يرغب هيجل نعامله كمدرك عقلي، يمكن تذويته بالموجودات التي ندركها على أنها صفات خارجية هي ماهيّة لا يحتجب جوهر وراءها، وهذا ينطبق على الحيوان والنبات والجمادات التي تكون جواهرها هي صفاتها الخارجية المدركة في ملازمة وجودها الواقعي.. لذا يوجد من يعتبر كائنات الطبيعة ما عدا الانسان جواهرها الماهوية تسبق وجودها في الطبيعة وعلاقة الانسان بها. لان الجوهر عند كائنات الطبيعة ماعدا الاستثناء الانسان مكشوف الدلالة. بخلاف الانسان وجوده المادي يسبق ماهيته كما رسّخت ذلك الفلسفة الوجودية الحديثة والماركسية. نستدرك أن معظم الفلسفات المعاصرة والحديثة تذهب الى أن جميع كائنات الطبيعية هي بلا ماهية ولا جوهر خفي، وصفاتها الخارجية المدركة هي ماهيتها وجوهرها معا ايضا.

إعتبار الجوهر ذاتا كما يدعو هيجل يعني يمكن إدراك جواهر كل الاشياء عقليا حسّيا كصفات خارجية للموجودات، وإذا سحبنا هذا التصور التذويتي في تشييء الخالق الجوهر المطلق (ذاتا) عندها يتاح للعقل إدراكه وينسف معنى التصور الديني الاسبينوزي أن الجوهر لا يدرك عقليا بل يحدس بمخلوقاته وموجودات الطبيعة. والجوهر عند اسبينوزا هو سبب الموجودات وليس ناتج محتوياتها. ولا يدرك الجوهر الإلهي بدلالة مخلوقاته بخلاف ما يعتقده العديد من الفلاسفة.

اسبينوزا يعتبر الجوهر الانساني سابقا على الوجود الشيئيء بخلاف الفلسفة الوجودية تماما، التي ترى الوجود يسبق الماهية او الجوهر. بمعنى ما عدا الانسان الذي لا يمكننا معرفة جوهره من ناتج ومحصلة إدراكنا لصفاته الخارجية، وجود الانسان سابق على ماهيته وجوهره الذي هو تصنيع ارادة ذاتية خاصّة بالانسان في حين نجد الحيوان والنبات والجمادات لها صفات خارجية فقط خالية من إحتجاب جوهر داخلها، وماهيتها كصفات وسائلية للانسان تسبق وجودها الانطولوجي. كل شيء تحتويه الطبيعة ما عدا الانسان هي موجودات لا تمتلك جوهرا. وندركها موجودات انطولوجية بصفاتها الخارجية فقط وهذا كاف كما تجده الماركسية والوجودية.

وحين يعتبر هيجل المطلق ذاتا يعني أضفى عليه صفة الإدراك الممكن له، وبذلك يفقده خاصّية الجوهر المطلق الإلهي في تعاليه على الطبيعة والكون والانسان. حين يقول اسبينوزا في معرض محاججته عن الجوهر إنني لم أنزل التعالي الإلهي الى مصاف الطبيعة الارضية في مذهب وحدة الوجود، بل حاولت رفع شأن الطبيعة بتقريبها من الجوهر الخالق لها. نجد هيجل أراد العكس في محاولته تذويت الالهي التشيئي كي ينزله من تعاليه على الطبيعة الى مساواته بها فيكون هذا التذويت التشييئي للخالق لا يختلف عن إدراك فكرة المطلق أنه يدرك كل شيء من ضمنها الذات الالهية فلا يوجد مطلق لا يدركه العقل لا دينيا ولا واقعيا كونيا ولا يبقى بعدها معنى ميتافيزيقي يراود قلق الانسان بالحياة في البحث عن الله.

نجد من المهم توضيح أن هيجل لا يأخذ مذهب وحدة الوجود وسيلة ألكشف عن شك يفقدنا برهان ألوصول لإيمان ديني، بوجود الخالق كجوهر نعرفه بدلالة الاعجاز التنظيمي في موجودات الطبيعة، فالفكرة المطلقة عنده هي الكلّي الشمولي الادراكي، وهي كل الواقع والكوني الذي في قدرة العقل إدراكه. ليس للبرهان على وجود مطلق كوني إلهي لا يدركه العقل حسب مفهوم اسبينوزا، وهو خالق الطبيعة وقوانينها الثابتة التي تحكمها بكافة تكويناتها من ضمنها الانسان.

هيجل لا يؤمن بميتافيزيقا خارج الطبيعة والمطلق الكوني رغم نزعته الفلسفية المثالية التأملية. ولا يوجد ما هو خارج قدرة العقل يمكن إدراكه. والطبيعة والكوني حسب هيجل أنهما القوانين التي تحكمها ويدركها العقل كونه جزء من الفكرة المطلقة إن لم يكن هو كل تلك الفكرة. المادية والميتافيزيقية التي هي أجزاء تكوينية لعقل مطلق هو فكرة مطلقة تدرك كل شيء ولا إدراك لشيء خارجها يمكن أن يكون موضوعا لادراك وتفكير العقل به..

شذرة فلسفية

العبارة التي وقفت عندها متأملا هي مقولة سارتر (جوهر الانسان الحقيقي أنه بلا جوهر) من السهل جدا أن نحسم خطأ العبارة بمصادرتها من نهايتها، ونقع نحن أيضا بالخطأ مع سارتر أن الانسان لا جوهر له في حين هو يمتلك جوهرا قيد التكوين والتصنيع مدى الحياة حسب فلسفة سارتر الوجودية نفسه. .وكي نناقش العبارة نقول الانسان يمتلك كينونة وجوهرا، لكن متى يكون الانسان فاقدا لجوهره ومتى يكون مالكا له؟ الجوهر في فلسفة سارتر سيرورة من الخلق الذي يلازم الانسان الى مماته.

هذا يتوقف على المرحلة العمرية للانسان ويتوقف ايضا على موقفه النفسي الصحّي، فالطفل يولد موجودا بلا ماهيّة ولا جوهر، صفحة بيضاء كما يعبر جون لوك، والجوهر الانساني في جميع المراحل العمرية هو عملية تصنيع ماهوي تلازم الانسان منذ الولادة والى الممات. أما المجنون فهو يمتلك وجودا لا جوهر حقيقي طبيعي سوّي له.

تصنيع الجوهر عند الانسان يقوم على ركيزتين الاولى أنه يعي ذاته عقليا طبيعيا كموجود في عالم، والثانية يعي مدركاته الخارجية بنوع من المسؤولية التي تتطلب قدرة على إمتلاك الحرية في إتخاذه القرار الصائب. . والجوهر الانساني ماهيّة يشّكلها الوعي الذاتي والمحيطي الطبيعي وتتجلى في صورة سلوك مجتمعي هادف بالحياة.

 ولتوضيح أكثر نجد:

* الوجودية تؤمن أن الانسان موجود طبيعي نوعي قبل أن يكون جوهرا محتجبا خفيا، فالانسان يوجد أولا وبعدها تتشكل ماهيته أو جوهره ذاتيا حسب مؤهلاته وقدراته وإمكاناته الفردية ومميزاته الخاصة به كفرد.

* يمتلك الانسان جوهرا ماديا مكتسبا مصدره الحياة التي يعيشها وتجاربه وخبراته ومميزاته الثقافية والسلوكية في تكوينه لشخصيته. بمعنى الانسان يصنع جوهره بقواه وإمكاناته الذاتية. الانسان كائن نوعي موجود بالطبيعة جزء منها متمايزعنها بصفات العقل والذكاء والوعي بالذات والمحيط والخيال.

شذرة فلسفية

من المرجّح أن جاستون باشلار أراد القول أن طرق الوصول الى المعرفة طرقا عديدة ومتنوعة بعديد وتنوع مواضيع المعرفة المختلفة، لذا إعتبر عدم إقصاء الذات المحضة، يحد من لا محدودية المعرفة بإعتبارها فضاءا مفتوحا يصل الى أن يكون مبحثا ميتافيزيقيا.

باشلار يجد في الباحث العلمي إستحالة وصوله مرحلة التحرر من مكبوتات اللاشعور المعيقة والآراء المسبقة التي تجعله يصل مرحلة حيادية نقدية متحررة من كل معيقات الإنحياز للمعرفة العلمية الخالصة.

من الملاحظ في فلسفة باشلار أنه من حيث تعالق المعرفة العلمية بالوعي التجريبي نجده في تحوله الفلسفي اللاحق يغادر اهمية فلسفة العقل في معرفتنا العالم، متجها نحو دراسة جمالية ألمكان والشعر والفنون التي هي الطابع النسقي العلمي العقلي الذي كانت تحكمه مواضيع مؤلفاته الاولى، الى مجالات مفتوحة لا يستطيع منهج نسقي يحتويها نظاميا مثل الكتابة الفلسفية عن الفن والجمال والشعر فهذه مباحث لا يحتويها النسق المعرفي القائم على وعي علمي معرفي بل على نسق قيمي اكسيولوجي يحكمه منهج علم النفس واللاشعور والعاطفة والوجدان والاخلاق.

شذرة فلسفية

بضوء بعض الاقتباسات لباشلار نستطيع المقاربة الفلسفية منها وتوضيحها بعد تثبيتنا لبعض منها: "الواقع لا يكون ابدا ما يمكن ان يظن انه عليه، بل هو دوما ما كان علينا نعتقده، وكل كشف لحقيقة يتم في جوهر من الندم الفكري، والفكر هو امام يسبق المعرفة العلمية لا يكون قط حديث النشاة، بل شيئا مثقلا بالسن، لانه يحمل من ورائه عمر طويلا يعادل عمر احكامه المسبقة. " كما طالب باشلار وجوب القيام بمراجعة نقدية على الدوام لبعض المفاهيم التقليدية الموروثة في فلسفة المعرفة، لانه ليس هناك لا حقيقة علمية مطلقة ولا قانون علمي مطلق، معتبرا المعرفة بطبيعتها تجربة عقلية نسبية لا حقيقة مطلقة تحتويها...

تعقيب توضيحي:

باشلار في عبارته الاولى يجد الواقع معرفة تسبق الفكر الاعتقادي القصدي المسبق عنها. لكنها تكون معرفة سطحية، كون كل كشف لحقيقة تتم في جوهر من الندم مبعثه البون الشاسع العازل بين الحقيقة المعرفية وتعبير الفكرالقاصرعنها في وعي الذات لها.

والمفارقة أن يعتبر باشلار الفكر يتقدم حقيقة المعرفة التي تحمل ميراثا طويلا من عمر الافكار المسبقة التي تجعل من المعرفة متراكما متجددا؛ كميا وكيفيا يسبق تصورات الفكرفي الحاضردوما. هنا باشلار يعتبر الفكر مكافئا جوهريا يوازي التراكم المعرفي الذي يتجدد كيفيا ذاتيا ولا يقاطعه، ويتغافل باشلار عن حقيقة المعرفة هي تراكم خبرة مكتسبة لا تمتلك قابلية التجدد المستمر وبناء نفسها ذاتيا دونما تداخل فكري معها جدليا.. وتخارجيا بالاضافة والتغيير.

كما أن المتراكم المعرفي لا يحمل ذاتا تعي علاقة الفكر الجدلية معها في نشدان تطورها. دائما يكون الفكر محكوما عقليا في توجهه بخلاف متراكم الخبرة الذي يحمل القيمة الدفينة فيه، ولا يمتلك قابلية عقلنته الفكرفيا الانطلاق من حقيقة الواقع الجدلية المتغيرة والصيرورة المتجددة غير الثابتة على الدوام، لذا تكون علاقة المعرفة بالفكر ليس علاقة تبعية ولا علاقة أسبقية تراتيبية بل علاقة جدلية تكاملية تفاضلية بمنطق الرياضيات، .

جدل تخارجي يقوم على علاقة تخليقية جديدة للمعرفة يتطورالفكر هو ايضا نتيجة هذا التداخل الجدلي بينهما المعرفة والفكر. والكشف عن المعرفة الحقيقية حين تكون ندما فكريا متراجعا بالنسبة لتخلف مواكبة الفكر للمعرفة حسب تعبير باشلار حيث يتراجع الفكر في تفسيره الواقع العلمي الذي يغذ السير التقدمي الحثيث نحو معرفة علمية في تخلف مواكبة الفكرلها. دائما نجد الواقع يتطور قبل الفكر.

الفكر حسب تعبير باشلار قدوة أمامية للمعرفة العلمية، العلم يتقدم الفكر هو شيء طبيعي، وطبيعة عكسية أن العلم يسير بهدي الفكر النظري القبلي لا بهدي التجربة البعدية ... هذا الفهم في علاقة الجدل بين المعرفة العلمية والفكر نجده غائما ولا يقوم على وضوح فلسفي نسقي، حيث نجد أحيانا عند باشلار تقاطعات فلسفية تتوزّعها تعالقات الأفكار بالمعارف تخرج من محدودية التجربة المعرفية الى فضاءات تجريدات الفكر خارج محدودية التجربة ..

منجزات العلم والفكر علاقة من الجدل الخلاق ليس بالتأثير المتبادل فقط، بل في جدل يحقق التسارع المتقدم في فارق زمان المسار بينهما. ويبني باشلار على هذه الحقيقة، نتيجة هي أن الجهل بحقائق الاشياء لا يجعل منها كينونات من وجود فارغ خاوي، فهو حسب فلسفته يعتبر البدء من نقطة جهل نحو السعي لتحقيق معرفة، في فلسفة باشلار تكون نقطة الجهل في الشروع هي معرفة بذاتها. يرادفها نقطة الصفر اذ تكون هي معرفة بدئية تمتلك مرجعية معرفية في تراكم خبرة سابقة عليها.

باشلار يعتبر الغاء الفكر المعرفي السابق بأنه جهل خاطيء هو نقطة صفر معرفية من التقاطع المعرفي معها الذي يبدأ الشروع في التحقق من بنائيات معرفية متعددة سابقة... ويرى باشلار مجرد ادراك الفكر الجهل بالمعرفة يجعل من الجهل نقطة انطلاق شروع معرفي جديد . كون العقل العلمي لا يبحث عن معرفة سبق له أن إكتسبها من قبل وأصبحت خبرة تراكمية مخزّنة. بل هو يبحث عما يجهله من معارف. غير مخترعة وغير مكتشفة.

وفي تعبير باشلار"المعرفة لا تنبثق عن جهالة كما ينبثق النور من الظلام"  يعني ليس هناك معرفة بدرجة الصفر في تقبلها النقد والاضافة والتجديد بلا مقدمات معرفية تسبقها موجودة فيها. باشلار يؤكد لا توجد معرفة جديدة قادمة من فراغ لا معرفي سابق عليها. باشلار حسب تقديري يريد التاكيد وبشدة على اهمية تراكم الخبرة.

شذرة فلسفية

لا يمكن لأحد نكران المعرفة هي موروثات من الخبرة التراكمية والنوعية المكتسبة لا يوقفها قطار الشد والجذب المعيق لتقدمها، المعرفة بطبيعتها هي صيرورة متقدمة الى أمام ونزوع دائمي في تحقيق معارف جديدة على أسس تشييد بنى معرفية سابقة عليها.

وبهذا المعنى يعتبر باشلار مسار المعرفة هو مسار تاريخ تصحيح الاخطاء العلمية، وهي العبارة التي نجد قريينتها المتطابقة معها في تعبير فينجشتين فيلسوف اللغة أن تاريخ الفلسفة عموما هو تاريخ تصحيح أخطاء تعبيرات اللغة القاصرة في ملاحقة تمام المعنى الصادق والصحيح في نقد الاخطاء وتحليلها. وهو المسار الذي دأب البحث عن معاني اللغة الجديدة التي لم يتم التعبير عنها بوضوح كاف. لذا يتوجب أن تكون المراجعة النقدية لتاريخية المعرفة هي تاريخ تصحيح افكار معرفية خاطئة وليس تاريخ إلغاء تام لها والبداية من نقطة شروع معرفية جديدة تبدأ من الصفر حيث لا يوجد بالمعرفة نقطة صفرلا معرفية.

الجدل عند باشلار هو نوع من جدل يقوم على تكامل الفكر والواقع، ولا يقوم على التفسير الجدلي المادي الماركسي القائم على التضاد. ويعتبر النقد منهجا في التفكير غير محايد، وهو إجابة عن تساؤلات يبتدعها النقد المعرفي البناء، ولا يجد تلك التساؤلات ناجزة ماثلة أمامه ليصطدم بالإجابة عنها. لذا تكون عملية النقد عملية إضافة معرفية متجددة على الدوام.

إتخذ باشلار موقفا فلسفيا منحازا الى المنهج الذي يرى في المسار العلمي ليس عملية مطردة في التقدم الى أمام، بل هو مسار متعثر تتخلله قطوعات تراجعية وأحيانا راكدة تشبه الى حد كبير القطوعات التي تعترض مسار التاريخ الانساني المليء بالصعوبات والرؤى المتناحرة المتضادة في تفسيره. ويقترب باشلار كثيرا من الفهم الماركسي إعتباره التقدم العلمي هو تراكم خبرة تتخلها طفرات نوعية تلزم تقدم المسار التاريخي بحتمية السير الخطي الى امام.

***

علي محمد اليوسف

في خضم التحولات الثقافية والاجتماعية المتسارعة التي يشهدها عالم اليوم، برزت ظاهرة "الفردانية المفرطة" كمظهر بارز لما يسميه علماء الاجتماع "تحوّل القيم الكبرى"، حيث يتمركز الإنسان حول ذاته في انفصال متزايد عن الجماعة، عن المسؤولية المشتركة، بل حتى عن روابطه النفسية والعاطفية. وبينما تُعدّ الفردانية في أصلها مكسباً حداثياً مرتبطاً بالتحرر والحق في الاختلاف، فإن إفراطها بات يهدد تماسك النسيج الاجتماعي ويحوّل الإنسان إلى كائن معزول، غارق في سردية الأنا، يلهث وراء إثبات الذات خارج سياق الانتماء.

لقد ظهرت الفردانية بوصفها إحدى الثمار الكبرى للحداثة الغربية، إذ نادى فلاسفة كـ"جون لوك" و"جان جاك روسو" بحق الفرد في تقرير مصيره، والخروج من سلطة المؤسسات التقليدية كالدين والملك والأسرة. كانت تلك الفردانية في سياقها التاريخي تحرراً من التراتبية الاجتماعية، وتأسيساً لفكرة الإنسان كمركز للمعرفة والقرار. لكن مع صعود النيوليبرالية الاقتصادية والثقافة الاستهلاكية منذ سبعينيات القرن العشرين، تحولت هذه الفردانية إلى حالة مفرطة من التمركز حول الذات، واختزال الإنسان إلى مشروع ذاتي، يسوّق نفسه ويقيس نجاحه وفق منطق الربح والخسارة.

ويشير عالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفتسكي إلى أننا دخلنا "عصر الفراغ"، حيث تراجعت القيم الجمعية الكبرى لصالح نزعة فردانية تُمجّد الحريّة دون مسؤولية، والتعبير عن الذات دون انتماء. إنها "الفردانية النرجسية" التي وصفها كريستوفر لاش بأنها حالة من الانكفاء على الذات بحثاً عن اعتراف دائم، لكنها في العمق تُخفي هشاشة نفسية واجتماعية عميقة.

وساهمت الثورة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي في تعزيز هذه النزعة الفردانية إلى أقصى مدياتها. فباتت الذات تُعرض كعلامة تجارية تُسوّق أمام جمهور افتراضي: الصور، الآراء، تفاصيل الحياة اليومية، كلها تتحوّل إلى أدوات لإثبات الوجود وتحصيل "الإعجابات". في هذا السياق، لا يعود الآخر شخصاً أتعامل معه، بل جمهورًا يُقيّمني. وهكذا، يعيد الإنسان تشكيل ذاته وفق معايير خارجيّة لا تُعبّر بالضرورة عن عمقه الوجودي، بل عن صورة مصنّعة تطلب التصفيق.

هذا الواقع الرقمي، رغم ظاهره التشاركي، يُغذّي الانعزال، إذ يخلق وهمًا بالتواصل، لكنه في الحقيقة يعمّق الشعور بالوحدة، ويُضعف القدرة على بناء علاقات حقيقية قائمة على الثقة والانتماء والاستمرارية.

نتيجة لهذا التحول، شهدنا تراجعًا واضحًا في بنى الانتماء التقليدية: تفكك الأسرة، ضعف التضامن الاجتماعي، تراجع الالتزام بالشأن العام، بل حتى ازدياد العزوف عن المشاركة السياسية أو المدنية. أصبحت الجماعة بالنسبة للفرد مجرد وسيلة أو عبء، لا ضرورة وجودية. يقول عالم الاجتماع زيغمونت باومان إن مجتمعاتنا المعاصرة أصبحت "سائلة"، أي هشّة، لأن الروابط التي تربط الأفراد لم تعد قائمة على المعنى المشترك، بل على المصلحة المؤقتة والهوية المتغيرة.

وهكذا، لم تعد الجماعة هي الحاضنة التي توفر للفرد الأمان والقيمة، بل بات يُنظر إليها كقيد على الحرية، أو كعائق أمام التعبير عن الذات. وهذا ما يعزز بدوره شعوراً متنامياً بالوحدة، واللاجدوى، والانفصال الوجودي، خاصة بين فئة الشباب الذين يجدون أنفسهم في مواجهة عبء "بناء الذات" دون دعم جماعي حقيقي.

ليس المقصود من نقد الفردانية المفرطة الدعوة للانصهار داخل الجماعة، أو العودة إلى أشكال قهرية من الانتماء. بل المطلوب هو بناء شكل جديد من الفردانية المتوازنة، التي تحفظ للإنسان حريته، ولكن تُعيد وصلها بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الغير والمجتمع. فالفرد لا يكتمل بوجوده المادي أو الرقمي، بل يتشكل من خلال علاقته بالآخرين، ومساهمته في صناعة المعنى المشترك. ويمكن التأسيس لفردانية مسؤولة من خلال: إعادة الاعتبار للتربية على المواطنة والانتماء، دون فرض الامتثال، وبناء محتوى ثقافي ناقد لخطابات الأنانية الاستهلاكية، وتشجيع المبادرات الجماعية التي تحفّز على المشاركة والتعاون والتضامن.

تبدو الحاجة اليوم ماسّة إلى مراجعة شاملة لنمط حياتنا الحديث الذي يضخّم "الأنا" على حساب "النحن". فالفرد لا يمكنه أن يحيا بالانعزال، ولا أن يُحقق ذاته بالانفصال عن الجماعة. الإنسان، كما قال أرسطو، "كائن اجتماعي بالطبع"، وهذه الحقيقة لا تنتفي مهما تطورت التكنولوجيا أو تبدّلت القيم. إن تجاوز الفردانية المفرطة هو المدخل الضروري لإعادة المعنى للعيش المشترك، وللإنسان نفسه.

***

د.هدى لحكيم بناني

شذرة فلسفية

جمالية المكان هو عنوان أحد مؤلفات جاستون باشلار الذي يرى في بيت الطفولة خيالا يتجاوز محدداته الهندسية كبناء مادي، ليكون المكان ذخيرة مخيّلة تسرح وتحلم بفضاء أفقي ممتد غير محدود لامتناهي العواطف والانفعالات النفسية التي تعتبر موجودية المكان ماديا هي موجودية خيالية.

باشلار رغم محاولته المستميتة تجريده المكان من طبيعته المادية الثابتة كبناء قائم على شكل هندسي معماري ثابت، إلا أنه يعامله على أنه مصدر إستثارة عاطفية نفسية تتعالق بروحانية المكان لا في ماديته.

باشلار يعالج فهمه الفلسفي للخيال متجاوزا منظوره الذي إعتدناه أنه خيال ماض مستمد من الذاكرة ، وليس تجريدا معرفيا في معالجته موضوعا انطولوجيا واقعا حضوريا. الخيال في منظوره هو ملكة أو قابلية تحويل ما هو مادي الى مصدر خيالي غير محدود وبالعكس ايضا.

يعتبر باشلار الخيال وعيا ذاتيا يترجم دواخل إرتباط الوعي كمدرك قصدي لا يشترط أن يكون موجودا انطولوجيا، بل الخيال له تداعيات من اللاشعور في تجريد قائم على موضوعات تقوم هي الاخرى على إحالة الى تجريد خارج مألوفية أن يكون الخيال إدراكا حّسيا لمكان متعيّن وجودا، يحدّه الادراك الزمكاني حين يكون موضوع الخيال غير مطلق بل محدود بزمانية تحكمه بالادراك المكاني.

باشلار يبحث الشعر في جوهره الشكلي على أنه صورة المخيلة الشعرية، ويعتمد فلسفيا المنهج الظاهراتي الذي مرتكزه اللاشعور النفسي وليس على التقيّد بمنهج الفينامينالوجيا التي تجده الظاهراتية هو الوجود المدرك حسّيا أي فينومين اي الصفات الخارجية. وما لا تدركه الحواس ومنظومة العقل الإدراكية هو النومين أو الوجود بذاته وهي الجوهر او الماهيّة. الذي إعتبره كانط لا يمكن إدراكه عقليا ومن الأجدى الأنفع ترك الخوض في غمار بحث لا يمكن التثبّت منه إدراكيا..

باشلار يجد في اللاشعور إنتاجية المخّيلة الشعرية للصورة الشعرية التي يعبّر عنها بقوله " هي نتاج مباشر للقلب والروح والوجود الانساني، وهي مدركة في حقيقة هذا الوجود "، يبدو واضحا باشلار يستعير المنهج الظاهراتي في إثارته إشكاليات معلقة لا يعطي هو حلا لها بل يتوخى غيره تفكيكها.

مثال ذلك تعبيره " كيف يمكن لنا أن تكون ظاهرية الصورة تسبق الفكرة، لذا علينا أن نقول الشعر هو ظاهراتية الروح أكثر من ظاهريات النفس "

محاولتنا قراءة مفهومية لهذا التعبير الذي يقودنا الى المنهج الظاهراتي عليه تكون ليست هناك إشكالية معيارية منطقية أن الشيء بظاهراته المدركة يسبق فكرة التعبيرعنه. من حيث ندرك الوجود بصفاته الخارجية قبليا في تجريد تعبير الفكر عنه لغويا بعديا.

تعبيرات باشلار بمقدار وضوحها الفلسفي المباشر إلا أنها توقع المتلقي في غموض إبهامي إستعصائي يصبح متناقضا إشكاليا، فمثلا حين لا يكون هناك تعبيرا واضحا بين النفس والروح بعلاقتهما في اللاشعور المستثير للمخيلة الشعرية. فهو يعتبر الصورة الشعرية تمثل ظاهراتية الروح وليس ظاهراتية العقل. وسبب ذلك ان الصورة الشعرية تستمد حقيقتها اللاشعورية من الروح التي من الممكن أن يعتبر معنى النفس المرتبطة بالشعور وليس معنى الروح المحلقة التي هي أقرب الى  اللاشعور الخيالي المستمد من الذاكرة.

ويثير باشلار أرجحية إرتباط " الشعور الذي يعتبره هو التزام الروح والوعي المتصّلين ببعضهما، ويكون الوعي بذلك أكثر إسترخاءا وأقل قصدية من الوعي المتصّل بظاهرية العقل، وهناك قوى تتبدى في الاشعار لا تمّر عبر دوائر المعرفة المعلقة ". خارج تصورات الشعرية التي يكون الوعي أكثر إرتباطا بالشعور من الإرتباط بالعقل المقفل منطقيا. العقل  يتعامل مع الشعر بصرامة المنطق الشعوري بما يلغي خاصيّة الشعر أنه فعالية مستمّدة من مخيّلة اللاشعور.

تعبير باشلار عن الروح حتى وإن بدا لنا ملتبسا في معناه أنه يرادف لفظة النفس، فهي لا تحتوي الوعي الشعوري. "وأن الشعر يكون أدخل الحرية في جسد اللغة ذاتها"  وهو ما لا غبار عليه أن الشعر المعاصر أدخل الحرية باللغة، التي لم تغفل الفلسفة هذه الميزة حيث هي الاخرى أدخلت الحرية في الفلسفة بما ليس له حدودا. الحرية وجود فضائي متحقق لمجمل نواحي الحياة وإبداعات الانسان بالفكر والمعرفة والعلم وفي كل شيء.

الحرية خارج التداول الايديلوجي السياسي وإمتدادها الى متداخلاتها مع حقوق الانسان ومحاربة التمييز العنصري وحقوق المرأة وحرية المعتقد وحرية التعبير وغيرها، وفي كل هذه المناحي المنسحبة على الادب والثقافة، جعلت حرية الشعر إنعتاقا متمّردا على كل تقييد بما يحتويه من عواطف ومشاعر تأخذ تعبيرها اللغوي المتحرر تماما عن كل القيود.

لكن حين أدخل الشعر الحرية في جسد اللغة، جعل الحرية تشتت الوعي الجمالي في تذويتها الصورة الشعرية ضمن فضاءات إحتوائية وتموضعات لا حقيقية ، وتم التعبير عن هذه الحقيقة " لا شعر دون خلق مطلق". مطلق التعبير اللغوي عامة هو الوعي القصدي الذي يحكم عبور اللغة الى ما بعد اللغة كما يرغب الشعر تحقيقه. وهذا النوع من التعبير يجعل من لاشعور الصور الشعرية ترتبط بكل فضاء مفتوح روحاني والأصح نفسي هارب من هيمنة العقل.

شذرة فلسفية

هيجل والجدل: يصنف دارسي فلسفة هيجل انها قامت على ثلاثة  ركائز هي المنطق، والطبيعة ، والروح، معتبرا الطبيعة هي (تخارج) العقل بالمكان، والروح أوالتاريخ هو تخارج العقل في الزمان.

السؤال لماذا استخدم هيجل لفظة (تخارج) بدلا من لفظة (جدل)؟ الاجابة ان هيجل في تنظيراته المثالية الجدلية لا يؤمن بوجود قانون جدلي يحكم الطبيعة والتاريخ وحياة الانسان ونوضح هذا لاحقا. فحين يقول طبيعة العقل الجدلية هي التي تضفي الجدل على المادة والتاريخ فهذا لا يؤمن بجدل يعمل باستقلالية عن رغائب الانسان.

تخارج العقل مع الطبيعة هو تخارج تكامل (معرفي) وليس تضادا جدليا ينتفي اطراف الجدل كليهما نوعيا في ميلاد المركب الثالث الجديد، على قدر اعطاء العقل موجودات الطبيعة من ادراك معرفي، تقابله الطبيعة بتبادل متخارج يعمل على تطوير العقل معرفيا ايضا.

التخارج المعرفي لا يقوم على مجانسة نوعية بين العقل والطبيعة بدلا من جدل غير حاصل على صعيد علاقة العقل بالطبيعة كبنية ادراكية شاملة او كموضوعات وجودية منفصلة بصفات وماهيات مختلفة. التخارج الجدلي بين العقل في ادراك تجريد التعبير اللغوي الصادر عنه هو من نوع وعي قصدي معرفي.

اما ان العقل يدرك علاقته بالاشياء جدليا فهذا يلزم العقل بتفكيره التجريدي الدخول في جدلية تجمع الفكر بالمادة المدركة في تضاد يجمع نقيضين في مجانسة نوعية واحدة لانتاج مركب ثالث. لا اعتقد جدل الفكر مع الواقع يقوم على تضاد يجمع نقيضين متجانسين بالماهية والصفات، بل يدخلان بعلاقة تخارج معرفي كما سبق وذكرنا. لذا فالديالكتيك لا اثبات على انه يحكم التاريخ من دون رغبة الانسان.

شذرة فلسفية

تربية العقل تربية جدلية منهجية في التفكير وفهم العالم والحياة ليست مسالة سهلة من حيث تباين واختلاف طبيعة الجدل بين الوعي القصدي الانفرادي كسلوك نحو تحقيق هدفه وبين الجدل كفلسفة عقلية لا يمكن تلقينها للفرد تربويا ايديولوجيا. كما لا يمكننا اعتبار اكتساب التفكير الجدلي تنظيرا يمنح صاحبه ادراكه الواقع جدليا. من حيث المسلمة الخاطئة ان جدل الواقع يحكمه قانون طبيعي منعزل عن تحقيق رغائب الانسان أو امكانية التداخل معه. جميع المؤثرات الموضوعية الخارجية تكون علاقتها مع ظاهرة جدلية تمثّل دور العوامل المساعدة في تسريع عملية الجدل بالظاهرة ولا تدخل في تكوينها ولا في عملها.

وسنتناول الجدل في مفهومه الفلسفي الذي هو الاخر يرتبط بالسلوك النفسي للفرد اكثر من كونه فلسفة فهم مظاهر الحياة. كون الجدل هو وعي ادراكي في فهم الحياة وفق منهج جدلي خاص بفرد لا يمكننا تلقينه تربويا للمجموع. 

صحيح العقل اعدل قسمة مشتركة بين الناس في التفكير كما يصفه ديكارت لكن خاصية الجدل ليست خاصية عقلية مشتركة تجمع طبيعة تكوين غالبية عقول الناس. الجدل ليس ناتج تناقض مادي مصدره عقل الانسان وانما مصدره واقع مسيرة الحياة. بمعنى على خلاف هيجل الواقع يخلق التناقض الفكري ولا تخلقه طبيعة العقل الجدلية بالفطرة.

حسب فلسفة هيجل يقول (العقل بطبيعته جدليا) بمعنى ان الجدل خاصية تفكيرية بيولوجية فطرية طبيعية لا يكتسبها الفرد ولا يتعلمها من المحيط. من حيث جدل العقل هو الذي يخلق جدل الواقع والموجودات بالطبيعة ولا يكتسبه منها. وفي هذا تضاد جوهري مع مقولة ماركس ان جدل الواقع هو الذي يضفي جدله على تفكير العقل وليس العكس الذي يقول به هيجل.

ليس من المعقول منطقيا فلسفيا وحتى عضويا بيولوجيا ان نحصر خاصية العقل الاساسية انها خاصية جدلية فطرية وليست خاصية مكتسبة من الواقع. السيرورة الطبيعية في تقدم الحياة هي التي تملي على التفكير العقلي صفته المادية الجدلية او صفته المثالية المجردة.

جوهر فلسفة هيجل (المنطق موضوعه العقل) يلاحظ هنا كيف قلب هيجل اولوية المنطق على ثانوية العقل في وقت المنطق هو ماهية ناتجة عن تفكير العقل ولا وصاية لها عليه.. العقل لا يكون موضوعا للمنطق الذي هو ناتج تفكير العقل. ويضيف هيجل ان (المنطق هو علم العقل الموضوعي وعلم العقل الذاتي). من التبرير المسوّغ ان يكون المنطق هو علم العقل الموضوعي، اما ان يكون المنطق علم العقل الذاتي عندها يصبح المنطق سلوكا قصديا يقوم على مرجعية علم النفس السلوكي وليس على ادراك العقل لموجودات العالم الخارجي.

فالعقل غير ممكن ان يكون موضوعا لنفسه بل ان يكون العقل ادراكا ذاتيا هو في توكيد ادراك الذات له بمعيارية الاختلاف مع موضوعها موجودات العالم الخارجي.عندما يتشبث هيجل وباصرار عنيد على مثالية التفكير في تغليبه المنطق موضوعه العقل، رغم تباين الاسبقية في التقديم والتاخير بين اولوية العقل على المنطق مع اولوية المنطق على العقل. انما هو – هيجل – يعمد الى تصنيع مقولات العقل المنطقية في اسبقيتها على الواقع. المنطق نسق مهمته تفسير وفهم الحياة ولا يهتم المنطق ان يجعل موضوع تفكيره العقل. بل هو دلالة عقلية لتفكير منطقي.

نعود لمركزية فهم هيجل لجدلية العقل الذي يعتبرها خاصية طبيعية في ادراكه النسق الجدلي الذي يوجده تفكير العقل الجدلي في الطبيعة والاشياء القائم على طبيعة العقل الجدلية بالفطرة التي هي تضفي على مواضيعه الادراكية النسق المنهجي الجدلي.

بمعنى جدلية العقل تسبق جدلية مواضيعه التي تنقاد له. بتوضيح اكثر يفترض هيجل انعدام الجدل في الواقع او حضوره هو الذي يحدده تفكير العقل ذو الخاصية الجدلية الطبيعية التي تملي على مدركاته الواقعية نوع من النسق الجدلي القائم على الحركة الدائمية والتطور.

معادلة اسبقية جدل العقل على جدل الواقع لدى هيجل تنعكس لدى ماركس ان جدلية الواقع الذي تحكمه الحركة الاصطراعية الذاتية المتضادة هي التي تملي على العقل جدليته الفكرية. وكلاهما لا يمتلكان تقديم اثبات ادعاءاته في ان الجدل حاصل سواء بالفكر او بالواقع.

كيف يثبت هيجل ان طبيعة العقل جدلية وليست ليبرالية راسمالية في فهم الحياة؟ وكيف يثبت ماركس خارج منهج الاستقراء التنبؤي ان الجدل قانون طبيعي يحكم المادة والطبيعة خارج ارادة الانسان التداخل معه وتجييره لمنفعته؟

الجدل من حيث هو طبيعة عقلية والجدل من حيث هو قانون يحكم المادة والتاريخ بمعزل عن تداخل ارادة الانسان به كلاهما مبني على تصورات افتراضية لا يمكن التحقق الاثباتي منها. الجدل كقانون تفسيري وضعي يختلف عن القوانين الطبيعية الثابتة التي لا يستطيع الانسان باردته المحدودة التداخل معها.

فقانون الجدل يحكم حياة الانسان العملية واقعيا ولا يحكم الجدل الطبيعة بما هي طبيعة طابعة التي هي حسب تعبير اسبينوزا هي مايكون متصورا بذاته ومحصورا بذاته.. مثلما يعجز العقل عن تغيير مباديء الرياضيات والفيزياء والكيمياء كقوانين ثابتة قابلة للتطوير الاضافي لكنه اي العقل يعجز ان يفهم كل ظاهرة بالحياة والطبيعة تتطور جدليا.

شذرة فلسفية

يستعير فلاسفة المنطق عبارة هيجل " الحقيقة هي الكل" بمعنى فهم الحقيقة لا يكون صائبا الا اذا كان ضمن نسق تام من الترابط المنهجي الحقائقي الذي لا يتقبل التجزئة على حساب تفكيك الهيكل النسقي الكلي الذي يضيع في فك ترابط أجزائه وفصلها عن بعضها البعض. ويفرق فيلسوف المنطق "بوزانكت" أن الحقيقة لا يفهم معناها ولا تكون صائبة الا ضمن نسق منتظم يحتويها. والحقيقة لا يمكن الاستدلال عليها إلا اذا كانت ضمن نسق كلي ترابطي داخليا يجمعها بغيرها في بنية كلية واحدة. وهو منطق فلسفي صحيح جدا.

والحقيقة المنطقية هي ليست الحقيقة في المفهوم الفلسفي الذي يقوم على نسبيتها وحمولة الخطأ والصواب معا بداخلها، وحتمية إندثارها حينما تكون (درجة) في سلم مفهوم البحث الدائب عن مطلق الحقيقة الوهمي الزائف الذي لا يمكن بلوغ أزليته. ترافقها حتمية تطورها النسبي على الدوام عندما تكون حقيقة (نوعية) لا تندثر ولا تموت بل تستحدث نفسها بإستمرار.

منطق الحقيقة النسقي هو غيره مفهوم معنى الحقيقة الفلسفية، فالمنطق لا يعتبر إكتساب الحقيقة المجردة مصداقيتها كما هي في المفهوم الدارج في تطابق الفكر مع الواقع في معرفة حقيقة المادة، بمعنى آخر تطابق تعبير اللغة مع الموجود الشيئي تطابقا تاما يعطيه حقيقته المادية الصادقة.

وتأكيد هذا المنحى لدى فيلسوف منطقي مثل " بوزانكت" الذي لا ينكر وجود الوقائع الانطولوجية الشيئية منفردة مستقلة في العالم الخارجي تعبر عن نفسها في إدراكها الحسي لكنه لا يعتبرها حقائق معرفية.

الحقيقة في الشيء المنفرد المادة التي تدرك حسّيا في تطابق وجودها الخارجي مع معنى الفكر المعبّر عنها وعيا لغويا، والتي لا يحتويها نسق ترابطي من الحقائق داخليا وتكون حقيقة منفردة لوحدها. الحقيقة التي لا تشكل إنتظاما نسقيا متداخلا بغيرها لا معنى لها. لذا تكون الحقيقة التي تدركها الحواس زائفة كونها تعبر عن موجود خارجي منفصل عنها.

 يعتبر فلاسفة المنطق ما أشرنا له في تعبيرنا الدارج الذي يعتبره كلا من برادلي وبوزانكت هو في مطابقة الدال مع المدلول مطابقة تامة لا تحتمل غير التاويل الوحيد المتعيّن بحقيقة الشيء.

لذا تكون مطابقة أفكارنا مع وقائع موجودية بعينها لا يمنحها حقيقتها الصادقة حسب المناطقة. كذلك حقيقة الشيء المادي المتعيّن هو ليس منطق حقيقة المفهوم الفلسفي. منطق الحقيقة الذي لا يأخذ بمبدأ الترابط في التطابق خارجيا في معناه مطابقة الفكر لما هو واقع عياني في الوجود وهو مايخص المادة كموجودات متناثرة في عالمنا الخارجي، أي هنا تلعب الحواس دورا مهما مركزيا في خلق التطابق الخارجي بين الفكر والاشياء خارجيا الذي نطلق عليه حقيقة ذلك الشيء. أما إدراك الحقيقة كمفهوم تجريدي إنما يكون في ترابطها الداخلي ضمن نسق كلي موحد.

والطعن بمبدأ الترابط الخارجي بين الفكر والمادة في تحقق تطابق المعنى الذي يخص المتعيّن الانطولوجي المادي منطقيا وليس منطق الترابط الداخلي النسقي الذي تختص به الحقيقة كنسق مفهوم تجريدي يعتمده منطق الفلسفة يقوم على أربع ركائزحسب إجتهادنا هي:

- الحواس في جوهرها الحقيقي هي تضليل العقل في معرفة حقائق الوجود النسقي منهجيا. ولا يعني هذا الانسياق بالخطأ ان جميع المحسوسات التي مصدرها الحواس لاقيمة لها. لاننا بهذا الفهم الاعتباطي الساذج نلغي وجود منظومة عقلية ماهيتها التفكير وتزويدنا بالمعرفة عن عالمنا وعن موجودات الطبيعة والحياة من حولنا كافة.

- عدم تطابق حقائق الاشياء في نظام نسقي داخلي يجعل منها اجتزاءات فاقدة لجوهر تحققها المنطقي وليس تحققها الحسّي الانفرادي.فمدركات الحواس للاشياء خارجيا زائفة منحلة زائلة قياسا لمدركات الفكرالثابتة بما يخص علاقته التطابقية مع النسق الداخلي للحقيقة.

- تطابق حقائق الاشياء خارجيا لا يكافيء ترابطها الحقيقي المنطقي داخليا عندما يحتويها نسق كلي يعطيها حقيقة معناها ولا يؤخذ بترابطها الخارجي التقليدي في مطابقة الادراك عن الشيء في وجوده الانطولوجي..

- لا مجال لنكران دور العقل في التعبير عن حقائق الظواهر والاشياء في إرتباطها الداخلي مع بعضها البعض كنسق والخارجي في مطابقة معنى الفكر اللغوي مع الشيء على السواء. وكل ما لا يدركه العقل لا يمكن معرفة حقيقته الزائفة ولا الصادقة معا. وسيلتا إدراك العقل للعالم الخارجي هما الحواس والدماغ والمخيلة فقط.

شذرة فلسفية

رغم مثالية المناطقة في معرفة الحقيقة إلا أن التفسير المنطقي للحقيقة مستمد من التفكير العقلي الذي لا يقوم على انطولوجيا موجودات الواقع بل في دراسة النظام المنطقي الداخلي الذي يحتوي الحقيقة نسقا ادراكيا تصوريا تجريديا.

بهذا يكون تحليل المنطق في إنكاره علاقات الترابط الخارجية بين الوقائع وإدراكها الفكري المطابق لوجودها لا يمنح حقائق الاشياء في ترابطها بمنظومة النسق الكلي داخليا مصداقية وأرجحية على صدقية معرفة الحقيقة.

فمعرفة حقيقة المادة حسّيا عقليا لا يعني معرفة حقيقيتها الجوهرية ، كذلك معرفة الحقيقة المجردة في إنتظامها النسقي المترابط داخليا لا يمنح مفهوم الحقيقة المجرد مصداقيته اليقينية. معنى دلالة الحقيقة في الوجودين المادي والمثالي لا يدرك العقل أصالتها من زيفها تماما..

يقر برادلي ومعه مناطقة المثالية معرفة الحقيقة لا تكون بإدراكها التصوري، فالتصورلا مكان له في التفكير الفعلي إلا بوصفه جزءا من (حكم) يشترط معرفة الحقيقة أن تكون نسقية منطقية مترابطة غير مجزأة الى قطوعات تنهي الهيكلية الكلية الانتظامية للترابط الحقائقي. فقد إعتبر بوزانكت حكم الادراك الحسي الخارجي المألوف تداوله يعد تعبيرا جزئيا عن الواقع في غير حقيقته. أما الحكم المنطقي والكلام لبوزنكارت فهو في تأكيد كلية الواقع في صورة شمولية عامة.

تعقيب:

- الادراك التصوري الحسّي التجريدي لاشياء العالم من حولنا هو الطريقة الوحيدة التي يتوفر عليها العقل. ولا يتوفر العقل على إدراك الحقيقة المجردة حتى لو كانت – إفتراضا – هي حلقة في منظومة نسق داخلي لا يدركه العقل مباشرة لا بالحس ولا بالحدس.

- الادراك التصوري ليس جزءا من (حكم) مثالي يعبرمن فوق الواقع، فالادراك مرحلة بدئية اولى في سلم المعرفة الحقيقية تبدأ بالحواس وتنتهي بالعقل. سواء أكان المدرك ماديا حسيا أو موضوعا متخيلا تجريديا من تداعيات تفكير الذاكرة. منظومة العقل الادراكية التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ هي نسق منتظم بدونه لا يتحقق للعقل أي نوع من الادراك.

- الحكم على الكليّات ليس حكم حقيقة صائبة تماما بل حكم إحتمال.

- الحكم على حقائق العالم الخارجي في كليته يلغي الخصوصية الانفرادية لكل حقيقة جزئية، فمثلما يكون الاهتمام بجزء من النسق الكلي هو إنحلال لوحدته المتكاملة كذلك الحكم الشمولي هو تضييع خصوصيات الاجزاء الحقيقية.

- الحكم على الواقع يأتي من أسبقية وجوده المادي على كل تفكير، والواقع هو ما يحدد نوع الحكم وليس نوع الحكم يخلق حقائق الواقع.

- في لغة المناطقة الذي ينكر الاستدلال الكلي بدلالة الجزء، فهذا لا يبيح أن يكون الحكم المنطقي الكلي هو في إهمال خصوصيات أجزائه ضمن النسق الذي لا يعير فيه الحكم حقائق الاجزاء أدنى إهتمام في تشكيل النسق الكلي العام.

 شذرة فلسفية

يطرح برادلي في كتابه (المظهر والحقيقة) عدة مفاهيم نجدها متناقضة في بعض منها:

- يعرف برادلي المظهر – ويعني به الصفات الخارجية – ليس هو الظاهري، سواء فهمنا هذا الظاهري على أنه معطى في الوعي أو أنه مقابل الشيء في ذاته، والمظهر ليس مجالا معينا للوجود أو الفكر يتميز عن أي مجال آخر.1

أود في تعقيب بسيط قبل الانتقال الى فقرة أخرى لبرادلي، أن ظواهر الاشياء ليست معطى في الوعي، بل هي معطى إدراك حسّي قبلي يتبلور لاحقا بالفكر الى وعي عقلي مجرد. إدراك الشيء لا يكافيء معنى الوعي به. الصفات الخارجية للاشياء هي ادراك حسي قبل كل شيء. وطبعا صفات الشيء أو الظاهر منه لا يشابه كما ولا يمثل الشيء بذاته.

معلوم الشيء بذاته هو الماهية أو الجوهر الذي لا تدركه الحواس ولا يدركه العقل الا في ماهية الانسان فقط.، فكيف يكون الجوهر أو الماهية معطى للوعي يكافيء وعي الصفات الخارجية لذلك الشيء.؟ ثم ومن المرجح الذي اؤيده أنا أن يكون جوهر الشيء تتقاذفه فرضيتان: الاولى لا يمكن الجزم القاطع أن الاشياء وكائنات الطبيعة الحيّة تمتلك جوهرا هو غير صفاتها الخارجية باستثناء الانسان الذي يمتلك كينونة موجودية تسبق ماهيته الجوهرية. الثانية توجد دلائل يقينية ثابتة أن الحيوان والنبات والجماد جميعها لا تمتلك ماهيات هي غير صفاتها الظاهرية الخارجية التي يدركها العقل الانساني.

- في فقرة لاحقة أخرى يناقض برادلي علاقة ظواهر الاشياء بحقيقتها قوله: المظهر هو الحقيقة المطلقة للشيء، ولا يوجد ما يعقبها، والحقيقة التي يتوزعها تقسيم العالم الى جزئي وكلي، يجعلنا ندرك حقيقة ما هو جزئي في تعميمها على ما هو كلي.. وبذلك لا يكون هناك فرق يذكر بين حقيقة نسبية واخرى مطلقة.

لا امتلك تعليقا إدحاضيا لما ذكره برادلي من خلط جرى توضيحه سابقا من قبلي في هذه المقالة أكثر مما ينبغي تكرار مناقشته وتوضيحه، فقط اتساءل كيف يكون المظهر (الصفات الخارجية) هو الحقيقة المطلقة للشيء الذي لا يوجد ما يعقبه.؟ ومن قال أن جزئية حقيقة شيء كافية لجعل كليته حقيقة مطلقة بدلالة معرفة مطلق الجزء الوهمي؟ المظهر هو صفات الشيء المدركة خارجيا وهي في تغيير مستمر فكيف لا يعقبها حقيقة مطلقة أخرى غيرها؟ مطلق الحقيقة وهم ركض وراءه عشرات الفلاسفة ولم يستطيعوا حتى ولو تعريفه وليس بلوغه.

أختم برأي ورد على لسان هيجل (الحقيقة هي الكل) بمعنى الحقيقة الكلية هي نسق متكامل من الصعب معرفته بدلالة معرفة الجزء. عبارة هيجل تكررت استعارتي لها مرتين في مفتتح هذه المقالة وفي نهايتها لأهميتها..

***

علي محمد اليوسف – باحث فلسفي

 

تمهيد: الحقيقة مفهومٌ مُعقّدٌ ومتعدد الأوجه، وقد ناقشه الفلاسفة على مرّ العصور. وبشكلٍ عام، يُمكن تعريف الحقيقة بأنها بيانٌ مُطابقٌ للواقع. ومنذ عصر أفلاطون، فُهِمَت الحقيقة بأنها ما هو حقيقيٌّ وغير مُشوّهٍ بإدراكاتنا أو أحكامنا المُسبقة. إلا أن هذا التعريف للحقيقة يواجه تحديين رئيسيين: ذاتية إدراكنا للواقع، والإمكانية الأخلاقية للكذب. في الواقع، يختلف إدراك كل فرد للواقع، وبالتالي قد يُفسّر الحقيقة بشكلٍ مُختلف. علاوةً على ذلك، تُشكّل ذاتية الحقيقة مُعضلةً أخلاقيةً لأنها تدفعنا إلى التساؤل عمّا إذا كان علينا قول الحقيقة مهما كلّف الأمر، حتى لو كانت تلك الحقيقة مؤلمةً أو صادمةً. يُدرَس الجدل الدائر حول الحقيقة والكذب بشكلٍ مُكثّفٍ في مجال الأخلاق. وقد جادل الفيلسوف إيمانويل كانط، في كتابه "نقد العقل العملي"، بأن الكذب دائمًا ما يكون مُستهجنًا أخلاقيًا لأنه ينتهك واجب احترام كرامة الآخرين وحريتهم بخداعهم. علاوةً على ذلك، للحقيقة أيضًا أهميةٌ اجتماعيةٌ وسياسية. من المتفق عليه عمومًا أن الحقيقة ضرورية لتحقيق السلام الاجتماعي والعدالة. فهي تلعب دورًا حاسمًا في إدارة الشؤون العامة، وفي الحفاظ على ثقة المواطنين، وفي منع إساءة استخدام السلطة. فماهي الحقيقة وما قيمتها؟ وكيف يمكن الوصول اليها ؟ وهل من حدود للقول بالحقيقة المطلقة؟ والى أي مدى هناك حقيقة في عالم الانسان؟

هل كل الحقيقة نهائية؟

الحقيقة مفهوم فلسفي يجمع اليقينيات التي تتجاوز البراهين الذاتية. وبالتالي، ثمة درجات متعددة في تجربة الحقيقة. بين الحقيقة والعقل، يبدو أن التجريبية تندمج في ممارسة نهج صادق تجاه المجتمع من خلال التعبير عن الحقيقة. ويظل هذا المفهوم جوهريًا لأنه يضع الحرية في صميم الاهتمامات ويقترح أخلاقيات العلاقة مع الآخر. وبالتالي، تُبنى هذه الحقيقة نفسها من خلال تقارب يُثريه اليقين والحكم أو يُدينه. والحقيقة، بوصفها موضوعًا خالدًا، ليست مجرد واجهة لمشروع اجتماعي: إنها تُجسد الإنسان في تناقضاته، بل تُجسد أيضًا عقائده الجذرية أو المُنقذة. في النهاية، هل تُركز الحقيقة فقط على المسارات "الإنسانية" أم على المسارات الخطرة، وتُمثل الصراع الأبدي بين "الرؤية الديكارتية" و"الرؤية المجردة" لمعنى الحياة؟ في النهاية، هل الحقيقة والسعادة غير مرتبطتين؟ للإجابة على هذا السؤال، سنحلل الجوانب الفلسفية المختلفة للحقيقة لفهم أهدافها بشكل أفضل. يمكن إثبات الوصول إلى الحقيقة وفقًا لعدة مبادئ. كما يؤكد باسكال (في أفكاره)، فإن الحقيقة هي تعبير عن المعرفة التي يداعبها القلب. مثال اول: ولكن كما ذكّرنا أفلاطون، يجب أن تضع المعرفة حدودًا... ويجب أن تحترم السعادة الفردية هذه الملاحظة، والحقيقة أيضًا تتوافق مع هذا التمثيل نفسه. مثال ثان : عندما نطيع شخصًا ما بناءً على السلطة الأخلاقية التي نلمسها فيه، فإننا نتبع نصيحته، ليس لأنها تبدو لنا حكيمة، بل لأن في تصورنا لهذا الشخص طاقة نفسية من نوع ما كامنة1، تُخضع إرادتنا وتدفعها نحو الاتجاه المُشار إليه. الاحترام هو الشعور الذي نشعر به عندما نشعر بهذا الضغط الداخلي والروحي المحض الذي يُولد فينا. ما يُحددنا إذن ليس مزايا أو عيوب الموقف المُوصى به لنا؛ بل الطريقة التي نُمثل بها أنفسنا من يُوصينا به أو يُرشدنا إليه. عندما نطيع شخصًا ما بناءً على السلطة الأخلاقية التي نلمسها فيه، فإننا نتبع نصيحته، ليس لأنها تبدو لنا حكيمة، بل لأن في تصورنا لهذا الشخص طاقة نفسية من نوع ما كامنة، تُخضع إرادتنا وتدفعها نحو الاتجاه المُشار إليه. الاحترام هو الشعور الذي نشعر به عندما نشعر بهذا الضغط الداخلي والروحي المحض الذي يُولد فينا. ما يُحددنا إذن ليس مزايا أو عيوب الموقف المُوصى به لنا؛ بل الطريقة التي نُمثل بها أنفسنا من يُوصينا به أو يُرشدنا إليه.

حججٌ لصالح الحقيقة المطلقة:

لا ريب حول الحقيقة كقيمة أخلاقية واجتماعية. باسم الأخلاق، يُجادل البعض بضرورة قول الحقيقة دائمًا. تُعتبر الحقيقة قيمةً في حد ذاتها، أي أن قول الحقيقة خيرٌ في حد ذاته، بغض النظر عن عواقبه. هذا ما دافع عنه إيمانويل كانط في فلسفته الأخلاقية الأخلاقية. ووفقًا له، فإن الكذب دائمًا خطأٌ أخلاقيٌّ لأنه ينتهك "أمرًا قاطعًا" أساسيًا، وهو وجوب معاملة الآخرين دائمًا بطريقة تحترم كرامتهم وحريتهم العقلانية. بالإضافة إلى هذه القيمة الأخلاقية، للحقيقة قيمةٌ اجتماعيةٌ عظيمة. في أي مجتمع ديمقراطي، من الضروري أن يعتمد المواطنون على بعضهم البعض في قول الحقيقة. فالمجتمع الذي يُقدّر الحقيقة يُعزز الاحترام والثقة المتبادلين، وهما عنصران أساسيان للتماسك الاجتماعي والعدالة. علاوةً على ذلك، لقول الحقيقة أيضًا أهميةٌ سياسية. وقد جادل الفيلسوف جون ستيوارت ميل، المدافع القوي عن حرية التعبير، بأن الحقيقة ضروريةٌ للتقدم وتحسين المجتمع. في الواقع، بدونها، يُواجه المجتمع خطر الركود، أو ما هو أسوأ من ذلك، التراجع.

هل يمكن أن يكون البحث عن الحقيقة نزيهًا؟

تشير المشكلة التي يطرحها السؤال إلى شروط إمكانية البحث عن الحقيقة ("هل يمكن ذلك" بمعنى "هل هو ممكن") ولكن أيضًا إلى شرعيتها ("هل يجوز قانونًا ..."). علاوة على ذلك، لا يتعلق الأمر فقط بالاهتمام بالأبعاد المعرفية للذات، ولكن أيضًا بتعددية الحقيقة (الحقيقة التاريخية، الحقيقة القضائية، حقيقة الإيمان ...) وبسبب هذا التعدد، فإننا نتساءل عما إذا كان البحث عن الحقيقة مجرد وسيلة لتحقيق غاية خارجية عنها (مثل الحقيقة العلمية التي من شأنها أن تستخدم في تطبيق تقني لها) أو ما إذا كان غاية في حد ذاته. ملاحظات: سيكون من الضروري توضيح سبب عدم إعطاء الحقيقة فورًا ولكن كونها موضوع البحث: من قبل من؟ ولمن؟ ولماذا؟ سيكون أيضًا سؤالًا عن ينابيع النزاهة المحتملة: هل يمكننا مساواة النزاهة بالمجانية؟ إذا لم تكن هناك مصلحة شخصية مباشرة، ألا يمكننا إرساء مصلحة جماعية مشتركة في البحث عن الحقيقة، في مجال العمل العملي كما في المجال السياسي؟ هل يترافق البحث النزيه مع الحكمة؟ من الأخطاء التي يجب تجنبها: - اختزال الموضوع إلى منظور معرفي بحت، أو منظور فلسفة العلم. - الخلط بين حقيقة الدليل واليقين، والحقيقة القائمة على العقل، والحقيقة الحدسية (مثل حقيقة الإيمان). - التسليم بأن الحقيقة هي موضوع البحث، دون التسليم بوجود شكل واحد فقط للحقيقة، أي باختصار، عدم التشكيك في كل مصطلح وتعريفه. قضايا الموضوع: التشكيك في النهج الأداتي للمعرفة والفهم الحقيقي: هل العلم مجرد أداة للإتقان التقني؟ إعادة النظر في النسبية، التي تهدف إلى ربط الحقيقة بمجموعة من القيم والمعايير الطارئة الخاصة بثقافة معينة، ومن هنا غلبة الاهتمام بالدفاع عن "حقيقة الفرد"، لكننا نغفل حينها عن العالمية، ضمانة الحقيقة العقلانية. إعادة تقديم بُعد أخلاقي في البحث عن الحقيقة، حيث يشير عدم الاهتمام إلى الحكمة أو الفضيلة: ليس فقط لإرضاء فضولي أسعى إلى أن أكون في الحقيقة ولكن لإقامة علاقة حقيقية مع الآخرين، والأشخاص الجديرين بالاحترام (انظر أسس كانط لميتافيزيقا الأخلاق). الخطة: إن المثل التقني وتأثير العلوم التقنية يعتاداننا اليوم على رؤية في البحث عن الحقيقة أو المعرفة الحقيقية وسيلة لتطبيق هذه المعرفة لتحسين السيطرة على الطبيعة، أو حتى للاستغلال التجاري للعمل العلمي (من الكائنات المعدلة وراثيًا إلى التكنولوجيا الحيوية)؛ إن حقيقة الاقتراح العلمي لن تخدم في النهاية سوى مصالح ثانوية (تقنية أو تجارية أو حتى سياسية). ولكن هذا يقلل من تعدد أصوات الحقيقة والحقيقة كموضوع للبحث والفحص والعمل النقدي. إذا كان البحث عن الحقيقة يتطلب بشكل فعال النهج العلمي المبني على المنهج، وبناء موضوع البحث والتطبيق المحتمل للاكتشافات على واقع محسوس (الأشياء التقنية)، فإن تنوع أشكال الحقيقة ومجالات ظهورها هو الذي يسمح لنا بالتفكير في البحث عن الحقيقة كهدف أخلاقي للأصالة أو حتى الحكمة، أو أن العيش الجيد يشير إلى الفعل في الحقيقة.

 حدود القول بوجود الحقيقة:

توجد حالة الحقيقة الجارحة وأكاذيب الإغفال، ومع ذلك، فإن لمبدأ قول الحقيقة دائمًا حدودًا معينة. من جهة، هناك حالة معروفة حيث يمكن أن تكون الحقيقة ضارة: الحقيقة الجارحة. على سبيل المثال، إذا كانت الحقيقة قادرة على تدمير علاقة، فهل يجب علينا دائمًا قولها؟ يطرح هذا السؤال معضلة أخلاقية حقيقية، لأنه يضع قيمتين أخلاقيتين مهمتين في مواجهة بعضهما البعض: الحقيقة والرحمة. من جهة أخرى، هناك حالة أكاذيب الإغفال. أحيانًا، باختيارنا المتعمد عدم مشاركة معلومات صحيحة، يمكننا تجنب إيذاء، أو على الأقل زيادة معاناة، أولئك الذين تعرضوا للأذى بالفعل. في هذه الحالة، يمكن اعتبار الكذب بالإغفال فعلًا من أفعال الرحمة. فهل يمكننا العيش في مجتمع يقول فيه الجميع الحقيقة كاملةً دائمًا؟

السؤال: "هل يجب علينا دائمًا قول الحقيقة؟" مسألة معقدة، ويبدو أن الإجابة تعتمد على السياق والقيم التي نعطيها الأولوية. من جهة، تُعدّ الحقيقة قيمة أخلاقية واجتماعية أساسية، ضرورية لكرامة الإنسان، والثقة المتبادلة، والعدالة الاجتماعية. من جهة أخرى، هناك حالات يمكن فيها تبرير الكذب، وخاصة الكذب بالتقصير، بالرحمة والتعاطف. في مجتمع مثالي، سيقول الجميع الحقيقة دائمًا، لكن يجب أن ندرك أننا نعيش في عالم معقد وغير كامل، حيث قد تتفوق الرحمة والتكتم أحيانًا على الحاجة إلى الحقيقة. لذا، بينما يبقى قول الحقيقة هدفًا نسعى جميعًا لتحقيقه، من المهم أيضًا أن نضع في اعتبارنا احتمالية أن تُسبب الحقيقة ضررًا، وأن ندرس بعناية خيار قول حقيقة صعبة من عدمه. بشكل عام، في مجتمع يلتزم فيه الجميع بالحقيقة دائمًا، قد نتحرر من العديد من الأكاذيب والخداع التي تُولّد انعدام الثقة والظلم. ومع ذلك، يجب علينا أيضًا أن نتوقع ونستعد للتعامل مع المعاناة التي قد تُسببها الحقيقة.

الخاتمة

لقد استكشفنا بذلك فكرة الالتزام الأخلاقي بقول الحقيقة دائمًا، مشيرين إلى أن مفهوم الحقيقة وقيمتها لهما دلالات معقدة. فبينما من الصحيح أن للحقيقة دورًا أساسيًا كفضيلة أخلاقية وركيزة أساسية من ركائز المجتمع، من الصحيح أيضًا أن تطبيقها غير المشروط قد يؤدي إلى عواقب سلبية. وسواءً كان ذلك لتجنب إيذاء الآخرين أو عن طريق التقصير، قد يبدو الكذب أحيانًا أكثر ملاءمة. ومع ذلك، من المهم أن نضع في اعتبارنا الآثار طويلة المدى للكذب على الثقة والنزاهة الشخصية والجماعية. السؤال الأخير إذن هو: هل يمكننا العيش في مجتمع يُلزم فيه كل فرد بقول الحقيقة كاملة دائمًا؟ يبدو أن الإجابة مزيج دقيق من نعم ولا. فبينما تُعدّ الحقيقة جوهرية للتماسك الاجتماعي والأخلاق الشخصية، إلا أن قدرًا من المرونة وحسن التقدير مطلوبان لمعرفة متى قد يُسبب قول الحقيقة ضررًا أكبر من نفعه. في نهاية المطاف، يقودنا تناول مسألة ما إذا كان ينبغي للمرء قول الحقيقة دائمًا إلى تأمل أعمق في قيمنا الأخلاقية ونوع المجتمع الذي نرغب في العيش فيه.  فكما قال ارسطو في كتاب الميتافيزيقا "إذا كان كل البشر يرغبون بشكل طبيعي في المعرفة،" ... " فهل يمكن للعلم والفلسفة أن يلبيا حاجتنا إلى الحقيقة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

هناك من يقول كلاّ مثل ستيف ستيوارت - ويليم(1)، لكن قبل الوصول الى هذا الاستنتاج سنتطرق الى عدد من الحجج والتفاصيل في هذا المقال. سواء شئنا ام أبينا لا أحد او ربما القليل ينكر ان نظرية التطور هي من أهم الافكار في التاريخ البشري. لا يمكن إنكار تأثيرها ضمن حقل البايولوجي. في الحقيقة، يرى المنظّر التطوري ثيودوسيوس دوبجاتسكي ان "لا شيء ذو معنى في البايولوجي من دون التطور". لكن تأثيرات النظرية لا تنتهي هنا. الفيلسوف دانيال دينيت وصف مرة نظرية التطور كـ "مذيب عالمي universal acid"، تسرّب تأثيرها الى كل مجال من مجالات الفكر الانساني. هذا يبدو أكثر وضوحا في عالم المعتقدات الدينية. من اللحظة التي كشف بها دارون المسودة الاولى لنظريته، كان واضحا انها تتعدى على الحدود التي كانت تقليديا ضمن منطقة الدين. مع ذلك، رغم ان البعض يرى نظرية التطور والعقائد الدينية غير منسجمين، آخرون ينكرون ان هناك أي تناقض أساسي بينهما.

الغرض من هذا المقال هو معالجة هذه القضية، والنظر خصيصا بمدى الانسجام بين نظرية التطور والايمان بالله.

التأثير الأولي لنظرية التطور

عندما نشر دارون أول مرة نظريته في التطور، أثارت عاصفة من الجدل. مؤرخو العلوم اعتبروا هذه معركة بين العلم والدين، الى جانب صراع غاليلو الشهير مع الكنيسة. العديد من الناس رأوا نظرية التطور كتحدّي أساسي للعقيدة المسيحية. هذا التحدي حدث في عدة مستويات. اولاً، النظرية تتحدى بوضوح التفسير الحرفي لقصة الخلق الواردة في سفر التكوين. العقيدة السائدة بين المسيحيين في ذلك الوقت كانت ان الله خلق الارض وكل الكائنات الحية قبل ستة الاف سنة فقط وان كل كائن حي كان خلقا منفصلا وثابتا. بالمقابل، أكدّت نظرية التطور على ان الارض كانت أقدم من ستة الاف سنة، وطبقا لدارون، تطورت الأحياء ببطء عبر عدة ملايين من السنين. علاوة على ذلك، آمنت النظرية بان الكائنات الحية الحالية تطورت من أنواع مبكرة واننا اذا عدنا للماضي بما يكفي سنجد أي نوعين من الكائنات الحية امتلكا سلفا مشتركا. هذه الافكار تناقضت بشكل مباشر مع نظرية الخلق المنفصل.

فوق كل هذا، أضعفت نظرية التطور واحدة من أكثر الحجج المقنعة بديهياً حول وجود الله وهي: حجة التصميم. المؤمنون يستخدمون حجة توما الاكويني بالقول ان التصميم المعقد الذي وُجد في الكائنات الحية هو دليل على المصمم، او الله. وقبل دارون بقرن، كشف الفيلسوف ديفد هيوم عن ضعف هذه الحجة. لاحظ هيوم، حتى بافتراض ان التصميم يعني وجود مصمم، لماذا نفترض ان هناك مصمم واحد بدلا من فريق، او ان المصمم كان تاما، قديرا، خيّرا، او حتى لايزال حيا؟

دارون غيّر كل هذا. نظريته في الاختيار الطبيعي قدّمت تفسيرا طبيعيا لأصل الانواع – وهو تفسير لتصميم بدون مصمم. النظرية مدهشة من حيث البساطة، على الاقل في خطوطها العريضة. انها تبدأ من مقدمة بسيطة وهي ان الافراد ضمن أي مجموعة سكانية يختلفون، وان بعض هذا الاختلاف يتم توريثه. اذا كانت السمة الموروثة في ضوء المتغيرات المتوفرة تزيد من احتمالية انتقال الجينات المحددة لها، فان هذه الجينات تميل الى الظهور بشكل متكرر في السكان.

القوة الواقعية للفكرة تأتي عندما يتم الاعتراف بمقدار ما توضح. طبقا للنظرية، التراكم التدريجي للتغيرات الصغيرة والمفضلة عبر افق شاسع من الزمن مسؤول عن كل من التكيّف (مثل العيون والاجنحة) وعن ظهور جينات لأنواع جديدة. لا ذكر للإله في النظرية. هذا أثار إمكانية غير مريحة: اذا لم تكن هناك حاجة لله لتوضيح تصميم الطبيعة – والذي اعتُبر أفضل دليل على المصمم- فان الله ربما غير موجود ابدا.

الدين والعلم: مجالان منفصلان؟

من غير المدهش ان العديد من الناس نظروا الى نظرية التطور باعتبارها غير منسجمة مع الدين. مع ذلك، رغم ان بعض المسيحيين لايزالون يرفضون نظرية التطور، لكن العديد منهم كيّفوا عقيدتهم الدينية معها. جوهر النظرية – فكرة ان الانواع تغيرت بمرور الزمن وانحرفت عن الأسلاف المشتركة – هي غير منسجمة مع التفسير الحرفي لقصة الخلق في سفر التكوين. كل منْ ينظر الى القصص الانجيلية باعتبارها مجازية فهو يؤمن ان الله خلق الحياة من خلال عملية التطور. كذلك، كما سنرى، لاتزال هناك عدة أسرار يدّعي المؤمنون انها تُظهر وجود الله. في ضوء هذه الاعتبارات، سيبدو ان نظرية التطور لا تصطدم بالضرورة مع الايمان بالله. هذا ينسجم مع الفكرة العامة بان العلم والدين مجالان منفصلان وغير متداخلين، ولذلك فهما ليسا غير منسجمين مع بعضهما البعض.

هذه التسوية مريحة، لكن هل هي دقيقة؟ اولاً، يجب ان نتذكر انه بالرغم من ان مجالي الدين والعلم ربما متداخلان قليلا اليوم، هذا جزئيا بسبب ان نظرية التطور أجبرت الدين على الخروج من منطقتها، لكن بالنسبة لاولئك الذين يقبلون التطور، فان الامر تطلّب تفسيرا غير حرفي للقصص الانجيلية. (انه تطلّب تفسيرا غير حرفي لتلك القصص التي تصطدم مع النظرية. هذا لايتسع لكل الانجيل، وبالنهاية، لازال العديد من المسيحيين يؤمنون ان قصة المسيح صحيحة حرفيا).

هذا لا يعني القول ان لا أحد فسّر القصص الانجيلية مجازيا قبل دارون، وانما فقط ان نظرية التطور جعلت هذا التفسير اكثر الحاحا واوسع انتشارا. كذلك، ليس واضحا ان مجرد التخلّي عن التفسير الحرفي للانجيل يكفي للتوفيق بين مجالي الدين والعلم. لننظر اولاً في الفكرة بأن الله خلق الحياة شخصيا عبر توجيه عملية التطور. رغم ان هذه منسجمة مع جوهر التطور، لكنها تصطدم مع مبدأ اساسي للنظرية الحديثة للتطور وهو: ان التصميم في الكائنات الحية نتاج لتراكم غير مدروس او نتيجة لحوادث عشوائية. وهذا مثير للإشكالية. التكيّف يبدو صُمم لإنجاح وتعزيز تكاثر الفرد. (هذا يعني ان التكيفات تُصمم لزيادة احتمالية مرور الجينات المحفزة لتلك التكيفات، سواء كانت هذه الجينات كامنة في الفرد الحائز على التكيف او في المقربين منه). انه امر غريب ان الله استعمل التكاثر الناجح للفرد كمبدأ مرشد، لأن هذا يعني انه اختار ان يصمم حياة الكائن الحي بمعيار يمكن تفسيره تماما كنتاج لعملية طائشة لإختيار الجين. كذلك، كل الانواع الحية فيها عيوب في التصميم ونواقص وهي دليل يدحض عملية الخلق بواسطة كائن تام سواء من خلال التطور او بطرق اخرى.

المشكلة التطورية للشر

هذه الصعوبات يمكن تجنبها لو افترضنا ان الله بدأ العملية ثم ترك الاختيار الطبيعي يأخذ مساره (شكل من الربوبية). لكن، سواء كان هناك تدخّل إلهي مباشر او غير مباشر، فان نظرية التطور تثير صعوبة اخرى، وهي شكل جديد من مشكلة الشر القديمة. الاختيار الطبيعي هو عملية دموية قاسية ومدمرة. جورج ويليم البايولوجي التطوري البارز، وصف تلك العملية بالشر. لكل متغير ناجح، هناك ملايين من الكائنات الحية تموت بشكل مأساوي. عملية الاختيار الطبيعي ليست وحدها لا ترحم، كذلك ايضا العديد من منتجاتها. الاختيار المرتكز على حسابات نجاح الفرد الجيني والتكاثر هو سبب العديد من الحقائق غير السارة حول الطبيعة. فمثلا، معظم الحيوانات التي تمارس رعاية ابوية تترك الذرية الضعيفة او المشوهة تموت. كذلك، عندما يفرض الاسد سيطرته على مجموعة من الاسود، فهو عادة يقتل الأشبال الذين ينتمون بايولوجيا لذكور آخرين.

القسوة الظاهرة في الاختيار الطبيعي لاتعني منطقيا عدم وجود الله. لكن وكما لاحظ دارون ذاته، انه من الصعب التوفيق بين المعاناة الناتجة عن الاختيار الطبيعي والايمان بإله قدير ورحيم. اذا كان الله خيّراً، يُفترض انه يرغب بازالة هذا الشر، واذا كان قديرا سيكون بمقدوره القيام بذلك. لذلك، يحتاج المؤمن بالله للقبول اما بان الله بلا قوة لمنع هذا الشر او ان الله هو الشر ذاته (وهو في أحسن الاحوال غير أخلاقي). الخيار الوحيد الآخر سيكون اللجوء الى ادّعاء الجهل، مثل الادّعاء بان الله يتحرك بطرق غامضة، وان ما يبدو لنا من معاناة غير ضرورية هي في الحقيقة جزء من خطة شاملة وان هذه الخطة جيدة. لكن هكذا ادّعاء يمكن استخدامه لتوضيح أي حالة محتملة من عدم الانسجام أو موقف محرج، ولذا هو طريقة غير مقنعة.

هل الصيغ الاخرى لحجة التصميم تتجاوز قيود التطور؟

من جهة اخرى، اذا أمكن تقديم برهان واضح على وجود الله، نحن ربما يجب علينا قبول مثل هكذا ادّعاء. البعض جادل ان هذا البرهان متوفر. وحتى لو أعفت نظرية التطور الله من دوره السابق كمصمم للحياة، لاتزال هناك العديد من الحقائق الاخرى للطبيعة يجادل المؤمنون انها تشكل اساسا لنسخة معدلة لحجة التصميم. سنذكر هنا ثلاث منها:

1- الاختيار الطبيعي يمكن ان يحدث فقط عندما يكون هناك شيء للاختيار، ونظرية دارون لم تقل أي شيء حول كيف بدأت الحياة في المقام الاول. هنا، دور للإله.

2- رغم ان التطور قد يوضح وجود أجسام، البعض يرى ان ذهن الانسان او الوعي ليس عرضة للتوضيح الطبيعي ويجب ان يُنسب الى الله.

3- حتى لو كانت نظرية التطور توضح بعض التفاصيل ضمن الكون، لكننا لانزال بحاجة لتوضيح حقيقة ان الكون موجود في المقام الاول وليس فقط التحجج بانه اذا اختلفت قيم ثوابت فيزيائية اساسية معينة حتى بمقدار قليل، فان الحياة ما كان يمكن ان تتطور. في كل من هذه المجالات، المؤمن يجادل اننا نمتلك دور للاله لاتستطيع نظرية التطور الإستحواذ عليه.

اذا كانت الحجج أعلاه صائبة، عندئذ نحن علينا القبول بوجود الله رغم أي تحفظات تُثار من جانب مشكلة الشر التطورية. المؤيدون لهذه الحجج قد يقللون من قيمة القوة التفسيرية لنظرية التطور. في فحص دقيق، النظرية تتحدى الحاجة لتوضيح ديني في كل من المناطق الجديدة التي راهن فيها المؤمنون على الله.

1- رغم ان التفاصيل الدقيقة لتطور الحياة من لا حياة دائما تبقى لغزا، فان البحث في هذه المنطقة يبيّن على الاقل ان لا حاجة هناك لافتراض وجود أي شيء عدى العملية التطورية. لأنه بالنسبة للذهن، من المنظور الداروني المادي، الذهن هو فعالية الدماغ والدماغ نتاج للاختيار، وهكذا، فان الذهن نتاج للاختيار.

2- بعض الفيزيائيين لا يأخذون بجدية بالغة الفكرة بان المبادئ الدارونية يمكن ان تفسر وجود وطبيعة الكون. التوضيحات الدارونية المعقولة، تتجاهل فكرة ان وجود الكون والحياة او الذهن يتضمن اننا يجب افتراض وجود الله. المؤمن يجب ان يواجه مشكلة الشر التطورية. هذه المشكلة تجعل الموقف يسير باتجاه الاستنتاج بان نظرية التطور هي غير منسجمة مع وجود الله، وبهذا غير منسجمة مع أي دين.

التصور الغير مجسم لله

هناك معارضة واحدة أخيرة يمكن ان يثيرها المؤمن في هذه النقطة. حتى الان افترضنا بدون تعليق تصور تقليدي لله ككائن شخصي – غير مادي، رحيم، عارف بكل شيء، خالق و قدير. مثل هكذا إله ليس مجسّما بشكل صريح كآلهة اليونان القدماء او الهندوسية – او الإله الأصلي لاسرائيل. مع ذلك، الاله التقليدي يحوز على مزايا ذهنية أشبه بالانسان مثل المعرفة، ويمكن النظر اليه ككائن أخلاقي، يشترك في فعاليات مثل الخلق والتصميم التي ينخرط فيها الانسان ايضا (رغم انها في نطاق متواضع). دائما يعترض المؤمن ويؤكد بان هذا التصور القديم والمبسط لا يصف الله الذي يؤمن به. العديد من الثيولوجيين حاولوا فهم الله كـ "كائن بذاته" و "الاساس النهائي للوجود". آخرون ينظرون الى الله كتوضيح للحقيقة الغريبة بان هناك شيء بدلا من لا شيء، وقبلوا بانه مهما كان هذا، فهو من غير المحتمل ان يكون أشبه بالشخص. او من جهة اخرى، ربما ببساطة يمكن التأكيد على ان الطبيعة الحقيقية لله هي وراء فهم الانسان ولهذا لا شيء يمكن قوله حوله.

مشكلة الشر التطورية ليست تهديدا للايمان بإله غير مجسم، لانه فقط عندما يكون الله كائنا اخلاقيا قديرا يصبح وجود الشر مثيرا للإشكال. بالنتيجة، التأثير الرئيسي للمؤمن الديني هنا هو، مثلما ان حقيقة التطور تجادل بتفسير غير حرفي للقصص الانجيلية، فان مشكلة الشر التطورية تجادل بتصور غير مجسم لله. هذه نتيجة هامة جدا لأن هناك ثمنا غاليا يجب دفعه لقبول هذا التصور لله. الاله المجرد من كل صفات الانسان ليس إلها يمكن للمرء إقامة علاقات شخصية معه او يستجيب لصلواتنا ورغباتنا، ومن الصعب رؤية هكذا إله يستطيع ضمان سيادة المعايير الانسانية للعدالة في الكون. ونفس الشيء، اذا عُرّف الله كاساس للوجود او كتوضيح نهائي للوجود، نحن سوف لانمتلك سببا للاعتقاد ان وجود الله يعني ان حياة الانسان لها امتياز في الكون او بالنهاية ذات معنى، او ان الكون اكبر واكثر قدسية لأن الله موجود بدلا من شيء آخر. يبدو ان المرء يمكنه ان يشعر بالراحة من هكذا تصور، واذا شعر المرء بالراحة من تصوره لله، فربما يُسأل ما اذا كان حقا يؤمن بإله غير مجسم بالضد من الاله التقليدي. كذلك، التصور غير المجسد لله ازيح من المعنى الاصلي للكلمة لدرجة أثار تساؤلا ما اذا كان ملائما استخدام الكلمة. برتراند رسل أشار مرة الى ان "الناس لايرغبون التخلّي عن كلمة الله قياسا برغبتهم في التخلي عن الفكرة التي لأجلها صمدت الكلمة حتى الان".

نظرية التطور قد لا تقنع كل الناس ليتخلوا عن كلمة الله. لكن، حينما يغير الناس معناها الى الحد الذي لا يمكن فهمه، حينذاك يمكن القول ان الله كان ضحية لنظرية دارون.

استنتاج

نظرية التطور لها تأثيرات هامة على مجالين رئيسيين من العقيدة الدينية وهما: الحرفية الانجيلية ووجود الله. في أعقاب النظرية، برزت أربعة مواقف رئيسية حول هذه القضايا. في الموقفين الثاني والثالث، كان التطور والدين منسجمين، في الموقفين الاول والرابع، لا انسجام بينهما.

1- يمكن للمرء الاحتفاظ بالايمان في الإله التقليدي وفي الحرفية الإنجيلية (نظرية الخلق). لكن هذا يلزم المرء بإنكار الحقيقة الأساسية للتطور.

2- اذا كان المرء يقبل الإله التقليدي لكنه يرفض الحرفية الانجيلية، يمكنه قبول حقيقة التطور. كذلك، اذا كان المرء يقبل ان الله بدأ العملية او سلسلة احداث الحياة لتستمر ولم يوجّه العملية شخصيا، هنا يمكن للمرء قبول النظرية الحديثة للتطور. في اية حال، لابد للمرء من مواجهة مشكلة الشر التطورية.

3- اذا كان المرء يرفض الحرفية الانجيلية ويستبدل التصور التقليدي لله بتصوّر غير مجسم، هنا يمكن للمرء تجنب مشكلة الشر التطورية. لكن هذا يختزل الله الى تجريد بعيد وغير شخصي، ويثير السؤال حول ما اذا كان هناك أي معنى لإضفاء اسم الله على هذا التصور.

4 - الخيار الأخير هو رفض كل من الحرفية الإنجيلية والايمان بالله بأي شكل من الاشكال. هذا الخيار هو الأقل إشكالية بعد دارون.

***

حاتم حميد محسن

.............................

Can An Evolutionist Believe in God? Philosophy Now 2004

الهوامش

(1) ستيف ستيوارت – ويليم، بروفيسور في السايكولوجي بجامعة نوتنجهام ماليزيا، مؤلف عدة كتب من بينها: كتاب دارون، الله ومعنى الحياة الصادر عام 2010.

 

(انا افكر اذن انا موجود)... رينيه ديكارت

(انا افكر حيث لا اوجد، واوجد حيث لا افكر)... جاك لاكان

(انا افكر في شيء ما اذن انا موجود)... ادموند هوسرل

(انا اتألم اذن انا موجود)... ميلان كونديرا

(انا لا افكر اذن انا موجود)... سورين كيركجورد

سبق لي ان كتبت مقالة ناقشت بها مفهوم هوسرل لكوجيتو ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) نشرتها لي صحيفة المثقف الالكترونية الغراء بعنوان (هوسرل / علاقة الذات بالموضوع) ونشرها موقع كوّة الفلسفي المغربي تلاها غيره من مواقع عدة، لقد أخذ هوسرل عن استاذه برينتانو ان التفكير المنتج هو وعي قصدي. وانتشرت المقولة انتشار النار في الهشيم على صعيد الفلسفة خاصة الفرنسية والامريكية منها واستحدث عنها كتابات فلسفية امريكية بالخصوص لا حصر لها حول علاقة فلسفة اللغة بفلسفة العقل وكذا بفلسفة الوعي. لذا سأكتفي هنا بمناقشة عبارة جاك لاكان بضوء مقتطفات من كتاب نقد الحقيقة للمفكر علي حرب وتداخلهما مع تفكيكية دريدا. تاركا تفنيد كوجيتو ديكارت التي اضحت جثة هامدة في كلاسيكيات تاريخ الفلسفة.

لا أرغب مصادرة عبارة جاك لاكان بأن الوجود عنده أمنية الفيلسوف أن يوجد الانسان في وجود انساني أصيل غير ما هو فيه من وجود مجتمعي استهلاكي قطيعي زائف، وأنّ وجوده العياني الماثل هو وجود مجتمعي لا قيمة ولا نفع من التفكير من خلاله إنفراديا. اولا عبارة جاك لاكان سبقه بها عشرات من الفلاسفة ربما اشهرهم نيتشة، هيدجر، فوكو، هوسرل، سارتر، وفلاسفة اخرين بينهم امريكان. ورغم بهرجة وزهو العبارة الا انها لا قيمة حقيقية فلسفية لها اكثر مماتالته واستحوذت عليه..

 فهمي التأويلي التفسيري لعبارة جان لاكان (انا افكر حيث لا اوجد، واوجد حيث لا افكر) ولا يشترط ذلك أن غيري لا يقرأها بفهم وتأويل مغاير بتعدد وتنوع واختلاف القراءات. لكني اجد في تلك القراءات انها تماهي مع استعراض فلسفي غير مشروط بالفهم الخاص الذي اراده جان لاكان بعبارته الغامضة العصيّة التي تتقبل التناقض التفسيري كما نجد مثاله الصارخ عند مارتن هيدجر. الذي كان اوضح هذا التناقض بجدارة اكثر من فلاسفة سبقوه.

امّا لو اننا اخذنا عبارة علي حرب مثالا في تفسيره لعبارة (جاك لا كان) فهو يذهب الى تفسير نوع من العدمية التفكيكية المباشرة في الغاء أن يكون الانسان ذاتا مفكّرة في جوهرها، لأن كل ماهو في حجب الغيب ويمتنع الافصاح عن حقيقته يكون ذاتا غير مفكّر بها فتوجد حيث لا وجود وهذا دليل تفسيره في العبارة وفق استراتيجية ميتافيزيقية لا تنطبق في معناها الا على الذات الالهية فقط. وخارج هذا الحيّز لا قيمة لها ولا يمكنها التحقق منها وجودا من عدمه.

استعمالنا مفردات (منهجية تفكيكية عدمية) خطأ اصطلاحي فلسفي ومفهومي لا اعمل به ولا صحة منطقية فلسفية تحتويه. فتفكيكية دريدا، وهورمنطيقا بول ريكور، وحتى طروحات بعض فلاسفة البنيوية حول فلسفة اللغة وحتى خارجها، وعدمية فانتيمنو ليست فلسفات تقوم على منطق عقلي تعترف بالانسان كموجود محوري في مباحث الفلسفة ولا في الحياة. وتطرح هذه الاطروحات الفلسفية مثلا فلسفة اللغة نسقا يوازي الحياة والواقع ولا يتقاطع معها ولا يتكافل معرفيا معها من اجل تغيير حياة الانسان. كل اخطاء فلسفة اللغة التي بدأتها البنيوية بشخص دي سوسير عام 1905 كانت ميراثا ساحرا لتكريس الخطأ عند كل من بول ريكور في التاويلية (الهورمنطيقا) وجاك دريدا في التفكيكية.

فالتفكيكية على لسان جاك دريدا لا منهج لها كما وليست نظرية ولا فلسفة بل هي استراتيجية هدم وتقويض لبنية النسق اللغوي. كم ولا تثق بالعقل ولا تؤمن بالانسان محور مرتكز التفكير الفلسفي - (الانسان ما يريده او يعيه او يفكّر به، انه ذلك الشيء الذي يجهله ولا يفكر به بكلمة اخرى / انا اوجد حيث لا افكر، او افكر حيث لا اكون) عبارة جان لاكان ص137 عن كتاب نقد الحقيقة. عبارة تلتقي ما يعتمده علي حرب بكتابه نقد الحقيقة بتفكيكية دريدا واطروحة جاك لاكان على حد سواء..

يشرح علي حرب في كتابه نقد الحقيقة، أنّ هناك فجوة بين الوجود والفكر بضوء كوجيتو ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) ودحض جاك لاكان فيلسوف البنيوية وعالم النفس لها في عبارته التي مررنا عليها اعلاه. واهمل علي حرب ذكره وكذا فيلسوف ماركسي ووجودي قام قبله ابطال منطقية عبارة ديكارت وتهافتها الفلسفي لعل هوسرل احدهم في ان وعي الذات هو الوجود وليس التفكير وحده يقرر الوجود. احد الفلاسفة الفرنسيين ذهب الى ان فعالية التفكير بالتفكير ذاته هي موضوع مستتر كاف لاثبات الوجود انطولوجيا. وبذلك اعفى ديكارت من مثلبة انه في عبارته انا افكر لم يذكر يفكر بماذا؟

يقول علي حرب (الهوّة التي تقوم في الاصل بين الوجود والموجود، أي الى نسيان الموجود للوجود، نعني نسيان الانسان لوجوده على مايذهب اليه هيدجر، وهذه الهوّة تجعل اللامفكر فيه سلطة على الفكر، اي هي الأصل في قيام مسافة بين ما يقوله القول وما لا يقوله (كتاب نقد الحقيقة ص26.كما يقول أيضا) ان الفكر الذي يتأمل موضوعه فهو يحمل صفة تأمل ذاته) ص118 من الكتاب.

صحيح ان الوجود كمفهوم ميتافيزيقي لا يمكننا ادراكه باكثر من ادراكاتنا موجوداته المحتواة داخله التي بغيرها لا يبقى لدينا وجود يمكننا ادراكه حتى حدسا من غير تعالقه بمحتويات موجوداته داخله. عبارة المفكر حرب الثانية ان الفكر الذي يتامل موضوعه يحمل صفة تامل ذاته سليمة جدا.

وبعد ان نقّر بوجود فجوة او مسافة بين الوجود البايولوجي العاقل للانسان والفكر الواعي المجرد، لكنما ليست بالضرورة بين الموجود والوجود على صعيد انتاجية وقراءة النص في مجال اللغة، قراءة بنيوية منهجية حديثة كما في حفريات المعرفة، أو قراءة تفكيكية متطرفة كما هي عند دريدا، وانما في المجال الانطولوجي الذي تتداخل فيه حقيقة الوجود العاقل واللغة بما يعرف بالقراءة الجديدة كما في طروحات شتراوس وفوكو والتوسير وغيرهم.

وما يفصل الوجود عن غير الوجود الاصيل، هو حالة وعي الذات لوجودها الحقيقي والعالم الخارجي (وهذا ما ناقشته الماركسية والوجودية باسهاب صائب). وغياب الوجود يكون في الموجود المجتمعي الذي لا يعي فيه الفرد ذاته كجزء فاعل من المجتمع، عندها يكون متعيّنا موجودا وليس متعيّنا وجودا، وفقدان وعي الذات لمجتمعيتها هو تغييب للوجود الاصيل للذات، والوجود الحقيقي الحر والمسؤول هو في وعي الذات وعيا ادراكيا عقليا مسؤولا بحرية المجتمع، يعمل في دائرة المفكّر به وهو ما يمليه العقل ويضطلع به مقصيّا تأثير اللغة الهامشي في توظيف تحديدات الوجود العاقل.هنا للفكر أسبقية على اللغة في ادراك الوجود، والعقل أسبق على الاثنين في وعي الوجود.

الوجود الظل ليس وهما فلسفيا

للحقيقة ان اول من اشار للوجود الثاني الحقيقي للانسان هو افلاطون ومثله فعل نيتشة. هذا الوجود الذي يقصي الموجود او الوجود العياني الزائف الذي لا يعي ذاته الحقيقية ولا حريته المسؤولة عن ذاته ومجتمعه، فهو يعيش نسيان الوجود ويكون وجودا هامشيا مجتمعيا طارئا .. وهنا يمكننا القول لكن بحذر شديد ان نسيان الوجود هو وجود ثان يدركه الفرد بفهم عميق وذكاء لا يجاريه فيه المجتمع واول فيلسوف اوضح هذا الالتباس في اطلاقه صفة اللامنتمي خارق الوعي الذكي الذي يعي وجوده والحياة والوجود من حوله بجديّة وذكاء اكثر مما ينبغي ومطلوب منه هو الفيلسوف الانكليزي كولن ولسون قبل ان ينهي كتاباته بروايات ونقودات لا ترقى لمستوى كتاباته الفلسفية المهمة الاولى بداية ستينات القرن العشرين.. وجود اللامنتمي (كموجود وليس كوجود مفهوم فلسفي) بغض النظر أن يكون وجودا حقيقيا أم وجودا زائفا فهو يعتبر حسب كتابات كولن ولسون الارستقراطية النخبوية في اختياره شخصيات اعماله، يعتبر توضيحا لما كان اشار له مارتن هيدجر في كتابه الزمان والكينونة ولم يستطع توضيحه كما فعل كولن ولسون في اكثر من اربع مؤلفات له تدور في هذا المنحى. ولم يكن تاثير مفهوم الوجود الظل الثاني مرتكز الروائي الفيلسوف التشيكي فرانز كافكا في رواياته الخالدة. مثل القلعة والمسخ وغيرهما غائبة عن تاريخ فلسفة الادب. ثمة روايات وكتابات فلسفية تناولت هذا الموضوع لا تحضرني اسماءها.

من الجدير الاشارة له سريعا هنا ان كولن ولسون عالج بطل موجود اللامنتمي في رواياته وكتاباته من منطلق (اغترابي) كما ورد عند ابن سينا وابن طفيل والسهروردي وعند اقطاب الصوفية الدينية عالميا كما بالهند والصين واليابان وكوريا وهكذا. اي ان العزلة المجتمعية واعدام اللغة الصوفية من قبل صاحب التجربة الصوفية مطلوبان لذاتهما وليسا مفروضتان مجتمعيا. وبهذا المعنى فلن يكون الاغتراب ظاهرة سلبية انكفائية جوّانية تدين المجتمع ولا تقوى على التحرر منه فتستسلم له قدريا.

هيدجر ونسيان الوجود

لكنا نميل الى أن نسيان الوجود او (الوجود الثاني الغائب الحاضر) يكون وجودا زائفا كما يذهب له هيدجر، فالوجود المتحقق ذاتيا كوجود أصيل لا يحتاج مفارقة وجوده في نسيان الوجود أي الاندماج في الكليّة المجتمعية الذي هو شرط تحقق الذات وجودها الاصيل حسب مذهب الوجودية والظاهراتية.

فالذات الحقيقية لدى هيدجر هي وجود – في – عالم وهو ما جعله يتخبط في كتابه باكثر من خمسين صفحة من مؤلفه الزمان والكينونة دونما قدرته اثبات صحة ما طرحه في عبارته التي استقى جذورها من استاذه هوسرل صاحب الظاهريات الذي اخذها عن برينتانو في مقولة (الوعي القصدي) التي دفنت كوجيتو ديكارت انا افكر اذن انا موجود الى غير رجعة. هيدجر رغم انحيازه لمقولة برينتانو واستاذه هوسرل الوعي القصدي هو الذي يجعل الفرد يعيش امتلائه النفسي والوجودي في وجوده – في – عالم . الا انه عجز اثبات ايا من الوجودين في تحقق الذات الانسانية امتلائها الوجودي الاصيل هل عندما تكون داخل مجتمع جزءا منه متفاعلة معه ام عندما تكون خارج المجتمع منفصلة عنه تعيش وجودا بذاته فقط.. الموجود خارج الوجود لن يتحقق في ظل سطوة الوجود هو ما نعيشه وليس ما نتخيله.

علي حرب والتماهي التفكيكي

اذا اردنا ان نناقش بعض المنطلقات الفلسفية لكتاب علي حرب نقد الحقيقة، نكون ملزمين في توخّي الدقّة والحذر ان لا ننزلق بين قراءة النص قراءة بنيوية نسقية على صعيد التشكيل اللغوي واللساني المحض، وتناصّه المتداخل مع الفلسفة، وهما النص الادبي والنص الفلسفي وان هما يلتقيان منهجيا كما في الفلسفة البنيوية الا أنهما في حقيقة الامر يمتلكان استقلاليتهما وخصوصية أحدهما عن الثاني على صعيدي التجنيس الادبي والتجنيس الفلسفي وعلاقتيهما المختلفة باللغة والفكر.، عليه ستكون مناقشتنا على صعيد قراءة النص الفلسفي وتعالقه مع لغة النص الادبي والشعري منه تحديدا، يقوم على الأخذ بنظر المناقشة أنهما يختلفان اختلافا كبيرا حتى وأن جمعتهما اللغة كوسيلة تعبيرية واستنطاق لفظي لكليهما.

ولتوضيح اكثر فأن النص الفلسفي هو غيره النص الديني او التصوفي وهما غيرهما في النص الادبي خاصة الشعري، فلكل واحد منهم مجال اشتغاله وميزاته بخصائص تفرّده الفني والجمالي والتركيبي.

(في الشعر كما في الفلسفة تستنطق الاشياء من جديد، ويعاد خلق العالم بالاسماء والكلمات، او بالفكر والمفهوم، فالشاعر والفيلسوف كلاهما يسعى الى الاستنطاق واعادة الخلق والانتاج، كل على طريقته) كتاب نقد الحقيقة/ علي حرب. ص119

ان الفجوة التي تفصل او تتوسط (الفراغ) الافتراضي بين الوجود الحسّي والفكر التجريدي، وهو افتراض قائم ادراكيا عقليا قبل ان يفهم او يحدس فكريا او لغويا، هي فجوة لا تتوسط وجودين ماديين أثنين، بل ان الوجود والفكر هما وجود حقيقي مادي واحد، بل هما كينونة الانسان بعلاقته الذاتية مع جوهره المثالي الأصيل الذي يرغب بلوغه.

علاقة الذات بجوهروجودها، بأغترابها وأنعزالها عن الناسيّة المجتمعية في الوجود على حد تعبير هيدجر، أي الاندماج فيما يطلق عليه هيدجر مفارقة الانسان لوجوده الحقيقي الاصيل من خلال اندماجه المتكيّف والتام بالمجتمع او اندماجه بالكلية حسب تعبير هيجل. (يلاحظ تناقض هيدجر فيما سبق لنا الاشارة له قوله ان الوجود الاصيل لا يكون الا ضمن الاندماج بالكية المجتمعية وما اطلق عليه نصا (الوجود – في- عالم) متماشيا مع هوسرل وسارتر.

أما في حال نشدان أوالتطلع لتحقيق الكمال المثالي في نزوع الذات تحقيق وجودها الفاعل الأسمى بالحياة او على الاقل في السعي نحو بلوغ مراتب تصاعدية في محاولة تحقيق مثل تلك الاهداف فهو نزوع نوعي وجودي لفرد او مجموعة افراد مستقلين عن الاندماج في مجتمع نسيان الوجود.

الناسّية في الوجود كما عّبر عنها هيدجر هي بتعبير مباشرعن وجود الفرد كينونة انسانية هامشية زائفة لا تملك الحد الادنى من الخصائص النوعية المجتمعية التي يحتازها الوجود الاصيل للفرد. بل هي تشترك بجميع المواصفات المجتمعية السطحية التي تبعد الانسان وتقصيه من الحصول على الوجود الاصيل بالحياة. والكليّة المجتمعية ما هي الا صهر الكيانات المتجانسة بالنوع مجتمعيا في معترك الحياة الرتيبة التي يتوزعها اشباع غرائز البقاء وغرائز اللذة فقط. عن هذه الحالة في نسيان الوجود الاصيل في معايشة الوجود الزائف يطلق عليها هيدجر توصيف قاسي جدا اذ يعتبرها الانحطاطية في الوجود.اي المجتمع هو ام كل الرذائل بحسب فهم هيدجر لتحقق الوجود الاصيل.

المجتمع او الموجود الجمعي لنسيان الوجود الحقيقي هو دائرة مقفلة تتقاذفها بلا انقطاع هواجس الحياة اليومية، ويملأها اشباع غرائز الحاجة البيولوجية الطعام والجنس والعمل والنوم، وجميعها عوامل تغييب الوجود الاصيل، في استبعاد الوجودات النوعية وليس الوجودات الهامشية المجتمعية المتكيّفة مع الكلية العامة. الوجود النوعي معناه وعي الذات جيدا بفهم اعلى نضجا من تفكير القطعانية الاستهلاكية بالحياة، ووعي الذات يقود لا محالة نحو الانفراد عن مجتمع الناسيّة، مجتمع نسيان الوجود، الوجود الاصيل الذي يتجسّد فيه وعي الذات، باغترابه عن مجتمعه في محاولته الوصول الى تراتبية أعلى في سلّم الحصول على صفات التمّيز والتفرّد النوعي في محاولة الوصول الى (مثل) قيم الانا العليا.، وهي نزوع مثالي في محاولة بلوغ مراتب الكمال، تشبه من حيث الغاية النزعة التصوّفية الاغترابية باختلاف الوسيلة والهدف، وكلاهما نزعتين لا يمكنهما التحقق واقعيا.

لمناقشة علاقة الفكر بكل من اللغة والعقل، تكون المسافة التي تفصل بين الوجود والفكر هي علاقة الانسان بذاته لا غير، أي علاقة وعي الذات المحكوم بالتفكير والادراك العقلي. وان العقل وليس الفكر هو السلطة المتنفّذة في وصايتها وحمايتها للوجود الانساني الفاعل، وفي تغييبنا لهذة الأولوية للعقل من أجل فرض سلطة الفكر على الوجود نقع في مفارقة تراتيبية في الوظائف العقلية التي يرفضها العقل قبل رفض النسق المنطقي التجريدي لها، هذه المفارقة في تراتيبية النسق الوظيفي للعقل، يدفعنا الى التساؤل أيهما أسبق تاثيرا على الوجود العقل ام اللغة؟ طبعا يكون الجواب هو العقل منتج الفعالية اللغوية التي هي ملكة يعبّر بها الوجود عن حقيقته وواقعيته كوجود عاقل.أذ لا وجود اصيل بدون عقل، ولا وجود لغة او فكر من دونه ايضا. وعبارة جاك دريدا عبثية في محاولة انكار دور العقل وعلاقته بالفكر عندما يقول (العقل هو العدو اللدود للفكر). دريدا هنا ينكر العقل بسذاجة على انه ميتافيزيقا!!.

أن تعابير مثل المسكوت عنه واللامفكّر فيه والغائب في ماوراء النص كلها تعبيرات لا معنى لها من دون فاعلية العقل كمرجعية ثابتة في كشفها وعلاقته بهما (الوجود واللغة). اما في جعل اللامفّكر به بأنه يمتلك سلطة على الوجود في تغييب العقل نرى لا حاجة لمحاججته ودحضه كونه اخلالا وظيفيا في قدرات العقل الفسلجية وتراتيبية علاقته بكل من الوجود والفكر، مقارنة بفضاء اشتغالات واستعمالات اللغة. وتأثيرها في تحديد الوجود الزائف والوجود الاصيل. ومن حيث اللامفّكر به احتمالا او تأويلا يتعدد ويتجاذب ويتضاد، وقياسا به بسلطة (اللامفكّر فيه) في قراءة النص ومن ثم تأثير ذلك على الوجود هو محض قصدية في تجاوز والغاء دور العقل في الاستجابة الادراكية للوجود او تعطيله قبل تعطيل النص واللغة المتعالقتان معه.

يقول علي حرب (يبنى النص على الغياب والنسيان، لا على الحضور والتذكّر، والغياب هو غياب الجسد والدال، وهما الحقيقتان اللتان لا ينفك عنهما وجود الانسان) ص27

هنا نود تسجيل الملاحظات التالية:

ليس الجسد واللغة حقيقتا الوجود فقط، بل العقل واللغة هما حقيقتان تتقدمانهما، فقد يكون الجسد مفارقا وجوده العقلي والفكري معا كما في جسد الميت او المجنون او المريض بمرض نفسي عصابي او عقلي انفصامي، أن في تعطيل العقل لا يبقى لوجود الجسد ولا اللغة أي معنى او قيمة، و تنتفي في عطالة العقل فاعلية وحضور الفكر واللغة. على سبيل الفرض، فالجسد لا يمثّل الوجود، كما لا يتحدد الوجود بتلازم الجسد والفكر او في تلازم الجسد والروح فهما غير كافيان في اثبات الوجود بدون العقل. وقريب من هذا المعنى متداخل معه يعبر ناعوم جومسكي فيلسوف وعالم اللغات في اتجاهه اللغوي التوليدية معارضا الفهم البنيوي والتفكيكي قائلا: ان الانسان المتكلم هو المولّد للكلمات والعبارات، وله الدور الفاعل في صنع اللغة وإيجاد توليدات جديدة لا تنتهي، وبهذا فهو يقاطع البنيوية حسب دكتور صلاح فضل ويقاطع التفكيكية اكثر أيضا. يتوجب علينا الحذر كما اشرنا له سريعا سابقا من الانزلاق في الخلط بين قراءة النص الادبي او السردي وفق منهجية القراءة البنيوية او التفكيكية التحليلية في علوم اللغة واللسانيات الحديثة من جهة ونص الفلسفة من جهة اخرى، فقراءة النص الادبي تكون وظيفة اللغة فيه تداولية تعبيرية تنحصر في ثنائية (نص ومتلقي) وهنا يكون مجال اشتغال اللغة الثري في تأثيث علاقة النص بالتناص، بالظاهر والمخفي، بالمعلن والمسكوت عنه وهكذا من ثنائيات متعددة تخرج النص ان يكون نصّا فلسفيا في علاقته بالوجود الانساني من حيث هو وجود أصيل أم وجود زائف. النص المكتوب او المرئي او المسموع لا يحدد وجود الشيء بدون مرجعية العقل، بل يمكنه تحديد الفكر من خلال النص.وكل وصاية على اللغة او الفكر او الوجود الاصيل مردّه ومرجعيته وصاية العقل اولا واخيرا ولا وصاية قبلها تسبقه.

 ليس باللغة يتحدد الوجود الانساني ولا بالفكر، بل باللغة يتحدد الموجود كينونة انطولوجية، الذي لا يترتب عليه نسيان الوجود الحقيقي، وبحسب المفكر حرب، فقد وضعنا هو امام مفترق طريقين لا نعرف أيهما نختار، هل نأخذ بالغياب والمنسي والمسكوت عنه في النص، ام نأخذ حضور النص كما هو نص استقبالي مدرك واقعيا مستوفيا شروط تلقيه، وان كل مدرك واقعي يكون عقليا، تتعدد قراءاته وتتعدد وظائفه في تحديد الموجود،  وفي نقد النص او تأويله لغويا فقط لا نكتسب وجودنا، وبأي المعنيين اللذين ذكرناهما يكون تعاملنا مع النص سليما لغويا كوسيط تداولي او تأويلي فلسفي ملازم؟ من المعلوم المتداول ان اللغة ليس متعينا ثابتا بل هي فعالية ألسنية متغيرة ومتطورة باستمرار يمكن التعبير بها فقط. اللغة صيرورة معنى متغير على الدوام في تبعيته وملازمته حركة الواقع.

ورد ص24 من كتاب علي حرب (لقد تبدّلت حقّا النظرة الى النص الفلسفي تبدّلا كليّا، فلم يعد يقرأ بوصفه خطاب الحقيقة المطلقة، والماهيّات الازلية، والهويّات الصافية، واليقينيات الثابتة، ولم يعد ينظر اليه فقط من جهة صدقه العقلي، او صحته المنطقية، او تماسكه النظري، او تواطئه الدلالي، وانما ينظر اليه من جهة اختلافه او كبته، او سياسته وهيمنته، او ضلاله وتلاعبه.. الخ).

تعقيبنا أن خطاب الفلسفة منذ عصر الاغريق والرومان والى يومنا هذا لم يكن خطاب الحقيقة المطلقة، الفلسفة بكل تجلياتها لا تمثل الحقيقة بل تستثير التساؤل في كيفية الوصول لها. وليس جديدا ان لا يكون هذا الفهم كذلك بالامس واليوم ولا في المستقبل، ومن المؤكد ان الفلسفة على امتداد التاريخ لم تكن الحقيقة شيئا مسلمّا به لتعدد معانيها واختلافات دلالاتها ومحدداتها الهلامية للمعنى كمصطلح او كمفهوم.

فالخطاب الفلسفي شأنه شأن أي خطاب مبني اي (بنية نسقية) فكرية لغوية تداولية ذات منشأ بنيوي نسقي، خطاب يحمل كل تناقضاته الداخلية، وكل نقائصه وعوامل انحلاله الذاتية والموضوعية داخله، ولم يأت عصر عومل به النص الفلسفي كيقينيات غير مشكّك بها الى حد أن كلود بيرنار قال (أكاد اجزم أن العالم ينام على وسادة من الشك). وهي عبارة قيلت بعد ان كتب ديكارت (مقالة في المنهج) قبل قرن حول الشك. حتى القراءات البنيوية والتفكيكية الحديثة الفلسفية وحفريات المعرفة والتنّاص اللغوي، تعامل اليوم وتتعرض الى نقد لا ذع يستهدفها بالصميم، وسيطالها تجاوز لاحق، وتعامل كما هي اليوم لا يقينيات معرفية ولا يقينيات منهجية في الافصاح الفلسفي والتعبير الفكري وعلى صعيد اشتغالات اللغة وحفريات المعرفة السائدة اليوم أيضا، نحن اليوم نعيش في عالم يتغير بالدقائق على صعيد كل محمولات الحياة وليس النص الفلسفي استثناءا من هذا التغيير الحتمي.

أن في خروج النص عن وصاية المؤلف يقع تحت وصاية المتلقي وتعدد القراءات الاختلافية التأويلية له، لذا لا يمكن لنص يتداوله اثنان قرائيا لا يختلفان عليه مهما كانت نوعية تلك القراءة حرفية او منهجية او فلسفية او موضوعية او غيرها. وكل ما يمكننا قوله سبقنا غيرنا بقوله ربما بافضل منا، ولنا عليه شروحات وتفاسير واضافات جديدة ولا اكثر، وما نقرأه ونقوله اليوم سيأخذ السلسلة التراتيبية في التداول حاضرا وفي المستقبل بنفس مناهجية التداول المعرفي في التجاوز او الإلغاء في سنة الحياة التي يحكمها التبدل والتغيير الدائمين حتى وغن بدا لنا الامر تعاقب من العود الابدي النيتشوي.

***

علي محمد اليوسف / الموصل

.......................

* المصدر: كتاب المفكر علي حرب (نقد الحقيقة).

كنت طرحت على نفسي سؤالا لغويا استشكاليا متداخلا مفاده: هل صوت الحرف باللغة اية لغة من اللغات المعاصرة هو ابجدية نحوية؟ ام هو خاصية الافصاح عن معنى الصوت؟ هنا يكون رسم الحرف الابجدي النحوي كتابة يحمل دلالة خاصية المعنى المجرد من الصوت المنطوق جهرا.

الحقيقة التي لا يمكننا اغفالها هي ملازمة رسم الحرف للصوت والاختلاف النحوي بينهما هو في معنى الصوت سواء كان الصوت منطوقا غير مرسوم أو مكتوبا.

الفرق بين الحرف المكتوب ضمن نص طباعي لغوي مقروء تداوليا هو ملازمته لصوت له معنى. لا توجد ابجدية قرائية حروفها بلا صوت دلالي له معنى.

اما في رسم الحرف اللغوي على جدار او داخل لوحة فهو يمتلك التعبير المقصود واحيانا يكتسب الجمالية الفنية على حساب فقدانه الصوت الدال الخفي او المسموع. فالحرف داخل نص مكتوب طباعة هو غير الحرف داخل لوحة تشكيلية، فالحرف في كلا التوظيفين هو بلا صوت لا منطوق ولا صامت لكنما الدلالة فارقا كبيرا.

وجدت جوابي الخاص بي ان رسم الحرف غير التشكيلي يشير الى ابجدية نحوية يلازمها صوت له معنى. رسم الحرف بالابجدية اللغوية هو شكل رمز يحمل دلالة صوتية ذات معنى. الحرف الابجدي عماد الكتابة وكي يتوفر على هذه الميزة ضروري ان يكون مرسوما بشكل متفرد عن غيره من حروف لغة ما، والثاني ان يحمل الحرف الابجدي دلالة صوتية ايضا متفردة ليس شرطا صوتا منطوقا لسانيا، والثالث والاخير ان الصوت المدّخر الذي يحمله الحرف نطقا او صمتا يشير الى معنى محدد مقصود.

صوت الحرف عند الانسان هو من ضمن نحو لغوي بينما الاصوات التي تطلقها الحيوانات تحمل في بعضها فقط معنى وغالبية اصوات الحيوان لا معنى لها حتى داخل نوعها كونها تتسم بالعشوائية التي لا يحكمها تفكير عقلي كما هي عند الانسان.. هذا لا يعني ان جل الاصوات التي يصدرها الحيوان هي بلا معنى.

شكل الحرف اللغوي الخاص بالانسان سواء اكان مجردا من قيمته الجمالية الفنية داخل لوحة او عمل فني تشكيلي يؤطره. في انجاز تشكيل لوحة خط او لوحة رسم فنون تشكيلية. اي عندما نرسم الحرف كتابة ضمن نص مقروء او منطوق مكتوب، او نرسمه باسلوب فني كما هو في التوظيف التشكيلي الجمالي في رسم لوحات الخط او لوحات التشكيل او لوحات البوستر بالرسم على الجدران والامكنة العامة في مختلف اجناس الفنون التشكيلية الجمالية التي تحتاج توظيف رسم الحرف الصامت في اللوحة.1554 ABC

 بهذا النوع من الاسلوب التوظيفي الجمالي يكون رسم الحرف داخل لوحة يفقده خاصية الصوت حتى الصامت الملازمة لرسم شكل الحرف كوحدة ابجدية منفصلة او متصلة. كما يفقد بالضرورة الملزمة له خاصيته النحوية التي نجدها بالكتابة العادية التداولية. هنا كتابة حرف البوستر وخط اللافتات المرفوعة بالايدي او الثابتة في اماكن محددة لها لا تفقد الحروف ابجديتها الصوتية الصامتة ذات المعنى المراد المقصود بل يؤكدها قراءة.

الصوت بلا نحو عند الحيوان

الحيوانات لا تمتلك لغة لها ابجدية بل تمتلك اصوات اغلبها عشوائية وبعضها تعبّر عن مدلولات استعمالية محدودة. بمعنى ليس كل الاصوات التي تطلقها الحيوانات ذات مداليل قصدية داخل النوع الحيواني من جنسها باستثناء بعض الاصوات التي تكون مفهومة داخل النوع الواحد مثل التنبيه الى خطر محدق، ورغبة الجماع الجنسي، قدرة التنبؤ بالتغيرات المناخية الطارئة، وجود اكل يتشارك به القطيع والخ من حاجات مشتركة تبعد نوع الحيوان من الانقراض.

لماذا نقول الانسان يمتلك فرادة لغوية لا تشبه وغير موجودة لدى غيره من الكائنات بالطبيعة.؟ للاجابة فقد سبق لي ذكرها بمقال سابق منشور لي اختصرهنا بعض أهم نقاطه:

الانسان يمتلك ابجدية لغوي نحوية منتظمة لا يمتلكها غيره من الكائنات. الابجدية عند الانسان نظام لغوي قائم بذاته نسقيا في التعبير عن كل شيء يدركه العقل.

الصوت اللغوي الانساني صوت يحمل معنى محدد مقصود الدلالة. وهو صوت بدأ عند الانسان بتطور بايولوجيا استخدام الحنجرة صوتيا عنده بمساعدة اللسان على تمكنه اخراج اصوات لغوية تحمل معنى مشتركا لقوم من الاقوام يتشاركون العيش المشترك والمصير الواحد ولهم عادات خاصة بهم يقدسونها او يتفقون الحفاظ عليها معنويا...

ميزة الانسان انه امتلك لغة تداولية متفردة عندما تمكن من رسم الصوت اللغوي وتوزيعه على رموزذات اشكال محفورة او منقوشة على حائط او قطعة جلد او اي شيء اخر يتفق عليه داخل مجموعة من البشر يؤشر مداليل قصدية مشتركة لها اصوات تدل على معانيها.

لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا في كينونة مدركة او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى. بمعنى ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه لا يدركه العقل في فهم معناه. فالعقل تفكير لغوي تجريدي في التعبير عن معنى.

الصوت الصادر مجردا عن معناه اي بلا حمولة فكرية قصدية هادفة لا يكون ولا يصبح لغة. الصوت ليس هو اللغة فقط بل هو المعنى ايضا. وبلغ التضاد الاختلافي بين انصار علم النفس السلوكي اللفظي بزعامة فريدريك سكينر1904 - 1990 الذين يعتبرون دراسة الصوت باللغة له اسبقية الاهتمام على دراسة المعنى باللغة التي يقول بها انصار فلسفة اللغة وبعض علماء اللسانيات والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى.1555 ABC

 لغة الانسان تتسم بخلق جماليات لغوية صائتة وصامتة معا هي خارج الاستعمال الدارج على ان وظيفة اللغة تواصلية مجتمعية – معرفية متعددة الاستعمالات داخل مجموعة بشرية يجمعها تعايش مشترك دائم. مثال تلك الجماليات نتاجات الادب والفنون ومختلف الفعاليات من رسومات تبدأ بالكهفية البدائية وتشكيل ونحت في عصور لاحقة معاصرة التي يجري توظيف اللغة كمنظومة ابجدية جماليا فنيّا فيها خارج وظيفة التواصل اللغوي الحواري المباشر.

كما اشرنا له سابقا رسم شكل الحرف باللغة هو خاصية نحوية من جملة قواعد وضوابط في اختراع ابجدية لغوية متكاملة تحتوي عددا محدودا من الاحرف المنتظمة نحويا خاصة بقوم من الاقوام مثل اللغة العربية 28 حرفا اساسيا اضاف لها بعضهم الهمزة كحرف لتصبح 29 حرفا والانكليزية 26 حرفا والسامية 22 حرفا وهكذا مع تعدد اللغات بالعالم. لا حاجة التذكير ان شكل كل حرف في ابجدية لغوية لقوم من الاقوام او امة من الامم يختلف رسمه وصوته عن باقي الحروف الاخرى داخل منظومة القواعد النحوية.

لكن يبقى رسم شكل الحرف ناقصا يحمل مداليل تاويلية فائضة وقراءات مختلفة ويخلق تصورات متباينة لا يكتمل معناه الدلالي النحوي بالنسبة لكل فرد منفردا لوحده او ضمن مجتمعه الا بملازمة صوت معين لكل شكل حرف مرسوم او مكتوب متفق على اساسيات تحكمه مثل شكل الحرف ، صوته الدال عليه، معنى دلالة ذلك الصوت الخاص به.. الحرف خارج منظومة القواعد العامة التي ذكرناها لا قيمة حقيقية له كرسم لشكل معيّن متفرد.

مثال تاكيد ما ذهبنا له توظيف رسم شكل الحرف باللوحة التشكيلية الفنية او بلوحات انواع الخطوط كما عندنا بلغتنا العربية كرمز جمالي تكويني فني يدخل جزءا بصميم تكوين جمالية اللوحة لكنه مقطوع الصلة عن التنظيمية النحوية القواعدية لتلك اللغة.

حروف لوحات الخطوط العربية تطورت عبر العصور فنيّا جماليا وكان لدور رائد الخطاطين من غير العرب المعاصرين الشيخ ابو حامد الآمدي التركي دورا كبيرا جدا في تلمذة الخطاطين العرب على يديه واجازتهم ممارسة الخط العربي. لتستقرالخطوط العربية اليوم في ابرزها على عدد من الخطوط والاشكال منها خط النسخ، الثلث، الرقعة، الكوفي، الديواني، الجلي الديواني، الفارسي "التعليق"،خط الطغراء، خط الاجازة، والخط المغربي وخطوط رسومات حروفية اخرى تدخل في المنحى الجمالي. وتعتبر لوحات الخط العربي اليوم من نفائس تراثنا الثقافي العربي المتناقل عربيا وعالميا.

نحوية الحرف اللغوي

نحوية الحرف باللغة لا يحددها رسم شكله خارج الكتابة التداولية المطبوعة اليوم. بالكتابة الحرف لا يفقد ابجديته الدلالية في التعبير عن معنى يلازمه صوت خافت او منطوق. بل يفقد القيمة الجمالية الفنية في توظيفه الفني داخل تكوين رسومات ولوحات ما لا حصر له. الحرف بالكتابة المجتمعية اللغوي الخاصة بقوم من الاقوام (وظيفة) غير جمالية ولا فنية بمعيارية مقارنة توظيف الحرف بالفنون التشكيلية والمنحوتات واللوحات الجدارية والمتنقلة ولوحات الخط العربي عندنا وهكذا.

في اللوحة التشكيلية وتوظيف الحرف جماليا يفقد الحرف العربي قيمته النحوية القواعدية كابجدية منضبطة. رسم الحرف باللوحة هو (فن) ورسم الحرف بالكتابة اللغوية المعرفية والادبية هي (نحوية) ابجدية منتظمة. والحرف في التوظيف الفني باللوحة متحرر تماما من اي التزام لغوي سوى توكيد حضور الناحية الجمالية الفنيّة.

اي هو في الوقت الذي يشكل حضوره داخل تكوين عملية الابداع المهني باللوحة كقيمة جمالية لا يستهان بها الا ان الحرف الجمالي داخل اللوحة يفقد نحويته الابجدية القواعدية بسبب عشوائية التوظيف الحروفي داخل تكوين اللوحة.. حينما يكون شكل الحرف الفني الجمالي داخل اللوحة (ثابتا) كحيّز امتلائي كتلوي لسد فراغ في تقنية اللوحة فنيّا في سد الفراغات وتوزيع الالوان والكتل وغيرها.1556 ABC

 حين اشرنا سابقا قبل اسطر ان رسم الحرف داخل اللوحة هو بمثابة تحنيط نحتي له يحرره من كافة الالتزامات النحوية واللغوية حتى بالمعنى والصوت، فمرد هذا الاستنتاج ان توزيع اشكال الحرف داخل اللوحة يكون اعتباطيا عشوائيا يغلب عليه اللاشعور في طغيان الحس الجمالي المبهر له. فرسم شكل الحرف داخل اللوحة يستنفده توزيعه الكتلوي (المكان) وانتقالاته اللونية داخل اللوحة بكل اريحية فنية جمالية حسب اسلوبية الفنان.

متى ما اكتسب الحرف الصوت تحرر من المهنية الاسلوبية الجمالية ويخرج من تشكيل اللوحة ليعود الحرف الى حقيقته الاصلية على انه رمز لغوي نحوي له دلالة تعبير تجريدية داخل منظومة لغوية تحكمه خاصيتي الصوت والمعنى. الحرف صوت ومعنى من خلالهما وبهما يكتسب تراتيبية تسلسله ضمن القواعد النحوية للغة.لا توجد لغة صوتية ولا لغة كتابية رمزية لا تحمل التعبير عن معنى قصدي.

لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى.

***

علي محمد اليوسف

 

ثمة وهم متجذر لدى كثيرين مفاده أن الانتماء إلى فكرة، أو اعتناق عقيدة، أو الارتهان لإيديولوجيا ما، إنما هو ثمرة تأمل حرّ وبرهان عقلي نزيه. ولهذا ترى بعضهم يندفع بحماسة شبه "دعوية" أو "تبشيرية" لتأكيد "صحة" معتقده، كما لو أن أفكاره قد انبثقت من تأملات حرة.

شاهدتُ أحد أساتيذ الجامعة، وكان قد غيّر قناعته، وبدّل معتقده المذهبي. يتهامس بعضهم عن سبب ذلك، وكيف أن هذا الرجل قد انتقل هذه النقلة، وما هو الدليل العقلي أو الفلسفي الذي أقنعه لترك المذهب الحق، مع أن هذا الأستاذ ليس من أهل الفلسفة والفكر. فجلّ همّ هؤلاء هو تكشيف القناعة الفكرية.

مؤشر الاتجاهات المعاصرة في علم النفس المعرفي، والأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، يكشف عن صورة أكثر تعقيدًا للانحياز البشري. فالقرار العقائدي أو الفكري، سواء أكان قبولاً أم رفضًا، لا يتأسس بالضرورة على حجج عقلية نقية، بل يتشكل ضمن شبكة كثيفة من المؤثرات أوصلها وليم جيمس إلى أكثر من ثمانية (في مقالة إرادة الاعتقاد): التنشئة الاجتماعية، الحالة السياسية، الوضع الاقتصادي، العقد النفسية، الطموحات المؤجلة، النكبات الجمعية، الإغراءات الرمزية، ومفاعيل الثقافة المضمرة و.

إنّ ما نعتقد أنّنا اخترناه بحرية، قد يكون، في كثير من الأحيان، ما اختارته البنى فوق الفردية نيابة عنا، ثم وشمته في وعينا بلغة "الاقتناع".

هذا التعقيد العميق في بنية الانحياز البشري، قلّما يُدركه الخطاب الفكري على اختلاف أطيافه. فحين يتصدى هذا الخطاب- مثلًا- للإلحاد أو للآخر الدينيَّ ـ بالمعنى الواسع للتمايز العقائدي. يميل غالبًا إلى اختزال المواجهة وتطويقها ضمن أدوات البرهان العقلي أو الجدال الفلسفي، كما لو أنّ الإنسان كائن منطقي محض، لا تعتريه رواسب التكوين ولا تداهمه ارتجاجات العيش ومفارقاته.

إنهم قلما ينزلون إلى تخوم البنية النفسية والاجتماعية للآخر، ولا ينحدرون في طبقاته الداخلية المسكونة بالخذلان أو الاغتراب أو القلق أو التوق إلى المعنى. وبدل أن يُفكك الإيمان أو الإلحاد كنتاج تاريخي-أنثروبولوجي، يُختزل في مسألة منطقية يمكن أن تُقنع أو تُدحض.

هكذا يُبقي الخطاب "الدعوي" ذاته أسيرًا لوهم العقلانية المطلقة، متجاهلًا أن العقيدة بما هي شكل من أشكال الاستجابة الوجودية لا تُختصر في البرهان، بل تُبنى في المسافة المضطربة بين الذات والعالم.

ولا ينبغي أن يُفهم من هذا النقد أنّني أُقلل من شأن الأدلة، أكانت عقلية فلسفية، أو نقلية نصوصية، أو تجريبية علمية. فهذه جميعها تمتلك قوة دافعية لا يُستهان بها، وقدرتها على التأثير في البنية الإقناعية للإنسان لا يمكن تجاهلها.

لكن ما أود التنبيه إليه، هو أن تضخيم دور البرهان وإضفاء مركزية مطلقة عليه، على حساب الطبقات العميقة: النفسية، الاجتماعية، الثقافية، والرمزية التي تشكّل نواة التفكير الباطني، يُعدّ ضربًا من الوهم التحليلي، بل شكلًا من التبسيط المخلّ بالرؤية.

إنه اختزال يخلع عن الظاهرة الاعتقادية تعقيدها الأصيل، ويفلت من بين يديه حلقات شديدة الأهمية في سلسلة التكوين الوجودي للفكر والاقتناع.

فإذا عدنا إلى سِيَر الكبار- من أفلاطون إلى فوكو، من الغزالي إلى نيتشه- وجدنا أن مواقفهم تشكّلت في خضم التوتر، وتخلّقت أحيانًا على هيئة تنازلات ضمنية، تندغم في النص،  أو تهمس بها اللغة تحت السطح.

وإذا أردت أن تتأمل في تجلٍّ مكثّف لهذه الحركة المتصدعة بين القناعة والتحوّل، فلا مناص من التوقّف عند سيرة أبي حامد الغزالي(ت505هـ)، بوصفه ذاتًا مأزومة خاضت تجربة الفكر على تخوم السلطة، والخوف، والرغبة في الخلاص.

لقد كان الغزالي في تجربته النظامية[1] أداة ناعمة في هندسة خطاب الدولة العباسية المتداعية. صعد كمثقف رسمي في كنف الوزير نظام الملك، وانفتح فكره في حقل مشحون: كانت الدولة تتآكل من الداخل، والإسماعيلية تُحاصر المركز العباسي بحرب رمزية وميدانية، وحركة الحشّاشين بقتلها الجوال تسفك الدم باسم تأويل باطني عميق.

وسط هذا كله، لم يكن بوسع الغزالي أن يُفكّر حرًّا. لقد دافع عن الدولة، وهاجم خصومها، وصاغ نقده للفكر الباطني- والشيعي ـ كما في "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية" ـ بلسان رجل يُناظر لا ليكشف، بل ليحمي بنية هشّة اسمها "الخلافة". لم تكن معركته معرفية خالصة، بل كانت مشبعة بحمولة سياسية واضحة، تستجيب للتكليف بقدر ما تدّعي الجدل.

لكن الغزالي انفجر من الداخل تلك الهزّة العنيفة التي دوّنها في كتابه" المنقذ من الضلال" لم تكن هزته مجرد أزمة نفسية، بمقدار ما كانت ساعة تشظٍّ حاد بين ما يُقال وما يُعتقد، بين الدور وما تبقّى من الذات. فاختار الانسحاب إلى صوت التصوف، إلى إعادة تشكيل الذات في أفق يتجاوز الدولة، ويتجاوز العقل الجدلي أيضًا.

ومع ذلك، حين عاد إلى ساحة الخطاب، لم يعد صوفيًّا خالصًا، بل عاد كما بدأـ أشعريًّا شافعيًّا، ولكن هذه المرّة بروح من خَبِر التمزق: لم يهجر العقل، لكنه كبّله، ولم يهدم المنظومة،       لكنه جرّدها من دعوى الاطمئنان. وكأن الغزالي قد دار دورة كاملة: عاد من حيث بدأ، لكنه لم يعد هو.

وثمة محطات أخرى يمكن تناوشها في هذا المعنى. أتذكّر أنني، في مرحلة البكالوريوس، سألت أستاذًا لي سؤالًا بسيطًا في ظاهره: لماذا يبدو الشيخ الطوسي(ت460هـ) في كتاباته-الفقهية- مشدودًا إلى تشنج مذهبي ظاهر، على نحو لا نراه بالحدة نفسها عند العلامة الحلي(ت726هـ)؟

أجابني، بما يشبه التأمل التاريخي أكثر من التحليل العقلي بما مضمونه: "ربما لأنّ الطوسي عاش أزمة السقوط؛ فقد اجتاح السلاجقة بغداد، ومضت ميليشياتهم في قتل عشوائي وتهديم ممنهج، حتى مكتبته أُحرقت. فلما اضطرّ إلى الهجرة نحو النجف(448هـ)، كان يحمل آثار الندبة. أما العلامة الحلي، فقد خاض تجربة تواصلية مختلفة، سمحت له بمقاربة الآخر تماسًا وتأثيرًا وإفادة، إذ تأثر بجملة مقولات[2] عند أهل السنة بعد أن تتلمذ على بعض علمائهم.[3]"

ورغم أن هذا التفسير لا يمكن اعتماده بوصفه تأريخًا دقيقًا، إلَّا أنّه وفق مؤشر الدراسات الحديثة لا يمكن تجاهله أو استبعاده. ذلك أن الفقيه، والمفكر، لا يتحرك في فضاء مطلق، بل يتنفس داخل شروط تاريخية ضاغطة، قد تُعيد تشكيل قناعاته دون أن تُغيّر خطابه بالضرورة. التشنّج المذهبي هنا ليس دائمًا تعبيرًا عن رسوخ ودليل، بل قد يكون أثر جرح، أو أثر خوف تكلّس في بنية الموقف. من هنا، لا يُمكننا قراءة الطوسي أو الحلي أو أي فقيه كائنًا من كان خارج سياقه الحيوي؛ فالقناعة ليست دائمًا ما نعتقد، بل أحيانًا ما نضطر إلى اعتقاده.

ومن بين اللمحات اللافتة التي وقفتُ عندها، ما دوّنه السيد محمد باقر الصدر[4] حين تناول الظاهرة الإخبارية في بنية الفكر الفقهي الشيعي، لم يقف عند حدودها كاختيارات معرفية محضة تجاه العقل ومنتجاته، بل تجاوز ذلك إلى مقاربة سيكولوجية تكشف البعد النفسي العميق الذي يحرّك هذا الموقف. لقد قرأ الصدر النزعة الإخبارية بوصفها ردّة فعل وجدانية، لا مجرد اجتهاد نظري، تنبع من خوف أصيل يسكن الأخباري- وهو في الغالب رجل متدين صادق- من ضياع الميراث النصي تحت وطأة العقل المؤلَّه. وهذا الخوف كان حصيلة مركّبة للشرط التاريخي والثقافي الذي انغرس فيه، إذ مثّل التوجس من العقل آلية دفاعية في وجه ما اعتُبر تهديدًا لمرجعية النص ومهابته. هكذا، تصبح النزعة الاخبارية، في تحليل الصدر، شكلًا من أشكال القلق الوجودي الذي عبّر عن نفسه بلبوس فقهي، لا مجرد موقف معرفي بارد.

***

أ. م. د. حيدر شوكان سعيد

قسم الفقه وأصوله/ جامعة بابل.

............................

[1] نسبة إلى إدارته للمدارس النظامية في عهد الوزير نظام الملك السلجوقي.

[2] لم يكن انفتاح العلّامة الحلي على بعض المقولات المنهجية لأهل السنة- كالتقسيم الرباعي للأحاديث- خضوعًا لتأثير خارجي أو تساهلًا معرفيًا، بل هو، في جوهره، تعبير عن عقل اجتهادي يعي أنّ الحقيقة لا تُحتجز داخل الطوائف، وأن استثمار أدوات "الآخر" لا يعني الذوبان فيه. في مقابل الاتهام الاخباري الشيعي الذي يرى في هذا الاقتباس مدخلًا للتنازل عن الهوية، يتكشّف الموقف الحلي عن براديغم مغاير: المعرفة لا تُؤخذ من حيث تُنسب، بل من حيث تُنتج.

لقد شكّل هذا الانفتاح منعطفًا تأسيسيًا دفع لاحقًا بشخصيات مثل الشهيدين الأول والثاني إلى خوض مغامرات معرفية موازية، إذ لم يتردد الشهيد الثاني، على سبيل المثال، في أن يستدعي علم الحديث السنّي بكل منظومته التقنية، ليُعيد تأثيث المشهد الشيعي بأدوات كانت، حتى ذلك الحين، موصدة أمامه. بهذا المعنى، لا يُقرأ هذا الانفتاح بوصفه استيرادًا بل كفعل تأويل: تأويلٍ للفكر الآخر، وللذات في آن، يُعيد تعريف حدود المذهب بما هو فضاء تأويلي لا نظام مغلق. ينظر: ترجمة الشهيد الأول، السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، 10/ 59- 62. والزركلي، الأعلام، 7/ 330. وترجمة الشهيد الثاني، الحر العاملي، أمل الآمال، 1/ 85- 89.

[3] درس العلامة الحلّي عند بعض علماء السنة مثل: الشيخ نجم الدين علي بن عمر الكاتب القزويني الشافعي، والشيخ برهان الدين النسفي الحنفي، والشيخ تقي الدين عبد الله بن جعفر بن علي الصباغ الحنفي الكوفي.. ينظر: السيد محسن الأمين العاملي، أعيان الشيعة، 5/ 401- 402. الحر العاملي، وأمل الآمال، 2/ 81.

[4] السيد محمد باقر الصدر، المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر، الناشر: دار التعارف- بيروت، 1989م، 3/55. والمعالم الجديدة للأصول، 82- 87.

 

الاهداء إلى: الدكتور حمد سلطان والدكتور حيدر خالد والتشكيلي رياض غنيه

ما نقوله أو نكتبه أو نتحدث به أمام جمع من الأصدقاء هو لغة تم خزن مفرداتها وأفكارها وتم إعادة صياغتها بأسلوب جديد، فأفكارنا هي نسيج من عالم لاوعينا الذي استدعيناه بلغة شعرية، أو قصيدة، أو نص مسرحي عميق، أو رواية، أو لوحة فنية، أو منحوتة عميقة الرمزية، هناك القوى الخفية التي تدفع الإنسان إلى الفعل، أو القول بهذا المأثور وسنعثر حتمًا الجديد الذي يقال مما تم خزنه، فعندما نتكلم فإننا لا نقتصر على نقل المعلومات التي نعتقد أننا ننسجها حول الموضوع الذي نعتقد أننا نتكلم عنه لوحده، بل إنها صور من عالم بأجمعه من عوالم الفكرة، أو رمزية النص وما يراد قوله عند المؤلف أو صاحبه، فتكون لهذه الكلمات أصداء والافضل أن نقول لها تضمينات ملحمية كانت،  أم تراكم خبرات تم اطلاقها من جديد بصور شتى، فتكون وظيفة الكلمة، أو بشكل أدق ما هي وظيفة الدال، أو وظيفة ذلك الجزء من السلسلة الصوتية، أو الفكرة التي ينطق بها الإنسان، أو الكلمة التي نسمعها. ويرى "فيليب شملا " من المؤكد أن هذه الإمكانيات لا تعطي لنا على وجه العموم، فالكتابة أو السياق يسمجان لنا، في نهاية كل جملة، بإبراز معناها، ولكننا نعلم أن سوء التفاهم ممكن دائمًا ونعلم كيف تستخدم إمكانية المعنى المزدوج للتلاعب بالكلمات، ونعلم أن هذا الغنى الكامن في معاني الكلمات ضمن الشعر، وضمن الشعر المعاصر على الوجه الخصوص وهو ما يسمى تعدد المعاني يسمح لنا بالكثير من القراءات، وكذلك النحت برمزيته الذي هو نتاج فكري عميق من اللاشعور – اللاوعي كما عبر عنه صديقي النحات الشهير الدكتور حمد سلطان بمنحوتاته العميقة، أو لوحات التشكيلي  رياض غنيه والتشكيلي  حيدر خالد بنتاجاتهم التي تحمل الرمزية العالية، منبعها اللاوعي – اللاشعور بعمقه ونتفق بذلك..  إن الإنسان نتاج اللغة، بكل اشكالها وهو خطاب ترك بصماته خلال طفولة الإنسان، وتدلنا المعرفة النفسية أن اللغة، أو نتاج الفكر عندما تتكون لدى الفرد تكون وظيفتها هي تمثيل، أو بعبارة أدق حمل الرغبة البشرية. وهي بنفس الوقت ميل الذات إلى ترميز ما لا تستطيع الإحساس به إلا باعتباره تمزقًا ودراما، وإلى تكراره إلى ما لانهاية له كما عبر عنه "فيليب شملا" ويضيف قوله يمكننا القول إن الرغبات البشرية تتحقق دائمًا عبر موضوعات بديلة، أو عبر اللغة مرة أخرى، ونضيف عبر الاعمال الفنية ذات الرمزية العالية فهذه الرغبات لا تعبر عن نفسها حيث تعتقد الذات ذلك، إنه اللاوعي – اللاشعور الذي هو خطاب الآخر، ونتفق مع القول بأن الرمزي هو نظام الثقافة الذي يعتمد على التخيل، ويحق لنا القول إن اللغة والنتاج الفني والفكري هو شرط اللاوعي.

من المسلم به بأن من العناصر الرئيسة التي يقوم عليها التحليل النفسي هي نظرية في اللاشعور – اللاوعي فضلا عن فنيات العلاج الشهيرة بالتداعي الحر – الطليق، لذا فإن طريقة العلاج لا تستجوب الإنسان بذاته،  بل تلك المنطقة السرية التي تجعل أية معرفة عن الإنسان سهلة حينما نطرقها  بأساليب معينة،  بوساطة اللغة، ويرى " حسين عبد القادر" قوله: لقد أكتشف " فرويد " قيمة اللغة، بقدر ما أكتشف أن اللاوعي – اللاشعور لغة في الإنسان وحال في وجوده، ولم يتوقف عن تقويم معرفته وتطوير نظريته ومفاهيمه، مدركًا أن الإنسان عدوًا لما يجهل، وإن إزالة الجهل تتعارض مع قانون أقل الجهد الذي يحكم الطبيعة والأشياء، ونقول أن الجهد العقلي المتميز في الثقافة والفكر والرواية والقصة والأدب بمختلف نتاجاته من الشعر  ونتاج المسرح هو نبش للاوعي – اللاشعور، لأن للاشعور – اللاوعي لغة كما عبر عنها " جاك لاكان " بقوله: أن اللغة هي ما يحدد الإنسان، وهو بنفس الوقت إعلاء وتسامي لملحمة ما يدور في النفس لا سيما أن آلية التسامي كما يراها " فرويد " مؤسس التحليل النفسي تقوم على تحويل الطاقة في النفس البشرية من موضوعه الأصلي إلى موضوع بديل ذي قيمة ثقافية واجتماعية، ويقول فرويد: إن المنبهات القوية الصادرة عن المصادر الجنسية المختلفة تنصرف وتستخدم في ميادين أخرى بحيث تؤدي الميول التي كانت خطرة في البداية إلى زيادة القدرات والنشاط النفسي زيادة ملحوظة، تلك إحدى مصادر الانتاج الفني.

الثقافة يعبر عنها باللغة، العلوم الصرفة يعبر عنها باللغة بعد إثبات تجاربها أو نفيها، العلوم الإنسانية يعبر عنها باللغة، الفلسفة صلب فكرها وبحثها هي اللغة، وكل ما تقدم من نتاجات الإنسان يكون عبر اللغة، واللغة عبر الكلام، والكلام هو الوسيط الوحيد في ممارسة أي سلوك معلن، أو غير معلن إذا ما كان تكوين فرضي لفكرة بعينها، أو هفوة، أو زلة لسان، وما أكثر ما حدثنا عنه فرويد بتمعن عال وعميق عن هذه اللغة، وهي تصدر من اللاشعور – اللاوعي، ولا نغالي إذا اتفقنا مع القول التالي: ان أي نشاط إنساني إنما  تكون التخييلات هي بمثابة الطليعة التمهيدية له " السيد البدوي فتحي ".  اللغة هي قمة النشاط الإنساني وجوهره، وهي أيضًا فعل الدلالة للإنسان وكذلك العلاقات المتبادلة بين التخييلات.

ان النتاج الأدبي والفكري بكل اشكاله وانواعه هو نكوص يدل معًا على عودة الفكر إلى التمثيل المصور وعودة الإنسان إلى الطفولة ويرى " فرويد" أن هذا النكوص الشكلي، وهذا النكوص الزمني، نكوصًا من نوع آخر، النكوص الموقعي، أي رجوع فكرة، مخرجها الحركي مسدود من القطب الحركي نحو القطب الإدراكي على النمط الهلوسي. الكتابة وأسلوب استخراج الأفكار والأبداع هو نوع من الهلوسة تنتج إبداع عن نفس الإنسان، فالتمثل هو تصور أو مجموعة من التصورات التي تثبتت عليها الرغبة خلال تاريخ الشخص وتدون في النفس بوساطتها، فتلك التمثلات وهي في الأساس طاقة لم تجد لها منفذًا في حياة الطفولة لبعض الأطفال - الأشخاص ذوي الحساسية المفرطة، والتفكير العميق مع الرمزية الواسعة المصاحبة لها بالتخييلات، حيث يتم كبتها، أو المقاومة من الشخص لما يفرض عليه من الوالدين، أو بديلهما، فالطفولة هي مخزون البلوغ في السلوك والأفعال والعدوانية والتعصب والبخل والكراهية والنميمة وغيرها من سمات الشخصية التي تبدو بشكل كامل في تعاملاتنا مع الآخرين. أما من استطاع إلى تحويل تلك الطاقة المكبوتة والمشحونة بالطاقات النفسية التي وجدت لها منصرفًا مقبول اجتماعيًا، كان النتاج الأدبي والفكري والشعر وكل تلك النشاطات بما فيها أنواع الرياضة، وإن أختلفت بمسارها الواقعي في الإنتاج اللغوي والفكري.

تبين لنا الأدبيات النفسية وأطرها التحليلية بأن تلك الطاقة التي قاومت ولم تفلح يومًا ما لضعف قدرة الطفل على أن يمارس رغبته، ستظهر الحاجة من جديد، وسيكون ثمة شيء يدفع ذلك بفضل العلاقة القائمة بين انطلاق اندفاع نفسي سيوظف من جديد تلك الصورة التذكرية لهذا الإدراك نفسه مجددًا، أي سيكون وضع الاشباع الأول وتحقيقه، وهذا الاندفاع هو الذي نسميه " رغبة " فظهور الإدراك مجددًا هو انجاز الرغبة، والتوظيف الكامل للإدراك بوساطة إثارة الرغبة هو الدرب الأقصر لإنجاز الرغبة كما عبر عن ذلك "بول ريكور"، ونقول أن الرغبة تعمي الإنسان ليس ببصره بل في ما هو محيط حوله، فرغبة الفنان لا يمكن وصفها، أو قمعها وإن كلفته حياته، ورغبة الشاعر في الشعر لا يمكن كبحها، ورغبة الروائي في انتاجه لا يمكن منعها، وقول " جاك لاكان " الشيء الوحيد الذي يمكن أن تكون مذنبًا في شأنه، أقله من منظور التحليل النفسي هو أن تتخلى عن رغبتك، ونقول أن قمع الرغبة بكل أنواعها عند الإنسان هو أن تقوده بيديك إلى الجنون، وسواء كان هذا القمع من السلطة، أو المجتمع، أو الأسرة، أو الزوج أو الزوجة.. أو الدين.. الخ

***

د. اسعد الامارة

تمهيد: صوت اللغة تعبير خارجي وصمت الفكر رؤية لغوية داخلية لا صوت لها. وصمت الفكر وصوت حروف اللغة نسختان تحملان نفس الابجدية المنطوقة خارجيا والصامتة داخليا في ادراك الاشياء من حيث حقيقة التفكير هو تمثّل لغوي صوري. نسختان لابجدية تصويرية واحدة في التعبير عن المدركات المادية خارجيا والخيالية داخليا، فهما يمثلان تطابقا بالدلالة واختلافا بالمفهوم ماجعل فلسفة اللغة المعاصرة ونظرية المعنى تدوران في حلقة دائرية مغلقة مرتكزها اللغة بما هي ضوابط نحوية تراوغ التعبير عن المعنى. يكتنفها عدم وضوح التفريق في التعبير عن حقيقة واحدة هي ان اللغة ابجدية صوتية تجريدية تطابقها لغة تجريدية تحمل نفس الرؤية الخيالية هي الفكر الصامت في تعبيرهما- اللغة والصمت- عن تجريد تعبير اللغة عن المادة او الموضوع المستمد من مصنع الخيال الذاكراتي حيث يصبح الفكر واللغة دلالة لمعنى محدد لفهم الواقع او ابداع موضوعات الخيال.

ميزات لغة الانسان

اكتسب اختراع اللغة تعريفه الفلسفي المعاصر عند الانسان من صفة اللغة انها خاصية (أصوات) يحمل معنى ودلالة مصدره ما تطلقه حنجرة الانسان المتطورة فسلجيا عبر ملاييين السنين في ملازمتها اللسان التدريب على اطلاق صوت ذي معنى لا صوت حيواني تقليد لاصوات الحيوانات لا معنى له كما فعل الانسان قبل اختراعه اللغة، وباختلاف تدني قدرة وعي الحيوان تطوير اصواته الى نوع من لغة تواصلية لعدم ادراكه ان الصوت يمكن تطوره الى ابعد من اشباع حاجتي رغبة الجماع وحاجة تحذير نوعه من الخطر الذي يتهدد بقائه من استهداف الكائنات الاخرى للاضعف في الطبيعة... الانسان على خلاف الحيوان أستثمر الصوت في اكثر من بعدي رغبة الجماع الجنسي والتحذير من الخطر كما هو عند الحيوان الى جعله الصوت الانساني يتخذ شكل ومحتوى(صوت) متعدد الدلالات والابعاد الدلالية التي يحتاجها الانسان.

من ميزات تطور لغة الانسان وتحولها من اصوات حيوانية بلا معنى يقلد الانسان بها غيره من الحيوانات مقارنة باختلافها عن اصوات بقية الكائنات الحية:

- لغة الانسان ناتج تفكير عقلي صوتي يشير لمعنى يصدر عن شبكة اعصاب ترتبط بقشرة الدماغ. لها رموز وقواعد واحكام تضبطها منها الابجدية اللغوية في علاقة الحرف بالصوت. او المقاطع الرمزية المكتوبة في تعبيرات الدلالة التواصلية في فهم مشتركات الطبيعة مع الانسان ومدركاته لموجودات عالمه المادي والخيالي.

- لغة الانسان الصوتية والمكتوبة تحمل دلالة ومعنى لشيء محدد معين. لا توجد لغة صوتية ولا لغة كتابية رمزية لا تحمل التعبير عن معنى قصدي.

- لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدور ذلك التجريد ان يكون متموضعا في مدركاته ماديا او موضوعيا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى الصوتي.

- الصوت الصادر مجردا عن معناه اي بلا حمولة فكرية قصدية هادفة المعنى لا يكون ولا يصبح لغة. الصوت ليس هو إفصاح لغوي فقط بل هو المعنى ايضا. وبلغ التضاد الاختلافي بين انصار السلوك اللفظي بزعامة سكينر الذين يعتبرون دراسة الصوت باللغة له اسبقية الاهتمام على دراسة المعنى باللغة التي يقول بها انصار فلسفة اللغة وبعض علماء اللسانيات ونظرية فائض المعنى.

- لغة الانسان تتسم بخلق جماليات لغوية صائتة وصامتة معا هي خارج الاستعمال الدارج على ان وظيفة اللغة تواصلية داخل مجموعة بشرية يجمعها تعايش مشترك دائم. مثال تلك الجماليات نتاجات الادب والفنون ومختلف الفعاليات من رسومات وتشكيل ونحت التي يجري توظيف اللغة بها خارج وظيفة التواصل اللغوي الحواري المباشر. حتى لغة الجسد الايحائية في الطقوس والشعائر الدينية والرقص تدخل بهذا المجال. وكذا الحال في الباليه والمسرح الصامت.

- في تقريب نوضحه لاحقا تفصيلا ان الفكر لغة ابجدية تصورية تحمل معنى قصدي. ولا يمكننا تصور لغة لا يحتويها فكر قصدي هادف. بفارق من عدة فوارق ان اللغة صوت نشأ استجابة لاشباع رغبات يحتاجها جسم الانسان بايولوجيا داخليا وخارجيا ولا يختلف شكل الصوت اللغوي من حيث هو ابجدية بلا صوت عن الفكرالملازم لها من حيث كونه محتوى لغوي صامت لا قيمة له بدون لغة تعبيرصوتي في شكل كلام او ابجدية حروفية او مقطعية مكتوبة عنه. بعبارة مقتصدة اللغة التي بلا معنى توصيلي هادف لاوجود لها.

- ملازمة اللغة للفكر هو خزين تحتفظ به الذاكرة والذهن كحلقات في منظومة العقل الادراكية التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ.. وفرق اللغة عن الفكر انهما كلاهما ابجدية لغوية واحدة تختلفان بالصوت فقط. اللغة تعبير عن صوت، والفكر لغة تعبير عن صمت.

- اللغة والفكر وحدة تعبيرية واحدة متكاملة يتوزعها السلوك والعمل والتعايش المشترك لمجموعة بشرية تجمعها خواص مشتركة ومصالح واحدة.

- لا اختلف مع احد ابرز الفلاسفة الاميركان المعاصرين وليفريد سيلارز قوله الحياة والوجود هو لغة فقط فهو مصيب تماما ان الادراك الشيئي او الخيالي هو لغة مجردة . كل الاشياء وموجوداتها وعلاقاتها لا يمكننا فهمها والتعبير المشترك والمنفرد عنها بغير تمثلات اللغة الصورية. الفكر صورة لغوية.

بخلاصة العبارة اللغة هي وسيلة فهم العالم وادراك الوجود . ولا وجود لعالم سليم له معنى يدركه الانسان بلا لغة او لغات تنظم ادراكاتنا لذلك الوجود. كليّة المنظومة الفكرية الادراكية العقلية بدءا من الحواس وانتهاءا بالدماغ هي (لغة) فقط. بهذا نجزم بارتياح لا يحتاج برهنة عليه هو ان العقل جوهر تجريدي ماهيته التفكير حسب تعريف ديكارت. هنا نحن نسقط خاصية التفكير على الدماغ ومن غيره لا يوجد تفكير معرفي. اي علينا الانتباه التفريق بين فيزيائية العقل كعضو فسلجي بيولوجي من مكونات الجسم وبين العقل كناتج تعبير لغة التفكير التجريدي عن الوعي بمدركاته بوسيلة اللغة. على حد تعبير ديكارت العقل جوهر ازلي خالد ماهيته التفكير. هنا المقصود بالعقل على انه جوهر ازلي خالد هو اللوغوس او لغة العقل التجريدية. والسبب ان العقل المقصود به عجينة الدماغ الذي تحتويه جمجمة الانسان هو فان يموت ويفنى بموت الانسان وفناءه. خلود العقل بالفكر وليس بخاصيته البايولوجية في ادارته جسم الانسان.

- حينما نقول فهم العالم يبدأ باللغة وينتهي بها هذا لا يعني ان العالمين المادي والخيالي للانسان غير موجودين بدون لغة. لغة التعبير عن الاشياء هو توكيد لوجود موجودات سابق وجودها على اللغة. وبغير تلازم اللغة مع الوجود لا يبقى لكليهما معنى انفصاليا عن بعضهما. اللغة بلا موضوع تعجيز عقلي غير صحيح ولا يمكن حدوثه.

الفرق والاختلاف بين الفكر واللغة

هذا العنوان الفرعي يستلزم منا تبيان مالفرق بين تفكير العقل صمتا داخليا، وبين تفكيره تعبيرا لغويا صوتيا خارجيا وما المقصود به وما دور الفكر واللغة في تحديد معنى الشيء المفكّر به كموجود.؟

كيف يفكّر العقل داخليا مع ذاته في موضوع خيالي ، وكيف يفكّر العقل خارجيا في استقلالية وجود مدركاته من الاشياء ماديا؟ بالحقيقة العقل في كلا التفكيرين الداخلي والخارجي يتمّان في توافقهما والتقائهما في مصدر التفكير الواحد الذي هو الوجود المادي او الموضوع الخيالي، فلا يوجد عمل تفكيري في العقل لا يرتبط بموضوع مدرك حسيّا او خياليا والا كان تفكيرا عقيما وهميا وعدما لا علاقة للعقل به ولا للموضوع علاقة بالعقل المدرك له.

التفكير لا يتم بغير موجود متعيّن هو الموضوع سواء اكان ماديا ام خياليا يسبق وجوده ادراك المحسوسات ومنظومة العقل الادراكية. من المهم تاكيد ان العقل تفكير لغوي لفهم وتفسير الحياة.لذا ادراك العقل لموجودات العالم الخارجي يسبق الوعي بها. الادراك الحسي هو انطباع اولي والوعي ادراك عقلي.

تفكير العقل خارجيا يتم بوجود شيء مدرك مادي محدد او (موضوع) يكون مادة للتفكيرتنقله الحواس ادراكيا للذهن ومن ثم للعقل على شكل انطباعات وقتية بالذهن، وقد تتعّطل مهمة الحواس هذه عندما نجد العقل يفكّر تخييلا وتخليقا عقليا بموضوع ذهني تستحضره الذاكرة من الخيال، لا علاقة له بالمادة ولا بالمحيط الخارجي للاشياء كأن يفكر الانسان خياليا في اشياء من الطبيعة او يتخيّل اي شيء او اية فكرة مجردة غير متعينّة ادراكا ماديا وجوديا امامه في الطبيعة او في الانسان كغيرها بما لا يحصى من الاشياء بالعالم الخارجي من موضوعات خيالية تنعش الذاكرة العقلية التفكير بها كمواضيع سواء في مواضيع الخيال العلمي او في مواضيع الخيال الفني والادبي والجمالي الابداعية وهي مواضيع لا وجود واقعي مادي لها يحدها واقعيا خارج تفكير العقل الحسّي بها. الخيال جوهر لغوي يوازي اللغة جوهرا عقليا.

كما لا تقوم الحواس المادية ولا من مهامها نقل موضوع التأمل الخيالي الى الدماغ وانما مخيّلة الانسان وذاكرته تستذكره في الذهن خيالا مجردا وتجعل منه موضوعا لتفكير العقل الذهني في تداعيات مخيالية منها مستمد من الذاكرة وبعضها الاخر تخليق خيالي لظواهر وكائنات وتصورات لا وجود واقعي لها.

يلي ذلك ان العقل قد يعبّر لغويا عن موضوعه الخيالي بعد تخليقه الجديد له في لغة الكتابة او اي نوع من انواع لغة التواصل، او لا يعبر عنه باللغة وانما بوسيلة توصيل جمالية تكون اللغة فيها في حالة كمون يقوم المتلقي استكشافها من خلال لوحة او فن تشكيلي او موسيقا او يوغا او باليه او نص مسرحي صامت. جميع هذه الفعاليات هي لغة غير صوتية يغلب الوعي العقلي المفهومي بها الادراك الحسي.

اذن في البدء علينا الاقرار الآلي الثابت انه لا يمكن للعقل الانساني ممارسة التفكير ما لم يكن هناك موضوعا واقعيا ماديا او خياليا يصبح مادة او موضوعا لتفكيرالعقل. ما ليس بمادة تفكيرية للعقل لا وجود حقيقي لها ولا اهمية لها. وعي العقل لموضوع معيّن يعني ان ذلك الموضوع يحمل قيمة يحتاجها وعي العقل لها.

وميزة العقل السوي انه لا يفكر في فراغ اوفي لا معنى ولا في لاشيء. وقلنا ايضا ان الحواس ليس من مهامها ولا من قدراتها نقلها موضوعا خياليا هو من ابتداع المخيّلة والذاكرة الذهنية للعقل ولا دور للحواس به، بل الدور كل الدور يكون للعواطف والوجدانات واللاشعور النفسي في التعبير عن الفنون والجماليات خياليا في لغة كامنة صامتة تتواصل مع المتلقي ايحاءا تأويليا تتعدد قراءاته في اللغة الجمالية. وان العقل من قدراته الذاتية المعجزة انه يفكر(خياليا) بموضوع او اكثر لم تقم الحواس او احداها بنقلها له. وان العقل يفكر خياليا بنفس اهمية وربما باكثراهمية من تفكيره بالاشياء كموضوعات في وجودها المادي في الطبيعة والعالم الخارجي.

هنا يأتي تساؤل أهم ان وسيلة التفكير العقلي للشيء المدرك داخل العقل تتم بماذا أو بأي كيفية يعقل العقل او الدماغ ذاته وموضوعه؟ وما هي آلية التفكيرالعقلي بالموضوع؟ لحد الان تمّكن العلم من معرفة كيف تعمل حاسة البصرالعين في رؤيتها الاشياء، وكذا مع حاسة السمع او الذوق او اللمس، اما كيف يعقل الدماغ نفسه ذاتيا بالتفكير الصامت، كما يعقل موضوعاته ايضا ، وفق أية الية يتم الادراك العقلي في تخليقه الاشياء المادية وتفسيرها فهو غير معلوم علميا اكثر مما تزودنا به الفلسفة وليس تخصصات علم طب وظائف الدماغ والاعصاب العاجزة ايضا على حد علمي من تفسير كيف يفكر العقل بذاته وفي الموضوعات..

لكن من البديهي ان عقل الانسان في كل لحظة من لحظات تفكيره يخلق لغة يفهمها هو ويفهمها غيره.ان يعقل الانسان ذاته معناه يصنع لغة تفكيره في ابجدية صورية تمثليّة لكل مدرك.

فالعلم يوّضح كيف ان آلية التفكيرالعقلي تنحصر في موضوع مدرك حسيّا وعقليا عن طريق الجهاز العصبي المرتبط بملايين الخلايا الدماغية التي تتناوب الادراك في عملية معقدة من اختصاص طب علم الدماغ والجملة العصبية وهو مجال لا تعلمه وتعمل به الفلسفة ولا باستطاعتها الخروج منه بنتيجة يرضاها العقل والطب العلمي. على حد تعبير عالم الفيزياء ستيفن هوكنج قوله لامستقبل ينتظر الفلسفة يوازي او يتقدم منجزات العلم. طبعا خطأ عالم فيزياء كبير مثل هوكنج في حكمه على نهاية مستقبل الفلسفة الحتمي كان بمنطوق علمي هو علم الفيزياء الفلكية وليس بمنطوق الفلسفة التي هي تجريد لغوي منطقي خارج تجارب العلم..

اما في توضيح الفلسفة فهو حين يعقل الانسان ذاته تفكيرا ماديا ام خياليا فهو يحتاج حتما لمادة او موضوع يدركه واقعيا او خياليا كما ذكرنا سابقا لا يخرج عن وصاية العقل في حال انعدام واسطة التعبيرالفكري – اللغوي عنه وبه. التفكير بشيء هو الاقرار البديهي المسبق بموجود موضوع سابق عليه.

اي بمعنى ان التفكير العقلي لفرد لا يدركه الانسان الآخر في ماهيته خارج العقل الا في حالة التعبير الفكري – اللغوي عنه خارج وصاية العقل عليه حين يكون موضوع التفكير العقلي متموضعا فكريا في الواقع المادي لوجود الاشياء.

اما ادراك شخص لما يفكر به شخص آخرعقليا جوّانيا في صمت دونما افصاحه عما يفكر به بالكلام او اللغة او الاشارة فهو محال.فالعقل لا يدرك ولا يعي ما يدورفي اذهان الاخرين، ولا ما يعتمل في دواخلهم من وجدانات وعواطف الا بعد إفصاحهم التعبير عنها بواسطة ادراك تواصلي مع الاخرين .

فاذا اراد العقل وجوب التعبير عن موضوعه المفكّر به للعالم الخارجي المستقبل له، توّسل لذلك الفكر – اللغة. واذا لم يشأ ذلك فانه اي العقل يجعل من موضوعه تفكيرا داخليا صامتا غير متاح ادراكه من غيره الذي هو (أنا) الفرد العاقل المفكّرمن نوعه (الانسان الاخر). بمعنى ان الفكرة واللغة المعبّر بها صمتا عقليا تنعدم في التاثير وفي الحضور في كيفية نقل تفكير مصنع الحيوية العقلية التخليقية للاشياء التي يقوم بها العقل ادراكا وتفكيرا داخليا. العقل لا يخلق الاشياء لكنه يقوم بتخليقها كموجودات سابقة الوجود على تفكير العقل.

فاللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكيربه ذهنيا واكتملت مهمة اعادته من الدماغ الى عالم الاشياء كوعي جديد بلغة جديدة وليس كموجود سابق مستقل في عالم الاشياء قبل ادراك العقل له.العقل لا يخلق موجودات الحياة القبلية بالفكر بل يخلق وسائل فهم وتفسير وعي تلك الموضوعات في إعطائها قيمة منظمة تخدم حياة الانسان وتقدمه .

ايعازات العقل الارتدادية الصادرة منه والواردة اليه بواسطة منظومة الجهاز العصبي المرتبطة بالدماغ في تخليقه لمواضيع جرى تفكيره بها انما تتم في تنفيذ اللغة او غير اللغة كأن تكون نزعة اشباعية بيولوجية يكون ايعاز العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي بفهم جديد عما كان عليه قبل ادراك العقل له، في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي بعد تخليقه عقليا.الوجود الادراكي الحسي او العقلي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

كيف تكون اللغة هي الفكر؟

التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكرحسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، (شكل ومحتوى) ولماذا يعجز ادراك العقل للاشياء التفريق بينهما اي بين الفكر واللغة.اذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد باكثر من ادراك وتأويل واحد صادر عن العقل؟. سؤال يسبقه جوابه. لا يختلف شكل اللغة عن تعبيره عن الاشياء بمحتوى المعنى. لكن تراتيبية الفكر يسبق شكل اللغة في انتاجية العقل لهما (الفكر- اللغة).

هنا الفكر واللغة المتلازمان في تعبيرهما عن الاشياء ليس بمقدورهما تفسير وجود الشيء بمعزل احدهما عن الاخر اي بمعزل شكل اللغة عن محتوى التفكير، لأن في ذلك استحالة ادراكية تعجيزية للعقل....في امتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغبه العقل التعبير عنه وجودا واعيا مدركا.

ان في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة ان الفكر هو اللغة المعبّرة عنه وبالعكس، او ان اللغة هي وعاء الفكر، او ان اللغة هي بيت الوجود.وأن اللغة مبتدأ ومنتهى ادراك وجود الانسان والطبيعة والاشياء في العالم الخارجي.

جميع هذه التعبيرات الفلسفية تفهم اللغة على انها فعالية ادراكية عقلية في تحديد الفكرة او الموضوع في تموضعهما بالعالم الخارجي كي يتم ادراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبيرولا يتوفر مجال أدحاضه في الاحتكام للعقل في ادراكه الوجود على وفق هذه الآلية التي ترى ان الفكر واللغة وجهان لعملة واحدة.ومن المحال ادراك الاشياء بالفكر دونما اللغة، ولا باللغة دونما الفكر.

في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل او خارج العقل، يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة او الموضوع المعّبرعنه بهما. فبهما (الفكر واللغة) يصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا ومتعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه عقليا، وفي هذا الاسلوب يكون تفكير العقل خارجيا او بالاحرى من اجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة.

حين نقول تفكير العقل الداخلي المقصود به هو التفكيرالذاتي الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكيرالعقل واقعيا ماديا كوجود مستقل في عالم الاشياء. وبالواقع ان هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، انما هما في الاصل تفكيرلغوي واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي او متخيل آخر.

أي أن العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة وجود أسبقية الموضوع على تفكيرهم) المدرك في زمن واحد معيّن.وهكذا هي الحال في تناول اي موضوع او شيء من العالم الخارجي كي يتم تخليقه داخل العقل قبل افصاح الفكر واللغة عنه كموجود او شيء ماثل في العالم الخارجي.

ان ادراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس بما لا يحصى في تنوعاتها وتوقيتاتها الزمنية، لايعقلها العقل دفعة واحدة، اويعطي الدماغ ردود الافعال الانعكاسية الارادية وغير الارادية عليها بعشوائية من دون تراتيبية يعتمدها العقل بفرز انتقائي..

ذهبنا الى استحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة افصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود او شيء مادي ما في العالم الخارجي.وهذا يختلف عنه في التفكير الصامت داخل العقل اذ يكون الفكر واللغة غير مدركين في التعبير عن شيء هو لا يزال موضوع العقل في التفكيربه صمتا داخليا. الصمت موقف في تعطيله تفكيرالدماغ وتعطيله تعبير اللغة على السواء.

انه من المهم تاكيد ان العقل في تخليقه اشياء الوجود الخارجي والوجود الخيالي الداخلي انما يتم في تفكير العقل باللغة المتكاملة مع الفكر.اي ان تفكير العقل بالشيء لا يكون بالفكر المجرد عن اللغة فهذا هراء غير ممكن، وكذا الحال بالعكس ان العقل لا يعقل الوجود باللغة دون الفكر ايضا فهو استحالة ادراكية.

هنا لابد لنا من القول ان اللغة (المفهوم) في اللوحة التشكيلية او في اي عمل فني، نجد اللغة فيه تلاشت في ثنايا اللوحة الصامتة لغويا لكنها اصبحت اللغة المفهوم هي لغة الكمون المزروعة في ثنايا نسيج واحشاء اللوحة او اي عمل فني آخر غير التشكيل. لغة المفهوم في الفن والجمال هي لغة الايحاء التواصلي بدلا من اللغة المنطوقة كلاما او المكتوبة.

تلازم وحدة الفكر واللغة في التفكير يعجز العقل عن اعطاء اسبقية احدهما على الاخر بصورة بائنة واضحة لكنها موجودة في اسبقية انتاج العقل للفكر التصوري على اللغة التداولية، لكنه- اي العقل- يستطيع بيسر وسهولة تحديد اسبقية الموضوع على كليهما (التفكير وتعبير اللغة)، فلا تفكير ولا لغة ولا عقل يعمل بدون موجود او موضوع يسبقهما في وجوده المستقل.

نذّكر أن علماء وفلاسفة اللغة واللسانيات جميعا يعتبرون اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسيروجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة في اعتبارهم اللغة هي فعالية العقل في تعيين ادركاته للموجودات والاشياء الخارجية. وفي تخليق تصوراته الخيالية.

لكننا نجازف براينا بالمباشر ونقول انه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكيربوجود شيء مادي او خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه افصاحا خارجيا بل يحتاج الفكر وحده لانه وسيلة تفكير العقل المعقدة الوحيدة في تخليقه لموضوعه بوسيلة الفكر لوحدها دونما الحاجة الى اللغة وسيلة تعبير لمواضيع العقل. ، وتكون اللغة تعبيرا صامتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه الخيالي كوجود غير مادي، اي وجود خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه بعد تخليق العقل له. لكن الحقيقة الصادمة التي لا يمكننا الافلات منها هو في استحالة امكانية العقل انتاج فعالية التفكير من غير تمثّلات شكل لغة التعبير الصورية عن المدركات والموضوعات.

تكون حاجة العقل في حواراته الداخلية للفكراهم واكثر فاعلية في عدم اعتماد اللغة التي تكون لغة استيعاب صوري لما يفكر العقل به. (الفكر) هنا وسيلة العقل في معالجة موضوعاته صمتا داخليا، وتكون (اللغة) وسيلة العقل في التعبير عن الموجودات والاشياء في العالم الخارجي. هذه العبارة التي ادرجتها خاطئة لسبب اننا اعتبرنا اللغة صوتا تعبيريا خارجيا وليس تفكيرا صامتا داخل العقل والجسم. والخطأ الثاني في العبارة السابقة هو تجريد اللغة الداخلية الاستبطانية انفصالها عن المعنى غير المفصح عنه بلغة الصوت. اللغة فكر له معنى يلازمه صوت يمتلك لغة منتظمة بقواعدها. وبغير ملازمة صوت اللغة لمعنى لا تكون هناك لغة يعقلها العقل. صمت التفكير اعمى من غير شكل من اشكال اللغة تحتويه.

الصمت تعبير لغوي

للتوضيح اكثر فالتفكير المادي الصامت هو في معالجته موضوع واقعي او شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، اما في تفكير الصمت العقلي او(الخيالي) غير المعبّر عنه باللغة فهو الهام تخييلي في انتاج الذاكرة العقلية موضوعا يدرك خارجيا بلغة جمالية خاصة هي في حالة من الكمون الموحي خلف فهم الوجود الجمالي للشيء، لم يكن ادراكه متيّسرا قبل افصاح العقل له وتخليقه جماليا، كما في خيال انتاج لوحة فنية او قطعة نحتية او اي ضرب من ضروب التشكيل الفني ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنها بغير لغة الكلام او لغة الكتابة او الموسيقى او الاشارة. اللغة بالفن هي مفهوم وليست ابجدية لغوية.

التفكير واللغة تعبير واحد

نأتي الآن الى معالجة اصل امكانية فصل الفكر عن اللغة، على انها استحالة ادراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في استقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالادراك واعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها بوعي عقلي جديد، او لم يدركها في وجودها المستقل التي ايضا تستطيع الحواس واللغة التعبير عنها كموجودات واشياء.

من المهم جدا ان لا نتجاوز بديهية الادراك العقلي أن تفكير العقل لا يخلق اشياء ولا موجودات ولا موضوعات لكنه يخلق الوعي التأثيري بها. فالموضوع سابق على الادراك في المادة والخيال. يبقى عندنا ان التفكير العقلي الصامت ماديا او خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا في لحظات زمنية واثناء التفكيربموضوع ما داخليا، اي حينما يفكر العقل صمتا فهو يفكّر بالفكر ذاته كوسيط لموضوع مدرك في علاقته بالفكروالعقل الذي نقلته الحواس المدركة للاشياء او في موضوع ابتدعه الخيال ايضا ويحتاج العقل الفكر كوسيط في تخليقه واعادته الى عالم الاشياء باللغة المعّبرة عنه. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت. اللغة في تفكير العقل الصامت لا اهمية ولا وجود لها يتاح ادراكه من غير الشخص الذي يفكر بموضوعه عقليا منفردا مع نفسه وموضوعه ويبقى الفكر وحده وسيلة العقل في التفكير وتخليقه مواضيع الخيال العقلية والمادية ايضا.

وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، اي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا عاديا، فان العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة الا على انها جزء من الفكر وملازمة له داخل ادراك الدماغ او العقل في وجود الاشياء، التفكير بالفكر هو تفكير لغوي سواء جاء في الصمت او في الافصاح. لا فكر بغير لغة تؤطره وتحتويه.

ولا يدرك موضوع التفكير العقلي خارجيا من غيرصاحبه الا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل(الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء. الصمت لا يكون كمثل اللغة واسطة تداول مشترك. بل هو تفكير يشير لخاصية العقل لدى جميع البشر الاسوياء.

وعندما يتجسد ويتعيّن الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا او بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية او المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكرعن اللغة ذات اهمية كبيرة، ولكن تبقى اللغة في اثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها باولويتها التعبير عن الموجودات والاشياء الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة ادراك الحس والعقل بعد تخليقه لها، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات.

أي تكون اللغة وسيلة ادراك فهم الاشياء في وجودها المتعين المستقل عن تاثير العقل به بعد ان يصبح واقعا ماديا في عالم الاشياء. وباللغة وحدها لا بالفكر نفهم تفسير الموجودات المدركة في وجودها قبل تعبير الفكر عنها، لذا يذهب الجميع الى ان فصل اللغة عن الفكر محال وهو صحيح بالنسبة للشخص الذي يفهم الموضوع في وجوده المادي المستقل فهو يمارس تعبير لغوي يداخله المعنى الذي هو الفكر.بمعنى ان افصاح اللغة عن الشيء لا يسبق التفكير به.

بمعنى توضيحي اكثر ان اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكيرالعقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته وانفصال العقل والفكر كليهما عن العالم الخارجي، وانما تستمد اللغة اقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل خارج وعي العقل لها في زمنية محددة تلزم عقلا مفكرا واحدا في موضوع واحد، هو غير مدرك وجودا لغويا لدى غيره من عقول تختلف في ادراكها وتفكيرها والتعبير ربما في نفس الموضوع.

وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون ادراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرةعنها.ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن والعقل، وايضا من الفكر واللغة.

لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا. فالموضوع المفكّر به صمتا غيرلغوي يبقى حبيس وصاية العقل في التفكير به قبل اهمية انشغال العقل في التعبير اللغوي عنه.

ان اللغة اثناء وزمنية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل. فكل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة معه لكنه يلزم حضور التفكير العقلي وحده في اسبقية حواره الداخلي مع موضوعه. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، والفكر بلا عقل يدركه ويتعامل معه يكون غير موجود، وكذا تتبعه اللغة ايضا. فالفكر واللغة لا ينتجان العقل الذي يفكر بهما، لكن العقل ينتج الفكر واللغة اللذين يتوسلهما في فهم الاشياء، والعقل بتفكيره الصامت بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة تعبير غير ملزمة لنقل تفكير العقل كما هو الحال في ابداعات الفنون وعلم الجمال.

***

علي محمد اليوسف - الموصل

 

الوجدان كمرجعية في تأسيس القيمة الأخلاقية

شهدت فلسفة الأخلاق عبر تاريخها الطويل نقاشات ثرية وجدلًا معمّقًا حول الأسس المعرفية التي تستند إليها القيم الأخلاقية، السؤال المركزي الذي ظل حاضرًا هو: ما مصدر إلزامية الأحكام الأخلاقية؟ وهل تستند في مشروعيتها إلى العقل وحده أم أن هناك مصادر أخرى تشارك في تأسيسها وتبريرها؟

لقد انطلق كثير من المدارس الفلسفية من العقل بوصفه المرجع الأعلى في الحكم الأخلاقي. مستندة إلى ما يُعرف بـ"العقل العملي" الذي يرى أن بإمكان الإنسان أن يدرك الخير والشر من خلال التأمل المنطقي المجرد، إلا أن هذا التصور العقلاني الصارم لم يخلُ من إشكالات، خصوصًا حين واجهت التجربة الأخلاقية واقعًا أكثر تعقيدًا، إذ تتداخل الانفعالات والدوافع الوجدانية وتفاعلات النفس البشرية، ومن هنا يبرز سؤال جوهري: هل يمكن للوجدان الإنساني أن يكون مرجعًا أصيلًا في بناء الحكم الأخلاقي؟ وهل الشعور الداخلي قادر على منح القيمة الأخلاقية معناها الحقيقي ومكانتها الإلزامية؟

في هذا السياق، يمكن الاستئناس برؤى عدد من المفكرين الذين تجاوزوا المقولات العقلية الصرفة، فديفيد هيوم، رائد التيار الحسي في الفلسفة الأخلاقية، يرى أن المشاعر والوجدان - وليس العقل - هي ما يحكم على الأفعال بأنها حسنة أو قبيحة، ففي كتابه "رسالة في الطبيعة البشرية"، يبيّن أن الأخلاق تُبنى على "انفعال الاستحسان" لا على استدلالات منطقية باردة، الشعور إذن، وليس التفكير العقلي المجرد، هو ما يحرك الإنسان نحو الفعل الخيّر أو ينفره من الفعل الشرير.

كما أن ابن سينا، من موقعه الفلسفي والطبي، لم يفصل بين الشعور والعقل، بل شدّد على ضرورة تفاعل الوجدان الداخلي مع العقل في الحكم الأخلاقي. فالسعادة والفضيلة، كما يرى، لا تتحققان إلا إذا امتلك الإنسان وعيًا باطنيًا يُعيد تنظيم قواه النفسية ويرشد سلوكه وفق تجربة حياتية متكاملة، انطلاقًا من هذا الفهم، يصبح من الممكن القول إن التفاعل الوجداني مع القيمة الأخلاقية يمنحها طاقة داخلية تتجاوز منطقية العقل وحده، وتفضي إلى غائية تتصل بعمق الوجود الإنساني واحتياجاته الوجودية والمعنوية.

إن الإنسان لا يحيا فقط بالعقل، بل هو كائن وجداني يعي ذاته من خلال الألم والفرح والحزن واللذة، وكلها مشاعر تُسهم في تشكيل حسّه الأخلاقي وتحديد مسارات سلوكه، ومن هنا تظهر أهمية نقل مركز الثقل في دراسة الأخلاق من مجرد البناء المفاهيمي النخبوي إلى واقع النفس الإنسانية وتطلعاتها للمعنى والقيمة، فحين نُعيد وصل القيمة الأخلاقية بوجدان الإنسان، فإننا نُقرّ بوجود نوع من "الشهود القيمي" الذي يُختبر في التجربة اليومية، ويسهم في كشف القيم الأكثر لزومًا وجدوى في سياقات الحياة المختلفة.

الواقع بوصفه مختبرًا للقيم:

تتبدّى أهمية "الواقع" كمجال أساس لاختبار القيم، فبدلًا من ترديد مفاهيم مجردة حول الخير والشر، يُمكن للفعل الأخلاقي أن يُفهم من خلال أثره في حياة الإنسان ومعنى حضوره في ظرفه الزمني والمكاني، هنا تتقدم الحاجة إلى التجربة الواقعية على التنظير العقلي؛ لأن الوجدان المتفاعل مع مشكلات الحياة اليومية قد يكشف عن حاجات قيمية ملحّة لا يعبّر عنها العقل بمفرده.

إن الفهم العميق للقيم الأخلاقية يُشدد على أهمية التجربة الفردية والجماعية، إذ تلعب الخلفيات الثقافية والاجتماعية دورًا حاسمًا في تحديد كيفية تفاعل الأفراد مع القيم، فكل ثقافة تحمل مجموعة من المبادئ والأخلاق التي تتفاعل مع الواقع بطريقة خاصة، ما يعني أن القيم ليست متجانسة أو عالمية دائما بل تتأثر بالبيئة.

البعد الوجداني في عصر التقدم:

واحدة من أهم النتائج المتوقعة من إعادة الاعتبار للوجدان في تقييم القيم الأخلاقية هي قدرة هذه القيم على الفاعلية في أزمنة متغيّرة وظروف متعددة، القيم الأخلاقية، وإن بدت من حيث الجوهر ثابتة، فإن الحاجة العملية إليها تتفاوت تبعًا لتحولات الحياة، على سبيل المثال، قد تتنامى الحاجة إلى أخلاقيات التضامن في أزمنة الأزمات، كما رأينا في فترات تفشي الأوبئة أو الكوارث البيئية، بينما تظهر أخلاقيات العمل والمهنية في زمن الازدهار الاقتصادي والتوسع التقني.

بذلك، فإن ارتباط القيم الأخلاقية بالواقع الاجتماعي والإنساني يُظهر كيف أن القيم تتطلب نمطًا من الفهم يعكس التغيرات المستمرة، وهذا يبرز أهمية الحوار بين الأجيال حول ما تحتاجه المجتمعات من قيم أخلاقية لتوجيه سلوكيات الأفراد واستجابتها للتحديات المعاصرة.

أزمة القيم في البيئات الإسلامية:

لكن التحدي الأكبر في هذا السياق يظهر حين تُستدعى القيم من التراث استدعاءً اعتباطيًا لا يُراعي واقع الإنسان ومتغيراته، وكما عبّر محمد إقبال، فإن كثيرًا من القيم في تراثنا ما زالت "أجنة"، لم تكتمل حيوتها، إما بسبب غياب تفعيلها في الواقع أو بسبب تحويلها إلى شعارات خطابية فاقدة للجدوى العملية.

ما يحتاجه الخطاب الأخلاقي المعاصر في بيئاتنا الإسلامية هو وعي نقدي تشخيصي قادر على قراءة الواقع لاجتراح القيم الأكثر فاعلية فيه، بعيدًا عن الانغلاق في سرديات الماضي أو استنساخ نماذج أخلاقية دون مراعاة لحاجات العصر.

تجربة الغرب: بين الفاعلية والنقص الإنساني:

وفي المقابل، تُظهر تجربة المجتمعات الغربية بعدًا مهمًا في استخدام القيم، إذ تم تفعيل قيم العمل والمهنية والانضباط لتحقيق التقدم الصناعي والتقني، غير أن هذا النجاح جاء أحيانًا على حساب جوانب إنسانية أخرى، مثل العلاقات الأسرية والاجتماعية، بينما احتفظت بعض البيئات العربية بقيم اجتماعية نبيلة، لكنها لم تُترجم إلى ديناميكية إنتاجية أو أخلاقيات مؤسسية قوية.

يمكن القول إن التفكير في القيمة الأخلاقية من خلال العقل وحده يُضيّق من أفق الفهم، بينما يمنحها الوجدان بُعدًا إنسانيًا حيويًا يجعلها أكثر التصاقًا بالتجربة الواقعية. وليس المقصود بالوجدان هنا العاطفة المنفلتة، بل تلك البصيرة الباطنية التي تتشكّل من خلال التجربة، والمعاناة، والتفاعل مع الحياة.

ومع الاعتراف بدور العقل في تحليل المواقف الأخلاقية، فإن استدعاء الشعور والوعي الوجداني يُعيد للأخلاق معناها الحيّ والملزم في آن واحد، والأخلاق ليست مجرد مجموعة من القواعد الثابتة والميتة، بل هي تشكّل مستمر يستجيب للتحديات الجديدة ويتفاعل مع التغيرات الاجتماعية، بالنحو الذي يعزز القيم الأخلاقية العليا الثابتة.. إذ أرجح أن القواعد الأخلاقية متغيرة، في حين تبقى القيم الأخلاقية العليا ذات ثبات فطري إنساني عصي على التغيير أو الإلغاء.

في الختام، نتبين أن الوجدان يشكل عنصرًا أساسيًا في بناء القيم الأخلاقية، مما يعكس عمق التجربة الإنسانية واحتياجات الأفراد والمجتمعات، فكلما نجحنا في ربط الأحكام الأخلاقية بوجدان البشر، كلما اقتربنا من إنشاء بيئة خُلقية أكثر وعيًا وشمولية، وعلينا أن ندرك أن الأخلاق تحتاج إلى زخم شعوري يساند المعرفة العقلية، لخلق مسار يتسم بالفاعلية والالتزام في عالم دائم التغير.

***

د. أسعد عبد الرزاق

مقدمة: تبدو الحياة بدون أصدقاء لا تُطاق. وقد اهتم الفلاسفة اهتمامًا بالغًا بالرفقة التي تُسمى الصداقة. تزدحم جداولنا بالاحتفالات: عيد الأم، عيد الأب، عيد الحب... ولكن لا شيء للأصدقاء، أولئك المنسيين. هل هم أقل أهمية؟ أقل فائدة اجتماعية؟ صحيح أن الأزواج والعائلات يُعتبرون أساس المجتمع، أصغر وحدته؛ بينما يبدو أن تجمعات الأصدقاء لا تُنشئ شعورًا بالانتماء إلا في التجارب الطوباوية أو مجتمعات الهيبيز. ومع ذلك، اعتبر الإغريق الفيليا (التي تُترجم اليوم على نطاق واسع إلى "الصداقة") الرابطة الاجتماعية المثالية. لماذا إذًا لا نحتفل بـ"أفضل الأصدقاء للأبد"؟ أحد التفسيرات المحتملة هو قلة إنتاجية الصداقة. ينبغي أن تكون علاقة نكران الذات: لا نتوقع من الصديق مكافأة عاطفية، ولا بناء أسرة بحد ذاته، ولا مالًا، ولا تقدمًا مهنيًا. لكن الصداقة تتطلب جهدًا كبيرًا للحفاظ عليها وإثرائها - على عكس العلاقات الاجتماعية مثلًا. فهل يُعقل إذن أن في عالمنا اليوم، ثمة قيود والتزامات كثيرة مقابل نتائج قليلة؟ هل تتراجع أهمية الصداقة في عالم يحكمه الاقتصاد والكفاءة؟  حتى لو أردنا الاحتفال بالصداقة، لا يزال يتعين علينا تعريفها. من العصور القديمة إلى يومنا هذا، أين تنتهي العلاقات الاجتماعية وتبدأ الصداقة؟

العلاقة التي تساعدنا على فهم أنفسنا بشكل أفضل

الصديق الذي يمكننا الاعتراف له بكل شيء، الرفيق الوفي الذي يفهمنا أفضل من أي شخص آخر، يُشار إليه عادةً باسم "الأنا الأخرى"، أي حرفيًا "الذات الأخرى". مع ذلك، احرص على فهم التعبير بشكل صحيح: الأنا الأخرى ليست شبيهتنا، ولا تشبهنا بالضرورة. أولًا، حتى لو كانت التنشئة الاجتماعية تُشجع على الشعور بالانتماء، وكثيرًا ما نخالط أشخاصًا ينتمون إلى خلفية اجتماعية أو مهنية أو فئة عمرية مماثلة، فإن هذا ليس هو الحال دائمًا. وبالتأكيد ليس بالضرورة ما نبحث عنه. ثانيًا، إذا كان الصديق ذاتًا أخرى، أي شخصًا مختلفًا عنا يشبهنا، فهذا لا يعني تطابقنا، بل بمعنى قدرتنا على التماهي معه. بما أن الهوية هي ثبات في الخصائص، مع مرور الزمن ("البقاء على حاله") أو في المكان (القلم الأزرق في يدي اليمنى مطابق للقلم الأزرق في يدي اليسرى إذا وجدت نفس الخصائص في كلا المكانين)، فيمكننا القول إنها مبنية على الشيء نفسه، بينما التماهي يفترض الاختلاف. إنه جمع عناصر مختلفة وفقًا لمعيار.

احذر من المبالغة في إسقاط الذات على الآخر

لذلك، فإن التماهي مع شخص ما لدرجة اعتباره أنا الآخر يتطلب إدراك اختلافه، ورؤية هذا الاختلاف صدىً لشخصيتك. في علم النفس، يُعتبر أنني إذا استطعتُ فقط التواصل مع من يشبهني، فأنا لا أتماثل معه: أنا أُسقط. ويتمثل الإسقاط في نقل عناصر من داخلنا، تنتمي إلى تجربتنا النفسية الداخلية، إلى الآخرين وإلى العالم. من الواضح أننا جميعًا نُسقط من حين لآخر. ولكن إذا كان من الضروري أن يتشارك الشخص الآخر نفس الأذواق أو الآراء أو التجارب معنا لنتمكن من إدراك ذواتنا فيه وتكوين علاقة، فإن إسقاطاتنا تكون مُفرطة، وتُنشئ حاجزًا بيننا وبين الشخص الآخر، ويختفي هذا الشخص تمامًا.

بتعلمي فهم صديقي، أتعلم أيضًا فهم نفسي والتعايش معه.

تُعبّر الصداقة عن نفسها من خلال الحوار

لذا، فإن وجود الأنا البديلة يعني إدراك اختلاف الآخر عن الذات، وهو اختلافٌ جوهريٌّ في بناء هوية المرء. هذا ما يشرحه بول ريكور في كتابه "عين الذات كآخر": فالصداقة، بالنسبة له، هي العلاقة الأمثل التي تسمح لنا بالانتقال من هوية لا تتضمن سوى الشيء نفسه (ما يُطلق عليه الهوية-التطابقية)، والتي يرى علماء النفس أنها لا تعمل إلا من خلال الإسقاط، إلى هوية تستمد من الآخر الوسيلة التي نفهم بها أنفسنا ونُعرّفها بشكل أفضل (الهوية-الذاتية). يؤكد بول ريكور أنه لهذا السبب، تُعبّر الصداقة عن نفسها بالكامل من خلال الحوار. لذا، فإن "استجواباتنا" على الشرفات ووجبات العشاء التقليدية مع الأصدقاء ليست تافهة، بل على العكس! إنها تتيح لنا مواجهة وجهات نظر مختلفة حول تجربة مشتركة أو متطابقة، أو، على العكس، الاتفاق والتفاهم حول تجارب بعيدة كل البعد عنا لدرجة أننا لم نتخيل يومًا أنها ستُخاطبنا. تكتسب هذه اللحظات أهميةً بالغة لأنها تُمكّننا من إدراك وجود الاختلاف والغرابة فينا. قد نكشف أحيانًا عن أنفسنا بشكلٍ مُفاجئ، بل وغير مفهوم أو مجهول. والصديق، هذا الأنا الآخر الذي، وإن كان مختلفًا تمامًا عني، إلا أنه يُشبهني في بعض النواحي، سيُعوّدني على التعايش مع هذه الغرابة.

احذر من العلاقة الاندماجية

بتعلمي فهم صديقي والعيش معه، أتعلم أيضًا فهم نفسي والعيش معها. ولكي تنجح، تتطلب الصداقة المُتصوّرة بهذا الشكل تمييزًا واضحًا بين الداخلي (تجربتي) والخارجي (العالم والآخرين). لكن الأمر ليس بهذه البساطة، خاصةً مع شخص نعتبره أنا الآخر! تُوضّح الفيلسوفة سيمون فايل، في نصوصها المُجمّعة في كتاب "الصداقة، فن الحبّ الجيّد"، أن مثل هذه العلاقة تُعرّضنا لتناقضاتٍ كبيرة، لا تظهر كثيرًا في علاقاتنا الأكثر توترًا. أولًا، الفهم الوديّ والتماهي الذي يُثيره الصديق فيّ يجعلني أرغب في التقرّب منه قدر الإمكان؛ لكن إذا دخلتُ في علاقة اندماجية معه، فإننا نندمج وأختفي. لذا، هناك دائمًا ما يُشعر بعدم الرضا في الصداقة: فالآخر لا يكون قريبًا بما يكفي، ولكن إذا أصبح قريبًا بما يكفي، فإنه يكون قريبًا جدًا ولا يسمح لنا بدمج الظواهر والاختلافات في داخلنا. تلخص الفيلسوفة ذلك قائلة: "الصداقة هي المعجزة التي بها يُوافق الإنسان على النظر من بعيد ودون الاقتراب من الكائن نفسه الذي هو ضروري له كالغذاء".

هل نستطيع الاستغناء عن الأصدقاء؟

إذا كان الصديق هو ذلك الأنا الآخر الذي يسمح لنا بفهم بعضنا البعض، فيبدو الاستغناء عنه مستحيلاً! من مسلسلي "ساينفيلد" و"فريندز" إلى مسلسل "أرجوك لا تُحبني" الأحدث، هل كانت المسلسلات التلفزيونية التي لا تُحصى والتي تُقدم شخصيات تتمحور حياتها حول الصداقة، بدلاً من العلاقات العائلية أو العاطفية، مُحقة؟ هل الصداقة هي العلاقة الأساسية الوحيدة في الحياة؟ هل شعار "الأصدقاء قبل الفتيات/الاشخاص" مبدأ جيد للحياة؟ بالنسبة للفيلسوف أرسطو، نعم! لأن الصداقة تُعلمنا، حسب قوله، أن نكون غير أنانيين، وأن نضع مصالحنا الشخصية في المرتبة الثانية، وهو أمر أساسي لاكتساب الأخلاق، وبشكل أكثر تحديداً، العدالة. ولكن كيف يُمكننا بناء علاقة غير أنانية كهذه إذا كان من مصلحتنا في الوقت نفسه إقامتها؟ الأمر ليس بهذه البساطة. يصوغ أرسطو هذه المفارقة في كتابه "الأخلاق النيقوماخية" (9، 9) بسؤاله عمّا إذا كانت الصداقة ضرورية، وخاصةً للحكيم الذي بلغ ما أسماه القدماء الخير الأسمى - أي اتحاد السعادة والفضيلة. أحد أمرين: إما أن يكون المرء سعيدًا (مثل الحكيم)، أو لا يكون سعيدًا ويسعى إلى ذلك. بالنسبة للحكيم، الذي يملك كل الخيرات والأفراح، تبدو الصداقة عديمة الفائدة تمامًا؛ وبالنسبة لمن لم يختبر هذه النعمة بعد، تبدو مستحيلة، لأنه إذا سعى إلى سعادته من خلالها، فلن تكون علاقة نزيهة. لذا، تكون الصداقة جوهرية للحياة، ولكنها في الوقت نفسه إما عديمة الفائدة أو مستحيلة!

لا يُلزمنا أي قانون أو واجب أخلاقي بحب أصدقائنا الذين نختارهم بحرية. لماذا نُكوّن صداقات؟ هذا ما يُسمى في الفلسفة بالتناقض الحقيقي، أي التناقض بين فكرتين متعارضتين. لحل هذه المشكلة، ميّز أرسطو بين ثلاثة أنواع من الصداقة، لا تزال تتردد أصداؤها في أذهاننا حتى اليوم. ويعتمد هذا التمييز على الدافع الذي ينشئ هذه العلاقة: هل يُكوّن المرء صداقة بدافع المنفعة أو المتعة أو الود، أم أخيرًا سعيًا وراء الفضيلة؟ يمكن تشبيه الصداقة النافعة بما نسميه اليوم "شبكة": شبكة من العلاقات الممتعة، لكنها في جوهرها تُشكّل وتُحافظ عليها بدافع المصلحة الذاتية. يرى أرسطو أن من يحافظون على هذه الصداقات أنانيون، بمعنى أنهم يُقدّمون مصالحهم الخاصة على مصالح الآخرين. ومثل من يُكوّنون علاقات لمجرد المتعة - وهو النوع الثاني من الصداقة - فإنهم لا يُحبّون إلا أدنى جوانب الإنسانية: الثروة، والشرف، والملذات الحسية. بينما من يهتم بالآخر لفضيلته يُحب في نفسه وفي الآخرين أسمى جوانب الإنسانية: تفوقه الأخلاقي.

الصداقة الفاضلة عند أرسطو

بالسعي وراء هذه الصداقة، يسعى المرء إلى الفضيلة، وهي السبيل الوحيد لأرسطو لتحقيق السعادة. لكن المرء يفعل ذلك لسبب نبيل. فالصداقة الفاضلة - وهي الأفضل على الإطلاق، وبالمعنى الدقيق للكلمة، الصداقة الحقيقية الوحيدة عند أرسطو - هي ما نحتاجه، بل وحتى ضروري للمجتمع، لأنها تضع مصالحنا الشخصية في المرتبة الثانية. إنها ترتقي بنا، بمعنى أنها تُعلّمنا وتُمكّننا من تجاوز ذواتنا (بإبعاد أنفسنا عن مركزية الذات). بالنسبة لأرسطو، لهذا السبب تحديدًا يُمكننا تعريف الصديق بأنه ذات أخرى: الصديق هو ذات أخرى لأنني أستطيع أن أتأمل فيه وأُقدّر فيه القيم الأخلاقية التي أشعر بها وأُقدّرها في نفسي. هذا النوع من العلاقات ضروريٌّ أكثر لأن أرسطو لم يكن مُدافعًا عن أخلاق مُجرّدة مُكوّنة من مبادئ ثابتة. فبالنسبة له، حتى لو وُجدت القواعد والقيم وتُشكّل معاييرنا، فإن الأخلاق مسألة توازن، يجدها كل فرد في كل موقف مُتفرد. لذا، فإن الصديق، الذي يُشاركنا قيمنا ويُمثّل مرآةً لأفكارنا وأفعالنا، ضروريٌّ لنا لتقييم هذا التوازن تقييمًا صحيحًا.

حدود الصداقة

لكن أليس تعريف الصداقة كعلاقة فاضلة مع ذات بديلة مجرد مثال أعلى؟ إذا كان المرء يجب أن يكون فاضلاً بأي ثمن ليحظى بصديق، فمن ذا الذي يدّعي حقاً استحقاقه؟ ألا يعني صداقة الآخرين، على العكس، قبول عيوبهم، سواءً كانت نقائص أو رذائل؟ أخيراً، إذا كان أرسطو يرى أن فضيلة الأصدقاء هي ما يُساعدنا على الارتقاء طوال الحياة، فهذا يعني أن الصديق، قبل أن يكون شخصاً فريداً، هو قبل كل شيء فرصة لنا لتطوير مهاراتنا الأخلاقية. ومع ذلك، يمكننا أن نرى بوضوح أن علاقتنا بالصديق ليست مسألة تربية أخلاقية فحسب - وأحياناً ليست كذلك على الإطلاق!. بعيداً عن كونها مجرد تدريب عام على حسن السلوك، فإن كل صداقة تتخذ شكلاً فريداً. بالنسبة للمفكر والكاتب مونتاني، يمكن تفسير ذلك بالاختيار: فعلى عكس ما يحدث مع العائلة، لا يوجد قانون أو واجب أخلاقي يأمرنا بحب أصدقائنا - فنحن نختارهم بحرية. ونحن نفعل ذلك ليس لوظيفتهم، بل لشخصيتهم الفريدة. لا يُلزمنا أي التزام رسمي بجهد العلاقة: لا عقد ولا قانون صريح، لا قانون ولا مؤسسة، على عكس ما يحدث بين الزوجين، أو أفراد الأسرة، أو رفقاء السكن، أو حتى الجيران. فهذه الحرية تُمكّن كل صداقة من احتضان تفرد أعضائها.

ومع ذلك، ورغم إطار الحرية الذي تتكشف فيه الصداقة، إلا أنها تنطوي على عنصر من عدم القدرة على التحكم. يُصوّرها مونتاني شغفًا، بمعنى الشفقة، أي ما نتحمله، وما يُثقلنا ويحملنا بعيدًا. تبدو الصداقة وكأنها تتجاوزنا كقدر، أولًا وقبل كل شيء لأنها تبدو غير قابلة للتفسير: لا يُمكن اختزالها أبدًا في مجموعة من المعايير المُناسبة، مثل الأذواق المشتركة البسيطة، ولا يُمكن توقعها. أحيانًا تكون الثنائيات الودودة هي الأكثر إثارة للدهشة. تجدر الإشارة، علاوة على ذلك، إلى أن عبارة مونتاني الشهيرة عن صديقه العزيز إتيان دو لا بويتي - "لأنه كان هو، ولأنه كان أنا" - تُشير إلى استحالة شرح معجزة الصداقة شرحًا وافيًا: "إذا اضطررتُ لشرح سبب حبي له، أشعر أنه لا يمكن التعبير عن ذلك إلا بالرد: "لأنه كان هو، ولأنه كان أنا". هناك، وراء كل حديثي وما يمكنني قوله عنه تحديدًا، قوة غامضة ومميتة، تُسيطر على هذا الاتحاد" (مقالات، الجزء الأول، المجلد الثامن والعشرون). يعتقد مونتاني أن الوفاء الودي يعني عدم وضع الصديق في موقف محرج. هل يُمكن لهذه القوة إذًا أن تُبالغ؟ بالنسبة لمونتاني، يُمكن للمرء أن يُفسد نفسه حتى بدافع الصداقة. وفي الواقع، من لم يخطر بباله أنه سيكون على استعداد لمساعدة أعز أصدقائه في إخفاء جثة إذا لزم الأمر؟ ولكن لأن صديقنا هو صديقنا تحديدًا، فلن يطلب منا ذلك. بالنسبة لمونتاني، لا يعني الوفاء الودي الحقيقي إفساد الذات أو تعريضها للخطر من أجل صديق، بل عدم وضع صديقك في موقف محرج كهذا.

خاتمة

يبدو أن الصداقة لا تتوافق مع الاستبداد. وجهة نظر يشاركها لا بويتيه: بالنسبة لهذا الأخير، لا يمكن لقوة الصداقة، مهما بلغت من القوة وخروجها عن السيطرة أحيانًا، أن تكون قوة استبدادية تُقيدنا لمصلحة الآخر. إن وُجدت مثل هذه العلاقة، لكانت علاقة سيطرة. تُعبّر خاتمة كتابه الشهير "خطاب حول العبودية الطوعية" بوضوح عن هذه الفكرة: حيثما يوجد الاستبداد، لا يمكن أن توجد صداقة؛ بل لا يمكن أن يوجد إلا التواطؤ. لكن التواطؤ قد يكون لعبًا أو جريمة...لذلك، يجب أن يكون الصديق أقرب إلى الرفيق، مهما كان ناقصًا، منه إلى الشريك. من الصداقة القديمة إلى الصداقات الحديثة، نرى أن الصداقة، دون أن تشترط منا أن نكون كاملين لنستحقها، تتطلب منا أفضل ما لدينا. لهذا السبب، فهي ليست مجرد رابط تعلق بالشخص، بل هي أيضًا أفضل إعداد للحياة الاجتماعية. إن عيد الصداقة هو سبب وجيه للاحتفال به أكثر!

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

عديدون الذين مرّوا باستخفاف امام مقولة هيجل (ميزة التاريخ اننا لا نتعلم منه شيئا).

غالبية النظريات وفلسفات التاريخ والمفاهيم الوضعية الحديثة وتفاسيرها في دراسة التاريخ البشري، تذهب الى ان مسار التاريخ التطوري تحكمه (غائية) او غائيات ضرورية مراحلية مصاحبة رافقته وقادته الى حتميات معدّة لتحقيق تلك الغايات، مرسومة له سلفا سعى التاريخ حثيثا الوصول لها. واكثر من ذلك عمد المؤرخون زرع محفزّات تطوّرية في ثنايا المراحل التاريخية، تشكّل ارادة ذاتية شغّالة تلهم ألتاريخ ألتقدم الى أمام على وفق حتميات متنوعة مرجوّة وغايات مطلوبة لاحقا. بمعنى اوضح انه صار بمكنة المؤرخ كتابة تاريخ آخر مغاير للوقائع التاريخية امامه حسب اجتهاده. او استنباطه قوانين شغّالة تحكم سيرورة وتطور التاريخ البشري في تطويع حقائق التاريخ لمنهجه.

وهذه غيرها القوانين الطبيعية التي تحكم المادة والوجود الانساني في الطبيعة وتعالقهما كمعطى ازلي تعمل بمعزل عن ارادة الانسان. خلافا للقوانين والنظريات التي يضعها الانسان في دراسة التاريخ والانثروبولوجيا، التي هي من صنعه أيضا (المناهج والفلسفات والنظريات والسرديات).

الحتميات والغائيات التطورية المراحلية للتاريخ القريبة منها والبعيدة جدا، التي تم اقحامها كمصاحبات حيثية رافقت المسار التأريخي، انما هي مغالطات واستنباطات لا تمتلك مقومات الصدق العقلاني ولا مشروعية التسليم بها في دراستها حركة التاريخ غير المنتظمة المليء بها التاريخ البشري من العشوائيات والمصادفات غير المحسوبة النتائج التي لعبت دورا محوريا مركزيا في وقائع ومجريات التاريخ، هذه المصادفات الجوهرية كان بعضها سببا في سلسلة من التراجعات والكبوات، وبعضها الآخر جاء عوامل مساعدة في تحقيق طفرات نوعية في المسار التاريخي غير المنتظم، وتلك القفزات الكنغرية التاريخية حققت حلقات من التطور والتقدم الى امام، نتيجة عاملي الصدفة العمياء غير المحسوبة، والعشوائية، مضافا لها ردود الافعال الانسانية في تصحيح مسار الانحرافات ومحركات النوازع السلطوية الحمقاء لدى الملك او الحاكم او البطل او الدكتاتور او اية زمرة خارجية متحكمة متطرفة وحشية، بعيدة عن منطق ونوازع الخير المتأصلة بالانسان.

ما كتبته واورثته لنا عشوائيات الوقائع وعفويات الاحداث التاريخية التي تحكمها الصدفة غير المتوقّعة المتوالية التي عالجتها الماركسية بالقول ان الصدف التي اثرّت في مسار التاريخ هي الصدف التي تحكمها الضرورة، كانت اكثر اهمية بكثير من محاولات تفسير وتحليل تلك الحوادث على ضوء حشر المحفزّات الذاتية والضرورة الذاتية كمحرك للتقدم التاريخي، التي حسب اجتهاد المؤرخين قادت وتقود التاريخ في مسار غائي تصاعدي تطوري حتمي منتظم الى امام وتحقيق الافضل في الحياة، بنوع من الفعالية الذاتية(روح التاريخ) بتعبير هيجل التي يستبطنها باحشائه ذاتيا، كغائية تحفيزية مطلوبة متوخاة او حتمية يبلغها التاريخ مرحليا ويتجاوزها الى مراحل متقدمة من غير ما الاخذ بنظر الاعتبار ارادة الانسان الفاعلة في صناعة التاريخ عبر العصور وهكذا.

اقطاب التفسير التطوري الحتمي للتاريخ جاء في اهم جنبة منه على وفق النظرية الماركسية في المادية الجدلية الديالكتيكية للتاريخ، باعتماد مركزية العامل الاقتصادي كبؤرة تحكم جدلية التاريخ ومراحله التطورية. واصبحت هذه النظرية الماركسية اليوم رغم ما تحمله من رؤى علمية منهجية وقراءة فلسفية معمّقة لواقع البشرية على امتداد تاريخ العصور الطويلة، وما حملته من تفسير مادي انثروبولوجي انسانوي متكامل، ثبت انها غير كافية لتفسير الانتقالات النوعية في المسار التاريخي المتطور من مرحلة الى أخرى متقدمة عليها ومتجاوزة لها. بدءا من مرحلة الصيد والالتقاط، تلاه عصر الزراعة، وليس انتهاءا بالمرحلة الاشتراكية والشيوعية والتنبؤ بنهاية الدولة وانحلالها لاحقا على المدى البعيد غير المنظور لكنه المتوقع تنظيرا ايديولوجيا ماركسيا.

وهم نهاية التاريخ شيوعيا ورأسماليا

ثبت أن التفسير المادي الماركسي للتاريخ شأنه شأن المناهج والدراسات التاريخية المضادة له المثالية المقاطعة الرافضة للجدل التاريخي، كالرأسمالية الديمقراطية والليبرالية وغيرها، ان الجميع يشتركون في حقن المراحل التاريخية تحفيزيات محركة ذاتية للوقائع والاحداث في تبرير انتقالات التاريخ النوعية مراحليا او ما يسمى الطفرات النوعية، في وصول التاريخ الى غائيات وحتميات سعى الى بلوغها في السيرورة التطورية المحكومة بأرادته الذاتية ونزوعه لخير الانسانية، مع عدم اهمال الماركسية لعامل الانضاج الموضوعي (الاقتصادي، الاجتماعي، الثقافي) المحايث لضرورة التقدم في الانتقالات والطفرات النوعية المراحلية عبر التاريخ.

كان هذا التفسير الجدلي الماركسي استقراءا واستنطاقا للتاريخ كماض اختط مساره، قبل اكتشاف قوانين المادية التاريخية وصياغة فلسفتها المعروفة، وتبلورها المتكامل في التطبيق الاشتراكي الشيوعي. على وفق ديناميكية تحفيزية ذاتية حملها التاريخ في مساره التطوري الطويل لآلاف السنين او يزيد، متجاوزة بذلك اية عشوائية او سلسلة مصادفات ان يكون لها سببا او تأثيرا سلبيا او ايجابيا في مسارتطور التاريخ عبر العصور. بمعنى أن التاريخ البشري كان محكوما-حسب الماركسية- بالتطور الذاتي والموضوعي الطبيعي قبل اهتداء الماركسية اكتشاف تلك القوانين المادية الجدلية. وأن هذه المراحل التطورية اخذت نصيبها في التطبيق المراحلي الانتقالي من مرحلة الى أخرى اكثر تطورا وتقدما في حياة الانسان ووجودها كحتميات تحكمها الضرورة يجب ان تحصل في التاريخ البشري عموما بمعزل عن ارادة الانسان وتصنيعها وحاجته لها. بمعنى ان الانتقالات المراحلية النوعية للتاريخ التي كان محركها الاساس قوانين المادية التاريخية، التي قادت التاريخ على وفق صراع الطبقات وتقسيم العمل وملكية وسائل الانتاج حصلت في قيادتها التقدم التاريخي الطبقي الاقتصادي بادراك من الانسان او بغير الادراك منه ورغبته وحاجته للتغيير من عدمها فهي حصلت بحكم الضرورة التي تقودها القوانين الشغالة.

ومن الجدير ذكره ان داروين في نظرية التطور والانتخاب الطبيعي للاصلح، استبعد فكرة الغائية التطورية والحتمية في الزام التاريخ البشري الانثروبولوجي السير بمقتضاها حسب النظريات التي ذهبت في هذا المنحى التطوري الحتمي. وان التطور الطبيعي للحياة والكائنات على الارض حسب نظرية داروين لا تسري ولا تنطبق في معطياتها على التاريخ البشري في ارتقائه التطوري. اي ان داروين انكر استنساخ الضرورة البيولوجية التطورية في الارتقاء الانتخابي الصاعد الحاصل في الطبيعة واسقاطه على الواقع المراحلي لانثروبولوجيا تطور الانسان.

الملفت للملاحظة ان التفسير الماركسي (قفل) التطور التاريخي بمرحلة افتراضية في حتمية ووجوب انحلال الراسمالية الامبريالية لتعقبها المرحلة الاشتراكية ومن ثم الشيوعية، وهكذا تتوقف دورة التطور التاريخي وهو ما لم يحدث. . بالمقابل نجد ان الرأسمالية (المعولمة) هي الاخرى (قفلت) التطور التاريخي بنهاية التاريخ عولميا عندها ومن جانبهاعقب استفادتها التاريخية المجّانية من تمزّق الاتحاد السوفييتي وانهيار النظام الشيوعي دراماتيكيا ونادت بعدها انه لا تاريخ بعد العولمة الرأسمالية وأن العولمة هي نهاية التاريخ وأفول نجم وعصر الايديولوجيات. (هنتكتون وفوكوياما).

لم يكن واردا في الاستقراء التنبؤي الماركسي ان ينهار النظام الشيوعي قبل انهيار الرأسمالية الامبرالية، هكذا كان التفسير الاستقرائي الماركسي للتاريخ القائم على مركزية الفهم ان التطور البشري منذ العصور الاولى للبشرية، كان محكوما بغائيات وحتميات وقوانين طبيعية تقود التاريخ قسرا وبمعزل عن ارادة الانسان، وقوانين ذاتية مصدرها الواقع المعيشي للبشر، ونضجهم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي موضوعيا.

نخلص بايجاز ان تطور التاريخ ماركسيا بنوع من الغائيات والحتميات، كان مرتكزه التحفيز الذاتي الديناميكي الشغّال فيه باستمرارهو تطور الواقع الاقتصادي والاجتماعي ومن ثم الثقافي أيضا، هذا التفسير تم دحضه تاريخيا في بروز وانبثاق عصر العولمة وعدم انحلال النظام الرأسمالي الامبريالي، رافقه انحلال النظام الاشتراكي الشيوعي في منظومة الاتحاد السوفييتي القديم، وبذا تنتفي الحاجة لدحض ما سبق وتم دحضه تاريخيا واقعيا على الارض، في وجوب اعادة دحضه بالتنظير الايديولوجي او الفلسفي على صعيد الفكر والايديولوجيا.

من جانب آخر تلتقي العولمة مع الماركسية في اعتمادهما الغائية والحتميات في التفسير التاريخي من جهة وفي اقفالهما التاريخ المراحلي كلا حسب احتياجاته السياسية من جهة اخرى، الماركسية اوقفت التاريخ على رأسه بدلا من قدميه حين اعتبرت الشيوعية آخر مراحل تطور التاريخ البشري بعكس التنبؤ الماركسي الذي لم يتحقق، وكذا فعلت العولمة في اعتبار انها تمثّل مرحلة نهاية التاريخ ونهاية عصر الايديولوجيات وانه لم تعد هناك حاجة ولا ضرورة لمرحلة تاريخية تلي العولمة وتعقبها. (مقولات فوكوياما في نهاية التاريخ وافول عصر الايديولوجيات).

ان العولمة لا تمثل صيرورة تاريخية في وصولها لحتمية تاريخية أوجدتها ومهدّت في انبثاقها، كانت متوقعة ومحسوبة لا بد ان يصلها تطور التاريخ البشري، بل ولدت العولمة من صدفة عشوائية تطورية نوعية طارئة على الاستقراء التاريخي، ساهم بوجودها انهيار الشيوعية السوفييتية بشكل دراماتيكي غير متوقع. ولم تنبثق العولمة بعوامل تحفيز ذاتية اعتملت مع فاعلية الجدل الموضوعي بايجادها تاريخيا. اذ كان النظام الرأسمالي حينها يراوح بمشاكله ولا يزال في عصر العولمة، ولم تدب به الحركة الا بعد انهيار النظام الشيوعي، لتأخذ العولمة دورها المتفرد في الهيمنة في غياب الند والمنافس. وبدأ التنظير العولمي يذهب منحى اكثر راديكالية في التبشير ليس في نهاية التاريخ وحسب وانما في صدام وصراع الحضارات.

النظام العولمي الرأسمالي لن ينجو هو الآخر من التجاوز والمغادرة في تفسيره التاريخ على وفق المنطق الايديولوجي السياسي قصير النظر، ليلتقي بذلك مع الاخفاق الشيوعي في (اقفال) التاريخ مراحليا، حينما اعتبرت العولمة نفسها المحطة الاخيرة لوقوف قطار التاريخ البشري والانسان الجديد.

وبذا فان النظام الرأسمالي العولمي أدرك جيدا، بل أراد – خاصة الآن عولميا - ان لا يكون هناك غائيات وحتميات تطورية تعتمل داخل التاريخ الانساني يتجاوز العولمة وتقوده الى مراحل متقدمة جديدة بعد العولمة تفقدها مبرر وجودها تاريخيا.

كما اوضحنا ان كلا النظامين الشيوعي والرأسمالي قفلا التطور التاريخي سياسيا كلا من جانبه على أساس من حتمية تاريخية أصبحت الآن (اكسباير) منتهية الصلاحية التداولية والاستعمال على ارض الواقع البشري.

هذا الاقفال الافتعالي للتاريخ شيوعيا ورأسماليا في مرحلة تطورية من مراحله المستمرة، نجد فيه النظرية تسبق الواقع ولا تأتي تفسيرا له، وتسبق المسار التاريخي ولا تهديه او يهتدي هو بها، والنظرية تجرّ التاريخ وراءها وتتقدمه، لكن لم ولن تلبث هذه الدوغمائية الفجّة طويلا قبل الاصطدام بحقيقة ان التاريخ يصنع النظريات ويسحبها وراءه وليس العكس. وليس بمقدور النظريات والمناهج التحليلية كتابة تاريخ يمشي ويعيش على الارض تكون مادته الوجود البشري الارضي.

الحقيقة التي اثبتها التاريخ بمساره العشوائي اللاغائي وغير الحتمي في التطور انه لا التفسيرالماركسي ولا التفسير العولمي قادر على غلق مسار التاريخ وايقاف قطاره في محطة نهائية واخيرة لا تاريخ بشري تطوري بعدها. هذا مناف لحيوية وديناميكية الوجود الانساني على الارض. وخلاف ما استقتل من اجل ترويجه مارتن اندك واخرين عديدين.

كما ان التاريخ لم يستقم سابقا ولن يستقيم لاحقا في تصنيع (الملك الحاكم) للتاريخ وكتابته او البطل الخارق أو أية سلطة دينية او سياسية له، وسوف لن يستقيم وتلجم تطوره الى ما لانهاية المصالح السياسية والايديولوجية ايضا كما حاولت سابقا وفشلت. لأن التاريخ تحكمه العشوائية والصدف الطاردة للغائيات والحتميات، ولا وجود لصدف ضرورية تقود التاريخ حسب التفسير الماركسي، كما ان التاريخ هو متمرد وعسير ايضا في حركة تطوره المتلاحقة من السيطرة عليه ومصادرته من قبل الحكام والملوك والمتطرفين والابطال الخارقين. او من قبل اصحاب النظريات المسبّقة وايديولوجيا السياسة على حركة التاريخ ومحاولة سحبه وراءهم، ربما كان امكان حدوث ذلك في عصر او فترة زمنية. لكنها تبقى مرحلة مقطوعة وكسيحة في مسار التعميم، فالنظريات لا تصنع تاريخا ولا تقدر سحبه تابعا وراءها.

ان التاريخ في مجمل اخفاقاته وتراجعاته وقطوعاته وتقدمه، هو سلسلة من المصادفات العشوائية التي يتخللها ويعتريها التقدم الى أمام بأرادة انسانية (الفعل ورد الفعل في تصحيح الانحرافات التاريخية) وليس بقوى ذاتية غير منظورة محكومة بالضرورة السياسية او غيرها، الى جانب القطوعات والتراجعات غير المنتظمة التي أعاقت مسار التاريخ. وبحسب سارتر (فان جميع الامور تحدث بالمصادفة التي هي الصفة الاساسية المميزة للوجود). بمعنى لا وجود لتطور تاريخي تصنعه الحتمية التطورية مهما كان محايث تحريكها مقبولا.

كما ان عشوائية التاريخ وتأثير المصادفات فيه جعلت من تطوره لا يحدّه انتظام المسار ولا تحكمه غائيات غير منظورة يسعى بلوغها. ووصول مرحلة تطورية مجاوزة لسابقتها بعد انضاج عاملي الذاتية والموضوعية اللذين مصدرهما الفعل الانساني المتحقق على الارض وليس ديناميكية ذاتية شغّالة غير منظورة ولا محسوسة تلهم التاريخ وتقوده الى مراتب التقدم الى امام. مثال ذلك الثورات الشعبية والتمردات والكفاح المسلح والحركات الاصلاحية في مختلف مشاربها وغيرها هي التي كانت تصنع مراحل تاريخية متقدمة وتبديل حال سيء الى افضل منه وليس نظريات وفلسفات مكتوبة على الورق جربت حظها واخذت فرصتها في التطبيق وفشلت فشلا ذريعا. وفي هذا يبرز الدورللارادة الانسانية الفاعلة والجوهرية في تقدم التاريخ الى امام . ومن هنا نجد الفروقات التاريخية بين شعب وآخر او أمة واخرى في تصنيعها لتاريخها، وهذه الانجازات المتناثرة كجزرمعزولة ليس بمقدورها ومكنتها ان تحكم مسار التاريخ البشري بمجموعه بنوع من الغائيات المرحلية البعيدة المستقبلية. وصناعة تاريخ مرحلي في بلد او عدة بلدان لا يعني ذلك تخليص التاريخ البشري من مساره العشوائي والاعتباطي. وعشوائية المسار التاريخي وتأثير المصادفات ونتائجها غير المحسوبة التي لا وصاية ولادخل مباشر لارادة الانسان بها، فهي باقية ولا تنتهي، صحيح جدا ان الوجود الانساني سابق على التاريخ، وهذا الوجود وحده كفيل بأعطاء التاريخ معنى وهدف، لكن في المحصلة الانسان وحده يعمل على تصحيح المسار العفوي الشاذ غير المنتظم للتاريخ، ولكنه لا ينهي بذلك تلك العشوائية في التاريخ التي تنتظمه على الدوام نهائيا. كما انه لا معنى لتاريخ أوأي معطى انثروبولوجي او معرفي او وجودي من غير أسبقية فعالية الانسان عليه وتأثيره فيه وتعليل سبب وجوده وعلّة حصوله ايضا. وبهذا يقول ارتيجا (ان التاريخ يستوعب احداث الحياة الانسانية الماضية والحاضرة والمستقبلية، وما لا يتصل بالانسان ليس تاريخا، فالتاريخ هو الآنية في المحل الاول، يليها الطبيعة باعتبارها ميدان التاريخ).

التاريخ هو الحاضر وليس الماضي او المستقبل

ان التاريخ البشري الماضي والحاضر والمستقبل هو ما كان فقط وليس صنع ما سيكون، واي مسعى لأعطاء معنى قيمي هدفي تنبؤي للتاريخ في غير مساره العشوائي، هو نوع من دوغمائية الافكار والنظريات المتورّخة للمسار التاريخي، وهذا لا ينفي أبدا قدرة ورغبة وامكانيات الانسان من الوصول بالمسار المستقبلي للتاريخ الى(بعض) الاهداف المرسومة والمعدّة سلفا. وهذا يختلف عن دوغمائية الافكار التي تأتي لاحقا في دراسة التاريخ وتضع له اهدافا نظرية ومنهجيات عقب حدوث وقائعه، . دوغمائية الافكار في دراسة التاريخ هي محاولة الامساك بحركة التطور التاريخي وتجييره لحساب التنظيرات التي تسندها وترعاها اجندة سياسية، مسألة لا جدوى من الاعتداد والاخذ بها. وهذه الدوغمائية النظرية في تفسير التاريخ محكومة بالتضاد مع وقائع الاحداث الحية والسيرورة المتطورة للتاريخ ومع مساره العشوائي العفوي ايضا الذي تحكمه المصادفات التي تدخل على مسار انتظامه المتعثر باستمرار.

ان في الاستقراء السببي لوقائع التاريخ المدوّنة ومراحل سيرورتها التطورية، ومحاولة تطويع العشوائية والصدف المتتالية الى منهجية ايديولوجية تخدم السياسي، هي محولات تؤرخ لوضع نظريات واستنتاجات توفيقية – براجماتية قد تفيد توجهات سياسية - سلطوية او تفيد البشرية في مباحث الانثروبولوجيا او غيرها من المجالات البحثية. في دراسات انتقائية لعيّنات واهتمامات معينة تربط التاريخ بالفلسفة، او التاريخ بالاجتماع او التاريخ بعلم النفس، او التاريخ بحرب او حروب، او التاريخ ببطولة فردية، او التاريخ بقائد ونخبة ثورية او مع زمرة فوضوية وهكذا، وتوظيف ذلك مع ما تحمله العشوائيات والمصادفات في الوصول الى ايجاد تبريرات اقناعية لعوامل ومسببات حدوث تلك الوقائع. واهم انجاز لها انها تخلص الى نتيجة لماذا حصل هذا ولم يحصل ذاك؟

ميزة العشوائية في المسار التاريخي التطوري عبر العصور، هو تقاطعها مع النظريات والفلسفات والمناهج التي تريد دراسة تلك العشوائيات والمصادفات بيقين الغائيات ومنهجيات الحتميات التي يقحمونها في دراسة السيرورة التاريخية في قطع المراحل. ان حرية المسار التاريخي المتطور على الدوام هي حرية (فوضوية) غير مشروطة ابدا وغير ملزمة. وبهذا المعنى يقول سارتر (ان جميع الامور تحدث بالمصادفة التي هي ميزة لكل وجود). ونعتقد ان كلامه صحيح قبل ان يصدر عن فيلسوف مميز.

كما ان التنوع الهوياّتي في عصر العولمة مثلا يسعى الاسهام بصنع تاريخ حضاري جامع وموحد لحاضر ومستقبل البشرية، على وفق مبدأ ورغبة توظيف هذا التنوع الهوياتي العالمي ايجابيا، وارادة الشعوب الخالصة في نشدان استحضار مشتركات وتكامل يساهم به الجميع لخلق حضارة مشتركة جامعة. لكن يبقى هذا المحرك الذاتي يعمل الى جانب اشتمالات العشوائية وتوالي المصادفات الصادمة غير المحسوبة ولا المتوقعة تاريخيا، التي تعمل بالتوازي مع هذا المسار وتتقاطع معه احيانا. وكذلك تتقاطع مع جبروت الطغاة ونوازع السياسة والايديولوجيات في شن الحروب لاشباع رغبة التسلط والهيمنة وقهر الضعيف وحرف المسار التاريخي عن كل قيمة اخلاقية وتغليب نوازع الشر على الخير، وهذه الوقائع التاريخية بمجملها تحركها الظروف الاجتماعية والدينية المتطرفة والثقافية ومنهجيات السياسة والايديولوجيات وغيرها التي تنعدم معها حركة التاريخ الانسانية الواعية والمدركة المراد حضورها كغايات مرسومة سلفا لتخدم مصالح البشر قاطبة. وعموما يأتي الاصلاح لهذه الانحرافات الشاذة تاريخيا بتقديم الكثير من التضحيات بغية الاصلاح وارساء قيم الخير والحرية والانسانية والمساواة من قبل الشعوب لا من قبل الايديولوجيا ولا من قبل المنهجيات النظرية او السلطات السياسية الحاكمة.

التاريخ من غير الجهد الانساني لا يمتلك ارادة ذاتية حيّة تقوده الى امام، مالم يتوفرفيه الوجود الانساني الفاعل الذي يحاول سحب التاريخ الى مواقع متقدمة، وما يصنع التاريخ المستقبلي هو ما يقوم الانسان بانجازه وما يستطيع تحقيقه او الفشل به حاضرا، فالتاريخ المتحقق وغير المتحقق هو اولا واخيرا يبقى كيان معنوي يحضر او لايحضر، على وفق قدرات الانسان وطموحاته. انه لمن الصعوبة ايجاد تعميمات واحكام عامة مطلقة تصلح ان تكون قوانين يعمل بمقتضاها التطور التاريخي ملزمة له. ومن هنا تعددت الرؤى والافكار في ربط التاريخ بالفلسفة اوبالدين او بالسياسة والايديولوجيا اوبالانثروبولوجيا او بالاقتصاد او بالبيئة والجغرافيا او بعلم النفس او بالاجتماع او بالبطل والحاكم وهكذا.

هذا التنوع التناولي- التداولي في دراسة التاريخ يجعلنا امام حقيقة ان حوادث التاريخ البشري لا ينتظمها مسار ذاتي منتظم متطور واحد، كما لا توجد حتمية تاريخية يسعى التاريخ بلوغها بامكانات واستلهامات ذاتية محرّكة له بمعزل عن ارادة الانسان الواقعية في تغيير حوادث التاريخ نحو الافضل.

لابد لنا من تثبيت ما ذهبت له فلسفة الحداثة في ادانتها الحتمية التاريخية الى التشكيك في مراحل التاريخ الرسمي(الكلاسيكي)، تاريخ الايديولوجيات الثلاث، الايديولوجيا الماركسية، وايديولوجيا الراسمالية الليبرالية المعولمة، واخيرا ايديولوجيات العالم الثالث الهجينة.

يوجد مسارات تاريخية متعددة شابها الكثير جدا من الكبوات والاخفاقات والفجائع الكارثية، ربما كانت خاصة بمجموعة بشرية او عدة مجموعات في زمن معين ومكان محدد، في قطر او عدة اقطار ربما كان يجمعها نوع او اكثر من التجانس الاجتماعي والثقافي او الديني، وكل مسار من هذه المسارات التطورية له دوافعه واسبابه ومبرراته التطورية المعزولة كجزر متفرقة لا يجمعها رابط او جامع ذاتي غائي تطوري يصلح للتعميم يقرر حاضر ومستقبل التاريخ البشري.

ولما كان التاريخ وقائع الماضي، اي بنية ماضوية بمعنى مقاربة تراثية، تصبح حينها قيمته محدودة متراجعة في محاولة تسييرها الحاضر ورسمها المستقبل. واستنباط العبر والدروس من التاريخ، والمسكوت عنه وغير المفكّر به، ووقائعه واخفاقاته وانتصاراته لا تلغي عشوائية التاريخ ولا تقلل من اهمية المصادفات غير المتوقعة ولا المحسوبة في نتائجها وتأثيراتها. وفي اختطاط التاريخ مسارات بعيدة له عن الاماني الغيبية او الغائيات المسبقة او الحتميات المفترضة المرجوة والمطلوبة لكنها لا تتحقق في اعتمادها ذاتية التاريخ الشغّالة بمعزل عن ارادة وعمل الانسان على الارض.

كما ان توظيف تعالق التاريخ بالدين او تعالقه بالسياسة والايديولوجيات القائدة والخادمة له بمحاولات دوغمائية تضع الماضي في صورة المستقبل الجديد والزاهر المستمد من روحية الماضي محكومة بالفشل وسوء تقدير حركة التاريخ ومحاولة حصرها قسرا تحت هيمنة السياسي ورغائبه (كتابة التاريخ باجندة الحاكم السياسية وايديولوجيا السياسة).

بدأ التاريخ بالاساطير والميثولوجيا وانتقل الى ثيولوجيا الدين ومرّ بسّير الملوك والحكام والابطال ليصل مرحلة الايديولوجيات السياسية ويصطدم اخيرا بالعلم التجريبي- العقلاني الذي وضع خطوطا حمراء امام كل توجهات السرديات الماضوية الكبرى والانساق الفكرية والمنظومات الثقافية، ان يكون لها دور حقيقي تستطيع ان تلعبه في ترسيم الحاضر او المستقبل. وان النظرة الاحيائية للتاريخ كماض لم تعد تعني المستقبل بشيء الذي يحكمه العلم والتكنولوجيا المتطورة باستمرار. التي جعلت من العلم والتاريخ مساران متوازيان لا يلتقيان. (ليس المقصود بهذا هنا العلوم الانسانية والتاريخ جزء منها).

ان تاريخ الدول والملوك والحكام وابطال الحروب الكارثية والتطرف والفتوحات والهيمنة الغاشمة التي سادت ثم بادت كانت عوامل اشتغالها وديناميكية محركاتها هي النزوات الفردية المنحرفة والانانية والوحشية والحماقات والرعونة في اختلاق المنازعات وسفك الدماء لا غير. وبهذا النوع من التاريخ ورثت البشرية الاوراق الساقطة التافهة، لما تم حجبه عن معاناة وكوارث ملايين البشر في الحياة التي لا تواسيها ولا تعطيها حقها كل هالات التعظيم والخلود.

ان تحقيق المؤرخ للمدونات واعادة تفسيرها ودراستها واختراع النظريات التحليلية ووضع المناهج لها، وما يكتشفه من الخفي غير المعلن والمستور في حوادث التاريخ، لا يمنح التاريخ اية مصداقية على ان مساره ذاتي استلهامي تطوري في تغليب نوازع الخير والقيم والانسانية فيه على الدوام، وانما كانت جدوى التصحيحات تأتي من فاعلية اناس صححوا المسار المنحرف لمرحلة او مراحل من التاريخ، وقدموا تضحيات كبيرة لتحقيق هذا الهدف، ولم يكن للتاريخ اي قدرة ذاتية او امكانية ان يصحح مساره الخاطيء بقواه غير المنظورة وحده.

غالبية الموروث من التاريخ هو انحرافات الحاكم وحب الهيمنة والسيطرة والتوسع الامبراطوري، او بروز حركات وحشية همجية تتلذذ بسفك الدماء باسم امتلاكها الحقيقة الدينية او الحقيقة التاريخية، كل هذا وعلى شاكلته ورثت البشرية عامة تاريخا بائسا، تداخلت حوادثه مع المسار الاعتباطي والمصادفاتي للتاريخ. ويؤكد هذا ان التاريخ في جميع مراحله الماضية لم تكن تحكم مساره الغائيات والحتميات المرسومة الاهداف سلفا، للارتقاء بالانسانية في معارج التقدم والازدهار. والعلامات المضيئة المشرقة التي جاءت على شكل طفرات نوعية مرحلية محدودة في منطقة دون اخرى بالعالم، كانت ردود افعال الانسان التصحيحية ورفع ظلم وجور وقائع تمت ازالتها بارادة وتضحيات قوى انسانية مغيبّة عن صناعة التاريخ الحقيقي على حساب تلميع صورة الحاكم المتنفذ. وما حصل في هذا التطور ليس من حكمة الحاكم ولا من حكمة التاريخ في ان غائية انسانية مثلى تعيش باحشاء التاريخ وتأخذ بمساره الانساني المتقدم. . . فالتاريخ بداية ومنتهى هو من صنع الانسان فقط في علاقاته وتطور وسائل عيشه (الانسان) اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وحبه لقيم الحرية والعدل والمساواة.

اقصى افادة لنا من التاريخ وحوادثه ووقائعه هو استذكار ومراجعة تفيدنا بالعظة والتحسّب في اجتناب تكرار الخطأ والاخطاء مرات عديدة. وما نظريات وفلسفات ومنهجيات التاريخ سوى فذلكات عابرة لاكاذيب سابقة لها في التجّني على التاريخ دينيا ولاهوتيا وايديولوجيا، سادت قرونا من عمر البشرية والتي ابهضت التاريخ بما لا يحتمل.

ان فلسفة الوجود الانساني هي فلسفة تاريخه (تاريخ الانسان) لا غير، وهي أسبق في توليدها علامات استفهام وتساؤلات بلا نهاية تحفيزية تغييرية تكون اجاباتها في التطبيق الواقعي في الحياة هو خلق تاريخية متطورة على الدوام. ولا يحق ولا بمقدور تجربة امة من الامم او شعب من الشعوب ان تسحب تجربتها على امم وشعوب اخرى تمتلك تمايزات جمّة واختلافات عديدة عنها، ومنهج دراسة تاريخ شعب له خصوصية ومرحلة تاريخية مميزة، تؤكد استحالة تعميم تلك التجربة على الآخر المختلف عنها.

والتاريخ من غير المفيد اخضاعه لقوانين طبيعية تعمل بمعزل عن ارادة الانسان وفاعليته في مصنع الحيوية البشرية، قوانين التاريخ الحقيقية هي القوانين الوضعية المستمدة من التحقيب الزماني والمكاني التي تنطلق من الوجود الانساني الفاعل وتنتهي به. وان التاريخ خلال مساره الطويل لم يكن يتقدم بحوافز غائية تخلع عليه من قبل المؤرخ او الدارس، كما ان التاريخ لا يهتدي بنظريات منظورة او غير منظورة تسحبه خلفها. ولا يوجد حتميات يصلها التاريخ من دون وعي وادراك ومسار يصنعه ويقوده الانسان، فالحتميات والاهداف نتيجة عاملي الارادة الذاتية وملائمة الظروف الموضوعية وهذا ما لا يتوفر عليه التاريخ ذاتيا في مساره العفوي قبل دخول الارادة الانسانية عليه. فحركة التاريخ حركة عشوائية ومصادفات غير محسوبة، تتداخل بها ومعها ردود الافعال الانسانية ونفسيات الحاكم او القائد المتنفذ والدين والايديولوجيات والنزوات المريضة ونوازع الخير ويقظة الضمير وحب الانسانية وغير ذلك كثير.

***

علي محمد اليوسف - الموصل

 

تمهيد: اود ايجاز بعض التوضيح في ما يخص هذا المبحث (التاريخ البدائي والنزعة الانسانية في الفلسفة البنيوية)، اني استقصيت ابرز عاملين او مرتكزين اعتمدتهما البنيوية لدى فلاسفتها ليفي شتراوس الاب الروحي للبنيوية، والتوسير، ولاكان، وفوكو، ودي سوسير وغيرهم. وسنأتي عليهم لاحقا.

كما اود الاشارة ان المقصود بالانسان هنا، ليس الكائن النوعي المتفرد عن جميع الكائنات الاخرى في الطبيعة، كائن انثروبولوجي- بيولوجي وحسب ميزته المتفردة (العقل واللغة)، وانما يعني في هذا المبحث (النزعة الانسانية) بمعناها القيمي والفلسفي في صنع الانسان لتاريخه التطوري الحضاري، وليس كموجود انساني غير فاعل كما هو في مراحل بدائية سحيقة من عمر البشرية.

من الجدير بالذكر ان الانسان اكتسب فرادته النوعية وانسنته بالطبيعة متميزا عن بقية المخلوقات والكائنات الحية على الارض بامتلاكه وحده خاصية الذكاء العقلي واللغة والخيال.

العاملان اللذان اعتمدتهما البنيوية هما:

اولا التاريخ البدائي للاقوام البشرية او ما يسمى علم الاثنولوجيا، وهو علم اجتماعي يدرس الجماعات البشرية البدائية قبل اختراع الانسان للتدوين، اعتمدته البنيوية، فحواه ان تلك الاقوام لا تاريخ لها بالمعنى البنيوي والتطور الخطي الحتمي الحضاري للتاريخ، اذ تعتبر البنيوية تاريخ تلك الاقوام البدائية تاريخا ساكنا في ثباته ومحدوديته في تفكير الانسان. ان هذا التاريخ البدائي الانساني توقف تطوره مراحليا في عصور اكتشاف الانسان للزراعة سبعة الاف سنة قبل الميلاد.

ان عصر اكتشاف الانسان للزراعة اعقب عصر الصيد والالتقاط البدائي، وهو بداية صنع الانسان للحضارة الانسانية، فقد عرف تخزين الحبوب الفائضة عن حاجته، وراقب بدقة تغّير الفصول وموسم سقوط الامطار، واستوطن على شكل مجموعات قرب الانهر والترع، وعرف كيفية تدجين الحيوانات الاليفة والاستفادة منها، وعرف ايضا الوسائل البدائية في الري. وعرف ايضا اهمية تخزينه للحبوب.

لكن الاهم من اكتشاف الانسان للزراعة هو اختراعه ابجدية الكتابة اربعة الاف سنة قبل الميلاد في وادي الرافدين (الكتابة المسمارية) عند السومريين، ومثلها 3200 قبل الميلاد عند الفراعنة المصريين (الكتابة الهيروغليفية). هنا مع اختراع الانسان الكتابة بدأ تاريخ جديد للبشرية اذ اصبح التدوين كتابة متاحا على الواح الطين واوراق البردي وجلود الحيوانات وغيرها، وكل المراحل التاريخية التي سبقت الكتابة تعتبر تاريخ بدائي غير مدوّن ولا معروف توثيقيا سوى آثاريا تنقيبيا فقط، واصبحت تلك الاقوام التي عاشت تلك الاحقاب بلا تاريخ او خارج التاريخ الإنساني المدوّن.

العامل الثاني هو (النزعة الانسانية) مرتكز الفلسفتين الماركسية والوجودية. مع اختلاف المعنى المفهومي بينهما. الذي انكرته البنيوية جملة وتفصيلا.

ان البنيوية تيّار فلسفي معاصر نشأ قبل الحرب العالمية الاولى في مؤلفات توبتسكي وجاكوبسون واعمال هوسرل، في فرنسا معقل الفلسفة العقلانية والحداثة التي ارساها رينيه ديكارت في القرن السابع عشر (العقل والعلم)، مقصّيا الميتافيزيقيا من مباحث الفلسفة معتبرا اياها لغوا فارغا باستثناء ماكانت الكنيسة تريده بعصره . كما ان العديدين يصنفون شتراوس فيلسوف البنيوية الرائد بانه وريث مدرسة فرانكفورت النقدية الالمانية، والبنيوية هي اقرب الى فلسفة الحداثة التي يقودها الفيلسوف المعاصر يورغن هابرماس.

والبنيوية تيارات فلسفية متشعبة تأثرت اول الامر بالماركسية والوجودية قبل ان تنقلب عليهما. (معظم فلاسفة البنيوية والوجودية كانوا في بداياتهم ماركسيين شيوعيين).

وقد عنت البنيوية على يدي دوسوسير ولوفيدج فنتجشتين بعلم الصوتيات واللغة. ويوضح شتراوس:ان الوقائع التجريبية لا معنى لها في ذاتها، ولكن متى وضعناها في نسق فكري له معنى او نموذج اكتسبت معنى علميا.

كما اجد ضروريا التنويه ان تيارات الفلسفة المعاصرة اصبحت مفاهيمها الفلسفية متداخلة في خطاباتها الرؤيوية الفلسفية والمعرفية، بحيث لم نعد نمتلك معه القدرة الكافية على تمييز تلك الفواصل والفروقات المتباينة في ما بين تياراتها بيسر وسهولة، فمثلا نجد فلسفة الحداثة تتداخل مع تيار ما بعد الحداثة بحيث صار بعض الفلاسفة ينكرون فواصل الاختلاف الكبيرة بين الفلسفات المعاصرة، فمثلا التداخل نجده مع ابرز فيلسوف الحداثة يورغن هابرماس الذي تحسب الكثير من افكاره الفلسفية الى البنيوية، فقد اختلف ايضا في مقالة مهمة له بعنوان (الحداثة مشروع لم ينجز بعد) مع ابرز فلاسفة مابعد الحداثة فرانسوا ليوتار الذي يعارض تلك الفكرة بقوله (ان مشروع مابعد الحداثة مشروع مختلف عن مشروع الحداثة التي هي وليدة عصر النهضة والانوار الواجب مجاوزتها. وانها استنفدت اغراضها).

في حين يصر هابرماس ان فلسفة وعصر الحداثة لم يستنفدا اغراضهما ومهامهما بعد. عديدة هي الانتقادات اللاذعة التي واجهتها تيّارات الفلسفة البنيوية، من فلاسفة ومدارس عديدة مناوئة لطروحاتها الفلسفية، كونها (البنيوية) أثارت اشكاليات في الفكر الفلسفي جديدة غير مسبوقة في تاريخ الفلسفة، استلزمتها واحتاجت معها الى نقودات متباينة معها او ضدها، جاءت في مقدمتها من مفكرين وفلاسفة ماركسيين وغير ماركسيين، تلاهم بالتزامن معهم فلاسفة الوجودية الحديثة لعل أبرزهم كان سارتر، في مسألتين او منحيين اثنين نسلّط الضوء عليهما دون غيرهما من قضايا اشكاليات البنيوية المتعددة التي لا تزال وستبقى لفترة غير محدودة مثار نقاش وحوار فلسفي مستمر.

الاول: التاريخ البدائي:

التركيز البنيوي تاريخيا على ( الاثنولوجيا) دراسة تاريخ الجماعات البشرية البدائية، التي اعتمدها أبرز اعلام الفلسفة البنيوية بمختلف الاختصاصات (شتراوس) في دراسة تاريخ انثروبولوجيا الحضارة، (التوسير) في نقده الماركسية وكتاب رأس المال، (لاكان) في علم النفس، (دو سوسير و فنتنجشتين) في علم اللغات واللسانيات، (فوكو) في تاريخ الجنسانية وتاريخ الجنون وهو صاحب مصطلح (اركيولوجيا المعرفة) او مايسمى تعريبا حفريات المعرفة، ويعتبر كتابه الشهير (الكلمات والاشياء) من اشهر كتب الفلسفة في القرن العشرين، و (جان بياجيه) في علم النفس ايضا مع جاك لاكان وهكذا.

أعتبرت البنيوية أن دراسة الاقوام البدائية تمتاز بأنها تعنى بأقوام، كانت تعد خارج التاريخ البشري، ولا تمتلك تاريخا مدّونا وليس لها تاريخ بالمعنى التاريخي المتغّير والمتطّور، التاريخ الخطي في مراحله الحضارية والمتعذّر رصد تغييراته المتسارعة أسوة بغيره كما في تاريخ شعوب ما قبل التاريخ التي عرفت بمراحل تاريخية طويلة بدءا من العصور الحجرية البدائية، وبعدها عصر الصيد والالتقاط تلاها العصور الزراعية والصناعات المعدنية البرونزية اليدوية بأبسط اشكالها واشتمالاتها، وأعتبرت البنيوية تلك المراحل البدائية، مقارنة بالتاريخ الانساني لمراحل ماقبل التاريخ المدّون والموّثق تنقيبيا وآثاريا اركيولوجيا بعد ظهور الكتابة المسمارية في بلاد مابين النهرين والهيروغليفية في مصر القرن الرابع ق. م، على ان ما سبقها تعتبر مراحل اللاتاريخ البشري كما اشرنا له سابقا.

كما أعتبرت البنيوية التاريخ البدائي (تاريخ ساكن) بحكم طبيعة العقل البدائي في ثباته ومحدوديته، وبالتالي أصبح هذا التاريخ أنموذجيا في التناول المنهجي البنيوي البحثي المتعدد التيارات، الذي تخدمه (حالة الثبات والسكون) التي تعتري التاريخ البدائي وتقعده عن الحركة التطورية السريعة المتلاحقة مثلما حصل بعد اختراع الكتابة.

ان هذه المسألة التي اعتمدتها مرتكزا اساسيا الفلسفة البنيوية، أثارت حفيظة الماركسيين من الذين عابوا على البنيوية انها لم تجد في التاريخ الانساني، الا المجتمعات البدائية ما قبل التاريخ، لدراسة تاريخها على وفق منطلقات أسمتها (قطوعات التاريخ) ميزتها ثبات وسكون تلك المجتمعات تاريخيا ومراحليا بما يفتح المجال الى دراستها وتحليلها الانثروبولوجي بدقّة وتناول أيسر. للمفكر مطاع صمدي عبّر عن هذه القطوعات بما اطلق عليه مراحل من غياب التاريخ.**

واذا كانت البنيوية نجحت في اقامة بناءات نسقية معرفية تحت مسمى (التكوين الثابت) للانسان، وتشابه قضايا الانسان في مختلف الازمان والعصور، ليس على صعيد الحقب التاريخية البدائية السحيقة وحسب، وانما على صعيد التاريخ الساكن للانسان في مختلف المراحل التاريخية، لأن مشاكل الانسان كانت وبقيت ثابتة ومتشابهة لم تتغيرجوهريا على حد زعم البنيوية. لكن ما يلحظه الدكتور الباحث فؤاد زكريا وآخرين عديدين غيره من باحثين ماركسيين ووجوديين، أن البنيوية تغاضت واخفقت معا ولم تنجح في تعليل التقدم التطوري والتاريخي انثروبولوجيا الى حد اعتقادها بان ما يدعى التقدم البشري بفعل الاشكاليات البشرية المتنوعة والمتتالية هو محض خرافة ووهم، وان التحديات التاريخية سراب خادع ولم تكن في يوم من الايام عاملا لتقدم حضاري من أي نوع كما ذهبت له البنيوية في ادبياتها البحثية والفلسفية.

ولقد ذهب فوكو الى أبعد من ذلك في قوله: انه يتجنب الخوض في/ ومع كل ما له صلة بمقولات التحّول والتغيير، ولا يرى في كل مرحلة تاريخية الا (ثوابتها) فحسب، ووصل الحد به الى التشكيك بالانسان نفسه، واسقاط التاريخ البعدي القديم والحديث والمعاصر من الحساب الفلسفي البحثي البنيوي نهائيا باستثناء الوقوف عند مراحل اللاتاريخ الذي تمثله الاقوام البدائية باعتبارها مراحل بشرية خارج التحقيب التاريخي الخطي في التطور البشري انثروبولوجيا.

لقد انساق خلف هذه المنطلقات الفلسفية البنيوية العديد من الذين انشقّوا عن الماركسية، ربما كان ابرزهم (التوسير)في استهدافه المادية التاريخية وكتاب رأس المال في انتاجه ماركسية خيالية وتجريدية تعتمد خطابات غامضة واقامة بنى نسقية لا تمّت بأدنى صلة لها مع الواقع العيني ومعالجة مشاكله، وعجزت عن دحض الاسس المادية والجدلية التي قامت عليها الماركسية. وأكثر من ذلك نجده عند اقطاب البنيوية الذين سقطوا في الذهان التجريدي الفلسفي، وخلقوا أنساقا معرفية خارج اهتمام مركزية الانسان وجعلوها حقائق في مواجهتها الفكر المادي والماركسي تحديدا. ان البنيوية تجاهلت الطبيعة الاجتماعية للانسان وحوّلت الانسانيات نحو مملكة التجريد اللغوي. لكن في اعتماد اللغة وعلوم اللسانيات هذه المرة، واعتماد اللغة كمحور ارتكاز في مراجعة جميع مواضيع الفلسفة تجريديا لغويا. ***

و من أبرز الامور في هذا المنحى البنيوي، أن غالبية مدارسها أستقت ينابيع تفلسفها من التاريخ الاسطوري والميثولوجي، الذي أعتبرته البنيوية الأنموذج الأمثل لدراسة القطوعات التاريخية الساكنة التي لايحكمها التغيير او التطور والتبديل. وبذلك تسهل وتتوفر دراستها، وفي اعتمادها الاساطير كما يعتمدها علم النفس الفرويدي على انها حلم جماعي لاشعوري لدى جميع الشعوب قبل وبعد التاريخ، متجاهلة تماما أن ارتباطات مثل اللغة والاسطورة والدين والطقوس والمجتمع او القرابة و القبيلة، والزواج جميعها مرتبطة بالانسان ووجوده الارضي بعرى وثيقة جدا لا ينفع معها المكابرة في تقليل اهميتها في دراسة أي منحى تاريخي او معرفي او فلسفي مبتور لغرض الحصول على استنباطات تعميمية خاصة فقط بالاقوام والقبائل البدائية . ربما كانت تلك المفردات الحياتية بعيدة جدا عن سياقاتها الاجتماعية والانسانية والتاريخية كما حصل في التوظيف البنيوي لها في قراءاتها فلسفة العصر.

ومن الجدير ذكره ان مركزية الانسان في الفلسفة قديمة، ورائدها هو الفيلسوف السفسطائي بروتوغوراس، القرن الرابع قبل الميلاد في مقولته الشهيرة (الانسان مقياس كل شيء). واعقبه فلاسفة الوجودية جميعهم، سورين كيركارد، وهيدجر، ومارسيل جبريل، وصولا الى سارتر وكامو واخرين من فلاسفة البنيوية خرجوا من عباءة الوجودية في الغائهم محورية الانسان كمعيار كل منجز معرفي او حضاري، من دون ادنى تانيب ضمير ولا اسف على الانسان الذي اعتبرته الماركسية اثمن راس مال في الوجود يصار الى الغائه ومصادرة حضوره باكمله.

كما ان الاسطورة التي هي حلم جماعي لا شعوري لدى الشعوب البدائية كما يذهب له علم النفس الفرويدي، الذي يختلف دلالة ومضمونا مع مفهوم البنيوية له، ففي علم النفس الفرويدي يكون المحلل النفسي أعلى مرتبة تمييزية عن المريض، ويعد الطبيب النفسي نفسه، أعلى مرتبة انسانية عن الشخص المعالج، مادام يستطيع كشف أبعاد أعمق من تلك التي يبوح بها الشخص له عن تجاربه العفوية. اما في البنيوية في اتجاهها التحليلي البنيوي السايكولوجي عند (جان لاكان) فان المحلل النفسي (لا يعتبر نفسه سوّيا وسليما بالقياس الى من يقوم بتحليله، كما لا يتخّذ منه اي موقف مميز عنه)1. وبهذا التفريق الافتعالي بين الفهم الفرويدي للاسطورة من جهة، وفهم الفلسفة البنيوية لها في التحليل النفسي من جهة مغايرة، لا اجده يشكل مسألة فلسفية جديرة بالاهتمام والاختلاف حولها. كما اجد ان انحسار المد الفلسفي عن معالجة أمور حقيقية تهم معاناة الانسان في الحياة المعاصرة، واعتبار مسائل اللغة محورا مركزيا في معالجتها كل المسائل الفلسفية، سيجعل من الفلسفة هراءا لا طائل من ورائه وهو يحتضر اليوم سريريا.

الثاني: النزعة الانسانية:

البنيوية بحسب النقاد الماركسيين لها، يلازمهم ومعهم (سارتر) وأقطاب الوجودية الحديثة مثل هيدجر، (فقط بمنطلقات متباينة مختلفة كما سيتضح معنا لاحقا)، يجمعون على ان البنيوية ألغت في فلسفتها مسألتين على جانب كبير من الأهمية في تاريخ الفلسفة، (الذات / والانسانية) واقصتهما نهائيا من التفكير الفلسفي ب (المطلق)، بما يترتّب عليه نسف التاريخ الفلسفي السابق على البنيوية. ان لم يكن نسف ضرورة ذلك التاريخ في عزل البنيوية الانسان كمحور وجودي مركزي في جميع وعلى امتداد تاريخ الفلسفة القديمة والمعاصرة.

قبل التطرق لرد البنيوية على الماركسيين والوجوديين، نرى انه من المتعذّر لأي جديد في الفلسفة الغاء (الذات) والغاء (النزعة الانسانية) من الفلسفة، وماذا يتبقى منها بعدئذ؟ ولمن تخاطب او تكتب من أجله أو له؟ معظم تاريخ الفلسفة في أشد تجريداته وميتافيزيقيته الفلسفية لم يكن محور الانسان غائبا ولا مغيّبا منها، كمحور مركزي في التفلسف (مرسل ومتلقي) (فاعل ومنفعل) (وجود وقضايا) (كينونة وجوهر) (حياة وموت) (خير وشر) وهكذا، ليقوم العقل بعدها وحقول المعرفة والعلوم في اختصاصات الاجتماع، علم النفس، الاقتصاد، السياسة، وامور عديدة لا حصر لها بدورها المكمّل أو المفارق، وفي مختلف شؤون الحياة المتعالقة بالفلسفة.

علما ان الوضعية المنطقية حلقة فيّنا هي الاخرى كانت سبقت البنيوية في تجاهلها موقع الانسان المحوري في الحياة والوجود. وفي معرض دفع (سيباج) هذه المثلبة عن البنيوية يقول (ان كل ما ينتمي الى مجال الانسان لا بد ان يكون من صنع الانسان، ثم لا يصح ان نتصور البنيوية على انها نظرية تجعل أصل الانساق التي تفسر بها الظواهر الانسانية خارجا عن نطاق الانسان)2، بمعنى ان البنيوية لا تلغي الاهتمام بالنزعة الانسانية من قاموسها الفلسفي.

كما ان الوضعية المنطقية في رائدها الفيلسوف اوجست كونت (1798 – 1875) اهتمت بدراسة الظواهر الواقعية المادية فقط، متبنية شعار (ما لا يمكن رصده لا وجود له) رافضة كل تفكير في الغيبيات واعتبرت الميتافيزيقيا لغو فارغ لا معنى له، وان الوضعية هي التي تلتزم العلم في فهم الظواهر الطبيعية والبشرية.

وفي هذا الشعار للوضعية المنطقية يظهر جليّا تناقضها المثالي وفي تطرفها ايضا (رغم ما تدعيه من عقلانية واقعية)، ولا ارغب العودة وتكرار خطر وخطأ التفكير المثالي في اعتماد ان الفكر سابق على الوجود ومنتج له. ناقشت هذا الموضوع سابقا في (اللغة والاشياء) وفي اكثر من موضع.

ان كل تجاوز ونفي للنزعة الانسانية فلسفيا، يجعل من تاريخ الفلسفة قبل البنيوية، تراثا كميّا استذكاريا لا نفع له، ولا علاقة صحّية تربطه بالانسان كوجود نوعي في الحياة التي نحياها على الارض. وأن تاريخ الفلسفة مدموغا بعدم الفاعلية الانسانية، انما تريده البنيوية خطابات من السرد التجريدي المنطقي، وأنساق فارغة أجترارية لمفاهيم موغلة في التجريد من جهة، وموغلة في الغياب من الاسهام في تغيير العياني الواقعي، والتي استنفدت جميع متبنيّاتها ومجالات تناولها البعيدة عن تحقيق حلول حيوية ماثلة في حياة الانسان المعاصر. ارتكبت البنيوية خطأ لم تتمكن تصحيحه بالفلسفة هو عندما قام ليفي شتراوس في عام 1905 من التبشير بنظرية التحول اللغوي وفتح باب اللسانيات وفلسفة اللغة على مصراعيه واخفقت البنيوية تكملة ذلك المبحث الهام الذي يمثل اكبر انعطافة في تاريخ الفلسفة من الانحراف الذي ورثه بول ريكور في الهورمنطيقا وجاك دريدا في التفكيكية.

مؤكد اننا ليس بمقدورنا ان نصادر منطلقات فلسفية تشغل الباحثين عقودا طويلة مثل الفلسفة البنيوية قبل ان نتبيّن ردودها ووجهة نظرها وتعليلها لمثل تلك التوجّهات المصادرة للذات والنزعة الانسانية، خاصة ان ماتدّعيه البنيوية بانها بصدد قلب جميع المفاهيم الفلسفية السابقة عليها من اجل خلق انساق وبناءات لخدمة العلم وتقدم الحياة الانسانية وهذا التوجه لا يخدم الغرض المعلن عنه بوسائلها المحدودة القاصرة على الاقل. . . وليس من الواقع في شيء ان تخرج البنيوية الفلسفة من ذاتيتها الانسانية مهما كانت الذرائع التي ترفعها، على صعيدي التفلسف، وصعيد التلقي الاستقبالي. ويطلق شتراوس على الذاتية انها احد اشكال الوعي البرجوازي التجريدي لذا فهو يرفضها.

كانت البنيوية موفقّة في ادانتها لوجودية سارتر انها فلسفة مغرقة في ذاتيتها غير الانسانوية على مستوى المجموع، وهو شيء لا تنفرد به البنيوية عن سائر منتقدي وجودية سارتر، المغرمة بالتشاؤم والعدم، واللاجدوى، وان الانسان قذف به بمحنة الحياة، حاملا حريته المسؤولة عن ذاته وعن الاخرين الذين هم الجحيم، وعليه خلاص نفسه بقواه الذاتية منفردا من المأزق الوجودي كما في دعوة بوذا (ابحث عن خلاصك وحدك).

كما أعتبرت ذاتية سارتر الفلسفية ذاتية متضخّمة ومتطرّفة لكن ماهو مهم اكثر، وجوب التفريق بين تأكيد سارتر (للذات الانسانية) التي يحاجج بها البنيوية ويحمّلها مسؤولية اضاعتها، وبين (النزعة الانسانية) التي تطالب الماركسية بها البنيوية لأضاعتها لها. فالنزعة الانسانية التي يدّعيها سارتر في فلسفته هي غيرها النزعة الانسانية التي تريد الماركسية حضورها في الفلسفة البنيوية وتفتقدها لديها.

أن البنيوية مهما سعت وبذلت من جهد في ربط منطلقاتها الفلسفية بعلم النفس او الانثروبولوجيا اوالتاريخ، اوعلم الاجتماع او اللغة او علم النفس وغير ذلك فهي بالنتيجة عاجزة عن تحقيق منجز تدّعيه بصدد اقامة (بناءات نسقية) تدّعم مسار العلوم وتساهم بتطويرها وتقدم الحياة بالتزامن مع اعلانها الفلسفي المتشدد ان دور الوجود الانساني في التاريخ اصبح خارج مقولات البحث الفلسفي والمعرفي.

محاورة جان بياجيه:

هنا نعيد قبل ان نعرض محاججة (جان بياجيه) على أدعاءات كل من الماركسيين وسارتر المختلفتين حول (الذات، والانسانية) وتقاطع واختلاف سارترحول النزعة الانسانية الذي اشرنا له سابقا مع البنيوية، عنه في تقاطع واختلاف الماركسية في فهمها النزعة الانسانية المصادرة فلسفيا عند كل من البنيويين وسارتر على السواء.

يذهب بياجيه في رده على نقد سارتر للبنيوية، وتأكيده أهمية محورية الذات الانسانية في فلسفته الوجودية، التي أتهم سارتر بها البنيوية العبور عليها ومجاوزتها

بافتعال غير مقبول او مبرر، فكان رد بياجيه: (ان الذات الانسانية التي يؤكدها سارتر لا تشيّد بناء العلم بحكم طبيعة عملها انها تجريدات لا شخصية، لا يمكننا الاستدلال عنها الا من خلال هذه التجريدات فقط)3. وليست هي (ذات) فاعلة يعتد بها من واقع تأصيل النزعة الانسانية كفاعل تنموي في مجرى الحياة.

هنا بياجيه في رده على سارتر يضع نفسه، بالمثل الدارج فاقد الشيء لا يعطيه، فاذا كانت الذاتية الانسانية عند سارتر تجريدات غير شخصانية، فالبنيوية لا تعتمدها وتلغيها هي اصلا ولا تعترف بها على لسان فوكو بشيء عياني تتمحور الفلسفة حوله وحول قضاياه ومشكلاته ذلك هو الانسان (كذات)، وحتى على لسان شتراوس وفوكو فهما لا يقرّان بأن للانسان تاريخ حضاري أوصله الى مانعيشه اليوم.

وان قضايا الانسان واحدة وتطلعاته لم تتغيرعبر العصور لذا يكون كافيا دراسة تاريخ الاقوام البدائية فقط لنفهم التاريخ البشري بمجمله، بمعنى تعميم منجزات الجزء على الكل. ومن الجدير ذكره ان المفكر الكبير محمد عابد الجابري في دراساته وفلسفته القيّمة حول صياغته لمشروع عربي نهضوي استبعد البنيوية وتحفّظ على التسليم بالكثير من منطلقاتها، لانها وبحسب ادانته لها عملت على تعميم منجز الجزء على الكليات وهو سبب كاف لرفضه.

ويمضي بياجيه في التوضيح أكثر انه يوجد فرق كبير بين العلاقات الشخصية التي تختفي من خلالها الذات الانسانية، كنزعة فطرية (انسانية مجتمعية)، وبين ما يطلق بياجيه عليه (الذات الانسانية في مجال المعرفة)، وهذا بحسب بياجيه فرق كبير وهام، اذ يجده بياجيه التخلي عن الذات الانسانية في مجال المعرفة، انما يحررنا في تخلّينا عن اتجاهنا التلقائي في التمركز حول انفسنا، و (نتحرر من ذاتية العلاقات الشخصية، ولا يكون هناك بعدها للذات وجودا بوصفها ذاتا عارفة، الا بمقدار ترابطاتها المتداخلة التي تتولد منها البناءات)4. رد تجريدي يتلاعب بالالفاظ فقط.

ونكمل مع بياجيه توضيحه: ان البنيوية تفرق بين (الذات الفردية) التي لا تأخذ منها موضوعا للبحث الفلسفي على الاطلاق، وبين (الذات المعرفية) أي تلك النواة التي تشترك فيها الذوات الفردية كلها على مستوى واحد، وهي موضوع الفلسفة ان صح التعبير، كذلك تفرّق البنيوية بين ما تحققه الذات بالفعل، وما بين ما يصل اليها وعيها، وهو محدود بطبيعته، وما تركّز البنيوية عليه هو اهتمامها بتلك العمليات التي تقوم بها الذات وتستخلصها بالتجريد من افعالها الذهنية العامة. 5

ان ما يلاحظ على حجة بياجيه تجاه درء تهمة اغفال البنيوية النزعة الانسانية، ركيزة الفكر الفلسفي الماركسي انها لم تكن مقنعة بما فيه الكفاية، اذ عمد بياجيه باسلوب تجريدي صرف تفنيد مقولات فلسفية تاريخية علمية ومادية صلبة لا تزال تمتلك حراكها العملياني الواقعي المقبول ليس لدى الوجودية والبنيوية، وانما في الماركسية، فهي تمتلك حضورا انسانيا فاعلا في مجرى الحياة وتداخلها معها. ولم يكن بياجيه الوحيد الذي وقع بمطب التجريد الفلسفي المسرف في مناكفة وتضاد مع الماركسية حتى احيانا من دون تسميتها، اذ نجد ان (ألتوسير) كان أنشطهم وأبرزهم تأثيرا في نقده المادية التاريخية وكتاب راس المال كما اشرنا له سابقا*.

وقبل ان نختم مبحثنا هذا نشير الى ان البنيوية ترى ان الكلام يسبق الكتابة، وان الحقائق التاريخية تثبت ان اقدم نظام كتابي يرجع الى خمسة الاف سنة قبل الميلاد، وانه لا يمكن لأي مجتمع الوجود من غير اللغة الكلامية، لذا يكون من المنطقي ان نفترض ان الكلام يرجع الى بداية ظهور المجتمع الانساني، وعلى العكس من البنيوية ترى التفكيكية ان الكتابة تسيق الكلام وان الكلام ولد من رحم الكتابة، وينعتون الكتابة بالعدم والكلام بالوجود ومنطقيا فالعدم يسبق الوجود.

كما ان النص في الفلسفة التفكيكية يظل دائما يحمل عوامل اندثاره وتلاشيه بحسب الباحثة والناقدة سارة كوفمان من رواد الفلسفة التفكيكية، وتجد ان التفكيكية تتعامل مع النص اللاهوتي المتعالي، بانه نص يحمل اسباب تفككه ومغادرته احتكار مركزية خطاب النص، الى ان تصبح حسب رأيها جميع النصوص نسبية الوجود ونسبية التلقي ومتعددة القراءات. كما ان الفيلسوف الانثروبولوجي جيمس فرايزر يذهب الى انه كما استطاع الدين ابطال عمل السحر، فان العلم في طريقه الى ابطال لاهوت الدين.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

........................

الهوامش:

** لتوضيح اكثر يراجع كتابنا (العولمة بضوء نهاية التاريخ وصدام الحضارات وبروز ظاهرة الارهاب.

*** لتوضيح اكثر حول محاولة التوسير نقد كتاب راس المال تراجع مقالتنا بعنوان (التوسير وكتاب راس المال).

1. توضيح اكثر انظر، فؤاد زكريا، افاق الفلسفة صفحات 363-365

2. المصدر السابق ص 360

3. نفس المصر السابق ص 366

4. نفس المصدر السابق ص 368

5. نفس المصدر السابق ص 364

تُعد التفكيكية، من أهم الحركات ما بعد البنيوية، فضلاً عن كونها الحركة الأكثر إثارة للجدل أيضاً، فالتفكيكية ردُّ فعل على الإسراف البنيوي، تهدف إلى التخفيف من غلوائها وتوضيح رؤيتها الداخلية بالطريقة المثلى، فقد كرّس (جاك دريدا) في بعض مقالاته مهمة تفكيك مفهوم (البناء)، والتي تخدم تجميد التلاعب بالمعاني في النص وتقليل ذلك إلى نطاق يمكن السيطرة عليه. وذهب أيضاً إلى ضرورة تفكيك مركزية العقل، إذ يجب إيجاد وضع جديد للكلمة، وذلك من أجل إسقاطها وانتزاع تسلطها الكامل كأصل ومركز للغة.

ويعد كتاب (لسان التفكيك) لجاك دريدا بمثابة لسان التفكيكية، على أن البحث الذي يتقصى دريدا ونظريته في التفكيك تواجهه عقبتان رئيسيتان، الأولى أوجدها دريدا نفسه المتسم بإثارة الحيرة فضلاً عن مصطلحاته ومفاهيمه، أما الأخرى فهي سلسلة الآراء النقدية التي تعد تأويلات غير وافية أو سوء تأويلات محتملة، على الرغم من الضوء الذي تسلطه على بعض المفاهيم الصعبة التي شكلها دريدا.

ومما لا شك ان التفكيك هو المفهوم المركزي في فلسفة دريدا. فماذا يقصد به؟ في رسالة له (الى صديق ياباني)، اعترف دريدا بان التفكيك كلمة عصية على التحديد والتعريف والتدقيق والضبط لان كل تعريف وتحديد في نظره يحتاج الى تفكيك ويتطلب على الاقل الشك والظن في الكلمات والمفاهيم التي صيغت بها تلك الكلمات التي الفنان والتي تسكن اي لغة كانت خاصة اذا علمنا انه لا وجود للغة بريئة فكل لغة مشكلة من قرارات ومن اشكال من الاقصاء التي يجب العمل على ادراكها وفهمها.

يؤكد (م.هـ ابرامز)، أن أبرز جزء في نظرية دريدا هو: 1-إنه ينقل بحثه من اللغة إلى الكتابة، النص المكتوب أو المطبوع. 2-أنه يتصور النص بطريقة محددة غير اعتيادية... أما (نيوتن غارفر) فيشدد على أن دريدا واحد من فلاسفة اللغة، وأنه يؤكد على أسبقية البلاغة على المنطق، فيقول: ينضوي دريدا تحت لواء الحركة التي تنظر إلى الأثر الذي تلعبه الملفوظات في الخطاب الفعلي على أنه يمثل ماهية اللغة والمعنى، والذي يسبب ذلك يعد المنطق مستنبطاً من المسوغات البلاغية... ويذهب (هيليس ميلر) إلى أن التفكيك بحث في الإرث الذي يخلفه المجاز والمفهوم والسرد في أحدهما الآخر، ولهذا السبب يعد التفكيك حقلاً معرفياً بلاغياً... ويعتقد (موراي كريغر) أن دريدا بنيوي نقدي تغلب على البنيوية وقهرها، وربما يكون قد أبطلها أيضاً، وإن الهجوم الذي شنه دريدا، يعد شكلاً أكثر حداثة لذلك الهجوم القديم الذي شنه أفلاطون على الشاعر بوصفه خالق أساطير... ويؤكد (فريدريك جيمسون) أن فكر دريدا وهم تخطى الميتافيزيقا والهرب من النموذج القديم لغرض تمحيص الجديد وغير المكتشف.

ويتميز التفكيك بنوع من الانتباه واليقظة تجاه الكلمات والبنى التي تسكن فيها الكلمات، والانتباه بوجه خاص الى تلك البنى والى ضرورة الشك فيها بما انها تحيل الى نزعة كاملة هي البنيوية التي تحتاج الى تفكيك، وهذا يعني اننا في حاجة الى ما أسماه بـ ما بعد البنيوية، ويعتبر دريدا من الفلاسفة الأوائل الذين صاغوا عبارة ما بعد البنيوية لتدل على التيار الناقد والمعارض والمتجاوز للبنيوية، وهو ما بينه في كتابه الكتابة والاختلاف، وخاصة في نصه النقدي لميشيل فوكو حول تأويل هذا الأخير لنص ديكارت عن الجنون، ونصه حول ليفي شتراوس أو البنيوية والعلوم الإنسانية.

من هنا نعرف أن التفكيك، ومنه فلسفة دريدا التفكيكية، تعبير عن مرحلة جديدة في الفلسفة المعاصرة على العموم والفلسفة الفرنسية على وجه الخصوص، وذلك تحت اسم ما بعد البنيوية، التي تتميز بنقدها لفكرة البنية الموضوعية والمحايثة للأشياء... وليست التفكيكية منهجاً أو نظرية تسمح بالكشف عن البنى الخفية للأشياء، وإنما هي ممارسة ونشاط وعملية انتباه ويقظة وحذر دائم، التفكيك ليس نظاماً فلسفياً واضح المعالم ولا منهجاً يقوم على قواعد وخطوات معلومة، وإنما هو عبارة عن توجه فلسفي في قراءة النصوص وطرح القضايا، خلفيته المباشرة نقرؤها عند الفيلسوف الألماني هيدغر الذي قام بالهدم.

على أن دريدا، رغم صعوبة التعريف ولبس المقولة، حاول مرتين على الأقل الإجابة على السؤال عن معنى التفكيك، المرة الأولى كانت في كتابه مذكرات من أجل بزل دي مان، حيث قال: التفكيك باختصار شديد، سأقول ذلك من دون جملة، أنه أكثر من لغة. لكن ماذا يعني دريدا بهذا القول: بحسب الزواوي بغوره، أنه إذا أردنا تحليل هذا التحديد، أو بلغة الفيلسوف تفكيك هذه الصيغة، فإن أصعب كلمة في تلك الصيغة هي من دون شك كلمة: اللغة، فماذا يقصد دريدا باللغة، وهو الذي انشغل طول حياته باللغة، وأسس فلسفة لغوية خاصة به، فعن أية لغة يتحدث دريدا؟. ومفاد هذا الرأي، الآتي: يشير القول إلى ضرورة الانتباه إلى الكلمة وليس إلى اللغة، إذ من المعروف أن رائد اللسانيات الحديثة سوسير، قد ميز بين اللغة والكلام، أو بين الدال والمدلول، وكان لهذا التمييز أثره الفاصل في تأسيس النزعة البنيوية في اللسانيات ثم في الانثروبولوجيا على يد شتراوس والتحليل النفسي عند (جاك لاكان) والنقد الأدبي عند رولان بارت. وبالتالي فمن الممكن أن دريدا يقصد باللغة الكلام، الذي تجاهلته البنيوية عندما ركزت على البنيات الأساسية للغة، أو أنه كان يشير إلى كل ما يمثله الصوت وبالتالي ضرورة الاهتمام بالاذن والاستماع، وإلى من يتكلم وإلى ان الكلمة تقول دائماً شيئاً آخر غير الذي تصرح به. وهذا يحيلنا إلى خطاب الآخر وماذا يقول؟ ولقد مثلت التفكيكية محاولة فلسفية أصيلة في فهم الآخر، وذلك لما تضمنته من تقنيات التحليل النفسي والتحليل التأويلي.

ومن الجدير بالذكر، أن الكتابة والكلام كلمتان محوريتان يمكن أن يبدأ بها فهمنا، وتتمتع اتان الكلمتان بدلالة خاصة في المفاهيم التقليدية للغة، إذ أن هذه المفاهيم تنص على أسبقية الكلام وأولويته على الكتابة، وإن الكلمة المنطوقة (صوت) كلمة غير خارجية ولها القدرة على المحو الذاتي، كما تعرف الكلمة المنطوقة بأنها صورة صوتية (سمعية) وظيفتها هي استحضار المفهوم الذي تمثله الصور الصوتية ، وتتلاشى الكلمة المنطوقة أو الصورة الصوتية في سيرورة استحضار المفهوم، ولهذا السبب فإنها بوصفها دالاً تطفئ نفسها في سيرورة التدليل على المدلول الذي يكون هو الأكثر أهمية من أي شيء آخر، ولا يمكن تصور هذا المدلول إلا من خلال الصورة الصوتية التي هي الدال، ومن الممكن أن نلاحظ هنا أن ثمة شيئاً أشبه بالثالوث في هذه العلاقة: الذهن الإنساني، الدال (الصورة الصوتية)، المدلول (المفهوم).

وهناك رأي آخر لتفسير عبارة (أكثر من لغة)، تفيد وجود أكثر من لغة، وإن شرط التفكيك مقرون بالتعدد والاختلاف، وإن خطاباً واحداً مهما كانت قدرته لا يمكن أن يكون خطاباً اختزالياً، على أن ما يثير السؤال في صيغته تلك هو أن دريدا لم يقل اللغات، بل قال اللغة، أي أنه تحدث عن اللغة بصيغة المفرد لا بصيغة الجمع، وهذا يعطي دلالة خاصة لمعنى اللغة، فهل يتعلق الأمر بالضغوط التي تمارسها اللغة على محدثيها؟ إننا عندما نتحدث أو نعبر أو نكتب بلغة معينة فإننا نشعر دائماً بضغوط اللغة، وبعدم قدرتنا على التعبير، وإننا نعاني من أسر اللغة، لذلك وجب تجاوز اللغة إلى ما بعد اللغة، أي إلى كل ما يشكل العلامة، وبالتالي وجب الشك في كل مقولات اللغة والتركيب والنحو، كما دعا نيتشه إلى ذلك، وضرورة الانتباه واليقظة مرة أخرى إلى كل ما لا تستطيع اللغة قوله والإشارة إليه. أي ضرورة الانتباه إلى الصمت وإلى الحياة ذاتها، تلك الحياة التي لا يمكن نقلها إلى اللغة، أو لا تستطيع أن تصبح لغة، نتيجة لعجز اللغة عن التعبير... من هنا وجب القيام بالتفكيك على أساس التعدد والاختلاف، واستعمال أكثر من لغة وعلامة، أملاً في التحرر والانعتاق من أسر البديهيات والأمر الواقع للغة الخاصة.

وآخر ما يجدر الإشارة إليه، أن مفهوم الكتابة الجديد الذي صاغه دريدا يستند إلى ثلاث كلمات معقدة جداً، وهي الاختلاف، الأثر، والكتابة الأصلية الأولى...

1-الاختلاف يشير إلى فعلين: أ-أن يختلف، أن لا يكون متشابها. ب-أن يرجئ ويؤجل، وينبغي الانتباه إلى أن الأول مكاني والثاني زماني، ويرى دريدا أن كل علامة تؤدي هذه الوظيفة المزدوجة: أي الاختلاف والتأجيل، ولهذا السبب تكون بنية العلامة مشترطة من قبل الاختلاف والتأجيل، وليس من خلال الدال والمدلول، بمعنى إن بنية العلامة هي الاختلاف الذي يعني أن العلامة شيء لا يشبه علامة أخرى، وشيء غير موجود في العلامة على الاطلاق.

2-الأثر: إن ما هو كائن في العلامة يحرك الذهن باتجاه ما هو غير كائن فيها، ولهذا السبب فإن ما موجود في العلامة يحمل أثر ما هو غير موجود فيها، وتستطيع العلامة أسر الذهن لأن بمقدورها أن تذكرنا بما هو غير موجود فيها، وتستطيع عبر هذا التذكير تحفيز الذهن ودفعه إلى الحركة.

3-الكتابة الأصيلة: أطلق دريدا هذه التسمية على الفرق بين مفهوم الكتابة هذا ومفهوم الكتابة المبتذل الضيق، وتعمل الكتابة الأصيلة في التعبيرات الكتابية وغير الكتابية، والكتابة بمعناها الضيق تعتبر كتابية، أما في النظرية التفكيكية التي حدد دريدا أبعادها، فقد أصبح لصفة الكتابية معنى مختلفاً عن المعنى الذي كان متداولاً في الاستعمال التقليدي.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

ما يؤلمني حقًا هي نفسي، لم أجد الكلمات التي أستطيع أن اعبر بها بلغة مفهومة عن ما يدور بداخلي، داخلي الصاخب بموجودات لا تقبل أن تزيح نفسها بنفسها عن طريقي وتفكيري، فسلبت كل ما لدي من طاقة متاحة، لم تعد اللغة مفهومة كما أريد، لا أدري هل هذا بسبب الألم، أم خليط غير متجانس من الأفكار، وتدلنا كلمات الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري،

لم يبقَ عنديَّ ما يبتزه الألم،

حسبي من الموحشات الهمُ والهَرمُ،

*

لم يبقَ عنديَ كفاءة الحادثات أسىً،

ولا كفاءة جراحات ٍ تضجُّ دمُ،

*

وحين تطغى على الحران جمرته،

فالصمت أفضلُ ما يطوى عليه فمُ

.ويمكننا القول بأن الصمت هو أيضًا لغة. ونستشهد بقول المحلل النفسي الفرنسي "جاك ميلر": اللغة لا تشرح المتعة هنا، بل تجرحها، الجسد يحتفظ بالأثر، بالندبة، بالمتعة كصمت غير قابل للقول. رغم أن "جاك لاكان" المحلل النفسي الفرنسي يقول خصوصية الإنسان هي أن يكون كائنًا متكلمًا، وعند " ارسطو " اللغة هي نظام أساس من الرموز التي تمكن البشر من التواصل والتفكير والتأمل في العالم، الكلمات هي تمثيلات رمزية للمفاهيم، وهذه المفاهيم نفسها تمثل الأشياء في العالم. إذن هي اللغة التي تعبر فيها النفس عما يدور في داخلها، حتى وإن لم تعرف كنهها، أو عن ما هو موجود فعلا، وإن خرج بتفوه وبكلمات وأفكار لها دلالتها وعمق معانيها، ولكنها ليست كل ذلك، فما بقي وخفي كان أعظم، ويرى " أرسطو " بأن الرموز " بما في ذلك اللغة " لا يمكنها نقل جوهر الحقائق المعقدة والمجردة بشكل كامل، على الرغم من أن اللغة أداة قوية لتمثل ومناقشة هذه المفاهيم، إلا أنها تظل غير كاملة ومحدودة بطبيعتها الرمزية، ومع ذلك يعرض لنا " جاك لاكان " بقوله ان اللغة البشرية تتميز بأن الاشارات التي تتكون منها، تكتسب قيمتها مع علاقتها مع بعضها البعض.

أن هروبنا نحو الحلم فهو يحمل لغة أيضًا ما لا يمكن قوله في حالة الوعي، يمكن قوله في حالة اللاوعي بوساطة الحلم حيث يكون بعضه ظاهر – سطحي، والآخر عميق له معنى كامن، وهو مؤشر لمعرفة ما يدور في النفس وفي اعماقها دون أن يعلن صاحبها عما يدور بداخله، أليس هذا الشخص يبحث في داله على مدلول مفقود، وكما تعلمنا أن الدال هو المكون الواعي واللاواعي للغة، لم يجده في حياته اليومية منه فهرب به دون أن يدري إلى عالم آخر تقل فيه الرقابة وينام الرقيب ليس عمدًا، بقدر ما هو تحايل على ما يرغب به، وهذه الرغبة جائحه غير مقبولة، ربما يعرف إنها مؤلمة، ولكن لا يستطيع أن يقاوم شدتها وعنفها على نفسه، فهرب بها إلى الحلم وظهرت لغة الحلم، كما يؤكد لنا " لاكان " الفرق بين اللغة كمجال رمزي وبين حواره الداخلي، وإن عبر عنه لاكان عن حساسية المريض في الجانب المعقِلن " لاكان، الذهانات، ص 152".

ألم يقل لنا فرويد ومن جاء بعده بأن الحلم هذاء قصير الأمد؟ ألم يظهر اللاشعور – اللاوعي ويعود بلغة قل على المشتغلين بالعلوم النفسية الآخرى إدراك كنهها؟ وهي حقيقة واقعية.

ألم يعلمنا التحليل النفسي أن عملية التكلم عند الإنسان هي الوسيلة لمجابهة الأكتئاب والضيق والحصر؟ ألم يذكرنا فرويد حينما يطلب الطفل من خالته في الغرفة الأخرى أن تتكلم لأن الغرفة مظلمة وهو يخاف من الوحدة؟

أَولم تكن تلك الكلمات بسحرها لوصف العاشق لمعشوقته في غيابها هو دليل حضورها ولو على مستوى التخييل، يعيد لنفسه نوعًا من الطمأنينة في غيابها فيكون هذا النمط من اللغة نمط إفراغي يبعد عنه دقائق نوبة الحصر وربما تؤدي إلى الكأبة. ما تقدم يؤكد لنا أهمية اللغة ونحن في حالة الوعي، وهو الأمر ذاته في حالة اللاوعي وهو الحلم بلغته، فالوجود يتحدد بوجود الكلام، بالتحدث مع ذاته ليعبر عن ما يدور في داخلها، ولا ننسى تأوهات الإنسان المريض وآنينه، وهي لغة لا تقل أهمية عن لغة العاشق الولهان وإن أختلفت مسارهما ولكن تتفق في بعدها النفسي الداخلي العميق.. ويحق لنا أن نسميها لغة اللاشعور – اللاوعي. لغة المتكلم الذي يبحث عن وجوده فرحًا أو متألمًا، وليبرهن لنا " جاك لاكان " نوعية الترابط ما بين الواقعي والمتخيل والرمزي، إنطلاقًا من أن دخول الإنسان عالم اللغة، أعطى تحقيقًا لوجوده، وهو ما عبر عنه بكلمة المتكلموجودي، أي الوجود مرهون بالكلام.

أن اللغة كما ذكرنا هي مرهونة بالوجود بكل أنواعه، ومنها الوجود الاجتماعي، حيث تعيد للإنسان حضوره، هذا الحضور القائم على الأنس والمؤانسه، حضور يتكيف به الإنسان مع مجتمعه، بلغة التواصل الذي يعتمد على التفكير سواء التفكير التجريدي مثل النكته، أو الفكرة المرمزة لقائلها، أو النكتة السياسية في الشارع، في المجتمعات التي تسجن صاحبها لعدة سنوات في غياهب المطامير وخلف الشمس حتى يطلب منه السجان أن يفقد ذهنه ويحاول محو القدرة على التفكير في العمليات الذهنية التي تميز به الإنسان عن الكائنات الحية الأخرى، وأفضل ما نستشهد به في هذا الموضع هي السجن الانفرادي المفروض على روبنسون كروسو حينما وجد نفسه وحيدًا في جزيرة صغيرة بعيدًا عن كل ما هو بشري واجتماعي، فلجأ "كروسو " أن يتواصل مع اللغة بطريقة مختلفة في عملية تخاطب، هي في الحقيقة مخاطبة للذات، وهي تمامًا يمثل فيها المرسِل والمرسَل إليه في آن معًا، ويقول " بسام بركة " وكأن أطراف العالم الاجتماعي كله قد ضاقت لتنحصر في حدود ذاته ويضيف أيضًا أن " كروسو" يشعر في الفشل في هذه المحاولة، ذلك أنه كما تؤكد نظريات التحليل النفسي ينحصر المستوى الواقعي الخارجي بين المستوى الرمزي " أي اللغة بشكل خاص " وبين المستوى الخيالي. والذات لايمكن أن تحافظ على كيانها، أو تعبر عن مستوياتها إلا بوساطة اللغة، كما يقول " لاكان " – هي ما يصدر عن الكائن الحي بفعل اللغة، والرغبة عند الإنسان هي بالتالي " رغبة في الآخر " وإنشداد نحو الآخر.

***

د. اسعد الامارة

 

تلخيص: موضوعة الجدل او الديالكتيك في التاريخ والفلسفة، قضية جوهرية معقّدة وحاضرة بقوّة على صعيدي الفلسفة والايديولوجيا، مبتدأها في الفلسفة مثاليا بسيطا، يمكننا ارجاعه الى زينون الأيلي وهيراقليطس وصولا الى كانط وهيجل وفويرباخ وأخيرا عند ماركس وأنجلز وفلاسفة ومنظّري الماركسية، بعدهم سارتر في الوجودية وفلاسفة البنيوية شتراوس والتوسير وغيرهم.

ونقر منذ البداية ان هذا المبحث اخذ حيّزا واهتماما بالغين ليس على صعيد الادبيات اللينينية والستالينية والتروتسكية الماركسية، وانما على صعيد ما استجد على الساحة الفكرية والفلسفية بالذات في تناولهم الجدل الماركسي بقسوة تنظيرية غير بريئة في مراميها نهايات القرن العشرين، بدءا بالوجودية ومن ثم البراجماتية الذرائعية العملية الامريكية عند اقطابها الثلاثة المؤسسين تشارلزبيرس، وجون ديوي ووليم جيمس. تلاهم في القرن العشرين الفلسفة البنيوية، والتفكيكية، والتاريخية، والعدمية الخ.

أن مرتكز الجدل المادي التاريخي وبؤرته في الفلسفة الحديثة وعلوم المعرفة هي عند الثلاثي (هيجل، فيورباخ، ماركس) أي في التوليفة المادية الجدلية التي اشترك بأيجادها وصياغتها هؤلاء الفلاسفة الثلاث حصرا، فقد أخذ فويرباخ (المادية)عن هيجل، وأخذ ماركس عن هيجل أيضا(الجدل او الديالكتيك)، بعدها عمد ماركس وانجلز باستقلالية تخليص مادية فويرباخ من تأمليتها الدينية التصوّفية غير الجدلية، وتخليص الجدل الهيجلي من مثاليته المقلوبة غير المادية، ليخرج ماركس بعدها بما عرف بقوانين المادية الجدلية التي تحكم المادة والتاريخ ومظاهر الحياة وايديولوجيا السياسة، وعلم الانثروبولوجيا وهي:

1. قانون وحدة وصراع الاضداد

2. تحوّل التراكمات الكمية الى كيفية(نوعية)

3. قانون نفي النفي

ومن هذا السبق الفلسفي تشظّت تيّارات فلسفية ومعرفية عديدة في تبنّيها أو في مناوئتها وفهمها المغاير للجدل الماركسي، ليس بمعنى عدم أمكانية تفنيده وحسب، وانما بمعنى الخروج عليه ونقده كما فعل سارتر واقطاب البنيوية شتراوس والتوسير وآخرون. وربما نستبق الامور في الحكم على ان تلك المحاولات في دحض الديالكتيك الماركسي باءت بالفشل.

ان اهم نقطة يتمحور حولها هذا المبحث، ليس مناقشة الديالكتيك الماركسي وتفنيده كبنية فلسفية معرفية لا علاقة لها بالتطور التاريخي الانثروبولوجي لمراحل وجود الانسان، او مع الوقع الميداني التطبيقي الذي اعتمده الجدل الماركسي على المادة وعلى الواقع السياسي وفي الاقتصاد والتاريخ كما جرى في التجربة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي القديم، كما الماثل الى الآن في تجارب مثل الصين وكوبا وفيتنام وكوريا الشمالية وهو الاهم براينا هنا، اننا نريد توضيح هل كان حقا للديلكتيك التطوري التاريخي فاعلية في التقدم الحضاري البشري المنسوب للماركسية ام لا؟

الجدل او الديالكتيك في الفلسفة الغربية المعاصرة:

كما ونجد تداخلا مفهوميا مربكا في تناول الجدل الديالكتيكي بين تلك التيّارات والمذاهب الفلسفية، فعبارة سارتر على سبيل المثال(ان المادة حقيقة بشرية تكتسب معناها وخصائصها بفعل الانسان فقط). انما تمثل مداخلة خلفيتها واضحة مستمّدة من الجدل الماركسي. وهذه عبارة لا تغني عن كتب ومؤلفات عديدة تفصح تداخل الوجودية مع الماركسية ليس على صعيد الجدل فقط وانما على مستوى جميع القضايا التي تهم الفلسفة والتاريخ والمعرفة والعلوم.

ويقول سارتر في مقدمة كتابه (نقد العقل الجدلي) ان (الماركسية هي فلسفة العصر، وان الوجودية ليست سوى ايديولوجيا تعيش على هامش الفلسفة الماركسية). هذا بمعزل عن القول ان سارتر كان ماركسيا منتميا للحزب الشيوعي الفرنسي قبل انسحابه وقطع علاقته بالماركسية متبنيا الفلسفة الوجودية، وبقيت الافكار الشيوعية حاضرة في خلفيته الفلسفية حينما حاول من دون جدوى خلق فلسفة توفيقية تأخذ عن الماركسية أشياء، ومن الوجودية اشياء اخرى، في محاولته خلق نوع من توليفة فلسفية فيها من التكامل او التجديد في الماركسية وفشلت محاولته تلك. وكان نقده للماركسية لا يخلو من تهمة توجيهه الدوغمائية الفكرية لها حين يعتبر الماركسية تنطلق من مسلمات يقينية قاطعة جاهزة تلبسها وقائع الحياة والتاريخ الانساني قسرا.

واذا كان سارتر قد اخذ على الماركسية اقرارها بوجود جدل الطبيعة واغفالها الانسان في بعده الوجودي، فان سارتر حسب حبيب الشاروني يذهب الى ان الماركسية الحقيقية هي المادية التاريخية حيث التفسير الصحيح لحركة التاريخ.

وفي الوقت الذي يقر سارتر صحة الجدل في تفسير التاريخ، فهو ياخذ على هذا الجدل ملاحظتين، الاولى ان الجدل التاريخي يجب ان لا يلغي الدور الوجودي للانسان بوجوب اذعانه للحتمية التاريخية. الثاني ياخذ سارتر على الماركسية اهتمامها بتفسير الانسان وليس فهمه انثروبولوجيا، ويقصد الجانب النفسي والقيمي.

انه لمن المهم الاشارة الى ان التزييف الذي جعل من الماركسية عقيدة دوغمائية، هو عدم الفهم الصحيح لتاريخ في مؤلفات ماركس. وفي الوقت الذي اكد ماركس ان التاريخ هو من صنع الانسان فان الماركسية المعاصرة قلبت المقولة في جعلها التاريخ يحتم على الفرد ان ينخرط به في حتميته الضرورية التطورية شاء أم أبى .

وفي المنحى ذاته نجد جيرالد كوهين، في كتابه (المادية والصراع الطبقي ص17) ينسب لسارتر تهمة الدوغمائية في ادانته الماركسية: (انه بدون الحاجة الى اعادة بناء الماركسية من الفكرة النقدية، ان الماركسية اصبحت نوعا قبليا وعقائديا من المعرفة التي تضع الاحداث داخل اطار مفاهيمي قبل دراستها، فهي قررت مقدما ماذا يجب ان يكون عليه كل شيء) وفي هذا التعبير تكون الماركسية اضحت من السرديات الكبرى التي يتوجب مراجعتها بنقد معرفي وفلسفي قوي وشفاف، وبذلك اعطى الراية بيد اقطاب البنيوية لتنفيذ ما دعا له.

وقول هيجل (ان الفكرة بدون واقع هي فكرة صورية فارغة لا معنى لها، وتصبح الفكرة حيّة ولها امتداد من خلال الواقع فقط) هي مقولة لا تخرج عن الفهم المادي الجدلي الماركسي المنبثق اساسا من التفكير الديالكتيكي المثالي الذي ادين به هيجل.

لكن هذا لا يعني ان سارتر الوجودي المنشّق عن الماركسية أو التوسير البنيوي المنشّق هو الآخر عن الماركسية لا يعاديان الماركسية بضراوة، فالوجودية والبنيوية كلتاهما فلسفتان تناهضان الجدل الماركسي وتعتبرانه من مخلفّات الايديولوجيا والسرديات الكبرى التي لم تعد صحيحة ولا صالحة في دراسة التاريخ تحديدا وان عبارة أنجلز (ان انهيار جميع الانظمة الفلسفية التأملية أمر حتمّي) هي عبارة أكثر من استفزازية لدى متبنّي الطروحات المثالية ومن بعدهم الوجودية والبنيوية في التزامهم المنهج النقدي المثالي في مواجهة الماركسية بماديتها العلمية الجدلية الرصينة ايديولوجيا.

كما يشن ارتيجا نقدا لاذعا على تبني الماركسية حتمية التطور الخطي للتاريخ قائلا: (الآنية الزائفة، - في اشارة الى الذوات الماركسية المفكّرة -، التي تحدثت عن حتمية تاريخية تخضع الاشياء والبشر لقوانينها، باعتبارهم ضمن اشياء العالم).

يلاحظ الربط الفكري والتعبيري المشترك في تلاقي سارتر مع ارتيجا في نقدهما الماركسية من نفس منطلق انها اصبحت نظرية دوغمائية تحاول الباس الواقع مفردات النظرية الجاهزة المعدة سلفا، وتطويع مراحل التاريخ لمنطلقاتها الفلسفية.

استهداف الجدل الماركسي:

هناك مقولات عديدة فلسفية صدرت عن سارترحول ادانة الجدل الماركسي كانت مثار نقاش فلسفي حاد وعنيف بين الماركسيين والوجوديين والبنيويين على السواء. فقد أصدر سارتر كتابه (نقد العقل الجدلي) وأصدر شتراوس كتابه (التفكير المتوحش) وأقتفى أثره لاكان في كتابه (كتابات) وأستقر المقام مع اكثرهم ضراوة عدائية للماركسية التوسير في كتابه (نقد راس المال) كما اصدر فوكو كتابه (الكلمات والاشياء).

ان المرتكز الاساس في هذه المؤلفات وغيرها العديد كانت جميعها تدين الفهم الجدلي الماركسي ليس من خلال التفنيد النقدي المباشر، في التحليل المادي للتاريخ محاولين (تحويل مفهوم البنية المادية للوجود والاشياء الى مفهوم ميتافيزيقي مثالي) وتسويق الجدل برؤى مثالية بعيدة عن علاقة التأثير المتبادل مع الواقع العيني للمجتمعات البشرية. أي ابعاد الجدل عن محيطه الشغّال في الحياة الاجتماعية والطبيعة والمجتمعات كما سبق لهيجل ذلك قبل تصحيح ماركس جدله المثالي. واعتبار الجدل الماركسي اصبح من كلاسيكيات الفلسفة المعاصرة.

وحين يوجّه النقد من البنيوية والوجودية الى الماركسية في صلب مرتكزها أن العامل الاقتصادي المتداخل بالحراك الاجتماعي هو مبعث التطور الذي يقود الى التغيير والتطور التاريخي، فان البنيوية تعمّدت من جانبها ايضا أعتماد (علم اللغة) الذي يقوم في مختلف توجهاته اعتماد مثالية فجّة في النقد السطحي للمادية، في فلسفتها كبنية محورية لها الدور الحاسم في احداث التطورات التاريخية.

وأهتم كلود ليفي شتراوس باللغة على انها ظاهرة ثقافية تميّز الانسان عن الحيوان – وهي مقولة مقتبسة عن ديكارت وقبله وبعده عشرات من الفلاسفة – وان علاقة ارتباط اللغة الوثيق بالانثروبولوجيا تعتبر المرتكز الاساس الذي بموجبها يمكننا فهم التطور التاريخي، وليس الجدل الديالكتيكي الذي تعتمده الماركسية الذي اصبح من مخلفات السرديات الايديولوجية التي تمت مغادرتها حسب الادانة البنيوية.

وقد كانت لافكار فنجشتين عالم وفيلسوف اللغة، ودي سوسير، وجاك دريدا، ورولان بارت وآخرين، الاثر الكبير في محاولة اعتماد مركزية اللغة في مراجعة وتصحيح تاريخ الفلسفة عموما، وكان اكبر الفلاسفة المعارضين لهذا التوجه هو فيلسوف المنهج التحليلي العلمي الانجليزي براتراند رسل وريث التجريبية العقلانية عن جورج مور وجون لوك وديفيد هيوم، في ادانتهم ان تكون مركزية الفلسفة هي اللغة كما تفهمها البنيوية والتفكيكية على السواء معتبرا ان الاشتغال على اللغة تفكيكيا بلاغيا في ادانة الفلسفة محاولة غير مجدية ويمكن ان تكون هذه الفلسفات قواميس في اللغة لا علاقة لها بقضايا الفلسفة.

كما يجد شتراوس ان التاريخ هو منهج لا ينتسب اليه موضوع بعينه، لكنه يبقى رغم ذلك ضروريا لفحص تكامل العناصر في اي بناء انساني او غير انساني، ونعت التوسير بدوره الايديولوجيا الماركسية بانها ليست افكارا وانما هي اكاذيب جميلة في محاولة عجز فلسفي وهروب من دحض الافكار الماركسية علميا وفلسفيا.

ولتكريس هذا النمط من التفكير المثالي واحيانا التجريدي غير المادي يذهب شتراوس الى أن (التاريخ كعلم ينبغي فهمه من ان طبيعته لا تختلف عن طبيعة الاسطورة). ويفهم من هذا أن التاريخ هو مجموعة أحلام جماعية أسطورية للشعوب والجماعات البدائية لا ينتظمها قوانين تحكمها تطوريّا، لكنما لا تخلو من عقلانية سحرية، وانها مراحل لا تاريخية تتقبّل الشروحات المتباينة الكثيرة عنها وفي دراستها.... بمعنى أكثر تكثيفا أن شتراوس أراد أن يخرج التاريخ من تاريخيته التحقيبية التطورية والحضارية المادية تحديدا وينقله الى مصاف الاساطير والميثولوجيا والسحر، في دراسة التاريخ الانساني في نموذجه البدائي على شكل قطوعات ساكنة لا يحكمها التغيير المتسارع، لذا تكون هذه القطوعات التاريخية بلا تاريخ، او بتعبير ادق خارج التحقيب التاريخي الذي بدأ مع اختراع الانسان الكتابة.

وتاكيدا لهذا المعنى من جانب آخر يذهب (برنانوس) الى ان الانسانية مجردة من اساطيرها ودياناتها، ومستسلمة الى لغة العلم والقوة، انما هي مهددة بالموت بردا، وقد اختفت الميثالوجيا عندما تم اخضاع هذه القوى بالواقع.

الجدل والوجود غير الموجود:

يميّز سارتر بين نوعين من الجدل التاريخي، الاول ويطلق عليه(الجدل الحقيقي) وهو الذي يعتبره خاصّية المجتمعات التي لها تاريخ انثروبولوجي مدوّن، والثاني يطلق عليه (الجدل التكراري) القصير الأجل وهوما تختّص به المجتمعات البدائية التي لا تاريخ لها كما اوضحناه في عبارات سابقة. (1) تاريخ الشعوب يؤرخ بمعرفة الانسان للتدوين.

كما أن سارتر يقارن بين الاثنولوجي، والمؤرخ في فهمهما جدل التاريخ: (اذ يرى الاثنولوجي – اي المؤمن بالتاريخ البدائي- في التاريخ حركة تعرقل الخطوط – يقصد المسارات الحركية التطورية للتاريخ – في حين يجدها المؤرخ في دوام واستمرار البناءات) (2) اللاشعورية والشعورية المستنبطة من دراسة التاريخ بمنهج تأملي واحيانا في تجميع احصائي ميداني يفيد في تعميم خلاصة نتائج الجزء على الكل والخاص على العام وبالعكس.

ويطرح سارتر من خلال الجدل التاريخي اشكالية فلسفية معقّدة، هي الذات الانسانية والوجود الفردي للانسان منطلقا من (ان حقيقة الانسان تكمن في انه الموجود الوحيد الذي يسأل عن وجوده باستمرار، أوهو الموجود المتحقق براكسيا. )(3)أي بالفعل الميداني المنتج.

بمعنى أن الانسان يتساءل عن وجوده المقلق مرّة باعتباره موجودا كمعطى طبيعي انثروبولوجي - بيولوجي، وكينونة انسانية تاريخية متفردّة نوعيا، والتي تكون تساؤلاته الدائمية قرين وجوده المادي البيولوجي المفارق، ومرّة اخرى يكون الانسان هو الموجود المتحقق براكسيا (بالفعل والعمل) كناتج وجوده في الطبيعة وفي تناقضاته الوجودية الدائمة المستمرة مع وعيه لذاته ومع الاشياء والمحيط.

أن هذا السبق الجدلي يعود لصاحبه هيراقليطس الأب الروحي للجدل والتغييرفي مقولته: انك لا تعبر النهر مرّتين، وعبارته الجدلية (ان الوجود واللاوجود شيء واحد موجود وغير موجود) وكما هو مثبّت في تاريخ الفلسفة أعتمد هيجل كثيرا على آراء ومقولات هيراقليطس التغييرية المتحركة، هريقليطس له الفضل والاسبقية الاولى في ان كل شيء بالوجود في حال حركة دائمية مستمرة، وهو المحرك الاول في اختراع هيجل الجدل او الديالكتيك المادي، ومنها هذه العبارة التي مرّت بنا سنوضحها وقد وضّحها هيجل بقوله (ان حركة الشيء تفصح عن ان الشيء موجود وغير موجود ايضا، ) اي ان هيجل يقصد طالما ان (الحركة) تحكم كل شيء موجود، فيصبح حينها وجود الشيء متحركا لا يختلف عن وجوده ثابتا، فهو ثابت ومتحرك في نفس الوقت، لذا هو موجود وغير موجود في محكومية الحركة المستمر له، والحركة تجعل من الموجود (الثابت) غير موجود في وقت واحد او بتعبير اوضح في(آنية) واحدة.

نلاحظ بالعودة الى سارتر انه يعبّر عن رؤى فلسفية ماركسية لم يستطع الخلاص منها لازمته في مرجعية تداعيات فكرية لم يستطع الخلاص من تاثيرها عليه، بأن الوجود الانساني يتحقق بالفعل الانساني(براكسيس) الذي يفارق به حياة الحيوان، كما نجد نفس هذه المداهنة مع الماركسية لدى ليفي شتراوس الاب الروحي للبنيوية قوله (ان للتاريخ والانثروبولوجيا موضوعا واحدا فقط مشتركا، هو الحياة الاجتماعية وان هدفهما الواحد فهم الانسان بشكل افضل واحسن). (4)  معظم فلاسفة الوجودية والبنيوية وغيرها من تيارات فلسفية كانوا جميعهم ماركسيين وشيوعيين لذا نجد صعوبة خلاصهم من خلفياتهم الفكرية التي لازمتهم لاشعوريا .

أن المنهج الجدلي الصارم (انما يفترض احلال المقولات التاريخية، محل المقولات المنطقية وبدلا عنها) (5) بمعنى ان دراسة الانسان تاريخيا في صيرورته المتغيّرة على الدوام، اي في واقعه، العملي والاجتماعي العيني هو ما تؤكد عليه الماركسية، بدلا من دراسة الانسان تاريخيا (صوريا تجريديا وظاهراتيا) في مقولات فلسفية منطقية يجري تداولها على مستوى الفلسفة وعلوم المعرفة.

أي أن تلك المفاهيم المثالية هي التي تقوم عليها ادبيات الفلسفتين الوجودية والبنيوية والتفكيكية والعدمية، في التسليم ان الفكر التأملي التجريدي هو الذي يخلق للانسان تواريخه (مراحل التاريخ) على مدى العصور، التي تنعدم معها الصلة بالانسان كواقع عيني وجودي حيوي متغيّر ومتطّور غير ساكن. اي ان الانسان لا يصنع تاريخه بنفسه نتيجة حراكه الدائم طبقيا اجتماعيا. وهي منطلقات فكرية مغرقة في مثاليتها الى أبعد الحدود. فليس هناك تاريخ انساني لا يصنعه الانسان.

من هنا نرى أهمية عبارة دي لاكروا (ان عصرنا يشهد نهاية المنهج المنطقي في تفسير التاريخ). ليس بتأثير العلم وانجازاته العظيمة فحسب، وانما بأتجاه تأكيد أهمية تغيير الوجود الانساني نحو الافضل على صعيدي المعرفة والفلسفة على السواء. أي ( نهاية الجهد الانساني الذي يحاول الامساك بالعلاقات الثابتة بين افكار محضة تخرج عن الصيرورة التاريخية للفرد والانسانية) (6).

واذا كان المنهج المنطقي الوضعي يفترض أمكانية معرفة الانسان والعالم من الخارج، فأن منهج الديالكتيك يكتشف النفس الانسانية وهي تعي ذاتها تدريجيا او عندما تخلق ذاتها من خلال تناقضاتها وايجاد حلول ومخارج منها لتطوير ذاتها. (7)

أنه مع الاقرار بالاختلاف أن الانسان لا يمتلك طبيعة واحدة بيولوجية، فيزياوية، نفسية لا تختلف وغير متغيّرة او شبه ثابتة، أو طبيعة مشتركة ثابتة لا تتغيّر مع غيرها من نوعها على مّر العصور، نجد البنيوية وقعت في مطب يحسب عليها لا لها، عندما حاولت تأسيس انثروبولوجيا نسقية معرفية تصورية استنباطية، في محاولتها الغاء الجدل المادي التاريخي، وشطب الغائية الحتمية في تطورية التاريخ مراحليا حسب التفاوت الطبقي المتصارع على الدوام في رغبته تحقيق مصالحه الطبقية كما تذهب له الماركسية، سواء في النظر الى دراسة المجموعات البشرية المتعددة من خلال التزامن البنيوي وليس التحقيب التاريخي الذي تعتمده الماركسية، أي أن البنيوية درست مراحل تاريخية لعيّنات قبائلية واقوام بدائية كقطوعات تاريخية ساكنة، وليس من منطلقات التحقيب التاريخي الماركسي والحضاري للصيرورة التاريخية المراحلية المتغيّرة على الدوام في تظافر عوامل عدة تكون سببا في احداث تلك التطورات التصاعدية في التاريخ.

وعلى الرغم من الاختلاف في الطبيعة الانسانية بين الجماعات البدائية من جهة، وبين المجتمعات المعاصرة من جهة اخرى فانه (من الممكن – حسب البنيويون – ان يقوم هناك اتصال حقيقي، وتفاهم ايضا متبادل بين الفريقين المتمايزين. )(8) والمقصود بالتبادل والتفاهم هنا هو ايجاد استنباطات دراسية مستخلصة وفلسفة بناءات تجمع القضايا التي كانت تهم الجماعات البدائية مع المجتمعات المعاصرة من حيث ان البنيوية تذهب الى ان المشاكل والقضايا التي كانت تشغل الانسان قديما وحاضرا هي قضايا مشتركة تقريبا، ولا توجد فروقات جوهرية كبيرة بينها. ومن هذا الفهم والتبادل المقصود بين عدم وجود طبيعة انسانية واحدة ثابتة غير متطورة، وبين الاتصال الممكن الدائم بين شعوب وجماعات الجنس البشري، أعادت انثروبولوجيا البنيوية بصورة متجددة مسألة ايديولوجيا الوجود في تفسير تاريخ الجماعات والاقوام، لكن ليس بالاقتراب من الفهم الايديولوجي الماركسي الذي جرى نبذه وتحريم الأخذ به في الفلسفتين الوجودية والبنيوية.

ولما كانت نقطة الضعف في الفلسفة الوجودية، هي الانطلاق من مسلمة (امتناع التواصل بين الذوات) الانسانية المنفردة، نجد سارتر يستنجد بايديولوجيا الوجود ايضا للخروج من مازقه الوجودي ان الانسان وجود لذاته بدلا من وجوده بذاته الذي اعتمده ولم يستطع تحققه.

نماذج من التلفيق الساذج:

في ندوة للأحتفاء والترويج لأفكار التوسير المعادية للجدل الماركسي اثبّت هنا نموذجين من الابتذال الفكري احدهما لكاتب اسمه علي الرحال في جلسة من اعمال ندوة أقامتها مؤسسة مؤمنون بلا حدود تاريخ 16/5/2016 يقول فيها (يفهم التوسير الجدل على صعيد الايديولوجيا انها بنية جوهرية ومجموعة من الصور والتمثّلات التي تلقي الضوء على المعاناة الانسانية في الواقع المعيشي – ولا يلبث ان يناقض نفسه اي الكاتب مكمّلا على لسان التوسير – وان الايديولوجيا مجرد تصورات فكرية عن عوالم وهمية، رافضا وبشدة مقولة ماركس في وجوب ربط الايديولوجيا بالوعي).

قبل التعليق على ماورد على لسان المنتقد علي الرحال أنتقل الى نفس الكلام في ادانة الماركسية وفي نفس الندوة بعنوان:التوسير.. اعادة قراءة الماركسية بعيون بنيوية، للكاتبة نزهة صادق تقول (دعت البنيوية الماركسيين الى اعادة قراءة الماركسية بعيون بنيوية، وانكار مبدأ الحتمية، وعدم اعتبار العامل الاقتصادي اساس الحركة التاريخية، والاعتراف بدور الدين والثقافة والفكر بحركة التاريخ)

وفي نفس الندوة شارك آخر ثالث بما أطلق على موضوعه (كوميديا الماركسية) التي تسبب له الماركسية السخرية والكآبة !!، ولم أجد في كل ماذكره جملة واحدة او عبارة تستحق الوقوف عندها.

أصحاب هذه الافكار من حقهم التعبير بما يعتقدونه صوابا بالنسبة لهم فقط ولا يلزم ما يعتقدونه غيرهم الوقوف عنده الا من باب أن لا يمّر التشويه الفكري في تحميل الماركسية ما لم تقله وليس بها، وتعليقي ليس دفاعا عن الماركسية الغنيّة عن الدفاع عن منطلقاتها الفلسفية التي لا يدحضها تقادم الزمن بسهولة، ليس لأنها معصومة من الخطأ، ولكن لأن دعاة الطعن بها ومريديهم من المثقفين يبنون تصوراتهم المخطوءة من منطلق الدفاع عن افكار فلسفية مثالية تجريدية غير علمية وهو مايناقض الماركسية ولا يدينها.، يقّر اصحاب تلك الافكار المثالية غير الواقعية بالعجز امام الكثير من الافكار الماركسية المادية التي تؤيد سلامتها مسيرة العلم وتقدم الحياة.

ففي مقابلة مع باحثة متخصصة بافكار التوسيرلا يحضرني اسمها من امريكا اللاتينية(المكسيك) سألت الباحثة التوسير من ضمن اسئلة عديدة، هو انك متهم نتيجة نقدك الماركسية، انك انتجت مجموعة من الخيالات الوهمية والافكار التجريدية التي لا رصيد حقيقي لها تاريخيا، أمام المنهج العلمي ألذي تتمتع بها الماركسية، وكان جوابه المحرج وهو كذلك وليس عندي ما أرد به لتفنيد هذا الادعاء!! اي أنّه بدأ يعي او لايعي، هل أن ماجاء به كان صوابا مقنعا لغيره أم كانت هذاءات فلسفية لا يجمعها رابط تحليلي علمي منهجي يعتّد الأخذ به في ادانة الفكر الماركسي. وبحسب نقاد التوسير فهو اراد تقديم ماركسية بدون ماركس، ومادية تاريخية بدون تاريخ.

أجد من السذاجة الفكرية ان نقّر ان ماركس اعتبر العامل الاقتصادي والاجتماعي المرتبط به، هو العامل الاساس الوحيد الذي تقوم عليه الماركسية في التطورالجدلي المادي للتاريخ في كتاب راس المال، وقد اكّد انجلز ذلك، وأنما أعتبر التناقض والتفاوت الطبقي يتصّدر أولوية عوامل الحراك مع غيره من عوامل في تحقق جدل التغييرالتاريخي، وان الدين والثقافة والفنون(بنى فوقية) لكل واحدة منها دورا تاثيريا متبادلا، ويرتبط بعلاقات جدلية لا يمكن اغفالها مع البنية الاقتصادية والاجتماعية (البنية التحتية)، وهذه البنى الفوقية الثقافة والدين والفنون مفروزة عنها لكنها لا تعدم التاثير والتاثر بها ومعها في احداث جدل التغيرات التاريخية.

ومن نافل القول ان نقول في هذا المجال وان لم يكن هو موضوع دراستنا هذه، بأن الاديان منذ بدء الخليقة والى يومنا هذا لم تلعب دورا تقدمّيا في حياة البشرية حتى نعتبر الدين عامل مهم في دراستنا التطور التاريخي، ونحمّل الماركسية مسؤولية أغماط او مصادرة دورالدين في المقولة المنسوبة لماركس (الدين افيون الشعوب) .

من الصحيح أن الدين أكل من تاريخ البشرية آلافا من السنين لكنه لم يكن بالضرورة عامل تقدم ايجابي في التقدم التاريخي الانساني على المستويات، العلم، التاريخ، والحضارة، بل كانت الاديان والى يومنا هذا عامل حراك في استثارتها لنوازع التقدم المتقاطعة معها من عوامل تحريك التاريخ حضاريا. وأن التقدم التاريخي والحضاري الذي حصل هو من نتاج منجزات العلوم حصريا ولم يكن للاديان اي اسهام به يذكر.

الحتمية التاريخية الماركسية ومابعد الحداثة:

كذلك مسألة الحتمية التاريخية التي تعتمدها الماركسية في المادية التاريخية، وهي مسألة تحتمل النقاش المستفيض، الا انه من المؤكد لا البنيوية ولا الوجودية ولا غيرهما من فلسفات حديثة، أعطت دحضا بديلا منهجيا علميا مقنعا يمكن الأخذ به في اعتبار الحتمية التاريخية التي جاءت بها الماركسية عفا عليها الزمن وأصبحت من مخلفّات الايديولوجيا. فلا تزال ساحة الفلسفة والفكر والمعرفة خالية من نظرية تاريخية تلغي وتبطل النظرية المادية التاريخية علميا وفلسفيا. وبهذا الصدد اشارت الباحثة الامريكية (كميل باليا) بان البنيوية في حجاجها الماركسية أثبتت انها فاقدة الصلابة الفكرية الفلسفية امامها.

وأن من المهم جدا الاشارة له أن الحتمية في التقدم التاريخي لم تكن حكرا على الماركسية فقط، بل أن فلسفات الحداثة وما بعد الحداثة، التي تعارض الوجودية والبنيوية على السواء في منطلقاتها الفكرية، فهي تلتقي مع الماركسية حول الحتمية التقدمية للتاريخ، طبعا من منطلقات لا تعترف بأهمية الجدل في المادية التاريخية حسب التنظير الماركسي التقليدي لها، في تحريك التاريخ نحو الامام.

وتذهب هذه المنطلقات الفلسفية ما بعد الحداثية من واقعة أن الانسان بطبيعته مسكون بتغيير حياته ونشدان تحقيقه الأفضل على الدوام، وبحسب (جيدنجز)، وهو من فلاسفة الحداثة صاحب النظرية الخطيّة العلمية في التطور التاريخي يذهب(أن التاريخ الانساني يصعد من مرحلة الى أخرى صعودا غائيا ارتقائيا دائميا)9 وهي نظرية الحداثة في تطور التاريخ. واضح ان مابعد الحداثة تذهب الى التطور الغائي للتاريخ بفعل ما يشبه (الروح المطلق ) الذي دعا له هيجل مثاليا، ومأخذ الحداثة على التطور الماركسي للتاريخ هو من مصدر الأدانة الايديولوجية الماركسية في تفسير التطور الغائي من منطلقات ثورية طبقية في مسار التغيير التاريخي.

أن نقد تيارات الحداثة وما بعد الحداثة التي تدين التطور الغائي المتصاعد للتاريخ، كما دعت له الماركسية من منطلق الادانة الايديولوجية للتفسير الغائي، وليس الفلسفي حصرا كما تفهمه وتدعو له فلسفات ما بعد الحداثة، وأبلغ تعبير عن ذلك يأتينا من ( يورغين هابرماس) أبرز فلاسفة الحداثة المعاصرين قوله وبنبرة قاطعة (ان أنساق التفكير الكبرى – السرديات الكبرى – قد سقطت ولم يعد لها وجود )10، الحداثة وما بعد الحداثة لا تخفي رفضها وتشكيكها بالتاريخ (الرسمي) المعاصر القائم على اختلاف (الايديولوجيا) الذي كانت تتوزعه ثلاثة اقطاب ايديولوجية، أيديولوجيا الفكر الشيوعي، وايديولوجيا الفكر الرأسمالي، وفكر أوايديولوجيات العالم الثالث بمختلف تنوعاتها الهجينة التلفيقية. هذا هو مجمل الايديولوجيات المؤثرة سابقا والى اليوم في ترسيم التاريخ البشري والحضاري للانسانية.

واضح أن هابرماس يقصد الانساق الكبرى هي سرديات الايديولوجيا التي تتصدرها ايديولوجيا الماركسية. (التي لها حجج تنبؤية بالمستقبل وسقطت سقوط الانساق الفكرية المغلقة، والدعوة موجهة اليوم الى انساق فكرية مفتوحة تتلاقى فيها الافكار المتباينة المختلفة). 11وهذا تأكيد أدانة صريحة هدفها الاساس النيل اكثر من (الايديولوجيا) الماركسية. الا ان ما يحسب لهابرماس في دعوته فتح قنوات التواصل امام الجميع تحمل الكثيرالمطلوب مما يحتاجه العصر والحضارة العالمية.

لكن أدانة التطور الغائي حداثيا لم يسلم هو الآخر من نقودات لاذعة خارج مدارات التفلسف والايديولوجيا، في ( أعتبار أن حكاية التاريخ الصاعد في المجتمعات المختلفة كلام باطل، والا لماذا ظهرت الفاشية والنازية لو أن المسألة تتعلق بالارتقاء الصاعد كما يزعم انصار الحداثة، فالحقيقة ان التاريخ ليس صاعدا على الدوام بل قد يرتد ويتراجع ومن ثم يتقدم، ونظرية التقدم التاريخي المطلق قول لا اساس له من الصحة)12.

وهذه الانتقادات اللاذعة هنا تدين الارتقاء الايديولوجي للتاريخ وحصرا ايديولوجيا الماركسية، بنفس وقت ادانتها للارتقاء التاريخي (الفوضوي) الذي تنادي به الحداثة وما بعد الحداثة. علما ان البنيوية لا تؤمن أصلا بوجود تاريخ كانت لارادة الانسان دورا في تشكيله وانبثاقه. وبذا تبقى الغائية او الحتمية التاريخية تدور في دائرة مغلقة لا يعرف أمدها ولا مبتغاها يوصل الى اين.

***

علي محمد اليوسف

.............................

الهوامش

1. عبد الوهاب جعفر/ البنيوية في الانثروبولوجيا وموقف سارتر/ص204

2. المصر السابق نفسه ص 199

3. المصر السابق ص 211

4. المصدر السابق ص 216

5. المصدر السابق ص 222

6. المصدر السابق ص 225

7. المصدر السابق ص 231

8. المصر السابق ص 237

9. ا. سيد ياسين، نقلا عن ندوة فكرية، الحداثة وما بعد الحداثة، ص 19

10. نفس المصدر السابق ص 20

11. نفس المصدر ص 20

12. نفس المصدر ص21

يمكن القول ان مفهوم الحكمة لا يتناسب بشكل مريح مع مجتمع المساواة المضاد للنخبوية. في عصر تهيمن عليه المادية والاستهلاكية والعلم والتكنلوجيا، والتخصص وتقسيم العمل، سيكون المفهوم فضفاضا جدا وكبيرا جدا وشديد الغموض. حينما تكون رؤوسنا معلقة في التلفونات الذكية والاجهزة اللوحية، ومنشغلين بالفواتير والكشوفات البنكية، سوف لن يكون لدينا وقت او مساحة ذهنية لمفهوم الحكمة وحتى للفكرة. لكن الاشياء لم تكن دائما بهذه الصورة. ان كلمة "حكمة" ظهرت 222 مرة في العهد القديم، الذي يتضمن جميع كتب الحكمة السبعة: ايوب، المزامير، الأمثال، الجامعة، نشيد الانشاد، كتاب الحكمة، وسفر سيراخ.

هنا بعض ما ورد في سفر الجامعة (الواعظ) Ecclesiastes 7:12:

فالحكمة هي دفاع، والنقود دفاع: لكن الحكمة كأعلى شكل للمعرفة تحفظ حياة منْ يمتلكها(1).

 ان كلمة "فلسفة" تعني حرفيا "حب الحكمة"، والحكمة هي الهدف الشامل للفلسفة، او على الاقل، الفلسفة القديمة.

في حوار ليسز لافلاطون، يخبر سقراط الشاب ليسز بانه بدون الحكمة سيكون بلا قيمة لأي شخص آخر: ولذلك، ايها الولد، اذا كنت حكيما، كل الناس سيكونون اصدقائك وعشيرتك، لأنك ستكون مفيدا وجيدا، لكن اذا لم تكن حكيما، سوف لن يحبك ابوك او امك ولا عشيرتك او أي شخص آخر.

الراعية إلهة اثينا، مدينة ليسز، هي إلهة الحكمة، التي تنبثق من جمجمة زيوس. رمزيتها، ورمزية الحكمة، هي البوم، الطير الجارح الذي يشق طريقه اثناء الظلام.

في الحقيقة ان "الحكمة" تُشتق من أصل هندو- اوربي بدائي، "يرى". في الاساطير الاسكندنافية، قام اودين بقلع احدى عينيه وقدمها الى ميمير مقابل شراب من المعرفة او الحكمة الجيدة، رمزيا يعني استبدال نمط من الإدراك بنمط آخر أعلى منه.

الحكمة كمعرفة

لكن ما هي بالضبط الحكمة؟ الناس غالبا ما يتحدثون عن "المعرفة" و "الحكمة" كما لو انهما شيئا واحدا. هناك احدى الفرضيات بان الحكمة معرفة، او كمية كبيرة من المعرفة. اذا كانت الحكمة معرفة، عندئذ يجب ان تكون نوعا معينا من المعرفة، كما في تعليم سجل التلفون او أسماء جميع الانهار في العالم، ربما تُعد حكمة. واذا كانت الحكمة نوعا معينا من المعرفة، عندئذ هي ليست معرفة علمية او تقنية، وسيكون كل شخص معاصر أكثر حكمة من الفلاسفة القدماء. سيكون أي شاب تارك للدراسة في القرن الواحد والعشرين أكثر حكمة من سينيكا او سقراط.

لنتذكّر: ان معبد الالهة أعلن ان سقراط هو اكثر الناس حكمة ليس لأنه عرف كل شيء وانما لأنه عرف مدى ما لايعرف.

لايزال، يبدو ان الحكمة اكثر من "المعرفة السلبية"، او بدلا من ذلك انا ربما اكون مشكك للغاية حول كل شيء ومع ذلك اعتبر نفسي حكيما به. او ان الحكمة تعتمد على امتلاك معايير ابستمية عالية، امتلاك معيار عالي للاعتقاد بشيء ما، وحتى معيار عالي لتسمية تلك العقيدة معرفة.

الحكمة كرأي صحيح

في حوار مينو لافلاطون، يلاحظ سقراط ان الناس ذوي الحكمة والفضيلة يبدون فقيرين جدا في نقل تلك الخصائص. ثيموستوكلس كان قادرا على تعليم ابنه كليفانتوس مهارات مثل الوقوق منتصبا على ظهر الحصان ورمي الرماح، لكن لم ينسب احد قط الى هذا المسكين أي شيء من حكمة والده، ونفس الشيء يقال عن ليسيماخوس وابنه ارستيدس، وبيركليس واولاده. اذا لم يكن بالامكان تعلّم الحكمة، حتى بواسطة احكم شعب أثينا، عندئذ هي ليست نوعا من المعرفة.

يسأل مينو، اذا كانت الحكمة لا تُعلّم هل ظهر اناس طيبون في أي وقت مضى؟ يجيب سقراط بان الفعل الصحيح ممكن تحت اشراف من هو ليس صاحب معرفة: الفرد الذي لديه معرفة بالطريق الى لاريسا (مدينة في ثساليا) ربما يعطي ارشادا جيدا، لكن الفرد الذي لديه فقط الرأي الصائب حول الطريق، ولم يكن يعرف عنه ابدا، ربما يعطي وبنفس المقدار ارشادا جيدا. طالما لايمكن تعليم الحكمة، فهي لا يمكن ان تكون معرفة، واذا لم تكن معرفة، فهي تكون فقط رأي صحيح – هذا يوضح لماذا لم يتمكن حكماء مثل ثيمستوكلس و ليساماتس و بيركلس من نقل حكمتهم حتى الى اولادهم . الناس الحكماء لايختلفون عن العرافون والانبياء والشعراء الذين يقولون العديد من الاشياء الصحيحة عندما يستلهمون دينيا لكن لا معرفة واقعية لديهم بما يقولون.

الحكمة كفهم للأسباب

ارسطو يعطي فكرة اخرى في الميتافيزيقا عندما يقول ان الحكمة هي فهم الأسباب. لا واحدة من الحواس الخمس تُعتبر حكمة لأنها رغم انها تعطي معرفة حسية موثوقة، لكنها غير قادرة على تمييز الاسباب البعيدة لأي شيء.

ونفس الشيء، نحن نفترض الفنانين اكثر حكمة من الحرفيين لأن الفنانين يعرفون سبب الشيء، ولهذا يمكنهم التعليم، بينما الحرفيين لا يستطيعون ذلك. بكلمة اخرى، الحكمة هي فهم العلاقات الصحيحة بين الاشياء التي تستدعي مزيد من المنظورات البعيدة المُزاحة، وربما ايضا القدرة او الرغبة للانتقال بين المنظورات.

في نزاعات توسكولان، يقتبس شيشرون نموذج حكمة لفيلسوف ما قبل سقراط اناكساجوراس الذي حين اُبلغ بوفاة ابنه قال، "كنت أعلم اني سأموت". بالنسبة لشيشرون، الحكمة الحقيقية تعتمد على إعداد المرء نفسه لكل الاحتمالات لكي لا يندهش او يؤخذ على حين غرة. ومن الصحيح ان الحكمة، التي هي فهم الاسباب والارتباطات، ارتبطت الى الابد بكل من الفهم العميق والاستشراف.

طريقة للرؤية

باختصار، الحكمة ليست نوعا من المعرفة بنفس المقدار الذي تكون فيه كطريقة للرؤية. عندما نتخذ خطوات للوراء، مثل عندما نستحم او نذهب في إجازة، نحن نبدأ في رؤية الصورة الأكبر. في اللغة المشتركة، "الحكمة" لها مضادان: "السخافة" و "الحمق"، واللذان كلاهما مشتقان من الكلمة اللاتينية follies، وتستلزم على التوالي، النقص وفقدان المنظور.

في غرس منظور اوسع، من المفيد، بالطبع، ان يكون قابل للمعرفة، ولكن ايضا من المفيد ان يكون ممكن التفكير فيه، مفتوح الذهن، وغير متحيز – ولهذا يبحث الناس دائما عن نصيحة "مستقلة".

فوق كل ذلك، من المفيد ان يكون المنظور شجاعا لأن النظرة من الأعلى، مع انها قد تكون مبهجة، وبالنهاية محررة، لكنها قبل ذلك هي مخيفة ... لأنها تصارع مع الكثير مما تعلّمنا الاعتقاد فيه. الشجاعة، طبقا لارسطو، هي اول الصفات الانسانية لأنها هي التي تتوقف عليها كل الصفات الاخرى.

Psychology Today, May23, 2025

***

حاتم حميد محسن

.......................

الهوامش

(1) في تفسير للعبارة هي انها تسلط الضوء على الفوائد المتفوقة للحكمة على مجرد المعرفة. انها تعني ان الحكمة الحقيقية ليست فقط في تراكم المعلومات وانما في ما يمكّن الفرد في النهاية من عيش حياة هادفة ذات معنى ومنجزة.

 

المدخل: غالبا ما تعتبر الأسطورة باللبنة الأولى للفكر الإنساني، لكنها تزخر بالخصوبة رغم بساطتها وبرائتها الجذابة. ولكونها ولیدة التماس مع الواقع والطبیعة، فانها تعكس خفایا الشعور واللاشعور معا. لذا یقتات الأنسان علی مر العصر منها معاني ودلالات حول ما كان، وما هو كائن وما یكون.  فالسردیات الأسطوریة لیست ولیدة الماضي، بل ان الدول والنزعات الطائفیة والعرقیة والأیدولوجیة، او ماتسمی بنظریة المؤامرة تستند الی اساطیر وسردیات مفبركة.

لذا، اعتقد 'كاسیرر' في كتابه ' مقال عن الإنسان: مقدمة لفلسفة الثقافة الإنسانية '، بأن ' العالم الأسطوري يبدو عالمًا مصطنعًا، ذريعةً لشيء آخر'. ویقتبس رأي 'مالينوفسكي' بأن "كل أسطورة تمتلك كنواة أو حقيقة نهائية بعض الظواهر الطبيعية أو غيرها، منسوجة بشكل متقن في حكاية إلى حد يكاد أحيانًا يخفيها ويمحوها". أو كما یری 'فریزر' بأن "للأسطورة وجهان. فمن جهة، تُظهر لنا بنية مفاهيمية، ومن جهة أخرى، بنية إدراكية". 

كذلك، تُعدّ الأسطورة والدين من بين جميع ظواهر الثقافة الإنسانية، أكثر عصيانًا على التحليل المنطقي المحض...إن كان هناك ما يميز الأسطورة، فهو كونها "بلا نسق ولا منطق". مع ذلك، یر كاسیرر أنه "لا توجد ظاهرة طبيعية ولا ظاهرة من ظواهر الحياة البشرية لا يمكن تفسيرها بشكل أسطوري ولا تستدعي مثل هذا التفسير".

I- المشهد المرعب للكون

عندما جابە الانسان الأحداث والتغیرات البیئیة والتحولات الطبیعیة والكونیة/ السمائیة، حاول الإحاطة بها وفهمها ضمن نسق فكري عالي بسیط. وذلك من خلال ربط النتائج بما تخیل لە كأسباب موضوعیة أو ذاتیة.

فالقلق الذي اغمر الانسان البدائي جراء الوصول الی اجوبة مقنعة وملموسة، أرغمه علی التفكر والتفلسف. لأن الدافع الذاتي للبحث عن الاجوبة ومعرفة مصیره في الحیاة وتحدید اسباب الموت والتباین بین الوجود والعدم، دفعە نحو تفسیر اسطوري وسردي لمجریات الامور. 

ومن هنا، توجد علاقة متینة بین الاسطورة والفلسفة. فبنیة العلاقة، تتشكل في السؤال الوجودي للانسان البدائي ان صح التعبیر، حول الكون، الحیاة والموت، والخلود والسعادة والخ. لذا، اعتقد (باول رادین) بان الانسان البدائي بمثابة فیلسوف1.

فإذا أمعنا النظر في 'الكون' كمسرحا للاحداث، تبدو كمشهدا مرعبا لجریانات الطبیعیة وتحولاتها المستمرة. لذا فمنذ القدم، استقرت الظواهر في الفكر البشري وارغم هواجسە علی التعاطي مع الأمور وفهمه.

ولما كان الفهم محدودا، كان الخیال ثریا ومتجاوزا. لذا كان مستوی الوعي في فهم العلل والاسباب وراء الاحداث والتغیرات بدائیا، اناط الامر بالخیال السردي. ولأن الحاجة الماسة الی اجوبة مقنعة، كانت الهاجس المهیمن، صاحب الخیال القلق أيضا.

والاجوبة المكتسبة، كانت إما ملموسة وعینیة أو مجردة وعمومیة. فصعب علی العقل فهم الاجوبة المجردة اللاعینیة بدون تجسیدها علی هیئة حیوانات أو كائنات فائق القدرة وخارقة للطبیعة. فلذلك وجدت للأجوبة موطنا في الخیال وفي التفسیر الأسطوري سبیلا.

لكن العقل/التفكیر الذي سلك الطریق الملموس والأسلوب المیكانیكي- ان صح التعبیر-، ارغم الانسان علی التفلسف. لكون الفلسفة آلیة واعیة لمجابهة التغیر وفهما جذریا. لذا ادی الفهم الفلسفي الی التفلسف، اما الخیال الی التدین في شتی انواعه. لكن قوة التخیل للانسان البدائي، للقوی الماورائیة سعی الی تجسیدها في هیئات مرئیة 'طوطمیة'.

II- خصائص ووظائف الفكر الاسطوري:

لقد اعتبر 'اوغست كونت' الفكر الاسطوري أولی ارهاصات الفكر لانساني. لكن، اذا نظرنا الیها من خلال 'العودة الأبدیة' للأسطورة حتی في المجتعات المعاصرة، یمكننا إضافة ادوار للإسطورة في الحیاة.

علی الرغم من ان الباحث المشهور 'جوزیف كامبل' لخص دور الأسطورة في أربعة أمور: الوظيفة الصوفية- الميتافيزيقية- تلهم الفرد شعورا بالرهبة والامتنان تجاه غموض الكون. الوظيفة الكونية، تقدم صورة للكون من خلال ربط المعرفة المحلية والتجربة الفردية. الوظيفة الاجتماعية، تثبت معايير المجتمع وتدعمها وتطبعها في الفرد. وأخیرا، الوظيفة النفسية-التربوية- ترشد الفرد خلال مراحل حياته، ضمن سياق تلك الثقافة المجتمعیة. (كامبل قوة الاسطورة ٥٦).

لكننا، نضیف وظائف أخری لها:

- الوظیفة التعلیلیة، أو التعبیریة؛ تكمن في ارجاع الاحداث والتغیرات الی علة ما.

- الوظیفة الابداعیة التخیلیة: الخیال والتخیل لتجاوز حدود الواقع الملموس والطبیعي للحیاة.

- الوظیفة الترانسندتالیة؛ تجاوز لما هو واقع وكائن.

- الوظیفة الأونتولوجیة: لماذا الوجود وماهو، ومن اوجده.

- الوظیفة السردیة: تأریخ الاصول والازمنة عبر السرد اللازمني.

- الوظیفة الرمزیة؛ ترمز الی معضلات الحیاة كالبٶس، الموت، الجوع والخ...

- الوظیفة السلطویة؛ تبریر سلطة جماعة، أو ملك وسن القوانین الاخلاقیة باسمه.

- الوظیفة التذكیریة؛ التذكیر بأمور ومأل الاحداث او بمثابة الذاكرة الجمعية.

- الوظیفة السایكولوجیة: تجسید للخوف، القلق، العدم والحزن والأسی. او تعبیرا للفرح والمباهج وانبعاث الدهشة كرد فعل داخلي للانسان تجاه الخارج.

- الوظیفة الثقافیة: كیفیة التعاطي مع الآخر وتحدید هویة الغیریة (الامم والثقافات) والتي تطفو بین حین وآخر علی مسرح الاحداث المتمثلة  في الحركات الشعبویة، الیمینة والدینیة المتطرفة.

- الوظیفة التفسیریة: مثلا فسر افلاطون حرب طروادة بالتفسیر المیتافیزیكي واخلاقي، لكي یوظفها في افكاره الفلسفیة أو كأسطورة الكهف والخ...

III- الفرق بین الیونان والشرق

الخلاص والنجاة من 'الدنیوي' من خلال التأویلات الاسطوریة لما یأتي مستقبلا، تخیل الآخرة تظهر في كافة الآساطیر تقریبا. لكن الیونان مثلا، لم یعتقدوا حرفیا بتلك الاساطیر كما یقول المفكر الفرنسي (بول فاین). بل تعاطوا معها كمنبع للذة والتمتع.

أما الأساطیر في الشرق فقد استخدم كالعلم والفن، ولكن لأغراض میتافیزیكیة، أخروية. أي  لمطلب عملي، هو الخلاص ولأجل الوصول الی الاخرة، الحیاة الأبدیة مابعد الموت. في حین استخدمه الیونان لمطلب علمي ونظري بذاته .

لانبالغ اذا قلنا ان العقل الیوناني، رغب في الاسطورة بدافع التلذذ والمتعة والخیال في السردیات الاسطوریة. لأنها رأت فیها القوة التولیدیة المحركة للخیال والسرد وتجسیدا للعوالم الخفیة بلغة الرموز والاشارات. التخیل كمفاعل التمثیل والمحاكاة لعلاقة الانسان بالعالم والطبیعة.

فالأسطورة الیونانیة علی الرغم من انها تحتوي علی اشارات میتافیزیقیة لمعركة الآلهة، الا انها ترمز بشكل مباشر الی الانسان ولیس اله كما هو في الاساطیر الشرقیة.

فكانت غایة الأسطورة في السیاق الیوناني؛ تأسیس لعلاقة الانسان مع ذاته من خلالها، ولیس الوصول أو التوسل الی قوی خار‌قة خارج الطبیعة. وسمة أخری كتابة وتدوین الأساطیر حصل بالفعل. في حین أن النص الأسطوري في الشرق بقی شفویا متنقلا بین الشعوب.

IV- الخلاصة

الأسطورة، رحم الادیان والفلسفة والعلم والادب والفن أیضا. فانها تجسد الواقع/الطبیعة بلغة رمزیة. كما أنها اثرت في النص المسرحي والفلسفي والشعر الملحمي وحتی العلمي أیضا. كما أن النص الاسطوري عبارة عن وعاء ثمین، یقتات الفیلسوف منها وینهال من الرموز والخیالات الواسعة، لتأسیس نظریة فلسفیة.

 فالرأي القائل بأن الاسطورة مجرد نتاج اوهام وتخیلات أولیة للبشریة في المراحل البدائیة، سطحي نوع ما. فعلی الرغم من أن التطور طرأ علی الحیاة المعاصرة، تطفو الأساطیر علی السطح وتظهر خبایا حیاة الانسان.

وهذا یعود الی حقیقة بسیطة: أن الانسان كائن اسطوري ومبتكر الاسطورة أیضا. فالاساطیر لم تنزل من السماء، إنما معراج الفكر الأنساني من الارض الی ماوراء الطبیعن بأشكال مختلفة.

وعلی الرغم من ان التعبیر والترتیب الزمني للمرویات الأسطوریە، لا یشكل التأریخ الفعلي للعصور، الا انها تدل وتعكس حقیقة العقلیة والحالة النفسیة وخفایا النظم الاجتماعیة والسیاسیة والدینیة للمجتعات عبر التاریخ.

فالانسان المعاصر ابتكر العدید من الاساطیر عن الحیاة والموت، اوحی الفن والموسیقی والادب. اذن، الاسطورة موروث ثقافي وحضاري لكل المجتمعات البشریة.

***

د. نوزاد جمال

باحث واستاذ في الفلسفة الحدیثة / سلیمانیه- اقلیم كردستان العراق

.....................

1- Paul Radin: Primitive Man as Philosopher 1927

 

لا يبدو لي مازقا لا يمكننا تجاوزه والخلاص منه حينما يقول فولتير "الارادة ليست حرة اما افعالنا فهي حرة". هذا التناقض البادي منطقيا يلزمنا القول الارادة هي وعي الذات بموضوعها. والارادة ليست غفلا طارئا يحددها الموجود المدرك موضوعا وكينونة مستقلة. الارادة هي الوعي القصدي الذي يلازمه هدفه المسبق قبل التوجه الوصول لموضوع ادراكه. هذا ما قال به هوسرل في فلسفة الظواهر حول الوعي القصدي وناقشت هذا الرأي الاحتمالي القابل للدحض في غير هذا المقال..

وهذا يحيلنا الى مفارقة تناقضية اكبر من الاولى حول الارادة تلك هي اذا كان الوعي القصدي يلازمه هدفه المعرفي معه قبل ادراكه لموضوعه الخارجي المستقل عنه. فمعنى هذا ان موضوع الادراك بالنسبة للوعي هو الذي يكتسب خاصيته المعرفية الهادفة التي يتوخى الوعي القصدي أن يجدها في موضوع ادراكه ولا يحملها معه وهو خطا. اي ليس هناك حاجة لادراك موضوع لا يكتسب فيه الوعي معرفة مضافة له نتيجة ادراكه لموضوعه. الوعي جوهر عقلي لا يدرك شيئا ليس له قيمة معرفية تضيف له خبرة مكتسبة او على الاقل تخارج معرفي بين الوعي ومدركاته.. فالحواس والعقل لا يشتغلان على شيء هو موضوع يدركانه لا معنى معرفي له. الموضوع قيمة ومعطى في الطبيعة والعالم الخارجي. أي الوعي لا يخلق موضوع إدراكه بل الموضوع يخلق الوعي به. الوعي غير محايد بل هو يدخل بعلاقة تكامل معرفي مع موضوعه. ثم الموجود كموضوع ليس له حظوظ الحضور الادراكي الذي يلفت اهتمام العقل التفكير به الا اذا كان يحمل خبرة معرفية مدخرّة فيه. الموضوع المجرد عن مضمون يعيه العقل خبرة مضافة لا وجود ولا قيمة له.. ولا يمكن تحقق موجود شكل بلا محتوى.

خطأ هوسرل في الفينامينالوجيا فلسفة الظواهر هو ان الوعي القصدي يحمل هدفه الادراكي معه لينقب ويبحث عنه كي يجده في موضوعه. الوعي القصدي الحامل لهدفه لا يحتاج ادراك موضوع يتخارج معه معرفيا. لذا مقولة هوسرل الوعي القصدي يحمل هدفه الادراكي الذي يبحث عن تكامله الوجودي في الموضوعات التي يدركها خطأ. الوعي القصدي على مستوى التفكير الانفرادي المجرد هو لاثبات الوجود الانطولوجي - المعرفي كما جاء به ديكارت في الكوجيتو انا افكر... اما الوعي القصدي على صعيد الادراك التخارجي معرفيا مع موضوعات العالم الخارجي فهو ليس التفكير لاثبات الوجود الانطولوجي للفرد الذي يفكر بل هو التكامل المعرفي في وعي موضوعه. الوعي القصدي اختراع فلسفي بالضد من ديكارت حين اعتبر التفكير مجردا من التعريف بموضوع التفكير هو ضرب ناقص من الوهم. الحقيقة التي سبق لنا اثباتها ان لا وجود لفاعلية تفكيرية خالية من موضوع يحتويه التفكير.

هنا نصطدم بتساؤل إلتباسي معقد بعض الشيء هو هل الخاصية المعرفية جوهرا يدركه الوعي موجود بموضوعه أم الخاصية المعرفية موجودة بالوعي القصدي الذي يحمل هدفه معه قبل ادراكه لموضوعه كما يعبّر عنه هوسرل ويرغبه !؟ الذي بدوره أي الوعي العقلي يخلع معرفته السابقة على موضوعه المدرك. كلتا الاجابتان عن التساؤل سوف توقعنا بالخطأ. لماذا؟

بداية الوعي بالاشياء والموضوعات هو ليس الانطباعات الاولية التي تنقلها الحواس بل الوعي هو رد فعل تفكير العقل بالموجودات والمواضيع. الوعي حين يختار موضوعه فهو يمتلك خبرة عامة عن موضوعه اي تصورات قبل ادراكه لكن هذا لا يعني الوعي يمتلك هدفا متكاملا يقصده في ادراك موضوعه. فالموضوعات الغفل الصدف وما اكثرها التي يواجهها الوعي اول مرة ويتعامل معها لا تخضع للمعيار التي سبق اشرنا له. اي تكون الموضوعات مادة خام لا يعرف عنها الوعي شيئا مسبقا قبل مواجهته لها. وليس معنى ذلك ان موضوعات الصدف الغفل يمنحها الوعي القصدي معرفة مضافة. بل الوعي بالمدركات هو عملية تخارج معرفي احدهما يغني الاخر ويثريه. الوعي فعالية عقلية هي رد فعل الدماغ عن مدركاته، بمعنى الوعي يمتلك تصورات عقلية سابقة لعملية ادراك الموضوعات الحسية وليس الموضوعات الغفل موضوعات الصدف.

قبل الاجابة عن التساؤل هل معرفة الشيء تتم بالادراك الحسي ام بالوعي؟ اود تثبيت ان الوعي القصدي الذي اخترعه برينتانو واخذه عنه تلميذه هوسرل في منهج الفلسفة الظاهراتية بدعة خاطئة ابتدعوها فلاسفة الفينامينالوجيا من بينهم سارتر وهيدجر وميرلوبونتي في الرد على الكوجيتو الديكارتي انا افكر... وسبق لي مناقشة هذه البدعة في اكثر من مقال منشور لي .

بضوء ما ذكرناه الاجابة الصحيحة ستكون علاقة الوعي القصدي بموضوعه علاقة تكاملية تخارجية معرفيا وليس علاقة جدلية ديالكتيكية تقوم على قانون نفي النفي في استحداث المركب الجديد في الظاهرة المستحدثة. فوعي الموضوع لا ينفي وجوده بل يتكامل معرفيا مع الوعي الانفرادي له. بابسط تعبير علاقة الوعي بموضوعه أخذ وعطاء. العقل لا يعي ما ليس له معنى و قيمة والوعي العقلي غير محايد. ادراك الوعي بخلاف ادراكات الحواس التي تكون محايدة بل وقاصرة في نقلها الانطباعات الاولية بصدق عن المحسوسات.. حين نقول وعي الموضوع هو عملية تخارج معرفي انما نقصد به (التغيير) في كليهما الموضوع والوعي معا. فالوعي لا يعي مدركاته لمجرد الوعي المحايد لها. الوعي هو تفكير تجريد العقل في تعبيره عن مقولاته في الموضوعات وحين يدخل الوعي في عملية تكامل وتخارج مع موضوعه فكلاهما الوعي والموضوع يتبادلان التغيير المعرفي التخارجي التكاملي بينهما. نفس هذه العلاقة تربط الفكر بالمادة فالفكر الذي يغني المادة يكون بالضورة المعرفية التخارجية يغتني ويتطور هو ايضا بالمادة.

من هنا نجد فرق ادراك الحواس لموضوعاتها هو ادراك محايد (نقل انطباعات) لا تربطه علاقة تفاعل وتخارج معرفي بين الحواس والمواضيع التي تدركها فهي أي الحواس ناقل الانطباعات الاولية الادراكية التي هي الاحساسات للذهن فقط.. باختلاف ادراك الوعي لموضوعاته ليس ادراكا محايدا بمعنى واسطة نقل الاحساسات التي يكتسبها من موضوعاته بعلاقة محايدة كما هو في دور الحواس غير تخارجية وتكاملية معرفية. بل علاقة الوعي بموضوعه هو عملية تداخل معرفي بينهما. هذا معنى اشار له كانط ان العقل يتناول موضوعه باثنتي عشر مقولة من مقولة العقل وهذا يوضح قولنا الوعي ليس محايدا في ادراكه وتعامله مع موضوعاته فهو يدخل بعلاقة تخارج معرفي وليس تخارج ديالكتيكي. ويكون الوعي مزودا بمقولات العقل الاثنتي عشر مقولة عن الموضوع المدرك حسبما اجملها كانط. الوعي بكل شيء لا ياتي من فراغ ولا يحدده الموضوع بل مصدره العقل وهو الذي يحدد وظيفة الوعي ايضا. ملاحظة مهمة العقل لا يخترع موضوعاته بل المحسوسات التي مصدرها الحواس تزوده بها.

الادراك العقلي بمعنى التفكير ليس من اجل اثبات وجود الذات انطولوجيا كما ذهب له ديكارت انا افكر اذن فانا موجود وليس مهما في الكوجيتو كيف تمت عملية معالجة الوعي لمدركات التفكير المجرد. بل العقل يهمّه الاصطدام بالحقيقة المباشرة هو لماذا تختار الحواس والذهن والدماغ هذه الموضوعات دون غيرها.؟ صحيح يصادف العقل احيانا الاصطدام بموضوعات طارئة غفل مصادفة عشوائية غير متوقعة ولا مناص للوعي من التعامل معها مع الحذر الشديد الوعي ليس هو العقل بل الوعي وسيلة العقل في معالجة موضوعات ومدركات العقل.. لكن اغلب مدركاتنا من الاشياء في اختيار الموضوعات مسبقا يكون مصدرها المحايثة الموجودة في الوعي في أهمية ما تختاره الحواس والعقل من موضوعات للمعالجة التغييرية وماذا يقول العقل او بالاحرى بعض خلايا الدماغ بشأنها..

الارادة فلسفيا

عندما يقول فولتير الارادة ليست حرة بل هي مقيّدة بمعيقات وكوابح الاعاقة في الوصاية عليها امر يحمل وجهات نظر مختلفة عديدة متباينة. فالارادة خاصية جوهرية للذات التي تقود الوعي القصدي نحو تحقيق اهدافه. الذات حرة بالفطرة البيولوجية فمثلما يكون الانسان كائنا عقلانيا وكائنا ميتافيزيقيا وكائنا لغويا وكائنا زمانيا فهو كائن حر ايضا بالطبيعة البيولوجية الفطرية لتكوينه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا؟) يسعى لاسترجاع حريته بكل وسيلة في حالة استلابها منه. لكن هذه الحرية لا تسري على الارادة في اتخاذ قراراتها الانفرادية بسبب كوابح ومعيقات عديدة. الارادة امتلاك فردي غريزي بيولوجي تصبح موضوعا للمجموع متى ماجرى الافصاح عنها بالفكر او في السلوك. بمعنى تحول الارادة الى فكر او سلوك نفسي عملي يفقدها خاصيتها الانفرادية لتصبح ملك المجموع.

شوبنهاور في عنونة كتابه المعروف "العالم ارادة وتمّثل" كان يرى صدقية وحرية الارادة أنها معطى بيولوجي فطري بمعنى ليس هناك من تاثير كبير في الوصاية التي تحد من حرية الارادة اتخاذها القرارات. وأجد في عنوان كتاب شوبنهاور خطا تراتيبي فالتمّثل يسبق الارادة عليه كان الاكثر معقولية ان يعنون شوبنهاور كتابه "العالم تمثل وارادة" فالعالم الموجود يسبق الفكر عنه. من حيث اننا نحتاج تمّثل عالمنا الخارجي استيعابا معرفيا كي يكون كفيلا ان يقودنا الى ارادة حرة باتخاذ قرارات متحررة هي ناتج تراكم خبرة صائبة تقينا الوقوع بالخطأ. خطأ شوبنهاور كان في اعتباره الارادة حرة بالضرورة / بينما الحقيقة تقول الارادة غير ذلك ولا يوجد تمثيل تناوبي تكاملي بين الارادة والحرية بل في الغالب يوجد احتدام متقاطع بينهما.

الحرية مسؤولية

الحرية بمفهومها الفلسفي الانفرادي وليس بمعناها الايديولوجي السياسي الجمعي. هي ممارسة الوعي السلوكي المنضبط بوعي الذات ورقابتها الانسانوية الاخلاقية. والحرية جوهر انساني مسؤول وملتزم بالضرورة. كما والحرية بمفهومها الفلسفي تكون انفرادية ولا تشكل ظاهرة عامة الا في المنظور السياسي لها فقط.

سارتر كما طالب ان يكون الادب ملتزما بالضرورة الاجناسية هو طالب ايضا الحرية الفردية تكون ملتزمة ومسؤولة عن هموم وقضايا الاخرين. الفرد الذي تحكمه الحرية المسؤولة ليست من اختياره الطوعي بل تأتيه مفروضة من المجتمع عليه كفرد ضمن مجتمع. كيف؟ الفرد الذي يمتلك وعيا انفراديا ناضجا متعاليا اكثر من محصلة وعي المجموع الذي يغلب عليه طابع التعبوية هو الذي يشعر حريته مرهونة بحرية مجتمعه ولا خلاص انفرادي امامه يلزمه لوحده ولا يلزم غيره مجتمعيا. لكنه مع هذا يسعى لرفع مستوى وعي المجتمع لمستوى وعيه الانفرادي المتعالي. واذا ما اخفق ووصل الطريق المسدود فليس امامه اختيار غير الانغماس في الكليّة المجتمعية القطعانية حتى لو فرض عليه الصمت كموقف من المجتمع والحياة.

قلنا ونحن نناقش هنا الحرية بمفهومها الفلسفي وليس الايديولوجي السياسي التي يكون فيها الالتزام يحكمها جمعيا وليس انفراديا كما في الفلسفة. المجتمعات البشرية غالبا ما تكون في وضعية (نسيان الوجود) او الناسيّة الكليّة كما يصفها هيدجر.

لذا يمتلك الحرية الانفرادية الحقيقية الشخص الذي يمتلك وعيا اعلى من مستوى الوعي الجمعي الذي يحكم المجتمع فتكون الحياة بمجملها في المجتمع تستنفدها امور واشباع الحاجات الاساسية البيولوجية والغرائزية التي يشترك بها المجتمع مثل الدوام بالوظيفة والعمل ومشاغل الاسرة في اشباع غرائز الجسم البيولوجية بانواعها ومختلف تجلياتها المفروضة على الحياة التي تجعل من المجتمع فردا بصورة مجموع.

هنا حين تكون الحرية غائبة او هي استنفدت نفسها في الكليّة الناسيّة في نسيان الوجود الجمعي الحقيقي المسؤول عن حريته في اتخاذ قراراته الصائبة. تبرز لا اراديا أهمية أن يتمتع الفرد المنفصل اللامنتمي للمجموع بالحرية الانفرادية المسؤولة الملتزمة حتى عندما يجد نفسه منفردا منعزلا متمردا عن القطعانية الغفل التي تحكم الوجود الجمعي بحكم العادة والاعتياد في الانغماس التام في روتين الحياة الاستهلاكي...

التساؤل ماهي كوابح ومعيقات حرية الفرد المتعالي في وعيه ويمتلك حساسية من نوع خاص خارج القطعانية المجتمعية ومتمرد على الانقيادية الاذعانية في الانغماس الضائع مجتمعيا في كليّة نسيان الوجود الحقيقي. هذا النموذج المتمرد يصطدم بالمعيقات الكابحة لطموحه في التالي:

- يعيش الانكفاء الانعزالي بمعنى الاغتراب المسؤول عن قضاياه وقضايا مجتمعه.- هنا غالبية الدراسات التي تعنى بالاغتراب تعتبره حالة انكفاء جواني هروبي سلبي من مشاكل المجتمع بينما الاغتراب لدى الشخص المكتمل وعيا ونضجا بالحياة فهو ليس فردا هاربا امام التحديات بل فردا يرغب ترك مسافة رصد ومعاينة لمشاكل وقضايا المجتمع الذي يعيش فيه. بمعنى يختار الحرية الازدواجية التي يرى فيها جوهر حريته الحقيقية هو في تحقيق حرية المجموع كما يتصورها هو لا كما اعتادها المجتمع تحت سلطة وصاية القانون وتخلف الوعي الجمعي.

- الانقلابية على الذات ليس في منظور ان حريته التي يتصورها لا قيمة مجتمعية لها بل هي محاولة الفرد الخلاص من جحيم الاخرين وجحيم الحياة. وهو ما تؤكد عليه الادبيات الفلسفية للوجودية الحديثة كما هي عند سارتر وهيدجر وياسبرز وجبرييل مارسيل.

- البحث عن القوانين الوضعية التي ترفع من الوعي الجمعي وتنصاع لما يحقق الصالح العام وإشباع الحقوق الاساسية بالحياة. في حق العمل والتامين الصحي والتعليم والضمان الاقتصادي والتمتع بمعطيات الحرية في سلوك منضبط قانونيا ومجتمعيا. هذا متحقق بما لا يستهان به في النظم الديمقراطية الليبرالية.

فولتير والحرية

" ارادتنا ليست حرة اما افعالنا فهي حرة" فولتير

من المفروض ان تكون عبارة فولتير واضحة لا تحتاج زرع الاشكالية التناقضية بها من حيث بدايتها تناقض تكملتها. واذا اردنا البحث عن تخريج منطقي يضفي عليها صواب تمريرها فلا نجد امامنا غير لغة المجاز تسعفنا بهذا المجال. دائما بالفلسفة تكون اللغة غير الواضحة في التعبير كما ارادها فيلسوفا الوضعية المنطقية جورج مور وفينجشتين هي ليس فقط قصور اللغة التعبير الدقيق عن معنى الاشياء و الموضوعات وانما هي ايضا نوع من المجاز اللغوي الذي يتلاعب باللغة في تمويه الافصاح الواضح عن الفكرة. في ايهام الدلالة العميقة الكاذبة في ما وراء اللغة العصيّة على التلقي.

لا الارادة الانفرادية المتمردة على الواقع المجتمعي المنقاد بطواعية التساؤل الملازم هو كيف يؤمن الانسان ويصنع مستقبلا افضل له ولعائلته.؟ ولا الارادة الجمعية التي استهدفتها العادة الاستهلاكية اليومية وافرغتها من عضوية مصنع الحيوية البشرية فاصبحت سطحية الحضور بحكم الاعتياد في الركض وراء تامين متطلبات المعيش في الاشباع الاستهلاكي المؤقت الخادع. كلا النموذجين من الحرية هو زائف غير حقيقي يعيشهما الفرد والمجموع بنوع من نسيان الوجود الضائع في الكليّة الناسّية والتكيّف الكاذب مجتمعيا.

رب قائل يقول هذه هي حقيقة الحياة ولا يستطيع الانسان ان يعيشها باكثر من الابعاد التي تحكمها العادة المترسخة بالتقادم الزمني على انها حياة الاشباع الاستهلاكي تحت رقابة القانون ودرجة وعي المجتمع. ومن المتعذر جدا نمذجة المجتمع بنوع من الحياة هي خارج المالوف المعتاد الذي اتفق عليه المجموع كما جاء به روسو بما أسماه (العقد الاجتماعي). فانت ملزم التنازل عن الكثير من الامنيات التي تطمح لها المحروم منها من اجل تحقيق صالح المجموع الخادع.

طبيعي جدا ان تكون مهمة الفرد المنسلخ عن مجتمعية الناسية بالوجود املا في تحقيق وجوده غير الزائف بالحياة صعبة ومؤلمة له ولامثاله من النخبة المجتمعية لذا تكون معاناة النخبة التي تمتلك وعيا متقدما على الوعي الجمعي المتكيّف استهلاكيا مهمتها غير متحققة لا على صعيد الازدواجية الذاتية الارادية المنقسمة على نفسها ولا على صعيد التخلي عن  مسؤوليتها تجاه مجتمعها المضلل المقهور بالنزعة الاستهلاكية التي تجد بالحياة عبئا ابتليت به الناس في روتين قاتل من النمط المعيش..

الارادة والحرية

الارادة ليست هي الحرية باتخاذ القرارات كما فهمها شوبنهاور. فغالبا ماتكون الارادة مثلومة امام قيد الحرية ذاته. اذا ما وضعنا بنظر الاعتبار الكوابح والمعرقلات المعيقة التي تصطدم بها الارادة قسرا وواقعا مفروضا عليها. فالارادة الانفرادية تقاطع ارادة المجموع في جوانب متعددة بضرورة التكيّف الالزامي الجمعي الزائف.. لذا نجد الفرد الذي لا يتمتع بارادة ذاتية حقيقية يسعى بالنهاية الانصياع المتكيّف بالناسّية المجتمعية متنازلا مكرها عن جميع احلامه ورغائبه المشروعة. اما ان تكون افعالنا حرة بخلاف ارادتنا فهو تناقض لا يقوم على سند فلسفي منطقي. من حيث الارادة هي السلوك المعلن والخفي. ومن المتعذر أن نجد ارادات انفرادية تاخذ حيّز التطبيق والتنفيذ في تقاطعها الحتمي مع غالبية ارادة المجموع التي انصهرت اجتهاداتها بفيتو منع القانون الوضعي. الارادات التي نتوهم قراراتها حرة نجد يصادر حريتها القانون الوضعي الذي يرى على الاقل مصالح المجموع اولى من مصالح الفرد وتتقدم عليها. عليه يكون التكيّف والانخراط في المجموع مايعّبر عنه فولتير(بالطاعة الضرورية). لكن غالبا ما نصطدم به عند التطبيق والتنفيذ الذي يجاهر به القانون في حقوق المجتمع تعلو حقوق الفرد انها ادعاءات فارغة باسم الطاعة الضرورية الملزمة.

يطرح فولتير جملة من عبارات غالبا ما يكون فيها وضعيا متماهيا مع سلطة القانون في مصادرته فوضوية الارادات المشتتة المختلفة تعسفيا. وقبل الاستشهاد ببعض من هذه العبارات التي يلبسها فولتير مخاتلة تعبير اللغة الغامض على انها تحمل كنوز مابين الاسطر وهي مغالطة فارغة.

اقول القوانين الوضعية تحكمنا بحجة صحيحة نسبيا انها الضمانة الوحيدة المتاحة في لجم الارادات الفوضوية والرغائب المنحرفة الانفرادية التي تحاول تخريب سلطة القانون والنظام. وفي وضع حد للنزعات المنفلتة التي تجد مصالحها في التخريب والممارسات التي تقاطع حياة المجتمع الطبيعية ولو في حدودها الدنيا المتاحة.

من اقوال فولتير وديدرو" من التناقض ان يكون في استطاعة مايجب ان يكون الا يكون" من هو الذي يقرر ما يجب في استطاعته ان يكون؟ لا يوجد غير الايمان بقدرية لا ادرية الافضل منها ان سبب ما يجب ان يكون لا يكون هو تقاطع بعض امور الحياة بالمصادفات العشوائية وحدوث ما هو غير متوقع حدوثه.

تعبيره الاخر " الحرية هي النتيجة المعروفة لعلة مجهولة" وقوله ايضا"كل شيء غارق بالنسبة لنا في هوة من الظلمات" لا اجد في طلاسم فولتير اللغوية ما يشي ويشير الى مضمون فلسفيي مدّخر فيما وراء اللغة المفككة العصّية. يوجد العديد من العبارات مثل هذه لم اتطرق لها فهو مضيعة وقت اجده بعيدة عن معنى التفلسف الجاد الهادف الذي يسير نحو فتح نوافذ رؤيوية متجددة بالحياة.

***

علي محمد اليوسف

...........................

ملاحظة: الاقتباسات الجملية المحصورة بين مزدوجتين مصدرها كتاب جان فال /الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر / ترجمة فؤاد كامل.

 

تقديم: نجد في السيرة الذاتية لزهير الخويلدي يما يلي: فيلسوف تونسي وباحث أكاديمي مختص في الفينومينولوجيا، الهرمينوطيقا، وفلسفة السرد، قدم إسهامات بارزة في دراسة التأويل والهرمينوطيقا من خلال قراءته لأعمال بول ريكور. حصل الخويلدي على الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة بأطروحة بعنوان "تقاطع السردي والإيتيقي من خلال أعمال بول ريكور". إسهاماته تتمحور حول تفكيك وإعادة صياغة مفاهيم ريكور التأويلية، مع التركيز على تطبيقاتها في سياقات فلسفية وعربية إسلامية. فكيف قرا الخويلدي هرمينوطيقا بول ريكور؟ بماذا تتميز قراءته عن بقية القراءات العربية للفيلسوف الفرنسي؟

فيما يلي تحليل لإسهاماته الرئيسية في قراءة التأويل والهرمينوطيقا عند بول ريكور:

1. - ابراز البعد الأنطولوجي للهرمينوطيقا عند ريكور

الإسهام: يركز الخويلدي على الهرمينوطيقا الفينومينولوجية عند ريكور كمشروع أنطولوجي يسعى إلى فهم الذات في علاقتها بالعالم. يرى أن التأويل عند ريكور ليس مجرد تفسير نصوص، بل عملية وجودية تكشف عن كينونة الإنسان.

التفصيل: في دراسته "المنعطف الهرمينوطيقي لفلسفة الدين عند بول ريكور"، يبرز الخويلدي كيف ينتقل ريكور من الفينومينولوجيا الماهوية إلى الهرمينوطيقا الفينومينولوجية، خاصة في كتاب رمزية الشر (1960)، حيث يؤسس ريكور لتأويل الرموز كوسيلة لفهم الشر والخطيئة كأحداث وجودية. يؤكد الخويلدي أن هذا المنعطف يجعل الهرمينوطيقا أداة لفهم الذات الفاعلة.

الأهمية: الخويلدي يوسع هذا المنظور ليطبقه على السياق العربي الإسلامي، مشيراً إلى إمكانية استخدام الهرمينوطيقا الريكورية لتفسير النصوص الدينية بطريقة تتجاوز الحرفية وتركز على الأبعاد الكونية والإنسانية.

2 - التركيز على تقاطع السرد والإيتيقا

الإسهام: يركز الخويلدي على مفهوم ريكور للهوية السردية كجزء من الهرمينوطيقا، حيث يرى أن السرد هو تأويل للتجربة الإنسانية يربط بين الأخلاق والفعل. أطروحته الدكتورالية تُظهر كيف يدمج ريكور السردي (في الزمن والسرد) مع الإيتيقي (في الذات عينها كآخر) لفهم الذات الفاعلة.

التفصيل: يوضح الخويلدي أن التأويل عند ريكور يتجلى في السرد كآلية لتنظيم الزمن والتجربة، مما يسمح بفهم الذات ككائن أخلاقي. في كتابه أنثربولوجيا الإنسان القادر (2023)، يطور الخويلدي هذه الفكرة ليبين كيف يمكن للهرمينوطيقا أن تُسهم في بناء أنثروبولوجيا فلسفية تركز على قدرة الإنسان على الفعل والمسؤولية.

الأهمية: يربط الخويلدي هذا التقاطع بالسياق العربي، مشيراً إلى إمكانية استخدام السرد الريكوري لفهم الهوية الثقافية والدينية في المجتمعات العربية، مع التركيز على التعددية الدلالية للنصوص.

3 - التأويلية والفن عند ريكور

الإسهام: في دراسته "الأثر الفني عند بول ريكور بين قابلية التبليغ والتعددية الدلالية"، يبرز الخويلدي كيف يتعامل ريكور مع الأثر الفني كنص مفتوح يتطلب تأويلاً هرمينوطيقياً. كما يرى أن بول ريكور، رغم عدم تقديمه كتاباً مخصصاً للإستيطيقا، يدمج الفن في مشروعه التأويلي كوسيلة لفهم التجربة الإنسانية.

التفصيل: يوضح الخويلدي أن الأثر الفني عند ريكور يحمل تعددية دلالية مشابهة للرموز في صراع التأويلات، حيث يتطلب تفاعلاً بين القارئ والنص. يربط هذا بمفهوم "اندماج الأفقين" عند ريكور، الذي يسمح بتأويل الفن كحدث وجودي.

الأهمية: يقترح الخويلدي تطبيق هذا المنظور على الأعمال الفنية العربية، خاصة الأدب والشعر، لفهم كيف يمكن للهرمينوطيقا أن تُثري التجربة الجمالية في السياق الثقافي العربي.

4 - الهرمينوطيقا الدينية وتفسير النصوص المقدسة

الإسهام: يركز الخويلدي على المنعطف الهرمينوطيقي لفلسفة الدين عند ريكور، مشيراً إلى أن ريكور يحرر الدين من المعاني السياسية ويركز على الأبعاد الكونية والإنسانية في النصوص الدينية. يرى أن الهرمينوطيقا الريكورية تتيح تفسيراً للنصوص المقدسة يتجاوز الصراعات المذهبية.

التفصيل: في دراسته بالموقع الحوار المتمدن، يوضح الخويلدي أن ريكور يقارن بين الهرمينوطيقا الفلسفية والدينية، مستدعياً فلاسفة مثل أوغسطين، كانط، وهيدغر لفهم اللغة الدينية كمحكي شفوي أو مدونة مكتوبة. يقترح الخويلدي أن هذا النهج يمكن أن يُطبق على النصوص الإسلامية لفهمها في سياقها الكوني.

الأهمية: يدعو الخويلدي إلى هرمينوطيقا دينية تقر بالاختلاف بين الديني واللاديني، وتسعى إلى تفسير النصوص الدينية بطريقة ترتقي إلى ما وراء الطوائف، مما يُسهم في الحوار بين الثقافات.

5- ترجمة ونقل أفكار ريكور إلى السياق العربي

الإسهام: الخويلدي لعب دوراً مهماً في نقل أفكار ريكور إلى القارئ العربي من خلال ترجماته ودراساته. ترجم عدة نصوص وحوارات لريكور، مثل حواره مع جاك ليكونت (فن التفكير ضد الذات) ونصوص حول نزع الأسطورة والهيرمينوطيقا.

التفصيل: في ترجماته، يحرص الخويلدي على إبراز الجوانب التأويلية في فلسفة ريكور، مثل النقد الذاتي كشرط لتقدم الفكر الفلسفي، والعلاقة بين الهرمينوطيقا والوجودية. كما يقدم تعليقات نقدية تُظهر كيف يمكن تطبيق هذه الأفكار على قضايا معاصرة، مثل الهوية والحرية.

الأهمية: هذه الترجمات جعلت أفكار ريكور متاحة للجمهور العربي، وساهمت في إثراء النقاش الفلسفي حول التأويل في السياق العربي.

6 - نقد الاختزالية وتعزيز التعددية الدلالية

الإسهام: يتبنى الخويلدي نهج ريكور في رفض الاختزالية (مثل اختزال النصوص إلى تفسير واحد)، ويؤكد على التعددية الدلالية كمبدأ أساسي للهرمينوطيقا. يرى أن التأويل عند ريكور يحترم تنوع وجهات النظر ويعزز الحوار.

التفصيل: في دراسته "الهرمينوطيقا ومبادئ التأويل"، يوضح الخويلدي أن ريكور يرى الهرمينوطيقا كدراسة للمبادئ العامة لتفسير النصوص، خاصة المقدسة، مع التركيز على اكتشاف الحقائق والقيم من خلال التأويل. يربط هذا بالسياق العربي، داعياً إلى تفسير النصوص الثقافية والدينية بطريقة تحترم التعددية.

الأهمية: هذا النهج يُسهم في مواجهة التفسيرات الحرفية أو الدوغمائية في السياق العربي، ويعزز الحوار بين التيارات الفكرية المختلفة.

7 - تطبيق الهرمينوطيقا على قضايا معاصرة

الإسهام: يطبق الخويلدي الهرمينوطيقا الريكورية على قضايا معاصرة مثل السلطة، الحرية، والهوية. في دراسته "السلطة السياسية بين القوة الفيزيائية والقدرة الأخلاقية"، يستخدم مفاهيم ريكور لتحليل العلاقة بين السياسة والأخلاق، معتبراً التأويل أداة لفهم السلطة كفعل إنساني.

التفصيل: يرى الخويلدي أن الهرمينوطيقا عند ريكور تتيح فهماً أعمق للظواهر الاجتماعية والسياسية من خلال تحليل الرموز والسرديات التي تشكلها. يقترح استخدام هذا النهج لفهم التحولات السياسية في العالم العربي.

الأهمية: هذا التطبيق يُظهر مرونة الهرمينوطيقا الريكورية وقدرتها على معالجة قضايا معاصرة، مما يجعلها ذات صلة بالسياق العربي.

الخاتمة

إسهامات الاستاذ زهير الخويلدي في قراءة التأويل والهرمينوطيقا عند بول ريكور تتمحور حول إبراز البعد الأنطولوجي للهرمينوطيقا، التركيز على تقاطع السرد والإيتيقا، تحليل الأثر الفني، تفسير النصوص الدينية، ترجمة أفكار ريكور، تعزيز التعددية الدلالية، وتطبيق الهرمينوطيقا على قضايا معاصرة. يتميز الخويلدي بقدرته على ربط أفكار ريكور بالسياق العربي الإسلامي، مما يجعل الهرمينوطيقا أداة لفهم الهوية، الثقافة، والدين في المجتمعات العربية. من خلال دراساته وترجماته، ساهم الخويلدي في إثراء النقاش الفلسفي العربي وتعزيز الحوار بين الثقافات، مع الحفاظ على الطابع الجدلي والإبداعي للهرمينوطيقا الريكورية. فماهي الفتوحات الفكرية التي تحملها قراءة الخويلدي لريكور لحضارة اقرأ؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

...................

المراجع

الخويلدي، زهير. أنثربولوجيا الإنسان القادر. تونس، 2023.

الخويلدي، زهير. "المنعطف الهرمينوطيقي لفلسفة الدين عند بول ريكور." الحوار المتمدن.

الخويلدي، زهير. "الأثر الفني عند بول ريكور بين قابلية التبليغ والتعددية الدلالية." مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2016.

الخويلدي، زهير. "الهرمينوطيقا ومبادئ التأويل." الأنطولوجيا، 2021.

الخويلدي، زهير (ترجمة). "فن التفكير ضد الذات: حوار مع بول ريكور." جريدة عالم الثقافة، 2020.

الخويلدي، زهير (ترجمة). "أناقة بول ريكور وشجاعة رودولف بولتمان." جريدة عالم الثقافة، 2023.

ريكور، بول. صراع التأويلات: دراسات هيرمينوطيقية. ترجمة منذر عياشي. بيروت: دار الكتاب الجيد المتحدة، 2022.

 

يمكن أن تكون الفضيلة طريقًا نحو سعادة العقل، ولكن هل يمكن للإنسان أن يكون سعيدًا إذا كانت الفضيلة مفروضة عليه؟ تعتبر الفضيلة مفهومًا مركزيًا في مختلف الثقافات والأزمنة، وقد تم فرضها عبر التعليمات السلطوية كوسيلة للحفاظ على النظام الاجتماعي على مر العصور، استخدمت الحكومات والأنظمة السياسية التعليمات السلطوية لتوجيه سلوك الأفراد، مما يثير تساؤلا عن الحرية الشخصية والاختيار، هل الفضيلة التي تُفرض تُعتبر فضيلة حقيقية؟ تطرح هذه المعادلة تساؤلات عميقة حول طبيعة الأخلاق، الحرية، والسعادة. ما مفهوم سعادة العقل يمكن أن يُعتبر فضيلة وجودية لكنها سردية تاريخية خارجية في عدة جوانب:

سعادة العقل تمثل هدفًا أساسيًا للوجود البشري، حيث يسعى الأفراد لتحقيق السلام الداخلي والرضا، اذ تعزز السعادة من أهمية الاختيار الحر، مما يجعلها فضيلة وجودية تتعلق بالمسؤولية الفردية، عبر العصور، تطورت مفاهيم السعادة وعلاقتها بالعقل. في الفلسفات القديمة، مثل الفلسفة اليونانية، كانت السعادة مرتبطة بالفضيلة والحكمة وقد شهدت المجتمعات تغيرات في مفهوم السعادة نتيجة للتغيرات السياسية والاجتماعية، مما ساهم في تشكيل السرديات حول العقل والسعادة، سعادة العقل ليست مجرد مفهوم فلسفي، بل هي فضيلة وجودية تعكس التجربة الإنسانية وتاريخها المليء بالتطورات الثقافية. كما تعكس هذه السعادة رحلة البحث عن المعنى والهدف في الحياة.

سعادة العقل ومفهوم الوعي الذاتي

يساعد الوعي الذاتي الأنسان في التعرف على مشاعره وأفكاره، مما يسهم في تحقيق رضا داخلي، يمكّن الأفراد من تقييم سلوكياتهم وأفعالهم، مما يؤدي إلى تحسين الذات ويعزز قبولها، وهو ما يعد عنصرًا مهمًا في تحقيق سعادة العقل، كما يساعد الأنسان في اتخاذ قرارات تتماشى مع قيمه وأهدافه، مما يعزز الشعور بالسعادة والرضا، الأفراد الذين يمتلكون وعيًا ذاتيًا أعلى غالبًا ما يشعرون بتوازن نفسي أفضل، ما يساهم في سعادتهم، الوعي الذاتي يعد عنصرًا أساسيًا في تحقيق سعادة العقل، مما يؤدي إلى شعور أعمق بالرضا والسعادة.

سردية السعادة العقلية وفلسفة اللذة

هناك وشائج فكرية بين سردية السعادة العقلية وفلسفة اللذة. السعادة العقلية تتعلق بالسلام النفسي والرضا الذاتي، وهي تشمل جوانب مثل الوعي الذاتي والتقبل، تتطلب السعادة العقلية ارتباطًا عميقًا بالقيم والأهداف الشخصية، في الفلسفات مثل الأبيقورية، تُعتبر اللذة هدفًا رئيسيًا للحياة، ولكنها تُفهم على أنها لذة متوازنة وغير مفرطة وبدون الم، تُعزز اللذة العقلية من الاستمتاع بالأفكار، الفنون، والتجارب الفكرية، اللذة غالبًا ما تكون لحظية، بينما السعادة العقلية تتطلب التوازن والاستمرارية، إن السعادة العقلية تسعى لتحقيق معنى أعمق في الحياة يمكن أن تسهم اللذات العقلية في تعزيز السعادة، وبالتالي يؤدي السعي الواعي نحو اللذات الصحية إلى تعزيز السعادة العقلية، تتفاعل سردية السعادة العقلية وفلسفة اللذة في البحث عن معنى الحياة والرضا، حيث يمكن أن تكون اللذة جزءًا من السعادة، لكن السعادة العقلية تتطلب عمقًا ووعيًا أكبر.

الإرادة الحرة والسعادة العقلية

الإرادة الحرة تمنح الأنسان القدرة على اختيار سلوكياته وأفعاله، مما يؤثر على تحقيق السعادة واللذة، يمكن للأنسان تحديد ما يجلب له السعادة، سواء كان ذلك عبر تجارب معينة أو علاقات، الإرادة الحرة تعني أيضًا تحمل المسؤولية عن نتائج الخيارات، مما يعزز الوعي الذاتي والنمو الشخصي، الإرادة الحرة تمكن الأفراد من اختيار اللذات التي تعزز من سعادتهم العقلية، مثل الفنون أو الأنشطة الاجتماعية وتمكن الأنسان من تجنب اللذات الفورية التي تؤدي إلى نتائج سلبية على المدى الطويل، الإرادة الحرة تسمح للأنسان الوصول الى حالة من التوازن بين اللذات اللحظية والسعادة المستدامة، الإرادة الحرة تعزز من القدرة على التفكير في الأهداف الشخصية والسعي لتحقيقها، مما يؤدي إلى السعادة العقلية من خلال الإرادة الحرة، و يمكن الأفراد ممارسة التأمل والتفكير في ما يجعلهم سعداء الإرادة الحرة تلعب دورًا حاسمًا في السعي نحو السعادة العقلية واللذة، حيث تمكن الأفراد من اتخاذ قرارات واعية، تحمل المسؤولية، وتحقيق توازن بين اللذات والسعادة المستدامة، الإرادة الحرة تتيح للأفراد اختيار القيم والمبادئ التي يرغبون في تبنيها، مما يعزز من وعيهم الذاتي، تعزز الإرادة الحرة من الوعي بمسؤولية الفرد تجاه أفعاله، مما يسهم في نمو الوعي الأخلاقي، استخدام الإرادة الحرة في ممارسة التأمل والتفكير النقدي يعمق الفهم الشخصي كما يمكن استخدام سردية الإرادة الحرة كأداة فعالة في السعي لتحقيق الوعي الذاتي، حيث تعزز من القدرة على اتخاذ قرارات واعية، تحمل المسؤولية، وتطوير الوعي الاجتماعي.

الحدود البايولوجية للإرادة الحرة

هناك حدود لقدرة الدماغ البشري على معالجة المعلومات وفهمها، مما يؤثر على مستوى الوعي، تختلف القدرات العقلية والوعي من شخص لآخر بناءً على العوامل الوراثية والبيئية، يمكن أن تعيق المخاوف والمعتقدات الراسخة من تحقيق وعي كامل، حيث تؤثر على كيفية رؤية الأفراد للعالم، التجارب المؤلمة قد تعوق الأفراد عن الوصول إلى مستويات أعلى من الوعي، الخلفيات الثقافية والعادات الاجتماعية يمكن أن تحد من قدرة الأفراد على التفكير النقدي وفهم الذات، التوقعات المجتمعية والضغط الاجتماعي قد تؤثر على الإرادة الفردية وتحد من الوصول إلى الوعي الكامل.

المعرفية الوجودية

نقص المعرفة أو المعلومات يمكن أن يحد من فهم الأفراد للعالم ولأنفسهم، القضايا الوجودية مثل معنى الحياة والموت قد تظل بلا إجابة كاملة، مما يؤثر على الوعي، الوعي عملية مستمرة و تتغير آراء الأفراد ووجهات نظرهم مع مرور الوقت، مما يعني أن الوصول إلى وعي كامل قد يكون غير ممكن، على الرغم من أن الإرادة الحرة تلعب دورًا مهمًا في السعي نحو الوعي الكامل، إلا أن هناك حدودًا بيولوجية، نفسية، اجتماعية، ومعرفية تحد من قدرة الإنسان على الوصول إلى الوعي الكامل وهو حالة من الإدراك العميق والشامل للذات وللبيئة المحيطة، يتميز بالقدرة على فهم الأفكار، المشاعر، والسلوكيات، وكذلك التفاعل، التفاعل مع العالم بشكل واعٍ، الوعي الكامل هو حالة شاملة من الإدراك تتضمن فهم الذات والبيئة، التفكير النقدي، والتواصل الفعّال، مما يسهم في تحقيق النمو الشخصي والتفاعل الإيجابي مع العالم.

الوعي الكامل والوعي الذاتي

 الوعي الذاتي يتعلق بكيفية رؤية الفرد لنفسه يركز على التعرف على الجوانب الداخلية للفرد، مثل الهوية، القيم، والنقاط القوية والضعيفة، الوعي الكامل هو حالة شاملة من الإدراك تشمل فهم الذات والبيئة المحيطة، بالإضافة إلى القدرة على التفكير النقدي والتفاعل بفعالية، يمتد ليشمل الإدراك الكامل للعالم الخارجي، بما في ذلك العوامل الاجتماعية والثقافية والبيئية، وليس فقط الذات يتضمن جوانب الوعي الذاتي، لكنه يتعدى ذلك ليشمل التفاعل مع الآخرين وفهم السياقات الأوسع، الوعي الذاتي يتعلق بفهم الفرد لذاته، بينما الوعي الكامل يشمل هذا الفهم بالإضافة إلى الإدراك للبيئة والتفاعل معها. الوعي الكامل يعتبر حالة أكثر شمولية لكنها تتطلب الوعي الذاتي كجزء أساسي.

الوعي الكامل سردية خارجية

الوعي الكامل يمكن اعتباره مفهومًا معقدًا تتداخل فيه العديد من العناصر. قد يُنظر إلى الوعي الكامل كفكرة مثالية أو هدف غير قابل للتحقيق بشكل كامل، مما يجعله سردية خارجية ترمز الى ما يجب أن يكون بدلاً من ما هو موجود فعليًا، هناك ضغط اجتماعي للبحث عن الوعي الكامل، ما يمكن أن يؤدي إلى شعور بعدم الكفاءة أو الفشل إذا لم يتحقق، السعي إلى الوعي الكامل قد يجعل الأفراد يشعرون بأن هويتهم غير مكتملة، و يعكس ضعفًا في فهم الذات، التركيز على تحقيق حالة مثالية قد يؤدي إلى شعور بالانفصال عن الواقع ويؤثر سلبًا على الهوية، يمكن أن يكون السعي نحو الوعي الكامل تحفيزًا للنمو الشخصي، لكنه يجب أن يتم بطريقة تحافظ على صحة الهوية، الوعي الكامل يجب أن يُفهم كعملية مستمرة بدلاً من هدف نهائي، مما يساعد في تقليل الضغط الناتج عن السرديات المثالية، الوعي الكامل يمكن أن يكون سردية خارجية افتراضية، لكنه أيضًا يمكن أن يُعتبر نقطة ضعف في الهوية إذا أدى إلى شعور بعدم الكفاءة أو الانفصال. من المهم تحقيق توازن بين السعي نحو الوعي والنظر إلى الهوية كعملية مستمرة، لذا تعتبر فكرة الإجبار على الفضيلة وسعادة العقل موضوعًا مثيرًا في الفلسفة والأخلاق في السياق التاريخي، التوفيق بين الحرية الفردية والإجبار على الفضيلة يعد تحديًا فلسفيًا وأخلاقيًا معقدًا وتفسيرات الفضيلة يختلف باختلاف الزمان والمكان مما يجعل التعريفات تتطور باستمرار كذلك الفضيلة قد تكون شخصية حيث يراها الفرد بشكل مختلف بناءً على تجاربه وقيمه الفضيلة تعتمد على حرية الاختيار. إذا تم إجبار شخص ما على التصرف بشكل فضيل، يفقد قيمة هذا الفعل.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

تمهيد: مالبرانش فيلسوف فرنسي قسيس 1638- 1715 اراد الجمع بين فكر القديس اوغسطين مثله الفلسفي الاعلى وافكار ديكارت الفلسفية العقلية الايمانية. مالبرانش له فلسفة خاصة حول الرؤية في الله، وينكر السببية، تأثر بكتاب ديكارت حين وجد ديكارت الديني يجمع بين الله وخلود النفس الروحانية. (عن الويكيبيديا بتصرف).

قبل مغادرة هذا التمهيد ديكارت لم يقل النفس روحا خالدة هي والعقل التجريدي (اللوغوس) وليس العقل البايولوجي (الدماغ) والخلط بين الروح والنفس خطأ لا يحتاج الى شرح تفصيلي بل باختصار النفس هي من خصائص بيولوجيا الانسان وعلم النفس بكل تفرعاته. والروح مصطلح ميتافيزيقي ديني غيبي تتناوشه الشكوك على صعيدي الوجود والماهيّة من كل حدب وصوب حتى العجز عن اعطاء جواب علمي.

مالبرانش في مذهب وحدة الوجود

يذهب مالبرانش ان الوجود لا يتحقق في تجارب القوانين الفيزيائية المشكوك بها بل الوجود يتحقق بالايمان بالله. مالبرانش عن علم مسبق اقتباسي او توارد خواطر فلسفية فهو يكرر ما كان ذهب له سورين كيركجورد انه في تعطيل الاستدلال العقلي والغاء السببية والعليّة التي قال ببطلانها ديفيد هيوم نصل الى حقيقة التسليم ان تحقيق الوجود الايماني انما يتم بقفزة ايمانية في المطلق الالهي الغيبي يقررها القلب وليس العقل.

التساؤل اذا اعتبرنا القوانين الفيزيائية العامة التي تحكم الطبيعة هي قوانين موجودة في الله جزءا فيه !! كما يذهب له مالبرانش فهل نستطيع بدلالة القوانين العامة للطبيعة الموجودة بالله تاكيد وحدة الوجود مابين قوانين الطبيعة الفيزيائية العامة وبين الذات الالهية كما تفعل المذاهب الصوفية؟ اجابتي عن تساؤلي من المحال الجمع بينهما لسببين:

- الله وجود مفهومي ميتافيزيقي غيبي غير مدرك ولا محدود بصفات ولا جوهر. والحلول الصوفي بالذات الالهية امر مشكوك به من الالف الى الياء.

- القوانين الفيزيائية الطبيعية يمكن التحكم بها ماديا ولكن لا يمكنها المجانسة النوعية باي شكل او تدخل في علاقة صوفية مع الخالق الذي كما ذكرنا مفهوم ميتافيزيقي مصدره الايمان القلبي وليس العقل. ماهية الخالق لا تجانس ماهية البشر ولا حتى بالهوية. لذا من الصعب جدا افتراض حلول الذات البشرية الصوفية بذات الالهي التي لا تدرك أن تكون متحققة.

من الصعب جدا التسليم غير المشكوك به ان القوانين الطبيعية العامة والله جوهر واحد في ماهية نوعية واحدة المجانسة. من حيث اننا نستطيع ادراك القوانين الطبيعية العامة بعلاقتها في التحكم بالطبيعة والعقل وليس بعلاقة الاستدلال الايماني القلبي الميتافيزيقي بالله. هذا اذا جاز لنا فصل القوانين الطبيعية الفيزيائية عن الوجود والانسان فصلا كاملا. والا دخلنا في نمط من الاعتباط التشييئي الخاطيء جدا حين نذهب ان ماهية الانسان او جوهره موجود بالله كما هي حال القوانين الطبيعة الفيزيائية انها جزء موجود في الخالق قبل ارادة الله خلق وجودها الوظائفي في التحكم الثابت بالطبيعة وتمنحها تماسك موجوداتها الذي يجعلها اي الطبيعة غير مفككة بانقسامات موجوداتها الموحدة استقلاليا احتوائيا داخل الطبيعة غير المتناثرة الوجود مكانا اعتباطيا. موجودات الطبيعة المستقلة داخل علاقاتها مع الطبيعة التي تحتويها وداخل العلاقات البينية فيما بين تلك الموجودات ايضا محكومة الوجود داخل احتواء الطبيعة لها.. طبعا هنا علينا التفريق ان الطبيعة وجود مستقل كوكب ارضي متماسك بقوانين فيزيائية عامة ثابتة تحكمها. رغم العلاقات البينية بين موجوداتها التي تحتويها الطبيعة باستقلالية عنها داخل احتوائها لها فقط. الا ان تلك الموجودات المستقلة داخل الطبيعة الاحتوائية لها متناثرة الموجودية مكانيا كما ولا يجمعها التجانس النوعي مع بعضها البعض فالجمادات غيرها النباتات وكلاهما غير الحيوان. رغم التعايش المتبادل بينها وبين الانسان معا في علاقة تكيّف وانسجام براجماتي غير معلن لكنه متحقق طبيعيا..

استقلالية الموجودات المحتواة داخل الطبيعة لا يمنحها الخروج والانفلات عن كوكب الارض المحكوم بقانون الجاذبية والا لما كنا وجدنا كوكبا نعيش فيه مستقلا بنفسه يسمى الارض.. وموجودات الطبيعة المستقلة في الطبيعة هي موضوعات الادراك الحسي والعقلي عند الانسان. فالانسان موجود جزئي من الطبيعة متمايز ومنفصل عنها وهو يعي علاقة وجوده الارتباطية البراجماتية النسبية بالطبيعة. بخلاف الطبيعة غير العاقلة التي لا تعي علاقاتها التكيفية المعاشة بين مكوناتها من انسان وحيوان ونبات وجماد.. الانسان يؤنسن ذاته بوجوده جزءا من الطبيعة لكن لا تقدر الطبيعة طبعنة الانسان في علاقتهما المتبادلة سواء بالمنفعة التي تؤديها الطبيعة للانسان او بعلاقة التكيّف الالزامي المفروض على الانسان من الطبيعة.

فالانسان يقود الطبيعة في نفس وقت الاعتياش عليها متمايزا بالعقل عنها منفصلا بالتبعية والانقياد لها ليس كما هي علاقة الحيوان الانقيادية للطبيعة. الانسان لا ينقاد للطبيعة بل يتكّيف انتفاعيا معها. تكيّف الحيوان مع الطبيعة لا يحكمه تفكير العقل كما هو تكيّف الانسان العقلاني معها. بخلاف الطبيعة التي لا تمتلك وعيا ادراكيا بعلاقتها مع الانسان وباقي موجوداتها من كائنات حيوان ونبات وجماد والعلاقات البينية بينهم.

هل من المتاح لنا ان نعتبر القوانين الطبيعية الثابتة التي تحكمنا ككائنات حيّة وكائنات اخرى غير حيّة هي جزء من الطبيعة منفصلين وجودا عنها متكاملين معرفيا متعايشين معها.؟ القوانين الفيزيائية الطبيعية العامة هي معجزات لا دينية بمقدار ما هي معجزات علمية فيزيائية. بمعنى ليس في خرقها من قبل الانببياء والرسل نتوصل الى الايمان الديني لاهوتيا. فخرق القوانين الطبيعية العامة هو خرق لقوانين فيزيائية تحكم الطبيعة ولا تحكم الدين.

لو نحن اخذنا المنهج الصوفي في تحليل هذه العلاقة بين معجزات القوانين الطبيعية فيزيائيا وليس لاهوتيا في الوصول الى الايمان الديني التوحيدي لوجدنا انفسنا نسقط في امكانية (استثماراتنا) العلمية لتلك القوانين التي تقودنا  الوصول الى تشييء الوجود الالهي ماديا غير الغيبي الايماني وهو محال. تشييء الخالق او احدى صفاته هو تعجيز عقلي بمعنى تعطيل العقل عن التفكير بابعد مما يدركه ماديا.

سبينوزا والايمان الديني

سبينوزا في بحثنا العلاقة رباعية الابعاد ذات الاضلاع الاربعة الانسان/ الطبيعة/ والذات الالهية/ وقوانين فيزياء الطبيعة/ في تعالقاتها البينية عبّر عنها سبينوزا اننا بدلالة الجوهر ندرك الوجود على خلاف الماركسية والوجودية اللتان تغلبّان الوجود على الفكر والجوهر.. رغم ما يحيط هذا التعبير من مقاطعة تتشبث بالمثالية بالضد من المادية.

الجوهر ماهيّة لوجود مادي سابق عليه وبدلالة الوجود المادي نحاول ادراك الجواهر بالاشياء والموجودات التي ليست جميعها تمتلك جوهرا. فتوجد كائنات حيوانية ونباتية لا جوهر ولا ماهيّة لها بل صفاتها الخارجية هي جوهرها. بإستثناء الانسان الذي يمتلك الصفات الخارجية المتفردة نوعيا عن غيرها في صفات الافراد الاخرين. ويمتلك قدرة تصنيع ماهيته او جوهره الخاص به. اي يصنع هويته الانفرادية الماهوية المميزة عن الهويات الماهوية في النوع من جنسه.

وذهب سبينوزا اكثر من قوله بدلالة الجوهر ندرك الوجود في استجلابه المرجعية الايمانية الغيبية خارج المعجزات المنسوبة للايمان التي هي معجزات القوانين الفيزيائية العامة التي يكتشف الانسان اعجاز الطبيعة فيها وليس اعجاز الايمان الديني فيها.. لذا نجد سبينوزا ابطلها لانها منافية للعقل وليست منافية للايمان الديني. ونجد سبينوزا ذهب اننا بدلالة الجوهر الالهي الكلي المطلق الازلي الله ندرك الوجود وندرك الطبيعة في مجمل كائناتها كما وندرك الجواهر الموزعة في موجودات الطبيعة..

اول الامور التي يتوجب نشير لها ان سبينوزا اعتبر الخالق الالهي جوهرا موزعا في الطبيعة على شكل جواهرلانهائية موزعة متناثرة إعتباطيا بكل شيء يدركه العقل وليس على اشكال من الموجودات تتوزعها الطبيعة والكون كما هو الحال الذي يماشي تفكير العقل.

كما وليس الخالق موجودا متعيّنا يمكن ادراكه ماديا بصفات خارجية وجوهر. وهذه مسالة التباسية يقف العقل الانساني المحدود الاجابة الحاسمة عنها من حيث تلغي الوجود الالهي على اي شكل كان متصورا ماديا او لامتصور خياليا.

سبينوزا اعتمد الطبيعة مرتكزا اساسيا في جعلها الام التي انجبت تفكير الانسان بصنع الهه وهو ماذهب له نصا فيورباخ في وحدة وجود صوفية لا دينية مادية تاملية مصدرها علاقة الانسان بالطبيعة كانت هي اصل الدين.

سبينوزا حين جعل الخالق جوهرا كليّا لا يمكن ادراكه موزعا على جميع الاشياء والمدركات في مذهب وحدة الوجود الصوفية يكون بذلك اعفى مهمة العقل التفتيش عن اثبات وجود الخالق حتى على مستوى المعجزات التي ينسب لها صفة الايمان الديني وهي في حقيقتها معجزات ذات طبيعية فيزيائية قابلة للادراك العقلي وليست معجزات غيبية جيّرها اللاهوت لحسابه دينيا وانكرها سبينوزا على انها قوانين فيزيائية تخص الطبيعة فقط وليس اللاهوت فأتهم بالزندقة واباح الكنيست اليهودي اهدار دمه..

صوفية الزن والرستفارية

صوفية الزن في الديانة البوذية تنكر وجود الخالق خارج علاقة موجودات الطبيعة بالانسان وبهذا تقترب من فلسفة فيورباخ التي سبق لنا الاشارة لها التي تتلخص بان اصل الدين هو علاقة الانسان بالطبيعة حصرا وليس علاقة الانسان فيما وراء الطبيعة خارجيا ميتافيزيقيا. الايمان الديني اختراع ارضي وليس معطى سماوي حسب فيورباخ الذي اتهم بالالحاد.

كما نجد في الديانة البوذية مذهب (الشنتوية) اليابانية انها ترى في الامبراطور تجسيدا للاله على الارض وهي نسخة مشابهة للديانة (الرستفارية) الجامايكية – الاثيوبية الاصل والمنشأ المشتقة من اسم الامبراطور الاله الاثيوبي هيلا سيلاسي. الذي حكم اثيوبيا حيث كان اسمه قبل تنصيبه (تفاري ماكوان). ويبلغ تعداد هذه الطائفة الرستفارية اليوم نحو مليون نسمة يؤمنون بأن الامبراطور هيلاسلاسي (الها) لم يمت ولا زال حيا وربما رفع جسده الى السماء. نفس هذا المنحى نجده في الديانة الهندوسية في تأليه (براهما) وفي الديانة البوذية في تأليه (بوذا). صوفية الزن ايضا اتخذت من بوذا الها تعبده وانكرت وجود اله توحيدي يدير العالم من السماء كما وتذهب صوفية الزن الى ان وحدة الوجود التي نجدها بالاشياء والموجودات الطبيعية كافية للايمان الروحاني وتغني عن البحث عن وجود اله في السماء وليس على الارض يمنحنا وجوده الغيبي الايماني. تعاليم بوذا الروحانية هي التي تجعل منه الها ارضيا يعبد. منكرين البعث وحياة يوم القيامة والحساب كما هو متعارف ومستنسخ في الاديان التوحيدية الثلاث.

انت حسب الايمان الصوفي الزن البوذي في وحدة الوجود لكي تدرك العلاقة الروحانية التي تربطك بالزهرة مثلا عليك ان تدرك ذاتك هي الزهرة تارة وتارة اخرى تدرك ذاتك التي تملكها انت كجسم روحاني يجد ان ذاته الروحانية لها علاقة ترابطية نفسية قوية حميمية مع الزهرة تصل الى حد ان يجد ذاته الروحية فيها..

مالبرانش والاعتباطية بالخلق

يذهب مالبرانش والعهدة على جان فال مؤرخ الفلسفة الفرنسية الى ان العالم المادي بوصفه من خلق ارادة الله الاعتباطية – وهذا التعبير من اكثر الجوانب دهشة في تعبير مالبرانش الفيلسوف القسيس -  فإن العالم المادي لم يكن ليوجد الا لان الله طاب له ان يخلقه. ونحن لا نعرف هذا العالم الا عن طريق الوحي. ولا يمكنننا البرهان الحقيقي للعالم المادي الا في الكتاب المقدس، ولا شيء سوى الايمان يكشف لنا عن وجود الاجسام بحق. 1 ص37

يعقب جان فال على ما سبق لمالبرانش قائلا: " اننا نستنتج من كلام مالبرانش وجود نوعين من العلوم، علوم تبحث في العلاقات القائمة بين الافكار المجردة، وعلوم اخرى تبحث في العلاقات القائمة بين الاشياء (بتوسط افكارها). 2 ص37

لو نحن اخذنا العلوم القائمة بين الاشياء بتوسط افكارها لوجدنا انفسنا امام حقيقة عدم وجود علم يقوم على افكار نظرية مجردة عن التجربة والتطبيق. فالعلوم الطبيعية قاطبة تقوم على فكرة نظرية وتجربة برهان. العلوم تختلف بالاختصاصات لكنها لا تختلف بثوابت المنهج العلمي. الافكار المجردة التي تبحث نظريا في منحى علمي لا تخلق علما بلا تجربة وتطبيق اختباري.

سمة الفكر التجريد وسمة العلم التجربة والتطبيق. افضل مثل يمكننا الاستشهاد به فلسفيا وليس علميا هو نموذج الفلسفة البراجماتية الامريكية او الذرائعية التي تذهب الى ان صواب وصحة قبول اية افكار نظرية يتوقف على مدى نجاحها عبور الفلترة التجريبية العملانية في تحقيقها المنفعة. والافكار النسقية المنضبطة منطقيا عقليا غير كافية لان تكون علما او نظرية صائبة. هذا على صعيد الفلسفة فما بالك لو طبقنا هذا المعيار على العلوم؟

مالبرانش والدوغمائية الايمانية

يذهب التطرف الايماني اللاهوتي لدى مالبرانش ابعد الحدود قوله مثلا: العلوم الطبيعية هذه المرة وليست القوانين الفيزيائية العامة تعتمد حسب مالبرانش في كثير من الاحيان على تجارب وظواهر مشكوك بها الى حد ما. ويصفها مالبرانش انها اعظم قيمة بالنسبة لنا من العلوم الرياضية، هذه العلوم خاضعة للنظام الموجود في الله. 3ص37.على ماذا اعتمد مالبرانش في استدلاله ان نظام الرياضيات وباقي العلوم الطبيعية خاضعة ومستمدة من النظام الموجود في الله.؟ نظام الرياضيات مخلوق بشريا وهو نظام ازلي ثابت لا يمكن تغييره ولا التلاعب بثوابته (المعادلات والرموز) فانت حين تتعامل اليوم مع معادلة حسابية بسيطة مثل 2+3=5 فهذه الحقيقة الرياضية لا تحتاج البرهنة المتكررة عليها بعد ان اصبحت حقيقة بديهية ثابتة اليوم وبعد الاف من السنين. بخلاف ثوابت العلوم الطبيعية فهي نسبية قابلة للدحض والتغيير والاضافة والتبديل احيانا.النظام الذي نجده ليس في قوانين الطبيعة والعلوم وفي بيولوجيا وظائف جسم الانسان ولا في غيرها من ظواهر فيزيائية وكيماوية وفي مختلف مناحي الحياة التي تعتمد منطق ثوابت علم الرياضيات والهندسة والجبر لا يمكن القطع بان نظامها الدقيق مستمد من النظام الموجود في الله.نحن حين نقول سواء بمنطق علمي او بمعنى ايمان غيبي بان العالم مخلوق باعجاز منظم تعجز عقولنا الالمام التام به ما يعني ان نظامه الاعجازي مستمد من الله. وباستثنائنا القوانين الطبيعية العامة الثابتة التي لا علاقة للانسان بوجودها بل باكتشافها فقط وليس اختراعها ايضا. فان الاعجاز الموجود في العلوم الطبيعية المصنعة مختبريا انما هي اختراع بشري لا علاقة له بالايمان الديني.

***

علي محمد اليوسف

.........................

الهوامش:

1. جان فال/ الفلسفة الفرنسية من ديكارت الى سارتر/ ترجمة فؤاد كامل ص37  

2. نفسه اعلاه نفس الصفحة/3. نفسه اعلاه نفس الصفحة  / 3. نفسه اعلاه نفس الصفحة

يجري في المقرر المتعارَف دراستُه في معاهد التعليم الديني اختزال الفلسفة في الإسلام بفلسفة ملا صدرا، وشيءٍ من ابن سينا، وشيءٍ من شيخ الإشراق السهروردي المقتول، وغالبًا ما يجري التعرّفُ على بعض أفكارهما عبر ملا صدرا، فيما يغيب بنحوٍ تام أو يشحّ حضورُ تراثٍ فلسفي واسع، أنجزه فلاسفةٌ معروفون. كانت فلسفةُ ملا صدرا وما زالت محورًا للدرس الفلسفي في معاهد التعليم الديني، وتنامت واتسعت دراستُها في نصف القرن الماضي. التقليد المكرّس في هذا الدرس اليوم لا يهتم إلّا بفلسفة ملا صدرا الشيرازي، وتلامذةِ فلسفته. وكأن الفلسفةَ في الاسلام تبدأ وتنتهي بملا صدرا.

يلتقي القارئُ في المجلدات التسعة لكتاب "الأسفار الأربعة" باقتباساتٍ مطولة من آثار الفخر الرازي وغيره، فقد قال بعضُ المحققين إن ملا صدرا نسخ كتابَ: "المباحث المشرقية"، ونصوصًا لابن عربي. ويلتقي القارئُ بكلمات القيصري شارح "فصوص الحكم"، مضافًا إلى نصوص من الكتب الأخرى، وغالبًا لا يشير ملا صدرا إلى ما يقتبسه، حتى اتهمه البعضُ بالانتحال. وذهب آخرون إلى أن ملا صدرا جمع أكثر كتابه الأسفار الأربعة وغيره بنَسْخ مؤلفات غيره، فقد كتب علي أصغر حلبي: "لا تكمن أهمية فيلسوفنا في تأليفه كتابًا ضخمًا بحجم الأسفار، وإنما تكمن أهميته في بيان بضع مسائل بديعة لا يتجاوز بيانها أربعين صفحة، ولو أن هذا الرجل العظيم قد اكتفى بطرح هذه الأفكار في رسالة مختصرة، لكفى نفسه وكفانا مؤونة قراءة موسوعاته"[1].

وكان الميرزا أبو الحسن جلوه (1238- 1314 ه) أول من نبّه على ذلك. أبو الحسن جلوه فيلسوف مشائي من أتباع ابن سينا، والمعروف عنه أنه كان لا يدرّس كتابًا إلا بعد أن يصحّحَه، ويشرحَ غوامضَه، ويحيل على مصادره ومراجعه.كان جلوه يحتفظ بنسخة مخطوطة من الأسفار الأربعة "موجودةٍ في مكتبة مجلس الشورى في طهران. وهي مملوءةٌ بالتعليقات، التي كتبها بين سطورها"[2]. نبّه أبو الحسن جلوه إلى المراجع التي نقل عنها ملا صدرا، من دون أن يحيل إليها صاحبُ الأسفار، حتى نسب بعضُ الباحثين الى جلوه أنه ألّف كتابًا، بعنوان: "سرقات ملا صدرا، وأشاروا إلى أنه محفوظ في مكتبة مجلس الشورى. حيث تم استخراج الموارد التي أخذها صدر المتألهين من الآخرين"[3]. ولعلها التعليقاتُ المذكورة نفسُها، إذ لم تدرج في آثار جلوه، وهي غير موجودة اليوم في فهارس هذه المكتبة، وربما أخفاها أحدُ عشّاق ملا صدرا.

كما اتهم الآغا ضياء الدين درّي ملا صدرا بانتحال أفكار غيره من دون إشارة. إذ تعرّض إلى هذا الموضوع عند التعريف بملا صدرا في القسم الأخير من ترجمته لكتاب "كنز الحكمة" للشهرزوري، الذي خصَّ به الفلاسفةَ الذين لم يرد ذكرُهم في هذا الكتاب. وهناك صرَّحَ بانتحالات ملا صدرا، وذكر العديدَ من الموارد، فقال بصراحة: "كان صاحب الأسفار يعمد إلى إسقاط بداية النص وخاتمته، وفي أغلب الموارد تكون العبارات منقولة بشكل خاطئ، الأمر الذي كان يوقع الأساتذة المتقدمين في الخطأ في سعيهم إلى توجيه تلك العبارات ... في الكثير من الموارد ينسب مسائل وأجوبة الآخرين إلى نفسه"[4].

حسن حسن زاده آملي، الذي هو أبرزُ المختصين في عصرنا بآثار ملا صدرا، وأوسعُهم اطلاعًا وتتبعًا، والذي قام بتصحيح الأسفار الأربعة والتعليق عليها[5]، يقدّم لنا شهادتَه الصريحة بهذا الشأن، بعد 20 عاما من التدقيق والتحقيق والتدريس لكتاب "الأسفار" وكتب ملا صدرا، وكتابَي الفتوحات والفصوص، ففي كتاب زاده آملي: "العرفان والحكمة المتعالية" وهو بالفارسية[6]، يقول: "إن جميع المباحث الرفيعة والعرشية للأسفار منقولة من الفصوص والفتوحات وبقية الصحف القيّمة والكريمة للشيخ الأكبر وتلاميذه، بلا واسطة أو مع الواسطة... إذا اعتبرنا كتاب الأسفار الكبير مدخلًا أو شرحًا للفصوص والفتوحات فقد نطقنا بالصواب، ولا سيما عندما يذكر: تحقيق عرشي"[7]، وأضاف حسن حسن زاده آملي ما نصه: " كل ما لدى ملا صدرا هو من محيي الدين وقد جلس على مائدته"[8].

وكتب جهانگيري في مقدمة تصحيح رسالة (كسر أصنام الجاهلية) لملا صدرا: "إن جميع المسائل تقريبا، وأكثر العبارات والأحاديث الواردة في هذه الرسالة ــــ إلا في بعض الموارد المعدودة ــــ منقولة عن مؤلفات المتقدمين على عصر صدر المتألهين، وقد نقلها دون الإحالة إلى مصادرها، ويبدو أنه كان يقوم بنقل الأحاديث من ذاكرته ودون الرجوع إلى كتب الحديث. وكان لكتاب (إحياء علوم الدين) للغزالي الحصة الكبرى من الكتب التي اعتمدها صدر المتألهين، وقام بتلخيص موضوعاتها"[9].

وأشار رضا أكبريان ــــ الذي تولى تصحيحَ المجلد التاسع من الأسفار ــــ في هوامش متعددة إلى ذلك، إذ يكتب مثلًا: "إن عبارة المصنف في هذا الشأن قد وردت في كتاب (المباحث المشرقية) مع شيء من التغيير"[10]. أو قوله: "إن مسائل هذا الفصل شبيهة بمسائل (المباحث المشرقية)"[11]. ومن ثم ذكر موضعَ المصادر الأصلية لتسهلَ على القارئ عمليةُ المقارنة بين هذه الموارد. وفي الحقيقة، إن صدرَ المتألهين قد أخذ هنا[12] ما يقرب من عشرين صفحةً عن الفخر الرازي، دون أن يشيرَ إلى مصدره، مع قيامِهِ بتغيير بعضِ الكلمات والعبارات[13].

وكذلك أشار جوادي آملي في شرحه على الأسفار إلى هذه الحقيقة،كما في ذلك قوله: "إن بعض أبحاث هذا الفصل متطابقة مع أبحاث الفخر الرازي في (المباحث المشرقية)"[14]، وهكذا قوله: "لقد ذكر ابنُ سينا برهانَ الصديقين في الفصل التاسع والعشرين من النمط الرابع من (الإشارات والتنبيهات)، وقام المحقّق الطوسي بشرحه، وإنَّ جانبًا من عبارات هذا الفصل من الأسفار هي ذات عبارات شرح الطوسي على الإشارات"[15].

كما نبه أحمد خسروجردي إلى كيفية نقل ملا صدرا عن غيره، بقوله: "لم يقتصر على جملة واحدة أو جملتين، وإنما قد يستغرق أحيانًا صفحة كاملة وحتى أربع صفحات، بل وحتى فصلًا كاملًا أو فصلين من كتب الآخرين، دون أدنى تغيير"[16].

وقال علي رضا ذكاوتي قراگزلو: "هناك فصلٌ كاملٌ في (عشق الظرفاء والفتيان وذوي الأوجه الحسان)[17] منقولٌ بنصِّه عن (رسائل إخوان الصفا)[18]، فعلى من أراد أن يجري مقارنةً بينهما، أن يقفَ على حقيقة ذلك"[19].

وكتب مهدي حائري يزدي: "المعروف أن صدر المتألهين قد أخذ أجزاء من كتاب الأسفار الأربعة وبعض كتبه الأخرى عن الآخرين دون ذكر أسمائهم. وهذا ما وجدته بنفسي، حيث رأيت اقتباساته عن (المباحث المشرقية) في كتاب (الأسفار الأربعة)، دون أن يشير إلى ذلك"[20].

كما صرّحَ غلام حسين إبراهيمي ديناني قائلا: "إن صدر المتألهين في الكثير من الموارد قد نقل نص عبارات الفلاسفة والمتكلمين والعرفاء الذين سبقوه، دون أن تصدر عنه أدنى إشارة للمصادر التي نقل عنها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن تبرير صدور هذا الأمر عن مثل هذا الشخص الحكيم والمتألِّه؟"[21].

تسيّدت فلسفة ملا صدرا في معاهد التعليم الديني بشكل حجبت فلاسفة عالم الإسلام سواه، وبالغ المعجبون فيه إلى درجة جعلوه يتفوق على فلاسفة المشرق والمغرب في تاريخ الإسلام، وقلما درست آثاره دراسة نقدية في معاهد التعليم الديني، أو جرى التفتيش عن مرجعيات نظرياته والكشف عن منابعها، وغالبًا ما تم التسليم بما يقوله بلا تفحص واختبار وتمحيص.

شدّد ملا صدرا في بعض كتاباته على أنه هو مَن أبدع نظريةً أو قاعدةً ما، وأنه لم يسبقه للقول بها أحد، في حين نعثر عليها نفسها فيما أورده ابنُ عربي أو غيره قبله مثلًا،كما نلحظ ذلك بقوله: "وهذا مطلب شريف لم أجد في وجه الأرض من له علم بذلك"[22]، وهو يتحدث عن قاعدة: "بسيط الحقيقة كل الأشياء"، التي وردت في آثار ابن عربي، فقد ذكر القيصري في شرحه لفصوص الحكم هذه القاعدة في سياق قوله: "لأن تلك الحقائق أيضاً عين ذاته حقيقة، وإن كانت غيرها تعينًا". والغريب أن ملا صدرا يورد نصًّا لابن عربي تأييدًا لما قرّره في هذه القاعدة، إذ يقول محيي الدين: "العلم التفصيلي في عين الإجمال"[23].

كما أن القارئ الخبير بكتاب الأسفار لملا صدرا وآثارِ ابنِ عربي يعرِفُ أن نظريةَ الحركة الجوهرية لملا صدرا هي صياغةٌ أخرى لنظرية تجدّد الأمثال عند ابن عربي. وإن كانت نظريةُ تجدد الأمثال تتسع لكل عالَم الإمكان الذي يشمل عوالِمَ العقل والمثال والمادة، لكن ملا صدرا خصَّها بعالَم المادة. ويعني تجدّدُ الأمثال أنَّ وجودَ كلّ شيء في عالم الإمكان يتلوه وجود، من دون أن يتخللَ العدمُ بينهما، أي في كلّ آنٍ يظهر وجود، ثم يليه وجودٌ جديد، وهكذا تتوالى الوجودات كلَّ آن. يرى المتصوفةُ أن لكل وجود باطنًا وظاهرًا، وتجددُ الأمثال هو تجلِّي الوجود الإمكاني وظهورُه من عالم الباطن. أما الحركةُ الجوهرية فهي صيرورةٌ تكاملية لكل شيءٍ موجودٍ في عالم المادة، أي ليس هناك جوهرٌ ماديّ ثابت في الطبيعة، كلُّ وجودٍ لجوهر في حالة صيرورة سيالة مستمرة متواصلة، يتكامل وجودُه معها بالتدريج حتى يتجردَ ليتوقفَ، إذ لا حركةَ في المجرَّد[24].

وعلى الرغم من الانقسام في المواقف من ملا صدرا، لكن تَسيَّد منذ النصف الثاني من القرن العشرين التيارُ الصدرائي، وحجب الأصواتَ الناقدة لهذه الفلسفة. فمثلًأ تمحورت اهتمامات مرتضى المطهري وغيرُه من تلامذة الطباطبائي بالفلسفة الصدرائية، وأُعجب المطهري في توصيف أثرها بعبارات، هو أقرب لمديح الشعراء من صرامة عقل الفلاسفة، فنراه يقول في سياق حديثه عن الحركة الجوهرية: "إن من جملة الأفكار الثمينة جدًّا لصدر المتألهين، والتي غيرت وجه الفلسفة، وفي الواقع غيرت وجه العالم في نظرنا، هي إثباته للحركة الجوهرية. وهي تعني أن جواهر هذا العالم، وتبعًا لها أعراض العالم، في تغيُّر دائم ومستمر، وأساسًا لا يوجد ثبات في عالم الطبيعة"[25]. والذي نعرف أن ملا صدرا (980هـ-1050هـ / 1572م-1640م) في الشرق كان معاصرًا لديكارت (1596 –1650) في الغرب، ولا ينكر خبيرٌ بتاريخ الفلسفة أن عقلانيةَ ديكارت كانت رائدةً في انبعاثِ العقلانية الحديثة، والتحرّرِ من وصاية العقلانية الأرسطية. ولم نرَ حتى اليوم أثرًا ملموسًا للفلسفة الصدرائية في بناء عقل حديث في عالم الإسلام.

سنة 1991م ترجمتُ من الفارسية كتابَ "شرح المنظومة المبسوط" في 4 أجزاء لمرتضى مطهري، وأردفتُه بترجمة: "محاضرات في الفلسفة الإسلامية" له أيضا، وكلاهما مطبوعٌ بالعربية، ولم قرأ له فيهما كلمةٌ واحدة أو إشارةٌ عابرة في نقد الفلسفة الصدرائية أو دعوة لضرورة مراجعتها ونقدها وتمحيصها. يرى المطهري بأن "ملا صدرا ألّفَ بين المسلك العقلي للفلسفة والمسلك القلبي للعرفان"[26]. ونحن نعلم أن الفلسفة لا تخرج عن مرجعية العقل، فهي تستقي من العقل وتسقيه، والعرفان لا يخرج عن مرجعية القلب، فهو يستضئ بالقلب ويضيؤه.

بسبب سطوة الفلسفة الصدرائية لا يعرف أكثرُ دارسي الفلسفة في المعاهد الدينية شيئًا عن فلسفة أول فيلسوف مسلم، وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكِندي المتوفى سنة 252 أو260 هـ، والذي عدَّه كاردان cardan؛ أحدُ فلاسفة عصر النهضة «واحداً من اثني عشر مفكرًا، هم أنفذ المفكرين عقولًا»[27]. وأورد ابنُ النديم في (الفهرست) قائمةً لمؤلفات الكندي تجاوزت (230) عنوانًا[28]؛ منها ما هو في الفلسفة، ومنها ماهو في المنطق، والموسيقى، والحساب، والطبيعة، وغير ذلك، لكن ما وصلنا منها هو مجموعةُ رسائل، ظلَّت حتى عهد متأخر طيَّ النسيان، حتى اكتشفها في الثلاثينات من هذا القرن المستشرقُ الألماني ريتر H-Ritter، في مكتبة أيا صوفيا بإسطنبول، فعكف عليها محمد عبد الهادي أبو ريدة، ونشر ما يتصل منها برسائل الكندي الفلسفية والعلمية في مجلدين، صدر الأولُ منهما عام 1950م، وصدر الثاني عام 1953م، وقدّم أبو ريدة لهذه الرسائل بدراسةٍ مستفيضة عن الكندي، وفكرِه الفلسفي، وإسهامِه في تأسيس الفلسفة في الإسلام. وكانت بضعُ رسائل أخرى قد نُشرت للكندي في أوروبا قبل هذا التاريخ بكثير، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بترجمات لاتينية، ضاع الأصلُ العربي لبعضها[29].

كذلك يظل تلميذُ الفلسفة في هذه المعاهد يجهل ما أنجزه الفيلسوفُ أبو نصر محمد بن طرخان الفارابي المعروف بالمعلم الثاني والمتوفى سنة 339هـ ، والذي وصفه ابنُ خلكان بأنه: "أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه، والرئيس أبو علي بن سينا بكتبه تخرج، وبكلامه انتفع في تصانيفه"[30]. ولذا نصَّ غيرُ واحدٍ ممن ترجموا لابن سينا أو درسوا فلسفته، على أنه كان تلميذًا لتصانيف الفارابي، بل ذهب بعضُهم إلى أننا: «نكاد لا نجد في فلسفته شيئًا الا وأصوله عند الفارابي»[31]. وربما لا يتاح لتلميذ الفلسفة سوى معرفة بعض الآراء القليلة للفارابي، المتناثرة في آثار ملا صدرا الشيرازي، والفلاسفة التالين لـه، ممن يتعاطى التلاميذُ دراسةَ مؤلفاتهم في معاهد التعليم الديني، وهي لا تقدّم صورةً واضحة عن الآثار الفلسفية للفارابي، ودورِه التأسيسي للفلسفة في الإسلام. يقول الشيخ الرئيس ابن سينا في ترجمته لنفسه: «وانتهيت إلى العلم الإلهي ، وقرأت (كتاب ما بعد الطبيعة)، فلم أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرضُ واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظًا. وأنا ـــ مع ذلك ـــ لا أفهمه، ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، فحضرتُ يومًا، وقت العصر، في سوق الوراقين، فتقدم دلال بيده مجلد ينادي عليه، فعرضه علي، فرددته رد متبرم، معتقدًا أنْ لا فائدة في هذا العلم، فقال: اشتره فصاحبه محتاج إلى ثمنه، وهو رخيص، أبيعكه بثلاثة دراهم، فاشتريته، فإذا هو كتاب أبي نصر الفارابي في أغراض كتاب (ما بعد الطبيعة). فرجعت إلى داري وأسرعتُ قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب، لأنه صار محفوظًا على ظهر القلب، ففرحت بذلك، وتصدقت في اليوم التالي بشيء كثير على الفقراء، شكرًا لله تعالى...»[32].

واحدة من نتائج تقليد فلسفة ملا صدرا تعطيل الاختلاف والتساؤل الفلسفي في معاهد التعليم الديني. الفلسفة فن الاختلاف والتشكيك والتساؤل، تسود تاريخَ الفلسفة سلسلةٌ متوالية من الاختلافات والتساؤلات الكبرى، وتقويض اليقينيات المتصلبة، والخروج على ما كان كثيرون يحسبونها بداهات راسخة. لولا ذلك لم تتعدّد وتتنوع المدارسُ الفلسفية، ولم تختلف الرؤى والمواقفُ والآراء والمفاهيم المتصارعة للفلاسفة. يبدأ موتُ الفلسفة لحظة تتسلط آراء فيلسوف واحد ويقلده دارسو الفلسفة، ويرضخ الكلُّ لما يقوله. ‏لا يتجلى التفلسف ولا يدلّل على حضوره وفاعليته إلا بالأسئلة وإجابات الأسئلة التي تتوالد منها أسئلةٌ واختلافات في الرؤى والآراء. التقليد والاتباع يُفسِد التفلسف.

اختصار الفلسفة بملا صدرا الشيرازي في معاهد التعليم الديني في القرن الأخير يعود إلى كون الفلسفة الصدرائية مزيجًا من الفلسفة والعرفان، وهي تعبير واضح عن الحاجة إلى ما تنشده الحياة الحياة الروحية. فضلًا عن أن الفقهاء الذين قالوا بولاية الفقيه المطلقة يتبنون نظرية الإنسان الكامل في العرفان، وفلسفةُ ملا صدرا الشيرازي أساسٌ لهذه النظرية، لذلك اتسعت دراسةُ وتدريس هذه الفلسفة في قم بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

..............................

[1] علي أصغر حلبي، تاريخ فلسفه در ايران وجهان اسلامي، ص 488.

[2] مرتضى مطهري، مصدر سابق، ص 92.

[3] مهدي حائري يزدي، كاوشهاي عقل نظري، ص 32

[4] ضياء الدين درّي، كنز الحكمة، ترجمة تاريخ الحكماء لشمس الدين الشهرزوري، ج 2، ص 157، 160.

[5] أصدرت وزارة الارشاد في طهران عام 1414 هـ المجلد الأول من الأسفار الذي صححه وعلق عليه: الشيخ حسن حسن زاده أملي.

[6] العرفان والحكمة المتعالية ص 36.

دومين يادنامه علامه طباطبائي، طهران، 1363 = 1984، ص 16، 36.[7]

[8] المصدر السابق، ص 41

[9] - انظر: صدرالمتألهين محمد بن إبراهيم الشيرازي،كسرأصنام الجاهلية،مقدمةالمصحح، ص34.

[10] - انظر: صدر المتألهين محمد الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 9، ص 101.

[11] - انظر: المصدر أعلاه، ص 103.

[12] - أي: السفر الرابع، الباب التاسع، ص 103 ـ 107.

[13] - انظر: فخر الدين الرازي، المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات، ج 2، ص 421 ـ 428.

[14] عبد الله جوادي آملي، رحيق مختوم، شرح حكمت متعالية، ج 9، ص 205.

[15]  عبد الله جوادي آملي، شرح حكمت متعالية، الأسفار الأربعة، ص 133.

[16] - انظر: سلسلة مقالات مؤتمر كرمان، ج 3، ص 627 ـ 628، نقلاً عن: علي رضا ذكاوتي قراگوزلو، سير تاريخي نقد ملا صدرا، ص 16.

صدر الدين محمد بن إبراهيم الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 7، ص 229 ـ 239 [17]

رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء، إذ تناولت الرسالة السابعة والثلاثون ماهية العشق، ج 3، ص 269 ـ 286[18]

[19]  علي رضا ذكاوتي قراگزلو، سير تاريخي نقد ملا صدرا، ص 18.

[20]  مهدي الحائري اليزدي، كاوش هاى عقل نظرى، ص 32.

[21]  غلام حسين إبراهيمي ديناني، نيايش فيلسوف (سلسلة المقالات)، ص 451 ـ 452.

ملا صدرا، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج 6: ص 286-289.[22]

شرح القيصري على فصوص الحكم، قم، 1363=1984، ص7.[23]

[24] للمزيد راجع: هُمائي، جلال الدين، رسالتان في الفلسفة الإسلامية: تجدد الأمثال والحركة الجوهرية، والجبر والاختيار من وجهة نظر جلال الدين الرومي، ترجمة: محمد حمادي، البصرة: شهريار، ص 37 – 47.

[25] المطهري، مرتضى، محاضرات في الفلسفة الإسلامية، ترجمة: عبد الجبار الرفاعي،  قم: دار الكتاب الإسلامي، ص 121.

[26] المطهري، مرتضى، محاضرات في الفلسفة الإسلامية،  ص 96.

[27]- دي بور، ت . ج . تأريخ الفلسفة في الاسلام. ترجمة: د. محمد عبد الهادي أبو ريدة .القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر،ط4، 1957م، ص182.

[28]- ابن النديم . الفهرست .تحقيق: رضا تجدد.طهران. ص315ـــ 320.

[29]- مرحبا. د. محمد عبد الرحمن . الكندي : فلسفته ـــ منتخبات. بيروت ـــ باريس: منشورات عويدات،ط1، 1985م،ص13ـــ 15.

[30]- ابن خلكان، أحمد بن محمد. وفيات الأعيان. تحقيق: د. إحسان عباس . قم: منشورات الرضي، ج5 .ص153.

[31]- دي بور. تاريخ الفلسفة في الإسلام . ترجمة: الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة ، القاهرة: ط  4، 1957م، هامش ص 192.

[32] الطريحي، محمد كاظم، ابن سينا، بغداد: 1949م، ص 12.

 

يتناول عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (1 أغسطس 1930 - 23 يناير 2002) السلطة في سياق "نظرية مجتمعية" شاملة، والتي - كما هو الحال مع نظرية ميشيل فوكو - لا يمكننا هنا إنصافها، أو التعبير عنها بسهولة من خلال مناهج تطبيقية. ورغم أن موضوعه كان في الغالب المجتمع الجزائري والفرنسي، فقد وجدنا أن منهج بورديو مفيد في تحليل السلطة في عمليات التنمية والتغيير الاجتماعي. في حين يرى فوكو السلطة "موجودة في كل مكان" وتتجاوز نطاق الفاعلية أو البنية، يرى بورديو السلطة كعنصر ثقافي ورمزي، يُعاد إضفاء الشرعية عليه باستمرار من خلال تفاعل الفاعلية والبنية. والطريقة الرئيسية لتحقيق ذلك هي من خلال ما يسميه "الهابيتوس" أو المعايير أو الميول الاجتماعية التي توجه السلوك والتفكير. "الهابيتوس" هو "الطريقة التي يترسخ بها المجتمع في الأفراد على شكل ميول دائمة، أو قدرات مُدرَّبة وميول مُهيكلة للتفكير والشعور والتصرف بطرق مُحددة، تُوجِّههم". يتشكل "الهابيتوس" من خلال عملية اجتماعية، لا فردية، تُؤدي إلى أنماط دائمة وقابلة للانتقال من سياق إلى آخر، ولكنها تتغير أيضًا تبعًا لسياقات مُحددة ومع مرور الوقت. "الهابيتوس" "ليس ثابتا أو دائم، ويمكن تغييره في ظروف غير متوقعة أو على مدى فترة تاريخية طويلة": "الهابيتوس" ليس نتيجة إرادة حرة، ولا تُحدَّد بالهياكل، بل ينشأ من نوع من التفاعل بينهما على مر الزمن: ميول تُشكِّلها أحداث وهياكل الماضي، وتُشكِّل الممارسات والهياكل الحالية، والأهم من ذلك، تُحدِّد إدراكنا لها . بهذا المعنى، تُخلق الهابيتوس وتُعاد إنتاجها لا شعوريًا، "دون أي سعي متعمد لتحقيق التماسك... دون أي تركيز واعٍ". ومن المفاهيم المهمة الثانية التي طرحها بورديو مفهوم "رأس المال"، الذي يتجاوز مفهوم الأصول المادية ليشمل رأس مال قد يكون اجتماعيًا أو ثقافيًا أو رمزيًا. قد تكون هذه الأشكال من رأس المال بنفس الأهمية، ويمكن تراكمها ونقلها من مجال إلى آخر. يلعب رأس المال الثقافي - والوسائل التي يُنشأ بها أو يُنقل من أشكال رأس المال الأخرى - دورًا محوريًا في علاقات السلطة المجتمعية، إذ "يوفر وسيلة لشكل غير اقتصادي من الهيمنة والتسلسل الهرمي، حيث تتميز الطبقات من خلال الذوق". إن التحول من الأشكال المادية لرأس المال إلى الأشكال الثقافية والرمزية لرأس المال هو الذي يخفي إلى حد كبير أسباب عدم المساواة. وقد توسع بورديو في دراسة المجتمع الفرنسي الكلاسيكية، في كتابه"التمييز" (1986)، فيه شرح هذه الأفكار، حيث يُظهر كيف "يُنقش النظام الاجتماعي تدريجيًا في عقول الناس" من خلال "المنتجات الثقافية"، بما في ذلك أنظمة التعليم، واللغة، والأحكام، والقيم، وأساليب التصنيف، وأنشطة الحياة اليومية. ويؤدي كل ذلك إلى قبول لاواعي للاختلافات والتسلسلات الهرمية الاجتماعية، وإلى "شعور الفرد بمكانته"، وإلى سلوكيات الإقصاء الذاتي. وهناك مفهوم ثالث مهم في نظرية بورديو، وهو فكرة "الحقول"، وهي الساحات الاجتماعية والمؤسساتية المتنوعة التي يُعبّر فيها الناس عن تصرفاتهم ويُعيدون إنتاجها، ويتنافسون فيها على توزيع أنواع مختلفة من رأس المال. المجال هو شبكة أو بنية أو مجموعة علاقات قد تكون فكرية أو دينية أو تعليمية أو ثقافية، إلخ. غالبًا ما يختلف شعور الناس بالسلطة تبعًا للمجال الذي يعملون فيه في لحظة معينة ، لذا يُعدّ السياق والبيئة من العوامل الرئيسية المؤثرة على الهابيتوس: "يشرح بورديو في (1980) التوترات والتناقضات التي تنشأ عندما يواجه الناس سياقات مختلفة ويواجهون تحدياتها. ويمكن استخدام نظريته لتفسير كيف يمكن للناس مقاومة السلطة والهيمنة في مجال ما والتعبير عن التواطؤ في مجال آخر". تساعد المجالات في تفسير اختلاف السلطة، على سبيل المثال، التي تشعر بها النساء في المجالين العام والخاص. وقد لاحظ الناشطون والباحثون النسويون هذا على نطاق واسع، وهو يُشير إلى أن النساء والرجال مُعَيَّنون اجتماعيًا على التصرف بشكل مختلف في مجالات السلطة "العامة والخاصة والحميمة" . وهناك مفهوم أخير مهم في فهم بورديو للسلطة، وهو مفهوم "الدوكسا"، وهو مزيج من المعايير والمعتقدات التقليدية وغير التقليدية - أي الافتراضات غير المعلنة والمسلَّم بها أو "الحس السليم" الكامن وراء التمييزات التي نُجريها. وتحدث "الدوكسا" عندما "ننسى الحدود" التي أدت إلى انقسامات غير متكافئة في المجتمع: إنه "التزام بعلاقات نظامية تُعتبر بديهية، لأنها تُشكِّل العالم الواقعي وعالم الفكر على نحو لا ينفصل". يستخدم بورديو أيضًا مصطلح "سوء التقدير"، وهو مصطلح يُشبه الأفكار الماركسية عن "الوعي الزائف"، ولكنه يعمل على مستوى أعمق يتجاوز أي نية للتلاعب الواعي من قِبل أي جماعة أو أخرى. وخلافًا للرؤية الماركسية، يُعد "سوء التقدير" ظاهرة ثقافية أكثر منه أيديولوجية، لأنه "يُجسد مجموعة من العمليات الاجتماعية النشطة التي تُرسّخ افتراضات مُسلّم بها في نطاق الحياة الاجتماعية، والأهم من ذلك، أنها تولد في قلب الثقافة. جميع أشكال السلطة تتطلب الشرعية، والثقافة هي ساحة المعركة حيث يُتنازع على هذا التوافق، ويتجسد في النهاية بين الفاعلين، مما يُؤدي إلى اختلافات اجتماعية وهياكل غير متكافئة". في حين أن الكثير من هذا قد يبدو تجريديًا، فإن نظريات بورديو راسخة في مجموعة واسعة من الأبحاث الاجتماعية، وعبر مجموعة من القضايا الاجتماعية. في الواقع، يكمن جزء من جاذبيته في غزارة أبحاثه وتوثيقها تجريبيًا. ومن عوامل الجذب الأخرى لبورديو للباحثين الملتزمين سياسيًا أنه يعتبر المنهج الاجتماعي جزءًا من عملية التغيير. فالتحليل الدقيق يمكن أن يساعد في الكشف عن علاقات القوة التي أُخفيت بفعل العادات وسوء التقدير. اقترح بورديو "علم اجتماع تفكري" - حيث يُدرك المرء تحيزاته ومعتقداته وافتراضاته في عملية فهم المعنى - قبل أن تصبح التفكرية رائجة بوقت طويل. إن المعرفة النقدية الذاتية التي تكشف عن "مصادر القوة" وتكشف عن "الأسباب التي تفسر التفاوتات الاجتماعية والتسلسلات الهرمية" يمكن أن تصبح بحد ذاتها "أداة قوية لتعزيز التحرر الاجتماعي". تختلف الأساليب والمصطلحات التي استخدمها بورديو عن تلك المستخدمة في كتاب "مكعب القوة"، وتشير إلى تحليل اجتماعي أكثر تفصيلاً لعلاقات القوة، متجذر في "نظرية مجتمعية" شاملة. ومع ذلك، فإن آثار التحليل والفعل التطبيقيين تتوافق بقوة مع معاني القوة الداخلية الخفية و"القوة الداخلية"، ومع "نظرية التغيير" الضمنية في كتاب "مكعب القوة". تكمن الفكرة في أن فهم القوة والعجز، وخاصةً من خلال عمليات التعلم والتحليل التي تكشف عن القوة الخفية، يمكن أن يكون في حد ذاته عملية تمكين.

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

........................

المصادر

بورديو، ب. (1980). منطق الممارسة. ستانفورد، مطبعة جامعة ستانفورد.

بورديو، ب. (1984). التمييز: نقد اجتماعي لحكم الذوق. لندن، روتليدج.

بورديو، ب. (1986). "أشكال رأس المال". دليل النظرية والبحث في علم اجتماع رأس المال. ج. ج. ريتشاردسون. نيويورك، مطبعة غرينوود: 241-258.

المراجع

جافينتا، ج. (2003). السلطة بعد لوكس: مراجعة للأدبيات، برايتون: معهد دراسات التنمية.

مونكريف، ج. (2006). "سلطة الوصمة: لقاءات مع "أطفال الشوارع" و"الريستافيك" في هايتي". نشرة معهد دراسات التنمية 37(6): 31-46. نافارو، ز. (٢٠٠٦) "بحثًا عن تفسير ثقافي للسلطة"، نشرة معهد الدراسات الاستراتيجية ٣٧(٦): ١١-٢٢.

فينيكلاسين، ل. وميلر، ف. (٢٠٠٢). نسيج جديد من السلطة والشعب والسياسة: دليل العمل للمناصرة ومشاركة المواطنين. أوكلاهوما سيتي، جيران العالم.

واكانت، ل. (٢٠٠٥) هابيتوس. الموسوعة الدولية لعلم الاجتماع الاقتصادي. ج. بيكيت وميلان، ز. لندن، روتليدج.

اسبينوزا ومذهب وحدة الوجود

يذهب والتر ستيس وهو فيلسوف يعنى بالتصوف في كتابه الذي نناقش بعض أفكاره (التصوف والفلسفة) تقديم وترجمة امام عبد الفتاح امام الى ان: المشكلة الأساسية في وحدة الوجود الصوفي تتصل بالعلاقة بين الله والعالم من حيث الهوية والاختلاف، هل الله والعالم متحدان في هويه واحدة؟ ام انهما متمايزان تماما؟ (1) كما يذهب له الادراك والتفكير الذهني العقلي واللاهوت الديني في مختلف الديانات السماوية وعديد من الديانات الأخرى من الذين لا يؤمنون بوحدة الوجود ويعتبرون ان الله والعالم متمايزان ومختلفان بالكينونة والهوية والكيف والصفات ولا علاقة اتحاد بينهما تحصل في أي شكل من أشكال الترابط او الحلول الصوفي بينهما.*

ولا بد من المرور برأي اسبينوزا صاحب مذهب وحدة الوجود الكلاسيكي الذي قال به فلسفيا ان الله شأنه شان جميع الظواهر الطبيعية والموجودات يتكون من جوهر وصفات موزعة على جميع الكائنات الحية والطبيعة والانسان والكوني، لذا نجده يتحدث عن الله والطبيعة او العالم والكون انهم جميعا مترادفات لمدلول ومعنى واحد، ولا يمكن الفصل بينها من حيث انها جميعا تعني دلالة واحدة، هي ان الله موجود في كل شيء، ولا تفريق كيفي هوّياتي مختلف متمايز ذاتيا من أي نوع بينهم. (كما لا يسلّم اسبينوزا باي وجود خالص خارج الطبيعة)(2). اي لا وجود لله خارج صفاته التي يمكن ادراكها او التي يتعذر علينا ادراكها ومعرفتنا بها بل نستمدها من الطبيعة.

كما يذهب دارسو اسبينوزا الى ان فكرة وحدة الوجود عنده لا تقوم على منطق فلسفي ذهني ولا على حجة عقلية بل تقوم على فكرة صوفية تماما. بمعنى اكثر وضوحا ان الله وجوده ملحوظ في توزّع صفاته على الطبيعة والانسان والكوني وما عدا ذلك فلا وجود الهي خارج هذه العوالم يمكننا ادراكه خارج صفاته بها وخلقه لها التي نحيا بها ومعها، ومن الملاحظ ان فيورباخ ذهب نفس المذهب في تأصيله نشأة الدين في علاقة الانسان بالطبيعة، ولا وجود من أي نوع من المقدس عابر لهذه الحقيقة قائلا (ان عبادة الله تعتمد فقط على عبادة الانسان لنفسه).

من الواضح ان اسبينوزا في فهمه وحدة الوجود يتأرجح بين الالحاد غير المعلن صراحة، وبين الايمان الذي تعجزه البرهنة عليه، فهو يطرح مسألة وحدة الوجود بتلاعب لفظي فلسفي نجده نحن انه يفترض ان الطبيعة تلتقي ب (الله) بالصفات لا بالجوهر، وانهما الله والطبيعة كلاهما وجود بصفات اختلافية، وهذا الجوهر أساسا ليس مفتقدا بالنسبة لظواهر الطبيعة، كظواهر وماهيات لا حصر لها، لكنه مفتقد بالنسبة ل (الله)، فالله بلا ماهية ولا جوهر يمكن ادراكها و معرفتها، وانما يعرف جوهره في مجموع صفاته، صفات لاهوتية تجريدية فقط، كالرحمة، والقوة، والخير، والمحبة، والعذاب، والعفو، والعظمة، والمقدرة وهكذا، وهذه غير صفاته المدركة حسّيا بالطبيعة وقوانينها المستمدة من الطبيعة في كل ما هو خير يتطلع الانسان الاقتداء به، صفات لاهوتية يقرّها الايمان و لا يقرّ بها العقل والعلم اصلها الطبيعة.

ومحاولة اسبينوزا الربط بين الله والطبيعة والوجود الكوني بالجوهر وصفاته، يؤكد لدينا نحن فقط ان صفات الله الالهية بلا ماهية ولا جوهر، فهو أي (الله) ليس ذاتا ولا موضوعا يمكن وعي وادراك ماهيته و صفاته غير المذكورة في اللاهوت الديني المستمدة جميعها من الطبيعة والصفات الخيرّة كما يتمناها الانسان، بل هو ممكن ان تكون بعض صفاته ادراكية في الطبيعة والكوني فقط لا غير، ومعدومة في كل مجالات التعرف او التعريف بها خارج الطبيعة الحسية والادراك العقلي او اللاشعوري التخيلي، ولكل شخص تفسيره لهذه الصفات وايمانه بها، بخلاف ان الطبيعة ظواهرها في اغلبها هي جواهر وظواهر معا تحكمها قوانين الطبيعة المدركة منها وغير المدركة إنسانيا في فضائي الزمان والمكان المحكوم بهما الانسان والطبيعة معا، بخلاف ان الله بلا ماهية ولا جوهر يمكن للإنسان ادراكها. فالله مدرك غيبيا بصفاته وليس مدركا بماهيته العصّية على المعرفة والادراك الحسي والذهني، ماعدا ان تكون مجمل صفاته تمثل جوهره، سواء اكانت تلك الصفات مدركة ام غير مدركة لنا.

الصفات الطبيعية في صوفية الاوبنشاد:

وحدة الوجود التي تعتمدها الاوبنشاد التي يطلبها صوفية الهنوسية والبوذية في اقتفائهم تعاليم المعبود براهمان او بوذا، هي من منطلق اسباغ قدسية الصفات الطبيعية على المعبود عندهم، ولا وجود لحياة أخرى فيها حساب وثواب بخلاف اديان الوحي التوحيدية، ويبدو ان هذا التعبير قريب من فهمنا لمقولة اسبينوزا بانه لا وجود لخالق فوق مدركات صفاته الأرضية والكونية له التي ندركها.

ولنقرأ هذه الابيات الشعرية للاوبنشاد:

انت النار والشمس والهواء/ وانت القمر/وانت الفلك المرصّع بالنجوم/ انت براهمان الأعلى /انت المياه/ (انت خالق كل شيء)/ انت الشاب والصبية والشيخ الذي يتوكأ على عصاه/ فثم وجهك في كل مكان/ انت الفراشة السوداء/ انت الببغاء ذو العينين الحمراوتين/ انت السحاب وانت الفصول وانت البحار/(انت البداية وانت فوق الزمان والمكان)(3).

من الواضح جدا ان وصف الاوبنشاد الصوفي هو وصف حسي ادراكي عقلي لظواهر الطبيعة والكون وخلعها على معبودهم وهو توصيف لاهوتي مشترك في غالبية الأديان التوحيدية وبعض غير التوحيدية من الأديان الوثنية، ولا يوجد بهذه الصفات خرق لقوانين الطبيعة على شكل معجزات ايمانية مجردة الا في عبارة(انت البداية وانت فوق الزمان والمكان) التي هي كسروخرق لقوانين الطبيعة التي تحكم قدرات البشرالادراكية حسيا وعقليا في اللانهائي زمانا ومكانا، وبهذا الفارق نكون نحن بشر، ويكون الله الها يعبد.

هذا الإحساس الصوفي والتعلّق بالصفات الطبيعية المنسوبة للخالق على انها صفات خارقة لقوانين الطبيعة هي في حقيقتها ليست كذلك في القداسة المسبغة عليها، ولا تنسجم مع القول: (براهما انت خالق كل شيء)، وفي هذا لا نجد ميزة قدسية تنفرد بها صوفية براهما عن باقي الأديان التوحيدية التي لا تجمع بين ان تكون الطبيعة بصفاتها هي الخالق، في نفس ان تكون مخلوقة أيضا، كما تدعي الاوبنشاد انها مخلوقة من خالق أسبق عليها بمعنى (ان الكون خالق للكون)(4) ذاتيا ولنفسه فقط، والطبيعة مخلوقة بصفاتها من قبل خالق هو في حقيقته عدم وخواء وامتلاء في وقت واحد، صاحب الصفات في الطبيعة واللاهوت الديني، والخالق غير المدرك للبشر لا في ماهيته ولا في صوره وتجليّاته وهو ما ينطبق على الفهم الديني واللاهوتي في مختلف الأديان التوحيدية في عجزها العقلي اثبات وجود الخالق او في اثبات عدم وجوده أيضا ولا في امكانية الاستدلال على صفاته غير الأرضية او الكونية التي يدّعي الصوفية الاتحاد بها في العرفان والاشراق في مدارج الحال الصوفية.

شيء عن صوفية zen البوذية

نبدأ بالتساؤل الازلي والاشكالية المتقادمة زمنيا في مختلف العصور ومختلف الأديان هي كيف يمكن لما لا يمكن ان يقال عنه انه موجود او موضوعي، ان يكون علّة أولى لكل ما هو موجود، وموجود وخالق من عدم او لاشيء؟ (5)

من العبث اللامجدي ان نتدخل في حل إشكالية وفك رموز شفرة ليست عصيّة على الصوفية وحسب، وانما عصية في محاولة سحبها على إشكالية اشبعت اجتهادا دونما نتيجة، هي كيف يكون الخالق علة بلا معلول، صانع وخالق كل شيء، وجوده من غير عدم سابق عليه لا قبله ولا بعده؟ وهكذا ندخل في دوامة من التجاذبات التي لا نهاية لها، في ادراك المسار الازلي لخلق العالم من عدم. من الخطأ الاعتقاد ان يكون ما ذكرناه حجّة كافية لاصحاب الاشراق الصوفي والاتحادي على انها إمكانية حقيقية ومتاح لهم تحقيقها، وانها وان كانت لا تمتلك الاقناع العقلي بها لكنها كافية لديهم للتعايش مع إشكالية الأصل في عدم إمكانية تفسير الخالق بانه علة بلا معلول، وأنه وجود ازلي واجب بالضرورة والحاجة البشرية له. فلماذا لا تكون التجربة الصوفية بزعمهم في مثل هذه الإشكالية العصّية على التفسير بمنطق او منهج فلسفي او لاهوت ديني التي تلتقي باشكالية الميتافيزيقا واختلافات التفسير اللاهوتي المتنوعة.؟ التي لا تمتلك لحد الان حلولا مقبولة. بمعنى ان القضايا الميتافيزيقية والدينية التي ليس لها حل، هي نفسها الايمان الغيبي في قضايا الصوفية كيقينيات لا تمتلك برهان صحتها ولا نفيها، ولكن يوجد من يؤمن بها ويدعو لها ويزيدها ارباكا وغموضا.

ان ما يجعل الشك وعدم الترجيح والتسليم في ان تكون التجربة الصوفية حقيقة وليست ذهانات خيالية تغذيها الجوانب النفسية اللاشعورية الوجدانية التي يخلعها المتصوف على الخالق المتصور، ويرتد فيها وعليها في وعيه وفي تأكيد ذاتيته الاضطرابية مستعينا بنفس المعيار الاشكالي غير المحسوم في غالبية الإشكاليات اللاهوتية والفلسفية في معالجتها قضايا الميتافيزيقا التي يدخل ضمنها الدين والصوفية من دون حل مرضي ونتيجة مقبولة.

ترى البوذية التصوفية zen ردا على إشكالية عدم وجود المتعين وجودا بنفس معيارية عجز العقل البشري في ادراك أي نوع من أنواع الصفات الإلهية او إمكانية الاتحاد بها في تجربة المتصوف في غير مجال الطبيعة والانسان والكوني، وهي وجهة نظر لا تبتعد كثيرا عن الدوران حول مركزية الإشكالية اللاهوتية في غالبية الأديان التي تجمع على ان وجود الله هو في تجلياته الطبيعية وصفاته المدركة عقليا وعاطفيا التي يتساوى في ادراكها المتصوف وغير المتصوف ميتافيزيقيا، وعليه لا تطرح البوذية معالجات جديدة يمكن الاعتداد والتسليم بمقبوليتها فتقول (طالما ان النرفانا هي الحقيقة النهائية التي هي بغير تمايز ولا اختلاف او ثنائيات، وانه لا توجد تفرقة في الحقيقة النهائية بين النرفانا واللانرفانا، بين الحقيقة واللاحقيقة وبين التعاليم واللاتعاليم، لذا يعلن بوذا ان الوجود واللاوجود ينبغي رفضهما معا، لا على انه وجود ولا على انه لا وجود او عدم). ص 253 من المصدر .

بضوء ما ذكرناه آنفا انه لمن المهم ان نعيد للذهن عدم إمكانية المتصوف تجاوز ذاتيته الصوفية التعبدية التي تعني التشتت واللانظام والكثرة بصفات لا (انسية) او لا بشرية تصوفية امام الواحدية الكلية الإلهية التي هي غير ذاتية ولا موضوعية، كي يستطيع الصوفي تنظيم وبرمجة مدركاته الحسية والتخييلية في امكانية الاتحاد الصوفي بها، فالواحدية الالهية هي اللامتعين اللانهائي غير المحدود زمانا ومكانا، واللا مختلف في واحديته ولا هوية تميزّه التي لا يمكن ادراكها باي وسيلة تصورية ادراكية بشرية، فهو الخالق بذاته وليس من اجل ذاته بعلاقته بالاخر فهو ليس بحاجة الى غيره وبعيد عن امكانية التشيؤ بأي معنى او مظهرحسيا اوتخييليا امام من يرغب ذلك من مريدي الاتحاد الصوفي به.

كل هذه العلاقة غير السوية وغير المتكافئة بادنى شروط المعيارية المقارنة بين الله والانسان، انما تجعل المتصوف يسلك طريقا خاطئا، ولا يعود بحصيلة لتجربته يمكن الوثوق بها والتيقن منها، لا كتجربة خارج ادراك الشخص غير المتصوف، ولا كتجربة ذاتية تمتلك اقل الإمكانات الادراكية او المقومات غير المنظورة في إمكانية كسر قوانين الطبيعة الشغالة في حيزي الزمان والمكان ان جاز التعبير وتحقيق الاتحاد بالله صوفيا. حتى عندما يعجز المتصوفون التعبير عن تجربتهم الصوفية لغويا، فهم يعزون ذلك العجز الى ادعائهم ان اللغة كيان محدود بمدركات الطبيعة ومفهوم الزمان والمكان الأرضي فقط، ولا يمكنهم توظيف اللغة المحدودة الصوفية للتعبير والاحاطة بكيان لا متناهي ولا محدود ولا متعيّن بصفات يتسنى للبشر ادراكها او معرفة ماهيتها.

وحدة الوجود في المسيحية

يطرح والتر ستيبس إشكالية وحدة الوجود في الأديان السماوية بالتساؤل التالي: (ما الذي يحدث في لحظة الاتحاد الصوفي مع الله؟ هل تصبح روح الصوفي ببساطة متحدة بالله؟ ام تبقى وجودا متمايزا ومختلفا عن الله تماما؟ ام ينتج عنهما هوية ثالثة في الاختلاف الاتحادي)(6) .

من المبكر التأكيد بالقطع ان المسيحية تفهم الاتحاد بالله انه لا يعني بالمطلق وحدة الوجود الذي تدينه كما في ادانة الإسلام له عند الصوفية ولا تقرّبه. فالقديسة تيريزا تصف الاتحاد بالله بقولها (واضح جدا ما الذي يعنيه الاتحاد، شيئان متمايزان يصبحان شيئا واحدا(7). تفسير الاتحاد هنا يعني ان الشيئين كلاهما يحتفظان بكيفياتهما المتمايزة غير المشتركة بعد الاتحاد، ويفقدانها وقت الاتحاد، فمثلا التقاء نهر مع نهر اخر يكونان نهرا ثالثا في كيفية واحدة جديدة، (مثال واقعي التقاء نهري دجلة والفرات وتكوينهما شط العرب) لكنهما في حقيقتهما (النهرين) يلغيان خصوصيتهما كلا لوحده في الكيفية الجديدة التي اوجداها في دمج كيفياتهما المتجانسة المشتركة (بالماء) وذوبانها في المجرى النهري الثالث بلا رجعة، ويكتفيان بتمايزهما كنهرين غير متصّلين قبل التقائهما واتحادهما معا في نهر شط العرب، ربما هذا المثل يفيدنا في الاتحاد الطبيعي المادي بين شيئين ماديين بكيفيات معلومة محسوسة ومشتركة عقلانيا لدينا، لكن هذا النوع من الاتحاد في الطبيعة غير صحيح في التعميم في وصف تجربة الاتحاد الصوفي بالله، من حيث اذا ما حقق المتصوف (كيفية) متمايزة عن كيفية البشر في الاتحاد الصوفي المؤقت بالله، فالنتيجة رجوع كل من الله والصوفي الى كيفياتهما الاصيلة قبل تحقيق اتحادهما وعودة المتصوف الطبيعي الخارج من تجربة الاتحاد الصوفي كأنسان ارضي قبل الاتحاد. لكن يتعذر على أي من النهرين العودة الى كيفياتهما قبل اتحادهما وتكوينهما حالة كيفية جديدة ناشئة من اتحادهما. لانهما يمتلكان كيفيتين ماديتين من نوع واحد هو (الماء). فالكيفيات المختلفة في حالة الاتحاد الصوفي تبقى متمايزة بالصفات، فالاله هو الخالق، والصوفي يبقى بشرا لا غير اذا صح تواصله مع الخالق ام لا.

ولنطالع على هذه العبارات لفيلسوف كبير في قضايا الصوفية تذهب لتاكيد ما ذهبنا له في العبارات السابقة، يقول روز بروك:(كما ان النار لا تصبح حديدا، ولا يصبح الحديد نارا، فان المخلوق المتحد بالله لا يكون الها، كما لا يصبح الله مخلوقا)(8). وهذا من ابلغ التبيرات الفلسفية اللاهوتية الموفقة، لكنه لا يتوافق تماما مع قول القديس يوحنا: (ان الاتحاد بالله اتحاد مشابهة يحدث عندما تتطابق ارادتان، إرادة الله وإرادة الروح معا، تلك الروح التي وصلت مرحلة التطابق الكامل والمماثلة فتتحد اتحادا تاما مع الله وتتحول الى الله على نحو يفوق الطبيعة ) (9). هنا واضح جدا ان الانسان يكتسب صفة فوق بشرية بالاتحاد مع الله ليرجع يفقدها بعد زمن انتهاء تجربة الاتحاد الصوفي. ومن هنا يجري التأكيد على ان الذات الفردية للمتصوف التي يتسنى لها زعم الاتحاد بالذات الإلهية، انما تبقى محتفظة بهويتها الخاصة البشرية بعد عودتها من رحلة التجربة الصوفية ولا يمكنها الاتحاد الهوياتي من غير الاختلاف مع الذات الإلهية.

عند امعان النظر جيدا في عبارات يوحنا حامل الصليب نفهم انه لا يتحدث عن الاتحاد الصوفي بالله في المسيحية، ولا يتحدث أيضا عن وحدة الوجود، بل يتحدث عن اتحاد اعجازي مستمد من تجربة المسيح في الصلب والقيامة، وفي خرقه نواميس الطبيعة في اعجاز لا يستطيعه البشر المتصوفة ولا الناس العاديين، عليه لا يترتب على مثل هذا النوع من الاتحاد مبدأ التعميم الصوفي في مفهومة الاتحاد بالخالق. وهذا لا يمنح تفويضا لاهوتيا ان بمقدور كل صوفي تجربة ما مر به المسيح . فالمسيح يمتلك اعجازا ممنوحا له من قبل الخالق في تمكينه اجتراح المعجزات التي لا يستطيعها أحد من البشر في قيامه بخوارق الأفعال، وهو ما يعجز عنه الصوفي او أي كائن عادي.

انه لمن المهم ان فكرة وحدة الوجود في المسيحية مرتبطة ارتباطا وثيقا في اللاهوت الديني المسيحي، وتعاليم الكنيسة اكثر من ارتباطها بفهم فلسفي صوفي كما يتاكد لنا من هذا الاقتباس: (ان ايكهارت وهو من اعظم متصوفة المسيحية في القرون الوسطى انه كان يردد في مواعظه بما اتهمته به الكنيسة على انه يزعم الهوية مع الله، في قوله: ينبغي على المرء ان يحيا بحيث يكون متحدا مع ابن الله لدرجة ان يصبح هو ذلك الابن، حتى لا يكون بين الروح والابن أي تمايز) ص 285 من المصدر.

ويقول القديس بولص؛ (اننا جميعا نتحول الى الله، وكل مايتغير الى شيء اخر، يصبح متحدا معه في هوية واحدة، ومن ثم لو انني تغيرت الى الله وجعلني واحدا مع ذاته، فلن يكون مع الله الحي أي تمييز بيننا، وانا والله واحد، وعيني عين الله واحدة، وهي هي، واحدة في الرؤية، واحدة في الحب). ص286 من المصدر المشار له.

(بعبارة أخرى فان الله والروح من حيث الوجود هي موجودات متمايزة، واتحادهما هو اتحاد تشابه كيفي أي نوعي لارادتين متفقتين، ويمكن تسمية هذا النوع من الاتحاد بالاتحاد الكيفي كتمييز له عن الاتحاد في الوجود – وحدة الوجود – او في الجوهر او في الهوية)(10). لاحظ العبارة تقول ارادتين متفقتين ولم يقل صفتين متشابهتين لكيانين يمتلكان كيفيتين متمايزتين جدا ومختلفتين هوياتيا، ولا مجال في تكافؤهما. (خالق الهي ومخلوق بشري).

تفهم المسيحية (العلاقة بين الله وجزء من العالم – المقصود بهذا الجزء الانسان – التي هي الذات الفردية في وصولها حالة الاتحاد الصوفي بالله انما تعني الهوية مع الله حتى لو كانت خلال فترة الاتحاد على الأقل)(11).

أيضا في الاقتباس أعلاه نلاحظ مدى التحفظ اللاهوتي المسيحي حول إمكانية وحقيقة الاتحاد بالله وفي امكانية اكتساب الصوفي كيفية خارقة لعالم البشر، وتستمد هذا الاكتساب – حتى لو كان اكتسابا مؤقتا خلال لحظة الاتحاد كما مر بنا – في الاتحاد المتكرر بالله تصوفيا. هذا الفهم الهوياتي الصوفي للاتحاد بالله قد يعطي تصورا زائفا لدى الصوفي انه بمستطاعه ان يكون ذاتا فردية وهوية صفاتية مكتسبة مغايرة لحقيقتها الاصلية البشرية الطبيعية، في اكتسابه هوية جزئية بصفات الوهية في اتحاده بالله. وهذا غير صحيح فلا يمكن لكيفيات متباينة مختلفة في الهوية والتكوين ان تتحد ويكتسب احدها من الاخر الذي هو الإلهي صفات تجعل منه فوق الانسان البشري حتى ولو لبعض الوقت، التي هي التجربة الصوفية وزمنها، وهذا النوع من وحدة الوجود يطلق عليه الكتاب المسيحيين ليس كل المسيحيين اسم (الهرطقة).

وحدة الوجود في المسيحية بادانتها زعم الصوفية بالاتحاد بالذات الإلهية انما تقوم على مبدأ (الهوية في الاختلاف بين الله والعالم او بين الروح والله، وان الاختلاف بين الله والذات المتناهية – الانسان –هو ما يسلّم به كل انسان بوصفه مسألة طبيعية لا تحتاج الى متصوف يؤكدها ولا الى فيلسوف يوضحها). ص 308

ويلتقي الإسلام بهذا النوع من التفسير التصوفي على ان هناك هوة عظيمة تفصل الخالق عن مخلوقاته، كما ان صوفية الإسلام تميل الى الاخذ بالاختلاف الهوياتي، بين الإلهي والبشري، وعن مقولة الفناء في الله لدى صوفية الإسلام يصفها الغزالي (غاية التصوف الفناء التام في الله، تخيلها البعض انهم اصبحوا مع الله في وحدة، كما تخيل اخرون انهم اصبحوا معه في هوية، وتخيل فريق ثالث انهم ارتبطوا به، لكن كل هذا غلط.).

***

علي محمد اليوسف / الموصل

.......................

الهوامش

* نحن هنا نصف الخالق بان له كينونة وهوية وماهية وصفات، قولا مجازيا فقط فلا احد بمستطاعه الجزم ان هذه من معالم الادراك البشري لها لا ايمانيا ولا عقليا. (كاتب المقالة).

1.  والتر ستيس /التصوف والفلسفة/ ترجمة امام عبد الفتاح امام / ص262

2.  نفس المصدر السابق ص 267

3.  نفس المصدر السابق ص 269

4.  نفس المصدر السابق ص 256

5.  نفس المصدر السابق ص 270

6.  نفس المصدر السابق ص 281

7.  نفس المصدر السابق ص 282

8.  نفس المصدر السابق ص 283

9.  نفس المصدر السابق ص 285

10.        نفس المصدر السابق ص 287

11.        نفس المصدر السابق ص 257

 

تقديم: مذهب وحدة الوجود لا تنحصر مداولته فلسفيا فقط بعيدا عن الاديان حيث لا يخلو دين من الاديان في العالم قديما وحديثا من التطرق لمبحث مذهب وحدة الوجود ولدى الفرق الصوفية العديدة التي تدين به. مذهب وحدة الوجود مبحثا إشكاليا على صعيدي الاديان والفلسفة على السواء. وتختلف معالجته في تداخله بين الدين والفلسفة، ونتطرق بهذه المقالة الى مفهوم وحدة الوجود في فلسفتي اسبينوزا المثالية وهيجل ألتأملية العقلية.

وحدة الوجود في فلسفتي هيجل واسبينوزا

" مذهب وحدة الوجود عند اسبينوزا يشبه الى حد كبير وحدة الوجود عند هيجل. وأكثر مما يشبه وحدة الوجود عند هنود ألمايا، ويقرّ هيجل على أن اسبينوزا كان محّقا الى حد ما عندما تصّور المطلق جوهرا واحدا، لكن المطلق بالفهم الفلسفي الهيجلي أبعد ما يكون عن فهمه أنه جوهر. لذا نجد وجوب معاملة الجوهر "ذاتا" وليس هناك شيء بالمطلق لا يكون عقليا، من الممكن معرفته وتصوره عقليا1.

توضيح مبدئي

وحدة الوجود عند اسبينوزا حين يلتقي مع فهم هيجل، فهذا مؤشر على وجود إختلاف جوهري كبير بينهما يصل مرحلة التضاد وليس التلاقي بينهما..أهمها بداية أن أسبينوزا يفهم وحدة الوجود فلسفيا بمرجعية لاهوت الإيمان الديني بالخالق خارج عدم ايمانه بالمعجزات، في حين يعمد هيجل فهم وحدة الوجود من منطلق فلسفي عقلاني منطقي على صعيد الفكر لا ديني يقوم على وحدة الادراك الكليّة العقلية في نزعة واقعية مثالية ليست ميتافيزيقية..

اسبينوزا يرى بالمطلق الأزلي الشامل الإلهي جوهرا لا يمكن إدراكه خالق غير مخلوق، بدلالته ندرك الجواهر الاخرى في الطبيعة والاشياء. بينما نجد النزعة العقلية لدى هيجل تذهب خلاف اسبينوزا أن الله والطبيعة والانسان والميتافيزيقا تقوم على فكرة مطلقة واحدة عقلية لا دينية تجد أنه لا يوجد شيء حتى الروح يطالها الإدراك العقلي. فكرة المطلق الهيجلية تجدها تمّثل مدركات موجودات الواقع في كل شيء يدركه العقل.اسبينوزا محق في إعتباره المطلق هو جوهر لا يمكن إدراكه، ليعود ينقض قوله هذا أن المطلق لا يلتقي الجوهر وهو خال من جوهر لا يدركه العقل. تناقض هيجل يتعدّى هنا مفهوم الجوهرفي الوجود الى الفكرة المطلقة التي يطال فيها العقل كل شيء. هيجل يرى المطلق هو الواقع الذي يدركه العقل. مطلق وحدة الوجود عند هيجل هو مطلق إدراك العقل لكل شيء يكون موضوعا لتفكير العقل به. الفكرة المطلقة عند هيجل لا يمكن تحديدها فهي الوجود والصيرورة والكيف وهي الماهية والطبيعة والفكرة الشاملة.

هيجل لا يؤمن بجوهر مثالي غير عيني غير مدرك لا على مستوى الطبيعة ولا على مستوى المطلق الكوني الالهي. لذا يدعو الى معاملة الجوهر "ذاتا" يمكن حدّها وإدراكها العقلي المباشر في التعامل معها، وهو خلاف صميمي بالإجهاز على فكر اسبينوزا في وجود جوهر كليّ شامل متكامل نعرف الوجود كاملا بدلالته. حينما نعامل الجوهر (ذاتا) كما يرغب هيجل نعامله كمدرك عقلي، يمكن تذويته بالموجودات التي ندركها على أنها صفات خارجية هي ماهيّة لا يحتجب جوهرا وراءها، وهذا ينطبق على الحيوان والنبات والجمادات التي تكون جواهرها هي صفاتها الخارجية المدركة في ملازمة وجودها الواقعي. لذا يوجد من يعتبر كائنات الطبيعة ما عدا الانسان جواهرها الماهوية تسبق وجودها في الطبيعة وعلاقة الانسان بها بخلاف الانسان وجوده المادي يسبق ماهيته كما رسّخت ذلك الفلسفة الوجودية الحديثة وقبلها فعلت الماركسية.. نستدرك أن معظم الفلسفات المعاصرة والحديثة تذهب الى أن جميع كائنات الطبيعية هي بلا ماهية ولا جوهر خفي، وصفاتها الخارجية المدركة هي ماهياتها وجواهرها ايضا.

إعتبار الجوهر ذاتا كما يدعو هيجل يعني يمكن إدراك جواهر كل الاشياء عقليا حسّيا كصفات خارجية للموجودات، وإذا سحبنا هذا التصور التذويتي في تشييء الخالق الجوهر الالهي المطلق (ذاتا) عندها يتاح للعقل إدراكه وينسف معنى التصور الديني الاسبينوزي أن الجوهر لا يدرك عقليا بل يحدس بمخلوقاته وموجودات الطبيعة الحيّة. والجوهر عند اسبينوزا هو سبب الموجودات وليس نتائج محتوياتها. ولا يدرك الجوهر الإلهي بدلالة موجوداته العينية بخلاف ما يعتقده العديد من الفلاسفة.

اسبينوزا يعتبر الجوهرالانساني سابقا على الوجود الشيئيء بخلاف الفلسفة الوجودية تماما، بمعنى ما عدا الانسان الذي لا يمكننا معرفة جوهره من ناتج ومحصلة إدراكنا لصفاته الخارجية، عليه يكون وجود الانسان سابق على ماهيته وجوهره الذي هو تصنيع ارادة ذاتية خاصّة بالانسان في حين نجد الحيوان والنبات والجمادات لها صفات فقط خالية من إحتجاب جوهر داخلها، وماهيتها كصفات وسائلية للانسان تسبق وجودها الانطولوجي. كل شيء تحتويه الطبيعة ما عدا الانسان هي موجودات لا تمتلك جوهرا ماهويا خاصا بها.

حين يعتبر هيجل المطلق ذاتا يعني أضفى عليه صفة الإدراك الممكن له، وبذلك يفقده خاصّية الجوهر المطلق الإلهي في تعاليه على الطبيعة والكون والانسان. حين يقول اسبينوزا في معرض محاججته عن الجوهر إنني لم أنزل التعالي الإلهي الى مصاف الطبيعة الارضية في وحدة الوجود، بل حاولت رفع شأن الطبيعة بتقريبها من الجوهر الخالق لها، نجد هيجل أراد العكس في محاولته تذويت الالهي الشيئي كي ينزله من تعاليه على الطبيعة الى مساواته بها فيكون هذا التذويت التشييئي للخالق لا يختلف عن إدراك فكرة المطلق أنه يدرك كل شيء من ضمنها الذات الالهية فلا يوجد مطلق لا يدركه العقل لا دينيا ولا واقعيا كونيا ولا يبقى بعدها معنى ميتافيزيقي غامض يراود قلق الانسان بالحياة..

نجد من المهم توضيح أن هيجل لا يأخذ مذهب وحدة الوجود وسيلة ألكشف عن شك يفقد برهان ألوصول لإيمان ديني، بوجود الخالق كجوهر نعرفه بدلالة الاعجاز التنظيمي في موجودات الطبيعة، فالفكرة المطلقة عنده هي الكلّي الشمولي الادراكي، وهي كل الواقع والكوني الذي في قدرة العقل إدراكه. ليس للبرهان على وجود مطلق كوني إلهي لا يدركه العقل حسب مفهوم اسبينوزا، وهو خالق الطبيعة وقوانينها الثابتة التي تحكمها بكافة تكويناتها من ضمنها الانسان.

هيجل لا يؤمن بميتافيزيقا خارج الطبيعة والمطلق الكوني رغم نزعته الفلسفية المثالية التأملية. ولا يوجد ما هو خارج قدرة العقل على إدراكه. والطبيعة والكوني حسب هيجل أنهما القوانين التي تحكمها ويدركها العقل كونه جزء من الفكرة المطلقة إن لم يكن هو كل تلك الفكرة.

تخطيط منقول لفلسفة هيجل برمتها

الهيكل التنظيمي لفلسفة هيجل كالتالي كما رسمها أحد المؤرخين الفلاسفة:

* الفكرة المطلقة = الواقع هو الفكرة في ذاتها وهذا يشمل (المنطق الوجود، الماهية، المفهوم).

* الطبيعة أو الفكرة لذاتها (الميكانيكا، الفيزياء، الكائنات الحية).

* الروح أو العقل يعني الفكرة في ذاتها ولذاتها وتشمل (النفس، السايكولوجيا.

* الروح الموضوعي (القانون، الدولة، الاخلاق)

*  الروح المطلق (الفن، الدين، الفلسفة)

في هذا الترسيم المختصر لفلسفة هيجل نجده يعتبر كل وقائع وظواهر وتجليّات الحياة المادية والميتافيزيقية هي أجزاء تكوينية لعقل مطلق هو فكرة مطلقة تدرك كل شيء ولا إدراك لشيء خارجها يمكن أن يكون موضوعا لادراك وتفكير العقل به..

موجودات الطبيعة والجوهر

العبارة التي وقفت عندها متأملا هي مقولة سارتر (جوهر الانسان الحقيقي أنه بلا جوهر) من السهل جدا أن نحسم خطأ العبارة بمصادرتها من نهايتها، ونقع نحن أيضا بالخطأ مع سارتر أن الانسان لا جوهر له في حين هو يمتلك جوهرا قيد التكوين والتصنيع مدى الحياة حسب فلسفة سارتر الوجودية نفسها. وكي نناقش العبارة نقول الانسان يمتلك كينونة وجوهرا، لكن متى يكون الانسان فاقدا جوهره ومتى يكون مالكا له؟

هذا يتوقف على المرحلة العمرية للانسان ويتوقف على موقفه النفسي الصحّي، فالطفل يولد موجودا بلا ماهيّة ولا جوهر، والجوهر الانساني في جميع المراحل العمرية هو عملية تصنيع ماهوي تلازم الانسان منذ الولادة والى الممات. أما المجنون فهو يمتلك وجودا لا جوهر حقيقي طبيعي سوّي له.

تصنيع الجوهر عند الانسان يقوم على ركيزتين الاولى أنه يعي ذاته عقليا طبيعيا كموجود في عالم، والثانية يعي مدركاته الخارجية بنوع من المسؤولية التي تتطلب قدرة على إمتلاك الحرية في إتخاذه القرار الصائب.... والجوهر الانساني ماهيّة يشّكلها الوعي الذاتي والمحيطي الطبيعي وتتجلى في صورة سلوك مجتمعي هادف بالحياة.

ولتوضيح أكثر نجد:

* الوجودية تؤمن أن الانسان موجود طبيعي نوعي قبل أن يكون جوهرا خفي، فالانسان يوجد أولا وبعدها تتشكل ماهيته أو جوهره ذاتيا حسب مؤهلاته وقدراته وإمكاناته الفردية ومميزاته الخاصة به كفرد.

* يمتلك الانسان جوهرا ماديا مكتسبا مصدره الحياة التي يعيشها وتجاربه وخبراته ومميزاته الثقافية والسلوكية في تكوينه لشخصيته. بمعنى الانسان يصنع جوهره بقواه وإمكاناته الذاتية.

* الانسان كائن نوعي موجود بالطبيعة جزء منها متمايزعنها بصفات العقل والذكاء والوعي بالذات والمحيط، إمتلاكه لغة تواصلية معرفية، شعوره بالزمن، إدراكه أن الطبيعة تحكمها قوانين طبيعية عامة ثابتة، كما أن الانسان يعي حاجته للطبيعة ولا تعي الطبيعة حاجتها للانسان...وغيرذلك مما تفتقده الطبيعة ويمتلكه الانسان مثل العقل، اللغة، الوعي، المخيّلة، العواطف، الاحساسات، والمشاعر الخ.

أصبحت لدينا مقولة سارتر أن جوهر الانسان الحقيقي بلا جوهر، صحيحة تحمل إمكانية تخطئتها كما مر بنا توضيحه. والآن نعود لطرح تساؤل يخّص موضوعة وحدة الوجود، ما علاقة مذهب وحدة الوجود بالطبيعة من غير الانسان.؟

مذهب وحدة الوجود هو نزوع صوفي ديني ليس لإثبات الوجود الانساني كما مر بنا وإنما لإثبات وجود الخالق كموجود لا ندركه بذاته ولكن يمكن إدراك وجوده من خلال تقصّي وجود الجوهر في نظام الطبيعة...جميع الكائنات من موجودات الطبيعة الحيوان، والنبات والجماد هي موجودات بلا جوهر يحتجب خلف صفاتها الخارجية. وصفاتها الخارجية هي جواهرها.

لنأخذ مثلا هل الحيوان يمتلك جوهرا؟ أم لا يمتلك جوهرا وكيف؟ الحيوان لا يمتلك جوهرا متمايزا عن صفاته الخارجية لا في داخله ولا في سلوكه خارج صفاته. والقول في منطق وحدة الوجود حسب فلسفة اسبينوزا أن جميع الكائنات في الطبيعة من ضمنها الانسان تمتلك جواهر مستمدة من جوهر مطلق خالق لها غير مخلوق الهي هو فوق إدراك العقل، جواهر يستطيع الانسان إدراكها في مخلوقاته ولا يستطيع إدراكها في خالقها الجوهر الكلي المهيمن عليها، هي نوع من المنهج الذي يصادر برهان تحققه. بمعنى النظام الطبيعي الإعجازي في قوانين الطبيعة الثابتة، يمتلك من القدرة والإمكانية ما هو فوق عقلي، وهذا النظام الإعجازي بالطبيعة لا يعني إمتلاك مكوناته لجوهر دفين موزّعا عليها يشير لوجود خالق عظيم ولا يشير لإثبات وجود موجودات في الطبيعة كمظهر وجوهر متكاملين.. هذا التكامل من قبيل الحدس الايماني لا أكثر، إذ هل من المتاح لإدراك عقل الانسان إدراك جواهر الاشياء خارج صفاتها في موجوداتها؟ الجواب لا يمكن ذلك لأن تلك الموجودات والكائنات عدا الانسان بلا جواهر خارج صفاتها الخارجية مثلما اشرنا له عند الحيوان والنبات والجمادات.

لنأخذ مثالا الحيوان الذي هو أعلى مرتبة بيولوجية من النباتات والجمادات، فهو موجود بلا جوهر ولا ماهية. لماذا وكيف؟

* الحيوان لا يعي ذاته ولا يدرك الطبيعة ويفتقد اللغة وشعوره بالزمن من حوله إلا على نطاق ضيق جدا يتحدد في إشباعه لغرائزه الاكل والتكاثر ودفع الاخطار المحدقة عنه وعن نوعه. الطبيعة هي التي تعطي الحيوان صفاته الخارجية التي هي مجموع كينونته المنفردة كحيوان.

* الحيوان لا يمتلك ميزات إنفرادية نوعية كما هي عند الانسان مثل الذكاء العقلي، الوعي الذاتي، إمتلاك اللغة، الإحساس بالزمن وغيرها من صفات.

* الحيوان يكتسب صفاته الخارجية من خلال إذعانه المتكيّف بما تمليه عليه الطبيعة من غير إرادتها ولا وعي منها. عدم وعي العلاقة الحيوانية – الطبيعية من كليهما المشّكلين لها هو سبب إمتلاك الحيوان قدرات التكيّف الطبيعي البيئي كي يبقى حيا. وانثربولوجيا تاريخ الحيوان تؤشر لنا إنقراض العديد من السلالات البشرية والحيوانية على السواء لفقدانها قدرة التكيّف مع ظواهر طبيعية شديدة القسوة مثل الانهيارات الجليدية والفياضانات، والزلازل، والبراكين، وقلة الغذاء وهكذا.

التكيّف الطبيعي يمتلكه الانسان والحيوان على السواء لكن بإختلافات جوهرية هامة. إذن علاقة التكّيف الحيواني بالطبيعة يجري بين قطبين هما الطبيعة والحيوان وكلاهما لا يتبادلان الوعي الادراكي بهذه العلاقة بينهما. فالطبيعة لا تدرك معنى تكّيف الحيوان في إستمرار بقائه، ولا الحيوان يدرك أن تكيّفه مع الطبيعة لا تعيه الطبيعة ولا تدركه.

* كذا نفس الحال يتكرر مع النباتات في علاقتها بالطبيعة فكلاهما لا يتبادلان الادراك المشترك بينهما. وليس مهما تفتيش الانسان عن جوهر يمتلكه النبات أكثر من إعتبار الانسان للنبات وسيلة الطبيعة في توفير إحتياجاته من الغذاء.

* أما الجمّاد الطبيعي غير المصنوع وجوده في الطبيعة من قبل الانسان فلا جوهر له خارج صفاته. وتختلف عن الجمادات التي يصنعها الانسان فهي لسد رغبته بالحاجة لها في تأمين خدمته. فالقلم يحمل ماهية إستخدامه من قبل الانسان قبل تحقق وجوده المادي كقلم، وكذا مع جهاز التلفاز أو مع أي شيء آخر مادي يصنعه الانسان لسد حاجته له، فهو يمتلك ماهية وجوهر وجوده بذهن الانسان صانعه قبل إمتلاك وجوده المادي حينما يكون فكرة صناعية في تفكير الانسان حاجته لها أن يقوم بصنعها فهو يعرف ماهيتها الإستعمالية قبل وجودها المصنوع.

فكرة المطلق والتجريد

هل يمكننا إستخلاص أن مفهوم الجوهر في وحدة الوجود الذي يفهمه اسبينوزا وسيلة ميتافيزيقية لتدعيم إيمان ديني بوجود الخالق، ويفهمه هيجل مطلق متعيّن في هيمنة العقل على كل شيء يمكن إدراكه لا وجود له هو فوق متعال عقلي يدركه العقل ولا يدرك هو العقل.

. فكرة المطلق عند هيجل إدراك عقلي، وفكرة الجوهر لا إدراك عقلي يطاله. كلا المفهومين فكرة المطلق الذي لا يفهم بدلالة الجوهر، ولا الجوهر يقبل الإستدلال العاجز التعريف به. يصبح معنا كلا المفهومين الفكرة المطلقة والجوهر تجريد فلسفي عاجز عن الوصول للمادة وإحتوائها كوجود.

هل يمكننا التساؤل أن خلع توصيف المادية العقلية على مطلق الفكرة الادراكية عند هيجل ينفي الجوهر كتجريد اسبينوزي غير موجود ولا يمكن البرهنة على إثبات هذا الوجود؟ كونه بالمعيار الهيجلي مطلق خارج ذاته، لذا وجدنا مطالبة هيجل معاملة الجوهر كذات أو ذاتيا أي بمعنى الجوهر الالهي في تذويته بخلاف اسبينوزا يصبح قابلا للادراك العقلي. ويعود هيجل رد الإعتبار الذي أجهز عليه اسبينوزا الى الرجوع للمقولة التي كانت متداولة فلسفيا لعصور طويلة أن الجوهر يعرف بدلالة الوجود المادي، وليس كما عكس اسبينوزا المعادلة أن الوجود يعرف ويدرك بدلالة الجوهر الذي لا يمكن إدراكه خارج التسليم الايماني الغيبي الاسبينوزي في وجوده الطبيعي قبل السماء. لازال الفلاسفة يتغاضون عن التفسير الاسبينوزي حول أن الجوهر مطلق كوني يحتوي كل شيء في الكون، كون هذا التفسير الاسبينوزي يستند الى مرجعية دينية لا تأخذ بها الفلسفة. فالفلسفة ترغب معرفة الجوهر ليس وسيلة إثبات برهاني حدسي ديني، بل بوصفه مبحثا فلسفيا معرفيا قائما بضرورة حسم الجدل النقاشي له..

يذكر بعض المعنيين بتاريخ الفلسفة الى أن هيجل كان يردد دائما مقولة اسبينوزا (كل تحديد هو سلب) بمعنى كل تحديد لمواصفات شيء مدرك شيئيا يسلبه صفاته الايجابية الاخرى، فالتحديد الشيئي هو مدرك متعيّن الصفات، ولا يمكن للفكر المجرد إضافة مواصفات إنتزعها التحديد له. تحديد الشيء بمواصفات معينة يعني غلق الإمكانات التجديدية له وجعله كينونة مقفلة.

من الغريب أن نجد كلما أوغل اسبينوزا وشيلنغ في تأكيدهما المطلق هو إدراك عقلي مجرد، بمعنى هوية بلا مضمون في حين يصر هيجل أن المطلق أكثر الاشياء عقلانية إذ يعتبره محتوى أدراكيا عقليا وليس وسيلة ادراك معرفي بدلالته. يفهم هيجل المطلق أنه يستوعب مدركاته، في تكوينه العضوي الإحتوائي بلا تفريق بين ما هو مادي عما هو تجريدي غير مادي.

المطلق عند كل من اسبينوزا وشيلينغ هوجوهر كلي مجرد عن ماديته، فالجوهر عندهما محض هوية مجردة لا تحتوي المادة، وتعرف كل الاشياء المادية بدلالة هذا الجوهر الكلي الالهي غير المدرك. وينكر هيجل المطلق هو دلالة بلا مضمون بل هو عيني يحتوي الواقع بكل شيء، ولا يحتويه شيء، وأنكر مقولة شيلنغ "المرء لا يمكن أن يكون أكثر من موجود " أي موجود لا يمتلك جوهرا. وهذه نظرة تجريدية تنزع من الانسان جوهر انسانيته التي تميزه عن باقي مكونات ومخلوقات الطبيعة التي هي فعلا موجودات لا جوهر لها في بقاء الانسان كينونة وجوهر.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

..........................

هامش:

1. وليم رايت /تاريخ الفلسفة الحديثة /ت: محمود سيد احمد / تقديم ومراجعة امام عبد الفتاح ص 319

تعريف اولي: يذهب امام عبد الفتاح امام في هامش تقديمه وترجمته لكتاب والتر ستيس (التصوف والفلسفة) ص259 الذي نعتمده كمصدر وحيد في هذه المقالة، ان مصطلح وحدة الوجود pantheismيوناني مؤلف من مقطعين pan بمعنى شامل أوعام وtheism بمعنى الاله، أي شمول الالوهية لكل شيء، او ان وجود الله ووجود العالم هما ضرب واحد من الوجود.

ومذهب وحدة الوجود في الكتابات المسيحية التصوفية يشير الى العلاقة بين الله وجزء خاص من العالم، الذي هو الذات الفردية للمتصوف عندما يصل حالة الاتحاد الصوفي بالله. وينسب للبروفيسور ابراهام ولف (ان وحدة الوجود في الفلسفة واللاهوت تعني النظرية التي تقول ان الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله، فالكون ليس خلقا متميزا عن الله، فالكون هو الله، والله هو الكون).1

لا شك ان التصوف يرتبط ارتباطا وثيقا بالدين واللاهوت الديني في جميع اشكالاته اكثر من محاولات طرحه كاشكالية ترتبط بالفلسفة او المنطق، وهذه الإشكالية ليست لغوية صرف في التأكيد على البلاغة والمعنى كما هو مطروح متداول في الفلسفة الغربية المعاصرة (البنيوية والتفكيكية). وربما تكون دراسة التصوف فلسفيا احدى هذه الإشكالات التي ليس من السهل البت بها او التوصل الى نتائج يمكن الركون لها والتسليم بها، لذا نجد من العبث ربط إشكالية التصوف باشكاليات الفلسفة وموضوعاتها لأننا والحالة هذه لن نصل الى ما يرضي الفلسفة ويرضي التصوف معا، فالغيبيات الميتافيزيقية التصوفية طاغية بشكل يصادر الجهد الفلسفي كمنطق لغوي تجريدي ينتظمه العقل، بما اطلق عليه كانط ثم ديكارت منذ القرن السابع عشر نهاية الميتافيزيقا وأن ميادين الميتافيزيقا مضيعة للجهد الفلسفي، فهي ميادين بحثية لا معنى حقيقي لها، وهي المانع الأهم في عدم إمكانية الوصول الى مفاهيم تساعدنا على فهم التصوف فلسفيا. وعليه تكون الجهود المبذولة في ربط التصوف بالفلسفة هي من باب الاجتهادات الفردية في مسائل قد يأتي يوم يؤخذ على الفلسفة انها حاولت العناية بموضوع لا يقبل الصدق الحقيقي او الوثوق به في نفس وقت انعدام البراهين التي تجعلنا نثق به وبذا يكون التصوف (ديني وميتافيزيقي فلسفي معا) اذا اريد له ذلك والعودة المتكررة لدراسته فلسفيا.

وحدة الوجود في الاديان

لا يؤمن الإسلام بوحدة الوجود الديني ولا التصوفي، ويقول والتر ستيس (ان الإسلام يصر على ان بين الله والانسان هوة ومن ثم فهو ينكر وحدة الوجود). والهندوسية والبوذية التي تؤمن جميعها بوحدة الوجود الديني، ويتوّسل متصوفيها العرفان الاشراقي الحلولي بالذات الالهية لتحقيق اندماج الذات الصوفية في النور الإلهي الغامر والذوبان النفسي - الروحي فيه بطريقة تتجاوز فيزياء الطبيعة والوجود وقوانينهما التي تحكم علاقة الانسان معها ومع الحسي والوجداني العاطفي النفسي (مجاوزة الزمان والمكان كليّا). ورغم ان الديانات الوثنية لا تعترف بوجود الله الخالق لذا فهي تربط الحلول الذاتي والتصوفي مع براهما او بوذا في بلوغ النرفانا التي هي معناها الخواء والعدم والامتلاء معا، وتحقيق اشباع الانجذاب التصوفي الروحي الحلولي تجاه المعبود وفي تدّبر آيات الخلق والوجود اللامتناهي غير المحدود في اسراره وجماله ونظامه في الطبيعة والكون.الخواء والعدم تعابير مجازية غير حقيقية في الفلسفة فهي من وسائل الادراك للوجود والاشياء، (واسطة الدلالة بها) وليست هي مدركات موضوعية يمكننا التحقق منها بذاتها فهي غير قابلة للتحقق وبلا معنى من أي نوع ان تكون موضوعا يعيه العقل والتعامل معه..

وحجّة الذين ينكرون وحدة الوجود التصوفي يذهبون ان هناك حاجزا يفصل الهوية الفعلية للارواح عن الخالق او المعبود.1رغم ادعاءات المتصوفة في مقدمتهم متصوفة المسلمين بوحدة الوجود دينيا التي ينكرها عليهم بعض فقهاء الدين الاسلامي وفلاسفته. الا ان الإسلام يفهم وحدة الوجود في آيات الله وصفاته في الطبيعة وفي الانسان وفي مخلوقاته فقط، وان وحدة الوجود البشري مع الله في كسر قوانين الطبيعة شرك. في حين تبدي المسيحية الموافقة المشروطة على وحدة الوجود(الله والطبيعة والانسان) معتبرة وحدة الوجود لا تتقاطع مع الثوابت اللاهوتية، لكن بعض المذاهب المسيحية تلتقي بنظرة الإسلام وتعتبر وحدة الوجود التصوفي (هرطقة ) من حيث ان الوصول الى الانا الفردية الخالصة المتجردة عن انسانويتها تماما لا تتوفر للإنسان ذي القدرات المحدودة بعاملي الزمان والمكان اللذين ليس من السهولة والمتاح مجاوزتهما، وكذلك عامل محدودية قدرات الانسان تجاه الذات الإلهية العصّية وماهيتها الغامضة على كل التصورات والادراكات العقلية المادية او الخيالية. التي تفتح الطريق امام المتصوف ولوج مرحلة التسامي الروحاني التي يجادل المتصوف في نسبتها له وتعلقه بها في حب وعشق الخالق والذوبان في تجلياته وفي كليته الذاتية. المسيحية برمز المسيح اعطت مثالا اعجازيا لاهوتيا للتصوف.

وحجة المتصوفة ان الكشف الصوفي لا يدرك بالعقل، ويؤكد والتر ستيس انه في تراث الأديان السامية عموما، هناك هوة تفصل بين الخالق ومخلوقاته ولا تستطيع روح الفرد ازالتها بل ينظر الى ازالتها بانها تجديف. انه لمن المؤكد ان تغييب العقل كفاعلية ادراك، واحلال الايمان العفوي الصوفي بدلا منه، لا يجعل من تجارب الصوفية حقائق يمكن التسليم بها.

الحلول الاشراقي في الذات الالهية

يصف منصور الحلاج الصوفي الاسلامي الاشهر وصوله مرحلة التسامي والحلول والاشراق العرفاني بالله بقوله مرددا (انا الحق) وهي لفظة ناقصة ماخوذة ربما عفويا عن عبارة السيد المسيح (انا الحق والحياة والطريق) وكثيرا ما يتحدث الحلاج عن الروح الإلهي والروح البشري على انهما محبّان يتناجيان في حالة من الغبطة والسكر والنشوة الممزوجتين تماما كما في الابيات التالية:

مزجت روحك في روحي كما

تمزج الخمرة بالماء الزلال

*

فاذا مسّك شيء مسّني

فاذا انت انا في كل حال

*

انت من اهوى ومن اهوى انا

نحن روحان حللنا بدنا

*

كما يقول شهاب الدين السهروردي مغدور حلب:

لا تظنوني باني ميت        ليس ذا الميت والله انا

ويعتقد اللاهوتيون الفرقة (المؤلهة) في المسيحية الذين ينكرون امكان تحقق الحلول العرفاني، بخلاف ابيات الحلاج الشعرية التصوفية والسهروردي الذي ادعى أيضا ان الله كلمّه مثلما كلّم النبي موسى، (انه حتى في حال الاتحاد بالله فلابد ان تظل فردية المتصوف منفصلة ومتميزة عن الله).2 وهو امر مفروغ منه لا يحتاج مناقشة اثباته لاقناع غير المتصوفة من الناس قبل المتصوفة قبلهم.

انه من المشكوك به اثبات وصول المتصوف مرحلة الاندماج بالذات الإلهية الكلية التي حسب الادعاءات الصوفية تتجلى في حدس مبهم غامض لا يتاح الإفصاح عنه او شرحه جماعيا من قبل أصحاب التصوف فهو فوق قدرة الوجود الإنساني معرفته حسّيا او الإحاطة بجزء منه، وحتى في الأديان الوثنية البوذية والهندوسية، فالقدرات البشرية مهما تسامت فوق قوانين الطبيعة وادراكات الزمان والمكان فهي قدرات محدودة مكبّلة وعاجزة في الحلول في فضاء الانجذاب النوراني الرباني، لانها بالنتيجة لا يمكنها ان تترك وقع اثار اقدامها على الأرض. فطبيعة الانسان لا يمكن ان تتشابه وتتجانس مع اية طبيعة متصورة ذهنية للاله الخالق في حال اقرارنا إمكانية تشيؤ (الله) على شكل او صورة من الادراك التي يستطيعه البشرفهم هذا التشيؤ الافتراضي المستحيل.

ورغم ذلك يذهب بعض الفلاسفة الى القول ( ان الله بلا كيفيات ولا صفات، وانه ليس للواحد كيف ولا خواص، والله في ماهيته التي لا تولد هو ماهية جوهرية بغير شخصية الماهية التي تتجلى كوجود غير شخصي) والتر ستيس، التصوف والفلسفة ص 243.

كما انه ليس من السهولة ان نجد ذاتا الهية تخص بعضا من البشر بنوع من المحبّة والأيثار دون غيرهم وتقرّبهم من الاتحاد بأناها الإلهية، وامام هذا المأزق نجد ان المتصوف يدور في حلقة مفرغة قطباها أولا الدوران حول الذات في عوالم من التصورات الانجذابية الحلولية التخييلية اللاشعورية في تسامي روحي يتجاوز الارضي، وثانيا الدوران حول التهرب من الإفصاح عن التجربة التصوفية التي يمر بمراحلها المتصوف بواسطة الدلالة اللغوية او الرمزية والاشارية ليفهم الآخرون تجربته. وبهذين المعنيين تنعدم امامنا صدقية التجربة الصوفية من عدمها في زيفها وادعاءاتها لأننا لا نستطيع الحكم على شيء لا يفصح عن نفسه او دلالاته بأية وسيلة ادراك حدسية او عقلانية تثبت صدقيته او نفيها.

ونجد هذين الافصاحين يرددهما جميع المتصوفة وفي جميع الأديان وفي مختلف العصور ومختلف الثقافات والأمم. من ان تجاربهم الصوفية هي من الاسرار التي لا يجوز البوح بها للاخرين وانها تفوق الوصف ومن غير اللائق بالمتصوف الحديث عنها!! ويشير والتر ستيس الى ان الاوبنشاد الف وخمسمائة ق. م وهي اقدم الوثائق المعروفة عن التصوف الهندي، تصف على نحو ثابت لا يتغير التجارب الصوفية بانها بلا صوت ولا شكل وغير ملموسة وتخلو تماما من المضمون الحسي.3

وعن مقاربة هذه الدلالة والمعنى نجد القديسة تيريزا، من منطلق استحالة الكتابة عن التجربة الصوفية اثناء حدوثها والمرور بها، وانما يتم ذلك بعد الخروج منها ومحاولة تذّكر وقائعها تصف لنا قائلة: (اثناء الغبطة نفسها كثيرا ما يكون البدن كأنه ميّت وعاجز تماما، وتضعف الحواس وتهن غير ان قوة الابصار والسمع تبقى بصفة عامة، لكن كما لو كانت الأصوات المسموعة والاشياء المرئية تقع على مسافة بعيدة جدا، وانا لا اقول ان النفس تسمع وترى عندما تكون الغبطة في قمتها، عندما تضيع الملكات بسبب الاتحاد العميق بالله، فانها عندئذ لا تسمع ولا ترى ولا تدرك، وهذه التحولات التامة لا تستغرق سوى (لحظةّ!!!!).4

التصوف بين الذاتية والموضوعية

يقسم المختصون بدراسة الصوفية الى ان جميع تجاربها يمكن اجمالها جميعها عند مختلف الأمم ومختلف العصور والازمنة في منحيين، هما أولا التجربة المسماة الانبساطية في حب الله، والتي يطلق عليها أيضا الغبطة واللذة. والثانية التجربة الانطوائية المتأملة ذاتيا في تداعيات الحلم التصوفي والانجذاب، وهي تجربة ربما يعتبرها البعض اكثر نضجا من التجربة الانبساطية في التصوف.

وفي الوقت الذي يذهب فيه وليم جيمس وبرود وكتاب اخرين الى ان التجربة الصوفية ذاتية وليست موضوعية، وهو رأي اكثر مقبولية من دعاة ان التجربة الصوفية موضوعية، فالادعاء بان الذات الكلية الإلهية هي حقيقة واقعية موضوعية فيها الكثير من شبهات التجسيم الإلهي الذي يرفضه الإسلام وخاصة في اراء فرقة( المعتزلة) وهو رأي لا يعتد الاخذ به فلسفيا ايضا، فالمتصوف الذي يعي ذاته هو عندما يجد ان الذات الإلهية ذات مفارقة لوجود الانسان ووعي هذا الوجود، يعطيه مشروعية ان يكون جزءا منفصلا او متحدا مع الكلية الإلهية التي يدركها وهو محال عقليا فيزيولوجيا لغير المتصوف ادعاؤه، وفي كلا الادعائين فان الذات هي الفاعلة وفي هذا مصداقية لمقولة ديفيد هيوم في تعريفه (الانا) بانها ليست سوى تيار الحالات الواعية، ويكون هيوم بهذا يزرع بذور الشك بالروحانيات ويستبطن نظرية الالحاد في عدم وجود الله في ثنايا عبارته، والأكثر منها انه يستبعد نهائيا ان يكون لتداعيات وخيالات اللاشعور قدرة امتلاك وثوقية الحقائق الواقعية او الموضوعية. كما انها عاجزة عن امتلاك الادراك والتصورات التي تثبت الكلية الإلهية حقيقة واقعية او موضوعية. وهذا التفسير لا تستطيع دحضه الأديان من غير الإسلام ولا الفلسفات التي تعترف بصدقية التجارب الصوفية ولا زالت القضية موضع تجاذب ونقاش مستمر.

في تعريف الموضوعية: (ان المعيار المطلق لمعنى الموضوعية هو انها نظام او ترتيب يخضع لقوانين الطبيعة) 5وهو معيار مختلف تماما عن معنى الذاتية التي هي نظام شعوري تارة، ونظام لا شعوري تارة أخرى يستطيع كسر حاجز قوانين الطبيعة كما في حالات النوم والاحلام والتخييل او التصوف ومعجزات الاديان في اليهودية وفي المسيحية، وبهذا يصعب البت في إعطاء التخييل الحلمي وبضمنه التصوفي على ان ما يدركه ويعيه انه شيء حادث او ممكن الحدوث في الواقع او في الخيال على اعتبار ان الله عصي على التشيؤ في اية صورة يستطيع الانسان ادراكها. كما ان الله هو وجود بلا ماهية ولا جوهر يتمكن عقل الانسان ادراكه، والوجود الإلهي وجود مفارق لجميع الموجودات في الطبيعة والانسان وعالم الأشياء. اسبينوزا في مبحث وحدة الوجود يرى الله جوهرا موزعا في الطبيعة وفي كل شيء. وهنا يكون الادراك الانساني للجوهر هو تشييء ذلك الجوهر على انه الله.

لا يستطيع المتصوف ادعاء ان الذات الكلية الإلهية التي يتحد او يتواصل معها انها كليّة (ذاتية) فقط او كليّة (موضوعية) فقط وانما يقول هي كلية ذاتية وموضوعية في وقت واحد، وفي كلا الافتراضين فان هذه الكلية متمايزة جوهريا بذاتها وماهيتها وخصائصها، ان تكون حاملة لأي من مواصفات البشر التي يمكن ادراكها بوسائل الادراك البشري والاتحاد بها. كما اننا في كلتا الحالتين يتعذر علينا نحن غير المتصوفة الوثوق في إمكانية الاتحاد بهذه الكلية الإلهية تصوفيّا. اللاتجانس النوعي بين الله والانسان ينسف الصوفية ان تكون فعالية يمكن ممارسة تحققها . فاذا اعتبرنا الكلية الإلهية ماهية ذاتية في مقابلة الوجود البشري التصوفي كذات أيضا بمواصفات اختلافية جدا فمن المتعذر التصديق بالقول امكانية الاتحاد معها، وان ما يمر به المتصوف ليس اكثر من تداعيات وتصورات يتداخل بها النفسي اللاشعوري مع الموضوعي الحسّي بمعزل عن وجود آخر حتى لو كان اثيري او نوراني تتجلى به الذات الكلية للمتصوف. كذلك ان نقول الذات الكلية الإلهية موضوعية تنفي امكانية التواصل بها لما تحمله من تجسيم متشيء لا يتعدى مدارك ووعي الصوفي في اسباغ كل تداعيات اللاشعور الذاتي على موضوعه المفترض خياليا فقط. وبهذا المعنى يمكننا اعتبار التجربة الصوفية مرحلة متأخرة من تطور الدين عبر الازمان.

يجيب افلوطين وهو فيلسوف متصوف عاش في الإسكندرية في العصر الهيلينستي عن سؤاله كيف للمتصوف ان يعرف المتناهي؟ أجاب بقوله: المتصوفة لا يعرفون اللامتناهي عن طريق العقل، لان وظيفة العقل التمييز والتحديد، ولا يمكن ان يكون اللامتناهي على مرتبة واحدة في موضوعاته ...انك لا يمكن لك ادراك اللامتناهي الا ..... بالدخول في حالة لا تعود انت فيها موجود ولا ذاتك المتناهية.... وهذا يعني تحرر ذهنك من الوعي المتناهي، وعندما تتوقف ان تكون متناهيا فانك تصبح واحدا مع اللامتناهي كما ان روح المتصوف كما يرى افلوطين تختفي باتحادها اللامتناهي وتصبح معه واحدا لكنه يستدرك قائلا: ان اللامتناهي هو واحد مكتف بذاته، والمتصوف انسان قائم بمواصفات محدوديته وعجز قدراته ان يكون مكافئا في تحقيق اتحاده مع الخالق.

وحدة الوجود والفلسفة

في السطور السابقة اشرنا الى فشل وعجز الاجماع في دعم النظرية التي تقول ان التجربة الصوفية تشهد او هي دليل على وجود حقيقة واقعية تتجاوز الذاتية الفردية للوعي الصوفي، (وان التجربة الصوفية ليست ذاتية وحسب، بل هي في صميم ما يزعمه المتصوفة انها تجربة مباشرة بالواحد، وبالذات الكلية، والله).6

يعتبر اسبينوزا اهم فلاسفة وحدة الوجود، وهو يعتبران الله والطبيعة مفهومان مترادفان لمعنى واحد ولا يقر بوجود خالص خارج الطبيعة، والكون عنده يتألف من جوهر وصفاته وهي صفات الله ولا يوجد شيء غير ذلك .7وأن الطبيعة والله كينونة وجودية واحدة علما ان الانسان بلا كينونة في المنطق الفلسفي.

ان اسبينوزا هنا لا يقر بوجود خالق قائم بمواصفات ذاتية بمعزل عن توزعات هذه الصفات الالوهية على الطبيعة وقوانينها التي من ضمنها الانسان في تغطية وحدة الوجود وان كل شيء في الوجود والكون هو في النهاية يدّخر ذاتيا خصائص الهية هي من صنع واغداقات الخالق على الطبيعة والانسان بكل مميزاتها البشرية وتعقيداته الوجودية التي تعزى الى الخالق في غموضها المستعصي على الوضوح في اغلب الأحيان وتعتبر بمثابة اعجازات الخالق في مخلوقاته ( الانسان وفي الطبيعة معا).

وتمتاز هذه الموجودات بانها جواهر وصفات غير محدودة ولا نهائية لا يمكن احاطتنا بجميعها ولا وجود لشيء خارجها منفصل عنها. بمعنى مختصر ان الله هوصفات مخلوقاته في كيفياتها اللانهائية فقط ولا وجود له (الله) على شاكلة أي نوع من الصفات المستقلة به ذاتيا الغير مدركة في بعضها في الطبيعة والانسان والنظام الكوني الذي يجعل الوجود واحدا في تداخل الإلهي كصفات أرضية وطبيعية فيه مع البشري والطبيعي والكوني لاهوتي - ميتافيزيقي بما يستلب من الانسان مركزيته الوجودية وحاجته الى رد الأمور المستعصية على تحملها الى قدرة الله المتجلية في بعض مظاهرها امامه في نفسه وفي الطبيعة وتشعره بالتقزيم الملازم لوجوده.

اذن وحدة الوجود الاسبينوزي تدحض بالصميم ان يكون الخالق ذاتا او موضوعا او هوية مستقلا يمكن ادراكه ويتأمله بعض الناس المتصوفة دون غيرهم.فالواحد الالهي هنا في هذه الحالة هو في حقيقته (كثرة) متوزعة بما لانهاية له من التجليات والصفات، غير محدود ولا نهائي وليس واحدا كيانيا قائما لا في ذاته ولا كموضوع لذا يكون من المتعذر على الصوفي ان يتحد بالذات الإلهية كما يدعي حتى في حال اعتبارنا وحدة الوجود هنا منطقا فلسفيا لا صوفيا لاهوتيا.

وعن صحة ما ذكرناه نجد الفيلسوف والتر ستيس يعبّر بالكلمات التالية: ان وحدة الوجود هو الفلسفة التي تؤكد القضيتين الاثنتين التاليتين والمتلازمتين معا:

1.  العالم يتحد مع الله في هوية بسيطة واحدة.

2.  العالم متميز عن الله بمعنى انه لا يتحد معه في هوية واحدة. (ص 262 مصدر مشار له).

كما ان ايكهارت وهو من كبار الفلاسفة الصوفية قوله (لايعوق الروح عن معرفة الله مثل إعاقة الزمان والمكان، فهما شذرات في حين ان الله واحد. ومن ثم اذا ارادت الروح ان تعرف الله فلابد ان تعرفه خارج المكان والزمان، لان الله لازماني ولا مكاني، على حين يتجلى الزمان والمكان في جميع الأشياء) مصدر سابق مشار له ص 250

ورفض ديفيد هيوم ومعظم فلاسفة الوضعية التجريبية والتحليلية الإنكليزية مثل فرانسيس بيكون وجون لوك وجورج مور وبراتراندرسل إمكانية ومقدرة وصول المتصوف مرحلة وجود الانا الخالص التجريدي والمتحرر من مقيّدات الوجود الإنساني الواقعي الطبيعي الفيزيائي المحكوم في الزمان والمكان. ويضيف هيوم دحضه وجود الانا الخالص في تعريفه الانا:( ان الانا الخالصة ماهي الا تيار الحالات الواعية)8 بمعنى وعي الذات لوجودها المادي والتخييلي التصوري وادراكاتها للمحيط والموجودات إدراكا ذهنيا عقليا حسيا شعوريا. وبهذا ينفي هيوم الوجود المادي ان يكون سابقا على الفكر والادراكات والتصورات كلية في تأكيده ان الذات ادراك واعي بذاته وهويته الوجودية.

وان وجود الشيء هو ان يدرك، وهي قمة المثالية التي يشاطره بها بيركلي عندما يقول لا وجود لشيء خارج ادراكي له فكريا وذهنيا، وفي حال تجرّد الانسان من حواسه في ادراك الوجود سوف لن يكون هناك وجودا قائما بذاته كما تذهب له المادية في ان وجود الشيء يسبق ماهيته وادراكه والتفكير به.طبعا هذه المثالية عند بيركلي ليست غير واقعية وحسب بل هي مثالية ساذجة بحق.

ان الزعم بتحقق وحدة الوجود تصوفيا امرا لا يمتلك براهينه الفلسفية المنطقية فاذا اخذنا (النوع الانطوائي من التجربة الصوفية، فهي غير حسّية مادامت جميع الاحساسات والتصورات استبعدت منها )9 لكنها تبقى تجربة ذاتية غير موضوعية (فهي ذاتية بالمعنى الذي يكون فيه الهذيان والهلوسة والاحلام مصادر تنبعث بالضرورة ذاتيا وليس موضوعيا)10أي ان هذه الحالات عند المتصوف لا تخضع الى انتظام قوانين الطبيعة في فهم ماهو الموضوعي. لكنما اذا ما اخذنا المتصوف كوجود متعين زمانا ومكانا من خلال تجريده عن جميع حالات الهذيان والاحلام التخييلية فيصبح وجوده موضوعيا ماديا لاعلاقة له بالفكر المدرك لوجوده في وعي ذاته، ولا بحالات الهلوسة التي امتلكت صفة الذاتية المنعزلة عنه، وهو تصنيف غير مقبول منطقيا، كون الانسان وجود مادي يتحدد بالعقل والفكر واللغة والوعي، لكن ما يبرره هو ادعاء المتصوف ان حالاته الحلمية التخييلية تمتلك موضوعيتها من موضوعية وجوده الأرضي المتعين التي اكتسبها من مقارنه وجوده مع الوجود (الموضوعي) للذات الإلهية التي يدعي حدسها والتقرب المتزايد منها كذات وموضوع فهو مالا يؤخذ به لأنه لا توجد لحد الان براهين لا هوتية ولا علمية تؤكد وجود الخالق بالمواصفات الذاتية الماهوية او الصفاتية التي لا نحدسها ومعنا يشترك المتصوفون بها أيضا في هذا العجز.

كما لا نعتقد أن الصوفية حسمت أمرها في ان الادراك التصوفي الحلول في النور الالهي يقوم على اعتبار الله (ذاتا) بمواصفات الهية يصعب على الانسان الإحاطة بها او الاتحاد بها؟ ام ان الله موضوع تأملي بمواصفات الهية ليس من اليسير الإحاطة بها او ادراكها ايضا؟ وفي أي من العلاقتين يتحدد الادراك التصوفي للذات الالهية؟ في اعتبارها ذاتا ام موضوعا يتيسر للذات البشرية الحلول والذوبان الاشراقي في الوجود الإلهي وكيف؟ ليس هناك من أجوبة شافية قاطعة. وبضوء ما ذكرناه (نجد اجماعا من جميع متصوفة العالم الى ان التجربة الصوفية لا هي ذاتية ولا هي موضوعية، وهم لم يصلوا الى هذه النتيجة استدلالا منطقيا مقبولا، وانما يشعرون به حدسيا وهي التاويل الوحيد الطبيعي لتجاربهم.)11

ديكارت وتغييب العقل في الايمان الديني

يزعم البعض ان ديكارت في منهجه الشكي النسقي القائم على العقل لم يستثن دور العقل في معالجة قضايا الميتافيزيقا، ودور العقل في الايمان الديني، وكما ان العقل هو هبة ربانية كما هي هبة الايمان، فان بامكانه ان يقدم دلائل عقلانية لادراك الوجود الإلهي في خوارق الطبيعة.

طبعا لم يكن ديكارت وحده اعلى من قيمة العقل في فهم الحقيقة الفلسفية والوجود، فمثله كان شوبنهور وديفيد هيوم وجون ديوي وجورج مور وجون لوك وليس آخرهم براتراندرسل، فهؤلاء جميعهم وصلوا الى قناعة فلسفية وعلمية في وجوب ابعاد العقل والمنطق الفلسفي في معالجة قضايا الميتافيزيقا ومسألة الايمان الديني باستخدام العقل، واعتبروا الايمان الديني لا يتوسل العقل وانما يكون التسليم بالايمان هو تسليم غيبي مطلق.وهذه المسالة تعتبر ثغرة منهجية عقلية لدى ديكارت كما في دعوته تعميم النسق العقلي في معالجة كل قضايا الوجود المفروض ان يكون من ضمنها قضايا اللاهوت والايمان الديني ووجود الله. ولتلافي هذا النقص النسقي المنهجي في ابعاد العقل عن الخوض في مسالة الوجود الإلهي، لجأ ديكارت الى نوع من التقية في تخلصه من الاحراج الكنسي الذي كان يطارد ويتربص العلماء والفلاسفة واتهامهم بالهرطقة والتجديف، لذا قال ديكارت عبارته الشهيرة (سلم من عاش بالظل) وهي عبارة واضحة في حذره وخوفه من رد فعل الكنيسة عليه وعلى دعوته اعمال العقل في كل قضايا الوجود، متعظا بما أصاب غاليلو ومن قبله جوردن برونو في حرقه حيا على الخازوق. لانهما ناديا بمركزية الشمس ودوران الأرض، فكيف سيكون الحال مع ديكارت اذا ما دعا الى اعمال العقل في معرفة وجود الخالق والوصول الى الايمان الديني عقليا؟،

نعود الى اصل المشكلة انه اذا سلمنا ان معرفة الخالق غير ممكنة كونه جوهرا بصفات لا نعرفها ولا ندركها خارج الفهم اللاهوتي لها، وهي صفات لا يدركها العقل ولا يحدها الزمان ولا المكان اللذان يحكمان الوجود البشري ويبقيان هذا الوجود ضمن ادراكات العقل والحواس والنفس، نكون والحالة هذه امام عجز العقل في ادراكه مالا يعقل كجوهر وكينونة بصفات الهية، ولا بد لنا من الاستعاضة في اعتماد الايمان الفطري المسبق على جميع التساؤلات والاشكاليات التي يستثيرها العقل في فهم الوجود الإلهي غير المجدية.

امام هذه المعضلة التي وجدنا ان حدود العقل الادراكية في معرفة الخالق لا تتعدى الوصول الى ان الموجود الخالق وجود بذاته، وجوهر وصفات لا يشترط وعي المخلوق بها على انها يقينيات يمكن ادراكها، فأن الايمان يكون لا اكثر من رغبة الانسان تقديس هذه الصفات والايمان بها ايمانا عابرا لحدود العقل، ومعبرا عنها بطقوس التدين ومفردات قواميس اللاهوت الديني لجميع الأديان.

والقول ان التصوف هو لغة ذات قدسية ربانية تربط الخالق بالمخلوق وعابرة لادراكات العقل القاصر في محاولة فهم معرفة الخالق بأكثر من صفاته البسيطة جدا، لا تمتلك اسنادها المنطقي ولا حتى الايماني المجرد عن العقل. ولا يمكن للإنسان ان يتوصل الى لغة مشتركة بين الله وبعض خاصته من البشرفي جعل ماهو متعين كانسان في صفاته البشرية وعقليته المحدودة متاحا امامها ان تكون جزءا ضئيلا بمواصفات ونفحة الهية مكتسبة يخلعها الخالق عليهم. ويبقى التعبير عن هذه العلاقة الاتحادية المزعومة مجازات تعبيرية لفظية مستمدة من قواميس ثيولوجيا الأديان ولا علاقة للعقل في الايمان بها.

خاتمة

ان الخصائص العامة للصوفية في مختلف الديانات والثقافات والحضارات وفي مختلف العصور وتباين الظروف المجتمعية وغيرها، يمكن اجمالها جميعها بالتالي:

1. الوعي الموحد الذي يستبعد منه كل كثرة للمضمون الحسي او التصوري او أي مضمون تجريبي اخر حتى انه لا يبقى سوى الوحدة الفارغة او الخالية فحسب، وتلك هي الخاصية الجوهرية او النواة التي ينتج عنها معظم خواص التجارب الصوفية الأخرى. 12

2. التجربة الصوفية ليست مكانية ولا زمانية.13

3.التجربة الصوفية لا تلغي الشعور بالموضوعية ولا بالواقع الحقيقي. 14

4. التجربة الصوفية هي شعور بالغبطة والنشوة والسلام والسعادة .15

5. التجربة الصوفية تترك عند المتصوف شعورا ان ما ادركه هو القدسي الإلهي. 16

6. زعم المتصوفين ان التجربة الصوفية تفوق الوصف وتستعصي على اللغة. 17

ان القضية الصوفية التي تقول ان العالم متحد مع الله، ومختلف عنه بالهوية في آن معا، يمكن ان نطلق عليه مفارقة وحدة الوجود . 18، أي بمعنى ان مقولة وحدة الوجود غير متفق عليها صوفيا. وهي تشي بشكل واضح جلي الى ضياع التجربة الصوفية في جذب وشد متضاد بين التجربتين الصوفيتين الذاتية او الموضوعية من جهة، ومن جهة أخرى تشي هذه المفارقة في وحدة الوجود الى نوع من الجدل الديالكتيكي في وحدة وصراع الاضداد في تشكيل الظاهرة الجديدة، وحتمية اندثارها واستحداث نفسها لاحقا في تطور دائمي لا متناهي يحكم المادة والوجود والتاريخ.

وهذا معنى التضاد الجدلي الذي مررنا به قبل اسطر قليلة (المتصوف يتحد مع الله ويختلف عنه بالهوية في وقت واحد هذه اكبر معضلة تواجه الصوفية).

ويصف والتر ستيس وهو فبلسوف متخصص في الدراسات والبحوث الصوفية الجدل الهيجلي بقسوة اعتادها جميع الفلاسفة المثاليين الغربيين في وحدة وتناقض الاضداد، بانها فكرة ليست منطقية، بل هي فكرة ضد المنطق بالقطع، وانها تعبير عن العنصر اللاعقلي في الفكر البشري.19 نحن بدورنا نؤيد والتر ستيس بما ذهب له رغم انه ستيس يتغاضى تماما ان الجدل الهيجلي هو الذي الهم ماركس في وضع النظرية الماركسية على محك النظرية والتطبيق في تجربة الاتحاد السوفييتي الشيوعي منذ عام 1917 والى امتداد اكثر من سبعين عاما، نظرية عقلانية صالحة للتطبيق على التاريخ والانسان وفق منهج تطوري يؤمن بأهمية العلم في قيادة الحياة.

على كل حال في العودة الى مذهب اسبينوزا في وحدة الوجود، ان الله جوهر وصفات، لذا يكون امامنا فهم ان الله جوهر بذاته مكتف بهويته الالهية التي لا تدركها الحواس ولا العقل، لذا من المستحيل توزيع جوهر الذات الالهية كما تتوزع صفاته في الخلق والطبيعة والانسان التي هي أيضا اعجازات لاتستطيع الذات الإنسانية مجاراتها بالخلق والوجود.

الجوهر الإلهي ماهية وهوية مكتفيتان بذاتيتهما غير قابلتان للادراك البشري ولا متاحتان للاتحاد بهما صوفيا. اما صفاته الموزعة في الكون والطبيعة والانسان المحكومة بالزمان والمكان وقوانينهما، فهي ايات اعجازية يدركها الانسان بالتامل وتمجيد قدرات الخالق غير المتاحة للإنسان مجاراتها.

على العكس من مذهب اسبينوزا في وحدة الوجود ان الله جوهر وصفات لكل كينونته المميزة عن الاخر يذهب والتر ستيبس ان الصفات تشكل الجوهر الإلهي، وان اسبينوزا في كتابه الاخلاق ذهب الى هذا المذهب المناقض لما هو معروف عنه في مذهب وحدة الوجود. وبناءا على هذا الفهم غير المتحقق منه جيدا، اذا اعتبر اسبينوزا الله بلا صفات ولا جوهر ماهوي فهو ينسف مذهب وحدة الوجود الذي دعا له.، عندها يكون الاتحاد بهذه الصفات متاحا الاتحاد بها في طبيعة بشرية منفصلة تماما عن الهوية الماهوية للخالق.

وتماشيا مع جميع الصوفية في المشرق وفي الغرب ما يعتبره والتر ستيبس ان التجربة الصوفية لا يمكننا الاحتكام لها عقليا، لذا فان مذهب وحدة الوجود عنده لا يقوم على حجة منطقية ولا حجة عقلية، وانما هي في جوهرها فكرة صوفية.20

انه من الجدير بالإشارة له في ختام بحثنا ان والتر ستيبس قام بتفنيد مذهب وحدة الوجود عند اسبينوزا بمنهج عقلي لم يستخدمه في معالجة وحدة الوجود في البوذية والهندوسية او مع غيرهما من التجارب الصوفية عالميا.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

.....................

الهوامش

1.  التصوف والفلسفة، والتر ستيس، ترجمة وتقديم امام عبد الفتاح امام، ص267

2.  المصدر السابق ص53

3.  المصدر السابق ص 76

4.  المصدر السابق ص 166

5.  المصدر السابق ص 87

6.  المصدر السابق ص 269

7.  المصدر السابق ص180

8.  المصدر السابق ص 197

9.  المصدر السابق ص 210

10. المصدر السابق 217

11. المصدر السابق ص 184

12.  12، 13، 14، 15، 16، 17، والتر ستيس/التصوف والفلسفة/ مصدر مشار له سابقا ص 269

13. المصدر السابق ص 272

14. المصر السابق ص 274

15. المصدر السابق ص 276

16. المصدر السابق 280

17. المصدر السابق ص 283

18. المصدر السابق ص 285

19. المصدر السابق 286

20. المصدر السابق ص 269

مقاربة أنطولوجية أساسية

بقلم أندريا جافورسكا

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

تمهيد: " تحليل عمل هيدجر حول التاريخية كمشكلة وجودية من خلال التحليل الأنطولوجي للوجود. ان الهدف هو تحديد البنية المعنوية للزمانية التي تمثلها تاريخية الوجود. يُظهر مارتن هيدجر ونظريته ا الأنطولوجية الأساسية أن مسألة التاريخ تُعدّ من أهمّ مسائل الوجود الإنساني، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلاقة بين الوجود والزمان. تظهر هذه المشكلة على خلفية كشف البنية الديناميكية للتاريخية والزمانية للدازاين. وهكذا، يفتح هيدجر معنى أنطولوجييًا لمسألة الزمان، يُمكّنه من التمييز بين المفهوم "العادي" للزمان والزمانية الأصلية، أي معنى الوجود المتجذر في الزمان، والذي يُسمّى، مع أنماطه، تأويلًا زمنيًا. وفقًا لهيدجر، للوجود طابعٌ مفتوح، وبالتالي فهو دائمًا جزء من العالم، أي أنه في العالم. هذا الانفتاح هو معنى أنطولوجي لـالكائن"هناك"، الدازاين ، إنه لحظة تأسيسية لبنية المرء الوجودانية. الإنسان هو الكائن الوحيد المنفتح على العالم، فهو لا يقبل عالمه سلبيًا، بل يؤثر فيه ويغيّره بنشاط. بناءً على هذا الانفتاح، يستطيع الوجود أن يرتقي بنفسه عن العالم، وأن يعود إلى ذاته، وأن يكون حرًا في استخدام إمكاناته. ولأنه وجود مفتوح، فإن للدازاين علاقة فهم بالعالم وبالانفتاح الأصيل للوجود. يُطلق هيدجر في عمله اللاحق، بعد "الانعطاف"، على "عدم اختفاء الوجود". سيُستبدل مصطلح "الوعي بالوجود" بـ"حقيقة الوجود"، التي ستُعبّر عن نفسها كمكان للوجود، والغرض من ذلك هو منع أي خلط محتمل بين مصطلح "الحقيقة" والمفهوم التقليدي للصواب. إن الأفق الأصيل الذي يكشف عن معنى الوجود وكل ما هو موجود، ويعبّر في الوقت نفسه عن إجابة سؤال الوجود، هو الوعي بالزمان، كشرط الفهم الممكن للزمان، وبالتالي الوجود في الزمان، هو الزمانية.

التاريخية والفهم

صاغ هيدجر منهجه تجاه الوجود نفسه في كتابه "الوجود والزمان" من منظور فهم أصيل وغير أصيل للوجود. تجلّت البنية الأصلية للزمانية باعتبارها الشرط الأصلي لإمكانية الرعاية، وكذلك مسألة اعتماد الدازاين كمشكلة أنطولوجيية على ظهوره. يكشف هيدجر عن مفهوم أنطولوجي للتاريخية كأساس لبنية الحدوث، كشرط أنطولوجي-زماني لإمكانيته. وقد صاغ هيدجر المفهوم الأنطولوجي للتاريخية ليتمكن من الكشف عن بنية الحدوث والوصول إلى شرطه الأنطولوجي -الزماني لإمكانيته. في هذا السياق، هدفتُ إلى شرح كينونة التاريخي، والتاريخية كبنية أنطولوجيية، ولكنها ليست تاريخية، ولا كائنات بمعنى التعامل مع الكائنات "التاريخية". كان هيدجر يحاول وضع موضوعية للزمن الأصلي باعتباره معنى الوجود، ثم أكد لاحقًا أن هياكل الفهم، التي حللها في كتابه "الوجود والزمان"، هي هياكل فهم الوجود أصلًا. وبفضل التعامل العملي مع الكائنات، نترك الكائنات في حالة انفتاح. وبسبب الوجود العملي التجريبي في العالم، هناك أيضًا إمكانية ثانوية – معرفة بعدية عن "الأشياء". إن معرفة الأشياء هي موضوع علوم متخصصة متنوعة، قسّمت نفسها إلى كائنات محددة بناءً على معايير مختلفة. مهمتها هي التعرف على هذه الكائنات وتصنيفها وتبويبها. كان أرسطو قد مكّن وشجع بالفعل تقسيم جميع المعارف إلى مجالات علمية مختلفة، لكنه في الوقت نفسه أكد أن مسألة ماهية الكائنات كوجود، مسألة الوجود، ليست موضوع بحث أي علم وضعي خاص. يشير هيدجر ، الذي يعود غالبًا إلى أرسطو، إلى أن مسألة معنى الوجود، ووجود الكائنات، وكذلك مسألة التاريخ والتاريخية نفسها، لن تكون متاحة في سياق بحث منهجي وعلمي وموضوعي وأنطولوجي، بل في سياق دور المفكر كإمكانية لطرح أسئلة ذات صلة بالافتراض الأنطولوجي لعلم ما. يحاول استخلاص هذا الافتراض من البنية الأنطولوجي للوجود: "من الضروري البحث عن الإمكانية الأنطولوجية لأصل العلم في البنية الأنطولوجية لأساسية  للوجود ". يُركز هيدجر اهتمامه تحديدًا على كشف فرضية التاريخ كعلمٍ يفترض تاريخية الوجود وتجذره في الزمانية: "لكن التاريخ لا يزال يفترض تاريخية الوجود بطريقةٍ محددةٍ ودالةٍ تمامًا". في الواقع، يسعى هيدجر إلى معرفة الأصل الأنطولوجي للتاريخ ليتمكن من تحليل تاريخية الوجود وتجذرها في الزمانية. كيف يفترض علم التأريخ تاريخية الوجود؟ كيف يعتمد تمييز هيدجر الموضوعي بين علم التأريخ والتاريخ والتاريخية على ما يُسمى كينونة التاريخ؟ أين تكمن البنية الأساسية للتاريخ؟

يُدرك الوجود التاريخي الوجود من خلال الوجود في العالم. الوجود في العالم بنيةٌ ذات معنى محددة، وهي سمةٌ وجوديةٌ نموذجيةٌ للوجود البشري. الوجود الإنساني، بوصفه مُلقىً في العالم وكائنًا نحو الموت، هو بالإجماع وجودٌ نهائي، وما يُسميه هيدجر "الزمانية الانطية" هي الزمانية النهائية. تُشكل هذه الزمانية النهائية تحديدًا زمانًا أصيلًا، وهي أساس ما أسماه هيدجر تاريخية الوجود، "أي ليس كونه موضوعًا لعلم تاريخي، بل كونه موجودًا تاريخيًا، مانحًا ذاته إمكانياته". في كتابه "الوجود والزمان"، اهتم بالتحليل الأنطولوجي للتاريخية: "هدفنا التالي هو إيجاد حل للسؤال الأصلي عن وجود التاريخ، أي البناء الأنطولوجي للتاريخية. هذا الحل هو حل تاريخي بوسائله الأصلية". إن المعرفة التاريخية، وفقا لهيدجر ، ليست ممكنة إلا على أساس تاريخية الوجود. لتوضيح استحالة فهم التاريخ كشيء أو كائن قائم أمامنا، يتحدث هيدجر عن معانٍ مختلفة لفهم التاريخ. يركز شرحه على التمييز العام بين ما هو تاريخي، ككائنات ماضية، بمعنى أنها لم تعد تحدث، والكائنات الموجودة التي لم تعد تؤثر في الحاضر. علاوة على ذلك، من وجهة نظره، يُفهم التاريخ عادةً إما كأصل للماضي يتوافق مع مفهوم التطور، أو كوحدة الكائنات التي تتغير مع الزمن. في هذا الصدد، يُشير هيدجر إلى التغير والمصير البشري، والمجتمعات البشرية وثقافاتها، بالإضافة إلى التقاليد التي إما تُبحث تاريخيًا أو تقبلها بعض المجتمعات كشيء طبيعي بينما يظل أصلها مخفيًا. يُفهم التاريخ كعلم تاريخ: علم دراسة الماضي أو علم تاريخي. وكما نرى، فإن الارتباط الواضح بالخصائص الزمنية والأولوية يشبه الإجماع على موضوعية الماضي وتتوافق مع المعاني المحددة للمفهوم العادي للتاريخ. ماهي موضوعية الماضي التي يقصدها هيدجر ؟ كيف يُمكن للتاريخ أن يُصبح موضوعًا مُمكنًا لعلم التأريخ؟

سيُحدد هيدجر في تفسيره كيفية وجود ما هو تاريخي بحد ذاته، وتاريخيته، وتجذره في الزمانية. ما هي الكائنات التاريخية؟ هل يقتصر الأمر على الوجود أم أن هناك كائنات غير بشرية أيضًا؟ هل يجب أن تظهر الكائنات أولًا لتتمكن من الدخول في التاريخ لاحقًا؟

يرى هيدجر أن الوجود لا يُصبح تاريخيًا من خلال التقاء الظروف والأحداث المُختلفة وتداخلها. بل على العكس، من خلال الأحداث نفسها تتشكل كينونة الوجود، وبالتالي "بمجرد أن يكون الوجود تاريخيًا في كينونته، فإن الظروف والأحداث والمصائر تكون مُمكنة أنطولوجيًا". لا يمتلك الوجود تاريخيته؛ لا يُمكننا تحديدها، ولا يُمكننا استحقاقها لأي سبب وجيه. تُسقط بنية الوجود في مفهوم هيدجر في علاقة الزمان بالوجود. ولهذا السبب، للتاريخية وتحليلها الأنطولوجي معنى زمني. إلى جانب الوجود، تُعدّ الكائنات الدنيوية تاريخية أيضًا، ولكن بشكل ثانوي. هذا لا يعني أنها ستكون تاريخية فقط بفضل التشييء التاريخي. هل يُمكن أن تُصبح موضوعات للبحث التاريخي لمجرد كونها تاريخية؟

الأشياء العادية، كالأدوات اليدوية أو حتى التحف، التي تنتمي إلى الماضي، تنتمي إليه لأسباب مختلفة عن عدم استخدامها. إنها لا تزال موجودة في الحاضر! إذا قبلنا مفهومًا واضحًا للتاريخ كشيء ماضي، فإننا، مع هيدجر، نتساءل: "بأي معنى تُعتبر هذه الأدوات اليدوية تاريخية، رغم أنها لم تعد ماضية بعد؟". سواء استخدمنا هذه الأدوات اليدوية أم لا، فمن الواضح أنها ليست كما كانت عليه. في أي سياق نتحدث إذن عن شيء ماضي، عما لم يعد موجودًا؟

في التحليل الأنطولوجي عند هيدجر ، تنتمي الكائنات الدنيوية الباطنية، بمعنىً ما، إلى وحدة أدوات، إلى العالم الذي يهتم به الوجود ويستخدمها في ظروف معقولة. لكن عالم هذه الظروف المعقولة الذي اعتدنا الاهتمام بها أو استخدام تلك الأدوات فيها، لم تعد موجودة. ومع ذلك، لا يزال بإمكان الكائنات الدنيوية الباطنية أن توجد. هل يعني هذا أنه في الماضي كان هناك عالم لم يعد موجودًا، وأن الكائنات الدنيوية الباطنية توجد الآن في العالم الموجود؟ العالم، وفقًا لهيدجر ، ليس مجموعة من الأشياء المفردة في مكان ما في الفضاء، وليس مجموعًا كليًا للأشياء المعروفة. ينتمي العالم إلى ماهية الوجود، وهو ما يُحدد فهمه الأساسي، وتعريفه الأساسي كطريقة معينة للانفتاح. لهذا السبب، فإن العالم "ليس إلا بمثابة وجود موجود، أي أنه موجود في العالم" موجود بالفعل. في هذا السياق، يعيش الناس من مختلف العصور، ويحددون منهجهم تجاه ما هو موجود، وكذلك تصورهم لذاتهم. تاريخية الكائنات الدنيوية التي لا تزال قائمة، ولكنها تنتمي بمعنى ما إلى الماضي، وبالتالي، وفقًا لهيدجر ، لا تعتمد على التشييء التاريخي، بل على العلاقة ما قبل الموضوعية للوجود بالكائنات الدنيوية التي كانت تنتمي إلى عالم الوجود "السابق للوجود". يتناول هيدجر هذا أيضًا في كتابه "أصل العمل الفني"، ويقول إننا لا نفهم خصوصية حقبة ما بتسمية الأشياء التي كانت تنتمي إلى ذلك الوقت. إن فهمنا للعالم يتحدد من خلال توضيح وكشف إمكانية وصول الكائنات إلى الوجود. نحن نقترب من عالم الانفتاح. تعتمد طريقة لقائنا بالكائنات وفهمنا لها على نوع الانفتاح الذي نعيش فيه. إن نوع الانفتاح المحدد، كما يزعم هيدجر ، يميز أيضًا العوالم التاريخية. إن الانفتاح في حد ذاته ليس ماديًا أو ملموسًا؛ ولا يمكن أن يكون موضوعًا لأي علم وضعي. لا يقتصر الانفتاح على مسألة الكائنات غير البشرية التي يواجهها الإنسان، بل يشمل أيضًا تصوره لذاته، وتصوره للآخرين، بالإضافة إلى إدراكه الروحي. تهدف حركة الفهم الدائري لهيدجر إلى الانفتاح كشيء مكشوف في معنى الحقيقة. فبمجرد أن يُظهر الشيء ذاته، وأن يتجلى وجوده، يُمكننا التعبير عن انفتاح الكائنات في ماهيتها وكيفية وجودها. وهذا يعني أن الكائنات تصبح متاحة في جوهرها. وبهذه الطريقة، يتحدث هيدجر عن الحقيقة على أنها "دع الكائنات تصبح متاحة في ماهيتها". في حين أن جميع جهود التحليل الأنطولوجي لدى هيدجر تهدف إلى إيجاد إمكانيات للإجابة على سؤال معنى الوجود بشكل عام، فإن هذا التحليل الأنطولوجي يحتاج أولًا إلى فهم الوجود. ففهم الوجود يحدث في أفق الزمن. يتحدث هيدجر عن فهم الوجود انطلاقًا من الزمانية، من الزمن البدئي. وقد تطورت الزمانية في إطار تحليل الوجود إلى البُعد الأساسي للوجود البشري كشرط أصلي لإمكانية الرعاية. وقد فُسِّرت في علاقتها بالأنطولوجيا الأصيلة "إمكانية الوجود ككل". وبما أن "الزمانية تُمكّن من وحدة الوجود والواقعية والسقوط، وتُشكل في الأصل وحدة بنية الرعاية" ، فإن مجمل الأنطولوجيا يتحدد بالبنية الأفقية الأنطية للزمانية.

الزمانية والتاريخية

اعتبر هيدجر الزمن أفقًا لفهم الوجود. وبهذا التأويل، يكون الزمن أصيلًا بمعنى بنيته الأفقية الأنطية التي تُفسر مجمل الاهتمام الأصيل بـ"الوجود نحو الموت"، وفي الوقت نفسه، الأساس الأصيل والأعمق للوجود: الدازاين. لا يُعرّف الزمن الوجود بأنه زمني، بل يُؤول الوجود بأنه زمني. لا يعني "الوجود في الزمن"، بل "الوجود زمنيًا" كوجود زمني. يمكن تمييز الوجود من خلال الزمن، أي أنه يمكن تأويله على أنه زمني. تمييز الوجود يعني إمكانية تاويله بمعناه، أي أن شيئًا ما كالمعنى يُمكّن من تأوليه. هذا التأويل الزمني ممكن فقط لأن الوجود يفهم وجوده من خلال الزمن. تكمن كينونة الزمانية في توقيت وحدة أنطيات الزمان، وظواهر المستقبل، و"الوجود" والحاضر، وهي تُمكّن من وحدة الوجود والواقعية والسقوط. إن الكوكبة المحددة من الارتباط بين معاني "كان" و"هو" و"سيكون" تخلق حدًا سلبيًا محددًا للوصول إلى الزمان والوجود. إذا كان المقصود من هذا الوصول صحيحًا، فيجب أن يكون هناك شيء مثل بُعد مفتوح، منطقة مفتوحة يمكن من خلالها الكشف عن الوجود على الإطلاق، ويمكن الوصول إليه وحاضرًا في وسائله وبواسطته، ويمكن أيضًا فهمه. يتطلب فهم هذا الحد المتبادل المحدد القائم على عدم اختفاء الوجود والزمان وإخفاء الذات لوحدة "كان" و"هو" و"سيكون" (حتى يستمر عدم اختفاء كينونة الكائنات)، التحقيق في البنية الداخلية لهذه النشوة الزمنية، أي الزمنية المنتشية. هذا البناء الذي يُعبّر عن انقسام أو امتداد الوجود في زمانية التوقيت، ويظهر كـ"إحساس بالاهتمام الأصيل"، يُشير إلى وحدته الأصلية الانتية المتمثلة في "الوجود" كإلقاء للوجود في العالم، لحظة الوجود-الحاضر-السابق-فيه؛ الحاضر كوجود إلى جانب هذا الكائن أو ذاك؛ المستقبل كإسقاط ذاتي للوجود، مُتاحًا في فرص العودة إلى ذاته، كلحظة وجود-الوجود-السابق-فيه دائمًا. تُصبح الجملة من الفقرة 65 من كتاب هيدجر "الوجود والزمان" نقطة انطلاق لتحليلنا المُعمّق. لا يُمكن للوجود أن يوجد ككائن مُلقى عليه إلا لأن الاهتمام نفسه قائم على "الوجود". لنتذكر أن الوجود هو الكائن الذي يهتم في وجوده بالكائن نفسه. وجوده مُسند إليه. هذا يعني أن الوجود قد انفتح على هذا" الوجود هُنا" ليبلغ وجوده. "هُنا" توحي بشيء أشبه بمساحة مفتوحة لمنطقة محتملة، مساحة ممتدة من عالم ممكن - وهكذا فإن وجود ذلك "الوجود هُنا"هو منذ البداية وجود في العالم. هذا يعني أن الوجود مُسند إليه دائمًا أن يكون هذا " الوجود هنا" الخاص كوجود في العالم. يكتب هيدجر عن واقعية تعيين وجودنا الخاص ويسميه "الإلقاء الزائد" لوجودنا. "الإلقاء الزائد" يعني أن وجود الوجود (كوجود في العالم) مُلقى "دائمًا" في الانفتاح، في "هُنا". لهذا السبب، وجد الوجود نفسه "دائمًا" واقفًا أمام حقيقة وجوده في العالم، في حالة مزاجية معينة، "حالة ذهنية". هذه الحالة الذهنية هي سبيلٌ انفتح من خلالها "دائمًا" على "هنا" حيثُ بحدث انسلاخ المرء عن الوجود في العالم. إنها تسبق كل تأمل أو فهم ممكن. ولهذا السبب، فهي "دائمًا" معنية بوجود المرء نفسه. كيف تتوافق هذه التأملات الموجزة مع موضوعنا؟ كيف يُمكن أن تكون بنية الوجود الموصوفة أعلاه ممكنة؟

في كتابه "الوجود والزمان"، يُفرّق هيدجر بين "الوجود-السابق" و"الوجود-الماضي". في أفق تحليله ، لا يُشير الماضي إلى شيءٍ مُؤرخٍ قد استُنفد، وبالتالي يبقى مُستنفدًا "الآن"، وهو ما نُشير إليه بأنه موجود "آنذاك". لا ينطلق هيدجر من فكرة الزمن كتسلسل للماضي والحاضر والمستقبل، ولا من فكرة ارتباطه بالحاضر كـ"كائن ساكن" أو بالمستقبل أو الماضي كـ"عدم وجود". ينتمي هذا التعريف للزمن، حسب رأيه، إلى المفهوم الاعتيادي للزمن.1 إن مفهوم هيدجر للزمن، المُفسَّر ضمن حدود التحليل الأنطولوجي للدازاين، ليس إطارًا موضوعيًا للحدوث، فهو لا يحدث في مكان ما "خارجيًا" أو "داخليًا"، مثلًا في الوعي.2 فالزمن ليس كائنًا يظهر أو يختفي، أو قابلًا للقياس، أو التعريف بالمصطلحات، أو شيئًا أبديًا. يكتب هيدجر عن الماضي فيما يتعلق بالكائنات "غير البشرية" التي تظهر وتوجد "في الزمن". تُسمى الطريقة التي يُسقط بها الدازاين الذات في هذا الكائن باللأنطولوجيا. ولذلك، فإن الدازاين، بالإضافة إلى كونه الوجود-في-العالم المُنقلب، هو أيضًا إسقاط ذاتي مفهِوم في إمكانية المرء-للوجود-في-العالم. يُطلق هيدجر على هذه الطريقة في وجود الدازاين اسم "الإسقاط المُنقلب". ووفقًا لهيدجر ، لا يمكن للدازاين، كوجود، أن يكون الماضي لأنه لا يمكن أن يحدث ماهويًا: من الواضح أن الدازاين لا يمكن أن يكون ماضيًا أبدًا، ليس لأنه لن يختفي، ولكن لأنه لا يمكن أن يحدث ماهويًا. بقدر ما هو موجود، فهو موجود. والوجود الذي لم يعد موجودًا، ليس ماضيًا بالمعنى الأنطولوجي، بل هو هذا الوجود هنا". ولهذا السبب يستخدم مصطلح "الوجود" كمصطلح ذي معنى لأحد المكونات الزمنية التي لا يمكن تحليلها على أنها معزولة أو متعارضة بالتناوب مع المكونات الأخرى المتبقية لبنية كاملة من الرعاية. الوجود، والحاضر، وحتى المستقبل، كلها مترابطة دائمًا، مما يخلق ظاهرة متكاملة خاصة، هي معنى الوجود. إن التحليل الفينومينولوجي لظهور كائن موصوف بأنه قادم إلى الحضور من الخفاء والعدم مكّن من التمييز بين الحاضر الحسي كظهور وتمثُّل بمعنى "الخروج"، أو "الصعود" إلى الخفي، أو الوقوف في الانفتاح. إن التمثل يُمكّن "الوجود" (الاهتمام، كائنات داخل العالم) جنبًا إلى جنب مع سقوط الوجود. السقوط يعني الضياع في الحاضر. لا يُمثل الحضور لحظة، "الآن" كنقطة في نظام زمني محدد. الحضور كلحظة "الآن" سيكون ظاهرة زمنية تُقابل الزمن بمعنى الوجود داخل الزمن. في الزمن كوجود داخل الزمن، يحدث دائمًا شيء ما. لكن الوجود ليس كائنًا عارضًا، ولذلك لا يُمكن تأويل"وجود المرء بجانبه" من خلال "الآن". باختلافه عن الكائنات التي تظهر "في" الحاضر، يكون الوجود في حالة نشوة. وفيما يتعلق بنشوة الوجود هذه، لا يعني الماضي "انقضاء الوجود"، بل يعني "وجود الوجود نفسه"، ولا يعني الحضور "الآن"، بل هو منفذ إلى الوجود في خفائه. الحاضر كوضعٍ انتشائي هو ما يُمكّن من "الالتقاء بما يُمكن أن يكون" في وقتٍ مُعين، "كائناتٍ جاهزة أو حاضرة في متناول اليد". لهذا السبب، لا يُمكن للوجود أن يكون قريبًا من كائنات العالم إلا عندما يكون مُتاحًا لـ"التمثيل الحاضر" المُمكن لهذه الكائنات، وبالتالي لذاتها. من خلال هذا الوجود المُجاور، يُستخرج الوجود ليكون حاضرًا. الحاضر هو تمثيل للكائنات في خفائه. وبالمثل، ينطبق الأمر أيضًا على تحليل النشوة الزمنية الثالثة، أي المستقبل. فإذا سمحنا بتفسير مبتذل للزمن، فإن المستقبل يمثل الآتي، وهو شيء لم يكن موجودًا من قبل، أي ليس موجودًا بعد ولكنه سيكون - سيصبح حاضرًا. وإذا كان المستقبل سيأتي فقط، فسيكون قادرًا على الظهور كمستقبل لأنه سيبقى بعيدًا إلى الأبد 3. وينسب هيدجر إلى هذا المستقبل القادم فهمًا غير أصيل للزمانية. فالمستقبل في الأفق الأصلي للزمن (في الزمنية الأفقية الأصلية) موجود دائمًا بالفعل، ولا يأتي أبدًا. وفي كتاب "الوجود والزمان"، يُؤول على أنه إسقاط ذاتي للدازاين، كوجود متقدم على الذات. يُسقط الدازاين الذات وفقًا لإمكانياته الخاصة للوجود، ويفهم هيدجر هذا الإسقاط الذاتي في إمكانيات المرء الخاصة على أنه إضفاء طابع زمني على المستقبل. يتيح المستقبل فهم شيء مثل التقدم على الذات. لهذا السبب، يكون الوجود مُسبقًا على ذاته مستقبليًا. يعني "مُستقبليًا" توجه الوجود نحو ذاته في أقصى إمكاناته للوجود. يُشير التوجه نحو ذاته إلى مستقبل أصيل يُمكّن الوجود من أن يكون على النحو الذي يُعنى به بإمكانياته للوجود. من السمات الظاهرة للمستقبل "التوجه نحو الذات" (من إمكانية مُحددة) أي "الوجود نحو". المستقبل، المفهوم على هذا النحو، بطريقة مُحددة، لا يزال يُهمّ الإنسان. يُواصل هيدجر تأويله للزمانية الأصلية بالتأكيد على بنية ديناميكية لوحدة الزمانية الأصلية. ولكن بما أن الوجود، كوجود في العالم، يوجد في وحدتين أساسيتين من الوجود، ويصل إلى إمكاناته للوجود من خلال الاهتمام بالكائنات، فإنه لا يستطيع أن يرى أن وحدة الزمانية لا تُوليه اهتمامًا، بل تُغفله. إذا كان الوجود مُهتمًا "بكينونته"، فإنه يُعنى أيضًا بنشوته الذاتية، إما بشكلٍ غير أصيلٍ على نحوٍ من السقوط، أو بشكلٍ أصيل. تُؤجّل الزمانية إما بالنسيان والتمثيل والتوقع، أي بشكلٍ غير أصيلٍ من الكائنات داخل الزمانية، أو كتجددٍ مستمرٍّ للحظة، أي بشكلٍ أصيلٍ من زمانية المرء نفسها. يبدو أن بعض لحظات بنية الوجود في الوجود ممكنةٌ فقط بشرط أن يكون الوجود في تنوّعه دائمًا وفي الوقت نفسه: قادمًا - مستقبلًا، و"موجودًا بالفعل"، وحاضرًا - مُمثّلًا. من منظور فينومينولوجي، تُشكّل هذه النشوات الزمنية الثلاثة وحدةً، وهذا يعني أنها تُؤجّل الزمانية الأصلية. هذه الوحدة، وفقًا لهيدجر ، تحدث في العالم. العالم هو فضاء الكائنات الذي يفهمه الإنسان باعتباره من يفهم الوجود. ينتمي العالم إلى الوجود، ويشير إلى كيفية تجلي الكائنات للإنسان ككل. في الفينومينولوجيا، يعني تجلي الوجود هنا بطريقة ما، أي الحضور في "المكان" الذي يحدث فيه اللقاء. لكن يجب فهم هذا "المكان" بطريقة ما: فهمًا غير أصيل، يتمثل في المادية، أي حدوث الحاضر؛ وفهمًا أصيلًا، حيث يمكن الوصول إلى كل حاضر من المستقبل، فكل فهم هو إسقاط، ولكنه إسقاط مقلوب، لأن كل حاضر يتحدد بالماضي في الوقت نفسه. بعد فهم "الخطوة-الخارجية" التي تُمكّن من الحضور في موقف معين، نخرج دائمًا من مكان ما، انطلاقًا من تحديد ما، واعتماد على ما كان. سواء في الأصالة أو اللاأصالة، يظهر في علاقة مع الذات. في الحالة الأولى نعود إلى ذواتنا، وفي الثانية لا. ولكن في كلتا الحالتين، لا بد من وجود بنية ما تُمكّن من وضوح الأمور ووصولها إلينا، ونصل إلى ذواتنا. لفهم ماهية الوجود، يكشف هيدجر عن نمطٍ حاسمٍ يُسمى "أصالة التصاميم"، والتي عادةً ما نترجمها بمصطلحٍ قد لا يكون مناسبًا أخلاقيًا، ألا وهو أصالة الوجود. تُسهّل هذه الأصالة فهمَ نهائية الوجود. في هذا السياق، يجد هيدجر لتعبيره ظاهرة الوجود نحو الموت، التي تكتسب أهميتها في مواجهة المرء للنهائية كفهمٍ أصيلٍ للكائن البشري. إنّ إضفاء طابعٍ زمنيٍّ على الزمن، وهو سمةٌ من سمات الوجود الأصيل، يندرج ضمن نمطٍ تاريخي. يُشدد هيدجر، في تحليله للطابع الزمني للكائنات التاريخية، على حقيقة أننا لا نستطيع الخروج من "الوجود في الزمن" ككيانٍ حاضرٍ بين أيدينا. ومع ذلك، لا يصبح الكيان "أكثر تاريخيةً بالعودة إلى ماضٍ أبعد فأبعد، بحيث يصبح الأقدم تاريخيًا بالمعنى الأكثر واقعيةً". الوجود، وفقًا لهيدجر ، ليس تاريخيًا لأنه ليس هنا، بل فقط من خلال إضفاء طابع زمني على زمانية المرء، ذات بنية أفقية-منعزلة، يمكننا الحديث عن التاريخية كبنية ماهوية للوجود. يناقش هيدجر التاريخية كمشكلة أنطولوجية، يحللها من خلال التحليل الأنطولوجي للوجود. ويشير إلى بنية ذات معنى للزمانية، تتمثل في تاريخية الوجود. تناول هيدجر البناء الأنطولوجي للتاريخية؛ فالتاريخية في هذا التحليل "ليست مجرد بيان وجودي بسيط لحقيقة أن الوجود يعمل في "تاريخ العالم". تاريخية الوجود هي أساس الفهم التاريخي الممكن، الذي يتيح إمكانية الحفاظ على التاريخ واضحًا كعلم".  لقد كان هيدجر يحاول تأويل التاريخية من منظور الزمانية، النابعة أصلًا من الزمانية الأصيلة".4

***

بقلم أندريا جافورسكا، ، جامعة الفيلسوف قسطنطين في نيترا، سلوفاكيا

..........................

الاحالات والهوامش

١- اتخذ هيدجر منهجًا نقديًا تجاه المفهوم التقليدي للزمن، وهو منهجٌ نموذجيٌّ، على سبيل المثال، لدى أرسطو، لأنه لا يكفي لفهم العلاقة بين الوجود والزمان. انظر: (ميترباخ، ٢٠٠٧، ص ٦٥-٦٦).

٢- ينحرف هيدجر أيضًا عن مفهوم هوسرل للزمن، الذي يرى أنه لا يتحدد بسؤال الوجود: "لقد كان سؤالي عن الزمن يتحدد بسؤال الوجود. لقد كان يتخذ الاتجاه الذي لا يزال مجهولًا بالنسبة لبحث هوسرل في الوعي الداخلي للزمن". في: (هايدغر، ١٩٩٣، ص ٥٣).

٣- نجد تحليل التحديد الحسي للـ "أنوسن" و"أبوسن" خاصةً في الأعمال التي تلت الطبعة الأولى، مثل: "تاريخ الأمثال"، و"هل كان ما كان؟".

4 المساهمة هي عرض جزئي لنتائج مشروع البحث VEGA رقم 2/0175/12 من الفينومينولوجيا إلى الميتافيزيقيا وإلى التفكير في الأزمة المعاصرة للمجتمع والفن والذي تم تنفيذه في معهد الفلسفة التابع للأكاديمية السلوفاكية للعلوم وقسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة قسطنطين الفيلسوف في نيترا.

المصادر والمراجع:

Biemel, W. (1995). Martin Heidegger. Prague : Mladá fronta.

Dastur, Françoise. (1996). Le temps et l'Autre chez Husserl et Heidegger. Prague : Institut philosophique de l'Académie tchécoslovaque des sciences.

Heidegger, Martin. (1996). Être et temps. Prague : Oikoymenh.

______. (1993). La fin de la philosophie et la tâche de penser. Prague : Oikoymenh.

Mitterpach, K. (2007). Être, temps et espace dans la pensée de Martin Heidegger. Bratislava : Iris.

كاتب فلسفي

بقلم: ألفونس دي فالهينز، لوفين

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

"ليس من السهل بالتأكيد تحليل هذا الكتاب الضخم، الكثيف، ضعيف التأليف - أو غير مؤلف على الإطلاق - والمكتوب بشكل سيء، والذي يُثير الإزعاج باستمرار تقريبًا بسبب مظهره المتعمد الذي يُصعّب مهمة القارئ، أو بسبب التناقض الذي نراه بين دقة التفاصيل السخيفة أو المتضخمة أحيانًا والغموض التام لإطاره وبنيته. هل نُكافأ في النهاية على صبرنا الطويل؟ لا نعلم حقًا. بعض الأفكار الحاسمة، سواءً فيما يتعلق بطبيعة الموضوع أو بأسس فكر سارتر، لا تُزيل خيبة أمل كبيرة. وهذه الخيبة لا تُجنّب جوهر العمل. ففي النهاية، بعد الانتهاء من هذه القراءة، وهذه القراءة المُعادَة لأكثر القراء إصرارًا، أين نحن؟ سيستغرق الأمر مئات الصفحات الأخرى لإلقاء نظرة خاطفة عليه. ولكن دعونا نحاول أن نُقيّم الوضع. ماذا يريد سارتر؟ تُخبرنا صفحتان من المقدمة. الماركسية هي الفلسفة الحية الوحيدة في عصرنا. لنفهم أنها وحدها تُجمّل هذه المرة وتجعلها مفهومة لنا. هي وحدها التي تُعبّر عن نفسها عن حركة الوجود والمعرفة التي تُشكّل عصرنا؛ عصر هو أيضًا، كأي عصر، تكرارٌ لكل العصور الأخرى. ومع ذلك، تفتقر الماركسية إلى أنثروبولوجيا أساسية، تختلف عن الطبيعية الساذجة والعقائدية التي غالبًا ما تُشكّلها. كما تفتقر - وهي مفارقة لا تقل إثارة للدهشة ولكنها مفهومة - إلى المفكرين الأصيلين والنشطين الذين سيسمحون لها بمواصلة العمل التأملي للشمولية في العصر الناشئ. ما يُطلق عليه سارتر، دون أوهام، "الأيديولوجية" الوجودية تنبع من هذه الثغرات التي يجب أن تُسدها. ولكن إذا كانت عيوب الماركسية قد ولّدت الوجودية، فإن الماركسية - لأنها "أيديولوجية" - يجب أن تُكافح الوجودية بنفس القدر. وهذا، علاوة على ذلك، هو ما يفعله. سيشرح الكتاب كيف يمكن التوفيق بين هذه الأطروحات، وكيف يمكننا في آنٍ واحد التأكيد على أن الماركسية هي حقيقة عصرنا، وأنها تفتقر إلى الأنثروبولوجيا، وأنها لا تستطيع البقاء على قيد الحياة في حد ذاتها، وأن الأيديولوجية الوجودية، بتأسيسها واستكمالها، لا تنوي سوى الانغماس فيها، لا بل تغييرها. وستكون النقطة التي تتضح عندها هذه التأكيدات جليةً هي أيضًا نقطة إزالة الغموض التام. بل إننا نتساءل إن لم تكن كاملةً لدرجة أن لا شيء يفلت من هذا الوضوح. ومع ذلك، هل كان لكل هذه الطرق الملتوية، والتسويف، والعبثيات هدفٌ سريٌّ يتمثل في تأخير هذه الكارثة النهائية إلى أجلٍ غير مسمى تقريبًا: فالشر، في النهاية، لا يُقهر. كل ما تبقى هو محاربته ما استطعنا، وبكل الوسائل المتاحة. يبدأ الكتاب بسلسلة من المقالات، كانت في الأصل مخصصةً لمجلة بولندية، وأعادت نشرها مجلة "الأزمنة الحديثة". في الواقع، تفترض هذه المقالات أن المشكلات النظرية التي تناولها نقد العقل الجدلي نفسه قد حُلّت. بل إنها تهاجم فلسفة التاريخ التي تُمارسها الماركسية "المبتذلة" والمتصلبة اليوم؛ لذا تنطلق من فرضية إمكانية وجود فلسفة أخرى للتاريخ (وفلسفة تاريخ عامة)، فلسفة تاريخ لا تندرج، دون التخلي عن الماركسية، في فخ القبلية والشكلية ومثالية الأنماط الصرفة، أو بكلمة واحدة، في فخ "المدرسية" التي كرّس لها لوكاش وغارودي وغوران، وغيرهم. ولكن هذا هو الاحتمال الذي يجب على نقد العقل الجدلي إثباته، وليس من المؤكد أنه سينجح. وأخيرًا، سيتذكر قراء سارتر المحنكون أنه، وفقًا لكتاب "الوجود والعدم"، يُعرّف مشروع الوجود في ذاته لذاته شغفًا لا طائل منه. ووفقًا لهذا المنظور نفسه، لا يُمكن تصوّر أي توافق نهائي بين الداخل والخارج. وهو ما يكفي - على ما يبدو - لجعل أي فلسفة "تجميعية" "تجميعية" على حد سواء "تجميعية" وعبثية. فكيف لنا أن نستغرب إذًا أن تكون "التجميعيات" مجردة، مقيدة، ثابتة، تزدري الملموس، "مثالية"، و"مدرسية"؟ صحيح أن الأمر بالنسبة لسارتر لا يتعدى "تجميعية" في طور التقدم، كليات في حالة اندماج، يجب استعادتها دائمًا. في أي ظروف تكون ممكنة؟

هناك حلان زائفان لهذه النقطة: حل هيغل وحل الماركسية المبتذلة. تقوم الهيغلية على هوية الفكر والوجود، منفصلتين كلحظتين فقط. إن توافق هذه العناصر، الناشئة في نهاية العملية، يُحدد نهاية التاريخ وظهور المعرفة المطلقة. وقد أظهر ماركس الطابع المُحيّر لهذه المعرفة، التي تنقلب على ذاتها بتركها واقع عالمٍ لاإنساني خارجها، مُنزلةً نفسها إلى مرتبة الأيديولوجيا، إذ تُعيد لنفسها الفصل بين ما هو مُفكر وما هو كائن. علاوةً على ذلك، لا تُثبت هذه الصعوبة أن المعرفة المطلقة الهيجلية كانت سابقة لأوانها فحسب، بل تُفسد مبدأها ذاته. فالفكر والوجود ليسا مجردَي: فهناك وجودٌ فكريٌّ ليس هو فكر الوجود. هذا الوجود الفكري، في نهاية المطاف، لم يعد فكرًا بل ممارسة. لا يُخلط بين التجميع والمعرفة المُكتملة تمامًا، بل بين الفعل في طور التطوير الدائم. والآن، ينبغي، بالتحديد، العمل على أسس هذا التطوير، دون أن تُعيد هذه المحاولة صاحبها إلى مجرد فكرٍ تأملي. ووفقًا لسارتر، لم يكن ماركس مُهتمًا بهذا الأمر حقًا. وفي هذه النقطة، لا يوجد بين تلاميذه وخلفائه "مجموعات" سوى تلك التي تُعتبر في غاية البؤس! إن الطبيعية العلمية التي تقوم على وضع الديالكتيك في المادة لاستخلاص كينونة الفكر جدليًا هي مزحة لا يُضفي عليها إلا صرامة المنهج الدنيوي جدية العقيدة. لا داعي لسرد تفسيراتها الخاطئة وعبثيتها، التي يُطورها سارتر بشراسة لا هوادة فيها. من الواضح أنه لا يُقدّر "عجائب" بافلوف، لا قبل الرسالة ولا بعدها. هذا، دون أن يُنيرنا بعدُ بتفاصيل رد سارتر، يُحدد لنا بالفعل هدفه، والتمييز الذي يُقيمه بين الجزء المنشور حاليًا من نقد العقل الديالكتيكي (الذي يُسميه "نظرية المجموعات العملية") وما لا يزال في طور التكوين. يسعى الكتاب الذي بين أيدينا إلى شرح، دون الرجوع إلى الفكر التاملي المحض (الذي يكرس هيجل فشله)، كيف يشكل الفعل والممارسة، بشكل فعال ونهائي، التركيب الوحيد، وإن كان في شكل غير مكتمل ومتكرر إلى الأبد، لكائن الفكر وفكر الوجود. المهمة الثانية - التي تخلطها الماركسية، حتى ماركس، بل والماركسيون بشكل أوضح، بالمهمة الأولى - تتمثل في إظهار كيفية تحقيق هذه الإمكانية تاريخيًا، مع الحفاظ على وحدتها، أي من خلال كشف تاريخ يوحده الديالكتيك ويجعله مفهومًا. يمكن للمرء - مع أن هذه الطريقة في التعبير لها عيوبها - تبسيط التمييز بالقول إن كتابنا يدرس مبدأ فلسفة التاريخ، أي مبدأ الديالكتيك كما عُرّف؛ وسيتعين على المستقبل حينئذٍ أن يُظهر لنا عمل الديالكتيك، أي تفسير التاريخ كما هو موجود، وقد كان، والذي سنجعله واقعًا. دعونا نتجاوز الاعتراضات الجدية التي يثيرها هذا المشروع في الأذهان فورًا. يفحصها سارتر بإسهاب، ولكن، لأنه يُدرك أنها لن تُدحض إلا بنجاح مشروعه الفعلي: لإثبات أن التجميع التركيبي ممكن بالفعل، يمكن تأجيل مناقشتها أو استئنافها وربطها بمسار المشروع نفسه. الإنسان ككائن حي، أو حتى أي كائن حي إن شئت، يُشكل أولَ مجموع. لفهم ذلك، يكفي الرجوع إلى الصفحات التي خصّصها كتاب "فينومينولوجيا الروح" للحياة، ولكن فصلها عما سبقه وما يليه. من السابق، لأن الكائن الحي، خلافًا لادعاءات هيجل، هو المجموع الأصلي لدى سارتر، وهو لا يقصد أن يجعل الحياة في نقطة التقاء الوعي والوعي بالذات. من التالي، لأن الحياة ليست، بالنسبة لسارتر، مرحلةً على طريق الكلّية تُعرّف بأنها امتلاك الروح بذاتها، مع أنها أيضًا مرحلةٌ بالنسبة له. الكائن الحي، إذن، هو وحدة ذاته ونفيه (غير العضوي)؛ هذه الوحدة تشمل كل شيء، ولكن على نحوٍ هش. إنه يستوعب الخارج (على سبيل المثال، في التغذية)، ولكنه لا يستوعبه إلا بقدر ما يُخرجه: لا يتم استيعاب الطعام من قِبل الكائنات الحية إلا إذا كانت القوانين الفيزيائية الكيميائية، وهي قوانين الخارج، تعمل فيه. ومع ذلك، بالنظر إلى الأشياء في ذاتها فقط، يُمكن القول بسهولة إن هذا التجميع كامل بقدر ما هو ناقص. فبينما يجب إعادة صياغته باستمرار، فإن إعادة البناء هذه تتم وفقًا لعملية دورية ثابتة. ماضي الكائن الحي هو مستقبله، ومستقبله هو ماضيه. وهنا تكمن الحقيقة الرئيسية - التي لا يُقدم لنا أي تبرير جدلي لها -: الاحتياجات (أي نفي النفي) لا تُشبع بالضرورة. تحدث العملية في بيئة الندرة. فبالندرة، يُصبح الآخر شريرًا، المنافس الذي يحكم على المرء بالهلاك. يُمكن القول، وهذا صحيح، إن الندرة عامل قوي في التجميع، لأنها تدفع المرء إلى نفي الآخر. لكن الآخر يفعل الشيء نفسه معي. إنه ينكرني، دون أن أقبل أن أُنكر. لذلك، يجب أن نأخذ في الاعتبار أنه على المستوى الجزيئي الفردي حيث وضعنا أنفسنا الآن، فإن التعددية دون تجميع فعال هي القانون الفعلي الذي يحكم العلاقات الفردية. مع ذلك، ليست هذه العلاقات، على كل حال، فوضويةً أو مقتصرةً على صراع كلٍّ ضدّ الجميع. في الواقع، لا يصل كلُّ شخصٍ إلى غايته، أو يسعى إليها، إلا من خلال إدراكٍ مُعينٍ لغايات الآخر (وإن كانت مُتناقضة): عليّ أن أدفع لمن يعمل لديّ؛ ومن يرغب في العيش عليه أن يُوافق على العمل لديّ. علاوةً على ذلك، لا يُمكن لأيِّ عملٍ غايته إشباع الحاجات أن يُحقق ذلك، إلى حدٍّ ما، دون استخدام موادّ مُعدّة مُسبقًا، أي موادّ تحمل بالفعل معانٍ مُعينة، وقد وُضعت فيها غاياتٌ أخرى، غاياتٌ نهائيةٌ إلى حدٍّ ما. لذا، يجب أن نستنتج أو نُقرّ بوجود نوع من التبادلية منذ البداية، حتى في الحالة الجزيئية. ولكن أيضًا، إنها بعيدة كل البعد عن أن تكون مُجرّدة من كل اضطهاد. ومرة أخرى، يوجد أيضًا نوع من التجميع منذ البداية، ولكن من خلال المادة بقدر ما تُفعّل. في الواقع، المادة المُفعّلة - وهي الإمكانية الوحيدة لاستمرار الاستبطان - هي أيضًا استبطان مُكتسب بالفعل، ولكنه مُتجلٍّ. تُؤنسن المادة المُفعّلة الطبيعة وتُعمّم الإنسانية، ولكن في شكل جامد، مُقترح للممارسة. في هذه الطبيعة، النادرة والمُؤنسنة بالعمل، يسعى الأفراد إلى غايات متناقضة تُصوّر نفسها، كلٌّ لنفسه، على أنها تُنفي الكلّية، بينما تُعيدها أو تُرسّخها بطريقةٍ مُعيّنة. هذا الاستعادة - الجزئية والمؤقتة - للكلية تُصبح جليةً، أو تتقدم نحو التفسير، من خلال تدخّل الطرف الثالث الوسيط. لا يهتم سائق الحافلة إلا بإشباع احتياجاته بقيادة مركبته بشكلٍ جيد - إن أمكن (ولكنه مُستحيل) خاليةً من الركاب؛ ولا يهتم المسافر إلا بإشباع احتياجاته باستخدام الحافلة - إن أمكن (ولكنه مُستحيل) خاليةً من الركاب. ببساطة، غاية السائق وغاية المسافر تتعايشان، بينما تميلان إلى استبعاد إحداهما الأخرى وجميع الآخرين. شركة الحافلات - لنسمّها الشخص المسؤول عن وضع جدولها الزمني الخاص (والتي لا تهتم إلا بإشباع احتياجاتها الخاصة) - تُرتّب هاتين الغايتين، وأكبر عددٍ ممكنٍ من الغايات الأخرى، في كليّة مُنظّمة ومفهومة، مؤسسة نقل. وبطبيعة الحال، تبقى هذه الكليّة خارجيةً عمّن توحّدهم. قد لا أفهمه، وهو لا يتكيف تمامًا مع غاياتي: أُفضّل أن تكون الحافلات موجودة حتى الواحدة صباحًا؛ ومع ذلك، فإن وجودها حتى العاشرة مساءً فقط يُزعجني أقل من توقف حركة المرور في الثامنة مساءً. ولهذا السبب أيضًا هو دائمًا في طور التفكك، وإعادة البناء. كلٌّ من جمود المادة والذاتية - اللذان لا يمكن التوفيق بينهما في النهاية - يُهددانه باستمرار. ولكن دعونا نعود للحظة إلى هذه الندرة، التي قلنا إنها تُهيمن على التاريخ كله. لنُلاحظ أولًا أنها حقيقة عرضية. ليس من المُستحيل أن توجد على كواكب أخرى كائنات تتطور في بيئة من الوفرة المفرطة؛ وليس من المُستحيل حتى أن يكون هذا هو حال أحفادنا يومًا ما. ببساطة، لا نعرف شيئًا عن ذلك، ونعرف، إن أمكن، أقل من ذلك بكثير كيف سيكون وجود هذه الكائنات. الحقيقة هي أن ثلاثة أرباع البشر يعانون اليوم من سوء التغذية، وأن الأمر لم يكن يومًا على هذا النحو، على أقل تقدير. لكن هذا لا يعني أن الندرة تدفع الإنسان دائمًا وبالضرورة نحو التاريخ. بل على العكس، نرى بعض المجتمعات تستقر في توازن بائس وتحافظ عليه بشدة من خلال نظام من التكرار الثابت والدنيوي، خوفًا من أن ينتهي الأمر بأي ابتكار - حتى لو قلل من الندرة إجمالًا - إلى كسر هذا التوازن مما يضر أكثر ببعض أعضائها. المؤكد، كما يقول سارتر، هو أن الإنسان عندما يُؤرخ نفسه، فإنه يفعل ذلك لمحاربة الندرة . وعندما لا يُؤرخ نفسه، فإن الندرة هي التي تُحدد الحالة الإنسانية كما تبدو: سيكون الإنسان، مرة واحدة وإلى الأبد، ذلك الإجهاض البائس، الذي لديه فرصة واحدة من عشرة أو واحدة من مئة لعيش أربعين عامًا يحفر الأرض ويراقب الحيوانات. هذه الاعتبارات حول "بيئة الندرة" جوهرية لفكر سارتر، لأنها تُمكّننا من وضعه في علاقة دقيقة مع ماركس. أولًا، يجب أن نلاحظ أنه، على الرغم من التطور الواضح في أسلوب فكره ومواضيعه، فقد ظلّ وفيًا للعنوان الأول، الذي اختاره قبل أكثر من عشرين عامًا لكتاب "لا مخرج: الجحيم هو الآخرون". إن خطر الاغتراب من خلال ظاهرية المادة يُخفي في الحقيقة خطرًا آخر، أشدّ خطورةً وجذرية، خطرًا لا مفرّ منه: فالآخرية للجميع هي وعد الموت والفناء؛ ولهذا السبب فإن الآخر هو الآخر بالنسبة لي تمامًا. في بيئة الندرة، تُصبح الأنسنة والإنسانية، في جوانب أخرى دائمًا في طور الإنجاز، مستحيلة جدليًا. نحن هنا على نقيض اللاعقلاني. قمعه لا يعني بالضرورة قمع الندرة. بل على العكس، نرى الندرة تُعيد إنتاج نفسها. على مستوى حضارة مُعينة، النفط هو النادر، أو المباني المدرسية. لماركس والتفاؤل الماركسي. أدرك ماركس - وقبله المدرسة الإنجليزية - المعنى المميت للندرة. لكن بربط تطور المجتمع بالهيمنة المتزايدة، والتي سرعان ما ستُصبح كلية، على الطبيعة، فإنه يُلغي آثارها، على الأقل في المستقبل. هدف الاشتراكية ببساطة هو منع آثار الندرة من الاستمرار بعد الندرة. أما سارتر، فالمشكلة هي عكس ذلك. ليس لدينا أدنى فكرة عما سيؤول إليه الندرة، ويبدو، من حيث الاحتمالات، أنه لا يمكن التغلب عليه. لكن ما نعرفه هو أن الإنسان الوحيد الذي يُمكننا تصوره هو من يعيش في ندرة. وهكذا، يقع التاريخ كله، وكل تاريخية، يُمكننا تصورها، في تناقض لا يُقهر: ضرورة التجميع وضرورة التخارج تتعايشان بلا هوادة. لا داعي للخوض في هذا لندرك النقطة الحاسمة - والقديمة جدًا - التي تفصل سارتر جذريًا عن الماركسية. بالنسبة للأخير، التفاؤل العلمي - بل وحتى العلمي - ليس بُعدًا أساسيًا في العقيدة فحسب، بل هو أيضًا مبرر سياسي دائم. إن المنظور الذي يضمنه العلم، القائل "لكلٍّ حسب حاجته"، يُعطي معنىً للتضحيات التي تُبذل أو تُفرض اليوم، تضحيات ربما لا تستسلم بثقلها لمعاناة الاستغلال العقيمة (نسبيًا). ولكن إذا كانت الندرة لا تُقهر، وإذا لم نتمكن، على أي حال، من التنبؤ بإمكانية التغلب عليها... فإن الشر هو الذي يصبح لا يُقهر، يُعيد بناء نفسه مع مرور الوقت. في نهاية المطاف، فإن العوائد الأخرى للظهور الخارجي لا أهمية لها: جمود المادة، الذي يعود إلينا كغاية مضادة، بسبب ذاته وبسبب الآخرين ؛ والاستغلال، الذي يُعزز بشكل دائري. لا توجد فرصة للتعميم أكثر من فرصة اعتراف الإنسان بالإنسان. كلاهما يسعى إلى تحقيقه؛ وكلاهما، لنفس السبب النهائي، لن ينجح: لن ينتهي ما قبل التاريخ أبدًا. هذا، لا يُصرّح سارتر بذلك صراحةً، ولكنه يُثبته لنا دون أن يُصرّح به. هذه هي الحقيقة الأساسية: الاشتراكية، حتى لو استطاعت أن تُلهم ثورةً أو مئة ثورة، لا يُمكن أن تكون نظامًا لبيئة الندرة، التي هي بيئة البشرية. وحتى لو أنقذنا مستقبلٌ غير مُتوقع من بيئة الندرة، فلن يُغيّر هذا الاحتمال شيئًا مما قد نعتقده اليوم، لأن الإنسان المُتحرّر من هذه الندرة، بالنسبة لنا، لا يُمكن تصوّره، بل يستحيل حتى تخيّل ما سيصبح عليه. ومع ذلك، حتى داخل دائرة الندرة، تهدف تهديدات أخرى إلى تقويض المكاسب الهشة والمدروسة للشمولية، للشموليات الجارية بالفعل. ودون أن نُتيح لنا الوقت الكافي لمتابعة تشعبات تحليلات سارتر، الدقيقة والفوضوية والمُبهرة في هذه النقطة، فقد سبق لنا، في هذا الصدد، أن أشرنا إلى الغائية المُضادة للمادة المُصنّعة. ويُماثل ذلك، دون أن يكون التمييز واضحًا دائمًا، التموضع السلبي للممارسة. إن الكائن المادي الذي ترسخت فيه الممارسة كمعنى، يخاطب الإنسان الآن مطالبًا إياه بالامتثال التام للمعالجة التي يشير إليها ويطالب بها. تختار الآلة رجالها، وأسلوب عملهم، وأسلوب معيشتهم، وأماكن سكنهم. إنها تُملي اختراع آلات جديدة: محرك البنزين "يريد" أبراج رومانيا والشرق الأوسط. لكن هذه الأبراج تُحدد مسبقًا حيوات أخرى، وطرق عمل ووجود أخرى. من خلال المادة، تخاطبني مشاريع قديمة، قادمة من الآخرين، كما لو كنتُ آخر، تجعلني مختلفًا: يُفسد النفط ويُبيد حضارة عمرها ألف عام، كانت تعتقد أنها لا تتزعزع. من الواضح أيضًا أن هذه العملية ليست مجرد تراجع عن الشمولية، بل على العكس تمامًا. لكنها ليست تراجعًا عن التخارج أيضًا. ولهذا السبب يريد سارتر دراسة جميع أساليب "الشمولية" و"اللاشمولية" للشموليات البشرية. لذا، فإن ما قلناه لا يرقى إلى مستوى هذه الملاحظة المفترضة، المستندة إلى الطبيعة البشرية، والتي تُوجِّه البشر بمصالحهم الخاصة. ما يهمنا هو فهم كيف، في بيئة الندرة، تُنْقَشُ ممارسة كل فرد، من حيث كونها التعامل المشترك مع المادة وتحويلها، في هذه المادة بطريقة تُمَوْضِع، في صورة طبيعة ثانية (طبيعة اقتصادية)، تضارب المصالح المُحَوَّل إلى مصير خارجي. وكيف أن "حل" هذه التاملات، من خلال منطق الممارسة ذاته، يُنشئ ويُفَكِّك باستمرار أيَّ تجميع مُعلَّق. ولهذا الغرض، يُحلِّل سارتر بإسهاب ودقة مختلف أشكال ما يُسمَّى في لغة أخرى "الوجود المشترك". دعونا نذكر في هذا الصدد تمييزًا أوليًا حاسمًا: تمييز الجماعة والجماعة. يُعرَّف الكيان الجماعي بوجوده، أي بقدر ما يُشكِّل كل ممارسة كوجود بسيط؛ فهو كائن مادي وغير عضوي في المجال العملي الجامد بقدر ما يُنتَج فيه تعددٌ مُنفصل من الأفراد الفاعلين تحت علامة الآخر كوحدة حقيقية في الوجود، أي كتركيب سلبي، وبقدر ما يُشكِّل الكائن المُشكَّل ذاته جوهريًا، ويخترق جموده كل ممارسة فردية كتحديد أساسي لها من خلال الوحدة السلبية، أي من خلال التداخل السابق والمُعطى للجميع كآخرين". دعونا نحاول تفسير هذا التعريف عضوًا تلو الآخر بناءً على مثال ملموس. لننظر، في لوفين، إلى جماعة العاملات في مصنع فيليبس. ما يربطه هو وجود فرع لشركة فيليبس في لوفين حيث يكون التوظيف دائمًا. هذا الكائن الذي هو المصنع، يُقدّر لهم مُسبقًا عملًا لم يختره أحدٌ منهم: مختلف المهن المتعلقة بتصنيع وشحن المصابيح والأجهزة الكهربائية. الأب، حالما تُغادر المدرسة، "يُرسل ابنته إلى فيليبس". وتكتسب الابنة فرصةً لدخول عالم الكبار الحقيقي من خلال العمل في فيليبس. فهي، بكونها خارج ذاتها، مُنخرطة في نشاط لا تُحدده بأي شكل من الأشكال. عملها "وجود". يوجد مصنع فيليبس من خلال تعدد الأفراد المُتجمعين على هذا النحو والذين لا يُجمّعون إلا به. يُنتجه هذا التعدد، ولكنه يُنتجه أيضًا. كل عامل يُوظّف بقدر ما هو شخص، أي آخر من ذاته. كما أنه يُوافق أيضًا على العمل وفقًا "لتحديد أولي مُعطى للجميع كآخرين". هذا الكل سلبي وغير مُفعّل عمليًا. على العكس من ذلك، "تُعرَّف الجماعة بمشروعها وبهذه الحركة التكاملية الدائمة التي تهدف إلى جعلها ممارسة خالصة من خلال السعي إلى إزالة جميع أشكال الجمود". هذه التعريفات كافية بالفعل للإشارة إلى إمكانية وجود سلسلة من الأنماط الوسيطة، ولكن أيضًا إلى أن الجماعة الخالصة لا يمكن أن تكون إلا استثنائية، عابرة، أو حتى، في حدها الأقصى، غير قابلة للتحقيق، إذ لا توجد ممارسة إلا موجهة نحو مسألة مُنجزة بالفعل، والتي، بصفتها كذلك، تُحدد، في شكل جمود، الممارسة التي يجب الحفاظ عليها. يستخدم قسم في القتال - يميل نحو الجماعة - أسلحة يفرض التعامل معها مثل هذه الإيماءات ومثل هذه التكتيكات. ولا توجد مباراة كرة قدم - يبدو أن سارتر قد نسي هذا - بدون حكم، وهو نوع من التجسيد الخالص للآخر. لنعد إلى الجماعة. جميع أعضائها قابلون للتبادل ببساطة، متطابق, مع الآخرين. ولكن، من خلال الجماعة، تظهر التسلسلية. بمجرد انتهاء العمل، لا يستطيع جميع العمال الذهاب إلى غرف تبديل الملابس معًا، أو الجلوس في الحافلة، أو استلام أجورهم، إلخ. لا يُسمّى "الفائض" فرديًا، تمامًا كما لا يُختار الأطفال الذين يموتون بأعداد كبيرة في الأحياء الفقيرة بالاسم. الواحد فائضٌ من خلال الآخر، وبصفته آخر. لا تُميّز "صفات" الفائض. صحيحٌ أنه قد يكون "متكاسلًا". لكن مهما بلغ، فهو فائضٌ فقط من خلال الآخر، وعلاوةً على ذلك، إذا كانت ورشته تقع عند بوابة المصنع، فلن يضرّه بطؤه. التسلسلية هي تلك الخاصية الجماعية في حد ذاتها، والتي بموجبها يكون كل آخر، من خلال الآخر، مختلفًا عن الآخر، دون أن يصبح هو نفسه. بالتأكيد، تنبع التسلسلية من المادة، عضوية كانت أم غير عضوية. توجد في الخصائص الترتيبية للعدد، وهي التي تتجلى في الجماعية. ولكن، في الجماعية، تُنتج هذه التسلسلية أيضًا من خلال ممارسة عملية. الآن، تتضمن كل ممارسة تبادلية، وهو ما تستبعده التسلسلية تحديدًا. فالتركيب، وفقًا لسارتر، تبادلية زائفة: فكل شخص ليس مطابقًا للآخر فحسب، بل إنه، بفعل الآخرين، يصنعه مختلفًا عما هو عليه، تمامًا كما يصنعون جميع الآخرين مختلفين عما هم عليه. وباعتباره واحدًا، فهو نسبي فحسب، لأن لوفان ينفذ، دون أن يشارك في تطويره، "الخطط الموضوعة في آيندهوفن". ينتمي الفرد إلى عدد غير محدد من الجماعات العملية الخاملة - العامل الذي تحدثنا عنه هو أيضًا مستمع لراديو لوكسمبورغ وقارئ لمجلة نسائية - فالوجود المشترك منغمس في بيئة مواتية للجمود. هذه البيئة المواتية للجمود هي في حد ذاتها أصل مجموعة من الظواهر التي لا يمكن تفسيرها إلا من خلال الجمود العملي: بطرق متنوعة للغاية، الرأي العام، وبعض أشكال الذعر الاجتماعي، وانخفاض قيمة العملة، على سبيل المثال، كلها جزء منها. وهذا يمثل، من وجهة نظر ماركسية، صعوبة جسيمة. فبينما من الواضح أن الطبقة هي أيضًا، في الواقع، من جوانب مختلفة، جماعة عملية خاملة تخضع للتعديل التسلسلي المحض للاختلاف، فإن هذه الملاحظة تعيق الوصف الماركسي للطبقة، الذي يستخدم فقط مفهوم سارتر للمجموعة، والذي نعرفه بالفعل ولكن لم نفسره بعد. سارتر مُدركٌ تمامًا للصعوبة، تمامًا كما يُدرك بلا شك أنه لم يُحلها - وهو ما يتبدى جليًا في بعض الملاحظات العرضية، التي تُثير أهميتها الضمنية لمستقبل الاشتراكية قلقًا بالغًا. لكن هذا لن يُفاجئ القارئ المُنتبه تمامًا، المُدرك مُسبقًا للعواقب المُرتبطة بندرةٍ تُعتبر لا تُقهر. لذا، يُدرك سارتر جيدًا أن الطبقة ليست مُجرد تسلسل. "إذا كان كل شيء مُختلفًا في المجتمع الرأسمالي، كما قال ماركس مرارًا، فذلك أولًا لأن التذرية - أصل العملية ونتيجة لها - تجعل الإنسان الاجتماعي مُختلفًا عن نفسه، مُشروطًا بالآخرين بقدر ما هم مُختلفون عنه". لذا، فإن الاغتراب التسلسلي هو اغترابٌ لا تتحمل الرأسمالية مسؤوليته، مع أنها تُساهم بقوة في تعزيزه. لذلك، لن يكفي إلغاء الرأسمالية للتغلب عليها - كما تُشير النظرية الماركسية للاغتراب. لكن، من ناحية أخرى، لا تحرر فعلي دون انتصار على التسلسلية: "لن يتحرر العامل من مصيره إلا إذا تحولت التعددية الإنسانية بأكملها إلى ممارسة جماعية إلى الأبد". إن مقارنة هاتين الجملتين، بعد تجريدهما من تجريدهما، تُعطي مقياسًا - بل مأساويًا - للآمال التي يضعها سارتر على مستقبل الاشتراكية. تُفسر المقارنة نفسها أيضًا الاهتمام الشديد الذي يتابع به بناء هذه الاشتراكية نفسها على جزيرة يسكنها ستة ملايين نسمة، مما يُثبت العبارة الشهيرة: "الشيوعية تساوي السوفييت + الكهرباء" من خلال إنتاج السيجار والسكر. كما تُفسر النبرة شبه المفجعة لمقدمة كتاب "عدن العربية"، حيث يروي سارتر مصير بول نيزان. لكن في النص الذي نُحلله، يحاول سارتر إيجاد مخرج - مخرج سيُفسده هو بنفسه - من خلال الإشارة إلى أن الهدف الحقيقي لنضال الطبقة العاملة هو سلسليته. تحاول الجماعات، "الجماعات الصغيرة"، حشدها ضد تشتتها، و"إثارتها بأساليب متسلسلة"، لأن "الجماعة تدرك صغرها وعجزها وهشاشتها". ومع ذلك، يسعى الناشط إلى جعل "الوحدة السلبية للاختلاف موضوعًا لممارسته التنظيمية". وهكذا، "ما يميز الطبقة العاملة في نهاية المطاف... هو أن الممارسة المنظمة للمجموعة النضالية تنبع من جوهر الممارسة الخاملة، في المادية الغامضة للعجز والجمود كتجاوز لهذه المادية". لذا، فإن التحول في العلاقة بالماركسية كبير، لأن العدو الرئيسي الذي يجب أن يتغلب عليه نضال العمال لم يعد الاغتراب من جانب الرأسمالية أو أي طبقة أخرى، بل جموده الذاتي. هذه مجرد نقطة أولى. ولا تقل خطورةً التعديلات التي طرأت على منظورات النضال. كيف، إذا كانت الندرة لا تُقهر، يمكننا أن نتخيل نظامًا، سواء سميناه اشتراكيًا أم لا، يُستبعد منه كل فصل، وبالتالي كل تسلسل؟ يبدو أن النضال، وبقدر ما هو لحظة، يصبح غايته الخاصة، غاية متناقضة بطبيعتها. "طبقة فاعلة تمامًا - أي طبقة يندمج فيها جميع أعضائها في ممارسة واحدة، وأجهزتها، بدلًا من ذلك، "إن الثورة الحقيقية هي أن كل من يعارض الآخر، سوف ينظم نفسه في وحدة - وهذا لم يتحقق إلا في لحظات نادرة للغاية (وكلها ثورية) في تاريخ الطبقة العاملة". هذه هي الثورة الدائمة من حيث المبدأ، وربما هي أيضًا عديمة الفائدة، لأن "مجال الوجود العملي الخامل يغلق باستمرار أو يهدد بالإغلاق باستمرار". يبدو أننا بعيدون كل البعد عن أي أمل عالمي في "غدٍ أفضل". ماذا كسبنا؟ هذا هو أننا نفهم الآن مصائبنا حتى جوهرها، وأن جدلية التسلسل تجعل الاجتماعي والوجود الاجتماعي مفهومين حتى أعماقهما، وبالتالي ستكون فلسفة التاريخ ممكنة، وربما تُقدم مفتاحًا لأدق الأحداث. "لقد اجتزنا المجال العملي الجامد من طرفه إلى آخر، وكان هدفنا اكتشاف ما إذا كان هذا المكان المليء بالعنف والظلام والسحر يمتلك بالفعل وضوحه الجدلي، أو بعبارة أخرى، ما إذا كانت المظاهر الغريبة لهذا الكون تخفي عقلانية صارمة. الآن نحن مقتنعون: ليس فقط أن جميع الأشياء التي تشغله وجميع العمليات التي تحدث فيه تخضع لقواعد التطور الجدلي التي تجعل فهمها ممكنًا دائمًا...". فالا تجدر الإشارة إلى أن هذا الأمل تأملي في جوهره، وأن "ماركسية" سارتر، بدلًا من تحقيق الفلسفة بتدميرها، تُنقذ الفلسفة وتُرسخ في نهاية المطاف طابعها "المنفصل" - بإلغاء أي إمكانية للتغلب نهائيًا على الاغتراب؟ ما الذي يُحدث إذًا تحول الجماعة إلى جماعة، أي ما الذي يُؤدي إلى انبثاق غاية مشتركة صريحة من الأولى، من خلال ممارسة مشتركة، مُنتجًا بذلك اندماج الجميع في كلٍّ واحد؟

إنه بالتأكيد ليس تحولًا عضويًا، ويرفض سارتر أي تفسير عضوي للجماعة، وهي صورة شائعة الاستخدام ورجعية في جوهرها، لأنها تميل إلى إخفاء الحقيقة الجدلية للجماعة، التي تكمن في الوحدة الصريحة لغايات قائمة على ممارسة مجموع الأفراد. يجب ربط هذا التحول مجددًا بالحاجة، ومن خلالها، بالخطر. ينشأ عندما يكشف خطر، تهديد (قمع، مجاعة، إفلاس - أي مجاعة) لطبقة - كانت حتى ذلك الحين مجرد جماعة - أن استحالة التغيير ستصبح قريبًا استحالة العيش. لذا، مهما كلف الأمر، فإن استحالة التغيير هي ما يجب معالجته. لنلاحظ أنه في أغلب الأحيان، بل دائمًا، يتحقق اندماج الكل في مجموعة واحدة من خلال "تعيين" الطبقة الأخرى، التي تجمع، بالتالي، الطبقة التي تدافع عن نفسها. يرسل الملك قوات إلى باريس خوفًا من أعمال شغب؛ يدرك الباريسيون، الذين لم يفكروا إلا في عدم الثقة ببعضهم البعض أو الفرار من الأمر كلٌّ بمفرده بأي وسيلة، أن الملك لا يثق بباريس، وأنهم وحدة واحدة، حيث يرتبط مصير كلٍّ منهم بمصير الجميع؛ فبدلًا من نهب المخابز، نهبوا تجار الأسلحة: لقد سلح باريس نفسه ضد الملك. وبما أن باريس سلحته ضد الملك، فلا خيار أمام باريس سوى شن حرب على الملك. وبما أن قوات الملك، بعد دخولها باريس، سيكون هدفها الرئيسي إقامة ملتقى مع حصن الملك الباريسي، الباستيل، فلا بد من الاستيلاء عليه أولاً. يتحقق ذلك، وللنجاح، تصبح المجموعة المندمجة مجموعة منظمة، أو عدة مجموعات منظمة. تكمن المشكلة - الحقيقية والوحيدة - في كيفية نجاة المجموعة من اقتحام الباستيل، والخوف من سحب الملك لقواته من باريس، والحاجة إلى توزيع مهامها على مجموعات فرعية، ولكن بروابط متبادلة تحمي تفرد المجموعة ومعاملتها بالمثل. يصف سارتر بإسهاب عملية التحول، أي ولادة الجماعة. يكمن هذا التحول في أن كل شخص، تحت ضغط التهديد، يرى نفسه في الآخر، بدلًا من أن يكون - كما في الحياة اليومية - شخصًا آخر. لن نتابعه في تفاصيل هذا الوصف؛ بل سنسلّم بأن جوهر التحول يكمن في أن كل شخص لم يعد يشبه الآخر، لأن كل شخص آخر أصبح هو نفسه. ولكننا نلاحظ أنه بما أن جميع أمثلة سارتر من هذا النوع، فلا بد أن نستنتج أن الجماعة لا تتشكل إلا في الصراع ضد آخر أعلى (الملك أو الفيرماخت في باريس)، ومن خلاله، وبالتالي لا وجود لشمولية مطلقة حتى في عملية التشكل (باستثناء العقل، الذي يدرك أن لعبة الملك ولعبة الفوبورغ مترابطتان). ومع ذلك، فالنصر هو أيضًا موت، وهي أطروحة يمكن للمرء أن يفكر فيها كما يشاء، إلا أن لها صلة بماركس، أو، إن أمكن، بالاشتراكية. سنعود، علاوة على ذلك، إلى مشاكل تنظيم الجماعة (وهي، من منظور سارتر، مشاكل مستعصية على الحل، تتعلق بالبيروقراطية والستالينية، وكذلك بالحزب والنقابات العمالية). وأخيرًا، سنحتفظ بملاحظة أخرى لسارتر حول الأحداث التأسيسية للجماعة: عندما يشارك المواطن دوران، وهو رجل مسالم، في نهب مستودع أسلحة، فذلك بلا شك لأنه يشعر بأنه يمثل الآخرين في ظل التهديد الذي يثقل كاهل المدينة، ولكنه قد يكون كذلك أيضًا، وبشكل غير محسوس، لأن "كل واحد يحاول الوصول قبل الآخرين، ففي إطار الندرة الناشئة، يصبح جهد كل واحد في حمل بندقية خطرًا على بقاء الآخر أعزلًا". وهذا يُظهر لنا ليس فقط أن الجماعة تتغلب على الجماعة، وأنها دائمًا مُهددة بالعودة إليها، وأنها ترتبط بها كأساس لها - كل ما نعرفه بالفعل - ولكن أيضًا، وقبل كل شيء، أن بُعدًا من الجمود ينخر حتى في الفعل الذي تنبثق منه الجماعة. تكمن نقطة جوهرية في جوهر تركيب الشمولية. إنها ليست مسألة فكر - مع أن هذه الجدلية جدلية فهم - بل مسألة تطبيق عملي: ففعلي في القتال وفعل الآخرين الذين أعرف نفسي فيهم فعل واحد. لو فكرتُ فقط في انتمائي أو شعرتُ بتعاطفي، لما كان هناك كلٌّ: ستبقى المجموعة آخر أعارضه بوضع ثقتي فيه. لكن مشاركتي الفعلية في فعلها تحديدًا هي التي تمنع عملية العزلة والمعارضة، وهي ما يُختزل إليه الفكر أو الوعي في ذاته، من النجاح. لا أفكر ولا أرى نفسي مرتبطًا بكلية المجموعة: أنا أُكوّنها فعليًا في فعل الآخرين، تمامًا كما يُكوّنونها هم في فعلِي - ولهذا السبب تحديدًا لم يعودوا آخرين، ولماذا لا توجد أفعال متعددة يقوم بها عدة أفراد، بل فعل واحد: القتال. كان فابريس، في واترلو، مخطئًا؛ لم يكن سوى متفرج، إيطالي لا علاقة له بالأمر. هذا سمح له بمراقبته ووصفه. وبصورة مختلفة عما كانت عليه. ولكن كيف يمكن للجماعة أن تنجو من انتصارها، وأن تكتسب ديمومة لا تُشبه تسلسلية الجمود العملي؟ ثمة جمودٌ لا مفر منه هنا: جمود الوجود الشهير الذي لطالما ندد به سارتر. هل يمكننا "تجنب" أن يكون هذا الديمومة مجرد جمود عملي؟ نعم، كما يعتقد، على الأقل إلى حدٍّ ما. إذا لم يكن هذا الديمومة ممارسةً - وأين ممارسة المقاومة اليوم؟ - فعلى الأقل، فإن الدخول إلى الجمود يجب أن ينتج عن ممارسة حرة: هذا هو القَسَم. "عندما تصبح الحرية ممارسةً شائعةً لتأسيس ديمومة الجماعة بإنتاجها بنفسها، وفي تبادلٍ وسيط، يُسمى هذا الوضع الجديد القَسَم". يمنح القَسَم جماعةً مُهددةً بالزوال تبادلاً وسيطاً ذا شكل جديد، انعكاسي هذه المرة، ولكنه دائم. إن القسم هو التأكيد على أنني لن أجعل نفسي أبدًا الآخر في المجموعة، تمامًا كما يقسم الآخرون - الذين ليسوا آخرين - أن الآخرية لن تأتي إلى المجموعة من خلالهم. لنلاحظ - وقد أشار سارتر نفسه إلى ذلك - أن القَسَم يُدخل عنصرًا غير جدلي جذريًا على الجدلية. إن بقاء الجماعة سيُغيّرها، مُنشئًا جماعات فرعية متنوعة. ما نُسميه اليوم منظمات المقاومة يختلف تمامًا عما كان عليه عام ١٩٤٤ - فعلى سبيل المثال، عاد أعضاؤها إلى أحزابهم المختلفة، التي تتقاتل بشراسة. لكن القَسَم الذي أدوه - تحت طائلة عدم التمسك بأي شيء على الإطلاق - لا بد أنه أُدي بعبارات مطلقة، وكأنه مُنفصل عن أي تفسير لاحق من شأنه أن يُغير معناه. وإلا، فلن تكون هذه التفسيرات تفسيرًا واحدًا، تفسير المقاومة التي تُقسم بالولاء لنفسها، بل تفسير مقاتلي المقاومة الكاثوليك، وتفسير مقاتلي المقاومة الاشتراكيين، وتفسير مقاتلي المقاومة الشيوعيين، إلخ - أي أفكارًا متنوعة جذريًا، لم تعد تنبع من المقاومة، لأنه بحكم التعريف لم يعد هناك أي ممارسة مقاومة، ويجب أن يضمن هذا القَسَم بقاء الجماعة. تسعى الجماعة إلى أن تجعل من نفسها أداةً في وجه التسلسلية التي تُهدد بحلها؛ فهي تخلق جمودًا وهميًا يحميها من تهديدات الجمود العملي. فهل يُمكن تعريف القَسَم على هذا النحو؟ نعم، يعتقد سارتر. بشرط - كما سنرى - أن يُصاحب القَسَم قبول الرعب: إذا حَنَثتَ زورًا، فسأشنقك؛ وإذا حَنَثْتُ زورًا، فستشنقني؛ وهكذا، على أي حال، سيُقضى على الآخر. يُمكن الاعتراض هنا على كتاب "الوجود والعدم" وما جاء فيه عن قَسَم الحب. القلق هو حالة الإنسان لأنه يختبر القَسَم على أنه غير ضروري: مهما وعدتُ بأنني لن أُقامر مرة أخرى، يجب أن أُكرر هذا الوعد في أي لحظة دون أن أعرف إن كنت سأُكرره غدًا. القَسَم، بالطبع، لم يُصبح ضروريًا. والأعضاء الذين يُؤدونه يدركون ذلك جيدًا. فلماذا هذا الخيال، المُبالغ في تهكمه؟ هل يُقال إن الحقيقة الحقيقية للقَسَم وحرية أدائه هي الإرهاب؟ لا شك في ذلك. قال هيجل: الحرية إرهابٌ حين تتخذ من نفسها غايةً لها. هذا بالتأكيد سؤالٌ عن الموجود، وليس عن ما نتمناه: لقد احتج سارتر بشدةٍ ذات مرةٍ عندما أعلن رجلٌ مُشنوقٌ بصوتٍ عالٍ حقَّ الجلاد في شنقه، كما يُسمع في أفضل المحاكمات. سيُقال، وهذا صحيح، إن الأمور، للأسف، مُعقدةٌ للغاية، لأن ليس كلُّ المُشنوقين حانثين، على عكس ما يُقال. إنه سؤالٌ عن الموجود. ولكن كيف يُمكننا الادعاء بأننا أسسنا مفهومية الوجود المُشترك ومفهومية التاريخ المُستقبلية، إذا كان ما أسسها، في أيِّ لحظةٍ من لحظاتها، سلوكًا يُعتبر غير مفهوم؟ كيف يمكننا أن نحافظ على الجمود المستقبلي للمجموعة من أجل الحرية، إذا كان ذلك من خلال فعل حر -القسم- والذي أخبرنا سارتر أنه ينكر شرط الحرية؟

باختصار، يقوم القَسَم، بصفته حافظًا على الجماعة، على استبدال الرعب الخارجي، الذي تشكلت الجماعة تحت ضغطه، برعب داخلي. لنقتبس من سارتر حتى لا نغير فكرته: "إن التجديد الجذري، الذي يكمن في صميم القَسَم، هو مشروع استبدال الخوف الخارجي الآخذ في الزوال بخوف حقيقي، نابع من الجماعة نفسها...". "القسم هو القول كفرد عادي: أطالب بالقتل إن انفصلت"، "وضع الإنسان كسلطة مطلقة للإنسان على الإنسان (بالتبادل)". دعونا لا نُصرّ. إذا لم يكن لإجمال حقبة ما أساسٌ للفهم - بافتراض كونها كذلك - سوى جدلية (أو غير جدلية) من هذا النوع، فمن الأفضل أن نفقد كل أمل في التاريخ الذي ستُولّده هذه الجدلية. تبدو سلبية من يعتقدون أنه لا يوجد في التاريخ ما يُفهم أفضل مما ستُفهمه فلسفة التاريخ، وفقًا لفهم سارتر. ولكن ماذا لو كان الأمر كذلك؟

لا يُمكن للمرء أن يُجيب بالإيجاب إلا إذا، من جهة، قدّم مفهوم سارتر للعقل الجدلي إمكانيةً لإجمالية مفهومة ومتماسكة في حد ذاتها، وإذا، من جهة أخرى، كان التجلي الظاهراتي للتاريخ "يُضم" بالكامل ضمن هذه الجدلية. دون إفراط أو تفريط. لكننا بعيدون عن ذلك. ولن يُسهم ما تبقى من التحليل في جعل النتيجة النهائية لهذه الأسئلة إيجابية. فالإرهاب، في الواقع، إن كان كافيًا للحفاظ على تماسك الجماعة، فهو لا يكفي لتحديد مهامها، ولا لتكوين تنظيم داخلها قادر على تحقيقها. سارتر، الذي لا يُبدي أي تعاطف مع العضوية، يرى أنه لا يوجد فعل محدد للجماعة. في النهاية، شن الحرب هو حث الناس على القتال، وليس هناك واقع آخر للحرب. كان طيار أو طاقم من دمر هيروشيما. لا أمريكا ولا الحرب، وهما غير موجودين. "إذن، الفعل المحدد والمباشر الوحيد للجماعة المنظمة هو التنظيم وإعادة تنظيمها الدائمة". يحمل الإرهاب البيروقراطية كما تحمل السحابة العاصفة (هنا يجب أن نعكس الصورة ونقول إن العاصفة تتحول إلى ضباب). حيث، كما يُمكننا أن نتخيل، يستعيد الجمود والظاهرية حيويتهما وتألقهما. هذا ما يسمح "للممارسة المشتركة [ممارسة جميع الأعضاء مجتمعين، لا ممارسة الجماعة بحد ذاتها التي لا وجود لها] أن تكون فعلاً وسيرورة في آنٍ واحد". لا يمكن للجماعة أن تصبح كائناً حياً - مع أنها تميل إلى ذلك - وفي الجماعة، لا يمكن الحفاظ على الاندماج (تبادلية أعضائها). ولكن ما هي السيادة إذن في الجماعة؟ السيادة في حد ذاتها هي السلطة العملية المطلقة التي تتمتع بها الجماعة من خلال القسم. ولكن، كما نعلم، لا تتصرف الجماعة على هذا الأساس. نعلم أيضاً أن جميع أعضاء الجماعة يؤدون القسم ويتلقونه. من حيث المبدأ، جميعهم ذوو سيادة؛ لأنهم جميعاً من تُمارس السيادة ضده أو يمكن أن تُمارس ضده. لذا، فإن كل واحد منهم هو ما يسميه سارتر شبه صاحب سيادة، لأن سيادته محدودة بسيادة الآخرين. هذا الصراع في النهاية لا حل له، "لا يمكن التغلب عليه". ووحدة الجماعة تتجه دائمًا نحو "الجمود المُقَسَّم، الذي هو في كل فردٍ واحد، أي أن تصبح حريته مختلفةً بوساطة الآخر". "نعود إلى الجمود العملي الذي انفصل عنه إرهاب الحرية للتو: نبدأ نلمح أن حركة التجربة ربما تكون دائرية". ولكن هذا لا يفسر لنا الدولة بعد. الدولة هي مجموعة من الجماعات، يتغير تركيبها باستمرار، وقد كلفت نفسها بمهمة "التلاعب بالجماعات دون إبعادها عن التسلسل، وبناء قوتها على تباين وجودها [في تكوينها] والتسلسل". الدولة هي مجموعة حاكمة تستغل لصالحها قوانين الجمود العملي التي تحكم المجموعات الفرعية التي تتكون منها. وبطبيعة الحال، فهي نفسها خاضعة لقوانينها، ويمكن أن تكون ضحية لها. فإما أن تمارس عليها مجموعة فرعية ضغطًا كبيرًا يجعلها تخضع لتلاعب الجمود العملي (استيلاء الجيش على السلطة بعد 13 مايو)، أو أنها لم تعد قادرة على الحفاظ في جسدها على الحد الأدنى من التوتر اللازم لممارسة سلطتها، فتغرق في مستنقع بيروقراطية عاجزة؛ أو كليهما في الوقت نفسه، حيث يعزز الحدثان بعضهما البعض (سقوط الجمهورية الرابعة). وهذا يذكرنا بشكل بعيد جدًا بـ النظرية الماركسية للدولة. صحيحٌ أن "الطبقة الحاكمة تُنتج دولتها". لكن، إلى جانب أن المشكلة، على مستوى فلسفة التاريخ، تُطرح بالمعنى نفسه تمامًا لما يُسمى بالدول الشيوعية، لا بد من إضافة أن الدولة، وفقًا لسارتر، هي في حد ذاتها سلطة، وبالتالي، فإن الفئة الفرعية التي تتولى زمام الأمور نيابةً عن الطبقة الحاكمة تستطيع الفرار منها، والحكم ضدها، ولو جزئيًا. ذلك لأن السلطة تسعى إلى البقاء سلطة، وأضمن سبيلٍ لذلك هو السعي لتوحيد جميع الفئات التي تحكمها. "لذا، تُنتج الدولة نفسها لمصلحة الطبقة الحاكمة، ولكن كقمع عملي للصراعات الطبقية داخل الشمولية الوطنية". لذا، فإن الدولة شيءٌ مختلفٌ عن التضليل الذي وصفه الماركسيون، بل وأكثر منه. وهذا لا يعني، علاوةً على ذلك، أنها ليست تضليلًا على الإطلاق. لكن الأمر سيكون كذلك بمعنى أن يُدفع الفيلسوف إلى الاعتقاد، بمعنى واحد على الأقل، بأن الوجود بحد ذاته تضليل. ما الاستنتاج الذي نخلص إليه؟

هل نحدد موعدًا لليوم الذي ربما يكون قريبًا عندما تُظهر ألف صفحة أخرى أن هذا المفهوم الجدلي للعقل قادر على تفسير التاريخ الملموس للبشرية وفهمه فهمًا كاملًا؟ لنفترض، منذ البداية، أن مشروعًا كهذا، إذا كان لا بد أن يُمثل إزالة بعض التضليلات الرئيسية، فإنه مع ذلك لا يملك فرصة كبيرة لعدم إرساء بعض التضليلات الأخرى: مثلًا، تضليل ماركسية سارتر؛ وتضليل تطور حقيقي للفكر السارتري. صحيح أن الأهداف ومجالات الاهتمام التي يطرحها هذا الفكر ويتحرك فيها قد تغيرت. ليس من الواضح أن مفهومه للإنسان قد تغير، وهذا المفهوم ليس ماركسيًا. لذا، يبدو أن فلسفة سارتر، التي يُطلق عليها سارتر نفسه اسم "أيديولوجيا"، مُلزمةٌ بافتراض المعنى الذي أعطاه ماركس لهذه الكلمة، وهو ليس المعنى الذي يُطلقه سارتر على نفسه، أو بالدخول في صراعٍ مفتوح مع الأنثروبولوجيا الماركسية، التي تدّعي توسيعها أو إصلاحها. أما العقل الجدلي الموصوف لنا، فليس له غرضٌ سوى تبرير اثنتين من أقدم الأطروحات التي دافع عنها سارتر: "الشغف العقيم" الذي يُعرّف الإنسانية، واكتشاف أن "الجحيم هو الآخرون". إن نقد العقل الجدلي ليس سوى تطبيقٍ، بارعٍ وغير ناجحٍ في آنٍ واحد - بارعٍ من حيث مشروعه وغير ناجحٍ من حيث تنفيذه - لهذه الخيارات. إنه يحمل المعنى نفسه والحقيقة نفسها."

***

.....................

المصدر

Alphonse De Waelhens, Sartre et la raison dialectique [note critique], Revue Philosophique de Louvain  Année 1962  65  pp. 79-99

كاتب فلسفي

قبل عقد من الزمن، تبنّت أكثرية الامم أهداف الامم المتحدة في التنمية المستدامة، وتعهدت بتحقيق ذلك في عام 2030 والوصول الى مستوى صفر من الإنبعاثات الحرارية العالمية بحلول عام 2050. وبعد عشر سنوات، أصبح المزاج كئيبا والمشاعر بشأن تلك الطموحات محاطة بالشكوك. ومع صعود الاوتوقراط وتأثير مليارديرات التكنلوجيا التحررية على السياسة، بدت أهدافا مثل تنمية للجميع ومناخ خال من الإنبعاثات الحرارية بقايا من الماضي.

الولايات المتحدة الامريكية – القوة الأكبر في العالم، هي في قلب هذا التحوّل. في عام 1776، أعلنت الولايات المتحدة بيان الاستقلال وتأسست على أهداف الحياة، الحرية، السعادة. اليوم، أصبح واضحا وبشكل متزايد عدم احترامها للحياة، وهجومها التشريعي على الحريات المدنية وخلق حالة من عدم الإستقرار العالمي بفعل التعريفات الكمركية الاخيرة.

وسط كل هذا، من المهم ان نتذكر اننا لسنا الجيل الاول الذي يواجه أوقاتا مظلمة. فلسفة عمانوئيل كانط يمكن ان تقدم لنا رؤىً ثمينة لمواجهة تحديات اليوم.

رؤية كانط للتقدم الممكن

في عام 1776 وهي نفس السنة التي تأسست بها الولايات المتحدة، كان كانط يعد فلسفته النقدية العملاقة ويحاضر حول الحرية والانثربولوجيا البرجماتية، كل ذلك كان في ظل الحكم الملكي المطلق لبروسيا. في ذلك الوقت، كانت بروسيا تستعمل قوتها العسكرية لتوسيع حدودها وفرض استعمار داخلي على الأرض والشعوب.

في ظل هذا الوضع، لاحظ كانط تناقضات الطبيعة البشرية – الناس الذين فعلوا للآخرين كل من الجيد والقبيح، القاسي والجميل – حيث وصف الانسانية بـ "أخشاب ملتوية" (الناس بطبعهم يميلون للشر والعنف يصبح حتميا، هو يربط بين افكار الماضي والكوارث الاجتماعية والسياسية الحالية). مع ذلك أصر كانط على رؤية هذه "الأخشاب الملتوية" من خلال عدسة الحرية. في جوهر فلسفة كانط العالمية، رؤية المستقبل المرتكزة على الحرية كانت تجسيد لفكرة ان يعيش كل الناس في كرامة. انها ركزت على الاستقلالية كمقدرة على التشريع الذاتي. الحرية كانت بمثابة نجم مرشد لما يُسمى اليوم "التنبؤ العكسي" backcasting (1) او التفكير رجوعا انطلاقاً من مستقبل مرغوب لتحديد مسارات ممكنة باتجاه الهدف.

في هذه الروح، لاحظ كانط صعود الأسواق التنافسية التي مجدت الأنانية والجشع، وجادل ان القانون والتعاون الدولي – الذي سمّاه اتحاد الجمهوريات – يمكن ان يحوّل العداء الى ينابيع للتقدم. بكلمة اخرى، هو حلّل الفتنة والصراع في زمانه كعلامات لتقدّم ممكن.

حرية العقل العام كانت حاسمة لتشخيص مثل هذه الإمكانات: الناس يفكرون لأنفسهم ويساهمون بالنقاش العام.

التفكير البعيد المدى حول الحرية

ماذا يمكن ان نتعلم من كانط حول مواجهة الأزمات المتعددة لعالم اليوم؟

اولاً: انه ركز على الحرية من منظور بعيد المدى. حروب التجارة الحالية سوف تقلل النمو الاقتصادي، لكنها ربما ايضا تحقق تقدما في إعادة الأقلمة للاقتصادات – وهي الفكرة التي نالت تأييدا مستمرا من اقتصاديي ما بعد النمو الباحثين عن ازدهار مستدام. لكن الانتاج الاقليمي ليس جيدا بطبيعته، نحن نحتاج الى نقاش عام حول أي البضائع الأساسية، مثل الطعام – من الأفضل توفيرها اقليميا وبواسطة منْ وبأي مقدار من التعاون الدولي.

كوارث المناخ تحتاج خططا وليس اصلاحات

ثانيا: كانط يذكّرنا ان الحرية يجب متابعتها ضمن واقع كوكب مشترك ومحدود. تقلبات المناخ ليست مشكلة يمكن حلها بين يوم وليلة. الانبعاثات الحرارية لاتهتم بتهديدات ونوبات غضب الاوتوقراط. انها تحدّي عالمي معقد يتطلب عمليات تخطيط طويلة الأمد.

هناك علامات تقدم في هذا الشأن: في عام 2024، أبلغت المملكة المتحدة بان الانبعاثات الغازية هي في أدنى مستوى لها منذ عام 1872 بفضل التخطيط الطويل المدى. كندا، بعد قرارها في الخروج من بروتوكول كياتو عام 2011، أخيرا رأت ان الانبعاثات بدأت تنخفض في عام 2025 وجدّدت التزامها بأهداف التخطيط والمناخ العالمي . لكن هذا التقدم كان هشا. فوضى ترامب في التعريفات الكمركية يجب ان لا تقود السياسيين وصناع القرار لتفضيل اقتصاد قصير الأجل ومكاسب سياسية على ستراتيجيات المناخ الطويلة الأمد.

دعمْ رئيس الوزراء الكندي مارك كارني والقائد المحافظ بيير بويليفر لخطوط الأنابيب، مثلا، يتناقض مع الدليل بان التوسع في الوقود الاحفوري سوف يُبقي نفس المستوى من الانبعاثات.

انه ايضا يحوّل نقود عامة الناس بعيدا عن المصادر الرخيصة للطاقة المتجددة. مع الحرب التجارية واللااستقرار الاقتصادي، يُحتمل ان يؤدي التضخم الى زيادة تكاليف المعيشة. هذا سوف يضرب الاسر الفقيرة بقسوة بما يجعل هذه القضية ليست فقط بيئية وانما تتعلق بالعدالة الاجتماعية.

إعادة بناء الفضاء العام

ثالثا، بالنسبة لكانط، توقعات اسلوب الحياة الحالية ليست مرشدا لجوهر الحرية المستقبلية. وزير الخزانة الامريكي أعلن ان "البضائع الرخيصة ليست جزءاً من الحلم الامريكي". يمكننا فهم هذا كدليل على ان طموحات قيّمة لا يمكن تحقيقها عبر الاستهلاكية وانما بالدعوة لمزيد من جهود الاستدامة. وبينما يرغب المستهلكون المعاصرون ببذل جهود أكبر – مثل الروتين اليومي لممارسة الرياضة والجري – يمكن اطلاق طاقة مماثلة لتحقيق الاحلام الجماعية للتقدم وإنقاذ الكوكب؟ بالنسبة لكانط، حرية المستقبل تتطلب النظر وراء الفرد الى الطموح الجمعي. هذا يعتمد على الأهداف المشتركة التي يمكن تبنّيها من خلال الحكمة وبدعم من فضاء رأي عام نقدي وحيوي.

في زمان كانط، كان الفضاء العام يتكون اساسا من جمهورية الرسائل(2)، وهي شبكة أقامها المثقفون والكتّاب في أواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر منخرطين في نقاش مفتوح.

بالمقابل، اليوم نجري المزيد من الاتصالات على منصات التواصل الاجتماعي التي تفضل الصيغ القصيرة المدى وتثمن الغضب بدلا من التحليل، هذه المنصات يملكها عدد قليل من الشركات المصممة لمضاعفة الأرباح بدلا من نوعية المداولات العامة. لمواجهة هذه النزعة، نحتاج الى مقدمي أخبار مستقلين ومتنوعين إقليميا بالاضافة الى تواصل اجتماعي منفتح ولامركزي.

لكن فوق كل ذلك، وفي عصر الكوارث المناخية، والاستقطاب السياسي وعدم الاستقرار الاقتصادي، يذكّرنا كانط بما أسماه "فن التفكير" او عقلية مرتكزة على الحرية والإمكانية وفق منظور طويل الأمد.

The conversation, May 2025

***

حاتم حميد محسن

.....................

الهوامش

(1) مصطلح التنبؤ العكسي صاغه لأول مرة جون روبنسون من جامعة واترلو عام 1990. هو يصف احدى الاستراتيجيات لعمل قرارات ناجحة في الحاضر لإنجاز هدف معين في المستقبل. في التنبؤ العكسي نبدأ بهدف محدد في الذهن ونخطط رجوعا لتحديد الافعال المطلوبه لإنجاز ذلك الهدف. التنبؤ العكسي backcasting هو عكس التنبؤ forecasting يأخذ المستقبل كنقطة بداية بدلا من الوضع الراهن الحالي. لكي نضمن اننا غير مقيدين بنماذج التفكير الحالي عند النظر نحو المستقبل، فان التنبؤ العكسي يستدعي تحولا في التركيز. اذا كنا نعتمد فقط على التفكير الحالي عند النظر الى الامام، فان منظورنا سيتشكل برؤى من الماضي. لكن هذه الرؤى لايمكن تطبيقها على المستقبل، وقد تكبح مقدرتنا على التخطيط الفعال. عبر تبنّي اتجاه التنبؤ العكسي، نستطيع تطوير ميثدولوجيا تقلل من تأثير هذه العوامل ووجهات النظر المقيدة. البرت اينشتاين ذكر مرة: انت لا تستطيع أبداً حل المشاكل بنفس طرق التفكير التي خلقتها.

(2) جمهورية الرسائل عبارة عن مجموعة متباعدة من المثقفين والمفكرين، برزت في اواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر في اوربا وامريكا. الجماعة عززت الاتصالات بين المفكرين في عصر التنوير. هذه الجماعة تجاوزت الحدود القومية للدول وشكلت اساسا لجمهورية ميتافيزيقية. ونظرا للقيود المجتمعية على المرأة انذاك، اقتصرت جمهورية الرسائل على الرجال فقط.

 

قبل اكثر من 2500 سنة، عرض المفكر والمؤرخ اليوناني ثيوسيديدس طريقتين متعارضتين للتفكير حول السياسات الدولية. هل يجب ان ترتكز تلك السياسات على العدالة ام انها تبقى الى الأبد ميدانا لصراع القوى. في الفلسفة السياسية للعلاقات الدولية، هناك تمييز واسع يُطرح بين فريقين: "الواقعيين" الذين يتنبأون بصراع دائم على المسرح الدولي، و"المثاليين" الذين يؤكدون على التعاون.

يميل الواقعيون للتعاون طبقا للافتراضات التالية:

1- الكائن البشري بطبيعته يهتم بالمصلحة الذاتية. بهذا فان الامم المؤلفة من بشر سوف تتعاون فقط لأجل مصالحها الذاتية.

2- المصلحة الذاتية للامة ترتبط جوهريا بأمنها. ونظرا لعدم وجود سلطة شمولية واقعية او قوة قادرة على فرض القانون الدولي فان الامم سوف تسعى جادة لتدعيم وترسيخ قوتها من خلال إضعاف الامم الاخرى.

3- الأخلاق والعدالة والقواعد ليس لديها سلطة او مكان في "فوضى" العلاقات الدولية: انها مفيدة لغرض محدد فقط بالمصلحة الذاتية للامة. الموقف الواقعي الوحيد المقبول هو القوة.

المثاليون، بالمقابل، يناصرون ويدعون الى قيم مثل القانون الدولي والأمن الجماعي وحق تقرير المصير القومي والايمان بان العدالة اذا تعرضت للتهديد في أي مكان من العالم فذلك يشكل تهديدا للعدالة في كل مكان. وعلى المدى البعيد، يقول المثاليون، انه من مصلحة كل طرف حتى في الامم الأكثر قوة، ان تستند السياسات الدولية على قواعد مشتقة من مبادئ العدالة. أحد أقدم الأمثلة على النقاش بين التصوّر الواقعي والمثالي للعلاقات الدولية يأتي من تاريخ ثيوسيديدس لليونان القديمة (تاريخ حرب البيلوبوميسيا). حوار ميليان لثيوسيديدس، يشكل جزءاً هاما من التاريخ، فيه يربط أحداث عام 416ق.م، عندما غزت أثينا جزيرة ميلوس – الجزيرة الصغيرة في بحر ايجه.

يعرض ثيوسيديدس منطق الاثنيين الذين ركزوا على تصوّر "واقعي" للعلاقات الدولية. من الصواب ان يحتلوا ميلوس، لأن عمل كهذا سوف يقوّي أمنهم ويرسل رسالة للجزر الاخرى في المنطقة مفادها ان: أثينا لا ينبغي العبث بها.

يبدأ الحوار بمبعوثين من أثينا يجادلون الميلانيين بان الخيار الوحيد أمامهم هو اما الموت او الاستسلام. يقول المبعوثون لا تلجأوا للعدالة في مواجهة قوتنا، لأن مثل هذا اللجوء غير ملائم. فكروا فقط في بقائكم:

(نحن كلانا نعرف ان قرارات العدالة تُصنع في النقاشات البشرية فقط عندما يكون كلا الجانبين تحت إكراه متساوي، لكن عندما يكون أحد الجانبين أقوى، سيحصل على اكبر ما يستطيع، والضعيف يجب ان يقبل بذلك.)

الميلانيون لا يرون الخيار بين التدمير والاستسلام، هم يرونه بين الخضوع او الحرب. هم يحبون وطنهم، ولايريدون التخلي عن حريتهم: رغم كونهم الأضعف عسكريا، لكنهم يعلنون عن نيتهم في الدفاع عن أنفسهم.

وبينما أكّد الاثنيون لخصومهم بان لا فائدة هناك من اللجوء الى العدالة، وان يسترشدوا فقط بالمصلحة الذاتية والبقاء على قيد الحياة، كان الميلانيون يرون ان مبادئ العدالة مرتبطة بشكل وثيق بالمصلحة الذاتية:

(من وجهة نظرنا"طالما انتم تجبروننا لترك العدالة خارج الحساب وحصرنا في المصلحة الذاتية" – نرى انه من المفيد انكم لايجب ان تحطموا مبدأً يخدم الصالح العام لجميع البشر، أي انه متى ما وقع خطر على أي طرف يجب ان يكون هناك شيء من التعامل العادل والمعقول، ويجب السماح للناس باستخدام الحجج التي لا تصل الى مستوى الدقة الرياضية والاستفادة من تلك الحجج . وهذا مبدأ يؤثر عليكم بقدر ما يؤثر على أي شخص آخر، لأن سقوطكم سوف يؤدي الى انتقام رهيب وسيكون مثالا للعالم).

يطرح الميلانيون سؤالا، اذا انهارت الامبراطورية الأثنية، أي أمل يبقى للاثنيين في التعامل العادل، اذا لم يلتزموا هم أنفسهم بالمبادئ العادلة؟

الاثنيون بقوا دون حراك امام الحجة الميلانية واستمروا في سعيهم للاستيلاء على الجزيرة. بالنهاية، هم اخطأوا الحساب، حيث أفرطوا في تقدير قوتهم وهُزموا في حرب البيلويوميسيا من جانب سبارطا.

وكما يلخص الخبير جوليان كوراب كاربوفيتش في (الواقعية السياسية في العلاقات الدولية):

(الاثنيون المخمورون بأمل المجد والكسب، بعد استيلائهم على ميلوس، انخرطوا في حرب ضد سيسلي. هم لم يولوا أي اهتمام لحجة ميلان بأن اعتبارات العدالة مفيدة للجميع في المدى البعيد، وعندما بالغ الاثنيون في تقدير قوتهم خسروا في النهاية الحرب، منطقهم في المصلحة الذاتية أثبت في الحقيقة انه قصير النظر للغاية).

وبينما لايبدو ثيوسيديدس يفضل الشكوكية الأثنية او مثالية ميلان، فان احد الدروس الكبرى لتاريخ حرب البيلوبوميسيا هي ان،القوة التي تُترك بلا رادع تقود حتما الى رغبة جامحة بمزيد من القوة بحيث يصعب التحكم بها (1).

يلاحظ كوراب، في حالة عدم التقيد بالإعتدال او بمعنى العدالة، " لن تكون هناك حدود منطقية لحجم الامبراطورية".

العالِم في السياسة الدولية جاك دونلي، في كتابه الواقعية والعلاقات الدولية، يستنتج ان ثيوسيديدس يحذرنا لنحمي أنفسنا من كل من "الأحلام الساذجة حول السياسات الدولية" بالاضافة الى "إفراط الآخر الخبيث: السخرية وعدم الثقة الجامحة".

مع ان ثيوسيديدس كتب تاريخ حرب البيلويوميسيا قبل 2500 سنة تقريبا، لكن تمييزه بين هذين الاسلوبين من التفكير لازال يطلعنا اليوم على التصورات المتضادة للعلاقات الدولية:

 1- الشيء الوحيد المقبول على المسرح العالمي هو القوة.

2- الامة التي تتصرف بشكل غير عادل تتجاهل مصالحها وأمنها في المدى الطويل.

 *Philosophy Break, March2025

***

حاتم حميد محسن

..........................

الهوامش

(1) بناءً على ملاحظات ثيوسيديدس "كان صعود اثينا والخوف الذي أثاره في سبارطا جعل الحرب بينهما حتمية. عالِم السياسة الامريكي غراهام اليسون 2011 استعمل عبارة (فخ ثيوسيديدس) لوصف النزعة نحو الحرب عندما تتحدى قوة صاعدة (مثل اثينا) مكانة القوة المهيمنة السائدة (مثل سبارطا). هناك عاملان يساهمان في تغيير ميزان القوى بين الخصمين. القوة الصاعدة الطموحة التي تحتاج بشكل مباشر او غير مباشر الى مصادقة والى صوت اكبر ومكان ستراتيجي في العلاقات الدولية، يقابل ذلك خوف القوة الحالية وتصميمها على الدفاع عن الوضع الراهن. اليسون توسّع في هذا في كتاب له عام 2017 بعنوان (متجهون للحرب) جادل فيه ان الصين والولايات المتحدة حاليا في مسار التصادم نحو الحرب. هذه الحرب مع انها ليست حتمية لكن يصعب تجنبها وتتطلب انتباها وجهدا دبلوماسيا مكثفا.

 

ورد على لسان المفكر والمترجم الفلسفي د. عبد الغفار مكاوي عن آخر نص كتبه كارل ياسبرز احد اعمدة الفلسفة الوجودية بعنوان (تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية) قوله : "الانسان بالاساس لا اكثر مما يمكنه ان يعرف عن نفسه". وهي عبارة مرادفة لعبارة أحد الفلاسفة الاميركان قوله :الانسان هو حدود ما يدركه ويعرفه عن ذاته وعالم الاشياء المحيط به في المجتمع والطبيعة.." واضيف عبارة اخرى لياسبرز قوله " انني لا اتحول الى موضوع امامي انا نفسي ". ارى في تعبير ياسيرز هذا استشكالا حول ادراك الذات في المداخلة مع الموضوع لا مجال الى مناقشتها الان.

في الفقرتين السابقتين اراد ياسبرز ان يقول ان الانسان هو وعي ذاتي لغوي تجريدي في ادراكه لذاته التي هي ماهيته التي اعتبرها انا تشمل مجموعة العواطف والاحاسيس والنزعات الفطرية والمكتسبة والغرائز التي تتوزعها اجهزة الجسم الداخلية التي يحتويها الضمير والعاطفة والوجدان والنفس وليس العقل.

رغم الفارق البيولوجي بين مثالية الضمير كمفهوم انساني مطلق وبين مادية العقل في التعبير عن مدركاته وموضوعاته في العالمين الخارجي والباطني... اجد ان الضمير عاطفة صادقة في حب الخير والاخلاق القويمة والوجدانات لا تخطأ اغلب الاحيان بخلاف العقل الذي يخطأ حتى بصرامته العلمية التي تحكمها التجارب العلمية والمعادلات الرياضية وفي التطبيق ايضا..

مالسبب الذي دعاني تغليب مصداقية الضمير كمفهوم ميتافيزيقي على مادية العقل كمصطلح ادراكي معرفي متفق عليه؟

الاجابة المقتضبة ان العقل يعتمد الاحساسات التي مصدرها مدركات الحواس التي هي غالبا ما تكون قاصرة خاطئة في نقل الانطباعات الحسية الاولية الخارجية للعقل. اما الضمير فمصدر تكوينه وتغذيته هي مجموع الاحاسيس الداخلية التي تثيرها اجهزة الجسم لايقاظ صحوة الضمير في استشعارات غايتها اشباع حاجات الجسم البيولوجية والنفسية قبل نقل تلك الاستشعارت للعقل والبت فيها..

انا ادرك جيدا من الناحية الفسلجية البيولوجية ان قرارات العقل سابقة على سلوك استجابات العقل اشباع العواطف الوجدانية والاخلاقية للضمير التي هي بخلاف دائم مع صرامة العقل الذي لا يتقبل العواطف النفسية وايعازات السلوك ما لم يتم تخليق ردود افعال الدماغ /العقل في التاكد من صلاحيتها الفكرية.. السلوك النفسي يستهدي دوما بوصاية العقل والاستجابة التنفيذية لها. لذا تكون الاخلاق والضمير وكافة المتعالقات بها لا تعمل باستقلالية عن العقل وتحديدا عن خاصية الدماغ البيولوجية. 

العقل الانساني عقل خلاق يعلو قوانين الطبيعة في إدراكه الاشياء بتخليقها وليس في خلقها، التخليق هو الاضافة على مدركات مادية متشكلة موجودة.  قوانين العقل الانساني الوضعية هي إختراعات وليست إكتشافات مثل اكتشاف قوانين الطبيعة الثابتة. فالعقل يعقل نفسه ادراكيا ويعقل الطبيعة في قوانينها وطبيعة موجوداتها في وقت واحد، لذا دأبت الفلسفة ترديد عبارة الانسان ذات وموضوع ولا إنفكاك بينهما. بينما الطبيعة لا تمتلك عقلا تعي فيه ذاتها ولا تدرك الانسان موضوعا لها يتعايش معها بخلاف الانسان. كينونة الانسان لا تمتلك وصايتها على الضمير ولا على الاخلاق ولا على العواطف بمعزل عن طبيعة العقل الادراكية المعرفية.

كما اورد الدكتور عبد الغفار مكاوي على لسان جابرييل مارسيل وهو ايضا احد اعمدة الفلسفة الوجودية قوله " انني وفي كل الاحوال لا اكثر من مجموع الصفات التي يمكن ان يخلعها عليّ اي بحث اقوم به لنفسي او يتولاه غيري عنه" ص8 من تقديم النص المترجم 80 صفحة فقط. هنا جبريل مارسيل يعتبر ادراك الذات لنفسها (ناقصا) وهي في نفس الوقت موضوعا لغيرها (ناقص) الادراك التام ايضا.

توحيد العبارتين بمعنى يجمعهما معا هو ان الانسان بعيد عن الكمال في وعيه لذاته وفي تشكيل ماهيته وكذلك ناقص في تعامله مع مجتمعه. الانسان في حقيقته ناقص الكينونة البايولوجية وناقص الكينونة المعرفية. ولا فرق هنا بين الانسان العادي الذي تتوزع اهتماماته العمل اليومي وتكوين الاسرة ومحاولته الدؤوبة تحسين اوضاعه المعيشية في تحقيق طموحاته المتسلسلة حسب الاهمية. وبين الاخر الذي يمتلك التحصيل العلمي المميز او العمل ايّا يكن نوعه أوايّا يكن مستواه الثقافي او المعرفي. بمعنى كينونة الانسان ليست هي تحصيله العلمي المائز عن الاخرين ولا هي الشخص في امتلاكه الملايين في تغييب دور ضمير العقل في كل منحى بالحياة.

الكينونة الانسانوية هي تجنيس نوعي وليس امتيازا عقليا يشمل مجموع الجنس البشري. الكينونة لاتمثل تمام وكمال ذات الانسان بل هي تعبير عن وجود انطولوجي متكامل يحتويه جسم الانسان مع العقل والاخلاق في تنوعاتها التجاذبية الاختلافية بما لا يمكن حصره. بمعنى أن تعرف ابستمولوجيا يعني أن تنقص بيولوجيا.

هنا نعرّف الانسان كينونة وجودية بغض النظر عن التمايزات التي ذكرناها انه تلك الكينونة الموجودية الناقصة التي يكون سبب النقص فيها هو نقص حدود مايدركه الانسان عن ذاته وعالمه المحيط به كائنا بيولوجيا موجودا في مجتمع وطبيعة تحكمانه. فالانسان هنا يكون مجموع حصيلتي ما يدركه كذات مفكرة من جهة وما يكتسبه من خبرة معايشته لمجتمعه من جهة اخرى. ولا ضير ان تكون تلك الكينونة موضوعا لغيرها من نفس النوع البشري الاخرين.

لذا يكون نقص كينونة الانسان  ليس بعيب يرثه او يكتسبه الفرد، وانما نقص الانسان ياتي بسطوة محدودية الادراك العقلي المعرفي الفطري و الادراك العقلي الخبراتي التجريبي المكتسب في تاكيد الوجود البايولوجي الذي لا يختلف فيه عالم الذرة مع موظف ساعي البريد او عامل البناء او غير ذلك من ناحية كينونة الوجود كجسم وليس من ناحية فروقات العقل المعرفي الادراكي بين الاثنين. الكينونة هي بيولوجيا الوجود، والعقل هو بيولوجيا التفكيرالمجرد.

هنا الفرق المعرفي بين الانسان العالم الفائق الذكاء والعامل البسيط عادي الذكاء لا يجعل من كينونة العالم اقل نقصانا عن نقصان الشخص العامل كون الكينونة ليست معرفة عقلية بل هي وجود انطولوجي. الكينونة هي الوجود الانسانوي في عالم طبيعي ومجتمع يحيط به ويتعايش معه. وليست الكينونة "ذاتا" تعي وجودها والمحيط بانعزالية عما حولها او يحتويها.

بالحقيقة ديكارت في كوجيتو اثباته الوجود الانطولوجي من مصدر التفكير نوعيا انما هو قام باثبات وجوده كينونة موجودية بايولوجية وليس موجودية عقلية تعي ذاتها بامتيازاجتماعي ... حين ربط تحقق الوجود بناتج التفكير المجرد للفرد المنفرد المنعزل .بهذا المعنى نحن اذا اخذنا الانسان كينونة موجودية تفهم وتفكر بأعلى مستويات الذكاء وبين شخص تأهيله التعليمي دون المتوسط في اكتسابه مهارة مهنية تمكنه تامين عمل و تكوين اسرة او غير ذلك، نجد النقصان البيولوجي يجعل النموذجين يعيشان نفس حال النقص المحكومين به في طبيعة الحياة.

فالعقل المعرفي المتميز وان كان يتفوق العقل المحدود بالنسبة لغالبية الناس فهو اي هذا العقل المعرفي المتقدم هو ناقص بمحدودية ما يدركه علميا ويفكر به ذاتيا. بنفس نقص العقل المعرفي المتدني المستوى لكن يبقى الفارق النوعي عند العقل العالم لا يتساوى مع الادراك العقلي الذي يعيش الحياة بروتين تحدده وسائل العيش مثل الاكل والنوم واشباع الجنس وهكذا.

كينونة الانسان ونقصان تكويناتها

كينونة الانسان التي تتوزعها الاقانيم الثابتة التالية نجدها موزعة بين امتلاكها العقل ووعي الذات وامتلاكها الجسم وامتلاكها اللغة واخيرا امتلاكها الوجود الطبيعي الارضي – الكوني. هذه الجوانب وغيرها من التمايزات التي تمثل خصائص انسانوية شخصية لكينونة الانسان نجدها في حصيلتها العامة ناقصة في كل شيء يدركه الانسان تتشكل عنه حصيلته كينونة موجودية ولا تتشكل عنه ذاتا عارفة بكل شيء.. وهذه غير الخصائص التي يمتلكها الانسان ولا تمتلكها لا الطبيعة ولا مكوناتها الموجودية من كائنات حيوانية ونباتية.

خذ عقل انسان ما لا على التعيين هو في حالات عديدة ناقصا ويخطأ كما تخطأ عقول الناس الاخرين بلا استثناء. ثم عندما نقول عقل الانسان هو ما يمتلك فهمه عن ذاته وحريته وحقوقه بالحياة وحقوق مجتمعه له او عليه. يكون العقل منقوصا بسبب محدودية الادراك ومحدودية الذكاء لديه ايضا. في معرفة ضبط سلوكه وتعامله السوي مع مجتمع يمتاز بسلوكيات متباينة وعواطف مختلف وما يتبعها من اخلاق وضمير وحب الخير ونزعة الشر التي تتلبسه وغيرها من مميزات نفسية عاطفية.

حين يختصر سيلارز الفيلسوف الامريكي اللامع قوله (الوجود لغة) لو نحن تعمقنا فهم هذه المقولة الصائبة المختزلة لكثير من التفلسف ان كل الوجود هو (لغة) لاغير. لعرفنا مدى اهمية اللغة بعد العقل في اهميتها التكوينية لوجود الانسان وماهيته بالحياة اي لكينونته الناقصة ادراكيا وليست الناقصة عضويا.

سيلارز الذي يقر بان الوجود بجميع تكويناته هو ادراك وتعبير لغوي انا اعتبرهذا الوجود حصيلة  ناقصة ايضا. بسبب نقص الادراك اللغوي ونقص تعبير تداعيات ردود الافعال الاستجابية الواردة من العقل في تعامله اللغوي والسلوكي مع وعي الذات والعالم في تطابق تام متعذر او في اختلاف ناقص قائم.

بمعنى عبارة الفيلسوف الاميركي سيلارز انت لا تستطيع التعبير عن ادنى خاصية عقلية او سلوكية او نفسية او معرفية او علمية او جمالية او ما لا حصر له دونما وسيلة تعبيراللغة في نقصانها وليس في تمام تعبيرها.. علما ان فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات اعتبرت خيانة تعبير اللغة بمثابة جعل البشرية تسير نحو مراكمة الاخطاء في كل مجال من مجالات الحياة التي في مراجعتها وتصحيحها صنعت التاريخ الانساني بمجمل تكويناته وقادته الى سلسلة من الاخطاء الاخرى التي جعلت من تاريخ الفلسفة مثلا هو تاريخ تصحيح اخطاء مسارات حياة الانسان بسبب تعبير اللغة الناقص عبر التاريخ.

فيصبح معنا امام التسليم بحقيقة ان تاريخ الفلسفة وتاريخ اللغة ، وتاريخ المعرفة والوجود هو تاريخ تصحيح الاخطاء التي وقعت بها هذه المسارات عبر العصور. ان نتيجة كل هذه النقائص والاخطاء الملازمة لها انما تكون في محصلتها الانسان وجود معرفي يتقادم على مر العصور تصحيح اخطائه بالحياة له ولغيره طيلة حياته. وتدخل اللغة وسيلة معرفية فيه بدءا من انثروبولوجيا الانسان وصولا وليس انتهاءا بالفلسفة والعلوم الطبيعية ومنجزات التكنولوجيا والنظم السياسية والديمقراطية المتحررة.

اليوم فلسفة العقل واللغة ونظرية المعنى تجد في تصحيح تاريخ اخطاء اللغة هو المدخل الوحيد في تصحيح اخطاء تاريخ الفلسفة والعلوم الطبيعية باكملها. وهكذا الحال في معالجة اخطاء اللغة وتكوينها الناقص في التعبير عن باقي مسارات الحياة الخاطئة في مراكمتها الاخطاء عبر العصور..

نقصان الكون هو جزء مكمل من نقص حياة الانسان

نذهب كيف يكون الانسان ناقصا (كونيا) فوق نقصانه الارضي المتعدد الذي مررنا على جنبة منه في نقصان ادراك العقل ونقصان تعبير اللغة؟

بالاجابة المباشرة التي تحضر كل شخص ان هذا الفضاء الكوني الذي اكتشفه الانسان الذي يمثل وجود الانسان والطبيعة الارضية فيه نقطة تائهة في مجال لانهائي لا مدرك ولا محدود ولا تعرف بدايته ولا نهايته والى اين يذهب وما مصير الانسان في تعالقه معه.؟،

الوجود الكوني بكامله وليس الزمان ولا الضوء ولا الجاذبية ولا غيرها من خصائص كونية وقوانين طبيعية وفيزيائية هم جميعا ضمن وحدة سرمدية لانهائية هي في حقيقتها تمثّل تكوين كونية وجودية ناقصة هي الفضاء. وقد سبق واشار علماء الفيزياء الكونية تاكيد هذه الحقيقة التي احاول تلخيص ما يحضرني منها.

ذهب العديد من علماء فيزياء الكون ان هذا الفضاء اللانهائي هو مليارات تليها مليارات في متوالية هندسية لا تقف عند حد نهائي من كواكب ومجرات ونجوم انه ولد عما اسموه الانفجار العظيم لصدفة لا يمكن ان تتكرر بعد ملايين من السنين الضوئية لا في محاولة وجودها من غير علة ولا في تصنيعها مختبريا علميا هو في حركة دائبة ليس من الامتداد والتقلص التي اثبتها علميا انشتاين وحسب وانما من الحيرة التي خلقتها هذه الخاصية ان الكون دائم التوسع والامتداد نتيجة امتلاكه طاقة غير نافدة هي سبب الحركة التوسعية الامتدادية للكون...ما يترتب عليه ان فائض مسار التوسع الكوني يحتاج فراغات تستوعبه وتحتويه من اي نوع كانت.

الطاقة الحركية التي يمتلكها الكون في مجراته ومجموعاته الكوكبية التي لا نعرف مصدرها هي الدلالة الوحيدة التي نمتلكها في تاكيد انشتاين في النسبية العامة 1915 ان الكون يتمدد ويتقلص بعلاقة طردية واحيانا بعلاقة عكسية نتيجة تداخله مع عوامل موضوعية بالكاد نستطيع فهم جزء منها بفضل علماء الفيزياء والكون.

هنا تبرز امامنا مسالة لا يمكن اغفالها هي الا يحتاج هذا التمدد الانبساطي التوسعي للكون الى حيز دائمي من فراغ يتقدمه ويحتوي فائض حركته التوسعية الامتدادية الانبساطية في اتجاهات غير معلومة؟ الجواب بالتاكيد نعم. في حال اقرارنا ان الكون بحالة من التمدد الدائمي يحتاج فراغا يستوعب ويحتوي فائض تمدده التوسعي وهو ما يضعنا امام احتمالية اشار لها العلماء وحتى بعض الفلاسفة مثل ارسطو ان هذا الفضاء الكوني اللانهائي ناقصا بدليل اثبات حركته الدائبة في اشغاله حيّزات من فراغات فضائية متتالية لا حصر لها تدلل على نقصان الكون كوزمولوجيا.. رب معترض يقول ان فائض التمدد الكوني تحتويه وتستوعبه مجرات الثقوب الدودية السوداء التي تلتهم كل نفايات الفضاء التي هي على شكل كواكب انتهت دورة حياتها في نضوب الطاقة لديها. تذهب الموسوعة العلمية الى ان الثقوب السوداء تتكون من اربعة ابعاد تجمع الزمكان هي ابعاد المادة الثلاث زائدا الزمن الذي اضافه انشتاين للمادة. والثقوب السوداء الفضائية تمتلك جاذبية على مستوى عال جدا بحيث لا تسلم من هذه الجاذبية المذهلة حتى الموجات الكهرومغناطيسية الكونية. حيث لا تخلص من ابتلاع الثقوب السوداء الجسيمات او موجات الاشعاع الكهرومغناطيسي مثل الضوء الافلات منها.

ماذا لو نضبت الطاقة الحركية للكون؟

السؤال ماذا يحدث في حال نضوب الطاقة المغذيّة الدافعة نحو توسع وتمدد الكون.؟ اذا قلنا ان الفضاء ناقص الوجود التام  نصطدم باثبات نظرية الكون بحالة من الاتساع والتمدد والحركة ما ينافي ان نحسم الامرانه الكون تام الكمال بالوجود مكتف بذاته او نقول ان الفضاء الكوني ثابت اكتسب كامل حجمه وهو غير مرجح ولا صحيح مع حقيقته الكونية انه يتمدد ويتوسع بفعل طاقة الانفجار العظيم.. وقبلها مع لانهائيته المطلقة التي لا يدركها العقل الانساني.

امام هذه المعضلة تبرز امامنا الاستشكالات التساؤلية الدائمة:

- هل الانفجار العظيم الكوني الذي عمره 13،7 مليار سنة ضوئية حقيقة ثابتة ام افتراض وهمي اوجدته النظريات العلمية؟ حول الاختلاف ان الكون مصنوع من خالق مع فرق الكون نتج عن الانفجار العظيم بالصدفة.

- هل فعلا الكون هو في حالة من تمدد وتوسع دائمي يحتاج فراغا يسبقه يحتوي تلك الامتدادات الفائضة عن اصل الكون وحجمه غير المدركين عقليا؟ بالتاكيد نعم طالما اخذنا بنظرية الكون يتمدد ويتسع.

- هل فعلا الكون وجود لا نهائي مكتف بنفسه لا يقبل الاضافة له كما يرفض الاخذ منه وكيف يتم انجاز مثل هذه التوقعات؟ بمعنى ماهي الآلية لحصول وتحقق مثل هذه الافتراضات؟

- هل الكون ناقص بالوجود ام هو كامل بالوجود؟ وكلا الوجودين واحدا لا يمكن ادراكه. لو نحن قلنا الكون ناقص ويحتاج الى فراغات تحتوي تمدداته لكنا نقبل بفرضية صواب نظرية التمدد والانكماش ليس للزمن بل وللكون باكمله. واذا قلنا الكون ليس ناقصا بل كاملا فهذا ينفي ان الكون حركة دائمية من التمدد والانبساط المكاني ناتجة عن طاقة حركية دائمية ذاتية استولدها الانفجار العظيم بقدرة نجهلها..

يترتب على ما ذكرناه التسليم بواحدة او اكثر من الفرضيات التالية:

1. ان الله خلق الكون ناقصا يحتاج الى فراغات فضائية زمكانية يشغلها فائض تمدده الفضائي على الدوام. وهي نظرية فلسفية اثارها ارسطو قبل اثارة العلم الفيزيائي لها. اذا اعتبرنا الانفجار العظيم هو ارادة الهية وان حركة التمدد والانكماش والتوسع هي دليل قطعي على ان الفراغ المكاني وجود موجود ليحتوي ويستوعب التمددات الحاصلة في العشوائية الجغرافية التكوينية للكون. تكون نتيجة ما ذكرناه ان الكون مخلوق ناقص يتمدد ويتوسع ويحتويه فراغ فضائي يستوعب فائض ناتج هذا التوسع في حجم الفضاء.

2. اذا كان الانفجار العظيم الذي دام مليارات من السنين الضوئية هو نتيجة صدفة عجيبة حيرت العلماء، فخاصية التمدد الكوني تحتاج ايضا الى فراغ يستوعب ويحتوي فائض التمدد. وهذه الفرضية على ما اعتقد هي (مقدس) الملاحدة من علماء الفيزياء الكونية. حول الفضاء الكوني ناتج الانفجار العظيم الذي يستتبعه التمدد والاتساع الذي يحتاج الى فراغات ليست مكانية بل فلكية تستوعبه وتحتويه يطلق عليها العلماء زمكانية.***

3. الانفجار العظيم الذي حصل بفعل فاعل هو الخالق فهل تمدد الكون نحو فراغ فضائي يحتويه هو دليل نقص اختاره الخالق في اثبات اعجازه التخليقي للكون غير المحدود غير المدرك في تقزيم محدودية ادراكات العقل الانساني.. انه جعل الكون ناقصا يزامنه التمدد التوسعي.

4. حركة التمدد التوسعي يصاحبها استهلاك الطاقة الكونية في ادامتها حركة الكون وتمدده. عليه يكون التمدد الكوني يصل مستقبلا ربما بعد ملايين او مليارات من السنين الضوئية الى مرحلة استهلاك الطاقة الديناميكية المغذية لاندفاع التمدد الكوني ذاتيا فيه ويعيش الفضاء حالة من عشوائية غير محسوبة لا يدركها العقل.

5. مثلما اشار العلماء الى فرضية نهاية وفناء الانسان على الارض نتيجة استهلاك الشمس للهيدروجين ما يجعل درجة حرارة الارض تصل الى مادون الصفر من الصقيع الجليدي الذي يجعل استحالة العيش على الارض يصبح امرا واردا علميا .

كذلك سيكون نفس الحال معنا في نضوب الطاقة الحركية التي تديم حركة الامتداد الكوني ليرتد ايضا نحو التراجع الانكماشي وبذا لا يختل فقط نظام عيش الانسان على الطبيعة بافناء وانقراض يتهدده مستقبلا. بل يصيب الاختلال عشوائيا الكون بكل لا محدوديته ولا نهائيته.

باستنزاف الكون طاقته الحركية يتوقف عن التمدد ما يجعله يعيش مناخا جليديا انجماديا تنعدم فيه كل الاحتمالات في وجود انساني او اي شكل من اشكال الحياة يستوطن احدى الكواكب الفضائية.

***

علي محمد اليوسف /الموصل

........................

ملاحظة: المقال اجتهاد فلسفي خاص بكاتب المقال لا يستند الى مصدر علمي فيزيائي ولا الى نقل عن فكرة سابقة لاحد الفلاسفة او العلماء. لذا اتحمّل اي خطأ فيزيائي علمي ورد بالمقال الذي هو مقال فلسفي تنظيري تجريدي. كما اود الاشارة الى اقتباس عبارة عن الموسوعة حول الثقوب السوداء فقط وردت في متن المقال.

الأفكارُ المُتكاثرةُ في المنظومة الثقافية تُمثِّل إنتاجًا مُستمرًّا للعلاقاتِ الاجتماعية، وَتَوْليدًا دائمًا للعملية الإبداعية على الصَّعِيدَيْن: الإنسانيِّ والماديِّ، مِمَّا يَدْفَع باتِّجاه تَطوير رُؤيةِ الإنسانِ لذاته، ورُؤيته لِمُجْتَمَعِه. وَهَذه الرُّؤيةُ المُزْدَوَجَةُ للذاتِ وَالمُحِيطِ تُؤَسِّس نظامًا فلسفيًّا تَراكميًّا يَفْحَصُ التَّصَوُّرَاتِ الحَيَاتِيَّة، ويَخْتَبِر التأمُّلاتِ الوُجودية، وَيَمْتَحِن الظُّروفَ المَعيشية. وهَذا يُؤَدِّي إلى تَقْويةِ الصِّلَةِ بَيْنَ الفِكْرِ والتَّطبيقِ مِنْ جِهَة، وَتَفْعِيلِ الوَعْي بأهمية الحَياة الثقافية للفردِ والجَماعةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.

وإذا كانت الأفكارُ تَتَحَوَّلُ مَعَ مُرورِ الوَقْت إلى مَواقف حَياتية وحَالاتٍ إبداعية، فَإنَّ عَناصر الحياة الثقافية تَتَحَوَّلُ مَعَ ضَغْطِ الواقع الاستهلاكيِّ إلى رُموز كامنة في المَشَاعِرِ المَقموعةِ، والأحلامِ المَكبوتة، والذكرياتِ المُسْتَتِرَة. وَوَظيفةُ الإنسانِ الأسَاسِيَّةُ هِيَ استخراجُ هَذه الرُّموزِ الكَامنةِ، وحَقْنُها بالحُرِّيةِ والحَيويةِ، وإعادةُ بَعْثِها إلى الحَياةِ، وهَذا يَعْني تَحَوُّلَ الثقافةِ إلى حَياةٍ دَاخِلَ الحَياةِ، وانتقالَ القِيَمِ الإبداعيةِ مِنَ الهَامِشِ إلى المَركَز، مِمَّا يَحْمِي المُجْتَمَعَ مِنَ الفَجَوَاتِ المَعرفية، وَالثَّغَرَاتِ المَخْفِيَّة في مَصادر الوَعْي الاجتماعيِّ.

إنَّ الوَعْي الاجتماعيَّ لا يُحرِّر الإنسانَ مِنَ الخَوْفِ والعَجْزِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَمْنَعُ المُجْتَمَعَ مِنَ الوُقُوعِ في الفَراغِ، ويَحْمِي الحَضَارَةَ مِن انتحارِ المَعْنَى، وَيَحْرُسُ التَّنَوُّعَ الثقافيَّ مِنَ العَدَمِ، وَيَحْفَظُ الشُّعُورَ مِنَ الاستلابِ، وَيُبْعِد الشخصيةَ الفرديةَ والسُّلطةَ الاعتبارية للكَينونةِ الإنسانيةِ عَن الاغترابِ.

وَالوَعْيُ الاجتماعيُّ يُولَدُ مِنْ رَحِمِ اللغة، وَيَتَشَكَّلُ في الأُطُرِ المَرجعيةِ لِمَصادرِ المَعرفةِ تاريخيًّا وحَضاريًّا. وإذا كانَ التاريخُ يَكتبه المُنتصِر، والحَضارةُ يُهَيْمِن عَلَيْهَا الطَّرَفُ الأقْوَى، فَإنَّ اللغة يُفَجِّرُ طَاقَتَهَا الرَّمزيةَ الطَّرَفُ الأكثرُ إبداعًا. والإبداعُ لا يَتَكَرَّسُ كَحقيقةٍ واقعية إلا إذا تَخَلَّصَ مِنَ الجُمودِ، وَتَحَرَّرَ مِنَ الانكماشِ، وَأَفْلَتَ مِنَ الانغلاقِ. والإبداعُ لا يَتَجَذَّرُ كَمعرفةٍ جَمَاعِيَّة خَلَاصِيَّة إلا في ظِلِّ الانفتاحِ المَدروسِ، والتواصلِ المَنطقيِّ، وتَلاقُحِ الأفكار معَ التَّطبيقات، مِمَّا يُسَاهِمُ في تَشْييدِ الهُوِيَّةِ الإبداعية عَلى الخُصوصيةِ، وتأسيسِ السُّلطةِ المَعرفية عَلى الذاتيةِ الثقافية، بعيدًا عَن الحُلولِ المُسْتَوْرَدَةِ، وَعُقْدَةِ الشُّعُورِ بِالنَّقْصِ، والشُّعُورِ بِالدُّونِيَّةِ.

وَالحِفَاظُ عَلى مَفاهيمِ الهُوِيَّة والسُّلطةِ والذاتيةِ في المَنظومةِ الثقافية ذات التطبيقات الاجتماعية، لا يَعْني العُزلةَ والتَّقَوْقُعَ عَلى الذاتِ وَالخَوْفَ مِنَ الآخَرِين، بَلْ يَعْني اعتمادَ الثقافة المُجتمعية كَنِظَامِ حَيَاةٍ مُمَيَّز وأُسلوبِ عَيْشٍ فَعَّال، انطلاقًا مِنْ مَبْدَأ الخُصوصيةِ، وَالمَعاييرِ الأخلاقيةِ، وَالتَّكَيُّفِ مَعَ القُدراتِ الفردية وَخَصَائصِ الجَماعةِ الإنسانية، وَالتَّأقْلُمِ مَعَ الفِعْلِ الحَضَاريِّ المُنْبَثِق مِنَ الواقعِ المُعَاشِ، وَالمَضمونِ التاريخيِّ النابعِ مِنْ أدواتِ اللغةِ وآلِيَّاتِهَا.

واللغةُ بِوَصْفِهَا حَرَكَةً فِكرية، وباعتبارِها تَيَّارًا مَعرفيًّا، تَمْنَحُ الحَيَاةَ الإبداعية للعلاقاتِ الاجتماعية، وَتُعْطِي العُمْقَ الإنسانيَّ للأحداثِ التاريخية. وإذا كانَ التاريخُ يُعَاد تَفْسِيرُه بشكلٍ مُستمِر في المَنظومةِ الثقافية التُّراثية، والمَناهجِ الحَياتية المُعَاصِرَة، فَإنَّ اللغة يُعَاد اكتشافُها بشكل دائم في أنماطِ السَّيطرة الوجودية، وأبعادِ الفِعْلِ الاجتماعيِّ.

وإعادةُ تَفْسيرِ التاريخِ وإعادةُ اكتشافِ اللغةِ تُمثِّلان خَطَّيْنِ مُتَقَاطِعَيْن في بُؤْرَة مَركزية واحدة، هِيَ كَينونة المُجْتَمَع، وتُجسِّدان نَسَقَيْنِ مُتَكَامِلَيْن في إطارٍ مَرجعيٍّ واحد، هُوَ كِيَان الإنسان. وَالوَعْيُ الاجتماعيُّ هُوَ نُقْطَة التَّوَازُنِ بَيْنَ كِيَانِ الإنسانِ وكَينونةِ المُجْتَمَعِ، وَهُوَ أداةُ الحَفْرِ في أعماقِ الشَّخصيةِ الإنسانيةِ، وأبعادِ السُّلطةِ المُجتمعية، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكريسِ اللغةِ كحالةٍ إنسانية ضِمْنَ شُروطِ تَفْسيرِ التاريخ، وإخراجِ الفِعْلِ اللغويِّ مِنَ تَرَاكُمِ الألفاظِ إلى رِحْلَةِ البَحْثِ عَن المَعْنَى في الفِكْرِ والوُجودِ.

وكُلَّمَا تَعَزَّزَ دَوْرُ اللغةِ في سَبْرِ أغوارِ النَّفْسِ الإنسانية، وَرَصْدِ التَّحَوُّلاتِ العميقة في بُنْيَةِ العَلاقاتِ الاجتماعية، تَجَذَّرَ دَوْرُ الثقافةِ في عَقْلَنَةِ اللامَعقول، وَأنْسَنَةِ إفرازاتِ المَاضِي وَمُعْطَيَاتِ الحَاضِرِ وَقِيَمِ المُسْتَقْبَلِ، وَتَحويلِ التَّجَارِبِ الإنسانية إلى مَصادر مَعرفية عَلى تَمَاس مُبَاشِر مَعَ الفِعْلِ التاريخيِّ والفَاعليَّةِ الحَضارية. وهَذا النَّشَاطُ اللغويُّ والثقافيُّ يُخَلِّصُ الإنسانَ مِنْ عِبْءِ التأويلاتِ المَصلحية للتاريخِ، ويُحَرِّرُ الذاكرةَ الحَضارية مِنْ جَلْدِ الذاتِ وَالخَوْفِ مِنَ المُسْتَقْبَلِ، ويُطَهِّرُ العَلاقاتِ الاجتماعية مِن احتكارِ الحقيقةِ المُطْلَقَةِ وَالوِصَايَةِ عَلى الآخَرِين.

واللغةُ تَسْتَمِدُّ حَيَاتَهَا مِنْ حَركتها المُستمرة نَحْوَ المَعْنَى، والثقافةُ تَسْتَمِدُّ حَيَوِيَّتَهَا مِن اندفاعها الدائم باتِّجَاه الهُوِيَّة. والحَيَاةُ والحَيَوِيَّةُ وَجْهَان لِعُمْلة واحدة، يُوجَدان مَعًا، ويَغِيبان مَعًا. وحَرَكَةُ اللغةِ لَيْسَتْ نَقْلَةً مِيكانيكية في الزَّمَانِ والمَكَانِ، وإنَّما هِيَ نَقْلَةٌ في الشُّعُورِ والوِجْدَانِ، واندفاعُ الثقافةِ لَيْسَ وَظيفةً رُوتينية، وإنَّمَا هُوَ تَوْظِيفٌ للشُّعُورِ والوِجْدَانِ في الوَعْي التاريخيِّ والذاكرةِ الحَضارية، مِنْ أجْلِ إعادةِ الإنسانِ إلى إنسانيته، بِوَصْفِهِ كائنًا حَيًّا وكِيَانًا حُرًّا وكَينونةً إبداعيةً، والإنسانُ هُوَ مَركَزُ التاريخِ والحَضارةِ، ومِحْوَرُ العَمليةِ الإبداعية في الزَّمَانِ والمَكَانِ. وَبِدُون إنسانيةِ الإنسانِ لا يُمْكِن أنْسَنَةُ التاريخِ القائمِ على الصِّرَاعِ، وَبِدُون إبداعِ الإنسانِ لا يُمْكِن عَقْلَنَةُ الحَضارةِ القائمةِ عَلى الاستهلاكِ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

عندما نجد ان وسيلتي العقل في الادراك ومعاملته الاشياء لا تتم من غير اعتماد العقل للحواس والفكر واللغة في ادراكه الشيء والتفكير به سواء كان التفكير داخليا (صامتا) على شكل حوار فكري ذاتي داخل العقل(الدماغ)، او افصاحا عنه في التعبير اللغوي عن وجود الاشياء المادية في الواقع او الموضوعات المتخيّلة كناتج علاقة الذاكرة بالعقل قبل كل شيء.

والوجود المادي والوجود الافتراضي التخيّلي لا يختلفان في الماهية او الجوهر وحسب، وانما هما يختلفان بلغة التعبير عن كليهما، فالوجود المادي الواقعي في عالم الاشياء والمحسوسات الخارجي تعّبر عنه اللغة المنطوقة او المكتوبة، في حين ان الوجود الخيالي الذي ابتدعته الذاكرة كموضوع او مادة تفكير العقل وتخليقه الجديد له، لا تعبّر عنه اللغة التداولية نطقا او كتابة كما في التعبير عن الوجود المادي للاشياء في العالم الخارجي، بل يبتدع العقل وسائل توصيل خيالية جمالية هي غير وسائل التواصل اللغوي التداولية المسموعة او المكتوبة، مثل لغة رسم لوحة او نحت تشكيلي في الفنون والجمال التي هي لغة الابداع الخيالي الذي تكون فيه اللغة والفكر وجود مضمر في مضمون اللوحة او التشكيل الجمالي. فالتعبير الفني الجمالي لا يحتاج اللغة التعبيرية الفكرية التواصلية المجتمعية في التعبير عن وجوده المادي. ولغة الجمال والفنون التشكيلية هي ما يطلق عليه اصطلاحا ما فوق اللغة. كونها تعطي المتلقي ايحاءات ادراكية ومرموزات تلغي معها خاصية الصوت التي تلازم اللغة الابجدية في امتلاكها التعبيري خاصيتي الصوت والمعنى المعبّر عنه. عليه يمكننا ايجاز تعريف اللغة على انها صوت له معنى.

يصبح تساؤلنا كيف يفكّر العقل وما وسيلة التفكير التي يعتمدها، تقودنا الى طريق مسدود عند عدم الاقرار ان وسيلة العقل في التفكير وادراك الاشياء لا يمكن ان تتم خارج فعالية الدماغ بتخليق موضوعاته وفي توظيفه الفكر – اللغة وسيلة التعبير عن مدركات العقل من وجود الاشياء في العالم الخارجي المستقل التي هي نفسها في داخل الدماغ تكون تفكيرا تجريديا يقوم بصنع الوعي المفهومي للمدركات الواصلة اليه ايضا.

لا يمكننا تمييز الفكر عن اللغة داخل فعالية العقل تخليق الافكار بالصمت التفكيري داخل العقل، وانما يتاح لنا ذلك في الوجود المستقل لادراك الاشياء خارج العقل التي يصدر العقل والجهاز العصبي التعبير عن وجودها الفكري – اللغوي بعد تخليق العقل لها من جديد كناتج اجابته عما وصله عن طريق الحواس من مدركات.

ان فعالية العقل تنعدم نهائيا عند افتراضنا ان العقل يقوم بفعاليته الادراكية ومعالجتة الموضوع المدرك عقليا بغير وسيلة تداخل الفكر مع اللغة (داخل) و(خارج) العقل في تباين واختلاف اشرنا لهما سابقا.

لم يثبت العلم لحد الآن ان تفكير العقل او الدماغ الصامت يتم بغير تداعيات الفكر الذي تستوعبه اللغة او الخيال في الذاكرة للتعبير عنه لا حقا بعد انتهاء العقل من تخليقه. وهي عملية معقدة لا يمكن معرفتها بسهولة حتى على مستوى التخصص العلمي في دراسة وظائف الدماغ والجهاز العصبي.

بمعنى داخل العقل يكون التفكير حوارا لغويا صامتا في تعطيل صوت اللغة المنطوقة او المكتوبة، وليس على صعيد استيعاب اللغة لتفكير العقل الصامت. وفي خارج العقل تبطل رقابة العقل الصارمة في انتاج الافكار واللغة حول المواضيع والاشياء بعد تعبير اللغة والفكر عن وجود الاشياء المستقل في العالم الخارجي دونما وصاية العقل عليها التي في حقيقتها ليست بقدر اهمية امكانية اللغة التعبير عنها، وتكون الموجودات والاشياء في وجودها المادي خارج العقل هي من حصة ووصاية اللغة والفكر المعبّر عن تلك الاشياء في تخليق العقل لها الذي اخذ مداه في تعبير الفكر واللغة عن الاشياء الخارجية بعد انتهاء تفكير العقل بها.

تفكير العقل الصامت والناطق

وهذا يستلزم منا تبيان ما الفرق بين تفكير العقل صمتا داخليا، وتفكيره تعبيرا لغويا صوتيا او كتابة خارجيا؟ وما المقصود به وما دور الفكر واللغة في تحديد معنى المفكّر به كموجود.؟

كيف يفكّر العقل داخليا مع ذاته وموضوعه، وكيف يفكّر خارجيا في استقلالية وجود الاشياء عنه؟ بالحقيقة ان العقل في كلا التفكيرين الداخلي والخارجي يتمّان في توافقهما والتقائهما في مصدر التفكير الواحد الذي هو الوجود المادي او الموضوع الخيالي، فلا يوجد عمل فكري في العقل لا يرتبط بموضوع مدرك حسيا او خياليا والا كان تفكيرا عقيما وهميا وعدما لا علاقة للعقل به ولا للموضوع علاقة بالعقل المدرك له. التفكير لا يتم بغير موضوع يسبق وجوده ادراك المحسوسات والعقل.

تفكير العقل داخليا تتم بوجود شيء مدرك محدد (موضوع) يكون مادة للتفكير تنقله الحواس بما ترسله من استثارات هي احساسات ادراكية للعقل يستلمها الذهن كحلقة توصيل عن طريق شبكة الاعصاب، وقد تتعّطل مهمة الحواس هذه عندما نجد العقل يفكّر تخييلا وتخليقا عقليا بموضوع ذهني تستحضره الذاكرة خياليا، لا علاقة له بوجود المادة والمحيط الخارجي للاشياء كأن يفكر الانسان خياليا في اشياء من الطبيعة او يتخيّل اي شيء او اية فكرة مجردة غير متعينّة ادراكا ماديا وجوديا امامه في الطبيعة او في الانسان كذات تعي نفسها انفراديا كغيرها بما لا يحصى من الاشياء بالعالم الخارجي من اشياء تنعش الذاكرة العقلية التفكير بها كمواضيع في الخيال العلمي او في مواضيع الخيال الفني الابداعية وهي لا وجود واقعي مادي لها خارج تفكير العقل بها.

كما لا تقوم الحواس المادية ولا من مهامها نقل موضوع التأمل الخيالي الى الدماغ وانما مخيّلة الانسان وذاكرته تستذكر موضوعها من ماضي الذهن خيالا مجردا عن متراكم خبرة مستقلة مخزّنة بالذاكرة على شكل تجارب. وتجعل منه موضوعا لتفكير العقل والذهن. يلي ذلك ان العقل قد يعبّر لغويا عن موضوعه الخيالي بعد تخليقه الجديد له في لغة الكتابة او اي نوع من انواع لغة التوصيل، او لا يعبر عنه باللغة وانما بوسيلة توصيل جمالية قائمة باستقلالية تكوينية تكون اللغة فيها في حالة كمون إيحائي يقوم المتلقي منفردا استكشافها من خلال لوحة او فن تشكيلي او موسيقا او يوغا او باليه او نص مسرحي صامت.

اذن في البدء علينا الاقرار الآلي الثابت انه لا يمكن للعقل الانساني ممارسة التفكير ما لم يكن هناك موضوعا واقعيا او خياليا يصبح مادة او موضوعا لتفكير العقل. وميزة العقل السوي انه لا يفكر في فراغ اوفي لا معنى ولاشيء متعيّن ادراكا.

وقلنا ايضا ان الحواس ليس من مهامها ولا من قدراتها نقلها موضوعا خياليا هو من ابتداع المخيّلة والذاكرة الذهنية للعقل ولا دور للحواس به، بل الدور كل الدور يكون للعواطف والوجدانات واللاشعور في التعبير عن الفنون والجماليات خياليا في لغة كامنة صامتة تتواصل مع المتلقي ايحاءا تأويليا.

وان العقل من قدراته الذاتية المعجزة انه يفكر خياليا بموضوع او اكثر لم تقم الحواس او احداها بنقله له. وان العقل يفكر خياليا بنفس اهمية وربما بأكثر اهمية من تفكيره بالاشياء كموضوعات موزعة في وجودها المادي في الطبيعة والعالم الخارجي.

هنا يأتي تساؤل أهم ان وسيلة التفكير العقلي للشيء المدرك داخل العقل تتم بماذا أو بأي كيفية يعقل العقل او الدماغ ذاته وموضوعه؟ وما هي آلية التفكير العقلي بالموضوع؟ لحد الان تمّكن العلم من معرفة كيف تعمل حاسة البصر العين في رؤيتها الاشياء، وكذا مع حاسة السمع او الذوق او اللمس، اما كيف يعقل الدماغ نفسه ذاتيا بالتفكير الصامت، كما ويعقل موضوعاته ايضا، وفق أية الية يتم الادراك العقلي في تخليقه الاشياء المادية وتفسيرها فهو غير معلوم علميا اكثر مما تزودنا به الفلسفة من شذرات وليس تخصص علم طب الدماغ والاعصاب على حد علمي.

فالعلم يوّضح كيف ان آلية التفكير العقلي تنحصر في موضوع مدرك حسيّا وعقليا عن طريق الجهاز العصبي المرتبط بملايين الخلايا الدماغية التي تتناوب الادراك في عملية معقدة من اختصاص طب علم الدماغ والجملة العصبية وهو مجال لا تعلمه وتعمل به الفلسفة ولا باستطاعتها الخروج منه بنتيجة يرضاها العقل والطب العلمي.

اما في توضيح الفلسفة فهو حين يعقل الانسان ذاته تفكيرا ماديا او خياليا فهو يحتاج حتما لمادة او موضوع يدركه واقعيا او خياليا كما ذكرنا سابقا لا يخرج عن وصاية العقل في حال انعدام واسطة التعبير الفكري – اللغوي عنه وبه.

اي بمعنى ان التفكير العقلي لفرد لا يدركه الانسان الآخر في ماهيته خارج العقل الا في حالة التعبير الفكري – اللغوي عنه خارج وصاية العقل عليه حين يكون موضوع التفكير العقلي متموضعا فكريا في الواقع المادي لوجود الاشياء.

اما ادراك شخص لما يفكر به شخص آخر عقليا جوّانيا في صمت دونما افصاحه عما يفكر به بالكلام او اللغة او الاشارة فهو محال. فالعقل لا يدرك ما يدور في اذهان الاخرين، ولا يحدس ما يعتمل في دواخلهم من وجدانات وعواطف الا بعد الافصاح والتعبير عنها بواسطة ادراك تواصلي لغوي مع الاخرين.

فاذا اراد العقل وجوب التعبير عن موضوعه المفكّر به للعالم الخارجي المستقبل له، توّسل لذلك الفكر – اللغة. واذا لم يشأ ذلك فانه اي العقل يجعل من موضوعه تفكيرا داخليا صامتا غير متاح ادراكه من غيره الذي هو (أنا) الفرد العاقل المفكّر من نوعه (الانسان الاخر) بمعنى ان الفكرة واللغة المعبّر بها صمتا عقليا تنعدم في التاثير وفي الحضور في كيفية نقل تفكير مصنع الحيوية العقلية التخليقية للاشياء التي يقوم بها العقل.

فاللغة والفكر لا يحضران سوّية الا في محاولة تنفيذ ايعازات مصنع الحيوية العقلية بالاخبار الادراكي العقلي عن موضوع جرى التفكير به ذهنيا واكتملت مهمة اعادته من العقل الى عالم الاشياء كفكر جديد بلغة جديدة وليس كوجود سابق مستقل في عالم الاشياء قبل ادراك العقل له. وهذه العملية اطلق عليها كانط مقولات العقل الارتدادية الانعكاسية الصادرة عنه في توضيحه موضوعات الادراك.

ايعازات العقل الارتدادية الصادرة منه والواردة اليه بواسطة منظومة الجهاز العصبي المرتبطة بالدماغ في تخليقه لمواضيع جرى تفكيره بها انما تتم في تنفيذ وسيلة تعبير اللغة او غير اللغة ايعاز العقل في اعادة الموضوع المفكّر به من العقل الى امكانية ادراكه في العالم الخارجي بفهم جديد عما كان عليه قبل ادراك العقل له، في توّسله اللغة التي هي الفكر ولا فرق بينهما في التعريف المادي او التجريدي بالموضوع في وجوده المستقل في عالم الموجودات الخارجي بعد تخليقه عقليا. الموجود الادراكي الحسي او العقلي المستقل هو وجود فكري لغوي كما هو وجود مادي مستقل في عالم الاشياء ايضا.

كيف تكون اللغة هي الفكر؟

التساؤل الآن كيف تكون اللغة هي الفكر حسب ما تذهب له جميع نظريات علم اللغة واللسانيات المعاصرة، ولماذا يعجز ادراك العقل للاشياء التفريق بينهما اي بين الفكر واللغة.اذا كانا يحملان مدلولين متباينين مختلفين في تعبيرهما عن الموضوع الواحد باكثر من ادراك وتأويل واحد صادر عن العقل؟.

هنا اللغة والفكر المتلازمان في تعبيرهما عن الاشياء ليس بمقدورهما تفسير وجود الشيء بمعزل احدهما عن الاخر اي بمعزل اللغة عن الفكر، او الفكر عن اللغة لانه يكون ذلك استحالة ادراكية تعجيزية للعقل. في امتناع الفكر واللغة التعبير عما يرغبه العقل التعبير عنه وجودا مدركا. هذه الفكرة التداخلية هي دائرة يتناوب بها اللغة على انها فكر وان الفكر هو لغة ولا فرق بين الاثنين الا من حيث الفكر محتوى لغوي بلا صوت، واللغة اصوات تحمل معاني الفكر الملازم لها.

ان في عجز الفلسفة الخروج عن نظرياتها المفترضة شبه الثابتة ان الفكر هو اللغة المعبّرة عنه، او ان اللغة هي وعاء الفكر، او ان اللغة هي بيت الوجود. وأن اللغة مبتدأ ومنتهى ادراك وجود الانسان والطبيعة والاشياء في العالم الخارجي.

جميع هذه التعبيرات الفلسفية صحيحة تفهم اللغة على انها فعالية ادراكية عقلية في تحديد الفكرة او الموضوع في تموضعهما خارجيا كي يتم ادراك الشيء ومعرفته من قبل الآخرين من الذوات العقلية المدركة وهو صحيح الى حد كبير ولا يتوفر مجال أدحاضه في الاحتكام للعقل في ادراكه الوجود على وفق هذه الآلية التي ترى ان الفكر واللغة وجهان لعملة واحدة. ومن المحال ادراك الاشياء بالفكر دونما اللغة، ولا باللغة دونما الفكر. صحيح جدا قول فلسفة اللغة الاميركية ان الوجود هو لغة.

في هذه الحالة حين تكون اللغة هي تعبير عن فكرة متموضعة داخل او خارج العقل، يستحيل الفصل بين اللغة والفكرة محتواها او الموضوع المعّبر عنه بهما. فبهما ثنائية (الفكر واللغة) يصبح التفكير الذهني العقلي موضوعا ومتعيّنا وجودا في العالم الخارجي بعد تخليقه عقليا، وفي هذا يكون تفكير العقل خارجيا او بالاحرى من اجل فهم الوجود الخارجي للاشياء المستقلة.

حين نقول تفكير العقل الداخلي المقصود به هو التفكير الذاتي الصامت، أما تفكير العقل خارجيا فهو عندما يجري تعبير اللغة عن موضوع تفكير العقل واقعيا ماديا كوجود مستقل في عالم الاشياء.

وبالواقع ان هذا التفريق في تفكير العقل داخليا صمتا وخارجيا بوسيلة اللغة، انما هما في الاصل تفكير واحد للعقل في موضوع محدد مشترك يتميّز به بمعزل عن كل موجود مادي او متخيل آخر وتنعدم بين الفكر واللغة فواصل التباين او الاختلاف الانفصالي بينهما..

أي أن العقل واللغة والفكر يجمعهم (وحدة وجود أسبقية الموضوع) المدرك في زمن واحد معيّن. وهكذا هي الحال في تناول اي موضوع او شيء من العالم الخارجي كي يتم تخليقه داخل العقل قبل افصاح الفكر واللغة عنه كوجود او شيء في العالم الخارجي.

ان ادراك العقل للاشياء الواردة له عن طريق الحواس بما لا يحصى في تنوعاتها وتوقيتاتها الزمنية، لا يعقلها العقل دفعة واحدة، او يعطي الدماغ ردود الافعال الانعكاسية الارادية وغير الارادية عليها بعشوائية من دون تراتيبية يعتمدها العقل.

ذهبنا الى استحالة فصل اللغة عن الفكر في حالة افصاح العقل عن فهمه وتعّينه لموجود او شيء ما في العالم الخارجي. وليس في التفكير الصامت داخل للعقل اذ يكون الفكر واللغة غير مدركين في التعبير عن شيء هو لا يزال موضوع العقل بالتفكير.

انه من المهم تاكيد ان العقل في تخليقه اشياء الوجود الخارجي والوجود الخيالي الداخلي بتعبير الفكر واللغة المتلازمين. انما يتم في تفكير العقل باللغة المتكاملة مع الفكر. اي ان تفكير العقل بالشيء لا يكون بالفكر المجرد عن اللغة، وكذا الحال بالعكس ان العقل لا يعقل الوجود باللغة دون الفكر ايضا.

نذّكر ان علماء وفلاسفة اللغة واللسانيات جميعا يعتبرون اللغة والفكر هما وجهين لعملة واحدة ولا تفريق بينهما كما ذكرنا سابقا، فاللغة هي الفكر المعبّر عنه حسب ريكور وفنجشتين ودي سوسير وجومسكي وجميع فلاسفة وعلماء اللغة في اعتبار ان اللغة هي فعالية العقل في تعيين ادركاته للموجودات والاشياء الخارجية.

لكننا نجازف براينا بالمباشر ونقول انه يمكننا فصل الفكر عن اللغة عندما يكون تفكير العقل صمتا داخليا في التفكير بوجود شيء مادي او خيالي لا يحتاج لغة التعبير عنه بل يحتاج الفكر وحده لانه وسيلة تفكير العقل المعقدة الوحيدة في تخليقه لموضوعه بوسيلة الفكر لوحدها دونما الحاجة الى اللغة وسيلة تعبير لمواضيع العقل، وتكون اللغة تعبيرا صامتا داخليا متخيّلا ايضا في تفكير العقل لموضوعه الخيالي كوجود غير مادي، اي وجود خيالي لا يرتبط وغير ملزم التعبير اللغوي عنه بعد تخليق العقل له. وانما تكون حاجة العقل في حواراته الداخلية للفكراهم واكثر فاعلية في عدم اعتماد اللغة التي تكون لغة استيعاب صوري لما يفكر العقل به. (الفكر) هنا وسيلة العقل في معالجة موضوعاته صمتا داخليا، وتكون (اللغة) وسيلة العقل في التعبير عن الوجودات والاشياء في العالم الخارجي.

هذا التفريق الاعتسافي الذي ذهبنا توضيحه في السطور السابقة كان خاطئا بمجمله رغم ألية الاقناع التنفيذي لعمل اللغة كشكل والفكر كمضمون له يمتلكان نفس دلالة المعنى الواحد في التعبير. هما نفس معنى الدلالة عن شيء او موضوع معيّن.. وتعبير ذلك رغم ان الفكر مضمون لشكل لغوي الا ان تفكيرهما المشترك عن موضوع يكون بلغة هي (تلازم تفكير الفكر بوسيلة اللغة الملازمة له) لا يوجد تفكير عقلي له معنى لا تلازمه لغة صورية تحمل نفس المعنى.

للتوضيح اكثر فالتفكير المادي الصامت هو في معالجته موضوع واقعي او شيء ما بالتفكير المجرد كمتعيّن موجود في العالم الخارجي، اما في تفكير الصمت العقلي او(الخيالي) الاستبطاني غير المعبّر عنه باللغة فهو الهام تخييلي في انتاج الذاكرة موضوعا يدرك خارجيا بلغة جمالية خاصة هي في حالة من الكمون خلف فهم الوجود الجمالي للشيء، لم يكن ادراكه متيّسرا قبل افصاح العقل له وتخليقه جماليا، كما في خيال انتاج لوحة فنية او قطعة نحتية او اي ضرب من ضروب التشكيل الفني ومعالجات علم الجمال الذي من المتاح الممكن التعبير عنها بغير لغة الكلام او لغة الكتابة او الموسيقى او الاشارة.

نأتي الآن الى معالجة اصل امكانية فصل الفكر عن اللغة، على انها استحالة ادراكية في فهم الاشياء والمواضيع في حال وجودها في العالم الخارجي في استقلالية عن الانسان سواء كانت مواضيع تناولها العقل بالادراك واعادها باللغة والفكر ثانية الى عالم الواقع من جديد بعد تخليقها، او لم يدركها في وجودها المستقل التي ايضا تستطيع الحواس واللغة التعبير عنها كوجودات واشياء.

يبقى عندنا ان التفكير العقلي الصامت ماديا او خياليا فأن آلية العقل في التفكير تستطيع فصل اللغة عن الفكر طالما هما حاضران ذهنيا في لحظات زمنية واثناء التفكير بموضوع ما، اي حينما يفكر العقل صمتا فهو يفكّر بالفكر ذاته كوسيط لموضوع في علاقته بالفكر والعقل الذي نقلته الحواس المدركة للاشياء او في موضوع ابتدعه الخيال ايضا ويحتاج العقل الفكر كوسيط في تخليقه واعادته الى عالم الاشياء باللغة المعّبرة عنه. وليس باللغة خارج موضوعه في التفكير الصامت. اللغة في تفكير العقل الصامت لا اهمية ولا وجود لها يتاح ادراكه من غير الشخص الذي يفكر بموضوعه عقليا ويبقى الفكر وحده وسيلة العقل في التفكير وتخليقه مواضيع الخيال العقلية والمادية ايضا.

وطالما كانت اللغة والتفكير معطّلان كوظيفة نقل ما يقترحه العقل عليهما نقله الى العالم الخارجي، اي بقاء العقل يفكر ذاتيا صمتا بمعزل عن نقل ما يفكر به لغويا، فان العقل وسيلة تفكيره الفكر ذاته فقط ولا يحتاج اللغة الا على انها جزء من الفكر وملازمة له خارج ادراك الدماغ او العقل في وجود الاشياء، وتفكير العقل وتخليقه لموضوعه، فلا يدرك موضوع التفكير العقلي خارجيا من غيره الا بواسطة اللغة فقط الناقلة للفكر من داخل العقل(الدماغ) الى واقع الوجود في عالم الاشياء. لكن الحقيقة الصادمة هي ان الفكر تفكير بواسطة اللغة ولا يستطيعان كليهما الافلات من حقيقة ان كل حلقات منظومة العقل الادراكية منفصلة افتراضيا عن بعضها هي تعبير (لغة) فقط.

النزعة المثالية بالاستناد الى هذه الحقيقة الصائبة تعتبر كل ما يدركه العقل حسيا ويعبر عنه لغويا هو موجود فقط. وما لا يدركه العقل غير موجود ماديا. والرد البسيط هو اعتبار المثالية العالم وجود لغوي في الذهن والذاكرة والخيال قبل وجوده المادي في الطبيعة وعالم الاشياء وهو خطأ فالوجود المادي لا يحدده تفكير العقل به، بل أسبقية الوجود المادي هو الذي يبعث العقل على التفكير.

وعندما يتجسد ويتعيّن الموضوع في عالم الاشياء الخارجي بالتعبير عنه لغويا او بأية وسيلة تعبير غير اللغة الصوتية او المكتوبة، فهنا لا يصبح فصل الفكر عن اللغة ذات اهمية كبيرة، ولكن تبقى اللغة في اثناء عملية تفكير العقل (صمتا) في مرتبة ثانوية بعد الفكر في مقارنتها باولويتها في التعبير عن الوجودات والاشياء الخارجية في العالم الخارجي والطبيعة خارج هيمنة ادراك الحس والعقل لها بعد تخليقه لها، عندما تكون اللغة جزءا لا ينفصل عن موضوعها الذي عبّرت عنه في عالم الاشياء والموجودات.

أي تكون اللغة وسيلة ادراك فهم الاشياء في وجودها المتعين المستقل عن تاثير العقل به بعد ان يصبح واقعا ماديا في عالم الاشياء. وباللغة وحدها لا بالفكر نفهم تفسير الموجودات المدركة في وجودها قبل تعبير الفكر عنها، لذا يذهب الجميع الى ان فصل اللغة عن الفكرة محال وهو صحيح بالنسبة للشخص الذي يفهم الموضوع في وجوده المادي المستقل هو تعبير لغوي يداخله المعنى الذي هو الفكر. بمعنى ان افصاح اللغة عن الشيء يسبق الفكر عنه.

بمعنى توضيحي اكثر ان اللغة لا تستمد فعاليتها داخل تفكير العقل الصامت جوّانيا بموضوعه مع ذاته وانفصال العقل والفكر كليهما عن العالم الخارجي، وانما تستمد اللغة اقصى فاعليتها في التعبير عن الاشياء في وجودها الخارجي المستقل خارج وعي العقل لها في زمنية محددة تلزم عقلا مفكرا واحدا في موضوع واحد، هو غير مدرك وجودا لغويا لدى غيره من عقول تختلف في ادراكها وتفكيرها والتعبير ربما في نفس الموضوع.

وحتى في هذه الحالة فالفكر وتعبير اللغة يبقيان قاصرين عن التعبير عن الموجودات المستقلة من دون ادراك العقل لها وتحديده نوعية الفكر ونوعية اللغة المعبّرة شعنها. ويكون وعي الذات هي كينونة متشّكلة من الوجود المدرك، بالمحسوسات، ومن والعقل، وايضا من الفكر واللغة.

لذا عندما يكون تفكير العقل صمتا جوّانيا، يصبح التفكير بالشيء سابق على لغة التعبير عنه خارجيا. فالموضوع المفكّر به صمتا غير لغوي يبقى حبيس ووصاية العقل في التفكير به قبل اهمية انشغال العقل في التعبير اللغوي عنه.

ان اللغة اثناء وزمنية تفكير العقل بموضوعه صمتا داخليا، تكون ملازمة لعملية تفكير العقل ذاتيا، لكنها لا تتقدم تفكير العقل. فليس كل تفكير داخل العقل صمتا يلزم حضور اللغة معه لكنه يلزم حضور التفكير وحده في حواره الداخلي مع العقل. فالعقل بلا تفكير لا قيمة له، والفكر بلا عقل يدركه ويتعامل معه يكون غير موجود، وكذا تتبعه اللغة ايضا. فالفكر واللغة لا ينتجان العقل الذي يفكر بهما، لكن العقل ينتج الفكر واللغة اللذين يتوسلهما في فهم الاشياء، والعقل بتفكيره الصامت بمقدوره تفعيل حضوره بلا لغة تعبير غير ملزمة لنقل تفكير العقل كما هو الحال في ابداعات الفنون وعلم الجمال.

***

علي محمد اليوسف / الموصل

...........................

1. نقلا عن كتاب الفلسفة المعاصرة في اوربا، ترجمة عزت قرني ص 64

2. نفس المصدر السابق ص132

جاءت تسمية الطابور الخامس متأخرة لتصف حالة موجودة على أرض الواقع منذ العصور الوسطى وقبل ذلك ...وتنطوي أنشطة الطابور الخامس السرية على أعمال تخريب وتضليل وتجسس يُنفذها مؤيدو القوى الخارجية التي تريد بالبلاد شراً، ضمن خطوط الدفاع في بلادهم لصالح العدو.

في العراق عندما احتله العثمانيون عام 1534 بعد إن طردوا محتليه الذين سبقوهم وهم من الدولة الصفوية تحت حكم شاه طهماسب، فإن من بين بعض العراقيين من بقي مواليا للصفويين وهم اما منتمين لهم أو منتفعين من حكمهم والذريعة كانت ...المذهب.

ولم يدرك العراقيون وقت ذاك ان للمذهب رب يحميه ولكن عراقهم لهم بالذات وينبغي الدفاع عنه هو بالذات ...

استمر حكم الدولة العثمانية للعراق ٤٠٠ عام من التخلف والجوع والاقطاع وترسخ فيه الصراع المذهبي الذي انتشر بين العراقيين بالنيابة عن الدولة الصفوية في إيران والدولة العثمانية في تركيا والذي صبغ العراق بصبغته الطائفية المقرفة والماثلة اليوم ...

وعندما احتلت الجيوش البريطانية العراق عام 1917 أثر هزيمة الجيوش العثمانية تحرك الطابور الخامس من بقايا تلك الدولة ومن المنتفعين من وجودها وجيشوا البسطاء لشن حملة الجهاد في الشعيبه ضد الإنكَليز فتغنى بهم أتباعهم من عديمي الوعي بنظم الشعر وإقامة النصب والتماثيل ...وهذه المرة الذريعة كانت ...الدين.

ولم يدرك العراقيون وقت ذاك ان للدين رب يحميه ولكن عراقهم لهم بالذات وينبغي الدفاع عنه هو بالذات ...

وعلى الرغم من ان قائد الجيوش البريطانية الجنرال ستانلي مود قد أعلن من قلب بغداد "بيان بغداد" الشهير قائلا: "لم تأتِ جيوشنا إلى مدينتكم وأرضكم كغزاة أو أعداء، ولكن كمحررين"، لكن جيوشه المحتلة ودولته المستعمرة أمعنت في نهب واضطهاد الشعب العراقي واهان جنوده وضباطه كرامة العراقيين فحصل التململ الذي انقلب الى هيجان في عام 1918 في بغداد ومدن العراق الأخرى لتكلل بثورة العشرين التحررية في العراق التي نجم عنها قناعة الإنكَليز بأن حكم العراق حكم مباشر غير ممكن ويكلف الخزانة البريطانية أكثر مما يجلب لها من منافع.

تحرك الطابور الخامس ممثلاً بالجواسيس والمنتفعين وحاول افراغ ثورة العشرين من محتواها التحرري بدعوى ان قادتها كانوا أميّون...! في حين أن محمد مهدي البصير وغيره من قادة الفكر الذين هيأوا لها فكريا لم يكونوا أميين ...ثم ان شعلان أبو الجون ورفاقه لم تكن مساقط رؤوسهم باريس أو موسكو لتنتج لك فولتير ورسو ولينين وتروتسكي. ولا هم تلامذة عصر التنوير بل نتاج "الفترة المظلمة" التي سادت بلاد ما بين النهرين لقرون عديدة...لكن ثورة العشرين أجبرت بريطانيا باستبدال الحكم المباشر بالحكم غير المباشر، وايضا ،لكن بريطانيا العجوز دولة الاستعمار العتيدة لم ترخ قبضتها من على اعناق العراقيين وبدلاً من منهج الحرب وتجييش الجيوش واستخدام الطائرات والدبابات و"مطر اللوز" استخدمت هذه المرة الخداع والحيلة واصطناع نظام عميل لها جلبته من الحجاز وعينته مسز بيل وتشرشل وهم يعتلون سنام الجمال العربية بين اهرامات خوفو وخفرع ملكاً على العراق ...فأمعن نظام "الباشا" والوصي في اضطهاد الشعب ونصب المشانق وتعليق الناس مصلوبة على باب وزارة الدفاع ...

وعندما هاجت الناس وماجت ضد الإنكَليز وحلف بغداد ونهب الشركات البريطانية لنفط العراق وسياسة بريطانيا الاستعمارية في تسييد الحكومات الصنيعة والعميلة والاقطاع وبعض شيوخ العشائر على رقاب ومصائر العراقيين وتصاعدت الاحتجاجات والانتفاضات واكتظاظ السجون وتكللت نضالات الشعب العراقي بثورة 14 تموز عام 1958 التي اسقطت حكم نوري سعيد وعبد الإله وطردت الانكَليز وقوضت حكم الاقطاع وحررت العراق من حلف بغداد ومن كتلة الإسترليني وتمسكت بسيادة العراق الحر المستقل الواحد استقتلت طوابير شتى لكنها تلتقي جميعا في نهاية المطاف على أبواب الإنكليز وموائدهم:

طابور يتكون من الاقطاعيين ومطايا الإنكَليز والمنتفعين من نوري سعيد استبدل قميص عثمان بقميص عبد الإله ونوري سعيد وهذه المرة الذريعة كانت مقتل العائلة الهاشمية ...في حين لليوم يناصب ملوك الدولة الهاشمية العداء لـ "أتباع أهل البيت الهاشمي" ويتعاملون معهم بازدراء واحتقار، وكان على هؤلاء مراجعة التاريخ للوقوف على عدد الضحايا التي رافق الثورة الفرنسية او الروسية.

وطابور آخر يتكون من البعثيين والقوميين وذيول عبد الناصر والذريعة كانت الغيرة على القومية العربية...! في حين لو ينتبه هؤلاء الى ان القومية العربية باتت عار وشنار على المدعين بها، وعبد الناصر الذي انتشرت له تسريبات صوتية هذه الأيام تعود لحقبة السبعينيات وهو يكيل التهم والازدراء للعرب وحكوماتهم والتنصل منهم لا يشد الرحال إليه، وانهم كان الأحرى بهم أن يتمسكوا بعراقهم الأبقى والأثمن من كل المسميات.

وطابور ثالث من أرباب التجهيل ذريعتهم كانت. حماية الدين...! في حين انتهى الأمر باتباعهم اليوم ليعلقوا: على نواصيهم قول شاعرهم العتيد:

والله ما فعلت تموز في دينهم * معشار ما فعلت بنو المحاصصه...

فتكالبت تلك الطوابير على تموز وكريمها فاغتالوه واغتالوها في حين أن كل ما إجترحه الرجل من ذنوب هو التمسك بالدفاع عن استقلال وسيادة العراق وثروته واعتماد المواطنة منهجاً.

حل حكم البعث لأربعين عجاف عاث في الأرض فساد واجتث الضرع والزرع وزرع فيافي العراق وسهوبه مقابر جماعيه وتسبب في تعدياته وعنترياته بدمار العراق وإعطاء الذريعة لاحتلاله من قبل الجيوش الأمريكية وتمهيد الحالة العراقية لإقامة نظام حكم المحاصصة والفساد ...في حين أظهرت أفلام وثائقية تعود لتلك الفترة إن كل ما كان يفعله الصفيق المخبول لمواجهة الباتريوت والتوما هوك وآلة الدمار الأمريكية هو استعراض أسلحة مضحكة ومخزية من قبيل المحجال والمصياده والكَزوه وكرات الدعبل التي يأنف الصبية والغلمان في الأزقة والحواري التقاتل بها، وينهي مشوار عنترياته في الحفرة الشهيره...

من ناحية أخرى ففي عام 1787 ظهرت العدمية في ألمانيا، وهي مذهب في الفلسفة ينكر أصحابه المؤسسات الاجتماعية والسياسية القائمة، ومن ثم اختفت لتظهر من جديد في أوربا عام 1862 لتشير الى أولئك الذين ينكرون كل شيء والذين لا يعتنقون أي مبدأ ومهما كان هذا المبدأ، والذين يعتبرون اللاوجود هو الأكثر فائدة من أي شيء.

تُعرِّف الشخصيات العدمية نفسها على أنها أولئك الذين "ينكرون كل شيء"، والذين "لا يعتنقون أي مبدأ في الإيمان، ومهما يكن احترام هذا المبدأ"...

وعندما يفيض بك الكيل وتقول ما كان هذا ليحصل ...تحاصرك طوابير الجهل والتبعية ومعها العدمية لتقول لك: "ما تلومون الماضي الا لتحمون الحاضر! كلاهما وجهان لعملة واحده"، ومع تنميق العبارة حتى لتصلح أن يخطها أصحاب التكتك والستوتة على مؤخرات مركباتهم ...لكنها تفصح وبشكل جلي أن أصحابها يسعون لحماية كوارث الماضي بسوءات الحاضر، وهذه المرة الذريعة هي مساوئ نظام المحاصصة والفساد...!

في حين انهم يروّن ويسمعون اننا نكافح ونجالد وننافح بكل ما أوتينا في مجابهة مساوئ الحاضر والماضي معاً...

مرض عضال يجتاح الثقافة العراقية المعاصرة: الطابور الخامس والعدمية، فسحقاً لهما وسحقاً لمعتنقيهما....

***

د. موسى فرج

 

في المثقف اليوم